تاريخ الجزائر الثقافي

أبو القاسم سعد الله

الجزء الأول

الدكتور أبو القاسم سعد الله تاريخ الجزائر الثقافي الجزء الأول (1500 - 1830) دار الغرب الاسلامي

1998 دار الغرب الإسلامي الطبعة الأولى دار الغرب الإسلامى ص. ب. 5787 - 131 بيروت جميع الحقوق محفرظة. لا يسمح بإعادة إصدار الكتاب أو تخزينه في نطاق إستعادة المعلومات أو نقله بأي شكل كان أو بواسطة وسائل إلكترونة أو كهروستاتية، أو أشرطة ممغنطة، أو وسائل ميكانيكية، أو الاستنساخ الفوتوغرافي، أو التسجيل وغيره دون إذن خطي من الناشر.

تاريخ الجزائر الثقافي

الإهداء

الإهداء لقد كان المؤلفون في القديم يهدون كتبهم إلى الملوك والأمراء والأعيان والوزراء. أما أنا فإني أهدي هذا الكتاب إلى جيل ما بعد الثورة، إلى أطفال الجزائر اليوم الذين سينشرون غدا كنوز الثقافة العربية الإسلامية لبلادهم ويثرونها بإنتاجهم. المؤلف

شكر واعتراف

بسم الله الرحمن الرحيم شكر واعتراف أثناء العمل في هذا الكتاب وجدت مساعدات هامة من الأفراد والمؤسسات. وليس بوسعي الآن التنويه بفضل الجميع، ولكن يجب علي تسجيل الشكر والاعتراف لبعضهم على الأقل. فمن الجزائريين أذكر الأستاذ عبد القادر العثماني مدير معهد زاوية طولقة الذي فتح لي مكتبة العائلة فاستفدت منها فائدة جلى، والأستاذ محمود بوعياد مدير المكتبة الوطنية الذي أفرد لي مكانا خاصا في المكتبة ومكنني مساعدوه من المخطوطات الضرورية لعملي بإشارة منه، والشيخ المهدي البوعبدلي الذي راسلني وشافهني بالمعلومات التي طلبتها منه حول بعض المخطوطات والعلماء، والشيخ محمد الطاهر التليلي القماري الذي قرأت عليه بعض الفصول واستفدت من ملاحظاته، والمرحوم الشيخ علي طوبال إمام جامع البرواقية الذي اذن لي بدخول مكتبة الجامع والاستفادة منها عدة مرات، والأستاذ علي أمقران السحنوني الذي أفادني بملف هام عن زوايا ومعاهد زواوة وبجاية وآثار بعض العلماء هناك. أما من غير الجزائريين فأذكر من المغاربة الدكتور عباس الجراري الذي صور لي رحلة ابن حمادوش وديوان ابن علي، والدكتور عبد الكريم كريم الذي سهل مهمتي مع قسم المخطوطات بالخزانة العامة عندما كان في وزارة الثقافة والأوقاف، والشيخين محمد إبراهيم الكتاني ومحمد المنوني اللذين دلاني على عدد من المصادر تتعلق بموضوعي، وكذلك الأستاذ محمد داود الذي كان مديرا للمكتبة الملكية بالرباط. ولا يمكنني أن أنسى في تونس فضل الأستاذ عبدالحفيظ منصور رئيس قسم المخطوطات بالمكتبة الوطنية

الذي ساعدني على تصوير عدد من الوثائق ودلني على عدد من الفهارس والكنانيش التي تتعلق بحياة ابن العنابي وابن عمار وابن رأس العين والأخضري، كما أشكر الدكتور عبد الجليل التميمي الذي أطلعني على ميكروفيلم من مخطوطة (تحقة الزائر) ولم يبخل علي بمعلوماته الغزيرة عن العهد العثماني ووثائقه في المغرب العربي. وقد بعث لي الدكتور وليد الجادر من العراق عملا ألفه المفتي علي بن عبد القادر بن الأمين من مكتبة البصرة، كما بعث لي الدكتور عبد الكريم رافق من سورية قطعة من (كتاب الخبر في معرفة عجائب البشر) لمحمد التواتي من المكتبة الظاهرية، وساعدني الدكتور شكري فيصل السوري على تصوير عمل لابن عمار وبعض رسائل محمد بن أبي شنب من نفس المكتبة. كما أن الدكتورة ليلى الصباغ السورية قد أبدت لي رأيها في خطة الكتاب وتسجيل ملاحظات هامة عليها. فلهم جميعا شكري وامتناني. ولا بد لي أيضا من شكر جامعة الجزائر على موافقتها، بصفة استثنائية، على تفرغي عامين كاملين لكتابة هذا الكتاب وتصحيحه، وكذلك وزارة التعليم العالي والبحث العلمي التي أمدتني بمنحة في الولايات المتحدة الأمريكية لنفس الغرض. كما أشكر جامعة منيسوتا وجامعة ميشيقان على استقبالهما لي وتقديم التسهيلات التي ساعدتني على تحقيق مهمتي في أحسن الظروف. وقد وجدت في تونس ومصر والمغرب ومكة المكرمة واسطانبول وسورية خدمات جليلة من مديري وعمال المكتبات هناك. فلا يسعني إلا تسجيل شكري لهم أيضا هنا. غير أنه لا يمكنني أن أنتهي من هذه الكلمات دون التنويه بدور زوجتي في الكتاب. فهي التي حرمت نفسها من متع الحياة حتى أتفرغ له. وهي التي كانت تدفعني وتشجعني كلما اعتراني سأم أو مرض. وهي التي أملت علي معظم فصول الجزء الأول من مسودته أثناء التصحح، كما أنها طالما دلتني أثناء البحث على مراجع ومسائل لم أكن قد اهتديت إليها.

مقدمة الطبعة الثالثة

مقدمة الطبعة الثالثة تصدر الطبعة الثالثة (¬1) لهذا الكتاب عن دار الغرب الإسلامي التي عنيت بالتراث في الأندلس وفي بلاد المغرب حتى كاد اسمها يصبح علما على هذا التراث. ورغم أن صاحب هذه الدار، وهو الحاج الحبيب اللمسي من تونس فإن وجود الدار في بيروت، المركز النشيط للطباعة والنشر في قلب المشرق، قد جعل العلماء والباحثين من أهل المغرب العربي يتمنون أن تصدر مؤلفاتهم في المشرق أيضا لوفرة القراء والاهتمام بأوجه الثقافة المقارنة والتطورات الفكرية لبلدان المغرب العربي. فقد صدرت طبعتان في الجزائر من الجزئين الأول والثاني، سنة 1981، وسنة 1985. واهتم بالكتاب قراء المغرب والمشرق على السواء. فخرجت منه نسخ من الجزائر تقطع الحدود بالبريد وبالأيدي في شكل هدايا ومبادلات وحتى بالشراء، لكن المشرق ظل يفتقد طبعته الخاصة منه. لذلك طلبت من المؤسسة الوطنية التي طبعت الكتاب في الجزائر، أن تتنازل لي عن طبعة مشرقية له. فوافقت مشكورة. وها هي دار الغرب الإسلامي تتولى هذه المهمة. كان الجزآن الأولان كلاهما يتعلقان بالعهد العثماني. وشرعت بعد ذلك في تحضير الأجزاء المتعلقة بالعهد الفرنسي. وكانت النية أن يتوالى صدور الأجزاء بحلول سنة 1988 - 1989. لكن الكارثة وقعت حين ضاعت محفظتي بما فيها من فصول مكتوبة وأوراق وإضبارات وبطاقات سنة 1988. ¬

_ (¬1) نرجو من القارئ أن يرجع إلى مقدمة الجزء الثالث للاطلاع على تطور هذا الكتاب.

فتوقفت مصدوما لعدة سنوات متوقعا رجوع المحفظة، ومنتظرا عودة الروح الآملة. فأما المحفظة فلم تعد وطواها الزمان كما يطوي البحر سفينة تغرق، أما الروح الآملة فلم ترجع إلا سنة 1992 حين استأنفت نشاطى الفكرى وجمع مادة البحث، ثم سنة 1993 حين تحصلت على منحة (فولبرايت). فسافرت إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وهناك أنجزت تسويد الكتاب خلال ثلاث سنوات متتالية (¬1)، مع تضحيات مادية ومعنوية لا يعلمها إلا الله. ولو طلب إلي أن اختار تسمية جديدة لهذا الكتاب لاخترت له اسم (الموسوعة الثقافية الجزائرية)، ذلك أن أجزاءه الجديدة تضفى عليه هذا الطابع عن جدارة. ومع ذلك فإني سأبقى على العنوان الأصلي، فهو الذي عرف به في معظم مكتبات العالم. وأثناء البحث في الأجزاء الجديدة عثرت على بعض المعلومات التى تتعلق بالجزئين الأول والثاني فاغتنمت فرصة هذه الطبعة وأضفت بعضها في أماكنها. كما أعدت قراءة الجزئين وصححت ونقحت ما وسعنى الجهد. واغتنم هذه الفرصة لأعبر عن امتناني للناشر على ترحيبه بإصدار الكتاب فى كامل أجزائه لينال شرعية تسميته بالموسوعة الثفافية التي أشرنا إليها. {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها}. أبو القاسم سعد الله جامعة آل البيت (الأردن)، غشت (آب)، 1997 ¬

_ (¬1) ثم استغرق الضرب على الآلة والتنقيح والإضافة والتصحيح والمراجعة والفهرسة وقتي إلى صدوره في هذه الصورة.

مقدمة الطبعة الثانية

مقدمة الطبعة الثانية حين صدر هذا الكتاب بجزئيه الأول والثاني خشيت أن يكون ثقيلا على القراء في حجمه وموضوعه وأسلوبه. فهو كبير الحجم وقد تعود بعض القراء على كتب الجيب والمختصرات، وهو في التاريخ الثقافي للعهد العثماني بينما تعود بعض الناس على الموضوعات المعاصرة الخفيفة ذات الفقاقيع الملونة يتناولونها في مجالس اللهو وموائد الصداقة وندوات السمر، ثم هو كتاب يدون ويحلل، يوثق وينتقد بلغة نعتها بعضهم ممن تعودوا على لغة الجرائد والإعلام المتلفز، بأنها لغة الجيل الماضي. ومع ذلك فإن خشيتي لم تكن في محلها. فقد نفد الكتاب في أقل من سنة حتى قالت عنه إحدى الجرائد بأنه (بيست سيلر). ورغم أنني لا أدعي القول الفصل، فإنه يبدو لي أن رواج الكتاب يعود إلى موضوعه وأسلوبه معا. ذلك أن الناس تعودوا على وصم العهد العثماني الذي يمثل ثلاثة قرون من تاريخ الجزائر، بالفراغ الثقافي والعقم الفكري، فإذا هم يكتشفون في هذا الكتاب الدليل على حيوية الحياة الثقافية في هذا العهد. كما أنهم تعودوا على المؤلفات الضحلة التي لا يعرف أصحابها معنى للدراسة والمنهجية والرصانة والحياد العلمي فإذا بهم يجدون في هذا الكتاب شيئا لم يألفوه من ذلك، فأقبلوا عليه شغوفين به. ولعل لغته قد عوضتهم عما يجدونه في لغة الجرائد ورطانة دعاة الازدواجية وهجنة أنصار العامية، من سماجة وركاكة وتسفل. إن كل باحث مجرب يعرف أن سيل المعلومات لا ينتهي بتقديم الكتاب إلى المطبعة. وقد نبهت على ذلك في مقدمة الطبعة الأولى. ومن الحق أن

نقول إنه قد تجمع لدي من المعلومات الإضافية عن هذا العهد ما لو زيد إلى الكتاب لاتسع حجمه كثيرا. وقد احترت في الأمر. هل أستمر في تنقيح الكتاب بإضافة المعلومات الجديدة إليه؟ هل أحتفظ بهذه المعلومات ثم أخرجها في مستدرك مستقل؟ الواقع انني ما زلت لم أنته إلى جواب. وكل ما توصلت إليه في هذه الطبعة هو تصحيح ما ورد فيها من أخطاء تاريخية ومطبعية. غير أنه لا يفوتني التنويه هنا بجهود الذين أرسلوا إلي، بعد صدور الكتاب، بالوثائق والمعلومات، ثقة منهم بأن صاحبه لا يهدف إلا لخدمة العلم والحقيقة والتاريخ والوطن. كما لا يفوتني التنويه بأولئك الذين وجهوا إلي الدعوات لزياره مكتباتهم والاطلاع على وثائقهم ومخطوطاتهم، راجيا أن أكون عند حسن ظن الجميع. ولئن عزفت حتى الآن عن ذكر الأسماء فلن أعزف عن ذكر هؤلاء المشائخ والباحثين الذين قرأوا الكتاب بدقة وأرسلوا إلي بتصحيحات واقتراحات استفدت منها في هذه الطبعة، وأخص بالذكر منهم: الشيخ محمد الطاهر التليلي، والشيخ عبد الرحمن الجيلالي، والشيخ المهدي البوعبدلي، فلهم جميعا جزيل الشكر وعظيم الامتنان. أبو القاسم سعد الله الجزائر، في 6 يناير 1985

مقدمة الطبعة الأولى

مقدمة الطبعة الأولى هذا الكتاب هو ثمرة جهود دامت حوالي ربع قرن. فقد كتب عني المرحوم الشيخ محمد البشير الإبراهيمي، رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين سنة 1960، بأنني (مشغوف إلى حد الافتتان، بالبحث عن الآثار الأدبية والعلمية لعلماء الجزائر في جميع العصور) (¬1) وقد كنت حقا مفتتنا بهذا الموضوع منذ بدأت أعي معنى التاريخ والوطنية. وكان هدفي من البحث هو إنتاج عمل يكشف عن مساهمة الجزائر في الثقافة العربية الإسلامية والإنسانية عبر العصور. ذلك أن المستعمرين الفرنسيين قد بثوا طيلة احتلالهم للجزائر بأنه لم يكن لأهلها ماض سياسي ولا ثقافي، وزاد إهمال الدارسين العرب والمسلمين لتاريخ الجزائر من حرصي على البحث والتنقيب. فالجزائر قد ظلمها أعداؤها وأشقاؤها على السواء، و (ظلم ذوي القربى أشد مضاضة على المرء). وحين بدأت النهضة الوطنية في الجزائر كان مثقفوها غالبا من خريجي المدارس الفرنسية الذين لم يكن يربطهم بماضي الجزائر سوى الدين وبعض التقاليد والذكريات الشعبية. وقد كان هدفهم الأساسي هو التحرر، ولم يكن الكشف عن دور الجزائر الثقافي جزءا من برنامجهم. بل إن حركة ابن باديس التي ركزت على الجانب الثقافي من النهضة الوطنية، لم تعتن في مدارسها بتاريخ الجزائر الثقافي بقدر ما اعتنت بتاريخ العرب والإسلام عموما. ويعود ¬

_ (¬1) من تصديره لكتابي (شاعر الجزائر: محمد العيد ال خليفة) الطبعة الثالثة 1984. والتصدير مكتوب سنة 1960 للطبعة الأولى.

ذلك بدون شك إلى ندرة المصادر وقلة الباحثين المتخصصين في هذا الموضوع (¬1). كما يعود ذلك إلى كون حركة ابن باديس قد اهتمت بالناشئة الجزائرية تربيها على حب التراث العربي والإسلامي وتبث فيها أفكار الحرية والوطنية. ولم يكد خريجو هذه الحركة يصلون إلى مرحلة الدراسات العليا حتى قامت الثورة فطغت الأحداث على التفكير وتقدمت السياسة على الثقافة. ولو كان هذا الكتاب كتابا سياسيا لبسطها فيه الحديث عن الموقف من الوجود التركي والعثماني في الجزائر. ومع ذلك فإننا أتينا فيه بما يكفي في نظرنا لإلقاء الضوء على الحياة الثقافية. والحق أن معظم الكتاب الجزائريين أثناء هذا العهد كانوا يصفون الحكام العثمانيين بأنهم (أتراك) و (أعاجم) ذلك أن هؤلاء الحكام كانوا دائما من خارج الجزائر، وكان أغلبهم لا يتكلم إلا التركية، وكانوا من أصول مختلفة (تركية ويونانية وألبانية وإيطالية الخ). ولذلك كانوا ينعتون أيضا (بالأعلاج) (¬2). وكانوا في معظم الأحيان جهلة لا يعرفون حتى القراءة والكتابة، كما كانوا مغامرين لا فائدة لهم من الحكم إلا جمع المال والتسلط، ثم إنهم كانوا يحكمون الجزائريين بيد من حديد ¬

_ (¬1) يجب أن نستثني جهود المرحومين الشيخ محمد مبارك الميلي والشيخ أحمد توفيق المدني. (¬2) بجب أن تفرق بين الأتراك الأقحاح الذين اعتنقوا الإسلام عن عقيدة وساهموا في حماية الحضارة العربية الإسلامية منذ عهد المعتصم العباسي وبين (المتتركين) الذين اعتنقوا الإسلام كوسيلة للوصول إلى السلطة وجمع المال والذين كانوا مغامرين وجهلة ومتمردين حتى على السلطان. ومن سوء الحظ أن حكام الجزائر خلال العهد العثماني كانوا من الأعلاج المتتركين في أغلب الأحيان. فعانى منهم الشعب الجزائري كثيرا كما أثبتت ذلك الوثائق. غير أن المنتصرين للعثمانيين في الجزائر يعتبرون هؤلاء الحكام أتراكا مسلمين وكفى، وكأنه يكفي المرء أن يكون مسلما كي يرتكب ما يشاء. أما المعارضون فيظلمون الأتراك الحقيقيين بجعل حكام الجزائر ممثلين لهم في كل شيء. وكلا الفريقين في نظري على خطأ. فهذه القضية إذن ما تزال في حاجة إلى الدرس والتوضيح.

ويسلبونهم أموالهم وثرواتهم عن طريق الضرائب والرشى والهدايا ونحوها، بل إنهم تعدوا على حرمات الأوقاف وأموال العجزة واليتامى. وكانوا لا يسمحون للجزائري أن يقترب من النفوذ السياسي. وقد مكنوا طائفة اليهود في الاقتصاد، وكانوا يفضلون الأسيرة المسيحية على المرأة الجزائرية المسلمة، ثم إنهم كانوا لا يتكلمون لغة الجزائريين ولا يستعملونها في الإدارة إلا قليلا، ولا يوظفون الجزائريين إلا في الوظائف الثانوية، ولا يسوون في تطبيق أحكام الشريعة بين المسلم الجزائري والمسلم العثماني، كما كانوا جفاة غلاظا امتاز عهدهم بالعنف الدموي وقصر فتراتهم في الحكم وبالفوضى وانتشار الرشوة والظلم والفساد. وهذا هو الجانب الأسود من العهد العثماني. أما الجانب المضيء منه فهو أن العثمانيين قد أنقذوا بتدخلهم، في بداية القرن العاشر، المغرب الإسلامي من الاحتلال الأجنبي المؤكد. وقد كانوا في ذلك غزاة مجاهدين تحالفوا مع الجزائريين لصد العدوان الصليبي وحماية الثغور وإقامة حكم إسلامي ثابت وقوي ظل طيلة ثلاثة قرون شوكة في حلق العدو وقذى في عينه وصخرة تحطمت عليها كل محاولات الغزو الخارجي. وقد ظل عامل الجهاد هو العامل الموحد الأساسي بينهم وبين الجزائريين. ورغم أن معاملة الجزائريين لهم كانت على أساس الأخوة الإسلامية فإنهم قد جعلوا الحكم (تركيا) وليس (إسلاميا) فلم يشركوا الجزائريين معهم فيه، بل احتكروه لأنفسهم طيلة ذلك التاريخ؛ وجعلوا أنفسهم أوصياء على شعب يفوقهم عددا وحضارة وشجاعة. وإذا كان للوجود العثماني مبررات دولية في القرن العاشر فإنه لم يبق له مبررات في القرنين الحادي عشر والثاني عشر، ولا سيما بعد تراجع المد الإسباني والبرتغالي. وقد يتساءل المرء عن مصدر قوة العثمانيين في الجزائر رغم قلة عددهم. والواقع أن قوتهم الأولى كانت تكمن في تأييد الخلافة لهم، وذلك هو المصدر الروحي الذي اعتمدوا عليه في حكم الجزائريين. فهم كانوا حريصين على إبقاء هذا المصدر حتى حين تمردوا على السلطان وردوا

مبعوثيه (¬1) على أعقابهم، لأن تأييده الروحي والمعنوي هو الذي كان يعطيهم الشرعية في نظر الجزاريين. والمصدر الثاني لقوتهم هو استجابتهم لداعي الجهاد كلما حانت فرصة؛ ولا سيما في أوائل العهد، ومع الجهاد جاء الغزو البحري والثروة الاقتصادية سواء للخزينة العامة أو لجميع السكان. أما الطبقات والفئات الاجتماعية التي رمت بثقلها وراء العثمانيين فهم معظم المرابطين ومهاجرو الأندلس وقبائل المخزن واليهود. فقد كان لهؤلاء مصالح حيوية في بقاء النظام العثماني. وكان المرتدون على الديانة المسيحية (الأعلاج) الذين تتركوا يشكلون أيضا قوة أخرى اعتمد عليها الحكم إلى جانب أتراك أناضوليا المغامرين الذين كانت قوتهم تكمن في قلة عددهم وتماسكهم. وقد بسطنا الرأي في هذه النقطة في الجزء الأول. ... وقد يقول قائل: ما دام الأمر كذلك فلماذا لم يثر الجزائريون ويعلنوا الاستقلال؟. والواقع أن هذا السؤال طالما راودني ولم يكن الجواب عليه أمرا سهلا. فقد توصلنا بالبحث إلى أن عدد العثمانيين كان قليلا جدا بالنسبة لعدد الجزائريين بحيث لم يتجاوز في أي وقت من الأوقات الاثني عشر ألفا. ثم إن معظمهم كانوا في العاصمة أو في عواصم الأقاليم وفي محطات معينة. وأنت تقرأ في أخبار هذا العهد أن الباشا فلانا قد أرسل نحو المائة يولداش للمساعدة في القضاء على إحدى الانتفاضات المحلية، كما وقع الأمر أثناء انتفاضة سباو سنة 1157 (¬2). وكثيرا ما قرأنا أن كرسي الباشوية (أو الحكم) كان يخلو فيأتي أحدهم ويدخل القصر بسيف أو عصا أو بجماعة من الجنود ويعلن نفسه بأنه هو الباشا فيأتي الديوان والعلماء والأشراف والأعيان ¬

_ (¬1) إن أنصار العثمانيين في الجزائر اليوم لا يدركون أن أوجاق الجزائر قد تمردوا على الدولة العثمانية وأنهم لم يكونوا يحكمون باسمها إلا ظاهريا للاستفادة منها. (¬2) تحدث عنها ابن حمادوش في رحلته التي قمنا بتحقيقها ونشرها.

لمبايعته (¬1). فلماذا إذن لم يحاول الجزائريون أمام هذه السهولة في الاستيلاء على الحكم أن يتولوا أمرهم بأنفسهم؟ ويبدو أن ذلك يعود إلى عدة عوامل. أولا الفكرة الراسخة في عقول الناس بواسطة الفئات التي ذكرناها سابقا من أن آل عثمان هم الذين هيأهم القدر والعناية الإلهية لحكم المسلمين وأن المتمرد عليهم سيقع لا محالة فريسة في أيدي المسيحيين. والثاني تأييد الفئات المذكورة (مهاجرو الأندلس والأشراف ومعظم المرابطين واليهود والأعلاج) للحكم القائم ما داموا مستفيدين منه. وقد عرف الحكام العثمانيون كيف يكتسبون هذه الفئات المؤثرة في المجتمع إلى جانبهم عن طريق الإطراء والنفوذ والهدايا والإعفاء من الضرائب ونحو ذلك. والثالث عدم معاملة آل عثمان للجزائريين معاملة واحدة، فهناك الجزائريون المخزنيون المتحالفون معهم، وهناك المستقلون أو شبه ذلك، وهناك الرعايا الذين كانوا محل اضطهاد شديد. والرابع غياب الفكرة الوطنية بمفهومها الحاضر بين الجزائريين. فالعلاقات الإسلامية كانت أقوى من العلاقات الجغرافية السياسية. وكان تقسيم الجزائرر في العهد السابق للعثمانيين إلى قسم زياني وآخر حفصي لم يساعد أيضا على ظهور مفهوم الوحدة الجغرافية السياسية بين الجزائريين في العهد العثماني. والخامس أن الروح القبلية كانت ما تزال بارزة عند معظم السكان خارج المدن. وكل هذه العوامل، وغيرها، قد جعلت أغلبية الجزائريين يعيشون على مضض وضعهم الثانوي خلال هذا العهد (¬2)، رغم أنه قد يبدو لنا وضعا غير ¬

_ (¬1) توجد أمثلة على ذلك في مذكرات الشريف الزهار وغيره. (¬2) تتحدت معظم المصادر التي عدنا إليها حول هذه النقطة عن سخط الجزائريين تحت الحكم العثماني وخصوصا العامة (الشعب) التي كانت موضع اضطهاد واحتلال وإهانة حتى لقد كان الجنود الأتراك يدخلون البيوت اثنين اثنين وثلاثة ثلاثة وينزلون =

طبيعي وغير منطقي. ومع ذلك فقد كان الجزائريون يثورون على هذا الحكم كما تشير النماذج التي أتينا عليها في الفصل الثاني من الجزء الأول. كما أن الدلائل كانت تدل على أنهم كانوا سيثورون لا محالة ثورة وطنية متحدة ضد الحكم العثماني لولا تدخل الفرنسيين سنة 1246 هـ (1830). وتظهر سلبية الوجود العثماني في الجزائر في الميدان الثقافي على الخصوص. فالعثمانيون قد دافعوا في البداية عن الدين الإسلامي وشجعوا تيار التصوف في البلاد وأوقفوا بعض الأوقاف على المؤسسات الدينية وساهموا في بناء الزوايا والمساجد والكتاتيب، فكأن نظرتهم إلى الدين في داخل البلاد كانت نظرة تعبدية محضة. وهي نظرة لم تستفد منها الثقافة على كل حال. فهم لم يؤسسوا جامعة كالقرويين أو الأزهر أو الزيتونة تبث العلم وتخرج العلماء والكتاب وتحفظ اللغة وتربي العقل. ثم إنهم لم يكونوا يتكلمون لغة البلاد ولا يتذوقون أدبها ولا يقرأون كتبها ولا يتصلون بعلمائها اتصالا عاطفيا وعقليا كما فعل مثلا سلاطين المغرب أو حتى بايات تونس بعد تأسيس العائلة الحسينية. فلا غرابة إذن أن لا يشجع العثمانيون العلماء والشعراء على الإنتاج في عصر كان فيه الإنتاج الأدبي والتاريخي والعلمي محصورا في بلاطات الحكام. وهم لم يعقدوا المجالس العلمية والمناظرات كما كان يفعل قبلهم أمراء بني زيان وبني حفص وغيرهم. وهي المجالس والمناظرات التي كانت تشحذ المواهب ويتنافس فيها العلماء وتبرز القضايا الفكرية والخلافات المذهبية. ثم أن حرمان الجزائر من جامعة أو معهد للتعليم العالي قد جعل معظم علمائها يتكونون خارج بلادهم، وكثير منهم كانوا لا يعودون أصلا. وإذا كانت الحكمة تقول (الناس على دين ملوكهم) فإنها في الجزائر العثمانية تصبح (ثقافة العلماء على قدر ثقافة الحكام) وذلك أن أغلب العلماء كانوا يكتفون بالقليل من العلم لأنه لا أحد سيطالبهم بتجويده ولا بالمزيد منه. ¬

_ = على صاحبها العشرين يوما ونحوها ويعتدون على حرمة السكان ويأكلون وينامون دون دفع أي شيء ودون أن يستطيع الساكن رفضهم أو الشكوى منهم.

ولقد عالجنا هذه النقطة في مكانها من الكتاب وخصوصا فصل العلماء من الجزء الأول. فهل يصح إذن أن نطلق على هذا العهد (عهد الانحطاط الثقافي)؟ والواقع أن عهود الانحطاط السياسي والثقافي قد بدأت قبل القرن العاشر بفترة طويلة وأن دراسة أسبابها خارجة عن نطاق هذا الكتاب. ويكفي أن يعود المرء إلى مقدمة ابن خلدون وبدائع السلك لابن الأزرق وغيرهما من التآليف التي تعرضت لتلك الظاهرة. أما ما يخص موضوعنا فإن ظاهرة الجمود الثقافي كانت بارزة في العهد الذي درسناه، وهو جمود ليس خاصا بالجزائر. ولو كانت الثقافة في بقية العالم الإسلامية حية ونشيطة لاستفاد منها الجزائريون أيضا لأن معظم علمائهم كانوا يرحلون في طلب العلم إلى المعاهد الإسلامية. وإذا كان الأمراء في غير الجزائر لهم اتصال وثيق بالثقافة العربية والعلوم الإسلامية فإن حكام الجزائر، كما ذكرنا، كانوا أبعد الناس عن هذا الميدان. وهذا هو الفرق بين حالة الثقافة في الجزائر وغيرها من البلدان العربية الإسلامية الأخرى خلال هذا العهد. أما ظاهرة الجمود فقد كانت عامة. ومع ذلك فنحن نجد، إذا حكمنا من عدد العلماء في كل فترة ومن عدد التآليف، أن لخط البياني للثقافة في الجزائر كان يسير في حالة اطراد وصعود. فبعد النزاع السياسي الكبير الذي عانت منه هذه الثقافة في القرن العاشر (16 م) الذي شهد هجرة العلماء الواسع وكثرة الحروب، أخذت الحياة تدب فيها في القرن الحادي عشر باستقرار الأوضاع السياسية وازدهار الحياة الاقتصادية وتوارد العلماء المسلمين على الجزائر ووفرة الكتب. ثم شهد القرن الثاني عشر (18 م) وأوائل الثالث عشر حركة قوية في صفوف العلماء والعناية بالتعليم وكثرة التآليف. ففي أواخر القرن المذكور (الثاني عشر) بدأت حركة نشيطة بتشجيع التعليم والعناية بالأوقاف والاهتمام بالعلماء والكتب. وقد ساهم في هذه الحركة بعض البايات أمثال صالح باي والحاج محمد الكبير، كما أنه منذ استرجاع وهران الأخير (سنة 1205) أخذ العلماء

الجزائريين يهتمون بالعالم الخارجي فاهتم ابن سحنون بأخبار الثورة الفرنسية، وكتب أبو راس عن أثر الحملة الفرنسية على مصر والشام، وعن الحركة الوهابية، وكتب ابن العنابي كتابه عن الإصلاح الاجتماعي والحربي للجيوش الإسلامية ودعا إلى الأخذ بنظم الغربيين فيما لا يخالف قواعد الإسلام. وقد كان لاسترجاع وهران، وثورة معظم الطرق الصوفية، وحملة الإنجليز على مدينة الجزائر، وبداية الإصلاح في الدولة العثمانية، ومصر على الخصوص، وثورة شعوب البلقان ضد العثمانيين، كان لهذا كله أثره الإيجابي على الحياة الفكرية في الجزائر. ولولا الاحتلال الفرنسي لأخذت تلك الحركة في التوسع والنمو ولسبقت الجزائر أخواتها بالنهوض والتخلص من ظاهرة الجمود (¬1). ... وقد سيطرت عدة ظواهر على الحياة الثقافية في العهد الذي درسناه ومن أهمها انتشار التصوف والدروشة وشيوع الشروح والحواشي على أعمال المتقدمين والثقافة الموسوعية والحفظ، فالتصوف الذي يعني الزهد والتقشف والصلاح والعمل بالعلم والابتعاد عن الدنيا وأهلها قد ترك مكانه في أغلب الأحيان إلى نوع من التصوف هو أقرب إلى الدروشة والدجل منه إلى الصلاح. لذلك شاعت مغامرات مدعي الولاية من الجهلة الذين كانوا يبتزون أموال الناس ويهددونهم في حياتهم. وكانت السلطة متواطئة مع هؤلاء أو غاضة النظر عنهم. وقد شاع هذا التصوف حتى بين العلماء العاملين كالفقهاء والنحاة والمؤرخين، بل حتى بين الولاة والمسؤولين. فأنت لا تكاد تجد عالما في آخر القرن الثاني عشر (18 م) إلا وهو منتم إلى إحدى الطرق ¬

_ (¬1) مما يذكر أن عمر باشا (1230 - 1232 هـ) كان صديقا لمحمد علي والي مصر، وأن الحاج محمد الكبير قد ذهب إلى الحج أثناء انتشار الحركة الوهابية ومر بمصر واتصل بعلمائها أمثال محمد مرتضى الزبيدي ومحمد الأمير الكبير المازوني الأصل. ولكننا لا نعرف أن هناك خطة موسومة للإصلاح لا من عمر باشا (الذي بقي فترة قصيرة ولا من محمد الكبير ولا حتى من صالح باي.

الصوفية آخذا الورد والسبحة والمصافحة والخرقة ونحوها من أحد شيوخ الصوفية. وقد كانوا يتباهون بذلك ويسجلونه في أثباتهم ومذكراتهم. كما كان بعض الولاة يتقربون إلى رجال التصوف بوقف الأوقاف عليهم وإعفائهم من الضرائب وبناء القباب لهم والتبرك بهم وأخذ العهد منهم ونحو ذلك. فالعقل الإنساني في جميع مستوياته كان عندئذ واقعا تحت طائلة هذا المخدر القوي وهو التصوف المحرف عن حقيقته. ومن جهة أخرى فقد قلت الآثار المبتدعة في إنتاج العلماء بحكم الجمود العقلي وشيوع الدروشة والتخلف السياسي، فالتمس هؤلاء العلماء نشاطهم العقلي في دراسة أعمال السابقين والنظر إليها نظرة تقديس. وعكفوا عليها يشرحونها ويحشون عليها ويكررونها مختصرين لمطولاتها ومطولين لمختصراتها أو موضحين لغوامضها. وقد شمل ذلك كتب الفقه والنحو والتصوف والسيرة والتوحيد والمنطق. وإذا لم يجد العالم ما يشرحه لغيره من الآثار عمد إلى شرح أعمال نفسه. فهو ينظم مثلا قصيدة أو رجزا في موضوع ما ثم يقوم بشرح ذلك كما فعل أبو راس وابن سحنون. وأحيانا كان العالم يؤلف مختصرا ويطلب من زميله أن يشرحه كما فعل عبد الرحمن المعسكري صاحب (عقد الجمان) مع محمد الجوزي المزيلي. ولم يكن ذلك مقصورا بالطبع على علماء الجزائر. كما أن ظاهرة الجمع بين عدة علوم كانت منتشرة وموضع تفاخر بين العلماء، فأنت لا تكاد تجد في سيرة عالم من العلماء إلا أنه جمع بين علوم النقل والعقل وعلوم الظاهر والباطن. وهم فعلا كانوا كذلك يأخذون من كل علم بطرف ويبثون ذلك في تآليفهم أيضا إذ يذكرون فيها الطرائف والنوادر والأخبار والحكايات والاستطرادات المتنوعة. ويا ويح العالم الذي اقتصر في مجالسه على علم واحد أو ألف ولم ينوع ويستطرد!. ولذلك وجدنا نحن صعوبة كبيرة في تصنيف هذه المؤلفات وتبويبها في الجزء الثاني. كما أن ظاهرة الحفظ كانت شائة عندهم ويتباهون بها وكان بعضهم يحفظ كتبا بأسرها. ومن الجدير بالذكر أن علماء الجزائر قد ألفوا تقريبا في كل العلوم المعروفة حينئذ إلا ما نسميه اليوم بالفنون، فنحن

لا نكاد نجد منهم من ألف عملا في الموسيقى والغناء أو العمارة والصناعات التقليدية أو الخطوط والرسم. لذلك اكتفينا حول هذه الفنون بذكر آراء العلماء المبثوثة في تآليفهم الأخرى. ... وقد وضعت خطة هذا الكتاب ليكون في ثلاثة أجزاء أتناول في الجزءين الأولين منه العهد العثماني من فاتح القرن العاشر إلى بداية القرن الثالث عشر (16 إلى 19 م) وأتناول في الجزء الثالث العهد الفرنسي. فإذا اتسعت مادة هذا العهد فقد أغطيه بجزئين أيضا (¬1). وبذلك يكون الكتاب في أربعة أجزاء. ولكن بحثنا في العهد الفرنسي ما زال لم ينته. وقد تناولت في الجزء الأول النواحي النظرية للتاريخ الثقافي من تيارات ومؤثرات وظواهر ومناهج كما تناولت فيه المؤسسات ورجال التصوف والعلماء وعلاقتهم بالسلطة والشعب. أما الجزء الثاني فقد خصصته لدراسة الإنتاج الثقافي من علوم شرعية ومنطق وتصوف وأدب وتاريخ وطب ورياضيات ونحوها. وقد جاء كل جزء في ستة فصول، وجعلت الفصل الأول من الجزء الأول مكرسا للقرن التاسع (15 م) باعتباره مرحلة هامة في تطور الثقافة التي ورثها العهد العثماني. كما أنني استعملت التاريخ الهجري لأن ذلك هو الذي استعمله العلماء وساسة ذلك العهد ولأنه عنصر من عناصر تراثنا العربي الإسلامي الذي يجب أن نعتز به ونعود إلى استعماله كما يستعمل الأجانب تواريخهم في كتاباتهم. غير أنني تسهيلا للباحثين غير المتخصصين وضعت بين قوسين القرن الميلادي المقابل للقرن الهجري. فالعاشر يقابله السادس عشر الميلادي والحادي عشر الهجري يقابله السابع عشر الميلادي وهكذا. وقد كنت انتهيت مبدئيا من جمع المادة الأساسية للجزئين الأولين منذ حوالي عامين وحاولت الشروع في الكتابة، فكتبت الفصل الأول من الجزء الأول في الجزائر. ثم توقفت وظللت أبحث عن وقت أتفرغ فيه للكتابة وأنا ¬

_ (¬1) عن الخطة الجديدة انظر مقدمة هذه الطبعة وكذلك مقدمة الجزء الثالث.

بالجزائر فلم أفلح لكثرة شواغل الحياة وواجات الجامعة والطلبة والالتزامات العائلية وفقدان وسائل الاختلاء والتأمل. فكنت أتحرق أسفا على عدم قدرتي على مواصلة الكتابة. وطالما جلست في مكتبي في المنزل طارحا أوراقي أمامي متأملا فيها ماسكا القلم ثم لا يواتيني الخاطر لأسباب عديدة. وأخيرا قررت طلب التفرغ من الجامعة لمدة سنة، وكان ذلك من حقي القانوني نفوافقت هي والوزارة على ذلك وعلى المنحة أيضا، وكاتبت جامعة منيسوتا بالولايات المتحدة الأمريكية فوافقت على استقبالي أستاذا زائرا وحملت معي أوراقي وسافرت بالعائلة. وقد مكنني قسم التاريخ بجامعة منيسوتا من مكتب خاص كما مكنتني مكتبة الجامعة من مكتب آخر وهناك طرحت أوراقي وجلست الساعات بل الشهور الطوال أكتب وأبحث إلى أن انتهيت من تسويد الجزءين قبل نهاية يونيو سنة 1978 ولم يبق لي إلا نصف الفصل الأخير من الجزء الثاني (فصل العلوم والفنون) فأكملته في باريس في طريق عودتي إلى الجزائر. وكنت أعرف أن الكتاب على ذلك النحو يحتاج إلى مراجعة طويلة وصياغة وإضافات وحذف ونحو ذلك وأن ذلك لا يمكن القيام به أيضا إذا استأنفت عملي في الجزائر. فطلبت من الجامعة تمديد تفرغي سنة أخرى للمراجعة فوافقت كما وافقت الوزارة على التفرغ والمنحة وعدت إلى الولايات المتحدة ضيفا هذه المرة على جامعة ميشيقان التي سهلت لي هي أيضا مهمتي. وقد استغرقت مني عملية المراجعة حوالي ستة أشهر. وكلما وجدت فرصة كنت أجمع أيضا مادة الجزء الثالث. فليس من الغريب إذن أن أكتب أكثر عملي خارج الجزائر، لأن الباحث لا يحتاج فقط إلى لقمة العيش بل يحتاج إلى المكان المناسب والزمان المواتي والجو المستبشر. ومن نافلة القول أن أضيف بأني استكملت فراغات كثيرة في البحث لم أكن قد تنبهت إليها من قبل سواء من المصادر الكثيرة التي تحتوي عليها مكتبتنا جامعة منيسوتا وميشيقان أو من طريق تصوير المخطوطات التي تهمني من جامعة برنستون ومكتبة الكونغرس الأمريكي وغيرهما أو من مراسلاتي مع بعض الباحثين.

ولم تكن مهمة البحث فى المظان تهدف الى جمع المادة وحشرها في الكتاب بدون رأي أو تمحيص أو ترتيب. فالكتاب، كما قلت يدرس الظواهر ويحللها ويعللها، كما يدرس الانتاج ويصنفه ويقيمه ويناقش المؤلفين آراءهم ومواقفهم ويصحح بعض الأخطاء. فمادة الكتاب اذن ليست كتلة جامدة من الحوادث التاريخية أو تجريدة احصائية للانتاج. وسنتبع ان شاء الله فى باقيه نفس الطريقة. ورغم أنه كتاب لتاريخ الثقافة لا يكاد يستغنى عن أثر من الآثار فانه ليس مجرد حصر لهذه الآثار. على أنه تجدر الملاحظة الى ان بعض الآثار لم نتمكن من الاطلاع عليها والقراءة عنها فاكتفينا بوضعها في مكانها من فصول الكتاب انتظارا للكشف عنها. كما أنه ليس كتابا تراجم بالمعنى التقليدي، رغم أنه يضم عددا من التراجم، فالترجمة لأحد العلماء فيه هي جزء من موضوع وليست وحدة منفصلة لا حس فيها. حقا ان تداخل المواد وانتاج العالم الواحد فى عدة موضوعات وطغيان الحواشي وكتب التصوف والشروح جعل استقلال وحدات الكتاب أمرا شبه مستحيل. ولكننا حاولنا ان يكون الكتاب مرآة للعصر وفي نفس الوقت خاضعا للتصنيف المنطقي. ولم ينظر الكتاب الى التراث نظرة تقديس. فأنا لم أكتبه لكي يكون عملا يرضي العواطف الجهوية أو يدغدغ المشاعر الوطنية أو يهدهد النزعات الدينية. ذلك أن بعض الانتاج مليء بالخرافة، وبعضه مكتوب في مدح رجال لا يستحقون المدح، وبعضه كان منحظ الأسلوب، وبعضه كان أصحابه يعبرون عن موقف المحرومين والموتورين. ولكن ذلك كله كان تراثنا على كل حال. فهل نكتفي بالاشادة به وبأصحابه، كما فعل معظم من تعرضوا له حتى الآن؟ لا نعتقد أن ذلك سيكون فى صالح هذا التراث نفسه، كما اننا لا نعتقد أنه سيكون فى صالح الجيل الحاضر والجيل الصاعد الذي يرغب في معرفة الحقيقة. ومع ذلك فان لهذا الكتاب رسالة واضحة. فنحن الى الآن لا نملك

تاريخا لثقافتنا يحدد معالمها ويكشف عن قيمها ويضبط علاقتنا بها. وقد كانت هذه الثقافة عربية اسلامية اشترك فيها الجزائريون من شرق البلاد الى غربها ومن شمالها الى جنوبها. وهي ثقافة، مهما قيل انها متقدمة أو منحطة هي نحن في ماضينا، وهي التي نستمد منها اليوم ذاتنا وحقيقتنا. فالجزائري اليوم يجب أن يعتز بهذه الثقافة والانتساب إليها، لأن الشعوب التي ليس لها ثقافة ليس لها وجود، ولا يهم بعد ذلك أن يقال عنا أننا كنا سياسيا مستقلين أو مستعمرين ما دام وجودنا الثقافي ثابتا لا يتزعزع. وهذه إحدى نقط رسالة الكتاب. ومن جهة أخرى فإن دارس الثقافة الجزائرية خلال العهد العثماني يدرك، مهما تغالى في إبراز الخصوصيات، أنه أمام ثقافة هي في صميمها الثقافة العربية الإسلامية المشتركة والشائعة عندئذ في العالم العربي الإسلامي، فمناهج التعليم كانت واحدة، وحدود الأفكار واحدة ومعاهد العلم التي ارتادها علماء الجزائر متشابهة والطرق الصوفية التي انتموا إليها هي هي سواء أخذوها في المغرب الأقصى أو في العراق. فكما أن على الجزائري أن يفتخر بإنتاجه الثقافي الخاص عليه أن يباهي أيضا بأنه قد أسهم بهذا الإنتاج في حركة المد التاريخي والحضاري للأمة العربية والإسلامية. ... وفي تناولنا للعلماء قصدنا (بالجزائري) منهم كل من ولد وعاش في الجزائر فترة ولو هاجر منها بعد ذلك، أو ولد خارجها من أب جزائري وظل محتفظا بسنبه إليها، أو ولد وعاش خارج الجزائر ولكنه ورد عليها وأقام بها فترة واختلط بأهلها وساهم في حياتها الروحية والعلمية وكان من المسلمين. ومن ناحية أخرى اعتبرنا من علماء العهد العثماني أولئك الذين عاشوا حتى أدركوا حوالي عشرين سنة من القرن العاشر. فأحمد الونشريسي اعتبرناه خارج هذا العهد رغم أنه توفي سنة 914، بينما محمد بن أحمد بن أبي جمعة الوهراني اعتبرنا منه لأنه توفي سنة 927، وكذلك أحمد بن يوسف

الملياني المتوفى 931. ولكن من الصعب التمسك بهذه القاعدة دائما. كما أنه من الصعب تحديد نهاية العهد العثماني مع العلماء الذين أدركوا العهد الفرنسي أيضا كابن العنابي وحمدان خوجة وابن الشاهد ونحوهم. غير أنني نظرت في هذه الحالة أيضا إلى السن والتأليف. فإذا كان العالم قد قضى معظم حياته في العهد العثماني اعتبرناه منه ولو أدرك العهد الفرنسي. كما أن العالم الذي أدرك هذا العهد ولكنه ألف في العهد السابق له نظرنا اليه نظرة المخضرم. فكتاب ابن العنابي الذي ألفه سنة 1242 اعتبرناه من العهد العثماني رغم أن صاحبه قد توفي سنة 1267، أما بالنسبة الى انتاج حمدان خوجة الذي عاش معظم حياته في العهد العثماني فقد اعتبرناه في العهد الفرنسي لأنه مؤلف في هذا العهد. وقد خطرت ببالي عدة تسميات للكتاب منها (تراث الجزائري الثقافي) و (تاريخ الثقافي للجزائر) و (تاريخ الثقافة في الجزائر) ثم (تاريخ الجزائر الثقافي). وبعد الاستشارة والاستخارة استقر الرأي على التسمية لأخيرة لأنها أكثر شمولا وتعبيرا عما قصدته منه. واثناء جمع المادة توفرت لدي ايضا معلومات غزيرة عن الحياة الثقافية في العصور الاسلامية العربية السابقة للعهد العثماني. وقد سألت نفسي عدة مرات: لماذا لا أضع موسوعة كاملة لهذه الحياة وأعود بالكتاب إلى تلك العصور ولو جاء في أجزاء عديدة؟ ولكني كنت أعود لنفسي وأقول ان طاقتي محدودة ومشاريعي كثيرة ويكفي الآن أن أدرس العهد العثماني والعهد الفرنسي لارتباط تخصصي بهما؟ فذا امتد العمر وواتت الأيام عدت الى دراسة العهود الاسلامية العربية أيضا وأخرج عنها موسوعة أخرى، واذا قصر العمر وعكست الأيام ظفرت على الأقل بهذه البغية، وهي بحمد الله فوق ما كنت أتصور. ثم ان الكتاب موجه الى الباحثين والمطالعين معا. فالأولون سيحدون فيه، كما ارجو، مادة وفيرة من النصوص والمراجع والآراء، وهواة المطالعه سيجدون فيه، كما أرجو أيضا، متعة المعرفة ولذة الخبر.

وقد شاع بين الكتاب في هذه الأعوام التمسح بالتاريخ وبالعلم حتى كاد كل من يكتب منهم عملا يدعي أنه توصل إلى نتائجه فيه بالدراسة المنهجية والطريقة الأكاديمية والبحث العلمي ونحو ذلك من التعابير التي تلوكها أقلامهم. وما دروا أن العمل الجدي هو الذي يقدم نفسه بنفسه بدون أوصاف ولا اعتذارات ولا تملق للقراء. أما أنا فحسبي أن أقول إنني جمعت لهذا الموضوع ما استطعت من المواد قرابة ربع قرن ثم عكفت على دراستها ومقارنتها وتمحيصها ثم صغتها، فجاء منها هذا الكتاب. ولا شك أن عملا يغطي هذا المدى التاريخي الواسع وفي هذا الحجم لا يمكن أن يسلم من الفراغات والهفوات، ولكني سأظل، ما دمت حيا، عاكفا على تنقيحه وتهذيبه من المجهود الشخصي ومن تنبيهات واقتراحات الباحثين. ذلك أن البحث لا ينتهي بصدور الكتاب، كما أن الكتاب لا يمكن أن يظل محتجبا في انتظار الانتهاء من البحث، لأن البحث كنهر الحياة لا ينتهي. وإني إذ أشكر الله تعالى على إعانته لي على إخراجه، أدعوه أن يجعله كتابا نافعا وأن يعينني على إكمال باقيه. آن آربر (أمريكا) يوم 21 مارس 1979 أبو القاسم سعد الله القماري

حول المصادر

حول المصادر إن العهد العثماني، في جميع مظاهره، ما يزال غير مدروس. فلم يؤلف علماء الجزائر أثناءه تأليفا يغطي جوانبه ويدرس ظواهره ويسجل أحداثه، اللهم إلا ما نجده من نتف في بعض أعمال أبي راس وابن المفتي وابن حمادوش والورتلاني والتلمساني والمشرفي وأمثالهم. وليس ما كتبه أمثال ابن ميمون وابن سحنون وابن زرفة إلا تسجيلا لأخبار أولياء نعمتهم. لذلك أصبح على المؤرخ أن يعود في دراسة هذا العهد إلى كتب التصوف مثل مؤلفات الصباغ القلعي والفكون وابن مريم والبطيوي وابن سليمان ونحوهم، أو إلى الرحلات والأعمال الأدبية والشعر وحتى الشروح الفقهية والنحوية مثل مؤلفات ابن عمار وأشعار ابن علي وشروح البوني الخ، بالإضافة إلى السجلات والوثائق الرسمية. كما أن علماء الجزائر في العهد الفرنسي لم يلتفتوا إلى العهد العثماني يدرسونه ويحددون معالمه ويحكمون عليه. ولولا بعض الصفحات في (مرآة) حمدان خوجة و (تحفة) الأمير محمد باشا و (محمد عثمان باشا) و (كتاب الجزائر) لأحمد توفيق المدني وبعض الإشارات في مؤلفات أبي حامد المشرفي وابن الأعرج وتراجم أبي القاسم الحفناوي، لا نقضي النصف الأول من القرن العشرين دون أن نعرف شيئا عن ذلك العهد من مؤلفات الجزائريين. وكان شعار معظم الجزائريين الذين تأثروا بالثقافة الفرنسية هو شعار الكتاب الفرنسيين أنفسهم الذين اكتفوا برمي العثمانيين بالوحشية الثقافية والاستبداد السياسي والشره الاقتصادي.

وقد اكتفى الفرنسيون، حين تعرضوا للعهد العثماني، بدراسة وثائق قناصلهم أثناءه ومصالح بلادهم على سواحل الجزائر والحروب التي كانت بينهم وبين غزاة الجزار. وإذا توسعوا في الأمر درسوا العلاقات الدبلوماسية والتجارية بين الجزائر والدول الأوروبية ومواقف الجزائر من الأسرى المسيحيين وما يتصل بذلك. وقد سار على نهجهم أيضا المؤلفون الأجانب الآخرون من إنكليز وإسبان وأمريكان إذ نجد عدة مؤلفات لهؤلاء تتعلق بالمعاهدات والعلاقات بين الجزائر وتلك الشعوب، كما تتناول الحصون والتجارة والأسرى ونحو ذلك. أما الحياة الثقافية أثناء ذلك العهد، من أدب وفن وتاريخ ونحو وتصوف وغيرها، فلم تكن تهم الدارسين الفرنسيين بالخصوص إلا إذا كانت لها آثار مباشرة عليهم كاللهجات والتصوف وأصول السكان. فهل نستغرب بعد ذلك أن نقرأ في الأخبار أن الصناديق المتعلقة بالآداب والفنون والتعليم قد ضاعت من أرشيفات العهد العثماني التي كان يملكها الفرنسيون؟ وكما ضاعت هذه الوثائق الأساسية لدراسة الحياة الثقافية ضاعت أيضا المخطوطات التي تركها علماء الجزائر أثناء نبش وبعثرة المكتبات الخاصة والعامة في الحروب التي رافقت الاحتلال الفرنسي للجزائر. فقد أصبحنا لا نعرف عن بعض هذه المخطوطات إلا ما يذكره عنها المستشرقون الفرنسيون وضباط المكاتب العربية والمترجمون، والذي لم يذكروه وحملوه معهم إلى بلادهم أعظم. كما أن بعض هذه المصادر الجزائرية لم نعد نعرفه إلا مترجما محرفا بينما ضاع أصله العربي. أما الآثار الأخرى التي حملها العلماء الجزائريون المهاجرون معهم إلى البلاد العربية والإسلامية بعد الاحتلال فما يزال بعضها محفوظا ولكن أغلبه قد اشتراه المستشرقون أيضا من ورثة هؤلاء العلماء الذين كبا بهم الزمن فأصابهم الفقر بعد الغنى والبذل بعد العز. وهكذا تفرقت مصادر تاريخ الجزائر الثقافي في عواصم أوروبا، برلين ولندن والفاتيكان وميونيخ ومدريد وباريس وغيرها، بالإضافة إلى تفرقها في مكتبات العالم الإسلامي.

وليس ادعاء أن أقول إن مصادر هذا الكتاب كثيرة ومتنوعة وإن البحث عنها قد كلفني التنقل بين مكتبات الجزائر والسفر إلى عدد من المكتبات الأجنبية. فبالإضافة إلى المكتبة الوطنية ومديرية الوثائق في الجزائر عملت في مكتبة زاوية طولقة ومكتبة جامع البرواقية، واستنفدت من خبرة عدد من المهتمين بالمخطوطات أمثال المرحوم الشيخ نعيم النعيمي الذي كان يملك مكتبة غنية بالنوادر، والشيخ المهدي البوعبدلي الذي يعتز هو أيضا بمكتبته الغنية. وكانت زيارتي للمكتبة الملكية والخزانة العامة بالمغرب من أعظم الزيارات فائدة لعملي، كما استفدت من فهارس مكتبات المغرب التي أعدتها وزارة الثقافة والأوقاف المغربية. وكانت إقامتي في القاهرة عدة مرات والعمل في مكتباتها، وخصوصا دار الكتب ومكتبة القلعة ومعهد المخطوطات العربية والاطلاع على فهارس مخطوطات المكتبة البلدية بالإسكندرية ونحو ذلك، ومراسلاتي مع عدد من باحثي مصر ومشاركتي في ندواتها العلمية - كل ذلك كان خيرا وبركة على هذا الكتاب. كما أنني زرت المكتبة الوطذية بتونس عدة مرات وفي كل مرة كنت أكتشف ما فيها من الذخائر التي عادت بالفائدة الكبيرة ولا سيما بعد ضم عدد من المكتبات الخاصة إليها مثل مكتبة حسن حسني عبد الوهاب والمكتبة الأحمدية. كما ترددت على المكتبة الظاهرية بدمشق عدة مرات، وعلى المكتبة السليمانية ومكتبة توبكابي باسطانبول، وكذلك مكتبة الحرم المكي بمكة المكرمة، والمكتبة الوطنية ودار الوثائق الفرنسية، ومكتبة الكونغرس الأمريكية، بالإضافة إلى زيارتي للمتحف البريطاني في مناسبتين على الأقل. وأود أن أشير إلى أن بعض المصادر التي كنت قد عدت إليها مخطوطة قد حققت وطبعت بعد ذلك. ومع ذلك فقد رجعت إلى ما أمكنني الرجوع إليه بعد النشر أيضا. ومن ذلك (التحفة المرضية) لابن ميمون، و (الثغر الجماني) لابن سحنون. كما أنني عدت إلى بعض المصادر في الترجمات الأجنبية مثل (دوحة الناشر) لابن عسكر و (نشر المثاني) للقادري.

ولعله كان متوقعا مني أن أضع قائمة بالمصادر في آخر الكتاب ولكني بعد أن وضعت هذه القائمة وجدتها طويلة جدا، وهي تشمل الوثائق والمخطوطات والكتب المطبوعة النادرة والكتب المتداولة والمقالات والجرائد باللغات العربية والفرنسية والانكليزية. وبعد إعادة النظر والاستشارة قررت حذف هذه القائمة لعدة أسباب: 1 - أن مصادر كل فصل مذكورة في تعاليقه وبذلك يمكن لمن يرغب في الاطلاع على موضوع ما أن يرجع إلى تعاليق الفصل الذي يعنيه من الكتاب. 2 - انني كنت حريصا في كل عملي على أن أحيل على المراجع التي عدت إليها، بل وإلى ذكر أرقام المخطوطات والوثائق حتى أسهل على الباحثين العودة إليها والاسفادة منها. 3 - ان الكتاب في حد ذاته عبارة عن دراسة للمصادر، ولا سيما الجزء الثاني منه. 4 - انني لو أثبت كل المصادر التي عدت إليها خلال ربع القرن الماضي لثقلت الكتاب بصفحات كثيرة أخرى. غير أنني ما دمت قد اعتمدت في الجزء الثاني على المخطوطات بالخصوص فإنني في الجزء الأول قد اعتمدت على وثائق (أرشيف) العهد العثماني، بالإضافة إلى المصادر الأخرى المذكورة في التعاليق. والمسائل التي رجعت فيها إلى الوثائق هي المؤسسات الدينية، ورجال الدين، وأصول العائلات العلمية، ووضع الأقليات، ومكانة المدن. وتجدر الإشارة إلى أن عملي في الوثائق كان في دار الوثائق الوطنية الفرنسية - قسم الميكروفيلم، رغم أن الوثائق الأصلية نفسها موجودة في الجزائر، وذلك بعد أن أعادها الفرنسيون إلى السلطات الجزائرية. وهذه هي أرقام الميكروفيلم التي رجعت إليها:

1.228 MI-19 69 2. 228 MI-31 168 169 170 3.228 MI-32 176 178 181 182 184 185 186 4.228 MI-37 216 217 220 5.228 MI-41 287 288 6.228 MI-46 244 246 7.228 MI-48 366 357 .

تنبيهات

تنبيهات - للإحالة على الدوريات ذكرنا اسم الدورية بين قوسين فتاريخها فالصفحة فإذا ذكر رقم قبل التاريخ فهو عدد الدورية. - للإحالة على الكتب المطبوعة ذكرنا أول مرة ما يتعلق بتعريف الكتاب. فإذا أشير إليه بعد ذلك نذكر عنوانه بين قوسين فالصفحة منه. وإذا كان له أجزاء ذكرنا رقم الجزء تليه الصفحة ويفصل بينهما خط مائل. - للإحالة على مصدر مخطوط ذكرنا مكانه ورقمه وبعض أوصافه ومكملاته ما أمكن مثل حالته وصفحته أو ورقته الخ. - وهناك بعض المصادر كنا اطلعنا عليها مخطوطة ثم نشرت، مثل (الثغر الجماني) و (التحفة المرضية)، فإذا كانت الإحالة مطلقة فتعني المطبوع، وإلا فإن عبارة (مخطوط) تذكر إزاءها. - لم نختصر عناوين المكتبات مثل: المكتبة الوطنية - تونس، المكتبة الوطنية - الجزائر، الخزانة العامة - الرباط، الخ. تفاديا للالتباس وتسهيلا للبحث. - لم نكتب أسماء المؤلفين الأجانب باللاتينية إلا نادرا. وقد حاولنا في نطقها الرجوع إلى أصل لغة المؤلف. مثلا، شيلر وليس شالير كما هو في الفرنسية، الخ. - في فهرسة الاعلام اتبعنا التنظيم الأبجدي العالمي، مع الاستغناء عن (ابن) (وأبو). - زيادة في التوضيح نذكر أسماء المجلات الآتية مع أصلها باللاتينية: - (أنال) Annales - (روكاي). Recueil des Notes et Memoires de Constantine

- (نشرة جمعية جغرافية وهران) Bulletin de la Societe de Geographie d'Oran. - (المجلة الإفريقية) Revue Africaine - (المجلة الآسيوية) Journal Asiatique - (مجلة العالم الإسلامي) تعني المجلة التي تحمل هذا الاسم الإنكليزية والفرنسية، ولكننا فرقنا بينهما بذكر عبارة (بالإنكليزية)، أو (بالفرنسية): Revue du Monde Musulman. Moslem World Review. Societe de Geographie D'alger et de L'afrique du nord = sgaan. - مجلة الجمعية الجغرافية لمدينة الجزائر وشمال إفريقية.

الفصل الأول تراث القرن التاسع (15) م

الفصل الأول تراث القرن التاسع (15) م

المؤثرات في الحياة الثقافية

خصصنا هذا الفصل لدراسة التراث الثقافي خلال القرن التاسع الهجري (الخامس عشر الميلادي) باعتباره التركة التي ورثها العهد العثماني موضوع هذا الكتاب. فإنتاج القرن التاسع كان في الواقع خاتمة لإنتاج فترة امتدت ثلاثة قرون مبتدئة بعهد الموحدين، وكان في نفس الوقت فاتحة لإنتاج عهد العثمانيين بالجزائر، وهو العهد الذي انتهى بدوره سنة 1246 (1830 م)، وأثتاء دراستنا لإنتاج القرن التاسع سيتضح أنه كان حلقة بين إنتاج عاش في ظل إمارات محلية ضعيفة وإنتاج عاش في ظل (احتلال) إسلامي مركزي قوي. ويعتبر إنتاج القرن التاسع، رغم ذلك، من أوفر إنتاج الجزائر الثقافي ومن أخصب عهودها بأسماء المثقفين (أو العلماء) والمؤلفات. وفي إحصاء سريع أجريته لأسماء العلماء المنتجين خلال القرن التاسع والعاشر والحادي عشر والثاني عشر وجدت أن عددهم في القرن التاسع يفوق أعدادهم في القرون الباقية متفرقة، ولا سيما القرن العاشر الذي عرف نقصا كبيرا في عدد العلماء وفي المؤلفات لأسباب سنعرفها. وكثير من إنتاج القرن التاسع ظل، كما سنرى، موضع عناية علماء القرون اللاحقة والتعليق عليه وتقليده ونحو ذلك. وكثير من علماء القرن العاشر، الذي هو نقطة انطلاقة هذا الكتاب، كانوا تلاميذ أوفياء لعلماء القرن التاسع، ومن أجل ذلك كله رأينا أن نفرد هذا القرن بفصل خاص. المؤثرات في الحياة الثقافية 1 - وبالرغم من أن القرن التاسع كان عهد إنتاج ثقافي وفير فإنه على المستوى السياسي كان عهد اضطراب وتدهور. ذلك أن الحدود السياسية

لجزائر القرن التاسع لم تكن مضبوطة وثابتة. وكلمة الجزائر عندئذ لم تكن تطلق إلا على مدينة ساحلية صغيرة قليلة الأهمية، ولم تكن تعني بأية حال (القطر الجزائري) المعروف الآن. فهذا المفهوم لكلمة (الجزائر) لم يصبح معروفا إلا منذ القرن العاشر أي أثناء الحكم العثماني. بل إن عبارة (المغرب الأوسط) التي أطلقها العرب المسلمون لم تكن تعني بالضبط حدود الجزائر الحالية لأن هذه العبارة وأمثالها (المغرب الأدنى، المغرب الأقصى) كانت غامضة غموض حدود الإمارات الإسلامية التي تعاقبت على حكم المغرب العربي. وتثبت خريطة القرن التاسع السياسية أن المغرب العربي كان تحت نفوذ ثلاث دول رئيسية هي: المرينية والزيانية والحفصية. ومن التسامح فقط القول بأن الأولى كانت تحكم ما هو الآن المغرب الأقصى، وأن الثانية تحكم ما هو الآن الجزائر، وأن الثالثة تحكم ما هو الآن تونس. ذلك أن جزءا كبيرا من الشرق الجزائري اليوم (بما في ذلك قسنطينة وعنابة وبجاية وبسكرة وتقرت) كانت تحت هيمنة الدولة الحفصية، وكان ما يعرف اليوم بالغرب الجزائري تحت نفوذ الدولة الزيانية التي اتخذت قاعدتها تلمسان. أما وسط القطر الجزائري الحالي فقد كان منطقة عازلة بين الحفصيين والزيانيين، ومن ثمة كان منطقة صراع دائم بين القوتين، ولذلك ظهرت فيه إمارات محلية صغيرة كانت تحتفظ بحيادها أحيانا ولكنها كانت في أغلب الأحيان تتبع الأقوى. ولم يكن التنافس والطموح مقصورين على الزيانيين والحفصيين، بل لقد تدخلت في ذلك منافسة وطموح المرينيين أيضا ضد الزيانيين المجاورين تارة وضد الحفصيين البعيدين عنهم تارة أخرى. وهكذا وصلت جيوش المرينيين في بعض الأوقات إلى تونس والزاب وقسنطينة كما وصلت جيوش الحفصيين إلى المدية ومليانة وتلمسان (¬1). ¬

_ (¬1) من المؤلفين الذين وصفوا هجوم الحفصيين على تلمسان الرحالة عبد الباسط بن خليل الذي عاش في تونس وتلمسان خلال السنوات 868، 869، 870، 871. انظر روبير برونشفيك (نصان من رحلتي ..) باريس 1936. انظر أيضا كتابه عن الدولة الحفصية.

ويضاف إلى هذا التطاحن (الإقلميي) تطاحن (عائلي) مرير وطويل. فكل أسرة من الأسر المذكورة (المرينية والزيانية والحفصية) كانت في خصومة داخلية مستمرة على الملك والصولة. فالابن ضد أبيه والأخ ضد أخيه وابن العم ضد ابن عمه، والفرع الفلاني ضد الفرع الفلاني، وهكذا. ووسط هذا التمزق العائلي كان الأدعياء والمتآمرون والمغامرون والمستفيدون يزيدون النار حطبا. ولم يكن هذا الحطب سوى العامة التي كانت تطير لكل هيعة وتنصت إلى كل ناعق. وبذلك كثرت الحروب وسادت الفوضى وعمت اللصوصية وارتخى حبل الأمن. وتكشف (الفارسية) لابن القنفذ القسنطيني (ونوازل) المازوني و (معيار) الونشريسي، وكلها معاصرة لهذه الأحداث، عن هذا الوضع المتدهور. وسنشير إلى ذلك في حينه. ولعله لو اقتصر النزاع على الإقليمية والعائلية لهان الأمر، ولكنه أخذ طابعا دوليا أيضا. ذلك أن عددا من ثغور المغرب العربي قد احتلها البرتغاليون والإسبانيون وأصبحت الثغور الأخرى، وحتى المدن الداخلية، مهددة باحتلالهم. ومن الثغور الجزائرية التي احتلها الأجانب خلال القرن التاسع، تدلس (دلس) وجيجل وعنابة وبجاية ووهران. وقد أصبح هؤلاء الأجانب يتدخلون في الشؤون الداخلية لكل إقليم من الأقاليم الثلاثة ولكل أسرة من الأسر الحاكمة. وبالإضافة إلى ذلك كان أحد الأطراف المتنازعة إقليميا أو عائليا يلتجيء إلى هذا الأجنبي أو ذاك لينصره على خصمه، وكانت سيطرة هؤلاء الأجانب على الطرق البحرية والمسالك التجارية قد اضعفت من الطاقة الاقتصادية للسكان. وكان ضغط الإسبان خاصة على مسلمي الأندلس قد حمل هؤلاء على الهجرة إلى سواحل المغرب العربي مما قلب الميزان الاقتصادي والاجتماعي والسياسي فيه. وسنعرف من خلال دراسة الإنتاج الثقافي اثر التدخل الأجنبي على الأوضاع هناك كما سنعرف اثر الهجرة الأندلسية على الحياة العامة. 2 - فقد وصف أبو العباس احمد بن القنفذ القسنطيني في كتابه

(الفارسية في مبادئ الدولة الحفصية) الذي انتهى منه سنة 806 حالة الاضطراب السياسي المشار إليه في الشرق الجزائري. ذلك أنه تحدث عن نقض بيعة السلطان الحفصي في قسنطينة وبجاية وعنابة وبسكرة حيث قضي على إمارة بني مزني في بسكرة والأوراس. وعندما حاول السلطان استعادة نفوذه كاد يلقي حتفه في جبال الأوراس. ورغم أن ابن القنفذ كان يريد التقليل من الاضطرابات لأنه كان يتحدث عن عهد سيده السلطان الذي أهدى له كتابه (الفارسية)، فإن الفوضى الاقتصادية والاجتماعية والسياسية بشرق البلاد تظهر واضحة من ثنايا الكتاب. وقد تحدث ابن القنفذ أيضا عن احتلال الأجانب لثغر تدلس ومحاولتهم احتلال ثغر عنابة ودخولهم مرسى القل. ومما قاله عن أثر احتلال تدلس (ووقع بأهلها ما هو معلوم) دون أن يصف ما وقع. أما عن عنابة فقد قال إن النصارى قد نزلوها (بنحو سبعين قطعة) (¬1). ويمكن أن نضيف إلى المصادر التي تتحدث عن الاضطرابات السياسة في القرن التاسع (كتاب العدواني) الذي وضعه صاحبه بعد دخول العثمانيين ولكنه فصل القول في حوادث وحروب الصحراء الشرقية (صحراء قسنطينة كما كانت تسمى) في الفترة التي ندرسها (¬2). ورغم أن يحيى المازوني لم يؤلف كتابه (الدرر المكنونة في نوازل مازونة) لكي يكون كتابا سياسيا فإنه ضمنه من قضايا العصر وفتاوي الفقهاء أو النوازل ما يكشف عن الحياة السياسية والاقتصادية في الغرب الجزائري، وخصوصا ضعف الدولة الزيانية (¬3). وكان المازوني قد عاش في ظل ثلاثة ¬

_ (¬1) (الفارسية في مبادئ الدولة الحفصية) تونس 1968، 196 انظر أيضا (رحلة ابن الصباح) مخطوط المكتبة الوطنية - تونس رقم 2295. وقد توسع ابن خلدون في وصف تلك الأوضاع. (¬2) شارل فيرو (كتاب العدواني) في (روكاي 6، 1868 (Recueil ونحيل أيضا على (تاريخ الدولتين) للزركشي لتعرف الاضطرابات التي كانت تتخبط فيها منطقة الشرق الجزائري ضمن الدولة الحفصية من ورقلة جنوبا إلى بجاية شمالا. وقد قمنا بتحقيق ونشر تاريخ العدواني. (¬3) عن هذه النقطة انظر أيضا الحسن الوزان (ليون الإفريقي) 2.

ملوك من هذه الدولة. وشهد خلال ذلك، إلى جانب ضعف البناء الداخلي للدولة وعلاقتها بالسكان، هجمات الحفصيين المتكررة ضد الزيانيين تلك الهجمات التي وصلت إلى عاصمتهم، تلمسان. ومن هذا الكتاب يمكننا الحكم على ضعف بني مرين أيضا لأن المازوني قد أكثر من النقل عن علماء وسط وشرق الجزائر وتونس (مدينة الجزائر، والقيروان، تونس) بدل النقل عن علماء فاس عاصمة المرينيين. كما قد يدل على ذلك اتجاه الدراسة والبحث نحو المشرق، حسبما لاحظ أحد الباحثين. وقد كانت القضايا التي تحدث عنها المازوني معبرة عن روح العصر. فالنوازل تدور حول مشاكل سياسية واجتماعية خطيرة كان مجتمع القرن التاسع يعاني منها. ومن ذلك اللصوصية والظلم والغصب والضرار وتهريب السلاح والمصادمات الجماعية والأوبئة والمجاعات ونحوها، وهي الدوافع التي أرغمت الناس على مغادرة منازلهم وأوطانهم. فالحروب والغارات لم تسمح للفلاحين بالقيام بزراعة الأرض وتوفير الإنتاج، وانعدام الأمن وتراخي قبضة السلطان جعلت الناس يفتقدون العدل في الحكم ويعتمدون على أنفسهم في نيل حقوقهم. وهكذا أصبح العلماء والقضاة، حسب نوازل المازوني، هم الذين يقومون بالسهر على تنفيذ القانون (¬1) وأنى لهم ذلك في مجتمع يسوده الفساد والاضطراب! ومن دراستنا لرسالة عبد الرحمن الثعالبي في الجهاد نعرف مدى تدهور الأوضاع السياسية في وسط البلاد أيضا. ومنها أيضا نعرف مدى ضعف القادة السياسيين وأهمية دور العلماء والمرابطين في قيادة العامة في الحروب ورد غارات الأجانب، ذلك أن الرسالة الموجهة إلى أحد علماء زواوة أشارت إلى كل ذلك، وخصوصا ما يتعلق ببجاية وسهل متيجة وما حوله. ومن الملاحظ أن الثعالبي لم يشر في رسالته إلى أمير أو سلطان. وكان يهيب بالعلماء أن يتحملوا مسؤولياتهم أمام الله والناس لصد غارات الأجانب أو (بني الأصفر) كما كان يسميهم (¬2). ¬

_ (¬1) جاك بيرك (أنال) سبتمبر - أكتوبر 1970، 1329. وقد توفي المازوني سنة 883. (¬2) انظر دراستي عن هذه الرسالة في كتابي (أبحاث وآراء في تاريخ الجزائر) ج 1 =

وقد كان لهذه الاضطرابات السياسية وسوء الأحوال الاقتصادية عاقبة وخيمة على الحياة الثقافية. فهاجر بعض العلماء إلى المشرق والمغرب، وربط آخرون منهم مصيرهم ببعض الأمراء، بينما انزوى بعضهم مفضلا عيشة الزهد والهروب من أدران الحياة. وقد خسرت الحياة الثقافية في الجزائر من هجرة عالم جليل هو أحمد بن يحيى الونشريسي إلى فاس لأسباب سياسية. ونفس الأسباب حدت بالمفكر محمد بن عبد الكريم المغيلي إلى الهجرة من تلمسان أيضا إلى السودان القديم. وهناك عدد آخر من العلماء هاجروا إلى المشرق وتوفوا به أمثال أبي الفضل محمد المشدالي البجائي وأحمد بوعصيدة البجائي وأحمد بن يونس القسنطيني وأبي القاسم المعروف بابن سالم الوشتاتي القسنطيني أيضا وأبي زيان ناصر بن مزني البسكري، ومحمد بن أحمد المعروف بابن صعد التلمساني، بينما كان ابن القنقذ يؤلف (الفارسية) للسلطان أبي فارس الحفصي، ومحمد بن عبد الله بن عبد الجليل التنسي يؤلف (نظم الدر والعقيان في شرف بني زيان) للسلطان أبي عبد الله محمد بن أبي تاشفين الزياني. وكان الشاعر محمد بن عبد الرحمن الحوضي يسخر موهبته الشعرية لخدمة السلطان أبي عبد الله الزياني، والشاعر أحمد الخلوف القسنطيني يشيد بالسلطان أبي عمرو عثمان الحفصي، وهكذا. ولكن رجالا من أمثال عبد الرحمن الثعالبي وتلميذه أحمد بن عبد الله الزواوي الجزائري ومعاصرهما محمد بن يوسف السنوسي اختاروا حياة العزلة والتصوف وترك الدنيا لأصحابها والاهتمام (بعلوم الآخرة) حسب تعبير الثعالبي. وسنعرف المزيد عن هذا الموضوع عند دراستتا لإنتاج هؤلاء العلماء. 3 - ووسط هذه الصورة المضطربة للحياة السياسية كانت هناك بعض المدن تنمو بعدد سكانها وتشع بمدارسها ومساجدها ثقافة يتغذى منها المجتمع روحيا وعقليا. ومن هذه المدن نذكر تلمسان وقسنطينة وبجاية ¬

_ = الجزائر 1978 وهي الدراسة التي قدمتها ايضا لتنشر ضمن وقائع ندوة المرحوم الدكتور أحمد فكري التي نظمتها جامعة الإسكندرية أثناء خريف 1976.

ومازونة ووهران والجزائر وعنابة وبسكرة. ففي كل مدينة من هذه المدن عائلات اشتهرت بالعلم والتأليف والدرس أو بالزهد والتصوف. ومن هذه العائلات عائلة المقري والعقباني في تلمسان، وعائلة ابن باديس والقنفذ في قسنطينة، وعائلة المنجلاني والمشدالي في بجاية، وعائلة ابن السكات بمدينة الجزائر. كما اشتهرت بسكرة بعلمائها أبي زيان ناصر بن مزني وعيسى بن سلامة وأبي محمد عبد الله المعروف بقصيدته في المديح النبوي: دار الحبيب أحق أن تهواها ... وتحن من طرب إلى ذكراها وعرفت مازونة بعدد من الفقهاء أمثال موسى بن عيسى صاحب (ديباجة الافتخار) (¬1) و (حلية المسافر)، وابنه يحيى صاحب (الدرر المكنونة) في النوازل. أما مدينة الجزائر فقد اشتهرت بزاهدها وعالمها عبد الرحمن الثعالبي وتلميذه أحمد بن عبد الله الجزائري. كما اشتهرت مدينة وهران بالعالمين المتصوفين محمد الهواري وتلميذه إبراهيم التازي (¬2). ورغم أن الإحصاءات الدقيقة تعوزنا في الوقت الراهن فإن كل مدينة من المدن المذكورة كانت تحتوي على عدد من المساجد والمدارس والمؤسسات العامة والخاصة كالقصور والمنازل الفاخرة والحمامات والمصانع والأضرحة والفنادق ونحو ذلك. وتثبت بعض الإحصاءات أن عدد مدارس تلمسان كان في نهاية القرن التاسع خمسا على الأقل وأن عدد مساجدها كان حوالي ستين مسجدا. ومن الممكن أن نقول إن مدينة قسنطينة وبجاية (¬3) تحتويان على عدد من المدارس والمساجد قريب من ذلك. وكان ¬

_ (¬1) توجد نسخة من هذا الكتاب عند الشيخ المهدي البوعبدلي. انظر عن موسى بن عيسى المازوني لاحقا. (¬2) سنتحدث عن هؤلاء العلماء والمرابطين بعد قليل. (¬3) عبد الرحمن الجيلالي (تاريخ الجزائر العام) 2/ 237. وهو يضيف بأن عدد سكان وهران عشية احتلالها من الإسبان كان ستة آلاف دار وأن عدد متاجرها بلغ أكثر من ألف دكان، 243. انظر أيضا ألفرد بيل (الإسلام في بارباريا) في كتاب (التاريخ ومؤرخو الجزائر)، 195.

التعليم، بجميع مستوياته منتشرا في المدارس والمساجد وفي الزوايا التي أخذت تنتشر، كما سنرى. وكانت حلق الدروس حول كل أستاذ مشهور سواء في المدرسة أو الجامع أو في الزاوية، هي المنبع الذي ينهل منه تلاميذ وطلاب القرن التاسع، وهو نفسه المنبع الذي ظل يغذي أجيال المتعلمين المسلمين بثقافة تقليدية، ولكنها كانت تحتوي على شرارات كامنة في انتظار الفرصة. وسنرى أن هذا التعليم قد غلبت عليه الروح النظرية. وكاد أصحابه لا يخرجون عن علوم الدين وعلوم العربية. وسنرى أيضا أن زوال الفلسفة الموحدية قد أفسح المجال أمام الفقهاء المالكية الذين عادوا إلى الاعتناء بالفروع الفقهية. وقد نشأت مدارس متعددة، كمدرسة القيروان، همها العناية بالفقه المالكي خاصة. وتبع ذلك، تمشيا مع الضعف السياسي، سطحية التعليم وقلة موارده وضعف أساتذته. ومع ذلك فإن بعض العلوم العملية ظلت حية لا سيما في تلمسان. فقد كان فيها، حسب رواية عبد الباسط بن خليل، طبيبان هما محمد بن علي بن فشوش (أحد أطباء تلمسان في المزاولة والدرس) وموشى بن صمويل المعروف بابن الأشقر اليهودي الذي كان، بالإضافة إلى الطب، عالما بالوفق والميقات وعلوم أخري قديمة، وكان ابن الأشقر من مهاجري الأندلس وملازما لسلطان تلمسان عندئذ محمد بن أبي ثابت (¬1). 4 - وقد كان لهجرة الأندلسيين أثر كبير على المجتمع الجزائري من جميع النواحي. ولعل القرن التاسع قد شهد أكبر موجة من موجات هذه الهجرة. ففيه اشتدت وطأة الإسبان على بقايا المسلمين في الأندلس. وفيه سقطت (سنة 1492) آخر قلعة لهم هناك. لذلك تدفقت أمواج المهاجرينعلى شواطئ المغرب العربي ينشدون الحماية والأمن ويبحثون في نفس الوقت عن طريق العودة والثأر. وكانت طبقات المهاجرين تختلف ثروة وثقافة وجاها. ففيهم أبناء الشعب البسطاء وأحفاد الملوك الوجهاء، وفيهم ¬

_ (¬1) برونشفيك (نصان) النص العربي 17 - 68.

أصحاب الصنائع وأصحاب القلم. وهكذا كانت المأساة الإنسانية في الأندلس خيرا وبركة على مجتمع المغرب العربي الذي كان دائما يلعب دور الوسيط في الإنتاج الثقافي وليس دور المنتج. وإذا كان تأثير الهجرة الأندلسية السياسي والاقتصادي على مجتمع القرن التاسع لا يهمنا هنا فإن تأثيرها الثقافي لا يمكن إغفاله (¬1). ويهمنا الآن أن نعرف قليلا عن تأثيرها في التعليم والموسيقى. لقد احتكر الأندلسيون ميدان التعليم في المغرب العربي ولا سيما في الحواضر، ونقلوا طريقتهم الخاصة بهم إليها. ومن ذلك عدم الاقتصار في تعليم الأطفال على حفظ القرآن كما كان الحال قبلهم بل أضافوا إليه تعليم الحديث والقواعد العامة لمختلف العلوم وتدارس بعضها، كما علموا روايات القرآن وأنوع قراءاته. ونشر الأندلسيون خطهم حتى ساد على خط المغرب العربي. أما التعليم العالي فقد كان يعطي في المساجد والزوايا ودور العلماء ومجالس المناظرة، وكان يعهد به إلى كبار العلماء. وبالإضافة إلى هذه الأماكن العامة، كانت السلطة تعين للمدارس كبار العلماء الأندلسيين وغيرهم وتجري عليهم المرتبات. ولكن التعليم العالي كان أكثر انتشارا في المراكز الأولى منه في الثانية. وكان يعتمد في أغلب الأحيان على النقل والرواية لا على الرأي والاجتهاد (¬2). وهذه الطريقة بعينها قد استمرت أيضا خلال العهد العثماني، ولكن مع ضعف، تبعا لضعف الأحوال العقلية ولانتشار الدروشة والخرافات. وقد شمل التأثير الأندلسي أيضا ميادين النحو والأدب والعلوم والموسيقى (¬3) وكان هناك علماء مختصون في كل فن من هذه الفنون، ألفوا ¬

_ (¬1) عن تأثيرها السياسي انظر مقدمة المهدي البوعبدلي لكتاب (الثغر الجماني) 13. (¬2) انظر بهذا الصدد مقالة محمد الطالبي (الهجرة الأندلسية إلى إفريقية أيام الحفصيين) في (الأصالة) 26، 1975، 46 - 90. وعن التأثير الثقافي خاصة انظر 64 - 78. (¬3) عن أثرهم في الموسيقى انظر نفس المصدر، وكذلك مقالة على الجندوبي (المناظر) جوان 1961، 18، وعمر راسم (الموسيقى الأندلسية في الجزائر) في (المباحث) أفريل 1945.

فيه وأثروا به على الأجيال اللاحقة. 5 - ومن أبرز ما تميز به القرن التاسع في الجزائر ظهور عقيدة المرابط وانتشار الزوايا وافتتاح عهد التصوف (العملي خصوصا) (¬1). وهذه الظاهرة هي التي سنجدها تزداد انتشارا وإغراقا في القرون الثلاثة اللاحقة للعهد العثماني. ولا شك أن وجود هذه الظاهرة كان يعود بالدرجة الأولى إلى ضعف الدولة أمام الانحلال الداخلي والخطر الخارجي. حقا ان التصوف قد ظهر في المشرق قبل ذلك بقرون ووجد طريقه إلى المغرب العربي في حينه ولا سيما مذهب الغزالي الذي كان له في الموحدين أنصار ودعاة. ولكن المبالغة في الاعتقاد في الشيخ وابتداع الحضرة والأوراد وغيرها. والالتفاف حول زاوية ذلك الشيخ أو ضريحه كل هذه أمور تكاد تكون وليدة القرن التاسع وما بعده. وقد جاء العهد العثماني ليزيدها حماية وتعهدا ولتزداد هي بدورها في ظله ازدهارا وتفريعا. وقد أدت المبالغة في الاعتقاد في الشيخ وانتشار الزوايا والأضرحة إلى نتيجتين خطيرتين أولاهما تبسيط المعرفة وثانيتهما غلق باب الاجتهاد. ذلك أن نقل التعليم إلى الزوايا قد أدى إلى الاكتفاء بالحد الأدنى منه بطريقة جافة ريفية ضيقة. وأصبحت الزاوية بذلك تنافس المدرسة والجامع (الجامعة) في نشر التعليم وفي كسب الأنصار. وبدل أن يلتف الناس حول العلماء المتنورين في المدارس والمساجد أصبحوا يلتفون في زاوية حول شيخ أو مقدم تغلب على عقله الخرافة وعلى أحواله الزهد. وهكذا تدهور مستوى التعليم. وهذه المنافسة بين العالم والمرابط أو الجامع والزاوية قد أجبرت أيضا علماء المساجد والمدارس على تبسيط آرائهم وطرقهم في التعليم ومحتويات دروسهم حتى لا يفر الطلبة إلى الزوايا والمرابطين. فالتنافس إذن ¬

_ (¬1) حول هذه النقطة انظر ألفريد بيل (الإسلام في باباريا) في كتاب (التاريخ ومؤرخو الجزائر)، 191. وقد علل بيل ذلك بملاءمة التصوف لذوق أهل البلاد وظهور الوطنية الدينية عندهم منذ غارات المسيحيين على شواطئهم. كما علل لانتشار التصوف بأن المرأة وجدت فيه طريقا لمساواتها بالرجل وبناء زاوية خاصة بها مثله.

كان من أجل البحث عن الأتباع وضمان لقمة العيش وليس من أجل رفع مستوى التعليم أو المساهمة في ترقية الحياة الفكرية. ولا شك أن التعليم الذي يقوم على هذه الأسس لا يترك مجالا للاجتهاد وحرية الرأي والبحث وراء المجهول وإعطاء تفسيرات حرة وفلسفية لقضايا الدين والعصر (¬1). وهكذا اكتفى العلماء بالشقشقة اللفظية والاقتصار على الفروع دون الأصول. وبينما كانت الأديرة في أوروبا في موقف دفاع عن نفسها أمام تقدم العلم أصبحت الزوايا في الجزائر (وفي بقية العالم الإسلامي) في موقف الهجوم. ولذلك لا نستغرب أنه عندما كانت شمس المعرفة في أوروبا تطل من وراء السحاب كانت شمس المعرفة في الجزائر تفر غاربة وسط ضباب كثيف. ويعتبر محمد بن يوسف السنوسي وعبد الرحمن الثعالبي من أكبر زهاد وعلماء القرن التاسع. فقد جمع كل منهما بين الإنتاج العلمي والسلوك الصوفي وانتفع بكل منهما خلق كثير، وكان لهما تأثير كبير على معاصريهما وعلى اللاحقين منهم. ورغم شهرة كليهما ومكانته فإن كلا منهما كان يحث على العزلة والهروب من الدنيا وعلومها والاهتمام بعلوم الآخرة والتفرغ لها. ويجد دارس حياة كل منهما نموذجا للعالم الزاهد الذي استعمل علمه لا لنقد أحوال الناس المعاشية والتنبيه على نقاط الخطر في المجتمع بل لدعوة هؤلاء الناس إلى الهروب إلى الآخرة والصبر على ما كانوا يجدونه من ظلم السلطان وسوء الأحوال. وقد رويت عن كل منهما أخبار ونصائح ومواعظ بعضها صحيح وبعضها مكذوب ولكنها جميعا صورة لعقيدة الناس في القرن التاسع وما بعده. وإذا كانت رسالة الثعالبي في الجهاد تعدل قليلا من حكمنا عليه فإن حكمنا على السنوسي يظل هو هو. فقد نصح معاصريه بالعزلة قائلا: (إن الواجب فيه (يعني عصره) قطعا لمن أراد النجاة، بعد تحصيله ما يلزم من العلم، أن يعتزل الناس جملة ويكون جليس بيته ويبكي على نفسه ويدعو دعاء الغريق، لعل الله سبحانه أن يخرق له العادة بفصله عن هذه الفتن ¬

_ (¬1) ألفريد بيل، المرجع السابق، 192.

المتراكمة في نفسه وديته إلى أن يرتحل من هذه الدار بموته) (¬1). وسنعرف المزيد عن حياة وسلوك وتأثير كل من الثعالبي والسنوسي. ولعل النص التالي يصور هذا التحول العقائدي والاجتماعي الذي أشرنا إليه. فهو يتحدث عن الفترة الواقعة بين حكم الموحدين وحكم العثمانيين في المغرب العربي ولكنه يصدق بالخصوص على القرن التاسع الذي نحن بصدده. ونلاحظ من الآن أن هذا النص ينسحب أيضا على العهد العثماني مع إضافة شيء من المبالغة والإسراف. ورغم أن صاحب النص يتحدث عن المغرب العربي عامة فإن حديثه يصدق على موضوعنا بالطبع. والجزائر، التي كانت جزءا من هذه المنطقة، كانت أكثر تأثرا بما كان يحدث لأنها كانت، كما لاحظنا، مسرح معارك ومطمح غنائم. ولذلك كثر فيها هي بالذات الاضطراب والفوضى وسوء المعيشة، ومن ثمة هجرة العلماء منها وضعف الطاقة العقلية وانتشار الطرقية والاعتقادات الخرافية. وإليك النص: (ففي هذه القرون التي أعقبت تفكك الموحدين وسقوط دولتهم وشهد فيها المغرب هذه الفترة القلقة المفعمة بالاضطرابات السياسية وعرف إبانها الأطماع الأجنبية سرت في جميع أجزائه روح غريبة جعلت الشعب يقبل إقبالا لم يعرفه من قبل على أمور المجاهدة والكشف وينخرط في الزوايا والربط ويؤمن بالأولياء وكراماتهم ويتناقل خرقهم للعادات وإخبارهم بالمغيبات واحتجابهم عن الأنظار. إلى غير ذلك من التصاريف. وهو مأخوذ كأنه قد أصابه مس من الجن. ثم نجده يندفع في زيارة قبور هؤلاء الأولياء وأضرحتهم ويقيم حلقات الذكر حول قبابهم وتتشكل بهذه الطرق الصوفية التي ملأت البلاد من أقصاها إلى أقصاها بكل ما عرف لها من نظام كهنوتي دقيق يضم النقباء والنجباء والأبدال والأوتاد والمريدين) (¬2) وهكذا تكونت في الجزائر في القرن التاسع مجموعة من الزوايا منها زاوية الثعالبي في مدينة ¬

_ (¬1) ابن مريم (البستان)، 279. (¬2) يحيى هويدي (تاريخ الفلسفة الإسلامية في القارة الإفريقية) القاهرة 1966، 343.

الجزائر، وضريح محمد الهواري في وهران (¬1) والزاوية الملارية في قسنطينة وزاوية السنوسي بتلمسان وغيرها كثير. ولكن الحالة السابقة لم تأت فجأة بل كانت هناك ظروف دينية واجتماعية هيأت لها. ومن ذلك الصراع الحاد الذي نشأ بين المجتهدين والتقليديين. ذلك أن الموحدين كانوا قد تسامحوا مع التأويل العقلي والاجتهاد في أصول الدين والتوحيد، ولكنهم لم يتسامحوا مثل ذلك في أمور الفروع، ومن ثمة عزلوا عنهم فقهاء المالكية وكادت دراسات الفروع في المغرب العربي يقضى عليها، وأصبح هناك حزبان، حزب المتأولين (المتفلسفين) وتسانده الدولة وحزب المعارضين المتشبثين بالفروع. وبعد انتهاء عهد الموحدين، وقيام الدول الثلاث (المرينية والزيانية والحفصية) على أنقاضهم انتعش الحزب الأخير الذي كان ناقما على الدولة وتقلص الأول، كما لاحظنا. وقد نادى أنصار الفروع بإحياء السنة والعناية بالمسائل الفقهية. وبالإضافة إلى الاتجاهين السابقين ظهر في نفس الفترة الاتجاه الصوفي (العملي) الذي أشرنا إليه أيضا (¬2). وشيئا فشيئا ازدهرت العلوم الدينية ولا سيما في الشرق الجزائري لصلته بالدولة الحفصية وتخلف المتأولين (المجتهدين) وتركوا مكانهم للمتصوفين، وتعايش الفقهاء والمتصوفة فترة لأن معظم العلماء كانوا يجمعون بين الحقيقة والشريعة، بين علوم أهل الظاهر وعلوم أهل الباطن، وكانوا في نفس الوقت متمكنين من أمور الدين كما كانوا غير ميالين إلى الجدل الذي هو أساس الفلسفة وطريق الاجتهاد. وعندما ضعفت هذه الروح ¬

_ (¬1) عن محمد الهواري انظر الدراسة البيبلوغرافية التي كتبها عنه ديستينق في (المجلة الآسيوية)، 1906، 242 - 295، 385 - 438. (¬2) هويدي، 287 - 288. انظر أيضا محمد الشاذلي النيفر وعبد المجيد التركي (الفارسية) لابن القنفذ، تونس، 1968، 31 وهنا وهناك. والمعروف أن ابن تومرت جعل الغزالي رائده وجعل كتاب (إحياء علوم الدين) دستورا لأتباعه. انظر عثمان الكعاك (تلمسان ونشأة الدولة الموحدية)، (الأصالة)، 26، 1975، 120.

الدينية عند العلماء ساد التصوف العملي بما فيه من حضرة وأذكار وأوراد واعتقادات في المرابط. وبذلك انفصل التصوف عن علوم الدين الأخرى. وقد أسرف المتصوفون على أنفسهم حتى اعتبروا الأذكار أفضل من القرآن وسووا بين المرابط والرسول (صلى الله عليه وسلم) (¬1). ومع ذلك وقع خلاف شديد بين السلفيين والمتصوفين خلال القرن التاسع، ولا سيما في تلمسان. وكان ابن مرزوق الحفيد هو الذي تزعم الاتجاه السلفي بينما عارضه معاصره قاسم العقباني. وكلا الرجلين مشهود له بالعمق في العلوم والاجتهاد في الرأي. ويكفي أن نذكر هنا أن ابن مرزوق قد وصفه تلاميذه (برئيس علماء المغرب على الإطلاق) وبأن الناس قد أجمعوا على فضله من المغرب إلى الديار المصرية وبأنه عديم النظير في وقته. وقد وصفه بعضهم (بالإمام الحافظ الأستاذ النظار المحدث السني) (¬2). وبذلك نعلم أن ابن مرزوق الذي توفي سنة 842 قد بلغ في نظر معاصريه درجة الاجتهاد. ومن بين أساتذته أبوه وجده وكذلك سعيد العقباني، بالإضافة إلى ابن عرفة وابن خلدون. وقد تخرج عليه كثير. ومن تلاميذه عبد الرحمن الثعالبي. أما خصمه في الرأي فهو قاسم العقباني الذي وصفه ابن مريم بتحصيل العلم والوصول إلى درجة الاجتهاد أيضا، وبأنه كانت له اختيارات خارجة عن المذهب، وأنه كان مفتيا حافظا معمرا وعالما جليلا (¬3). وقد توفي قاسم ¬

_ (¬1) هويدي 297 - 288. ويذكر مقدم (الفارسية) أنه بينما ازدهرت العلوم الدينية في الدولة الحفصية ازدهرت العلوم الدنيوية في الدولة المرينية. وهذا ما حمل العلماء في الدولة الأولى على التوجه إلى الطرب ظنا منهم بأنها كانت أقوى بدليل هجماتها على مناطق نفوذ الحفصيين. ومن علماء قسنطينة الذين توجهوا إلى الطرب حسن بن باديس وابن القنفذ. انظر (الفارسية)، 31 وهنا وهناك. وفي الطرب كتب ابن القنفذ (أنس الفقير وعز الحقير) واهتم بعلم الحساب والمنطق والفلك. (¬2) عبد الحي الكتاني (فهرس الفهارس) 1/ 393. (¬3) ابن مريم (البستان)، 147.

العقباني سنة 854. فالرجلان إذن من عائلتين كبيرتين في تلمسان اشتهر كل منهما بالعلم والرسوخ فيه. ولما كان تيار العصر يندفع نحو التصوف، كما أشرنا، فإن سلفية ابن مرزوق وجدت نفسها في أقلية بينما انتصر عدد من علماء العصر البارزين أمثال محمد بن يوسف السنوسي إلى رأي قاسم العقباني. وكان للسنوسي أتباع كثيرون أيضا. وقد أثر هو بدوره على الاتجاه الانعزالي الصوفي لعلماء العصر. ويكفي أن نعرف أن من بين انصاره شيخه عبد الرحمن الثعالبي والحسن أبركان ومعاصره محمد بن عبد الله التنسي (¬1). 6 - وقصة محمد بن عبد الكريم المغيلي مع يهود توات من القصص التي كثر الحديث حولها بين الكتاب ولا سيما في هذه الأيام. فقد علمت أن هناك من علماء الإنكليز والأمريكان والفرنسيين وغيرهم من كتبوا حولها رسائل وأبحاثا وحاولوا من خلالها أن يصلوا الحاضر بالماضي على أساس أن العرب والمسلمين قد اضطهدوا اليهود عبر العصور وأبرزوا دور اليهود في الحياة السياسية للمسلمين (¬2). ونحن هنا لا نريد أن نسرد هذه القصة لأنها أصبحت معروفة (¬3) ولأن الذي يهمنا منها هو موقف العلماء المعاصرين لها منها. فقد وجد اليهود صولتهم حينما أحسوا بضعف الدولة السياسي داخليا وخارجيا فتواطؤوا مع بعض الأمراء على مدهم بالمال والدعاية لهم بل وتوليتهم (¬4)، بينما الأمراء يسمحون أو يتغاضون عن بناء اليهود بيعا لهم وفتح المتاجر وتأسيس الشركات والاستيلاء على الطرق التجارية. ولما رأى ¬

_ (¬1) انظر المهدي البوعبدلي (أهم الأحداث الفكرية في تلمسان) (الأصالة) 26، 1975، 126. (¬2) آخر بحث عن هذا الموضوع سمعته من أحد القساوسة الفرنسيين وهو بول كامبوزا، وقد قدمه في المؤتمر الأول لتاريخ المغرب العربي وحضارته (تونس، ديسمبر: 1974. وبعد ذلك بأسابيع سمعت أن كامبوزا قد توفي في حادثة سيارة. (¬3) انظر خلاصتها في (مصباح الأرواح) لمحمد بن عبد الكريم المغيلي، تحقيق رابح بونار، الجزائر 1968. (¬4) انظر ما وصل إليه نفوذ اليهود في المغرب في القرن التاسع في رحلة عبد الباسط بن خليل.

المغيلي ذلك استفتى علماء تلمسان وفاس وتونس على هدم بيع اليهود في توات فانقسموا، ولكن الأغلبية كانت مع الرأي القائل بوجوب هدمها فهدمت وشارك المغيلي نفسه في ذلك. ومن الذين انتصروا له محمد بن يوسف السنوسي ومحمد بن عبد الله بن عبد الجليل التنسي وأحمد بن زكري (مفتي تلمسان) بالإضافة إلى مفتي فاس ومفتي تونس. فقد هنأ السنوسي زميله المغيلي على شجاعته وقيامه بواجب الدين في وقت فسد فيه الزمان وضعفت فيه فريضة النهي عن المنكر وسادت فيه (مداهنة من يتقي شوكته) أما التنسي فقد كتب إلى المغيلي جوابا مطولا يستصوب رأيه ويبارك عمله. ويهمنا من هذه القصة الربط بينها وبين واقع العصر السياسي (¬1). فالمغيلي لم يتخذ ذلك الموقف إلا بعد أن رأى ما عليه اليهود (من التعالي والطغيان والتمرد على الأحكام الشرعية بتولية أرباب الشوكة وخدمة السلطان) فالمسألة إذن ليست دينية كما فهمها من أراد المس بالدين الإسلامي وبأهله لرميهم بالتعصب وضيق الأفق ولكنها مسألة سياسية بالدرجة الأولى. ذلك أن اليهود (وأهل الذمة عامة) اغتنموا فرصة الضعف السياسي والاقتصادي للدولة وراحوا يستعملون حيلهم ونفوذهم للتدخل في شؤون المسلمين وفي صميم الحكم نفسه. لذلك ألف المغيلي رسالة في الموضوع قسمها إلى ثلاثة فصول، فخص الفصل الأول بما يجب على المسلمين من اجتناب الكفار بحيث لا يقرب المسلم كافرا من نفسه أو عياله أو يستعمله في أعماله، ولا يفعل ذلك من المسلمين إلا من لا دين ولا مروءة له. وتناول في الفصل الثاني ما يلزم أهل الذمة (وهو هنا لا يقصد اليهود فقط) من الجزية والصغار. أما الفصل الثالث فقد تحدث فيه عن (يهود هذا الزمان في سائر ¬

_ (¬1) ذكر الحسن الوزان، 2/ 436 أن عددا من اليهود قد نزلوا، بعد طردهم من الأندلس وصقلية، في القورارة وتوات. وكانت القورارة في مفترق الطرق التجارية بين فاس وتلمسان والصحراء. وكان هؤلاء اليهود قد استغنوا جدا. وهذا ما أدى إلى تدخل المغيلي لأنه رأى أن نفوذهم قد تعاظم.

الأوطان من الجرأة والطغيان والتمرد على الأحكام الشرعية) (¬1) والتدخل في شؤون الدولة الإسلامية. فهو لم يستطع أن يقود ثورة ضد الحكام الضعفاء الفاسدين الذين وضعوا مقدرات الأمة بين أيدي غير المسلمين (الكفار) فوجه جهده نحو أهل الذمة ناقما عليهم تدخلهم مستنجدا بالعلماء عليهم باسم فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما يقول السنوسي. وقد أشار السنوسي نفسه إلى العلاقة السياسية بين القصة المذكورة وواقع العصر في قوله (فسد فيه الزمان) وسادت فيه (مداهنة من يتقي شوكته) كما دب اليأس في نفس المغيلي من إصلاح الأوضاع في بلاده فتوجه إلى بلاد السودان ينشر مبادئه وأفكاره ويفتي الأمراء هناك بما يتماشى وتصوره في نظم الدولة الإسلامية (¬2). ويتصل بهذه القضية موقف علماء الجزائر من بقايا مسلمي الأندلس: فهل كان على هؤلاء المسلمين أن يعلنوا تنصرهم ويخفوا إسلامهم؟ أو ماذا؟ وأقدم نص في هذا الموضوع فتوى أحمد بن يحيى الونشريسي التي سماها (أسنى المتاجر في بيان أحكام من غلب على وطنه النصارى ولم يهاجر وما يترتب عليه من العقوبات والزواجر). وكان ذلك حين هاجر بعض الأندلسيين إلى المغرب الإسلامي ولكن ما إن وضعوا رحالهم حتى بدأوا يشكون من عدم الأمن وعدم توفر أسباب الدنيا وأخذوا يأسفون على مغادرة ديارهم وأرزاقهم في الأندلس. وقد استنتج الونشريسي أن هجرة هؤلاء إذن كانت للدنيا وليست للدين بينما الهجرة من أرض الكفار إلى أرض الإسلام واجب شرعي (¬3). وفي سنة 910 وجدنا فتوى أخرى لمحمد بن أبي جمعة الوهراني ¬

_ (¬1) اطلعت على هذه الرسالة في ك 1131. الخزانة العامة بالرباط مجموع. وعن حياة المغيلي باختصار انظر (الإعلام بمن حل مراكش وأغمات من الأعلام) لعباس بن إبراهيم 4/ 125. وقد توفي المغيلي في توات سنة 909. (¬2) انظر عبد القادر زبادية (دولة سنغاي) و (أسئلة الأسقيا محمد). (¬3) الونشريسي (المعيار) 2/ 90. وقد نشر هذه الفتوى حسين مؤنس في (صحيفة المعهد المصري للدراسات الإسلامية) ج 5/ 129 - 191. وقد انتقد مؤنس رأي الونشريسي كما أنه حقق النص تحقيقا جيدا.

بين العلماء والأمراء

المعروف بالمغراوي. وهذه الفتوى موجهة إلى مسلمي الأندلس العاضين على دينهم بالنواجذ في وجه الضغط. وقد أفتاهم محمد الوهراني بالمحافظة على دينهم وتعليم أبنائهم أمور دينهم ما أمكنهم إلى ذلك سبيلا وبأن عليهم أن يبتعدوا عن التشخيص والصور وأن يقوموا بشعائر دينهم خفية مستعملين لذلك (التقية) وبأن يتظاهروا بالنصرانية مع إبطان الإسلام في القلب (¬1). وهي فتوى لا تتفق مع ما ذهب إليه الونشريسي. بين العلماء والأمراء نقل الونشريسي في (المعيار) أن القاضي محمد المقري، العالم المجتهد وأستاذ ابن خلدون (¬2)، قد قال مرة بأن (شر العلماء علماء السلاطين) وقد أوضح الونشريسي فيما نقل تطور هذه العلاقة بين العلماء والسلاطين خلال العصور. فلخصها كما يلي: كان العلماء في صدر الإسلام يفرون من السلاطين ثم جاء أهل العصر الثاني فطمحت نفوسهم إلى الدنيا فكانوا لا يأتون إليهم فإذا دعاهم السلاطين أجابوهم إلا القليل، ثم كان فيمن بعدهم من يأتيهم بلا دعوى وأكثرهم إن دعي أجاب. فكانت قيمة العلماء، في نظره، تنقص بالتدرج بقدر ما كانوا يتقربون من السلاطين، حتى لقد أصبح هؤلاء يسخرون العلماء لأغراضهم الخاصة إلا القليل منهم (¬3). ولا شك أن الونشريسي لم ينقل هذه القولة عن عالم من القرن الثامن إلا لأنها تصادف هوى في نفسه وتسري أيضا على علماء عصره وسلاطينه. فقد ¬

_ (¬1) انظر هذه الفتوى في ليلى الصباغ (ثورة مسلمي غرناطة .. والدولة العثمانية) (الأصالة) 27 (1975). 121. وهي تنقل عن عبد الله عنان (نهاية الأندلس)، 1958. ط 2. (¬2) ابن مريم (البستان)، 155، وقد توفي المقري سنة 795. وبروكلمان 2/ 993. ولمحمد المقري مؤلفات منها (عمل من طب لمن حب) في الحديث و (بلوغ الآراب في لطائف العتاب) في الأدب والحكمة. (¬3) الونشريسي (المعيار) 2/ 376.

اشتهر هو بشدة الشكيمة في الدين وعدم الخشية في سبيله من أحد (لذلك لم يكن له مع أمراء وقته اتصال كبيرا) رغم إلحاحهم عليه ودعوتهم له - ولعل هذا الموقف المتصلب والمتجافي عن أمراء وقته هو الذي أدى إلى (حصول ما حصل) له مع سلطان تلمسان في وقته. فقد انتهبت داره وتعرض لمضايقات كثيرة (¬1). ومن أجل ذلك توجه إلى فاس، فاتح سنة 874، مهاجرا بأسرته وعلمه فخسرته بلاده وقومه. والابتعاد عن الحكام (الظلمة) على حد تعبير محمد السنوسي، كان شيمة كبار العلماء. ذلك أن الحاكم يريد تسخير العلماء لخدمته والدعاية لشخصه والكتابة باسمه ونحو ذلك. ولعل من أسباب انعزال بعض العلماء والتجائهم إلى الزهد والتصوف هو ضغط السلاطين عليهم مع جهرهم بالظلم والطغيان والسكوت عن المنكر والفساد. فقد وجدنا عالما مثل عبد الرحمن الثعالبي درس أحوال العصر وتنقل بين عواصم العالم الإسلامي ونهل من علوم وقته، ومع ذلك كان أمام عدة حلول: أن يعلن الثورة على الأوضاع كما فعل المغيلي، أو أن يهاجر من بلاده كما فعل المشدالي والونشريسي، أو أن يصبح مداحا للأمراء كما فعل الحوضي والتنسي وابن القنفذ، أو أن يعتزل الناس جميعا بمن فيهم من أمراء وسوقة. ونحن نجده قد اختار الحل الأخير. وقد أشاد هو بالذين (لا يعرفون الأمراء ولا يخالطونهم) (¬2) وكثيرهم العلماء الذين اختاروا هذا الطريق، ومنهم تلميذاه محمد بن يوسف السنوسي وأحمد بن عبد الله الجزائري. أما المغيلي والحوضي فقد اختارا التقرب من الأمراء، ولكن مع اختلاف في الهدف. فالمغيلي الذي يذكرنا سلوكه بجمال الدين الأفغاني في العصر الحديث، كان ناقما، كما عرفنا، على أمراء المغرب العربي، لتخاذلهم أمام الغارات الأجنبية وانحلالهم داخليا. وقد عاصر هجرة ¬

_ (¬1) الكتاني (سلوة الأنفاس) 2/ 154 ولم يفصل المؤلف (ما حصل للونشريسي بالضبط. (¬2) عبد الرزاق قسوم (عبد الرحمن الثعالبي والتصوف) - مخطوط بكلية آداب الجزائر. عن كتاب (الجامع) للثعالبي، مخطوط رقم 3155، الخزانة العامة بالرباط.

المسلمين من الأندلس وسقوط غرناطة وعرف ما كانت عليه حالة المشرق الإسلامي تحت المماليك فضج وراح ينشد (الأمير الصالح) في السودان -كما بحث الأفغاني عن (الخليفة الصالح) في مصر واسطانبول وفارس. وقد اتصل هناك بالأمراء وخبر طبائعهم فوجد أن فطرهم أسلم من فطر أمراء المغرب العربي وأن استعدادهم لتقبل نصائحه أقوى من استعداد أمراء بلاده , فألف رسالة في (الإمارة وشروطها). وكان يهدف من ذلك إلى طرح أفكاره حول الحكم الصالح وواجبات الأمير المسلم الحقيقي. فقال إن (الإمارة خلافة من الله ونيابة عن رسول الله. فما أعظم فضلها وأثقل حملها. إن عدل الأمير ذبحته التقوى فقطع أوداج الهوى وإن جار ذبحه الهوى فقطع أوداج التقوى) فمسؤولية الحاكم عند المغيلي مسؤولية خطيرة وليست، كما كان يتوهم أمراء بلاده، ميلا إلى الهوى وتهاونا بالواجبات الشرعية وانحرافا عن تعاليم الدين والصلاح. وقد قسم المغيلي رسالته عن الإمارة إلى ثمانية أبواب وجعل الباب الأول منها فيما يجب على الأمير من حسن النية لأن الإمارة في الحقيقة لا تصلح لكل الناس. (فعرلى كل عاقل أن يبتعد عنها إلا إذا لم يكن بد منها) فهي في نظره (بلوى بين الهوى والتقوى) وهو بلا شك يلمح إلى حالة الإمارة في عصره حين كانت وراثية لا ينظر فيها إلى الكفاءة وحسن النية والشعور بأهميتها. فقد كان يتولاها الصغير الذي لم يبلغ الحلم، والمغامر، الذي ينشد الغلبة والغنيمة، والفاجر الذي لا هم له إلا إشباع شهواته والتحكم في الرعية. وقد تناول في الباب الثاني ما يجب على الأمير من حسن الهيئة لأن (على كل أمير أن يتردى برداء الهيبة في الحضرة والغيبة) وتحدث في الباب الثالث عن واجبات الأمير في ترتيب مملكته لأن (الإمارة سياسة في ثوب رياسة) ويتابع المغيلي رسالته فيذكر ما يجب على الأمير من الحذر في الحضر والسفر (الباب الرابع) ومن الكشف عن الأمور (الباب الخامس) ومن العدل في الأحكام (الباب السادس) ومن توفير المال من طريق الحلال (الباب السابع) وأخيرا وجوه صرف هذا المال الذي يسميه (مال

الله) (¬1). إن موقف المغيلي من سلاطين العصر إذن هو موقف الناقد الناقم والناصح المرشد، وليس موقف الطامع في مال أو الباحث عن لقمة أو جاه. أما معاصره محمد بن عبد الرحمن الحوضي فقد كان تقريبا على عكس ذلك. كان شاعرا ينشد المال والجاه والحظوة في بلاط السلطان، لا ينبه إلى الخطر الداهم، بل ينشد رضى مليكه بقطع النظر عما يحدث في المملكة من مظالم وفوضى وحروب وأهوال. فلنستمع إليه يمدح سيده السلطان أبا عبد الله الزياني أيضا. أصبح المزن من عطائك يحكي ... يوم الاثنين للأنام عطاء كيف يدعى لك الغمام شبيها ... ولقد فقته سنا وسناء أنت تعطي إذا تقصر مالا ... وهو يعطي إذا تطول ماء (¬2) وعلى غرار ذلك سار ابن القنفذ في (الفارسية) التي أهداها إلى السلطان الحفصي ومحمد التنسي في (نظم الدر) الذي قدمه إلى السلطان الزياني أيضا. ولكن علماء الجزائر لم يكونوا يشكون من ظلم الحكام فقط بل كانوا يشكون من ظلم الناس أيضا. فقد اشتهر الجزائريون منذ القديم بأنهم لا يقيمون وزنا لعلمائهم ولا يعترفون لهم بحرمة أو عهد، وهي ظاهرة كانت أقسى على هؤلاء العلماء من ظلم الحكام وظلم العصر. بل لعلها هي التي اجبرت عددا كبيرا منهم، كما سنرى، على الهجرة والعيش خارج الجزائر. وقد لاحظ محمد السنوسي ذلك فقارن بين عناية أهل المشرق وأهل المغرب بعلمائهم، ووجد أن المشارقة أكثر رعاية لعلمائهم من أهل المغرب، وخاصة أهل الجزائر. فقد نقل عنه إنه قال إن أهل المغرب (خصوصا أهل بلادنا) أقل عناية بمشائخهم (ولهذا لا يجد أكثرنا اعتناء بمشائخنا ولا يحسن الأدب ¬

_ (¬1) محمد بن عبد الكريم المغيلي (كتاب الإمارة) مخطوط رقم ك 1369 بالخزانة العامة بالرباط وهو في 13 صفحة. (¬2) أحمد المقري (نفح الطيب) 5/ 372، ط. مصر.

التاريخ والسير

معهم بل يستحي كثير منا أن ينسب بالتلمذة لمن كان خاملا، ويكون جل انتفاعه بذلك الخامل، فيعدل عن الانتساب إليه إلى من هو مشهور عند الظلمة .. ويرحم الله المشارقة ما أكثر اعتناءهم بمشائخهم وبالصالحين منهم خصوصا) (¬1). وهذه الأمور (الحكام، وأحوال العصر، وموقف الناس من العلماء الصالحين) مجتمعة ومتفرقة هي التي جعلت عددا من علماء الجزائر خلال القرن التاسع يهاجرون منها. ويكفي أن نلقي نظرة على تراجم بعضهم في كتب التراجم مثل (الضوء اللامع) للحاوي و (نيل الابتهاج) للتنبكتي و (البستان) لابن مريم و (انباء الغمر) لابن حجر لندرك مدى الخسارة التي منيت بها الثقافة الإسلامية في الجزائر بهجرة العلماء. التاريخ والسير ترك الجزائريون أعمالا هامة في التاريخ والتراجم والسير خلال القرن التاسع (15 م) بعضها ما يزال مرجعا إلى اليوم. حقا إن جل هذه الأعمال كان مرتبطا باسم سلطان من السلاطين أو دولة من الدول المحلية غير أن الجهد العلمي بقي محتفظا بقيمته رغم مرور القرون عليه. ومما نلاحظ أن بعض هذه الأعمال قد كتبه علماء تغلب عليهم تخصص آخر غير التاريخ، مثل التنسي الذي اشتهر بدراسته الحديث والفقه والأدب، ومثل ابن القنفذ الذي تغلبت عليه العلوم كالحساب والأسطرلاب والفلك، ومثل الثعالبي ¬

_ (¬1) ابن مريم، 7 ويعني السنوسي (بالخامل) العالم الصالح الذي اعتزل عن الشهرة ولم يتقرب للسلطان، وهو المعنى الذي يوضحه في حديثه عن الشرقيين. فلهذا لا يهتم أهل تلمسان (وهو يعني الجزائر لذكره المغرب من قبل) بالعلماء الصالحين بل بأصحاب الشهرة لدى السلاطين. وهي ظاهرة ما تزال موجودة إلى الآن. فالجزائري اليوم يحترم الموظف في الدولة أكثر من احترامه لأي مثقف مستقل مهما بلغت قيمته. ونفس المقولة نقلها عن السنوسي أيضا محمد بن سليمان في (كعبة الطائفين) 2/ 99. نسخة باريس.

الذي عرف بالزهد وعلوم الدين، ومع ذلك فإن آثار هؤلاء التاريخية ما تزال تحتفظ بقيمتها، كما سنرى. ورغم قرب العهد بابن خلدون وملاحظاته النافذة على المجتمع السياسي والاقتصادي لعصره فإن مدرسته لم تجد صدى بين كتاب التاريخ في جيل القرن التاسع. حقا إن محمد بن الأزرق قد تأثر به كثيرا في كتابه (بدائع السلك) ونقل عنه الفقرات الطويلة، ولكننا لا ندري ما إذا كان ابن الأزرق الأندلسي الموطن، قد أثر هو في جيله أثناء إقامته بتلمسان. فنحن لا نجد آراءه ولا آراء أستاذه ابن خلدون قد تسربت إلى كتاب التنسي وأمثاله من مؤرخي القرن التاسع (¬1). 1 - ولكن الذي يلفت النظر هو أن الجزائر لم تلد مؤرخا كبيرا كابن خلدون الذي طرح في القرن الثامن أبرز النظريات في العلوم الاجتماعية التي عرفها المسلمون. وبينما كان ابن خلدون يكتب مقدمته المشهورة كان أخوه يحيى يكتب (بغية الرواد) (¬2) الذي خصصه لتاريخ وآثار دولة بني عبد الواد. وكان أحد الجزائريين المجهولين يكتب تاريخا سماه (زهر البستان) (¬3). ¬

_ (¬1) عن ابن الأزرق انظر مقالتي (رحلتي إلى المغرب) الثقافة، 1973، عدد 18 وأحمد المقري (أزهار الرياض) و (دوحة الناشر) لابن عسكر 213 (الترجمة الفرنسية). و (بدائع السلك) تحقيق محمد بن عبد الكريم، 1977. (¬2) ليس من غرضنا هنا التعريف بهذه الكتب لأنها خارج العصر الذي اخترناه لكتابنا. وقد نشر (بغية الرواد) ألفريد بيل سنة 1904. وبلغني أن عبد الحميد حاجيات يقوم بتحقيقه. (¬3) أثناء جمعي لمواد هذا الكتاب عثرت في (فهرس مخطوطات مكتبة ريلاندر) ببريطانيا على اسم هذا الكتاب الذي نسبه المفهرس إلى حبيب بن يخلف وجعل تاريخه حوالي 796 هـ ووضعه تحت رقم 283 ولما كنت أعرف اهتمام زميلي عبد الحميد حاجيات بتاريخ تلمسان ومتيقنا أن هذا الكتاب يقع خارج خطتي أشرت به إليه فسر بذلك واستجلبه من بريطانيا عن طريق مكتبة الجامعة. وقد بلغني أنه يعمل الآن على تحقيق الجزء الموجود منه وهو الثاني. انظر أيضا محمود بوعياد الثقافة عدد 13، 1973.

أما محمد بن مرزوق (الجد) فقد اهتم بوضع سيرة الأمير أبي الحسن علي المريني وسمى كتابه (المسند الصحيح الحسن في مآثر مولانا أبي الحسن). وقد برر اختياره له بكونه قد أكرمه ودافع عن الإسلام والعلم، وبكونه يعرف أشياء كثيرة عن الأمير فأراد أن يسجلها في الدفاتر. وقسم كتابه إلى مقدمة وأبواب وخاتمة وجعل المقدمة في الخلافة ورأى العلماء فيها وفي فضلها ووجوب طاعة السلطان وتفضيل الحكام على المفتيين والأئمة (وهو رأي غريب وخطير). وخصص بابا كاملا لنسب بني مرين وتحدث أيضا عن تربية الأمير المذكور وخصاله وسلاحه وطعامه. وأفاض في الأبواب الأخيرة الحديث عن إقامة العدل وتقاليد ليلة المولد النبوي الشريف ورعاية الأمير لأهل الله، وعن كرمه وما كان يؤثر من العلوم، وعن وزرائه وجلسائه، وعن مآثره من المدارس والمستشفيات والقناطر وعن ثناء الناس على هذا الأمير. وجعل الخاتمة في اتصاله هو بالأمير وفي أفضاله عليه (¬1). وإذا كان ابن مرزوق قد جعل بطله هو الأمير أبو الحسن المريني فإن عمر بن أحمد الجزائري الراشدي قد جعل بطله أحد رجال الزهد والتصوف وهو أحمد بن عروس. وسمى تأليفه (ابتسام العروس في التعريف بالشيخ أحمد بن عروس) (¬2). وكان عمر الراشدي بذلك قد أضاف لبنة جديدة في التركيز على تيار التصوف الذي أخذ يضرب أطنابه في المغرب العربي. ونحن نذكر كتابه هنا لأنه مساهمة منه في باب التراجم والتاريخ الذي نحن بصدده. ¬

_ (¬1) الخزانة العامة بالرباط، ف 111 وهو في 348 ص. وقد توسعت في الحديث عنه رغم كونه خارج القرن التاسع لأنه غير معروف حسب علمي. عن هذا الكتاب انظر بروفنصال (هسبريس) 5، 1925. 821. وعن ترجمة بن مرزوق الجد (الذي توفي سنة 782) انظر الكتاني (فهرس الفهارس) 1/ 394 وفي نفس الوقت (القرن الثامن) اشتهر أحمد بن أبي حجلة التلمساني بتآليفه في التاريخ والأدب. وهو ما يزال في حاجة إلى عناية علماء المشرق والمغرب معا. (¬2) توفي ابن عروس في 8 صفر 888 وتوجد عدة نسخ من كتاب الراشدي عنه، منها واحدة في مكتبة جامعة برنستون الأمريكية رقم 1872 (قسم يهودا).

2 - ومن قسنطينة عالج التاريخ عالمان: حسن بن أبي القاسم بن باديس وأحمد بن الخطيب المعروف بابن القنفذ. وقد وجد ابن باديس (كتاب السير) لأحمد بن فارس الرازي مختصرا فقرر أن يشرحه بشرح سماه (فرائد الدرر وفوائد الفكر في شرح المختصر) ولكنه توفي سنة 787 قبل أن يكمله. وقد تناول في شرحه سيرة الرسول (صلى الله عليه وسلم) وتاريخ الصحابة، وقسمه إلى مسائل تناول في كل مسألة موضوعا من مختاراته (¬1) وإذا كان ابن باديس مقلا في آثاره التاريخية فإن ابن القنفذ كان مكثرا. فقد تناول في كتاباته موضوعات محلية (أو وطنية بلغة اليوم) وليست عامة (أو إسلامية) كما فعل زميله ابن باديس. وهناك أعمال كثيرة ألفها ابن القنفذ في التاريخ والتراجم والرحلات والأنساب. ومن ذلك (الفارسية في مبادئ الدولة الحفصية) و (الوفيات) و (أنس الفقير وعز الحقير) و (تحفة الوارد في النسب من قبل الوالد) و (طبقات علماء قسنطينة)، و (المسافة السنية في الرحلة العبدرية) وغيره (¬2). والظاهر أن ابن القنفذ لم يؤلف (الفارسية) طمعا في مال أو حظوة ولكنه ألفه لأسباب أخرى. فالسلطان عبد العزيز الحفصي، المكني بأبي فارس، كان من مواليد قسنطينة (كما كان والده السلطان أحمد المكني بأبي العباس). فكانت هذه الحقيقة كافية في دفع ابن القنفذ إلى إهداء كتابه إلى السلطان (القسنطيني) الذي كان يحكم من حاضرة تونس. وبالإضافة إلى ¬

_ (¬1) عنه انظر (وفيات) ابن القنفذ، وهو أستاذه وله ترجمة في وفيات الأعيان ورحلة العبدري وكفاية المحتاج. وقد بلغ في شرحه 165 ورقة. (¬2) لابن القنفذ (برنامج) ذكر فيه شيوخه ومؤلفاته أيضا في (الوفيات) التي نشرها هنري بيريز، مصر 1939 وسرد مؤلفاته أيضا ابن مريم في (البستان) 808 - 309، كما ذكرها ناشرا (الفارسية) تونس 1968، وبناء على كل ذلك فإن مؤلفاته تنيف على الثلاثين كتابا. وقد اطلعت على بعضها مطبوعة ومخطوطة. وتوفي ابن القنفذ سنة 810 (حسب أشهر الروايات). انظر عنه أيضا ابن القاضي (جذوة الاقتباس) ط حجرية، المغرب 1891، 81.

ذلك فإن ابن القنفذ كان في خدمة الدولة الحفصية (وكان والده في خدمتها أيضا) كما كان جده لأمه. ولعله شعر أن واجب الخدمة يقتضيه أن يكون معترفا بالجميل وقد يكون أراد بتأليفه وإظهار مكانة قسنطينة فيه، تبرئة مواطنيه من تهمة الثورة ضد السلطان أبي فارس. فقد قامت ثورة في قسنطينة ضد هذا السلطان وخشي ابن القنفذ أن يكون لغضب السلطان على أهلها نتائج سيئة فألف كتابه لا اعتذارا عما وقع ولكن إبرازا لمكانة قسنطينة وأهلها في خدمة الدولة الحفصية ومكانة أسرته هو خاصة في ذلك. ومع ذلك فقد يكون الغرض الشخصي وراء تأليف هذا الكتاب. ذلك أن ابن القنفذ كان قاضيا وقد عزله حاكم قسنطينة الذي لم يكن يرتاح إليه. ولكن السلطان قد أعاده إلى وظيفته فكانت (الفارسية) عبارة عن تحية عرفان وعربون ولاء (¬1). والنسخة المطبوعة من (الفارسية) تقع في حوالي مائة صفحة. وقد بدأهبمؤسس الدولة الحفصية ثم وصل إلى أبي فارس. وهو ينتقل من موضوع إلى آخر بالحديث عن ولاية كل أمير من أمراء هذه الدولة. وهو يلصق باسم كثير منهم عبارة (المجاهد) أو (المقدس) أو هما معا. وبعد أن يذكر سنة تولية الأمير يعرض الأهم من الأحداث التي جرت في عهده فيذكر مآثره وحروبه وخصومه وانتصاراته بشيء من الافتخار والزهو وأوصاف المدح والتمجيد. ومن بين ما يذكره ابن القنفذ وفيات العلماء ونحوهم في عهد الأمير المدروس. ورغم (عقلنة) ابن القنفذ المؤلف في الحساب والفلك ونحوهما فإنه يتحدث عن الأولياء وبعض الكرامات بشيء من البساطة والسذاجة مما يدل على أن فكرة التصوف السلبي والخرافي قد انتشرت في عهده. ولا غرابة في ذلك ما دام جده لأمه كان أيضا صاحب زاوية في قسنطينة. وقد خصص ابن القنفذ كتابه (أنس الفقير وعز الحقير) لترجمة أبي ¬

_ (¬1) انظر (الفارسية) 26، 93. وقد كان ابن القنفذ لأمه هو صاحب الزاوية المعروفة باسمه في قسنطينة (الزاوية الملارية).

مدين (شعيب بن الحسن) دفين تلمسان وبعض أصحابه ومعاصريه. وبذلك يكون هذا الكتاب نوعا من التراجم لعدد من رجال القرون الثلاثة السابقة لحياة المؤلف. ومن الذين تحدث عنهم بالإضافة إلى أبي مدين، الذي أطال في ترجمته, يحيى بن أبي علي الزواوي البجائي ومحمد الصفار الذي كان معلما لأخوات المؤلف في قسنطينة. وقد ذكر ابن القنفذ أن بعض أصدقائه وإخوانه في الدين في قسنطينة قد طلبوا منه سنة 787 أن يكتب لهم طرفا عن حياة أبي مدين ويسجل لهم شيئا من كلامه فاستجاب لهم وكتب عن (هذا الشيخ والتعريف (به) وما وصل إلي من خبره ومناسبته مع مناسبة جلبتها هنا قاصدا بذلك سبيل الاختصار على العادة في ذكر الأمثال وسميت هذا التقييد أنس الفقير وعز الحقير) (¬1). وبذلك يتضح لنا شيئان: الأول أن الكتاب يكاد يكون حديثا عن أبي مدين وفي ذلك دلالة واضحة على اهتمام ابن القنفذ بالصلاح والولاية والتصوف. الثاني أن المؤلف قد أطلق على كتابه عبارة (تقييد) للدلالة على الاختصار. فهو لم يخطط لكتاب كبير ولكنه قصد التعريف بهؤلاء الرجال مع ذكر أخبارهم ووفياتهم، وأحيانا ولاداتهم. فالكتاب كله يقع في 78 صفحة، وهو يذكر فيه أن والده كان من تلاميذ أبي مدين وأنه كان قد نشر العلم والطريقة في قسنطينة وأنه كان مؤلفا وحاجا. ومن ثمة يتضح أن ابن القنفذ كان على صلة (بالطرقية) سواء من جهة والده أو من جهة جده لأمه الشيخ الملاري. فلا غرابة إذن أن نجده يعتني بسيرة أبي مدين (الغوث). أما (الوفيات) فقد ألفه ابن القنفذ بطريقة غريبة ذلك أن اهتمامه بعلوم الحديث ورجاله هو الذي أدى به إلى العناية بتسجيل وفيات علماء الحديث. فقد كتب شرحا لقصيدة (غرامي صحيح) سماه (شرف الطالب في أسنى المطالب) وجعله مقدمة لفهم القصيدة المذكورة ووسيلة لفهم أنواع علوم ¬

_ (¬1) مخطوط في مجموع ك 2305 الخزانة العامة بالرباط. ويوجد نسخة أخرى منه. ك 2666 وهي مستقلة. وفي المكتبة الملكية بالمغرب نسخ كثيرة منه. انظر أيضا ابن سودة (دليل مؤرخ المغرب) ط 1/ 214. وقد نشر هذا الكتاب محمد الفاسي.

الحديث. ولما كان أهل الحديث قد حافظوا كثيرا على وفيات الصحابة والمحدثين فإن ابن القنفذ رأى أن يذكر في كتابه ما حضره من ذلك ويضيف إليه وفيات العلماء والمحدثين والمؤلفين. وقد رتب هذا السجل على المئين من السنين قائلا إن أحدا لم يسبقه إلى هذه الطريقة. وبذلك يكون (الوفيات) الذي طبع منفصلا، كالذيل لكتابه (شرف الطالب). وقد ابتدأ بوفاة الرسول (صلى الله عليه وسلم) أي المائة الأولى ووصل فيه إلى المائة التاسعة. وآخر من ترجم له فيه هو محمد بن عبد الرحمن المراكشي (من أهل بلدنا ببونة) المتوفي سنة 807. ويجد الباحث كثيرا من الأخبار في هذا الكتاب عن أسرة ابن القنفذ وعن حياة المؤلف نفسه الذي يظهر عليه الاعتزاز ببلاده وبرجالها، فكثيرا ما يذكر عبارة (بلادنا) أو (بلدنا) في الحديث عن عالم أو مسجد أو نحو ذلك. ويعتبر (الوفيات)، على غرابته واختصاره، من الكتب المفيدة التي يعود إليها الباحثون عن أخبار رجال بجاية وقسنطينة وتلمسان وكذلك أخبار علماء المغرب والأندلس وتونس وغيرهم (¬1). ويتضح مما سبق أن كتب ابن القنفذ في التاريخ كلها صغيرة الحجم وتقع في شكل تقييد أو تذييل أو اختصار لكتاب مطول أو نحو ذلك. ولعل أكبر كتاب يذكر في ترجمته هو شرحه للرسالة الذي قيل إنه يقع في (أسفار) ¬

_ (¬1) ولابن القنفذ كتاب آخر عرفنا وجوده ولكننا لم نطلع عليه وهو (تحفة الوارد في النسب من قبل الوالد) وتوجد منه نسخة مصورة في الخزانة العامة بالرباط وأخرى في مكتبة المخطوطات المصورة بالجامعة العربية. ولعل نسخة كاملة منه توجد في مكتبة الشيخ عباس بن إبراهيم بمراكش مؤلف كتاب (الإعلام بمن حل بمراكش وأغمات من الإعلام). وقد قيل عنه أنه كتاب غريب في بابه. كما أننا لم نطلع على كتاب ابن القنفذ الآخر (المسافة السنية إلى الرحلة العبدرية). وعن ابن القنفذ انظر أيضا (البستان) لابن مريم 309 ومحمد بن أبي شنب (هسبريس) 8، 1928، 37، والقادري (نشر المثاني) 1/ 9 وقد أخبر القادري أنه قلد ابن القنفذ في كتابه عن حياة العلماء، وينسب بعضهم لابن القنفذ رحلة ضائعة نقل منها أحمد بابا. انظر بروكلمان (تاريخ) 2/ 616 وكذلك ابن زيدان (إتحاف أعلام الناس) 1/ 310، 349.

فإذا حكمنا من ضخامة العمل على هوية صاحبه فإننا نصل إلى أن ابن القنفذ كان فقيها أكثر منه مؤرخا. وقد عرفنا أيضا أنه تولى القضاء فترة طويلة. وله كذلك مؤلفات أخرى في الفقه وفروعه. غير أن جهود ابن القنفذ في ميدان العلوم العملية تجعله أيضا من كبار العلماء العقليين في القرنين الثامن والتاسع. وتذكرنا طاقة ابن القنفذ العملية بطاقة أبي رأس المعسكري في القرن الثاني عشر والثالث عشر للهجرة. فكلاهما كان موسوعيا في عصره. ولعل (الحس التاريخي) كان أقوى لدى الأخير منه لدى الأول. 3 - وهناك عالمان آخران عرفا بالاهتمام بالتاريخ رغم شهرتهما في علوم أخرى. وقد ترك كل منهما عملا يشهد له بالمهارة في فرع التراجم خاصة، وهما ابن مزني البسكري وابن مرزوق الحفيد. فأبو زيان ناصر بن مزني البسكري الذي يعود إلى أسرة عريقة حكمت منطقة الزاب مدة (إمارة بني مزني التي قضى عليها الحفصيون) كان قد شرع في وضع موسوعة تاريخية كبيرة تتضمن الأحداث وأخبار الرواة وما يتصل بذلك، ولكن فقدان بصره عاقه عن تبييضها وإكمالها. ويقول عنه ابن حجر إنه كان (لهجا بالتاريخ وأخبار الرواة، جماعة لذلك، ضابطا له، مكثرا منه جدا وأراد تبييض كتاب واسع في ذلك فأعجلته المنية) (¬1). ويبدو أن ابن مزني كان سيؤلف كتابا على غرار تاريخ ابن خلدون الذي كان صديقا لآبائه (أمراء بني مزني) والذي كان قد ساعده على استقراره بالقاهرة بعد أن قضى الحفصيون على إمارتهم ونكب ابن مزني في ماله وثروته. وقد خسرت الجزائر بانتقال ابن مزني إلى المشرق عالما كبيرا كان من الممكن أن يكون في مستوى أستاذه وصديقيه ابن خلدون وابن حجر. ومن الأسف أننا لا ندري الآن كم جزءا قد انتهى منه تسويدا ولا مانع المادة التي قد جمعها لكتابه ولا الطريقة التي سلكها فيه. والكتاب في حكم الضائع. ¬

_ (¬1) ابن حجر (إنباء الغمر) 3/ 235، وقد توفي ابن مزني بالقاهرة سنة 824 بعد أن عاش فيها عشرين سنة ولما يبلغ الكهولة.

أما ابن مرزوق الحفيد فقد ألف كتابا صغير الحجم (في نحو كراسة) ترجم فيه للشيخ إبراهيم بن موسى الصنهاجي المصمودي وعدد مناقبه وأشاد به. ونحن لم نطلع على هذا الكتاب الذي ربما يكون أيضا في حكم المفقود (¬1). ولابن مرزوق أيضا كتاب آخر يدخل في باب السيرة النبوية وهو شرحه المطول على بردة البوصيري الذي سماه (إظهار صدق المودة في شرح قصيدة البردة) (¬2) ولطول هذا الشرح قام تلميذ تلميذه، عبد الرحمن بن علي بن عبد الله البجائي (¬3) باختصاره في جزئين أي نحو ثلثي الأصل وقد سمى البجائي كتابه مرة (اختصار صدق المودة في شرح البردة) ومرة (مسارح الأنظار ومنتزه الأفكار في حدائق الأزهار). وإذا كانت التسمية الأولى أوضع وأدل على الموضوع فإن للثانية حرارتها وهي أن المختصر قد رجع إلى حوالي مائة وأربعين تأليفا انتقى منها الفوائد التي ضمنها مختصره، ومن ذلك 650 بيتا من الشعر و 700 مرة من الصلاة والسلام على النبي (صلى الله عليه وسلم) (ومسائل علمية وقضايا عينية وجمل من أخبار الملوك السالفة) بالإضافة إلى مسائل تخص أهل بيت النبوة. وقد اتبع البجائي في شرحه منهج ابن مرزوق فكان يشرح غريب اللغة ويفسر المعنى المقصود ويوضح معاني خواص الكلام المستعمل ويبين وجوه التراكيب والحقيقة والمجاز ويذكر ألوان البديع ¬

_ (¬1) ذكره ابن سودة في (دليل مؤرخ المغرب)، 220 نقلا عن (نيل الابتهاج). وقد توفي ابن مرزوق سنة 842 أما المترجم له - إبراهيم المصمودي - فقد كان تلمسانيا وتوفي بها سنة 805 فهو إذن من أساتذة المؤلف، وله ترجمة في كتاب (النجم الثاقب) لابن صعد. انظر عن المصمودي أيضا ابن زيدان (إتحاف أعلام الناس) 1/ 262. (¬2) منه نسخة في المكتبة البلدية بالإسكندرية رقم 673 د. وأخرى في مكتبة جامعة برنستون الأمريكية رقم 39 (قسم يهودا). ومنه عدة نسخ في المغرب. (¬3) يقول البجائي عن ابن مرزوق (شيخ شيوخنا) والبجائي هو تلميذ عبد الرحمن الثعالبي الذي هو بدوره تلميذ ابن مرزوق. وقد انتهى ابن مرزوق من كتابه (إظهار صدق المودة) سنة 810. وأما البجائي فقد انتهى من اختصاره سنة 889، ولابن مرزوق الحفيد تآليف أخرى هامة منها (عجالة المستوفز) في التراجم و (المنزع النبيل) في الفقه الخ.

ومحاسن الألفاظ والمعاني ويأتي على الإعراب ويلم بالإشارات الصوفية ويشير إلى مقصد الناظم. ومهما كان الأمر فإن العملين: عمل ابن مرزوق وعمل عبد الرحمن البجائي، يعتبران مساهمة هامة في التاريخ الإسلامي والسيرة النبوية (¬1). 4 - وقد أسهم عبد الرحمن الثعالبي أيضا في السيرة والتاريخ رغم أن شهرته تكاد تكون مقتصرة على العلوم الشرعية والزهديات. ففي كتاب (الأنوار في آيات النبي المختار) تحدث عن سيرة الرسول (صلى الله عليه وسلم) وعن غزواته وسير الصحابة وغزواتهم وأوصافهم. وهو يخبرنا أنه قد حذا في ترتيب كتابه حذو ابن إسحاق في المغازي. وقد احتوى (الأنوار) على نبذة مختارة في شرف الرسول وما جاء في حقه من أخبار عن الأخيار والقساوسة والرهبان وعلماء أهل الكتاب وما وجده في أشعار الموحدين الأولين مثل كعب بن لؤي وقس بن ساعدة وما روي عن سيف بن ذي يزن وما تناقلته علماء اليهود وما جاء في التوراة والإنجيل ونحو ذلك. وقد قسم الثعالبي كتابه إلى أبواب وفصول، وهو كتاب ضخم يقع في مائتين وثمان وسبعين ورقة من الحجم الكبير (¬2). وكان الثعالبي متمرسا على التأليف ولذلك كانت خطته أكثر علمية من خطط بعض معاصريه. وهناك كتاب آخر للثعالبي يدخل في كتب التراجم، وهو الذي يعرف أحيانا باسم (جامع الهمم في أخبار الأمم) (¬3). ولكننا أطلعنا على كتاب للثعالبي يحمل اسم (الجامع) فقط، وهو عبارة عن تذييل لكتاب آخر كان قد شرح به ابن الحاجب. وقد افتتح الناسخ النسخة التي اطلعنا عليها بهذه العبارة (لما يسر الله عليه ذلك ..) والذي جعلنا نذكر كتاب الجاح في هذا ¬

_ (¬1) المكتبة الملكية بالرباط رقم 2466 و 1767. انظر أيضا المكتبة الزيدانية، الرباط رقم 1776. (¬2) اطلعنا على نسخة منه تعود إلى سنة 1125 وهي في الخزانة العامة بالرباط رقم د 583. (¬3) هكذا نسبه إليه ابن المفتي الذي سنتحدث عنه في الجزء الثاني. انظر أيضا نور الدين عبد القادر (صفحات من تاريخ مدينة الجزائر)، الجزائر 1964، 278.

الباب هو أن الثعالبي قد عدد فيه، بعد أن ذكر كثيرا من كلام ابن شاس وغيره، ومناقب الإمام مالك ومناقب أصحابه، ثم تخلص إلى بعض شيوخه (الثعالبي). وبعد ذلك أخذ في تقييد (جمل وجواهر ونفائس) اختارها من كتب كثيرة طالعها. ذلك أنه كان كلما قرأ كتابا نفيسا سجل ما انتقى منه وتحرى في ذلك فاجتمعت له (جملة صالحة في أنوا وفنون من العلوم الكثيرة) وجعل أبواب وفصول الكتاب (روضات وبساتين هي غنيمة للعارفين) وقد عدد فيه كثيرا من كرامات أصحاب الإمام مالك ونماذج من الأذكار والأدعية. وبذلك يتضح أن إطار الكتاب تراجم ومناقب وتواريخ ولكن لا تخرج عما يسميه الثعالبي (بغنيمة ذوي الألباب) وهي التزود للآخرة والعمل بالزهد والتصوف واتباع جملة من الأدعية والأذكار (¬1). 5 - ولكن المؤرخ الذي فرض اسمه على تراث القرن التاسع هو محمد بن عبد الله بن عبد الجليل التنسي. وشهرة التنسي تعود إلى موضوعه أكثر مما تعود إلى عمله وطريقته. وموضوعه هو التاريخ لبني زيان الذين تداولوا الحكم على تلمسان وأرسوا بها قواعد دولة تركت كثيرا من المآثر. وقد أطلق التنسي على كتابه اسم (نظم الدر والعقيان في شرف بني زيان وذكر ملوكهم الأعيان ومن ملك من أسلافهم فيما مضى من الزمان) وتوجد منه نسخ كثيرة وخصوصا في الجزائر والمغرب وتونس وباريس وفيينا. ولأهمية موضوعه تناوله عدد من الباحثين بالترجمة والتعريف والنشر والتحقيق، ومن الذين ترجموا أو عرفوا بصاحبه برجيس (¬2) وليفي بروفنصال (¬3) وشيربونو (¬4) ¬

_ (¬1) اطلعنا على نسخة المكتبة الملكية بالرباط رقم 8155. وليس فيها إشارة إلى كون الكتاب هو (جامع الهمم في أخبار الأمم) كما أشار بعضهم. ولعل هذا هو اسم لكتاب آخر له، أو لعل بعضهم اختار له هذا العنوان لكون كلمة (الجامع) ترد في المقدمة ولكن محتوى الكتاب هو عبارة عن مختارات من قراءة الثعالبي في علوم شتى. والمقارنة بين الكتابين (الجامعين) ستحل الإشكال. (¬2) (تاريخ بني زيان ملوك تلمسان) للتنسي، باريس، 1852. (¬3) (موسوعة الإسلام) 4/ 681. (¬4) ملاحظات على كتاب محمد التنسي تاريخ بني زيان في (المجلة الإفريقية) 1856، 212.

من الفرنسيين وأبو القاسم الحفناوي وعبد الرحمن الجيلالي ومحمود بوعياد من الجزائريين. ولد التنسي بمدينة تنس، ولكن لا يعرف تاريخ ميلاده بالضبط، ثم انتقل إلى تلمسان عاصمة الجزائر الغربية في عهده فدرس على علمائها، ومنهم قاسم العقباني وابن مرزوق الحفيد ومحمد بن العباس (¬1). وبعد أن نبغ هو بدوره في علوم عصره، وخاصة منها رواية الحديث والأدب والتواريخ ساهم في حركة التأليف والتدريس. وقد تخرج على يديه تلاميذ كثيرون، لاسيما في رواية الحديث، كما قلنا، حتى أصبح يلقب (بالحافظ). أما تآليفه فليست كثيرة إذ لا يزيد المعروف على ثلاثة، منها كتابه المذكور، وهو الذي اكتسب به الشهرة، ثم كتابه (راح الأرواح فيما قاله المولى أبو حمو من الشعر وقيل فيه من الأمداح وما يوافق ذلك على حسب الاقتراح) وكتاب (الطراز على الخراز) وهو في رسم المصحف. وللتنسي إجابة طويلة على مسألة يهود توات التي سأله عنها المغيلي، كما سبق أن أشرنا. ويبدو أن (راح الأرواح) يعتبر كتابا مفقودا الآن، لأنه يذكر في ترجمة المؤلف، ولم يدل أحد على وجوده حسبما نعرف. أما (الطراز) فتوجد منه نسخ كثيرة. وإذا حكمنا من محتوى (نظم الدر) ومن عنوان (راح الأرواح) فإن التنسي كان من عشاق الأدب، وخاصة الشعر ومن المولعين بتدوينه. فكتابه الأخير، كما يدل عنوانه، كان يضم شعر السلطان أبي حمو والمدائح التي قيلت فيه وما خطر ببال المؤلف من النكت والأمثال والطرائف. فكان من الموضوعات التي تقدم إلى مجالس السلاطين للتسلية والترفيه والظرف وللدلالة على الذكاء والحفظ. أما الكتاب الذي نحن بصدد التعريف به فهو (نظم الدر) وهو أيضا موسوعة أدب أقحم فيها التاريخ إقحاما. فقد بدأه بمقدمة مسجعة في شكل ¬

_ (¬1) من الذين حضروا دروسه عبد الباسط بن خليل سنة 869 وقد قال إنه كان في نحو ثمانين سنة أو يزيد. وكان ابن العباس عندئذ هو خطيب جامع العباد بتلمسان. انظر رحلة عبد الباسط بن خليل.

مدح وأهداه إلى السلطان الحاكم عندئذ، وهو أبو عبد الله بن أبي تاشفين (¬1) بن أبي حمو الزياني. وقد عبر فيها التنسي عن شرف بني زيان بالربط بين نسلهم ونسل الإمام علي رضي الله عنه والسيدة فاطمة الزهراء. فالكتاب إذن ألف على شرف السلطان المذكور ومن خلاله تحدث عن شرف بني زيان عامة وذكر أنسابهم وأحسابهم. وقد قسم الكتاب إلى خمسة أقسام كبيرة وجعل لكل منها أبوابا. ففي القسم الأول سبعة أبواب، والثاني ثلاثة أبواب، والثالث ثلاثة عشر بابا، وفي الرابع ثمانية أبواب، وفي الخامس خمسة أبواب. والباب السابع من القسم الأول هو الذي جعل عنوانه (في شرف بني زيان). أما باقي الكتاب فموضوعه في الأدب والظرف وكيفية الحكم ونحو ذلك. كما أنه أضاف حتى إلى القسم التاريخي فصولا في الأدب شعره ونثره. ومهما يكن من الأمر فإن التنسي قد انتهى من بني زيان في القسم الأول من كتابه. أما القسم الثاني فقد تناول فيه شروط الإمارة وسلوك الملوك وفضائلهم وعدلهم. وضمن القسم الثالث حكايات وقصصا وأخبارا مختلفة عن الأمم الماضية. وجعل القسم الرابع في بيان محاسن اللغة العربية شعرا ونثرا. أما القسم الأخير فقد جعله عبارة عن مقالة في الأخلاق والفلسفة. وقد انتهى كتابه بخاتمة عن أصل العرب كما أورد فيها سبع قصائد للسلطان أبي حمو الزياني (¬2). ومن الواضح أن هدف التنسي من كتابه هو التقرب من الأمير ابن تاشفين بإظهار مكانة بني زيان في التاريخ وفي النسب والآثار. ولذلك مدح ¬

_ (¬1) وهو يعرف أيضا بمحمد المتوكل وقد حكم من 866 إلى 873. (¬2) انظر بهذا الموضوع مقالة شيربونو (المجلة الإفريقية) 1856، 212، وقد أعجب الكاتب بالتنسي لأنه كتب في عصر ساد فيه الحكم المطلق، وقال إن فكرته الرئيسية تتمثل في إظهار ما امتازت به العبقرية العربية عن سواها، وإنه لم يقرأ أجمل من القسم الرابع من الكتاب منذ تأليف دي ساسي عن بلاغة المسلمين. انظر كذلك رسالة محمود بوعياد لدكتوراه الدور الثالث من كلية الآداب جامعة الجزائر، وهي عن الباب السابع من القسم الأول (أي الخاص بتاريخ بني زيان). وقد توفي التنسي في تلمسان سنة 899.

الأمير وبرهن على شرف أسلافه وأبرز مدى مساهمتهم في الحضارة ونفوذ دولتهم، مبتدئا بتاريخ إنشائها ومنتهيا بالأمير الممدوح. ولكن إذا كان هذا هو هدف التنسي، فلماذا ضخم كتابه بأقسام وأبواب هي أبعد ما تكون عن بني زيان؟ ولماذا جعل عنوان كتابه (في شرف بني زيان) بينما لا يشغل الباب الذي خصصه لهذا الغرض إلا جزءا ضئيلا من مجموع الكتاب؟ إننا لا نجد تفسيرا لذلك سوى ميول التنسي الأدبية وكونه أراد أن يقدم للأمير كتابا موسوعيا، على عادتهم عندئذ، يجمع شيئا من كل شيء على غرار ما فعل بعض القدماء مع ممدوحيهم وأولياء نعمتهم. ولعل من المناسب أن نذكر أن القرن التاسع قد افتتحه ابن القنفذ بكتابه (الفارسية) وختمه التنسي بكتابه (نظم الدر) فكان الأول في شرق الجزائر وأهدى كتابه إلى أبي فارس الحفصي، والثاني في غربها وأهدى كتابه إلى محمد المتوكل الزياني. فكان ابن القنفذ مؤرخ الدولة الحفصية وكان التنسي مؤرخ الدولة الزيانية، وكلا الدولتين لم تكن في أوج قوة ولم يكن أميرهاأقوى سلطان ولا حكمه أعدل حكم ولا عهده أزهى عهد، ولكن المؤرخين (ابن القنفذ والتنسي) كانا كالشعراء يمدحان للمصلحة الشخصية، فكان دافعهما العاطفة وليس العقل، ولوا كانا صاحبي حكمة وتبصر لاستنكرا أعمال الحكام ولقاوما فساد المجتمع ولنبها إلى الهاوية التي كانت تنحدر إليها الدولتان (¬1). 6 - ومن تلاميذ التنسي المنتجين في موضوع التراجم محمد بن أحمد المعروف بابن صعد صاحب كتاب (النجم الثاقب فيما لأولياء الله من مفاخر المناقب). وقد توفي ابن صعد بمصر سنة 901 أي بعد أستاذه بحوالي ثلاث سنوات. ويبدو أن ابن صعد كان من أهل الشريعة والحقيقة ومتأثرا بتيار العصر الجارف نحو التصوف والزهد والانعزال والعقيدة في الأولياء والمشيخة. فقد اطلعنا له، بالإضافة إلى كتابه المذكور، على قصيدة في مدح ¬

_ (¬1) يمكن أن نعتبر (نظم الدر) للتنسي تكميلا (لزهر البستان) الذي سبقت الإشارة إليه.

الرسول (صلى الله عليه وسلم) (¬1) , وينسب له كتاب آخر في التراجم وهو (روضة النسرين في مناقب الأربعة المتأخرين) الذي اختصر فيه كتابه (النجم الثاقب) وترجم فيه فقط لمحمد الهواري وإبراهيم التازي والحسن أبركان وأحمد الغماري. وهذه الآثار جميعا تدل على انتمائه إلى نوعين من فروع المعرفة وهما الترجمة والتصوف. وقد ذكر في كتابه (النجم الثاقب) أن سبب تأليفه هو دعوة من السلطان الزياني محمد بن محمد المتوكل له بذلك، ولا ندري إن كان هذا السلطان قد كلفه فقط بوضع كتاب أو أشار عليه بنوع المادة التي اختارها لكتابه أيضا. والمهم أن ابن صعد قد اعتمد في كتابه (النجم الثاقب) على عدد كبير من المصادر بلغت أكثر من مائة كتاب، وجمع ما شاء الله من أسماء الأولياء الذين رشحهم لكتابه ورتب أسماءهم على حروف المعجم. وقد ترجم لكل منهم في الحرف المناسب له ذاكرا، كما قال، (ما أمكن من وفياتهم وأنبائهم) لأن الكتاب (يضم أعلامهم وينشر مآثرهم وأيامهم). وقد عثرنا على نسخة من هذا الكتاب فإذا هي في سفر ضخم يحتوي على ثمانية أجزاء (¬2) بعضها موجود وبعضها مفقود وتمكنا من الاطلاع على الأجزاء الأول والثاني والرابع والثامن منه. والكتاب غير مقتصر على أسماء الجزائريين بل هو معجم لأولياء الله المسلمين عامة، مشارقة ومغاربه. ومن الجزائريين الذين وردت أسماؤهم في الأجزاء التي اطلعنا عليها محمد بن حسان التاونتي المعروف بابن الميلي، وسيدي واضح بن عاصم بن سليمان المكناسي (الذي كان من أولياء الله بالبلاد الشلفية) (¬3)، ومنهم أبو مدين ¬

_ (¬1) توجد ضمن مجموع في الخزانة العامة بالرباط رقم د 2404 من ص 330 - 332. (¬2) ذكر ابن عسكر في كتابه (دوحة الناشر) أن (النجم الثاقب) لابن صعد يقع في أربعة مجلدات. (¬3) أورد قصة سيدي واضح هذا مع السلطان يغمراس الزياني. فقد جاء السلطان المذكور لزيارة الشيخ في زاويته فتركه ينتظر حتى حرقته الشمس ثم أذن له فدخل عليه وأخبره أنه إنما فعل ذلك ليعرف ما يعانيه المحتاجون بباب الخليفة حين يمنعهم =

شعيب أيضا، وكذلك إبراهيم المصمودي نزيل تلمسان الذي سبقت إليه الإشارة. أما غير الجزائريين فكثيرون ومنهم إبراهيم بن أدهم البلخي (إمام الزهاد)، والقاضي عياض، ومحمد بن الحنفية والباقلاني والطرطوشي والغزالي وإبراهيم الدكالي وسفيان الثوري والتستري. وقد انتهى ابن صعد منه، حسب النسخة التي رأيناها، سنة 891 (¬1). ولا ندري ما الذي حمله على مغادرة الجزائر إلى القاهرة التي توفي بها. كما لا ندري متى توجه إلى المشرق. فهل كان سوء الأحوال السياسية وراء هذه الرحلة؟ أو أن الوفاة أدركته وهو في طريق الحج؟ ذلك ما لا نستطيع تأكيده الآن. أما كتابه (روضة النسرين) فإن عنوانه الثاني (في مناقب الأربعة المتأخرين) يثير التساؤل حول علاقته بالكتاب الذي ينسب أيضا إلى محمد بن يوسف السنوسي الذي عنوانه (مناقب الأربعة رجال المتأخرين). ومما يثير الشك هو أن نفس الرجال الذين ترجم لهم السنوسي، (وهو أستاذ ابن صعد) قد ترجم لهم هذا أيضا. فهل اتفق الرجلان حذوك النعل بالنعل أو أن الكتاب في الواقع لمؤلف واحد. وإذا كان الأمر كذلك فمن يا ترى منهما المؤلف؟ إن ابن مريم صاحب (البستان) قد ذكرهما معا في مواضع مختلفة من كتابه. وقد استفاد هو من (روضة النسرين) لا محالة، كما أن عناية ابن صعد بالترجمة لأولياء الله وتعداد مناقبهم قد فتحت لابن مريم بابا واسعا عندما جعل كتابه أيضا (في ذكر الأولياء والعلماء). ولعل الفرق بين (النجم الثاقب) وبين (البستان) هو أن الأول في أولياء الله عامة، بينما الثاني في أولياء الله بالحزائر وبالخصوص تلمسان. وكان دافع ابن صعد إلى التأليف إشارة السلطان، أما ابن مريم فدافعه طلب أخ كريم ووعظ النفوس لصالح الأعمال في وقت استطار فيه شر الزمان. ومهما كان ¬

_ = الحجاب من الدخول عليه. وعن سيدي واضح انظر أيضا موسى بن عيسى المازوني (صلحاء الشلف). (¬1) النسخة التي اعتمدنا عليها تعود إلى سنة 1149، وهي بالمكتبة الملكية بالرباط رقم 2491، وهناك نسخة أخرى برقم 2721 لم نطلع عليها.

الأمر فإننا نرجح أن يكون (روضة النسرين) من أعمال ابن صعد وحده وأنه قد نسب خطأ إلى السنوسي. ولعل غيرنا يكشف عن غير هذه الحقيقة. 7 - ويشترك محمد بن عمر بن إبراهيم الملالي التلمساني مع ابن صعد في الاهتمام بالتراجم ولكن في اتجاه آخر. فقد كتب الملالي سيرة أستاذه محمد بن يوسف السنوسي وأطال في ذلك وسمى عمله (المواهب القدسية في المناقب السنوسية) وهو ترجمة واسعة لحياة أستاذه السنوسي حتى أصبح الكتاب لا غنى عنه ليس فقط لفهم حياة السنوسي (الذي أسف أثناء حياته من إهمال المغاربة لشيوخهم) ولكن لفهم عصر السنوسي أيضا. وقد كثرت نسخ (المواهب القدسية) لأنها كانت متداولة بحكم شهرة السنوسي نفسه وكثرة مؤلفته وتدريسها شرقا وغربا من العالم الإسلامي. وقد اطلعنا نحن على نسخة منها في تونس وأخرى في المغرب الأقصى فإذا هي عمل ضخم جدير بالاعتبار. ولم يكن ينقص الملالي روح المنهجية العلمية أيضا، فقد قسم كتابه إلى مقدمة وعشرة أبواب فكان الكتاب، بعد المقدمة، على هذا النحو: في التعريف بأشياخ السنوسي، في مكاشفاته وكراماته، في عمله وشمائله وزهده، في تآليفه، في جملة من الآيات فسرها، في جملة من الأحاديث النبوية فسرها أيضا، في تفسيره لكلام أهل الحقيقة، في أوراده وأدعيته، في وفاته، وأخيرا فيما قاله من الشعر وما قيل فيه. وبذلك تنتهي العشرة أبواب التي ضمها كتاب (المواهب القدسية) (¬1). وواضح من الكتاب أن اتجاه الملالي كان نحو التصوف. فقد ركز فيه على جانب التصوف عند السنوسي بينما كان السنوسي في الواقع من علماء الظاهر والباطن. وقد انتصر لأهل الحقيقة أو الباطن في رده على أبي الحسن الصغير وحبذ استعمال السبحة والخرقة وغير ذلك من شعارات أهل ¬

_ (¬1) اطلعنا على نسخة تونس المكتبة الوطنية، رقم 6253 وهي في 219 ورقة، وهي جيدة الخط وتعود إلى سنة 1045 بخط إبراهيم العجوز، وفي المكتبة الملكية بالرباط ثلاث نسخ، منها واحدة تحمل رقم 7008. انظر أيضا بروكلمان 2/ 352.

التصوف. ومن جهة أخرى جعل الملالي مقدمة الكتاب في دراسة أحوال الأولياء في الدنيا لتنشيط النفوس لسماع ما سيأتي، حسب قوله. وقد أثر السنوسي في معاصريه بدعوته ودفاعه عن أهل التصوف، كما كان تلميذه الملالي نعم الخلف في هذا الاتجاه. فقد أثر الملالي أيضا في الجيل اللاحق أمثال ابن مريم صاحب (البستان) وأحمد العبادي الذي وضع أيضا ترجمة قصيرة للسنوسي، كما سنرى. وكان ابن مريم قد اختصر (المواهب القدسية) في ثلاث كراريس من جملة ست عشرة كراسة. وقد اعتمد الملالي في كتابه على مصادر كثيرة، ولكن أهم مصدر له هو الشيخ نفسه (السنوسي) فقد سمع منه (مهمات المسائل التي أشكلت على كثير من العلماء الأعيان في هذا الزمان (ولكنه أخبر أنه ليس كل ما سمع منه استحضره وقت الكتابة (ولا كل شيء استحضرته يمكن إثباته). ولعل الملالي يشير بهذه العبارة إلى أن هناك أسرارا صوفية كان يعرفها عن السنوسي لم يذكرها كعادة بعضهم في ذلك. وقد قيل إن الملالي قد ألف كتابه سنة 897 أي بعد حوالي سنتين من وفاة السنوسي. ورغم أننا لا نعرف الكثير عن حياة الملالي فالغالب أنه عاش عقدا أو عقدين في القرن العاشر حتى تصح دعوى ابن مريم من أنه كان تلميذا للملالي. ومهما كان الأمر فإن (المواهب القدسية) يعتبر من أهم كتب التراجم الخاصة بأحد العلماء رغم ما فيه من تأثر بالتصوف وإغفال للعوامل السياسية والاقتصادية التي أثرت في شخصية السنوسي. 8 - وقد ألف عيسى بن سلامة البسكري، الذي كان اهتمامه بالتصوف في الدرجة الأولى، عملا في التاريخ تناول فيه فتح إفريقية من قبل المسلمين (¬1). ويبدو أنه اختصر ذلك من عمل غيره. غير أن الطريقة لذلك غير واضحة. فقد قال (قصدت فيه إلى اختصار فتح إفريقية ومن دخلها من الصحابة والتابعين). وهذا التعبير قد يدل على أنه ألف موجزا عن تاريخ إفريقية، وقد يدل على أنه اختصر فيه عمل غيره في نفس الموضوع. وعلى ¬

_ (¬1) اطلعنا على نسخة منه في مجموع في مكتبة زاوية طولقة (الجزائر)، وهو في 38 ورقة وخطه واضح لكن فيه أخطاء وتشويش.

الأدب واللغة

كل حال فإنه لم يقتصر على ما ذكره لأننا وجدناه يتحدث فيه عمن دخل إفريقية أيضا من الأمراء والأولياء والعلماء وأخبارهم. والنسخة التي اطلعنا عليها مبتورة الأول، ولذلك فهي بدون عنوان سوى ما جاء في عبارة المؤلف السابقة. وقد رتبه على ثلاثة أبواب: الأول فيمن دخل إفريقية من الصحابة والتابعين، والثاني فيمن دخلها من الأمراء (وهو لم يذكر هذا الباب وإنما الغالب أن يكون عنوانه كذلك) والثالث في رجال من الأولياء والعلماء وذكر بعض كراماتهم. ومن أولياء بسكرة الذين ذكرهم، أبو الفضل البسكري. أما العلماء فقد ذكر منهم مالك بن أنس وسحنون. وكان ينقل أخباره عن (وفيات) ابن القنفذ وعن ابن الرقيق القيرواني وغيرهما. وقد جاء بسند ابن القنفذ الذي أخبر أنه أخذه عليه ولعل ذلك كان بقسنطينة أو بتلمسان. والمهم أن روح التصوف قد غلبت على عيسى البسكري حتى في هذا العمل التاريخي. ولعل هذا الخلط بين معلومات الباب الأول والثالث جاء من غيره أيضا. وبالإضافة إلى (الوفيات) ألف أحمد بن يحيى الونشريسي، الذي سنتحدث عنه في قسم الفقه، رسالة في التاريخ أيضا سماها (تنبيه الحاذق الندس على خطا من سوى بين جامع القرويين والأندلس) أجاب بها بعض الطلباة أثناء وجوده بمدينة فاس (¬1). وبعد فذلكة تاريخية أجاب الونشريسي بأن صلاة الجمعة بجامع الأندلس أولى من أدائها بجامع القرويين. الأدب واللغة لم تنجب جزائر القرن التاسع شاعرا متميزا كابن خميس في السالفين وابن علي في اللاحقين، بل إنها لم تنجب أديبا بارزا يغشى بأدبه بلاطات ¬

_ (¬1) توجد نسخة من هذه الرسالة في مكتبة جامعة برنستون الأمريكية رقم 350 مجموع (قسم يهودا) وكان أحد الطلاب قد سأل على هذه المسألة الشيخين محمد السنوسي وأحمد الونشريسي. وبعد أكثر من عشرين سنة أجاب الونشريسي بجوابه المذكور أي سنة 911 بعد أن رحل إلى فاس. والرسالة مصورة عندي وهي مطبوعة ضمن كتابه (المعيار).

السلاطين ومجالس الطرب واللهو كما فعل الشاعران الحوضي والخلوف (إذا ثبتت جزائرية الثاني) والمؤرخان ابن القنفذ والتنسي. إن الأدب، والشعر أخصه وأرقه، قد اختلط بالتاريخ كما كان الحال عند التنسي أو اختلط بالتصوف والمدائح النبوية كما كان الحال عند الحوضي، أو طغت عليه الشروح والمتون. ومن الغريب أن نتحدث عن التأثير الأندلسي في الحياة الاجتماعية والثقافية ثم لا نجد (طريقة) أندلسية جزائرية في الأدب تميز بها القرن التاسع وتلاقحت فيها قرائح الأندلسيين ومواهب الجزائريين. 1 - وكما كان هناك مؤرخان بارزان رسميان أحدهما في غرب البلاد والآخر في شرقها، كان هناك شاعران بارزان رسميان أيضا أحدهما في تلمسان وهو محمد بن عبد الرحمن الحوضي والثاني في تونس وهو أحمد بن محمد الخلوف. الأول شاعر بلاط الزيانيين والثاني شاعر بلاط الحفصيين (¬1). ولكن كليهما اشتهر بشعر المدح والشعر الديني أيضا. فللحوضي مجموعة أشعار في مختلف الأغراض منها، بالإضافة إلى ما ذكرنا، الغزل والرثاء والتصوف. أما الخلوف فله ديوان كامل في المدح النبوي، بالإضافة إلى المدح السياسي. وقد كان ملازما للسلطان الحفصي أبي عمرو عثمان مادحا له ومشيدا بآثاره. وكان يجمع بين النثر والشعر حتى لقب بذي الصناعتين. وله قصائد طوال. ¬

_ (¬1) توفي الحوضي سنة 900 وتوفي الخلوف حوالي سنة 899. وتوجد ترجمة الحوضي في (البستان) لابن مريم. أما الخلوف فقد قال عنه الجيلالي 2/ 67 إنه ولد بقسنطينة ولذلك نسبه إليها (القسنطيني) وهي نسبة ما زلنا مترددين إزاءها. ولذلك نكتفي بالإحالة إلى مصادر الخلوف دون اتخاذ رأي من جزائريته، وقد نسبه بروكلمان 2/ 332 إلى فارس وتونس ونسبه محمد ماضور في مقدمة (تاريخ الدولتين) إلى قسنطينة أيضا. وترجم له الزركشي في شرحه على القصيدة (الدمامينية). وقد طبع ديوان الخلوف ببيروت سنة 1873. وفي بعض الكتب أنه المغربي الأندلسي. وتوجد عدة نسخ من ديوانه منها واحدة في مكتبة زاوية طولقة (الجزائر) وأخرى في مكتبة جامعة يال الأمريكية رقم 307 ومنه نسخ أيضا في مكتبات القاهرة وتونس.

وقد حفظت لنا بعض أشعار الحوضي وأراجيزه في مختلف الأغراض، من ذلك قصيدته الغزلية (الطنانة) حسب تعبير أبي حامد المشرفي الذي أورده (¬1). وقد قال المشرفي عنها أيضا إنها قصيدة تفتح الشهية. ومنها هذه الأبيات: أرذاذ المزن من عيني نزل ... أم دموع الشوق إذ رق الغزل أبعيني دمعة وكافة ... أم شعيب للنوى منها انتزل لا بكت عيني ولا أبقى البكا ... ضوءها عن فعلها ان لم تزل دع عذولي اللوم إني شائق ... رق طبعي دون صنعي في الأزل أو ينسى العهد قلب دنف ... والهوى قبل النوى عنه نزل لا تلمني دون علم عاذلي ... فبسمعي صمم عمن عذل إن في نار هواكم جنتي ... لو علمت الحبل منكم يتصل أمنوا روعة قلبي باللقا ... فانتظار الوعد قرب إن حصل ومن الواضح أن القصيدة رغم مدح المشرفي لها، فيها تصنع كثير. ومع ذلك ففيها رقة في اللفظ وعذوبة تجعلها صادرة عن شاعرية قوية في ذلك الوقت. ولكن الحوضي كتب أيضا في الرثاء مثل قصيدته في رثاء شيخه محمد بن يوسف السنوسي، وهي قصيدة لزومية وطويلة (41 بيتا) وقد بدأها بقوله: ما للمنازل أظلمت أرجاؤها ... والأرض رجت حين خاب رجاؤها (¬2) ومن شعره في المديح النبوي قصيدة في 41 بيتا أيضا، وهي تذكر القارئ لها بقصائد ابن الفارض في التصوف إذ فيها مزج بين حب النبي والعشق الإلهي. ولا نعتقد أن الحوضي كان فيها متميزا عن غيره من شعراء ¬

_ (¬1) أبو حامد المشرفي (ذخيرة الأواخر والاول)، مخطوط، الجزء الثاني، ص 10 - 11. (¬2) نفس المصدر، 11 - 12.

هذه الصنعة سوى بقوة عارضته. واستمع إلى هذه الأبيات منها: لا تسل عن غرام قيس وليلى ... واستمع سورة الهوى كيف تتلى آية الحب في المحبين وجد ... معه لا ترى الحياة بأولى أنا صب متيم مستهام ... لم يدع لي من أحبه عقلا قد سرى حبه بكلي وبعضي ... كيف أسلو وكيف لي أتسلى (¬1) وله في هذا المعنى قصيدة على وزن وقافية بردة البوصري. فالحوضي إذن كان شاعر القصر وشاعر الحب النبوي في نفس الوقت. ولا شك أنه كان بين تيارين تيار دنيوي تتجاذبه السياسة والجاه والحياة الأدبية وتيار أخروي بدأت تسيطر عليه عقائد الصوفية والخرافات. وسنعرف أكثر عن التيار الأخير بعد قليل. 2 - أما معاصره أحمد الخلوف فقد كان كذلك محتارا بين التيارين. فالزركشي صاحب (تاريخ الدولتين) قد (حلاه ونوه به ونقل من شعره) في شرحه (للقصيدة الدمامينية) (¬2). ولكن يبدو أن الذي نوه به الزركشي هو شعر المدح السياسي الذي قاله الخلوف في السلطان الحفصي عثمان (¬3). ومهما يكن الأمر فإنه بإمكاننا القول بأن جزءا من شعر الخلوف (شعر المدح خاصة) لم يضع وأنه ما زال مخطوطا في تونس. كما أن ديوان الخلوف في المدائح النبوية (أو الشعر الديني) لم يضع أيضا. ويبدو أن الخلوف قد سار في هذا الديوان سيرة الحوضي في (الوسائل العظمى). فقد وضع في الديوان عناوين للقصائد مثل (قطر الغمام في مدح خير الأنام) ومثل (استرواح القبول بمدح طه الرسول) وهكذا. وقد أخبر ¬

_ (¬1) هذه القصيدة وخمس قصائد أخرى (ميميتان ونونيتان وهائية) توجد ضمن مجموع بالمكتبة الملكية بالرباط رقم 7440. وفي هذا المجموع قصائد في المديح أيضا تنسب إلى أحمد المقري صاحب (نفح الطيب). (¬2) توجد من هذا الشرح نسخة مخطوطة بتونس. انظر مقدمة محمد ماضور لكتاب (تاريخ الدولتين)، تونس 1966، د. (¬3) يكنى أبا عمرو، وقد حكم من سنة 839 إلى سنة 893.

عبد الرحمن الجيلالي أنه يملك من هذا الديوان نسخة تقع في 246 صفحة واعتبر قصائد الخلوف فيه من عيون الشعر وأنها طويلة حتى أن القصيرة منها لا تقل عن مآت الأبيات (¬1). ويبدو أن الخلوف قد تولى مناصب سلطانية كالكتابة. وقد تنقل بين قسنطينة وتونس ومكة والقدس والقاهرة والمغرب. وتلقى علومه في المشرق والمغرب وحج البيت وكانت له موهبة في الشعر والأدب ظهرت مبكرة وجاور بمكة قبل أن يستقر به النوى في تونس حيث توفي. وقد ترك إلى جانب أشعاره كتابا في العروض وآخر في البديع ورجزا في الصرف وعملا في الفرائض. ويتبين من هذه الآثار أن الخلوف كان أكثر اهتماما بالاتجاه الدنيوي من زميله الحوضي الذي غلب عليه، كما لاحظنا، التصوف وبالأخص في أخريات أيامه. ولعل ذلك يعود إلى ثقافة كل منهما وأثر العصر والبيئة في كل منهما. 3 - ولقد كان الشعر وفيرا في الجزائر خلال القرن التاسع غير أن روح التصوف قد طغت عليه فلا نكاد نجد (عالما) إلا وله قصيدة (وكانوا يسمونها غالبا منظومة، وهي في الواقع كذلك) في موضوع ديني أو صوفي أو في رثاء متصوف أو زاهد، وما شاكل ذلك. وفي هذا الباب تدخل قصيدة إبراهيم التازي المعروفة (بالمرادية) و (المنظومة الجزائرية) لأحمد بن عبد الله الجزائري و (سينية) ابن باديس و (منظومة المراصد) لابن زكري. إن الشعر في هذه الفترة قد أصبح (نظما) لا وحي فيه ولا خيال وتخلى في أغلبه عن الغزل والطبيعة والأحاسيس الإنسانية الأخرى. ولذلك فضلنا أن ندمج تلك المنظومات في باب التصوف لا في باب الشعر الحق. وإلى جانب الموضوعات الدينية والصوفية ومدح السلاطين تناول الشعراء موضوعات أخرى محددة كالرثاء والشكوى والغزل والصيد. وقد ¬

_ (¬1) الجيلالي 2/ 64.

أشرنا إلى مرثية الحوضي في شيخه السنوسي. ونضيف إلى ذلك مرثية أحمد بن عبد الله الجزائري في شيخه وصديقه عبد الرحمن الثعالبي، وتعتبر هذه المرثية من أقوى قصائد الرثاء في وقتها. وقد تناقلها الرواة فتعددت نسخها وهي تبدأ هكذا: لقد جزعت نفسي لفقد أحبتي ... وحق لها من مثل ذلك تجزع (¬1) ويبدو أن الجزائري كان يكثر من قرض الشعر، فقد رويت عنه أيضا أبيات في الشكوى من الأحوال التي ألمت بمدينة الجزائر بعد أن كان العيش فيها رغدا، وهي أبيات تصور، على قلتها، بعض أحوال مدينة الجزائر في القرن التاسع: دع الجزائر لا تحلل بساحتها ... في ذا الزمان ولا تنزل بواديها كدنا لأجل حلول الحادثات بها ... نختار، والله، للسكنى بواديها من بعد عيش هني عم ساكنها ... وبعد عافية حلت بناديها وجل ما ضرها من أهلها نفر ... هم في الحقيقة أضحوا من أعاديها مد الإله عليها ظل عافية ... مثل التي قد رأتها في مباديها (¬2) ويمكن لدارس الشعر في القرن التاسع أن يجد نماذج من جميع الموضوعات التي أشرنا إليها ولا سيما التصوف والمدائح النبوية والرثاء. ومن أجود قصائد المديح النبوي قصيدة عبد الرحمن بن علي بن عبد الله الغبريني البجائي، تلميذ عبد الرحمن الثعالبي التي تقع في أربعين بيتا، ومطلعها: حادي الركائب والأضعان في السفر ... رفقا فلي كبد لهفى على جمر ويا غزال النقا عز اللقاء وما ... وقفت يوما لأحبابي على خبر وقد ذكر الشاعر نفسه الذي أورد القصيدة في آخر الجزء الثاني من ¬

_ (¬1) رأيت منها نسخة في ك 2867 مجموع، الخزانة العامة، الرباط. وأخرى في مخطوط رقم 49 بجامع البرواقية (الجزائر). (¬2) 15 مجاميع دار الكتب المصرية. ورقة 149.

كتاب (مسارح الأنظار) أنها قد اشتهرت في المغرب والأندلس وانتقلت أيضا إلى المدينة المنورة (واعتنى بحفظها وكتبها الفقهاء الأنجاد في عدة من البلاد) وقد خمسها الشاعر أبو النور بن الحاج المبارك الياوراسي (كذا) المعاصر للشاعر وأورد الغبريني نفسه التخميس على طوله في كتابه المذكور (¬1). 4 - أما النثر فقد ظل يشع من وقت لآخر في المقدمات السجعية التي كان الكتاب يتفننون فيها، وفي الإجازات التي كان العلماء يتلقونها عن بعضهم، وفي الرسائل الأخوانية التي كانوا يتبادلونها، والرسائل السلطانية التي كانوا ينشئونها ويتصنعون فيها، وفي غير ذلك من الآثار المكتوبة. وفي هذا الصدد ننوه بآثار أحمد بن أبي حجلة التلمساني وأحمد النقاوسي صاحب (الروض الأريض) و (احكام صنعة الكلام) رغم تقدمهما على العصر الذي نحن ندرسه (¬2). كما نذكر الرسالة التي كتبها عبد الرحمن الثعالبي إلى بعض تلاميذه ومريديه في الجهاد، وهي رسالة بسيطة العبارة ومرسلة. وقد تحدث فيها عن موضوع هام كان موضوع الساعة في الأندلس والمغرب، ولذلك خصصنا لها دراسة في غير هذا المكان (¬3). وألف أحمد بن أحمد البجائي المعروف بأبي عصيدة عملا أدبيا هاما سماه (رسالة الغريب إلى الحبيب)، وهو خطاب موجه منه لما كان بالمدينة المنورة إلى محمد بن أبي القاسم المشدالي البجائي الذي كان مقيما في القاهرة. وقد تفنن أبو عصيدة في هذه الرسالة وأجاد (¬4). فقد افتتح أبو عصيدة رسالته بقصيدة مطلعها، بعد الديباجة: هذي مراسلة العبد الفقير إلى ... كهف الأنام وفخر الوقت والسلف ¬

_ (¬1) نسخة من (مسارح الأنظار) في المكتبة الملكية بالرباط، رقم 1767. (¬2) عن النقاوسي انظر السراج (الحلل السندسية) 3/ 814. (¬3) انظر كتابنا (أبحاث وآراء في تاريخ الجزائر) ج 1. (¬4) نسخة منها في مكتبة جامعة برنستون الأمريكية (قسم يهودا) رقم 1195. وعندي صورة منها وقد نشرنا خلاصتها.

ومما جاء فيها عن الرسالة نفسها: وكم حوت من أمور راق مسمعها ... ومن عتاب ومن نظم ومن طرف وهي فعلا كذلك. فقد ضمنها الشعر والنثر المسجع والأخبار والطرائف. أما عن موضوعها ففيها أخبار هامة عن حياة المؤلف في الغربة لأنه قد رحل إلى الحجاز للحج ثم عاد عبر تونس بعد ثلاث سنوات ناويا الإقامة بالوطن، وعندما سأل في تونس عن الأهل والأصدقاء علم أن جميعهم قد توفوا وتفرق شملهم فعاد من حيث أتى وظل في الحجاز يكتب ويقرئ البخاري والشفا ونحوهما. ولولا هذه المراسلات التي كانت تدور بينه وبين المشدالي وأمثاله، لانقطعت صلته بالوطن. ولذلك ذكر أنه كتب رحلة ضمنها أخبار تنقلاته ومشاهداته في المشرق، وكان أبو عصيدة شاعرا أيضا فأكثر في الرسالة التي بلغت 75 ورقة من شعره وشعر غيره في الحب والعتاب والتودد والاعتذار ونحو ذلك. كما أن فيها أخبارا هامة عن حياة محمد المشدالي في المشرق وتآليفه وأشعاره ووظائفه. بالإضافة إلى أخبار بعض الجزائريين والمغاربة في المهجر وفي أوطانهم. فأهمية الرسالة إذن واضحة سواء من الوجهة الأدبية أو التاريخية. وهذه هي فاتحتها النثرية (وبعد، هذه رسالة عبد محب شائق غريب، جوابا عن مشرفة صدرت من مالك ماجد سيد حبيب، كتبها وهو قائم على قدم ولائه، مقيم على ما يجب عليه من رفع دعائه، من حضرة النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم وعلى آله. أولها بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. أسعد الله تعالى المقام العلي. مقام سيدنا ومولانا الشيخ الإمام دي المفاخر العلمية، والبدائع العلية والغرائب الحكمية، والمحاسن الجليلة الأدبية، والنكت الرائقة الذكية، التي سبائكها مصرية ومعادنها مغربية (¬1). السيد الفقيه ¬

_ (¬1) إشارة إلى كون المشدالي كان في المغرب (بجاية) ومقيما في مصر. انظر عن المشدالي بعد قليل. وممن ترجموا له عبد الباسط بن خليل في رحلته وكان قد عرفه في القاهرة. وأثناء وجود عبد الباسط في بجاية لقي والد المشدالي (وهو أبو القاسم =

الجليل، أبو الفضل محمد ابن سيدنا ومولانا الصدر الجليل الخطيب الرحلة، أبو عبد الله محمد المشدالي). ولأبي عصيدة كتاب في الأدب والتصوف ذكره استطرادا في رسالته المذكورة وقد أخبر عن عنوانه ومحتواه. فأما عنوانه فهو (أنس الغريب وروض الأديب) وأما محتواه فيحتاج إلى تفصيل. فقد قال إنه ترجم فيه لأبي الفضل المشدالي طويلا (ترجمت لكتابي بترجمته الفاخرة العلية، وكتبتها بالذهب الوهاج، ونثرت من ملابسها العجيبة حللأا تفوق ملابس الديباج. وألممت فيها برحلته المغربية ثم المشرقية (في القدس ومصر والحجاز) .. وذكر بعض أشياخه المرضية .. وطرزت ذلك بشيء من نظمه وإن كان لا يتعاطاه إلا قليلا ولا يحاوله إلا تعليلا). وذكر فيه تراجم لرجال آخرين لقيهم في تونس والحجاز ومصر أو عرفهم في الجزائر. كما أورد أخباره هو فيه فقال إنه ضمنه (ذكر الرحلة من حضرة تونس السنية الإمامة العمرية (¬1) إلى الحلول بالحضرة الشريفة العظيمة النبوية. ذكرت فيها (أي المقدمة) بداية من لقيناه بها ونبدأ من ذكر تونس بعينها .. وألممت عند ذلك حال الأوطان والأهل والجيران، ونبدأ من مآثر الأصحاب والأخوان، ثم من لقيت بطريقي في سائر البلدان إلى هذا الأوان). وأخبر أبو عصيدة أنه ألف كتابه أثناء إقامته بالحجاز وأنه كتاب حافل مفيد (جمعته مدة هذه الإقامة المحفوفة بالسعادة، إن شاء الله، والكرامة، بحمد الله وحسن عونه، مجموعا لطيفا وموضعا ظريفا، يسبي برونق آدابه الخواطر والعقول، ويسلي على المعاهد والطلول، يحتوي على مقدمة وأبواب وفصول ..) وقد قلنا إن الكتاب قد جمع بين الأدب والتصوف لأن ¬

_ = محمد) وتتلمذ عليه وأكد له نبأ وفاة ابنه في القاهرة فزاد أسفه عليه. وفي رسالة أبي عصيدة أخبار عن أسرة المشدالي. (¬1) كانت تونس عندئذ تحت حكم أبي عمرو عثمان الحفصي، وكانت بجاية، بلد الكاتب، تابعة للدولة الحفصية.

مؤلفه أخبر بعد ذلك أنه خصص بقيته إلى العبادة والزهد ناقلا عن أهل التصوف. (أما باقي الكتاب وسائر الأبواب ففي ذكر التبتل في العبادات وأسرار الطاعات وما لا غنى للمريد عنه من جميع الإرادات .. جمعته من كتب عديدة جليلة مفيدة من جملتها كتاب الإحياء الخ). ثم عدد التآليف الصوفية التي نقل منها (¬1). وأخبر كذلك أنه اطلع علماء الحجاز على هذا التأليف وتنافس معهم حول أفضلية المشدالي على سائر علماء عصره. فهو إذن كتاب جيد في بابه. ولكنه يعتبر في حكم الضائع، ولولا هذه اللقطات التي وصلت إلينا ضمن الرسالة لما عرفنا عنه شيئا لأننا لا نعرف من تعرض له حتى الآن. ومهما كان الأمر فإن آثار أبي عصيدة الأدبية جديرة بالدرس والنشر. وقد ضعف الإنتاج اللغوي، كالدراسات النحوية والقاموسية وكادت تقتصر على تعاليق سطحية في النحو والصرف. ومن الذين اهتموا بالدراسات النحوية والبلاغية في هذا العصر، أبو جميل زيان (إبراهيم) بن فائد الزواوي المتوفي ستة 857 (¬2). ومن نظمه في ذلك أرجوزة في النحو بلغت مائة وخمسة أبيات قصد بها، كما قال إفادة الناشئة (¬3). والغالب أنه هو الذي وضع عليها شرحا أيضا. كما أنه قد شرح ألفية بن مالك وتلخيص المفتاح، بالإضافة إلى أعمال أخرى في الفقه والتفسير. وربما يعتبر ابن فائد الزواوي أشهر من اهتم بالدراسات النحوية في منطقة زواوة بعد يحيى بن معطي الزواوي صاحب (الدرة الألفية في علم العربية) (¬4). ولكن النحو ظل أيضا ¬

_ (¬1) سنعود إلى الكتاب في فقرة التصوف. (¬2) انظر عنه بروكلمان 2/ 926، والأعلام 1/ 51، وتعريف الخلف 2/ والجيلالي 2/ 109. (¬3) منها نسخة في المكبة الملكية بالمغرب رقم 7263 والخزانة العامة بالرباط د 2194. (¬4) عن ابن معطي انظر طاهر الطاهي (ابن معطي وتحقيق كتابه الفصول الخمسة) رسالة ماجستير سنة 1972 من معهد البحوث والدراسات العربية بالقاهرة. ومن الذين ترجموا له السيوطي في (بغية الوعاة).

التصوف وعلم الكلام

موضوع اهتمام بعض العلماء العقليين أمثال ابن القنفذ والمشدالي والمغيلي وأحمد بن أحمد البجائي (¬1). التصوف وعلم الكلام تعرضنا في بداية هذا الفصل إلى بعض الاتجاهات التي سادت خلال القرن التاسع، ومنها الاتجاه الروحي (الاهتمام بعلوم الآخرة والتصوف). ويهمنا الآن أن نستعرض ما أنتجه الجزائريون في هذا الميدان. فإذا كان إنتاج التاريخ عندهم ضئيلا نسبيا وإذا كان إنتاج الشعر والأدب الصرف قليلا فهل كان إنتاجهم الروحي أغزر مادة وأقوى تعبيرا؟ هذا ما سنحاول الإجابة عليه في هذه الصفحات. ومن أبرز المنتجين في العقائد عبد الرحمن الثعالبي ومحمد بن يوسف السنوسي، ولكن بجاية قد سبقت الجزائر وتلمسان بمدرسة عبد الرحمن الوغليسي (توفي 786) الذي تتلمذ على يده وعلى تلاميذه رجال الطبقة التي ندرسها. ومنهم محمد الهواري والثعالبي وعيسى بن سلامة البسكري ونحوهم. فكانت (الوغليسية) في الفقه موضع دراسة واهتمام اللاحقين لفترة طويلة (¬2). كما سبقت قسنطينة بمدرسة حسن بن باديس صاحب (السينية) التي تبارى بعض العلماء في شرحها وتقليدها بل والتبرك بها لأنها في مدح الشيخ عبد القادر الجيلاني، دفين بغداد (¬3). وقد امتد تيار هاتين المدرستين ¬

_ (¬1) نسب إليه شرح قصير على الأجرومية توجد منه نسخة في مكتبة جامعة برستون الأمريكية (قسم يهودا) رقم 2649 مجموع. (لعله هو أبو عصيده السابق؟) (¬2) من الذين شرحوا الوغليسية أحمد زروق البرنوسي المتوفي سنة 899 ومحمد السنوسي ويحيى العبدلي، تلميذ الوغليسي، وعبد الرحمن الصباغ، وغيرهم. (¬3) تعرف (بالسينية) و (بالنفحات القدسية). وقد وضع صاحبها نفسه عليها شرحا سماه (اللمحات الإنسية) وتوجد عليها شروح أخرى كثيرة. انظر بروكلمان 2/ 214. وفهرس المخطوطات العربية بالرباط قسم 2 ج 2، رقم د 583 ود 1641. وقد اطلعت على نسخة منها تقع في 27 بيتا ومطلعها: =

أحمد النقاوسي

شمل البلاد كلها، فكان في مدينة وهران محمد الهواري وتلميذه إبراهيم التازي، وكان بمدينة الجزائر عبد الرحمن الثعالبي وتلميذه أحمد الجزائري، وكان في تلمسان محمد السنوسي الذي أصبح هو نفسه إماما في هذا الميدان حتى وله تلاميذ كثيرون، وفي ندرومة يوسف الندرومي صاحب (قبس الأنوار وجامع الأسرار) (¬1) وكان في قسنطينة محمد الزواوي الفراوسني صاحب (المرائي)، وبركات القسنطيني. وفي بسكرة عيسى بن سلامة البسكري، وهكذا. وسنحاول أن ندرس بعض ما قدم هؤلاء من أعمال في هذا الفرع. 1 - أحمد النقاوسي: فمن الذين ساهموا في تغذية هذا التيار أحمد بن عبد الرحمن النقاوسي البجائي بكتابه المسمى (الأنوار المنبلجة من أسرار المنفرجة). والقصيدة المشهورة (بالمنفرجة) هي التي قالها يوسف بن محمد بن يوسف المعروف بابن النحوي التوزري الحمادي (لأنه استوطن قلعة بني حماد) وقد سميت كذلك لوقوع الانفراج بها كما قيل عنها، أو لاحتوائها على كلمة (تنفرج) في مطلعها وهو: اشتدي أزمة تتفرجي ... قد آذن صبحك بالبلج وهي تعد من القصائد التي تجمع بين الأدب والتصوف. ويهمنا منها الآن الجانب الأخير. وهذا هو الذي جعل النقاوسي يقوم بشرحها شرحا واسعا وهو أيضا الذي جعل بعض الباحثين يضعها في باب الأدعية والأذكار (¬2). وكان النقاوسي قد أخذ هذه القصيدة إجازة عن شيخه عيسى بن ¬

_ = ألا صل إلى بغداد فهي منى النفس ... وحدث بها عمن ثوى باطن الرمس (¬1) بروكلمان 2/ 358 و 1042 وأيضا محمد بن عبد الكريم (مخطوطات جزائرية) 39. ومنه نسختان في مكتبة جامعة برستون الأميركية (قسم يهودا)، رقم 4752 و 1080 مجموع، الأولى تعود إلى سنة 839. (¬2) مجلة مجمع اللغة العربية بدمشق أبريل 1973، 330. وبناء على هذا المصدر فإن نسخة من شرح النقاوسي توجد في مكتبة عارف حكمت بالمدينة المنورة. وقد سماه صاحب البحث عبد الرحمن وليس أحمد كما أضاف إلى العنوان عبارة (في بسط =

أحمد الغبريني من تونس وكان الغبريني هذا قد توفي سنة 813 أو 815. والنقاوسي البجائي هو نفسه شيخ عبد الرحمن الثعالبي الذي درس عليه في بجاية أو في قسنطينة (1). ونحن نقول هذا لأن لقب النقاوسي قد ذكر مع عدد من الأسماء منها عبد الرحمن (¬2) ومحمد (¬3) وأحمد (¬4). ولكن النسخة التي اطلعت عليها توضح الأمر أكثر من غيرها. فالناسخ ينهيها بهذه العبارة (وهذه آخر الأنوار المنبلجة من أسرار المنفرجة من تأليف سيدنا الفقيه الأستاذ الحافظ المقري أبي العباس أحمد بن الشيخ الفقيه أبي زيد عبد الرحمن النقاوسي رحمه الله (¬5) ونحن نميل إلى ما وجدناه في هذه النسخة. ومع ذلك تظل حياة شارح (المنفرجة) غامضة. ومن المؤكد أنه من تلاميذ عيسى الغبريني وأنه من شيوخ الثعالبي وأن والده يدعى عبد الرحمن وأنه عاش في بجاية أو في قسنطينة أو فيهما معا، وأنه قد يكون رحل في طلب العلم إلى تلمسان والمغرب. ولعله قد أدى فريضة الحج والتقى ببعض علماء المشرق. وما زلنا لا نعرف الآن تاريخ وفاته. ومهما يكن الأمر فإن النقاوس قد ساهم بشرحه للمنفرجة في دفع تيار التصوف الذي كان معاصرا له وسابحا فيه. وقد بدأ شرحه بالتعريف بناظم القصيدة. وهو ابن النحوي (¬6). ثم شرع في (تحرير ألفاظها (القصيدة) وتقرير أغراضها وكشف غوامض إعرابها) وكان النقاوسي يطيل شرحه لكل بيت حتى ¬

_ = أسرار المنفرجة) وصفحات النسخة هناك 328 ص وتاريخ كتابها 873. (1) جاء في (كفاية المحتاج) لأحمد بابا أن الثعالبي قال عن شيخه النقاوسي (شيخنا الإمام المحقق جامع علمي المعقول والمنقول ذو الأخلاق الرضية والأحوال الصالحة السنية). (¬2) مجلة مجمع اللغة العربية بدمشق، أبريل 1973، ص 330. (¬3) حسب السخاوي فإن محمد النقاوسي قد دخل المدينة سنة 897 لكن لا نعرف متى توفي. انظر الجيلالي 2/ 320. (¬4) ذكر ذلك الرحالة البلوي. انظر (الحلل السندسية) للوزير السراج 3/ 814. وكذلك ابن مريم (البستان)، 304. (¬5) الخزانة العامة بالرباط رقم ك 1821. ويقع الشرح في 212 ورقة. (¬6) وقد نقل عنه ابن مريم ذلك في (البستان) 300، 304.

عبد الرحمن الثعالبي وأحمد الجزائري

أنه ملأ حوالي أربع عشرة صفحة للبيت الأول (¬1). وهو يسير في شرحه على طريقة شرح المتون المعروفة، ولكنه يتبع في ذلك ثلاث مراحل واضحة: الأولى الشرح اللفظي والثانية الشرح الأدبي والثالثة الشرح المعنوي. ولو كان النوع الثاني هو الذي يهم النقاوسي لعددنا شرحه في باب الأدب واللغة ولكن الذي كان يعنيه هو الأخير. وهو بذلك يبحث عما في القصيدة من معنى الخير والصلاح والبركة وما تفيده لقارئها من فضائل وانفراج. ولذلك عددنا عمله في باب التصوف والزهد. ويبدو النقاوسي في شرحه أديبا متمكنا أيضا وواسع الاطلاع قوي العبارة. ولعل له كتبا أخرى تكشف أكثر عن شخصيته العلمية وعن مكانته بين معاصريه. فقد قال فيه تلميذه إنه كان يجمع بين علمي المعقول والمنقول. 2 - عبد الرحمن الثعالبي وأحمد الجزائري: ومن بين تلاميذ النقاوسي في (الأخلاق المرضية والأحوال الصالحة السنية) عبد الرحمن الثعالبي الذي غطى بشهرته على شهرة أستاذه. ذلك أن الناس، منذ القرن التاسع قد عرفوا الكثير عن الثعالبي ولكنهم لم يعرفوا إلا القليل عن النقاوسي. ومهما كان الأمر فإن اسم الثعالبي قد التصق بالزهد والتصوف كما التصق اسم ابن رشد بالفلسفة وابن خلدون بالتاريخ والاجتماع. ولعله لولا إغراق الناس بعده في الطريقة لكان الثعالبي مجرد عالم زاهد ومؤلف من المؤلفين في علوم الدين ولنسج عليه النسيان خيوطه كما نسج على الكثيرين ممن سبقوه أو لحقوه. فقد ترك الثعالبي عددا من المؤلفات قد تصل إلى الخمسة عشر كلها تقريبا في التفسير والمواعظ والتوحيد والفقه. ولم يكن الثعالبي سوى نتاج العصر الذي عاش فيه كما عرفنا. فقد ولد بوادي يسير غير بعيد من مدينة الجزائر. ودرس بهذه المدينة ومنها انطلق إلى بجاية لقربها وشهرة علمائها في الدين والتصوف، وخاصة مدرسة عبد الرحمن الوغليسي التي أشرنا إليها. وقصد بعد ذلك تونس التي كانت ¬

_ (¬1) من ورقة 39 إلى 46.

حاضرة الحفصيين وحاضرة علماء جامع الزيتونة من أمثال عيسى الغبريني والبرزلي والأبي وغيرهم من ورثة مدرسة ابن عرفة الفقهية. ولعل الثعالبي قد درس أو توقف بقسنطينة التي كان من قضاتها عندئذ أحمد بن القنفذ القسنطيني صاحب (الفارسية). كما أخذ الثعالبي العلم بتلمسان، وبعد ذلك رحل إلى مصر ومكة المكرمة، ولعله قد زار أيضا بغداد ودمشق والقدس كما هي عادة الحجاج العلماء في وقته. وكان خلال تجواله يتلقى العلم بالمشافهة أو الإجازة (¬1). فقد أصبح من رواة الحديث ولا سيما صحيح البخاري الذي كان من أبرز رواته ومدرسيه في الجزائر. وله في ذلك فهرس أسماه (غنية الواجد وبغية الطالب الماجد). ولم يكتف الثعالبي بأخذ الحديث رواية بل درسه أيضا في تونس ومدينة الجزائر. وقد أثر الثعالبي تأثيرا كبيرا في ميدان الزهد والتصوف من ثلاثة طرق: طريق تلاميذه، فقد كان مدرسا ناجحا وعالما واثقا من رسالته ومحدثا ومفسرا قويا وصاحب شخصية جذابة ومهيمنة (¬2). والثاني طريق تأليفه فهو لم يكن مجرد زاهد بسيط أو درويش معزول عن الناس ولكنه كان ينشر دعوته عن طريق الكلمة المكتوبة التي تنتقل من يد إلى يد ومن منزل إلى منزل ومن جيل إلى لاحقه. وكان اللاحقون يتفننون في نسخ تآليفه وآثاره ويتواترونها بل وقد ينسبون إليه ما لم يقله حرصا على الانتساب إليه أو الاحتجاج به. والثالث طريق زاويته التي تأسست عند ضريحه والتي أصبحت مقصد الزوار وملتقى الدارسين ومجمع طلاب البركة والشفاء (¬3). وقد ساندت السلطة ¬

_ (¬1) الكتاني (فهرس الفهارس) 2/ 131. (¬2) من تلاميذ الثعالبي غير الجزائريين عبد الباسط بن خليل صاحب الرحلة، فقد التقى به في مدينة الجزائر وحضر دروسه وقال (وسمعنا شيئا من فوائده، وسألته بعض الأسئلة كانت تشكل علي فأفاد فيها على أحسن وجه وأتمه ورأيت تفسيره وقرأت عليه من أوائله بعض سطور وأجازني). (¬3) كانت أيضا مجمعا للذكر وإقامة المولديات وإلقاء الموشحات الدينية. انظر رحلة ابن حمادوش. وقد حققناها.

ابن زكري

العثمانية في الجزائر هذه الزاوية التي اتسعت شهرتها لكونها في عاصمة الدولة ولكون الثعالبي نفسه من أبناء المنطقة. وهكذا أصبحت عبارة (الثعالبية) تدل على مدرسة في الزهد والورع والميل نحو العزلة والتصوف والعناية بعلوم الآخرة والهروب من الدنيا وأوضارها. ومن تلاميذ الثعالبي الذين ساروا على نهجه واقتفوا أثره أحمد بن عبد الله الجزائري (¬1) وقد جاءت شهرة الجزائري عن طريق قصيدته في التوحيد المعروفة بالمنظومة الجزائرية والتي تسمى أحيانا (الجزائرية) فقط، وهي التي تداول عليها أكثر من واحد يحللها ويشرحها ويثني على صاحبها رغم أنه نظمها عندما كان في مقتبل العمر. ومن الذين شرحوها شرحا مطولا أثناء حياة صاحبها الشيخ محمد السنوسي الذي اشتهر في وقته بالتعمق في العقائد (¬2). فقد أرسلها الناظم بنفسه إلى السنوسي وطلب منه شرحها. والمنظومة لامية وهي تبدأ هكذا: الحمد لله وهو الواحد الأزلي ... سبحانه جل عن شبه وعن مثل أما الطريق الثاني الذي اشتهر به أحمد الجزائري فهو إقامة زاوية باسمه في مدينة الجزائر وعناية السلطة العثمانية أيضا بها. فقد أصبحت زاويته مدفنا لعدد من مشاهير علماء مدينة الجزائر نذكر منهم سعيد قدورة وأحمد زروق بن عمار ومحمد بن بلقاسم بن إسماعيل المطماطي الذين تولوا جميعا وظيفة الإفتاء. ويمكن أن نضيف إلى مصادر شهرة الجزائري كونه من تلاميذ الثعالبي، وهو الذي رثى شيخه بالقصيدة العينية التي أشرنا إليها. ولمكانة الجزائري في عصره وفي الجيل اللاحق له كان أيضا يلقب (بالقطب) وهو لقب صوفي لا يناله إلا من تدرج في مدارج الطريقة وشهد له الناس بالصلاح. 3 - ابن زكري: ومن الذين وضعوا أيضا منظومة في علم الكلام أحمد بن زكري ¬

_ (¬1) توفي سنة 898 بمدينة الجزائر. (¬2) يقع شرح السنوسي في 241 ورقة، انظر الخزانة العامة بالرباط د 1676.

التلمساني (¬1). وقد سمى منظومته (المراصد) لأنه قسمها إلى أربعة مراصد وخاتمة. ويبدو أنها نظم عادي رغم مكانة ناظمها كأستاذ صاحب شهرة واسعة. وقد جاء فيها ما يلي: وهكذا الجوهر والمقدار ... والشكل والظلمة والأنوار وقال قوم ما هنا تفصيل ... فللوجود بهما شمول فكل موجود به تعلقا ... لكن بأمر زائد افترقا والنسخة التي اطلعنا عليها مبتورة من الأول ولذلك لم نعرف ديباجة المؤلف فيها ولم نعرف أيضا ماذا تناول في المرصد الأول والثاني. أما المرصد الثالث فهو (في أفعاله تعالى) والرابع (في الرسالة وما أخبرت به) (¬2). أما صاحب (البستان) فقد سمى هذه المنظومة بالمنظومة الكبرى وقال إنها تقع في أكثر من ألف وخمسمائة بيت. وقد ذكر له في ترجمته عددا آخر من المؤلفات لا تخرج عن الفقه وأصوله والفتاوى وعلم الكلام (¬3). ويبدو أن ابن زكري كان مستقل الرأي بين معاصريه فقد ذكر له ابن مريم بعض المواقف التي تدل على ذلك، ومنها أنه كان يرد على محمد السنوسي بعض آرائه كما كان هذا يرد عليه. فإذا عرفنا أن السنوسي كان إماما معترفا له بالعلم والورع أدركنا أن ابن زكري لم يكن يقلد الناس في هذا الاعتراف. ولعل هذه العلاقة بين الرجلين هي التي منعت محمد السنوسي من وضع شرح على (المراصد) شبيه بالشرح الذي وضعه على منظومة الحوضي ومنظومة الجزائري وغيرهما. ¬

_ (¬1) ترجمته في (البستان) 38 - 41. وبناء عليه فإن ابن زكرى قد توفي سنة 899 أو 900 وله جامع في تلمسان يعرف بجامع ابن زكرى، وقد وقفت عليه وقفية كبيرة سنة 1154، ولابن زكرى عدة مؤلفات مذكورة في ترجمته. انظر أيضا (دوحة الناشر) لابن عسكر الترجمة الفرنسية، 205. ولابن زكرى رجز سماه (محصل المقاصد) شرجه الورتلاني سنشير إليه في الفصل الثاني من الجزء الثاني، ولا ندري إن كانت (منظومة المراصد) هي نفسها (محصل المقاصد) أو هما عملان مختلفان. (¬2) الخزانة العامة بالرباط ك 3287. وهي في 25 صفحة. (¬3) (البستان) 41.

محمد السنوسي

4 - محمد السنوسي: وما دمنا قد تعرضنا إلى محمد السنوسي فلنذكر هنا أنه هو صاحب (العقائد) المشهورة التي تبارى العلماء في شرحها ودرسها وتقريرها وحفظها. وهي أيضا في علم الكلام الذي عرف به السنوسي وجعله العلم المؤدي إلى معرفة الله لأنه في نظره، مفتاح جميع العلوم، وقد نقل عنه ابن مريم قولته في علم الكلام، وهي (ليس علم من علوم الظاهر يورث معرفته تعالى ومراقبته إلا علم التوحيد، وبه يفتح له في فهم العلوم كلها. وعلى قدر معرفته به يزداد خوفه منه تعالى وقربه منه) (¬1). وحياة السنوسي حياة غنية وهي تعتبر ظاهرة هامة من ظواهر القرن التاسع. وليس من غرضنا هنا بسط القول فيها لأن بعض المؤلفين قد تكلفوا بذلك (¬2) رغم ما في دراستهم من نقص وعدم اهتمامهم بما نهدف نحن إليه في هذا المضمار. ويكفي أن نعرف أن السنوسي، كأستاذه الثعالبي، قد اتجه نحو علوم الآخرة والروحانيات والتصوف. وكان لا يرتاح إلى الحكام ولا إلى مجتمع عصره لأن الزمان في نظره قد تبدل وكثرت فيه الشرور فوجب الفرار منه إلى الله والنجاة بالنفس من الانحراف السياسي والاجتماعي عند المسلمين. وقد ظهرت عليه مخايل الذكاء وهو صغير وألف وهو ابن تسع عشرة سنة تأليفا في العقائد جعل أستاذه الحسن أبركان يخفيه عن الناس حتى بلغ السنوسي أربعين عاما مخافة الحساد، كما يقول ابن مريم. وبالإضافة إلى ما ذكرنا تتلمذ السنوسي على مجموعة من الأساتذة الرياضيين في وقتهم، وهم أبو عبد الله الحباك ومحمد بن أحمد الجلاب وعلي القلصادي. كما تتلمذ في التصوف على إبراهيم التازي صاحب وخليفة ¬

_ (¬1) نفس المصدر 277 وقد روى ابن مريم ذلك عن تلميذ السنوسي، محمد بن يحيى المغراوي. (¬2) خصص له ابن مريم في (البستان) عدة صفحات 237 - 248 وقد نقل معظم معلوماته عنه من كتاب (المواهب القدسية في المناقب السنوسية) للملالي. وقد سبق الحديث عن هذا الكتاب في قسم التاريخ والسير.

محمد الهواري الذي أسس زاوية بوهران وجعل يبت بدوره الطريق ومبادئ التصوف في وقت كانت فيه وهران مهددة بالغزو الإسباني وكانت تتلقى موجات متوالية من مهاجري الأندلس. والتازي هو الذي ألبس السنوسي الخرقة الصوفية وبصق له في فمه على عادتهم. وقد اشتهر السنوسي بغزارة العلم وكثرة الإنتاج فيه وبالتصوف، ولذلك نسبت إليه كرامات كثيرة من الذين ترجموا له فاقت الكرامات التي كانت تنسب إلى أستاذه الثعالبي. وهكذا اختلط السنوسي العالم المفكر بالسنوسي المتصوف الدرويش. ولكننا إذا تأملنا في قواه العقلية وفي تنوع إنتاجه أدركنا أن كثيرا مما نسب إليه من الخرافات كان من فعل المتأخرين الذين افتقروا إلى العلم وعجزت طاقتهم عن الإنتاج فيه فذهبوا يجرون وراء المحجبات ويلصقون بالسابقين بعض ما لم يقولوه أو يعتقدوه (¬1). وإذا كان عبد الرحمن الثعالبي قد اشتهر بالتأليف في علوم الدين فإن تلميذه السنوسي قد اشتهر بكثرة الشروح وندرة التأليف الشخصي. لكن التلميذ فاق الأستاذ في كثرة الكتب وتنوع مواضيعها. فالسنوسي كاد لا يترك فرعا من فروع المعرفة إلا ووضع فيه شرحا لمتن أو تعليقا على منظومة أو نحو ذلك. وقد تنوعت موضرعاته فكتب في التوحيد والفقه، وفي الطب والحساب، وفي المنطق والجبر والمقابلة، وفي القراءات والفرائض، وفي الحديث والتفسير، وفي التصوف والأذكار، وهكذا. وبلغ حرصه على الشرح أنه شرح هو (عقائده) عدة مرات فكان هناك الشرح الكبير والوسط والصغير (¬2) ولهذا شرح أصغر دعاه السنوسي (المقدمات) (¬3). ¬

_ (¬1) تنسب إلى السنوسي أيضا رسالة تسمى (المجربات) موضوعة في باب الطلاسم، مكتبة جامعة برنستون الأمريكية (قسم يهودا) منها ثلاث نسخ تحت أرقام وكلها مجاميع: 2394، 2964، 349. (¬2) اصطلح اللاحقون على تسميتها (بالعقيدة الكبرى) و (العقيدة الوسطى) و (العقيدة الصغرى) وأحيانا يكتفون بالوصف فيقولون كبرى السنوسي ووسطاه وصغراه، وهكذا. (¬3) شاعت هذه (المقدمات) أو مختصر المختصرات في التوحيد وتداولها الناس. وقد =

وما دامت هذه (المقدمات) قد اكتسبت شهرتها من اختصارها وسهولة عباراتها وما دام السنوسي قد أثر بها على دارسي علم التوحيد من الأجيال اللاحقة فلنعرض لبعض أفكارها باختصار. قسم السنوسي عمله إلى ثماني وحدات تحدث في الوحدة الأولى عن الحكم منطقيا فقال إنه هو إثبات أمر ونفيه. وهو (الحكم) إما أن يكون شرعيا أو عاديا أو عقليا. وفي الوحدة الثانية حصر المذاهب بالنسبة للأفعال في مذهب الجبرية ومذهب القدرية ومذهب أهل السنة. وتحدث في الوحدة الثالثة عن أنواع الشرك فجعلها ستة وهي شرك الاستقلال (أي وجود إلهين مستقلين) وشرك تبعيض وشرك تقليد وشرك الأسباب وشرك الأغراض. والملاحظ أن السنوسي قد حكم على أهل الشرك الخامس (وهم الفلاسفة) بالكفر إجماعا. وعندما تناول في الوحدة الرابعة أصول الكفر والبدعة جعلها سبعة وهي الإيجاب الذاتي والتحسين العقلي والتقليد الرديء والربط العادي والجهل المركب والتمسك (في عقائد الأعيان) بظواهر الكتاب والسنة والجهل بالقواعد العقلية. وننبه هنا إلى ما قلنا من أن السنوسي قد وافق المغيلي على هدم بيع اليهود في توات لأن إحداثها في نظره كان بدعة. وفي الوحدة الخامسة وجد السنوسي أن الموجودات لا تخرج عن أربعة وهي الغنى عن المحل المخصص (وهو الله) والمفتقر إليهما (وهو العرض) والمفتقر إلى المخصص فقط (وهو الجرم) والمفتقر إلى المحل فقط (صفات الله) أما الممكنات التي تناولها في الوحدة السادسة فهي لا تخرج عنده عن ستة وهي الوجود والعدم والمقادير والصفات والأزمنة والأمكنة والجهات. وخصص الوحدة السابعة للحديث عن القدرة الإلهية والإرادة والعلم والحياة والكلام الأزلي. وختم الوحدة الثامنة بتحديد مفهوم الأمانة والخيانة (¬1). ومن الواضح أن منهج السنوسي في المقدمات هو منهج أهل السنة. ¬

_ = ترجمها إلى الفرنسية السيد لوسياني ونشرها بالجزائر سنة 1908، والنص مع الترجمة. (¬1) أخذنا هذه الخلاصة من النص الذي نشره لوسياني.

الحوضي

ولا ندري كيف فصل السنوسي في شروحه الأخرى هذه المبادئ والآراء الشخصية التي أوردها فيه لأننا لم نطلع عليها، ولكننا نعرف أنه رد ردا عنيفا على أبي الحسن الصغير في رسالته المساة (نصرة الفقير في الرد على أبي الحسن الصغير) وحكم بوجوب إحراق كتبه (¬1). أما مزية (المقدمات) فهي حصر المسائل واختصارها واتباعها منهج أهل السنة. ولعل ذلك هو سبب ذيوعها ولا سيما في عهد كلت فيه القرائح وضعف فيه النشاط العقلي كالعهد العثماني. ومهما يكن من شيء فإن تأثير السنوسي لا يعود إلى (المقدمات) فقط بل إلى كثرة كتبه الأخرى وتنوع موضوعاته كما أشرنا، كما يعود إلى شخصيته الدينية وعقيدة الناس فيه في حياته أو بعد مماته. ويعود أيضا إلى كثرة تلاميذه وانتشارهم في مختلف أنحاء البلاد. وهكذا احتل السنوسي في تلمسان مكانة استاذه الثعالبي في مدينة الجزائر (¬2). 5 - الحوضي: وقد سبق القول بأن السنوسي كان قد شرح عدة منظومات لغيره من الجزائريين وذكرنا منها (المنظومة الوغليسية) في الفقه و (المنظومة الجزائرية) في التوحيد. ولنضف هنا أنه شرح أيضا منظومة محمد بن عبد الرحمن الحوضي المعروفة بـ (واسطة السلوك)، وهي أيضا في التوحيد (¬3). والحوضي الذي نظم الشعر في عدة أغراض ذكرناها آنفا أراد أن يشارك في تيار العصر وهو الاهتمام بعلم الكلام والتصوف فنظم رجزه الذي بدأه بقوله: ¬

_ (¬1) رأيت نسخة منها في مكتبة زاوية طولقة وهي في اثني عشر ورقة وجيدة الخط. (¬2) له ضريح مشهور (وجامع) في تلمسان يعرف بضريح السنوسي وأخته الثالوثي. وكانت له أوقاف كثيرة تحافظ عليه. انظر بروسلار (المجلة الإفريقية)، 1861. 323. (¬3) النسخة التي اعتمدنا عليها توجد في المكتبة الوطنية بالجزائر رقم 899 وهي بخط جميل ومن نسخ عبد القادر بن عمر الحارثي سنة 938، ويبدو أنه كان من تلاميذ الحوضي وتقع ضمن مجموع في التصوف، وعلى النسخة زيادات في الحواشي.

الحمد لله الذي دل عليه ... إيجادنا ثم افتقارنا إليه وبعد فالتوحيد أشرف العلوم ... وهو أساسها الذي به تقوم وبعد هذه البداية التقليدية التي تذكرنا بتعريف السنوسي نفسه لعلم التوحيد يستمر الحوضي في رجزه مشيرا إلى سبب وضعه له وهو إفادة الطلاب في المدارس وفتح طريق النظر أمام القارئ بدل التقليد، بل إنه كان يطمح إلى أن تكون (واسطة السلوك) مفيدة للأساتذة لاختصارها ووضوح عبارتها: وقد سألت الله في تيسير ... أرجوزة مفهومة التعبير قريبة المأخذ والمطالب ... يقرأها الصبيان في المكاتب يخرج قاريها من التقليد ... ضرورة بنظر سديد ورب منصف من الكبار ... بها اكتفى من أجل الاختصار وقد أشار إلى تسميتها (واسطة السلوك) لأنها تبين سلوك الإنسان المسلم الصحيح: سميتها (واسطة السلوك) ... إذ بينت كيفية السلوك ورغم كونها أرجوزة أو منظومة فإن الحوضي قسم عمله إلى فصول. فكان هناك فعل في حكم العقل وآخر في الصفات وثالث في ما يجوز من أفعال الله تعالى ورابع في بعث الرسل، وهكذا. وأحيانا كان عنوان الفصل بيتا من الأرجوزة. وللحوضي أيضا كتاب في التصوف سماه (الوسائل العظمى للمقصد الأسمى)، وهو في الصلاة على النبي (صلى الله عليه وسلم) (¬1). وهو الكتاب الذي استوحاه، كما قال، من كتاب في نفس المعنى لأبي عبد الله أبي البركات. وقد رتب الحوضي كتابه على حروف المعجم وبدأ بمقدمة ذكر فيها ما جاء عن الحديث الوارد في الصلاة على النبي والمواضع التي تجب فيها أو تستحب والفوائد ¬

_ (¬1) الخزانة العامة بالرباط رقم 1030 وهو في مجلد وسط وغير مرقم وخطه جيد وعناوينه ملونة.

التازي

التي يجنيها المصلي. وقسم الكتاب بعد ذلك إلى مجموعة من (الوسائل) فهناك (وسيلة الباء) وتبدأ بـ (اللهم صل وسلم على سيدنا محمد النبي الأمي الهاشمي المجتبا) ولكل وسيلة عنوان يناسبها ويناسب الحرف الموضوع لها، فحرف الدال هو (وسيلة نافعة في الحال والاستقبال، منوعة على حرف الدال) أما بالنسبة لحرف الظاء (فوسيلة رفيعة الحظي، منجية من لظى، منوعة على حرف الظا) وهكذا. 6 - التازي: وساهم إبراهيم التازي، أستاذ السنوسي، في حركة التصوف بلسانه وقلمه وزاويته. ويهمنا أن نتعرض هنا لمساهمته بالقلم (¬1). وكما اشتهر معاصروه بمؤلفات التصقت بأسمائهم مثل (المقدمات) للسنوسي و (العلوم الفاخرة) للثعالبي و (واسطة السلوك) للحوضي، اشتهر التازي بقصيدته المعروفة (بالمرادية)، وهي قصيدة في التصوف، وسميت كذلك لأنه افتتحها بقوله (مرادي): مرادي من المولى وغاية آمالي ... دوام الرضى والعفو عن سوء أعمالي وتنوير قلبي بانسلال سخيمة ... به أخلدتني عن ذوي الخلق العالي وإسقاط تدبير وحولي وقوتي ... وصدقي في الأحوال والفعل والقال ونحن هنا لا نستغرب أن يطلب إبراهيم التازي من الله تعالى أن يسقط عنه التدبير وأن يجعله إنسانا غير مكلف وغير مسؤول. ولعل هذا أبعد ما وصلت إليه الصوفية في الجزائر خلال القرن التاسع، فلم يعد يعني المتصوفة أي شيء في مجتمعهم ولا ما يحدث حولهم لأمتهم، بل أصبح كل واحد منهم يطلب النجاة لنفسه وحط التكليف أو المسؤولية عنه. وستجد هذا المعنى يتكرر عند بعض المتأخرين أمثال أحمد بن ساسي البوني. ومهما كان ¬

_ (¬1) توفي إبراهيم التازي، حسب (سلوة الأنفاس) 1/ 24، سنة 866. انظر أيضا بروكلمان 2/ 332 وتوجد قصيدته (المرادية) في المكتبة الوطنية بالجزائر رقم 1846 وهي التي اطلعنا عليها. وقد زار الرحالة عبد الباسط بن خليل زاوية إبراهيم التازي في وهران وتحدث عنها وعنه في رحلته.

محمد الفراوسني والمرائي الصوفية

الأمر فإن هذه القصيدة قد أدركتها موجة الشرح التي سادت العصر فتصدى لها محمد الصباغ القلعي في القرن العاشر بشرح سنعرض إليه سماه (شفاء الغليل والفؤاد في شرح النظم الشهير بالمراد) (¬1). 7 - محمد الفراوسني والمرائي الصوفية: وهناك نوع آخر من الإنتاج الصوفي يسمونه المرائي، وهو أن يقص المتصوف رؤياه في شكل دراسة لتجربته النفسية وهو في حالة غيبة وليس في حالة حضور. وموضوع الرؤيا عادة ديني كأن يرى النائم الرسول (صلى الله عليه وسلم) وتدور بينهما أحاديث أو يقول الرسول للنائم كلاما يوجهه به أو ينهاه عن فعل شيء أو يثبته على ما هو فيه أو يعده بشيء أو نحو ذلك. وقد كثرت هذه المرائي للنبي من الصالحين والأولياء وغيرهم فما يكون من المتصوف إلا أن ينهض ويكتب رؤياه في قصاصات ويقصها في شكل كتاب أو رسالة. وقد نسبت إلى عبد الرحمن الثعالبي رؤى بعضها صحيح قصها بنفسه وبعضها منسوبة إليه من بعض المتأخرين (¬2). ولدينا كتاب ألفه محمد بن عبد الله الفراوسني الزواوي البجائي (¬3). خلال القرن التاسع ضمنه مائة وتسع رؤى وسماه (تحفة الناظر ونزهة المناظر) (¬4). وقبل أن نتحدث عن هذا الكتاب نود أن نعرف قليلا عن حياة صاحبه. والواقع أن معلوماتنا عنه الآن ضئيلة. وكل ما يمكن معرفته هو ما ¬

_ (¬1) ليس من المستبعد أن تكون القصيدة من نظم شخص آخر لأن المعروف عن التازي أنه، كأستاذه الهواري لم يكن قوي الثقافة بينما هذا النظم قوي نسبيا. ويوجد من شرح الصباغ نسخ منها في المكتبة الوطنية بالجزائر رقم 1856 و 1857. (¬2) انظر رسالة الثعالبي في الجهاد في كتابنا (أبحاث وآراء في تاريخ الجزائر) ج 1. (¬3) في بروكلمان 2/ 365 أنه أبو عبد الله محمد بن علي بن عمر الزواوي النجار البجائي. (¬4) اطلعنا على نسختين من هذا الكتاب بالخزانة العامة بالرباط ك 1907 وك 621 ومنه أيضا عدة نسخ في المكتبة الملكية بالرباط والقاهرة. انظر أيضا بروكلمان 2/ 367. كما توجد منه نسخة اطلعت عليها واستفدت منها في مكتبة زاوية طولقة (الجزائر). وفي القرن الحادي عشر نقل عنه أيضا محمد بن سليمان في (كعبة الطائفين).

ذكر هو نفسه من أخبار في كتابه كرحلاته وقراءاته وأصله. فهو يقول إنه زواوي الأصل بجائي الدار، وأنه عاش في قسنطينة ودرس بها في مدرسة ابن الخطيب (عائلة ابن القنفذ) كما عاش في تلمسان. وأخبر أنه عندما كان في قسنطينة كان ينوي شراء جارية واردة من تونس، ولكننا لا ندري هل اشتراها أم لا. وأخبر أنه توجه إلى المشرق ودخل مصر وعاش في الأزهر مدة لا ندري مداها ولعله سكن رواق المغاربة هناك. ذلك أنه قد ذكر أنه تعرف قرب الأزهر على امرأة مغربية وأنها قد راودته عن نفسه فاعتذر. ونعرف من الكتاب أيضا أنه قد أدى فريضة الحج وعاد إلى بلاده محقق الأماني. كما نعرف أنه كان من أتباع الطريقة القادرية. أما عن نشاطه العلمي فنعرف من الكتاب أيضا أنه كانت بينه وبين طلبة الوقت (العلماء) محاسدة. ولعل ذلك كان في بجاية أو في قسنطينة أو في تلمسان، فاستشار في ذلك بعض أساتذته، وذكر من بين أساتذته أبا عثمان الصفروي، وكان الفراوسني وهو في تلمسان على صلة بأحد الأندلسيين (ممن انخرط في سلكنا). ونسخ هذا الأندلسي كتاب الفراوسني (السر المصون) أثناء مروره (أي الأندلسي) بتلمسان لأداء فريضة الحج. وأخبر أن هذا الأندلسي الذي لم يكشف عن اسمه قد أخذ معه الكتاب وأطلع عليه فقهاء وفضلاء تونس وطرابلس فأعجبوا به. والرجل الأندلسي هو الذي حثه على كتابة المرائي التي رآها لأنها، كما قال له، بمنزلة الماشطة للعروس. وهو يعني بالعروس كتاب (السر المصون). ويبدو من هذه القصة أن الرجل الأندلسي هو الذي كان السبب في دفع الفراوسني إلى كتابة مرائيه التي سنتحدث عنها. ومن الواضح أن الفراوسني كان قادري الطريقة لأنه ذكر الطريقة القادرية عدة مرات أثناء حديثه عن حياته بمصر (¬1). ومن ثمة تتضح لنا بعض الأمور عن الفراوسني: الأول أنه كان عند تأليف المرائي معروفا بالزهد والتصوف بين الناس. والثاني أنه ألف (السر ¬

_ (¬1) الخزانة العامة بالرباط ك 1907.

المصون) قبل تأليفه (تحفة الناظر). والثالث أن الباعث على تأليف الكتاب الأخير هو الرجل الأندلسي الذي لم يذكر اسمه، ثم شهرة الكتاب الأول في الجزائر وتونس وطرابلس. ولذلك نود أن نقف قليلا عند كتابه (السر المصون). وفي النسخة التي اطلعنا عليها من هذا الكتاب (أو الرسالة - لأنه في حجم صغير) دافع الفراوسني عن انتمائه إلى علمي الظاهر والباطن، وأبان أهمية علم التصوف وحقائق الطريقة الصوفية، معتمدا خصوصا على الآية الكريمة {يعلم سركم ونجواكم} وعلى الحديث الشريف (اذكر الله حتى يقال مجنون) (¬1). وعنوان الكتاب الكامل يوضح كل هذا فهو (عنوان أهل السر المصون وكشف عورات أهل المجون فيما فتح الله به من فوائد وله (صلى الله عليه وسلم) اذكروا الله حتى يقول (كذا) مجنون). وقد افتتحه بمقدمة غامضة ركيكة العبارة فيها الكثير من روائح الدروشة. ومما جاء فيها (أما بعد، أبعد الله عنا وعنك جحيم بعد أهل البعاد، وأذاقنا وإياك فردوس قرب أهل الوداد، فإنك سألتني أولا أن أثبت في قرطاس من (كلمة غير مقروءة) الفتاح في بياض نياط الفؤاد، مما أوجب لك الأفراح من الزوائد والفوائد .. فأسعفتك إلى ذلك .. وسميته الخ). وقد قسمه إلى مقدمة وفصول، أما المقدمة فقد أوضح فيها علم التصوف وانتماءه هو إلى علمي الظاهر والباطن. وأما الفصول فقد جعلها واحدا وأربعين وخصص كلا منها لمسألة من المسائل مثل: في التوبة وحقيقتها، في العبودية، في الزهد، إلى آخر الكتاب: ويبدو أن هناك خلطا في المادة أو تداخلا بين ما جاء في كتاب (السر المصون) وما جاء في كتاب (تحفة الناظر). ¬

_ (¬1) أخبر الفراوسني أنه عندما كان بالقاهرة رأى أحد الأتراك، اسمه مقبل، كثرت رؤياه للرسول (صلى الله عليه وسلم) حتى شاع عنه ذلك فأخذوه - أي الرجل التركي - إلى القاضي الحنفي. ولم يخبر بما جرى له. فهل تأثر الفراوسني بهذا الدرويش التركي كما تأثر بالطريقة القادرية ثم نقل ذلك إلى بلاده قبل دخول الأتراك للجزائر بنحو نصف قرن؟ انظر صفحة 14 من كتابه (تحفة الناظر).

أما الطريقة التي ألف بها الفراوسني (تحفة الناظر) فيرويها بشيء من التفصيل. من ذلك أنه كثرت رؤياه للنبي (صلى الله عليه وسلم) فكان يسجل كل رؤيا على بطاقة إلى أن كثرت بطاقاته فنظرها وأسقط منها ما يسميه (بالسر المكتوم). وخطر له في البداية أن يسمي كتابه (تحفة الرائي فيما فتح الله من المرائي). ولكنه رأى النبي (صلى الله عليه وسلم) في المنام فقال له: سمها (تحفة الناظر ونزهة المناظر). وهكذا كان. وعندما انتهى من هذه المقدمة شرع في سرد المرائي واحدة بعد الأخرى. وقد ابتدأ الأولى بتاريخ 851 وانتهى بالأخيرة إلى سنة 861 أي خلال عشر سنوات. والمؤلف يذكر غالبا كل رؤيا مقرونة بمكانها وبتاريخها الهجري. وهكذا كانت الرؤيا السابعة والعشرين في قسنطينة سنة 852، والرؤيا الثامنة والعشرون عندما خرج لكدية عاتي (بقسنطينة أيضا) لزيارة أحد الشيوخ في نفس التاريخ، والرؤيا الثلاثون عندما كان في مدرسة ابن الخطيب (بقسنطينة أيضا) لزيارة أحد الشيوخ في نفس التاريخ، والرؤيا الأربعون عندما كان بمسجد المؤيدة (بقسنطينة) عام 855، والرؤيا الثالثة والأربعون عندما كان في الجامع الأزهر بمصر. وقد سبق أن قلنا إن مجموع المرائي مائة وتسع (¬1). وقد بدأ المؤلف المرائي بتمني الحج إلى البقاع المقدمة وأنهاها بتحقيق هذه الأمنية وعودته إلى بلاده. وتعتبر المرائي في حد ذاتها مصدرا لدراسة الحالة النفسية لصاحبها من جهة ودراسة الحالة الاجتماعية للبلاد من جهة أخرى. فهي عبارة عن رحلة خيالية أو منامة قام بها صاحبها مستعملا رؤية النبي (صلى الله عليه وسلم) وسيلة لتحقيق ذلك. وهو في هذه الرحلة يبتعد بطريق التصور والخيال عن الواقع الذي يعاني منه الناس في منتصف القرن التاسع وهو يكشف عن بعض الأمور التي كانت تختلج في نفسه والتي قد لا يستطيع أن يبوح بها مباشرة. فقد تحدث عن الحسد بين الطلبة (العلماء) وورد اسم المرأة على قلمه عدة مرات، وتحدث ¬

_ (¬1) أخذنا هذه المعلومات من النسخة رقم ك 621 بالخزانة العامة بالرباط.

عيسى البسكري

عن الطريقة القادرية وعن رؤيا لأحد الدراويش الأتراك بالقاهرة شاعت عنه أيضا رؤية النبي (صلى الله عليه وسلم)، وقال إنه حذف من بطاقاته ما هو سر مكتوم، وغير ذلك من الإشارات التي لو حللناها تحليلا خاصا لعرفنا منها نموذجا لحالة سلوكية معينة في هذه الفترة. أما الحالة الاجتماعية فإن المرائي تضم لقطات هامة عنها لا سيما في الشرق الجزائري، وخاصة في مجتمع قسنطينة (¬1). 8 - عيسى البسكري: ودواسة الفرد والمجتمع من خلال إنتاج هؤلاء العلماء المتصوفين لا تقتصر على إنتاج الفراوسني. فهناك عيسى بن سلامة البسكري الذي كتب أيضا سنة 860 (أي في نفس الوقت الذي كان فيه زميله الفراوسني يختم مرائيه) كتابا عن فضائل القرآن من الوجهة الصوفية سماه (اللوامع والأسرار في منافع القرآن والأخبار). والواقع أن الموضوع جليل والعنوان شيق، ولكن (اللوامع والأسرار) التي أرادها البسكري هي لوامع وأسرار من نوع خاص، وهو النوع الصوفي المختلط بالدروشة والفجاجة والسخف. فهو لا يريد أن يستوحي أسرار القرآن من إعجازه ومعانيه السامية وتشريعاته ولا يهدف إلى البحث عن لوامعه البلاغية ومراميه الإنسانية، بل هو يهدف إلى شيء آخر من القرآن، وهو الاتكاء على آياته كتمائم وأحجبة وترداد بعضها كأوراد وأذكار في مجالس الصوفية (¬2). إن هذا النوع من الكتابات التي راجت خلال القرن التاسع تكشف عن مواطن الداء في المجتمع الجزائري عندئذ. فإذا كان قادة الرأي في هذا المجتمع من نمط الفراوسني والتازي والبسكري فإننا نجزم بأنه ¬

_ (¬1) أخذنا هذه المعلومات أثناء زيارة سريعة للمغرب سنة 1973. وكم تمنينا لو طالت الزيارة أو تكررت حتى نستطيع استخلاص ما نريده من معلومات عن المؤلف ومجتمعه من هذه المرائي. (¬2) اطلعنا من هذا الكتاب على نسخة في المكتبة الوطنية بالجزائر رقم 828 وهناك نسخة أخرى برقم 1767. انظر أيضا بروكلمان 2/ 352، 359. وفيه أنه تارة أحمد وتارة علي بن عيسى بن سلامة البسكري. ايضا فهرس حسن حسني عبد الوهاب رقم 18245 وبناء عليه فإن نسخة من (اللوامع والأسرار) توجد ضمن مجموع في المكتبة الوطنية بتونس.

كان مجتمعا مريضا، ولا غرابة بعد ذلك أن تتفكك الدولة وتقع البلاد فريسة للغزو الأجنبي. كان عيسى البسكري قد تتلمذ على الثعالبي وابن مرزوق الحفيد (¬1) وغيرهما من علماء القرن التاسع. ويرى بروكلمان أن البسكري قد ألف كتابه وهو في بسكرة سنة 860 ولكننا لا نعرف عن حياة البسكري غير هذا، فأين ولد وعاش وتوفي؟ ليس هناك إجابة واضحة الآن. ويبدو أنه أكمل تعليمه في تونس لأنه يذكر عددا من علمائها في كتابه، كما يبدو أنه درس في الغرب الجزائري أيضا لأنه يذكر أنه ذهب إلى قلعة هوارة. ومهما كان الأمر فإن البسكري قد ألف كتابا كبيرا في فضل القرآن لم يكشف لنا عن عنوانه ولكنه كشف عن محتواه، فقال إنه أكثر من التقييد في هذا الباب عندما كان يطالع كتب الأئمة السابقين حتى اجتمع له كنز كبير من الأوراق. وقد طلب منه بعض أصدقائه تأليف ما جمع في كتاب لكي يستفيد الناس من فضل القرآن الكريم، فما كان منه إلا أن استجاب وألف لهم كتابا سماه (اللوامع والأسرار ..) فهذا الكتاب إذن هو عبارة عن خلاصة للكتاب الأول. وهذه عبارة المؤلف (وقد كنت قيدت هذه الخصائص والمنافع فأكثر ما جلبت في هذا الكتاب (وهو يعني المطول) لنفسي من كتب أيمتنا رضي الله عنهم. فلما رأيت رغبة إخواننا في هذا الفضل العظيم، والمنافع الكثيرة جردت لهم هذا المختصر) (¬2). وهو يعني (بالمختصر) كتابه (اللوامع والأسرار). وقد ذكر البسكري أنه أخذ معلومات عمن يسميهم (الأيمة) أمثال الغزالي والسمرقندي والمنذري صاحب كتاب (الترغيب والترهيب) وأبي القاسم الغافقي والبرزلي وابن عرفة والقشيري، وغيرهم. كما نقل عن شيخه الثعالبي، وقال إنه نقل أيضا عن بعض (الطلبة الثقات) وهو يعني بذلك بعض العلماء المعاصرين له. وقد قسم الكتاب إلى ثلاثة أبواب. فجعل عنوان ¬

_ (¬1) ابن مريم (البستان) 210. (¬2) من مقدمة (اللوامع والأسرار).

بركات القسنطيني

الباب الأول (فضائل القرآن وما يلحق به) وعنوان الباب الثاني (المنافع والخصائص وما يلحق بها) وعنوان الباب الثالث (الأوراد والحكايات والصلاة على سيدنا محمد) وقسم كل باب إلى فصول (¬1). أما الخلط بين فضائل القرآن والخرافة فيظهر مما يأتي، فهو يستطرد في ذكر ما يسميه (منافع القرآن) فيأتي من الآيات ما يقرأ في نظره أو يكتب عند الوجع أو عند عسر البول أو عند ضعف البصر أو ما يطرد الطير أو ما يكتب للسوس، وما يجعل للدمل. وكما يخلط بين ما يكتبه من آيات قرآنية وغيرها. فهو يقول (ورأيت رجلا كان ضريرا لا يبصر شيئا فاكتحل بمرارة الغراب فصار بصيرا. حدثني بذلك هو والثقة الحاضرون صدقوه (وكان ذلك) بقلعة هوارة حرسها الله) (¬2). كما يقول في مكان آخر متحدثا عما يعمل للمرأة العقيم بأن عليها أن (تأخذ الهدهد وتطبخه بدهن الجلجلان وتشربه على الريق فإنها تحمل) (¬3) والعجيب أنه ينسب هذه الوصفة إلى الطبيب الذي لم يسمه. فإذا صح هذا فإنه يدل على ما وصل إليه التطبب في عصره. وفي الكتاب نماذج أخرى من الأخبار التي لا علاقة لها بمنافع القرآن. وقد احتاط المؤلف بدون شك عندما جعل عنوان كتابه يطلق على منافع القرآن وعلى أخبار الخرافات والشعوذة (¬4). 9 - بركات القسنطيني: ولم يكن الفراوسني والبسكري وحدهما في الشرق الجزائري يغرقان هذا الإغراق في التصوف والدروشة، فمن المعاصرين لهما في قسنطينة بركات بن أحمد العروسي القسنطيني الذي ألف كتابين بناهما على الصلاة ¬

_ (¬1) في النسخة التى اطلعنا عليها لا يكاد الجزء الأول من عنوان الكتاب يقرأ، فكلمة اللوامع مكتوبة (المواضيع)، وكلمة الأسرار مكتوبة (الأسدات). (¬2) ورقة 35 من (اللوامع والأسرار). (¬3) نفس المصدر، 40. (¬4) عثرنا للبسكري على تأليف آخر في التاريخ يتعلق بفتح إفريقية، وفيه أيضا أخبار خرافية مختلطة بالتاريخ. انظر قسم التاريخ والسير.

على النبي (صلى الله عليه وسلم) وعلى الوعظ والإرشاد (¬1). وقد أطلق على أحدهما اسم (وسيلة المتوسلين بفضل الصلاة على سيد المرسلين) وعلى الثاني اسم (تذكرة الغافل ونصرة الجاهل). والكتاب الأخير يسمى أحيانا (كتاب المجالس) فقط. ولا نعرف الآن عن الشيخ بركات القسنطيني أكثر مما ورد في كتابه عن حياته. فقد جاء في كتابه (وسيلة المتوسلين) أنه انتهى منه سنة 877، وأن أحد أجداده يدعى محمدا، لذلك كتب اسمه في آخر المخطوطة هكذا: بركات بن أحمد بن محمد العروسي. كما أن في الكتاب إشارات توحي بأنه قد يكون ألفه في المدينة المنورة. أما كتابه الثاني فلا نستطيع أن نستفيد منه شيئا جديدا عن حياته. وقد توفي سنة 897. أما منهج الكتابين فيكاد يكون واحدا. فكلاهما مؤلف من مجموعة من المجالس فـ (وسيلة المتوسلين) مؤلف من أربعة وعشرين مجلسا وكل مجلس عبارة عن فصل في فضل الصلاة على النبي وتشويق للسامع، وقصيدة من المؤلف في مدح الرسول (صلى الله عليه وسلم) وهو في كل مجلس يوجه الكلام للمخاطبين بعبارات دينية وعظية مثل: صلوا يا إخواني، أو صلوا على المصطفى يا كل من سمع. والعبارة الأخيرة يرددها باستمرار. وتحدث في الكتاب أيضا على فضائل الرسول ومعجزاته. وقد حدد يوم الجمعة لكل مجلس (¬2). وأما في الكتاب الثاني فالمؤلف يحدد منذ البداية دواعي كتابة مجالس في الوعظ كما يحدد منهجه فهو يقول: (أما بعد فإني لما رأيت كتب الوعظ شهيرة البركات وعميقة الفوائد والخيرات منبهة للغافلين وزجرا للعاصين ¬

_ (¬1) بروكلمان 2/ 360. وقد اطلعنا على نسخة مخطوطة من الكتابين بالمكتبة الوطنية - الجزائر - رقم 773 و 886. (¬2) قد تكون هذه النسخة ذات الخط الجيد من وضع المؤلف نفسه لأنها تنتهي بعبارة (على يد مؤلفه .. بركات بن أحمد لطف الله به) والملاحظ أن هذه النسخة ليست فيها نسبة (القسنطيني) وهي تقع في 188 ورقة من الحجم الصغير. وقد رأيت منه نسخة مطبوعة أيضا.

وتذكرة للجاهلين، وإن تصنيف ذلك مما يرفع لصاحبه الدرجات، ويضاعف الحسنات .. فأحببت أن آخذ بأوفر حظ من أجود مصنفيهم ... وجعلته على اثنان وعشرون (كذا) مجلسا، كل مجلس منها يشتمل على خطبة حسنة، وفصول وعظية مستحسنة، وحكايات ضريفة (كذا) وأحاديث نبوية شريفة، وجعلت خاتمة مجالسه عظيمة الفوائد .. في فضائل الأشهر الكريمة والمواسم الشريفة العظيمة، من شهور العام، وعدد الأيام، وسميته بتذكرة الغافل ونصرة الجاهل) (¬1). ونتبين من هذا أن المؤلف كان يسير في طريق معبد وهو طريق التأليف في المواعظ وأن هدفه كان تنبيه الغافلين عن ذكر الله وردع العصاة وهداية الجاهلين. كما نتبين منه أن عدد مجالس هذا الكتاب يكاد يكون هو عدد مجالس الكتاب الآخر. ولكن إذا كانت محتويات مجالس الأول في فضائل الصلاة على النبي (صلى الله عليه وسلم) فإن محتويات هذا الكتاب تسير على منهج الوعظ من إيراد الأحاديث النبوية والطرائف والحكايات الموجهة والنوادر المستملحة، لأن الهدف عنده هو الترويح على النفس وصقلها وجعلها مستعدة للعبادة الحقة عند المتصوفة. وقد أوضح أنه تناول في الخاتمة المعاني السامية للشهور والسنوات والأيام والمواسم الإسلامية. والمؤلف على ما يظهر شاعر رقيق أيضا. ولكنه خلافا لأحمد الخلوف المعاصر له، كرس شعره للمديح النبوي. فكل مجلس يبدأ عادة بأبيات في هذا المعنى لكن اعتراها الخلل من قبل النساخ. فهو مثلا يبدأ مجلسه الأول بأبيات منها يخاطب الرسول (صلى الله عليه وسلم): دعوتك مضطرا وأنت سميع ... وجئتك محتاجا فكيف أضيع وبدأ المجلس الثاني بأبيات منها: طال والله بالذنوب اشتغالي ... وتماديت في قبيح فعالي كما بدأ المجلس الثالث بأبيات منها هذا: ¬

_ (¬1) من مقدمة المؤلف. وفي بروكلمان 2/ 30 اسمه (تذكرة العاقل وتبصرة الجاهل).

أبو عصيدة البجائي

أسير الخطايا عند بابك واقف ... له عن طريق الحق قلب مخالف إلى غير ذلك من الأبيات التي تعد مفاتح لكل مجلس. وهي جميعا، بالإضافة إلى محتوى المجلس عبارة عن اعترافات مذنب أمام الله مستشفعا بالنبي (صلى الله عليه وسلم)، طالبا الرحمة والغفران (¬1). وهكذا يكون الشيخ بركات القسنطيني أحد علماء الصوفية الذين أنجبتهم الجزائر خلال القرن التاسع والذين انتشروا فيها شرقا وغربا يدعون إلى قرب نهاية العالم ويطلبون النجاة من شرور زمانهم ومجتمعهم وقد ساعدوا بذلك على الضعف السياسي والانحلال الاجتماعي والتخلف الفكري الذي ما زالت بلادهم تعاني منه. 10 - أبو عصيدة البجائي: ورغم اهتمام أحمد أبي عصيدة بالأدب الصرف والشعر فإنه قد انجرف في تيار التصوف أيضا. فقد خصص فصول كتابه (أنس الغريب وروض الأديب) لهذا العلم. أما مقدمته فقد خصصها للحديث عن أخباره هو وأخبار صديقه المشدالي، كما سبق (¬2). ولذلك قال: (وأما باقي الكتاب وسائر الأبواب ففي ذكر التبتل في العبادات وأسرار الطاعات). والمريد في نظره يحتاج، بعد قيامه بالفرائض والسنن، إلى صلوات النوافل والأدعية والأذكار، ذلك أن (الدعاء حصن الله الحصين وحرزه المنيع المتين) وقد ضمن كتابه مناقب شيوخ التصوف وآدابهم وعقائدهم، ونحو ذلك. ويظهر أن أبا عصيدة الأديب قد تغلب على المتصوف. فقد حلى كتابه بالحكايات والنوادر والفوائد والأشعار والسير والأخبار والمدائح النبوية. فهو إذن كتاب أدب وتصوف. ولعل ذلك يتضح أكثر من مراجع الكتاب. فقد عاد مؤلفه إلى العديد ¬

_ (¬1) في النسخة التي اطلعنا عليها في هذا الكتاب نقص في بعض المجالس. وهي تقع في 25 ورقة متوسطة الحجم. (¬2) انظر فقرة الأدب من هذا الفصل.

العلوم والمنطق

من المصادر وانتقى منها ما رآه حريا بعصره وأهله. وفي شيء من المباهاة أخبر أنه جمع فيه ما لا (يحصره ديوان، ويعز وجوده عند ذي البحث والافتنان) ومن مصادره إحياء علوم الدين للغزالي ورسالة القشيري وحلية الأولياء لأبي نعيم وقوت القلوب وصفوة الصفوة ومؤلفات أحمدالقسطلاني، والسهروردي وابن عطاء الله وأبي الفرج الجوزي، والنووي. كما رجع إلى رحلة ابن رشيد الفهري والإحاطة لابن الخطيب، وغير ذلك من المصادر. ويظهر من مصادر الكتاب ومن خطته أنه عمل ضخم في بابه، غير أننا ما زلنا لا نعرف عنه أكثر مما ذكره مؤلفه عرضا في رسالته إلى المشدالي. العلوم والمنطق بالقياس إلى إنتاج الجزائر في التصوف وفي التاريخ وحتى في الأدب فإن إنتاجها في العلوم الرياضية والطبية يعد قليلا، فلم يكن هناك علماء طبيعيون أو أطباء بارزون كما كان هناك فقهاء ومتصوفة بارزون. حقا إن بعض الأسماء قد التصقت بها مهنة الطب كابن فشوش أو التأليف فيه كالثغرى والسنوسي. وهناك بعض الأسماء ارتبطت بعلم الحساب والفرائض والفلك مثل الحباك وابن القنفذ (¬1). ولكن هؤلاء وأولئك لم (يختصوا) بالحساب أو الطب كما اختص مثلا الونشريسي في الفقه والثعالبي في التصوف. ومع ذلك دعنا ندرس بسرعة هذا الإنتاج العلمي على قلته وضعفه. 1 - ففي هذا النطاق ألف إبراهيم بن أحمد الثغري التلمساني معجما صغيرا في الطب رتبه على حروف المعجم. ونحن لا نعرف كثيرا عن حياة الثغري. وقد جاء في (البستان) أنه من تلاميذ أبي عبد الله الشريف ¬

_ (¬1) لم يكن القلصادي جزانريا بالميلاد ولا بالوفاة، فهو من مواليد الأندلس وتوفي فيتونس سنة 891. ومع ذلك يجب ذكره هنا لأنه عاش فترة في تلمسان ودرس بها وأثر في حياتها العلمية كما تأثر بحياتها. وممن أخذوا عنه محمد السنوسي. ترجمته في السخاوي وابن مريم وأبي راس في (الحلل السندسية) و (أزهار الرياض) للمقري.

التلمساني (¬1) فإذا عرفنا أن هذا قد توفي سنة 771 فإن وفاة الثغري قد تكون في أوائل القرن التاسع، ومعجم الثغري عبارة عن قائمة بأسماء الأعشاب ونحوها مما كان يتداوى به العرب مضافا إليه معلومات المؤلف الشخصية عن الأدوية المشاعة لدى الناس في عصره. فهو مثلا عندما ذكر كلمة (أفستين) قال إن أنواعه شيب العجوز المزدرع في الدور، أي في وقته هو. وفي حرف الباء ذكر كلمة (بهار) وعرفه بأنه خبز الغراب عندنا. ولكن المعجم فيه كثير من أسماء الأدوية عند الأجانب مكتوبة بحروف عربية. وطريقة الثغري في هذا المعجم أنه يذكر الدواء ثم يذكر منافعه (¬2). ولإبراهيم الثغري رسالة أخرى في الطب، وهي في الأدوية ومنافعها. ولا ندري الآن هل هي متصلة أو مكملة للمعجم والظاهر أنهما عملان مختلفان لأن طريقة كل منهما مختلفة. وقد قسم هذه الرسالة إلى أبواب بعناوين معينة فهو مثلا يذكر باب الاكتحال وباب صفة المعاجين، وباب صفة الأشربة، وباب سفوف ينفع من التخمة، وهكذا. وقد جاء في ورقة تشبه العنوان (الأدوية النافعة من برد الدماغ وهي مشتملة على أضمدة وأدهان وغيرها) أما عن الاكتحال فقد جاء فيه (من اكتحل بالأنسيون ينفع من السلا المتقادم). عندما تحدث الثغري عن المعاجين ذكر خصوصا صفة معجون الجزر وفوائده. وقد اشتملت الرسالة أيضا على أسماء لأدوية العينين وأدوية الأسنان ونحو ذلك (¬3). 2 - ويظهر أن الثغري لم يكن طبيبا وإنما كان متطببا، ويشبهه في اهتمامه وفي طريقته عبد الرزاق بن حمادوش في كتابه (الجوهر المكنون) الذي ألفه في القرن الثاني عشر والذي سندرسه في محله إن شاء الله. وفي ¬

_ (¬1) (البستان) 166. وقد كان الثغري معاصرا لابن خلدون وليس هو محمد بن يوسف الثغري الأديب الشاعر. (¬2) اطلعنا منه على نسخة بالمكتبة الملكية بالمغرب رقم 8544 مجموع. (¬3) المكتبة الملكية بالمغرب، رقم 8545. وتاريخ نسخها سنة 990. وهي في حوالي تسع ورقات.

منتصف القرن التاسع اشتهر أحد علماء بجاية بالتطيب أيضا وهو أبو الفضل محمد المشدالي. فقد درس الطب عن محمد بن علي بن فشوش في تلمسان، كما درس على غيره حتى أصبح من المشار إليهم في هذا العلم. ولكنه كان يكره أن يشتهر بالطب. ولعل ذلك يدل على أن هذه المهنة لم تكن تشرف الممتهنين لها في وقته، وإلا لكثر المدعون لها والمنتسبون إليها، كما كثر مدعو التصوف والمنتسبون إلى الفقه ونحوه. وقد يفسر لنا هذا ضعف الإنتاج العلمي في الجزائر خلال القرن التاسع. فالعلوم التي كانت تشرف أهلها هي علوم الفقه والتوحيد والتصوف والحديث. ومهما يكن الأمر فإن المشدالي قد أصبح في مهنة الطب (واحد عصره وفريد دهره)، على حد تعبير أحدهم، في المشرق. وكان الناس يلجأون إليه طلبا للدواء (¬1). ومع ذلك لا نعرف أن المشدالي قد ترك تأليفا في الطب. 3 - ومحمد بن يوسف السنوسي، الذي عرف بالزهد والتخصص في العقائد، أبى إلا أن يسهم في علم الطب أيضا. ولكن السنوسي لم يخرج في تناوله الطب عن اختصاصه. فقد ربط بين الطب والدين، بل إن موضوع الطب الذي عالجه هو مجموعة من الأحاديث الشريفة. والذي يهمنا بالدرجة الأولى أن السنوسي لم يكن يكره أن يشتهر بالطب كما كره ذلك المشدالي المعاصر له. فقد مدح علم الطب واعتبره شطر العلم معتمدا في ذلك على الحديث الشريف (العلم علمان: علم الأديان وعلم الأبدان). وقد فهم السنوسي بالعلم الأخير علم الطب، ولذلك ألف فيه رسالة صغيرة اعتمد فيها على شرح مجموعة من الأحاديث النبوية مثل (المعدة بيت الداء). كما شرح ¬

_ (¬1) الجيلالي 1/ 258 وقد توفي المشدالي في الشام سنة 866 وحياته جديرة بدراسة منفردة. فقد درس علوما شتى وسافر كثيرا وعرف من الحياة حلوها ومرها وصاحب ذوي السلطان والحظوة ومارس وظائف متعددة وجادل في مسائل عديدة حتى غير المسلمين. انظر حياته في رسالة أبي عصيدة المسماة (رسالة الغريب إلى الحبيب) التي تحدثنا عنها في قسم الأدب وكذلك رحلة عبد الباسط بن خليل. والظاهر من كلام عبد الباسط أن وفاة المشدالي كانت بالقاهرة.

الجملة الأخرى (الحمية رأس الدواء) وكذلك (وأصل كل داء البردة). وقد جاء في تفسير العبارة الأولى أن (الهضوم ثلاثة: هضم في المعدة وهضم في الكبد وهضم في سائر الأعضاء). ثم بين السنوسي أن الهضم الأول هو أهمها، ونصح بأن العاقل يقدم الطعام اللطيف قبل الغليظ واللين قبل القابض، وهكذا. والسنوسي في شرحه الطبي يذكر الأمراض ويشرح الأحاديث كما يصف العلاج. ومعنى ذلك أنه لم يكن يكتفي بالنقل بل كان يحكم من التجربة أيضا (¬1). 4 - وبالإضافة إلى الطب ساهم بعض الجزائريين في علوم أخرى، وخصوصا الحساب الذي له صلة قوية بعلم الفرائض. ومن هؤلاء ابن القنفذ الذي ألف كتابا في الحساب، لعله رسالة صغيرة، سماه (حط النقاب) ثم اختصره وسماه (التخليص في شرح التلخيص) وهو يعني بالكلمة الأخيرة كتاب (تلخيص أعمال الحساب) لابن البنا (¬2). فمختصره إذن هو من باب الشروح على أعمال الآخرين وليس عملا مستقلا. وقد عرف ابن القنفذ في تلخيصه بالمؤلف الأصلي (ابن البنا) وبين الغرض من الكتاب ومن علم الحساب. ومهمته فيه هي شرح العبارات والألفاظ الواردة في كتاب ابن البنا مع تبسيط له وتمثيل لمحتواه وهذه طريقة غير جديدة عند اللجوء إلى الشروح. وهناك عالم قسنطيني آخر اشتهر أيضا بعلم الحساب، وهو أحمد بن يونس ولكن شهرته فيه كانت في التدريس وليس في التأليف. وقد قيل إنه كان يقرئ الحساب في مكة وغيره (¬3). وساهم الجزائريون أيضا في علم الفلك والميقات، فألف ابن القنفذ شرحا على أرجوزة ابن أبي الرجال في الفلك والتنجيم. ثم رفعه إلى أحد ¬

_ (¬1) المكتبة الملكية بالرباط رقم 8544 مجموع. وشرح السنوسي هذا لا يتجاوز أربع ورقات. (¬2) الخزانة العامة بالرباط رقم 939 مجموع. وقد توفي ابن البنا سنة 721. (¬3) الجيلالي 2/ 266. وقد توفي أحمد بن يونس في المدينة المنورة سنة 878 انظر أيضا (البستان)، 210.

الوزراء المرينيين لاهتمام هذا الوزير بالعلوم العقلية. وقد مدح ابن القنفذ صاحب الأرجوزة على بيان فوائد وأسرار الدلالة الكلية على الحركات الفلكية بالإضافة إلى (الاستدلال بالطوالع على الكوائن) (¬1). وافتتح الشرح بعبارات تدل على اهتمام المؤلف ومدلول الكتاب فقد جاء فيه (الحمد لله الذي خلق الخلق بقدرته وميزهم بحكمته وكون الأشياء بأحسن كونها، ورفع السماء بغير عمد ترونها، وصور النجوم السائرة، والأفلاك الدائرة، وجعل فيها آية للمتوسمين وعبرة للمستنظرين ..). وقد أطال ابن القنفذ في الحديث عن الطوالع وعلاقة حركة الإنسان بحركة النجوم. وقسم الكتاب إلى أبواب مثل باب البيع وباب الفرائض وباب التزويج وباب خدمة السلطان وباب دخول الحمام وغير ذلك. كما ضمنه جداول فلكية متعددة وهامة وأنهاه بالدعاء للوزير بطول المودة وحفظ رتبته العلية. وهكذا يتضح أن ابن القنفذ كان يسير في نفس الخط الذي سلكه في بعض كتبه الأخرى. فروح التقليد هنا أيضا واضحة. ومع ذلك فإن تآليفه في العلوم كثيرة بالقياس إلى غيره. ومن جهة أخرى يتضح أن دافعه كان، بالإضافة إلى العلم، خدمة السلطان ورجال الدولة ورغبة في التقرب إليهم ونيل المراتب من أيديهم (¬2). 5 - يعتبر الحباك، وهو أبو عبد الله محمد بن أحمد بن يحيى، من أشهر من ألف في علم الأسطرلاب والهندسة. فله منظومة في الإسطرلاب أصبحت في نظر المتأخرين هي ألفية هذا العلم التي عليها يعتمدون ويجعلون ¬

_ (¬1) ذكر ذلك عبد الحي الكتاني في بداية المخطوطة التي نحن بصددها وهي رقم ح 31 مجموع بالخزانة العامة بالرباط. وقد توفي ابن أبي الرجال سنة 432 وتوجد نسخة من شرح ابن القنفذ في مكتبة جامعة برنستون الأمريكية (قسم يهودا) رقم 4629. (¬2) نفس المصدر، المقدمة. وقد رأيت في آخر هذا المجموع (ح 31) رسالة لأحد تلاميذ عبد الرحمن الوغليسي في الوقت ومعرفة أوقات الصلاة وانتقال الشمس ولكني لم أسطع قراءتها.

عليها الشروح والتعاليق ويلجأون إليها في التدريس. واسم هذه المنظومة (بغية الطلاب في علم الإسطرلاب) وقد بدأها بقوله: بحمدك اللهم نظمي ابتدي ... مصليا على الرسول أحمد وأرتجي أن تجزلن ثوابي ... على نظام (بغية الطلاب) وقسم الحباك منظومته إلى عناوين مفصلة، وهي أجزاء الإسطرلاب ورسومه وأخذ الارتفاع ومطالع البروج ومعرفة أصابع الظل وأقدامه والأوقات الخمسة والماضي من النهار والليل وما يلحق بهما والجهات الأربع ومعرفة الماضي من النهار بالجيوب (¬1). وفي هذا الميدان قام الحباك أيضا بشرح تلخيص ابن البنا المذكور سابقا كما جعل نظما على رسالة في الإسطرلاب كان قد كتبها الصفار، وله غير ذلك. ومما يذكر أن الحباك كان أحد شيوخ محمد السنوسي في الحساب وفروعه وهو الذي ناول تلميذه (بغية الطلاب) لشرحه فقام التلميذ بهذه المهمة خير قيام. وقد كان السنوسي، كما أشرنا، معروفا بالشروح والحذق فيها. وقد ربط السنوسي بين عمل الإسطرلاب والقيام بالواجبات الدينية كالصلاة فقال في مقدمة شرحه (إن أعظم القواعد التي كلفنا بها هي إقامة الصلاة. وكانت معرفة أوقاتها من أوجب الواجبات والطريقة إلى ذلك (أي عمل الإسطرلاب) من أشرف العلوم الشرعية .. ومن أجل الصنائع الموصلة إلى هذا المطلب الشريف (إقامة الصلاة) صناعة الإسطرلاب المعينات (كذا) على كثير من تدقيقات المعدلين والحساب. فهو أجل آلة شعاعية من الله سبحانه بإظهارها للإسلام، وأحسن ما تستخرج به المطالب النفسية على وجه الإيجاز مع التمام). ومدح السنوسي الإسطرلاب من حيث المظهر الفني أيضا. فقال عنه انه يمتاز (بزينة النقوش وأشكال الرسوم). أما فوائده فقد حددها بقوله إنه يمكن ¬

_ (¬1) المكتبة الملكية بالرباط رقم 6678 مجموع. عن حياة الحباك انظر (البستان) 219. وفيه أن وفاته كانت سنة 867.

صاحبه من معرفة حركات الأفلاك والكواكب ومن ظهورها واختقائها (¬1). وقد اعترف السنوسي بأن الحباك ليس أول من ألف في هذا العلم، بل سبقه إليه السابقون الذين منهم من أوجز ومنهم من أطنب. ولكن أفضل رسالة قرأها السنوسي في الموضوع، حسب تعبيره، هي رسالة (بغية الطلاب). وأوضح أن الحباك كان يرمي من ورائها إلى تسهيل حفظها على الطلاب وجعل درسها عذبا سائغا. ولكنها مع ذلك لم تخل من (صعوبة الفهم على كثير من الناس لضيق النظم) إذ لا بد من بسط الحديث وتفسير تراكيبها وغوامضها وألفاظها، لأن الكلام المنثور يوضح المنظوم. وبهذا برر السنوسي قيامه بشرح منظومة أستاذه الحباك .. وقد اتحبع الشارح طريقة الناظم في التبويب (¬2). وكما ألف الحباك في الإسطرلاب ألف كذلك في شكل آخر من الأشكال الهندسية، وهو الذي يسمونه بالربع المجيب وسمي كتابه فيه (نيل المطلوب في العمل بربع الجيوب) وقد أوضح دافعه إلى هذا التأليف في مقدمته حيث قال (لما كان الربع المجيب أحسن الآلات شكلا وأحقها عملا وأخفها حملا، مع استخراج الأعمال منه لجميع العروض للوقت المفروض، هجس في خاطري أن أقيد عليه رسالة، تذكرة لنفسي، ولمن شاء الله من جنسي) (¬3). أما المنهج الذي سار عليه فهو أنه جعل الكتاب في مقدمة وعشرة أبواب. وخصص المقدمة لبيان تسمية الربع المجيب وما يتصل بذلك. والباب الأول جعله في معرفة الجيب وجيب التمام والسهم والقوس والوتر واستخراج أحدهما من الآخر. والباب الثاني في معرفة الغاية وبعد القطر ¬

_ (¬1) المكتبة الملكية بالرباط رقم 6678 مجموع، وهو في حوالي مائة صفحة. والنسخة التي اطلعنا عليها منسوخة سنة 1191 هـ وخطها جيد لكن بدأ يعتريها التآكل. (¬2) نفس المصدر. والملاحظ أن السنوسي لم يجعل، حسب هذه النسخة، عنوانا خاصا بشرحه. (¬3) المكتبة الملكية بالرباط رقم 5266 والنسخة التي اطلعنا عليها لا تتجاوز ست ورقات من الحجم الصغير، وهي مكتوبة بخط واضح.

والأصل، والباب الرايع في معرفة نصف الفضلة وساعات الليل والنهار المستوية. والباب الخامس في معرفة الدائر وفضله. والباب السادس في معرفة الارتفاع من فضل الدائر. والباب السابع في معرفة سعة المشرق والمغرب. والباب الثامن في معرفة الارتفاع الذي لا سمت له. والباب التاسع في معرفة الظهر والعصر والفجر والشفق. والباب العاشر في الجمع والطرح والضرب والقسمة. وهذا التأليف، كما يتضح من محتواه وهدفه، يساعد على معرفة أوقات الصلاة وحركة النجوم والشمس والقمر وما يتصل بحياة الناس. وبالإضافة إلى ذلك شرح الحباك رجز الجابري المسمى (روضة الأزهار في علم وقت الليل والنهار) في الفلك. وسمى شرحه (تفجير الأنهار خلل روضة الأزهار) وهو شرح لا يتجاوز عشرين ورقة ولكنه مفيد (¬1). والذي يهمنا هنا ليس إبداع أو تقليد الحباك في هذا العلم ولكن مشاركته فيه بشكل جدي في عصر اتجهت فيه الأنظار إلى غير العلوم العقلية، كما يقول ابن القنفذ، وطغيان ذلك على كل شيء آخر. فالحباك من هذه الزاوية كان من العلماء الذين ساهموا مساهمة كبيرة في هذا الميدان، وقد أصبح هو بذلك شيخ الحسابين والفرضيين والفلكيين الجزائريين مدة طويلة (¬2). 6 - وهناك علوم أخرى ألف فيها الجزائريون واشتهروا بها في التدريس خلال القرن التاسع، ومنها علم المنطق. وقد نسب إلى أحمد بن يونس القسنطيني أنه كان مشاركا فيه وأستاذا (¬3). ¬

_ (¬1) الخزانة العالمة بالرباط رقم د 2023 مجموع. (¬2) من الذين كانت لهم مشاركة أيضا في علم الفلك، أحمد بن يونس القسنطيني الذي سبق ذكره. انظر الجيلالي 2/ 266. وقد نسب بروكلمان 2/ 367 إلى محمد بن أحمد الحسني المصمودي التلمساني (توفي سنة 897) عملا في الكيمياء سماه (الوافي في تدبير الكافي) انظر عنه أيضا (معجم المؤلفين) 8/ 286 ولعل هناك تحريفا في عنوان الكتاب. (¬3) الجيلاني 2/ 266.

وألف أبو الفضل المشدالي شرحا على جمل الخونجي في المنطق أيضا. وقد قيل إنه قام بذلك ملخصا ومحققا شروح من سبقوه عليها مثل ابن مرزوق وسعيد العقباني والشريف التلمساني وابن واصل الحموي (¬1). فكان المشدالي على اطلاع واسع بهذه المادة. ولذلك استطاع أن يقوم بعمله الصعب. وكان قد درس المنطق في القدس. ومن الذين كتبوا في المنطق أيضا محمد بن يوسف السنوسي الذي عرف بكتابه (المختصر). وهو الكتاب الذي أصبح موضوع تعاليق وشروح علماء الخلف، كما سترى. كما ألف ابن القنفذ عدة تآليف في المنطق أيضا منها (إيضاح المعاني) و (تلخيص العمل). وبهذه المناسبة نشير إلى المراسلة التي دارت بين السيوطي ومحمد بن عبد الكريم المغيلي حول الأخذ بعلم المنطق وأخذ علوم غير المسلمين، إذا كانت حقا. فقد كان السيوطي نهى عن علم المنطق وأورد ما قاله بعض العلماء في ذمه. كما أورد أخبارا في ذم المسلمين الذين يأخذون بعلوم اليهود والنصارى - ونهى أيضا عن تقليد هؤلاء في علومهم. لكن المغيلي رد حججه وقال إن المنطق هو الحق أو هو المؤدي إلى الحق وأن أخذ الحق يجوز من غير المسلمين لأن معرفة الناس بالحق هي المبدأ المعتمد وليس معرفة الحق بالناس. وبذلك يظهر لنا من جديد تحرر عقل المغيلي وبعد نظره في عصر سيطرت فيه آراء السيوطي وأمثاله. وللمغيلي مؤلفات وآثار في المنطق أيضا، منها (شرح الجمل). ومما يدل أيضا على تحرر المغيلي العقلي نقده لأدعياء التصوف عندئذ (¬2). ¬

_ (¬1) نفس المصدر، 2/ 251 وهنا وهناك. (¬2) من ذلك تأليفه (تنبيه الغافلين عن مكر الملبسين بدعوى مقامات العارفين) وهو عنوان يذكرنا بعنوان كتاب عبد الكريم الفكون في نفس الموضوع وهو (منشور الهداية في كشف حال من ادعى العلم والولاية). وللمغيلي أيضا تأليف في نفس المعنى وهو (فتح الوهاب في رد الفكر إلى الصواب).

القراءات والتفسير والفقه

ولا شك أن هناك آخرين قد اهتموا أيضا بعلم المنطق لأننا لاحظنا أن علماء هذا العهد كانوا مشاركين في عدد من العلوم. القراءات والتفسير والفقه 1 - ومن هذه العلوم علم القراءات ورسم القرآن. والجزائريون الذين تناولوا هذا الموضوع قلة نسبيا. وأحد هؤلاء القلة محمد بن عبد الله بن عبد الجليل التنسي، مؤرخ بني زيان، الذي سبق ذكره. فقد ألف كتابا سماه (الطراز في شرح الخراز) وأوضح أن سبب تأليفه يعود إلى أنه رأى من تناول نظم الشريشي المعروف بالخراز في علم الضبط (أي ضبط القراءات والرسم): إما اختصره اختصارا وإما أطال فيه إطالة مملة. لذلك عزم هو على وضع شرح على نظم الخراز يكون وسطا بين الاختصار والإسهاب (ويكون أنشط لقارئه وأقرب لفهم طالبه) والمعروف أن الخراز قد وضع نظما تناول فيه علم الرسم سماه (عمدة البيان) وهو يعني بالرسم هنا رسم خطوط المصاحف كبيان الزائد والناقص والمبدل وغيره. أما ما يرجع إلى علامة الحركة والسكون والشد والمد والساقط والزائد فهو ما يعرف (بعلم الضبط). ولذلك جاء في نظم الخراز هذا البيت: هذا تمام نظم رسم الخط ... وها أنا أتبعه بالضبط وفي المعنى الأخير ألف التنسي شرحه الذي نحن بصدده (¬1). ومن جهة أخرى وضع محمد بن أحمد المصمودي رجزا في القراءات سماء (المنحة المحكية للمبتديء القراءة المكية) تناول فيه أوجه الخلاف بين قراءة عبد الله المكي وقراءة الإمام نافع. وقد ابتدأه بسورة البقرة وانتهى بسورة الناس، وهو رجز سهل. ومما جاء فيه: يقول عبد للعظيم الجود ... محمد بن أحمد المصمودي ¬

_ (¬1) يوجد ضمن مجموع رقم ص 972 بالخزانة العامة بالرباط وخط هذه النسخة جيد. وفيها المتن والشرح معا وليس عليها اسم ناسخ ولا تاريخ.

وبعد فالقصد بذا النظام ... تقريب فهم مقرا الإمام الفاضل السني عبد الله ... نجل كثير ذي الثنا والجاه نزيل مكة التي قد شرفت ... بالبيت ذي الأمن العميم واكتفت وذاك فيما خالف الإماما ... المرتضى نافعا على ما (¬1) 2 - وباستثناء العناية بالسيرة النبوية فإن التأليف في علوم الحديث لم تتقدم تقدم الدراسات الفقهية وغيرها من العلوم الشرعية. حقا إن بعض العلماء قد تركوا فهارس بالعلوم التي قرأوها، ومنها على الخصوص كتب الحديث. ومن هؤلاء أحمد الونشريسي ومحمد الغربي القسنطيني وعبد الرحمن الثعالبي ومحمد بن عبد الكريم المغيلي. كما أن الإجازات قد بدأت تشيع بين العلماء. وهي غالبا ما تكون في العلوم الدينية. وقد اشتهر من المحدثين في القرن التاسع: التنسي والثعالبي. 3 - أما التفسير فقد ضعفت العناية به. فكان بعض العلماء يتناولونه في مجالسهم ودروسهم ولكن قلما ألفوا فيه. ولولا تفسير عبد الرحمن الثعالبي المعروف (بالجواهر الحسان) لما وصل إلينا تفسير مكتوب من القرن التاسع. وينسب للمغيلي تفسير بعنوان (البدر المنير في علم التفسير) ولكننا لا نعرف أنه وصل إلينا منه شيء. وينسب أيضا لأبي جميل إبراهيم بن فائد الزواوي تفسير مكتوب للقرآن الكريم. غير أننا لا ندري إن كان هذا العمل قد أنقذ من الضياع. ولا شك أن هناك تفاسير أخرى مكتوبة لم نسمع بها. وما دام تفسير الثعالبي هو الوحيد الذي وصل إلينا من القرن التاسع، فلنتوقف عنده قليلا. فقد سماه (الجواهر الحسان في تفسير القرآن) وهي تسمية واضحة وبسيطة. وانتهى منه في 25 ربيع الأول سنة 833، كما جاء في آخر الجزء الثاني. ومعنى ذلك أن الثعالبي قد عاش حوالي أربعين سنة بعد تأليفه، فهو إذن من أوائل مؤلفاته. ومما يستغرب في هذا الصدد هو ¬

_ (¬1) مخطوط باريس، مجموع رقم 1057 من ورقة 195 إلى 206. وقد سبق أن قلنا إن المصمودي قد توفي سنة 897. انظر أيضا بروكلمان 2/ 367.

جمع الثعالبي، وهو في مقتبل العمر، كل المعارف التي أوردها أو أشار إليها في كتابه. فرغم أنه اعتمد فيه على تفسير ابن عطية فقد رجع أيضا لقريب من مائة تأليف، كما صرح هو بذلك. ومن هذه التآليف تفسير الطبري. وقد تحرى الثعالبي الحقيقة والرواية حتى أنه كان لا ينقل شيئا إلا بلفظ صاحبه خشية الوقوع في الخطأ. وهذه عبارات الثعالبي وهو يقدم تفسيره للقراء (فقد ضمنته بحمد الله، المهم مما اشتمل عليه تفسير ابن عطية وزدته فوائد جمة من غيره من كتب الأيمة، وثقاة أعلام هذه الأمة، حسبما رأيته أو رويته عن الاثبات، وذلك قريب من مائة تأليف. وما منها تأليف إلا وهو منسوب لإمام مشهور بالدين ومعدود في المحققين. وكل من نقلت عنه من المفسرين شيئا فمن تأليفه نقلت وعلى لفظ صاحبه عولت، ولم أنقل شيئا من ذلك بالمعنى خوف الوقوع في الزلل) (¬1). وهناك ناحية أخرى مهمة في (الجواهر الحسان) وهي كشفه عن تصوف الثعالبي المبكر. فرغم أنه كان ما يزال في ريعان الشباب، كما أشرنا، فإن الكتاب قد تضمن رؤى صوفية ومواعظ لا تخرج عن هذا الميدان. فقد روى الثعالبي في آخر الجزء الثاني أنه رأى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عدة مرات أثناء اشتغاله بالكتاب، وأنه آكله وزار بيت كتبه ودعا له، كما أخبر أن بعض أصحابه (الثعالبي) قد أخبروء أنهم رأوا بعض الصحابة. ونحو ذلك من المرايا التي قلنا إنها شاعت في ذلك الوقت. وقد نصح الثعالبي بعد ذلك بقراءة تفسيره والعمل به لكي تحصل به البركة لمن قرأه. وأخبر أن كتابه قد أصبح معروفا ومقروءا بكثرة في حياته (¬2) وأنه يحتوي على أسرار صوفية لا يدركها إلا أربابها، أهل الذوق الصوفي. واعتبر حديثه على تفسيره بهذه الصفة من باب التحدث بالنعمة. وهذه هي عبارته في ذلك (إني رأيت لكتابي هذا المسمى ¬

_ (¬1) مخطوط المكتبة الوطنية بباريس، رقم 460 في جزئين، وهو من أقدم النسخ وأجودها. (¬2) أخبر الرحالة عبد الباسط بن خليل أنه درس قليلا منه على الثعالبي وأن هذا قد أجازه. نشر تفسير الثعالبي أوائل هذا القرن، كما أعيد نشره بعد الاستقلال.

أحمد الونشريسي

بالجواهر الحسان في تفسير القرآن .. عجائب وأمورا مباركة لا يمكنني الآن استيفاء جمعها وبعضها (كذا)، وأخشى أن يكون من باب إفشا (كذا) أسرار الله التي لا يمكن ذكرها إلا بإذن من أهلها، أهل الذوق). 4 - وقد تناولنا في بداية هذا الفصل تطور الدراسات الفقهية بعد دولة الموحدين وعرفنا أن الاهتمام أصبح منصبا على الفروع بدل الأصول. وأشرنا إلى أن هذا الاهتمام بالفرع قد تسبب أولا في ضعف الدراسات العقلية عامة والعناية بالكليات، وتسبب ثانيا، في ابتعاد الدراسين عن الفقه أصلا والدخول في حظيرة التصوف والزهد. ومعظم العلماء المؤلفين في القرن التاسع تركوا مؤلفات في الفقه وفروعه، شرحا وحاشية وتقييدا. وليس من غرضنا سرد هذه الآثار التي تذكر عادة في ترجمة كل عالم، مثل ابن القنفذ والمغيلي والسنوسي. ومن الكتب التي سارت في ركب الفروع الفقهية كتب النوازل. وقد اشتهر في القرن التاسع مؤلفان في هذا الباب أحدهما يحيى المازوني والثاني أحمد الونشريسي الذي أدرك أيضا القرن العاشر. ونود أن نخصص مساحة واسعة من هذا الفصل لأحمد الونشريسي لأنه يعتبر قمة في ميدان الفروع الفقية ولأنه عاش أيضا في القرن العاشر الذي نحن بصدد التركيز عليه. فهو، من هذه الناحية، يشكل الجسر الذي عبرت به هذه الدراسات إلى العهد الثاني. ذلك أن كتابه (المعيار) بما احتوى عليه من فتاوي أهل الأندلس والمغرب وتونس والجزائر يعتبر موسوعة حية للفقه المالكي في المغرب العربي. أحمد الونشريسي ولعله ليس من قبيل الصدف أن يموت الونشريسي في نفس السنة التي استولى فيها الإسبان على وهران (¬1). وقد توفي عن ثمانين سنة مهاجرا في مدينة فاس فارا من سلطان تلمسان، كما عرفنا، وكان الونشريسي موضوع ¬

_ (¬1) أي سنة 914 الموافق سنة 1508.

ترجمة عدد من المؤلفين (¬1) ومن الغريب أنهم لا يذكرون أين ولا متى ولد (¬2). والمهم أنه نشأ وتلقى تعليمه في تلمسان على عدد من مشائخها، ومن أشهر هؤلاء محمد بن العباس وأحمد بن زكري ومحمد الجلاب وأربعة من أسرة العقباني (قاسم وأبي سالم ومحمد وإبراهيم) وابن مرزوق الكفيف والغرابلي. وقد ترك هو (فهرسة) ذكر فيها شيوخه والعلوم التي تلقاها عليهم، على العادة في ذلك. وحضر بعد هجرته إلى مدينة فاس سنة 874 دروس قاضيها محمد بن الغرديس. ولم يذكر مترجموه أنه حج بيت الله أو أنه ارتحل في سبيل العلم إلى عواصم العالم الإسلامي، كما كان حال كثير من معاصريه. وبعد أن تمكن الونشريسي من علوم عصره، وخصوصا الفقه والنحو والبيان، تولى التدريس في تلمسان. وأشهر الكتب التي تولى تدريسها المدونة وفرعا ابن الحاجب وغيرها من أمهات الفقه المالكي. وكان له اهتمام ومشاركة في عدد من العلوم الأخرى كالوثائق والأصول والتواريخ والفرائض، بالإضافة إلى قرض الشعر. وقد تولى الونشريسي الفتوى في تلمسان أيضا وقيل عنه إنه كان لا يخاف في الدين أحدا. ذلك أن سلطان تلمسان في وقته قد غضب منه سنة 874 ولا ندري ما سبب هذا الغضب (¬3) ولكن الكتب تتحدث عن آثاره عليه فقط. فقد نهبت دار الونشريسي وهددت ¬

_ (¬1) من الذين ترجموا له ابن القاضي في (جذوة الاقتباس) ط المغرب سنة 1891 والكتاني في (سلوة الأنفاس) 2/ وابن مريم في (البستان). وقد اعتمدنا نحن على هذه الكتب كما عدنا إلى كتبه هو لدراسة حياته. (¬2) جاء في آخر كتابه (الفائق في الوثائق) أنه ونشريسي الأصل تلمساني المنشأ فاسي الدار والمقر، نسخة باريس رقم 3435. وجاء في رسالة (المبدي لخطأ الحميدي) أنه ونشريسي مولدا تلمساني منشأ، فهو من أهل الريف الواردين على تلمسان (؟). (¬3) يظهر أن هذا السلطان، وهو محمد بن أبي ثابت المعروف بالمتوكل كان معتل المزاج شكاكا فيمن حوله. فقد أخبر عبد الباسط بن خليل في رحلته أن هذا السلطان قد عزل أيضا محمد القصار، خطيب جامع البيطار بوهران بدون سبب، اللهم إلا ما بلغه من أن الشيخ كان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.

حياته فلم يسعفه إلا الفرار إلى المغرب حيث استوطن مدينة فاس وسكن بجوار القرويين ووجد من سلطانها الأمن والاعتبار. وتولى هناك تدريسنفس الكتب التي ذكرناها وتوسعت آفاق معارفه بالتعرف على علماء جامع القرويين والاستفادة من خزائن كتب فاس في أبحاثه. وكانت دروس الونشريسي حافلة وذات شهرة واسعة. ولا يعود ذلك إلى غزارة علمه وتمكنه من مادته فقط بل يعود أيضا إلى فصاحة قلمه ولسانه معا. وتذكر مصادر ترجمته أنه كان لا يبارى في الفقه كما كان لا يباري في النحو أيضا، ويستدلون على ذلك بالنسبة للفقه بأن من لا يعرفه يقول إنه لا يحسن غير الفقه كما أن من رآه في درس النحو وإجادة العبارة والتمكن من القواعد يقول لو كان سيبويه حيا لتتلمذ عليه (¬1). وعلى ما في هذه الأقوال من مبالغة فإنها تدل على مكانة الونشريسي بين معاصريه في هاتين المادتين الأساسيتين عندئذ. وهم يذكرون أيضا عددا من التلاميذ الذين تخرجوا عليه. ومنهم ابنه عبد الواحد الونشريسي وأبو محمد عبد السميع المصمودي ويحيى السوسي، ومحمد بن عبد الجبار الورتد غيري (¬2). وقد ترك الونشرسي عددا من التآليف التي ما يزال بعضها يحتفظ بقيمته إلى اليوم ومن ذلك موسوعته (المعيار المعرب والجامع المغرب عن فتاوي علماء إفريقية والأندلس والمغرب) و (إيضاح المسالك على قواعد الإمام مالك) و (المنهح الفائق والمنهل الرائق والمعنى اللائق بآداب الموثق وأحكام الوثائق). ومعظم المؤلفين يذكرون الكتاب الأخير مختصرا هكذا (الفائق في الوثائق). وله أيضا (تعليق على مختصر ابن الحاجب) في ثلاثة أجزاء و (غنية المعاصر والتالي في شرح وثائق القشتالي) و (أجوبة فقهية) وتدعى أحيانا أجوبة أو فتاوي الونشريسي و (فهرسة) بشيوخه و (الوفيات) (¬3). ¬

_ (¬1) ابن مريم (البستان)، 35. وابن القاضي (جذوة الاقتباس) 82. (¬2) انظر (سلوة الأنفاس) 2/ 154. (¬3) نفس المصدر 155 وقد نسب إليه ابن القاضي تأليفا في الفروق. كما قال إنه كان ينظم الشعر.

ذكر الونشريسي في مقدمة كتابه (المعيار) أنه جمع فيه فتاوي (المتأخرين والعصريين) من علماء الأندلس والمغرب العربي. ولكنه لم يقتصر على المتأخرين فقد أضاف إليه فتاوي الذين تقدموهم أيضا وخصوها تلك النصوص التي تعسر العودة إليها لغير المختصين. وصرح بأسماء المفتين إلا في النادر، كما صرح بنصوص الاستفتاء والجواب عنه ولا يستشهد بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية إلا قليلا لأن اعتماده الأصلي على النصوص التي يعزوها إلى أصحابها. فـ (المعيار) من هذه الناحية عبارة عن التجارب المعاشة الموثقة وليس دراسة نظرية أو افتراضية لمسائل فقهية. وقد رتبه على أبواب طبقا لأبواب الفقه المعهودة (ليسهل الأمر فيه على الناظر) (¬1). فقد ذكر أنه حقق ما كان يبغي رغم (مزاحمة الأشغال وتغير الأحوال) وأنه مع ذلك لم يستطع أن يضم إليه كل الأجوبة التي وقعت بين يديه. فقد قال (قد أتيت من هذه الأجوبة الباهرة والفتاوى الواضحة الظاهرة على ما شرطت وعليه ربطت والله قصدت .. وتركت أجوبة كثيرة من الفقه والأحكام، مما لا تضطر إليه القضاة والحكام) (¬2). ولا ندري كم كان سيقع (المعيار) من جزء لو أضاف إليه الونشريسي تلك (الأجوبة الكثيرة) التي تركها، فهو، مع تركها، قد جاء في اثني عشر جزءا في النسخة المطبوعة. ولا ندري أيضا متى بدأ الونشريسي يؤلف (المعيار). ولكنه على كل حال، قد انتهى منه أثناء وجوده بالمغرب، وبالضبط سنة 901، كما صرح بذلك في خاتمة الكتاب. فإذا عرفنا أن الكتاب في هذا الحجم الكبير وأنه جعل في كل جزء منه مجموعة من النوازل الفقهية في شكل أبواب استطعنا أن نعرض باختصار المحتوى لكل جزء على الصورة التالية: ففي الجزء الأول مجموعة من النوازل مرتبة هكذا: نوازل الطهارة والصلاة والجنائز. والزكاة والصلاة ¬

_ (¬1) انظر الجزء الأول من (المعيار) ط. المغرب سنة 1309، 2. وقد طبع المعيار طبعة جديدة ذات فهارس مفيدة، دار الغرب الإسلامي، بيروت. (¬2) نفس المصدر، 12/ 261.

والاعتكاف ثم نوازل الحج. وكان المؤلف يشرح هذه النوازل. بما يناسب ويوضح معانيها ويزيل إبهامها. وهي طريقة اتخذها في جميع الأجزاء وجميع النوازل. وفي الجزء الثاني ذكر نوازل الصيد والذبائح والأشربة والضحايا ونوازل النذور والإيمان، ونوازل الجهاد والدماء والحدود والتعزيرات. وقد ضمن هذا الجزء فصلا سماه (المستحسن من البدع) (¬1). وخص الجزء الثالث كله بنوازل النكاح وما تشعب عنه من مسائل العلاقات بين العائلات والآثار، مع أسئلة وأجوبة للمؤلف نفسه. أما الجزءان الرابع والخامس فقد خصهما بنوازل في الأحوال الشخصية والاقتصادية. فالأول منهما تناول فيه الخلع والنفقات والحضانة والرجعة ونوازل التمليك والطلاق والعدة والاستبراء ونوازل الرضاع. كما خص الجزء الخامس بنوازل المعارضات والبيوع ونحو ذلك من الأسئلة والمناظرات التي وقعت بين علماء عصره حول هذه القضايا. وعالج في الجزء السادس مسألة بيوع وقعت في بجاية بين عالميها المشدالي وابن الشاط. ثم تحدث عن نوازل الرهن والصلح والحمالة والحوالة والمديان والتفليس وغيرها. ويعتبر الجزء السابع خاصا بنوازل الأحباس والتعليم وعادات أهل الأندلس والمغرب في ذلك، وكذلك مؤسسات التعليم كالمساجد. لكن الونشريسي يعود إلى المعاملات في الجزء الثامن إذ يجعله في مسائل من المياه والمرافق ونوازل الشفعة والقسمة والمزارعة والمغارسة والمساقاة والشركة والقراض، ونوازل الإجارات والأكرية والصنائع ونوازل الضرر والبنيان، وكلها أمور تكشف أسئلتها وأجوبتها على روح العصر. ومشاكله (¬2). وقد أكمل في الجزء التاسع بقية نوازل الضرر والبنيان. ثم ¬

_ (¬1) تولى السيد هنري بيريس الفرنسي استخراج هذا الفصل وطبعه على حدة في الجزائر في كتيب سنة 1946. (¬2) خصص المستشرق الفرنسي جاك بيرك دراسة هامة للمعيار واستنتج منه عدة استنتاجات تتعلق بأحوال العصر السياسية والاقتصادية والاجتماعية انظر (المجلة التاريخية للقانون الفرنسي والأجنبي) سنة 1949.

تحدث عن نوازل الوديعة والعارية ونوازل الهبات والصدقات والعتق ونوازل الوصايا وأحكام المحاجير. وتناول في الجزء العاشر نوازل الأقضية والشهادات والدعاوى والأيمان، ونوازل الوكالات والإقرارات والمديان. وتعتبر نوازل الجزء الحادي عشر والثاني عشر نوازل علمية واجتماعية هامة بالنسبة لدارس الكتاب. ففي الحادي عشر ذكر نوازل الجامع وأحكاما عامة مفيدة كالإجازة في التعليم والفتيا وحكم سماع الموسيقى وحضور اللهو وحكم حلقات الذكر. أما الثاني عشر فقد جعله أحكاما عامة عن التقليد عند العلماء وحكم القياس والتصوف والنسب وغير ذلك (¬1). ولو درس الباحثون كتاب (المعيار) دراسة اجتماعية لخرجوا منه بكنز كبير في معرفة أحوال العصر وأحوال المجتمع المغربي عامة، بالإضافة إلى معرفة آراء المؤلف نفسه في محيطه وقضايا عصره. فنوازل البدع والإجازة في التعليم والفتيا وحكم سماع الموسيقى والتصوير وحكم حلقات الذكر وقضية القياس والموقف من التصوف ورجاله، ومن تقليد العلماء أو استقلالهم كلها أمور تستحق الاهتمام اليوم، كما كانت في وقته. فمثلا أورد الونشريسي رأي أحد العلماء (وهو إبراهيم الشاطبي) في الأيدي التي يصنعها الشماعون من الشمع وما يصنع منها من العجينة. وقد أجاب الشاطبي بتفصيل الموضوع، ولكنه انتهى إلى تجويز ذلك الصنع لأن الصورة في رأيه ليست هيئة كاملة للحيوان المنهي عنه في التصوير، وبالقياس انتهى أيضا إلى أن تصوير بعض أجزاء الحيوان جائز (ومنع تصوير حيوان كامل الهيئة) إلا إذا كان المقصود من التصوير اللعب واللهو (¬2). ¬

_ (¬1) يبدو ان الونشريسي لم يخطط كتابه ليكون اثني عشر جزءا، ولكنه خططه على نحو أقل من ذلك (6 أجزاء) وهذا ما جعل صاحب (سلوة الأنفاس) يقول إن (المعيار) يقع في ستة أجزاء 2/ 154، ويبدو أن هذا أقرب إلى الصواب ومنطلق الكتاب حسب منهج صاحبه. (¬2) الونشريسي (المعيار) 11/ 87. درسنا (المعيار) من جديد في بحث كلفتنا به جامعة آل البيت حول مناهج البحث عند علماء المسلمين، ربيع 1997 ورجعنا فيه إلى الطبعة الجديدة.

ان قيمة (المعيار) لا تظهر فقط في كونه موسوعة للفقه المالكي في المغرب العربي والأندلس ولكن في القضايا الاجتماعية والسياسية والعلمية التي يحتوي عليها. ولقد صدق من قال إن الونشريسي قد (فاق به الأوائل والأواخر) (¬1). وأجدر بالجزائر أن تحتفل بصاحبه وأن تهتم بآثاره، وأحرى بالدارسين أن ينكبوا عليه، كل في ميدانه، ويستخرجوا منه خمائر المجتمع في ذلك العهد للاستفادة منها اليوم. وبالإضافة إلى (المعيار) ألف الونشريسي كتابا آخر في الوثائق وهو الذي نشير إليه هنا باسمه المختصر (الفائق في الوثائق). وقد قال إن الذي دفعه إلى كتابته اقتناعه بأهمية وشرف علم الوثائق وإهمال الناس له في عصره. وادعى أن الطريقة التي كتبه بها تغني مطالعه عن العودة إلى غيره. وقسمه إلى ستة عشر بابا نعرضها هنا باختصار: 1) حكم الكتب والاشهاد ومشروعيتهما. 2) شرف علم الوثائق وصفة الموثق وما يحتاج إليه من الآداب. 3) حكم الإجارة والشركة. 4) ما ينبغي للموثق أن يحترز منه. 5) في الأسماء والأعداد والحروف التي تذهب وتغير بإصلاح يسير. 6) ما عليه مدار الوثائق. 7) التأريخ للوثيقة بالليالي أو بالأيام. 8) حكم الاعتذار عما يقع في الوثيقة من خلل. 9) كيفية وضع الشهادات. 10) الألفاظ التي يتوصل بها الموثق إلى إجازة ما لا يجوز شرعا. 11) العقود التي يجب فيها ذكر الصحة أو عدمها. 12) العقود التي لا بد فيها من معرفة ذكر القدر. 13) العقود التي ينبغي للموثق أن يضمر فيها معاينة القبض. ¬

_ (¬1) الكتاني (سلوة الأنفاس) 2/ 154.

14) العقود التي ليس على الشاهد قراءتها. 15) ذكر ما تخالف فيه وثائق الاسترعاء سائر الوثائق. 16) جعله، كما قال، (لباب اللباب وخاتمة ما تقدم من الأبواب). وكل باب من الأبواب السابقة قسمه إلى فصول، والونشريسي في (الفائق) يستشهد بكلام السابقين من علماء المشرق والمغرب، ويظهر فيه براعته الفقهية في النقول والأسلوب والتبويب والروح. وهو كتاب ضخم يشهد لصاحبه أيضا بالتمكن والاطلاع في هذا الفرع الخاص من فروع الدين الإسلامي (¬1). وساعدنا الحظ فاطلعنا على مخطوطين آخرين للونشريسي وهما (إيضاح المسالك) وأجوبة أو فتاوى الونشريسي، وكلاهما سبق ذكره. والنسخة التي رأيناها من الأول لا تكاد تقرأ لأن الأرضة كادت تأتي عليها. والكتاب كما يدل عنوانه في فقه الإمام مالك الذي يعد الونشريسي أحد فحوله. وقد أجاب به أحد السائلين، كما قال، ولعل ذلك منه مجرد جري على مقتضى العادة. أما الدافع الأصلي لتأليفه فهو إفادة الطلاب لأن الونشريسي، كما عرفنا، كان مدرسا في هذه المادة (¬2). أما (أجوبة الونشريسي) فهي كذلك في النوازل الفقهية. وهي كما يدل العنوان، أجوبة على أسئلة وردت عليه من المعاصرين في الموضوع. ولا غرابة في ذلك فالرجل كان مفتيا في تلمسان، ورغم أنه لم يتول الإفتاء رسميا في فاس فإنه كان يسهم بآرائه في مسائل الفقه المتداولة (¬3). وبالإضافة إلى ما ذكرناه له من ¬

_ (¬1) اطلعنا على نسخة باريس رقم 5455. وهي من نسخ محمد بن عمرو الزموري، وبدون تاريخ، لكن خطها رديء لا يكاد يقرأ. وهي تقع في 191 ورقة وقد قال الجيلالي 2/ 327 بأن (الفائق) لم يكمل. (¬2) اطلعنا على نسخة الخزانة العامة بالرباط رقم 696 وتقع في 274 صفحة في حجم وسط. (¬3) هذا مخطوط أيضا في الخزانة العامة بالرباط رقم ك 684. وهو في حجم كبير (177 ص) ولرداءة الحبر أصحت أجزاء بعض الصفحات لا تكاد تقرأ.

التآليف ترك أحمد الونشريسي ثروة كبيرة من الفتاوى والردود والمباحث. من ذلك (إضاءة الحلك في الرد على من أفتى بتضمين الراعي المشترك) (¬1) و (المبدي لخطا الحميدي) (¬2) و (رسالة في المسائل الفقهية) (¬3). ونحو ذلك. وقد تركت وفاة الونشريسي فراغا كبيرا في ميدان الفقه ولم يستطع أحد أن يملأه بعده. ولا يوجد في العصر العثماني، على طوله، من بلغ رتبة الونشريسبي في الفقه المالكي تأليفا ودرسا. ولذلك صدق الذين رثوا الونشريسي بأنهم فقدوا بفقده منارة عالية في الفقه المالكي وأن المغرب العربي قد خلا بعده من أمثاله. وقد اشترك في رثائه عدد من العلماء والشعراء. ويكفي أن نورد هنا ما أورده أحمد المقري في كتابه (أزهار الرياض) من رثاء منسوب إلى محمد الوادي آشي الغرناطي نزيل تلمسان، وهو هذه الأبيات: لقد أظلمت فاس بل الغرب كله ... بموت الفقيه الونشريسي أحمد رئيس ذوي الفتوى بغير منازع ... وعارف أحكام النوازل أوحد له ذربة فيها ورأي مسدد ... بإرشاده الأعلام في ذاك تهتدي وتالله ما في غربنا اليوم مثله ... ولا من يدانيه بطول تردد (¬4) ولكن الدراسات الفقهية لم تبدأ بالونشريسي. فقد عرفنا أن القرن التاسع شهد إنتاجا غزيرا في هذا الاختصاص وكثر المدعون لمعرفته عن حق أو عن غير حق. ومن أشهر من تقدموا فيه أساتذة الونشريسي نفسه، ومنهم ¬

_ (¬1) نسخة منه في مكتبة جامعة برنستون الأمريكية (قسم يهودا) رقم 350 مجموع. وقد كتبه بفاس سنة 876. (¬2) في نفس المصدر. وقد ضمنه آراء هامة في الاجتهاد وشرور الزمان وهاجم فيه المتصوفة. (¬3) نفس المصدر، رقم 178 مجموع، والأخير إجابة لسؤال وجهه إليه الشيخ محمد بن قاسم القوري المتوفي سنة 872. (¬4) أورد هذه الأبيات صاحب (سلوة الأنفاس) 2/ 155.

كتاب الافتتاح للقسنطيني

يحيى المازوني صاحب النوازل، ومنهم العقبانيون والمرزوقيون ومحمد بن عبد الكريم المغيلي وأحمد المغراوي (¬1) ومحمد السنوسي وابن القنفذ. ولكن الونشريسي فاق جميع هؤلاء في الفقه وفروعه تأثيرا وقوة وجمعا وتأليفا. ولذلك قلنا في بداية هذا الفصل ان هجرته كانت خسارة على بلاده فلو ظل فيها لبقي يؤثر في تلاميذها وفي مجتمعها وحتى حياتها السياسية، لأنه كان معروفا بقوة عارضته في الحق وعدم جعل الدين في خدمة السلطان. كتاب الافتتاح للقسنطيني وفي باب النوازل أيضا نذكر كتابا قل من أشار إليه، وهو (الافتتاح من الملك الوهاب في شرح رسالة سيدنا عمر بن الخطاب) الذي ألفه محمد بن محمد بن أبي القاسم الغربي الميلي القسنطيني (¬2) وهو كتاب، كما يشير عنوانه، في تحليل وشرح رسالة عمر بن الخطاب في القضاء، التي بعث بها إلى أبي موسى الأشعري. وقد افتخر محمد الغربي القسنطيني بأنه لم يسبق إلى شرح الرسالة وأنه جاء في شرحه بأمور جليلة. وأكد عبد الكريم الفكون أن مؤلف (الافتتاح) قد ضمن شرحه أحكاما وتواريخ ومسائل اعتقادية وصوفية وحكايات لم يسبق إليه (¬3). وقد تولى القسنطيني نفسه قضاء الجماعة وله عدة تآليف في الفتاوى والتعليقات وله فهرسة بشيوخه. وبعد ¬

_ (¬1) انظر عنه الجيلالي 2/ 108 وقد نقل عن السخاوي ان ابن قاضي شهبة قال إنه لم يعرف مثله في مصر وبلاد الشام في علماء المالكية وأنه كان يناظر ابن خلدون ويفتي عليه. وتوفي المغراوي سنة 820. (¬2) المكتبة الملكية بالرباط رقم 961، وهو في مجلد وبخط جيد. (¬3) الفكون (منشور الهداية في كشف حال من ادعى العلم والولاية) مخطوط صفحة 11. وهو فيه أحمد وليس محمدا. وقد أفادني الشيخ محمد الطاهر التليلي القماري بأن في (إعلام الموقعين) لابن القيم الجوزية شرحا أيضا على رسالة عمر بن الخطاب. فلعل محمد القسنطيني لم يطلع عليه في وقته. وقد حققنا (منشور الهداية) ونشر سنة 1987.

انتقاله إلى تونس في عهد السلطان الحفصي أبي عمرو عثمان (حكم من 839 إلى 893) تولى القضاء أيضا هناك. وكان لهذا السلطان مجلس علمي تدور فيه محاورات العلماء في فنون الشريعة والمواعظ والآداب والنكت فتكلم محمد الغربي القسنطيني على الرسالة في مجلس السلطان. ولعله نال بذلك رضى السلطان وإعجاب العلماء. فقد كرر، كما قلنا، عبارة (لم أسبق بشرح عليها) وكان دافعه إلى القيام بهذا العمل الضخم كون الرسالة قد (صرحت من علم القضاء بقواعد أصوله ولوحت إلى باقي تفاريع فصوله) فبدا له أن يضع عليها تقييدا بين الإطناب والإيجاز. وقد ذكر نص الرسالة وروايات الرواة لها وشرح ألفاظها ثم جاء بنسب عمر بن الخطاب وأخبار الخلفاء وأخبار القضاة وشروط القضاء وأخبر أن شروط القاضي الصبر وحسن الخلق. كما أورد أخبارا عن التصوف ومرويات عن الفقهاء ونحو ذلك من المسائل التي كانت تهم جلاس مجلس السلطان العلمي، وتدل على حذقه في الحفظ والاختيار. وهو ينقل آراء عن بعض العلماء المتقدمين عليه أمثال ابن عرفة والقاضي عياض وابن رشد والغزالي والقرطبي وابن شاس والمتيطي وابن فرحون والباجي وابن عبد السلام. ومعظم هؤلاء من علماء الأندلس والمغرب. ويعتبر هذا الكتاب موسوعة أيضا في أحكام القضاء والدين والأدب والنوادر والأخبار. وهو من الآثار الجديرة بالنشر والتحقيق. ... ورغم كل ما قيل عن القرن التاسع وأهله فإنه لا شك كان عصر تحولات سياسية كبيرة وإنتاج ثقافي غزير، وخصوصا في بعض الفروع. فمن حيث التحولات عرفنا أنه قد شهد احتضار إمارات كان يمزقها الضعف والتنافس والاعتداء الخارجي ونهوض دول أوروبية طموحة كان يقودها التعصب الديني والشره التجاري والوعي القومي إلى التوسع والسيطرة والاستغلال. أما على المستوى الثقافي فقد عرفنا التحولات العقائدية التي

وقعت منذ عهد الموحدين والاتجاه نحو القناعة العلمية والرضى بالقليل من الفقه والمعرفة والتغاضي عن العلوم العقلية والعملية وتفضيل علوم الدين والتصوف والفروع الفقهية على علوم الطب والجبر والهندسة والملاحة والقوانين التجارية، بل إن كثيرا من هذه العلوم قد تركت للأوروبيين ونسيت آثار وجهود العرب المسلمين فيها. واستولى اليهود على مراكز التجارة والنفوذ الاقتصادي وحتى السياسي في البلاد حتى كانوا، كما قال المغيلي، يؤثرون على ذوي السلطان فيعينون ويعزلون. وهكذا وقع الفصل بين الدين والدولة. فأصبح العلماء في خدمة الحكام وانحدر المجتمع إلى الضعف والتدهور. فالعلماء قد انحدروا إلى السطحية العلمية والنفاق الأخلاقي والدروشة الصوفية. والحكام من جهتهم غرقوا في الاستبداد والفساد واللهو واللعب بمصير الشعب ومصير الدين أيضا. وكانت نتيجة ذلك كله معروفة للجميع. فقد سقطت الأندلس وضاعت، وسقطت أجزاء كثيرة من المغرب العربي وكادت تضيع، واستولى العثمانيون على المنطقة، باستثناء المغرب الأقصى الذي ظل هو الآخر يعاني من التنافس الداخلي والاعتداء الخارجي. وإذا كان التحول السياسي الذي طرأ على المنطقة في القرن التاسع لا يعنينا هنا عناية كبيرة فإن التحول الثقافي والعقائدي فيها يجعلنا نتتبعه باهتمام كبير. وهذا ما سنحاوله في الفصول التالية.

الفصل الثاني التيارات والمؤثرات

الفصل الثاني التيارات والمؤثرات

شهد مطلع القرن العاشر في الجزائر وبقية أجزاء المغرب العربي تحولات سياسية كبيرة أدت بدورها إلى تحولات اجتماعية وثقافية هامة. فخريطة المنطقة السياسية لم تعد كما كانت عليه خلال القرن التاسع. ومن الخطأ أن نبدأ تاريخ الجزائر العثماني سنة 920 (1516) كما تذهب معظم كتب التاريخ. فالوجود العثماني في الجزائر، وفي الحوض الغربي للبحر الأبيض، أقدم من هذا التاريخ. فهو يعود في الحقيقة إلى أواخر القرن التاسع ولا سيما منذ سقوط غرناطة سنة 897. وإذا عدنا إلى رحلة بيري رايس الثاني (¬1) وبعض النصوص المحلية (¬2)، وجدنا العثمانيين كانوا على صلة بأهل المدن الساحلية الجزائرية ولا سيما رجال الدين، يتعاملون معهم ويحاربون معهم العدو المشترك. وفي نفس الوقت كان العثمانيون يتعرفون ¬

_ (¬1) اسمه الحقيقي هو أحمد بن الحاج محمد الكرماني. انظر عن رحلته بخصوص الجزائر في روبير مانتران (مجلة الغرب الإسلامي) - الفرنسية - عدد 15، 16 (1973) 159 - 168.وقد ذكر أنه كان ببجاية سنة 1491 (896) انظر أيضا س. سوشيك (ظهور الأخوة يربروس في شمال إفريقية) (مجلة الأرشيف العثماني رقم 3، 1971، 238 - 250. انظر عنه أيضا بلوشيه (نشرة أكاديمية هيبون) 29، 1898، 119. (¬2) انظر (عنوان الأخبار فيما مر على بجاية ..) تأليف أبي علي (الحسن) إبراهيم المريني. فقد أخبر فيرو الفرنسي أن هذا الكتاب الذي استنسخ منه نسخة بعد أن وجده عند أحد علماء بني يعلى، تناول تاريخ بجاية في عهد الأسبان وكيف انتقلت إلى أيدي العثمانيين والحروب التي دارت هناك بين الفريقين. واعتبره من الكتب الهامة التي تصحح المعلومات المأخوذة عن مرمول والحسن الوزان (ليون الإفريقي) بهذا الصدد. انظر عن ذلك فيرو (المجلة الإفريقية) 1868، 245 - 256، 337. 349.

على الخصائص الجغرافية والسياسية والعمرانية للمنطقة. كما كانوا يجتمعون بالأمراء الحفصيين وغيرهم ويشيرون عليهم ويدرسون أحوالهم حتى إذا جاءت الفرصة اغتنموها وغيروا بذلك خريطة المنطقة، كما قلنا. ولم يكن دخول الأخوة بربروس المسرح إلا في مرحلة لاحقة من مراحل الاتصال العثماني بمنطقة المغرب العربي. ومهما كان الأمر فإن مطلع القرن العاشر قد شهد سقوط دول المغرب العربي القديمة وإماراته الصغيرة المتهالكة وصعود الحكم العثماني مكانها إلا في المغرب الأقصى حيث حل السعديون محل الوطاسيين (الذين كانوا من عائلة المرينيين). فقد أخذ العثمانيون، بعد سورية ومصر، تونس وطرابلس والجزائر، ووصلت حدودهم الغربية إلى وجدة وفقيق، وأحيانا فاس نفسها. ويذهب بعض المؤرخين إلى أنه كان في إمكانهم احتلال المغرب الأقصى أيضا لولا غيرة الولاة العثمانيين في الجزائر وخوف السلطان العثماني من انفصال المنطقة عنه (¬1). وهكذا انتهى الحكم الحفصي من تونس وشرق الجزائر وطرابلس وانتهى حكم بني زيان من غرب الجزائر، كما سقطت إمارة الثعالبة حول مدينة الجزائر بعد أن وقف ضدها الزيانيون من البر والإسبان من البحر، وفقدت إمارة كوكو وإمارة المقرانيين وإمارة تنس (سويد) استقلالها. وبذلك رسمت خريطة جديدة للمغرب العربي بقيت مع بعض التعديل الطفيف إلى اليوم. فالقطر الجزائري اليوم هو نفسه القطر الجزائري الذي تكون في القرن العاشر، وكذلك الحال بالنسبة لتونس وطرابلس. أما المغرب الأقصى فقد تولته الأسرة السعدية، كما قلنا، ثم الأسرة العلوية، وظل خارج النفوذ السياسي العثماني، رغم تأثره بما كان يجري في المشرق الإسلامي اجتماعيا وثقافيا. وليس من غرضنا هنا تتع المراحل التي مر بها هذا التحول السياسي في الجزائر (¬2) وحسبنا أن نشير إلى أننا سنقتصر في هذا الفصل على تناول ¬

_ (¬1) هايدو (ملوك الجزائر) ترجمة ديقرامون. (¬2) درج بعض الكتاب الفرنسيين، وتبعهم الكتاب الجزائريون على تسمية أهم المراحل السياسية بعهد الباشوات إلى حوالي 1659 م وعهد الأغوات إلى حوالي 1672 م، =

العلاقات بين الجزائريين والعثمانيين

الأرضية التي قامت عليها الحياة الثقافية خلال العهد الذي نطلق عليه من الآن العهد العثماني، والجو العام الذي تشكلت فيه هذه الحياة والعلاقات بين العثمانيين والسكان، سياسيا واجتماعيا وثقافيا. العلاقات بين الجزائريين والعثمانيين ومن الخطأ إطلاق اسم (الأتراك) على الوجق وأهل السلطة خلال العهد العثماني في الجزائر. ذلك أن الوجق كان يتكون من عثمانيين (¬1)، وهو بهذه الصفة كان يضم أجناسا مختلفة اللسان والعرق والجغرافية ولكنها جميعا تتفق في الولاء للإسلام والسلطان. فالصفة الموحدة للوجق إذن هي (العثمانية) وليست (التركية). ذلك أن الوجق كان فيه أناس من أناضوليا ومن روميليا ومن الأقاليم العربية ومن البلقان وبقية أجزاء أوروبا، من ذوي الأصول التركية والعربية والصقلية واللاتينية والإغريقية، وهلم جرا. وقد ذكرت المصادر المعاصرة للعهد العثماني عددا من المسؤولين كالباشوات والأغوات والدايات (وهم الممثلون للسلطة في أعلى مستوى) (¬2) كانوا من أصول غير تركية ابتداء من خير الدين نفسه الذي تذكر هذه المصادر أنه من ¬

_ = وعهد الدايات إلى سنة 1830. وهي تسمية لا معنى لها إذ أنه لم يحدث خلال العهود المذكورة ما غير من سمة الحكم نحو الجزائريين. وكل ما كانت تعنيه بعض التغيير في علاقات الولاة بالسلطان. وقد درج الفرنسيون أيضا على إطلاق تسمية مماثلة على العهد الفرنسي في الجزائر مثل فترة التردد وفترة الحكم العسكري وفترة الحكم المدني الخ وهي كسابقاتها أيضا تسمية مضللة لأنها لا تعني شيئا بالنسبة للجزائريين. (¬1) رغم أن الكتاب الجزائريين المعاصرين للعهد العثماني، مثل ابن مريم وابن سليمان والورتلاني، كانوا يستعملون عبارة الترك أو (الأتراك) وليس (العثمانيين). أما عبد الكريم الفكون فقد استعمل عبارة (العجم) للعثمانيين ويشترك معه غيره أيضا في ذلك. وكان الرحالة الأوروبيون ورجال الدين يسمونهم (الترك) أيضا. (¬2) توجد مصادر كثيرة عن خير الدين وأخويه. انظر مثلا هايدو وغزوات عروج وخير الدين ومقالة سوشيك المذكورة.

أصل إغريقي، والحاج حسين ميزمورطو الإيطالي الأصل، وعرب أحمد وصالح رايس ذوي الأصول العربية، ومن رياس البحر والجنود عدد كبير من ذوي الأصول غير التركية مثل الرايس مراد الذي غزا إيسلاندا وجزر الكناري وبريطانيا وإيرلاندا والذي يقال انه من أصل الماني أو فلامانكي (¬1) والرايس حميدو الذي دوخ أساطيل الأعداء في المحيط الأطلسي والبحر الأبيض، كان من أصل عربي جزائري (¬2) فالرابطة بين هذه العناصر من جهة ثم بينها وبين الجزائريين من جهة أخرى هي الإسلام والخلافة، أو العقيدة الإسلامية ثم الولاء للسلطات، ويجمع بين هذين المبدأين الرابطة العثمانية. ولكن الحكام العثمانيين لم يحترموا هذا المبدأ كما سنرى (فتركوا) (بتشديد الراء). الحكم ونظروا للجزائريين نظرة الغالب للمغلوب. وباسم العقيدة الإسلامية والولاء للسلطان دخل الجزائريون أيضا في الرابطة العثمانية (¬3). وكان المفروض أن يطبق الحكام العثمانيون تعاليم الإسلام في الحكم، وأن يؤاخوا بينهم وبين السكان وأن يشاوروهم في الأمر ¬

_ (¬1) انظر عنه مورقان في كتابي (أبحاث وآراء في تاريخ الجزائر) وخلاصة الأثر للمحبي 4/ 355 وبرنارد لويس (مجلة الغرب الإسلامي) 15، 16 (1973) 139 - 144 وبليفير (جلادة المسيحية)، 52. (¬2) عنه انظر مردخاي نوا (نوح) (رحلات في انكلترا وفرنسا وأسبانيا وشمال إفريقية) سنوات 1813، 1814، 1815، لندن 1019، 371 - 372. وكذلك ديفوكس (الريس حميدو) الجزائر، 1859. (¬3) كان الجزائريون يستنجدون بالجيش العثماني (القرصان) منذ أواخر القرن التاسع حين عجزت الإمارات المحلية ودولة بني زيان ودولة بني حفص على صد هجوم الأسبان عن السواحل. وقد تكرر هذا التعاون بينهم وبين العثمانيين في بجاية وجيجل ووهران وعنابة ودلس ومدينة الجزائر. ولم يكن استنجاد سليم التومي، زعيم إمارة الثعالبة في متيجة، بالعثمانيين أوائل القرن العاشر إلا صورة أخرى من هذا التعاون الذي كان يفرضه الواجب الإسلامي. غير أن قتل عروج له وضم خير الدين القطر الجزائري إلى الدولة العثمانية وإن كان خارج نطاق هذا التعاون المعتاد، كان بدون شك لصالح القضية الإسلامية، إذ لم يكن في استطاعة التومي ولا أمثاله من الأمراء المحليين عندئذ الوقوف وحدهم في وجه التحدي الأسباني.

وأن يفسحوا المجال أمامهم، وأن يختلطوا بهم ويخالطوهم. ولكنهم في الواقع أساؤوا التصرف، كمعظم الحكام عندئذ فحكموا كفئة متميزة واحتكروا الحكم في أيديهم طيلة الفترة الثانية واستبدوا بالسلطة واستذلوا السكان واستعلوا عليهم وعاملوهم معاملة المنتصر للمهزوم. إن العثمانيين قد دخلوا الجزائر أساسا بطلب من أهلها وربطوا مصيرهم في الغالب بمصير أهل البلاد وتحالفوا معهم، كما سنرى، تحالفا شديدا سياسيا وعسكريا. فامتلأت القلاع والثكنات والرباطات والسفن بالجنود الجزائريين الذين خاضوا حروب الجهاد في البر والبحر، جنبا إلى جنب مع العثمانيين، أحيانا قوادا وأحيانا مقودين، كما تحالفوا معهم في الداخل لتوطيد الأمن والاستقرار وتقدم التجارة والسفر (¬1). وقد ظل الوجود العسكري هو الظاهرة المميزة للحكم العثماني في الجزائر بل هو الظاهرة المميزة أيضا لهذا الحكم في جميع أنحاء الدولة العثمانية. فقد كان الجهاد البحري (وهو الذي يطلق عليه الأوروبيون اسم القرصنة والذي كان في الأول ضد إسبانيا فقط لموقفها العدائي من مسلمي الأندلس والمغرب العربي، ثم أصبح عاما ضد جميع الدول الأوروبية التي لا تدخل في اتفاق سلمي مع دولة الجزائر) هو الباعث على وجودهم على شواطئ شمال إفريقية. وقد تطور هذا الجهاد فكان أقوى ما يكون في القرن الحادي عشر ثم ضعف تدريجيا لأسباب أهمها ضعف الدولة العثمانية نفسها وتوقف موجة التقدم العثماني في أوروبا وقوة الدول الأوروبية، وخصوصا بريطانيا وفرنسا، ثم دخول أمريكا إلى حوض البحر الأبيض آخر القرن الثاني عشر. وكانت قوة الحكام المحليين تقوى أو تضعف في نظر السكان بقدر ما يحققونه من انتصارات في البحر الأبيض ضد (دار الحرب) أو أوروبا ¬

_ (¬1) شهد هايدو الأسباني والمتعصب دينيا أن الجزائريين والأندلسيين كانوا يحاربون جنبا إلى جنب مع العثمانيين ضد العدو الخارجي، كما حاربوا إلى جانبهم ضد المتمردين في الداخل. انظر أيضا (عنوان الأخبار) للمريني.

المسيحية، لذلك كان الباشوات والرياس الذين حققوا مثل هذه الانتصارات يلقبون بالمجاهدين. وبالإضافة إلى ذلك كانت هناك حروب داخلية وأخرى ضد بايات تونس وسلاطين المغرب، ولكنها لم تكن حروبا جهادية ولا يأخذ خائضوها شرف لقب المجاهدين. فالواجب العسكري العثماني في الجزائر كان يقوم على الحرب الجهادية ضد (دار الحرب) بالدرجة الأولى. وأهم الدول الأوروبية التي طالت الحرب بينها وبين الجزائر في هذا العهد هي اسبانيا وتليها البرتغال. وليس من الصعب العثور على السبب المباشر لهذه الحرب بين الطرفين. ففي نهاية القرن التاسع تمكن الإسبان من إسقاط آخر قلعة للمسلمين في الأندلس وأساؤوا معاملة من بقي من المسلمين هناك ثم خيروهم بين الطرد وبين تغيير عقيدتهم الإسلامية. وبالإضافة إلى ذلك تابع الإسبان مطاردتهم للفارين من المسلمين الأندلسيين إلى سواحل شمال إفريقيا. وأدت هذه المتابعة إلى ثلاث نتائج هامة: الأولى استقرار الحاميات الإسبانية في عدد من المراكز الاستراتيجية على سواحل شمال إفريقية مثل مدينة الجزائر والمرسى الكبير ووهران وبجاية وجيجل وعنابة في القطر الجزائري، وأمثالها في أقطار تونس والمغرب وطرابلس. والثانية تسلح مهاجري الأندلس ضد الإسبان واتخاذهم مواقع الدفاع على وطنهم الجديد وبنائهم السفن والمعدات الحربية للجهاد ضد الإسبان في البحر والاستيلاء على ما يمكن أن يقع في أيديهم من أسطول العدو. وقد حاول الإسبان، من جهتهم، تحطيم هذه القوة في عدة محاولات أشهرها حملة شارل الخامس في منتصف القرن العاشر وحملة أوريلي الأقل شهرة منها في آخر القرن الثاني عشر. أما النتيجة الثالثة لنشاط الإسبان ضد الأندلسيين والجزائريين فهي دخول الدولة العثمانية رسميا في الحرب ضد إسبانيا بعد أن أصبحت الجزائر ايالة (ولاية) من ايالات الدولة العثمانية. إن المظهر العسكري (الجهادي) للوجود العثماني في الجزائر ثم

استمرار التهديد الأجنبي قد طبعا الحكم العثماني، على طوله، بالخوف الدائم من الخارج والاستبداد المطلق في الداخل. وكان لهذا وذاك أثره على حياة الثقافية، كما سنرى. فرغم تصفية الوجود الإسباني من مدينة الجزائر وجيجل وبجاية وعنابة ومستغانم ودلس فإنه ظل قائما في وهران والمرسى الكبير وكان وجوده مصدر قلق مستمر للسلطة والسكان. ويمكن القول إنه كان مصدر تحالف بينهم أيضا لأنه كان خطرا على كلا الطرفين. وهناك حروب كثيرة دارت بين الحكام العثمانيين والإسبان من أجل استرداد وهران ونحوها من بقايا الجيوب الإسبانية. ومن أهم ما نجح فيه العثمانيون إخراجهم الإسبان من وهران سنة 1119 (1708) ثم إخراجهم نهائيا. منها سنة 1205 (1791 م). إن هذا النزاع المستمر بين الجزائريين والإسبان قد أدى إلى إنتاج أدبي غزير كما لعب فيه الدين والتصوف والدروشة دورا رئيسيا (¬1). أما الاستبداد فقد أدى بدوره إلى العنف في الحكم. ولعله هو أبرز سمات المظهر العسكري للوجود العثماني في الجزائر. فسواء نظرنا إلى شكل الحكم نفسه أو إلى علاقته بالسكان أو إلى الأحكام الصادرة عنه فإن ظاهرة العنف كانت هي البارزة في كل ذلك. وكان الحكام في البداية يأتون من إسطانبول (¬2) رفقة القاضي الحنفي وقضاة العسكر، وكانت مدة ولايتهم ثلاث سنوات غالبا، ثم يأتي من يخلفهم، وهكذا. وكان هؤلاء الباشوات (المبعوثون من السلطان) هم أهل الحل والعقد، بينما الوجق يسمع ويطيع. ¬

_ (¬1) من ذلك ما يعرف بشعر الاستصراخ وكتاب (التحفة المرضية) والمدائح التي قيلت في محمد بكداش باشا، ثم الكتب التي ألفت في محمد الكبير، باي الغرب مثل (الثغر الجماني) و (الرحلة القمرية) وتأليف أحمد بن هطال و (عجائب الأسفار) لأبي راس. وكل هذه الكتب ستدرس في مكانها. كما لعب العلماء والمرابطون أيضا دورا في ذلك سنعرض إليه في حينه. (¬2) كان منصب باشا الجزائر يشترى بالمال في إسطانبول ويأتي صاحبه أصلا لمدة سنة ولكنها كانت تمدد إلى ثلاث أو أربع سنوات, ولذلك كان طابع الحكم هو الاستغلال أيضا.

وقد استمر هذا الوضع إلى حوالي منتصف القرن الحادي عشر (17 م) حين تمرد الوجق على الباشوات وطلبوا من السلطان أن يكون الحكم الحقيقي في أيديهم هم (الوجق)، أما الباشوات فيبقى لهم وجود رمزي فقط باعتبارهم ممثلين سامين للسلطان. ولكن هذا الحكم (الثنائي) لم يطل أيضا. ففي أواخر القرن المذكور انتصر العنف من جديد حين ثار الرياس (أو البحارة) وأعادوا الباشا من حيث أتى واستقلوا هم بالحكم العسكري المطلق وعينوا منهم (الداي) أو العم، حسب التقاليد العثمانية القديمة، وأصبح هو الحاكم المستبد والباشا أيضا، باعتباره الممثل الشرعي للسلطان. وقد رضي السلطان بهذا الوضع مكرها، فكان يكتفي بإصدار (الفرمان) لتثبيت اختيار الوجق في الجزائر، ولكن الدايات الذين تداولوا على الجزائر من أواخر القرن الحادي عشر إلى أوائل القرن الثالث عشر (أي إلى احتلال الجزائر سنة 1246) لم يكونوا جميعا من طائفة الرياس. فقد كان منهم من صعد إلى الحكم دون أن يكون من أهل البحر بالمهنة مثل حسين خوجة الشريف ومحمد بكداش اللذين كانا من أهل الإدارة، ومثل حسين باشا الذي كان قبل توليته، خوجة الخيل. ولكن مهما كان أصل ممثل الحكم المذكور في الجزائر، من أهل البر أو البحر، فإن النظام السياسي العام كان نظاما جمهوريا عسكريا مغلقا. فهو جمهوري لأن منصب الحاكم انتخابي وليس وراثيا، وهو عسكري لأن الحاكم كان من العسكريين، وهو مغلق لأنه نظام لا يسمح فيه إلا للوجق بممارسة السلطة. ولكن انتقال السلطة من حاكم إلى آخر كان يتم بالعنف الشديد وأحيانا بوحشية قليلة النظير. وظاهرة الانغلاق في هذا النظام تستحق بعض التركيز هنا. ذلك أن حكام الجزائر العثمانيين كانوا من خارج البلاد ولم يكن من بينهم من ولد في الجزائر أو تربى بين أهلها أو تعلم لغة أهل البلاد وعاداتهم وأخلاقهم خلافا لمماليك مصر مثل (¬1). وكانت وظيفة الوجق تقتضي منهم أن يظلوا عزابا ¬

_ (¬1) مما يذكر أن حسن باشا بن خير الدين كان من أم جزائرية وقد تولى الحكم ثلاث مرات، وكان يعرف عدة لغات منها العربية وكان محبوبا بين السكان. وقد تزوج =

مدى الحياة، فإذا تزوجوا من أهل البلاد فإن نتاجهم يعتبر أدنى منهم مرتبة، ومن ثمة لا يمكنه أن يصعد إلى الحكم والمسؤولية، فهو كرغلي (أي ابن عبد وليس ابن حر). وإذا كان نتاج العثمانيين (الأجانب) على هذه الحالة فأولى وأحرى من كان من السكان الأصليين أو من مهاجري الأندلس (¬1). فقد ضرب العثمانيون في الجزائر حصارا شديدا حول أنفسهم وحول مواقع القوة في أيديهم حتى لا يتسرب إليها بقية السكان ولا يرقى إليها الطامحون في الحكم منهم. وتذكر المصادر أن هناك محاولة لقلب نظام الحكم قام بها بعض أبناء العثمانيين (أي الكراغلة) من أمهات جزائريات خلال القرن الحادي عشر , ولكن الآباء أحسوا بالمؤامرة قبل وقوعها فقضوا عليها وأشبعوا القائمين بها هلاكا ونكالا، ثم أوصدوا الباب في وجه الآخرين منهم مدى الحياة (¬2). وتدل مراحل الحكم التي أشرنا إليها إلى نوع العلاقة التي كانت بين ¬

_ = أيضا من جزائرية. وكان لصالح رايس أيضا ولد (يسمى محمد) تولى بعد أبيه أيضا باشوية الجزائر. ولكن الغالب أنه لم يكن من أم جزائرية. ومما يذكر أن بعض الباشوات المعينين من قبل السلطان كانوا يأتون معهم بعائلاتهم من إسطانبول مثل جعفر باشا الذي جاء معه بأمه إلى الجزائر وكذلك خضر باشا الذي جاء بأخته المسماة (قمر). (¬1) كان بعض الباشوات من أصول عربية أندلسية، ولكن من خارج الجزائر مثل عرب أحمد وصالح رأيس. والغريب أن أبناء الباشوات من أمهات مسلمات جزائريات لا يصعدون إلى مقام آبائهم بينما أبناء الباشوات من الأسيرات المسيحيات يصعدون إلى المقام آبانهم. انظر مدام بروس (عن إقامة في الجزائر). (¬2) هناك عدة محاولات قام بها الكراغلة للاستيلاء على الحكم في الجزائر. انظر فرنسيس نايت (سبع سنوات تحت الحكم التركي في الجزائر) لندن 1640. انظر دراسة لبيير بواييه عن هذا الموضوع في (مجلة الغرب الإسلامي). وكانت تلمسان ومدينة الجزائر مركزين قوين لهذه الحركة. انظر دراستي عن (كعبة الطائفين) في كتاب (أبحاث وآراء في تاريخ الجزائر). انظر أيضا كتاب ابن المفتي، دلفان (المجلة الآسيوية)، 1922، 203. انظر أيضا جوزيف بيتز (حقائق عن الدين الإسلامي)، لندن، 1704، 127 وقد عاش المؤلف خمس عشرة سنة في الجزائر.

الجزائر وإسطانبول. فقد كانت علاقة وطيدة سياسيا حين كان الباشوات يأتون من هناك ثم أخذت تضعف أثناء الحكم الثنائي حين كان ممثل السلطان مجرد موظف سام يتقاضى أجرة ويشاهد مجريات الأمور، ولكن لا يستطيع فعل شيء. وكادت العلاقة تنقطع (بل انقطعت في بعض الأحيان) حين أصبح السلطان مقتنعا بإصدار (فرمانه) إلى من يختاره الجنود العثمانيون في الجزائر. وقد ظل محافظا على الحد الأدنى من استمرار العلاقات للمصلحة المتبادلة. فاسطانبول كانت تعرف المسافة التي تفصلها عن الجزائر ومدى ضعف أسطولها فلم تحاول فرض سلطانها هناك بالقوة، بل كانت تكتفي بالضغط ومحاولة تأكيد شرعيتها الإسلامية عن طريق الباشوات والقاضي الحنفي وولاء (عبيد السلطان) والعلماء. وعندما تعجز حتى عن ذلك كانت تكتفي بأشياء رمزية كإصدار الفرمان للاعتراف بالأمر الواقع الذي يواجهها به وجق الجزائر، وإرسال الهدايا العسكرية البحرية إلى ولاة الجزائر والاستنجاد بهم عسكريا إذا دعت الحاجة. أما الجزائر فقد كانت بدورها تحاول تأكيد ذاتيتها ووضعها الخاص. كما أن طبيعة السكان الاستقلالية والثورات الداخلية التي طبعت الحكم العثماني في الجزائر ووجود المغرب كمنافس إسلامي على الحدود ثم الخطر الإسباني والبرتغالي في غرب البحر الأبيض كل هذه العوامل جعلت الجزائر في وضع خاص داخل الدولة العثمانية. فهي من جهة مسقلة أو تحاول أن تكون مستقلة عن إسطانبول، وهي من جهة أخرى تحاول أن تبقى على الحد الأدنى من الصلات الإسلامية، ولو كانت رمزية، مع الخلافة (¬1). ¬

_ (¬1) الواقع أن رفض إرادة السلطان من وجق الجزائر قد بدأ مبكرا، أي منذ القرن العاشر. ولم يتمكن عدد من الباشوات المبعوثين من إسطانبول إكمال مددهم (ثلاث سنوات) بل كانوا يجبرون على العودة. ونفس الشيء يقال عن القاضي الحنفي. ولكن الباشا إذا رجع إلى إسطانبول يبقى خليفته إلى أن يأتي الباشا الجديد. انظر هايدو (ملوك الجزائر). ولنلاحظ أن حكام الجزائر لم يجعلوا الحكم وراثيا كما فعل مثلا حكام تونس. ولو نجح أحدهم في ذلك لتغير طابع الحكم ولأصبح شيئا فشيئا (وطنيا).

ولدينا وثيقتان إحداهما تعود إلى أواخر القرن العاشر والثانية إلى القرن الثاني عشر، وكلاهما تثبت ما كنا نقول. فالأولى تتحدث عن كون السلطان قد أرسل هدايا إلى الجزائر فردت الجزائر بإرسال هدايا إلى السلطان والوزير والقبطان وغيرهم، بالإضافة إلى الجباية وأموال طائلة أخرى. كما تثبت الوثيقة أن قاضي الجزائر الحنفي كان ما يزال يأتي من إسطانبول ثم يعود حين تنتهي مدته أيضا، وأنه كان قد جاء إلى الجزائر وعاد منها بأبنائه ونسائه. ويدل ذلك من جهة أخرى على بداية التأثير العثماني، والمشرقي عموما، في المجتمع الجزائري وقد قدر الكاتب، وهو مغربي، الأموال التي كانت تحملها سفينتان إلى إسطانبول (بألف ألف مثقال). بينما قدرها آخرون (بثمانية عشر قنطارا ذهبا سوى الجوهر). غير أن السفينتين قد وقعتا في قبضة القراصنة المسيحيين. وقد أوضح الكاتب أيضا أن أجهزة الجزائر البحرية كانت أقوى من أجهزة إسطانبول. وهذا ما جعله يؤكد بأنه لو كان رياس (بحارة) السفينتين من الجزائريين لما وقعت في قبضة النصارى (¬1). أما الوثيقة الثانية فقد كتبها عبد الرزاق بن حمادوش الجزائري وهو يذكر فيها أن الباشا إبراهيم قد أرسل (سنة 1145) إلى السلطان محمود خان هدية عظيمة فيها أربعون نصرانيا ومكاحل وستة آلاف ريال دراهم صغارا وأمورا أخرى نفيسة، وذلك لكي يأخذ الباشا لك منه (¬2). ومن الملاحظ أن الهدية لم تكن ردا على هدية كما كانت الهدية الأولى. وكان إبراهيم باشا سيحكم الجزائر على كل حال سواء جاءه الفرمان من السلطان أو لم يأته. فقد كان متأكدا أن السلطان لن يمانع في ذلك ما دام الوجق بالجزائر قد ¬

_ (¬1) التمغروطي (النفحة المسكية)، 140. ط هوداس. انظر مخطوطة باريس أيضا رقم 6898. وقد ترجمها إلى الفرنسية هنري دي كاستري. وطبعت في باريس بدون تاريخ. وعن تبادل الهدايا بين الجزائر وإسطانبول انظر أيضا كتاب (التشريفات) نشر ألبير ديفوكس. (¬2) ابن حمادوش (الرحلة) مخطوط، وانظر دراستي عنه في كاتاب (أبحاث وآراء في تاريخ الجزائر) وهو يعني بالبشالك (الباشوية).

فئات المجتمع

انتخبه. وغاية الأمر أن الفرمان سيؤكد وضعا قائما ويزيد في قناعة السكان بشرعية الحكم كما أنه قد يكون حجة ضد الثوار عند الضرورة. فئات المجتمع 1 - هناك ثلاثة عوامل خارجية أثرت في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية خلال العهد العثماني، الأول هجرة الأندلسيين التي بدأت خلال القرن التاسع وتقوت خلال العاشر. والثاني الوجود العثماني نفسه. ويمكننا أن نضيف إلى ذلك عاملا ثالثا وهو الوجود المسيحي واليهودي. فقد حل بمعظم المدن الساحلية الجزائرية عدد كبير من المهاجرين الأندلسيين الفارين من اضطهاد الإسبان الذين استولوا على أملاكهم وديارهم وهددوهم في عقيدتهم ولغتهم. وأشهر المدن التي حلوا بها هي: شرشال وتنس ومستغانم ومدينة الجزائر ودلس وبجاية وعنابة. وقد وجد هؤلاء المهاجرون في الجزائر أرضا كأرضهم وأهلا كأهلهم فاستوطنوا وأسهموا في الحياة الاجتماعية بإدخال عنصرين رئيسيين، الأول مضاعفة الكفاح ضد الإسبان في البحر والثغور دفاعا عن النفس، والثاني نشر أنماط حضارتهم بين الجزائريين. وكانت الأندلس إلى آخر عهدها، رغم ضعفها السياسي، هي المرحلة الراقية من تطور الحضارة العربية الإسلامية. فارتقت بوجودهم في الجزائر العمارة وصناعة الطب والموسيقى والزراعة والصنائع والحرف والتجارة والتعليم والخط والوراقة وصناعة الكتاب. وقد كان على الأندلسيين في بادئ الأمر (وقد هاجروا بنسائهم وأطفالهم) أن يواجهوا مشاكل اجتماعية جمة أهمها الفقر. لذلك أنشأوا لهم أحباسا خاصة تعرف بأوقاف الأندلس يستفيد منها فقراؤهم ويأوي إليها مهاجرهم الضعيف والبائس والغريب والعاجز (¬1). ورصد أغنياؤهم لهذه الأوقاف كثيرا من أموالهم. وهكذا أصبح الأندلسيون، على مر السنين، يشكلون عنصرا بارزا مؤثرا من السكان بحركتهم التجارية ¬

_ (¬1) انظر الفصل الخاص بالمؤسسات الثقافية (قسم الأوقاف) من هذا الكتاب.

وذكائهم وعلمهم وصنائعهم ومهارتهم في البحر- وقد طبعوا المدن الجزائرية، وخاصة الساحلية، بطابعهم العمرافي الذي ما يزال باقيا إلى اليوم (¬1). وأثر العثمانيون بدورهم في الحياة الاجتماعية والاقتصادية للجزائر. وأول هذا التأثير هو ربط المجتمع الجزائري بالمجتمع الشرقي - فقد جاء العثمانيون بوسائل حضارية شرقية إلى الجزائر من مآكل وملابس ومشارب وألقاب وصنائع وتقاليد. ولم تكن نساؤهم تأتي بكثرة (ونحن هنا نتكلم عن كبار المسؤولين وليس عن الجنود الذين كانوا يأتون بالضرورة عزابا)، ولكن القليل منهن قد نشرن أشياء لا عهد للمجتمع الجزائري بها (¬2). كما أن العثمانيين قد أدخلوا المذهب الحنفي إلىالجزائر وجاؤوا معهم بطرق صوفية لم تكن معروفة أو على الأقل لم تكن منتشرة بين السكان. ومن جهة أخرى أثروا في العمارة كالمساجد والأضرحة، وفي الموسيقى والخط، والمنشآت العسكرية والبحرية، وفي اللغة والملابس ونحو ذلك. وقد أنشأوا هم أيضا الأحباس التي تخدم جميع الأغراض الاجتماعية والعلمية. ومن أهمها وأشهرها أوقاف (سبل الخيرات). ومن المعروف أن العثمانيين مدينون حضاريا للحضارات العربية والفارسية والبيزنطية، بالإضافة إلى تراثهم الخاص. لذلك يمكن القول بأن الجزائر العثمانية قد ذاقت من كل هذه الحضارات خلال العهد ¬

_ (¬1) عن أثر الأندلسيين انظر أيضا د. إبراهيمي (مجلة تاريخ وحضارة المغرب) 9، يوليو 1970، 39. (¬2) كان بعض المسؤولين كالباشوات والمفتين والقضاة، يأتون معهم بأزواجهم وأطفالهم وأمهاتهم وأخواتهم، كما حل بالجزائر عدد من التجار العثمانيين وغيرهم كاليونانيين والعرب. وقد لاحظ الكاتب دابر، أنه كان في مدينة الجزائر في وقته (القرن 11 هـ - 17 م) ستمائة عائلة تركية وهذا بخلاف اليولداش والإنكشارية ورياس والبحر والأعلاج. انظر كتابه (وصف إفريقيا)، 177. أما عن تأثير الأتراك في العمارة فانظر رشيد الدوكالي (مساجد مدينة الجزائر في العهد العثماني)، 1974، 73.

العثماني، وهذا العامل ما زال لم يحظ باهتمام المؤرخين بعد. أما العامل الثالث (المسيحي واليهودي) فهو لا يرقى في الأهمية إلى العاملين الآخرين (الأندلسي والعثماني) ولكنه جدير بالذكر. فالجزائر العثمانية قد شهدت نشاطا أوروبيا بحريا كبيرا على سواحلها وفي مدنها الرئيسية. فكان ذلك النزاع البحري الطويل الذي استغرق أجيالا. والحرب عامل تأثير، رغم سلبيتها، لأنها وسيلة اتصال وتعارف. فعن طريق الحرب عرف الجزائريون (بني الأصفر) أو الروم كما كانوا يسمون أحيانا، وتبادلوا معهم التجارب والمهارات العسكرية كالصنائع البحرية وبناء السفن وطرق معرفة البحر وحماية المراسي وتحصينها، وغير ذلك. وهناك صنف آخر من الأوروبيين عرفهم المجتمع الجزائري عندئذ، وهم التجار. وكان لهؤلاء محاكم ومستشفيات وكنائس وفنادق ومخازن وعملات يتعاملون بها وبضائع يتاجرون بها. وملابس يظهرون بها ولغة يتخاطبون بها مع السكان وعمال من الجزائريين يعملون عندهم في بيوتهم وإداراتهم. ونفس الشيء يقال عن القناصل الذين كان لهم أيضا عمال جزائريون كتراجمة مرافقين أو مقيمين معهم في أماكن العمل. وإلى هؤلاء وأولئك يمكننا أن نضيف الأسرى المسيحيين الذين كانوا أحيانا يقدرون بالآلاف، وفيهم النساء والأطفال وأصحاب المهارات والأدباء. وكان هؤلاء الأسرى يعملون، في انتظار فديتهم، في شتى أنواع العمل كالزراعة والبناء والنظافة والطب. وبعض هؤلاء الأسرى قد اعتنقوا الإسلام وأصبحوا أتراكا (عثمانيين) لغة وجنسية وارتقوا إلى مراكز النفوذ (¬1). وقد سجل هؤلاء ¬

_ (¬1) إذا اعتنق الأوروبي الإسلام يصبح (تركيا) وهي الطريقة التي كان أتراك الجزائر يكثرون بها من عددهم. ويصبح المسلم الجديد جنديا له راتب ثابت ويقيد في سجل العسكر. وهو يعلن إسلامه أمام الباشا والديوان ويطاف به في الشوارع على جواد مسرج ومزين وتضرب له الموسيقى ويرافقه الجنود وتجمع له الدراهم. انظر بيتز (حقائق)، 141. هذا عن المسلم الذي يختار الإسلام وحده. وهناك من كانوا يكرهون على الإسلام. وفي هذه الحالة لا يحتفل بهم ولكنهم يتمتعون بحقوق =

الأوروبيون حياتهم بأنفسهم في الجزائر في المذكرات والكتب التي نشروها بعد تحريرهم. ومن كتاباتهم نعرف أنهم لم يكونوا بمعزل عن المجتمع الجزائري بل كانوا يختلطون بأهله ويعملون معهم، وفيهم من لعب دورا بارزا في الحياة اليومية للسكان، وأحيانا في المغامرات السياسية. بل لقد كان فيهم من قربه أهل الحكم والحظوة إلى السلطة نفسها فأصبح يؤثر فيها كمستشار أو وزير أو قائد أو مدرب عسكري. وكل هؤلاء الأوروبيين (بأصنافهم التي ذكرناها) قد أثروا في الحياة الاجتماعية الجزائرية، كل حسب تغلغله وحسب إمكانياته في التأثير. ويعود تأثير هؤلاء الأوروبيين إلى القرن العاشر. فهذا كاتب أوروبي (جوزيف مورقان) يروي أن حسن باشا بن خير الدين قد ترك سنة 1567 عند مغادرته الجزائر عددا من المسيحيين والعبيد، (من بينهم عدد كبير من الفنانين المجيدين في مختلف الأنواع المفيدة) (¬1) ومن جهة أخرى نعرف أن قسما من سكان الغرب الجزائري كان على صلة مستمرة بالإسبان في وهران، كما أن قسما من سكان الشرق كانوا على صلة بتجار جنوة ثم الفرنسيين نواحي القالة وعنابة. وتثيت الوثائق أن الجالية اليهودية كانت قوية خلال هذا العهد وأنها كانت تعيش في أهم المدن وخاصة عواصم الأقاليم ومدينة الجزائر نفسها. وقد مرت بنا بعض أخبار اليهود في القرن التاسع عندما تعرضنا لحياة المغيلي. وكانت هذه الجالية قد تقوت بهجرة يهود الأندلس مع المسلمين في الفترة المشار إليها. وقد جاء بعض يهود أوروبا إلى مدينة الجزائر في القرن ¬

_ = الجندي فيسجلون في دفتر العسكر ويشاركون في غنائم البحر الخ .. انظر أيضا دابر، 177. (¬1) مورقان (التاريخ الكامل)، 475. وتمتلئ كتب الأوروبيين (غير الأسرى) بالأختبار عن الوجود الأوروبي في الجزائر ومدى التسامح الذي كان الجزائريون يبدونه نحوهم. انظر مثلا مردخاي نوا (رحلات)، 368. وقد وجدت في الأرشيف العثماني أن عددا من أهل الذمة كانوا يتمتعون بكراء الأوقاف الإسلامية. انظر مثلا (184) 32 - MI 228.

الثاني عشر (18 م) واستوطنوها مثل عائلتي بكري وبوشناق. وكان اليهود يشتغلون ببعض الصنائع الدقيقة والثمينة كالخياطة والصياغة واختبار جودة الذهب والفضة، بالإضافة إلى التجارة في الصرافة والدخان والعطارة ونحوها. وقد مرت عليهم عهود كانوا فيها مغمورين إلى حد ما ولكنهم في بعض العهود قد وصلوا إلى درجة كبيرة من النفوذ والجاه ولا سيما في آخر القرن الثاني عشر وأوائل الثالث عشر. وكان منهم من يؤثر في الحياة السياسية الداخلية، وبطريق التجارة مع أوروبا أيضا حتى أن مدينة ليفورنيا كانت عبارة عن مدينة جزائرية لكثرة يهود الجزائر بها. وكانوا يحتكرون تصدير بعض البضائع. وبالإضافة إلى اختبار العملة الرسمية ودخولهم إلى خزينة الدولة كان منهم التراجمة بحكم معرفتهم للغات الأجنبية. وبهذه الوسائل الهامة كانوا يطلعون على أسرار الدولة ويصلون أيضا إلى تغيير بعض القرارات الحكومية. وكان لهم أصدقاء من أهل السلطة في أعلى المستويات. ورغم أنهم كانوا يعيشون كأهل ذمة لهم حدودهم الدينية والسياسية، فإنهم من الوجهة الاجتماعية والاقتصادية كانوا يلعبون دورا هاما في المجتمع الجزائري. ولم يكن تأثيرهم مقصورا على العاصمة بل تجاوزها إلى المدن الأخرى وخاصة قسنطينة (¬1). 2 - ولكن ما ذكرناه لا يعدو أن يكون عوامل مؤثرة خارجية. فالمجتمع الجزائري ظل، مع ذلك محتفظا بقيمه العربية الإسلامية. حقا أن هذا ¬

_ (¬1) ذكر نوا، وهو من يهود أمريكا، أن عددهم في مدينة قسنطينة كان حوالي خمسة آلاف (من مجموع ستين ألف نسمة) وكدلالة على نفوذهم السياسي والاقتصادي ذكر أن الداي قد عين إبراهيم بوشناق وزيرا له لدى بلاط فرنسا وناثان بكري قنصلا له في مرسيليا، وأخاه قنصلا له في ليفورنيا. كما كان الداي يستشيرهم في المسائل الخارجية. وكان يأخذ من المال اليهودي كلما احتاج إليه. وكان القناصل الأجانب يقترضون منهم أيضا عند الحاجة. انظر كتابه (رحلات)، 368 - 380) 426. انظر أيضا (حياة ورسائل جول بارلو) لشارل بورتاد، 115 - 150 ويذكر أراندا أن اليهود كانوا ينصبون طاولات في الشواع ويبدلون العملة وأنهم كانوا يربحون من ذلك أموالا كبيرة وأن ذلك قد شاع بينهم كما شاع بينهم غش العملة، صفحة 152.

المجتمع لم يكن قد وصل بعد إلى مرحلة (المجتمع الوطني) الذي نتحدث عنه اليوم. ولكنه كان بالروابط الموحدة دينيا وسياسيا وخلقيا ولغويا، قد وصل إلى مرحلة المجتمع الواعي المتماسك والمتجاوب. وكانت هناك العادات والتقاليد، المبنية بدورها على التشريع الإسلامي، التي تشكل عامل وحدة قوية في المجتمع. والذي يدرس كتابا مثل (المعيار) للونشريسي (¬1)، وأحكام القضاة ومجالس الفتيا وكتابات الأدباء والاجتماعيين خلال العهد الذي ندرسه يدرك أن هناك ذوقا عاما وقيما مشتركة وأحكاما ومقاييس أخلاقية وروحية يستند إليها الناس في حياتهم اليومية مهما علت مراتبهم أو بعدت منازلهم. وهذه الظاهرة وحدها كافية للدلالة على وجود المجتمع الجزائري الموحد خلال العهد العثماني. فإذا عدنا إلى دراسة خلايا هذا المجتمع وجدنا العثمانيين يأتون في أعلى السلم (من الباشا إلى اليلداش) وكانوا، كما عرفنا، يحتكرون السلطة، فمنهم الباشوات والوزراء والبايات ورؤساء البحر أو الرياس والأغوات أو قواد البر، كما كان منهم أعضاء الديوان أو البرلمان. ولا يكاد يخلو مصدر عن العهد العثماني، معاصر أو غير معاصر مسلم أو غير مسلم، دون أن يصدمه شيوع الرشوة والفساد والجور والانحراف والظلم والاستغلال الشنيع الذي كان يمارسه العثمانيون في الجزائر. فهم، كفئة متميزة وممتازة، كانوا ينظرون إلى السكان نظرة استعلاء واحتقار وازدراء. وكانت الرشوة وجمع الأموال عن طريقها هي أساس العلاقات فيما بينهم ثم بينهم وبين السكان. ولا يكاد يعين أحد في منصب أو يرقى إلى وظيفة إلا إذا رشى الباشا وحريمه ووزراءه وكبار الموظفين، وهلم جرا. وكانت زيارة الدنوش التي يقوم بها البايات للعاصمة كل ثلاث سنوات والزيارة التي يقوم بها خلفاؤهم كل نصف سنة، من مظاهر الرشوة والمهاداة ¬

_ (¬1) يمتلئ كتاب (المعيار) بتفاصيل هامة عن الحياة الاجتماعية والاقتصادية والروحية في المدن والريف. انظر الفصل السابق.

والفساد، بل إن الباشا نفسه كان يبقى في الحكم أو يخنق أو يعزل حسبما يوفره للجنود والضباط والأعوان من مال يأخذه هو بدوره من هنا ومن هناك. وقد قتل الباشا محمد بكداش سنة 1122 لأنه لم يجد مالا يدفعه للجنود بعد فرار باي قسنطينة إلى تونس بالأموال التي كان المفروض فيه أن يقدمها إلى الباشا (¬1). كما قتل معه في ذلك صهره أوزن حسن الذي كان قائد فتح وهران الأول. وفي سنة 1052 وضع الباشا يوسف في السجن لأنه لم يستطع أن يدفع للجنود رواتبهم (¬2). وكانت الحروب الداخلية أحيانا تعلن من أجل جمع المال. فكان الجندي البسيط يستغل المواطن الجزائري إلى أقصى الحدود، كما كان الباشا يستغل كبار الموظفين، بل ويأخذ الهدايا من القناصل الأجانب ودور اليهود التجارية. وقد سجل المؤرخ المغربي أبو القاسم الزياني في أوائل القرن الثالث عشر (على الحكام الترك والقضاة الشرعيين وسائر أهل النفوذ منهم أخذ الرشا، والجور في الحكم وإضاعة الحقوق) (¬3). وسنعرف أكثر عن هذا الموضوع من الكتاب الجزائريين الذين اتهموا العثمانيين بأكل أموال الأوقاف وتجاوزهم الحدود الشرعية والأخلاقية (¬4). وبعد عدة أجيال من الوجود العثماني في الجزائر ظهرت فئة جديدة من ¬

_ (¬1) فايسات (روكاي) 1868، 287. وقد كان البايات يجمعون اموالا طائلة ويحتكرون التجارة في أقاليمهم. وهكذا كان حال مصطفى بوشلاغم وصالح باي ومحمد الكبير وأحمد باي. (¬2) ديلفان (المجلة الآسيوية)، 1922. (¬3) عبد الله كنون (أبو القاسم الزياني)، 35. (¬4) معظم الولاة العثمانيين في الجزائر كانوا من المغامرين أو من المرتدين عن المسيحية. أما الجنود فقد كان معظمهم من أناضوليا. وكان معظمهم أيضا مجهول الهوية جاء إلى الجزائر ينشد الملجأ والثروة والسلطة. وجاء في كتاب (التحفة المرضية) لابن ميمون، 145 أن الخليفة أوزن حسن، صهر محمد بكداش باشا، وقائد حملة فتح وهران، كان قبل زواجه من ابنة الباشا يكثر من شرب الخمر وكان حليس انحراف وبطالة حتى أنه (لا يغدو إلا ثملا) ثم تاب بعد الزواج. وقد قال ابن ميمون ذلك رغم أنه ألف الكتاب في مدح الباشا وصهره.

المولدين العثمانيين (من أمهات جزائريات) وكان أبناء هذه الفئة يطمحون بالميلاد واللغة والانتماء العائلي إلى الصعود إلى المرتبة الأولى في المجتمع. ولكن العثمانيين أصلا - إذا صح التعبير - منعوهم واعتبروهم كراغلة غير أصليين، أو أبناء عبيد، حتى يحافظوا هم على مقاليد السلطة في أيديهم لأن قوتهم تكمن في إبعاد أهل البلاد عنها ولو كانوا من أصلابهم. وكانت ثورة الكراغلة الفاشلة في منتصف القرن الحادي عشر سببا في إبعادهم نهائيا عن مقاليد الحكم (اللهم إلا بعض مناصب البايات) وزادت في مخاوف خصومهم منهم. ولو نجح الكراغلة لتغير وجه التاريخ الجزائري ولوجدنا الحكم فيها أكثر التصاقا بالشعب وأكثر اهتماما بمصالحه وأكثر ارتباطا بقيمه الحضارية، بل لتوقعنا أن يتحول الحكم شيئا فشيئا إلى حكم (وطني) مستقل. والغريب أن العثمانيين كانوا يرفعون أبناءهم في الجزائر إذا كانوا من أسيرات مسيحيات، ويخفضونهم إذا كانوا من أمهات مسلمات. ولكن الغرابة تزول إذا عرفنا أن هدفهم الأساسي كان إبعاد العنصر الأهلي عن مقاليد السلطة. والفئة الثالثة هي فئة الحضر، وهي تشمل سكان المدن (في مقابل سكان البادية). وهي تضم العلماء والتجار وأصحاب الحرف والصنائع والكتاب والإدرايين. ومن الخطأ الشائع إطلاق أهل الحضر على مهاجري الأندلس فقط تبعا لوصف الأوروبيين لهم (بالمور). ذلك أن أشمل وصف لهم هو سكان المدن بمن في ذلك سكان المدن الأصليون والمهاجرون الأندلسيون، كما يشمل كل من استوطن المدن من أهل البادية و (تمدن) بعد أن كان باديا. وكانت هذه الفئة، رغم دورها الاجتماعي والاقتصادي والعسكري أيضا، محرومة من التطلع السياسي لأن احتكار العثمانيين للسلطة قد أوصد الأبواب في وجهها. ولكن هذه الفئة لم تكن بدون نفوذ. فهي عن طريق الجاه المادي (النفوذ الاقتصادي) على يد كبار التجار وأمناء أهل الحرف والصنائع، والجاه الروحي (العلماء ومرابطو المدن والقضاة

والمفتون) كانت تؤثر أحيانا في ميزان القوى. ولكن تأثيرها لا يصل إطلاقا إلى درجة الحكم نفسه. وقد كان الحرمان السياسي، بل الإبعاد المقصود عن السياسة، سببا في جعل هذه الفئة تتطلع إلى ساعة الخلاص من الحكم العثماني (¬1). وتأتي أخيرا الفئة الرابعة وهي كل من لم نذكرهم سابقا. وإذا كان لكل مدينة عمالها فإن العاصمة خلال العهد العثماني كان لها عمال غير مقيمين أو فعليين. وقد كان هناك ثلاثة مصادر لتزويد العاصمة باليد العاملة: زواوة وبسكرة وميزاب. ويبدو أنه كان يدخل ضمن زواوة كل العمال القادمين من المنطقة الجبلية المجاورة لمدينة الجزائر، كما كان يدخل ضمن وصف البسكري كل من جاء من جهة الصحراء الشرقية وكان أسمر أو أسود البشرة سواء كان من أهل الزاب فعلا أو من أهل تقرت ووادي سوف وغيرهم، وأما وصف الميزابي فالمقصود بهم أتباع المذهب الإباضي (¬2). ومهما كان الأمر فإن هؤلاء العمال كانوا يترددون على العاصمة ويعملون في دورها وفي مخابزها وحماماتها وموانيها ومصابغها ومدابغها، ونحو ذلك. وكان منهم أيضا من يعمل عند القناصلة الأجانب. ومعظم هؤلاء العمال كانوا يعودون بأموالهم إلى أهاليهم من وقت لآخر ويستثمرونها هناك في النخيل والزيتون ونحوه. وبالإضافة إلى هؤلاء هناك الزنوج الذين كانوا يعملون أجراء عند الدولة بعد أن حررهم مالكوهم. وكان عددهم يزداد أو ينخفض تبعا لحكم التجارة بين الجزائر وافريقيا (السودان في القديم). وقد تفرعت عن هؤلاء ¬

_ (¬1) يجد المرء في كتابات الأوروبيين عندئذ وصفا صارخا لتذمر الجزائريين من الحكام العثمانيين. ويشهد على ذلك الثورات التي سنعرض إليها. (¬2) عن هجرة أهل ميزاب للعمل في العاصمة والمدن الأخرى خلال القرن الثاني عشر والثالث عشر انظر بحث السيد دونالد هولسنقر وهو بحث ألقاه في مؤتمر منظمة دراسات الشرق الأوسط بأمريكا، آن آربر، نوفمبر، 1978. وكان للميزابيين مؤسسة خاصة بهم وعليها أمين منهم. وقد وجدت في الأرشيف العثماني عددا منهم يعملون في قطاعات تجارية هامة في العاصمة.

الزنوج فروع حيث تزاوجوا وقطنوا أطراف المدن. ويمكننا أن نضيف إلى العمال، الأسرى المسيحيين الذين كانوا يقومون أثناء فترة أسرهم بأعمال يدوية في العاصمة والمدن الكبرى الأخرى كما سبقت الإشارة. وكان هناك فرق شاسع بين مجتمع المدينة ومجتمع الريف. فالنظام الإقطاعي الذي دعمه العثمانيون قد جعل الفلاح يأتي في آخر القائمة الاجتماعية. وكان الفلاح محل استغلال الشيوخ والمرابطين والقواد والخلفاء والجنود وغيرهم من أصحاب الحكم والنفوذ الذين كانوا يتلقون مسؤولياتهم من البايات أو من ممثليهم في الأقاليم. وقد نجح العثمانيون في تدعيم سلطتين في الريف الجزائري الأولى سلطة روحية تتمثل في لجوئهم لأهل الصلاح والخير وأهل الطرقية والتعرف يتزلفونهم ويحمونهم ويطلبون بركاتهم وعونهم على الرعية - والثانية سلطة دنيوية وتتمثل في شيوخ القبائل وقواد العشائر الذين كان العثمانيون يمدونهم بالسيف والبرنس ويقطعونهم الأراضي ويضيفون إلى ذلك بعض الحاميات العسكرية في الوقت المناسب لتأديب الناقمين عليهم وتخويف الباقين من السكان. وكان الجميع متعاونين على استغلال عرق الفلاحين وأهل البادية إلى أقصى حدود الاستعلال، وكان الذي لا يستطيع أن يدفع اللزمة أو الحكر أو الضريبة يصبح مخزنيا أي خادما في صفوف المستغلين، وبذلك يصبح هو بدوره مستغلا لغيره، لأن عليه، في هذه الحالة، أن يبرهن على ولائه للسلطة بمعاقبة الرعية والمغالاة في ذلك. والحديث هنا طبعا عن الجماعات وليس عن الأفراد. ذلك أن هناك قبائل بأسرها قد خرجت من حالة الرعية إلى حالة المخزنية لكي ترقى من حالة كونها موضع استغلال إلى كونها هي نفسها مستغلة لغيرها بل أداة استغلال. وقد كان كثير من الحضر ومن الكراغلة وأصحاب السلطة يملكون أراضي وبساتين خارج المدن، وكانوا يعطونها للفلاحين يعملون فيها لهم عن طريق (الخماسة) لأنهم لا يستطيعون العمل فيها بأنفسهم بحكم تجارتهم وأعمالهم الأخرى في المدن. ونحن نجد في الأرشيف وفي كتابات الأسرى

المسيحيين وكتاب (المرآة) لحمدان خوجة وغيره وصفا لعلاقة الريف بالمدينة وامتلاك أهل المدن أراضي وضيعات ودورا خارج المدن. ولم يكن أهل الريف الجزائري مكونين من رعية ومحزن فقط بل كان هناك المستقلون أيضا مقابل دفع إتاوات للعثمانيين. فالريف الجزائري إذن كان متنوع الحكم، ولكن أقسى أنواع الحكم فيه هو المسلط على الرعية طبعا. والعلاقة هنا بين السلطة والسكان علاقة استغلالية محضة. 3 - ولدينا شواهد كثيرة على تكوين ذوق عام في المدن الجزائرية خلال العهد العثماني، ورغم أن الوضع كان يختلف من جهة إلى أخرى، فإن الطابع الاجتماعي كان واحدا. وسيمر بنا عند الحديث عن المدن شيء من ذلك، ولكننا هنا نود أن نشير إلى انتشار ما نسميه اليوم بمرض النفاق الاجتماعي أو المجاملة وغيرها من الأوصاف اللازمة للحضارة لا للبداوة. وقد ذكر لنا عبد الكريم الفكون وصفا صارخا لحضر قسنطينة في القرن الحادي عشر وهو وصف يمكن تعميمه على أهل تلمسان وبجاية ومدينة الجزائر وغيرها. كما أن ابن المفتي وابن حمادوش قد تركا لنا وصفا آخر لحضر مديتة الجزائر في القرن الثاني عشر. وفي كتاب (البستان) لابن مريم وكتاب (كعبة الطائفين) لابن سليمان أخبار هامة عن حضر تلمسان أيضا. ومما جاء في كتاب (منشور الهداية) للفكون وصفه لما جرى بين زعيمين من حضر قسنطينة (المفتي أحمد الغربي ونائب القاضي عبد اللطيف بن بركات). فقد قال إنه كان بينهما (ألفة الظاهر وفي الباطن مختلفان على عادة صنفهم المسمى بالحضر إذ ذاك صفة لهم لازمة بمجرى العادة لا تتخلف ولو في النادر). ومن الغريب أن هذا الكلام صادر عن زعيم آخر من حضر قسنطينة، وهو المؤلف نفسه، لأنه من عائلة مدنية ذات تاريخ حافل بالعلم والجاه الاجتماعي والروحي. وقد قال بأنه كان يعتقد أن هذه الصفة (المجاملة) قد تتخلف أحيانا عندهم ولكنه اكتشف أنها ملاصقة للحضر (فانبهر لي عموم الوصف في جميعهم إلا, أن بعضهم يعرف منه

(ذلك) ابتداء وبعضهم يخفي ما أكن إلى بلوغ قصده وأربه) (¬1). ونفس الملاحظة أبداها على زعيمين آخرين من مجتمع الحضر بقسنطينة في وقته، وهما أحمد بن باديس وابن نعمون. فقد قال إنهما إذا تواجها تحسبهما أصدقاء وإذا تدابرا يكنان البغضاء لبعضهما (وليس ذلك بدعا مما هو من الجنس الذي يلقب حضريا. فقد جبلوا على ذلك) (¬2). وقد كرر الفكون ذلك الحكم على الحضر في عدة مناسبات أخرى من كتابه. وكانت هناك عادات اجتماعية يمارسها أهل المدن وأخرى يمارسها أهل الريف. وإذا كانت عادات أهل الريف متنوعة وتقوم على توجيهات أصحاب الطرق الصوفية في أغلب الأحيان فإن عادات أهل المدن كانت موحدة وتتأثر بما كان يجري في الأندلس أو في حواضر المشرق الإسلامي. وهي تستمد أصولها من التاريخ الإسلامي والحضارة العربية بصفة عامة. وقد وصف ابن حمادوش بعض عادات مدينة الجزائر ليلة القدر وختم صحيح البخاري وغيرهما من المناسبات الدينية (¬3). كما أن المفتي أحمد بن عمار قد ترك وصفا لما كان يفعله أهل مدينة الجزائر بمناسبة المولد النبوي مثل إيقاد الشموع وإنشاد التواشيح والتزين والتيطب وغيرها (من أنواع المباحات) (¬4). وهناك عادات اجتماعية شاعت خلال هذا العهد وأصبح المجتمع الجزائري معروفا بها في سائر المدن , ونذكر منها حفلات الخطبة والزواج والختان وتوديع واستقبال الحجاج (¬5) واستقبال الدنوش بالعاصمة واستقبال المنتصرين من الرياس والعائدين بالغنائم ونحوها (¬6) وخروج الولاة وعودتهم في ¬

_ (¬1) الفكون (منشور الهداية) مخطوط. سنتحدث عن الفكون في الفصل السادس من هذا الجزء. (¬2) نفس المصدر. (¬3) ابن حمادوش (الرحلة) مخطوط. وهي الآن محققة ومنشورة. (¬4) ابن عمار (نحلة اللبيب)، 69. (¬5) عن بعض ما كان يجري للحجاج انظر رحلة الورتلاني. (¬6) انظر دراستي لقصيدة ابن ميمون في تهنئة أحد القواد في (أبحاث وآراء في تاريخ الجزائر) وعن الدنوش انظر الشريف الزهار (مذكرات) تحقيق أحمد توفيق المدني، الجزائر. 1975.

مناسبات رسمية، وتولية المفتين والقضاة، وتولي سلاطين آل عثمان وميلاد الأولاد لهم، بالإضافة إلى المناسات الدينية كرمضان وعيد الأضحى. ومن عادات شهر رمضان ختم صحيح البخاري في المساجد وإضاءة الشموع فيها وفي غيرها. وأهم ظاهرة اجتماعية في هذا الشهر هي أن المدينة تسهر خلافا لسائر الشهور. فقد جرت العادة أن لا يخرج أحد من داره من سقوط الظلام إلى شروق الشمس. وكانت المدينة تغلق أبوابها فلا ترى أحدا يمشي في الشارع ليلا. أما في رمضان فالجميع يخرجون ويسهرون حتى النساء اللائي كن يخرجن سافرات متخذات من الليل حجابا. ومن الواضح أن المرأة لا تخرج وحدها في هذه المناسبة. وهناك ألعاب كانت تجري يوم عيد الأضحى على الخصوص. من ذلك الألعاب البهلوانية التي تشبه المصارعة والتي كانت تجري يوم الجمعة أيضا. وهي لعبة لم تكن خاصة بمدينة الجزائر بل كان يمارسها الناس، وخصوصا الأتراك، في معظم مدن القطر. أما في العاصمة فقد كان يحضرها يوم عيد الأضحى الباشا وكبار رجال الدولة في المكان المعد لها وهو خارج باب الواد. وكانت هي الرياضة المفضلة عندهم. وخلاصتها أن أشهر اللاعبين يتقدمون زوجين زوجين في حوالي عشرة أزواج ويصعدون على الحلبة (المنصة) المعدة لذلك. ويجلس الباشا وأعوانه على زرابي حول الحلبة، ثم يشرع اللاعبون في مصارعتهم القائمة على خفة الحركة والمهارة في الغلبة وإظهار القوة، كل اثنين يأخذان فترة من الوقت، وهكذا إلى أن ينتهي مجموع اللاعبين. وبعد ذلك يمنح الباشا بعض النقود لكل واحد منهم. وهناك لعبة أخرى تجري في هذه المناسبة أيضا، وتسمى لعبة العصى، وهي لعبة يشترك فيها الباشا أيضا. فقد كان الفرسان (الصبايحية) يسيرون الواحد تلو الآخر ويرمون عصيهم التي تشبه الرماح على بعضهم البعض. والفائز هو الذي يصيب صاحبه. وفي نهايتها يري الباشا أيضا فرسه ويسير

خلف أحد الفرسان ويحاول إصابته بعصاه، والفارس المحظوظ هو الذي يصيبه الباشا بعصاه، لأنه عندئذ ينزل عن فرسه ويتقدم من الباشا الذي يعطيه الدراهم، وهكذا. وقد كانت هذه مناسبة رسمية وشعبية. فالعامة كانوا يكتفون بالتفرج، أما الخاصة فقد كانوا يتراجعون إلى حيث نصبت خيمة الباشا ويقضون بعد ظهر ذلك اليوم في الأكل والشراب واحتساء القهوة (¬1) وهذا هو ما يشبه اليوم حفلة الاستقبال الرسمية. ولم تكن اللعبة البهلوانية أو لعبة المصارعة خاصة بيوم عيد الأضحى بل كانت تجري كل يوم جمعة. غير أن الباشا لا يحضرها إلا في المناسبة الأولى. وكانت تجري يوم الجمعة بنفس الطريقة وفي نفس المكان أيضا، غير أن أشهر اللاعبين لا يلعبون إلا في عيد الأضحى. وكان ليوم الجمعة أيضا مظهره الخاص. ففيه تغلق المدينة أبوابها عند الصلاة كما تغلق جميع الدكاكين نوافذها، ومعظم التجار لا يعودون لفتح الدكاكين بعد الصلاة بل يذهبون في نزهات خاصة مع أهلهم أو يخرجون إلى بساتينهم القريبة أو يزورون بعضهم البعض. أما النساء فقد كن يتوجهن منذ الصباح الباكر إلى المقابر لزيارة موتاهن. وقد كانت هناك حفلات أخرى تسلي الناس وتدفع عنهم الضجر مثل مسرح القراقوز (أو خيال الظل) الذي أدخله الأتراك. ومن ذلك أيضا حلقات إنشاد الشعر الشعبي حيت يقوم المداحون بقص السير والأخبار ومغامرات الأبطال والفرسان. وقد شاع في الجزائر عندئذ شرب القهوة بكثرة ومضغ الدخان وتدخينه في السبسي أو الغليون (¬2) واستعمال النشوق ونحو ذلك. ولم يكن شرب الخمر شائعا عند الطبقات العالية ولا ذوي الشأن والعلم لأنه حرام ¬

_ (¬1) بيتز، 17. (¬2) سنتعرض إلى رأي العلماء في الدخان من الناحية الشرعية، وقد كان اليهود يتاجرون في الدخان حتى أننا وجدنا في الأرشيف العثماني أن بعض الدكاكين كانت مخصصة لبيع الدخان وأن أصحابها كانوا يدعون بـ (الدخاخنية)، وهم من اليهود. والغريب أن بعض هذه الدكاكين كانت ملكا للأوقاف الإسلامية.

ولأنه لا يليق بالمقام. أما الجنود والشباب الترك بصفة عامة فالوثائق تتحدث على أنهم كانوا يشربون بكثرة حتى يعربدوا. وهم إذا عربدوا فقدوا كل سيطرة على أنفسهم حتى أنه يصبح من الخطر الاقتراب من الجنود لأنهم قد يقتلون ويعتدون على النساء والصبيان، ولا سيما عند توجههم في حملاتهم السنوية (في الربيع، نحو الشرق والغرب والجنوب). لذلك يخرج البراح وينادي بابتعاد النساء والصبيان من طريقهم (¬1). وخلافا لما كان يشاع من أن المجتمع الجزائري هو مجتمع الرجل فإن المرأة قد لعبت فيه دورا أساسيا في الميدان الاقتصادي والاجتماعي وحتى السياسي والثقافي. فالمرأة الريفية كانت تقوم بمعظم الأعمال التي هي غالبا من اختصاص الرجل. ومن ذلك الحرث والسقي وعلف الحيوانات ونحوها. وكانت بالطبع تربي الأولاد وتقوم بأعباء المنزل. كما كانت تنتج ملابس الأسرة من برانيس وقنادير ومناديل، بالإضافة إلى نسج الزرابي والحياك وغيرها من وسائل التجارة. ومن جهة أخرى كانت المرأة الريفية تشترك في الحروب مثل علجية بنت بوعكاز التي سيأتي الحديث عنها (¬2). أما المرأة المدنية فقد كانت تتاجر أيضا بعدة وسائل منها تأجير البحارة الذين يقومون لها بالحصول على غنائم البحر وبيعها في أسواق الجزائر من سلع وأسارى ونحو ذلك (¬3). وإذا كانت المرأة المدنية، على خلاف المرأة ¬

_ (¬1) بيتز، 17، انظر أيضا كتاب (المجالس) لأحمد بن ساسي البوني. فقد جاء فيه أن بعض الشبان خرجوا من (دار بعض الأتراك وهم سكارى يتمايلون، وقد خلعت عنهم خلع الأستار) المكتبة الوطنية تونس، رقم 918. (¬2) انظر فقرة الثورات من هذا الفصل. (¬3) هذا بالطبع يشير إلى المرأة التي لا زوج لها. وقد كانت غنائم البحر توزع كما يلي: للمدفعي سهمان وللجندي سهمان. أما الأرقاء الذين يعملون لغيرهم على السفن فيأخذ بعضهم سهمين وبعضهم ثلاثة وبعضهم أربعة أسهم، ولكنها جميعا تذهب إلى مالكيهم. وما عدا هؤلاء جميعا يأخذون سهما واحدا. انظر بيتز، 11.

الريفية، لا تخرج إلا محجبة فإن ذلك لم يقلل من دورها الاجتماعي. فبيتها كان نظيفا يضرب به المثل حتى أن المرء ينتقل فيه حافيا من غرفة إلى أخرى فلا يمس قدميه أي وسخ. وكانت تعتني بتربية الأطفال حتى كان الطفل الحضري مضرب المثل أيضا في النظافة والذوق والجمال. أما أوقات فراغها فكانت تقضيها في الحمام أو في زيارة الأقارب والجيران. وسنعرض إلى بعض مظاهر تجميلها في مناسبة أخرى. وليس صحيحا أيضا أن المرأة لم تكن تشترك في السياسة العامة للبلاد. حقا أنها لم تكن عضوة في الديوان ولا موظفة سامية في إطارات الدولة ولكنها كثيرا ما تدخلت في توجيه القرارات والتأثير على أزواجهن في اتخاذ مواقف معينة. وأول ما نلاحظه في هذا الميدان هو الزواج السياسي الذي كان يتم بين زعماء الترك والكراغلة وزعماء الجزائريين من أصحاب النفوذ والسلطان. فقد تزوج عروج من زوج سليم التومي (¬1). وتذكر المصادر أن مصطفى بوشعلاغم كان متزوجا من عدة نساء صاهر بهن شيوخ النواحي الغربية وقوادها، ولذلك ظل في الحكم ثلاثين سنة. وتزوج أحمد القلي، باي قسنطينة، من أسرة بوعكاز (شيخ العرب)، وكذلك الحاج أحمد باي قسنطينة الذي تزوج من أسرة المقراني وغيرها. ومن جهة أخرى نعرف أن زوج بابا حسن باشا هي التي أثرت عليه في إطلاق سراح الأسرى الفرنسيين عند ضرب هؤلاء لمدينة الجزائر سنة 1688 (1100 هـ) مما جعل الوجق يثورون عليه ويذبحونه (¬2). وقد كانت زوج حسن باشا وراء مقتل صالح باي (¬3). وهناك أمثلة كثيرة على هذه التدخلات ولكنها ما زالت غير مدروسة. كذلك أدت المرأة خدمات دينية واجتماعية وخيرية هامة. فقد وجدناها توقف الأوقاف على الفقراء والمساكين وتساهم في تحبيس الكتب ونحوها ¬

_ (¬1) لوجي دي تاسي، مقدمة الطبعة الفرنسية سنة 1725. واسمها هناك (زفيرة) ولعل اسمها الحقيقي ظافرة. (¬2) بيتز (حقائق)، 150. (¬3) الزهار (مذكرات)، 64.

على المساجد ومراكز التعليم. كما وجدناها ذاكرة عابدة وتقوم على الطرق الصوفية عند وفاة أزواجهن ونحو ذلك، حتى أن بعض الباحثين ادعى أن المرأة وجدت مساواتها بالرجل في ميدان التصوف. وسنتحدث عن ذلك في محله من هذا الكتاب. كما أن المرأة أخذت نصيبا من التعلم، كما سنرى. أما دورها في الحياة الثقافية المحضة من أدب وشعر وتأليف فلا يكاد يذكر خلال هذا العهد (¬1). ورغم المغامرات البحرية والعلاقات التجارية مع أوروبا والحروب التي أدت إلى وفرة الأسرى المسيحيين واختلاطهم بالسكان (¬2) فإن المجتمع الجزائري ظل خلال هذا العهد مجتمعا إسلاميا شرقيا منغلقا على نفسه. فالأفكار الأوروبية قلما تسربت إليه، وإذا حدث شيء من ذلك فإنه سرعان ما يصرف على أنه من إنتاج الكفار، كما حدث عندما سمع بعض الجزائريين بأخبار الثورة الفرنسية. فقد صرفها أحمد بن سحنون (وهو كاتب رسمي لباي الغرب) على أنها قضية تهم الفرنسيين (الكفار) وحدهم ودعا عليهم بأن يجعل الله كيدهم في نحرهم (¬3). وكان الحاجز الديني بين الجزائر وأوروبا أقوى من الحاجز التجاري والسياسي (¬4). فالجزائريون كانوا كغيرهم من المسلمين منطوين على أنفسهم فخورين بحضارتهم غير مبالين بما كانت تشهده أوروبا من تطور عقلي وصناعي وما كانت تقوم به من اكتشافات علمية وجغرافية ومن توسع تجاري واقتصادي. ولم يستيقظوا إلا عندما هاجمتهم ¬

_ (¬1) عن مساهمة المرأة في الأوقاف والأعمال الخيرية انظر الفصل الثالث. وعن تعلمها انظر فصل التعليم. (¬2) حسبما جاء في (وصف إفريقية) لدابر 177، Dapper، أنه كان في مدينة الجزائر وحدها ستة آلاف عائلة من الأعلاج. كما وصل عدد المسيحيين الأسرى فيها إلى خمسة وثلاثين ألف نسمة. وهو رقم كبير بالنسبة لعدد السكان الكلي في المدينة. (¬3) ابن سحنون (الثغر الجماني). مخطوط. (¬4) كان عمر باشا صديقا لمحمد على والي مصر يتراسل معه ويهاديه، ومع ذلك لم يتأثر بطريقته في الحكم. وعمر باشا هو الذي وقعت الحملة الإنكليزية على الجزائر في عهده (سنة 1232) - انظر ليون روش 1/ 31.

تقنيات وأفكار أوروبا (ولا نقول إنسان أوروبا لأن هذا قد هاجمهم عدة مرات من قبل) في عقر دارهم في الحملة الفرنسية على مصر ثم على الجزائر. وأول من نعرف أنه قد وصف تأثير الحملة الفرنسية على مصر والشام هو أبو راس الناصر الذي لم ينبهر بتقدم الفرنسيين العلمي والتقني وإنما هزه ما ارتكبوه من أعمال ضد الإسلام وضد المجتمع المصري المسلم. (¬1) أما محمد بن محمود بن العنابي فقد تأثر بتقدم الأوروبيين ودعا إلى تقليدهم ومجاوزتهم فيما ابتدعوه من الصنائع والعلوم. (¬2) وهو أول من نادى بذلك من الجزائريين حسب علمنا، وكلا الرجلين (أبو راس وابن العنابي) عاش في أواخر العهد العثماني (¬3). ولم تكن المدن الجزائرية كالمدن الأوروبية. فإذا كانت هذه قد أخذت في النمو المطرد نتيجة للعمران وتزايد السكان وازدهار التجارة وبداية الصناعة والحماية الصحية ووفرة رؤوس الأموال وانتشار التعليم - فإن المدن الجزائرية كانت ما تزال تعيش بأسلوب العصور الوسطى الأوروبية، في شكلها على الأقل، قالشواع ضيقة والأبواب تغلق من الغروب إلى الشروق، وليس هناك بنوك ولا تنافس رأسمالي، ومن ثمة لم يكن هناك فنادق ولا مستشفيات بالمعنى المعمول به في أوروبا، ومراكز التعليم كانت تقليدية وضعيفة المردود. ولم تكن المطبعة ولا الصحف قد دخلت الجزائر خلال العهد العثماني. لذلك لا نستغرب أن يكتب بعض الأوروبيين في القرن الثاني عشر (18 م) نقدا لاذعا. للحالة العقلية التي كان عليها المجتمع الجزائري في ¬

_ (¬1) انظر مخطوطة كتابه (الحلل السندسية). وقد شاهد أبو راس آثار الحملة عيانا أثناء حجه. (¬2) انظر كتابنا (المفتي الجزائري ابن العنابي) الجزائر، 1977، وخصوصا تحليل كتابه المخطوط (السعي المحمود في نظام الجنود). (¬3) توفي أبو راس سنة 1223 أي قبل الاحتلال الفرنسي للجزائر، وتوفي ابن العنابي سنة 1267، ولكنه كتب كتابه قبل الاحتلال.

وقته (¬1). وأن يكتب آخر في أوائل القرن الثالث عشر (19 م) نقدا ألذع من نقد صاحبه بعد أن لم يجد في المجتمع الجزائري ما كان يطمح إليه من أفكار وتجديد ونشاط عقلي قائلا (إن الأفكار تموت إذا لم تجد مجالا للتجديد المستمر) وقد قال أيضا بأنه كثيرا ما كان يخرج إلى شوارع العاصمة (مدينة الجزائر) فلا يجد (شيئا يسترعي انتباهه فلا مكتبة ولا مقهى فيه جريدة ...) وهذا كله بعد أن دقت أوروبا أبواب العالم الإسلامي في حروبها مع الدولة العثمانية وفي الحملة الإنكليزية على الجزائر وفي الحملة الفرنسية على مصر والشام. ومما لا شك فيه أن فرنسا لم يكن في مقدورها أن تحتل الجزائر لو لم يكن المجتمع الجزائري ضعيفا على النحو الذي وصفه به ابن العنابي وشو وبانانتي (¬2) وأضرابهم (¬3). 4 - وتتحدث الكتب والوثائق عن وقوع الجوائح في العهد العثماني والنتائج السيئة التي خلفها في الأرواح وفي الحياة المادية. ولم يكن ذلك مقتصرا على العاصمة بل كان شاملا لجميع أنحاء البلاد. وتشمل هذه الحوائج الطاعون، الذي يذكره بعض الكتاب باسم الوباء، والزلازل والجفاف والمجاعات الكبيرة والجراد. ويشير ابن مريم في (البستان) إلى الطاعون الذي حدث سنة 981 والذي أدى إلى وفاة عدد من العلماء والصلحاء، بالإضافة إلى العديد من الناس (¬4). كما تحدث عبد الكريم الفكون عن طاعون آخر حدث سنة 1031 وكانت له آثار سيئة أيضا. وفي رحلة ابن حمادوش حديث عن الطاعون الذي حدث أثناء حياته. كما ألف ¬

_ (¬1) توماس شو، 355. (¬2) بانانتي، 86. ولاحظ هذا بأن معارضة الحكومة الجزائرية العثمانية لإدخال المطبعة لا تعود، كما كانت تدعى، إلى الخوف من فقدان النساخين حرفتهم وخبزهم، ولكن إلى معارضتها هي لنشر المعرفة. انظر 251 منه. (¬3) رغم أن ابن العنابي قد جعل موضوعه المجتمع الإسلامي على الإطلاق فإنه بحكم النشأة والتجربة كان يتحدث عن المجتمع الجزائري في وقته. (¬4) ابن مريم (البستان) 264، 281، 286.

هو كتابا في الطاعون، وألف محمد بن رجب بعده، وكذلك أبو راس، كتبا في نفس الموضوع. وفي كتاب مسلم بن عبد القادر (أنيس الغريب والمسافر) وصف أيضا لهذا الوباء ونتائجه (¬1) وتشير الوثائق إلى وباء آخر حدث سنة 1054 وإلى جفاف واسع حدث سنة 1057 (¬2) وقد دام الطاعون الكبير من سنة 1201 إلى سنة 1211 ومات من جرائه خلق كثير (¬3). كما حدثت عدة زلازل مثل الزلزال الذي أصاب البليدة أوائل القرن الثالث عشر. ولا شك أن المتضررين من هذه الجوائح هم العامة سيما وأن إمكانيات التغلب على آثارها عندهم ضعيفة. وكان العثمانيون لا يهتمون بالحياة الصحية للسكان. ذلك أن معظم البايات والباشوات كان لهم أطباء أجانب يختارونهم عادة من الأسرى الأوروبيين الذين يقعون في قبضتهم أو يستجلبونهم بالأموال، ولكنهم لم يفعلوا شيئا من ذلك للتخفيف على السكان من الآلام والأمراض. وكان للجيش جراحه المسلم، ولكنه كان يستعمل الوسائل البدائية بالإضافة إلى أنه لم يكن جراحا إلا بالإسم، ولقبه الرسمي هو باش جراح. لذلك اعتمد الناس على وسائلهم الخاصة واستعملوا الطب التقليدي في أدويتهم بما في ذلك الأدعية والأحجبة وبصاق الأولياء وتمائم السحرة والمشعوذين. ولم يكن هناك مستشفيات ولا مصحات، بينما كان للأجانب، كالإسبان والإنكليز، مستشفيات خاصة بهم في الجزائر. ولعل أهم وسيلة حماية طبقها العثمانيون في الجزائر هي ما يعرف بالحجر الصحي (¬4). فقد كانوا يبقون السفن الواردة ¬

_ (¬1) عن الكتب المذكورة انظر مواضعها في الجزء الثاني من هذا الكتاب. (¬2) فايسات (روكاي) 1868، 352. كما حدث قحط آخر سنة 1184 دام ست سنوات انظر الزهار (المذكرات). (¬3) الزهار (المذكرات) 51، وقد قال إن الموتى منه بلغوا خمسمائة جنازة يوميا. (¬4) حتى هذه الوسيلة لم تكن دائما محترمة. فالوباء الكبير الذي أشرنا إليه حدث على ما قيل نتيجة وصول مركب من بلاد الترك وفيه رجل مصاب بالوباء يسمى ابن سماية. انظر الزهار (المذكرات) 51. وفي مذكرات ناثانيال كاتنق الأمريكي ما يؤكد ذلك. انظر (المجلة التاريخية) - الأمريكية 1860، 262.

دور المدن

فترة معلومة قبل أن يسمحوا لها بالدخول إلى الميناء ولركابها بالنزول سواء كانت السفينة قادمة من بلاد إسلامية أو من بلاد مسيحية (¬1) وكانت أوروبا تفعل ذلك أيضا مع الجزائر، فقد كانت تغلق مراسيها في وجه السفن الجزائرية أو القادمة من الجزائر إذا ثبت انتشار الوباء فيه (¬2). ولكن هذا لا يعني أن الولاة العثمانيين لم يلتفتوا البتة إلى النواحي الصحية. فقد قيل إن حسن باشا بن خير الدين قد بنى حماما في الجزائر على غرار حمام والده في إسطانبول وكان يدخر مدخوله لنفسه. كما قيل إنه بنى مستشفى أو اثتين. ولعل صالح باي ومحمد الكبير قد قاما بأعمال من هذا النوع أيضا. ولكن الملاحظ على هذه المنشآت أنها قليلة بل نادرة، وأنها لم تكن لمصلحة الناس عموما وإنما كانت لمصلحة منشئيها أو للعثمانيين فقط. غير أن الحمامات عموما كانت شائعة في المدن الجزائرية، وكانت من إنشاء أهل الحضر، وأهل الخير أيضا، بالإضافة إلى الحمامات المعدنية الطبيعية. دور المدن 1 - ولنذكر الآن نماذج للمدن الجزائرية خلال العهد العثماني، مبتدئين بالعاصمة. فقد تحولت هذه المدينة من مرسى صغير يلجأ إليه الصيادون ويأوي إليه المسافرون كمحطة ثانوية عند هبوب العواصف إلى مرسى كبير يستقبل مختلف السفن والبضائع ويقصده تجار الداخل والخارج على السواء. كما تحولت من قرية مجهولة وعرة المسالك معلقة على صدر الجبل إلى عاصمة للقطر كله كثيرة العمران وافرة السكان. ولم يكن للقطر الجزائري، قبل القرن العاشر، وحدة سياسية جغرافية كالتي عرفها بعد ذلك. ولذلك لم ¬

_ (¬1) في رحلة ابن حمادوش خبر عن تطبيق الحجر على سفينة حجاج كانت قادمة من الإسكندرية. (¬2) أورد الأمريكي ناثانيال كاتنق الذي أرسله جورج واشنطن في مهمة خاصة إلى الجزائر أن أوروبا قد قطعت صلاتها بالجزائر إثر انتشار الطاعون فيها سنة 1793. انظر (المجلة التاريخية) - الأمريكية - 1860، 262.

يكن له عاصمة سياسية واحدة. فلم تكن مثلا تلمسان الزيانية ولا قسنطينة الحفصية عاصمة للقطر كله كما أصبحت مدينة الجزائر في العهد العثماني. وكان الموقع الوسطي لمدينة الجزائر وكونها مدينة بحرية ووقوعها عند المنافذ الجبلية الطبيعية المؤدية لمختلف الاتجاهات الأخرى في الداخل وتحصيناتها الطبيعية بالجزر التي كانت أمامها وبجبل بوزريعة الذي يحميها من جهة الجنوب الغربي ووادي الحراش الذي يحميها شرقا ثم موقعها عند سهل متيجة الغني الواسع - كل ذلك قد أهلها لأن تصبح عاصمة سياسية عن جدارة يصل سلطانها بسهولة إلى الجهات الثلاث المسكونة (الشرق والغرب والجنوب). وقد نبهنا إلى أن الفضل في اتخاذها عاصمة سياسية يعود إلى الأخوين عروج وخير الدين بربروس. ولعل ذلك منهما كان بمحض الصدفة في بادئ الأمر. فالعثمانيون قد لبوا دعوة الشيخ سليم التومي، شيخ الثعالبة الذي كانت مدينة الجزائر عاصمة لأمارته، وقد احتل الإسبان الذين كانوا الهدف الرئيسي في النزاع مع العثمانيين مواقع أمامية لمدينة الجزائر. فوضع حامية، بعد طرد الإسبان، وإقامة جهاز حكم في مدينة الجزائر عندئذ قد جعلها تدريجيا عاصمة للنشاط العثماني بأسره في الحوض الغربي للبحر الأبيض المتوسط. ومن ناحية أخرى نذكر أن مدينة الجزائر قد أصبحت بعد ذلك منطلقا للاستيلاء على تلمسان التي كانت ما تزال في أيدي الزيانيين وعلى قسنطينة التي كانت ما تزال أيضا في أيدي الحفصيين. بل جعلها منطلقا للاستيلاء على تونس ومحاولة الاستيلاء على فاس. ولم يحن منتصف القرن العاشر (16 م) حتى أصبحت كل الجزائر الحالية ما عدا مدينة وهران ومرساها، في قبضة العثمانيين. ومن مدينة الجزائر كان ينطلق الهجوم على أوروبا أيضا حتى أصبحت هذه المدينة في نظر الأوروبيين مركز الرعب، وقد دعوها بأسماء مختلفة مثل جلادة المسيحية وعش القرصنة وغير ذلك من الأسماء التي كانت تثير عندهم الخوف والاحترام والكراهية أيضا. وقد كانوا يخيفون أطفالهم باسم الجزائر. أما عند المسلمين فهي الجزائر المحمية

والبيضاء والمجاهدة والمحروسة وغير ذلك من الألقاب الدينية والحربية. ولم تكن مدينة الجزائر قبل العثمانيين خالية من العمران. حقا إننا لا نعرف بالضبط عدد مكانها ولا عدد منشآتها ولكن هناك أدلة على أنها كانت تضم الجامع الكبير الذي ما يزال قائما إلى اليوم، وعددا آخر من المساجد والزوايا والربط، بالإضافة إلى الحصون والدكاكين والمخازن والأسواق ونحو ذلك من أسباب العمران. وكانت أيضا موطنا لعدد من العلماء أمثال عبد الرحمن السطاح وأحمد بن هلال العروضي وعبد الله بن السكات ومحمد القلعي وأبي البركات الباروني وعبد الرحمن الثعالبي وأحمد الجزائري صاحب المنظومة الشهيرة (بالجزائرية)، وهو الذي ذكر مدينة الجزائر في الأبيات التي أوردناها في الفصل الأول والتي تدل على أنها كانت مدينة هنيئة العيش وافرة أسباب الراحة والعافية، ولكن الأحوال تغيرت عليها في وقته، ولذلك قال: كدنا لأجل الحادثات بها ... نختار، والله، للسكنى بواديها من بعد عيش هني عم ساكنها ... وبعد عافية حلت بناديها ويبدو أن نمو مدينة الجزائر كان سريعا خلال القرن العاشر (¬1). ففي نهاية هذا القرن كان أهلها، وكذلك الرحالة والواصفون، يسمونها (إسطانبول الصغرى) لكثرة أسواقها وتجارها ووفرة عمرانها وسكانها. فقد وصفها التمغروطي عندئذ (سنة 999) بأنها كانت عامرة كثير الأسواق كثيرة الجند حصينة لها ثلاثة أبواب وفيها المسجد الجامع الواسع وإمامه مالكي، كما فيها ثلاثة جوامع خطبة أحدها للترك وإمامه حنفي ومرساها عامر بالسفن، وهي ¬

_ (¬1) منذ حوالي منتصف القرن العاشر وصفها الكاتب والفنان نيقولاي نيقولاس بأنها آهلة جدا بالسكان حتى بلغوا ثلاثة آلاف موقد (حوالي 21 ألف نسمة) وفيهم الحضر والترك واليهود وغيرهم. وأخبر أن معظم الترك هناك هم مسيحيون اعتنقوا الإسلام، وأغلبهم أسبان وطليان وبروفونصال في الأصل. ولاحظ أنهم كانوا شرسي الطباع. انظر كتاب (تاريخ الترك العام) باريس 1662, 62 القسم الخاص بملاحظات نيقولاي.

أفضل من جميع بلاد إفريقية وأعمر وأكثر تجارا وفضلا وأنفذ أسواقا وأوجد سلعة ومتاعا حتى أنهم يسمونها إسطانبول الصغرى. وقد وصف التمغروطي جيش الجزائر عندئذ بأنه شجاع قوي الجأش يقهر النصارى في بلادهم وقال عن الجنود بأنهم (أفضل من رياس القسطنطينية بكثير وأعظم هيئة وأكثر رعبا في قلوب العدو) وعندما وصف ما حل بالسفينتين اللتين ثار فيهما الأسرى الأوروبيون على المسلمين أثناء توجههما إلى إسطانبول بهدايا الجزائر، قال التمغروطي بأن السفينتين كانتا بقيادة رياس من إسطانبول ولو كان رياسهما من الجزائر لما حدث لهما ذلك (¬1). وبعد حوالي قرن حل بمدينة الجزائر أديب مغربي آخر فوصفها أوصافا أدبية تدل على ما وصلت إليه العاصمة عندئذ من عظمة وبهاء. فهي عند ابن زاكور ذات جمال باهر (غص ببهجتها كل عدو كافر، لذلك يتربصون بها الدوائر. ويرسلون عليها صواعق لم تعهد في الزمن الغابر) وقد عاين رواءها الذهبي وبحرها الأزرق فذكرته بيت الشاعر: بلد أعارته الحمامة طوقها ... وكساه حلة ريشه الطاووس ففيها الحدائق الغناء والقصور الجميلة، وهي بيضاء في الصباح ذهبية في المساء. أما عن علمائها وفضلائها فقد وصفهم بالأعلام والأجلاء والأئمة الفضلاء الذين تفتخر بهم الأمة الإسملامية. وقد درس هو على بعضهم وأجازوه (¬2). ونفس الأوصاف والإعجاب نجدها في كتابات عبد الرحمن الجامعي المغربي أيضا ومصطفى بن رمضان العنابي ومحمد بن ميمون وأحمد بن عمار، وجميعهم من أهل القرن الثاني عشر (18 م). ¬

_ (¬1) التمغروطي (النفحة المسكية)، 139. (¬2) ابن زاكور (الرحلة)، 3. وقد لاحظنا أن قوة الجزائر الاقتصادية والسياسية بلغت ذروتها في القرن الحادي عشر (17 م). انظر (مختارات من الشعر العربي) من تحقيقنا، دار الغرب الإسلامي، بيروت 1990.

والظاهر أن العاصمة في العهد العثماني كانت مدينة دولية (أو كوزمو بوليتان). فقد عرفنا أن سكانها كانوا من مختلف الأجناس، بالإضافة إلى أهلها الأصليين، وكان فيها أيضا مختلف الأديان واللغات. وكانت مفتوحة للتيارات الخارجية إلى حد كبير. وهي لذلك كانت توفر حاجات مختلف السكان. فقد كانت فيها المقاهي والبزارات والملاهي والحانات بل كان فيها البغاء المنظم عن طريق الدولة. ولا شك أن ذلك كان معمولا لسد حاجات الجند المفترض فيهم العزوبة، وكذلك حاجات غيرهم من الأجانب والجزائريين (¬1) أما الحانات فقد كان يديرها اليهود ويتردد عليها العرب والعثمانيون والأجانب (¬2). وقد اختلفت وتضاربت الأقوال حول عدد سكان العاصمة في العهد العثماني غير أنه لا يمكن الوصول إلى رقم مضبوط لعدم توفر الإحصاءات الدقيقة. وكل ما يوجد عندنا هو مجرد تقديرات الرحالة الأجانب أو تخريجات الدارسين من سجلات رواتب الجنود وسجلات دفع الضرائب من السكان. وقد أشرنا إلى أن العاصمة قد تعرضت إلى جوائح أدت بدورها إلى هلاك عدد كبير من السكان وتسببت في عدم استقرار نسبتهم. ومهما كان الأمر فقد قدر الحسن الوزان عدد السكان بثمانية وعشرين ألف نسمة، وقدرهم نيقولاي في القرن العاشر (16 م) بواحد وعشرين ألف نسمة. أما فرنسيس نايت فقد قدرهم، أواسط القرن الحادي عشر، بحوالي ثلاثة وعشرين ألف نسمة، بينما قدرهم بعضهم، أواخر العهد العثماني، بحوالي مائة وعشرين ألف نسمة، وهناك إحصائية أخرى في نفس الوقت تحصرهم ¬

_ (¬1) رغم، وجود البغاء المنظم والرسمي فإن الشذوذ الجنسي كان منتشرا بين الجنود العثمانيين. انظر فرنشيسكو خيمينث الأسباني في (المجلة التاريخية المغربية) 12، 1978، 199. ترجمة ونشر ميكال دي ايبالزا والهادي الوسلاتي. انظر أيضا شعر المنداسي في هجاء الترك. وكذلك تأليف جوزيف بيتز (حقائق) 17، وتأليف فرنسيس نايت (سبع سنوات) الخ. (¬2) حمدان خوجة (المرآة)، وبنانتي، 114.

في ثلاثين ألف نسمة فقط (¬1). وكانت العاصمة تضم عددا من المؤسسات الدينية والعمرانية من ذلك المساجد والزوايا والقباب والثكنات، التي قدرها بعضهم بثماني ثكنات كبيرة (¬2)، وخمسة معتقلات كبيرة للأسرى المسيحيين وثمانية أبراج مسلحة بالمدافع، ولها خمسة أبواب، وحولها خندق عظيم. وكان فيها عدد من القصور والدور الضخمة أهمها قصر الداي الذي يتكون من قسمين كبيرين وفيه غرف واسعة وسواري رخامية. وكان أثاثه من المرايا والزرابي والساعات الكبيرة. وكانت فيها دور واسعة لا تقل رونقا عن القصور الرسمية يسكنها أغنياء الحضر والكراغلة. وما زالت بقايا هذه الدور اليوم ممثلة فيما يعرف بالدور الأندلسية أو (الموريسكية). بالإضافة إلى ما ذكرناه من أسواق وبزارات وحمامات وصنائع وبساتين يضرب بها المثل. وكانت شوارع المدينة ضيفة نسبيا لأسباب تتعلق بالأمن من جهة وبالطبيعة والمناخ من جهة أخرى. وجميع الكتابات تؤكد أن مدينة الجزائر كانت من أشهر المدن أمنا لساكنيها. وقد تغنى بعض الأدباء بطبيعة وقصور وجمال مدينة الجزائر، كما نرى ذلك في الحديث عن الأدب. وقال عنها بعض الأوروبيين أنها كانت تشبه سفينة شراعية عريضة من الأسفل ضيقة من الأعلى. وقد عدد دابر بعض الحرفيين في مدينة الجزائر وحدها فكانوا كما يلي: 3000 نساج، 1200 نحات (أو نجار)؟ 400 خباز، 300 جزار، الخ. كما ذكر أنه كان بها 107 مساجد، و 62 حماما، 9 فنادق، 6 سجون. 2 - وتأتي مدينة قسنطينة بعد العاصمة في الأهمية خلال العهد ¬

_ (¬1) الحسن الوزان، 2/ 347، وكذلك نيقولاي (تاريخ الترك العام)، 62، وفرنسيس نايت (قصة سبع سنوات .. في الجزائر)، لندن 1640، 50، وبانانتي، 109، ونوا، 363، وجول بارلو، 121، انظر أيضا دابر، 177. (¬2) ذكر ذلك السيد ديني (المجلة الإفريقية) 1920، 217، وذلك في القرن الثاني عشر (18 م). وعن المؤسسات الثقافية بالعاصمة وغيرها، انظر الفصل الخاص بالمؤسسات فيما يأتي.

العثماني. وتظهر هذه الأهمية لقسنطينة في كون وهران ظلت تحت الحكم الإسباني إلى سنة 1205 (باستثناء فترة قصيرة 1119 - 1145) وكون مدينة تلمسان قد ضعفت مكانتها خلال هذا العهد. وقد اكتسبت قسنطينة التي دخلت الحكم العثماني في حوالي سنة 932 (¬1) أهميتها من عدة عوامل، كونها مدينة داخلية ومحصنة طبيعيا وبعيدة عن غارات العدو البحرية التي طبعت ذلك العهد، وكونها قريبة من تونس. ومن جهة أخرى فإن بعد قسنطينة عن العاصمة جعل حكامها شبه مستقلين عن السلطة المركزية. وكان إقليم قسنطينة أكبر أقاليم القطر الثلاثة مساحة حتى أن القنصل الأمريكي شيلر، عندما ذكر سكان مدينة الجزائر كلها قد قدر أن نصفهم كانوا في إقليم قسنطينة وحده كما أن بانانتي الإيطالي الذي قدر سكان مدينة الجزائر بمائة وعشرين ألف نسمة، قد جعل سكان مدينة قسنطينة مائة ألف نسمة (¬2). وقال الكاتب الفرنسي ديفونتين عن قسنطينة في القرن الثاني عشر (18 م) بأنها آهلة جدا بالسكان وأنها أكبر وأجمل من مدينة الجزائر (¬3). وتذكر بعض المصادر الأخرى أن عدد سكان المدينة كانوا حوالي تسعة وثلاثين ألف نسمة قبل الاحتلال (¬4). ¬

_ (¬1) اختلفت الروايات في تاريخ دخول قسنطينة في طاعة العثمانيين، فبعضهم، كالانبيري، يجعله سنة 927، أي في عهد خير الدين. وبعضهم، كابن أبي دينار، يجعله سنة 932 حين انتهاء الحكم الحفصي فيها. وبعضهم، كالعنتري، يجعله في ولاية فرحات باي سنة 1057. (¬2) بانانتي، 109 وقدر شيلر سكان مدينة قسنطينة وحدها بـ 25 ألف نسمة. أما نوا، الذي كان قنصل أمريكا في تونس، فقد قدر سكان قسنطينة سنة 1813 بستين ألف نسمة وقال إن الحياة فيها آمنة والمعيشة رخيصة وسكانها مهذبون. انظر نوا، 368. وقال أحمد الانبيري، مؤلف كتاب (علاج السفينة في بحر قسنطينة)، إن سكان هذه المدينة قد بلغوا أربعين ألف نسمة. وهذا بالطبع بعد احتلال الفرنسيين لها وفرار بعض العائلات منها ومقتل عدد كبير من سكانها. (¬3) نقل ذلك أندري نوشيه في مجلة (الكراسات التونسية) 1955، 373. (¬4) نفس المصدر، 374.

ومهما كان الأمر فإن مدينة قسنطينة كانت، خلال هذا العهد، ثاني مدينة في القطر أهمية وحجما. وكان ترتيب مكانها الاجتماعي لا يكاد يختلف عن تركيب سكان العاصمة عندئذ. فقد كان سكانها الحضر هم الكثرة الغالبة. ويشمل هؤلاء العائلات القديمة التي استوطنت المدينة منذ أحقاب، كما يشمل العائلات الحضرية الطارئة من الأندلس وبجاية وتونس وغيرها من المدن. وقد انضم إلى هذا الصنف المولدون من العثمانيين وجالية كبيرة من اليهود، بالإضافة إلى عدد من الزنوج القادمين من الصحراء عن طريق التجارة ونحوها. كما أن بني ميزاب والبساكرة وأهل سوف كانوا فيها بعدد غير مؤكد. وكان أهل زواوة أيضا كثيرا ما يقصدونها للتجارة والعلم والعمل اليدوي. وفوق هذه الفئات الاجتماعية كان يتربع الباي ووزراؤه وديوانه وقواده، وكانت السلطة السياسية والعسكرية في يد هؤلاء. أما السلطة الاقتصادية والروحية ففي أيدي الفئات المذكورة آنفا. فالعلم وشؤون الدين في أيدي الحضر على العموم، والاقتصاد والتجارة في أيدي الحضر والكراغلة واليهود أيضا (¬1). ومن أشهر العائلات الغنية في قسنطينة (غنى الأرض وغنى التجارة أو كلاهما) عائلة الفكون، وابن البجاوي، وابن جلول، باش تارزي، وابن باديس، وابن حسن، وابن نعمون. وقد مر بنا وصف عبد الكريم الفكون لحضر هذه المدينة الذين يبدو أنهم كانوا يمثلون، مع حضر تلمسان، حضر القطر الجزائري أكثر مما كان يمثلهم حضر مدينة الجزائر التي كانت كما لاحظنا، مدينة دولية مفتوحة، بينما كانت قسنطينة مدينة وطنية صميمة. وكانت مدينة قسنطينة تضم أيضا منشآت عمرانية كثيرة. من ذلك ¬

_ (¬1) كان يهود قسنطينة الذين بلغ عددهم حسب بعض الروايات خمسة آلاف نسمة يصدرون تجارة تدر عليهم ما لا يقل عن مليون دولار سنويا بعملة ذلك الوقت -وكانوا يصدرون الصوف والقمح والشعير والوبر وريش النعام والشمع والجلود والغنم والخيول والبقر والبغال والدجاج والخشب وغيرها إلى أوروبا. انظر نوا (رحلات). 368.

الثكنات والمساجد والقصور والمدارس. وقد أشار الرحالة الورتلاني في القرن الثاني عشر (18 م) إلى أن مدينة قسنطينة تضم خمسة مساجد جمعة، وعاب على ولاتها (وهو يعني الإدارة العثمانية - البايات) عدم اهتمامهم بالأوقاف والمدارس (¬1) وقد اكتسبت نتيجة ذلك شهرة علمية في العالم الإسلامي لا تضاهيها سوى شهرة فاس والقاهرة. ومن أشهر منشآتها قصر الباي الذي كان ما يزال تحفة فنية وأثرية (¬2). والإضافة إلى ذلك كانت هذه المدينة كثيرة الأسواق والدكاكين والحمامات والدور الجميلة الواسعة - كما اشتهرت بصناعة الطرز المحلي والصياغة وغيرها من الصناعات النسائية. وكان دنوش قسنطينة من أغنى دنوش الجزائر حتى أن أهل مدينة الجزائر كانوا ينتظرونه بشوق لأنه بالنسبة إليهم كان مناسبة اجتماعية واقتصادية كبيرة. 3 - أما تلمسان فقد فقدت كثيرا من سمعتها وقيمتها خلال العهد العثماني. وكان التدهور قد بدأ يحل بها قبل ذلك. فالاحتلال الإسباني لوهران ومرساها الكبير قد أدى إلى تدهور تلمسان الاقتصادي، وكذلك السياسي. وغداة استيلاء العثمانيين على السلطة في الجزائر كان الحسن الوزان (ليون الإفريقي) يصف تلمسان (سنة 923) بأنها تحتوي على ثلاثة عشر ألف موقد (حوالي ثمانين ألف نسمة) وأنها كانت تضم عددا من المساجد وخمس مدارس (¬3). كما تحدث عن طبقاتها الاجتماعية فقال إنها تضم الصناع والتجار والعلماء والجيش. غير أن النزاع بين الإسبان والعثمانيين في البحر وحول وهران، ثم بين العثمانيين والزيانيين قد أدى إلى زيادة تدهور تلمسان خلال القرن العاشر وبالإضافة إلى التدهور الاقتصادي والسياسي شهدت تلمسان تدهورا اجتماعيا وثقافيا. فقد هاجر عدد من عائلاتها الغنية والعلمية إلى المغرب الأقصى فرارا من الإسبان الذين تدخلوا في شؤون دولة بني زيان عند ضعفها السياسي، ثم فرارا من حكم العثمانيين ¬

_ (¬1) الورتلاني (الرحلة) 687. من المؤسسات العلمية. انظر الفصل الآتي. (¬2) عن قصر الباي أحمد انظر دراسة فيرو عنه في (روكاي). 1867، عدد 11. (¬3) الحسن الوزان (وصف إفريقية) 2/ 333.

عند استيلائهم بالقوة على تلمسان. وبذلك فقدت هذه المدينة عددا من سكانها ذوي النفوذ الاجتماعي والتأثير العلمي. ومن العائلات الشهيرة التي هاجرت إلى المغرب الأقصى عائلة الونشريسي وعائلة المقري (¬1). ولم تستعد تلمسان مكانتها العلمية التي كانت تتمتع بها خلال القرنين الثامن والتاسع (14، 15 م). فقد ظلت خلال العهد العثماني مدينة مهزومة تعاني من التذمر والفقر. وقد حدثت فيها عدة مظاهر للتذمر والثورة نذكر منها ما رواه ابن مريم (في البستان) وما جاء في (كعبة الطائفين) (¬2). أما الزعامة السياسية فقد أخذتها في الغرب الجزائري خلال هذا العهد مازونة ومعسكر ومستغانم ثم وهران (¬3). وأما التدهور الثقافي فيها فسنتحدث عنه في مكانه من هذا الكتاب. 4 - وقد حظيت عنابة بازدهار عمراني طيب أثناء هذا العهد باعتبارها المرسى الأساسي لإقليم قسنطينة الفسيح والغنى وباعتبارها أيضا قريبة من نشاط الشركات الأجنبية، وخصوصا الجنوية والفرنسية الباحثة والمصدرة للمرجان وغيره من خيرات البحر والبر. وقد وصفها بيري رايس العثماني بأنها كثيرة الأسود وأن أهلها يجمعون ويبيعون حب عقير كارها (لعله حب العناب) بالميزان إلى أهل السفن. وتحدث عن أهمية نهر السيبوس وراس سيدي مروان ومرسى الخرز الذي قال إن أهل جنوة قد جعلوه مقرا لهم لصيد وبيع المرجان بمبلغ خمسة وثلاثين ألف قطعة ذهب إلى سفن البندقية. وقال أيضا إن حوالي مائتي عامل كانوا في خدمة هؤلاء التجار (¬4). وقال عنها ¬

_ (¬1) عن هجرة العلماء عموما انظر فصل العلماء من هذا الجزء. (¬2) انظر فقرة الثورات ضد العثمانيين في هذا الفصل. (¬3) بخصوص تلمسان في العهد العثماني انظر دراسة بروسلار في (المجلة الإفريقية) 1862. وكذلك أبا حامد المشرفي (ذخيرة الأواخر والأول) مخطوط. و (كعبة الطائفين) و (البستان) لابن مريم. (¬4) (الكتاب البحري) ترجمة مانتران، (مجلة الغرب الإسلامي) 15 - 16، 1973. 159، وسوشيك (تونس في الكتاب البحري لبيري رايس) (مجلة الأرشيف العثماني) =

التمغروطي أواخر القرن العاشر بأنها كثيرة العناب وأنها وافرة (اللحم والحوت واللبن والعسل. ومنها ترفع السفن اليوم السمن الكثير إلى القسطنطينية) (¬1). وقد ذكر الحسن الوزان بأن عدد سكان عنابة يقدر بثلاثة آلاف موقد (حوالي 21000 نسمة) (¬2). أما قنصل أمريكا في تونس فقد قال بأن عدد سكانها يبلغون في وقته (سنة 1813 م) عشرين ألف نسمة، وإن عنابة كانت مركزا تجاريا كبيرا لصيد المرجان وتصدير الصوف والشمع والجلود والقمح (¬3). والمعروف أن كثيرا من تجار قسنطينة كانوا يترددون على عنابة للقيام بالأعمال التجارية. وكانت الحياة العلمية والدينية في عنابة - كما سنرى، نشيطة أيضا. ومن أشهر عائلاتها العلمية أسرة البوني والعنابي، ومن أبرز مؤسساتها الدينية جامع سيدي أبي مروان. وكانت لعنابة حياة اجتماعية بفئاتها المختلفة، ولكن يلاحظ كثرة اليد العاملة فيها لكونها مركزا تجاريا وبحريا، وكذلك الطبقة المتوسطة لكثرة التجار، كما يلاحظ وجود العناصر الأجنبية هناك من بنادقة وجنويين وفرنسيين وإنكليز ومالطيين ونحوهم. وكان اتصال هؤلاء بالسكان عن طريق التجارة والعمل. 5 - ورغم شهرة بجاية التاريخية فإنها لم تكن تتمتع خلال العهد العثماني لا بمكانتها القديمة ولا بوضع خاص جديد. فقد حل بها عدد من المهاجرين الأندلسيين كسائر المدن الساحلية الجزائرية وتدعم بهم جانب الحضر الذين كانوا يعيشون على تراثهم القديم، ولكن العائلات البجائية الكبيرة التي اشتهرت في القرنين الثامن والتاسع. (عهد ابن خلدون والثعالبي) قد اختفت أو كادت أثناء العهد العثماني. ومع ذلك فقد ظلت بجاية مقصدا ¬

_ = - 1973) 1976 Archivum ottomanium)، دراسة عما جاء في الكتاب البحري عن شرق الجزائر وتونس مع ترجمة لنصه. (¬1) التمغروطي (النفخة المسكية) مخطوط باريس رقم 6898. (¬2) الحسن الوزان، 2/ 370. (¬3) نوا، (رحلات) 369.

لأهل زواوة بل عاصمة علمية وتجارية لهم. ومنها كانوا يتوجهون إلى قسنطينة للعلم وللتجارة أيضا. وقد تحدث عنها بيري رايس في أوائل القرن العاشر فقال إن بها حوالي ثمانية عشر ألف دار (حوالي مائة وستة وعشرين ألف نسمة) (¬1) أما الحسن الوزان فقد قدر عدد سكانها بثمانية آلاف موقد (حوالي ست وخمسين ألف نسمة) ولكن الإسبان قضوا على عمرانها وفر منها العلماء والتجار. وهذا ما لاحظه التمغروطي أيضا في أواخر القرن المذكور. فقد قال إنها كانت مدينة عظيمة ولكنها الآن (في وقته) مخربة، خربها النصارى، وليس بها إلا ديار قلائل وقلعة صغيرة يقيم بها متولي الترك ليمنع المرسى من العدو (¬2). ولم يذكر نوا عدد سكان بجاية ولكنه لاحظ أنها كانت قليلة الأهمية في وقته (سنة 1813 م) ما عدا وجود بعض صناعات الحديد المجلوب إليها من الجبال المجاورة (¬3). 6 - ومن المدن التي كثر ذكرها في العهد العثماني في كتابات الرحالة لعلمها أو لموقعها الاقتصادي: بسكرة والخنقة وتقرت وميزاب ووادي سوف وورقلة وعين ماضي. وكلها في الواقع صحراوية. فقد اشتهرت بسكرة ونواحيها المعروفة بالزيبان بجامع سيدي عقبة التاريخي وبضريح سيدي خالد (خالد بن سنان العبسي) الذي كانت تقصده الناس من جميع أنحاء إفريقية، حسب تعبير الدرعى، وخلوة عبد الرحمن الأخضري الذي سنتحدث عنه، وجامع أولاد جلال ومدرستها المعدة للطلب المهاجرين أو الغرباء، وخنقة سيدي ناجي التي اشتهرت بمعهدها. ¬

_ (¬1) لا شك أن هذا رقم غير دقيق. وقد خص بيري رايس بجاية بحديث طويل فوصف علاقته بالشيخ المرابط محمد التواتي حامي المدينة، الذي عاش أكثر من 120 سنة وقال إنه بعد وفاة الشيخ احتل الأسبان المدينة وخربوها ما عدا الجزء الموالي للبحر. انظر ترجمة مانتران (مجلة الغرب الإسلامي) 15 - 16، 1973 وسوشيك مرجع سابق. (¬2) التمغروطي (النفحة) مخطوط باريس، 6898. (¬3) نوا (رحلات)، 369.

أما بسكرة فقد عرفت بجامعها الواسع المتقن البناء ذي المئذنة الطويلة البالغة مائة وأربعين درجة. وقد لاحظ الدرعي أنها من أنجب المدن وأجملها (رفما رأيت .. أحسن منها في جميع المدن .. شرقا وغربا لوجود أسباب المعاش فيها) (¬1) ونفس الرأي في بسكرة قد أبداه قبله الرحالة العياشي أيضا (¬2) ولكن الأوضاع السياسة في بسكرة لم تكن مستقرة. وقد أشار الدرعي إلى أنه وجد مفتي بسكرة، الشيخ أبا القاسم البشكي البسكري، هاربا في سيدي عقبة خوفا من عاملها (¬3). وأكد ذلك الورتلاني حيث قال إن بسكرة قد أصيبت بغارات العرب (الأعراب) والترك، كما أصيبت بالوباء (¬4). وقال إن الأتراك قد استولوا على الأحباس (الأوقاف) والمدارس الكثيرة التي كانت ببسكرة، وأصبحوا يأكلون منها وينتفعون بها كالأملاك الحقيقية، وهي ليست لهم وليسوا من أهلها ولكنهم تمردوا وطغوا وجعلوا جميع الخطط الشرعية لهم ظلما (¬5). وهذا حكم قاس صدر عن الشيخ الحسين الورتلاني في القرن الثاني عشرو هو حكم قد أصدره ضدهم في قسنطينة أيضا وفي غيرها. وهو يدل على أن بسكرة كانت على عهد الدرعي والورتلاني تعاني من ظلم الولاة الأتراك. وكانت عين ماضي موضع عناية العياشي أثناء رحلته، كما أنها أصبحت موضع عناية الدارسين بعد ظهور الطريقة التجانية بها. فقد حكم الدرعي على أن أهلها جميعا كانوا طلبة. وهو يقصد أنهم كانوا مشتغلين بالعلم. كما أنه لا يقصد بالطبع إلا الرجال، لأنه حكم على النساء حكما قاسيا حين قال إنهن كالبهائم (كدأب نساء هذه النواحي) وقال عنهن أيضا إنهن غير محجبات ¬

_ (¬1) الدرعي (الرحلة) مخطوط المكتبة الوطنية - الجزائر، رقم 1997، 16. (¬2) العياشي (الرحلة) 2/ 409. (¬3) الدرعي (الرحلة) 193. وكانت في بسكرة حامية تركية. وكذلك في بجاية وتلمسان وزمورة ومستغانم ومازونة وعنابة وقسنطينة إلا البليدة لقربها من العاصمة ولكثرة السكان الترك بها حيث كانوا يتزوجون ويستقرون. انظر جوزف بيتز. 9. (¬4) الورتلاني (الرحلة) 117. (¬5) نفس المصدر، 110 ويؤكد ذلك الظلم ثورة ابن الصخري (شيخ العرب) التي سنتحدث عنها والتي شملت بسكرة ونواحيها.

ويخالطن الحجيج يبعن ويشترين وأنهن كن يغسلن الصوف في الساقية الجارية بالماء البارد. وقد وصف الدرعي أيضا أثر غارة السلطان السعدي عبد الملك (تولى سنة 983) (¬1) على أهل عين ماضي، ففد فرق، حسب قوله، شملهم وكسر هيبتهم وأخذ خزائنهم، كما فرض عليهم ألف ريال، وأنه لم يترك لهم شيئا، بينما كانوا من قبل موقرين، فكبر ذلك عليهم. وقال عن مسجد المدينة بأنه مبني بأحجار كأنها منحوتة لاستقامتها وأنه مفروش بقطائف وحصر، وله نور يعلوه، وحوله مطعم كبير للسواح الذين يؤمونه للتعبد (¬2). وعند ظهور الطريقة التجانية لفتت عين ماضي النظر إليها، ومن نتيجة ذلك غارات العثمانيين ضدها بقيادة الباي محمد الكبير (¬3). كما تجدر الإشارة إلى أن أهل ميزاب قد ظلوا محافظين على طابع مدينتهم الإسلامي والعتيق وعلى مذهبهم الإباضي رغم وجود بني جلاب بتقرت والعثمانيين (¬4) في الشمال والسعديين من الغرب. وإذا كان تجارهم وعمالهم قد وجدوا الطريق للعيش في العاصمة وقسنطينة وغيرها من المدن فإن علماءهم قد ظلوا ينتجون في بني يزقن وغيرها من مدن ميزاب كما أن مجتمعهم نتيجة ذلك قد ظل منغلقا على نفسه لفترة غير قصيرة (¬5). ويذكر الحسن الوزان أن ميزاب كانت تضم ستة قصور وهي (غرداية والعطف وبونورة وبنو يزقن ومليكة وسيدي سعيد) كما ذكر أن ميزاب تقع في مفترق ¬

_ (¬1) تولى بمساعدة السلطان العثماني سليم بن سليمان ومعونة الجزائر. وقد انتصر على البرتغاليين في المعركة المشهورة بمعركة وادي المخازن (سنة 986) التي قتل فيها ملكهم سيبستيان وهزموا فيها. انظر (الاستقصا) للناصري، الجزء الخامس. (¬2) الدرعي (الرحلة)، 13. (¬3) أحمد بن هطال (رحلة الباي محمد الكبير) تحقيق محمد بن عبد الكريم، القاهرة 1969. (¬4) وصلت بعض الحملات العثمانية إلى تقرت ووادي سوف ومشارف ورقلة، ولكننا لا نعلم أنهم استولوا على ميزاب. (¬5) عن وضع الميزابيين في آخر العهد العثماني انظر دراسة السيد هولسنقر التي أشرنا إليها.

الطرق التجارية بين تجار الجزائر وبجاية حيث يلتقون بتجار السودان (¬1). وقد استطاع العياشي أن يعاين جامع تماسين (قرب توقرت) وأن يسجل أن له صومعة عالية جدا تبلغ حوالي مائة درجة وأن يشاهد عليها اسم بانيها، وهو، كما قال، أحمد بن محمد الفاسي، سنة 817. وقد حكم على فقهاء وعلماء تقرت حكما قاسيا فقال إنهم (قوم بله لا يكادون يفقهون حديثا) (¬2). وكان أهل تقرت عندئذ في نزاع مع أهل ورقلة. وفي أوائل القرن العاشر ذكر الحسن الوزان أن تقرت كانت آهلة بالسكان وأن دورها مبنية بالطوب المحروق إلا جامعها فقد كان مبنيا بالحجر، وكان سكانها هم الحرفيين ورجال الأعمال من أغنياء غراسة النخيل. وكانوا يبادلون القمح بالتمر، ويرحبون بالغريب ويزوجونه بناتهم ويهدون إليه. وكانت تقرت سياسيا تتبع مراكش تارة وتلمسان تارة أخرى ثم تونس (¬3). وفي القرن العاشر حاصرها الأتراك من الجزائر وأجبروها على دفع الخراج لهم. 7 - وقد لعبت مدن المدية وشرشال ومليانة ومستغانم ومازونة ومعسكر ووهران وندرومة دورا هاما في الحياة الاقتصادية والعلمية خلال العهد العثماني. وعمر المهاجرون الأندلسيون عددا منها مثل تنس وشرشال ومستغانم. وقد قال بيري رايس ان الأندلسيين قد اتخذوا شرشال قاعدة لهم، وقال عن برشيك انها مدينة آهلة بالسكان الأندلسيين. وذكر التمغروطي أن شرشال كانت مدينة حصينة كثيرة العمارة والزرع والفاكهة يجلب منها الزرع وغيره إلى الجزائر. ولا شك أن ذلك كان بعد استقرار الأندلسيين بها وتطويرهم للحياة الزراعية فيها. والتمغروطي نفسه قال عن تنس ان الأندلسيين هم الذين بنوها. وأشهر حاكم بها عندئذ هو حميد العبد الذي ضاد العثمانيين في أول أمرهم ثم تحول فأبقوه في الحكم إلى أن توفي، ¬

_ (¬1) الحس الوزان، 2/ 437. (¬2) العياشي (الرحلة)، 50. (¬3) الحسن الوزان، 2/ 438.

وعندئذ ولوا مكانه عثمانيا (¬1). وقد بنى أحد المهاجرين الأندلسيين مدرسة مازونة المشهورة التي تخرج منها عدد من الفقهاء خلال العهد العثماني، وهو محمد بن الشارف البولداوي. وظلت هذه المدرسة محافظة على سمعتها حتى بعد انتقال كرسي الحكم من مازونة إلى معسكر. ورغم أن معسكر أصبحت لفترة طويلة عاصمة للإقليم الغربي فإنها ظلت مدينة داخلية متخذة كمنطلق للهجوم على وهران ومرساها. ولكن معسكر قد اكتسبت سمعة كبيرة أثناء حكم الباي محمد الكبير. وقد اشتهرت بعدد من العلماء أمثال الرماصي القلعي وعبد القادر المشرفي وأبي راس كما اشتهرت بزاوية القيطنة القريبة منها والتي كان على رأسها الشيخ محيي الدين والد الأمير عبد القادر، واشتهرت كذلك بالمدرسة المحمدية التي سيأتي الحديث عنها. وبقصر الباي ودورها الجميلة. ولا نعتقد أن سكانها كانوا يتجاوزون الثلاثين ألف نسمة أيام ازدهارها (¬2). وكانت وهران قد خضعت مدة طويلة للإسبان (¬3) لذلك كان عددها من السكان المسلمين قليلا نسبيا ويختلف من فترة إلى أخرى. ولم يستطع ¬

_ (¬1) تزوج عدد من الباشوات من أندلسيات مثل حاج بشير باشا الذي نجد له بنتا تسمى عائشة أصبحت زوجة للقائد داود. وسنلاحظ أن عددا من العائلات الأندلسية قد تولت مناصب عالية في العلم والدين خلال العهد العثماني مثل عائلة ابن نيكرو وابن الكبابطي وابن الأمين. (¬2) جاء في تقرير كتب عند الاحتلال الفرنسي أن مكان معسكر كانوا حوالي عشرة آلاف نسمة. انظر تقرير تاتارو، عن مارسيل إيمريت (الجزائر في عهد الأمير عبد القادر 91. (¬3) أقام بن الرحالة عبد الباسط بن خليل حوالي سنة 871 وتحدث عن بعض علمائها أمثال خطيبها محمد القصار، ومفتيها أحمد بن العباس، وسليمان الحميدي وعبد الرحمن بن عزوز، قيم زاوية إبراهيم التازي، وذكر من مساجدها جامع البيطار وجامع الصخرة. ولم يتحدث عن عدد سكانها ويظهر أنها كانت مدينة تجارية لأنه تحدث عن إرساء باخرة بها قادمة من المحيط قصد التجارة في الجوخ ونحوه.

التمغروطي مثلا أن يصفها أواخر القرن العاشر واكتفى بالقول إنها كانت تحت النصارى وإن لم يظهر له منها، وهو يعبر البحر، غير الأبراج، وهو يعني أنه لم يشاهد فيها المآذن الإسلامية. واكتفى بيري رايس بالقول بأن وهران كانت مدينة كبيرة وأنها في وقته تحت الإسبان هي والمرسى الكبير. أما أبو راس فقد قال عنها إنها كانت في القديم كثيرة العلماء والمدارس والمآذن. ولكنه قال عن مدارسها (درسها الكفرة وعفوا رسمها). ولا شك أنها قد أصبحت كثيرة السكان المسلمين بعد فتحه (¬1) آخر مرة على يد الباي محمد الكبير وانتقال كرسي الحكم من معسكر إليها، وقد قدر الفرنسيون سكان وهران قبلهم حوالي خمسة وعشرين ألف نسمة لم يبق منهم حين دخلوها سوى ثلاثة آلاف وتسعمائة شخص جلهم من اليهود (¬2). ... ويمكننا القول، بعد دراستنا لبعض المدن الرئيسية والإقليمية، أن نقول إن المجتمع الجزائري خلال العهد العثماني كان مجتمعا مدنيا، بمعنى أن المدينة كانت تلعب دورا بارزا في حياة السكان وقد بلغ عدد سكان الجزائر، حسب معظم التقديرات، حوالي خمسة ملايين نسمة، وكان عدد العثمانيين فيها اثني عشر ألف نسمة، وكان التطور الاقتصادي والعمراني لبعض المدن قد جعل الريف يتمدن شيئا فشيئا وأخذ الناس يخرجون من طور القبيلة والعرش والدوار إلى طور المدينة والتعايش السكاني المتكامل. حقا أن هذه ¬

_ (¬1) أثناء فتحها الأول سنة 1119 كان الباي مصطفى بوشلاغم الذي جعلها هي عاصمة الإقليم يحتكر التجارة ويتاجر مع الأوروبيين فكان له ما لا يقل عن ثلاثة آلاف من الكراغلة وعدد آخر من الزنوج والأسرى المسيحيين والمسلمين الجدد (المرتدون عن المسيحية) والعرب يعملون في تجارته وأراضيه الواسعة التي كان يحرثها ثلاثة آلاف زوج من الثيران. كما كان أولاده يساعدونه على ذلك. وقد ظل في حكم معسكر ووهران ثلاثين سنة. انظر لافاي، الطبعة الإنكليزية. (¬2) من كتاب (وهران تحت قيادة ديميشال) باريس 1835، 207. ذكر هذا المصدر أن عدد اليهود بها كان 3500 وأن عدد الحضر (مائتان) فقط والباقي من الزنوج. ومعنى هذا أن أهل وهران قد فروا من وجه الفرنسيين.

الحياة الدينية والأدبية والفنية

الظاهرة لم تتم عن طريق الطفرة ولا عن خطة رسمية مدروسة، ولكن الوحدة السياسية للبلاد قد فرضت نوعا من الوحدة الاقتصادية، ومن ثمة نوعا من الوحدة الثقافية أيضا. ومع ذلك فلا يمكننا هنا أن ندعي بأن المجتمع الزراعي الاقتصادي انتهى في الجزائر خلال هذا العهد. الحياة الدينية والأدبية والفنية 1 - لقد قيل الكثير عن موقف الترك من الثقافة سواء في بلادهم أناضوليا أو في البلاد التي دخلت تحت طاعتهم كالجزائر. وأقصى ما اتهم به الترك حب المال والبربرية والجهل والاهتمام بالأمور العسكرية دون المدنية ونحو ذلك من الاتهامات التي تجردهم جملة وتفصيلا من الحضارة والثقافة. ونحن هنا لا نريد أن نعمق هذا الاتهام ولا أن ندافع عن الترك. وكل ما نريده هو الوصول إلى معرفة الموقف الحقيقي للعثمانيين في الجزائر من الثقافة والعلم والدين ومتطلباته. إن تدهور الثقافة الإسلامية قد بدأ قبل استيلاء العثمانيين على السلطة بقرون. كما أن ظهور الطرق الصوفية، الذي كان ظاهرة متصلة بتدهور الثقافة، كان قبل توليهم السلطة أيضا. وتكاد المصادر تجمع على أن الثقافة الإسلامية قد أخذت في التدهور منذ عهد المعتصم بينما ظهرت الطرق الصوفية منذ القرن الخامس الهجري. فالأتراك ليسوا مسؤولين حينئذ على تدهور الثقافة الإسلامية ولا على ظهور التصوف. ولكن التدهور الثقافي والتصوف المنحرف قد أعانا على ظهور الأتراك، كما أن سياسة الأتراك في الحكم قد أعانت بعد ذلك على نشر التصوف الخرافي والانحطاط الثقافي. فالدراويش كانوا وراء تقدم الأتراك في أناضوليا وفي احتلالهم القسطنطينية. وكانوا هم الروح التي تحرك الجندي التركي للجهاد والاستماتة فيه. ومن أهم الدراويش الذين نسب لهم ذلك، الحاج بكداش (القرن 7) وأتباعه المعروفون (بالبكداشية). وقد وصلت طريقتهم أوجها في القرن

العاشر، عصر سليمان القانوني وعصر دخول العالم العربي، ومنه الجزائر، في حكم الدولة العثمانية. وكان رئيسهم يدعى شلبي ويقيم في إسطانبول. وكانت لهم مراكز ونظم سرية وعلنية في مختلف أنحاء الدولة وخصوصا في أناضوليا وروميليا. وكانت الدولة تخشاهم أحيانا (بعد أن كانوا ساهموا في تأسيسها)، لذلك كانت تساند أيضا طريقة أخرى، وهي طريقة جلال الدين الرومي (القرن السابع أيضا) المعروفة بالمولوية، لتحفظ بها التوازن. وكان رئيسهم يدعى أيضا شلبي، ويقيم في قونية، عند قبر جلال الدين الرومي. وكان الاعتراف بهذه الطريقة أو تلك من جانب الدولة يعني حضور رئيس الطريقة الحفلات الرسمية وتقليده رموزا وشعارات من التأييد والاعتراف (¬1). ويهمنا من هذه العلاقة بين التصوف والدولة العثمانية علاقة الدراويش بالإنكشارية. ذلك أن الأساطير تذهب إلى أن الحاج بكداش هو الذي احتضن النظام الإنكشاري وهو الذي أعطى الجنود اسمهم وألبسهم لباسهم المميز. ولم يحن القرن العاشر (16 م) حتى أصبح البكداشية هم الذين يسيطرون فعلا على الإنكشارية وهم الذين كانوا يستقبلونهم ويؤاخون بينهم دينيا وعسكريا. وهذه العلاقة الوطيدة بين الصوفية والعسكرية هي التي ستظهر أيضا في الجزائر كما سنرى (¬2). وقبل أن نصل إلى ذلك نود أن نلاحظ أن هذه العلاقة هي التي جعلت السلطة الحاكمة في إسطانبول تخشى، كما أشرنا، البكداشية فقدمت غيرهم إلى جانبهم، كما أثارت تخوفات العلماء والفقهاء من الدراويش وأهل التصوف المتطرف. وكان ظهور المولوية وإعطاؤها الطابع الرسمي هو الذي جعل كثيرا من أهل الطبقة الوسطى ينضمون إليها. كما أن كثيرا من المثقفين العثمانيين قد انضموا إلى الطريقة المولوية. وكان قرب أصحاب هذه الطريقة من أهل السنة سببا في انتشارها ¬

_ (¬1) انظر بهذا الصدد كتاب هاميلتون جيب وباون (المجتمع الإسلامي والغرب) القسم الثاني، فصول العلماء والدراويش والتربية. (¬2) عن علاقة العثمانيين بالمرابطين الجزائريين وحياة المرابطين في الجزائر انظر الفصل السادس.

بين أهل المدن وأهل الثقافة. وبالإضافة إلى البكداشية والمولوية شاعت في الدولة العثمانية الطريقة النقشبندية والطريقة القادرية وكلتاهما أيضا من الطرق القريبة من عقائد أهل السنة لعدم تطرفهما في ممارسة التصوف (¬1). فإذا رجعنا من هذه النظرة العامة إلى علاقة العثمانيين في الجزائر بالدين وأهله وجدنا تفسيرا واضحا لما قاموا به هناك. فالطرقية (أو التصوف) التي كانت ظاهرة اجتماعية حضارية عامة في المجتمع الإسلامي، قد سبقت العثمانيين في الجزائر. ذلك أن أفكار محيي الدين بن عربي قد انتشرت فيها قبل العثمانيين، كما أن حسن بن باديس صاحب السينية، قد تحدث عن الشيخ عبد القادر الجيلاني وطريقته (القرن 8 هـ). ومن جهة أخرى تحدث محمد الزواوي الفراوسني صاحب (المرائي الصوفية) عن الطريقة القادرية في وقته (القرن 9 هـ). وقد شاع التصوف في الجزائر بفضل مدرسة عبد الرحمن الثعالبي ومحمد بن يوسف السنوسي وأحمد زروق وغيرهم، كما سبقت الإشارة (¬2). وكان الانتماء إلى طريقة من الطرق لا يعد نقصا أو عيبا، بل إن أخذ الطريقة، كما كانوا يسمونه، شيء يعلن عنه ويشاع بين الناس ويمارسه العلماء والتجار والساسة والجنود (¬3). أما باقي الناس فيكتفون بالإيمان في نفع وضر شيخ الطريقة (أو المرابط) القريب منهم. ومن الطرق التي شاعت في الجزائر قبل العثمانيين أيضا الشاذلية والقادرية. وتختلف الآراء حول سياسة العثمانيين الدينية في الجزائر فبعضهم نفى أن تكون لهم سياسة دينية محددة وأكد أن همهم الوحيد كان القرصنة ونهب ¬

_ (¬1) انظر برنارد لويس (إسطانبول وحضارة الدولة العثمانية)، أوكلاهوما 1963، الفصل السادس. (¬2) انظر قسم التصوف في الفصل الأول من هذا الجزء. (¬3) ذكر عبد الرحمن الجامعي أن محمد بكداش قد دخل طريقة أحمد بن ساسي البوني قبل توليه باشوية الجزائر. وأن البوني هو الذي سماه محمدا وأخبره أنه رأى رؤية يموت فيها على حسن الخاتمة: انظر (شرح الحلفاوية) للجامعي، مخطوط باريس رقم 5113.

الأموال والتسلط العسكري، ولم يكونوا، حسب هذا الرأي، مسلمين عن عقيدة راسخة، بل إن إسلامهم كان رقيقا فاترا. ولذلك لم يعطوا أهمية لتطوير العقيدة ونشر الثقافة ولم يهتموا بالدين إلا إذا كانت له عواقب على الحكم والأمن. ومن ثمة كانت لهم سياسة خاصة حول الطرق الصوفية. ولأهمية هذه الطرق عند السكان حاول العثمانيون التفاهم مع مرابطيها. وأحيانا وقفوا منها موقف الحياد (¬1). وهناك من بحث الموضوع من زاوية أخرى فرأى أن العثمانيين عندما جاؤوا إلى الجزائر كانت الطريقة الشاذلية والقادرية سائدتين فيها فتحالف العثمانيون مع أحمد بن يوسف الملياني الذي كان من أبرز متصوفة الطريقة الشاذلية وكان أيضا ضد الزيانيين في تلمسان. وقد استمر التحالف إلى القرن الثاني عشر. ففي هذا القرن تغير ميزان القوة بنقص موارد البحر مما أدى إلى فرض الدولة ضرائب جديدة على السكان. وهذا التحول الاقتصادي قد أدى إلى تحول في العلاقات الدينية - السياسية بين العثمانيين وحلفائهم المرابطين. فمنذ نهاية القرن المذكور شهدنا في الريف ثورات المرابطين على العثمانيين. أما في المدن فقد ظل العلماء والمرابطون على تحالفهم مع العثمانيين طالما أن هؤلاء يضمنون لهم العيش الرغد والتعويضات اللازمة (¬2). وقبل أن نشير إلى خلاصة هذه الآراء حول سياسة العثمانيين الدينية في الجزائر نشير من الناحية الجغرافية إلى أن الغرب الجزائري قد انتشرت فيه الطريقة الشاذلية والقادرية والتجانية والطيبية والدرقاوية والزيانية، بينما شاعت في الشرق الجزائري الطريقة الرحمانية والحنصالية والشابية بالإضافة إلى القادرية والشاذلية أيضا. ومما يذكر أن القادرية قد وجدت تأييدا خاصا من العثمانيين في الجزائر، ولكن علاقتهم بها كان يشوبها في العهد الأخير، ¬

_ (¬1) ألفريد بيل، (الإسلام في برباريا - شمال إفريقية) في كتاب (التاريخ ومؤرخو الجزائر) 194 وسنعالج هذه النقطة في الفصل السادس من هذا الجزء. (¬2) بيير بواييه (هل للأتراك سياسة دينية في الجزائر؟) (مجلة الغرب الإسلامي) 61، 1966.

بعض الشك وعدم الاطمئنان. ويظهر ذلك من معاملتهم لشيخ القادرية في زاوية القيطنة أوائل القرن الثالث عشر. إن علاقة العثمانيين بالطرق الدينية في الجزائر علاقة معقدة وتحتاج إلى دراسة مستفيضة وغير متحيزة. ويتفق معظم المؤرخين على أن الأتراك كانوا من الناحية الدينية مسلمين راسخي العقيدة لأنهم كانوا يعرفون أن الإسلام هو رصيدهم السياسي وهو مصدر قوتهم. وقد أقاموا دولتهم ونظامهم على الجهاد منذ ظهورهم وتقدمهم سواء ضد البيزنطيين أو ضد روسيا ودول البلقان أو ضد إسبانيا وغيرها من الدول المسيحية. ولكن الإسلام الذي اعتنقه العثمانيون واتخذوه وسيلة للغزو (وقد كانوا يفتخرون بلقب الغازي والغزاة) والجهاد لم يكن هو إسلام الخلفاء الراشدين ولا إسلام الصحابة والتابعين. فقد كان إسلاما مشوبا بتقاليد وعقائد جديدة. ومن هذه التقاليد والعقائد ما مارسه الدراويش (والكلمة هنا متعملة في معناها التاريخي وليس في معناها المعاصر الذي قد يوحي بشيء من الاحتقار) على الجنود العثمانيين (الإنكشارية) الذين كانوا إما من شعوب آسيا، وأناضوليا على الخصوص، وإما من شعوب البلقان المغلوبة، وإما من المرتدين عن المسيحية الذين وإن كانوا قد اعتنقوا الإسلام، قد حافظوا على بقايا العقلية الأوروبية والتقاليد المسيحية. وكان الجندي الإنكشاري الذي يأتي إلى الجزائر يحمل معه هذه العقائد والتقاليد من درويش أناضوليا وروميليا (الطريقة البكداشية). وعندما يحل بالجزائر يجد مرابطين آخرين يزودونه بالبركات والدعوات كلما امتطى سفينته ليمارس نفس المهمة التي كان يمارسها آباؤه في أناضوليا والبلقان، وهي الغزو والجهاد في سبيل الإسلام والغنائم (¬1). وهذا يفسر بدون شك، ما سنعرفه من أن هؤلاء الجنود كانوا، ¬

_ (¬1) انظر ما كتبه بيري رايس عن مرابط بجاية محمد التواتي. وكذلك علاقة الباشا محمد بكداش بأحمد البوني، وغير ذلك من القصص التي تعكس هذا الاتجاه. ولاحظ أيضا أن معظم الجنود كانوا من المغامرين ومن نفايات المجتمع العثماني في المشرق، بل إن بعضهم كان من المحكوم عليهم في بلدانهم. وقد ذكر بيتز الذي =

قبل القيام بالغزو، يدخلون في زاوية ولي دادة أو ضريح سيدي بتقة وغيرهما من القباب والمساجد، سواء في العاصمة أو في الثغور، طالبين من الأولياء البركة والنصر، كما يفسر علاقة العثمانيين كنظام، بالمرابطين ورجال الدين على العموم. 2 - وكان العثمانيون يعرفون أنهم غرباء في الجزائر. فلم يكونوا يتكلمون لغة السكان ولا يعرفون تقاليدهم ولا طرق معيشتهم، ولم يلدوا على أرضهم أو يمارسوا حرفهم أو يختلطوا بجيل منهم في مدرسة أو شارع أو منزل، وليس لهم في الجزائر ذكريات طفولة ولا شباب. وقد كان العامل الوحيد الذي يربطهم بالأهالي هو الدين الإسلامي والجهاد من أجله ضد العدو المشترك. وهذا العامل المهم هو الذي لم يستطع النظام الفرنسي، مثلا، أن يدرك مغزاه أو أن يفهم أبعاده عندما راح كتابه يقارنون بين نظام الفرنسيين والعثمانيين والرومان في الجزائر. ذلك أن العامل الديني والخوف المشترك كان عاملا إيجابيا في صالح العثمانيين، بينما لم يكن كذلك بالنسبة للنظام الفرنسي. وإذا كان رائد العثمانيين في الجزائر هو الدفاع عن الإسلام وحب المال والحكم فماذا يا ترى كان رائد قادة فرنسا في الجزائر، من كلوزيل إلى منظمة الجيش السري؟ إن الأخوة الدينية والخوف من العدو المشترك هو الذي جعل استغلال العثمانيين الاقتصادي، على فرض التسليم بذلك، محتملا عند الجزائريين، بينما لم يجدوا أي مبرر لاحتمال استغلال الفرنسيين لهم. والعامل المشترك (الدين والجهاد والعدو الواحد) قد جعل العثمانيين يبحثون عن حلفائهم في الجزائر ضمن الفئات والأفراد الذين يؤمنون مثلهم ¬

_ = ذهب معهم في البحر كمرتد أن البحارة الأتراك كانوا إذا حل بهم مكروه يوقدون الشموع باسم أحد المرابطين أو يذبحون شاة أو أكثر ويرمون بنصفها في البحر على جانب السفينة الأيمن والنصف الآخر على الجانب الأيسر. انظر بيتز (حقائق)، 13, وهناك نماذج كثيرة على خرافية العقلية التركية، وهي في الحقيقة ظاهرة غير خاصة بهم في ذلك الوقت.

طريقة أكثر فلسفة وأكثر تحمسا. ولا شك أن أول من فعل ذلك، أفرادا وطرقا، هم رجال الدين والعلماء. ومن ثمة بدأت هذه العلاقة بين الطرفين تنمو وترسخ. وعندما ندرس فئة العلماء والمرابطين سنلاحظ اعتماد العثمانيين على أهل التصوف سواء كانوا في المدن أو في الريف. وكان تقربهم منهم عن عقيدة فيهم في معظم الأحيان، تماما كما كان يفعل آباؤهم وزملاؤهم في أناضوليا والبلقان عندما كانوا يأخذون بركات الدراويش لينطلقوا نحو الجهاد. فهم في الجزائر كانوا يسيرون على تقاليد راسخة حفظوها منذ كانوا في المشرق. وعلى هذا الأساس كان كبارهم وصغارهم يحترمون رجال الدين عامة احتراما خاصا ويبالغون في تعظيمهم وإكبارهم. وتحدثنا الوثائق أن الباشوات والبايات كانوا يقومون احتراما لرجال الدين وأن بعضهم، كالباشا يوسف ومحمد بكداش باشا، كانوا يسترضون رجال الدين ويراسلونهم ويمنحونهم الهدايا والعطاءات. وتعطى قصة الشيخ أحمد بن يوسف الملياني وعروج بربروس مثلا على هذه العلاقة. ولكن هذا لا يعني أنه لم يكن هناك سخط من رجال الدين على العثمانيين. ذلك أن النزاعات بين أهل الطرق أحيانا واستغلال أدعياء التصوف للعامة ومبالغة المرابطين والعلماء في طلب الجاه وفي التنافس كان يثير قلق السلطة العثمانية التي كانت تتدخل لتوقف الأمور عند حد، لأن النظام والأمن يقتضيان ذلك التدخل. وقد وقعت عدة ثورات، كما سنشير، كان العامل الديني مظهرا لها. ولكن العامل الاقتصادي والتدخل الخارجي كانا أحيانا وراء بعضها، فالطرق كانت تتدخل في العلاقات بين الجزائر والمغرب، كما أن فرض الضرائب الإضافية وضعف الغنائم البحرية وظلم الحكام كانت وراء بعض الثورات أيضا. ولم تكن هذه السياسة العثمانية مقصورة على الجزائر وحدها. فموقفهم من الدين والعلم كان هو نفسه سواء كانوا في إسطانبول أو في الجزائر. فإذا كانوا يعتمدون في الأولى على البكداشية والمولوية وغيرها فإنهم في الجزائر قد اعتمدوا على رجال التصوف عامة، وخصوصا الطريقة

الشاذلية والقادرية. وإذا كانوا في إسطانبول قد خافوا من مغبة التحالف بين البكداشية والإنكشارية فإنهم في الجزائر قد خافوا من مغبة التحالف بين الشاذلية وسلاطين المغرب، وهم في الجزائر، كما في إسطانبول، لم يشجعوا الثقافة والتقدم الفكري والفني لأن ذلك خارج نطاق العصر بالنسبة إليهم. ونحن إذا طالبناهم به كنا نطالبهم بما لم يخلقوا له. وكتعبير على شعورهم الديني كانوا يبنون المساجد ويوقفون عليها الأوقاف ويعفون بعض العائلات الدينية من الضرائب. وكانوا يؤدون الشعائر ظاهريا ويتقربون من الأولياء والصالحين. ومن ثمة فإن العثمانيين سواء كانوا في الجزائر أو في غيرها، كانوا يعيشون عصرهم، عصر التخلف الفكري والتدهور السياسي، ولكن كانوا يمثلون قمة هذا التخلف لأنهم كانوا مسؤولين على الأمة الإسلامية وعلى الخلافة. 3 - ولم يكن مستواهم العلمي بأحسن حظا من مستواهم الديني. فالعلم كان في وقتهم من شؤون المجتمع وليس من شؤون الحكومة. ولم تكن هناك وزارة ولا إدارة للتعليم لا في إسطانبول ولا في الجزائر. كان التعليم إذن حرا بمفهوم الحرية عندنا اليوم يشترك فيه الرسمي وغير الرسمي. فالأمة بأسرها مسؤولة على تعليم أطفالها، كما أن الأمة كلها مسؤولة على القيام بشؤون دينها. وقد اشترك العثمانيون، حكاما وجنودا وكراغلة، في إقامة مؤسسات التعليم بإمكانياتهم عندئذ. بدأوا بالكتاتيب حول المساجد في الأحياء الآهلة بالسكان وانتهوا بالمدارس والمساجد، التي كانت بدورها مراكز للتعليم والدروس. وقد حبسوا لذلك الأحباس ووفروا الكتب وعينوا المدرسين ورتبوا لهم الرواتب. وكانوا في ذلك لا يختلفون عن بقية المسلمين. وتطول القائمة لو ذكرنا منهم من أسهم في بناء المساجد والكتاتيب وتحبيس الكتب وتعيين المدرسين. حقا إن الذين اشتهروا منهم بذلك قلة. ويعود ذلك إلى قصر مددهم في الحكم وإلى عوامل أخرى ليس لها علاقة باستعداداتهم الشخصية (¬1). ¬

_ (¬1) انظر التفاصيل في الفصل الثالث (المؤسسات الثقافية).

هذا على المستوى الرسمي، أما على المستوى العام فإن الأهالي أيضا كانوا يعيشون ظاهرة التخلف التي طبعت العهد العثماني بل العالم الإسلامي كله عندئذ. ولقد استمر الأهالي أيضا في إقامة الشعائر الدينية وفي الحفاط على العقيدة الإسلامية بالدفاع عنها عسكريا (الجهاد) وفي بناء المساجد والأضرحة والزوايا، وفي تحبيس الأحباس التي تخدم هذه الأغراض، وفي دراسة التاريخ الإسلامي ورجاله. وكانوا بالطبع تحت تأثير العقائد الصوفية، كما كان قادتهم أنفسهم، سواء كانوا من أهل الحل والعقد (الحكام) أو من أهل الرأي والفتوى (العلماء). كما استمر الأهالي في تعليم أطفالهم العلوم المعروفة في مختلف أنحاء العالم الإسلامي وبنوا لذلك الكتاتيب والمدارس وغيرها من المؤسسات العلمية، وركزوا في تعليمهم على القرآن الكريم حفظا وتفسيرا وقراءات. كما أنتج أدباؤهم أدبا راقيا نسبيا، وأنتج فقهاؤهم فتاوي وأحكاما تتماشى والعصر الذي كانوا فيه. إن ظاهرة التخلب حينئذ كانت مشتركة بين الحكام والمحكومين، كما كانت عامة، فهي لا تتعلق بالجزائر فقط. فهل بعد هذا يصح ما قاله أحد الكتاب من أن العهد التركي في الجزائر كان عبارة عن (بربرية ثقافية) أو أن الشعب قد قلد حكامه الأتراك في جهلهم وبعدهم عن العلم, والعلماء (¬1)؟ ولعل رأي السيد شو أقرب إلى الصواب عندما لاحظ، قبل فيرو بفترة طويلة، وهو يتحدث عن حالة العلوم والفنون في الجزائر في وقته، بأنها ما زالت عند المسلمين (كما كانت منذ مدة في حالة دنيا ... فالفلسفة والحساب والطبيعيات والطب التي كانت ملكا لهم خلال عدة قرون قد أصبحت الآن لا تكاد تعرف أو تدرس). وقد أرجع شو ذلك إلى عدم الاستقرار لدى العرب والمظالم التي كان يعانيها الحضر على يد الأتراك لأن الأمن والحرية والهدوء ضرورية للإنتاج الأدبي والفني الراقي. وهذا النقص في نظره يعود إلى كون الأتراك في الجزائر لم يكونوا مهتمين إلا ¬

_ (¬1) شارل فيرو مقدمة (كتاب العدواني) في مجلة (روكاي) 1868، 2.

بالتجارة والأمور المالية، بالإضافة إلى أن ميولهم الحربية وعدم الاستقرار السياسي تجعل مساهمتهم في الإنتاج الأدبي والفني غير مضمونة (¬1). ولكن شو كان يصف وضعا خاصا شاهده بل عاشه أثناء وجوده في الجزائر ولم يكن يدرس العصر عن بعد، كما نفعل نحن الآن. فرؤيته إذن شخصية رغم أن نتائجها صحيحة إلى حد بعيد. فالعثمانيون (أو الأتراك كما يسميهم) لم يوفروا الأمن والحرية والاستقرار الضرورية للإنتاج الفني والعلمي والأدبي، ولم يتخذوا تشجيع الأدباء والعلماء والفنانين سياسة لهم أثناء حكمهم باستثناء بعض الحالات المنعزلة. وقد كان الأدب والعلم والفن في العالم الإسلامي قبلهم وليد التشجيع الرسمي في معظم الأحوال. ولكن العثمانيين كانوا يفتقرون إلى أشياء أساسية لكي يشجعوا الأدب والعلم والفن في الجزائر. وأول ذلك اللغة. ولقد كانت لغة الوجق العامة هي التركية. وهي لغة للحديث أكثر منها للكتابة. ولم تكن هناك أعمال أدبية هامة أنتجت بهذه اللغة إلى ذلك الحين. وكان كل المسؤولين يعرفون هذه اللغة أيضا أو على الأقل يتحدثون بها. وقد جعلوها لغة رسمية في الدواوين وفي المعاهدات وبعض السجلات (¬2). ولا شك أن لغة الحضارة الإسلامية في وقتهم كانت هي اللغة العربية ولا نعرف أن الحكام العثمانيين كانوا يتقنون العربية العامية فما بالك بالعربية الأدبية (¬3). فكيف تتوقع منهم تشجيع إنتاج بلغة لا يعرفونها ولا يتذوقونها؟ ومن جهة أخرى تتحدث الروايات وتتواتر على أن الحكام أنفسهم كانوا في أغلب الأحيان جهلة ومغامرين، بل كان ¬

_ (¬1) شو، ط. 2, 353. (¬2) كان بعض علماء الأتراك في الجزائر يكتبون ويؤلفون باللغة التركية أيضا مثل الشيخ مصطفى خوجة إمام جامع خضر باشا الذي ألف عدة أعمال بالتركية منها (التبر المسبوك في جهاد غزاة الجزائر والملوك)، وهومن علماء القرن الثاني عشر (18 م). (¬3) لا بد أن نستثني من ذلك محمد الكبير باي معسكر والحاج أحمد باي قسنطينة (وكلاهما من أمهات جزائريات) ولعل محمد بكداش باشا وحسين خوجة الشريف باشا ويوسف باشا كانوا أيضا يحسنون العربية، انظر المراسلات العلمية الأدبية التي كانت بينهم وبين علماء الجزائر.

بعضهم مرتدا عن دينه الأصلي وحديث عهد بالإسلام، فكان حتى بعد توليه يتحدث أحيانا لغته الأصلية، وهي ليست تركية ولا عربية. وبالإضافة إلى ذلك فإن العثمانيين كانوا يشعرون، كما لاحظنا، بالغربة في الجزائر، رغم كونهم مسلمين ومدافعين عن الإسلام. وهذا الشعور قد جعلهم مبتعدين عن الأهالي غير منتمين إليهم ولا مندمجين فيهم. وهذا العامل هو الذي لم يشجع على إيجاد إحساس أدبي وفني مشترك، رغم وجود إحساس روحي ومصيري مشترك، كما لاحظنا أيضا. وإذا كان الإحساس الروحي قد استفاد منه الدين فإن الإحساس الأدبي قد خسرت منه اللغة والإنتاج الثقافي عامة. ومع ذلك فقد وجدنا في العهد العثماني تراثا أدبيا وفنيا وعلميا في مستوى طيب استحق منا العناية والدرس في هذا الكتاب. ولكن يجب أن نلاحظ من الآن أن هذا الإنتاج بأنواعه كان خارج نطاق الحكم، فأصحابه لم يجدوا التبني ولا التشجيع من الحكام العثمانيين. وقد أنتج الجزائريون خلال هذا العهد أدبا راقيا نسبيا، شعرا ونثرا، تناولوا فيه شتى الأغراض المتداولة عندئذ. وكانت آفة هذا الأدب أن أصحابه لم يكونوا مستقرين في الجزائر. ذلك أن أكثر الأدباء والمثقفين (الأحرار) أو غير الموظفين قد هاجروا من بلادهم. وقد غلب الشعر السياسي على جميع أنوع الشعر الأخرى، ما عدا الشعر الديني، وذلك يعود بالدرجة الأولى إلى استمرار الجهاد بين الجزائر وجاراتها من الشمال. وشاع النثر الفني في الرسائل الإخوانية والرسمية وفي وصف الرياض ونحوها (¬1). وقلما توجهت عناية علماء الجزائر إلى علوم اللغة، باستثناء النحو، وكان غياب مؤسسة للتعليم العالي قد جعل الأدب الجزائري عندئذ يفتقر إلى وحدة الأسلوب ووحدة التوجيه. ذلك أن مصادر التأثير على الأدب، كانت في أغلبها من خارج الجزائر لأن معظم العلماء قد تكون، في سنوات النضج، في المعاهد الإسلامية الأخرى، ولكن قلما نجد ¬

_ (¬1) انظر فصلي الأدب (النثر والشعر) في الجزء الثاني.

المصدر العثماني من بين هذه المصادر. أما في الموسيقى والعمارة والصياغة (الحلي) ونحوها فإن التأثير العثماني كان واضحا. فرغم وجود الموسيقى المحلية والأندلسية فإن العثمانيين قد أدخلوا آلاتهم الموسيقية ونغماتهم وذوقهم في الطرب. وقد كثرت المقاهي والحفلات الشعبية والرسمية التي تعزف فيها أنواع الموسيقى الثلاثة وتميزت كل واحدة منها بطابعها المؤثر. وقد وقف العلماء والأدباء مواقف مختلفة من عزف الموسيقى فبعضهم كان يرفضها على أساس ديني، وبعضهم يحبذها على أساس إنساني واجتماعي، وبعضهم يفصل في ذلك فيقبل الموسيقى إذا كانت على اجتماع صوفي توقظ حواس الخير، ويرفضها إذا كانت على اجتماع الخنا واللهو ونحوها. ومع الموسيقى انتشرت القهوة والحشيشة والرقص وغيرها من ملازمات الاجتماع والحب والمجون، ولاسيما بين الشباب والجنود العثمانيين. أما أرباب السلطة وأعيان الحضر فقد كانت لهم أيضا طرق خاصة للتمتع بالموسيقى وغيرها في منازلهم وتجمعاتهم الخاصة. وبالإضافة إلى ذلك ترقت العمارة في الجزائر وامتزج فيها الذوق المحلي بالذوق العثماني الشرقي أيضا فظهر هذا الذوق في المساجد والقباب والقلاع، كما ظهر الذوق المحلي في القصور والمنازل والمساجد أيضا. وكانت أدوات البناء والزينة تجلب أحيانا من الخارج، وخصوصا تونس وإيطاليا. ومن ذلك الرخام والزليج. كما اشتهر بهذا الصدد عدد من البنائين (أو المعلمين كما كانوا يسمونهم) والخطاطين والنقاشين. وأحيانا كان يؤتى بالبناء والرسام من الخارج أيضا (¬1). وأبرز ما ظهر فيه الذوق المحلي هو ما يعرف بالفنون الشعبية من طرز وصياغة وزخرفة النسيج كالزرابي وترصيع بعض الآلات والتحف كالسيوف والبنادق والسروج وأدوات الطرب وأبواب المنازل. وقد لعبت المرأة في ذلك دورا بارزا منتجة ومستهلكة معا، فكثير من الأعمال المذكورة كانت من صنع النساء، وهي أيضا كانت موجهة إليهن، ¬

_ (¬1) انظر عن الفنون الفصل السادس من الجزء الثاني.

الجهاد أو الإحساس المشترك

ولا سيما الحلي والمطروزات. ولم ينتشر الرسم إلا قليلا بين الجزائريين، كما سنرى، وانتشر بدلا منه الخط والمنمنمات (¬1). الجهاد أو الإحساس المشترك 1 - والإحساس المشترك بين الجزائريين والعثمانيين هو الذي نود أن نعالجه في هذه الفقرة. ذلك أن أهم ميزات العهد العثماني في الجزائر هي استمرارية فكرة الجهاد ضد الكفار بالمعنى التقليدي للكلمة وبالمعنى الذي آمن به العثمانيون منذ كانوا رعاة في هضاب آسيا الصغرى والوسطى ومنذ أصبحوا جنودا على حدود الدولة العثمانية يغيرون على بيزنطة فيستشهدون أو يغنمون. هذا المعنى للجهاد هو الذي جاء به العثمانيون للجزائر أيضا، فهو من تقاليدهم العريقة. وقد انضاف إليه جهاد الأندلسيين وأهل شمال إفريقية ضد دار الحرب، وهؤلاء كانوا أيضا يستعملون الجهاد في معناه التقليدي الذي ورثوه عن أجدادهم، أمثال عقبة بن نافع وعبد الرحمن الغافقي وموسى بن نصير ويوسف بن تاشفين وابن تومرت وعبد المؤمن. إن العثمانيين وأهل الأندلس وشمال إفريقية يتشابهون كثيرا في هذه النقطة التي تحتاج إلى دراسة مقارنة أكثر عمقا. فجميعهم كانوا جند حدود في الدولة الإسلامية الكبرى. وجميعهم كانوا أصحاب ميول حربية، وجميعهم أيضا آمنوا بالإسلام بعقيدة راسخة واتخذوا من الجهاد طريقا للدفاع عن هذه العقيدة. ويمكننا أن نضيف أن جميعهم كانوا من أهل السنة. ولعل من أسرار التواجد العثماني طيلة قرون في شمال إفريقية أوجه التشابه هذه التي ذكرناها بين الطرفين. والجهاد الذي مارسه العثمانيون (والسكان معهم في ذلك) نوعان: جهاد بحري عام وجهاد بري خاص. فالجهاد الأول كان في البحر لا يعرف حدودا سوى حدود الغلبة والهزيمة، فهو حرب بكل معنى الكلمة. كان ¬

_ (¬1) عن انتشار الخط انظر فصل المؤسسات الثقافية، فقرة المكتبات، من هذا الجزء.

العثمانيون خلاله يجوبون البحر الأبيض والمحيط الأطلسي وبحر الشمال، ووصلوا بمغامراتهم ومطارداتهم لأعدائهم إلى شواطئ إفريقية الغربية وجزر الكناري وشواطئ إنكلترا وشمال أوروبا بالإضافة إلى إيسلاندا (¬1). ولعلهم قد وصلوا إلى ما هو أبعد من ذلك، غير أن الوثائق لا تساعدنا الآن. وكان هذا الجهاد موجها ضد كل الدول المسيحية التي لا تعقد معاهدة صداقة ووئام مع الجزائر. ويقتضي ذلك مطاردة سفن العدو في البحر والاستيلاء على ما فيها من غنائم، وأخذ ملاحيها وركابها أسرى إلى الجزائر انتظارا للفدية أو البيع في سوق الرقيق. وقد امتلأت خلال القرن العاشر والحادي عشر دور الجزائر ومحلاتها بهؤلاء الأسرى الذين كبا بهم الحظ. وقد اشتهر من أبطال الجهاد البحري الأخوان بربروس ومراد رايس وابن الحاج موسى وابن مبارك وحميدو وعلي البوزريعي. وقد أدى حماس العثمانيين للجهاد البحري ومطاردة خصومهم في عقر دارهم إلى مساندة الجزائريين لهم في ذلك والعمل معهم في سفنهم والتحالف معهم ضد العدو المشترك. كما أن سكان الشواطيء الجزائرية كانوا يأمرون بدورهم من وقع في قبضتهم من العدو ويسلمونهم للسلطة. فهناك إذن معركة واحدة مستمرة اشترك فيها العثمانيون والجزائريون على السواء. وقد كانت البابوية ودول أوروبا تمارس نفس المعاملة على السفن الجزائرية والإسلامية عامة. أما النوع الثاني من الجهاد فهو الجهاد البري الخاص والموجه ضد إسبانيا بالذات. ذلك أن إسبانيا، كما عرفنا، قد أجبرت على الخروج من جميع النقط الساحلية التي احتلتها في الجزائر ما عدا وهران ومرساها الكبير. وكان الإسبان قد دعموا هناك وجودهم بالتحصينات والعدد والعدة. وكانوا بعد أن فشلوا في تحالفم مع آخر ملوك بني زيان واستيلاء العثمانيين على ¬

_ (¬1) انظر دراسة بيرنارد لويس من حملة مراد رايس إلى إيسلاندا (في مجلة الغرب الإسلامي) عدد 15، 16 سنة 1973، 139 - 144. وقد ترجمناها إلى العربية. وعن حملة أخرى له إلى جزر الكناري انظر دراستي عن كتاب مورقن في كتاب (أبحاث وآراء في تاريخ الجزائر)، الجزائر 1978.

تلمسان، قد بدأوا في التحالف مع بعض الجزائريين المقيمين حول مدينة وهران، كبني عامر، الذين أجبرتهم الظروف الاقتصادية على التعامل مع الإسبان (¬1). وكان هذا محاولة لمد النفوذ الإسباني داخل البلاد. كما أن الإسبان قد حاولوا الاستيلاء على مستغانم وإيجاد قلعة بحرية جديدة لهم تكون أقرب إلى مدينة الجزائر من وهران. وهذه المحاولات لإضعاف الوجود العثماني في الجزائر بالإضافة إلى عدة حملات أوروبية بزعامة إسبانيا ضد الجزائر (حملة شارلكان، وحملة أوريلي، الخ) قد جعلت العثمانيين في الجزائر في حالة حرب مستمرة، ولا سيما في إقليم الغرب. فإذا كان إقليم الشرق (قسنطينة) وإقليم الوسط. (التيطري) قد نعما بالهدوء النسبي، فإن إقليم الغرب كان في حالة توتر، بل حالة حرب مستمرة. وقد أثر هذا الوضع على الحياة الاقتصادية والاجتماعية، كما أثر على الحياة الثقافتة (¬2). كما سنرى. ولكن أكبر تأثير لهذا الوضع كان على الإدارة المركزية من جهة وعلى العلاقات بين العثمانيين والجزائريين من جهة أخرى. ذلك أن الموقف من جهاد إسبانيا هو الذي كان يقرر مصير الباشا أحيانا. فالتواني في حربهم أو ¬

_ (¬1) ذكر بيتز الذي أقام خمس عشرة سنة في الجزائر وشارك في الحرب ضد إسبانيا في وهران خلال القرن الحادي عشر (17 م) أن الإسبان كثيرا ما كانوا يغيرون على القرى المجاورة ليلا ويأخذون معهم الرجال والأطفال والنساء والماشية وكل شيء. وهم يحملون الجميع إلى إسبانيا ويعتبرون أولئك الأهالي أسرى. وفي الأحوال العادية كان الإسبان أيضا يستفيدون اقتصاديا من وجودهم بوهران. ذلك أن الجزائريين المجاورين كانوا يحضرون إلى أسواق وهران القمح والشعير والزبدة والعسل والغنم والشمع ونحوها فيأخذها الإسبان إلى بلادهم. انظر بيتز (حقائق) 121. (¬2) ألفت عدة كتب وقيل شعر كثير في فتح وهران الأول سنة 1119 والثاني سنة 1205. كما ساهم العلماء في الحروب أمثال الرماصي وابن حوا وأبي راس وابن زرفة. وتأثرت بعض المدن من انتقال السلطة منها أو إليها مثل مستغانم ومازونة ومعسكر وتلمسان ووهران. كما تأثر بعض السكان في علاقاتهم الاقتصادية بالإسبان أو انقطاعها حسب ظروف الحرب.

عدم اتخاذ العدة اللازمة لذلك قد يؤدي بالوجق إلى الثورة أو التمرد ضد الحاكم، أو عزل الباي المسؤول. وبقدر ما كان الباشا أو الباي يستعد لحرب الإسبان أو الانتصار عليهم بقدر ما كان ذلك رصيدا لصالحه في الحكم والشعبية. ونفس الشيء يقال عن العلاقة مع الجزائريين، فقد كان العلماء يقفون إلى جانب المجاهدين من الحكام. وكان الشعراء والكتاب يحضونهم أيضا على جهاد الإسبان، ويمنون من يفعل ذلك منهم بالخير والبركة وحب الناس والفوز عند الله. وإذا انتصر العثمانيون على الإسبان، مثل ما حدث سنة 1119 وسنة 1205، لهجت الألسن بالمديح والثناء للباي والداي والمسؤولين على هذا الانتصار وللجيش الذي حققه ولقواده الأبطال. وخرج الشعراء والكتاب يسجلون هذا الانتصار، فيكون ذلك سببا في حب الناس للعثمانيين ونشر الدعاية لهم (¬1). وهذه الأهمية السياسية للجهاد جعلتنا نفرده بهذه السطور. 2 - ولنذكر هنا نماذج من مواقف الأهالي من الجهاد ضد الإسبان ومواقفهم من العثمانيين ففي معركة مستغانم بين المسلمين والإسبان سنة 965 المعروفة (بمعركة مازغران) اشترك الشاعر الشعبي الشهير الأكحل بن خلوف، المعروف بالأخضر، فيها شخصيا. وقد سجل قصة المعركة في قصيدته التي مطلعها: يا سايلتي عن طراد الروم ... قصة مازغران معلومة فذكر حسن باشا قائد الجيش الإسلامي وأعماله خلال المعركة والأهالي الذين ساهموا في الجهاد والطريق التي مر بها الجيش الإسباني بقيادة (الكونت دالكادوت) وتحدث عن معنويات الجيش الإسلامي والجيش الإسباني: فهنالك الشجاعة والإقدام والحزم، وهناك الذعر والخوف ¬

_ (¬1) مثال ذلك تلك الشعبية التي كسبها محمد بكداش باشا وصهره أوزن حسن والباي مصطفى بوشلاغم في الفتح الأول لوهران والباي محمد الكبير وحسن باشا في الفتح الثاني.

والجبن. وأشار إلى موت القائد الإسباني في المعركة (¬1). ويهمنا أن نشير إلى نقطتين في هذه القصيدة، الأولى اعتبار الشاعر تلك المعركة أخذا بثأر غرناطة التي كان أخذ الإسبان لها ما يزال قريب العهد، والثانية إشادته بحسن باشا وبالعثمانيين، وكلتاهما تؤكد ما ذهبنا إليه من أن الجهاد كان مشتركا وأنه كان يمثل الرابطة القوية بين العثمانيين والسكان. وما يزال شعر ابن خلوف يحفظه الناس، ولا سيما مدائحه النبوية. وهناك قصة عالم وشاعر من تلمسان سجلها ابن مريم في كتابه (البستان) وهو عبد الرحمن بن موسى. فقد وقف هذا الشاعر موقفا مؤيدا لمساعي العثمانيين في استرداد وهران من الإسبان ووصفه ابن مريم بأنه كان (فظا غليظا على كل جبار عنيد) وأنه لم يكن مغمورا في بلده تلمسان بل تجول وأخذ العلم عن علماء زواوة أيضا. وحين توفي سنة 1011 مشى الناس في جنازته (حنى الترك) (¬2). ولابن موسى أشعار كثيرة في المديح النبوي، ولكن الذي يهمنا هو شعره السياسي. فله شعر قاله في شيخه عند حصار وهران على يد حسن باشا بن خير الدين، وآخر عندما هدم الباشا المذكور حصن المرسى الأعلى وهرب الإسبان من ذلك إلى الحصن الأسفل. وقد هنأ بهذا الشعر الباشا على فتح الحصن بقوله: هنيئا لك باشا الجزائر والغرب ... بفتح أساس الكفر، مرسى قرى الكلب وهو يشير بباشا الجزائر والغرب إلى وسط الجزائر وغربها على أساس أنه حاكم الجزائر كلها، بما في ذلك غربها، لأن نفوذ العثمانيين هناك كان جديدا. وكان فتح الحصن المذكور سنة 1007، حسب رواية ابن مريم. والظاهر أن ابن موسى كان من بقايا العلماء المؤيدين للعثمانيين بتلمسان. وقد كان بالإضافة إلى الشعر، ماهرا في الحساب والفرائض والنحو واللغة والفقه والحديث. ¬

_ (¬1) المهدي البوعبدلي (الثغر الجمافني) 23 - 27. انظر أيضا مارسيل بودان (مجلة جمعية جغرافية وهران)، 1933، 253 - 262. (¬2) ابن مريم (البستان)، 130.

ومن العلماء الصلحاء الذين لعبوا دورا في الجهاد ضد الإسبان والذين كانوا محل احترام العثمانيين، محمد بن علي المجاجي المعروف بابهلول. وقد ترجم لهذا العالم الصالح أبو حامد العربي المشرفي في كتابه (ياقوتة النسب الوهاجة). كما ترجم له آخرون (¬1). وبناء على المشرفي فإن المجاجي كان من أهل القرن الحادي عشر وأنه كان شريفا أندلسي الأصل، تقيا سخيا، كما أخبر أن الأتراك كانوا يعظمون أسلافه. وقد حارب أحفاده أيضا الفرنسيين في صفوف الأمير عبد القادر. وكان المجاجي شاعرا أيضا. كما أن زاويته كانت مركزا للمجاهدين في سبيل الله. وقد نقل المشرفي أن حوالي ألف وثلاثمائة مجاهد خرجوا ذات مرة لقتال الكفار بثغر تنس، وكانوا جياعا فمروا بزاوية المجاجي فأطعمهم جميعا (حتى شبعوا من الرغائف والثريد والزبدة والعسل، وجاء بقصعة الزاوية وفيها ثلاثون نوعا من الطعام واللحم). وقد مات المجاجي موتة غامضة، غير أن أتباعه ينعتونه (بالشهيد) ويسمونه (بسفيان العابدين) ووصفه تلميذه سعيد قدورة بأنه كان عالما بالنحو والفقه وبالتوحيد والمنطق (¬2). ويهمنا من قصة المجاجي كون زاويته كانت مركزا للمجاهدين ضد الكفار، وكون العثمانيين كانوا يعظمونه ويعظمون سلفه، وكون هذا التقليد (قتال الأعداء) قد استمر فيهم حتى زمن الفرنسيين. وكثير من العلماء والصلحاء كانوا مجاهدين اما بطريقة غير مباشرة كما كان المجاجي واما بطريقة مباشرة كما فعل مصطفى الرماصي وأمثاله. فقد روى عبد الرحمن الجامعي المغربي، الذي جاء إلى الجزائر بعد فتح وهران الأول سنة 1119، قصة مفيدة عن مشاركة العلماء في جهاد الإسبان. فقد وجد الشيخ محمد مصطفى الرماصي المعروف بالقلعي يسكن بأهله بيوت الشعر قرب غابة في رأس جبل ببلده، وكان يأوي إلى أهله ليلا ¬

_ (¬1) منهم محمد بن أحمد المغراوي في كتابه (تمييز الأنساب) وكذلك صاحب كتاب (سمط اللال في معرفة الآل) و (كمال البغية). (¬2) أبو حامد المشرفي (ياقوتة النسب الوهاجة) مخطوط مصور شخهي 132، 140، 146، 149، 156.

ويظل بالنهار في داره ومسجده يطالع كتبه ويقرئ طلبته. ولما سأله الجامعي عن ذلك أجابه الرماصي بأنهم كانوا على تلك الحال على عهد الإسبان خوفا منهم لأنهم لم يكونوا يأمنون جانبهم في الدور إذ قد يطرقونهم ليلا، لذلك خرجوا لبيوت الشعر ليسهل الفرار منها إلى الغابات والجبال. كما روى الجامعي أن المرابط علي أبا حسون (أبو حسن عند أبي راس في الحلل السندسية) العبدلي أنهم كانوا في حوز تلمسان لا يهدأ لهم بال ولا منام حتى جعلوا عليهم من يحرسهم وأنه إذا نام أحدهم تجده يهذي بإغارة النصارى عليهم وقد يصرخ في نومه. وقد علق الجامعي على هذه الحالة بأنه لا يعرف قيمة حلاوة الأمان إلا من ذاق مرارة الخوف (¬1) ولا شك أن هذه الحالة وأشباهها هي التي جعلت التحالف مع العثمانيين ضروريا لأن هناك قضية مشتركة بينهم وبين السكان (¬2). ومن العلماء من كان يحث على الجهاد عامة وتحرير وهران خاصة، ومنهم من كان يتنبأ بالفتح قبل وقوعه تشجيعا للحكام. وكانوا يقرنون التهنئة بالتولية الدعوة إلى الجهاد ويعتبرون الباشا الحقيقي للبلاد هو الذي يطلق السفن في البحر ضد العدو ويسوس الناس بالعدل والشورى. فحين تولى أحمد باشا سنة 1107 (¬3)، هنأه الشاعر العالم محمد بن آقوجيل وضمن شعره حثا على الجهاد ضد الإسبان في وهران والجهاد بصفة عامة، ونصحه باتباع العدل بين الناس وحكم الشورى. ولا نريد أن نذكر جميع القصيدة، وحسبنا منها ما يلي: فرحت جزائرنا بكم وتأنست ... بمقامكم فيها بحال حبور ¬

_ (¬1) عبد الرحمن الجامعي (شرح الحلفاوي) مخطوط باريس رقم 5113 ورقة 30. (¬2) ذكر ابن سليمان في (كعبة الطائفين) 2/ 222 أن الفقيه محمد بن ملوك بن عبد القادر العامري والولي الصالح محمد السائح وولده قد استشهدوا (في مقاتلة كفار وهران) سنة 1053. (¬3) سماه ابن حمادوش في رحلته الأجه أحمد، انظر (الرحلة)، أما غونزاليز فقد سماه أحمد أهجي. انظر (مشاهير مسلمي مدينة الجزائر).

ولتلتفت نحو الجهاد بقوة ... والكفر أقطع أصله بذكور جهز جيوشا كالأسود وسرحن ... تلك الجواري في عباب بحور أضرم على الكفار نار الحرب لا ... تقلع ولا تمهلهم بفتور وبقربنا وهران ضرس مؤلم ... سهل اقتلاع في اعتناء يسير كم قد أذت من مسلمين وكم سبت ... منهم بقهر أسيرة وأسير (¬1) وكان حسين خوجة الشريف باشا قد أرسل سنة 1117 المعدات للشروع في فتح وهران ولكنه عزل بعد عام فتولى مكانه محمد بكداش باشا الذي فتحت في عهده. ويبدو أن العلماء والشعراء كانوا يضغطون على العثمانيين للقيام بالجهاد والفتح. ولكن الظروف الدولية لم تكن دائما مساعدة للعثمانيين على القيام بذلك. ومن التنبؤات التي أشرنا إليها، وهي أيضا وسيلة للضغط، كما أنها وسيلة للتزلف والتقرب من السلطة، ما بعث به (الأديب السالك الناسك) محمد القرومي على لسان ابنه إلى محمد بكداش أثناء الحرب ضد الإسبان من أنه قد رأى في المنام أن وهران ستفتح على يده، وأنه (أي بكداش) إمام المسلمين (¬2) الخ. وقد عرض الشاعر المفتي ابن علي بالولاة السابقين لبكداش الذين انغمسوا في الملذات واستهانوا بالجهاد، بل اتهمهم بأخذ الرشوة وجمع المال والتهاون في تحرير وهران: وكل رئيس يرتجى لخطوبها ... تشاغل في لذاته وهو نائم ورب أمير أزمع السير نحوها ... فيرجع لما كاثرته الدراهم رضوا بالرشى في الدين حين تخلفوا ... وقد رسخت في الأرض تلك الأرقام (¬3) ¬

_ (¬1) محمد بن ميمون (التحفة المرضية) مخطوط 112. والقصيدة في سبعين بيتا، وسنذكر ابن آقوجيل في مناسبات أخرى. (¬2) نفس المصدر، 147، انظر أيضا ما كتبه الجامعي عن بكداش من أنه (قرشي النجار) وأنه أخذ طريق التصوف عن أحمد البوني وأن والده كان مرابطا ناسكا صوفيا. انظر الجامعي (شرح الحلفاوي) مخطوط باريس رقم 5113. (¬3) الضمير المؤنث في الأبيات يشير إلى مدينة وهران. والأبيات من قصيدة طويلة وجيدة هنأ بها بكداش باشا على الفتح. وقد أوردها الجامعي في (شرح الحلفاوي) مخطوط باريس رقم 5113. انظر أيضا مراسلات يوسف باشا مع محمد ساسي =

3 - ولم يكن الجهاد دائما هجوميا ولا ضد إسبانيا فقط. فرد غارات الأجانب والانتصار عليهم كان يعتبر من أهم أنواع الجهاد. وقد تعرضت الجزائر إلى حملات أجنبية عديدة. وهذه الحملات كانت أحيانا تضم عدة دول كحملة شارلكان (أو شارل الخامس) وحملة اكسموث وحملة أوريلي، وأحيانا كانت تقودها دولة معينة كحملة الدنمارك سنة 1184. فقد ضرب الأسطول الدنمركي مدينة الجزائر بالقنابل، ولكن النصر كان حليف الجزائريين. وانبرى الشعر الشعبي ليسجل هذا الانتصار وليربط بين حملة شارل الخامس الفاشلة وحملة الدنمارك ولينوه ببركة الأوليات والصالحين الذين ساعدوا، في نظر الشاعر، على تحقيق النصر أمثال الولي داده وسيدي الجودي والثعالبي وأحمد بن عبد الله الجزائري وسيدي جمعة وسيدي الكتاني وسيدي السعدي وسيدي الفاسي وعبد القادر الجيلاني و (الرجال السبعة) وغيرهم من حماة مدينة الجزائر وحراسها اليقظين. كما نوه الشاعر بهذه المناسبة بالسلطان (وهو هنا يقصد الباشا - حاكم الجزائر) والخزناجي والآغا ووكيل الحرج والخوجة والرياس (البحارة) الشجعان. والقصيدة طويلة وقائلها مجهول، كمعظم أصحاب الشعر الشعبي في الجزائر. وتذهب القصة إلى أن الأسطول الدنمركي جاء لمهاجمة مدينة الجزائر ليلة احتفال أهلها بالمولد النبوي الشريف. وعندما لاحظ الغزاة أن الجزائريين قد أوقدوا ¬

_ = البوني حول نفس الموضوع. مخطوط باريس رقم 6724 وقد نشرنا تلك المراسلات. وكان بعض العلماء يثيرون النخوة والشهامة في المحاربين والولاة بالحديث عن المرأة المسلمة وهي في أيدي اليهود والنصارى، ومن ذلك قول ابن محلى: أيا معشر الإسلام أين فحولكم ... أما أبصروا في السبت عبد الحرائر وتحت اليهودي غادة عربية ... يعالجها الخنزير فوق المزابر انظر أبا راس (عجائب الأسفار) المكتبة الوطنية الجزائر، له عدة أرقام منها 1632، 1633، 2003 الخ.

الشموع احتفالا بهذه المناسبة ابتداء من الغروب ظن الدنماركيون أن الجزائريين كانوا يستعدون لمهاجمتهم فظلوا يطلقون قنابلهم (أو البونبة كما يسميها الشاعر) حتى نفذت ذخائرهم - وقد افتتح الشاعر قصيدته بهذا الطالع: باسم الله نبدي على وفا ... ذا القصة تعيانا قصة ذا البونبة المتلفة ... كيف جابوها اعدانا (¬1) وقد تعرض عبد الرزاق بن حمادوش الجزائري في رحلته باختصار إلى علاقات الجزائر بالدنمارك في تاريخ سابق للتاريخ المذكور، أي سنة 1159 (¬2). وهناك أمثلة كثيرة على مشاركة العلماء والشعراء في الدعوة إلى الجهاد أو وصف المعارك التي جرت والإشادة بالانتصار الذي تحقق ومدح المسؤولين عليه. فالعصر، كما عرفنا، كان مليئا بالتوتر والحروب. 4 - ومن ذلك فتح وهران الثاني سنة 1205. وقد عرفنا أن عاصمة الغرب الجزائري كانت تتغير من مدينة إلى أخرى، تبعا لأهمية المدينة وقربها أو بعدها عن العدو. وكان البايات هناك يختارون للقيام بمهمة الجهاد والتحضير له كلما أتت المناسبة. كما كانت الحرب ضد إسبانيا نوعا من الاختبار للتحالف الجزائري العثماني وإعادة الحماس الديني والتأييد السياسي إلى سالف عهده. وكان هؤلاء البايات يعرفون مكانة العلماء والصلحاء لدى العامة، وكانوا يعرفون أنهم هم (الحزب الديني) المنادي بالجهاد بإلحاح. ¬

_ (¬1) أغنية جزائرية من القرن الثامن عشر. في (المجلة الإفريقية) 1894، 325، النص العربي وترجمته بالفرنسية. ومن الشعر الشعبي الذي قيل في هذه المناسبة أغنية أوردها فانتور دي بارادي الفرنسي وأخرى بالتركية كان يتغنى بها الإنكشاريون. انظر ديني (أغاني الإنكشارية) في مجموع باسيه، الجزء الثاني، 49. وكان قائد الأسطول الدنماركي المهزوم هو الكونت دي كاس. انظر أيضا عن هجوم الدنمارك الزهار (مذكرات)، 25. (¬2) ابن حمادوش (الرحلة) مخطوط. انظر دراستي عنه في كتاب (أبحاث وآراء في تاريخ الجزائر) ج 1.

وإذا لم يقم العثمانيون بالجهاد فإن العلماء سيتهمونهم بالتعاون في الدفاع عن الدين الإسلامي والخلود إلى الراحة والتغاضي عن العدو، كما صرح بذلك ابن علي في الشعر السابق. لذلك وضع الباي محمد الكبير العلماء في فوهة المدفع حتى يسكتهم إذ جعلهم في طليعة المحاربين ضد الإسبان. فإذا تحقق النصر كسب وكسبوا أو سكت وسكتوا وإذا كتبت الهزيمة تخلص من نقدهم. ففي التاريخ المذكور (سنة 1205) جند الباي محمد الكبير، باي معسكر عندئذ، طلبة (العلماء وتلاميذهم) ولايته وأمرهم بحرب الإسبان في وهران ونواحيها، وأمرهم أيضا أن يتوقفوا عن التدريس في المدن وأن يدرسوا، بدلا من ذلك، في الرباطات والمراكز الأمامية كما نقول اليوم، مثل جبل المائدة المطل على وهران، للتضييق على العدو. وكان الهدف فرض الجهاد عليهم فرضا لأن عليهم في هذه الحالة أن يدافعوا عن أنفسهم قبل مهاجمة الإسبان في المدينة. وعندما كثر الطلبة أمر عليهم الشيخ محمد بن الموفق بوجلال والطاهر بن حوا، قاضي معسكر، والشيخ محمد بن علي الشارف المازوني. وقد وصل عدد الطلبة المائتين وأعطاهم الباي السلاح والعدة وأمرهم بقتال الكفار والمسلمين المنحازين إليهم. ولكن هزيمة الطلبة كانت شبه مؤكدة. فهم، كما تقول الرواية، غير معتادين على حمل السلاح ولا يعرفون فن الحرب. وكانوا سيقعون في قبضة العدو لا محالة لولا فرارهم في الوقت المناسب ومعرفتهم كيف يحمون أنفسهم قبل الوصول إلى هدفهم. وليست هذه هي المرة الأولى التي استعمل فيها الباي محمد الكبير الطلبة في الجهاد ضد الإسبان. فقد أمر ذات مرة بعض ثقاته من الطلبة بالتوجه، بعد تسليحهم وتموينهم، إلى النواحي الغربية من ولايته لتجنيد زملائهم الطلبة من هناك وترغيبهم في الجهاد. وقد نجحت البعثة حسب نفس الرواية، إذ عاد أصحابها بنحو أربعمائة طالب. ولم يتردد الباي في تسليحهم وإعدادهم ودفعهم للحرب. وكانوا يزدادون مع الزمن حتى (أربى عددهم عن

الحد). وبذلك أصبح الطلبة يشكلون فرقة عسكرية علمية بكل معنى الكلمة. وكان الباي يرسل إليهم حاجتهم من المؤونة والسلاح كل شهر (¬1). ولا شك أن هذه القصة تعطي نموذجا لتحالف الجزائريين والعثمانيين ضد العدو المشترك الذي شجع على هذا التحالف من أوائل القرن العاشر إلى أوائل الثالث عشر. كما أن هذه القصة تعطي نموذجا لمساهمة العلماء في الجهاد بأنفسهم وليس عن طريق الكلام والشعر والتأييد المعنوي. ولا شك أيضا أن وجود العلماء على رأس الجيش المحارب كان يشجع الجنود والعامة على الاقتداء بهم والارتماء في أحضان المعركة بكل حماس وجدية. وكان هذا أيضا من أهداف الباي محمد الكبير الرئيسية. فتحرير وهران الثاني والأخير كان، حينئذ، عن طريق الجيش النظامي وعن طريق ما نسميه اليوم بالحرب الشعبية. والشيخ بوجلال الذي أمره الباي على الطلبة في جبل المائدة شرقي وهران يعتبر من أبرز العلماء في عصره. وكان من أبرز المدرسين. ونعرف من إجازته لمؤلف كتاب (الثغر الجماني) أنه كان يدرس الفقه والحديث والتوحيد والمنطق والأصول والبلاغة والنحو. وقد اكتسب الشيخ بوجلال هذه العلوم بدراسته في فاس حتى اشتهر بها، كما ذهب إلى الحج ولقي علماء المشرق. وكان وقت تامير الباي له أستاذا بارزا في معسكر (¬2). ولعل الباي كان يحاول بتعيينه في تلك المهمة التخلص منه، كما تخلص من القاضي ابن حوا باستشهاده، ومهما يكن الأمر فإن هناك عالما آخر كتب حول هذه المناسبة وهو أبو راس الناصر الذي عاصر فتح وهران. ويهمنا من أبي راس أنه لم يكن حاضرا في معسكر عند بدء الجهاد وإنما سمع بالانتصار وهو في تونس عائدا من الحج فخف إلى وهران للمشاركة في الجهاد ¬

_ (¬1) احمد بن سحنون (الثغر الجماني) مخطوط باريس رقم 5114 ورقة 41. وقد استشهد في هذه الحملة القاضي ابن حوا المذكور. انظر أيضا (الرحلة القمرية) لابن زرفة كما لخصها هوداس (وقائع مؤتمر المستشرقين الرابع عشر) الجزائر. 1905. (¬2) ابن سحنون (الثغر الجاني) ورقة 39 - 40.

الثورات ضد العثمانيين

والاحتفال بالنصر. كما يهمنا تأييده القوي للعثمانيين في كتاباته ولا سيما مواقفهم التي تتعلق بالجهاد وطرد الإسبان. وقد بلغ به الحماس والتفاؤل أنه تطلع بعد استرداد وهران إلى استرداد الأندلس (¬1). وتكشف النماذج التي أتينا عليها عن العلاقة الوطيدة بين العثمانيين والسكان إذا كان الأمر يتعلق بالدين الإسلامي وحدود البلاد. وقد لاحظنا أن الأدباء والفقهاء والصلحاء كانوا في طليعة من تجندوا لهذه الغاية ولم يعد هناك فرق في تلك المناسبات الدينية الوطنية الكبيرة بين العثماني والجزائري. فكلاهما مسلم وكلاهما مجاهد. وتجدر الإشارة إلى أن علماء الغرب الجزائري قد أنتجوا، كما أشرنا، أدبا سياسيا كثيرا نتيجة لتوتر العلاقة والحروب بين الجزائر وإسبانيا، خلافا لزملائهم أدباء الشرق الجزائري الذي كان ينعم بالأمن النسبي من الخارج. وهناك ظاهرة أخرى برزت في الغرب الجزائري عندئذ، وهي تطور التصوف وكثرة الطرق والأولياء والصطحاء أو ظهور ما سماه بعضهم (بالوطنية الدينية) وليس من المستبعد أن يكون ظهور ذلك يعود إلى كثرة الحروب التي أشرنا إليها (¬2). وكان قرب وهران من الأندلس وتشابه الظروف قد جعل المقارنة بينهما أمرا مفروغا منه عند الكتاب والشعراء وحتى عند السياسيين. ولعل نفس الفكرة كانت لا تغيب عن الإسبان أيضا. الثورات ضد العثمانيين 1 - ورغم ما قلناه عن الإحساس المشترك بين الجزائريين والعثمانيين ¬

_ (¬1) انظر دراستي عن أبي راس وكتابيه (عجائب الأسفار والحلل السندسية) في كتاب (أبحاث وآراء في تاريخ الجزائر). انظر أيضا مخطوطة كتابه (الحلل السندسية) في المكتبة الوطنية بباريس رقم 4619. (¬2) انظر أيضا فصل العلماء من هذا الجزء، وكذلك فصلي النثر والشعر من الجزء الثاني.

وما وصفناه من التضامن والتحالف بينهم ساعة الخطر المشترك، فإن هناك ثورات عديدة قد وقعت في العهد العثماني. وكانت الثورات متعددة الوسائل والغايات فبعضها كان له طابع ديني، وبعضها كان له طابع سياسي (وطنيا)، وبعضها كان له دوافع اقتصادية، كما أن البعض منها كان نتيجة تمرد شخص حبا في المغامرة أو طمعا في الجاه والسمعة. ومن هذه الثورات ما كان قصير المدى محدود المكان، وما كان طويل المدى واسع المجال. بالإضافة إلى أن الثورة كانت أحيانا ثورة طريقة صوفية بأسرها أو ثورة قبيلة كاملة، وأحيانا كانت ثورة طبقة اجتماعية معينة، وأحيانا ثورة جهة وأخرى ثورة عائلة. وسنحاول أن نقدم نموذجا لبعض هذه الثورات. ولكن تجدر الملاحظة إلى أن الثورة الواحدة قد تكون متعددة الدوافع والأهداف. كما تجدر الإشارة إلى أن بعض هذه الثورات ما يزال مجهولا وغامض الأسباب والأهداف. والواقع أن رد الفعل ضد العثمانيين قد بدأ منذ اللحظة الأولى لوجودهم. وكانت أول ردود الفعل قد جاءت من أصحاب المصالح السياسية والاقتصادية في البلاد. ولم يكن العلماء والصلحاء (أو المرابطون) والعامة هم الذين نفروا من الحكم العثماني، ولكن الأمراء والولاة والقواد وأصحاب النفوذ الاقتصادي والسياسي في العهد السابق لهذا الحكم والذين خشوا أن يفقدوا (أو الذين فقدوا فعلا) مصالحهم السياسية والاقتصادية. وكان تحالف العثمانيين مع رجال الدين والعامة، قد أضر بمصالح بعض الأمراء والولاة والقواد الكبار، فكان هذا الموقف سببا في ثورة بعض هؤلاء الأعيان. غير أن سياسة العثمانيين لم تكن هي حكم البلاد المباشر، بل الحكم بواسطة أهل البلاد أنفسهم. ذلك أن عددهم وقوتهم وأصولهم كلها لم تكن تسمح لهم بفرض سلطانهم مباشرة، ولذلك عمدوا، بالإضافة إلى التحالف الذي ذكرناه سابقا مع رجال الدين، إلى الاعتراف بالاستقلال الداخلي أو بالحكم المحلي لبعض هؤلاء الأعيان بشرط أن يدفعوا ضريبة معينة للحكومة المركزية ويعترفوا بالتبعية للسلطان العثماني. وكانت علامة التمرد أو الثورة هي الامتناع عن دفع الضريبة أو قطع الخطبة باسم السلطان. ومن الأساليب التي

طبقها العثمانيون لحكم البلاد غير المباشر أن القبائل التي تعاملت معهم بطاعة وخضوع تام قد أعفيت من دفع الضرائب (كما أعفوا منها العلماء والمرابطين) وسميت (بالمخزن) ومنحت سلطات واسعة كقوة عسكرية عند الحاجة. أما بقية القبائل التي لم تخضع إلا بالقوة فقد فرضت عليها الضرائب وسميت (رعية) وعوملت معاملة قاسية. وهكذا يمكن القول بأن العثمانيين قد طبقوا على الجزائر قواعد الحرب الإسلامية التي تطبق في الواقع على بلد غير إسلامي بعد فتحه (¬1). ويمكننا بعد هذه النظرة العامة أن نذكر عدة نماذج من ثورات الأمراء والولاة والقواد وأصحاب المصالح السياسية والاقتصادية في بداية العهد العثماني. وسنكتفي هنا بالإشارة إلى محاولة سليم التومي استعادة نفوذه على مدينة الجزائر مما أدى إلى مقتله على يد عروج بربروس (¬2). وإلى نقمة بعض الأمراء الزيانيين في تلمسان والحرب التي دارت هناك ومقتل إسحاق وأخيه عروج بربروس بناحية تلمسان، وإلى ثورة ابن القاضي، أمير إمارة كوكو، ومحاولة حسن باشا ترضيته بالمصاهرة ونحوها، ثم منحه سلطات محلية، وكذلك سخط أمراء قسنطينة على العثمانيين كأولاد صولة، وثورة بوطريق في نواحي مليانة على العثمانيين أيام الحاج بشير باشا (¬3). 2 - وبتقادم العهد بدأت تظهر ثورات وتمردات جديدة تدفعها عوامل جديدة أيضا. فهنالك المنازعة بل المقاتلة التي نشبت بين العرب والعثمانيين ¬

_ (¬1) انظر كتاب (الاكتفاء في جوائز الأمراء والخلفاء) لمحمد المصطفى بن زرفة الذي ألفه للباي محمد الكبير. وقد تحدثنا عنه في فصل العلوم الشرعية من الجزء الثاني. والملاحظ أن العثمانيين قد أبقوا حكم قسنطينة في أولاد فرحات فترة طويلة وحكم تلمسان في بقايا بني زيان كما أبقوا تنس وإمارة كوكو وغيرهما تحت أيدي الحكام المحليين فترة من الوقت. (¬2) ظل ابن سليم التومي ناقما على العثمانيين وقيل إنه هرب إلى الأسبان واستنجد بهم ضد عروج وأخيه خير الدين. (¬3) حول الثورات في القرن العاشر انظر هايدو (ملوك الجزائر) - الترجمة الفرنسية.

حول تلمسان والتي أشار إليها ابن مريم. ولم يشر ابن مريم إلى تاريخ الحادثة ولكنه أوردها في ترجمة الشيخ محمد السويدي الذي توفي حوالي سنة 980 هـ. فقد جاء في كتاب (البستان) أن الترك قد نزلوا بحملتهم (أي الحملة العسكرية) في الدواوير القريبة من تلمسان، وكانوا يأخذون العلف من أحد هذه الدواوير (وتشاجروا (يعني الترك) مع أهل الدوار وقام العرب يتقاتلون مع الترك) (¬1). ويبدو أن سبب هذا التشاجر والتقاتل كان اقتصاديا وكان العثمانيون قد نزلوا بجيوشهم في هذا المكان وأرادوا الاستيلاء على الحبوب من المطامير ونحوها من مخازن العلف، وهو مورد رئيسي للسكان، ولم يذكر ابن مريم زعيما لهذه الحادثة التي يبدو أنها كانت رد فعل تلقائي من السكان. 3 - والحادثة التي رواها ابن مريم لم تكن حادثة معزولة. فالمؤرخون يتحدثون عن ثورة في الغرب الجزائري دامت مدة طويلة، وهي المعروفة (بثورة المحال) (¬2)، وهي ثورة قبيلة سويد العربية ضد العثمانيين. وكانت قاعدة هذه الثورة أحيانا مدينة تنس البحرية التي كانت قاعدة لحكم سويد قبل مجيء العثمانيين (¬3). وكان لسويد علاقة بشيوخ الثعالبة الذين كانوا يحكمون متيجة ومدينة الجزائر عند مجيء العثمانيين. ولا شك أنهم تأثروا لمقتل سليم التومي على يد عروج. ويبدو أن العثمانيين قد أجلوا سويدا عن أماكنهم في تنس بعد وفاة زعيمها جميد العبد. وقد سجل الشعر الشعبي هذه العلاقة بين سويد والعثمانيين. فالشاعر ابن السويكت السويدي روى المعارك التي دارت بين قومه وبين العثمانيين، كما تحدث عن جلاء قومه، وبمعنى آخر عن هزيمتهم، وذلك في قوله: ¬

_ (¬1) ابن مريم (البستان)، 290. (¬2) جمع محلة أي الحملة العسكرية. (¬3) من زعماء سويد حميد العبد الذي قيل إن خير الدين قد أبقاه في الحكم إلى وفاته، ثم تعين مكانه أحد العثمانيين، ولعل ذلك كان من أسباب ثورة سويد. انظر هايدو (ملوك الجزائر).

الترك جاروا واسويد عقابهم طافحين ... والترك شاربين الهبال في سطله أداكم الطمع في مطافل امتمقين ... اسويد ما يطيعوا الترك قتاله فهو يصف الترك بالجور والحماقة والطمع والوحشية (قتالة) لذلك لم تطعهم سويد الشجاعة. أما عن جلاء قومه فقد قال: لا من جاب أخبار سويد ... أين مضرب راهم نازلين امحالي (¬1) والمؤرخون لا يذكرون أسبابا واضحة لثورة سويد. فهل كان لصفتهم العربية دخل في هذه الثورة التي تكون بذلك تعبيرا عن بداية روح (وطنية) ضد العثمانيين؟ ولنلاحظ أن ابن مريم قد استعمل عبارة (الترك). كما أن ثورة سويد كانت ثورة عربية إذا نظرنا إلى الجانب القبلي فيها. وبالإضافة إلى ذلك فإن الشاعر السويدي العربي كان يشير إلى العثمانيين باسم (الترك) أيضا عدة مرات. وكأنه يلح على ذلك إلحاحا خاصا. ولكن العامل (الوطني) قد يكون ثانويا إلى جانب العامل الاقتصادي والسياسي. فالمؤرخون يذكرون أنه كان لسويد ماض حافل وكانت تحكم مساحة شاسعة تمتد من مستغانم غربا إلى العطاف شرقا ثم امتد نفوذها إلى ضواحي مدينة الجزائر. وكان لها أمراء وقادة يحكمون إمارة تنس. فالوجود العثماني إذن كان يعني نهاية هذا المجد والثروات التي تنتجها الأراضي الخصبة التي كانت تحت أيدي سويد. 4 - وفي زواوة حدثت ثورة خلال القرن الثاني عشر شبيهة بثورة المحال. وكانت زواوة ممتنعة على العثمانيين، كما كانت تدفع لهم ضريبة الاستقلال الداخلي. ولعل محاولة العثمانيين التوغل في زواوة وفرض ضرائب جديدة على أهلها نتيجة النقص في غنائم البحر هو العامل الرئيسي وراء هذه الثورة. ففي سنة 1158 خرج أهل زواوة ضد القائد العثماني محمد الفريرا المشهور ¬

_ (¬1) المهدي البوعبدلي مقدمة كتاب (الثغر الجماني) 34، و (بهجة الناظر) وكذلك أرنست ميرسييه (تاريخ شمال إفريقية) 383. انظر مقالتي عن قصيدة ابن ميمون التي قالها في تهنئة الحاج محمد خوجة بعد عودته منتصرا على الثائر بوزيد في كتاب (أبحاث وآراء في تاريخ الجزائر) والقصيدة بتاريخ 1141.

بالذباح (ولأهمية زواوة أنشأ العثمانيون قيادة خاصة في سباو التي فصلوها عن إقليم التيطري) فاستولى الزواويون على برج (قلعة) بوغني، وبعد شهر استولوا على برح حمزة (البويرة اليوم) وتمكنوا من قتل قائد الحامية العثمانية في سباو وهو محمد الذباح المذكور. وقد استمرت الثورة مدة سنة على الأقل وأزعجت السلطات العثمانية فجندت لها جيشا من العاصمة بقيادة شريف آغا ومن المدية بقيادة الباي سفطان، ومن قسنطينة بقيادة الباي إحمد القلي. وبذلك وضع حد لهذه الثورة الخطيرة على الوجود العثماني (¬1). وقد صور ابن حمادوش الجزائري هذه الثورة بشيء من العاطفة والتأثر. فبعد أن تحدث عن اقتران المريخ وزحل يوم الجمعة أول شهر ربيع الأول سنة 1158، قال (فوافق ذلك نفوذ وعد الله بطائفة من القبائل من زواوة أن نافقوا (أي ثاروا) على القائد محمد، قائد ساباو الذباح، فبعث إلى إبراهيم باشا فأمده آغا الصبايحية (الفرسان) معه حانبة (فرقة) نحو المئاتي يولداش. فلم يأت اجتماع الشمس والقمر الآتي (؟) حتى هلكت دشور (قرى) القبائل. وبعث يوم الثلاثاء ثالث ربيع الثاني بثمانية وسبعين رأسا على الجمال وأردفها من الغد بأربعة عشر رأسا، ونهبوا أمتعتهم وأموالهم وحرقوا دشورهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم) (¬2). وحسب هذه الرواية فإن الثورة في الواقع لم تنته عندئذ وإنما هي البداية فقط. فابن حمادوش لا يتحدث عن مقتل القائد الذباح، كما أنه لا يتحدث عن اتساع ميدان الثورة بعد ذلك .. ولكن كان يركز على فظاعة المعاملة التي عامل بها العثمانيون ¬

_ (¬1) أشار إليها أيضا ابن حمادوش (الرحلة). وميرسييه (تاريخ شمال إفريقية) 387، وبواييه (سياسة الأتراك الدينية في الجزائر) في (مجلة الغرب الإسلامي) 1966، 39. وعن القائد الذباح انظر روبان (الباي محمد بن علي الذباح) في (المجلة الإفريقية)، 1873، وكذلك البارون فيدرمان (المجلة الإفريقية) 1865. انظر أيضا الحاج أحمد المبارك (تاريخ حاضرة قسنطينة) عن ثورات أخرى وقعت في بني عباس وفليسه خلال القرن الثاني عشر. (¬2) ابن حمادوش (الرحلة).

الثوار. فهي القتل والتمثيل والحرق والنهب. ونحب أن نشير هنا إلى أن ابن حمادوش في كتاباته لم يكن يكشف عن رأيه في العثمانيين، ولكن خلافا لبعض معاصريه، لم يمدحهم، وكان يكتفي بتسجيل الحوادث بشكل محايد. 5 - ومن الثورات غير الدينية ضد العثمانيين ثورة الكراغلة وثورة تلمسان في القرن الحادي عشر. وقد حظيت ثورة الكراغلة بانتباه بعض الباحثين أخيرا مثل بواييه الفرنسي الذي حاول أن يسلط عليها الأضواء من جديد (¬1). وحسبنا هنا أن نشير إلى أن الثورة في حد ذاتها لم تثمر لأن الحكام قد اكتشفوها قبل نضجها. وكانت تمثل محاولة فئة اجتماعية (أبناء الترك من الجزائريات) الاستيلاء على السلطة. فقد كانت هذه الفئة ترى، كما أسلفنا، أنها أحق بالسلطة من العثمانيين القادمين من أناضوليا ومن شذاذ الآفاق الطامعين في حكم الجزائر. فالثورة إذن كانت سياسية واقتصادية واجتماعية. وكان لفشلها عواقب هامة. فقد جعلت العثمانيين يزدادون حذرا من هذه الفئة ويتشبثون أكثر فأكثر بالسلطة دفاعا عن مصالحهم الشخصية والطبقية كفئة غريبة عن المجتمع الذي تحكمه (¬2). أما ثورتا تلمسان سنة 1035 وسنة 1037 فلدينا عنهما المعلومات الهامة التي أوردها محمد بن سليمان صاحب كتاب (كعبة الطائفين). فقد روى ما ارتكبه القائد محمد بن سوري من الفظاعة والجور ضد أهالي تلمسان. وكان العلماء والمرابطون يتدخلون لديه مثل الشيخ محمد بن علي العبدلي، للتخفيف من غلوائه. وكانوا يؤون الناس من ظلمه حتى أهل ¬

_ (¬1) بير بواييه (مجلة الغرب الإسلامي)، 1570، عدد خاص، 79 - 94. (¬2) تحدث الأمير الإنكليزي في الجزائر فرنسيس نايت بالتفصيل عن ثورة الكراغلة بمدية الجزائر سنة 1034. وقد قال إن أكثر من ستة آلاف شخص قد ماتوا فيها. انظر كتابه (سبع سنوات ..)، لندن، 1640. كما وصف الأسير الإنكليزي الآخر وهو جوزيف بيتز الحادث الذي حدث بين الترك والعرب في مدينة الجزائر أواخر القرن الحادي عشر (17 م) والذي مات فيه بين ستين وثمانين من العرب. انظر كتابه (حقائق ..)، 127.

الذمة. ومن الذين دخلوا على القائد ابن سوري، صاحب كتاب (كعبة الطائفين) المذكور الذي روى ذلك بشيء من التفصيل والتأثر. وقال في ابن سوري شعرا جاء فيه: ترقب يوم موتك يا فلان ... وراهقك الرحيل من الديار وعرض في كتابه بجور العثمانيين (¬1)، وقد مات الشيخ العبدلي سنة 1035 أثناء عودته من الجزائر بعد تدخله في شؤون الثورة الأولى. ووصف ابن سليمان الثورة الثانية بأنها كانت أعظم من الأولى. 6 - ولعل أكبر ثورة حدثت في الشرق الجزائري خلال العهد العثماني هي ثورة أحمد الصخري سنة 1047. فقد هزت هذه الثورة أركان النظام العثماني وكادت تطيح به لأنها شملت المنطقة الواقعة بين الزاب وحدود تونس إلى حدود دار السلطان (الجزائر ونواحيها)، واستغرقت فترة طويلة وتسببت في سقوط عدد من الباشوات ومات فيها خلق كثير. وقد دخلت بسببها قسنطينة في فوضى لم تبرأ منها طويلا. ورغم أن وثائق هذه الثورة ما زالت نادرة فإنه يمكن القول إنها كانت من الثورات القبلية الاقتصادية. وخلاصتها أن شيخ العرب، محمد بن الصخري بن بوعكاز العلوي الهلالي، قائد الذواودة والحنانشة، قد زار مراد باي، حاكم قسنطينة سنة 1047، في مكان خارج المدينة. ولكن الباي اتهمه بالخروج عن الطاعة وأمسكه سجينا عنده، وشاور في شأنه باشا الجزائر والديوان فأشاروا عليه بقتله فقتله هو وابنه أحمد كما قتل معه ستة من أعيان العرب. وبعد ان علقوا رؤوسهم على الخيمة العسكرية فترة جيء بالرؤوس إلى قسنطينة وعلقوها أيضا، (وليس من ¬

_ (¬1) وقد اشار ابن المفتي إلى هذه الثورة أيضا. وقال إن ابن سوري قد حمل معه إلى الجزائر جلد المدعي المغربي، وجلد مساعده، محشوا بالتبن إلى الجزائر. انظر (تاريخ باشوات الجزائر) (المجلة الآسيوية)، 1922، 203. وبناء على رواية عبد الكريم الفكون في (منشور الهداية) فإن الثائر هناك هو السوسي المغربي. وقد توفي ابن سوري سنة 1040. أما عن كتاب (كعبة الطائفين) فانظر كتابي (أبحاث وآراء في تاريخ الجزائر).

بينها رأس ابن الصخري وابنه). وبعد عام (أي سنة 1048) ثار أحمد بن الصخري، أخ القتيل، وقاد جموع العرب والحنانشة والذواودة وغيرهم ضد العثمانيين. وقد هاجم الثوار مدينة قسنطينة وغيرها. وجاءت النجدات من الجزائر إلى مراد باي، حاكم الإقليم. وامتدت الثورة إلى الزيبان والصحراء وعنابة. ومن المعارك التي انتصر فيها الثوار (معركة كجال) التي هرب خلالها مراد باي، ولم يعرف مصيره بعدها. كما قتل فيها كاتبه شريط ابن صولة، وأثناء هذه الثورة الخطيرة عدل يوسف باشا عن إعلان الجهاد ضد الإسبان في وهران وجاء بنفسه لحرب الثوار فأقام سنة في قسنطينة وتوجه إلى الزيبان، ولكن الثورة استمرت (¬1). وقد جند الباشا كل الوسائل للقضاء عليها مثل مكاتبته لأهل الرأي والعلماء وطلب مساعدتهم وتهديد المنشقين بالويل والثبور (¬2). وقد سجل الشعر الشعبي استمرارية ثورة ابن الصخري في مناسبات أخرى. فهذه علجية بنت بوعزيز بوعكاز (التي سماها بيسونيل الرحالة الفرنسي عندئذ جان دارك قومها) قد قادت العرب وجموع الحنانشة ضد الترك عندما دب الفشل في الرجال. والشاعر الشعبي قد ذم الترك وأشاد بقومه وبالفتاة الشجاعة إذ قال: قصة طراد شاو الزمان يا حضار ... مع الترك الخداعين يا حسرة وقال عن علجية بالذات: طاحو اليوم سادات في الحروب أبدان ... أهل العلوم يقرأوا من الحمد للبقرة يندهو إلى أشياخ القومان ... بنت بوعزيز سيدة الرجالة (¬3) ركبا على زرقا تنطمى فرخ الجان ... تسبق الغزال تشطفه تزيد في لغواط ¬

_ (¬1) انظر فايسات (روكاي) - 1867، 344، وأيضا ما كتبه عن نفس الموضوع فيرو (المجلة الإفريقية) 1859. (¬2) انظر مراسلات يوسف باشا مع محمد ساسي البوني مرابط وعالم عنابة. مخطوط باريس رقم 6724. ودراستي عن هذا الموضوع في مجلة (الثقافة)، 51، 979 1. (¬3) القصيدة طويلة وهي في (المجلة الإفريقية) 1874, 214.

7 - وهناك ثورات ذات طابع ديني بعضها كان بقيادة مرابط بعينه وبعضها بقيادة طريقة صوفية كاملة. ومن النوع الأول ثورة يحيى الأوراسي في القرن العاشر في جبال الأوراس. فقد كان الشيخ يحيى رجلا عالما ومدربا في مدينة قسنطينة، وكان من تلاميذ عمر الوزان، وكتب أوراقا وتقاييد في النحو والبيان والفقه، وتولى الإفتاء في الجزائر وقسنطينة. وكان في أول أمره صاحب نفوذ لدى أهل الدولة الذين كانوا يعتقدون فيه الصلاح حتى أنهم كانوا (لا يقطعون دونه أمرا) وقد انتهى إلى التصوف وأسرار الحروف وله سلسلة وخرقة على عادة المتصوفة. وهذا ما جعل أهل السلطة، بالإضافة إلى العامة، يعتقدون فيه الصلاح. ولكن حساده وشوا به إلى السلطة وأشاعوا عنه الأقاويل (فخلع البيعة وفر من قسنطينة إلى جبل أوراس مع أخيه أحمد) وقد جرت حروب بينه وبين العثمانيين انتهت بفشلهم من إلقاء القبض عليه، ولكن الموت جاءه غدرا. ولعل ذلك كان من دس العثمانيين بعد أن فشلوا في قتله في الميدان. ومهما كان الأمر فإن ثورته قد استمرت على يد أخيه أحمد (¬1). وهذه الرواية لثورة يحيى الأوراسي لا تكشف عن جميع جوانب الثورة لأن الذي ساقها (الفكون) كان ضد العلماء الذين يتزلفون السلطة ويهينون علمهم وصلاحهم بتولي الوظائف الرسمية وخدمة الأمراء. وفي نظره أن جميع العلماء الذين فعلوا ذلك قد انتهوا بالتخلي عن قيمهم وعلمهم وصلاحهم وضحوا بالأخلاق، أو أنهم انتهوا إلى الثورة أو التصوف الكاذب. ومن هذا الصنف يحيى الأوراسي. ولعل الشيخ يحيى في نظر الفكون كان يستعمل الصلاح والتصوف لأغراض وصولية أخرى، بالإضافة إلى التدريس والفتيا. وحين انكشف أمره وخشي العاقبة لجأ إلى الثورة ضد الذين أنعموا عليه بالوظائف واعتقدوا فيه الصلاح وكانوا (لا يقطعون دونه أمرا) فأسباب الثورة حينئذ كانت شخصية بالدرجة الأولى، ولكن كان لها أهمية في المنطقة ¬

_ (¬1) عبد الكريم الفكون (منشور الهداية).

كلها. ذلك أن العثمانيين قد جندوا لها قوات كبيرة دون نتيجة. فالفكون لا يعطي تفاصيل عن هذه الثورة. ولكنه يستعمل تعابير تدل على سعتها وقوتها وطول مدتها، كقوله (أرسلت ضده المحلات وجرت حروب وعادوا دون أن يظفروا به) (¬1). 8 - وقد أشار الفكون أيضا إلى اضطرابات أخرى وقعت في قسنطينة نفسها, من ذلك أنه تحدث عن امتحان جده والشيخ عبد اللطيف المسبح سنة 975 من طرف العثمانيين (¬2). كما تحدث عن شكوى العامة بأهل الشورى وقرار العثمانيين عدم تولية القضاء في قسنطينة أحدا من خاصتها أو من أعيان سكانها. كما (تدخل العسكر وهدمت دور ونفي بعض الناس) ويروي الكاتب أن العامة قد تدخلت، في مناسبة أخرى، وولت القضاء رجلا أميا، ولكن العثمانيين قد تراجعوا عن قرارهم وعزلوا هذا القاضي الأمي بعد ذلك. وسبب هذا الاضطراب واضح من كتاب الفكون. فهو تدخل العثمانيين في شؤون العلماء وضرب هذا بذاك منهم. فالاضطراب إذن كان يعود إلى أسباب اقتصادية واجتماعية ودينية. ورغم شهرة صالح باي في قسنطينة فإن عهده لم يخل من ثورات، ولا سيما تلك التي قادها بعض المرابطين. وتذكر المصادر أن مرابطين على الأقل قد أعلنا عليه الثورة. أولهما أحمد الزواوي والثاني محمد الغراب. وتختلط في ثورة هذين المرابطين الخرافة بالتاريخ. وتذهب الأساطير إلى أن الزواوي كان مرابطا في نواحي قسنطينة وأنه أيد صالح باي عندما توجه إلى مدينة الجزائر لمحاربة الإسبان (حملة أوريلي) وأن الزواوي قد أرسل فرسه المسماة (الرقطاء) لتحارب إلى جانب المسلمين. وبعد الانتصار عادت إليه. ¬

_ (¬1) بالإضافة إلى الفكون انظر عن هذه الثورة فايسات (روكاي) 1862، 313. (¬2) حدثت ثورة عندئذ كان على رأسها أولاد بن صولة وأولاد عبد المؤمن. وقد ذهب وفد من علماء قسنطينة على رأسه عبد الكريم الفكون (الجد) وعبد اللطيف المسبح، إلى مدينة الجزائر لإقناع السلطة بالحل. ولكن عاقبتهما كانت الفرار إلى زواوة ثم السجن. وأخيرا أطلق سراحهما. انظر القصة بالتفصيل في (منشور الهداية).

ولكن الزواوي انضم بعد ذلك إلى أعداء الباي وقاد ضده الثوار. وقد أرسل إليه الباي من يحمله إلى قسنطينة وحاول استرضاءه ولكن بدون جدوى. ذلك أن الزواوي ظل على غضبه إلى أن توفي وفاة طبيعية ودفن قرب جبل شطابة غير بعيد من قسنطينة. أما محمد الغراب فقد جند أتباعه ضد صالح باي أيضا وأرسل الباي في طلبه وحكم عليه بالإعدام رغم شهرته وتصوفه ورغم نصيحة العلماء له بعدم تنفيذ الحكم فيه. وتذهب الأساطير إلى أن جثة الشيخ محمد قد تحولت إلى غراب ضخم (ومن ثمة تلقيبه بالغراب) فخاف الباي، الذي كان هو أيضا يؤمن بالخرافات، من سوء طالعه. فبنى للمرابط ضريحا بقبة بيضاء جميلة في نفس المكان الذي وقع عليه الغراب، وذلك خارج مدينة قسنطينة (¬1). 9 - ومن الثورات الدينية أيضا ثورة درقاوة، أو ثورة أتباع الشيخ محمد العربي الدرقاوي سنة 1219. وقد كان الشيخ الدرقاوي من فقراء (متصوفة) المغرب الأقصى، ولكن أتباعه كانوا منتشرين في الجزائر وخصوصا غربها. وكان مقدم طريقته في وهران ونواحيها هو الشيخ عبد القادر بن الشريف الذي يعود إلى قرية أولاد بليل، قرب فرندة. وكان ابن الشريف قد أسس معهدا أو زاوية حيث يستقبل الأتباع وتلقى الأذكار وتلقن الأوراد وتعطى كلمة السر، وحيث يدرس العلم ويخرج الأتباع المؤمنون بمبادئهم وطقوسهم ومراميهم. وقد درس ابن الشريف في زاوية القيطنة (حيث ولد الأمير عبد القادر) القادرية ثم توجه إلى المغرب الأقصى فدرس العلم هناك أيضا وأجيز من علمائه ولقي شيخ الطريقة الدرقاوية محمد العربي، الذي عينه ليكون مقدم طريقته في الجزائر. فعاد ابن الشريف إلى بلاده. وأنشأ معهدا وأخذ يدرس ¬

_ (¬1) فايسات (روكاي) 1868، 369. انظر أيضا فيرو (روكاي) 1865، 57. ويفسر بعض الأوروبيين موقف المرابطين من صالح باي أنهم كانوا يعارضون سياسته في الإصلاح، ولا سيما في ميدان التعليم. انظر عن صالح باي وعهده وسياسته (ذكر طرف من ولاية المرحوم صالح باي) مخطوط بالمكتبة الوطنية? تونس رقم 263. وهو في 34 ورقة.

العلم ويلقن أوراد الطريقة وتعاليمها (¬1). وعندما سمع باي وهران، محمد المقلش، بحركة ابن الشريف توجس منها خيفة وأخذ يستعد للقضاء عليها. ويبدو أن الباي قد أحس أن حركة ابن الشريف الدرقاوية لم تكن دينية محضة، كما يدل عليها ظاهرها. فقد كان لها طابع سياسي يتداخل فيه المغرب الشريفي والجزائر العثمانية. ولعل ابن الشريف كان مجرد أداة لتنفيذ خطة سياسية ضد النظام العثماني فأراد هذا النظام حماية نفسه. ومما يؤكد هذا ظهور شخصية مغربية غامضة في الشرق الجزائري ادعت أيضا أنها درقاوية وحاربت العثمانيين هناك، ونعني بها محمد بن الأحرش الذي لعب أيضا دورا في حوادث مصر أثناء الحملة الفرنسية عليها. فقد جاء ابن الأحرش إلى الجزائر ونشر تعاليم الطريقة الدرقاوية في الظاهر واتصل ببعض المرابطين الجزائريين، أمثال عبد الله الزبوشي مقدم الطريقة الرحمانية بنواحي قسنطينة. ومهما يكن الأمر فإن ثورة درقاوة في الجزائر قد غطت مناطق واسعة وهددت الوجود العثماني فيها بقوة على نحو ما هددته ثورة ابن الصخري قبل ذلك بقرن ونصف. وقد جند لها العثمانيون قوتهم ولا سيما بعد أن أدركوا غايتها السياسية البعيدة. ودارت معارك كثيرة، منها المعركة التي وقعت بين الباي محمد المقلش وطلبة ابن الشريف في المكان المعروف بفرطاسة (قرب معسكر) (¬2) أدت إلى انهزام جيش الباي. والهزيمة أحيانا تؤدي إلى الهزيمة، كما أن الغلبة تزيد في الحماس والسمعة. وهكذا كان الأمر بالنسبة للدرقاويين. فقد تقدموا واستمروا في حروبهم ومناوشتهم للسلطات العثمانية ¬

_ (¬1) توفي الشيخ محمد العربي الدرقاوي بالمغرب سنة 1223. وعن مبادئ طريقته في الجزائر انظر الفصل السادس من هذا الجزء. (¬2) وهي المعركة التي ملأت فيها الكاتب أحمد بن هطال. وقد سجل أخبارها حسن خوجة أحد المؤرخين الرسميين في كتابه (در الأعيان في أخبار مدينة وهران). وترجم هذا الكتاب روسو ونشره في جريدة (مونيتور الجيريان) سنة 1855، أعداد 1398 - 1395.

وكثر أتباعهم وأدوا بالبلاد إلى حافة الثورة العامة. واستعمل العثمانيون أيضا وسائل أخرى غير عسكرية كمصاهرة بعض خصومهم. فقد صاهر الباي المذكور خصمه قدور بن الصحراوي، زعيم الحشم، الذين كانوا قد انضموا إلى الثورة. وعانى من الثورة الناس الذين وقعوا بين نارين: السلطة والدين كالعالم الحافظ أبي راس الناصر الذي كادت تأتي عليه رياح الثورة والذي روى هو ذلك في كتابه (درء الشقاوة في حروب درقاوة) وأشار إليها في بعض أعماله الأخرى، ثم العالم الزاهد محمد الزجاي. ولم تنته الثورة إلا بعد إجراء اتصالات سياسية بين الجزائر والمغرب على المستوى الرسمي (¬1). هذا عن ثورة ابن الشريف أما عن ثورة ابن الأحرش فقد كانت هي أيضا قوية وكادت أن تقلب الأوضاع في الشرق الجزائري ضد العثمانيين. وقد هدد ابن الأحرش مدينة قسنطينة نفسها. وخاض معارك بين قسنطينة والجزائر قبل أن ينتقل إلى غرب البلاد ليتعاون مع الدرقاويين هناك (¬2). ويهمنا هنا ذلك التحالف الذي وقع بين ابن الأحرش والمرابط عبد الله الزبوشي مقدم الطريقة الرحمانية. فقد كانت زاوية الزبوشي في (رجاس) بالقرب من ميلة. وكان هو ساخطا على عثمان باي، حاكم قسنطينة. وقد نجح الزبوشي في قيادة أتباعه ضد الباي الذي قتل في إحدى المعارك سنة 1219. وأرسل الزبوشي برأس الباي إلى حليفه ابن الأحرش. ويقال إن سبب ثورة الزبوشي هو أن الباي سمع بتحالفه مع ابن الأحرش فسحب منه الإعفاء من دفع الضريبة، وهو إجراء كان يتمتع به المرابطون والعلماء المرضي عنهم. فأرسل الزبوشي إلى الباي يطلب إبقاء الإعفاء ولكن الباي رفض فغضب الزبوشي وثار على الباي، وبعد عام من الثورة قتل عثمان باي، كما ذكرنا. ويبدو أن توجه ابن الأحرش إلى الغرب الجزائري والعداوة الشخصية التي كانت بين الزبوشي والباي هي السبب في عدم مطاردة العثمانيين للمرابط الزبوشي الذي استمر ¬

_ (¬1) انظر الفصل الأخير من هذا الجزاء حيث الحديث عن الطرق الصوفية. (¬2) عن ابن الأحرش انظر أيضا الفصل السادس من هذا الجزء.

على قيد الحياة ست سنوات بعد وفاة الباي عثمان، إلى أن وافاه أجله سنة 1225 ودفن بزاويته في رجاس (¬1). وكان لثورة درقاوة في غرب البلاد وشرقها وانضمام مقدم الطريقة الرحمانية في نواحي قسنطينة إلى الثورة عواقب سيئة على العثمانيين في الجزائر. ذلك أن سمعتهم قد سقطت في أعين السكان. فلأول مرة وقع تحد قوي لسلطتهم منذ عهد بعيد. ونظرا إلى أن القائمين بالثورة كانوا من رجال الدين ومن مديري المعاهد (أو الزوايا) فإن العثمانيين قد أخذوا منذ ذلك الحين يتوجسون خيفة من أصحاب الطرق ويتتبعون أخبارهم وحركاتهم. وقد انعكس هذا حتى على الطرق الأكثر قربا منهم والتي كانوا قد ساندوها وساعدوها على الانتشار كالطريقة القادرية. ومن مواقفهم نحوها ما قام به الباي حسن حاكم إقليم وهران من منع محيي الدين رئيس الطريقة القادرية من الحج وحجزه عنده هو وولده (الأمير عبد القادر في المستقبل). كما ضيق العثمانيون الخناق بعد ثورة درقاوة على آخرين من زعماء الطرق الصوفية ورجال الدين عامة. وكان من ضحاياهم في ذلك ابن القندوز التوجيني الذي قتل في مازونة، وضيقوا الخناق على أحمد التجاني حتى رحل إلى المغرب، كما فر منهم الشارف بن تكوك إلى المغرب ومحمد بن علي السنوسي إلى المشرق (¬2). وقد خلفت ثورة درقاوة وغيرها من الثورات كثيرا من الإنتاج التاريخي والأدبي والشعر الشعبي (¬3). ¬

_ (¬1) فيرو (المجلة الافريقية) 1862، 120. انظر أيضا (روكاي) 1870، 192. (¬2) البوعبدلي مقدمة (الثغر الجماني) 39 وهنا وهناك. ولد السنوسي بطرش، قرب مستغانم وتوجه إلى المشرق سنة 1245 وتوفي سنة 1275. انظر فهرسه المسمى (المنهل الرائق) مخطوط، وبروكلمان 2/ 883. عن حياة السنوسي انظر فصول التصوف من الأجزاء التي تتناول العهد الفرنسي. (¬3) من ذلك ما نظمه بوعلام السجراري عن معركة فرطاسة حيث صور انتصار الثوار وهزيمة العثمانيين. وجاء في قصيدته قوله: =

ولكن أقسى ثورة واجهها العثمانيون في الجزائر هي التي وقعت سنة 1246 (1830). وقد طمع الحضر في الحكم بعدهم ومدوا أيديهم إلى الفرنسيين لمساعدتهم على استلام السلطة السياسية من العثمانيين. وخرج البعض ينتقد تصرفاتهم، كأحمد بوضربة وحمدان خوجة، ورفض محيي الدين والد الأمير عبد القادر رئيس الطريقة القادرية وشيخ الطريقة التجانية أن يمدا يد المساعدة إلى الباي حسن في وهران، كما رفض الأمير عبد القادر التحالف مع الحاج أحمد، باي قسنطينة، الذي ادعى أنه الوريث الشرعي للنظام العثماني. وكان اعتماد الشعب الجزائري على نفسه في مقاومة الفرنسيين أكبر درس للعثمانيين الذين خرجوا من الجزائر غير مأسوف عليهم من قبل أغلب السكان (¬1). ¬

_ = كي قصة الأجواد مع أتراك النوبة ... يوم أن فزعهم ابن الشريف أوجاوا (¬1) كان في مدينة الجزائر وحدها حوالي ثلاثة آلاف عثماني سنة 1246 (1830) وقد وضع الفرنسيون العزاب منهم في سفن حملتهم إلى أزمير. ثم حملوا حوالي ألف متزوج منهم أيضا إلى نفس المكان. أما الباقون فقد ظل بعضهم يحارب مع جيوب المقاومة أمثال مقاومة الحاج أحمد باي قسنطينة، وانضم بعضهم إلى الجيش الفرنسي، كما هاجر بعضهم طوعا إلى المشرق. انظر (نظرة على حملة إفريقية سنة 1830)، باريس 1831 وكتابنا الحركة الوطنية ج 1.

الفصل الثالث المؤسسات الثقافية

الفصل الثالث المؤسسات الثقافية

الأوقاف

لا تكاد المؤسسات الثقافية في العهد العثماني تخرج عن المسجد والمدرسة والزاوية والمكتبة. ومعظم هذه المؤسسات كانت للتعليم أكثر مما كانت للثقافة بمفهومها اليوم. ولم يكن من بين هذه المؤسسات جامعة أو معهد عال رغم أن بعض المساجد والمدارس والزوايا كانت تبث تعليما في المستوى العالي. ولم تعرف الجزائر عندئذ المسرح ولكن وجد ما يشبهه كخيام القراقوز وحلقات المداحين وحلبات المصارعة. أما الصحافة فلم يكن لها وجود قبل العهد الفرنسي، وكذلك المطبعة. وسنحاول في هذا الفصل أن ندرس دور مؤسسات التعليم من كتاتيب ومساجد وزوايا ومدارس، بالإضافة إلى المكتبات العامة والخاصة. أما التعليم كنظام ومنهج فسندرسه في الفصل الموالي. ولكن أكبر مؤسسة كانت تغذي هذه المؤسسات جميعا هي الأوقاف. ولذلك رأينا أن نفتح هذا الفصل بإلقاء الضوء على دورها في هذا المجال. الأوقاف 1 - يعتبر الوقف من أهم مظاهر الحضارة الإسلامية. فهو أساسا يعبر عن إرادة الخير في الإنسان المسلم وعن إحساسه العميق بالتضامن مع المجتمع الإسلامي. وهو بهذا المعنى شرعة اتبعها المسلمون منذ أوائل الإسلام، ولكن بتطور الزمن تكاثر وتعددت أوجهه وأغراضه. وقد تطور خاصة في العهد العثماني نتيجة اعتبارات سياسية واقتصادية ليس هنا محل ذكرها. وكانت الجزائر من بين المناطق الإسلامية التي شملها هذا التطور. ويقوم الوقف على مبدأ شرعي وعلى صيغة قضائية ملزمة. فالقاضي

عادة هو الذي يقوم بكتابته بصيغة معينة وبحضور الواقف والشهود، مع تحديد قيمة الوقف وتعيين أغراضه وكيفية الاستعادة منه وانتقاله وعوامل نموه وتخصيص المشرفين عليه وشروطهم، مع ذكر تاريخ الوقف وتوقيع الشهود والقاضي. فللوقف إذن وثيقة شرعية يستند عليها ويلتزم باحترامها الواقف وأهله والمستفيدون منه، وكذلك السلطة. ولكن هذه الوثيقة لم تكن دائما محل احترام. فقد يسيء الوكيل التصرف في الوقف، وقد تتدخل السلطة فتحول فوائده إليها , ولذلك كان إهمال الأوقاف مصدر شكوى من المسلمين، وخاصة رجال الدين. ومن ذلك شكوى أحمد بن ساسي البوني أوائل القرن الثاني عشر من أن ناظر الوقف قد بذره حتى كاد ينضب. فهو يقول عن أحباس عنابة شاكيا إلى الداي محمد بكداش: حبسها قد أسرفا ... ناظره فأشرفا والشرع فيها باطل ... والظلم فيها هاطل (¬1) ومن ذلك شكوى الورتلاني. وهو يتحدث عن قسنطينة، من أن ولاتها أهملوا الأوقاف، فضعف فيها العلم (¬2). ونفس الشكوى كررها بصورة أوضح في حديثه عن بسكرة. فقال إن الترك قد استولوا فيها على الأوقاف (فأصبحوا يأكلون منها وينتفعون بها كالأملاك الحقيقية. وهي ليست لهم وليسوا من أهلها، ولكنهم تمردوا وطغوا وجعلوا جميع الخطط الشرعية لهم ظلما. وهذا سبب اندراس العلم وأهله من كل وطن يوجد فيه ذلك) (¬3). وأخبر أحمد الزهار أن الأتراك قد جاروا (وأخذوا جمبع ديار الحرمين التي كانت بيد الفقراء وأخرجوهم منها) وذلك في ¬

_ (¬1) ابن ميمون (التحفة المرضية) ورقة 23، انظر فيه كذلك قصيدة ابن آقوجيل في نفس المعنى عن أحباس مدينة الجزائر. وهو يعني بكلمة (حبسها) وقفها وبكلمة (أشرف) هلك وفنى. (¬2) الورتلاني (الرحلة)، 686. (¬3) نفس المصدر، 110.

عهد علي باشا سنة 1223 (¬1). 2 - وللوقف نظام داخلي دقيق. فالوكيل (أو الناظر) هو المشرف الرئيسي عليه، وهو الذي يسهر على تطبيق ما جاء في الوقفية من شروط، وهو المسؤول على تنمية الوقف واستعماله في الأوجه المعينة له. والباشا (أو الباي في الأقاليم) هو الذي كان يعين الوكيل بناء على مواصفات معينة كالأخلاق الفاضلة والنزاهة والعلم والسمعة الطيبة بين الناس. ومن الممكن تغيير الوكيل عندما تشتهر عنه أمور مخلة بنظام الوقف أو بالأخلاق العامة. وإذا كان الوقف في عائلة ولي صالح فمن الممكن أن تظل الوكالة وراثية في أبنائه، غير أن هذا ليس مطلقا. فقد يتدخل الباشا أو الباي لتعيين وكيل آخر ليس من أبناء الولي إذا دعت الضرورة. ولا يخضع الوكيل إلا لمراقبة ضميره والرأي العام وموقف العلماء، فإذا أشيع عنه الفساد والانحراف واستعمال الوقف في غير وجهه تدخل الباشا أو الباي لتنحيته (¬2). ومن الأمثلة على تدخل السلطة في هذا الموضوع ما فعله صالح باي في قسنطينة. فقد وصلته الأخبار بأن التقصير قد وقع في أوقاف المساجد وعاث فيها الوكلاء فسادا ونهبا وإهمالا فعطلت عن وظائفها وأصبحت مرابط للدواب. فأمر الباي أن تضبط الأمور في الحال. وقد وضع لذلك سجلات يشرف عليها القضاة والمفتون، وأمرهم أن يبحثوا، بالإضافة إلى ذلك، عن الأوقاف سواء التي انقرضت أو التي ما زالت ولكن في حالة سيئة، كما قرر محاسبة الوكلاء في كل ستة أشهر، وعهد إلى (المجلس العلمي)، المكون من العلماء وصاحب بيت المال، بالنظر في شؤون الأوقاف وفائضها في كل سنة، على أن يستعمل الفائض في شراء عقار آخر يصبح بدوره وقفا، وهكذ (¬3). وقد اتبع الباي محمد الكبير في معسكر طريقة مشابهة. فقد جاء ¬

_ (¬1) الزهار (مذكرات)، 103. (¬2) ديفوكس (المجلة الإفريقية)، 1862، 370. (¬3) شارل فيرو (المجلة الإفريقية)، 1868، 124. وتوجد الوثيقة التي أصدرها صالح باي مترجمة في هذا المصدر. انظر كذلك فايسات (روكاي)، 1868، 361.

في إحدى الوثائق أنه تتبع أوقاف مدرستي تلمسان (التي استولت عليها الأيدي ونسي الناس أنها أوقاف) وأعاد للمدرستين الأراضي التابعة لهم (¬1). والوقف كما يكون تحت إشراف وكيل بعينه يكون تحت إشراف لجنة أو مجلس أو إدارة معينة. وسنتحدث بعد قليل عن الأوقاف الموضوعة تحت إدارة جماعية، كأوقاف مكة والمدينة وسبل الخيرات والأندلس والأشراف. ومهما كان الأمر فإن وكيل الوقف، حتى في الإدارة الجماعية، يعينه الباشا نفسه أو الباي. ولذلك كثر التزلف للباشا رغبة في الحصول على هذا التعيين. وللوكيل مرتب معين من الوقف، ولكنه كان مع ذلك يتصرف في مدخوله بطرق معروفة كدفع الهدايا للباشا وكبار المسؤولين ودفع مرتبات الموظفين في المؤسسة التي يشرف عليها والقيام بلوازم المؤسسة نفسها. وكان على الوكيل أن يقدم تقريرا دوريا إلى العلماء يذكر فيه نمو أو نقصان الوقف وحالته. ولكن هذا التقرير لم يكن هاما ولا مصيريا لأن الوكيل كان يشتري سكوت الناقدين بسهولة (¬2). وأنواع الوقف كثيرة وليس من السهل حصرها. فهناك من يوقف عقارا من أرض أو دكان أو دار أو نحو ذلك. وبعضهم كان يوقف عينا أو بئرا لأبناء السبيل، ومن يوقف غلة حقل من الحقول أو غلة مجموعة من الأشجار، وهلم جرا. ويستعمل الوقف في أغراض كثيرة. منها العناية بالعلم والعلماء والطلبة الفقراء والعجزة واليتامى وأبناء السبيل. ومن أهم أغراضه العناية بالمساجد والمدارس والزوايا والأضرحة. كما أن من أغراضه العناية بفقراء فئة معينة كفقراء الأندلس وفقراء الأشراف أو بطلبة خصوصيين كالشبان الأتراك أو ¬

_ (¬1) ابن سحنون (الثغر الجماني) مخطوط، ورقة 12. (¬2) (طابلو) وزارة الحربية الفرنسية 2/ 1838، 220. انظر أيضا الملاحظات التي كتبها مارسيل ايمريت عن أهمية الوقف في التعليم وأعمال البر في (مجلة التاريخ الحديث والمعاصر)، 1954، 200. وقد رجع في ذلك إلى وثائق وتقارير رسمية.

بفقراء مدينة بعينها كفقراء مكة والمدينة أو العناية بمذهب كالوقف على نشر وتدريس المذهب الحنفي. ومن جهة أخرى قد ينص الواقف على قراءة حزب معين من القرآن أو سور منه كسورة الإخلاص، أو كتاب أو ذكر معين مثل (تنبيه الأنام) مع تحديد النقود لكل نوع. وكان بعضهم يوقف للقراءة على نفسه أو على زوجه أو ولده. وهناك من كان يوقف على شراء الزيت للإنارة العامة، أو للإنارة خلال شهر معين مثل شهر رمضان (¬1). وكانت بعض الأوقاف لصالح الإنكشارية وأخرى كانت لصالح الطرقات العامة والعيون والمياه الصالحة للشرب (¬2). ويظهر من ذلك أهمية الوقف في الحياة الدينية والعلمية والاجتماعية (¬3). فهو مصدر العيش للزوايا والأضرحة وغيرها من المؤسسات الدينية. كما أنه مصدر الحياة والنمو للمساجد والمدارس والكتاتيب ومعيشة العلماء والطلبة. ومن جهة أخرى لعب الوقف دورا بارزا في الحياة الاجتماعية بتضامن المجتمع وترابطه وتوزيع ثرواته على فقرائه والعجزة منه، كما أظهر تضامن فئات معينة كالأشراف وأهل الأندلس. وكان الوقف، بالإضافة إلى ذلك، يلعب دورا في التأثير الديني والسياسي خارج الحدود كإرسال النقود سنويا إلى فقراء مكة والمدينة مع ركب الحج (¬4). ولكن ليس كل وقف يجر أموالا طائلة على الوكيل أو الناظر. فهناك ¬

_ (¬1) ديفوكس (المجلة الإفريقية) 1866، 380. (¬2) (طابلو) وزارة الحربية الفرنسية 2/ 1838، 221. (¬3) عن الأوقاف كمصدر اقتصادي في الدولة خلال العهد العثماني انظر أطروحة ناصر الدين سعيدوني (النظام المالي للأيالة الجزائرية) كلية الآداب، جامعة الجزائر، 1974، مخطوط، وهي الآن مطبوعة. (¬4) كان أمين بيت المال هو الذي يعين على (الصرة) التي تحتوي على الذهب المرسل - كصدفة - إلى فقراء الحرمين. وقيمة هذه الصرة تختلف من سنة إلى أخرى. انظر الزهار (مذكرات)، 144 وكذلك (طابلو) وزارة الحربية الفرنسية 2/ 1838، 221. وليس كل دخل مؤسسات مكة والمدينة في الجزائر يرسل كصدقة، بل ان أكثره يصرف في عين المكان.

أوقاف لا تكاد تفي بالحاجة الموقوفة لها. وكان الوقف كالشجرة يحتاج إلى التعهد المستمر لكي يزداد دخله، فإذا توقف الوكيل عند استغلاله فقط توقف الوقف تدريجيا عن الإيفاء بالحاجة. لذلك كانت بعض المؤسسات الدينية والعلمية تعاني نتيجة ضآلة دخلها وإهمال الوكلاء، بل إن بعض المؤسسات تلفت من عدم العناية بأوقافها أو من عدم حصولها على أوقاف جديدة. ولكن بعض المؤسسات كانت تتمتع بأوقاف ضخمة مما جعلها مصدر ثروة لمن يتولاها، لذلك كان يكثر في هذه الحالة التنافس على تولي وكالة هذه المؤسسات، مثل الجامع الكبير بالعاصمة الذي كانت أوقافه ضخمة ومداخيله عالية. 3 - والواقفون في الجزائر لا حصر لهم بجنس أو طبقة أو مذهب. ولذلك وجدنا فيهم الرجال والمرأة، والعثمانيين والحضر، والأحناف والمالكية. ولعل الفرق بين واقف وآخر هو النية الحسنة والثروة. قالفقراء قلما يوقفون لأنهم أنفسهم كانوا في حاجة إلى مداخيل الوقف. وهكذا كاد الوقف ينحصر في طبقة الأغنياء ومتوسطي الحال. ومن هؤلاء الباشوات والبايات الذين كانوا يجلسون على كرسي الحكم والنفوذ، ومنهم الكراغلة الذين كانوا يتولون الشؤون الإدارية والاقتصادية وغيرها في إطار الدولة، ومنهم الحضر الذين كانوا يمارسون التجارة والصناعة. وكان من بين الواقفين أيضا المدنيون والعسكريون. والوازع وراء الوقف عند هؤلاء جميعا هو وازع الخير والحماس للدين والعلم وإصلاح المجتمع، وأحيانا كان الوازع هو السمعة والرغبة في الخلود والذكر الحسن في الحياة أو بعد الممات. وقد كان الوازع أحيانا ماديا أو دنيويا كإبعاد الثروة عن بعض الورثة أو الاحتفاظ بها تحت اسم الوقف حتى لا تؤول إلى الدولة التي كانت تستولي على الأملاك التي لا ورثة لها وتضعها تحت إشراف بيت المال (¬1). ¬

_ (¬1) عن الأوقاف عامة بمدينة الجزائر انظر أيضا أطروحة جيرارد بوسون دي جانسون (مساهمة في دراسة الأوقاف بمدينة الجزائر) سنة 1950. وعن مهمة (بيت المال) انظر (طابلو) وزارة الحربية الفرنسية 2/ 1838، 224.

وقد وجدت أثناء البحث في الوثائق، العديد من الوقفيات التي أوقف فيها أصحابها أملاكهم على أنفسهم ثم على ذريتهم ثم على ذرية ذريتهم، وهكذا، قبل أن تؤول الأوقاف إلى إحدى المؤسسات الدينية كالمسجد أو أملاك الحرمين الشريفين. وقد شاع هذا النوع من الوقف في العهد الأخير على الخصوص، كما نلاحظ اشتراك النساء والرجال فيه، ولعل نسبة النساء فيه أكثر. كل ذلك كان لمنع الدولة من الاستيلاء على أملاك الواقف عند وفاته أو عند انقراض نسله. ونذكر من ذلك وقفية محمد المازوني التي نص فيها على أنه أوقف أولا على نفسه ثم على ابنته ثم على ذريتها، وأنه إذا انقرض نسله منها تؤول الوقفية إلى الجامع الكبير بالبليدة. ونصها، بعد الديباجة (أشهد المكرم الحاج محمد المزوني وأشهد على نفسه لدى الشيخ القاضي وشاهديه أنه حبس ووقف لله تعالى جميع البحيرة الكائنة في باب الزاوية مع ما يخصها من الماء، أولا على نفسه ينتفع بغلتها واستغلالها مدة حياته. وبعد وفاته يرجع ذلك على بنته عائشة تستغلها مدة حياتها، وبعدها على ذريتها وذرية ذريتها ما تناسلوا وامتدت فروعهم في الإسلام، يستغلون جميع ما ذكر طبقة بعد طبقة، وإن قرضوا عن آخرهم وأتى الحمام على جميعهم يرجع ذلك على أولاد أخيها محمود، على حسب ما ذكره، وإن قرضوا (كذا) عن آخرهم يرجع ذلك على جامع (كذا) الأعظم من بلدة البليدة ..) وتاريخ هذه الوقفية حوالي 1235 (¬1). وكان هذا النوع من الوقف شاملا حتى الباشوات والبايات (¬2). وهكذا، فلا يكاد يوجد باشا ظل في الحكم مدة طويلة نسبيا إلا وقد بنى جامعا (أو مسجدا) أو كتابا أو زاوية أو وقف الأوقاف على ما بناه. ولعل هذا يخالف ما قيل من أن العثمانيين في الجزائر لم يكونوا مهتمين بشؤون الدين. إن الآثار تدل على أن الحكام العثمانيين كانوا يشعرون ببعض الواجب ¬

_ (¬1) انظر الأرشيف ملف (366) 48 - 228 MI وفي هذا الملف عدد كبير من الوقفيات على هذا النحو. (¬2) انظر الأرشيف ملف (216) 37 - 228 MI .

الديني والاجتماعي نحو المجتمع الذي كانوا يحكمونه. حقا إن منشآتهم العلمية لم تتطور فتصبح جامعات شهيرة ومعاهد راسخة القدم، ولكن الحد الأدنى من العناية بهذه المنشآت يدل على نوايا بعضهم الحسنة والخيرة. ويبدو أن قصر المدة التي كان يبقاها كثير منهم في الحكم والعنف الدموي الذي كان يتسم به الحكم نفسه والانقلابات المتوالية هي التي كانت السبب في عدم تطور هذه المنشآت ومنع الكثير منهم من وقف أوقاف جديدة عليها وتعهدها بالعناية والتنمية. ومن الغريب أن بعض أوقاف المساجد ونحوها قد أوقفها عثمانيون كانوا في السابق على الدين المسيحي ولكنهم رضوا بالإسلام دينا، أمثال الحاج حسين ميزمورطو (¬1) وعلي بتشين، بل إن هناك مساجد وأوقافا قد أمر بها الوجق كله مثل الجامع الجديد الذي وضعت أوقافه تحت مؤسسة (سبل الخيرات العثمانية الحنفية). ومن سوء حظ هذه المؤسسات أن الباشا الجديد كان في أغلب الأحيان خصما لسلفه فلا يحرص على استمرار سياسة خصمه الدينية أو العلمية أو الخيرية. فهو يبدأ من الصفر. وهكذا دواليك. فالمنشآت إذن ظلت فردية أو تنسب إلى الأفراد، كما أن الوقف في طبيعته كذلك. ولم تقم مؤسسة عامة تتعهدها الدولة والمجتمع بقطع النظر عن أشخاص الحكام وتطور المجتمع. والوقف في الحقيقة كان، بالنسبة للدولة، هو وزارة الثقافة والتعليم والدين والشؤون الاجتماعية مجتمعة اليوم، رغم أنه لم يكن هناك وزارة بهذا العنوان ولا بهذا المحتوى الشامل. فقد كان التعليم، كما سنرى، لا يهم الدولة، ولكنه يهم كل أفراد المجتمع بمن فيهم الحكام، ¬

_ (¬1) كان له دور هام في سياسة الجزائر العامة. فقد تولى الباشوية (تمثيل السلطان) والدايليك (الحكم الحقيقي) ثم تخلى عن الوظيفة الأخيرة إلى نائبه (كاهيته) إبراهيم خوجة. وعندما تآمر عليه هذا عاد إلى الجمع بينهما وهرب إبراهيم خوجه بحياته. وقد تولى (ميزمورطو) فيما بعد قبطان الأسطول العثماني ومات في جزيرة شكيو التي انتصر فيها. انظر بيتز (حقائق) 122. وقد تحدث عنه أيضا ابن حمادوش وابن المفتي. ويقال إن الحاج حسين كان مريضا وضعيف البنية، ولذلك كان الأوروبيون يسمونه ميزمورطو أي نصف الميت. أما المسلمون فيسمونه الحاج حسين.

فهو حر أو خاص كما نقول اليوم. ومن أقدم الواقفين العثمانيين في الجزائر خير الدين بربروس وخادمه الذي أعتقه، وهو عبد الله صفر، فقد بنى الأخير الجامع المعروف بجامع سفير (صفر) سنة 940 (1534 م) وأوقف عليه وقفا بلغ عشر زويجات، وهي تقدر بحوالي مائة هكتار من الأرض، وكذلك أوقف عليه خير الدين نفسه قطعة أرض هامة (¬1). وسنتعرض للجامع نفسه عند الحديث عن المساجد. وعندما أسس الباشا الحاج حسين ميز مورطو جامعا أوقف عليه أراضي ودكاكين وسوقا وأوكل عليه مجلس إدارة أملاك مكة والمدينة. وقد وزع الوقف على إصلاح الجامع وتنظيفه وأداء الصلوات فيه، وقراءة الذكر والحديث. فخصص ستين دينارا للخطيب وأربعين للإمام وخمسة وثلاثين للمدرس المالكي والمحدث، وثمانية للمسمع، وأربعة لقراء كتاب (تنبيه الأنام) (¬2) وخمسة وثلاثين لإدارة الوقف، بالإضافة إلى حصص للمؤذنين والحزابين وقارئي (المحمدية) والمنظفين، كما نص عليه أن يتعمل باقي دخل الوقف في شراء حاجات الجامع. أما الفائض منه فيعود إلى أملاك مكة والمدينة (¬3). وقد قام عبدي باشا أيضا ببناء مسجد جامع وأوقف عليه أوقافا جعلها تحت إدارة أملاك مكة والمدينة. كما نص في وقفيته على أن الفائض من وقف الجامع يؤول إلى هذه الأملاك. ومن الباشوات الذين اشتهروا بالوقف على المساجد والمدارس ونحوها: محمد بن بكير، والحاج محمد بن محمود، ومحمد بكداش الذي بنى زاوية للأشراف وأوقف عليها، ومحمد باشا الذي جدد جامع السيدة، وخضر باشا الذي بنى مسجدا يحمل اسمه، وكذلك حسين باشا الأخير الذي بنى جامع خطبة خاصا به. وبالإضافة إلى الباشاوات أوقف البايات والوزراء والكتاب (الخوجات) ¬

_ (¬1) ديفوكس (المجلة الإفريقية) 1870، 189. (¬2) كتاب في الصلاة على النبي (صلى الله عليه وسلم) ألفه عبد الجليل بن محمد بن أحمد بن عظوم القيرواني المتوفى سنة 971 م. وبروكلمان 2/ 691. (¬3) ديفوكس (المجلة الإفريقية) 1869، 31.

وكبار الضباط عدة أوقاف على مجموعة من المنشآت. وقد اشتهر بالعناية بالوقف وتنظيمه وبالقضايا الدينية والعلمية في قسنطينة صالح باي الذي سبق ذكره. كما اشتهر في معسكر الباي محمد الكبير الذي سبق ذكره أيضا. فكلاهما حكم في أواخر القرن الثاني عشر، وكلاهما حاول أن يمثل (عصر التنوير) في الجزائر العثمانية. وسنعرف المزيد عن آثارهما عند الحديث عن المنشآت نفسها. كما اشتهر الباي حسن (المعروف بوحنك) باي قسنطينة الذي أنشأ سنة 1156 الجامع الأخضر وأوقف عليه عدة أوقاف. وقد دفن في نفس الجامع إثر وفاته سنة 1167 (¬1). أما من غير البايات فهناك رضوان خوجة، قائد الدار، الذي قيل إنه اشتهر بالورع وأسس زاوية له في قسنطينة وأوقف عليها. وقد توفي سنة 1220. وسنتحدث عن هذه الزاوية فيما بعد. كما أوقف الحاج محمد خوجة، أحد كتاب قصر الباشا، أوقافا ضخمة سنة 1190 على مدرسة عليا (أو معهد) ومسجد وزاوية. ومن جهة أخرى بنى مصطفى بن مصطفى، آغا الصبايحية، زاوية لسكنى الطلبة وأوقف عليها. وكذلك فعل ساري مصطفى بن الحاج محمد، بيت المالجي (¬2). فقد بنى أيضا مدرسة لتعليم الأطفال، وهناك غير هؤلاء. على أن معظم الأوقاف الرسمية وشبهها كانت تذهب إلى الزوايا والجوامع القائمة مثل الجامع الكبير بالعاصمة وضريح عبد الرحمن الثعالبي. وهناك وثائق عديدة تثبت أن النساء كن يشتركن في الوقف أيضا. فأخت خضر باشا، وهي السيدة قمر بنت القائد محمد باي، قد أوقفت على جامع أخيها الباشا بعد وفاته (¬3). كما أن السيدة مريم، وهي من عائلة ابن نيكرو الأندلسية قد أوقفت أوقافا على الجامع المعروف باسمها (جامع السيدة مريم). وتتمثل الوقفية في ثلاثة منازل وأربعة عشر ¬

_ (¬1) انظر شير بونو (روكاي)، 1856 - 1857، 102. وكذلك دورنون (تاريخ قسنطينة) في (المجلة الإفريقية) 1913، 290. (¬2) من وظيفته حمل صدقة مكة والمدينة سنويا مع ركب الحج باسم (أمين الصرة). (¬3) ديفوكس (المجلة الإفريقية)، 1869، 25.

دكانا (¬1). وخصصت السيدة حنيفة بنت مصطفى خوجة، وهي زوج الحاج محمد خوجة سابق الذكر، أوقافا على الزاوية التي بناها زوجه (¬2). أما السيدة دومة بنت محمد فقد أوقفت أواني طبخها النحاسية لفائدة ضريح عبد الرحمن الثعالبي على أن يكون إصلاح هذه الأواني من مدخول آخر تملكه. 4 - ومن أشهر مؤسسات الوقف الجماعية إدارة (سبل الخيرات) الحنفية (¬3). وكانت مؤسسة شبه رسمية. فهي التي كانت تشرف على جميع الأوقاف المتعلقة بخدمة المذهب الحنفي من زوايا ومدارس ومساجد وموطفين وفقراء. وكانت تديرها جماعة يعينها الباشا نفسه. وقد كان على رأسها، حوالي سنة 1108، الحاج حسن آغا بن محمد التركي والحاج إبراهيم بن الحاج حميدة الأندلسي. ومن بين المشرفين عليها سنة 1209 الحاج خليل (معزول آغا). وكانت مؤسسة سبل الخيرات تقبل الأوقاف الموجهة لخدمة الفقراء والعلماء والطلبة والعجزة، كما كانت تقوم بإنشاء المؤسسات الجديدة لنفس الغرض وتشرف عليها وتوجهها وتنميها. ذلك أن كثيرا من الواقفين كانوا يعهدون بوقفهم إلى إدارة سبل الخيرات. ومن أبرز ما قامت به إنشاؤها للجامع الجديد أو الحنفي المسمى أحيانا بجامع الصيد البحري، وهو الذي ما يزال قائما إلى اليوم. وسنتحدث عنه في المساجد. وكان جامع كجاوة (كتشاوة) من أهم المساجد التابعة لإدارة سبل الخيرات أيضا، وكذلك جامع على بتشين وجامع باب الجزيرة وزاوية ¬

_ (¬1) نفس المصدر، 31، وكذلك الزهار (مذكرات)، 31. (¬2) ديفوكس (المجلة الإفريقية)، 1868، 286. (¬3) أسس (سبل الخيرات) شعبان خوجة باشا سنة 999. وكانت هذه المؤسسة تشرف على إدارة أوقاف ثمانية مساجد على الأقل وتقوم بمصالح الأوقاف لعدد من الأغراض الخيرية والدينية انظر (طابلو) وزارة الحربية الفرنسية 2/ 1838، 223. وكذلك جورج ايفير (المجلة الإفريقية) 1913 - 240. وقد بنى شعبان خوجة أيضا الجامع الحنفي المعروف اليوم باسم (الجامع الجديد).

(مدرسة) شيخ البلاد. وكانت مؤسسة سبل الخيرات ذات نفوذ كبير في المجتمع والدولة وذلك لأهمية الأوقاف التي كانت تتلقاها والمنشآت التي كانت تشرف عليها، وهي التي كانت أيضا مكلفة بدفع مرتبات حوالي ثمانية وثمانين طالبا أو قارئا ملحقين بالمساجد التي تحت إدارتها، كما كانت تقدم الصدقات للفقراء وترعى حاجات المساجد التسعة التابعة لها. وإدارة أوقاف مكة والمدينة كانت لا تقل أهمية عن مؤسسة سبل الخيرات، رغم أن الأولى أكثر ثروة حتى قال بعضهم إنها كانت تشمل ثلاثة أرباع الأوقاف العامة (¬1). ويذهب بعضهم إلى أن مؤسسة مكة والمدينة أقدم من مؤسسة سبل الخيرات فهي تعود حسب هذا الرأي إلى ما قبل العهد العثماني. وكانت مؤسسة مكة والمدينة تدار أيضا من قبل مجلس من أربعة أشخاص وقد تتسع لأعضاء آخرين. وكان على رأس هذا المجلس وكيل يعينه الباشا أيضا، كما كان لها وكلاء في المدن الجزائرية الأخرى. وكانت مؤسسة مكة والمدينة تدير بعض الأوقاف المحلية سواء كانت مالكية أو حنفية، وهي الأوقاف التي يؤول فائضها إلى فقراء المدينتين الشريفتين (¬2). وتدل الإحصائية التالية على أهمية مؤسسة مكة والمدينة في الحياة الاجتماعية. فقد ثبت أن هذه المؤسسة كانت تملك في آخر العهد العثماني الأوقاف التالية: 840 منزلا، 258 دكانا، 33 مخزنا، 82 غرفة، 3 حمامات، 11 كوشة، 4 مقاهي، فندق واحد، 57 بستانا، 62 ضيعة، 6 أرحية، 201 إيجار. ومما يذكر أن معظم هذه الأوقاف قد خرجت أو ألحقت ¬

_ (¬1) وجد السيد جان ديني 340 دفترا من الأرشيف تتعلق بأوقاف مكة والمدينة، بينما لم يجد سوى 43 دفترا تتعلق بأوقاف سبل الخيرات. وقد كان مجلس أوقاف مكة والمدينة يتكون في العادة من اثنين تركيين عسكريين واثنين مدنيين من أهل الحضر، وغالبا من أهل الأندلس، انظر عن هذا المجلس، الأرشيف دفتر (169) 31 MI 228، وكذلك دفتر (176) 32 228 MI. (¬2) جاء في (طابلو) وزارة الحربية الفرنسية 2/ 1838. 223. أن ثلاثة من المساجد الحنفية (البالغة كلها أربعة عشر) كان يشرف عليها وكيل أوقاف مكة والمدينة.

بمصالح الدولة الفرنسية بعد الاحتلال مباشرة (¬1). ولمؤسسة مكة والمدينة أهمية سياسية أيضا، فقد كانت تمثل وجه الجزائر في العالم الإسلامي وكان ركب الحج الجزائري يحمل كل سنة كمية هائلة من النقود والذهب والفضة والألبسة وغيرها إلى فقراء مكة والمدينة وخدام الحرمين الشريفين، وفي حديثنا عن العلماء والأشراف سنعرف أن إمارة ركب الحج كانت قضية معقدة تتدخل فيها السياسة والعلم والدين (¬2). وكان لعواصم الأقاليم أيضا أوقاف خاصة بأملاك مكة والمدينة على غرار ما كان في مدينة الجزائر. وكان ركب حجيج كل إقليم يحاول أن يتفوق على نظرائه في الثروة والجاه. ومن أشهر من حمل صدقة مكة والمدينة من قسنطينة، بعد عبد الكريم الفكون، القاضي أحمد العباسي. وقد اشتهر الباي محمد الكبير بحبه للجاه والسمعة فكان يهادي علماء المشرق، ولا سيما علماء مكة والمدينة، عن طريق ركب الحج الذي كان ينطلق من عاصمته معسكر ثم وهران (¬3). وقد كان مهاجرو الأندلس يعيشون وضعا خاصا في الجزائر قبل اندماجهم في المجتمع الجديد نهائيا. فقد كانوا في البداية لاجئين يبحثون عن أماكن للاستقرار ووسائل للعيش والأمن. وبتقادم الزمن استقروا في المدن الساحلية وأخذ بعضهم يسهم في الحروب البحرية ضد الإسبان، كما ¬

_ (¬1) ديفوكس (المجلة الإفريقية) 1860، 471، قارن ذلك بما جاء في (طابلو) وزارة الحربية الفرنسية 2/ 1838 من أن عدد المؤسسات التابعة لمكة والمدينة بلغت 1419، سنة 1838 بينما ما ذكره ديفوكس بلغ مجموع 1558 أما عن أوقاف الأندلس بالأرشيف فانظر دفتر (346) 46 - 228 MI . (¬2) كانت عائلة الفكون (من قسنطينة) هي التي تتولى إمارة ركب الحج الجزائري كل سنة. ومن أشهر رجالها في القرن الحادي عشر عبد الكريم الفكون الذي سيأتي الحديث عنه. أما حامل (الصرة) الرسمية فقد كان هو أمين بيت المال، كما ذكرنا. (¬3) عن أوقاف الأقاليم ومدخولها ووكلائها انظر الأرشيف دفتر (181) 32 - 228 - MI وما يعده، ثم دفتر (216) - 37 - 228 MI .

أن بعضهم قد مارس التجارة والتعليم والصنائع المختلفة والزراعة. ولكن هذه الأعمال لم تمنع من شعورهم بالحاجة إلى التضامن كفئة خاصة. لذلك أسسوا بتشجيع من السلطة التي كانت تتعاطف معهم، عدة مؤسسات خيرية كانوا يهدفون من ورائها إلى التضامن فيما بينهم من جهة وإلى خدمة فقرائهم من جهة أخرى. فلقد أسسوا جمعية لهذا الغرض أشرفت بدورها على إقامة مسجد وزاوية ومدرسة خاصة بهم. وكانت هذه الجمعية الأندلسية مكونة من ستة أشخاص كلهم من المهاجرين الأندلسيين. وقد اشتروا دارا كبيرة وحولوها بالبناء والإصلاح إلى المدرسة والمسجد المذكورين وأوقف أغنياؤهم على ذلك الأوقاف التي بلغت، حسب بعض الإحصاءات، ستين مؤسسة وقف. وقد عينوا لذلك وكيلا، وهو الشيخ محمد الآبلي. ومما يلاحظ أن كثيرا من الأوقاف كانت مشتركة بين الحرمين والأندلس أو بين الجاح الأعظم بالعاصمة والأندلس، وظلت هذه الجمعية الأندلسية وأوقافها الكثيرة إلى الاحتلال الفرنسي الذي قضى على الجمعية واستولى على أوقافه (¬1). وكان الأندلسيون يتمتعون بمكانة خاصة في المجتمع الجزائري وخصوصا لدى العثمانيين حتى أن بعضهم كان يعين على أوقاف حنفية عثمانية، مثل حميدة الأندلسي الذي كان عضوا في لجنة إدارة سبل الخيرات، ومثل سليمان الكبابطي الذي عينه خضر باشا على أوقاف جامعه، ومثل محمد بن جعدون الذي عينه محمد عثمان باشا وكيلا على أوقاف جامع سوق اللوح، وسنعرف أن عائلات أندلسية، مثل عائلة ابن نيكرو، قد اشتهرت وتنفذت في العهد العثماني (¬2). ¬

_ (¬1) تأسست الجمعية الأندلسية سنة 1033 (1623 م). انظر ديفوكس (المجلة الإفريقية) 1868، 279. قارن أيضا بما جاء في (طابلو) وزارة الحرية الفرنسية 2/ 1838، 223. (¬2) ومع ذلك فقد كان مهاجرو الأندلس محل استغلال من البعض ولم يسلموا أيضا من غارات الأعراب ولا سيما في أول هجرتهم. ونعرف أن المرابط محمد بن ساسي البوني كان يفرض ضريبة خاصة على مهاجري الأندلس في عنابة.

وكان الأشراف كذلك من الفئات المتميزة في المجتمع ولهم أوقاف خاصة. وهم أيضا من الفئات التي كانت تتعاطف مع العثمانيين. وقد شاع في هذا العهد ادعاء الشرف بكثرة حتى أنك لا تكاد تجد عالما أو صالحا قد اشتهر أمره بين الناس إلا واسمه مقرون بعبارة (الشريف) أو (الحسنى)، وبعضهم كان يدعي أنه من شرفاء مكناس أو فاس أو من شرفاء الساقية الحمراء. وقد استوى في هذا الادعاء، علماء وصلحاء الحواضر والبوادي على السواء. وهي ظاهرة تدل بدون شك على ما وصل إليه التخلف الحضاري. فإن أصحاب هذه الدعوى كانوا يعيشون على الماضي وكانوا يبحثون عن شيء يدفنون فيه أنفسهم أو يتمايزون به عن غيرهم بعد أن ضاع منهم كل شيء، فلم يجدوا سوى الشرف وادعاء الصلاح والتصوف. ومن الغريب أن ادعاء الشرف قد شاع حتى بين بعض باشوات الجزائر الذين لا صلة لهم بهذا الموضع. فقد ادعى أحمد البوني وعبد الرحمن الجامعي المغربي وغيرهما أن محمد بكداش باشا كان شريفا من بني هاشم (¬1). ومهما كان الأمر فقد كان للأشراف في الجزائر نقابة خاصة ونقيب يسمى (نقيب الأشراف) يتمتع بمكانة مرموقة لدى رجال الدولة والمجتمع. حتى أن مبايعة الباشا كانت لا تتم إلا بحضوره إلى جانب العلماء والديوان، ولا شك أن هذا التقليد كان اتباعا لما كان يجري في إسطانبول نفسها من مراسيم سلطانية، ومن أشهر العائلات التي تولت هذه النقابة في الجزائر عائلة المرتضى وعائلة الزهار (¬2). وكان لأوقاف الأشراف وكيل خاص أيضا، وليس هو النقيب المذكور، لأن النقابة منصب معنوي أما الوكالة فقد كانت منصبا إداريا. ¬

_ (¬1) انظر فصل العلماء من هذا الجزء. (¬2) كان الأشراف أيضا يتزوجون فيما بينهم وقد تزوج أحد أفراد عائلة ابن علي مبارك بالقليعة من عائلة نقيب الأشراف في وقته (الزهار). انظر عقد هذا الزواج في سعد الدين بن أبي شنب (الحوليات الشرقية): 1955، والظاهر أن أوقاف الأشراف لم تكن كبيرة انظر (طابلو) وزارة الحربية الفرنسية، 2/ 1838، 224. ولم نجد نحن في الأرشيف ما يدل على أهمية وقف الأشراف أيضا.

وكان ظهور فئة الأشراف يعود إلى أوائل القرن الحادي عشر (17 م) وقد بنى لهم محمد بكداش باشا سنة 1121 زاوية خاصة بهم، ولعل هذا كان من أسباب تعاطفهم معه ونسبته إلى حضرتهم، ونصت وقفية الباشا على هذه الزاوية على أن لا يقيم فيها سوى الشريف غير المتزوج ولا يتولى فيها الإمامة والدرس أو الخطابة ونحو ذلك من الوظائف إلا الشريف أيضا، وفي حالة عدم توفر الشريف يبحث عن إنسان ورع للقيام بالوظيفة الشاغرة، كما نصت الوقفية على أن الوكيل هو الذي يتولى تصريف شؤون الوقف، وأن الفائض منه يوزع على فقراء الأشراف المولودين في الجزائر وأنه لا يجوز للوكيل أن يأخذ شيئا من الوقف لنفسه إلا عند الضرورة القصوى، وفي هذه الحالة يصير هو كالشريف الفقير، ولم يكن هذا الوقف خاصا بالرجال، فهو لهم وللنساء والأطفال أيضا. ولا يجوز لنقيب الأشراف أن يتدخل في شؤون الزاوية، ذلك أن وضعه بالنسبة إليها هو وضع أعيان الأشراف الذين عليهم أن يجتمعوا مع الوكيل مرة في السنة في الزاوية للنظر في إدارة الوكيل وأحوال الوقف. وهؤلاء كانوا يمثلون المجلس الذي له البت في كل أمور الزاوية وحاجاته (¬1). ومن مؤسسات الأوقاف في العهد العثماني مؤسسة (بيت المال) التي كان يشرف عليها أمين يسمى أحيانا (ييت المالجي) , وأمانة بيت المال وظيفة رسمية إذا قيست بوظيفة الوكلاء السابقين. ولذلك كان الباشا يعين أحد القضاة أيضا ليساعد أمين بيت المال في إدارة المؤسسة، ذلك أن هذه المؤسسة كانت من جهة سياسية ومن جهة أخرى خيرية. فقد كانت تشرف وترعى جميع أموال اليتامى والغائبين والأملاك التي تصادرها الدولة وكذلك التركات. وكانت أيضا تقوم بأعمال خيرية وإنسانية واجتماعية كدفن فقراء المسلمين وتوزيع الصدقات على حوالي مائتي فقير كل يوم خميس، وتقديم الهدايا في كل عيد إلى الباشا وحاشيته وخدمه. وبالإضافة إلى ذلك كانت ¬

_ (¬1) ديفوكس (المجلة الإفريقية) 1868، 104.

تصون الأملاك الواقعة تحت طائلتها، كما كانت تدفع شهريا مبالغ مالية معينة إلى خزانة الدولة (¬1). وتعتبر أوقاف الجامع الكبير وبعض الزوايا بالعاصمة، وأوقاف الجامع الكبير في قسنطينة ومعسكر وتلمسان والمدية من المؤسسات الغنية في المجتمع الجزائري، وهي لذلك كانت وسائل للنفوذ والإثراء لمن يتولى وكالتها من العلماء، ونحوهم (¬2). وقد كانت عائلة قدورة متولية وكالة أوقاف الجامع الكبير بالعاصمة مدة طويلة، واستطاع سعيد قدورة أن يبني زاوية ومدرسة من فائض أوقاف الجامع الكبير. ومن الزوايا كثيرة الدخل في العاصمة زاوية الولي دادة، وزاوية أحمد بن عبد الله الجزائري، وزاوية عبد الرحمن الثعالبي، وكانت جميع الطبقات الاجتماعية توقف على زاوية الثعالبي، بل إن بعض البلدان، مثل تونس، كانت ترسل إليها حمولة زيت كبيرة سنويا. أما في قسنطينة فقد كان للجامع الكبير أوقاف هائلة بلغ دخلها على عهد صالح باي 491 ريالا بينما صرفها بلغ 408 ريالات، وقد سبق أن وصفنا ثروة زاوية الشيخ المجاجي (آبهلول) نواحي تنس، وهي الزاوية التي كانت تطعم حوالي ألف وثلاثمائة رجل (بالرغائف والثريد والزبدة والعسل) والتي كانت قصعتها تحتوي على ثلاثين (نوعا من الطعام واللحم) (¬3). وقبل أن نختم الحديث عن الأوقاف نشير إلى أن اليهود كانوا أيضا يستغلون الأوقاف عن طريق الكراء ونحوه، بل لقد وجدت في الأرشيف أن ¬

_ (¬1) (طابلو) وزارة الحربية الفرنسية 2/ 1838، 224، انظر أيضا ناصر الدين سعيدوني، (النظام المالي للجزائر في الفترة العثمانية) الجزائر 1979، 103 وما بعدها. (¬2) أظهر الأرشيف أن هناك أوقافا ضخمة باسم الجامع الأعظم وكان بعضها مشتركا بينه وبين أوقاف مكة والمدينة، أو بينه وبين أوقاف الأندلس، وكثيرا ما كان الواقفون يوقفون أولا على أنفسهم وذريتهم، فإذا انقرضوا تؤول الأوقاف إلى الجامع الكبير كما لاحظنا في وقف محمد المازوني بالبليدة. وقد كانت الجوامع الكبيرة في المدن الإقليمية تخضع لنفس المعاملة التي يخضع لها الجامع الأعظم في العاصمة. (¬3) أبو حامد المشرفي (ياقوتة النسب الوهاجة) مخطوط.

أحد اليهود قد أخذ مبلغا من أملاك الحرمين، كما وجدت أن أحد النصارى كان مكلفا بكنس ميضات جامع عبدي باشا، وكان يأخذ نصيبه من وقف هذا الجامع (¬1). ومن جهة أخرى وجدت أن معظم الأوقاف تنص على مسائل وأغراض دينية كالطواف بالكعبة باسم الواقف وقراءة أذكار أو أحزاب من القرآن الكريم على الواقف، وقلما وجدنا منها ما ينص على شؤون العلم كالتدريس والكتب. وبالإضافة إلى ذلك وجدنا أن كثيرا من الأوقاف كانت مشتركة بين عدة مؤسسات كالجامع الأعظم والأندلس والطلبة والأسرى والفقراء ونحو ذلك. وفيما يلي إحصاء للأوقاف الدينية أجري حوالي سنة 1184: الأوقاف المشتركة بين الحرمين والأندلس ... 62 الأوقاف المشتركة بين الحرمين والجامع الأعظم ... 69 البيوت والدور للحرمين خاصة ... 74 المخازن للحرمين خاصة ... 76 الأعالي للحرمين خاصة ... 81 أوقاف جامع ميزمورط ... 130 أوقاف جامع عبدي باشا ... 134 أوقاف جامع علي باشا ... 142 أوقاف جامع خضر باشا ... 139 أوقاف الفقراء والأسرى والطلبة ... 48 (¬2) وهكذا تتضح أهمية مؤسسة الوقف في الجزائر خلال العهد العثماني. فقد كانت تؤدي وظائف عديدة أهمها في هذا المجال خدمة الدين والتعليم. كما كانت عنوانا على التضامن الاجتماعي. وكانت تمثل بالنسبة لأوقاف مكة والمدينة الوجه السياسي للجزائر أيضا. وقد ظهر من النماذج التي سقناها أن ¬

_ (¬1) انظر الارشيف دفتر (168) 31 - 228 MI ودفتر (287) 41 - 228 MI. (¬2) من الأرشيف دفتر (168) 31 - 228 MI وفيه أيضا بيانات وافية من أوقاف أخرى مخصصة لأغراض شتى كالحمامات والكوش والبحاير والرحى والحوانيت الخ.

المساجد

العثمانيين لم يهملوا تماما وسائل نشر التعليم الديني ورعاية المجتمع الخيرية، غير أن هناك عوامل أخرى تدخلت فجعلت الأوقاف غير فعالة في خدمة التعليم والنهوض بالمجتمع. كما ساعدت على نشر الغموض والتصوف والشعوذة ومظاهر التخلف الاجتماعي الأخرى. ومهما كان الأمر فإن الأوقاف هي التي كانت وراء بناء المساجد للعبادة والتدريس. وهذا ما سنتناوله الآن. المساجد 1 - كثيرا ما يختلط على الباحث اسم الجامع والمسجد والزاوية. ذلك أن بعض الجوامع والمساجد كانت تابعة لزوايا معينة، كما أن بعض الزوايا كانت تابعة لجوامع ومساجد معينة. والتداخل ليس في الاسم فقط بل في الوظيفة أيضا. فالجوامع والمساجد كانت للعبادة والتعليم كما أن الزوايا كذلك أحيانا، ولكن هذه في الغالب كانت رباطا أو ملجأ أو مسكنا للطلبة والغرباء ومركزا لتلقين الأذكار واستقبال المريدين. كما أن حجم هذه المؤسسات له دخل في تحديد وظائفها. فالجالع اصطلاحا أكبر حجما من المسجد، فهو الذي تؤدي فيه الصلاة الجامعة أو الجمعة والعيدين، وكثيرا ما يسمى أيضا جامع الخطبة، وبعض هذه الجوامع كان أيضا يسمى بالجامع الكبير أو الأعظم. غير أن هناك بعض الباحثين يذكرون (المساجد) فقط ثم يفصلون كبيرها وصغيرها، ما له صومعة وما ليس له صومعة، بل ما له صومعة عالية وما له سوى قبة أو نحوها. ثم أن الجوامع والمساجد في الغالب غير منسوبة إلى الأولياء والصلحاء، بل هي منسوبة إلى مؤسسيها من السياسيين والتجار والعسكريين ونحوهم، بينما الزوايا تنسب غالبا إلى ولي من الأولياء. فهناك زاوية أحمد بن عبد الله الجزائري وزاوية عبد الرحمن الثعالبي، ولكن هناك الجامع الأخضر والجامع الجديد، والجامع الكبير الخ. كما أن بعض الجوامع كانت تنسب إلى الأحياء الواقعة فيها مثل. جامع باب الجزيرة وجامع سوق اللوح وجامع سوق الغزل (بقسنطينة)، أو إلى صنعة

أهل الحي مثل جامع الخياطين وجامع حي الرمان (بتلمسان). ومهما يكن اسم ووظيفة وحجم هذه المؤسسات فإننا بالنسبة إلى المساجد قد استعملناها هنا في معناها العام، باعتبارها أماكن للعبادة وأماكن لنشر العلم، ولكننا سنوضح الفرق في الاستعمال عند الضرورة. ومما يلاحظ أن أغلب المدن الجزائرية كانت تشمل مسجدا يطلق عليه اسم (الجامع الكبير) وهو المسجد الذي اشتهر بين الناس إما لقدمه أو لسعته. ولكن (الكبير) هنا لا يعني دائما السعة الحقيقية. فقد يكون في المدينة من المساجد ما هو أوسع من الجامع الكبير مساحة. وقد يطلق على أحد المساجد اسم (المسجد العتيق) أو القديم الذي يكون قد بنى وسط المدينة القديمة أثناء نموها، فيصبح بهذا المعنى (شيخ المساجد) وحامي حمى المدينة في نظر السكان. وبذلك يكون موضع اهتمام الحكام وهدف المحسنين لوقف الأوقاف عليه، وكثيرا ما يكون هو المصلى لحاكم البلاد. ورغم شهرة الجامع الكبير بالعاصمة وضخامة أوقافه فإنه لم يتطور إلى (جامعة) علمية كالأزهر أو الزيتونة أو القرويين، فقد ظلت شهرته منحصرة في قدمه (وهو يعود إلى ما قبل العهد العثماني) وحجمه وأوقافه ومركزه القضائي باعتباره المركز الذي كان ينعقد فيه مجلس الفتوى كل أسبوع، كما أنه كان مقر مفتي المذهب المالكي. والعناية بالمساجد كانت ظاهرة بارزة في المجتمع الجزائري المسلم. فلا دكاد تجد قرية أو حيا في المدينة بدون مسجد. فقد كان المسجد هو ملتقى العباد، ومجمع الأعيان، ومنشط الحياة العلمية والاجتماعية، وهو قلب القرية في الريف وروح الحي في المدينة، إذ حوله كانت تنتشر المساكن والأسواق والكتاتيب. وكان المسجد أيضا هو الرابطة بين أهل القرية والمدينة أو الحي لأنهم يشتركون جميعا في بنائه كما كانوا جميعا يشتركون في أداء الوظائف فيه. وقد كان تشييد المساجد عملا فرديا بالدرجة الأولى، فالغني المحسن هو الذي يقود عملية بناء المسجد والوقف عليه وصيانته. ولكن أعيان القرية أو الحي كانوا يساهمون بالتبرعات ونحوها. ولا يتعدى مجهود

السلطات الحاكمة في هذا المجال مجهود الأفراد. فالدولة لم تكن مسؤولة على بناء المساجد. وإذا بنى أحد الباشوات مسجدا فإنما يبنيه من ماله الخاص ويوقف عليه من ريعه وأملاكه. فهو بذلك يعبر عن إحسانه وحبه للخير وواجبه الديني وليس عن واجبه السياسي. حقا إن عمل الحكام قد يشجع رعاياهم على تقليدهم، وقد يفتح مجالات للتعلم والتثقف لا يمكن للمواطنين العاديين أن يفتحوها، ولكن عملهم، كما قلنا، يظل من الوجهة الدينية عملا فرديا. 2 - وتختلف الإحصاءات عن عدد المساجد في المدن الجزائرية خلال العهد العثماني، بل إن بعض المدن لا تكاد المصادر تذكر له إحصاء. وتكتفي معظم المصادر بالحديث عن المدن الرئيسية كما أن بعضها لا تذكر إلا الجوامع (أو مساجد الخطبة). ثم إن بعض الإحصاءات تختلط فيها المساجد القديمة المؤسسة قبل العهد العثماني والمؤسسة أثناءه. فالتمغروطي، مثلا اكتفى في حديثه عن مدينة الجزائر في آخر القرن العاشر (16 م) بقوله إن فيها الجامع الكبير وهو واسع وإمامه مالكي، وفيها ثلاث خطب أحدها للترك وإمامهم حنفي (¬1). وهو يعني بالخطب خطبة الجمعة. ومعنى هذا أن مدينة الجزائر على عهده، لم يكن فيها سوى ثلاثة جوامع للجمعة، منها الجامع الكبير المالكي وآخر للمذهب الحنفي (ولعله يقصد به جامع سفير الذي بناه مملوك خير الدين، كما أشرنا). وجامع ثالث لعله هو جامع القشاش الذي سيأتي الحديث عنه، أو جامع سيدي رمضان الذي كان قديما أيضا. بينما يذكر هايدو الإسباني، حوالي نفس الفترة، ان مدينة الجزائر كانت تعد حوالي مائة مسجد، منها سبعة رئيسية (¬2). وفي بداية القرن الثالث عشر (19 م) ذكر بانانتي الإيطالي أن هذه المدينة كانت تضم تسعة ¬

_ (¬1) التمغروطي (النفحة المكية)، 139. وفي القرن الحادي عشر (17 م) ذكر دابر، 177، أنه كان بمدينة الجزائر 107 مساجد معظمها يقع على ساحل البحر. (¬2) نقل ذلك ديفوكس (المجلة الإفريقية) 1862، 371. ويعتقد ديفوكس أن هذه الإحصائية تشمل الزوايا أيضا.

جوامع وخمسين مسجدا (¬1). ولكن ديفوكس الذي بحث موضوع المؤسسات الدينية في مدينة الجزائر قال إنه كان بها سنة 1246 (1830 م) تاريخ الاحتلال، ثلاثة عشر جامعا كبيرا (أو جامع خطبة) ومائة وتسعة مساجد، واثنتان وثلاثون قبة (أو ضريحا) واثنا عشر زاوية، فمجموع ما فيها من المؤسسات الدينية، بناء عليه، مائة وست وسبعون مؤسسة (¬2). كما تختلف الإحصاءات حول مساجد مدينة قسنطينة. ففي عهد صالح باي، الذي اعتنى بإحصاء المساجد وترميمها وتشييدها، بلغت، كما جاء في السجل الذي أمر به، خمسة وسبعين مسجدا وجامعا، بالإضافة إلى سبعة مساجد تقع خارج المدينة (¬3). وقد جاء في بعض الإحصاءات المتأخرة أن قسنطينة كانت تضم، قبل الاحتلال الفرنسي، خمسة وثلاثين جامعا (¬4) أما الورتلاني الذي زار قسنطينة في القرن الثاني عشر (18 م) فقد ذكر أنه كان فيها نحو خمسة جوامع خطبة وأن بعضها كان متقن البناء (¬5). وكان إقليم قسنطينة على اتساعه قد اشتمل على عدد آخر من المساجد أيضا. من ذلك عنابة التي كانت فيها سبعة وثلاثون مسجدا، أشهرها جامع ¬

_ (¬1) بانانتي، 114. (¬2) ديفوكس (المجلة الإفريقية) 1862، 372. وقد جاء في (طابلو) وزارة الحربية الفرنسية أنه كان بمدينة الجزائر عند الاحتلال 92 مسجدا مالكيا وأربعة عشر حنفيا. 2/ 1838، 223. وهذا بالطبع لا يشمل الزوايا والقباب. انظر فصل المعالم الإسلامية. (¬3) فيرو (المجلة الإفريقية) 1868، 130 وقد وجدنا نحن وثيقة وطنية تعود إلى سنة 1006 أن عدد المساجد في قسنطينة كان يبلغ 71 (واحد وسبعين) مسجدا. (¬4) نوشي (الكراسات التونسية) 1955، 386. وقد ذكر فايسات أن مساجد قسنطينة قد بلغت حوالي مائة مسجد وزاوية (دون تحديد). انظر (روكاي)، 1867، 257، هامش. أما ايمريت فقد أخبر أن عدد مساجد قسنطينة قد بلغ 35 مسجدا. انظر (مجلة التاريخ الحديث والمعاصر) 1945، 203. وجاء في التقرير الذي أعده روسو الفرنسي غداة الاحتلال الفرنسي لقسنطينة (1837) أنه كان بها حوالي مائة مسجد. (¬5) الورتلاني (الرحلة)، 685.

سيدي أبي مروان (¬1). وفي سنة 1206 أشاد فيها صالح باي جامعا أصبح يعرف بالجامع الجديد، وهو الجامع الذي نقشت عليه هذه الأبيات تؤرخه وتذكر بانيه: لعمرك بيت الله للسر جامع ... شيد أركان به النور ساطع بدت دونه زهر الكواكب رفعة ... به بونة للسعد منها مطالع به جاد تاج الدين والمجد صالح ... إلى درج العلياء راق وطالع أمير البرايا زاد ظفرا ونصرة ... مؤيد دين الحق للشرع تابع فمذ أسس البيت الرفيع على الهدى ... أأرخه للخير برك جامع (¬2) كما اشتهرت بجاية بالمساجد القديمة والحديثة، ومن أحدثها في العهد العثماني الجامع الكبير الذي أمر ببنائه مصطفى باشا سنة 1212 (¬3). ومن أشهر مساجد ناحية قسنطينة أيضا مسجد الخنقة الذي يعود تاريخه إلى سنة 1147 (¬4) والذي كان، مع المدرسة والزاوية هناك، مقصد العلماء كما سنرى. أما في القل فقد بنى أحمد القلي، باي قسنطينة وجد الحاج أحمد آخر البايات، جامعا سنة 1170 اعترافا منه، كما قيل، لأهل القل الذين أكرموه عندما كان آغا عليهم (¬5). أما في تقرت فقد بنى إبراهيم بن أحمد بن جلاب سنة 1220 جامعا واسعا جلب له الرخام من تونس (¬6). وبالإضافة إلى ما كان من المساجد في غرب ووسط البلاد أنشأت ¬

_ (¬1) بابيه (المجلة الإفريقية) 889، 312. وقد وجد ذلك في وثائق أصلية تعود إلى آخر القرن الثامن عشر الميلادي (12 م). وعن جامع سيدي أبي مروان انظر أيضا جورج مارسيه في (مجموعة ويليام مارسيه)، باريس، 1950، 228. (¬2) بابيه (المجلة الإفريقية)، 1890، 266. (¬3) فيرو (المجلة الإفريقية)، 1858، 45. (¬4) انظر (نشرة أكاديمية هيبون)، 1885، 45. ولهذا الجامع عدة تواريخ أخرى لتجديده منها سنة 1184، 1194. (¬5) فيرو (المجلة الإفريقية) 1859، 206. (¬6) شيربونو (روكاي)، 1856 - 1857، 128.

السلطة العقمانية والأهالي عددا آخر منها. وتذكر المصادر أنه كان بتلمسان في آخر العهد العثماني خمسون مسجدا (¬1)، منها جامع سيدي بومدين والجامع الكبير وجامع محمد السنوسي وجامع ابن زكري وجامع أولاد الإمام وجامع المشور. والمعروف أن الباي محمد الكبير قد شيد مسجده الأعظم بمعسكر، ولعله هو المعروف بجامع العين البيضاء أيضا (¬2). وقد أشاد الشعراء والأدباء بهذا المسجد، كما سنرى. ونفس الباي قد بنى جامع وهران بعد فتحها على يديه سنة 1205 (¬3). وقد عرفت مازونة ومستغانم وندرومة ومليانة بمساجدها أيضا ولكن إحصاءاتها لم تتوفر لدينا. أما المدية فقد كان فيها في آخر العهد العثماني أحد عشر مسجدا، منها الجامع الكبير الذي تعود به الوثائق إلى سنة 1127، وجامع سيدي المزاري الذي بناه مصطفى بومزراق آخر بايات التيطري، والجامع الأحمر الذي شيده الباي حسن حوالي سنة 1213 (¬4). 3 - ورغم وفرة المساجد فإن بعض المؤلفين والملاحظين قد اشتكوا من عدم العناية بها في هذا العهد. ويبدو أن عدد المساجد لم يكن يدل بالضرورة على العناية بها والوقف عليها بما يحفظها ويصونها. فقد كان بعضها خربا وبعضها سيء البناء أصلا وبعضها محروما من الأوقاف الضرورية لتجديده. وهكذا نجد أحمد بن ساسي البوني يشتكي إلى الباشا محمد بكداش خراب المساجد في عنابة وخلوها من المصلين والعباد. خربت المساجد ... وقل فيها الساجد (¬5) ¬

_ (¬1) ايمريت (الجزائر في عهد الأمير عبد القادر) 82 عن تقرير لطاطارو سنة 1835. (¬2) ليكليرك (المجلة الإفريقية)، 1859، 43. (¬3) (مجلة جغرافية وهران) 1932، 257. وتذكر الوثيقة هناك أن باني الجامع هو حسن باشا الذي كان حاكما عند فتح وهران. والظاهر أن الباشا قد أوقف على الجامع المذكور فقط. (¬4) انظر البارون هنري فيدرمان (المجلة الإفريقية) 1865، 289 هامش 2 و 301 هامش 2. (¬5) ابن ميمون (التحفة المرضية) مخطوط. 23.

وبعده بحوالي خمسين سنة جاء الورتلاني لينعي على العثمانيين عدم عنايتهم بالمساجد وأوقافها، وخاصة منهم ولاة قسنطينة وبسكرة. وقد نحى الورتلاني باللائمة على المغاربة عموما (وهو يعني الجزائريين - لأنه كان معجبا بعمل التونسيين والطرابلسيين وهو لم يعرف المغرب الأقصى وإنما عمم كذلك حتى يتهرب من توجيه التهمة المباشرة للعثمانيين) لعدم عنايتهم ببناء المساجد: (فلا تكاد ترى في مدائنهم مسجدا عظيما قد أحدث بل ولا مهدما قد جدد، ولا واهيا قد أصلح، بل لو سقط شيء من أكبر مساجدهم فأحسن أحوالهم فيه إن كان مبنيا برخام أن يعاد بآجر وجص، وإن كان مجصصا أن يعاد بطين، بحيث تجد المسجد كأنه معرقة فقير هندي فيه من كل لون رقعة. وما أرى ما حل بمغربنا من الوهن إلا بسبب أمثال هذا) (¬1). وهذا بدون شك اتهام قاس ضد العثمانيين في الجزائر، وهو أيضا اتهام ضد الجزائريين عموما. فالورتلاني كان يعرف تونس وجامع الزيتونة وشاهد ودرس في الجامع الأزهر وغيره من مساجد مصر، وكان قد عاد من الحجاز ومن الحرمين الشريفين ومن دمشق وجامعها الأموي، فلا غرو أن يصطدم بعدم وجود شيء من ذلك (في مغربنا) أو (وطننا) كما كان يطلق أحيانا على الجزائر. ومما يؤكد هجوم الورتلاني محاولة بعض البايات تلافي هذا النقص أواخر القرن الثاني عشر (18 م). فقد نهض صالح باي قسنطينة يتدبر الأمر ويحصي المساجد وأوقاتها ويحاسب القائمين عليها من الوكلاء عليها وأمثالهم. وجدد بعضها وأنشأ لذلك مجلسا علميا خاصا للنظر في شؤونها. وقد فعل الباي محمد الكبير, فعلا مشابها لذلك في معسكر. كما رمم وبنى مساجد جديدة ليس فقط في عاصمته بل في مدن أخرى كتلمسان ¬

_ (¬1) الورتلاني (الرحلة)، 266، وفي صفحة 663 أشاد الورتلاني بموقف ولاة تونس لعنايتهم بالعلم والعلماء وتحبيس الأحباس (الأوقاف) على المدارس الخ. لذلك قلنا إنه كان يعني في هجومه ولاة الجزائر فقط.

والعاصمة (¬1). فصراحة الورتلاني إذن كانت في محلها وكان بذلك يعبر عن رأي فئة العلماء في البلاد كلها. فهذه الفئة، كما سنرى، كانت تعيش من المساجد وأوقافها، فإذا ضعفت العناية بالمساجد أو قلت أوقافها افتقرت فئة العلماء وسخطت على الحكام. 4 - ومع ذلك فإن المساجد القائمة، ولو كانت في غير المدن الرئيسية، كانت تلفت نظر الرحالة وتثير إعجابهم. فالعياشي قد وجد صومعة جامع تماسين عالية جدا تحتوي على حوالي مائة درجة. كما أشاد الورتلاني نفسه ببعض مساجد قسنطينة حين قال إن بعضها (متقن إتقان مسجد الباشا بطرابلس، حتى كأن بانيهما واحد) وكل من العياشي والدرعي قد أشاد بجامع بسكرة الذي كانت له مئذنة في غاية الاتقان والطول والسعة تقدر الدابة على الصعود إليها وأدراجها مائة وأربعون درجة. والمسجد واسع جدا متقن البنا الخ (¬2). ولا شك أنه كان في بسكرة، بالإضافة إلى الجامع الكبير، بعض المساجد الصغيرة. والدرعي نفسه قد أعجب بمسجد عين ماضي المبني على ربوة بأحجار كأنها منحوتة لاستقامتها، وهو مفروش بقطائف وحصر جيدة. وله نور يعلوه (¬3). وكذلك الحال بالنسبة لجوامع سيدي عقبة وأولاد جلال وتقرت وغيرها من القرى والمدن الصغيرة. وقد أعجب الأوروبيون أيضا بهندسة بناء المساجد في المدن الجزائرية وعرصاتها المرمرية وزخرفتها بالفسيفساء والنقوش العربية وفرشها بالزرابي الغنية والحرير المطرز أحيانا. وهذا ما جعل الفرنسيين يختارون أجمل وأتقن هذه المساجد ويحولونها إلى كنائس كجامع كجاوة الذي حول إلى كاتيدرالية ¬

_ (¬1) عن آثار الباي محمد الكبير بالنسبة للمساجد انظر مقالة ليكليرك عن مساجد معسكر في (المجلة الإفريقية) 1859، 43. وكذلك أبحاث شارل بروسلار عن مساجد تلمسان في (المجلة الإفريقية) 1858 وما بعدها. ولا بد من العودة إلى كتاب (البستان) لابن مريم فهو مفيد في موضوعنا في القرن العاشر وبداية الحادي عشر. (¬2) الدرعي (الرحلة) مخطوط الجزائر، رقم 1997. (¬3) نفس المصدر.

وجامع علي بتشين الذي حول إلى كنيسة، وجامع سوق الغزل (في قسنطينة) الذي حول أيضا إلى كاتيدرالية. وبعض هذه المساجد قد هدموه كما فعلوا بأغلب مساجد العاصمة مثل جامع السيدة الذي كان آية في الفن المعماري (¬1)، وكذلك مساجد عنابة وقسنطينة والمدية وغيرها (¬2). وكانت مدينة الجزائر قبل العثمانيين تحتوي على عدة مساجد كالجامع الكبير الذي ما يزال إلى اليوم يحمل نفس الاسم، وجامع سيدي رمضان وجامع القشاش. ويسمى جامع سيدي رمضان أحيانا جامع القصبة أيضا. وقد سمي على ولي صالح مدفون فيه، وهو كبقية المساجد، التي كان الورتلاني يصفها، يفتقر في بنائه إلى الذوق الفني والأوقاف. فهو كالجامع الكبير وجامع القشاش كان مسقفا بالآجر، وقد ظل على وضعه في العهد العثماني. أما جامع القشاش، الذي كان يسمى أيضا بالجامع القديم، فكان يعتبر من أجمل جوامع مدينة الجزائر حسبما جاء في تاريخ هايدو (¬3). وكانت تتبعه زاوية بنفس الاسم اشتهرت خلال العهد العثماني بالعلم كمدرسة عليا، وهي المدرسة التي تحدث عنها أبو راس الناصر وأشاد بها، كما سنرى. ويبدو أن كلمة (القشاش) اسم لأحد الأولياء أيضا. وكانت المساجد المبنية قبل العهد العثماني للمذهب المالكي. كما أن أغلبها المبني خلال هذا العهد كان للمذهب المالكي أيضا. والظاهر أن أول جامع بني في العهد العثماني للمذهب الحنفي هو جامع سفير (أو صفر) الذي ¬

_ (¬1) كان مسجد السيدة، وهو من أقدم مساجد العاصمة، قد بنته، كما تقول بعض الروايات، بنت مولاي الناصر - ملك بجاية. وقد سمي باسمها (جامع السيدة) وجدده محمد باشا بن عثمان بعد أن هدمته قنابل الأسبان في القرن الثاني عشر (18 م) وجمله بأعرص الرخام الأبيض، وزين حيطانه بالزليج. وكان يعتبر تحفة من التحف العمرانية. انظر الزهار (مذكرات) 24، 31 - 32. (¬2) يقول فيدرمان (المجلة الإفريقية) 1865، 301 هامش 2 أن من بين الأحد عشر مسجدا التي كانت بالمدية لم يبق منها للدين الإسلامي سوى واحد. (¬3) ديفوكس (المجلة الإفريقية) 1866، 51.

سبق الحديث عليه. وقد نقشت على الباب الرئيسي لهذا الجامع العبارات التالية (وبعد، فهذا مسجد عظيم، ومقام كريم، أسس على التقوى بنيانه، وارتسمت على السعادة والتوفيق أرجاؤه وأركانه، أمر ببنائه الفقير إلى مولاه مملوك مولانا السلطان الكبير، المعظم الشهير، المجاهد في سبيل رب العالمين، مولانا خير الدين، أيده الله ونصره، وهو عبد الله سبحانه صفر، غفر الله ذنبه). وقد جدد حسين باشا، آخر الباشوات، هذا الجامع الذي يعتبر من أجمل مساجد مدينة الجزائر. فهو على عرصات منخفضة عظيمة ومستديرة، أربع منها رخامية وأربع من الحجر، وعليه قبة ضخمة. ومحرابه من الزليج الأبيض والأزرق، وكذلك أطر النوافذ. وله صومعة غير عالية (¬1). ثم أسس العثمانيون وأحفادهم الكراغلة، المساجد للمذهب الحنفي كمساجد الباشوات الذين ذكرناهم (¬2) والجامع الجديد، بل كان في كل عاصمة إقليم جامع للأحناف، وجميعها كانت موضوعة تحت مؤسسة سبل الخيرات. وإذا كانت مساجد العثمانيين في الغالب جيدة وأنيقة وكثيرة الأوقاف فإن مساجد الأهالي كانت في الجملة متواضعة، كما لاحظ الورتلاني، وكما تشهد لذلك أيضا المساجد المؤسسة قبل العثمانيين. فهي في الغالب مبنية بالجبس أو الجص أو الحجر، وقائمة على عرصات ضخمة وصوامع منخفضة. وليس فيها من الفرش سوى الحصير أو الزرابي البسيطة مع قليل من الإضاءة ومن العناية. أما المساجد العثمانية فقد امتازت بدقة البناء واستعمال الزليج والرخام في العرصات والمحراب، والتأنق في المنبر وقناديل الزيت والثريات والزرابي الغنية والزخرفة والنقوش بالحروف العربية والتركية على الجدران والعناية بالعيون والإضاءة والنظافة ونحو ذلك، كما شاع فيها استعمال الفسيفاء وزخرفة النوافذ والأبواب. وقد لاحظ بعض الباحثين أن مساجد وهران، مثلا كانت أجمل من الكنائس التي به (¬3)، رغم ¬

_ (¬1) نفس المصدر، 1870، 191. (¬2) الحاج حسين ميزمورطو، وخضر، وعبدي الخ. (¬3) بولسكي (العلم المثلث فوق الأطلس)، 103. وقد وصف الكاتب أيضا مساجد =

أن مدة بقاء وهران تحت العثمانيين كانت قصيرة. كما امتازت المساجد العثمانية بالسعة وعلو الصوامع ودقتها وجمال شكلها. ومن أجمل مساجد العاصمة جامع السيدة الذي سبقت الإشارة إليه والجامع الجديد وجامع كجاوة وجامع علي بتشين. ومن أجمل مساجد قسنطينة جامع سوق الغزل والجامع الكبير أو الأخضر. وقد أشاد الأدباء بجامع محمد الكبير بمعسكر لجماله واتساعه. وقد امتازت جوامع تلمسان، التي يعود معظمها إلى العهد الزياني وما قبله، بالفن الأندلسي والذوق العربي. ومعظم الجوامع كانت تحتوي على المحراب والمنبر والصومعة وقناديل الإضاءة والماء للوضوء (أو الميضات). وتختلف الفرش من جامع إلى آخر فهي في بعضها غنية حتى كانت الفرش تطرز بالحرير المذهب واستعمال الزرابي نادرة القيمة، وفي بعضها كانت مجرد حصير وسجاد متواضع. وكانت تعلق في بعضها الثريات الرفيعة ذات الألوان الزاهية بينما بعضها كان لا يوجد فيه أكثر من حسك قصديرية أو زجاجات عادية (¬1). ويختلف وضع المساجد (غير جوامع الخطبة) قليلا. فهي في الغالب أقل جمالا وسعة وتأنقا من الجوامع. وفي معظم الجوامع توجد المكتبات الموقوفة على القراء والطلبة والأساتذة (¬2). وتختلف الكتب الموقوفة كثرة وتنوعا. ففي بعض الأحيان لا يوجد في المكتبة سوى المصاحف والكتب ¬

_ = العاصمة وقسنطينة وغيرهما. (¬1) وصف ابن حمادوش بعض مظاهر الزينة في مساجد العاصمة أثناء المواسم الدينية، كاستعمال الشموع وألوانها وحجمها ونحو ذلك. وتوجد معلومات أيضا عن ذلك في (نحلة اللبيب) لابن عمار و (مذكرات) الشريف الزهار. (¬2) انظر بروسلار (المجلة الإفريقية) 1861، 323، عن وقف مجموعة من الكتب الدينية والتاريخية على جامع محمد السنوسي بتلمسان. وسنعرف عن أوقاف الكتب التي حبسها الباي محمد الكبير على مسجده وكذلك صالح باي على بعض مساجد قسنطينة. بل إن النساء أيضا كن يحبسن الكتب. فقد جاء في (المجلة الإفريقية)، 1860، 169 أن السيدة فاطمة بنت ابن جبور قد أوقفت على جامع الغريبة بتلمسان نسخة من تأليف الجوزي وآخر من تأليف السيوطي.

الدينية والصوفية مثل صحيح البخاري وتنبيه الأنام ودلائل الخيرات وكتب الأدعية والأذكار. ولكن بعضها كان يحتوي على كتب في العلوم المختلفة من أدب وطب وفقه وتاريخ ورياضيات. ومن أهم ما كان يلحق بالجوامع أيضا الكتاتيب لتحفيظ القرآن الكريم للأطفال، والزوايا لمبيت الطلبة والغرباء. ومن التوابع الضرورية للجوامع الميضات والعيون للطهارة والاستحمام. وتختلف الجوامع أيضا في حجم موظفيها. فبعضها كان كثير الموظفين حتى أن عددهم كان يتجاوز الستين موظفا كالجامع الكبير بالعاصمة، وبعضها كان يقوم عليه عدد لا يتجاوز أصابع اليد الواحد. وعلى كل حال فإن أغلب الجوامع كان له من الموظفين الوكيل والخطيب والإمام (وأحيانا يجمع الخطيب الإمامة أيضا) والمدرس والمؤذن والحزاب وبعض القراء. 5 - وكان لكل واحد من هؤلاء، مرتب خاص به، حسب قدره ومكانته وعلمه، من الوقف. ففي أواخر القرن العاشر (16 م) وزع خضر باشا وقف الجامع الذي بناه باسمه على النحو التالي (مع ملاحظة أن هذه المرتبات شهرية): 50 دينارا ... للخطيب 2 ديناران ... لقارئ الصلاة المحمدية (كل خميس واثتين) 2 ديناران ... لقارئ التعريف (يوم الجمعة) 2 ديناران ... لثلاثة مؤذنين حنفيين (يوم الجمعة تصبح ستة دنانير) 1 دينار واحد ... لكل حزاب - وهم تسعة (لقراءة الحزب بعد صلاة العصر) 30 دينارا ... للمدرس المالكي 30 دينارا ... لقارئ صحيح البخاري 30 دينارا لقارئ ابن أبي جمرة (مختصر صحيح البخاري) 30 دينارا ... لقارئ الرسالة للقيرواني 5 دنانير ... لوكيل الوقف (¬1) ¬

_ (¬1) ديفوكس (المجلة الإفريقية) 1869، 24. و (التعريف) كتاب في التصوف. وقد ذكر =

أما جامع سوق الغزل في قسنطينة فقد كان موظفوه، في عهد صالح باي، موزعين على النحو التالي مع مخصصات لكل منهم: 100 ريال ... للخطيب 50 ريالا ... للإمام 30 ريالا ... لرئيس المؤذنين 125 ريالا ... لخمسة مؤذنين (25 ريالا لكل منهم) 20 ريالا ... لخمسة حزابين (4 ريالات لكل واحد) 4 ريالات ... لحامل عكاز (أو عصا) الخطيب 28 ريالا ... للمنظفين 40 ريالا ... لناظر الوقف (أو الوكيل) 48 ريالا ... لمدرس المدرسة (التابعة للجامع) 144 ريالا ... لاثني عشر طالبا يحضرون دروس المدرسة (¬1) وفي نفس الوقت أوقف الباي محمد بن عثمان (وهو والد محمد الكبير) على جامع العين البيضاء الذي بناه بمعسكر وقفية تضمنت ما يلي: 4 سلطانية ذهبا ... للطلبة الذين يحضرون درس صحيح البخاري في كل سنة 40 ريالا ... للإمام 40 ريالا ... للخطب 80 ريالا ... للمؤذنين الأربعة يتقاسمونها 44 ريالا ... للحزابين يتقاسمونها 40 ريالا ... لمدرس صحيح البخاري 60 ريالا ... لكل مدرس (وهم ثلاثة) في الفقه وغيره 40 ريالا ... لمسلك الطلبة (مؤدب الكتاب) ¬

_ = دي بارادي أنه كان يعلق علم أبيض على الصوامع إعلانا بوقت الصلاة وحين ينتهي المؤذن من الأذان ينزل العلم إلا في نصف النهار فإن العلم يظل ساعة ونصفا. أما يوم الجمعة فإن العلم الذي يرفع كان أخضر اللون. انظر بارادي، 157. (¬1) فيرو (المجلة الإفريقية) 1868, 131.

15 ريالا ... لوكيل خزانة الكتب الملحقة بالجامع 10 ريالات ... للراوي 15 ريالا ... لمصلح المطاهر (منظف الميضات) 40 ريالا ... لوكيل الوقف نصف ريال ... حق لكل بيت عامر شهريا لزيت الطالب الساكن فيه (¬1) ومن خلال هذه الإحصاءات يمكن ملاحظة الرواتب وتطور الحياة الاقتصادية ولا سيما التضخم المالي. فقد نص وقف جامع الحاج حسين ميزمورطو أواخر القرن الحادي عشر (17 م) على إعطاء الخطيب ستين دينارا والمدرس خمسة وثلاثين والوكيل خمسة وثلاثين أيضا، وهكذا. 6 - وكان الجامع الكبير بالعاصمة مقرا للمفتي المالكي وللمجلس الشرعي الأسبوعي (يوم الخميس) , وكان هذا المجلس يضم المفتي المالكي والمفتي الحنفي والقاضيين المالكي والحنفي وكبار العلماء والقضاة، كما كان يحضر الباشا أو نائبه عند الضرورة (¬2). وكان المجلس يفصل في القضايا الفقهية الشائكة ولا سيما تلك التي يختلف فيها القضاة عند التطبيق والتنفيذ، أو تلك التي يحتاج فيها الباشا إلى فتوى العلماء. وكان المجلس أيضا مركزا للمناظرات بين العلماء في المسائل الخلافية العامة. وسنعرف أنه كان أيضا مجالا للتنازع والتنافس والتظاهر وكسب ود السلطة عند بعض العلماء. ومن أشهر العائلات التي تولت الفتوى المالكية في الجامع الكبير عائلة قدورة ومن أبرز الأسماء أيضا ابن جعدون وابن الشاهد وابن الأمين وابن بكرو. وكان للجامع الكبير موظفون كثيرون وأوقاف ضخمة يسيل لها لعاب ¬

_ (¬1) ليكليرك (المجلة الإفريقية) 1859، 43. فيه النص العربي للوفقية. قارن ذلك بما جاء في كتاب (الثغر الجماني) لابن سحنون، مخطوط ورقة 12 عن أوقاف الجامع الكبير الذي بناه الباي محمد الكبير بن محمد بن عثمان السابق. (¬2) عن محراب ومنبر الجامع الكبير انظر جورج مارسيه مجلة (هيسبريس)، 1921، 359، 1926، 19.

العلماء المتنافسين. ومن أهم موظفيه - بالإضافة إلى المفتي والوكيل - إمامان للصلوات الخمس، ومساعدان للمفتي وتسعة عشر أستاذا (مدرسا)، وثمانية عشر مؤذنا، وثمانية حزابين لقراءة القرآن الكريم، وثلاثة وكلاء أوقاف واحد منهم نائب للمفتي، الذي هو الوكيل الرئيسي، والثاني وكيل أوقاف المؤذنين والثالث وكيل أوقاف الحزابين، وثمانية منظفين، وثلاثة موظفين للسهر على الإضاءة. أما خطبة الجمعة والعيدين فكان يتولاها المفتي نفسه. فهو إذن مفتي وخطيب ووكيل في نفس الوقت. وسنرى أن بعض المفتين كان ينيب عنه غيره في الخطابة أيضا. وهناك غير هؤلاء من الموظفين الذين لا يكاد يأتي عليهم الحصر (¬1). أما الجامع الجديد بالعاصمة فقد كان مقرا للمفتي الحنفي (¬2) الذي كان في مقام شيخ الإسلام في إسطنبول. وكانت للمفتي الحنفي اليد الطولى إذا ما حصل خلاف بينه وبين المفتي المالكي، كما كانت له دالة على الباشوات، ولا سيما في العهد الأول عندما كان القاضي الحنفي يأتي من إسطنبول لمدة ثلاث سنوات كالباشا. ومن أشهر العائلات التي تولت الفتوى الحنفية عائلة ابن العنابي. وقد عرفنا أن الجامع الجديد قد بني في القرن الحادي عشر بأمر الوجق وأن أوقافه كانت تحت مؤسسة سبل الخيرات. وكان قد بني على أنقاض الزاوية (أو المدرسة) العنانية التي تشهد بعض الوثائق على أنها تعود إلى القرن العاشر (16 م) ويقع الجامع في مواجهة البحر حتى أن كل قادم للمدينة من الميناء يراه فيؤخذ بشكله الجذاب وقبته العالية وبياضه الناصع. وكان الرياس (أو البحارة) يحيونه عتد الغدو للجهاد بالطلقات النارية تيمتا بالنصر. وكان له أيضا عدد ضخم من الموظفين الذين يتوزعون على مختلف الاختصاصات. ولكنه فقد بعض روعته وهيبته عندما غطاه الفرنسيون من جهة البحر بمدهم الطريق الموازي للميناء. أما داخله فما يزال يثير الدهشة والتأمل ¬

_ (¬1) ديفوكس (المجلة الإفريقية) 1866، 381. (¬2) كان لقبه في الأول القاضي الحنفي، ثم ظهر لقب المفتي الحنفي ولكن القاضي احتفظ بوظيفته فكان هناك القاضي والمفتي الحنفيان والقاضي والمفتي المالكيان.

ويظهر منه التأثير العثماني في العمارة. وقد نقشت على جدرانه آيات قرآنية وعبارات دينية بالعربية والتركية، وبعض الأبيات من قصيدة البردة للبوصيري (¬1). ومن أشهر المساجد في غير العاصمة جامع الباي محمد الكبير في معسكر، ويبدو أنه كان يخطط له ليكون قاعدة كبيرة لنشر التعليم في المنطقة ينافس به القرويين في فاس، ولكن تطور الزمن لم يحقق له ذلك. فقد نقلت العاصمة إلى وهران بعد فتحها الثاني ووقعت ثورة الطريقة الدرقاوية، ثم حل الفرنسيون بمعسكر بعد أقل من أربعين سنة من بناء الجامع. ومهما كان الأمر فإن الباي قد أكمل بناءه وأضاف إليه مدرسة وأوقف عليه أوقافا كثيرة، بما في ذلك خزانة كتب وحمام (وحدائق ودورا وحوانيت) وبنى له فرنا. فكانت تكفي (غلات أحباسه جميع وظائفه ولوازمه وتفضل منها فضلة تدخر له) وقد أصبح هذا الجامع من المباني الهامة أو من (العجائب) كما يقول ابن سحنون، حتى أن الناس كانوا يقصدونه (اللتنزه والتعجب) وكان من موظفيه، حسبما جاء في وقفيته، الخطيب والإمام وأربعة مؤذنين ومسمع (أو مساعد المدرس) وأربعة مدرسين، وعدد من الطلبة، وقراء الحزب (أو الحزابين)، وقراء حديث اللغو يوم الجمعة، وقراء تنبيه الأنام. وقد خصص لجميع هؤلاء رواتب تليق بهم (¬2). وهذا الجامع (العجيب) هو الذي لم يعد يثير الإعجاب سنة 1251 (1835) حين زاره طاطارو الفرنسي وسجل أن في مدينة معسكر جامعا واحدا له منارة قريبة من قصر الباي (¬3) ولعل وصف سان هيبوليت أصدق من وصف طاطارو حين قال إنه كان لمعسكر مبان جميلة وقصر واسع جدا ¬

_ (¬1) نفس المصدر، 1867، 302، 383. وكذلك بولسكي الذي أعجب أيضا بالجامع الكبير كثيرا ووصفه. 17. (¬2) ابن سحنون (الثغر الجماني)، مخطوط، ورقة 10 - 12. انظر ليكبرك (المجلة الإفريقية).1859، 43. (¬3) مارسيل ايمريت (الجزائر في عهد الأمير عبد القادر)، 91.

ومنازل أنيقة، ولكنها الآن جميعا مهدمة وفي حالة يرثى لها (¬1). أما في قسنطينة فمن أشهر المساجد الجامع الكبير وجامع سوق الغزل وجامع سيدي الكتاني وجامع القصبة وجامع سيدي علي بن خلوف. وقد احتوى بعضها على زخارف ونقوش جميلة، كما كان بعضها مبنيا بالرخام والزليج النادر المستورد من تونس أو من إيطاليا (¬2). ومن البايات الذين ساهموا في بناء المساجد هناك الباي حسين بوكمية، الذي بنى جامع سوق الغزل سنة 1143 (¬3). وهو جامع للمذهب الحنفي، جميل الشكل والهندسة، وقد صرفت عليه أموال غزيرة. أما الجامع الكبير فقد بناه الباي حسن بوحنك سنة 1156. وقد كان أيضا للصلاة والتسبيح والتعليم كما جاء في اللوحة الجميلة المنقوشة عند بابه. وكانت منارته تبلغ خمسة وعشرين مترا. وكانت له أوقاف هامة (¬4). ومن آثار صالح باي جامع سيدي الكتاني الذي شيده سنة 1189 (¬5). وقد أشرنا إلى الجامع الذي بناه في عنابة في آخر أيامه. ¬

_ (¬1) نفس المصدر، 94. (¬2) (وثائق فرنسية رسمية عن حملة كلوزيل)، 163. (¬3) حكم هذا الباي من سنة 1125 إلى سنة 1149. وتثبت بعض الوثائق أن الجامع كان قد بنى من مال عباس بن جلول الذي كان متوليا وظيفة باش كاتب الباي المذكور. وقد قيل إن الباي لما رأى أهمية الجامع رغب في مشاركة كاتبه فيه فكتبت اللوحة على أنه من إنشاء الباي بينما الواقع غير ذلك. انظر فايسات (روكاي) 1868، 301. وقد استقى فايسات هذه المعلومات من الوثائق التي وجدها عند حفيد عباس بن جلول، وهو الشيخ مصطفى بن جلول الذي كان مفتي الحنفية في وقته. وقد حول الفرنسيون هذا الجامع إلى كاتيدرالية، كما أشرنا. (¬4) حكم حسن بوحنك من سنة 1149 إلى سنة 1167. وهو الذي يعود إليه الفضل في تغيير معالم المدينة العمرانية، وهو مدفون في نفس الجامع. وكانت إصلاحاته مقدمة لإصلاحات صالح باي. (¬5) شيربونو (روكاي) 1856 - 102، وكذلك دورنون (تاريخ قسنطينة) في (المجلة الإفريقية) 1913، 290. وقد توفي صالح باي مقتولا، بعد حكم دام أكثر من عشرين سنة، متهما بالتمرد على السلطة المركزية. ويقال إن زوج حسن باشا هي التي كانت =

الزوايا والرباطات

ويتضح مما سبق أن عدد المساجد في الجزائر لم يكن قليلا. وقد اشترك في تأسيسها الأهالي والعثمانيون على السواء. وكان هؤلاء يهتمون ببناء المساجد بدوافع دينية محضة في أغلب الأحيان كما جعلوها لخدمة المذهب الحنفي، بل إن وظيفة المدرس عندهم كانت لا تخرج عن ذلك أيضا. فمعظم الأوقاف تنص بشأن التعليم على كون المدرس متخصصا في التفسير أو الحديث أو غيرهما من العلوم الشرعية. فكانت الأوقاف تعرف في أغراض دينية كالقيام بشؤون الجامع والخطبة والإمامة والأذان، أو بأمور تعبدية صرفة كقراءة تنبيه الأنام والمحمدية ودلائل الخيرات والتعريف ونحوها. ثم ان الأوقاف لم تسلم من الاختلاس وسوء التصرف سواء من السلطة نفسها أو من الوكلاء. ومع ذلك فإن وجود الأوقاف والمساجد على النحو الذي تحدثنا عنه كان يعطي للجزائر العثمانية طابعا إسلاميا موحدا تلتقي فيه اهتمامات الحكام والمحكومين، بل كان مظهرا من مظاهر الجهاد والإحساس المشترك الذي عالجناه في غير هذا. ولعل هذا الطابع الموحد يتجلى بصورة أكثر وضوحا في العناية بالزوايا والرباطات والقباب ونحوها من مظاهر خدمة الدين وأهله. الزوايا والرباطات 1 - من أبرز ميزات العهد العثماني في الجزائر انتشار الطرق الصوفية وكثرة المباني (الزوايا ونحوها) المخصصة لها. ففي المدن والأرياف، في الجبال الشاهقة والصحارى القاحلة عاش معظم المتصوفة يبثون عقائدهم ويلقنون أتباعهم الأذكار والأوراد مبتعدين عن صخب الحياة الدنيا مؤثرين العزلة والعبادة، وكثيرا ما كانوا يعلمون المريدين والعامة مبادئ الدين أيضا. فإذا اشتهر أحدهم بين الناس أسس له مركزا يستقبل فيه الزوار والغرباء ¬

_ = وراء قتله. انظر الزهار (مذكرات) 64. وهناك عدد من المصادر تتحدث عن سيرته وعهده مثل العنتري وابن المبارك، وفايسات والأنبيري.

والأتباع ويعلم فيه الطلبة. ويتبرع الناس لهذا المركز فيكبر ويثرى ويتضاعف قصاده ومريدوه، ويصبح اسم المتصوف (المرابط) علما على المكان، ويصبح المكان يدعى بين الناس زاوية سيدي فلان أو رباط سيدي فلان. فإذا مات (سيدي فلان) يدفن في الزوايا أو في الرباط، ويصير الضريح علامة على الزاوية، وهذه علامة على الضريح. ويرث الأبناء والأحقاد مكانة وعمل (سيدي فلان) وتزداد قداسة الزاوية أو الرباط بين أهل الناحية وتنتشر سمعتها ونفوذها إلى نواح أخرى بعيدة، وهكذا. وكانت كل مدينة كبيرة أو صغيرة، محروسة بولي من الأولياء، فهو الذي يحميها من العين ومن الغارات ومن نكبات الطبيعة ومن طمع الطامعين. فهناك صلحاء تلمسان ومدينة الجزائر ومدينة قسنطينة وبجاية والمدية الخ. وقد ذكر ابن مريم كثيرا من صلحاء وأولياء تلمسان، وأضاف محمد بن سليمان قائمة أخرى منهم في كتابه (كعبة الطائفين) الذي لم يكتف بأولياء وصلحاء تلمسان بل شمل صلحاء مدن أخرى. وكتب محمد الموفق المعروف بابن حواء عن صلحاء الشلف في أرجوزته (سبيكة العقيان) وكتب محمد الجوزي عن أولياء أغريس في شرحه على (العقد النفيس)، كما نظم البوني ألفيته (الدرة المصونة في صلحاء بونة)، وغطى الفكون في (منشور الهداية) عددا منهم في الشرق الجزائري، وخصوصا قسنطينة وعنابة، وامتلأت رحلة الورتلاني بعدد كبير من هؤلاء المتصوفة مع ذكر زواياهم ومقاماتهم وكراماتهم والأساطير المنسوجة حولهم. 2 - فهذه مدينة الجزائر عاصمة الدولة، كانت تعج بالزوايا والأضرحة والقباب المقامة على الأولياء والصالحين. فبالإضافة إلى زاوية وضريح عبد الرحمن الثعالبي وزاوية الولي داده، وزاوية عبد القادر الجيلاني التي ذكرناها، هناك قائمة طويلة أخرى نذكر منها زاوية سيدي محمد الشريف وزاوية سيدي أحمد بن عبد الله الجزائري صاحب (المنظومة الجزائرية)، وسيدي الجودي، وسيدي جمعة، وسيدي الكتاني، وسيدي السعدي،

وسيدي الفاسي، وسيدي أبي التقي، وسيدي يعقوب، وسيدي أيوب، وسيدي بوعنان، وسيدي بوعتيقة الخ. وهناك أيضا (الرجال السبعة) (¬1). وفي النواحي المجاورة لمدينة الجزائر كانت زاوية القليعة وزاوية المربوسي بالأربعاء وزاويتا النملي وخير الدين ببني موسى، وزاوية عيد بين بوفاريك والدويرة، وزاوية البركاني قرب شرشال الخ. وفي مدينة قسنطينة ونواحيها قائمة طويلة أخرى بلغت، حسب بعض الإحصاءات، ست عشرة زاوية (¬2). فهناك زوايا وخلوات سيدي الكتاني، وسيدي المناطقي (¬3)، وسيدي عبد المؤمن (¬4)، وسيدي مسيد، وسيدي مخلوف، وسيدي ميمون، وسيدي عفان، وسيدي راشد، وسيدي ¬

_ (¬1) انظر (أغنية جزائرية في القرن الثامن عشر) (المجلة الإفريقية) 1894، 325. وقد روى الورتلاني أن سيدي الجودي قد (بلغ حالة التربية). فقد حال بشبحه بين طالب وامرأة شغف بها حبا. وذكر أن سيدي الجودي قد عاش في القرن الحادي عشر (17 م). الورتلاني، 49. والغالب أن يكون سيدي الجودي هذا ليس من سكان مدينة الجزائر. (¬2) وجدنا في وثيقة وطنية تعود إلى سنة 1006 أن عدد الزوايا بمدينة قسنطينة قد بلغ ثمانية. وهو بلا شك عدد قليل. (¬3) توفي عبد الرحمن المناطقي سنة 1022. ولم يذكره الفكون في من (ادعى العلم والولاية) رغم أنه كتب كتابه في تلك الفترة. ويقال إن المناطقي قد جاء من المغرب إلى قسنطينة وأقام فيها يتعبد في خلوة ويقرأ القرآن. وقد بني قائد الدار وهو شيخ المدينة في ذلك الوقت مسجدا باسم المناطقي. انظر شيربونو (روكاي) 1856 - 1857، 94. والظاهر أنه غير المناطقي، دفين تونس. (¬4) الظاهر أنه هو ضحية الخلاف الذي وقع في قسنطينة بين أنصار العثمانيين وخصومهم. وكان عبد المؤمن من خصومهم، كما سبق. ولكن لمكانته الدينية وكثرة أتباعه بنيت له زاوية (ومسجد أيضا) تعرف بزاوية عبد المؤمن. وقد جددها سنة 1183 صالح خوجة بن مصطفى الذي تزوج أيضا من أسرة عبد المؤمن. نفس المصدر 106. وعن أولاد عبد المؤمن انظر أيضا أرنست ميرسيه (روكاي) 1878، 218. وقد ذكر ميرسيه أن أصلهم من مرابطي الساقية الحمراء. انظر الفصل الأول من هذا الجزء.

التلمساني (¬1). كما كانت للعائلات الكبيرة بالمدية زواياها الخاصة مثل زاوية أولاد الفكون وزاوية ابن نعمون وزاوية أولاد جلول. وكانت هناك زوايا خاصة بالأتراك والكراغلة مثل زاوية رضوان خوجة الذي كان قائد الدار والذي بنى الزاوية لنفسه ودفن فيها بعد وفاته سنة 1220. وفي نواحي قسنطينة اشتهرت زاوية خنقة سيدي ناجي وزاوية بني بو مسعود وزاوية بني مقران، وزاوية محمد بن يحيى المتوفي حوالي سنة 1091 الواقعة عند أولاد عبد النور (¬2)، وزاوية مولاي الشقفة بين جيجل والقل. وقد اشتهرت أيضا تلمسان ونواحيها بزواياها وأضرحتها ومشاهدها نذكر منها هنا زاوية سيدي الذيب، وزاوية سيدي بومدين، وزاوية محمد السنوسي، وزاوية أحمد الغماري، وضريح سيدي الحلوى الأندلسي، وزاوية عين الحوت، ومما يذكر أن الباي حسين قد أوقف سنة 1173 وقفا على زاوية مولاي الطيب الوزاني حين اشترى لها دارا بستين مثقالا ذهبا. وفي سنة 1174 بنى الباي إبراهيم الملياني، بأمر باشا الجزائر، ضريحا للولي محمد بن علي حفيد الولي عبد الله بن منصور، كما أن الباي مصطفى المانزالي قد جدد، سنة 1218، ضريح هذا الولي (أي عبد الله بن منصور) (¬3). وتعتبر زواوة وبجاية من أغنى مناطق الجزائر بالزوايا. فقد تصل فيها إلى خمسين زاوية. وليس غرضنا هنا ذكر قائمة بها ولكن الإشارة إلى أهمها في ميدان التعليم ونشر الوعي الديني بين السكان. وقد كانت زاوية تيزي راشد (وتسمى أيضا زاوية ابن أعراب) ذائعة الصيت يقصدها التلاميذ من النواحي المجاورة والبعيدة. وممن تخرجوا منها محمد الفريرا المشهور بالذباح الذي تولى ولاية التيطري. وكانت زاوية الشيخ محمد التواتي ببجاية ¬

_ (¬1) هو علي التلمساني الذي توفي سنة 946. وقد بنيت له زاوية ومسجد. وكان يعتبر قطبا ربانيا. (¬2) عن زاوية بني بومسعود وبني مقران انظر فيرو (المجلة الإفريقية) 1868, 348. وعن زاوية محمد بن يحيى انظر فيرو أيضا في (روكاي)، 1864، 134. وما بعدها. (¬3) بروسلار (المجلة الإفريقية)، 1860، 16، 171.

أيضا قد أخرجت أجيالا من المتعلمين وكانت لها أوقاف كبيرة. وقد ظلت على عهدها بالتعليم إلى سنة 1228 حين أمر حسين باشا بغلقها بعد حادث وقع به (¬1). وكانت تضم أكثر من مائتي طالب. واشتهرت بنشر التعليم أيضا زاوية الأزهري بآيت إسماعيل، وزاوية ابن علي الشريف بآقبو، وكذلك سيدي منصور بآيت جناد. ومعظم أصحاب هذه الزوايا كانوا ساخطين على الأتراك. فقد لمح ابن علي الشريف في كتابه (معالم الاستبصار) إلى ذلك. وكان سيدي منصور أيضا من خصومهم، كما كان معاصراه أحمد بن إدريس وأحمد بن مالك (¬2). والذي يقرأ رحلة الورتلاني (وهو أيضا ساخط على الترك) يدرك تلك الثورة المكظومة ضدهم هناك. ولا بد من ذكر زوايا عبد الرحمن اليلولي، وأبي القاسم بو جليل، وابن أبي داود، ومحمد السعدي الواقعة نواحي دلس، بالإضافة إلى الزاوية الزروقية، وزاوية أحمد بن يوسف وغيره (¬3). وكانت للزاوية في الريف أرض موقوفة يحرثها المسلمون ويعتنون بها ويستعمل إنتاج هذه الأرض في صيانة الزاوية وتغطية أجور المدرسين ومعيشة التلاميذ. كما أن الزاوية الريفية عادة ما يقدم إليها مسلمو الناحية جزءا معينا من إنتاجهم الفلاحي سنويا. فالزاوية بالنسبة إلى سكان الناحية كانت على غاية كبيرة من الأهمية (¬4). وتثبت الإحصاءات أن عدد الزوايا والأضرحة ونحوها كان يفوق عدد المساجد والمدارس. فقد كان بتلمسان ونواحيها أكثر من ثلاثين زاوية في ¬

_ (¬1) قيل إن الطلبة قد اختطفوا فتاة واعتدوا عليها فاشتكى أهل بجاية إلى الباشا فأمر بغلقها وطرد الطلبة. انظر فيرو (عن بجاية) (المجلة الإفريقية) 1859، 302. وقد سبق الحديث عن مكانة التواتي في القرن التاسع. (¬2) عن زاوية سيدي منصور انظر مقالة سعيد بوليفة (قانون زاوية سيدي منصور) في (مجموعة رينيه باسيه) ج 1 - 79. (¬3) رجعت في هذه المعلومات أيضا إلى الملف الذي أرسله إلي الأستاذ علي أمقران السحنوني عن الزوايا ومراكز التعليم في زواوة. (¬4) ايمريت (مجلة التاريخ الحديث والمعاصر) 1954، 203.

آخر العهد العثماني (¬1). والذي يدرس كتاب (البستان) ,لابن مريم قد يعثر على أكثر من هذا العدد رغم أنه كتبه في بداية القرن الحادي عشر (17 م). وفي عهد صالح باي كان في قسنطينة ثلاث عشرة زاوية (¬2). وهو عدد لا يشمل بالطبع الزوايا المحيطة بها. وقد كان في عنابة وبجاية وزواوة أعداد مشابهة (¬3). وذكر الورتلاني الذي كان مغرما بذكر الصلحاء والأولياء بعض هذه الزوايا والمشاهد وأصحابها. أما بالنسبة لمدينة الجزائر فإن المصادر تذكر أنه كان فيها سنة 1246 اثتان وثلاثون قبة أو ضريحا، واثنا عشرة زاوية (¬4). بينما ذكر مصدر آخر أنه كان بها تسع عشرة زاوية أو رباطا (¬5). 3 - وقد لعبت الزاوية في الريف دورا أكثر إيجابية من الزاوية في المدينة. ففي بداية العهد المدروس كانت الزوايا عبارة عن رباطات أو نقط أمامية ضد الأعداء. فكان المرابطون يقودون أتباعهم في الحروب الجهادية وينصرون المجاهدين ويطعمونهم في زواياهم ويتحالفون مع الأمراء المكافحين من أجل الدين وحماية البلاد، وعلى هذا النحو تحالف بعضهم مع العثمانيين وقدموا لهم المساعدات الأساسية فجندوا من ورائهم الشعب وجمعوا لهم المؤن والمعدات ورفعوا الروح المعنوية للمحاربين، ولكن الدوافع الجهادية كانت تضعف بالتدرج بعد القضاء على الخطر الخارجي الداهم. فعاد المرابطون إلى قواعدهم وكانوا على صلة بالشعب أكثر من صلتهم بالسلطة العثمانية. وكان على هذه السلطة أن تؤيد المرابطين بالعطايا السخية والإعفاء من الضرائب حتى لا تضعف الرابطة بينهما، ولكن بعض ¬

_ (¬1) ايمريت (الجزائر في عهد الأمير عبد القادر)، 13. (¬2) فيرو (المجلة الإفريقية) 1868، 130. (¬3) بعث لي الأستاذ علي أمقران السحنوني ملفا هاما عن الزوايا ببلاد زواوة وبجاية فكانت أكثر من أربعين زاوية. (¬4) ديفوكس (المجلة الإفريقية) 1862، 372. (¬5) جورج إيفير (المجلة الإفريقية) 1913، 241. وكذلك (طابلو) وزارة الحربية الفرنسية: 2/ 1838، 223.

الزوايا قد أصبحت مراكز لتدريب الأتباع على الثورة ضد السلطة، ولا سيما في أواخر العهد المدروس. فقد ثار يحيى الأوراسي والزبوشي، وثار الدرقاويان ابن الشريف وابن الأحرش، وتململت الزاوية القادرية والرحمانية، كما تمردت الزاوية التجانية في عين ماضي ونواحيها. ويظهر الدور الإيجابي للزوايا الريفية في التعليم على الخصوص. فقد كانت بالإضافة إلى وظيفتها الدينية، معاهد لتعليم الشبان وتنوير العامة (وهذه نقطة سنعالجها في الحديث عن التعليم). وكانت الزاوية الريفية تشمل أيضا مسجدا وقبة الشيخ المرابط ومبيتا للطلبة الداخليين ومساكن للغرباء والفقراء. وقد اشتهرت بعض الزوايا والخلوات الريفية حتى أصبحت محجة للزوار والطلبة. ومن ذلك زاوية خنقة سيدي ناجي (¬1)، وخلوة عبد الرحمن الأخضري (¬2)، وضريح سيدي خالد (¬3) وزاوية محمد بن علي المجاجي (أبهلول) (¬4) وزاوية القيطنة (¬5)، وزاوية ابن علي الشريف (¬6). ويبدو أن عدد الزوايا في غرب الجزائر كان أكثر من شرقها. ولعل ذلك يعود إلى استمرار الجهاد في الغرب دون الشرق وإلى كثرة الزوايا والمرابطين في المغرب الأقصى. ثم إن حجاج ورحالة المغرب كانوا يعبرون الجزائر ويغذون فكرة المرابطية فيها وينشرون مبادئ زواياهم وشيوخهم، كما كانوا يعودون بمثل ذلك من المشرق في طريقهم إلى المغرب. ¬

_ (¬1) انظر عنها الورتلاني (الرحلة)، 17. (¬2) انظر عنها أحمد بن داود (العقد الجوهري) مخطوط. (¬3) أشاد به عبد الرحمن الأخضري في قصيدته اللامية التي سنعرض إليها: سر يا خليلي إلى رسم شغفت به ... طوبى لزائر ذاك الرسم والطلل (¬4) أبو حامد المشرفي (ياقوتة النسب الوهاجة) مخطوط. وكانت مجاجة، كما يقول ابن سليمان، (دار علم وتقوى) بفضل هذه الزاوية. انظر (كعبة الطائفين) 3/ 264. (¬5) أخبارها في مخطوط الأمير عبد القادر (تاريخ الأمير) مخطوط بالمكتبة الوطنية بالجزائر. (¬6) بعض أخبارها في كتاب محمد بن علي الشلاطي (ابن علي الشريف) المسمى (معالم الاستبصار)، مخطوط.

وظاهرة التعليم في الزوايا، ليست خاصة بالريف. ففي المدن أيضا كانت بعض الزوايا تقوم بدور إيجابي في نشر التعليم بجميع مستوياته. فالزاوية القشاشية قد تحولت تدريجيا إلى مدرسة عليا أو معهد، وهذه الزاوية تتبع جامع القشاش الذي سبقت الإشارة إليه. وكذلك زاوية شيخ البلاد في مدينة الجزائر، وهي التي سيأتي الحديث عنها. ومن الزوايا التي لعبت دورا رئيسيا في نشر التعليم في غير العاصمة زاوية الفكون في قسنطينة، وزاوية مازونة ذات الشهرة الواسعة، وزاوية عين الحوت بتلمسان، وزاوية محمد التواتي ببجاية، وغيرها. غير أن معظم زوايا المدن كانت معطلة عن التعليم لوجود الكتاتيب من جهة والمساجد والمدارس المتخصصة من جهة أخرى. وبذلك كثرت في المدن الأضرحة والقباب والزوايا التي تؤدي دورا اجتماعيا كإيواء الفقراء والعجزة والغرباء وحماية الهاربين إليها من المجرمين والسياسيين المغضوب عليهم، واستقبال التلاميذ الدارسين في المساجد المجاورة. وبالإضافة إلى الزوايا المنسوبة إلى الأفراد هناك الزوايا المنسوبة إلى الجماعة. ومن ذلك زاوية الأشراف وزاوية الأندلسيين اللتين أشرنا إليهم (¬1). فقد كانت الأولى خاصة بعزاب الأشراف الذين كانت لهم أيضا نقابة خاصة. وكان يشرف عليها مجلس من أعيانهم. وفي كل مولد نبوي كان الوكلاء يعدون وجبة طعام في الزاوية يحضرها أعضاؤهم فقط. وكان الشرفاء يعيشون كجماعة مترابطة متضامنة ولكنهم لم يكونوا بالضرورة من الأغنياء. أما زاوية الأندلسيين فقد كانت لاستقبال فقراء وعجزة مهاجري الأندلس أو الذين كانوا من أصل أندلسي، كما كانت تستقبل طلبتهم عند الضرورة. وقد ظلت المؤسستان موجودتين إلى الاحتلال الفرنسي. 4 - وكان بناء الزاوية يختلف عادة عن بناء المسجد والمدرسة. فالزوايا غالبا ما جمعت بين هندسة المسجد والمنزل. وهي في الجملة قصيرة ¬

_ (¬1) انظر فقرة الأوقاف من هذا الفصل.

الحيطان منخفضة القباب والعرصات قليلة النوافذ. وإذا كان للزاوية مسجد فهو في الغالب بدون مئذنة. فالزاوية من الناحية الهندسية غير جميلة، بالإضافة إلى أنها كثيرة الرطوبة والعتمة. وشكل الزاوية يوحي بالعزلة والتقشف والهدوء أكثر مما يوحي بالاختلاط والثراء والحركة. غير أن بعض الزوايا المعدة أصلا لسكنى الطلبة ونحوهم كانت واسعة وصحية. وقد كان للزاوية أوقافها أيضا مثل المسجد. وفي عصر ساد فيه الجهل والخرافة كان الناس يميلون بأوقافهم وأفعالهم الخيرية إلى الزاوية أكثر من ميلهم إلى المسجد والمدرسة. فقد كانت بعض الزوايا غنية مثل زاوية المجاجي التي سبقت الإشارة إليها، وزاوية القيطنة. فكلتاهما كانت تطعم الأعداد الكبيرة من الزائرين وتؤويهم وتعلمهم. وكان الواقفون والمتصدقون على الزوايا من عامة الناس يعتقدون أن جزاءهم يأتي بسرعة وأن ذنوبهم تغتفر في الحال إذ يكفي أن يرضى عنهم الشيخ ويمنحهم بركاته. ومن الزوايا كثيرة الوقف زاوية الولي داده، وزاوية أحمد بن عبد الله الجزائري وزاوية سعيد قدورة التابعة للجامع الكبير، وكذلك الزاوية الطيبية بتلمسان. وكانت بعض الزوايا متخصصة في استقبال نوع معين من الضيوف بنصوص أوقافها. فزاوية مولاي حسن بالعاصمة كانت عبارة عن دار سكنى للعزاب. وكانت زاوية سيدي أبي عتيقة تستقبل الفقراء والمرضى والعجزة. وكانت زاوية سعيد قدورة مخصصة لاستقبال فقراء العلماء. وأما زاوية شيخ البلاد فلا يسكنها إلا الطلبة العثمانيون. كما أن زاوية القاضي المالكي التي أسسها مصطفى بن مصطفى (آغا الصبايحية) مخصصة لسكنى المالكية، وهكذا. ومن جهة أخرى كانت بعض الزوايا مقصودة أكثر من غيرها لغرض فيها. فقد كانت النسوة تكثر في زاوية سيدي عبد القادر، كما كانت العامة يكثرون في زاوية علي الزواوي لاعتقادهم بأن ماءها يبرئ من العقم ويحفظ الأولاد ويذهب الحمى. وهذه الاعتقادات في الواقع ليست خاصة بزوايا العواصم، بل كانت منتشرة أيضا في زوايا الريف، ولا سيما عند قبور الأولياء

والصلحاء. ومن أهم ما كان يميز بعض الزوايا والأضرحة كونها ملجأ يلجأ إليه الهاربون من العقاب والقتل مهما كانت جرائمهم. فقد كان الولاة والعامة يعتقدون في حصانة حمى الزاوية والضريح. ويكفي أن يهرب الجاني إلى هذا الحمى فلا يلحق به أحد، ولا يمسه سلطان. وقد وقعت حوادث الفرار إلى زاوية الولي داده وزاوية القليعة والثعالبي وغيرها، سواء من الولاة أنفسهم أو عامة الناس، ولا شك أن ذلك كان يدخل في عقيدة الناس في صلاح الأولياء وقدرتهم على تسليط غضبهم على من يهين حماهم. وقد قيل إن صالح باي قد بنى قبة في المكان الذي قتل فيه المرابط محمد الغراب بعد أن تحولت جثة هذا إلى غراب مخيف تطير منه الباي. وكان الثوار في نواحي قسنطينة لا يمسون من يلجأ إلى زاوية/ معمرة الواقعة في أراضي أولاد عبد النور، وكان محيي الدين مقدم الطريقة القادرية (زاوية القيطنة) يصف زاويته بأنها كمقام إبراهيم الخليل من دخلها كان آمنا. ويختلف موظفو الزاوية عن موظفي الجامع في كثير من الوجوه. ذلك أن المسؤول الرئيسي على الزاوية في العادة هو مؤسسها أو المرابط نفسه أو ورثته. فهي مقام الولي ومصلاه، ومجمع أوراده وأذكاره، وفيها يدرس ويستقبل المريدين، وفيها (وخاصة في الأرياف) يصلح بين الناس وينورهم في شؤون دينهم ويفتيهم ويحكم بينهم. وفي غياب المؤسس أو المرابط يتولى إدارة الزاوية عادة أبناؤه وأحفاده على نفس النمط. وهكذا كانت زاوية أو خلوة عبد الرحمن الأخضري وزاوية المجاجي وزاوية ابن علي مبارك بالقليعة. ولكن الزاوية لا تحتاج فقط إلى المرابط ومن يقوم مقامه من أبنائه وأحفاده أو عائلته بل تحتاج أيضا، كالجامع، إلى منظفين ومؤذنين ومساعدين وغيرهم. فالزاوية النشيطة عبارة عن خلية حية يتحرك فيها كل شيء كالساعة في انتظام ودقة ومسؤولية (¬1). وكانت بعض زوايا المدن تحت ¬

_ (¬1) جاء في قانون زاوية سيدي منصور التي أشرنا إليها أن التلاميذ هم الذين يتولون =

إشراف (قيمين) أو مديريين يعينهم وكلاء الأوقاف العامة أو الخاصة كسبل الخيرات وبيت المال ومكة والمدينة، وكان هؤلاء القيمون عادة من نسل المرابط أو من الأشراف أو من أهل الصلاح والخير. 5 - وكانت الرباطات تشبه الزوايا من بعض الوجوه. فهي مثلها في خدمة الدين والمجتمع. ولكن الرباطات كانت تمتاز بأنها قرية من مواقع الأعداء وأن تأسيسها يهدف بالدرجة الأولى إلى خدمة الجهاد والدفاع عن حدود الإسلام مع أداء مهمة العلم أيضا (¬1). وكانت الرباطات في العهد الأول منتشرة على السواحل التي نزل فيها الأعداء أو كانوا يهددونها. فكان الطلبة جنودا وعلماء في نفس الوقت. وكان المجاهدون يجتمعون بها وينطلقون منها ويأوون إليها للزاد والسكن. وبعد إبعاد الأعداء عن معظم السواحل انحصرت الرباطات في الغرب الجزائري حيث ظل الإسبان في وهران وفي المرسى الكبير وحيث الخطر كان داهما بشكل أوضح. وقد لعبت الرباطات دورا كبيرا في فتح وهران الأول سنة 1119 والثاني سنة 1205. واشتهر من علماء الرباطات في الفتخ الأول مصطفى الرماصي وأبو الحسن (أو حسون) العبدلي (¬2). كما اشتهر من علماء الرباطات أيام الفتح الثاني محمد بوجلال والطاهر بن حوا ومحمد بن علي الشارف المازوني وولداه، وكذلك محمد المصطفى بن زرفة. وقد أقاموا تحت رئاسة بوجلال عند جبل المائدة قرب وهران (للتضييق على الكفار) وكانوا هناك يدرسون ويحاربون أيضا (¬3). ¬

_ = تسييرها، تحت إشراف الوكيل فيسهرون على النظافة والتموين والأمن وأداء الشعائر الدينية ونحو ذلك. (¬1) عن نشأة ووظيفة الرباط انظر ما كتبه ابن مرزوق في كتابه (المسند الحسن) فيما نشره ليفي بروفنسال في مجلة (هيسبريس)، 1925 وقد طبع المسند الآن في كتاب. انظر أيضا الفصل الأول من هذا الكتاب. المهدي البوعبدلي (الأصالة) 13 سنة 1973، 19. (¬2) انظر عبد الرحمن الجامعي (شرح الحفاوية) مخطوط باريس، ورقة 30. (¬3) ابن سحنون (الثغر الجماني) مخطوط باريس 41. انظر كذلك ابن زرفة (الرحلة القمرية) كما قدمها هوداس في (المجموعة الشرقية) لمؤتمر المستشرقين الرابع =

المدارس والمعاهد العليا

فالرباطات إذن كانت قلاعا من جهة وزوايا ومدارس متنقلة من جهة أخرى. ويمكننا أن نضيف إلى ذلك زاوية الشيخ محمد بن علي المجاجي التي اشتهرت بكونها زاوية ومدرسة ورباطا (¬1). ولعل ما أنشأه المرابطون في العهد العثماني الأخير من مؤسسات لنشر التعاليم المضادة للنظام العثماني (مثل زوايا ومعاهد الطرق الدرقاوية والتجانية والقادرية والرحمانية) لا تخرج أيضا عن كونها رباطات بالمعنى الذي أشرنا إليه. المدارس والمعاهد العليا رغم أن الرحالة الفرنسي فانتور ديبارادي قد تحدث في القرن الثاني عشر (18 م) عن وجود ثلاث جامعات لتعليم المذهب المالكي في مدينة الجزائر وحدها (¬2)، فإن الواقع هو أنه لم يكن في الجزائر كلها جامعة واحدة بالمعنى المتعارف عليه. فقد خلت الجزائر العثمانية من مؤسسة للتعليم العالي، توحد نظم التعليم وتحافظ على مستواه وتعكس نشاط واتجاه العلماء، وتحفظ قدرا معينا من أساليب اللغة والذوق الأدبي العام. ولم يكن للجزائر (جامعة) إسلامية كالأزهر والقرويين والزيتونة، غير أن دروس جوامعها الكبيرة كانت تضاهي، بل قد تفوق أحيانا، دروس الجامع الأموي بدمشق والحرمين الشريفين لتنوع الدراسات فيها وتردد الأساتذة عليها من مختلف أنحاء العالم الإسلامي. فدروس سعيد قدورة وعلي الأنصاري (¬3) وأحمد بن عمار بالعاصمة، ودروس سعيد المقري في تلمسان، ودروس أبي راس في معسكر ودروس عمر الوزان وعبد الكريم الفكون وأحمد العباسي وعبد القادر الراشدي في قسنطينة، وأحمد البوني في عنابة - كانت مضرب ¬

_ (¬1) جاء في (ياقوتة النسب الوهاجة) لأيي حامد المشرفي أن هذه الزاوية كانت مركزا (لإقراء الضيفان ولمن يجاهدون في سبيل الله). (¬2) فانتور ديبارادي (الجزائر في القرن الثامن عشر)، 158. (¬3) ترجمنا لقدورة والوزان والأنصاري والمقري في الفصل التالي باعتبارهم من كبار المدرسين.

الأمثال في العمق والإحاطة والرقي، غير أن شهرة هؤلاء العلماء كانت نتيجة جهودهم الشخصية وليس نتيجة انتمائهم لنظام شامل تخضع له المؤسسات التابعين لها. ونحن لا ندري قصد الرحالة الفرنسي المذكور بالضبط، ولعله كان يقصد بالجامعات بعض (المدارس العليا) مثل المدرسة القشاشية ومدرسة شيخ البلاد والجامع الكبير. 1 - ومهما كان الأمر فقد كثرت في الجزائر المدارس الابتدائية حتى كان لا يخلو منها حي من الأحياء في المدن ولا قرية من القرى في الريف، بل إنها كانت منتشرة حتى بين أهل البادية والجبال النائية. وهذا ما جعل جميع الذين زاروا الجزائر خلال العهد العثماني ينبهرون من كثرة المدارس بها وانتشار التعليم وندرة الأمية بين السكان. وقد عد بعضهم العشرات من هذه المدارس بالإضافة إلى المساجد والزوايا والرباطات التي تحدثنا عنها. وكانت الأوقاف والصدقات تلعب دورا هاما في انتشار المدارس ونشر التعليم. كانت تلمسان عاصمة الدولة الزيانية قبل مجيء العثمانيين، قد اشتهرت بوفرة المدارس والعلماء رغم تدهورها السياسي، كما عرفنا. فبالإضافة إلى المدارس الابتدائية كان بها على الأقل خمس مدارس ثانوية وعالية. وهذه المدارس هي التي أشاد بها الرحالة المصري عبد الباسط بن خليل والكاتب المغربي الحسن الوزان (ليون الإفريقي). فقد أشاد الوزان على الخصوص بعناية أهل تلمسان بتشييد المدارس والإنفاق عليها، رغم أنه قد حكم أن فئة العلماء كانت من أفقر فئات المجتمع الأربع (¬1). والمعروف أن زيارة الوزان تلمسان كانت عشية استقرار العثمانيين بالجزائر. ورغم قول بعضهم بأن تلك المدارس قد انقرضت من تلمسان (¬2) فإن الفرنسيين قد وجدوا فيها بعد ¬

_ (¬1) الحسن الوزان (وصف إفريقية) 2/ 334. (¬2) ألفريد بيل (الإسلام في بارباريا) في (التاريخ ومؤرخو الجزائر) 195. وهذه المدارس مذكورة في (وصف إفريقية) للوزان 2/ 333 وهي عنده كوليج، أو معاهد عليا. وقد ذكر بعض المدارس من بناء ملوك تلمسان وبعضها من بناء ملوك فاس.

احتلالها خمسين مدرسة ابتدائية ومدرستين للتعليم الثانوي والعالي، وهما مدرسة الجامع الكبير ومدرسة أولاد الإمام (¬1). والمعروف أن الباي محمد الكبير هو الذي أعاد لمدرستي تلمسان أوقافهما وجددهما، كما سنرى. ولم تكن قسنطينة أقل عناية بالمدارس. فقد كانت مدارسها الابتدائية كثيرة على العهد الحفصي وظلت كذلك في العهد العثماني. ورغم أن تطور إنشاء المدارس لا تؤكده لنا الإحصاءات فإن الذي يدرس كتابا مثل (منشور الهداية)، المؤلف في القرن الحادي عشر، يدرك أن حالة المدارس لم تكن سيئة وأن المواطنين وبعض البايات كانوا يؤسسون المدارس الابتدائية والثانوية. وقد عرفنا أن الورتلاني قد انتقد تدهور أحوال المدارس بتدهور الأوقاف، مضيفا بأن ولاة قسنطينة لم يشتغلوا ببناء المدارس ولا بكثرة الأوقاف مما سبب، في نظره، اندراس العلم (¬2). غير أن صالح باي الذي بدأ يحكم في آخر حياة الورتلاني، قد نهض بالمدارس وأوقافها ونحوها من وسائل النهوض بالتعليم. وقد ثبت من السجل الذي أمر به صالح باي أنه كان في قسنطينة على عهده مدرستان ثانويتان وهما سيدي بوقصيعة وسيدي ابن خلوف (¬3). ولكن هذا السجل لم يشر إلى عدد المدارس الابتدائية عندئذ. غير أنه من الملاحظ أن التنظيم المذكور قد جرى في بداية عهد الباي، أي قبل أن ينهض هو بالمدارس والتعليم (¬4). وعلى كل حال فقد كان عدد المدارس الابتدائية في قسنطينة عند دخول الفرنسيين حوالي تسعين مدرسة. وهو العدد الذي جعل بعض الباحثين يحكمون بأنه يدل على أن كل طفل ذكر ¬

_ (¬1) ايمريت (الجزائر في عهد الأمير عبد القادر) 13 - وكذلك مقالته في (مجلة التاريخ الحديث والمعاصر) 1954، 202. أما ابن سليمان في (كعبة الطائفين) 1/ 292، فقد ذكر أنه كان في تلمسان في وقته (القرن 11) مدرستان هما مدرسة سيدي الحلوي ومدرسة سيدي أبي مدين. (¬2) الورتلاني (الرحلة) 686. (¬3) فيرو (المجلة الإفريقية) 1868، 130. (¬4) جرى تنظيم السجل المذكور سنة 1190 بينما توفي صالح باي سنة 1208.

بين السادسة والعاشرة كان له مكان في المدرسة. أما التعليم الثانوي والعالي فقد وجد الفرنسيون له في قسنطينة سبع مدارس (¬1). أما في العاصمة فالأقوال متضاربة حول عدد المدارس الابتدائية والثانوية - العالية. ويبدو أن هذا التضارب يعود أساسا إلى أن بعضهم كان يدخل الزوايا والمساجد في عداد المدارس والبعض لا يفعل ذلك. وقد رأينا منذ قليل حكم ديبارادي في الموضوع. وكان الرحالة المسلمون الذين زاروا الجزائر مهتمين غالبا بالمؤسسات التي يؤمونها هم كالجوامع والزوايا والمدارس العالية وقلما كانوا يتحدثون عن المدارس الابتدائية. وذلك ما فعله التمغروطي وابن زاكور والجامعي وغيرهم. وقد لاحظ أبو راس، الذي زار مدينة الجزائر سنة 1214 وجود المدرسة القشاشية وأشاد بها على أساس أنها مركز للتعليم الثانوي والعالي. وتحدث ابن حمادوش، وهو من أبناء مدينة الجزائر، عن مدرسة الجامع الكبير التي نزل بها أحمد الورززي سنة 1159. وذكر السيد بانانتي أوائل القرن الثالث عشر (19 م) أنه كان في مدينة الجزائر في وقته ثلاث مدارس عامة (¬2). وعند دخول الفرنسيين كان بها حوالي مائة مدرسة بين ابتدائية وغيرها (¬3). وكانت أقل وحدة للتعليم الابتدائي هي الكتاب (جمع كتاتيب) أو المكتب كما يسمى أحيانا. وكان يطلق عليه، ولا سيما في العاصمة، اسم (مسيد) وهو بدون شك محرف من تصغير كلمة مسجد. ذلك أن الكتاب، المخصص عادة لتحفيظ القرآن الكريم وتعليم مبادئ القراءة والكتابة ¬

_ (¬1) نوشي (الكرامات التونسية) 1955، 386. وقد ذكر ايمريت (مجلة التاريخ الحديث والمعاصر)، 1954، 202. أن عدد المدارس الابتدائية في قسنطينة سنة 1837 (سنة دخول الفرنسيين لهذه المدينة) قد بلغ ستا وثمانين مدرسة. وتؤكد وثيقة وطنية تعود إلى سنة 1006 أن عدد مدارس قسنطينة الثانوية والعالية كانت عندئذ سبع مدارس أيضا. (¬2) بانانتي 114. (¬3) بولسكي (العلم المثلث)، 22.

للأطفال. كان في الغالب عبارة عن حجرة أو دكان في الأصل أو جناح في مسجد معد للغرض المذكور، بل إن بعض الواقفين كان يكتفي بفتح غرفة في منزله على الشارع ويجعلها كتابا للأطفال. وكذلك كان في زوايا المرابطين أجنحة خاصة لتعليم الأطفال وحفظ القرآن. وكانت الكتاتيب منتشرة في جميع الأحياء، وكثير منها كان يحمل اسم الحي الواقع فيه. فهناك مثلا مكتب سوق القندقجية، ومسيد القيصرية، ومكتب الشماعين، وبعضها كان يحمل اسم الزاوية أو الشارع مثل مسيد كوشة الوقيد، ومسيد كوشة بولعبة، وكتاب زاوية الجامع الكبير، ومسيد ابن السلطان، ومسيد جامع السيدة. وأحيانا كان المكتب يحمل اسم الواقف أو المؤدب المشهور، مثل مكتب علي باشا، ومسيد الحاج مصطفى بولكباش ومكتب العمالي. وإذا كان المكتب يقع في البادية فهو يسمى (الشريعة) إذ تنصب لذلك خيمة خاصة بتحفيط القرآن وإقامة الصلوات ونحو ذلك (¬1). ويظهر من هذا أن الواقفين على بناء وفتح الكتاتيب كانوا من جميع طبقات المجتمع. فالباشوات والبايات والموظفون السامون كانوا يشتركون مع الأهالي في هذه المهمة العلمية والخيرية. فقد وجدت وقفية لواقف مجهول خصصها لصالح (الذي يعلم الأطفال في المدرسة التابعة لمنزله). وبالقرب من جامع خضر باشا أنشأ الحاج مصطفى بولكباش مكتبا خصصه لتعليم القرآن، وهو المكتب الذي وسعه الباشا إبراهيم خوجة فيما بعد. وقد ألحق بجامع الباشا الحاج حسين ميزمورطو مكتب لتعليم الفقه الحنفي. وألحق الباشا محمد بن بكير بجامع عبدي باشا مدرسة وأوقف عليها. وكان الباشا محمد بن محمود هو الذي أنشأ مسيدا لتعليم القرآن للأطفال المسلمين. ومن جهة أخرى قام بيت المالجي، وهو ساري مصطفى، بإنشاء مسيد تابع لجامع السيدة. ووجد مكتوبا على مكتب علي باشا هذه العبارة (الحمد لله، أمر ببناء هذا المكتب الأمير المفخم، السيد علي باشا، نصره ¬

_ (¬1) أشار إلى ذلك ابن مريم في (البستان) 288، حيث قال إن المؤذن يؤذن في (الشريعة) وسط الدوار.

الله) (¬1). وبالإضافة إلى ذلك وجدت كتاتيب تابعة لبعض الزوايا مثل المكتب الملحق بزاوية سيدي محمد الشريف، ومسيد الركرك المنسوب للمرابط سيدي عيسى بن العباس، والمكتب التابع لزاوية أيوب. ولكن أوقاف الكتاتيب وإنشاءاتها ليست كلها مسجلة عند القضاة. فأغلب الأهالي وخصوصا أغنياء الحضر، كانوا يفضلون عدم الإعلان عن صدقاتهم. ولذلك لا نكاد نجد في وثائق الوفف إلا أسماء كبار المسؤولين في الدولة، وهم الذين كانوا في الغالب يسجلون أعمالهم الخيرية، ومهما يكن الأمر فإن الأوقاف المعلنة وغير المعلنة هي التي كانت تغذي المدرسة الابتدائية وهي التي جعلت أعدادها كبيرة في القطر كله. وكانت مؤسسة التعليم الابتدائي تخضع أيضا في أهدافها لرغبة الواقفين. ذلك أن بعضها كان عاما لتعليم القرآن وتربية الأطفال المسلمين، وبعضها كان خاصا بخدمة مذهب أو جماعة معينة. فقد لاحظنا أن المكتب الملحق بجامع الباشا الحاج حسين ميزمورطو قد خصص للمذهب الحنفي. وكانت المدرسة التابعة لجامع البطحاء مخصصة لتعليم الشبان العثمانيين، وكذلك الحال بالنسبة للمدرسة الملحقة بجامع باب الجزيرة، فقد كانت هي أيضا مخصصة لتعليم الشبان العثمانيين وتتبع سبل الخيرات الحنفية. غير أن معظم مؤسسات التعليم الابتدائي كانت من النوع العام. ذلك أن هدفها الأول، كما قلنا، هو تحفيظ القرآن الكريم وتعليم مبادئ القراءة والكتابة وأوليات العلوم لأطفال المسلمين الذين تتراوح أعمارهم بين السادسة والرابع عشرة سنة (¬2). والمكتب عموما كان غير صحي. فالمكان، سواء كان دكانا سابقا أو جزءا من منزل أو قطعة من مسجد كان ضيقا ومعتما وقليل التهوية. وغالبا ما كان الأطفال يحشرون فيه حشرا بدون مراعاة للقواعد الصحية. وحتى ¬

_ (¬1) ديفوكس (المجلة الإفريقية)، 1867, 457. (¬2) عن نوع ومنهج التعليم الابتدائي انظر الفصل التالي.

الكتاتيب الملحقة بالزوايا لم تكن أحسن حالا من الكتاتيب المنتشرة في أحياء وأزقة القصبة. وكانت الحصر هي فراش هذه الكتاتيب الرطبة. وقد توقد النار للتدفئة بدون انتظام، فإذا المكتب أسود من جراء ذلك. وقليل من العناية كان يعطى لمياه الشرب والحمامات. حقا إن المؤرخين يتحدثون عن نظافة المدن الجزائرية خلال العهد العثماني. ولكن النظافة هنا نسبية. فالكتاتيب لم تكن قذرة ولكنها على العموم لم تكن صحية. وعلى كل حال فإن نظافة المكتب وتهوئته وموقعه تتوقف على وفرة أوقافه وعلى ذوق بناته. وهذه ناحية ما تزال غير مدروسة. ومع ذلك فإن وظيفة المدرسة الابتدائية كانت هامة، فهي تثقف وتربي الأطفال على قواعد الإسلام وعلى نمط اجتماعي محدد، وهي تقوم بتحفيظ القرآن الكريم الذي هو أساس الثقافة الإسلامية. وهي تعلم الأطفال مبادئ العلوم والقراءة والكتابة فيحفظون لسانهم من العجمة ويتوحدون في التفاهم والتخاطب حيثما كانوا، وهي أيضا تساهم في إعطاء الطفل رصيدا من المعارف التي تساعده على شق طريقه في المجتمع بعد خروجه منها، عندما يبلغ عادة الرابع عشرة سنة. وإلى جانب ذلك كانت المدرسة الابدائية تعد شعبا متعلما محصنا لا يوجد فيه إلا عدد قليل من الأميين. حقا إن المدرسة لم ترق بالتعليم ولم تساير العصر والحاجة الاجتماعية، كما سنرى، ولكنها كانت على كل حال تؤدي وظيفة أساسية في المجتمع، خصوصا رفع الأمية. 2 - وقد عرفنا أثناء حديثنا عن الجوامع والزوايا اختلاط وظيفة المدرسة والزاوية والجامع في ميدان التعليم. فقد كانت بعض المساجد والزوايا تؤدي وظيفة المدرسة في نشر التعليم بجميع أنواعه، وخاصة الثانوي. وكانت بعض الزوايا عبارة على مدارس، كما كانت مساكن للطلبة الذين يدرسون. وكانت بعض المدارس ملحقة بالزوايا وأخرى ملحقة بالمساجد. وكثيرا ما ينص الوقف على تأسيس زاوية وجامع ومدرسة في نفس الوقت. لذلك فإنه من الصعب تمييز الوظائف التي تؤديها هذه

المؤسسات مجتمعة في مجتمع يقوم فيه التعليم قبل كل شيء على الدين. وتلعب فيه المساجد والزوايا (وليس المدارس) الدور الرئيسي. لذلك لم تكن للجزائر العثمانية مدرسة مستقلة للتعليم المحض بالمعنى الذي نفهمه اليوم، وحتى بعض المدارس التي وجدت على نحو يقرب من ذلك كانت تعود إلى القرن الثاني عشر (18 م)، باستثناء بعض مدارس تلمسان التي تعود إلى العهد الزياني، كما لاحظنا، وكذلك مدرسة مازونة التي تأسست أواخر القرن العاشر. بل إن مدارس تلمسان قد تدهورت خلال العهد العثماني وأصابها ما أصاب المدارس التي تحدث عنها الورتلاني من الاستيلاء على الأوقاف وعدم مراعاة قواعد الشرع فيها. ومن الخمس مدارس التي تحدث عنها الحسن الوزان لم يبق إلا اثنتان استولى الولاة على أوقافهما. وقد أدى ذلك بالطبع إلى إضعاف وظيفة المدرستين اللتين ظلتا تنتظران عهد الباي محمد الكبير لكي يجددهما ويعيد إليهما أوقافهما، كما جاء على لسان كاتبه ابن سحنون. فقد تتبع هذا الباي أوقاف المدرستين التي (استولت عليهما الأيدي ونسي الناس أنها أحباس لهما) (¬1). وقد عرف أبو راس الناصر المدرسة التي نحن بصددها، مدرسة التعليم الثانوي؛ والعالي، بأنها هي التي: (تبنى لدراسة العلم، أي تعليمه وتعلمه). فمن الواضح من كلامه أنها ليست المدرسة الزاوية أو المدرسة - المسجد بل هي المدرسة المتخصصة للتعليم وحده أي (دراسة العلم) في مستواه الثانوي والعالي. وفي هذا السياق ذكر أبو راس بأنه كان في مدينة الجزائر على عهده (مدارس) كبيرة. وقد مثل لها بالمدرسة القشاشية، كما مثل لها في معسكر بالمدرسة المحمدية. وعندما وصل إلى وهران قال ان المدارس بالمعنى الذي قصده قد (درسها الكفرة (أي الإسبان) وعفوا رسمها) فلم يبق في رأيه ¬

_ (¬1) ابن سحنون (الثغر الجماني) مخطوط، ورقة 12. وكان الشيخ محمد الزجاي هو الذي كتب إلى الباي في شأن إعادة أوقاف مدرستي تلمسان فأجابه لذلك، انظر (إتمام الوطر) مخطوط باريس.

من موضع في وهران لدراسة العلم سوى المساجد (¬1). والمدرسة المحمدية التي أشار إليها أبو راس هي التي أسسها الباي محمد الكبير فاتح وهران والتي تحمل اسمه. ورغم اهتمام الباي بالجامع الأعظم الذي بناه في معسكر فإنه قد أسس المدرسة إلى جانبه لأن فكرة المدرسة المستقلة عن الجامع لم تكن تدور في خلد هذا الباي. فبناؤها على النحو المذكور إذن كان يتماشى مع تقاليد العهد المدروس، بل مع تقاليد التعليم الإسلامي عموما. ويبدو أن المدرسة كانت في درجة ثانية بالنسبة للجامع. فالأوقاف تنص على نفقة المدرسين في الجامع وليس في المدرسة. ورغم قول مادح الباي ومؤلف سيرته ابن سحنون بأن المدرسة (كاد العلم أن ينفجر من جوانبها) (¬2) فإن الزمن لم يرحمهما. فقد انتقلت العاصمة من معسكر إلى وهران، ومع انتقال السلطة انتقل المدرسون والاهتمام بالمدرسة أيضا. وتوفي الباي محمد الكبير أيضا بعد ذلك بقليل. لذلك لم نعرف أن المدرسة المحمدية قد أخرجت جيلا من العلماء أو حتى بعض المشاهير منهم. ويذكر الشيخ البوعبدلي أن الباي قد عين لها مدرسين هم: محمد بوجلال (أو الجلالي) والطاهر بن حوا، ومحمد المصطفى بن زرفة الدحاوي (¬3). والمدرسة القشاشية التي أشار إليها أبو راس منسوبة إلى جامع القشاش الذي قلنا إن الباحثين يرجحون أنه يعود إلى العهد السابق للعثمانيين، ولكننا لا ندري ما إذا كانت المدرسة نفسها قد أنشئت مع الجامع أو أن إنشاءها يعود إلى العهد العثماني. فنحن لا نملك عنها، لسوء الحظ، سوى معلومات ضئيلة رغم أهميتها في نشر التعليم، ولا سيما ذلك الذي نصفه بالتعليم ¬

_ (¬1) أبو راس (عجائب الأسفار) مخطوط. ورقة 78. (¬2) ابن سحنون (الثغر الجماني)، مخطوط ورقة 10. (¬3) البوعبدلي مقدمة (الثغر الجماني)، 61. وكذلك أحمد توفيق المدني (محمد عثمان باشا)، 59. وبوجلال وابن حوا وابن زرفة كلهم اشتركوا في (جيش الطلبة) الذي كونه الباي لفتح وهران. وكان رئيس الطلبة هو الشيخ بوجلال. وكان ابن زرفة من كتاب الباي وقضاته أيضا. وسنتعرض لآثاره في الجزء الثاني.

العالي. والظاهر أن المدرسة متصلة بالزاوية (التي تحمل من الاسم) التي يبدو أنها أحدثت بعد الجامع. ذلك أن أوقاف الجامع وأوقاف الزاوية ليست واحدة، كما أن الوكيل ليس واحدا. وأقدم وثيقة تتحدث عن زاوية (مدرسة) القشاش تعود إلى سنة 1162. وقد جاء في وقفية لهذه الزاوية - المدرسة أن لها أستاذا مكلفا بتدريس الشريعة الإسلامية والتوحيد، بالإضافة إلى عشرة أساتذة لتدريس مختلف العلوم الأخرى. وهكذا استمرت مدرسة القشاش في تغذية التعليم الثانوي والعالي في مدينة الجزائر. ومع ذلك فإن الفرنسيين قد حولوها بمجرد احتلالهم (سنة 1247 - 1831) إلى مخازن للجيش (¬1). وبالإضافة إلى المدرسة القشاشية كان في العاصمة مدرستان أخريان وصفتا أيضا بأنهما في مستوى عال، وهما مدرسة الأندلسيين ومدرسة شيخ البلاد. ويبدو أن أصل المدرستين زاوية أيضا. فقد جعل الأندلسيون من الزاوية التي أسسوها، كما سبق، (مدرسة عليا) لتعليم علوم القرآن ودراسة مختلف العلوم الأخرى. وكان الوقف يغطي حاجة المدرسة. وهو الوقف الذي قلنا إنه كان تحت إشراف لجنة من أعيانهم. ومن المتوقع أن التعليم في هذه المدرسة كان على مستوى راق لأن الأندلسيين قد عرفوا بإجادة فن التدريس وحسن التربية ومراعاة التطور العقلي للتلاميذ. وتذكر الوثائق أن الفرنسيين قد قضوا على هذه المدرسة أيضا (¬2). ولا شك أنها كانت من بين المدارس التي تحدث عنها أبو راس بعد زيارته لمدينة الجزائر. أما مدرسة شيخ البلاد فقد ورد ذكرها أيضا أثناء الحديث عن الزاوية التي تحمل نفس الاسم. والظاهر أن عبارة (شيخ البلاد) هنا تشير إلى اسم الحي الذي تقع فيه المدرسة وليس إلى اسم المؤسس لها. ذلك أن مؤسسها هو الحاج محمد خوجة، أحد كتاب قصر الباشا في أواخر القرن الثاني عشر ¬

_ (¬1) بعض المعلومات عنها أيضا في ديفوكس (المجلة الإفريقية)، 1866، 53. (¬2) نفس المصدر، 1868، 270.

(18 م)، كما سبق. وكان الحاج محمد خوجة يملك كثيرا من العقارات فقرر وقفها على بناء (مدرسة عليا) تحتوي على خمس غرف لسكنى الطلبة ورجال العلم، وعلى مسجد للصلوات الخمس يؤديها الطلبة والعلماء وبقية المسلمين، وعلى مطهرة للطلبة وغيرهم، وعلى بئر للشرب والتطهر. وقد نصت الوقفية على تخصيص مبالغ مالية لأستاذ المدرسة والطلبة المقيمين فيها واشترط في الأستاذ أن يكون ماهرا في العلوم النظرية والعملية (أو المعقولة والمنقولة) والأدب والمنطق. وإذا لم يوجد من تتوفر فيه كل هذه العلوم (وقلما تتوفر طبعا) فأستاذ يحسن بعضها. وما دامت هذه المدرسة قد تأسست في أواخر العهد العثماني فلا نتوقع أنها قد لعبت دورا هاما في نشر التعليم، رغم أن تعليمها كان في مستوى الثانوي والعالي (¬1). ويكاد الجامع الكبير بالعاصمة ومدرسته العليا يشكلان نواة لجامعة في الجزائر. ففي الجامع كانت الدروس كثيرة يقوم بها أبرز العلماء، وكانت حلقات الدروس فيه تصل إلى الاثني عشرة حلقة. وقد ذكرنا من أشهر مدرسيه سعيد قدورة وعلي الأنصاري وأحمد بن عمار ومحمد قدورة وعلي بن الأمين ومحمد بن الشاهد. كما كان ضيوف العلماء المسلمين يلقون فيه الدروس ويتتلمذون فيه على علماء الجزائر. وكانت للجامع الكبير أوقاف ضخمة تمكن بها المفتي سعيد قدورة من إنشاء مدرسة عليا أيضا تابعة للجامع وكذلك زاوية لسكنى الطلبة وغرباء العلماء. وقد كلف هذا المشروع خمسة عشر ألف دينار جزائري بعملة ذلك الوقت، وكلها قد دفعت من أوقاف الجامع. وكان عدد الأساتذة الذين يلقون الدروس بالجامع والمدرسة تسعة عشر أستاذا، بالإضافة إلى عدد من المسمعين (أو المساعدين) ونحوهم. وهذا بدون الأساتذة الذين يقرأون صحيح البخاري (¬2). ورغم ¬

_ (¬1) نفس المصدر، 282. (¬2) عن قراء صحيح البخاري من العلماء وطريقتهم في عهد ابن حمادوش انظر رحلته (لسان المقال) مخطوطة، وكذلك دراستي عنه في كتاب (أبحاث وآراء في تاريخ الجزائر). و (شرح الحلفاوي) للجامعي، مخطوط باريس رقم 5113.

القيمة العلمية للمدرسة والزاوية فإن سلطات الاحتلال الفرنسي قد أعطتهما سنة 1249 (1833) إلى أحد الأوروبيين فحولهما إلى حمام فرنسي (¬1). وقد كانت قسنطينة من أكثر المدن عناية بالمؤسسات العلمية وذلك لاستقرارها السياسي نسبيا ولقربها من تونس. ونود أن ننوه هنا بالمدرسة الكتانية التي أنشأها صالح باي والتي خصص لها أوقافا كبيرة شملت الأساتذة والطلبة. فقد كان المدرس بها يأخذ ثلاثين ريالا والطاب الداخلي يأخذ ستة ريالات (وعددهم ثمانية طلاب). وكان لهذه المدرسة، التي تنشر تعليما في مستوى الثانوي والعالي، نظام داخلي دقيق يضبط أوقات التدريس والتغيبات وعدد أحزاب القرآن المتلوة كل يوم، وشروط الإقامة في المدرسة. وقد أشاد بعضهم بهذه المدرسة ونظامها حتى قارنها بمدارس فرنسا العليا المعاصرة له (¬2). وقدر لهذه المدرسة أن تلعب دورا في الحياة الثقافية في الجزائر حتى في العهد الفرنسي (¬3). وهي ما تزال قائمة إلى اليوم. ومن أشهر المدارس في غير العواصم مدرسة الخنقة ومدرسة مازونة. وتنسب مدرسة الخنقة إلى مؤسمها (سنة 1171) أحمد بن ناصر، لذلك تسمى بالناصرية. وقد اشتهرت بعلوم النحو والفقه والحديث. وكانت مقصد طلبة الزيبان ووادي سوف والأوراس وحتى قسنطينة وعنابة. وقد ترك لنا الورتلاني وصفا لهذه المدرسة والعلوم التي اشتهرت بها ومناقشاته مع علمائه (¬4). ومن خريجي مدرسة الخنقة أحمد التليلي وخليفة بن حسن ¬

_ (¬1) ديفوكس (المجلة الإفريقية)، 1866، 381، وكذلك سنة 1867، 49. (¬2) نقل ذلك أحمد توفيق المدني (محمد عثمان باشا) 153، عن فايسات. (¬3) انظر كتابي (محمد الشاذلي القسنطيني)، الجزائر، 1974 ط 2، 1985. (¬4) الورتلاني (الرحلة) 117. انظر عنها أيضا (نشرة أكاديمية هيبون) 1885، 43. ومؤسسها هو أحمد بن ناصر بن محمد بن الطيب. وهو الذي بنى المدرسة والجامع والقبة والدمس من ماله الذي قدر بـ 8112 سلطاني ذهبا. والظاهر أن ذلك كان تجديدا فقط لأننا عرفنا أن هذه المؤسسة تعود إلى سنة 1147 على الأقل. انظر أيضا مقالتي (زيارة لختفة سيدي ناجي) في مجلة (سيرتا)، مايو، 1980، 113.

المكتبات

القماري اللذان سنتعرض لهما. أما مدرسة مازونة فقد كانت على درجة كبيرة من الأهمية في النواحي الغربية من البلاد، وكان لها نظام راسخ وتقاليد متينة استمدتها من صلتها بالتعليم في تلمسان والأندلس والمغرب الأقصى. وهي أيضا من أقدم المدارس التي أسست في العهد العثماني. وقد اشتهرت بالخصوص في الفقه والحديث وعلم الكلام. واستمرت المدرسة تشع بالمعرفة حتى بعد انتقال العاصمة الإقليمية من مازونة إلى معسكر ثم إلى وهران. وكانت مقصد طلاب النواحي الغربية، ولا سيما ندرومة ومستغانم وتنس وتلمسان ووهران. ومن أبرز خريجيها أبو راس الناصر الذي تحدث عن شيوخه فيها في رحلته (فتح الإله) (¬1). المكتبات إذا حكمنا على النشاط الثقافي لأي بلد من كثرة الكتب والمكتبات التي فيه فإن الجزائر خلال العهد العثماني كانت في طليعة البلدان الكثيرة الكتب والمكتبات. وقد شهد على وفرة المكتبات فيها حتى خصوم العثمانيين، كالفرنسيين، الذين حكموا بأن العثمانيين لم يقدموا أي عمل لتنشيط الحياة الروحية والفكرية في الجزائر. وكانت الكتب في الجزائر تنتج محليا عن طريق التأليف والنسخ أو تجلب من الخارج ولا سيما من الأندلس ومصر وإسطانبول والحجاز. وكان هناك رصيد كبير من المكتبات قبل مجيء العثمانيين. فقد كانت تلمسان، كما سبق، عاصمة علمية مزدهرة بلغت فيها صناعة الكتاب، تأليفا ونسخا وجمعا، درجة عالية. وكذلك كانت بجاية وقسنطينة، بل إن إحدى الزوايا في مدينة وهران خلال القرن التاسع (15 م) كانت تضم مجموعة من الكتب العلمية والآلات الجهادية، أي أنها كانت ¬

_ (¬1) أبو راس (فتح الإله ومنته في التحدث بفضل ربي ونعمته) مخطوطة، الخزانة العامة بالرباط رقم 2263، 2332 وهي الآن مطبوعة. وقد وصف المستشرق الفرنسي جاك بيرك مدرسة مازونة في (أنال) 1972، اعتمادا على معلومات استقاها من الشيخ المهدي البوعبدلي.

تضم مكتبة ومتحفا في نفس الوقت. فقد روى ابن صعد في (النجم الثاقب) أن زاوية إبراهيم التازي بوهران كانت تحتوي على (الخزائن المملوءة بالكتب العلمية وآلات الجهاد) (¬1). 1 - ومع ضغط الإسبان على أهل الأندلس كثرت هجرة الكتب إلى الجزائر مع هجرة أهلها. فقد روى التمغروطي في أواخر القرن العاشر (16 م) أن مدينة الجزائر كانت كثيرة الكتب وأنه لا يضاهيها بلد في ذلك من بلدان إفريقية، ولا سيما كتب الأندلس. وهذه هي عبارته (والكتب فيها (مدينة الجزائر) أوجد من غيرها من بلاد إفريقية، وتوجد فيها كتب الأندلس كثيرا) (¬2). وتشهد عبارات الباحثين الفرنسيين الذين شاهدوا وجمعوا المخطوطات من مكتبات المدن الجزائرية غداة الاحتلال أنهم كانوا مندهشين من كثرة الكتب التي وجدوها ومن تنوعها ومن جمالها والعناية بها. فقد اعترف بذلك البارون ديسلان الذي كتب تقريرا عن المكتبات بقسنطينة عقب احتلالها مباشرة، وكذلك أدريان بيربروجر الذي رافق الحملة الفرنسية على قسنطينة وتلمسان ومعسكر، وجمع المخطوطات من هذه المدن. وقد ذكر أيضا شارل فيرو الذي كتب عن المؤمسات الدينية في قسنطينة وعن العائلات الكبيرة بها، إن بعض هذه المؤمسات والعائلات كانت تحتفظ بمخازن من المخطوطات في حالة جيدة، وأن في هذه المخطوطات نوادر تعتبر فذة في موضوعها. وضرب على ذلك مثلا بمكتبة شيخ الإسلام بقسنطينة (عائلة الفكون) التي قال عنها إنها كانت غنية لا بالكتب الخاصة بالجزائر فقط، بل ¬

_ (¬1) ابن صعد (النجم الثاقب)، مخطوط، 20. كان أصحاب الكتب والعلماء يخشون على تلف كتبهم من الغارات الأجنبية فكانوا أول ما يفكرون فيه إذا وقعت غارة أو توقعوها هو تهريب الكتب إلى أماكن أخرى. انظر بهذا الصدد رسالة الثعالبي في الجهاد في كتابي (أبحاث وآراء في تاريخ الجزائر) فقد استنصحه أحد تلاميذه في زواوة بتهريب كتبه فنصحه الثعالبي بذلك. (¬2) التمغروطي (النفحة المسكية)، 139.

حتى بالكتب المتعلقة بالبلاد الإسلامية المجاورة (¬1). وكان يريد بذلك أن يبرهن على وجود الكتب بالجزائر وتذوق الفنون والعلوم من قبل أهلها، رغم عدم عناية العثمانيين بالثقافة. وكانت مصادر الكتب متنوعة. فبالإضافة إلى الأندلس التي أشرنا إليها والتي كانت تغذي المكتبات الجزائرية الخاصة والعامة، هناك البلدان الإسلامية الأخرى. فقد روى العياشي في القرن الحادي عشر (17 م) أنه شاهد بتكورارن (؟) بأعماق الصحراء مكتبة غنية يملكها الشيخ محمد بن إسماعيل وكانت تبلغ ألفا وخمسمائة كتاب. ويهمنا من قصة هذه المكتبة هنا أن العياشي قال (وهي كتب نفيسة جدا اقتنى ابن إسماعيل أكثرها لما كان بمدينة إسطانبول) (¬2). وكان الشيخ محمد بن إسماعيل قد درس بالأزهر وجاور بمكة والمدينة وزار اليمن والسودان والعراق والمغرب الأقصى وتونس وطرابلس وإسطانبول. وسنعود إلى الحديث عن مكتبته بعد قليل. وكانت الكتب تنتقل مع الحجاج والعلماء إلى الأماكن البعيدة. فقد روى العياشي أيضا أنه شاهد وهو في قرية يقال لها (والي؟) بالقرب من ورقلة في روضة أحد الصالحين هناك نسخة من (نوازل البرزلي) بخط الإمام ابن مرزوق وعليها إضافات بخط مشرقي لأتباع الطريقة القادرية (¬3). وإذا كان العياشي قد تعجب من وصول هذا الكتاب إلى هذه القرية النائية فإن عجبنا نحن يكون أكثر من عجبه لا من وصول المخطوطات إلى تلك النواحي القاصية ولكن من تسرب الأفكار والمذاهب والطرق الصوفية أيضا إلى هناك. وكانت الكتب تصل إلى الجزائر من مصر والحجاز أيضا. فقد روى المؤرخ الجبرتي أن والده قد ذكر له أنه ورد عليهم في مصر سنة 1196 بعض الحجاج الجزائريين وسألوه عن كتب يشترونها، ومن بينها (زيج الراصد) ¬

_ (¬1) فيرو (كتاب العدواني) في مجلة (روكاي) 1868. (¬2) العياشي (الرحلة) 1/ 41. (¬3) نفس المصدر، 40.

للسمرقندي الذي كانت لديه (والد الجبرتي) نسخة منه. وحاول الحاج الجزائري إغراء الشيخ الجبرتي بشراء نسخته منه، ولكن الجبرتي أبى أن يسمح في نسخته العزيزة عليه. وبعد أن أدى الرجل الجزائري فريضة الحج عاد إلى مصر وحضر لدى الشيخ الجبرتي ومعه رزمة كبيرة من الكتب من بينها نسخة من الزيج المذكور، وقال للجبرتي، وهو يطلعه على النسخة التي اشتراها بالحرمين (أيهما أحسن، نسختك التي ضننت بها أو هذه؟ وكنت لم أرها قبل ذلك، فرأيتها شقيقتها وتزيد عنها في الحسن صغر حجمها وكثرة التقييدات بهامشها) وقد أخبر الحاج الجزائري الشيخ الجبرتي بأنه اشترى نسخة الزيج بعشرين ريالا فقط من كتاب المجسطي وكتاب التبصرة وشرح التذكرة ونسخة البارع وزيج ابن الشاطر (وغير ذلك من الكتب التي لا توجد في خزائن الملوك، وكلها بمثل ذلك الثمن البخس، فقضيت أسفا، فأخذ الجميع، مع ما أخذ، وذهب إلى بلاده) (¬1). ورغم أن والد الجبرتي لم يكشف عن اسم هذا الجزائري فإنه يبدو انه كان من العائلات الغنية لأن نفس المصدر تحدث عن خادم معه، كما يبدو أنه كان من العلماء والرياضيين خاصة، وليس من الفقهاء، لأن معظم الكتب المذكورة كتب علمية، ثم إن دخول هذه الكتب إلى الجزائر في أواخر القرن الثاني عشر موضوع يؤكد عناية الجزائريين بالكتب والاستفادة منها. وقد صدق الجبرتي حين قال إن مثل هذه الكتب لا توجد حتى في (خزائن الملوك) لأنها كتب نادرة حقا. ونحب أن نلاحظ أن هذا الحاج الجزائري لم يكتف بما اشتراه من الحجاز بل اشترى كتبا أخرى أيضا من مصر. وهذا ما تشير إليه عبارة الجبرتي (فأخذ الجميع مع ما أخذ) وسنعرف أن من مشاهير الجزائريين الذين حجوا وكانوا بمصر حوالي ذلك التاريخ هم أحمد بن عمار وعبد الرزاق بن حمادوش الذي اشتهر بالطب والرياضيات. ¬

_ (¬1) (عجائب الآثار) 2/ 74.

وكانت تركيا والمغرب أيضا من البلدان التي اقتنى منها الجزائريون المخطوطات. فقد ذكر الكاتب الفرنسي لالوي أن المخطوطات التي جمعها بير بروجر من قسنطينة كانت جميلة كثيرا في الشكل والتجليد، وأنها كانت واردة من مصر وتركيا (¬1). ومن جهة أخرى ذكر ابن حمادوش في رحلته إلى المغرب أنه قد اشترى ونسخ مجموعة من الكتب هناك مع ذكر أثمانها وأسمائه (¬2). وهناك كتب وردت مع العثمانيين أنفسهم إلى الجزائر. فالدراويش الذين كانوا يرافقون الجنود أحيانا وكذلك القضاة الذين كانوا يعينون من إسطانبول في بادئ الأمر، كانوا يصطحبون معهم مكتباتهم الخاصة أو على الأقل بعضها. كما أن طائفة من علماء آل عثمان قد زاروا الجزائر، كما سنرى، وحملوا معهم أوراقهم ووثائقهم من إجازات ورسائل وتآليف. وأهم ما جاء الجزائر عن طريق العثمانيين هي كتب الفقه الحنفي ونسخ كثيرة من صحيح البخاري ومختصراته، كمختصر ابن أبي جمرة وكتب الأدعية والأذكار الصادرة عن الطرق الصوفية المزدهرة عندئذ في إسطانبول والمشرق كالبكداشية والمولوية والقادرية. ونفس الشيء يقال عن كتب المغرب الأقصى التي كان يحملها علماء الجزائر الذين درسوا هناك وعلماء المغرب الذين زاروا الجزائر وأقاموا فيها (¬3). 2 - وتختلف طرق اقتناء الكتب ومنها الاستنساخ والنسخ. ذلك أن الحريصين على جمع الكتب كانوا ينسخون الكتب بأنفسهم أو يستنسخون غيرهم، مثل تلاميذهم إذا كانوا أساتذة أو كتابهم إذا كانوا أمراء ومسؤولين. وكان بعضهم يستنسخ الأصدقاء وحتى المؤلفين أنفسهم. وقد شاعت حركة النسخ والاستنساخ في الجزائر حتى أنه كان لها اختصاصيون مشهورون. ومن شروطها جودة الخط وحسن اختيار الورق واتقان صناعة الوراقة والسرعة ¬

_ (¬1) لالوي (المجلة الأفريقية)، 1925، 107. (¬2) ابن حمادوش (الرحلة)، مخطوط. (¬3) انظر الفصل الخامس من هذا الكتاب فقرة هجرة العلماء وعلماء المسلمين في الجزائر.

والمهارة في التوثيق والدقة في العمل وصحة النظر. وقد اشتهرت قسنطينة ببعض النساخ والخطاطين حتى قارنهم بعض الكتاب بابن مقلة في حسن الخط. ومن هؤلاء أبو عبد الله بن العطار الذي كان من أسرة شهيرة تولت الوظائف الرسمية في العهد العثماني. وقد عرف العطار بجودة الخط وربما اشتهر به على ابن مقلة. وكان يقصده الخاص والعام في الوثائق والعقود (¬1). وكذلك اشتهر الشيخ إبراهيم الحركاتي. فقد كان مدرسا بالمهنة، ولكنه اشتهر أيضا بالنساخة وحسن الخط حتى أصبح مشهودا له بذلك (¬2). واشتهر محمد الزجاي بالنساخة حتى أصبح له فيها مهارة وطاقة كبيرة. ومن مهارته أنه كان (يكتب ويحدث الجالس بدون كلل ولا زلة قلم) (¬3). ولا شك أن الزجاي، الذي سنتحدث عنه في مكان آخر، كان ينسخ الكتب لنفسه. وذكر الورتلاني أن أحمد التليلي كان بديع الخط سريع اليد، وأنه كان ينسخ كراسا من القالب الكبير أثناء السفر. أما يوم الإقامة فكان ينسخ أكثر من ذلك. وأخبر عنه أنه كتب في برقة رحلة الدرعى وكتاب الصباغ عن الملياني (¬4)، وجميع ذلك حوالي ستين كراسة. وكان التليلي من علماء الظاهر والباطن. وقد رافق الورتلاني في حجته الأولى سنة 1153 (¬5). وكان النسخ يتم بالخط الأندلسي الذي قال عنه ابن خلدون إنه قد تغلب على الخطوط الأخرى في المغرب العربي، وهو المعروف اليوم بالخط المغربي. وبالإضافة إلى ذلك جاء مع العثمانيين الخط المعروف ¬

_ (¬1) عبد الكريم الفكوون (منشور الهداية) مخطوط. (¬2) نفس المصدر. (¬3) (إتمام الوطر) مخطوط باريس. (¬4) يقصد به (بستان الأزهار) الذي سنتحدث عنه. وهو من الحجم الكبير. (¬5) الورتلاني (الرحلة)، 119. وأحمد التليلي هو أحد أجداد الشيخ محمد الطاهر بن بلقاسم التليلي، عالم بلدة قمار اليوم. وقد رأيت لحفيده، قاسم التليلي، عدة تقاييد بخطه وتوقيعه. وهي في مكتبة السيد الصادق قطايم بقمار، كما أن حفيده الشيخ محمد الطاهر المذكور نسخ منها ما يتعلق بتاريخ قمار ورجالها.

(بالعثماني). وقد جاء ذلك مع أهل العلم الذين حلوا بالجزائر، كما جاء مع الخطاطين المختصين أيضا (¬1). فقد أخبر محمد خليل المرادي أن المسمى حسينا بن عبد الله الجزائري قد أسهم في إدخال الخط العثماني إلى الجزائر. وكان اسمه الحقيقي دولار، وهو رومي الأصل. وكان عبدا عند سيده الدرويش علي الكاتب القسطنطيني. وكان سيده مشهورا بالكتابة وحسن الخط. وبعد أن أخذ حسين الجزائري عن سيده الكتابة وحسن الخط فر هاربا منه إلى (جزائر الغرب (أي الجزائر) وسمى نفسه حسينا) واشتهر بالجزائري. ثم جاء إلى مصر ومات في القاهرة سنة 1125. ويهمنا من رواية المرادي قوله بعد ذلك أن حسينا الجزائري قد (اشتهرت خطوطه بين الناس وأخذ عنه الخط أناس كثيرون، وفاق أقرانه وشاع صيته .. له مهارة في صناعة التوريق (¬2). ورغم أن المرادي لا يذكر أين حل حسين الجزائري فإن المتوقع منه أن يكون قد حل بمدينة الجزائر. ولعله قد أقام في غيرها من المدن، كما أننا لا ندري المدة التي قضاها في الجزائر ولا التلاميذ الذين تخرجوا على يديه فيها. وتشير المصادر إلى أنه كان بالجزائر خلال العهد العثماني بعض المشتغلين بصناعة الكتب عموما من وراقة وتجليد ونسخ وخط ونحو ذلك. فقد جاء في (منشور الهداية) أن الطالب محمد النقاوسي كان سمسارا في الكتب في قسنطينة (¬3). وفي تلمسان اشتهر علي بن تجيرست بالاشتغال ¬

_ (¬1) من أشهر الخطاطين في مدينة الجزائر بكير حفيظ خوجة الذي كان أيضا يشغل وكالة ضريح سيدي يحيى. انظر كلاين (أوراق الجزائر)، 210. واشتهرت تلمسان بأسرة ابن صرمشق التي احترفت النقاشة. انظر فصل الفنون من الجزء الثاني. (¬2) محمد خليل المرادي (سلك الدرر) 2/ 55. انظر أيضا عنه محمد مرتضى الزبيدي (حكمة الإشراق إلى كتاب الآفاق) كما نشره عبد السلام هارون في (نوادر المخطوطات) مجموعة 5/ 94، القاهرة، 1973، ط 2. وبناء عليه فقد كتب حسين الجزائري ربعة شريفة في ثلاثين جزءا وعدة مصاحف، وعاش أيضا في مصر والشام وترك تلاميذ واصلوا مدرسته في الخط، ذكر منهم أربعة. (¬3) الفكون (منشور الهداية) مخطوط. 27.

بالوراقة، كما كان يسمع الحديث في الجامع الكبير هناك. وروى ابن حمادوش عن نفسه أنه كان يشتغل بالكتب بيعا وتجليدا ونسخا في مدينة الجزائر وأنه كان يملك دكانا لهذا الغرض قبالة الجامع الكبير. وكان في الجزائر سوق يدعى سوق الوراقين، ولعله هو سوق القيصرية الذي ذكر حمدان خوجة في (المرآة) أنه كان مخصصا لبيع الكتب وأن النساخين كانوا فيه بكثرة. ومن أشهر المسؤولين الذين شجعوا على حركة النسخ والاستنساخ الباي محمد الكبير. فقد شجع الطلبة وكتابه الخصوصيين على اختصار الكتب المطولة ونسخ بعض الكتب الأخرى له. وكان يجيز كل واحد منهم بسخاء حسب عمله وجهده. فقد أمر بعضهم بجمع فتاوي العلماء في جوائز الملوك في كرامة (¬1)، وجمع له بعضهم كلام شارح السلوانية في الباز (¬2)، وكلام صاحب التذكرة في أقل من كراسة. وقام مؤلف (الثغر الجماني) باختصار كتاب الأغاني في نحو ثمانين كراسة، وباختصار طب القاموس وزاد عليه من كلام الأطباء، وأمر الباي بعض كتابه أيضا، وهو محمد المصطفى بن زرفة، بتقييد حوادث الجهاد التي كانت تجري بين الجزائريين والأسبان (¬3). وكان الشراء من أهم طرق الحصول على الكتب. ولم يكن ذلك مقصورا على الأغنياء والأمراء ونحوهم بل كان يشمل حتى فقراء العلماء الذين كانوا يؤثرون الكتاب على ملء المعدة واللباس الفاخر والفراش الوثير. وقد كان الشيخ ابن إسماعيل قد اقتنى معظم كتبه، كما لاحظ العياشي، من إسطانبول. وكذلك كان الحاج الجزائري الذي تحدث عنه الجبرتي. فقد بذل النقود، سواء في الحجاز أو مصر لشراء الكتب الثمينة. وإذا كان الشيخ ابن ¬

_ (¬1) هو كتاب (الاكتفاء) لابن زرقة الذي سنتحدث عنه. (¬2) القصيدة السلوانية (روضة السلوان) لإبراهيم الفجيجي وشارحها هو أبو القاسم الفجيجي. انظر فصلي النثر والشعر من الجزء الثاني. (¬3) ابن سحنون (الثغر الجماني)، مخطوط باريس.

إسماعيل من أصحاب الثروة فإن ابن حمادوش كان، بدون شك، من فقراء العلماء. ومع ذلك قد بذل ماله لشراء الكتب من المغرب الأقصى، ونسخها بنفسه بعد أن استعارها من أصحابها، ولعله فعل نفس الشيء في رحلاته إلى المشرق أيضا. ونحن نجد أخبارا عن الكتاب وحركته وأخلاق العلماء حوله في كتاب الفكون (منشور الهداية). وقد جاء في وثائق الجامع الكبير بالعاصمة أن المفتي سعيد قدورة (الذي كان أيضا وكيلا لأوقاف الجامع) قد اشترى لمكتبة الجامع كتبا كثيرة من فائض الأوقاف (¬1). والظاهر أن ذلك كان من الأسواق المحلية. وذكر البطيوي صاحب (مطلب الفوز والفلاح) أن شيخه ابن مريم صاحب (البستان) قد مات على أكثر من ستمائة (600) كتاب. غير أن شراء الكتب لم يكن دائما للاستفادة منها علميا. فقد كانت بعض العائلات تفاخر بها مثيلاتها أحيانا، وكان أشباه العلماء يقتنونها للمباهاة والتشبه بأهل العلم. كما أن بعضهم كان يقتني الكتب للبركة والتعبد، ولا نعرف من تاريخ الجزائر الطويل أيام العثمانيين أن ولاتها كانوا يشترون الكتب أو يستنسخونها لإقامة مكتبات خاصة بهم (باستثناء الباي محمد الكبير) كما كان يفعل أمراء المسلمين في الماضي. ونحن لا نستغرب ذلك من ولاة لا يعرفون لغة البلاد ولا يتذوقون أدبها وفنها، بل كانوا في أغلبهم جهلة لا يعرفون حتى القراءة والكتابة. وكانت العناية بالكتب والتباهي والتقليد في اقتنائها قد شملت أيضا بعض القادة العرب من أهل الريف مثل ابن الصخري، شيخ العرب وقائد الذواودة والحنانشة. فقد ورد في أخبار هذا القائد أن أحدهم قد نسخ كتابا سنة 1019 (للخزانة العلمية، خزانة أميرنا ومولانا أبو (كذا) عبد الله محمد الصخري) (¬2) وتذكر بعض المصادر أيضا أن ¬

_ (¬1) نور الدين عبد القادر (صفحات من تاريخ مدينة الجزائر)، الجزائر 1964، 279. نقلا عن ابن المفتي. (¬2) البوعبدلي، مقدمة (الثغر الجماني)، 58. ومحمد بن الصخري هذا هو أخ أحمد بن الصخري زعيم الثورة التي تحدثنا عنها والتي جرت سنة 1047. انظر الفصل الثاني من هذا الجزء.

الثائر ابن الأحرش (وهو من المغرب الأقصى)، قد حمل معه خزانة كتب الشيخ محمد الزجاي، التي كانت بتلمسان، إلى معسكره في الجبل أيام ثورته ضد العثمانيين (¬1). وكان التأليف من الطرق الهامة لنمو المكتبات. وقد كانت حركة التأليف في العهد المدروس، رغم ما قيل فيه وعنه، حية ونشيطة. ولا نكاد نجد عالما إلا وله قائمة قصيرة أو طويلة من المؤلفات في مختلف العلوم المتداولة. وقد تمثل ذلك في الشروح والحواشي والتقاييد والتعاليق والرسائل والفهارس وفي التآليف ذات الأجزاء أيضا. ومن أشهر المؤلفين في هذه الفترة عبد الرحمن الأخضري وأحمد المقري وعبد الكريم الفكون وابن مريم وأحمد البوني وأبو راس وابن حمادوش وقدورة. وكان بعضهم قد ألف كتبه وهو في الجزائر وبعضهم ألفها وهو خارجها لمناسبة جو التأليف في المهجر أو لأسباب أخرى سنعرض لها عند حديثنا عن هجرة العلماء. فقد ألف المقري موسوعته عن تاريخ الأندلس (نفح الطيب) في مصر كما ألف (أزهار الرياض) في المغرب الأقصى. وألف يحيى الشاوي وعيسى الثعالبي وابن حمادوش معظم أعمالهم في الخارج أيضا. كما ألف ابن العنابي كتابه (السعي المحمود) في مصر. ومن جهة أخرى نذكر أن صالح باي، قد أوقف في قسنطينة عددا من الكتب على (المدرسة الكتانية) التي بناها، ولكنه لم يعرف عنه أنه كان يشجع حركة التأليف والنسخ، كما فعل زميله ومعاصره محمد الكبير، بل كان يشتري الكتب الموقوفة من أصحابها وما يزال بعضها يحمل ختمه إلى اليوم (¬2). وكان الحج والرحلة في طلب العلم وراء انتشار حركة التأليف والنسخ واقتناء الكتب. وكان حجاج المغرب الأقصى يتركون آثارهم في الجزائر ¬

_ (¬1) (إتمام الوطر) مخطوط باريس. (¬2) رأيت في مكتبة زاوية طولقة عددا من الكتب التي تحمل عبارات التحبيس وختم الباي المذكور.

ذاهبين وآيبين. فالعياشي تبادل الكتب والكراريس مع علماء الجزائر أثناء مروره بها في القرن الحادي عشر (17 م)، كما تبادل معهم ذلك وهم في الحجاز ومصر. ونذكر من هؤلاء العلماء عيسى الثعالبي وعبد الكريم الفكون. أما عبد الرحمن الجامعي فقد ورد على الجزائر بكتبه ومذكراته وأشعاره فشرح رجز المفتي الحلفاوي في فتح وهران الأول (¬1)، والتقى بعلماء الجزائر أمثال محمد بن ميمون، والمفتي الشاعر ابن علي، والعالم الزاهد أحمد بن ساسي البوني، والفقيه مصطفى الرماصي القلعي. وعندما ورد أحمد الورززي التطواني اجتمع عليه علماء مدينة الجزائر واستمعوا إلى دروسه. ولا شك أنه حمل إلى الجزائر كتبه وبعض كتب غيره أيضا. وقد ألف أبو القاسم الزياني شطرا من تاريخه الكبير أثناء إقامته بتلمسان وكانت معه مكتبته وأدواته في البحث، وألف محمد التواتي مجموعته (كتاب الخبر في معرفة عجائب البشر) الذي استقاه من مصادر الأدب والطرائف عندما كان في قسنطينة ونواحيه (¬2). ومن جهة أخرى كانت تونس معبرا ومدرسة للجزائريين. فهم يتصلون بعلمائها ويتبادلون معهم التآليف والإجازات ونحو ذلك. ومن هؤلاء أحمد بن عمار الذي حل بها سنة 1195 وألف كتابا في تاريخ علي باي وعلق على بعض أعمال تلميذه إبراهيم السيالة. ونذكر كذلك محمد بن محمود المعروف بابن العنابي الذي تبادل الكتب والشعر مع علماء تونس، وخصوصا ¬

_ (¬1) ما يزال هذا الشرح مخطوطا، وهو مليء بالأخبار عن الحياة الثقافية في الجزائر خلال القرن الثاني عشر للهجرة. (¬2) انتهى منه سنة 1024 وتوفي سنة 1031 بباجة بتونس هاربا من بعض ولاة قسنطينة، وهو أستاذ عبد الكريم الفكون القسنطيني صاحب (منشور الهداية). ولا ندري إن كان التواتي في قسنطينة أو خارجها عندما انتهى من كتابه. وكان التواتي قد ورد على قسنطينة من المغرب الأقصى ودرس القراءات في زواوة. ومن علماء المغرب أيضا علي الأنصاري، وابن زاكور وأحمد الغزال والدرعي وغيرهم. وقد ذكر محمد بن سليمان في (كعبة الطائفين)، 3/ 264 أن الشيخ عيسى البوسعدي الهنتاتي قد ورد عليهم من فاس واستفادوا منه كثيرا.

محمد بيرم، سنة 1245. وقد ذكر أحمد البوني شيوخه من التونسيين في إجازته التي سنعرض إليها. وأخبر أبو راس عن العلماء الذين لقيهم بتونس أثناء حجتيه، وكذلك فعل الورتلاني. كما ورد على الجزائر عدد من علماء تونس ومعهم مكتباتهم وتآليفهم ورسائلهم، ومن هؤلاء إبراهيم الغرياني وتاج العارفين وأحمد برناز ومحمد الشافعي وحمودة بن عبد العزيز وإبراهيم الرياحي. وقد أوحت مصر والحجاز وسورية والعراق وإسطانبول إلى عيسى الثعالبي وأحمد المقري ويحيى الشاوي بالتأليف. ولولا الرحلة في طلب العلم والحج لما نشطت همم هؤلاء العلماء للتأليف وتغذية المكتبات بإنتاجهم. 3 - ويمكن تقسيم المكتبات في الجزائر إلى عامة وخاصة. وما دمنا قد أشرنا إلى أن الولاة لم يشجعوا على التأليف ولا على جمع الكتب لأنفسهم، فإن ما يسمى أحيانا بالمكتبات السلطانية أو الأميرية لا وجود له تقريبا في الجزائر العثمانية. فالمقصود إذن بالمكتبات العامة هنا هو تلك المكتبات الملحقة بالمساجد والزوايا والمدارس، والتي كانت مفتوحة للطلبة خصوصا ثم لجميع القراء المسلمين. ولا نتوقع في ذلك العهد وجود مكتبة عمومية أو شعبية أو وطنية بالمعنى الذي نستعمله اليوم. لذلك فإن قول أحد الكتاب بأنه كان في تلمسان مكتبة عامة خلال القرن الحادي عشر (17 م) قول محير. ولعله كان يقصد بذلك إحدى المكتبات الملحقة بالمؤسسات المذكورة. فقد كانت الجوامع، وخصوصا جوامع الخطبة، تحتوي على خزائن الكتب الموقوفة على الطلبة والعلماء. وكانت الكتب بهذه الخزائن تقل أو تكثر تبعا لأهمية الوقف الذي تتغذى منه وتبعا لأهمية الجامع وأمانة الوكيل وضخامة عدد السكان في المدينة المعنية. ومن أشهر هذا النوع من المكتبات مكتبة الجامع الكبير بالعاصمة التي سنتحدث عنها بعد قليل، ومكتبة المدرسة الكتانية التي أسسها صالح باي بقسنطينة، ومكتبة المدرسة المحمدية التي أسسها الباي محمد الكبير في معسكر. ولا نعرف الآن أن إحدى الزوايا قد اشتهرت بمكتبتها شهرة مكتبة الجامع الكبير مثلا. غير أننا لا نشك في وجود ذلك. فقد سبقت

الإشارة إلى مكتبة زاوية الشيخ التازي بوهران، رغم أنها كانت قبل مجيء العثمانيين. كما أن صاحب كتاب (القول البسيط في أخبار تمنطيط) تحدث عن وجود كتب كثيرة في الزاوية البسكرية بتوات (¬1). وكانت زاوية القيطنة تحتوي على كتب كثيرة أيضا. وهي الكتب التي تثقف منها الأمير عبد القادر. ولا شك أن مدرسة مازونة وزاوية آقبو وزاوية الخنقة وغيرها كانت تضم مكتبات يطالع منها الطلبة والأساتذة. أما المكتبات الخاصة فكثيرة وليس من السهل حصرها. غير أن بعض العائلات قد اشتهرت، لطول عهدها بالنفوذ، بالمكتبات دون الأخرى. فعائلة الفكون بقسنطينة كانت لها مكتبة ضخمة أصبحت مضرب الأمثال بعد الاحتلال الفرنسي، وهي المكتبة المعروفة باسم حمودة الفكون الذي كان موجودا عند دخول الفرنسيين قسنطينة. وكان لأبي راس مكتبة كبيرة حبسها عليه أحد بايات وهران وسماها (بيت المذاهب الأربعة). وذكر الورتلاني أنه كان لوالده (خزانة (كتب) عظيمة بحيث لا توجد عند غيره) (¬2). وكنا قد أشرنا إلى خزانة كتب الزجاي التي قيل إنها (إحدى الخزائن الكبار التي تحتوي على أحمال من المجلدات والأسفار) (¬3). كما سبقت الإشارة إلى مكتبة شيخ العرب ابن الصخري الذي يظهر أنه كان يشجع على نسخ الكتب أيضا. وقد ذكر العياشي أن مكتبة الشيخ محمد بن إسماعيل بتكورارن كانت تحتوي على حوالي ألف وخمسمائة تأليف (¬4). ولما كانت السيادة في العهد العثماني للعلوم الدينية فإن محتوى المكتبات كان أغلبه لا يخرج عن هذه العلوم. فكثرتها كانت من كتب التفاسير والقراءات والأحاديث النبوية وشروحها وكتب الفقه والأصول ¬

_ (¬1) فرج محمود فرج، أطروحة عن إقليم توات، مخطوطة، كلية الآداب، جامعة الجزائر، 1980. وقد أعدها صاحبها تحت إشرافي وهي الآن مطبوعة. (¬2) الورتلاني (الرحلة) 284. (¬3) (إتمام الوطر) مخطوط باريس. (¬4) العياشي (الرحلة) 1/ 41.

والتوحيد ونحو ذلك. ولكن العلوم اللغوية والعقلية الأخرى كان لها أيضا حظ في هذه المكتبات. فقد اشتهرت مدارس النحو بزواوة وخنقة سيدي ناجي. ومع النحو يأتي الأدب واللغة والصرف والبلاغة والعروض. أما التاريخ والجغرافية والفلسفة والمنطق فقد كانت في درجة أقل من الذيوع. ولا شك أن كتب الحساب والفلك والطب وأمثالها كانت أقل من القليل، غير أن تآليف ابن حمادوش العلمية وقصة الحاج الجزائري التي أوردها الجبرتي ثم تقارير العلماء الفرنسيين إثر الاحتلال عن مكتبات الجزائر - كل ذلك يدل على أن هذه المكتبات كانت غنية بجميع أنواع المعارف المذكورة، رغم وفرة الكتب الدينية فيها (¬1). وكان وقف الكتب يتم بنفس الطريقة التي تتم بها الأوقاف الأخرى. فالواقف عادة ينص على أن الكتاب موقف في سبيل الله على طلبة الجامع أو الزاوية أو المدرسة التي يوجد فيها. كما ينص على منع إخراج الكتب من المؤسسة الموجود فيه (¬2). وكان الواقف أيضا يضع، بعد عبارات الوقف الشرعية، ختمه الذي يحمل تاريخ الوقف وخطه الشخصي. وقد وجد الباحثون في مكتبات قسنطينة عددا من الكتب عليها عبارات توقيف وختم صالح باي والقاضي الحنفي محمد العربي بن عيسى. وغالبا ما كان الوكيل يضع ختمه إلى جانب ختم الوقف. وقد عرفنا أيضا أن الباي محمد الكبير قد أوقف مكتبة على جامعه الأعظم .. ولكن وقف الكتب، بالقياس إلى الأوقاف الدينية والاجتماعية الأخرى، كان ضئيلا وكان يقوم في الغالب على وقف الكتاب المفرد، ويشترك في وقف الكتاب بعض العامة الذين يجهلون حتى محتواه، ولكنهم كانوا يشترونه ويوقفونه تقربا إلى الله، فالكتاب في نظرهم كان مجرد صدقة. وعلى هذا النحو كان كثير من الكتب الموقوفة لا يخرج عن الحديث والفقه والمصاحف وكتب الدعاء والصلوات. وقد وجدنا ¬

_ (¬1) سنذكر بعد قليل نماذج من محتوى بعض المكتبات. (¬2) نص في وقفية جامع الباي محمد الكبير على عدم إخراج الكتب من المسجد. انظر ليكليرك (المجلة الإفريقية)، 1859، 43.

في وقفية مسجد محمد بن يوسف السنوسي في تلمسان الكتب التالية (¬1): 1 - نسختان من صحيح البخاري. 2 - شرح الشبرخيتي على مختصر خليل فى أربعة أجزاء. 3 - شرح الخرشي على مختصر خليل أيضا، الجزء الأول منه. 4 - تنبيه الأنام في جزئين. 5 - نسخة من سيرة السنوسي للملالي (وهو المواهب القدسية في المناقب السنوسية). 6 - نسختان من الشيخ العروسي في سفرين (¬2). كما وجدنا أن السيدة فاطمة بنت ابن جبور قد أوقفت على مسجد الغريبة بتلمسان أيضا. 1 - نسخة من تأليف الجوزي. 2 - نسخة من تأليف السيوطي. وكلاهما في أحوال الآخرة (¬3). كما أن الباي محمد الكبير قد أوقف نسخة من صحيح مسلم وغيره من الكتب على مدرسة مازونة سنة 1212 (¬4). 4 - ولكن مصير المكتبات كان غير آمن. فقد ضاع أو تلف كثير منها بالحروب والأوبئة والنهب والتهريب والإهمال. فالحروب التي وقعت بين الجزائريين والأجانب، وبين الجزائريين والعثمانيين والحروب القبلية، ونحوها، قد أدت إلى بعثرة الكتب وسوء التصرف بالمكتبات. من ذلك مكتبة ابن الصخري التي أشرنا إليها والتي تلفت نتيجة حروب عائلته ضد الأتراك، ومكتبة الزجاي وغيره التي تبعثرت نتيجة حرب درقاوة وفتنة ابن ¬

_ (¬1) انظر هذه الوقفية في نصها العربي في بروسلار (المجلة الإفريقية) 1861، 323. (¬2) الظاهر أنه هو الشيخ بركات العروسي القسنطيني. انظر عنه الفصل الأول من هذا الكتاب. (¬3) بروسلار (المجلة الإفريقية) 1860، 169. (¬4) جاك بيرك (أنال) 27، 1972، 150.

الأحرش، وقد قال صاحب كتاب (إتمام الوطر) إن خصوم الشيخ الزجاي قد دفنوا كتبه في الثرى. كما عانت مكتبة الشيخ أبي راس أو بيت المذاهب الأربعة (¬1). ومكتبة أحمد بن سحنون وأوراقه (¬2). وعندما تعرضت مدينة الجزائر إلى القصف من أسطول إحدى الدول الأوروبية اضطر إلى نقل مكتبة الجامع الكبير إلى قلعة مولاي حسن، بعيدا عن القصف، وكان النقل يتم بواسطة الجمال لمدة ثلاثة أيام. وكانت الكتب تنقل في الغراير (¬3). ولا شك أن نقلها على ذلك النحو قد أضر بالكتب كما أنه أدى إلى تفريقها في الأيدي أيضا. وكان الإهمال والنهب والوباء من أقسى ما أصاب الكتب أيضا. فقد روي أن الحاج أحمد قدورة وكيل ومفتي الجامع الكبير بالعاصمة كان مهملا لمكتبة الجامع، مما سمح لبعض العلماء بأخذ الكتب منها إلى بيوتهم وبيع بعضها خارج الجزائر. وقد تحدث ابن المفتي الذي وصف طابع وحياة العلماء خلال القرنين الحادي عشر والثاني عشر (17 م و 18 م) أنهم وجدوا عند الشيخ محمد بن ميمون، بعد وفاته، أكثر من أربعين كتابا من مكتبة الجامع الكبير. كما أخبر أنهم وجدوا عند الشيخ الطاهر بن الماروني عددا من الكتب التي أخذها من هذه المكتبة. وعند وفاة ابن الماروني أخذ ابنه الكتب إلى تونس وباعها وقبض ثمنها هناك. كما أخذ الشيخ عبد القادر بن الشويهت وعبد الرحمن المرتضى وابنه وغيرهم كمية أخرى من مكتبة الجامع. وهكذا تفرقت مكتبة الجامع الكبير نتيجة الإهمال وضعف الضمير. ومع ذلك أخبر ابن المفتي أن هذه المكتبة كانت على عهده (سنة 1153) ¬

_ (¬1) وصف أبو راس ذلك في رحلته (فتح الإله). ولا شك أنه فصل القول أيضا في كتابه المفقود (درء الشقاوة في حروب درقاوة). (¬2) تحدث عن ذلك في كتابه المخطوط (الأزهار الشقيقة) الذي سنتحدث عنه في الجزء الثاني. (¬3) نور الدين عبد القادر (صفحات) 280، وكذلك ديفوكس (المجلة الإفريقية) 1866. 289. وكلاهما يروي عن ابن المفتي.

تحتوي على حوالي ثلاثمائة مجلد، وذلك بفضل محاولات بعض المفتين، أمثال محمد بن المبارك، صيانتها وتجديدها وتعويض المفقود منها. ومن جهة أخرى أخبر الورتلاني أن خزانة كتب والده التي قال عنها إنها كانت عظيمة وأن غيره لا يملك مثلها، قد ضاعت عند حدوث الوباء (¬1). وبالإضافة إلى ذلك كان بعض أصحاب المكتبات يوصون بحمل مكتباتهم، بعد وفاتهم، إلى خارج الجزائر، كالمدينة المنورة. فقد حكى العياشي أن الشيخ محمد بن إسماعيل المذكور سابقا قد أوصى أن تحمل مكتبته إلى الروضة النبوية مع جثمانه، وأوصى كذلك بثلاثمائة دينار إلى من يحمل الجثمان. ولكن المكتبة قد عانت في الطريق قبل أن تصل إلى المدينة. فقد حملت إلى القليعة (المنيعة) تهريبا لها من متولي بلدة تكورارن الذي كان ينوي أخذ المكتبة إليه، وظلت في القليعة سنوات إلى أن أخذها علي بن الشيخ الحفيان معه إلى الحج. وقد ضاع منها الكثير، كما يقول العياشي أيضا، في الطريق. فبعد أن كانت المكتبة تحتوي على ألف وخمسمائة مجلد لم يصل إلى المدينة المنورة إلا حوالي مائة وسبعين كتابا فقط. وهو العدد الذي رآه العياشي في المدينة (¬2). ولعل أقسى تجربة مرت بها المكتبات هي التي عرفتها من الاحتلال الفرنسي وما رافقه من حروب وما نتج عنه من تخريب ومن هجرة كبار العلماء والأغنياء إلى الخارج مع بعض كتبهم ووثائقهم. وقد روى الفرنسيون أنفسهم قصصا مثيرة عما وقع لمكتبات قسنطينة ومعسكر وتلمسان وغيرها. والذي يطلع على تقارير بيروبروجر وديسلان المعاصرين للاحتلال ثم كتابات شارل فيرو ولالوي وأضرابهما يصاب بالاندهاش والصدمة والأسف. كما أن الذي يعرف ما وقع لمكتبة الأمير عبد القادر أثناء حادثة الزمالة لا يستغرب ما وقع لمكتبة الشيخ حمودة الفكون وباش تارزي في قسنطينة، ثم ما وقع ¬

_ (¬1) الورتلاني (الرحلة)، 284. (¬2) العياشي (الرحلة) 1/ 40.

لمكتبات الجامع الكبير وغيره من المساجد في هذه المدينة وفي معسكر وتلمسان وبجاية والعاصمة وعنابة، ومكتبات الزوايا ثم المكتبات العائلية في مختلف أنحاء القطر. وقد نفي المفتي ابن العنابي، من العاصمة فحمل معه بعض كتبه إلى مصر، وهي لا تزال إلى الآن تحمل ختمه وخطه. كما هاجر الشيخ الصديق بن يحيى من نواحي قسنطينة إلى تونس ومعه (كل الوثائق التاريخية) (¬1). أما الكتب التي أرسلها الجنود الفرنسيون هدية إلى مكتباتهم المحلية في فرنسا فلا حصر لها (¬2). وبعد حوالي خمسين سنة من الاحتلال وجد السيد فانيان بقايا مكتبة الشيخ الفكون، التي كان يضرب بها المثل في الكثرة والتنوع والصيانة، تباع كما قال (بطريقة مؤسفة) وهي طريقة ميزان الورق القديم، وذلك حين اضطر بعض المدانين من العائلة إلى بيع كمية ضخمة من الكتب بثلاثين فرنكا فقط، أما الباقي فلا حديث عنه، كما يقول فانيان (¬3). ولكن الحديث عن مصير المكتبات بعد 1246 (1830 م) يعود إلى مرحلة أخرى من هذا الكتاب، أي الأجزاء الخاصة بالعهد الفرنسي إن شاء الله. 5 - وقبل أن نطوي هذه الصفحات عن المكتبات نود أن نعرض إلى محتويات بعضها أثناء العهد العثماني لنعرف من خلال ذلك نوع الثقافة السائدة في البلاد. ذلك أن معرفة نوع الكتاب ومدى انتشاره تساعد على الكشف عن حقيقة الحياة العلمية في البلد المعني. وقد أخبرت التقارير الفرنسية المكتوبة غداة الاحتلال أن أهم المكتبات العامة في قسنطينة كانت في المساجد والزوايا وأن أشهر المكتبات الخاصة هي مكتبة الشيخ ¬

_ (¬1) فيرو (روكاي) 1868، 5، في مقدمته لكتاب العدواني. (¬2) انظر دراسة لالوي في (المجلة الإفريقية)، 1925، 107. (¬3) فانيان (المجلة الإفريقية) 1892، 165. وهي نفس المكتبة التي قال عنها فيرو (المجلة الإفريقية) 1866، 188 إنه اطلع فيها على أكداس ضخمة من الكتب متراكمة كأنها أكوام من القمح، وإنها (أغنى مكتبة شرقية في الجزائر)، وإن فيها كثيرا من الوثائق والرسائل من باشوات الجزائر وإجازات ونحوها مما يتعلق ببدايات الحكم التركي.

الفكون ومكتبة باش تارزي ومكتبة ابن عيسى. وكان بيروبروجر قد رافق الحملة على قسنطينة وأخذ يجمع المخطوطات من المساجد وغيرها، ومن أيدي الجنود، بل حتى من الشوارع، وقد جمع حسب التقارير ما يزيد على ثمانمائة مخطوط وعاد بها إلى مدينة الجزائر. ولكن قبل أن تصل إلى هناك ضاع منها الكثير في الطريق أيضا. ومن بين هذه المخطوطات مجموعة من الكتب للرياضيين الإغريق ومجموعة أخرى من علوم الفلسفة والطب وغيرها استفاد منها الفرنسيون فائدة عظيمة (¬1). وعلى إثر الحملة على قسنطينة جاء المستشرق البارون ديسلان وكتب تقريرا عن محتوى الكتب التي حملها بيروبروجر معه إلى مدينة الجزائر، وعن محتوى مكتبة الشيخ حمودة الفكون في قسنطينة. وقد وضع ديسلان قائمة ببعض ما رآه هو هاما من المخطوطات: 1 - كتاب الجمان في مختصر أخبار الزمان للشطيبي الأندلسي (¬2). 2 - شرح (بانت سعاد) لابن هشام. 3 - الحماسة مع شرح أبي علي. 4 - المعلقات السبع للتبريزي. 5 - المستملح من التكملة (حياة مشاهير الأندلسيين، لعلها تكملة ابن الأبار). 6 - الكواكب الدرية في تراجم السادة الصوفية للمناوي. 7 - مقامات الحريري. 8 - شرح مختصر خليل للخرشي. 9 - الزهرة النيرة (تاريخ خير الدين) (¬3). ¬

_ (¬1) لالوي (المجلة الإفريقية) 1925، 103، 106. انظر فقرة المكتبات من الأجزاء الخاصة بالعهد الفرنسي. (¬2) ينسب هذا الكتاب في بعض المصادر إلى أحمد المقري صاحب (نفح الطيب) وهي نسبة خاطئة. (¬3) انظر عنها فصل التاريخ والتراجم في الجزء الثاني من هذا الكتاب.

10 - ميزان الشعراني عن المذاهب الأربعة. 11 - المؤنس في أخبار إفريقية وتونس للقيرواني (¬1). 12 - نفح الطيب للمقري. 13 - مروج الذهب للمسعودي. 14 - فتح الحصون السبعة (قصة تاريخية عن فتح العرب لإفريقية). 15 - الصحاح للجوهري. 16 - القاموس المحيط. 17 - شرح شواهد المغني للسيوطي. 18 - كتاب التكمل في شرح المفصل (في النحو) للزمخشري. 19 - جغرافية الإدريسي. 20 - كفاية المحتاج لمعرفة من ليس في الديباج لأحمد بابا. 21 - فضائل الشيخ يعقوب الدهماني. 22 - كتاب الأغاني الكبير للأصفهاني (نقله الهاشمي محمد بن محمد بن حوا للباي محمد سنة 1201) (¬2). 23 - مجموعة شروح في الحساب. 24 - شرح ابن الهيثم عن إقليدس وشرح آخر عنه للجياني. 25 - مقالة النسبة والتناسب لأبي جعفر أحمد بن إبراهيم، ومقالة أخرى في شرح النسب وأخرى في الشكل الملقب بالقطاع، ورسالة في البركار وكيفية التخطيط به، وعدة مقالات عن أولوطقيوس، ومقالات في التنجيم والأرصاد. 26 - النهاية في غريب الحديث والأثر (مجد الدين مبارك ابن الأثير). 27 - ديوان امرئ القيس. 28 - يتيمة الدهر للثعالبي. ¬

_ (¬1) المؤلف هو محمد بن أبي القاسم المعروف بابن أبي دينار. وقد طبع عدة طبعات. (¬2) حسبما جاء في (الثغر الجماني) فإن مختصره هو أحمد بن سحنون، لأنه هو الذي أمره الباي باختصار الأغاني وقد فعل ذلك وجعله في نحو ثمانين كراسة. وقد أثابه الباي بمائة سلطاني.

29 - الإبريز المسبوك للأربيلي. 30 - كتاب الأنس الجليل للحنبلي. 31 - سراج الرواة للسيوطي. 32 - الأمثال للميداني. 33 - تاريخ بني عباس (العباسية) لمجهول (؟). 34 - بيان ملوك الجزائر (¬1). 35 - الإنشاء للحنبلي. 36 - فتوح إفريقية (للواقدي؟). 37 - تاريخ الطبري. 38 - التذكرة للمقرزي (¬2) الخ. وفي نفس الوقت ذهب ديسلان إلى قسنطينة غداة احتلالها واطلع فيها على مكتبة حمودة الفكون وكتب تقريرا عن بعض محتواها الذي تمكن من الاطلاع عليه. وقد أخبر أنه ظل يشتغل في هذه المكتبة خمسة أسابيع للاطلاع على (أهم) مخطوطاتها فوجدها تحتوي على أكثر من ألفين وخمسائة مجلد كلها في حالة جيدة (¬3)، وأنها تضم كتبا يعتقد أنها ضاعت ¬

_ (¬1) لم يذكر ديسلان له مؤلفا. ولا ندري نحن من ألف كتابا بذلك العنوان، والغالب أن يكون ذلك من إنشاء بعض الجزائريين في القرن الثاني عشر (18 م) أمثال ابن المفتي الذي كتب تقييدا تحدث فيه عن باشوات الجزائر. انظر ديلفان (المجلة الآسيوية) 1922. وقد يكون المؤلف هو بركات الشريف (القرن الحادي عشر) الذي ما تزال حياته غامضة والذي نسب إليه بعضهم عملا تاريخيا مجهول المؤلف. انظر فيرو (المجلة الإفريقية) 1866، 180. وقد ذكر فيرو هناك أن حمودة الفكون صاحب المكتبة المذكورة قد أكد أن مكتبته تحتوي على كتاب تاريخي لبركات الشريف. انظر أيضا فصل التاريخ والتراجم في الجزء الثاني من كتابنا هذا. (¬2) ديسلان (تقرير) 8 - 5 والقائمة غير كاملة. (¬3) أخبر فانيان أن ديسلان قد قدر أن مكتبة الفكون كانت تحتوي على أربعة آلاف كتاب، انظر فانيان (المجلة الإفريقية) 1892: 165. ولعل فانيان قد اطلع على تقرير ديسلان الذي لم ينشر، وهو الذي لم نطلع عليه نحن.

منذ زمن طويل. وقد لاحظ ديلان أن أكثر ما في المكتبة من كتب الفقه والدين موزعة على النحو التالي: أكثر من خمسين كتابا في الفقه والعقيدة، ثلاثون في التوحيد، ثلاثمائة في الحديث، أحد عشر في مصطلح الحديث، مائة وثلاثون في علم القرآن، ثلاثمائة في فقه المذاهب الأربعة، أربعون في التصوف، وهلم جرا. أما الكتب التاريخية والأدبية والعلمية فقد ذكر منها ديسلان بعض العناوين التي ننقلها هنا لنفس الغرض، وهو الاطلاع على محتوى بعض المكتبات. وهذه الكتب وأمثالها هي التي كانت تغذي الحياة العقلية للشبان الجزائريين. 1 - تاريخ الدولة العثمانية (لم نعرف لمن هو). 2 - وفيات الأعيان لابن خلكان. 3 - شرح لامية العجم للصفدي. 4 - نفح الطيب للمقري. 5 - سراج الملوك للطرطوشي. 6 - رحلة العبدري. 7 - حسن المحاضرة للسيوطي. 8 - جغرافية ابن الوردي. 9 - الطبقات للذهبي. 10 - تاريخ سورية للواقدي. 11 - رجال بجاية: الهداية في رجال بجاية (¬1). ¬

_ (¬1) لا ندري الآن من هو مؤلف هذا الكتاب، والغالب أنه ليس هو (عنوان الدراية) للغبريني. وقد أخبر فيرو أنه حصل على نسخة من كتاب مؤلفه هو أبو علي إبراهيم المريني وعنوانه (عنوان الأخبار فيما مر على بجاية ...) يعود إلى بداية العهد العثماني (المجلة الافريقية)، 1868، 245، 337. وهناك كتب أخرى عن بجاية مثل النبذة المحتاجة في أخبار صنهاجة) بافريقية وبجاية للصنهاجي - وهو محمد بن علي ابن حماد بن عيسى بن أبي بكر المتوفى سنة 628 - ولكن الكتاب الذي ذكره دسلان ما يزال محيرا.

12 - ذيل الديباج (نيل؟). 13 - التاريخ القسي. 14 - أزهار الرياض في أخبار القاضي عياض (للمقري). 15 - حياة أحمد بن عروس (¬1). 16 - نظم الدرر (كذا) للتنسي (¬2). 17 - سلافة العصر. 18 - فاكهة الخلفاء. 19 - ديوان ابن حزم. 20 - ديوان ابن عربي. 21 - ديوان الخفاجي. 22 - ديوان نور الدين (كذا؟). 23 - الحماسة. 24 - ديوان ابن خفاجة. 25 - شرح مقامات الحريري. 26 - شرح ابن نباتة عن ابن زيدون. 27 - تاريخ ابن الجوزي. 28 - الإنشاء لأبي المطرف. 29 - ديوان ابن أبي الوفاء (؟). 30 - السلوانية (¬3). 31 - شرح التبريزي على المعلقات. ¬

_ (¬1) الغالب أنه هو كتاب (ابتسام العروس) لعمر بن أحمد الجزائري الراشدي. انظر عنه الفصل الأول من كتابنا هذا. (¬2) انظر عنه الفصل الأول من هذا الكتاب، وعنوانه الحقيقي (نظم الدر والعقبان .. في شرف بني زيان). (¬3) هي قصيدة إبراهيم الفجيجي في الصيد أو شرحها، وتسمى (روضة السلوان). وسنعرض إليها في الجزء الثاني.

32 - ديوان علي بن أبي طالب. 33 - قصيدة ابن الوردي. 34 - الصحاح للجوهري. 35 - المزهر للسيوطي. 36 - شرح ابن القوطية (في الأفعال، نحو). 37 - معجم البلدان الكبرى. 38 - العقد الفريد لابن عبد ربه. 39 - تاريخ ابن الأثير (عز الدين علي بن محمد). 40 - النهاية لابن الأثير (مجد الدين مبارك). 41 - ستون كتابا في النحو منها ألفية ابن معطي (¬1). 42 - ستة مجامع ضخمة في الحديث (¬2). وأثناء نفس الرحلة تحدث ديسلان عن مكتبة باش تارزي بقسنطينة وغيرها من المكتبات. فقال عن مكتبة باش تارزي إنها أقل أهمية من مكتبة الفكون ولكنها كانت تضم أكثر من خمسمائة مخطوط، أغلبها كما قال، في الفقه والدين. وذكر أنه وجد فيها كتابين نادرين، هما معارف ابن قتيبة وشرح ابن نباتة على ابن زيدون. وقال إنه لو لم يكن يعرف أن منها نسختين في ليدن لنسخها (¬3)، لأنها في نظره من الكتب النادرة. وقال إن في قسنطينة ¬

_ (¬1) هو يحيى بن معطي الزواوي صاحب (الألفية في علم العربية) انظر عنه قسم الأدب من الفصل الأول في هذا الكتاب. (¬2) ديسلان (تقرير)، 15. (¬3) في ذلك دليل على أن علماء الاستشراق الفرنسيين قد وجدوا في الجزائر ميدانا خصبا لهم وأنهم كانوا ينسقون جهودهم مع جهود المستشرقين الأوروبيين للاستفادة من مكتبات الشرق وأفكاره. وقد كانت الجزائر من أوائل البلدان الإسلامية التي أصيبت بالاستعمار الاقتصادي والفكري. فنهبت مكتباتها وبعثر تراثها العربي الإسلامي. وسنتحدث عن ذلك في الأجزاء اللاحقة إن شاء الله , وعن مكتبة باش تارزي (وهو مقدم الطريقة الرحمانية في قسنطينة في أواخر العهد العثماني) انظر شيربونو =

مكتبتين أخريين خاصتين ولكنه لم يسمهما. ولاحظ أنهما أيضا تحتويان على الكتب الدينية في الغالب. أما عن خارج قسنطينة فقد ذكر أن الناس قد أخبروه أن في البادية مكتبات تحتوي كل منها على أكثر من خمسمائة كتاب. ولكنه أبدى حولها نفس الملاحظة، أي أنها كتب دينية. وأخبر ديسلان أن وفدا من تقرت قد حضر، وهو في قسنطينة، وأخبروه أن في تقرت كتبا غزيرة وأنه يمكنه الاطلاع عليها. ورغم أنه لم يذهب إلى هناك فإنه لاحظ أن محتواها لا يخرج في نظره عن الدين (¬1). وفي سنة 1836 م كتب ادريان بيروبروجر إلى صديقه وأستاذه شامبليون فيجياك يخبره عن مغامرته في تلمسان ومعسكر لجمع المخطوطات العربية. فقال إنه تنكر في زي عسكري ورافق الحملة إلى معسكر لأنه قد سمع أن في تلمسان ومعسكر مكتبات تحتوي على مخطوطات (كثيرة جدا، بعضها عظيم الأهمية)، كما أخبره أنه قد جمع عددا كبيرا من المخطوطات (الشرقية) من معسكر وعاد بها إلى مدينة الجزائر في صندوق حمله على ظهر جمل. وفي الطريق مات له الجمل وضاعت الكتب ولم يحمل منها إلا ما رآه نادرا جدا واستطاع حمله على حصانه. أما حظه في تلمسان فقد كان أحسن، حسب تعبيره. فقد جمع منها ومن ضواحيها (أكثر من مائتي مخطوط في مختلف الموضوعات) كما كان حسن الحظ أيضا في حملها إلى مدينة الجزائر إذ استطاع نقلها في سفينة بخارية من وهران. ولكنه لم يذكر كيف نقلها من تلمسان إلى ¬

_ = (المخطوطات العربية في مكتبة سعيد بن باش تارزي القسنطيني) في (المجلة الآسيوية)، 1854، 433 - 444. (¬1) ديسلان (تقرير)، 5. ويظهر أن إحدى المكتبتين الخاصتين هي مكتبة القاضي الحنفي محمد العربي بن عيسى التي استولى عليها الفرنسيون أيضا عند دخولهم عنوة لمنزله - انظر بولسكي (العلم المثلث على الأطلس) 17. أما الأخرى فلا ندري ما هي، لكن يلاحظ أن هناك ابن عيسى، الذي كان الساعد الأيمن للباي الحاج أحمد. فلعل المقصود هنا مكتبة الأخوين ابن عيسى القاضي والسياسي معا.

وهران (¬1). وكنا ذكرنا أن حركة الكتاب قد ازدهرت في معسكر أيام محمد الكبير. أما في تلمسان فقد كانت مركز كتب منذ عهد الزيانيين، وخلال القرن الحادي عشر تحدث بعضهم عن وجود مكتبة عمومية بها، كما سبق، تقع في وسط المدينة، وكانت قد جمعت من مختلف نواحي البلاد بأمر من أحد الأمراء، ووضعت ليستفيد منها الطلبة والعلماء (¬2). ونحب أن نختم هذا الحديث عن المكتبات بالإشارة إلى أهمية بعض المكتبات الريفية المتفرقة في أنحاء البلاد. ولا بد لنا من التنويه بمكتبات ميزاب التي كانت بني يزقن بالخصوص شهيرة بها والتي حافظ عليها أصحابها كعائلتي الثميني وأطفيش، بكل غيرة وعناية. وقد كانت توات، ولا سيما الزاوية البكرية وقصر ملوكة، مركزا هاما لحركة الكتاب في الجزائر الغربية والجنوبية. وكذلك كان الحال بالنسبة إلى مكتبات زواوة وبجاية وورقلة والخنقة الخ. وقد سبق حديث العياشي على بعضها. ومن يقرأ الدرعي والورتلاني والجامعي يدرك أهمية هذا الموضوع وهو وفرة الكتب في الجزائر حتى في المناطق النائية، كما يدرك أن الشعب الذي حافظ على كل ذلك القدر من المكتبات كان شعبا على درجة كبيرة من التحضر خلافا لما زعمه الفرنسيون بعد احتلالهم للجزائر. غير أن المكتبات ليست إلا وسيلة لنشر التعليم وشحذ أذهان العلماء والمدرسين. فكيف كانت حركة التعليم خلال العهد العثماني؟ وما كان نشاط العلماء، وخصوصا في ميدان التدريس؟ هذا ما سنحاول أن نتحدث عنه في الفصل التالي. ¬

_ (¬1) انظر (المجلة الإفريقية)، 1927، 107، نقلا عن (لومونيتور يونيقرسال)، تاريخ 11 مارس 1836 .. (¬2) هذه المعلومات عن مكتبة تلمسان العمومية وردت في كتاب عنوانه (مذكرات أسير) المطبوع سنة 1659، وصاحب الخبر هو الضابط سيدن Siden الذي أقام في الجزائر حوالي خمسة عشر عاما وكتب تأليفه بالألمانية, ويوجد في المذكرات المذكورة تأليف توماس سكينر Skinner الانكليزي. وقد ساعدني في ترجمة هذه المعلومات زميلي الدكتور أبو العيد دودو مشكورا خلال يناير، 1976، بالجزائر.

الفصل الرابع التعليم ورجاله

الفصل الرابع التعليم ورجاله

سياسة التعليم

كان التعليم، وما يزال، الأساس الحقيقي لكل ثقافة، ولأي تقدم في المجتمع الإنساني. وقد تحدثت المصادر كما لاحظنا، عن انتشار التعليم بالجزائر خلال العهد العثماني انتشارا طيبا حتى غطى المدينة والقرية والجبل والصحراء، وقد تحدثتا في الفصل السابق عن المورد الرئيسي للتعليم وهو الأوقاف وعن مؤسساته من كتاتيب ومساجد ومدارس وزوايا وعن بعض وسائله الهامة كالمكتبات. وفي هذا الفصل نحب أن نتناول التعليم من نواحيه العلمية والفنية المحضة كسياسة الدولة والمجتمع نحوه، والوسائل التي استعملت لتنفيذه والمناهج التي اتبعت في التدريس والأهداف التي كان يرمي إليها، ثم ننهي ذلك بدراسة لحياة ونشاط بعض الأساتذة الذين قضوا حياتهم في التعليم وتخريج أجيال من التلاميذ. سياسة التعليم وهل يمكن أن نتحدث عن (سياسة) الدولة نحو التعليم في العهد العثماني؟ لقد عرفنا منذ البداية أن الدولة لم يكن لها أي دخل في هذا الميدان. فلم يكن في الحكومة الجزائرية عندئذ وزير لشؤون التعليم ولا مدير أو وكيل أو نحو ذلك من الوظائف الرسمية. لقد كانت هموم الدولة عندئذ منحصرة في المحافظة على الاستقرار السياسي والدفاع عن الحدود وجمع الضرائب لبيت المال (الخزينة). ولم تكن هذه المداخيل وغيرها تستعمل في نشر التعليم وترقيته وتنميته الثقافية وتنشيطها ولكن في أجور الجنود كثيري القلاقل والثورات. وفي المعدات الحربية، وخصوصا البحرية، وفي توزيع الهدايا والعطايا على السلطان العثماني وموظفي دولته من جهة وعلى موظفي ومحظوظي الأوجاق في الجزائر. ولم تكن هموم الدولة بأية حال منصرفة

إلى تطوير المجتمع اقتصاديا وثقافيا ولا إلى تربية الشعب سياسيا. وإذا فعلت شيئا من ذلك أحيانا فعن طريق الدين، وهذا يعني أن رجال الدولة كانوا أحيانا يلتفتون إلى المشاريع الدينية والخيرية فيبنون جامعا أو كتابا لتعليم القرآن أو ينشؤون زاوية لأحد الأولياء الصالحين، ثم يوقفون على ذلك أوقافا لحفظه وصيانته، فإذا نص في الوقفية على منح جزء منها لأحد المدرسين فإن التعليم الذي ينشره كان نابعا من الشعور الديني والخيري عند الواقف وليس غيرة منه على تجويد التعليم وترقية المجتمع. وقد عرفنا أن كثيرا من الأوقاف لا شأن لها بالتعليم أصلا. فالجواب على السؤال السابق إذن واضح، وهو أنه لم يكن للسلطة العثمانية في الجزائر سياسة للتعليم. ولعل الصحيح في هذا الصدد أن نقول إنه كان لهذه السلطة سياسة وهي عدم التدخل في شؤون التعليم. فإذا انتشر التعليم فالأمر لا يعنيها وإذا تقلص فالأمر كذلك لا يعنيها. حقا إن هناك استثناء لهذا الحكم في محاولة بعض البايات مثل محمد الكبير وصالح باي، ولكن هذه المحاولة كانت أولا فردية ولا تقوم على خطة مدروسة، وكانت ثانيا لا تخرج في محتواها عما قلنا، من تبعية التعليم للدين حتى عند هذين الرجلين، فالمدارس التي أسساها كانت تابعة للمساجد والكتب التي حبساها كانت تلبية للشعور الديني عندهما وليس للشعور العلمي. ومن جهة أخرى كانت محاولتهما قصيرة الأمد فلم تثمر، وكانت تهدف إلى جلب الشهرة والمدح، ولا سيما عند الباي محمد الكبير. فهو الذي رسم هالة حول نفسه فجمع بعض الأدباء والشعراء والكتاب والمخلصين له، وهو الذي أرسل بالمال إلى بعض علماء المغرب والمشرق طلبا للثناء والسمعة كما فعل مع محمد مرتضى الزبيدي، وهكذا لم تكن خدمة التعليم هي الهدف الرئيسي عند هذين البايين أيضا. كان التعليم إذن خاصا يقوم على جهود الأفراد والمؤسسات الخيرية. ويدخل في هذا العموم رجال الدولة أيضا ولكن كأفراد. فالآباء هم الذين كانوا يسهرون على تعليم أطفالهم، إما امتثالا لحث الدين على التعليم، وإما

لأن الأطفال في سن معينة لا يحتاجهم أهلهم في العمل، وإما لأن مهنة التعليم والقضاء والإفتاء وما إليها كانت وراثية في الأمرة، وإما لأن التجارة والحرف الأخرى تقتضي معرفة بالحساب ونحوه. وقد يكون شعور الآباء نحو التعليم منطلقا من هذه العوامل كلها، كما ينطلق من تقاليد الجزائريين الراسخة وهي احترامهم للإنسان المتعلم وتقديرهم للعلم في حد ذاته. ولعل كون العثمانيين في أغلبهم عزابا وكون رؤسائهم في أغلبهم حديثي عهد بالإسلام قد جعلهم لا يهتمون بتعليم الأطفال في الجزائر لأنهم كانوا في جملتهم بدون أطفال، كما أن الاضطرابات السياسية قد جعلت مشاركتهم في نشر التعليم بين أطفال المسلمين أمرا ثانويا. ومهما كان الأمر فإن الأسرة الجزائرية المسلمة هي التي كانت تتحمل أعباء التعليم، فالآباء، ولو كانوا فقراء، كانوا حريصين على إرسال أبنائهم إلى الكتاب وتعلم المبادئ العامة وحفظ القرآن. وكثيرا ما كان ذلك عن طريق التنافس أيضا لأن الجيران كانوا يتنافسون على الخير، كما يوصي الدين، وهو هنا تعليم أبنائهم ومباهاة بعضهم البعض بذلك، وقد كانت الأوقاف والصدقات والنفقات الخاصة هي التي تتكفل بتغذية التعليم وليس ميزانية الدولة. وكان أساس التعليم هو الدين، فحفظ القرآن الكريم كان عمدة التعليم الابتدائي، ومعرفة بعض علوم القرآن كان عمدة التعليم الثانوي والعالي أيضا. ولم يكن تعلم القراءة والكتابة إلا تابعا لحفظ القرآن، كما أن تعلم بعض العلوم العملية كالحساب كان يهدف أيضا إلى غرض ديني بالدرجة الأولى وهو معرفة الفرائض وقسمة التركات بين الورثة. وعلى هذا الأساس كانت معظم أجور التعليم من الأوقاف، ذلك أن أجرة المعلم لم تكن كأجرة العامل في الحدادة أو النجارة مثلا ولكنها كانت نوعا من الصدقة والإحسان إرضاء للمشاعر الخيرية عند الفرد المسلم، فالمعلم كان، في نظر الدولة والمجتمع، يقوم بخدمة الدين، ومن ثمة كان يستحق أيضا العطايا ذات الطابع الديني كالصدقات وبعض غنائم الجهاد وضرائب أهل الذمة. وهناك أحكام مختلفة على موقف العثمانيين من التعليم في الجزائر،

فإذا حكمنا من شكوى بعض العلماء ومن ملاحظات بعض الرحالة المسلمين والكتاب الأوروبيين وجدنا صورة التعليم عندئذ كالحة وغير سارة. فبالإضافة إلى كون العثمانيين لم يسنوا سياسة لتشجيع التعليم فإنهم كانوا يستولون على الأوقاف المخصصة له من قبل أهل الخير، ويستعملونها في أغراض أخرى، كما أنهم كانوا يتغاضون عن الوكلاء والعلماء الذين يأكلون أموال الأحباس ظلما. وإن الذي يقرأ كتابا مثل (منشور الهداية) لعبد الكريم الفكون ورحلة الورتلاني و (عجائب الأسفار) لأبي راس وبعض آثار أحمد بن ساسي البوني، سيجد أمثلة كثيرة على عدم التزام العثمانيين بقواعد الدين نحو الأوقاف، كما أن من يطالع كتابات الرحالة والكتاب الأوروبيين أمثال توماس شو، وبانانتي أو كتابات الفرنسيين المتأخرين (ألفريد بيل، شارل فيرو، مارسيل ايمريت الخ) سيجد منهم أحكاما قاسية على موقف العثمانيين من التعليم. فقد شكا أبو راس في أوائل القرن الثالث عشر من سوء أحوال العلم والتعليم في وقته، رغم أنه كان يعيش عصر الباي محمد الكبير المشار إليه، قائلا: (في زمن عطلت فيه مشاهد العلم ومعاهده، وسدت مصادره وموارده، وخلت دياره ومراسمه، وعفت أطلاله ومعالمه) (¬1). أما شو الإنكليزي فقد أرجع موقف العثمانيين من التعليم إلى طبيعتهم الحربية وأمزجتهم غير المستقرة وإلى اهتمامهم الكبير بالمال والتجارة (¬2). ولكن هذه الصورة تتغير عندما نتأمل حالة التعليم لدى الجزائريين أنفسهم. ذلك أن كثيرا من المصادر قد تحدثت عن انتشار التعليم في الجزائر خلال العهد العثماني وعن استعداد الشعب للتعلم وحبه للعلم واحترامه للمعلمين، فشو نفسه قد نوه باستعداد الجزائريين للتعلم ومهارتهم فيما تعلموه من علوم وصنائع، ولكنه مع ذلك حكم بضعف مستوى التعليم وحاجة الجزائريين إلى الوقت والتشجيع لينمو اهتمامهم وينضج استعدادهم. ورغم تشاؤم الحسين الورثلاني من حالة التعليم في وطنه واتهامه للعثمانيين ¬

_ (¬1) أبو راس (عجائب الأسفار)، مخطوط الجزائر، 2. (¬2) شو (الرحلة)، 354.

بإهمال التعليم واستيلائهم على أوقافه فإنه قال: (وبالجلمة فإن وطننا طيب فيه العلم) (¬1) وكان هذا بعد أن عدد أماكن من وطنه شاهد فيها العلم حيا، مثل سيدي بهلول بالقبائل وقسنطينة وبسكرة والخنقة. ولكن العلم الذي عناه الورثلاني ليس هو علم الدنيا بل علم الفقه والتصوف والتوحيد ونحوه، فهو الذي هاجم علماء الخنقة لأنه وجدهم لا يدرسون التوحيد مؤثرين عنه علم النحو والمنطق. ومن جهة أخرى حكم الرحالة المغربي أحمد بن ناصر الدرعي بانتشار العلم في أصقاع بعيدة من الجزائر في وقته مثل أولاد جلال وعين ماضي التي قال عنها إن أهلها كلهم طلبة (¬2). وتشهد لانتشار التعليم في الجزائر أيضا كتابات فانتور ديباردي الفرنسي وروزيه الفرنسي أيضا وتقارير الباحثين الفرنسيين غداة الاحتلال التي أثبتت أن عدد المتعلمين في الجزائر عندئذ كان يفوق عدد المتعلمين في فرنسا. ولم تكن مهمة التعليم من المهن المرغوب فيها أو المربحة خلال العهد العثماني. فقد كانت مهنة لا تجلب إلى صاحبها إلا الفقر، رغم أنها تجلب إليه عطف الناس وإحسانهم واحترامهم المعنوي، وكان الناس ينظرون إلى المعلم، وخصوصا معلم الأولاد أو المؤدب، نظرة شفقة وعطف أكثر من نظرة الاحترام والتبجيل. ذلك أنه كان يعيش عيشة الكفاف في أغلب الأحيان، وكان مورده غير قار ولا آمن، رغم كل ما يدفعه له آباء التلاميذ من أجر ومن هدايا في مختلف المناسبات، ولعله كان عند البعض شخصا من أهل الدروشة والصلاح، يتغذى بالروح لا بالمادة، وكان بعض المؤدبين شيوخا طاعنين في السن أو عميا، ولا سيما معلمو الفتيات في البيوت. وكان يساعدهم في مهمتهم بعض المتدربين الذين يسمون في بعض النواحي (مسلكين) ولذلك كان بعضهم لا يعتمد كليا على التعليم كمورد للرزق. فإذا انتقلنا إلى التعليم الثانوي والعالي وجدنا الأمر يختلف قليلا. ذلك ¬

_ (¬1) الورتلاني (الرحلة)، 13، 28، 81، 687. (¬2) الدرعي (الرحلة)، 13.

أن المعلم هنا (أو المدرس، كما كان يدعى) كان من المحظوظين لأنه استطاع أن يصل إلى هذا المستوى من التعليم، وكان عليه، لكي يشق طريقه إلى ذلك، أن يصارع كثيرا من الخصوم وأن يجتاز عددا من العقبات، وقد كان أكبر خصومه هم أصحاب مهنته، وأهم العقبات في وجهه هي اكتسابه رضى الباشا أو الباي، ذلك أن المؤدب لم يكن يشترط فيه سوى شروط قليلة، أما المدرس فشروط تأهيله كثيرة. ومن جهة أخرى كانت ميادين التعليم ضيقة والتنافس عليها شديدا. وإذا كان المؤدب حرا نوعا ما يختاره أهل الحي لتعليم أطفالهم فإن مدرس الثانوي والعالي لم يكن حرا، وخصوصا في المدن، فهو موظف عند الدولة بحكم تعيينه من الباشا أو الباي، لذلك فإن عليه ما على جميع الموظفين الآخرين من رقابة وقيود ومن واجبات دينية واجتماعية وسياسية أحيانا، ولعل ارتباط المدرسين بالدولة على النحو المذكور هو الذي حدا ببعضهم إلى القول (بتحريم التدريس) في وقته (الذهاب شرطه) (¬1) أما في الأرياف فرجال الدين والعلم، وخصوصا أهل الصلاح والولاية (المرابطين)، كانوا يتخذون من التعليم وسيلة لجلب الناس والطلبة إلى زواياهم واعتناق مذاهبهم الصوفية واكتساب المال والصدقات والأحباس، وكان التنافس هنا قويا أيضا لأن كل مؤسسة كانت واقعة تحت سيطرة شيخ الزاوية أو المقدم يساعده في ذلك أبناؤه وأتباعه. ولما كان التعليم غير مربح ولا مرغوب فيه عند الكثيرين فإن بعض المتعلمين قد اتخذوا من التجارة حرفة بدلا منه، وقد لاحظ الحسن الوزان (ليون الإفريقي) غلبة الفقر على طلبة تلمسان أوائل القرن العاشر، ومعنى ذلك أن مهنة التعليم كانت لا تفي بحاجتهم المعاشية، ولاحظ التمغروطي أن طلبة الجزائر كانوا ماديين، وهو يعني أنهم كانوا لا يهتمون بالتعليم كمهنة بل كانوا يلجأون إلى غيره لكسب الرزق واستقرار المعيشة. فقد قال عن مدينة ¬

_ (¬1) نسب هذا القول إلى الشيخ أحمد التجاني مؤسس الطريقة التجانية، ورواه عنه عباس بن إبراهيم في (الإعلام بمن حل مراكش وأغمات من الأعلام) 5/ 198 عن الدرعي. انظر عن أحمد التجاني الفصل الأخير من هذا الجزء.

الجزائر التي زارها كما عرفنا، أواخر القرن العاشر (16 م) (وطلبة العلم بها لا بأس بهم إلا أن حب الدنيا وإيثار العاجلة والافتتاف بها غلب عليهم كثيرا) (¬1) وقد أبدى شو نفس الملاحظة، بعد أكثر من قرن، على العثمانيين في الجزائر حين قال إنهم يجرون وراء التجارة والفرص المالية ولم يكن يعنيهم العلم وأهله. ولذلك غلبت التجارة على عدد من شيوخ العلم، كما سنرى، فكان المفتي الشيخ سعيد قدورة، رغم منصبه العلمي، يتاجر بماله مع بعض التجار (¬2)، وكان ابن حمادوش يجمع بين العلم والتجارة، وكذلك محمد النقاوسي الذي حدث عنه الفكون (¬3)، وحمودة المقايسي الذي عدل عن مهنة التدريس وتعاطي صناعة المقايس (الأساور) التي نسب إليها، ومع ذلك مات فقيرا (¬4). والإلحاح على النقطة السابقة يشير إلى التضحية بالتعليم في سبيل الرزق من أوجه أخرى، ذلك أن ممتهن التعليم إنما كان يلجأ إليه إذا لم يجد غيره من وسائل العيش، أو إذا كان فقط يرضي ضميره الديني والصوفي كما كان يفعل أهل الزوايا في الأرياف (¬5). ولذلك يمكن القول بأن انتشار التعليم الذي تشير إليه بعض المصادر إنما المقصود به التعليم الابتدائي وليس التعليم الثانوي أو العالي. فإذا قال بعضهم انك لا تكاد تجد في الجزائر من لا يعرف القراءة والكتابة فالمقصود بذلك المستوى الأدنى من التعليم أو محو الأمية، أما التعليم الحي الذي يعني رقة الثقافة والتعمق في المسائل وتكوين الرأي المستقل وتذوق المعارف والذي يشبع الفضول والنهم الإنساني إلى المجهول ¬

_ (¬1) التمغروطي (النفحة)، 139. (¬2) نور الدين عبد القادر (صفحات) 271 نقلا عن ابن المفتي. (¬3) عبد الكريم الفكون (منشور الهداية)، مخطوط. (¬4) أبو القاسم الحفناوي (تعريف الخلف) 2/ 140. (¬5) ليس صحيحا أن أهل الزوايا كانوا لا يهتمون بالثروة. فإذا عدنا إلى ترجمة حياتهم ونمو زواياهم وجدنا أكثرهم قد جمع أموالا طائلة واشترى أراضي شاسعة وعاش عيشة هنية راضية.

ويمكننا أن نلاحظ، حول التعليم، وجود شبه سياسة عثمانية في تبادل الأساتذة مع البلاد الإسلامية الأخرى، فقد سمح العثمانيون لعلماء غير جزائريين باستيطان الجزائر والتدريس والتوظف فيها كما سمحوا لعلماء الجزائر وطلبتها بنشدان العلم بالمعاهد الإسلامية خارج الجزائر حتى مع البلاد التي كانت بينها وبينهم توترات سياسية كالمغرب، بل حتى عندما يتعلق الأمر بنقل مذاهب صوفية معارضة للعثمانيين في الجزائر كتعاليم الطريقة الدرقاوية والطيبية، ونعتقد أن مصدر هذا التسامح في تبادل (الخبرات) يعود إلى عقيدة العثمانيين من الدين ورجاله، فهم رغم الاختلافات السياسية أحيانا، تركوا أبواب الجزائر مفتوحة على العالم الإسلامي (¬1). ولعل أهم من ذلك كله الآن لموضوعنا هو حركة المعلمين داخل الجزائر، ذلك أن تكوين المعلمين لم يكن له مدينة معينة أو مدرسة، فقد كانت شهرة المدرس هي التي تحدد مكانه. وكان الطلاب يقصدون المدرس المشتهر ولو بعدت شقته، ولم تكن عند هؤلاء الطلاب عواطف إقليمية أو قبلية وإنما كانوا يأخذون العلم حيث وجدوه موفورا، ولو على حساب صحتهم ومالهم وسعادتهم الدنيوية، ذلك أن بعضهم كان يبدأ رحلته في طلب العلم بعد أن يكون قد تزوج وأنجب الأطفال، فكان يضحي بالجميع من أجل لذة العلم، فإذا اشتهر أمر عالم في زواوة قصده الطلاب من تلمسان ونحوها، كما فعل الشيخ عبد الرحمن بن موسى التلمساني الذي ذهب للتتلمذ على الشيخ يحيى بن عمر الزواوي (¬2) وقد توجه الشيخ محمد وارث من متيجة إلى قسنطينة للتتلمذ على الشيخ محمد التواتي، وفي (منشور الهداية) للفكون عدد من أسماء هؤلاء الطلبة الذين كانوا يؤمون قسنطينة ¬

_ (¬1) سندرس هذه النقطة في الفصل القادم عند حديثنا عن هجرة العلماء الجزائريين وقدوم علماء المسلمين إلى الجزائر. (¬2) ابن مريم (البستان)، 130.

وسائل التعليم

لأخذ العلم (¬1) قادمين إليها من الجزائر وزواوة وعنابة. كما ذكر ابن حمادوش بعضا منهم في رحلته مثل الشيخ محمد الحنفي قاضي قسنطينة الذي قدم إلى العاصمة وأخذ بها العلم, ومن جهة أخرى كان الشيخ سعيد المقري في تلمسان موئل عدد من الطلبة أمثال سعيد قدورة الذي قدم عليه من مدينة الجزائر وذلك لشهرته في ميدان التدريس. وهكذا ترى أن الحدود كانت مفتوحة أمام الطلبة لتلقي العلم حيث ثقفوه. ولم يكن قصد هؤلاء في الغالب أخذ الإجازات ونحوها بل كان قصدهم التتلمذ الحقيقي والجلوس الطويل في حلقات الدرس. أما التنقل من أجل الإجازات ونحوها فقد كان شيئا آخر يقوم به بعض العلماء لنيل السمعة والوظيفة. وسنتعرض إلى ذلك في حينه. ومما سبق ندرك إنه لم يكن للعثمانيين في الجزائر سياسة للتعليم ولا خطة رسمية لتشجيعه والعناية بأهله وتطويره وتوجيهه وجهة تخدم المصالح الإسلامية العليا من جهة والمصالح الوطنية الجزائرية من جهة أخرى. بل انهم تركوا الحبل على الغارب فركد التعليم ونضبت موارده وضاق مجاله وافتقر رجاله وانحط مستواه. ومما زاد الأمر سوءا في هذا الميدان تسرب الخرافات إلى عقول المعلمين والمتعلمين بل ورجال الدولة أنفسهم، فأنت لا تقرأ سيرة أحد من هؤلاء إلا وجدته كان يعتقد العقائد الغليظة في مدعي الكرامات، فكان بعض المدرسين يضلون الناس بدل أن يهدوهم، بل إن بعضهم كان يستعمل الشعوذة سلما لكسب المال والجاه لدى أرباب السلطة. وسائل التعليم 1 - المعلمون: من الطبيعي أن يكون عمدة التعليم هو المعلم. فهو المثل الأعلى للتلميذ من الصبا إلى المراهقة بل إلى الشباب والكهولة، وهو ناشر العلم بين الناس بلسانه وكتابه وآرائه وسلوكه، ثم إنه هو موجه التعليم إن خيرا فخير ¬

_ (¬1) الفكون (منشور الهداية) مخطوط.

وإن شرا فشر. ورغم أن مهنته كانت تعتبر من أشرف المهن وأقربها إلى الدين والجهاد في سبيل الله فإنها أيضا تعتبر من أكثر المهن فقرا لصاحبها وجلبا للتعاسة والبؤس له، كما سبق. كان المعلمون صنفين: معلمو المدن ومعلمو الأرياف، وفي كلا الحالتين هناك درجتان للمعلم فهو مؤدب للصبيان إذا كان يباشر التعليم الابتدائي المتصل إلى أن يبلغ الطفل المراهقة، وهو معلم أو مدرس إذا كان يباشر التعليم للفتيان من تلك السن إلى العشرين ونحوها، ثم هو أستاذ أو شيخ إذا كان يدرس لما فوق ذلك من الأعمار والمستويات. وقد كان الواقف أو أهل الحي هم الذين يختارون مؤدب الصبيان في المدن، وأحيانا تختاره العائلة التي سيعلم لها أطفالها، وخصوصا البنات، تعليما خاصا. فقد عرفنا من دراستنا للأوقاف أن بعض الواقفين كانوا يوقفون على تعليم القرآن وإنشاء الكتاتيب ويشترطون أحيانا أن يكون المؤدب من العثمانيين أو من أهل الأندلس أو من الشرفاء ونحو ذلك من الشروط، فإرادة الواقف هنا لها الأولوية، كما أن أهل الحي لهم الأولوية في اختيار من سيؤدب لهم أطفالهم. فهم الذين سينفقون عليه ويترددون عليه لمرافقه أطفالهم واستشارته في بعض المسائل الدينية. وهم لذلك يختارونه من أهل التقى والصلاح والضمير الاجتماعي، وقد يشترطون فيه الزواج والأخلاق الفاضلة، ومن الطبيعي أن يكون حافظا للقرآن الكريم معروفا بأداء الصلوات وأنه يكتب ويقرأ الرسائل ونحوها. وبشبه مؤدب الريف مؤدب المدينة إلى حد كبير، ولكن يختلف عليه في بعض التفصيل، فأهل الدوار أو القرية الصغيرة يختارون مؤدب أطفالهم بطريقة مشابهة غير أن حاجتهم إلى المؤدب في شؤون أخرى غير تحفيظ القرآن أكثر من حاجة أهل المدينة، فهم يستفتونه في شؤون الدين ويستكتبونه العقود ونحوها ويلجأون إليه عند الفتن والمشاكل الاجتماعية والاقتصادية. فهو محل تقديرهم وثقتهم، وهو إمامهم في الصلوات أيضا. وهو يختلف عن مؤدب المدينة من كون صلته بالأهالي أشد وأقوى لأن معيشته تتوقف

على رضاهم ولأن سلوكه الخارجي معروف للجميع. والمؤدب في كلا الحالتين (في المدينة وفي الريف) يعلم الصبيان في الكتاب أو في الشريعة أو في مسجد القرية. ومن حق الأهالي، في كلا الحالتين أيضا، إعفاء المؤدب من وظيفته واختيار غيره إذا اقتضى الحال. كما أن بعض الآباء كانوا ينقلون أطفالهم من كتاب إلى آخر إذا شعروا بأن مؤدب الكتاب الأول لا يؤدي وظيفته كما ينبغي (¬1). أما المعلمون والمدرسون فهم موظفون في الغالب، كما سبقت الإشارة، وخصوصا في المدن. وتسميتهم في هذه الوظيفة تأتي من حكام البلاد أنفسهم. فإذا كانوا في العاصمة فالتسمية من الباشا أو من خليفته، وإذا كانوا في الأقاليم فإنها تأتي من البايات أو من قائد الدار (حاكم المدينة). والتسمية الرسمية تضمن للمعلم أو المدرس أجرا ثابتا من الأوقاف وهدايا وعطايا خلال مناسبات معينة، وتضمن أيضا جزءا من الغنائم ونحوها، كما سنرى، ولذلك كان التنافس شديدا على هذه التسمية، وقد يلجأ الطموحون من المدرسين إلى استعمال وسائل غير لائقة للوصول إلى أهدافهم، وكانوا يعتبرون محظوظين إذا تحصلوا على التسمية في هذه الوظيفة، ولكن البقاء في وظيفة التعليم غير قار ولا مضمون، فهو متوقف على عوامل منها سمعة المعلم بين الناس ووفرة الوقف المخصص لذلك والظروف السياسية، أما المعلمون والمدرسون في الأرياف فهم أكثر حرية من زملائهم لأنهم لم يكونوا يخضعون لتسمية رسمية، ومن ثمة كان رزقهم غير مقيد بالوقف ونحوه، وقد يشترك معهم في هذه الحرية بعض مدرسي ومعلمي الزوايا في المدن، ومهما كان الأمر فإن المعلم أو المدرس كان يمارس مهنته في المساجد والزوايا والمدارس المخصصة للتعليم الثانوي. وكان بعض رجال الدين يجمعون التدريس إلى وظائفهم الرسمية ¬

_ (¬1) ذكر ابن حمادوش في رحلته أنه نقل ابنه من مكتب العمالي إلى مكتب الشماعين وأنه كان قد قطع مرحلة في التعليم حتى وصل إلى (قد سمع الله) فبدأ من الأول في الكتاب الجديد. وفي ذلك مضيعة لعمر الطفل ونقود أهله.

الكبيرة كالإفتاء والقضاء. وفي هذه الحالة يصبحون هم كبار الأساتذة في البلاد لأنهم في الغالب من ذوي الخبرة والتبحر في المسائل العلمية. ولذلك يصبح التعليم الذي ينشرونه نوعا من التعليم العالي، رغم أنه لم يكن يسمى كذلك، وكانت حلقات درسهم موئل الطلبة والعلماء الآخرين الذين يرغبون في زيادة معارفهم ونيل الإجازات بعد ختمة البرنامج، وكانت شهرة الأستاذ وتخصصه في فرع معين وفصاحة لسانه هي التي تجلب إليه الطلبة حتى تتضخم الحلقة التي يتصدرها في الجامع فيغطي بذلك على بعض زملائه ويسكت خصومه، وكان هذا المستوى من التعليم يعطى في الجوامع الكبيرة الموجودة في كل مدينة، أما في الأرياف فموضعها هو الزوايا، وأساتذتها أحرار كما أسلفنا لا يخضعون لتسمية المسؤولين، وغالبا ما يكون أساتذة الزوايا من المرابطين الذين تفرغوا لنشر التعليم على طريقتهم. وقد اشتهر في كل عصر وفي كل مدينة عدد من المدرسين والأساتذة، وسجلت كتب السيرة أخبارهم وأخبار من أخذ عنهم ومدى سمعتهم بين الناس وبين أهل السلطة، ونحن لا نريد أن نكرر أسماءهم هنا وحسبنا أن نحيل على بعض الكتب التي تتناول الكثير منهم مثل (البستان) لابن مريم و (مطلب الفوز والفلاح) للبطيوي، و (منشور الهداية) للفكون، ورحلة الورتلاني، ورحلة أبي راس، وتاريخ ابن المفتي. ونحب أن ننبه إلى أن بعض هؤلاء المؤلفين قد بالغ في وصف الأساتذة وخلط بين قدرتهم على التدريس وبين تصوفهم، ولكن مؤلفاتهم على كل حال تظل مصدرا أساسيا لدراسة مشاهير الأساتذة في الجزائر في العهد العثماني على طوله. ولنشر إلى أنه قد زار الجزائر في القرن الحادي عشر (17 م) العالم التونسي أحمد بن مصطفى برناز وقرأ على بعض أساتذتها فذكر أن ممن درس عليهم في عنابة الشيخ أحمد بن ساسي البوني والشيخ المفتي الصديقي. وفي قسنطينة الشيخ المفتي بركات بن باديس والشيخ علي الكماد والشيخ عبد اللطيف الكماد، وفي مدينة الجزائر قرأ على الشيوخ رمضان بن مصطفى

العنابي (¬1)، وعلي بن خليل، ومحمد بن سعيد قدورة (¬2) وفي زواوة قال إنه قرأ على الشيوخ الغربي الفاسي، وعبد القادر بن الموهوب، وأحمد بن عبد العظيم، (الذي سماه القطب)، ومحمد بن صولة الشهير بتدريس القراءات السبع، وأحمد بن مزيان الزواوي (¬3)، وأحمد البصير البرغوثي الذي قال عنه إنه قد ناف على المائة سنة (¬4). وقد يشتهر المدرسون في وقت واحد ويتنافسون فيما بينهم فتنتج من ذلك حركة تعليمية مفيدة ويجد الطلاب مجالا للاختيار والحكم على أساتذتهم. فقد كان في الجامع الكبير بالعاصمة حوالي تسعة عشر أستاذا ومدرسا. وشهدت مراكز التعليم بمعسكر في آخر القرن الثاني عشر (18 م) حركة نشيطة شارك فيها أبو راس وبوجلال والطاهر بن حوا ومحمد بن زرفة ومحمد الشارف. واجتمع في قسنطينة، حوالي نفس الوقت، مدرسون وأساتذة أمثال المفتي عبد القادر الراشدي وأحمد العباسي، قاضي المالكية، وشعبان بن جلول، قاضي الحنفية، وعمار الغربي ومحمد العربي بن عيسى. وكان جامع القيطنة في بداية القرن الثالث عشر يضم حوالي سبع حلقات تدريس على رأس كل منها مدرس. ومن أشهر المدرسين في غير المدن أيضا خليفة بن حسن القماري بوادي سوف ومحمد بن عبد الكريم التواتي في توات، وهلم جرا. وقد عرفنا أن بعض العلماء لم ينقطعوا عن التدريس حتى ¬

_ (¬1) لعله هو أستاذ ابن المفتي الذي سيأتي الحديث عنه رغم أنه يذكره باسم مصطفى بن رمضان العنابي. (¬2) ظل حوالي أربعين سنة في وظيفة الإفتاء المالكي والتدريس وسنترجم لوالده بعد قليل. (¬3) انظر عنه رحلة الورتلاني، 16. وقد ذكره أيضا ابن علي الشريف في (معالم الاستبصار)، مخطوط. (¬4) حسين خوجة (بشائر أهل الإيمان بفتوحات آل عثمان)، مخطوط الجزائر رقم 2191. وقد ذكر ابن سليمان في (كعبة الطائفين) عددا من الأساتذة في تلمسان ونواحيها مثل محمد الحاج بن قاسم الموبل وعلي بن بركات ومحمد بن علي انكروف وعلى المنياري. انظر 2/ 92.

أجور المعلمين

في أحرج الظروف وفي أخطر الأماكن. ومن هؤلاء الشيخ مصطفى الرماصي الذي كان يسكن بأهله بيوت الشعر في رأس أحد الجبال أيام الفتح الأول لوهران. ومع ذلك لم يتوقف عن التدريس. وكذلك كان الأساتذة الذين حملهم الباي محمد الكبير على التدريس في جبل المائدة قرب وهران عند الفتح الثاني لها. وقد روى ابن مريم أن الشيخ علي بن يحيى السلكسيني، وهو في نظره من الأولياء المتصوفين، كان محققا في الفرائض والحساب والرسالة ومختصر ابن الحاجب الفرعي ومختصر خليل وعقائد السنوسي وأحكام القرآن وأنه كان يظل نهاره صائما يدرس العلم في جامع أغادير بتلمسان ولا ينقطع عن التدريس إلا وقت الصلاة والأذان. وكان من حرصه على الدرس أنه لا ينقطع عنه حتى عند توجهه للأذان أو أدائه عملا آخر. فقد كان إذا خرج إلى ضيعته يرافقه القراء إليها في الذهاب والإياب، وهو على ظهر دابته يدرس لهم. ولم يكن يسمح لأحد بمساعدته على خدمة الأرض التي كان يحرثها بنفسه (¬1). ولا شك أن هذا المثال يتكرر. وروي أن الشيخ يحيى بن صالح الأفضلي، شيخ عبد العزيز الثميني، كان منقطعا للتدريس في بني ميزاب (¬2). فقد كان التعليم عند بعض رجال التصوف، وخصوصا في الريف، نوعا من العبادة والجهاد أيضا. وسيمر بنا أن الشيخ عمر الوزان في قسنطينة قد اعتذر لأصحاب السلطة عن قبول وظيفة القضاء وتمسك بوظيفة التدريس. 2 - أجور المعلمين: ولكن ليس كل المؤدبين والمدرسين والأساتذة متصوفة لا ينتظرون من تعليمهم جزاء ولا شكورا. فقد كان معظمهم، على عكس ذلك، حريصين كل الحرص على تأمين قوتهم وكسب معاشهم سواء عن طريق الأوقاف أو ¬

_ (¬1) ابن مريم (البسان)، 145، وقد توفي السلكسيني سنة 972 هـ. (¬2) انظر عنه مقدمة كتاب (النيل) لعبد العزيز الثميني.

عن طريق الأجور الشهرية التي يدفعها الأهالي أو عن طريق الهدايا والعطايا التي تجود بها أيدي المحسنين من وقت لآخر. فما هي إذن أجور المعلمين؟ الواقع أن هناك غموضا كبيرا حول هذه النقطة. فليس هناك قوانين أو تقاليد ثابتة نرجع إليها في هذه القضية. ذلك أن بعض الباحثين قد تحدث عن كون الأوقاف هي كل شيء وكون الدين هو المتولي للنفقة على التعليم. ومنهم من رأى أن نفقات التعليم الابتدائي كانت هينة جدا لا تكلف الدولة شيئا ولا تكلف الآباء أيضا إلا مبلغا زهيدا. ومنهم من تحدث على أن التعليم في الجزائر العثمانية كان مجانيا وحرا وأنه كان نموذجا للمشاريع الاجتماعية والعلمية التي تتم بأبسط النفقات. فإذا عدنا إلى وثائق الوقف وجدناها، كما عرفنا، تنص على تخصيص مبالغ للمعلمين إذا كان الأمر يتعلق بمؤسسة للتعليم، كما كانت تنص على توفير السكن لعدد من الطلبة الدارسين والطلبة العلماء الذين لا سكن لهم أو الذين كانوا فقراء. فهذه زاوية القشاش قد نصت وقفيتها على تخصيص مال لأستاذ مكلف بتدريس الشريعة والتوحيد إلى جانب عشرة قراء في مختلف العلوم. ونصت وقفية جامع عبدي باشا على صرف خمسة ريالات فضية لأستاذ ملحق بالجامع وصرف ريال لمساعده أو مسمعه. وحين ألحق الباشا محمد بن بكير مدرسة بالجامع المذكور نص في وقفها على تخصيص مبلغ لأستاذ ملحق بالمدرسة. وكانت أوقاف سبل الخيرات تنفق بسخاء على مدرسي وأساتذة الجامع الجديد، كما كانت أوقاف الجامع الكبير بالعاصمة تكفي مؤونة مدرس الفقه المالكي وأربعة دنانير لمساعده أو مسمعه. ولما أسس الحاج محمد خوجة المكتابجي زاويته المعروفة باسم زاوية شيخ البلاد نص في الوقفية (وعددها ألف قطعة سلطاني ذهبا) على تخصيص محبوب منها لأستاذ يتولى فيها تدريس العلوم النظرية والعلمية والأصول والفروع والآداب والجدل إذا وجد من يجمع كل هذه العلوم وإلا فمن يحذق بعضها. وقد أجرى صالح باي في قسنطينة على الأستاذ الذي يتولى التدريس في مدرسته ثلاثين ريالا شهريا. وثبت من السجل الذي أمر به لضبط

مصاريف الجامع الكبير بقسنطينة أن أستاذ المدرسة الملحقة بالجامع كان يتقاضى ثمانية وأربعين ريالا شهريا, ويبدو أن الباي محمد الكبير قد قام بمحاولة فريدة من نوعها، وهي تخصيص رواتب شهرية للأساتذة بقطع النظر عن الأوقاف. فبعد أن بنى مدرسة وجامعا في معسكر وأوقف عليهما الأوقاف خصص مبالغ مالية شهرية من ميزانية الولاية للمدرسين والمسمعين والطلبة. ورغم أن عبارة ابن سحنون الذي جاء بهذا الخبر غامضة فإنها تدل على أن الباي قد حرر العلماء من التقتير الذي كانت تجود به الأوقاف. وهذه هي عبارة ابن سحنون في هذا الصدد (أنه رتب المدرسين في الجوامع بوظائف يأخذونها من الأحباس (بيت المال؟) بعد أن كان العلماء لا ينتفعون من ناحية المخزن (الدولة) بشيء إلا من كان متوليا لخطة أو مستعملا في خدمة) وبذلك ازدهر التعليم وانبسطت رقعة الرزق أمام المدرسين وأقبلوا على القراءة بعد خمول وكثر الطلبة، كما يقول ابن سحنون، (وتشوق كل أحد للتدريس) بعد أن كان المدرسون قد اشتغلوا بالتجارة عن التدريس لقلة جدواه. وبذلك أيضا أزال الباي المذكور اختصاص بعض المغاربة (علماء المغرب الأقصى) المتقدمين في باب التدريس (¬1). ويبدو أن هذا كان شأن الدولة السابقة للعثمانيين في الجزائر. فقد أثبت الحسن الوزان أنه كان لمدرسي تلمسان على عهده (القرن العاشر) جرايات قارة، رغم أنه حكم كما عرفنا، بأن المدرسين كانوا من أفقر طبقات المجتمع. وبالإضافة إلى ذلك كان المدرسون يتلقون مبالغ مالية أخرى في شكل هدايا أو عطايا في مناسبات معينة. وأهم هذه المناسبات هي شهر رمضان والعيدان (عيد الفطر وعيد الأضحى). فقد جاء في (التشريفات) أن الطلبة (العلماء) كانوا يتلقون في الحفلات حوالي مائة محبوب (¬2). كما جاء في فيها أن القاضي الحنفي والمفتي المالكي كان كل منهما يأخذ شهريا خمسين ¬

_ (¬1) ابن سحنون (الثغر الجماني)، مخطوط باريس، ورقة 12 وتدل عبارة ابن سحنون الأخيرة على وجود غيرة من علماء الجزائر نحو علماء المغرب الأقصى. (¬2) ديفوكس (التشريفات)، 39.

صاغة من ضريبة مفروضة على اليهود. أما المفتي الحنفي فلقد كان يأخذ من نفس الضريبة ثمانين صاغة (¬1). وقد نصت وقفية زاوية شيخ البلاد المشار إليها سابقا على أن يشتري الوكيل في نهاية كل شهر ربع قنطار من الزلابية لتوزيعها على موظفي الجامع وعلى الطلبة الساكنين بالزاوية وتخصيص ريال دراهم صغار شهريا لمساعدة الأستاذ المكلف بالتدريس في جامع الزاوية، وكان الباي محمد الكبير يوزع على الأئمة والخطباء والمدرسين والمؤدبين أثناء المواسم والأعياد بعض المال اهتماما بهم. وكان هذا المال يتراوح بين الدينار الواحد والثلاثة دنانير لكل منهم. ولم يكن هذا هو كل ما كان يجنيه المدرس والأستاذ من فوائد مادية. فبالإضافة إلى ما ذكرناه، هناك السكن وبعض الامتيازات الأخرى. فحين بنى صالح باي مدرسة جعل وقفها ينص على تخصيص خمس غرف للطلبة والأساتذة. وكانت زاوية الجامع الكبير بالعاصمة تحتوي على طابقين من الغرف المخصصة لسكنى العلماء والفقراء والغرباء، وقد نزل في هذه الزاوية بعض العلماء الضيوف كأحمد الورززي المغربي خلال القرن الثاني عشر (18 م). وكانت الوقفيات تنص على شراء الزيت للإضاءة وتوفير الماء للشرب والطهارة، وأجرة المنظفين وغير ذلك من توابع السكن. وكانت زاوية شيخ البلاد تحتوي أيضا على خمس غرف لسكنى الطلبة والمدرسين وإلى جانبها جامع للصلاة وبئر للشرب والطهارة وميضات ونحو ذلك. وكان بعض المدرسين والأساتذة يتولون أيضا وظائف أخرى كوكالة الوقف والإمامة والخطابة والقضاء ونحوها. وكانوا يجنون من ذلك أموالا هامة كما كان معظم المدرسين والأساتذة يحصلون على الحلوى يوميا خلال شهر رمضان والملابس أثناء عيد الأضحى. وتتراوح رواتبهم السنوية من الأوقاف بين مائة ومائتي فرنك (¬2). ¬

_ (¬1) نفس المصدر، 51. (¬2) مارسيل ايمريت (مجلة التاريخ الحديث والمعاصر)، 1954، 203.

أما أجور المؤدبين فقد كانت أكثر غموضا من أجور المدرسين والأساتذة. ومن المؤكد أن أغلبها يأتي من الأهالي لا من الوقف (¬1). وبناء على بعض التقديرات فقد كان المؤدب يأخذ حوالي ثلاثين فرنكا شهريا على كل طفل موزعة كما يلي: أربعة عشر أجرة، خمسة في شكل هدايا في الأعياد، وإحدى عشر عطايا خلال مراحل تعلم الطفل مثل مناسبة حفظ القرآن. وكان لكل مؤدب بين عشرين وثلاثين طفلا فيكون معدل دخل المؤدب اليومي حوالي فرنكين. ويضاف إلى ذلك مدخول المنح الاستثنائية والوظائف الأخرى كالإمامة والأذان. ولذلك فإن المؤدب لم يكن يشكو ماديا، فقد كان عيشه رغدا نوعا ما كما كان محل احترام معنوي (¬2). وقد ذكر باحث آخر أن المؤدب كان يأخذ ما يعادل (بيني) إنكليزي أسبوعيا (¬3). وذكر آخر أن التلميذ كان يدفع ربع بوجو شهريا (¬4). ولم يحدد أحدهم مقدار ما يدفعه التلميذ في عهده ولكنه قال إن تكاليف التعليم الابتدائي أو القرآني كانت هينة جدا، وأقر بأن هناك تكاليف يتحملها الآباء. ومهما حاولنا التوصل إلى معرفة تكاليف التعليم لكل أسرة لها أطفال في التعليم الابتدائي فإننا لا نستطيع لأن الأمر يختلف من فترة إلى أخرى ولأنه كان يتوقف على أحوال الأسرة فقرا وغنى، في الريف أو في المدينة. ومن الواضح أن تكاليف التعليم الابتدائي لم تكن كلها في شكل نقود ¬

_ (¬1) عثرنا في الأرشيف الفرنسي (دفتر 168 - 31 - 228 MI) على أوقاف مخصصة لمؤدبي الصبيان أيضا. فمن أوقاف جامع خضر باشا بحيرة يعطى من كرائها أربعة ريالات شهريا لمعلم مكتب عبدي باشا، وكذلك بحيرة أخرى يعطى منها في كل شهر نصف ريال صحيح لمعلم مكتب محمد باشا. وهكذا. (¬2) ايمريت (مجلة التاريخ الحديث والمعاصر)، 1954، 202. وذكر الكاتب أن أحد المؤدين قد أخذ سنة 1830 بالإضافة إلى ما ذكرناه، شكارة قمح مقداره ثمانية فرنكات وكبشا قيمته أربعة فرنكات بمناسبة عيد الأضحى. (¬3) شو (الرحلة) 354. (¬4) بولسكي (العلم المثلث فوق الأطلس)، 22.

أسبوعية أو شهرية للمؤدب فقد كان آباء التلاميذ يرسلون أشياء أخرى غير مالية إلى المؤدب كالثياب والحطب والزيت والحلويات والقمح واللحم والزيتون ونحوها. وهذا كله يتوقف على وضع العائلة ومكانها في الريف أو المدينة، كما أنه يشير إلى الأمور الظاهرة والمتعارف عليها بين الناس. ولكن هناك أمور أخرى بين المؤدب والآباء لا يعلمها إلا الله وأصحابها. فبعض الناس كانوا يعولون المؤدبين خفية محتسبين ذلك عند الله، فكانوا يرسلون إليه العشاء كل ليلة ويدفعون إليه مالا كل يوم جمعة أو آخر كل شهر. ولكن إذا كانت أجور المؤدبين وافرة ومستقرة نسبيا فإن مرتب المدرس والأستاذ كان غير مستقر وغير مضمون. فالوقف قد ينضب وقد لا يكفي حاجة الجامع والزاوية. والهدايا قد لا تأتي في مناسبتها لأنها مرتبطة بأمزجة أصحابها وظروف العائلات وكرم الحكام. وما دام المدرس والأستاذ لا يشعر بالأمن في رزقه، لأنه لم يكن يتمتع بأجر ثابت من بيت المال، فإن التعليم في الحقيقة كان هو الضحية. وقد اضطرت الحياة الاقتصادية عددا من خيرة الطلبة والأساتذة إلى الهجرة إما لطلب المزيد من العلم وإما لطلب العيش في ظروف أفضل. وكان ضيق مجال العمل أمام المتعلمين سببا آخر في نفور المعلمين من البقاء في الجزائر. فإذا تحدثنا عن انتشار التعليم في الجزائر العثمانية فلنتذكر بأنه كان في جملته تعليما ضعيفا لا يقدم كثيرا للأمة ولا يحرك آمال الشباب ولا يثير فضولهم ولا يفتح أعينهم وعقولهم على عوالم جديدة وأفكار حرة وغريبة عنهم. وقد سبق أن قلنا إن أساس التعليم كان الدين لا الدنيا أو الجمع بينهما. وقد روي عن أحد مشجعي التعليم في القرن الثاني عشر أنه كان يطوف المدارس وينصح الطلبة بالعمل مرددا هذا البيت: وارغب لكفك أن تخط بنانها ... خيرا تخلفه بدار غرور (¬1) ¬

_ (¬1) شير بونو (روكاي) 856 1، 132. والإشارة إلى رضوان خوجة، قائد الدار بقسنطينة الذي أسس زاوية تحمل اسمه ودفن بها سنة 1220. وكان من أنصار أفكار صالح باي.

التلاميذ

3 - التلاميذ: عرفنا أن أعمار التلاميذ المترددين على الكتاتيب كانت تتراوح بين السادسة والرابعة عشرة، وفي السن الأخيرة يكون التلميذ النابه قد ختم القرآن الكريم مرة أو عدة مرات وتعلم القراءة والكتابة وقواعد الدين وأوليات الحساب. وقد يصبح في السنتين الأخيرتين مساعدا للمؤدب في تعليم الأطفال الأصغر منه سنا. وهو في هذه المرحلة يسكن عند أهله ويغدو ويروح على الكتاب الذي يكون عادة قريبا من منزله. غير أنه يلاحظ أن بعض سكان الريف كانوا يرسلون أبناءهم إلى المدينة للتعليم. وفي هذه الحالة يسكن التلاميذ عند أصدقاء أو أقارب العائلة وتكون إقامتهم مجانا. وكل أسرة يتقدم أطفالها في تعليمهم تعتبر محظوظة وسعيدة. وهي تعبر عن فرحتها وسعادتها بالاحتفال بالطفل عند ختمه القرآن فتقيم مأدبة تدعو إليها الأطفال الآخرين كما يشترك الجيران في تبادل التهاني والأفراح. وتكون المأدبة بالنسبة للآخرين مناسبة غبطة وتنافس وتحريض للأطفال على تحقيق ما حقق زميلهم. ومن عادات الحضر في مدينة الجزائر في هذه المناسبة أن يركب الطفل على حصان مزين يقوده زملاؤه في الكتاب ويطوفون به شوارع المدينة معلنين نجاحه وتهنتئه في أصوات مطربة. كما يجتمع الأهل والجيران لتحية الطفل وتهنئته ويقدمون إليه الهدايا (¬1). ومن عاداتهم في ذلك أيضا أن يلبس الأطفال الملابس الجديدة لأن تلك المناسبة تعتبر تحقيقا لأمل كبير للأسرة وهو حصول ابنها على لقب (طالب). ومنذ هذه المناسبة يدخل (الطالب) حياة جديدة، فهو إما أن ينخرط في سلك الطلبة ويتابع دراسته الثانوية. وإما أن يصبح بدوره مؤدبا، وإما أن يدخل ميدان التجارة مع أهله، وإما أن ينضم، بعد فترة، إلى الجيش. غير أنه ليس كل طفل كان قادرا على مواصلة تعليمه، فأبناء الأغنياء هم عادة الذين يواصلون تعليمهم. ومن جهة أخرى فإنه منذئذ يبدأ والدا الطفل، وخصوصا ¬

_ (¬1) شو (المرحلة)، 354.

أمه، يفكران جديا في تزويجه وتحميله مسؤولية الحياة وحفظ أخلاقه وجسمه من الانحراف. وكان عدد التلاميذ في كل كتاب يتراوح بين العشرين والثلاثين كما أسلفنا. ويتوقف هذا العدد على كثافة سكان الحي وعلى نجاح المؤدب وسمعته. ولا توجد إحصاءات دقيقة وشاملة لعدد التلاميذ ولا لعدد الكتاتيب. وكل الإحصاءات في هذا الشأن تقريبية. ومن ذلك أن الخمسين مدرسة أو كتاب في تلمسان كانت تحتوي على نحو ألفي (2000) تلميذ (¬1). وأن التسعين مدرسة ابتدائية التي في قسنطينة كانت تضم حوالي ألف وثلاثمائة وخمسين تلميذًا (¬2). ويدل ذلك، كما لاحظ بعضهم، على أن كل الأطفال الذكور الذين تتراوح أعمارهم بين السادسة والعاشرة كان لهم مكان في المدرسة بمدينة قسنطينة. ولا شك أن مدارس مدينة الجزائر الابتدائية كانت تضم حوالي ألفي (2000) تلميذ إذا قارنا عدد المدارس بعدد السكان فيها، كما أن أهلها كانوا حريصين على تعليم أطفالهم في المرحلة الابتدائية. أما التعليم الثانوي والعالي فأمره يختلف. فهو أساسا تعليم مجاني، أي أن الطالب لا يدير شيئا مقابل تعليمه. بل إن الطالب هو المدفوع له في هذه الحالة. فهو يحصل على السكنى والماء والزيت والحلوى والأكل، كما كان يتقاضى أحيانا مبلغا نقديا. وكان على الطالب أن يدرس وأن يتقدم في دراسته. وتشهد الإحصاءات على أن مائة وخمسين طالبا في قسنطينة من جملة سبعمائة كانوا يحصلون من الوقف على منحة سنوية مقدارها ست وثلاثون فرنكا. وكان حوالي ثلثي هذا العدد من طلبة الأرياف. وكانت سكناهم في الزوايا المعدة لذلك الغرض. أما الدراسة فقد كانت في المساجد والمدارس. وقد سبق أن أشرنا إلى أن طلبة التعليم الثانوي في قسنطينة كانوا ¬

_ (¬1) ايمريت (الجزائر في عهد الأمير عبد القادر)، 13. (¬2) نوشي (الكراسات التونسية)، 1955، 386. وهو يتفق في هذا الإحصاء عن قسنطينة مع إحصاء ايمريت عنها أيضا. انظر (مجلة التاريخ الحديث والمعاصر)، 1954، 202.

يجدون السكن في ست عشرة زاوية (¬1). ولكن مصدر التعليم الثانوي ليس دائما متوفرا. فقد كان أساسا من الأوقاف التي كان يعتريها الخلل وعدم الاستقرار من تهاون الوكلاء وكثرة المستفيدين منها أو تحويلها إلى أغراض أخرى. ومن جهة أخرى كان عدد الطلبة يزداد. ولذلك كان الواقفون في أغلب الأحيان يحددون عدد المستفيدين من الوقف، وهو عدد لا يدل على اتساع حركة التعليم لأنه بالنسبة لعدد السكان كان ضئيلا جدا (¬2). فقد اشترط وقف مدرسة صالح باي بقسنطينة قبول ثمانية طلاب فقط في النظام الداخلي على أن يسكن كل طالبين في غرفة واحدة (¬3)، كما أنه قد نص في وقف زاوية شيخ البلاد بالعاصمة على أن يكون الطلبة من الأتراك (¬4)، وكانت غرفها لا تتجاوز خمسة على كل حال. وكذلك الشأن في طلاب جامع سوق الغزل ومدرسته في قسنطينة، فإن عددهم كان اثني عشر طالبا ويحصلون على مائة وأربعة وأربعين ريالا (¬5) فالطلاب هنا كانوا في حالة جيدة نسبيا إذا سمحت لهم ظروف الأسرة بمواصلة التعلم. وتختلف أعداد الطلبة في المدارس الثانوية من عهد إلى آخر أيضا، كما أن إحصاءاتها غير دقيقة. وما دامت الدراسة في هذا المستوى تابعة للأوقاف فإن خط سيرها كان غير مستقر أيضا. لذلك يجب الحذر من الحكم القائل بازدهار التعليم في عهد الباي فلان مثلا لأن ذلك الحكم قد يكون صادرا عن ¬

_ (¬1) ايمريت (مجلة التاريخ الحديث والمعاصر) 1954، 203، عن عدد المؤسسات التعليمية في كل مدينة، انظر الفصل السابق. (¬2) وجدنا في الأرشيف الفرنسي (دفتر 170 - 168 - 31 - 228 - M 1) ما يدل على وقف الأوقاف للطلبة وذلك حوالي سنة 1174 وسنة 1183. وأحيانا يدخل وقف الطلبة ضمن أوقاف عامة أخرى مثل فدية الأسرى المسلمين والفقراء بالجزائر الخ .. (¬3) أحمد توفيق المدني (محمد عثمان باشا)، 153. وفايسات (روكاي)، 1868، 357. (¬4) ديفوكس (المجلة الإفريقية)، 1868، 280. (¬5) فيرو (المجلة الإفريقية)، 1868. 131.

كاتب متحمس أو شاعر مادح. ذلك أن شروط نجاح التعليم قد لا تكون دائما متوفرة، ومن بينها الميزانية الدائمة واستقرار الأوضاع السياسية وحالة الأسرة. وعلى أية حال فإن بعض الإحصاءات تشير إلى أن زاوية القيطنة وحدها (وهي من المؤسسات المتأخرة في تكوينها) كانت تضم، قبل الاحتلال، بين خمسمائة وستمائة طالب (¬1). وقد قدر بعضهم أن التعليم الثانوي كان يمنح لعدد يتراوح بين ألفين وثلاثة آلاف طالب في كل إقليم من الأقاليم الثلاثة، أي بين ستة وتسعة آلاف طالب في القطر كله. وقد عرفنا أنه لم يكن للجزائر في هذا العهد مؤسسة خاصة للتعليم العالي. لذلك كان يقع الخلط بين مستوى التعليم الثانوي والعالي حتى يصعب تحديد الفاصل بينهما. ورغم وصف بعض المدارس التي أشرنا إليها (بالعالية) فإنها كانت أبعد ما تكون عن نشر التعليم العالي المتداول مثلا آنذاك في جامع القرويين أو جامع الزيتونة. ففي ذلك الوصف إذن تجوز كبير. وكذلك الحال بالنسبة إلى بعض الزوايا، فإنها لم تكن تنشر سوى التعليم المتوسط والثانوي. ويمكن أن نلحظ بدايات التعليم العالي في بعض الدروس التي كانت تلقى بالجامع الكبير بالعاصمة ومثله في تلمسان وقسنطينة، وفي مدارس وزوايا ابن علي الشريف والقيطنة والقليعة والخنقة ومازونة، بالإضافة إلى جامع عنابة في عهد أحمد بن ساسي البوني. ولكنها بدايات كانت مرهونة بسمعة الأستاذ والظروف السياسية ولم تكن تخضع لقواعد أو برامج معينة. ولا شك أن هذا من نقاط الضعف الأساسية في التعليم خلال العهد المدروس. فالطلاب الذين كانوا ينهون المرحلة الثانوية ويرغبون في المزيد من التعليم كثيرا ما كانت آمالهم تخيب فيركنون إلى الخمول ويكتفون بالقليل. ولكن القليل منهم فقط هم الذين كانوا يضربون بطون الإبل أو شراع السفن باحثين عن العلم في البلدان الإسلامية، وقد لا يعودون إلى بلادهم. ¬

_ (¬1) تاريخ الأمير عبد القادر، مخطوط المكتبة الوطنية بالجزائر، والرقم فيه كثير من المبالغة.

تعليم المرأة

وكان أستاذ التعليم العالي في العادة يلقي ثلاثة دروس يوميا، واحد في الصباح وثان بين الظهر والعصر وثالث بين العصر والمغرب. وكل درس كان يستغرق من ساعتين إلى ساعتين ونصف. وكان لكل أستاذ مسمع أو ممل. وكانت حلقة الدرس مفتوحة للجميع. وتثبت بعض الإحصاءات أن المراكز التي أشرنا إليها كانت تستقبل بين ستمائة وثمانمائة طالب في كل إقليم، أي بين ألف وثمانمائة وألفين وأربعمائة طالب في القطر كله (¬1). 4 - تعليم المرأة: ولعل من سيئات العهد العثماني أيضا عدم إعطاء المرأة نصيبا من التعليم. ورغم أن هذه المسألة ليست خاصة بالجزائر فالظاهر أنها كانت فيها أكثر حدة. ذلك أن المرأة الجزائرية المسلمة كأنها كانت غائبة طيلة هذا العهد على المسرح الرسمي. فلا أميرات ولا سيدات مجتمع يشاركن في الحياة العامة ويكن قدوة للأخريات، ولا شواعر أو كواتب يسهمن في الحياة الثقافية وترقية الذوق الاجتماعي. فالمجتمع الجزائري من هذه الناحية كان أشل. ولعل السبب في ذلك يعود إلى أن الحكام كانوا غالبا من العزاب والمغامرين. وكان ما يشغل وقتهم هو جمع المال والبقاء في الحكم، فإذا اهتموا بالمرأة فإنه لا يعنيهم منها دينها ولغتها وتعلمها ومكانتها الاجتماعية ولكن كونها من الجواري والأسيرات المسيحيات بالدرجة الأولى. وقد بالغوا في ذلك حتى اعتبروا الزواج من المرأة المسلمة مذلة وحطة من شأنهم، وجعلوا أبناءهم منها في درجة العبيد بينما أبناؤهم من الجواري والبايا المسيحيات أحرارا يحكمون ويرثون وظائف آبائهم. ومن ثمة لم يهتموا بتعليم المرأة المسلمة، كما أن معظم الحضر وسكان الريف قد أهملوا هذا الموضوع على قاعدة (الناس على دين ملوكهم) وغيرة على بناتهم في مجتمع لا تكاد المرأة تظهر فيه حتى يعتدى عليه (¬2). ¬

_ (¬1) اميريت (مجلة التاريخ الحديث والمعاصر)، 1954، 204. (¬2) ذكرنا من قبل أن الجنود الأتراك كانوا يسكرون ويعربدون ويعتدون على النساء والصبيان إذا صادفوهم في الطريق، لذلك كان البراح ينادي إذا خرج الجنود في =

ومع ذلك فإن المرأة المتعلمة في هذا العهد لم تكن كبيض الأنوق: فنحن لا نتصور أن مجتمعا فيه أهل الأندلس وفيه مثقفون درسوا التاريخ الإسلامي ودور المرأة فيه يبخلون بتعليم بناتهم ولو تعليما متواضعا يفقههن في الدين ويدخلهن إلى قواعد اللغة. فنحن نتصور، لأن الوثاتق قليلة، أن بعض الآباء قد علموا بناتهم القراءة والكتابة وبعض القرآن الكريم وقواعد الدين ومبادئ اللغة، وهناك بعض النصوص المؤيدة لما ذهبنا إليه. فقد ذكر ابن مريم أن سليمان بن أبي سماحة قد اختصر صغرى محمد السنوسي في التوحيد للنستاء والعامة (¬1). كما ذكر محمد بن سليمان أن العالم الصوفي عبد الوهاب بن حميدة كان شيخا لأمه (¬2). وأخبر أبو راس أن أمه كانت كرابعة العدوية علما وتقوى (¬3). أما الورتلاني الذي طالما هاجم سفور المرأة حتى الريفية، كما فعل مع نساء زمورة، فقد ذكر أن إحدى زوجاته كانت تحفظ ربع القرآن والوظيفة الزروقية وأجزاء من رسالة ابن أبي زيد القيرواني، وأن زوجته الأخرى كانت تنسخ الكتب، وأشار إلى أنه كان لجده بنتان كل منهما قد نسخت كتاب (التوضيح) (¬4). ولا شك أن كلام الورثلاتي المتصوف المحافظ يخالف ما نسب إلى الأمير عبد القادر من قوله بأن المسلمين لا يعلمون بناتهم مخافة أن تراسل الفتاة من تحبه بالرسائل الغرامية (¬5)، فالتعليم كان قبل كل شيء لرفع الأمية واستجابة لدعوة الدين في طلب العلم ومعرفة الفروض وليس لأغراض أدبية ¬

_ = حملة عسكرية بابتعاد النساء والصبيان من طريقهم. ومع ذلك لا يخضع هؤلاء الجنود لأي عقاب على فعلهم. (¬1) ابن مريم (البستان) ص 314. انظر أيضا بارجيس (تكميل تاريخ بني زيان)، 474. (¬2) ابن سليمان (كعبة الطائفين) 3 - 264 نسخة باريس. (¬3) انظر (أبحاث وآراء في تاريخ الجزائر) ج 1. (¬4) الورتلاني (الرحلة)، 75. (¬5) ايمريت (مجلة التاريخ الحديث والمعاصر)، 1954، 202، وكذلك يوجين دوماس (الخيول العربية)، انظر أيضا (تحفة الزائر)، ج 1.

الكتب

واجتماعية. وقد ذكر السيد شيلر الذي عاش في مدينة الجزائر أكثر من خمس عشرة سنة أن فيها مدارس خاصة لتعليم البنات لم يشهدها هو ولكن الناس حدثوه عنها، وأن النساء هن اللائي كن يدرن هذه المدارس (¬1)، وقد شمل تيار تعليم المرأة حتى بعض الرسميين، ذلك أنه ورد في بعض الوثائق أن وزير البحرية (وكيل الحرج) قد جاء بمعلم العربية إلى داره ليعلم بنتيه فكانت واحدة منهما قد حفظت ثلث القرآن وتعلمت القراءة والكتابة وعمرها لا يزيد عن أربع عشرة سنة (¬2). أما المرأة الريفية فقد كانت أكثر ظهورا من المرأة الحضرية، وكانت تقوم بدورها الاجتماعي والاقتصادي بدون تحرج في حدود البيئة والتقاليد والدين، ولا شك أنها أيضا كانت تتلقى في صباها قواعد الدين ومبادئ القراءة على يد والديها إذا كانا من المتعلمين أو على يد مؤدب خاص أحيانا. 5 - الكتب: ومن أهم وسائل التعليم أيضا الكتب والمكتبات وقد تحدثنا عن المكتبات فيما مضى، وسنذكر في حديثنا عن الأساتذة أنهم كانوا يلجأون إلى توفير الإملاءات لطلابهم فنتج من ذلك عدد من التقاييد والحواشي والشروح، وهي جميعا تتحول إلى تآليف في مختلف الفروع. فالتعليم إذن كان باعثا على التأليف (¬3). المناهج 1 - في التعليم الابتدائي: منذ كتب محمد بن أبي جمعة الوهراني رسالته (جامع جوامع الاختصار والتبيان فيما بين المعلمين وآباء الصبيان) أوائل القرن العاشر لا ¬

_ (¬1) شيلر (موجز تاريخ الجزائر)، 58. (¬2) ليون روش (اثنتان وثلاثون سنة في الإسلام) 1/ 19. (¬3) عن الكتاب كوسيلة في التعليم انظر فقرة أساتذة الثانوي، بعد قليل.

نعلم أن مؤلفا آخر قد تناول قواعد التعليم والتربية أو مناهج التدريس في الجزائر خلال العهد الثاني، وقد كانت طريقة التعليم الابتدائي بسيطة بساطة التعليم نفسه: فالمؤدب كان يجلس عادة في صدر الكتاب متربعا على حصير أو نحوه، مسندا ظهره إلى الجدار، مرتديا عمامة وجبة وفوقها أحيانا برنس، وبيده عصا طويلة تصل إلى أبعد تلميذ عند الحاجة، وكان يلتفت يمنة ويسرة يراقب حركات التلاميذ وأداءهم لواجبهم. وعندما يحين وقت الإملاء يملي المؤدب بصوت عال على من يسأله من التلاميذ، وأحيانا ينهر تلميذا آخر يراه عابثا أو ضاحكا، وهو يحرك رأسه آذنا لمن يسأله الدخول أو الخروج. وكان التلاميذ يتحلقون حول المؤدب في نصف دائرة وإذا كثروا تتعدد الدائرة، وهم أيضا كانوا يجلسون متربعين على حصير أو نحوه قبالة المؤدب، وبيد كل واحد منهم لوحة كبيرة أو صغيرة حسب إمكانيات التلميذ وعمره، وعلى اللوحة البيضاء والملساء من تمرير الطين عليها، كتب درسان (آيات من القرآن الكريم)، فعلى الوجه الأول درس الأمس وعلى الوجه الثاني درس اليوم، وإذا حفظ التلميذ درس الأمس واستظهره على المؤدب أجاز له محوه وكتابة درس جديد، وبذلك يحل درس اليوم محل درس الأمس، وهكذا إلى أن يأتي التلميذ على القرآن كله كتابة وحفظا، وكان كل تلميذ يمسك بلوحته بيديه إما من جانبيها وإما من خيط مثبت في أعلى وسطها. وهو في جلسته يتحرك بجسمه ورأسه أماما وخلفا وأحيانا يمينا وشمالا، وهو يقرأ الآيات المكتوبة بصوت عال، ويشترك جميع التلاميذ في ذلك إلى أن تحدث جلبة وضجيج وتختلط الأصوات، فلا تعود تسمع آيات القرآن وإنما مجموعة من الأصوات المدوية المبعثرة التي تتمازج فيها آيات القرآن. وكان مداد الكتابة هو السمق الأسود المستخرج من صوف الضأن والمصبوب بعد حرقه في الدواة، أما الأقلام فأغلبها من القصب، ولا نظن أن الأطفال كانوا، كما قال بعضهم، يكتبون ألواحهم بالطباشير (¬1). ولم يكن ¬

_ (¬1) شيلر، 57. هناك وصف آخر لجلسات المؤدب والأطفال في الكتاب تجده في الأجزاء الأخرى التي تتناول العهد الفرنسي.

الأطفال في هذه المرحلة يستعملون الورق للكتابة. ويذهب التلاميذ إلى الكتاب مرتين في اليوم، صباحا ومساء، وفي كل مرة يبقون في الكتاب حوالي ساعتين. وقد جرت العادة أن الجلسة الصباحية هي المهمة لأن الاستظهار والمحو والكتابة من جديد تتم خلالها. فالتلميذ يغدو صباحا عند طلوع الشمس صافي الذهن فيأخذ لوحته ويقرأ فيها بعض الوقت ويستظهر درسه بنفسه أو بمعاونة زميله، فإذا وثق من أنه قد حفظ الدرس تقدم من المؤدب واستظهره (أو عرضه كما يقال في بعض الجهات) عليه، فإذا شعر المؤدب أن التلميذ قد تمكن من الحفظ أذن له بمحوه، ويذهب الأطفال الواحد بعد الآخر لمحو ألواحهم وتجفيفها في الشمس والهواء أو عند المدفأة، ثم يعودون بها مصقولة جافة ويجلسون بالقرب من المؤدب في غير نظام ويكتبون آخر الآية الموجودة في درس الأمس كبداية للدرس الجديد، ثم يستملون المؤدب بالنطق بتلك الآية بصوت عال فيكمل هو ويواصل الإملاء تلقائيا إلى أن يشير على التلميذ بالتوقف عندما يدرك أن ما كتبه يكفيه بناء على مستواه وسنه، وأحيانا يتوقف التلميذ نفسه عندما يأتي بالكتابة على آخر اللوحة، وعندما ينتهي التلميذ من مرحلة الإملاء يتراجع ويأخذ مكانه في الحلقة ويشرع في قراءة الدرس القديم. فإذا انتهى الجميع من الكتابة تحلقوا حول المؤدب، يكون الوقت الصباحي قد أوشك على الانقضاء ثم يبقى التلاميذ في انتظار الإشارة من المؤدب بالسراح، وذلك بضرب الحائط بالعصا مرتين أو ثلاثا. أما جلسة المساء فهي في الغالب بالحفظ بالطريقة التي وصفناها، في الدرس القديم استعدادا لاستظهاره ومحوه في صباح اليوم التالي، وهكذا. أما العطلة فقد كانت يومي الاثنين والجمعة. وأخف أنواع العقوبة على التلميذ في هذه المرحلة هو التأنيب بالكلام وأقساها تسليط (الفلاقة) عليه، فالمؤدب قد يؤنب الطفل بكلمات جافة أو ينهره بقوة، وقد يضربه بعصاه على أصابع يده أو حتى على رأسه، وقد يكون المؤدب غير متوازن فيضرب التلميذ ضربا مبرحا أو عشوائيا فيرمي العصا في وجهه فيفقده عينا أو سنا أو نحو ذلك، وأغلب الآباء كانوا يرضون بتصرف

المؤدب، لأنه موضع ثقتهم، ويوجهون اللوم إلى التلميذ، وقد يقولون للمؤدب (العصا لمن عصى)، وهم يعنون بذلك أن الذي يستحق العقوبة هو العاصي أو المتمرد، ومن ثمة يستحق الضرب بالعصا، ولكن اللجوء إلى هذه المعاملة نادر جدا، وهو أساسا يعود إلى مزاج المؤدب، فإذا تكرر منه ذلك وكثرت ضده الشكاوي يعفيه الآباء من مهمته، كما سبق، كما أن اللجوء إلى الفلاقة لا يكون إلا في الأحوال النادرة حين يرتكب التلميذ خطأ كبيرا كالسرقة ونحوها، وتكون الفلاقة بوضع قدمي الطفل بين حبلين ممسوكين بعصا والضغط على القدمين بالحبلين حتى لا تنفلتان، ثم توقيع الضرب عليهما عشرا أو عشرين مرة أو أكثر وأحيانا حتى تدمى القدمان، ولا يستطيع المؤدب أن يقوم بهذه العملية وحده ولذلك يلجأ إلى كبار التلاميذ ليساعدوه عليها، وكثيرا ما أدت الفلاقة وقسوة المعاملة إلى هروب التلاميذ من الكتاب وانقطاعهم مؤقتا أو دائما عن التعليم في هذه المرحلة. ومع ذلك فإن عددا من المؤلفين قد أشاد بالطريقة البيداغوجية الجيدة التي كانت متبعة في هذا المستوى من التعليم (¬1) فالعصا أساسا كانت تستعمل لإبقاء النظام وجلب الانتباه وليست للعقوبة وكانت العلاقة جيدة بين التلميذ والمؤدب، وهي تقوم على مبدأ احترام الصغير للكبير القائم عليه المجتمع كله، وعلى مبدأ آخر وهو احترام حفظة القرآن ورجال العلم من الجميع أيضا، وكان الآباء ينقلون، بالتقاليد، هذين المبدئين للأبناء، وتظل هذه العلاقة بين التلميذ والمؤدب محفوظة حتى عندما يصبح التلميذ رجلا مسؤولا فهو دائما ينظر إلى مؤدبه (أو شيخه) نظرة تجلة واحترام، يحييه ويقوم له في المجلس ويستشيره في الملمات، ويدعوه في المناسبات، ويذكره بعد الوفاة بعاطفة وتأثر. فهو حسب التقاليد، والده الروحي. ويعتمد التعليم الابتدائي على الحفظ، فالتلميذ الذكي قد يختم القرآن حفظا وهو دون العاشرة. غير أن معدل سن حفظه كله هو الثانية عشرة ¬

_ (¬1) بولسكي (العلم المثلث)، 22.

ويقضي التلميذ بقية السنوات (في العادة إلى الرابعة عشر أو أكثر) في تكرير القرآن على شيخه برواية ورش وقالون وغيرهما .. ومساعدته على التلاميذ الصغار، كما أنه يأخذ في إتقان الكتابة والقراءة وتعلم مبادئ الحساب وقواعد الدين وحفظ بعض المتون التي ستكون أساس تعلمه الثانوي، وخلال هذه المرحلة أيضا (الابتدائية) يتعلم التلميذ الخط ويجوده (¬1) وكان بعض المؤدبين يسلكون مع تلاميذهم مسلكا تربويا جيدا فيشاطرونهم ألعابهم ونحو ذلك، فقد روى محمد بن سليمان أن مؤدبه، وهو عمر بن يوسف، كان يخرج مع الطلبة يوم الخميس إلى المرجع خارج تلمسان ويلعب معهم الكرة (¬2). ولولا الاحتفالات التي أشرنا إليها والتي تكون عند ختم القرآن أو عدة أحزاب منه لكان هذا التعلم مملا، فقد كانت تلك المناسبات الاجتماعية تخفف على التلاميذ، وعلى المؤدب أيضا، بعض الملل والرتابة، ذلك أن التلاميذ كانوا ينطلقون في شوارع الحي أو طرقات القرية في براءة ونشاط معلنين نجاح زميلهم ومرددين عبارات البشائر والتهاني، ثم يذهبون إلى منزله ليأكلوا ما أعدته لهم أمه وأهله الفرحون بالنجاح. ويشترك معهم في ذلك أهل الحي أو القرية، وقد تتهاطل الهدايا على المؤدب الذي بفضله نجح التلميذ، وكثيرا ما كانت الأمهات تفاخر بهذا الحادث وتنشد له الترنيمات والأغنيات فرحا بمستقبل أبنائهن. ولم يكن الانتقال من التعليم الابتدائي إلى التعليم الثانوي يتم بطريقة منتظمة، فكثير من التلاميذ كانوا ينقطعون، ولا سيما أولاد الفقراء كما سبق ¬

_ (¬1) شيلر، 58، وايمريت (مجلة التاريخ الحديث والمعاصر)، 1954، 202. وقد ادعى هذا الكاتب أن تعلم اللغة العربية وحفظ القرآن لم يكن سهلا على التلميذ لأن العربية (لغة أجنبية على الطفل) ولو درس ايمريت وأنصف لوجد أن تعلم الأطفال الجزائريين العربية وحفظهم القرآن بها كان يعود إلى كون المادتين (القرآن والعربية) تمثلان أساسا ثقافة المجتمع الجزائري. (¬2) محمد بن سليمان، (كعبة الطائفين) 3/ 284.

في التعليم الثانوي

أن أشرنا، عن الدراسة تماما، ثم يستأنفونها وهم كبار في المدارس والمساجد، وخلال هذا الانقطاع كان التلميذ ينسى معلوماته، وقد ينسى معظم القرآن الذي حفظه إذا لم يتعهده بالتكرار وصلاة التراويح به خلال شهر رمضان. كما أن بعض التلاميذ قد يدخلون ميدان التجارة أو الفلاحة (إذا كانوا من أهل الريف)، وقد ينخطرون في الجيش، إلى غير ذلك من شؤون الحياة الأخرى، والسبب في هذا الانقطاع الاضطراري للراغبين في مواصلة التعلم هو عدم وجود سلم تربوي ينتقل بمقتضاه التلميذ من مرحلة إلى أخرى. ذلك أن الغالب فيمن يذهب إلى المدارس والمساجد أن يكون رجلا ناضجا لا مراهقا في الرابعة عشر، والحق أن طلاب الثانوي، إذا استثنينا بعض طلاب زوايا الأرياف، كانوا في العادة آباء أو في درجة الآباء. 2 - في التعليم الثانوي: يلتحق الطالب بعد ذلك الانقطاع بالمسجد أو المدرسة ليتابع دراسته المتوسطة والثانوية. فإذا كان فقيرا أو قادما من مكان بعيد أعطى سكنا في الزاوية المعدة لاستقبال الطلبة الفقراء والغرباء، وقد لا يجد السكن في الزاوية ولكنه يجد فيها الطعام. كما أنه قد لا يجد فيها الطعام وإنما يجد السكن لأن كل ذلك خاضع لنصوص الوقف وإمكانياته وخاضع أيضا لإمكانيات الزاوية من هدايا الناس إليها ومداخيلها. ومن عادة الطلبة أنهم لا يدرسون في مدنهم أو جهاتهم بل يبتعدون عن مواطنهم فيقصدون المساجد والزوايا البعيدة التي اشتهر فيها بعض المدرسين أو اشتهرت هي بأنها قد أخرجت عددا من العلماء مثل مدرسة مازونة وزاوية ابن علي الشريف والجامع الكبير بالعاصمة. يدخل الطالب إذن مكان الدرس فيجد المدرس أو المدرسين وحولهم الطلاب في حلق أو نصف دوائر، وكل مدرس يتناول مسألة أو كتابا معينا، فإذا كان الطالب قد كون فكرة واضحة عن مدرس بعينه قبل مجيئه فإنه يقصده مباشرة ويجلس إلى حلقته ويتابع دراسته معه في المادة التي يدرسها أو

المواد، (إذ أن بعضهم كان يدرس أكثر من مادة واحدة ولكنه قد يشتهر بواحدة كما سنرى)، أما إذا جاء الطالب وهو لا يدري عمن سيدرس فإنه يجلس إلى المدرسين عدة مرات حتى يستقر رأيه على واحد منهم أو أكثر. والمدرس حر في وضع البرنامج الدراسي وفي تحديد أوقات التدريس في الغالب، فبعضهم كان يعد دروسه في الصيف ويلقيها في الشتاء (¬1)، وبعضهم كان يلقي دروسه ثلاث مرات في اليوم الواحد (¬2)، كما أن بعضهم كان يلقيها في الصباح فقط أو بعد الظهر فقط، أو مرتين في النهار وقد لا ينقطع بعض المدرسين عن التدريس طول النهار (¬3)، ومهما كان الأمر فإن معظم الدروس كانت، كما ذكرنا آنفا، في الصباح وبعد الظهر وبعد العصر. وبالتدرج ترتبط علاقة وطيدة بين الطالب والمدرس، ذلك أن المدرس هو الذي ينصح تلميذه بكيفية القراءة، وبالكتب التي عليه أن يدرسها وبطريقة تحضير الدرس، وبالمتون التي عليه حفظها، ونحو ذلك مما له علاقة ببرنامج التدريس. وكان الفرق بين مدرس وآخر، في نظر الطالب، بالإضافة إلى العامل النفسي، هو سيطرة المدرس على مادته ومدى حفظه لها ولفروعها وفصاحة لسانه وقوة شخصيته وإخلاصه في مهنته، وفي ضوء هذا كله كان الطالب يقرر الاستمرار مع المدرس أو الانتقال عنه إلى مدرس آخر أو حتى إلى مؤسسة أخرى. وما دام البرنامج شخصيا فإن الاستمرار فيه أمر شخصي أيضا، وكثير من الطلاب كانوا يغيرون وجهتهم بعد وفاة مدرسهم أو هجرته كما فعل سعيد قدروة بعد وفاة شيخه ابهلول المجاجي، وكما فعل عيسى الثعالبي عند وفاة شيخه علي بن عبد الواحد الأنصاري، فقد كانت الرابطة قوية جدا بين الطالب والأستاذ لدرجة أنها ¬

_ (¬1) جاء ذلك في ترجمة الشيخ محمد الكماد، انظر (سلوه - الأنفاس) 2/ 30. (¬2) ذكر ذلك أحمد توفيق المدني عن أساتذة مدرسة صالح باي، انظر كتابه (محمد عثمان باثا)، 153. (¬3) ابن مريم (البستان)، 145 وذلك في ترجمة الشيخ علي بن يحيى.

أحيانا تغير مجرى حياة الطالب وتؤثر على مستقبله. كانت ميزة الدروس في التعليم الثانوي (والعالي أيضا) هي الشرح والإملاء. فقد كان لكل مدرس مسمع يقرأ له النص أو جزءا من الكتاب المدروس، ثم يأخذ المدرس في شرح المسألة وتوضيحها والاستشهاد لها من محفوظه ومعقوله أو من (المنقول والمعقول)، وقد لا ينهي المدرس المسألة في نفس الجلسة، فإن ميزة المدرس الناجح هي الخوض في الجزئية الواحدة عدة مرات ومن عدة وجوه، وكلما أطال المدرس في المسألة وأفاض فيها كلما كان ذلك من ميزات نجاحه، وهو يختم درسه في العادة بإملاء خلاصات على الطلاب فينسخونها بحذق وعناية كما أن الطلاب أنفسهم يسجلون الدرس كله إذا كان المدرس واسع العلم غير متقيد بالمنقول والمسموع من المسائل، فإن الطلاب في هذه الحالة يصبحون حريصين على ألا تفوتهم شاردة ولا واردة من درس شيخهم. وبذلك يسهمون بدورهم في حركة التأليف التي كانت ممدوحة حينئذ (¬1). كما أن الشيخ كان يسهم في حركة التدوين بوضع شروح على المسائل التي عالجها لطلابه أو يضع حواشي وتقاييد وتعاليق، بعضها عميق ومفيد تستفيد منه الأجيال اللاحقة، وبعضها كان مجرد تكرار لما سبقه أو اختصار للمطولات، وعلى كل حال فإن بعض التآليف المنسوبة إلى عدد من المدرسين والتي سنعالجها في الجزء الثاني كانت لا تخرج عن هذه الخاصية، ونعني بها الإملاءات والشروح والحواشي ونحوها، كما أن بعض المدرسين كانوا لا يهتمون بوضع الشروح والإسهام في حركة التأليف وتدوين العلم، أما مكان الدرس فأغلبه الجامع، كما عرفنا، وكان بعض المدرسين لا يتقيدون بمكان ولا حالة، فقد ثبت أن بعضهم كان يدرس وهو ماش إلى حقله أو هو صاعد إلى الصومعة للأذان، كما أن المسمع والطالب الجاد لا ¬

_ (¬1) كذلك وجدنا الأمير عبد القادر يذكر أن ميزات زاوية القيطنة على عهد والده (تدوين العلم بأكثر أنواعه بمسجدها) انظر (تاريخ الأمير عبد القادر) مخطوط المكتبة الوطنية (الجزائر).

يفارق شيخه حتى عندما يركب دابته، فهو يسير (عن يمينه أو شماله) (¬1) متلقيا عنه ما يفوه به من مسائل وآراء. أبرز ميزة في المدرس أو الأستاذ هي الحفظ والرواية. فالمدرس الكفء (والعالم عموما) هو الحافظ لعدة علوم مع أسانيدها، وليس المراد حفظ المتون ونحوها بل حفظ بعض الكتب كاملة كشرح خليل والرسالة وابن الحاجب وغيرها من الكتب والشروح، وكانت ملكة الحفظ متوفرة وقوية حقا، فأهل المغرب، والعرب عموما كانوا يمتازون بالحفظ وكثير منهم كانوا يحفظون القصيدة أو القطعة ونحوها من سماعها الأول، ولذلك نجد المترجمين لأهل العلم في الجزائر خلال العهد المدروس (والذي قبله طبعا) يكثرون من عبارة (الحافظ) لعدة علوم. ففي (البستان) لابن مريم و (مطلب الفوز) للبطيوي وغيرهما كثير من ذلك، وقد قال أبو حامد المشرفي عن شيخه عبد الله سقط إنه (الحافظ الحجة التابع لجادة المحجة) وعن شيخه الثاني محمد بن مصطفى أنه كان يحفظ الخرشي على خليل ويمليه في الدرس، حفظا كما يحفظ أحدنا القرآن (¬2) وقد وصف ابن زاكور المغربي شيخه ابن الكماد القسنطيني بأنه (العلامة الحافظ الدراكة ..) (¬3) وقيل في ترجمة ابن الكماد أيضا (اجتمعت الكلمة على أنه أحفظ علماء عصره، بل ظهر من حفظه ما بهر العقول) (¬4) كما وصف بالحفظ أبو راس وأحمد بن عمار وغيرهما. وكانت ميزة الجمع بين عدة علوم أيضا من الميزات الهامة في الأستاذ الكفء وقد قيل عن ابن الكماد الذي سبق ذكره أنه كان يحسن اثني عشر علما، فإذا جمع المدرس إلى ذلك حذق الدرس بمفهومه ومنطوقه فهو صاحب (المفهوم والمنطوق) وهي أيضا من التعابير الشائعة عند العلماء في ¬

_ (¬1) ابن مريم (البستان)، 145. (¬2) المشرفي (ذخيرة الأواخر والأول)، مخطوط مصور. (¬3) ابن زاكور (الرحلة). 22. (¬4) الكتاني، (سلوة الأنفاس) 2/ 30.

هذا العهد. ومن جهة أخرى كانت الرواية، ولا سيما رواية علوم الحديث، مظهرا من مظاهر الثقافة عندئذ عند المدرسين. فالطالب كان يروي علومه عن شيخه وهذا عن شيخه وهكذا إلى أن يصل الطالب بالمسألة العلمية إلى صاحبها الأول عن طريق الرواية. فإذا كان الموضوع في الحديث النبوي فالرواية تعني الوصول به إلى النبي (صلى الله عليه وسلم)، وهو ما يعرف عندهم بالسلسلة وأحيانا يعرف بالسند أو الإسناد. وقد ألف الجزائريون في ذلك عدة تآليف وأشادوا بالحفظة والمسندين والرواة، ولهم في ذلك طرق معهودة وصيغ محفوظة. ومن أشهر من ترك آثارا في هذه النقطة (التي سنعود إليها في الجزء الثاني) أحمد بن عمار وعيسى الثعالبي وأبو راس وابن العنابي. وبالإضافة إلى علوم الحديث كانوا أيضا يهتمون بالرواية في العلوم النقلية الأخرى كالتفسير والفقه. وقد قيل عن الأمير عبد القادر أنه أخذ التفسير والحديث والفقه والنحو وأصول الدين عن والده، كما أخذ والده هذه العلوم عن شيخه عبد القادر المشرفي، إلى آخر السند. ووصف لنا ابن حمادوش في رحلته طريقتهم في علاج درس البخاري بالجامع الكبير بالعاصمة على عهده. ولا شك أن الملل كان يرافق جميع الدروس باستثناء تلك التي كان يلقيها مدرسون جمعوا إلى التعمق في المعرفة قوة الشخصية والسيطرة على اهتمام الطلاب. وكما اهتم المدرسون بالرواية اهتماما بالغا اهتموا أيضا بالدراية، وهي إدراك المسائل عقليا بعد تعلمها بالنقل، ولكن اهتمام علماء هذا الوقت كان بالرواية أكثر، ولذلك غلب النقل على العقل عندهم ومنطوق العلوم على مفهومها ذلك أن إدراك العلوم بطريقة عقلية كان يصل بهم إلى الاجتهاد واستعمال النظر أو ما نسميه اليوم حرية الفكر وهم لا يريدونه لأنهم لم يكونوا يثقون في علمهم ولأن ادعاء بعض المدرسين الاجتهاد كان يؤدي بهم إلى عواقب وخيمة كالاتهام بالزندقة والإلحاد والكفر ونحو ذلك. وتنتهي علاقة الطالب بأستاذه لعدة اعتبارات. منها وفاة الأستاذ كما

أشرنا، ومنها انقطاع الطالب عن الدراسة لظروف خارجة عن إرادته، وكذلك انتهاء الأستاذ من المادة التي يدرسها ورغبة الطالب في متابعة دروسه في مستويات أخرى قد تكون خارج الجزائر. وكثير من الطلاب كانوا لا يصلون بدراستهم إلى نهايتها. ذلك أن البرنامج نفسه، كما أشرنا، غير محدد، ومن جهة أخرى فليس كل الطلاب في الدرس الواحد كانوا في مستوى واحد من العلم. فليس هناك تدرج محكم في التعليم يراعي مستوى الطلبة وقواهم العقلية، فقد يحضر في الدرس، الصغير مع الكبير والذكي مع الغبي والذي قضى فترة في التلقي مع الذي جاء لتوه. كما أن هذا النوع من التعليم لا ينتهي بشهادة أو نحوها، وأقصى ما يطمح إليه الطالب المجتهد والطموح هو حصوله على إجازة شفوية من أستاذه. وهي تسريحه ورضاه عنه. وقد كانت الإجازة المكتوبة في البداية محددة ومقننة، فلا يعطاها أي طالب. ولكن بتوالي الزمن وضعف التعليم والتعلم وتدهور الحياة العقلية بصفة عامة أصبح منح الإجازات سهلا وشائعا، وكثيرا ما كان يمنح الطالب الإجازة سواء كان يستحقها أو لا يستحقها، أي من جلس للدرس وتتلمذ، ومن كان عابر سبيل، بل أصبحت الإجازة تعطى عن طريق المراسلة دون أن يرى الطالب المدرس أو يأخذ عنه شيئا، وبعد أن كانت الإجازة مقيدة بعلم أو كتاب بعينه أصبحت مطلقة غير مقيدة، وقد اشتهر بعض المدرسين بمنح الإجازات في الجزائر كعلي بن عبد القادر بن الأمين الذي قال عنه تلميذه محمد بن العنابي بأنه (قد أجاز كل من أدرك حياته)، وقد قلده ابن العنابي في ذلك أيضا، وهكذا. ومهما كان الأمر فإن الشهادة أو الإجازة هي آخر علاقة بين الطالب والمدرس، غير أن ولاء الطالب لأستاذه يظل قائما معبرا عليه بعبارة (شيخنا) ونحوها في كتابات الطالب. ومن الملاحظ أن هناك فرقا في مستوى التعليم بين أساتذة وطلاب الحواضر والبوادي، ذلك أن الأولين، بحكم وفرة الكتب وحركة العلماء

وتعارضهم وكثرة الاختلاط والتنافس على الوظائف، كانوا أقوى عارضة وأنفذ حيلة وأوسع أفقا، وقد عرفنا شيئا من أوصاف الفكون لفئة من العلماء في قسنطينة وهو في الواقع يطلقها على جميع أهل الحواضر، ونجد في رحلة ابن حمادوش حوادث من هذا النوع أيضا حيث تهكم بطلاب البادية واعتبر طلاب الحاضرة أشد ذكاء وأغزر علما منهم (¬1). وكان أبو راس قد عاد من الريف إلى معسكر لأن التعليم فيها كان أقوى منه في الريف الذي لم يجد فيه ضالته، بل كاد يقتل فيه موهبته، وقد لاحظ الورتلاني أنه لقي في جامع بسكرة من يقرأ اللوحة بلا أدب ولا استقامة (¬2). وعرفنا أن العياشي قد وصف فقهاء تقرت بأوصاف غير حميدة. وتضاءلت الحاجة إلى العلم حتى أصبح كل من يقرأ بعض القرآن ويفهم بعض المسائل الفقهية يعتبر من أهل العلم، فهذا الورتلاني كان يكفيه من قرية سيدي بهلول أنه وجد فيها من يقرأ القرآن. ويفهم العلم (¬3)، ولا شك أن مستوى التعليم في الحاضرة لم يكن في درجة عالية أيضا، ولكن الأمور تقاس بنسبتها إلى غيرها. ومن المدرسين والأساتذة من كان كثير التأليف ومنهم من كان قليل أو لم يؤلف شيئا على الإطلاق. فقد كان بعض المدرسين صاحب ذاكرة وقلم ولسان في نفس الوقت. وهؤلاء قد تركوا بعض التآليف في مختلف العلوم التي درسوها لطلابهم في شكل شروح أو ملخصات أو في شكل كتب ودواوين مستقلة. فأحمد المقري مثلا كان كثير التأليف وكذلك أبو راس ولكن معظم المدرسين لم يتركوا إلا ملخصات لدروسهم وبعض الحواشي والتقاييد، ولعل بعضهم لم يترك شيئا جديرا بالاعتبار في هذا الميدان، ومع ذلك كانت شهرته في التدريس تغطي الآفاق، فسعيد المقري وسعيد قدورة وعمر الوزان وأحمد العباسي وغيرهم قد جاءت شهرتهم من الدرس لا من التأليف، وظل تلاميذهم يذكرونهم جيلا بعد جيل، بل كان لبعض الناس ¬

_ (¬1) ابن حمادوش (الرحلة) مخطوطة. (¬2) الورتلاني (الرحلة)، 117. (¬3) نفس المصدر، 13.

المواد المدروسة

عقائد غامضة فيهم تشبه العقائد في الأولياء والصالحين، وقد قيل عن ابن الكماد إنه كان أحق بالتآليف لكثرة علومه لولا كثرة التدريس، وقيل عن سعيد المقري شبه ذلك. وكان بعض المدرسين قد اشتهروا بتدريس مادة معينة كالفقه أو النحو، وبعضهم كان يجمع في دروسه عدة علوم، وقد كان الغالب عليهم الجمع بين علوم مختلفة، فنحن نجد مثلا في ترجمة أحمد الزكوطي المعروف بابركان أنه كان يقرئ تلاميذه في تلمسان حوالي ثمانية علوم من رسالة ابن أبي زيد القيرواني في الفقه، إلى ألفية ابن مالك في النحو، إلى السلم المرونق في المنطق للأخضري، إلى حكم ابن عطاء الله في التصوف. وكان الشيخ محمد التواتي بقسنطينة يقرئ تلاميذه النحو الذي اشتهر به وعقائد محمد السنوسي في التوحيد وغير ذلك، وكان بعض المدرسين قد عرفوا بعلوم معينة كالعلوم الدينية مثل سعيد قدورة في مدينة الجزائر، وبعضهم قد اشتهر (بالعلوم العقلية) كعبد الكريم الفكون في قسنطينة الذي اشتهر بالخصوص في علوم النحو والصرف والبلاغة وأمثالها، ونتيجة لذلك اشتهرت أيضا بعض المدارس بعلوم معينة، فقد عرفت مدرسة مازونة بالفقه وبعض زوايا زواوة بالقراءات ومدرسة قسنطينة والخنقة بالنحو، وهكذا، ولكن بعض المدرسين قد برزوا في علم واحد حتى أصبحوا عند المعاصرين لهم كأنه علم عليهم، فهذا الفكون قد ظهر في النحو، وهذا ابن عمار قد اشتهر بالأدب والبلاغة. 3 - المواد المدروسة: وقد تقلصت المواد الرياضية والطبية من البرامج الثانوية والعالية واقتصرت العلوم المدروسة على العلوم الدينية واللغوية وبعض كتب التاريخ والسيرة وقانون ابن سينا في الطب، وهذه قائمة بالعلوم الدينية الشائعة عندئذ والتي كانت كملح الطعام في كل مجلس علم: - تفسير القرآن الكريم بعدة كتب منها تفسير الثعالبي وتفسير السيوطي. - الحديث الشريف، وخصوصا صحيح البخاري الذي كاد يقرأ أكثر من

القرآن، ومختصر ابن أبي جمرة، وكتاب الشفاء للقاضي عياض. - مصطلح الحديث بألفية العراقي. - الفقه المالكى برسالة ابن أبي زيد القيروانى، ومختصر ابن الحاجب الفرعي. - الفقه الحنفي بكتب مختلفة وأساسية في المذهب. - التوحيد أو علم الكلام بالمنظومة الجزائرية وعقائد السنوسي الثلاث. - أصول الفقه وأصول الدين بجمع الجوامع للسبكي ومختصر ابن الحاجب الأصلي. - القراءات بمنظومة الجزري والخراز وابن بري والشاطبيتين الصغرى والكبرى. - التصوف بدراسة حكم ابن عطاء الله وكتاب إسقاط التدبير له أيضا. وليس معنى هذا أن جميع الدروس كانت تشتمل على هذه العلوم، فقد عرفنا أن بعض المجالس كانت مقتصرة على علوم خاصة. كما أن طريقة تدريس كل علم كان لها دخل في تحبيبه إلى الطلاب أو إبعادهم عنه. وقد عرفنا أيضا أن بعض الكتب الدينية المشبعة بالأفكار والأوراد قد شاعت شيوعا خاصا خلال هذا العهد مثل (دلائل الخيرات) و (تنبيه الأنام)، ولكن خارج حلقات الدرس. أما العلوم اللغوية ونحوها فقد كانت لا تخرج أيضا عن المواد التقليدية، يضاف إلى ذلك هبوط مستوى التحليل والاستنتاج وشيوع روح التصوف لدى مدرسيها أيضا، وهذه أهم هذه العلوم: - النحو بالأجرومية وألفية ابن مالك وشروحها كالمكودي. - الصرف بلامية ابن مالك في التصريف. - فقه اللغة. - البلاغة بجوهرة الأخضري وحواشي السعد التفتزاني ومتنه وتلخيص المفتاح.

- العروض بالخزرجية مع شرحها للشريف الغرناطي. - المنطق بالسلم المرونق للأخضري وتهذيب السعد والجمل للخونجي ومختصر السنوسي. - الخط. - السير والأخبار. ورغم سيطرة العلوم الدينية واللغوية فإن بعض المدرسين كانوا يهتمون بالعلوم (المحضة) ولكن عدد مدرسي هذه العلوم كانوا قلة، وتدريس هذه العلوم عندهم كان لا فائدة منه عمليا. ثم ان دراسة هذه العلوم لم تكن متطورة. فالحساب كان لفهم العمليات الأربع وممارسة التجارة، والفرائض كانت لمعرفة قسمة التركات ونحوها، وكذلك الأمر بالنسبة لعلم الوثائق وعلم الوضع، أما الفلك فقد كان يدرس لمعرفة الزوال وأوقات الصلاة والهلال ونحو ذلك، وليس للملاحة ونحوها، ومهما كان الأمر فهذه هي العلوم المحضة التي كانت متداولة في العهد العثماني ولو بشكل محدود. - الحساب. - الفرائض. - الوثائق. - علم الوضع. - علم الفلك لأبي مقرع بالسراج للأخضري. - الطب والصيدلة. - ولعل الفرائض والوثائق كانت من أهم هذه العلوم استعمالا، وقد برع فيها عدد من المدرسين والعلماء حتى أصبح يشار إليهم، كما في تراجم الفكون. وقد اشتهر ابن حمادوش في أكثر هذه العلوم لأنه من غير المتصوفين، وهو الذي حكى كيف كان يحاول إقناع أحد الطلبة بتعلم الحساب بتذكيره بأن أهل تونس وأهل الأندلس كانوا أول ما يعلمون أولادهم

الحساب والنحو (ليذوقوا لذة العلم) (¬1). وقد فرق بعضهم بين العلوم التي تبذل لطالبيها والعلوم التي تمنع عنهم. فأما علوم التوحيد والشريعة فيجب بذلها لطالبها، وأما علوم الصنائع والقضاء وأسرار الحروف فيجب، في نظرهم، التفرس في طالبها، فإن كان ورعا لا يخدم بها السلطان ولا يتعملها في أغراض سافلة فيعطاها وإلا كتمت عنه، ولا شك أن هذا هو رأي المتصوفة أو من يقرب منهم، فقد قال محمد بن سليمان ان (العلوم التي يجب بذلها إن تعينت ويندب إن لم تتعين إنما هي علوم التوحيد والشرائع العينية ومعاملة العبد مع مولاه التي لا يستغنى عنها. فمن كتمها عن سائلها ناله وعيد قوله (صلى الله عليه وسلم) من سئل عن علم نافع فكتمه ألجم بلجام من نار. وأما العلوم الكفائية كالأحكام والقضاء والصنائع والحرف التي لم يكلف الله بها إلا من قام بها من الآحاد، وكذا حكم الله وأسراره في آياته وأسمائه، وكذا الجدول وأسرار الحرف، إلى غير هذا من الدعوات، فتنظر لطالبها فإن توسمت فيه خيرا وصلاحا وورعا يحجزه عن أن يتوصل بذلك إلى الأغراض الفاسدة كخدمة السلاطين. فهو كالأول وإلا فيحرم بذله له. وأسرار الله لا تبث إلا للخواص، أهل القلوب الصافية والفطر (السليمة). وهو يقصد بأسرار الله علوم التصوف ومعارفه، وهي صنف ثالث من أصناف العلوم إلى جانب ما سماه بالعلوم الشرعية والعلوم الكفائية (أو الدنيوية) (¬2). وقد عاش ابن سليمان في منتصف القرن الحادي عشر (17 م). ويبدو أن معظم العلماء كانوا في عهده يطبقون هذه النظرية في بث العلوم، ولذلك ضعفت العناية بالعلوم الدنيوية التي ذكرها، ليس كتمانا لها ولكن جهلا بها. ولم تكن العلوم التجريبية والتاريخية تدرس في الجزائر خلال العهد العثماني، فلا نعرف أن أحد المدرسين قد عرف بتدريس الطب مثلا كما كان ¬

_ (¬1) ابن حمادوش (الرحلة) مخطوطة. (¬2) ابن سليمان، (كعبة الطائفين)، 1/ 287. نسخة باريس.

مدرسو تلمسان أيام بني زيان (¬1)، رغم وجود بعض المتطببين والصيادلة، كما لا نعرف من اشتهر بتدريس علوم النبات والحيوان أو الرياضيات أو الكيمياء أو علم الملاحة، ومن العلوم التي كان الحديث يكثر فيها، علم الجغرافية والتاريخ والتراجم (المناقب) وهناك من ألف طبعا في هذه العلوم الثلاثة، ولكننا لا ندري من برز في تدريسها من الأساتذة. ونحب أن نلاحظ أن التاريخ كان في جميع أنحاء العالم عندئذ ما يزال فرعا من فروع الأدب. وكان يروى في شكل أخبار عامة فيها الصدق والكذب والمبالغات العجيبة والحكايات الغريبة. وممن اشتهر برواية الأخبار والتواريخ محمد بن عبد الكريم الجزائري وأبو راس وأحمد المقري. أما الجغرافية فالظاهر أن المعرفة بها كانت لا تعدو معرفة بعض مواقع الأقاليم والطرق والعواصم الإسلامية وبعض الخرائط. وقد ألف بعض الجزائريين عددا من الرحلات التي تدخل عادة ضمن علم الجغرافية. وأما الطب فقد كان يتعلم بالعادة والممارسة لا بالتدريس والتحصيل كما أسلفنا. ولعل عدم تدريس الجزائريين للعلوم المحضة وممارستها هو ما جعل بعض الملاحظين الأجانب يهاجمون بشدة التعليم الجزائري عندئذ، ولا شك أن هجومهم فيه كثير من الحقيقة. فالجهل بالعلوم التجريبية وهي التي كانت شائعة في العصور الإسلامية الزاهرة والتي ألف فيها أكبر علماء المسلمين، كان غير مغتفر لمدرسي وعلماء الجزائر، كما أن إحلال التصوف محل الفلسفة (رأس الحكمة وأمها) ومدارسة العلوم الدينية والأدبية وحدها كان جناية على العقل الإنساني اشترك فيها المسؤولون والمدرسون على السواء. فقد قال الطبيب الإنكليزي شو إنه حاول عندما وصل إلى الجزائر أن يلتقي بالعلماء فعثر على أكبر عالم في الفلك فكان هو الذي يشرف على أوقات الصلاة ولكنه كان غير قادر حتى على إدارة عدال الشمس (المزولة)، ولعل في هذا القول بعض المبالغة ولكن فيه كثير من ¬

_ (¬1) انظر رحلة عبد الباسط بن خليل الذي ذكر أن ابن فشوش كان ماهرا في الطب في الدرس والمزاولة.

حوافز التعليم وأهدافه

الحق (¬1)، ولم يجد شو عند علماء الجزائر معرفة بعلم الملاحة ولا بعلم الكيميا، الذي كان محببا، كما قال، إلى أجدادهم، والذي أصبح عند علماء الجزائر متمثلا في صناعة ماء الورد فقط، ولا بعلم الطب الذي ألف فيه ومارسه الرازي وابن رشد وابن سينا وغيرهم، وقال شو ان علماء الجزائر إذا اعتنوا بالنباتات والحيوانات فإنهم يكتفون بالعناية بأشكالها وليس بأوصافها وخصائصها (¬2). وقد أبدى شو أيضا ملاحظات مشابهة عن معرفة علماء الجزائر في وقته (القرن 18 م) لعلم التاريخ والجغرافية. وبالغ بعض الأوروبيين فحكم على أن علماء الجزائر لا يكادون يفقهون شيئا عن الفلك والمنطق والرياضيات ونحوها من الفنون والعلوم، وأضاف بأن جميع معارفهم كانت تقوم في هذا الباب على ما يسميه بالسحر (¬3) وهو بدون شك يقصد الشعوذة والخرافة التي كان يقوم بها أشباه العلماء عندئذ. 4 - حوافز التعليم وأهدافه: وإذا كان التعليم لا حدود له زمانية أو مكانية فإن له حوافز تدفع بالمتعلمين إلى المزيد منه وإتقانه. فما هي الحوافز التي كانت للتعليم خلال العهد العثماني؟ وما هي الأهداف منه؟ إن الحافز الأول كان بالطبع هو الدين وليس الدنيا، كما أشرنا. فمعظم المتعلمين كانوا يستزيدون علما استكمالا لدينهم وفهما لمبادئه وحدوده. فليس هناك أهداف سياسية أو اقتصادية يحمل عليها المتعلم دون الجاهل عندئذ. بل لعل العكس هو الصحيح. فقد كان الجهال والمغامرون، وخصوصا في ميدان السياسة، هم الذين لهم الغلبة والكلمة الأخيرة، كما عرفنا. ومن جهة أخرى فقد كان المتعلم مدفوعا إلى العلم بدافع ذاتي، ذلك أن العلم كان قبل كل شيء لذة وهواية. فالطالب كان يعرف مقدما أن حرفة العلوم غير مربحة دنيويا، ومع ذلك كان يقدم على التعليم لرغبة ملحة وتضحية كبيرة لأنه يجد فيه لذته وإشباع ميوله الشخصية. ¬

_ (¬1) في رحلة ابن حمادوش ما يشبه كلام شو، ولكن بالنسبة لعلماء ومؤقتي المغرب. (¬2) شو (الرحلة)، 356. (¬3) انظر (مذكرات أسير) لسيدن.

بعض كبار المدرسين

وهناك من كانت تدفعه إلى طلب العلم تقاليد الأسرة، فإذا كان الوالد من العلماء فالغالب أن ابنه سيقلده في ذلك، وبوحي منه في أغلب الأحيان، والتعلم في هذه الحالة يصبح وراثة. وقد كانت بعض الأسر تتوارث العلوم، كما كانت أسر أخرى تتوارث التجارة والمهن الأخرى. ولعل من سيئات التعليم في العهد العثماني كون المتعلم لا يجد بعد تحصيله ما يفعل به. وإذا تخرج المتعلم يظل غالبا بدون عمل يناسب علمه. وخلال ذلك قد ينسى ما تعلمه وأفتى عليه فصلا طويلا من حياته، فإذا كان محظوظا نال به وظيفة الإمامة أو الخطابة في أحد الجوامع أو القضاء أو وكالة وقف من الأوقاف، وهناك بالطبع بعض الوظائف الأخرى مثل الكتابة في بعض المصالح الإدارية ولكنها وظائف محدودة جدا لأن من شروط التوظف فيها كون طالبها من الأتراك ولأن معظم المعاملات في الإدارة كانت باللغة التركية. ولم يكن الكتاب الإداريون في حاجة إلى ثقافة عالية، بل كانت تكفي فيهم الموهبة الأدبية وحسن الخط ودقة النسخ, كما أن الحكام العثمانيين قد عملوا على توظيف بعض المشارقة والمغاربة (أي غير الجزائريين) في بعض الوظاف الإدارية وحتى الدينية بينما كان بعض علماء الجزائر يعيشون بعلمهم خارج بلادهم كما سنرى. وما دام العلم لا يؤهل لأعمال اجتماعية وسياسية واقتصادية بارزة فإن أصحابه كانوا يكتفون منه أحيانا بما حصلوا عليه، فتضمر مواهبهم وينضب معينهم ويتجهون وجهات أخرى في الحياة لا تحتاج إلى غزارة العلم أصلا. بعض كبار المدرسين أشرنا إلى أن بعض العلماء اشتهروا بالتدريس أكثر مما اشتهروا بالتأليف. وإذا كانت شهرة المؤلف بكتبه وآرائه وموضوعه وأسلوبه فإن شهرة المدرس بطريقته وتلاميذه وفصاحة لسانه واطلاعه الواسع على الموضوع الذي يعالجه. وقلما كان العالم يجمع بين التأليف والتدريس. ومن الذين جمعوا

سعيد قدورة

بين الاثنين أبو راس وأحمد المقري والفكون. غير أن هؤلاء لم يكونوا في توازن في الجمع بين الخطتين. فالأول مثلا قد غلب عليه التدريس رغم كثرة تآليفه والثاني قد غلب عليه التأليف رغم كثرة تدريسه، وهناك مدرسون لم يتركوا إلا قليلا من التأليف كمحمد التواتي (¬1) وعمر الوزان وسعيد المقري (¬2). وهناك من ترك بعض الشروح والحواشي والتعاليق كسعيد قدورة. 1 - سعيد قدورة: بلغ نفود عائلة قدورة في الجزائر أنها تولت الإفتاء المالكي بالجامع الكبير بالعاصمة أكثر من قرن بدون انقطاع. وكان مؤسس هذه الأسرة علميا هو الشيخ سعيد بن إبراهيم قدورة الذي تولى الإفتاء سنة 1028 واستمر فيه إلى وفاته سنة 1066. ثم تولاه ابنه محمد من ذلك التاريخ إلى وفاته أيضا سنة 1107، ثم خلفه أخوه أحمد الذي استمر في الإفتاء من هذا التاريخ إلى مقتله سنة 1118. وبعد انقطاع قصير تولى الفتوى أيضا سعيد بن أحمد قدورة من سنة 1122 إلى سنة 1129. كما تولى الإفتاء آخرون يتصلون بعائلة قدورة بالمصاهرة مثل عبد الرحمن المرتضى (¬3) الذي كان ابن أخت أحمد قدورة. وإذا كانت بداية هذه الأسرة في وظيفة الإفتاء سعيدة فإن نهايتها كانت مأساة. فقد لعبت السياسة لعبتها القذرة واتهم أحمد بن سعيد قدورة بمعاداته للباشا محمد بكداش فحكم عليه بالسجن ثم بالموت خنقا فمات موتة حزينة (¬4) ولكن هذه لم تكن كل النهاية لهذه الأسرة التي لعبت ¬

_ (¬1) له (كتاب الخبر في عجائب البشر) الذي أشرنا إليه. وقد حصلت على صورة لأوراق منه. وهو كشكول أدب وتاريخ وأخبار. وقد توفي التواتي بباجة تونس سنة 1031 وهو أستاذ الفكون بقسنطينة وأصله من المغرب. (¬2) انظر ترجمة الوزان والمقري بعد قليل. (¬3) كان المرتضى متوليا قبل ذلك نقابة الأشراف. (¬4) كانت التهمة الموجهة إليه هي أن له يدا في نفي بكداش عندما كان ما يزال موظفا في حكومة الباشا السابق له حسين خوجة الشريف, ورغم شهرة بكداش بتقدير العلماء فإن انتقامه من أحمد قدورة يعتبر نقطة سوداء في سيرته. وهو نفسه قد قتل قتلة شنيعة على يد المنقلب عليه.

دورا بارزا في شؤون الجزائر السياسية والعلمية والدينية. ولا ندري بالضبط متى ولا أين ولد سعيد قدورة، فهو لم يذكر ذلك في ترجمة حياته التي سنتعرض لها، وابن المفتي الذي كان معجبا بفضله (ولم يكن معاصرا له وإنما كان معاصرا لأبنائه وأحفاده). لم يجزم في الموضوع. فقد قال مرة ان سعيد قدورة قد ولد لوالديه بمدينة الجزائر بعد انتقالهم إليها من قدورة، القريبة من جزيرة جربة على ساحل تونس، وقال مرة أخرى انه ولد لأبويه في قدورة ثم جاء به أبوه إلى مدينة الجزائر وهو صغير السن. ومهما كان الأمر فإن نسبه هو سعيد بن إبراهيم بن عبد الرحمن. وشهرته قدورة، وقد اشتهر أيضا بنسبته (الجزائري) (¬1). ولا ندري ما كانت صناعة والده قبل قدومه إلى الجزائر ولا سبب مجيئه إليها غير أننا نعلم من بعض المصادر أنه أصبح فيها فرانا أو خبازا. وهي حرفة لا علاقة لها بحرفة المتعلمين. ولعل تعلق قدورة فيما بعد بالتجارة قد ورثه من والده ومن تقاليد أهل جربة. ويحدثنا سعيد قدورة عن ثقافته الأولى في أوراق كتبها بنفسه. فيقول إنه كان بمدينة الجزائر عندما كانت سمعة الشيخ محمد بن أبي القاسم المطماطي (¬2) كبيرة، ولم يقل إنه أخذ العلم على المطماطي عندئذ، ولكنه ذكر أن الشيخ قد ذهب إلى الحج مع أبي علي بن آبهلول المجاجي سنة 993. والظاهر أن سعيد قدورة كان في هذا التاريخ (أي سنة 993) في سن المراهقة. فقد ذكر أن والديه قد توفيا سنة 1001 أو 1002 في وقت واحد تقريبا إذ لم يفصل تاريخ وفاتهما سوى نحو الأسبوع. وقد بقي بعدهما ثلاث سنوات في مدينة الجزائر، لعله كان خلالها يحضر دروس المطماطي في الجامع الكبير. ولكن الطلاب في هذه السن كانوا كما لاحظنا، لا يستقرون في دراستهم على شيخ واحد، بل كانوا يحبون السفر والتغرب في طلب العلم ¬

_ (¬1) عن حياة سعيد قدورة وأبنائه ونشاطه انظر نور الدين عبد القادر (صفحات)، 279، وديفوكس (المجلة الإفريقية)، 1866, 286، وكلاهما أخذ عن ابن المفتي. وكذلك ترجم له القادري في (نشر المثاني). (¬2) لا ندري ما إذا كانت هذه النسبة إلى مطماطة الجزائرية أو التونسية.

ويعدون ذلك فضيلة وجهادا، وكذلك كان شأن سعيد قدورة. فقد بدأ تغربه وجهاده في طلب العلم بالسفر إلى زاوية الشيخ (العارف بالله) محمد وأخيه أبي علي بن آبهلول الواقعة قرب تنس، ولا ندري لماذا اختار قدورة هذه الزاوية بالذات. فهل كانت شهرة آبهلول في العلم كبيرة عندئذ؟ أو هل كانت حجة شيخه المطماطي مع الشيخ آبهلول سنة 993 لها علاقة بسفر قدورة إلى الزاوية المذكورة سنة 1004 أو 1005؟ والغالب أنهما الأمران معا. فقدورة يؤكد أن ابني آبهلول (محمدا وأبا علي) (كانا شديدي الاعتناء بالعلم وفنونه كالتفسير والحديث والأصول والمنطق والبيان بعد الفقه والتوحيد وغيرهما). وكان الشيخ محمد بن علي مشهورا في التفسير خصوصا. وقد انتهى فيه قبل وفاته إلى سورة الإسراء (¬1). ولم تكن الظروف قد واتت سعيد قدورة في زاوية آبهلول كل المواتاة. فبعد حوالي ثلاث سنوات من التتلمذ هناك، قتل شيخه محمد آبهلول قتلة شنيعة سنة 1008 حين طعنه بعضهم بخنجر طعنة ظل بعدها حيا بعض الساعات فقط ثم لفظ أنفاسه الأخيرة. وقد تأثر قدورة بما حدث لشيخه فرثاه واعتبره (شهيدا) وصلى عليه مع أخ الفقيد. وتعتبر مرثيته فيه من الشعر المتوسط في ذلك الوقت (¬2)، وقد جرى الحادث أمامه وهو ما يزال يافعا، ¬

_ (¬1) ذكرنا زاوية آبهلول في عدة مناسبات من قبل، وسنشير إلى تفسير آبهلول في الجزء الثاني من هذا الكتاب. (¬2) نص القصيدة في كتاب أبي حامد المشرفي (ياقوتة النسب الوهاجة)، مخطوط، 149 - 156، ويذكر فيها قدورة أن قاتل الشيخ من بني نائل وأن سبب القتل كان يود إلى فتوى الشيخ بعدم جواز تزوج المحرض على القتل من سيدة والظاهر أن بني نائل الذين ذكرهم ليسوا هم أولاد نائل المعروفين في جنوب الجزائر. والأولون هم قوم يحيى الشاوي الملياني النائلي الذي سيأتي الحديث عنه في الجزء الثاني وسنعرض للقصيدة في فصل الشعر من الجزء الثاني. وقد ذكر الحفناوي (تعريف الخلف) 2/ 432 أن محمد بن علي آبهلول قد توفي سنة 1002، وهو في نظرنا خطأ وكان محمد آبهلول من العلماء الشعراء والمتصوفة. انظر بعض أخباره أيضا في: ابن سليمان، (كعبة الطائفين) 2/ 111.

بالإضافة إلى فقد والديه دفعة واحدة. فلم يلبث بعد ذلك إلا حوالي سنة في هذه الزاوية دارسا فيها على أخ الفقيد الشيخ أبي علي آبهلول وغيره، قبل أن يعود إلى الجزائر، وهو يخبرنا أنه قد وجد هناك شيخه المطماطي قد تولى وظيفة الفتوى والإمامة بالجامع الكبير، وكان المطماطي مدرسا أيضا بنفس الجامع، لذلك عكف الشاب سعيد قدورة يدرس على الشيخ المطماطي جملة من العلوم منها مختصر خليل وابن الحاجب في الفقه وكذلك الفرائض والتوحيد، وكأنه كان في نفس الوقت يتدرب على المسرح الذي سيمثل عليه هو نفس الدور بعد بضع سنوات. وكعادة الطلاب الطموحين الراغبين في الاستزادة من العلوم المهمة سافر سعيد قدورة بعد ذلك إلى تلمسان حوالي سنة 1012، أي بعد إقامة حوالي ثلاث سنوات بمدينة الجزائر، وكانت شهرة سعيد المقري بتلمسان عندئذ قد بلغت القاصي والداني، وخصوصا في العلوم العقلية. فقصده قدورة وتتلمذ عليه في الحديث والمنطق والبيان وغيرها. وكانت دروس المقري بالجامع الكبير بتلمسان. وقبل أن نعرف المدة التي قضاها قدورة في تلمسان وأثر المقري فيه سافر إلى صحراء فجيج وتافيلالت وسجلماسة ولقي في هذه النواحي بعض العلماء أمثال أحمد بن عبد الله السجلماسي الشاعر والكاتب والمتصوف الذي ثار واستولى على سجلماسة ودرعة ومراكش. وتقول بعض المصادر أن قدورة قد ذهب إلى الشيخ أحمد السجلماسي، (المعروف أيضا بابن أبي محلى)، مع وفد تلمسان والراشدية لتهنئته على دعوته وثورته (¬1) ولا ريب أنه ذهب أيضا إلى فاس التي كانت مقصد الراغبين في الدراسات العالية. وقد أطال قدورة الإقامة في الغربة، بحثا عن العلم، إذ ¬

_ (¬1) ذكر الناصري في (الاستقصاء) 6/ 30 أن ابن محلي نفسه قد ذكر في كتابه (أصليت الخريت) أن قدورة كان من تلاميذه. وكان ابن أبي محلي أديبا وصاحب تآليف. وقد قام بدعوة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقيل إنه ادعى المهدوية وبالغ في التصوف، وقد مات حوالي سنة 1022. وذهاب وفد تلمسان إليه أمر يلفت النظر ويحتاج إلى دراسة نظرا للعلاقات العثمانية - الشريفية غير المتوازنة.

أنه لم يعد إلى مدينة الجزائر إلا سنة 1019، أي بعد حوالي سبع سنوات، وكأنه كان على موعد في الجزائر مع شيخه المطماطي ليودعه الوداع الأخير، ذلك أنه بعد أن لقيه فيها ثانية بوقت قصير توفي المطماطي في نفس السنة (أي 1019). ولا نعرف أن قدورة قد رثاه أو تأثر لوفاته كما رثى وتأثر لوفاة شيخه محمد آبهلول، كما أنه لم يهتم بوفاة شيخيه الآخرين، أبي علي آبهلول وسعيد المقري إذ أنه اكتفى بالقول في الأوراق التي لدينا أن الشيخ أبا علي قد توفي بعد المطماطي ببعض سنين، وكذا (شيخنا سيدي سعيد المقري فيما بلغنا) (¬1). وقد قلنا إن قدورة كان على موعد مع أستاذه المطماطي لأن نشاطه العلمي قد بدأ بوفاة شيخه، ذلك أن المصادر تتحدث عن تداول الإفتاء المالكي بينه وبين أحمد زروق بن عمار بن داود. وأثناء تولي أحمد بن داود لوظيفة الإمامة والتدريس بالجامع الكبير كان قدورة متوليا إمامة جامع البلاط والخطابة في جامع سيدي رمضان. ولا ريب أن قدورة كان أثناء ذلك يدرس أيضا في أحد هذين الجامعين. ومهما يكن من أمر فإنه قد انفرد بالإفتاء أواسط سنة 1028 حين عزل عنه أحمد زروق بن داود (¬2)، وقد ظل قدورة في هذا المنصب الخطير إلى وفاته سنة 1066، ولعله هو الذي سعى إلى هذا المنصب الذي كان يتهيأ له منذ عاد من زاوية آبهلول وبالتأكيد منذ عاد من رحلته في تلمسان والمغرب. فقد كان مثل هذا المنصب محركا لتنافس كبير بين العلماء، إذ فيه الجاه العريض والمال الغزير، وتدرج قدورة في الوظائف فهو إمام جامع البلاط وخطيب جامع سيدي رمضان ثم هو إمام وخطيب ومدرس الجامع الكبير، بالإضافة إلى كونه مفتي المالكية ووكيل أوقاف ¬

_ (¬1) هذه المعلومات مأخوذة من أوراق سعيد قدورة المشار إليها. (¬2) رغم أن المصادر لا تذكر هذا فالظاهر أنه هو جد أحمد بن عمار الذي تولى أيضا الإفتاء المالكي سنة 1182 والذي سنتحدث عنه في الجزء الثاني. انظر أيضا مقالتي (إجازة ابن عمار الجزائري إلى محمد خليل المرادي) في مجلة الثقافة، سبتمبر 1978.

الجامع الأخير. وبذلك يكون قد وصل إلى قمة السلم الوظيفي والعلمي. وهو ما يزال في مقتبل العمر. وقد عرفنا أن الباشا هو الذي كان يعين في الوظائف المذكورة. وأهم ما كان يستدعي التنافس الشديد بين العلماء على وظائف الجامع الكبير هو الأوقاف الطائلة التي كان يتمتع بها. فقد عرفنا أنها كانت من أغنى مصادر الوقف في الجزائر. ولم يكن قدورة بالرجل السهل. فقد كان ذكيا غاية الذكاء طموحا أقصى الطموح عارفا بأحوال العصر وأهله. وتذكر المصادر أنه كان غنيا أيضا حتى أنه كان يتاجر بأمواله مع بعض كبار التجار، كما كانت له أرض حراثة. والمعروف أن القرن الحادي عشر (17 م) كان العصر الذهبي للتجارة ووفرة غنائم البحر ورواج السلع والدراهم في الجزائر. ولهل سعيد قدورة كان يستعمل ما له في هذه الأمور التي كانت تدر عليه أموالا طائلة. وقد كثرت أشغاله وارتفعت قيمته حتى أصبح يقدم عنه أربعة من النواب. (ومنهم الشاعر ابن رأس العين) لينوبوا عنه في الخطابة ويدفع إليهم من ماله الخاص. وأخيرا جرؤ على تقديم ابنه محمد بدله في الفتوى والتدريس والخطابة بالجامع الكبير، وهو عمل قل من يجرؤ عليه، لأن الوظيفة شخصية وليست وراثية أو حرة. ولكن قدورة الذي خبر الناس في عصره وعرف كيف يوقف تدخلهم تمكن من كل ذلك دون معارض (¬1). ورغم أن المعجبين به، كابن المفتي، يقولون إن سعيد قدورة كان ¬

_ (¬1) وقد ذكر ابن المفتي أنه كان لقدورة أربعة نواب في الخطبة، وهم محمد بن قرواش، وسيدي مزيان، وابن رأس العين. أما الرابع فلم يذكر اسمه, وكان قدورة يدفع إلى هؤلاء أجورهم من ماله الخاص وليس من أوقاف الجامع لأنه كان غنيا ولأن النيابة كانت شخصية وليست رسمية، ويمكن القول إن هؤلاء كانوا هم حزب قدورة من علماء الوقت، ولما اشتهر أمره ولم يعد أحد يقدر على عزله عين ابنه محمد نائبا عنه. أما ابن رأس العين فقد كان شاعرا ماهرا، وسنعرض لشعره في الجزء الثاني انظر ديفوكس (المجلة الإفريقية)، 1866، 288. انظر (مختارات مجهولة من الشعر العربي).

يدفع من جيبه الخاص إلى من ينيبهم عنه فإن أوقاف الجامع الكبير في عهده لم تكن محصنة كل التحصين. فابنه محمد، وهو من أكبر العلماء في عصره، كان يتقاضى حقه في الأوقاف أثناء حياة والده لأنه كان ينوب عنه رسميا بخلاف الأربعة الآخرين. وقد استطاع قدورة أن يتفق على الجامع وأن يوفر أموالا اشترى بها كتبا لمكتبة الجامع، كما شيد زاوية قرب الجامع أصبحت فيما بعد تعرف باسم زاوية الجامع الكبير. وكذلك شيد مدرسة لفقراء الطلبة والغرباء منهم، كل ذلك من فائض أوقاف الجامع الكبير. ورغم أن الرأي العام هو الذي كان يتحكم في مصير وكيل الوقف عموما فالظاهر أن الإشاعات كانت تحوم حول تصرفات قدورة في الأوقاف. وبعد ثماني سنوات من توليه طالبه الناس بتقديم الحساب على أموال الجامع التي بلغ فائضها وحده عند توليته اثني عشر ألف ريال بوجو. وقد أبى في البداية أن يوضع في موضع الاتهام، ولكنه رضي عند إصرارهم على ذلك، فأخرج لهم الوثائق التي تثبت عدم تبذيره والتي تحصي كل ما اشتراه سواء للمكتبة أو لإصلاح الجامع. وكلها كانت وثائق بأقلام وأختام العدول ويقول المعجبون به ان حساده قد خاب ظنهم وبطلت خططهم. ولعل تسرب الكتب الذي أشرنا إليه في مكتبة الجامع الكبير قد بدأ أثناء حياته هو (¬1). وبلغت من قيمة سعيد قدورة عند الباشوات أنهم كانوا يقفون له إجلالا ويقبلون يده. ولا ريب أنه عرف كيف يحافظ على مكانته العلمية بينهم وكيف يحتفظ برضاهم عنه أيضا. فخلال الفترة الطويلة التي تولاها تداول على الجزائر عدد من الباشوات وحدثت اضطرابات وثورات (¬2) وكان هناك الخصوم والأصدقاء. ومع ذلك فقد حافظ قدورة على توازن السفينة في وسط بحر هائج. ولقد بلغ من حرمته، على ما تذكر الروايات، أنهم كانوا يعتقدون فيه النفع والضر والبركات والكرامات. ومعنى هذا أنه لم يكن في نظرهم ¬

_ (¬1) انظر ذلك في قسم المكتبات من الفصل الثالث. (¬2) من ذلك ثورة ابن الصخري وثورة الكراغلة بمدينة الجزائر وتلمسان، انظر الفصل الثاني.

موظفا عاديا ولكنه كان عند العامة على الأقل في منزلة المتصوف المرابط. والعامة تتبع الرأي العام بدون سؤال ولا مناقشة. وكان الرأي العام منعقدا على أن قدورة من العلماء الصالحين، وبلغ من تقدير الباشوات وأهل الديوان له أنهم كانوا يقدمونه على المفتي الحنفي (شيخ الإسلام) الذي كان يمثل المذهب الحاكم. وكانت لقدورة الدالة على زميله الحنفي أيضا في المجلس العلمي والقضائي الذي كان ينعقد برئاسة (قدورة) في الجامع الكبير. وكان يحضر هذا المجلس المفتيان والقاضيان (الحنفي والمالكي) وبعض القضاة وممثل الباشا والعلماء. ولعل انعقاد هذا المجلس في الجامع الكبير بالذات الذي ظل تقليدا طيلة العهد العثماني يعود إلى شخصية قدورة ومكانته ثم مكانة أسرته التي مهد لها هو الطريق. ومع ذلك، فإن شخصية قدورة لم تظل بدون تحد. وهناك حادثتان بهذا الصدد الأولى تحدى المسؤولين له والثانية تحدي بعض زملائه العلماء المنافسين له. فقد وجدنا في الوثائق أن قدورة كان قد طرد (بأمر عسكر الجزائر) وأمر بالتوجه إلى إسطانبول (للتخلص منه بإشارة من حساده) وقد جاء في هذه الوثائق أن صديقه الشيخ أحمد المانجلاتي قد نظم قصيدة وبعث بها إلى إسلام بول (إسطانبول) معرفا بها مفتي حضرتها، أسعد أفندي، بمرتبة قدورة حين توجهه إليها بأمر حكام الجزائر (¬1). ونحن لا نعرف من غير هذا النص أن سعيد قدورة كان قد اتهم بأي شيء حتى استحق هذا العقاب والإبعاد. كما أننا لا نعرف كم بقي في إسطانبول ولا أين توجه بعدها أيضا. وكل ما نعرفه هو أنه قد عاد إلى عمله بعد (أهوال وسوء حال) مرت بها الجزائر (¬2) ومهما كان الأمر فقد انتصر قدورة على خصومه أو (حساده) كما ¬

_ (¬1) (ديوان ابن علي)، مخطوط، وهو يحتوي على قصيدة المانجلاتي، وهي قصيدة طويلة هامة. (انظر مختارات مجهولة). (¬2) في رحلة العياشي إشارة أيضا إلى (الأهوال) التي مرت بها الجزائر عند حديثه عن عيسى الثعالبي وعلي بن عبد الواحد الأنصاري. وكان ذلك هو عهد يوسف باشا الذي تولى عدة مرات، وهو الذي وقعت ثورة ابن الصخري فيه (1047) كما سبق، =

جاء في الوثيقة. فمن كان نصيره يا ترى؟ هذه أسئلة ما تزال في حاجة إلى جواب ونحن لا نملكه الآن. أما الحادثة الثانية التي وقعت لقدورة فهي إهانته من زميله الشيخ محمد القوجيلي (ابن القوجيلي) ويبدو أن القوجيلي كان منافسا له أشد المنافسة. فقد كان عالما مثله وشاعرا قويا معتدا بنفسه. متصلا بأهل السياسة حتى أننا وجدناه سنة 1065 يقصد اسطانبول في مهمة سياسية ويقابل مفتيها. وقد تولى أيضا القضاء. والذي يهمنا الآن ليس هذا وإنما ما أورده المفتي الشاعر ابن علي بعد قرن من أن جده كان ذات يوم مع الشيخ القوجيلي فمر بهما سعيد قدورة فانحرف عنه القوجيلي وسلم على جده لأن بين قدورة والقوجيلي منافسة (¬1). ترك سعيد قدورة ولدين على الأقل هما محمد وأحمد وكلاهما تولى الإفتاء بعده كما سبق، فأما محمد فقد بقي في الفتوى أربعين سنة (1066 - 1107). وكان والده قد بدأ في تدريبه على هذه المهمة وعلى تولي الوظائف الرسمية منذ صغره. فقد أنابه عنه في الخطابة والإمامة أثناء حياته وقدمه في الدرس والفتيا (¬2). ولم يكد يوافيه الأجل حتى كان محمد هو المرشح الأول للإفتاء في الجامع الكبير. ورغم شهرته وطول مدته وقوة عارضته في علوم الدين فإن الملاحظين ظلوا يعتقدون أنه مدين بما وصل إليه من مجد وشهرة وجاه لوالده (¬3). وقد وشى به خصومه أيضا إلى أحد الباشوات، كما يروي ¬

_ = فهل كان نفي قدورة من الجزائر يعود إلى هذه الظروف؟ (¬1) (ديوان ابن علي) مخطوط. (¬2) كان سعيد قدورة قد أناب عنه أول الأمر محمد بن قرواش ولكن الناس رفضوه، كما يقول ابن المفتي، بعد أربعة أشهر فعين لهم ابنه. وكان ابن قرواش صديقا للقوجيلي منافس قدورة. ولعل هذا هو السر في عزل ابن قرواش وليس رفض الناس له كما يقول ابن المفتي. (¬3) روى ذلك محمد بن زاكور المغربي في رحلته وكان قد عرف محمد قدورة ودرس عليه واستجازه فأجازه. انظر رحلته 26.

ابن المفتي، فعزله بعض الوقت ثم أعاده بعد أن تبين براءته (¬1). وعاصر محمد قدورة عددا من العلماء المنافسين له، كما عاصر عددا من المفتين الأحناف الذين كانوا يشاركونه الرأي في المجلس القضائي والعلمي بالجامع الكبير. وعاش في ظرف سياسي حرج لأن الجزائر في عهده الطويل قد شهدت تغييرات كبيرة في نظام الحكم نفسه مع ما في ذلك من إراقة دماء وانقلابات ومؤامرات (¬2). أما أحمد قدورة فقد تولى الفتوى من وفاة أخيه سنة 1107 إلى مقتله سنة 1118. وكان أحمد حسب وصف ابن المفتي الذي عرفه شخصيا، قوي الجثة سمينا. ويبدو أنه لم يكن في درجة أبيه ولا أخيه العلمية. ولعله كان كبير السن عند وفاته. ومع ذلك فإن المؤامرات السياسية لم ترحمه. ورغم هذا المصير لواحد من أهم أعضاء أسرة قدورة فإن الباشوات قد استمروا، كما أشرنا، في تعيين المفتين منها تمشيا مع عقيدة بعض الناس عندئذ، وهي أن البلاد تصاب بالوباء إذا لم يتول فتواها أحد أعضاء أسرة قدورة. لذلك عين الباشا محمد بكداش (الذي حكم بقتل أحمد قدورة) عبد الرحمن المرتضى ليخلف خاله في وظيفته. وقد ظل المرتضى يتناوب هذه الوظيفة مع سعيد بن أحمد قدورة (ابن القتيل) مدة. ويقال إن سعيد قدورة (الحفيد) كان من أجهل الناس بالعلم والفتيا، ومع ذلك عينوه لعقيدة الناس السابقة في عائلته (¬3). ومهما كان الأمر فقد انتهى عندئذ قرن من الزمان سيطرت فيه أسرة قدورة على الإفتاء المالكي في الجامع الكبير وعلى أوقافه وعلى الحياة العلمية بصفة عامة، وخاصة التدريس. ¬

_ (¬1) نور الدين عبد القادر (صفحات) 281. (¬2) من ذلك استيلاء الأغوات على الحكم ثم استيلاء الرياس عليه منهم ومن الحكم الثنائي (الباشا والداي). (¬3) لعل ذلك لم يكن هو السبب الوحيد وراء تعيين المفتي من عائلة قدورة. فالظاهر أن هذه العائلة كانت تحتفظ بأشد الولاء للعثمانيين، بالإضافة إلى السمعة التي تتمتع بها بين العلماء حتى خارج الجزائر، كما كانت لها علاقات تجارية مع أغنياء البلاد.

وإذا كان محمد وأحمد ابني سعيد قدورة من الصلب فإن له أبناء روحيين تخرجوا على يديه في حلقات الدرس أو بالرواية عنه أو الإجازة. وكان فيهم الذكي النابه والغبي الخامل، وفيهم الجزائريون وغيرهم. وكان يكفي أن يقال عندئذ أن هذه المسألة رويت عن سعيد قدورة حتى يسكت المعارض ويصدق السائل. وانه يكفي أيضا أن يقال إن هذا الطالب أو العالم قد درس على قدورة أو أجازه حتى يقر له بالعلم. فالشيخ كان يجمع المادة إلى الروح أو المال إلى العلم. وإذا كانت المادة إلى فناء فإن الروح إلى بقاء. لذلك انتشر طلاب سعيد قدورة في كل صقع حاملين في صدورهم الولاء له والعلم منه. وقد بالغ المعجبون والمؤمنون به حتى أنهم وثقوا فيمن روى عمن روى عنه. وظلت هذه السلسلة متواترة بين العلماء المسلمين إلى الوقت الحاضر. وإذا كانت مزية قدورة في الوظائف الرسمية قد تتساوى مع مزايا غيره فإن مزيته العلمية والدينية (وكان الدين هو أساس العلم) لا يمكن أن تتساوى مع مزايا غيره. فقد أثر في جيله بل في الأجيال اللاحقة له تأثيرا لم يبلغه إلا القليل من العلماء. وتطول القائمة لو أردنا ذكر من نعرف من تلاميذه، فما بالك لو حاولنا أن نذكر منهم من لا نعرف. ويكفي أن نذكر هنا جملة منهم للدلالة على تأثير مدرسة هذا الرجل. فمن تلاميذه عيسى الثعالبي الشهير بأسانيده في الحديث والذي سنعرض لحياته في الجزء الثاني، ومحمد بن عبد الكريم الجزائري الذي قيل عنه إنه كان دائرة معارف في الأدب والتاريخ. وقيل إن قدورة كان (عمدته) وقد عاش محمد بن عبد الكريم في المغرب أيضا ثم رحل إلى المشرق وأخذ به العلم. وكان أيضا مقربا إلى السلطان المغربي المولى إسماعيل. وكان يحيى الشاوي الملياني من تلاميذ قدورة البارزين أيضا. وبلغت شهرة الشاوي في المشرق مدى واسعا كما سنرى في الجزء الثاني. ومن علماء الجزائر الذين أخذوا عن قدورة أيضا عمر المانجلاتي الذي كان يحب شيخه ويقدره. والمانجلاتي هو أستاذ ابن زاكور المغربي. وكان محمد بن أحمد الشريف الجزائري ممن روى عن قدورة أيضا ولكن بطريقة

غير مباشرة، وهو من العلماء الذين هاجروا إلى إزمير وجاوروا بالحرم وألفوا هناك وأجازوا. وقد كانت مساهمة قدورة في الدرس لا في التأليف وباللسان لا بالتعليم. ولذلك كثر تلاميذه وقلت تآليفه. ومع ذلك فقد نسب إليه مترجموه بعض التآليف التي لا تخرج في نظرنا عن الإملاءات التي كان يمليها على الطلاب في الجامع الكبير أو جامع سيدي رمضان. وقد اطلعنا على بعضها فوجدناها كذلك. فهي مختصرة وموضحة لبعض المسائل التي قد تفوت الطلاب، ثم إن ما اطلعنا عليه منها ليس بقلمه وإنما هو بأقلام النساخ. فلعل هذه الإملاءات كانت أيضا بأقلام الطلاب أنفسهم. وكانت موضوعاتها لا تخرج عن المواد المدروسة عندئذ، ولا سيما مواد الحديث والفقه والنحو والمنطق. وهذه هي بعض (التآليف) المنسوبة إلى سعيد قدورة. وهي في حجم الكراس ونحو ذلك: 1 - شرح خطبة مختصر خليل في الفقه (¬1). 2 - حاشية على شرح اللقاني لخطبة خليل أيضا (¬2). 3 - نوازل تلمسانية (¬3). 4 - رقم الأيادي على تصنيف المرادي في النحو، وهي نبذة ذيل بها شرح الخلاصة للمرادي (¬4). 5 - شرح المنظومة الخزرجية في العروض (¬5). 6 - حاشية على شرح صغرى السنوسي (¬6)، ولعلها هي الحاشية التي كتبها على شرح ابن خدة الراشدي لها. ¬

_ (¬1) خزانة ابن يوسف بمراكش رقم 370. (¬2) الخزانة العامة بالرباط. رقم 2758 ومكتبة تطوان رقم 275 مجموع. (¬3) مكتبة تطوان رقم 30. (¬4) الخزانة العامة - الرباط، رقم 2692، نسخة غير كاملة. (¬5) زاوية تنعملت (بني ملال - المغرب) رقم 299. (¬6) الخزانة العامة - الرباط، رقم 2832 مجموع.

7 - شرح على السلم المرونق في المنطق (¬1). ولعل لقدورة غير هذه الشروح والحواشي. وتجدر الملاحظة أنه كان أيضا شاعرا وراجزا شأن أكثر العلماء عندئذ , وتدل قصيدته في رثاء شيخه آبهلول أنه كان متضلعا في علم العروض أيضا. ولا ريب أن له أراجيز في موضوعات متعددة ولا سيما في نظم المسائل العلمية. وكانت لقدورة أيضا مراسلات مع علماء العصر. ورغم أننا لا نعرف ما إذا كان قد حج وتعلم في المشرق (إذ لا نجد اسمه مقرونا بنعت الحاج خلافا لوالده الذي كان يدعى الحاج إبراهيم) فإنه لا شك قد تراسل مع العلماء، سواء علماء المغرب الذين درس عليهم أو تلاميذه في المشرق أو علماء الجزائر وخصوصا علماء تلمسان وقسنطينة. وممن تراسل معهم في قسنطينة عبد الكريم الفكون الذي ذكر بنفسه أنه كان يتراسل مع قدورة ولكنه لم يكشف عن أغراض المراسلة (¬2) ولعل قدورة قد تراسل في المشرق مع أحمد المقري أيضا. فقد كانت بينهما علاقة منذ جاء المقري للتدريس في عاصمة الجزائر أثناء وجود قدورة بها. وبهذا الصدد نذكر أن قدورة قد امتحن المقري حين تصدى للتدريس في عاصمة الجزائر بلغز سماه (هاج الصنبر). ويقول الفكون الذي روى ذلك أن المقري لم يصب الجواب في المرة الأولى وأصابه في الثانية بعد أن أعاد عليه قدورة اللغز. وكان السؤال والجواب شعرا متفق القافية (¬3). وعذرنا في الإطالة عن سعيد قدورة عدة أمور: 1 - أسرته التي كانت أسرة علم وتدريس أثرت في أجيال المتعلمين من الجزائريين، فقد كان ابناه محمد وأحمد أيضا مثله غير معروفين بالتأليف ¬

_ (¬1) توجد منه نسخ كثيرة في الجزائر والمغرب، الخ. (¬2) الفكون (منشور الهداية)، مخطوط. (¬3) نفس المصدر وقد وعد الفكون بإيراد نص اللغز ولكنه لم يورده. وقد عرفنا أن نص اللغز قد أورده محمد قدورة (ابن سعيد) في كتابه (جليس الزائر وأنيس السائر) الذي عرفنا بوجوده عند الشيخ المهدي البوعبدلي.

علي الأنصاري السجلماسي

ولكن بالدرس، ولا سيما محمد الذي شهد له معاصروه بفصاحة اللسان وغزارة العلم. وكذلك الحال بالنسبة لعبد الرحمن المرتضى الذي كانت أسرة قدورة أخواله كما عرفنا، فقد كان حسن الخط ومدرسا ناجحا. ولا نعرف أنه قد ترك بعض التآليف. 2 - شهرة هذه الأسرة برواية الحديث الذي كان ثاني علم يعتني به في الجزائر بعد القرآن فكان أعضاء أسرة قدورة معروفين بحفظ الأسانيد ورواية الأخبار والأنساب. وقد اشتهر محمد قدورة بذلك على الخصوص. ولكن عقيدة الناس في والده قد غطت عليه. 3 - كثرة التلاميذ الذين تخرجوا على هذه الأسرة، ولا سيما على الوالد والابن الأكبر، وكثرة الزائرين لهم والآخذين عنهم والمستجيزين منهم في الجزائر وغيرها. فلهذه الاعتبارات أطلنا الحديث عن سعيد قدورة في هذا الفصل المعد للحديث عن التعليم وأساتذته. ولا شك أن قدورة كان من أكبر القائمين على التدريس. فهو يمثل في نظرنا حوالي نصف العهد العثماني، حيث قلنا إن الدين قد سيطر على التدريس كما سيطر التصوف على العقيدة الصحيحة. ولم يكن قدورة مفتيا فقط ولا مدرسا فحسب بل كان أيضا يخلط العلم بالتصوف، كان يدرس لطلابه كتب ابن عطاء الله، كما كان يدرس لهم صحيح البخاري ورسالة القيرواني وسلم الأخضري وصغرى السنوسي. ولذلك دفن عند وفاته في زاوية المرابط أحمد بن عبد الله الجزائري، عند أقدام شيخه المطماطي (¬1). 2 - علي الأنصاري السجلماسي: علي بن عبد الواحد الأنصاري السجلماسي أو الفيلالي من بين العلماء المسلمين الذين استوطنوا الجزائر خلال الأربعينات من القرن الحادي عشر ¬

_ (¬1) كان قدورة يدعى أيضا شيخ الإسلام وسعيد الجزائري والإمام. وقد ذكر في ترجمته أنه كان إذا ذكر مشائخه تأوه وتحسر عليهم.

(17 م) وشاركوا في حياتها العلمية ولا سيما التدريس وكان علماء المغرب بالخصوص قد كثروا، في هذه الأثناء بالجزائر وقسطينة وغيرهما. كما سنرى. ولم يأت الأنصاري إلى الجزائر وحده بل اصطحب معه أسرته. فقد وجدنا أنه زوج إحدى بناته لتلميذه عيسى الثعالبي، ولا ندري ما هي الظروف السياسية التي جعلت الأنصاري يفضل الجزائر على المغرب عندئذ ولا ما الذي حمل باشوات الجزائر، وخصوصا يوسف باشا، على الترحيب به وتقريبه, وقد كان بمدينة الجزائر ساعة قدومه إليها علماء بارزون أمثال سعيد قدورة وأحمد الزروق بن داود. ولكن طلاب الجزائر كانوا في حاجة إلى المزيد من رجال العلم ولا سيما من المغرب الذي اعتادوا أن يتوجهوا هم إليه لاستكمال معارفهم في جامع القرويين وغيره. فكان مجيء الأنصاري إليهم فرصة نادرة عليهم أن يغتنموها. ويبدو أنه لم يكن هناك تنافس بين قدورة والأنصاري. فهل سبق لهما التعارف في المغرب؟ وهل كان ذلك التعارف سببا في قدوم الأنصاري إلى مدينة الجزائر؟. وما تزال حياة الأنصاري يكتنفها الغموض لعدم وجود ترجمة وافية له رغم دوره في الدرس والتأليف في الجزائر وفي المغرب. ومهما كان الأمر فإن المحبي قد خصص له في كتابه (¬1) بعض السطور نقلا عن عيسى الثعالبي الذي ترجم لأستاذه الأنصاري في فهرسه المسمى (كنز الرواة) (¬2). كما تحدث عن الأنصاري أستاذه أحمد المقري (¬3). ويفهم من كلام المقري أن الأنصاري كان في المغرب بعد سنة 1037 لأن المقري قد أورد نص رسالة وردت عليه في مصر من الأنصاري حدثه فيها عن (الشر العظيم) الذي حل بفاس والاضطرابات السياسية التي كانت تمر بها نتيجة تقاتل أبناء السلطان على الملك. وأخبره أيضا عن عائلته (المقري) في المغرب وعن سمعته العلمية بين الناس. كما نقل إليه تحية شيخ الطريقة الدلائية، محمد بن أبي ¬

_ (¬1) المحبي (خلاصة الأثر) 3/ 240. (¬2) نترجم للثعالبي في الجزء الثاني: انظر أيضا الكتاني (فهرس الفهارس) 1/ 378. (¬3) المقري (نفح اليب) 3/ 236.

بكر الدلائي. والمعروف أن الأنصاري قد قرأ على المقري عندما كان هذا في المغرب. ولذلك كان الأنصاري يخاطبه بعبارة البنوة، وقال عن تآليفه انها من (بركتكم). وإذا كنا نعرف من المقري أن الأنصاري كان ما يزال في المغرب إلى سنة 1037 فإن المحبي يخبرنا أنه (الأنصاري) قد رحل من بلاده (المغرب) بعد سنة 1040 وأنه قد قصد الحج كأستاذه المقري ودخل مصر سنة 1043 (أي بعد حوالي سنتين من وفاة المقري) وأنه تتلمذ في مصر على عدة مشائخ ثم عاد إلى المغرب (¬1). والغاب على الظن أن الأنصاري قد دخل الجزائر بين 1045 و 1047، والتاريخ الأخير هو الذي قامت فيه ثورة ابن الصخري في الجزائر ولعب خلاله يوسف باشا، ولي نعمة الأنصاري، دورا بارزا، كما سبق. ومهما كان الأمر فإن الأنصاري قد بقي في الجزائر إلى وفاته سنة 1057 (¬2). انطلقت إذن دروس الأنصاري في مدينة الجزائر كما انطلقت من قبله دروس قدورة. وحفلت العاصمة بمستوى رفيع من التعليم يقوم به عالمان كبيران وأصبح أمام الطلاب مجال واسع للاختبار، فكان بعضهم يختار الأول وبعضهم يختار الثاني وبعضهم يحضر دروس الاثنين معا. وكان الأنصاري متمكنا من عدة علوم حتى قال عنه المحبي انه (كان آية باهرة في جميع العلوم) وكان يدرسها جميعا لطلابه بكتب متقدمة في المستوى. ومن العلوم التي كان يدرسها أصول الدين والبيان والمنطق والنحو ومصطلح الحديث والفقه والحديث والسير والتصوف. وتكاد هذه العلوم تكون هي نفسها التي كان يدرسها زميله قدورة ولكن مع اختلاف في الأسلوب والشخصية ¬

_ (¬1) يذكر المحبي أن الأنصاري رجع إلى فاس وأصبح مفتيا في الجبل الأخضر (؟) وأنه بقي هناك ولم يذكر أنه انتقل إلى الجزائر. (¬2) جاء في كتاب أحمد توفيق المدني (محمد عثمان باشا) 81، أن الأنصاري هو علي بن محمد بن عبد الواحد الخ. وأنه توفي سنة 1054، ولم نر ممن ذكر هذا التاريخ غير المدني، كما انفرد المدني بقوله إن الأنصاري من أصل جزائري.

والاستنتاج. فإذا حكمنا من الكتب التي كان يستعملها الأنصاري والتي ألف في موضوعاتها وجدنا أن تعليمه قد اقترب مما نسميه اليوم بالتعليم العالي. فقد كان يستعمل في الأصول كتاب جمع الجوامع للسبكي ومختصر ابن الحاجب، وفي البيان تلخيص المفتاح، وفي المنطق شرح الجمل للخونجي ومختصر السنوسي والسلم المرونق للأخضري، وفي مصطلح الحديث ألفية العراقي، وفي الحديث صحيح البخاري وفي الفقه مختصر خليل وأحكام ابن عاصم، كما كان يدرس كتاب الشفاء للقاضي عياض والبردة للبوصيري وعقائد السنوسي في التوحيد، بالإضافة إلى عدد من كتب السير. وبذلك اشتمل برنامجه على علوم غزيرة وكتب كثيرة كان على الطلاب أن يحذقوها ويبرعوا فيها. وقد حذقها وبرع فيها عدد من شباب الجزائر عندئذ، ولكن لسوء حظهم أن الأيام لم تواتهم في بلادهم فغادرها بعضهم وبقي فيها آخرون ولكن على الهامش، فقد لازم عمر المانجلاتي درس الأنصاري أربع عشرة سنة ليلا ونهارا (¬1)، وممن درس على الأنصاري أيضا يحيى الشاوي الذي هاجر من الجزائر بعد ذلك، وكذلك القاضي والشاعر محمد بن القوجيلي الذي خص أستاذه الأنصاري بعدة قصائد مدحا ورثاء، كما درس عليه الشاعر محمد بن علي بن المهدي جد المفتي الشاعر المعروف ابن علي، ومدحه أيضا وأشاد بفضله (¬2) وقد درس عليه أيضا الشاعر ابن رأس العين. وكان على رأس هؤلاء التلاميذ عيسى الثعالبي الذي صاهره أيضا كما عرفنا، وكان يتمتع لديه بمكانة خاصة. فقد لازمه، كما يقول العياشي، ملازمة الظل الشاخص وخدمه خدمة الراغب الناصح حتى حظى عنده وزوجه ابنته. ولكن الأمور لم تسر كما كان متوقعا، فطلق الثعالبي البت بأمر والدها، ومع ذلك لم ينقطع عن خدمة أستاذه، وقد ذكر الثعالبي جميع ¬

_ (¬1) ابن زاكور (الرحلة)، 9. (¬2) (ديوان ابن علي) مخطوط، وفيه قصائد القوجيلي وابن علي (الجد) وغيرهما في الأنصاري.

قراءاته على شيخه الأنصاري في فهرسه (¬1). ويبدو أن الأنصاري كان على صلة وثيقة بيوسف باشا، والصلة بالحكام فيها مغامرة للعلماء إذا كان الحكم مستقرا، فما بالك إذا كان متقلبا، مثل الحكم في الجزائر، عندئذ، ولقد قيل عن يوسف باشا انه كان صديقا للعلماء يحترمهم ويقربهم إليه ويفهم مقاصدهم رغم أنه تركي، حسب تعبير العياشي. وقد وجدنا له مراسلات مع عالم عنابة في وقته، وهو محمد ساسي البوني (¬2). ولم تكن الصلة بين الباشا والأنصاري (والعلماء عموما) صلة حب وتقدير ولكنها كانت صلة منفعة ومصالح. فالباشا كان في حاجة إلى تأييد العلماء والأنصاري الذي كان غريبا عن البلاد، كان أيضا في حاجة إلى قوة تحميه، ولا يمكن أن نفهم العلاقة بين الرجلين على أنها (فهم لمقاصد العلماء) من جانب الباشا وإعجاب من جانب الأنصاري، كما فهم من ذلك العياشي، فالمسألة أبعد من ذلك. ومهما كان الأمر فإن عهد يوسف باشا لم يطل شأن حكام العهد العثماني، فقد انقلب عليه خصومه فذهب هائما على وجهه وإلى جانبه محظي الأنصارى وتلميذه، عيسى الثعالبي، وكانت صلة الأنصاري بالباشا هي التي جعلت الثعالبي يصبح (من جملة خواص) الباشا أيضا (¬3). ولا نعرف الآن بالضبط من الأنصاري عند وفاته سنة 1057، ويظهر لنا من كثرة امداح الشعراء له أثناء حياته ورثائهم له بعد وفاته أنه كان بالفعل يتمتع بحظوة كبيرة لدى الباشوات والطلبة وأنه كان صاحب جاه ونفوذ، فقد اعتاد الشعراء ألا يمدحوا إلا من كان كذلك، كما يظهر لنا أنه لم يتول وظائف أخرى في الجزائر غير وظيفة التدريس. وعلى كل حال فإننا إذا حكمنا من رأى تلاميذه فيه وأقوال بعض المعاصرين له نجده قد ساهم مساهمة كبيرة في دفع حركة التعليم عندئذ، وهذا ما ¬

_ (¬1) العياشي (الرحلة) 2/ 123. (¬2) هذه المراسلات موجودة في باريس رقم 6724. انظر فصل النثر في الجزء الثاني. (¬3) العياشي (الرحلة) 2/ 120. ولا شك أن العياشي قد أخذ هذه المعلومات على أستاذه الثعالبي كما حدثت له، أو من وجهة نظره هو، وهي في حاجة إلى مراجعة.

جعلنا ندرجه في هذا الفصل المخصص للتعليم. وإلى جانب التدريس ألف الأنصاري مجموعة من التآليف معظمها منظومات وشروح جاءت نتيجة مهنته سواء في الجزائر أو في المغرب (¬1). وقد ذكر بعض هذه التآليف أستاذه أحمد المقري وذكر بعضها الآخر المحبي، وهي: 1 - تفسير للقرآن الكريم بلغ فيه إلى قوله تعالى، {ولكن البر من اتقى}. 2 - تأليف في رجال البخاري (الذي قيل إنه قرأه سبع عشرة مرة قراءة بحث وتدقيق وأنه قرأه دراية على مشائخه). 3 - منظومة في أكثر من ألف بيت في السير والشمائل النبوية سماها (الدرة المنيفة في السيرة الشريفة). 4 - شرح التحفة لابن عاصم. 5 - شرح على المنهج المنتخب للزقاق في قواعد الإمام مالك. 6 - كفاية الطالب النبيل في حل ألفاظ مختصر خليل. 7 - المنح الإحسانية في الأجوبة التلمسانية. 8 - منظومة جامعة الأسرار في قواعد الإسلام الخمس. 9 - اليواقيت الثمينة فيما انتمى لعالم المدينة، وهي أرجوزة في العقائد والأشباه والنظائر. 10 - عقد الجواهر في نظم النظائر. 11 - السيرة الصغرى (لعلها اختصار للدرة المنيفة). 12 - مسالك الوصول إلى مدارك الأصول (نظم). 13 - مجموعة خطب (¬2). ¬

_ (¬1) جاء في رسالته إلى المقري أنه كان يدرس العلم لجماعة من طلاب مدينة سلا. (نفح الطيب) 3/ 236. (¬2) انظر (نفح الطيب) 3/ 236 و (خلاصة الأثر) 3/ 240 وقد علق المحبي على أرقام 6 و 10 و 11 بأنها أعمال لم تكمل. وتوجد من (اليواقيت الثمينة) نسخة في مكتبة جامعة برنستون الأمريكية (قسم يهودا) رقم 823، وانظر عن الأنصاري أيضا (هدية العارفين) 1/ 756.

سعيد المقري

وهذه الأعمال تدل على سعة علم الأنصاري وغزارة مادته، كما يدل تأليفه في الخطب على اهتمامه بعلم البيان والفصاحة. وقد عرف الأنصاري بذلك أيضا. وقد قيل إنه مر على كتاب الكشاف للزمخشري ثلاثين مرة بين مطالعة وقراءة، ويبدو، عند المقارنة أن الأنصاري كان أكثر تحررا في أفكاره من زميله سعيد قدورة، ولعله كان أكثر منه فصاحة وبيانا أيضا، وهذا ما جعل الطلاب يقبلون على درسه والاستفادة منه. 3 - سعيد المقري: كان سعيد المقري مدرسا بالجامع الكبير بتلمسان التي قلنا إنها فقدت خلال العهد العثماني نشاطها السياسي والثقافي الذي كان لها خلال العهد الزياني. فكانت على عهد سعيد المقري مدينة مهزومة سياسيا وضحلة ثقافيا، ولذلك هاجر عدد من علمائها إلى المشرق والمغرب، وظلت هي تهزها الفتن الداخلية، ولا سيما صراع الحضر فيها ضد السلطة العثمانية (¬1). فإذا وجدنا عالما من أسرة تلمسانية عريقة، مثل أسرة المقري، يظل مفتيا ومدرسا في تلمسان على ذلك العهد أكثر من خمسة وأربعين سنة، فإن هذا العالم يعتبر بحق من النوادر. ولد سعيد المقري حوالي سنة 928 (¬2)، أي عشية سقوط الحكم الزياني وبداية الحكم العثماني في تلمسان، وقد فتح عينيه فوجد المدينة التاريخية قد نضب معينها العلمي ورحل معظم علمائها إلى فاس وغيرها فلم يقنع هو أيضا ببقايا العلم هناك واتجه إلى فاس ليكترع من مناهلها كما فعل بعض أجداده ¬

_ (¬1) من ذلك ما تحدث عنه ابن مريم في (البستان)، وهو تلميذ لسعيد المقري، وكذلك ما جاء في (كعبة الطائفين) لمحمد بن سليمان، انظر دراستنا عن هذا الكتاب في كتابنا (أبحاث وآراء في تاريخ الجزائر). وقد عاش ابن سليمان أيضا في القرن الحادي عشر، عصر المقري، ولعله لم يدركه. (¬2) هكذا ذكر ابن مريم (البستان) 104، أما ابن القاضي في (جذوة الاقتباس) 323 فقد ذكر أن المقري ولد بعد سنة 930، وكذلك القادري في (نشر المثاني) 1/ 131.

ومعاصريه، ولا ندري كم طالت مدته في المغرب فإن بعض العلماء كانوا لا يعودون حتى يصبحوا هم أنفسهم مدرسين، ولذلك لا نستغرب أن يقول ابن القاضي انه قد أخذ العلم على المقري كثيرون من تلمسان وفاس. وإذا نحن اتبعنا ابن مريم فيما ذهب إليه من تاريخ ميلاد المقري (أي سنة 928) ومدة بقائه في الفتوى والتدريس (45 سنة) (¬1) فإن المقري يكون قد تولى الفتوى في تلمسان حوالي سنة 966، لأن ابن مريم قد انتهى من تأليف كتابه سنة 1011. ولا شك أن تعيين المقري في وظيفة الفتوى والتدريس يعتبر في حد ذاته انتصارا للحكم العثماني في الجزائر. فالرجل كان من أسرة علمية معروفة وكان قد عاد من بلد مجاور لم يكن حكامه بالضرورة أصدقاء للحكام العثمانيين (¬2). وكانت قيمة سعيد المقري العلمية والاجتماعية هي التي رشحته لتولي هذه الوظيفة الخطيرة، فقد أصبح بالإضافة إلى التدريس مفتي تلمسان وخطيب جامعها الكبير، ولا ندري إن كانت قد وكلت إليه أيضا وكالة أوقاف الجامع المذكور، وهو ما جرت به العادة، وكان المقري قد تدرب على هذه الوظائف في المغرب، ولا سيما التدريس، وقد عرف عنه أنه من العلماء المعقوليين رغم لباسه للخرقة الصوفية وتدريسه علم التصوف الذي كان شعار العلماء والمرابطين على السواء. وقد كان أيضا من أولئك العلماء الذين نسميهم اليوم بالموسوعيين، فهو بارع في النحو والتوحيد والفقه والحديث واللغة العربية أو فقه اللغة، والمنطق والأصول، كما كان يحفظ أشعار العرب ¬

_ (¬1) (تعريف الخلف) 2/ 155، وابن أبي شنب، وقائع مؤتمر المستشرقين الرابع عشر، فقد ذكر أن سعيد المقري ظل مفتيا ستين سنة. (¬2) جاء في (نشر المثاني) 1/ 131 أن سعيد المقري كان قريبا بالمصاهرة من أحمد الونشريسي، فإذا صح هذا فإن المعروف أن الونشريسي قد توفي سنة 914 في فاس مهاجرا وكان ابنه عبد الواحد الونشريسي معاصرا لصهره سعيد المقري. والمعروف أيضا أن عبد الواحد الونشريسي لم يعد إلى الجزائر بل ظل في فاس إلى أن مات مقتولا في الخلاف الذي وقع بين الوطاسيين والسعديين.

وأيامهم وأمثالهم، ويهتم بالتاريخ والسير، ولكن الشيء الذي يلفت النظر في سيرة المقري هو أنه كان مولعا أيضا بعلم الطب وعلم الجراحة وغيرها من العلوم العقلية، فهل كان يمارس الطب والجراحة؟ أو أنه كان يدرسهما نظريا؟ ذلك ما لا نعرفه الآن. ورغم طول مكث سعيد المقري في التدريس والفتوى والخطابة فإننا لم نعرف أنه قد ترك تأليفا ولو مختصرا، ومعنى ذلك أن شهرته قد جاءت من أثره في التدريس لا التأليف، ولكننا لا نكاد نصدق أنه لم يؤلف ولو تأليفا مختصرا أو تعليقا أو تقييدا كما كان يفعل علماء وقته، وقد ذكر له ابن أخيه، أحمد المقري صاحب (نفح الطيب) خطبة عارض بها خطبة القاضي عياض وضمنها التورية بأسماء سور القرآن الكريم بدأها هكذا: (الحمد لله الذي افتتح بفاتحة الكتاب سورة البقرة ليصطفي من آل عمران رجالا ونساء وفضلهم تفضيلا) (¬1)، ولم يكن سعيد المقري بالرجل المتواري عن الناس بل كان عالما مشاركا في الحياة العامة، ولعله كان يمارس التجارة أيضا بطريقة غير مباشرة كما كان يفعل بعض العلماء في وقته. ومهما كان الأمر فإن سعيد المقري وإن لم يترك تآليف معروفة لنا اليوم فإنه قد ترك مجموعة من التلاميذ الذين ألفوا الكتب وأصبحوا مثله من المدرسين البارزين، ومن هؤلاء ابن أخيه أحمد المقري، وسعيد قدورة الذي سبق الحديث عنه (¬2) وعيسى البطيوي صاحب كتاب (مطلب الفوز ¬

_ (¬1) أحمد المقري (نفح الطيب) 10/ 194 وذكر له ابن أبي شنب (وقائع)، 111 ثلاثة تآليف هي: 1) شرح تائية الشريشي. 2) شرح صلاة ابن مشيش. (تصوف). 3) المباحث الأصلية (؟). (¬2) قال سعيد قدورة في أوراقه ان سعيد المقري قد توفي بعد الشيخ المطماطي ببضع سنوات: وقد توفي المطماطي سنة 1019، فيكون المقري قد توفي حوالي سنة 1025. انظر أوراق قدورة، وهي مخطوطة. وجاء في (إتحاف أعلام الناس) لابن =

عمر الوزان

والفلاح) (¬1) وأخوه محمد بن محمد البطيوي الذي هو ابن خالة سعيد المقري، وكان البطيوي الأخير من أهل التصوف توفي في المدينة المنورة (¬2)، ومن تلاميذ سعيد المقري أيضا محمد بن عبد الرحمن المعروف بابن جلال المغراوي التلمساني الذي درس في تلمسان وعاش فيها طويلا ثم هاجر منها إلى فاس وتولى بها الفتوى والتدريس والخطابة بجامع الأندلس وجامع القرويين (¬3)، كما أجاز سعيد المقري عددا من علماء الوقت نذكر منهم ابن القاضي صاحب (جذوة الاقتباس) (¬4). وهكذا أخرج سعيد المقري خلال الفترة الطويلة التي بقيها في التدريس مجموعة من التلاميذ الذين أصبحوا بدورهم أساتذة ومؤلفين ومتصوفين وموظفين، وإذا نظرنا إلى فقر الجزائر الثقافي خلال القرن العاشر نتيجة هجرة العلماء منها وغارات الأجانب عليها وعدم الاستقرار السياسي فيها، فإن وجود أمثال سعيد المقري في ذلك الوقت يعتبر في حد ذاته ظاهرة إيجابية، ونفس الشيء يقال أيضا عن شخصية أخرى كانت في الشرق الجزائري وهو عمر الوزان. 4 - عمر الوزان: عمر بن محمد الكماد الأنصاري القسنطيني المشهور بالوزان، من أبرز علماء قسنطينة في القرن العاشر، كرس حياته للتدريس ورفض الوظيفة الرسمية حين عرضت عليه وأخرج تلاميذ كثيرين وأسهم ببعض التآليف، وقد أعطت أسرته (أسرة الكماد) عددا من العلماء للجزائر يشبه العدد الذي أعطته ¬

_ = زيدان، 1/ 32، 334 أن قدورة قد أخذ سند المصافحة عن سعيد المقري. (¬1) سنتناول هذ الكتاب في الجزء الثاني. (¬2) ابن مريم (البستان) 272. انظر كذلك (مطلب الفوز والفلاح) حيث فيه ترجمة له. (¬3) (سلوة الأنفاس) 2/ 27. انظر أيضا (جذوة الاقتباس) 323. وقد توفي المغراوي سنة 981، هكذا، وهو تاريخ إذا قورن بتاريخ وفاة أستاذه المقري يثير بعض الإشكال، ولكن ليس لدينا الحل الآن. (¬4) أحمد المقري (روضة الآس)، 268، وتاريخ الإجازة سنة 1009.

لها أسرة المقري، ولدور الوزان في التدريس خصصنا له هذه السطور. وقد تناول الوزان بالحديث عدد من المؤلفين ولكننا إلى الآن لم نعثر على ترجمة وافية له. فهو رغم مكانته لم يحتل مكانا بارزا في كتب المترجمين، وقد خصص له أحمد المنجور المغربي في فهرسته بعض الحديث نقلا عن شيخه يحيى بن عمر الزواوي الذي كان من تلاميذ الوزان، وعن بعض علماء قسنطينة أيضا، وعندما ترجم له أحمد بابا التمبكتي اكتفى بالنقل عن المنجور، وبناء على ذلك فإن الوزان كان قمة في العلوم النقلية والعقلية وأنه كان أيضا من الصالحين والورعين، وهما خاصيتان (العلم والورع) قلما تجتمعان في عالم واحد. وقد نقل المنجور عن شيخه الزواوي أنه كان يفضل الوزان على غيره من العلماء المعاصرين، وأن أكثر ما كان الوزان يدرس من العلوم البيان والفقه والأصول. ولكن الذي أعطانا صورة أوضح من ذلك عن الوزان هو عبد الكريم الفكون صاحب (منشور الهداية). فقد افتتح به تأليفه وحلاه بعبارات تدل على المكانة التي كان الوزان يتمتع بها في قسنطينة. فقال عنه إنه (شيخ الزمان، وياقوتة العصر والأوان، العالم العارف). وأخبر عنه أنه كان لا يجاري في علوم الفقه والأصول والنحو والحديث، وانه كانت له اليد الطولى في علم التصوف، وإنه كانت تشد إليه الرحال لطلب العلم ويفتى بأقواله وأفعاله، ولا غرابة أن يقول الفكون عنه ذلك - فإن الوزان كان شيخ جده عبد الكريم الفكون (الجد) وغيره من العلماء الذين ترجم لهم في كتابه. فهو من هذه الناحية يعرف عنه أكثر من غيره، ثم أنه من نفس البلد (قسنطينة) التي قضى فيها الوزان حياته مدرسا في مساجدها، ولا سيما مسجد السيدة حفصة. ومما انفرد به الفكون قوله إن الوزان قد تحول من الاهتمام بكتب التصوف إلى الاهتمام بكتب الحديث وأن الكرامات قد شاعت عنه بين الناس، فالوزان كان أولا دعوة من دعوات الشيخ أحمد زروق البرنوصي،

ذلك أن البرنوصي كان يتردد من المغرب على قسنطينة في قوافل التجار، وكان محمد الكماد والد الوزان من الموظفين بباب المدينة لمراقبة الداخلين والخارجين واستخلاص الضرائب. فكان يسقط عن الشيخ البرنوصي الضرائب ويكرمه ويستضيفه عنده. وفي إحدى المرات جاء الشيخ البرنوصي فلم يجد محمد الكماد في الباب فسأل عنه فقيل له إنه قد صنع وليمة احتفالا بمولود ولد له. فذهب الشيخ البرنوصي إلى داره وحمل الطفل (أي عمر الوزان) في كفه وجعل يطوف به الدار وهو في حالة خاصة داعيا الله أن يتقبله منه على أية حال. ومنذئذ أصبح الناس يعتقدون أن للشيخ أحمد زروق دورا في نشأة الوزان على ما نشأ عليه من العلم والورع والصلاح. أما الخبر الثاني الذي ساقه الفكون عنه فهو قوله إن الوزان كان يقرأ كعادته كتب أهل التصوف في الجامع الكبير القديم بقسنطينة بين خزانتي الكتب فخرج عليه شخص وطلب منه أن يعود إلى كتب الحديث النبوي فترك الوزان قراءة كتب التصوف والعناية بطرق القوم وكتب الوعظ واشتغل بالحديث الشريف. فكان يحفظ صحيح البخاري بأسانيده، وفي سياق ذلك ذكر الفكون أيضا أن الوزان قد تكررت رؤياه للخضر عليه السلام وأن له كرامات تمنى (أي الفكون) أن يفردها بتأليف خاص. وأخيرا ذكر أن الوزان قد توفي سنة 965 (¬1). وفي هذا الصدد نذكر أن المنجور قد أخبر أيضا نقلا عن ثقاة علماء قسنطينة أن الوزان كان يقريء الجن (¬2). ونحن نسوق هذه الأخبار عن الوزان لنعرف مكانته العلمية والصوفية عند المعاصرين له، وهي مكانة تشبه مكانة عبد الرحمن الثعالبي في وقته. والذي يقرأ الكتب المؤلفة ¬

_ (¬1) الفكون (منشور الهداية) مخطوط. أما أحمد بابا (نيل الابتهاج)، 197 فقد ذكر أن وفاة الوزان كانت حوالي سنة 960. ولعله قد نقل ذلك عن فهرس أحمد المنجور المغربي. وقد توفي أحمد زروق سنة 899 فيكون تاريخ ميلاد الوزان قبل ذلك ولكنه غير مضبوط. (¬2) أحمد بابا (نيل الابتهاج) 197.

في القرن العاشر والحادي عشر سيجد كثيرا من أخبار العلماء الذين جمعوا بين ظاهرتي العلم (الإقراء) والتصوف (الكرامات). ومما يلفت النظر في حياة الوزان أنه أضاف أيضا الثروة المادية إلى العلم والتصوف. فقد صاهر عائلة غنية بقسنطينة وهي عائلة ابن آفوناس، وكان ابن آفوناس، على ما يذكر الفكون، شيخا صالحا عرفت عنه الولاية والعلم واشتهر بين الناس بذلك كما اشتهر بينهم بالمال والرباع، حتى أصبحت له وجاهة عند أمراء قسنطينة. وكانت له مدرسة خاصة شأن معظم العائلات الكبيرة الموسرة في هذه البلاد. وهو الذي تزوج الوزان ابنته. وقد توفي ابن آفوناس في حياة الوزان ودفن في مدرسته، كما دفنت فيها ابنته أيضا. وكان الوزان متمسكا بمهنة التدريس متباعدا عن الأمراء والوظيفة السلطانية حتى أنه اعتذر عن قبول وظيفة القضاء حين عرضت عليه. فقد عثر بعض الباحثين على وثيقة اعتذاره لحسن آغا، باشا الجزائر بتاريخ 948 هـ. وبعد أن عرض الوزان في رسالته إلى الباشا واجبات القاضي الذي يستحق هذا الاسم، مطيلا في ذلك، لخص اعتذاره فيما يلي: يقينه أنه غير أهل للوظيفة المعروضة عليه، وكون الفترة حرجة في قسنطينة حيث كانت البلاد تمر بأزمة داخلية تتصارع فيها الأسر والمصالح (¬1). والظاهر أن السلطة العثمانية قبلت اعتذاره لأننا لا نعرف أنه قد تولى وظيفة غير التدريس والاشتغال بالعلم والتأليف فيه. ومن كتابه (الرد على الشابية) الذي رد به على المرابط عرفة القيرواني الذي ثار على السلطان الحفصي الحسن (تولى سنة 832) نفهم أن الوزان قد انتصر للسلطة القائمة عندئذ، أي قبل العثمانيين. فهل كان رفضه القضاء من يد العثمانيين تعبيرا عن موقف سياسي ¬

_ (¬1) لا شك أن في ذلك إشارة إلى ما حدث بين عائلة ابن عبد المؤمن وعائلة الفكون. وقد وجدت رسالة الوزان المذكورة في وثائق عائلة البوني العنابية، انظر فايسات (روكاي) 186, 297.

له منهم أكثر مما هو تعبير عن موقفه من وظيفة القضاء في حد ذاتها؟ ورغم أن الفكون لم يذكل له تأليفا فإن أحمد بابا قد أورد له عناوين بعض التآليف في الفقه والعقائد والتصوف. وهي هذه: 1 - البضاعة المزجاة، قال عنه أحمد بابا (إنه عن طريق الطوالع والمواقف وأنه في غاية التحقيق والإيضاح) (¬1). 2 - الرد على الشبوبية المرابط عرفة القيرواني وصحبه، (وهو كتاب حافل مد فيه النفس فما يعلم أنه من أهل التصوف) (¬2). 3 - فتاوي في الفقه والكلام وغيرهما. 4 - حاشية على شرح القصيدة الصغرى للسنوسي. 5 - تعليق على قول خليل (وخصصت نية الحالف) (¬3). وبالإضافة إلى التأليف أسهم الوزان في إخراج عدد من التلاميذ المجلين. ومنهم عبد الكريم الفكون (الجد) الذي جمع كأستاذه بين العلم والورع ولكنه قبل الوظيفة من العثمانيين، ويحيى بن عمر الزواوي شيخ أحمد المنجور، ويحيى بن سليمان الأوراسي الذي اشتهر بالتدريس والفتوى في قسنطينة والجزائر والاشتغال بالتصوف ثم الثورة على العثمانيين في منطقة ¬

_ (¬1) أحمد بابا (نيل الابتهاج)، 197، والمقصود أن (البضاعة المزجاة) هو كتاب ألفه الوزان على أسلوب الطوالع للبيضاوي و (المواقف) للعضد. (¬2) عبارة أحمد بابا هنا غامضة، وقد استشرت في ذلك الشيخ محمد الطاهر التليلي القماري وانتهينا إلى أن عنوان الكتاب يصبح أدق وأوضح لو كان هكذا (الرد على الشابية) بدل الشبوبية لأن الوزان قد رد به على عرفة القيرواني، وهو من الشابية. أما عبارة (فما يعلم أنه من أهل التصوف) فما تزال غامضة ولعل المقصود أن الوزان قد تعمق فيه في مسائل التصوف، وعن ثورة المرابط عرفة القيرواني ضد السلطان الحفصي، انظر ابن أبي دينار (المؤنس)، 152. (¬3) نسخة منه في مكتبة جامعة برنستون الأمريكية (قسم يهودا) رقم 178 مجموع، وهو بخط يعود إلى القرن العاشر، وهو في حوالي ثلاث ورقات فقط وفي هذا المصدر أن الوزان توفي سنة 960 أيضا.

الأوراس، ومنهم أيضا أبو الطيب البسكري الذي لا نعرف عنه الآن شيئا غير هذه العلاقة بالوزان (¬1). ولكن نواحي بسكرة قد أرسلت إلى الوزان، حسب بعض الروايات: عبد الرحمن الأخضري الذي عرف بمنظوماته في علوم شتى وبشروحه عليها والذي لفت إليه الأنظار بنبوغه في الحساب والفرائض والبيان وغيرها. ومن تلاميذ الوزان أيضا قريبه محمد الكماد الذي تولى قضاء الجماعة في قسنطينة وكان ناثرا وشاعرا وخطيبا. ولا شك أن هناك غير هؤلاء من التلاميذ الذين أصبحوا بعد تخرجهم على الوزان يخوضون مختلف قطاعات الحياة. والذي يقرأ (منشور الهداية) سيعثر على عدد منهم لأن صاحبه قد ترجم لطبقة الوزان وطبقة من جاء بعده. وإذا كنا قد ترجمنا من مدرسي القرن العاشر لعالمين هما سعيد المقري وعمر الوزان ومن القرن الحادي عشر لعالمين هما سعيد قدورة وعلي الأنصاري فإن هذا لا يعني أن القرن الثاني عشر لم يشتهر بالمدرسين أيضا. ويكفي أن نذكر من هذا القرن أحمد بن عمار ومن القرن الثالث عشر أبا رأس. غير أننا سنتناول هذين العالمين وغيرهما في اختصاصات أخرى غير التدريس. ولعله من المناسب الآن أن نتناول دور العلماء في المجتمع. ¬

_ (¬1) لا نعلم الآن ما العلاقة بين أبي الفضل البسكري وأبي الطيب البسكري. ولعل في كتب التراجم ما يجيب على ذلك.

الفصل الخامس فئة العلماء

الفصل الخامس فئة العلماء

كثير من الباحثين اهتموا بفئة العلماء في الدولة العثمانية، لما كان لها من القيمة في الدين والسياسة وشؤون الحياة عامة. وقد بلغ الاهتمام عند بعضهم أن جعلها تمثل القسم الثاني من نظم الدولة بعد أن جعل القسم الأول هو النظم السياسية. فالباحثون ليباير، وهاميلتون جيب، وباون ومن تبعهم قد قسموا نظم الدولة العثمانية إلى قسمين رئيسيين. النظم الحاكمة، وهي السلطان والوزير والجيش والولاة وغيرهم من الإداريين والماليين والعسكريين، والنظم الإسلامية التي جعلوا على رأسها العلماء ورجال الدين بصفة عامة. ورغم أن هذا التقسيم قد بدأ يتزعزع إلا أنه لا أحد استطاع حتى الآن أن يقلل من أهمية دور العلماء في الدولة فقد كان المفتي أو شيخ الإسلام في إسطانبول مقدما على الوزير الأول، وكانت كلمته ضرورية لإعلان الحرب وعقد السلم وقبول أو رفض نظام معين. ونفس الشيء يقال عن أهمية دور الدراويش، ولا سيما دراويش الطريقتين البكداشية والمولوية (¬1). وقد كانت الجزائر في العهد العثماني هي إسطانبول الصغرى، كما سماها بعضهم، في نظمها السياسية والإدارية. ولا تكاد تختلف من حيث النظم عن إسطانبول إلا في بعض التفاصيل، بما في ذلك نظام العلماء. فقد لعب علماؤها نفس الدور الذي لعبه علماء إسطانبول في الحرب والسلم وفي التحرر والثورة أحيانا وفي التنافس على الوظائف والمناصب وفي حماية الدين والدعوة إلى الجهاد، وسنرى أن الجزائر كانت كإسطانبول أيضا تستقبل العلماء الزائرين من أطراف العالم الإسلامي، كما كانت مثلها تفتقر إلى جامع عريق أو جامعة إسلامية مهمتها تخريج الفقهاء والعلماء والأدباء وكتاب ¬

_ (¬1) انظر جيب وباون (المجتمع الإسلامي والغرب) خصوصا القسم الثاني منه.

مكانة العلماء ووظائفهم وميزاتهم

الإنشاء أو الدواوين. فكما كانت إسطانبول (تستورد) رجال الدين كذلك كانت الجزائر في هذا العهد، فأوجه الشبه بين العاصمتين إذن أكثر من أوجه الاختلاف في هذا المجال. مكانة العلماء ووظائفهم وميزاتهم وظهور العلماء كفئة متميزة ليس وليد العهد العثماني لا في الجزائر ولا في غيرها من العالم الإسلامي، فقد بدأ - كما نعلم - منذ استولى على شؤون المسلمين حكام جهلة ليس لهم صلة بالحضارة الإسلامية واللغة العربية ولا بأمور الدين، ومن ثمة منذ ضعفت الدولة الإسلامية. فجهل الحكام هو الذي مهد لظهور العلماء كفئة متميزة ليسدوا الفراغ كمستشارين ومشرعين ومفسرين. وأصبح شعار العلماء هو أنهم هم (حماة الدين) و (مصابيح الظلام)، بينما لم يكن الأمر كذلك حين كان الحكام علماء والعلماء حكاما. وبالنسبة للجزائر فإننا نعرف أن دولة بني زيان مثلا قد اتخذت من العلماء مستشارين ومن المثقفين كتابا ومادحين ولكنها لم تفتح وظيفة باسم (شيخ الإسلام)، ونفس الشيء يقال عن قسنطينة تحت الحفصيين ومدينة الجزائر قبل أن يجعلها العثمانيون عاصمة للقطر كله. ولعل كون الحكام العثمانيين في الجزائر غرباء عن الثقافة العربية وعن تاريخ الحضارة الإسلامية والتشريع الإسلامي هو الذي جعلهم، كولاة وسلاطين، يتأثرون بشؤون الحكم من سياسة واقتصاد وجيش وإدارة، تاركين القضايا الأخرى التي لها مساس مباشر بالدين في أيدي فئة أخرى هي فئة العلماء، وهكذا بدأوا في تطبيق القوانين الوضعية والشريعة الإسلامية، وهو ما يسميه الأوروبيون الفصل بين الدين والدولة. وقد أضاف سلاطين آل عثمان، وعلى رأسهم سليمان القانوني، مجموعة من القوانين المستمدة من العرف ومن حضارات أخرى ومن حالات الضرورة، وأصبحوا هم كحكام المشرفين على تنفيذها، بينما القضايا المستمدة من روح الشريعة الإسلامية

ومن تقاليد السلف قد تركت لفئة العلماء تتفذها وتبدئ فيها رأيها. وهكذا بدأ الفصل في تطبيق الأحكام في الدولة الإسلامية الواحدة التي من المفروض أن ولاتها يمثلون الدين والدولة معا، وأن جميع القوانين فيها مستمدة من الشريعة الإسلامية. وبذلك أصبح للحكام مجالهم الخاص في التنفيذ كما أصبح للعلماء مجالهم. فإذا تعارض الأمران تغلب أصحاب الجانب الأول لما لديهم من القوة والسلطان، وليس لما لهم من الحق والبرهان. وكان الباشوات في الجزائر هم الذين يعينون العلماء في وظائفهم بينما لم يكن للعلماء دخل في تعيين الباشوات. فقد كان الأوجاق هم الذين يقررون مصير الباشا، فإذا رضوا بقي في الحكم وإذا غضبوا وقعت الثورة وسقط الباشا مضرجا في دمائه أو مدلي من حبل المشنقة، وفي بعض الأحيان كان الأوجاق يأخذون في الاعتبار سخط العلماء على الباشا، ولكن ذلك لم يكن أمرا ضروريا للإطاحة به إذ كان يكفي تجمع عدد من الجنود عند القصر ودخول طليعة منهم للقبض على الباشا وإعدامه. وكان دور العلماء في هذه الحالات سلبيا، فهم ينتظرون انجلاء غبار الثورة لكي يباركوا للباشا الجديد ويتقدموا إليه بالبيعة والتهنئة وعروض الولاء. وقد وقف بعض العلماء أحيانا مواقف سياسية من بعض الولاة فكان نصيبهم الإعدام. كما حدث للمفتي أحمد قدورة مع الباشا محمد بكداش. وكان عزل العلماء من وظيفتهم أخف الضررين. كما أن النفي كان أحد طرق التخلص من العلماء. والعلماء فئة احتكرت مجالات معينة في المجتمع، وهي الإفتاء والقضاء والتعليم والإمامة والخطابة. ورغم تعدد هذه المجالات فإنها كانت ضيقة ومحددة، ولذلك كثر التنافس عليها بينهم. وكان هذا التنافس بدوره سببا في إضعاف دورهم السياسي لأن الباشوات والبايات كانوا يضربون هذا بذاك ويغلبون فريقا على فريق وعائلة على عائلة عند الضرورة. ورغم قرب القضايا التي يعالجونها والوظائف التي يؤدونها من الشعب فإن العلماء،

وخصوصا في المدن، قد ابتعدوا عن الشعب وأصبحوا ينظرون إليه نظرة فوقانية (¬1)، وكادوا لا يفترقون في تصورهم للمجتمع الجزائري عن العثمانيين أنفسهم الذين كانوا غرباء عن الشعب، كما سبق القول. فمصالح العلماء كانت إذن في إرضاء الباشوات وكسب ودهم وليس في خدمة الشعب والتقرب منه ورفع مستواه. ومن ثمة أصبحت فئة العلماء طبقة متميزة بالمعنى الحديث للكلمة، لها خصائصها ومصالحها ونمط عيشها، وحتى مؤامراتها ومناوراتها. وكانت بعض الأسر العلمية تتميز بالثراء الغزير. فقد لاحظ التمغروطي في أواخر القرن العاشر أن علماء الجزائر تغلب عليهم المادية، فقال (إن حب الدنيا وإيثار العاجلة والافتتان بها غلب عليهم) (¬2)، وقد لاحظنا أن المفتي سعيد قدورة كان ذا مال يشارك به بعض التجار، وجاء في كتاب ابن المفتي أن عمار بن عبد الرحمن المستغانمي كان ينفق على ضيوفه بين ثلاثين وأربعين ريالا في الليلة الواحدة (¬3) وقيل عن المفتي أحمد الزروق بن داود أنه كان صاحب ثروة، وكذلك كان العالمان سعيد المقري في تلمسان وعمر الوزان في قسنطينة. ومن المعروف أن عائلة الفكون وابن باديس وابن آفوناس في قسنطينة كانت من العائلات الغنية. والمحافظة على الثروة ومحاولة الاستزادة منها كانت السبب في التنافس الشديد الذي سنذكر نماذج منه بين هؤلاء العلماء. ولكن العلماء لم يكونوا جميعا أغنياء. فقد كان فيهم الفقراء بكثرة، وخصوصا أولئك الذين كانوا خارج الوظيف أو الذين كانوا يمتهنون التعليم. ومصادر تكوين أو تخريج العلماء ثلاثة: الأول المدرسة الجزائرية (بما في ذلك المساجد والزوايا) التي كانت تصل بالمتعلم إلى نهاية المرحلة ¬

_ (¬1) جاء في رسالة لأحمد بن عمار أن العوام كالهوام. انظر ذلك في فصل الأدب (النثر) من الجزء الثاني. (¬2) التمغروطي (النفحة المسكية) مخطوط رقم 2829. (¬3) نور الدين عبد القادر (صفحات)، 283.

الثانوية وبداية العالية، والثانية المدرسة المزدوجة، ونعني بها المؤسسة التي يجمع فيها الجزائريون بين دراستهم في الجزائر ودراستهم في الأقطار الإسلامية ثم يعودون لتولي الوظائف. أما المصدر الثالث فهو المدرسة الإسلامية عموما، ونعني بها المؤسسة التي جاءت منها طائفة من علماء المسلمين الذين لم يكونوا جزائريين في الأصل، ولكنهم استوطنوا الجزائر وتولوا فيها وظائف مختلفة من الإفتاء إلى الإمامة وغيرهما. وكان العثمانيون في أول الأمر يجلبون معهم علماءهم، إما لعدم ثقتهم في علماء الجزائر وإما للقيام بشؤون المذهب الحنفي الذي كانوا يتبعونه. كما أنهم ولوا الوظائف الدينية وكلفوا بالمهمات الدبلوماسية علماء من مختلف الأقطار الإسلامية. ولم يعتمدوا في ذلك على علماء الجزائر، على الأقل في بداية عهدهم. ومهما كان الأمر فإن المدرسة الجزائرية كانت غير كافية لسد جميع الفراغات في الوظائف المفتوحة أمام العلماء. ولعل عدم توحد المدرسة في الجزائر قد أضعف أيضا من فعالية فئة العلماء، ذلك أن أصول تعليمهم وطموحاتهم كانت مختلفة في النهاية. ولا شك أن أعلى وظيفة كان يتولاها العالم هي الفتوى، ذلك أن الفتوى تحتاج إلى درجة عالية من العلم والتعمق في مسائل الفقه ومعرفة قوية للقرآن وعلومه وعلوم الحديث والقياس ونحو ذلك. كما تتطلب قوة الشخصية والنزاهة والعلاج والشجاعة في الرأي والثبات على قول الحق. وكانت شهرة العالم بين الناس في هذه الأمور من بين عوامل ترشيحه لهذه الوظيفة. ونحن نعرف من تاريخ القضاء في الإسلام أن كثيرا من العلماء كانوا يرفضون وظيفة القضاء (ومنها في العهد العثماني وظيفة الفتوى) ويفرون منها ويتحايلون بشتى الحيل حتى لا يغضبوا الحكام برفضهم لها. أما في العهد الذي ندرسه فلا نكاد نسمع أن أحدا من العلماء قد رفض أو اعتذر عن قبول وظيفة المفتي أو القاضي (¬1). بل إننا سنرى أن التنافس عليها كان على أشده، ¬

_ (¬1) ذكرنا في ترجمة عمر الوزان أنه اعتذر عن وظيفة القضاء. وذكر محمد بن ميمون في =

ولم يكونوا يقومون بحقها حق القيام، بل إن معظمهم كانوا ينظرون إليها على أنها مكسب للرزق ومطلب للجاه. وإن دل هذا على شيء فإنما يدل على ضعف العلم وضعف أخلاق العلماء أيضا. ولم يكن الإفتاء وظيفة رسمية قبل العثمانيين. فقد كان العلماء قبلهم يستشارون في المسائل الفقهية وغيرها كأساتذة وشيوخ علم وليسوا كموظفين ملحقين بمصلحة من المصالح في الدولة. فكان العالم إذا اشتهر أمره بين الناس وشاع عنه الورع والنزاهة والتمكن من العلم تتوافد عليه الأسئلة من الجهات الشعبية والرسمية فيسجلها عنده ويجيب عنها بما توصل إليه علمه مضيفا إليها عبارة (والله أعلم). وقد وجدنا من هذه الآثار نوازل وفتاوي كتبها علماء كانوا مرجعا في عهدهم وعاشوا قبل العهد العثماني. ولم يكونوا موظفين. لدى ولاة زمانهم. ومن ذلك نوازل المازوني (الدرر المكنونة في نوازل مازونة)، وفتاوي الونشريسي التي ضمنها موسوعته (المعيار). وكان المذهب الذي يفتي به هؤلاء العلماء هو مذهب الإمام مالك لأنه المذهب الذي كان يتبعه جميع السكان باستثناء أتباع المذهب الإباضي. ولما جاء العثمانيون أحدثوا تغييرات في هذا النظام. فقد جعلوا الإفتاء وظيفة من الوظائف الرسمية. ورغم أنهم كانوا كبقية السكان من أهل السنة فإنهم جعلوا الفتوى على مذهبين: مذهب الإمام أبي حنيفة، ومذهب الإمام مالك. وجعلوا المذهب الأول هو المذهب الرسمي، لأنهم كانوا أحنافا، ولكنهم لم يتدخلوا في المذاهب الأخرى. ونظرا لعدم وجود علماء أحناف في الجزائر قبل العثمانيين، ونظرا لعدم الثقة الكاملة سياسيا في علماء الجزائر، فإن سلاطين آل عثمان كانوا يعينون الباشا وكذلك القاضي الحنفي مدة سنتين في أغلب الأحوال، ويرسلونهما لتمثيلهم في الجزائر، الأول يمثل السلطة السيفية، والثاني يمثل السلطة العلمية (وهذان التعبيران كانا شائعين ¬

_ = (التحفة المرضية) أن الباشا محمد بكداش قد (أجبر) الشيخ محمد بن أحمد البوني على قبول الإفتاء رغم اعتذاره، ص 174. وهكذا نرى أن المعتذرين عن هذه الوظيفة قد وجدوا ولكن بقلة.

عندئذ للدلالة على فئة الحكام وفئة العلماء). وقد سمى الحكام العثمانيون في الجزائر القاضي الحنفي (وهو أيضا المفتي فيما بعد) شيخ الإسلام كما كان يسمى زميله في إسطانبول، وجعلوه مقدما على زميله المفتي المالكي في الحظوة والاعتبار والرأي، رغم أن الأخير كان يمثل مذهب السكان. وبعد عدة أجيال على هذا النمط أصبح المفتي الحنفي لا يعين من إسطانبول وإنما يعين من أبناء العثمانيين المولودين في الجزائر، وذلك بعد أن أصبح الباشا أيضا يعين في الجزائر نفسها من طرف الأوجاق. ويذكر ابن المفتي أن والده، حسين بن رجب شاوش، كان أول مفتي حنفي يعين من أبناء العثمانيين في الجزائر، وهم المدعوون بالكراغلة. والمعروف أن حسين بن رجب هذا قد تولى بتاريخ 1102 (¬1). وكان المفتي يتولى أيضا وظائف أخرى، كما عرفنا، مثل التدريس ووكالة الأوقاف والإمامة والخطابة. وليس من الضروري أن يجمع المفتي كل هذه الوظائف دفعة واحدة. فقد كان له أن ينيب غيره في بعضها، بمن في ذلك أبناؤه، كما فعل سعيد قدورة، وكان يحضر مجلس الشورى الأسبوعي وجلسة الديوان إذا دعي إليها. وإذا اختلف المفتيان تنعقد مناظرة عامة يحضرها القضاة والعلماء والباشا أو ممثله. ويؤخذ الرأي بالأغلبية أو بترشيح الباشا للرأي الذي يميل إليه هو. وفي معظم الأحيان كان الباشا يأخذ برأي المفتي الحنفي، وأحيانا كان يعزل المفتيين معا عند النزاع ويعين بدلهما آخرين، مثل ما وقع لمحمد بن العنابي الحنفي وزميله المالكي سنة 1232. ولم يكن الإفتاء مقصورا على مدينة الجزائر، بل إن كل عاصمة إقليمية أو مدينة كبيرة كانت على نمط العاصمة، فيها أيضا المفتي الحنفي والمالكي، ¬

_ (¬1) يذكر ابن المفتي أن أول من أدرك خطه من الكراغلة هو محمد بن قرمان الذي توفي سنة 1036، وكان معاصره في الفتوى المالكية هو أحمد الزروق بن عمار بن داود. انظر أيضا الفكون (منشور الهداية) 242، و (ديوان ابن علي) مخطوط خاص. ففي الأول أن أحمد بن داود قد توجه إلى قسنطينة للدراسة على الشيخ محمد التواتي، وفي الثاني يوجد رثاء محمد القوجيلي له.

وكانا يقومان بنفس الوظيفة ويخضعان لنفس الظروف ولكن يعينهما الباي أو الحاكم الإقليمي. ومن المعروف أن العثمانيين قد جعلوا في قسنطينة وظيفة شيخ الإسلام في عائلة الفكون وذلك للدور السياسي الذي لعبته في الانتصار للعثمانيين من جهة ولأهمية مدينة قسنطينة من جهة أخرى (¬1). ويأتي القضاء بعد الإفتاء في الأهمية، بل إن وظيفة القاضي الحنفي في المرحلة الأولى من الوجود العثماني كانت هي الأساسية لأنها كانت (وظلت كذلك) وظيفة سياسية - دينية. وكان القاضي بحكم اتصاله المباشر بمشاكل الحياة اليومية، على خلاف المفتي، من خصومات وعقود زواج وطلاق، وعقود بيع وشراء، وعقود وقف وكراء - في وضع أخطر من وضع المفتي. وإذا كانت أهمية وظيفة المفتي تعود إلى المكانة والاعتبار فإن أهمية وظيفة القاضي تعود إلى التنفيذ والممارسة لشؤون المجتمع. ولذلك كان بعض الفقهاء، كما أسلفنا، يعتذرون عنها خوفا من عدم القدرة على القيام بمتطلباتها وتقديرا منهم لخطورتها، وقد كان قضاة الجزائر قبل العثمانيين مالكية، كما كان للأباضية قضاتهم. ومع الباشوات جاء القضاة أيضا إلى الجزائر للحكم بمقتضى المذهب الحنفي، ولذلك أصبح في الجزائر قاضيان في كل مدينة رئيسية، أحدهما للمذهب الحنفي والآخر للمالكي. وتحت هذين القاضيين مجموعة من القضاة المنتشرين في أنحاء الأقاليم. وكان القضاة أحيانا ينيبون عنهم غيرهم أيضا أو يعين الباي خليفة للقاضي. ومن هذا النوع ما تحدث عنه الفكون في كتابه (منشور الهداية) وسماه (نيابة قضاء العجم)، وهو يعني بهم الأتراك. وبالإضافة إلى ذلك كان هناك قضاة يتبعون الحملات العسكرية في الداخل والغزوات البحرية في الخارج وكانوا يسمون بقضاة العسكر ولهم أهمية كبيرة. وكان منصب القضاة أيضا مدعاة للتنافس بين العلماء. ففيه بالإضافة ¬

_ (¬1) عن تنافس هذه العائلة مع عائلة ابن عبد المؤمن انظر شيربونو (روكاي) 1856 - 1857، 97، وميرسييه (روكاي) 1878، 227 وما بعدها، وفايات (روكاي)، 1867 - 329. انظر أيضا الفصل الثاني من هذا الجزء.

إلى الجاه والنفوذ، المال وأكل مال الأوقاف وأموال اليتامى. كما اشتهر معظمهم بالجهل لأحكام الدين وإصدار الأحكام جزافا. وكانت الخطابة هي الوظيفة الثالثة في الأهمية، وكانت مقاييسها صعبة لأن الجمهور يشترك في الحكم على الخطيب بخلاف المفتي والقاضي اللذين يتوليان وظيفة سياسية - دينية. ومن شروط الخطيب الفصاحة وجودة الصوت وسعة الاطلاع والجرأة الأدبية. ومن الطبيعي ألا تكون هذه هي كل الشروط التي وضعها الجاحظ للخطيب، ولكن في الجزائر العثمانية كان يكتفي ببعضها على الأقل. وكان الخطيب يؤدي صلاة الجمعة وصلاة العيدين، وأحيانا يجمع إلى ذلك الصلوات الخمس. فهو بذلك إمام أيضا. غير أن بعضهم كان يقوم بالإمامة في جامع والخطابة في آخر، كما كان سعيد قدورة في أول الأمر. وكان العلماء يتنافسون على وظيفة الإمامة والخطابة كما يتنافسون على الإفتاء والقضاء. وكان بعض الخطباء لجرأتهم وفصاحتهم وصلتهم بالجمهور يثيرون خوف الحكام فيحذرون منهم. وقد يبثون حولهم العيون إذا تكاثر الناس من حولهم. وقد يعزلونهم أو ينقلونهم إتقاء لشرهم، كما وقع لقرباش أفندي، خطيب الجامع الجديد. وهناك خطباء يفخمون الخطبة ويجعلون لها شأنا عظيما وسمعة كبيرة، مثل مصطفى بن عبد الله البوني. وهناك العييون والخجلون الذين يهينون الخطبة وينفرون الناس من سماعها. ونفهم من ابن المفتي الذي عالج هذا الموضوع أكثر من غيره فيما نعلم، أن محمد خوجة بن مسلم قد صان الخطبة وجعل لها شأنا بالبقاء في داره بدل الجلوس في المقهى، كما كان يفعل بعض من سبقه (¬1). ولأهل الحي دور في اختيار الخطيب، فهم الذين يرشحون للباشا من استحسنوا صوته وفصاحته وعلمه وأخلاقه ليكون خطيب جامع حيهم. وليس هناك سلطة للمفتي على الإمام والخطيب. ومتى عزل؛ وتخلى عن الخطابة والإمامة يعود العالم إلى عمله الأصلي وحياته العادية كبقية الناس. ¬

_ (¬1) نور الدين عبد القادر (صفحات)، 275.

ورغم ما قلناه عن الخطيب الناجح فإن بعض الخطباء كانوا من العي والجهل بحيث أصبحوا مضرب المثل. ومن هؤلاء المفتي عمار المستغانمي الذي كان، رغم علمه، عاجزا عن الخطبة يعتريه خجل حتى يتصبب عرقا. وكان لا صوت له في الخطبة بينما كان جهيره في الدرس (¬1). لذلك كان المستغانمي ينيب عنه في الخطابة صهره أخ زوجه. وقد روى الفكون أنه هو الذي كتب خطبة الجمعة لأحمد بن باديس عند توليه إفتاء وخطابة جامع القصبة في قسنطينة (¬2). وجاء في رحلة العياشي أن خطيب الجمعة في توات ألقى (خطبة عظيمة وعظية حسنة تلقفها من صحيفة، إلا أنه أكثر فيها اللحن)، ولاحظ نفس الكاتب أنه حضر صلاة الجمعة في جامع ورقلة (وخطب الخطيب بخطبة أكثر فيها اللحن والخطأ والتحريف والتقديم والتأخير مع إدغام أكثر حروفها حتى كأنها همهمة)، حتى خاف العياشي أن صلاته قد لا تجوز معها، بل اعتقد أن الخطبة كانت تعود إلى زمن الموحدين لأن فيها دعاء للمهدي بن تومرت (¬3). وحكم الفكون أيضا حكما قاسيا على أحمد بن حسن الغربي الذي تولى خطة الفتوى وكان (أمي الخطابة والكتابة) وكان لا يعرف الخط ولا الرسم ولا الهجاء حتى أنه كان يطلب ممن يجالسه إصلاح فساد الرسم (¬4). وهكذا نجد أنه بقدر ما كانت الفصاحة مدحا كان العي ذما. ولكن المسألة هنا ليست العي مع العلم ولكن العي والجهل معا. وما أكثر النماذج على ذلك. ومن الوظائف العامة للعلماء وظيفة المدرس. وقد سبق لنا الحديث عنها في فصل التعليم. غير أننا نود أن نلاحظ أنها كانت أحيانا تابعة لوظائف أخرى، فالمفتي والخطيب يتوليان التدريس، ولكن العكس غير صحيح. ذلك أن أكثر المدرسين لم يكونوا مفتين ولا خطباء، وإنما كانوا يلقون ¬

_ (¬1) نفس المصدر، 283 عن ابن المفتي. (¬2) الفكون (منشور الهداية) مخطوط. (¬3) العياشي (الرحلة) 1/ 20، 46. (¬4) الفكون (منشور الهداية) مخطوط.

دروسهم ثم يعودون إلى منازلهم. ولا شك أن تنافس العلماء على وظيفة التدريس كان أقل من تنافسهم على الوظائف الأخرى، ان التدريس كان أكثر مجلبة للفقر. وتجدر الملاحظة إلى أن بعض المدرسين كانوا يعملون كل الوقت وبعضهم كان يعمل بعض الوقت. وكان مدرسو المدن الكبيرة يعينون من قبل السلطة الحاكمة، أما من الباشا أو من خلفائه في الأقاليم (¬1). وكان لقب العالم يطلق أيضا على بعض الفئات الأخرى في المجتمع. ولنذكر هنا من ذلك ثلاثة أنواع، الأول كتاب الإنشاء أو الخوجات، والثاني المثقفون الأحرار، والثالث المرابطون. فأما النوع الأول فقد كان أصحابه يكتبون للباشوات والبايات ويسجلون محاضر جلسات الديوان والمفاوضات والمعاهدات مع الدول الأخرى. وكانوا يتبعون تحركات الباشوات والبايات في حلهم وترحالهم ويسجلون أخبارهم وأعمالهم. ورغم أن هذا النوع يدخل فيما نسميه اليوم بالإدارة والبيروقراطية فإن انتماء أصحابه إلى أهل العلم يجعلنا نتحدث عنهم هنا وندرجهم ضمن فئة العلماء. وأما النوع الثاني (المثقفون الأحرار) فلا ريب أنهم يندرجون في فئة العلماء أيضا ولكن غير الموظفين. وكان هؤلاء أكثر كفاءة من زملائهم الفقهاء في الغالب. كما كانوا في ثورة دائمة على السلطة وعلى زملائهم الموظفين من جهة أخرى، بل إن بعضهم كانوا يحذرون من خدمة الحكام ويعتبرون خدمتهم بيعا للضمير وسقوطا للعلم. وإذا ضاقت الأرض ببعض هؤلاء كانوا يهاجرون من الجزائر تماما كما فعل أكثر من واحد. وأخيرا هناك المرابطون الذين خصصنا لهم فصلا بعد هذا. وبالإضافة إلى المهمات التي ذكرناها كان العلماء يقومون بأعمال أخرى كالسفارة. ومن أقدمها سفارة محمد بن علي الخروبي الطرابلسي إلى ¬

_ (¬1) رغم أن المؤذنين والحزابين والمسمعين لا يدخلون ضمن تعبير (العلماء) فإن لهم صلة قوية بهم ويعيشون في ظلهم، وهم يمثلون عددا كبيرا من رجال الدين ويأخذون رواتبهم من الوقف ويخضعون في التعيين لشروط غير دقيقة.

المغرب أكثر من مرة مبعوثا من باشوات الجزائر إلى سلاطين المغرب لتحديد الحدود وتأمين العلاقات بين البلدين. وقد صادف الخروبي في المغرب استقبالا حافلا وكان ذلك في القرن العاشر. وتتحدث الأخبار أيضا عن سفارة قام بها القاضي محمد القوجيلي إلى إسطانبول سنة 1065. ونحن إذا كنا لا ندري الآن فحوى هذه المهمة بالضبط فإن القوجيلي قد جاء على لسانه أنه ذهب إلى إسطانبول مقر الخلافة في شأن (الأهوال) التي مرت بها الجزائر عندئذ (¬1). ومن أشهر السفارات التي قام بها العلماء بسفارة محمد بن العنابي إلى المغرب الأقصى عقب حملة أكسموث الإنكليزي سنة (1816) 1231، حين أرسله عمر باشا لطلب المعونة العسكرية من السلطان سليمان. كما أننا نعرف أن ابن العنابي قد قام بغارة أخرى إلى إسطانبول سنة 1232، ولعلها كانت لنفس الغرض الذي ذهب من أجله إلى المغرب (¬2). لقد كان العلماء يعيشون في دائرة اجتماعية ضيقة. فهم قبل كل شيء يعتبرون أهل حضر يسكنون المدن ويفكرون بالمادة ويتعلقون بالمصالح التي تدر عليهم المال والجاه. وكانت لديهم مشاعر الترفع على علماء الريف (¬3). حقا ان عددا منهم قد جاء من الأرياف كجبل زواوة وميلة ونقاوس والونشريس وغيرها. غير أن العائلات الحضرية العريقة كانت تعارض تولي علماء الريف الوظائف الكبيرة، وكان هذا واضحا في قسنطينة وتلمسان. أما في العاصمة فقد كان الأمر يختلف لأنها كانت مدينة مفتوحة كما أشرنا ¬

_ (¬1) (ديوان ابن علي) مخطوط. والغالب أنه يشير بذلك إلى آثار ثورة ابن الصخري ومنازعات الأوجاق على السلطة. (¬2) لم تكن ظاهرة استخدام العلماء في السفارة خاصة بالجزائر، فقد كان سلاطين آل عثمان يفعلون ذلك. ومن العلماء المغاربة الذين قاموا بالسفارة الوزير الغساني في القرن الحادي عشر وأحمد الغزال في القرن الثاني عشر. ومن زعماء تونس إبراهيم الغرياني ومحمد تاج العارفين في القرن الحادي عشر. (¬3) ساق ابن حمادوش في رحلته مثالين على الأقل على غرور علماء الريف في نظره في علمهم وضحالة معلوماتهم بالمقارنة إلى علماء المدن. وكان ابن حمادوش من علماء الحضر. كما يجد المرء في كتاب أبي راس لمحات من ذلك.

وكانت تستقبل ليس علماء الجزائر فحسب ولكن أيضا علماء المغرب وتونس وإسطانبول وسورية وتمنحهم الإقامة والوظائف. وكانت معسكر أيضا مدينة مفتوحة كعاصمة للإقليم الغربي، لكنها كانت تفتقر إلى التقاليد المحلية العريقة فكان يتوافد عليها العلماء من نواحي كثيرة ولم يتطور فيها الشعور بمضادة علماء الريف أو الغرباء. ومن مظاهر عيش العلماء في دائرة ضيقة توريثهم الوظائف لأبنائهم وأقاربهم. وقد عرفنا أن المفتي سعيد قدورة قد أناب عنه ابنه محمدا، رغم صغر سنه، في الخطابة بالجامع الكبير. وبعد وفاته أصبح محمد هو المفتي الرسمي وظل في ذلك الوظيف حوالي أربعين سنة ثم خلفه أخوه أحمد، وهكذا. وولي المفتي محمد بن إبراهيم المعروف بابن نيكرو، ولديه خطة الخطابة (ليراهما ويسر بهما). وقد تولى محمد خوجة بن مسلم الخطابة بعد والده. وكانت عائلة ابن العنابي تتوارث الإفتاء والقضاء خلال قرن من الزمن، كما كانت عائلة ابن باديس والفكون في قسنطينة. وحين تولى الشاعر ابن علي الإفتاء الحنفي 1150 هـ، كان مستندا على تاريخ جده الذي تولى القضاء قبله بحوالي قرن، وبالإضافة إلى ذلك هناك شبه احتكار للوظائف في أسرة واحدة مدة طويلة. فالشيخ ابن الأمين كان قد تولى الفتوى عدة مرات، يعزل منها ثم يعاد إليها. وكذلك كان الحال بالنسبة إلى عائلة ابن الشاهد وعائلة ابن جعدون. وهذا يعود بدون شك إلى تغيير الحكام أنفسهم بسرعة. فالباشا كان يعزل العالم من وظيفته ويعين بدله آخر، فإذا جاء الباشا الجديد عزل العالم الذي وجده وأعاد الأول إلى وظيفته، وهكذا. وبالإضافة إلى علاقة البنوة والأخوة في الوظيف هناك علاقة المصاهرة، ذلك أن مراجعة تاريخ الأسر العلمية تكشف عن العلاقة العائلية بينها، ولا سيما المصاهرة. فعائلة قدورة كانت تصاهر عائلة المرتضى، وهي عائلة كانت فيها نقابة الأشراف. وكانت بين عائلة الزهار، وهي من الأشراف أيضا، وعائلة ابن المبارك بالقليعة، وهي أسرة مرابطين، مصاهرة أيضا. ويذكر الفكون أن زوج ابن المفتي أحمد بن باديس كانت

أختا لوالدته. كما ذكر أنه هو شخصيا كان متزوجا من إحدى بنات المفتي أحمد بن حسن الغربي. وقد مر بنا أن عمر الوزان قد تزوج من عائلة ابن آفوناس. وكان محمد بن نعمون صهرا لعبد اللطيف المسبح. وكلاهما من أسرة علمية في قسنطينة. كما كانت بين أسرة المقري وأسرة الونشريسي مصاهرة. وكان العلماء، وخصوصا الموظفين منهم، ينقمون على المتصوفة ويعتبرون بعضهم انتهازيين وزنادقة، ورغم حماية السلطة لمعظم رجال الطرق وكبار الصالحين فإن العلماء (الفقهاء) كانوا ينظرون شزرا إلى نشاط المتصوفة، ولا سيما أدعياء التصوف في العهود الأخيرة. ومع ذلك فقد كان معظم العلماء منتمين إلى الطرق الصوفية. وبالمقابل كان المرابطون يضيقون ذرعا بعقلانية العلماء وماديتهم وتزلفهم للسلطة (¬1). وكثيرا ما كان العلماء الزهاد والمتصوفة يتنهدون أسفا على ضياع العلم وسقوط الفقه بل وذهاب شروط التعليم (¬2). وامتلأت (قدسية) الأخضري بالنقمة على المتصوفين المنحرفين. وكان ابن حمادوش، وهو من العلماء العقلانيين قد عرض عدة مرات بالخروج عن جادة العلم إلى التصوف. وأكبر ثورة على أدعياء التصوف والمتاجرة بالدين، يمثلها عبد الكريم الفكون صاحب (منشور الهداية) رغم أنه لا يذكر ما يسميه بالتصوف الحقيقي. أما ابن العنابي فقد أفتى بقتل من سماهم بالدراويش والزنادقة الذين أضروا في نظره بالدين، ودعا الحكام المتنورين إلى محاربتهم، بل اعتبر تصفيتهم جهاد (¬3). ويمكننا أن نذكر من العلماء العقلانيين أيضا الشاعر المفتي ابن علي والمفتي الأديب أحمد بن عمار. ومهما كان الأمر فإن المثقفين في ¬

_ (¬1) من هؤلاء الحسين الورتلاني، ورحلته مليئة بالتعريض بالسلطة والعلماء الموظفين معا. وكذلك يجد المرء في (كعبة الطائفين) نماذج على ما نقول. (¬2) نسب ذلك إلى الشيخ أحمد التجاني مؤسس الطريقة التجانية. (¬3) انظر كتابنا (المفتي الجزائر ابن العنابي)، الجزائر، 1977. و (السعي المحمود) تحقيق محمد بن عبد الكريم.

الجزائر العثمانية كانوا على الأقل قسمين: أهل الدنيا وأهل الآخرة (¬1). وقد كان العلماء في حركة مستمرة داخل البلاد لطلب الوظيف أو لطلب العلم أو للهروب من وضع معين حتى تنجلي السحب. وهناك حوادث كثيرة تدلنا على هذه الحركة المفيدة. ذلك أن بقاء المثقفين في مكان واحد يركد مواهبهم ويحول اهتمامهم من الأمور الإسلامية والدولية إلى الأمور المحلية والشخصية. وهناك نقطة أخرى تتعلق بحركة العلماء داخل القطر، وهي كسر الحواجز الإقليمية وبداية ظهور الثقافة الوطنية. وأكبر حركة كانت من الأرياف إلى المدن. فالمدينة كانت تمثل مركز تجمع ثقافي لا يمكن أن يوجد في الريف: من علماء وكتب ومناظرات وزوار وأخبار ومحاضرات ونحو ذلك. وفي تراجم الفكون عدد من الأسماء التي انتقل أصحابها من قسنطينة إلى العاصمة طمعا في الوظيف وخدمة الأمراء، وفيها أيضا عدد من الأسماء التي ورد أصحابها على قسنطينة من زواوة والعاصمة ونقاوس وبجاية. وقد تنقل الورثلاني في أنحاء الجزائر كما جاء, في رحلته. وزار أبو راس عددا من المدن والمراكز العلمية، كما أخبر بذلك عن نفسه. وهام عيسى الثعالبي في أنحاء القطر وأخذ العلم أثناء ذلك عن الأنصاري في العاصمة وعن محمد التواتي في بسكرة. وفي كتاب (البستان) لابن مريم أسماء لبعض العلماء الذين توجهوا من تلمسان إلى زواوة لطلب العلم، وكان محمد الزجاي يتنقل بين معسكر وتلمسان، وقد قصد الشاعر القرومي مدينة معسكر قادما إليها من قرومة نواحي وادي يسر. وتوجه المفتي محمد بن بوضياف إلى العاصمة وأقام بها مدة. كما جاء أحمد المقري إلى العاصمة ودرس بها، وهكذا. وكانت المراسلات بين العلماء من أهم وسائل الاتصال بينهم، وفي المراسالات تبادل للمعلومات وحفظ للعلائق الودية ووضوح للمسائل العلمية الغامضة. وكان بعض العلماء يتبادلون الألغاز ونحوها، وفي رحلة ابن ¬

_ (¬1) انظر المزيد عن هذه النقطة في الفصل الخاص بالمرابطين.

تنافس العلماء وأخلاقهم

حمادوش نماذج من هذه المراسلات بين علماء العاصمة وعلماء عنابة. وذكر الفكون أنه كان يتراسل مع سعيد قدورة بالعاصمة، كما تراسل مع أحمد المقري عندما كان هذا في القاهرة. وكان علماء قسنطينة وعلماء عنابة يتبادلون المراسلات أيضا. ومن ذلك مراسلات بركات بن باديس مع تلميذه أحمد البوني. وكانت بين سعيد المقري في تلمسان وعلماء المغرب مراسلات أثبتها ابن أخيه أحمد المقري في (روض الآس)، وغير ذلك كثير. تنافس العلماء وأخلاقهم إن التنافس بين أصحاب المهنة الواحدة أمر طبيعي، ونكاد نقول أمر ضروري. ولكن هناك فرق بين التنافس الخلاق والتنافس الهدام. وقد كان التنافس بين علماء الجزائر خلال العهد العثماني في أغلبه من النوع الثاني. ذلك أن مجال عملهم كان محدودا جدا كما عرفنا. وبدلا من أن يبحث العلماء عن مجالات أخرى للعمل ويتفوقوا على بعضهم في إتقان المهنة والتقدم فيها دخلوا في حرب بين أنفسهم للظفر بما كانوا موجودا فقط. وكان لهذه الحرب الداخلية ضحاياها بينهم، وكان سلاحهم فيها ليس العلم والأخلاق والكفاءة، ولكن الجهل والصغار والضعف. ولو كان تنافسهم على الأشياء العظيمة لهان الأمر ولكان لهم مبرر فيما يرومون. وقد قال أحد الباحثين بحق بأنهم كانوا لا يتورعون حتى من إسقاط منافس لهم من مكانته (¬1). وهكذا شاع بينهم، نتيجة ذلك، السجن والتغريم والإهانة والنفي والعزل المشين وحتى الإعدام ومصادرة الأموال، كل ذلك من أجل وظيفة من المفروض فيها أنها لخدمة الدين. وقد أخذ التنافس شكلين على الأقل، الفردي والعائلي. ولعل التنافس الأول أقل ضررا من الثاني لأنه كان ينتهي بانتهاء المتنافسين بالعزل أو الموت، وأما التنافس العائلي فهو طويل المدى وقد يستغرق أجيالا وقد ¬

_ (¬1) ديلفين (تاريخ باشوات الجزائر) في (المجلة الآسيوية) 1922، 186.

يؤدي إلى التناحر الشديد والنتائج السيئة. ومن النوع الأول تنافس سعيد قدورة والقوجيلي الذي أشرنا إليه. ومن جهة أخرى حاول المفتي محمد بن نيكرو (¬1) أن يتخلى من نائبه في الخطابة ولكن هذا لم يذعن له والتجأ إلى الخزناجي وإلى إثارة العامة على ابن نيكرو وانضم إلى خصومه، وهم المفتي الحنفي محمد بن علي ومحمد بن ميمون قاضي بيت المال ومصطفى العنابي. ووصل الأمر درجة حادة إلى أن أصبح عمال الجامع الكبير يهينون ابن نيكرو. وكانت النتيجة أن توفي هذا بعد أيام فقط من هذه الهزيمة (¬2). وقد روى الفكون أن محمد بن نعمون كان يتنافس مع أحمد بن باديس على (الرياسة وأحوال الدنيا) وبلغ به الأمر أن سعى هو (ابن نعمون) وجماعته بابن باديس إلى باشوات الجزائر (وكتبوا سجلات ووصفوه بأمور لا يحل الوصف بها ولا الخوض فيها) إلى أن أجبروه على التوجه إلى العاصمة شخصيا حيث غرمه الباشا وسجنه. ولكن هذه الحادثة التي يبدو أن النصر كان فيها لابن نعمون وجماعته قد انقلبت ضده. ذلك أن الصراع قد انتهى بعودة ابن باديس إلى الإفتاء واستقلاله به وعزل ابن نعمون عنه، بل إن العثمانيين في قسنطينة قد اتخذوا إثر ذلك قرارا (لعله كان بطلب من ابن باديس نفسه) وهو (ألا مفتي إلا ابن باديس) (¬3)، والأمثلة على ذلك كثيرة. وهناك أمثلة على التنافس العائلي أيضا. فقد كانت أسرة ابن عبد المؤمن تنافس أسرة الفكون في قسنطينة. وقد انتهى الأمر بتغليب العثمانيين الثانية على الأولى، ومنحها (مشيخة الإملام) جزاء لها. وبذلك أصبح الفكون هو شيخ المدينة وأمير ركب الحج، وأصبح مقربا لدى ¬

_ (¬1) توفي بذات الجنب سنة 1153. (¬2) انظر القصة في ابن المفتي كما أوردها نور الدين عبد القادر (صفحات)، 285. كما كانت هناك خصومته بين مصطفى العنابي وأحمد قدورة. وجاء في رحلة ابن حمادوش خبر خصومته مع المفتي ابن علي وهجوه له، وخبر آخر عن حسد العلماء له على إجازة الشيخ أحمد الورززي المغربي كتابه (الدرر على المختصر). (¬3) الفكون (منشور الهداية)، مخطوط.

العثمانيين حتى أن أحدا لا يستطيع مسه بسوء) (¬1). ولعل التنافس المذهبي يدخل في هذا المجال أيضا. ورغم أن كلا المذهبين الحنفي والمالكي سني وأنه لا وجود لاختلاف مذهبي بمعنى الكلمة بينهما إلا أن تصرف بعض العثمانيين جعل التنافس بين العلماء يظهر وكأنه تنافس مذهبي. فقد كان العثمانيون يقربون المفتي الحنفي والقاضي الحنفي على المفتي المالكي والقاضي المالكي (¬2). وإذا وقع نزاع في قضية من القضايا واحتكم فيها إلى المجلس وانعقدت المناظرة رجح الباشا غالبا رأى الأحناف. وقد روى ابن المفتي (وهو حنفي) أن ابن علي المفتي الحنفي كان يقدح بلسانه في المفتي المالكي محمد بن نيكرو - وجاء في رحلة ابن حمادوش (وهو مالكي أشعري كما يقول) أن نفس المفتي (ابن علي) قد غضب منه ذات مرة وخرج ساخطا من المجلس لأن ابن حمادوش لم يقم له تعظيمل وإجلالا .. وقد أشرنا إلى الحكم بالإعدام على أحمد قدورة، وكان مفتي المالكية (¬3). وتتحدث الوثائق على الباشوات الذين كانوا يمدون أيديهم إلى المفتي الحنفي لتقبيلها، بينما لا يفعلون ذلك مع المفتي المالكي. ولكن التنافس المذهبي لم يكن حادا ولم تكن له نتائج خطيرة كالتنافس الفردي والعائلي. ويبدو أن هذا الإلحاح في التنافس يعود إلى هبوط أخلاق العلماء بصفة عامة. فقد شاعت بينهم الرشوة والطمع والجهل والتساهل في أمور الدين ومنح الإجازات بسهولة والتعدي على الأوقاف وغير ذلك مما هو ليس من أخلاق العلماء الحقيقيين في شيء. ولعل هبوط المستوى الثقافي عامة هو ¬

_ (¬1) انظر حياة عبد الكريم الفكون في الفصل التالي. (¬2) جاء في مخطوط للشيخ حمدان الونيسي أن الباي عثمان بقسنطينة (قد حول الشيخ محمد بن المسبح إلى المذهب الحنفي بعد أن كان مالكيا، وهو الذي ولاه الخطابة بجامع سوق الغزل الذي كان يصلي فيه الباي) تعريف الخلف، 1/ 173. (¬3) والحق أنه وقع إعدام مفتي حنفي أيضا في مناسبة أخرى، وهو محمد بن مصطفى المعروف بابن المستي وذلك سنة 1136.

الذي ساهم في هبوط الأخلاق وضعف الضمير العلمي. وتتحدث وثائق كثيرة عن شيوع الرشوة بينهم أخذا وعطاء، فهذا الفكون، وهو من أسرة علمية، يقول عن محمد بن المسبح إنه أعطى للظفر بخطة نيابة القضاء (مالا لقضاة العجم حتى ولوه إياها. وربما أرشى (أي المسبح) الولاة يمينا وشمالا). وحكى عنه أنه اشتهر بشهادة الزور أيضا. ووصف الفكون أبا عمران موسى الملقب بالفكيرين أنه كان مطلق اليد يأخذ طعاما وعينا من البدو. وهذا الحسين الورتلاني قد ذكر في رحلته شيوع الرشوة بين الحكام لكي يعطوا منصب القاضي أو المفتي لبعض العلماء، مضيفا بأن هذا مخالف للشرع (¬1). وقد روى ابن المفتي أن محمد النيار، المفتي الحنفي، كان يأخذ الرشوة حتى أنه حين عزل هاجمه الناس مطالبين إياه برد ما أخذه منهم (¬2). وشاع بين العلماء أيضا التبذير والطمع، فهذا المفتي عمار المستغانمي، رغم عجزه عن الخطابة كما أسلفنا، كانت له وظائف كثيرة أخرى. ومع ذلك شكا ذات مرة لابن المفتي بأنه لا يملك سوى القميص الذي كان على جلده وأن أولاده حفاة عراة وأنه لا يملك أن يشتري لهم ثيابا جديدة لختانهم. ومع ذلك فقد عرفنا أنه كان ينفق على ضيوفه بين ثلاثين وأربعين ريالا في الليلة الواحدة، وأنه كان يكلف نفسه ما لا يطيق من الأطعمة حتى أنه عندما توفي كان مدينا بأربعة آلاف ريال (¬3). وهذا أحمد بن حسن الغربي كان يخدم الولاة بقسنطينة ويعظمهم ويمتهن نفسه ويعطيهم الرشى، وكان يتوسط للولاة في ذلك لدى أهل البلد والرعية وينال بذلك حظا. ومن أجل ذلك ولوه وظيفا صغيرا هو نيابة القضاء (¬4). وكان بعضهم لا يتورع عن أكل الحرام. فقد قيل ان ابن نعمون قد تصرف في أكثر من خمسة وثلاثين وقفا، بما في ذلك أوقاف المدينة المنورة، كما فعل غيره مثله أيضا. ¬

_ (¬1) الورتلاني (الرحلة)، 111. (¬2) ديفوكس (المجلة الإفريقية)، 1867، 389. (¬3) نور الدين عبد القادر (صفحات)، 283 عن ابن المفتي. (¬4) الفكون (منشور الهداية) مخطوط.

وكثير هم العلماء الذين اتخذوا للوظيف طريقا من التذلل والتوسط والتوسل (¬1). وقد جرى ذلك كله مع التساهل في العلم وفي قضايا الدين أيضا، فقد عرفنا أن بعض الأئمة كانوا لا يحسنون قراءة خطبهم المكتوبة، وكان آخرون لا يبينون إذا تكلموا، وآخرون لا يحسنون حتى إصلاح صلاتهم ولا رسم الكتابة حسب رواية الفكون، ومع ذلك تولوا وظائف سامية كالقضاء والخطابة. وقد ذكر العياشي أن إمام جامع ورقلة وأخاه (أقرب من رأيته في هذه المدينة بسيرة الطلب، وما أظن أحدا منهما يحسن بابا من أبواب العلم) وأضاف العياشي هذا البيت الذي يعبر عن حقيقة مرة، وهو: ولكن البلاد إذا اقشعرت ... وصوح نبتها رعي الهشيم (¬2) وعرف عن بعض العلماء عدم الدقة في العلم والتهاون في أمور الدين طلبا وتزلفا للحكام. فابن نعمون المذكور عرف عنه الجهل ومع ذلك كان يدرس الرسالة وخليل وابن الحاجب. وكان المفتي محمد النيار إذا سئل عن مسألة يجيب حسب رغبة السائل. وكان يعتمد في إجابته على مؤلفين محدثين لم يطلع على آثارهم (¬3). وكان علي بن داود الصنهاجي لا يتقن البحث والنظر ومع ذلك حصل على إجازة من سالم السنهوري المصري. وحين سئل أحمد المقري صاحب (نفح الطيب) عن إعراب آية أجاب جوابا فيه تقية ولم يبين الخطأ والصواب في الجواب كما أنه مدح صاحب السؤال (وهو الفكون) واكتفى بتزويق الألفاظ حبا في الثناء الجميل. فكان المقري إذا سئل عن مسألة يجيب جوابا كليا لا جزيا كأن يقول هذه مسألة فيها كلام ¬

_ (¬1) أثناء بحثنا في الأرشيف وجدنا عددا من أسماء العلماء المعروفين الذين كانوا يقترضون المال من مدخول الحرمين الشريفين. من ذلك سلفة المفتي الحنفي، ابن مسلم سنة 1100 هـ وقدرها مائة سلطاني ذهبا. انظر مثلا دفتر (182) 32 - MI 228 وكذلك دفتر (288) 41 - 228 MI. (¬2) العياشي (الرحلة) 1/ 48. (¬3) ديفوكس (المجلة الإفريقية)، 1867، 389 عن ابن المفتي.

كثير أو فلان حدوده مدخولة. وكان بعض العلماء لا يفتي بالشاذ إلا في أمور الدنيا. وهكذا كان العلم مسخرا في أغلب الأحوال لقضاء الحاجات الدنيا وكأن الانتماء إلى الدين مطية للوصول إلى الوظيف والجاه وليس لخدمة الدين والشعب. وكان شرب الخمر والسماع (الموسيقى) وتعاطي الربا وتناول الحشيش والخنا أمورا شائعة أيضا عند بعض العلماء. فقد زعم ابن المفتي أن يونس بن الكرتيلو (الذي طعن في كفاءة الشيخ المهدي بن صالح ونادى بتولية مفتي من عائلة قدورة) (كان يتعاطى الربا ويشرب الخمر ويبيعها خفية). والذي يقرأ كتاب الفكون يجد فيه عدة حوادث عن علماء كانوا يتناولون الخمر والحشيشة ولا يتورعون عن الخنا، بل كان في قسنطينة وعنابة جماعة سماها الفكون (نادي جماعة الشرب)، لهم آلات طرب ولهو وتصفيق وشطح وإنشاد. وحين توجه القاضي القوجيلي في طريقه إلى إسطانبول خاطبه أحدهم، ويدعى الشريف السوسي، يستأذنه في السماع فأجابه القوجيلي لذلك (¬1). وكان السماع عند أغلبهم ليس من أخلاق العلماء في شيء (¬2). ورغم هذه الصورة التي قد تبدو كالحة عن أخلاق العلماء في الجزائر خلال العهد العثماني فإن هناك صورة أخرى مضيئة ومشرفة، فليس كل العلماء كانوا على ذلك النحو من الجهل وسقوط الضمير والفساد والطمع. فقد كان هناك علماء حافظوا على المقاييس الأخلاقية التي عرف بها العلماء الحقيقيون عبر العصور. نعم كان بعض العلماء يعيشون تحت ضغط الحاجة أحيانا، وكانوا أحيانا أخرى تحت ضغط السياسة. وتجدر الملاحظة إلى أن بعض الأخلاق السيئة التي ذكرناها لم تكن صادرة عن علماء جزائريين وإنما ¬

_ (¬1) (ديوان ابن علي) مخطوط خاص. (¬2) عن السماع وآراء العلماء فيه انظر العلوم والفنون من الجزء الثاني. ولا شك أن الآراء السابقة تمثل طعن العلماء في بعضهم البعض مما يدخل في الحكم على المعاصرين. وهي آراء يجب أن تؤخذ بحذر.

عن (علماء) مغامرين جاؤوا إلى الجزائر طلبا للرزق والجاه. والكتابان اللذان رجعنا إليهما بكثرة في هذا الصدد - كتاب ابن المفتي وكتاب الفكون، وكلاهما في نقد سلوك العلماء - قد ذكرا عددا من علماء المشرق والمغرب الذين وفدوا على الجزائر للغرض المذكور. وكانت حظوة هؤلاء قد تواتت مع حظوظ السلطة العثمانية نفسها، وهي السلطة التي كانت بدورها غريبة عن أخلاق أهل البلد. وقد انجذب بعض العلماء الجزائريين نحو المنحدر الذي وصفناه خوفا أو طمعا. وسنعرف أكثر عن هذا التأثير الخارجي حين نتناول حياة بعض المرابطين والمتصوفة. ومن جهة أخرى فإننا لا نشك في تحيز ابن المفتي والفكون أحيانا في تناولهما للعلماء المعاصرين أو العلماء الذين تنافسوا مع أقاربهما على الوظيف. ومع ذلك فإن كليهما كان مدفوعا برغبة شديدة في رؤية العلماء يقفون على أرضية صحيحة ويتمسكون بمبادئ كانت من قبل من أخلاق العلماء، وقد عز على كليهما هبوط هذه الأخلاق والمتاجرة بالعلم في سبيل الجاه وعرض الحياة الدنيا. وهذا الوضع قد أدت إليه السياسة العثمانية التي كانت لا تريد أن ترى فئة العلماء متماسكة وقوية فيؤدي تماسكها وقوتها إلى الإطاحة بالنظام وتداخل الدين والسياسة أو الشريعة والحكم. فقد كان العثمانيون دائما يخشون من العلماء سواء كانوا في الجزائر أو في غيرها. وقد نجحوا في إبقائهم تحت نفوذهم بالوسائل التي ذكرناها وبتشجيع الخلاف بينهم والبحث على الضعفاء منهم والتخلص من الأقوياء وتجنب إعطاء النفوذ لعلماء البلاد المتصلين بالأهالي. وكان بعض العلماء غير راضين على هذا الوضع فثاروا على ذلك، ومن هؤلاء يحيى الأوراسي الذي قاد ثورة في منطقة الأوراس. وفر بعضهم إلى التصوف، كما سنرى، فبعد أن كانوا من أهل العلم والتدريس أصبحوا من أهل التصوف والحضرة لأنهم وجدوا أن الطريق الأول غير مربح. ومنهم من اختار طريقا آخر، وهو الخروج من الجزائر تماما والعيش في الأقطار الإسلامية الأخرى، ولعل هذا ما كان يرغب فيه ويعمل له العثمانيون في

علاقة العلماء بالحكام

الجزائر، لأنهم طالما لجأوا إلى نفي العلماء الخطرين عليهم والضغط عليهم لكي يختاروا هم منفاهم بأنفسهم، بقي أن نذكر أن بعض العلماء عندما وجدوا باب الوظيف مسدودا أو غير أخلاقي ظلوا في الجزائر ولكنهم اختاروا التجارة وغيرها من الأمور غير العلمية. علاقة العلماء بالحكام كان العلماء يمثلون الرأي العام في الجزائر خلال العهد العثماني. فهم رغم ترفعهم الطبقي كانوا على صلة بالناس في الدروس ومجالس الفتوى والقضاء والزوايا وخطب الجمعة ونحو ذلك. وكان بعض العلماء يجلسون في المقاهي ويختلطون بالناس في الأسواق أيضا. وكان بعضهم يكثر عليه الازدحام في الدرس والخطبة حتى يلفت النظر لنفسه فتخشاه السلطة كما مر بنا. ومن جهة أخرى كان الناس يثقون في رجال الدين أكثر مما كانوا يثقون في رجال السياسة والحرب، ولهذه المكانة التي كانت للعلماء كان العثمانيون يقدرونهم ويخشونهم ويتقربون منهم ويطرونهم ويمنحونهم الهدايا، وكانوا أحيانا يلجأون إليهم في موقف تأييد وغير ذلك. كما أن العلماء كانوا في حاجة إلى الباشوات والبايات طمعا في مال أو وظيفة أو تأييد ضد منافس. وكانت هذه العلاقة في الواقع علاقة مطردة، فإذا وقع نفور من أحد الطرفين أو معاملة غير جيدة فذلك يعود إلى تصرف الأفراد في فترة معينة وليس إلى العلاقة في حد ذاتها. ويمكننا أن نقسم هذه العلاقة إلى طيبة وسيئة. وقبل كل شيء نود أن نلاحظ أن حديثنا سينصب في الغالب على علماء الجزائر أو من في حكمهم وليس العلماء الذين كانوا يفدون مع الباشوات من إسطانبول لمدة معينة. فقد كان الحاكم العثماني ملتزما بمبدأ عريق عنده، وهو أنه رجل محارب وسياسي وأن حروبه وسياسته قائمة على الدفاع عن الدين والجهاد في سبيله. فهو يعترف أنه من رجال السيف وأنه لا شأن له بالطرف الآخر من القضية،

وهو الدين والعلم. فهو ليس من رجال الدين كما أنه لا يريد منهم أن يتدخلوا في حروبه وسياسته. وهو بالمقابل لا يتدخل في شؤونهم الدينية والقلمية. فإذا ما حاولوا أن يقتربوا من حدوده غضب وسخط، ويا ويل رجال الدين والقلم من الحاكم العثماني إذا ما غضب وسخط! هذه هي الحدود بين الطرفين، فهي حدود قائمة على الاحترام المتبادل واعتراف كل طرف سيادة الآخر في مجاله (¬1). ولكن الدين الإسلامي لا يعترف بهذه الحدود التي وضعها الإنسان لغايات غير دينية. لذلك كان بعض العلماء لا يصبرون على هذا الوضع فكانوا يطمعون فيما ليس لهم فيلقون جزاء أليما وعقابا شديدا. وأكبر عمل يستطيع العالم أن يقوم به نحو الحاكم هو (نصحه) وتوضيح ما هو ديني وما هو غير ديني، وحتى هذا النصح كان يغلف في قالب لا يحس منه الحاكم أن العالم يتدخل في شؤونه. وكان بعض العلماء قد وجدوا من التحريض على قتال الإسبان في وهران مجالا حرا للتعبير عما في أنفسهم نحو السلطة ونحو الدين ما دام الباشوات أنفسهم عازمين على حرب الإسبان وعلى الجهاد بصفة عامة. وهذا الموقف لا يسمى تدخلا من العلماء وإنما يعتبر تأييدا لما كان العثمانيون يقومون به ويعتبر تأليبا للرأي العام ضد الإسبان. وكان هؤلاء العلماء يغتنمون الفرصة لكي يطرحوا قضاياهم الخاصة كحرمانهم من مال الأوقاف وسوء أحوالهم المادية، والإشارة إلى انتشار الظلم في البلاد والإجحاف في المعاملات، والتعبير عن كون العلماء هم حماة الدين وممثلو الرأي العام. فقد حرض الشاعر محمد بن آقوجيل الباشا حسين خوجة الشريف على قتال الإسبان بوهران (وكان الباشا بدأ فعلا في الاستعداد لذلك). ثم انتقل من التحريض على القتال إلى الحديث عن حالة العلماء في الجزائر. فنصح ¬

_ (¬1) حول هذه النقطة انظر ايمريت (مجلة التاريخ الحديث والمعاصر)، 1954، 207. وكذلك كتاب ليباير، وكتاب جيب وباون عن تركيبة النظام العثماني كله.

الباشا بأن يشاورهم في الأمر وأن يدع عنه الغواة لأن العلماء ورثة الأنبياء وأن في الجزائر عددا كبيرا منهم اشتهروا بالتفسير والحديث والنثر والشعر وحفظ الأسانيد والأنساب والفقه والمناظرة، ولكنهم مع ذلك لا يجدون مساعدة لأن الباشوات قد أهملوهم فكانت النتيجة أن ضاع العلماء وجاعوا. وكان المفروض أن يأخذوا حقوقهم المعروفة من بيت المال أو من الأوقاف ولكنهم كانوا محرومين من هذا وذاك بينما هناك من يتمتع بهذه الأموال ويستعملها في الفساد الاجتماعي كالخمر وشرب الدخان. وفيما يلي بعض الأبيات من قصيدة ابن آقوجيل الهامة في هذا الموضع في فاتح القرن الثاني عشر (18 م)، وهو يوجه كلامه إلى الباشا المذكور: شاور ذوي علم ودين ناصح ... ودع الغواة وكل ذي تزوير فالعلم ميراث النبوة ناله ... قوم لهم حظ من التنوير كم في بلادك من نجيب حافظ ... ومشارك في النظم والمنثور ومحقق ومدقق ومناظر ... من كل دراك الحجى نحرير لكنهم فقدوا الإعانة واغتدوا ... ما أن يراعيهم ذوي التأمير ضاعوا وجاعوا لا محالة وابتلوا ... في ذا الزمان الصعب بالتقتير منعوا حقوقهم بمال الله لا ... يرجى لهم طمع ولو بنقير حتى حبيس كان يلتقطونه ... حرموه، هذا غاية التنفير! لا ينبغي أن يحرم الأحباس من ... إن يعطها يعرف بكل ضرور والبعض يمنحها ويصرفها لدى ... شرب الدخان وخسة وخمور فاردد حبيسا، قل، يمتصونه ... مص النواة ونقرة القطمير يا أيها الملك الذي نرجو به ... عدلا ينوط بذي الغنى وفقير إني نصحتك والنصيحة ديننا ... فاقبل، ولم ينصحك دون خبير (¬1) ويعتبر ابن آقوجيل شجاعا عندما (نصح) الباشا هذه النصائح التي لا ¬

_ (¬1) ابن ميمون (التحفة المرضية) مخطوط، 111. والقصيدة تبلغ سبعين بيتا. وسنتعرض للشاعر في فصل الشعر من الجزء الثاني.

شك أنه لا يريد سماعها، فهو يحدثه عن الفساد الاجتماعي وحرمان العلماء من حقوقهم وأن الناس يرجون من الباشا العدل الذي يعم الغني والفقير، ولكنه لف كل ذلك في عبارة عامة ودامغة وهي قوله (إني نصحتك والنصيحة ديننا). والباشا لا يستطيع أن يرفض هذه النصيحة رغم أنها تؤذيه. ولا شك أن الشاعر كان يصف العلماء في وقته وأن قصيدته قد وجدت صدى بعيدا في وسطهم فارتاحوا لها وروجوها بينهم وتناقلتها الأجيال حتى وصلت إلينا. وقد اشتهر بعض الباشوات بتقريبهم للعلماء ومراعاتهم، إما حبا في الدين والعلم وإما طمعا في تأييدهم وإما حبا في المدح والثناء. وكان عدد هؤلاء الباشوات قليلا لأننا عرفنا أن طبع الحكام العثمانيين غير ثقافي وأنهم لا يتقربون من العلماء إلا عند الحاجة القصوى. ومن هؤلاء القلة يوسف باشا الذي تولى الحكم عدة مرات خلال الخمسينات من القرن الحادي عشر (17 م). فهو الذي أفسح المجال أمام علي بن عبد الواحد الأنصاري الذي ترجمنا له، وعظمت لديه مكانة عيسى الثعالبي الذي سنترجم له. وقد عثرنا على ما يؤكد كلام العياشي من أن يوسف باشا كان يفهم مقاصد العلماء رغم أنه تركي. فقد تبادل هذا الباشا الرسائل مع بعض علماء عنابة مثل محمد ساسي البوني. وملخص إحدى هذه الرسائل أن هذا الباشا يقدر البوني كثيرا ويعرف مكانته في بلده ولذلك أطراه وأشاد به وطلب معونته، كما أخبره بخطته السياسية والعسكرية وطلب منه التدخل لجلب طاعة الرعية، وذلك أثناء محاولة الباشا القضاء على ثورة ابن الصخري (¬1). وقد رد محمد ساسي البوني على الباشا مبديا استعداده للتعاون ولكنه طلب العفو على أهل عنابة. وتؤكد المراسلات أن الباشا قد استجاب لطلب الشيخ لمكانته عنده وفي قومه (¬2). ¬

_ (¬1) ان من خطة يوسف باشا العدول عن حرب الإسبان في وهران والتوجه إلى إقليم قسنطينة للقضاء على ثورة الذواودة والحنانشة بقيادة ابن الصخري. عن هذه الثورة انظر الفصل الثاني من هذا الجزء. (¬2) انظر هذه الرسائل مخطوطة في باريس رقم 6724. وتاريخ رسالة الباشا هو سنة =

ويبدو أن الباشا محمد بكداش كان من نوع يوسف باشا لو طال به العهد. ورغم حكمه بالإعدام على المفتي أحمد بن سعيد قدورة، وهي الحادثة التي أشرنا إليها، فإنه كان حسب رواية مادحيه، وخصوصا محمد بن ميمون، يتقرب من العلماء على خلاف زملائه. وهناك قصص قد نسجت حول شخصيته كما نسجت أخرى حول شخصية يوسف باشا، فقد قيل إنه نزل بعنابة قبل توليه الباشوية وأخذ البركة والطريقة من عالمها أحمد بن ساسي البوني. وقيل أيضا انه وعد بأنه إذا أخذ الولاية سيحكم بالعدل، ونحو ذلك من الأخبار التي روجها المعجبون به أو المتزلفون إليه. وعلى كل حال فقد تولى الحكم فعلا سنة 1117 وقتل سنة 1122. وقد قرب بكداش، بالإضافة إلى البوني، عددا من العلماء، ومنحهم الهدايا والعطايا. كان محمد بكداش إذن يتراسل مع أحمد البوني وكان البوني يتمتع بسمعة دينية وعلمية ليس في عنابة فقط ولكن في خارجها أيضا. فقد أخذ العلم في تونس ومصر والحرمين. ولا شك أن تقرب الباشا منه لم يكن لغرض صوفي، كما تذهب بعض الروايات، ولكن لغرض سياسي شبيه بغرض يوسف باشا من محمد ساسي. وقد قابل البوني هذا الموقف بموقف آخر أحسن منه. ذلك أنه نسب إلى بكداش (الذي لا شك أنه غير عربي وأن اسمه يذكر بصاحب الطريقة البكداشية) الشرف والنسب الهاشمي. فالبوني يقول من أرجوزة وجهها إليه (¬1). يا طالبا للفضل ... والجود ثم العدل ¬

_ = 1050. وقد قمنا بدراسة لهذه الرسائل وقدمناها للنشر بنصوصها. مجلة الثقافة، 51، 1979. وكذلك كتابنا (تجارب في الأدب والرحلة). (¬1) حسب مخطوط رقم 1847، المكتبة الوطنية بالجزائر، إن هذه الأرجوزة قد وجهها أحمد البوني إلى الباشا حسين خوجة الشريف (الذي حكم مباشرة قبل بكداش). ونحن نميل إلى ما ذهب إليه ابن ميمون من أن الأرجوزة موجهة إلى بكداش لأن اسم هذا الباشا يرد فيها ولأنه هو الذي كان على صلة بالبوني قبل توليه الحكم وبعده. ولعل للبوني أرجوزة أخرى في حسين خوجة الشريف غير هذه.

والعلم والرياسة ... والحكم والكياسة اعمد إلى الظريف ... بكداش الشريف فكل من يطلب الأخلاق والكرم والعدل والعلم والنفوذ والجاه عليه أن يقصد بكداش باشا , فهو شريف ذو حسب ونسب، وهو ظريف كيس عارف بمقاصد العلماء وحاجاتهم. وقد حذر البوني أيضا من صولة هذا الباشا وغضبه: مهد لنا دولته ... ثم قنا صولته ثم شكا إلى الباشا من سوء أحوال عنابة التي شاع فيها، حسب قوله، الظلم وساءت فيها أحوال العلم والعلماء وارتفعت الأسعار وصعبت المعيشة: يا حاكم الجزائر ... يا أنس نفس الزائر أريد أن أخبركم ... أدام ربي نصركم بحال هذي القرية ... بالصدق لا بالفرية قد صال فيها الظالم ... وهان فيها العالم خربت المساجد ... وقل فيها الساجد حبسها قد أسرفا ... ناظره فأشرفا وأهملت أسعارها ... وبدلت شعارها والشرع فيها باطل ... والظلم فيها هاطل والخوف في سبلها ... والقحط في سنبلها وعندما يقرأ المرء الأفكار التي وردت في هذا الرجز يدرك أن ما أرسله البوني للباشا ليس شعرا وإنما هو (تقرير) عن أحوال عنابة الاجتماعية والسياسية والثقافية، استعمل فيه الرجز لأنه طريق إلى التعميم والتلميح، بدل الإحصاء والتصريح، وفيه أيضا اتقاء من نقمة الحكام. وهذا الموقف من البوني يعتبر أيضا - كموقف ابن آقوجيل - موقفا شجاعا، لأنه أعطى الباشا صورة حية عن بلاده ونواحيها. ويلتقي البوني مع ابن آقوجيل في تقديم

النصح للباشا أيضا. فقد استنجد به في تدارك تلك الحالة قبل فوات الأوان وأوصاه بالاعتماد على الله وبحب العلم وفعل الخير، ودعاه إلى حسن اختيار بطانته وإلى استشارة العقلاء، وتوليه الأخيار النبلاء، وعدم خلف الوعد أو الوعيد لأن ذلك يضر بسمعته وحكمه. وأخيرا شكا إليه أحواله الخاصة وحاجته إلى المال قائلا إنه حزين ومثقل بالديون. وهذه الحالة لا تليق بالعلماء في عهده (الباشا) فهو يقول: مطالبي كثيرة ... فطنتكم غزيرة وقد ذكر ابن ميمون الذي أورد هذه الأرجوزة أن الباشا كافأ البوني (بمنقوش من صفحة القمر، وأعطاه فوق ما طلب) (¬1). وهو قول فيه كثير من المبالغة، ولكنه يدل على أن الباشا قد استجاب لطلب هذا العالم. والظاهر أن الباشا هو الذي طلب من البوني بعض التحف وهي هنا مجموعة من الوصايا والحكم والمواعظ. وقد استجاب البوني وأرسل إليه قصيدة احتوت على ما كان مطلوبا من العلماء عندئذ، وهو نصح الحكام بتقوى الله وتحكيم الشرع في أمور الدولة وتعلم الفقه وتمييز الحرام من الحلال. وهذا ليس بغريب على من يقرأ الأدب العربي القديم، فطالما وجدا بعض الخلفاء يطلبون من العلماء وعظهم فيعظونهم حتى تدمع عيونهم حزنا وخوفا. ولكننا لا نعتقد أن محمد بكداش كان في حاجة إلى هذا النوع من الوعظ والنصح وإنما كان في حاجة إلى توطيد للعلاقة التي بينه وبين شخصية معترف لها بالدين والعلم مثل أحمد البوني. ومن الغريب أن يصف البوني بكداش بأنه حبيبه وخليله وصديقه وأنه قد سبا قلبه وهيج غرامه، فهذا الكلام لا يكون عادة بين الحاكم وبين أحد رعاياه. وبعد، فإن لي حبا وخلا ... سبا قلبي وهيج لي غرامي كما أنه من الغريب أن يصف البوني بكداش بأنه: فقيه لوذعي المعي ... جميل الوجه يلقي بابتسام ¬

_ (¬1) ابن ميمون (التحفة المرضية) مخطوط، 28. والأرجوزة في حوالي تسعين بيتا.

ذكي الفهم ذو نسب شريف ... لطه ينتمي خير الأنام سخي عارف بالله حقا ... لأهل العلم يخضع ذو انسجام أراد وصية مني ونصحا ... أنا أولى بمن يبري سقامي وإذا استثنينا نصحه بتحكيم الشرع في شؤون الدولة فإن كل النصائح التي قدمها إليه لا تجعل من الباشا حاكما ناجحا ولكن متصوفا يقرأ الكتب الصوفية ويتدارس علم الفقه وملازما للعزلة والتقرب إلى الله. لذلك يمكننا القول بأن هذا الشعر إما أن صاحبه لا يدرك مهمته ولا مقام مخاطبه وإما أنه كان ينافقه ولا يحترم مهنته: عليك أيا صديقي في مضيق ... بتقوى الله جل على الدوام وحكم شرعه في كل شيء ... ولازم ذكره والدمع هام وصمتا وانفرادا واتضاعا ... وتقليل المنام مع الطعام بعلم الفقه تدرك كل رشد ... وتمييز الحلال من الحرام (¬1) ومع ذلك فإن السياسة كانت لا تبقى ولا تذر إذا عصفت بغير المحظوظين من العلماء. فالباشا بكداش نفسه هو الذي انتقم من المفتي أحمد قدورة فأعدمه رغم علمه ومكانة أسرته. ولقد لقي هو أيضا نفس المصير. ولا ندري ماذا كانت علاقة البوني بالباشوات الذين جاؤوا بعد بكداش والذين كانوا كثيرا ما ينتقمون من أصدقاء الباشوات الراحلين. وعلى كل فقد توفي البوني وفاة طبيعية في بلاده سنة 1134 (¬2). ومن الأسر العلمية التي كانت لها علاقة بالعثمانيين أسرتا الفكون وابن باديس. وقد سبق الحديث عن مكانة الأسرة الأولى. ونحب أن نضيف إلى ذلك أن أسرة الفكون هي التي انتصرت للباشوات أيام ثورة ابن الصخري، وكذلك عند تمرد صالح باي وأثناء فتنة ابن الأحرش. وقد استحق رئيس ¬

_ (¬1) نفس المصدر، 29. والغالب أن يكون هذا الشعر قد قاله البوني قبل تولي بكداش الحكم. (¬2) سنترجم للبوني في الجزء الثاني.

عائلة الفكون وقت هذه الفتنة ثناء الباشا عندئذ، فراسله بهذه العبارات (إلى العالم الأشهر .. العارف بجميع الفنون. نستكثر خيرك من شأن وقوفك وصيانتك للبلاد، ونصحك وحمايتك للعباد .. ثم نلتمس منكم الدعاء الصالح، الجالب لنا ولكم كل المنافع والمصالح ..) (¬1) كما أرسل الباشا إلى علماء قسنطينة يطمئنهم ويأمرهم بالوقوف والالتفاف حول الشيخ الفكون. أما أسرة ابن باديس فقد مرت بحياة متقلبة مع العثمانيين فيها السجن والتغريم، وفيها الوظائف السامية والتكريم. وأكثر ما كانت تتولاه من المناصب هو الإفتاء والقضاء والتدريس. وكانت علاقتها مع العثمانيين طيبة. وقد مرت بنا قصة أحمد بن باديس مع أحمد الغربي، وجاء في بعض الوثائق أن حوالي أربعين شخصا من هذه الأسرة قد تولوا وظائف سلطانية في العهد العثماني (¬2). ومن العلماء الذين شهدوا صعودا وهبوطا خلال هذا العهد المفتي عبد القادر الراشدي والمفتي محمد بن بوضياف. الأول من نواحي فرجيوة والثاني من نواحي أولاد خالد. وكثيرا ما التجأ الباشوات إلى العلماء في الأوقات الحرجة طالبين منهم الرأي وتجنيد العامة للوقوف مع الحكومة. وهي المناسبات التي كان فيها العلماء يشعرون بأن لهم دورا هاما يلعبونه لو كانوا يدركون كيف يستغلونه. ويظهر ذلك عند الغارات الإسبانية على السواحل وعند غارات الأجانب الآخرين على مدينة الجزائر، وعند الثورات الداخلية (¬3). ولكن علاقة العلماء بالباشوات قد ساءت على الخصوص منذ ¬

_ (¬1) أحمد الأنبيري (علاج السفينة في بحر قسنطينة)، مخطوط خاص، 273، انظر أيضا دراستي عن هذا الكتاب في (أبحاث وآراء في تاريخ الجزائر). (¬2) ذكر ذلك أحمد توفيق المدني (محمد عثمان باشا)، 77 نقلا عن فايسات. (¬3) روى ابن المفتي أن شعبان خوجة باشا قد أرسل، عندما أحس بثورة الإنكشارية ضده، المفتي الحنفي حسين بن رجب شاوش والمفتي المالكي محمد بن سعيد قدورة والقاضي الحنفي محمد زيتون التونسي والقاضي المالكي محمد بن الحاج =

ثورة درقاوة في فاتح القرن الثالث عشر وعانى من ذلك أبو راس والزجاي ومحي الدين والد الأمير عبد القادر وابن العنابي وبوضياف وابن القندوز. فقد كان الباشوات يسلكون مع العلماء أحيانا طريقة الإرهاب والتخويف. ومن الذين خضعوا لهذا الإرهاب الشيخ المهدي بن صالح. ذلك أن الباشا (وهو تلميذه!) قد حكم عليه بالنفي إلى بلاد غير عربية وأهانه إهانة بالغة عندما طلب من كل من قدم إليه هدية أن يحضر ويطلبها منه فهاجمه خلق كثير، حسب رواية ابن المفتي، في السفينة التي كانت ستقله إلى منفاه وأرغم على إعادة معظم ما أخذه من الهدايا (¬1) وليس من الضروري أن تكون دعوى الهدايا صحيحة، وإن كانت الرشوة أمرا شائعا كما عرفنا، ولكن التشهير بالضحية كان إحدى طرق الإرهاب التي يتخذها الولاة ضد ضحاياهم. ولو كانت الهدايا هي التي استوجبت هذه المعاملة المهنية لواحد من أبرز العلماء في وقته لا نطبق الأمر أيضا على الباشوات أنفسهم، فقد كانت الهدايا هي وسيلة عيشهم وطابع حياتهم. وقد ذكر ابن المفتي أن المهدي بن صالح كان عالما بعلم الحديث الذي برع في تدريسه حتى جلب إليه في الجامع الكبير خلقا كثيرا، وكان ممتازا في أربعة علوم (هي النحو والأصول والخطابة والحديث) أحدها يكفي. ولا شك أن الباشا قد خاف من تجمع الناس حول ابن صالح (¬2). أما المفتي الحنفي محمد بن مصطفى المعروف بابن المستي فقد حكم عليه الديوان بالموت ومصادرة أملاكه سنة 1138. وكان قد تولى الفتوى عدة مرات ابتداء من سنة 1112. وما زلنا لا نعرف ما هي التهمة التي وجهت إليه حتى استحق هذه النهاية. والظاهر أنه ¬

_ = إلى رؤساء الفتنة لتفادي الثورة. ولكن مهمة هؤلاء العلماء قد فشلت. انظر ديلفين (المجلة الآسيوية) 1922، 206. (¬1) ديفوكس (المجلة الإفريقية) 1866، 292. (¬2) هذا الباشا هو حسين خوجة الشريف الذي عزله محمد بكداش, وقد عاد المهدي بن صالح من منفاه وتولى الإفتاء بعد ذلك في زمن باشا جديد، خلفا للشيخ سعيد بن أحمد قدورة.

كان كزمليه أحمد قدورة ضحية الانتقام السياسي. وكان بعض العلماء يعانون الإهانة والسجن والتشريد، لا لذنب ارتكبوه هم ولكن لصلتهم بمن ارتكب الذنب. فقد كان القاضي المالكي محمد بن مالك من علماء مدينة الجزائر المشهود لهم بالعلم ووفرة التلاميذ. وكان على صلة بنقيب الأشراف أيضا، ولكنه كان صهرا لعلي خوجة الذي ثار على مصطفى باشا فحكم هذا على ابن مالك بالنفي إلى مدينة القليعة وإيقافه عن الدرس. ولكن لحسن حظه ومعرفته لبعض رجال الدولة وخوضه في السياسة أحيانا تدخل مستشارو الباشا لصالحه على أساس أن له تلاميذ يدرسون عليه وأنه ليس مسؤولا على ثورة صهره. وعندئذ فقط أذن له الباشا بالرجوع إلى درسه (¬1). وعندما عاد الشيخ حمودة المقايسي من مصر ظنا منه أنه سيجد الجو مناسبا للدرس ونشر العلم والعيش الكريم، تخلى عن ذلك واكتفى بصناعة المقايس (الأساور) ليعيش منها لأنه وجد أن المتصلين برجال الدولة هم فقط أصحاب الحظوة (¬2). ولكننا عرفنا أنها حظوة غير ثابتة وأنها خاضعة لمزاج الباشا ومدى خنوع العلماء وتخليهم عن مبادئهم العلمية والأخلاقية. فالجمع بين العلم والوظيف في العهد العثماني، مع المحافظة على الأخلاق، كالجمع بين الماء والنار، وصاحب ذلك كالساكن مع النمر لا يدري متى يفترسه. ولم تكن معاملة البايات للعلماء بأحسن حالا من معاملة الباشوات لهم. فالعلاقة هنا كانت كالعلاقة هناك، صاعدة نازلة وفي اضطراب متواصل. ولدينا عدة مصادر تتحدث عن ذلك، فقد روى ابن مريم في (البستان) ومحمد بن سليمان في (كعبة الطائفين) طائفة من الأخبار عن أحوال العلماء في تلمسان. والمعروف أن كثيرا منهم قد فروا إلى المغرب في عدة موجات بدايتها عند دخول العثمانيين وآخرها عند ثورة درقاوة. ولم ¬

_ (¬1) الزهار (المذكرات)، 81، 91. (¬2) الحفناوي (تعريف الخلف) 2/ 140.

يحظ الباقون منهم في ندرومة ومعسكر ومازونة ومستغانم بالمعاملة اللائقة أيضا (¬1) فهاجر منهم من هاجر وانزوى منهم من انزوى، وتوجه بعضهم إلى مدينة الجزائر نفسها. وهناك علماء اشتهر أمرهم في الجزائر ولكنهم توجهوا إلى غيرها مثل المنور التلمساني وعبد القادر المشرفي وسعيد المنداسي. وقد عرفنا أن العلماء قد جعلوا وقود المعركة بين الإسبان والجزائريين في وهران سواء أثناء الفتح الأول سنة 1119 أو الفتح الثاني سنة 1205. فكل من الباي مصطفى بوشلاغم والباي محمد الكبير قد جند العلماء وجعلهم في الطليعة، ولا سيما الأخير. ومع ذلك فإن كتاب الباي الأخير يذكرون من محاسنه اهتمامه بالعلماء، لأنه أغدق عليهم الهدايا وجلبهم إليه بالإحسان وأنشأ لهم المدرسة المحمدية والجامع الأعظم، كما عرفنا. لذلك كثر مادحوه ووفد عليه الوافدون وطمع في عطاياه الطامعون. ومن هؤلاء أحمد القرومي الذي وفد على الباي من نواحي الأخضرية ومدح منشآته، كما أشرنا، وعاد من عنده مملوء الوطاب على مدحته (¬2). ولكن حظ العلماء لم يكن دائما كحظ القرومي وأمثاله، فهذا القائد حفيظ، حاكم تلمسان، قد أساء معاملة الشيخ ابن للو التلمساني وهو الذي اشتهر بالعلم، وخصوصا تفسير القرآن الكريم، وقد روى أبو حامد المشرفي أن ابن للو قد ختم التفسير في الجامع الأعظم بتلمسان. ورغم استرضاء ¬

_ (¬1) ذكر ابن سليمان (كعبة الطائفين) 3/ 18 أن الترك قد قتلوا زميله الفقيه عبد العزيز الموفق (صبرا على كلمة الحق)، وأن والد القتيل (وهو الموفق بن عبد الرحمن) قد رثى ولده بقصيدة مؤثرة ودعا فيها على قتلته (فزلزل الله بهم دار ملكهم واحترق منها ما لا يحصى ..) كما ذكر أن الشيخ محمد العبدلي الذي حاول المصالحة بين الترك والأهالي في تلمسان بعد ثورة 1035 هـ قد مات أثناء عودته من الجزائر. (¬2) ابن سحنون (الثغر الجماني) مخطوط، 11 - 12. وقد سبق في فصل المؤسسات الحديث عن شعر القرومي. ويبدو أن أسرة القرومي أسرة قديمة في العلم والشعر. فقد جاء في (التحفة المرضية) لابن ميمون، 147 أن محمد بن عبد الرحمن القرومي (وهو يكتبه الجرومي) قد تنبأ على لسان ابنه لمحمد بكداش باشا بفتح وهران على يده.

القائد حفيظ للشيخ بالدقيق والسمن ونحوهما فإن ابن للو قد رد كل ذلك عليه. بل تذهب الرواية إلى أن ابن للو قد أمسك بلحية القائد وجذبه منها إلى أن أخد منها شعرا، ثم أقسم أن يخرج من تلمسان (لأمر ما) ويسكن بلد النصارى. فأخذ أهله ونزل موضعا بوادي غريس ومنه إلى معسكر حيث استفتى العلماء في يمينه (¬1) ولا شك ان معاملة القائد التركي الآخر، وهو محمد بن سوري، للعلماء في تلمسان أيضا تستحق الذكر في هذا الصدد، وهي المعاملة التي أشار إليها صاحب (كعبة الطائفين) بالتفصيل، ويبدو منها أن مقام العلماء عندئذ كان غير محمود (¬2). وهنا تحضر إلى الذهن أيضا معاملة الباي حسن بوهران للشيخ محي الدين وابنه عبد القادر (الأمير فيما بعد) حين توجههما إلى الحج سنة 1243، فقد حجزهما عنده بدعوى الخوف عليهما. ولم يسمح لهما بالسير إلا بعد تدخلات وتوسلات واستعمال الرشوة. أما في قسنطينة فإن تدخل العسكر والبايات في شؤون العلماء كان أمرا ملفتا للنظر حقا. وإذا رجعنا إلى (منشور الهداية)، الذي عالج فيه صاحبه العلاقة بين العلماء والولاة، نجده يذكر الكثير من الحوادث التي سجن فيها العلماء وغرموا ونفوا وأهينوا وصودرت أموالهم حتى أن بعضهم كان يموت في سجنه، وبعضهم كان يمنع من (رفع القلم)، والمرء يحس وهو يقرأ هذه الحوادث أنه أمام رواية مضحكة مبكية في نفس الوقت. فهذا جد المؤلف، وهو عالم مفسر، يجد نفسه في قصر الباشا بالجزائر ثم يفر، رغم شيخوخته، إلى زواوة ثم يلقي عليه القبض ويعاد إلى الجزائر فيسجن ثم يطلق سراحه. ¬

_ (¬1) أبو حامد المشرفي (ذخيرة الأواخر والأول) مخطوط، 12. وأضاف المشرفي أن ابن للو قد ذهب أولا إلى وادي غريس فوجد به قوما يستعملون أسماء غير إسلامية مثل عنتر وبوعجاج فقال هنا تبر يميني، ثم ذهب إلى معسكر، الخ. ووصف ابن للو أنه (خاتمة أدباء تلمسان من المتأخرين) ويلح المشرفي على أن القائد حفيظ كان تركيا. (¬2) انظر ذلك في دراستي لـ (كعبة الطائفين) في كتابي (أبحاث وآراء في تاريخ الجزائر).

وكان معه في هذه المغامرة العجيبة عبد اللطيف المسبح أحد العلماء الفقهاء والرياضيين. كما روى نفس المؤلف أن جده لأمه (وهو محمد بن قاسم) الذي كان يشغل وظيفة مزوار الشرفاء والذي تصدر الفتيا، قد (متحن حين أراد العسكر قتله ومنع من رفع القلم والصعود إلى دار الإمارة) (¬1). ونفس المصير لقيه يحيى بن باديس، فقد (امتحن حيث أشرف (هو ومحمد بن قاسم المذكور) على الهلاك من فتنة العسكر) وكان الشيخ يحيى هذا متوليا للقضاء في قستطينة وخطابة جامع القصبة. وهذا أيضا يحيى بن محجوبة قد (تعددت محنه من دار السلطنة وكثرت سجونه وكثيرا ما يفر من الأوامر الواردة في الانتقام منه وأغرم مرارا) (¬2) رغم أنه كان مفتيا وقاضيا. ولم يسلم الشيخ عبد العزيز النفاتي من المصير المظلم الذي كان ينتظر هؤلاء العلماء. فقد كان بينه وبين الباي محمد بن فرحات (الذي كان يحكم قسنطينة باسم العثمانيين) مغرم فطلبه منه فشح عليه به فوضعه في السجن إلى أن مات فيه. وقد ذكرت المصادر أيضا أن مفتي بسكرة قد فر إلى سيدي عقبة خوفا من عامله (¬3). كما أن محمد بن بوضياف قد أساء بعض البايات معاملته حتى هدد في حياته رغم أنه تولى القضاء والفتيا (¬4). ولكن بعض البايات كانوا على علاقة طيبة مع العلماء، فأمرة ابن جلول وأسرة البوني، بالإضافة إلى أسرتي الفكون وابن باديس اللتين ذكرناهما من قبل، كانت في الغالب محل ثقة واحترام البايات. وكان العلماء من جهتهم يعرفون أيضا مكانتهم عند البايات فيشاركونهم في السراء والضراء، فهم يهنئون الفائز ويعزون المحزون ونحو ¬

_ (¬1) الفكون (منشور الهداية)، مخطوط. (¬2) نفس المصدر. (¬3) الدرعي (الرحلة)، 193. (¬4) حياة هذا العالم متقلبة وقد ذهب إلى مدينة الجزائر ليشكو الباي إلى الباشا ورآه الباشا في جلسة الديوان فوعده بمنصب ثم منحه بغلة بيضاء وجبة خضراء وبرنوسين من السوستي ومتين سلطانيا ذهبا. انظر شيربونو (المجلة الشرقية والجزائرية) 1852، 449. وبناء عليه فإن محمد بن بوضياف قد ولد سنة 1194 بأولاد خالد.

هجرة العلماء

ذلك من المواقف التي تحافظ على العلاقات الودية بين الطرفين (¬1). هجرة العلماء تحدثنا من قبل عن الهجرة الداخلية للعلماء حيث ينتقل بعضهم من مدينة إلى أخرى طلبا للعلم أو الحظوة أو الوظيف، أو من قرية إلى مدينة حيث الثقافة أكثر انتشارا، أو من المدينة إلى الريف للفرار من أوضاع معينة. ولكننا هنا نود أن نعالج ناحية أخرى من حركة العلماء وهي هجرتهم إلى خارج القطر الجزائري. وسنقصر حديثنا عن نوعين من الهجرة الخارجية: الهجرة المؤقتة والهجرة الدائمة. فأما الأولى فقد كانت في أغلب الأحيان لطلب العلم أو مجاورة بيت الله الحرام، وأما الثانية فقد كانت أغلبها هروبا من أوضاع غير مرضية، وللنوعين من الهجرة أسباب نود أن نأتي عليها باختصار. ويمكن حصر الأسباب في عوامل السياسة والاقتصاد والدين والعلم، فقد هاجر بعض علماء الجزائر، ولا سيما من تلمسان ونواحيها، إلى المغرب عقب استيلاء العثمانيين على مملكة بني زيان، وظلت موجة الهجرة نحو المغرب مستمرة حتى بعد أن استقرت الأوضاع للعثمانيين. وهناك عائلات انتقلت بأسرها إلى المغرب، ولا سيما فاس. والذي يقرأ (دوحة الناشر) و (البستان) يعرف الكثير من أسماء العائلات التي هاجرت إلى المغرب خلال القرن العاشر. ومعظم العائلات العلمية التي شاع أمرها بتلمسان في القرن التاسع انتقلت إلى هناك في القرن الذي يليه (¬2). ¬

_ (¬1) من ذلك تعزية أحمد الزروق البوني سنة 1158 للباي بوحنك في وفاة ولده. انظر فايسات (روكاي) 1868، 308. (¬2) جاء في ترجمة أحمد العبادي أنه هاجر من تلمسان إلى فاس سنة 968 (في جملة فقهاء تلمسان حين وقعت الفتنة بينهم وبين الترك واستغاثوا) فتم نقلهم إلى فاس وأعطاهم السلطان هدية مناسبة لكل منهم. انظر عباس بن إبراهيم (الإعلام بمن حل مراكش وأغمات من الأعلام) 2/ 37، وهو ينقل عن (دوحة الناشر)، الذي ترجم للعبادي.

ولم تكن معاملة الأتراك هي السبب المباشر في هذه الهجرة، ذلك أن الحروب الداخلية التي عرفتها المملكة الزيانية في أخريات أيامها وعلاقتها بالإسبان في وهران وضغط بني وطاس عليها من الغرب والعثمانيين من الشرق قد جعل العلماء لا يشعرون بالراحة ولا بالجو الملائم والاجتهاد في الرأي والحياد السياسي. فما كان من العديد منهم إلا أن حمل أمتعته وأهله وترك البلاد جملة حتى يهدأ غبار الفتن والمعارك. ومن أشهر من هاجر في تلك الظروف أحمد الونشريسي صاحب (المعيار) الذي درسناه في الفصل الأول. وقد كان وحده خزانة علم ودائرة معارف فقدت البلاد بهجرته ركنا أساسيا من أركان الحياة العلمية. وقد ظل ابنه عبد الواحد في فاس أيضا. وهو لا يقل شهرة عن والده. وقد قال عنه معاصروه انه (كان شاعرا مجيدا لا يقارعه أحد من أهل عصره) وأنه امتاز بالمهارة (في صناعة الإنشاء وعقد الشروط والوثائق). وكان لعبد الواحد مجلس خاص لا يحضره إلا أكابر العلماء. وقد تولى الفتيا والقضاء والتدريس. وظل قاضيا ثماني عشرة سنة ثم تفرغ للإفتاء. واشتهر بأنه كان لا يخشى صاحب السلطة في أمور الدين. وكان ذلك سببا في قتله على يد عملاء السلطان محمد المهدي الشيخ السعدي عندما رفض عبد الواحد الونشريسي مبايعته وخلع بيعة أحمد الوطاسي. وهكذا مات مقتولا عند أحد أبواب جامع القرويين سنة 955 ضحية التقلبات السياسية (¬1). وقد ذكر ابن مريم جملة من هؤلاء العلماء الذين هاجروا إلى المغرب. فهذا محمد بن مرزوق الخطيب الذي دخل فاس وأجاز بها والذي كان حيا سنة 918. وهذا أحمد الواعزاني الذي استوطن فاس وتوفي بها سنة 981. وهذا محمد بن شقرون الوجديجي الذي نزل فاس وتولى الإفتاء في مراكش وأدركته الوفاة في فاس سنة 983. وكذلك محمد بن عزوز الديلمي الذي انتقل من البادية إلى الحاضرة ثم قصد فاس حيث توفي. ونفس الشيء يقال ¬

_ (¬1) انظر الكتاني (سلوة الأنفاس) 2/ 147، و (الإعلام بمن حل مراكش) 4/ 157.

عن محمد بن محمد العباس الذي رحل إلى فاس. ولكن ابن مريم يقول إنه رجع بعد مدة إلى تلمسان (¬1). وأكبر موجة من الهجرة نحو المغرب حدثت بعد فشل الحملة السعدية على تلمسان. فقد رافق السلطان السعدي عند عودته إلى بلاده كثير من العلماء الذين كانوا قد أيدوا تدخله في تلمسان. وكان ذلك حوالي سنة 968 هـ. ومن الذين هاجروا في هذه الأثناء محمد بن أحمد المعروف بابن الوقاد التلمساني الذي تولى عدة وظائف رسمية كالقضاء والإفتاء والتدريس في مدن مختلفة من المغرب كفاس ومكناس وتارودانت وسجلماسة. وقد أدركته الوفاة بتارودانت سنة 1001 هـ. وقد قيل إن ابن الوقاد رغم هذه الوظائف التي تولاها والظروف التي عاشها في تلمسان وفي المغرب على العهد السعدي قد حذر من العمل لدى الحكام حتى نسب إليه هذا البيت: كل التراب ولا تعمل لهم عملا ... فالشر أجمعه من ذلك العمل (¬2) ومن الذين كانوا ضحية هذه الأوضاع بين العثمانيين والسعديين محمد بن عبد الرحمن المغراوي المعروف بابن جلال. فقد ولد بتلمسان سنة 908 واشتهر بعلومه ومكانته وارتبط بالسلطان السعدي هناك. ولما حان وقت عودة السلطان إلى فاس رافقه ابن جلال إليها سنة 958، فكان محظوظا لديه حتى قلده وظيفة الفتيا والتدريس والخطابة بجامع الأندلس ثم جامع القرويين. وظل في الموضعين أكثر من عشرين سنة. وقد أصبح ابن جلال عارفا بعلوم الوقت كالمنطق والفقه والعقائد والبيان والحديث والتفسير. وكانت له شخصية قوية حسب من ترجموا له. وفي فاس أصبح له تلاميذ معترف لهم كأحمد المنجور صاحب الفهرس. ويكفي ابن جلال أنه علم ابنه ¬

_ (¬1) ابن مريم (البسان)، 258, 261. (¬2) أحمد توفيق المدني (محمد عثمان باشا)، 78. وإبراهيم حركات (الصلات الفكرية بين تلمسان والمغرب)، 1975، 189.

المعروف بمحمد المرابط والذي تولى مثله الخطابة بالقرويين وجامع الأندلس (¬1). ولم يكن أحمد المقري صاحب (نفح الطيب) قد اشتهر أمره في تلمسان عندما هاجر منها إلى فاس. ذلك أن شهرته العلمية قد بدأت أثناء وجوده بالمغرب ثم بالمشرق. وعلى كل حال فقد قصد هو أيضا فاس وتولى بها الوظائف وانغمس في حمأة السياسة حتى كادت تأتي عليه رياح الفتنة التي أتت من قبل على عبد الواحد الونشريسي. ومهما كان الأمر فقد انفلت من ذلك الوضع بذهابه إلى مدينة الجزائر ومنها إلى المشرق حيث ظل إلى أن توفي، كما سنرى (¬2). وهناك عالمان كان لهما شأن عظيم في المغرب خلال هذا العهد، الأول محمد بن عبد الكريم الجزائري، والثاني محمد بن أحمد القسنطيني المعروف بابن الكماد. ولا ندري موطن ابن عبد الكريم ولكنه يبدو أنه كان من علماء العاصمة لأن نسبته (الجزائري) عادة نسبة إلى مدينة الجزائر في ذلك الوقت. ومن جهة أخرى نعرف أن (عمدته) في التعليم هو سعيد قدورة، وهو من علماء العاصمة البارزين في وقته. كما أنه أخذ العلم على عدد من علماء مصر مثل علي الأجهوري والبابلي والفيشي والزرقاني والشنواني. أما في المغرب فمن مشائخه عبد القادر الفاسي وأبو علي اليوسي. وقد هاجر ابن عبد الكريم إلى فاس سنة 1083 وكان قد تردد عليها قبل هذا التاريخ. ولعل ذلك كان بإغراء من علماء السلطان إسماعيل. فقد قدم على هذا السلطان الذي (أكرمه مرارا وكان يجله ويعظمه). ويبدو أن كفاءته العلمية هي التي مهدت له هذا الطريق لدى السلطان. فقد قيل إنه كان حسن الحديث والمحاضرة ممتع المجالسة. وإنه كان (دائرة للأدب ¬

_ (¬1) الكتاني (بلوة الأنفاس) 2/ 27. وهو يذكر أن ابن جلال قد توفي سنة 981، كما توفي ابنه في فاس أيضا سنة 1008. عن ابن جلال انظر أيضا ابن عسكر (دوحة الناشر)، 211. (¬2) سنترجم له في فصل النثر من الجزء الثاني.

والتواريخ)، وهذا ما كان يرغب فيه السلاطين المتذوقين للآداب والأخبار بخلاف ولاة بلاده الجزائر. وقد توفي ابن عبد الكريم في فاس سنة 1102 (¬1). أما ابن الكماد (محمد بن أحمد القسنطيني) فقد رحل من قسنطينة إلى المغرب، وهو من عائلة شهيرة بالعلم والشرف تولت القضاء والتدريس والإفتاء في قسنطينة جيلا بعد جيل. وقد ذكرنا منها عمر الوزان. ولكن المنافسين كانوا كثيرين، وكانت طرق المنافسة غير شريفة. لذلك اختار عدد من العلماء الهجرة على الدخول في حمأة المنازعات الشخصية، ومنهم محمد بن الكماد الذي كان ينتسب إلى الشرفاء ويضيف إلى اسمه نسبة (الحسني). فبعد أن درس في زواوة على محمد المقري وفي العاصمة على محمد بن سعيد قدورة واشتهر بالحفظ، قصد فاس التي كانت موئل العلماء، لوجود جامعة القرويين من جهة ولأنها عاصمة سياسية غير عثمانية تحترم فيها العربية وعلومها. ولعلمه وفضله ازدحم الناس عليه ولا سيما عند تدريس الأصول على جمع الجوامع للسبكي. ولفت ذلك إليه نظر السلطان وارتفعت مرتبته (لدى أرباب الدولة ونال حظوة كبيرة) وكان دؤوبا على المطالعة لا يراه الرائي إلا دارسا أو مطالعا أو مقرئا. فهو منقطع للدرس كثير الصمت حتى (واجتمعت الكلمة على أنه أحفظ علماء عصره) وكان ابن الكماد قد دخل أيضا تطوان. ويبدو أنه لم يجد فيها الاستقبال اللائق به فقال بيتا ذهب مضرب المثل: لهف نفسي على كسوف ... شمس العلوم وذلة الغرباء ولانقطاعه للتدريس لم يؤلف الكتب. ويذكر له مترجموه أجوبة على نوازل مختلفة كانت ترد إليه من العامة والخاصة. ولكننا لا نعرف ما إذا كانت ¬

_ (¬1) الكتاني (سلوة الأنفاس) 3/ 151. وقد ذكر الكتاني أن صاحب (المنح البادية) قد ترجم لابن عبد الكريم الجزائري، وعد له هناك سبعين شيخا. وكذلك ترجم له القادري في (نشر المثاني) , ومن تلاميذه أحمد بن عبد القادر التستوني (أو التستاوني) صاحب المؤلفات العديدة. انظر (إتحاف أعلام الناس) 1/ 329. انظر أيضا الخزانة العامة بالرباط، ك 1016 مجموع.

هذه الأجوبة مدونة ومحفوظة أو هي قد ضاعت (¬1). وقد توفي سنة 1116 وترك تلاميذ من أبرز علماء المغرب في وقتهم مثل محمد بن عبد السلام البناني الذي تحدث عن شيخه في فهرسه (¬2). وإدريس بن محمد المنجرة الذي ترجم له أيضا في فهرسه. وكان ابن الكماد متمكنا من علوم شتى كالمنطق والتوحيد والحديث والفقه وفروعه (¬3). ويعتبر سعيد المنداسي من أبرز الشعراء المهاجرين إلى المغرب لأسباب سياسية أيضا، وهو من الشعراء المهرة في الفصيح والملحون، وصاحب القصيدة الشهيرة (بالعقيقة). وقد قال في الترك شعرا يهجوهم فيه هجاء مقذعا. وسنعود إليه عند حديثنا عن الأدب. وقد قيل إن السلطان محمد بن الشريف العلوي قد منح المنداسي نحوا من خمسة وعشرين رطلا من خالص الذهب جائزة له على بعض أمداحه فيه (¬4). ولكن هجرة الجزائريين نحو المغرب لم تكن كلها لأسباب سياسية، فقد كان طلب العلم أهم مقصد لهم. غير أن بعض العلماء كانوا يجدون بعد ذلك الحياة في المغرب أفضل وأرحب منها في الجزائر فيختارون الإقامة، ثم أن عددا منهم كانت لهم جذور تاريخية من أسر وأنساب وتجارة وغير ذلك. وقد كان الجو العلمي في المغرب أفضل منه في الجزائر رغم تقلب الأحوال السياسية فيه، فقرب المغرب من الأندلس وكثرة مراكز التعليم والعواصم العلمية ووفرة المكتبات ووجود القرويين وتقدير ولاة المغرب لأهل العلم - كل ذلك لعب دورا في جلب علماء الجزائر إلى هناك. وسنعرف بعد قليل أن ¬

_ (¬1) في الخزانة العامة بالرباط رقم 1016 مجموع، عدد من النوازل التي ذكرها أحد تلاميذه. وهي منسوبة له، ومحمد بن عبد الكريم الجزائري وأحمد المقري. (¬2) هذا الفهرس مذكور في رحلة ابن حمادوش. وقد اطلعنا عليه. (¬3) الأفراني (صفوة من انتشر) 218، و (سلوة الأنفاس) 2/ 30. وقد ترجم له أيضا القادري في (نشر المثاني) كما توجد أخبار عن عائلة الكماد في (منشور الهداية) للفكون و (ذيل بشار أهل الإيمان) لحسين خوجة. (¬4) (الاستقصاء) 7/ 31.

بعض علماء المغرب كانوا يقصدون الجزائر لأغراض مختلفة. ومن أسباب هجرة العلماء الجزائريين تورط بعضهم في المشاكل السياسية المحلية. وقد حدث ذلك لعيسى الثعالبي الذي كان محظي يوسف باشا، كما أسلفنا، وحدث أيضا ليحيى الشاوي. وكلاهما هاجر إلى المشرق. ومنهم أيضا ابن الترجمان، وهو علي بن محمد الجزائري (من مدينة الجزائر) الذي قال عنه الجبرتي إنه كان (أحد أذكياء العصر، ونجباء الدهر، من جمع متفرقات الفضائل، وحاز أنواع الفواضل، الصالح الرحلة ..) وقد ولد ابن الترجمان بمدينة الجزائر سنة 1130، وهو من عائلة تنتمي إلى الشرف. وقد حصل كثيرا من العلوم. وممن أجازوه المنور التلمساني. وكانت لابن الترجمان حياة مليئة بالمغامرات والتقلبات. ولعل ذلك كان سبب بلائه وموته بعيدا عن بلاد الإسلام. فقد أقام بمصر طويلا وبنى بها دارا حسنة قرب الأزهر. وكانت له بها مكانة خاصة لدى الأمير أحمد آغا، أمين دار ضرب السكة. فكان لا يفارقه وهو الذي أغدق عليه العطايا. وكان ابن الترجمان أيضا كثير الشعر والترحال. وكان رغم ترحاله يدعي أنه لا يستغني عن النساء، فكان يصطحب معه واحدة أو اثنتين منهن. وقد سافر إلى أناضوليا وحظي عند (أرباب الدولة) بمقام كبير، واشتهر عنه أنه صاحب عشرة حسنة. وصادف سفره إلى إسطانبول استعداد الدولة العثمانية للجهاد ضد روسيا. فكتب ابن الترجمان إلى السلطان مصطفى يخبره أن من قرأ استغاثة أبي مدين الغوث في الجهاد حصل له النصر على عدوه. ولكن السلطان كان أذكى منه إذ دعاه أن يشترك بنفسه في الجهاد وأن يدعو بنفسه أيضا باستغاثة أبي مدين. وتذكر المصادر أن ابن الترجمان قد توجه (رغم أنفه مع المجاهدين) ولكن الدائرة دارت على الجيش العثماني فأسر ابن الترجمان مع الأسرى المسلمين وأخذ إلى روسيا ومات مأسورا في موسكو (شهيدا غريبا) لأن أحدا لم يتقدم لافتدائه أو يفاوض عليه، كما يقول الجبرتي. وكانت وفاته سنة 1185.

وقصة ابن الترجمان تذكر المرء بقصة رحالة آخر ومغامر مثله، وهو عاشور القسنطيني المعروف بالفكيرين. فقد كان والده من علماء قسنطينة، وتنقل عاشور في الأرض كثيرا فدخل بلاد السودان وتونس وحج وتولى وظائف التدريس وخصوصا في تونس. ولما رجع إلى قسنطينة صادف (مظلمة) فاختار الخروج منها ثانية ولم يعد إليها. فقد أدركته الوفاة مهاجرا في مكة المكرمة سنة 1087 (¬1). ومهما يكن من شيء فإن الأوضاع السياسية والاقتصادية والمظالم هي التي كانت السبب في هجرة عاشور الفكيرين الأولى والثانية. وهناك شخصية غريبة أخرى اختارت مصر مستقرا لها، ومع ذلك لا نعرف عنها إلا القليل، فقد روى الجبرتي أن أحمد الجزائري (ويسميه أبا العباس المغربي) الذي كان من صحراء عمالة الجزائر قد دخل مصر صغيرا وتتلمذ على مشائخها، مثل علي الصعيدي، ومهر، كما يقول الجبرتي (في الأدب والفنون)، ثم أذن له في التدريس فصار يقريء الطلبة برواق المغاربة، وشاع أمره وذاعت أخباره لفصاحة لسانه وجودة حفظه. وبعد أداء الحج سنة 1185 والمجاورة بالحرمين عاد إلى مصر وأصبحت له فيها مكانة عالية، وعظم أمره حتى أشير إليه بالمشيخة في الرواق ولكن تعصب البعض ضده، فلم يحصل له ذلك. وكل ما حصل عليه أحمد الجزائري هو نظارة المدرسة الجوهرية. وكان لذلاقة لسانه وكثرة أتباعه له خصوم أيضا. فقد قال عنه الجبرتي إنه كان (يتقى شره). وقد توفي سنة 1202 (¬2). وما تزال حياة أحمد بن عمار غامضة في نهايتها على الأقل. فنحن نعرف أنه أيضا قد حج وجاور بالحرمين مدة طويلة، وأنه ذهب إلى تونس ¬

_ (¬1) انظر حياته في فصل التاريخ من الجزء الثاني. (¬2) الجبرتي، (عجائب الآثار) 2/ 178. وهناك أحمد الجزائري آخر كان حيا سنة 1243 من حيث رآه دولابورت الفرنسي ولين الإنجليزي في القاهرة يمارس السحر عن طريق النظر في مرآة الحبر، وكان مثار الفضول عند العامة وحتى عند الخاصة، لما كان يأتي به من (العجائب). انظر (المجلة الإفريقية)، 1905, 213.

ومصر، كما سنعرف (¬1). ولكننا لا نستطيع أن نجزم هنا أن أحمد بن عمار كان من المهاجرين نهائيا. كما أننا لا نستطيع أن نؤكد ذلك بالنسبة لمعاصره وصديقه عبد الرزاق بن حمادوش، صاحب الرحلة والآثار العلمية الأخرى. فقد ولد ابن حمادوش وعاش وتثقف بالجزائر وتوظف، ثم تنقل بين المغرب وتونس ومصر والحجاز، ولكننا لا نعرف ما إذا كان قد عاد إلى بلاده أو ظل خارجها إلى وفاته (¬2). ويمكننا أن نغامر فندعي بأن كلا من ابن عمار وابن حمادوش مات في مهجره ولم يعد إلى الجزائر. ومن الذين كانوا يشعرون أيضا بمأساة خارج الجزائر لأسباب لا نعرفها (ولعل من بينها النفي السياسي) الشيخ محمد بن أحمد الشريف الذي كان دائما يكتب بعد اسمه أنه جزائري المولد والنشأة أزميري الوطن والملجأ. فقد ذكر أن من شيوخه في الجزائر محمد بن عمر المانجلاتي ومحمد زيتونة التونسي ومصطفى بن إبراهيم الأزميري. وقد ترك محمد بن أحمد الشريف عدة تآليف في الحديث والفقه سنعرض إليها في الجزء الثاني. ويبدو أنه استوطن بعد الجزائر أزمير واتخذها منفاه، ثم تنقل فذهب إلى الحجاز حيث بقي فترة مجاورا وتعرف هناك على أحد الوزراء العثمانيين، وهو أحمد باشا نعمان، الذي أصبح شيخا للحرم الشريف. وقد استجازه هذا الوزير فأجازه (تطييبا لخاطره، وتنشيطا لفكره وناظره) سنة 1154. والغالب على الظن أن محمد بن أحمد الشريف قد توفي في مهجره حوالي سنة 1159. وتطول بنا القائمة لو حاولنا استقصاء العلماء الذين هاجروا وقضوا حياتهم في المهجر، فالأسباب عديدة وقد أشرنا إلى أهمها. والبلدان التي توجهوا إليها متعددة المشارب حسب المغريات العلمية والسياسية التي يجدها المهاجر. غير أن بعضهم كان يعود إلى وطنه كحمودة المقايسي ¬

_ (¬1) سنترجم لأحمد بن عمار في فصل النثر من الجزء الثاني. انظر عنه أيضا مقالتنا (إجازة ابن عمار للمرادي)، مجلة (الثقافة) عدد 45، 1978. (¬2) سنترجم له في فصل العلوم من الجزء الثاني. انظر أيضا دراستنا عنه في كتابنا (أبحاث وآراء في تاريخ الجزائر).

العلماء المسلمون في الجزائر

والحسين الورتلاني وأبي راس ومحمد الزجاي، وبعضهم يظل في مهجره. وقد زاد من المخاطر التي كان العلماء يتعرضون إليها، بالإضافة إلى ما ذكرناه، كثرة الأوبئة والنكبات الطبيعية. وإذا كانت هذه النكبات تترك آثارها على كل الناس وتصيب كل المجتمع فإنها بدون ريب كانت تترك آثارا أخطر على فئة العلماء، لأن (الكرام قليل) وعدد المثقفين كان قليلا حقا. وتتحدث كتب التراجم عن العلماء الذين أودى بحياتهم الطاعون. فصاحب (البستان) يذكر الطاعون الذي حدث سنة 981 ووفيات العلماء الذين كانوا ضحية له، أمثال محمد أبو السادات، ومحمد الجابري، ومحمد بن موسى الوجديجي. ويذكر الفكون أيضا الطاعون الذي حدث سنة 982 وسنة 1031 ويذكر ضحاياهما من العلماء أمثال شيخه محمد التواتي وأحمد بن ثلجون وبركات المسبح وعبد اللطيف بن عبد الكريم بن سعيد. وهناك مصادر أخرى تتحدث عن أثر الوباء على العلماء مثل رسالة (أنيس الغريب والمسافر) لمسلم بن عبد القادر. فإذا أضيف ذلك إلى عوامل السجن والنفي والإعدام والإبعاد عن الوظائف السياسية ونحوها أدركنا الجو الذي كان يعيش فيه علماء الجزائر في العهد العثماني وأدركنا بالضرورة أنه لم يكن جوا يساعد على الاستقرار والإنتاج الثقافي. العلماء المسلمون في الجزائر من الصعب تحديد عدد العلماء المسلمين الذين وردوا على الجزائر خلال العهد العثماني وبيان وظائفهم وذكر بلدانهم ونوع ثقافتهم وأهدافهم. فالعالم الإسلامي كان وطنا واحدا يتنقل فيه العالم من طرفه إلى طرفه الآخر دون أن يسأله أحد أين هو ذاهب. وكان العلماء من حيث المبدأ لا وطن لهم، فهم حيث مصالحهم الخاصة والعامة. ومع ذلك فقد وجدت ظروف ساعدت على هجرة العلماء من بلد إلى آخر. وقد عرفنا منها الظروف السياسية والاقتصادية وطلب العلم.

وكان العلماء يترددون على الجزائر ويعملون فيها حتى قبل مجيء العثمانيين. فقد نزلها علماء الأندلس قبل نكبة 897 (1492) وبعدها (¬1). ورافق بعض العلماء الحملات العثمانية على سواحل المغرب العربي، كما رافقوا الباشوات الذين عينوا من إسطانبول لإدارة البلاد وتمثيل السلطان. وكان بعض هؤلاء العلماء موظفين رسميا كالقاضي الحنفي. ولكن بعضهم كان يأتي بدون تعيين. فهو باحث عن الفرص والمال أو عن نشر العلم والطرق الصوفية. وكان بعض العلماء يتعاطون أيضا التجارة في بلدانهم فجاؤوا إلى الجزائر إما للاستمرار في التجارة وإما للتدريس بدلها. ولم يكن كل العلماء الذين وردوا على الجزائر على جانب كبير من العلم والنزاهة فقد كان فيهم المغامر والانتهازي ودعاة المذاهب السرية. وكان بعضهم قد استقروا في الجزائر ولم يعودوا إلى بلدانهم. فقد كانوا يتزوجون ويظلون مع أزواجهم وأطفالهم حتى بعد الانتهاء من الوظيفة التي عينوا للقيام بها - وقد ذكر ابن المفتي عددا من هؤلاء. ومن العلماء القادمين على الجزائر من لم يكن عالما بمعنى الكلمة وإنما كان في ركاب أهل العلم كالخطاطين والنساخين والوراقين وغيرهم. وقد ذكرنا بعضهم فيما مضى (¬2). وقد ظل بعض رجال العلم العثمانيين يأتون إلى الجزائر حتى بعد تقادم العهد. ففي النصف الثاني من القرن الحادي عشر ورد على الجزائر في ظروف غامضة أحد القضاة، وهو القاضي المولى علي، الذي يبدو أنه كان يتمتع بشهرة دينية واسعة، حسب رواية الفكون. فقد قال عنه إنه جاء إلى قسنطينة زمن السلطنة الأحمدية (أي السلطان أحمد 1013 - 1027) فهرع إليه عسكرها وواليها وعظموه تعظيما لا نظير له. ونزل هذا القاضي عند الفكون باعتباره (شيخ الإسلام) في قسنطينة. وكانت له مكتبة ضخمة ينقلها معه، وله مشاركة في علوم كثيرة, ومن قسنطينة توجه القاضي إلى مدينة ¬

_ (¬1) عن هجرة العلماء المسلمين قبل العهد العثماني انظر الفصل الأول من هذا الجزء. (¬2) انظر فقرة المكتبات من الفصل الثالث.

الجزائر وأقام بها وصار له هناك صيت عظيم. واستقل أياما بالإمارة حتى صدر الأمر عن نظره. وقد تزوج بمدينة الجزائر أيضا وأصبح من أهلها. ولكن الدائرة دارت عليه. فهل جاء المولى علي ليعيد نفوذ السلطان لدي الأوجاق إلى سالف عهده ففشل؟ أو هل كانت له أغراض أخرى لم يكشف عنها إلا للمقربين إليه؟ وعلى كل حال فإن السلطات العثمانية قد قلبت له ظهر المجن بعد أن عرفت غرضه، فامتحنته امتحانا عسيرا ثم نفته من الجزائر، بل أخرجه عسكر الجزائر (وهم الأوجاق) عن أهله وماله، فذهب إلى تونس حيث توفي (¬1). ومن الأتراك الذين وردوا على الجزائر في العهد العثماني الأخير الشيخ مصطفى خوجة، فقد حل بها سنة 1168 وعين منذ وصوله إماما لجامع خضر باشا حيث ظل ثماني عشرة سنة. ثم تولى وظائف أخرى إدارية مثل حامل الراية وكاتب التذكرات، وشارك شخصيا في الحرب ضد الأوروبيين أثناء حملة أوريلي الشهيرة على الجزائر، وبالإضافة إلى الإمامة والجهاد ألف بعض التآليف بالتركية عن الحوادث التي جرت أمامه وعاشها. ومن ذلك كتابه (التبر المسبوك في جهاد غزاة الجزائر والملوك) (¬2) و (رسالة مضحكات وعجائبات) (¬3)، وهي عن الصلح بين الجزائر وإسبانيا. ولا ندري بأية لغة ¬

_ (¬1) قصته في الفكون (منشور الهداية)، مخطوط. وإذا أخذنا في الاعتبار تاريخ تولية السلطان أحمد فإن القاضي العثماني يكون قد جاء إلى الجزائر قبل 1027. (¬2) توجد منه نسخة مخطوطة بالجزائر، وهي التي اعتمدت عليها تيريز شلابوا في دراستها وترجمت أكثره إلى الفرنسية. انظر مجلة (فوليا أوريانتاليا) البولندية، 1976، 101 - 116، وسنة 1977، 49 - 64. (¬3) وهي رسالة في ثلاث عشرة ورقة بتاريخ 1200 ومعها عبارة ألفه بالتركية مصطفى خوجة إمام جامع خضر باشا سابقا. وقد اطلعنا عليها في مكتبة توبكابي بإسطانبول وهي برقم 1412. ولها مقدمة ضعيفة بالعربية تبدأ هكذا (الحمد لله الذي أنعم علينا بأنواع النعم .. أما بعد فإني أردت أن ألف تاريخا أبين مصالحة الجزائر مع إسبانيول بعد ما استولى على الجزائر ثلاث مرات، واحدة منها في البر واثنين (كذا) منها في البحر، وهزمهم الله بأنواع التهزيمات ..) والتاريخ المذكور (وهو سنة 1200) هو تاريخ نسخها بيد الحاج محمد طاهر.

كان مصطفى خوجة يؤم الناس ويخطب عليهم ما دام قد ألف بالتركية. ولذلك قلنا في أكثر من موضع بأن الوظائف الدينية في الجزائر لم تكن تسند دائما إلى أهلها. وقد ارتبط محمد بن علي الخروبي الطرابلسي بالعثمانيين في الجزائر من أول عهدهم وخدمهم بإخلاص حتى كانوا يثقون فيه كل الثقة. ومن الجزائر ذهب إلى المغرب في مهمات سياسية وعلمية. فدخل فاس ودرس فيها وأجاز بعض علمائها كمحمد الحضري الزروالي، ثم توجه إلى مراكش وترك هناك خزانة كتب ضخمة، وكانت معرفته بالمغرب وبعلمائه هي التي أهلته، مع ثقة العثمانيين فيه، ليتولى السفارة باسمهم لدى سلاطين المغرب السعديين وعلى رأسهم محمد المهدي الشيخ. فقد ذهب الخروبي هناك على الأقل مرتين، منها واحدة سنة 961، لعقد الهدنة وتحديد الحدود. وكان الخروبي قد أخذ العلم بالجزائر أيضا حيث يذكر بعض من ترجموا له أنه درس على محمد بن عبد الله الزيتوني وأحمد بن عبد الرحمن زروق ومحمد بن مرزوق وعبد الرحمن الثعالبي (¬1) وعن تلاميذ محمد بن يوسف السنوسي. وجميع هؤلاء من أقطاب الزهد والتصوف في الجزائر. فلا غرابة إذن أن يسير الخروبي على نهجهم، بل يبالغ حيث اعتدلوا. وقد تولى أيضا في الجزائر بعض الوظائف كالخطابة واشتهر بجمع الكتب. وله مؤلفات عديدة معظمها رسائل وشروح لا تخرج عن الأوراد والطرق الصوفية (¬2). ومهما يكن من أمر فإن نشاط الخروبي قد ساعد على إرساء قواعد الحكم العثماني في الجزائر. ¬

_ (¬1) لا شك أن المقصود هم تلاميذ الثعالبي، وذلك أن الثعالبي قد توفي سنة 875. (¬2) انظر دراسة المهدي البوعبدلي عنه (المجلة الإفريقية) 1952، 330، وعباس بن إبراهيم (الإعلام بمن حل مراكش) 4/ 150. وقد علمت أن عمر مولود عبد الحميد الليبي قد خصص للخروبي رسالة دكتوراه وطبعها سنة 1977. وما زلت لم أطلع عليها. وقد توفي الخروبي في الجزائر ودفن بها سنة 963 ويقال إن سبب وفاته هو الوباء الذي حصل في هذا التاريخ. وللخروبي تفسير للقران الكريم.

وفي أوائل القرن الثاني عشر قدم إبراهيم القنيلي الطرابلسي أيضا على الباشا محمد بكداش ومدحه بقصيدة (¬1). ولا ندري كم أقام القنيلي في الجزائر ولا الوظائف التي تولاها إن فعل. وكما كان العثمانيون يرسلون علماء مسلمين غير جزائريين في مهمات سياسية خارج الجزائر كانوا أيضا يستكتبون بعضهم في ديوان الإنشاء ونحوه. وقد عثرنا على نموذج من المراسلات التي دارت بين الباشا عثمان سنة 1064 (¬2) والسلطان محمد بن الشريف السجلماسي. وكان كاتب رسالة الباشا هو السيد المحجوب الحضري الذي لا نعرف عنه الآن أكثر من هذا. ولعله كان من العلماء غير الجزائريين. وقد جاء في الرسالة أن الباشا قد أرسل وفدا إلى السلطان الشريفي فيه عالمان وقائدان. والعالمان هما: عبد الله بن عبد الغفار النفزي والحاج محمد بن عبد العالي الحضري المزغناي المغراوي (¬3). ومن أهل تونس الذين تولوا الوظائف في الجزائر في عهد الباشا محمد بكداش، أبو حفص عمر بن محمد الذي تولى قضاء العسكر والذي أكد ابن ميمون عن قصد أنه كان تونسي الدار والمنشأ (¬4). كما أن محمد زيتون ¬

_ (¬1) انظر شرح الجامعي على الحلفاوية، مخطوط باريس 5113 ورقة 24. والمعروف من سيرة محمد بكداش أنه ذهب إلى طرابلس قبل استيلائه على الحكم في الجزائر. (¬2) عدنا إلى القائمة التي ذكرها ابن حمادوش في رحلته لولاة الجزائر فلم نجد من بينها من تولى باسم عثمان في هذا التاريخ. ولعل عثمان هذا كان خليفة من الخلفاء الذين كانوا يملأون الفراغ لحين تعيين الباشا. (¬3) المراسلة بنصيها، الجزائري والمغربي، توجد في المكتبة الملكية بالرباط رقم 4485 مجموع. انظر أيضا (الاستقصا) 7/ 22 - 26. ولفظة (المزغناي) تدل على أنه من مدينة الجزائر ونواحيها، فإذا كان قريبا من محجوب الحضري، كاتب المراسلة، فإن هذا يكون من الجزائر أيضا. (¬4) ابن ميمون (التحفة المرضية) مخطوط، 53.

التونسي قد تولى القضاء الحنفي في زمن شعبان خوجة باشا (¬1). ولا ندري ما إذا كان أحمد بن مصطفى برناز التونسي أيضا قد تولى الوظائف في الجزائر، غير أننا نعلم أنه قد تجول فيها والتقى بعلماء قسنطينة وزواوة والجزائر وعنابة. وجاء في رحلة ابن حمادوش بعض أسماء لعلماء تونسيين وردوا على الجزائر، وخصوصا محمد الشافعي الباجي (¬2). وكان محمد الشافعي وأحمد الأصرم القيرواني يبثان العلم في الجزائر مدة طويلة، وقد شرح الأول قصيدة محمد باي في المديح النبوي (شرحا بديعا في جزئين من أمتع كتب الأدب) (¬3)، أما الفكون فقد ذكر المراسلات التي دارت بينه وبين بعض علماء تونس مثل القاضي إبراهيم الغرياني ومحمد تاج العارفين. ولعل مغامرات الشيخ فتح الله تعتبر نموذجا لورود علماء المسلمين على الجزائر في العهد العثماني. فقد عاش حياة متقلبة في المشرق وفي الجزائر تدل على أنه كان يبحث عن الجاه والمال أكثر مما كان يظهر علمه ليستفيد منه الناس. وقد وجد الأرض ممهدة له والاستعداد لاستقباله. فأصبح قاضيا ومفتيا وخطيبا، وكاد يدعي أشياء أخرى تصوفية. وقد ولد فتح الله (ولا يعرف حتى اسمه بالضبط) في سورية ونشأ بها ثم رحل بعائلته إلى مصر. وبعد برهة لم يجد فيها ما كان يصبو إليه فرحل إلى الجزائر وسجل أولا في دفتر الباشا حتى يكون له نصيب من عطاياه باعتباره من العلماء الفقراء والغرباء وباعتباره أيضا ينتمي إلى المذهب الحنفي. ولعله وجد الزحام على المناصب القليلة شديدا في مدينة الجزائر فتوجه إلى قسنطينة التي كانت بحق العاصمة الثانية، وتزوج بها وسعدت حاله وابتسم له الحظ ووجد ¬

_ (¬1) ذكر ذلك ابن المفتي. انظر ديلفان (المجلة الآسيوية)، 1922، 206. وقد تولى شعبان خوجة 1101. (¬2) كان من العلماء الشعراء وقد رافق محمد باي بن حسين. وجاء في (إتحاف أهل الزمان) لابن أبي الضياف أن هذا الباي قد رافقه عالمان هما الشافعي وأحمد الأصرم القيرواني (وكانت حرفتهما بالجزائر بث العلم وصناعة التوثيق). 2/ 146. (¬3) نفس المصدر، 2/ 157.

الأبواب مفتوحة لجميع الإدعاءات فأصبح خطيبا. وهذه المهنة لا تحتاج إلى علم غزير في وسط غير مثقف ولا سيما من رجل قادم من المشرق. ثم أصبح مدرسا وادعى أنه أستاذ في الفلك والأدب والحديث ونحو ذلك. ولم يقتصر نشاط الشيخ فتح الله على ادعاء العلم بل ادعي أيضا معرفة الكشمير وصباغة الحرير ومحلول العطور. ومعنى ذلك أنه جمع بين العلوم والحرف. وتطور به الأمر فاتصل بأرباب السلطة وأصبح خطيب جامع القصبة وناظر مدرسة سوق الغزل ثم خطيب جامع سيدي الكتاني، وظل في هذه الوظيفة إلى وفاته. وقد وصل به الأمر أن صار مفتي الحنفية عدة سنوات وتولى وكالة الأوقاف سنتين وقضاء الحنفية. وكان مجيئه إلى قسنطينة قبيل 1185 (¬1). وياما أكثر العلماء الذين ادعوا العلم والولاية والمعرفة الدينية والدنيوية في الجزائر وتسلموا أزمة الأمور وأصبحوا لا منازع لهم إلا من سلموهم السلطة طبعا! وقد ذكرنا من قبل قصة ورود حسين الجزائري الخطاط. وقصة الشيخ فتح الله تذكر المرء بقصة ابن الأحرش المغربي الذي كاد يزعزع بثورته السلطة العثمانية في الجزائر أوائل القرن الثالث عشر. كما تذكرنا بالكثير من المغامرين المعروفين باسم (محمد بن عبد الله) الذين كانوا يظهرون من وقت لآخر كأنهم المهدي المنتظر أو رجل الساعة. فقد كان لعلماء المغرب حركة واسعة في الجزائر في العهد المدروس لأسباب عديدة، منها أن المنازعات السياسية على الحكم في المغرب كانت تؤدي ببعض العلماء إلى نشدان الهدوء والاستقرار في الجزائر كما حدث لعلي بن الواحد الأنصاري وأبي القاسم الزياني. ومنها أن مجالات العمل في الجزائر كانت مفتوحة أمامهم سيما وأن العثمانيين كانوا يفضلونهم على الجزائريين لأسباب سياسية تقتضي تقريبهم وكسب ودهم ليوم الحاجة. ومنها أيضا أن ¬

_ (¬1) ما تزال قصة الشيخ فتح الله غامضة. ويمكن الرجوع عنه إلى (تاريخ حاضرة قسنطينة) لأحمد المبارك.

المغاربة كانوا يتخذون من الجزائر طريقا للحج بحرا وبرا. وكثيرا ما كانوا ينزلون بالمدن الجزائرية ويسألون عن العلماء ويختلطون بالناس ويشترون منهم ويجيزون ويستجيزون، كما سنرى. وكان بعضهم يأتي إلى الجزائر في مهمات دبلوماسية مثل وفادة الوزير الغساني (¬1) وأحمد الغزال (¬2). وأخيرا فإن سمعة بعض العلماء في الجزائر كانت تجلب إليهم الأنظار وتجعل بعض علماء المغرب يرحلون للأخذ عنهم كما فعل ابن زاكور. ولعل بعض هؤلاء العلماء كانوا أيضا يمارسون التجارة بين المغرب والجزائر أو يبثون المذاهب الصوفية بين الجزائريين. وعلى كل حال فإن هذه الأسباب وغيرها كانت تجعل الجزائر مجالا واسعا لعلماء المغرب. ولذلك فإن كثيرا من الكتابات في هذا العهد توجد في آثار علماء المغرب. ويبدو أن اختلاف النظم السياسية بين المغرب والجزائر كان رحمة على العلماء. فبقدر ما كان سلاطين المغرب يقربون علماء الجزائر ويعطونهم مثاقيل الذهب ويوفرون لهم الكساء والسكن والاحترام، بقدر ما كان باشوات الجزائر يستقبلون بعض علماء المغرب ويقدمون لهم المال والوظيف والوجاهة. فهذا علي بن عبد الواحد الأنصاري قد جاء إلى الجزائر هروبا من أوضاع سياسية كان غير راض عنها. ومن المعروف أن المؤرخ والوزير أبا القاسم الزياني قد اختار الإقامة في الجزائر وأن معظم إقامته كانت في تلمسان لأسباب سياسية أيضا (¬3). وقد ألف بعض أعماله في الجزائر وعثر فيها على ¬

_ (¬1) بعثه السلطان إسماعيل إلى الجزائر للمفاوضة بعد هزيمة الجيش المغربي في معركة المشارع عند وادي ملوية. وكان ذلك سنة 1103. وقد توفي الغساني سنة 1119، وهو صاحب (رحلة الوزير في افتكاك الأسير). (¬2) جاء الجزائر سنة 1182 في مهمة تتعلق بإطلاق سراح الأسرى الإسبان في الجزائر مبعوثا من السلطان. وقد توفي سنة 1191 بفاس. وهو تلميذ أحمد بن عمار كما سنذكر في حينه. وللغزال رحلة أيضا تسمى (نتيجة الاجتهاد في المهادنة والجهاد). (¬3) انظر الزياني (الترجمانة الكبرى) تحقيق: عبد الكريم الفيلالي، المغرب 1967، 144 وهنا وهناك.

مصادر نادرة حول تواريخ سكان المغرب العربي القدماء. ومنهم أيضان محمد الحاج رئيس الزاوية الدلائية. فقد جاء هو وأولاده إلى تلمسان حين قضى السلطان الرشيد بن الشريف على الزاوية وفرق جموعها وزعماءها. وقد قيل إن محمد الحاج قال لما دخل تلمسان (كنت وجدت في بعض كتب الحدثان أني أدخل تلمسان فظننت أني أدخلها دخول الملوك فدخلتها كما ترون) وقد توفي بها سنة 1082 (¬1). والتمغروطي لم يقم في الجزائر طويلا ولم يتول فيها الوظائف كما لم يأتها غاضبا سياسيا ولا مفاوضا دبلوماسيا وإنما جاءها مارا أثناء سفارته لإسطانبول، ومع ذلك لقي بعض علماء الجزائر ووصف أحوالها المادية والسياسية. ولعل من مهمته السرية تقديم تقرير عنها أيضا إلى سلطانه. وعلى أية حال فإذا حكمنا مما كتب التمغروطي عن الجزائر فإن تقريره عنها سيكون غير مشجع للسلطان على حربه (¬2). وبعض علماء المغرب قد توظفوا في الجزائر وأقاموا بها طويلا دون أن نعرف الآن سبب وجودهم بها. وكان بعضهم مثالا للدرس الكفء والاجتهاد والاستقامة، بينما كان آخرون مثالا لسوء الخلق والانتهازية والتملق. فالشيخ محمد التواتي الذي كان يلقب في المغرب بسيبويه لدرايته بعلم النحو قد رحل إلى الجزائر وهو عالم بالنحو والمنطق والبيان والأصول. وقرأ بزواوة وتولى التدريس في قسنطينة واشتهر أمره حتى قصده الطلاب من مختلف جهات القطر. وكان - حسب رواية الفكون - بعيدا عن الولاة يعيش من دروسه ومن حب تلاميذه له. ومن أشهر من تخرج عليه عبد الكريم الفكون صاحب (منشور الهداية)، فهو الذي حبب إليه النحو حتى أصبح بدوره أستاذا فيه. ويعتبر النحو والبيان والمنطق من العلوم العقلية التي قل طلابها لغلبة روح التصوف وعلوم النقل. ولعله هو الذي تتلمذ عليه أيضا عيسى الثعالبي ¬

_ (¬1) الاستقصاء، 7/ 37. (¬2) انظر وصف التمغروطي للجزائر في الفصل الثاني. وكتاب مولاي بلحميسي (الجزائر في الرحلات المغربية).

الذي يقال إنه لازمه حتى أدركته الوفاة (¬1). ومع علمه وعزلته واشتغاله بالدرس لم ينج من لهيب السياسة. فقد قيل إن أحد المتهمين (ولعله من طلابه) قد فر إليه فآواه عنده فاتهم التواتي بإيواء الهاربين وكاد يفتك به ولاة قسنطينة لولا أنه فر إلى نقاوس وباجة بتونس حيث عانى من الحرمان والظلم إلى أن توفي بالطاعون، كما عرفنا، سنة 1031. غير أنه ليس كل علماء المغرب كانوا على نمط التواتي علما وورعا. فهناك المغامر أحمد الفاسي الذي طرق جميع الأبواب لينال حظوة باشوات الجزائر وبايات قسنطينة وقواد وشيوخ القبائل. ذلك أنه جاء إلى مدينة الجزائر ثم توجه إلى قسنطينة وكان فصيح اللسان حسن الخط شاعرا أديبا مداحا لأهل السلطة والجاه. وكان في بداية أمره ملازما للبادية يعمل كاتبا لبعض قواد عشيرة تعرف بالعبابسة، يمدحهم وينال منهم وكانوا أهل خيام وكرم. وقد وجد أحمد الفاسي في البادية من المال والوجاهة ما لم يجده في حاضرة قسنطينة. غير أنه لم يكن من العلماء بالمعنى الديني والأخلاقي للكلمة بل كان من المثقفين العابثين والأدباء الذين يعيشون حيث يجدون الملذات واللهو. ومن أخباره أنه انضم في قسنطينة إلى جماعة كانت تسهر الليالي وتلهو بالطرب وشرب الدخان ونحو ذلك وتتظاهر بالخنا وتحب الشعر وتسمع الموسيقى وتتناول الخمور. وقد قال الفكون عن أحمد الفاسي إنه دخل (نادي أهل الفسوق وأعلنوا شرب الدخان وتظاهروا بالخنا وكانوا ينظمون الأشعار ويمدحون البندار، والمزهر والطار، ويذكرون سلافة الخمار، وكان الفاسي يثني على الخمر ويستدل عليها بأشعار من الصوفية فيها الكاس والسكر والحان والدنان). وكان الفاسي وجماعته يهجون من خالفهم من العلماء. ولا شك أن سلطة قسنطينة كانت تسكت على هذه الأحوال التي ¬

_ (¬1) يقول العياشي إن الثعالبي قد درس على محمد التواتي في بسكرة بينما لم يذكر الفكون من البلدان التي ذهب إليها التواتي غير نقاوس وباجة. فلعل التواتي البسكري غير التواتي القسنطيني.

ينكرها العلماء الورعون قطعا. وعندما سمع علماء المغرب بما كان يفعل الفاسي في قسنطينة اعتبروه (خارجيا) وادعوا أنه يقول الشعر في سب آل علي بن أبي طالب (¬1). وكانت كلمة (الفاسي) و (السوسي) قد شاعت في كتب التراجم المؤلفة في الجزائر خلال العهد العثماني. ومن ذلك محمد الفاسي الذي نزل أيضا قسنطينة وادعى أنه عالم بالفرائض والأسطرلاب فأنزله بعض علمائها مدرسة العائلة وبدأوا يأخذون عليه العلم فإذا هو عاجز لا يكاد يعرف شيئا. ومحمد السوسي الذي قدم أيضا من فاس، حسب ادعائه، ونزل أولا مدينة قسنطينة بعد رحيل محمد التواني عنها، ثم توجه إلى الجزائر، ومدح الباشوات ومن دونهم لكي ينال منهم الحظوة ووظيفة الفتوى. وقد تداخل هناك في السياسة وقال شعرا في باشا الوقت. وقيل إنه كان قبل ذلك يتزي بزي الأعراب ويتظاهر بأشياء غريبة هي أقرب إلى الدروشة منها إلى العلم. وكان قد جاء بقصد القراءة على علماء البلاد، فإذا به، وقد ساعده أولو الأمر، يصبح من المدرسين والمثقفين (¬2). ولكن ليس كل من اسمه الفاسي كان على النحو الذي ذكرنا. فقد ورد على الجزائر من فاس علماء كان وجودهم بها خيرا وبركة، وكانوا في مهمات نبيلة. ومن هؤلاء عبد القادر بن أحمد بن شقرون الفاسي. فقد مر بالجزائر أثناء الحج ولقي بعض علمائها وتبادل معهم الرأي في بعض المسائل العلمية أمثال خليفة بن حسن القماري الذي لقيه في بسكرة سنة 1193، وقد اشتهر الشيخ خليفة بنظمه لمختصر خليل. وكان من عادة القماري الخروج من قريته ¬

_ (¬1) انظر قصته في (منشور الهداية)، مخطوط. ولا ننسى ما قلناه من أن أحكام المعاصرين على بعضهم يجب أن تؤخذ بحذر. (¬2) نفس المصدر. وقد توفي محمد السوسي في الجزائر أثناء محاولته الحصول على وظيفة سامية. والظاهر أن وجوده بالجزائر كان أوائل القرن الحادي عشر. وليس غريبا أن يكون أمثال (السوسي) و (الفاسي) قد جاؤوا إلى الجزائر لبث مذاهب وأفكار معينة ولكنهم تغطوا بشتى الأغطية حتى لا تدركهم الأبصار.

قمار لملاقاة ركب الحج المغربي فيأخذ من علمائه ويأخذون منه. وفي السنة المذكورة اجتمع الرجلان وأطلع القماري زميله الفاسي على نظمه للمختصر فقرظه وأثنى عليه (¬1). وكذلك فعل الناصري الدرعي، صاحب الرحلة الكبرى، سنة 1195 حين التقى أيضا بالشيخ القماري في سيدي عقبة وقرظ نظمه وأشاد به (¬2). وقد سجل العياشي والجامعي وابن زاكور مظاهر كثيرة من حياة الجزائر العلمية والاجتماعية والسياسية. فقد نال الجامعي حظوة لدى محمد بكداش باشا الذي تم على عهده فتح وهران الأول. وكان قد جاء بعد الفتح بقليل فوجد النفوس فرحة فساهم بذلك بشرحه على أرجوزة المفتي الحلفاوي التي تسجل أحداث الفتح. وقد أعجب الجامعي بالشاعر المفتي ابن علي والعالم الزاهد أحمد البوني والمفتي محمد الحلفاوي صاحب الأرجوزة. أما ابن زاكور فقد أخذ العلم عن جماعة من علماء الجزائر ذكرهم في رحلته وعاد منهم إلى بلاده بمجموعة من الإجازات. ولعل ابن زاكور قد حظي أيضا برضى رجال الدولة رغم أن ذلك غير واضح في رحلته (¬3) وممن كان يتردد على الجزائر أحمد الورززي التيطواني الذي كانت له شهرة علمية واسعة. وكان حر التفكير حتى رماه بعض معاصريه بالاعتزال. وقد وصف ابن حمادوش إحدى زيارات الورززي للجزائر سنة 1159. كما نعرف من مصادر ¬

_ (¬1) من رسالة (إتحاف القارئ بسيرة خليفة بن حسن القماري) تأليف محمد الطاهر التليلي القماري، مخطوط. ويوجد التقريظ أيضا على نسخة من النظم المذكور في مكتبة المرحوم الصادق قطايم بقمار، ويبدو أنها النسخة الأصلية. (¬2) الدرعي (الرحلة الكبرى)، مخطوط مصور في الخزانة العامة بالرباط، د 2651، 497. وسنعود إلى الحديث عن آثار القماري في الفصل الأول من الجزء الثاني. (¬3) ولد محمد بن زاكور في فاس. وتوفي سنة 1120. وقد سبقت الإشارة إلى رحلة العياشي لأننا استفدنا منها في غير هذا المكان. كما مر أحمد بن ناصر الدرعي سنة 1121 بصحراء الجزائر وسجل عنها أمورا هامة، وهو الذي نقل عنه الحسين الورتلاني كثيرا وقد قام أدريان بيربروجر الفرنسي بترجمة ما جاء في رحلة الدرعي عن الجزائر.

من قضايا العصر

أخرى أنه قد زارها أيضا سنة 1161. ومهما قيل في هذه الحركة العلمية الواردة من المغرب أو من المشرق فإنها كانت في جملتها بركة على الجزائر. فكل عالم كان مدرسة متنقلة ومكتبة مفتوحة. وحركتهم كانت تشكل ما نسميه اليوم بوسائل الإعلام وتبادل الخبراء والكتاب ونحو ذلك من وسائل الاتصال العلمي. وكما كان الجزائريون يهاجرون من أجل العلم ليأخذوه في الأماكن البعيدة كانوا أيضا يرحبون بالعلماء الوافدين ويهرعون للأخذ عنهم والاستماع منهم في شوق وشغف. وهذا التلاقح في الأفكار والاتصال المستمر هو الذي أدى إلى نوع من التحديات الفكرية بين الجامدين والمتحررين ظهرت أحيانا في شكل مناظرات وأخرى في شكل نقد لاذع لأحوال الفكر عموما. من قضايا العصر في عصر ضمرت فيه الحركة الفكرية، ماذا ننتظر أن تكون القضايا التي تشغل بال العلماء وتثير نقاشهم وخصوماتهم؟ والواقع أن معظم العلماء، كما عرفنا، كانوا في شغل شاغل عن القضايا الفكرية، فهم كانوا في منافسة كبيرة على الوظائف مع ما يتطلب ذلك من الاكتفاء بالقليل من العلم والجهد في تحصيله. فالوسائل المادية ونحوها هي التي كانت تؤهلهم لتلك الوظائف وليس الكفاءة العلمية والتفوق الفكري. وسنرى أن من وسائل الحرب التي كانت تدور بينهم اتهام بعضهم البعض بالزندقة والخروج عن الجماعة والاعتزال. وقد كان (الالتزام) بما قاله السلف والاحتفاظ به على علاته أفضل عند هؤلاء من دعوة الاجتهاد وحرية الفكر ونقد الماضي. غير أن بعض العلماء كانوا يقومون برسالة هامة في المجتمع ونعني بذلك إصلاح ذات البين، ولا سيما في الأرياف، وتوعية العامة بقواعد الشرع وأحكامه الصحيحة، والعامة كانت مقلدة ولا تثق في الحكام بقدر ما كانت تثق في العلماء والمرابطين، ولذلك كان دور هؤلاء عظيما بين العامة. ولما كانت السلطة السياسية في بعض المناطق شبه معدومة فقد كثرت النزاعات

والمشاغبات واللجوء إلى القوة وتحكيم الهوى والعادات القبلية أكثر من تحكيم الدين والقواعد الإنسانية والتضامن الاجتماعي. لذلك كان العلماء في الأرياف يقومون بإعادة الحق إلى نصابه ويفتون الناس فيما جهلوا. فتوريث المرأة كان في بعض الجهات غير معمول به فتدخل العلماء وأنصفوها باسم الدين. وكان تقسيم الأراضي لا يخضع إلا لتقاليد القبيلة فأصبح بتدخل العلماء يخضع لقواعد الشرع. والحروب التي كانت لا تنطفيء لها نار بين أهل القرى والأعراش هدأت بفضل تدخلهم أيضا. فعبارة (إصلاح ذات البين) التي طالما كررها الورتلاني كانت تعني تلك الأمور التي ذكرناها جميعا، وقد كان هو وأمثاله يقومون بها خير قيام (¬1). وكما كان العلماء يفتون ويقضون ويحلون مشاكل العامة كانوا أيضا يتدخلون لإطفاء نار الفتن السياسية الداخلية والخارجية. وقد مرت بنا نماذج على ذلك مثل تدخلهم بين شعبان خوجة باشا والإنكشارية. ومثل تدخل شيخ الإسلام في عدة حوادث بقسنطينة. وكان العلماء أيضا يشاركون في وفود المفاوضات بين الجزائر وجاراتها مثل ما حدث سنة 1037 بالنسبة لتونس وسنة 1064 بالنسبة للمغرب. وقد أشرنا أيضا إلى بعثة محمد القوجيلي إلى إسطانبول سنة 1065 وبعثة ابن العنابي للمغرب وإسطانبول أوائل القرن الثالث عشر. فالعلماء كانوا يقومون بإصلاح ذات البين سواء بين العامة أو الولاة والسلاطين (¬2). ولكثرة النزاع بين المسلمين والنصارى (وخصوصا الإسبان)، ولمكانة اليهود لدى الباشوات والبايات كان العلماء يتجادلون في شأنهم وموقف الدين منهم. فالحرب البحرية والجهاد في سبيل الله خوفا من غارات الإسبان على السواحل وضد وجودهم في وهران قد تعرضنا لها سابقا. كذلك كان ¬

_ (¬1) انظر مثلا ما قاله الورتلاني عن هذا الموضوع في رحلته، 8، 13، 60، 84. (¬2) يجد المرء وصفا دقيقا لإقناع وفد علماء الجزائر السلطان محمد بن الشريف صاحب سجلماسة سنة 1064 بالتوقف على إثارة الفتنة في الجزائر ضد العثمانيين وذلك في (الاستقصا) للناصري 7/ 26.

العلماء يعملون على نشر الإسلام بين المسيحيين الذين وقعوا في أسر البحارة الجزائريين، وقد نجحوا في بعض الأحيان، ذلك أن الأسرى كانوا يوزعون على العائلات الإسلامية انتظارا لفديتهم. ومن هؤلاء الأسرى من كانوا يدخلون في دين الله إما تعجيلا لتحريرهم وإما اقتناعا بمبادئ الإسلام وحسن معاملة المسلمين لهم، وإما طموحا إلى تولي السلطة ونيل المناصب والأجرة. وقد روى بعض هؤلاء الأسرى نماذج من حياتهم هناك ومن محاولة بعض العلماء لإدخالهم في دين الإسلام (¬1). والمعروف أيضا أن كثيرا من بحارة الجزائر، بل ومن الباشوات كانوا من الأعلاج المرتدين عن المسيحية. فكان دور العلماء إذن فعالا في هذه النواحي. كما نجد في المصادر أن بعض اليهود قد اختاروا الإسلام وأطلقوا على أنفسهم أسماء إسلامية. ومع ذلك فإن العلماء كانوا شديدي الحساسية من النصارى واليهود، فالأولون لمنافستهم الدينية والحضارية، أما اليهود فلمنافستهم المادية وحتى السياسية. فكلما ذكر اسم نصراني أو يهودي أضاف إليه العالم المسلم عبارة (لعنه الله) أو (أخزاه الله) ونحو ذلك من عبارات الامتعاض والكراهية. وقد وجدت في إحدى الوثائق أن أحد اليهود قد اشترى عقارا من أحد المسلمين فسجل القاضي ذلك في محضر المحكمة وأضاف أمام اسم اليهودي عبارة (لعنه الله)، وحين أورد ابن سحنون خبر ثورة الفرنسيين وقتلهم للعائلة المالكة هناك دعا عليهم بالخزي وطلب من الله أن يجعل كيدهم في نحرهم. ولم يتفطن، وهو المؤرخ الأديب، أن تلك الثورة كانت لها أبعاد خطيرة لم ينج منها العالم الإسلامي ولا الجزائر. والذي يدرس ويقدر ما فعله اليهود في الاقتصاد الجزائري خلال هذا العهد وتحكمهم في مقاليد السياسة عن ¬

_ (¬1) انظر مثلا القصة الخيالية التي رواها تيلر الأمريكي عن مفتي الجزائر. وكذلك قصة اعتناق جوزيف بيتز الإنكليزي الإسلام. وقصة شارل واكر الأمريكي (Walker) الذي اعتنق الإسلام في عنابة ليفر من الإنكليز. انظر نوا (رحلات) 145. ولذلك كثر في الجزائر (الأعلاج) أو المسلمون الجدد.

طريق الاقتصاد لا تصدمه مواقف العلماء منهم، لأن هؤلاء كانوا يمثلون الطبقة الواعية في المجتمع. وقد كان اليهود في الأخير هم السبب القوي في النزاع الذي حصل بين الجزائر وفرنسا والذي أدى إلى الاحتلال. وقد كان سخط العلماء السياسي ينعكس أحيانا على اليهود. فقد ثبت أن أحد يهود قسنطينة، ويدعى المختاري، كان قد أسلم ثم تجاسر على النبي (صلى الله عليه وسلم) أمام المسلمين. وكان المختاري محميا من الباي ومن حراسه وحاميته لأنه أصبح في جند الباي. ولما أحيلت القضية إلى العلماء انقسموا حولها فبعضهم أفتى بقتل المختاري وبعضهم أفتى بعدم قتله. وكان من أصحاب الرأي الثاني فريق الباي والعلماء المؤيدين له وكذلك الجنود الذين كانوا يهددون بالثورة إذا قتل صاحبهم. ومن جهة أخرى كانت العامة تطالب بقتله. وانعقد المجلس (المفتون والقضاة وغيرهم من العلماء) في الجامع الكبير. وكان الجنود وأنصارهم يؤيدون الشيخ يحيى بن محجوبة الذي كان يقول بعدم قتله، بينما كانت العامة تناصر الشيخ عبد الكريم الفكون (الجد) الذي كان يقول بقتله. ورغم تدخلات أنصار الباي والتهديد فإن حكم المجلس قد صدر بقتله (¬1). ويبدو أن تنفيذ الحكم فيه كان خوفا من ثورة العامة أكثر مما كان خضوعا لإصرار الشيخ الفكون وقرار المجلس. وفي هذا الصدد نذكر أن أحد العلماء الجزائريين بالمغرب قد أسهم في قضية أخرى تتعلق باليهود أيضا وكانت قد أثارت ضجة بين العلماء هناك. فقد استظهر اليهود المغاربة برسم تاريخي يعطيهم حقوقا كانت لهم، في دعواهم، زمن الرسول (صلى الله عليه وسلم) وزمن الخلفاء الراشدين ومن بعدهم. ولكن جواب الشيخ محمد بن عبد القادر الفاسي نفى عنهم تلك الحقوق، بينما وافق عليها البعض. أما محمد بن أحمد القسنطيني فقد صحح وعضد جواب ¬

_ (¬1) انظر القصة في (منشور الهدية) مخطوط. وكانت هذه الحادثة في أوائل العهد العثماني بقسنطينة، لأن الفكون الذي أفتى بقتل المختاري قد توفي سنة 988 وهو جد صاحب (منشور الهداية).

الفاسي بإبطال دعوى اليهود (¬1). وفي النصف الثاني من القرن الثاني عشر أفتى الشيخ محمد الحنفي الجزائري بجواز حرق اليهود والنصارى (¬2) إذا أساؤوا إلى الإسلام. وقد أخبر ابن حمادوش أن أحد اليهود قد تسبب في فرار باي الغرب، وهو ابن المسراتي، إلى الإسبان بوهران بسبب دراهم طالبه بها الباي فأرسل إليه اليهودي من مدينة الجزائر أن فر بنفسك لأن الباشا غاضب عليك (¬3). وكان نزاع العلماء حول قضية من القضايا وتدخل السلطة في الموضوع كثيرا ما كان يؤدي إلى انقسامهم إلى موالين ومعارضين. ولكن الموالاة والمعارضة لا تكون صريحة بل مختفية وراء الموقف الذي يسانده العلماء باسم الدين. وكان الباشوات والبايات يلجأون لتحطيم المعارضة إلى عقد مجلس الشورى وإجراء المناظرة بين الفريقين المتنازعين، ثم يختارون هم بعد ذلك الرأي الذي يناسبهم إذا كان حكم المجلس غير إجماعي، ولذلك تعددت المناظرات بين العلماء، ولكن أغلبها كان في مسائل تافهة. فلا مناظرة حول قضايا الحكم مثلا، ولا حول حكم الشرع في الحرب أو السلم، ولا حول دور الدين في تسيير الدولة ومشاركة الشعب وصرف الميزانية ونحو ذلك، بل كل المناظرات تقريبا كانت حول الأحوال الشخصية، أو حول زندقة فلان واستقامته، ونحو ذلك، فكأن المناظرة في حد ذاتها (ملهاة) يلهو بها العلماء ويحضرها الكاهية (أو عون الباشا) وأحيانا الباشا نفسه. ¬

_ (¬1) الخزانة العامة بالرباط، رقم 2120 مجموع. انظر أيضا عبد الرحمن بن زيدان (إتحاف أعلام الناس) 1/ 339. وفي رحلة ابن حمادوش تفاصيل عن هذا الموضوع نقلا عن أحمد بابا السوداني وغيره. (¬2) سنعرض إلى نص الفتوى في الجزء الثاني. والغالب أن يكون محمد الحنفي هو صاحب ابن حمادوش الذي قال عنه في رحلته انه جاء إلى العاصمة من قسنطينة ودرس عليه بعض العلوم. انظر رحلة ابن حمادوش، مخطوطة. (¬3) رحلة ابن حمادوش، مخطوطة. وكان ابن المسراتي هو خليفة الباي مصطفى بوشلاغم، وكان يتمتع بسمعة كبيرة في وقته، وهو من الكراغلة.

ويطول بنا الحديث لو تعرضنا لذكر المناظرات والموضوعات التي طرحت فيها. ونحسب أنه تكفي الإشارة إلى المناظرة التي دارت بين المفتيين محمد النيار الحنفي وأحمد قدورة المالكي. فقد قيل إنهما اختلفا اختلافا شديدا وصل إلى تبادل الاتهامات. والسبب هو هل إذا اختلف الزوجان وأمرا بالإقامة عند أهل الفضل، هل يجبران على هذه الإقامة أو على تغيير المسكن؟ وبعد أن انعقد المجلس في الجامع الكبير، كما جرت العادة، دعاهم الباشا عنده في قصره بحضور العلماء. وأخيرا قرر الأخذ برأي المفتي الحنفي النيار وعزل المفتي المالكي قدورة (¬1). ولعل المناظرة التي جرت بين المفتي الحنفي عبد القادر الراشدي بقسنطينة وخصومه، والمناظرة الأخرى التي جرت بين محمد الزجاي وخصومه في معسكر تبرهن أيضا عما نقول. فقد اتهم الراشدي بأنه يقول (بالتجسيم) فانعقد المجلس وحكم بكفره وكادوا يقتلونه (¬2). أما الزجاي فقد اتهم بادعاء الاجتهاد وإيثار طريق الأثر ووشى به خصومه إلى الباي فعقد مجلسا حضره الزجاي وخصومه وتناقشوا بحضور الباي والعلماء. وبرهن كل فريق على رأيه، فهو ينقل من الكتاب والسنة، وهم ينقلون عن الشيخ خليل وأمثاله. وتحولت المناظرة إلى مهاترة. وأخيرا قرر الباي صواب الزجاي وكافأه واعتذر له (¬3). ومن هذه المناظرات تلك التي كانت أيضا بين المفتي الحنفي محمد بن العنابي وزميله المالكي، والتي أدت إلى عزلهما معا. غير أن مجال التحرك العقلي لدى العلماء كان محدودا لظروف العصر، من هبوط في مستوى التعليم، وجهل الحكام، وانغلاق باب الاجتهاد، والاعتماد على النقل وحده. ومع ذلك فإننا نجد من وقت لآخر بعض الشذوذ في القاعدة ومحاولات لكسر هذا الحصار الحديدي. فهذا يحيى الشاوي كان كما قيل عنه (كثير الانتقاد لأهل عصره وغيرهم، وإذا اعترض عليه في ¬

_ (¬1) ديفوكس (المجلة الإفريقية) 1866، 281، عن ابن المفتي. (¬2) الحفناوي (تعريف الخلف) 2/ 219. (¬3) (إتمام الوطر)، مخطوط.

ذلك كان يقول إنه بانتقاده مثاب لأن عليه أن يبين الحق) (¬1). وهذا الشيخ علي المرواني، وهو من تلاميذ عمر الوزان، كان يفتي بالشاذ في قسنطينة وكان لا يبالي بقضاة عصره في طرح أحكامهم ونقضها ولو بالشاذ. وكان يقول معتذرا: إذا لم يعمل بالشاذ الآن فمتى، إذ لا حاجة إليه يوم القيامة (¬2)، وهذا الشيخ محمد البوزيدي، وهو من تلاميذ محمد التواتي، يأتي بمذهب غريب حين انتصب للتدريس بجامع القصبة في قسنطينة، وادعى دعوة كبيرة في علم التوحيد فقال: (إن المقلد غير مؤمن وأن العامة مختلف في إيمانها ويقول إن قدرة الله لا تتعلق بتحيز الجوهر. وهذا مذهب سرى في جل أهل المغرب سريان النار في الهشيم) (¬3). وقد سبق أن عرفنا أن علماء المغرب ادعوا حين سمعوا بتصرفات أحمد الفاسي في قسنطينة، أنه (خارجي). فرغم ظروف العصر إذن كان بعض العلماء يتململون ويحاولون أن يجدوا لهم مخرجا مما هم فيه من ضيق وتضييق عقليين. فقد كان ابن حمادوش مثلا يقرأ ما يسميه بكتب النصارى ويعجب بما فيها، ولكنه حذر، مع ذلك، مما يتعلق فيها بالدين والعقائد، وقال عن كتاب قرأه منها، بعد أن سجل إعجابه به، إنه كتاب محشو كفرا تزل فيه الأقدام. وفي هذا النطاق وجدت ما يشبه الثورة من بعض العلماء على الجمود العقلي في عصرهم، وهو العصر الذي شاع فيه التصوف العملي من حضرة ورقص وجذب وذبائح وشعوذة، فلا غرابة أن يثور عالم كعبد الكريم الفكون فيقول متأسفا عما كان يشاهد في مدينة قسنطينة (عقول سخيفة تتوسم في مثل هؤلاء الولاية، وتنسبهم إلى أهل العناية) (¬4). فقد أورد كلام ابن العربي من ¬

_ (¬1) من إجازة أحمد البوني لابنه. والشاوي هو أستاذ البوني. ومخطوط الإجازة في مكتبة زاوية الشيخ علي بن عمر بطولقة. وكان الشاوي يقول ببقاء العلم للمتأخرين وأن بعض الأمور قد عسر فهمها على المتقدمين. وقد أخذ عليه تلميذه هذه الفكرة أيضا كما سنرى. (¬2) الفكون (منشور الهداية)، مخطوط. (¬3) نفس المصدر. (¬4) نفس المصدر. والواقع أن محمد بن عبد الكريم المغيلي قد سبق الفكون في نقد أدعياء التصوف، وذلك في تأليفه المسمى (تنبيه الغافلين عن مكر الملبسين بدعوى =

(أن العلم ليس بكثرة الرواية وإنما هو ما يحضره عند الحاجة إليه في الفتوى من الدراية، وأن الرد للمعلومات إنما حدث عند فساد القلوب بطلب الظهور والتعالي عن الأقران وكثرة الرياء في الأعمال). وعلق الفكون على كلام ابن العربي بأنه (يعبر عن صفة الحال) في قسنطينة وفي غيرها. فلا ترى إلا من يقول قال فلان، قال فلان، أو يذكر نص التأليف بدون تغيير، فإن صادف الحكم الحكم نجا وإلا أصبح كالصيد في الشبكة. ونعى على علماء وقته أنهم كانوا يفعلون ذلك حبا للمدح وصرف قلوب الخاصة والعامة إليه. ولو سئل أحد هؤلاء العلماء (عن وجه الجمع بين المتشابهين أو الفرق بين المسألتين يقول: النص هكذا، ويستظهر بحفظ النصوص، وهل هذا إلا جمود في غاية الجمود؟) (¬1). والواقع أن ثورة الفكون على واقع الحال عندئذ من تكرار النقول عن الأقدمين والاعتماد على النصوص وحدها بدون استخدام للعقل والرأي الشخصي كانت ثورة صائبة ولكنها لم تجد الآذان الصاغية ولا الظروف المواتية، فظلت ثورة مكظومة تغلي في عروق صاحبها. فإذا عرفنا أن مثل هذا التفكير الحر أو الدعوى إلى التفكير الحر قد ظهرت في أوائل القرن الحادي عشر أدركنا أن الفكون كان لذلك لا يقل تحررا عن علماء أوروبا المعاصرين له، ولكن شتان بين البيئتين!. ولم يكن الفكون وحده في الدعوة إلى الاجتهاد واستعمال الدراية، وفي السخرية من المشعوذين وأدعياء الولاية. فبعد قرن من دعوته وجدنا ابن حمادوش يشتغل بالعلوم كالطب والفلك والحساب والهندسة وغيرها ويجانب خط علماء عصره ويقرأ كتبا عربية وأجنبية حديثة وقديمة لا يقرأها ولا يهتم بها معظم فقهاء عصره. ومع ذلك فإن كابوس العصر كان فوق رؤوس الجميع. فابن حمادوش وأمثاله عندئذ (القرن الثاني عشر - 18 م) لم ¬

_ = مقامات العارفين)، وفي رجزه الذي شرحه بنفسه وهو (فتح الوهاب في رد الفكر إلى الصواب). وقد أشرنا في الفصل الأول أيضا إلى انتصار المغيلي للمنطق والعقل في رده على السيوطي. كما سبقه الأخضري بثورته في (القدسية) خلال القرن العاشر. (¬1) نفس المصدر.

يطلعوا على ما كتبه الأوروبيون المعاصرون لهم، ولم يذهبوا إليهم للأخذ منهم، كما أخذوا هم من عرب إسبانيا والمشرق. ولو فعل هو وأمثاله ذلك لتغيرت الأمور في الجزائر لصالح الثقافة الخلاقة المتقدمة (¬1). ونفس الموقف قد وقفه أحمد بن عمار أيضا. ورغم تقيده بأحكام وقواعد الشريعة وروح العصر فإنه نادى بحرية الرأي واستعمال القوة العقلية في الإنسان وعدم التحرج من مخالفة الأوائل وعدم التمسك بالتقليد لذاته ولو كان الحق مع التجديد، (فالحق أحق أن يتع) وقد قال ابن عمار في العلماء الذين كانوا يتبعون السلف لمجرد الاتباع أنهم جامدون منكبون عن الحق (فهل هذا إلا جمود على محض الاتباع ولو مع ضعف الدليل؟ فوا أسفاه على ضعف العارضة وتراهل الدراية!) (¬2). وقبل الاحتلال ببضع سنوات ألف المفتي محمد بن محمود بن العنابي كتابا بعنوان (السعي المحمود في نظام الجنود) طرح فيه قضية التجديد والأخذ من الأوروبيين. وكان في ذلك متأثرا بدون شك بأحداث الثورة الفرنسية وبتطور مصر في عهد محمد علي وبإجراءات السلطان محمود الثاني ضد الإنكشارية وإدخال الإصلاحات على الجيش وغيره. وقد نادى ابن العنابي في جرأة كبيرة بضرورة تقليد الأوروبيين (ويسميهم الكفار) في مبتكراتهم وصنائعهم ولغاتهم وتقنياتهم وأسلحتهم، كما نادى بالتفوق عليهم في العلوم التي تفوقوا فيها لأن ذلك من صميم الدين الصحيح. أما الانغلاق والافتخار بما فعل السلف وتجنب ما ابتدعه الأوروبيون بدعوى أنه عمل ¬

_ (¬1) انظر دراستنا عن ابن حمادوش في كتابنا (أبحاث وآراء في تاريخ الجزائر)، وكذلك فصل العلوم من الجزء الثاني وكتابنا (الطبيب الرحالة). (¬2) انظر (مسألة وقف) وهي مطبوعة ضمن كتاب إسماعيل التميمي التونسي (المنح الإلهية) 5، ط. تونس. وفي إحدى فتاوي أحمد البوني التي سنعرض إليها في الجزء الثاني رفض قول القائل (ما ترك الأول للآخر شيئا) وانتصر لمن يقول إن العلم منحة إلهية وهي غير مقصورة على الأولين، وهذا رأي (تقدمي) إذا صح التعبير وهو يتماشى مع مبدأ حرية الاجتهاد، رغم أننا عرفنا أن البوني كان يجمع بين العلم والتصوف.

النصارى فهو ليس من الدين في شيء، وليس أيضا من الرجولة كما قال، وإنه لا تحصل به سعادة الدنيا ولا سعادة الآخرة (¬1). ولو أن الجزائر أخذت برأي ابن العنابي وسار حسين باشا فيها سيرة محمد علي في مصر وسيرة محمود الثاني في الدولة العثمانية لما جرى ما جرى سنة 1246 (1830)، ولما وقعت الجزائر فريسة للاحتلال الفرنسي قرنا وربعا. وهكذا فإن أمثال هؤلاء العلماء كانوا يدقون ناقوس الخطر ويشيرون إلى الطريق الحق. وأهم رياضة فكرية كان العلماء يقفون فيها وقتهم هي حل مسائل الميراث والمجادلة في جزئيات التوحيد والفقه والإعراب، ولعل أبرز ما كان يجمعهم على الرياضة الفكرية والتسلية هو حل الألغاز. فقد شاعت بينهم وكانوا يتبادلونها ويتراسلون بها ويتحدون بعضهم البعض بها ويقضون في حلها الساعات الطوال. ومما عثرنا عليه من ذلك لغز (هاج الصنبر) الذي دار بين سعيد قدورة وأحمد المقري، وكذلك لغز (السبعة) الذي وضع فيه أحمد البوني تأليفا خاصا، وقد قال ابن حمادوش الذي أورده (فتداولناه بيننا (يعني علماء مدينة الجزائر) حتى بلغ كل عالم وأديب في البلد فلم يتض بكرته ولم نجد علما عند أحد به)، واشترك في محاولة حل هذا اللغز علماء الوقت أمثال بركات بن باديس ويحيى الشاوي وبعض علماء تونس والمغرب أيضا. ومع ذلك لم يهتد أحد منهم لحله الحقيقي (¬2). ومن القضايا التي شغلت حيزا كبيرا من مناقشات وأقلام العلماء قضية ¬

_ (¬1) انظر كتابي (المفتي الجزائري ابن العنابي) ففيه تحليل لكتابه المذكور. (¬2) ذكره ابن حمادوش في رحلته وفيها تفاصيل لذلك. أما لغز (هاج الصنبر) فقد أورده الفكون في (منشور الهداية) ومحمد قدورة في (جليس الزائر وأنيس السائر). وفي رحلة ابن حمادوش أيضا ألغاز كان شيخه محمد بن ميمون يجالسه بها، وقد كان بركات بن باديس من المولعين بالتلغيز حتى أنه ملأ تقييده المسمى (نزع الجلباب) بمجموعة من الألغاز كما سنذكره في الجزء الثاني.

القهوة والدخان، ولم تكن هذه القضية خاصة بعلماء الجزائر وإنما ساهم فيها هؤلاء كغيرهم من علماء المسلمين، فألفوا فيها وتناقشوا حولها وانتصر بعضهم لحليتها وبعضهم لتحريمها، وكان معظمهم ميالا إلى حلية القهوة وتحريم الدخان، وعللوا حلية القهوة تعليلا صوفيا فقالوا انها تنبه وتنشط الجوارح لعبادة الله وتساعد على السهر للقراءة والصلوات ونحوها من أنواع العبادة. ثم إنها في نظرهم لا تسكر ولا يغيب معها العقل، وحذروا مع ذلك من شربها في جماعة التقت على اللهو، والسهر في الملذات والزهو، فشربها عندئذ يصبح حراما. أما الدخان فقد كانوا معه غير متسامحين مهما كانت الظروف. ومع هذا المنع القاطع فالمعروف أن الناس كانوا يشربون القهوة بحضور النساء والمرد، كما يقول الورتلاني ويلعبون الشطرنج ويتناولون الحشيشة ويستمعون إلى الغناء والطرب (¬1). وكان العثمانيون قد جاؤوا بالنرجيلة وشاع استعمال السبسي للدخان ونحوه، وعرف عن علماء مصر أنهم كانوا متساهلين في شرب الدخان بينما كان علماء الجزائر محافظين. وقد كان أرباب السلطة مع العامة لا مع العلماء في هذه القضية (¬2). ومهما كان الأمر فقد كتب في تحريم الدخان أحمد المقري وعبد الكريم الفكون وعبد القادر الراشدي وأحمد البوني، وهم جميعا من كبار العلماء. أما المقري فلم يفرده بتأليف وإنما ذكره ضمن جواب له عن اجتناب الدخان (¬3). وقد سمى الفكون تأليفه في ذلك (محدد السنان في نحور إخوان الدخان) (¬4). أما كتاب الراشدي في نفس الموضوع فلم نطلع عليه ولم ¬

_ (¬1) الورتلاني (الرحلة)، 273. (¬2) جاء في كتاب جوزيف بيتز (حقائق)، 157 أن الترك في الجزائر كانوا يدخنون كثيرا وأنهم كانوا يعرفون أنه مخالف للشرع حتى أنهم يعتبرون التوقف عن التدخين قربة وتوبة إلى الله. (¬3) المكتبة الملكية بالرباط رقم 7579 مجموع. (¬4) العياشي (الرحلة) 2/ 396. وسنتحدث عن (محدد السنان) في الجزء الثاني إن شاء الله.

نعرف أن أحدا قد وصفه. وقد اكتفى الحفناوي بقوله عنه إنه رسالة في تحريم الدخان (¬1). وفي النظم الذي سماه (مبين المسارب) تحدث البوني أيضا عن الدخان والقهوة (¬2). فالسماع (الموسيقى) والدخان والقهوة كانت من الموضوعات التي تناولها العلماء بالرأي حلالا أو حراما، وأخذت حيزا من وقتهم ومعارفهم (¬3)، ولكنهم لم يستطيعوا أن يمنعوها نهائيا، كما لم يستطيعوا منع شرب الخمر المحرم بنص القرآن. ¬

_ (¬1) الحفناوي (تعريف الخلف) 2/ 219. علمت مؤخرا أن عبد الله حمادي قام بنشر هذه الرسالة. (¬2) سنتحدث عنه في الجزء الثاني. (¬3) كان بعض العلماء مهرة في الموسيقى أيضا. انظر فصل العلوم والفنون من الجزء الثاني.

الفصل السادس المرابطون والطرق الصوفية

الفصل السادس المرابطون والطرق الصوفية

حركة التصوف عشية العهد العثماني

حركة التصوف عشية العهد العثماني لاحظنا أن حركة التصوف في العهد العثماني تعتبر امتدادا للحركة التي بدأت قبلها بعدة قرون وأن معظم كبار المتصوفين ومؤسسي الطرق الصوفية في التاريخ الإسلامي قد ظهروا قبل القرن العاشر (16 م). فالأسماء اللامعة في عالم التصوف مثل الغزالي والحلاج وابن عربي وابن الفارض وجلال الدين الرومي والحاج بكداش وعبد القادر الجيلاني وغيرهم قد ظهروا جميعا قبل التاريخ المذكور. وعلى مستوى المغرب العربي ظهر أيضا متصوفون لامعون قبل هذا التاريخ، ونذكر منهم أبا الحسن الشاذلي وابن مشيش وأبا مدين وأحمد زروق وغيرهم. فإذا اقتصرنا على الجزائر وجدنا عددا من المرابطين وأهل الزهد ورجال التصوف قد كثروا كثرة تلفت النظر قبل مجيء العثمانيين أيضا. فعبد الرحمن الثعالبي ومحمد الهواري وإبراهيم التازي وأحمد بن عبد الله ومحمد بن يوسف السنوسي كانوا من ألمع أولئك الرجال. وهناك آاخرون عاصروا بداية العهد العثماني ولكنهم قد تكونوا قبله مثل أحمد بن يوسف الملياني ومحمد أفغول ومحمد بن شعاعة ومحمد التواتي البجائي. فالحركة الصوفية إذن، سواء كانت على مستوى العالم الإسلامي أو على مستوى المغرب العربي قد ازدهرت قبل قدوم العثمانيين إلى الجزائر. كما لاحظنا من قبل أن الترك كانوا في تكوينهم الديني والنفسي والحربي من أتباع الطرق الصوفية، فالطريقة البكداشية كانت منذ ظهورهم تقودهم وتؤثر فيهم وتحميهم وتدفع بهم إلى الجهاد والمغانم وتبارك أعمالهم، فكانوا يدينون لرجالها بالولاء ويتبركون بهم وينظرون إليهم نظرة

المريد لشيخه والسيد لسيده. ثم تعددت الطرق الصوفية وتأثيراتها على الترك فانتشرت بينهم أيضا، كما عرفنا، الطريقة النقشبندية والقادرية والمولوية ومغيرها. كما انتشرت في الأقاليم العثمانية طرق أصلية أو فرعية، ولا سيما تلك التي ظهرت في بغداد ومصر وسورية والمغرب العربي، وسنتحدث عن الطرق الصوفية التي ظهرت خصوصا في الجزائر خلال هذا العهد. وقد كان الدين هو المبرر الأول لظهور العثمانيين في المشرق والمغرب. وإذا كان تاريخهم في المشرق لا يعنينا هنا فإن تاريخهم في المغرب كان أساسه الدين، كما عرفنا. فلولا الحروب الصليبية التي شنتها أوروبا الغربية بقيادة إسبانيا ضد الجزائر (والمغرب العربي عموما - وكذلك الأندلس) لما كان هناك مبرر لتدخل آل عثمان. فقد كانوا هنا، كما كانوا في آسيا الصغرى قرونا من قبل، مدفوعين برغبة الجهاد والحماس الديني للدفاع عن حدود الإسلام الغربية، وكانوا بالطبع يبحثون لهم عن حلفاء ومؤيدين، فوجدوهم في رجال الدين، وخصوصا المرابطين. وهناك مبررات كثيرة لهذا التحالف أيضا. ذلك أن الظروف السياسية والاقتصادية والدينية كانت تستوجب ذلك. أمام الضعف السياسي للدولتين الزيانية والحفصية لم يبق أمام المرابطين سوى أن يعتمدوا على أنفسهم في الدفاع عن الأراضي الإسلامية التي تعود إليهم، لذلك كانوا يتولون القيادة بأنفسهم ضد العدو، أو يوجهونها روحيا وذلك بإصدار الأوامر إلى أهل المدن الساحلية ونحوها للدفاع عن أنفسهم. وقد رأينا ذلك من موقف عبد الرحمن الثعالبي حين دعا أهل مدينة الجزائر وما حولها للجهاد وتوفير أدوات الحرب واتخاذ عدة النصر، وكذلك حين راسل أهل بجاية يحثهم على الاستعداد للحرب ومقاتلة الأعداء ويحذرهم من مغبة التهاون في أمر الجهاد (¬1). وجاء في رحلة بيري رايس العثماني أن الشيخ محمد التواتي كان (يحمي) مدينة بجاية من الإسبان وأن ¬

_ (¬1) انظر دراستي لرسالة الثعالبي في الجهاد في كتابي (أبحاث وآراء في تاريخ الجزائر).

زاويته كانت ملجأ للمجاهدين وغزاة البحر، وأنه حين توفي الشيخ سقطت المدينة في أيدي العدو، وفر منها الأمير الحفصي (¬1). ومن الحكايات التي تروى عن احتلال وهران أن الشيخ محمد الهواري قد نقم على أهلها فرفع حمايته عنها ودعا عليها بالسقوط في أيدي الكفار، فكان الحال كذلك. والمؤكد أن بعض المرابطين والعلماء كانوا غير راضين عن تطور الأوضاع في تلمسان أواخر القرن التاسع وبداية العاشر فانضم (المعارضون) منهم إلى العثمانيين أمثال أحمد بن يوسف الملياني وابن آفغول ومحمد بن شعاعه. بينما توجه آخرون منهم إلى المغرب، ومنهم من ظل ناقما وهو في مكانه مثل الحاج محمد المناوي (¬2). فالأرضية السياسية إذن كانت ممهدة لظهور المرابطين وتوليهم مسؤولية الدفاع عن الإسلام بأنفسهم والتحالف مع قوى إسلامية جديدة. وكان لتعاليم أبي الحسن الشاذلي أثر كبير في الجزائر، ونكاد نجزم بأن معظم الطرق الصوفية التي ظهرت بعد القرن الثامن الهجري (14 م) تتصل بوجه أو بآخر بتعاليم الطريقة الشاذلية. وقد أحصى بعضهم عدد الطرق الصوفية في المغرب العربي أواخر القرن الثالث عشر (19 م) فوجد ثلاث عشرة طريقة (من مجمع ست عشرة) وكلها شاذلية الأصل. وكان أبو الحسن الشاذلي قد تأثر بتعاليم عبد السلام بن مشيش، تلميذ أبي مدين. ورغم ذهاب الشاذلي إلى مصر ووفاته بها فإن تعاليمه قد انتشرت بعده في المغرب العربي انتشارا كبيرا. ويمكننا أن نعد الشيخ واضح ومحمد الهواري وإبراهيم التازي ¬

_ (¬1) انظر (الكتاب البحري) كما ترجم منه مانتران في (مجلة الغرب الإسلامي) 15 - 16، 1973، 159. ونفس الكتاب قد ترجم منه بالإنكليزية ما يتعلق بالجزائر وتونس السيد سوشيك في مجلة (الأرشيف العثماني)، 1973، (1976). والظاهر أن محمد التواتي المذكور هو الذي حرض أهل وهران أيضا على محاربة الإسبان والاستعانة عليهم بأهل الأندلس في خبرتهم في الحرب. انظر قصيدته في ذلك في دراستنا لكتاب (كعبة الطائفين في كتابنا (أبحاث وآراء في تاريخ الجزائر). (¬2) ابن مريم (البستان)، 266.

ومحمد بن يوسف السنوسي وعبد الرحمن الثعالبي وأحمد الملياني وغيرهم من أتباع الطريقة الشاذلية. وجميعهم قد أثروا على معاصريهم وتركوا تلاميذ وأتباعا. وأسس بعضهم زوايا ظلت إلى اليوم، وألفوا كتبا في أصول هذه الطريقة وفي تراجم رجالها. ويمكننا القول إن الجزائر قبل العثمانيين كانت من الناحية الصوفية تحت نفوذ الطريقتين الشاذلية والقادرية. وكان بعض هؤلاء المرابطين (السابقين للعهد العثماني) طبقات، فمنهم الراسخون ومنهم المتوسطون في العلم، ومنهم الخاملون الذين لا نعرف عنهم إلا الأسماء. ومن القسم الأول عبد الرحمن الثعالبي ومحمد بن يوسف السنوسي اللذان ألفا كتبا غزيرة الفائدة وكانا إلى الفقهاء أقرب منهم إلى المتصوفة وكانا واسعي الاطلاع على أحوال العصر، وكلاهما قد تصدر للتدريس وترك تلاميذ (¬1). ومن القسم الثاني محمد الهواري وأحمد الملياني وإبراهيم التازي، فقد عرف عن الأول أنه نظم عددا من المسائل الفقهية وغيرها، وكان كزملائه واسع الاطلاع أخذ العلم في مصر والحرمين والقدس ودمشق، وعاد لنشره في بلاده، واتخذ زاويته بوهران مقرا لنشاطه (¬2). وكان تلميذه إبراهيم التازي شاعرا أيضا وهو الذي ورث عن شيخه العلم وإدارة الزاوية (¬3). كما ترك أحمد بن يوسف الملياني بعض التآليف الصوفية، وسنتحدث عنها. أما القسم الثالث فقد اشتهر بالاسم فقط أمقال محمد واضح دفين الشلف الذي خصه موسى بن عيسى المازوني بتعريف هام في كتابه عن صلحاء الشلف. وكذلك محمد التواتي دفين بجاية الذي ذكرته المصادر العثمانية والجزائرية. وأمثال هؤلاء كثير. والذي يرجع إلى الأدب الشعبي ¬

_ (¬1) انظر عن الثعالبي والسنوسي الفصل الأول من هذا الجزء. (¬2) توجد عنه دراسة ببيليوغرافية كتبها السيد داستونق في مقالين طويلين، انظر (المجلة الآسيوية) 1906، 242، 835. (¬3) تحدث الرحالة المصري عبد الباسط بن خليل عن التازي وزاويته بوهران، سنة 871.

وإلى الكتب المؤلفة في العهد العثماني مثل (البستان) و (منشور الهداية) ورحلة الورتلاني وغيرها يعثر على عدد من هؤلاء المرابطين المغمورين الذين لا يعرف الناس عنهم أكثر من أسمائهم وبعض الأساطير حولهم. ومهما يكن من أمر فإن ذلك يدل على خصوبة الحياة الصوفية في الجزائر قبل العهد العثماني. ومن جهة أخرى فإن التصوف قد انتشر في المدن قبل الأرياف. ذلك أن معظم المتصوفين قد ظهروا في المدن الكبيرة مثل بجاية وتلمسان ووهران وقسنطينة والجزائر. وكان ذلك ظاهرة عامة في الأندلس وتونس وفاس ومصر أيضا. وكان أبو الحسن الشاذلي نفسه قد عاش في تونس ثم في القاهرة، وكانت الأولى عاصمة للحفصيين والثانية عاصمة للأيوبيين (¬1). وكان أبو مدين قبله أندلسيا ثم بجائيا ومات في تلمسان، ونفس الشيء يقال عن عبد الرحمن الثعالبي الذي تلقى العلم في بجاية وتونس وغيرهما من المدن ثم استقر به الحال في مدينة الجزائر وهكذا كانت الزوايا أيضا مدنية كما كان أتباعهم من أهل المدن. غير أن هذه الظاهرة لم تظل كذلك، فمع ضعف الإدارة المركزية وتعفن الأحوال السياسية وكثرة الظلم والفساد انتشرت حركة التصوف إلى داخل البلاد وأسس أتباع أولئك المرابطين زوايا لهم في الأرياف أصبحت هي نفسها ملتقى لنشر العلم وبث الأخلاق الفاضلة والتحريض على الجهاد ضد العدو. فالزوايا من هذه الوجهة قد تولت عبئا كبيرا كان من قبل من اختصاص الدولة (¬2). ¬

_ (¬1) أهم مصدر عن حياة أبي الحسن الشاذلي هو (درة الأسرار وتحفة الأبرار) لمحمد بن أبي القاسم المعروف بابن الصباغ. وقد تابع تعاليم الشاذلي بعده في مصر الشيخ أحمد المرسي. انظر أيضا دراسة السيد أيلمر دوقلاص عن الشاذلي في مجلة (العالم الإسلامي) - بالإنكليزية - 1948. عن الشاذلية في العهد الفرنسي انظر الأجزاء التالية. (¬2) عن الرباطات ودورها قبل العهد العثماني انظر دراسة جورج مارسيه في (مجموع رينيه باسيه) 2، 1973، 395 - 430. كما أن ابن مرزوق في كتابه (المسند الحسن) قد تحدث عن الرباطات.

موقف العثمانيين من رجال التصوف

موقف العثمانيين من رجال التصوف رحب معظم المرابطين بالعثمانيين للأسباب التي ذكرناها، كما أن هؤلاء قد شعروا بأن أقرب الناس إليهم هم رجال الدين والتصوف (¬1). ومنذ بداية العهد لاحظنا أن العثمانيين كانوا يطمئنون إلى المرابطين أكثر من غيرهم فليجأون إليهم ويتبركون بهم ويطلعونهم على خططهم ونحو ذلك مما يدل على الثقة المتبادلة بين الطرفين. فهذا بيري رايس العثماني يذكر أنه هو وعمه قائد الغزوة، كمال رايس نزلا سنة 901 هـ بمدينة بجاية ولجآ إلى زاوية الشيخ محمد التواتي الذي كان يبلغ من العمر مائة وعشرين سنة وأن الشيخ قد أعطى كلا منهما رمزا يشير إلى مستقبله فأعطى كمال رايس عودا صلبا علامة على قرب تخليه عن مهمته وأعطى بيري رايس عودا طريا علامة على نضارة مستقبله. وظلا شتائين في بجاية حبا في الشيخ التواتي بينما كانا يذهبان في الصيف للغزو والجهاد، وأنهما كانا يحسان بالأمن في بجاية لحماية الشيخ لها. وهناك روايات كثيرة عن علاقة أحمد بن يوسف الملياني بالعثمانيين والزيانيين. فقد كان هؤلاء يخشون دعوة الملياني بعد أن اشتهر أمره والتف الناس حوله كقطب من أقطاب الطريقة الشاذلية فحاولوا الحد من نشاطه ووضعه تحت نفوذهم، فدعا عليهم دعاء يذكرنا بدعاء محمد الهواري على أهل وهران، وقد حاول الزيانيون حرق الملياني، ولكن النار لم تلتهمه كما يذكر ذلك مترجموه الذين يعتبرون برودة النار من كراماته، ثم سجنوه وبعد مكوثه في السجن فترة خرج منه ودعا عليهم من جديد بتخريب ملكهم. وفي ¬

_ (¬1) يذهب بعض المرابطين الجزائريين إلى أن أصولهم أندلسية. ولا سيما مرابطو بلاد زواوة مثل عائلة ابن علي الشريف واليماني الصهاريدي، أو أنهم قدموا من الساقية الحمراء مثل بعض عائلات دلس وشرشال وبني مناصر وجرجرة وأولاد بلقاضي بكوكو. انظر (المجلة الآسيوية)، 1859، 265.

هذه الأثناء التي اشتد فيها الخلاف بين الزيانيين والملياني كان العثمانيون يخططون للاستيلاء على تلمسان ويبحثون لهم عن حليف ونصير، وهل هناك أفضل من الملياني وحزبه؟ وتذكر الروايات أيضا أن عروج قد زار الملياني واتفق معه سرا على عدة أمور منها إعلان الملياني وأتباعه تأييدهم للعثمانيين بينما تعهد عروج بعدم التعرض للملياني ولنسله ولمن تعلق به. وسواء كان هذا اللقاء شخصيا، كما تذهب إحدى الروايات، أو بواسطة، كما تذهب رواية أخرى، فإن تحالف العثمانيين مع حزب الملياني في تلك الظروف يعتبر أمرا مؤكدا تقريبا. وقد أثمر هذا التحالف والتزم به الطرفان طيلة العهد العثماني. فقد ظل الملياني وأتباعه مؤيدين للعثمانيين كما حافظ هؤلاء على التزامهم له ولطريقته وأولاده وأتباعه. وتذكر المصادر أن خير الدين باشا قد أرسل من الجزائر، بعد نجاح الخطط العثمانية، هدايا ثمينة إلى أحمد بن يوسف فبارك الشيخ عمله، ثم جاء ابنه (ابن أحمد الملياني) وهو الشيخ ابن مرزوقة إلى الجزائر فأهداه خير الدين أيضا هدايا تليق بمقامه واعترف به خليفة لوالده في رئاسة الطريقة الشاذلية ونشر دعوتها. وظلت هذه العلاقة بين العثمانيين والطريقة اليوسفية على أحسن ما يرام إلى آخر العهد المدروس. فقد قيل إن حسين باشا (آخر الباشوات) كان متزوجا من إحدى حفيدات الملياني (¬1). ومن أصدقاء الملياني الذين كانوا أيضا على علاقة طيبة بالعثمانيين الشيخ محمد بن عبد الجبار المسعودي الفجيجي التلمساني. فقد كان شاعرا صوفيا وصاحب كرامات، على ما يذكر مترجموه، وكانت له زاوية خاصة أنشأها في بلاده (حدوش) كما أنشأ مسجدا وبيتا للفقراء، واشتهر أمره حتى صار قطبا صوفيا (¬2). وكان من أتباع الملياني وتلاميذه أيضا محمد بن شعاعة. وكان مثله متعاونا مع الأتراك، وكانوا هم بدورهم يعظمونه ويعفونه من الضرائب ¬

_ (¬1) انظر بودان (المجلة الإفريقية) 1925. (¬2) زار محمد الفجيجي صديقه الملياني أثناء محنته مع بني زيان. وقد توفي الفجيجي سنة 950. انظر (البستان)، 287.

ويعطونه من جزية أهل الذمة، كما أوقفوا عليه الأوقاف. وكان مثل شيخه متهما بالإلحاد من بعض فقهاء عصره (¬1). ويبدو أن العثمانيين قد اتبعوا مع الشيخ محمد بن المغوفل نفس الطريقة التي اتبعوها مع الشيخ الملياني، وكان ابن المغوفل من مشاهير صلحاء الشلف في أوائل القرن العاشر حتى أعطيت له مشيخة الشلف. وأثناء إقامته للتعبد والزهد في بومليل ثم ندايلة جاءه من حدثه عن خطط العثمانيين في الاستيلاء على تلمسان وطلبوا منه التوجه معهم إلى هناك فرفض ولكنه أرسل معهم ولديه علامة على الرضى والتأييد. ويحتاج سياق هذه القصة إلى شيء من التفعيل، فمترجمو ابن المغوفل يذكرونها للدلالة على كرامة الشيخ لأن (سلاطين العجم ..) في ظاهرهم مجاهدين وفي سرهم لبلاد الإسلام (يعني تلمسان) قاصدين (¬2)) فاستشاروه في ذلك فكاشفهم في الحين بالحقيقة، فاعترفوا له وطلبوا منه المشي معهم فأبى. ولا يذكر هذا المصدر أن إباء الشيخ كان معارضة منهم للهجوم على تلمسان (بلاد الإسلام). وبذلك يكون ذهاب ولديه مع العثمانيين كرهائن وليس كمباركين لحركتهم، أو أن إباءه كان اعتذارا منه عن المشاركة الشخصية مع تأييده للهجوم، مكتفيا بإرسال ابنيه رمزا فقط. ومهما كان الأمر فإن القصة في حد ذاتها تدل على مكانة المرابطين في بداية العهد العثماني وعلى موقف العثمانيين من كبارهم. وقد سقنا من قبل قصة ضرب العثمانيين في قسنطينة عائلة ابن عبد المؤمن بعائلة الفكون (¬3). وشاع في الجزائر التحالف بين العثمانيين والمرابطين حتى عرف الناس أن هناك سياسة عامة متبعة، فكثرت الأضرحة والقباب ودخلت الطرق ¬

_ (¬1) عن محمد بن شعاعة انظر بودان (نشرة جمعية وهران)، 1930، 77. (¬2) من تعليق على نسخة من أرجوزة ابن المغوفل التي سنعرض إليها في الجزء الثاني، مخطوطة بالمكتبة الوطنية بالجزائر. (¬3) تذهب الرواية إلى أن عبد المؤمن قد خدعه العثمانيون بإقامة ضيفة له في قسنطينة ثم سموه وسلخوا جلده وملأوه بالتبن وأرسلوا به إلى باشا الجزائر.

الصوفية من المشرق ومن المغرب، وجاء الدعاة الحقيقيون والأدعياء المزيفون ينشرون أفكارهم وأورادهم بين الناس. وأصبحنا لا نكاد نجد مدينة أو قرية بدون العديد من الزوايا والأضرحة والمشاهد. وعند كل بناية أناس يتبركون ويدعون ويزورون ويتقربون، يقيمون الحضرة ويقدمون الهدايا ويذبحون الذبائح، آتين من كل فج. وأصبح المشاهد المحايد لا يعرف وهو أمام ذلك هل يشاهد مآدب أو مآتم، وهل العابدون يعبدون الله أو يعبدون الشيوخ والمرابطين. وهكذا غرقت الجزائر في هذا العهد في التصوف والدروشة فأصبح العلماء (الفقهاء) يتباهون بأخذ الطرق والأذكار والخرقة والسبحة والمصافحة والأسودين (التمر والماء)، وأصبح الحكام يظهرون كل الاحترام والتبجيل لأهل التصوف الحقيقي والكاذب معا. أما العامة فلا تسأل عن أحوالها وعقائدها ومستواها الخلقي والاجتماعي. لكن بعض رجال الدين قد عارضوا بشدة تسلط العثمانيين بينما وقف بعضهم وسطا تارة يؤيدونهم كمسلمين مجاهدين، ما داموا عادلين، وتارة ينصحونهم عندما ينحرفون أو يسيئون الحكم. ومن الصنف الأول أحمد بن ملوكة التلمساني. فقد قيل إنه اطلع على ما ارتكب عروج عند احتلال تلمسان من فظائع. وبعد خروج عروج إلى جبال بني سناسن خاف أهل تلمسان من عودته والانتقام منهم من جديد فالتجأوا إلى الشيخ أحمد بن ملوكة واشتكوا له ما وقع بهم وما يخشون وقوعه، فانقبض الشيخ واشتد غضبه حتى ضرب الأرض بيده وهو يدعو: (اللهم لا تعده إلى تلمسان! إن اتكالنا عليك). وتذهب الرواية إلى أن الله قد استجاب إلى دعاء الشيخ، لأن عروج قد مات مقتولا (¬1). وقد أشرنا من قبل إلى سخط الشيخ ابن للو على ¬

_ (¬1) ابن عسكر (دوحة الناشر)، 232، ويفهم من كلام ابن سليمان في (كعبة الطائفين) أن معظم المرابطين في تلمسان ونواحيها كانوا ضد الأتراك. ومنهم شيخه موسى اللالتي ناظم قصيدة حزب العارفين، والشيخ عبد الرحمن اليعقوبي دفين زاويته بندرومة، فقد أخبر عنه (أي اليعقويى) أنه زار أبا مدين بتلمسان وسأله (إبدال دولة الأتراك من آل يافث لكثرة جورهم) وأن أبا مدين كلمه من قبره قائلا (إن قبلتها يا =

القائد حفيظ حاكم تلمسان العثماني وخروج الشيخ من تلمسان تماما. وقد ضيق العثمانيون على الشيخ أحمد التجاني مؤسس الطريقة التجانية، فخرج من الجزائر بأهله وبعض أتباعه وقصد المغرب مهاجرا حيث توفي. وقد أعلم السلطان أنه هرب من جور (الترك وظلمهم) (¬1). ومن الصنف الثاني (أصحاب الموقف الوسط) عدد من المرابطين الذين لم يؤيدوا العثمانيين كل التأييد، ولم ينقموا عليهم كل النقمة. ومن هؤلاء الشيخ العبدلي، الذي ذكرته المصادر بأنه كان يعظ الحكام العثمانيين عندما يرى منهم ما لا يليق. فقد ذكر صاحب كتاب (كعبة الطائفين) أن سيدي العبدلي كان رجلا صالحا وأنه كان ينجد المسلمين وأهل الذمة عند ارتكاب العثمانيين في تلمسان مواقف تعسفية، وأنه كان يذهب إلى القائد العثماني محمد بن سوري في مقره يعظه ويطلب منه مطالب في صالح أهل البلاد. وتذكر بعض المصادر أن باي قسنطينة حسن بوحنك كان لا يعتقد في الأولياء وأنه كان عنيدا متمردا فلقيه المرابط الشيخ الشليحي فوقعت له معه كرامة مذكورة في مكانها، فما كان من الباي إلا أن تراجع عن موقفه من الأولياء والصالحين وأعطى للمرابط الشليحي قصرا في المكان المعروف باسم (الأربعين شريف) الذي أصبح يعرف فيما بعد باسم (دار الشليحي). كما أنشأ له الباي المذكور زاوية في أولاد عبد النور وأعفاها من الضرائب (¬2). وأمثال الباي حسن بوحنك كثير في العهد العثماني. ذلك أن العقيدة في رجال الدين، خصوصا المرابطين، كانت قوية عند العثمانيين كما أسلفنا. فالبحارة منهم كانوا يذهبون، عند خروجهم للغزو، إلى الأولياء والصالحين لنيل بركاتهم. وكانوا يطلقون من البحر عند ذهابهم وإيابهم طلقات مدفعية ¬

_ = عبد الرحمن نعطها لك، فأبى) فقال له أبو مدين: (اصبر، في هذا الوقت لم نجد من يصلح لها ويتكفل بها، وسيأتي الله بالفرج). 1/ 285. (¬1) الناصري (الاستقصا) 8/ 105، وكان خروج التجاني من الجزائر إلى المغرب نهائيا سنة 1211. (¬2) أحمد المبارك (تاريخ حاضرة قسنطينة).

معينة احتراما لهم. وإذا هرب منهم أحد الجناة إلى قبة أو ضريح ولي فإن اللاحقين به يتوقفون عند ذلك ولا يتابعونه. وهناك كرامات وعقوبات تروى ضد من خالف هذا التقليد. من ذلك ما روى عن كرامة محمد الهواري ضد مصطفى بوشلاغم باي وهران بعد فتحها الأول، الذي أمر أحد جنوده بإلقاء القبض على شخص لجأ إلى قبة الهواري فانتفخت بطن الجندي، وعاد الإسبان إلى وهران في عهد بوشلاغم أيضا (¬1). ومن الأحداث التاريخية المعروفة أن الباشا عطشى مصطفى قد هرب، عندما شعر بالخطر، إلى ضريح المرابط ابن علي مبارك بالقليعة لينجو بحياته من مطارديه، ولكن أعداءه عرفوا هدفه فأغلقوا باب الضريح في وجهه إلى أن وصل المطاردون له وقتلوه خنقا. وقد ذهب أحد كبار العثمانيين إلى أحد المرابطين وشاوره في أمر الاستيلاء على السلطة في الجزائر فاقترح عليه أن يتصدق بخمسين دولارا وأن يذبح أربع شياه ويوزعها على الفقراء ثم يتوجه إلى مدينة الجزائر (وكان عندئذ خارجها) ووعده بالفوز في مهماته. فأخذ هذا المسؤول، بعد أن فعل ما أوصاه به المراد، برنس المرابط معه معتقدا أنه سيحميه من كل شر. ومع ذلك فإنه حين وصل قصر الباشا ألقي عليه القبض وأعدم (¬2). لذلك كان العثمانيون يتقربون إلى المرابطين بشتى الوسائل كبناء المشاهد والزوايا والوقف عليها. وقد عرف عن الباي محمد الكبير أنه اعتنى ببناء مشهد الولي محمد بن عودة والولي أحمد بن يوسف (¬3). وله غير ذلك من الآثار الدينية التي مرت بنا. وهناك عدد من الباشوات الذين كانوا ¬

_ (¬1) جاء في رحلة ابن زرفة أن المسلمين كانوا يعرفون أنه لولا دعوة الهواري لما أخذ الاسبان وهران، ولذلك كانوا عند الفتح الثاني يقرأون مدة شهر لسيدي الهواري ويطلبون منه الرأفة. انظر (الرحلة القمرية) في هوداس، (المجموعة الشرقية)، الجزائر، 1905، 101. (¬2) جوزف بيتز (حقائق عن الدين والعادات عند المسلمين)، انكلترا، 1704، 154. (¬3) ابن سحنون (الثغر الجماني)، مخطوط، 12.

يسلكون سياسة التقرب من المرابطين. وقد أشرنا إلى مواقف يوسف باشا وحسين خوجة الشريف ومحمد بكداش. وكان بايات قسنطينة يعفون عددا من الزوايا والأضرحة من دفع الضرائب. ومنها زاوية عبد الرحمن الأخضري في بنطيوس. كما تنص الوثائق على ضرورة احترام الناس لعائلته ونسله. فقد وجد أحد الباحثين ما يؤكد ذلك في وثائق كتبت بعد وفاة الأخضري بمائة وأربع عشرة سنة، وجميعها ممهورة بخواتم بايات قسنطينة (¬1). كما وجد باحث آخر وثائق تتعلق بمنح حقوق من الباشوات إلى أصحاب زاوية بني بومسعود وبني مقران في الجزائر الشرقية، سنة 1093 وسنة 1112، ووثائق أخرى تعفي عائلة سيدي عيسى بن سيدي مؤمن ومرابطي أولاد سيدي علي بن محمد الشريف من الضرائب (¬2). وقد عرف عن العثمانيين أيضا أنهم كانوا يكثرون من الهدايا والعطايا لرجال الدين عامة، وخصوصا المرابطين، إرضاء لهم وتقربا منهم. وكان بعض المرابطين يطلبون الهدية طلبا. وفي كتاب (منشور الهداية) للفكون نماذج كثيرة على طلب المرابطين العطايا والهدايا من المسؤولين وعلى تورط أدعياء الولاية في الفساد والتحلل نتيجة تحالفهم مع الحكام الظلمة. وقد أشار الورتلاني أيضا إلى عدد من هذه العلاقات. وكان رجال الدولة أحيانا يشترون صمت هؤلاء الأدعياء بالتغاضي عن أعمالهم ولو كانت مضرة بالأخلاق العامة وحتى بالدين. وكان بعض الباشوات يمنحون في مناسبات ¬

_ (¬1) لوسياني - ترجمة (السلم المرونق) للأخضري، 15. وقد أشار المترجم إلى وجود حوالي سبع وثائق في نفس الموضوع، آخرها مكتوبة سنة 1246 (1830) وعليها خاتم الحاج أحمد، باي قسنطينة. انظر أيضا (العقد الجوهري) لابن داود، مخطوط. وقد ذكر علي الشابي أن لديه وثيقة تثبت إعفاء بايات قسنطينة أيضا لأولاد الراعي الشابيين نواحي عنابة، من الضرائب أيضا. انظر (المجلة التاريخية المغربية) ينار 1979، 77 هامش. (¬2) فيرو (المجلة الإفريقية)، 1868، 348 وما بعدها، وكذلك نفس المصدر، سنة 1866، 195. انظر أيضا فيدرمان (المجلة الإفريقية)، 1865، 285 بالنسبة لإعفاء بايات التيطري الأشراف والمرابطين هناك من دفع الضرائب أيضا.

معينة جزءا من جزية أهل الذمة إلى الأشراف والعلماء والمرابطين (¬1). وكان بعض المرابطين والدراويش بدورهم يرشون الولاة ونحوهم ليسكتوا عن ابتزازهم لأموال الناس والتعدي على الحرمات والأعراض. فقد روى أن المرابط قاسم بن أم هانئ كان له رعايا وأتباع كثيرون في قسنطينة ونواحيها وكان له (فقراء يرقصون ويشطحون ولعابهم يسيل، وربما يتضاربون). وقد قيل عنه إنه أنكر التأثير لله وادعى أنه هو الذي يملك التصرف. وكان أصحابه يدفعون الرشى إلى الحكام (¬2). وكان الشيخ طراد في عنابة صاحب طريقة ولما توفي تولاها ابنه ودخل في خدمة الأمراء وصار يعطيهم الجبايا والخراج للاستعانة بهم على الفريق الذي يعارضه (¬3). ومن جهة أخرى كان الشيخ أحمد بوعكاز قد انتصب الاتخاذ الطريقة والشيخوخة وإعطاء العهد وإقامة الحضرة وقد جاءته الناس بالجبايا من شرق قسنطينة وغربها من إبل وشاه وخيل وبقر حتى صار أهل قسنطينة يقصدونه في ركب، نساء ورجالا، حاملين إليه ما استطاعوا من الرغيف إلى الكساء. وكان بوعكاز يدعي أنه يولي الخطط المخزنية لأرباب الدولة أو ينتزعها منهم. فكان أهل هذه الخطط يعطونه لكي يوليهم المناصب كقائد جيش قسنطينة وغيره. (وهذه عادته وعادة أمثاله) فهو وأمثاله كانوا يقولون أرسلني الأولياء لأحفظ المكان أو أنا شاوش الصالحين (¬4). وهكذا يظهر أن العلاقة كانت وطيدة بين المسؤولين العثمانيين وبعض المرابطين والدراويش. وكل طرف كان يستفيد من الآخر. ولا شك أن هذا الصنف من المرابطين لا يمثل المتصوفين الحقيقيين. ذلك أن من سمات المتصوف والزاهد والمرابط الحقيقي الابتعاد عن الدنيا ¬

_ (¬1) ديفوكس (التشريفات)، 39, 51. (¬2) الفكون (منشور الهداية)، مخطوط. (¬3) نفس المصدر. والغالب أن الشيخ طراد كان من أتباع الطريقة الشابية. (¬4) نفس المصدر.

حالة التصوف

ومجانبة أهل الحكم واتباع قواعد الدين، كما سنعرف بعد قليل. ولكن كثرة هذا الصنف المنحرف خلال العهد العثماني وسكوت أرباب السلطة عليه وتبادل الرشى والهدايا بين الطرفين تدل على المرض الذي أصاب المجتمع الجزائري آنذاك، دينيا وسياسا وأخلاقيا. فهذا الصنف من أدعياء التصوف كان يستعمل جميع الوسائل لاستغلال العامة ونشر الجهل والخرافة بينها. حالة التصوف منذ أواخر القرن التاسع (15 م) حث محمد السنوسي على العناية بالأولياء والصلحاء المعاصرين، بدل الاهتمام بالغابرين منهم. وقد نقل عنه أنه قال (إن النفوس في هذه الأزمنة المتأخرة قد يمنعها من الاجتهاد في العمل الصالح ورياضة النفس عنها أن الولاية قد طوي بساطها فترى أن الاجتهاد لا فائدة فيه) (¬1). وبوحي من هذا الرأي اندفع تلاميذ السنوسي ابتداء من القرن العاشر يؤرخون للمرابطين والأولياء والصلحاء الغابرين والمعاصرين على حد سواء. ثم كثر الاعتناء بالمعاصرين على الخصوص. وبذلك ظهرت تآليف ابن صعد والملالي والصباغ والبطيوي وابن مريم والفكون وابن سليمان والورتلاني وغيرهم. وجميعهم كانوا يتناولون بالدرس والتعريف تراجم الأولياء والصلحاء في مختلف العصور، ولا سيما الذين عاصروهم واتصلوا بهم عن طريق التلمذة مباشرة أو غير مباشرة. وكثرت العناية أيضا بدراسة التصوف وما يتصل به من مناقب وأذكار ومرائي وعلوم أهل الباطن. وقد عرفنا أن عددا من الأساتذة كانوا يتناولون تدريس التصوف في مجالسهم العلمية. فقد عرف سعيد قدورة بتدريسه كتاب (الحكم) و (التنوير) لابن عطاء الله لطلابه. وكذلك كان علي بن عبد الواحد الأنصاري يدرس التصوف من بين المواد الأخرى. وكان عمر الوزان منكبا ¬

_ (¬1) ابن مريم (البستان)، 6. عن حياة السنوسي. انظر الفصل الأول.

على دراسة كتب التصوف وعلوم أهل الباطن حتى أصبح له فيها اليد الطولى. وكذلك كان موسى بن علي اللالتي، ناظم قصيدة (حزب العارفين)، يقرئ تلاميذه في تلمسان كتب الصوفية ويحدثهم عن أخبار أهل التصوف وأحوالهم (¬1). وقد جاء في رحلة الورتلاني أنه كان يكثر من دراسة أهل التصوف مستندا على مقالة الإمام مالك بن أنس من أن الصوفي الذي لا يتعلم الفقه يعتبر زنديقا وأن عالم أصول الدين الذي لم يدرس التصوف يعتبر فاسقا (¬2). وسنلاحظ في دراستنا لإنتاج هذا العهد في الجزء الثاني كثرة التآليف والأشعار المخصصة لعلم التصوف حتى كادت تطغى على جميع الإنتاج الآخر. كذلك كثرت المقارنات بين أهل التصوف في القديم وأهل التصوف المعاصرين، فبالإضافة إلى مقالة السنوسي السابقة نسب إلى أحمد بن يوسف الملياني أنه قارن بين عصره وعصر عبد القادر الجيلاني، قائلا ان الجيلاني كان في القرن السادس والزمن غير فاسد وأهله فضلاء، بينما هو (الملياني) كان يعيش في القرن العاشر المليء بالفساد وانحطاط الأخلاق (¬3). وروي عن الملياني أيضا أنه تناقض مع محمد بن علي الخروبي الطرابلسي المتصوف أيضا فقال له هذا (أهنت الحكمة في تلقينك الأسماء للعامة حتى النساء) فرد عليه الملياني بقوله: (قد دعونا الخلق إلى الله فأبوا فقنعنا منهم بأن نشغل جارحة من جوارحهم بالذكر). وقد لاحظ الخروبي بأن الملياني كان على صواب في ذلك، قائلا: (فوجدته أوسع مني دائرة) (¬4). وبعد أن روى الفكون عن الغزالي ما قاله عن انحراف متصوفة زمانه وسرد خصالهم الخارجة عن دائرة التصوف الحقيقي، قال: أهذا في زمنه، ¬

_ (¬1) انظر دراستي عن كتاب (كعبة الطائفين) في كتابي (أبحاث وآراء في تاريخ الجزائر). (¬2) محمد الحاج صادق (عبر شمال إفريقية من خلال رحلة الورثلاني)، 320. (¬3) بودان (المجلة الإفريقية)، 1925. (¬4) الناصري (الاستقصا) 5/ 51.

فكيف بزمننا؟). وهكذا نجد أن بعض الدارسين قد شعروا بتردي الأحوال الصوفية وضعف الأخلاق بالمقارنة إلى الأزمنة الغابرة. ولا نكاد نجد من (الثوار) الذين رفعوا صوتهم ضد انحراف التصوف عن جادته الحقيقية إلا بعض الأصوات. وكان أقواها بدون ريب هو صوت عبد الكريم الفكون. فهو الذي انتقد متصوفة عصره بشدة ورمى معظمهم بالزندقة واتخاذ التصوف ذريعة للوصول إلى الدنيا واستغلال عقول العامة. ففي مقدمة (منشور الهداية) أوضح الفكون دواعي تأليفه فقال إنها انتشار البدع وسيادة الجاهل وكساد العلم وانحراف أهل الطرق الصوفية عن التصوف الحقيقي وتحالف هؤلاء مع الظلمة واللصوص والولاة الفاسدين. وقد اعتبر الفكون هؤلاء جميعا أنصارا (لحزب الشيطان)، وقام هو للدفاع عن (حزب الله) والجهاد في سبيله بكشف فسادهم وانحرافهم. ولطول المقدمة فإننا نورد منها بعض المقتطفات للدلالة على ما وصلت إليه حالة التصوف في عهده (القرن الحادي عشر - 18 م). ولنشر هنا إلى أن الفكون كان هو نفسه متصوفا ولكنه من متصوفة السلف، كما سنشير إلى ذلك في موضعه. ومما جاء في هذه المقدمة. (أما بعد، فلما رأيت الزمان بأهله تعثر، وسفائن النجات (كذا) من أمواج البدع تتكسر، وسحائب الجهل قد أظلمت، وأسواق العلم قد كسدت، فصار الجاهل رئيسا، والعالم في منزلة يدعى من أجلها خسيسا، وصاحب أهل الطريقة قد أصبح وأعلام الزندقة على رأسه لائحة، وروائح السلب والطرد من المولى عليه فائحة، إلا أنهم، أعني الطائفتين، تمسكوا من دنياهم بمناصب شرعية، وحالات كانت قدما للسادة الصوفية، فموهوا على العامة بأسماء ذهبت مسمياتها، وأوصاف تلاشت أهلها منذ زمان وأعصارها، ولبسوا، بانتحالهم لها، على أهل العصر أنهم من أهلها. وربما صارت الطائفة البدعية مقطعا للحقوق، وقسما يقسم بهم في البر والعقوق. والطائفة الأخرى سطرت أناملهم في قراطيس السجلات ما يوهم من لم يرهم ممن يأتي في غابر الزمن أنهم من حزب العلماء، بل ومن مشائخهم الأعلين.

(كل ذلك والقلب مني يتقطع غيرة على حزب الله، العلماء، أن ينتسب جماعة الجهلة المعاندين الضالين المضلين لهم أو يذكروا في معرضهم، وغيرة على جانب السادة الأولياء الصوفية أن تكون أراذل العامة وأندال (كذا) الحمقى المغرورين أن يتسموا بأسمائهم أو يظن بعضهم اللحوق بآثارهم. ولم آل في التنفير من كلتا الطائفتين (¬1) والتحذير منهم في كل زمان وأوان؛ وبين كل صالح من الإخوان، إلى أن أحسست لسان القول قد نطق بنسبة ما لا يليق ذكره من أفواههم، فشرح الله صدري في أن أعتكف على تقييد يبدي عوارهم، ويفضح أسرارهم، ويكون وسيلة إلى الله في الدنيا والأخرى. فهذا الجهاد الذي هو أحد من السيف في نحور أعداء الله، وناهيك بهم أعداء؛ نسخوا شرع سيدنا ومولانا محمد (صلى الله عليه وسلم) بآرائهم المسطرة بأقلامهم في سجلاتهم، وأحلوا الرشى بأفعالهم، والتمدح بها والعكوف على طلبها، والاعتناء بأخذها في أنديتهم، فهي عندهم من أرفع المكاسب وأسنى المطالب. والطائفة الأخرى أعلنوا بأن سابق الأقدار منوطة بإرادتهم. فزادت بهم العامة شغبا إلى شغبهم، واتخذت أتباعهم ألقابا باسم الشيخوخة والتحذير من أن يغاضوا أو يغتاضوا، فصارت العامة تجانبهم ولا تحط بساحتهم. وأما النكير عليهم، لأربابه في قعر حفير، وربما زاد في إفصاح أحوالهم من أن من مات منهم بنوا عليه وشيدوا بناءات وجعلوا عليهم قبابا من العود وألواحا منقوشة بأسمائهم وما اختاروا لهم من الألقاب التي لا تصلح لهم، وهي من أوصاف سادتنا العلماء العاملين والصلحاء الفاضلين الكاملين. فعظم الباعث على النصح بهذا التقييد) (¬2). وانطلاقا من هذا المدخل عرف الفكون بأن الصلاح المؤدي إلى معرفة ¬

_ (¬1) يعني بهم أدعياء العلم وأدعياء التصوف. وقد وصف غيره أيضا حالة المتصوفين في الجزائر ولكنهم اكتفوا بالوصف مع التحبيذ ولم ينتقدوا أو يتخذوا موقفا معارضا لتصرفات المتصوفة في وقتهم. ومن هؤلاء البطيوي وابن مريم ومحمد بن سليمان والورثلاني. (¬2) مقدمة (منشور الهداية)، مخطوط.

الله والقرب منه ليس هو التوسط بالشيخ واتخاذ الحضرة والجذب والكرامة وما إلى ذلك مما كان شائعا في عصره، ولكنه هو اتباع الكتاب والسنة وإجماع الأمة. فقال ان الرجل الصالح هو المواظب على الطاعات والمتجنب للنواهي البعيد عن المتشابه، وهو الذي يكثر من ترديد اسم الله، العارف بالله وبأحكامه، المتبع للمندوبات بعد الواجبات. فهذا الشخص، في نظره، هو الجدير بأن يقصده الإنسان بالأخوة وطلب صالح الدعاء منه (ولا عليك بعد ذلك منه ظهرت عليه كرامة أم لا، كان رفيع القدر أو خامله، فإن أولياء الله متفاوتوا (كذا) الحال في الدنيا، وأما من كان على خلاف ذلك أو بعضه فيجب هجرانه لله خصوصا الطائفة أهل الحضرة المخالطين للظلمة) (¬1). وفي نظر الفكون ونظر من نقل عنهم كالطرطوشي والبسطامي وزروق والغزالي والأخضري، أن البدع تعتبر خروجا عن الدين وأن التكسب باسم الدين يعتبر جناية لا ولاية (¬2). وقد جاءت آراء الفكون في البدع الصوفية بعد أن أثمرت مدرسة محمد السنوسي وأحمد الملياني ومحمد بن علي الخروبي وأضرابهم أوضاعا معينة من التصوف والولاية حتى أصبح كل شيخ مجذوب يعتبر بركة وصالحا، وكل درويش مغفل يعتبر وليا وصاحب كرامات، وكل مستغل للعامة باسم الدين ومتقرب للسلطة باسم الطريقة يعتبر قطبا تأتيه الجبايات ويقصده الناس بالرشى والقرابين ويقصده الحكام بالعطايا والهدايا. وفي ضوء هذا الوضع كتب ابن صعد (النجم الثاقب) وتبعه ابن مريم في (البستان) والبطيوي في (مطلب الفوز) والصباغ في (بستان الأزهار) وابن سليمان في (كعبة الطائفين). وهؤلاء المؤلفون يعتبرون من مثقفي العصر وأصحاب التفكير والرأي، فما بالك بالعامة وأشباهها. فإذا كان المثقفون ينسبون معظم ¬

_ (¬1) نفس المصدر، وهو يعني (بأهل الحضرة) منحرفة الصوفية الذين ذكر منهم عددا وفضح سلوكهم. (¬2) قارن مقالة الفكون في هذا الصدد بمقالة أبي الحسن الصغير الذي رد عليه محمد السنوسي. انظر الفصل الأول من هذا الجزء.

الدراويش إلى الولاية والصلاح والكرامة فكيف يكون موقف بقية الناس منهم؟ فالصباغ، وقد كان قاضيا في وقته، قد نسب كثيرا من الخوارق والكرامات إلى أحمد بن يوسف. وابن مريم، وقد كان من مؤدبي الصبيان، قد نسب كثيرا من ذلك إلى معظم من ترجم لهم ولو كانوا من العلماء المدرسين. فهذا أحمد الورنيدي الذي كان من المدرسين كانت له كرامات منها إقراء الجن ومد يده لستر عورته بعد موته. وهذا سيدي حدوش قد أخبر أن النصارى لن يدخلوا تلمسان إلا مرة واحدة. وقد كلمت حمزة المغراوي فرسه بأنه أتعبها، وكان مكانه يزار ويحمل منه التراب الذي ما علقه مريض إلا شفي. وقد تجمع النحل عند قبر سعيد البجائي وأغار على قافلة حمير كانت تحمل الزرع للنصارى (الإسبان) بوهران فقتل كل الحمير إلا حمير المسلمين. وكان محمد السويدي صاحب كرامات أيضا حتى أنه أكد أنه يستطيع أن يخبر عما يدور بين الرجل وزوجه في الفراش، إلى غير ذلك مما كان يعتبر عند ابن مريم وأمثاله مكاشفات وخوارق. وكانت هذه الكرامات تتدخل في السياسة أيضا. فهذا الشيخ عبد الرحمن اليعقوبي قد تدخل في إعادة حسن باشا بن خير الدين من وادي ملوية قاصدا غزو فاس إلى تلمسان (¬1). ومع ذلك فإن ابن مريم لا يكاد يذكر واحدا من الأولياء والعلماء إلا نسب إليه معرفة علوم الظاهر والباطن والتعمق في العلوم المعقولة والمنقولة. وقد سار على نهج ابن مريم تلميذه محمد البطيوي. فعدد هو أيضا في كتابه (مطلب الفوز والفلاح) كرامات ومكاشفات الشيوخ الذين ترجم لهم. ومثله محمد بن سليمان في (كعبة الطائفين) حيث اتبع نصيحة شيخه موسى بن علي اللالتي بأن يشرح قصيدة (حزب العارفين) ويعلق عليها ويذكر أهل الصلاح ويغض النظر عن أهل الطلاح (¬2). فالتصرف في القرنين العاشر ¬

_ (¬1) ابن مريم (البستان)، 94، 104، 136، 276، 289. (¬2) سندرس المؤلفات المذكورة في بابها من الجزء الثاني.

والحادي عشر، كما نفهمه من المؤلفات المذكورة وأمثالها كان قد اختلط بالبدعة والشعوذة والخرافة، وأصبح عند البعض وسيلة للرشوة والفساد وعند البعض وسيلة لاتخاذ الحضرة ونشر البدعة واستغلال العامة. ولم يعد هو التصوف الذي كان عليه الأوائل الذين كانوا يجمعوا بين العلوم العملية ومعرفة الله عن طريق العمل والنظر والتدبر في خلقه والذين لم يدعوا لأنفسهم كرامة ولا خارقة وإنما كانوا متبعين للقرآن والسنة مكثرين من العبادة، زاهدين في أحوال الدنيا، عاملين من أجل الفوز في الآخرة برضى الله. فثورة الفكون على أدعياء التصوف من معاصريه لها مبرراتها القوية. ويبدو أن دعوته لم يكن لها أثر في ذلك العصر الغارق في الجهل والظلم. فقد نادى أحمد بن ساسي البوني، وهو من الذين جمعوا بين العلم والتصوف، بإسقاط التدبير تماما عن الإنسان واعتبر أن هذا الإنسان مسير لا مخير حتى كان ما أصاب الله به البلاد من تأخر ومن ظلم وفساد كان لمصلحة لا يعلمها إلا هو ولا حاجة للإنسان أن يثور أو يرفض أو ينتقد الظلمة والمفسدين والمتسببين في التخلف. وقد نسب إلى البوني قوله: كل الأمور لمبديها وخالقها ... فما إلى العبد تخيير وتدبير فرب رأى نراه نافعا حسنا ... وما حديث، لعمري، فيه تدبير فالله يعلم ما للعبد مصلحة ... فيه وقد يصحب التعسير تيسير وقد يؤخر مولانا منافعنا ... والعبد ما ضره في ذاك تأخير فاصبر إذا المجازي حكمه برضى ... أما علمت بأن الصبر مأجور (¬1) وقد جاء الورتلاني في القرن الثاني عشر (18 م) فغرق، رغم علمه، فيما غرق فيه ابن مريم والصباغ والبطيوي وغيرهم، وأكثر من الحديث عن أعمال المتصوفة ونسبة الخوارق والكرامات لهم. فقد أخذ يزور القبور ويصلي حولها ولا يكاد يسمع بصالح، حقيقة أو خرافة، إلا زاره وأخذ ¬

_ (¬1) من مخطوط رقم 2266 مجموع ورقة 92، المكتبة الوطنية بالجزائر. وسنترجم لأحمد البوني في الجزء الثاني.

البركات منه. ومن جهة أخرى غاص هو إلى أعماق التصوف فدرس النظريات الصوفية من كتبها وسيرة أصحابها، وحاول صيام الدهر فلم يستطع، فقد ظل ثلاثة أيام صائما عن كل شيء إلا جرعة ماء، ثم اضطر لإبطال صومه في اليوم الرابع عندما أحس بالتعب والجوع، واعتبر اللذة التي حصلت له من هذه التجربة لا تعادلها أية لذة. وكان مذهبه في التصوف هو اتباع الطريقة الشاذلية وسلوك علم الباطن ونقد الفقهاء الذين اعتبرهم أعداء للصالحين والأولياء، واعتبر هؤلاء مقربين إلى الله، وأشاد بنبوءة سيدي خالد (خالد بن سنان العيسي)، كما لبس الثياب العادية (¬1). ولكن الورثلاني كان، كمعظم أتباع الطريقة الشاذلية، يبدي اهتماما بشؤون الدنيا وملذات الحياة. وافتخر الورثلاني بأنه زار عددا كبيرا من الأولياء والصلحاء من تلمسان إلى عنابة ومن بجاية إلى سيدي خالد. وقد خصص قسما كبيرا من رحلته للحديث عن المرابطين والصلحاء والشرفاء. فعدد حوالي خمسين منهم في جبل زواوة وحوالي عشرين في بجاية وضواحيها. وغير ذلك. وكان جميعهم، في نظره، مقربين إلى الله، وأقطابا واضحين، وأطوادا شامخين في العلم والعرفان، وشموسا ساطعة للحق والبرهان، كما أورد عددا من أقطاب التصوف في المشرق الذين لقيهم أثناء حجاته وأجازوه. مثل عبد الوهاب العفيفي الذي أخذ عليه الورثلاني الطريقة الشاذلية ولقنه الذكر وجدد عليه العهد، ومثل الشيخ محمد بن سالم الحفناوي الذي سماه (سلطان العارفين)، وكذلك علي الفيومي الذي أخبر أنه وجده يرقص ويشطح (¬2). وملأ الورثلاني رحلته بالحديث عن النبي خالد وضريح الأخضري وسيدي عقبة والصحابي أبي لبابة، وقارن الخنقة بمكة، وزار في بجاية القبر المنسوب لعبد القادر الجيلاني، وتحدث عن حياة أبي مدين الغوث في بجاية وتلمسان، وروى ¬

_ (¬1) الحاج صادق (عبر شمال إفريقية)، 320. (¬2) عن حياة وتصوف الورثلاني انظر فصل التاريخ من الجزء الثاني، وكذلك دراستي عن الرحلات الجزائرية الحجازية. في كتابي (أبحاث وآراء في تاريخ الجزائر).

قصة عبد الحق الإشبيلي مع زنديق بجاية وأميرها. وقال إن الأولياء والصالحين أحياء في قبورهم. وكان يروي عن المشعوذين والحمقى ويعتبر الجميع أولياء صالحين، ونسب إليهم الجذب وطريق القوم (¬1). ومن الكرامات التي رواها في رحلته أن بعض الأولياء قد أمر الجبل بالانخفاض قانكشفت الكعبة، وأن حيوان المعز قد تحول إلى جلود زيت، وأن ماء زمزم كان يخرج من خلوة أحد الشيوخ، وأن بعضهم قد أقام بقرة بعد ذبحها، وأن آخر قد رقي طفلا مقعدا فقام يمشي (¬2) وقال عن أحد المرابطين، وهو علي بن داود، إنه من شعراء الرسول. (ولو كان كلامه بالعريبة لكان يكتب بسواد العين لما فيه من العلم اللدني). وروى أن سعيد الفاني كان عارفا بالله ومجدوبا بالحقيقة، وأنه (الورتلاني) قد سمع بنات أفكاره في الوعظ وطريق الحب الإلهي بالبربرية وأن كلام هذا الشيخ يسلب العقل وأنه يكاد يكون كلام ابن عطاء الله وإنما هذا فاقه لأنه بالعربية. واعتبر الورتلاني رتبة الولاية والصلاح غير مقصورة على العلماء والمثقفين لأن (في عالم عمالتنا للعوام المجذوبين كلام في المعرفة والمحبة والوعظ يحرك القلوب ويفتنها، غير أنه عليه كسوة البربرية، فالذي يفهمه يذوقه ذوقا معتبرا يسلب العقل) (¬3). وقد عمت الخرافة المتعلمين والعلماء والدراويش والكتاب على حد سواء. فقد روي عن مفتي المدية لسنة 1172، وهو الحاج أبو القاسم المغربي، أنه طلب من الناس قراءة دعاء يوم عاشوراء ثلاثمائة وست وستين مرة (¬4). وهذا محمد المصطفى بن زرفة، وهو من أوائل القرن الثالث عشر، قد روى أن من كرامات أبي مدين وجود الملح في سبخة ميسرغين وسبخة ¬

_ (¬1) الحاج صادق (عبر شمال إفريقية)، 284، 370. (¬2) الورتلاني (الرحلة)، 10، 14، 17. (¬3) نفس المصدر، 35، 187، 603. (¬4) من رقاع مخطوط وجد في مكتبة الأمير عبد القادر.

سلوك بعض المتصوفين

السانية قرب وهران، لأن الناس كانوا في حاجة إلى الملح (¬1). ويتضح مما سيق أن التصوف في العهد العثماني قد شمل مختلف القطاعات ولم يكن مقصورا على القارئين والمتنورين بل جذب إليه العامة وأشباهها. وقد كثر في هذا الجو المشبع بالروحانية المدعون للتصوف والمتكسبون بالدين وبالولاية. وقد رأينا أن هذه الظاهرة قد غطت العهد من أوائل القرن العاشر (16 م) إلى أوائل القرن الثالث عشر (19 م). والذي يدرس الوضع الاجتماعي والسياسي، كما صوره المداحون الشعبيون أواخر العهد العثماني يدرك مدى عمق هذه الظاهرة وانتشارها. سلوك بعض المتصوفين من دراستنا لسير رجال الدين خلال العهد العثماني نخرج بثلاثة أصناف: صنف العلماء الموظفين والفقهاء المستقلين الذين لا صلة لهم بممارسة التصوف العملي، وهذا الصنف هو الذي تعرضنا له في الفصل السابق. والصنف الثاني هم العلماء الذين غلب عليهم التصوف، وهم في الغالب لا يميلون إلى الوظيفة وإلى التقرب من السلطة إلا إذا أجبروا على ذلك بوجه من الوجوه. أما الصنف الثالث فيضم (المتصوفة) الذين كانوا يدعون العلم، وإذا شئت المنتسبين إلى التصوف والولاية لغرض من الأغراض والذين ساعدتهم الظروف السياسية والاقتصادية على الظهور واستغلال العامة. وفي هذا الفصل نركز على الصنفين الثاني والثالث. وبناء على كل التعاريف المقبولة والمعقولة فإن التصوف الحقيقي هو الذي تتوفر فيه شروط أساسية منها معرفة الكتاب والسنة معرفة دقيقة والعلم بهما والجمع بين العلم والعمل والسعي إلى معرفة الله حق المعرفة عن طريق التأمل والنظر والتفكير في مخلوقاته، بالإضافة إلى التقى والورع والتجرد عن هوى النفس وحب الدنيا والابتعاد عن مغريات السياسة والسلطة وعدم ¬

_ (¬1) (الرحلة القمرية) كما لخصها هوداس (المجموعة الشرقية)، 63.

التعاون مع الظلمة والمتجبرين. ورغم أن هذه الشروط قد تبدو خيالية أو صعبة المنال فإن الشواهد كثيرة على وجود من توفرت فيه أو كادت. ولعل سيرة عبد الرحمن الثعالبي ومحمد بن يوسف السنوسي وعبد الرحمن الأخضري وعمر الوزان وأمثالهم خير شاهد على ذلك. فهم قد أضافوا إلى العلم الزهد والتصوف والتجرد عن الهوى. فإذا اهتم بعضهم بعلوم الباطن فقط فقد انحرف عن الطريق الحقيقي للتصوف وتحول من العلم إلى الخرافة ومن الولاية إلى الشعوذة. وهذا هو ما حدث لدى الكثيرين في عصر ساد فيه التخلف ونامت فيه أعين الرقباء. فقد ظهر أشخاص هنا وهناك يدعون دعوات ضالة مضرة بالمصلحة العامة، ومع ذلك لم يوقفوا عند حدهم، بل سمح لهم بالنشاط والنمو والانتشار حتى طغوا وعاثوا في الأرض فسادا. وقد تولد عن ذلك انتشار الفوضى الدينية وكثرة الخرافات وحلول السحر محل العلم. ولكن القليل فقط من هذه الأمور قد سجله المؤرخون واهتم به الناقدون والملاحظون. ولا شك أن ما لم يسجلوه أعظم وأخطر. فبالإضافة إلى كتاب الفكون وبعض اللقطات في كتابات ابن العنابي وابن عمار، نجد في كتب الرحالة الأوروبيين كثيرا من الملاحظات الهامة والدقيقة على انتشار (المرابطية) والسحر والتخلف العقلي والعلمي عند هذه الفئة من الناس. وإذا كان الفكون وابن العنابي قد حكما على أصحاب تلك الأمور بأنهم دجاجلة وزنادقة فإن الأجانب قد نظروا إلى ما كانوا يقومون به على أنه من ظواهر التخلف العقلي والاجتماعي عند المسلمين. ولذلك لا نستغرب أن يقول أحد الأوروبيين بأن جميع علوم أهل الجزائر لا تخرج عندئذ عن السر وأن علماءهم (وهو يقصد المرابطين الدراويش) سحرة، كما لا نستغرب أحكام بعضهم على فئة العلماء عامة في الجزائر إذا بدت لنا أحكاما قاسية ومؤلمة. ذلك أنه في الوقت الذي كان فيه علماء أوروبا ينادون بالحرية العقلية لتحرير العامة من ربقة الخرافات ويبدعون علوما وفنونا للنهوض بالإنسان، كان مرابطو الجزائر يلبسون على العامة ويستغلونها أشنع استغلال ويغرقون

العقول في ظلام دامس. فهذا قاسم بن أم هاني، الذي سبقت الإشارة إليه، قد اتخذ طريق الشعوذة لكي يرد ما كان لأسلافه من زكوات وأعشار. وقد قيل عنه انه بدأ بالإكثار من الصوم والصلاة (وهو أمر لا مجال فيه للاستغراب) ولبس الغرارة المرقعة وأكل الشعير، حتى اشتهر أمره بين الناس. وكان قاسم يكثر من الاتصال بأهل البوادي وبأهل قبيلته التي كانت تقطن نواحي نقاوس. وكان هؤلاء يشيعون عنه أخبارا خاصة وخوارق حتى يخيفوا منه اللصوص. ولما أحس بأن دعوته قد نضجت أظهر البدعة فاتخذ الأتباع (الفقراء) والحضرة، وكانوا يذهبون إلى البوادي وينصبون خيمة إزاء القبيلة، وهناك ينادي الشرطي (وهو أحد فقراء الشيخ) بأن شيخه يبرئ من العاهات، ونحو ذلك من أنوع الكرامات، ويقول الشرطي لرئيس القبيلة بأن الشيخ يطلب كذا كذا وإلا فإن القبيلة لا تفلح، وكان الشيخ إذا رأى فرسا جميلة يذهب إلى صاحبها ويقول له إياك أن تبيعها! ثم يأخذها منه إما بدون ثمن وإما بثمن بخس. وإذا رفض صاحب الفرس العرض يهدده الشيخ بالنكبات. ومع ذلك فقد تصدر الشيخ قاسم لإعطاء العهد الصوفي (¬1). وأمثال الشيخ قاسم كثير. فقد بدأ الشيخ محمد الحاج حياته في نواحي أم دكال (امدكال) متنسكا ومعتزلا للناس، ثم ظهر في البوادي واتخذ زوايا ورعايا تزكي عليه ويأخذ منها الأعشار والجبايا. وأصبح هو يولي من يشاء ويعزل، ويعطي العهد ويمنع. وكان أتباعه يحلفون برأسه. وكان الشيخ الجليس قد ظهر عليه الجذب وكثر الخنا على لسانه والتفوه به، كما يقول الفكون أمام الذكور والإناث على السواء، وكان يأكل الحشيشة ويعطيها لمن يزوره، بل إنه يلزمه بأكلها. وعندما مات له قط (وكانت له قطط كثيرة) أسف عليه وصنع له كفنا وجعل له مشهدا ومدفنا. والغريب أن خاصة وعامة قسنطينة قد جاؤوا للجنازة وتعزية الشيخ في فقيده! (¬2). ¬

_ (¬1) الفكون (منشور الهداية)، مخطوط. (¬2) نفس المصدر. وعن نشاط الطريقة الشابية بشرق الجزائر انظر علي الشابي (مصادر =

وفي عنابة ونواحيها ظهر الشيخ طراد وجماعة الشابية وغيرهم. وكان الشيخ محمد ساسي البوني وأبو محمد عبد الكافي من أتباع الشيخ طراد. وكان هذا قد اتخذ طريقة خاصة به كما سبق، وحارب شطر قبيلته واستحل أموال المعارضين له. وشاع عنه أنه كان يأخذ النساء المحصنات ولا يبالي بذوات العدة. وكان يفتخر بأنه (قطب الولاية) وقد أصبح محمد ساسي وهو من الذين جمعوا بين الفقه والإفتاء والتصوف، والشيخ أبو محمد عبد الكافي، وهو عندئذ خطيب وإمام جامع سدي أبي مروان، من أتباعه وكانا يعتقدان فيه العصمة. وقد انتصب محمد ساسي للتدريس في جامع الجمعة (سيدي أبي مروان) وصار عند أهل عنابة رئيس علم الظاهر والباطن. واعتقد فيه أهل البلاد بأنه وريث الشيخ طراد وخليفته. وكان يأخذ الأركاب معه لزيارة قبر شيخه، وادعى مقام الأكابر من الأولياء فذكر في شعره الكثير عبارات مثل الدنان والحان، وزعم أنه قد شرب من كأس الصفوة وجلس على بساط القرب. ومع ذلك لم يقدر أحد أن يرد قوله أو يعترض عليه، بل كان مسموع القول عند الخاصة والعامة (¬1). وللشيخ محمد ساسي (يوم الختم محفل من ذكور وإناث، وإنشاد واشعار بالجامع الأعظم، ورقص وغناء). ويؤثر عنه أنه قال في كلام غنى به كنت صاحب الخضر والآن أنا سيده. وكان يذكر في قصائده أنه عرج إلى السماء وكشف له الحجاب. وقد اتخذ في داره مستحما سماه (حمام أهل الصفا)، وكان يجمع الأموال على كل طفل في البلد وكان يأخذ من أهل البادية زكوات وجبايات، كما كان يأخذ الأموال من أهل الأندلس القاطنين ¬

_ = جديدة لدراسة تاريخ الشابية) في (المجلة التاريخية المغربية)، 13، 14 يناير 1979. 55 - 81. (¬1) انظر علاقة محمد ساسي بالباشا يوسف في دراستنا (أربع رسائل بين باشوات الجزائر وعلماء عنابة)، مجلة الثقافة، 1979. عدد 51 وهو جد أحمد بن ساسي البوني الذي كان مقربا أيضا لدى الولاة كما سبق. وسنعود إلى مؤلفات محمد ساسي في الجزء الثاني.

في عنابة - وقد قدم عليه رجل مغربي يدعى علي خنجل كان في طريقه إلى المشرق، وكان يدعي أنه (شيخ المشائخ) فاجتمع له الناس وعلى رأسهم محمد ساسي، وجعلت له (ليالي من آلات وتصفيق وشطح وأناشيد)، وعند وداعه حمله الشيخ محمد ساسي على كتفيه إلى السفينة. وكان (أي محمد ساسي) ينشد الأشعار والجمع يرد عليه، بينما كان علي خنجل (يزجل بزجله) أيضا، والجمع يصفق ويشطح ويصيح (¬1). وكان في تلمسان ونواحيها عدد من هؤلاء المتصوفة الذين خلطوا بين العلم والدروشة وقد ذكر ابن سليمان عددا وافرا منهم. وهو لا يتبع في ذلك طريقة الفكون في نقدهم بل كان يشيد بهم ويتبع خطاهم ويطلب بركاتهم. ومن هؤلاء شيخه موسى اللالتي ومجموعة من الشيوخ. سماهم (وأهل الله) (¬2). ومما ذكره عن أحمد بن بوجلال أنه كان حاضرا معه بباب الجياد بتلمسان وكان يقرأ له (أي ابن سليمان) كتاب الاحياء للغزالي، فصار بوجلال يعلو ظهره، وقد قال عنه إن من عادة بوجلال (إذا سمع آية أو كلاما حسنا يحترق بالمحبة، فيتواجد مما وجد حتى لا يملك نفسه فتراه يرتفع في الهواء بجميع جسده وهو جالس، حتى كأنه صبي تقفزه أمه، وتراه يسحب فوق الأرض وهو ماد رجليه ويديه، حتى كأنه يطير بجناحيه أو محمول على الأكف)، وقد توفي الشيخ بوجلال مسموما (¬3). دون معرفة الدافع أو الفاعل. ¬

_ (¬1) الفكون (منشور الهداية)، مخطوط. ذلك هو ما رواه عن معاصر. وقد تبدو فيه مبالغة، ولكن انتشار وتواتر الظاهرة في شرق البلاد وغربها يدل على صحة ما ذهب إليه الفكون بصفة عامة. (¬2) (كعبة الطائفين) 3/ 264. والشيوخ هم: بلقاسم بن صابر ومحمد العبدلي وعبد القادر بن عبد الجبار والحاج أحمد بن بوجلال وعبد الله بن الداني، ومحمد بن إبراهيم الهمهام والجيلاني بن يحيى وسعيد البوزيدي ومحمد بن وارث وسيدي يخلف وبوعبدل بن لدغم، ونحوهم. (¬3) نفس المصدر، 2/ 9.

ولو تتبعنا أمثال هؤلاء لطال بنا الحديث، فبطون الكتب مليئة بهذه النماذج. ولا شك أن ما لم يكتب ولم يدون أكثر بكثير مما كتب ودون. والمرابطون درجات في العلم والولاية والكرامة والخوارق. فمنهم، كما رأينا، الجاهل البسيط، والعالم الفقيه، والخطيب الإمام. ومنهم من كان من أهل المدن ومنهم من كان من أهل البادية. وكان بعضهم قد تراجع عما كان فيه من ادعاء الولاية واتخاذ الحضرة وجمع الأموال عن طريقها، مثل الشيخ علي بن حمود العيساوي (من أولاد عيسى)، وأحمد بن بوزيد الأوراسي. وكثيرا ما أدى حب المال وجمعه وادعاء الولاية سببا في تنافس هؤلاء (الأولياء) حتى تسرب ذلك إلى اتباعهم فقامت الحروب بينهم والمشاحنات وترددت بينهم الشتائم والضرب. فقد وقع خلاف شديد بين أتباع علي العابد الشابي (¬1) وأتباع محمد ساسي عندما دخل الشابي عنابة وانضم إليه بعض الناس. وقد كاد صيت الشابي يغطي على صيت محمد ساسي في عنابة وعلى صيت بوعكاز في غرب قسنطينة. وكان أصحاب الشابي يشيعون عنه أنه الفاطمي أو وزيره. وكان الشابي أيضا يعطي العهد ويقيم الحضرة ويجمع المال حراما وحلالا. وبعد وفاته دفن في عنابة وأصبح قبره (وثنا يعبد)، كما يقول الفكون. ومن الملاحظ أن بعض هؤلاء (الأولياء) كانوا يورثون الطريقة إلى أقاربهم، لأنها مجلبة للمال ومقصد الناس بالاحترام. فالشيخ طراد قد ورث ابنه رئاسة طريقته وأصبح يعطي الولاة الخراج والجباية للاستعانة بهم على المعارضين له. كما أن علي الشابي قد ورث ابن عمه، وهكذا. ويبدو أن جمع الأموال كان الهدف الرئيسي من هذه الحركة. فهذا أحمد بن سليمان المجذوب قد دار عليه الفقر فأقبل على البدعة والحضرة. وهذا الشيخ مخلوف قد تحول إلى الولاية بعد أن مارس العلم ودرس النحو وأقرأ القرآن للصغار وانتشر أمره بين الناس في قسنطينة وبواديها، ومع ذلك ¬

_ (¬1) انتشرت (الشابية) في شرق الجزائر قادمة من تونس. وقد عرفنا أن من الذين تصدوا للرد عليها في القرن العاشر الشيخ عمر الوزان. انظر ترجمته في الفصل الرابع.

كان يخفي دعوته على العلماء وأضرابهم. ولما توفي وجدت عنده أموال طائلة أوصى ببعضها للطلبة، وأخذت الدولة باقيها، واتهمت زوجه بإخفاء المال. وقد كان المال وراء حركة محمد ساسي أيضا لأنه كان يتقاضاه على كل طفل ومن المهاجرين الأندلسيين، بالإضافة إلى أخذه من سكان البوادي. غير أن بعض المتصوفة كانوا أصلا أغنياء فلم يكونوا في حاجة إلى التكسب باسم الدين، وقد ذكر شارح قصيدة (حزب العارفين) أن والده كان من الأثرياء ومن المتصوفة أيضا حتى أن ابنه (أي الشارح) قد أخذ عليه كثيرا مما يتعلق بأذواق أهل التصوف وسلوك الطريقة. ولكن البعض كانوا يدعون الولاية والصلاح لأغراض أخرى كمخالطة النساء (وقد روى الفكون من ذلك عدة نماذج)، وتوفير الطعام بلا تعب، لأن بعضهم كان يدخل البيوت فيأكل ويشرب ويخرج. كما كان بعضهم يمشي في السوق ويأخذ ما شاء من الفواكه والأطعمة دون أن يعترض طريقه أحد. فإذا حاول أحد الاعتراض عليه ضربه الشيخ ضربا مبرحا أو دعا عليه دعاء مهلكا. ولم يكن كل المنتسبين إلى الولاية والصلاح على الشاكلة التي وصفناها. فقد كان فيهم الخيرون الذين أبت ضمائرهم إلا أن تستيقظ لفعل الخير وخدمة الصالح العام. ومن هؤلاء الشيخ بلغيث (¬1)، الذي كان من المتحصلين على قسط من العلم أخذه في قسنطينة وتونس حتى صار من أهل الفقه والمعرفة وذاع صيته بين الناس وكان من الصالحين (الفنانين)، إذا صح التعبير، فقد استعمل الموسيقى (أو السماع) بيده واتخذ طريقة خاصة به وبنى زوايا عديدة، ولكنه كان يبذل المال لتحرير الأسرى المسلمين الذين يقعون في قبضة النصارى وفي ترميم المساجد أو في صرفه على الفقراء والمساكين. ومن ناحية أخرى كان الشيخ الموهوب بن محمد بن علي الزواوي عارفا بالله ¬

_ (¬1) لعله هو الشيخ أبو الغيث القشاش الذي استشاره محمد المسعود الشابي حوالي سنة 1016 في شؤون الطريقة الشابية ومحاربة الأتراك. انظر دراسة علي الشابي في (المجلة التاريخية المغرية) يناير 1979، 63. عن أبي الغيث انظر أيضا (كعبة الطائفين)، 3/ 228.

حاجا البيت، انتصب لتدريس النحو على المكودي، وكان لا يتوانى عن إصلاح ذات البين في أهله بزواوة وفي إطعام الطعام للفقراء، بل كان يمشي (مع القوافل والسفار المجتازين ببلادهم لكي يأمنوا عن مكر أهل ذلك الوطن) (¬1). وقد اتخذ الشيخ الموهوب أيضا الحجاب والخلوة. ولا شك أن ذلك هو الدور الأساسي للمرابطين الصالحين، ولا سيما في الأرياف والبوادي حيث انعدمت السلطة أو كادت. فمرافقة القوافل ومراقبة الأمن العام ووعظ الناس وإرشادهم إلى أمور دينهم والإحسان إلى الفقراء ونشر التعليم ومبادئ الدين وإصلاح ذات البين، كل ذلك كان من مهمات المرابطين. وقد روى الورتلاني كثيرا من ذلك. بل لقد قام هو شخصيا في عدة مناسبات بإصلاح ذات البين ورد الناس في ناحيته وغيرها إلى طريق الدين. وقد لاحظ مرة أنه ذهب إلى بلاد القبائل لذلك الغرض، لأن القتال كان لا يكاد يتوقف بين المسلمين هناك وأن حكم السلطان غير نافذ فيهم لتحصنهم بالجبال حتى أن عددا من القرى قد أصابها الخراب من الفتن. وقال في مناسبة أخرى ان أقليم البابور خال من يد السلطان وأحكامه (فالوطن سائب) ولاحظ أيضا أن من عادات أهل ناحيته القبيحة قطعهم الميراث عن النساء وعملهم بإرث الأخ لأخيه، إذا مات، في ماله وزوجه (¬2). وكان الورتلاتي وأمثاله من أهل الزوايا يتدخلون لإصلاح هذه الحالة ويعلمون الناس شؤون دينهم وينشرون الأخوة الإسلامية بينهم. وقد جاء في كتاب (كعبة الطائفين) أخبار أخرى عن دور هؤلاء أمثال محمد بن علي العبدلي، ومحمد عاشور وعبد القادر السماحي، وبلقاسم بن صابر (¬3). ¬

_ (¬1) الفكون (منشور الهداية)، مخطوط. (¬2) الورتلاني (الرحلة)، 8، 13، 28, 112. (¬3) محمد بن سليمان (كعبة الطائفين)، 2/ 96 وهنا وهناك. وقد قال عن الشيخ عاشور أنه كان يعتق الرقاب ويفدي الأسرى من ماله ويغزو ويجاهد. (وقتل جماعة من الكفار)، وكان يقري الأضياف ويطعم المساكين ويحبس الأحباس على المساجد. =

وأهم ما كان يميز سلوك المرابطين في نظر المعاصرين لهم هو الخلوة والشيخوخة والكرامة. فكل مرابط، سواء كان حقيقة أو ادعاء، كان يختفي مدة عن أنظار الناس قبل الاعلان عن دعوته. وقد جرت العادة أن هذه الخلوة تكون في البراري والبوادي والأماكن المنعزلة حيث لا يراه الناس إلا لماما. وقد تكون الخلوة مجرد حفرة في جبل أو سقيفة في خلاء أو خيمة. فإذا اشتهر أمر المرابط أعلن الشيخوخة (كونه شيخ طريقة) واتخذ زاوية يستقبل فيها المريدين ويتلقى فيها الأموال والجبايات ويدرس فيها خططه. ولكي يقنع الناس بدعوته عليه أن يثبت، أو على الأقل أن يشيع أتباعه عليه بين الناس، أنه صاحب كرامات ومكاشفات وأحوال، وأنه يرى ما لا يراه الآخرون، ويطبع على ما لا يطلعون عليه من الأسرار والبواطن. وقد قال الورتلاني بهذا الصدد بأن المرابطين يكتبون في اللوح المحفوظ. وقد سبق أن أشرنا إلى أن موسى بن عيسى المازوني قد حذر من الاعتراض عليهم حتى بالقلب لأنهم، كما قال، (جواسيس القلوب). ويضاف إلى هذه الميزات عند المرابطين الجذب واتخاذ الحضرة، وهي تجمع (الفقراء) المؤمنين بدعوة الشيخ للذكر الذي يتحول عند البعض وبالتدرج إلى رقص معين وبحركات موزونة وموقوتة وبأصوات منغومة تعلو وتنخفض بإشارات معينة من الشيخ أو المقدم. وقد يكون في هذه (الحضرات) أمور ليس بينها وبين الدين والعبادة أية صلة، كالغيبوبة وسيلان اللعاب والتضارب والزعاق ونحو ذلك. وقد أصبح من شعار بعض المرابطين أيضا زيارة القبور في جماعات وإظهار أحوال خاصة واتخاذ المشاهد والوعدات، وذلك لخلق مناسبة تذبح أثناءها الذبائح وتقدم الهدايا والأموال للشيخ واجتماع الناس على اختلاف جنسهم وأعمارهم للتجمع في المكان المتفق عليه الذي قد يكون زاوية الشيخ نفسها. وقد أضاف بعضهم إلى ذلك ¬

_ = وقال عنه أيضا انه قسم ماله نصفين نصف للدنيا ونصف للآخرة. كما روى كلاما شبيها بهذا عن بلقاسم بن صابر وعبد القادر السماحي (بوسماحة).

ألفاظا معينة من الأذكار وخطوط الرمل وكتابة الأحجبة ونحو ذلك من أساليب الشعوذة وممارسة السحر. وكانت المرائي أيضا من ميزات المرابطين. ذلك أن معظمهم كان يدعي رؤية الأنبياء والرسل والححابة والملائكة، كما كانت الاستخارة هي وسيلة الرؤية الصوفية. ولا شك أنه ليس كل المرابطين كانوا على هذه الشاكلة، فبعضهم كانوا متصوفين حقيقيين، كما لاحظنا، لا هم لهم في عقائد الناس فيهم ولا في مالهم ولا في اكتساب الجاه والوظيف من السلطان، وإنما كانوا متفرغين إلى العلم والعبادة بقلب صاف وعين باصرة. وبعضهم لم يتخذ أثناء حياته زاوية ولم يعلن شيخوخة ولا طريقة وإنما أتباعه هم الذين بالغوا في ذلك ونسبوا إليه ما لم يقل أو يفعل وشيدوا له القبة أو الزاوية واعتقدوا فيه المعتقدات غير الصحيحة التي كان لا يقرها لو كان حيا. ولا شك أن بعضهم قد اتخذ تلك الأساليب وسائل كما لاحظ الفكون، للوصول إلى أغراض دنيوية معينة زالت بزوال أصحابها ولم يبق من شهرتهم وأفعالهم سوى بعض القباب أو المساجد أو الأساطير والذكريات لدى الناس. فكثير من عبارات (سيدي فلان) التي نجدها اليوم لا تاريخ لأصحابها، وعلى الباحثين أن يفتشوا عنها في ذواكر العامة لعلهم يجدون لها أصولا تاريخية (¬1). ولعل من الأمور التي كان الفقهاء ينكرونها على المتصوفة والمرابطين استعمالهم الآلات الموسيقية وأكل الحشيشة وتناولهم المنبهات كوسيلة من وسائل الانتشاء. والظاهر أن الحاجة إلى الموسيقى عند أهل التصوف نبعت من استعمال الأذكار وتنغيم الأوراد في جماعة عند الحضرة وحلقات الذكر، وكما كانت الأصوات الموسيقية والغناء مساعدة للعمال على عملهم الشاق، ¬

_ (¬1) لم يهتم الجزائريون المعاصرون إلى الآن بجمع أخبار المرابطين وعقائد الناس فيهم في القرون السابقة. وقد اهتم بعض الفرنسيين في الجزائر بجمع الأساطير والأخبار حول بعضهم استنادا إلى الروايات الشعبية الشفوية، ولا يكاد يوجد مرابط شهير في وقته إلا وكتبوا عليه في مجلاتهم وكتبهم كثيرا أو قليلا. وسنعالج ذلك حين نتحدث عن التصوف في الأجزاء اللاحقة.

وللرعاة على التغلب على الوحدة وجذب قطعان الماشية وللأطباء على مداواة مرضاهم، كذلك كان رجال التصوف يستعملون الموسيقى لإثارة الوجد وتحريك العواطف والتسامي بها نحو درجات النشوة والسكر بدون خمر. وقد مر بنا أن الشيخ محمد ساسي كان يستعمل في حضرته الإنشاد والأشعار والموسيقى في جماعة بالإضافة إلى التصفيق والغناء والرقص. كما عرفنا أن الشيخ بلغيث كان يستعمل الآلات الموسيقية بيده. وربما اتخذت بعض الطرق الصوفية مداحين يمدحونها بالأشعار الملحونة ويشيعون أمرها بين الناس والغناء بذلك في محلات عامة كالمقاهي ونحوها. فقد قيل إن الشيخ أبا القاسم الرحموني الحداد كان يمدح الطريقة الرحمانية والحنصالية بأشعاره التي كان يرددها في المقاهي ونحوها حيث الحشاشون والندمان (¬1). وقد ذكر الفكون في كتابه المشار إليه أن بعض أدعياء التصوف كانوا يتناولون الحشيشة والدخان والقهوة، وأن بعضهم كان يصرح في شعره بألفاظ الخمر والدنان (¬2). ويكاد يكون من المتفق عليه أن المتصوف يميل إلى التقشف والتضحية بملذات الدنيا في سبيل اللذة الأخرى التي يسعى إليها. فهو لا يأكل المرققات والمحشيات ولذيذ الأطعمة والأشربة، وإنما يكتفي من الطعام بما يقيم الأود ويسد الرمق من كسرة الشعير وشرب الماء القراح. كما كان المتصوف لا يلبس الثياب الفاخرة ولا المطرزات ولا المذهبات ولا الخواتم ونحوها. وكل ما كان يعنيه من ذلك ثياب متواضعة تقيه غائلة الحر والقر كالغرارة المرقعة والعمامة البالية والحذاء الخشن. وتلك كانت الصورة المتبادرة إلى أذهان الناس عن أهل التصوف في العهود المتأخرة، وهي صورة تقربهم إلى الدراويش والمجاذيب (وأهل الله)، وليست بالطبع هي صورة المتصوف الحقيقي كما رسمها الغزالي أو أبو الحسن الشاذلي وغيرهما من كبار رجال التصوف المعتمدين على المعرفة العلمية. فهناك إذن فرق بين صورة المتصوف العالم وصورة المتصوف الدرويش، ولسوء الحظ أن كثيرا ¬

_ (¬1) كور (عن قصيدة الرحموني) في (المجلة الإفريقية) 1919. (¬2) انظر عن موضوع الموسيقي فصل العلوم والفنون في الجزء الثاني.

من متصوفة الجزائر خلال العهد العثماني كانوا من الصنف الثاني. ومع ذلك فإن هناك أمثلة على أن المتصوفة الجزائريين كانوا في أغلبهم ماديين. ذلك أن الكثيرين منهم كما أشرنا، كانوا من أتباع الطريقة الشاذلية، وهي لا تنكر التمتع بنعم الحياة. فقد قيل عن أبي الحسن الشاذلي إنه لم يقل بالتجرد عن الدنيا وملذاتها. وهو نفسه قد عاش في أغلب الظن مكرما في تونس والقاهرة، وترك أسرة، وإنما قال بتدريب النفس على فعل الخير وإعادتها بالتدريج إلى أحكام الشرع عن طريق الذكر، سواء كان بطريقة جماعية أو فردية. ولذلك عرف أتباع الشاذلية بامتلاك الثروة وتوافد الهدايا والعطايا عليهم في الجزائر، وكذلك كان أمر الزوايا اليوسفية والقادرية والتجانية والزيانية وغيرها. وهناك أمور كانت تميز المرابط عن الفقيه، فالأول بحكم انهماكه في العبادة وبحثه عن الوسائل الروحية التي تصعد به إلى مصاف المرضي عنهم كان بعيدا عن ساحة الفقيه الذي كان اهتمامه بقضايا الناس اليومية وبما يجد من أمور وقضايا تحتاج إلى فتوى وتخريجات وتأويلات وأقيسة. وكان المرابط، من جهة أخرى، يستعمل في كثير من الأحيان لغة شعرية روحانية لا يدركها إلا هو، فهي رموز لأشياء قد وضعها بنفسه. أما الفقيه فقد كانت لغته قريبة من الواقع، وهو يستمد مسائله من النصوص والشواهد الحسية. وليس هناك بالنسبة إليه خيال ولا روحانية. ولهذه الاختلافات كانت هناك خصومة أحيانا بين الفقهاء وأهل التصوف، كل منهم يتهم الآخر بالفسوق والإلحاد والزندقة، إذا لم يهدر كل منهم دم الآخر. كان الفقهاء يميلون إلى العلوم العقلية ويدرسون النحو والبيان والفلك كوسائل لفهم القرآن والحديث ومشاكل الناس، بينما كان المرابطون يكثرون من دراسة العقائد والتصوف والفلسفة بل كان بعضهم لا يدرس أصلا وإنما يأخذ التصوف عن طريق التقليد والإجازة وانتظار الرؤيا والمكاشفة والفتح، غير أن بعض هؤلاء وأولئك لم يكونوا من المغالين. فقد درس الفكون النحو والتصوف معا ولكنه فرق بين الشعوذة والتصوف الحقيقي. ودرس الوزان التصوف وعلوم

بعض المرابطين وأهم الطرق الصوفية

الحديث. وتفقه الورتلاني في مختلف العلوم رغم أنه مال إلى المتصوفين ضد الفقهاء. وسئل محمد بن عبد الرحمن الأزهري مؤسس الطريقة الرحمانية عن تعلم النحو فأجاب بجواز تعلمه (¬1). وقد كانت المعركة بين المتصوفة والفقهاء على مستوى العالم الإسلامي كله وليست خاصة بالجزائر. بعض المرابطين وأهم الطرق الصوفية كان معظم المرابطين الجزائريين قبل العهد العثماني من أتباع الطريقة الشاذلية، كما سبقت الإشارة. وكان تأثير هذه الطريقة يأتي عن طريق طلب العلم في المغرب الأقصى وتونس أو عن طريق الحج. ذلك أن مثقفي الجزائر، كما مر بنا، كانوا كثيرا ما يقصدون طلب العلم خارج بلادهم التي كانت تفتقر إلى المعاهد العليا والجامعات. وأثناء إقامتهم في فاس أو في تونس، في القاهرة أو في الحرمين، في دمشق أو بغداد أو القدس، كانوا يأخذون العهد عن شيوخ الطرق، وهو أمر كان شائعا عندئذ ولا حرج فيه، بل كان يعتبر جزءا من ممارسة العلم، ولا شك أن المغرب الأقصى كان مركزا عاما لنمو الطرق الصوفية بعد سقوط الأندلس وتحول كثير من علماء الدين وأصحاب التصوف إلى هناك. ففي المغرب ظهرت مدارس صوفية عديدة، سنية وغير سنية، وكان بعض أصحابها يتدخلون في السياسة والحكم وبعضهم قد اتخذوا الخلوة واعتزلوا الناس. ومن جهة أخرى جاءت من تونس عدة طرق ولا سيما الشابية التي هزت الشرق الجزائري بالحروب والدروشة الصوفية (¬2). كما كان المشرق الإسلامي مصدرا لتصدير المذاهب الصوفية النابعة من البلاد العربية أو الواردة من فارس والهند وإسطانبول. ¬

_ (¬1) رسائل محمد بن عبد الرحمن الزواوي الأزهري، رقم ك 1956، الخزانة العامة بالرباط. (¬2) عن حروب الشابية ونشاطها خلال العهد العثماني انظر كتاب (تاريخ العدواني)، وقد حققناه ونشرناه سنة 1996.

ومع ذلك فلا نعرف أن البكداشية والنقشبندية قد انتقلتا إلى الجزائر حتى بعد دخول العثمانيين، والطريقة الوحيدة التي وجدت أرضية صلبة في الجزائر هي القادرية، وهي قد وصلت قبلهم، ولكنها ازدهرت أثناء حكمهم. غير أن هذا لا يعني عدم وجود التأثير الطرقي الآخر. فقد ورد على الجزائر خلال العهد المدروس علماء ودراويش من المشرق، أمثال الملا علي، الذي ذكره الفكون والذي أقام في قسنطينة والجزائر، والشيخ فتح الله الذي سبقت إليه الإشارة، ومحمد تاج العارفين العثماني التونسي، ولا شك أن الأفكار والمذاهب كانت تنتقل مع هؤلاء ومع الجنود والعائلات إلى أكثر المناطق عزلة في الجزائر. وكانت بين المرابطين مراسلات حول معطيات التصوف. ومن ذلك وصية أحمد بن ناصر الدرعي لمرابطي الجزائر التي سماها (وصية لفقراء الجزائر) (¬1). ومنها رسائل عبد العزيز بن خليفة القسنطيني نزيل المغرب الأقصى إلى تلاميذه. وقد قيل إنه قد وصل إلى مرتبة الغوث والقطب، وأنه كان صاحب كرامات (¬2). وقد اطلعنا على رسائل الأزهري مؤسس الطريقة الرحمانية التي بعث بها إلى تلدميذه عندما كان في القاهرة. كما رأينا عددا من رسائل محمد العربي الدرقاوي إلى أتباعه بالجزائر. وكان بعض العلماء يحصلون على مكانة بارزة في العلم والتصوف بعد تجوال وسياحة علمية ثم ينشرون ما حصل لهم بين معاصريهم. وكان بعضهم يخطط للثورة وطلب السلطان أيضا أمثال الشيخ يحيى الأوراسي. وكان التأثير الطرقي غير مباشر في معظم الأحيان. فبعد هجرة الجزائريين إلى الشرق كانوا يتلقون مبادئ الطرق غير الموجودة في بلادهم، ¬

_ (¬1) الخزانة العامة بالرباط، رقم 2167 مجموع. (¬2) انظر عنه ابن عسكر (دوحة الناشر)، 227 وهنا وهناك. ومن تلاميذ القسنطيني هذا محمد التمغروطي صاحب الرحلة التي نقلنا عنها. انظر أيضا عنه محمد المنوني (مجلة تطوان) عدد 8. وقد قدر المنوني عدد أوراق رسائل القسنطيني في إحدى المخطوطات بـ 56 ورقة. انظر أيضا (إتحاف أعلام الناس) لابن زيدان 1/ 318.

أحمد بن يوسف الملياني

مثل النقشبندية، ثم تسربت إلى الجزائر عن طريقهم. وقد روى العياشي أن شيخه عيسى الثعالبي قد تلقى ذكر الطريقة النقشبندية في المشرق وأنه هو الذي لقنه له في المدينة المنورة وألبسه الخرق الثماني المنصوص عليها عندهم. وكان الثعالبي قد تلقى مبادئ النقشبندية على الشيخ صفي الدين القشاشي المدني (¬1). وكان الثعالبي من أتباع الطريقة الشاذلية أيضا. ولعله أخذها قبل مغادرته للجزائر على أستاذيه سعيد قدورة وعلي بن عبد الواحد الأنصاري. لذلك قيل عن الثعالبي إنه كان مقبولا عند أهل الظاهر وأهل الباطن. فهو، كما يقول العياشي (لم يتنسك تنسك المتنطعين من المتصوفة ولم يسترسل مع العادات استرسال المسرفين، بل سلك في ديانته أقوم سبيل، واقتدى من الكتاب والسنة بأهدى دليل، مع اعتقاد تام في سالكي طريق القوم) (¬2). ورغم أن الثعالبي قد تلقى العلم والتصوف على مشائخ متعددين في المغرب والمشرق فإنه لم يتحول عن الطريقة الشاذلية. ومما يذكر أنه قد أصبح ذا بسطة في الرزق أثناء حياته في المشرق. وهذا يؤكد انتشار الطريقة الشاذلية لدى الجزائريين من جهة ومادية هذه الطريقة من جهة أخرى، وعدم ابتعادها عن الكتاب والسنة. ومن أتباع هذه الطريقة في أوائل العهد العثماني أحمد بن يوسف الملياني. 1 - أحمد بن يوسف الملياني: توجد حياة الملياني مسرودة في عدد من المصادر، ولكن أهمها تأليف تلميذه محمد الصباغ القلعي المسمى (بستان الأزهار في مناقب زمزم الأخيار ومعدن الأنوار سيدي أحمد بن يوسف الراشدي النسب والدار) (¬3) وتأليف الشيخ علي بن موسى في القرن الماضي المعروف باسم (ربح التجارة ومغنم السعادة فيما يتعلق بأحكام الزيارة) (¬4). وليس غرضنا هنا الترجمة للملياني ¬

_ (¬1) العياشي (الرحلة) 1/ 207. (¬2) نفس المصدر، 126. (¬3) سنتناول هذا الكتاب في الفصل الثاني من الجزء الثاني. (¬4) بالإضافة إلى المصدرين المذكورن انظر عن الملياني أيضا الكتاني (سلوة الأنفاس) =

ولا لغيره من المرابطين ولكن ذكر النقاط البارزة من حياتهم التي تشير إلى تأثرهم وتأثيرهم على معاصريهم ومن بعدهم في ميدان التصوف على الخصوص. فهو من قلعة بني راشد، قرب تلمسان، ومن خريجي مدرسة تلمسان الفكرية أواخر القرن التاسع، وهي مدرسة محمد بن يوسف السنوسي، ثم هو من تلاميذ أحمد زروق البرنوصي. وقد تقلب أيضا في عدة أوضاع نتيجة للتدهور السياسي الذي كانت تشهده تلمسان الزيانية في آخر عهدها. فقد تعرض للاضطهاد والسجن والمطاردة، كما عرفنا وكان عليه أن يبحث عن حلفاء لحماية حركته النامية التي أسسها على مبادئ الطريقة الشاذلية بعد أن جاب المشرق وأدى فريضة الحج. وقد تزوج مرارا وكان له أبناء كما عرفنا. وكان لا يرفض الهدايا ولا الملابس الفاخرة ولا الموائد الغنية طبقا لتعاليم الشاذلية التي لا تمانع في ذلك بشرط أن يؤخذ أو يترك لله، حسب قولهم. وكان للملياني خصوم من الساسة ومن الفقهاء، بل حتى من التجار لأسباب ليست كلها معلومة. وكانت له زاوية برأس الماء يستقبل فيها الأتباع ويتقبل الهدايا ونحوها. وقد توفي سنة 931 ودفن بمليانة حيث ضريحه إلى اليوم. انتشرت طريقة الملياني الشاذلية في الجزائر وفي المغرب الأقصى بسرعة أثناء حياته، وهي ظاهرة قليلة الوجود، لأن معظم المرابطين قد اشتهرت طريقتهم وأخبارهم الصوفية بعد وفاتهم. وكان الملياني يناول تلاميذه الأذكار ويشكلون دائرة للذكر الجماعي مع استعمال الغناء والموسيقى أو الأناشيد والآلات، كما كانوا يعبرون. وكان تلاميذه قد اضطهدوا أيضا في المغرب الأقصى والجزائر (¬1)، واضطر الملياني نفسه إلى الكتابة إلى أهل ¬

_ = 2/ 11، وابن عسكر (دوحة الناشر) - الترجمة الفرنسية - 214، وبودان (المجلة الإفريقية)، 1925. وقد سماه صاحب (سلوة الأنفاس) (الشيخ الولي الصالح القطب الغوث الزاهد العارف العالم المحصل السالك الناسك المقرئ بالقراءات السبع المحقق الحجة ..)، وانظر عن الملياني أيضا (مناقب أبي العباس أحمد بن يوسف ..) لكاتب مجهول، الخزانة العامة بالرباط، د 1457، د 1471. (¬1) اتهم أحمد بن يوسف بالإلحاد من بعض العلماء، كما اتهم أتباعه من بعده وتعرضوا =

توات ينهاهم عن اضطهاد أتباعه هناك. وقد سمى أتباعه (بالفقراء) وقال إن الله قد أعطاه علم الظاهر والباطن وادعى أنه نائب عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وأن الله قد أحيى به طريق أهل التحقيق، ونسب إليه أنه قال عن السبحة انها كالمهماز للفرس وأنه طلب من الله تعالى تحقيق ثلاثة أمور فحققها له في ليلة واحدة، وهي العلم بدون مشقة (علم الظاهر والباطن) وبلغه فوق مبلغ الرجال، وأراه الرسول في اليقظة لا في المنام. ونسب إليه أيضا قوله (جميع من أكل معي أو شرب أو جالسني أو نظر في لا أسلم فيه غدا يوم القيامة). وقد أشرنا من قبل إلى أنه كان يلقن الأسماء للعامة، بما في ذلك النساء، وأنه قال إنه قد دعا الناس إلى الله فأبوا فاكتفى منهم بشغل جارحة من جوارحهم بذكر الله. وقد ترك الملياني بعض التآليف التي لا تخرج عن مذهبه في التصوف وطريقته سنعرض إليها في مكانها من الجزء الثاني (¬1). ومن الممكن القول بإن حركة الملياني قد أثرت على معاصريه سياسيا ودينيا. فقد هز الدولة الزيانية بالتجمعات التي كان يعقدها في رأس الماء وفي تلمسان وفي وهران ونواحي البطحاء، وهي المناطق التي كانت مستعدة للاضطرابات والثورة لتراخي قبضة الدولة عنها. كما هز أتباعه كيان الدولة في المغرب الأقصى حتى اضطر أمير فاس إلى محاربتهم ومطاردتهم (¬2). وكان تحالف الملياني مع العثمانيين من بين الأسباب التي أدت إلى زيادة الاضطراب والفوضى لدى الزيانيين. ولا شك أن قصة الملياني تقدم، كما قلنا، نموذجا واضحا على تداخل السياسة والتصوف في القرن العاشر (16 م) من جهة وعلى مدى تأثير الطريقة الشاذلية في الجزائر من جهة أخرى. ونفس ¬

_ = للمضايقة في الجزائر من الزيانيين، وفي المغرب أيضا. انظر (الاسقصا) 5/ 51، وبودان نشرة جمعية وهران 1930، 77. (¬1) انظر الفصل الثاني من الجزء الثاني. (¬2) خصوصا السلطان السعدي عبد الله بن محمد القيم (965 - 981) الذي اتهمهم بالانحراف عن الدين، ولعل ذلك يعود إلى أن أتباع الملياني كانوا من أنصار العثمانيين في الجزائر.

محمد بن علي الخروبي

النموذج في الواقع نجده عند محمد بن علي الخروبي الطرابلسي. 2 - محمد بن علي الخروبي: نسب الخروبي إلى صفاقس وطرابلس والجزائر. كما عرف عنه أنه كان صاحب حظوة عند العثمانيين. ولعله زار أو تربى في إسطانبول قبل قدومه إلى الجزائر. وكان قد تشبع بالروح الصوفية السائدة عندئذ في المشرق من شاذلية وقادرية وبكداشية وغيرها. وقد قيل إنه أخذ العلم عن علماء مشارقة ومغاربه. ومن هؤلاء أحمد زروق دفين مصراته ومحمد بن عبد الله الزيتوني ومحمد بن مرزوق، وتلاميذ عبد الرحمن الثعالبي ومحمد بن يوسف السنوسي. وجميعهم يمثلون أقطالب حركة التصوف في المغرب العربي. وليس من المعروف أين ولا متى ولد الخروبي ولكن نسبته إلى صفاق وإلى طرابلس قد تكون فيها إشارة إلى موطنه الأصلي. أما وفاته فقد كانت سنة 963 بالجزائر. وقد خدم الخروبي الوجود العثماني في المغرب العربي، وخصوصا في الجزائر خدمة جليلة بقلمه ودرسه وطريقته الصوفية. فبالإضافة إلى نشاطه الديني والمذهبي في الجزائر لصالحهم قام بعدة سفارات إلى المغرب كما أشرنا. وهناك وجد استقبالا حسنا من الولاة والعلماء على حد سواء (¬1). فقد زار فاس ومراكش وغيرهما وأخذ عليه علماء المغرب أيضا. وكان فصيح اللسان وجريئا. وقد تولى الخطابة في أحد مساجد الجزائر. كما عرف عنه أنه كان جماعا للكتب، وقد قيل إنه ترك خزانة كتب ضخمة في مراكش. ويبدو أن الخروبي قد خصص جهده للتأليف والدعاية لصالح الطريقة الشاذلية والدفاع عنها. ورغم تصوف الخروبي وصلاحه فقد كان، مثل معاصره أحمد الملياني وأضرابه، لا يستنكف من خدمة السلطان وقبول الهدايا والعيش عيشة رغدة. وركز الخروبي في تآليفه على الأوراد والأذكار ¬

_ (¬1) رغم ذلك لم يعد من المغرب بطائل كما يقول الناصري، (الاستقصا) 5/ 27، أي أنه لم ينجح في سفارته. وقد ذهب الخروبي إلى المغرب في شأن الحدود بين البلدين بعد أن هاجم السلطان محمد الشيخ تلمسان.

وعلوم التصوف كما اشتغل بمناقشة مسائل قد تعتبر اليوم غير ذات بال كحلق شعر التائب. ونسب إليه بعضهم تفسيرا للقرآن قام به وهو في الجزائر (¬1). وقد ظلت شروح الخروبي على حكم ابن عطاء الله في التصوف وعلى الصلاة المشيشية (نسبة إلى عبد السلام بن مشيش ناشر الطريقة الشاذلية) وعلى أصول الطريقة لأحمد زروق وعلى كفاية المريد، ونحوها، موضع دراسة المرابطين والعلماء فترة طويلة. وقد نسب إلى الخروبي قوله عن (كفاية المريد) إن الواجب على كل سالك (متصوف أو مرابط) أن يحصلها. ونحن لا نشك في ذلك لأنه بين فيها طريقة السلوك، كما بين ذلك في شرح الصلاة المشيشية ورسالة الطرق الصوفية (¬2). ويظهر تأثير الخروبي على معاصريه من وجهين: حماية الدولة في الجزائر له واحتماؤه هو بها في دعوته التي كانت تتجاوب مع تيار العصر، وتسخير فكره وقلمه ولسانه لخدمة الطريقة الشاذلية والطرق القريبة منها كالقادرية. وإذا كان الوجه الأول واضحا بما ضربناه من أمثلة على حظوته وتمتعه بثقة العثمانيين، فإن الوجه الثاني في حاجة إلى بعض الإيضاح. ذلك أن الخروبي في مركزه، كخطيب ومؤلف، استطاع أن ينشر مبادئ الطريقة الشاذلية بشكل لم يحصل من قبل. حقا إن محمد بن يوسف السنوسي قد أثر على أجيال المتصوفين بدراسته للعقائد وتحبيبه علم التوحيد للدارسين ودفاعه عن أهل التصوف البدعي، ولكن الخروبي قد بسط قواعد التصوف في شرحه على الحكم العطائية، كما بسط مبادئ الطريقة الشاذلية، ولا سيما في شرحه على (كفاية المريد) وعلى (الصلاة المشيشية) حتى أصبح هنان ¬

_ (¬1) إذا أخذنا في الاعتبار سنة وفاة الملياني (931) الذي التقى به الخروبي وتناقش معه كما سلف فإن الخروبي يكون قد أقام بالجزائر أكثر من ثلاثين سنة، لأن وفاته كانت سنة 963. (¬2) هناك مصادر كثيرة ترجمت للخروبي، منها (الإعلام بمن حل مراكش) 4/ 105، ودراسة المهدي البوعبدلي في (المجلة الإفريقية) 1952، 330. ورسالة عمر مولود عبد الحميد الليبي 1977.

عبد الرحمن الأخضري

الشرحان لازمة كل مريد وصفة كل مرابط خلال العهد الذي ندرسه. ولم يستطع أحد بعده أن يحتل مكانته أو يفند أقواله. فقد قام عبد الرحمن الأخضري وهو من المعاصرين للخروبي ومن تلاميذه، كما سنرى، ببعض الأعمال المشابهة، ولكنه لم يصل إلى درجته في التأثير في التصوف. ولهذه المكانة التي تمتع بها الخروبي لدى المعاصرين في ميدان التصوف خصصنا له هذا الحيز من الفصل. 3 - عبد الرحمن الأخضري: ولو لم يكن للخروبي من التلاميذ غير عبد الرحمن الأخضري لكفاه. ورغم قصر حياة الأخضري حسب معظم الروايات. فإنه قد أثر على معاصريه والأجيال اللاحقة أيضا بكتبه وسلوكه، وخصوصا المتون التي نظمها وشرحها في المعاني والبيان والفرائض والحساب والمنطق والفلك والأسطرلاب. ومن أعماله التي تهمنا في هذا المجال قصيدته (القدسية) في التصوف، وهي التي قام الحسين الورتلاني بشرحها وتدريسها. ولد الأخضري في بنطيوس من قرى نواحي بسكرة. وهناك نما وشب وأخذ العلم عن والده وشقيقه الأكبر. وكان والده محمد الصغير من علماء الوقت أيضا، فألف (أي الوالد) حاشية على خليل وكتابا في التصوف أيضا، هاجم فيه من سماهم بـ (الدجاجلة) الذين انحرفوا في رأيه عن منهج الشرع القويم. ولعل الأخضري قد تأثر في هذا المجال بوالده كما أن جده محمد عامر كان من علماء الوقت فجمع أيضا عملا في الفتاوى الفقهية. وتذكر بعض الروايات أن الأخضري قد طلب العلم أيضا بقسنطينة وأخذه على الشيخ عمر الوزان. كما طلبه بتونس وأخذه على مشائخ جامع الزيتونة. ولكن هذه الرواية غير مؤكدة، سيما إذا عرفنا أن حياة الأخضري نفسها ما تزال غامضة. ذلك أن معظم المترجمين له يذهبون إلى أنه قد عاش ثلاثا وثلاثين سنة فقط (920 - 953) (¬1). وإنه لم يتزوج في حياته. ولكن بعض الباحثين شك في ¬

_ (¬1) جاء في مقالة للشيخ المهدي البوعبدلي (الأصالة) يناير 1978, 25 أن الأخضري قد =

ذلك لأن هناك عائلتين، واحدة في بنطيوس، والأخرى في المقران، تدعيان الانحدار من نسل الأخضري، ومن جهة أخرى فإن نضجه العلمي لا يمكن أن يتحقق إلا إذا كان الأخضري قد تقدم في السن. ومهما كان الأمر فقد قضى الأخضري حياته في التعليم والكتابة في زاوية عائلته في بنطيوس وتخرج على يديه تلاميذ عديدون. وكان يذهب في الصيف إلى الهضاب العليا (سطيف ونواحيها) للابتراد فأدركته الوفاة في أحد الأصياف في كجال سنة 953، بناء على معظم الروايات. ولم يدع الأخضري أثناء حياته كرامة ولا كشف ستر ولا إدراك علم الظاهر والباطن، وإنما كان عالما عاملا يؤلف المتون ويشرحها ويجمع الكتب ويفهمها ويجلس للدرس ويخرج التلاميذ، شأن العلماء الصالحين. غير أن المتأخرين، في عصر أصبح العقل فيه يتقبل كل ناعقة، هم الذين نسبوا إليه الكرامات الكثيرة التي منها أن صاحب دعوى قد ظهر وادعى أنه يطعم الناس التمر الرطب في غير وقته. فذهب إليه الأخضري ووضع يده على زنده فإذا التمر يصبح روث بهائم. ومنها أن الأرض قد طويت بجثمانه بعد وفاته في كجال فعاد به الناس إلى مسقط رأسه لدفنه في فترة قصيرة، ورجعوا في نفس اليوم. وهناك كرامات أخرى تتعلق بكتبه التي سرقت منه وبغضبه على حكام الوقت وعلى اللصوص. وكان الأخضري قد تلقى ورد الطريقة الشاذلية والزروقية على الشيخ محمد بن علي الخروبي عند مرور هذا بالزاب (حيث بنطيوس) في طريقه إلى الحج. كما درس الأخضري على مرابط قرية ليشانة غير البعيدة من مسقط رأسه، وهو الشيخ عبد الرحمن بن القرون. ولعله قد تأثر أيضا بتعاليم عمر الوزان الذي يجمع بين العلم والعمل به وبين التصوف والفقه، كما سبق أن عرفنا. وقد أخذ الأخضري يتجول في ¬

_ = عاش إلى سنة 981 استدلالا ببيت في نظم الأخضري للأجرومية: في عام إحدى وثمانين سنة ... من بعد تسعمائة مستحسنة ولكن هذا الاستدلال ضعيف لأن البيت قد يكون فيه تصحيف من الناسخ بقراءة (إحدى وثمانين) بدل (إحدى وثلاثين).

الجبال القريبة من قريته دارسا متأملا يأتيه الناس بالطعام ويرد عليه التلاميذ للدرس، إلى أن استقر به الحال في زاوية بنطيوس. ومن الواضح أن الأخضري قد أثر بعلمه أكثر مما أثر بتصوفه. فكتبه في العلوم التي أشرنا إليها كانت تدرس في المشرق والمغرب وتوضع عليها الشروح والحواشي. ولم نعرف عنه أنه ألف في التصوف غير (القدسية) وله أيضاء أرجوزة في طبيعة النفس (¬1). ولكن الأخضري لم يكن كالملياني أو الخروبي يؤلف في الأوراد والأذكار وغيرها من وسائل الدعاية للطرق الصوفية رغم أنه كان نظاما بارعا كما تدل كتبه التي سنتعرف عليها في مكانها من الجزء الثاني، بل هاجم البدع ومن سماهم علماء السوء ودعا إلى العمل بالكتاب والسنة. ويبدو أن عقله كان عقلا رياضيا أكثر منه عقلا صوفيا يميل إلى الغموض والروحانية (¬2). وقد نسبت إليه قصيدة طويلة في نبوة (خالد بن سنان العبسي) (¬3) ومطلعها: سر يا خليلي إلى رسم شغفت به ... طوبى لزائر ذاك الرسم والطلل جلت شواهده عزت دوائره ... ما خاب زائره في الصبح والأصل ويقال إن الأخضري هو الذي أظهر نبوة خالد بن سنان فى المغرب ¬

_ (¬1) كتب هذه الأرجوزة سنة 944. وهي توجد ضمن مجموع رقم 929 في مكتبة ميونيخ بألمانيا. وتوجد أيضا نسخة منها في المتحف البريطاني. ولعلها هي نفسها القعيدة (القدسة). فنحن لم نطلع عليها، وتبلغ 357 بيتا. (¬2) فقد قال الأخضري عن عصره: هذا زمان كثرت فيه البدع ... واضطربت عليه أمواج الخدع وقد نسخ لنا الشيخ محمد الطاهر التليلي نسخة من (القدسية)، فله الشكر. كما أن الفكون قد ساق منها أبياتا في منشور الهداية. (¬3) بلدة سيدي خالد مسماة باسمه. وقصيدة الأخضري فيه ذكرها محمد بن عبد السلام الناصري في رحلته كما ذكرها أحمد بن داود في مخطوطه. وسنعود إليها في الجزء الثاني عند الحديث عن الشعر. ومن الذين جمعوا ما قيل في نبوة خالد بن سنان الشيخ بركات بن باديس في كتابه (مفتاح البشارة في فضائل الزيارة) الذي سنعرض له في الجزء الثاني.

محمد بن علي أبهلول

العربي وذلك في قوله: إن النبوة قد لاحت شواهدها ... كيف المحالة والأنوار لم تزل في خالد بن سنان البدر سيدنا ... أخصه بسلام رائق حفل ورغم أن الأخضري لم يدع، كما قلنا، التصوف في وقته فإن الجيل اللاحق قد اعتبره من المرابطين الصالحين. فأقيمت على قبره قبة وأصبحت زيارته من المغانم عند الناس حتى العلماء منهم. ودعا إلى زيارة قبره علماء تلك النواحي أمثال مصطفى بن عزوز البرجي وعلي بن عمر الطولقي وعبد الحفيط الخنقي والمختار الجلالي. كما زاره علماء المغرب الذاهبين أو العائدين من الحج كالعياشي والدرعي. ونسبت إلى الأخضري طريقة حتى أن الحسين الورتلاني أقام عند ضريحه ثلاثة أيام يريد الانخراط فيها وأخذ بركة الشيخ، كما ذكرنا من قبل أن ولاة قسنطينة العثمانيين كانوا يعفون زاوية الأخضري وعائلته من دفع الضرائب لمقامه الديني (¬1). 4 - محمد بن علي أبهلول: أشرنا في عدة مناسبات إلى حياة أبهلول وزاويته، ولا نريد هنا أن نكرر ما قلناه (¬2). والذي يهمنا عنه في هذا الفصل دوره في التصوف. فقد عرف عنه أنه كان (سفيان العابدين) وأن الناس كانوا يعتقدن فيه العلم والصلاح والزهد وأنه كان، بالإضافة إلى العلوم الشرعية، عالما بالنحو والمنطق والشعر. ومن شعره قصيدة طويلة يشكو فيها إلى الله من أهل وقته شأن معظم المرابطين عندئذ، وبدايتها: أفوض أمري للذي فطر السما الخ .. ¬

_ (¬1) ترجمة الأخضري متوفرة في عدد من المصادر. وقد رجعنا في هذه اللمحة عنه إلى مخطوطة أحمد بن داود المسماة (العقد الجوهري في التعريف .. الأخضري) ودراسة لوسياني الذي قدم بها ترجمته (للسلم المرونق)، الجزائر 1921. انظر أيضا مقالة البوعبدلي في (الأصالة) يناير 1978. (¬2) انظر عنه حياة سعيد قدورة، وهو تلميذه. وكذلك فصل المؤسسات حيث ذكرنا دور زاويته. انظر (تعريف الخلف) 2/ 432.

محمد بن بوزيان والطريقة الزيانية

وقد قال عنه أبو حامد المشرفي الذي خصه بتأليف سماه (ياقوتة النسب الوهاجة) إن أبهلول قد (كسا علم التصوف طلاوة وبهجة. وكانت كراماته أوضح من شمس الضحى). وكان أبهلول من أشراف الأندلس الحسنيين جمع بين الشرف والصلاح إلى أن أصبح قطبا واضحا (¬1). ويبدو أن أبهلول المجاجي كان كالأخضري والثعالبي مشتعلا بالعلم والزهد، ولكن المتأخرين هم الذين نسبوا إليه الكرامات وسموه بالقطب ونحو ذلك. وقد نقل ابن سليمان من خطه بعض الأمور المتعلقة بحفظ القرآن وغيره كبلع قلب الغراب سخنا ممرغا في العسل (¬2). 5 - محمد بن بوزيان والطريقة الزيانية: غير أن محمد بن بوزيان، مؤسس الطريقة الزيانية، كان على خلاف ذلك. فسيرته تبرهن على أنه كان فعلا يهدف إلى نشر الدعاية للطريقة الشاذلية بالوسائل التي كان قد استعملها من قبل محمد الهواري وأحمد بن يوسف الملياني وأضرابهما من المرابطين الدعاة. وقد كانت زاوية درعة مصدر تأثير صوفي كبير على بعض الجزائريين سواء بدراسة هؤلاء فيها والتتملذ الصوفي وأخذ الورد أو بمرور زعماء الزاوية أنفسهم في الجزائر عند الحج ونحوه. وقد عرفنا أن سعيد قدروة قد توجه إلى سجلماسة وأنه أخذ العلم والتصوف بها. ولعل مجيء الشيخ علي بن عبد الواحد السجلماسي إلى مدينة الجزائر كان لا يخرج عما ذكرناه. ومهما يكن من أمر فإن الشيخ وزيان يعتبر نموذجا آخر لهذه الصلات والتأثير. فقد توفى والده، وهو في عمر مبكر، فخرج من قريته (التحاتة) القريبة من القنادسة، متوجها إلى زاوية سجلماسة حيث كان الشيخ بوبكر بن عزة، زعيم الطريقة الشاذلية، فدرس ¬

_ (¬1) انظر (ياقوتة النسب الوهاجة). كما ترجم له صاحب (سمط اللال في معرفة الآل) وصاحب (كمال البغية) وكلاهما لا نعرف له مؤلفا الآن. كما ترجم له محمد بن أحمد المغراوي في (تمييز الأنساب). وفي قصيدة سعيد قدورة التي رثاه بها إشارات هامة إلى سيرته ومقتله. (¬2) ابن سليمان (كعبة الطائفين)، 2/ 111.

عليه القرآن الكريم. وقبل وفاة ابن عزة أخذ عليه بوزيان سر الطريقة أيضا. ثم توجه إلى فاس طلبا للعلم بناء على نصيحة شيخه. وبقي في فاس ثماني سنوات أخذ خلالها عن علماء بارزين في وقتهم، أمثال محمد بن عبد القادر الفاسي، وعبد السلام جسوس وأحمد بن الحاج، ثم عاد إلى مسقط رأسه بالقنادسة. وتذهب مصادر الطريقة الزيانية إلى أن محمد بن بوزيان هو السابع والثلاثون في سلسلة الطريقة الشاذلية، ومن ضمن المذكورين في هذه السلسلة شيخه بوبكر بن عزة ومحمد بن ناصر الدرعي، بالإضافة إلى أبي مدين الغوث وأبي الحسن الشاذلي والملك جبرائيل. ومنذ عاد بوزيان إلى القنادسة بدأت تظهر عليه الكرامات وجاءه الناس من كل فج وأصبح عندهم قطب أهل التصوف واستوى في ذلك العامة والخاصة. حتى أن معاصره الشيخ عبد الرحمن القرزازي (مؤسس الطريقة القرزازية بالقرب من بني عباس) قد جاءه زائرا ونصح الناس بزيارته. وكان بوزيان يختفي فجأة عن أعين الناس لمدة أسبوع ثم يعود إلى الظهور، وكان يركب الحمار أو يمشي حافي القدمين. وكان غذاؤه من الأعشاب وأوراق الشجر، وكان يغسل ثيابه بنفسه. وقد بنى زاوية بالحجر والطوب أصبحت مقصد الزوار الذين بلغوا أحيانا أربعمائة زائر. وكانوا يأتون إليه بالقمح والشعير والشحم والعسل. وأصبحت القنادسة، بعد بناء الزاوية، غنية بعد فقر ومعرفة بعد أن كانت نكرة وراوية بعد عطش. فقد حفر بوزيان الآبار بالزاوية نفسها وفي غيرها للسابلة ولأهل البلاد الذين كان يعوزهم الماء، وكان يذهب بدوره لزيارة أضرحة مشائخه في سجلماسة حيث قبور ابن عزة وابن ناصر وغيرهما. وكان يزور صديقه المرابط عبد الرحمن القرزازي المعروف أيضا باسم بوفلجة. وكان بوزيان لا يخاف الولاة ولكنه لا يذهب إليهم، فكان موضع احترامهم. واستعمل بوزيان تعاليم الطريقة الشاذلية إذا لم يكن قد بالغ فيها بعض الشيء نتيجة التخلف العلمي في المنطقة والحاجة إلى اتخاذ المقنعات عند الناس. فقد أشيعت عنه الكرامات واتخذ السبحة لازمة له حتى كان يقول

محمد بن عبد الرحمن الأزهري والطريقة الرحمانية

عنها (السبحة واللوح إلى خروج الروح). وإذا كان يشير بالسبحة إلى الذكر على الطريقة الشاذلية فهو يشير باللوح إلى قراءة القرآن وإلى العلم عامة. وكان ذلك هو دأبه إذ كانت طريقته تقوم على أداء الذكر ومعرفة السلسلة الشاذلية وسلسلة أهل التصوف السابقين. أما السبحة والخرقة فلم يكن له فيها تقليد معين. وطريقة الذكر عنده هي التي أوردها الشيخ محمد بن يوسف السنوسي في العقيدة الصغرى. وكان سلوكه في بقية حياته يشبه سلوك معظم المرابطين المنتسبين إلى الشاذلية. فقد حج وتزوج عدة مرات، وكان له بنون وبنات. وكان يقبل الهدايا أيضا، ولكن مصادر طريقته تشير إلى أنه كان لا يبالي بلذائذ الطعام والشراب ولا بفاخر الثياب. وبعد حياة حافلة بالنشاط العلمي والصوفي توفي بوزيان بالقنادسة سنة 1145، فخلفه ابنه محمد الأعرج الذي ظل على رأس الزاوية إلى وفاته أيضا سنة 1175. وقد استمر أولاده وأحفاده يتوارثون إدارة الزاوية وينشرون منها التعليم ومبادئ الطريقة الشاذلية إلى العهد الفرنسي (¬1). 6 - محمد بن عبد الرحمن الأزهري والطريقة الرحمانية: ورغم أن الطريقة الرحمانية قد ولدت خلال القرن الثاني عشر (18 م) فإنها لم تلعب دورا بارزا دينيا وسياسيا ولم تنتشر في أنحاء الجزائر إلا في القرن الثالث عشر. ومؤسسها هو الشيخ محمد بن عبد الرحمن الجرجري المعروف أيضا بنسبته إلى زواوة وإلى الأزهر (الزواوي والأزهري). وهو من قبيلة آيت إسماعيل من عرش قشطولة. وتاريخ ميلاده غير متفق عليه، ولكن بعضهم قدره بين 1127 و 1142. وقد توفي بالجزائر سنة ¬

_ (¬1) اعتمدنا في دراسة محمد بوزيان وطريقته على السيد كور (مجلة العالم الإسلامي) - الفرنسية - 1910، وقد رجع كور في دراسته إلى مصادر الزاوية الزيانية وخصوصا كتاب (طهار الأنفاس والأرواح الجسمانية في الطريقة الزيانية الشاذلية) لمصطفى بن الحاج بشير، وعلى كتاب (فتح المنان في سيرة الشيخ سيدي الحاج محمد بن أبي زيان) الذي لم يذكر له مؤلفا. ارجع إلى الأجزاء اللاحقة لمعرفة المزيد عن الطريقة الرحمانية.

1208 (¬1). وبعد أن تعلم بزاوية الشيخ الصديق بن أعراب بآيت ايراثن توجه إلى المشرق حوالي 1152 حيث ظل مدة طويلة قدرها بعضهم بثلاثين سنة وقدرها آخرون بربع قرن. ومن أساتذته في الأزهر سالم النفراوي وعمر الطحلاوي وحسن الجداوي والعمروسي. ثم عاد حوالي سنة 1177 إلى قريته (آيت إسماعيل) لنشر أفكاره وطريقته بين أهل بلاده وأسس زاويته هناك. ويقال إنه قد تلقى تعاليم الطريقة الخلوتية على الشيخ محمد بن سالم الحفناوي عندما كان بالقاهرة (أو مكة؟). وقد أمره شيخه أن ينشرها في الهند والسودان. وفي رسالة من الأزهري إلى بلحسن اليوسفي، نقيبه بتونس، قال إنه قد أقام ست سنوات في دارفور بالسودان الذي توجه إليه بأمر من شيخه الحفناوي ليقرئي السلطان هناك (¬2). وكان له في الجزائر أثناء إقامته بالمشرق تلاميذ يتراسلون معه ويعلمهم مبادئ الطريقة الخلوتية. ومن تلاميذه الذين منحهم الإجازة أثناء إقامته في الجزائر بلقاسم بن محمد المعاتقي الذي رفعه إلى رتبة مقدم الطريقة والشيخ العابد بن الأعلى الشرشالي. وسنعرف أن الشيخ أحمد التجاني، مؤسس الطريقة التجانية، قد أخذ عنه أيضا. وتضمنت مراسلات محمد بن عبد الرحمن الأزهري كثيرا من مبادئ الطريقة الخلوتية. فهي تتحدث عن التصوف وأهل الدائرة وأهل التصريف ومراتب الغوث والقطب وحول ذلك مما يتعلق بأصول التصوف التي أصبحت بدورها أصولا للطريقة الرحمانية. ويذهب بعض المؤرخين إلى أن طريقة الذكر عند الرحمانيين قد تأثرت بالثقافة الهندية، وهو أمر جعل هذا الباحث يرى أن الأزهري قد استجاب فعلا لدعوة شيخه في الذهاب إلى الهند، لأن أمر الشيخ يجب أن يطاع. ويستعمل الرحمانيون الذكر في حلقات ويرددون ¬

_ (¬1) بعضهم يقول إنه سكن مدينة الجزائر وبها توفي، وبعضهم يقول إنه قد زار مدينة الجزائر قبل وفاته بعدة شهور ثم عاد إلى مسقط رأسه حيث توفي. وهو يعرف أيضا ببوقيرين. (¬2) هذه المعلومات وجدناها في مجموع من الرسائل المخطوطة للأزهري في ملك الأستاذ علي أمقران السحنوني.

اسم الله بالتدرج إلى أن يصلوا إلى حالة (الحال) وهو درجة من الانجذاب والوجد يمارسها المتحلقون بصوت جماعي بقيادة الشيخ أو المقدم (¬1). ويتمثل إعطاء الورد عند الرحمانيين في التعوذ من الشيطان الرجيم والاستغفار والتشهد وقراءة الفاتحة وبعض الأدعية. ويطلب من المريد أن يذكر الله كثيرا آناء الليل وأطراف النهار، وأن يكرر الشهادة من العصر يوم الجمعة إلى العصر يوم الخميس، أي ستة أيام سواء كان المرء على طهارة أو غير طاهر. والمطلوب منه أيضا قراءة الصلاة الشاذلية وهي اللهم صلي على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه، بعد عصر يوم الخميس إلى عصر الجمعة. ثم يكرر الشهادة من عصر الجمعة إلى الخميس التالي. وهكذا طول حياته. وكل من يعطي الورد يقدم أيضا نصائح إلى المريد فيها الحث على طاعة الله واتباع السنة وتكرير الشهادة سبعين ألف مرة، ونحو ذلك (¬2). وقد انتشرت تعاليم الأزهري في الجزائر، وخصوصا في شرقها ووسطها وفي تونس. وأصبح لها كثير من الأتباع عشية الاحتلال الفرنسي وبعده. ويبدو أنها قد انتشرت بين الفقراء وسكان الأرياف بالخصوص. وقد عرفنا أن بعض الشعراء الشعبيين كانوا ينشرونها في المدن أيضا في أماكن التجمع العامة، مثل أبي القاسم الرحموني في قسنطينة، كما انتشرت في الصحراء الشرقية ومنطقة الجريد بتونس. ومن الملاحظ بهذا الصدد أن محمد بن عبد الرحمن الأزهري قد عاش في الحجاز في عهد ظهور حركة الشيخ محمد بن عبد الوهاب بنجد وتوفيا تقريبا في نفس الوقت. ومع ذلك لا نكاد نجد أي أثر للحركة الوهابية في تعاليم الطريقة الرحمانية في الفترة التي ندرسها. وأدت زاوية الأزهري خدمة هامة في نشر التعليم أيضا. فقد كان لها ¬

_ (¬1) انظر دراسة وليام هاس w. HAAS في (مجلة العالم الإسلامي) بالإنكليزية، 1943، 16 وما بعدها. لا توجد أدلة على أن الشيخ قد ذهب إلى الهند. (¬2) هذه المعلومات مأخوذة من إجازة الأزهري لمريده الشيخ العابد بن الأعلى الشرشالي. انظر ديلفين (المجلة الإفريقية)، 1874، 426.

أحمد التجاني والطريقة التجانية

عدد من الأساتذة في حياة الأزهري نفسه. ومن هؤلاء الشيخ أحمد بن الطيب بن الصالح الرحموني الذي وضع سنة 1212 رجزا في الفقه ظل قضاة جرجرة يستعملونه. وقبل وفاة الأزهري عين خليفته على الزاوية، وهو الشيخ علي بن عيسى المغربي، وترك له جميع كتبه وأرضه وأوقاف الزاوية وغير ذلك. وأشهد على ذلك أهل آيت إسماعيل، وقد ظل الشيخ علي بن عيسى يدير الزاوية تعليما وطريقة من سنة 1208 إلى 1251. ولكن حياة الزاوية بعد ذلك لا تهمنا الآن (¬1). 7 - أحمد التجاني والطريقة التجانية: ومن تلاميذ الأزهري، مؤسس الطريقة التجانية، الشيخ أحمد التجاني. فقد التقى به في زواوة (ولعل ذلك كان في آيت إسماعيل) بعد عودة الأزهري من المشرق. وهناك درس عليه التجاني وأخذ عليه الذكر. ومع ذلك فإن أثر الطريقة الرحمانية على الطريقة التجانية يكاد يكون منعدما. ذلك أن التجاني قد قال، بعد حياة مليئة بالتجارب والتجوال، إن (الفتح) قد جاء من الرسول (صلى الله عليه وسلم) مباشرة، وأنه لم يكن في حاجة إلى أخذ السند من العلماء الآخرين، ولو كانوا مرابطين، لأن (المقصود) لم يأت منهم. ولد أحمد التجاني في عين ماضي سنة 1150 فقرأ بها على شيوخها القرآن وغيره إلى أن بلغ نحو العشرين سنة فتوجه إلى فاس، كما يفعل معظم علماء النواحي الغربية من الجزائر، لأخذ العلم على علمائها، وهناك تبدأ حياته التي تذكرنا بحياة محمد بن بوزيان القريب العهد به، بل والقريب منه ¬

_ (¬1) ترجمة الأزهري موجودة في عدد من المصادر. وقد رجعنا إلى مجموع رسائله بالخزانة العامة بالرباط رقم ك 956 وإلى كتاب (فاكهة الحلقوم في نبذة قليلة من أحوال القوم) للشيخ علي بن عمر الطولقي، شيخ الطريقة الرحمانية الموجود في نفس المكان (الخزانة العامة) وبنفس الرقم. وإلى دراسة وليام هاس المذكورة سابقا. وديلفين المذكور أيضا. كما اطلعنا على دفتر لمحمد بن عبد الرحمن الأزهري بزاوية طولقة، وهو غير مرقم. وفيه فوائد كثيرة. وسنرجع الى الطريقة الرحمانية في الأجزاء اللاحقة.

جغرافيا أيضا. وفي فاس لا نعرف أن التجاني قد اشتغل بالعلم العملي. ذلك أنه ظل، كما تروي المصادر، يحوم هنا وهناك ويتلقى الأوراد والأذكار أكثر مما كان يتلقى العلوم الشرعية والأدبية واللغوية. فقد أخذ عن الشيخ الطيب الوزاني شيخ الطريقة الطيبية أوراد هذه الطريقة، كما أخذ عن الشيخ محمد بن عبد الله التزاني المشهور بالريف مبادئ الطريقة الناصرية. ولقي أيضا الشيخ أحمد الصقلي وغيره من (الأقطاب والأولياء) وتبرك بهم. وبعد فاس قضى التجاني فترة غير قصيرة يتردد على الصحراء وتلمسان. فقد بقي في (الأبيض سيدي الشيخ) خمسة أعوام يتعبد عند ضريح سيدي الشيخ المتبرك به لأن التقاليد تذهب إلى أن سيدي الشيخ كان من نسل أبي بكر الصديق (رضي الله عنه). كما زار التجاني عين ماضي مسقط رأسه، ولكن لم يمكث فيها طويلا، فهو فيها معروف ولم يكن فيها من العلماء والصلحاء من كان يبحث عنهم. لذلك توجه إلى تلمسان التي بقي بها أيضا حوالي خمس سنوات (1181 - 1186)، ولكن تلمسان القرن الثاني عشر لم تعد هي تلمسان القديمة، فالعثمانيون كانوا يسيطرون عليها، وأحوالها العلمية والدينية لم تعد ترضي الطموحين أمثال أحمد التجاني. لذلك تاقت نفسه إلى الحج فمر بزواوة حيث أخذ الطريقة الخلوتية على محمد بن عبد الرحمن الأزهري كما أشرنا، وتوقف في تونس ومصر وأخذ عن بعض صلحائهما. وبعد حوالي سنتين في المشرق عاد التجاني إلى تلمسان التي كان يتردد بينها وبين فاس. ثم انعزل عن المدن تماما حين ذهب إلى توات وأبي سمغون. وفي الأخيرة استقر نهائيا بعد قلق وتجوال. ولكن بايات وهران لاحقوه ونغصوا عليه حياته هناك أيضا فاتجه إلى فاس سنة 1211 بأهله. وقد رحب به السلطان سليمان وأحضره مجلسه وأعطاه دارا كبيرة وراتبا. وقد اشتكى التجاني إليه من (جور الترك وظلمهم) (¬1)، وظل في فاس إلى أن أدركته الوفاة سنة 1230. ¬

_ (¬1) الناصري (الاستقصا) 8/ 105.

يذهب أتباع الطريقة التجانية إلى أن الشيخ أحمد التجاني قد أحس يإرهاصات (الفتح) قبل توجهه إلى الحج عندما كان في تلمسان. كما يذهبون إلى أن ذلك كان عبارة عن (الفتح الصغير) أما (الفتح الكبير) فقد جاءه عندما كان في قرية أبي سمغون وعمره إذاك حوالي خمسة وأربعين عاما. والمقصود بالفتح الكبير عندهم هو رؤية الرسول (صلى الله عليه وسلم) الذي أذن له (في تلقين الخلق بعد أن كان فارا من ملاقاتهم). وبعد أربع سنوات وقع له (الفتح الأكبر) بنفس القرية أيضا. وهناك تجمع الناس حوله (¬1). وهكذا بدأت صفحة جديدة من حياة التجاني، وهي صفحة شبيهة بما كان قد حدث قبله لغيره من المنتسبين للولاية والصلاح والذين أتينا عليهم. فلم يكن التجاني إذن بدعا في هذا التيار، كان التجاتي يقول إن سنده الحقيقي وأستاذه في طريق التصوف هو الرسول نفسه (صلى الله عليه وسلم)، وأن ما تلقاه من المشائخ الآخرين من الأوراد والسلاسل والعهود لم يرو ظمأه ولم يحقق له المقصود، وأضاف أن الرسول أيضا هو سنده في الورد المعلوم. وأما (المسبحات العشر فأخذناها مشافهة عن شيخنا .. محمود الكردي المصري .. وأما أحزاب الشاذلي ووظيفة زروق ودلائل الخيرات والدور الأعلى فكلها أخذناها بالإجازة فيها عن شيخنا القطب سيدي محمد بن عبد الكريم السمان، قاطن المدينة المنورة) (¬2). وهكذا نرى أن التجاني قد جمع خلاصة الطرق السابقة من شاذلية وطيبية ورحمانية وناصرية وغيرها. وقد ظهرت دعوة التجاني في الوقت الذي بدأ العثمانيون يتوجسون ¬

_ (¬1) ذكر البوعبدلي (الأصالة) يناير 1978، 30 أن محمد بن عبد الله الجيلالي (بوجلال) الذي قاد كتيبة الطلبة في فتح وهران الثاني وزميل التجاني في الدراسة بفاس قد بعث إلى زميله (أي التجاني) يحذره وينصحه ضد الخروج عن السلفية، وذلك عندما سمع به يزعم أنه قد فتح عليه بما لم يفتح على غيره. (¬2) الشيخ السمان هو الذي استضاف أيضا الورتلاني صاحب الرحلة وطلب منه شرح صلاة له تشبه، كما قال الورتلاني، الصلاة المشيشية. وقد قام الورتلاني بشرحها. انظر رحلته، وكذلك كتابي (أبحاث وآراء في تاريخ الجزائر).

خيفة من نشاط الطرق الصوفية عموما. ذلك أن ظهور الطريقة الطيبية في المغرب وعلاقتها السياسية بالحكم هناك، كذلك ظهور الطريقة الدرقاوية وامتداد نشاط الطريقتين إلى الجزائر وتردد التجاني بين فاس وتلمسان والصحراء، كل ذلك قد أثار مخاوف العثمانيين في الجزائر. وقد حاولوا وقف نشاط الطريقتين الأوليين اللتين كان عدد من علماء الجزائر قد انضم إليهما. كما حاولوا ضم عين ماضي والأغواط وغيرهما إلى إقليم وهران. لذلك توجه الباي محمد الكبير في حملته المعروفة إلى عين ماضي وقاد حربا هناك ضد أتباع التجاني. كما شملت حملته عدة مدن وقرى صحراوية كالأغواط وشلالة، وعاد من هناك منتصرا (¬1). ويذكر محمد بن عبد السلام الناصري الدرعي في رحلته أن أحمد التجاني قد ورد عليهم في المغرب رافضا سكنى بلده ومطلقا زوجه فيها وأنه كان (منزعجا من بعض أمراء الترك بالجزائر). وقال الدرعي انه قد تذاكر معه في ذلك فوجده من انزعاجه وسخطه يرى (تحريم التدريس) في هذا الزمن لذهاب شرطه وهو الامتثال، وتطهير الباطن كالظاهر وتحسين النية. وقد حاول الدرعي إقناعه بأن الأمر عكس ما يراه وأن الناس في ذلك الوقت أحوج إلى التدريس من أي وقت آخر، لأن الجهل عام، وأنه لو أخذ الناس برأيه لانقرض العلم (¬2). وتظهر من هذا السياق العلاقة بين التجاني والعثمانيين وموقف التجاني من نشر العلم في ذلك الوقت. فهو، خلافا للمرابطين الآخرين المؤسسين للطرق الصوفية، كان متوسط الثقافة ولم تكن دراسته بالجزائر والمغرب والمشرق تتعدى، كما يظهر من سيرته، حفظ القرآن ¬

_ (¬1) انظر أحمد بن هطال (رحلة الباي محمد إلى الصحراء) تحقيق محمد بن عبد الكريم، القاهرة، 1969. (¬2) مصادر الطريقة التجانية وحياة الشيخ التجاني كثيرة، وقد عدنا إلى عدة مصادر، منها كتاب الكتاني (سلوة الأنفاس) 1/ 180، وإلى كتاب عباس بن إبراهيم (الإعلام بمن حل مراكش وأغمات من الأعلام) 5/ 198. ومن أشهر مصادرها كتاب (الكناش). وعن مصادرها أيضا انظر الأجزاء اللاحقة من هذا الكتاب.

الحاج مصطفى الغريسي والطريقة القادرية

الكريم وبعض الأحاديث والأسانيد ومبادئ الطرق الصوفية المذكورة. أما ما أخذه من ذلك عن طريق الإجازة فلا يعول عليه لأن الإجازة كانت عندئذ تعطي تقريبا لكل عابر سبيل. ومن جهة أخرى فإننا لا نعرف أن التجاني قد أسس في الجزائر، كما فعل بعض زملائه المرابطين، معهدا للتعليم أو أنه قد تصدر هو للتدريس. ومع ذلك فإن الطريقة التجانية قد انتشرت ووجدت لها أتباعا في الجزائر وأصبحت ذات أهمية كبيرة اجتماعيا وسياسيا. ولكن أهميتها قد ظهرت، كالطريقة الرحمانية، في العهد الفرنسي وليس في العهد العثماني. 8 - الحاج مصطفى الغريسي والطريقة القادرية: كنا أشرنا إلى أن الطريقة القادرية قد ظهرت في الجزائر قبل مجيء العثمانيين (¬1). وقد اختلطت تعاليمها بالطريقة الشاذلية وغيرها. وكان العثمانيون قد شجعوا القادرية في أول أمرهم. ومن الملاحظ أن بعض الحجاج الجزائريين من العلماء والصالحين كانوا يتوجهون بعد أداء فريضة الحج إلى بغداد لزيارة ضريح الشيخ عبد القادر الجيلاني وتقديم الهدايا الثمينة إلى حراس الضريح، وكانت تلك الزيارة عندهم جزءا مكملا للحج والرحلة من أجله، إذ لا يصح أن يعودوا إلى بلادهم دون الوقوف على ضريح (مولى بغداد) والتبرك به. ورغم أننا لا نعرف قبل زاوية القيطنة أن أحد المرابطين قد أسس زاوية خاصة بالطريقة القادرية فإن تعاليم هذه الطريقة كانت منتشرة خلال العهد الذي ندرسه. وقد أورد محمد بن سليمان مؤلف (كعبة الطائفين) أخبارا عن الطريقة القادرية. وروى الورتلاني من جهته أنه زار في بجاية القبر المنسوب إلى عبد القادر الجيلاني وتحدث عن كراماته. ومهما كان الأمر فإن الشيخ الحاج مصطفى المختاري الغريسي قد ¬

_ (¬1) انظر الفصل الأول من هذا الكتاب. ونشير هنا إلى أنه منذ القرن الثامن (14 م) نظم أبو الحسن علي بن باديس القسنطيني قصيدته الشهيرة بالسينية في مدح الشيخ عبد القادر الجيلاني كما تحدث محمد الزواوي الفراوسني في القرن التاسع (15 م) عن الطريقة القادرية في كتابه (المرائي).

أسس، حوالي سنة 1200، زاوية قادرية بالقيطنة، الواقعة على وادي الحمام قرب مدينة معسكر. وكان الحاج مصطفى من علماء الوقت وصلحائه وكان يتردد على الحرمين حتى بلغت حجاته أربع حجات. وفي إحداها توجه إلى بغداد ثم رجع وهو عاقد العزم على بناء زاوية تكون مركزا للتعليم ومبعثا للطريقة القادرية، فكان ما أراد. غير أنه أثناء عودته من الحجة الرابعة توفي في عين غزالة قرب درنة بليبيا، وقد تولى أمر الزاوية من بعده ولده محيي الدين الذي كان من شيوخ العلم المشهود لهم. وهو الذي تولى أيضا تعليم ولده عبد القادر، بطل المقاومة الجزائرية ضد الفرنسيين. وأصبح الشيخ محيي الدين يلقن أوراد الطريقة القادرية للمريدين وينشر العلم من الزاوية التي كانت عبارة عن معهد كما سبق أن أشرنا في فصل التعليم. وبالإضافة إلى نشر العلم وتلقين الورد كانت الزاوية محطة للزائرين والغرباء والفقراء. وقد قيل إن الناس كانوا يتنافسون في النفقة عليها. وبعد وفاة الشيخ محيي الدين سنة 1250 تولى ولده محمد السعيد أمر الزاوية، أما ولده عبد القادر فقد تولى أمر المقاومة التي أخذت عليه كل الوقت وأصبح رمزا لجمع الكلمة وتوحيد الشعب تحت راية الوطنية (¬1). وكانت العلاقة ودية بين الزاوية القادرية والعثمانيين في أول الأمر. فنحن نعلم أن أحد بايات وهران قد أسهم في بناء مسجدها، ولعله قد أسهم أيضا في أوقافها، ولكن نقمتهم العامة على زعماء الطرق الصوفية قد شملت أيضا زعيم الطريقة القادرية. فقد احتجز الباي حسن، الشيخ محيي الدين أثناء ذهابه إلى الحج ومنعه من ذلك خوفا من نشاطه بعد أن أصبحت الزاوية على درجة كبيرة من الأهمية وبعد أن أصبح الناس يتجمعون بكثرة في الطريق، كما جرت العادة، لتوديع ركب الحج الذي كان محيي الدين على رأسه، ورغم أن الباي قد سمح للشيخ بالحج في موسم آخر فإن ذلك الموقف منه كانت له عواقب هامة. ذلك أن الباي قد أسرع بتسليم وهران إلى ¬

_ (¬1) انظر مخطوط تاريخ الأمير عبد القادر بالمكتبة الوطنية - الجزائر. وكذلك (حياة الأمير عبد القادر) الذي ترجمناه عن تشرشل، الدار التونسية للنشر، تونس 1974.

الطريقة الطيبية في الجزائر

الفرنسيين ساعة الاحتلال، لأنه كان يعرف أنه لا الطريقة القادرية ولا الدرقاوية ولا التجانية ولا غيرها كانت تقف معه. كما أن القادرية قد اندمجت غداة الاحتلال في تيار الحركة الوطنية مستعملة نفوذها الروحي للدعوة إلى الجهاد ضد الفرنسيين (¬1). 9 - الطريقة الطيبية في الجزائر: ولدت الطريقة الطيبية في وزان بالمغرب الأقصى. وكان مؤسسها هو الشيخ عبد الله الشريف المتوفي سة 1089. وقد ولد الشيخ في قبيلة بني عروس في جبل علام بالمغرب. وبعد الدراسة في تطوان قصد فاس وتتلمذ على علماء القرويين وانتهى به الأمر إلى أن أسس زاويته بعد تجوال وتأمل وبحث. وكان الشيخ يحتقر شهوات الدنيا، وبدأ حياته فقيرا حتى أنه حين تزوج لم يجد ما يدفعه مهرا إلى أن جاءه المهر عن طريق الكرامة الصوفية. ولكن الزاوية توسعت في عهده حتى أنها كانت تطعم، على ما يقال، أربعة عشر ألف نسمة. وقد تولى الزاوية من بعده أبناؤه وأحفاده، فتولاها ابنه محمد بن عبد الله الشريف، وتوسعت في عهده وأصبح لها فروع ومقدمون في المغرب والجزائر. وجاء بعده ابنه الثاني ثم أخوه الطيب الذي ظل على الزاوية من سنة 1127 إلى 1181. وفي عهد هذا الأخير (الشيخ الطيب) ازدهرت الزاوية ازدهارا عظيما. ومنذ ذلك الحين أصبحت تعرف (بالطيبية) رغم أن تأسيسها يعود إلى عهد الشيخ عبد الله الشريف كما عرفنا. وتتابع الأحفاد على الزاوية فتولاها الشيخ أحمد من 1181 إلى 1195 ثم الشيخ علي من ذلك الحين إلى سنة 1226، وهكذا. لقد كانت الطيبية أيضا تستمد أصولها من الطريقة الشاذلية، وهي تعتبر الصلاة على النبي (صلى الله عليه وسلم) أساس الذكر حتى أن الورد الذي لقنه الشيخ عبد الله الشريف لأتباعه كان يتمثل في تكرير الصلاة على النبي أربعا وعشرين ومائة وألف مرة كل يوم وليلة. وكان نشاط الزاوية يقوم على العناية بالفقراء ¬

_ (¬1) عن دور الطريقة القادرية أثناء الاحتلال الفرنسي انظر الأجزاء اللاحقة.

والغرباء واليتامى والأرامل. والظاهر أن نشاطها في ميدان التعليم كان قليلا على الأقل في الجزائر. والغالب أن تكون تعاليم الطريقة الطيبية قد جاءت إلى الجزائر أثناء عهد عبد الله الشريف، رغم أننا لا نملك دليلا واضحا على ذلك. فقد كان علماء الجزائر والمغرب يتبادلون الزيارات خلال هذا العهد. ففي أواخر القرن الحادي عشر جاء ابن زاكور كما عرفنا. وفي النصف الأول من القرن الثاني عشر ذهب ابن حمادوش إلى المغرب مرتين، ونعرف من رحلته الثانية أنه قد أقام بتطوان ودرس بها وزار ضريح الشيخ علي الريف عدة مرات. كما تردد على الجزائر أحمد الورززي. وهو أيضا من علماء تطوان كما عرفنا، ولعل تعاليم الطيبية قد تسربت إلى غرب الجزائر عن طريق (الفقراء) منذ ذلك العهد أيضا، ولا سيما في المناطق الجبلية والونشريس والظهرة وبعض المدن مثل مستغانم (¬1). ومهما كان الأمر فقد دخلت تعاليمها الجزائر في العهود التالية. فنحن نعرف أنه في عهد الشيخ علي (1195 - 1226) جاء إلى الزاوية بوزان طالبان من مستغانم واشتكيا إلى الشيخ من كثرة الديون التي كانت عليهما فقضى الشيخ حاجتهما وعادا من حيث أتيا. كما أننا نعرف أنه أصبح في وهران مقدم للطريقة الطيبية، وهو الحاج التهامي بن عمر. ولم يكن بعض بايات الغرب يرتاحون لنشاطه فسجنوه مرة، وكانوا يضيقون عليه الخناق. ورغم أن الطريقة الطيبية لم تقم ضد الترك في الجزائر بثورة شبيهة بثورة الطريقة الدرقاوية ضدهم فإنها كانت تثير مخاوفهم لعلاقتها السياسية بالمغرب، سيما وأن السلطان سليمان نفسه كان من أتباعه (¬2). ¬

_ (¬1) وجدنا في الوثائق أن باي الغرب الجزائري، قد أوقف سنة 1173 على الزاوية الطيبية بتلمسان دارا اشتراها لها بستين مثقالا ذهبيا. انظر الفصل الثالث من هذا الجزء. وهذا يدل على تمكن ونشاط هذه الطريقة في ذلك الحين. (¬2) تقوم مصادر الطريقة الطيبية على عملين أساسيين هما: (تحفة الأخوان بمبادئ مناقب شرفاء وزان) تأليف حمدون بن محمد الفاسي، و (الكوكب الأسعد في =

الطريقة الدرقاوية والطريقة الحنصالية

10 - الطريقة الدرقاوية والطريقة الحنصالية: وفي أعقاب العهد العثماني انتشرت الطريقة الدرقاوية في غرب الجزائر. وهي تنسب إلى الشيخ محمد العربي الدرقاوي (¬1). ويبدو أن عددا من علماء الجزائر قد انجذبوا نحو هذه الطريقة وأصبحوا من مريديها في ذلك العهد (1220) ولما كانت الدرقاوية قد انتشرت في الوقت الذي تفاقم فيه الضعف السياسي للحكم العثماني في الجزائر فإن رد فعل هذا الحكم ضدها كان عنيفا. ثم ان الدرقاوية نفسها لم تدخر وسعا في إضعاف العثمانيين. فقد هاجمتهم في عقر دارهم وعلى جبهتين هامتين: إقليم قسنطينة وإقليم وهران. وكادت تهز النظام بكامله كما عرفنا (¬2). أما تعاليم الدرقاوية فهي متفرعة عن الشاذلية. وكانت لأتباعها سبح وخرق وأوراد وحلقات ذكر وطرق للاجتماع والانتخاب ونحو ذلك. وقد حاول الدرقاويون أن يعلموا الناس طرق العودة إلى الإسلام الأول فتقشفوا ومنعوا اللباس الفاخر والتزين، ولم يحلقوا الشعر، بل لبسوا الرث من الثياب وابتعدوا عن أمور الدنيا. وكانوا يجتمعون في المناطق النائية والصعبة. ¬

_ = مناقب .. علي بن .. أحمد) تأليف محمد بن محمد المكناسي، وهما الكتابان اللذان اعتمدهما مارسيل بودان في دراسته عن الطريقة الطيبية والتي اعتمدنا نحن عليها. انظر (نشرة جمعية وهران) مارس 1931. انظر أيضا مارسل ايمريت (مجلة التاريخ الحديث والمعاصر) 1954، 211. سندرس علاقة الطريقة الطيبية بالاحتلال الفرنسي في الأجزاء اللاحقة من الكتاب. (¬1) بالإضافة إلى ما ذكرناه آنفا عن الدرقاويين انظر محمد بن أحمد المعسكري المعروف يأبي زيان في كتاب (كنز الأسرار في مناقب مولانا العربي الدرقاوي وبعض أصحابه الأخيار) وهو يعرف أحيانا باسم (طبقات العربي الدرقاوي وتلاميذه). الخزانة العامة بالرباط، رقم 2339. وقد خص بوراس الناصر هذه الطريقة بتأليف عن حروبها ضد العثمانيين في إقليم وهران سماه (درء الشقاوة في حروب درقاوة). انظر أيضا أبا حامد المشرفي (الحسام المشرفي). الخزانة العامة بالرباط، رقم ك 2276. وقد توفي الدرقاوي سنة 1223 هـ. (¬2) انظر الفصل الثاني من هذا الجزء.

وهناك ينتخبون رؤساءهم ويضعون برامجهم وخططهم، وقد تركز نشاطهم في الجزائر في منطقة الونشريس ومن زعمائهم فيها عبد القادر الشريف، الذي سبق الحديث عنه، وابن الأحرش المغربي المسمى البودالي محمد بن عبد الله (¬1) الذي قاد الثورة في نواحي قسنطينة. وما زلنا لا ندري ما العلاقة، إن كانت، بين الطريقة الدرقاوية والحركة الوهابية المتعاصرتين. ومهما كان الأمر فإن تحول الدرقاويين من التصوف إلى السياسة قد أضر بهم لأن الحكومتين الجزائرية والمغربية عندئذ قد تفاهمتا على كبح جماح طريقتهم. ولم يلعب الدرقاويون دورا بارزا في الحياة السياسية في الجزائر بعد الاحتلال الفرنسي (¬2). أما الطريقة الحنصالية فقد أسسها الشيخ يوسف الحنصالي الذي كان من ضواحي قسنطينة واشتهر أمره في عهد البايات المتأخرين حتى كانت داره تعتبر ملجأ لا يمسه أحد بسوء. والظاهر أنها لم تنتشر انتشارا واسعا كالطرق الأخرى. ولاشك أن للحنصالية علاقة وطيدة بالشاذلية أيضا وبالخلوتية (الرحمانية). والحنصاليون يذكرون الله بطريقة فردية بعبارة (أستغفر الله) مائة مرة وكذلك الشهادة مائة مرة. وعند صلاة الصبح يستغفرون الله خمسين مرة ويكررون الشهادة مائة مرة. وهم يفعلون نفس ¬

_ (¬1) ذهب إلى الحج وظل في مصر أيام الحملة الفرنسية عليها. وبعد أن حارب هناك عاد إلى الجزائر وأخذ يبث دعوته في شرقها. وتزوج هناك واتصل بالمرابطين. ومن الذين أيدوه الشيخ الزبوشي الرحماني، كما أسلفنا. وابن بغريش ومولى الشقفة. وتذهب بعض الروايات الفرنسية إلى أن الإنكليز قد شجعوه على العودة وأعطوه بندقية حديثة تطلق ثلاث مرات متواصلة دون حاجة إلى تعمير (وقيل إنه كان لها وقع على السكان أثناء الثورة) (وكان قد دخل الجزائر عن طريق تونس. انظر فيرو (المجلة الإفريقية)، 211 وما بعدها. ولكن ما فائدة الانكليز من إحداث القلاقل في الجزائر العثمانية عندئذ؟. (¬2) ايمريت (مجلة التاريخ الحديث والمعاصر) 1954، 209. انظر أيضا الناصري (الاستقصا) 8/ 109. وكذلك بودان (نشرة جمعية وهران)، مارس 1930، 44. انظر أيضا الأجزاء اللاحقة من الكتاب.

عبد الكريم الفكون ونقد المتصوفين

الشيء عند صلاة المغرب (¬1). ومن أشهر رجال الحنصالية الشيخ أحمد الزواوي الذي عاصر صالح باي وثار عليه كما أسلفنا. ثم أخذها عنه بعض علماء قسنطينة أمثال الشيخ أحمد المبارك الذي تولى بهذه المدينة التدريس والفتوى وترك بعض التآليف. وقد قيل إن عائلة المبارك (المعروفة أيضا باسم عائلة العطار) أصبحت كلها حنصالية (¬2). ويبدو أن الطريقة الحنصالية لم تكن على علاقة طيبة أيضا مع العثمانيين. فبالإضافة إلى ثورة أحمد الزواوي على صالح باي وجدنا أبا القاسم الرحموني الحداد يعرض في شعره بسوء الأحوال السياسية والاقتصادية في عهده ويشيد في نفس الوقت بالطريقة الحنصالية والرحمانية. عبد الكريم الفكون ونقد المتصوفين ونعتقد أنه لا يمكن أن تتضح معالم هذا الفصل إلا بالحديث عن ناقد سلوك المرابطين في وقته، وهو عبد الكريم الفكون. ولهذا السبب أيضا أخرنا الحديث عنه إلى هذا المكان. ففي دراستنا لإنتاج المتصوفين، وهو كثير، لم نجد منهم من انتقد معاصريه انتقادا لاذعا ودعا إلى ما يمكن أن نسميه (بالتصوف السلفي) إلا الأخضري وعبد الكريم الفكون (¬3). ولد عبد الكريم الفكون في قسنطينة سنة 988. وهي السنة التي توفي فيها جده عبد الكريم الفكون فسمي عليه. فهو إذن عبد الكريم بن محمد بن عبد الكريم الفكون. وبعد حياة حافلة بالعلم والعمل توفي في نفس المدينة سنة 1073. وقد كانت أسرة الفكون، كما أشرنا، تتمتع باحترام واسع في ¬

_ (¬1) شارل فارين (عبر بلاد القبائل) - 1865؟ - 81. (¬2) انظر (تاريخ حاضرة قسنطينة) لأحمد المبارك ترجمة دورنون (المجلة الإفريقية)، 1913، 267. في الأجزاء اللاحقة إضافات وتنقيحات عن الحنصالية. (¬3) سبق أن ذكرنا أن محمد بن عبد الكريم المغيلي قد فعل ذلك أيضا ولكن المغيلي من أهل القرن التاسع (توفي سنة 909) فهو خارج العهد العثماني.

قسنطينة لتحالفها منذ البداية مع العثمانيين. ورغم أن جده كان يجمع بين العلم والتصوف فإنه قد تعامل مع السلطات العثمانية فذهب على رأس وفد قسنطينة إلى العاصمة، ولكن حصل ما أوجب فراره مع زميله الشيخ عبد اللطيف المسبح إلى زواوة ثم أعيد إلى العاصمة وسجن، ثم رضيت عليه الدولة وأعادته إلى قسنطينة مكرما (¬1). وأصبحت أسرة الفكون منذئذ في خدمة الدين والدولة، فيها مشيخة الإسلام وإمارة الحج، وكان لها امتيازات اقتصادية ومعنوية لا حصر لها. فقد كانت من أغنى الأسر في قسطينة تملك العقارات والأراضي وتعيش عيشة راضية هنية. وكانت لها زاوية خاصة تطعم منها الفقراء وتنشر العلم وتستقبل الضيوف من الجزائر وخارجها، وتبث منها آثارها وتأثيرها. وبعد وفاة عبد الكريم الفكون الجد تولى ابنه محمد (والد المترجم له) جميع وظائف والده من إمامة وخطابة بالجامع الكبير في قسنطينة. وكان محمد الفكون، كما يقول عنه ابنه، فقيها ومتصوفا أيضا، يقوم الليل ويدرس العلم. ولم نعرف أن العثمانيين الذين جددوا له ما كان لوالده من وظائف دينية قد منحوه لقب شيخ الإسلام. فقد توفي محمد الفكون أثناء عودته من الحج في مكان بين الحجاز ومصر سنة 1045. ولكن عائلة الفكون قد بلغت مجدها الديني والدنيوي في عهد عبد الكريم الفكون الحفيد. فقد تولى وظائف والده مباشرة بعد وفاته كما أسندت إليه إمارة ركب الحج. ذلك أن الوثائق تتحدث عن تجديد تسميته أميرا لركب الحج سنة 1048 من قبل علي باشا. ومما جاء في إحدى الوثائق أنه (الشيخ العالم القدوة التقي .. الناسك الأبر النحرير المؤلف .. البليغ سيدي عبد الكريم الفكون) وأنه قد أذن له بضرب الطبل والاتجاه بالمسلمين كما كان ويكون رقاس الرسول (صلى الله عليه وسلم) وأن أحدا لا يمانعه ولا يعارضه ولا يدافعه لأنه أحق بإمارة ركب الحج، وهو جدير بالقيام بها حق القيام. وقد أرسلت هذه الوثيقة (وهي أمر من الباشا) ¬

_ (¬1) ترجم له حفيده في (منشور الهداية)، وهو الذي ذكر الحادثة السابقة وأبرز الجوانب الصوفية والعلمية لجده.

إلى (القواد والعمال والخاص والعام ببلد قسنطينة) (¬1). ولمشيخة الإسلام امتيازات كثيرة وجميعها أعطت لعائلة الفكون، وعلى رأسها عبد الكريم الفكون الحفيد، صلاحيات اقتصادية وروحية تكاد تكون مطلقة. ويمكن تلخيص هذه الأمتيازات فيما يلي: قيادة بعثة الحج مع الحق الكامل في اختيار أعضاء القافلة والاستفادة من هذه المهمة ماديا بقدر الإمكان، وإدارة جميع أوقاف الجامع الكبير الهائلة بدون مراقبة ولا محاسبة، وإعفاء جميع الأوقاف التابعة للعائلة وجميع أملاكها في المدينة وفي الريف من الضرائب ومن كل الغرامات، والإعفاء أيضا من الغرامات والسخرة وحق دخول المدينة والخروج منها وحق توفير الطعام والسكن للجنود والموظفين العثمانيين، كما يستفيد خدم عائلة الفكون أيضا من هذه الإجراءات وكذلك رعاتها ومساعدوها والمتصلون بها، وأيضا تستفيد العائلة من نيل الهدايا والعطايا العقارية وغيرها. ومن حق العشر من الزرابي والخشب الممحول من نواحي الأوراس إلى قسنطينة، ومن حق المكس على أسواق الخضر والفواكه (¬2). ومن جهة أخرى فإن جميع من يلتجئ إلى العائلة، سواء في المنزل أو غيره، ولو خارج المدينة، مصون لا يتعرض لأي عقوبة ولو ارتكب أكبر جريمة. وكل من مد شيخ الإسلام يده لحمايته لا يجوز التعرض له. كما أن لشيخ الإسلام الكلمة العليا في تطبيق الشريعة الإسلامية والسهر عليها. وقد كان عبد الكريم الفكون في السادسة والخمسين عندما تولى تلك الوظائف وعندما ألف كتابه (منشور الهداية) أيضا. وإذا كنا لا نستغرب موالاته للنظام العثماني عند ثورة ابن الصخري التي أشرنا إليها ¬

_ (¬1) النص العربي لهذا الأمر موجود في (روكاي)، 1878، 229، نشره مع ترجمة له السيد ميرسييه. (¬2) جاء في أمر صادر عن مراد باشا سنة 1060 أن عبد الكريم الفكون قد حصل على حق السوق (سوق الخضر والفواكه) وجميع مداخله لتكون بيده واستعمالها في ضرورات الجامع، كما جاء فيه أن الفكون قد توجه إلى العاصمة بمكتوب من فرحات باي ورجب باي اللذين وهبا له حق السوق فثبته الباشا على ذلك. انظر نفس المصدر.

(سنة 1047) وغيرها فإننا نستغرب ثورته هو على ولاة هذا النظام الاستبدادي والمتعفن في قسنطينة عند تناوله لتراجم العلماء والمرابطين والمتصلين بالعثمانيين في كتابه. فكيف جمع بين الوظيف والنقد؟. ومهما كان الأمر فقد تعلم الفكون على والده في زاوية العائلة وتربى على الثروة والجاه. ثم أخذ ينشد العلم حيث وجده ويتدرج في الحياة العامة. ومن شيوخه البارزين في قسنطينة محمد التواتي المغربي الذي أخذ عنه النحو والتصريف. وقد أثر التواتي دون غيره على الفكون فكان عقله عقلا ناقدا، وكان أسلوبه واضحا فثار على الغموض والبدع والانحراف، وأبى إلا أن يكون الدين ناصعا قويما سلفيا. ويدل على ذلك كتاباه (محدد السنان في نحور إخوان الدخان) و (منشور الهداية في كشف حال من ادعى العلم والولاية). ورغم أن الكتابين متصلان موضوعا إلى حد كبير فإن الذي يهمنا هو الثاني. وبالإضافة إلى هذين الكتابين نظم الفكون ديوانا كاملا في مدح الرسول (صلى الله عليه وسلم)، وألف شرحا على أرجوزة المكودي في التصريف، وآخر على مختصر عبد الرحمن الأخضري سماه (الدرر في شرح المختصر)، وله تقييد على مسألة وقف، وسربال الردة في القراءات، وفتح الهادي في النحو، ومجموعة خطب ورسائل وأشعار كثيرة. كما وعد بأنه سيسجل تقييدا على كرامات الشيخ عمر الوزان. وله غير ذلك. وسنعرض نحن إلى هذه التآليف في مكانها من الجزء الثاني. وللفكون مراسلات كثيرة مع علماء عصره، من ذلك مراسلاته مع سعيد قدورة (وهو يكتبه كدورة). ومراسلاته مع أحمد المقري صاحب (نفح الطيب) التي أشار إليها في (منشور الهداية)، كما جاء في (نفح الطيب) ما يؤكد ذلك (¬1). وقد روى مرويات الفكون تلميذه عيسى الثعالبي الذي تتلمذ أيضا على الشيخ محمد التواتي (¬2). كما تراسل الفكون مع العالم التونسي ¬

_ (¬1) أحمد المقري (نفح الطيب) 3/ 238. (¬2) العياشي (الرحلة) 2/ 396. قد يكون المقصود به التواتي الذي كان في الخنقة وبسكرة سنة 1065 وليس التواتي شيخ الفكون المتوفى سنة 1031، كما عرفنا.

إبراهيم الغرياني القيرواني ومحمد تاج العارفين العثماني. وكانت له علاقة طيبة مع العياشي صاحب الرحلة الذي حج معه سنة 1064 عندما كان الفكون أميرا لركب الحج الجزائري. وقد طلب منه العياشي عندئذ الاتصال بحضرته والانخراط في سلك طريقته، أي الطريقة الزروقية (¬1)، كما نزل عنده في قسنطينة العالم العثماني المللا علي ونشأت بينهما علاقات ودية، كما أشرنا. ولا نستطيع الآن أن نحصي مراسلاته واتصالاته، فهي كثيرة ومتنوعة، وجميعها تدل على مكانته العلمية في قومه وفي العالم الإسلامي عموما. فآراؤه إذن كانت تقوم على تجربة واسعة وعلوم غزيرة. ذلك أنه بالإضافة إلى التأليف كان له تلاميذ كثيرون يقصدونه من زواوة وعنابة ومتيجة والجزائر وغيرها، وكان مدرسا ناجحا في وقته (¬2). نقد الفكون علماء عصره سواء في الجزائر أو غيرها، وعاب على فقهاء المشرق تساهلهم في المسائل الفقهية. وقال إنهم كانوا يشربون الدخان في المساجد ولا يعظمونها حيث يأكلون فيها وينامون ويحلقون رؤوسهم. كما عاب عليهم تساهلهم في منح الإجازات وعدم احترام العلم. أما علماء بلاده فقد آخذهم على نقطتين بارزتين تعتبران مدار فلسفته في الإصلاح عندئذ، الأولى بيع ضمائرهم بقبول الرشوة وخدمتهم المطلقة للولاة وتضحيتهم بالعلم والأخلاق. والثانية انحراف المرابطين بادعائهم التصوف والولاية واتخاذهم الحضرة والوعدة وأكلهم الحشيش والاجتماع على الرقص الصوفي والغناء بهدف الحصول على المال واستغلال العامة والتحالف مع السلطة ¬

_ (¬1) من ذلك نفهم أن الفكون كان من أتباع الطريقة الشاذلية أيضا. وممن تأثروا أيضا بالطريقة الزروقية عبد الرحمن الأخضري ومحمد بن علي الخروبي كما سبق، وكان أحمد زروق قد عاش فى بجاية وقسنطينة وتلمسان. وقد حاول التوفيق بين السلفية والتصوف. (¬2) من تلاميذه البارزين في قسطينة بركات بن باديس الذي ذكر أستاذه في تقييده (نزع الجلباب)، كما ذكر له جوابه عن لغز السيوطي في إحدى مسائل النحو. وقد اطلعنا على ذلك في مخطوط ضمن مكتبة ابن الموهوب.

أيضا للوصول إلى نفس الغرض. وإذا نظرنا إلى النماذج التي ساقها فإننا نحكم بأن صيحته كانت قد جاءت في وقتها. فقد كثر أدعياء الولاية والدجالون والمشعوذون حتى غطى البلاء السهل والوعر. ولا حاجة هنا إلى العودة إلى ذكر النماذج التي جاء بها. وقد كنا سقنا أيضا تعريفه للمتصوف الحقيقي في مقابلة المتصوف الدجال الذي كان ينتقده، وهو تعريف فيه ثورة صارخة ضد البدع والخرافات، وفيه دعوة واضحة إلى التصوف السلفي القائم على العلم والعمل معا. ويجد المرء في عدة أماكن من (منشور الهداية) نداء إلى ضرورة استخدام العقل والعمل بالاجتهاد. ومع ذلك لا يمكن أن يوصف الفكون بأنه كان متساهلا في تصوفه. فقد حكم عليه معاصروه أيضا بأنه كان محافظا وأن له مقاييس ثابتة في التصوف الإسلامي السلفي. وكان يرى أن التصوف قد تدهور تدريجيا. فجيل القرن العاشر (16 م) كان أفضل في تصوفه من جيل القرن الحادي عشر وهكذا. وقد وصفه زميله أحمد المقري بأنه كان (مائل إلى التصوف، ونعم ما فعل!) (¬1). ووصفه العياشي بأنه كان منزويا شديد الانزواء والانقباض عن الخلق ومجانبا علوم أهل الرسوم. وكان لا ينفك عن التوجه إلى الحرمين الشريفين رغم كبر سنه (¬2). ... وهكذا يتضح أن الجزائر خلال العهد العثماني كانت غنية بالمرابطين والطرق الصوفية. ولكن مرابطيها قد ابتعدوا شيئا فشيئا عن العلم والعمل به واقتربوا في أغلبهم من التدجيل والخرافة. ولم تكن لديهم فلسفة في التوحيد ولا عقيدة واضحة في الدين. وكل ما كانوا يفعلونه هو بناء الزوايا وادعاء الكرامات وإعطاء العهود والأوراد وتلقين الأذكار وجمع المال والهدايا من ¬

_ (¬1) المقري (نفح الطيب) 3/ 238. (¬2) العياشي (الرحلة) 2/ 391. وذكر العياشي أيضا بعض مؤلفات الفكون التي وجدها عند ولده: محمد الفكون، وقد جددت لمحمد الفكون كل صلاحيات والده بأمر صادر عن إسماعيل باشا بن خليل سنة 1074 انظر (روكاي)، 1878، 232. انظر كتابنا (شيخ الإسلام عبد الكريم الفكون)، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1986.

الفقراء واستغلال العامة ماليا. وقليل منهم من سلك طريق الزهد والتصوف لله وعاش لدينه وعلمه. ومعظم الطرق الصوفية كانت نسخة مكررة لبعضها، ولا تكاد تختلف سوى في الزمن والبيئة أو في الاعتدال والمبالغة. ولا نكاد نجد طريقة أصيلة نابعة من ظروف سياسية أو دينية استوجبت ظهورها محليا. فقد كانت جميع الطرق مستوردة الأفكار من أجزاء العالم الاسلامي الأخرى، إما من المغرب (الدرقاوية، الطيبية، الزيانية الخ ..) وإما من المشرق (القادرية، الخلوتية، الخ ..) يضاف إلى ذلك الشابية التي انتشرت من تونس، ومع ذلك فإن المرابطين وطرقهم قد لعبوا دورا بارزا في الحياة الثقافية والسياسية للبلاد. ذلك أن كثيرا من الأشعار والتآليف في المناقب والتصوف والسير قد ظهرت خلال هذا العهد. وكانت معظم الزوايا، كما عرفنا، مراكز للتعليم ومخازن للكتب، كما كانت الطرق الصوفية مصدر قلق للولاة الظالمين يخشون بأسها وثورتها، وكثيرا ما هددت كيانهم. ولذلك خصصنا هذا الفصل لدراسة دور المرابطين والطرق الصوفية. انتهى الجزء الأول ويليه الجزء الثاني

المحتوى

المحتوى

_ الإهداء .............................................................................................. 5 شكر واعتراف ........................................................................................ 7 مقدمة الطبعة الثالثة ................................................................................. 9 مقدمة الطبعة الثانية ................................................................................. 11 مقدمة الطبعة الأولى ................................................................................ 13 حول المصادر ..................................................................................... 29 تنبيهات ........................................................................................... 35 الفصل الأول: تراث القرن التاسع (15 م) .......................................................... 37 المؤثرات في الحياة الثقافية ........................................................................ 39 بين العلماء والأمراء .............................................................................. 56 الأدب واللغة .................................................................................... 78 التصوف وعلم الكلام ........................................................................... 88 النقاوسي - الثعالبي - الجزائري - ابن زكري - السنوسي - الحوضي - التازي - الفراوسني - البسكري - القسنطيني - أبو عصيدة العلوم والمنطق ................................................................................. 111 القراءات والتفسير والفقه ........................................................................ 120 أحمد الونشريسي .............................................................................. 123 كتاب الافتتاح للقسنطيني ..................................................................... 132 الفصل الثاني: التيارات والمؤثرات ............................................................ 135 العلاقات بين الجزائريين والعثمانيين .......................................................... 139

_ فئات المجتمع ....................................................................................... 148 دور المدن .......................................................................................... 168 الحياة الدينية والأدبية والفنية ........................................................................ 185 الجهاد أو الإحساس المشترك ....................................................................... 197 الثورات ضد العثمانيين ............................................................................ 209 الفصل الثالث: المؤسسات الثقافية ................................................................ 225 الأوقاف ......................................................................................... 227 المساجد ........................................................................................ 245 الزوايا والرباطات ............................................................................... 262 المدارس والمعاهد العليا ......................................................................... 273 المكتبات ...................................................................................... 285 الفصل الرابع: التعليم ورجاله .................................................................. 311 سياسة التعليم ................................................................................. 313 وسائل التعليم ................................................................................. 321 المعلمون - أجور المعلمين - التلاميذ - تعليم المرأة المناهج ....................................................................................... 338 في التعليم الابتدائي - في التعليم الثانوي - المواد المدروسة - حوافز التعليم وأهدافه بعض كبار المدرسين ......................................................................... 356 سعيد قدورة - علي الأنصاري - سعيد المقري - عمر الوزان الفصل الخامس: فئة العلماء ................................................................. 385 مكانة العلماء ووظائفهم وميزاتهم .............................................................. 388 تنافس العلماء وأخلاقهم ..................................................................... 402 علاقة العلماء بالحكام ...................................................................... 409 هجرة العلماء .............................................................................. 423 العلماء المسلمون في الجزائر .............................................................. 432 من قضايا العصر ....................................................................... 444

_ الفصل السادس: المرابطون والطرق الصوفية ................................. 457 حركة التصوف عشية العهد العثماني ......................................... 459 موقف العثمانيين من رجال التصوف ......................................... 464 حالة التصوف ............................................................... 472 سلوك بعض المتصوفين ..................................................... 481 بعض المرابطين وأهم الطرق الصوفية ........................................ 493 الملياني - الخروبي - الأخضري - أبهلول - بوزيان والزيانية - الأزهري والرحمانية - التجاني والتجانية - الغريسي والقادرية - الطيبية - الدرقاوية والحنصالية عبد الكريم الفكون ونقد المتصوفين .......................................... 519

دار الغرب الإسلامي بيروت - لبنان لصاحبها: الجيب اللمسي شارع الصوراتي (المعماري) - الحمراء، بناية الأسود تلفون: 350331 - 009611: Tel / خلوي: 638535 - 009613: Cellulair فاكس: 742587 - 009611: Fax / ص. ب. 5787 - 113 يروت، لبنان DAR AL - GHARB AL - ISLAMI B.P.: 113 - 5787 Beyrouth, LIBAN الرقم: 337/ 2000/ 11/ 1998 التنضيد: كومبيوتايب - بيروت الطباعة: دار صادر، ص. ب , 10 - بيروت

HISTOIRE CULTURELLE DE L'ALGERIE PAR Professeur Aboul Kacem Saadallah Université d'Alger Tome 1 1500 - 1830 DAR AL - GHARB AL - ISLAMI

HISTOIRE CULTURELLE DE L'ALGERIE

الجزء الثاني

الدكتور أبو القاسم سعد الله تاريخ الجزائر الثقافي الجزء الثاني (1500 - 1830) دار الغرب الاسلامي

1998 دار الغرب الإسلامي الطبعة الأولى دار الغرب الإسلامى ص. ب. 5787 - 131 بيروت جميع الحقوق محفرظة. لا يسمح بإعادة إصدار الكتاب أو تخزينه في نطاق إستعادة المعلومات أو نقله بأي شكل كان أو بواسطة وسائل إلكترونة أو كهروستاتية، أو أشرطة ممغنطة، أو وسائل ميكانيكية، أو الاستنساخ الفوتوغرافي، أو التسجيل وغيره دون إذن خطي من الناشر.

تاريخ الجزائر الثقافي

تنبيهات

بسم الله الرحمن الرحيم تنبيهات - للإحالة على الدوريات ذكرنا اسم الدورية بين قوسين فتاريخها فالصفحة فإذا ذكرنا رقما قبل التاريخ فهو عدد الدورية. - للإحالة على الكتب المطبوعة ذكرنا أول مرة ما يتعلق بتعريف الكتاب فإذا أشير إليه بعد ذلك نذكر عنوانه بين قوسين فالصفحة منه وإذا كان له أجزاء ذكرنا رقم الجزء تليه الصفحة ويفصل بينهما خط مائل. - للإحالة على مصدر مخطوط ذكرنا مكانه ورقمه وبعض أوصافه ومكملاته ما أمكن مثل حالته وصفحه أو ورقة الخ. - وهناك بعض المصادر كنا اطلعنا عليها مخطوطة ثم نشرت، مثل (الثغر الجمالي) و (التحفة المرضية)، فإذا كانت الإحالة مطلقة فتعني المطبوع، وإلا فإن عبارة "مخطوط " تذكر إزاءها. - لم نختصر عناوين المكتبات مثل: المكتبة الوطنية - تونس، المكتبة الوطنية - الجزائر، الخزانة العامة - الرباط، الخ. تفاديا للالتباس وتسهيلا، للبحث. - لم تكتب أسماء المؤلفين الأجانب باللاتينية إلا نادرا. وقد حاولنا في نطقها الرجوع إلى أصل لغة المؤلف مثلا شيلر وليس شالير كما هو في الفرنسية، الخ. - في فهرسة الأعلام اتبعنا التنظيم الأبجدي العالمي، مع الاستغناء عن "ابن" و "أبو". - زيادة في التوضيح نذكر أسماء المجلات الآتية مع أصلها باللاتينية - (أنال) annales

- (روكاي) Recueil des notes et mémoires de Constantine - (نشرة جغرافية وهران) Bulletin de la Société de géographie d'Oran - (المجلة الإفريقية) Revue Africaine - (المجلة الآسيوية) Journal Asiatique - (مجلة العالم الإسلامي) تعني - المجلة التي تحمل هذا الاسم بالإنكليزية والفرنسية، ولكننا فرقنا بينهما بذكر عبارة "بالإنكليزية"، أو "بالفرنسية". Revue du Monde Musulman Moslen world review Société de Géographie D'alger et de L'afrique du nord = Sgaan - مجلة الجمعية الجغرافية لمدينة الجزائر وشمال إفريقية.

الفصل الأول العلوم الشرعية

الفصل الأول العلوم الشرعية

حول التقليد والتجديد

حول التقليد والتجديد نقصد هنا بالعلوم الشرعية الدراسات القرآنية كالتفسير والقراءات، والحديثية كرواية الحديث ودرايته، بما في ذلك الأثبات والإجازات، والفقهية من العبادات والمعاملات كالنوازل. وقد كثرت هذه الدراسات بين الجزائريين خلال العهد العثماني حتى أنه يمكن القول بأن أغلب إنتاج الجزائر خلال هذا العهد يكاد ينحصر في العلوم الشرعية والصوفية والمجالات الأدبية. ورغم أن معظم الإنتاج في العلوم الشرعية كان يفتقر إلى الأصالة والجدة، فإن كثرة التأليف فيه يبرهن على سيطرة العلوم المذكورة على الحياة الفكرية عندئذ. ولا شك أن ذلك يعود بالدرجة الأولى إلى كون القرآن والحديث كانا المنبع الذي يستمد منه الجزائريون كل ألوان تفكيرهم وأنماط حياتهم. وأهم ما تميزت به العلوم الشرعية في هذا العهد التقليد والتكرار والحفظ. فالفقهاء قلما اجتهدوا أو استقلوا بآرائهم، بل كانوا يقلدون سابقيهم تقليدا يكاد يكون أعمى. فإذا ما حاول أحدهم أن يشذ عن هذا التيار أقاموا عليه الدنيا وأقعدوها، واجتمع عليه المجلس الشرعي الذي كانت تتدخل فيه الدولة. وفي أحسن الأحوال كان يحكم على المستقل برأيه بعزله من وظيفته. أما في أسوأ الأحوال فالحكم عليه بالتكفير والزندقة. ومع ذلك حاول بعض الفقهاء تحطيم هذا الجدار. ومنهم عبد الكريم الفكون في القرن الحادي عشر (17 م)، وأحمد بن عمار في القرن الثاني عشر، ومحمد بن العنابي في أوائل القرن الثالث عشر. وقد سقنا في الجزء الأول عدة نماذج من ثورة الفكون على الجمود العقلي لدى فقهاء عصره. ونود أن نضيف هنا

قوله عن ظاهرة الحفظ لدى هؤلاء الفقهاء. فقد استشهد ذات مرة، وهو ينعي على صديقه أحمد المقري عدم دقته العلمية واعتماده على الحفظ، بكلام أبي بكر ابن العربي من أن "العلم ليس بكثرة الرواية وإنما هو ما يظهر عند الحاجة إليه في الفتوى من الدراية، وأن السرد للمعلومات إنما حدث عند فساد القلوب بطلب الظهور والتعالي عن الأقران وكثرة الرياء في الأعمال". وقد علق الفكون على هذا من أن ما قاله ابن العربي يعبر عن الواقع في الجزائر وغيرها، فلا ترى إلا من يقول قال فلان قال فلان أو يذكر نص التأليف بدون تغيير. فإن صادف الحكم الحكم نجا وإلا أصبح كالصيد في الشبكة. وهم يفعلون ذلك حبا للمدح وصرفا لقلوب الخاصة والعامة إليه. ولو (سئل عن وجه الجمع بين المتشابهين أو الفرق بين المسألتين يقول النص هاكذا (كذا)، ويستظهر بحفظ النصوص، وهل هذا إلا جمود في غاية الجمود) (¬1). ويعتبر نقد الفكون في غاية الصراحة والدقة. ذلك أننا لا نعرف أن فقهاء الجزائر الذين عاشوا في القرن الأول من العهد العثماني قد نادوا بتقديم الاجتهاد العقلي (الدراية) على التقليد (الرواية). فهم كانوا يرددون أقوال المتقدمين ويحفظونها حفظا سطحيا لا عقل فيه ولا تفكير، ويسردون المسائل كما هي في الكتب لا كما تقبلها أو ترفضها عقولهم. ويتظاهرون بالحفظ وقوة الحافظة، وكل العلم عندهم ما حواه القمطر. فإذا عدت إلى كتاب كـ (البستان) لابن مريم تجده لا يترجم لأحد الفقهاء إلا قال عنه إنه كان يحفظ كذا وكذا من الكتب. وقد وصف أحمد المقري معاصروه بأنه كان أحفظ أهل زمانه حتى قال فيه أحدهم بأنه لا يعرف في وقته أحفظ منه، وعندما خرج المقري من المغرب إلى المشرق قيل عنه "خلت البلاد من مثله ومضاهيه " (¬2). وكثيرا ما وصف المقري بأنه (حافظ المغرب الأوسط)، وهو نفس الوصف الذي أطلق على غيره أيضا، ولا سيما أبو راس الناصر. وظاهرة الحفظ والتقليد قد جمدت الإنتاج في العلوم كلها، وخصوصا العلوم ¬

_ (¬1) عبد الكريم الفكون (منشور الهداية) من تحقيقنا، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1987 (¬2) عبد الحي الكتاني (فهرس الفهارس) 2/ 14.

الشرعية، وجعلته عبارة عن تكرار ونقل رتيب لأعمال الآخرين. وإذا كان ابن عمار قد عاب على فقهاء عصره جمودهم العقلي وترهل الفكر عندهم فإن ثورته لم تصل إلى حدة ثورة الفكون ولا ثورة محمد بن العنابي، والواقع أن ابن العنابي كان من أوائل الفقهاء الذين لم يكتفوا بنقد الجمود العقلي بل أضاف إلى نقده اللاذع الدعوة إلى استعمال الاجتهاد والأخذ بأسباب الحضارة الغربية، والحد من نشاط الدراويش الذين أضروا في نظره بالمجتمع الإسلامي. وكأن ابن العنابي قد جاء ليوضح ما دعا إليه الفكون. ففي كتابه (السعي المحمود في نظام الجنود) نقد ابن العنابي معاصريه من الفقهاء بشدة وسخر من أفكارهم ومظهرهم، كما نادى بضرورة النهضة الإسلامية على أساس المنافسة بين العالم الإسلامي والعالم الأوروبي والسباق مع الحضارة الأوروبية والفوز عليها فيما تفننت فيه من أنواع الاختراعات والمبتكرات الصناعية والتقنية والحربية. وكان له رأي أيضا في الديمقراطية السياسية وتوزيع الثروة واختيار الأكفاء في الإدارة ونحو ذلك مما كان شبه محرم طرقه على الفقهاء قبله (¬1). وظاهرة التقليد، بالإضافة إلى تخلف الثقافة عموما، كانت مسؤولة على ندرة الإنتاج في العلوم الشرعية التي تحتاج إلى ثقافة واسعة وعميقة كالتفسير. ذلك أن مفسر القرآن الكريم يحتاج إلى ثقافة دينية وتاريخية ولغوية قوية لكي يقدم على عمله، بالإضافة إلى استقلال عقلي كبير، وهذا ما لم يتوفر للجزائريين خلال العهد العثماني. فمجال الثقافة، كما عرفنا، كان محدودا، وميدان استثمارها كان أيضا محدودا. وإذا توفر جانب من جوانبها المذكورة (الدينية، التاريخية، اللغوية والاستقلال العقلي) فإن بقية الجوانب لا تتوفر. لذلك قل مفسرو القرآن من الجزائريين، وضحلت دراسات الحديث باستثناء بعض الفروع كرواية الأسانيد والأثبات ومنح الإجازات فيها. أما الدراسات الفقهية فقد كانت تقليدية أيضا. ولم يستطع أحد من ¬

_ (¬1) أبو القاسم سعد الله (رائد التجديد الإسلامي: ابن العنابي) ط 2، الإسلامي، بيروت 1990.

التفسير

العلماء في العهد العثماني أن يكتب عملا في الفقه شبيها بـ (معيار) أحمد الونشريسي. كما لم يكتب أحد منهم (فيما وصل إلينا) عملا في التفسير يشبه (الجواهر الحسان) للثعالبي. فإنتاج الجزائر إذن من العلوم الشرعية كاد ينحصر في مجالات واهية لتفسير القرآن الكريم، وبعض العناية بالقراءات، وفي مجموعة من الأثبات والإجازات، بالإضافة إلى أعمال فقهية تتناول فروعا من العبادات والمعاملات، وسنحاول الآن أن ندرس كل علم من هذه العلوم على حدة. التفسير يمكن أن نتناول التفسير من ناحيتين. ناحية التدريس وناحية التأليف. أما تدريس التفسير فقد كان شائعا بين العلماء البارزين. ومن الذين اشتهروا بذلك محمد بن علي أبهلول، وابن للو التلمساني، وعبد القادر الراشدي القسنطيني، وأبو راس الناصر. ورغم أننا لا نملك الوثائق الآن فإن أمثال سعيد قدورة، وأحمد بن عمار، وسعيد المقري ربما تناولوا أيضا التفسير في مجالس دروسهم التي اشتهروا بها. ومن الطبيعي أن نقول إنه ليس كل من تناول التفسير أجاد أو جدد فيه. ذلك أن ظاهرة التقليد والحفظ كانت مسيطرة على العلماء في جميع الميادين، ومن بينها ميدان التفسير. فنحن نتصور أن معظم المفسرين للقرآن الكريم في مجالس الدروس، كانوا يكررون في الغالب أقوال المفسرين المتقدمين، وقلما يخرجون عليها برأي جديد يتلاءم مع العصر. ومن جهة أخرى فإن الوثائق تعوزنا في الوقت الراهن، فليس هناك ما يدل على نوع الطريقة (¬1) التي كان يستعملها أمثال أبهلول وابن لَلُّو والراشدي ¬

_ (¬1) ذكر ابن حمادوش في رحلته أنه حين زار الشيخ أحمد الورززي المغربي مدينة الجزائر سنة 1159 اجتمع إليه الطلبة (العلماء) وطلبوا منه أن يريهم كيف يبتدئ المدرس درس التفسير ففعل، وكان ذلك في الجامع الكبير. انظر التفاصيل والدرس الذي ألقاه، في رحلة ابن حمادوش، من تحقيقنا. نشر المكتبة الوطنية - الجزائر، 1983

أثناء درس التفسير. فقد روى سعيد قدورة أن الرحال كانت تشد إلى شيخه محمد بن علي أبهلول لشهرته في علوم التفسير والحديث وما شابهها. وروى قدورة أيضا أن شيخه قد وصل في تفسيره إلى سورة الإسراء قبل أن يقتل سنة 1008 (¬1). فهل كان الشيخ أبهلول يملي تفسيره إملاء أو كان يلقيه إلقاء على طلابه؟ هذا ما لا تفصح عنه الوثائق. والظاهر أن الشيخ كان يفسر باللسان ولا يسجل بالقلم. ذلك أن الذين ترجموا له تحدثوا عن براعته في عدة علوم أخرى ولكنهم لم يتحدثوا عن كتب أو تقاييد له. فهو إذن من المدرسين في التفسير وليس من المؤلفين فيه. ولا نتوقع أن يكون تفسير أبهلول تفسيرا حيا أو مبتكرا، وإنما نتوقعه تفسيرا تقليديا منقولا عن السابقين، مع قليل من ذلاقة اللسان وبيان العبارة، لأن الشيخ كان مشهورا أيضا بحذق العروض والمنطق والنحو، وهي علوم تساعد على فهم القرآن وجودة تفسيره. وعندما ترجم أبو حامد المشرفي لابن للو التلمساني قال عنه إنه قد ختم تفسير القرآن الكريم في الجامع الأعظم بتلمسان. وكان والد المشرفي معاصرا أو قريبا من زمن ابن للو، فهو الذي حدث ابنه، أبا حامد، بأن ابن للو قد فسر القرآن حتى ختمه. وقد عرفنا في الجزء الأول أن ابن للو كان غير راض على الأوضاع السياسية بتلمسان وأنه كان ساخطا على العثمانيين حتى أنه أمسك بلحية القائد حفيظ التركي ورد عليه هديته من السمن والدقيق. ويكفي ابن للو أنه كان أستاذا لعدد من الطلاب الناجحين، وعلى رأسهم الشيخ محمد الزجاي (¬2)، الذي اشتهر أمره أيضا أوائل القرن الثالث عشر. ونحن لا نستغرب أن يعمد ابن للو إلى تفسير القرآن الكريم ويتصدى لذلك حتى يختمه بالجامع الأعظم، فقد عرف عنه أيضا أنه كان من الأدباء الحاذقين حتى أن أبا حامد المشرفي جعله "خاتمة أدباء تلمسان ¬

_ (¬1) سعيد قدورة، مخطوطة رقم 422، مجموع المكتبة الوطنية، تونس. انظر أيضا أبو حامد المشرفي (ياقوتة النسب الوهاجة). انظر ترجمة قدورة في فصل التعليم من الجزء الأول. (¬2) عن محمد الزجاي انظر فصل السلك الديني والقضائي في جزء لاحق

المتأخرين " (¬1). وهذا يؤكد ما قلناه من أن الذين تناولوا التفسير كانوا من أبرز العلماء ومن أكثرهم إلماما بمختلف العلوم الشرعية والعقلية. والظاهر أن ابن للو لم يكن يحتفظ بتقييد لما كان يفسره، ولم يهتم أحد من تلاميذه بجمع ما ألقاه. ولو فعلوا ذلك لوصل إلينا نموذج من تفاسير القرن الثاني عشر نستدل به على ثقافة العلماء عندئذ ومنهجهم في التفسير. ولعل منهج ابن للو في تفسير القرآن كان يعتمد على المعاني الظاهرية، كما كان يعتمد طريقة القدماء في الاستدلال والاستنتاج. ومن الذين تناولوا التفسير تدريسا أيضا عبد القادر الراشدي القسنطيني. ورغم شهرة الراشدي في وقته فإن حياته ما تزال غامضة وليس لدينا منها سوى نبذ متفرقة هنا وهناك. والذي يهمنا هنا ليس حياته وإنما مساهمته في تفسير القرآن الكريم، ذلك أن مترجميه قد تحدثوا عن أنه كان يعقد مجالس للفتوى والتفسير، غير أننا لا نعرف ما إذا كانت هذه المجالس للتدريس أو مجالس اجتماعية يحضرها الوالي والعلماء. والمعروف أن الراشدي كان قد تولى الإفتاء والتدريس بجامع سيدي الكتاني ومدرسته، وكلاهما من آثار صالح باي. كما أن للراشدي بعض التآليف، ولكننا لا نعرف ما إذا كان تفسيره قد جمع في كتاب، فلعله لم يكن يتناول التفسير بصورة منتظمة، وإنما كان يتناول بعض الآيات في المناسبات المعينة ويعرضها ويحللها، ونحن نتصور أنه كان إلى حد ما متحررا في فتاويه وآرائه. ذلك أن سيرته تشير إلى أنه قد واجه بعض التحدي نتيجة آرائه. فقد قيل عنه إنه كان يقول بالتجسيم وأن بعض علماء وقته قد حكموا عليه بالزندقة والكفر وكادوا ينجحون في الفتك به لولا تعاطف صالح باي معه. كما أنه قد ألف رسالة في تحريم شرب الدخان (¬2). وكل هذه المواقف والآراء تجعلنا نتصور أنه كان في تفسيره شيء ¬

_ (¬1) أبو حامد المشرفي (ذخيرة الأواخر والأول)، مخطوط، ص 12. (¬2) أبو القاسم الحفناوي (تعريف الخلف برجال السلف) 2/ 219. وقد أخبر الكتاني (فهرس الفهارس) 1/ 172 أن ترجمة الراشدي توجد في معجم مرتضى الزبيدي. والمعروف أن الراشدي كان قد أجاز الزبيدي بالمراسلة. انظر قسم الإجازات من هذا الفصل=

من الخروج عن المألوف وعدم التقيد الرتيب بنصوص وآراء الأقدمين. أما أحمد المقري فقد عرف عنه كثرة المحفوظ في مختلف العلوم والفنون وكثرة التأليف في الأدب والتاريخ والحديث، ولكن لم يعرف عنه أنه كان من مدرسي القرآن الكريم. وقد أخبر عبد الكريم الفكون أن المقري قد انتصب للتدريس في الجامع الأعظم بمدينة الجزائر عندما أخرجته الظروف السياسية من المغرب، وأن من جملة ما درس هناك التفسير. ولكن إقامة المقري لم تطل بالجزائر، فقد توجه إلى المشرق حيث درس الحديث والأدب وتاريخ الأندلس والعقائد. ولكن مترجميه لم يذكروا أنه درس هناك التفسير أيضا. ويبدو أن ما قيل من أن العقائد كانت مهنة أهل المغرب وأن التفسير فن أهل المشرق قول فيه كثير من الصحة، والدليل على ذلك قلة التفاسير عند المغاربة مع كثرتها في المشرق، بينما الأمر بعكس ذلك بالنسبة للعقائد ونحوها. ومهما كان الأمر فإن أحمد المقري كان غزير المعرفة، يتمتع بحافظة قوية، ولم يكن يعوزه التأليف في التفسير فما بالك التدريس فيه. ونحن نعتقد أنه لو ألف فيه لأجاد كما أجاد فيما ألف في العلوم الأخرى. كما نفهم من نقد الفكون له أن طريقة المقري في التفسير، كما هي في علومه الأخرى، طريقة كلية لا جزئية تعتمد على التعميم وتبتعد عن الدقة. وهو، لكونه أديبا، كان يزوق الألفاظ ويستعمل العبارات المبهمة. وقد أخذ عليه الفكون حين سأله عن إعراب ابن عطية للآية (ولأتم نعمتي عليكم)، تهربه من الإجابة العلمية (¬1). ولا بد من الإشارة أيضا إلى أن هناك غير هؤلاء. فالوزان والأنصاري وعيسى الثعالبي كانوا أيضا من مفسري القرآن الكريم في دروسهم. وقد روى محمد بن ميمون أن القاضي أبا الحسن علي كان بارعا في تفسير القرآن حتى ¬

_ = أما رسالته عن الدخان فقد حققها عبدالله حمادي تحت عنوان (تحفة الإخوان في تحريم الدخان)، دار الغرب الإسلامي، بيروت 1997. (¬1) عبد الكريم الفكون (منشور الهداية) الخاتمة. انظر ترجمة أحمد المقري في فصل الأدب من هذا الجزء.

اشتهر به وتسابق الناس إلى درسه في الجامع الكبير، كما اشتهر بعلوم اللسان. وكذلك قال ابن ميمون عن المفتي مصطفى بن عبد الله البوني بأنه تناول تدريس الثعالبي "على سبيل التفقه " وأنه أجاد فيه (¬1)، ومن جهة أخرى ذكر ابن زاكور في رحلته أن شيخه أبا عبد الله بن خليفة الجزائري قد ختم القرآن الكريم تدريسا (¬2). أما التفسير تأليفا فالخوض فيه قليل. ورغم شهرة مدرسة تلمسان العلمية فإنها لم تنتج مفسرين للقرآن الكريم جديرين بالإشارة. حتى العالم المعروف، أحمد الونشريسي وابنه عبد الواحد لم يعرف عنهما التأليف في التفسير. ونفس الشيء يقال عن مدرسة بجاية وقسنطينة. فرغم شهرة عمر الوزان وعبد الكريم الفكون (الجد) خلال القرن العاشر، فإننا لم نعثر لهما على تأليف في التفسير. وقد اعتنى عبد الرحمن الأخضري بمختلف العلوم، شرعية وعقلية، ولكننا لم نعرف عنه أنه حاول التفسير. وهكذا ينتهي القرن العاشر (16 م) دون أن نسجل تأليفا واحدا في تفسير القرآن الكريم. غير أنه يقال إن محمد بن علي الخروبي قد وضع تفسيرا أثناء إقامته بالجزائر. فإذا صح هذا فإنه يكون أمرا غريبا من شيخ لا هم له عندئذ سوى نشر الطريقة الشاذلية وخدمة الدعاية العثمانية والتأليف في التصوف. ومهما يكن من أمر فنحن لم نطلع على هذا التفسير ولا تؤكد مصادر الخروبي وجوده (¬3)، وقد روى عبد الكريم الفكون (الحفيد) أن جده قد وضع "تقييدا" جمع فيه الآيات التي استشهد بها سعد الدين التفتزاني في كتابه المطول، ولكن العناية ببعض الآيات من القرآن الكريم لا تعني العناية بالتفسير كعلم قائم بذاته. ثم إن الرواية تشير إلى أن الشيخ الفكون قد جمع الآيات ولم تقل إنه فسرها أو علق عليها. ومن ثمة يظل هذا التقييد خارج ¬

_ (¬1) ابن ميمون (التحفة المرضية) مخطوط، 48، و 235 من المطبوع. (¬2) ابن زاكور (الرحلة) 31، وكان ابن خليفة من الذين أجازوا ابن زاكور أثناء زيارة هذا للجزائر، وقد توفي ابن خليفة سنة 1094. (¬3) أشار إليه صاحب (الإعلام بمن حل مراكش واغمات من الإعلام) 4/ 150.

النطاق الذي نتناوله. ذلك أن الفكون (الجد) كان مهتما اهتماما خاصا بعلم البيان وكان جمعه للآيات من مطول التفتزاني لا يخرج عن حبه للبيان (¬1). وقد أنجب القرن الحادي عشر مجموعة من العلماء المشار إليهم من أمثال سعيد المقري، وابن أخيه أحمد المقري، وسعيد قدورة، وابنه محمد، وعيسى الثعالبي، ومع ذلك لا نجد أحدهم قد ترك تأليفا في علم التفسير (¬2)، وفي ترجمة علي بن عبد الواحد الأنصاري ذكر المحبي أن للأنصاري عملا في التفسير بلغ فيه إلى قوله تعالى: (ولكن البر من اتقى) (¬3)، وقد قام يحى الشاوي بوضع أجوبة على اعتراضات أبي حيان على ابن عطية والزمخشري. ويبدو أن أجوبة الشاوي كانت ضخمة إذا حكمنا من حجم عمله (¬4)، ولم نطلع نحن على هذا العمل حتى نحكم على منهج صاحبه، ولكننا نعرف أن يحى الشاوي كان من أبرز علماء عصره تجربة وثقافة ونقدا. وقد ألف في علوم أخرى كالتوحيد والفقه سنعرض إليها. ونود هنا أن نذكر بما قلناه عنه من أنه كثير النقد لعلماء عصره وغيرهم، وإنه كان يعتبر هذا النقد، رغم ما فيه من تعرض للأخطار، مصدر ثواب. لذلك فنحن نتصور أن أجوبته على تفاسير غيره ستكون مشبعة بالآراء المستقلة التي كانت تهدف إلى فهم القرآن في ضوء مصالح المسلمين في وقته. ومن العلماء الذين ألفوا في التفسير خلال القرن الثاني عشر أحمد البوني وحسين العنابي. وعنوان تأليف البوني هو (الدر النظيم في فضل آيات ¬

_ (¬1) عبد الكريم الفكون (منشور الهداية)، 18 - 23 في ترجمة جده المتوفي سنة 988. (¬2) ذكر محمد بن عبد الكريم (المقري وكتابه نفح الطيب) 280، إن للمقري تأليفا عنوانه (إعراب القرآن) وأنه في المكتبة الوطنية بباريس. (¬3) المحبي (خلاصة الأثر) 3/ 173. (¬4) محمد بن عبد الكريم (مخطوطات جزائرية في مكتبات إسطانبول) ص 11 - 12. فقد ذكر أن نسخة من هذه الأجوبة (الحاشية) تبلغ 718 ص وأن نسخة أخرى منها تبلغ 810 ص. انظر أيضا مجلة (المورد) العراقية 7 (1978) 313. فقد ذكر هنا أن عدد الأوراق 259 ورقة. انظر أيضا ترجمة يحيى الشاوي في الفصل التالي.

من القرآن العظيم) (¬1)، ويبدو من هذا العنوان أن البوني لم يتناول التفسير بالمعنى المتعارف عليه وإنما خص بعض الآيات من القرآن مستخرجا منها المعاني التي تناسب التصوف والآداب العامة. أما العنابي فقد تولى الإفتاء عدة مرات في الجزائر، وكان من أبرز علماء الحنفية. وإذا كانت حياته في الوظيفة معروفة من سجلات الإدارة العثمانية فإن حياته العلمية ما تزال غير معروفة. ولا نكاد نعرف عنها أكثر مما ذكره حفيده محمد بن محمود بن العنابي الذي ذكر في تأليفه أن لجده تفسيرا للقرآن الكريم، وقد نقل منه عدة مرات مستشهدا بكلامه. ولم يصل تفسير حسين العنابي إلينا ولكن عبارة حفيده تدل على أن العمل كامل، فهو يقول: "قال مولانا الجد الأكبر حسين بن محمد رحمه الله في تفسيره". ومما نقل عنه تفسيره لقوله تعالى: (نحن أولياؤكم! حيث قال حسين العنابي: "أي تقول لهم الملائكة عند نزولهم للبشرى، نحن أولياؤكم أي أنصاركم وأحباؤكم في الحياة الدنيا فنلهمكم الحق ونحملكم على الخير، وفي الآخرة بالشفاعة والكرامة لا نفارقكم حتى تدخلوا الجنة" (¬2). ولم يذكر ابن العنابي عنوانا لتفسير جده ولا حجما. ولكن عبارته تدل على أنه كان يملك نسخة منه يستعملها عند الاستشهاد. ولم نطلع نحن على عمل آخر لحسين العنابي حتى يساعدنا في الحكم على تفسيره، والظاهر أنه تفسير ديني بالدرجة الأولى. وهناك عالمان متعاصران ألف كلاهما في التفسير، وهما أبو راس الناصر ومحمد الزجاي. وكلاهما أيضا جمع إلى الثقافة الدنيوية ثقافة صوفية ودينية قوية. فأما أبو راس فقد ذكر أنه قد وضع تفسيرا للقرآن الكريم في ثلاثة أسفار وأنه جعل كل سفر يحتوي على عشرين حزبا، وسماه (التيسير ¬

_ (¬1) المعرض الخامس لجائزة الحسن الثاني للمخطوطات 1973، ضمن مجموع رقم 406 ر. انظر أيضا (غريب القرآن) لمحمد بن عبد الله المجاسي (المجاجي؟)، الجزائر 413، بروكلمان 2/ 987. (¬2) انظر كتابي (المفتي الجزائر ابن العنابي)، 100 انظر أيضا ط 2 منه.

إلى علم التفسير). ومما عرفناه عن أبي راس نستطيع أن نحكم بأن تفسيره سيكون محشوا بالاستطراد كالأخبار والإعراب والحكايات ونحوها. ونحكم أيضا بأن عبارته ستكون سهلة وألفاظه قريبة من العامية. أما التفسير في حد ذاته فقد يكون مقتصرا فيه على المعاني الظاهرة التي لا تحتاج إلى كثرة الاستدلال والاستنباط والتفرع. ومهما كان الأمر فإن تفسير أبي راس. يذكر المرء بتفسير الثعالبي لأن كليهما كان يجمع الزهد إلى العلم، وكليهما جاء في وقت اضطربت فيه الأحوال السياسية في البلاد، كما أن حجم التفسيرين متقارب (¬1). ويبدو أن محمد الزجاي قد غلب عليه التصوف أكثر من أبي راس. فالذين ترجموا له عدوا له مجموعة من الكرامات، واعتبروه من زهاد العصر ومن علمائه أيضا. وللزجاي مجموعة من التآليف في التفسير والنحو والتصوف. ويهمنا من أعماله ما فسره من القرآن. فقد عد له أحد مترجميه "تفسير الخمسة الأولى"، وهو تعبير غير واضح، فهل هو تفسير السور الخمس الأولى أو تفسير الأجزاء الخمسة الأول؟. وعلى كل حال فإن التعبير يدل على أن هذا التفسير غير كامل وأنه تناول فيه جزءا فقط من القرآن الكريم. كما ذكر له مترجمه "حواش كثيرة في التفسير وغيره (¬2)، ولعل هذه الحواشي تشبه ما قام به يحيى الشاوي في تعاليقه على التفاسير المتقدمة. والظاهر أن الزجاي الذي اشتهر بمهنة التدريس، كان يتبع في تفسيره طريقة الشروح المتداولة، حيث كانوا يعمدون إلى عبارة الأصل فيعربونها ويذكرون معناه أو معانيها ويستشهدون لذلك بما يعزز رأيهم، وقد يستطردون بعض ¬

_ (¬1) عدد أبر راس كتبه في رحلته المسماة (فتح الإله ومنته في التحدث بفضل ربي ونعمته) التي اطلعنا منها على نسختين، وقد خصص القسم الخاص منها لتعداد تآليفه وسمى هذا القسم "العسجد والإبريز في عدة ما ألفت بين بسيط ووجيز". وجعل التفسير هو الباب الأول من هذا القسم، ومنه الحديث، والتوحيد، والتصوف، والفقه، والنحو، والأدب، والتاريخ. وقد نشر محمد بن عبد الكريم هذه الرحلة. (¬2) إتمام الوطر في التعريف بمن اشتهر) مخطوط باريس. عن الزجاي انظر فصل السلك الديني في جزء آخر.

القراءات

الشيء لإثراء الفكرة التي يسوقونها أو للتباهي بالحفظ والاطلاع. ومما لا شك فيه أن هنالى أعمالا أخرى في التفسير لم نهتد إليها. وفي هذا الصدد نذكر أن ابن علي الشريف الشلاطي (محمد بن علي) قد ذكر أن من بين تآليفه عملا بعنوان (تفسير الغريب للمبتدئ القريب) وهو عنوان غامض لا نفهم منه بالضرورة أنه في تفسير القرآن الكريم، كما لا نفهم منه أنه موجه إلى الطلاب المبتدئين في هذا الميدان. فإذا صح أن هذا العمل هو تفسير للقرآن بطريقة بسيطة فإن مؤلفه قد يكون لجأ فيه إلى المعلومات التاريخية والفلكية، لأنه قد ألف أيضا في التاريخ الإسلامي والفلك (¬1)، كما أن الشيخ عمر بن محمد المحجوب المعروف بالبهلول الزواوي قد كتب تفسيرا للقرآن يبدو أنه انتهى منه حتى أصبح يعرف بـ (تفسير البهلول). وقد قيل عن البهلول وتفسيره هذه العبارة "وكان رجلا عاميا كتب في التفسير بما عنّ له " (¬2) والظاهر أن كلمة "عاميا" إنما تعني أنه قد أملى تفسيره على تلاميذه بشيء من البساطة في العبارة، أو أنه كان غير عميق في معانيه فظهر لمن اطلع عليه أن صاحبه عامي الثقافة. القراءات ويكاد ينسحب على القراءات ما قلناه عن التفسير. فقد اشتهر الجزائريون بتدريس القراءات أكثر مما اشتهروا بالتأليف فيها. وكانت بعض المراكز في أنحاء الجزائر قد عرفت بالحذق في هذه المادة، مثل زواوة حتى أنها كانت مقصودة للعلماء للاتقان والبراعة. فهذا الشيخ محمد بن مزيان ¬

_ (¬1) ذكر ذلك في كتابه الذي سنتناوله في فصل العلوم من هذا الجزء، وهو (معالم الاستبصار بتفصيل الأزمان ومنافع البوادي والأمصار) الذي ألفه سنة 1192. اطلعنا على نسخة منه في مكتبة الكونغرس الأمريكي، كما اطلعنا على صور أخرى منه في الجزائر. (¬2) الخزانة التيمورية، ص 40، ولم نعرف إلى الآن عصر البهلول فلعله من أهل القرن الثاني عشر أيضا.

التواتي المغربي، الذي ورد على قسنطينة من المغرب، قد تثقف في المغرب في الفقه والنحو على الخصوص حتى أصبح يلقب بسيبويه زمانه. ومع ذلك فإنه حين جاء إلى قسنطينة وجلس للتدريس بها لم يستغن عن الذهاب إلى زواوة لتعلم القراءات السبع بها، وكان من شيوخه فيها عبد الله أبو القاسم، وقد أخبر عنه تلميذه الفكون أنه بقي في زواوة لذلك الغرض حوالي عام ثم عاد (ومتمكنا من علم القراءات) (¬1). ومن أشهر أساتذة القراءات بزواوة أواخر القرن الحادي عشر وأوائل الثاني عشر الشيخ محمد بن صولة الذي قرأ عليه العالم التونسي أحمد بن مصطفى برناز القراءات السبع أيضا (¬2). وفي تراجم الفكون وابن مريم إشارات إلى بعض العلماء الذين اشتهروا بتدريس القراءات وحذقها في عهدهما. ومن ذلك ما رواه ابن مريم في (البستان) من أن محمد الحاج المناوي قد تصدر للتدريس في عدة علوم ولكنه مهر خصوصا في القراءات (¬3). أما الفكون فقد ذكر، أثناء نقده لعلماء عصره، إن محمد بن ناجي كان له درس عظيم ومشاركة في علم القراءات. وقال عن أحمد الجزيري إنه كان مدرسا من أهل الفتوى والشورى، وإنه كان يتعاطى التفسير والفقه ويدعى الأستاذية في القراءات السبع ومعرفة أحكام القرآن. وكلمة (يدعى) هنا لا تهمنا كثيرا لأن الفكون كان شديد النقد للعلماء الذين ضلوا، في نظره، سواء السبيل، لدخولهم في خدمة الولاة وأصحاب السلطة، والذي يهمنا هنا هو أن الجزيري كان يشتغل بالقراءات السبع (¬4). أما التأليف في القراءات خلال هذا العهد فقد كان أقل من التفسير. ويبدو أن جل اعتماد علماء الجزائر حينئذ كان على (مورد الظمآن) للشريشي ¬

_ (¬1) ترجم له تلميذه عبد الكريم الفكون في (منشور الهداية). وقد توفي التواتي بالطاعون في باجة بتونس سنة 1031، انظر عنه سابقا. (¬2) حسين خوجة (بشائر أهل الإيمان). وقد توفي برناز سنة 1138. وزار برناز الجزائر سنة 1107. (¬3) ابن مريم (البستان). 266. (¬4) الفكون (منشور الهداية) مخطوط. وقد حققناه، انظر سابقا.

المعروف بالخراز المغربي، وعلى شرح محمد التنسي، الذي أشرنا إليه، والمسمى (الطراز في شرح ضبط الخراز) (¬1). وفي نهاية القرن التاسع ألف محمد شقرون بن أحمد المغراوي المعروف بالوهراني عملا في القراءات أيضا سماه (تقريب النافع في الطرق العشر لنافع) (¬2). والنسخة التي اطلعنا عليها من هذا العمل عبارة عن قصيدة لامية تبدأ هكذا: بدأت بحمد الله معتصما به ... نظاما بديعا مكملا ومسهلا وقد قسمها الى أبواب مثل باب الاستعاذة، باب البسملة، وباب ميم الجمع، باب المد والقصر، الخ. ويبدو أن محمد الوهراني قد شرح هذه القصيدة أو شرح (مورد الظمآن) للخراز، لأننا وجدنا له ما يدل على ذلك (¬3). وكان محمد بن توزينت العبادي التلمساني من القراء المشاهير أيضا. وقد عرف عنه العلم والجهاد معا. ذلك أنه توفي مجاهدا ضد الإسبان سنة 1118، أي أثناء الفتح الأول لوهران. أما علمه، وخصوصا في القراءات، فيكفي أنه أخرج فيه تلميذه أحمد بن ثابت الذي لعله فاق أستاذه شهرة فيه. وكما أخرج ابن توزينت التلاميذ، ألف تقييدا في القراءات أيضا لعله كان الحافز الرئيسي لتلاميذه لكي يحتذوا حذوه، غير أننا لم نستطع أن نطلع على هذا التقييد لأن النسخة التي حاولنا الرجوع إليها منه مفقودة الآن (¬4). وقد ¬

_ (¬1) انظر الفصل الأول من الجزء الأول. (¬2) مخطوطات باريس، رقم 4532 مجموع. انتهى منه الوهراني سنة 899. والنسخة التي اطلعنا عليها تعود إلى سنة 1149 وهي بخط محمد أبو ناب الغريسي. وفيها أخطاء كثيرة. انظر أيضا المكتبة الملكية بالرباط، رقم 4497 مجموع. وتوجد ترجمة الوهراني في (دوحة الناشر) وغيره. (¬3) وجدنا في المكتبة الملكية بالرباط رقم 4497 مجموع ما يدل على ذلك حيث العنوان (تعليق على مورد الظمآن للخراز) وإن كنا لم نطلع على هذا العمل. (¬4) المكتبة الوطنية، الجزائر، رقم 2243. وقد ذكره تلميذه أحمد بن ثابت في (الرسالة الغراء) ونوه به، كما ذكره أبو راس الناصر في (عجائب الأسفار).

وجدنا في التعريف بهذه النسخة أن صاحبها هو محمد بن علي بن توزينت وأنه من تلاميذ الشيخ محمد السنوسي. ولكننا نستبعد أن يكون ابن توزينت قد تتلمذ على السنوسى وذلك للمسافة الزمنية الطويلة التى تفصل بينهما والصحيح أن يقال إنه تلميذ لتلاميذ السنوسي. أما تلميذه أحمد بن ثابت صاحب (الرسالة الغراء في ترتيب أوجه القراء) فلا نعرف عن حياته إلا القليل أيضا. فقد ذكر بعض المعلومات عن نفسه في رسالته المذكورة، مثل قراءته على شيخه ابن توزينت. وممن نوهوا به أبو راس الناصر الذي وصفه بالعلم الغزير والجهاد أيضا. فقد أخبر عنه أنه من أهل تلمسان وأنه، قياما بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قد حارب أهل تلمسان (حتى دوخهم) (¬1). وقد مات من أجل ذلك عدد كثير من الطلبة (وهم العلماء وتلاميذهم) وأنه قاد الطلبة في الحرب ضد الإسبان في وهران مثل شيخه ابن توزينت. كما اعتبره أبو راس شيخ مشائخه وقال عنه إنه ترك تلاميذ في القراءات وإنه كان من سلالة سلاطين تلمسان، وقد توفي ابن ثابت في منتصف القرن الثاني عشر. غير أن عبد الرحمن الجبرتي قد حدد تاربخ وفاته بسنة 1151 (¬2). وقد أورد الجبرتي بعض المعلومات التي تكمل معلوماتنا عن ابن ثابت. فهو عنده (الأستاذ العارف أحمد بن عثمان بن علي بن محمد بن علي بن أحمد العربي الأندلسي التلمساني الأزهري المالكي). ونلاحظ أن الجبرتي لم يذكر كلمة (ثابت) في هذه السلسلة. كما نلاحظ أنه قال عنه إنه أخد الحديث عن علماء المغرب العربي ومصر والحرمين وتصدر للتدريس في هذه الأماكن. بقي علينا أن نتساءل: هل أن أحمد بن ثابت عند أبي راس هو نفسه أحمد بن عثمان عند الجبرتي؟ إن تطابق العصر وتاريخ الوفاة والنسبة إلى تلمسان تجعلنا نرجح أن الاسمين لشخص واحد. ¬

_ (¬1) ذكر لي المهدي البوعبدلي في رسالة خاصة أن أحمد بن ثابت قد ثار على الأتراك سنة 1150 وأنه اضطر إلى الهجرة والوفاة في المهجر. (¬2) الجبرتي (عجاب الآثار) 1/ 166.

ومهما كان الأمر فإن الذي يهمنا الآن هو رسالة أحمد بن ثابت المذكورة في القراءات (¬1) فقد اعتمد فيها على المؤلفين السابقين في هذا العلم أمثال الشاطبي صاحب منظومة (حرز الإماني ووجه التهاني) والجعبري وابن الجزري. وكثيرا ما يقول ابن ثابت إنه قرأ هو بقراءة كذا. وبعد أن بين الدوافع التي جعلته يؤلف رسالته أوضح طريقته فيها بقوله: (وبعد، فهذه الرسالة الغراء .. سألنيها بعض الثقات، ليعرف المقدم في وجوه الروات (كذا)، فاستبنت القوي من الضعيف، وباينت المشروف من الشريف ..) ومن عناوينه فيها ذكر اختلافهم - أي القراء - في التعوذ والبسملة وبيان الراجح من ذلك، اختلاف سورة آل عمران، ثم سورة النساء، الخ. وقد أسهم عبد الكريم الفكون أيضا بالتأليف في القراءات. فقد ذكر أنه ألف عملا سماه (سربال الردة في من جعل السبعين لرواة الاقرا (كذا) عدة). وقد نص على أن هذا التأليف لا يتجاوز كراسة وأنه قد وضعه بعد واقعة وقعت له مع أحد علماء قسنطينة عندئذ، وهو أحمد بن حسن الغربي (¬2). ويبدو من العنوان ومن ظروف التأليف أن هذه الكراسة عبارة عن مناقشة لما ادعاه الغربي. ولكن معرفتنا لبعض آثار الفكون الأخرى تجعلنا نعتقد أن هذا العمل غني بالآراء والنقول، وأن صاحبه قد عالج فيه أنواع القراءات ورواتها وغير ذلك مما يتصل بهذا الموضوع. ومما يتصل بأوجه القراءات طريقة النطق بالتكبير والصلاة على النبي (صلى الله عليه وسلم) عند الختم. وقد ألف في ذلك أيضا أحمد بن ثابت التلمساني، الذي تقدم ذكره، رسالة لا نعرف الآن بالضبط اسمها لأنها مبتورة، والذي نعرفه عنها أن صاحبها قد نظم أبياتا في التكبير عند الختم بطلب من بعض إخوانه ثم شرح الأبيات. وجاء في طالعها: ¬

_ (¬1) المكتبة الوطنية - الجزائر رقم 2245 مجموع، وهي فيه من ورقة 171 إلى 182. (¬2) الفكون (منشور الهداية)، مخطوط. وهو محقق ومطبوع.

الحديث

إذا أدرت الختم للمكي ... من الضحى يروى عن النبي أما الشرح فقد بدأه بهذه العبارات (وبعد، فلما كان التكبير سنة مأثورة على أهل مكة، وكان نظر شيخنا سيدي محمد بن توزينت كافيا في معرفة وجهه وكيفية تلاوته حالة الختم، واستكثره بعض الأخوان، وليس بكثير) (¬1)، أنشأ الأبيات المذكورة همع شرحها تلبية لمن طلبه ذلك. الحديث من العلوم التي أنتج فيها الجزائريون علم الحديث ومصطلحه. فقد اعتنوا به تدريسا وتأليفا ورواية وإجازة. ولا شك أن ذلك يعود إلى صلة علم الحديث بالدين وبالتصوف معا. كما يعود إلى كون علم الحديث يعتمد إلى حد كبير على الحفظ، وهم حفاظ مهرة حتى اشتهروا بذلك منذ القديم. وكان العمل عندهم بالكتب الستة، يدرسونها ويسندونها ويحفظونها أحيانا، ولكن عنايتهم بصحيح البخاري قد فاقت كل عناية. فهو الكتاب الذي كان متداولا لديهم أكثر من غيره، ولعله قد بلغ عند بعضهم مبلغ القداسة، فكتبوا عليه الشروح والحواشي، وتدارسوه للبركة والحفظ، واستعملوه في المناسبات الدينية والحربية، واهتموا به عند القراءة حتى لا تقع أخطاء في معانيه. ولا نكاد نجد مدرسا من المدرسين البارزين الذين ذكرناهم إلا وقد برع في تدريس الحديث أيضا. وأهم الأماكن التي كان يدرس بها الحديث هي الجوامع الكبيرة احتراما له. وكان بعضهم يبالغ فيضيف إلى جو الدرس جوا آخر من البهجة والسرور برش ماء الورد في نهاية ختم البخاري، وإلقاء جملة من الأدعية المناسبة، وترنيم الأحاديث بصوت رخيم. وكان لا يتولى إملاء الحديث إلا كبار العلماء وذوو الأصوات الحسنة والجهورية. فهذا ¬

_ (¬1) المكتبة الوطنية - الجزائر رقم 2254 مجموع. لا يوجد منها سوى ورقتين مع (الرسالة الغراء) لنفس المؤلف. ولا نعرف مصدرا آخر لباقيها.

عبد الرزاق بن حمادوش، الذي تولى سرد صحيح البخاري في الجامع الكبير بالعاصمة، يروي أن ممليه كان محمد بن سيدي الهادي وأحمد العمالي والمفتي الحاج الزروق وعبد الرحمن الزروق، وغيرهم. وكان يميز من كان له صوت جهوري سليم ومن كان صوته ضعيفا وغير فصيح (¬1). كما تضمنت رحلة ابن عمار (¬2) ومذكرات الزهار وغيرهما المناسبات الدينية والاجتماعية التي يتلى فيها البخاري وطريقة التلاوة وزمنها ونحو ذلك. كما أن مصادر الحملات العسكرية ضد الأجانب تضمنت وصفا للجوء العلماء الجزائريين، أحيانا بأمر السلطات السياسية، لقراءة صحيح البخاري في المساجد أو بين أيدي المقاتلين. ومن ذلك ما رواه ابن زرفة في (الرحلة القمرية) (¬3) وابن سحنون في (الثغر الجماني) من أن الباي محمد الكبير قد أمر العلماء والطلبة بقراءة صحيح البخاري عند الحملة ضد الإسبان بوهران. وبالجملة فإن مكانة صحيح البخاري في الحياة الدينية والاجتماعية في الجزائر خلال العهد العثماني مكانة عظيمة حتى أن صحيح البخاري كاد ينافس المصحف في كثرة الاستعمال (¬4). فإذا عدنا إلى الأثبات والفهارس وجدنا ثروة كبيرة تركها الجزائريون بهذا الصدد. كما أن إجازتهم لغيرهم قد تضمنت روايتهم للحديث وشيوخهم ونحو ذلك مما يتصل بالسند. وكان الجزائريون حريصين في أسفارهم وحجهم على الدراسة وطلب العلم، ولا سيما علم الحديث، للأسبالب التي ذكرناها في الجزء الأول، وعلى رأسها عدم وجود معاهد عليا للتعليم في ¬

_ (¬1) ابن حمادوش (الرحلة) مخطوط. انظر أيضا دراستي عنه في كتابي (أبحاث وآراء في تاريخ الجزائر)، ج 1، ط 3، 1990. (¬2) الحاج صادق، المولد عند ابن عمار (بالفرنسية)، دمشق، 1957. (¬3) هوداس (مخطوط عربي عن خروج الإسبان من وهران) في وقائع مؤتمر المستشرقين الرابع عشر، الجزائر 1905. (¬4) عالج ذلك محمد بن أبي شنب (وصول صحيح البخاري إلى سكان مدينة الجزاثر) في بحث قدمه إلى مؤتمر المستشرقين الرابع عشر، الجزائر 1905.

بلادهم. فكانوا إذا حلوا بالمغرب أو بتونس، بمصر أو بالحرمين، بالشام أو العراق 0 يتتلمذون على أكابر العلماء إلى أن ينالوا منهم سعة الاطلاع والتعمق في المعارف ويحصلون منهم على الإجازات في مختلف العلوم، وخصوصا علم الحديث وكان علماء الجرائر بدورهم ينشرون هذا العلم عن طريق الإجازة ونحوها بالشروط المعروفه لديهم عندئذ. وبذلك ساعدوا من جهتهم على نشر علم الحديث وأظهروا العناية به. وقد ساعدتهم في ذلك قوة الحافظة التي أشرنا إليها. وهكذا فعل كبار علماء الجزائر أمثال عبد الكريم الفكون وابن العنابي وعلي بن الأمين وعيسى الثعالبي، وأحمد البوني، وأحمد بن عمار وأبو راس الناصر ويحيى الشاوي. ولم يكن الحديث يدرس لذاته فقط بل كان يدرس أيضا للعمل به في مجالات المعرفة المختلفة. فالحديث قبل كل شئ مصدر من مصادر التشريع الإسلامي. وفي ضوء ذلك عمد الجزائريون إلى دراسة الطب النبوي وسيرة الرسول (صلى الله عليه وسلم) والصحابة، وما إلى ذلك من القضايا التي تضمنها الحديث. فقد ألف محمد بن علي بن أبي الشرف التلمساني كتابا كبيرا في أجزاء جرده من كتاب الشفا للقاضي عياض سماه (المنهل الأصفى في شرح ما تمس الحاجة إليه من ألفاظ الشفا) كما قام بشرح ما أخذه من الشفا. وكان المؤلف قد أخذ الشفا إجازة عن ابن غازي بفاس سنة 913. وبعد أن تشبع بالثقافة الجزائرية والمغربية توجه ابن أبي الشرف إلى المشرق حيث كان موجودا بمكة المكرمة سنة 930، ومن هناك انقطعت عنا أخباره فلعله ظل مجاورا بالحرمين إلى أن أدركته الوفاة في تاريخ ما زلنا نجهله. وطريقة الشرح التي اتبعها ابن أبي الشرف ليست جديدة، فهو يعمد إلى شرح الألفاظ التي انتقاها من الشفا شرحا لغويا ثم دينيا، ولكن بأسلوب سهل واضح (¬1). ¬

_ (¬1) اطلعنا على نسخة الخزانة العامة بالرباط، ك 340. وتوجد منه نسخة أخرى في المكتبة الوطنية بالجزائر، رقم 2113 وهناك نسخة أخرى منه مأخودة عن خط مؤلفه بالزاوية الحمزية بالمغرب رقم 468. وتاريخ النسخة 971. انظر (مجلة تطوان)، 8.

وقد ترك أحمد المقري عدة تآليف في علم الحديث والسنة النبوية. وكان مشهورا برواية الحديث الذي أخذه عن علماء المغرب والمشرق. ومما أخذه عن عمه سعيد المقري بتلمسان سنده في الكتب الستة إلى القاضي عياض. وكان المقري قد تصدر لتدريس صحيح البخاري في الجامع الأزهر حتى بهر الحاضرين، كما وفد على المدينة المنورة سبع مرات وأملى الحديث النبوي عند قبر الرسول (صلى الله عليه وسلم). وقد أملى صحيح البخاري بالجامع الأموي بدمشق أثناء درس كان يلقيه بعد صلاة الصبح. ولما كثر الناس حوله خرج إلى صحن الجامع. وحضر درسه غالب أعيان دمشق وجميع الطلبة، كما يقول المحبي. وكان يوم ختم البخاري (حافلا جدا اجتمع فيه الألوف من الناس وعلت الأصوات بالبكاء فنقلت حلقة الدرس إلى وسط الصحن إلى الباب الذي يوضع فيه العلم النبوي في الجمعات من رجب وشعبان ورمضان. وأتي إليه بكرسي الوعظ فصعد عليه وتكلم بكلام في العقائد والحديث لم يسمع نظيره أبدا، وتكلم على ترجمة البخاري. وكانت الجلسة من طلوع الشمس إلى قرب الظهر، ثم ختم الدرس بآيات قالها حين ودع المصطفى (صلى الله عليه وسلم). ونزل عن الكرسي فازدحم الناس على تقبيل يده. ولم يتفق لغيره من العلماء الواردين إلى دمشق ما اتفق له من الحظوة وإقبال الناس) (¬1) وكان ذلك قبل وفاة المقري بأربع سنوات. ومن تآليف المقري في السنة النبوية (فتح المتعال في مدح النعال) (¬2) وهو بحث في النعال النبوية ألفه في المدينة المنورة، و (أزهار الكمامة في أخبار العمامة ونبذة من ملابس المخصوص بالإسراء والإمامة)، وهو بحث في عمامة وملابس النبي (صلى الله عليه وسلم). كما ألف كتابا في الأسماء النبوية سماه (الدر الثمين في أسماء الهادي الأمين) (¬3)، وسنذكر ما للمقري من أثبات بعد قليل. ¬

_ (¬1) خلاصة الأثر، 1/ 305. (¬2) طبع قي حيدر أباد سنة 1334. (¬3) الكتاني فهرس الفهارس 2/ 14، وخلاصة الأثر 1/ 303، وفهرس دار الكتب المصرية رقم 24260 ب.

وكان مختصر ابن أبي جمرة لصحيح البخاري متداولا أيضا بين الجزائريين. وقد شعر عبد الرحمن بن عبد القادر المجاجي أن هذا المختصر في حاجة إلى شرح يضبط ألفاظه ويقرب معانيه فقام بعمل ضخم بهذا الصدد، وسمى شرحه (فتح الباري في ضبط ألفاظ الأحاديث التي اختصرها العارف بالله (ابن أبي جمرة) من صحيح البخاري). وكان المجاجي قد درس أولا في موطنه مجاجة وفي تلمسان ثم في فاس على عدة شيوخ. وكان دافعه إلى القيام بهذا العمل الغيرة على قراءة الحديث حتى لا تقع فيه الأخطاء أثناء القراءة، وكون شيخه، محمد بن علي أبهلول، كثيرا ما فكر في كتابة عمل من هذا النوع، ولكن الأقدار لم تسعفه. لذلك قام هو بالمهمة. وقد بدأ المجاجي بتعريف علم الحديث، فقال: (علم الحديث من أجل العلوم قدرا، وأعلاها منزلة وخطرا، وكان الناس مقبلين على قراءة جامع البخاري عموما وعلى ما اختصر منه الشيخ العارف بالله ابن أبي جمرة .. خصوصا .. وكانت قراءة الحديث تحتاج إلى شروط جمة، وتلزمها آداب مهمة، أعظمها الاحتراز من الخطأ في إعرابه، ومن اللحن في مضبوط ألفاظه، فتحرك مني الغرام الساكن لضبط تلك الأماكن ..) وفي المقدمة التي وضعها المجاجي لشرحه بابان الأول في التعريف بالمصنف (البخاري) والثاني في علم الحديث على الجملة، وجعل كل باب يحتوي على فصول، كآداب معرفة الحديث، وكيفية روايته، وكيفية كتب الحديث وضبطه، وبعض ألقاب الحديث الخ. أما الكتاب جملة فقد قسمه إلى كتب، فهناك كتاب للبيع، وآخر للشركة، وثالث للصوم، ورابع للهبة الخ. وقد وضع بعض المصطلحات في المنقول عنهم: فحرف الحاء (ح) يشير إلى القاضي عياض، وهكذا. كما أنه نقل كثيرا عن أستاذه محمد بن علي أبهلول (¬1). ¬

_ (¬1) الخزانة العامة بالرباط، رقم ك 1775 في حوالي 300 ورقة وبخط جيد، وهناك نسخة أخرى برقم ك 1065 غير جيدة وغير كاملة ويبلغ الموجود منها 416 صفحة. ومنه نسخة أيضا في المكتبة الملكية بالرباط رقم 5714 (1). ومن الملاحظ أن أبا راس قد أوضح أن عبد الرحمن المجاجي كان تلميذا لابني علي أبهلول، وهما =

وهناك تآليف أخرى في علم الحديث والسنة، من ذلك تأليف عبد العزيز الثميني الذي سماه (مختصر حاشية مسند الربيع بن حبيب) وهو في ثلاثة أجزاء. وحاشية أحمد بن عمار على صحيح البخاري. وقد عرف ابن عمار السند وفضله على الأمة الإسلامية، مستعيرا تعريفه من محمد بن أبي حاتم بن المظفر 0 وكان ابن عمار من المسندين المعروفين في وقته. وسنذكر ثبته فيما بعد (¬1). ومثله عيسى الثعالبي الذي وضع رجزا سماه (مضاعفة ثواب هذه الأمة) (¬2). ولعل عنوان الرجز غير كامل، ولعل الثعالبي قد قام بشرحه وإبراز أفكاره وإثراء عمله بالاستشهادات. وهناك عمل آخر ينسب إلى قاسم بن محمد ساسي البوبي سماه (المنحة الإلهية في الآيات الإسرائية) (¬3). كما ينسب إلى أحمد بن ثابت البجائي عمل في الحديث هو (التفكر والاعتبار في الصلاة على النبي المختار) (¬4). أما محمد بن أحمد الشريف الجزائري فقد وضع رسالة في الطب النبوي سماها (المن والسلوى في تحقيق معنى حديثا لا عدوى). وقد حلل فيها معنى الحديث من جميع النواحي. وأهداها بنفسه إلى السلطان العثماني في وقته أحمد باشا (سنة 1149) (¬5). كما نظم محمد بن علي المعروف بأقوجيلي (القوجيلي) الجزائري منظومة سماها (عقد الجمان اللامع المنتقى من قعر بحر الجامع)، ¬

_ = محمد وأبو على، وليس لوالدهما. انظر (عجائب الأسفار)، مخطوط الجزائر، 138. ولا ندري الآن ما إذا كان عبد الرحمن المجاجي هو نفسه مؤلف (التعريف بأهل بدر) الذي يذكر مؤلفه أنه عبد الرحمن بن علي الراشدي. المعرض الثالث لجائزة الحسن الثاني للمخطوطات (مركز الرباط، 1971). (¬1) محمد بن أبي شنب (وصول صحيح البخاري إلى أهل مدينة الجزائر) محاضر. مؤتمر المستشرقين 14، الجزائر 1905. (¬2) بروكلمان 2/ 939. وهو في علم الحديث. (¬3) بروكلمان 2/ 691. ولعل هذا العمل من تآليف أحمد البوني. (¬4) بروكلمان 2/ 939. ولا نعرف الآن عصر البجائي. (¬5) اطلعنا على هذه الرسالة في مكتبة كوبروللو بإسطانبول، وهي في 13 ورقة وخطها رقعي وجيد، ورقمها 69.

الأثبات

وهي منظومة في مخرجي أحاديث الجامع الصحيح للبخاري وعدد الأحاديث التي لكل منهم، ومن هو المكثر ومن هو المقل في السند على ما أورده ابن حجر. وزاد عليه القوجيلي التعريف بالوفاة وتكملة تراجم الرواة (¬1). وقد قام أحمد بن قاسم البوني باختصار مقدمات فتح الباري على البخاري (¬2). كما جمع محمد بن أبي الحسن بن محمد العربي التلمساني حوالي خمسمائة حديث ووضعها في مائة واثني عشر بابا وسمى ذلك (الهادي للمهتدي) (¬3). ويمكن القول إنه برغم عناية الجزائريين بالحديث، وبصحيح البخاري خصوصا، فإن تآليفهم فيه لا تقارن هذه العناية. حقا إن لهم أعمالا أخرى في السيرة النبوية عموما وبعض الأعمال المستمدة من الأحاديث، ولكن يظل ميدان التأليف في علم الحديث يكاد يكون خاليا إلا من بعض الأمور التقليدية مثل الشروح والحواشي والرسائل الصغيرة والأراجيز، ولا شك أن هناك بعض الأعمال التي فاتنا التنبيه عليها. ولعل في جهود الجزائريين في ميدان الأثبات والفهارس والإجازات ما يعوض هذا النقص في التأليف في علم الحديث. الأثبات شاع في الجزائر خلال العهد المدروس حفظ الحديث وإسناده وقراءته وإقراؤه. كما شاعت كتابة الأثبات أو (الفهارس أو البرامج) التي كان العالم يسجل فيها مروياته في الحديث بالسند، والكتب التي قرأها مثل صحيح ¬

_ (¬1) دار الكتب المصرية، مصطلح الحديث، مجموع رقم 52 من ورقة 29 - 47. وبناء على هذا المصدر فإن القوجيلي قد توفي سنة 1080. انظر عنه فصل الشعر أيضا. (¬2) نسخة منه في مكتبة جامعة برنستون الأمريكية (قسم يهودا) رقم 450. وعنوانه هناك هو (مختصر مقدمات فتح الباري). وهو بخط المؤلف بتاريخ 1113. انظر أيضا فهرس الفهارس 1/ 169، وبروكلمان 2/ 715، انظر أيضا ترجمة أحمد البوني في هذا الفصل. (¬3) نسخة منه في مكتبة جامعة برنستون الأمريكية (قسم يهودا) رقم 5681 مجموع. وقد كتبه مؤلفه سنة 1156.انظر أيضا بروكلمان 2/ 611.

البخاري وغيره من الكتب الستة المشهورة، كما يسجل شيوخه الذين درس عليهم، ولا سيما شيوخه في علم الحديث. وكانت هذه الأثبات تتداول بين العلماء ولا تعرف حدودا لا في البلد الواحد ولا خارجه، فهي تتنقل مع الحجاج أو ترسل بالبريد أو تحفظ عن ظهر قلب أو تكتب مطولة أو مختصرة في شكل إجازات، كما سنرى. وكانت الأثبات ورواية علم الحديث وإجادة السند مما يتفاخر به العلماء ويتباهون به فيما بينهم. ويعتبر الثبت الغني بالشيوخ والإجازات والقراءات علامة على تبحر العالم في علمه وعلى بلوغه ما يشبه الكمال عندهم. لذلك قل كتاب الأثبات لقلة الأكفاء في علم الحديث وكثر، من جهة أخرى، طلاب الإجازات وسهل منحها، لأنها تعتبر شهادات علمية ومدخلا للكفاءة في التدريس ونحوه. وكان يكفي أن يقال عن فلان إنه (حافظ) حتى تشرئب إليه الأعناق وتقطع إليه المسافات لنيل الإجازة منه ورواية الحديث وغيره عنه. وإذا نظرنا إلى الناحية الشكلية فإن الثبت يكتب إما كسجل تاريخي شخصي، وإما لمنحه إجازة لأحد العلماء الراغبين. ولدينا الآن نماذج للنوعين. ولكن الإجازة قد تكون اختصارا لما في الثبت من مطولات. مثلا، كتب أحمد بن عمار ثبته مطولا ولكنه عندما أجاز عالم دمشق محمد خليل المرادي اكتفى بتعداد القليل من شيوخه ومروياته. وكذلك فعل ابن العنابي مع محمد بيرم التونسي. وكان العلماء يعتقدون أنهم بهذه الطريقة (كتابة الأثبات ومنح الإجازات) يحافظون على علم الحديث رواية ويصلون السند بعضه ببعض مهما تباعدت الحقب. والواقع أنهم بذلك خلقوا استمرارية واضحة بين الأجيال في هذا الفرع الهام من فروع المعرفة الإسلامية. ويكفي أن يقال مثلا أن ابن باديس في القرن الرابع عشر الهجري كان يروي الحديث عن أحمد الونشريسي في القرن العاشر، بينما لم يجتمعا ولم يتتلمذ أحدهما على الآخر وإنما وقعت للأول رواية الحديث عن طريق السند من الثاني. ومن أشهر الجزائريين الذين رويت عنهم الأحاديث سعيد قدورة وأحمد بن عمار وعلي بن الأمين وعيسى الثعالبي وسعيد المقري.

ومن الجزائريين الذين انتقل منهم علم الحديث إلى علماء آخرين نذكر محمد التنسي وابن مرزوق المعروف بالكفيف، ومحمد بن يوسف السنوسي وعبد الرحمن الثعالبي ومحمد بن عبد الكريم المغيلي وأحمد الونشريسي (¬1). وكان لهؤلاء تلاميذ أخذوا عنهم علم الحديث جيلا بعد جيل. وقد اشتهروا (بالحفظ) وهي الظاهرة العامة التي تحدثنا عنها. ولذلك أشير إلى محمد بن عبد الله بن عبد الجليل التنسي بأنه (الإمام المحدث الحافظ) وسماه بعضهم (ببقية الحفاظ). ومهما يكن من شيء فإن ثبت التنسي قد وصل إلى العهد العثماني عن طريق سعيد قدورة وأحمد المقري وغيرهما. ومن الذين تركوا (ثبتا) أوائل العهد العثماني محمد شقرون بن أحمد الوهراني. وقد قيل إن ثبته يقع (في جزء لطيف) مما يبرهن على كثرة شيوخه ومروياته. والمعروف عن الوهراني أنه قد ألف في علوم أخرى أيضا وكان واسع الاطلاع بحكم الدراسة والتنقل (¬2). ولا نعرف أن عمر الوزان وعبد الرحمن الأخضري وسعيد المقري قد تركوا أثباتا بشيوخهم وأسانيدهم. وقد اشتهر في القرن الحادي عشر عدد من العلماء الذين ولعوا بالحديث رواية ودراية وتركوا وراءهم مروياتهم وشيوخهم في فهارس تحمل أسماءهم أو نقلوا مروياتهم إلى تلاميذهم فأخذوها عنهم مشافهة. وكان حظ بعض التلاميذ أوفر من حظ الأساتذة في تسجيل هذه الآثار. ولعل أبرز من سجل المرويات وولع بالحديث دراية ورواية أبو مهدي عيسى الثعالبي الذي ترك سجلا حافلا بذلك. ولأهمية عمله سنفرد له ترجمة في هذا الفصل. وقد كان أحمد المقري، رغم ولوعه بالأدب والتاريخ، قد أخذ سند الحديث عن ¬

_ (¬1) عن هؤلاء العلماء انظر الفصل الأول من الجزء الأول. باسثناء ابن مرزوق الكفيف الذي لم نذكره هناك. وهو من مشاهير المسندين أيضا حتى سماه معاصره أحمد الونشريسي (بالحافظ المصقع). وقد أخذ العلم عن والده محمد بن مرزوق الحفيد وعبد الرحمن الثعالبي، كما حج وأخذ عن علماء المشرق والمغرب. وتوفي سنة 901. وله (ثبت) يرويه عنه العلماء. انظر عنه (فهرس الفهارس) 1/ 197. (¬2) (دليل مؤرخ المعرب) 2/ 300. توفي الوهراني حوالي 929.

شيوخه من المغرب والمشرق، كما عرفنا. وتضمن كتابه (روض الآس العاطر الأنفاس في ذكر من لقيته من علماء مراكش وفاس) مجموعة من شيوخه في السند. وذكر بعض الباحثين أن للمقري أيضا (فهرسة) بأسانيده (¬1). وقد كان المقري في معارفه الكثيرة وطموحه البعيد ومحفوظه الغزير نقطة مضيئة في ظلام الثقافة الجزائرية خلال العهد العثماني (¬2). وشهد القرن الثاني عشر أيضا موجة أخرى من العناية بالحديث رواية ودراية على يد مجموعة من العلماء، منهم المنور التلمساني الذي لا نكاد نعرف له تآليف غير مجموعة من الإجازات التي منحها له شيوخه في المغرب والمشرق. ومن شيوخه في الجزائر مصطفى الرماصي. وأما مشائخه في المشرق فقد ذكر منهم عبد الحي الكتاني أبا عبد الله محمد المسناوي وستة آخرين. وقد حصل الكتاني على معظم إجازات المنور. والأوصاف التي أطلقت على هذا الشيخ تدل على باعه الطويل في علم الحديث والسند حتى أن محمد مرتضى الزبيدي قال عنه: (العالم الفاقد للأشباه .. عالم قطر المغرب). ولعل هذا الإعجاب بالشيخ المنور يعود إلى كونه من الذين أجازوا الزبيدي أيضا. وقد توفي المنور بمصر أثناء عودته من الحج سنة 1172. ويؤكد الكتاني أن علماء الجزائر في وقته كانوا يروون مرويات المنور في الحديث (¬3). وكان المنور التلمساني معاصرا لأحمد بن عمار الذي يعتبر من مسندي العصر ومن المؤلفين في السند أيضا. كان ابن عمار أديبا فقيها بالدرجة الأولى، ولكن تأثير العصر جعله يعيش عيشة العلماء الفقهاء أيضا. فأخذ الطريقة الشادلية عن المنور التلمساني، وأخذ (طريق القوم) عن ¬

_ (¬1) الكتاني (فهرس الفهارس) 2/ 13. انظر أيضا (خلاصة الأثر) 1/ 305. وله سند برواية صحيح البخاري مع إجازته لعيسى العجلوني في دار الكتب المصرية، مصطلح الحديث، رقم 335 مجموع. (¬2) ستفرد للمقري ترجمة في فصل الأدب من هذا الجزء. (¬3) الكتاني، 2/ 9. انظر عنه أيضا في الإجازات.

عبد الوهاب العفيغي بمصر. ولعله أخذ أيضا غير ذلك من عهود الطرق الصوفية عندما كان في الحجاز. أما الحديث، ولا سيما صحيح البخاري، فقد رواه عن خاله محمد بن سيدي هدى الجزائري ومحمد بن سيدي الهادي. كما روى علم الحديث عن علماء بمصر والحرمين وسجل بعضهم في إجازته لمحمد خليل المرادي الشامي. وقد عد له الكتاني تسعة أساتذة على الأقل يروى عنهم بأسانيدهم. وتنقل ابن عمار كثيرا بين الجزائر ومصر وتونس والحرمين، كما سنرى. وكان له نشاط أدبي في كل هذه البلدان. وقد جمع تلميذه إبراهيم السيالة التونسي إجازات شيخه ومروياته فإذا هي تبلغ نحو الكراستين وتسمى: (منتخب الأسانيد في وصل المصنفات والأجزاء والمسانيد). وعندما اطلع عليها ابن عمار سنة 1204 أجازه بها ووضع عليها خطوطه وختمه. وقد اطلعنا نحن على خط وختم ابن عمار في إجازاته للمرادي سنة 1205، وهي الإجازة التي كتبها بنفسه. وكان لرواية الحديث بطريقة ابن عمار تأثير على علماء العصر حتى أن معظم علماء الجزائر يروون عنه، ومنهم أبو راس وعبد الرحمن بن الحفاف (¬1) ومصطفى الكبابطي وأحمد بوقندورة وغيرهم (¬2) ولابن عمار تلاميذ كثيرون من المشرق والمغرب. فبالإضافة إلى من ذكر، هناك أحمد الغزال المغربي، وعمر بن عبد الكريم المعروف بابن عد الرسول المكي الحنفي شيخ الإسلام (¬3)، وغيرهما. والمعروف أن أبا راس الناصر كان من أكثر العلماء إنتاجا في عصره. وكان إنتاجه متنوعا تنوع ثقافته. ومن الصعب دراسته في باب معين، ولكننا ¬

_ (¬1) كان حيا سنة 1213 إذ وجدناه يحضر مجلس البخاري بالعاصمة دراية ورواية ويتقاضى عن ذلك ريالا في كل شهر، الأرشيف دفتر (288) 41 - 228 MI . (¬2) الكتاني، 2/ 26، 1/ 82 - 83 والحاج صادق (المولد عند ابن عمار) 289. انظر ترجمة ابن عمار في فصل الأدب من هذا الجزء. (¬3) عن هذا الأخير انظر (فيض الملك المتعالي) لعبد الوهاب عبد الستار، 2/ 93. مخطوط بمكتبة الحرم الشريف.

سنفرد لأبي راس دراسة في فصل التاريخ لغلبة هذا العلم على إنتاجه. وحسبنا هنا منه إنتاجه في سند علم الحديث. ذلك أنه قد أخذ هذا العلم على كثير من العلماء في المغرب والمشرق أيضا لكثرة أسفاره وتتلمذه هنا وهناك. ومن الذين أخذ عنهم في الجزائر أحمد بن عمار وعلي بن الأمين، ومحمد بن جعدون، ومحمد بن مالك، ومحمد بن الشاهد، وأحمد العباسي، أما في المشرق فمن أبرز أساتذته محمد مرتضى الزبيدي ومحمد الأمير. وقد خص أبو راس، الزبيدي بثبت سماه (السيف المنتضى فيما رويته عن الشيخ مرتضى)، وأدرج الجميع في عمله المعروف بـ (لب أفياخي في تعداد أشياخي) الذي لخصه في رحلته (فتح الإله ومنته في التحدث بفضل ربي ونعمته). وفي هذه الرحلة عدد أبو راس أيضا فضل الله عليه في التأليف والمشيخة ونحو ذلك. كما أنه ذكر هناك تآليفه الأخرى في علم الحديث. ومن المعاصرين لأبي راس أبو طالب محمد المعروف بابن الشارف المازوني الذي توفي سنة 1233 بمازونة عن نيف ومائة سنة. والمازوني يشبه محمد المنور التلمساني في كونه غير معروف بتآليفه. فأسانيده التي وصلت إلينا توجد في مجلد وسط، حسب تعبير الكتاني، وقد جمعها عبد القادر بن المختار الخطابي الجزائري وسماها (الكوكب الثاقب في أسانيد الشيخ أبي طالب). والخطابي من سلالة المازوني ومن سلالة أبي راس أيضا. وقد تنقل الشيخ الخطابي بين الجزائر وتونس ومصر، وفي مصر أكمل تأليفه المذكور، ولعله توفي فيها أيضا سنة 1236. وقد رأى الكتاني نسخة من (ثبت) أبي طالب في مازونة (¬1). ويشترك الطاهر المشرفي وحمودة المقايسي مع ابن الشارف المازوني ومحمد المنور في قلة الإنتاج والشهرة بين المعاصرين برواية الحديث وحفظ السند. فقد كان للطاهر بن عبد القادر المشرفي المعروف بابن دح (ثبت) ¬

_ (¬1) الكتاني 1/ 382.

أيضا يرويه العلماء ويتداولونه، وهو الثبت الذي كان قد أجاز به تلميذه ابن عبد الله سقط الذي سنتحدث عنه. ورغم أن الطاهر المشرفي قد تولى القضاء في وهران في أواخر العهد العثماني فإننا لا نعرف عن حياته الآن إلا القليل. ومن ذلك أنه هو شارح (النصيحة الزروقية) في التصوف، وانه كان قد أخذ العلم بفاس وأن من شيوخه بالإجازة عبد القادر بن شقرون والطيب بن كيران، وكلاهما قد أجازه إجازة عامة شملت كل ما عندهما. وقد توفي المشرفي بوهران ولكننا لا ندري الآن متى كان ذلك (¬1). ومن جهة أخرى لا ندري ما حجم هذا الثبت ولا ما اشتمل عليه من المسائل. أما حمودة بن محمد المقايسي فيبدو أكثر ثقافة من سابقه أو على الأقل نعرف نحن عنه أكثر مما نعرف عن زميله. فقد ولد بمدينة الجزائر ولعله أخذ بها العلم، ثم توجه إلى المشرق حيث تتلمذ على عدد من الشيوخ ذوي الشهرة الواسعة عندئذ، كالزبيدي ومحمد الأمير وحسن العطار ومحمد الدسوقي وحجازي بن عبد المطلب العدوي، كما أذنوا له بالتدريس هناك. وكان الأزهر في الوقت الذي درس فيه حمودة المقايسي يعج بالأفكار والتيارات فتأثر بذلك. ثم حل بتونس ولكنه عاد إلى بلاده يحمل بعض هذه التيارات والأفكار فلم يستطع أن ينشرها، لأسباب لا نعرفها، فاشتغل، بدلا من التدريس ونشر الأفكار، بصنعة المقايس التي كان ينال منها رزقه، وقد مات فقيرا في الجزائر أيضا سنة 1245. ومن الذين أجازوا المقايسي محمد مرتضى الزبيدي الذي عمم له الإجازة وسماه فيها (الشيخ الصالح الوجيه الورع الفاضل المفيد السيد الجليل والماجد النبيل). كما أجازه محمد الأمير وكذلك الدسوقي والعدوى. وممن أجازوه من الجزائريين محمد بن عبد الرحمن الأزهري منشئ الطريقة الرحمانية. ولعل ذلك كان أثناء إقامتهما معا في مصر. وقد جمع المقايسي أسانيده في (ثبت) خاص (¬2). ¬

_ (¬1) الكتاني 1/ 350، انظر أيضا (فيض الملك المتعال) 2/ 57. (¬2) الكتاني 1/ 256 وتعريف الخلف 2/ 140. لا ندري متى عاد المقايسي إلى الجزار، والظاهر أن ذلك كان بعد سنة 1212 لأنه كان بالقاهرة في هذا التاريخ.

وكان علي بن عبد القادر بن الأمين يعتبر في عصره من أعيان العلماء. ورغم أنه تولى الإفتاء عدة مرات، فإن شهرته كانت تقوم على العلم وليس على الجاه والوظيفة. فقد كان علوي النسب أندلسي الأصل، كما أنه كان شاذلي الطريقة، على عادة معظم علماء الجزائر في وقته. وهو من مواليد الجزائر ولكنه أخذ العلم بها وبالمشرق ولا سيما مصر، وهو يروي عن شيوخ كثيرين ذكرهم في إجازته للشيخ السنوسي الراشدي سنة 1189. كما إنه كتب (ثبتا) في نحو الكراسة ضمنه مروياته وشيوخه. وقد قيل عن ابن الأمين إنه كان (مجدد رونق العلم) بالجزائر. وهو أستاذ محمد بن محمود بن العنابي الذي روى عنه (ثبت الجوهري) بالإجازة، وكان ابن الأمين قد رواه أيضا بالإجازة عن شيخه أحمد الجوهري. وقد قال ابن العنابي عن أستاذه أنه كان يجيز كل من أدرك حياته، وقد توفي ابن الأمين بالجزائر سنة 1236 (¬1). ويعتبر ابن العنابي من تلاميذ علي بن الأمين لا في الدراسة عليه فقط ولكن في تقليده في منح الإجازات أيضا. ولا نريد هنا أن نستوفي حياة ابن العنابي ما دمنا قد فصلناها في كتابنا عنه (¬2). والذي يهمنا هنا هو وضع ابن العنابي بين معاصريه في علوم الحديث وروايتها. فقد ولد بالجزائر سنة 1189 وأخذ بها العلم عن مشائخ ذكرهم في (ثبته) المعروف (بثبتالجزائري) ومنهم والده وعلي بن الأمين. كما أنه أخذ العلم في مصر والحرمين. وكان ابن العنابي قد زار أيضا المغرب وتونس وإسطانبول. وفي الأزهر جلس للتدريس والتأليف ومنح الإجازات. ومن الذين خصهم بثبته ¬

_ (¬1) الكتاني 2/ 173. انظر (ثبت الجزائري) لابن العنابي، دار الكتب المصرية، تيمور، مصطلح حديث، 167، وكذلك رقم 597، ورقم (118 تيمور). وانظر كتابي (المفتي الجزائري ابن العنابي). وأخبار ابن الأمين مبثوثة في الأرشيف، لاسيما سنوات توليه الإفتاء وعلاقت بالعلماء المعاصرين. انظر مثلا (288) - 41 - MI 228. (¬2) المفتي الجزائري (ابن العنابي) الجزائر 1977.

الإجازات

المذكور إبراهيم السقا وعبد القادر الرافعي (¬1). ومن مسندي أوائل القرن الماضي زيد العابدين المشرفي المعروف بابن عبد الله سقط. وقد لعب هذا الشيخ دورا في الأحداث التي جرت بين الجزائريين والفرنسيين. وتهمنا هنا الناحية العلمية من حياته. فقد تثقفبالجزائر على عدد من شيوخ الناحية الغربية، ومنهم أبو راس، ثم رحل إلى المشرق فأخذ العلم إجازة من بعض العلماء هناك. وقد وصفه أبو حامد المشرفي في كتابه (ياقوتة النسب الوهاجة) أنه كان كثير الحفظ حتى أنه كان يحفظ صحيح البخاري متنا وإسنادا كما كان يحفظ صحيح مسلم، بالإضافة إلى حفظ السيرة النبوية والأخبار والتواريخ وشيوخ المذهب. وله (فهرسة) تشهد له بذلك. ومن جهة أخرى ذكر له الكتاني مجموعة من الشيوخ الذين قرأ عليهم وأجازوه بالمغرب والمشرق (¬2). الإجازات إذا كانت الإجازة تعتبر (شهادة كفاءة) أو تأهيل يستحق بها المجاز لقب الشيخ أو الأستاذ في العلوم المجاز بها، فإنها بتقادم العهد أصبحت لا تعني كل هذا، لتساهد المجيزين في منحها. فلم يعد هناك تحقق من المجازين في كفاءتهم ودرايتهم بالعلوم ولا من أخلاقهم وسلوكهم، كما أن الإجازة لم تعد تقيد بالقراءة والمشافهة أو حتى بالجزء المقروء من الكتاب، فقد أصبحت ¬

_ (¬1) دار الكتب المصرية، تيمور، مصطلح حديث، 167، 597. وإجازته للسقا تاريخها 1242. (¬2) الكتاني 2/ 15. ولعل ابن عبد الله سقط هو نفسه الذي قيل إن محمد النفزي الفاسي، مفتي المالكية بمكة والمتوفى بها سنة 1245، قد أجازه. فقد وجدت في فهرسة النفزي إجازة لمن اسمه أبو محمد عبد القادر الشهير بابن عبد الله (كذا ولم ترد معها عبارة سقط) المشرفي الراشدي المعسكري، وهذا الفهرس قد جمعه أحمد بن محمد بن عجيبة المتوفى سنة 224 1. دار الكتب المصرية، مصطلح حديث (مجاميع 7، ش).

تمنح بالمراسلة والسماع، كما أنها أصبحت تعطي مطلقة في كل العلوم وكل الكتب التي تعلمها المجيز سواء قرأها المجاز أم لا. وهذا التساهل نتج عنه ضعف مستوى التعليم لأن المجازين أصبحوا يتصدرون للتدريس ويمنحون بدورهم الإجازات لغيرهم في علوم وكتب لم يدرسوها على أحد. ومن جهة أخرى خضعت الإجازات لنوع من المجاملات بين العلماء، فطالب الإجازة (يستدعي) المجيز ببيت شعر أو بقطعة أو برسالة يطلب منه الإجازة ويصفه بألقاب ما أنزل الله بها من سلطان كالبحر والمحيط والشمس والكوكب، ويتردد المجيز قليلا (وهو تردد تقليدي أيضا لأن العادة جرت كذلك) وقد يعتذر بأنه ليس من فرسان هذا الفن، لكنه في النهاية يستجيب للإطراء والمدح فيقلد جيد المجيز بألقاب أخرى فيها التنبؤ والتوسم كالشاب الأريب، وعنوان النجابة، والهلال الذي سيصبح بدرا، ونحو ذلك. ومن الذين انتقدوا التساهل في منح الإجازات، ولا سيما عند المشارقة، الشيخ عبد الكريم الفكون. فقد لاحظ مرة أن بلديه علي بن داود الصنهاجي القسنطيني قد قرأ على الشيخ سالم السنهوري المصري وأجازه هذا وهو (أي الصنهاجي) لا علم له سوى (حفظ بعض المسائل المشهورة من الطهارة وبعض العبادات وبعض المعاملات التي لا تجهل في الغالب. ولا بحث معه ولا تدقيق ولا نظر، والعجب إجازة الشيخ المذكور له. ولا حول ولا قوة إلا باللهء (¬1). ولكن العادة جرت أن لا تكون الإجازة إلا بعد القراءة على الشيخ المجيز وملازمته أياما وشهورا بل أعواما في بعض الأحيان، ومناظرته في بعض المسائل. وقد يقرأ الطالب على الشيخ بعض مؤلفاته، أو بعض الكتب الأخرى كصحيح البخاري أو الكتب الستة، وبعض التفسير ونحو ذلك. فهذا عيسى الثعالبي قد لازم شيخه علي بن عبد الواحد الأنصاري أكثر من عشر سنوات. وهذا عمر المانجلاتي قد لازم الأنصاري أيضا أربع عشرة سنة. ¬

_ (¬1) (منشور الهداية) مخطوط.

ولكن بضعف العناية بالإجازة أصبح التلميذ لا يقطع المسافات لحضور درس أستاذه ولا يتحمل عناء السفر والغربة، وأصبح المشائخ يمنحون الإجازة لتلاميذهم عن طريق السماع بهم، وبدل أن تكون الإجازة خاصة مقيدة بالجزء المقروء أو المسموع أصبحت عامة مطلقة في كل المرويات والمقروءات. وأحيانا نجد بعض المجيزين يجيزون غيرهم بكل ما كانوا قد أجيزوا به. ومن الملاحظ أيضا أن الإجازة التي كانت خاصة بالعلم قد انتقلت أيضا إلى الطرق الصوفية. فقد وجدنا شيوخا يجيزون تلاميذهم بالسبحة والضيافة والخرقة الصوفية ونحو ذلك من مظاهر الدخول في حضرة الشيخ والتتلمذ عليه في الطريقة التي يسلكها. ولكن الذي يعنينا في هذا الفصل هو الإجازة العلمية وليس الإجازة الصوفية. وهناك ثلاثة أصناف من الإجازة: إجازة الجزائريين للجزائريين، وإجازة الجزائريين لغيرهم، وإجازة علماء المسلمين لعلماء الجزائر. ومن الطبيعي أننا لن نحصي، في أي صنف من هذه الأصناف، عدد الإجازات، لأن ذلك يكاد يكون مستحيلا، ولكن الهدف هو سوق نماذج من كل صنف للتعرف على اهتمام الجزائريين بعلم الحديث خصوصا وطلب العلم عموما. فالإجازة، مهما انتقدنا التساهل في منحها، كانت عنوانا على كسب نصيب من العلم بالنسبة للمستجيز وعلامة على التبحر والتخصص في نفس العلم بالنسبة لمانحها. ولما كان الجزائريون كثيرا ما خرجوا من بلادهم لطلب العلم في البلدان الإسلامية فمن الواضح أنهم كانوا من طلاب الإجازة في الغالب وليس من مانحيها. ومع ذلك فلو أحصينا عدد الجزائريين الذين منحوا الإجازات في المشرق والمغرب لاندهشنا لكثرتهم. ومن الغريب أن العلماء الجزائريين لم يجيزوا بعضهم البعض إلا قليلا. من ذلك إجازة محمد الزجاي لأحمد بن محمد الشريف المعروف بابن سحنون مؤلف (الثغر الجماني). فقد ذكر هو في هذا الكتاب نص الإجازة مخافة ضياعها، كما قال. وبناء عليه فإن ابن سحنون قد لازم الزجاي ومجلسه العلمي عدة أيام وليال. فقد قرأ عليه صحيح البخاري وكبرى

السنوسي، وأكثر القرآن الكريم، ومعظم جمع الجوامع للسبكي، وجوهرة الأخضري وسلمه، وحواشي السعد ومتنه وألفية ابن مالك وشروحها، ورسالة الوضع، ونخبة ابن حجر (¬1). ومن هذه المواد نعرف ماذا كان يدرس الشيخ الزجاي أيضا، كما نعرف برنامج الدراسات في العهد العثماني لأن هذه المواد تكاد تكون هي البرنامج الأساسي في مختلف الأقاليم. وبهذا الصدد نذكر أن أحمد الزروق البوني قد أجاز الورتلاني صاحب الرحلة كما أن محمد بن عبد الرحمن الأزهري قد أجاز حمودة المقايسي. وتذكر المصادر أيضا أن يحيى الشاوي قد تلقى إجازتين من مواطنه محمد السعدي بن محمد بهلول، الأولى إجازة بقراءته عليه موطأ الإمام مالك وبعض صحيح البخاري وبعض صحيح مسلم ورواية الكتب الثلاثة المذكورة بسنده عن شيوخه فيها (¬2). والثانية ما يسمونه بالمصافحة. فقد أجاز محمد السعدي للشاوي مصافحة الفقيه محمد العربي يوسف الفاسي له بزاوية محمد بن أبي بكر الدلائي (¬3). كما ذكر شعبان بن عباس المعروف بابن عبد الجليل القسنطيني أن شيخه المفتي محمد بن علي الجعفري القسنطيني أيضا قد أجازه إجازة عامة بعد سنة 1139 إثر القراءة عليه (سنين عديدة). كما ذكر الكتب التي قرأها عليه كالألفية وخليل وألفية العراقي والمحلى في الأصول وصغرى السنوسي والفلك والبخاري (¬4). وطالما جلس علماء الجزائر لتلقي العلم على بعضهم بعضا، ومع ذلك لا نكاد نجد أنهم قد منحوا الإجازات لبعضهم. فمجالس سعيد قدورة وسعيد المقري وعمر الوزان وبموراس ونحوهم كانت عامرة ومع ذلك فإن الإجازات ¬

_ (¬1) (الثغر الجماني) مخطوط باريس، ص 39 - 40. (¬2) انظر دار الكتب المصرية، مصطلح الحديث، رقم 335، ضمن مجموع. (¬3) نفس المصدر، رقم 313 ورقم 366. (¬4) نص هذه الإجازة في مخطوط بمكتبة المولود بن الموهوب عند السيد ماضوي عبد الرحمن، وهي في عدة صفحات ولكنها مبتورة، ويدعى محمد بن علي الجعفري بالبوني أيضا، وهو تلميذ أحمد ساسي البوني.

الصادرة عنهم لتلاميذهم لا تكاد تذكر. وقد قيل إن يحيى الشاوي قد اضطر إلى أن يسافر مع شيخه عيسى الثعالبي مسافة (ثماني مراحل) إلى أن درس عليه علم المنطق، ولكننا لا نجدهم يتحدثون عن كون الثعالبي قد أجاز الشاوي في هذا العلم (¬1). ونعرف أن أبا راس قد ورد على مدينة الجزائر وأخذ العلم على ابن عمار وغيره فيها، ولكننا لا نعرف أن هناك إجازة من ابن عمار لأبي راس. فيبدو أن علماء البلد الواحد لا يمنحون عادة الإجازات لبعضهم، وكأن الإجازة لا تأتي إلا نتيجة اغتراب وسفر طويل وتتلمذ على غير أهل البلد. ومن جهة أخرى نعرف أن عيسى الثعالبي قد روى مرويات ثلاثة شيوخ على الأقل من الجزائر وهم سعيد قدورة، وعلي الأنصاري، وعبد الكريم الفكون. وقد ترجم لثلاثتهم في ثبته. ومن الطريف أن نذكر إجازة أحمد بن قاسم البوني لابنه أحمد الزروق (الذي أشركه فيها مع محمد بن علي الجعفري القسنطيني - البوني الأصل -) (¬2). ولعل أطرف من ذلك إجازة محمد قدورة لأخيه أحمد قدورة. ولدينا نص طلب الإجازة الذي تقدم به الأخ لأخيه، على عادتهم في ذلك، وهو في عشرين بيتا، ونحن نكتفي منه بهذه الأبيات المعبرة، فقد قال أحمد قدورة يخاطب أخاه الذي كان عندئذ مفتي المالكية بالعاصمة: قطب الزمان ونخبة الفضلاء ... وسلالة النجباء والعلماء شيخ الجزائر، حبرها وخطيبها ... وإمامها حقا بغير مراء جل السعيد (¬3) محمد العلم الذي ... أحيا العلوم بفطنة وذكاء إلى أن يقول: تلميذكم ومحبكم بل عبدكم ... طلب الإجازة منكم بوفاء ¬

_ (¬1) (خلاصة الأثر) للمحبي 3/ 241. (¬2) اطلعت على هذه الإجازة في مكتبة زاوية طولقة واستفدت منها وطلب نسخها فلم أحصل على طائل. (¬3) يعني والدهما المفتي سعيد بن إبراهيم قدورة. انظر ترجمته في فصل التعليم من الجزء الأول.

بجميع ما تروونه عن والد ... أو غيره من سائر العلماء وقد جاء في النص أيضا: عمرت دهرا للعلوم تبثها ... بالكتب والتدريس والإملاء وبقيت فردا لارتقاء منابر ... للوعظ والتذكير والإيضاء (¬1) وقد منح الجزائريون كثيرا من الإجازات لغيرهم من علماء المسلمين. ولنذكر هنا بعض ذلك فقط. فإذا عدنا إلى رحلة ابن زاكور المغربي إلى الجزائر وجدنا فيها نماذج من هذه الإجازات والطريقة التي حصل بها ابن زاكور عليها، وأسلوب منحها وكفاءة شيوخه فيها. وقد ذكر ابن زاكور على الأقل ثلاثة من مشاهير علماء الجزائر في القرن الحادي عشر، وهم عمر المانجلاتي، ومحمد بن عبد المؤمن، ومحمد بن سعيد قدورة. وبناء على ابن زاكور فإن المانجلاتي قد درس العلم بجد واجتهاد وانقطاع، وأن شيوخه قد درسوه أيضا على مشائخ جلة من المشرق والمغرب قراءة وإجازة وإعلاما، وإنه بالرغم من أنه لا يشعر بأنه مؤهل لمنح الإجازة فقد أجاب غرض ابن زاكور. وقد اتبع المانجلاتي الأسلوب المتعارف عليه، وهو الاعتذار، لكونه غير مؤهل لهذه الدرجة (ولكن خلت الديار فساد غير مسود) وأن الزمان قد تغير (وتحولت الأحوال واشتغل البال) (¬2). والإجازة الثانية من علماء الجزائر لابن زاكور هي إجازة محمد بن عبد المؤمن. وقد كان محمد بن عبد المؤمن يسمى بـ (أديب العلماء وعالم الأدباء) لجمعه بين الأدب والفقه (¬3). وقد وصفه ابن زاكور بأنه (ممن ضرب ¬

_ (¬1) (جليس الزائر وأنيس السائر) منسوب لأحد أفراد عائلة قدورة. مخطوط بالمكتبة الوطنية، غير مرقم، اشترته المكتبة من الشيخ المهدي البوعبدلي وفي كلمة (إيضاء) خروج عن القواعد. (¬2) ابن زاكور (الرحلة) 8. وقد سبق الحديث في فصل التعليم من الجزء الأول عن المواد التي درسها المانجلاني وكانت الإجازة بتاريخ 1094. (¬3) انظر عنه رحلة ابن حمادوش، فقد أورد له نص عقد زواج كتبه ابن عبد المؤمن بمناسبة زواج عبد الرحمن المرتضى الشريف، وأصبح العقد مثالا يحتذيه الموثقون =

بسهم وافر من العلم. العالم الفقيه اللوذعي جامع الفضائل). وبعد اعتذار ابن عبد المؤمن لعدم أهليته أجاز ابن زاكور بما أجازه به شيخاه علي الشرملسي المصري وأحمد بن تاج الدين نزيل المدينة، كما أجازه بمنظومته في العقائد والفروع وطلب منه أن يشرحها إذا تمكن (¬1). أما محمد بن سعيد قدورة فقد أجاز ابن زاكور إجازة مطلقة عامة (في جميع مقروءاتي معقولا ومنقولا توحيدا ونحوا) ولم يذكر قدورة أي شيخ من أشياخه وإنما اكتفى بقوله: (فليحدث بذلك إن أحب عن أشياخي إلى المؤلفين) (¬2). وقبل ابن زاكور منح أحمد العبادي التلمساني الإجازة لابن عسكر مؤلف (دوحة الناشر). وقد عاش الشيخ العبادي حياة متقلبة نتيجة تقلب ظروف العصر. فبعد استيلاء العثمانيين على تلمسان والاضطرابات التي رافقت ذلك هاجر إلى المغرب فأقام في فاس وزار مراكش وأكرمه السلطان عبد الله الغالب (توفي سنة 981) إكراما خاصا. ولكنه ما لبث أن عاد إلى تلمسان واستقر نهائيا، كما يقول ابن عسكر، في مليانة. وقد ذكر ابن عسكر نص إجازته له في مؤلفه (¬3). ولم يكن العبادي سوى نموذج من الجزائريين الذين منحوا الإجازة لبعض علماء المغرب. فالحدود العلمية بين الجزائر والمغرب تكاد تكون غير موجودة. ويكفي أن نشير هنا إلى مكانة أحمد الونشريسي وابنه عبد الواحد وأحمد المقري ومحمد الكماد بين المغاربة. ولنشر أيضا إلى إجازة عيسى الثعالبي للعياشي، وإجازة سعيد المقري لأحمد بن القاضي صاحب (جذوة الاقتباس) (¬4). ¬

_ = لما فيه من أدب وشريعة، وكان قد درس في المشرق أيضا، وكان حسني النسب. (¬1) ابن زاكور (الرحلة)، 17. (¬2) نفس المصدر، 28. (¬3) ترجمته والإجازة في (دوحة الناشر) النص الفرنسي، ص 200 - 202. وكان والد العبادي من علماء تلمسان أيضا، هاجر إلى فاس وتولى التدريس بالقرويين، ثم عاد أيضا إلى تلمسان حيث توفي حوالي 1524 م (931) هـ. أما ابنه فلا نعرف متى توفي بالضبط. (¬4) ذكر ذلك أحمد المقري في (روضة الآس) 268، وتاريخ الإجازة هو سنة 1009.

أما عن العلاقة بين علماء الجزائر وتونس كما تصورها الإجازات فقد كانت أيضا وطيدة ولكننا لا نحفظ منها إلا القليل. ورغم رحيل الجزائريين إلى تونس لطلب العلم والإقامة والتجارة فإن القليل من علماء تونس قد زاروا الجزائر نسبيا خلال العهد العثماني. ولعل ذلك يعود إلى اكتفاء علماء تونس الذاتي من طلب العلم. فلهم جامع الزيتونة يروي غلتهم، وهم إذا أرادوا المزيد فالشرق أمامهم، ولم تكن الجزائر تقدم لهم شيئا تقريبا مما كانوا يطلبون. ومع ذلك فإننا نجد الورتلاني وأبا راس يتحدثان عن علاقاتهم الوثيقة مع علماء تونس. ثم إن أحمد بن عمار قد أجاز تلميذه إبراهيم السيالة التونسي كما ذكرنا آنفا. كما أن ابن العنابي قد أجاز محمد بيرم وغيره. وقد كان منح الإجازات للسلاطين والوزراء أمرا غير شائع، ولكن محمد بن أحمد الشريف الجزائري قد منح أحد الوزراء العثمانيين إجازة شملت الأحاديث النبوية والمؤلفات. وهذا الوزير هو أحمد باشا نعمان الذي تولى، بالإضافة إلى منصب الوزير في بلاده، وظيفة شيخ الحرم بالحجاز. وأثناء ذلك كان محمد بن أحمد الشريف مجاورا ومدرسا بمكة، فطلب منه الباشا الإجازة فيما سمعه منه ففعل. وقد قال المجيز عن ذلك: (فأسعفته في ذلك، وأتحفته بما هنالك، تطييبا لخاطره وتنشيطا لفكره وناظره). وبعد البسملة والتصلية افتتح محمد الشريف إجازته بقوله: (أما بعد فقد طلب من هذا العبد الفقير المعترف بالقصور والتقصير، أيام المجاورة بالحرم المكي، وذلك سنة 1154، أربع وخمسين ومائة وألف، إنسان عين الفضائل والمفاخر، وسلالة فضلاء الوزراء كابر عن كابر. عمدة السلطنة العثمانية، وليث غياهبها الباهر. ورئيس الغزاة المجاهدين، فكم قصم سيفه من كافر وفاجر، فهل أتاك خبر الفيش (¬1) (؟) وما شتت فيه من شمول ¬

_ (¬1) كذا، ولعلها الفنش التي تعني النصارى، وتطلق في الجزائر غالبا على الإسبان.

الكوافر، وبدد فيه من دماء تلك المناحر، وهو الذي حاز قصبات السبق لا يدانيه في الذكاء والسياسة مناظر، نجل الوزارة وقائم مقامها وقطب رحاها وعليه مدارها، حضرة مولانا ولي النعم أبو الخيرات أحمد باشا نعمان باشا زاده، دام عزه ورفعته وحفت بالحفظ والعناية حضرته، سماع بعض الأحاديث والإجازة فيها وغيرها كسند السبحة والضيافة ونحوها، وهو إذاك شيخ الحرم الشريف زاده الله شرفا، فأسعفته في ذلك وأتحفته بما هنالك تطييبا لخاطره، وتنشيطا لفكره وناظره، والله تبارك وتعالى المسؤول في التوفيق والقبول، وبه أستعين، فأقول: سمع منا الوزير المشار إليه ..) (¬1). وبعد أن يسرد الأحاديث التي سمعها منه يذكر أيضا مؤلفاته التي بلغت أحد عشر مألفا (إلى غير ذلك مما لنا من تقييد وتقرير، وبيان وتحرير، وبسط وتفسير). ومعظم مؤلفالت محمد الشريف تحوم حول الأحاديث النبوية والتصوف. ومن ذلك (جامع الأصول المنيفة من مسند أحاديث أبي حنيفة) الذي قال عنه أنه جعله في التبويب والترتيب نظير موطأ الإمام مالك. وكان محمد الشريف يوقع تآليفه هكذا (خادم العلم والعلماء الشيخ محمد بن أحمد الشريف الجزائري مولدا ومنشأ الأزميري وطنا وملجأ) فهو إذن من الجزائريين الذين يعودون إلى أصول عثمانية ويعتنقون المذهب الحنفي. وقد هاجر إلى المشرق وجاور بمكة واستوطن أزمير لأسباب لا نعلمها الآن. وقد نعرض إلى بعض مؤلفاته في فصل التصوف. وتعتبر إجازة البوني والراشدي لمحمد مرتضى الزبيدي إجازة بالمراسلة، لأنهما لم يجتمعا به، الأول من عنابة والثاني من قسنطينة. وقد ذكر الكتاني أن الزبيدي قد ترجم للراشدي في (معجمه) وسماه فيه (شيخنا الإمام المحدث الصوفي النظار) (¬2). وبناء على الزبيدي فإن الراشدي قد توفي سنة 1194. وممن أجازوا الزبيدي أيضا من الجزائريين محمد المنور ¬

_ (¬1) هذه الإجازة مصورة، عن النسخة الأصلية من إسطانبول. (¬2) الكتاني، 1/ 172.

التلمساني المتوفى سنة 1172. وقد أجاز يحيى الشاوي عددا من علماء المشرق منهم المحبي صاحب (خلاصة الأثر) بعد أن درس عليه هو وجماعة من الشاميين تفسير سورة الفاتحة من البيضاوي، والألفية والعقائد ونحوها. وكانت الإجازة نظما ذكره المحبي (¬1). وممن أجازهم الشاوي أيضا محمد بن زيد الدين الكفيري، وذلك بأسانيده ومروياته عن مشائخه في كتب الموطأ وصحيح البخاري وغيرها (¬2). كما أجاز تقي الدين الحسني بالإجازة التي منحه إياها شيخه محمد السعدي البهلول (¬3). ولا شك أن الشاوي قد أجاز غير هؤلاء أيضا (¬4). أما ابن عمار فقد منح سنة 1205 إجازة إلى مفتي الشام عندئذ محمد خليل المرادي. وقد ذكر ابن عمار في هذه الإجازة بعض شيوخه في مصر وفي الحرمين كما ذكر العلوم التي تلقاها عنهم، بالإضافة إلى بعض الأثبات. فمن مشائخه بمكة عمر بن أحمد، وبالمدينة حسن بن محمد سعيد، وبمصر محمد الحفني، ومن هذه الإجازة نعرف أن ابن عمار يروي الحديث عن عيسى الثعالبي بطريق محمد الحفني (¬5). وبالإضافة إلى إبراهيم السقا وعبد القادر الرافعي منح ابن العنابي الإجازة إلى محمد بيرم التونسي ومحمد بن علي الطحاوي المصري وغيرهما. وقد عرفنا أنه كان يقلد أستاذه ابن الأمين في منح الإجازة لكل من أدرك حياته. وكان أحمد المقري قد منح الإجازات أيضا لعلماء المشرق. وقد روى هو أنه أجاز أحمد الشاهين ¬

_ (¬1) (خلاصة الأثر) 4/ 486. وقد هاجم الشاوي الفلاسفة في هذا النظم، وعدد الأبيات خمسة عشر. (¬2) دار الكتب المصرية، مصطلح الحديث، ضمن مجموع رقم 313، وهي بخط المجيز نفسه. (¬3) نفس المصدر، رقم 335 ضمن مجموع. (¬4) جاء صاحب الأعلام 9/ 214، بلوحة رقم 1460 من إجازة للشاوي بدار الكتب المصرية (313 مصطلح) وعليها خط الشاوي. (¬5) إجازة ابن عمار للمرادي من مخطوطات المكتبة الظاهرية بدمشق. انظر مقالتي (إجازة ابن عمار الجزائري للمرادي الشامي) في مجلة (الثقافة) عدد 45، 1978.

الدمشقي بتأليفه (إضاءة الدجنة) بطلب منه، كما أجازه بغيرها (¬1). وبالمقابل، تلقى علماء الجزائر الإجازات من علماء المسلمين في المشرق والمغرب، وهذا هو الكثير الغالب. ولا نريد أن نعدد الإجازات وأصحابها فليس ذلك من هدفنا هنا، ولكننا ننبه إلى أن بعض الإجازات التي سنشير إليها قد تضمنت في الغالب العلوم كلها، كما يقول الورتلاني، ولم تكن خاصة بعلم الحديث وحده، وأحيانا كانت تتناول الفقه والتوحيد والتصوف، وكلها في الواقع علوم مشتركة. وقد كانت إجازات علماء المالكية في مصر والحرمين لعلماء الجزائر كثيرة الورود لاتفاق المذهب. أما علماء المغرب العربي فالمذهب بينهم واحد، لذلك أجاز عدد من علماء المغرب أحمد المقري قبل رحيله إلى المشرق. ومنهم أحمد بن القاضي صاحب (جذوة الاقتباس) وأحمد بن أبي القاسم التادلي ومحمد القصار وأحمد بابا التمبكتي (¬2). ومن جهة أخرى سجل عبد الرزاق بن حمادوش في رحلته مجموعة من الإجازات التي منحها له بعض علماء المغرب في عهده، وهم أحمد الورززي ومحمد بن عبد السلام البناني وأحمد بن المبارك وأحمد السرايري (¬3). كما أخذ محمد المنور التلمساني إجازة من الشيخ محمد بن عبد الرحمن بن عبد القادر الفاسي (¬4). وأثناء مرور عبد القادر بن شقرون الفاسي على نواحي بسكرة في طريقه إلى الحج أجاز الفقيه خليفة بن حسن القماري سنة 1192 (أو 1193) بعد أن قرأ أجزاء من نظمه المشهور لخليل. ووصف المجاز بأنه من فرسان البراعة وأنه على خلق حسن (¬5). ¬

_ (¬1) (نفح الطيب) 3/ 181. (¬2) ذكر المقري ذلك في كتابه (روض الآس) في تراجم العلماء المنكورين. انظر كذلك فهرس دار الكتب المصرية تيمور، 171، مصطلح الحديث. (¬3) ابن حمادوش (الرحلة) مخطوطة. انظر دراستي عنه في كتابي (أبحاث وآراء في تاريخ الجزائر). ج 1، ط. 3 1990. (¬4) فهرس دار الكتب المصرية، مصطلح الحديث، رقم 181 مجموع. (¬5) من نسخة خطية في مكتبة الصادق قطايم بقمار، بوادي سوف. انظر أيضا رسالة =

وقد عرفنا أن الورتلاني قد حصل على إجازات كثيرة من شيوخ مصر أثناء إقامته بالأزهر، بعضهم أجازه بالعلوم وبعضهم أجازه بأوراد الطريقة الشاذلية. فهذا الشيخ البليدي قد أجازه في سائر العلوم، وهذا عبد الوهاب العفيفي قد أجازه إجازة مطلقة في العلوم العقلية والنقلية، وهو الذي لقنه الذكر على الطريقة الشانلية (وقد أخذنا عنه الطريق ورسم الحقيقة وإنه لقننا الأذكار وجددنا عليه العهد في الطريقة الشاذلية المحصنة). أما (سلطان العارفين) الشيخ الحفناوي فقد أجاز الورتلاني في المعقول والمنقول (¬1). ولوجمعت إجازات الورتلاني من علماء مصر وغيرهم لجاءت ربما في كتاب، لأن بعضهم قد أجازه بخط يده وبعضهم قد أجازه بخطوط تلاميذه، ولكن معظم إجازات الورتلاني كانت عن طريق القراءة والملازمة. وقد حضر معه بعض ذلك معاصره ومواطنه أحمد بن عمار. وقد نشر إبراهيم اللقاني في القرن الحادي عشر الإجازة بين الجزائريين. ذلك أن كثيرا منهم قد نوهوا به وتلقوا عليه العلم. ويبدو أنه كان ذابئع الصيت متمكنا في الفقه المالكي. ومما يلفت النظر أن إبراهيم اللقاني لم يمنح الإجازة لعالم جزائري بعينه ولكنه منح إجازة لمجموعة من علماء الجزائر، مثل علي بن مبارك القليعي (¬2) وسعيد قدورة وسحنون (¬3) رفيق سيدي علي البهلول (¬4). وقد تضمنت الإجازة غيرهم بالطبع ولكننا للأسف لم ¬

_ = (إتحاف القاري بسيرة خليفة بن حسن القماري) تأليف محمد الطاهر التليلي القماري. مخطوطة. (¬1) الورتلاني (الرحلة) 289. (¬2) لا شك أنه من مدينة القليعة القريبة من مدينة الجزائر والمشهورة بأسرة سيدي علي مبارك المشتغلة بالتصوف. (¬3) الظاهر أنه هو سحنون الونشرسي شارح (السراج) للأخضري، وسيأتي الحديث عنهفي فصل العلوم من هذا الجزء. (¬4) يبدو أنه من أسرة أبهلول التي كانت لها زاوية بنواحي تنس. انظر ترجمة سعيد قدورةفي فصل التعليم من الجزء الأول.

نطلع عليها. وقد قال في آخر الإجازة (أجزت لمن ذكر ولأولادهم ولأهل قطرهم .. جميع ما مر التنبيه عليه وجميع ما يجوز لي وعني روايته من مقروء ومسموع ومجاز ومكاتبه ووجادة ومراسلة وأصول وفرع ومعقول ومنقول) (¬1) فهي إجازة عامة في نوعها وفي هدفها لأنها لا تتعلق بنوع معين من العلم ولا بعالم واحد في الجزائر. ولمحمد مرتضى الزبيدي أيضا تأثير على علماء الجزائر بطريق الإجازة. فهو من الذين اشتهروا بالتبحر في العلوم والتأليف فيها ونشر الإجازة بين المعاصرين. وقد سبق أن أشرنا إلى أنه قد أجاز أبا راس وحمودة المقايسي. ولعله قد أجاز أيضا أحمد بن عمار وغيره من علماء الجزائر الذين ترددوا على مصر في النصف الثاني من القرن الثاني عشر. وقد ذكر الكتاني أن للزبيدي إجازة عامة لأهل قسنطينة تقع في مجلد صغير، وله أخرى لأهل الراشدية (¬2). وكان محمد الأمير (وهو جزائري الأصل) قد أجاز أبا راس وغيره من الجزاريين واشتهر علماء مصريون آخرون بمنح الإجازات للجزائريين مثل: علي بن سالم السنهوري، وعلي الشرملسي وعلي الأجهوري ومحمد البابلي ومحمد الزرقاني وأحمد الجوهري. فقد أخذ محمد بن عبد الكريم الجزائري عن البابلي والزرقاني (¬3). وأخد محمد بن عبد المؤمن، كما عرفنا، عن الشرملسي (¬4). وأخذ محمد المنور التلمساني عن أحمد المجيري (¬5). كما أخذ علي بن الأمين عن أحمد الجوهري (¬6). ¬

_ (¬1) دار الكتب المصرية، مصطلح الحديث، رقم 19 م ضمن مجموع. وقد توفي إبراهيم اللقاني سنة 1041. (¬2) الكتاني (فهرس الفهارس) 1/ 408. (¬3) الجبرتي، 1/ 68. وبناء عليه فقد أخذ محمد بن عبد الكريم أيضا عن مغفتي تعز محمد الحبشي. (¬4) ابن زاكور (الرحلة) /23. (¬5) دار الكتب المصرية، مصطلح الحديث، مجموع رقم 181، والإجازة بخط المجيز سنة 1168. وقد توفي المجيري الملوي سنة 1181. (¬6) ذكر ذلك ابن الأمين نفسه في رسالته المسماة (أما بعد). مخطوط. انظر فصل اللغة =

عيسى الثعالبي

عيسى الثعالبي كل المصادر التي ترجمت لعيسى الثعالبي لا تذكر إلا تاريخ وفاته بمكة سنة 1080. فتاريخ ميلاده إذن غير معروف، ولكننا نعرف أنه ولد بالجزائر في موطن أجداده الثعالبة الذين كانت إمارتهم تمتد من نواحي مليانة غربا إلى سهول وادي يسر شرقا. وهو من نسل عبد الرحمن الثعالبي دفين مدينة الجزائر الشهير. وكانت حياته الأولى متقلبة لم تعرف الاستقرار لأنه خالط أثناءها أهل الحكم، ولم يكن الحكم عندئذ مستقرا. ومن حسن حظ الثعالبي أنه نجا برأسه من الحوادث التي عاصرها في بلاده. ولكن الجزء الثاني من حياته الذي قضاه في المشرق كان هادئا انقطع فيه للعلم والدراسة والتدريس والتأليف واقتناء الكتب. تلقى الثعالبي العلم إذن بمسقط رأسه فترة من الوقت ثم قدم إلى العاصمة لمتابعة دروسه. وكانت العاصمة في بداية القرن الحادي عشر تحتضن عددا من العلماء ذكرنا بعضهم فيما مضى (¬1). ولم تكن شهرة سعيد قدورة قد وصلت ما وصلت إليه من الذيوع ومع ذلك تتلمذ الثعالبي عليه وروى عنه الحديث بالخصوص. وقد قال المحبي أن الثعالبي قد روى عن قدورة الحديث المسلسل بالأولية والضيافة على الأسودين التمر والماء وتلقين الذكر ولبس الخرقة والمصافحة والمشابكة. ومن ثمة نعرف أن الثعالبي قد بدأ بداية تصوفية كما أنه قد اتصل بعلم الحديث اتصالا قويا وهو ما يزال في شبابه الباكر. وقد نقل الثعالبي مروياته عن قدورة إلى الأجيال اللاحقة فيما سيكتبه من إجازات. ولكن الذي أثر على عيسى الثعالبي هو علي بن عبد الواحد الأنصاري السجلماسي، وهو، كما عرفنا، معاصر لقدورة. فقد لازمه الثعالبي أكثر من ¬

_ = والنثر من هذا الجزء. والرسالة محققة ومنشور ة حديثا. (¬1) انظر ترجمة سعيد قدورة في فصل التعليم من الجزء الأول.

عشر سنوات ملازمة ظله، ودرس عليه علوما شتى منها صحيح البخاري دراية ورواية، وبعض كتاب الشفاء، وألفية العراقي في مصطلح الحديث. كما درس عليه الفقه وأصوله في الكتب التالية: مختصر خليل والرسالة، وتحفة الحكام لابن عاصم، وجمع الجوامع للسبكي الخ (¬1). وقد سجل الثعالبي ما قرأه على شيخه الأنصاري وغير. في ثبته المعروف (بكنز الرواة) الذي سنعرض له. وارتبطت الصلة بين الثعالبي والأنصاري حتى تجاوزت العلم إلى الصلات الاجتماعية والسياسية. فقد زوجه شيخه ابنته وقربه من باشوات الجزائر، ولا سيما يوسف باشا، الذي حظي عنده الثعالبي بمكانة مرموقة، كما حظي عنده الأنصاري، حتى أصبح الثعالبي وكأنه هو كاتب الباشا الخاص (¬2). ولكن الأمور قد تطورت في غير صالح الثعالبي فقد طلق زوجه بأمر والدها، كما يقول العياشي (الذي لا شك أنه روى ذلك عن الثعالبي نفسه) ومع ذلك لم تنقطع صلته بأستاذه. ثم توفي الأنصاري بالطاعون سنة 1057 فخسر الثعالبي سندا قويا. ووقعت ثورة ضد الحكم العثماني في شرق البلاد أدت إلى ضعضعة هذا الحكم ولا سيما سمعة يوسف باشا ولي نعمة الثعالبي. وقد أدى ذلك أيضا إلى وضع الباشا في السجن عدة مرات من زملائه المنافسين له والجنود الناقمين عليه لعدم دفع المرتبات لهم. ومن الرسالة التي كتبها الثعالبي لصديقه وأستاذه عالم عنابة علي بن محمد ساسي البوني، ندرك أنه قد رافق يوسف باشا في حملته ضد الثوار (الثورة المعروفة بثورة ابن الصخري) (¬3). وسواء رافق الثعالبي الباشا في هذه الحملة أو في حملات أخرى سابقة، فإنه قد برهن من خلال الرسالة على أنه قد شارك ضد الثورة. فهو يتحدث بضمير المؤيد للعثمانيين ضد الثوار ويصف المعارك (دون أن يذكر تاريخا) وكأنه حاضر لها ومشارك فيها. وقد كتب رسالته من نقاوس، ولكنه ذكر أيضا ¬

_ (¬1) المحبي (خلاصة الأثر) 3/ 240. (¬2) العياشي (الرحلة) 2/ 128. انظر أيضا ترجمة علي بن عبد الواحد الأنصاري في فصل التعليم من الجزء الأول. (¬3) انظر فقرة الثورات ضد العثمانيين في الفصل الثاني من الجزء الأول.

قسنطينة (التي بقي فيها يوسف باشا حوالي سنة) وذكر قجال التي جرت فيها معركة كبيره بين جيش اشبن الصخري وجيش العثمانيين، كما ذكر نواحي الزاب التي زارها أيضا يوسف باشا متتبعا آثار ابن الصخري (¬1). كان الثعالبي إذن في غمرة الأحداث التي جرت بالجزائر حوالي منتصف القرن الحادي عشر (17 م) وقد وجد نفسه أخيرا بدون سند. فبعد وفاة شيخه الأنصاري ووفاة ولي نعمته يوسف باشا، أصبح خائفا على نفسه. فهو لم يعد إلى مدينة الجزائر التي استولى فيها على الحكم خصوم يوسف باشا. ويبدو أنه لم يطل الإقامة في قسنطينة أيضا لأنها كانت تشهد هي أيضا موجة من العنف والاضطراب. ولا شك أنه قد اتصل فيها بشيخ الإسلام عندئذ، عبد الكريم الفكون وروى عنه الحديث ونحوه (¬2). ولكنه لم يلبث أن غادر قسنطينة إلى حيث يكون بعيدا عن العيون، وقد أورد العياشي أن الثعالبي ظل يتنقل بين زواوة وقسطينة وبسكرة، وأنه في الأخيرة قد أقام عند الشيخ أحمد بن المبارك التواتي، كبير أولاد سيدي ناجي عندئذ، وعندما توفي الشيخ التواتي حوالي سنة 1060 لم يبق للثعالبي إلا أن يغادر الجزائر مغادرة نهائية حيث وجد نفسه، كما يقول العياشي، (الذي لا شك أنه كان ينقل عن الثعالبي نفسه) بدون أهل وإخوان. غادر الثعالبي الجزائر سنة 1061 قاصدا الحج. وكثيرا ما كان قصد الحج وسيلة للخروج أو الهروب من الجزائر. ومهما كان الأمر فقد يكون الثعالبي مر بعنابة ومكث عند أسرة البوني التي كانت تتمتع بسمعة هائلة في عنابة ونواحيها. ولكننا لا نملك الوثائق على ذلك (¬3). ومن المؤكد أن الثعالبي قد مر بتونس ولعله أقام فيها بعض الوقت والتقى ببعض علمائها. ¬

_ (¬1) أورد الرسالة مترجمة إلى الفرنسية السيد فايسات (روكاي)، 1867، 339. (¬2) كان الفكون من أنصار العثمانيين أيضا مثل الثعالبي، وقد ترجم له الثعالبي في ثبته (كنز الرواة). فالفكون إذن كان من شيوخ الثعالبي. (¬3) كانت أسرة البوني (وهي من العلماء والمرابطين) تؤيد العثمانيين أيضا. انظر مراسلاتها مع يوسف باشا وغيره. مخطوط باريس 6724.

ولا نعرف بأي طريق حج الثعالبي بحرا أو برا، ولكنه على كل حال أدى الفريضة وجاور بمكة سنتي 1062 - 1063، وأخذ العلم عن مشائخ الحرم، ثم قصد مصر فمكث بها سنتي 1064 - 1065، وأخذ عن علمائها، وخصوصا علي الأجهوري ومحمد البابلي والخفاجي، وأخذ الطريقة أيضا عن أبي الحسن علي المصري ودرس عليه. وكان يلتقي بالمغاربة ويساعدهم على شق طريقهم، كما فعل مع العياشي في حجته الأولى سنة 1064 (¬1). وفي السنة الموالية (1065) عاد الثعالبي إلى مكة واستوطنها وهناك أخذ يدرس للناس الحديث وغيره متسلحا بعلوم متعددة وأساليب متنوعة ساعدته على جلب الناس إليه. وبعد أن مكث سنوات عزبا تزوج من جارية اشتراها، كما يقول المحبي، وأنجب منها أولادا. وذكر العياشي أنه هنأه بواحد منهم أثناء حجته الثانية سنة 1073 (¬2). أخذ الثعالبي الحديث وبعض الطرق الصوفية على عادة معظم العلماء في وقته. فعندما كان بالجزائر أخذ عن شيخه سعيد قدورة، كما عرفنا، الأحاديث المسلسلة ولبس الخرقة والمصافحة والمشابكة ونحوها من مظاهر الصوفية. ولا ندري إن كان قد أخذ، وهو في الجزائر أيضا، بعض الطقوس والأوراد. غير أنه لما كان بمصر سنة 1065 قصد الصعيد لأخذ الطريقة على الشيخ أبي الحسن علي المصري. ولا ريب أن هذه كانت هي الطريقة الشاذلية. وفي الحجاز أخذ الثعالبي الطريقة النقشبندية على الشيخ صفي الدين القشاشي المدني. فقد ذكر العياشي أنه قد تلقى من الثعالبي بطريق الإجازة مبادئ هذه الطريقة، وأنه ألبسه الخرق الثماني المنصوص عليها عند أصحابها. وهي الخرق التي لبسها الثعالبي بدوره على يد الشيخ القشاشي المذكور. ولكن الثعالبي، كما لاحظ العياشي، لم يكن متنطعا ولا متصلبا في تصوفه، فلم يكن ضد التصوف بالمرة كما كان بعض الفقهاء، ولم ¬

_ (¬1) في هذه الحجة التقى العياشي أيضا بعبد الكريم الفكون، فهل التقى الثلاثة (الفكون والثعالبي والعياشي) في مصر؟ (¬2) المحبي (خلاصة الأثر) 3/ 240. والعياشي (الرحلة) 2/ 138.

يكن متدروشا تماما كما كان كثير من المتصوفة، بل كان بين بين. فقد جمع العلم إلى الزهد في حالة تذكرنا بنسيبه عبد الرحمن الثعالبي. ولذلك كان مقبولا عند أهل الظاهر والباطن. ورغم أنه كان فقيرا في معظم أوقاته فإنه كان في المشرق لا يسأل الناس شيئا ولا يغشى أبواب الأمراء، كما كان يفعل أحمد المقري ويحيى الشاوي. ومع ذلك لم يعش كل حياته محروما فقيرا. فقد أقبلت عليه الدنيا بعض الإقبال، ونال بسطة في الرزق، غير أن ذلك، فيما يبدو، كان في أخريات أيامه. وصف الثعالبي مترجموه بأنه كان ذا ملكة واسعة في علم الحديث، وأنه كان مسند الدنيا في وقته، كما وصفوه بالذكاء الحاد وقوة الهيبة في التدريس والتمكن من الفقه المالكي. ومن الذين عاصروه وترجموا له العياشي المغربي والمحبي الشامي. وكلاهما أعجب به أشد الإعجاب. وإذا كان المحبي قد سمع به فقط فإن العياشي قد التقى به في حجتيه وأخذ عنه وشاهد مجلسه ولاحظ تمكنه في العلوم المذكورة. كما خالطه اجتماعيا. لذلك يمكن أن نعتبر ما أورده عنه نوعا من الترجمة الشخصية له أثناء حياته، وبعض ذلك كان من إملاء أو من وحي الثعالبي نفسه. كما أن إجازات الثعالبي لغيره تعتبر من المصادر الأولى عنه. ومن ذلك إجازته للشيخ أحمد بن سعيد الدلائي سنة 1068 بمكة، وهي الإجازة التي عدد فيها أساتذته الذين أخذ عنهم الحديث (الكتب الستة) في مصر، وخصوصا علماء الأزهر المالكية أمثال علي الأجهوري ويوسف الفيشي (¬1). وبالإضافة إلى إجازته للعياشي والمحبي والدلائي، أجاز الثعالبي أيضا محمد بن محمد العيثاوي الدمشقي الذي توفي مثله سنة 1080. وهي الإجازة التي كتب فيها الثعالبي أنه (لولا الإسناد لقال من شاء ما شاء) (¬2)، كما أجاز إبراهيم بن ¬

_ (¬1) توجد هذه الإجازة ضمن مجموع رقم 286 تيمور، دار الكتب المصرية، حديث ص 248 - 254 وهي ناقصة من الوسط. (¬2) دار الكتب المصرية، مصطلح الحديث، رقم 335، ضمن مجموع، وهي بخط الثعالبي نفسه كتبها سنة 1075.

حامد القاكي بحديث الرحمة المسلسل والصيانة والمصافحة والمشابكة وتلقين الذكر .. وغير ذلك (¬1). وللثعالبي تلاميذ كثيرون في علم الحديث إما أخذوه عنه مباشرة بالدرس والإجازة وإما بطريقة غير مباشرة. وإذا كان الثعالبي مشهورا برواية الحديث ووفرة العلوم والذكاء والدرس المهاب فإنه غير مشهور بكثرة التأليف. ويبدو أنه ممن كانوا منقطعين للقراءة والتدريس، ومع ذلك فقد ترك بعض الأعمال ذات القيمة الكبيرة في موضوعها. من ذلك فهرسته أو ثبته المعروف (بكنز الرواة) الذي ترجم فيه لشيوخه من المغاربة والمشارقة. كما ينسب إليه (رجز في مصاعفة ثواب هذه الأمة) (¬2). ويعتبر (كنز الرواة) العمل الرئيسي الذي كتبه الثعالبي. فقد تتبع من أجله خزائن الكتب الكبيرة في مصر والحجاز واستخرج منها نوادر التآليف وقيد الكثير منها، ودرس تلك المصنفات والمجاميع والمسانيد والأجزاء بحسب أزمنة مؤلفيها، فكان يختار من كل كتاب أعلى ما فيه، وضبط من الأسماء والأنساب ما قل أن يوجد عند غيره، وأبان عن طرق الرواية التي كانت مخفية عند غيره (فهو نادرة الوقت ومسند الزمان) (¬3). وقد حصل العياشي على نسخة غير تامة من (كنز الرواة) وأجازه بها الثعالبي. وقد أعجب العياشي بهذا الفهرس أشد الإعجاب فقال إن الثعالبي قد (سلك فيه مسلكا عجيبا ورتبه ترتيبا غريبا جمع فيه من غرائب الفوائد شيئا كثيرا، وهو إلى الآن لم يكمل، وإذا من الله بإكماله يطلع في عدة أجزاء). وقد رتبه الثعالبي على أسماء شيوخه فيعرف بكل منهم ويذكر ما له من المؤلفات والمقروءات والشيوخ، ثم يذكر ما قرأه هو على كل شيخ من العلوم والمؤلفات، ويوضح سند الشيخ في الكتاب الذي يدرسه عليه، كما يترجم ¬

_ (¬1) نفس المصدر، رقم (173 طلعت)، مصطلح الحديث. (¬2) بروكلمان 2/ 939. (¬3) العياشي (الرحلة) 2/ 132. عن الثعالبي انظر أيضا (نشر الشمثاني) للغقادري 2/ 204 (الترجمة الفرنسية).

قليلا لمؤلف الكتاب (فاستوفى بذلك تواريخ غالب الأئمة المؤلفين وأسانيد مؤلفاتهم). ويروي العياشي أيضا أن الثعالبي هو الذي طلب منه كتابة خطبة (كنز الرواة) واقتراح اسم له. وقد كتب العياشي الخطبة وأضاف إليها قصيدة دالية في مدح شيخه الثعالبي. أما الكتاب فقد سماه العياشي (كنز الرواة المجموع في درر المجاز ويواقيت المسموع) (¬1). وقد أكمل الثعالبي (كنز الرواة) بعد سفر العياشي، فجاء في مجلدين. وقد وصفه الكتاني، الذي حصل منه على المجلد الأول المنسوخ سنة 1075، أي خمس سنوات قبل وفاة الثعالبي. بأنه (أعظم الكنوز وأثمنها وأوعاها). وقال الكتاني أيضا إن النسخة التي حصل عليها فيها خطوط للمؤلف نفسه بالمقابلة والتصحيح (¬2). وهذا دليل آخر على أن (كنز الرواة) لم يكن قد كمل نهائيا أو على الأقل لم يبيض في شكله الأخير. فهل تم ذلك قبل حياة المؤلف؟ لا نستطيع أن نؤكد ذلك الآن لأننا لم نطلع عليه. والجدير بالذكر هو أن الثعالبي قد ترجم، فيمن ترجم، لشيوخه الجزائريين في (كنز الرواة)، ونعرف إلى الآن أنه قد ترجم فيه لسعيد قدورة وعلي بن عبد الواحد الأنصاري وعبد الكريم الفكون. ولعله قد ترجم لغيرهم الذين التقى أيضا بهم كالشيخ أحمد بن المبارك التواتي وعلي بن محمد ساسي البوني، ولا شك أن هذا الكتاب مصدر هام لأسانيد الحديث والرواة والمشائخ الذين أخذ عنهم ولكن اسم هذا الفهرس ما يزال محيرا، فالعياشي والكتاني (الذي نقل عن العياشي) لم يذكراه إلا بعنوان (كنز الرواة) بل إن العياشي هو الذي اقترح اسمه على الثعالبي، كما سبق, أما المحبي فلم يذكر هذا العنوان إطلاقا بل ذكر بدلا منه عنوانا آخر، وهو (مقاليد الأسانيد)، وهو التأليف الوحيد الذي ¬

_ (¬1) العياشي (الرحلة) 2/ 137. ذكر السيد محمد المنوني (مكتبة الراوية الحمزية - المغرب) (مجلة تطوان) 8، إن نسخة من هذا الكتاب بخط مشرقي توجد في المكتبة المذكورة رقم 192 مجموع. (¬2) الكتاني (فهرس الفهارس) 1/ 377.

ذكره له، رغم أنه قال إن له (مؤلفات) أخرى (¬1). ونفس العنوان وهو (مقاليد الأسانيد) قد نسبه إليه أيضا أحمد بن عمار في إجازته لمحمد خليل المرادي سنة 1205، ولم ينسب إليه غيره (¬2). وتنسب بعض المصادر الأخرى إلى الثعالبي عنوانا جديدا لفهرسه وهو (منتخب الأسانيد في وصل المصنفات والأجزاء والمسانيد) (¬3) وهو نفس العنوان المنسوب أيضا لفهرس أحمد بن عمار (¬4). ومن الواضح أن (مقاليد الأسانيد) هو عنوان جديد (لكنز الرواة) أطلقه عليه المؤلف نفسه بعد الفراغ من تأليفه، عوضا عن العنوان الذي اقترحه عليه العياشي. فقد عرفنا أن المحبي وهو معاصر الثعالبي قد أشار إلى (المقاليد) ولم يشر إلى (كنز الرواة) مما يدل على أن فهرس الثعالبي قد أصبح متداولا عندهم بالعنوان الجديد، وقد رأينا أيضا أن ابن عمار، وهو من المطلعين المشهود لهم، قد نقل نفس الشيء. أما (منتخب الأسانيد) الذي لم نطلع عليه، فهو، على ما يبدو، فهرس محمد البابلي، أستاذ الثعالبي. ذلك أن الثعالبي قد قال عند الانتهاء من جمع أسانيد شيخه (وهنا انتهى ما من الله تعالى به على العبد من (منتخب الأسانيد في وصل المصنفات والأجزاء والمسانيد). وقد ذكر فيه الثعالبي، كما قال، ما روى عن شيخه (مقتصرا من طرق الإسناد على أمتنها وأقربها وأعرفها) (¬5). ولكن يظل (منتخب الأسانيد) المنسوب أيضا إلى ابن عمار يثير الحيرة والشك. فهو إما عنوان مكرر، وكثيرا ما يقع هذا، وإما أن يكون قد نسب إلى ابن عمار خطأ، ويكون ثبته يحمل عنوانا آخر. بقي أن نشير إلى أن الدرعي قد نسب إلى عيسى الثعالبي تأليفا آخر فيأسانيد الإمام مالك في الفقه. وهو (إتحاف ودود وإسعاف بمقصد محمود). ¬

_ (¬1) المحبي (خلاصة الأثر) 3/ 243. (¬2) الإجازة منشورة في كتابنا (تجارب في الأدب)، الجزائر 1983. (¬3) انظر مثلا تيمور، حديث، دار الكتب المصرية، رقم 286. (¬4) الكتاني (فهرس الفهارس) 1/ 82. (¬5) دار الكتب المصرية، مصطلح الحديث، رقم 79.

أحمد البوني

فبعد أن أشار الدرعي إلى كونه يروي مرويات الثعالبي قال عنه: (جمع .. سلسلة الفقه على مذهب الإمام مالك جمعا لم يسبق إليه بعد ما حارت فيه فحول الأئمة كما هو معروف. فرفع الأسانيد من طريق شيخه الأنصاري إلى مشاهير أئمة المذهب المتأخرين ثم إلى من فوقهم في الشهرة والزمان على أسلوب غريب إلى أن وصلها إلى الإمام مالك ثم إلى النبي (صلى الله عليه وسلم). ثم ذكر الدرعي ما جمعه الثعالبي في هذا الباب بلفظه على طوله (إذ هو ما يغتبط به لندارته ونفاسته وعزته وسلامته) (¬1). والذي لا شك فيه أن عيسى الثعالبي، بسيرته العلمية ومؤلفاته وتأثيره الروحي على معاصريه، كان عملاقا في القرن الحادي عشر. فقد كان على رأس الأربعة الذين أحرزوا مكانة عالمية (في العالم الإسلامي) في وقتهم، وهم سعيد قدورة، وأحمد المقري، وعبد الكريم الفكون، ويحيى الشاوي. ولاشتغال الثعالبي خصوصا بالحديث وعلومه والسند ورجاله، ولانتمائه إلى حركة الزهد الإيجابي في ذلك الوقت نال رضى أهل الظاهر والباطن، سواء كانوا من علماء الكتاب والسنة أو من رجال التصوف. ولا غرابة بعد ذلك أن نقرأ في (خلاصة الأثر) أن للناس في الثعالبي عقيدة كبيرة وأن له بعض الكرامات. وإذا كانت هذه هي عقائد الناس فيه فهو لم يدع شيئا من ذلك على ما نعلم، فقد كان يملأ وقته بالتدريس والمطالعة في المكتبة الكبيرة التي جمعها وفي التأليف، وكل هذا في الوقت الذي كان فيه أدعياء التصوف في بلاده يستغلون العامة على جهل ويملأون الدنيا دروشة وخرافات. فعيسى الثعالبي، كنسيبه عبد الرحمن، قد جمع بين الزهد والعلم، وهذا غاية الصلاح. أحمد البوني وهناك عالم آخر بالحديث ورجاله لم يبلغ مبلغ الثعالبي فيه ولكنه ¬

_ (¬1) الدرعي (الرحلة) مخطوط المكتبة الوطنية - الجزائر رقم 997 1، ورقة 99 - 104. وعن الثعالبي انظر أيضا بروكلمان 2/ 691، والأعلام 5/ 294.

يستحق التنويه والتعريف، وهو أحمد بن قاسم بن محمد ساسي البوني. والبوني ينتسب إلى أسرة عريقة في العلم والتصوف، وهو تميمي النسب، كما كان يضيف ذلك إلى اسمه في المخطوطات التي رأيناها له. والذي يعنينا هنا ليس نسب البوبي ولكن مساهمته في الحياة الثقافية، ولا سيما علم الحديث الذين نحن بصدده. ولما كان البوني قد أخذ الحديث على جده بالدرجة الأولى، ولما كان جده قد جمع بين الفقه والتصوف فقد رأينا أن نسوق كلمة عن جده أيضا. كان محمد بن إبراهيم ساسي البوني من أبرز مرابطي وعلماء القرنالحادي عشر في عنابة، كما عرفنا (¬1) فقد كان تلميذا للشيخ طراد، مرابط عنابة ونواحيها، ثم انفرد هو بالفقه والتصوف حتى أصبح، كما يقول معاصره الفكون، مسموع القول عند الخاصة والعامة. وقد أشرنا إلى بعض نفوذه الروحي في المنطقة وسلوكه الصوفي واستعماله الإنشاد والموسيقى والشعر والحضرة الصوفية. ومن الخاصة الذين كان محمد ساسي مسموع الكلمة عندهم يوسف باشا حاكم الجزائر أثناء ثورة ابن الصخري في شرق البلاد. وقد كانت عنابة ونواحيها قد تأثرت بهذه الثورة، فبعث الباشا إلى محمد ساسي يطلب تدخله لدى الأهالي، ويشير عليه باستعمال نفوذه الروحي لديهم، ويعلمه بأنه ما تخلى عن حرب الإسبان في وهران إلا لأن الأحوال في شرق البلاد قد أوجبت ذلك. فكان رد محمد ساسي عليه هو طلب العفو على الأهالي وعدم استعمال القوة ضدهم. وقد استجاب الباشا لطلبه ولكنه أخبره بأنه لم يفعل ذلك إلا مراعاة لقيمته عنده وقيمته لدى السكان ولمكانته الدينية (¬2). ¬

_ (¬1) انظر عنه فصل المرابطين من الجزء الأول. وقد تحدث عنه الفكون في (منشور الهداية). (¬2) هذه المراسلات بالمكتبة الوطنية - باريس، رقم 6724، وقد ترجم السيد فايسات إلى الفرنسية رسالتي الباشا إلى محمد ساسي، انظر (روكاي) 1867، ص 344 - 348، ولكنه لخص فقط رسالة محمد ساسي إلى الباشا. انظر دراستي لهذه المراسلات في (الثقافة) عدد 51، 1979.

ورغم أن محمد ساسي قد أثار بعض علماء الوقت ضده لمبالغته في التصوف واستعمال بعض الطرق غير السليمة لجلب المال فإن حفيده أحمد بن قاسم ساسي، قد لاحظ أن الفقه والتصوف قد غلبا على جده (حتى امتزجا فيه). وقد عدد له بعض التآليف التي لا تخرج عن التصوف والتي سنعرض إليها في حينها. أما الفقه فلم يذكر له منه شيئا رغم أنه قال إن له غير ذلك من التآليف، كما أنه لم يذكر له تأليفا في علم الحديث. ومهما كان الأمر فإن علاقة أحمد البوني بعلم التصوف علاقة وطيدة إذا حكمنا من أثر جده فيه. ولعل ما قاله عن جده من أن الفقه والتصوف قد امتزجا فيه يصدق أكثر عليه هو. ذلك أن تآليفه الكثيرة قد جمعت فعلا بين التصوف والفقه وغيرهما من العلوم. فقد ألف أحمد البوني تآليف كثيرة بلغت، كما أخبر بنفسه، أكثر من مائة تأليف، بدون المنظومات والمقطوعات. وهو الذي كتب تأليفا خاصا سماه (التعريف بما للفقير من التواليف.). ومن هذه التآليف ما كمل ومنها ما لم يكمل، ومنها الشعر والنثر، كما أن منها ما يدخل في باب الحديث والسنة وما يتناول غير ذلك. وقد اطلعنا على بعض أعماله فكان منها القصير الذي لا يتجاوز الكراسة ومنها الوسط والطويل. وقد ولد أحمد البوني سنة 1063 وتوفي سنة 1139. وكان له ولدان أشهرهما أحمد الزروق الذي ذكره هو في الألفية الصغرى وخصه بالإجازة التي سنتعرض إليها، وأشار إليه ابن حمادوش في رحلته، كما أنه هو الذي أجاز الزبيدي سنة 1179 بالمراسلة من عنابة، كما أجاز الورتلاني. فقد كان أحمد الزروق أيضا من مشاهير عصره، ولكنه كان أقل تأليفا من والده. وتثقف أحمد البوني إذن على والده وجده وأفراد عائلته، وبرع في عدة علوم، منها علم الحديث. وكانت بينه وبين علماء قسنطينة علاقات علمية ولكننا لا نعرف ما إذا كانت قد بلغت مبلغ التلمذة. ومن الذين كان يتصل بهم في قسنطينة بركات بن باديس. وقد ساح البوني طويلا وطلب العلم في

تونس وفي مصر، ولا سيما مدينة رشيد التي التقى بعلمائها وأجاز فيها حسن بن سلامة الطيبي في الحديث (¬1). وذهب أيضا إلى الحج لأنه كتب رحلة حجازية ما تزال مفقودة سماها (الروضة الشهية في الرحلة الحجازية). وقد ذكر فيها بعض أشياخه. ورجع إلى عنابة وأصبحت له مكانة عالية بين معاصريه الخاصة والعامة. وقد رأينا أن له مراسلات مع الباشا محمد بكداش والباشا حسين خوجة الشريف. كما أن عبد الرحمن الجامعي المغربي قد نزل عنده وأخذ عليه وطلب منه الإجازة، ووصفه بأوصاف تدل على مكانته عندئذ. وقد حضر الجامعي مجلس إقرائه الحديث من الصحيحين مع مشائخ عنابة وبحضور ولديه. ومن الأوصاف التي أطلقها عليه الجامعي قوله: (الشيخ الرباني العالم العرفاني). وترجم له الجامعي في رحلته المسماة (نظم الدرر المديحية). ومن تآليف البوني في الحديث والسنة النبوية عموما ما يلي: (نظم الخصائص النبوية)، و (إظهار نفائس ادخاري المهيآت لختم كتاب البخاري)، و (تنوير السريرة بذكر أعظم سيرة) و (نفح الروانيد بذكر بعض المهم من الأسانيد) وغيرها (¬2). تعرض أحمد البوني لشيوخه في علم الحديث في عدة مناسبات. فقد ذكرهم في رحلته الحجازية وعددهم أكثر من عشرين، وهي الرحلة التي نصح ابنه الناس بالاطلاع عليها لأن (فيها طرفا وظرفا) (¬3). وذكر عددا من شيوخه أيضا في الألفية الصغرى المعروفة باسم (الدرة المصونة في علماء وصلحاء بونة) (¬4)، ولا سيما شيوخه من عنابة والمغرب وتونس. والمصدر الثالث لشيوخه هو تأليفه (التعريف بما للفقير من التواليف) المشار إليه. أما المصدر ¬

_ (¬1) روى ذلك الجبرتي 1/ 266، وقد ذكره الجبرتي أيضا هكذا: أحمد بن قاسم البوني. (¬2) الكتاني (فهرس الفهارس) 1/ 170. (¬3) تعليق أحمد الزروق على (فتوى في الحضانة) لوالده. مخطوط المكتبة الوطنية - الجزائر، رقم 2160. (¬4) نشرت كاملة في (التقويم الجزائري) سنة 1913، ص 87 - 128. أما الألفية الكبرى فقد تضمنت ثلاثة آلاف بيت.

الرابع فهو إجازته لولده أحمد الزروق ومحمد بن علي الجعفري مفتي قسنطينة (¬1). وقد اطلعنا نحن على هذه الإجازة وأخذنا منها. ولذلك نود أن نتوقف قليلا عندها. فقد كتب أحمد البوني هذه الإجازة في أخريات أيامه. وبعد أن عرف علم الحديث قال إنه أخذه عن والده، محمد ساسي، ويحيى الشاوي وأحمد العيدلي الزواوي الملقب بالصديق، وأبي القاسم بن مالك اليراثني الزواوي أيضا، وهؤلاء جميعا من الجزائريين، كما ذكر غيرهم من التونسيين والمصريين والمغاربة. وقد بلغ الجميع ثلاثة عشر شيخا، واكتفى البوني بذلك منهم (خوف الإطالة) ثم ذكر كتب الحديث التي أخذها عن هؤلاء، وفصل القول فيها. وعدد أيضا بعض تآليفه، ثم أحال القارئ على كتابه (التعريف). والإجازة التي اطلعنا عليها مكتوبة سنة 1140 أي بعد وفاته مباشرة (¬2) وقد قال الكتاني ان النسخة التي اطلع عليها منها تقع في نحو أربع كراريس (اشتملت على فوائد وغرائب عدد فيها شيوخه وأسانيد الستة وبعض المصنفات المتداولة في العلوم أتمها سنة 1136) (¬3). وهكذا يتبين أن أسرة البوني قد جمعت بين العلم والصلاح وسيطرت روحيا على عنابة ونواحيها مدة طويلة بلغت القرنين تقريبا. ومن أبرز أعضائها محمد ساسي وأحمد ساسي وأحمد الزروق. ولكن أكثرهم شهرة وتأليفا وعناية بالحديث هو أحمد البوني. كما أن أسرة البوني كانت على علاقة طيبة مع العثمانيين حفاظا على المصلحة المشتركة التي تعرضنا لها في فصل آخر. وقد ساهمت هذه الأسرة وغيرها من الأسر العلمية الجزائرية في ¬

_ (¬1) أشرنا في الإجازات إلى أن الجعفري قد أجاز بدوره تلميذه شعبان بن عباس المعروف بابن عبد الجليل أو جلول. انظرها. (¬2) اطلعنا عليها في زاوية طولقة، وطلبنا من الأستاذ عبد القادر العثماني مدير المعهد/ الزاوية نسخة منها، فوعد بذلك. والإجازة من نسخ مبارك بن محمد القلعي القسنطيني، وتقع في حوالي ثلاثين ورقة. (¬3) الكتاني (فهرس الفهارس) 1/ 171.

الفقه

الإنتاج الفقهي أيضا مساهمة واضحة. الفقه وعندما نتحدث عن الإنتاج الفقهي في الجزائر فمن الطبيعي أننا سنركز على إنتاج الفقه المالكي. ذلك أن معظم سكان الجزائر يتبعون مذهب الإمام مالك. ولكن منذ مجيء العثمانيين انتشر المذهب الحنفي أيضا، كما عرفنا، وظهر علماء كتبوا ودرسوا وأفتوا على قواعد الإمام أبي حنيفة. وإذا كانت معظم التآليف في أصول وفروع الإمام مالك فإن ذلك لا يعني حينئذ أنه لم يكن لعلماء المذهب الحنفي تآليف وآراء. فأسرة ابن العنابي كانت حنفية وقد تركت بعض التآليف الهامة. وعبد القادر الراشدي كان مفتي الحنفية وألف أيضا في ذلك. والشاعر المفتي ابن علي كان على المذهب الحنفي وقد كان له تأثير في الحياة الأدبية، بالإضافة إلى الفقه، كما سنعرف، لذلك فإننا سنتعرض لإنتاج الفقهاء الجزائريين سواء كانوا على مذهب أبي حنيفة أو مذهب مالك. ومن جهة أخرى فإن بعض علماء الإباضية في الجزائر قد ألفوا أعمالا في الفقه على مذهبهم جديرة بالدرس، وهي جزء لا يتجزأ من التراث الثقافي الجزائري. ورغم الجو المحافظ الذي كان يسود الجزائر خلال العهد العثماني فإن بعض الفقهاء كانوا (متحررين) في تناولهم للمسائل الفقهية ولقضايا العصر والحياة الاجتماعية بصفة عامة، حقا إن أساس الانطلاق في التفكير الفقهي هو مختصر خليل على الخصوص ثم مختصر ابن الحاجب والرسالة، ولكن بعض الفقهاء كانوا يفسرون هذه المصادر تفسيرا غير جامد إذا ما اعترض طريقهم معترض، ويمكن أن نذكر من هؤلاء (المتحررين) عبد الكريم الفكون، وأحمد المقري ويحيى الشاوي وأحمد بن عمار. أما من الحنفية فنذكر ابن علي وابن العنابي وعبد القادر الراشدي، وقد كان بعض الفقهاء يفتي أيضا بالشاذ كما عرفنا، ووقف آخرون من الدخان والقهوة والموسيقى

الأثار الفقهية

والزندقة ونحوها من القضايا موقفا مرنا بينما وقف منها آخرون موقفا صلبا، وقد وجدنا بعض الفقهاء قد غلب عليهم الأدب فقالوا الشعر في الغزل ونحوه كما فعل ابن علي، وهو أستاذ ابن عمار. ولكن بعض الفقهاء قد غلب عليهم التصوف والدروشة فانعزلوا عن المجتمع وعاشوا في تفكيرهم الضيق وأهملوا الدين الصحيح العملي. وقد ذكرنا نماذج من هؤلاء وأولئك في الجزء الأول. وليس بوسعنا في هذا المجال أن نعرض لكل إنتاج الفقهاء من تآليف مطولة ومختصرة خلال ثلاثة قرون. إن محاولة ذلك تكاد تكون مستحيلة. فالإنتاج غزير ومتعدد المشارب تعدد قضايا الفقه نفسها. ومن جهة أخرى فنحن لم نطلع على كل هذا الإنتاج الذي لا يكاد يخلو منه زمن ولا مكتبة. ثم إن بعض هذا الإنتاج لا يستحق الدراسة لكونه تكرارا أو استنساخا. ويكاد كل من جلس من الفقهاء لتدريس الفقه يملي أو يؤلف لتلاميذه كراسة أو أكثر شرحا أو حاشية على مختصر خليل وما في معناه كالرسالة، حتى كثرت هذه الإملاءات والتأليف كثرة المدرسين أنفسهم. ولكننا لا نكاد نعثر على جديد في ذلك لا في الفكرة ولا في المنهج. فالفقيه كان بالدرجة الأولى يحاول أن يفيد طلابه الحاضرين ولم يكن يؤلف لغيرهم من العلماء أو من الأجيال التالية. وسنرى أن هذه الظاهر تتكرر في النحو أيضا وغيره من المواد ذات الطابع التدرسي. فهذه المواد قد غلب عليها ما يمكن أن نسميه بمرض الشرح والحاشية، وهو في الواقع مرض العلم في العصر كله. ونود أن ننبه إلى أننا نتناول هنا الفقه بمعناه الواسع الذي يشمل الأصول والفرائض والفتاوى والأحكام وغيرها مما يتصل بالعبادات والمعاملات. وقد جعلنا ذلك كله تحت عنوانين الأول التآليف الفقهية، والثاني الفتاوى والآراء. الأثار الفقهية: ومن الملاحظ سيطرة مختصر الشيخ خليل على مختلف الدراسات

الفقهية المالكية في الجزائر. فإذا حكمنا من أنواع الشرح والحواشي التي وضعت حوله كدنا نقول بأنه يأتي في المقام الثالث بعد القرآن الكريم وصحيح البخاري، بل إننا إذا حكمنا من وفرة الإنتاج حوله وجدناه يفوق الأولين عدا. فقد عرفنا أن التآليف المتعلقة بالتفسير والحديث كانت في جملتها قليلة وغير أصيلة. ولم يكن خليل بن إسحاق مصدرا للفقه والتشريع في الجزائر فحسب بل كان مصدرا للتبرك به أيضا. ولعل هذه النظرة الصوفية هي التي جعلت الفقهاء، وقد غلب على أكثرهم التصوف، يخلطون بين خليل الفقيه المشرع وبين خليل الصوفي الدرويش. فهذا ابن مريم، صاحب (البستان)، قد ترجم في القرن الحادي عشر لخليل بن إسحاق المصري في كتاب يتناول علماء وصلحاء تلمسان (تبركا به) (¬1). وهذا في الواقع يدل على تحول في الدراسات الفقهية نفسها. فيحيى بن موسى المغيلي المازوني صاحب (نوازل مازونة)، الذي عاش في القرن التاسع لم يكد يذكر الشيخ خليل في مؤلفه، على طوله وأهميته، بل كان يستمد آراءه ونوازله من وحي العصر ومن مصادر الفقه الإسلامي الأخرى (¬2). أنجبت تلمسان في عهودها الزاهرة أعظم الفقهاء الذين عرفتهم الجزائر تدريسا وتأليفا. وفي بداية العهد العثماني وطيلة القرن العاشر جلبت فاس إليها معظم الباقين في تلمسان ونواحيها. ومن أبرز العائلات العلمية التلمسانية التي اهتمت بالفقه عائلة الونشريسي والمغيلي والمقري والعقباني. ومعظم أفراد هذه العائلات كانوا يترددون بين تلمسان وفاس كما عرفنا. وقد ظلت مازونة أيضا تنافس تلمسان في ميدان الفقه، فأنجبت هي الأخرى بعض رجال هذا العلم، ومن أهم خريجي مدرستها في آخر العهد العثماني أبو راس الناصر. أما الشرق الجزائري ففقهاؤه المؤلفون قليلون بالقياس إلى غيره. ¬

_ (¬1) (البستان)، 96. (¬2) جاك بيرك، دراسة عن النوازل في مجلة (أنال) سبتمبر - أكتوبر 1970، 1330.

ورغم شهرة بعضهم في التدريس والتأليف فإنه لا أحد منهم يضاهي مثلا أحمد الونشريسي في مؤلفاته الفقهية. وإذا كانت فاس قد امتصت عددا من علماء الجزائر خلال العهد العثماني فإن تونس لم تفعل ذلك لأن البلدين كانا يخضعان لنفس النظام السياسي. ولكن تونس كانت معبرا يعبره العلماء الجزائريون في رحلتهم إلى الحج أو طلب العلم في المشرق الإسلامي، فعبرها أحمد المقري وأبو راس ومحمد بن العنابي وأحمد البوني وأحمد بن عمار. وقد امتصت عواصم المشرق أيضا عددا من هؤلاء العلماء كما عرفنا. رغم مكانة بعض علماء مدينة الجزائر العلمية فإن أحدا منهم لم يستطع أن ينافس في الفقهيات زملاءهم علماء غرب الجزائر أو شرقها. فإذا انحدرنا جنوبا وجدنا عبد العزيز الثميني قد جاء بعمل في الفقه الإباضي جدير بأن يقاس بعمل الونشريسي في الفقه المالكي. كما أن خليفة بن حسن بقمار قد تميز بنظمه لخليل ولفت إليه الأنظار بمساهمته في الفقه عموما. ولكن مهما قيل في هذا التوزيع الجغرافي للإنتاج الفقهي فإنه لا يدل إلا على خطوط سريعة قد تظهر الأيام أعمالا أخرى تعدل من هذه الخريطة. ولنبدأ إذن بمدرسة تلمسان. ويجب أن ننبه هنا إلى أننا لا نعني تلمسان المدينة فقط ولكن تلمسان باعتبارها مدرسة لتخريج المثقفين والمشرعين. وعلى هذا الأساس يقف أحمد الونشريسي وابنه عبد الواحد في طليعة فقهائها. الأول في كتبه التي تعرضنا إليها (¬1). والثاني في كتبه (النور المقتبس من قواعد مذهب مالك بن أنس) الذي لخص فيه كتاب والده (إيضاح السالك)، وشرحه على مختصر ابن الحاجب الفقهي الذي جعله في أربعة مجلدات، وشرحه المطول على الرسالة. ولكن عبد الواحد لا يمكن أن يقاس بوالده في الفقه، فقد تغلبت عليه روح الأدب أيضا، فكان شاعرا مجيدا (لا يقارعه أحد من أهل عصره) (¬2). وكانت له أيضا أزجال وموشحات ¬

_ (¬1) انظر ذلك في الفصل الأول من الجزء الأول. (¬2) (سلوة الأنفاس) 4/ 146. وقد تولى عبد الواحد الونشريسي وظائف علمية عالية في المغرب كالفتوى والخطابة والتدريس.

وذوق وإعجاب بالموسيقى واهتمام بالنحو. كما أنه تدخل في الشؤون السياسية في المغرب مما أدى إلى مقتله سنة 995 (¬1). وكاد يحدث لمحمد بن عبد الكريم المغيلي ما حدث لعبد الواحد الونشريسي. فقد كان المغيلي أيضا يتدخل في الشؤون السياسية والاجتماعية ليس في المغرب فحسب بل في إفريقية جنوب الصحراء أيضا (¬2) فنصح أمراء السودان وقاوم نفوذ اليهود ولا سيما في توات، وكان كثير المراسلات مع علماء عصره في القضايا التي كانت تهمه. وهو لهذا كان في حاجة إلى آراء الفقهاء فيما كان بصدده من مشاكل. وقد ألف هو عدة تآليف في الفقه أيضا منها (شرح مختصر خليل) وحاشية عليه أيضا، وشرح آخر على بيوع الآجال من ابن الحاجب. وإذا حكمنا على ما اطلعنا عليه له من تآليف في غير الفقه حكمنا بأن تآليفه صغيرة الحجم ومطبوعة بمزاجه الحاد وحركته الدائبة. ولعل له في الفقه آراء صائبة تتماشى مع مزاجه أيضا في تفسير مختصر خليل بالخصوص. وقد جعل الشيخ مصطفى الرماصي (حاشية على شرح التتائي لمختصر خليل) (¬3) وكان من الفقهاء البارزين في وقته، أما الذي خدم مختصر خليل خدمة كبيرة محمد بن عبد الرحمن بن الحاج اليبدري التلمساني صاحب (ياقوتة الحواشي على شرح الإمام الخراشي) التي تقع في أربعة أجزاء كبار. وقد اطلعنا نحن على نسخة من هذه الحاشية بخط مؤلفها وهو خط جيد وجميل. ومما قاله في آخر القسم الأول (قال كاتبه ومؤلفه كان الفراغ من تبييض هذه الحاشية المباركة في شهر الله جمادي الأولى سنة اثنين وسبعين ومائة وألف على يد كاتبه ومؤلفه محمد بن عبد الرحمن بن الحاج اليبدري وفقه الله). ولكننا وجدنا في آخر الجزء الرابع منه هذه العبارة (هذا ما يسر الله تعالى من هذه الحاشية .. وكان الفراغ من تبييضها 6 شعبان سنة 1179). ¬

_ (¬1) انظر عنه أيضا (الإعلام بمن حل بمراكش) 4/ 157. (¬2) عن المغيلي انظر الفصل الأول من الجزء الأول. (¬3) توجد منه نسخة في مكتبة تطوان رقم 9.

وهذا يدل على أن اليبدري قد بدأ عمله قبل سنة 1172 وانتهى منه تصحيحا وتنقيحا سنة 1179. وقد أوضح في البداية دافع تأليفه لحاشية طويلة على شرح الخرشي على خليل. فقال إن هذا الشرح رغم شيوعه بين الناس ورغم (كثرة خيراته وخلوه من الحشو) فإنه مفرط في الإيجاز حتى كاد يكون من الألغاز (فلا يهتدي إلى فوائده إلا بتعب وعناية، ولا يستكشف خفيات أسراره إلا بنظر دقيق ودراية). وهناك عامل آخر دفع اليبدري إلى القيام بعمله وهو أن العصر كان عصر مشاغل شغلت العلماء عن البحث وطلب الصعب من المسائل حتى عجزوا عن إدراك خفايا مختصر خليل وشرحه. فالهمم (قد ضعفت .. في هذا الزمان، وكثرت فيه الهموم والأحزان، وقل فيه الساعون من الأخوان، خصوصا بلدنا تلمسان) فقصروا عن فهم أسراره وإدراك عبارته وخفاياه. أما العامل الثالث لتأليفه فهو أن بعض زملائه قد طلبوا منه ذلك فلم يسعه إلا الاستجابة، وقد وصف هؤلاء الزملاء بأنهم طلاب حقيقة فرجوه أن يضع على شرح الخرشي حاشية (تبين ما خفي من معانيه، وتوضح ما أشكل من تراكيب كلامه ومبانيه، وتذلل المعاني الصعاب، وتميز القشر عن اللباب) فأجابهم إلى ذلك رغم انشغاله وقلقه و (كف الناظر) (¬1). أما منهجه في هذا الكتاب فقد حاول أن يجعل الحاشية وسطا بين الإيجاز غير المخل والإطناب غير الممل، وخصوصا أنه جرده من الحشو. فقد قال إنه سلك فيه طريقة (الإيجاز غير المخل .. صارفا وجهي عن الإطالة بنقل الفروع .. معرضا عن التعرض لما ليس من مسائل الكتاب). عند شروعه في التحشية اتبع المنهج الذي كان سائدا في عصره أيضا فهو يفسر ألفاظ الشرح ملتزما الخطة التي ذكرها. ولم يقسم الكتاب إلى أبواب أو فصول وإنما اتبع في ذلك خطة الخرشي نفسه في المباحث التي وضعها. ¬

_ (¬1) قد تعني هذه العبارة أن المؤلف قد كف بصره، فإذا كان هذا صحيحا فإن العبارة لا تتماشى مع عبارته السابقة قال كاتبه ومؤلفه الخ.

فهناك مبحث في الحج، وآخر في الزكاة، وآخر في النكاح، إلى غير ذلك من المباحث الفقهية المعروفة. وكثيرا ما كان المحشي يتدخل برأيه الخاص في الموضوع، وطريقته في ذلك هي أن يضيف عبارة (قلت) إلى النص (¬1). ونظن أن عمل اليبدري في حجمه ومنهجه يعتبر آخر تأليف في موضوعه أثناء العهد الذي ندرسه. رقد أسهم في هذا الباب أيضا محمد الطالب الذي يقول عن نفسه إنه التلمساني منشأ ودارا الجزيري (الجزائري؟) أصلا ونجارا، بوضع شرح كبير على مختصر خليل سماه (فتح الجليل في شرح مختصر خليل). وقد نوه في الديباجة بعلم الفقه والأحكام وذكر أن مختصر خليل من أشهر التآليف في هذا العلم. وبرر لجوءه إلى وضع شرحه كون بعض من تناولوا خليل قد أطنبوا فيه، وبعضهم اختصروه اختصارا شديدا مثل الخرشي في شرحه الصغير. لذلك جاء هو (محمد الطالب) ليضع شرحا بين الإطناب الممل والإيجاز المخل، كما هي العبارة الشائعة عند الشراح. وقد اعتمد محمد الطالب على مصادر معينة ذكرها مثل حاشية البناني (وشيخ شيوخنا محمد المصطفى (الرماصي القلعي) في حاشيته)، وعلى الخرشي والشبرخيتي وعبد الباقي والأجهوري وابن غازي. وقد رمز إلى كل مؤلف من هؤلاء بحرف في صلب الكتاب. ويبدو أن محمد الطاب نفسه قد توسع فيما أراد الاختصار (¬2). وما دمنا نتحدث عن شروح خليل ودارسيه فلنذكر بأن عبد الرحمن المجاجي، الذي سبق ذكره، قد تناول أيضا أحكام المغارسة التي أهملها الشيخ خليل (¬3). ¬

_ (¬1) اطلعنا على هذا المخطوط في المكتبة الملكية بالرباط، رقم 1811. (¬2) اطلعنا على نسخة المكتبة الوطنية - الجزائر رقم 2048، وهي غير كاملة، ومع ذلك بلغت 655 ورقة، وهي تنتهي بمسائل الحج، وخطه صعب القراءة ولعله هو خط المؤلف، والظاهر أن محمد الطالب من أهل القرن الثاني عشر. (¬3) نسخة منه في الخزانة العامة - الرباط رقم (1) 459، ويغلب على الظن أن هذا التأليف مطبوع في فاس طبعة حجرية.

وفي العاصمة اعتنى بعض الفقهاء بالتأليف في خليل أيضا وفي المسائل الفقهية على العموم. ومن هؤلاء سعيد قدورة ومحمد بن عبد المؤمن. ولكننا لم نطلع على عمل لهما في مستوى عمل اليبدري مثلا. فقدورة، الذي كاد يكون له شرح أو حاشية على كل مسألة كان يدرسها للطلاب، قد وضع أيضا شرحا على خطبة المختصر لخليل (¬1)، كما وضع حاشية على شرح اللقاني لخطبة خليل (¬2). وقد حاول محمد بن عبد المؤمن، وهو أديب وشاعر أيضا، وضع أرجوزة جمع فيها بين العقائد والفروع الفقهية، وهي تقع في نحو تسعة وسبعين بيتا. وهي أرجوزة سهلة واضحة تدل على تمكن صاحبها من صناعة النظم. وكان قد طلب من ابن زاكور، الذي أجازه بها، أن يشرحها إذا تمكن (¬3). ولكننا لا ندري ما إذا تمكن ابن زاكور من ذلك، كما أننا لا ندري ما إذا كان الناظم نفسه قد قام بشرحها، وخصوصا الجزء الخاص بالفروع، وهو الذي يهمنا هنا. ولكن مهما بلغت براعة ابن عبد المؤمن في النظم والتمكن من الفقه فإن عمله ليس بذي بال إذا وضع إلى جانب أعمال الونشريسي أو الثميني أو اليبدري. وقد عرف إقليم قسنطينة مشاركة أيضا في الفقه وفروعه. وكانت مدن قسنطينة وبجاية وعنابة وبسكرة مركز هذا النشاط. فقد وضع يحيى الفكون حاشية على المدونة ضمنها، كما قال حفيده عبد الكريم الفكون، نوازل ووقائع قل أن توجد في المطولات. وقد أكملها لأن حفيده يقول انها مسودة بخطه، أي خط المؤلف نفسه. وكان يحيى الفكون من فقهاء قسنطينة ولكنه التجأ إلى تونس، على كبر سنه، أثناء الاضطرابات التي حدثت في بلاده. وفي تونس تولى الفتوى والإمامة بجامع الزيتونة. بينما كان ابنه قاسم الفكون متوليا إمامة جامع سوق البلاط بتونس أيضا. وقد رجع قاسم الفكون إلى ¬

_ (¬1) رقم 370، خزانة ابن يوسف بمراكش. (¬2) رقم 275، مكتبة تطوان، ضمن مجموع، وأيضا الخزانة العامة بالرباط، رقم 2758 د. (¬3) ابن زاكور، 17 - 21.

قسنطينة وتولى بها القضاء بعد وفاة والده قتيلا بتونس سنة 941 (¬1). وهناك تعليق صغير كتبه عمر الوزان على قول خليل (وخصصت نية الحالف) (¬2). وكذلك كتب يحيى بن سليمان المعروف بالأوراسي بعض التقاييد. وكان قد تولى الافتاء. والتدريس بقسنطينة كما عرفنا، غير أن اشتغاله بالتصوف ثم لجوءه الى الثورة ضد العثمانيين قد سبب اضطرابا في حياته العلمية (¬3). ومن جهة أخرى قام عبد الرحمن الأخضري بوضع مختصر في فقه العبادات (¬4)، وهو المختصر الذي شرحه عبد اللطيف المسبح شرحا كان موضع نقد عبد الكريم الفكون (الحفيد) الذي عمد إلى شرح مختصر الأخضري أيضا. وقد سمى الفكون شرحه (الدرر على المختصر) قائلا عنه (نبهنا على فوائد فيه لم توجد في المطولات، ونكت حسان قل أن تلفى في غير، وتنبيهات وفروع. وربما نبهنا على ما طغى به قلم شارحه المذكور (يعني المسبح). أما شرح المسبح على المختصر للاخضري فلا نعرف عنوانه الآن. وقد اعتنى الشيخ موسىى الفكيرين القسنطيني بالتوضيح لابن الحاجب خصوصا، فكان له إدراك لأبحاثه حتى قيل إنه كان (آخر مدرس في ابن الحاجب في قسنطينة، لم يدرس فيه أحد البتة (بعده) بل كثر الاعتناء بالمختصر الخليلي) (¬5). ¬

_ (¬1) (منشور الهداية) 12 - 15. ضرب أحد الجنود الشيخ يحيى الفكون فقتله وكان ذلك أيام غارة شارلكان على تونس، انظر أيضا ترجمتنا لعبد الكريم الفكون في الفصل 5 من الجزء الأول. وكذلك (منشور الهداية). (¬2) نسخة منه في مكتبة جامعة برنستون الأمريكية (قسم يهودا) رقم 178 مجموع. (¬3) (منشور الهداية)، 26 - 28. (¬4) مطبوع في كتيب بالجزائر، 1342، ويذكر الجيلالي 2/ 328 أن شرح المسبح على مختصر الأخضري مطبوع بمصر. (¬5) الوزير السراج (الحلل السندسية في الأخبار التونسية) 2/ 248. وقد توفي الفكيرين بقسنطينة بالطاعون سنة 1954. انظر عنه أيضا (منشور الهداية).

عبد العزيز الثميني

وقد عرفنا أن معظم مؤلفات البوني في الفقه كانت نظما أو مختصرة. وبينما كان زملاؤه العلماء يحاولون شرح مختصر خليل وتوضيحه عمد البوني إلى نظم مسائل خليل. ولا شك أنه بذلك قد سهل حفظه على التلاميذ ولكنه لم يساعدهم على فهمه واستيعابه. ومن الذين نظموا مختصر خليل أيضا خليفة بن حسن القماري الآتي ذكره. وهناك رجز في الفقه نظمه أحمد الطيب الرحموني أحد أتباع الطريقة الرحمانية. وقد قيل إن هذا الرجز كان مستعملا بين قضاة جرجرة. وكان الرحموني مدرسا في الزاوية الرحمانية بآيت إسماعيل، وقد نظم رجزه سنة 1212 (¬1). عبد العزيز الثميني: والمؤلف الذي يمكن أن يقاس عمله في الفقه الإباضي بعمل أحمد الونشريسي في الفقه المالكي، هو عبد العزيز بن الحاج بن إبراهيم الثميني. ولا تظهر حياة الثميني الأولى أي شيء غير عادي فيه. فقد ولد في بني يزقن بميزاب سنة 1130 وتعلم، كما يتعلم أمثاله في ذلك الوقت، فحفظ القرآن الكريم وأخذ مبادئ العلوم، وحين بلغ سن النضج دخل التجارة على عادة الميزابيين عموما. وسيكون لهذه المهنة أثرها على آرائه واهتماماته في الفقه، فهو من الفقهاء العمليين. وقد عرفنا أن بعض العلماء كانوا يمارسون التجارة في غير ميزاب أيضا. وهناك عاملان وجها حياة الثميني وجهة جديدة، الأول ما رآه في مجتمعه من الفساد والعصبية وانتشار بعض البدع الضارة فحز كل هذا في نفسه وعزم على تغييره بجميع الوسائل. والثاني ورود الشيخ يحيى بن صالح الأفضلي من جزيرة جربة بعد أن مكث فيها طويلا. وقد تصدر الأفضلي للتدريس وتخريج التلاميذ الذين يحملون رسالته في الإصلاح. وهنا التقت إرادة الشيخ (يحيى بن صالح) وإرادة التلميذ (عبد العزيز الثميني) في وجوب العمل على إصلاح المجتمع في تلك النواحي. وقد وجد الشيخ في تلميذه الرغبة الملحة والذكاء الوقاد والغيرة على الإصلاح فاحتضنه وساعده ¬

_ (¬1) ديلفان (المجلة الإفريقية)، 1874، 420، ويملك ديلفان نسخة من هذا الرجز.

على شق طريقه. وصعد الثميني في مجتمعه إلى أن اعترف له بالإمامة العلمية ومشيخة المسجد وأصح رئيسا للمجلس الذي كان يعتبر السلطة العليا في ميزاب كلها. غير أنه لم يصل إلى هذه الدرجة إلا بعد عناء وجهد وبعد أن ألف. عمله الكبير الذي نحن بصدده وهو كتاب (النيل وشفاء العليل). فقد قيل إنه اعتكف على التأليف في بيته مدة ثمانية عشر عاما. فماذا ألف غير الكتاب المذكور؟ الواقع أنه رغم شهرته بكتاب (النيل) فإنه قد أثرى المكتبة الإسلامية والدراسات الفقهية على الخصوص بمادة غزيرة. فمن مؤلفاته (التكميل لما أخل به كتاب النيل) الذي سنتعرض له في مكان آخر، و (الورد البسام في رياض الأحكام) وهو أيضا في الفقه ومتمم للكتاب الأول. وله مؤلفات أخرى في التوحيد والاجتماع والحديث والمنطق، كما أن له مجموعة من الفتاوى. ويلاحظ على مؤلفاته الأخيرة أنه اتبع فيها طريقة علماء عصره وهي شرح كلام الغير أو التحشية عليه أو اختصاره أو نحو ذلك. فكتابه (التاج) مثلا، الذي قيل إنه في عشرة مجلدات، قد اختصر فيه كتابا. لخميس العماني المسمى (منهاج الطالبين وبلاغ الراغبين). ولكن يلاحظ على مؤلفات الثميني أنها تعالج موضوعات عملية مباشرة مع استقلال في الرأي وحسن اختيار للموضوع. من ذلك معالجته لقضايا المجتمع التي ذكرناها في كتابه (التاج في حقوق الأزواج). ويبدو أن روح التصوف لم تطغ على الشيخ الثميني كما طغت على بعض فقهاء عصره. فتناوله لعلم الكلام في كتابه (النور) وأهمية الصلاة في كتابه (الأسرار النورانية) كان على ما يبدو تناولا علميا لا صوفيا (¬1). جمع الثميني مادة كتابه (الذيل) من مصادر الفقه الإباضي الأخرى وجعله مختصرا لمسائلها وأقرب منها إلى فهم المعاصرين. ولذلك انتقد ¬

_ (¬1) انظر عنه مقدمة كتاب (النيل)، الجزائر 1967. وبروكلمان 2/ 697، وقد توفي الثميني سنة 1223.

عبارة السلف وقال إن عبارة الخلف أوضح من عبارتهم (فإن عبارة الخلف وإن قصر ذراعها أوضح من عبارة السلف وإن طال باعها). وقد أوضح في المقدمة كيف كان يدور في خلده عمل اختصار في الفقه الإباضي يحتوي على فتاوي مشاهير المذهب، (لا مخلا ولا مملا ولا مانعا). كما روى الظروف الصعبة التي كانت تحيط به في شكوى تذكرنا بشكوى أبي راس، المعاصر له، من الزمان فقال: (اختلست لجمعه من أثناء الأيام فرصا، مع ما أكابد وأتجرع من الزمان غصصا .. في أيام دهش وتموج فتن، على عجل وتتابع محن). وقد سمى كتابه (النيل) (رجاء من الله سبحانه وتعالى أن ينفع به .. كما نفع بالنيل) (¬1). وبعد الانتهاء منه عرضه على شيخه يحيى بن صالح وصححه عليه. يقع كتاب (النيل) في ثلاثة أجزاء ويشتمل كل جزء على عدة كتب. ومجموع الكتب في الأجزاء الثلاثة اثنان وعشرون كتابا. وكل كتاب يحمل أحد عناوين أبواب الفقه المعهودة. فهناك كتب الطهارة، والصلاة، والإيجارات، والرهن، والهبة، والشفعة، والنفقات الخ. وكل كتاب يحتوي على خاتمة. و (النيل)، رغم أن مؤلفه رغب في أن يكون عمله غير مخل، قد وجده بعض المختصين معقدا لإيجازه الشديد أحيانا. ولعل ذلك راجع إلى كون الثميني نفسه قد نقحه واختصره مرتين بعد أن أتمه. ومهما كان الأمر فقد عكف بعض علماء الإباضية على شرح كتاب (النيل) أيضا. ومن ذلك الشرح الذي وضعه عليه محمد بن يوسف أطفيش والذي بلغ فيه عشر مجلدات طبعت كلها (¬2)، كما تناوله آخرون بالحاشية أو بالنظم. فهو رغم اختصاره، أصبح مصدرا لا غنى عنه في الفقه الإباضي، وقد اعتبره بعض ¬

_ (¬1) يبدو أن الناشرين هم الذين أطلقوا عليه اسم (النيل وشفاه العليل). أما المؤلف فقد اكتفى بكلمة (النيل)، وقد طبع الكتاب أول مرة في مصر سنة 1305. انظر عنه شرح محمد بن يوسف أطفيش عليه في الأجزاء اللاحقة من الكتاب. (¬2) طبعت الأجزاء السبعة الأولى سنة 1306 والثلاثة الباقية سنة 1343، وكلها بمصر. انظر لاحقا.

خليفة بن حسن القماري

الإباضيين في مكانة مختصر خليل في المذهب المالكي. خليفة بن حسن القماري: ومن أشهر من نظم خليل واعتنى بالفقه المالكي عناية خاصة خليفة بن حسن القماري. وقد ولد هذا الشيخ بقمار إحدى بلدات وادى سوف، وعاش حياته العلمية متنقلا بين مسقط رأسه وبين بسكرة وسيدي عقبة وخنقة سيدي ناجي. ولا ندري إن كان قد رحل إلى تونس وغيرها لطلب العلم أيضا والحج. ورغم عزلته فقد ظل ينهل من مصادر تونس وقسنطينة. وهناك مصادر أخرى لغذائه الروحي وهو ركب الحج المغربي الذي كان يسلك طريق الصحراء في ذهابه وعودته. ودليلنا على ذلك تلك المراسلات التي دارت بين خليفة بن حسن وبين علماء الخنقة وبسكرة من جهة، وملاقاته لبعض علماء المغرب أثناء مرورهم بالزيبان وإجازتهم له. ومن هؤلاء عبد القادر بن أحمد بن شقرون القاسي الذي لقي خليفة بن حسن في بسكرة أثناء توجه الفاسي إلى الحج. فقد سماه (الفقيه الفاضل، الجامع لأشتات الفضائل، المشارك المتقن، والبارع المتفنن، ذا الخلق الحسن، سيدي خليفة بن حسن). وقال الفاسي عن نظم الشيخ خليفة العبارات الآتية التي كتبها على نسخة المؤلف، وهي (وقد أطلعني على نظمه الجليل، لمختصر أبي الدنيا خليل، المكتوب هذا على أول ورقمة منه. فطالعت منه البدء والختام، ومواضع منه أنبأتني على أنه مقدام، من فرسان البراعة وأئمة اليراعة، إذ هو نظم عذب الموارد مهذب المقاصد سلس العبارة رائق الإشارة .. وقد طلب مني .. أن أوقع عليه ما تيسر. فأسعدته إسعاد محب صادق، فرقمت له هذه الحريفات ..). وكان ذلك سنة 1193 بمدينة بسكرة (¬1)، ويدلنا هذا النص على شيئين الأول قيمة هذا النظم في نظر أحد فقهاء المغرب المعروفين، والثاني الصلة العلمية التي كانت تربط علماء المغرب والجزائر. وقد كان من عادة علماء القرى والمناطق النائية الخروج لركب الحاج ¬

_ (¬1) (إتحاف القاري) تأليف محمد الطاهر التليلي القماري، وهو مخطوط.

المغربي وملاقاة العلماء الذين يرافقونه والأخذ عنهم وربط الصلات العلمية معهم. وقد ذكر العياشي أنه تراسل مع بعض علماء الجزائر أثناء مروره بهذه النواحي أيضا. ويبدو أن سمعة خليفة بن حسن كانت ذائعة في عصره. فهذا الناصري الدرعي صاحب الرحلة الكبرى قد سجل انطباعه أيضا عن ملاقاته بالشيخ خليفة. وقال إنه كان قد سمع به ولم يلقه أثناء ذهاب الركب إلى الحج لأن خليفة بن حسن عندئذ كان في بلاده. أما عند عودة الركب فقد خرج الشيخ خليفة إلى سيدي عقبة للقاء علماء المغرب. وقد حكم الدرعي على منظومة خليفة بن حسن حكما يختلف قليلا عن حكم الفاسي. وهذا نص ما كتبه الدرعي عن هذا اللقاء في رحلته (وكان ممن اجتمعنا به في هذه البلدة المباركة (سيدي عقبة) العالم العلامة المسن البركة، سيدي خليفة بن الحسن السوفي، نسبة إلى سوف، قرى صحراوية على خمس مراحل من بسكرة، وكنا سمعنا به ولم نلقه لمغيبه ببلده (أثناء الذهاب إلى الحج)، وجاء بقصد ملاقات (كذا) الركاب النبوية على عادتهم، وأوقفني على نظمه لأبي المودة خليل، وزاد عليه بعض قيود وتنبيهات. وهو نظم سلس لا بأس به، غير أن صاحبه غير متمكن في الصناعة العروضية، وإنما للنظم عنده سجية، وهو زهاء ثمانية آلاف بيت) (¬1). سمى خليفة بن حسن نظمه المذكور (جواهر الإكليل في نظم مختصر الشيخ خليل). وكان قد فرغ من نظمه سنة 1192، عندما أصبح طاعنا في السن. ولم يكن له سوى هذا النظم، الذي امتاز بسلاسته ودقته، بل ألف غير ذلك في الفقه أيضا. فله كتاب يعرف بـ (الكنش) أو الكناش، جمع فيه مسائل فقهية هامة على شاكلة النوازل والفتاوى، وقد قدره من رآه بثلاثمائة صفحة من الحجم الكبير. كما ألف شرحا على السنوسية، ونظم الأجرومية، ¬

_ (¬1) الرحلة الكبرى للناصري، مخطوطة مصورة، الخزانة العامة بالرباط، رقم 2651 د، ص 497، أما محمد الطاهر التليلي في (إتحاف القاري) فقد قال إن عدد أبيات النظم (9817) سبعة عشر وثمانمائة وتسعة آلاف بيت. فأبيات الجزء الواحد حوالي خمسة آلاف بيت.

النوازل والفتاوى والفرائض

وله قصيدة في معرفة الأثر، وفتاوي وآراء اجتماعية سنعرض لبعضها بعد حين (¬1)، وما تزال آثار خليفة بن حسن القماري لم تجمع ولم تطبع باستثناء نظمه المذكور، فهو مطبوع. ... أما في الفقه الحنفي فلا نعرف أن علماء هذا المذهب قد ألفوا فيه أعمالا هامة. ويعود ذلك بالدرجة الأولى إلى أن معظم القضاة الحنفية كانوا في أول الأمر يأتون من المشرق لمدة قصيرة. وحين أصبحوا يعينون من العائلات التي نشأت في الجزائر كانوا يعتمدون غالبا في أحكامهم وفتاواهم على شروح وحواشي المشارقة. ومن المعروف أن عائلة ابن العنابي قد ساهمت في التأليف على مذهب أبي حنيفة. ولنذكر هنا تأليف محمد بن محمود بن العنابي المعروف (بشرح الدر المختار)، وهو العمل الذي قرظه محمد بيرم التونسي الحنفي أيضا، ولكننا لا ندري ما إذا كان ابن العنابي قد أكمل عمله، والغالب أنه فعل لأنه عاش فترة طويلة بعد تقريظ الجزء الذي انتهى منه. وقد تناولنا ذلك في كتابنا عنه (¬2)، وتحتوي المكتبة الوطنية بالجزائر على بعض النصوص في الفقه الحنفي لبعض العلماء الجزائريين مثل الرسالة التي كتبها علي بن محمد الجزائري بعنوان (رسالة في الصلوات) (¬3). النوازل والفتاوى والفرائض وبالإضافة إلى ما ذكرنا ترك علماء الجزائر تآليف في الفتاوى والوقف والفرائض وغيرها من القضايا التي تمس جوانب الدين المختلفة. ورغم أن الباحثين قد نسبوا إلى محمد بن العنابي فتاوي كثيرة فإنها على كل حال غير ¬

_ (¬1) (إتحاف القاري). وقد قال التليلي عن الكنش ان الأيام قد عبثت به، وأن آخر العهد به أنه في حيازة السيد محمد بن السائح الغريبي, وقد قام سليمان الباروني بطبع (جواهل الإكليل) في مصر أوائل هذا القرن. (¬2) انظر كتابنا (المفتي الجزائري ابن العنابي)، الجزائر، 1977. ط 2، 1992. (¬3) دوحة الناشر (الترجمة الفرنسية)، 219 - 221.

مجموعة في كتاب واحد، وهي متفرقة هنا وهناك، كما أنها لا تشتمل على فتاوى غيره في القضايا التي تناولها على نحو ما فعل الونشريسي مثلا. ويكاد يكون كل عالم بشؤون الدين، والفقه على الخصوص، قد جمع بعض الفتاوى التي تقل أو تكثر حسب مكانته وحسب نظرة الناس إليه وكثرة وتلاميذه. وليس من غرضنا هنا إحصاء هذه الفتاوى. فقد نسبت إلى أحمد بن الحاج البجائي التلمساني مجموعة من الفتاوى، وروى له ابن عسكر فتوى طويلة دليلا على إتقانه لهذا الفن (¬1)، ونسبت إلى محمد بن أحمد المعروف بالكمال عدة أجوبة على نوازل فقهية مختلفة، ولكننا لا نعرف ما إذا كانت هذه الأجوبة مجموعة ومحفوظة (¬2) ومن ضمن ما ترك عبد العزيز الثميني مجموعة من الفتاوى، كما عرفنا. وذكر صاحب (نيل الابتهاج) لعمر الوزان فتاوى في الفقه والكلام (أبدع فيهما ما شاء) (¬3). وهناك بعض الفتاوى ذات الموضوع المحدد كرأي أحد العلماء في قضية معينة عرضت له أو سئل عنها. ولدينا من هذه الفتاوى نماذج كثيرة لا نريد أن نأتي هنا على كل ما عرفناه منها، فقد تناول محمد شقرون الوهراني في عمله المسمى (الجيش الكمين لقتال من كفر عامة المسلمين) (¬4) قضية إيمان المقلد في العقائد العاجز عن معرفة الله بالبراهين (هل إيمانه صحيح أو هو كافر وإيمانه فاسد)؟ وبعد أن ذكر الوهراني آراء العلماء اللذين كفروا عامة المسلمين لأنهم مؤمنون بالتقليد، وحكموا باستباحة أموالهم وفساد عقود زواجهم وغير ذلك - أجاب هو إجابة انتهى فيها إلى صحة إيمان المقلدين من العامة. وقد أورد أوجه الخلاف الناشب بين العلماء حول هذه القضية ناقلا ذلك عن المشاهير منهم أمثال الماتريدي وأحمد بن زكري والقاضي عياض ¬

_ (¬1) دوحة الناشر (الترجمة الفرنسية)، 219 - 221. (¬2) (سلوة الأنفاس) 2/ 30 - 31. (¬3) أحمد بابا (نيل الابتهاج)، ص 197. (¬4) نسخة منه في المكتبة الوطنية بالجزائر، رقم 2301 في 9 ورقات، مجموع، وهو مؤلف سنة 920، وأخرى بالخزانة العامة بالرباط، رقم 2775 د.

وابن رشد. ورغم اعتراف الوهراني بأن المسألة خلافية فإنه انتهى إلى الأخذ برأي أهل السنة، كما يقول، ونبذ آراء المعتزلة ونحوهم. والملاحظ أن الرأي الذي وصل إليه الوهراني قد سانده فيه، بشهادات مكتوبة، أربعة من علماء تلمسان وهم. إبراهيم بن أحمد الوجديجي ومحمد بن عيسى وأحمد بن ملوكة ومحمد بن العباس. والوهراني المذكور هو نفسه صاحب الفتوى المشهورة التي أفتى فيها مسلمي الأندلس بالبقاء تحت الضغط وإخفاء دينهم والتظاهر بالنصرانية. وقد احتلت قضية اليهود مكانا بارزا في تكفير العلماء خلال العهد العثماني. وكان العلماء بصفة عامة ناقمين على تدخل اليهود الاقتصادي والسياسي في الدولة، ولكن حماية بعض الباشوات والبايات لهم قد جعل العلماء يبلعون نقمتهم. ويظهر ذلك من بعض الفتاوى التي قد تبدو قاسية ضد اليهود. فقد عرفنا موقف عبد الكريم الفكون (الجد) من قضية المسمى المختاري الذي تطاول على الرسول (صلى الله عليه وسلم) والذي أفتى الشيخ بقتله رغم حماية السلطة السياسية في قسنطينة له. وأفتى الشيخ محمد الولي الحفي بإحراق اليهود والنصارى إذا أعلنوا سب الرسول (صلى الله عليه وسلم)، معتمدا في ذلك على مجموعة من الأحاديث والروايات التاريخية. وقد وضع رسالة في ذلك سماها (السيف الممدود في عنق من أعان اليهود) (¬1)، وأسهم محمد بن أحمد الكماد في هذه الحملة بإصدار جواب ضمن أجوبة علماء فاس بإبطال ما اشتهر به يهودها من عهد منسوب لرسول الله (¬2). ولأحمد البوني فتوى في الحضانة كتبها سنة 1113 ونسخها ولده أحمد الزروق سنة 1145. ونحن نسوق بعض هذه الفتوى لا لموضوعهاولكن للأفكار التي وردت فيها والتي تلقي ضوءا على تفكير البوني وبعض ¬

_ (¬1) المكتبة الوطنية - الجزائر، رقم 2198 في خمس ورقات، وهي مكتوبة سنة 1172 بعد حادثة وقعت عندئذ. (¬2) انظر مخطوط رقم 2120 د، الخزانة العامة بالرباط، ضمن مجموع. وانظر أيضا عن هذه الفضية (إتحاف أعلام الناس) 1/ 339.

علماء عصره. فقد وردت عليه من قسنطينة رسالة يطلبون فيها منه إبداء رأيه كتابة في قضية حضانة انقسم حولها العلماء، وهي طفل ماتت أمه وألف أباه ألفة كبيرة، وعندما طالبت به جدته لأمه (وهي حاضنته الشرعية) أبى وبكى، فما الحكم؟ فقد أفتى البعض ببقائه مع والده وأفتى آخرون بنقله إلى جدته، وكل فريق أيد رأيه بنقول علمية وشرعية. وقد أجاب البوني بأن الوالد أحق بالطفل في هذه الحالة. وأضاف أنه ليس للجدة حق أصلا وإن كان المشهور أن الحضانة حق لها، واستدل لرأيه بأقوال خليل وشراحه من المتأخرين، كما استدل بالعقل، وبرر البوني أخذه برأي المتأخرين بقول القائل: قل لمن لا يرى المعاصر شيئا ... ويرى (¬1) للأوائل التقديما إن ذاك القديم كان جديدا ... وسيبقى هذا الجديد قديما واستدل أيضا برأي ابن مالك وبالأمثال التي تذهب إلى أن العلم منحة إلهية يرزق بها الله من يشاء، وهي غير مقصورة على الأولين، ورفض البوني الاعتقاد في القول القائل (ما ترك الأول للآخر شيئا) (¬2)، ولا شك أن هذا رأي مهم أدلى به البوني قد لا يتناسب مع ما نسب إليه من القول بإسقاط التدبير. وهو يدل على أن روح الاجتهاد والحرية العقلية ما تزال حية حتى عند أمثال البوني الذين جمعوا بين الفقه والتصوف. وقد عرفنا أن قضية تناول الدخان قد شغلت بعض العلماء فألفوا فيها وأفتوا. ومن الذين أفتوا فيها أحمد المقري الذي توجد أجوبته في ذلك مجموعة مع أجوبة غيره (¬3)، وألف فيها عبد القادر الراشدي وعبد الكريم الفكون. ولعل الفكون هو أشهر من كتب في هذا الموضوع. فعمله الذي سماه (محدد السنان في نحور إخوان الدخان) يشتمل على عدة كراريس. وقد ضمنه مباحث اجتهادية ونقولا من الفقهاء. وهاجم فيه متناولي الدخان وحكم بتحريمه لأنه، في نظره، يحدث (نشوة وطربا) كالحشيشة. ومن الذين ¬

_ (¬1) في الأصل (يرى) مكتوبة بالألف الممدودة. (¬2) (فتوى في الحضانة) المكتبة الوطنية - الجزائر، رقم 2160، وهي بخط جيد. (¬3) أجوبة في اجتناب الدخان، المكتبة الملكية بالرباط، رقم 7579 مجموع.

هاجمهم الفكون العلماء المشارقة عموما لتساهلهم في مسائل الدخان ونحوها، وقال إنهم يتناولون الدخان في المساجد وأنهم لا يعظمونها لأنهم ينامون فيها ويحلقون رؤوسهم فيها. وخص الفكون عليا الأجهوري بالهجوم لقوله بأن مسألة التدخين تتعلق بأمزجة الأشخاص، فإن أسكر فهو حرام وإن لم يسكر فهو حلال، ورغم نقد الفكون لأهل التصوف في كتابه (منشور الهداية) فإنه في كتابه (محدد السنان) قد بنى تحريم الدخان على رأي الفقهاء والصوفية. فقال إن (غالب المتورعين من الفقهاء، ومعهم جميع الصوفية أرباب البصائر الصافية يصرحون بالتحريم). وهو يعتقد أن الفقهاء إذا اختلفوا في مسألة وكان معهم الصوفية فالذي يجب الأخذ به هو الرأي الذي معه الصوفية (لأن الله يؤيدهم وهوى النفوس مفقود منهم فلا ينطقون إلا عن حق وصواب) (¬1)، ومن الواضح أن الفكون هنا يقصد المتصوفين الحقيقيين الذين عقد لهم فصلا خاصا في كتابه (منشور الهداية) وليس المتصوفين الدجالين الذين سماهم هناك أدعياء الولاية. وألف في نوازل الأرض وعمارتها وما يتصل بذلك عدد من علماء الجزائر أيضا. ومن هؤلاء عبد العزيز الثميني في كتابه (التكميل لبعض ما أخل به كتاب النيل)، وهو عمل في أحكام عمارة الأرض من تشييد المنازل والمدن والقرى وفتح الطرقات وغرس البساتين وتقسيم المياه وأحكام الشركات في العقار والمنقولات وحدود الملكية وتحديد المضرات وأحكامها وأحكام المشاع. وكان الثميني قد اختصر به كتاب (أصول الأرضين) لأحمد بن محمد بن أبي بكر (¬2). ¬

_ (¬1) العياشي (الرحلة) 2/ 396 - 403 وقد أشار الفكون نفسه عدة مرات إلى (محدد السنان) في كتابه (منشور الهداية). انظر مثلا ترجمة المقري وترجمة محمد وارث الهاروني. وبذلك يكون الفكون قد ألف (محدد السنان) في منتصف عمره تقريبا، أي حوالي سنة 1035. وتوجد نسخة من هذا الكتاب في المكتبة الملكية - الرباط، وقد حصلنا منها على مصورة. انظر كتابنا (شيخ الإسلام)، ط. بيروت، 1906. (¬2) مجلة (المنهاج) ج 8، ثعبان 1344، 467، وهذا الكتاب مطبوع مع ترجمة للثميني =

وفي هذا النطاق ألف محمد المصطفى بن زرفة برسم الباي محمد بن عثمان الكبير كتابا سماه (الاكتفاء في حكم جوائز الأمراء والخلفاء) تناول فيه أحكام الأرض المفتوحة عنوة وصلحا، وتجارة الأمراء وهداياهم والديون ونحو ذلك مما كان يشغل بال الباي المذكور ويثير بعض الخلافات بينه وبين علماء وقته. وقد قسم ابن زرفة كتابه، الذي ألفه سنة 1199، إلى أربعة فصول أو أقسام، وتكلم في الفصول الثلاثة على حقوق الأمراء (مثلا - البايات) في مسائل الضرائب والهدايا والتجارة وأوضاع أملاك المدينين وغير ذلك. وأما الفصل الرابع فقد خصصه لموارد بيت المال وطريقة استعمالها، وطريقة توزيع غنائم الحرب، وأحوال الأعراب المغلوبين بقوة السلاح على أرضهم ومصير هذه الأرض إذا كانت مفتوحة عنوة أو صلحا. وأكثر ابن زرفة من النقود على الفقهاء المتقدمين من أهل المشرق والأندلس والمغرب. ولا شك أن ابن زرفة، الذي كان كاتب الباي وقاضيه، قد حاول أن يبرر أعمال الباي وأن يعطيه سلاحا فقهيا. يعتمد عليه في معاملة الثوار وإسكات العلماء ونحو ذلك من الأمور التي كانت تثير الجدل (¬1). وهناك مؤلفات أخرى وفتاوي أصدرها أصحابها بعد ممارسات في شؤون الحياة. من ذلك (تقييد) عبد الرحمن الأخضري فيما يجب على المكلف (¬2)، وفتوى خليفة بن حسن القماري في العمل بمعرفة أثر السارق المتهم، وذلك بعدة مراسلات بينه وبين علماء الخنقة حول هذه النقطة. ¬

_ = كتبها حفيده محمد الثميني. (¬1) ذكر هذا الكتاب وعرف به السيد أرنست ميرسيي في (روكاي) 1898، 312 - 340، وقد حلل بعض أجزائه تحليلا بعيدا عن الحقيقة، واعتمد في ذلك على نسخة هوداس من كتاب (الاكتفاء) وقد أشار إلى وجود هذا الكتاب أحمد بن سحنون مؤلف (الثغر الجماني) ومعاصر ابن زرفة في بلاط الباي محمد الكبير. وقد رأينا كيف تحصل المستشرق هوداس على الرحلة القمرية وكتاب الاكتفاء لابن زرفة. (¬2) الخزانة العامة بتطوان، رقم 125 مجموع.

وقد أجابهم الشيخ خليفة بقصيدة أوضح فيها ضرورة العمل فقهيا بما ذكر، فأذعنوا لرأيه (¬1)، كما ألف مصطفى بن رمضان العنابي كتابا اسمه (الروض البهيج في أحكام العزوبة والتزويج) بعد أن وقعت له أمور في زواجه (¬2). ومن علماء هذه الأسرة محمد ابن العنابي الذي أفتى كثيرا في مسائل العصر وجمعت له من ذلك مجموعات ما تزال محفوظة في المكتبات العامة والخاصة، كما أنه ألف كتابا هاما في موضوعه وهو ضرورة منافسة الأوروبيين في تقدمهم الصناعي والتقني والعسكري والأخذ عنهم في ذلك وتجاوزهم فيه، وهو كتاب (السعي المحمود في نظام الجنود). وقد أكثر فيه من نقول العلماء واستعمل فيه القياس في مسائل عديدة، وطالب سلاطين آل عثمان بتجديد الدولة وإصلاح النظم، كما أيدهم في القضاء على الإنكشارية وهاجم الفقهاء المتزمتين. وما دمنا قد تناولنا هذا الكتاب بالتحليل والدرس والنقد في مكان آخر فلنكتف منه هنا بهذا المقدار (¬3). ويتصل بعلم الفقه موضوع التركات والأوقاف والفرائض. ولا نعرف أن هناك تأليفا خاصا بقضايا الوقف غير رسالة أحمد بن عمار المسماة (رسالة في مسألة وقف) (¬4)، وهي جديرة بالقراءة والتأمل لاحتوائها أيضا على آراء اجتهادية هاجم فيها ابن عمار الجمود العقلي في وقته وضعف العارضة عند علماء عصره، وهناك أيضا (رسالة في الوقف) كتبها محمد ¬

_ (¬1) محمد الطاهر التليلي (إتحاف القاري)، مخطوط، والمقصود بالأثر هنا تتبع أثر رجل السارق على الأرض الرخوة أو الرملية والحكم عليه بمقتضاه. (¬2) يوجد بعضه مخطوطا في مكتبة جامع البرواقية. انظر عنه أيضا كتابنا (المفتي الجزائري ابن العنابي). (¬3) درسناه وحددنا مواضع نسخه وحياة مؤلفه في كتابنا (المفتي الجزائري ابن العنابي). وقد ألفه سنة 1242 ولذلك تناولناه ضمن إنتاج العهد العثماني. (¬4) هذه الرسالة منشورة ضمن (المنح الإلهية في طمس الضلالة الوهابية)، تونس 1910.

ابن العنابي (¬1)، وهي في موضوع واقف نص على أن من مات قبل الاستحقاق يقوم ولده مقامه. أما سعيد بن محمد العقباني التلمساني، الذي كان خطيب وقاضي تلمسان خلال القرن الحادي عشر، فقد وضع شرحا خصصه للإرث ونحوه. وقد قسم الكتاب إلى أبواب تناول فيها الولاء والإقرار والوصايا والمناسخة الخ. كما شرح الألفاظ لغة واصطلاحا، وذكر الأحكام وطرق التوصل إلى حل التركات، ويبدو أن عمله عبارة عن شرح هذه لأحد أعمال القلصادي في الفرائض، فالنسخة التي اطلعنا عليها متآكلة الأطراف وعليها حواشي لبعضهم (¬2). ويتصل علم الفرائض اتصالا وثيقا بالفقه والحساب معا. لذلك وجدنا عددا من العلماء المشتغلين به كانوا أيضا مشتغلين بالحساب. وسنشير إلى هذه العلاقة في الفصل الخاص بالعلوم. فقد نظم عبد الرحمن الأخضري متن (الدرة البيضاء) في خمسمائة بيت، وهي في الفرائض والحساب. وقد قسمها إلى ثلاثة أقسام: الحساب، والتركات، والقسمة. وكان الأخصري قد بدأ الشرع ثم سرقت منه النسخة ولكنها أعيدت له بعد مدة. والمعروف أنه أكمل شرح القسم الثاني على الأقل. أما الأول فليس من المؤكد أنه هو الذي شرحه، وكذلك القسم الثالث. وقد نصت طبعة القاهرة سنة 1891 للدرة البيضاء على أن القسم الثاني قد شرحه الأخضري بنفسه وكذلك القسم الثالث ما عدا الفصول الثلاثة الأخيرة. أما القسم الأول فقد نصت على أن الأخضري لم يشرحه، ولكنها لم تذكر من شرحه: فهل هو شرح عبد اللطيف المسبح؟ لقد ذكر الفكون أن عبد اللطيف المسبح المرداسي قد شرح (الدرة البيضاء) أو على الأقل أكمل ما لم يشرحه الأخضري منها (¬3). وقد اعتنى ¬

_ (¬1) نسخة منها في مكتبة جامعة برنستون بأمريكا (قسم يهودا)، رقم 2199. (¬2) اطلعنا على نسخة باريس، مخطوطات رقم 5312، وهي في 141 ورقة. (¬3) الفكون (منشور الهداية)، 16. انظر أيضا لوسياني (السلم)، الجزائر 1921، 10 - 11. وقد ترجم الفكون لعبد اللطيف المسبح الذي كان معاصرا لجده، وأصل عائلة المسبح من مرداس.

المسبح ببعض أعمال الأخضري الأخرى كشرحه على (مختصر) الأخضري في العبادات وآداب الدين، وهو (أي المختصر) الذي شرحه الفكون أيضا. وقد سمى المسبح شرحه (عمدة البيان في معرفة فروض الأعيان). وكان قد أكمله سنة 985 (¬1). ويبدو أن علم الفرائض قد تدهور بمرور الزمن، وكان ذلك نتيجة ضعف العناية بالحساب والرياصيات عموما. وهذا ما جعل الفكون في القرن الحادي عشر يحكم بانقراض علم الفرائض تقريبا. فقد لاحظ وهو يتحدث عن محمد بن نعمون بأنه كان يعتمد على ولديه في الدرس وفي مسائل الوثائق والفرائض، لأن ثلاثتهم (معهم معرفة مبادئ الفرائض قسمة وبعض مسائل وصايا الصحيح ومناسخات دون ما عدى ذلك من أبوابها ومشكلاتها لانقراض العلم في كل الأقطار فيما أعلمه، اللهم إلا ما شذ) (¬2)، غير أن علم الفرائض قد شهد نهضة قوية على يد عبد الرزاق بن حمادوش في القرن الثاني عشر، لأنه كان منشغلا بالعلوم، كالطب والرياضيات والفلك، وألف عدة تآليف، كما سنعرف في فصل العلوم. ويظهر اهتمامه بعلم الفرائض والوثائق من النماذج والجداول التي ساقها في رحلته. فقد ضرب هناك عدة أمثلة وأظهر كيفية حل المشاكل الفرضية بسهولة ويسر وبطريقة مختصرة، وكان في ذلك معتدا بنفسه وعلمه حتى أنه سخر ممن لا يتقن هذه المعلومات البسيطة في نظره (¬3)، ومن الذين عاصروا ابن حمادوش وكتبوا في الفرائض أيضا محمد بن عبد الرحمن بن حسين العنابي. فقد وجدت له شرحا في هذا الموضوع طبقا للمذهب الحنفي، ولم نستطع أن نتوصل إلى عنوان هذا الشرح (¬4). ¬

_ (¬1) توجد نسخة من هذا الشرح في مكتبة زاوية طولقة، في حوالي مائة ورقة. (¬2) الفكون (منشور الهداية)، 61. (¬3) انظر دراستنا عن ابن حمادوش ورحلته في مجلة مجمع اللغة العربية بدمشق، أبريل 1975، وكذلك في كتابي (أبحاث وآراء في تاريخ الجزائر). (¬4) نسخة منه في مكتبة البرواقية، وقد كتبه المؤلف سنة 1185.

وهكذا يتضح أن مساهمة الجزائريين في العلوم الشرعية مساهمة هامة. ولو عثر على كل مؤلفاتهم أو جلها، ودرست دراسة متخصصة ونقدية لخرجنا من ذلك بتراث غزير. وعسى أن يتواصل البحث في هذا الموضوع الجليل. ذلك أننا عرفنا أن أساس التفكير الجزائري خلال العهد العثماني كان قائما على العلوم الشرعية. فدراسة هذه العلوم إذن ستكشف أكثر فأكثر عن نوعية هذا التفكير ومكانته.

الفصل الثاني علم الكلام - التصوف - المنطق

الفصل الثاني علم الكلام - التصوف - المنطق

علم الكلام

في عصر ساد فيه التصوف كل شيء في الحياة تقريبا، لا يمكن أن يكون إنتاج علمائه إلا مصبوغا بالزهد والموعظة والالتزام بمبادئ المتصوفين والزهاد (¬1). ولا يضارع إنتاج الجزائريين في التصوف والمواعظ إلا إنتاجهم الأدبي الذي تلون أيضا بلون التصوف، كما سنرى. ويتصل بالتصوف علم الكلام والمنطق. ولذلك تناولناهما في هذا الفصل أيضا. وليس هناك كتب فلسفية بالمعنى الدقيق للكلمة، فإذا وجدنا شيئا من ذلك، كالجدل والمطارحات ونحوها أدرجناها في هذا الفصل أيضا لصلتها بالمنطق والكلام. أما المواعظ والأذكار ونحوها فقد أضفناها إلى التصوف. ونظرا لأهمية يحيى الشاوي في علم الكلام والردود أفردنا له ترجمة في هذا الفصل. علم الكلام شاع لدى الجزائريين استعمال تعبير علم الكلام وعلم التوحيد على حد سواء. وكانوا يعتبرون هذا العلم من أهم العلوم بل هو أهمها. فقد عرفه مصطفى الرماصي في القرن الثاني عشر بما يلي: (علم الكلام أوثق العلوم دليلا، وأوضحها سبيلا، وأشرفها فوائد، وأنجحها مقاصد، إذ به تعرف ذات الحق وصفاته، ويصرف عنه ما لا يليق به ولا تقبله ذاته) (¬2). ورغم هذا ¬

_ (¬1) انظر الفصل السادس من الجزء الأول. (¬2) الرماصي (حاشية على أم البراهين للسنوسي) ك 2499 الخزانة العامة بالرباط، ضمن مجموع، في حوالي 300 صفحة، قارن هذه المقالة بمقالة محمد السنوسي أيضا عن علم الكلام في الفصل الأول من الجزء الأول.

الإلحاح من الرماصي على ضرورة تعلم علم الكلام فإن الورتلاني، الذي عاش في نفس العصر، قد روى أن علماء الخنقة كانوا لا يتعلمون علم الكلام لأنه في نظرهم لا يحتاج إلى دليل. ولعل بعض العلماء كان يهرب من التعمق في علم الكلام لأن ذلك يؤدي في نظرهم إلى الكفر أو الخروج عن الدين. وليست الخلافات المذهبية والفلسفية إلا نتيجة لمدارسة علم الكلام والتعمق فيه والتمادي في الاستباط والبحث عن الأدلة. والعقائد السائدة لدى الجزائريين هي عقائد الأشعري، وهي عقائد جمهور أهل السنة (¬1). وكانت مؤلفات محمد بن يوسف السنوسي في العقائد هي المصدر المحلي لدراسة علم الكلام. وقد اصطبغت هذه المؤلفات بالصبغة الصوفية. ورغم أن السنوسي كان يجمع بين علمي الظاهر والباطن فإن شارحيه ومحشيه ودارسي مؤلفاته قد مالوا، تبعا لروح العصر، إلى علوم الباطن. وقد أصبح كل من خالف هذا التيار يتهم بالتجسيم والاعتزال والإيمان بظواهر النصوص، ومن ثمة يحكم عليه بالكفر والزندقة. حدث هذا لعبد القادر الراشدي مفتي قسنطينة في القرن الثامن عشر الميلادي (¬2)، فقد اتهمه علماء بلده بالكفر والإلحاد لقوله بالتجسيم. وقد انتصر محمد بن الترجمان للأشعري ضد الماتريدي في رسالته (الدر الثمين) التي سنتحدث عنها. وفي إجابته عن قضية تتعلق برؤية الله في الدنيا والآخرة، صرف ابن العنابي الرأي القائل بالمشاهدة الحسية في الدنيا إلى أنه رأى المعتزلة وأنه لا يقول هو به بل يتبع رأي أهل السنة (لوضوح أدلتهم) (¬3). ¬

_ (¬1) من المفيد أن يطالع المرء المناقشة التي دارت في المغرب بين ابن حمادوش الجزائري وأحمد الورززي المغربي حول الاستدلال على أفضلية الأنبياء على الملائكة أو العكس وحول مذهب الأشاعرة وغيرهم، وقد كان الورززي متهما بالأخذ برأي المعتزلة، ابن حمادوش (الرحلة) مخطوطة. (¬2) (تعريف الخلف برجال السلف) 2/ 219. (¬3) ابن العنابي (مسألة في التوحيد) جواب له على سؤال في هذا الموضوع، ك 1089 الخزانة العامة - الرباط، مجموع.

وتبعا لانتشار المذاهب الإسلامية والمبالغة في التصوف شاعت في الجزائر أيضا تفسيرات كثيرة تتخذ علم الكلام منطلقا لها. فبالإضافة إلى ذات الله وصفاته درس علماء الكلام إيمان العالم وإيمان المقلد، واختلفوا حول ذلك، كما اختلفوا حول تعلق قدرة الله تعالى بالحيز أو لا. فهذا محمد البوزيدي، أحد علماء قسنطينة في القرن الحادي عشر (17 م) كان، كما يقول الفكون، صاحب دعوة كبيرة في علم الكلام. فكان يدرس عقائد السنوسي ومختصر ابن الحاجب الفقهي. وكان يقول بأن (المقلد غير مؤمن وأن العامة مختلف في إيمانها) كما كان يقول إن (قدرة الله لا تتعلق بتحيز الجوهر). ويبدو أن البوزيدي لم يكن وحده في هذا التفسير، فقد أكد الفكون أن (هذا مذهب سرى في جل أهل المغرب سريان النار في الهشيم) (¬1). ولا ندري من أين جاء هذا المذهب إلى أهل المغرب، ولكن من المؤكد أنه ليس مذهبا جديدا. سيطرت إذن مؤلفات محمد السنوسي في التوحيد سيطرة تامة على الدارسين لهذا العلم طيلة العهد العثماني. ولم يكن ذلك مقصورا على الجزائر وحدها بل تجاوزها إلى معظم الأقطار العربية والإسلامية، غير أن الذي يهمنا هنا هو سيطرة هذه المؤلفات على الدارسين في الجزائر. وأهم مؤلفات السنوسي المشار إليها هي ما يعرف بالعقائد السنوسية، وهي العقيدة الصغرى والعقيدة الوسطى والعقيدة الكبرى، ولكن أهم الجميع هي الأولى لوضوحها واختصارها، وهي المعروفة أحيانا باسم (أم البراهين). وليس معنى هذا أن العقيدتين الأخريين لم يهتم بهما الدارسون، ولكن معناه أن جهودهم قد تركزت في التدريس والشرح حول العقيدة الصغرى، ويليها العقيدة الوسطى فالكبرى. فأنت لا تكاد تجد عالما خلال هذا العهد لم يدرس لطلابه (صغرى السنوسي)، كما كانت تسمى، أو يتناولها بالشرح والتحشية وأحيانا بشرح المشروح وتحشية المحشى. وقد كثرت هذه الشروح ¬

_ (¬1) (منشور الهداية)، كلمة (هشيم) مكتوبة في الأصل (العجم) وذلك سبق قلم، كما يقولون.

والحواشي على صغرى السنوسي حتى أصبحت بشكل ظاهرة في حد ذاتها، وكأن الفكر الفلسفي والديني قد تجمد عندها فلم يعد قادرا على الخوض في مسائل التوحيد إلا من خلال عمل السنوسي. وقبل أن ننتقل إلى الحديث عن شروح عقائد السنوسي نشير إلى عمل آخر في التوحيد كان أيضا قد شغل العلماء في العهد المذكور، ونعني به منظومة أحمد بن عبد الله الجزائري، المعروفة باسم (المنظومة الجزائرية). وكان الجزائري معاصرا للسنوسي، كما عرفنا، وقد نظمها وهو ما يزال شابا (¬1)، وأرسل بها إلى محمد السنوسي بتلمسان لشرحها فقام هذا بشرح المنظومة شرحا ظل هو أيضا مصدرا آخر هاما للتقليد بين العلماء في هذا الميدان (¬2). ورغم سهولة (المنظومة الجزائرية) وقربها من عقول الدارسين الشادين، فإن شرح السنوسي عليها هو الذي حببها للعلماء والطلاب على حد سواء، وقد أخذت، هي الأخرى، شهرة واسعة ليس في الجزائر فحسب بل في العالم الإسلامي أيضا، إذ لا تكاد تخلو مكتبة قديمة من مخطوطة منها. ويمكن القول، بدون مبالغة، إن دراسة التوحيد في الجزائر خلال العهد العثماني كانت تقوم على إنتاج السنوسي والجزائري، بالإضافة إلى (إضاءة الدجنة) لأحمد المقري. وكما شرح السنوسي منظومة الجزائري شرح أيضا أرجوزة محمد بن عبد الرحمن الحوضي المعروفة (بواسطة السلوك) (¬3). وقد عرف فيها ¬

_ (¬1) هذا ما أكده أحمد بن ساسي البوني في إجازته لابنه، وقد تعرضنا إليها. انظر ترجمة البوني في الفصل الأول من هذا الجزء. (¬2) هناك نسخ كثيرة لهذا الشرح، منها نسخة المكتبة الوطنية بالجزائر التي تعود إلى سنة 884 (1479)، وهي في 268 ورقة تحت رقم 2178، وعن السنوسي والجزائري انظر الفصل الأول من الجزء الأول. (¬3) بروكلمان 2/ 992، وتوجد منها نسخة في المكتبة الوطنية بالجزائر رقم 899، منسوخة بقلم عبد القادر بن عمر الحارثي سنة 938، ولعله كان من تلاميذ الحوضي، انظر عن الحوضي الفصل الأول من الجزء الأول.

الحوضي علم التوحيد أيضا بأنه (أشرف العلوم) وأنه أساس جميع العلوم. وفيها نظم جميع مسائل التوحيد المتعارف عليها، وجعلها سهلة مفهومة التعبير قريبة المعنى (يقرأها الصبيان في المكاتب) وتؤدي إلى إدراك قضايا التوحيد حتى يخرج قارئها من التقليد الأعمى في معرفة الله، كما أنه جعلها في متناول الكبار المنصفين من العلماء لاختصارها لمسائل المطولات. وقد كان الحوضي شاعرا بالسليقة ولذلك كانت أرجوزته سلسة العبارة وجيدة. ورغم أن أحمد بن زكرى التلمساني، المعاصر للسنوسي أيضا، قد اشتهر، كما عرفنا، بدراسة التوحيد والتأليف فيه، فإن شهرته فيه لم تبلغ شهرة زميله السنوسي. ومع ذلك فقد كانا فرسي رهان في هذا الميدان. فقد ألف أحمد بن زكري رجزا في التوحيد سماه (محصل المقاصد به تعتبر العقائد)، وهو الذي وصفه ابن عسكر بأنه عمل بلا نظير (¬1)، وهو أيضا الرجز الذي اعتذر السنوسي عن شرحه قائلا إنه لا أحد يقدر على ذلك سوى الناظم نفسه. ورغم صعوبة عمل ابن زكرى فقد قام الورثلاني في القرن الثاني عشر بشرح (محصل المقاصد)، ولكنه أخبر أنه لم يتمه. فإذا عدنا إلى عقائد السنوسي، وجدنا أن شراحها كثيرون، ومن أوائل من شرح العقيدة الصغرى تلميذه ومترجمه محمد بن عمر الملالي (¬2)، كما تناولها أحمد بن أغادير الذي كان، كما يقول ابن عسكر، من جبال بني راشد. ونحن لا نعرف عن هذا الشرح أكثر مما ذكره عنه صاحب (دوحة الناشر). فقد قال إن كتب ابن أغادير كانت منبعا للباحثين، ولا سيما في علم التوحيد والشريعة، كما أنه قد نسب إليه (تعاليق) لا ندري موضوعها. ولكن شهرة ابن أغادير ظلت كشهرة السنوسي وابن زكرى، تقوم على علم ¬

_ (¬1) (دوحة الناشر) لابن عسكر (الترجمة الفرنسية)، 205، وعن ابن زكرى انظر الفصل الأول من الجزء الأول. (¬2) الخزانة الملكية بالرباط، رقم 9073، مجموع، والشرح في حوالي 26 ورقة.

التوحيد (¬1). وحوالي نفس الفترة قام الشيخ عمر الوزان في قسنطينة بشرح الصغرى أيضا (¬2). ومن تلاميذ الوزان عبد الرحمن الأخصري، الذي شرح أيضا صغرى السنوسي، وهو الشرح المذكور ضمن مؤلفاته (¬3). وقد عرف الأخضري بنظم العلوم المختلفة ومنها مسائل التوحيد، وينسب إليه رجز في ذلك أيضا. ولكن ليس من المعروف ما إذا كان قد شرحه بنفسه. ومن الذين كتبوا عن العقيدة الصغرى للسنوسي وتناولوها بالتدريس والتعليق، سعيد قدورة. فقد كان من مشاهير المدرسين، كما سبق. وكان لا يكاد يترك علما يدرسه لطلابه إلا ووضع عليه شرحا أو حاشية. ومن ذلك شرحه لعقيدة السنوسي. فقد درسها لطلابه متنا وشرحا، ثم بدا له أن يضيف إلى شرح السنوسي نفسه فوائد كان قدورة يستحسنها وزوائد كان قد قيدها من هنا وهناك، وقرر أن يجعل كل ذلك (حاشية) على الشرح المذكور. وقد اتبع قدورة في حاشيته نفس الأسلوب المتبع عندئذ وهو شرح الألفاظ والمعاني والاستنتاج بالتعاليق الدينية وما يجر إليه الظرف من أحكام (¬4). وهناك عالم آخر لم يبلغ شهرة قدورة ولكنه لا يقل عنه ورعا وعلما، وهو مصطفى الرماصي. فقد وضع أيضا حاشية على شرح صغرى السنوسي. وبعد أن أشار إلى أن الصغرى عظيمة الفائدة (لبركة مؤلفها) وأن السنوسي أشهر من ألف في عمل الكلام رغم كثرة المعتزين به، قال إن بعض المعاصرين من إخوانه قد طلبوا منه وضع حاشية عليها فأجابهم إلى طلبهم. ¬

_ (¬1) (دوحة الناشر) 222، وبناء عليه فإن ابن أغادير مات في بداية العقد الخامس من القرن العاشر. (¬2) (نيل الابتهاج) 197. (¬3) انظر لوسياني ترجمة (السلم)، 5 - 6، وقد عد الورثلاني حوالي ثلاثين تأليفا للأخضري. انظر أيضا (العقد الجوهري) لأحمد بن داود، وهو مخطوط خاص، وكذلك الخزانة العامة بالرباط، رقم د 3228. (¬4) المكتبة الملكية بالرباط، رقم 4496 مجموع، والمكتبة الوطنية بتونس (ح. ح. عبد الوهاب)، رقم 18713.

ولم يذكر الرماصي المنهج الذي سار عليه في تعليقه بل دخل مباشرة في عمله فبدأ يبين ألفاظ ومعاني كلام السنوسي. فكلامه إذن كلام تقليدي، وإنما أضاف إليه معارفه الخاصة وأسلوبه. وهذه الحاشية تعتبر جهدا ضخما إذا حكمنا من حجمها (¬1). وقام الورتلاني بشرح وتحشية عمل السنوسي أيضا. فالورثلاني، كما عرفنا، كان مولعا بعلم التوحيد، وقد ناقش فيه علماء الخنقة وانتصر له وبين أنه ضرورى لمعرفة الله، وأنه ضروري أيضا للمتصوف. وكان السنوسى، الذي يسمونه أحيانا (شيخ الموحدين) قد قال عن علم الكلام (ليس علم من علوم الظاهر يورث معرفته تعالى ومراقبته إلا علم التوحيد وبه يفتح له في فهم العلوم كلها. وعلى قدر معرفته به يزداد خوفه منه تعالى وقربه منه) (¬2). لذلك وضع الورثلاني شرحا على خطبة أو مقدمة شرح السنوسي على صغراه، كما وضع حاشية على شرح السكتاني المراكشي على صغرى السنوسي أيضا. وقد أخبر الورثلاني في رحلته أنه أطلع الشيخ الحطاب في مصر على هذين العملين فاستحسنهما، وكان ذلك أثناء توجهه إلى الحج (¬3). ومن هذه الإشارة نفهم أن الورثلاني قد أكمل الشرح والحاشية. والورثلاني من العلماء القلائل الذين وضعوا أيضا شرحا على وسطى السنوسي. وهذا كله يبرهن على عنايته بعلم التوحيد. ولكن الورثلاني لم يكن وحده في هذه العناية. فقد عرفنا أن معظم العلماء كانوا يدرسون علم التوحيد ويكتبون فيه. ومن هؤلاء ابن مريم. فهو تبعا لمدرسة السنوسي، قد جمع أيضا بين التصوف وعلم الكلام وألف في الاثنين. ومن تآليفه في علم الكلام (كشف اللبس والتعقيد عن عقيدة أهل ¬

_ (¬1) الخزانة العامة بالرباط، ك 2499، مجموع، والنسخة التي اطلعنا عليها نسخها يحيى بن عبد القادر بن شهيدة بتلمسان سنة 1236، وقد انتهى الرماصي من حاشيته سنة 1105، وتبلغ حوالي ثلاثمائة صفحة. (¬2) روى ذلك ابن مريم في (البستان) 277. (¬3) الورتلاني (الرحلة) 284.

التوحيد)، وشرح له على مختصر الصغرى للسنوسي (¬1). كما قام الشيخ خليفة بن حسن القماري بشرح الصغرى أيضا، والظاهر أنه شرح كبير لأنه قد قسمه إلى خمسة أقسام وجعل كل قسم أجزاء، وهكذا (¬2). ورغم عناية ابن حمادوش بالفلك والطب فإنه تأثر بتيار العصر فكتب شرحا على العقيدة الكبرى سماه (مباحث الذكرى في شرح العقيدة الكبرى). وقد قال إنه مزج به ألفاظها واستخرج به نضارها (فجاء بحمد الله يرضي الناظرين ويعين القاصرين، مشتملا على خمسة وستين مبحثا)، وأخبر ابن حمادوش أن شرحه قد اشتمل على تسع عشرة كراسة (¬3). وقد وضع محمد بن عبد المؤمن أرجوزة في العقائد والفروع، كما سبق، وجعل جزأها الأول في العقائد أو علم الكلام وبدأها بقوله: الله موجود قديم باقي ... مخالف للخلق بالإطلاق وقائم بنفسه وأحد ... ذاتا وفعلا صفة يعتقد ثم الوجود صفة نفسية ... والخمسة الأخرى غدت سلبية وأرجوزة ابن عبد المؤمن، بقسميها، سهلة واضحة، لأن صاحبها أيضا من العلماء الأدباء والأدباء العلماء كما يقول ابن حمادوش. وقد أجاز ابن عبد المؤمن بهذه الأرجوزة الرحالة المغربي ابن زاكور ورخص له في شرحها إذا أراد (¬4). وقد أصبحت (إضاءة الدجنة في عقائد أهل السنة) لأحمد المقري تنافس عقيدة السنوسي في الأهمية. فقد عرفنا أن المقري كان من المبرزين في الحديث والتوحيد بالإضافة إلى الأدب والتاريخ، وهو على خلاف معظم علماء عصره لم يكن من المتصوفة. كتب المقري (إضاءة الدجنة) نظما بلغ فيه حوالي خمسمائة بيت تناول فيها أصول الدين وقضايا التوحيد. وقام ¬

_ (¬1) ذكر ذلك ضمن كتبه في (البستان) 314. (¬2) محمد الطاهر التليلي (إتحاف القاري)، مخطوط خاص. (¬3) ابن حمادوش (الرحلة)، وهي الآن مطبوعة. (¬4) ابن زاكور (الرحلة) 17.

بتدريسها في مكة ومصر ودمشق، وأجاز بها بعض العلماء الذين كانوا يحضرون درسه فيها، ومنهم أحمد الشاهين بدمشق. وقد لخص المقري كل ذلك في هذه الأبيات: وإنني كنت نظمت فيه ... لطالب عقيدة تكفيه سميتها (إضاءة الدجنة) ... وقد رجوت أن تكون جنه وبعد أن أقرأتها بمصر ... ومكة بعضا من أهل العصر درستها لما دخلت الشاما ... بجامع في الحسن لا يسامي (¬1) ولأهميتها وسلاستها قام عدد من العلماء بشرحها. ولا يعرف أن ناظمها قد شرحها بنفسه اللهم إلا إملاءاته على طلابه حين تدريسها. فقد أخبر المقري أن معاصره عبد الكريم الفكون القسنطيني كان ينوي وضع تقييد على (إضاءة الدجنة) (¬2). ولا ندري إن كان الفكون قد قام فعلا بذلك، فقد رأيناه شديد النقد للمقري في أخلاقه، كما أن الفكون لم يذكر ذلك في مؤلفاته التي أشار إليها في كتابه (منشور الهداية). والغالب على الظن أنه لم يفعل. ولكن الذي قام بشرحها فعلا وأعجب بصاحبها هو محمد بن المختار بن الأعمش العلوي الشنقيطي. وذكر محمد بن الأعمش دافعه في وضع شرح على (إضاءة الدجنة) وهو كون المقري قد جعلها (في نظم عجيب وأسلوب غريب. ونفخ فيها ما في المطولات بأوجز لفظ وأحسن ترتيب). والملاحظ أن ابن الأعمش قد اعتمد في شرحه على عقائد السنوسي أيضا (¬3). وهناك شروم أخرى على إضاءة الدجنة (¬4). ¬

_ (¬1) (نفح الطيب) 3/ 101، وهو يشير بـ (فيه) إلى علم الكلام وبالجامع إلى الجامع الأموي بدمشق. (¬2) نفس المصدر 3/ 240. (¬3) المكتبة الوطنية - باريس، رقم 2443 مجموع، واسم شرح الشنقيطي هو (فتوحات ذي الرحمة والمنة في شرح إضاءة الدجنة). (¬4) نفس المصدر، رقم 5432، مجموع.

ولمحمد بن الترجمان رسالة في التوحيد سماها (الدر الثمين في تحقيق القول في صفة التكوين). والنسخة التي اطلعنا عليها منها يبدو أنها بخط المؤلف نفسه، الذي عاش في القرن الثاني عشر للهجرة. ورغم قصرها (خمس ورقات) فقد تناول فيها ابن الترجمان أهم المسائل التي كانت تدور بين الأشعرية والماتريدية. ورتبها على فصول ومقدمة وخاتمة. أما المقدمة فعن مدلول التكوين لغة وما يتعلق به، وأما الفصول الثلاثة فهي كما يلي: 1) في تحقيق مذهب الماتريدي في صفة التكوين. 2) في تحقيق مذهب الأشعري فيه. 3) في مسائل اختلف فيها الأشعرية والماتريدية من علم الكلام. وقد جعل الخاتمة في بيان الخلاف بين أهل السنة والمعتزلة في صفات الأفعال. ويبدو ابن الترجمان، الذي لا نعرف عن حياته الآن إلا النزر اليسير، متمكنا من المسائل الخلافية وكأنه كان من أعيان رجال الدين والفلسفة في زمانه. وقد جاء في خاتمة الرسالة ما يلي: (قاله وكتبه الفقير إلى رحمة ربه المنان، أسير ذنبه محمد بن الترجمان، الشريف الجزائري) (¬1). ومن جهة أخرى ذكر ابن سليمان أن لشيخه بلقاسم بن عثمان الدارجي كتابا سماه (كتاب الحقائق) نقل منه ابن سليمان كلام هذا الشيخ في عقائد السنوسي وغيرها (¬2). وقد فاخر أبو راس بأنه لم يتفوق عليه في كثرة التأليف إلا السيوطي، ومن تآليفه بالطبع ما يتناول مسائل التوحيد وقضايا الدين عموما. من ذلك (الزهر الأكم في شرح الحكم) في التوحيد، و (رحمة الأمة في اختلاف الأئمة)، و (قاصي الوهاد في مقدمة الاجتهاد) كلاهما في المذاهب. وحين عد أبو راس تأليفه جعل التوحيد أحد أقسامها. وكان ولوعا بمناقشة مسائل ¬

_ (¬1) المكتبة الوطنية - الجزائر، رقم 2187، النسخة التي رأيناها عليها تملك السيد مصطفى ابن الحاج أمحمد خزناج بالشراء سنة 1224. عن ابن الترجمان، انظر سابقا. (¬2) ابن سليمان (كعبة الطائفين) 3/ 122.

علم التوحيد مع علماء عصره في حله وترحاله، حتى أنه سجل من ذلك في (عجائب الأسفار) وفي غيره عدة مسائل تناقشها معهم في الجزائر وتونس ومصر والحجاز. كما سجل ملاحظاته على علاقة الوهابية بمذهب الإمام ابن حنبل. ورغم سيطرة التصوف على علماء العصر فإن أبا راس لم يكن من المتصوفة، وكان في حياته العلمية والدنيوية شبيها بأحمد المقري: كثير الحفظ والتأليف، كثير المدح للأمراء والأعيان، غير أن المقري كان أقوى منه أدبا، ولا نستغرب بعد ذلك أن نجد أبا راس قد قام بشرح صغرى السنوسي، فهو لم يكد يترك متنا إلا شرحه، حتى أنه قد شرح بعض الأعمال ثلاث مرات. وكل من عبد العزيز الثميني ومحمد بن العنابي قد اهتم بالتوحيد أيضا، وكان كلاهما من رجال الدين البارزين في عصرهما. أما الثميني فقد اهتم بقضايا المذهب الإباضي الفقهية والاجتماعية، ولكنه لم يهمل علم الكلام، فقد ذكر له من تآليفه فيه شرح يدعى (النور) وهو على النونية في علم الكلام. كما أن كتاب (التاج) الذي اختصر فيه (منهاج الطالبين) لخميس العماني يتناول مسائل التوحيد والفقه (¬1). أما ابن العنابي فقد تناول مسائل كثيرة في التوحيد في فتاويه الكثيرة، ولكن أهم ما سجلناه له هو جوابه على سؤال وجه إليه وكتبه بخط يده في رسالة صغيرة. وقد افتتح الجواب بهذه العبارة (ورد علي سؤال نصه، بعد عنوان، إذا قيل حيث كان أهل الحق مطبقين على أن الحق تعالى يرى في الآخرة بالأبصار وأن الرؤية عبارة عن الإدراك. فأقول، اعلم أن المدركات تنقسم إلى ما يدخل في الخيال كالصور المتخيلة والأجسام المتلونة المتشكلة، وإلى ما لا يدخل في الخيال كالذات العلية وكل ما ليس بجسم كالعلم والقدرة والإرادة وغيرها ..) وقد قارن ابن العنابي في إجابته بين مذهب أهل السنة ومذهب المعتزلة في هذه المسألة، ولكنه غلب في النهاية مذهب أهل السنة قائلا: (ونحن لا نقول به (يعني مذهب ¬

_ (¬1) مقدمة كتاب (النيل) 1/ط الجزائر، 1967.

يحيى الشاوي

المعتزلة) لضيق مجاله فنسلمه لأربابه، سالكين مسلك الجمهور من أهل السنة لوضوح أدلتهم ..) (¬1). ولا شك أن هناك من علماء الجزائر من ألف في التوحيد أيضا، غير من ذكرنا، ولكن إنتاجهم لم يصل إلينا. ومن هؤلاء عبد القادر بن خدة الراشدي (¬2)، وأحمد المقري (¬3)، فقد كانا من رجال الفتوى والقضاء، كما كانا مدرسين ومؤلفين (¬4). ومن جهة أخرى وضع عبد الرحمن باش تارزي نظما في كلمتي التوحيد ثم شرحه بنفسه وسمي الشرح (غنية المريد في شرح نظم مسائل كلمتي التوحيد) (¬5). وهو مطبوع متداول. ولأهمية يحيى الشاوي في علم الكلام رأينا أن نفرد له ترجمة في آخر الحديث عن إنتاج الجزائريين في هذا العلم. يحيى الشاوي إذا حكمنا على يحيى الشاوي من مؤلفاته فإنه يعد من كبار علماء الظاهر في القرن الحادي عشر (17 م). ذلك أن معظم مؤلفاته لا تكاد تخرج عن التوحيد والنحو والمنطق، وهي جميعا من علوم أهل الظاهر. كما أن سيرته تدل على أنه كان كذلك. فقد طاف في البلاد الإسلامية من الجزائر إلى ¬

_ (¬1) الخزانة العامة بالرباط، رقم ك 1089 مجموع، 55 - 58، وكتب ابن العنابي الجواب المذكور سنة 1228 بخط يده، أما النسخة المشار إلها فمنسوخة بخط مغاير لخط المؤلف، انظر كتابنا عنه (المفتي الجزائري ابن العنابي) الجزائر، 1977. (¬2) له شرح على عقيدة السنوسي أيضا، الخزانة العامة بالرباط 2421 د مجموع، حوالي ثلاثين صفحة. (¬3) للمقري في ذلك (إتحاف المغرم المغري بتكميل شرح الصغرى)، منه نسختان في الخزانة الملكية بالرباط، 5928، 3544. (¬4) ينسب للشيخ التواتي (الذي لا نعرف عنه الآن أكثر من اسمه) عمل في التوحيد أيضا عنوانه (غنية الراغب ومنية الطاب)، في 440 صفحة، الخزانة العامة بالرباط، 2372 د. (¬5) طبع تونس 1322، 352 صفحة مع قصائد صوفية.

مصر والحجاز ودمشق وإسطانبول واتصل بالوزراء والسلاطين والوجهاء، ونال حظوة عندهم، كما أنه كان من نقاد العصر وأهله. وهذا كله دليل على أنه لم يكن من المتصوفة أو علماء الباطن. وهو في هذا يذكرنا بمكانة معاصريه ومواطنيه عبد الكريم الفكون وأحمد المقري وعيسى الثعالبي، ولكنه، مع ذلك، يظل متميزا عنهم باختصاصه وشخصيته. ولد يحيى بن محمد بن محمد الشاوي النائلي (¬1) في مليانة في تاريخ لا نعرفه بالضبط ولكنه لا يخرج عن أوائل القرن الحادي عشر. وقرأ بمسقط رأسه على الطريقة المتبعة عندئذ في الكتاتيب من حفظ القرآن الكريم وحفظ المتون وبدايات العلوم. ولم نكن نعرف أن مليانة عندئذ كانت تعيش حياة علمية مزدهرة أو كان فيها علماء بارزون. غير أننا نعرف أن زاوية أبهلول المجاجي قرب تنس، كانت مشهورة بعلمائها وطلابها. فكان أهل تلك النواحي (ومنهم أهل مليانة) يقصدونها للقراءة الثانوية قبل أن ينتشروا في الأرض بحثا عن المزيد من العلوم في مدينة الجزائر وفي تلمسان، وفي فاس وغيرها. ومن أجل ذلك وجدنا سعيد قدورة قد تتلمذ على شيخ الزاوية محمد بن علي أبهلول كما سبق، قبل أن يتوجه إلى المغرب لمواصلة دراسته. ولعل يحيى الشاوي قد سار على نفس الدرس. فقد عرفنا من سيرته أنه تلقى العلوم على محمد بن محمد أبهلول، وهو نفس الشيخ الذي درس عليه قدورة أيضا بعض الوقت. وبعد أن قضى الشاوي فترة في زاوية أبهلول المجاجي لا ندري كم طولها، توجه إلى تلمسان فأخذ بها العلم على بعض شيوخها الذين لا نعرف منهم الآن سوى سعيد المقري الشهير. فهل توجه الشاوي بعد ذلك إلى فاس؟ ذلك ما لا ندريه الآن، لأننا لم نجد في سيرته أنه زار المغرب الأقصى. ¬

_ (¬1) ترجمته في (خلاصة الأثر) 4/ 486 - 488 وفي (الأعلام) 9/ 214، انظر أحمد توفيق المدني، عثمان باشا 82، وفي (نشر المثاني) 2/ 452 (الترجمة الفرنسية)، وقد أضفنا إلى هذه المصادر ما استقيناه من آثاره من مصادر أخرى، انظر عنه رحلة العياشي، وفي رده المسمى (النبل الرقيق) أخبار عن حياته وآرائه.

لكن من المؤكد أن يحيى الشاوي قد قضى فترة من الوقت في مدينة الجزائر تلميذا ومدرسا. فالمعروف عنه أنه تتلمذ فيها على شيخيها البارزين عندئذ، علي بن عبد الواحد الأنصاري، وسعيد قدورة. وقد توفي الأول سنة 1057 وتوفي الثاني سنة 1066. وهذا يعني أن الشاوي كان بمدينة الجزائر قبل 1057. وفي وقت لاحق تتلمذ الشاوي على عيسى الثعالبي قبل مغادرة هذا الجزائر سنة 1061. ويبدو أن يحيى الشاوي قد زار أيضا قسنطينة وعنابة وبجاية لأخذ العلم، ولكننا لا نملك دليلا الآن على ذلك. ولا نعرف أن الشاوي أثناء إقامته بالجزائر، قد تقرب من السلطة الحاكمة، كما فعل أساتذته (قدورة والأنصاري والثعالبي)، ولكن هذا الجو المشحون بالتوتر والطموحات والمنافسات سيؤثر عليه لا محالة بقية حياته، بعد أن سافر إلى المشرق. ومهما كان الأمر فإن منابع العلم في الجزائر، على طولها وعرضها، لم ترو ظمأه فاختار الرحلة إلى المشرق. ولا ندري الآن إن كان وراء رحلته هذه عامل سياسي (¬1)، كما كان وراء رحلة المقري والثعالبي عوامل سياسية. لا شك أن الشاوي تلقى في الجزائر العلوم المدروسة عندئذ وهي التفسير والتوحيد والحديث والفقه والنحو والمنطق. وقد اشتهرت زاوية أبهلول المجاجي بالتفسير والحديث كما عرفنا. وقد عرفنا أن الشاوي قد أخذ على الأقل علم المنطق عن عيسى الثعالبي. ذلك أنه اضطر إلى أن يسير مع الثعالبي ثماني مراحل، وهو في طريقه إلى المشرق، لكي يأخذ عنه علم المنطق، إلى أن تمكن من درسه عليه (¬2). وقد تحدثت مصادر الشاوي أنه ¬

_ (¬1) إذا حكمنا من كلام العياشي، الرحلة 2/ 368، فإن الشاوي كان ينوي الرجوع إلى وطنه بعد الحج، ولكن فاته الركب الجزائري في الإسكندرية فأراد ركوب البحر بدل البر، ثم ظهر له أن يعود إلى القاهرة ويتولى التدريس بالأزهر، وقد عبر العياشي عن ذلك تعبيرا غامضا فقال: (وكان ذلك لأمر أراده الله به) أي بالشاوي. (¬2) (خلاصة الأثر) 3/ 241. كانت علاقة الشاوي بالعياشي صاحب الرحلة علاقة غير ودية، رغم تتلمذهما على عيسى الثعالبي، فقد عرض العياشي بالشاوي في رحلته =

تصدر للتدريس في الجزائر قبل أن يتوجه إلى المشرق. والغالب على الظن أن ذلك كان بمدينة الجزائر، ولا سيما في الفترة التي أعقبت وفاة قدورة والأنصاري وهجرة الثعالبي، أي بين 1057 و 1074 وهو تاريخ هجرته هو إلى المشرق. ولا ندري الآن أين جلس الشاوي للتدريس ومن سانده في ذلك وهل كان موظفا رسميا أو مدرسا حرا. وعلى كل حال فقد كان الشاوي يتمتع بحافظة قوية وذكاء وقاد، ولعله كان صاحب طموح كبير أيضا فلم يجد في الجزائر ما يشبع نهمه العلمي وطموحه الشخصي فاختار الهجرة. وتعكس حياة الشاوي في المشرق هذه الشخصية اللامعة ذات الطموح البعيد. فبعد أداء فريضة الحج عاد إلى مصر سنة 1074 واستقر بها فترة، وفي مصر أخذ العلم على عدد من المشائخ منهم البابلي والمزاحي والشرابلي وأجازوه. كما أنه تولى إفتاء المالكية، وجلس للتدريس في الأزهر فأقرأ الفقه على خليل وشرح المرادي على ألفية ابن مالك وشروح عقائد السنوسي، كما أقرأ شرح الجمل للخونجي في المنطق وتولى التدريس في المدارس المعروفة بالأشرطية والسليمانية والصرغتمية , وقد تتلمذ عليه عدد من العلماء وأجازهم أيضا، كما سبق في الفصل الأول من هذا الجزء، ومن هؤلاء عبد الله بن سالم البصري وعلي بن إبراهيم الأبريججي. وفي دمشق كان للشاوي مجلس علمي مهاب في الجامع الأموي يحضره علماء دمشق. وقد شهدوا له ومدحه شعراؤها، وطلب منه علماؤها الإجازة. وفي إسطانبول حضر الدرس الذي كان يحضره السلطان وشارك في المباحث التي كانت تجري فيه فلفت إليه الأنظار واشتهر بالعلم بين الناس حتى قربه المفتي والوزير الأول هناك. وتكررت زيارته لإسطانبول فكان يحظى في كل مرة بالتقدير من أصحاب السلطة. وفي إسطانبول أيضا جلس لتدريس التفسير والنحو والتوحيد. وقد أجاز بهذه العلوم بعض علماء الشام، ومنهم المحبي صاحب (خلاصة الأثر) وهكذا كانت للشاوي حياة علمية خصبة في ميدان ¬

_ = كما عرض الشاوي بالعياشي في كتابه (النبل الرقيق) الذي سنعرض له.

التدريس وفي ميدان التأليف، كما سنرى. حياة الشاوي في المشرق تذكر المرء بحياة المقري فيه أيضا. فكلاهما هاجر من بلاده بعد أن جرب فيها التدريس والحياة السياسية (¬1). وكلاهما اتخذ الحج طريقا للهجرة ثم استقر في مصر أولا ثم منها إلى غيرها من بلاد العرب والإسلام. وكلاهما كان يتمنع بعلم غزير وبحافظة نادرة وذكاء قوي وطموح شخصي كبير واستعداد لركوب سفينة الحياة والخوض بها لجج البحار هادئة وهائجة. وكلاهما أيضا تقرب من أصحاب الجاه والسلطان ونال عندهم حظوة كبيرة مكنته على الأقل من تحقيق بعض أمانيه العلمية، ولم يجد كل منهما هذه الحظوة في بلاده. وقد كانت للمقري شاعرية قوية تفتح له أبواب الأمراء والعلماء، أما الشاوي فيبدو أن الذي كان يساعده على ذلك هو علمه وشخصيته وجرأته. فقد كان كثير الانتقاد لأهل عصره وغيرهم، وكان يقول إذا اعترض عليه في ذلك أنه بانتقاده لهم مثاب (¬2). وكان، كما يقول المحبي سريع البديهة حسن المحاضرة يجيب بلا تكلف. وفي إجازته لبعض علماء الشام هاجم الفلاسفة لقولهم بنفي الصفات. أقول لكل فلسفي يدينه ... ألا لعنة الرحمن تعلو مزورا أجبريل فلك عاشر يا عداتنا ... أعادي شرع الله نلتم تحيرا بأي طريق قلتم عشر عشرة ... ونفى صفات والقديم تحجرا حكمتم على الرحمن حجرا محجرا ... ومتعكم خلق الحوادث دمرا (¬3) ويبدو أن الشاوي كان سليط اللسان أيضا. فقد كتب رسالة رد فيها ¬

_ (¬1) كان الشاوي بالجزائر عندما هزتها رياح ثورة ابن الصخري التي أشرنا إليها والتي جعلت العلماء يقفون في أغلب الأحوال مع السلطة العثمانية، ويقول خصوم الشاوي إن أمورا قد حدثت له في بلاده أوجبت إخراجه، انظر التعريف بكتابه (النبل الرقيق) في هذا الفصل. (¬2) إجازة أحمد البوني لولده، مكتبة طولقة، وكان البوني من تلاميذ الشاوي. (¬3) (خلاصة الأثر) 4/ 487، ويقول العياشي 2/ 368 عن علاقة الشاوي بمعاصريه (وكثر مادحوه وأكثر منهم ذاموه).

على نور الدين إبراهيم بن حسن الكوراني وحكم عليه فيها بالزندقة بل بالكفر، وطالب بقتله. واسم هذه الرسالة يدل على أن الشاوي كان لا يتورع عن الدخول في المهاترات والخوض في المناظرات إلى أقصى الحدود، إذ هو (النبل الرقيق في حلقوم الساب الزنديق). والمهاترات بين العلماء ليست غريبة في حد ذاتها ولكن اتهام الشاوي للكوراني بالزندقة والكفر والمطالبة بقتله لأجلها هو محل الغرابة. ولا نعتقد أن ذلك كان لضيق أفق الشاوي وإنما لحدة مزاجه. والغريب أيضا أن محمد بن رسول البرزنجي قد انتصر للكوراني وكتب رسالة لاذعة في نقد الشاوي يدل عنوانها فقط على هبوط المستوى العلمي عند الجميع، فهو (العقاب الهاوي على الثعلب العاوي، والنشاب الكاوي للأعشى الغاوي، والشهاب الشاوي للأحول الشاوي) (¬1). ورغم تقرب الشاوي من السلطة فإننا لم نجده قد استخدم علمه للمدح ونحو ذلك. فقد نال حظوة لدى ولاة مصر وعلمائها ولا سيما بعد رجعته الأولى من إسطانبول، فهم الذين مكنوه من التدريس في المدارس المذكورة، وشملوه برعايتهم. وكذلك كان الحال عند عودته إلى مصر ثانية من إسطانبول أيضا فقد تفرغ هذه المرة للتأليف، وبذلك يكون قد دخل مصر وأقام بها ثلاث مرات على الأقل، الأولى بعد الانتهاء من الحج والثانية والثالثة بعد زيارتين لإسطانبول. أما إسطانبول فقد توجه إليها مرتين وفي كلتيهما كان يحظى بالتقدير والتبجيل. ففي الأولى أكرمه شيخ الإسلام يحيى المنقاري والوزير الأول (الصدر الأعظم)، وحضر درس مجلس السلطان كما عرفنا، بالإضافة إلى إكرام كبار الدولة والأعيان له. وفي الثانية أنزله مصطفى باشا، مصاحب السلطان، في داره معززا مكرما. لماذا كل هذه الحظوة والتقدير؟ ذلك ما لا تكشف عنه الوثائق. فالمترجمون للشاوي لا يتحدثون عن ذلك، وإنما يوحي كلامهم أن ذلك يدل ¬

_ (¬1) لدينا صورة من (العقاب الهاوي) وضمنها فقرات مسوقة من (النبل الرقيق) للشاوي. حصلنا على هذه الصورة من مكتبة جامعة برنستون الأمريكية، وهي برقم 978.

على مكانته العلمية. ولكن هذا لا يكفي في نظرنا. فالشاوي كان من الجزائر وهي كانت تتبع السلطنة العثمانية وكان يعرف الكثير عن أحوال الجزائر والمغرب العربي السياسية والعلمية، فإكرامه والحديث إليه وإنزاله تلك المنزلة ليست لشخصه فقط بل لأمور أخرى وراء ذلك. ولعل الأيام تكشف هذه الأمور. والمعروف أن الشاوي قد أكرم في غير إسطانبول بعد زيارته لها امتدادا للعناية الرسمية به. أما في دمشق فيبدو أن احترامه كان قائما على علمه وأن الذين اتصلوا به واتصل بهم هم العلماء وليس الأمراء. واعترافا من الشاوي بفضل السلطان محمد عليه جعل أحد كتبه في النحو باسم هذا السلطان (¬1)، وهو التأليف الذي قرظه له أيضا شيخ الإسلام المنقاري وبعض العلماء الآخرين. حج الشاوي سنة 1074 كما عرفنا، ثم سمي أمير ركب الحجيج المغاربة. وذهب عدة مرات مع قافلة الحجيج إلى مكة (¬2). وفي إحدى هذه المرات حضره أجله، وهو في سفينة الحجاج، سنة 1096، وكان ذلك في أخريات أيامه كما يقول المحبي. فقد اختار أن يسافر إلى الحج بحرا فأدركته الوفاة وهو في بحر القلزم (البحر الأحمر) ودفن برأس أبي محمد. ثم جاء به ولده، عيسى الشاوي، إلى مصر ودفنه في مقبرة المالكية، وهي المقبرة التي كان يحيى الشاوي نفسه قد جددها (¬3). والغريب أن الذين ترجموا للشاوي لم يتحدثوا عن أسرته. فهل جاء بها من بلاده؟ أو تزوج بمصر أو غيرها كما فعل زميلاه المقري والثعالبي؟ ¬

_ (¬1) حكم السلطان محمد بين 1059 و 1099. (¬2) القادري (نشر المثاني) 2/ 452 (الترجمة الفرنسية). وفيه أن وفاة الشاوي كانت سنة 1097، ولعله كان يقود الركب المغربي أكثر من مرة، يقول العياشي (وترقت به (يعني الشاوي) الحال إلى أن تولى إمارة ركب الحاج المغربي فحج به مرتين). (¬3) (خلاصة الأثر) 4/ 486، وكذلك تعليق لمحمد مرتضى الزبيدي وجدته على إحدى مخطوطات زاوية طولقة، تناول فيه باختصار حياة الشاوي، وجعله (شيخ مشائخه)، ويذكر المحبي أن الوفاة قد أدركت عيسى الشاوي أيضا ستة أشهر فقط بعد أبيه، وأنه دفن مكانه.

ألف الشاوي عدة تآليف في النحو والتوحيد وغيرهما. وها نحن نذكر ما عرفنا له منها: 1 - حاشية على شرح أم البراهين (العقيدة الصغرى) للسنوسي في التوحيد (¬1). 2 - التحف الربانية في جواب الأسئلة اللمدانية، في العقائد (¬2). 3 - توكيد العقد فيما أخذه الله علينا من العهد (¬3) (لعله هو نفسه الحاشية على أم البراهين؟). 4 - فتح المنان في الأجوبة الثمان (¬4). 5 - قرة العين في جمع البين (¬5). 6 - نظم لامية في إعراب اسم الجلالة جمع فيه أقوال النحاة وشرحها. 7 - مؤلف صغير في أصول النحو جعله على أسلوب كتاب الاقتراح للسيوطي (وهو الذي جعله الشاوي باسم السلطان وقرظه له شيخ الإسلام). 8 - شرح التسهيل لابن مالك في النحو. 9 - حاشية على شرح المرادي في النحو أيضا (¬6). 10 - النبل الرقيق في حلقوم الساب الزنديق (ردود ومطارحات). 11 - أجوبة على اعتراضات أبي حيان على ابن عطية والزمخشري (في التفسير). وهذه المؤلقات توجد في المشرق، ولا سيما إسطانبول، وبعضها في ¬

_ (¬1) توجد منها نسخة في الخزانة العامة بالرباط، رقم 2097 د مجموع، 212 - 364. (¬2) نفس المصدر، ك 1089 مجموع، 1 - 52. (¬3) بروكلمان 2/ 701، وفيه (فيما أهدى إلينا) بدل (فيما أخذه الله علينا). أيضا محمد بن عبد الكريم، (مخطوطات جزائرية) 23. وبناء عليه أنه في 326 صفحة. (¬4) مكتبة تطوان، 263 مجموع، ولعله هو نفسه (التحف الربانية). (¬5) بروكلمان 2/ 701. (¬6) المؤلفات الأربعة الأخيرة أشار إليها صاحب (خلاصة الأثر) 4/ 488.

المغرب الأقصى وفي تونس. فالحاشية على أم البراهين توجد في المغرب وإسطانبول، والتحف وفتح المنان في المغرب، وحاشية المرادي في إسطانبول وتوكيد العقد في تونس وإسطنبول، وقرة العين في تونس، ولعل منها ما هو موجود في مصر أيضا لأنه عاش فيها. وله إجازات متفرقة كما عرفنا. وقد اطلعنا له من هذه التآليف على أجوبته المعروفة (بالتحف الربانية). ولكون الأجوبة فيها بعض الآراء أكثر من تقرير المسائل تقريرا جامدا، رأينا أن نقدمها هنا. فهي أولا أجوبة على عدة أسئلة وردت عليه من بعضهم في مسائل التوحيد مثل: (هل خلق الله للعالم دفعة واحدة جائز كما هو العقيدة أم مستحيل كما توهمه بعض الطلبة؟) و (ما هو الدليل الجملي الذي يخرج المقلد بمعرفته من الخلاف الواقع، وهل هو حدوث العالم؟). وقد أوضح الشاوي أن الإلحاح عليه من بعض من حضر دروسه في العقائد هو الذي دفعه إلى هذه الأجوبة كما بين أنه لقي أثناء تجواله وترحاله من (طاعته غنم وإجابته حتم). ومن هذا نفهم نحن أن الذي يكون قد طلب منه الأجوبة هو شيخ الإسلام أو الصدر الأعظم وأمثالهما. وقد بنى الشاوي إجابته على (قاعدة المواهب) معتذرا عن التقصير والنقصان. ورغم إيمانه بأن (بعض مدخرات العلوم قد بقيت للمتأخرين مما عسر فهمه على كثير من المتقدمين) فإنه رفض أن يكون مجتهدا أمام رجال السنة عندما سئل عن قول العلماء (إن المصيب في العقليات واحد مع اختلاف أهل السنة كالأشعري والرازي في الأحوال نفيا وإثباتا). فقد قال الشاوي بهذا الصدد (أما ما طلبتم مني من تعيين المصيب من المخطئ في أئمة أهل السنة فهيهات الدخول بين أنياب الحيات لوجوه: أحدها إني لست من أهل الاجتهاد، حتى أخوض تلك الفيافي والوهاد، وثانيها بتقدير اقتحامي وعظيم احترامي .. أكون كواحد منهم واجتهادي كاجتهادهم). وقد يبدو لنا هذا تناقضا من الشاوي مع نفسه فهو من جهة يؤمن بإمكان عسر مدخرات العلوم على فهم كثير من المتقدمين، ومن جهة أخرى لا يجرؤ على مخالفة أقطاب أهل السنة في

التصوف

اجتهادهم. كما أن هذا الموقف قد لا ينسجم مع سلاطة اللسان التي ظهر بها الشاوي في ميادين أخرى. ومهما كان الأمر فإنه قد أجاب على هذه الأسئلة الصعبة في ظرف يومين فقط، وجمع المادة الضرورية (من دواوين عدة، في أقرب مدة) فجاءت في حوالي خمسين صفحة. وهذه الترجمة القصيرة لحياة الشاوي لا تكشف عن جميع جوانب نشاطه العلمي. فقد رأيناه واسع العلم، كثير الترحال، متعدد الاختصاص، مجانبا لعلوم أهل الباطن، حتى اتهمه خصومه بمعاداة أهل التصوف، متبعا طريق أهل السنة، حافظا ومدافعا عن علوم الظاهر في وقت ساد فيه روح التصوف جميع مظاهر الحياة الإسلامية في بلاده وفي المشرق. وقد ساهم هو في إنارة الطريق كزميله وأستاذه الفكون. وإذا كان الفكون قد تراجع في آخر عمره وتصوف، فإن الشاوي قد ظل فيما يبدو على مذهبه الأول. لذلك كان له خصوم وأنصار. وإذا كنا نأسف له على شيء هنا فهو أنه قضى عمره في شرح الشروح وتحشية الحواشي، ولم يعمد إلى طرق أبواب جديدة، كما فعل أحمد المقري. فقد بلغت (حاشية المرادي) حوالي سبعمائة صفحة، وبلغ (توكيد العقد) أكثر من ثلاثمائة صفحة، ولو أنه استعمل علمه الغزير ونقده اللاذع في التأليف في الفلسفة والمنطق ونقد العصر وأهله لكان عمله أجدى للأجيال اللاحقة. ولكن الشاوي، مهما قيل عنه، سيبقى من أبرز علماء عصره لا في الجزائر فحسب ولكن في العالم الإسلامي كله. التصوف: بقدر ما سيطرت روح التصوف على الحياة العلمية والاجتماعية في الجزائر خلال العهد العثماني، بقدر ما كثر إنتاج العلماء في هذا الميدان. فنحن نجد الكثير من الكتب والرسائل والتقاييد والمنظومات التي تتناول التصوف من قريب أو من بعيد كالأذكار والأوراد، والردود، والمناقب، والمواعظ، والحكم، والشروح الخاصة بقصائد صوفية، والمداح النبوية

التي تنظر إلى الرسول (صلى الله عليه وسلم) وسيرته نظرة صوفية روحانية. ومن الطبيعي أننا لن نقدر على تنأول كل ذلك هنا، إما لأن الإنتاج ليس كله في متناولنا، وإما لأن حجم الكتاب لا يسع الجميع. ورغم تقادم الزمن فقد ظلت أعمال ابن صعد (النجم الثاقب) على الخصوص، وأعمال محمد بن يوسف السنوسي، وتأليف أحمد النقاوسي (الأنوار المنبلجة) على قصيدة ابن النحوي، وأعمال الحوضي والجزائري (أحمد بن عبد الله)، وعبد الرحمن الثعالبي ومرائي الفراوسني والمازوني (صلحاء الشلف)، وغيرهم مصدرا هاما للتأليف في علم التصوف وفروعه، فسنرى أن ابن مريم والفكون والورتلاني والبطيوي ومحمد بن سليمان والصباغ القلعي وأضرابهم كانوا يعيشون في الغالب على تراث المذكورين. وقد أصبحت عبارة (الصلحاء) وأصحاب الولاية تتكرر في أعمال المتأخرين وأصبح المؤلفون لا يؤلفون إلا وفي أذهانهم أهل التصوف سواء كانوا معاصرين لهم أو متقدمين عنهم. وكان معظم المؤلفين يقرون الحركات الصوفية والتعمق فيها ولا يتناولون أصحابها بالنقد أو يتهمونهم بخرق قوانين علم التصوف كما شرعه أربابه الأولون، ولا نكاد نجد الاستثناء في هذا الحكم إلا عند الأخضري والفكون في كتابه (منشور الهداية) وبعض الإشارات عند ابن العنابي وابن عمار. فكان صوت الفكون في القرن الحادي عشر شبيها بصوت أبي الحسن الصغير السوسى الذي أمر السنوسي في رسالته (نصرة الفقير) بحرق كتبه، متهما له باتباع علوم أهل الظاهر فقط، بل حكم السنوسي بحرمة النظر في تأليفه (¬1). وكانت حملة الفكون على (فقراء) عصره وابن العنابي على (دراويش) عصره تشبه حملة أبي الحسن على المتصوفة أيضا. وكان الفكون قد جند بعض طلابه وأنصاره ضدهم أيضا فكتب عبد الرحمن البهلولي شعرا في نقد البدع، وانتشرت الدعوة بين بعض ¬

_ (¬1) زاوية طولقة، ضمن مجموع غير مرقم، مخطوط منسوخ سنة 1245 بخط جميل، يقع في اثني عشرة ورقة وكلمة (الفقير) هنا تعني المتصوف، وقد عاش أبو الحسن الصغير بالمغرب في القرن التاسع. انظر أيضا الفصل الأول من الجزء الأول.

المناقب الصوفية

المتعلمين لولا أن العصر كان عصر التصوف وليس عصر الفقه والنظر العقلي. وكان التأليف في التصوف أكثر من تدريسه على عكس بعض العلوم الأخرى. ذلك أن بعضا ممن سنذكرهم من المؤلفين في علم التصوف وفروعه لم يكونوا مدرسين. أما الذين جمعوا بين التدريس والتأليف في التصوف فعددهم قليل أيضا. ومن هؤلاء عمر الوزان الذي سبق الحديث عنه. فقد انقطع للتدريس ورفض منصب القضاء، وجمع بين الفقه والتصوف، وإذا حكمنا من حديث الفكون عنه فإن الوزان كان أولا من أهل التصوف منقطعا لقراءة كتب المتصوفة ومعتنيا بطريقتهم ولا ينفك عن كتب الوعظ والروحانيات، ولكنه بإلهام خارق تحول إلى الحديث الشريف واعتكف على البخاري يحفظه متنا وسندا (¬1). أما محمد أبهلول المجاجي وتلميذه سعيد قدورة فقد اشتهر كل منهما بتدريس التصوف، ولكننا لا نعرف أنهما قد ألفا فيه. المناقب الصوفية: وقبل تناول المناقب نود أن ننبه إلى أننا سنختصر الحديث فيها هنا ونفرد لها في فصل التاريخ والتراجم مكانا خاصا. وحسبنا من المناقب هنا موضوعها، وهو التصوف وحياة المتصوفين وتعداد فضائلهم. ومن أوائل كتب المناقب كتاب (المواهب القدسية في المناقب السنوسية) الذي ألفه محمد بن عمر بن إبراهيم الملالي عن حياة وأعمال محمد بن يوسف السنوسي. وكان الملالي من تلاميذ السنوسي فجمع في كتابه ما سمعه منه ومن أخيه، علي السنوسي، ومن المعاصرين له. ويهمنا هنا أن نلاحظ أن الملالي قد خصص على الأقل فصلين من كتابه للنواحي الصوفية عند السنوسي، وأنه قد خص المقدمة بالحديث عن أحوال الأولياء في الدنيا (لتنشيط النفوس لسماع ما سيأتي) (¬2). ¬

_ (¬1) انظر ترجمة الوزان في فصل التعليم من الجزء الأول. (¬2) تناولنا هذا الكتاب في الفصل الأول من الجزء الأول.

ولعل أحمد بن يوسف الملياني هو أكبر شخصية صوفية خصها المؤلفون بالتقاييد والتآليف والأشعار. فأنت لا تكاد تجد عملا في التصوف لا يشير إلى ترجمة الملياني وحياته الروحية. وقبل أن نورد ذلك نذكر أن من بين مؤلفات الملياني نفسه في التصوف (رسالة في الرقص والتصفيق والذكر في الأسواق) (¬1)، وقد سبق أن عرفنا أن للملياني بعض التآليف الأخرى في التصوف. وإذا كان الملالي من أوائل من عرف بالسنوسي فإن محمد الصباغ القلعي كان من أوائل من عرف بالملياني، حتى أصبح كتابه عنه مصدر كل الدراسات عن أحمد بن يوسف وعن الحياة الصوفية عموما في الجزائر خلال القرن العاشر، ونعني به (بستان الأزهار في مناقب زمزم الأبرار، ومعدن الأنوار، سيدي أحمد بن يوسف الراشدي النسبة والدار). وحياة الصباغ تكاد تكون مجهولة، فهو محمد بن محمد بن أحمد بن علي الصباغ القلعي (نسبة إلى قلعة هوارة) القريبة من تلمسان. فهو إذن من بلد الملياني. وقد ولد الصباغ حوالي سنة 923. فقد ذكر أنه كان ما يزال رضيعا لم تنبت أسنانه عندما انهزم الأتراك أمام جيش أبي حمو الذي كان يسانده الإسبان، وذلك سنة 924 (¬2)، وكان والد الصباغ، المعروف بابن معزة (بتشديد الزاي)، من أتباع أحمد بن يوسف، وكان يدافع عن شيخه ويلازمه ويغسل ثيابه ويعتقد فيه. وقد مات في المعركة التي سقطت فيها القلعة، ومات فيها إسحاق أخو خير الدين بربروس سنة 924. وكان ابن معزة أيضا من المشتغلين بالعلم والشعر، وكان دفاعه عن شيخه ضد خصومه بالشعر. أما محمد الصباغ القلعي فنعرف أنه تولى بعض الوظائف، ومنها قضاء القلعة، وهي وظيفة ¬

_ (¬1) الخزانة العامة بالرباط، رقم 2792 د. (¬2) أشار إلى ذلك بودان (المجلة الإفريقية) 1925، 129، من الذين نقلوا كثيرا عن الصباغ القلعي مؤلف (كعبة الطائفين) الذي عاش في القرن الحادي عشر. وقد قال عنه إنه هو (قاضي الجماعة بمجاش (؟) هوارة، محمد الصباغ بن القاضي القلعي. 1/ 295، ووجدناه في شرحه على الأجروبة الآتي ذكره منسوبا إلى هوارة (الهواري) بدلا من (القلعي).

هامة لا يشغلها عادة إلا من كان من الفقهاء، ومهما كان الأمر فإن القلعي كان من تلاميذ الملياني ومن علماء القرن العاشر الذين غلب عليهم الميل إلى التصوف. ولم يؤلف الصباغ القلعي كتاب (بستان الأزهار) فقط. ذلك أن له شرحا في أسماء الله الحسنى، وشرحا آخر في الأذكار، وله أيضا (شفاء العليل والفؤاد في شرح النظم الشهير بالمراد)، وهو شرح على قصيدة إبراهيم التازي المعروفة بالقصيدة المرادية في التصوف أيضا والتي مطلعها: مرادي من المولى وغاية آمالي ... دوام الرضى والعفو عن سوء أحوالي وتنوير قلبي بانسلال سخيمة ... به أخلدتني عن ذوي الخلق العالي وإسقاط تدبير وحولي وقوتي ... وصدقي في الأحوال والفعل والقال (¬1) ولكن شهرة الصباغ، الذي ألف أيضا في النحو، قامت على كتابه (بستان الأزهار) (¬2)، وهو الكتاب الذي جمع فيه أخبار الملياني من الجيل الذي تلاه، وكان الصباغ فيه لا يكاد يفصل التاريخ والوقائع عن الحكايات والأساطير (¬3). وكان (بستان الأزهار) موضع اختصار لبعض المهتمين بحياة الملياني. ذلك أن الصباغ القلعي قد أكثر في كتابه من الحشو والأخبار المفصلة فعمد بعضهم إلى اختصاره، وأخذ منه ما يتعلق مباشرة بحياة وسيرة الشيخ الملياني. من ذلك (مناقب أبي العباس أحمد بن يوسف الملياني الراشدي) (¬4) وما ذكره صاحب (الإعلام بمن حل مراكش) (¬5)، كما قام أحدهم بتلخيصه ¬

_ (¬1) عن إبراهيم التازي انظر الفصل الأول من الجزء الأول. (¬2) انظر بروكلمان 2/ 362 عن مؤلفات الصباغ وأماكنها. (¬3) توجد من (بستان الأزهار) عدة نسخ مخطوطة منها اثنتان بالمكتبة الوطنية بالجزائر. انظر أيضا النسخة المطبوعة منه سنة 1927 بالجزائر بإشراف الشيخ محمد بن محمد بن عبد الله الهاشمي الذي قابلها على أربع نسخ. (¬4) الخزانة العامة بالرباط، رقم 1427 د ورقم 1471 د. وهو لمؤلف مجهول. (¬5) ج 1/ 185. وهو عباس بن إبراهيم المراكشي.

لمحمد الورتلاني (¬1)، ومن ذلك رسالة (عقد الجمان في تكملة البستان) التي جمعها الشيخ محمد بن الهاشمي، ونشرها مع النسخة المطبوعة من (بستان الأزهار). ولا بد من الإشارة هنا إلى كتاب الشيخ علي بن موسى الجزائري المسمى (ربح التجارة) والذي تناول فيه حياة أحمد بن يوسف الملياني معتمدا على تأليف الصباغ القلعي. ويتبين مما ذكرناه مكانة محمد الصباغ القلعي في التصوف، فهو مؤلف وشارح وجامع لأخبار الأولياء والصلحاء، وهو لذلك مصدر هام عن حياة التصوف في القرن العاشر. ومن الغريب أن يجمع هذا الشيخ بين حياة التصوف وبين القضاء الذي يقتضي علما واسعا بالفقه والأحكام وقضايا الناس. وتعتبر أرجوزة (الفلك الكواكبي) في أولياء منطقة الشلف لأبي عبد الله بن المغوفل، أهم عمل عالج هذا الموضوع بعد (صلحاء وادي الشلف) لموس المازوني (¬2)، وقد توفي ابن المغوفل سنة 1023، وكان من المرابطين البارزين، ولأهميته حاول العثمانيون الاستفادة من نفوذه الروحي في أول عهدهم. وتذكر المصادر أن ابن المغوفل قد ظهر أمره وهو ما يزال في تونس، وأن المشيخة قد أعطيت له هناك، ثم جاء منطقة الشلف ونزل بومليل حيث ظل يتعبد، ثم انتقل إلى نديلة التي ظل بها إلى وفاته. وكان لابن المغوفل ستة أولاد، اثنان منهم قد رافقا الحملة العثمانية على تلمسان. ويعتبر ابن المغوفل من أصحاب الكرامات، وله قبة بناحية الشلف. وقد قيل إن بعض الناس كانوا يتبركون بأرجوزته فيكتبونها أو ينسخون منها جزءا ويضعونه في خزائنهم للتبرك. ومهما كانت قيمة الشيخ الروحية فالذي يهمنا منه الآن عمله العلمي، وهو أرجوزته في أولياء وصلحاء الشلف، وقد تحدث فيها على نسب هؤلاء الرجال وعلى مواطنهم، واعتبر ذلك خدمة لأهل الطريقة (القادرية؟) وسلما ¬

_ (¬1) المكتبة الوطنية - باريس، رقم 6748. (¬2) انظر عنه الفصل الأول من الجزء الأول.

للوصول إلى آداب الطريق وإلى الحقيقة، وكتب ذلك بأسلوب موجز مقربا به ما بعد من المسائل والمعارف قائلا: وبعد فالقصد بهذا الرجز ... تقريب ما نأى بلفظ موجز سميته (بالفلك الكواكبي) ... وسلم الراقي إلى المراتب أعني مراتب السلوك للمريد ... في الابتدا والانتهاء للمزيد وجمع ابن المغوفل أخبار أولياء الشلف في عدة قرون (من السادس إلى التاسع). فتحدث عن أخبارهم وعن مناقبهم، وسمي يعفهم أهل الغوث وآخرين البدور. وتحدث عن خصائص المريدين والأولياء ودرجات كل منهم وسلوكهم نحو الآخرين. والغرص من ذكرهم، كما قال، هو التبرك بهم لينتبه الغافل ويتوب المذنب. ومن هؤلاء الشيوخ رجال سكنوا قرية (البطحاء) لكن قبورهم قد درست باندراسهم إلا ما ندر كالشيخ أبي عمران موسى الشاذلي الذي (أفاق) وسكن قرية أخرى، وهو من علماء الظاهر والباطن، ومن أشراف هوارة. ومنهم أيضا أبو أيوب، والبزاغتي (¬1)، وراشد، وعبد الجليل المسيلي، وابن أبي العافية، والسعدي صاحب الكرامات التي أخاف بها الأمير لولا أن هذا قد طلب العفو منه وأرسل إليه الهدية فعفا عنه ورضي، ومنهم أحمدوش الملقب بالأحمد الزاهد الذي كان يتقن تجويد القرآن والذي أصبح معلما للصبيان بأجرة مع لذيذ الطعام. وبالإضافة إلى هؤلاء هناك آخرون بغرب وشرق وجنوب القلعة يدافعون عن البلاد، وهم حراس لها ضد ظلم الحكام ولكن (انعكس الأمر بسوء الحال) فذل العزيز وفقر الغني. وذكر المغوفل بعد ذلك شيوخ شيوخه، وخص بالذكر علي الجوثي (؟) الذي قال إن الأرض قد ازينت به وأنه حمل لواء العلم وكان يجمع بين السنة والتصوف وكان يجيد الحديث والتفسير والمنطق والأدب. (فالزمان لا يأتي بمثله) (¬2). ¬

_ (¬1) عن عائلة البزاغتي انظر لاحقا العلماء الذين تولوا في العهد الفرنسي. (¬2) المكتبة الوطنية - الجزائر، رقم 2259. نسخة نسخها السيد محمد الصادق بن التهامي سنة 1296.

والظاهر أن ابن المغوفل كان بسيط المعرفة وأنه سجل في هذه الأرجوزة ما وسعته ذاكرته أو أخبره به الناس ووجده في بعض المصادر عن حياة صلحاء الشلف. وعمله محشو بالأساطير والخرافات والتقاليد الشعبية أكثر من بعض الأخبار والحقائق العلمية. ولكن عمله، على كل حال، يعكس روح العصر (¬1). ومن الذين تأثروا بالصباغ القلعي وبابن صعد وبالملالي، ابن مريم صاحب (البستان في ذكر الأولياء والعلماء بتلمسان). وإذا قارنا بين مؤلفات ابن مريم ومؤلفات الصباغ القلعي وجدنا بعض التشابه. ومن المؤكد أن والد ابن مريم قد عاصر القلعي. فقد توفي هذا الوالد سنة 985 والغالب على الظن أن القلعي قد عاش إلى نحو ذلك التاريخ أيضا. وكان والد ابن مريم معلما للصبيان، وهي مهنة لا تحتاج إلى علم غزير وفقه عميق، وكل ما تحتاجه هو حفظ القرآن الكريم وبعض المتون ومبادئ العلوم، فإذا عرفنا أن ابن مريم قد ورث هذه المهنة على والده أدركنا أيضا أن ابن مريم، كما تدل على ذلك تآليفه، كان في نفس مستوى أبيه تقريبا. فهو لم يبلغ مبلغ علماء أسرة العقباني أو المقري أو العبادي أو ابن زكري في تلسان، وهذا يفسر إعجابه ربما ببعض العلماء ونظرته إليهم نظرة القداسة لأنه لم يصل إلى مستواهم العلمي، لذلك كثر في (البستان) وصف العلماء بالكرامات والخوارق، والخلط بين العلماء والصلحاء، ولعل ناحية التصوف تمثل ابن مريم في كتابه أكثر مما تمثله ناحية الفقه والعلوم العملية. يضاف إلى ذلك أن قائمة الكتب التي ذكرها لنفسه في آخر كتابه تدل على كونه من (أهل الله) أكثر من كونه (من أهل العلم). فقد ألف حوالي اثني عشر كتابا كلها في التصوف وفروعه. أما كتابه (البستان) فسنتناوله في باب التراجم (¬2). ¬

_ (¬1) يعرف المغوفل ببوعبدل أيضا وهو المشهور في مؤلفات الغرب الجزائري القديمة. ومن أولاده محمد بن أفغول الذي كان معاصرا لابن سليمان مؤلف (كعبة الطائفين) وقد ذكر أنه من الصالحين الذين أخذ عنهم 3/ 122. (¬2) ألف ابن مريم (البستان) سنة 1011.

ويبدو أن حياة ابن مريم لم تتوفر لمترجميه حتى الآن لذلك كان جل اعتماد من ترجم له على ما ذكره هو في آخر كتابه (البستان) (¬1). والسبب في ذلك على ما يظهر عدم اطلاع هؤلاء المترجمين على عمل تلميذه عيسى البطيوي، صاحب كتاب (مطلب الفوز والفلاح في آداب طريق أهل الفضل والصلاح). ومن حسن الحظ أننا اطلعنا على هذا العمل وأخذنا منه ترجمة ابن مريم وهي في عدة صفحات، وبناء على البطيوي فإن ابن مريم كان في القرن الحادي عشر، كمحمد بن يوسف السنوسي في القرن التاسع، وهو يسميه (شيخنا المديوني) واعتبره من مصادر كتابه المذكور، بل إنه اعتبره من الشيوخ (المنزهين) عن الخلل، وقد سماه أيضا (شيخنا وبركتنا ووسيلتنا الى ربنا السيد الإمام، الحسن النظام .. محمد بن محمد المكنى بابن مريم). وقال البطيوي في موضع آخر إن الله قد من عليه بملاقاة (الإمام الصوفي الهمام درة أقرانه، وسنوسي زمانه، أبي عبد الله المذكور بيانه، فجمعت النفس والعين من مشاهدته، ومن جميل لقائه، وتزودت منه ما ينفعني الله به دنيا وأخرى) ووصف البطيوي شيخه بأنه لم ير مثله قيام ليل وتلاوة قرآن وحرصا على العلوم ونشرها. وذكر أن ابن مريم كان في الحنايا بالقرب من تلمسان، وأنه كان كثير المطالعة للكتب وأنه كان يقول: (ما أردت كتابا إلا ومكنني الله منه دون تعب). وأنه قد ترك عند وفاته نحو ستمائة كتاب. والمهم في هذا الصدد أن البطيوي قد أورد أيضا ما وجده بخط ابن مريم عن شيوخه في القراءة والتربية، وما رواه له محمد ابنه (ابن مريم) الذي حدث البطيوي أيضا عن مشائخ وتلاميذ أبيه، وهم كثيرون، ومما ذكره أيضا أن ابن مريم قد أخذ التصوف عن محمد بن يوسف السنوسي (¬2). أما عن ¬

_ (¬1) فعل ذلك بروفنزالي (بل لم يترجم له أصلا)، والحفناوي في (تعريف الخلف) وبارجيس، الخ. (¬2) لعل المقصود أنه أخذ التصوف عن تلاميذ السنوسي، لأن ابن مريم قد يكون ولد بعدالسنوسي بأكثر من جيل.

تآليف ابن مريم فقد قال البطيوي إن له نحو ثلاثة عشر تأليفا، منها شرح الرسالة وشرح على مقدمة ابن رشد، وآخر على الرقعي، وآخر على القرطبي، وآخر على حكم ابن عطاء الله، إلى غير ذلك. ومن الملاحظ أن البطيوي، قد جعل كتاب شيخه في المناقب، إذ سماه (البستان في مناقب أولياء تلمسان)، وقال إنه كتاب (في مناقب الصالحين)، وهذا في الواقع أصح، لأن ابن مريم كان في الحقيقة يؤلف في مناقب الصالحين والأولياء. ومهما كان الأمر فسنعود إلى هذا الكتاب أثناء الحديث عن التراجم كما وعدنا. وحسبنا الإشارة إلى أن كتاب البطيوي (مطلب الفوز) يعتبر من المصادر الجديدة لحياة ابن مريم (¬1)، أما ابن سليمان فقد أفادنا أن محمد نجل ابن مريم قد توفي سنة 1053 ولكنه لم يذكر وفاة ابن مريم نفسه (¬2). وكما ترجم البطيوي لشيخه ابن مريم ترجم هذا لأحد أفراد عائلة البطيوي، وهو محمد بن محمد بن عيسى البطيوي التلمساني. وكان محمد البطيوى معاصرا لابن مريم ومن أقرباء العالم الشهير سعيد المقرى. وذكر ابن مريم أن لمحمد البطيوي (وهو غير صاحب كتاب مطلب الفوز) تقاييد وأذكارا وأورادا، وقال عنه إنه متصوف وأنه يقرئ العلم ويعظ في أحوال الآخرة، وإنه قد توفي في المدينة المنورة دون ذكر تاريخ وفاته (¬3). لم يكن (مطلب الفوز) لعيسى البطيوي من كتب المناقب بالمعنى التقليدي للكلمة، ولكنه (في آداب طريق أهل الفضل والصلاح) كما جاء في عنوانه. ومع ذلك فقد أدرج فيه عددا من المناقب المتعارف عليها كحديثه ¬

_ (¬1) المكتبة الملكية - الرباط، 1667، وترجمة حياة ابن مريم تقع في الجزء الثاني منه. لم يذكر البطيوي تاريخ وفاة شيخه، ولعله كان ما يزال حيا عندما ألف البطيوي كتابه. (¬2) (كعبة الطائفين) 2/ 222، وقال إنه كانت بينهما مودة ومحبة، ويبدو أن تأليف ابن مريم عن الرقعي كان مشهورا عندهم، فحين أرخ ابن سليمان لوفاة صديقه محمد نجل ابن مريم قال عنه إنه (ولد مؤلف الشيخ الرقعي). (¬3) ابن مريم (البستان) 272.

عن ابن مريم وعن أخيه (أخو عيسى البطيوي)، أحمد بن ونيس، وأحمد الولهاصي، وعن محمد بن يوسف السنوسي وغيرهم. وكان البطيوي يتبع في مناقبه الطريقة التقليدية أيضا، فهو يذكر حياة المترجم له وأعماله وكراماته وميزاته الصوفية. وقد قال عن أخيه أحمد بن ونيس انه كان صاحب كرامات ومكاشفات ورؤى، كرؤياه للرسول (صلى الله عليه وسلم) في المنام (¬1)، وهكذا في كل الرجال الذين ترجم لهم. ويجدر بنا الآن أن نعرف أكثر عن حياة عيسى البطيوي وعن كتابه (مطلب الفوز)، وتعتبر حياته كحياة معظم العلماء الجزائريين الذين عاشوا خلال القرن الحادي عشر، أمثال سعيد المقري وسعيد قدورة والفكون، ولكن البطيوي، رغم أهمية كتابه، لم يكن من علماء التدريس، أي لم يكن من الفقهاء العاملين في الفتوى والرأي، ولكنه كان من العلماء المنكبين على دراسات التصوف والزهد، أولئك المحرومين من الوظائف العامة، أمثال شيخه ابن مريم وصاحب قصيدة (حزب العارفين) موسى بن علي اللالتي. وقد ذكر البطيوي أن اسمه: عيسى بن محمد اليحوي الراسي البطوي (كذا). ولعل كتابة النسبة الأخيرة من تحريف النساخ (¬2). والبطيوي من مواليد أواخر القرن العاشر، فقد ذكر أنه قرأ القرآن على الشيخ أحمد بن أبي بكر السوسي، عندما مر عليهم قاصدا الحج، حوالي تمام المائة العاشرة بنحو العامين، وذكر أنه قرأ القرآن أيضا على ابن عمته وارث العساسي (الغساني؟) الذي عده من (الأدباء المجاهدين) وقد توفي ¬

_ (¬1) خصص لأخيه صفحات من الجزء الثاني من (مطلب الفوز)، ولعيسى البطيوي عمل آخر في التصوف عنوانه (شرح كتاب في التصوف) لم نطبع عليه. انظر الخزانة العامة بالرباط، رقم ك 2613. (¬2) هناك (بطيوة) الجزائرية التي ينسب إليها مؤلف (مطلب الفوز) وهناك (بطيوة) المغربية التي ينسب إليها محمد بن علي المعروف بابن أبي مقرع صاحب الأرجوزة المعروفة في الفلك، وكثيرا ما يقع الخطأ في النسبة إلى البلدين. انظر بروكلمان 2/ 364.

وارث هذا سنة 1033، وانتقل البطيوي أيضا للدراسة على الشيخ أحمد بن إبراهيم الراسي البطيوي الذي توفي بدوره سنة 1039، وعدد البطيوي شيوخه الكثيرين، وأخبر أنه رحل إلى مدينة فاس سنة 1002 أو سنة 1003، وأخذ العلم بها على عدد من الشيوخ، كما كان يفعل كثير من الجزائريين، ويهمنا أن نلاحظ أن البطيوي قد ذهب أيضا إلى تلمسان وأخذ العلم بها على شيوخ ذكرهم وقدرهم، وهم سعيد المقري، وابن مريم، وأحمد الولهاصي. وقرأ على المقري العقيدة الكبرى للسنوسي، وأشاد كثيرا بشيخه ابن مريم، كما عرفنا، أما علاقته بالولهاصي فقد أضاف إلى الوجه العلمي منها المكاشفات، وأخبر أنه استشار مرة شيخه الولهاصي في امرأة يتزوجها فأشار عليه بعدم الزواج منها، وحلت له امرأة محلها عن طريق الكرامة. وما دام كتاب (مطلب الفوز) غير منته في النسخة التي اطلعنا عليها فلا نستطيع أن نعرف أكثر من هذا عن حياة البطيوي منه، ولا نعرف الآن من ترجم له أو تناول كتابه هذا بالتعريف. فمعلوماتنا عن حياته إذن مستمدة من الجزء المتوفر لدينا من كتابه. أما الكتاب نفسه فهو موسوعة هامة عن الحياة الدينية والاجتماعية في ذلك العصر، وهو في هذا يذكرنا بكتاب (كعبة الطائفين) لمحمد بن سليمان الذي ألف بعده بقليل، فكلاهما يتخذ التصوف منطلقا، ولكنه يتضمن أخبارا كثيرة عن الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية. وكتاب البطيوي يقع في جزئين كبيرين ومكتوب بخط جيد، وقد أخبر أنه ألفه لما رأى شعائر الإسلام قد كثرت والهمم قد قصرت وانحراف الناس عن الدين الصحيح قد أصبح واضحا، وتجنبهم عن الآخرة قد بات واقعا. لذلك تاقت نفسه إلى وضع تأليف يجمع فيه (من الديانات والآداب ما يحتاجه المريد السالك) فالكتاب إذن في آداب الطريق والسلوك الصوفي. قسم عيسى البطيوي كتابه الى مقدمة وثمانية أبوابا وخاتمة. وجعل كل باب مقسما إلى فصول. فالخطة إذن جيدة تدل على ذوق سليم وروح علمية صحيحة، وقد جعل المقدمة في وجوب تعلم العلم النافع وفي فضائل

العلم والعلماء العاملين. أما الأبواب فهي على النحو التالي: الباب الأول: في وجوب معرفة قواعد الإيمان. الباب الثاني: في وجوب معرفة قواعد الإسلام والعمل بها. الباب الثالث: في آداب المريد مع خالقه. الباب الرابع: فيما يجب للنبي (صلى الله عليه وسلم) على أمته. الباب الخامس: في وجوب حفظ جميع الجوارح الظاهرية والباطنية من المخالفة. الباب السادس: في الترغيب في محبة الله. الباب السابع: في المشيخة. الباب الثامن: في حكم الجهاد والرباط وفضائلهما وتمني الموت. أما الخاتمة فقد جعلها في ذكر وصايا صحيحة مجربة (يستعان بها على صعب هذا الزمان، معتمدا في ذلك كله على أئمة السلف). ولا شك أن الباب الثامن من أهم أبواب الكتاب، لاسيما إذا عرفنا دور المرابطين الاجتماعي والسياسي في القرن العاشر والحادي عشر. وقد كانت النواحي الغربية، كما أشرنا، تعيش في توتر مستمر نتيجة الوجود الإسباني على السواحل، كما أن الباب الثالث والسابع مهمان في دراسة سلوك المتصوفين عندئذ، ومن المهم مقارنة ذلك بما جاء في الكتب المشابهة له في الموضوع والزمان مثل (كعبة الطائفين). وتظهر منهجية البطيوي أيضا في ذكر مصادره وموقفه منها، فقد ذكر عددا من المصادر التي أخذ منها في كتابه، ومن ذلك (الجواهر الحسان) وهو تفسير عبد الرحمن الثعالبي، وشرح الحكم لابن عباد التلمساني (¬1)، ¬

_ (¬1) هو محمد بن إبراهيم بن عبد الله بن مالك الغزي المعروف بابن عباد، وكان من أهل التصوف، وكان يتردد بين تلمسان وفاس، وقد توفي سنة 792 (1390 م). وله (الدرة المشيدة في شرح المرشدة) وشرح على حكم ابن عطاء الله، سماه (غيث المواهب العلية) وهذا هو الذي يشير إليه البطيوي. انظر (معجم المؤلفين) 8/ 207، وأبا راس (عجائب الأسفار)، 108، ومخطوطات زاوية طولقة عن (الدرة المشيدة).

والسهروردي في علم التصوف، وابن فرحون، ومحمد بن يوسف السنوسي الذي سماه (حجة الإسلام)، والغزالي الذي سماه (شيخ الإسلام)، و (شيخنا المديوني) وهو يقصد به محمد بن مريم صاحب (الحسان)، كما أن البطيوي قد اعتمد على مصادر أخرى، مكتوبة وشفوية، لإثراء كتابه، وقد نبه إلى أن الخطأ محسوب عليه وحده وليس على مصادره، لأن أولئك الأئمة في نظره (منزهون) عن الخلل (¬1). وإذا كانت المناقب هي ذكر الفضائل فإن الفكون لم يخصص كتابه (منشور الهداية) للفضائل وحدها، ومن ثمة لم يكن كل كتابه مناقب، وقد قسم كتابه إلى مقدمة وثلاثة فصول وخاتمة، وجعل عنوان الفصل الأول هكذا (في من لقيناه من العلماء والصلحاء المقتدى بهم، ومن قبل زمنهم ممن نقلت إلينا أحوالهم وصفاتهم تواترا، أردنا التنبيه عليهم وذكر ما كانوا عليه وزمانهم وتواريخ وفاتهم). فهذا الفصل إذن يمكن اعتباره في المناقب لأنه ذكر فيه فضائل هذا الصنف من العلماء والصلحاء المقتدى بهم. أما الفصلان الثاني والثالث فقد جعلهما في نقد المتشبهين بالعلماء، والمتشيهين بالصلحاء، ذلك أن عنوان الفصل الثاني هو (في المتشبهين بالعلماء، وهم الذين قصدنا بهذا التقييد إيضاح أحوالهم)، وعنوان الفصل الثالث هو (في المبتدعة الدجاجلة الكذابين على طريق الصوفية المرضية). فهما إذن فصلان بعيدان كل البعد عن المناقب، حتى الخاتمة التي جعلها (في إخوان العصر وما هم عليه) مليئة بالنقد والغمزات اللاذعة لإخوانه المعاصرين له. بل إن عنوان الكتاب نفسه يدل على أن صاحبه لم يقصد به المناقب المتعارف عليها وإنما أراد به نقد أحوال أدعياء العلم والتصوف في وقته، فهو (منشور الهداية في كشف حال من ادعى العلم والولاية). وكان الفكون يجمع بين علوم ¬

_ (¬1) الجزآن الأول والثاني من (مطلب الفوز) في المكتبة الملكية بالرباط، رقم 1667. ولا يوجد ذكر لناسخه ولا تاريخ نسخه، والجزء الثاني غير كامل كما نبهنا، وجاء في رساله لابن مريم أوردها البطيوي في كتابه أنه: عيسى بن محمد بن يحيى البطيوي، قارن رأيه في (تنزيه) الأئمة السابقين برأي يحيى الشاوي السابق,

الظاهر وعلوم الباطن، فهو من العلماء الفقهاء المؤمنين بالتصوف التأملي المنكرين للبدع والخرافات التي انحطت بقيمة العقل والعلم. وكان في كتابه هذا ثائرا، كما كان في كتابه (محدد السنان في نحور إخوان الدخان)، فهو يهاجم الانحراف والابتداع في الدين والوصولية. وقد تعرض في (منشور الهداية) لحياة أكثر من سبعين شخصا (¬1). فلا غرابة أن يتعرض إلى النقد بسببه. فإذا اعتبرنا أن الفصل الأول فقط من كتابه هو الخاص بالمناقب، فإن مقاييسه فيه تختلف كثيرا عن مقاييس ابن مريم والبطيوي والمغوفل وابن سليمان وغيرهم ممن كتبوا في المناقب. فهؤلاء كانوا يبالغون في أوصاف الشيخ ونسبة الكرامات إليه وخوارق العادات، وقد لا يكون له حظ من العلم على الاطلاق، أما الفكون فقد ذكر في هذا الفصل العلماء العاملين الذين لا يكادون يتميزون عن غيرهم إلا بالتأليف والتدريس والمواقف الصلبة ضد المغريات الدنيوية، وقد ذكر من هؤلاء جده عبد الكريم الفكون، وعمر الوزان، ومحمد العطار، وأحمد الغربي شارح (رسالة عمر بن الخطاب في القضاء) (¬2)، ومحمد الكماد، وعبد اللطيف المسبح، الخ. وحتى هؤلاء وأضرابهم لم يخل حكمه عليهم من غمزات أيضا. فإذا كان مؤلفو المناقب الآخرين يعاملون شخصياتهم معاملة الملائكة أو المنزهين عن الأخطاء، فإن الفكون كان يعامل شخصياته على أنهم بشر يتخاصمون ويتآمرون، فيهم الخير والشر، والصلاح والطلاح. وقد كان بدون شك أكثر قسوة في معاملة شخصياته في الفصلين الثاني والثالث، وحسبنا الآن من كتابه ما ذكرناه له من مناقب (¬3). أما كتابه كمجموعة من التراجم فسنعود إليه في الفصل الخاص بالتاريخ ¬

_ (¬1) ترجمنا للفكون في الفصل الأخير من الجزء الأول. (¬2) تحدثنا عنها في الفصل الأول من الجزء الأول. (¬3) الغالب أن الفكون قد ألف (منشور الهداية) بعد 1045 وهو تاريخ وفاة والده الذي ذكره، قبل 1047 وهو تاريخ ثورة ابن الصخري الذي لم يذكره ولم يذكرها، رغم تدخله فيها.

والغريب أن كتب المناقب الشاملة لعصر أو منطقة أخذت تضعف بعد عمل الفكون. حقا ان بعض العلماء قد كتب بعد ذلك تراجم كأحمد بن عمار في كتابه (لواء النصر في فضلاء العصر)، ولكن مثل هذا العمل لا يعتبر من باب المناقب الصوفية المعروفة. ويمكن أن يدخل في المناقب (عقد الجمان النفيس) لعبد الرحمن التجاني الذي تناول أشراف إغريس، و (الدرة المصونة) لأحمد البوني الذي تناول علماء وصلحاء عنابة. و (سبيكة العقيان فيمن بمستغانم وأحوازها من الأعيان) لمحمد بن محمد الموفق المعروف بابن حوا الذي تناول صلحاء نواحي الشلف، وكتاب (التعريف بالأحبار المالكين الأخيار) لابن علي الشريف الشلاطي. وهناك أعمال في المناقب تناولت شخصا بعينه. وهذا ما نحاول الوقوف عنده قليلا. فالشيخ علي البهلولي، الذي كان معاصرا للفكون، قد وضع تقييدا، حسب تعبير الفكون، في الثائر أحمد بن عبد الله الذي توفي عقب الحرب التي دارت بينه وبين ثائر آخر يدعى يحيى السوسي (¬1)، وقد أوضح البهلولي في تقييده أن أحمد بن عبد الله هو الفاطمي وأنه لم يمت وأنه المهدي المنتظر، وكان للبهلولي عقيدة خاصة راسخة في هذا الشيخ. ولم يكن البهلولي من البسطاء، كما قد يظهر، ذلك أن الفكون، وقد عرفنا موقفه من متصوفة عصره، قد قال عنه انه كان (فطنا لقنا، صاحب شعر كثير وفصاحة وفهم، وله إنشادات شعر كثير) (¬2)، وكان للبهلولي أيضا أخ يدعى عبد الرحمن، يقف ضد البدع، وقد ألف في ذلك قصيدة أرسلها إلى الفكون لشرحها، وتوفي الأخوان، علي وعبد الرحمن البهلولي، في حياة الفكون. ورغم أننا لا نعرف بالضبط متى كتبت سيرة محمد بن بوزيان، مؤسس ¬

_ (¬1) الظاهر أن هذا كان زعيم ثورة تلمسان التي تحدث عنها محمد بن سليمان في (كعبة الطائفين) والتي قاد ضدها القائد محمد بن سوري حملة من الجزائر. انظر كتابنا (أبحاث وآراء في تاريخ الجزائر)، وحسب (كعبة الطائفين) فإن الثائر يدعى محمد بن أحمد السوسي وأنه قتل أثناء الثورة 3/ 12. (¬2) الفكون (منشور الهداية) مخطوط.

الطريقة الزيانية، فإن الظاهر أن مصطفى بن الحاج البشير قد ألف كتابه (طهارة الأنفاس والأرواح الجسمانية في الطريقة الزيانية الشاذلية) بعد وفاة شيخه بزمن قليل، ونفس الشيء يقال عن كتاب (فتح المنان في سيرة الشيخ سيدي الحاج محمد بن أبي زيان)، الذي لا نعرف الآن مؤلفه، وإذا كان (فتح المنان) واضحا أنه في مناقب أبي زيان فإن (طهارة الأنفاس) قد جمع بين مناقب الشيخ ومنهاج الطريقة الزيانية في سلوكها وأورادها وتاريخها (¬1)، ونحن نغامر بذكر هذين المصدرين عن أبي زيان وطريقته في انتظار الكشف عن زمن تأليفهما، وقد مجد مؤلفا الكتابين مؤسس الطريقة الزيانية وبينا فضائله ومزاياه وكراماته ومناقبه. وقام بعض الأتباع المتحمسين للطريقة الدرقاوية بوضع تأليف تناول حياة شيخ الطريقة وأوضح مبادئها ودافع عنها، ومن هؤلاء محمد بوزيان بن أحمد المعسكري الغريسي الذي سمى كتابه (كنز الأسرار، في مناقب مولانا العربي الدرقاوي وبعض أصحابه الأخيار)، ومحمد الغريسي كان من أتباع الطريقة الدرقاوية التي حارب أصحابها العثمانيين أوائل القرن الثالث عشر، وقد توفي سنة 1271 (1854) قبل إتمام عمله الذي وصل فيه إلى أربع كراريس، ويوجد كتابه تحت الاسم الذي ذكرناه، كما يوجد تحت اسم (في مناقب الشيخ أبي حامد العربي بن أحمد الدرقاوي الحسني وتلامذته). ويبدو أن الاسمين ليس من وضع المؤلف نفسه، وأن بعض النساخ فقط هم الذين أضافوا الاسم هنا وهناك على بعض النسخ (¬2)، وهو، كما عرفنا، في مناقب الشيخ الدرقاوي المغربي، وفي بعض أصحابه الذين عضدوه في الجزائر مثل عبد القادر بن الشريف، ويبدو من الخطة أن محمد الغريسي كان ينوي أن ¬

_ (¬1) ذكر هذين الكتابين السيد كور الفرنسي في ترجمة الشيخ أبي زيان وطريقته، انظر (مجلة العالم الإسلامي) 910، م 12، 359 - 360. ولكنه لم يذكر تاريخ تأليف الكتابين. عنهما انظر لاحقا في أجزاء العهد الفرنسي. (¬2) الخزانة العامة بالرباط، رقم 2339 د، و (دليل مؤرخ المغرب) 1/ 305 انظر أيضا (سلوة الأنفاس) 2/ 362، وتقع نسخة الخزنة العامة التي اطلعنا عليها في 53 ورقة.

شروح في التصوف

يوسع كتابه ليشمل عددا كبيرا من زعماء الطريقة الدرقاوية ونشاطهم. شروح في التصوف: رغم وفرة الشروح الفقهية والنحوية وغيرها فإن شرح الأعمال الصوفية قليل نسبيا. وتوجد لدينا أراجيز وقصائد ومتون نثرية تتناول التصوف، عمد بعض الجزائريين إلى شرحها، وهذا يشمل الأصول التي كتبها جزائريون أيضا أو كتبها غيرهم. وأهم عمل اطلعنا عليه في هذا الميدان شرح (عقد الجمان النفيس) وشرح (قصيدة حزب العارفين). لقد شغلت القصيدة السينية المعروفة بسينية ابن باديس أو (النفحات القدسية) لأبي الحسن علي بن باديس كثيرا من الشراح والمعلقين، وموضوعها هو الإشادة بعبد القادر الجيلاني، ومطلعها (¬1). ألا صل إلى بغداد فهي منى النفس ... وحدث بها عمن ثوى باطن الرمس وما دام الأمر يتعلق بشخصية يجلها الصوفيون ويتبركون بها فإن أحمد بن محمد الحاج البجائي التلمساني قد عمد إلى شرح القصيدة المذكورة في عمل سماه (أنس الجليس في جلو الحناديس عن سينية ابن باديس). وقد كان ابن الحاج من قضاة بجاية وله مؤلفات أخرى في السيرة النبوية تتمثل في شرحه للقصيدة الشقراطسية (¬2). ولاحظ ابن الحاج أنه لا يعرف أحدا قبله وضع شرحا على القصيدة. وقد جمع في شرحه بين التحليل الأدبي والصوفي. واعتذر بقوله: (اعلم أن هذه القصيدة ليست لي فيها رواية، ولا شاركت فيها من له بها دراية، ولا وقفت على نسخة منها عتيقة، تكون النفس بصحبتها وثيقة، ولا عثرت على شرح لها أمامي، أجعله إمامي، ولكني أتحرا (كذا) من ألفاظ نسخها ما أراه يليق بمقصدها، ومن معانيها ما ¬

_ (¬1) انظر الفصل الأول من الجزء الأول. (¬2) توجد نسخة من شرحه في المكتبة الوطنية - الجزائر، رقم 2104، وأخرى في الخزانة العامة بالرباط، رقم 2100 د انظر ترجمة أحمد بن الحاج في (دوحة الناشر 219 - 221، ونسخة الرباط موضوعة في باب (المناقب والتراجم). ولم يذكر ابن عسكر تاريخ وفاته وإنما حدده باوائل القرن العاشر.

يغلب على ظني أنه مراد مقصدها ...) (¬1) ومن جهة أخرى عرف القرن العاشر أيضا شرح محمد الصباغ القلعي لقصيدة إبراهيم التازي في التصوف. وقد سمي القلعي شرحه، كما عرفنا، (شفاء الغليل). وحوالي القرن الحادي عشر ألف عبد الرحمن بن عبد الله بن أحمد التجاني رسالة في صلحاء ناحية غريس قرب معسكر سماها (عقد الجمان النفيس في ذكر الأعيان من أشراف غريس) (¬2). وقد تناول هذه الرسالة بالشرح عدد من المعاصرين لها والمتأخرين، منهم أبو راس الناصر، الذي عاش في نفس المنطقة. واطلعنا على شرح لهذه الرسالة قام به محمد الجوزي بن محمد الراشدي المزيلي سماه (فتح الرحمن في شرح عقد الجمان). وقد أخبر المزيلي أنه لقي مؤلف العقد فسلمه نسخة منه وكلفه بشرحه بعد تردد. ويبدو أن العلاقة بين الرجلين كانت علاقة الشيخ بتلميذه، فقد جرت العادة أن لا يشرح الند لنده، إلا إذا كانا متفاوتين سنا، ومع ذلك فإن المزيلي لم يخبر أنه كان تلميذا للتجاني ولا يذكره بألفاظ توحي بذلك، وإنما أخبر أن (عقد الجمان) قد أعجبه وشعر بأهميته فتاقت نفسه إلى شرحه. ومهما كان الأمر فإن محمد المزيلي قد أوضح خطته في شرحه منذ البداية فقال إنه وشحه بأحاديث رائقة، وقصص لائقة، وأخبار فائقة، وختمه بتكميل ذكر فيه الخلفاء الأبرار، والملوك والثوار، في كل النواحي والأقطار. وهذه الخطة تعني أنه لم يقسم عمله إلى فصول أو أبواب، ولم يقتصر فيه على (أعيان غريس) كما جاء في الرسالة المشروحة بل جمح به القلم والفكر إلى عوالم أخرى، فراح يطوف هنا وهناك، وكاد يتخلى تماما عن موضوعه ¬

_ (¬1) أخذنا هذه المعلومات من نسخة عند السيد ماضوي. وتبلغ 65 ورقة، وهي كاملة وخطها جيد، لعله خط المؤلف نفسه، وفيها العنوان (أنيس الجليس) وليس (أنس الجليس)، وفيها اختلاف في المطلع. (¬2) ترجم هذا العمل إلى الفرنسية السيد قان، ونشره في (المجلة الإفريقية)، 1891، 241 - 280.

الأصلي. لذلك جاء الكتاب مليئا بالحشو والاستطرادات التي لا تمت بأية صلة إلى الموضوع. فكأن المزيلي كان يستعرض معلوماته ليبرهن على سعة اطلاعه ومعارفه في التاريخ واللغة والأدب والأخبار، وقد وقع في هذا أيضا غيره من الشراح الذين كانوا يعمدون إلى التخفيف عن القارئ، في نظرهم، من السآمة والملل. لذلك تضخم الكتاب (أي فتح الرحمن) حتى كاد يصل إلى ألف ورقة (¬1). ومع ذلك فإن فيه، بالإضافة إلى الموضع الأصلي، أخبارا هامة عن المجتمع مبثوثة هنا وهناك، من ذلك أنه أخبر عن حالة غريس في وقته (وقد كانت تحت السلطة العثمانية وقريبة من عاصمة الإقليم) وهي حالة لا تسر. فقد قال إن في غريس (عصابة من ذوي الضلال، شأنهم سفك الدماء وهتك الحرام وأخذ الأموال). كما شكا حاله وحال الناس هناك من الظلم والتعدي والحاجة. ومما يذكر أنه ألف الكتاب في غريس نفسها. وقد اشتهر محمد بن أحمد الشريف الجزائري بشروحه الكثيرة على أعمال غيره وعلى بعض الأحاديث النبوية. من ذلك شرحه لقصيدة الدمياطي (شمس الدين محمد الدروطي الدمياطي) اللامية في التصوف. وقد سمي الجزائري شرحه عليها (القول المتواطي في شرح قصيدة الدمياطي) (¬2). أما الورتلاني صاحب الرحلة فقد خص بالشرح قصيدة نادرة لعبد الرحمن الأخصري في التصوف تعرف بـ (القدسية)، وهي قصيدة في آداب السلوك ونكران البدع لا يعرف أن الأخضري قد شرحها، رغم شهرته بشرح منظوماته بنفسه. وقد اطلعت على نسخة من شرح الورتلاني الذي سماه (الكواكب العرفانية والشوارق الأنسية في شرح ألفاظ القدسية) وبرر الورتلاني قيامه بهذا العمل كون بعضهم قد ألح عليه في شرح هذه القصيدة لعدم وجود شرح عليها، وهو ينقل كثيرا عن غيره مثل القشيري وأحمد ¬

_ (¬1) اطلعنا منه على نسخة في مكتبة زاوية طولقة، وهي غير مرقمة، وخطها جيد. (¬2) نسخة منها في المكتبة الوطنية - الجزائر، رقم 2152. انظر أيضا تيمور 462 مجاميع، و (هدية العارفين) 2/ 319. وتوفي الدمياطي سنة 921/ 1515.

زروق، معترفا بأنه قد اعتمد في عمله على (نقول ذوي التحقيق) (¬1) ولا غرابة في ذلك فقد عرفنا أن الورتلاني كان من أقطاب التصوف في القرن الثاني عشر. ومن أهم الأعمال الصوفية التي اطلعنا عليها شرح محمد بن سليمان بن الصائم، المسمى (كعبة الطائفين وبهجة العاكفين في الكلام على قصيدة حزب العارفين). وقصيدة (حزب العارفين) نظمها موسى بن علي اللالتي التلمساني، واشتهرت في وقتها (القرن الحادي عشر) وتناولها أكثر من واحد بالشرح والتعليق والتبرك. وهي قصيدة في أهل التصوف وفي أحوال العصر، ومكتوبة باللغة العامية الواضحة. وكان الناظم شيخا للشارح وهو الذي طلب من تلميذه شرح القصيدة وأوصاه أن لا يشرح بعض أجزائها في حياته، وهي الأجزاء التي تتناول أهل الطلاح. والشرح الذي اطلعنا عليه ضخم جدا بلغ أكثر من مائة وست وأربعين ورقة بالخط الرقيق، ومع ذلك فالنسخة غير كاملة. وجال محمد بن سليمان في (كعبة الطائفين) جولات واسعة وأطلق عنان القلم ليكرع من جميع الأنهار. وكثيرا ما كان يستمد معلوماته من العصر وأهله وأحوال بلاده في القديم والحاضر. وقد درسنا النسخة التي اطلعنا عليها دراسة مستفيضة واستخرجنا منها ما يتعلق بالحياة الاجتماعية والسياسية وبحياة العلماء ورجال التصوف في القرن الحادي عشر. أما الجزء الخاص بالتصوف المحض، وهو أساس الكتاب فقد اكتفينا بالإشارة إليه والتنويه بأهميته. ¬

_ (¬1) النسخة التي اطلعنا عليها من الشرح توجد في مكتبة زاوية طولقة، وتوجد نسخة من القصيدة (القدسية) في المكتبة السليمانية بإسطانبول، انظر محمد بن عبد الكريم (مخطوطات) 59 وقد سلمني نسخة منها الشيخ محمد الطاهر التليلي القماري، أما شرحها للورتلاني فقد أخبرني الأستاذ محمد الطاهر فضلاء أنه يملك نسخة منه. كما توجد نسخة منه في الخزانة العامة بالرباط، ك 1165 مجموع. ومن الذين نوهوا بالقدسية واقتبسوا منها، أحمد بن طوير الجنة الوداني (موريتانيا). انظر مخطوط كتابه (فيض المنان)، المكتبة الملكية بالرباط، رقم 406. وتنسب إلى الأخضري أرجوزة في طبيعة النفس كتبها سنة 944، وهي توجد في المتحف البريطاني ومكتبة ميونخ.

وتبعا للناظم تحدث محمد بن سليمان عن عدد من رجال التصوف الجزائريين والمسلمين عموما. والقائمة تشمل تقريبا كل الأسماء التي تعرضنا إليها حتى الآن (التازي، السنوسي، الثعالبي، الهواري ...) والقصيدة وشرحها من هذه الزاوية يعتبران من أعمال المناقب. وقد شكا كل من الناظم والشارح من أحوال العصر ومن ظلم الحكام والفوضى ومن اللامبالاة تجاه العلماء ورجال الصلاح. وها هو محمد بن سليمان يلخص ذلك في قوله (لم نجد نحن في هذا الأخير من القرن الحادي عشر. إلا العقارب واللفاع، والشقاق والنزاع، وظهور الهمج الرعاع، المؤثرين سبل الشر والابتدع، وما لنا عن دفع ما نزل بنا من قدرة ولا حول، ولا قوة لنا على التحول عن أهل هذا الحال ولا طول ..) (¬1) أما علماء التصوف من المسلمين فقد ذكر منهم الغزالي وابن الفارض والجيلاني. وحسبنا الآن من هذا الكتاب التنويه بأهميته في التصوف في عصر المؤلف، سيما في غرب البلاد، فهو يعتبر استمرارا لعمل ابن مريم وعيسى البطيوي، كما يعتبر مكملا لعمل عبد الكريم الفكون عن التصوف في شرق البلاد. أما الذي يرغب في معرفة تفاصيل أكثر عنه فعليه بالرجوع إلى دراستنا المشار إليها (¬2). وقبل أن نختم هذه النقطة نشير إلى أن عبد القادر المشرفي قد وضع نظما سماه (عقد الجمان الملتقط من قعر قاموس الحقيقة الوسط)، وهو في ¬

_ (¬1) دراستنا لهذا الكتاب ظهرت في (المجلة التاريخية المغربية) تونس، عدد 7 و 8 (يناير 1977) 61 - 68 وقد اعتمدنا على نسخة القاهرة، دار الكتب المصرية 15 مجاميع، وبعد ذلك اطلعنا على نسخة منه بباريس في ثلاثة أجزاء، وهي كاملة، رقم 460، بروكلمان 2/ 1009، كما توجد منه نسخة بالخزانة العامة بالرباط، رقم د 1921 مجموع من 1 - 447 ولم نطلع عليها. (¬2) ظهرت هذه الدراسة أيضا في كتابنا (أبحاث وآراء في تاريخ الجزائر)، الجزائر 1978 ط. 3، 1990، وقد استفدنا من نسخة باريس، أن الشارح هو محمد بن سليمان بن الصائم التلمساني المعروف بالجزولي، وأنه كان يشغل وظيفة إمام أحد المساجد في تلمسان، وأنه بعد أن انتهى من (كعبة الطائفين) بحوالي عشر سنوات ألف كتابا آخر في التصوف سماه (حياة القلوب) وهو في الأوراد، ألفه سنة 1066.

المواعظ والردود

الواقع نظم لرسالة منسوبة إلى محمد بن علي الخروبي، واسمها (الدرة الشريقة في الكلام على أصول الطريقة). ورغم أن عمل المشرفي هو نظم لنثر فقد قام ابنه، محمد الطاهر المشرفي، بشرح نظم والده، ولا نعرف الآن العنوان الذي أطلقه المشرفي الابن على شرحه، غير أننا نعرف أن هذا الشرح قد حظي بتقريظين أحدهما من أبي راس (وهو تلميذ المشرفي الأب) والثاني من قاضي مدينة الجزائر في وقته وهو محمد بن مالك (¬1). المواعظ والردود: سنتناول في هذا القسم المؤلفات والمنظومات والمناقشات المتعلقة بالتصوف والفلسفة ونحوهما. ويشمل ذلك الأذكار والأدعية والأوراد وغيرها من المواد الصوفية. ولا يمكن إحصاء ذلك لكثرته وعدم توفره كله بين أيدينا. ذلك أن أبسط ما يبدأ به بعض الزهاد والمتصوفة كتابة الأذكار والأدعية. بما في ذلك المدائح النبوية التي تأخذ طابع التوسل لا طابع السيرة. ولا شك أن بعض العلماء قد اشتهر بالإنتاج في هذا الميدان أكثر من بعض، فقد عرف محمد الخروبي في القرن العاشر وأحمد البوني في القرن الثاني عشر بوفرة الإنتاج في هذا الباب. وقد عرفنا أن من كتاب الأذكار والأدعية في أوائل القرن العاشر أحمد بن يوسف الملياني ومحمد (بوعبدل) المغوفل. وذكر أبو راس أن المغوفل كان (أحد أعجوبات الدهر في علمه وورعه وكراماته يشهد لعلمه قصيدة مدح بها رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، فيها سبعون بيتا، وليس فيها حرف يستحق النقط، بل كلها عواطل من النقط. وكفى به حجة) (¬2)، وينسب إلى المغوفل كثير من الأشعار الدينية والصوفية، ومنها رجزه الذي أتينا عليه في مناقب أهل الشلف. وإذا عدنا إلى (دوحة الناشر) لابن عسكر وجدنا عددا من المترجم لهم قد خاضوا ميدان التصوف، ومنهم عبد العزيز بن خليفة ¬

_ (¬1) المنوني، مكتبة الزاوية الحمزية (مجلة تطوان) رقم 8، ورقم الشرح في المكتبة هو 203، وتاريخ التقريظ الأول سنة 1228 والثاني سنة 1227. (¬2) (عجائب الأسفار)، ورقة 26 نسخة الجزائر.

القسنطيني الذي كتب (رسائل صوفية)، وكان يعتقد فيه أنه صعد إلى مرتبة الغوث والقطب، وكان له تلاميذ كثيرون، وهم الذين كتب إليهم الرسائل المذكورة والتي ما زالت، لحسن الحظ، محفوظة، وكان القسنطيني في وقته من أصحاب الخوارق والكرامات (¬1). أما محمد بن علي الخروبي فقد ترك عدة أعمال في التصوف أشرنا إلى بعضها، كما أشرنا إلى تأثيره الديني على معاصريه، ولا شك أن أهم أعماله الصوفية هو شرح الصلاة المشيشية، وأصول طريقة الشيخ زروق، وشرح الحكم لابن عطاء الله، يضاف إلى ذلك رسالته في الطرق الصوفية، ورسالته في الرد على أبي عمرو القسطلي المغربي والتي سماها (ذات الإفلاس إلى خواص أهل مدينة فاس). وعلى ذكر الردود نذكر أن الشيخ أبا القاسم بن سلطان القسنطيني قد ألف، وهو بتطوان، كتابا في مجلدين رد فيه على طائفة العكازين (وهي الطائفة الملعونة التي لا زالت لها بقية في بلاد المغرب بقبيلة بني حسن .... أبدع النقل فيهم مزيفا أقوالهم الفاسدة) (¬2). وقد ترجم لأبي القاسم القسنطيني صديقه أحمد بن القاضي صاحب (درة الحجال) فوصفه بالورع والتبحر في الفقه وقوة العارضة في الخطابة بقصبة تطوان. ومن ثمة ندرك أن القسنطيني لم يكن مجرد رحالة وإنما أطال الإقامة بتطوان وتولى بها الوظيفة المذكورة. كما وصفه ابن القاضي بأنه كان من العلماء المعقوليين. ومدح ابن القاضي كتاب القسنطيني في الرد على (الطائفة الأندلسية) وزعيمها محمد الأندلسي، (أجاد فيه كل الإجادة وناضل عن السنة السمحاء)). وقد اطلع ابن القاضي على هذا الكتاب سنة 995 وقال عنه إنه في مجلدين، وأن (من أراد الوقوف على شناعتهم (يعني الطائفة التي يسميها الأندلسية) جملة وتفصيلا، وما قيل في هذه الطائفة الملعونة، فليطالع تأليف الفقيه الإمام أبي القاسم بن سلطان ¬

_ (¬1) (دوحة الناشر) 227. انظر أيضا محمد المنوني (الزاوية الحمزية) في (مجلة تطوان) عدد 8، وتوجد منه نسختان. (¬2) روى ذلك ابن سودة في (دليل مؤرخ المغرب) 94.

القسنطيني، نزيل تطوان، فقد أبدع فيهم وزيف أقوالهم وبين فسادها). ونحن نعلم من ترجمة ابن القاضي أيضا أن القسنطيني قد أخذ العلم على أحمد المنجور المغربي. أما في المشرق فقد أخذ عن جماعة منهم عبد الرحمن التاجوري وعلي البكري الصديقي، وكان القسنطيني قد حج. وله رحلة لا ندري مكانها. وكان ميلاده بعد سنة 930، أما تاريخ وفاته فمجهول لدينا الآن، ومهما كان الأمر فإنه كان على قيد الحياة سنة 995 (¬1). ومن كتب الردود التي اتخذت طابعا فلسفيا (النبل الرقيق) ليحيى الشاوي، وهي الرسالة التي رد بها على رسائل وآراء معاصره نور الدين الكوراني نزيل المدينة في وقته، فقد اتهمه الشاوي باتباع آراء المعتزلة والقول بالاتحاد واستنقاص الرسل. ولذلك حكم بكفره وأوجب قتله. ولم يسلم من هجوم الشاوي، أثناء ردوده، بعض العلماء المغاربة أيضا، ومنهم عبد الله العياشي ومحمد بن سليمان. وكان الشاوي يتحدث على لسان المغاربة عموما ويدافع عن أهل السنة ويغض من شأن المتصوفة وعلماء الباطن. ولكن محمد بن رسول البرزنجي نزيل المدينة أيضا قد تصدى للرد على الشاوي بلسان الكوراني، وسمى رده (العقاب الهاوي (¬2)). واتهمه عدة اتهامات لا تليق بالعلماء المبجلين. ولكن رد البرزنجي فيه أخبار عن حياة الشاوي بمصر وإسطانبول وعلاقته بالعلماء في وقته ورجال الدولة. حقا إن بعض هذه الأخبار مبالغ فيه، ولكن السياق على العموم صحيح. ومن هذه الأخبار كون الشاوي قد ارتكب في الجزائر ما أوجب إخراجه منها، وأنه خرج إلى مصر وصار شيخ الركب المغربي عدة مرات، وأنه ذهب إلى إسطانبول مرتين، وأنه لقي هناك بعض الإكرام فاغتر وبطر لأخذ في منازعة الأولياء وتكفيرهم ونفى التصوف عن بعضهم، وطعن في عرض ¬

_ (¬1) محمد داود (تاريخ تطوان) القسم الأول، 157، وقد نقل عن أحمد بن القاضي في (درة الحجال) ط. الرباط سنة 1354، م 1/ 167، م 2/ 465، وعلق محمد داود على كتاب القسنطيني بأنه يظهر أنه قد (اضمحل). (¬2) عن حياة الشاوي انظر سابقا.

محمد بن سليمان وعبد الله العياشي المغربيين. وإنه أخذ كثيرا من وظائف علماء مصر أثناء إقامته بها. ثم توجه ثانية إلى إسطانبول فنجح بعض الشيء حيث قربه رجال الدولة أول الأمر ثم انقلبوا عليه كما انقلب عليه أهل مصر فرفعوا عنه وظائفه. ولم يعد من إسطانبول هذه المرة سوى بعجوز هي، حسب رأي البرزنجي، أكبر من أمه، كما قيل عنه إنه أهدى كتابا له إلى ابن السلطان، وقدم هدايا إلى رجال الدولة وتوجه إلى أبوابهم. وعادى الصوفية لأجلهم. ومع ذلك رجع صفر اليدين. ونحن نعرف من سياق الرد والاعتراض أن الكوراني قد كتب رسالة (مسلك السداد إلى مسألة خلق أفعال العباد) فراسله حولها بعض علماء المغرب مستفسرين عما جاء فيها، ومنهم محمد بن عبد القادر الفاسي. فرد الكوراني برسالة أخرى سماها (نبراس الإيناس بأجوبة سؤالات أهل فاس) أجاب بها أيضا من سأله عن مسألة الغرانيق. ثم كتب الكوراني رسالة أخرى سماها (إمداد ذوي الاستعداد لسلوك مسلك السداد). ونتبين من هذه الرسائل أن الكوراني كان يتناول موضوعات جدلية بين المسلمين كمسألة الغرانيق ومسألة الاتحاد ومسألة خلق الأفعال ونحوها. كما نتبين صلته بعلماء المغرب من المراسلات التي كانت بينهم وبينه ومن وصول رسائله إليهم ثم من صلاته بعلمائهم الزائرين والمجاورين بالمدينة أمثال العياشي الذي قال عنه الشاوي إنه هو الذي شهر الكوراني في المغرب. ونحن نعرف من هذا الرد أن الشاوي أيضا قد زار الكوراني في المدينة وجلس إليه وعرف رسائله. أما الشاوي فقد بدأ رسالته (النبل الرقيق) بقوله: (أيها الموفقون والعصابة المحققون، إن أهل الدين وخصوصا أهل المغرب (يعني المغرب العربي) لهم غيرة على نفي الاعتفاد في الأولياء والزهاد)، ولكن همة أهل المغرب قد تقاصرت عن ذلك بفعلة عبد الله العياشي (وهو يسميه الشيطان) الذي سكن المدينة أياما وكان جاهلا بعلم المعقول غير عالم برتبة الرسول. وأن العياشي قد تعرف على الكوراني الذي كان يظهر التصوف والتقشف وأنه قد أظهر للعياشي شيئا من علم المنطق فاغتر به ونقل أخباره إلى علماء

المغرب وشهره بينهم، وهذا في نظر الشاوي مفسد لأهل الإسلام ولا سيما المغاربة. ولقد كتب الكوراني رسالته في أن العبد يخلق أفعاله بنفسه فكان في ذلك، في نظر الشاوي متبعا للمعتزلة في قولهم إن العبد يخلق أفعاله لأنه مستقل في إرادته وقدرته. ثم قال الكوراني أيضاء بالتجسيم حيث قال في (وجاء ربك) جاء هو ولم يؤول فيقول جاء أمر ربك. كما أنه قال بالاتحاد فزعم أن الله موجود في كل جرم. وأخيرا خلص إلى التنقيص من الرسل وذلك في مسألة الغرانيق التي حار في تخريجها العلماء. ولذلك نادى الشاوي بالحرب ضد الكوراني فقال حرفيا: (إن هذا الرجل ساب بلا شبهة في ذلك فيقتل ولا يقبل توبته إن وجد للإسلام ناصرا .. فقد جمع الاعتزال والاتحاد والتجسيم ونسبة الكفر للنبي (صلى الله عليه وسلم)، فالواجب على كل مسلم أن يأخذ بثأر الدين وبثأر النبي (صلى الله عليه وسلم) بالبيان وبالبنان وباللسان وبالسنان، أعادنا الله من بلائه) (¬1). وإذا كنا لا نعجب من هذه المهاترات بين علماء الوقت واتهام بعضهم البعض بالزندقة والتقرب للملوك وبيع الضمير العلمي فإننا نعجب حقا من ضيق الأفق الذي كانوا يتمتعون به فيحكمون بالقتل على من لم يوافقهم في الرأي. وكأنهم هم الذين وضعهم الله لتنفيذ أحكامه في الأرض. ولا شك أن من أسباب تخلف المسلمين فكريا عندئذ هذه السيوف المشرعة على رقاب كل من خالف الرأي العام، وهي السيوف التي يزعم أصحابها أنهم يحاربون بها الإلحاد والزندقة والفساد. ومن الذين ترجم لهم ابن مريم في (البستان) طاهر بن زيان الزواوي ¬

_ (¬1) لا ندري متى كتب الشاوي رده على الكوراني، ولكن البرزنجي الذي انتصر للكوراني وساق كلام الشاوي ليرد عليه كتب اعتراضه بمصر سنة 1092 ونمقه وأخرجه في نفس السنة بالمدينة المنورة، وكان ذلك قبل وفاة الشاوي بأربع سنوات (توفي سنة 1090 كما عرفنا)، ولدينا صورة من (العقاب الهاوي) المسوق فيها كلام الشاوي من مكتبة جامعة برنستون الأمريكية رقم 978، وهي في 34 صفحة.

الذي ألف عملين على الأقل في التصوف، الأول (نزهة المريد في معاني كلمة التوحيد) والثاني (رسالة القصد إلى الله). والغالب على الظن أن الزواوي، الذي يعرف أيضا بالقسنطيني، قد توفي بالمدينة، لأن ابن مريم عندما ترجم له قال عنه: (نزيل المدينة المنورة) (¬1). وبالإضافة إلى ذلك ألف بركات بن باديس رسالة سماها (مفتاح البشارة في فضائل الزيارة). أظهر فيها نبوة خالد بن سنان العبسي، تمشيا مع ما ذهب إليه عبد الرحمن الأخضري قبله في قصيدته الشهيرة. سر يا خليلي إلى رسم شغفت به ... طوبى لزائر ذاك الرسم والطلل وقد نقل ابن باديس في رسالته عدة نقول في الموضوع، من مثل (الجمان في مختصر أخبار الزمان) للشطيبي، وقصيدة الأخصري وغيره، وأخبار خالد بن سنان من كتب المتقدمين (¬2). وفي نفس الموضوع ألف الشيخ علي بن مسعود الونيسي، أحد قضاة قسنطينة، رسالة جمع فيها أيضا آراء علماء المسلمين في نبوة خالد بن سنان العبسي. ومن الذين نقل آراءهم مصطفى الرماصي القلعي، وعبد الرحمن الأخضري، وعبد الله العياشي وأحمد بن ناصر الدرعي (¬3)، ومن جهة أخرى ألف محمد ساسي البوني عملا في الوعظ سماه (النور الوضاح الهادي إلى الفلاح) وعملا آخر في فضائل ¬

_ (¬1) (البستان) 116. توجد نسخة من رسالته باسم (رسالة الدعاء إلى الله) في المكتبة الملكية - الرباط، رقم 7426 وقد توفي طاهر بن زيان بعد 940 حسب رواية ابن مريم، وكان طاهر بن زيان من تلاميذ أحمد زروق. (¬2) عثرنا على هذه المعلومات في مخطوط باريس رقم 4625، وله في التصوف أيضا قصيدة (شفاء الأسقام والتوسل ببدر التمام) و (بضاعة الفقير في البسملة والصلاة على البشير النذير). وقد توفي بركات بن باديس في بداية القرن الثاني عشر الهجري، وتوجد معلومات عنه في رحلة ابن حمادوش، كما ذكره صاحب (ذيل بشائر أهل الإيمان) حسين خوجة، وله تآليف أخرى سنذكرها. (¬3) نسخة من هذه الرسالة توجد في مكتبة زاوية طولقة، حسبما أخبر به لوسياني في ترجمته للسلم، الجزائر 1921، 22 - 23، وقد توفي الونيسي سنة 1222. انظر عنه أيضا تعريف الخلف 2/ 286، والزياني (الترجمانة الكبرى) 153.

الزيارة، لا ندري موضوعه، ولعله يعني زيارة الأضرحة عامة أو زيارة قبر الرسول خصوصا. ... أما المواعظ والأذكار فقد ألف فيها محمد بن سليمان بن الصائم، كتابا سماه (حياة القلوب وقوت الأرواح في عمارة الملوين وأوراد المساء والصباح). ألفه، كما قال، بعد أن فرغ من كتابه الآخر (كعبة الطائفين) بحوالي عشر سنوات، في جبل بني يزناسن، سنة 1066، ويبدو أنه كان عندئذ في حالة صوفية غير عادية، لأنه قال إن الله قد فتح عليه فجمع الثمار (التي أنشأت (كذا) عن غرس هذه الأشجار)، وليس (حياة القلوب) شرحا لإحدى القصائد الوعظية، ولكنه فيما يبدو مجموعة من الفتوحات والنقول التي جادت بها قريحة ابن سليمان وهو في حالة خاصة (¬1)، وفي موضع مشابه نظم الشاعر الصوفي محمد بن محمد الموفق المعروف بابن حوا قصيدة سماها (الريحانة المروحة على القلوب المقترحة) وذلك سنة 1176 (¬2). أما ابن علي الشريف الشلاطي فقد أخبر أن من بين مؤلفاته كتابا بعنوان (في الوعظ والأذكار وحكايات الصالحين الأبرار). ومن الواضح أنه تأليف في التصوف موجه، فيما يبدو، إلى أتباع الزاوية التي كان المؤلف نفسه رئيسا لها في شلاطة (¬3). وفي آداب الدين والآداب عامة ألف عبد اللطيف المسبح كتابا هاما سماه (عمدة البيان في معرفة فروض الأعيان)، وقد شرح فيه تأليفا مختصرا ¬

_ (¬1) أخذنا هذه المعلومات من نسخة باريس من كتاب (كعبة الطائفين) وهي تحمل الأرقام الآتية 4601، 4602، 4603، أي أن كل جزء له رقم خاص. (¬2) انظر مارسيل بودان (مجلة جمعية وهران) 1933، 237، وقد ولد ابن حوا في مستغانم وأقام بها حوالي نصف قرن، وتوفي في أحوازها حوالي سنة 80 11. (¬3) ذكر ذلك في مقدمة كتابه (معالم الاستبصار) الذي سنتحدث عنه في فصل العلوم من هذا الجزء.

لعبد الرحمن الأخضري، لأن هذا التأليف (قد اشتمل على المهم من أمور الديانات مخلص من شوائب الاختلافات، ولم نقف على من شرح من الفقهاء ألفاظه). والكتاب في آداب الدين والدنيا كالصلاة والسلام وفروض الكفاية. وكان المسبح من علماء الرياضيات أيضا. وقد فرغ من شرحه المذكور سنة 985 (¬1). ولم يؤلف عبد الكريم الفكون (منشور الهداية)، فقط، بل إن له أعمالا أخرى في التصوف أيضا جديرة بالذكر، من ذلك قصيدة له في التوسل بالله سماها (سلاح الذليل في دفع الباغي المستطيل)، أولها: بأسمائك اللهم أبدي توسلا ... فحقق رجائي يا إلهي تفضلا ويبدو أنه استعملها كدعاء عند الشدة التي لحقته من بعض البغاة، كما أن أحذ تلاميذه، وهو محمد وارث الهاروني قد نسخها منه واعتمدها ضد عمه الذي بغى عليه واشتكى إلى الفكون منه، ويقول الفكون ان المغاربة أيضا قد استنسخوها منه (فهي شهيرة بينهم) (¬2). ومن جهة أخرى وضع الفكون تقييدا بعد مرض أصابه وتمكن من قلبه حوالي سنة، فكان بسببه لا ينام ويتصبب عرقا حتى أيس منه الجميع واختل شطره الأيسر. والغالب على الظن أن هذا التقييد (الذي لم يفصح عن محتواه) لا يخرج عن شكر الله والتوسل إليه. وللفكون نظم آخر سماه (شافية الأمراض لمن التجأ إلى الله بلا اعتراض) وهو النظم الذي سماه أيضا (العدة في عقب الفرج بعد الشدة) وأوله: بك اللهم مبدي الخلق طرا توسلي ... وفي كل أزماتي عليك معولي وهو من نوع الأول في التوسل إلى الله بالرسول (صلى الله عليه وسلم) وبأصحابه والتابعين والفقهاء والأولياء. ¬

_ (¬1) رأينا منه نسخة في مكتبة زاوية طولقة، وهي تقع في حوالي مائة ورقة غير مرقمة، انظر أيضا الفكون (منشور الهداية)، ترجمة عبد اللطيف المسبح، ولعل مختصر الأخضري هذا هو الذي شرحه أيضا الفكون، انظر الفصل السابق، فقرة الفقه. (¬2) (منشور الهداية) 241 - 242، لم يذكر الفكون من هم المغاربة الذين أخذوها عنه، والمعروف أن العياشي قد تتلمذ عليه وانتظم في طريقته وحج معه.

ولعل أهم عمل كتبه الفكون في هذا الباب هو ديوانه الذي خصصه لمدح الرسول (صلى الله عليه وسلم)، فقد نظم عدة قصائد في هذا المعنى ورتبها على حروف الهجاء، مضمنا كل حرف من الحروف حروفا تقرأ من أول كل بيت في الحرف فإذا جمعت يخرج منها (اللهم اشفني بجاه محمد، آمين) (¬1)، وهو الديوان الذي رآه العياشي المغربي وأخبر أن الفكون قد كتب عليه ما يمدح به عند الغمة، وساعة الغياهب المدلهمة، والتزم فيه أن يجعل مبدأ كل سطر حرفا من حروف: الهي بحق الممدوح اشفني، آمين، وقال العياشي إن جملة ذلك خمس وعشرون حرفا من كل قصيدة مثلها أبيات، فقافية الهمزة مثلا تذهب هكذا: أبدرا بدرت في الخافقين سعوده ... ونورا به الأكوان أضحت تلألأ له في العلى أعلى العلى رتبة وفي ... مراقي ذرى العرفان قدما مبوأ أضاء وجود الكائنات ببعثه ... وطلعته الغرا من الشمس أضوأ إلى أن يصل إلى خمسة وعشرين بيتا في حرف الهمزة، ونفس عدد الأبيات في حرف الباء، ومثله في كل حرف من الحروف الهجائية. وقد أخبر العياشي أيضا أن الفكون قد انتهى من هذا الديوان سنة 1031 (¬2)، أي عندما كان عمره ثلاثا وأربعين سنة. فمساهمة الفكون في باب التصوف إذن مساهمة كبيرة، سواء نظرنا إليه كمنتج أو ناقد لأصحابه. وحوالي سنة 1040 أكمل أبو الحسن علي بن عبد الرحمن البجائي شرح رسالة في التصوف سماها (محجة القاصدين وحجة الواجدين). شرح به رسالة عبد العزيز المهدوي المسماة (الرسالة المحتويه على إشارات أهل الدلالة). ورتب الشرح على مقدمة جعلها فيما ينبغي أن يكون عليه طالب طريق القوم، وأربعة أقسام، الأول في كلام الشيخ عبد العزيز المهدوي، ¬

_ (¬1) (منشور الهداية). (¬2) رحلة العياشي 2/ 391. وتوجد نسخة من هذا الديوان في المكتبة الوطنية - تونس. انظر كتابنا (شيخ الإسلام).

والثاني في بيان بعض كلام العارفين. والثالث في شرح بعض الأحاديث النبوية المتصلة بالموضوع، والأخير في شرح بعض الآيات أيضا (¬1)، وقد أجهد علي البجائي نفسه في هذا العمل حتى وصل في الشرح إلى 179 ورقة، ورغم أننا لا نعرف له أعمالا أخرى في هذا الباب فإنه بهذا العمل قد برهن على اتقان صناعة التأليف في التصوف ومستلزماتها. أما عبد الله بن عزوز التلمساني المعروف أيضا بالمراكشي السوسي، فقد ألف تقييدا في التصوف بعنوان (تنبيه التلميذ المحتاج) وهو في الجمع بين الشريعة والطريقة والحقيقة (¬2)، ويبدو من العنوان أن ابن عزوز كان من أنصار الجمع بين التصوف والفقه أو من الذين يجمعون بين علم الظاهر وعلم الباطن، ومما جاء في مقدمته قوله: (وبعد فقد اختلج في صدري أن أصنف هذا الكتاب في الجمع بين الشريعة والطريقة والحقيقة وفي الرد على من أحدث فيها ما ليس منها على مذهب الصوفية .. فإن أعظم العلوم مقاما .. هو العلم الجامع بين الشريعة والطريقة والحقيقة الكفيل بأسرار اللهوت، والكاشف عن أسرار الجبروت ..) وقد جعله في سبعة فصول هي: 1 - في فضائل العلم بالشريعة. 2 - في فضائل العلم بالطريقة. 3 - في فضائل العلم بالحقيقة. . 4 - في الرد عل من بدع في الشريعة ما ليس فيها من أقوال وأفعال وأحوال. 5 - في الرد على من بدع في الطريقة ما ليس فيها. 6 - في الرد على من بدع في الحقيقة ما ليس فيها. 7 - في صفة أخلاق الجامع بين الشريعة والطريقة والحقيقة وأقواله وأفعاله وأحواله (¬3). ¬

_ (¬1) المكتبة الوطنية، تونس. (¬2) رأينا ذلك في مكتبة زاوية طولقة، ولم يذكره له بروكلمان. (¬3) المكتبة الوطنية - الجزائر رقم 2146 مجموع فرغ منه مؤلفه سنة 1188، وهو في حوالي 55 ورقة.

ولابن عزوز أيضا مؤلفان آخران حول نفس الموضوع تقريبا أولهما سماه (إظهار البدع وأرهاط المبتدعة)، وقد نادى فيه بنبذ البدع والعودة إلى الكتاب والسنة. وقال: (إن البدع في هذا الزمان لا نهاية لها، لكنهم (كذا) منحصرون في اثنين وسبعين بدعة، وكل بدعة عملت فرقة وافترقت بهذه الأمة على اثنين وسبعين فرقة كلهم ظالمين مضلين يدعون إلى النار، وأصل هذه البدع هم أربعة طوائف: طائفة بعض المؤلفين وطائفة الفقراء المدعون (كذا) الولاية بالوهم وطائفة الملوك المتجبرين، وطائفة القضاة الباغون (كذا)). ثم أوضح ما ابتدعته كل طائفة بالتفصيل وأنكر عليهم أفعالهم جميعا (¬1). أما مؤلف ابن عزوز الثاني فهو (نور الحياة فيما يجب للخالق على المخلوقات وفي كيفية النظر والتفكير في خلق الأرض والسماوات). وقد جاء فيه (وبعد فإن أعظم العلوم مقاما .. هو العلم بما يجب لله الخالق البديع على مخلوقاته ومصنوعاته. وقد اختلج في صدري وخطر في روعي أن أصنف هذا الكتاب. وأجعله ثلاثة أبواب وإحدى وعشرين فصلا، في كل باب سبعة فصول). والأبواب الثلاثة هي: 1 - في معرفة الله الخالق البديع. 2 - في عبادة الله التي تجب للخالق. 3 - في كيفية النظر والتفكر في مصنوعات الصانع، وأهم نقاط الكتاب هي: عقائد العامة، وعقائد الخاصة، وعقائد الأولياء، ثم عقائد خاصة الخاصة ثم الشهادتان والصلاة والزكاة والجهاد والتفكر في الروح والنفس، وصورة الإنسان .. الخ (¬2). ¬

_ (¬1) نفس المصدر، وقد فرغ منه سنة 1182، وهو في 35 صفحة وتوجد معه ترجمة بالفرنسية في الهامش. (¬2) نفس المصدر، ويقع في 46 ورقة وقد أنهاه صاحبه سنة 1191، وله عمل آخر في نفس المجموع يسمى (المختصر الأزهر في فضل العلم والعمل وما ينفع منهما وما يضر).

وقد عد له بروكلمان ثلاثة مصنفات أخرى في التصوف وهي: (لباب الحكمة) الذي تناول فيه علم الحروف وأسماء الله الحسنى، و (الأجوبة النورانية)، و (أثمد البصائر في معرفة حكم المظاهر). وذكر له بروكلمان أيضا كتابا آخر مرة في باب الطب ومرة في باب التصوف وهو (ذهاب الكسوف ونفي الظلمة في علم الطب والطبائع والحكمة) (¬1)، ومن هذه الكتب ندرك أن ابن عزوز كان ماهرا في عدة علوم، وليس في التصوف وحده. وهذا الموضوع (الجمع بين التصوف والطب) قد عالجه أيضا أحمد بن ساسي البوني ومحمد بن أحمد الشريف الجزائري. وليس من سبيل هنا لإحصاء كتب البوني التي تعالج هذا الموضوع، فقد عرفنا أن مؤلفاته تزيد على المائة في مختلف العلوم، وحسبنا الإشارة إلى ما اطلعنا عليه. فقد ألف عملا سماه (إعلام أهل القريحة في الأدوية الصحيحة) وآخر سماه (مبين المسارب في الأكل والطب مع المشارب) وسنعود إلى هذين الكتابين في فصل العلوم، أما ما يعنينا منه هنا فهو كتابه (تلقيح الأفكار بتنقيح الأذكار) ويبدو أن هذا هو جزء فقط من عمل آخر له اسمه (حط الوراد على حب الأوراد) (¬2). وللبوني أيضا كتاب في التصوف سماه (المجالس) وهو عبارة عن واحد وخمسين مجلسا للوعظ والارشاد، وكل مجلس يبدأ هكذا. (الحمد لله الذي ..) وفي النص تتكرر عبارة (إخواني)، وفيه أشعار يبدو أنها للمؤلف مسوقة للتسلية أيضا والعبرة، والنص مسجع في أغلبه، وفي الكتاب حكايات وأمثال وأدعية، وفيه ينهى المؤلف عن شرب الخمر والدخان ومجالس اللهو واتباع الهوى. وقد عرض فيه بالعثمانيين وميلهم إلى المجون والعبث حيث ذكر أن بعض الشباب قد خرجوا من (دار بعض الأتراك وهم سكارى يتمايلون وقد خلعت عنهم خلع الأستار) (¬3). ¬

_ (¬1) بروكلمان 2/ 704، وأيضا 713. (¬2) بروكلمان 2/ 715، والأخير يوجد في ميونيخ رقم 175، أما (تلقيح الأفكار) فتوجد منه نسخة بالخزانة العامة بالرباط، رقم 1860 د مجموع. (¬3) المكتبة الوطنية، تونس رقم 918، والكتاب في 198 ورقة من الحجم الصغير، =

أما محمد بن أحمد الشريف الجزائري فقد عالج موضوع الطب والتصوف من خلال الحديث النبوي على الخصوص، فهو الذي ألف (المن والسلوى في تحقيق معنى حديث لا عدوى). ولكن معظم مصنفاته الأخرى تعالج موضوع التصوف والفقه. من ذلك (الدر المعنوي في شرح حزب النووي). وقد اشتمل الحزب على أذكار وأدعية. وقدم محمد الجزائري إلى شرحه بثلاث فوائد الأولى في آداب الذكر والدعاء، والثانية في فضائلهما، والثالثة في التعريف بمؤلف الحزب، ووعد أنه سيجعل نص الحزب في متناول الناس بعدما أصبح غامضا عند البعض. وقد ختم عمله بهذا الدعاء الذي كان يعرض فيه بما كان يجري في وقته، والذي قال إنه مناسب (لدفع ما حدث في هذه الأيام من الكدر). والدعاء هو (اللهم استر عوراتنا، وأمن روعنا، اللهم منزل الكتاب، مجرى السحاب، هازم الأحزاب، اللهم منزل الكتاب، سريع الحساب، اهزم الأحزاب، اللهم اهزمهم وزلزلهم .. اللهم إنا نعوذ بك من أن يفرط علينا أحد أو يطغى) (¬1) الخ، ومن مؤلفات محمد الجزائري في التصوف أيضا (استجلاب المسرات بشرح دلائل الخيرات) و (تعمير الوقوت بسمع ما قيل في دعاء القنوت)، وله في هذا المعنى حوالي عشرة مؤلفات بين مختصر ومطول ذكرها في إجازته التي أتينا عليها (¬2). وهناك محمد بن سعيد الهبري الذي كتب (أجوبة ورسائل ونصائح وتفسير بعض كلام الأيمة وتفسير ما أشكل من كلام أهل الحقيقة). وكان ¬

_ = وليس عليه اسم المؤلف وإنما أضيف له اسم (البوني) فقط، وقد رجحنا كونه لأحمد البوني المتوفى سنة 1139، ولكن ناسخه، وهو عبد الرحمن بن محمد الكومي الشهير بشريط، نسخة سنة 1039 (؟) وهذا يوافق عهد محمد ساسي البوني، جد أحمد البوني. (¬1) المكتبة الوطنية - الجزائر، رقم 2206 مجموع، والشرح في حوالي 9 ورقات. (¬2) ذكر محمد بن عبد الكريم (مخطوطات) 48، أن استجلاب المسرات (وسماه سجلات المسرات) يبلغ 368 صفحة، وعن إجازته المذكورة انظر الفصل الأول من هذا الجزء.

الهبري قد ولد بمستغانم ورحل إلى المغرب وتونس وطرابلس بحثا عن صاحب الوقت. وأدركته الوفاة بطرابلس سنة 1093. والظاهر أن الهبري كان يبحث عن ضالته الصوفية خارج الجزائر. وما زلنا لم نطلع على عمله المذكور لنعرف منه مستواه الثقافي وأهدافه العلمية (¬1). ولابن الترجمان رسالة في فضل الصلاة على النبي (صلى الله عليه وسلم). وهي بدون عنوان ومرتبة على أبواب وفصول مثل باب في الصلاة عليه، وباب في محبته، وباب في حياته الخ. وينقل حمدان بن الترجمان عن مشائخ من المغرب والمشرق. ومن مشائخه الجزائريين بركات بن باديس القسنطيني الذي يسميه (شيخنا) وأحمد بن ساسي البوني، وهو ينقل خصوصا من كتاب شيخه البوني (تلقيح الأفكار)، الذي أشرنا إليه، كما ينقل عن زعيمي مدرسة التصوف والزهد في الجزائر: محمد بن يوسف السنوسي وعبد الرحمن الثعالبي (¬2)، كما قام أحمد بن مزيان بوضع رسالة في الصلاة على النبي (صلى الله عليه وسلم) حاز بها، كما يقول الورتلاني (قصب السبق)، كما خمس البردة، وكان صوفيا متمكنا. وقد حشا الورتلاني رحلته بأحاديث طويلة عن التصوف وأهله، سواء في جولاته بالجزائر أو في تنقلاته في المشرق، وبالإضافة إلى ذلك ألف الورتلاني عدة تآليف تضمنت معلومات طيبة عن التصوف، من ذلك شرحه على القدسية الذي أشرنا إليه في الشروح، وتأليفه المسمى (شوارق الأنوارفي تحرير معاني الأذكار) (¬3)، وللورتلاني أيضا رسالتان أشار إليهما في ¬

_ (¬1) انظر المكتبة الوطنية تونس (حسن ح. عبد الوهاب) رقم 18065 مجموع من ورقة 124 إلى 175. وعن حياة الهبري انظر أحمد التائب الأنصاري (نفحات النسرين والريحان فيمن كان بطرابلس من الأعيان). ط بيروت 1963. ذكره أيضا محمد أبو راس في (فتح الإله). (¬2) المكتبة الوطنية - الجزائر، رقم 2291، والرسالة بخط جيد وعبارة مرسلة وليس لها تاريخ ولا اسم ناسخ. (¬3) مكتبة تطوان (المغرب)، مجموع رقم 155.

الرحلة، الأولى في قول بعض الأولياء (وقفت على ساحل وقفت الأنبياء دونه) المنسوب لأبي الحسن الشاذلي والثانية في قول بعض الأولياء أيضا (نسجت برنسا من ماء) المنسوب لأحمد بن يوسف الملياني، ومن جهة أخرى ذكر الورتلاني في الرحلة أنه بينما كان في المدينة المنورة طلب منه الشيخ عبد الكريم السمان كتابة شرح على صلاة وضعها، وقد قام الورتلاني بهذه المهمة (¬1). يضاف إلى ذلك مدائح الورتلاني النبوية مثل قصيدته الميمية التي بلغ فيها خمسمائة بيت، وتشطيره لبردة البوصيري، وهكذا أسهم الورتلاني في ميدان التصوف تأليفا وسلوكا، وقد عرفنا أنه كان صاحب كلمة مسموعة في قومه وأنه كان يعتبر نفسه من الأشراف الواضحين. أسهم محمد بن عبد الرحمن الأزهري الجرجري بدوره في إعلاء صرح التصوف في الجزائر، كما أسهم أتباعه في ذلك بالتأليف ونحوه. ومن أعمال الأزهري شرحه على رسالة عبد الله الرفاعي المسماة (قوته قولي) (¬2). وقد أشرنا إلى رسائل الأزهري عن التصوف التي أرسلها من القاهرة إلى تلاميذه وأتباعه، وهي رسائل عن أهل الدائرة وأهل التصريف والغوث ومراتب القطابة، الخ .. وهذه الرسائل تشتمل أيضا على بعض رسائل أصحابه الموجهة من أسرة أولاد عزوز بتونس وأولاد علي بن عمر بالجزائر (¬3)، وقد ألف مقدمو الطريقة الرحمانية وزعماؤها أعمالا في التصوف أيضا. من ذلك أرجوزة الشيخ محمد بن عزوز البرجي، التي شرحها بنفسه وسماها (رسالة المريد)، ورسالة الشيخ علي بن عمر الطولقي المعروفة باسم (فاكهة الحلقوم في نبذة قليلة من أحوال القوم) (¬4). كما أن عبد الرحمن باش تارزي، مقدم ¬

_ (¬1) (الرحلة) 530. انظر أيضا الرحلات الجزائرية الحجازية في كتابي (أبحاث وآراء في تاريخ الجزائر). (¬2) الخزانة العامة - الرباط، 1669 د مجموع. (¬3) هذه الرسائل في الخزانة العامة بالرباط، رقم ك 956. انظر أيضا بروكلمان 2/ 704. (¬4) توجد ضمن رسائل محمد بن عبد الرحمن الأزهري، الخزانة العامة - الرباط، رقم =

الطريقة الرحمانية وقاضي قسنطينة، قد نظم قصيدة في التصوف (¬1)، أوضح فيها مبادئ وقواعد الطريقة الرحمانية، وهذه القصيدة، التي تعرف (بالمنظومة الرحمانية)، هي التي شرحها ابنه مصطفى باش تارزي. وكثرت الرسائل الصوفية مع أوائل القرن الثالث عشر (19 م) على يد العلماء ورجال الطرق بعد أن غني هذا الاتجاه بانتشار طريقتين جديدتين هما الرحمانية والتجانية، وبعد ثورة الطريقة الدرقاوية، كما أن أتباع الطريقة الحنصالية والزيانية والقادرية قد نشروا قواعدهم وعقائدهم في رسائل وقصائد وكتب صوفية، وليس بوسعنا هنا الإلمام بكل ذلك وضرب الأمثلة عليه، ومن المعروف أن الشيخ محمد بن عبد الله الزجاي قد اعتنق طريقة الجنيد في فاس وأنه ألف عدة كتب في التصوف منها (المرائي المكية في آداب الطريق والأدعية)، وتأليف آخر في شرح أسماء الله الحسنى (¬2). وتنسب إلى المفتي محمد بن الشاهد قصيدة توسلية (وقد كان شاعرا مجيدا) مطلعها: بأسمائك الحسنى فتحت توسلي ... ومنك رجوت العفو اسمى مطالبي ويمكن أن نضيف إلى هذا الموضوع القصائد التي رثي أو مدح بها أصحابها الأولياء والصلحاء والتوسل بها، وفي هذا الباب نذكر قصيدة محمد بن أحمد بن مالك في رثاء الثعالبي: أيا جيرة حلوا بخير مقام ... لكم قد سما قلبي وطاب مقامي (¬3) ¬

_ = ك 956. وقد توفي الشيخ علي بن عمر سنة 1260 أما عن أرجوزة البرجي وشرحها فانظر (تعريف الخلق 2/ 475)، وهي في أصول الطريقة. (¬1) المكتبة الوطنية - الجزائر، رقم 2217 في ورقتين، وهي التي نشرها عبد الحميد بن باديس 1341، وقد توفي الناظم سنة 1221. (¬2) (إتمام الوطر في التعريف بمن اشتهر) مخطوط باريس. (¬3) بعض هذه القصائد في مخطوط رقم 49 بجامع مدينة البرواقية (الجزائر)، وعن حياة ابن الشاهد انظر بوراس (فتح الإله)، وب، فانسان في (المجلة الآسيوية) ديسمبر، 1839، 503، حيث أورد له قصيدة في بكاء الجزائر بعد سقوطها في يد الفرنسيين، كما توجد أخباره في الأرشيف العثماني الجزائري. انظر دراستنا عنه لاحقا.

المنطق

ومن الواضح أن إنتاج الجزائريين في التصوف، بجميع فروعه وفنونه، لو جمع ودرس لجاء في مجلدات، ويظهر أن بعض هذا الإنتاج قد تناول قضايا التصوف العامة، كما عرفها العالم الإسلامي على اتساع أطرافه، وبعضه قد تناول قضايا إقليمية خاصة كأصول بعض الطرق وتصرفات بعض المتصوفة، والتأليف في بعض الأولياء والصلحاء، ولكن الجميع يكشف عما وصل إليه الفكر الجزائري الفلسفي والصوفي خلال العهد العثماني، ونود أن نلاحظ من جهة أخرى أن الإنتاج الذي تناول التصوف من الناحية الفلسفية وعلاقته الخاصة بالتشريع والفقه، وبالعلوم الدنيوية، يعتبر إنتاجا قليلا، ومهما كان الأمر فإن علاقة التصوف والتوحيد علاقة وطيدة بالمنطق أيضا، ولذلك يجب أن نعالج هذه النقطة الآن. المنطق: إذا حكمنا على إنتاج الجزائريين في علم المنطق مما وجدنا لهم منه فإنه إنتاج قليل بل نادر، فباستثناء عمل علماء القرن التاسع (15 م)، أمثال ابن القنفذ والسنوسي والمغيلي فإن ما بقي منسوبا إلى علماء العهد العثماني يكاد يعد على أصابع اليد الواحدة، وفي نظرنا أن هذا النقص في علم هام كعلم المنطق، يعود إلى سببين رئيسيين الأول صعوبة هذا العلم، لأنه يتطلب الاطلاع الواسع على كتابات الأولين والأجانب والإضافة عليها ونقدها، ولثاني طغيان علم التصوف على الجزائريين، كما رأينا، وهو علم حدا بأصحابه، ولا سيما الذين بالغوا فيه، إلى الاكتفاء بعلوم الباطن واعتبار علم المنطق من علوم الظاهر التي قد تؤدي إلى الكفر والإلحاد والزندقة. حقا ان بعض المدرسين قد اشتغلوا بالمنطق كسعيد قدورة، كما اشتغل به بعض العلماء أمثال ابن حمادوش، ولكن قيمة علم المنطق ظلت مجهولا أو معدومة إلى جانب قيم العلوم الأخرى، والغريب أن بعض العلماء قد غلب عليهم المنطق وادعوا التفوق فيه، كما أخبر بذلك عبد الكريم الفكون عن

الشيخ علي الغربي بقسنطينة في القرن العاشر (16 م)، ومع ذلك فقد كان علي الغربي من المفتين والقضاة وأهل الشورى (¬1)، وقد سبق القول إن يحيى الشاوي قد اضطر إلى مماشاة شيخه عيسى الثعالبي عدة مراحل حتى يتعلم عليه علم المنطق إلى أن حذقه عليه (¬2). ويعتبر عبد الرحمن الأخضري أبرز من ألف في المنطق خلال العهد العثماني، ولم تقتصر شهرة الأخضري على تأليفه هو، نظما وشرحا، ولكن على ما جذب إليه من اهتمام العلماء الآخرين لشرح ودراسة عمله في المنطق، وقد ظلت أعمال الأخضري في هذا الميدان حية ومدروسة إلى هذا القرن، ومن جهة أخرى كان عمل الأخضري في المنطق موضع اهتمام علماء المسلمين في المغرب والمشرق والسودان والهند، كما أنه من الأعمال المطبوعة المتداولة، ومن الواضح أن الأخضري يجيد علم المنطق ولكنه نجح في اختصار قواعده وتوضيحها في متنه المعروف بـ (السلم المرونق)، وفي شرحه الوافي والسهل عليه وهو الشرح الذي أصبح عمدة الأستاذ والتلميذ على حد سواء، وهكذا نجد أنفسنا أمام عمل خالد فرض نفسه على الدراسات المنطقية حوالي أربعة قرون، ومن أواخر من ترجمه ودرسه وقدمه للقراء الأجانب، المستشرق الفرنسي لوسياني في أوائل هذا القرن (¬3). نظم الأخضري وشرح (السلم المرونق) وهو ابن إحدى وعشرين سنة فقط، حسب قوله: ولبني إحدى وعشرين سنة ... معذرة مقبولة مستحسنة ¬

_ (¬1) (منشور الهداية) 29. (¬2) (خلاصة الأثر) 3/ 241. (¬3) لوسياني (السلم)، الجزائر، 1921. وتوجد نسخة من مخطوط السلم في المكتبة الوطنية - الجزائر، رقم 2062، انظر أيضا رقم 2144, 2145، أما المطبوع فنذكر شرح الدمنهوري عليه، القاهرة سنة 1896 مع شرح الأخضري وتعاليق لبعضهم، وكذلك شرح محمد البناني، القاهرة 1901، مع شرح قدورة. كما طبع منه شرح الباجوري وشرح الملوي، الخ.

وبلغ الرجز وحده مائة وثلاثة وأربعين بيتا، وأوضح فيه أن دراسة المنطق قد تتناقض في الظاهر مع دراسة الدين، ولكنه دافع عن ذلك وأثبت أن لا تعارض ولا تناقض، رغم أن دراسة غير الحذر قد يؤول به الأمر إلى الشك. وقسم الأخضري المعرفة إلى قسمين معروفين: التصور والتصديق، والفكرة البسيطة المدركة بالبداهة والفكرة المعقدة التي لا تدرك إلا بعد استعمال العقل والنظر، وقد نجح في توضيح أسباب الخطأ في التعليل وغير ذلك من القضايا المتصلة بهذا العلم، ولأهمية السلم قارنه لوسياني (بحديقة الجذور الإغريقية) (Jardin des racines Grecques) لكلود لانسلو، كما قارنه حاجي خليفة بعمل إيساغوجي (¬1). وقد تبارى العلماء في شرح السلم والتعليق عليه، من ذلك شروح إبراهيم الباجوري، ومحمد الأنبابي، ومحمد البناني وسعيد قدورة، والذي يهمنا الآن هو الشرح الأخير، ويعتبر بعضهم أن قدورة تتلمذ على الأخضري، وهو بعيد، لأن المشهور أن الأخضري قد توفي سنة 953 عن اثنين وثلابين سنة، بينما توفي قدورة سنة 1066. (ونحن لا نعرف تاريخ ميلاده، ولكنه بدون شك كان أواخر القرن العاشر)، فالأخضري كان، كما يغلب على الظن شيخ شيوخ قدورة، كما أنه كان شيخ شيوخ عبد الكريم الفكون (¬2). وعلى كل حال فقد عمد قدورة إلى وضع حاشية على السلم بدأها هكذا (الحمد لله الذي علم الإنسان من حقائق التصورات ما لم يكن يعلم، وأطلعه على دقائق التصديقات الموصلة إلى طريقة الرشد)، وكان قدورة، الذي عرفنا أنه كان من علماء الظاهر والباطن، يمهد بذلك لإقناع من قد ¬

_ (¬1) لوسياني، (السلم) 6. (¬2) ذهب صاحب (العقد الجوهري)، أحمد بن داود إلى أن قدورة والفكون من تلاميذ الأخضري، وهو خطأ (ولد الفكون سنة 988 وتوفي سنة 1073)، اللهم إلا إذا كان يقصد الفكون الجد، (العقد الجوهري). انظر الشك في تاريخ وفاة الأخضري سابقا.

يعترض على التأليف في علم المنطق، فقد برر عمله بأن الأخضري في شرحه على السلم قد أغفل بعض الأمور التي يجب التنبيه عليها. وبكل تواضع قال قدورة إن عمله لا يعدو أن يكون (مضافا لشرح المصنف (الأخضري) كالتذييل لما أغفله الناظم في شرحه، مظهرا لمقاصده، ومستخرجا، بعض فوائده)، وسار قدورة في شرحه هذا على النهج الذي سلكه في شروحه الأخرى الفقهية وغيرها في تفسير ألفاظ المتن والاستشهاد لذلك بالقرآن والحديث والأشعار، ثم تفسير الألفاظ بلاغيا ونحويا، وأخيرا تفسير المعاني المقصودة من وضع التأليف كله، وهو ينقل في ذلك عن سابقيه أمثال السنوسي والمغيلي وسعيد العقباني (¬1) وجاء في رحلة ابن زاكور أن أبا عبد الله بن خليفة له شرح أيضا على سلم الأخضري (¬2). وبعد حوالي قرن من وفاة قدورة جاء عبد الرزاق بن حمادوش لا ليشرح السلم ولكن ليعود إلى مختصر السنوسي في المنطق ويشرحه، وقد سمي ابن حمادوش عمله بـ (الدرر على المختصر). وهو يقع، كما أخبر بنفسه، في حوالي تسع وسبعين ورقة، (ثماني كراريس). وقد أشاد به واعتبره من أهم تآليفه، وكان ابن حمادوش قد قرأ، عندما كان في المغرب، مختصر السنوسي في المنطق على الشيخ أحمد بن المبارك وأجازه به، كما أنه قد صححه في الجزائر على العالم المغربي أحمد الورززي عند زيارة هذا للجزائر سنة 1159، وقد أعطاه الورززي شهادة بذلك تدل على براعة ابن حمادوش في معالجة هذا الموضوع، وشهد لابن حمادوش على ذلك أيضا عدد من علماء الجزائر منهم عبد الرحمن الشارف وأحمد بن عمار، وكان ابن عمار معروفا بعلمه ومروءته، وعند تقريظه لكتاب (الدرر) أعلن ابن عمار أنه كتاب صغير الحجم كثير الفائدة وأجاز قراءته وشجع عليه، وكان تقريظه له شعرا ونثرا: ¬

_ (¬1) النسخة التي اطلعنا عليها من حاشية قدورة على السلم توجد في المكتبة الملكية - الرباط، رقم 6906، وهي متآكلة الأطراف وتقع في 25 ورقة. (¬2) (رحلة ابن زاكور)، 31.

هنيئا هنيئا أيا مختصر ... بشرح بديع جموع أغر وكان ابن حمادوش قد اعتز بهذه الآراء وسجلها في رحلته بشيء من الإعجاب (¬1). ومن أواخر من ألف في المنطق في العهد العثماني، أبو راس الناصر، وعبد العزيز الثميني، فقد ذكر أبو راس أن له شرحا على سلم الأخضري سماه (القول المسلم في شرح السلم)، ولعل له غيره في المنطق أيضا. فقد كان عالما بشؤون الدين والدنيا كما عرفنا، وذكر في رحلته (فتح الإله ومنته) تآليفه مبوبة، واطلعنا على ذلك وسجلنا له الكتاب المذكور في المنطق، غير أنه لا يستبعد أن يكون له غيره مما لم نسجله (¬2). أما الثميني فقد وضع شرحا على (مرج البحرين) لأبي يعقوب يوسف بن إبراهيم الورجلاني. وقد سمي الثميني شرحه (تعاظم الموجين في شرح مرج البحرين) (¬3)، وقد بدأ شرحه بهذه العبارة الهامة كفاتحة (نحمدك يا من نطقت بآيات وجوب وجوده أجناس الكائنات ..) وقد عرفنا أن كلا من أبي راس والثميني لم يكونا من علماء التصوف، وهذا يتماشى مع اهتمامهما بعلم المنطق. ¬

_ (¬1) حققنا رحلة ابن حمادوش، وطبعت في الجزائر، 1983. (¬2) أبو راس الناصر (فتح الإله ومنته)، الخزانة العامة - الرباط، رقم ك 2263، ك 2332. وقد طبع هذا الكتاب بعد تحقيقه محمد بن عبد الكريم. (¬3) دار الكتب المصرية، رقم 2751، والنسخة في 115 ورقة.

الفصل الثالث علوم اللغة - النثر الفني

الفصل الثالث علوم اللغة - النثر الفني

علوم اللغة ونحوها

نتناول في هذا الفصل ثلاثة أقسام، الأول علوم اللغة من نحو وصرف وفقه لغة، ثم العروض والبلاغة ونحو ذلك، وفي القسم الثاني منه ندرس فنون النثر الأدبي من رسائل ومقامات وخطب وتآليف أدبية، أما القسم الأخير فسنترجم فيه لأحمد المقري وأحمد بن عمار. علوم اللغة ونحوها رغم أن الجزائريين لم يؤلفوا كثيرا في علوم اللغة فإنهم اهتموا بالنحو خصوصا وتركوا لنا إنتاجا طيبا فيه، ومنذ يحيى بن معطي الزواوي تركزت العيون على زواوة باعتبارها مدرسة هامة لعلم النحو (¬1). ثم جاء أبو جميل زيان بن فائد الزواوي القسنطيني فتقدم بالدراسات النحويه أشواطا عريضة، كما عرفنا (¬2). وبالإضافة إلى زواوة اشتهرت زاوية خنقة سيدي ناجي بالنحو حتى أن الورتلاني روى في رحلته أن النحو كان يعتني به هناك الكبير والصغير واشتهروا به (اشتهارا بينا) (¬3)، وقد حاول الورتلاني أن يردهم إلى دراسة التوحيد وينصحهم بعدم التركيز على النحو، ولكنهم ناقشوه وحاجوه في ذلك، وعرف علماء الجزائر بحفظ متون النحو وبعض الشروح وإدراك ¬

_ (¬1) انظر عن يحيى بن معطي بغية الوعاة للسيوطي، وابن خلكان، وقد توفي ابن معطي في القاهرة سنة 628. ومن أشهر آثاره (الألفية في علم العربية)، وفي سنة 1972 وضع الطاهر الطاهي المغربي رسالة ماجستير عن ابن معطي مع تحقيق كتابه (الفصول الخمسة) وناقشها في معهد البحوث والدراسات العربية بالقاهرة. (¬2) انظر عنه الفصل الأول من الجزء الأول. (¬3) الورتلاني (الرحلة) 119.

مسائلها عن ظهر قلب حنى أصبحوا لا يعانون في ذلك رهقا ولا مشقة، فهذا ابن مريم يخبر عن محمد الحاج المناوي (ت 955) انه كان يقول (ألفية ابن مالك عندنا كخبر الجلوس) فهي عنده محفوظة معروفة يتحدثون بها في المجالس ويتنادرون، لذلك طلب المناوي من تلاميذه أن يكون اهتمامهم بما هو أرفع من ذلك، لأن المعلومات التي يمنحها لهم في النحو إنما جاءت نتيجة جهود أخرى مضنية ومطالعات مستقصية، فكان يقول لهم (هذا الذي نملي عليكم مطالعة أربعين سنة) (¬1)، وضرب ابن حمادوش في رحلته مثلا لبعض الطلبة، محاولا إقناعهم بضرورة تعلم الحساب والنحو، بأن أهل تونس وأهل الأندلس كانوا يبدأون أولادهم بتعليم هذين العلمين (ليذوقوا لذة العلم)، فالنحو والحساب عند ابن حمادوش من العلوم التي تفتح شهية التلاميذ لأنها من العلوم العقلية. وقد اشتهر بعض الجزائريين بالدراسات النحوية، ومن هؤلاء يحيى الشاوي وعبد الكريم الفكون ومحمد بن راشد الزواوي وعاشور الفكيرين القسنطيني (¬2)، فقد ترك يحيى الشاوي أربعة تآليف على الأقل في النحو، كما سترى، وترك الفكون نحو ذلك، أما ابن راشد والفكيرين فلا نعرف لهما تأليفا فيه ولكنهما اشتهرا بتدريسه، ومن أبرز الأساتذة الواردين على الجزائر من المغرب والذين تركوا بصمات قوية في الاهتمام بعلم النحو. محمد التواتي. فقد حل هذا الشيخ بقسنطينة أوائل القرن الحادي عشر (17 م)، وكان قد تخرج من فاس واشتهر بها في النحو حتى كان يلقب بسيبويه زمانه. وجلس في قسنطينة للتدريس فترة طويلة وورد عليه الطلاب من زواوة وعنابة والزيبان ونقاوس ونحوها، ومن أبرز تلاميذه محمد بن راشد الذي جاء من زواوة ليدرس عليه، فقرأ عليه كتاب (المرادي) حتى أتقنه، وبعد التخرج جلس ابن راشد للتدريس أيضا في قسنطينة فكان يدرس لطلابه كتاب ¬

_ (¬1) (البستان) 266. (¬2) اشتهر الفكيرين في النحو والصرف والرحلات، وسندرسه في فصل التاريخ والرحلات.

(التوضيح) الذي كان مشهورا في زواوة شهرة واسعة ويعتنون به قراءة وإقراء، كما يقول الفكون، وقد جمع ابن راشد (تقاييد) على الشيخ التواتي من تقريره أثناء الدرس وربما زاد عليها بعض المسائل من ابن بابشاذ وغيره من النحاة، ولكننا لا ندري إن كان ابن راشد قد نسق كل ذلك ووضعه في شكل كتاب. وعاد ابن راشد إلى زواوة وأخذ يدرس هناك النحو على الأجرومية وعلى المكودي (¬1). وتظهر أهمية التواتي وابن راشد في تخريج أحد كبار النحاة الجزائريين، وهو عبد الكريم الفكون، فقد درس الفكون أيضا على التواتي علم النحو وتأثر به كثيرا، وهو يظهر إعجابه به عند ترجمته لشيخه، وكان التواتي قد خرج من قسنطينة خائفا من الظلمة، واستقر به المقام في باجة بتونس حيث توفي بالطاعون سنة 1031. ويبدو أن تأثير ابن راشد على الفكون كان قويا أيضا، فقد ذكر الفكون أنه كان حديث العهد وصغير السن عندما بدأ يتعلم النحو على التواتي فرأى إجادة ابن راشد للنحو ومناظرته لتلاميذ التواتي فيه وتفوقه عليهم فانقاد إليه وأصبح من الراغبين في التعمق في هذا العلم، ويحدثنا الفكون عن أن ابن راشد هو الذي شجعه على ذلك وأقرأه وقدمه على التلاميذ الآخرين حين أعطاه في الدرس كتاب (التوضيح) الذي كان يقرئه ليسمعه، وذلك لفصاحة لسانه وحسن صوته. وهناك شخصية أخرى كان لها أثر في تعلق قلب الفكون بعلم النحو، وهو إبراهيم الفلاري التونسي، وإذا كان تأثير ابن راشد والتواتي عن طريق التلمذة والاحترام فإن تأثير الفلاري كان بطريق المنافسة والتعجيز. فقد زار الفلاري قسنطينة ذات مرة، وكان علماؤها يجلونه ويستقبلونه على أنه من كبار النحاة ويعقدون معه المجالس العلمية (مثل نادي يحيى بن محجوبة)، وكان الفكون يتردد على هذا النادي رغم حداثة سنه. وأمام العلماء طرح الفلاري مسألة على الفكون فعجز عنها فحز ذلك في نفسه، وهو ما يزال، كما يقول، في سن الكتاب، وفكر في الأمر بعد عودة الفلاري إلى تونس وتمتعه هناك بصيت كبير في علم ¬

_ (¬1) (منشور الهداية) 95 - 101.

النحو فإن (الحرب كانت سجالا) بينه وبين الفكوبة (¬1). ألف الفكون عدة كتب في النحو والصرف نعرف بعضها فقط، من ذلك كتابه الكبير (فتح المولى بشواهد ابن يعلى) (¬2)، و (شرح على أرجوزة المكودي في التصريف) وقد ذكر العياشي الذي رأى هذا الكتاب واستفاد منه أن الفكون قد أجاد الشرح والبحث وأن شرحه يفضل شرح أبي عبد الله المرابط الدلائي على نفس الأرجوزة، وقد فرغ الفكون من هذا الكتاب سنة 1048 أي أثناء نضجه الفكري (ولد سنة 988). وأخبر العياشي أن الفكون افتتح شرحه بهذه العبارة (الحمد لله الذي أجرى تصاريف المقادير بواسطة أمثلة الأفعال، وأوضح بيان افتقارها إليه بتغيير حالاتها من حركة وصحة واعتلال) (¬3)، وللفكون أيضا (شرح على شواهد الشريف على الأجرومية) (¬4). وله أيضا شرح على نظم محمد المجرادي في النحو وهو (فتح الهادي بشرح المجرادي) (¬5)، ومن ثمة يظهر أن الفكون لم يكن مجرد مدرس للنحو على الطريقة التقليدية، شأن كثير من علماء الوقت، ولكنه كان، بالإضافة إلى التدريس، مؤلفا ماهرا في علم النحو والصرف، وكلاهما من العلوم العقلية، وهذا يتماشى, مع اتحاهه العقلاني الذي كشف عنه في ¬

_ (¬1) نفس المصدر، 101 - 105، وقد توفي الفلاري سنة 1039 بتونس، وكان قد تولى فتوى المالكية بها. انظر عنه الوزير السراج (الحلل السندسية) 2/ 1، 181. (¬2) مخطوطات المكتبة العباسية في البصرة (العراق) رقم ج - 64 مذكور في قسم الأدب والشعر. إعداد علي الخاقاني، طبع المجمع العلمي العراقي، 1961 - القسم الأول. ورغم أن كتاب الفكون مبتور الآخر فإن الموجود منه يبلغ 324 صفحة، ولعله يقصد به شرح الشواهد الواردة في (الدرة النحوية في شرح معاني الأجرومية) لمحمد بن أحمد الحسني الفاسي المعروف بابن يعلى والمتوفى سنة 723. (¬3) العياشي (الرحلة) 2/ 391، ولعله هو (فتح اللطيف في شرح أرجوزة المكودي في التصريف) الذي أطلعني علي امقران السحنوني على نسخة منه. (¬4) عبد الرحمن الجيلالي، 2/ 391 - 393، ولعل هذا الكتاب هو نفسه (فتح المولى). (¬5) مجاميع تيمور، رقم 263، والنسخة تعود إلى سنة 1264، وقد توفي محمد المجرادي السلاوي سنة 1036.

كتابيه: (منشور الهداية) و (محدد السان) (¬1). وكان يحيى الشاوي من المعاصرين للفكون، وربما أخذ عنه، لأن الفكون أكبر منه سنا وكان في الجزائر موضع شهرة واحترام عندما كان الشاوي ما يزال طالبا يبحث عن الشيوخ الذين يشبعون نهمه العلمي، وإذا كنا قد عرفنا جانبا من توجيه الفكون نحو علم النحو فإننا ما زلنا لا نعرف من الذي دفع الشاوي إلى هذا العلم. وقد أخبر عنه العياشي بأنه كان من الأذكياء وأن له معرفة حسنة بالنحو ومشاركة في غيره، وأنه كان مواظبا على التعلم والتعليم. حقا إن مزاجه كان، كما أشرنا، يشبه مزاج المقري المعاصر له أيضا، كلاهما كان يجانب أهل الباطن ويطمح إلى الاتصال بالأمراء وأصحاب الجاه، وكلاهما استعمل علمه سلما للدنيا، فهذا الشاوي قد ألف كتابا في أصول النحو جعله على أسلوب (الاقتراح) للسيوطي وكتبه برسم السلطان العثماني، محمد خان، وقدمه للعلماء العثمانيين فقرظوه، ولم يذكر المحبي الذي أورد هذه القصة اسم الكتاب ولكنه قال عنه إنه تأليف صغير. ومن كتب الشاوي الأخرى في النحو: نظم لامية في إعراب اسم الجلالة جمع فيه أقوال النحاة وشرحها شرحا طيبا، وله شرح على التسهيل لابن مالك، وحاشية كبيرة على شرح المرادي (¬2). وممن وضعوا حاشية على شرح الخلاصة للمرادي أيضا سعيد قدورة، الذي عرفنا أنه قد اشتهر، كمدرس، بوضع حواشي وشروح على الكتب التي كان يدرسها لتلاميذه، وقد سمي حاشيته القصيرة (رقم الأيادي على تصنيف المرادي) (¬3). ¬

_ (¬1) انطر ترجمة الفكون في الفصل السادس من الجزء الأول. وذكر في (فتح اللطيف) أن له كتابا آخر سماه (فتح المالك). والظاهر أنه شرح على لامية ابن مالك. (¬2) نسخة من هذه الحاشية في المكتبة السليمانية (إسطانبول). انظر محمد بن عبد الكريم (مخطوطات) 157. انظر أيضا المحبي (خلاصة الأثر) 4/ 486. وقد ترجمنا ليحيى الشاوي في الفصل الثاني من هذا الجزء. (¬3) الخزانة العامة، الرباط، 2692 د. انظر ترجمة سيد قدورة في فصل التعليم من الجزء الأول.

وقد أخذت الأجرومية وألفية ابن مالك حظا وافرا من عناية الجزائريين، فألف محمد الصباغ القلعي (الدرة الصباغية في شرح الجرومية) (¬1)، وهو عمل يدل على سعة معلومات صاحبه في علم النحو، رغم أنه كان، كما عرفنا، من المهتمين بعلم التصوف، إذ هو أول من كتب طويلا عن أحمد بن يوسف الملياني في (بستان الأزهار). وقد أشار الصباغ إلى ظروف تأليف (الدرة) وطريقته فقال إنه ألفها (في زمان كثير شره، وقليل نفعه وخيره .. ومع شغل البال، وتراكم الهموم والأهوال)، كما ذكر أنه قرأها على شيخه محمد بن منصور المستغانمي فأجازه بها، أما عن طريقته فقال إنه كان يهدف إلى وضع تقييد على الأجرومية (لنفسي، ولمن هو مبتدي مثلي من أبناء جنسي .. وتكلمت على إعرابها، ولم أر أحمدا أعربها قبلي)، ومن المفيد أنه ذكر اسمه فيها هكذا: محمد بن محمد بن أحمد بن علي الصباغ الهواري. ومن جهة أخرى، نظم خليفة بن حسن القماري الأجرومية في قصيدة (لذيذة يطرب لها الناشئ ويرقص لها المبتدئ لسلاسة نظمها وعذوبة موسيقاها) (¬2) وسماها (اللامية في نظم الأجرومية)، وكانت الأجرومية هي ملح الطعام عند مدرسي وطلاب الجزائر. أما ألفية ابن مالك فمن أوائل من ألف فيها في العهد العثماني محمد بن عامر الأخضري البسكري (وهو والد عبد الرحمن الأخضري). فقد أراد أن يوضح في شرحه عليها ما غمض منها، ولكن شرحه قد طال. فهو لم يكن يعلق ليوضح ولكنه كان يشرح شرحا تقليديا لأبواب النحو المعهودة في الألفية، ثم أضاف إلى ذلك طبعا بعض معارفه الخاصة التي تظهر من الإعراب والتنبيهات واللطائف، ويبدو أن الناسخ قد وجد تحريفا في الأصل فأثبته كما هو، وليس لهذا الشرح عنوان وإنما اكتفى الناسخ أو المالك له ¬

_ (¬1) المكتبة الوطنية - الجزائر، 2325 في 156 ورقة، عن الصباغ انظر الفصل الثاني من هذا الجزء. (¬2) التليلي (إتحاف القاري) مخطوط.

بوضع عبارة (تقييد) فقط (¬1)، كما أن أحمد بن العباس الوهراني قد وضع شرحا على لامية الأفعال في التصريف لابن مالك (¬2). وكذلك شرح محمد بن يحيى البجائي لامية الأفعال (¬3) وناقش الناظم وجاء بآراء النحاة، كما استعمل الإعراب وذكر الشواهد، واللامية المشار إليها هي التي تبدأ هكذا. الحمد لله لا أبغي به بدلا ... حمدا يبلغ من رضوانه أملا ثم الصلاة على خير الورى وعلى ... ساداتنا آله وصحبه الفضلا وبعد فالفعل من يحكم تصرفه ... يحز من اللغة الأبواب والسبلا ويبدو أن أبا القاسم بن محمد البجائي كان من النحاة التقليديين في القرن الحادي عشر، فقد عاش على الأقل جزءا من حياته في تونس وأخذ بها العلم على علمائها وعلى الوافدين عليها من العثمانيين وغيرهم. ويذكر حسين خوجة صاحب (بشائر أهل الإيمان) أن البجائي قد تولى الخطابة في جامع الخطبة خارج باب الجزيرة بتونس وأنه كان أيضا فقيها ورعا (¬4)، والعبارة الأخيرة كانت تطلق على كل العلماء المرضي عنهم في ذلك الوقت، ولو كانوا من النحاة والأطباء، لأن مقياس الإنسان الصالح عندئذ هو الورع والفقه والزهد، ومهما كان الأمر فإن حسين خوجة قد ذكر أن البجائي ألف كتبا، منها شرح شواهد أربعة كتب هي القطر والشذور والمقدمة. وقد اطلعنا نحن على شرحه على شواهد القواعد الصغرى في النحو لابن هشام الأنصاري، وذكر البجائي في تبريره تأليف هذا الكتاب أنه لم ير من شرح هذه الشواهد فأراد هو أن يشرحها (شرحا يرفع عنها حجابها، ويكشف نقابها، ويذلل صعابها، ويزيل عنها إغرابها، متجافيا فيه عن ¬

_ (¬1) المكتبة الملكية - الرباط، 8315، ويقع في خمس وستين ورقة. (¬2) نفس المصدر، 4268، 8849، وتوجد قطعة منه أيضا في المكتبة الوطنية. الجزائر، رقم 2231 مجموع، وفيه أن اسمه محمد بن العباس. (¬3) المكتبة الوطنية. الجزائر، 2231 مجموع، النسخة التي اطلعنا عليها منسوخة سنة 1055 وهي في 20 ورقة، وخطها جيد. (¬4) (بشائر أهل الإيمان)، المكتبة الوطنية - الجزائر مخطوط رقم 2192.

الإطالة، خشية السآمة والملالة) (¬1)، ومن الجدير بالذكر أنه بدأ شرحه بتعريف الشعر نقلا عن ابن رشيق، كما رأينا له (شرح شواهد كتاب شذور الذهب) لابن هشام الأنصاري أيضا (¬2). وعبارة البجائي في مقدمته لا تختلف كثيرا عن عبارته في الشرح السابق، فقد افتتحه بهذه العبارات (وبعد، فإن كتاب شذور الذهب في معرفة كلام العرب من أنفس ما ألف في علم النحو، غير أن شواهده لم أر من تعرض لشرحها، فأردت أن أجعل عليها شرحا يذلل صعابها .. ناقلا ذلك من شرح العيني على شواهد الكتب الأربعة، ومن وشي الحلل في شرح أبيات الجمل للشيخ الفهري ومن شرح شواهد المغني للشيخ السيوطي، ومن شواهد الشيخ ابن هشام اللخمي، ومن الدماميني الكبير على المغني، ومن غيرها ما تدعو إليه الحاجة)، والنسخة التي اطلعنا عليها ليس لها عنوان وإنما أضاف إليها السيد عمار البطالبي عبارة كتاب شواهد السرور (الشذور؟). وممن اعتنى بالتأليف في النحو أيضا محمد الزجاي، فقد ذكر في ترجمته أن له شرحا على ألفية السيوطي، وعلى التسهيل لابن مالك وعلى لامية الأفعال في التصريف وعلى نونية صاحب الشذور، الخ. والزجاي، مثل سعيد قدورة والأنصاري، كان يعلق على الكتب التي كان يتناولها في درسه فيوضحها لطلابه، وقد يزيد على ذلك شواهد وتبسيطا وأخبارا، ولا نظن هذه التآليف إلا موجهة للطلبة فقط (¬3)، أما أبو راس الذي قيل إنه كان يلحن في درسه، رغم علمه الواسع، فقد ألف أيضا في النحو واللغة، وهو ¬

_ (¬1) المكتبة الوطنية - تونس، 1598، انتهى البجائي من هذا الشرح سنة 1029، وهو في 18 ورقة فقط. (¬2) المكتبة الوطنية - الجزائر، 2265 مجموع، وهو في 94 ورقة، وهذه النسخة بقلم محمد بن مراد الحنفي سنة 1188. ورأينا نسخة من هذا الشرح عند علي أمقران السحنوني بخط محمد بن أحمد بن فتح الله الصنهاجي سنة 1033. (¬3) (إتمام الوطر) مخطوط باريس.

قد اعترف أن أحدا لم يفته في كثرة التآليف سوى السيوطي، ومما ذكره لنفسه من التآليف في باب النحو (الدرة اليتيمة التي لا يبلغ لها قيمة) (¬1). ولم يؤلف في تراجم النحاة، على ما نعلم، سوى بركات بن باديس وتلميذه أحمد بن قاسم البوني، أما ابن باديس فقد ألف كتابا سماه (التنقيح في التعريف ببعض أحوال رجال طالعة التصريح على التوضيح)، قال عنه (وبعد فهذا تقييد مفيد .. لمعرفة طبقات بعض أئمة النحويين وأخبار الجهابذة المشهورين (يشتمل) على طرف من ألفاظ طالعة التصريح للشيخ أبي البقاء خالد الأزهري)، والظاهر أنه جمع فيه تراجم مختصرة لعلماء النحو الذين يتعرض لهم أثناء تدريسه لهذه المادة في قسنطينة، ومنهمحوالي ثمانية وعشرين ترجمة مثل المازني وابن الحاجب، والسيرفي، وابن مالك، والخليل بن أحمد، وأبو الأسود، وسيبويه، وابن هشام، والكسائي، وابن جني، والأخفش، الخ .. وقد قلنا إنها تراجم مختصرة لأن تأليف ابن باديس لا يعدو ثماني وعشرين ورقة من النسخة التي اطلعنا عليها (¬2). أما البوني فقد ألف، كما عرفنا، في علوم مختلفة، ومنها النحو واللغة، ويشهد لذلك كتابه المسمى (فتح المتين في تراجم بعض مشاهير النحاة واللغويين)، ويبدو من عنوانه أنه قد اقتصر فيه على (بعض المشاهير) فهو إذن ليس كتابا شاملا للنحاة واللغويين، ولكن غير مقتصر على زمانمعين، ومن الذين ترجم لهم، ابن خالويه، وقد جاء في كتابه أيضا ببعض الأخبار الأدبية واللغوية التي يسميها بالفوائد، ومن ذلك القصة التي رواها عن ابن العديم صاحب (تاريخ حلب) من أن سيف الدولة قد طلب من ¬

_ (¬1) (فتح الإله ومنته) مخطوط الخزانة العامة بالرباط. (¬2) نسخة في مكتبة المرحوم المولود بن الموهوب (عند السيد ماضوي) من نسخ سالم بن محمد من أولاد سيدي عيسى بن الأكحل، نسخها لشعبان بن جلول سنة 1146. ولبركات بن باديس كتب أخرى في النحو منها شرح على ألفية ابن مالك في ثلاثة أجزاء، وآخر في شرح الشواهد للمكودي على الألفية.

العلماء أن يذكروا له بعض الأسماء الممدودة وجموعها مقصورة .. وأن ابن خالويه قد ذكر من ذلك صحراء وصحارى وعذراء وعذارى، وقد نظم أحمد البوني هذه الأسماء في قوله: صحراء عذراء ولفاء وخبراء ... ممدودة كلها وزيد سبتاء وجمعها جاء مقصورا فكن فطنا ... واحفظ فديتك ما بالحفظ بأساء (¬1) وقليل هم العلماء الذين ألفوا في علم اللغة المحض، ومن هؤلاء أحمد بن محمد بن علي بن ويغلان البجائي الذي نسب إليه بروكلمان (الروض النظيم (المنظم؟) في معاني حروف المعجم (¬2)، ومحمد بن بدوي الجزائري المعسكري. صاحب كتاب (الارتضاء في الفرق بين الضاد والظاء)، فقد لخص فيه كتاب (الاعتضاد في الفرق بين الظاء والضاد) لأبي حيان محمد بن يوسف الأندلسي، وقال ابن بدوي الذي كتب عمله سنة 1127، (هذا كتاب لخصته من كتاب الاعتضاد .. ورتبته على ما فيه ظاء من حروف المعجم، وعددت في كل حرف ما فيه من المواد، وبدأت بالصحيح ثم المضاعف ثم المعتل بالثلاثي ثم بغيره، وما وضح لي من المقصور انقلاب ألفه عن ياء أو واو، وذكرته بما وضح، وما لا ذكرته مقصورا، على حاله .. وسميته الارتضاء) (¬3)، أما أبو راس فقد ذكر أن من تآليفه كتابا سماه (ضياء القابوس على كتاب القاموس) الذي يبدو أنه حذا فيه حذو (الجاسوس على القاموس)، وقد وضع المفتي علي بن عبد القادر بن الأمين رسالة سماها (إتحاف الألباب بفصل الخطاب)، وعبارة الخطاب التي يقصدها هي (أما بعد)، لذلك افتتح تأليفه بقوله: (حمدا لك يا من علم آدم الأسماء)، وهي ¬

_ (¬1) ورد هذا الخبر بقلم ابنه أحمد الزروق، في ذيل (فتوى في الحضانة) لوالده، المكتبة الوطنية. الجزائر، رقم 2160. (¬2) بروكلمان 2/ 917، ورغم اهتمامنا فإننا لم نعرف شيئا كثيرا عن حياة أحمد بن ويغلان. (¬3) مخطوطات المكتبة العباسية بالبصرة، علي الخاقاني، طبع مجمع اللغة العربية - العراق، 1961، ص 62 القسم الأول رقم المخطوط 105، وهو في 30 صفحة.

البيان والمعاني (البلاغة) والعروض

مكتوبة سنة 1186 وبخط المؤلف (¬1)، وهناك من العلماء من اكتفى بنظم مسائل النحو والصرف. البيان والمعاني (البلاغة) والعروض وكما كانت أعمال عبد الرحمن الأخضري في المنطق والحساب محل درس وتعليق من بعده، كان نظمه وشرحه في البلاغة أيضا، فقد نظم الأخضري (الجوهر المكنون) في علمي البيان والمعاني ثم شرحه بنفسه شرحا كبيرا فاق فيه (تلخيص المفتاح) لجلال الدين القزويني، ولكن الأخضري توفي قبل أن يبيض الشرح ويصقله، فكان ذلك حافزا لعدد من العلماء على استكمال النقص، ومن هؤلاء أحمد بن المبارك العطار القسنطيني في عمله المسمى (نزهة العيون)، وكذلك عبد الكريم الفكون. ويفهم من كلام الفكون أن الأخضري، قد توفي قبل استخراج شرحه وأن ما قام به هو (الفكون) محاولة استخراج الشرح من مبيضته التي قال عنها (وفيها محو وضرب وبياضات وأسطار بطررها مشار إليها وغير مشار إليها، جردت ما أمكنني نقله منها وأترك لكل بياض قدره لعل الله يمن علينا بإكماله لمن يشاء من عباده) (¬2)، ومن جهة أخرى تولى شرح (الجوهر المكنون) والتعليق عليه عدد من المشارقة أمثال أحمد الدمنهوري الذي نشر شرحه في القاهرة سنة 1892 (¬3). ومن الذين سرحوا (الجوهر المكنون) للأخضري أيضا، محمد بن محمد بن علي بن موسى الثغري الجزائري الذي سمى شرحه (موضح السر المكنون على الجوهر المكنون)، وقد أخبر الثغري أنه كان مقتنعا بأن منظومة ¬

_ (¬1) حصلت منها على نسخة مصورة بواسطة الدكتور وليد الجادر العراقي وهي مليئة بالفوائد الأدبية والتاريخية أيضا، وقد توفي ابن الأمين سنة 1236 وتوجد منها نسخة أخرى في مكتبة الإسكندرية، انظر بروكلمان 2/ 918. وقد رأيتها محققة حديثا على يد أحد الأساتذة المصريين. (¬2) من (العقد الجوهري) لأحمد بن داود، مخطوط. (¬3) لوسياني، 11، و (العقد الجوهري) مخطوط.

الأخضري من أجمل ما كتب في علم البيان وأنه قرأ شرح الأخصري عليها، ولكنه كان متحمسا للقيام بعمل يوضح الغامض منها ويظهر جمال البلاغة وقوة البيان فيها، لذلك افتتح الثغري شرحه بقوله: (الحمد لله البديع الذي يشرح صدور البلغاء بجواهر المعاني وإيضاح التبيان. أما بعد، فلما رأيت منظومة الشيخ سيدي عبد الرحمن الأخضري الموسومة (بالجوهر المكنون) من أجل ما صنف في علم البيان، محتوية على جل قواعد (التلخيص) وعيون مسائله بلفظ موجز وتهذيب واتقان، قد شرحها ناظمها شرحا مفيدا وأعرب عما في ضميره وأبان، لكن بقي في بعض الأماكن بياض في الشرح (¬1) وذلك في جميع النسخ الواصلة إلينا فصار من نظر فيه لم يشتف منه جنان، ثم شرحها الشيخ الغزي وأجاد لكنه لم يطلع على شرح المصنف، والمنظومة الواصلة إليه وجدها مصحفة ومحرفة تحريفا أخرج كثيرا من أبياتها عن الأوزان، فتتبعها بالإصلاح ولم ينبه على ذلك .. وقد عثرت على نسخة صحيحة كادت أن تكون بخط المؤلف أو منقولة منه سالمة من التحريف والألحان (¬2)، فقرأتها على الأشياخ فوجدتها موافقة لما في شرح المصنف بالتتبع عيان، أردت، بعون الله وقوته، تقييد دررها .. بشرح يكشف الغطاء عن جواهرها المصونة. واعتمادي في النسخ على الشرحين المذكورين وسعد الدين التفتزاني وبعض كتب البيان، وانتحلت غالب ألفاظهم وفصوص وجواهر عباراتهم الصافية الحسان، ولم أسلك طريق الإطناب الممل ولا الإيجاز المخل، وإنما اقتصرت على الإفادة والبيان، وسميته الخ) (¬3). ¬

_ (¬1) قارن ذلك بما كتبه الفكون عن شرح الأخضري. (¬2) لعلها هي النسخة التي استخرجها منه الفكون وأشار إليها أحمد بن المبارك العطار. (¬3) المكتبة الوطنية - الجزائر رقم 2146 مجموع، وهي في 200 صفحة، وقد فرغ من تخريجها من المبيضة سنة 1115، وتم نسخها سنة 1174 بيد الحاج محمد (؟)، كما اطلعنا منه على نسخة أخرى في نفس المصدر رقم 2017، وهي منسوخة سنة 1126 بخط علي بن الحاج أبو القاسم بن مجنان القسنطيني، وهذه النسخة توجد =

وقد سار الثغري في شرحه على ما وعد فأظهر فنون البلاغة وعالج موضوعاتها بتفصيل وتبسيط، حتى جاء الشرح في حجم ضخم، بالإضافة إلى أنه عرف فيه بالأخضري تعريفا وافيا، ومما يلاحظ أنه لم يبوب الشرح وإنما اتبع تبويب الناظم نفسه معتمدا في ذلك وحدة البيت والباب والفصل، ويبدو أن شرح الثغري كان كثير التداول بين العلماء، ويتبين ذلك من كثرة النسخ منه. أما خارج أعمال الأخضري فالجهود قليلة، فقد قام عبد الله بن أبي القاسم الثعلبي بشرح قصيدة الحلي شرحا بلاغيا سماه (أنوار التجلي على ما تضمنته قصيدة الحلى) (¬1)، واهتم محمد بن محمود بن العنابي أيضا بعلم البلاغة فألف (التحقيقات الإعجازية بشرح نظم العلاقات المجازية) (¬2). وعد أبو راس من مؤلفاته في البيان (ذيل الأماني)، ولا شك أن له ولأحمد البوني محاولات أخرى في هذا الباب، فقد عرفنا أن لهما مؤلفات كثيرة وأنهما خاضا في جميع العلوم، وبالإضافة إلى ذلك نذكر بأن كثيرا من الشروح الأدبية التي سنعرض إليها كانت تعالج موضوع البلاغة بشكل واضح مثل شرح (العقيقة) الذي وضعه أحمد بن سحنون الراشدي وسماه (الأزهار الشقيقة المتضوعة بعرف العقيقة). وقد اشتهر بن عبد القادر المعروف بابن الأمين بتأليفين على الأقل في هذا العلم أحدهما رسالة في (أما بعد)، والثاني حاشية على مختصر ¬

_ = ضمن بقايا مكتبة ابن أبي شنب، وبناء على هذه النسخة فإن الأخضري قد انتهى من شرحه على (الجوهر المكنون) سنة 942، وهذا لا يتناسب مع ما قاله الشيخ العطار من أن الأخضري قد أدركته الوفاة قبل إتمام شرحه، ذلك أن الأخضري قد توفي سنة 953. حسب معظم الروايات. (¬1) الخزانة العامة - الرباط، 1968 د. ويعرف الثعلبي بأنه فاسي الأصل جزائري الدار، ويقع شرحه في 322 صفحة. (¬2) بروكلمان 2/ 923، عن ابن العنابي انظر كتابنا (المفتي الجزائري ابن العنابي) الجزائر، 1977.

السعد، وكان ابن الأمين درس في بلاده وفي المشرق وخصوصا مصر، وتتلمذ على الشيخ محمد الجوهري، ومحمد الأمير والشيخ البليدي والشيخ العدوي وأحمد دردير وغيرهم، وقد ألف رسالته الأولى وهو في مصر سنة 1186، وبعد أن عاد إلى بلاده تولى التدريس بجامع حسين ميزمورطو فترة طويلة كما تولى الفتوى على المذهب المالكي مدة طويلة أيضا دامت إلى وفاته سنة 1236 (¬1). ويظهر من رسالته (أما بعد) أنه صاحب أسلوب جدلي واضح، فقد أكثر فيها من النقود عن أئمة البلاغة والنحو والتفسير، ولم يستعمل فيها السجع وإنما جاء بعبارة دقيقة محبوكة تؤدي المعنى بالقليل من الألفاظ، وقد قسمها إلى مقدمة ومقصدين وخاتمة وتذييل، وجعل المقدمة في مقصدين كما جعل كل مقصد فصولا، فابن الأمين رغم نقوله الكثيرة يبدو في رسالته عقليا، غير أنه في حاشيته على السعد قد اتبع مقولة الغزالي (ليس في الإمكان أبدع مما كان) حتى أن تلميذه حمدان بن عثمان خوجة قد ناقشه في هذا الرأي ولكنه تهيب من تفنيد قوله لأنه شيخه (¬2)، وعلى كل حال فنحن لم نطلع على حاشيته إلا من خلال نقل حمدان خوجة منها. فلعل ابن الأمين قد وفق فيها أيضا كما وفق في رسالته (أما بعد) التي اطلعنا عليها. ولكن يظهر من النماذج التي سقناها أن العناية بالبلاغة، كعلم قائم بذاته، ضعيفة عند الجزائريين، وأن اعتمادهم في التدريس كان على عمل الأخضري وعلى تلخيص المفتاح وغيرهما. ¬

_ (¬1) عن حياة ابن الأمين انظر الأرشيف الفرنسي (287) 41 - 228 Mi وغيره، وكذلك فهرس الجزائري (ابن العنابي) في كتابنا (المفتي الجزائر ابن العنابي) الجزائر، 1977، وهو تلميذه. وكذلك تحقيق رسالة ا (أما بعد). (¬2) انظر (حكمة العارف بوجه ينفع) لحمدان بن عثمان خوجة، مخطوط 22، وهو المصدر الوحيد الذي ذكر لشيخه ابن الأمين تأليفا في البلاغة حشى فيه على مختصر السعد.

فنون النثر

ونفس الشيء يقال عن عناية الجزائريين بعلم العروض، فرغم جودة الأشعار التي سنعرض لها عندهم، فإن التأليف في قواعد العروض قليل جدا، ومن هذا القليل شرح سعيد قدورة على (الرامزة الشافية في علمي العروض والقافية) للخزرجي المعروف بأبي الجيش المغربي، والذي سماه (شرح المنظومة الخزرجية) (¬1)، وينسب إلى بركات بن باديس شرح على متن الخزرجية أيضا. ولا شك أن هناك محاولات أخرى لم نطلع عليها في هذا الميدان. ومهما كان الأمر فإن هذا النوع من التأليف لا يخرج عن كونه أدوات مدرسيه. فنون النثر نعني بالنثر هنا النثر الفني أو الأدبي، وهو يشمل المقامات والرسائل الرسمية (الديوانية) والإخوانية، والوصف، والتقاريظ، والتعازي، وعقود الزواج، التي تفنن فيها أصحابها، والإجازات المنمقة، والشروح الأدبية، والقصص، والخطب. وقد كان الأدب الجزائري في العهد العثماني غنيا ببعض هذه الفنون كالرسائل والتقاريظ، ولكنه كان فقيرا فى بعضها كالخطب والقصص. وقبل أن ندخل في تفاصيل هذه الفنون ودراستها، نذكر بما قلناه في الجزء الأول من أن معرقلات نمو اللغة وانتشار الأدب كانت أقوى من المشجعات، فالولاة كانوا لا يفقهون العربية ولا يتذوقون أدبها، ولا نتوقع ممن هذه حالته تشجيع الأدباء والشعراء وتذوق إنتاجهم وتقديره، حقا إننا وجدنا بعض الباشوات، مثل محمد بكداش، يجمع حوله نخبة من المثقفين باعتباره، كما قيل، (قد جمع النظم والنثر والخطابة والشعر) ولكن حكمه لم يزد على ثلاث سنوات (¬2)، وشجع الباي محمد الكبير، كما عرفنا، حركة ¬

_ (¬1) زاوية تانعملت ببني ملال (المغرب)، 299 مجموع. (¬2) يذكر ابن ميمون أن محمد بكداش كان (له أدب غض المقاطف رطب المعاطف) وأنه =

النسخ والتأليف والتعليم بالعربية فازدهرت هذه الحركة في عهده وظهرت أسماء من الأدباء والعلماء كانوا مدينين له بالمساعدة المادية ولكن الحركة اختفت باختفائه، ونفس الشيء يقال عن مشاريع صالح باي في التعليم التي لم تتواصل بعده، فهذه النماذج كانت تعتمد على جهود فردية ونادرة، كما رأينا، وليست قائمة على سياسة مستمرة ومرسومة، وقد دام حكم محمد باشا خمسا وعشرين سنة دون أن نعرف أنه قدم شاعرا أو أجاز كاتبا على تأليف أو شجع حركة التعليم، ونفس الشيء يقال عن حسين باشا الذي بقي في الحكم اثني عشر سنة، وهكذا كان كل حاكم، من الداي إلى الباي، يستغل حكمه للربح المادي الشخصي وخدمة حاشيته وجنوده الذين كانوا جميعا غرباء عن الشعب لسانا وذوقا. وبالإضافة إلى ضعف مستوى الثقافة، وإلى منافسة اللغة التركية (بل واللغات الأوروبية الأخرى التي كان بعض الباشوات يتكلمونها لأنها لسانهم الأم) للغة العربية في الدواوين وفي المجالس الرسمية وفي التجارة فإن هناك بعض اللهجات المحلية التي كانت أيضا تزاحم اللغة العربية، فبعض مناطق الأوراس وجرجرة وميزاب كانت تتكلم اللهجات المحلية ولم يكن هذا مقصورا على الطبقة العامة، بل كان موجودا عند العلماء أيضا، فالورتلاني يحدثنا أن هناك من كانوا يمدحون الرسول (صلى الله عليه وسلم) ويتناولون التصوف باللهجة المحلية، وقد تمنى هو أن يكون كلامهم بالعربية حتى تدرك حلاوته وطلاوته وقوة إبداع أصحابه، وضرب لذلك مثلا بعلي بن درار وسعيد الفاني (¬1). يضاف إلى ذلك أن الفئة المثقفة، كما عرفنا، قد انحصر نشاطها في بعض الوظائف الرسمية التي لا علاقة لها بالأدب وتذوقه وتشجيعه، فالقضاة ¬

_ = كان بارعا في فنون الأدب وأنه كان يكتب بالسجع. انظر (التحفة المرضية) مخطوط باريس، ص 54. وقد نوه عبد الرحمن الجامعي أيضا بأدب بكداش، انظر فصل العلماء من الجزء الأول. (¬1) الورتلاني (الرحلة)، 187 - 198، 603.

والمفتون والمدرسون وكتاب الإنشاء كانوا راضين بالمستوى الذي كانوا عليه، ولم يكونوا يطمحون إلى مستوى أفضل منه لعدم الحاجة إليه، بل ان الباشوات والولاة عموما كانوا يفضلون المستوى الثقافي الأدنى على المستوى الأعلى، لأنهم هم أنفسهم لم يكونوا مثقفين، وكان يرضيهم من الموظف أن يكون في مستواهم أو أقل منهم، أما الجزائريون الطموحون إلى المزيد من العلم والأدب وذوو المواهب الدفينة الذين كانوا راغبين عن الوظائف. الجامدة والتبعية الذليلة فقد اختاروا طريق الهجرة إلى حيث يجدون الرعاية والاعتراف بإنتاجهم وفضلهم، وكان هذا مصير أديبين كبيرين سنترجم لهما في هذا الفصل، وهما أحمد المقري وأحمد بن عمار، كما كان مصير الشاعر سعيد المنداسي. وقد أدى موقف الولاة ومنافسة اللهجات واللغات وشيوع الجهل وضعف المستوى الثقافي وجمود الوظيفة وهجرة أصحاب المواهب إلى شيوع اللحن على ألسنة الكتاب والمدرسين، حتى من الذين لم نتوقعه منهم، لكثرة تآليفهم ووفرة علمهم، أمثال أبي راس الناصر، وقد تحدث هو عن هذه الظاهرة في الإنتاج كما تحدث عنها أحمد بن سحنون الراشدي والورتلاني، وشاع الخطأ، وخصوصا في الشعر، حيث كثر ما يسمى بالشعر الملحون والشعر الفصيح المكسور، وكان اللجوء أحيانا إلى الشعر الملحون أو الشعبي يبرره التلغيز الذي يقصده الشاعر ليغطي هجومه على الأوضاع السياسية والأخلاقية، وكان بعض الشعراء يتبسطون لكي يسهل على العامة فهم مرادهم، وقد احتج أبو راس في شرح (العقيقة) بأن محمد الهواري (¬1) كان يلحن في كتاباته، وأن المنداسي قد كتب بالملحون ولم يكن عاجزا عن الإعراب وإنما نظم العقيقة بالشعر الملحون (لتسهل للعوام كما تسهل للخواص) (¬2). ¬

_ (¬1) عن محمد الهواري انظر الفصل الأول من الجزء الأول. (¬2) أبو راس (شرح العقيقة) ورقة 4 - 5، مخطوط باريس رقم 5028.

الشروح الأدبية

الشروح الأدبية: وهناك ظاهرة أخرى تلفت النظر في الأدب الجزائري وهي أن الأدباء بدل أن يخترعوا القصص والروايات أو يؤلفوا في الظواهر الثقافية والنقد عمدوا إلى شرح الأعمال الجاهزة، ونحن هنا لا نقصد شرح الأعمال الصوفية والتاريخية والفقهية، ولكننا نقصد شرح الأعمال الأدبية. والشرح الأدبي قد يكون على قصيدة نظمها الشارح نفسه وقد يكون على قصيدة أو عمل آخر لغيره، وقد حفل الإنتاج الجزائري بالنوعين. من ذلك قصيدة سعيد المنداسي المسماة بـ (العقيقة) التي تداول على شرحها كل من أبي راس الناصر وأحمد بن سحنون الراشدي، وشرح لامية العجم لمحمد بن أحمد بن قاسم البوني، وشروح المواعظ والحكم والحلل الحريرية لأبي راس أيضا، ولعل شرح الشواهد النحوية يدخل أيضا في هذا الباب كما فعل عبد الكريم الفكون في شرح شواهد ابن يعلى، ولكننا لن نأتي على كل هذه الشروح هنا وحسبنا التنبيه على أن أصحابها كانوا يهدفون من ورائها إلى خدمة الأدب واللغة والبلاغة مظهرين براعتهم القلمية والخيالية ومحفوظاتهم وذوقهم الفني. عرف أحمد بن سحنون الراشدي أنه من الأدباء البارزين أوائل القرن الثالث عشر الهجري (19 م) ويظهر ذلك من تآليفه ومن تقاريظ أدباء العصر له، أما التقاريظ فسنذكرها بعد قليل، وأما التآليف فنعرف منها عددا يشهد له بالحذق والمهارة ويجعله في صدر أدباء وقته، من ذلك شرحه الضخم الذي وضعه على (عقيقة) المنداسي والذي سماه (الأزهار الشقيقة المتضوعة بعرف العقيقة)، وقد بذل في هذا الشرح جهدا لا يعرفه إلا من وقف عليه واطلع على ضخامة العمل. والعقيقة قصيدة في مدح الرسول (صلى الله عليه وسلم) وصحابته، كتبها سعيد المنداسي بالعامية الفصحى أو الفصحى العامية، وهي ليست قصيدة سهلة، لا في لغتها ولا في معانيها لأنها احتوت على تراكيب غريبة وعلى تواريخ وحوادث تحتاج إلى توضيح واطلاع واسع، وقد سلك فيها الشاعر مسالك بلاغية معقدة ومسالك لغوية أكثر تعقيدا، وكان المنداسي ينظم بالفصيح والملحون وله

أشعار كثيرة، وكان مقصده من كتابة العقيقة بالعامية تقريب معانيها من العامة مع الاحتفاظ بمستوى لغوي وأدبي وتاريخي لا يدركه إلا الخاصة. وقد كتب القصيدة سنة 1088 وبدأها بالحديث عن الخمر والغزل على الطريقة التقليدية واستعمل فيها رموزا كثيرة، ومطلعها: (كيف ينسى قلبي عرب العقيق والبان ..). وقد تحدث ابن سحنون عن دافع شرحه للقصيدة فقال ان ابن خلدون قد نعى على أهل المغرب العربي إهمالهم رواية أشعارهم فضاعت أنسابهم، فكان رائد ابن سحنون أن يخالف العادة ويكفر عن هذا الإهمال بكتابة شرح على العقيقة يحفظها ويحل ألغازها ويقرب معانيها. بدأ ابن سحنون عمله سنة 1200 وبعد حوالي سنة انتهى من التبييض وبدأ في التخريج إلى أن وصل في ذلك نصف العمل، وهنا كلفه الباي محمد الكبير باختصار (كتاب الأغاني) فتوقف عن شرح (العقيقة)، واستجاب لأمر سيده، وكان ذلك سببا في إهمال رقاع الشرح الكبير الذي حاول ابن سحنون أن يظهر فيه موهبته اللغوية والأدبية والتاريخية. وبالإضافة إلى أمر الباي، أجبره الطاعون الذي حل ببلاده عندئذ على الجلاء عنها إلى أن ينقشع الوباء، فخرج من معسكر تاركا أوراقه وراءه، معزيا نفسه بقصيدة جيدة، قالها في الطاعون وآثاره. وفي سنة 1202 انتهى الطاعون فعاد ابن سحنون إلى تسويد شرحه، ولكنه اضطر إلى اختصاره، ذلك أن (أحزانا) ألمت به جعلت نفسه تعزف عن التبسيط والإجادة، كما أن بعض العلماء قد لاموه على طول الكتاب ورجوه اختصاره وتجريده من الحشو والاستطراد، ومن هؤلاء محمد بن شهيدة، قاضي معسكر، وأحمد بن هطال كاتب الباي. وهكذا انتهى ابن سحنون من عمله سنة 1202، مطولا مليئا بالاستطرادات الأدبية واللغوية في القسم الأول، ومختصرا مجردا من الزوائد في القسم الثاني. ولولا أن المنداسي من الشعراء العلماء لما أقدم ابن سحنون على شرحه الكبير، فالقصيدة في نظره موجهة بالدرجة الأولى إلى العلماء لأن العامي لا يفهمها، وقد أورد للمنداسي أيضا عدة قصائد من الشعر الفصيح

المتين، وكأن ابن سحنون أراد أن يكون في مستوى الشاعر في العلم والأدب، فملأ شرحه بالأخبار الأدبية والتاريخية، سيما تاريخ الإسلام الأول الذي تعالجه القصيدة، ولم يقسم الشرح إلى فصول وإنما شكل كل بيت من العقيقة قسما أو فصلا مستقلا، فهو يذكر البيت ثم يشرحه لغويا وأدبيا ويأتي إليه بالشواهد والأخبار، وهذا هو سبب الاستطراد والطول، ويدلنا مطلع الشرح على ذوق ابن سحنون ومراميه، فقد بدأه هكذا (الحمد لله الذي وشح مطالع المعاني ببدائع البيان ..) وهو طالع يبتعد عن طوالع الشروح الفقهية ونحوها، فـ (الأزهار الشقيقة) إذن يعتبر كتاب أدب ونقد وبلاغة في بابه لتخصص صاحبه في ذلك، وتؤكد التقاريظ التي وردت عليه هذا الاتجاه، ولاشك أن هذا هو ما يجعل شرح ابن سحنون للعقيقة يفوق شرح أبي راس لها (¬1)، ورغم أن ابن سحنون قد تمنى أن لا يكون عمله من (الدفاتر المهملة) فإننا إلى الآن لم نقرأ أن هناك من تناول هذا المخطوط الهام بالتعريف أو التحقيق. أما شرح أبي راس (للعقيقة) فقد سماه (الدرة الأنيقة)، ومن عادة أبي راس أن يشرح العمل الواحد عدة مرات ويطلق على كل شرح عنوانا جديدا، وهذا ما حدث هنا. فقد قال إن له على العقيقة سبعة شروح، وكل شرح منها له عنوان خامس (¬2)، وقد اطلعنا على أحد هذه الشروح فوجدناه يذكر في البداية فضل الشعر وخصوصا الشعر الديني، وعرف أبو راس الشعر وأشاد به وقال إنه لفضله استعمل في المدائح النبوية، وذكر أن دافعه للتأليف كون المنداسي مدح بالعقيقة الرسول (صلى الله عليه وسلم)، ورغم أن العقيقة من (الشعر الملحون) فإنها قد (احتوت على غرائب وعجائب من اللغة والبلاغة واللحون)؛ وأضاف أبو راس مبررا اللجوء إلى الشعر غير الفصيح قوله: (وليس في الشعر الملحون من بأس). وقد ذكرنا أنه هو نفسه كان يلحن في اللغة رغم علمه ¬

_ (¬1) دار الكتب المصرية رقم 12160 ز، والمخطوط بخط المؤلف ويقع في 278 ورقة وعليه حواش كثيرة، وكان في ملك المفتي محمد بن محمود بن العنابي، وتنتهي النسخة سنة 1202، وفيه بعض البياض. (¬2) ذكر ذلك في (فتح الإله ومنته) عند تعداد كتبه، ك 3 226، ك 2332.

وسعة إطلاعه وحفظه، وتدل قصائده أيضا على أنه كان لا يتقيد بالوزن، رغم أنه كان يكتب بالفصحى، وزعم أبو راس أن البعض ممن تأثر كثيرا بالعقيقة سأله أن يضع عليها شرحا (يفصح عن تلك المقاصد واللغات، ويذلل ما فيها من الأبيات، وأن يكون باختصار، لداعية الضرورة إلى الاقتصار، وتنشيطا للاطلاع، وانتهازا لفرصة الانتفاع)، وهنا يظهر الفرق بين عمل ابن سحنون وأبي راس، فالأول أطال حتى طلبه معاصروه الاختصار، والثاني قد استجاب منذ البداية لمن طلبه الاختصار، ويبدو أن شرح ابن سحنون سابق على شرح أبي راس رغم أننا لا ندري بالضبط متى انتهى أبو راس من شرحه أو على الأقل من شرحه الأول. اتبع أبو راس أيضا نفس طريقة زميله ابن سحنون في اتخاذ البيت من القصيدة هو الوحدة، فهو يورد البيت ثم يشرحه من جميع الوجوه، وكأن أبا راس كان ينافس زميله حفظا وطريقة، ولكن شتان بينهما، فإذا كان أبو راس يمتاز بالحفظ فإن ابن سحنون قد امتاز بذوق أدبي أرهف وأرق من زميله، فهذا أديب بالسليقة، وذلك أديب فقيه، وقد أجاد كل منهما فيما خلق له، فقد أورد أبو راس أيضا شواهد الشعر والقرآن والحديث أثناء الشرح، وضمنه، كما يقول، (مباحث شريفة، ونكات لطيفة، وتحقيقات غريبة، وتدقيقات عجيبة، ودلائل أنيقة، ومسائل دقيقة ..) فكلا الشرحين إذن مصدر من مصادر تاريخ النقد الأدبي في الجزائر (¬1). ولأبي راس عدة شروح أدبية أخرى نذكر منها شرحه على مقامات الحريري الذي سماه (الحلل الحريرية في شرح المقامات الحريرية)، وقد ذكر في (فتح الإله) أن له شرحين من ذلك وهما الكبير والأكبر (¬2) ومهد لشرحه ¬

_ (¬1) (الدرة الأنيقة) مخطوط باريس رقم 5028. (¬2) جاء في (المجلة الإفريقية) 1864، 152، ان رئيس المكتب العربي في مدينة معسكر، وهو السيد مونان Monin، قد أهدى نسخة في جزئين من (الحلل الحريرية) إلى المكتبة الوطنية - الجزائر، والنسخة مجلدة تجليدا أنيقا ومكتوبة بخط مغربي جميل. ولم يقل هذا الرجل الفرنسي العسكري كيف ولا من أين حصل على النسخة.

بمقدمة هامة عن حالة الأدب في عصره، وعن دافعه إلى شرح المقامات، كما ذكر من سبقوه إلى شرحها. والواقع أن عمله الذي اطلعنا عليه عبارة عن خزانة أدب أظهر فيه براعته في المحفوظات وذكر العجائب والغرائب واللطائف والنوادر والأشعار والحكايات من تاريخ الأدب العربي، ولا سيما القديم والوسيط منه، وقلما تعرض أبو راس لأهل عصره فيه، وهذه بعض عباراته (الحمد لله الذي أعلى مقامات أهل الفصاحة، وأضاء بهم كل فناء للكلام العربي وساحة، حتى سما على غيره وامتاز، بلطائف الآداب واللغا وأفرغوا معانيها في قالب الإيجاز، وشيدوا مبانيها بدلائل الإعجاز، نظما ونثرا باهر الصدور والأعجاز، وأتحفوها بطرف الكناية والمجاز (¬1)). كما نذكر لأبي راس شرح قصيدة الصيد المسماة (روضة السلوان)، فقد وجدناه أيضا محشوا أدبا وظرفا وأخبارا، وقد سمي شرحه هذا (الشقائق النعمانية في شرح الروضة السلوانية) (¬2)، وبدأه بهذه الفاتحة (الحمد لله الذي أحل لهذه الأمة ما صادوا ..) وترجم فيه للشاعر الفجيجي وذكر شيوخه، ثم قال: (هذا، وإني عزمت أن أجعل عليها (أي القصيدة) شرحا .. مع ما أنا فيه من أهوال فاغرة، وأرضنا من شروحها شاغرة، وسميته بالشقائق النعمانية، الخ) وكان أبو راس يسير في هذا الشرح على نفس النمط الذي سار عليه في شروحه الأخرى فيذكر اللطائف والغرائب والفوائد والتنبيهات، واعتذر في آخر الكتاب على أنه قد يكون فاتته معاني بعض الكلمات لغموضها وغرابتها (¬3). ¬

_ (¬1) اطلعنا على الجزء الأول فقط وهو ضخم، جميل الخط، مذهب، حسن التجليد، بلغ 257 ورقة (مع بياض من 147 إلى 150)، انظر المكتبة الوطنية - الجزائر رقم 1893، وفي فاتحة النسخة أربعة أبيات في مدح هذا الشرح نظمها السنوسي ابن الحاج عبد القادر الدحاوي، وفيها أيضا إمضاء أحمد بن حنيفي عبد الله المعسكري. (¬2) دار الكتب المصرية، تيمور 3 فروسية، وهي في حوالي 160 صفحة. (¬3) النسخة التي اطلعنا عليها لا تحمل اسم ناسخ ولا تاريخ نسخ، وفيها انتقالات بالحبر =

ومع ادعاء أبي راس بأن (أرضنا من شروحها شاغرة) فإن غيره قد سبقه إلى شرحها بقرنين على الأقل، ففي سنة 986 ألف أبو القاسم بن محمد بن عبد الجبار الفجيجي التلمساني شرحه الجيد على القصيدة السلوانية، وسماه (الفريد في تقييد الشريد، وتوصيد الوبيد) (¬1)، وهو أحق بأن يدعى أنه لم يسبق إلى شرحها، فقد قال: (ولم يسبقني إليها أحد بشرح أنصبه أمامي، واتخذه إمامي، ووددت أن ذلك كائن فيسعني الامتناع، أو يسبقني إليها سابق يكون لي فيه أسوة الانتفاع، مع أنها جديرة بالاهتبال، عديمة المثال، لأنها تضمنت من اللغة وفقه الصيد ومحاسن النزهة ورفع الهمة والنباهة ما لا يسع الحازم رفضه، حتى يستكمل غرضه، فشرعت في وضع تعليق عليها يوضح إن شاء الله غريبها ويدني أبيها، مشيرا إلى ما لا بد من المعنى اللائق لكل بيت دون استيفاء ما يستحق لفظها، إذ لو تتبعت استقصاء المعاني والحكايات لأربى على المجلدات) (¬2)، ولا نعتقد أن الجزائر كانت خالية من هذا الشرح، والغالب أن أبا راس، الذي كان ولوعا بشرح الآثار الأدبية، لم يشأ أن يفوته شرح قصيدة أخذت شهرة واسعة بين الأدباء والولاة، مثل قصيدة الصيد التي نظمها الشاعر إبراهيم الفجيجي. ولأبي راس أيضا شرح أدبي لغوي هذا موضعه، فقد ألف مسلم بن ¬

_ = الأحمر، وهي بخط مغربي جيد، وقد ضبط فيها أبو راس اسمه بأنه (الناصر) وليس (الناصري)، كما هو الشائع، فقد قال (أما بعد فيقول العبد المقل القاصر، محمد أبو راس الناصر). (¬1) في بعض النسخ (الشريد في تقييد الشريد وترشيد الوليد). (¬2) نقلا عن (روضة السلوان) ط. الجزائر 1959، 15 - 16، وتوجد من شرح الفجيجي نسخة في مكتبة الهامل نواحي بوسعادة اطلع عليها نور الدين عبد القادر وقال إنها جيدة، وقد ترجم الفجيجي لناظم القصيدة وبناء عليه فإنه تلقى العلم في المغرب والمشرق وتوفي ببلاد السودان القديم، وكان حيا سنة 920، أما أبو القاسم شارح القصيدة فقد توفي سنة 1021. انظر (نشر المثاني) 1/ 247 وبروكلمان 2/ 168، وتوجد من الشرح أيضا نسخة في مكتبة حسن حسني عبد الوهاب بتونس، رقم 18312.

عبد القادر كتابا صغيرا في الحكم والمواعظ والآداب والأمثال، رتبه على حروف المعجم وجعله فصولا، عدد منازل القمر، ويبدو أنه كانت لمسلم بن عبد القادر دالة على أبي راس، ذلك أنه هو نفسه الذي طلب منه شرح عمله، فقام مدفوعا بدوافع خارجية لا ذاتية، ولذلك جاء شرحه مختصرا ولا يدل على براعته المعهودة ولا على غزارة حفظه، وقد جاء في ديباجة الشرح أن العلماء قد سبق لهم أن ألفوا في الحكم والمواعظ إلى أن خلت الديار بعدهم، (حتى رمى الدهر العقيم بواحد، من صميم آل حمير وكهلان الأماجد، وممن انقادت إليهم أزمة ذوي الأقدار والمقادر، السيد مسلم بن عبد القادر، فإنه من أجل أدباء هذا الزمان، وأحرزهم لقصب السبق في هذا الميدان، فإنه أتى من درر النظم والنثر، ما يقصر عنه أهل العصر) (¬1). وسار أبو راس في شرحه على (ما يقتضيه المقام من المواعظ المبكية والمفاكهات، أو ما يدل على أسلوب البلغاء في بعض المطارحات). وسمى شرحه (إسماع الأصم وشفاء السقم في الأمثال والحكم)، وقد أورد فيه الشعر والأمثال والمأثور من القصص والحكم، وهو يذكر حروف المعجم واحدا بعد الآخر مبتدئا بالألف: أدبك ثوبك، ووجهك عرضك، الأدب سلاح زمان الكفاح، ثم حرف الباء: برك بذر، فانبت زرعك، البذر بر، إذا كان المطر، وهكذا. ولا شك أن لهذا التأليف أهمية خاصة في دراسة الأمثال والحكم الشعبية السائدة عندئذ، رغم أن عبارته فصيحة، وقد شكا أبو راس، كعادته، في آخر كتابه من العصر وأهله ومن أحواله المادية والصحية (¬2). ويدخل في هذا الباب أيضا تأليف محمود بن الطاهر بن حوا الذي سماه (نظم الجواهر في سلك أهل البصائر) الذي شرح به أحد أعمال مسلم بن ¬

_ (¬1) عن مسلم بن عبد القادر انظر فصل التاريخ من هذا الجزء. (¬2) المكتبة الملكية. الرباط، 5553 في 44 ورقة من الحجم الصغير، وتعود هذه النسخة إلى سنة 1234، أي أثناء حياة أبي راس، وقد تكون آخر ما ألف، لأنه غير مذكور في قائمة تأليفه الأخرى التي ذكرها في (فتح الإله ومنته). والغالب على الظن أن النسخة بخطه.

عبد القادر أيضا، وكان لمسلم هذا أتباع ومريدون من الأدباء يشملهم برعايته، ومنهم محمود بن حوا المذكور (¬1). وآخر هذه الشروح الأدبية التي ندرسها هو (نبذ - أو نبز؟ - العجم على لامية العجم) لمحمد بن أحمد بن قاسم البوني، وهو الشرح الذي اختصر به شرحا آخر قام به جلال بن خضر الحنفي على نفس اللامية. وأشار البوني إلى أن بعضهم قد طلب منه القيام بهذه المهمة فسأل عن شرح في بلاده على اللامية فلم يجده لأن (ربوع هذا العلم قد درست عليه الدارسات، وذرت رسومه الذاريات)، وهكذا تعين عليه أن يقوم بالشرح، وقد ترجم للحسين بن علي الطغرائي صاحب لامية العجم، باختصار وقارن لاميته بلامية العرب للشنفري، وأشاد بلامية الطغرائي ذاكرا أن صاحبها قد حاز قصب السبق في فنون الأدب والبديع وأن القصيدة نفسها قد (لمع برق نوئها وأزاح غياهب الظلم، كيف (لا) ومعانيها قد عنت معانيها) وأراد هو من هذا الشرح تزيين فرائد عقدها، وأن يضيء. . قلائد جيدها) وقد سار فيه على طريقة شبيهة بزملائه الآخرين، فهو يعرض للغة والمعنى والإعراب ومغزى الأبيات ومبناها، كل ذلك، كما قال، (بألفاظ رقيقة وعبارات أنيقة) وافتتح عمله، بعد ذلك، بطالع اللامية: أصالة الرأي صانتني عن الخطل ... وحلية الفضل زانتني لدى العطل (¬2) ¬

_ (¬1) المكتبة الوطنية بالجزائر رقم 0893، ولمحمود بن حوا تأليف آخر بعنوان (زهر الآداب). (¬2) المكتبة الوطنية - الجزائر 2266 مجموع من ورقة 92 إلى 110، في آخرها سنة 966 بالقسنطنطينية، أما ناسخها فهو علي بن محمد بن موسى الملقب بالجرود سنة 1144، ولا نعرف الآن المزيد عن محمد بن أحمد بن قاسم البوني، والمعروف أن لأحمد بن قاسم البوني ولدين اشتهرا بالعلم، ونعرف أن أحدهما وهو أحمد الزروق كان حيا سنة 1157 ولكننا لا نعرف اسم الآخر، فهل شارح اللامية هو أخوه؟ ومن جهة أخرى ينسب إلى بركات بن باديس شرح على لامية العجم للطغرائي أيضا. ولكننا لم نطلع عليه.

التقاريظ والإجازات والعقود

ولا شك أن هناك عددا آخر من الشروح الأدبية التي تتناول قصائد أو مقامات أو نحوها من الأعمال ذات الطابع اللغوي والبلاغي (¬1)، ولم نقصد بذكر النماذج السابقة سوى إعطاء فكرة عن الميادين التي كان النثر الفني يستعمل فيها، فالأدباء كانوا يظهرون براعتهم في عدة ميادين، ومنها الشروح الأدبية التي كانت تعطيهم فرصة لاستعراض محفوظاتهم وذوقهم الأدبي والنقدي ومدى اطلاعهم على تاريخ الأدب والحضارة بوجه عام، وكان هؤلاء الأدباء لا يقصدون إلى السجع إلا في المقدمات أو الديباجة للعمل الذي يدرسون، فالعبارة عادة مرسلة مع طول الجملة وتعثرها أحيانا بالاعتراضات والاستطراد، كما أن الشروح الأدبية تعكس ثقافة العصر، فأصحابها كانوا غالبا ما ينمقون أسلوبهم بالمأثور من العبادات الدينية والحكمية. ومهما كان الأمر فإن هذه الشروح في نظرنا تمثل شكلا من أشكال النثر الأدبي الذي شاع في العهد العثماني. التقاريظ والإجازات والعقود: ومن أشكال النثر الأدبي أيضا التقاريظ وبعض الإجازات والعقود والتعازي ونحو ذلك مما كان النثر فيه وسيلة للتعبير دون الشعر. وفي التقاريظ تسيطر الروح الإخوانية على الأسلوب، وتبرز ثقافة الكاتب الأدبية واللغوية، ولدينا جملة من هذه التقاريظ التي كان يتناولها العلماء والأدباء على السواء، وكانت في موضوعات فقهية كما كانت في موضوعات أدبية أو غيرها، فالمهم هنا هو الأسلوب الذي كتب به التقريظ وليس الموضوع المقرظ. أما الإجازات فقد عرفنا أنها تتناول السند وسرد أسماء الشيوخ ومواد ¬

_ (¬1) من ذلك أيضا حاشية أحمد بن عمار على الخفاجي، وقد ذكرها له أبو راس في (فتح الإله)، وقال إنها (عاطرة الأنسام قبلتها أزهار ثغور أزهار العلوم في افترار وابتسام). وكان أبو راس قد اطلع عليها، وهو من تلاميذ ابن عمار. انظر الخزانة العامة بالرباط ك 2263.

الدراسة، ولكن صيغة بعض الإجازات رغم موضوعها وثبوتها على شكل واحد تقريبا، كانت أقرب إلى الأسلوب الأدبي، لأن أصحابها كانوا من الأدباء المهرة فيضفون عليها طابعهم وذوقهم، وبذلك تصبح الإجازة أيضا قطعة أدبية من حيث الأسلوب على الأقل. ولدينا شواهد على ذلك أيضا. وبالإضافة إلى ذلك كان الكتاب يفتنون في كتابة العقود، لا سيما عقود الزواج، ويظهرون براعتهم اللغوية والأسلوبية حتى أصبح العقد النموذجي يقلد في المناسبات المشابهة، وكان بعض القضاة أدباء بطبعهم يحذقون اللغة ويتذوقون الأسلوب الأدبي، فكانوا يمزجون ثقافتهم الفقهية والقانونية بثقافتهم الأدبية واللغوية، وبذلك أعطونا نماذج من العقود التي غلب عليها الطابع لأدبي. وفي أغلب الأحيان كان المقرظ يمزج في تقريظه بين النثر والشعر، ويحفل العهد العثمانى بعدد من هذه التقاريظ، ونود أن نذكر منها تقريظ أحمد بن عمار لكتاب (الدرر على المختصر) الذي وضعه ابن حمادوش في المنطق (¬1)، وكان ابن عمار، كما سنعرف، من أقطاب الصنعة الأدبي نثرا وشعرا، وكان غالبا ما يسجع ويكثر من المحسنات البديعية. ومما جاء في تقريظه للكتاب المذكور نثرا قوله: (ناهيك به مؤلفا جموعا، مبذولا خيره لا ممنوعا، قد أحكم فيه الرصف والالتئام، واستخدم لطائف المعاني في بديع الكلام، حتى أفض عن (المختصر) الختام، وكشف عن وجوه خرائده اللثام، ووضع كنوز فرائده على طرف الثمام، فأصبح به إذ ذاك في أعلا الذرى، وطلع في سماء المعالي والمكارم بدرا، هذا ولا عيب فيه غير أنه كتاب صغر جرما، وغزر علما، قد أودع فيه من لطائف المعاني العجيبة الرائقة، والألفاظ البديعة الفائقة، ما هز به أعطاف الآداب، واستمال قلوب أولي الألباب). وقد ختم ابن عمار تقريظه بستة أبيات من الشعر على هذا النحو: ¬

_ (¬1) انظر رحلة ابن حمادوش، طبع الجزائر، 1983، والتقريظ في حوالي أربع صفحات.

هنيئا هنيئا أيا مختصر ... بشرح بديع جموع أغر وقد احتوت رحلة ابن حمادوش على تقاريظ أخرى له من علماء الجزائر، ولكنها لم تبلغ في المستوى الأدبي نثر ابن عمار. وأورد أحمد بن سحنون شارح (العقيقة) ثلاثة تقاريظ أيضا من علماء وأدباء بلاده تعتبر من النماذج الأدبية الجيدة، نعرف اثنين منهم ولكننا نجهل المقرظ الثالث، وأولهم المفتي محمد بن الشاهد، الذي كان من الأدباءالبارزين في وقته ومن الشعراء أيضا، وقد وضع التقريظ في شكل رسالة إلى ابن سحنون بعد أن اطلع على تأليفه (الأزهار الشقيقة). فأشاد ابن الشاهد بالعمل وبنبوغ صاحبه رغم نضارة عوده، وقد سماه في التقريظ (الشاب الضريف (كذا)، الناضر روض أدبه الوريف، أبو العباس أحمد بن محمد بن علي الشريف). ومن هذا التقريظ وغيره نعرف أن ابن سحنون كان سنة 1202، وهي سنة التأليف والتقريظ أيضا، ما يزال في مقتبل العمر، وكان تقريظ المفتى ابن الشاهد فى صفحتين وبأسلوب أدبي جيد، ونفس الشيء يقال عن تقريظ المختار بن عمر الصنهاجي الملقب انكروف، الذي لا نعرف عنه الآن غير هذا، فهو لم يستعمل الشعر أيضا في تقريظه الذي كتبه سنة 1202 من صفحتين، كما أنه وصف ابن سحنون بالشاب اليافع وأنه قام بعمل ضخم فيه أدب ونقد وبلاغة وتاريخ. أما التقريظ الثالث الذي قلنا إنه لمجهول فيغلب على الظن أنه لأحمد بن عمار لأن أسلوبه كأسلوبه، ومع ذلك لا نستطيع الآن الجزم بذلك، ويتفق هذا التقريظ مع الأولين في التاريخ والحجم والإشادة بالعقيقة وناظمها وبالمؤلف الذي تكلف شرحها رغم صغر سنه، ولكن هذا المقرظ اختلف عن زميليه في كونه جمع بين النثر والشعر، وبذلك تكون هذه القطع الثلاث نماذج من النثر الأدبي في أوائل القرن الثالث عشر (¬1). ومن التقاريظ الجيدة أيضا ما كتبه أحمد بن عمار سنة 1196 كتقريظ ¬

_ (¬1) انظر هذه التقاريظ في أول كتاب (الأزهار الشقيقة)، دار الكتب المصرية رقم 12160 ز.

لرسالة في التوحيد، ألفها صديقه الوزير التونسي الحاج حمودة بن عبد العزيز صاحب (الكتاب الباشي)، وتذكر المصادر أن التقريظ يقع في صفحتين ونصف من الحجم الكبير وأنه بخط صاحبه وختمه، وقد أجاد فيه ابن عمار، كعادته، في اتخاذ الصنعة البيانية والبديعية، وذكر فيه أن حمودة بن عبد العزيز قد أصاب المحز في أجوبته على الأسئلة التي كان قد وجهها له بعض علماء قسنطينة، وأشاد به لأنه من أهل السنة، ومما جاء فيها قول ابن عمار: (وقد أطلعني .. على الرسالة المحبرة، المنقحة المحررة، التي لهذا التاريخ أملاها، وأولاها من باهر التحقيق والتدقيق ما أولاها، وضمنها أجوبة على أسئلة كلامية وردت .. على الحضرة، ذات البهجة والنصرة، فنظرتها بعين المنة والإنصاف، مجانبا للتعصب والتعسف شيمة سليمي الصدر كاملي الأوصاف، ايه أيها الساري ولا رفيق، إلا التوفيق، ويا أيها الشاري خذ أحرار النفوس فكل لذلك الطبع الرقيق رقيق، هكذا هكذا، وفي عين الشاني القذى، أطلع شموس معارفك وعوارفك في أفلاك البداعة والاتقان، وزين سماء رئاستك وسياستك من فضائلك وفواضلك بأبهي النجوم الزاهرة والزبرقان، جادل عن الملة الحنيفية بلسانها، وجالد بسيف السنة ودافع بإحسانها ..) (¬1)، وعلى هذا الأسلوب الجميل الرائق سار ابن عمار في تقريظه لصديقه، شعرا ونثرا، وكان ذلك أيام إقامته بتونس التي كان قد ورد عليها سنة 1195، كما سيأتي في ترجمته. وما دام الطابع الأدبي هو الغالب على ابن عمار فإن إجازته أيضا قد اصطبغت بهذا الطابع. وقد منح لغيره عدة إجازات مثل إبراهيم السيالة التونسي، وعبد الستار بن عبد الوهاب المكي الهندي، وله ثبت كما عرفنا، ¬

_ (¬1) انظر (الكتاب الباشي) تحقيق محمد ماضور، تونس 1970، 69 - 20، ومن التقاريظ أيضا رسالة المفتي علي بن عبد القادر بن الأمين إلى أبي راس الناصر في كتابه (الحلل الحريرية) الذي شرح به أبو راس مقامات الحريري، وتبلغ الرسالة التي ذكرها أبو راس في كتابه (فتح الإله) صفحة ونصفا، وفيها بيتان من الشعر، وهي رسالة أدبية متصنعة، وكان ذلك عند زيارة أبي راس لمدينة الجزائر سنة 1214.

ولدينا نموذج من إجازته لمحمد خليل المرادي الشامي، وهي رغم قصرها جيدة النسج قوية العبارة ومسجعة في أغلبها، ومما جاء فيها قول ابن عمار بعد التحميد والصلاة على الرسول (صلى الله عليه وسلم) (فقد روينا بتوفيق الله ويمنه، وإعانته وعونه، عدة وافرة، مخدراتها سافرة، من كتب العلوم الشرعية، والفنون المرعية، من منقول ومعقول، وفروع وأصول، ورقائق وآداب، وسائر ما يجذب بتلك الأهداب، عن مشائخ جلة، يروق بهم الدهر وتزدهي بهم الملة، من أهل الغرب والشرق، وجهابذة الجمع والفرق، فمن أهل الحرم المكي، من سطع عبير ذكره سطوع الأرج المسكي، خاتمة المسندين، وأول القداة المرشدين .. هذا وقد أجزت السيد المستجيز المجاز، ورجل الحقيقة لا المجاز، مفتي الشام، والغيث الذي تستمطر بروقه وتشام، السيد محمد خليل المذكور أعلاه، دام فضله وعلاه) (¬1) الخ. ونود أن نسوف نموذجا ثانيا من الإجازات الأدبية، ونعني بذلك إجازة عمر المانجلاتي إلى ابن زاكور المغربي، وهي بالطبع أقدم زمنا من إجازة ابن عمار، وكان المانجلاتي من الفقهاء الأدباء، فقد درس علي سعيد قدورة وعلي بن عبد الواحد الأنصاري، وبدأ الإجازة بالسجع ثم استرسل، فكأن السجع، مثل الشعر، يقصده الكتاب للتعبير عن خلجات أنفسهم، فإذا تناولوا الحقائق المجردة عمدوا إلى النثر المرسل. وهذا نمودج من الجزء المسجع من الإجازة (وبعد، فقد اجتمعت بالشاب الأديب، الأريب الحاذق اللبيب، السيد محمد بن قاسم بن زاكور، فرأيت من حرصه واعتنائه واشتغاله بما يعنيه ما أعجبني، وفيه قابلية لما يلقى إليه مع ذهن ثاقب، وفهم صائب، ومشاركة في فنون من العلوم .. فطلب مني أن أجيزه فامتنعت لأني في نفسي لست من أهل هذا الشأن، ولا من فرسان ذلك الميدان، فألح علي المرة بعد المرة لظنه الجميل، أني من هذا القبيل، فأسعفت طلبته حرصا على جبر خاطره، خشية من كسر قلبه، لأن كسر القلوب في كسر القلوب وجبرها في ¬

_ (¬1) إجازة ابن عمار للمرادي نسخة خاصة مصورة في صفحة كبيرة، كتبت سنة 1205 بخط ابن عمار، نشرنا هذه الإجازة في مجلة (الثقافة) الجزائرية عدد 45، 1978.

جبرها، فأجزته أن يروي عني ما رويته عن أشياخي من الفنون التي أسردها بشرطها المعتبر، عند أهل النظر ..)، ثم ذكر المانجلاتي مشائخه والكتب التي قرأها عليهم في أسلوب سهل مرسل (¬1). وفي رحلة ابن حمادوش نصوص لعقود زواج مختلفة منها الفقهي التقليدي ومنها الأدبي الاجتماعي، ومنها الذي كتب لبكر والذي كتب لثيب، ومنها القصير ومنها المطول، وجميعها تصلح نموذجا لدراسة الحياة الاجتماعية. ومما أورده ابن حمادوش كصيغة لعقد زواج بكر، العقد الذي كتبه العالم الأديب محمد بن عبد المؤمن، وقد لاحظ ابن حمادوش بأن صيغة هذا العقد قد أصبحت محل تقليد الموثقين عند كتابة عقود الزواج، ومن أبرز من قلد صيغة ابن عبد المؤمن، القاضي محمد بن المسيسني عند كتابة عقد زواج حفيد إبراهيم باشا بالجزائر عندئذ. وهذا جزء مما كتبه محمد بن عبد المؤمن سنة 1087 أثناء زواج عبد الرحمن المرتضى، حفيد سعيد قدورة. . (وبعد هذا القول الذي أشرقت أنواره في رقم هذا الرقيم، وسقى أرضها الأريضة من در عنصر البلاغة من نثر البراعة ما أبان عن فضل العلم الموهوب من الحكيم العليم، فنمق أديمها بسطره الأبهج، وعطر أنفاسها بتنميق زهره الأبلج، كأنه الحلة السيراء نشرت في غرة الصباح، فأضاءت لها الأباطح والربا وأغنتها إغناء الصباح عن المصباح، فإن النكاح جالب اليسار، حافظ الحسب والمقدار ..) ويشغل العقد من رحلة ابن حمادوش حوالي خمس صفحات، وكله, على هذا النحو من الأسلوب مع تفصيل الصداق وتدقيق في ذكر الالتزام من الطرفين. وبعد أن أورده ابن حمادوش ذكر أن (عليه عادة بلادنا وبمثله جرى العمل عندنا) (¬2). ورغم ذلك فإنه يبدو أن صيغة هذا العقد متكلفة ومصطنعة، مع طول ¬

_ (¬1) (رحلة) ابن زاكور، ص 8 - 9. (¬2) (رحلة) ابن حمادوش، وكان ابن عبد المؤمن من كبار القضاة، وقد توفي سنة 1101. أما عبد الرحمن المرتضى فقد كان من الأشراف وتولى الإفتاء المالكي عدة مرات خلال القرن الثاني عشر.

الرسائل

الجملة واستعمال السجع الثقيل ورتابة الإضافات، ومن جهة آخرى فإن تقليده من قبل الموثقين الآخرين يدل على العجز أكثر مما يدل على الإعجاب به، فقد طغى الأسلوب الفقهي عندهم، فبدا لهم هذا العقد وكأنه شيء عجب، ولعل شمول هذا العقد لنواحي الالتزام ودقته كانت من بين الأسباب التى جعلته نموذجا عند المقلدين والذي نخلص إليه هو أن التقاريظ والإجازات والعقود كانت ميدانا خصبا لإظهار تفوق الكتاب والقضاة وبيان مقدرتهم الأدبية بالنثر المسجع والمرسل. الرسائل: احتلت الرسائل في كل عصر حيزا كبيرا من اهتمام الأدباء والموظفين والأصدقاء والأحباء، ومن العادة أن تقسم الرسائل إلى رسمية (ديوانية) وإخوانيه، وقبل الخوض في كل نوع نود أن نذكر بأن بعض الجزائريين كانوا مكثرين في كتابه الرسائل وبعضهم كانوا مقلين، وهذا بالطبع يعود إلى مزاج كل أديب ومدى علاقاته الإنسانية والاجتماعية، فعبد الكريم الفكون مثلا كانت له علاقات كثيرة ومراسلات تبعا لذلك، وكذلك كان الأمر مع أحمد المقري وسعيد قدورة وأحمد بن عمار، ومن حسن الحظ أن الوثائق تحفظ لنا نماذج من هذه الرسائل الإخوانية، ويبدو أن بعضهم كان متميزا في عصره بكتابة الرسائل الجيدة كما كان غيره متميزا بنظم الشعر الجيد. وقد جمع محمد بن محمد القالي بين النثر والشعر، وعبر بكليهما ليصل إلى قلب محمد بكداش باشا ويشكو إليه حاله، ومدح الباشا بأنه من كبار السلاطين كما مدح في شخصه حكم الترك وأشاد بأصلهم ونوه بفضلهم على الدين والقطر الجزائري أيضا، ولعل هذا الموقف هو الذي جعل الباشا يخصص له خراجا من أوقاف سبل الخيرات (¬1) العثمانية بالجزائر (ليعالج به داء النكبات.) كما قال ابن ميمون، وقد جاء في رسالة القالي لبكداش: (جل ¬

_ (¬1) عن (سبل الخيرات) انظر الفصل الثالث من الجزء الأول، وهي مؤسسة وقف حنفية.

الله تعالى مالك الملك، ومقيم قسطاس العدل بما أراده من إعزاز السادات الترك .. جمع سبحانه وتعالى بهم كلمة الدين الحنيف، وآثرهم بهذا الملك الكبير وهذا العز المنيف، وشرفهم بما وهبهم من الرتب العالية، وهم أصل للرفعة والتشريف، وخصهم بمكارم الأخلاق ونزاهة الأقدار، وجعلهم بهذا القطر رحمة للعباد، وأخمد بشوكتهم نار الفتنة والعناد، فسلكت بهم السبل وأمنت بهم البلاد، لطفا منه سبحانه بهذه الأقطار، نسأل الله .. أن يبقى جنابهم السعيد عاليا على كل جناب، وأن يخلد الملك فيهم على مرور الدهور وانقضاء الأعمار ..). وبعد هذه المقدمة العامة التي تخص الترك وحكمهم انتقل القالي إلى موضوعه الرئيسي وهو مدح الباشا نثرا أيضا والدعاء له ولدولته بالنصر والتمكين، وأخيرا تخلص إلى غرضه وهو طلب الإعانة والعطايا، وهذه عباراته في هذا الصدد (.. وبعد، فإن الله تعالى من على المسلمين بسيدنا ومولانا سلطان الملوك والأكابر، المخصوص بأفضل الشمائل والمأثر، الإمام العادل، السلطان الفاضل، العالم العامل، صلاح الدنيا والدين، سلطان الإسلام والمسلمين، الذي أطلعه الله في سماء الجلالة بدرا، ورفع له في درجات الأمراء قدرا، وأجرى له على ألسنة الخلق ثناء جميلا وذكرا، فأصبح الدين مبتهجا بكريم دولته، وجناب الكفر مهتظما بعظيم صولته، مولانا وسيدنا محمد خوجا الدولاتلي (¬1)، أبقى الله تعالى أيامه، وأصحب النصر والتمكين ألويته وأعلامه، وهو نصره الله، أجل من استعين به فكان خير معين، وأعطى مفاتيح فتلقاها باليمين، وأفضل من امتثل قوله (صلى الله عليه وسلم): من فرج على أخيه المؤمن كربة من كرب الدنيا فرج الله عليه كربة من كرب الآخرة، إلى غير ذلك من الأحاديث النبوية والآيات القرآنية، حسبما أحاط به ¬

_ (¬1) هذا هو لقب الباشوات في الجزائر منذ العهد المعروف بعهد الباشوات، أي منذ سنة 1075، والعبارة تعني أنه باشا وداي في نفس الوقت، أي أنه ممثل للسلطان وحاكم الجزائر، وأول من تسمى كذلك، حسب رواية ابن حمادوش، هو القبطان الحاج محمد التريكي.

علم مولانا، نصره الله، من مروي ومنقول. .) (¬1). ورغم غلبة السجع، فإن عبارة القالي سهلة واضحة، ويظهر على أسلوبه التأثير السياسي والديني، فإذا نظرنا إلى الألقاب وأوصاف الملك نجد القالي متأثرا بالجو السياسي للعصر، رغم أن الباشا لم يكن سلطانا هكذا وإنما السلطان هو خليفة المسلمين في إسطانبول، ولعل ذلك منه كان بقصد المبالغة لا الجهل، أما التأثر الديني فيظهر من عبارات الأدعية والتضمين التي وردت في نص الرسالة، ومن الغريب أن محمد بكداش الذي حرك مشاعر القالي وأطمعه في ماله وإحسانه، كما حرك وأطمع غيره من الكتاب والشعراء، لم يحكم الجزائر أكثر من ثلاث سنوات لم تكن كلها استقرارا وأمنا، ولا ندري ماذا سيكون عليه حاله عند الكتاب والشعراء لو ظل في الحكم مدة أطول. ونصل الآن إلى ما أسميناه بالرسائل الرسمية أو الديوانية، والواقع أن سيطرة اللغة التركية على الإدارة في الجزائر قد جعلت الرسائل العربية لا تظهر إلا في النادر، وهي إذ تظهر لا يراعي فيها الإجادة بقدر ما كان يراعي فيها التوصيل والفائدة، وكانت أحيانا تأتي متكلفة ركيكة لأن أصحابها كانوا يحاولون ما ليس من شأنهم بطريقة تذكر المرء بما كان يفعله باللغة العربية بعض المستعربين الفرنسيين أو المتفرنسين الجزائريين أثناء العهد الفرنسي، حقا إن بعض الباشوات قد اتخذوا لهم كتابا عربا يحذقون اللغة، كما فعل يوسف باشا ومحمد بكداش باشا، وحقا أيضا أن بعض البايات قد وظفوا بعض الأدباء والمؤرخين العرب، كما فعل محمد الكبير في معسكر والحاج أحمد في قسنطينة، ولكن الغالب على الإدارة العثمانية في الجزائر اتخاذ التركية في المعاملات والوقائع الرسمية، وبذلك أضرت باللغة العربية إضرارا شديدا وحرمتها من ميدان هي به أولى، ولذلك لا نجد من الرسائل الديوانية العربية إلا القليل. ¬

_ (¬1) ابن ميمون (التحفة المرضية) مخطوط باريس، 74 - 78.

ومن هذا القليل ما تبادله يوسف باشا مع محمد ساسي البوني. ففي ذي الحجة من سنة 1050 أرسل الباشا رسالة منمقة إلى العالم المرابط محمد ساسي (¬1) بعنابة حدثه فيها عن عدوله عن حرب الإسبان بوهران والتوجه بدلا من ذلك، إلى قسنطينة وبسكرة لمحاربة المتمردين (ثورة ابن الصخري)، وطلب الباشا من المرابط العمل على جلب طاعة الناس والقيام بدور العلماء في مثل هذه الأحوال باعتباره عالم تلك المدينة والنواحي المجاورة لها، ويبدو من الرسالة أن كاتبها أديب بارع متمكن من صناعة الإنشاء والأسايب البديعية، وهي في ثلاث صفحات، وقد رد محمد ساسي برسالة من عنده طالبا من الباشا العفو على أهالي عنابة ونواحيها، بعد أن تأكد أن الباشا قادم إليها لمعاقبة الثوار والمشايعين لهم، وأخبره بأنه يدعو الله أن يغير من أحوال السوء التي نزلت بالباشا وأبدى له الأسف عما وقع ضده، وناشده الصبر وعدم تصديق ما نقله الناس إليه، كما أخبره أنه لن ينسى وده. ورغم أن رسالة محمد ساسي ليست ديوانية بالمعنى المصطلح عليه فإنها متصلة بهذا المعنى اتصالا مباشرا. أما الرسالة الثانية الديوانية الصادرة عن الباشا والموجهة إلى محمد ساسي أيضا فهي بتاريخ أوائل صفر سنة 1051، ردا على رسالة المرابط السابقة، فقد مدح الباشا فيها محمد ساسي بالولاية والصلاح وأخبره أن الرسالة في طلب العفو لأهل عنابة قد وصلته، ونازعه في القول القائل إن العامة لا تعرف المصالح العليا، مذكرا له بأنهم قد استوجبوا النقمة على أنفسهم ما داموا قد ثاروا أو شايعوا الثورة، ولكنه، مع ذلك، سيعفو عنهم استجابة لطلب الشيخ، بشرط أن يقوم هو (محمد ساسي) من جهته بواجبه في تعريف الناس بما يجب عليهم نحو الحاكم ونحو السلطان (¬2). وضمن هذه المجموعة من الرسائل الديوانية توجد رسالة من محمد ¬

_ (¬1) انظر عنه الفصل السادس من الجزء الأول. (¬2) نفس الرسائل الثلاث في المكتبة الوطنية. باريس، رقم 6724، وقد درسنا هذه الرسائل ونشرناها في (الثقافة) عدد 51، 1979.

بكداش إلى أحمد البوني (¬1)، حفيد محمد ساسي المذكور، وتاريخ هذه الرسالة هو جمادي الآخرة سنة 1115، ولم يكن بكدارش عندئذ قد تولى الباشوية بل كان ما يزال مسؤولا فقط على خبز العسكر، وقد بدأ رسالته بمدح وإطراء الشيخ والاعتراف له بالعلم والولاية، ثم السؤال عنه وعن أهله وعشيرته، وكان الباشا في الواقع يرد على رسالة وصلته من الشيخ ذكرته، كما قال، بأيام خوال وذكريات عطرات، وفي هذا إشارة إلى أن بكداش كان قد زار الشيخ قبل توليه الحكم، وأخبره أيضا أنه أطلع علماء مدينة الجزائر على تأليفه وتقاييده فتأثروا لذلك (¬2). وتكاد هذه الرسالة تكون من الرسائل الإخوانية، رغم أنها صادرة عن جهة رسمية. ومهما كان الأمر فإن هذه الرسائل جميعا تعتمد النثر المسجوع وتضمن النص آيات قرآنية وأحاديث نبوية وأخبارا تاريخية وأحيانا بعض الأبيات الشعرية إما من نظم الكاتب أو من محفوظاته الخاصة، كما أنها تهتم بالمحسنات البديعية بكثرة، واستعمال التلغيز والتلميح والتورية، وتسير على طول المقدمة أو الديباجة والتفنن فيها بصفة خاصة، والدعاء للمرسل إليه، ونحو ذلك من الأساليب الإنشائية التي لم تكن بدعا في حد ذاتها. وقد عثرنا على رسالة ديوانية تعود إلى سنة 1064 فوجدناها رسالة أدبية قوية، رغم أنها مغرقة في التكلف والصنعة، وكاتب الرسالة هو المحجوب الحضري (¬3) على لسان الباشا عثمان (¬4) إلى سلطان المغرب ¬

_ (¬1) انظر عنه الفصل الأول من هذا الجزء. (¬2) توجد هذه الرسالة أيضا في المكتبة الوطنية - باريس، رقم 6724. انظر أيضا (الثقافة) عدد 51، 1979. (¬3) لم نستطع أن نجد له أثرا آخر غير هذه الرسالة، ولم نجد من ترجم له أو تحدث عنه، ولعله كان من مدينة الجزائر مثل قريبه الذي ورد اسمه في الرسالة، وهو الحاج محمد بن علي الحضري المزغنائي، أي من مزغنة (مدينة الجزائر). (¬4) ليس في قائمة ابن حمادوش عن باشوات الجزائر اسم هذا الباشا الذي ينطق بالتركية عصمان.

عندئذ، وهو محمد بن الشريف صاحب سجلماسة، وموضوعها هو العتاب الشديد لمحمد بن الشريف على إثارته أهل تلمسان وندرومة والأغواط وغيرهم ضد العثمانيين، وجاء في الرد المغربي التعريض (بالأعلاج) وهم الترك. والذي يهمنا هنا ليس موضوع الرسالة، لأن ذلك في الواقع يهم المؤرخين بالدرجة الأولى، ولكن يهمنا منها الأسلوب الذي كتبت به. انظر إلى هذا التصنع في العبارات وطول الجمل وكثرة الإضافات وتصيد الألفاط الناشزة (سلام عليكم ما رصع الجفان سموت البحور، ولمح الجواهر الحسان على أزهار رياض النحور، ورحمة الله تعالى وببركاته، ما أساغت محضر الجلال ذكاته، فقد كاتبنا كم من مغنى غنيمة الظاعن والمقيم والزائر، رباط الجريد، مدينة الجزائر، صان الله من البر والبحر عرضها، وأقر من زعازع العواصف أرضها، إلماعا لكم، معادن الرياسة، وفرسان الغابة والعيافة والفراسة، فضلا عن سماء صحا من الغيم والقتام جوه، وضحى نشرت عليه الوديقة وشيها ففشا ضوه. . إن شؤون المملكة التي يتوارى عن مكنونهم أمرها). ثم فصلت الرسالة أحداث مستغانم وتلمسان وندرومة والأغواظ ومازونة، ووصفت بإسهاب (الإيالة العصمانية) وقوتها، وفي آخرها أشارت إلى أن الباشا عصمان قد أرسل إلى المغرب عالمين وقائدين عسكريين لفتح المفاوضات وربط العلاقات، (إننا قد شيعنا نحوكم أربع صحاب، تشرق بمجالستهم الخواطر والرحاب، الفقيه الوجيه سيدي عبد الله بن عبد الغفار النفزي والسيد الحاج الأبر محمد بن عبد الله الحضري المزغناي المغراوي، واثنين من أركان ديواننا وقواعد إيواننا، أتراك سيوط (؟)، وغاية غرضنا منكم جميل الجواب، بما هو أصفى وأصدق جواب) (¬1). ¬

_ (¬1) عثرنا على هذه الرسالة في المكتبة الملكية بالرباط، رقم 4485 مجموع، وهي في ثلاث ورقات من الحجم الصغير، وبعدها مباشرة يأتي الرد المغربي، وبعد اطلاعنا عليها هناك وجدنا الناصري السلاوي في (الاستقصا) 7/ 22 - 25، قد أوردها بحذافيرها، والظاهر أنه اطلع على نسخة أخرى منها لأن نصه يختلف قليلا عن نص النسخة التي اطلعنا عليها، كما أورد السلاوي خلاصة رسالة المغرب. ولاحظ أن =

والذي يقارن بين رسالة الجزائر والرد المغربي عليها يلاحظ أن الرسالة المغربية أجمل أسلوبا وأسلس عبارة، مما يبرهن ربما على أن الكتابة الديوانية في الجزائر عندئذ أضعف منها في المغرب. ومن الرسائل الديوانية أيضا الرسالة التي بعث بها حسن باي وهران، إلى حسين باشا، فقد أخبره، بأسلوب أدبي رفيع، عما غنمه الرايس علي البوزريعي من غنائم في المحيط الأطلسي حيث استولى على ثلاث سفن للنصارى واحدة محملة بالقهوة والثانية بالقماش والثالثة بالعطور، كما أسر عددا من الملاحين والركاب. ورغم أن الرسالة بدون تاريخ فإن المعروف أن حسين باشا قد تولى سنة 1233، فهي إذن من إنشاءات آخر العهد العثماني. وكذلك يقال عن رسائل الحاج أحمد باي قسنطينة إلى حسين باشا أيضا، ومنها تلك الرسالة التي فصل له فيها الهدية الخاصة التي وجهها إليه وهي: قافلة تمر وزيتون (على حسب العادة، والطريقة المعتادة)، وفرسان أحدهما أحمر والثاني أزرق، وبرنوسان جريديان وبرنوسان من حرير السوستي وقندورة مجعبة بالحرير. كما أخبره فيها بالهدية الأخرى (عوائد أرباب دولتك السعيدة)، وهذه الرسالة أدبية إدارية. وفي رسالة أخرى له أخبره بأحوال الرعية في أقليمه وانتصاراته على الثوار في الأوراس، كما استشاره في عدد من القضايا والأشخاص، ويهمنا من هاتين الرسالتين، بالإضافة إلى رسالة الباي حسن، كون الإدارة العثمانية الإقليمية كانت تستعمل اللغة العربية في مراسلاتها مع الحكومة المركزية، وأن بايات الأقاليم كانوا يوظفونالكتاب العرب في دواوينهم (¬1). ¬

_ = السلطان محمد بن الشريف قد اقتنع بوجهة نظر الجزائر وأقلع، بعد تردد وفد الجزائر عليه، عن إثارة الفتن ضد الأتراك لأن ذلك يخالف قواعد الإسلام. (¬1) أورد هذه الرسائل السيد بريسنييه في كتابه (فن الكتابة العربية). فأما رسالة حسن، باي وهران، التي لا تاريخ لها، فعلى صفحات 144 - 148، وأما رسالتا الحاج أحمد، باي قسطينة، فالأولى على صفحات 166 - 173، وهي بتاريخ 1243، والثانية على صفحات 179 - 85 1 وهي بتاريخ 1244.

وهناك العديد من الرسائل الإخوانية بعضها قد فقد نصه ولم تبق إلا الإشارات إليه في التراجم ونحوها، والبعض الآخر ما زال موجودا لحسن الحظ. وممن اشتهر بين معاصريه بكثرة المراسلات مع غيره: أحمد المقري وعبد الكريم الفكون وأحمد بن عمار من الأدباء، بالإضافة إلى علماء آخرين تغلب عليهم الفقه أكثر من الأدب، أمثال عيسى الثعالبي وعبد القادر المشرفي وسعيد قدورة وابن العنابي. فقد كان الأدباء يتبادلون الرسائل في أغراض شتى كإعراب مسألة، والإخبار بكتاب ألف، والتعزية في فقيد، والتهنئة بحادث سعيد، والاعتذار، وحل لغز أدبي، والتوصية على قريب أو صديق، ونحو ذلك من الأغراض الاجتماعية، وكانوا في العادة يضمنون رسائلهم النثرية بعض الشعر من البيت إلى الأبيات، ويتنادرون ويظهرون براعة الحفظ، وأحيانا كانوا يجاملون بعضهم البعض فيكتفون بالثناء والإطراء على النقد وإظهار الحق. وكانت لعبد الكريم الفكون مراسلات مع عدد من علماء عصره، منهم الجزائريون وغير الجزائريين، فقد ذكر هو أنه كان يتراسل مع سيد قدورة وأحمد المقري ومحمد تاج العارفين العثماني وإبراهيم الغرياني التونسي، وغيرهم، وأورد المقري في (نفح الطيب) رسالة بعثها إليه عبد الكريم الفكون من قسنطينة سنة 1038، وهي الرسالة التي أخبره فيها الفكون أنه متجه إلى الله هروبا من نفسه الأمارة بالسوء، وقد علق المقري على ذلك بأن الفكون (مائل إلى التصوف، ونعم ما فعل). وفي رسالة الفكون ما يشير إلى تبادل الرسائل بينه وبين المقري قبل ذلك، فقد أضاف الفكون إلى رسالته المسجوعة تسعة أبيات على وزن وقافية الأبيات التي ذيل بها المقري رسالته إلى الفكون، مع الاعتذار بأنه ليس من أهل هذا الفن، كما أخبر الفكون زميله بأنه ينوي وضع شرح على منظومة (إضاءة الدجنة) للمقري في علم الكلام ووعده بأن يحمل الشرح معه عند حجة العام الموالي، وأنه مشتاق لزيارة الحرم، واعتذر له عن قلة أبيات الشعر لوفاة زوجه. أما المقري فقد سمى الفكون (عالم المغرب الأوسط

غير مدافع) (¬1)، ولكن الفكون قد انتقد المقري في كتابه (منشور الهداية) وأورد نموذجا للمراسلات التى دارت بينهما حول إعراب آية (¬2). ومن رسائل الفكون أيضا ما راسل به محمد تاج العارفين العثماني حوالي سنة 1037، وتذهب رسالة الفكون إلى أن الدنيا قد كثر فيها الأشرار وكسدت فيها أسواق العلم والعلماء. وهي نغمة تذكرنا بنغمة كتابه (منشور الهداية) الذي كان عندئذ يجمع مادته، فالرسالة إذن من الأدب الوعظي، وهي طويلة تقع في ثلاث صفحات، وفيها الكثير من قدرة الفكون الأدبية واللغوية والدينية، ورغم أنها بدون تاريخ فإنها تكون قد كتبت حوالي سنة 1037، كما ذكرنا، لأن تاج العارفين قد كاتبه في هذه السنة، ويبدو أن الرجلين لم يلتقيا وجها لوجه، ذلك أن الفكون يشير في (منشور الهداية) إلى أن تاج العارفين قد جاء إلى الجزائر سنة 1037، رفقة العالم إبراهيم الغرياني القيرواني للصلح بين حكومة تونس وحكومة الجزائر بعد الحرب التي دارت بين الطرفين، فراسله العالمان التونسيان من قصر جابر، وقد أورد الفكون نص رسالة تاج العارفين، وهي منمقة متكلفة، ورسالة الغرياني وهي أيضا نثرية - شعرية، ومن حسن الحظ أننا عثرنا على رسالة الفكون إلى تاج العارفين (¬3). ورغم تميز عيسى الثعالبي بالحديث والفقه فقد كان يجيد النثر الأدبي والشعر. فقد كاتبه العياشي المغربي ذات مرة بقصيدة جعل لها مقدمة نثرية، فرد عليه الثعالبي بنفس الأسلوب، وجاء في نثره ما يلي: (الحمد لله، يقول كاتب الأحرف المسمى نفسه آخرا أن صاحبنا الأديب البليغ الناظم الناثر ريحانة الآداب وواسطة الأحساب سيدي ... العياشي، وصل الله إكرامه، وبلغه من محمود المقاصد مرامه، خاطب العبد الفقير بقصيدة متمكنة ¬

_ (¬1) الرسالتان في (نفح الطيب) 3/ 238 - 240. (¬2) (منشور الهداية) - ترجمة المقري. (¬3) (كناش الطواحني) المكتبة الوطنية - تونس، رقم 18647، 41 - 43، وكان تاج العارفين قد سافر مع أحمد المقري إلى المشرق من تونس، قىصد الحج.

الأعجاز والصدور، مسبوقة بأسجاع متناسقة ولا تناسق القلائد في النحور على الصدور، فجرى قلم فكري الفاتر وذهني القاصر، شاكرا لفضله بهذه الأبيات المتأخرة عن مباراة الصاحب الأرضي، البائنة عن صوب معاقد البلاغة إن لم تنظر بعين المسامحة والإغضا) (¬1). ولا شك أن التكلف ظاهر في هذه السطور وروح الدين فيها أوضح من روح الأدب، ولكنها مع ذلك قطعة تعطي فكرة تداخل الأدب والدين في النثر. وفي رحلة ابن حمادوش نص رسالة تعزية عزاه بها المفتي محمد بن حسين عند وفاة أحد أبنائه، وقد اعتذر المفتي عن عدم حضور الجنازة شخصيا، وضمن رسالته آيات قرآنية وأحاديث نبوية في الحث على الصبر والتحمل عند الفجائع، والرسالة مسجعة ولكنها غير ثقيلة ثقل بعض القطع النثرية عندئذ، ومما جاء فيها قول المفتي (فقد بلغنا ما أحار الأذهان وأشجاها، وأطار النور من الأجفان وأبلاها، وأضرم لواعج الأشواق، وأذكى زواعج الاحتراق، بالذي صدع أعشار القلوب، وأفاض على صحن الخد الدموع من الغروب .. حتى أدركتني محنتك وموت ولدك فأخذتني الصدمة، وهيجت لي المحنة، فلقد رمانا الدهر بسهام صروفه فأصمانا، وتعهدنا خطبه فهذ عروشا وأركانا، فاصبر له صبر الأجواد، إنما صبر الكريم على الرزيه أجمل ..) (¬2)، فجملة ابن حسين خفيفة وأسلوبه في الجملة جيد، وكان في رسالته يقارن بين محنته (التي لم يذكرها) ومحنة ابن حمادوش في وفاة ولده. وقد اطلعنا على رسالة قاضي معسكر، محمد بن شهيدة، إلى ابن سحنون مؤلف (الأزهار الشقيقة) فوجدناها رسالة أدبية جيدة، ولكننا للأسف لم نأخذ منها نصا، كما اطلعنا على مخاطبة أحمد بن هطال لنفس المؤلف (¬3)، وإذا كنا متأكدين من أن رسالة ابن شهيدة تدخل في باب النثر ¬

_ (¬1) رحلة العياشي 2/ 130. (¬2) رحلة ابن حمادوش، مخطوطة. (¬3) كلاهما في (الأزهار الشقيقة)، دار الكتب المصرية، 12160 ز. لأحمد بن سحنون =

الوصف

الفني بدون منازعة، فإننا غير متأكدين من رسائل عبد القادر المشرفي التي وجهها إلى الحبيب الفيلالي، فلا ندري هل هي رسائل أدبية أو تاريخية أو فقهية (¬1)، ولا بد من الإشارة إلى رسالة أحمد بن عمار التي وجهها إلى أستاذه وصديقه المفتي ابن علي (¬2) وقد تبادل محمد بن رأس العين ومحمد سعيد الشباح الرسائل الإخوانية الأدبية، كما اشتهر محمد بن عبد المؤمن بتجويد الرسائل. ولعل فيما ذكرناه من النماذج للرسائل الديوانية والإخوانية كفاية في توضيح الصورة التي نحن بصددها. فالأدب الجزائري غني بهذا النوع من التعبير، ونعتقد أن ما ذكرناه من الرسائل ومصادرها، سيكون حافزا للدارسين الآخرين على المضي في طريق البحث والاستزادة. الوصف: وهناك لون آخر من النثر الأدبي، ونعني به الوصف، وصف مظاهر الطبيعة أو وصف القصور والمدارس ونحو ذلك من المنشآت البشرية، أما وصف المرأة فالغالب أنه كان بطريق الشعر لا النثر، ويدخل في الوصف أيضا وصف الكتب والخيل وغيرها من الحيوانات، ووصف القوافل والمدن، ويمكننا أن نضيف إلى هذا اللون الوصف المعنوي كوصف المشاعر الإنسانية عند الحج، ووصف أثر نكبة من النكبات على الإنسان، أو الحديث عن معركة طغى فيها الحس الديني، إلى غير ذلك، فالمقصود بالوصف هنا الوصف الحسي والمعنوي، ولكن القليل فقط من الكتاب الجزائريين لجأوا إلى الوصف بالنثر للتعبير عما كان يختلج في أنفسهم من المشاعر. وأبرز من عالج هذا الموضوع أحمد بن عمار، فقد وصف مشاعره ¬

_ = أيضا كتاب ضائع في الأدب سماه (عقود المحاسن) ذكره في كتابه الموجود (الثغر الجماني)؛ ولعل (المحاسن) قد جمع بين أدب ابن سحنون ونصوص من أدب غيره. (¬1) توجد هذه الرسائل في الخزانة العامة الرباط، رقم 2581 د. (¬2) أحمد بن عمار (نحلة اللبيب)، 50. 54. وهي من الرسائل الجيدة في بابها.

الذاتية عند اعتزامه أداء الحج سنة 1166 فأجاد الوصف بأسلوبه المحكم المعهود، ومن ذلك قوله في هذا الصدد: (لما دعتني الأشواق، النافقة الأسواق، إلى مشاهدة الآثار، والأخذ من الراحة بالثأر، وأن أهجر الأهل والوطن، وأضرب في عراض البيد بعطن، وأن أخلع السالين الساكنين الكرى، وأمتطى ظهر السهر والسرى، لبيت داعيها، وأعطيت كريمة النفس ساعيها، علما مني أن ليس يظفر بالمراد، من لم يتابع الإصدار للإيراد .. ولما انبرى هذا العزم وانبرم، والتظى لاعج الشوق وانضرم. شرعت إذ ذاك في المقصود، وأعددت طلسم ذلك الكنز المرصود، وأخذت في أسباب السفر. وكثيرا ما كان يصدر عني في هذه الحالة من المقطعات الشعرية، والموشحات السحرية، والمراسلات الشحرية، والتقريضات (كذا) الزهرية، ما تثيره الأشواق الغالبة .. فأحببت أن أدخل ذلك كله في خبر الرحلة. ولما شرعت في التقييد والجمع)، لما يجتليه البصر ويتشنفه السمع، عزمت على تسمية ما أسطره بنحلة اللبيب بأخبار الرحلة إلى الحبيب) (¬1). ومن الممكن مقارنة وصف حالة ابن عمار النفسية بوصف الورتلاني لحالته أيضا عند نفس المناسبة، فقد أديا الحج في سنة واحدة، وهذه بعض عبارات الورتلاني في ذلك: (وبعد، فإني لما تعلق قلبي بتلك الرسوم والآثار، والرباع والقفار والديار، والمعاطن والمياه والبساتين والأرياف والقرى والمزارع والأمصار، والعلماء الفضلاء والنجباء والأدباء من كل مكان من الفقهاء والمحدثين والمفسرين الأخيار، والأشياخ العارفين والأخوان المحبين المحبوبين من المجاذيب المقربين والأبرار، من المشرق إلى المغرب سيما أهل الصحو والمحو إذ ليس لهم من غير الله قرار، أنشأت رحلة عظيمة يستعظمها البادي، ويستحسنها الشادي، فإنها تزهو بمحاسنها عن كثير من كتب الأخبار، مبينا فيها بعض الأحكام الغريبة، والحكايات ¬

_ (¬1) ابن عمار، ديباجة (نحلة اللبيب)، 3.

المستحسنة والغرائب العجيبة وبعض الأحكام الشرعية) (¬1). ومن الملاحظ أن ابن عمار قد استخدم السجع عند الحديث عن النفس والمشاعر الشخصية وفي الحديث عن الأدب والعواطف، ولكنه عمد إلى النثر المرسل عند الحديث عن القضايا الدينية وعن التفسير ونحو ذلك، وكان الورتلاني أيضا يسجع ويتكلف تنميق عبارته في مقدمة أعماله ويسترسل فني غير ذلك، ولكن شتان بين أسلوب الرجلين فى هذا الباب. أما الوصف الحسي فقد وجدنا لابن عمار أيضا قطعة جميلة يصف فيها قصرا، هو قصر ابن عبد اللطيف بالعاصمة، الذي ما يزال قائما إلى اليوم، وقال ابن عمار إن الوزير الكاتب أحمد بن عبد اللطيف قد استدعاه إلى صنع ما صنعه كسرى أنو شروان، فقضى فيه سهرة ممتعة قلما يجود بها الدهر، مع زملاء آخرين من أعيان البلاد، وقد جمع ابن عمار، كعادته أيضا، في هذا الوصف بين النثر والشعر، ومدح فيه آل عبد اللطيف بالعلم والثروة والجاه والوزارة، ومما جاء في وصف القصر نثرا قوله: (فاحتللنا قصرا وما أدراك من قصر، تقابل الوصف أوصافه بالحبس والقصر، وتعبث محاسنه بالزهراء والزاهرة، وتشرف شرفاته على النجوم الزاهرة، وتزهو بدائعه على الزاهي والدمشق، وتلهو مقصوراته بقصور العراق ودمشق ..) ثم وصف انفساح عرصاته ووفرة الأرائك والمنصات والزرابي والدسوت والفرش والأكواب والفاكهة، وقال إنهم ظلوا في القصر حتى الصباح، يغازلون القدود والبدور الملاح، وكان السرور يغمرهم بحمياه وقد أرخى عليهم الليل سدوله وأداروا الكؤوس ومقطر الورود. وكان الحاضرون لهذه الحفلة (لمة من الأعيان، تهابهم القلوب وتجلهم الأعيان) فيهم رجال الأدب والعلم وفيهم أهل الراية والحرب، وقال إنهم قطعوا هناك ليلة أنس قصيرة ولكنها كانت في الفخر ليلة طويلة، وأضاف ابن عمار إلى هذا الوصف، الذي يبلغ صفحة على الآلة الكاتبة، قصيدة طويلة من جيد ما نظم، ومطلعها: ¬

_ (¬1) الورتلاني، الرحلة، المقدمة.

وليلة أنس لذ فيها جنى السمر ... فناهيك من أنس جنيناه بالسهر (¬1) وفي هذا الوصف جال ابن عمار في فنون الأدب والبلاغة وتحمل كل ما يستطيع ليبدو وصفه قطعة نثرية نادرة المثال، فحلاه بالمحسنات البديعية ونمقه بالسجع، وإذا كان في غير هذا الوصف ينسج على منوال ابن الخطيب والفتح بن خاقان، فإنه في هذا الوصف حاول التفوق عليهما، وقد سمى هو نفسه قصائد ابن الخطيب الميمية والسينية والنونية إلى السلطان أبي حمو (العقائل الثلاث) وقال عن شعر ابن الخطيب (شعره كله، ما بعده مطمع لطامع)، ووعد في رحلته أنه سيلم عن ابن الخطيب (بشيء من أخباره، ونتف من أشعاره، وشذرات من نثره المزري بالروض وأزهاره) (¬2)، وانتقد ابن عمار التنسي الذي قال إن ابن الخطيب قد قلد في سينيته أبا تمام. وقد قيلت أشعار مختلفة في وصف الآثار والأبنية في الجزائر العثمانية سنعرض إليها، ولكن النثر لم يسجل ذلك إلا قليلا. فهناك منشآت الباي محمد الكبير، ومنشآت صالح باي، وقصر الباي الحاج أحمد، ومدارس العاصمة، بل حتى الأضرحة والزوايا والقناطر، وكان بعض هذه المنشآت يثير الشاعرية أكثر مما يثير قدرة الكتاب على الوصف الأدبي، فقد قيل عن قصر أحمد باي أنه كان أهم وأحدث بناية في قسنطينة، تحيط به الحدائق الغناء والحمامات والباحات، ويضم ثمانية أجنحة يقود بعضها إلى بعض في تناسق محكم، وكان يثير الدهشة والإعجاب برشاقة وقوة ونصاعة هندسته المحلية، وقد ضمت حدائقه ألوان الأشجار المثمرة، وترقرقت فيه المياه، واختلط فيه خرير الماء من الفوارات بزئير الأسود في الأقفاص، حتى أن بعض الكتاب تخيل عندما دخله أنه كان في أحد قصور خلفاء ¬

_ (¬1) انظر (أشعار جزائرية مختلفة) مخطوط، وكذلك نسخة من وصف القصر، نثرا، قدمها إلي الشيخ المهدي البوعبدلي. انظر أيضا (مختارات مجهولة من الشعر العربي). (¬2) ابن عمار (نحلة اللبيب)، 188، والمعروف أن الذي جمع أخبار وآثار ابن الخطيب هو أحمد المقري في كتابه (نفح الطيب)، فهل كان ابن عمار سيأتي يا ترى بجديد عن ابن الخطيب؟

الخطابة

بغداد (¬1)، ومع ذلك فلا نعرف أن أديبا قد وصفه نثرا وإنما وجدنا في وصفه أبياتا قليلة من الشعر سنذكرها في مكانها. ومن المؤكد أن أدباء الجزائر قد تناولوا وصف الرياض والدنان والقصور والحيوانات بالنثر أيضا، وإذا كان جهدهم في هذا الباب قليلا، وإذا كنا لم نطلع على الكثير منه، فليس معنى هذا أنهم لم يحفلوا به، ولا نخال أدباء مثل ابن رأس العين وابن علي وابن ميمون وابن سحنون وابن عمار والمقري لا يسجلون انطباعاتهم في مظاهر الطبيعة والمجالس الإخوانية والمشاعر الإنسانية عند الحل والترحال، ولكن علينا أن نجد في البحث عن آثارهم لا أن نحكم بعدم وجودها ونخلد بعد ذلك إلى الراحة. الخطابة: تعتبر الخطابة من أبرز فنون النثر في الأدب العربي، وكانت ميادينها وأغراضها متعددة، تشمل الدين والسياسة والاجتماع والعسكرية ونحو ذلك، وقد ألفت في ذلك الكتب مع وصف دقيق للخطيب وشروطه وفن الخطابة وشروطها أيضا، وقد عرف الجزائريون هذا النوع الأدبي عندما كان ساستهم يتحدثون لغة المواطنين ويحذقونها، وعندما كان علماؤهم متمكنين من قواعد اللغة متمرسين على استعمالها منذ نعومة الأظفار، فإذا ارتجلوا بها القول أجادوا مع رباطة جأش وفصاحة لسان وقوة كلمة. ولكن مع مجيء العثمانيين انحصرت الخطابة في ميدان واحد تقريبا وهو الجامع، ذلك أن الساسة كانوا، كما عرفنا، غرباء عن البلاد وأهلها وعن اللغة التي يفهمها ويتحدث بها الناس، فلا نجد باشا من الباشوات نهض يخطب في الناس لا خطبة جمعة ولا خطبة استثارة للجهاد ونحوه (¬2)، ولا ¬

_ (¬1) بولسكي (العلم المثلث على الأطلس)، 99. (¬2) أخبرنا من قبل أنه قيل عن محمد بكداش أنه صعد ذات مرة المنبر وخطب في الناس فوعظ وحذر، الخ. ونحب أن نلاحظ أن ذلك كان سنة 1104 وهو قد تولى الحكم سنة 1118. وأن قضية علم بكداش وفصاحته ونحوهما مشكوك فيها لأنها صدرت من علماء مدينين له، أمثال محمد بن ميمون وعبد الرحمن الجامعي، وهم الذين =

نجد بايا من البايات قد خطب في رعيته يستحثهم على عمل أو يثير حماسهم لفكرة. كان الباشوات والبايات يتوارون عن الناس فلا يحدثونهم ولا يخرجون إليهم، فقد يبقى الحاكم ما يبقى فلا يعرف الناس وجهه ولا شكله ولا يسمعون له صوتا ولا يخرج إلا غازيا أو إلى قبره، بعد أن يكون خصومه قد تخلصوا منه سريا بالخنق ونحوه، حتى التولية والعزل لا يعرف المواطنون عنها شيئا ولا شأن لهم بهما، فتولى الباشا أو الباي أو عزلهما كان يتم في الخفاء وبلغة لا يفهمها الشعب ولا يعرفون أن الأمر قد انتهى بحل من الحلول إلا براية ترفع وأخرى تخفض، فالكلمة السياسية إذن لم تكن معروفة في الجزائر العثمانية، فما بالك بالخطبة في هذا الميدان. أما صلة الوصل بين الحاكم والشعب فاثنان: الجندي الجاهل بسلاحه المرعب وقسوته المتناهية وشرهه الذي لا يعرف الحدود، والمرابط الذي كان يقوم غالبا بدور المسكن للخواطر والجالب للرعية نحو الحاكم بأساليبه الصوفية والدينيا المتعارف عليها. وبالإضافة إلى ذلك كان هناك بعض شيوخ القرى وقواد النواحي، ولكن حظ هؤلاء كان في أغلب الأحيان هو الجمع بين قسوة الجندي وحكمة المرابط. حقا إن المصادر تحدثنا أن بعض البايات قد استخدموا الطلبة في المناسبات الحربية وجعلوا على الطلبة بعض القضاة والعلماء وكونوا بذلك فرقا محاربة ضد العدو، بينما كان دور القضاة والعلماء هو الإشراف والقيادة والتوجيه المعنوي والإثارة، فهل كان هؤلاء العلماء القواد يخطبون على جنودهم الطلبة في الميدان ليحرضوهم على القتال؟ ذلك ما لا تحدثنا عنه المصادر الموجودة، ولكن أغلب الظن أنهم كانوا يفعلون ذلك (¬1). ¬

_ = نسبوا إليه أيضا الأصل العربي والدم النبوي فقالوا إنه كان قرشيا هاشميا تزلفا وتملقا، بينما كان هو من أتراك أناضوليا، كما عرفنا، ولكن هذا لا يعني عدم تدينه وحبه لأهل التصوف، وهو أمر أخذه عن والده، واستفاد منه هو أيضا سياسيا. (¬1) انظر فصل التاريخ من هذا الجزء، سيما وصف ابن زرفة وابن سحنون للجهاد ضد الإسبان في وهران.

فإذا أبعدنا عن الخطابة الميادين السياسية والعسكرية فإنه لم يبق أمامها إلا الميادين الدينية والاجتماعية، ولا شك أن هذه الميادين ظلت مفتوحة أمام الخطباء في العهد العثماني، فالمناسبات الدينية والاجتماعية كثيرة، وعلى رأسها صلاة الجمعة والعيدين. بقي علينا إذن أن نعرف الخطيب، والخطيب من حيث المبدأ هو أحد العلماء المعروفين بالعلم واللسان، ولكن هذا الشرط لم يكن دائما متوفرا، فهناك خطباء كان يغلب عليهم العي حتى كانوا ينيبون غيرهم للقيام بمهمتهم، وهناك من كان الناس يشكون من عدم إبانته وعدم أهليته لهذه المهمة الجليلة (¬1)، وبالإضافة إلى العي وعدم الأهلية كان هناك الجهل الذي تحدثنا عنه في مناسبات أخرى، فقد كانت الخطابة عبارة عن وظيفة يتولاها أحدهم لكي يكسب من ورائها مالا وعيشا وسمعة، لذلك كان القليل فقط من العلماء هم الذين شرفوا هذه المهمة السامية ووفوها حقها. ومع ذلك فإن الخطابة كانت تعتبر وظيفة من أعظم الوظائف في الدولة، ذلك أن صاحبها كان يجمع إليها الإمامة، وقد يكون من المفتين أيضا، وتحدثنا المصادر، ولا سيما تلك التي تناولت حياة العلماء، مثل (تقييد) ابن المفتي و (منشور الهداية) للفكون، عن جملة الخطباء الذين زانوا الخطبة وقاموا بها أفضل قيام كما تحدثنا عن نماذج أخرى شانت الخطبة وحطت من قيمتها. ومهما كان الأمر فإن معالجة هذه النقطة بالذات عند النقاد والكتاب عندئذ تبرهن على أهمية الخطابة في وقتهم، فهم إذا رضوا عن أحد العلماء مدحوه بجودة الخطبة والبراعة فيها وذلاقة اللسان وحسن السمت، وإذا سخطوا عليه عابوا عليه النقص في ذلك. فهذا مصطفى بن عبد الله البوني قد اشتهر بحذق الخطابة وإتقانها حتى زعم من حضره أنه لم ير أفضل منه في ذلك من الجزائر إلى مكة، وهذه عبارة محمد بن ميمون فيه (يبتدع الخطب جارية الفقر .. صدرت له في هذا النوع عجائب أفردته في صنعة الخطابة، وله في الخطب الساعد المشتد، والإلقاء الذي تميل إليه ¬

_ (¬1) انظر فصل العلماء من الجزء الأول.

الهوادي وتمتد، والسكينة التي تحدق إليها الأبصار فلا ترتد، ولم أر منذ عقلت بسني، وعلقت خطباته بذهني، أحق منه في طريقة الوعظ والخطابة والإمامة، ولا رأيت من شيوخنا من يتقدم أمامه، لا جرم أنه استحوذ عليها، صناعة استوفى شرطها واستكمل أسبابها ... وكذلك هو في وعظه آية من آيات فاطره ... زعم من رآه أنه لم يسمع من حضرة الجزائر إلى أم القرى أخطب منه ولا من يدانيه إلا واحد من الأفاضل، لم يكن له بمماثل، وإنما كان قريبا من أسلوبه ..) (¬1). ولا شك أن الجزائر قد عرفت عددا من هؤلاء الخطباء أمثال سيد قدورة وسعيد المقري وأحمد المقري وعبد الكريم الفكون وأحمد بن عمار، ولكن خطبهم غير مدونة، فنحن لا نعرف من الخطب المدونة سوى مصدرين حتى الآن، الأول خطبة أو مجموعة خطب منسوبة لأحمد المقري (¬2)، والثاني مجموعة خطب لعبد الكريم الفكون. فقد ذكر الفكون نفسه أنه هو الذي كتب أول خطبة جمعة للشيخ أحمد بن باديس ثم أضاف (وهي مذكورة مع جملة الخطب التي ألفت في غير هذا) (¬3)، ولكننا لم نطلع على نصوص هذه الخطب لنعرف قيمتها الأدبية واللغوية وأسلوبها، ويفهم من كلام منشئها أنها خطب وعظية بلاغية إذ قال عن الخطبة المذكورة (ضمنتها التوبة وقبولها وإنعام المولى بها عن العباد، فجاءت حسنة بليغة في معناها). وكانوا يتفنون في هذه الخطب فلا يكتفون بالكلام المسجع أو المرسل، بل كانوا يضيفون إلى ذلك بعض القيود ومحاولة التأثير بها على السامعين، فقد قيل إن سعيد المقري كتب خطبة عارض فيها خطبة القاضي عياض التي ضمنها التورية بأسماء سور القرآن الكريم، وتبدأ خطبة المقري، ¬

_ (¬1) ابن ميمون (التحفة المرضية)، مخطوط باريس، 656 - 666. (¬2) أشار إلى ذلك محمد بن عبد الكريم في كتابه (المقري وكتابه نفح الطيب) 492، وقال إنها موجودة في مدريد (؟). (¬3) (منشور الهداية) 253.

القصص والمقامات

التي يبدو أنها خطبة جمعة أيضا، هكذا (الحمد لله الذي افتتح بفاتحة الكتاب سورة البقرة ليصطفي من آل عمران رجالا ونساء وفضلهم تفضيلا) (¬1) وهي خطبة مسجعة ويظهر عليها التكلف في أغلبها، وقد كان سعيد المقري خطيبا وإماما في تلمسان مدة طويلة، كما عرفنا (¬2). القصص والمقامات: لم يشع في الأدب الجزائري ما يسمى بالأدب القصصي إلا قليلا، وتذكر المصادر أن الأدب الشعبي كان غنيا بالحكايات والقصص التاريخية البطولية أو الملحمية، ولكنها كانت شفوية، ولا يوجد من المكتوب منها إلا القليل النادر، وكانت تستوحي موضوعاتها من التاريخ الإسلامي والعربي وألف ليلة وليلة، وعنتر بن شداد وسيرة بني هلال، وحتى من تاريخ الجزائر في العهد العثماني. ومن هذا الأخير قصة غرام عروج بربروس مع زافرة زوج سليم التومي، فقد وجد بعض الباحثين نسخة خطية من هذه القصة عند أحد المرابطين، وهو أحمد بن حرام (لعله هارون)، ولكننالا ندري ما إذا كانت لغة هذه القصة فصيحة أو عامية (¬3)، وكانت رواية القصة الشعبية على النحو الذي أشرنا إليه نوعا من الترفيه الاجتماعي، وكان أداؤها يجمع بين المسرحية أو التمثيلية والحكاية، وكان المؤدون لها، سواء اعتبرناهم ممثلين أو رواة، يؤدونها في الساحات العامة أو في المقاهي أو في خيام خاصة، وهم في ذلك يصعدون على منصة أو يتصدرون الحلقات والجماعات ويحكون للسامعين بأسلوبهم المؤثر المليء بالمبالغات ما جرى لأبطالهم من ¬

_ (¬1) (نفح الطيب) 10/ 194 - 196. (¬2) انظر ترجمته في الفصل الرابع من الجزء الأول. (¬3) روى ذلك السيد لوجي دي تاسي في كتابه تاريخ الدول البربرية، الطبعة الفرنسية سنة 1725، وقد كتب اسم المرابط مرة حرام وأخرى حران. وقال عنه إنه من نسل سليم التومي وأنه كان مرابطا في جهة قسنطينة، وقال عن المخطوطة أنه وجدها مكتوبة على الرق وأخذ منها لكتابه المذكور، والظاهر أن اسم (زافرة) مصحف عن (ظافرة) حسب النطق العثماني.

مغامرات وأهوال وانتصارات، وبعد الانتهاء من أداء هذا الدور تجمع التبرعات المالية (¬1). ومما يؤسف له أن المصادر المحلية قليلا ما تعرضت أو سجلت هذه الظاهرة الفنية الاجتماعية، فكأن هذه المصادر كانت مترفعة عن تسجيل مثل هذه الآثار الشعبية، فهي لا تسجل إلا أعمال الولاة وأهل الدين والعلماء والأغنياء ونحو ذلك، ولكن الشعراء الشعبيين قد تركوا في أزجالهم وقصائدهم الملحونة تسجيلا لهذه الظاهرة، وسنعرف بعض ذلك منهم في فصل الشعر، وحسبنا أن نذكر في هذا الفصل أن الموضوعات التي كانت تطرقها القصة الشعبية كانت تعرض أصبحابها إلى غضب السلطة أحيانا، لأن أصحابها كانوا يتحدثون أيضا عن الحرية والوطنية القبلية ومناصرة فريق دون فريق في الخصومات والثورات، بالإضافة إلى الموضوعات المشار إليها والمستمدة من تاريخ العرب والمسلمين، ومع ذلك فإن هؤلاء القصاصين كانوا محبوبين لدرجة أن بعض الضباط العثمانيين كانوا يستدعونهم إلى الأكشاك أو المجالس ونحوها لقص أخبارهم. فإذا عدنا إلى المصادر النثرية التي تسجل القصص والحكايات الشعبية فإننا لا نكاد نجد من ذلك شيئا (¬2)، وأقرب صيغة وجدناها من ذلك هي المقامة. وقد أسهم الجزائريون في هذا الميدان، ولعل أشهر من أسهم فيه منهم قبل العثمانيين هو محمد بن محرز الوهراني صاحب المقامات أو المنامات (¬3)، ولكن موضوعات الوهراني كانت مشرقية، لأنه عاش معظم ¬

_ (¬1) بنانتي، ط 2، 226. (¬2) انظر تعريف عبد الحميد بورايو بقصة (جني الهيدور) لمؤلف تلمساني مجهول. وهي تضم مجموعة من القصص الاجتماعية والسياسية مستوحاة من ألف ليلة وليلة، وبطلها جميعا هو عبد الله بن منصور، في جريدة (الشعب) 22 يناير، 1981. (¬3) بروكلمان 2/ 911، وقد نشرت بالقاهرة، 1968. وكذلك ترك أحمد أحمد بن أبي حجلة مجموعة من المقامات كتبها أيضا في المشرق. ويقوم حاليا أحد الأساتذة بتحقيقها.

حياته الفنية في المشرق. ويقرب من ذلك الإنتاج المسمى بالمجالس وبالمرائي الصوفية، على غرار ما فعل محمد الزواوي الفراوسني في (تحفة الناظر) (¬1)، ويمكننا أن نغامر هنا فننسب ما يحكي عن كرامات الأولياء والصلحاء وما في ذلك من خيال ومغامرات وانتصارات إلى عنصر الحكاية الشعبية النثرية، فإذا صح ذلك فإن الأدب الجزائري إذن سيجد مادة خصبة في الحكايات المعزوة إلى الصالحين والزهاد عن مغامراتهم الروحية (¬2). وأظهر كاتب استعمل المقامة هو محمد بن ميمون (¬3) في ترجمته لحياة الباشا محمد بكداش، والغريب أن ابن ميمون قد سمى كتابه في ذلك (التحفة المرضية في الدولة البكداشية في بلاد الجزائر المحمية)، ولم يسمه مثلا المقامات المرضية أو نحو ذلك من التسميات حتى تتسق مع المحتوى، وقد جمع ابن ميمون ذلك في ست عشرة مقامة، وجعل كل مقامة عبارة عن فصل من سيرة الباشا وأعماله، فمثلا المقامة الأولى في نبذة من أخلاقه، والثانية في تعيينه سنجق دار، والثالثة في توليه تقسيم خبز العسكر، والرابعة في توليه الحكم، الخ. ولعل هذه التسمية هي التي جعلت بعض النساخ يكتبون على التحفة عبارة (مقامات ابن ميمون) (¬4)، ورغم أن ابن ميمون أديب ماهر يذهب مذهب الفتح بن خاقان حتى أنه عندما حمد الله في المقدمة شكره أيضا على ¬

_ (¬1) انظر عنه الفصل الأول من الجزء الأول. (¬2) في وفاة محمد الغراب وفرسة الزواوي المسماة بالرقطاء، وفي الكرامات التي رواها ابن مريم، وفي (بستان الأزهار) للصباغ، وغيرها من الآثار دليل على ما نقول. (¬3) مصادر ابن ميمون هي كتابه (التحفة المرضية) ورحلة ابن حمادوش، و (شرح الحلفاوية) للجامعي، و (تقييد) ابن المفتي، و (ديوان) ابن علي، انظر أيضا مقالتنا عن قصيدته في مدح ابن عبدي باشا في كتابنا (أبحاث وآراء في تاريخ الجزائر). (¬4) مخطوطة باريس، رقم 1625، وهي على ما يظهر أقدم النسخ إذ تعود إلى سنة 1121 أي أثناء حياة ابن ميمون والباشا معا، أما بكداش فقد قتل سنة 1122، وأما ابن ميمون فنعرف من رحلة ابن حمادوش أنه كان حيا سنة 1159، وبذلك يظهر أنه ألف التحفة وهو في سن الشباب، وقد ترجم (التحفة المرضية) إلى الفرنسية السيد روسو الفرنسي، وحققها محمد بن عبد الكريم سنة 1972.

أن جعل (الأدب ريحانة للشم، وقلد البلغاء قلائد العقيان في النثر والنظم)، فإن عمله أقرب إلى التاريخ منه إلى الأدب، ولذلك فضلنا أن ندرس كتابه في فصل التاريخ، أما النواحي الأدبية من الكتاب فهي شكله وأسلوبه. فقد جعله ابن ميمون على شكل المقامات، والمقامة من أنواع الأدب، كما أن أسلوبه مسجع رقيق، أما عنصر الحكاية والخيال الضروري للمقامة الفنية فيكاد يكون منعدما عند ابن ميمون، لقد حاول أن يجعل كل مقامة عبارة عن وحدة قصصية تخص موضوعا معينا، ولكنه كان مجبرا، وهو يتناول شخصيات تاريخية وأحداثا واقعية، أن يكتب التاريخ لا الأدب وأن يسجل الوقائع لا الخيالات: أليس هو القائل عن كتابه (ولم آل جهدا في تنقيحه، وتأليفه من صادق الخبر وصحيحه، على ما تجده من ألفاظ لغوية، وأنواع بديعية، وأخبار مستلمحة، وكتابات مستملحة)؟ (¬1)، فاعتماده صادق الخبر ومعاودته تأليفه بالتنقيح هو عين منهج التاريخ. وأقرب مثل إلى المقامة التقليدية مقامة أحمد البوني المسماة (إعلام الأحبار بغرائب الوقائع والأخبار)، وكان البوني قد كتبها سنة 1106، وموضوعها هو علاقة العلماء بالسلطة والاستنجاد بصديقه مصطفى العنابي، والشكوى من وشايات أهل العصر، وهي بدون شك تقرب في أسلوبها وطريقتها من أسلوب وطريقة المقامة المعروفة، وفيها كثير من الخيال والإغراب والتهويل، ولكنها مع ذلك تقص أمرا واقعا وتذكر أشخاصا حقيقيين، وتقع المقامة في أربع صفحات، وهي تبدأ هكذا (الحمد لله الذي جعل المصائب وسائل لمغفرة الذنوب، والنوائب فضائل لذوي الأقدار والخطوب، وسلط سبحانه وتعالى على الأشراف، أرباب الزور والفجور والإسراف .. وبعد، أيها العلماء الفضلا، النبلاء الكملا، فرغوا أذهانكم، وألقوا آذانكم، وتأملوا ما يلقى إليكم من الخبر الغريب، وما يرسله الله تعالى على كل عاقل أريب، فقد ارتفعت الأشرار، واتضعت أربات المعارف ¬

_ (¬1) (التحفة المرضية) 3، مخطوط باريس.

والأسرار، وانقلبت الأعيان، وفشا في الناس الزور والبهتان، وأهملت أحكام الشريعة، وتصدى لها كل ذي نفس للشر سريعة، بينما نحن في عيش ظله وريف، وفي أهنى لذة بقراءة العلم الشريف .. إذ سعى في تشتيت أحوالنا وقلوبنا، وهتك أستارنا وعيوبنا، من لا يخاف الله ولا يتقيه، فرمى كل صالح وفقيه بما هو لاقيه، واعتد في ذلك بقوم يظنون أنهم أفاضل، وهم والله أوباش أراذل .. وما كفاه بث ذلك في كل ميدان لأنه يسر الشيطان، حتى أوصله لمسامع السلطان، فلم نشعر إلا ومكاتب واردة علينا من جانب الأمير بعزل صديقنا الشهير، من خطة الفتوى، مع أنه ذو علم وتقوى، تحيرنا من ذلكط أشد التحير، وتغيرنا بسببه أعظم التغير ثم نادى منادي السرور، وقال ابشروا برفع السوء عنكم ودفع الشرور .. فقلنا يا هذا أصدقنا الخ) (¬1)، ورغم أن البوني كان من العلماء الفقهاء فإن مقامته قد ظهر عليها الطابع الأدبي القوي والعبارة المتينة، ولكنها تظل تفتقر إلى عنصر الرمز والخيال البعيد. أما مقامات عبد الرزاق بن حمادوش الجزائري فقد جمعت كل ذلك، وهي ثلاث كتبها على ما يظهر وهو في المغرب. الأولى سماها (المقامة الهركلية) وقد وصف فيها بيته التعسة بأحد فنادق مكناس، المسمى فندق الرحبة، وما سمعه من الجلبة والضجيج أثناء الليل الدامس وتشاجر القوم رجالا ونساء، وأثناء ذلك سمع امرأة تطالب جاره بدفع كيت وكيت على ما فعله معها من نكاح، ثم هدأت أعصاب ابن حمادوش ولكنه قرر عدم العودة إلى هذا الفندق الغريب، ونام. وختم المقامة بسبعة أبيات شعرا في نفس المعنى، وتناول في مقامته الثانية حالته عند خروجه من تطوان وتوجهه إلى ¬

_ (¬1) مكتبة جامع البرواقية، مخطوط رقم 15. نسخها لي الأستاذ الشيخ الفضيل طوبال، إمام جامع البرواقية، وقد نشرتها في مجلة (الثقافة) عدد 58 (1980)، 35 - 43 انظر عن أحمد البوني الفصل الأول من هذا الجزء، ولعل مصطفى العنابي هو نفسه مصطفى بن عبد الله البوني الذي تحدثنا عنه في فقرة الخطابة، وهو الذي يرد أيضا في (تقييد) ابن المفتي، وهو أستاذه، وكان العنابي وأخوه حسين العنابي (جد محمد ابن العنابي) من خصوم أحمد قدورة وابن نيكرو.

مكناس، وقد وصف فيها متاعبه وهدفه من زيارة المغرب بمرافقة اثنين من التجار، والطريق الصعبة التي مروا بها والأخطار التي تعرضوا لها ممن يسميهم العربان، وغرائب ما شاهد أثناء الطريق، أما المقامة الثالثة فقد سماها (المقامة الحالية)، وهي رمزية وصف فيها حالته مع الناس والدنيا والرحلة، وخسارته التجارية ودنو أجله كما قال نتيجة كل ذلك، وكان ابن حمادوش في هذه المقامة يتحدث عن شخص رمزي متعلقا به حبا (ولعله يقصد زوجه)، ومع ذلك سبب له التعب والنكد، وختمها كالأولى بالشعر والدعاء (¬1). وهذا نموذج من المقامة الهركلية (الحمد لله، حدى بي حادي الرحلة، إلى أن دخلت في بعض أسفاري هركلة، ودخلت بها في خان، كأنه من أبيات النيران، أو كنائس الرهبان، بل لا شك أنه من أبيات العصيان .. فاختصصت منه بحجرة، فكأنها نقرة فى حجرة. فغلقت بابى، لأحفظ صبابي، وآمن حجابي .. حتى مد الليل جناحه، وأوقد السماء مصباحه، وهدأت الأصوات، وصرنا كالأموات. فلم يوقظني إلا جلبة الأصوات، وتداعى القينات، والتدافع بمنع وهات .. وإذا بجاري بيت، يحاسب (صاحبه) قينة على كيت وكيت، وهي تقول له فعلت كذا وكذا فعله، وتدفع أجر فعله .. فقلت بعدا لهذا الجار، ولا شك أنه بئس القرار، ولبئس الخان، كأنه حان، ثم رجعت إلى هجعتي، وتجاوزت عن وجعتي). ومن الواضح أن مقامات ابن حمادوش، من الوجهة الفنية المحضة، تعتبر أكمل وأفضل، إذ لا ينقصها عنصر الحكاية ولا الخيال ولا طرافة الموضوع ولا الرمز، ثم إنها تجمع النثر إلى الشعر، والذي يعيبها في نظرنا أن ابن حمادوش من الرياضيين والأطباء، وليس من الأدباء، ولكن يكفيه في هذا الميدان أنه كتب ذلك في الوقت الذي لم يتناول فيه الأدباء المعروفون، ¬

_ (¬1) المقامات الثلاث في رحلة ابن حمادوش. انظر دراستنا عنه في كتابنا (أبحاث وآراء في تاريخ الجزائر)، وكذلك مقالتي (أشعار ومقامات ابن حمادوش الجزائري) في مجلة (الثقافة)، عدد 49، 1979.

أحمد المقري

كابن ميمون وابن سار وابن سحنون وابن علي، هذا اللون الأدبي الطريف، وهو المقامة. ... ونود الآن أن نترجم لأديبين كبيرين تميزا بغزارة الإنتاج والتأثير على المعاصرين، وهنا أحمد المقري من أدباء القرن الحادي عشر (17 م) وأحمد بن عمار من أدباء القرن الثاني عشر (18 م). أحمد المقري لو حاولنا أن نترجم للمقري ترجمة تقليدية لضاق عنه مجال هذا الكتاب، لأن إنتاجه غزير وحياته خصبة وتأثيره كبير، ثم ان هناك دراسات تناول أصحابها حياته وإنتاجه، ولا نريد أن نكرر هنا ما قاله مترجموه عنه هناك، وحسبنا إذن أن نلفت النظر إلى بعض النقط قبل الحديث عن المقري نفسه. الأولى أننا سنركز في هذه الكلمة عنه على علاقته بالجزائر خلافا للمترجمين الآخرين الذين ركزوا على حياته في المغرب والمشرق، فجعلوه وكأنه لا صلة له بالجزائر وأهلها. ثانيها أن المصادر التي سنعتمدها عنه هي ما رواه عن نفسه وما رواه عنه معاصروه، سيما عبد الكريم الفكون وعلي بن الواحد الأنصاري، ذلك أن معظم المترجمين، بمن في ذلك محققو كتب المقري، قد اعتمدوا على (خلاصة الأثر) للمحبي، رغم ما فيها من الإعجاب بالمقري والمبالغات. وثالثها أننا لم نكرر هنا ما قلتاه عنه في فصول سابقة أو لاحقة من هذا الكتاب كدوره في الإنتاج الديني ونحوه. ولد أحمد المقرى ونشأ وتثقف في تلمسان، وقد ظل وفيا لهذا التكوين الأصلي حتى وهو يتمتع بالجاه والحظوة في القاهرة ودمشق، فبدأ في تأليف كتاب لم يتمه عن تاريخ تلمسان وأهلها سماه (أنواء نيسان في أنباء تلمسان)،

وكان يذكر محاسن تلمسان وجمالها وهو في المغرب والمشرق، وكان يقارنها بفاس ودمشق. وعندما كان في المغرب موفور الكرامة لم يصبر على زيارتها والبقاء فيها عدة سنوات (1010 إلى 1013). ولا غرابة في ذلك فهو بالإضافة إلى أصوله العائلية حيث أجداده ووالده، وجمال تلمسان الطبيعي، كان هناك عمه سعيد المقري الذي تحدثنا عن مكانته العلمية، وهو الذي أسهم في تكوين ابن أخيه تكوينا أدبيا موسوعيا بعد أن قرأ عليه سنوات طويلة، ونعتقد أن الفتن التي كانت دواليك بين سكان تلمسان والعثمانين هي السبب في هجرة المقري نهائيا من تلمسان إلى فاس (¬1). ورغم وجود كتاب له مثل (روض الآس العاطر الأنفاس في ذكر من لقيته من علماء مراكش وفاس) فإن حياة المقري في المغرب ما زالت مجهولة. حقا ان هناك أشعارا وكناشات تنسب إلى المقري في المغرب وتلقي على حياته هناك بعض الضوء، ولكن هذه المصادر لا تجيب على كثير من الأسئلة المتعلقة بحياته ونشاطه في المغرب (¬2)، ويبدو أن طموح المقري كان بلا حدود، ولا يشبهه بين الشعراء والأدباء إلا طموح المتنبي، ألم يقل المقري عن نفسه بعد هجرته إلى المشرق: ولي عزم كحد السيف ماض ... ولكن الليالي من خصومي وقد كان معجبا بالمغرب، متوليا فيه الوظائف السامية، كالإمامة ¬

_ (¬1) تحدثنا عن بعض هذه الفتن، ومن مصادرنا فيها كتاب (البستان) لابن مريم (وكعبة الطائفين) لابن سليمان. وقد كثرت هجرة علماء تلمسان خلال هذه الأثناء إلى المغرب، ومنهم الشاعر سعيد المنداسي الذي كان معارضا للعثمانيين، وقد تحدث أحمد المقري عن علاقته بعمه سيد المقري في كل من (روض الآس) و (نفح الطيب). (¬2) في (روض الآس) ذكر المقري من أجازوه بالمغرب (وكان ذلك قبل هجرته إلى المشرق)، ومنهم أحمد بن القاضي صاحب (جذوة الاقباس) وأحمد بن أبي القاسم التادلي، وأحمد بابا التمبكتي السوداني، والمفتي محمد القصار، وقد ترجم للمقري صاحب (نشر المثاني) ترجمة وافية 1/ 346 - 351، واستفاد مما كتبه عنه اليوسي في محاضراته.

والخطابة والفتوى، وهي وظائف العلماء البارزين في عهده في الجزائر أيضا. وكان بعض سلاطين المغرب يقدمون علماء الجزائر، وخصوصا تلمسان، لأسباب سياسة تتعلق بسياستهم من الدولة العثمانية عموما، والجزائر بصفة خاصة، وإذا كان بعض علماء الجزائر قد سجلوا انطباعهم نحو العثمانيين، معهم أو ضدهم، فإن أحمد المقري لم يسجل، حسب علمنا، انطباعه سواء عندما كان في الجزائر أو عندما كان في المغرب أو حتى بعد أن هاجر إلى المشرق، ولعل من أسباب ذلك أن عالما من أبرز علماء أسرته، وهو عمه سعيد المقري، كان متوليا لوظيفة الخطابة والإمامة والفتوى في تلمسان تحت العثمانيين قرابة أربعين سنة. ولكن المغرب، رغم طول مكثه فيه، لم يكن في حالة استقرار سياسي، فالنزاعات كثيرة والعلماء كانوا في مقدمة وقود الفتنة إذا وقعت لأن مكانتهم، وخصوصا إذا كانوا في منصب الإفتاء، تجعلهم هدفا لطلب التأييد والنصرة، ولا شك أن المقري لم يكن يغيب عنه ما وقع لبلديه، عبد الواحد الونشريسي في المغرب أيضا، عندما رفض خلع بيعة السلطان، ومقتله على يد أنصار المطالب بالعرش، لذلك عندما أحس المقري بأن الأمور تسير على غير ما يروم ادعى التوجه إلى الحج سنة 1027، وبذلك يكون قد قضى في المغرب حوالي ربع قرن، وهي فترة هامة من حياته، ومع ذلك فما تزال غير مدروسة. ويسجل صديقه ومعاصره عبد الكريم الفكون سبب هجرة المقري من المغرب بهذه العبارات. بعد فساد البلاد بتبدل دولها بين أولاد أسيرها، حتى تداعت للخراب ارتحل المقري (يقال إنه عن خوف من الأمير الذي تولى اذ ذاك لكونه (المقري)، فيما يقال، له خلطة بالأمراء والانتماء إلى بعض دون بعض) (¬1)، ,وقد أشار المقري نفسه إلى هذه الظروف دون أن يفصح عنها بقوله لما قضى الله (برحلتي من بلادي ونقلتي عن محل طارفي وتلادي بقطر المغرب الأقصى) ويشير إلى سماسرة الفتن والأهوال الذين ¬

_ (¬1) (منشور الهداية)، ترجمة المقري.

جعلوا الأمن في المغرب عزيز المنال (¬1)، والغريب أنه أطال في وصف قصور المغرب وطبيعته واعتبره بلاده ولكنه قلما ذكر أهله. ومهما كانت أسباب رحلته من المغرب، فإنه يبدو أن المقري كان ينوي العودة إليه لأنه ترك فيه أهله وابنته ومكتبته، ولعله قد حاول المكث في الجزائر، قريبا من المغرب، حتى تنجلي الأمور السياسية، فقد وجدناه يستقر بمدينة الجزائر سنة 1027، بعد أن مر بمسقط رأسه تلمسان، واتصل في الجزائر بالعلماء وشرع في التدريس وخصوصا التفسير، وتبادل مع كبير علماء الجزائر عندئذ، وهو سعيد قدورة، الألغاز والنكت والمعلومات، وقد روى الفكون ذلك في شيء من التعريض بالمقري قائلا إنه نزل دار الجزائر على فقهائها وعلمائها، وتصدى للتدريس بها، وقرأ بها التفسير على ما قيل، وسأله عالم الجزائر وخطيبها أبو عثمان سعيد بن إبراهيم كدورة (كذا يكتبه الفكون) لغزا بعنوان (هاج الصنبر) فلم يصب المقري الجواب في الأول وأصابه في المرة الثانية، ثم سافر إلى المشرق (¬2). فهل وجد المقري مدينة الجزائر غريبة عنه فواصل سيره إلى المشرق؟ ذلك ما لا تكشف عنه الوثائق حتى الآن، وقد يكون سفره من المغرب بالبر خوفا من القراصنة، كما قال، ولكن تلمسان بالنسبة إليه هي بلد الآباء والأجداد، وهو الذي تمثل في شأنها بهذين البيتين: بلد الجدار ما أمر نواها ... كلف الفؤاد بحبها وهواها يا عاذلي في حبها كن عاذري ... يكفيك منها ماؤها وهواها (¬3) ¬

_ (¬1) مقدمة (نفح الطيب) ط. 1949. وقد جاء في (الاستقصا) 6/ 22 بعض التوضيح لهذه الظروف، فقد استفتى المأمون الثائر المطالب بالعرش علماء فاس، ومنهم المقري، على جواز افتداء أهله من يد الإسبان بمنحهم مدينة العرائش، فأجابه البعض خوفا، وامتنع البعض ففروا واختفوا ومنهم أحمد المقري ومحمد الجنان .. الخ. (¬2) (منشور الهداية) انظر أيضا كتاب محمد بن سعيد قدورة (جليس الزائر وانيس السائر)، مخطوط. (¬3) (أزهار الرياض) 1/ 6 - و (نفح الطيب) 7/ 352. والبيتان لابن مرزوق. وبلد الجدار هي تلمسان.

ولعل المقري لا يقصد بذلك الحنين تلمسان وحدها، إذ أنه طالما ردد حنينه أيضا إلى مراتع صباه بالمغرب الأقصى، رغم أن حياته في فاس جعلته، كما قال، لا يفكر فيها إلا في (هم أو هول) (¬1). والذي يطالع مقدمته لـ (نفح الطيب) يدرك أن الرجل كان كثير الشوق إلى وطنه رغم ما وجده في المشرق، ولا سيما في الشام، من حفاوة وتكريم. وكان المقري كثير التمثل بالأشعار وبعبارة (الحنين إلى الوطن مجال لكل حر ومضمار) و (حب الوطن من الإيمان). وبذلك يكون المقري من أوائل المثقفين الجزائريين الذين كرروا موضوع الحنين إلى الوطن بهذه القوة. وتشهد المصادر الأخرى على ذلك، حتى مصادر خصومه أو نقاده، فهذا عبد الكريم الفكون الذي انتقده في أخلاقه وسلوكه الاجتماعي، أقر، وكان قد عرفه وخبره وسافر معه، بأن للمقري (محبة في المغاربة) وله معهم مباسطة، ويقول الفكون صراحة بأن المقري كان (مشغوف بوطنه وأهله). وأنه كان كثير الحج مع الركب المغربي ليتحدث مع أهله ويتسلى ويسمع أخباره، كما كان يتراسل مع عدد من علمائه وأدبائه (¬2)، ورغم أن الفكون يعلل حنينه بكونه ترك ابنته وأهله وراءه حتى أنه كان يبكي ويحزن كلما ذكرهم، فإن المقصود هو حنين المقري إلى المغرب العربي، ولا سيما الجزائر التي مدحها كما سبق، بخلاف فاس. ويبدو أن طموحه والخوف من العودة إلى المغرب هما اللذان كانا وراء بقائه في المشرق، فقد سافر من الجزائر إلى تونس بالبر أيضا، ولعله قد مر في طريقه بقسنطينة والتقى بعلمائها كما كان يفعل معظم الحجاج. ونال في تونس من حسن الاستقبال ما شهد له مرافقة عالم تونس عندئذ، محمد تاج ¬

_ (¬1) أزهار الرياض، المقدمة. (¬2) تحدثنا عن مراسلة المقري مع الفكون نفسه، انظر فصل النثر، فقرة الرسائل، من هذا الجزء، وقد راسله أيضا تلميذه علي بن عبد الواحد الأنصاري ومحمد بن يوسف التاملي المراكشي، وكلاهما من المغرب، وحدثاه عن أحوال البلاد هناك وسمعة المقري فيها ورواج كتبه ونحو ذلك.

العارفين العثماني له، فقد ركب مع المقري السفينة ونزلا مصر، ومنها سافر المقري بحرا أيضا إلى جدة، فأدى العمرة سنة 1020 ثم فريضة الحج في السنة الموالية، ويقول عن نفسه أنه كان ينوي الإقامة عند البيت العتيق الذي أخذته عنده رعشة وانبهار، ولكنه عاد إلى مصر سنة 1029 لظروف لم يكشف عنها، وتزوج بها، ولعل أحواله المادية هي التي أخبرته على أن يبدأ في مصر السلوك الذي انتقده معاصره الفكون. ومهما كان الأمر فإنه ابتداء من هذه السنة تصبح حياة المقري واضحة أكثر ومسجلة ومدروسة أيضا إلى حد كبير، فقد ظل يتنقل بين مصر والحجاز، ثم أضاف إلى ذلك بيت المقدس ودمشق. فحج حوالي خمس مرات وسافر إلى القدس عدة مرات وذهب إلى الشام على الأقل مرتين، ولكنه لم يعد إلى البلاد التي أحبها كثيرا أو إلى تلك التي أقام بها ربع قرن يعلم ويتعلم، وإذا كانت هذه نكبته هو النفسية فهي بدون شك نكبة وطنه أيضا، لأنه لو عاد إليه بعلمه الغزير وأدبه الجم لأسهم في نهضته وتكوين جيل من الأدباء والعلماء، ولكن القدر شاء أن يقيم المقري اثني عشرة سنة أخرى من حياته بعيدا عن أهله ووطنه، ذلك أن أجله قد وافاه سنة 1041 وهو في مصر يستعد للعودة إلى دمشق. في الشرق عاش المقري حياة حافلة بالنشاط العقلي، فقد ألف معظم كتبه هناك، ولا سيما موسوعته (نفح الطيب)، وألف عددا من كتبه الدينية في المدينة المنورة، مثل (فتح المتعال) و (أزهار الكمامة) (¬1). واتصل بالوجهاء والعلماء، ولعله اتصل أيضا ببعض الأمراء، ومدح هؤلاء بالشعر، وأظهر حفظه الواسع وموهبته الأدبية فوجد تقديرا كبيرا، ولا سيما من علماء الشام، أمثال المفتي عبد الرحمن العمادي والوجيه أحمد بن الشاهين، وطارت شهرته كمدرس في الأزهر والجامع الأموي فهرع إليه علماء كل بلد وأعيانها على نحو وصفه المحبي وصفا شيقا (¬2)، فلا داعي لتكراره هنا، وقد زوجه السادة الوفائية بمصر من ابنتهم على نحو لا يفعلونه مع كل الناس، ولكن ¬

_ (¬1) عن كتبه الدينية انظر الفصل الأول من هذا الجزء. (¬2) المحبي (خلاصة الأثر) 1/ 303.

مكانته في مصر لم تصل إلى المكانة التي تمتع بها في الشام، وكان حاله في مصر وموقفه منها يذكر المرء بحال وموقف المتنبي أيضا منها، فبينما مدح الشام بكل جميل عاتب مصر بأبيات مرة وتأسف فيها على حاله: تركت رسوم عزى في بلادي ... وصرت بمصر منسى الرسوم ونفسي عفتها بالذل فيها ... وقلت لها عن العلياء صومي ولا شك أن هذا كان أثتاء نزوة من نزواته وثور من ثوراته النفسية، وإلا فنحن نعلم من سيرته أنه أكرم في مصر أيضا وتولى فيها الوظائف وألف الكتب، غير أن طموحه كان أبعد من وسائله، وقد أصابته بعض النكبات في مصر أيضا، فقد توفت والدته وابنته من السيدة الوفائية، بالإضافة إلى غربته عن ابنته وأهله في المغرب (¬1)، فلا غرابة إذن أن تنقبض نفسه وتثور. ابتسم الحظ للمقري، وهو في أخريات أيامه، فتعزى عن غربته ونكباته، فقد اعترف له العلماء، وخصوصا علماء الشام.، بما هو أهل له من الحفظ والأدب والظرف، لذلك أكثر من ذكرهم في (نفح الطيب) قائلا عنهم (نوهوا بقدري الخامل)، ونذكر من (هؤلاء أحمد بن الشاهين وعبد الرحمن العمالي ومحمد بن يوسف الكريمي ومحمد بن علي القاري ويحيى المحاسني، فقد تبادل معهم الإجازات والتقاريظ والمدائح والطرف والهدايا والأشعار، وفي هذا الجو عاش المقري حياة اجتماعية وعلمية شبيهة بحياته في المغرب العربي، في تلمسان أو في فاس، وكان إلحاح علماء الشام عليه في تعريفهم بلسان الدين بن الخطيب وبتاريخ الأندلس وأخبارها هو الذي دفعه إلى كتابة موسوعته الأندلسية (نفح الطيب). وقد نشط عقله وشاعريته في هذا الجو المنعش للآمال والطموح فأنتج أبحاثا ضافية وأشعارا غزيرة لو جمعت لجاءت في ديوان ضخم، وكيف لا تتنعش آماله وطموحه وقد قال فيه العمادي، مفتي الشام عندئذ: شمس هدى أطلعها المغرب ... وطار عنقاء بها مغرب ¬

_ (¬1) (نفح الطيب) 3/ 224، وقد عزاه في ذلك ولي نعمته وصديقه أحمد بن الشاهين.

فأشرقت في الشام أنوارها ... وليتها في الدهر لا تغرب (¬1) ألف المقري معظم كتبه، التي بلغت ثمانية وعشرين تأليفا، عندما كان في المشرق، وباستثناء (أزهار الرياض) و (روض الآس) فإننا لا نعرف أنه قد ألف في المغرب أو في تلمسان، ولعله قد بدأ (أنواء نيسان) في المغرب أيضا. وقد ألف معظم كتبه الدينية في الحجاز، بينما اشتغل بالأدب والتاريخ وهو في القاهرة ودمشق. ولا نعرف أنه ألف شيئا عندما كان في القدس التي أكثر من الترداد عليها. وقد نشر البعض من كتبه حتى الآن ولكن معظمها ما يزال مخطوطا أو مجهولا، ومن أهم كتبه المطبوعة على الإطلاق موسوعته (نفح الطيب) الذي ألفه بوحي وبإلحاح من أعيان الشام وعلمائه، كما عرفنا، ويبدو أن المقري كان قد شرع في مشروعه منذ كان في المغرب، ذلك أن موضوع (نفح الطيب) الرئيسي، وهو لسان الدين بن الخطيب والأندلس، قد طرقه أيضا في (أزهار الرياض)، حتى أن كثيرا من لوحاته في الكتاب الأخير قد أعاد إنتاجها في (النفح)، وكان اقتراح أحمد بن الشاهين الأولي عليه هو التوسع في حياة ابن الخطيب بإفراده بكتاب، ومعنى ذلك التوسع فيما كان قد بداه في (أزهار الرياض)، وقد اختار المقري عنوان كتابه الجديد ليتلاءم مع ابن الخطيب فجعله (عرف الطيب في أخبار الوزير ابن الخطيب)، ولكن الحديث عن ابن الخطيب قد جره إلى الحديث, عن الأندلس، إما منطقيا وإما باقتراح من زملائه العلماء، وهكذا ولدت التسمية الجديدة للكتاب، وهي (نفح الطيب الخ)، وبناء على الأخبار، التي ساقها المقري بنفسه، فإنه ذهب إلى الشام سنة 1037، وفي نفس السنة عاد إلى مصر وشرع في الكتابة (¬2)، وفي خلال سنة وبعض السنة انتهى من نفح الطيب في القاهرة أيضا، حيث ¬

_ (¬1) نفس المصدر 3/ 168، وهي قصيدة طويلة أرسلها إليه لما كان المقري في مصر، وقد أجابه المقري عنها شعرا رقيقا. (¬2) (نفح الطيب) 9/ 342، ومن كتبه المطبوعة، بالإضافة إلى (نفح الطيب)، أجزاء من (أزهار الرياض)، و (إضاءة الدجنة) في التوحيد، و (فتح المتعال) في نعال الرسول (صلى الله عليه وسلم)، و (روض الآس) عن حياة المقري بالمغرب.

جاء في خاتمة الكتاب أنه انتهى منه سنة 1038 بالقاهرة وزاد عليه في السنة الموالية بعض الإضافات. ونحن هنا أمام بعض التساؤل: لماذا لم يؤلف المقري كتابه في الشام التي أحبها وأحب أهلها وأحبوه، والكتاب أساسا كأنه موجه إليهم وبوحي منهم؟ لعل المقري قد ترك كتبه ورقاعه في القاهرة التي قضى فيها فترة طويلة والتي فيها أيضا عائلته الجديدة، ولعل كرم أهل الشام وحياتهم الاجتماعية النشطة لا تسمح له بالعكوف على كتابة مثل هذا العمل الضخم، فاختار لذلك القاهرة التي يخلو فيها لنفسه. ومن جهة أخرى يكاد يكون مستحيلا في نظرنا أن يؤلف المقري موسوعته في ظرف سنة أو نحوها، سواء كان ذلك بالتحرير الشخصي أو بطريق الإملاء. ومن الممكن أن يكون قد سود الكتاب ثم اشتغل عليه بقية حياته أي إلى سنة 1041، ومن الممكن أيضا أن تكون له رقاع ونصوص حول نفس الموضوع أعدها من قبل في القاهرة فنسقها وأضافها إلى (نفح الطيب) والدليل على ذلك ما أشرنا إليه من التكرار الموجود في (الأزهار) و (النفح). أعجب المقري بلسان الدين بن الخطيب فنسج على منواله، ولعل إعجابه به لم يقتصر على الأسلوب الأدبي فنحن نعتقد أن المقري كان يحاول تقليد ابن الخطيب في حياته السياسية أيضا لو ساعفته الأيام، ولكن هذه قضية أخرى يهتم بها الدارسون لحياة الرجلين. أما نحن هنا فحسبنا التنبيه إلى أن المقري قد اتبع طريقة ابن الخطيب في تحرير العبارة وانتقاء الألفاظ والسجع الجميل وتوشيح النثر بالشعر، وحتى في اختيار غدد من الموضوعات، وقد هدف المقري إلى أن يكون كتابه مرجعا للشعراء والأدباء وطلاب الموعظة فقال في خاتمته (اعلم أن هذا الكتاب معين لصاحب الشعر، ولمن يعاني الإنشاء والنثر من البيان والسحر، وفيه من المواعظ والاعتبار، ما لم ينكره المنصف عند الاختبار، وكفاه أنه لم ير مثله في فنه فيما علمت، ولا أقولها تزكية له) (¬1)، ورغم أن ¬

_ (¬1) نفس المصدر 10/ 363.

المقري يتواضع أمام القارئ فيرجو العفو عن الزلل، ويعتذر، لكونه ترك مصادره بالمغرب فإنه، من جهة أخرى، كان معتزا بعمله فكرر أنه لم يسبق إليه بقوله: (وقد توهمت أني لم أسبق إلى مثله في بابه، إذ لم أقف له على نظير أتعلق بأسبابه). شرح المقري طريقته في هذه العبارة (ورجوت أن يكون هدية مستملحة مستعذبة، وطرفة مقبولة مستغربة)، وقال إنه قد أورد فيه النظم والنثر، وأخبار الملوك والرؤساء، سواء في ذلك من أحسن أو من أساء، وذلك للعبرة والأذكار. كما جاء فيه بالهزل والمجون للترويح على القارئ، بالإضافة إلى المواعظ والنصائح وحكايات الأولياء والتوسل بالرسول (صلى الله عليه وسلم) (¬1)، وقد أوقعته هذه الطريقة في عدة مزالق يمجها الذوق اليوم، وهي الاستطرادات الكثيرة والتكرار الممل أحيانا، وذكر القصص التي ليس لها أهمية والأشعار الضعيفة، مع إهماله حادثة سقوط الأندلس الذي كان قريبا منه، كما أنه أثقل عبارته بالسجع الذي أصبح مع طول الكتاب مزعجا، وهو لا يتخلص منه إلا قليلا؛ وكانت مصادر المقري في كل ذلك مروياته الشخصية ومعارفه كشاهد عيان لما وقع بالأندلس في حياته أو ما أخذ من الجيل الذي سبقه من أهل الأندلس المطرودين، بالإضافة إلى مصادر أخرى مكتوبة مستمدة من المسعودي وابن خلدون والغبريني والبكري وابن بشكوال وابن الخطيب وابن بطوطة وابن سعيد وابن حيان وابن خاقان وابن جبير وابن بسام وابن خلكان وابن الأثير، وقد قسم كتابه إلى قسمين رئيسيين الأول في أخبار الأندلس وفيه ثمانية أبواب، والثاني في أخبار ابن الخطيب وفيه أيضا ثمانية أبواب، ورغم الصلة بين القسمين فإنه يمكن في الواقع فصلهما تماما، فالمهتم بتاريخ الأندلس وآدابها ونظمها المختلفة يكتفي بالقسم الأول (وفيه أخبار أيضا عن ابن الخطيب)، والمهتم بحياة ابن الخطيب السياسية والعلمية والأدبية يمكنه الاستغناء عن القسم الأول. ¬

_ (¬1) نفس المصدر 1/ 118 - 119.

ومهما كان الأمر، فإن عمل المقري في (نفح الطيب) لا يفوته في بابه إلا عمل ابن خلدون في تاريخه، وإن كان ابن خلدون قد وضع المقدمة في نظرية علم الاجتماع والاقتصاد السياسي والعمران فإن المقري قد وضع في (نفح الطيب) مقدمة لا غنى عنها في حياة الأندلس وعلمائها وشعرائها، وقد صدق شكيب أرسلان في وصفه لـ (نفح الطيب) بأنه (حقيبة أنباء، وقمطر حوادث، وخزانة آداب، وكشكول لطائف، وديوان أشعار). وفي قوله إن من لم يقرأ (نفح الطيب) ليس بأديب (¬1)، وقد أشاد بعمل المقري أصدقاؤه الشاميون المعاصرون له، كما أشاد به المحبي الذي عاش بعده بفترة قليلة والذي اعتبره جاحظ المغرب. ثم أهمل الناس المقري، كما أهملوا ابن خلدون، إلى حين اكتشفهما الأوروبيون في القرن الماضي فنشر وترجم القسم الأول من (نفح الطيب) كما نشرت وترجمت مقدمة ابن خلدون، وعندئذ عاد العرب والمسلمون إلى الرجلين يستفيدون من آثارهما ويدرسون أخبارهما، وإذا كان ابن خلدون قد حظي بترجمات وافية لحياته فإن المقري ما زال لم يظفر بهذه الترجمة إلى الآن (¬2). بقي أن نقول إن المقري، رغم أدبه وشعره وطموحه، كان متدينا عن عقيدة وليس مجاراة لأهل العصر. فقد أخذه الانبهار عند رؤية الكعبة الشريفة، وألف مجموعة من كتبه عند قبر الرسول (صلى الله عليه وسلم)، وحج حوالي خمس مرات، وزار بيت المقدس حوالي سبع مرات، وكان حافظا للسند مجيدا في تدريس التفسير وصحيح البخاري كما عرفنا، وألف في التوحيد (إضاءة الدجنة في عقائد أهل السنة). وقرظ شرحا في التصوف كتبه محمد بن سعد الكلشني على رسالة للشيخ أرسلان. وترجم في (نفح الطيب) لأبي مدين وأطال في ذلك لأنه شيخ جده، وللتبرك به، كما ذكر الكثير من كراماته ¬

_ (¬1) شكيب أرسلان (الحلل السندسية) 2/ 153. (¬2) ترجم للمقري عبد الله عنان، والحبيب الجنحاني، وعبد الغني حسن، ومحمد بن عبد الكريم، كما ظهرت عنه مقالات بأقلام مختلفة مثل شكيب أرسلان وطاهر أحمد مكي.

ومناقبه (¬1)، وعندما كتب عن الفكون قال عنه إنه مائل إلى التصوف (ونعم ما فعل). لذلك يظهر لنا أن ما كتبه عنه معاصره الفكون من نقد في السلوك الديني والاجتماعي لا يتماشى مع الواقع، وأن الفكون قد بالغ في حكمه على صديقه، حقا إن المقري لم يكن متصوفا ولكنه كان من علماء السنة العاملين، كما رأينا. ولا شك أن النثر الفني قد تقدم على يدي المقري في وقت كادت لا تكتب الأقلام غير شروح الفقه ومنامات التصوف، وكان وراء المقري تراث من أسرته، فجده، محمد المقري، شيخ ابن خلدون، كان من المؤلفين الأدباء البارزين، وهو صاحب كتاب (بلوغ الآراب في لطائف العتاب) الذي ما يزال مخطوطا. وعمه، سعيد المقري رغم عدم شهرته بالتأليف، كان شاعرا وأديبا رقيقا، ومدرسا من الدرجة الأولى كما عرفنا (¬2)، وكانت تلمسان على عهده بقايا من تقاليد العهد الزياني التي احتفي بها أحمد المقري في (أزهار الرياض) بذكره أخبار أبي حمو وغيره. كل ذلك كان يمده بتجربة جيدة في الصياغة النثرية والأساليب الأدبية، وفي فاس وجد المغاربة والأندلسيين يذكرون عهود الشباب الأدبي في الفردوس المفقود وأبطاله كابن الخطيب فكانت هذه المدرسة المغربية - الأندلسية هي التي أثرت وأثمرت على أحمد المقري، وهي المدرسة التي بدأ بها (أزهار الرياض) الذي خص به القاضي عياض ثم نقلها معه إلى المشرق، فوجد أن الأساليب هناك قد دخلتها العجمة منذ سقوط بغداد، فإذا به يتألق وسط الكتاب، ويأتي في ذلك بالعجب العجاب. فالمقري إذن يعتبر مجددا ناقلا المدرسة الأندلسيه من المغرب العربي إلى المشرق العربي، وهذه الزاوية من مساهمته ما تزال، حسب علمنا، غير مدروسة أيضا. ولولا خوف الإطالة، ولولا أن بعض كتبه مطبوع ومتداول لأتينا على نصوص من نثر المقري الذي سحر به المشارقة (¬3). ¬

_ (¬1) (نفح الطيب) 9/ 342 - 351. (¬2) ترجمنا لسعيد المقري في فصل التعليم من الجزء الأول. (¬3) إلى الآن لا نعرف من عثر عر كتبه (الغث والسمين والرث والثمين) أو (البدأة =

أحمد بن عمار

أحمد بن عمار إذا كان المقري قد وجد بعض من ترجم له وعرف به، ولا سيما بين المشارقة، فإن أحمد بن عمار لم يجد هذا الفارس بعد. فقد اكتفى بعض معاصريه وتلاميذه بوصفه بأوصاف التجلة والاحترام، كما فعل الورتلاني وابن حمادوش وأبو راس، وتلميذاه إبراهيم السيالة التونسي وأحمد الغزال المغربي. وكان ابن عمار حريصا على الترجمة لغيره سواء في كتابه المفقود (لواء النصر في فضلاء العصر) الذي قيل إنه ترجم فيه لعلماء قرنين، أو في رحلته (نحلة اللبيب بأخبار الرحلة إلى الحبيب) التي تعتبر في حكم المفقودة أيضا لولا نبذة منها سلمت من الصياع، ولكنه بقدر ما كان حريصا على الترجمة لغيره بقدر ما أهمل نفسه فلم يفعل على الأقل ما فعل زميلاه الورتلاني وابن حمادوش اللذان ساقا حياتهما في رحلتهما بما يلقي أضواء هامة تساعد الدارسين لهما اليوم، فابن عمار إذن ما يزال، رغم مكانته الأدبية والفقهية، مجهولا، ويكفي لتوضيح جهلنا به أننا إلى الآن لا نعرف حتى متى ولد ولا متى وأين توفي، وكل ما نعرفه عنه أنه من أهل القرن الثاني عشر وأوائل الثالث عشر الهجري. وقد أصبح من الضروري حينئذ أن نبحث عن حياته في مختلف المصادر وأن نلتقط أخباره من هنا وهناك لعلنا نستطيع أن نقدم صورة واضحة نوعا ما عن مساهمته في مدرسة النثر الفني، فأقدم مصدر يحدثنا عن ابن عمار في الجزائر هو صديقه عبد الرزاق بن حمادوش في الجزء الثاني من رحلته. فقد أخبر أن ابن عمار قد قرظ له كتابا بعنوان (الدرر على المختصر) سنة 1159 (¬1)، واعتبره ابن حمادوش من العلماء المنصفين الذين لا يحملون ¬

_ = والنشأة) أو (عرف النشق في أخبار دمشق)، الخ، ولو اكتشفت لأضافت جديدا عن معلوماتنا عنه وعن أدبه، هذا وسندرس كتابه (أزهار الرياض) في فصل التاريخ والتراجم. (¬1) رحلة ابن حمادوش، طبع الجزائر 1983.

حسدا ولا ضغينة، وقد عاش ابن عمار إلى ما بعد سنة 1205 كما نعرف من إجازته في هذا التاريخ لمحمد خليل المرادي الشامي، وبذلك يكون عمره سنة 1150 حوالي أربعين سنة، وبذلك أيضا يكون ابن عمار قد ولد في الجزائر حوالي سنة 1119. وعلى كل حال فقد تولى ابن عمار وظيفة الفتوى على المذهب المالكي سنة 1180، ولم يدم ذلك إلا بعض الشهور، ثم تولى مرة أخرى سنة 1180 أيضا وظل في الوظيفة إلى سنة 1184 (¬1)، وفي (نحلة اللبيب) ذكر ابن عمار أنه تبادل الشعر ونحوه مع شيخه محمد بن محمد المعروف بابن علي سنة 1163، ومن جهة أخرى نجده قد أدى فريضة الحج سنة 1166، وقد أكد ذلك أيضا زميله الحسين الورتلاني الذي حج معه وقرآ معا في القاهرة، فقد قال عنه الورتلاني (الفاضل بالاتفاق والعلامة على الإطلاق) وقال إنه قد أخذ معه العلم على الشيخ خليل المغربي في مسجد الحسين بالقاهرة (¬2)، وهناك تواريخ أخرى تساعدنا على تنقلات ابن عمار، فعبد الحي الكتاني يذكر أن ابن عمار كان سنة 1172 مجاورا بمكة، فهل بقي ابن عمار من سنة 1166 إلى ذلك التاريخ مجاورا أو أنه رجع إلى الجزائر ثم حج من جديد؟ هذه نقطة غامضة، ذلك أننا نعرف من مصادر أخرى أن أحمد الغزال المغربي قد جاء إلى الجزائر سنة 1182 في شأن صلح بين الجزائر والمغرب وحضر درسا لابن عمار في الجامع الكبير، وهو يومئذ متولي الفتوى المالكية، وأعجب بعلمه فمدحه بقصيدته التي منها: هلموا إلى مأوى المفاخر والعلا ... هلموا إلى الأسمى ابن عمار أحمد ويبدو أن ابن عمار لم يطب به المقام في بلاده بعد أن رجع إليها من المجاورة، لأسباب لا نعرفها أيضا، فقد جاء في كتاب لتلميذه إبراهيم ¬

_ (¬1) ديفوكس (المؤسسات الدينية)، 117. وقد خلفه في منصب الفتوى في المرة الأولى عبد الرحمن المرتضي وفي الثانية محمد بن جعدون. (¬2) الورتلاني (الرحلة) 286، ومن الذين تحدثوا عن أحمد بن عمار ودرسوا عليه أيضا أبو راس الناصر في (فتح الإله)، كما سنرى.

السيالة (¬1) أن شيخه ابن عمار قد جاء إلى تونس من الجزائر سنة 1195 (بقصد الاستيطان بها)، وأن ابن عمار كان عندئذ كبير السن، ومع ذلك نجده يناظر علماء تونس، كما سنرى، ويؤلف عملين في تونس الأول رسالة في التفسير والأدب، والثاني تاريخ في سيرة وآثار باي تونس عندئذ، علي باشا بن حسن، ولا ندري ما الأسباب التي جعلت ابن عمار يغادر أيضا تونس رغم مجيئه لها (بقصد الاستيطان)، ولعل منافسة العلماء له وموت الباي، ووفاة صديقه حمودة بن عبد العزيز سنة 1202، قد حمله على الهجرة من جديد إلى المشرق ومجاورة الحرم، ذلك أننا نجده سنة 1205 يجيز محمد خليل المرادي الشامي من مكان لم نتأكد منه بعد، ولعله مكة المكرمة أو الشام، ومن ذلك التاريخ تنقطع عنا أخباره، وقد أكد تلميذه أبو راس في (فتح الإله) أن ابن عمار قد توفي بالحرمين الشريفين. ولكننا إلى الآن لا نعرف بالضبط تاريخ ذلك. والغالب على الظن أن أسرة ابن عمار عريقة في الجزائر، فنحن نعلم أن عالما باسم أحمد زروق بن عمار كان متوليا الفتيا سنة 1028، كما يحدثنا الفكون في (منشور الهداية) أن أحد علماء مدينة الجزائر باسم أحمد بن سيدي عمار بن داود قد ورد عليهم في قسنطينة حوالي نفس العهد (¬2)، فهل كان هذا أحد أجداد أحمد بن عمار الذي نتحدث عنه؟ ليس هناك ما يعزز أو ¬

_ (¬1) (مباسم أو مباهج الأزهار) مخطوط تونس رقم 260، ومما يؤكد وجوده في تونس عندئذ تقريظ ابن عمار سنة 1196 لكتاب ألفه صديقه الوزير حمودة بن عبد العزيز في التوحيد، انظر فقرات من هذا التقريظ في (الكتاب الباشي) تحقيق محمد ماضور، تونس 1970، 19. وقد تعرضنا له في فقرة التقاريظ من هذا الفصل. (¬2) (منشور الهداية) 242. ويقول الفكون عن أحمد بن سيدي عمار أنه كان خطيب الجامع الأعظم بالجزائر وأنه زار في قسنطينة الشيخ التواتي والفكون رفقة بعض العلماء، ومعروف أن التواتي قد توفي سنة 1031، كما أنه من المعروف أن سعيد قدورة قد تولى الفتيا مكان أحمد زروق بن عمار سنة 1028، وبذلك تكون زيارة ابن عمار إلى قسنطينة بين التاريخين، وممن رثي أحمد بن داود عند وفاته تلميذه محمد القوجيلي الذي سيأتي ذكره في فصل الشعر.

يبعد ذلك، وكان والد ابن عمار أيضا من أهل العلم في مدينة الجزائر ولكننا لا ندري ماذا كان يعمل (¬1)، وقد أشار الشاعر المغربي أحمد الغزال إلى ذلك في قوله يمدح أحمد بن عمار بأنه اقتدى بوالده في العلم والدين: بوالده دينا وعلما قد اقتدى ... لقد جل نجل كان بالأب يقتدي ومن جهة أخرى كان خاله، محمد بن سيدي الهادي أحد العلماء البارزين في مدينة الجزائر في القرن الثاني عشر، وقد ذكره ابن حمادوش في رحلته، ولكن إذا صحت هذه الصلة فإن ابن عمار يكون من العائلات التليدة في مدينة الجزائر، التي كانت تتمتع بصيت واحترام والتي كانت غالبا من أصل أندلسي ومرتبطة، كما عرفنا، بالوظائف الدينية (¬2)، وليس هناك ما يوضح اتباع ابن عمار الطريقة الأندلسية في الكتابة إلا هذه الصلة الوطيدة بالأندلس، ذلك أننا لا نجد ابن عمار يتوجه إلى المغرب للدراسة في فاس، على نحو ما فعل الكثيرون من علماء الجزائر، ويغلب على الظن أن ثقافته الأولى، قبل حجه سنة 1166، كانت جزائرية محضة، ولكنه لا يذكر من شيوخه في الرحلة سوى ابن علي الذي يشير إليه بعبارة (شيخنا)، ونحن نجده في شهادته على كتاب ابن حمادوش المذكور متميزا بأسلوبه المعهود، وكان ذلك سنة 1159 كما لاحظنا، وقد ذكر هناك أنه كان يتردد على مجلس أحمد الورززي المغربي الذي زارهم في الجزائر واقرأ في الجاح الكبير (¬3). ¬

_ (¬1) ذكر لي الشيخ المهدي البوعبدلي في رسالة بتاريخ 7 يناير 1982 أن والد أحمد بن عمار هو عمار المستغانمي، وأن من المرجح أن ابن عمار كان من تلمسان. (¬2) يروي أبو راس أن ابن عمار، رغم صغر سنه عند لقائهما، كانت على خاتمه هذه العبارة (سليل الأشراف الصالحين وخلاصة مجد التقى والدين). انظر (فتح الإله) مخطوط الخزانة العامة بالرباط، ك 2263، ص 40، وقد وجدنا نحن على ختم آخر له هذه العبارة (الواثق بالجبار، عبده أحمد بن عمار). انظر إجازته لمحمد خليل المرادي. (¬3) في إجازته لمحمد خليل المرادي ذكر ابن عمار بعض شيوخه في مصر والحرمين في علم الحديث، ولكنه لم يذكر أيا من الجزائريين.

عاش ابن عمار إذن فترة حياته الأولى في مدينة الجزائر دارسا وموظفا في الدولة، وكان من معاصريه هناك الأديب محمد بن ميمون، وعبد الرزاق بن حمادوش، والمفتي الشاعر محمد بن محمد المعروف بابن علي، ومحمد بن نيكرو، والمفتي عبد الرحمن المرتضي، والمفتي أحمد الزروق بن عبد اللطيف، (ابن عم صاحب القصر الذي وصفه ابن عمار)، والمفتي محمد بن جعدون، والمفتي علي عبد القادر بن الأمين، والمفتي محمد بن الشاهد، والقاضي محمد بن مالك، أما في الأقاليم الأخرى فمن أشهر العلماء الذين عاصرهم ابن عمار أبو راس الناصر الذي جاء من مدينة معسكر إلى الجزائر واجتمع بعدد من هؤلاء العلماء وناقشهم وأكرموه، وهو الذي تتلمذ على ابن عمار وأشاد به كما سنرى، ومنهم عبد القادر الراشدي الذي اشتهر بالتأليف والإفتاء والتدريس في قسنطينة، والمفتي أحمد العباسي وعلي الونيسي بقسنطينة أيضا. والحسين الورتلاني صاحب الرحلة، أما من الولاة فقد عاصر ابن عمار، أيام نضجه، علي باشا بوصبع (1168 - 1179)، ومحمد عثمان باشا (1179 - 1205)، الذي ظل في الحكم أطول مدة عرفها الولاة العثمانيون في الجزائر والذي توفي، خلافا لأغلب التقاليد، على فراشه، وقد تولى ابن عمار وظيفة الإفتاء أثناء عهده. فهل حدث لابن عمار أثناء أو بعد توليه الفتوى ما جعله يزهد في الإقامة في الجزائر التي عاش في أكنافها صبيا وشابا وكهلا؟ لا ندري الجواب الآن، ومن المؤكد أن ابن عمار كان محسودا لعلمه وقلمه واستقلاله، فنحن نعلم من عدة إشارات في الرحلة وفي جوابه على مسألة الوقف التي عرضت له مدى استقلاله الفكري ومدى غمزاته لمعاصريه على جمودهم العقلي وضعف عارضتهم وتخليهم عن الاجتهاد والنظر (¬1). كما نعلم أن بعض ¬

_ (¬1) ذكر محمد ماضور في مقدمة (الكتاب الباشي) 19: أن ابن عمار كان صديقا لإسماعيل التميمي الذي كتب ردا قويا على الوهابية وأنه كان صديقا أيضا للوزير حمودة بن عبد العزيز، وكانت بين الرجال الثلاثة تحريرات وآراء، وقد نشر جواب أحمد بن عمار عن مسألة الوقف مع ردود التميمي المذكورة، في تونس.

العلماء المغاربة الواردين على الجزائر، مثل أحمد الورززي وأحمد الغزال، قد أشادوا به، ولا سيما الأخير. وهذا بدون شك يسبب حسدا بين العلماء، وقد رفع أبو راس من قيمة ابن عمار كثيرا فوصفه بأنه شيخنا (الذي ارتدى بالنزاهة يافعا وكهلا، وكان للتلقيب بشيخ الإسلام أهلا). ومدحه أيضا بتخريج (الأساتيذ من التلاميذ والفقهاء النحارير والعلماء الجماهير). كما مدحه بالنبوغ في علوم الفقه والحديث والسند والأصول والبيان، بالإضافة إلى الزهد والنزاهة، وقد درس عليه أبو راس بعض العلوم، من بينها فقه الإمام أبي حنيفة (¬1). والجديد في رواية أبي راس عن شيخه ابن عمار أن هذا قد عزفت نفسه عن الإقامة بالجزائر بعد أن تولى فيها بعض الوقت الخطابة والإمامة والفتوى، لذلك رحل إلى الحرمين الشريفين، ورغم أن أبا راس لا يذكر تاريخ ذلك، فالذي لا شك فيه أنه كان يتحدث عن رحلة ابن عمار الثانية للحرمين. أما رحلته الأولى، سنة 1166، فقد كانت قبل توليه تلك الوظائف. ومهما كان الأمر فابن عمار قد رحل إلى المشرق مرتين على الأقل. الأولى سنة 1166 والتي جاور أثناءها بالحرمين حوالي اثني عشر سنة كما تذكر بعض المصادر، وبذلك يكون قد رجع إلى الجزائر بعد سنة 1176، فنحن نجده كما عرفنا متوليا خطة الفتوى في الجزائر سنة 1160، وخلال هذه المجاورة أو الرحلة الطويلة كتب ابن عمار رحلته التي سنتحدث عنها، أما رحلته الثانيه فهي التي يتحدث عنها أبو راس ويشير إليها إبراهيم السيالة، وهي على أية حال كانت بعد توليه وظيفة الفتوى وعزله أو انعزاله عنها، فمتى كانت هذه الرحلة الثانية؟ بناء على كل الاحتمالات فإننا نرجح أن تكون بعد 1195، فالسيالة يذكر أن شيخه ابن عمار قد جاءهم إلى تونس في هذا التاريخ بقصد الاستيطان بها، والظاهر أن ابن عمار بعد إقامة قصيرة ودخوله في مناقشات ومناظرات مع علماء تونس وتغيير الظروف السياسية (¬2) قد تابع ¬

_ (¬1) أبو راس (فتح الإله)، الخزانة العامة بالرباط، ك 2263. 38 - 30، 63 - 67، 93. (¬2) من ذلك وفاة علي باي نفسه الذي ألف فيه ابن عمار كتابه، سنة 1196. وكان علي =

رحلته من تونس إلى المشرق حيث وجدناه سنة 1205 في الحجاز على أكثر الاحتمالات، والغالب أنه لم يعد إلى الجزائر بل ظل مجاورا إلى وفاته، والغريب أن جميع المصادر، وهي قليلة، لا تتحدث عن شؤون ابن عمار العائلية، فنحن نجهل كل شيء تقريبا عنه في هذا الميدان. ألف ابن عمار عددا من الكتب التي لم تكن تتماشى مع ما كان يفعله علماء وقته من عدم الخروج عن الحواشي والشروح، ونحن نذكر ما اطلعنا عليه منها أو ما وجدناه منسوبا إليه: 1) لواء النصر في فضلاء العصر (في التراجم) وقد ألفه على ما يظهر في الجزائر، وسنتحدث عنه في التراجم وفي الشعر. 2) نحلة اللبيب بأخبار الرحلة إلى الحبيب، رحلة أتمها على ما يظهر في الحجاز أثناء مجاورته الأولى. 3) حاشية على الخفاجي في شرح الشفاء للقاصي عياض، ذكرها له تلميذه أبو راس الناصر في (فتح الإله) وقال عنها إنها (عاطرة الأنسام). 4) رسالة في تفسير قوله تعالى: {إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك} حلاها بأدبه المعهود وذكرها له تلميذاه السيالة وأبو راس. 5) تاريخ الباي علي باشا بن حسن (تونس)، ذكره له أيضا تلميذه السيالة (¬1). 6) رسالة في الطريقة الخلوتية نسبها له الكتاني وقال عنها إنها: (عمل نادر) (¬2). ¬

_ = باي وأخوه محمد باي قد عاشا في الجزائر أثناء هروبهما من تونس، ولعل ابن عمار قد تعرف على الباي في الجزائر أثناء ذلك. (¬1) رقم 4 و 5 أشار إليهما السيالة في كتاب له مخطوط عنوانه (مباهج الأزهار ودوحة الأفكار)، المكتبة الوطنية، تونس، رقم 260، ورقات 67 - 69، وما يتعلق بابن عمار في هذا الكتاب مفقود للأسف، ما عدا الورقات المذكورة. (¬2) الحاج صادق (المولد عند ابن عمار)، 290 من رسالة له من الكتاني.

7) رسالة في مسألة وقف، مطبوعة ضمن أجوبة وفتارى صديقه إسماعيل التميمي (¬1). 8) رسائل وإجازات وتقاريظ وقطع في الوصف ونحوه، ذكرناها له في بابها من هذا الكتاب (¬2). 9) ديوان شعر في المدائح النبوية والوصف وغير ذلك أشار إليه بنفسه في الرحلة. 10) ثبته المسمى (مقاليد الأسانيد). 11) شرح على البخاري، ذكره له محمد بن أبي شنب في مقاله الذي تقدم به لمؤتمر المستشرقين الرابع عشر (الجزائر، 1905). ويهمنا هنا أن نعرض لرحلته ولطريقته الأدبية وتأثره بغيره، أما أعماله الأخرى فبعضها قد عرضنا له (¬3) وبعضها سنعرض إليه في التراجم والتاريخ والشعر، يقول أبو راس في وصف أستاذه، ابن عمار، إنه (صاحب الرحلة الجمة الفوائد، حلوة الموائد، عذبة الموارد، الجليلة القدر، المستودع لما يفوت الحصر) (¬4). ورغم غموض عبارات أبي راس فإنها لا تدع مجالا للشك في أن ابن عمار قد كتب رحلته وانتهى منها أثناء حياته وأنها قد أصبحت معروفة عند الأدباء وأصحاب الأخبار، وأنه (ابن عمار) قد أصبح مشهورا بها حتى أصبح يدعى (صاحب الرحلة). ومع ذلك فإن هذه الرحلة، ونحن هنا نتحدث عن (نحلة اللبيب)، مفقودة الآن إلا جزءا يسيرا منها، سماه ناشره (نبذة) من المقدمة التى وضعها ابن عمار لها, فما ظروف تأليف هذ 5 الرحلة؟ وما محتواها وطريقته فيها؟ كان ابن عمار كثير الشوق إلى البقاع ¬

_ (¬1) مطبوعة ضمن رسالة الرد على الوهابية لإسماعيل التميمي، تونس. (¬2) نشرنا إجازته لمحمد خليل المرادي في مجلة (الثقافة) عدد 45، 1978. (¬3) تعرضنا لأعماله في الحديث والإجازات في الفصل الأول من هذا الجزء، وأعماله في الرسائل والتقاريظ والوصف في هذا الفصل. (¬4) أبو راس (فتح الإله)، مخطوط.

المقدسة وكثيرا ما نظم الشعر والموشحات في ذلك، وحين حانت الفرصة للحج اغتنمها، وبدأ تأليفه بمقدمة (تناول فيها ما جادت به قريحته قبل التوجه للحج)، و (غرض مقصود) تناول فيه (ما يحدثه السفر إلى الإياب وحط الرحال)، وبمعنى آخر أن هذا هو أساس الرحلة، ثم (خاتمة) خصصها للحديث عما (نشأ عن ذلك بعد السكون وانضم إليه) (¬1). ولكن الموجود من الرحلة حتى الآن هو نبذة من المقدمة فقط، ومع ذلك فقد بلغت صفحاتها عند طبعها 254 صفحة، وهذه النبذة ليست كاملة أيضا لأن ناسخها الذي يبدو أنه أحد تلاميذ ابن عمار، كان يترك بياضات في الوسط كما أنها غير منتهية نهاية منطقية، فالحديث في نهايتها مبتور، ومعنى ذلك أن ما لدينا من الرحلة لا يشكل حتى مقدمتها، وكان ابن عمار عند وعده فيما كتب، فقد بدأ بذكر دواعي تأليف الرحلة وتسميتها، وبيان ضرورة الحج شرعا مع استشهاد بالقرآن والأحاديث والأشعار، والتعبير عن شوقه إلى ساكن الحجاز وتأزمه الروحي، ولكنه استطرد كثيرا في ذلك بإيراد الأشعار له ولغيره، ثم بالغ في الاستطراد فذكر عادة أهل مدينة الجزائر في المولد النبوي وموقف الفقهاء من ذلك واحتفال ملوك بني زيان في تلمسان وملوك بني الأحمر بالأندلس في المولد أيضا، وأطال في ترجمة أحمد المانجلاتي، والشاعر ابن علي والشريف التلمساني وذكر الموشحات الطويلة له ولهم ولغيرهم في المولد أيضا، ثم جاء بأشعار من مختلف شعراء المشرق والمغرب في الأزهار والخمر روفي أغراض أخرى، وهو لا يسوق كل ذلك مرتبا كما ذكرناه، بل كان يذكر الشيء ثم يقطعه ويعود إليه، وهكذا. وهذه الطريقة، وإن كانت شائعة بل مطلوبة في عصر ابن عمار، فهي عندنا الآن ممقوتة لأنها تشتت الذهن وتوزع الجهد وتضيع الوقت، أما في وقته فقد كانت من علامات المهارة في التأليف، والهدف منها التخفيف على القارئ والترويح عنه، أو (استجلابا للأنس واستجلاء للهموم) كما يقول ابن عمار نفسه. ¬

_ (¬1) انظر عن هذه الرحلة وغيرها (الرحلات الجزائرية الحجازية) في كتابنا (أبحاث وآراء في تاريخ الجزائر)، الجزائر، 1978.

وبالإضافة إلى الاستطراد والتكرار أكثر ابن عمار من عبارات شائعة في تأليف عصره مثل فائدة وتتمة ولطيف وكان إذا ذكر قصة أو قصيدة أو خبرا يعلق بما يعن له على ذلك من محفوظاته، وقد يكمل الناقص ويصحح الخطأ، ولم يهتم بالمغاربه فقط بل أورد الشعر والأخبار لهم وللمشارقة أيضا من متقدمين ومتأخرين. فقد أورد للتنسي والمقري والتمبكتي وابن الخطيب ومحمدن يوسف الثغري القيسي وابن زمرك وابن خلدون وابن علي والمانجلاتي وابن خاقان، بالإضافة إلى أبي تمام والبحتري وابن الرومي والمتنبي وبشار بن برد وأبي نواس، وقد أحصى له بعض الباجثين الشخصيات التي جاءت في النبذة المطبوعة من الرحلة فوجدها على هذا النحو: 18 شخصية روى عنها، 30 شاعرا استشهد بشعره، وحوالي عشرة من الناثرين، وحوالي 11 امرأة استشهد لها، وحوالي 14 أميرا وحاكما، وخمسة من الفلاسفة والحكماء غير المسلمين (¬1). فإذا حكمنا من المنشور من الرحلة ومن بعض رسائله وتقاريظه فإن ابن عمار كان معجبا بابن الخطيب والفتح بن خاقان. ولا سيما الأخير. وقد قيل إن طريقة تراجمه في (لواء النصر) تشبه طريقة ابن خاقان في (قلائد العقيان) و (مطمح الأنفس) (¬2). وكان ابن عمار يهتم بالجملة ومقاطعها واللجوء إلى السجع في أغلب الأحيان وتنميق العبارة، ولكن لقوة بيانه لا يظهر أنه كان يتكلف ذلك، فقد شاعت طريقته بين معاصريه حتى وصفه أبو راس بأنه (سلس اللسان والعبارة، مليح التصريح والإشارة) (¬3)، وكان ابن عمار لا يسجع في تناوله القضايا الدينية وتوضيح المواقف وعند الاستشهاد ونحو ذلك. وكان السجع عنده جزءا من الشعر يلجأ إليه عند وصف أحوال النفس والحديث عن الأدب والعاطفة، كما أن السجع عنده كان مدخلا للتأليف وميدانا للرسائل والتقاريظ ونحو ذلك، وقد بدأ عبارته في (النحلة) هكذا ¬

_ (¬1) الحاج صادق (المولد عند ابن عمار)، 272 - 273. (¬2) نفس المصدر، عن عبد الحي الكتاني، 274 - 275. (¬3) أبو راس (فتح الإله)، 63 - 67.

(وبعد فيقول العبد الفقير، المضطر لرحمة رب المولى القدير، مثقل الظهر بالأوزار، الراجي عفوه سبحانه أحمد بن عمار، ألحفه الله رضاه، وأتحفه القرب من مرتضاه، لما دعتني الأشواق، النافقة الأسواق، إلى مشاهدة الآثار، والأخذ من الراحة بالثأر، وأن أهجر الأهل والوطن، وأضرب في عراض البيد بعطن ..) (¬1). وكان ابن عمار يكتب للخاصة لا للعامة، بل لخاصة الخاصة، فأسلوبه راق، ومعانيه بعيدة. فقد جاء في وصف رسالته في التفسير قوله يخاطب الباي علي باشا التونسي (نظمت في سلك دولة هذا الملك السعيد ... عقد لبة وتاج مفرق، مما فتح الفتاح العليم، من هذه الرسالة الغريبة المبني، الوثيقة المعنى، البعيدة المرمى، القريبة المجنى .. فلينظرها المولى، بعين القبول والرضى، وليعرضها على الخواص من أدباء دولته الميمونة وعلمائها وفقهائها وزعمائها، وأما العوام فكالهوام، وليس هم المقصودون بهذه الرسالة، بل بهذا الكتاب كله ..) (¬2)، فقد أوضح ابن عمار في هذه العبارات القصيرة أسلوبه الفني ومراميه، وجمهوره من القراء والمطالعين، كما أوضح محتوى كتابه في الباي والرسالة التي ضمها. ويظهر إعجاب ابن عمار بابن الخطيب من عدة وجوه، فقد أكثر من النقل عنه في الرحلة، ولا سيما قصائد ابن الخطيب الثلاث الميمية والسينية والنونية التي قالها في السلطان أبي حمو، وقال عن شعر ابن الخطيب (شعره كله .. ما بعده مطمع لطالع)، ووعد بأنه سيلم (بشيء من أخباره، ونتف من أشعاره، وشذرات من نثره المزري بالروض وأزهاره)، وقد رد ابن عمار على التنسي الذي قال إن ابن الخطيب قد قلد أبا تمام في سينيته وأنه اختلس منها الكثير من ألفاظها ومعانيها، فقال ابن عمار مدافعا (والحق أن ابن الخطيب غني بما رزقه الله من قوة العارضة عن الاختلاس من ألفاظ أبي تمام ومعانيه، ¬

_ (¬1) (نحلة اللبيب) المقدمة، 3. (¬2) إبراهيم السيالة (مباهج الأزهار ودوحة الأفكار) مخطوط تونس، رقم 260.

وإن كان أبو تمام، رئيس هذه الصناعة، والألفاظ إنما هي للعرب والمعاني مركوزة في أذهان العقلاء، فليس أحد أولى بها من الآخر) (¬1)، ولنلاحظ أنه في مثل هذه الردود لا يلجأ إلى السجع، ولعل ابن عمار كان يطمح إلى أن يكون كابن الخطيب في النثر والشعر، كما طمح أحمد المقري قبله لذلك، وإذا كانت صناعة الأدب قد واتت ابن الخطيب في عصره وكان لذلك مبررات كثيرة تساعده، فإن ظهور ابن عمار في القرن الثاني عشر وفي مدينة الجزائر، التي لا يستعمل ولاتها اللغة العربية أصلا، فما بالك بفهم أساليبها وبيانها، هو أمر في حد ذاته يثير الغرابة والإعجاب معا (¬2). والواقع أننا مهما أفضنا في الحديث عن دور ابن عمار الأدبي فلن نوفيه حقه في هذا المجال المحدود، ومن عوائقنا في ذلك عدم اطلاعنا على معظم آثاره التي ما تزال على ما يبدو موزعة بين الجزائر وتونس والقاهرة والحرمين، ورغم مكانته الأدبية وفكره المستقل فإن ابن عمار كان، إذا حكمنا من آراء معاصريه فيه، مثالا للاستقامة والتواضع والأخلاق الكريمة، وقد ترك تلاميذ في كل مكان حل به (¬3). وكان ابن عمار موسوعيا أيضا ولكن الأدب ظل ميزته الأصيلة رغم براعته وتقدمه في غيره، ولعله من المفيد أن نكرر ما سبق أن قلناه في موضع آخر من أن هجرة ابن عمار والمقري والثعالبي والشاوي وابن حمادوش وأضرابهم قد أفرغت الجزائر من قواعدها العلمية وركائزها الأدبية، وهذا درس قاس جدير بنا أن نتعلمه اليوم. ¬

_ (¬1) (نحلة اللبيب)، 188. (¬2) عبر الحاج صادق أيضا على رأي شبيه بهذا، انظره في بحثه (المولد عند ابن عمار) 289. (¬3) من تلاميذه أيضا في الحرمين، عمر بن عبد الكريم المعروف بابن عبد الرسول المكي الحنفي (توفي بمكة سنة 1247) الذي أصبح يدعى (شيخ الإسلام)، انظر (فيض الملك المتعالي) 2/ 93، مكتبة الحرم المكي، مخطوط. انظر أيضا كحالة (معجم المؤلفين) 7/ 293، والكتاني (فهرس) 2/ 182.

الفصل الرابع الشعر

الفصل الرابع الشعر

مدخل

نتناول في هذا الفصل حالة الشعر في العهد العثماني وأغراضه، وقد وجدنا، بعد دراسة مستفيضة، أن الشعر كان نسبيا مزدهرا وأن أغراضه قد تعددت حسب بواعثه، وهي الدين والسياسة والاجتماعيات والذات، وسنحاول هنا أن نتعرف أيضا على الشعر المسمى بالملحون أو العامي والظروف التي أدت إلى استعماله وانتشاره حتى قال بعضهم أنه أصبح لسان كثير من الناس، كما سنترجم للمفتي الشاعر ابن علي الذي كان أبرز شعراء عصره. مدخل وقبل كل شيء نذكر أن دواوين الشعراء الجزائريين ما تزال في طي الكتمان، ولا نعرف أن واحدا منها، مما يعود إلى العهد العثماني، قد جمع وحقق، وما نشر عن المنداسي في هذا الصدد لا ينقض هذا الرأي، فدواوين المنداسي وابن علي وابن عمار والمقري والمانجلاتي وابن سحنون وابن الشاهد وأضرابهم لم تنشر أو تعرف بعد. وكل ما نعرفه عن هذا الشاعر أو ذاك هو بعض الأبيات أو القصائد المثبتة عرضا في أحد المصادر التاريخية أو الفقهية أو المتفرقة في الوثائق العامة، ولعل هذه الظاهرة، ظاهرة الإهمال للشعر وأهله، تؤكد ما ذهب إليه ابن خلدون من أن أهل المغرب العربي قد أضاعوا رواية أشعارهم وأخبارهم فأضاعوا أنسابهم وأحسابهم، ومن العجيب أن هذا الرأي كان حافزا لعدد من الشعراء والكتاب على تدوين الشعر، وسمن هؤلاء أحمد بن سحنون في (الأزهار الشقيقة)، وأبو راس الناصر في (الدرة

الأنيقة)، كما رواه عبد الرحمن الجامعي المغربي في شرحه على رجز المفتي محمد الحلفاوي التلمساني في فتح وهران، ويبدو أن الجيل الحاضر أكثر تقصيرا في رواية الشعر وتدوينه من جيل العهد العثماني. فهذا ابن حمادوش يتحدث عن نفسه بأن له ديوانا بناه على الغزل والنسيب والمراثي ومدح الرسول (صلى الله عليه وسلم)، ونحن نعرف من دراستنا له أن شعره يضم أيضا أغراضا أخرى كالفخر والحنين إلى الوطن والأهل والوصف ومدح الأمراء وغير ذلك (¬1)، ورغم أن (نفح الطيب) و (أزهار الرياض) قد ضما كمية من أشعار المقري، فإن له أيضا كناشا يحمل اسمه (محشو أدبا أندلسيا وغيره) (¬2) وله أيضا مجموعة أشعار في الكناشة الناصرية (عبد الله بن أبي بكر بن علي الناصري التمغروطي) (¬3). ولسعيد المنداسي مجموعة قصائد في أغراض مختلفة ما تزال مخطوطة (¬4)، وينسب إلى سليمان بن علي التلمساني ديوان ما زلنا لا نعرف محتواه، ولكنه ما يزال مخطوطا في إيران (¬5). وقد ذكر ابن زاكور المغربي أن لمحمد بن عبد المؤمن الجزائري ديوان شعر ورسائل (¬6)، وتضم دواوين ابن علي وابن عمار والمانجلاتي وابن سحنون ¬

_ (¬1) انظر دراستنا عنه في (مجلة مجمع اللغة العربية) بدمشق، عدد أبريل 1975، وهي أيضا منشورة في كتابنا (أبحاث وآراء في تاريخ الجزائر). وكتابنا (الطيب الرحالة)، الجزائر، 1982. (¬2) مكتبة حسن حسني عبد الوهاب، المكتبة الوطنية - تونس، رقم 18327 في 103 ورقات. (¬3) المكتبة الزيدانية بالمكتبة الملكية - الرباط، رقم 2845. انظر أيضا محمد المنوني (الكناشات الغربية)، (المناهل) 2، 1975. (¬4) مثلا نسخة رقم 1989 بالمكتبة الوطنية - الجزائر، انظر سركيس 1/ 641. (¬5) (مجلة المخطوطات العربية) م 3 ج 1 مايو 1957 في مقال عن المخطوطات العربية بإيران (خزانة مجلس الشورى رقم 32). ويبدو أنه شعر في التصوف. وربما خارج العصر الذي ندرسه. (¬6) ابن زاكور (الرحلة) 15، وروى هذا المصدر أن شعر ابن عبد المؤمن (أرق من نسمات الأسحار) لا سيما النسيب.

أشعارا كثيرة في أغراض شتى أهمها المدح والوصف والغزل والمدائح النبوية، وفي كتاب (منشور الهداية) لعبد الكريم الفكون و (البستان) لابن مريم أخبار عن شعراء في تلمسان وقسنطينة عرفوا بجودة الشعر وكثرته، ولكننا لا نعرف إلى الآن أين هو. كانت بواعث الشعر، والجيد منه على الخصوص، قليلة، ومن أهمها بالطبع الباعث الديني. فالشعراء كانوا يسجلون مشاعرهم في المواسم الدينية المعروفة كالحج والمولد النبوي بنظم الموشحات والقصائد، ولم يكن ولاة الجزائر يثقفون الشعر حتى يشجعوا عليه في الوقت الذي كان فيه الشعر العربي عموما شعر مدح أو شعر بلاطات، فإذا استثنينا حاكمين أو ثلاثة فإننا نلاحظ أن الشعراء لم يجدوا أي تشجيع معنوي أو مادي لقول الشعر. حقا إن النزاع بين الجزائر وإسبانيا كان باعثا لعدد من الشعراء على الدعوة للجهاد وتمجيد النصر، وهو باعث سياسي - ديني لا غبار عليه. وهناك أيضا مجال الطبيعة وعزة المدن، والحنين إلى الأهل والوطن، والمرأة، بالإضافة إلى البواعث الاجتماعية كرثاء عزيز أو تبادل التهاني والتقاريظ بالشعر، والتماجن، ونحو ذلك من الأغراض، يضاف إلى ذلك عدد من الأغراض التقليدية كتخميس قصيدة مشهورة والتلغيز واتخاذ الرجز وسيلة للنظم في التاريخ والفقه والتصوف وغيرها مما يخرج عن نطاق هذا الفصل (¬1). وليس معنى هذا أن المجتمع، ولا سيما مجتمع المدن، كان منغلقا تماما على نفسه. لقد كانت أهم المدن مسرحا لتيارات عديدة أوروبية وإسلامية، شرقية واندلسية، وقد عرفنا أن الخمر كانت رائجة وأن بيوت ¬

_ (¬1) من ذلك (الدرة المصونة في علماء وصلحاء بونة) لأحمد البوني، ورجز الحلفاوي في فتح وهران. انظر فصل التاريخ، وقصيدة خليفة بن حسن القماري في قص الأثر (فتوى فقهية)، وتخميس قصيدة الأخضري في النبي خالد لعبد العزيز بن مسلم، ولغز (هاج الصنبر) لسعيد قدورة، وفي رحلة ابن حمادوش نماذج من استعمال التلغيز، أما التخميس فهو كثير، يضاف إلى أنواع أخرى من التصرف في قصائد الغير.

الخنا كانت موجودة وأن الفساد الاجتماعي - الأخلاقي كان منتشرا، وبالإضافة إلى ذلك شاعت القهوة والدخان، وكلاهما كان محل مناقشة بين الفقهاء وكثر في ذلك القيل والقال، وانتصر بعض الشعراء، كما سنرى، لشرب الدخان الذي يسميه (السبسي)، بل كانت تجارة الدخان تجارة رابحة. وكان وجود الأسيرات المسيحيات قد أدخل عنصرا جديدا على الحياة الاجتماعية، وكان بعض الضباط والجنود، وبعض رجال الدين أيضا، يتزوجون في أكثر من بلد، وبالغ بعض الضباط فأخفوا زواجا وأعلنوا آخر (¬1)، بل إن ابن حمادوش يحدثنا أن أحد الباشوات كان مع أهله على سفاح سري إلى أن نصحه العلماء المقربون منه بإفشاء زواجه، ولم يمنع عدم خروج المرأة الحرة واختلاطها بالرجال الشعراء من تناول المرأة في شعرهم، فقد استعمل بعضهم الرموز واستعمل البعض التصريح، ومع ذلك فإن بعض الشعراء قد لجأوا إلى التغزل بالمذكر، وهكذا نجد أن بواعث الشعر الاجتماعية كثيرة ومتنوعة، وأن المجتمع كان متصلا وفيه ما في المجتمعات الأخرى المشابهة من عبث ومجون وتحلل. على أن من القضايا التي شغلت بعض الكتاب هي علاقة الشعر الفصيح بالملحون وعلاقة الشعر عموما بالحياة والدين، وقد شكا أحمد بن سحنون من غلبة العجمة على ألسنة الناس ولجوء الشعراء إلى الملحون بدل الموزون أو الفصيح، ثم شكا بمرارة من تخلف الشعر وندرة الجيد منه، وقد اتخذ الناس الشعر الملحون أيضا أداة للمدح والهجاء والدين والغزل والمقاصد الأخرى التي اعتاد أن يطرقها الشعر الفصيح. ولنستمع إلى ابن سحنون وهو يتحدث عن هذه القضية في نطاق حديثه عن الباي محمد الكبير ومدح الشعراء له (اعلم يا أخي أن الألسنة غلبت عليها العجمة، وارتفع منها سر الحكمة، فصار الناس إنما يتغنون بالملحون، وبه يهجون ويمدحون، ولهم في ذلك فنون رقيقة، ومعاني رشيقة، وقد مدحوه (الباي محمد الكبير) بما لا ¬

_ (¬1) انظر أراندا (قصة أسر وتحرير أراندا)، باريس 1665 , ط. الإنكليزية (تاريخ الجزائر)، 1602 - 1671.

يملك حصره، وذلك أمر خارج عن مقصد الأديب، لا يخصب روض البلاغة الجديب، وعلى قلة المعرب في هذا العصر، فقد قيل فيه منه ما لا يأتي عليه الحصر، غير أن منه الفقهي الذي لا يثبت إما لتكسر مبانيه، أو لاختلال معانيه، ومنه ما بلغ الغاية، وصار في لطافته ورقته آية، وهو أيضا كثير، غير أني لم أقف على أكثر جمانه النثير، وإنما أثبت هنا ما وقفت عليه من الجيد الأثير) (¬1)، ومن الواضح أن ابن سحنون يفضل الشعر الفصيح الجيد على الملحون لعلاقة الأول بالبلاغة والأدب، ولكن ما حيلته والعصر عصر عجمة وشعر عامي وشعر فقهي لا علاقة له بالذوق والخيال والفن (¬2). وقد اضطر عبد الرحمن الجامعي المغربي في شرحه على رجز الحلفاوي في فتح وهران إلى الاستشهاد بالشعر الملحون، وبرر ذلك بأن المعنى أحيانا يتوقف عليه وأن الشعراء قد قالوا شعرا كثيرا ملحونا في هذه المناسبة، ثم إنه (ما في ذلك من بأس، فإنه في هذا القطر (الجزائر) أساس الكثير من الناس) (¬3) لذلك جاء في شرحه بقصيدة طويلة ملحونة (عروبية) دون أن ينسبها إلى شاعر بعينه. وقد اتبعه أبو راس في ذلك فقال بأنه لا بأس من إيراد الشعر الملحون لأنه قد أصبح لسان الكثير من الناس (¬4). كما كرر ما رواه الجامعي عن ابن خلدون في لوم أهل بلاد المغرب على إهمالهم رواية أشعارهم وأخبارهم، وقد عرف أبو راس الشعر بأنه (ميزان الأدب .. وزينة الألباب، ومورد الحكمة، وفصل الخطاب، وسبيل ¬

_ (¬1) (الثغر الجماني) مخطوط باريس، ورقة 16. (¬2) لا شك أن من أسباب عدم تدوين الشعر الفني أو الذاتي طغيان روح التصوف والتدين الكاذب على فئة العلماء، بل على المجتمع عموما، حتى صاروا يربأون بأنفسهم عن أن يتناقل الناس عنهم ذلك، بخلاف الشعر المنظوم في التصوف والمدائح النبوية فإنه كان يشرف صاحبه إذا تناقله الناس عنه، ولو كان مكسور الوزن ضعيف النسج. (¬3) الجامعي (شرح رجز الحلفاوي) مخطوط باريس، ورقة 5. (¬4) أبو راس (الدرة الأنيقة) مخطوط باريس ورقة 2.

مسلوك، وله موقع عند الخلفاء والملوك، ومدحه في السنة شهير، وبه محيت ذنوب كعب بن زهير). كما نسب أبو راس إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) قوله: (الشعر ديوان العرب)، وهو لذلك قد كتبت فيه الدواوين، وشرحه أكابر العلماء ونوهوا به. وإذا كان هذا تبريرا من أبي راس لتناوله الشعر بالشرح، ولا سيما شرح قصيدة ملحونة مثل (العقيقة)، فإن قضية الشعر والدين كانت أوسع من ذلك. ففي عصر ساد فيه التصوف لا نستغرب أن يقف المتصوفة ومن يتصل بهم ضد الشعر المعروف في أغراضه التقليدية، ما عدا الشعر الديني. حقا ان أبا راس قد مدح الشعر عموما، ثم قال إن فضل الشعر يزيد عندما يكون في مدح الرسول (صلى الله عليه وسلم)، كما فعل المنداسي. والمعروف أن المنداسي قد نظم في أغراض أخرى غير دينية. ولكن هذا ليس هو رأي عالم متصوف مثل الورتلاني. فقد حكم الورتلاني بمنع الأشعار (التي فيها ذكر الخدود والقدود وتسمية المحبوبة من النساء المرغوب فيها الفساد) أما شعر الوعظ والذكر ومدح الرسول (صلى الله عليه وسلم) فقد حكم بندبه (¬1). بل إن الورتلاني قد جوز كسر الأوزان الشعرية واعتبر أن الإصرار على استقامتها هو مذهب المتأخرين. ولا شك أن هذا الرأي يتماشى مع قدرته هو الشعرية، فإن قصائده كانت في أغلبها مكسورة ومختلة، وقال عن قصيدة للولي الصالح سيدي الهادي إنها (وإن خصها بعض الأوزان الشعرية فإن مذهب المتقدمين لا يشترطون ذلك (أي إقامة الوزن) وإنما هو مذهب المتأخرين، على أنه إن استقامت حالة الإنسان، وكانت همته عالية متعلقة بالله تعالى لا يضره مخالفة القوانين الأدبية ولا غلبة العجمة ولا قلة العلم) (¬2) فالمهم عند الورتلاني إذن هو التصوف وليس الفن، هو الصلاح والاستقامة الخلقية وليس الشعر واستقامة أوزانه. وما دام هذا رأي عالم فقيه وصوفي كالورتلاني، فإننا لا نستغرب أن نجد كثيرا من الأشعار المنسوبة إلى علماء مشاهير مختلة الأوزان أيضا ومرتبكة، ¬

_ (¬1) الورتلاني، 196. (¬2) نفس المصدر، 13.

الشعر الديني

وعلى رأس هؤلاء ابن حمادوش وأبو راس. الشعر الديني كان الدين، بأوسع معانيه، من أهم الأغراض التي طرقها الشعراء، ولا سيما مدح الرسول (صلى الله عليه وسلم) والتشوق إلى زيارة قبره وإحياء مولده. ويشمل ذلك أيضا الشعر الصوفي، والتوجه إلى الله وقت الشدة، ومدح ورثاء الأولياء والصالحين ونحو ذلك. ولا شك أن الشعر الديني، وخصوصا المدائح النبوية، من أقدم الأغراض الشعرية، وتحتفظ الوثائق بقصيدة نادرة في مدح المدينة المنورة (طيبة) قالها الشاعر الصوفي أبو محمد عبد الله بن عمر البسكري (¬1)، وهي القصيدة التي أكثر الكتاب من تداولها والنسج على منوالها لجودتها وصدقها، فذكرها ابن عمار في (الرحلة) وابن سحنون في (الأزهار الشقيقة)، ومنها هذه الأبيات: دار الحبيب أحق أن تهواها ... وتحن من طرب إلى ذكراها وعلى الجفون متى هممت بزورة ... يا ابن الكرام عليك أن تغشاها فلأنت أنت إذا حللت بطيبة ... وظللت ترتع في ظلال رباها معنى الجمال متى الخواطر والتي ... سلبت عقول العاشقين حلاها لا تحسب المسك الذكي كتربها ... هيهات! أين المسك من رياها طابت فإن تبغ التطيب يا فتى ... فأدم على الساعات لثم ثراها وقد أورد أحمد المقري في (نفح الطيب) نماذج من المديح النبوي قالها الشاعر محمد بن محمد العطار الجزائري (نسبة إلى مدينة الجزائر) (¬2)، ¬

_ (¬1) جاء في (الأزهار الشقيقة) ورقة 207 لابن سحنون، أن البسكري كان معاصرا لإبراهيم بن علي بن فرحون (ت. 799) مؤلف (الديباج المذهب)، وبناء عليه فقصيدة البكسري تقع خارج العصر الذي ندرسه. وفيها تصل 45 بيتا، وهي من عيون الشعر في هذا الباب، وقد ذكرها كاملة. انظر أيضا (نحلة اللبيب) لابن عمار، 9. (¬2) قال المقري عنه إنه من جزائر بني مزغنة، وأنه كان حيا سنة 707 هـ. انظر (نفح =

من ذلك قصيدة له في عشرين بيتا في المدينة المنورة أيضا، مطلعها: أهدت لنا طيب الروائح يثرب ... فهبو بها عند التنسم يطرب فالتشوق إلى البقاع المقدسة ووصفها والحنين إليها ومدح الرسول (صلى الله عليه وسلم) أغراض قديمة عند الجزائريين. وقد أكثر بعضهم من النظم في هذا الغرض حتى أنهم خصوه بديوان كامل. ومن هؤلاء عبد الكريم الفكون. فقد سبق أن أشرنا إلى أنه نظم ديوانا في مدح الرسول وفي حياته عموما. ولا غرابة في ذلك فالفكون كان أميرا لركب الحج الجزائري مدة طويلة، وقد وصفه العياشي بأنه كان يذهب كل سنة حتى بعد أن تقدمت به السن، ووصف العياشي هذا الديوان وقال إن الفكون قد رتبه على حروف المعجم وكتب عليه مما يمدح به عند الغمة، وساعة الغياهب المدلهمة. وقد التزم الفكون فيه طريقة صعبة فجعل مبدأ كل سطر حرفا من حروف: (اللهم اشفني بجاه محمد، آمين). وجملة ذلك خمسة وعشرون حرفا، ففي كل قصيدة مثلها أبياتا. ففي قافية الهمزة خمسة وعشرون بيتا، وكذلك في قافية الباء، وهكذا إلى آخر حروف المعجم، ويمكننا أن نتصور بعد ذلك كم في هذا الديوان من أبيات، وكان الفكون قد نظم هذا الديوان بعد أن أصيب بمرض غريب ألزمه الفراش سنة وشل نصفه الأيسر ولم يكن يرجو برءا منه فشفاه الله، وكان ذلك سنة 1031 (¬1). وللفكون قصائد أخرى في التوسل وغيره سبق أن أشرنا إليها في غير هذا المكان (¬2). وكل من ابن حمادوش وابن عمار قد تحدث عن عادة أهل مدينة ¬

_ = الطيب)، 10/ 327 - 337، وأورد له أسماء كتب في هذا المعنى منها (نظم الدرر في مدح سيد البشر) و (المورد العذب المعين في مولد سيد الخلق أجمعين) بالإضافة إلى (درر الدرر). وعن شعر المدائح النبوية في القرن التاسع انظر الفصل الأول من الجزء الأول. (¬1) (منشور الهداية) 243 - 244، انظر أيضا رحلة العياشي، 2/ 392 - 390. (¬2) انظر ترجمتنا للفكون في الفصل السادس من الجزء الأول.

الجزائر في المولد النبوي وليلة القدر وعند ختم صحيح البخاري، ونعرف مما ذكراه أن البلاد كانت تحتفل بهذه المناسبة احتفالا كبيرا، يتلى فيها البخاري طوال الليل وتضاء الشموع الضخمة ويطوف القراء وغيرهم الشوارع وهم حاملون المصابيح، وتعد النسوة أطعمة خاصة، وتعزف الموسيقى ويكثر إنشاد الشعر الديني والموشحات. وإذا كان ابن حمادوش قد ركز في وصفه على المظاهر الاجتماعية والدينية عند الاحتفال ليلة ختم صحيح البخاري، فإن ابن عمار قد أعطانا صورة حية عما كان يفعله الشعراء بالخصوص أثناء الاحتفال بالمولد النبوي. فهو يقول إنه كلما دخل شهر ربيع الأول شرع أدباء وشعراء الجزائر في نظم القصائد والموشحات النبوية، ثم يلحنونها (بالألحان المعجبة، ويقرأونها بالأصوات المطربة) ويصدحون بها في المحافل الكبيرة والمجامع التي يحضرها الفضلاء والعلماء والرؤساء، في المزارات والزوايا والمكاتب. وكان الناس يلبسون لذلك أيضا أجمل ثيابهم ويتطيبون تقديرا للمولد الشريف. وكان ابن عمار من بين ثلاثة شعراء اشتهروا بنظم الموشحات والقصائد المديحية في هذه المناسبة، ففي سنة 1166 أنشأ هو موشحا عند حلول شهر ربيع الأول وتاقت نفسه للحج، قائلا في فاتحته: يا نسيما بات من زهر الربا ... يقتفي الركبان احملن مني سلاما طيبا ... لأهيل البان وأضاف ابن عمار بأن له من هذا القبيل وغيره من القصائد المديحية كثيرا ضمنه (بطن ديوان ..) (¬1) فلابن عمار إذن ديوان في المدائح النبوية بعضه موشحات وبعضه قصائد قريض، كما يقول، وهو يعني بالقريض الشعر الموزون المقفي أو غير الموشحات. ورغم أن ابن عمار قد لاحظ أن الشعر القريض الذي يتناول المدائح النبوية قليل في عصره، فإنه قد ذكر أن أحمد المانجلاتي قد برع فيه وفي ¬

_ (¬1) ابن عمار (الرحلة) 27.

الموشحات أيضا. فقد اعتبره ابن عمار ثالث اثنين هما: البوصيري وابن الفارض في القصائد النبوية. وقد أشاد به واعتبره (مجلى هذه الحلبة، ومقدم الجماعة وناثل الجعبة، وإمام الصناعة ركاب صعابها ومذللها، ومسيل شعابها ومسهلها، عاشق الجناب المحمدي ومادحه بلا معارض، ومثلث طريقتي البصري وابن الفارض)، ثم أثبت له في الرحلة بعض مولدياته التي قال عنها إنها تطرب وتروق، مثل موشح المانجلاتي (نلت المرام): بالله حادي القطار ... قف لي بتلك الدار ... واقر السلام سلم على عرب نجد ... واذكر صبابة وجدي ... كيف يلام من بادرته الدموع ... شوقا لتلك الربوع ... مع المقام وبعد أن أورد له ابن عمار قصيدة أخرى في المديح النبوي، وهي: الركب نحو الحبيب قد سارا ... يود شوقا إليه لو طارا قال عن المانجلاتي إنه من عشاق الشمائل المحمدية وإن له (ديوانا) في المدائح النبوية (تزري بالأزهار الندية) (¬1)، وني ترجمتنا لابن علي بعد حين سنعرف أنه كان من الشعراء البارزين وأن له أيضا قصائد في المدح النبوي وموشحات أشاد بها ابن عمار في رحلته المذكورة. ومن شعراء المديح النبوي أيضا الأكحل بن خلوف وأبو عبد الله محمد المغوفل. وكلاهما قد اشتهر في هذا الباب، ولا سيما الأول، حتى أصبحت قصائدو تغنى وتروى على مختلف العصور. وكلاهما أيضا من رجال التصوف. وقد أشاد أبو راس بالأول فقال إنه قد اشتهر بمدح النبي (صلى الله عليه وسلم) شهرة ابن عروس بتونس. أما عن المغوفل فقد قال إنه: (أحد أعجوبات الدهر في ¬

_ (¬1) نفس المصدر، 27 - 28، 31 - 35، والظاهر أن ابن عمار كان يتحدث عن أحمد المانجلاتي الذي عاش في القرن الحادي عشر وكان صديقا لسعيد قدورة، وهو الذي أرسل قصيدة أيضا إلى مفتي إسطانبول في وقته، أسعد أفندي، معرفا له فيها لمقام قدورة. انظر (ديوان ابن علي) مخطوط، وعن أثر الحج والحجاز في الشعر انظر مقالتي عن الرحلات الجزائرية الحجازية في كتابي (أبحاث وآراء في تاريخ الجزائر).

عمله وورعمه وكراماته. يشهد لعلمه قصيدة مدح بها رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، فيها سبعون بيتا وليس فيها حرف يستحق النقط، بل كلها عواطل من النقط، وكفي به حجة) (¬1)، وقد ذكرنا من قبل أرجوزة محمد المغوفل في صلحاء الشلف. وما دمنا بصدد الحديث عن النواحي الغربية من الجزائر فلنذكر أن أحد شعراء مدينة مستغانم قد نظم قصيدة هائية في المديح النبوي تعرف أحيانا (بهائية المستغانمي) (¬2)، والقصيدة طويلة تبدأ بالغزل وتنتهي بمدح الرسول (صلى الله عليه وسلم)، وفي الأبيات الغزلية وحدها عشرون بيتا، وهي مقسمة إلى عناوين مثل باب التغزل وحسن التنزل، وباب رجوع وانصراف وإقرار واعتراف، وباب التعداد وحسن الإمداد، الخ. وهي أيضا في وصف الرسول وأخلاقه وأيامه وصحابته والاستعانة به، وقد انتهى الشاعر فيها بنظم الأيام السبعة والشهور الهجرية، وهي تبدأ هكذا: هام الجوى بهوى ليلى فحياها ... قلب تعاطى من الأشواق أعلاها ناداه سر هواها من كوى شغف ... وعند طور نداها اللب لباها ويختمها الشاعر بهذه الأبيات التي فيها ذكر مستغانم والدعاء لها بالحفظ والرعاية: قصيدة الها بها والوصل مردفة ... لسيد الخلق فكر العبد أهداها لطيفة النسج من لطف الإله بدت ... بمستغانم مذ حلت بعقواها فالله يرزقها أمنا ويحفظها حفظا ... ويكلؤها دأبا ويرعاها ومن جهة أخرى ذكر ابن مريم عددا من الشعراء الذين اشتهروا بالمديح النبوي، ومنهم عبد الرحمن بن موسى المتوفي سنة 1511. والواقع أن معظم الشعراء والأدباء المعروفين قد نظموا في المدائح ¬

_ (¬1) أبو راس (عجائب الأسفار) مخطوط المكتبة الوطنية، الجزائر، رقم 1632، 1633. (¬2) المكتبة الملكية - الرباط، رقم 6735 ب مجموع، في إحدى عشر ورقة، وفيها أخطاء كثيرة تعود للنسخ، وإلى الآن لم نستطع أن نحدد عصر هذا الشاعر.

النبوية، والفرق بين شاعر وآخر هو في الجودة وصدق العبارة، فابن سحنون الذي تفرغ لخدمة الباي محمد الكبير لم ينس المدينة المنورة فأورد قصيدة طويلة في ذلك في شرحه على العقيقة (¬1)، وحين افتخر ابن حمادوش بأنه لم يجعل شعره في مدح الأمراء أشار إلى أنه قد جعل شعره في أغراض أخرى منها مدح الرسول (صلى الله عليه وسلم)، ولكنه لم يذكر في رحلته التي بين أيدينا نموذجا لشعره في ذلك، والغالب أن شعره النبوي لا يرقى إلى أشعار بعض معاصريه، لأن النماذج التي ساقها في أغراض أخرى ضعيفة ومكسورة، ومن أبرز شعراء المديح النبوي أحمد المقري الذي حج أكثر من خمس مرات، وألف بعض كتبه، كما أشرنا، في المدينة المنورة، بالإضافة إلى تمتعه بموهبة شعرية نادرة، وقد اطلعنا له على مجموعة من القصائد في هذا المعنى (المدائم النبوية) ما تزال مخطوطة (¬2). ولا شك أن التوسل إلى الله برسوله (صلى الله عليه وسلم) يدخل في هذا الباب، وقد شاع هذا عند المتصوفة عموما، وعند بعض الفقهاء، وحتى عند الشعراء، وللفكون في هذا الجانب عدة قصائد منها (سلاح الذليل في دفع الباغي المستطيل) و (شافية الأمراض لمن التجأ إلى الله بلا اعتراض)، وقد ذكرنا ذلك في ترجمته. وللمفتي محمد بن الشاهد قصيدة في هذا المعنى: بأسمائك الحسنى فتحت توسلي ... ومنك رجوت العفو أسمى مطالبي (¬3) كما أورد محمد بن سليمان في كتابه (كعبة الطائفين) شعرا لنفسه في ¬

_ (¬1) (الأزهار الشقيقة) ورقة 207. (¬2) المكتبة الملكية. الرباط، رقم 6735، في هذا المجموع خمس قصائد على الأقل اثنتان ميميتان، وواحدة دالية، ورابعة عينية، وخامسة حائية، وكلها قيلت بين 1033 و 1037، أي بعد هجرته إلى المشرق. (¬3) ضمن مجموع في مكتبة جامع البرواقية (الجزائر) رقم 49، وقد كان ابن الشاهد، الذي عاش حتى أدرك الاحتلال الفرنسي، من الشعراء الكبار في غير ذلك الغرض أيضا.

هذا المعنى (¬1)، ونعتقد أن الوثائق ما زالت تحفظ الكثير من هذا الشعر الذي يخاطب العبد فيه ربه مباشرة أو من خلال رسله وأنبيائه وأوليائه في حالة الشدة والكرب، طالبا منه كشف الهموم ودفع الظلم. ولعله مما يدخل في هذا المعنى نظرة بعض رجال الدين إلى الإنسان كونه ريشة في مهب الريح ليس لها خيار فيما تختار، وقد شغلت قضية الإنسان، مجبرا أو مخيرا، حيزا كبيرا من مناقشات الفلاسفة والمتكلمين منذ أمد سحيق، ولكن الشعراء لم يبقوا بمعزل عن هذه المناقشات، وممن نظم شعرا في كون الإنسان مجبرا على فعل ما يفعله أحمد البوني الذي تنسب إليه بعض الأبيات في هذا المعنى: كل الأمور لمبديها وخالقها ... فما على العبد تخيير وتدبير فالله يعلم ما للعبد مصلحة ... فيه وقد يصحب التعسير تيسير (¬2) ومن تاريخ الشعر الديني والتصوف في الجزائر إظهار عبد الرحمن الأخضري لنبوة خالد بن سنان العبسي بقصيدة طويلة وهامة في ميدانها، فبفضل هذه القصيدة وتبني الأخضري لفكرة نبوة النبي خالد، واعتقاده أنه دفين البلدة المعروفة اليوم بـ (سيدي خالد)، أصبح الضريح مزار الناس من كل فج، وتذكر المصادر أن الأخضري قد أظهر نبوة خالد بن سنان (بطريقي الكشف أي السر والتربيع، وانتشر خبر الظهور والإظهار، وعم وطم كل أهل الوبر والمدر ذوي الأمصار، ومن ذلك الوقت صار نبي الله خالد بن سنان يزار ويتبرك به) (¬3)، وقصيدة الأخضري هذه متينة العبارة، ومنها: سر يا خليلي إلى رسم شغفت به ... طوبى لزائر ذاك الرسم والطلل جلت شواهده عزت دوائره ... ما خاب زائره في الصبح والأصل وفي نبوءته وشواهدها يقول الأخضري صراحة: ¬

_ (¬1) انظر دراستنا عنه في كتابنا (أبحاث وآراء في تاريخ الجزائر). (¬2) ضمن مجموع بالمكتبة الوطنية - الجزائر، رقم 2266. (¬3) أبو محمد أحمد بن داود (العقد الجوهري)، ورقة 4، مخطوط، وتبلغ القصيدة 42 بيتا.

إن النبوة قد لاحت شواهدها ... كيف المحالة والأنوار لم تزل في خالد بن سنان البدر ... سيدنا أخصه بسلام رائق حفل لله ما حاز من عز ومن ... شرف نال الرسالة يا ناهيك بالرسل أنواره سطعت فوق الربى وبدت ... على الفيافى وفوق السهل والجبل وقد أكد الأخضري أن النبي خالد قد سكن الغرب (يعني الجزائر) وأن قومه قد ضيعوه وأن أهل الجزائر أيضا لم يحتفظوا به وأنهم قوم يحتقرون العظماء، لذلك دعا إلى تعظيمه والتبرك به وزيارته والاستغاثة به عند الشدائد (¬1)، وقد انتشرت القصيدة وأثرت في الناس. كما أن أحد تلاميذ الأخضري، وهو عبد العزيز بن مسلم، قد قام بتخميسها. ومما جاء في تخميس البيت الثاني قوله: كم من غشوم ظلوم ظل قاهره ... وكم ضعيف عفيف ظل ناصره هذا الرفيع المنيع الجار حاضره ... جلت مشاهده عزت دوائره ما خاب زائره في الصبح والأصل (¬2) وقد انتشر أيضا الشعر الصوفي. ومن ذلك قصيدة (حزب العارفين) الملحونة التي نظمها موسى بن علي اللالتي، وهي التي شرحها، كما عرفنا، محمد بن سليمان في كتابه (كعبة الطائفين)، وقصيدة حزب العارفين تتحدث عن أهل الصلاح من الأولياء والصالحين وعن أهل الطلاح من الأشرار الفاسدين، ويتأسف صاحبها على العهود الغابرة حين كانت الكلمة للأولياء ورجال الخير. كما اشتهر بشعر التصوف محمد ساسي البوبي. فقد أخبر عبد الكريم الفكون في (منشور الهداية) أن لمحمد ساسي شعرا ¬

_ (¬1) القصيدة مذكورة في المصدر السابق، وكذلك في (الرحلة الكبرى) للناصري، مصورة في الخزانة العامة بالرباط، رقم 2651 د، وقد زار الناصري سيدي خالد واجتمع بطلبتها، 83 - 84، وعدد أبياتها ورسمها يختلف من مصدر إلى آخر. (¬2) (العقد الجوهري)، مخطوط، وقد اكتفى أحمد بن داود بإيراد تخميس خمسة أبيات فقط وقال إنه تخميس (قليل الوجود).

الشعر السياسي

كثيرا فيه عبارات الدنان والحان وغيرها مما كان يستعمله أهل التصوف، كابن الفارض، ويقصدون به السكر بالخمرة الإلهية، وكان محمد ساسي ينشد الأشعار والأزجال في الحضرة الصوفية والمواكب الدينية (¬1). والغالب أن تكون قصيدة محمد بن محمد الموفق المشهور بابن حوا المسماة (الريحانة المروحة على القلوب المقترحة) من هذا النوع أيضا. فقد كان هو من أهل الخير والصلاح، وتشهد أرجوزته (سبيكة العقيان) على أنه كان مهتما بحياة الأولياء والصلحاء كما فعل ابن مريم والمغوفل والمازوني (¬2) ومن جهة أخرى روى ابن مريم أن محمد بن عبد الجبار المسعودي الفجيجي الذي بلغ درجة القطابة في التصوف والذي كانت له زاوية بوطنه (حدوش)، كان أيضا (شاعرا ماهرا في الشعر) وكانت له منظومات في مدح الرسول (صلى الله عليه وسلم) حتى (كتب عنه مجلد كبير في مدح النبي (¬3))، وقد كان محمد الفجيجي صديقا حميما لأحمد بن يوسف الملياني المتصوف. ولا شك أن الشعر الديني بجميع أغراضه كثير في العهد الذي ندرسه، ولم نأت منه هنا إلا على نماذج للتعرف على غرضه، وقوة أو ضعف الوسيلة التي قدم بها. ومن نافلة القول ان هذا الشعر كان مرآة لثقافة أصحابه. بقي أن نشير إلى أن المراثي الأخرى العامة قد تناولناها في الشعر الاجتماعي وليس في الشعر الديني. الشعر السياسي لم يرتبط الشعر بالسياسة في الجزائر خلال العهد العثماني إلا في ¬

_ (¬1) انظر عنه الفصل السادس من الجزء الأول. (¬2) عن ابن حوا انظر بودان (مجلة جغرافية وهران) 1933، 237، وقد توفي ابن حوا بأحواز مستغانم بعد سنة 1176. (¬3) ابن مريم (البستان)، 287. توفي محمد الفجيجي سنة 950.

مناسبات محدودة نستطيع حصرها في الجهاد ضد الأجانب، وخصوصا الإسبان، ومدح بعض الأمراء طمعا في مالهم، والموقف من الأتراك مدحا وذما. وقد عرفنا أن الأمراء لم يكونوا يتذوقون الشعر فلم يشجعوا على قوله، كما أن بقاءهم في الحكم كان مرهونا بظروف طارئة فهم لا يبقون فيه إلا فترات قصيرة تكون عادة مليئة بالصراعات وغالبا ما تنتهي نهاية دموية، والشعر السياسي يعيش عادة في ظروف هادئة يدوم فيها حكم الأمير فترة معقولة يعرف الناس خلالها أخلاقه ومواقفه ليمدحوه عليها أو يذموه. كما أن الشعر السياسي يحتاج إلى تذوق الأمراء له وتشجيعهم عليه، وهذه الظروف كانت كلها تقريبا مفقودة في الجزائر خلال العهد المدروس. وكان عبد الكريم الفكون قد انتقد علماء وقته في تقربهم إلى الولاة وتنافسهم على رضاهم وخدمتهم، ومن الواضح أن هؤلاء العلماء كانوا يتنافسون عن طريق الدس والفتنة والوشاية وليس عن طريق الكلمة المكتوبة نثرا أو شعرا، ولو وجد هؤلاء العلماء مجالا للتنافس بالشعر لاتخذوه وسيلة للرقي والشهرة بدل المؤامرة والدس، ومن سوء الحظ أن هذه الظاهرة، ظاهرة الصراع المكتوم أو الصامت بين المثقفين، ما تزال موجودة في الجزائر، لأن العهد الفرنسي أيضا لم يفتح شهية الشعراء للتنافس بالقصيد. ونستثنى من هذا الحكم شعراء محمد بكداش باشا وشعراء الباي محمد الكبير، الذين وجدوا في ممدوحيهم إرادة خيرة في إكرامهم والإنعام عليهم، وقد قيل عن أحمد المقري أنه قد اتخذ شعره سلما للدنيا وأنه مدح به الأمراء والحكام، ورغم أننا لم نجد له كثيرا من هذا النوع، فإنه في الواقع لم يمدح بشعره أمراء بلاده الجهلة بلغته وإنما مدح به بعض وجهاء مصر والشام، ولعله قد مدح به أيضا بعض أمراء المغرب الأقصى، ورغم أن الشعر السياسي في أغلبه غير صادق، فقد كنا نود أن تتفتح أمام الشعراء مجالات في بلادهم حتى نتعرف من خلاله على كثير من تطوراتها ومواقف رجالها، ذلك أن الشعر السياسي اليوم يدرس من وجهتين رئيسيتين فنية وتاريخية.

ولنبدأ بشعر الجهاد. فقد شكلت ذكريات سقوط الأندلس وأثر ذلك على المسلمين هناك وتهديد الإسبان باحتلال المغرب العربي، العمود الفقري للعاطفة الدينية - السياسية التي نسميها الجهاد، ورغم أن الجهاد عموما يقصد به هنا مجابهة غير المسلمين وردهم على أعقابهم، فإنه قد انحصر تدريجيا في رد غارات الإسبان خصوصا وطردهم من الجيوب التي نزلوا بها على السواحل، ولاسيما وهران ومرساها، وإذا كان العثمانيون قد ساعدوا الأهالي في طرد الإسبان من المدن الساحلية (مدينة الجزائر، بجاية، شرشال، جيجل، عنابة، مستغانم الخ.) فإنهم قد توقفوا عن طردهم من وهران ونواحيها، لذلك ظل الوجود الإسباني هناك كأنه رمز لاستمرار الجهاد والدعوة إليه من قبل رجال الدين والشعراء، ويمكن القول بأن معظم الشعر السياسي، بما في ذلك مدح بكداش باشا والباي محمد الكبير، قد تمحور حول هذه النقطة، بل أصبح عند بعض الشعراء هو ميزان الولاء أو الثورة ضد العثمانيين. وقد قيل الكثير من الشعر في التحريض على الجهاد وفي التهنئة بالنصر، فمن الذين مدحوا حسن بن خير الدين باشا على فتح حصن مرسى وهران الأعلى وهروب الإسبان إلى الجزء الأسفل منه، الشاعر عبد الرحمن بن موسى في قصيدته التي مطلعها (¬1): هنيئا لك باشا الجزائر والغرب ... بفتح أساس الكفر مرسى قرى الكلب وله غيرها في نفس المناسبة. وهو من أوائل الشعراء المؤيدين للعثمانيين لجهادهم ضد الأسبان، ولذلك وصفه بأنه باشا الجزائر وإقليم وهران أو الغرب، ولكن حسن باشا لم يستطع أن يطرد الإسبان نهائيا، وظل وجودهم يثير مشاعر الشعراء كلما حانت المناسبة، ولو جمعنا من الشعر ما ذكره الجامعي وابن ميمون وابن سحنون وغيرهم في فتح وهران وطرد ¬

_ (¬1) (البستان) لابن مريم، 131، وقد تم هذا الفتح سنة 1007، حسب ابن مريم. وهو تاريخ فيه نظر.

الإسبان منها لجاء ذلك في ديوان كبير (¬1). وفي أوائل القرن الحادي عشر اتجهت الهمة من جديد إلى الضغط على الإسبان وظهرت علامات الاستعداد لحربهم، وكان ذلك على عهد حسين خوجة الشريف باشا الذي تولى سنة 1117، وقد أظهر هذا الباشا استعدادا للجهاد حين أرسل الأخبية لوهران، لذلك انطلق الشعراء يستحثونه ويصفون سوء أحوال المسلمين تحت حكم الإسبان، ولا سيما النساء، استثارة للعواطف الدينية والنفسية: ومن هؤلاء الشاعر البارع محمد بن محمد بن علي المعروف بابن آقوجيل، فله في ذلك قصيدة مؤثرة (¬2) هنأ فيها أولا الباشا بتوليته على الجزائر ثم التفت إلى الغرض المقصود في قوله: جهز جيوشا كالأسود وسرحن ... تلك الجواري في عباب بحور أضرم على الكفار نار الحرب لا ... تقلع ولا تمهلهم بفتور وبقربنا وهران ضرس مؤلم ... سهل اقتلاع في اعتناء يسير كم قد أذت من مسلمين وكم سبت ... منهم بقهر أسيرة وأسير وهي قصيدة طويلة ومؤثرة، بلغت نحو سبعين بيتا، وفيها أيضا نصائح للباشا ووصف لأحوال العلماء السيئة. ولكن مدة حسين خوجة الشريف باشا لم تطل (¬3)، فقد عزل وتولى مكانه محمد بكداش باشا سنة 1118، وتمكن هذا من فتح وهران سنة 1119، فانطلقت ألسنة الشعراء من عقالها مدوية، ذلك أن الشعر الذي قيل ¬

_ (¬1) انظر عن الجهاد والعلاقة السياسية بين الجزائريين والعثمانيين الفصل الثاني من الجزء الأول. (¬2) انظرها في (التحفة المرضية) لابن ميمون، 112 - 117، مخطوط باريس. كان ابن آقوجيل حيا سنة 1142، فقد وجدنا له كتابا بخطه منسوخا في تلك السنة، وقد تولى أيضا القضاء في عهد بكداش باشا. (¬3) توجد بين هذا الباشا وأحمد بن قاسم البوني أيضا مراسلة بالشعر، انظر ذلك في المكتبة الوطنية - الجزائر رقم 1847، ورقات 79 - 81. كذلك مجلة (الثقافة) عدد 51، 1979.

في هذا الباشا لم يقل مثله في أي حاكم في الجزائر خلال العهد العثماني، إذا حكمنا على الأقل من المصادر التي اطلعنا عليها، ويبدو أن سبب هذا السيل من الشعر فيه قد جاء نتيجة انتصاره على الإسبان وكونه على ما قيل من أصل عربي. فأما دوره في الجهاد فواضح، وأما كونه عربيا فيظهر أن ذلك كان محض ادعاء. كما أشرنا سابقا. ولعل من أسباب رضى الشعراء عنه إدراكه لنفسياتهم وقضاء حوائجهم وتقديم العلماء إليه، ويبدو أن ذلك قد جاءه من تجربته في الإدارة إذ أنه قد تولى عدة وظائف قبل توليه الباشوية، ومن بينها وظيفة خوجة (أو كاتب). ولعل من حسن حظ بكداش باشا أنه وجد ابن ميمون يدون له الشعر الذي قيل فيه وفي جهاده، إذ لولا ابن ميمون لربما ضاع هذا الشعر كما ضاع غيره، ولكان هذا الباشا مجرد اسم جامد في قائمة الولاة العثمانيين بالجزائر. وليس من هدفنا إحصاء ما مدح به الشعراء، محمد بكداش باشا، فقد تكفل بذلك ابن ميمون في كتابه (التحفة المرضية) وحسبنا أن نحيل على هذا الكتاب، غير أننا نود أن نذكر أن الشعر الذي قيل فيه يختلف جودة ورداءة، وأن المدح قد تناول سيرته وأصله ومواقفه وجهاده وكرمه وشجاعته، وهناك من جاء ناصحا، ومن جاءه متنبئا له بفتح وهران على يده، ومن الشعراء الذين أكثروا من مدحه والتقرب منه أحمد بن قاسم البوني، بالإضافة إلى عالمين آخرين من أسرة البوني (مصطفي بن عبد الله، ومحمد بن أحمد)، ومنهم يحيى بن أحمد بن أبي راشد، وابن علي، ومحمد بن أحمد الحلفاوي، مفتي تلمسان، الذي خص فتح وهران برجز طويل (¬1)، ولنذكر من شعراء بكداش أيضا عبد الرحمن الجامعي المغربي، وإبراهيم القنيلي الطرابلسي، ومما يلفت النظر في هذه المناسبة هو أولا كثرة الشعراء الذين لا نجدهم قد تجمعوا في فترة من فترات التاريخ العثماني كما تجمعوا في هذه الفترة القصيرة، وثانيا تغني الشعراء بالجزائر مدينة وقطرا، فهذا الشاعر ابن ¬

_ (¬1) سنتناول هذا الرجز وشرحه للجامعي في فصل التاريخ من هذا الجزء.

أبي راشد يشير إلى الجزائر القطر بقوله وهو يتحدث عن الباشا: تاهت به أرض الجزائر واغتدت ... زهوا به عن غيرها تختال (¬1) وهذا محمد المستغانمي قد نظم قصيدة في بكداش جعل عنوانها (الكوكب النائر في مدح أمير الجزائر)، وهو هنا يعني القطر أيضا (¬2) أما مدينة الجزائر البكداشية فقد تغنى بها الجامعي، خصوصا في قوله: فدعني من غرناطة وربوعها ... وشنيل فالحسن انتهى للجزائر فما تفضل الحمراء بيضاء غادة ... مقرطة بالبدر ذات غدائر (¬3) ولم يكن الجامعي وحده في هذا الميدان، فقد أقبل الشعراء على مدينة الجرائر ووصفوها في شعرهم، ولو طال عهد بكداش لدخلت مدينة الجزائر، كعاصمة لقطر كبير، ميدان الأدب من أوسع أبوابه، ولكن أيام الباشا كانت، كأيام غيره من الحكام، محدودة، إذ لم يبق في الحكم إلا حوالي أربع سنوات (1118 - 1122). والحادث الثالث (بعد الجهاد ومدح بكداش) الذي أطلق أقلام الشعراء هو فتح وهران الثاني على يد الباي محمد الكبير سنة 1205، فقد كان هذا الباي متنورا إلى حد كبير فجمع حوله نخبة من الأدباء والكتاب ينسخون له الكتب ويسجلون أحداثه اليومية ويدرسون وينوهون بأعماله، وقد أغدق عليهم المال والرعاية فنشطت الحركة الأدبية على عهده، ولا سيما الشعر، وجاءه الشعراء من البليدة والجزائر والمغرب يستمنحونه العطايا، وخلافا لعهد بكداش باشا فإن عهد الباي قد طال، وقد سجل لنا أحمد بن سحنون في (الثغر الجماني) نماذج من الشعر الذي قيل في هذا الباي ولعله قد سجل أيضا بعض ذلك في (عقود المحاسن) الذي لم نطلع عليه. ¬

_ (¬1) (التحفة المرضية)، مخطوط باريس، 57 - 59. (¬2) نفس المصدر، 89 - 92. (¬3) نفس المصدر، 93 - 108، وعن القنيلي انظر (شرح الجامعي) على الحلفاوية، مخطوط باريس، 5113.

وأول شعرائه هو أحمد بن سحنون نفسه الذي كان أحد كتابه، فقد قال فيه وفي ولده عثمان أكثر من قصيدة، وابن سحنون من الشعراء البارزين في عهده، رغم صغر سنه عندئذ، وقد عرفنا رأيه في الشعر الفصيح والملحون وفي حركة الشعر عموما في الحزائر في بداية هذا الفصل، وكان الباي قد حظي بقصائد ابن سحنون حتى قبل فتح وهران، فله فيه قصيدة عندما تولى الحكم وأخرى في جهاده وسيرته قبل الفتح، ومدحه حين أكرم ضيفه يزيد بن سلطان المغرب آنئذ، في قصيدة طويلة جيدة النسج والموضوع، بدأها بالغزل على العادة: حنانيك ماذا الصد ماذا التجانب ... وقلبي من شوقي لوجهك ذائب وفيها يقول: وإن كان ذنبي في هواك محبتي ... فما أنا من ذنبي مدى الدهر تائب ثم تخلص من الغزل إلى مدح الباي بما يناسب المقام، ويجعله في مقدمة الملوك الكرام. وابن سحنون مولع بالغزل في مطالع قصائده، فقد مدح عثمان بن محمد الكبير (وكان صديقا له) بقصيدة أيضا بدأها بهذا الطالع: ألم المحبة للحشاشة موجع ... والصبر للصب المروع مرجع لولا التصبر والتبصر في الهوى ... لرأيت سلوى في الأسى يتروع وكان ابن سحنون يتتبع آثار الباي ويمدحها بقصائده الجميلة. فقد مدح دار سكنى الباي ووصفها كما سنرى، ووصف الجامع الكبير الذي بناه في معسكر والمدرسة التابعة له، بل إنه مدح ومازح أصهار الباي ورثى قضاته، وبعبارة أخرى كان ابن سحنون هو متنبي الباي محمد الكبير , وإذا درس شعره وقورنت آثاره الأدبية الأحرى كـ (الأزهار الشقيقة) و (عقود المحاسن) ظهر ابن سحنون في طليعة أدباء عصره وأكثرهم تمكنا في القصيدة التقليدية بعد ابن علي وابن الشاهد، ولسوء الحظ أن حياته وآثاره ما تزال مجهولة (¬1). ¬

_ (¬1) سجل ابن سحنون في (الأزهار الشقيقة) وفي (الثغر الجماني) عددا من قصائده في =

ومن شعراء الباي المذكور أيضا أبو راس وأحمد القرومي ومحمد بن الطيب المازري وغيرهم، وإذا نحن قسنا بحجم القصائد فإن أبا راس يأتي عقب ابن سحنون، ولكن شعر أبي راس كان شعرا تاريخيا وفقهيا. ذلك أن غلبة علوم الفقه والتاريخ عليه جعلت شاعريته تستسلم أمام تحدي الحفظ والذاكرة، بالإضافة إلى أن شعر أبي راس في أغلبه مكسور ومختل، وقد قال في فتح وهران على يد الباي المذكور قصيدة سينية طويلة شرحها فيما بعد بطلب من الباي فأصبحت هي والشرح جزءا من تاريخ الحادثة (¬1)، على أن أبا راس قال إنه اختار لقصيدته قافية السين لأنها محبوبة لدى الأدباء والأمراء، وقد كان الباي هو ولي نعمة أبي راس، ولذلك مدحه في عدة مناسبات وهنأه بالنصر. فنم هنيئا وبك النصر مقترن ... بقصر وهران دار لك محلالا وفي إحدى قصائده فيه حاول أبو راس، رغم ركاكة القصيدة، أن يربط بين فتح وهران وضياع الأندلس، وذكر أن هذا الفتح قد اهتزت له أراضي الإسلام من مصر إلى الحجاز والشام، وأبو راس يعتبر هذه القصيدة مع ذلك، (من بديع ما قلته في فتح وهران) (¬2) ومطلعها: خليلي قد طاب الشراب المورد ... لما أن صار الأمير في الثغر يقصد وهو يقصد بالثغر مرسى وهران، وأن الباي لم يعد يقصده الناس في معسكر، التي كانت العاصمة قبل الفتح، ولكنه أصبح مقصد الناس في وهران بعد تحريرها من الإسبان. وله في مدح هذا الباي أكثر من عشر قصائد أخرى، وكلها في نفس المستوى (¬3)، ومن ذلك قصيدة له في غزوة الباي ¬

_ = الباي وفي غيره من الأغراض (أهمها الغزل، الوصف، الدين، السياسة، الطاعون، الشكوى)، وقد ذكرنا في فصل النثر تقريظ بعض أدباء الجزائر له على كتابه الأول. (¬1) من هذه القصيدة وشرحها خرج كتاب أبي رأس (عجائب الأسفار ولطائف الأخبار) الذي سنتحدث عنه في فصل التاريخ من هذا الجزء. (¬2) أبو رأس (عجانب الأسفار) مخطوط الجزائر، 15. (¬3) كلها مثبتة في نفس المصدر.

للأغواط، وهي الغزوة التي انتهت بمد نفوذه على جانب كبير من الصحراء الغربية، بما في ذلك مدينة عين ماضي (¬1)، كما أن أبا راس وصف بعض آثار الباي العمرانية وسجل إعجابه بها ورفعه بسببها إلى مصاف الملوك. وقد وفد على الباي أحمد بن محمد بن علال القرومي (¬2) في مدينة معسكر، وسجل رحلته في قصيدة حسنة تدل على أن الشعر لو وجد مناخا طيبا لنما وازدهر: لما التقيت بوافد الحسن البهي ... يزجى المطايا مغربا في عسكر خاطبته أين المسير فإنني ... أبصرت ما أدهى وأدهش منظري وقد خاطب بهذه القصيدة الباي ومدحه على أعماله، ثم تخلص إلى وصف الجامع الذي شيده في معسكر: وترى المدرس قد علا كرسيه ... يلقى على العلماء حب الجوهر تحويه مدرسة غدت آثارها ... تحييه بالعلم الشريف الأشعري تمحى رسوم الجهل من ألواحه ... تحمي شمائله من الزور السرى وإثر غزوة الأغواط مدح القرومي الباي أيضا وهنأه بالنصر بقصيدة تبدأ هكذا: لقد أنجز الآمال وعدا من النصر ... كما أبرز الإقبال ما كان في الصدر وأهدت وفود الفتح عذراء بلدة ... مثقلة الأرداف في الحلل الخضر (¬3) أما محمد بن الطيب المازري البليدي فقد قدم في مدح الباي قصيدة تدل على ضعف صاحبها في الشعر وكان رائده، على ما يظهر، نيل عطايا الباي الذي كان كريما معه، ومطلع هذه القصيدة: ¬

_ (¬1) عن هذه الغزوة انظر (رحلة الباي محمد الكبير) لأحمد بن هطال، وهو أيضا أحد كتاب الباي، تحقيق محمد بن عبد الكريم، القاهرة. 1969. (¬2) قرومة، قرب مدينة الأخضرية، والجدير بالذكر أن أحد أفراد عائلة القرومي كان قد مدح أيضا محمد بكداش من قبل، انظر عنه (التحفة المرضية) لابن ميمون. (¬3) انظر ذلك في (الثغر الجماني) مخطوط باريس، 11 - 12 - 15.

أهل هلال العز في طالع السعد ... تكامل بدرا في سما الفضل والمجد (¬1) وقبل أن ننتقل إلى الشعر السياسي المضاد للترك نود أن نشير إلى قصيدة محمد بن ميمون في الحاج محمد خوجة، وهو ابن عبدي باشا، سنة 1141. ففي هذا التاريخ عاد الحاج محمد خوجة من حملة له ضد ثورة وقعت بالغرب الجزائري، فهنأه ابن ميمون بقصيدة قوية في بابها ووصف الاحتفالات التي أقيمت في العاصمة عند مقدم ممدوحه، ومطلعها: بشرى، كما انبلج الصباح البادي ... بقدوم مولانا ضحى الميلاد في ساعة بركاتها فاضت على ... كل الورى من حاضر أو بادي (¬2) وبالإضافة إلى مدح الأفراد من العثمانيين في الجزائر، هناك من الشعراء من مدح (الأتراك) عموما ونوهوا بفصلهم على الإسلام وجهادهم في سبيله، كما مدحوا الوجود العثماني في الجزائر وتوحيد البلاد في عهدهم والقضاء على الفتن الداخلية، ونحو ذلك. حقا إن هذا النوع من المدح قليل نسبيا، ولكنه يدل على أن بعض الشعراء الجزائريين كانوا يتعاطفون مع الوجود العثماني وينظرون إليه نظرة إيجابية. وكان الشاعر ابن محلى من الذين هزتهم الغيرة على بنات المسلمين وهن في يد اليهود بوهران حين رخص النصارى لهم في حكمها، كما يقول أبو راس، فوجه الشاعر خطابه إلى بني عامر الذين كان بعضهم يتعاملون مع الاسبان يستثير نخوتهم وكرامتهم: فمن مبلغ عني قبائل عامر ... ولا سيما من قد ثوى تحت كافر أيا معشر الإسلام أين فحولكم؟ ... أما ابصروا في السبت عبد الحرائر وتحت اليهودي غادة عربية ... يعالجها الخنزير فوق المزابر (¬3) ¬

_ (¬1) (الثغر الجماني) مخطوط باريس. (¬2) انظر دراستي عن هذه القصيدة في كتابي (أبحاث وآراء في تاريخ الجزائر). (¬3) أبو رأس (عجائب الأسفار) مخطوط الجزائر، ورقة 11 - 12، وفي أصل الأبيات فساد في النسخ.

ويشبه هذا الشعر تحتذير محمد بن سليمان عربان وهران من التعامل مع الكفار هناك، سواء كانوا من الإسبان أو اليهود، وانذارهم بأنهم إن فعلوا ذلك سيصبحون (رعية) لهم، ودعوتهم لليقظة ومخافة الله في ذلك: فكيف يا قبائل العربان ... عافاكم الله من الشيطان اتخدموا هارون في وهران ... يهوديا ملعونا في القرآن مع ديك كافر نصراني ... يعبد، يا ويلاه، عودا فإني تبايعونهم على الأثمان ... نسيتم الله لدى الإحسان تيقظوا، فكيف يا برية ... توافقوا تعطونهم رمية!؟ (¬1) ومن الشعر السياسي - الديني قصيدة الشاعر محمد بن آقوجيل في أنواع الشهداء، وهذه القصيدة تبلغ عشرين بيتا عدد فيها نماذج الشهداء، فكانوا حسب رأيه، عشرين نوعا. إن ترد حصر عداد الشهدا ... فعلى العشرين فاقوا عددا فقتيل كان في معركة ... ضاق طعم الموت من أيدي العدا وهي قصيدة على العموم جيدة (¬2). وهناك من الشعراء من مدح أمراء المسلمين في غير الجزائر توددا أو طمعا، وقد عرفنا أن أحمد المقري كان يمدح الوجهاء ولكننا لم نعرف أنه مدح أيضا الأمراء. أما الذي سجل على نفسه أنه مدح الأمراء فهو عبد الرزاق بن حمادوش، فقد قال في رحلته إنه مدح سلطان المغرب عبد الله مرتين الأولى سنة 1145 والثانية سنة 1156، وكان ابن حمادوش قد نظم القصيدتين وأراد الدخول على السلطان بهما ولكن الحجاب منعوه أو كانوا غلاظا معه فأمسك بالقصيدتين عنده، فقال عن المرة الأولى (أغناني الله عن ¬

_ (¬1) (كعبة الطائفين) 1/ 305، نسخة باريس. (¬2) كناش رقم 529 المكتبة الوطنية - توس. كان ابن آقوجيل حيا سنة 1142. يوجد خطه على نسخة من (المنح البادية). دار الكتب المصرية، مصطلح الحديث، رقم 463.

لقياه) وعن الثانية (لما رأيت غلظ حجابه مسكتها عندي) ومطلع الأولى: قطعت بحارا موهلات ودونها قفار لا تأويها الوحوش مع الطير ويبدو من طالعها أنه أراد أن يبرر للسلطان المشاق التي تعرض لها أثناء السفر من الجزائر إلى المغرب لعله يظفر منه بعطية. أما مطلع الثانية، التي قالها في تهنئة السلطان بالقضاء على ثورة أحمد الريفي ضده فهو: أمولاي عبد الله بشرك الهنا ... بكل الذي تبغي من الفتح والنصر وقد أثبت القصيدتين في الرحلة قائلا إن الأدب هو الذي حمله على قولهما وأنه لم يقل غيرهما فيه ولا في غيره،. (فخلدتهما في ديوان الأدب). وقال بهذه المناسبة أنه لم يجعل علمه وسيلة للدنيا، ولكننا نعرف أنه مدح طبيب السلطان عبد الوهاب أدراق (¬1) الذي كان من الوجهاء. وشعر ابن حمادوش، كما لاحظنا، ضعيف النسج مختل العروض مقصوص الخيال. وإذا كان ابن حمادوش يمدح سلاطين المغرب في أيام عز العثمانيين في الجزائر (دون أن نجد له مدحا في أحد ولاة الجزائر فإن محمد بن مالك الجزائري قد مدح أحمد، باي تونس بعد أن احتل الفرنسيون الجزائر. فقد كان ابن مالك من قضاة الجزائر في العهد العثماني، وكان يشتغل بالسياسة والأدب والدين، ويبدو أنه هاجر إلى تونس وتقدم إلى الباي هناك يستمنحه الصلات، وقد بدأ قصيدته فيه بالغزل والخمر على العادة ثم تخلص إلى مدح الباي ومدح تونس في عهده، مستعملا الجناس مع المذاهب الثلاثة (المالكي والشافعى والحنفي). يا مالكي كن شافعي ... لدي أمير حنفي يبسط قبض اليد في ... صلاته لمعتفي دم أحمد الناس لنا ... وجد بوصل واعطف تونس بالأنس به ... تهش للمسعطف ¬

_ (¬1) انظر مقالتي (أشعار ومقامات ابن حمادوش الجزائري) في مجلة (الثقافة) 49، 1979، وابن حمادوش (الرحلة).

لا زلت يا شمس العلا ... تحل برج الشرف (¬1) وقد سبق ابن مالك إلى تونس أحمد بن عمار كما عرفنا، وأشرنا إلى أن ابن عمار قد مدح الباي عندئذ، بالنثر وجعل فيه كتابا، ولكننا لا ندري إن كان ابن عمار قد مدح هذا الباي أيضا بالشعر، والغالب أنه ضمن نثره بعضم الشعر على عادته. ومن أبرز الشعراء الذين وقفوا موقفا مضاد للترك في الجزائر وهجوهم هجاء مرا الشاعر سعيد المنداسي وهو من شعراء القرن الحادي عشر، الذي ثارت فيه تلمسان عدة مرات على قوادها الأتراك، كما عرفنا، وكان المنداسي يعيش في تلمسان لكننا لا نعرف نوع حياته، فقد كان من شعراء المدائح النبوية وكان متمكنا في اللغة والأدب، وكان أيضا على صلة بعلماء المغرب ورجال دولته، ولا شك أن أديبا كالمنداسي لا تناسبه الجزائر في العهد العثماني كل ما فيها بعض العلماء المتنافسين والمتصوفة الدراويش، ولا شيء بعد ذلك يخصب مواهب الشعراء ويبعث الحياة في نفوسهم، وقد كان المغرب مقصد العلماء الجزائريين للدراسة، كما كان ملجأ للهاربين من ظلم وتعسف العثمانيين، ولا ندري ما الذي حمل المنداسي مباشرة على هجاء الأتراك جملة وتفصيلا: فما دب فوق الأرض كالترك مجرم ... ولا ولدت حواء كالترك إنسانا فقد وصفهم بأبشع الأوصاف وأقذعها، واتهمهم بالفحش والشره في حب المال، وارتكاب الجرائم، كما أنه تحدث عما عانت تلمسان منهم، وعرض بالمفتي التلمساني في عهده، أحمد بن زاغو، الذي انقاد في نظر المنداسي، إلى الترك واتهمه بالضلال في الدين وأنه قد هدم دار العلم، وأنه كان يسكر، ولا غرابة بعد ذلك أن يموت المنداسي في سجلماسة هاربا من الأتراك، بسبب قصيدته التي تعتبر من أقذع ما قيل فيهم (¬2). ¬

_ (¬1) (كناش) رقم 9240 المكتبة الوطنية - تونس، والقصيدة في أربعين بيتا. (¬2) الخزانة العامة بالرباط، رقم 1656 د. وهي في 27 بيتا، وقد نسب فايسات الفرنسي =

الشعر الاجتماعي

ولم يكن المنداسي وحده في ذم الترك، فقد كان هناك غيره ولكن الحكم العثماني لم يسمح بهذا الشعر أن يظهر طبعا، كما ظهر الشعر المادح لهم، ولكن الكتب والوثائق والذواكر قد حفظت لنا نماذج أخرى من الشعر المعارض للأتراك، ومن ذلك قصيدة سيدي دح السنوسي بن عبد القادر في الشيخ محيي الدين والد الأمير عبد القادر، عندما أخذه الباي حسن (باي وهران) شبه أسير ليمنعه من التوجه إلى الحج، خوفا منه (¬1)، وكان محيي الدين قد اعتقله العثمانيون، رفقة ولده عبد القادر، وقادوه إلى وهران حيث أبقوه حوالي سنتين، وقد قال أبو حامد المشرفي عن الشاعر دح السنوسي بأنه كان (إمام الشعراء وصدر المصادر)، ولا شك أن الناس قد تناقلوا هذه القصيدة السياسية بأفواههم لأنها جاءت في وقت اشتد فيه النزاع بين سلطة العثمانيين والطرق الصوفية. ولو تتبعنا الشعر السياسي في العهد العثماني لوجدناه، على قلته، غنيا بالتجارب، ولكن طموحات الشعراء فيه ظلت محدودة لأن أصحاب الحل والعقد في الدولة كانوا لا يهتمون بالشعر فكيف يهتمون بأهله؟ الشعر الاجتماعي نعني بالشعر الاجتماعي شعر الإخوانيات الذي يشاطر فيه العلماء بعضهم بعضا في مناسبات معينة، وشعر الرثاء والتقريظ والمدح لغير الأمراء ورجال الدين، وشعر المجون ونحو ذلك، وإذا حكمنا من الإنتاج الذي لدينا ¬

_ = قطعة شعرية في هجاء الترك إلى سعيد المقري، وهو خطأ منه في نظرنا، فقد اختلط عليه سعيد المنداسي بسعيد المقري، ذلك أن المقري ظل مفتيا أربعين سنة في تلمسان على عهد العثمانيين. انظر ترجمة سعيد المقري في فصل التعليم من الجزء الأول وانظر فايسات (روكاي) 1888، 389، هامش. (¬1) أبو حامد المشرفي (ذخيرة الأواخر والأول) 8، وقد ذكر القصيدة ولكنها في جزء مفقود من الكتاب.

المجون والمزاح

فإننا نجد أن شعر الإخوانيات قد سيطر على البيئة، فالشعراء كانوا يتبادلون المدح والنكت وحتى الهجاء والفخر، والعجيب أن شعر الرثاء قليل جدا رغم العاطفة القوية التي يتميز بها الناس عند فقد الأقارب والأحبة والشيوخ، كما أن شعر المجون قليل، ولكن لا غرابة في ذلك فإن المجتمع على العموم مجتمع منقبض قاس على نفسه، تقل فيه الطرف والنكت والشعر الخفيف، وقد عرفنا أن المرأة كانت في المقام الثاني وكانت مشاركتها قليلة في الظاهر، فلم تدخل ميدان الشعر الاجتماعي لا منتجة ولا موضوعا. المجون والمزاح: ويبدو أن محمد بن أحمد بن راس العين، الذي لا نعرف عنه إلا القليل والذي كان محل تقدير الشعراء والعلماء، ممن اشتهر بشعر المجون، ففي الوقت الذي كان فيه الفقهاء يلعنون شجرة الدخان ويفتون بعدم شربها أو تدخينها، كان ابن رأس العين يسخر من فتاواهم ويخاطب (التباغة) كما يخاطب الخمر المحرمة، وينادي النادل أن يسقيه إياها في غليون ممتاز لأن شربها في الليل في جلسات السمر مع الإخوان ينعش النفس والفؤاد، وهو يقول للنادل إن الفتوى بعدم شربها كلام باطل، وإنها عنده حلال طيب، وأن ضوءها يغني عن الصباح، وإن تعاطيها لا يفسد العقل كما يزعمون، وأن من لم يشربها لا يدرك حقيقتها. اسقنيها تباغة تجلا ... في حلى السبسى شربها في الدجا مع الإخوان ... جالب الأنس اسقنيها ودع كلام السلاح ... فهو عندي محال لا تعطل شرابها يا صاح ... فهي عندي حلال شمعها يغني عن الصباح ... في ظلام الليال شربها ليس يفسد العقلا ... لذوي الحس كل من ذم شربها جهلا ... فهو في بخس (¬1) ¬

_ (¬1) كان ابن رأس العين حيا سنة 1058 كما وجدناه على بطاقة من (رقم الحلل) لابن الخطيب من أنه من نسخ هذا الشاعر. انظر مكتبة رضوان، المكتبة الوطنية - تونس، =

ومن الواضح أن ابن رأس العين متأثر بالمدرسة الأندلسية في نظم الموشحات، وأنه يعد مقدمة لابن علي في شعر المجون، كما سنرى، غير أننا نعرف أن ابن علي كان مفتيا أيضا، أما ابن رأس العين فلم يكن كذلك. فهو أحق بالمجون من صاحبه، ولكن اختلاف العصر (ابن رأس العين في القرن الحادي عشر وابن علي في الثاني عشر) يجعل المقارنة بينهما هامة في هذا الباب، وسنترجم لابن علي بعد حين. ويدخل في شعر اللهو الاجتماعي التلغيز أو استخدام الألغاز عن طريق الشعر، تخفيفا من عبء الحياة، واختبارا للذكاء وتنشيطا للذهن، ونعرف أن سعيد قدورة قد تبادل الألغاز مع أحمد المقري في لغز (هاج الصنبر). ويحدثنا الفكون أن المقري قد عجز عن الجواب في الأول ولكنه وجد حله في المرة الثانية، وأنه قد نظم الإجابة شعرا (¬1). وألف بركات بن باديس عملا في الألغاز سماه (نزع الجلباب في جمع بعض ما خفي في الظاهر عن الجواب) كما سماه في مكان آخر (بالمسائل السبعينية) لأنه جمع فيه كما قال سبعين مسألة في الألغاز نثرا وشعرا. وقال في أوله (وبعد فهذه سبعون مسألة كانت حاضرة على البال، وضعتها هنا ¬

_ =…7059، أما الموشح أعلاه فهو من (كناش) المكتبة الوطنية - تونس، رقم 529، وفي هذا الكناش أخبار أخرى عنه، وقد كتب الموشح سنة 1027، كما جاء ذكر ابن رأس العين في (ديوان ابن علي)، وسماه هناك (الكاتب البليغ) ووصفه (بالشيخ الرئيس)، ووجدنا في بعض الوثائق أن ابن رأس العين كان نائبا عن سعيد قدورة (توفي سنة 1066) في الخطابة بالجامع الكبير بالعاصمة، كما وجدنا في الأرشيف. (172) 31 - 228 Mi، أن ابن رأس العين كان بذمته مبالغ مالية محددة وأنه كان أمينا لأوقاف الحرمين، وذلك سنة 1114، فإذا صحت التواريخ المذكورة فإنه يكون قد عاش مدة طويلة. يبقى أن نشك في أن التاريخ الأخير قد يكون لأحد أفراد العائلة (ابن رأس العين) وليس بالضرورة تاريخ الشاعر الذي نتحدث عنه. انظر أيضا (مختارات مجهولة). (¬1) (منشور الهداية)، مخطوط.

تقييدا خوف النسيان والإهمال، مفيدا لأهل العرفان والكمال)، وقد اطلعت على نسخة من هذا العمل فوجدت فيه الألغاز التي ذكرها الفكون والتي ذكرها أيضا ابن حمادوش والتي كانت متداولة، فيما يبدو، بين علماء وأدباء الوقت (¬1). كما يحدثنا عبد الرزاق بن حمادوش، في الرحلة أن لأحمد البوني كتابا في الألغاز، وأن عددا من الأدباء قد حاولوا الإجابة وفشلوا، حتى اضطروا إلى الكتابة إلى ابنه أحمد الزروق بعنابة يطلبون منه توضيح الجواب بمقتضى ما قصد إليه والده (¬2)، وقد اشترك في حل هذا اللغز بالشعر أيضا يحيى الشاوي وسحنون بن عثمان الونشريسي، ومن جهة أخرى يذكر ابن ميمون في (التحفة المرضية) أنه كانت لإبراهيم القنيلي الطرابلسي (قوة الألغاز والأحاجي .. وكان كثيرا ما يخاطب بها صاحبه الأول (محمد بكداش باشا) أمير المؤمنين بالدار السلطانية، وقعت بينهما في هذا الفن طرف تستلمح فتستملح، وأعاجيب تستلحظ فتستحفظ) (¬3)، ونفهم من هذا أن بكداش باشا كان يلاغز أيضا. وقد حدثنا أحمد بن سحنون أيضا عن أنه كان يمازح الأمير عثمان ابن الباي محمد الكبير قبل توليه الحكم، ومن ذلك أنه قال فيه قصيدة (أثناء مزاح أدبي، ومنزع عربي)، وهي: عسى الليث عثمان يعذرنه ... ويجري على خطة الكرم وقد استعمل ابن سحنون نفس العبارة السابقة مع صهر الباي أيضا، وهو محمد بن إبراهيم، الذي كان صديقا له، فقال فيه مرة عند غيابه عنه من قصيدة طويلة. ¬

_ (¬1) يقع العمل في واحد وعشرين صفحة، وهو من نسخ سالم بن محمد إلى شعبان بن جلول، سنة 1146، والسخة التي رأيناها من مكتبة الشيخ المولود بن الموهوب (عند السيد ماضوي). وكان بركات بن باديس حيا سنة 1107. (¬2) ابن حمادوش (الرحلة)، مخطوط، وقد ذكر ابن حمادوش نماذج من الإجابات، وبعضها جيد المستوى. (¬3) (التحفة المرضية) مخطوط باريس، 64.

المدح والفخر

حديث شوقي لكم في شرحه طول ... يا جيرة رحلوا والجسم معلول وقال يمازحه: فلولا جمالك يا زينب ... لما انجاب من أفقنا غيهب ولعل مما يدخل في هذا الباب، مدح حسين خوجة الشريف باشا لأحمد البوني. فقد نسبت قصيدة إلى البوني في الباشا أجابه عليها الباشا بقصيدة أيضا، ونعتقد أن الباشا لم يكن شاعرا وإنما كتبها أحد الشعراء على لسانه. ثبت الجمال لبونة بجليلها ... وترنحت أرجاؤها بالسؤدد ابني تميم جدتم بتميمكم ... فتمامكم في ذا التميم الأمجد (¬1) و (بقاسم) فازت بحظ وافر ... سعدت به رغما لأنف الملحد و (بأحمد) الجد الإمام تجددت ... صفحات مجد سيد عن سيد ملك السيادة واقتفى آثار من ... لهم العلا أهل المقام الأسعد (¬2) وتنسب إلى محمد القوجيلي عدة قصائد في المزاح ونحوه. من ذلك الشعر الذي تبادله مع الأديب التونسي محمد بن عثمان ضاي، وذلك الذي تبادله أيضا مع الشريف السوسي حول السماع (الموسيقى)، والقصيدة التي قالها ممتعضا من دخول غير الفصحاء على الفصحاء (¬3). المدح والفخر: وإذا كان الشعر الاجتماعي في جملته محدود الأغراض في العهد العثماني للظروف التي شرحناها، فإن العلاقات الشخصية ظلت تلعب دورا هاما في تحريك القرائح والتعبير عن ذللث بشعر جيد أحيانا، وقد كثرت الأشعار بين إخوان العلماء والأدباء معبرين بها عن حالات النفس من شكوى ¬

_ (¬1) تنسب أسرة البوني نفسها لبني تميم العربية، ومن ثمة هذا التلاعب بالألفاظ. (¬2) المكتبة الوطنية - الجزائر، رقم 1847 مجموع، والقصيدة طويلة، وقاسم هو والد أحمد البوني، وكان من أهل التصوف. (¬3) (ديوان ابن علي) مخطوط. وكذلك (مختارات مجهولة).

وطموح وفخر، وعن التلطف والإطراء والتنويه. ولعلماء وأدباء الجزائر علاقات كثيرة مع بعضهم ومع علماء وأدباء المشرق والمغرب، وسوف لا نأتي على تفاصيل كل العلاقات وملابساتها، وحسبنا هنا الإشارة إلى عدد من الحالات التي تكشف عما كنا نقول. فهذا العياشي المغربي يمدح شيخه عيسى الثعالبي بقصيدة طيبة اللفظ والمعنى مطلعها: إذا غالبتك النائبات فغالب ... بفخر فحول العلم عيسى الثعالبي فيرد عليه الثعالبي بقصيدة من بحرها وقافيتها ولكن أقل منها حجما، جاء فيها: حبا بابنة الفخر العلى والمناقب ... فريدة فرد في امتطاء المناصب أتت تتهادى في مروط ملاحة ... تجررها تيها على كل كاعب وتأنف إذ كانت يتيمة دهرها ... جمالا بديعا عن إجابة خاطب وبعد هذه المقدمة الغزلية التي لا علاقة لها بالعياشي ولا بالثعالبي المحدث والعالم الشهير قال: فيا روح آداب وشخص فضائل ... وناظر أحداق الذكاء لطالب جزيت بما أسديت أفضل منحة ... وبلغت من رغباك أسنى المطالب (¬1) وكان يمكن للثعالبي أن يكون من أبرز الشعراء لو كرس حياته للشعر، فنفسه هنا يدل على ملكة قوية في بحور الخليل. وكان لقاء العياشي بشيخه الثعالبي في مصر ثم في الحجاز، أما لقاء عبد السلام القادري المغربي ومحمد بن أحمد القسنطيني المعروف بالكمال، فقد كان بالمغرب، وقد تبادل الرجلان المدح والثناء والإشادة بالعلم وأهله، فقد قرأ القادري على شيخه القسنطيني وأعجب به، فأرسل إليه قصيدة ينوه بفضله جاء فيها: ¬

_ (¬1) رحلة العياشي 2/ 131.

إلى العالم النحرير والحجة التي ... روى فضلها عز السراة الجماهر ألست الذي إن عز في العلم مشكل ... تلقاه فهم منك في زي باتر فأجابه شيخه الكماد بقصيدة على وزنها وقافيتها مدح فيها تلميذه بالفضل وأصالة النسب والحسب وتشوق فيها إلى الديار المقدسة: خليلي عج بالركب عن أم عامر ... وعرج على كثبان نجد وحاجر (¬1) وقد ورد على الجزائر عدد من علماء المغرب وشعرائه وتبادلوا مع علماء وشعراء الجزائر الإجازات والشعر والرسائل، ومن هؤلاء نذكر الجامعي وابن زاكور وأحمد الورززي وأحمد الغزال وغيرهم، وكنا قد أشرنا إلى بعض آراء ونشاط الجامعي وابن زاكور، ولنشر الآن إلى زيارة الورززي والغزال. كان الورززي، على ما يظهر من أخباره، يزور الجزائر من وقت لآخر، ونحن نعرف من ذلك زيارتين على الأقل الأولى سنة 1159 والثانية 1162، وقد سجل ابن حمادوش الزيارة الأولى في رحلته وذكر نشاط الورززي والتفاف علماء الجزائر من حوله، ولكنه لم يذكر شعرا قاله فيه أحد عندئذ، أما الزيارة الثانية فقد سجلها أحمد بن عمار وأورد أن شيخه ابن علي قد قال قصيدة بارعة في الورززي بمناسبة هذه الزيارة (عند وفوده علينا بمحروسة الجزائر سنة 1162)، وقصيدة ابن علي تشير إلى أن الورززي كان يتردد على الجزائر، فقد بدأها هكذا: خليلي عاد الأنس والعود أحمد ... فقد زارنا شيخ المشائخ (أحمد) رأينا محياه السعيد ويا له ... محيا بدت أنواره تتوقد فأشهد أن الشمس قد طلمت لنا ... من المغرب الأقصى ولا أتردد وقد فتحت أبواب توبتنا بها ... وذا عكس ما قد كان للشمس يعهد فما لك قد أصبحت (مالك) علمه ... وفي خلدي أنت الإمام المجدد ¬

_ (¬1) (الإعلام بمن حل مراكش) 5/ 13 - 15. وعبد السلام القادري هو صاحب (نشر المثاني).

فجد لي بما أرجوه منك فإنني ... رأيتك كنزا للذخائر يقصد (¬1) أما أحمد الغزال فقد مدح شيخه أحمد بن عمار، وكان الغزال قد جاء في سفارة إلى الجزائر موفدا من قبل السلطان عبد الله للتوسط بين الجزائر وإسبانيا، وذلك سنة 1182، وكان الغزال أيضا شاعرا ودبلوماسيا لأن سلطان المغرب كان قد أرسله أيضا في سفارة إلى إسبانيا، والغزال هو صاحب الرحلة المعروفة (نتيجة الاجتهاد في المهادنة والجهاد) (¬2)، وقد اتصل الغزال بعلماء الجزائر، وعلى رأسهم أحمد بن عمار الذي كان عندئذ ذائع الصيت موفور القدر. وقيل إن الغزال حضر عليه درسا في الحديث بالجامع الكبير فارتجل قصيدة في شيخه: روينا الأحاديث الألى ورثوا العلا ... قديما ففازوا بالثناء المؤبد هلموا إلى مأوى المفاخر والعلا ... هلموا إلى الأسمى ابن عمار أحمد بوالده دينا وعلما قد اقتدى ... لقد جد نجل كان بالأب يقتدي وقد جاء فيها على الخصوص: فما سمعت أذني ولا العين أبصرت ... شبيها له غربا وشرقا بمعهد (¬3) ومن هذا نعرف مكانة ابن عمار من رجل طوف كثيرا وخبر العلماء شرقا وغربا، كما نعرف منها الإشارة إلى أن ابن عمار قد اقتدى بوالده في العلم والدين. وعندما اطلع محمد بن الشاهد على قصيدة الغزال في ابن عمار كتب ¬

_ (¬1) محمد داود (تاريخ تطوان) القسم الأول، المجلد 3، تطوان، 1962 89 - 90. والظاهر أن ابن علي كان يطلب في البيت الأخير الإجازة من الورززي. (¬2) طبعت بالعرائش سنة 1941. (¬3) أبو القاسم الحفناوي (تعريف الخلف) 2/ 314، وقصيدة الغزال في عشرين بيتا، والغالب أنه قد ارتجل بعضها فقط وكتب الباقي فيما بعد، وفي (المجلة الإفريقية) 1961، 456، أن الغزال قدم إلى الجزائر سنة 1179 (1766)، أما المهدي البوعبدلي فيذكر أنه جاء سنة 1182، انظر (الثغر الجماني)، 76 المقدمة.

أيضا قصيدة قوية في مدح الغزال والإشادة بابن عمار الذي هو أستاذ ابن الشاهد أيضا: عسى أن يلم الشمل بعد تبدد ... عشية هذا اليوم أو ضحوة الغد وقد جاء فيها: أغزال هذا العصر من رق غزله ... له العذر إن لم يكفه غير عسجد كمدحك مولانا وقطب بلادنا ... وبدر علاها بين نسر وفرقد فلست وقد أبصرته وسمعته ... وخاطبته فى مدحه بمقلد ولابن الشاهد أيضا قصيدة طويلة خاطب بها أحد علماء فاس، وقد جاء فيها: رفعت بدمع العين حكم عواذلي ... ومطلقه في الخد غيره الدم دم طاهر سود العيون سفكته ... إزالته عن ميتة الخد تحرم (¬1) كما أن له أشعارا ومدائح دينية. وابن الشاهد من كبار شعراء الجزائر في العهد العثماني، وكان كأستاذه ابن عمار يجمع بين الشعر والعلم (الفقه)، فقد تولى أيضا الفتوى والتدريس بجامع حسين ميزمورطو باشا سنة 1196، وكان يسمى (أديب العصر وريحان المصر) وله قصائد رائعة ما زالت موجودة منها تلك التي رثى بها مدينة الجزائر بعد سقوطها في يد الفرنسيين والتي سنتحدث عنها في الأجزاء اللاحقة (¬2). ¬

_ (¬1) المكتبة الوطنية - الجزائر رقم 2241. (¬2) عن ابن الشاهد انظر الأرشيف الفرنسي (344) 46 - 228 Mi، و (تعريف الخلف) 2/ 216 و (المجلة الآسيوي) 8 سنة 1839، 503. وتثبت الوثائق أنه كان أيضا من موظفي الجامع الكبير وكان يتقاضى مرتبا من أوقاف جامع حسين ميزمورطو باشا من أحزاب الجامع الكبير، وكان له أخ، وهو إبراهيم بن الشاهد، من علماء الوقت أيضا ولكنه لم يصل إلى ما وصل إليه محمد، والغالب أن ابن الشاهد الذي هاجر إلى تونس بعد الاحتلال من أولاد محمد المذكور، وقد رأيت خطه على نسخة بخطه من كتاب (سراج القارئ المبتدئ) في القراءات سنة 1192، وتوقيعه فيه هكذا (محمد بن الشاهد، كان له الإله الواحد)، المكتبة الوطنية - الجزائر، رقم 2254.

وقبل أن ننتقل إلى نقطة أخرى نود أن نشير إلى أن لابن حمادوش عدة قصائد في علماء المغرب قالها حين زيارته الثانية لهم، وكانت موضوعاتها هي طلب الإجازة، لذلك فهي في مدحهم على كل حال، ومن هؤلاء محمد البناني وعبد الوهاب أدراق وأحمد بن المبارك، والملاحظ أنه لم يطلب إجازة من أدراق وإنما طلب الدخول عليه وحضور مجلسه العلمي، ولكن شعر ابن حمادوش الإخواني ضعيف. وقد جاء في قصيدته في عبد الوهالب أدراق: أيا سيدي عبد الوهاب تحية ... وبشرى لكم أهدى وأندى من الطل أتيتك يا ملجا البرية كلها ... تنولني علما فنبرأ من الجهل وخلقت أمي والعيال وصبية ... كأنها أفراخ الحمام لدى الوصل (¬1) ورغم ضعف شعر ابن حمادوش فقد افتخر بنفسه على الشاعر المفتي ابن علي، وسبب ذلك أن ابن حمادوش كان ذات مرة في دار صديقه وشيخه محمد بن ميمون فدخل عليهما المفتي ابن علي فلم يقم له ابن حمادوش احتراما فغضب وخرج. هذه هي رواية ابن حمادوش على كل حال، وقد كتب ابن حمادوش قصيدة طويلة هجا فيها ابن علي وافتخر بنفسه وشرفه العلوي الهاشمي. وأقام هجاءه لابن علي على كونه غير عربي وكونه يحب الدنيا وأنه متكبر متصلف، ومما جاء في هذه القصيدة الغريبة والضعيفة أيضا قول ابن حمادوش: خرجت ذليلا لا أعود لمثلها ... وهل يجمع السيفان، ويحك، في غمد فإني من اللائي فوق الثرى ترى ... وأنفسنا في العرش تابعة المجد فلا يدرك المجد المؤثل غيرنا ... وإن أدرك الدنيا وحازها في الأيدي (¬2) ¬

_ (¬1) ابن حمادوش (الرحلة) وهي في عشرة أبيات، ونشير إلى أن من بين المبادلات الشعرية بين علماء الجزائر والمغرب ما ذكره ابن القاضي في (جذوة الاقتباس) 95 - 96 من أن عبد الله العنابي البوني كتب قصيدة لامية سماها (جواهر الجلال في استجلاب مودة ابن هلال) فرد عليه هذا (إبراهيم بن هلال السجلماسي المتوفي سنة 903) بقصيدة جيدة مذكورة في الجذوة. (¬2) ابن حمادوش (الرحلة)، وله أيضا شعر في الحنين إلى الوطن والأهل وقطع ضمنها =

وهيهات أن يصل شعر ابن حمادوش إلى شعر ابن علي! ولكنها الطبيعة الإنسانية القائمة على الحسد والمنافسة بين المتعاصرين، والمعروف أن ابن ميمون كان صديق الاثنين، فنحن نجده أيضا يقول شعرا جيدا في ابن علي سنعرض له. وكانت أيضا بين ابن عمار وابن علي علاقات ودية ومبادلات شعرية راقية سنعرض لها. وفي (نفح الطيب) (1) لأحمد المقري نماذج من الشعر الإخواني الذي تبادله مع علماء ووجهاء الشام، من ذلك ما كتبه عبد الرحمن العمالي يمدح المقري من قصيدة طويلة كنا أشرنا إليها: شمس هدى أطلعها المغرب ... وطار عنقاء بها مغرب فأشرقت في الشام أنوارها ... وليتها في الدهر لا تغرب وكان المقري يجيبه ويجيب أحمد بن الشاهين أيضا على مطارحاتهم، وشعر المقري رقيق في أغلبه، ولا سيما في ميدان الإخوانيات والوجدانيات، ولا غرابة في ذلك فهو من خريجي المدرسة الأندلسية في بلاد المغرب. أما محمد العربي بن مصباح فقد جمع ديوانا في مدح شيخه محمد بن علي الشريف اليلولي، شيخ زاوية شلاطة. وقد ضمنه ثلاثين قصيده لعلماء الوقت وتلامنة الشيخ وكلها في مدحه. وأضاف إليها ابن مصباح ثلاثا من عنده. وفي هذا المجموع قصيدة محمد بن الحفاف، مفتي المالكية في وقته بمدينة الجزائر. وسمي ابن مصباح عمله (توشيح طراز الخياطة). ويذكر أن شيخه قد سلمه القصائد التي قيلت في مدحه (وعددها 36 قصيدة) وطلب إليه أن يصححها ويشرحها ويعلق عليها، فقام بذلك طاعة للشيخ وخدمة للشعر (¬2). ¬

_ = مقاماته ورثاء في شيخه أحمد بن المبارك المغربي (1) انظر خصوصا الجزء الثالث منه، 168 وغيرها. (¬2) قام الشيخ المهدي البوعبدلي بتقديم دراسة عن (توشيح طراز الخياطة) إلى المؤتمر الذي انعقد ببرلين - ربيع 1980 - حول (المؤسسات الدينية في المجتمع المغربي) =

وقد أكثر محمد القوجيلي من مدح أستاذه علي بن عبد الواحد الأنصاري فقال فيه عدة قصائد، كما مدح مفتي إسطانبول أسعد أفندي حين دخل عليه مستأذنا، وكان القوجيلي قد توجه إلى إسطانبول في مهمة من الجزائر. كما أن أحمد المانجلاتي قد أرسل قصيدة قوية إلى المفتي أسعد أفندي معرفا له فيها بقيمة سعيد قدورة حين أرسله وجق الجزائر إلى إسطانبول غاضبين عليه، وهي أيضا قصيدة مدح في كلا الرجلين (¬1)، وقد جاء فيها: سرب القطا سر بالسلام وأسعد ... وانهض إلى قمر السعادة أسعد مفتي البسيطة شمسها وهلالها ... وإمامها وهمامها والمهتدي إلى أن يقول فيها يخاطب المفتي أسعد أفندي: قدام بابكم فقيه جزائر ... بانت فضائله لمن لم يحسد أستاذنا علامة الغرب الذي ... بعلومه يحكى سراج المسجد قد كلفوه ركوب بحر غيرة ... من علمه بإشارة من حسد بحر يعرض أهله لمكاره ... إن التخلص منه يوم المولد (¬2) ويمكن أن نضيف إلى شعر المدح ذلك الشعر الذي قيل في تقريظ الكتب ونحوها، ومن ذلك تقريظ ابن عمار لكتاب (الدرر على المختصر) لابن حمادوش وتقريظه لكتاب حمودة بن عبد العزيز التونسي الذي أجاب به على أسئلة علماء قسنطينة. ففي هذه المناسبة قال ابن عمار قصيدة جيدة على عادته، جاء فيها: شمس تجلت فما أسنى تجليها ... لاحت على غرة الدنيا تحليها أبدت مطالعها أسنى طوالعها ... من أين للشمس تجلى في مجاليها ¬

_ = وهي الدراسة التي استفدنا منها هنا. (¬1) قصيدتا القوجيلي والمانجلاتي في (ديوان ابن علي) مخطوط، وللقوجيلي أيضا قصيدة مدح بها المفتي محمد بن قرواش، وقد أصاب الجزائر زلزال عند توليه الفتوى. (¬2) (ديوان ابن علي)، مخطوط. وكذلك (مختارات مجهولة).

الرثاء

قوي بها عضد التوحيد منشئها ... فالسعد يكتبها والفخر يجليها (¬1) الرثاء: وإذا كانت الحياة رابطة قوية بين الشعراء، فإن الموت أيضا كان يقوي تلك الرابطة، بل يكشف عن أصالتها أو زيفها، فكما تبادل الشعراء الإخوانيات أثناء الحياة جادوا بالشعر عند وقوع مصاب بأحد العلماء أو الشيوخ، وشعر الرثاء، على خلاف شعر المدح، قليل، ومما يذكر أننا لا نكاد نجد قصيدة فيما يمكن أن نسميه بالرثاء السياسي , ذلك أن جميع المراثي، على قلتها، لا تخرج عن بكاء بعض الشيوخ ورجال الدين، فكأن نهاية الحاكم كانت تعتبر بشرى للأمة وليس نكبة قد حلت بها، وما دامت حياة معظم الولاة كانت تنتهي بمأساة (بما في ذلك حياة بكداش باشا الذي مدحه الشعراء) فإن رثاءه قد يجلب النقمة على الشاعر. ثم إن نفاق الحياة قد جعل الحاكم مهابا أثناء حكمه عندما تكون يده مبسوطة للعطاء ولكن الموت ينهي كل ذلك، فما فائدة الشاعر المنافق أثناء الحياة من رثاء واهبه بعد وفاته؟ وعلى كل حال فإن الرثاء السياسي يكاد يكون معدوما في الوثائق التي عندنا، وحتى الأبيات التي وجدت على ضريح صالح باي لم يكتب الشاعر اسمه تحتها فظلت غفلا، ولعل ذلك كان خوفا من الانتقام لأن صالح باي، رغم ما قيل عن شعبيته، قد مات مقتولا مغضوبا عليه من باشا الجزائر، ومع ذلك فنحن نسجل هذه الأبيات: ضريح لاح (في) أوج السعادة ... كما عقد الجواهر (في) النضادة (¬2) باي الزمان أخو المعالي ... به قد راح (صالحه) رشاده أمير عاش في الدنيا سعيدا ... وعند الموت قد حاز الشهادة فكم منن له في الله جلت ... وكم أجرى لطاعته جواده ¬

_ (¬1) (الكتاب الباشي)، 20. (¬2) في الأصل بدون (في) الموجودة ين القوسين.

وجاهد في سبيل الله فوزا ... فأفنى الفنش (¬1) واستوفى جهاده مدارس قد بنى لله فضلا ... وكم للخير بلغه مراده بشهر محرم قد مات أرخ ... أمير حاز مفتاح السعادة (¬2) ولا شك أن الرثاء يكون أصدق إذا قيل في الشيوخ والأصدقاء والأقارب، ولكننا لا نجد من هذا إلا القليل كما ذكرنا، ومن ذلك رثاء مصطفى الرماصي القلعي لشيخه عمرو التراري بن أحمد المشرفي، وهي قصيدة جيدة وطويلة (150 بيتا)، ويقال إن الرماصي قد نسج فيها على منوال أبي حيان في رثاء شيخه أيضا في وزنها وقافيتها وعدد أبياتها، وتبدأ قصيدة الرماصي هكذا (¬3): خليلي عوجا بي على طلل عفا ... معالمه قد غيرت ومعاهده وأسفت عليه السافيات بعيدنا ... دقاق الحصا فانحط منها أجالده (¬4) وأثناء حصار وهران الثاني (1205) أصيب قاصي معسكر، الطاهر بن حوا، برصاصة فأردته قتيلا، وكان ابن حوا قد عينه الباي عندئذ ليقود الطلبة، رفقة زميله محمد بن جلال (الجلالي)، لمجاهدة العدو، وقد كان لمقتله أكثر كبير في نفس الشاعر المجيد أحمد بن سحنون فرثاه بقصيدة قوية مطلعها: عز نفسك عن صروف الزمان ... كل شيء على البسيطة فان (¬5) وقد سجل عبد الكريم الفكون بعض الأبيات التي رثى بها الشيخ علي ¬

_ (¬1) يشير بالفنش إلى الإسبان ومشاركة صالح باي في رد غارتهم على الجزائر بقيادة أوريلي سنة 1775 (1189). (¬2) أوردها شيربونو في (روكاي) 57 - 1856، 114 - 115. (¬3) مذكورة كاملة ني (كناش) أبي حامد المشرفي، ك 471 الخزانة العامة بالرباط، ص 435 - 438، وفي الخزانة العامة نسخة أخرى منها أيضا برقم 2787 د. (¬4) تبدأ قصيدة أبي حيان هكذا: هو العلم لا كالعلم شيء تراوده ... لقد فاز باغيه وأنجح قاصده (¬5) (الثغر الجماني)، مخطوط باريس.

آبهلول (ويسميه أحيانا البهلولي) وقدم لها بقوله إن البهلولي كان (فطنا لقنا صاحب شعر كثير وفصاحة وفهم وله إنشادات شعر كثير) (¬1)، وكان الفكون صديقا له كما كان صديقا لأخيه عبد الرحمن البهلولي، لذلك كان صادق العاطفة في رثائه. أما سعيد قدورة فقد رثى شيخه محمد بن علي آبهلول المجاجي بقصيدة طويلة ذكر فيها أن شيخه قد توفي شهيدا بعد أن طعنه رجل من بني نائل، الذين قال عنهم إنهم قوم خوارج، وأشاد فيها بنسبه وشرفه وعلمه، وأنه كان بالخصوص عالما بالنحو والتوحيد والفقه والمنطق، ومطلع هذه القصيدة: مصاب جسيم كاد يصمى مقاتلي ... ورزء عظيم قاطع للمفاصل وقد شكا قدورة من الدهر الذي أذل العلماء بحكم الجهال وتطاولهم عليهم، وبكى شيخه آبهلول على لسان الأرامل واليتامى والضعفاء، والأسرى المسلمين الذين كان الشيخ المجاجي يساعد على افتدائهم، كما بكى فيه العلم والتقى، وذكر أن الطلبة كانوا يشدون الرحال للقراءة عليه في زاويته: لمنزله كانت تشد رحالنا ... فمن راكمب يسعى إليها وراجل وأخيرا وجه قدورة خطابه إلى قاتل الشيخ وتوعده بسوء المغبة، وقال عنه إنه (خارجي) لا يدين بسنة عموم المسلمين. أحقا قتلت الألمعي محمدا ... على قول حق لا على قول باطل (¬2) قتلت امرءا من شأنه العلم والتقى ... فيا خير مقتول ويا شر قاتل فإنك من أشرار قوم خوارج ... بني نائل لا فزت يوما بنائل (¬3) ¬

_ (¬1) انظر ذلك والقصيدة في (منشور الهداية). (¬2) يشير بذلك إلى فتوى الشيخ بعدم جواز زواج القاتل من إحدى النساء، وهو سبب القتل. (¬3) نقل القصيدة أبو حامد المشرفي في (ياقوتة النسب الوهاجة)، 149 - 159 مخطوط، وذكرها سعيد قدورة في ترجمته لنفسه أيضا، المكتبة الوطنية. تونس، رقم 422 مجموع. وهي في 62 بيتا. وقد وجدنا القصيدة في مصدر آخر منسوبة إلى المانجلاتي وليس إلى قدورة.

وقد حظي عبد الرحمن الثعالبي بعدد من المراثي ليس في عصره فقط ولكن حتى في عصور متأخرة (¬1)، ومن ذلك قصيدة القاضي محمد بن مالك فيه، وهي قصيدة جيدة وطويلة لولا أن النسخة التي اطلعنا عليها منها قد أساء إليها النساخ أيما إساءة، وقد بدأها ابن مالك بالغزل جريا على العادة، رغم أنه قاض، وغزله فيها رقيق على كل حال، ثم تخلص من ذلك إلى مدح الثعالبي وأخلاقه، وكون مدينة الجزائر قد أصبحت به مأوى الأولياء وموطن السعادة، كما عدد مؤلفات الثعالبي وأسانيده وقدرته على رواية الحديث، ووصف ضريحه ومقامه في نفوس الناس، وبعد ذلك انطلق ابن مالك في مدح الرسول (صلى الله عليه وسلم) وتعداد معجزاته مستنجدا به ومستنصرا، ونظرا للأخطاء الفادحة التي في القصيدة نكتفي هنا بمطلعها، راجين أن يعثر الباحثون على نسخة أوفى وأصح مما اطلعنا عليه: أيا جيرة حلرا بخير مقام ... لكم قد صبا قلبي وطاب مقامي ثم خلص إلى القول: وما صبوتي فيمن رأوه حقيقة ... ولكنني أصبو لحب إمام أبو زيد القطب الأجل الثعالبي ... إمام الورى طرا بكل مقام (¬2) وقبل أن نترك الحديث عن المراثي نشير إلى مرثية محمد القوجيلي في المفتي أحمد الزروق بن عمار بن داود (¬3)، وقصيدة عبد الرزاق بن حمادوش ¬

_ (¬1) أشرنا إلى قصيدة تلميذه أحمد بن عبد الله الجزائري فيه، في الفصل الأول من الجزء الأول. (¬2) اطلعنا من هذه القصيدة على نسختين، نسخة مكتبة جامع البرواقية رقم 49 مجموع، ونسخة الخزانة العامة بالرباط رقم ك 2867، وهي في مائة وثلاثة أبيات، وبعد ذلك اطلعنا على نصها في (تعريف الخلف) 2/ 254 وفيه أنها لعلي بن أحمد الشريف بن مالك الجزائري. (¬3) جاء ذلك في (ديوان ابن علي) مخطوط، وكان أحمد الزروق متوليا للفتوى حوالي سنة 1028 بمدينة الجزائر.

وصف المنشآت العمرانية

في رثاء شيخه أحمد بن المبارك المغربي (¬1)، ومن جهة أخرى رثى الورتلاني بعض رجال التصوف، مثل أحمد زروق البرنوسي، وذلك في قصيدته الطويلة: ألا أيها القطب الهمام تعلقت ... مجامع قلبي بالسعيد المنور وقد أخبر أنه نظم هذه القصيدة (لتزول عنا حجب الغفلة، وكدرات النفس وغطاء البشريات، ولعلي أرقى إلى مراتب التجليات، وأشرب من عين اليقين، وأتحلى بحلية المعارف) (¬2). كما أن محمد بن سليمان صاحب (كعبة الطائفين) ذكر نماذج مختلفة من أشعاره في شيوخه مثل محمد العبدلي وموسى بن علي اللالتي وبلقاسم بن صابر، ومن ذلك قصيدته: أقول وقول الحق في النفس أوقع ... وفي القول ما يصغي إليه ويتبع أدافع عن عرض الكرام تكرما ... لعل كريما في النوائب ينفع (¬3) وصف المنشآت العمرانية: ورغم قلة المنشآت العمرانية والمدنية في العهد العثماني فإن الشعراء قد مجدوا المؤسسات التي أقامها بعص الولاة، ويدل ذلك على أن الشعر كان مستعدا للتنويه بالعاملين لنشر العلم والعمران، ولكن الولاة العثمانيين كانوا بعيدين عن ذلك، فقد عرفنا أن همهم الرئيسي كان المحافظة على السلطة بأي ثمن والاستثراء بكل الطرق والمحافظة على بقاء عنصرهم بكل السبل، وليس عليهم بعد ذلك تعلم السكان أو جهلوا، اغتنوا أو افتقروا، سعدوا أو نكبوا، وقد حظيت المنشآت التي أقامها محمد الكبير وصالح باي خصوصا بتنويه الشعراء، فالمدارس والمساجد ونحوها اعتبرها الشعراء دليلا ¬

_ (¬1) ذكرها في رحلته المخطوطة، وهي طويلة، وقال إنه أول من رثاه، وكان حاضرا لوفاته سنة 1157. (¬2) الورتلاني (الرحلة)، 203، وهي في 108 أبيات. (¬3) (كعبة الطائفين) 2/ 95.

على اهتمام الولاة بالشعب والصالح العام، ولكن بينما نجد محمد الكبير يجمع حوله الأدباء والشعراء للتنويه بأعماله ومواقفه كان صالح باي يعمل بدون أن يدنى منه هذه الفئة، لذلك وجدنا أسماء الشعراء الذين أشادوا بمشاريع الأول، أما الشعراء الذين أشادوا بمشاريع صالح باي فما تزال غفلا، ولا نعرف أن شاعرا معينا قد رافق أو جالس صالح باي بخلاف محمد الكبير. أشاد الشعراء إذن بما بناه محمد الكبير من الجامع الكبير بمعسكر إلى المدرسة المحمدية الملحقة به، إلى المحكمة، بل أشادوا بداره الخاصة ووصفوها وصفا حيا، ففي الجامع يقول شاعر الباي وكاتبه ابن سحنون: انظر رعاك إله الخلق واعتبر ... لمسجد رائق قد لاح للبشر وفي نفس الجامع والمدرسة يقول أحمد القرومي من قصيدة طويلة جيدة. وترى المدرس قد علا كرسيه ... يلقى على العلماء حب الجوهر تحويه مدرسة غدت آثارها ... تحييه بالعلم الشريف الأشعري تمحى رسوم الجهل من ألواحه ... تحمي شمائله من الزور السرى وقد صدق مؤلف (الثغر الجماني) حين قال عن هذه القصيدة بأنها غراء تؤنس في الليلة القمراء) (¬1)، وكان أبو راس وغيره قد أشادوا أيضا بمنشآت هذا الباي، من ذلك وصف أبي راس للمحكمة: فلله مبناها الجميل فإنه ... يفوق على حكم السعود يمانيا تمد لها الجوزاء كف مصافح ... ويدنو لها بدر السماء مناجيا هي القبلة الغراء عز نظيرها ... ترى الحسن فيها مكتسيا وعاريا ولا عجب إن فاقت الشهب في العلا ... وقد جاوزت فيها المدار المضاهيا بها معمر حاز البهاء وقد غدا ... بها القصر قد فاق المبانى مباهيا (¬2) ¬

_ (¬1) (الثغر الجماني) مخطوط باريس، ورقة 15. (¬2) (عجانب الأسفار) مخطوط الجزائر، ورقة 11.

وفي دار الباي بضواحي معسكر يقول ابن سحنون من قصيدة: أهذه هالة للبدر أم دار ... ضاءت عليها من الأكوان أنوار وألبستها يمين الصائغين حلى ... كأنها في سماء الحسن أقمار أما منشآت صالح باي في قسنطينة فلم تحظ بهذه العناية من الشعراء، ويعود ذلك في نظرنا إلى أن صالح باي لم يقرب إليه الشعراء ثم أن نهايته لم تشجعهم، إن كانوا، على نشر ما قالوا فيه وفي أعماله، وعلى كل حال فإن أحد الشعراء المجهولين قد كتب قطعة نقشت على اللوحة التي وضعت عند مدخل المدرسة المعروفة بالمدرسة الكتانية، أو مدرسة سيدي الكتاني، التي أمر صالح باي ببنائها سنة 1189، وفي القصيدة مدح الباي أيضا: طاب الزمان بمن يوالي نفعه ... للمسلمين وزاد في علياه ملك يؤم الصالحات بعدله ... فاختار آخرته (¬1) على دنياه أحيى دروس العلم بعد اندراسها (¬2) ... وبنى لها دارا زكى مبناها يعني مدرسة لاحت أشعة نورها ... لم لا وهي الدر في معناه (¬3) جادلت بها نفس المعظم صالح ... ذاك المجاهد يبتغي مولاه فالله يرزقه السعادة دائما ... وينيله يوم القيامة (¬4) مناه قد بين التاريخ في قول لنا ... فخر المجاهد بالهنا مبناه (¬5) ومن الواضح أن هذا الشعر (تسجيلي) وليس عاطفيا وأن صاحبه قاله لينقش على جدار لا لكي يتذوقه الناس ويحفظوه، ومع ذلك ذكرناه لنبرهن على أن الشعراء كانوا بالمرصاد لكل ما فيه الخير وصلاح البلاد. ومن هذا الشعر (التسجيلي) الذي يكاد يخلو من العاطفة الأبيات التي ¬

_ (¬1) كذا في الأصل ولعل صوابها (أخراه). (¬2) في الأصل (درسها). (¬3) هذا البيت محتل فلم نصلحه. (¬4) كذا في الأصل، ولكن الوزن لا يستقيم، ولعل صوابه (يوم القيام) بحذف التاء. (¬5) نشرها شيربونو في (روكاي)، 57 - 1856، 108 - 109.

نقشت على القصر الذي بناه الحاج أحمد آخر بايات قسنطينة، وهو قصر عظيم قل نظيره في وقته، وصفه الأجانب ونوهوا بفن عمارته وذوق بانيه. وقد وصفه الشاعر بقوله: لمالكه السعادة والعلامة ... وطول العمر ما سجعت حمامه وعز لا يخالطه هوان ... وأفراح إلى يوم القيامة (¬1) وهذا الوصف لا يدل على فضله ولا يعطى الصورة الحقيقية عنه. بل إن الزمن لم يمهل الحاج أحمد ليتمتع بقصره. فقد حاربه الفرنسيون وتغلبوا عليه وأخرجوه منه مهانا مدحورا. وشبيه بهذا ما وجد منقوشا أيضا على لوحة مرمرية على مدخل جامع سوق الغزل بقسنطينة (¬2)، فقد بنى عباس بن جلول، أحد كتاب حكومة الباي حسين بوكمية، هذا الجامع سنة 1143، ويقال إن الباي، قد غار من هذا العمل فاشترط على كاتبه أن يكون الجامع مشتركا بينهما. ومهما كان الأمر فإن الأبيات تسجيلية أيضا، ولعلها من صنع بعض الفقهاء: غرف المحامد أم قصور تعبد ... أم جنة الرضوان للمتهجد أم جامع جمع المحاسن فانثنت ... في جيد منشيه أعز مقلد بيت يقام بها عماد الدين في ... ظل امتثال للاله الأوحد كالشمس إلا أن تلك إلى الأفول ... وهذه في البر ذات تخلد وسعت بما وسعت يدا حسين ضا ... حكمة بما للراكعين السجد يرجو بها من يسبل الستر المنال ... على العصاة إذا أتوه في غد يا خير من يرجى لكل مؤمل ... نوله ني الدارين أسعد مقصد ولئن تسل تاريخه فأتى به ... بأي الزمان حسين بن محمد (¬3) ¬

_ (¬1) نفس المصدر، 134 - 135. (¬2) عن هذا الجامع الذي تحول إلى كنيسة وعن قصة بنائه انظر الأجزاء الأخرى من هذا الكتاب. (¬3) شيربونو (روكاي) 55 - 1854، 102 - 107.

الألغاز

وقد أسهم الشاعر ابن علي في ذلك بوصف مخزن للحبوب بناه محمد باشا عند باب عزون، فقال أربعة أبيات منها هذان: لئن كانت الأهرام من مصر أودعت ... خزائنها درا نفيسا وياقوتا فذا الهرم الأعلى أجل لأنه ... جميع البرايا منه يلتمس القوتا (¬1) ومن سوء حظ الشعراء أن العصر كان عصر ركود عمراني وإلا لانطلقوا يصفون ويمدحون، فكان ذلك سببا في اقتصار الشعر الاجتماعي على الإخوانيات، ولبرودة الشعر التسجيلي ذكرناه في الشعر الاجتماعي وليس في شعر الوصف. وإذا كان الشعر مرآة العصر فإن الشعر الاجتماعي منه يدل على أن الجزائر في العهد العثماني لم تعرف من المؤسسات العمرانية والثقافيةالرسمية إلا قليلا. الألغاز: كان التلغيز نوعا من الرياضة الأدبية يتعاطاه الفقهاء والشعراء على السواء. ففي وقت انعدمت فيه أو كادت وسائل الترفيه والتسلية كان اللجوء إلى التلغيز بالشعر إحدى هذه الوسائل، وكان الملغز يعبر عن حادثته بالبيت أو الأبيات ولكنه لا يلجأ إلى القصيدة الطويلة، وليس من الضروري أن ينظم الملغزون ألغازا جديدة، فقد كان بعضهم يعود إلى كتب الأدب العربي ويأخذ منها نموذجا أو أكثر ويرسل به إلى زملائه فيعملون فيه الرأي والذكاء محاولين الإجابة التي قلما تكون صائبة، كما أن بعضهم كان يلغز تقية أو تلميحا أو نحو ذلك من الأغراض. وليس من غرضنا هنا تتبع هذا النوع من الشعر لأنه في الواقع يعتمد على النقل من جهة ولأنه من جهة أخرى قائم على التكلف والتمحل. غير أننا نذكر، ونحن بصدد الحديث عن وثائق الأدب الجزائري، بعض المؤلفات التي عالجت هذا النوع من الشعر. من ذلك تأليف بركات بن باديس الذي أشرنا إليه والذي سماه (نزع الجلباب) والذي جمع فيه بين الشعر والنثر، ¬

_ (¬1) (ديوان ابن علي)، مخطوط.

وكذلك تأليف الألغاز الذي ألفه أحمد بن قاسم البوني والذي لا نعرف له عنوانا، كما أن عبد الرزاق بن حمادوش قد ذكر نماذج من الألغاز في رحلته بعضها لجزائريين وبعضها لغيرهم. وبالإضافة إلى من ذكرنا كان سعيد قدورة وعبد الكريم الفكون وأحمد المقري ومحمد بن ميمون وسحنون بن عثمان ويحيى الشاوي قد جربوا التلغيز، ولا شك أن هناك مؤلفات أخرى جمعت بعض هذه الألغاز، مثل ديوان ابن علي، كما أن معظم العلماء والأدباء كانوا يتلاغزون. من ذلك هذا اللغز: ألا أيها الغادي على ظهر أجرد ... يشق الفيافي فدفدا بعد فدفد تحمل رعاك الله مني تحية ... تحيي بها أهل المجالس في غد وقل لهم ما سبعة خلقوا معا ... وما سبعة في ثوب خز مورد حواجبهم سبعون في وجه واحد ... وأعينهم تسعون في خلق هدهد أبوهم له حرفان من اسم جعفر ... وحرفان من اسمي علي وأحمد فقد أجاب عنه يحيى الشاوي بقوله: هم سبعة من بيضة خلقوا معا ... ومثلهم في ثوب خز مورد حواجبهم سبعون في كل واحد ... وأعينهم تسعون صورة هدهد أبوهم رجيم مارد متمرد ... وقد جمعت من لفظ لغز مقيد وقد نظم بركات بن باديس لغزا بعث به من قسنطينة إلى علماء الجزائر يسألهم فكه، بدأه بقوله: أيا سائرا نحو الجزائر في غد ... ومن لجلاليب السلامة مرتدى وهو طويل، وقد حاول الإجابة عليه سحنون بن عثمان الونشريسي (¬1). وهناك لغز في الميراث تبادله محمد الطبني ومحمد القوجيلي وكانت ¬

_ (¬1) جوابه، وكذلك النماذج المذكورة، في رحلة ابن حمادوش، مخطوطة وهي الآن مطبوعة.

إجابة القوجيلي فيه طويلة بدأها بقوله: طربت لما بدا لي ... نظم عقود اللآل فرائد الحسن فيها ... دارت بجيد غزال (¬1) ومن الألغاز التي شاعت بين علماء الجزائر (¬2) لغز (هاج الصنبر) الذي امتحن به سعيد قدورة زميله أحمد المقري عندما حل (المقري) بمدينة الجزائر قادما إليها من فاس، وقد عيب على المقري أنه لم يفهم الجواب من المرة الأولى (والألغاز إنما هي لاختبار الذكاء وسرعة الإجابة) ولذلك أعاد عليه قدورة السؤال: أبدرا بدا من غربنا بجزائر ... وبحرا عبابا من نفيس جواهر أحاجيك يا فخر الزمان بلفظة ... أتت في مقام الرفع دون محاذر فأبدل بالخفض المغير وصفه ... ولا سبب يبدو لرؤية ناظر فليس مضافا أو بحرف يجره ... ولا اتبع المخفوض أو بمجاور وليس بمحكي فيقبل جره ... فرد فأنت اليوم زين المحاضر فكان جواب المقري الأول: أتاني نظام من فقيه الجزائر ... فحييته إذ كان أكرم زائر أشار به، فيما أظن، للفظة ... عراها من الاتباع حكم مغاير وذلك مثل (الحمد لله) دائما ... فكسرك دال الحمد ليس بضائر وما كان تأخيري جوابكم قلى ... وقد يترك المطلوب عند الضرائر وعذرا فإن الشجو شتت فكرتي ... ولله أشكو ما تكن ضمائري (¬3) وقد راجعه قدورة بالأبيات الآتية لعدم إدراكه كنه الجواب: رأيت جواب الحبر خير مؤازر ... وعيبة أسراري ومرآة ناظري ¬

_ (¬1) نصه الكامل في (جليس الزائر) المنسوب لمحمد قدورة، المكتبة الوطنية - الجزائر، مخطوط غير مرقم. (¬2) أشار الفكون في (منشور الهداية) إلى قصة هذا اللغز ولكنه لم يذكر كل نصه. (¬3) في دراستنا لحياة المقري في الفصل السابق أشرنا إلى الظروف التي جعلته يشكو هذه الشكوى.

الشعر الذاتي

ولكنه عن صرف قصدي نازح ... لقولي في نظمي (ولا بمجاور) ولا فرق بين (؟) تابع ومجاور ... بنص الدماميني صدور الأكابر وحصرهم التحريك في عد ستة ... يدل على الإرداف ياذا المآثر فأجابه المقري من جديد: حبا بسلوك من نفيس جواهر ... إمام بدا من نظمه كل باهر يؤمل تجديد الجواب لأنه ... تقدم قول ليس فيه بظاهر فقلنا أردت (الصنبر)، إذ هي لفظة ... أتت بعد حين هاج في شعر ماهر ومن يتوهم فليقف مع نقله ... فيبدل بخفض الطرف رفع المظاهر (¬1) الشعر الذاتي يعتبر الشعر الذاتي من أصدق ألوان الشعر، لأن الشاعر فيه يستمد وحيه من عالمه الخاص، فلا مغريات ولا مناسبات ولا مطالب تلح عليه لقرض الشعر، وقد جرت العادة أن نعد من الشعر الذاتي شعر الوصف والغزل والتأمل والشكوى والحنين إلى الأوطان والكشف عن أحوال النفس عند الانقباض أو الانبساط، ولكن الشعر الذاتي ليس كله أو ليس بالضرورة صادقا دائما، فهناك من الشعراء من كان يتكلف الوصف أو الغزل فيأتي شعره باهتا باردا لا حياة فيه، ومنهم أيضا من لا تطاوعه اللغة والخيال فيقصر عن التأثر في نفوس الآخرين، وقد حفل الشعر في العهد العثماني بعدد من القصائد الذاتية التي قيلت في الأغراض التي ذكرنا، فجاء بعضها جيدا وبعضها وسطا، ومن أبرز الشعراء الذاتيين محمد بن محمد المعروف بابن علي الذي سنتحدث عنه بعد قليل وأحمد بن عمار وسعيد المنداسي وأحمد المقري، وكان بعضهم يعالج هذه الموضوعات بالقصيدة التقليدية وبعضهم بطريق الموشح، ومن أشهر من استعمل الموشح ونجح فيه ابن رأس العين ¬

_ (¬1) أخدنا نص هذا اللغز من (جليس الزائر) المنسوب إلى محمد قدورة، المكتبة الوطنية - الجزائر، مخطوط، بدون ترقيم.

الشعر والمرأة

أما ابن علي، فرغم براعته في الشعر، فقد غلبت عليه القصيدة. الشعر والمرأة: ولعل غياب المرأة في المجتمع الجزائري هو الذي جعل شعر الغزل قليلا نسبيا، فالشعراء كانوا لا يتحدثون عن المرأة بعينها حين يتغزلون وإنما يصفون المرأة من الوجهة المجردة، فكانت صورهم الشعرية إما مأخوذة من الماضي، وإما غير منطبقة على الواقع، وإما خيالية قل من يحس بها، وقد عزا بعض الكتاب الأوروبيين ما وجده من خشونة في الطبائع والألفاظ لدى الجزائريين إلى كون المرأة لا تتحرك وسط المجتمع، فقال ما معناه إن فراغ مجتمعهم من نشاط المرأة هو السبب في انعدام الذوق والمشاعر الرقيقة عندهم، لذلك فهم (وهو هنا يعني الشعراء) يتركون أنفسهم يسبحون في الخيال المجنح ولا يتكلمون إلا بلغة العبودية الخشنة بدل لغة الحرية الرقيقة، وهذا ما جعل الشعر عند الجزائريين في نظر هذا الكاتب يفتقر إلى الفكرة القوية والعاطفة الشريفة (¬1). ومهما كان في هذا القول من صدق أو من تجن فإن الذي لا شك فيه هو أن شعر الغزل عند الجزائريين يفتقر إلى حرارة الصدق وقوة العاطفة، كما يفتقر إلى الواقعية، إذا صح التعبير، ولعل غياب المرأة وتحركها داخل المجتمع هو الذي جعل بعض الشعراء يعمدون أيضا إلى الغزل بالمذكر، كما فعل ابن علي رغم مقامه عي العلم والمجتمع. يضاف إلى ذلك أن وسائل اللهو البريء التي تحرك المشاعر وتوحي للشعراء بالقول كانت قليلة أو غير معلنة, فالمسارح والنوادي تكاد تكون معدومة، والصحف غير موجودة أصلا، والشباب كان يقضي أوقاته في صمت وعزلة قاتلة، فالمجتمع كان مجتمع الكبار وليس فيه للشباب مكان وكانت دور الخنا متوقرة ولكن بشكل سري ورسمي، وما يقال عن شدة عقوبة الزنا إنما يصح بالنسبة للمتزوجين. أما الشباب فالحبل له كان متروكا ¬

_ (¬1) بانانتي، 252، ويوجد رأي شبيه بهذا عند توماس كامبل (رسائل من الجنوب) انظر الفصل الذي ترجمناه عنه في كتابنا (دراسات في الأدب الجزائري الحديث) ط 3، 1983.

على الغارب. حقا إن المجتمع كان يعالج ذلك بالزواج المبكر، فالعقود تتحدث عن الزواج بين الثامنة عشر للفتيان والرابعة عشر للفتيات. ولصغر السن أحيانا كانت العقود لا تسجل وتعلن إلا بعد مضي سنوات على الزواج (¬1). ومع ذلك فقد كان الفساد شائعا على المستوى الرسمي والشعبي كما أشرنا سابقا. وكان تعدد الزوجات شائعا أيضا، بالإضافة إلى ما ملكت اليد من الوصيفات البيضاوات من الأسرى المسيحيين، والزنجيات من إفريقية، ويبدو أنه ليس صحيحا كل الصحة ما يقال عن تعفف الناس، سيما في المدن، فالعلماء قد سجلوا لنا، وهم في حالة منافسة واتهام، إن بعضهم كان يشرب الخمر ويأخذ الرشوة. كما إن بعض الشعراء قد سجلوا عواطفهم في العشق والغزل. فلم يبق من وسائل اللهو والتسلية للشباب ونحوه إلا ميادين محدودة (¬2). فهناك المقاهي المعتمة التي تتصاعد منها سحب دخان النرجيلة والتباغة، وهناك التجمع حول مداح أو منشد يروي قصص ألف ليلة وليلة وأساطير عنتر وأبطال الإسلام، وكان هناك، بالإضافة إلى ذلك، شعراء شعبيون ينددون بالمظالم ويصفون فقر الناس وصبرهم ويعدون المحرومين بيوم الفرج القريب، ولم يكن يصحب هذا المنظر ضجيح ولا صراخ. فالعيون جاحظة والآذان تسمع والفكر شارد، وحين ينتهي المنشد أو الراوي تجمع له الأموال ثم يفترق الحفل الساهر في جنح الليل، ولولا المواسم الدينية وزيارات الدنوش الموسمية لاختنقت المدينة بالحزن والصمت والكبت. هذا إذن حظ الناس عموما. أما الشعراء والأدباء فقد كان أمامهم بعض المتنفس. فكثيرا ما كانوا ¬

_ (¬1) انظر نماذج من ذلك في رحلة ابن حمادوش. (¬2) يروي توماس شو Shaw أن الشبان كانوا يأخذون خليلاتهم إلى الحقول ويلهون معهن، كما كان الكبار من الحضر ورجال الدولة يخرجون إلى منازلهم الريفية حيث يقضون راحة الأسبوع، وبعضهم كان يعزف الموسيقى بنفسه ويتلهى بأنواع الصيد ونحوه، انظر أيضا الفصل الثاني من الجزء الأول من هذا الكتاب.

يجتمعون في دار أحدهم، كدار ابن ميمون التي تحدث عنها ابن حمادوش، ودار ابن عبد اللطيف التي وصفها ابن عمار، أو نادي الشرب الذي ذكره الفكون. وقد يخرجون إلى الطبيعة فيقضون ساعات في المنتزهات يتغنون بالورود وأنواع الزهور، يصفون مساقط المياه وأصوات الطيور، ويتبادلون النكت والشعر والأخبار، وهم في ذلك يشكلون أحزابا وشيعا لأن كل جماعة تتنافس مع الأخرى ليس في الشعر فقط ولكن في الوظيفة أيضا، وقد يكون موضوع حديث الأدباء والشعراء في هذه الملتقيات رحلاتهم إلى خارج القطر للحج أو للعلم وما شاهدوه أو سيشاهدونه من ذلك. وقد يرحبون بزائر لهم من بلاد المشرق أو المغرب فيعقدون له الجلسات ويتنادمون معه ويتشاعرون من إنتاجهم أو من حفظهم، وبهذه الطرق فقط كان الشعراء والأدباء يتنفسون ويلقون عن عاتقهم عبء الحياة الثقيل ولو بعض الوقت. ولدينا أمثلة كثيرة على هذه المنازع التي كان ينزع إليه الشعراء تخفيفا عن أنفسهم وترويحا لها من عناء الحياة. فقد أحب المفتي الشاعر ابن علي امرأة ولكنه لم يظفر بها فحزن لذلك وقال شعرا سنورده في ترجمته، وعندما علم صديقه ابن ميمون كتب إليه قصيدة في هذا المعنى جاء فيها: أمن فتك ذات القلب للقلب حاجب ... وأسهمها الألحاظ والقوس حاجب (¬1) وكان ابن علي، كما أخبر ابن عمار، قد خطب هذه المرأة فأبته فظل على حبها إلى أن مات. ويدل شعر ابن علي الذي أجاب به ابن ميمون على مرارة دفينة وألم حاد، وكثيرا ما كان يخرج إلى المنتزهات رفقة ابن عمار وغيره، ولهما في ذلك أشعار جيدة. وقد كان القاضي محمد القوجيلي من أبرز شعراء القرن الحادي عشر، عالج أغراص الشعر المختلفة، ومن بينها الغزل، وكان القوجيلي بالإضافة إلى ذلك من العلماء المنافسين للمفتي سعيد قدورة، حتى أنه كان لا يسلم عليه إذا التقى به في جماعة، رغم اعتراف الجمع تقريبا بمكانة قدورة ¬

_ (¬1) ابن عمار (نحلة اللبيب) 64، وأيضا (ديوان ابن علي) مخطوط.

الوصف

عندئذ، ومن غزل القوجيلي (¬1): والدمع باح بذا الهوى وأبانه ... الحب صعب والرقيب أعانه والحب يستدعي القلوب إلى الهوى ... فتجيبه منقادة ولهانة والصب يطمع في وصال حبيبه ... بعد التذلل لا يمل إهانة حتى ليقنعه المرور صبابة ... يستنشق الأطلال كالريحانة وهناك عدد من الشعراء كانوا يتغزلون ولا يبوحون، وهناك آخرون كانوا يفتتحون قصائدهم في المديح وغيره بأبيات غزلية قوية حتى كأنها هي المقصودة، كما فعل أحمد بن سحنون ومحمد بن الشاهد وغيرهما، ومع ذلك فقد سيطرت روح العصر، فكان الشعراء يتعففون وهم غير عفيفين وإنما يتكلفون ذلك تكلفا، وقد احتار ابن علي بين الغزل والمنصب (وظيفة الفتيا) وشعر أن منصبه لا يليق به الغزل فقال صراحة إنه لولا خطة الفتوى والخطابة لكان مثل مجنون ليلى في عشقه: لولا، وحقك، خطة قلدتها ... زهرت بها في الخافقين شموعي ومنابر فيها رقيت إلى العلى ... وقد استدار بها كثيف جموع لنحوت منحى العامري صبابة ... ولكان من حرق الجوى مشفوعي (¬2) وهذا بالطبع يكشف عن التناقض بين الإحساس الشخصي والمسؤولية، بين الفرد والمجتمع، وإذا كان ابن علي، وقليل غيره، قد تركوا لنا بعض أشعار الغزل، فإن الآخرين قد كبتوا عواطفهم أولا وأخفوا أشعارهم الغزلية ثانيا. وتظاهروا بالورع حتى يقبلهم المجتمع. الوصف: وكثيرا ما كان وصف الحبيبة طريقا إلى وصف الطبيعة والعكس، ومن شعراء وصف الطبيعة بلا منازع أحمد بن عمار، فقد وصف الرياض ¬

_ (¬1) (ديوان ابن علي) مخطوط، وقد توفي القوجيلي سنة 1080. (¬2) ابن عمار (النحلة)، 77. وسنعرض إلى غزل ابن الشاهد في الأجزاء الأخرى من الكتاب.

والمنتزهات وما فيها من جمال ظاهري يسحر العين ويثلج الصدر. كما وصف الزهور وغيرها، وفي قصيدة طويلة نسجها على منوال قصيدة ابن زمرك الأندلسي ونظمها، كما قال، ببعض المنتزهات، واعتبرها من أولياته، وطالعها (¬1): أدر الكؤرس مع الأصائل والبكر ... واشرب على نغم البلابل والوتر ولم يكن ابن عمار وحده في هذه النزهة بل كان معه جماعة لم يكشف عنهم، ولعلهم أصدقاؤه من الشعراء والأدباء الذين أشرنا إليهم: مع فتية متعاقدين على الوفا ... فكأنهم في منظر الدنيا غرر من كل مشتمل ببرد مروءة ... أو كل ملتحف بثوب من خفر الروض يهوى منهم أخلاقهم ... والبدر يعشق منهم حسن الصور ولنلاحظ هذا الإلحاح من ابن عمار على المروءة والخفر والأخلاق، ولا عجب في ذلك فابن عمار، مع علمه وشعره، كان متعففا. ونظم ابن عمار في الورد وشقائق النعمان وزهر الليمون، إما بالشعر التقليدي أو بالمواليا الذي قال عنه إنه (طراز شرقي) اخترعه أهل بغداد ثم برع فيه أهل مصر، فقال في زهر الليمون: لله أدواح جلسنا تحتها ... نثرت علينا من أزاهرها درر وبدا بها الليمون زهر كواكب ... والنار من نارنجها ترمي الشرر (¬2) أما في شقائق النعمان فقد قال البيتين التاليين على طريقة المواليا: هاروت لحظك وسحر لفظك الفتان ... والورد خدك وسيف اليزن بالأجفان قد كان يحمي الشقائق قبلك النعمان ... وأنت فينا حميت الورد يا سلطان (¬3) ولم يتفنن ابن عمار في وصف مظاهر الطبيعة فقط بل وصف غير ذلك ¬

_ (¬1) ابن عمار (النحلة) 92، وقد ذكر منها 24 بيتا ثم قال: (وهي طويلة اقتصرت منها على هذا القدر). (¬2) نفس المصدر، 252. (¬3) نفس المصدر، 247.

أيضا، ومن أشهر وصفه ما كتبه عن قصر ابن عبد اللطيف، وقد قال في ذلك أكثر من قصيدة، ومن ذلك ما قاله بطلب من صديقه وشيخه ابن علي (¬1)، وقد جاء في إحدى قصائد ابن عمار في هذا القصر: وليلة أنس لذ فيها جنى السمر ... فناهيك من أنس جنيناه بالسهر ويعتبر ابن عمار بدون شك من كبار الأدباء وأبرز الشعراء، وخصوصا في ميدان الوصف، فهو فيه كشيخه ابن علي في الغزل. ولكن الوصف لا يقتصر، على الطبيعة، فلدينا شعراء قد وصفوا المدن وأجادوا، وصوروا أحوالهم النفسية إزاءها كما فعل أحمد المقري في وصف تلمسان. ومن أجود قصائد وصف المدن قصيدة ابن أبي راشد في مدينة الجزائر وحدائقها خلال الربيع، ولعل هذا الوصف هو الأول من نوعه في هذه المدينة التي اشتهرت منذ القديم ببياض بنيانها وكثرة البساتين حولها والأبراج ووفرة الزهور على مختلف الأشكال، ورغم أن الشاعر انبهر بالمنظر الخارجي للمدينة والطبيعة المحيطة بها، فإننا نورد شعره لأهميته في الوصف ولأوليته في وصف المدينة وجمال مناظرها في فصل الحب والشباب والخصب: سقى المطر الهطال أرضا تشرفت ... بمصر غدت للفضل والفخر جامعه بمزغنة الفيحاء تظهر من مدى ... ترى كسقيط الثلج بيضاء ناصعه برج السما أبراجها قد تألقت ... تروقك من أفق الأجنة طالعه تراها على وجه البسيطة أنجما ... وأغصان أشجار ترنح نافعه وحيث الريع الغض ثم شبابه ... ترى أرضها تبدي الغضارة يانعه وحيث بدا كسرى الرياض متوجا ... بثلج نوار فهي صفراء فاقعة تريك احمرار في ابيضاض كأنها ... دماء على أرض من الثلج واقعه دواليبها تسقى الغصون فتنثني ... حمائمها تشدو على القضب ساجعه ¬

_ (¬1) القصيدتان - قصيدة ابن علي وقصيدة ابن عمار - في (ديوان ابن علي) مخطوط.

الحنين والشكوى

فتبصر أغصان الحدائق سجدا ... تميد من الصوت الحنين وراكعه سقى روضها عهد السحائب فانثنت ... أزاهره بالماء تضحك دامعه وما هي إلا جنة قد تارجت ... مباخرها بالطيب والمسك ساطعه (¬1) وقبل أن نختم الحديث عن الوصف نشير إلى قصيدة إبراهيم بن عبد الجبار الفجيجي التلمساني التي قالها في الصيد ومنافعه وشروطه وظروفه، وهي المشهورة بـ (روضة السلوان). وقد عرفنا أنه قد شرحها في القرن العاشر أبو القاسم بن محمد الفجيجي وفي القرن الثالث عشر أبو راس الناصر، وكان ناظم القصيدة مغرما بالصيد، وتدل متانتها ولغتها على تمكنه من نظم الشعر، وقد قال ابن عسكر عنها إنها كانت في أيدي الناس جميعا، وأنها قصيدة معجبة (¬2). الحنين والشكوى: وعاطفة الحنين إلى الوطن عاطفة قديمة في الإنسان ولكن الشعراء جعلوا منها أحيانا عاطفة وطنية في عصر ليس هو عصر القوميات، وقد كان الوطن عند بعض الشعراء القدماء هو مربع القبيلة ومرتع الصبا، ثم صار عند المتأخرين منهم هو البلد الذي فيه قوم الشاعر وتحده حدود سياسية ويرفرف عليه علم ذلك البلد ورمزه، ونحن حين نتحدث عن الحنين إلى الوطن عند الشعراء الجزائريين في العهد العثماني فإننا نتحدث عن هذه العاطفة التي تقف بين الحنين إلى موطن القبيلة وموطن العلم والقوم. فقد شعر الجزائريون خارج قطرهم بعاطفة تجذبهم إلى المدينة التي ربوا فيها والشيوخ الذين درسوا عليهم والطبيعة التي شكلت طباعهم وأذواقهم، ثم وسعوا هذا المفهوم الضيق فأصبح يشمل، في نوع من الغموض مع ذلك، القطر الجزائري بأسره. وكان الكتاب والشعراء ينسبون أنفسهم، خارج قطرهم، للجزائر، وبدأت تختفي تدريجيا عبارة التلمساني والقسنطيني والزواوي ¬

_ (¬1) عبد الرحمن الجامعي (شرح أرجوزة الحلفاوي) مخطوطة باريس، رقم 5113، ورقة 31 - 32. (¬2) ابن عسكر (دوحة الناشر) 227، وانظر فصل النثر من هذا الجزء.

والعنابي وغيرها من أسمائهم. ومن أوائل من نظم الشعر في هذا المعنى أحمد المقري الذي عرفنا في ترجمته سبب شوقه إلى وطنه ووصفه له بأوصاف التقدير والروعة. وشاع ذلك عند أحمد بن عمار وابن حمادوش وغيرهما. والأخير، رغم أنه لم يكن شاعرا فحلا فقد عبر عن هذه العاطفة حين كان في المغرب الأقصى في مناسبتين الأولى حين حل عيد الأضحى وهو بتطوان واجتمع الناس للأفراح وتبادل التهاني ولكنه ظل وحيدا غريبا سلعته كاسدة والطبيعة غاضبة، فقال عندئذ قصيدة طويلة تشوق فيها لأهله ووطنه ووصف حاله: لقد كنت قبل اليوم أصبر صابر ... وها أنا في هذا الزمان ذليل أما المناسبة الثانية فقد كانت بتطوان أيضا حين تحطمت السفينة التي كانت ستقله إلى الجزائر، وطال به السأم والانتظار، وكاد ينقطع رجاؤه في العودة إلى الوطن والأهل، وقد جاء في هذه القصيدة الرجزية قوله يخاطب أهله: لحمي قوتي ودماغي شربي ... وفكرتي فيكم ورغبي ربي (¬1) وهذا الشعور بالغربة في الخارج والحنين إلى الوطن والالتفات إليه قد شاع عند الجزائريين، لأنهم كما قلنا، قصدوا في البداية طلب العلم والهجرة لأسباب سياسية ودينية، فإذا بهم يشعرون أن الحبل يتقطع بهم وأن الديار تبعد والأحباب يختفون، بل إن بعضهم كان يحس أنه لم يجد ما كان يصبو إليه من التقدير والاحترام، وقد عبر أحمد المقري عن ذلك في الأبيات التي أوردناها له والتي يقول فيها: تركت رسوم عزي في بلادي ... وصرت بمصر منسى الرسوم وفي هذا المعنى قال محمد بن أحمد الكماد لما كان في تطوان وشعر بالغربة والنزول من المقام اللائق به: لهف نفسي على كسوف ... شمس العلوم وذلة الغرباء ¬

_ (¬1) ابن حمادوش (الرحلة)، مخطوط.

لهف نفسي على زمان عبوس ... قمطرير ذي قسمة ضيزاء (¬1) وحين أحس محمد بن مالك بغربة في تونس وبإهانة بعض الذين لم يعرفوا قدره عبر عن ذلك وافتخر بنفسه، ولكن أنى له ذلك وهو لاجئ وغريب، والقصيدة جيدة رغم الأخطاء النسخية التي فيها: إن يذهب المال من در ومن ذهب ... لم يذهب الفخر من علم ومن أدب أما شعوره بالغربة فقد عبر عنه بقوله: لم يحترم أسد في غير غابته ... لولا التعصب لا أخشى من الغلب (¬2) والشكوى من الزمان وأهله شائعة في الشعر الجزائري، ولا نكاد نجد قصيدة لشاعر دون أن يضمنها شيئا من هذا المعنى، مهما كان الغرض الذي يتناوله. ومصادر الشكوى تختلف ولكنها جميعا تلتقي في التأثير على الشاعر وتأزمه. فقد تجعله ييأس وينزوي أو يلجأ إلى المدح وطلب المعونة والنوال، وقد تجعله غاضبا مفاخرا بنفسه رغم سوء حاله. وعلى كل حال فإن الشاكي أحيانا يلجأ إلى الله ويحذر من الركون إلى الناس فيتخذ شعره طابع الموعظة والاعتبار. ومن أبرز القصائد في هذا المعنى الأخير قصيدة سعيد المنداسي في تقلبات الزمان، وهي قصيدة طويلة عميقة ومتينة، تقع في أكثر من أربعين بيتا، وقد نالت حظا وافرا من عناية الأدباء كأختها (العقيقة)، ومطلعها: سروج العلى للحرب تشتد بالحزم ... وسيف الوغى يبلى شباه لدى السلم فلا يتأنى المرء في بسطة الرضى ... فإن الزمان الصعب يرصد بالحلم وفي الحديث عن مكر الناس وخداعهم وعن العصر وأهله يقول المنداسي بالخصوص: فهذا زمان المكر من لك بالرضى ... وفي كل قلب ما كناه من السم ¬

_ (¬1) الأبيات في الأفراني (صفوة من انتشر)، 218. (¬2) تقع القصيدة في 15 بيتا، وهي في (كناش) رقم 9240، ورقة 57، بالمكتبة الوطنية - تونس.

ابن علي

كأن قوافي الشعر مني جنادل ... وكف الزمان منجنيق بها يرمى (¬1) وهي من أحكم الشعر وأقواه في وقتها، ولعل هذه النغمة توضح لماذا غادر المنداسي الجزائر ساخطأ واستقر بالمغرب، رغم أننا لا ندري هل قال هذه القصيدة قبل أو بعد هجرته، وبالإضافة إلى ذلك فإن (ديوان ابن علي) يحتوي على بعض الشعر في الشكوى والاستغاثة. ومن ذلك قطع لجده ووالده في الشكوى، وشعر آخر لمحمد سعيد الشباح التلمساني في الاستغاثة، ونحو ذلك (¬2). ومن الشعراء الذين اشتكوا أيضا من الزمان وأهله بمرارة، المفتي الحنفي ابن علي، وهو يستحق منا وقفة مطولة هنا لأنه كان من أقوى شعراءوقته. ابن علي مصادر ابن علي قليلة جدا. فالذي يريد أن يدرس حياته لا يكاد يجد ما يساعده في هذا الباب سوى مصدرين الأول ما كتبه عنه معاصره وزميله وتلميذه أحمد بن عمار في (نحلة اللبيب بأخبار الرحلة إلى الحبيب). ونحن نعرف أن ما كتبه عنه هنا هو ملخص ما كتبه عنه مطولا في كتابه (لواء النصر في فضلاء العصر) الذي يعتبر الآن مفقودا. وقد نوه ابن عمار بابن علي كثيرا ¬

_ (¬1) المكتبة الملكية - الرباط. رقم 7382، مجموع. ومنها أيضا نسخة في تطوان رقم 256 مجموع، وقد ذكر أبو حامد المشرقي قصيدة في التشكي أيضا كتبها السنوسي بن عبد القادر بن دحو. انظر كذلك ك 471، الخزانة العامة الرباط، 451 - 452. (¬2) كان جد ووالد ابن علي من الشعراء أيضا، أما محمد صعيد الشباح التنسي الأصل التلمساني المنشأ فلا ندري عنه الآن سوى أنه كان من الأدباء والشعراء، وأنه كان حيا سنة 1051 حيث وجدنا خطه على نسخة من كتاب (سحر البلاغة وسر البراعة) لأبي منصور الثعالبي، وكانت بينه وبين ابن راس العين مراسلات انظر (مختارات مجهولة).

واعتبره إماما في الشعر وافتخر بأنه بدأ به تراجم من ترجم لهم في (لواء النصر). والثاني (ديوان ابن علي)، وهو عبارة عن مجموعة من الأشعار المختلفة والنقول المنسوبة له والمتعلقة بأسرته وحياته الخاصة، بالإضافة إلى بعض الأشعار المنسوبة إلى شعراء جزائريين متقدمين عنه أو معامرين له، ولذلك يسمى هذا المصدر أحيانا (أشعار جزائرية) وأحيانا (أشعار مختلفة). وهناك أيضا مصادر أخرى تتحدث عن ابن علي، بأهمية أقل. من ذلك تقييد أو تاريخ ابن المفتي الذي تحدث فيه عن علماء عصره وعن الباشوات، وقد ختم ابن المفتي تاريخه حوالي سنة 1157 وقال في قائمة أسماء المفتين الحنفيين التي أوردها أن ابن علي هو المتولي الآن وأن له في الفتوى أكثر من ست سنوات (¬1)، وفي رحلة ابن حمادوش حديث قصير عن ابن علي أيضا، وقد سبقت الإشارة إليه (¬2). ومن مصادره أيضا رحلة عبد الرحمن الجامعي المغربي المسماة (نظم الدرر المديحية) التي تعتبر في حكم المفقودة، وقد نوه الجامعي، الذي تبادل الشعر مع ابن علي وأعجب به وبفضل ابن علي على الشعر واعتبره مجدد طريقة ابن الخطيب (¬3). كما أن الجامعي قد تبادل الشعر مع ابن علي ونوه به في شرحه على رجز الحلفاوي. وفي ضوء هذه المصادر نستطيع أن نترجم لابن علي. فهو محمد بن محمد المهدي بن رمضان بن يوسف العلج، وهو مشهور بابن علي، ويبدو أن أجداده قد نزحوا إلى الجزائر مع العثمانيين الأوائل، فنحن نجد في الوثائق أن جده محمد المهدي قد تولى الإفتاء الحنفي سنة 1045 وأنه كان معاصرا لمفتي المالكية سعيد قدورة، كما نجده يتعاطى الشعر أيضا. ففي (ديوان ابن علي) مختارات شعرية لجده المذكور، قالها في مناسبات عديدة. ¬

_ (¬1) نور الدين (صفحات)، 277. انظر أيضا ديفوكس (المؤسسات الدينية)، 147. (¬2) رحلة ابن حمادوش، مخطوط. (¬3) الحاج صادق (المولد عند ابن عمار)، 290، من رسالة بعثها له الكتاني. انظر أيضا محمد المنوني (دعوة الحق)، مارس 1974، فقد تحدث عن ديوان ابن علي وعلاقته برحلة الجامعي.

من ذلك أنه بعث إلى علماء القسطنطينية يشكو لهم شيئا ألم به، وأنه قال قصيدة يمدح فيها السادة العلوية، وأنه مدح الشيخ علي بن عبد الواحد الأنصاري (توفي سنة 1057) بقصيدة، وتدل القصائد التي اطلعنا عليها لمحمد المهدي، جد ابن علي، أن له باعا قويا في الشعر، رغم الصفة الملحقة باسمه، وهي (العلج) التي توحي بأنه كان من أصل غير عربي، وكان جد ابن علي صديقا للقاضي محمد القوجيلي، وهو أيضا شاعر ماهر كما عرفنا، فقد روى ابن علي في ديوانه أن جده حكى له أنه كان ذات يوم مع الشيخ القوجيلي فمر بهما سعيد قدورة فانحرف عنه القوجيلي وسلم على جده (¬1)، كما أن والد ابن علي كان ينظم الشعر أيضا. ويهمنا مما ذكرنا أعلاه عدة أمور تهم ابن علي نفسه. إن أسرة ابن علي كانت على صلة بالفتوى والوظائف الرسمية منذ عهد مبكر للحكم العثماني، وقد كان ابن علي يشير إلى ذلك في شعره. وأن الشعر عريق في أسرته أيضا. ذلك أن شعر جده ووالده شعر مقبول، ومن جهة أخرى نجد أن ابن علي قد تولى الفتوى وطال عهده فيها، وهي ظاهرة قليلا ما تتكرر في العهد العثماني للتقلبات التي حدثت فيه، ولولا بعض الإشارات السريعة في ديوانه لما عرفنا شيئا عن والده. تولى ابن علي وظيفة الفتوى سنة 1150 خلفا لحسين بن محتمد العنابي الذي توفي في هذه السنة، وقد استمر في الوظيفة إلى حوالي سنة 1169 بدليلين: الأول أن ابن عمار قد تحدث عنه بعد سنة 1166 (وهي السنة التي حج فيها ابن عمار) وسماه (شيخنا وأستاذنا شيخ الإسلام)، وكانت عبارة ¬

_ (¬1) (ديوان ابن علي). انظر أيضا ديفوكس (المؤسسات الدينية)، 143، أما الجامعي فقد ذكر نسب ابن علي هكذا: (أديب مصره، وفريد عصره، الأديب النابغ، فرقد البلاغة البازغ، أبو عبد الله سيدي محمد ابن العالم الناسك أبي عبد الله سيدي محمد المعروف بن علي، ابن ذي المقام العلي، علامة أوانه وشيخ الإسلام في زمانه أبي عبد الله سيدي المهدي الجزائري، برد الله ضريحه)، الجامعي (شرح رجز الحلفاوي) مخطوط باريس، رقم 5113.

(شيخ الإسلام) هي لقب المفتي الحنفي في الجزائر كما كانت في إسطانبول، والدليل الثاني أن المفتي الجديد، حسين بن مصطفي، قد تولى في هذه السنة (1169) دون أن نجد في قائمة المفتين من توسط بينه وبين ابن علي (¬1)، فهل عزل ابن علي عندئذ أو توفي؟ ذلك ما لا نعلمه الآن، فإذا نظرنا إلى تاريخ ولاية جده الفتوى (سنة 1045) وسنة 1169 أمكننا أن نقدر أن تاريخ ميلاد ابن علي كان حوالي 1090، غير أننا لا نجد في الوثائق ما يساعدنا على تحديد سنة الميلاد أو الوفاة، وهناك حادثتان تساعدان على تحديد أوليات ابن علي، فهو من الذين مدحوا محمد بكداش باشا وهنأوه بفتح وهران الذي وقع سنة 1119، ولو لم يكن ابن علي متقدما في السن وفي صناعة الشعر لما قال قصيدته الرائعة في هذه المناسبة التي لعلها أفضل القصائد التي قيلت في الفتح وظروفه: وإني وإن أحجمت أول مرة ... على خوض هذا البحر والغير عائم فما هي إلا هيبة الملك قلما ... على مثلها في الناس يقدم قادم وعهدي قوافي الشعر عني أذودها ... زمانا وفكري موجه متلاطم ولولاك ما كان التفات لفكرة ... ولا سام نظم الشعر كالدر سائم (¬2) أما الحادثة الثانية فهي خصومة ابن علي مع محمد بن نيكرو مفتي المالكية سنة 1150، وهي الخصومة التي أدت إلى وفاة ابن نيكرو سنة 1152 (¬3). استمد ابن علي حينئذ من أسرته تقاليد الشعر وتقاليد الفتوى، وكان المفتي الحنفي صاحب مكانة هامة في الدولة مما جعله أحيانا هدفا لسهام السياسة، كما رأينا، فالمنصب لم يكن مجرد وظيفة دينية بل كان وظيفة سياسية كبيرة، وكان المفتي الحنفي يدخل على الباشا ويحضر جلسات ¬

_ (¬1) ديفوكس (المؤسسات الدينية)، 148. (¬2) انظر هذه القصيدة في شرح الجامعي على رجز الحلفاوي، وتبلغ 77 بيتا. (¬3) ذكر تفاصيل هذه الخصومة ابن المفتي، وقد اشترك فيها أيضا محمد بن ميمون ومحمد بن سيدي هدى وقال ابن المفتي ان ابن علي كان يقدح بلسانه في ابن نيكرو.

الديوان وله الكلمة العليا في المجلس الشرعي الأعلى، ولكن أهم من ذلك في نظرنا أن المفتي كان أيضا خطيب الجامع الجديد (الحنفي) ومدرسه الكبير، وكان ابن علي يشعر بثقل هذه المسؤولية عليه حين نازعته نفسه على قول العزل واتباع خيال الشعر، فقال يخاطب الحبيب: لولا، وحقك، خطة قلدتها ... زهرت بها في الخافقين شموعي ومنابر فيها رقيت إلى العلى ... وقد استدار بها كثيف جموع لنحوت منحى العامري صبابة ... ولكان من حرق الجوى مشفوعي (¬1) فابن علي يعرف أن سمعته كانت قائمة على الفتوى والمنبر حيث يقف خطيبا كل جمعة تحوطه الجماهير وهو يعظ ويرشد أو حلقة الدرس حيث يلتف حوله الطلبة والعلماء، ولولا هذه القيود الثلاثة لغدا في الشعر والحب كمجنون ليلى، ولكن ابن علي يعرف أيضا أن شموعه قد توقدت وسمعته قد ارتفعت بسبب هذه الوظائف وليس بقول الشعر. تعتبر ثقافة ابن علي وابن عمار الأدبية ثقافة تثير الدهشة في وقت كان فيه الأدب، والشعر خصوصا، بضاعة غير رائجة. فقد جمعا بين أدب المغرب والأندلس وأدب المشرق، طريفه وتليده، وكان بطلهما هو لسان الدين بن الخطيب، كما كان هو بطل أحمد المقري أيضا، ولكن تأثير ابن سهل والفتح بن خاقان وابن زمرك والبحتري وأبي تمام والمتنبي عليهما لم يكن قليلا أيضا، ورغم طول القطعة التالية فإننا نوردها لما فيها من حكم على ثقافة ابن علي، فقد مدحه فيها ابن عمار وقارنه في أغراضه الشعرية بعدد من الشعراء الذين عرف كل واحد منهم بالإجابة فيما قال، ولكن ابن علي، بناء على ابن عمار، قد فاق هؤلاء الشعراء: وإذا تكلم فوق منبر وعظه ... جلى لنا البصري في أزمانه فإذا يشبب فهو عروة رقة ... يهدي رقيق النسج من غيلانه وإذا يصوغ المدح فهو زهيره ... مهما انبرى للقول في ابن سنانه ¬

_ (¬1) ابن عمار (النحلة)، 77.

وإذا اغتدى يصف المباني والذرى ... خر ابن حمديس على أذقانه أو جال في وصف الرياض أو الربى ... أعرى أبا إسحاق من إحسانه أخملت ذكر ابن الحسين وفقت من ... في عصره يعزى إلى حمدانه ولقد تركت البحتري مقيدا ... بسلاسل قد صاغ من عقيانه كما قارنه ابن عمار في قول الحكمة بسقراط وهرمس (¬1)، ونلمس من هذه الأبيات أغراض شعر ابن علي كما كانت معروفة عند عالم معاصر له وصديق وتلميذ، وهو ابن عمار، وهي: التشبيب، والوصف، والمدح. ورغم ما في حديث ابن عمار عن شيخه من عبارات الولاء والمدح فإننا نصل منها إلى صورة عامة عن شخص ابن علي، فهو موصوف بالحفظ الغزير، ورواية الحديث النبوي، والمهارة في التفسير وتأويل الآيات، بالإضافة إلى جودة الشعر والنثر، والفصاحة في الخطابة، وكان ابن علي، مع ذلك، يقوم الليل ويتهجد ويقرأ القرآن ويجمع المهابة إلى الدعابة، والبسط إلى الورع، والأدب إلى النسك، وهذه ميزات جليلة قلما تجتمع في واحد، وكان ابن علي، بحكم شاعريته، يجتمع بالأدباء ويرتاح إليهم، وقد عرفنا أنه كان يزور بيت ابن ميمون، وهو أديب وشاعر مثله. وكانت له مجالس أنس وعلم ومطارحات مع أحمد بن عمار، يخرجان فيها للتنزه في الرياض ويتزاوران في الديار، وكلاهما عبر في شعره عن هذه الصداقة الأدبية الجميلة، وكان إعجاب كل منهما بشعر الآخر يدفع بهما إلى المزيد والإجادة، وكان ذلك وسيلتهما الوحيدة في شحذ القرائح وتحريك القوافي، لأن الشعر، كما قلنا، كان بدون مشجعات سياسية ولا اجتماعية. أعجب ابن علي باللغة العربية إعجابا كبيرا فأجابها شعرا ونثرا، وقد شكا من كون البعض لا يعرف مكانتها ولا مكانة الشعر فيها على الخصوص، ونحن نعرف رأيه في ذلك من حادثة رواها هو في ديوانه، فقد أتى فيه بأبيات نظمها المفتي الحنفي العثماني، أسعد أفندي، في المقام النبوي، ثم علق ابن ¬

_ (¬1) ابن عمار (النحلة)، 47.

علي على ذلك بقوله: (وها أنا أذكرها هنا تبركا، وليعلم الواقب عليها أن الممدوح (يقصد أسعد أفندي) كان ممن يحاول الصناعة الشعرية ويتحيز إلى الفئة الأدبية، فانظر هذه الهمة حيث تكلف هذا العجمي معرفة اللسان العربي، مقدما على ما أحجم عنه أكابر العلماء وهو نظم الشعر الذي هو أجمل ما التحفته الهمة، وعرفته هذه الأمة، فإنه مطلق اللسان من عقال، ومنطق الإنسان بصواب المقال) (¬1). وكأن ابن علي يدعو الناس إلى العناية باللغة العربية ويدعو المثقفين خصوصا إلى الاهتمام بالشعر متخذا من هذه القصة حجة له، ونعرف من مصدر آخر أن ابن علي هو الذي أمر، وهو المفتي المطاع، بترجمة (غزوات عروج وخير الدين) من التركية إلى العربية (¬2) لأنه لم يكن يحذق اللسان التركي. نظم ابن علي كثيرا من الشعر في الأغراض التي ذكرناها وغيرها، وقد قال ابن عمار عنه ان (أيدي الناس ممتلئة من شعره)، وأخبر أن ابن علي قد ناوله ديوانه مخطوطا فنقل منه بعض قصائد الغزل في (نحلة اللبيب) واقتصر على ذلك، لأن (الديوان غزير المادة) في الأغراض الأخرى (¬3)، ويفهم من كلام ابن عمار أن ديوان ابن علي كله من شعره، ولكن يبدو أن الموضوع في حاجة إلى توضيح، فالديوان، على ما يبدو، جمع بين شعر ابن علي وشعر غيره، وكان ابن علي قد اختار من شعر غيره، سيما شعر القرن السابق له (الحادي عشر) في ديوانه. فذكر قصائد لجده ووالده ومحمد القوجيلي وأحمد المانجلاني، وابن رأس العين ومحمد بن ميمون وغيرهم، وأضاف إلى ذلك بعض شعره الخاص، وقد أوضح ابن علي في مقدمة ديوانه سبب جمعه لهذه الأشعار فقال: (دعاني لجمع هذا الديوان، ¬

_ (¬1) (ديوان ابن علي)، مخطوط. (¬2) نور الدين عبد القادر (صفحات) 200، كذلك (غزوات عروج وخير الدين) له، ط. الجزائر 1934، 128. انظر أيضا المكتبة الوطنية - باريس رقم 1878 وكذلك الملحق رقم 852 مكرر. (¬3) ابن عمار (النحلة)، 81.

ما منيت به من أبناء الزمان، من شماتة ان ألمت مصيبة، وسهام من نكايتهم مصيبة، فجنحت إلى صرف تلك البلابل، بما يفوق عن احتساء البلابل .. وهو ما صيغ من ألسن بعض أهل العصر، وربما أضفت إلى ذلك ما سمحت به القريحة الجامدة، فجاء نزهة من نزه الأفكار، ومجتلى خرائد وأبكار) (¬1). فواضح من هذا أنه جمع في ديوانه شعره ومختارات من شعر غيره. ولكن هذا الديوان اليوم معقود بالطريقة التي وضعه عليها صاحبه، ذلك أن الموجود الآن منه عبارة عن نماذج بعضها بصيغة المتكلم، مما يدل على أنه ابن علي، وبعضها بصيغة الغائب مما يدل على أن أحدهم هو الذي يورد النماذج ويتصرف في اختيارها، وكأن الموجود من الديوان اليوم هو مختار المختار. وهناك مشكلة أخرى تثار حول هذا المختار، وهي من اختاره؟ هل اختاره أحمد بن عمار، وبذلك يكون الديوان جزءا من كتابه (لواء النصر) المفقود أيضا؟ ويؤكد هذا أن ابن علي قد ناول ابن عمار ديوانه كما أسلفنا فأخذ منه الغراميات في (النحلة) وسكت عن الباقي، مضيفا أنه ترجم لابن علي مطولا في (لواء النصر)، أو هل اختاره عبد الرحمن الجامعي الذي عرف ابن علي أيضا وصادقه وتبادل معه الشعر والمدح؟ وبذلك يكون الموجود من الديوان جزءا من رحلة الجامعي المفقودة والمسماة (الدرر المديحية) (¬2) ونحن نرجح أن يكون جزءا من (لواء النصر) لابن عمار، لأن هذا هو الذي عاصر طويلا ابن علي ولازمه إلى أن تقدم العمر بكليهما، ولأن في الديوان تعاليق وأخبارا لابن عمار أيضا، أما الجامعي فلم يطل الإقامة في الجزائر فهو قد خرج قبل سنة 1136، والمعروف أنه قد توفي سنة 1141، بينما عاش ابن علي بعده حوالي ثلاثين سنة. ومهما كان الأمر، فإن الديوان يضم عددا من قصائد ابن علي في الغزل وغيره، كما يضم عددا من القصائد التي اختارها لغيره، ولكي يخرج المرء ¬

_ (¬1) (ديوان ابن علي)، المقدمة. (¬2) ناقش هذه النقطة أيضا محمد المنوني في (دعوة الحق)، مارس 1974، وهو يميل إلى كون الديوان جزءا من رحلة الجامعي المفقودة.

بصورة واضحة عن محتوى هذا الديوان عليه أيضا أن يعود إلى (نحلة اللبيب) لابن عمار ليقارن بين ما أورده له فيها وما هو موجود في الديوان أو الباقي منه، وما زلنا لم نفعل ذلك حتى الآن (¬1)، وفي المصدرين عدد من قصائد وأبيات الغزل التي قالها ابن علي في مناسبات مختلفة. ومن ذلك قوله: ومهفهف حلو الشمائل قادني ... نحو الصبابة قده المياس ومنه أيضا من قصيدة أخرى طويلة: أقصى، فدمعي من جفوني مهرق ... وقسا فرق لي العدو الأزرق وعندما كتب له ابن ميمون قصيدته المشار إليها في المرأة التي أحبها ابن علي ولم ينلها، قال ابن علي مجيبا: أسهم رماني من لحاظك صائب ... فجاءت إلى قلبي تحث المصائب كما أجابه بقصيدة أخرى في الغرض نفسه: يمينا لقد عزت علي المطالب ... ولي أبدا من سحر عينيك طالب وفي مناسبة أخرى تغزل ابن علي على هذا النحو: شقائي بعينيه ألذ مدامة ... فيا طيبها لو لم تؤد إلى الحتف فيا راحتي ما أنت في طي راحتي ... ويا مهجتي عما تدرينه كفي وغزل ابن علي كثير ومتنوع كما قلنا، وكان يصف في المرأة الأشياء الظاهرة، وشاعريته قوية في هذا الباب، وتدل على تمكنه من الشعر، وقد صدق ابن عمار حين قال فيه: (هذا الإمام هو خاتمة الشعراء العظام بهذا الصقع، ليس لغليل الأدب بعده نقع) (¬2)، وهو جيد في وصف حالة العاشق، خصوصا عند اليأس والشكوى من الرقيب وهجر الحبيب، ولم يكتف بصب غزله في القصيدة التقليدية فقط بل صبه أيضا في موشحات رقيقة، وسبق أن ¬

_ (¬1) قمنا بذلك، ونشرنا عملنا في (مختارات مجهولة من الشعر العربي)، ط. 2، 1992. (¬2) ابن عمار (النحلة)، 39.

قلنا إنه تغزل في المذكر أيضا، ومن وصف أحواله النفسية قوله: ولي كبد تناهى الوجد فيها ... وكانت قبل ذلك لا ترام زهى ورد الجمال لها فحلت ... بساحته وطاب لها المقام ومن قصائده الغزلية الجميلة قوله: قسما بصبح جبينك الوهاج ... ما أنت إلا راحتي وعلاجي وفي أحواله الاجتماعية والدينية وصراعه مع نفسه يقول: يلومونني في العشق والكأس والغنا ... وقالوا سفيه الرأي غير مصيب وهل لذة الدنيا سوى صوت مطرب ... ونشوة خمر أو عناق حبيب ولكنه في النهاية تاب كما تاب معظم الشعراء ودعا الله أن يغفر له هذا الانجراف نحو اللذات: إلهي أطعت النفس والغي والصبا ... وقد حجبتني عن رضاك ذنوب فإن كان ذنبي أزعج القلب خوفه ... قحسن رجائي فيك كيف يخيب (¬1) وبالإضافة إلى الغزل الذي برع فيه ابن علي، فقد أجاد أيضا في الوصف والمدح والشكوى والرثاء والإخوانيات، ومن أجود قصائده في الرثاء ما قاله في زوجته حين توفيت عنه: رأيت بها عصر الشباب معاصري ... وخيلت أني كنت من ساكني عدن فما راعني إلا النوى صاح صيحة ... فزعزع من عرشي وضعضع من ركني وقال لمن كانت حياتي وراحتي ... وريحانتي: قومي إلى منزل الدفن فحالت يد الأقدار بيني وبينها ... فأصبحت مسلوب الحجا ذاهل الذهن (¬2) وقد افتخر ابن علي ينفسه وعرف أن المثل القائل بأن (مطربة الحي لا تطرب) يصدق عليه، فقد كثر حساده وناقدوه الذين طعنوا في فضله ودعوه (سفيه الرأي) كما قال في شعره، ولكنه مع ذلك انتصب لهم ودافع عن نفسه ¬

_ (¬1) هذه الأبيات وغيرها موجودة في (نحلة اللبيب). (¬2) (ديوان ابن علي) و (نحلة اللبيب) لابن عمار، 67.

بأنه كالنجم لن ينالوه بسوء، وهاجمهم بأنهم أجلاف لا يفقهون وأنهم مغترون موتورون: وإذا نسوا فضلي فكم من فاضل ... قبلي سقوه السم في كيسانه نصبوا حبائل مكرهم وتعرضوا ... بسهامهم للنجم في كيوانه من كل أرعن أهوج الأخلاق قد ... أربى على فرعون مع هامانه أو لم ير المغتر أن العز لا ... يبقى ملابسه على فتيانه أجلاف هذا العصر حقا لو رأوا ... حسان ما جنحوا إلى إحسانه إن أنكروا فضلي لخبث طباعهم ... فالدر ليس يعز في أوطانه (¬1) لا ندري إن كان ابن علي قد خرج من الجزائر لأغراض دينية كالحج أو علمية أو سياسية إذ أن المصادر صامتة عن ذلك، فإذا ثبت أنه برع في الشعر على هذا النحو دون أن يدرس اللغة والأدب في غير الجزائر فذلك يزيد من إعجابنا به، وقد كانت له صلات بعلماء المغرب نذكر منهم الجامعي والورززي، وكان لابن علي شعر في كليهما، أما الأول فقد تبادل معه الشعر والنثر وكتب عنه في شرحه لرجز الحلفاوي وفي رحلته المفقودة، وأما الثاني فنعرف ما قاله فيه ابن علي حيث طلب منه الإجازة، ولكننا لا نعرف ما قال الورززي في ان علي. وفي الديوان إشارة إلى أن ابن علي قد أجاب عن قطعة مدحه بها أحد علماء فاس بقوله: يمينا لقد أظهرت سحر بيان ... بلفظ بديع رائع ومعان ويبدو مما قرأناه أن ابن علي يتفوق في شعره الذاتي على شعره الاجتماعي كالمدح. فشعره الغزلي والوصفي وفي أحوال النفس أقوى بكثير من الشعر الذي قاله مثلا في الورززي والجامعي. غير أن قصيدته الميمية في فتح وهران تظل بلا نظير، وقد أعجب الجامعي بابن علي، وسماه (أديب العلماء، وعالم الأدباء، محيي طريقة لسان الدين ابن الخطيب، الإمام الخطيب ابن الإمام الخطيب). وفي الجامعي قال ابن علي قصيدة على منوال ¬

_ (¬1) ابن عمار (النحلة)، 43.

الشعر الشعبي

قصيدة ابن زمرك، ولكن الجامعي انتقد ابن علي في بعض التعابير التي وردت فيها، فانبرى له ابن عمار يوضح خطأه وينتصر لأستاذه ويصوبه (¬1)، وكما أشاد ابن عمار بشيخه ابن علي أشاد هذا بابن عمار كثيرا. فهو القائل فيه: ما كل من صاغ القريض يجيده ... معنى ويصرفه على أوزانه إلا ابن عمار فحسبك من فتى ... زان النشيد وعد في أعيانه وكان ابن علي يرتاح لابن عمار ويجالسه كما أشرنا، وكان ابن عمار وفيا له ويعرف قيمته، وكان يزوره إذا مرض ويمازحه وينشده الشعر ويسليه، من ذلك زيارته لابن علي عندما مرض بالكبد وعجز عن تذوق الطعام. وبالجملة فأصدقاء ابن علي قليلون إذا حكمنا من المصادر، ولكن يبدو أن الذين عرفوه على حقيقته قد اعترفوا له بالفضل والتقدم في الأدب، والشعر على الخصوص، ومن هؤلاء محمد بن ميمون وأحمد بن عمار من الجزائريين والجامعي والورززي من المغاربة، ورغم أن ابن المفتي كان كثير النقد لعلماء عصره فإنه عندما ذكر ابن علي، وهو معاصر له، لم يقل عنه ما يشينة، ولكن يفهم من تعبيره أنه كان ينتصر لابن نيكرو ضد ابن علي. أما ابن حمادوش فقد عرفنا أنه كان ضده، حتى قال عنه (المفتي الحنفي في الوقت، ابن علي المستحق المقت). والواقع أن حياة وشعر ابن علي ما تزال في حاجة إلى دراسة عميقة بعد الاطلاع على مصادر إضافية، فحياته تكاد تكون مجهولة رغم غناها وتعدد جوانبها العائلية والاجتماعية والدينية والسياسية، وشعره ما يزال ضائعا ومتفرقا رغم أهميته الأدبية، وحسبنا هنا أننا سلطنا عليه بعض الأضواء بما يتسع له هذا الكتاب. الشعر الشعبي الهدف من الحديث قليلا عن الشعر الشعبي أو الملحون هنا هو تحديد علاقته بالثقافة وتحديد علاقة الثقافة به، وليس الغرض دراسة هذا الشعر في ¬

_ (¬1) نفس المصدر، 84 - 85.

حد ذاته، لأن ذلك يهم غيرنا أكثر، ذلك أن الثقافة التي نتناولها في هذا الكتاب تعني نتائج الفكر والذوق والشعور بعد الصقل بالدراسة والتعب، وطلب العلم بجميع أنواعه وتحصيل الملكة عن طريق الممارسة والنصب، ولا يحتاج الشعر الشعبي إلى كل ذلك أو شيء منه، بل أن ضعف الثقافة بالمفهوم الأول هو الذي ساعد الشعر الشعبي على الانتشار والذيوع، وبذلك يكون رواج الشعر الشعبي دلالة على ضعف الثقافة الأدبية في البلاد، فهو، من الناحية الجدلية المحضة، ضد الثقافة ودليل على انحطاطها. وهذه الظاهرة، ظاهرة شيوع الشعر الشعبي بدل الشعر الفصيح وضعف الثقافة الأدبية، قديمة ولا تخص العهد العثماني وحده. فقد لاحظ ابن خلدون ذلك وعزا عدم عناية المغاربة بأنسابهم إلى شيوع الشعر الشعبي الذي لا يحفظ كما يحفظ الشعر الفصيح، ولكن الضعف استمر وازداد، وقد تفاقم أيام العثمانيين. فإبعاد اللغة العربية عن الإدارة وجهل الحكام، بما في ذلك الجزائريون التابعون للعثمانيين، بها، وعدم وجود جامعة أو مركز إسلامي عتيق في البلاد، وكون خريجي التعليم القرآني لا يجدون وظائف إلا في مجالات محدودة، كل هذه عوامل ساعدت على إضعاف الثقافة الأدبية وتشجيع الشعر الشعبي والأدب الشعبي بدلا منها. وعندما ألف مؤلفون أدباء ومؤرخون أمثال الجامعي وأبي راس وابن سحنون وجدوا أنفسهم أمام سيل من الأدب الشعبي لا يمكن التخلص منه، كما وجدوا الأدب في حالة ضعف وتقهقر، ولم يسع الجامعي إلا أن يورد، بعد أن اعتذر وذكر الأسباب، نماذج من الشعر الشعبي في شرحه لرجز الحلفاوي، بعضه منسوب وبعضه غير منسوب. كما لم يسع ابن سحنون، وهو الأديب الناقد الشاعر، إلا أن يذكر أن ممدوحه قد مدح بالكثير من الشعر الشعبي، مبينا أن (ذلك أمر خارج عن مقصد الأديب، لا يخصب روض البلاغة الجديب) كما عزا أكثر الشعر الملحون إلى غلبة العجمة على الألسن وذهاب سر الحكمة منها (فصار الناس إنما يتغنون بالملحون، وبه

يهجون ويمدحون (¬1)، وقد وقف أبو راس موقفا شبيها بذلك، إلا أنه كان أقل حماسة للشعر الفني من زميله، لأنه هو نفسه كان ضعيف الشعر، فأبو راس هو القائل، نقلا عن الجامعي (وما في الملحون من بأس، فإنه في هذا العصر لسان الكثير من الناس) (¬2). وهكذا طغى الأدب الشعبي على الأدب الفني في العهد العثماني، وكان الذين يمثلون الأدب الأخير قلة وسط كثرة، وعندما حل الفرنسيون بالجزائر نشروا من الشعر الشعبي نماذج متعددة وترجموها في مجلاتهم، لأنها في نظرهم تساعد على فهم ظروف العهد العثماني ولغة السكان وعلاقة هؤلاء بالحكام العثمانيين. حقا ان الشعر الشعبي قد سجل كثيرا من الحوادث السياسية والعسكرية كما كان سجلا للنبض الاجتماعي والاقتصادي في البلاد، وبذلك يمكن القول من الناحية التاريخية أنه كان أشمل وأقرب إلى الحقيقة من الشعر الفني، فبينما كان الشعر الفني شعر بلاط أو شعر نفس مهزومة أو شعر مدائح نبوية ونحوها، كان الشعر الشعبي يدون ما يجري في جميع المستويات تقريبا، ويصف ردود الفعل بآلة تسجيل أمينة، غير أن قارئه وإن وجد فيه الفعل ورد الفعل فإنه لن يجد فيه المتعة الروحية ولا الجمال الفني الذي يجده في الشعر الفصيح، ولا سيما إذا بعد العهد. ذلك أن لكل فترة مفاهيمها اللغوية وتعابيرها في الأدب الشعبي، وليس الحال كذلك بالنسبة للفصيح. خاض الشعر الشعبي إذن عددا من الأغراض: هجومات الأجانب على الجزائر والانتصار عليهم، حالة السكان الاقتصادية والمعاشية، والأزمات الاقتصادية والنكبات الطبيعية، أحوال التصوف والمتصوفين، رثاء رجال الدين ورجال السياسة، ونحو ذلك من الأغراض. كما أن الشعر الشعبي قد ¬

_ (¬1) ابن سحنون (الثغر الجماني) مخطوط باريس، ورقة 16، ورأيه هنا جدير بالدراسة من مؤرخي النقد الأدبي. (¬2) أبو راس مقدمة شرح (العقيقة) مخطوط، باريس، ورقة 2، وقد سبق أن أشرنا إلى رأي الورتلاني في الشعر أيضا.

وقف أحيانا مع العثمانيين وأحيانا ضدهم، وأكثر ما بقي من الشعر الملحون هو الذي يمجد انتصارات العثمانيين، ومن الجدير بالذكر أن الشعر الملحون قد دخله التحريف، فمن الصعب القول بأن ما بقي منه هو بالضبط ما قاله أصحابه، ثم إن كتابته نفسها تختلف عن إنشاده، فهو شعر قيل لينشد وتتناقله الأفواه لا لكي يسجل على الورق ويدون. ثم إن اختلاف اللهجات يجعل من الصعب فهم قصيدة شعبية قيلت مثلا في وهران من أهل قسنطينة والعكس، ومن ثمة كان الشعر الفصيح أسير وأخلد. ومن جهة أخرى فإن الاهتمام بالشعر الشعبي لا يخدم فكرة الوطنية ولا القومية. فهو في عصرنا يخدم فى الواقع الجهوية والقبلية والإقليمية. ولذلك استغله الاستعمار استغلالا بشعا ضد الفكرة الوطنية في الجزائر وضد الفكرة القومية في الوطن العربي. فإذا عرفنا هذه المقدمات أمكننا أن نذكر نماذج كنا قد أشرنا إليها من قبل في مناسبات أخرى، ولعل من أقدم القصائد الشعبية الموالية للعثمانيين والتي سجل صاحبها، وهو الأكحل بن خلوف (المشهور الأخضر) المعركة التي دارت بمرسى مستغانم بين المسلمين والإسبان، وهي المعروفة (بوقعة مزغران) والجدير بالذكر أن ابن خلوف، الذي اشتهر أيضا بقصائده الدينية، قد ربط بين جهاد المسلمين في الجزائر وجهادهم في غرناطة، ثم فصل القول بما جرى بين جيش المسلمين بقيادة حسن باشا وجيش الإسبان بقيادة الكونت دالكادوت، وكان الشاعر متحمسا لأن المسلمين قد انتصروا في هذه المعركة انتصارا باهرا. وقد بدأها بقوله: يا سايلني عن طراد الروم ... قصة مزغران معلومة (¬1) وفي أوائل القرن الثاني عشر الهجري أبى أحد الشعراء، وهو محمد بن ¬

_ (¬1) …وقعت المعركة سنة 965 هـ. انظر مقدمة (الثغر الجماني) نشر المهدي البوعبدلي، 23. انظر أيضا مجلة (آمال) العدد الخاص بالشعر الملحون، 1969. وتعرف القصيدة أيضا بقصة أو يوم مزغران. انظر أيضا عن الشاعر ابن خلوف، مارسيل بودان (مجلة جغرافية وهران)، 1933، 253 - 262. ولابن خلوف ديوان معظمه في المدائح النبوية. ط) الرباط، 1958.

درمش الشرشالي، إلا أن يخرج من نطاق الجزائر وينتصر للعثمانيين في البلقان، فقد أشاد باستيلاء جيش السلطان أحمد الثالث (1115 - 1143) على مورية سنة 1127. عالج الشرشالي في قصيدته الشعبية عدة موضوعات مثل فرمان السلطان إلى عسكر الجزائر يطلب منهم إرسال قوات عسكرية، وكون الجزائر استجابت وأرسلت ثلاث سفن محملة بالعساكر (ومنهم الشاعر نفسه)، ووصف الطريق والمعركة التي دارت بين العثمانيين وخصومهم، كما وصف الانتصار الإسلامي، وقد مجد فيها العلاقات الإسلامية وشكر الله ورسوله على توفيقه، وفاتحتها: صلوا كلكم يا معشر الإخوان ... على المصطفى الهادي رفيع الشان سبحان الإله المالك الدائم ... الفرد الجليل العادل الحاكم ثم جاء فيها: من بعد الرضى عن جملة الأعوان ... اصغوا وافهموا يا معشر الإخوان فنحكي لكم قصة لها برهان ... صارت ذا الزمان في مدة السلطان (¬1) وللشرشالي قصائد أخرى في غير ذلك الغرض. ومن القصائد التي سجل أصحابها جهاد الجزائر قصيدة لشاعر مجهول تحدث فيها عن هجوم الدانمارك على الجزائر سنة 1184، وقد وصف فيها الشاعر ضرب مدينة الجزائر بالقنابل من قبل الدانماركيين، وبناء على الشاعر، فإن ذلك كان ليلة المولد النبوي حين أوقد المسلمون الشموع ليحتفلوا به، فظن الدانماركيون أن الجزائريين قد قاموا بهجوم ضدهم، فظلوا يطلقون القنابل على المدينة طول الليل حتى نفدت ذخيرتهم. وبالطبع نجد الشاعر متفائلا لأن النصر في هذه المعركة للجزائريين بفضل بركات الأولياء والصالحين المدفونين في المدينة، وقد نوه الشاعر أيضا برجال الدولة العثمانية، وتبدأ القصيدة هكذا: ¬

_ (¬1) المكتبة الوطنية - الجزائر، رقم 1045. وتبلغ القصيدة 570 بيتا، وهي مبتورة الآخر.

باسم الله نبدي على وفا ... ذا القصة تعيانا قصة ذا البونبة المتلفة ... كيف جابوها أعدانا (¬1) ورغم أن قصيدة بلقاسم الرحموني الحداد قد صورت أحوال قسنطينة عموما فإنها لم تكن سياسية كلها، كما أنها لم تكن كلها ضد العثمانيين، بل كانت ضد الدخلاء على مدينة قسنطينة مهما كانوا. فقد صور في قصيدته الحياة الاجتماعية من فساد أخلاق ودين، والحياة السياسية من ظلم وطغيان، والحياة الاقتصادية من نقص في أحوال المعيشة والغلاء، وكان الشاعر في هذه القصيدة يتكلم على لسان أهل الطرق الصوفية، وهو أيضا ضد التجار الذين وردوا على قسنطينة من داخل البلاد ونافسوا أهلها، وتبدأ هذه القصيدة: عام مكبرة هاي سيدي ... بالكساد وغلات النعما (¬2) ولعل الشاعر نفسه كان يتغنى بهذه القصيدة وغيرها في مقاهي قسنطينة ومجالسها، وقد أشرنا إلى أن بلقاسم الحداد كان شاعرا في غير هذا الموضوع أيضا. أما الشعراء الذين وقفوا ضد العثمانيين مستعملين الشعر الملحون وسيلة وسلاحا فهم، أيضا كثيرون، وحسبنا أن نذكر هنا ابن السويكت، الشاعر الذي سجل انتصار أهل سويد بالغرب الجزائري على العثمانيين في حروب طويلة قاسية، وهذه الحروب تعرف جماعيا باسم (ثورة المحال) التي كانت تتقد تارة وتخبو تارة أخرى حوالي قرنين، وللشاعر في ذلك عدة قصائد، منها تلك التي يقول فيها: الترك جاروا واسويد عقابهم طافحين ... والترك شاربين الهبال في سطلة (¬3) ¬

_ (¬1) (المجلة الإفريقية)، 1894، 325 - 345، قارن ذلك بما ذكره ابن حمادوش عن الدانمارك، والمقصود بالبونبة، القنبلة. (¬2) (المجلة الإفريقية)، 1919، 224 - 240. انظر عن هذا الشاعر الفصل السادس من الجزء الأول. (¬3) مقدمة (الثغر الجماني)، 34، وتعرضنا من قبل إلى تفاصيل هذه القصيدة، انظر الفصل الثاني من الجزء الأول.

وهناك الشاعر بوعلام بن الطيب السجراري الذي تحدث عن ثورة درقاوة ضد العثمانيين، ولما كنا قد أشرنا إلى هذه الثورة في السابق فإننا نكتفي هنا بالإشارة إلى القصيدة فقط، ذلك أن الشاعر كان متحمسا ضد الأتراك وكان يطعن فيهم وفي سياستهم وأخلاقهم، وقد صور كل ذلك خير تصوير وأنفذه، وخصوصا انهزام الأتراك على يد الدرقاويين بقيادة عبد القادر بن الشريف: كي قصة الأجواد مع أتراك النوبة ... يوم أن فزعهم ابن الشريف أو جاو (¬1) ولا شك أن الشعراء الشعبيين كانوا بالمرصاد لالتقاط الأحداث السياسية والاقتصادية وغيرها كما أشرنا، فقد قالوا في فتح وهران الأول والثاني، وقالوا في المجاعات والطواعين والزلازل التي حلت بالبلاد، ومدحوا بعض الحكام وهجوا آخرين منهم، وانتصروا لبعض الثورات وكانوا ضد أخرى، وليس من غرضنا هنا تتع ذلك أو إحصاؤه. وكما اهتم الشعر الشعبي بالحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، اهتم أيضا بالدين ورجاله، فقد عرفنا أن شاعرا كبيرا في الفصيح، وهو سعيد المنداسي، عالج المدائح النبوية وغيرها من النواحي الدينية في قصيدة ملحونة تعرف بـ (العقيقة) وهي التي شرحها أبو راس وابن سحنون، وكانت موضع حديث الناس مثقفين وغير مثقفين (¬2). وكتب أحد الصالحين، وهو موسى اللالتي قصيدته المشهورة (حزب العارفين) بالملحون أيضا، تعرض فيها ليس فقط لرجال التصرف وأهل الصلاح، ولكن أيضا إلى رجال السياسة ¬

_ (¬1) مقدمة (الثغر الجماني)، 38. وكذلك (در الأعيان في أخبار مدينة وهران) لحسين خوجة (مخطوط)، ترجمة روسو سنة 1855 في جريدة (لومونيتور الجيريان). رقم 1395 - 1398. (¬2) للمنداسي أيضا شعر ملحون يوجد في المكتبة الملكية - الرباط، رقم 10305، وله ديوان مطبوع، وقد ترجم (العقيقة) إلى الفرنسية الجنرال الفرنسي، فور بيكي، ونشرها مع دراسة سنة 1901.

أو من سماهم برجال الشر والطلاح، وقد شرح هذه القصيدة العامية تلميذه الشيخ محمد بن سليمان، ومن حسن الحظ أننا اطلعنا ودرسنا هذه القصيدة وشرحها (¬1)، وقد اشتهر في تلمسان خلال القرن الثاني عشر ثلاثة شعراء شعبيين وهم: محمد بن مسائب، وابن التريكي والزناقي، ونظموا جميعا بالخصوص في المسائل الدينية، كما نظم كل منهم رحلة حجازية (¬2)، ونعتقد أن للشعر الملحون مجالات أخرى لم نشر إليها كالغزل. أما الرثاء فالمعروف أن أحد الشعرء قد نظم قصيدة (قالوا العرب قالوا) في رثاء صالح باي الذي كان محبوبا عند معظم أهل قسنطينة لأن مأساة وفاته قد أثارت عواطفهم نحوه. ورغم أن الشعر الشعبي ليس من أهداف هذه الدراسة لخروجه عن الثقافة الأدبية كما لاحظنا، فإن دراسته تكشف عن كثير من الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية للبلاد في العهد العثماني. فالقصيدة الشعبية من هذه الزاوية وثيقة هامة تدرس من خلالها الحياة كما صورها الشاعر وتؤخذ منها المعلومات والمواقف ثم تترك. والشعر الشعبي مهم من حيث تسجيله لمشاعر الناس ضد أو مع العثمانيين، ومواقف الجهاد ضد العدو الخارجي، وتطور الحياة الدينية، فالعودة إلى الشعر الشعبي ضرورة من ضرورات البحث، ولكنه لا يدرس كنموذج أدبي أو فني نستشف من خلاله رقي الثقافة وسمو الذوق والمشاعر وجمال التعبير والتصوير، أو نستدل به على تقدم الشعب. ¬

_ (¬1) انظر دراستنا عن كتاب (كعبة الطائفين) في كتابنا (أبحاث وآراء في تاريخ الجزائر)، الجزائر 1978، وقد أثار إلى قصيدة (حزب العارفين) أيضا أبو راس وابن سحنون. (¬2) انظر دراستنا (الرحلات الجزائرية الحجازية في العهد العثماني) في كتابنا (أبحاث وآراء في تاريخ الجزائر) وعن ابن مسائب بالخصوص انظر محمد بن أبي شنب (المجلة الإفريقية)، 1900، 259 - 282. انظر أيضا مجلة (آمال) عدد خاص بالشعر الملحون عدد 4، 1969، وتوفي ابن مسائب سنة 1170. وكان في صغره ينظم الشعر المعروف بالحوزي ثم تحول إلى الشعر الديني.

الفصل الخامس التاريخ - التراجم - الرحلات

الفصل الخامس التاريخ - التراجم - الرحلات

مفهوم التاريخ

ندرس في هذا الفصل مفهوم التاريخ عند الجزائريين وإنتاجهم فيه وفي التراجم والسيرة والتواريخ المحلية والرحلات ونحو ذلك كالجفرافية، ومما يلفت النظر ندرة الكتب التاريخية في القرنين العاشر (16 م) والحادي عشر (17 م)، بينما حفل القرن الثاني عشر (18 م) بعدد من التآليف فيه، كما أننا لا نكاد نجد رحلة حجازية خارج القرن الثاني عشر، أما التراجم فقد عمت جميع العهد العثماني ولكنها كانت في القرن العاشر قليلة أيضا، ومن جهة أخرى لا نكاد نجد كتابا في الجغرافية من تأليف الجزائريين اللهم إلا ما جاء عرضا في كتب التاريخ والرحلات من وصف المسالك وتخطيط البلدان وتنسيب القبائل، ونحو ذلك. مفهوم التاريخ ويبدو أن سيطرة التصوف والروح الدينية السلبية قد أضعفت العناية بعلم التاريخ والسير وأخبار الأولين، ومن ثمة أضعفت دافع التأليف فيها. ذلك أن كثيرا من الجزائريين الذين كتبوا في التاريخ، رغم ذلك، قد لاحظوا الضعف وعدم الاهتمام بعلم التاريخ. فقد قال ابن المفتي بأن (تلك الأخبار رسمها بالجزائر مندرس، وما كتبه ذوو الرحلة في شأنها وشأن العلم فيها غير مقتبس) (¬1)، وهو يشير بذلك إلى أن التأليف والعناية بالتاريخ والأخبار لم تكن تحظى بالاهتمام، كما أن ما كان منها مكتوبا منذ القديم لم يقلده المقلدون أو يرجع إليه الراغبون، ورغم تصوف الورتلاني فقد لاحظ أن الجزائريين كانوا يحسبون التاريخ أمرا مضحكا لا يدرسه أهل الجد والدين، ¬

_ (¬1) نقله عنه نور الدين عبد القادر (صفحات)، 9.

بل هو عند البعض ضد الدين والأخلاق. لذلك حكم الورتلاني بأن علم التاريخ (منعدم) عند أهل الجزائر، وهذه هي عبارته (علم التاريخ منعدم فيه وساقط عندهم فيحسبونه كالاستهزاء، أو اشتغالا بما لا يعني، أو من المضحكات المنهي عنها. فترى المتوجه منهم إلى الله يرى الكلام فيه مسقطا من عين الله تعالى .. ليس (هو عندهم) من علم يذكر، إذ لا طائل فيه أصلا بل بنفس ذكره عندهم ينكر) (¬1). ولعل الذي أضر بالتاريخ عند الجزائريين المتدينين كونه منسوبا عندهم إلى الأخبار والسير العامة ومتصلا بالأدب والمجون، والغريب أن آراء ابن خلدون في التاريخ كانت معروفة عند بعضهم، وأن كتب التاريخ الإسلامي والسيرة النبوية كانت متوفرة، كما لاحظنا من دراستنا عن المكتبات. فكيف يسقط التاريخ عندهم إلى هذه المنزلة من الإهمال؟. ليس هناك من تفسير إلا سيطرة التصوف من جهة والخوف من الحكام من جهة أخرى. أما علاقة التاريخ بالتصوف فقد أشار إليها الورتلاني، وأما الخوف من الحكام فالمعروف أن التاريخ عندئذ كان تاريخا لكبار السياسيين، وأنه كان لا يدرس للثقافة والمتعة والعبرة والتقليد. وسنعرف أن معظم الذين كتبوا في التاريخ أثناء العهد العثماني كانوا مؤيدين بل كانوا يكتبون على لسان الأمراء والولاة، ولم يكن لأهل الصلاح فائدة من دراسة علم لا يعرض إلا لحياة الملوك والأمراء وكبار المسؤولين. ومع ذلك فإن تعريف التاريخ عند المؤرخين الجزائريين ظل غامضا، فهم يخلطونه بالدين تارة والسيرة تارة أخرى، وبالعلم أحيانا وبقيمة الإنسان وسمعته الاجتماعية أحيانا أخرى. فقد قال ابن المفتي في تعريف التاريخ ما يلي: (وبعد، فإن علم التاريخ عبادة ومنة جزيلة، ومعرفة أخبار العلماء منقبة جليلة) (¬2)، وكان هذا تمهيدا من ابن المفتي لدراسة أخبار العلماء وأخبار الباشوات الذين ألف رسالته فيهم، بينما عرف أبو راس علم التاريخ والأخبار ¬

_ (¬1) الورتلاني (الرحلة)، 597. (¬2) نور الدين عبد القادر، 9.

بأنه (تحفة المجالس، المفتي عن الأنيس والمجالس) (¬1) وكان أبو راس يريد بذلك قصص الأولين وسير الأنبياء وأخبار الحكام، ذلك أن هذا المفهوم (القصصي) للتاريخ هو الذي كان شائعا حتى أن من عرف بالحفظ وطلاقة اللسان وسرعة البديهة يقال له عالم بالأخبار والسير، مثل ما أشيع عن محمد بن عبد المؤمن ومحمد بن عبد الكريم الجزائري، وقد بين أبو راس أهمية علم التاريخ فقال لقد اعتنى به الأدباء الأفاضل وجهابذة كل طبقة وملة (من صلحاء السلف، وحذاق الخلف، في كل عصر .. فألفوا وأفادوا وصنفوا وأجادوا)، ثم ذكر أهم أسماء المؤرخين المسلمين إلى أن وصل إلى السيوطي وأحمد المقري، كما ذكر عددا من المؤرخين قبل الإسلام (¬2). أما الورتلاني فقد دافع عن التاريخ وبين فضله ومنزلته بين العلوم، وقد قال إن علم السير لم يكن سوى جزء من التاريخ، فكيف يدرس الجزائريون حياة الرسول (صلى الله عليه وسلم) وقصص الأنبياء ولا يدرسون التاريخ الذي امتلأت به كتب السيرة بل القرآن نفسه؟ ألم يقل الله تعالى {وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك}؟ ألم يرو في الحديث الشريف أن التفكير في الماضي ساعة أفضل من عبادة سنوات عديدة؟ ثم إن (مرتبة العلماء تزيد أو تنقص بقدر معرفتهم للتاريخ) لأنه علم يزيد الإنسان في الفضائل ويبعد عنه القبائح، انه علم تعلو به همة الإنسان، لأنه يدفع إلى المعالي من الأمور، أليس أكثر القرآن من علم التاريخ؟ ومن الممكن أن يعتبر ذام التاريخ مرتدا لأن ذمه يقود إلى ذم القرآن نفسه وهو الذي يحتوي على أخبار الماضين وأحوال الجبابرة المنقرضين، وأولياء الله الصالحين، لذلك نصح الورتلاني القارئ بأن لا يهمل علم التاريخ وأن يصحح علمه به، بشرط الاعتماد على الكتب الصحيحة والنقول السليمة (¬3). ومما يلفت النظر أن المؤرخين الجزائريين بالمفهوم السابق قد قصروا ¬

_ (¬1) أبو راس (الحلل السندسية)، مخطوط باريس، 4619. (¬2) أبو راس، مقدمة (عجائب الأسفار) مخطوط الجزائر وباريس. (¬3) الورتلاني (الرحلة)، 597.

أعمالهم على التواريخ المحلية والتراجم والرحلات، ولم يكتب واحد منهم تاريخا عاما للجزائر كلها غطى فيه أخبارها داخل حدودها من القديم إلى الحديث أو حتى في القرن الذي يعيشه. فالمؤرخ كان يعيش حدودا ضيقة فرضتها عليه السياسة والثقافة والجغرافية. فالعثمانيون لم يطوروا فكرة التواصل بين المؤرخ وبيئته فظلت البيئة عنده هي حدود القرية أو الناحية أو الحادث إذا كان مثلا يكتب عن فتح وهران من خلال حياة الوالي المسؤول عن ذلك. كما أن المؤرخ أو المترجم ظل حبيس الزاوية أو المدرسة التي تخرج منها فلا يترجم أو يكتب إلا في نطاق محصور، تمليه عليه ثقافته. وكانت الجغرافية عاملا هاما في الموضوع، فالقطر الجزائري في عصر المواصلات البدائية كان يبدو وكأنه قارة بذاتها، واسع الأطراف من الشرق إلى الغرب ومن الشمال إلى الجنوب، ونحن نجد (الحس الوطني) قد ظهر إلى حد كبير عند الورتلاني الذي طاف معظم القطر وسجل انطباعاته للأجيال اللاحقة، ولعل نفس الظاهرة نجدها عند أبي راس. وهكذا افتقر التاريخ الجزائري إلى عمل تناول فيه أصحابه، بنظرة شاملة، تاريخ القطر وحياة أهله حتى على أساس النظرة القديمة للتاريخ من كونه تاريخ أمراء وملوك. وكما افتقر المؤرخون الجزائريون إلى النظرة الشمولية للتاريخ الوطني افتقروا إلى النظرة الشمولية أيضا في التاريخ للإسلام، ذلك أنه باستثناء الأعمال الجزئية التي تناولت السيرة النبوية، لا نجد مؤرخا جزائريا قد أرخ للإسلام أو العرب بالمعنى العام (¬1)، وأقرب من توسع في هذا المعنى هو أحمد المقري في موسوعته (نفح الطيب) وأبو راس في (الحلل السندسية) وبعض أعماله الأخرى، غير أن تاريخ الرجلين ظل مركزا على الأندلس، ¬

_ (¬1) ينسب إلى ابن أبي حجلة كتاب في التاريخ العام وصل في جزئه الثالث إلى ملوك العرب وأنسابهم (انظر تيمور 984 تاريخ، 485 صفحة). ولكن ابن أبي حجلة عاش قبل العهد العثماني بمدة طويلة، ونفس الشيء يقال عن المشروع الضخم الذي كان يعده ناصر بن مزني البسكري عن التاريخ وأخبار الرواة المسلمين. انظر عنه ابن حجر (أنباء الغمر) 3/ 235. انظر عنه أيضا الفصل الأول من الجزء الأول.

والغريب أن علماء الجزائر قد اشتهروا بالحفظ، وكان علم التاريخ بالمفهوم القديم يقوم على الحافظة القوية للمؤرخ، ونحن نجد عالما كأبي راس يسرد قائمة المؤرخين المسلمين ولكنه، رغم كثرة تأليفه، لم يخصص مجلدا لتاريخ العرب أو المسلمين، وحين أراد ابن حمادوش الاستفادة من كتب التاريخ الإسلامي رجع إلى ابن الكردبوس وابن العبري والعليمي، وغيرهم ولم نعرف أنه ألف هو في التاريخ العام. وهناك نقطة أخرى بهذا الصدد نود أن نشير إليها وهي اعتماد معظم الذين تناولوا قضايا تاريخية أو تراجم، على شرح القصيدة أو الرجز. فأساس التأليف التاريخي إذن هو الأدب، إذا حكمنا من الوزن والقافية. وبذلك يصبح التاريخ عند هؤلاء هو تفسير ما عجز أو ضاق عنه الأدب. فالمؤرخ كان يقوم بعمل يعتمد على الحافظة أكثر من الذكاء والموهبة، ولا يعني هذا أن القصائد أو الأراجيز التي تناولت موضوعات تاريخية كانت قمة في الأدب، ولكن يعني فقط أن العمل الأول للمؤرخ قد وضعت خطوطه أو تصميماته من خلال العمل الأدبي. وكثير من شراح القصائد والأراجيز التاريخية، والتراجم، سواء منها التي تتناول حوادث كفتح وهران أو سيرة بعض الناس، كانت قد وضعت أساسا في شكل قصيدة أو رجز. ويكفي أن نشير هنا إلى رجز المفتي محمد الحلفاوي في فتح وهران الأول وقصيدة أبي راس في فتح وهران الثاني، ورجز التجاني المسمى بـ (عقد الجمان النفيس)، وبعض هذه الأراجيز والقصائد قد شرحها أصحابها أنفسهم كما فعل ابن سحنون. وأبو راس، وبعضها شرحها غير أصحابها كما فعل الجامعي مع أرجوزة الحلفاوي، ومحمد المزيلي مع منظومة عقد الجمان، ولكن بعض القصائد والأراجيز ظلت دون شرح أصلا كـ (الدرة المصونة) للبوني، و (سبيكة العقيان) لابن حوا، وهذا لا يعني أن جميع الأعمال التاريخية كان أساسها الرجز أو القصيدة، فهناك أعمال أخرى كتبها أصحابها مباشرة نثرا تاريخيا، أو مجموعة من التراجم، مثل (القول البسيط) لابن بابا حيدة، و (البستان) لابن مريم، وقد شذ محمد بن ميمون فجعل

في السيرة النبوية

تاريخه قائما على عدد من المقامات كما أسلفنا. والتواريخ التي تحدثنا عنها، بجميع أقسامها وأنواعها، ليست كلها متوفرة كما أنها ليست جميعا أعمالا كبيرة. ذلك أن بعضها قد ضلع مثل العديد من تآليف أبي راس وأجزاء من رحلة ابن حمادوش ومعظم مؤلفات أحمد بن عمار، غير أن الجزء الباقي من هذه الأعمال يعطينا فكرة عن نشاط الجزائريين في مجال التاريخ. ثم إن بعض هذه الأعمال صغيرة الحجم لا يتعدى عدة ورقات، وبعضها ضخم حجمها حتى عد بالأجزاء، والظاهر أن معظم الكتاب الذين تناولوا حوادث تاريخية أو تناولوا التراجم لم يكونوا واعين أنهم يكتبون (تاريخا) أو (تراجم) بالمعنى الذي نستعمله اليوم للعبارتين، فالذين ترجموا لعدد من الرجال كانوا في الغالب يقصدون وجه الأدب. كما فعل ابن عمار في (لواء النصر) أو يتبركون بالمترجمين كما فعل ابن مريم، أو يقصدون إلى نقد أوضاعهم ويحاربون الفساد الاجتماعي والديني كما فعل عبد الكريم الفكون في (منشور الهداية). ففكرة التاريخ كانت بعيدة من أذهان الأغلبية منهم، كما أن فكرة الترجمة الحقيقية التي تعطيك حياة ونشاط وأفكار ومواقف المترجم له بعيدا عن المدح والتبرك أو النقد والتجريح كانت أيضا بعيدة من أذهان معظم المترجمين، ومع ذلك فإننا سنتناول الجميع، مما عثرنا عليه، على أنه تراث تاريخي تجب العناية به وليس على أنه يلبي المقاييس التاريخية التي نقيس بها اليوم. في السيرة النبوية ألف الجزائريون في السيرة النبوية عدة أعمال ونظموا فيها الأشعار والأراجيز، ومن الممكن أن نعد كل ما قيل من شعر في المدائح النبوية جزءا من تاريخ سيرة الرسول (صلى الله عليه وسلم) (¬1)، كما أننا نعتبر ما كتب أو نظم في الرحلات ¬

_ (¬1) انظر المدخل الذي كتبناه للرحلات الحجازية الجزائرية في كتابنا (أبحاث وآراء في تاريخ الجزائر).

الحجازية على أنه من صميم السيرة، فمجال السيرة إذن واسع. فإذا ذهبنا مع الورتلاني على أن علم السير هو (سير الأنبياء وشمائلهم ووقائعهم وبعوثهم وسراياهم وصحبهم وخصائصهم وقصصهم) أمكننا أن ندرك أن كثيرا مما ألفه أحمد المقري وأبو راس وأحمد البوني وأمثالهم يدخل في قسم السيرة النبوية. ومن أقدم الأعمال التي نشير إليها في العهد العثماني شرح أحمد بن محمد البجائي التلمساني على (الشقراطسية)، وهي القصيدة التي نظمها محمد بن علي بن شباط التوزري في السيرة، ونحن نعرف أن التوزري قد وضع هو نفسه شرحا على قصيدته سماه (صلة السمط وسمة الربط) ضمنه أدبا وتاريخا أيضا (¬1)، ويبدو أن شرح التلمساني عمل مهم، فقد وصفه ابن عسكر بأنه (شرح عجيب) (¬2)، وكان محمد المغوفل قد اشتهر بقرض الشعر الذي تناول فيه حياة الرسول (صلى الله عليه وسلم)، وقد اعتبره أبو راس (أحد أعجوبات الدهر في علمه وورعه وكراماته، يشهد لعلمه قصيدة مدح بها رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، فيها سبعون بيتا، وليس فيها حرف يستحق النقط، بل كلها عواطل من النقط، وكفى به حجة) (¬3)، ورغم شهرة هذه القصيدة وأهميتها وشيوع الشروح في ذلك العصر فإننا لا نعرف أن أحدا قد تناولها بالشرح، وقد أشرنا من قبل إلى موقف العثمانيين من الشيخ المغوفل (¬4)، كما أشرنا إلى أشعاره في المدائح النبوية في فصل الشعر. والظاهر أن لغة المغوفل إما ضعيفة أصلا وإما أضر بها نساخ أشعاره. وحتى لا نكرر هنا ما تناولناه في شعر المدائح النبوية نكتفي بالإشارة إلى بعض الأعمال التي تدخل من جهة في شعر المدح ومن جهة أخرى في السيرة النبوية، ونعنى بذلك ديوان عبد الكريم الفكون الذي خصصه ¬

_ (¬1) الإعلام 7/ 172، وقد توفي التوزري سنة 681. (¬2) (دوحة الناشر)، 219 - 221. (¬3) أبو راس (عجائب الأسفار) ورقة 26 مخطوط الجزائر. (¬4) انظر الفصل الثاني من الجزء الأول.

لمدح الرسول (صلى الله عليه وسلم)، وهو ديوان كبير، والمعروف أن الفكون كان أمير ركب الحج الجزائري مدة طويلة وكان مؤلفا وشاعرا ومدرسا، فصلته بالحجاز وبالحرمين صلة وطيدة. وكان أحمد المقري قد ألف، كما أشرنا، في السيرة النبوية عدة تآليف، وكان أيضا يكثر من الحج حتى بلغت حجاته حوالي سبع مرات، وألف كتبه في السيرة وهو في الحرمين، وخصوصا عند قبر الرسول (صلى الله عليه وسلم)، ومن أهم أعماله في ذلك (فتح المتعال) في نعال الرسول، و (أزهار الكمامة) في عمامته، و (الدر الثمين) في أسمائه، وله أيضا كتاب سماه (الأنوار وكنز الأسرار فى نسب آل النبي المختار)، ولا شك أن له غير ذلك فى السيرة أيضا. ويأتي بعد المقري في كثرة التأليف في السيرة النبوية أحمد بن قاسم البوني، ولا غرابة في ذلك فقد جمع البوني بين الصلاح والدين والعلم، وقد حج أيضا، وله رحلة حجازية سنعرض لها، وكان كثير التأليف حتى عدت كتبه أكثر من مائة، كما ذكرنا في ترجمته، ويلاحظ أن بعض تآليف البوني في السيرة كان نظما وبعضها كان نثرا، ومن ذلك (نظم الخصائص النبوية)، ومن نثره (تنوير السريرة بذكر أعظم سيرة) (¬1)، ولأحمد البوني تآليف أخرى في الحديث وغيره مما يتصل بحياة الرسول (صلى الله عليه وسلم). أما أبو راس فقد عرفت عنه العناية بالتاريخ والنسب والسيرة (¬2) ومن جهة أخرى ألف محمد بن علي الشلاطي المعروف بابن علي الشريف كتابا في السيرة سماه (سيرة المصطفى وسيرة الخلفاء ومن بعدهم من الملوك والعرفاء)، ويعتبر جزء كبير من الرحلات الحجازية في تاريخ السيرة النبوية أيضا، وسنعرض إلى ذلك في قسم الرحلات من هذا الفصل. وهكذا نجد تاريخ السيرة النبوية قد اختلط عند الكثير من الجزائريين ¬

_ (¬1) الكتاني (فهرس الفهارس) 1/ 170. (¬2) انظر ترجمته بعد قليل.

تواريخ عامة وتواريخ محلية

بشعر المديح النبوي وبالحديث وفروعه وبرحلات الحج. على أن كثيرين ممن تعلقوا بشمائل الرسول (صلى الله عليه وسلم) كانوا من شعراء الملحون وكانوا في نظمهم يسبقون العاطفة على التاريخ ويخاطبون المشاعر لا العقول، كما سنرى في الرحلات. تواريخ عامة وتواريخ محلية نعني بالتاريخ العام ما لا يتناول الجزائر بل يتناول الظواهر التاريخية التي حدثت في منطقة واسعة أو فترة طويلة، أما التاريخ المحلي فنعني به ما تناول ناحية خاصة من نواحي القطر الجزائري أو حادثة معينة جرت فيه، وقد قلنا في بداية هذا الفصل بأن الجزائريين لم يكتبوا في التاريخ العام إلا قليلا بينما نجد لهم عدة أعمال في التاريخ المحلي. ومن أبرز من كتب في التاريخ العام أحمد المقري صاحب (نفح الطيب)، فقد قسم هذا الكتاب الموسوعي قسمين رئيسيين الأول في تاريخ الأندلس الإسلامية، والثاني في حياة ابن الخطيب، ويهمنا هنا القسم الأول، فقد جعله المقري في ثمانية أبواب، وصف في أوله جزيرة الأندلس من طبيعة ومناخ وعمران ونبات ومآثر، وفي الباب الثاني تحدث عن فتح الأندلس على يد موسى بن نصير وطارق بن زياد وما تلا ذلك من تطورات، وتناول في الباب الثالث ازدهار الحضارة الإسلامية في الأندلس وجهاد أهله وما جرى هناك من حروب، وخص الباب الرابع بأخبار مدينة قرطبة لمكانة الخلافة فيها ووصف جامعها الكبير وحدائقها ومنشآتها، وعرف في الباب الخامس بالذين رحلوا من الأندلس إلى المشرق وتوسع في ذلك إلى عصره هو، وكان الباب السادس في الذين هاجروا من المشرق إلى الأندلس وطاب لهم فيها المقام، وجعل الباب السابع في الحديث عن أهل الأندلس وما أعطاهم الله من مواهب وعلوم وصفات تميزوا بها عن غيرهم، أما الباب الثامن فقد خصصه لتغلب الإسبان على المسلمين هناك وما جرى بين الطرفين من حروب وما

ارتكبه الإسبان ضد المسلمين من فظائع. وبذلك كان القسم الأول من (نفح الطيب) في منتهى الأهمية بالنسبة لدارس تاريخ الأنداس، فهو، كما قلنا، موسوعة ثرية في هذا الباب. ومن ثمة اهتم به العرب والأجانب الذين تهمهم حياة الأندلس. وكان (نفح الطيب) معروفا قبل عصر الطباعة في العالم الإسلامي يتناسخه الناسخون ويتبادله العلماء، ومنذ ظهرت الطباعة طبع الكتاب كما ترجم القسم الذي نتناوله إلى عدة لغات أوروبية، أما ترجمة ابن الخطيب فلا تهمنا هنا، وسنشير إليها في الحديث عن التراجم، والمعروف أن المقري قد ألف (نفح الطيب) في المشرق بإلحاح من أهل الشام الذين كانوا يتطلعون أكثر من غيرهم إلى معرفة أخبار الأندلس التي تربطهم بأهلها روابط عديدة، ولكن عمل المقري هذا لا يخلو من نقد. فقد قيل عنه انه محشو بالاستطرادات وتكرار المعلومات ومثقل بالسجع، مع ضعف في بعض النواحي الإخبارية، ومع ذلك فالكتاب كان وسيظل مرجعا أساسيا في تاريخ الأندلس كما كان تاريخ ابن خلدون مرجعا أساسيا في تاريخ المغرب العربي. وكان المقري في الواقع قد بدأ يؤلف عن الأندلس وأهلها منذ كان في تلمسان وفاس، ففي هذا التاريخ ألف (أزهار الرياض) الذي ملأه أيضا بأخبار الأندلس وأهلها رغم أنه في ترجمة القاضي عياض. لذلك تكررت حوادث الكتابين عند المقري فكان (نفح الطيب) هو النسخة المنقحة الأخيرة في هذا الباب لأنه ألفه بين سنوات 1037 و 1039، وقد صدق هو حيث قال في نهاية (نفح الطيب) (اعلم أن هذا الكتاب معين لصاحب الشعر، ولمن يعاني الإنشاء والنثر من البيان والسحر، وفيه من المواعظ والاعتبار، ما لم ينكره المنصف عند الاختبار، وكفاه أنه لم ير مثله في فنه فيما علمت، ولا أقوله تزكية له) (¬1). والملاحظ هنا أن المقري قد ركز على أهمية كتابه الأدبي أكثر من أهميته التاريخية. ¬

_ (¬1) (نفح الطيب) 10/ 363. انظر ترجمتنا للمقري في فصل اللغة والنثر من هذا الجزء.

ويأتي أبو راس بعد المقري في تناول التاريخ العام. فقد وضع أبو راس كتابا في حياة الأندلس وعلاقة أهلها بالمغرب العربي وما جرى بين المسلمين والإسبان من نزاع منذ العهد الإسلامي في الأندلس إلى فتح وهران الثاني أي إلى عصر المؤلف، وكان دافعه إلى كتابة هذا العمل هو فتح وهران المذكور، فوضع قصيدة (غريبة الشكل. أجرت جواريها بريح البلاغة في بحر البسيط) سماها (الحلل السندسية في شأن وهران والجزيرة الأندلسية) ثم وضع على هذه القصيدة شرحا تبسط فيه وأظهر مواهبه ومحفوظاته التاريخية، وقد كتب هذا الشرح (وهو واحد من ثلاثة شروح، كلها من عمله) في مرسى تطوان وبعث به إلى السلطان سليمان ودعا له باسترداد سبتة وبريرا وثغر ابن عكاشة من أيدي الإسبان أيضا، كما استرد مسلمو الجزائر وهران منهم، وسمى أبو راس هذا الشرح (روضة السلوان المؤلفة بمرسى تيطوان). وهكذا كتب أبو راس، سواء في القصيدة أو في الشرح، عن الأندلس فذكرها بلدا بلدا وتناول علماءها وتاريخها وقبائلها وما جرى فيها من حوادث وخطوب (¬1)، كما ضمن الشرح حديثا طويلا عن قبائل المغرب الأوسط وأنسابها، وقد ترجم هذا العمل إلى الفرنسية السيد فور بيقي (¬2)، ولأبي راس كتب أخرى يمكن أن تدخل في التاريخ العام مثل (الإصابة فيمن غزا المغرب من الصحابة). أما التاريخ المحلي فلدينا منه عدة مؤلفات بعضها صغير الحجم وبعضها كبير. سنذكر هنا ما عثرنا عليه من الجميع لأن غرضنا هو تاريخ الثقافة وليس اختيار الجيد منها، ومن أوائل ذلك هو التاريخ المعروف باسم (كتاب العدواني)، والمؤلف غير معروف باسمه الكامل، فهو عند الناسخين والرواة الشيخ محمد بن محمد بن عمر القسنطيني العدواني السلمي (السالمي)، وقد كتب العدواني، على ما يبدو، كتابا ضخما حشاه بأخبار الحروب التي جرت بين طرود وجيرانهم ولا سيما قبيلة عدوان، والحياة ¬

_ (¬1) نسخة باريس رقم 4619، انظر أيضا (دليل مؤرخ المغرب)، 428. (¬2) الجزائر، 1903.

الاجتماعية والدينية في القرنين التاسع والعاشر، وفي الكتاب قسم كبير مما ليس بتاريخ ولكنه أساطير وخرافات شعبية، وقد تصرفت الأيدي في هذا الكتاب فاختصره المختصرون ورووه بالمشافهة إلى أن ضاع الأصل ولم يبق منه إلا المختصرات والمرويات الشفوية، ومن النسخ المختصرة التي وصلت إلينا نسخة إبراهيم بن محمد التاغزوتي (نسبة إلى تاغزوت، بوادي سوف أيضا)، وأول من اطلع عليه من الأوروبيين، فيما يظهر الباحث الفرنسي بيرو بروجر سنة 1850 حين حصل منه على نسخة من أحد شيوخ كوينين، بوادي سوف. ثم ترجم فيرو الفرنسي (كتاب العدواني) إلى الفرنسية من نسخة أخرى حصل عليها من السيد علي باي بن فرحات قائد تقرت وسوف عندئذ، ونشر ذلك سنة 1868 في مجلة (روكاي) القسنطينية، وتوجد عدة نسخ مخطوطة من كتاب العدواني بالعربية أيضا (¬1). وبناء على السيد فيرو الذي درس وترجم (كتاب العدواني) فإنه كتاب يتناول تاريخ سوف وصحراء قسنطينة وغرب تونس وطرابلس، وقد قال عنه إن العدواني كتبه بأسلوب خيالي وبسيط يكاد يكون شعبيا، وهو يؤرخ ويذكر التقاليد الشعبية للسكان والحوادث التي كان شاهد عيان عليها، أو التي جمعها من أفواه الناس، وتدل طريقته وتفاصيله على أنه كان معاصرا لما كان يرويه، وكان موضوعه الرئيسي هو دخول قبيلة طرود إلى إفريقية ووصولها إلى سوف وحروبها مع السكان الآخرين. ويرى السيد علي الشابي أن كتاب العدواني هام أيضا لأنه يؤرخ لحروب الشابية بعد سقوط دولتهم في القيروان ¬

_ (¬1) اطلعنا منه على نسخة عند الشيخ محمد الطاهر التليلي بقمار، وهي في مجلد، ونسخة أخرى في معرض المخطوطات الذي أقامته المكتبة الوطنية بالجزائر على ملك السيد ابن حبيب بن علي (من وهران) وقد صورت المكتبة هذه النسخة الجيدة على الميكروفيلم واحتفظت بها برقم 32، كما توجد نسخة أخرى مخطوطة من كتاب العدواني في المكتبة الوطنية، وذكر باصي أنه اطلع على نسخة منه في تماسين، انظر ريني باصي (المخطوطات العربية ..)، الجزائر 1885. وقد حققنا كتاب العدواني على عدة نسخ، ونشرناه سنة 1996، وصدر عن دار الغرب الإسلامي، بيروت.

سنة 965، وهو يذكر أن العدواني قد غطى أيضا حروب عبد الصمد الشابي وابنه علي، وقد توفي الأول سنة 1025 والثاني سنة 1041 (¬1). ولكننا نستبعد أن يكون العدواني قد عاش إلى هذا التاريخ، ويمكن مقارنة ما رواه من وقائع بما رواه أيضا ابن خلدون والقيرواني عن نفس الموضوع، وبالإضافة إلى ذلك تحدث العدواني عن دور النساء في الحروب، وعن مكانة الدين لدى أهل القرنين المذكورين، وقد ذكر أن المرابطين كانوا يفرون من القبائل الصحراوية لعنادها، وفي (كتاب العدواني) أيضا وصف لأصول أسماء الأماكن التي تحدث عنها وبعض المعلومات عن دخول الأتراك إلى الجزائر وتونس وتصرفاتهم (¬2)، وقد اعتبره فيرو من أهم الوثائق الأهلية النادرة في العهد العثماني، أما الشيخ محمد الطاهر التليلي فقد قال عن (كتاب العدواني) بأنه (أشبه بقصة عامية من قاص بين جماعة أميين بلغة دارجة محلية، لا تتعدى سرد الغرائب والنوادر وحكايات أصحاب البوادي ومجالسهم العامة، فلا يعول على أكثر ما فيه .. إلا مع عاضد من غيره) (¬3). وتدخل قصيدة الأكحل (الأخضر) ابن خلوف التاريخية عن واقعة (مازغران) في باب التاريخ المحلي أيضا. وهي قصيدة ضعيفة النسج رديئة وتكاد تشبه النثر المسجوع، وهي في نفس الوقت غامضة المعاني، بالنسبة إلينا اليوم، والمهم أن المرء يقرأ فيها أخبارا هامة عن وهران ومدينة الجزائر وسلطان الترك، وبني ميزاب، وعبد الرحمن الثعالبي، وهي في حوالي ثماني ورقات، تتناول العلاقات الإسلامية الإسبانية في القرن العاشر (¬4). والظاهر أن أبا علي إبراهيم المريني (البجائي؟) قد ألف عمله (عنوان ¬

_ (¬1) انظر علي الشابي (المجلة التاريخية المغربية) 1979، 80. (¬2) فيرو (روكاي)، 1868، 175 صفحة، وأضاف له فيرو ملحقا عن الزيبان وورقلة وما حولهما. (¬3) من نسخة مخطوطة من كتاب العدواني أعطاها لي الشيخ التليلي مشكورا. (¬4) نسختان منها في المكتبة الوطنية - الجزائر، 1635، 1636. انظر عن ابن خلوف فصل الشعر من هذا الجزء، فقرة الشعر الشعبي.

الأخبار فيما مر على بجاية) في القرن العاشر أيضا، وما تزال معلوماتنا عن المؤلف وعن الكتاب غير دقيقة، ولكن ما ذكره عنه السيد فيرو يدل على أنه كتاب هام تناول فيه المريني تاريخ بجاية في العهد الإسلامي والإسباني، واستيلاء العثمانيين عليها في عهد صالح رايس باشا سنة 962 ووصف لأحوالها الاجتماعية والسياسية، وكذلك أحوال قسنطينة وما حولها. وقد حصل منه السيد فيرو على نسخة من أحد علماء بني يعلى، ويدل العنوان الذي ذكره للكتاب أنه غير كامل لأن من عادة المسلمين تسجيع العناوين، وهذا غير مسجع، وقد عالج فيه المريني أيضا ما ارتكبه الإسبان من الفظائع ضد المعالم والآثار الإسلامية ببجاية، وقال فيرو ان المعلومات التي في هذا الكتاب تصحح المعلومات التي أوردها عن بجاية أمثال مارمول وليون الإفريقي (حسن الوزان) (¬1). ومن المؤلفين الذين ما يزالون مجهولين، بركات الشريف الذي كتب عملا هاما في تاريخ الجزائر، ولا سيما تاريخ العثمانيين فيها، ولا ندري الآن حتى عنوانه بالضبط. والغالب أن يكون بركات الشريف قد عاش خلال القرن الحادي عشر لأن ابن أبي دينار مؤلف (المؤنس) قد نقل عنه، بينما انتهى ابن أبي دينار من كتابه سنة 1092. وفي كل مرة ينقل منه يقول عنه (رحمة الله عليه) وهي عبارة توحي بأن بركات الشريف قد توفي. ومما نقل عنه ابن أبي دينار غزوة أبي فارس عبد العزيز الحفصي مدينة فاس، وتولى عروج بربروس على الجزائر وهزيمة شارل الخامس أمام الجزائر، ووفاة السلطان الحسن الحفصي، وغير ذلك من الأخبار (¬2). ومن هنا يتبين خطأ السيد فيرو عندما قال إن الورقة التي وجد فيها أخبارا عن أحوال الجزائر في القرن الثاني عشر هي من تأليف ضائع لبركات الشريف (¬3). والظاهر أن بير بروجر قد تبعه في ¬

_ (¬1) فيرو (المجلة الإفريقية)، 1868، 245. انظر أيضا فقرة المكتبات من فصل المؤسسات الثقافية في الجزء الأول. (¬2) ابن أبي دينار (المؤنس) ط. تونس، 145، 151، 158. (¬3) فيرو (المجلة الإفريقية)، 1866، 180.

ذلك (¬1). ومهما كان الأمر فإن بركات الشريف قد كتب أيضا عن ثورة قسنطينة سنة 971، وسنة 975، وعن ثورة ابن الصخري سنة 1047، وأرخ لباشوات الجزائر إلى وقته هو، وقد كان مواليا للعثمانيين حتى اعتبره أحمد الأنبيري (مؤرخ عروج والولاة الأتراك الذين خلفوه على حكم الجزائر) (¬2)، وقال بير بروجر انه قد يكون هو الذي ترجم غزوات عروج وخير الدين من التركية إلى العربية. ولكن هذا خطأ أيضا لأننا عرفنا أن الذي أمر بترجمة الغزوات إلى العربية هو الشاعر المفتي ابن علي في القرن الثاني عشر. ومهما كان الأمر فإن تأليف بركات الشريف يعتبر هاما في هذا الميدان لأن ما اطلعنا عليه منه يدل على عنايته بدقائق الأمور واتباعه طريقة السنوات، وتسجيل مظاهر الحياة الاجتماعية والاقتصادية التي عرفتها الجزائر. وقد حظيت ثورة ابن الصخري بتأليف في شكل (مذكرات) كتبها الشيخ عيسى الثعالبي الذي كان، كما قلنا، مناصرا للأتراك ضد الثوار. وكان الثعالبي قد بعث بهذه المذكرات إلى أستاذه بعنابة (أو قسنطينة) عندما كان هو في نقاوس. وكان أستاذه هو علي بن محمد ساسي البوني. ومما ذكره في المذكرات معركة كجال الشهيرة التي كانت بين العرب والترك، كما ذكر تجمع الثوار عند أبواب قسنطينة، ووصف خسائر العرب والترك. ومما يؤسف له أن هذه المذكرات في حكم الضائعة الآن (¬3). وفي أوائل القرن الحادي عشر بدأ أحمد المقري يكتب تاريخ تلمسان، وهو في المغرب الأقصى، ثم توقف عن ذلك لأسباب لم يفصلها، ولعلها هي الحوادث التي جرت بالمغرب وأجبرته على الهجرة إلى المشرق باسم الحج، كما أشرنا. وقد سمي المقري هذا الكتاب (أنواء نيسان في أنباء تلمسان). وأخبر هو عن ذلك في كتابه (نفح الطيب)، بأنه كتب بعضه عندما كان بالمغرب ثم حالت بينه وبين إتمامه عوائق (حالت بيني وبين ذلك العزم ¬

_ (¬1) نفس المصدر، 352. (¬2) (علاج السفينة في بحر قسنطينة) مخطوط خاص. (¬3) اطلع على بعضها فايسات وترجم منها إلى الفرنسية، انظر (روكاي)، 1867، 339.

الأقدار) (¬1). ولو أتيح لهذا الكتاب أن يتم لجاء هاما في بابه وموسوعة تشبه موسرعته عن الأندلس. ولكن هذا العمل قد ضاع كما ضاع عمله الذي سماه (عرف النشق في أخبار دمشق) الذي يبدو أنه خصصه لتاريخ دمشق وأهلها. ومن الحوادث الهامة التي ألف فيها الجزائريون فتح وهران الأول سنة 1119. فبالإضافة إلى القصائد الكثيرة التي أشرنا إليها في الأدب السياسي وغيره، ألف محمد بن ميمون كتابه (التحفة المرضية في الدولة البكداشية) الذي تحدث فيه، بأسلوب أدبي، عن سيرة محمد بكداش باشا ودولته والفتح والجيش ونحو ذلك مما يتصل بهذا الحادث الكبير. ولا نود أن نطيل في وصف هذا العمل لأننا ذكرناه في باب الأدب أيضا. وتدل عناوين المقامات على نوعية العمل الذي عالجه ابن ميمون: فالمقامة الأولى عنوانها (في نبذة من أخلاقه المرضية، ومما أشار به عليه بعض السادات الصوفية) والمقامة الثانية عنوانها (في كونه سانجاق دار، بلغة المجاهدين الأخيار). والثالثة (في توليته عنى تقسيم خبز العسكر، وكيف نزع الظالم حين طغى وتجبر). والرابعة (على أنه يتصدى ملكا للإيراد والإصدار، فزحلق نفسه إلى تفتردار)، والخامسة (في تغريبه من الجزائر، وعودته إليها بقدرة الحكيم القادر). وهكذا إلى نهاية الست عشرة مقامة. فهو إذن عمل أدبي من ناحية وتاريخي من ناحية أخرى (¬2). وقد أوحى النصر في وهران إلى مفتي تلمسان عندئذ، الشيخ محمد بن أحمد الحلفاوي برجز طويل وهام احتوى على 72 بيتا ومقسم إلى خمسة فصول، الأول، في ذكر دولة محمد بكداش، والثاني في وصف تجهيزه الجيش وتاريخ الهجوم وقائد الحملة ونحو ذلك، والثالث في محاصرة القلاع والحصون ووصف ذلك، والرابع في ما آل إليه أمر المسلمين والإسبان، والخامس والأخير في الثناء على الله والصلاة على النبي والرضى عن صحابته ¬

_ (¬1) (نفح الطيب) 9/ 342. (¬2) ذكر ديفوكس في (التشريفات)، 12 أن الفونس روسو الفرنسي قد ترجم (التحفة المرضية) إلى الفرنسية. والمعروف أن محمد بن عبد الكريم قد حققها ونشرها سنة 1972.

وتسمية الناظم. وكان الحلفاوي هو الذي طلب من عبد الرحمن الجامعي شرح الأرجوزة. وقد انتقد الجامعي شيخه الحلفاوي في أنه لم يضع فصلا عن السلطان العثماني الذي تم الفتح في عهده أيضا (¬1). ولذلك قام الجامعي بوضع أبيات من عنده في هذا المعنى وشرحها أيضا، وأشاد الجامعي بآل عثمان وفضلهم على الإسلام، كما انتقد الجامعي شيخه (الذي كان قد توفي عند كتابة الشرح) بأنه اعتنى كثيرا بالمحسنات البديعية، مما أدى به إلى ارتكاب محظورات شعرية (¬2). ولم يكن الحلفاوي وابن ميمون فقط هما اللذان ألفا في حادث وهران الأول، ولكن ذلك هو ما وصل إلينا. ويشير الجامعي إلى أن أحمد الفيلالي التلمساني قد دون أيضا تاريخا حول هذا الحادث. فهو يقول إنه استفاد من تاريخ الفيلالي عند شرح أرجوزة الحلفاوي، مضيفا بأنه لم يحضر (أي الجامعي) المعارك بنفسه ولكنه سجل ما رواه من أفواه المجاهدين وقال بالخصوص أن الفلالي قد (اعتنى بتدوين هذا الفتح الكريم وجمع من سيرة المجاهدين بين نثير ونظيم). وربما استعان بالشعر الملحون الذي قيل في هذا الحادث، كما نقل عن الشعر الموزون. ونحن نفهم من هذا أن أحمد الفيلالي قد ألف في تاريخ فتح وهران وأنه اعتمد في تأليفه على السماع والمشاهدة وعلى ما جمعه من شعر موزون وملحون في هذه المناسبة (¬3). ولكن فرحة الانتصار بهذا الفتح لم تدم طويلا. فقد قتل الباشا بكداش سنة 1122، وتطورت الأمور في اتجاه آخر، وكان من نتيجتها أن عاد ¬

_ (¬1) وهو أحمد الثالث، 1115 - 1143. (¬2) الجامعي (شرح أرجوزة الحلفاوي) مخطوطات باريس 5113. في هذا الشرح أخبار عن الشعراء الجزائريين أيضا أمثال ابن علي والقوجيلي وابن راشد وابن محلي ومحمد بن يوسف الجزائري وابن ساسي البوني وابن ميمون الخ. والمعروف أن الجامعي لم يحضر حوادث الفتح وإنما جاء بعدها بقليل. (¬3) الجامعي (شرح أرجوزة الحلفاوي) مخطوط باريس، وقد لاحظ الجامعي أن الفيلالي كان يستطرد في تأليفه وأن كلامه فيه لحن واختلال.

الإسبان إلى احتلال وهران سنة 1145. وكان بعض المسلمين يتعاونون مع الإسبان المحتلين. وفي هذا الموضوع الف عبد القادر المشرفي رسالته المسماة (بهجة الناظر في أخبار الداخلين تحت ولاية الإسبانيين بوهران كبني عامر) (¬1). وكان المشرفي من كبار علماء وقته وهو أستاذ أبي راس وغيره. وقد استعرض المشرفي تاريخ الوجود الإسباني في وهران وعلاقة الجزائريين المجاورين به وذكر أهم الحوادث التي عرفتها وهران تحت الحكم الإسباني، وفي هذه الرسالة أخبار قصيرة عن علماء الوقت أيضا ورجال الدولة. وقد انتهى منها سنة 1178. وهي باختصار، تشنيع على من كان يتعاون من المسلمين مع المحتلين الإسبان ومع أهل الذمة كاليهود. وهي رسالة قد هيأت النفوس لفتح وهران الثاني. وقبل أن نتحدث عن فتح وهران الثاني وما تركه من مؤلفات تاريخية نذكر أن حملة إسبانيا على الجزائر سنة 1189 (1775) قد دونها بعض الكتاب أيضا في عدة أعمال هامة. من ذلك الرسالة التي كتبها أحمد العنتري القسنطيني عن حملة أوريلي. وكان العنتري شاهد عيان لأنه رافق الجيش الذي جاء على رأسه صالح باي من قسنطينة لمساعدة الجيش الرئيسي في مرسى الجزائر. وقد روى ما شاهد بالتفصيل، وهو كموظف في إدارة إقليم قسنطينة ومن التجار الكبار في مدينة عنابة ووكلاء الباي لدى الأوروبيين فيها، كان يعرف الكثير عن الجيشين وعن الظروف التي أحاطت بالحادث. ولم يحاول أن يذكر خسائر المسلمين في هذه الواقعة. وقد تحدث عن عدد أسطول الإسبان الذي بلغ 480 سفينة عند وادي الحراش ووصف معسكرهم ومعسكر المسلمين، كما وصف مواقع كل جيش: فصالح باي كان عند قنطرة الحراش، وخوجة الخيل كان في باب الواد، وخليفة باي الغرب الجزائري كان في عين الربط، والخزناجي عند وادي الخميس (الحميز)، ووصف كذلك حضور الأهالي للجهاد وقد تدفقوا من كل حدب وصوب، ومن كل ¬

_ (¬1) نشر هذه الرسالة محمد بن عبد الكريم (بدون تاريخ)، وكانت قد ترجمت إلى الفرنسية. انظر (المجلة الإفريقية) 1924.

الطبقات الاجتماعية أيضا، بمن في ذلك العلماء والطلبة الذين جاء بهم صالح باي من قسنطينة. وكانت مشاركة الطلبة والعلماء تتمثل في الدعاء إلى الله بالنصر والنجدة وقراءة البخاري. وأعطى العنتري أهمية خاصة لدور صالح باي. فهو الذي اقترح تعديل خطة الجيش وطريقة الهجوم حتى حصل النصر. وأضاف بعض الوصف للمعارك التي كانت دواليك، ولم يهمل دور الطبيعة في الموضوع فوجدناه يتحدث عن البرق والرعد وقوة العاصفة التي جعلت الإسبان ينسحبون، وجاء بشيء من الخيال في ذلك أيضا حتى أن بعضهم قد رأى ليلة العاصفة محاربين على خيول بيضاء يحاربون الإسبان، وعندما سأله قال له إنه علي بن أبي طالب (¬1). ومما يذكر أن العنتري ذكر أن اليهود أيضا قد انتقموا من الإسبان خلال هذه الواقعة. وفي هذه الرسالة أخبار عن الداي محمد باشا. وبناء على العنتري فإن خسائر الإسبان كانت كبيرة. فقد جاء أحد التجار الفرنسيين من تونس إلى الجزائر وأخبر الباشا، بعد أن سمح له بالمقابلة، إن حالة الإسبان عند الانسحاب، حسبما حكوا له، سيئة وأنهم خسروا 3.000 (ثلاثة آلاف) قتيل وأربعة آلاف جريح، ومن موتاهم قائدان كبيران. وذكر له أيضا أن الناجين منهم لا يستطيعون الظهور أمام ملكهم أو أمام الأوروبيين عموما، لأنهم تخلوا عن مواقعهم وأسلحتهم (¬2). والملاحظ أن العنتري قد كتب الرسالة بعد ثلاث سنوات من الحملة. وإذا كان أحمد العنتري قد كتب عن حملة أوريلي باعتباره مرافقا لصالح باي، فإن محمد بن عبد الرحمن الجيلالي بن رقية التلمساني قد كتب ¬

_ (¬1) حول هذه الخرافة انظر أيضا قصة المرابط أحمد الزواوي الذي قيل إنه أرسل فرسه الرقطاء تحارب مع المسلمين ثم عادت إليه، انظر الفصل السادس من الجزء الأول. (¬2) ترجمها فيرو عن العربية ولم يذكر نصها العربي، ونشرت في (المجلة الإفريقية) 1865، 180 - 192. وفي (روكاي) أيضا، 1865, 47 - 63، ثلاث عشرة صفحة، وأحمد العنتري هو قريب (أو والد) محمد صالح العنتري الذي كتب تاريخ قسنطينة في العهد الفرنسي.

عن نفس الموضوع بأمر من الباي محمد بن عثمان. وعنوان رسالة ابن رقية هو (الزهرة النيرة فيما جرى في الجزائر حين أغارت عليها جنود الكفرة). وقد كتبها بعد الحادثة بوقت، أي سنة 1194. ويبدو أن رسالة ابن رقية أكثر أهمية من رسالة العنتري، لأنه ضمنها عدة وقائع هامة وأخبارا أخرى عن باشوات الجزائر ونشاطهم أيضا. وهي تنتهي بالواقعة التاسعة. ولعل ابن رقية قد بدأ رسالته سنة الحملة وهي 1189، وانتهى منها سنة 1194 كما ذكرنا. وقد نشرت هذه الرسالة بالعربية، كما ترجمت إلى الفرنسية (¬1). وتتمة لهذه النقطة نلاحظ أن مصطفى بن حسن خوجة الذي كان إماما بجامع خضر باشا بمدينة الجزائر وضع رسالة بالتركية في ثلاث عشرة ورقة حول علاقات الجزائر بإسبانيا، ولا سيما حملة أوريلي. وقد وضع لرسالته مقدمة بالعربية جاء فيها (... أما بعد فإني أردت أن أألف تاريخا أبين (فيه) مصالحة الجزائر مع إسبانيول بعد ما استولى على الجزائر ثلاث مرات، واحدة منها في البر واثنين منها في البحر وهزمهم الله بأنواع التهزيمات). وقد سمى مصطفى خوجة عمله (رسالة مضحكات وعجائبات) (¬2). وهو نفسه مؤلف كتاب (التبر المسبوك في جهاد غزاة الجزائر والملوك) بالتركية أيضا. وكان مصطفى خوجة قد جاء إلى الجزائر سنة 1168 وعين إماما في جامع خضر باشا. وبعد ثماني عشرة سنة عين (علام دار) أو حامل الراية ثم (خوجة التذاكر) أو كاتب التذكرات. وقد شارك في الحرب الجزائرية الإسبانية بنفسه وقال إنه رمى عدة قنابل بالمدفع. وسبق أن تحدثنا عن كتابة (التبر المسبوك)، الذي هو أيضا في الحرب المذكورة، في الجزء الأول (¬3). ¬

_ (¬1) اطلعنا على مخطوطة منها ضمن مكتبة محمد بن أبي شنب في المكتبة الوطنية بالجزائر، وهي في حوالي خمسين ورقة، ونشرها بالفرنسية السيد روسو، سنة 1841 بالجزائر، وهي في مدح الترك، ثم نشرها بالعربية ابن بابا عمر. (¬2) مخطوط بمكتبة توبكابي (إسطانبول رقم 1412. E.H، ومن نسخ الحاج محمد الطاهر سنة 1200 م. (¬3) انظر عنه أيضا دراية تيريز شلابوا في (مجلة فوليو أوريانتاليا) البولندية، 1976، 1977.

ولكن فتح وهران الثاني والأخير هو الذي حظي بعدة مؤلفات. ومعظم هذه المؤلفات كتبها أنصار الباي محمد الكبير الذي تم على عهده وعلى يديه هذا الفتح. فالمؤلفات إذن كانت تاريخا للحادث الكبير ولكنها أيضا كانت تاريخا لسيرة الباي وأعماله ومكانته بين الناس. وسنرى أن بعض هذه المؤلفات تتناول نشاط الباي في نواحي أخرى أيضا غير وهران. وقد كان للباي محمد الكبير إحساس كبير بالتاريخ لم يكن لغيره. فقد شجع الأدباء والكتاب على مدحه وقربهم إليه لكي يخلدوا اسمه في أشعارهم ومؤلفاتهم. كما شجع بعضهم على كتابة تاريخ ما يقوم به من أعمال وتدوين الأحداث التي كان يشترك فيها أو لها علاقة بمجده. من ذلك عمل ابن رقية المشار إليه. ومنه أيضا أنه كلف، أثناء محاصرة الإسبان بوهران، كاتبه الخاص محمد المصطفى بن عبد الله المعروف بابن زرفة أن يقيد الحوادث المتعلقة بالجهاد وما يصل إلى الطلبة المشاركين في الحصار من أطعمة وغيرها (¬1). وهو الذي أشار أيضا على أبي راس بشرح قصيدته السينية في الفتح، وعلى كاتبه الآخر ابن سحنون بوضع تأليف في الموضوع نفسه، وهكذا. وبعد أن أكمل ابن زرفة عمله المذكور سماه (الرحلة القمرية في السيرة المحمدية) (¬2). والواقع أن الكتاب ليس رحلة، كما يوحي عنوانه، وإنما هو في سيرة الباي محمد الكبير وجهاده. فقد بدأ في تقييده كما ذكرنا أثناء الحصار ثم توقف عن ذلك لأسباب لا نعرفها ولكنه ظل يجمع الأخبار والرسائل وغيرها، وكان له سبيل للوصول إلى الوثائق الرسمية أيضا باعتباره ¬

_ (¬1) (الثغر الجماني) مخطوط باريس. (¬2) لخصها هوداس في (مجموعة الأبحاث الشرقية) التي قدمت إلى مؤتمر المستشرقين الرابع عشر الذي انعقد بمدينة الجزائر سنة 1905، وقد اطلع هوداس منها على نسختين واحدة في 186 ورقة وهي بتاريخ 1207، والأخرى في 155 ورقة، وهي بتاريخ 1296. وقد أعطاني الأستاذ علي أمقران السحنوني مشكورا نسخة من هذه الرحلة مضروبة على الآلة الراقنة.

أحد الكتاب في إدارة الباي. ولا شك أنه أضاف إلى مصادره الشفوية والمكتوبة تجربته هو الخاصة. ولم يقسمه إلى فصول أو أبواب لأنه في الواقع كان يسجل الحوادث في شكل يوميات أو مذكرات، وإنما اختار لعمله ترتيبا آخر وهو الحوادث مرتبة أيضا على الشهور. فقد ابتدأ من الحصار خلال شهر صفر سنة 1205، وانتهى بالاستيلاء على وهران من قبل المسلمين في 27 فبراير 1792. وقد اختار لكتابته أسلوب السجع، كما أنه استعمل النثر العادي. وجاء في الكتاب أيضا باستطرادات وحشو مما أثقل النص. ولكن ابن زرفة كان على اطلاع واسع ويتمتع بحافظة قوية، فكتابه إذن ليس مجرد سرد لحياة الباي وحركة الفتح. فقد بدأ العمل بغزوات الرسول (صلى الله عليه وسلم) ليظهر تطابق ما قام به الباي مع سيرة الرسول، وأورد الأحاديث النبوية الدالة على الجهاد ونصرة الإسلام، وجاء ببعض الرسائل التي بعث بها الباي وأوامره، بالإضافة إلى بيان أسباب الحملة على وهران، ومدح الباي بما يناسب مقامه عنده، وأخذ عن ابن خلدون معظم الأخبار المتعلقة بمدينة وهران، ومن هذه المقدمة العامة التي تدل على حفظه واطلاعه انتقل إلى موضوعه الرئيسي مبتدئا بشهر صفر سنة 1205، وهو يمثل بداية الحملة، والملاحظ أن ابن زرفة، الذي كان يرافق جيش الطلبة وليس الجيش العام، قد ركز في كتابه على دور الطلبة ومشاكلهم ومطالبهم وحتى نزاعاتهم، وكان ذلك على حساب الحوادث العسكرية التي دارت بين الجيش الإسلامي والجيش الإسباني، وقد ختم كتابه بقصيدة في الفتح ومدح الباي. ويعتبر أحمد بن سحنون من أبرز من خلد فتح وهران الثاني ومناقب الباي محمد الكبير. فأثناء الفتح نظم ابن سحنون أرجوزة أشاد فيها بالباي وبالفتح على يديه، بدأها بقوله: حمدا لمن أزر نصر الدين ... ودان ناصريه أسنى الدين وفتح الأظار بالجهاد ... حتى غدت لينة المهاد

وكان يقوم بشرح القصيدة أثناء عمليات الفتح أيضا إلى أن انتهى منها بانتهاء الجهاد واسترداد وهران، فهو يقول عن نفسه انه تبين أن القصيدة في حاجة إلى شرح يبين ألفاظها ويحل غوامضها، وأن (لسان النظم محصور، وأن مؤداه لا بد فيه من قصور، والنثر أشد منه بيانا، إذ به يصير الخبر عيانا، وبتذليل النظم به تزداد عبارته تبينا، فعزمت على أن أشرح تلك القصيدة الخ.) (¬1). وقد سمى ابن سحنون شرحه الأدبي - التاريخي (الثغر الجماني في ابتسام الثغر الوهراني)، والعنوان على هذا النحو يوحي بأن المقصود هو الفتح وأن سيرة الباي تأتي عرضا، ولكن أحد المعاصرين لابن سحنون اقترح عليه تسميته (الدر والعسجد في مناقب الباي محمد). والتسمية الثانية أدل إذا عرفنا أن ابن سحنون قد خص هذا الباي بمعظم الكتاب وأنه قد مجده وتناول جوانب حياته المختلفة. غير أن اختيار ابن سحنون نفسه للعنوان الأول يدل على أنه كان يولي اهتماما أكبر من سيرة الباي، ولم يقسم الكتاب إلى فصول أيضا وإنما سار فيه على وحدة البيت من الأرجوزة، فهو يشرح كل بيت بما يناسب من البديع ثم يحل الألفاظ ويشرح المعاني، وقد استطرد في الكتاب فذكر الولاة الذين لم يوفقوا في الفتح قبل الباي محمد الكبير، واستفظع ما ارتكبه الإسبان ضد المسلمين ومقدساتهم، وجاء بالأحاديث الدالة على فضل الجهاد، كما ذكر أخبار الشعراء الذين مدحوا الباي وعلاقاته العامة، ولا غرابة في ذلك فقد قال عن عمله (قصدت بذلك تخليد مآثره، (يعني الباي محمد) وتدوين بعض محامده ومفاخره). وابن سحنون يستعمل السجع أحيانا في شرحه ولكنه سجع خفيف لا يثقل المعنى ولا يفسده، وكانت له صلة بالجهاد في المنطقة منذ أجداده، فقد أخبر أن عمه قد حضر فتح وهران الأول. وكان ابن سحنون يؤمن بقيمة التدوين التاريخي، فقد نقل عن ابن ¬

_ (¬1) مقدمة (الثغر الجماني)، مخطوط باريس.

خلدون عتابه لأهل المغرب على أنهم قد أهملوا رواية أخبارهم وأنسابهم، وهو يقول إن (آفة الحفظ عدم التقييد) ونقل عن الفرس أنهم كانوا يكتبون سير ملوكهم ويتدارسونها، وهذا رأي هام إذا لاحظنا أن تدوين التاريخ في الجزائر العثمانية كان قليلا جدا، والغريب أن ابن سحنون كان ما يزال صغير السن عند كتابة القصيدة والشرح الذي أتمه سنة 1207، وقد عرفنا أن مكانته الأدبية قد نالت تقدير علماء مدينة الجزائر الذين لاحظوا في تقريظهم لكتابه (الأزهار الشقيقة) أنه كان ما يزال غض العود، والواقع أن في (الثغر الجماني) أخبارا هامة ليس فقط عن فتح وهران والباي وحاشيته ومناصريه ولكن عن حياة الشاعر الأديب نفسه وعن المؤلفات الأخرى التي تتعلق بالغرب الجزائري وأخبار العلماء والمتصوفة في المنطقة، بالإضافة إلى أخبار أخرى لا تتعلق بالجزائر كحديثه عن الثورة الفرنسية ومقتل لويس السادس عشر (¬1). وقد قام أبو راس بعمل شبيه بما قام به ابن سحنون. فقد كتب أيضا قصيدة في فتح وهران ثم شرحها بطلب من الباي نفسه، وسمي القصيدة (نفيسة الجمان في فتح ثغر وهران)، أما شرحه لها فقد سماه (عجائب الأسفار ولطائف الأخبار)، فالشرح إذن أعم من القصيدة. وتفاصيل ذلك أن أبا راس كان عائدا من الحج سنة 1205 فسمع وهو بجزيرة جربة عن الجهاد في وهران فأسرع بالعودة عبر تونس وقسنطينة لكي يشارك فيه، وعند وصوله كتب قصيدة سينية، لأن الأمراء والأدباء يحبون قافية السين على حد قوله، أشاد فيها بالباي وبالجهاد والنصر وقدمها لولي نعمته، الباي محمد الكبير، ¬

_ (¬1) اطلعنا منه على نسختين مخطوطتين، واحدة في باريس رقم 5114، والأخرى في القاهرة، التيمورية، رقم 2186 تاريخ، وبين النسختين نقص وزيادة لأن المؤلف قد نقح عمله، وقد نشره المهدي البوعبدلي، سنة 1973 اعتمادا على نسخة أخرى، فاستفدنا من المقدمة التي كتبها له، ولابن سحنون كتاب سماه (عقود المحاسن) يبدو أنه ديوان أدب، وقد قال عنه ان الظروف لم تسمح بتقديمه إلى الباي، وهذا الكتاب الآن في حكم المفقود.

ويبدو أن الباي قد لاحظ أن القصيدة مكسورة الوزن ركيكة العبارة وأن أبا راس يجيد النثر أكثر مما يجيد الشعر فأشار عليه بوضع شرح للقصيدة يحل ألفاظها ويقرب معانيها، فقام أبو راس بذلك وانتهى من عمله سنة 1206 أي خلال سنة واحدة تقريبا. قسم أبو راس شرحه على القصيدة إلى جزئين، تناول في الأول قيمة التاريخ وتدوينه ومدونيه من المسلمين والفرس والروم وبني إسرائيل والبربر، وذكر الدافع إلى تأليف الشرح وكيف نظم القصيدة وتسمية الشرح بـ (عجائب الأسفار ولطائف الأخبار)، وتعرض في الجزء الأول أيضا إلى إنشاء وهران والدول التي تداولت عليها وما دهاها من (الأمور العظام الطوام، والنوائب العظام ومدة الكفر وأهل الإسلام) (¬1)، والواقع أن أبا راس قد أظهر في هذا الجزء قدرته على الحفظ والسرد، فقد تكلم عن حدود المغرب القديمة وعن البحر الأبيض، ومصر وبرقة وفزان، وعلاقة بني إسرائيل بالروم، وأنساب الأولين، ثم انتقل إلى بايات الغرب الجزائري, وكفاحهم ضد الإسبان، وهو يشيد بالعثمانيين، وخصوصا خير الدين وخلفه، وينقل عن كتب القدماء مثل ابن خلكان والتنسي، ويتحدث عن قبائل المغرب وسكان الأندلس، ونحو ذلك من الأخبار العامة، ولكنها متصلة بما كان يكتب عنه. أما الجزء الثاني من (عجائب الأسفار)، فهو يكاد يكون خاصا بفتح وهران وسيرة الباي، ولكنه مع ذلك لم يسلم من الأخبار العامة والاستطراد، فقد قال عن هذا الجزء انه يشتمل (على الفتح العظيم والفخر الجسيم، ومدح من .. فتحها (يعني وهران) الباي سيدي محمد بن عثمان). غير أنه تناول فيه أيضا أخبار بلاد السودان وعادات الطوارق والصحراء والتجارة بين المنطقتين، وتحدث عن ملوك الثعالبة، وتاريخ تلمسان، وكان قد أورد في هذا الجزء أيضا بعض أخباره الخاصة في الحج، ولذلك يعتبر هذا الجزء هاما في دراسة حياة أبي راس نفسه. ¬

_ (¬1) ورقة 80 من الجزء الأول، مخطوط الجزائر.

وأسلوب أبي راس على العموم بسيط ويكاد يشبه العامي أحيانا، فهو يأتي بالنقود الكثيرة عن غيره، وأحيانا يسجع، ولكن شتان بين سجعه وسجع ابن سحنون، وإذا كان هذا يعتمد على ذوقه فإن أبا راس كان يعتمد على حفظه. فكتابه هام من جهة أنه يؤرخ للقبائل التي سكنت المنطقة، ويذكر أنسابها ويسند أخباره فلا يذكرها جزافا، بالإضافة إلى تناوله تاريخ علاقات المسلمين بغيرهم في حوض البحر الأبيض، ولا سيما الأندلس، وأبو راس يقف موققا مؤيدا ملتزما مع الباي ومع العثمانيين عامة، وكان في ذلك وفيا للنعمة، لأنه عاش في أكنافهم، ولولا رعايتهم له لوجد نفسه مهاجرا أو ضائعا كما هاجر وضاع غيره من علماء بلاده، ومع ذلك لم يسلم من العناء في أخريات أيامه (¬1). ولدينا على الأقل ثلاثة تآليف أخرى تناولت هذه الفترة وأشادت بالباي محمد الكبير، وهي (رحلة الباي محمد الكبير) لأحمد بن هطال، أحد كتاب الباي المذكور، و (أنيس الغريب والمسافر في طرائف الحكايات والنوادر) (¬2) لمسلم بن عبد القادر، و (الاكتفاء في حكم جوائز الأمراء والخلفاء) لمحمد المصطفى بن زرفة، أما الأول فقد تناول فيه ابن هطال غزوة الباي محمد الكبير للأغواط وعين ماضي وشلالة وغيرها من بلدات النواحي الغربية وتغلبه هناك على أتباع الطريقة التجانية الناشئة، وكان الباي يريد من غزوته إظهار عضلاته وقوته وتوسع إدارته وأوامره، وقد نجح في ذلك. ولم يكن (أنيس الغريب والمسافر) لمسلم بن عبد القادر إلا رسالة في الحوادث التي مرت بها الناحية الغربية منذ حوالي سنة 1192 إلى حوالي سنة ¬

_ (¬1) اطلعنا على نسخة المكتبة الوطنية - الجزائر رقم 2003، وقد ترجم الكتاب إلى الفرنسية السيد أرنو (المجلة الإفريقية). انظر دراستنا عن أبي راس (مؤرخ جزائري معاصر للجبرتي: أبو راس الناصر) في (مجلة تاريخ وحضارة المغرب) عدد 12 - 1974، نشرت الدراسة أيضا في وقائع ندوة الجبرتي، القاهرة 1976، وهي أيضا منشورة في كتابنا (أبحاث وآراء في تاريخ الجزائر). (¬2) المكتبة الوطنية - الجزائر، رقم 2317.

1247، والظاهر أنه ألفه بعد دخول الفرنسيين، ولذلك ألقي فيه مسؤولية التدهور والهزيمة التي حلت بالجزائر على الأتراك، وعلى كل حال فإنه لا يبلغ فيه مبلغ أعمال ابن زرفة ولا ابن سحنون ولا أبي راس، وكان مسلم بن عبد القادر من كتاب الباي حسن، وكان شاهد عيان على ما حدث في الغرب الجزائري في الفترة المذكورة، كما كان صاحب نشاط أدبي ملحوظ في الناحية، متأثرا في الظاهر بسيرة الباي محمد الكبير فقد جمع حوله نخبة من أدباء وكتاب الناحية وجعلهم، بحكم مقامه السياسي، يخدمونه وينوهون به ويشرحون إنتاجه ويتقربون إليه، ومن هؤلاء أبو راس ومحمود بن الطاهر بن حوا، والظاهر أن مسلم بن عبد القادر قد خطط لكتابة تاريخ هام للدولة الإسلامية، إذ قسم عمله إلى أبواب وخاتمة، وبدأه ببعثة الرسول (صلى الله عليه وسلم)، ووصلت أبوابه اثني عشر بابا، أما الخاتمة فقد خصصها لتاريخ بايات الغرب الجزائري منذ حوالي سنة 1192. غير أن الباحثين لم يعثروا حتى الآن إلا على الخاتمة التي انتهى منها صاحبها سنة 1230، وقد سار في تأليفه على الطريقة التقليدية الموسوعية فذكر فيه الحكم والأمثال والمناقب والقصص إلى جانب التاريخ (¬1)، وإذا حكمنا من الخاتمة المطبوعة فإنه كان لا يمل من الاستطراد إذ يذكر فيها، بالإضافة إلى حكم البايات، (فوائد) عامة كقدوم الجراد، والمجاعة ونزول الثلج والثورات ونحو ذلك. وأما (الاكتفاء) لابن زرفة فهو عمل هام ولكنه لا يدخل في باب التاريخ كثيرا، لأن موضوعه الأساسي تاريخ القضاء الإسلامي ومواقف الحكام والعلماء من الشعوب والقبائل المغلوبة وأراضيها وممتلكاتها، وقد كان الباي محمد الكبير في أوليات حكمه عندما أشار سنة 1199 على ابن زرفة بجمع هذا التأليف، وكان الباي، الذي كان يخطط لمشاريعه الكبيرة ¬

_ (¬1) نشر الخاتمة المرحوم رابح بونار، الجزائر 1974. وجعل له مقدمة شرح فيها ظروف تأليف الكتاب وحياة المؤلف، ولكن هذا العمل ما يزال في حاجة إلى دراسة أشمل وكذلك البحث عن أصوله، وقد توفي مسلم بن عبد القادر بعين تموشنت سنة 1248 هـ.

وخصوصا غزو وهران وغزو الصحراء، في حاجة إلى وثائق تاريخية وشرعية تسانده عندما يواجه المتعاملين مع الإسبان أو المتمردين عن دفع الضرائب، وتعود أهمية هذا الكتاب أيضا إلى أنه يؤرخ للباي وعائلته قبل فتح وهران وشهرة الباي، كما أنه مهم لاحتوائه على أخبار تتعلق بحياة مؤلفه التي ما تزال مجهولة، فقد دخل خدمة محمد الكردي (محمد الكبير فيما بعد) منذ كان خليفة للباي الحاج خليل، ورافقه في حملته على تلمسان عندما ثار فيها الدرقاويون، وأصبح هو القاضي بعد تولي محمد الكردي وظيفة الباي، وقد أشاد بتاريخ الباي وحملاته الداخلية وحصاره لوهران وتجديده لمستغانم ومعسكر، ورافقه أيضا عندما ذهب إلى مدينة الجزائر لرد غارة إسبانية عليها سنة 1783، أما كتابه (الاكتفاء) فهو في الحقيقة رد على العلماء الذين تحركوا، بعد نجاح الباي، للحد من نشاطه وتدخلاته، فكان ابن زرفة هو لسان الباي لإسكاتهم بنقول وآراء جاء بها من كتب الأقدمين تساند ما كان الباي قد اتخذه أو يزمع عليه ضد الثائرين والمتمردين وغيرهم من المخالفين لسلطته، ولذلك تعرضنا إلى محتواه في فصل العلوم الشرعية (¬1). وهناك عملان آخران جديران بالذكر هنا، رغم أنهما لا يتعلقان بفتح وهران ولا بسيرة أحد البايات وهما (تقييد ابن المفتي) و (القول البسيط في أخبار تمنطيط). فقد كتب ابن المفتي عمله الصغير والهام لا في شكل تراجم لعلماء وباشوات مدينة الجزائر ولكن في شكل ملاحظات ونقد لأوضاع العلماء وعلاقتهم بالولاة وحياتهم الخاصة والعامة ووظائفهم، كما أبدى ملاحظات هامة عن الباشوات والحياة السياسية والاقتصادية قلما توجد في غير كتابه، وسنفصل القول عن (تقييد ابن المفتي) في ترجمتنا له بعد قليل. أما (القول البسيط) فمؤلفه هو الطيب بن الحاج عبد الرحيم التمنطيطي المعروف بابن بابا حيدة، وهو خاص بتاريخ توات (تمنطيط)، وقد قسم المؤلف عمله إلى مقدمة وفصول، فجعل الفصل الأول في أول من نزل توات ¬

_ (¬1) أخذنا معلوماتنا عن هذا الكتاب من الخلاصة التي كتبها عنه إيرنست ميرسييه في (روكاي) 1898، 312 - 340.

وبنى بها القصور، والفصل الثاني في اندراس أولاد يحيى وقدوم الشريف بن الزبير، والفصل الثالث في ذكر أولاد علي بن موسى، والفصل الرابع في ذكر علماء توات، والفصل الأخير هو الرئيسي والطويل في التأليف، وهو ينتهي بخاتمة عما يطلب من أهل البيت، ونحن لا نعرف عن مؤلف (القول البسيط) إلا أنه من أهل القرن الثاني عشر (¬1)، وكان التواتيون قد اهتموا بتاريخ بلادهم فكتبوا في مناقب أهلها وتواريخها وتجارتها وحياتها العلمية (¬2). ونود أن نختم الحديث عن التواريخ العامة والمحلية بكلمة عن التأليف في الأنساب، ويبدو أنه منذ ابن خلدون لم يهتم الكتاب الجزائريون بالأنساب اهتماما كافيا، ويذكر أبو حامد المشرفي أن محمد بن أحمد المغراوي له كتاب سماه (تمييز الأنساب) (¬3)، ولكننا لم نطلع على هذا الكتاب ولم يفصل المشرفي الحديث عنه وإنما نقل عنه نسب محمد بن علي أبهلول المجاجي الذي توفي سنة 1008. وقد أخذ المشرفي أيضا عن كتابين آخرين في الأنساب، ولكنه لم يذكر مؤلفيهما. الأول هو (سمط اللآل في معرفة الآل) (¬4)، والثاني هو (كمال البغية)، وقد نقل عنهما أيضا أخبار محمد بن علي آبهلول المجاجي، وألف في نفس الموضوع عبد القادر الراشدي القسنطيني، فقد نسب إليه عمل عن أصول القبائل والعائلات الكبيرة في قسنطينة ونواحيها، ولكننا لا نعرف الآن العنوان بالعربية، ومما تحدث عنه الراشدي أصل عائلة الفكون التي أرجعها إلى (فكونة) بالأوراس وليس إلى بني تميم كما تدعى عائلة الفكون (¬5). ¬

_ (¬1) مخطوطة باريس، رقم 6399 مجموع، وهو في عشرين ورقة. (¬2) انظر أطروحة فرج محمود فرج عن توات في القرنين 18 و 19 (مخطوطة) قسم التاريخ - جامعة الجزائر، وهي الآن مطبوعة. (¬3) المشرفي (ياقوتة النسب الوهاجة) مخطوط. (¬4) ينسب إلى الشيخ محمد قويسم التونسي المتوفى سنة 1114 كتاب بعنوان (سمط اللآل في التعريف بالرجال). والغالب على الظن أن الكتاب الأول لمؤلف آخر من أهل الجزائر. (¬5) أشار إلى ذلك فايسات الفرنسي في (روكاي)، 1868, 260، وقد اطلع على عمل الراشدي مخطوطا.

تراجم عامة

ولكن الذي اهتم بالأنساب، بعد ابن خلدون، هو أبو راس، فقد ألف فيها عدة أعمال وانتقد عدم العناية بها، ومن تأليفه في النسب (مروج الذهب في نبذة النسب ومن إلى الشرف انتمى وذهب) (¬1)، تكلم فيه عن أنساب الأدارسة بالمغرب وغيرهم، ولعل هذه العناية لأبي راس بالنسب والكتابة فيه هي التي جلبت عليه نقمة بعض السكان، في نواحي معسكر لأنه قد جرد بعضهم من الشرف بعد أن حلل أصولهم، وكان أبو راس شديد الولع بالأنساب يكثر من ذكر القبائل ومواطنها وفروعها وأصولها. وقد نسب إليه بعضهم كتابا عن أرهاط الجن أيضا سماه (تحفة الإخوان في أرهاط وقبائل الجان)، وقد نعى عدم العناية بالنسب بقوله: (إن امتياز النسب اندرس في هذا الزمان، فلا يكاد يتفق فيه اثنان حتى يقع اختلافا كثيرا (كذا) في الأمة الواحدة لاختلاط الأنساب وتباين الدعاوى) (¬2). والواقع أن أبا راس كان وفيا لفكرته، فهو لا يكاد يكتب كتابا إلا ويظهر فيه محفوظه عن الأنساب العربية والعجمية، كما يقول. تراجم عامة نعني بالتراجم العامة التآليف التي اشتملت على أكثر من ترجمة سواء كانت تتناول تراجم مدينة معينة أو ناحية أو عصر، في مقابل ذلك سنخصص حيزا في هذا الفصل للتراجم الخاصة، وهي التي كتبها أصحابها هادفين إلى ترجمة شخص بعينه كترجمة المقري لابن الخطيب، ويوجد في الوثائق التي اطلعنا عليها عدد من التراجم العامة بعضها قصير لا يغطي سوى بضع صفحات، وبعضها كبير، حتى أنه تجاوز الثلاثمائة صفحة، كما أن بعضها أراد به أصحابه الترجمة لعلماء وصلحاء ناحية معينة في فترة خاصة، وبعضها أرادوا له أن يغطي علماء وصلحاء مدينة ما، ومن الضروري أن نذكر بأن ¬

_ (¬1) (دليل مؤرخ المغرب) 127. (¬2) مقدمة (عجائب الأسفار) ورقة 3، مخطوط الجزائر.

هدفنا ليس الإحصاء ولكن ذكر ما عثرنا عليه من نماذج، ومن جهة أخرى فإن بعض هذه الأعمال مكتوب أصلا نثرا والبعض الآخر مكتوب في شكل رجز. ونبدأ بتأليف عبد الله بن محمد المغوفل الذي سماه (الفلك الكواكبي وسلم الراقي إلى المراتب)، وهو رجز في تراجم صلحاء وأولياء منطقة الشلف، مبتدئا بالقرن السادس ومنتهيا بالقرن التاسع، وطريقته أنه يذكر الولي بالاسم الذي اشتهر به وإن لم يكن كذلك سماه بما اشتهر به من صفة أو نسب حتى يأتي من يعرفه باسمه. وقد قال إن الغرض من ترجمة هؤلاء هو التبرك بمن مضى، والحث على الانتفاع بهم وتنبيه الغافل عنهم لكي يرقى بسببهم إلى الصلاح، ومن هؤلاء علماء سكنوا (البطحاء)، مثل أبي عمران موسى الشاذلي، وأبي أيوب، وابن أبي العافية، والسعدي، وأحمدوش، وممن ترجم لهم المغوفل شيوخ شيوخه أيضا، وبالإضافة إلى صلحاء البطحاء ذكر نفرا ممن سكنوا غرب وشرق وجنوب القلعة (الراشدية) ودافعوا عن البلاد، وحرسوها ضد ظلم الحكام، ولكن (انعكس الأمر بسوء الحال) فذل العزيز، وفقر الغني، فإلى أين المصير؟ فلعل الفرج سيكون ... واليسر بعد العسر يستبين وقد كنا ذكرنا أن المغوفل عاش في بداية العهد العثماني، ورجزه قصير وبسيط، ومن سوء حظه أن أحدا لم يعمد إلى شرحه وتوضيح التراجم التي لمح إليها أو اختصرها، وبذلك ظل محتوى الرجز غامضا، فكثير من الأسماء التي وردت فيه غير معروفة إلا للناظم (¬1). وشبيه بذلك أرجوزة محمد بن حوا (سبيكة العقيان فيمن حل بمستغانم وأحوازها من الأعيان)، فهي أيضا ظلت بدون شرح وفيها غموض كثير، ¬

_ (¬1) الرجز مخطوط في المكتبة الوطنية - الجزائر، رقم 2259 في سبع صفحات، وفي المجموع قصائد أخرى لنفس الشاعر، منها قصيدته العاطلة من النقط والتي مدح بها أحد أمراء الوقت.

وهي، كما يدل عنوانها، تتحدث عن علماء وصلحاء المنطقة المذكورة في مختلف العصور، ولكنها بالنسبة إلى (الفلك الكواكبي) متأخرة، ذلك أن ابن حوا قد عاش إلى أواخر القرن الثاني عشر الهجري (18 م)، وبذلك تضمنت سبيكته تراجم لم يتضمنها فلك المغوفل (¬1). ورغم قدرة أحمد بن قاسم البوني على الكتابة نثرا ققد عمد إلى نظم رجز طويل في علماء وصلحاء مدينة عنابة سماه (الدرة المصونة في علماء وصلحاء بونة)، والواقع أن هذا الرجز الذي بلغ ألف بيت يعرف بالألفية الصغرى، أما الألفية الكبرى التي قيل إنها بلغت ثلاثة آلاف بيت فلم نطلع عليها، وهي في نفس الموضوع، ومن المتوقع أن يترجم البوني في الألفية الصغرى لصلحاء وعلماء عنابة، وهم كثيرون، في مختلف العصور، ولا سيما عصره هو، وشيوخه. وقد قسم (الدرة المصونة) إلى أبواب وفصول، فترجم في الباب الرابع لشيوخه وجعل فيه فصولا لذكر شيوخه المغاربة وشيوخه في باجة وعنابة وتونس وتستور والقيروان، وغيرها من مدن تونس. والمعروف أن البوني قد رحل إلى المشرق أيضا وأخذ عن مشائخه كما أخذوا عنه، ومن المدن التي زارها وأقام بها مدينة رشيد المصرية، وقد عد البوني شيوخه في مناسبات أخرى مثل إجازته لابنه التي نقلنا عنها، ومثل رحلته الحجازية التي قيل إنه ذكر فيها حوالي عشرين شيخا، ولم يشرح البوني ولا غيره أرجوزته الهامة فظلت أيضا غامضة على العلماء فما بالك بالقارئ العادي (¬2). وللبوني تأليف في التراجم العامة خرج فيه عن نطاق الجزائر تماما ¬

_ (¬1) الخزانة العامة - الرباط رقم ك 1233، وكان ابن حوا حيا سنة 1176. (¬2) نشرت (الدرة المصونة) في (التقويم الجزائري) سنة 1913، ص 87 - 128 مع بعض التعاليق لمحمد بن أبي شنب، انظر أيضا الكتاني (فهرس الفهارس) 1/ 170، ومن ذلك أيضا أرجوزة عيسى التوجيني التي ترجم فيها لمعاصريه من أهل القرن العاشر. انظر المهدي البوعبدلي، مقدمة (الثغر الجماني) 67، وقد سمى التوجيني أرجوزته (بغية الطالب في ذكر الكواكب).

حيث ترجم للنحاة وعلماء اللغة العربية عموما، وقد سماه (فتح المتين بتراجم بعض مشاهير النحاة واللغويين). وقد سبق الحديث عنه وعن كتاب أستاذه ابن باديس (التنقيح في التعريف ببعض أقوال رجال طالعة التصريح على التوضيح) وذلك في فصل اللغة والنثر. وهناك من ألف مختصرا في التراجم نثرا يشبه المتن الذي يحتاج إلى تعليق وتوضيح، كما فعل عبد الرحمن بن عبد الله بن أحمد التجاني في عمله الذي سماه (عقد الجمان النفيس في ذكر الأعيان من أشراف أغريس) (¬1). من العنوان يتضح أن هذا العمل يتناول الأولياء والصلحاء والعلماء والأشراف، في ناحية أغريس بالذات، وقد شعر مؤلفه أن عمله يحتاج إلى تبسيط وبيان فأشار على تلميذه محمد الجوزي الراشدي بشرحه فرحب بالفكرة وشرحه شرحا طويلا تجاوز الألف ورقة، وسماه (فتح الرحمن في شرح عقد الجمان)، وأخبر محمد الجوزي أنه قد وشح شرحه (بأحاديث رائقة، وقصص لائقة، وأخبار فائقة، وختمته بتكميل ذكرت فيه الخلفاء الأبرار، والملوك والثوار، في كل النواحي والأقطار). وهو أيضا قد ألفه في غريس التي شكا من حالها في عهده. ولعل تلك الاستطرادات هي التي ضخمت الكتاب فضاعت الفائدة من المتن والشرح معا (¬2)، ولعل قصر المتن وطول الشرح هو الذي حمل أبا راس على وضع شرح آخر (لعقد الجمان النفيس)، سماه (إيضاح الغميس وأنوار البرجيس بشرح عقد الجمان النفيس) (¬3)، وقد سار فيه أبو راس سيره في شروحه الأخرى التي جعلها على (العقيقة) وعلى ¬

_ (¬1) ترجمه إلى الفرنسية السيد ل. قان Guin ونشره في (المجلة الإفريقية) 1891، 241 - 280، وبناء عليه فإن مؤلف (عقد الجمان) قد عاش في حوالي القرن الحادي عشر (17 م). (¬2) اطلعنا على شرح محمد الجوزي في مكتبة زاوية طولقة، وهو بدون ترقيم وبخط جيد. (¬3) ذكره المؤلف نفسه في (فتح الإله) وعده من كتب التصوف، كما نسبه إليه السيد ل. قان في (المجلة الإفريقية) 1887، 72.

(مقامات الحريري) وعلى (إسماع الأصم) ونحوها، ومهما كان الأمر فإن (عقد الجمان النفيس) محسوب من تراجم المتصوفين. ويعتبر كتاب (البستان) لابن مريم المديوني من أهم المعاجم في تراجم الرجال، فقد كتبه في بداية القرن الحادي عشر ورتبه على حروف المعجم مبتدئا بمن اسمه أحمد. والمفروض أن الكتاب خاص بالتراجم التلمسانية ولكن قارئه يجد فيه تراجم لمصريين وشاميين وقيراونيين وفاسيين وأندلسيين أصلا، وكان ابن مريم وفيا لعنوان كتابه (¬1)، فقد حشاه بأخبار العلماء العاملين أصحاب التدريس والمؤلفات والوظائف، وبأخبار الصلحاء والأولياء من دراويش وخرافيين. ولم تكن هذه التراجم مقصورة على قرن بعينه، فنحن نجد ابن مريم يترجم لمن كان في القرن السادس ومن كان في القرن الحادي عشر. وكان المؤلف نفسه يعتقد في ولاية الأولياء وكراماتهم، لذلك حشا كتابه بأخبار هذه الكرامات والخوارق. ونلاحظ أنه كلما اقترب من عصره اختصر الترجمة وزادت أخبار الدراويش. وأسلوبه بسيط سهل، وهو يستعمل أحيانا عبارات عامية مثل حملوا منه (شوامي) وهو يعني أحمالا، ومثل (رد الناس إليه بالهم) وهو يعني انتبهوا إليه أو حذروا منه. ثم أن التراجم غير متوازنة فبعضها لا يزيد عن السطر والسطرين وبعضها وصل إلى العشرين صفحة، وحين لم يجد ابن مريم شخصا تلمسانيا اسمه خليل ترجم للشيخ خليل بن إسحاق المصري. وحين لم يجد شخصا اسمه يوسف ترجم لرجلين اسمهما يوسف من غير تلمسان (تبركا بهما)، ويكشف ما ذكرناه إذن على أن خطة ابن مريم ليست منسجمة، فقد كان مدفوعا بالروح الدينية أكثر من الروح العلمية. ومع ذلك يظل (البستان) وثيقة تاريخية هامة، فقد اعتمد فيه ابن مريم ¬

_ (¬1) جاء في مخطوط (مطلب الفوز والفلاح) للبطيوي، تلميذ ابن مريم، أن عنوان كتاب البستان. هو (البستان في مناقب أولياء تلمسان)، وهو عنوان يناسب في الواقع روح مؤلفه. ج 2 المكتبة الملكية - الرباط 1667. انظر عن ابن مريم أيضا الفصل السادس من الجزء الأول.

على مؤلفات كثيرة، ومن ذلك (بغية الرواد) و (النجم الثاقب) و (رحلة) القلصادي، و (نيل الابتهاج) و (المواهب القدسية) للملالي، بالإضافة إلى عدد من المجاميع والكنانيش والمشافهة (ومن كتب عديدة). ثم إنه قد (أحس) بجو العصر من خلال تجربته هو الخاصة الطويلة في التعليم وممارسة التصوف، ومن خلال تجربة والده الذي كان يمتهن أيضا تعليم الصبيان. فكان ابن مريم معاصرا يكثر من التحولات السياسية والاجتماعية والدينية التي ساعدت على ظهور من ترجم لهم، وقد ألف ابن مريم غير (البستان) أيضا، فعد له تلميذه البطيوي في (مطلب الفوز والفلاح) نحو ثلاثة عشر كتابا، كلها في التصوف والفقه، ولا شك أن (البستان) هو أهم أعماله وما زال مرجعا ريسيا لتراجم الجزائريين، وخصوصا التلمسانيين، في العهد العثماني والذي قبله (¬1). ورغم أن تراجم عبد الكريم الفكون لم تنشر بعد فإنها على درجة كبيرة من الأهمية، ربما تفوق أهمية تراجم ابن مريم. والغريب أنه لا يفصل الكتابين سوى بضع سنوات فقط. فقد ألف ابن مريم كتابه سنة 1011 وألف الفكون كتابه حوالي سنة 1064. وكان الأول في تلمسان والثاني في قسنطينة. وكلاهما تعرض لرجال العلم ورجال الصلاح. ولكن بينما كان ابن مريم محبذا للتصوف، واصفا لأحوال العلماء والمتصوفين على ما كانت عليه، كان الفكون ناقدا للعلماء المنحرفين والصلحاء والأدعياء، ناقما عليهم ما كانوا عليه من شعوذة وحب للدنيا والمتاجرة بعقول العوام. وهكذا يصبح كتاب الفكون مكملا للبستان في وضع كثير من الأمور في نصابها. سمى عبد الكريم الفكون كتابه (منشور الهداية في كشف حال من ادعى ¬

_ (¬1) ترجم البستان إلى الفرنسية السيد فنزالي وأخذ منه الأب بارجيس كثيرا في كتاباته عن تلمسان، ونشر نصه بالعربية محمد بن أبي شنب، الجزائر، 1908. ونعتقد أن أول من ترجم لابن مريم وعرف بعصره هو تلميذه عيسى البطيوي، ولكن كتابه لم يكن معروفا، لذلك ظلت حياة ابن مريم مجهولة حتى الآن، انظر عنه أيضا كتاب (كعبة الطائفين) لمحمد بن سليمان.

العلم والولاية). وترجم فيه لأكثر من سبعين شخصا من العلماء الصالحين والمتصوفة الحقيقيين إلى العلماء الجهال والأولياء الدراويش. وغطى فيه تراجم القرن العاشر وبداية الحادي عشر فقط، أي إلى وقته هو، مبتدئا بجده وعمر الوزان ومحمد التواتي، وخاتما بمعاصريه أمثال أحمد المقري ومحمد ساسي البوني. وقد قسم الكتاب إلى فصول، ولم يتبع فيه التظام الأبجدي. فكأنه كان يدرس ظواهر وموضوعات ولا يكتب تراجم جافة وسيرا جامدة فيها الولادة والوفاة، وبعض الأعمال والمؤلفات. رتب الفكون كتابه على مقدمة وثلاثة فصول وخاتمة. ففي المقدمة بين دافع التأليف، وهو تكاثر أدعياء العلم وأدعياء التصوف. وجعل الفصل الأول (فيمن لقيناه من العلماء والصلحاء المقتدى بهم، ومن قبل زمنهم، ممن نقلت إلينا أحوالهم وصفاتهم تواترا، أردنا التنبيه عليهم، وذكر ما كانوا عليه وزمانهم وتواريخ وفاتهم). وخص الفصل الثاني بـ (المتشبهين بالعلماء، وهم الذين قصدنا بهذا التقييد إيضاح أحوالهم). وجعل الفصل الثالث (في المبتدعة الدجاجلة الكذابين على طريق الصوفية المرضية). أما الخاتمة فقد خص بها (إخوان العصر وما هم عليه) (¬1). وطريقة الفكون في هذه التراجم أنه يبرز معالم الشخص الذي يترجم له تحسيتا أو تقبيحا. فهو يذكر الشخص وأصله وبلده وتعلمه وشيوخه ومواقفه وعلاقاته. ويروي بعد ذلك أخبارا عنه وحكايات جرت له مع معاصريه ومع الحكام، حسب عنوان الفصل الذي جاءت فيه الترجمة. فإن تحدث عن أهل الصلاح جاء بأخبارهم وكراماتهم وإنصافهم للحق ومواقفهم المتشددة من أجل الدين والحقيقة. وإن كان يصف أهل الدنيا والجاه من العلماء الجهال جاء بأخبار صلاتهم بالأمراء والحكام والمناصب وقبولهم الرشوة والتهاون في الدين والأخلاق. وإن كان يتحدث عن أهل الولاية الكاذبة ذكر أخبار دجلهم وخرافاتهم وابتداعهم ونفاقهم وأكلهم أموال الناس بالباطل وحتى ¬

_ (¬1) (منشور الهداية) 5. مخطوط بالمكتبة الوطنية - الجزائر، غير مرقم. عن ترجمة الفكون انظر الفصل السادس من الجزء الأول.

أحوالهم العقلية والنفسية كالجنون والتوتر العصبي ونحو ذلك. وهو في كل ذلك يقارن الصالح بالطالح فيقول انظر كيف تصرف فلان، أما أهل الفساد اليوم فيفعلون كذا وكذا، أو هذا في زمانهم فما بالك بزماننا. ولعل أبرز ما في (منشور الهداية) حديث مؤلفه عن العلاقات العامة في عصره. فنحن نجد فيه ما نجده في غيره عن صلات العائلات القسنطينية وروابط العلماء، وعلاقات هؤلاء وأولئك بالحاكمين العثمانيين. كما نجد فيه وصفا لبعض الثورات ضد الحكام. بالإضافة إلى وصف هام للأحوال الاجتماعية والاقتصادية في الريف والمدينة. ولذلك قلنا إنه ليس كتاب تراجم جافة وإنما هو وثيقة حية تصف العصر وأهله. والذين قالوا عن الكتاب بأنه في (أحوال فقراء العصر) مثل العياشي، لم يقرأوه ولم يرضوا عن مؤلفه الذي كان في نظرهم ضد تيارهم وطريقتهم. ولذلك قال العياشي عن مؤلفه إنه عدل عن علوم أهل الرسوم في آخر عمره وأصبح من المتزمتين المنزوين عن الناس (¬1). ومهما كان موقف الفكون في نهاية حياته فإن كتابه (منشور الهداية) قد أصبح بالنسبة إلينا نحن جيل هذا القرن مرآة نرى منها جانبا من حياة أجدادنا في عصر ساد فيه الغموض والغوضى (¬2). ومن سوء حظ الباحثين أن تراجم أحمد بن عمار قد ضاعت ولم يبق منها سوى نتف مذكورة في (نحلة اللبيب). ذلك أن كتاب ابن عمار الذي سماه (لواء النصر في فضلاء العصر) لم يعثر له على أثر حتى الآن، مثله في ذلك مثل رحلة المؤلف الحجازية. وكان ابن عمار قد ترجم في كتابه الضائع (لفضلاء) عهده والقرن السابق له، ولم يترجم لصلحاء الوقت كما فعل ابن مريم وأمثاله، مما يوحي أن مختاراته كانت على رجال العلم والأدب ¬

_ (¬1) العياشي (الرحلة) 2/ 396. (¬2) اطلع السيد فايسات (روكاي) 1868، 263، على صفحات من كتاب الفكون. وقال انه (مذكرات عن رجال وحوادث عصره). وحاول الحصول على نسخة منه، وبعد جهد جهيد أيس عازيا ذلك إلى اللامبالاة وسوء نية المالكين للكتاب وقلنا إن هذا الكتاب قد حقق ونشر في بيروت، 1987.

تراجم خاصة

والقضاء والشعر، وليس عن أهل التصوف والولاية. فنحن نجد في الأمثلة التي ساقها في (نحلة اللبيب) أنه تحدث عن ابن علي وأحمد المانجلاتي. وكلاهما شاعر وأديب وعالم بالفقه واللغة. ويبدو أن ابن عمار لم يقتصر في تراجمه على أهل الجزائر فحسب، رغم أننا لا نملك الدليل على ذلك الآن. وكان يطيل في التراجم ويذكر النصوص الطويلة من الأشعار والموشحات والأخبار الأدبية والشخصية. فترجمته حينئذ لم تكن باردة. ويمكننا أن نغامر فنقول إنه قد يكون ترجم في كتابه الضائع للقوجيلي وقدورة والأنصاري وعيسى الثعالبي وابن ميمون وابن عبد المؤمن والجامعي وابن زاكور والمنور التلمساني والفكون وأضرابهم من العلماء والأدباء والقضاة والمفتين، ولو استطعنا العثور على (لواء النصر) لكان نصرا للأدب الجزائري في العهد العثماني لمكانة ابن عمار الأدبية وحذقه وذوقه فيما يختار من التراجم والنصوص (¬1). تراجم خاصة قصدنا بالتراجم الخاصة، كما قلنا سابقا، المؤلفات التي وضعت لتترجم لشخص بعينه. فتدرس عصره وعلمه ونشاطه وعلاقاته وأثره. ولدينا عدد من هذه الأعمال. من ذلك ترجمة أحمد العبادي التلمساني لمحمد بن يوسف السنوسي. والواقع أن هناك عباديين كلاهم يدعى أحمد، أحدهما توفي في الأربعينات من القرن العاشر والآخر توفي بعد 986. والأول هو الوالد والثاني هو الولد. وكلاهما عالم مشار إليه. ولكن الإشكال هو: أيهما كتب سيرة السنوسي (¬2)؟ والغالب على الظن أن الذي فعل ذلك هو الوالد لأنه ¬

_ (¬1) ذكره ابن عمار نفسه في (نحلة اللبيب)، وقال إنه صدره بترجمة شيخه ابن علي، بينما ذكر له أبو راس (الرحلة) ولم يشر إلى كتابه (لواء النصر). (¬2) ترجم ابن عسكر في (دوحة الناشر) لكليهما، 200 - 203 من الترجمة الفرنسية. وذكر أن أحمد العبادي (الولد) هو أستاذه وأنه ما يزال حيا عند كتابة (الدوحة) سنة 968. انظر أيضا (الإعلام بمن حل بمراكش) 2/ 37.

يشير في المقدمة إلى أنه قد عرف السنوسي وهو يافع وحضر آخر درس له وأنه تتلمذ حقيقة على محمد بن عمر الملالي (¬1)، تلميذ السنوسي. فإذا صح ما رشحناه فإن أحمد العبادي (الوالد) قد عاش في تلمسان الزيانية ورحل إلى فاس الوطاسية وأنه تولى التدريس في جامع القرويين باقتراح من السلطان. وكانت له علاقة وطيدة بالسلاطين الوطاسيين مما أورثه عداوة فقهاء فاس، وكان عليه أن يواجه صعوبات جمة. وقد توفي، كما قلنا، في تلمسان في أوائل العقد الرابع من القرن العاشر. ولم يذكر ابن عسكر الذي ترجم له باختصار؛ بينما ترجم لولده مطولا نسبيا، أنه كتب شيئا عن السنوسي. ولكن أحد الباحثين وجد رسالة للعبادي كتبها عن السنوسي بطلب من بعض علماء فاس سنة 926. ورغم أننا لم نطلع على نص هذه الرسالة العربي، فالذي لا شك فيه أن العبادي كان يعرف عن السنوسي الكثير بحكم معرفته الشخصية له وبحكم تتلمذه على الملالي، وأخيرا بحكم عيشه في تلمسان التي كانت تحفظ للسنوسي ذكريات كثيرة يعرفها الخاص والعام. وعلى الباحثين أن يجدوا في العثور على النص العربي لرسالة العبادي عن السنوسي (¬2). وقد اختص محمد الصباغ القلعي بترجمة شيخ والده، أحمد بن يوسف الملياني. وكان الصباغ، كما أشرنا، قد عرف الملياني معرفة جيدة ولكن الذي عرفه أكثر ولازمه وتأثر به هو والده. فالصباغ إذن قد تأثر بالملياني مباشرة وعن طريق والده أيضا. وقد كتب عمله (بستان الأزهار) موسوعة عن حياة الملياني فيها الغث والسمين، الحقيقي والأسطوري، المقبول والمرفوض علميا .. فجاء كتابه وكأنه نوع من الذكريات والحكايات المتفرقة عن الملياني. وهو على كل حال مصدر أساسي عن هذا الشيخ الذي كثرت حوله الأساطير والأقاويل. وقد بدأ الصباغ كتابه على هذا النحو (.. وبعد ¬

_ (¬1) عن ترجمة الملالي للسنوسي انظر الفصل الأول من الجزء الأول. (¬2) ما اطلعنا عليه هو ترجمة لها قام بها بروسلار في (المجلة الإفريقية) 1861، 243 - 248. ولم يذكر بروسلار النص العربي لهذه الرسالة.

فإني لما رأيت أهل قلعتنا وسائر مجاشر (مداشر؟) هوارة وبني راشد وغيرهم محبين في الشيخ الولي الصالح القطب الغوث .. سيدي أحمد بن يوسف الراشدي .. أردت أن أقيد لهم مجموعا في ذكر شيء من مناقبه، ممزوجا بأحاديث المصطفى (صلى الله عليه وسلم) وحكايات الصوفية وما وقع من كرامات وخوارق العادات للأولياء مثل ما وقع للشيخ زروق وشيء من كلامه، وذكر تلامذته الأخيار). وقد رجع في هذه المعلومات إلى مصادر مكتوبة وشفوية كما رجع إلى كتب الصوفية القديمة. وفي الكتاب أخبار هامة عن أحوال العصر والمجتمع أيضا (¬1). ويعتبر أحمد المقري من أبرز الذين أجادوا الترجمة الخاصة. فقد برع في رسم خطة الترجمة بحيث يتتبع أخبار المترجم حتى قبل ولادته، ويتجسس عن أوليته وأسرته ونشأته وصباه وكهولته، ويذكر شيوخه ومؤلفاته، ويعتني بإنتاج المترجم وأخباره في الحياة العامة وخدماته للسلطان إن كان قد فعل ذلك، ثم وفاته، وآراء الناس فيه. وقد قيل انه قد تأثر في ذلك بمنهج لسان الدين بن الخطيب في (الإحاطة) لأن هناك تشابها في عناصر الترجمة والأسلوب والإنشاء. غير أن ابن الخطيب كان أقل استطرادا من المقري (¬2). وقد ترجم المقري لعالمين بارزين كلاهما يستحق ما بذله فيهما من جهد، وهما: القاضي عياض ولسان الدين بن الخطيب وكلاهما أصبح، بفضل المقري، معروفا للباحثين مدروسا من جميع الجوانب تقريبا، فلا يكاد المتأخرون يجدون ما يضيفون إلى ما قاله فيهما. ومن الطبيعي أن يبدأ المقري بترجمة القاضي عياض الذي كان حجة في المذهب المالكي بالمغرب العربي، فقد رغب منه أهل تلمسان أن يعرفهم بالقاضي عياض فأجابهم إلى ¬

_ (¬1) (بستان الأزهار) منه نسخ كثيرة مخطوطة، وقد طبع. انظر عن القلعي أيضا الفصل الثاني من هذا الجزء. انظر أيضا دراسة بودان بالفرنسية (المجلة الإفريقية) 1925. 131 - 180، ورجعنا أيضا إلى نسخة المكتبة الوطنية - الجزائر، رقم 1708. (¬2) مقدمة المحققين لكتاب (أزهار الرياض) 1/ د - هـ.

ذلك، وهو في المغرب الأقصى. واشتغل على هذا الكتاب المتعدد الأجزاء بين 1013 و 1027، وهو تاريخ رحيله إلى المشرق الذي لم يعد منه. ومن الحديث عن القاضي عياض استطرد المقري فتحدث عن الأندلس، وأخبار لسان الدين بن الخطيب وأحوال المسلمين في نهاية حكم الأندلس، كما ترجم أثناء الكتاب لعدد من الشخصيات الهامة مثل ابن الأزرق والقلصادي. فرغم أن الكتاب عن القاضي عياضى فإنه في الواقع موسوعة أدبية وتاريخية للأندلس والمغرب تضم نصوصا كثيرة لا توجد في غيره. وما دام المقري قد ألف الأزهار وهو في أول عهده بالتأليف وفي وضع سياسي خطير حيث قال وكانت (الأرض تميد اضطرابا واختلالا)، فإن كتابه قد ضعف من وجهين: ضعف المنهجية والاستطراد. فقد سماه (أزهار الرياض، في أخبار عياض، وما يناسبها مما يحصل به ارتياح وارتياض). ولا شك أن تعبير الشطر الثاني من العنوان قد جعل المؤلف يجلب لكتابه كل ما يعتقد أنه يأتي فعلا بالراحة والارتياض على حساب وحدة الموضوع وتسلسل الأحداث. وهو لذلك قسمه إلى رياض وليس إلى فصول أو أبواب. وكان المقري يدرك ذلك لأنه لاحظ أنه لم يسبق إلى مثل طريقته وأنه لم يقلد ما عرف في التراجم. وهكذا جاء الكتاب في ثماني رياض على النحو التالي: روضة الورد في أولية هذا العالم الفرد، وروضة الأقحوان في ذكر حاله في النشأة والعنفوان، وروضة البهار في ذكر جملة من شيوخه الذين فضلهم أظهر من شمس النهار، وروضة المنثور في بعض ما له من منظوم ومنثور، وروضة النسرين في تصانيفه العديمة النظير والقرين، وروضة الآس في وفاته وما قابله به الدهر الذي ليس لجرحه من آس، وروضة الشقيق في جمل من فوائده ولمع من فرائده المنظومة نظم الدر والعقيق، وروضة النيلوفر في ثناء الناس عليه وذكر بعض مناقبه التي هي أعطر من المسك الأذفر (¬1). فكأن المقري أراد أن يأتي بجديد في طريقة تأليفه ¬

_ (¬1) من مقدمة المؤلف في (أزهار الرياض)، 18.

ويتوسع في الأدبيات بطريقة لم يسبقه إليها غيره (¬1). وقد عدل المقري عن هذه الطريقة قليلا في ترجمته الطويلة أيضا للسان الدين بن الخطيب في كتابه (نفح الطيب). فقد خصص له القسم الثاني من هذا الكتاب وتتبع حياته كما فعل مع القاضي عياض، ولكنه كان أكثر منهجية هنا رغم كثرة الاستطرادات التي ظلت تميز أسلوب المقري وطريقته. وقد عرفنا أنه ألف (نفح الطيب) بطلب من أهل دمشق. وقسم المقري ترجمة ابن الخطيب إلى ثمانية أبواب (ولم يسمها رياض) فتحدث في الأول عن أولية وأسلاف ابن الخطيب، وفي الثاني عن نشأته وترقيته ووزارته وما لقي من ذلك من أيام عز وأيام هوان، وقصوره وأمواله وتقلبات الزمان ضده، وفي الثالث عن مشائخه وثقافته وما يتصل بذلك. وفي الرابع عن مخاطبات الملوك والأكابر الموجهة إليه وثناء أهل العصر عليه. وفي الخامس في جملة من نثره وشعره وأزجاله وموشحاته. وفي السادس عن تلاميذه، وأخيرا عن أولاده ووصيته لهم (وما يتبع ذلك من المناسبات القوية والأمداح النبوية) (¬2). وفي كلا الترجمتين يسير المقري في الواقع على طريقة أهل العصر. فقد عرفنا أن الاستطراد كان يعتبر من فضائل التأليف، وأن الالتزام بمنهج محدود يسبب في نظر الكتاب الملل للقاري فلا يتابع القراءة وتضيع الفائدة. فكان لا بد أيضا من حكايات ولطائف وأخبار إضافية تروح عن النفس في القراءة. وبقدر ما يحذق المؤلف طريقة جلب لطائفه وأخباره بقدر ما يكثر قراؤه ويبرهن على محفوظه وذوقه. وإذا كنا نحن اليوم نستثقل هذه الطريقة فإنها كانت لمعاصري المقري محببة ومطلوبة. ولذلك تكاثرت، كما لاحظنا، الاستطرادات عنده وتضخمت نقوله في كلا العملين، بل إن في (نفح الطيب) كثيرا من التكرار لما في (أزهار الرياض). ولكن دور المقري ¬

_ (¬1) انظر ترجمة أحمد المقري في فصل اللغة والنثر من هذا الجزء. (¬2) (نفح الطيب) 1 / المقدمة.

في الترجمتين عظيم. ولذلك ما يزال كتاباه مصدرين رئيسيين للباحثين في تاريخ الأندلس والمغرب العربي. وهناك بعض المؤلفات التي خص بها أصحابها حياة رجال التصوف. فلدينا كتابان تناول كل منهما حياة الشيخ محمد بن أبي زيان مؤسس الطريقة الزيانية الشاذلية كما عرفنا، فقد كتب أحدهم كتابا بعنوان (فتح المنان في سيرة الشيخ سيدي الحاج محمد بن أبي زيان) تحدث فيه عن حياة الشيخ وأعماله وفضائله والأشعار التي قيلت فيه ونحو ذلك. ولا نعرف الآن من هو المؤلف ولا متى ألفه ولا طريقته في التأليف. أما الكتاب الثاني المتعلق بحياة وزاوية أبي زيان فهو من تأليف مصطفى بن الحاج البشير، وعنوانه (طهارة الأنفاس والأرواح الجسمانية في الطريقة الزيانية الشاذلية). وهذا الكتاب في حجم وسط. غير أننا لا نعرف أيضا عصر المؤلف. فحسبنا هنا الإشارة إلى هذين العملين في باب التراجم، إلى أن نعثر على معلومات إضافية عنهما (¬1). ورغم أن كتاب (كعبة الطائفين) لمحمد بن سليمان لبس ترجمة شخصية واضحة فإننا نشير إليه هنا لأنه عبارة عن أخبار الشيخ موسى بن علي اللالتي، ناظم قصيدة (حزب العارفين) التي كانت منطلق (كعبة الطائفين). فكما ترجم الملالي لشيخه السنوسي بطريقته، ومحمد الصباغ القلعي لشيخه الملياني، كذلك ترجم محمد بن سليمان لشيخه اللالتي بطريقته، أي في ثنايا شرحه على القصيدة، ومع ذلك فالشرح، كما عرفنا، من الأعمال الهامة في باب التصوف ولذلك ذكرناه هناك (¬2). ويمكننا أن نعد (تاريخ علي باي) الذي كتبه أحمد بن عمار في تونس ¬

_ (¬1) انظر كور (مجلة العالم الإسلامي) بالفرنسية، 1910، 359 - 360. انظر عنهما فصلي الطرق الصوفية في الأجزاء اللاحقة. (¬2) انظر الفصل الثاني من هذا الجزء، وكذلك دراستي عن (كعبة الطائفين) في كتابي (أبحاث وآراء في تاريخ الجزائر).

من جملة التراجم الخاصة. فقد أخبر إبراهيم السيالة، تلميذ أحمد بن عمار، أن شيخه قد وضع رسالة هامة أجاب بها بعض علماء تونس الذين سألوه رأيه في إحدى الآيات، وأنه قد ضمن هذه الرسالة (في تاريخ ألفه) عن الباي. أما ابن عمار نفسه فقد قال عن هذه النقطة (ونظمت في سلك دولة هذا الملك السعيد .. عقد لبة وتاج مفرق، مما فتح الفتاح العليم .. من هذه الرسالة الغريبة المبنى، الوثيقة المعنى، البعيدة المرنى، القريبة المجنى .. فلينظرها المولى، بعين القبول والرضى، وليعرضها على الخواص من أدباء دولته الميمونة وعلمائها وفقهائها وزعمائها .. وأما العوام فكالهوام، وليس المقصودون بهذه الرسالة، بل بهذا الكتاب كله ..) (¬1)، ويتضح من عبارة ابن عمار أن هناك الرسالة التي أجاب بها العلماء، وهناك الكتاب الذي وضعه في سيرة الباي ودولته. ولا شك أن الذي يهمنا هنا هو الكتاب وليس الرسالة. والغريب أن السيالة لم يذكر عنوان كتاب ابن عمار في الباي، وإنما قال عنه (في تاريخ ألفه). وهو لا شك من كتب ابن عمار الضائعة. ولذلك نكتفي الآن بما قلناه عنه. وقد عالج محمد بن أحمد الشريف الجزائري موضوع السيرة أيضا فترجم للصحابي أبي أيوب الأنصاري دفين القسطنطينية، وسمى تأليفه فيه (مسك الحبوب في بعض ما نقل من أخبار أبي أيوب). ورغم أن الترجمة تتناول شخصية إسلامية عظيمة ومجاهدة من أجل انتشار الدين الإسلامي فإن المؤلف قد جعل عمله وكأنه سيرة لأحد المتصوفين الدراويش. ولكن عمله مع ذلك يظل مساهمة هامة في باب التاريخ والسيرة. وكان المؤلف قد أجبر، على ما يظهر على الخروج من الجزائر واستيطان أزمير، فكان يتردد على قبر أبي أيوب الأنصاري بالقسطنطينية ويتسلى، كما يقول، بزيارة ضريحه وكتابة الأخبار عنه ابتداء من حياة هذا الصحابي الأولى إلى وفاته سنة 50 (أو 52) للهجرة غازيا. ¬

_ (¬1) (مباهج أو مباسم الأزهار ودوحة الأفكار) لإبراهيم السيالة، مخطوط تونس، رقم 260، ومن الأسف أن ما بعد العبارة الأخيرة منزع من المخطوط تماما.

وقد شرح المؤلف ظروف عمله فيما يلي (هذا، ولما جرى القضاء وحكمت الأقدار، بإقامتي بناحية من بلاد الروم وتوطيني بتلك الديار، فكان تأنيسي واستئناسي من وحشة الهموم والأكدار، بترديد الرحلة لزيارة مقام أبي أيوب فخر الخزرج والأنصار، رضي الله عنه وأرضاه .. وقد كنت جعلته عمدة لنجاح المقاصد والأوطار، وملجأ لدفع المكائد من المتمردة والحسدة والأشرار، استخرت الله في جمع ما وقفت عليه من أخباره وعرائس مناقبه الأبكار، وما بلغني من شمائله وسيرته وما اشتهر به من نسبه في بني النجار، ونويت تسميته بعد ما يسود بياضه مسك الحبوب الخ) (¬1). وفي هذا الصدد نذكر أن علي بن محمد البهلولي قد وضع تقييدا في حياة أحمد بن عبد الله الذي ثار في الجهة الغربية من الجزائر والذي كانت له حروب ضد ثائر آخر هناك لعله كان أيضا ثائرا ضد الحكام الأتراك. وقد أرسل البهلولي تقييده إلى صديقه عبد الكريم الفكون. وكان البهلولي، حسب رأي الفكون، يعتقد في أحمد بن عبد الله (أنه الفاطمي على ترهات كثيرة نشأت فيه من المغرب .. ويظنون أنه لم يمت وأنه غيب إلى وقته المعلوم فيخرج ..) ولا نعرف الآن عن هذا التقييد أكثر مما أخبر به عنه الفكون. والمفيد منه في الوقت الحاضر عقائد العلماء في المرابطين وفي الثائرين وانتشار فكرة المهدي المنتظر في هذا العصر (¬2). وقد ترجم محمد العربي بن مصباح في كتابه (توشيح طراز الخياطة) لشيخه محمد بن علي الشريف، شيخ زاوية شلاطة. وجاء في كتابه بقصائد عديدة، بعضها له ومعظمها لغيره، وكلها في مدح ابن علي الشريف وزاويته. ¬

_ (¬1) من مخطوط صورته من مكتبة جامعة برستون الأمريكية، رقم 1021 مجموع (قسم يهودا). (¬2) الفكون (منشور الهداية)، انظر الثورات ضد العثمانيين في الفصل الثاني من الجزء الأول.

ابن المفتي وتقييده

ابن المفتي وتقييده من الغريب أن المؤلفين الجزائريين المعاصرين لابن المفتي لم يشيروا إليه ولا إلى كتابه في مؤلفاتهم المعروفة لدينا. فلا ابن حمادوش ولا ابن عمار ولا الورتلاني ولا غيرهم من مؤلفي القرن الثاني عشر (18 م) قد ذكر شيئا فيما نعلم، عن هذا الرجل وعمله، رغم أهمية ملاحظاته وأحكامه كما سنرى. وأول من نقل عنه نصوصا كاملة وترجمها إلى الفرنسية هو الباحث الفرنسي ألبير ديفوكس خلال القرن الماضي، أي بعد قرن من وفاة ابن المفتي والظاهر أن الكاتب الإسباني غونزاليز عاد إلى كتاب ابن المفتي بخصوص باشوات وعلماء الجزائر خلال العهد العثماني، رغم أنه لم يذكره من بين مصادره. أما الذي قدم عمله إلى القراء ودرسه بشيء من التفصيل فهو الكاتب الفرنسي ديلفان سنة 1922. وقد حصل السيد نور الدين عبد القادر على نسخة من عمل ابن المفتي ونشر منه مقتطفات في كتابه (صفحات من تاريخ مدينة الجزائر) المطبوع سنة 1964 (¬1). اهتم ديفوكس بالناحية العلمية والدينية من كتاب ابن المفتي فأخذ عنه ما كتبه عن المفتين الحنفيين والمالكيين أثناء العهد العثماني وما قيده بشأن علاقات العلماء والفقهاء بعضهم ببعض من جهة وعلاقاتهم بالسلطة الحاكمة من جهة أخرى. وقد نشر ديفوكس بعض النصوص منه مترجمة إلى الفرنسية في (المجلة الإفريقية) أولا ثم جمع مقالاته ونشرها في كتابه (المؤسسات الدينية في مدينة الجزائر). ولكن ما قام به ديفوكس حول هذا الكتاب ما زال ناقصا لأنه لم يعرف بالمؤلف (ابن المفتي) ولا بكتابه ولم يهتم بالجزء السياسي والاقتصادي منه المتعلق بالباشوات والحياة الاجتماعية. فظلت الصورة التي نعرفها عن ابن المفتي وكتابه غامضة وناقصة. ولسنا متأكدين أن ¬

_ (¬1) نذكر أيضا أن كاتبا مجهولا قد كتب سنة 1923، تعليقا على ما كتبه ديلفان عن ابن المفتي، ونشر ذلك في (مجلة المستعمرات الفرنسية) 1923، 318 - 324 معنونا مقاله هكذا (مؤرخ عربي من مدينة الجزائر في القرن 18).

غونزاليز قد عاد إلى عمل ابن المفتي في رسالته المسماة (مشاهير مسلمي مدينة الجزائر). ثم إنه إذا صح أنه رجع إليه فإنه لم يأخذ منه سوى قائمة جافة من أسماء الباشوات الذين تولوا الحكم في الجزائر وبعض مشاهير العلماء على عهدهم مع ذكر وظائفهم ووفياتهم. ومن جهة أخرى فهو لم يشر أصلا إلى ابن المفتي في مصادره كما ذكرنا، رغم أنه أشار إلى غيره كابن حمادوش. أما ديلفان الذي نشر عمله في (المجلة الآسيوية) فقد عرف قليلا بابن المفتي وكتابه من خلال ما كتبه ابن المفتي نفسه عن أسرته وحالته وتأليفه. كما أشار ديلفان إلى كيف حصل على نسخة من تأليف ابن المفتي التي لا تضم، حسب رأيه سوى الجزء الخاص بالباشوات، وهي من نسخ أحد النساخ الذين وظفتهم فرنسا في بداية عهدها بحكم الجزائر، وليست هي النسخة التي كتبها ابن المفتي على كل حال. وبذلك كانت نسخة ديلفان خالية من الجزء المتعلق بالعلماء والحياة الدينية. وأما نور الدين عبد القادر فقد عوض ما فقده عمل ديلفان حين حصل على نسخة غير جيدة من كتاب ابن المفتي تضم حياة المفتين والعلماء. وبينما وجدنا ديلفان يشيد بخط وأسلوب النسخة التي حصل عليها، وجدنا نور الدين عبد القادر ينتقد خط وأسلوب النسخة التي اطلع عليها، ومن سوء الحظ أن نور الدين بدل أن يقدم لنا النسخة كما هي حتى نشاركه في التعرف على أسلوب المؤلف، عمد إلى صياغته فاعلا، كما قال، ما فعل الشيخ الدردير مع مختصر الشيخ خليل. وهكذا يتضح أن كتاب ابن المفتي، رغم أهميته في نظر كل الذين رأوه وأخذوا عنه، لم يقدم كله كعمل موحد ولم يدرس دراسة تاريخية منهجية تبين محاسنه وعيوبه وتضعه في مكانه من بين الأعمال التاريخية التي نحن بصددها. ولم نحصل نحن على نسخة جديدة من هذا العمل، ولكننا سنحاول أن نجمع المعلومات المتفرقة التي قيلت عن ابن المفتي وكتابه وندرسها ونخرج منها بنتيجة.

ولد ابن المفتي (وهو الاسم الذي اختاره لنفسه) في مدينة الجزائر بتاريخ لا نعرفه بالضبط من عائلة كانت متصلة بالحكم اتصالا مباشرا. فهو من الكراغلة المنحدرين من نسل عثماني وجزائري. فإذا عرفنا أنه أنهى كتابه بذكر تولية المفتي المالكي الحاج أحمد الزروق بن محي الدين بن عبد اللطيف سنة 1166 وأنه لم يكتب كتابه إلا بدافع الكبر والحزن أمكننا أن نتصوره قد ولد أواخر القرن الحادي عشر، وليكن ذلك حوالي سنة 1095 (¬1). ومن جهة أخرى فإن والده، المفتي حسين بن رجب شاوش بن محمد، قد ولد أيضا بالجزائر. وتولى الفتوى سنة 1102، وعمره ثلاثون سنة، ومعنى هذا أنه قد ولد سنة 1072. وبذلك يكون قد أنجب ابنه (المؤلف) وهو في حوالي الثالثة والعشرين من عمره. وقد توفي المفتي حسين بن رجب شاوش في مدينة الجزائر ودفن بها. والعجيب أنه بالرغم من حرص ابن المفتي على ذكر التواريخ فإنه لم يذكر متى ولد وتوفي والده ولا متى ولد هو. أما جده، رجب بن محمد، فقد ولد في قارة حصار، بالقرب من أزمير في آسيا الصغرى. وجاء إلى الجزائر مع أخيه الأكبر، ضمن الشبان المغامرين الذين كانوا يلتحقون بالجيش العثماني في الجزائر، وكثير من هؤلاء الشبان المغامرين كانوا يصلون إلى مراتب عالية في الدولة إذا كانوا يتمتعون بالذكاء والتعرف على طرق الصعود، ويمكننا أن نشير في هذا الصدد إلى صعود نجم محمد بكداش باشا وصالح باي. ولم يصل رجب بن محمد إلى تولي الولاية ولكنه وصل إلى مرتبة قد تفوقها من بعض النواحي. فقد أصبح قرصانا أو بحارا يعمل على سفينتين تملكهما زهرة باي، أرثا عن أبيها وزوجها. ثم أصبح (شاوش) العسكر، وهي وظيفة سامية، تسمح لصاحبها بالتعرف على أسرار الدولة والتدخل في التولية والعزل والتأثير على الولاة أنفسهم، ثم ¬

_ (¬1) ما يؤكد هذا أنه قال إنه شاهد في صباه مدى شهرة المفتي محمد بن سعيد قدورة، والمعروف أن محمد قدورة قد توفي سنة 1107، فيكون عمر ابن المفتي حينئذ حوالي اثني عشرة سنة.

أصبح بولكباشيا أو عسكريا متقاعدا. وظل كذلك إلى أن توفي بحصر البول ودفن في باب الواد. وقد أنجب رجب بن محمد، الذي أصبح يدعى بعد الوظيفة رجب شاوش، ابنه حسينا حوالي سنة 1072 كما أسلفنا. ولعل زوجه كانت من الجزائريات وبذلك تكون جدة المؤلف جزائرية، ولكن هذا أمر غير واضح. وكان رجب شاوش الذي عرف الدولة وأسرارها قد حرص على أن ينشأ ابنه حسين نشأة علمية وأن يهيئه لتولي وظيفة سامية أرقى معنويا من وظيفته هو، وهي الفتوى الحنفية، وكذلك كان الأمر. وتحدث ابن المفتي عن والده، حسين بن رجب شاوش، فقال إنه تولى الفتوى سنة 1102 عن ثلاثين سنة، كما أشرنا. ووصفه أوصافا جليلة تليق بمقام الوالد وبمقام المفتي أيضا. فقد أخبر عنه أنه أول كرغلي تولى الفتوى الحنفية في الجزائر، بينما كانت من قبل في أيدي علماء الحنفية الموفدين من إسطانبول. وكان معاصر والده في الفتوى المالكية هو أحمد بن سعيد قدورة. وكلاهما، في نظر ابن المفتي، قد ملأ مكانه كما يجب، وقد مدح والده بأنه زان وظيفته فكان خطيبا ماهرا ومفتيا وقورا. وكانت الأسئلة ترد عليه من مختلف الناس، ولا سيما في الخريف عندما تكثر الخصومات بينهم على أراضي الفلاحة. وأهم من ذلك أن الباشوات كانوا يجلونه، بل كانوا يقفون له ويقبلون يده احتراما. وكان يفضل المصلحة العامة على المصلحة الخاصة، حتى أن شؤونه الخاصة كانت مهملة. ونحن قد نفهم من ذلك أن المفتي حسين بن رجب كان مهملا لولده - المؤلف - أيضا ما دام يقضي أوقاته في خدمة الآخرين. ودام حسين بن رجب شاوش على تلك الحال ثماني سنوات أو اثني عشر سنة (¬1)، إلى أن تولى الباشوية عطشى ¬

_ (¬1) في النص جاء مرة أنه بقي ثماني سنوات ومرة أنه بقي اثني عشر سنة، والمعروف أن عطشى مصطفى قد تولى سنة 1112 وظل إلى سنة 1117 حين قتل بعد هزيمته في تونس، وبذلك تكون مدة حسين بن جرب أكثر من ثماني سنوات، فإذا كان الباشا قد عزله عند توليه فتكون مدته عشر سنوات، أما إذا عزله بعد ذلك فالقول بأنه ظل اثني عشرة سنة أصح.

مصطفى (¬1) فعزل والد ابن المفتي وعين بدله محمد النيار. ومن المفهوم أن ابن المفتي كان قاسيا جدا على محمد النيار. فقد اتهمه بأنه أهان وظيفة الفتوى وأنه كان هو الذي يقف للباشا وينحني لتقبيل يده مرارا وأنه هو الذي سن هذه السنة السيئة التي بقيت منذئذ، كما اتهمه بالجهل ورقة الدين. في هذا الجو نشأ ابن المفتي، وتعلم العلم المعروف في عصره، كما تعلم السياسة والمؤامرات التي كان يديرها الجنود والعلماء للوصول إلى الحكم والجاه. ولا شك أن من أساتذته في ذلك والده نفسه. فهو بحكم وظيفة الفتوى كان عليه أن يكون مدرسا في الجامع الجديد كما عرفنا. وقد ذكر ابن المفتي بعض تلاميذ والده الذين تولوا الفتوى أيضا، ومنهم محمد بن الماستجي الذي تولاها وعمره أقل من ثلاثين سنة. وهناك عدد من الشيوخ الذين تلقى ابن المفتي عليهم العلم أيضا، بالإضافة إلى والده. وقد ذكر هو منهم ثلاثة كانوا جميعا من أبرز العلماء في وقتهم، وتولوا جميعا وظائف عالية، وهم: محمد بن نيكرو وعمار المستغانمي، وكلاهما تولى الفتوى، ومصطفى العنابي الذي تولى القضاء. وتربى ابن المفتى مع جيل من العلماء أيضا. فحين ذكر المفتى الحاج أحمد الزروق بن عبد اللطيف، وهو آخر من ذكره في كتابه، كما أشرنا، قال عنه إنه كان شريكه في مجلس درس عمار المستغانمي ومحمد بن نيكرو. ويفهم من سياق ابن المفتي أن والده لم يهيئه لتولي الفتوى بعده. كما يفهم أيضا أنه لم يتول وظائف عالية شأن زملائه وأساتذته. ولكن هذه قضية ما تزال غامضة. ومهما كان الأمر فإن ابن المفتي كان على ثقافة عملية. فبالإضافة إلى مكانته داخل المجتمع والسياسة كان شديد الملاحظة لما يجري حوله. فقد أخبر أنه حضر جلسة الديوان عندما كان والده متقلدا للفتوى وشاهد كيف يقوم الباشا إجلالا لوالده ويقبل يده. وذكر أنه ذهب إلى آسيا الصغرى ¬

_ (¬1) مات مقتولا في القليعة عند زاوية أولاد سيدي مبارك سنة 1117.

وغيرها حين قال إنه زار سنة 1128 قارة حصار، مسقط رأس جده، كما أخبر عن نفسه أنه زار قبر حسين ميزو مورتو في جزيرة شيو (¬1). ولا ندري أين حملته رجلاه أيضا، فلعله قد زار إسطانبول وسورية (التي قال إن الجزائر تقارن بها في الثروة) كما قد يكون حج وزار مصر وغيرها. ولكنه لا يذكر هو نفسه سوى مسقط رأس جده وقبر الباشا ميزو مورتو في شيو. إن هذه الخلفية عن حياة وأسرة ابن المفتي تعطى فكرة عن عمله أيضا. فهو كرجل من رجال الدولة والعلم جدير بأن يكون نافذ الملاحظة وثيق المصدر. وقد اعتمد في تأليفه على مصادر عديدة منها المكتوب ومنها الشفوي ومنها التجربة الشخصية. فأسرته كانت عريقة في خدمة الدولة، كما لاحظنا، ولا شك أنه كان يملك الوثائق الرسمية النادرة التي كانت لجده ووالده. وكان له شيوخ بارزون وأصدقاء في مقام عال في المجتمع والحكم. ومن مصادره جدته لأمه التي كانت تخبره ببعض حوادث القرن السابق له (القرن الحادي عشر)، بالإضافة إلى ما عاشه هو من أحداث وما شاهده من أمور وسجله من ملاحظات. ونفهم من مقدمة كتابه أنه عاش حتى كبرت سنه ونضجت تجربته. كما نفهم منها أنه قد فقد أسرته وأطفاله وبقي وحيدا يعاني الوحدة والحزن والكبر. وهذا أقسى ما يصيب الإنسان في آخر عمره. فقد ذكر أن الوحدة والحزن والكبر وفقد الأولاد هي التي دفعته إلى تقييد ما قيد. ولم يكن دافعه الشهرة أو التشهير بأحد، بل ولم يكن التأليف العلمي من هوايته، وإنما أراد التسلي والتأسي، والاشتغال بشيء ينسيه، مؤقتا على الأقل، بعض حزنه وشعوره بالوحدة، فكان هذا الشيء هو العمل الذي نحن بصدده والذي تناوله الكتاب المذكورون بطريقة مبعثرة كما لاحظنا. والغريب أيضا أن ابن المفتي الذي أخفى اسمه، تواضعا أو لسبب آخر لا نعلمه، لم يجعل عنوانا لما قام به أيضا. ولعل أقرب إلى الصواب ¬

_ (¬1) تولى باشوية الجزائر سنة 1094، ثم هرب بحياته بعد أكثر من ست سنوات إلى شرشال ومنها ركب البحر إلى إسطانبول حيث أصبح قبطان الأسطول العثماني، وقد استولى عل جزيرة شيو، ودفن بها، حيث زار ابن المفتي قبره.

تسمية عمله (تقييدات)، لأنها في الواقع كذلك. فهو لم يقم بتأليف تقليدي فيه المقدمة والأبواب والفصول والخاتمة. كما أنه لم يكتب جريدة أو مذكرات، كما فعل ابن حمادوش، وإنما سجل ما ظهر له وما تذكره من أمور تتعلق بالحكام والعلماء والمجتمع والعلاقات الخارجية والحياة الاقتصادية والثقافية وهو في مركز هام مثل مدينة الجزائر عاصمة أكبر دولة عندئذ في المغرب العربي. ومما نشر حتى الآن عن ابن المفتي نفهم أن تقييداته قد قسمت إلى ثلاثة أقسام: مقدمة، وقسم العلماء والمجتمع، وقسم الباشوات والحياة السياسية والاقتصادية. وفي خطبة الكتاب أو المقدمة تحدث عن دوافع التأليف وحالته النفسية والعائلية وصلته هو بالكتابة. وقال على سبيل التواضع انه غير مؤهل لمثل هذا العمل وإنه ليس أفضل من يكتبه. ومع ذلك أقدم عليه لأنه لم يجد ما يفعله غير الكتابة. كما أنه ذكر الأشياء التي أوردناها عن والده وجده وزيارة مسقط رأس جده وغير ذلك من الأمور المتصلة بالعائلة. ولا ندري أي القسمين ورد الأول: قسم العلماء أو قسم الباشوات (¬1). ذلك أن ديفوكس ونور الدين عبد القادر اللذين استفادا من القسم الأول لم يوضحا هذه النقطة. ويبدو أن كلا منهما قد اطلع على قسم العلماء مستقلا تماما عن بقية الكتاب. ونحن نرجح، رغم أن الدليل يعوزنا، أن ابن المفتي قد انتقل، بعد الخطبة، إلى الحديث عن قسم العلماء لأن ذلك متصل بحياة والده الذي كان منهم، ثم جاء بقسم الباشوات باعتباره قسما ثالثا في الكتاب. ولا ندري أيضا ما إذا كان للكتاب خاتمة. وما دام الكتاب لم يعثر عليه كله بين دفتين فمن الصعب وصف حجمه وأسلوب صاحبه وطريقة بدايته ونهايته، فقد أخبر ديلفان أن النسخة التي عثر عليها معروضة للبيع ضمن أوراق ديفوكس، تحتوي على تسع ورقات ¬

_ (¬1) ذكرنا من قبل أن ديلفان قال إنه وجد في نسخته خطبة الكتاب متبوعة بتاريخ الباشوات.

وعنوانها (تاريخ الباشوات الذين حكموا جزائر الغرب) (¬1)، ويفهم من هذا أن هذه النسخة تضم قسما فقط من تقييدات ابن المفتي، ولم يخبر ديفوكس، الذي كان أول المستفيدين من التقييدات، عن حجم الكتاب، كما أن نور الدين عبد القادر لم يصف حجم النسخة التي قال إنه قد عثر عليها عند أحد الأصدقاء، ونتصور أن كل التقييدات (بما فيها الخطبة وقسم العلماء وقسم الباشوات) لا تتجاوز خمسين ورقة (¬2). أما الخط فالظاهر أنه لا أحد من الباحثين المذكورين قد عثر على نسخة ابن المفتي الأصلية. فنسخة ديفوكس لا نعرف عن خطها شيئا لأنه لم يصفها. ونسخة ديلفان قال عنها ان خطها شرقي جميل كتبها أحد النساخين الذين دخلوا في خدمة الفرنسيين بعد الاحتلال، وقد أخبر نور الدين عبد القادر أن نسخته رديئة الخط لا تكاد تقرأ وأن فيها بعض البياض، وأنها مليئة بالأخطاء الفاحشة. أما الأسلوب فنور الدين يرى أن تعبير النسخة التي حصل عليها (في غاية البساطة والسذاجة، يستعمل كثيرا من عبارات اللغة الدارجة)، وكان المؤلف يستعمل أيضا بعض العبارات التركية، بينما ذكر ديلفان أن نسخته حسنة الأسلوب واضحة، فهل يمكن لابن المفتي، الذي تتلمذ على شيوخ جلة ذكرنا بعضهم، أن يكتب بأسلوب (في غاية البساطة ¬

_ (¬1) جاء في قائمة الكتب التي قيدها البارون ديسلان في الجزائر عنوان هو (بيان ملوك الجزائر)، كان قد حمله بيروبرجر معه في قسنطينة، فهل يكون هذا هو جزءا من عمل ابن المفتي. انظر فقرة المكتبات من الفصل الثالث من الجزء الأول. (¬2) الظاهر أن النسخة الأصلية من الكتاب مفقودة كما فقد الكثير من مؤلفات هذا العصر، ولم يبق منه إلا شذرات نقلها بعض النساخ هنا وهناك لأغراض مختلفة. وقد ذكر ديلفان أنه بذل قصارى جهده في الحصول على نسخة كاملة منه فلم يستطع، كما أنه لم يستطع أن يرى نصا أصليا منه، وفي مراسلة بيني وبين الشيخ البوعبدلي ذكر لي أن نسخة من تقييدات ابن المفتي كانت عند المرحوم أحمد الأكحل الذي توفي منذ أربع سنوات بالجزائر، وفي مكالمة هاتفية مع الشيخ عبد الرحمن الجيلالي ذكر لي أن نسخة منه عند السيد نور الدين عبد القادر. وقد اجتمعت أنا مع نور الدين سنة 1968، ولم أساله عن تقييدات ابن المفتي لعدم اهتمامي بها عندئذ.

والسذاجة) كما يقول نور الدين؟ ويبدو ذلك بعيدا الآن، اللهم إلا إذا قلنا ان ابن المفتي لم يكن من صنف المثقفين أصلا. وقد أخبر ابن المفتي في البداية بأن علم التاريخ عبادة ومنة جزيلة، وأن معرفة أخبار العلماء منقبة جليلة. ومن رأيه أن الجزائريين لم يهتموا بعلم التاريخ وأخبار العلماء، وأن ما كتبه الكتاب في ذلك غير مدروس ولا معروف. وهذه حقيقة، لأن أبا راس والورتلاني وغيرهما قد ذهبوا نفس المذهب، وعلى هذا الأساس أراد ابن المفتي أن يملأ هذا الفراغ، فكتب عن الحياة السياسية في قسم الباشوات، وتحدث عن مدينة الجزائر وسكانها ونظامها السياسي ووسائل عيش السكان، والكوارث الطبيعية التي أصابتها وعلاقة سكانها بالأتراك والإسبان، ونظام الأمناء والمؤسسات الدينية، وأما الباشوات فقد ذكر منهم 54 باشا من إسحاق سنة 921 هـ إلى إبراهيم خوجة سنة 1158 (¬1)، ولم يذكر الباشا إلا مرة واحدة رغم أن بعضهم قد حكم عدة مرات، ووصف ما وقع في عهد كل واحد من ثورات داخلية وحروب خارجية وقضية الكراغلة التي أفاض فيها (وهو منهم)، وما قام به كل منهم من أعمال خيرية واجتماعية، وعلاقة الباشوات بالسلطان، وتقاليد التولية والعزل والصراع الذي يصحب ذلك، وذكر أن السكان كانوا ضحية شره الولاة وأن هؤلاء كانوا أحيانا يفرضون ضرائب على العلماء والأعيان، ومدح حكم الحاج علي آغا الذي قال عنه ان الناس فيه قد اقتنوا كل ثمين وبنوا المنازل الفخمة وركبوا الخيول والبغال الفارهة وأنشأوا الحدائق الجميلة وتوفر عندهم الذهب والفضة وعم الرخاء، وكان رخاء الجزائر مضرب المثل حتى أصبحت تقارن بسورية، كما وصف ما أصاب الجزائر من أزمات اقتصادية نتيجة هجوم الأجانب والزلازل والطاعون. أما في قسم العلماء والأعيان فقد أفاض في الحديث عنهم وعن ¬

_ (¬1) الغريب أن القائمة التي أوردها عبد الرزاق بن حمادوش في رحلته لهؤلاء الباشوات الذين ذكر منهم 69، تبدأ أيضا بإسحاق وتنتهي بإبراهيم سنة 1158، غير أن ابن حمادوش يذكر تاريخ ولاية إسحاق سنة 915، وليس 921.

أخلاقهم ووظائفهم، وقد ذكر أصل وظيفة الفتوى عموما، وفتوى الحنفية خصوصا، وذكر قائمة المفتين المالكية والحنفية، وفصل القول في بعضهم مثل عائلة قدورة (سعيد، ومحمد، وأحمد، وصهرهم عبد الرحمن المرتضى الخ)، وأوضح ما بين هؤلاء العلماء من تحاسد وصراع على الوظيفة، وما هناك من مؤامرات يسندها إلى بعض أساتذته وكبار المتصلين بهم، ولكنه كان ينصف المظلوم في أحكامه ويظهر الحقيقة الخفية، وهو الذي ذكر الخلاف الشديد الذي وقع بين محمد بن ميمون وابن علي ومحمد بن سيدي هدى ضد ابن نيكرو، وكيف تجادل المفتي الحنفي والمفتي المالكي في عهده حتى انتهى الأمر إلى تدخل الباشا وعزل المفتي الثاني، ووصف من كان في مستوى المسؤولية المسندة إليه ومن كان دونها، وكان كثير النقد شديد الملاحظة، معتمدا على مصادر قلما يحصل عليها غيره، بل كان يتدخل أحيانا في الحياة الخاصة للعلماء ليقدم صورة واضحة عنهم، فقد ذكر أن أستاذه محمد بن نيكرو كان يعاني من زوجه التي لم تكن أم أولاده ومن ابنه الأكبر، كما ذكر أن أستاذه عمار المستغانمي كان خطيبا عييا وأنه كان يعاني من زوجه التي كانت تكثر من الضيفان حتى افتقر ولم يعد يملك سوى القميص الذي يلبسه وكثرت عليه الديون. كل الذين اطلعوا على تقييدات ابن المفتي حكموا بأن صاحبها قد قام بعمل هام لم يسبق إليه. فهو أولا كان رجلا واعيا مسؤولا عما يقول، وكان، كما يقول ديلفان، مستقل الفكر لا يقبل أي معلومات بدون مناقشة، وكان يرد الحكايات والخرافات غير المقبولة، بل كان يحاول أن يرد الإنسان المتهم ظلما إلى مكانه الحقيقي، وأخبر ديفوكس أن ابن المفتي كان في عمله مخلصا وجادا وأنه جمع معلومات هامة عن العصر وأهله لا تتوفر في غير كتابه، وأنها معلومات لا يمكن أن تكون مختلقة، ولذلك اعتمد عليه في وصف المفتين رغم أنه عادة لا يثق فيما كتبه الجزائريون، أما نور الدين فقد أعجب بالفوائد الجمة التي يجنيها قارئ كتابه لتفاصيلها عن حياة العلماء والأعيان خصوصا. والواقع أن ابن المفتي، الذي لا نعرف حتى الآن اسمه الحقيقي، قد

أبو راس الناصر

كتب عملا جديرا بالتقدير، وهو لم يكن يكتب كتابا بالمعنى التقليدي للكلمة ولكنه كان يقيد ملاحظات وآراء وتأملات، فإذا بها تصبح بالنسبة إلينا اليوم مصدرا قويا عن عصره وأهله، ولكن قيمة عمله تظل مرهونة بقيمة عمل الآخرين. ذلك أن الكتابة عن النواحي التي عالجها تكاد تكون مفقودة، والذين كتبوا، أمثال ابن ميمون وابن سحنون، كانوا مادحين لا ملاحظين، ولعل أقرب إلى عمل ابن المفتي في القيمة هي مذكرات ابن حمادوش أو رحلته، فقد وجدنا هناك تشابها كبيرا بين الرجلين والطريقتين، فكلاهما كان خارج مراكز القوة في الدولة، وكلاهما كان شديد الملاحظة، وكلاهما تحدث عن الباشوات والعلماء، حقا إن قائمة ابن حمادوش في ذلك قليلة التعاليق، خلافا لابن المفتي، كما أن ملاحظات هذا على العلماء أعمق وأكثر دقة وتنظيما، ولكن رحلة ابن حمادوش تحتوي أيضا، كما بينا في دراستنا عنه (¬1)، على أمور هامة، تزيد في الواقع من قيمة عمل ابن المفتي، فعسى أن يعثر الباحثون على كتابه كاملا وفي نسخته الأصلية (¬2). أبو راس الناصر لا يمكن أن نكتب فصلا عن التاريخ والتراجم في الجزائر خلال العهد العثماني دون الترجمة لأبي راس الناصر، فقد كان على رأس المؤرخين إنتاجا وإدراكا لأبعاد الدراسة التاريخية، وكنا قد نشرنا عنه، سنة 1974، بحثا قارنا فيه حياته وأعماله بحياة وأعمال عبد الرحمن الجبرتي المصري المعاصر له، ثم اننا قد أشرنا إليه في عدة مناسبات من كتابنا هذا، ولذلك ¬

_ (¬1) درسنا رحلته في بحث نشرناه في (مجلة مجمع اللغة العربية) بدمشق، إبريل 1975. انظر أيضا كتابي (أبحاث وآراء في تاريخ الجزائر). (¬2) في دراستنا عن ابن المفتي رجعنا، بالإضافة إلى ما ذكرناه، إلى (المؤسسات الدينية) لديفوكس، وديلفان (المجلة الآسيوية) 1922، ونور الدين عبد القادر (صفحات من تاريخ مدينة الجزائر).

ستكون ترجمتنا له هنا ملخصة ومختصرة لأنه يمكن الرجوع إلى دراستنا المطولة المذكورة عنه (¬1). ولد أبو راس سنة 1165 وتوفي سنة 1238، ومعنى ذلك أنه قد عاصر أحداثا هامة في حياة بلاده وفي حياة العالم الإسلامي قاطبة، ومن ذلك حملة أوريلي وحملة اللورد اكسموث الأوروبيين على الجزائر، وفتح وهران الثاني، وثورة درقاوة ضد العثمانيين، أما بالنسبة للعالم الإسلامي فلنذكر ظهور الدعوة الوهابية والحملة الفرنسية على مصر وصعود محمد علي، وبداية الإصلاح في الدولة العثمانية، وقد أثرت هذه الأحداث وغيرها على مزاجه وأحكامه. واسمه الكامل هو محمد بن أحمد بن عبد القادر بن محمد بن أحمد بن الناصر الجليلي (¬2)، وبعض المؤلفين يقول (الناصري) بالنسبة رغم أن سلسلة نسبه التي كان حريصا عليها تذكره (الناصر) فقط بدون نسبة، وقد ولد في بيئة فقيرة جدا، نواحي جبل كرسوط (بالغرب الجزائري)، ورغم أن الحظ قد ابتسم له عدة مرات على يد بعض البايات، فإنه قد ظل حليف الفقر طول سنواته التسعين، ورحل به والده إلى نواحي متيجة قرب مدينة الجزائر، حيث عرف عن كثب الحكم العثماني، وهناك فقد والدته، زولة وهو صغير، وهو يقول عنها إنها كانت كرابعة العدوية علما وورعا. ثم انتقل به والده إلى نواحي مجاجة حيث كان الوالد يعلم القرآن للصبيان وحيث تزوج أيضا فرأى محمد أبو راس الصغير امرأة أخرى في البيت غير والدته، ولعله قد نفر من ¬

_ (¬1) نشرت في (مجلة تاريخ وحضارة المغرب) عدد 12، 1974، كما نشرت في وقائع ندوة الجبرتي بمصر، القاهرة، 1976، وهي أيضا منشورة في كتابنا (أبحاث وآراء في تاريخ الجزائر). (¬2) كنا قد ذكرناه فيما كتبنا عنه، بالنسبة (الناصري) ولكن لما تأكدنا من نسبه العائلي ومن نسخة شرحه (الشقائق النعمانية) الذي شرح به قصيدة (روضة السلوان) للفجيجي، رأينا ألا نذكره منسوبا، وهكذا استعملناه (الناصر) في كل هذا الكتاب.

ذلك وتعلم من والده القسوة، ولكن هذا الوالد سرعان ما توفي أيضا فأصاب أبا راس اليتم والفقر. ولا ندري لماذا توجه عبد القادر، الأخ الأكبر لأبي راس، إلى المغرب، ولكن الظاهر أنه كان يبحث عن عمل، ومهما كان الأمر فقد كفل عبد القادر أخاه أبا راس وأخذه معه إلى المغرب، وهناك حفظ القرآن وشب، وعاد إلى معسكر بالفقر أيضا وبشيء من العلم، فوجد عالما قد طبقت شهرته آفاق الناحية، وهو عبد القادر المشرفي، الذي اشتهر بالإضافة إلى العلم التقليدي، بالأخبار والتاريخ. فتتلمذ عليه أبو راس وتأثر به كثيرا، ولازمه مدة، وكان أبو راس هو الذي يغسل ثياب الشيخ ويكويها كما يقول عن نفسه، ثم أحس أبو راس بشيء من الاستقلال العلمي فخرج إلى الريف وتزوج وبدأ ينشر علمه الذي حصل عليه، كما تولى القضاء، وقد دام على هذه الحال سنتين فقط، ثم عاد إلى معسكر لأنه أحس بمعلوماته تضعف في الريف، فاستقر بمعسكر ستا وثلاثين سنة. ففيها بلغت شهرته أقصاها وفيها انتصب للتدريس والفتوى وعرف بالحفظ والصوت الجهوري، وكان مجلسه العلمي كبيرا حتى بلغ، كما قيل، سبعمائة وثمانين مستمعا أحيانا. وكان شيخه عبد القادر المشرفي هو الذي رشحه ليكون خليفة له في التدريس. وبالإضافة إلى المشرفي الذي كان له المربي والموجه والمشجع على شق حياته، درس أبو راس على مشائخ آخرين كثيرين ذكرهم في ثبته ورحلته، تتلمذ على بعضهم وهو في معسكر والمغرب ومدينة الجزائر وقسنطينة وتونس، وعلى آخرين حين توجه إلى الحج مرتين، في مصر والحرمين، ولا نريد هنا أن نثقل على القارئ بذكرهم، وحسبنا أن نحيل إلى دراستنا عنه المشار إليها وإلى رحلته المسماة (فتح الإله)، ولنذكر هنا من مشائخه أحمد بن عمار مفتي مدينة الجزائر الذي تأثر به، ومحمد مرتضى الزبيدي الذي خصه بكتاب سماه (السيف المنتضى فيما رويته بأسانيد الشيخ مرتضى)، وقد أخرج أبو راس عددا كبيرا من التلاميذ من أبرزهم أبو حامد المشرفي صاحب التآليف العديدة في التاريخ والأدب والرحلات.

كانت ثقافة أبي راس ثقافة عامة غير مركزة وثقافة محلية، وكانت تقوم على المجهود الشخصي أكثر من أي وسيلة أخرى، يعززها ذكاء حاد وذاكرة قوية وطموح بعيد المدى، وكان أبو راس معتدا بنفسه فخورا بما أنجز من تآليف وما جلب إليه من جمهور في الدرس وما يحفظه من الأسانيد والأخبار. فهو لا يراجع الدروس، ولا يبالي بقواعد النحو، وقد فاق جميع المؤلفين كثرة ما عدا السيوطي، وقد قيل في وصفه بأنه كان متوسط القامة، نحيف الجسم، أبيض البشرة، خفيف اللحية، صغير العينين، طويل الأنف نحيفه، كبير الرأس، ولعل كنيته (أبو راس) قد لصقت به لذلك. تنقل أبو راس كثيرا بالنسبة لمعظم علماء عصره، ولعله كان يتردد على مدينة الجزائر التي سكن قربها وهو صغير، فقد وصف لنا علماءها في رحلته وتتلمذه على بعضهم، كأحمد بن عمار في تاريخ لم يحدده، ومهما كان الأمر فقد زارها بالتأكيد سنة 1214 لأنه سجل ذلك في رحلته، كما وجدنا نفس التاريخ على تقريظ ابن الأمين له عندئذ، والغالب أنه قد زار مدينة الجزائر أيضا وقسنطينة أثناء حجته الأولى، سنة 1204 والثانية سنة 1226، وكذلك زار تونس ومصر والحرمين وسورية وغزة والقدس، كما زار المغرب طالبا للعلم في تاريخ لا نعرفه ثم زاره سنة 1216، وخصوصا مدينة فاس وتطوان، وتناقش مع العلماء وحضر مجلس السلطان هناك، وقد ألف في تطوان بعض كتبه وأهداه إلى السلطان سليمان، ولعله قد رجع إلى المغرب أيضا بعد ثورة الطريقة الدرقاوية المشار إليها، وسواء كان في المغرب أو في تونس أو المشرق فإن أبا راس كان يجادل العلماء ويناقشهم ويدعوه الحكام ويناقشونه، وقد سجل ذلك في رحلته، فهو كما قلنا كان معتدا بنفسه، وكان على صلة وطيدة ببايات الغرب الجزائري ولا سيما محمد الكبير الذي خصه أبو راس بالقصائد والتأليف. وبنى له بعضهم قبة سماها (قبة المذاهب الأربعة) لأن أبا راس كان يفتي بها، كما أن بعضهم قد بنى له مكتبة وقدم له كرسيا يجلس عليه عند الدرس لكثرة المزدحمين عليه، بالإضافة إلى النقود والحاجات الأخرى الضرورية لمعاشه، ولذلك نجد أبا راس يشيد في كتبه

بولاة آل عثمان وبدورهم الإسلامي، فهو حينئذ من المؤرخين الموالين للدولة العثمانية وولاتها في الجزائر. كتب أبو راس أكثر من غيره من الكتاب الجزائريين، ورغم أنه ألف تقريبا في كل فرع من العلوم المعروفة في وقته فإن أغلب كتبه في التاريخ والأنساب والأخبار، وقد ذكر هو نفسه في رحلته ثلاثة وستين كتابا بين صغير وكبير وقسمها إلى ثلاثة عشر قسما مبتدئا بالقرآن ومنتهيا بالشعر، ونسب إليه بعضهم 137 كتابا (¬1)، ومن كتبه التي لم يذكرها في رحلته عشرون كتابا معظمها في التاريخ والأنساب أيضا، وكثير من هذه الكتب قد ضاع، وتمكنا من الاطلاع على عدد منها ما يزال مخطوطا مثل رحلته (فتح الإله ومنته في التحدث بفضل ربي ونعمته) التي رأينا منها نسختين في المغرب، و (الشقائق النعمانية في شرح الروضة السلوانية) في مصر، و (عجائب الأسفار) في الجزائر وباريس، و (الدرة الأنيقة)، و (إسماع الأصم) و (الحلل السندسية) وغيرها، ومن الغريب أن بعض مؤلفات أبي راس قد ترجمت ونشرت بالفرنسية بينما لم تنشر إلى الآن كتبه بالعربية (¬2)، ومن الكتب المنسوبة لأبي راس والتي لم نطلع عليها كتاب في أخبار ملوك الترك والروم، وآخر في ملوك فرنسا، وآخر في أنساب الجن الخ. وفي دراستنا المذكورة عنه حللنا كتابيه (عجائب الأسفار ولطائف الأخبار) و (الحلل السندسية)، وقد بينا أيضا هناك طريقة المؤلف في الكتابة ¬

_ (¬1) جاء ذلك في مؤلف وجده فور بيقي عند زميله ديلفان (المجلة الآسيوية) 1899، 306 - 309. (¬2) باستثناء (الإصابة فيمن غزا المغرب من الصحابة) الذي نشر مع ترجمة فرنسية في تونس سنة 1301 (1884 م)، وهناك شخص آخر يدعى أيضا محمد بوراس، قال عنه محمد المرزوقي أنه من أهل جربة تونس وأنه كان حيا سنة 1222 وأن له تأليفا بعنوان (مؤنس الأحبة في أخبار جربة) نشره المرزوقي بتونس سنة 1960، وقد خلط المرزوقي فيه بين محمد بوراس الناصر الجزائري، وأحمد بن ناصر الدرعي، فانظره.

الرحلات

ورأيه في التاريخ والمؤرخين، ومواقفه من العصر وأهله، فلا نريد أن نعود إلى ذلك هنا، وحسبنا الإشارة في آخر هذه الترجمة القصيرة له أن نذكر أن أبا راس انتقد علماء الوهابية الذين لقيهم بمكة سنة 1226، ومن جهة أخرى كان يحن لعودة الأندلس إلى أحضان الأمة الإسلامية، واعتبر فتح وهران بداية لتحقيق تلك الغاية، ولعل ذلك الفتح هو الذي حمله على أن ينظر إلى آل عثمان على أنهم ما يزالون يواصلون رسالتهم التي جاؤوا إلى شمال إفريقية من أجلها أوائل القرن العاشر (16 م)، ولا ندري ما إذا كان أبو راس قد غير رأيه فيهم بعد ثورة الطريقة الدرقاوية وبعد ما شاهد الولاة العثمانيين ينقلبون على العلماء أمثاله، ثم إن حديثه عن نابليون وعن الفرنسيين وعن الإنكليز والهولانديين يدل على أنه كان يعيش بعض أحداث العصر، ولا سيما ما تركته الثورة الفرنسية من آثار على أوروبا والعالم الإسلامي حتى إلى ذلك الحين (¬1)، وهكذا يتضح أن مساهمة أبي راس في تاريخ الجزائر والتاريخ العام مساهمة عظيمة وأن آثاره جديرة بالدرس والنشر وأن شخصيته تحتاج إلى إظهار واعتبار يليقان به (¬2). الرحلات أسهم الجزائريون مساهمة واضحة في كتابة الرحلات ولا سيما خلال القرن الثاني عشر (18 م)، وكانت بعض رحلاتهم نتيجة للحج، وبذلك تكون رحلات حجازية، وبعضها نتيجة لطلب العلم وبذلك تكون رحلات علمية، ولكن الجزائريين، بالقياس إلى كتاب الرحلات المغاربة، كانوا قليلي ¬

_ (¬1) نسخنا له نصا من كتابه (الحلل السندسية) تناول فيه أثر الحملة الفرنسية على مصر والشام، وقد نشرناه في (المجلة التاريخية المغربية) عدد 21 - 22، 1881. انظر علاقة بعض مؤلفات أبي راس بمؤلفات منسوبة إلى محمد بن يوسف الزياني. في فصل التاريخ خلال الاحتلال الفرنسي، لاحقا. (¬2) بالإضافة إلى المصادر المذكورة في دراستنا عنه، نشير إلى دراسة فور بيقي (المجلة الاسيوية) 1899، وقد قارنه بيقي بابن خلدون في بعض النواحي.

الإنتاج. ولعل ذلك راجع إلى أن عددا من العلماء الذين توزعوا في العالم الإسلامي لم يعودوا إلى الجزائر ليكتبوا ملاحظاتهم إلى مواطنيهم، فلو رجع عيسى الثعالبي ويحيى الشاوي وأحمد المقري وأحمد بن عمار وأضرابهم لكتبوا رحلاتهم، ولكنهم لم يفعلوا، ومن جهة أخرى نود أن نلاحظ أن بعض هذه الرحلات كان مختصرا وبعضها مطولا، كما أن بعضها قد كتب شعرا فصيحا أو ملحونا وبعضها قد كتب نثرا مسجوعا أو مرسلا، على أن بعض الرحلات لا نعرف إلا أسماءها وبعضها لم يصل إلينا منها إلا القليل، غير أن بعضها وصل إلينا كاملا. ومن الملاحظ أن كتب الجغرافية المحضة لا تكاد توجد عندنا، باستثناء رحلة ابن الدين وبعض إشارات الورتلاني وابن حمادوش، ويبدو أن الجزائريين لم يحفلوا كثيرا بالرحلات حتى خلال العهد السابق للعثمانيين، ومن أقدم الرحلات التي تنسب إلى ذلك العهد (رحلة التوجيبي) التلمساني التي قال عنها عبد الحي الكتاني إنها في عدة مجلدات وأنه قد اطلع عليها بتونس واعتبر الكتاني مؤلفها (مفخرة تلمسان) (¬1)، كما أن أحمد المقري قد ساق في (أزهار الرياض) رحلة لجده محمد المقري التلمساني أستاذ ابن خلدون (¬2)، وتنسب إلى أحمد القسنطيني المعروف بابن القنفذ رحلة تعتبر في حكم الضائعة، ولعلها موجودة في تونس (¬3). أما الرحلات خلال العهد العثماني فمن الممكن تقسيمها إلى علمية وحجازية، ولنبدأ بالعلمية، والمقصود بها تلك الرحلات التي قام بها ¬

_ (¬1) (دليل الحج والسياحة) لأحمد الهواري، 293، وصاحب الرحلة هو أبو القاسم بن يوسف التوجيبي الأندلسي التلمساني، وهي التي حقق منها الأستاذ عبد الحفيظ منصور الجزء الثاني ونشره بعنوان (مستفاد الرحلة والاغتراب) تونس، 1975. (¬2) نفس المصدر، 294. (¬3) بروكلمان 2/ 711، الظاهر أن هناك خلطا في اسم ابن الخطيب الذي تنسب إليه الرحلة، ما زلنا لم نتوصل إلى توضيحه، ويكفي التنبيه عليه. انظر ترجمة حياة ابن القنفذ، وكذلك ما نشره له محمد الفاسي وما نشره عنه عادل نويهض.

أصحابها بغرض طلب العلم والزيارة والاطلاع على البلدان عموما والأخذ عن علمائها وممارسة التجارة فيها أحيانا، ومن أقدم من فعل ذلك عاشور بن موسى القسنطيني المعروف بالفكيرين (بضم الفاء وفتح الكاف - وهو لقب والده)، فقد نشأ في قسنطينة وأخذ العلم عن والده وغيره، ولاحظ عنه عبد الكريم الفكون أنه كان ذكيا، وتوفي والده سنة 1054، فشد الرحال لطلب العلم في عدة بلدان وطالت غيبته عن بلاده نحو العشرين سنة، وهي مدة طويلة بالطبع، سمحت له بالاطلاع والملاحظة وحذق لهجات ومعرفة قبائل وشعوب وبلدان، ومن هذه البلدان التي قصدها تلمسان التي لقي فيها سنة 1055 محمد بن سليمان مؤلف (كعبة الطائفين)، وكذلك زار المغرب الأقصى، ثم (جال في ملك الله إلى أن توغل في أرض السودان ولقى بها أجلة من علماء)، وعندما رجع إلى بلاده (أخبر بغرائب ما شاهد وعجائب ما رأى وما أخذ عن أولئك العلماء وأرباب الأسرار، وحصل منهم فن القراءات وجانبا عظيما من (فن) الأدب)، وبعد أن مكث بقسنطينة فترة لا نعرفها بالضبط ارتحل عنها من جديد (لظلمة أصابته منها) فذهب إلى تونس واستقر بها مدة وانتصب للتدريس بالزيتونة، وقد كان يحكي لتلاميذه غرائب ما رأى (من غريب البلاد وأهلها ويذكر عجائب المسموعات من زي أهلها لباسا وحكما وفوتا ويصف أنواع القوت)، وكان عاشور بن موسى (يكثر الحكايات واستحضار قطع الشعر). ومن تونس توجه بأهله إلى الحجاز لأداء فريضة الحج فأدركه الموت بعد سنة 1074 (¬1). هذه هي المعلومات التي استقيناها من هنا وهناك عن عاشور ¬

_ (¬1) أخذنا هذه المعلومات من محمد بن محمد الوزير السراج (الحلل السندسية) 2/ قسم 2، 1973، 248 - و 24. انظر كذلك (بشائر أهل الإيمان) لحسين خوجة، مخطوط الجزائر، فقد وصف عاشور بأنه (علم الأعلام) وقال عنه إن أمراء البلدان التي زارها كرموه، وأنه قد لقي شخصا يملك ثمانية عشر شرحا على (مقامات الحريري) الخ. انظر عنه أيضا كتاب (كعبة الطائفين) لابن سليمان 3/ 99، 94، 111، وكذلك العياشي 2/ 382. و (شجرة النور) لمحمد مخلوف، 310.

القسنطيني، فهو أديب جم المعارف، وهو ذكي شديد الفطنة والحفظ، وهو رحالة دامت رحلته عشرين سنة، وهو مدرس بارع له تلاميذ ومعجبون، ومنهم تلميذه محمد الحجيج الأندلسي المتوفي سنة 1108، ومحمد بن سليمان مؤلف (كعبلا الطائفين) والعياشي صاحب الرحلة، ومحمد قويسم، وعبد العزيز الفراتي. وكان كريما يطعم من عنده حتى اشتهر ذلك عنه كما كان يرفض العطايا التي كانت ترد عليه، ووصفه من يعرفه بأنه كان حسن الحديث والمجالسة والخلق، ذلق اللسان، لا يتكلم إلا إذا أتى بشاهد من القرآن والحديث والشعر، واشتهر خاصة بعلم النحو والصرف، وأخبر عنه محمد بن سليمان أنه كان أيضا عالما بالفلك، ومع ذلك هاجر من بلاده مرتين: مرة حين قصد الرحلة لطلب العلم وغاب مدة طويلة، ومرة حين أصابته أذاية، فاختار تونس ثم الحجاز، ورغم هذه القدرة على الدرس والتأليف فإننا لا نعرف أن عاشور قد ترك رحلة مكتوبة، فهل كتب رحلته أو اكتفى بقصها شفويا على تلاميذه وغيرهم؟ ذلك ما لا نعلمه أيضا، فإذا كان قد كتبها فهي لم تصل إلينا، وإذا كان لم يكتبها فالغالب أنها قد أمليت على بعض التلاميذ الذين كانوا يعجبون بأخباره وغرائبه، ومهما كان الأمر فإن رحلة عاشور رحلة (مسموعة) وغير مقروءة حتى الآن، فهل يتمكن الباحثون من معرفة آثاره في مستقبل الأيام (¬1)؟. ولكن الرحلة غير الحجازية المكتوبة هي رحلة عبد الرزاق بن حمادوش الذي عاش في القرن الثاني عشر، فهي رحلة قام بها المؤلف لطلب العلم والتجارة من مدينة الجزائر إلى تطوان ومكناس وفاس، ثم عاد إلى الجزائر من تطوان، وقد وصف ابن حمادوش الحياة العلمية وجوانب من الحياة السياسية والاقتصادية في المغرب الذي زاره مرتين على الأقل، مرة ¬

_ (¬1) عاش محمد بن عبد الرحمن الأزهري (مؤسس الطريقة الرحمانية) حوالي ربع قرن في المشرق العربي والسودان خلال القرن 12 هـ (18 م). وقد ذكر شخصيا أنه عاش في دارفور ست سنوات يعلم سلطانها. ومع ذلك لا نعرف أنه ترك رحلة مكتوبة شبيهة برحلة معاصره الورتلاني.

سنة 1145 وأخرى سنة 1156، وسجل ملاحظاته وإجازاته وأحكامه في مذكراته أو رحلته التي تعرف أيضاب بـ (لسان المقال) (¬1)، ويجب التنبيه إلى أنه ليس كل الكتاب، الذي يحمل عبارة الجزء الثاني، خاصا بالمغرب، إذ فيه أخبار أيضا عن تونس والجزائر وغيرهما، ولكن جانب الرحلة منه يتعلق بالمغرب، ولعله قد سجل في الجزء الثاني أمورا أخرى عن المغرب لم نطلع عليها، ولا شك أن رحلة ابن حمادوش المغربية تعتبر مصدرا هاما عن المغرب في ذلك العهد لأهمية النصوص التي أوردها فيها ومشاهداته عيانا ما حدث من ثورات وتقاليد اجتماعية ونشاط العلماء ونحو ذلك. ولم يكن ابن حمادوش هو وحده الذي رحل إلى المغرب الأقصى وسجل ملاحظاته عنه وأخباره، فقد كان العلماء الجزائريون كثيرا ما يذهبون إلى هناك للدرس والإقامة والتجارة ونحو ذلك من الأغراض، ولكن القليل منهم فقط هو الذي كتب عن ذلك في رحلة لمواطنيه وللتاريخ، ومن هؤلاء القلة محمد الزجاي الذي ذكرناه في هذا الكتاب عدة مرات، وكان معاصرا للباي محمد الكبير، ومن أبرز علماء تلمسان. فقد قيل عنه إنه صاحب (الرحلة الفاسية) (¬2) التي لم نطلع عليها، كما أننا لم نعرف أن أحدا تحدث عنها أو وصفها، ويقال إن لعبد القادر المشرفي، أستاذ أبي راس، (رحلة) مخطوطة بزاوية الهامل بالجزائر، ولكننا لم نطلع عليها ولم نعرف عنها أكثر من ذلك (¬3)، فقد تكون أيضا رحلة فاسية أو مغربية وقد تكون حجازية مشرقية. ¬

_ (¬1) درسنا هذه الرحلة في البحث الذي قدمناه للمؤتمر الأول لتاريخ المغرب العربي وحضارته، تونس 1974 - 1975، ونشر البحث في (مجلة مجمع اللغة العربية) بدمشق، أبريل 1975، وغيرها، كما نشر في كتابي (أبحاث وآراء في تاريخ الجزائر). انظر ترجمة ابن حمادوش أيضا في فصل العلوم والفنون من هذا الكتاب. (¬2) انظر محمد بن علي التلمساني (إتمام الوطر) مخطوط باريس. كما كان لأبي القاسم بن سلطان القسنطيني رحلة حجازية وأخرى نحو تطوان لا ندري مكانها. (¬3) أشار إلى ذلك عبد الله ركيبي (تطور النثر الجزائري)، القاهرة 1976، 47، هامش 3.

ولعل آخر هذه الرحلات غير الحجازية هي رحلة الحاج ابن الدين الأغواطي إلى الصحراء، والواقع أن عمل ابن الدين هذا ما زال غامضا، ذلك أن معلوماته هامة، ولكننا ما زلنا في حاجة إلى معلومات إضافية عنه. فقد جمع بين الأخبار عن الصحراء وقراها وواحاتها وعاداتها وبين الحديث عن جزء من الجزيرة العربية وجربة وقابس وشنقيط ونحوها، ثم إنه ليس من الواضح أنه قد زار الأماكن التي وصفها، ولعله سمع عنها فقط باعتباره من سكان الأغواط إحدى مدن الصحراء التي تحدث عنها. حقا إنه قد حج، وهذا يؤهله للحديث عن الجزيرة العربية ولا سيما الحجاز وبعض أخبار تونس التي قد يكون مر بها، ولكن يكاد يكون من المؤكد أنه لم يزر الدرعية السعودية عندئذ، كما أنه من غير المؤكد أنه زار أيضا شنقيط وغدامس وغيرهما من المناطق النائية التي تحدث عنها. فإذا أخذنا في الاعتبار هذه الملاحظات وجدنا أن رحلة ابن الدين الأغواطي على غاية من الأهمية. فهي مكتوبة سنة 1242 رغم أن بعضهم قد ذكر أن هناك خطأ في هذا التاريخ، وأنه قد كتبها بطلب من قنصل أمريكا عندئذ بالجزائر، السيد وليام هودسون، وهي تقع في كراسة تحتوي على أربع عشرة صفحة، وكان القنصل قد طلب منه المزيد والتفصيل ولكن ابن الدين اكتفى بذلك القدر، ونحن نتصور أن ابن الدين قد كتب أكثر من ذلك لنفسه ولكنه لخص للقنصل ما رآه كافيا، وقد ترجم القنصل هذه الصفحات إلى الإنكليزية ونشرها (¬1). كما ترجمها السيد دافيزاك إلى الفرنسية عن النص الإنكليزي ونشرها أيضا مع تعاليق وتصحيحات هامة (¬2)، وأهم المناطق التي ذكرها ابن الدين في رحلته: الأغواط، وتاقدامت، وعين ماضي، وجبل ¬

_ (¬1) طبعت في لندن، بدون تاريخ، ثم لخصت ذلك تلخيصا وافيا (مجلة أمريكا الشمالية) يوليو 1832، وقد ترجمت هذه الخلاصة إلى الفرنسية في (حوليات الرحلات الجديدة) نوفمبر 1832 أيضا. (¬2) نشر ذلك في مجلة (الجمعية الجغرافية الباريسية) سنة 1836. عن هذه الرحلة انظر ترجمتنا لها في (أبحاث وآراء في تاريخ الجزائر)، ج 2.

عمور، ومتليلي، ووادي ميزاب، والقليعة (المنيعة) وورقلة، وتقرت، وتوات، وتميمون، وعين صالح، وشنقيط، وغدامس، والدرعية، وقابس، وجزيرة جربة، وقد استفاد الأوروبيون والأمريكيون، أثناء اهتمامهم بالصحراء ومحاولة اكتشافها، من هذه المعلومات التي كتبها الحاج ابن الدين عن قراها وعادات أهلها ومسالكها، وإذا كان ما نشر من هذه الرحلة حتى الآن مهما، فإن أهم منه هو العثور على الرحلة كاملة، إذا كان ابن الدين قد تابع الكتابة عن مغامراته واطلاعاته في المشرق والصحراء (¬1). أما الرحلات الحجازية فهي أكثر وفرة نسبيا (¬2)، وسنقسمها إلى قسمين شعرية ونثرية، وقبل الحديث عن القسمين نقول إن توجه الجزائريين إلى الحجاز كان عادة نتيجة توق روحي نحو الحرمين وزيارة البقاع التي وطئتها أقدام الرسول صلوات الله عليه وسلم وصحابته، فالحجاز في نظرهم ليس مجرد بقعة جغرافية تزار للسياحة والعلم ونحو ذلك، ولكنها كانت قطعة أرض طاهرة تضم تاريخ الوحي والدعوة والأمة الإسلامية، ولذلك فهم يسجلون عواطفهم المتأججة لرؤية الحجاز وأهله والتبرك بترابه وهوائه، والذي يقرأ مقدمة رحلة ابن عمار يدرك هذه الحقيقة. كما أن الرحلات الشعرية تشترك في ذلك إن لم تفق الرحلات النثرية في وصف الأحاسيس الدينية والروحية، ألم يقل عبد الله بن عمر البسكري في مطلع قصيدته: دار الحبيب أحق أن تهواها ... وتحن من طرب إلى ذكراها ¬

_ (¬1) أخبرني محمد السويدي الأغواطي أن رحلة الحاج بن الدين كانت، على ما يظن، توجد كاملة عند رئيس بلدية الجزائر في أوائل الاحتلال، وقد استقى السويدي ذلك من أحد أقرباء ابن الدين. (¬2) تناولنا (الرحلات الحجازية الجزائرية) في بحث مطول قدمناه إلى الندوة العالمية لتاريخ الجزئر العربية التي انعقدت بالرياض في المملكة العربية السعودية، خلال شهر أبريل 1977، وقد ترجم البحث إلى الإنكليزية أيضا لنشره في وقائع الندوة المذكورة، وهو منشور في كتابي (أبحاث وآراء في تاريخ الجزائر). ج 1. وكذلك في وقائع الندوة.

وعندما حل محمد بن عبد الكريم المغيلي بالحرم اهتزت نفسه ونطق بقصيد مؤثر افتتحه بقوله: بشراك يا قلب هذا سيد الأمم ... وهذه حضرة المختار في الحرم أما في العهد العثماني فقد كانت الموشحات والقصائد تسبق الزيارة الواقعية. ولكن روح الشعر عندهم قد حلت محلها براعة النثر، كما فعل ابن عمار والورتلاني. والملاحظ أن الرحلات الشعرية معظمها من الغرب الجزائري. وكان بعضها مكتوبا بشعر فصيح وبعضها بشعر ملحون. ومما كتب بالفصيح قصيدة محمد بن محمد بن منصور العامري التلمساني التي فرغ منها سنة 1152 وهي قصيدة همزية متوسطة الجودة وصف فيها مراحل رحلته من تازة، حيث كان يقيم، إلى الحرمين الشريفين ثم منهما إلى الشام. والقصيدة تبدأ هكذا: أزمع السير إن دهت أدواء ... لشفيع الأنام فهو الدواء (¬1) كما نظم عبد الرحمن بن محمد بن الخروب المجاجي رحلته من مجاجة إلى مكة المكرمة في قصيدة مطولة فصيحة سنة 1063 (¬2). وهي تبدأ على النحو التالي: نشق الفيافي فدفدا بعد فدفد ... جبالا وأوعارا وأرضا وطية وقد أخبر المجاجي فيها أنه التقى بالشيخ علي الأجهوري بمصر، وزار في الإسكندرية قبر أبي العباس أحمد المرسي وقبر ابن الحاجب. ومن الذين حجوا معه أبو الحسن بن ناجي، صاحب الخنقة، الذي كانت له قرابة مع أمير ركب الحجاج الجزائريين. وأخبر أن ابن ناجي قد فارقهم عند بلدة ليانة ووصف مكانته في قومه ومكانة أمير الركب وأملاكه في الزيبان وعلاقته ¬

_ (¬1) (دليل مؤرخ المغرب) 2/ 433. (¬2) المكتبة الوطنية - الجزائر، رقم 1564 ورقم 1565، وهي في حوالي أحد عشرة ورقة، ولكن مبتورة الأول.

بالسلطة (¬1). وفي القصيدة أخبار أخرى عن الجزائر وتونس ومصر وطرابلس. ولنذكر من الشعر الملحون قصيدة محمد بن مسائب التلمساني في القرن الثاني عشر. فقد نظم قصيدة قص فيها رحلته من تلمسان إلى مكة المكرمة عبر مدن وقرى الجزائر من غربها إلى شرقها مارا بالطريق التقليدي الذي كان يسلكه حجاج الغرب (مليانه فالبليدة فمدينة الجزائر فمجانة فقصر الطير فقسنطينة فالكاف، ثم تونس) وقد قام ابن مسائب برحلة برية مر فيها بعد المدن المذكورة بطرابلس ثم مصر، بينما كان الذين يأخذون طريق البحر يركبون من تونس وينزلون في الإسكندرية (¬2). وتبدأ رحلة ابن مسائب الشعرية بهذا الطالع: يا الورشان أقصد طيبه ... وسلم على الساكن فيها وكان لابن مسائب رفيقان في هذا الفن هما: ابن التريكي والزناقي، فكلاهما رحل مثله من تلمسان إلى مكة، وكلاهما كتب مثله رحلته شعرا ملحونا (¬3). ومن الممكن أن نعد (عقيقة) المنداسي من هذا اللون. فهي أيضا قصيدة ملحونة وفي مدح الرسول (صلى الله عليه وسلم) كما عرفنا، ولكنها لا تسجل رحلة وإنما تصف الأشواق الشخصية والأماكن الأثرية في الحجاز بتفصيل وبراعة (¬4). ¬

_ (¬1) أمير ركب الحج عندئذ هو عبد الكريم الفكون، ولكن الاسم غير واضح في النص. انظر حياة الفكون، سابقا. (¬2) محمد بن أبي شنب (المجلة الإفريقية) 1955، 259 - 282، في هذا المصدر نص القصيدة بالعربية والفرنسية. (¬3) يرى ابن أبي شنب في نفس المصدر أن شعر محمد بن التريكي أقل قيمة من شعر ابن مسايب، ولكنه قال عن شعر الزناقي (وهو في النص الزقاقي) أنه يمتاز بالوضوح والدقة. (¬4) المكتبة الوطنية - الجزائر، رقم 4564، تحدثنا في فصل اللغة والنثر من هذا الجزء عن شرح (العقيقة) من قبل أبي راس وابن سحنون، انظر أيضا فصل الشعر، فقرة الشعر الشعبي.

ولكن الرحلات المصطلح عليها عادة هي الرحلات النثرية لا الشعرية: ذلك أن الأولى هي التي يسجل فيها أصحابها انطباعاتهم عما شاهدوه وسمعوه ليس فقط في الحجاز ولكن في مختلف المدن والأقطار التي مروا بها من الجزائر إلى بغداد، مرورا بتونس وطرابلس ومصر والجزيرة العربية وسورية والقدس وهلم جرا. ولا ندري أن أحدا من الجزائريين قد سجل انطباعاته في كل هذه الأماكن، غير أن أقرب الرحلات في ذلك هي رحلة الورتلاني ورحلة أبي راس. وقد قلنا إن معظم هذه الرحلات من إنتاج القرن الثاني عشر (18 م). ذلك أننا لا نعلم أن أحد العلماء قد سجل رحلة حجازية نثرية خلال القرن العاشر أو الحادي عشر. وهذا مثلا عبد الكريم الفكون الذي ظل طول حياته تقريبا يقود ركب الحج من قسنطينة إلى الحرمين لا نعرف أنه كتب رحلة رغم أنه كتب في النحو والصرف والتراجم والشعر الديني وغيره. وأول رحلة حجازية مذكورة في المصادر هي رحلة البوني المسماة (الروضة الشهية في الرحلة الحجازية). ومؤلفها هو أحمد بن قاسم بن محمد ساسي البوني الذي تحدثنا عنه في هذا الكتاب عدة مرات. فقد عاش البوني في المشرق، لا سيما مصر والحرمين، كما عاش طويلا في تونس. وقرأ على عدد من الأساتذة هنا وهناك وأجاز وأجيز. وقد ذكر الجبرتي أن البوني قد ورد مدينة رشيد وأجاز بها الشيخ حسن بن سلامة الطيبي المالكي المتوفى سنة 1176 (¬1). وذكر أحمد الزروق، نجل البوني، الذي أصبح بعد والده من العلماء البارزين في عنابة، أن والده قد تحدث عن شيوخه في رحلته الحجازية، وعددهم يزيد عن العشرين شيخا. وقد نصح أحمد الزروق القارئ بقراءة هذه الرحلة بقوله (فعليك به (أي التأليف) فإن فيه طرفا وظرفا) (¬2). ولكن رحلة البوني تعتبر اليوم ضائعة، فلا ندري بالضبط ما كتب ¬

_ (¬1) الجبرتي (عجائب الآثار) 1/ 266. (¬2) مخطوط المكتبة الوطنية - الجزائر، رقم 2160 من تعليق له على فتوى لوالده، انظر سابقا.

فيها. هل هي مثل رحلة أبي راس يعدد فيها تنقلاته وشيوخه والمسائل العلمية التي عرضت له، أو هل هي مثل رحلة الورتلاني يسجل فيها مسالكه ومنازله ودراساته وأخباره والمرافقين له والحوادث التي جرت له ومشاهداته ونحو ذلك. غير أن قول ولده بأن فيها طرفا وظرفا يدل على أن الرحلة لم تكن كلها عن المسائل العلمية والشيوخ. ورغم أننا تحدثنا عن رحلة ابن حمادوش في المغرب فإننا نود أن نشير هنا إلى ما يمكن أن يكون قد كتب عن الحجاز وغيره أيضا. حقا إن ما وصل إلينا من رحلته هو قطعة من الجزء الثاني، وهو كما أشرنا يضم أخباره في المغرب والجزائر، ولكن ابن حمادوش كان قد حج سنة 1125، أي قبل ذهابه إلى المغرب، ثم توجه إلى المشرق من جديد سنة 1161 حيث وجدناه في هذا التاريخ في مدينة رشيد أيضا، ولعله قد تجول في مصر وعاود الحج وتنقل في أرض الله، كما أننا لا ندري. هل رجع إلى الجزائر أو ظل في المشرق. ثم إنه كتب الجزء الأول من رحلته وهو ضائع، ولعله واصل كتابة الرحلة في الجزء الثالث أيضا لأن التاريخ الذي كتب فيه الجزء الثانى هو 1156 - 1161. ويغلب على الظن أن لابن حمادوش أيضا رحلة حجازية أو مشرقية سجلها إما في الجزء الأول من (لسان المقال في النبا عن الحسب والنسب والآل) أو في الجزء الثالث. فقد عاش عمرا طويلا بعد الجزء الذي كتبه، بلغ عند البعض ثلاثين سنة (¬1). أما رحلة ابن عمار المسماة (نحلة اللبيب في أخبار الرحلة إلى الحبيب) فأمرها يختلف. فابن عمار قد حج لأول مرة سنة 1166 وقد جاور بالحرمين حوالي اثني عشر سنة. وتنقل بين الجزائر والمشرق عدة مرات. فقد وجدناه بتونس سنة 1195 التي جاءها بقصد الإقامة، كما ذكرنا. ووجدناه سنة 1205 يجيز محمد خليل المرادي في مكان لا نعرفه ولعله مكة ¬

_ (¬1) ولد ابن حمادوش سنة 1107 كما ذكر ذلك عن نفسه وعاش حوالي تسعين سنة فيكون قد عاش إلى حوالي سنة 1197، انظر ترجمتنا له في فصل العلوم والفنون من هذا الجزء.

المكرمة. كما تحدث زميله حسين الورتلاني صاحب الرحلة أنه كان رفيقه في مصر سنة 1166. هذا ما نعرفه عنه من تواريخ، ولكن ما لا نعرفه أكثر من ذلك. قسم ابن عمار رحلته إلى ثلاثة أقسام: مقدمة وغرض مقصود (وهو الرحلة) وخاتمة. وفي المقدمة، التي هي القسم الوحيد الموجود، والمطبوع أيضا، من هذه الرحلة، وصف ابن عمار أشواقه إلى الحرمين وإلى الرسول (صلى الله عليه وسلم)، وتحدث بالمناسبة عن شعر الموشحات المولدية والمدائح النبوية وعادات أهل الجزائر أثناء الاحتفال بالمولد النبوي. وقد تناول ابن عمار في القسم الثاني، أي الغرض المقصود، (ما يحدثه السفر إلى الإياب وحط الرحال). ومعنى هذا أنه تحدث في هذا القسم عن رحلته من الجزائر عبر تونس وطرابلس ومصر إلى الحجاز والعودة، كما فعل زميله ورفيقه الورتلاني. ولكن هذا القسم الهام مفقود الآن. كما أن الخاتمة التي جعلها فيما (نشأ عن ذلك (يعني السفر) بعد السكون وانضم إليه) ضائعة بدورها. ومن المرجح أن ابن عمار قد أكمل الرحلة لسببين: الأول أن تلميذه أبا راس وصفه بما يدل على أنه أكملها وأصبح معروفا بها وذلك في قوله عند الحديث عنه (مؤلف الرحلة) (¬1). فلو لم يكن ابن عمار قد أكملها لما قال أبو راس تلك العبارة عنه. والثاني أن ابن عمار قد عاش حوالي أربعين سنة بعد حجته سنة 1166. فلا يمكن نظريا أن لا يكمل رحلته خلال هذه المدة كلها (¬2). ولعل بقية رحلته توجد في الحرمين أو القاهرة أو تونس، لأنه عاش في هذه الديار وأطال الإقامة بها. وكان أبو راس من الذين أكثروا الترحال في بلاده وخارجها. فقد حج ¬

_ (¬1) أبو راس (فتح الإله) مخطوط. وعبارة أبي راس هي (صاحب الرحلة، الجمة الفوائد، حلوة الموائد، عذبة الموارد). (¬2) وجدنا له إجازة لمحمد خيل المرادي مؤرخة بـ 1205، وبذلك يكون ابن عمار قد عاش على الأقل 39 سنة بعد الحجة، انظر ترجمتنا له في فصل اللغة والنثر من هذا الجزء.

الورتلاني ورحلته

مرتين كما أسلفنا. وكان اهتمامه بالتاريخ والأنساب وحافظته القوية يساعدانه على التقاط ما قد يفوت الآخرين عن الأماكن التي زارها. تجول أبو راس في المغرب الأقصى عدة مرات، وأثناء حجتيه تجول في تونس ومصر والحرمين وسورية والقدس وغيرها. بالإضافة إلى تنقلاته في وطنه الجزائر وكان في كل ذلك يجادل ويسجل الحوادث ويروي العلوم ويطلع. وهذه هي بعض التواريخ الهامة في حياته قد تساعدنا على فهم رحلته، فقد توجه إلى المغرب للدراسة وهو يافع أثناء تاريخ لا نعرفه بالضبط، وقد يكون بين 1175 و 1180، وكان في مدينة الجزائر عدة مرات منها مرة سنة 1214. وكان حجه الأول سنة 1204 وحجه الثاني سنة 1226. وكلاهما على ما يظهر كان بحرا. وكان في رحلته يحاول أن يقتدي بابن رشيد وابن مرزوق الخطيب والعياشي والدرعي. ولكن شتان ما كتب وما كتبوا. فقد كتب (فتح الإله ومنته في التحدث بفضل ربي ونعمته) وخصص فيه فصلا عن رحلاته في المغرب والمشرق. فإذا به لا يتحدث إلا عن شيوخه الذين درس عنهم والقضايا العلمية التي عرضت له هنا وهناك وبعض الأخبار عن العلماء وعن حركة محمد بن عبد الوهاب، ونحو ذلك. ولذلك قال أحد الباحثين إن رحلة أبي راس غير مهمة (¬1). ولعل أبا راس، الذي اشتهر بتكرار الشروح على نفس العمل، قد تحدث عن رحلته المقصودة في كتابه المفقود (عدتي ونحلتي في تعداد رحلتي). الورتلاني ورحلته أسهم الورتلاني بعمل كبير في التاريخ، وهو لذلك يستحق منا وقفة قصيرة نختم بها هذا الفصل. ونود أن نشير إلى أن دراستنا عن (الرحلات الحجازية الجزائرية) قد تضمنت نبذة عن حياته وتحليلا لما كتبه بالخصوص ¬

_ (¬1) فور بيقي (المجلة الآسيويمة)، 1899، 316، وانظر عن أبي راس ما كتبناه عنه في كتابنا (أبحاث وآراء في تاريخ الجزائر).

عن الجزيرة العربية ومصادره في ذلك. ولد الحسين بن محمد السعيد في بني ورثلان، ومن ثمة نسبته الورثلاني، سنة 1125 وتوفي بنفس المكان سنة 1193. ويذهب الورثلاني إلى أنه من أسرة عربية شريفة. وكان جده قد جاء من ميلة وصاهر أسرة محمد أمقران حاكم منطقة قنزات وأصبح شيخ علم معترفا له وأسس نفوذ الأسرة الروحي في المنطقة حتى أنه بعد أن توفي أقيمت له قبة باعتباره من كبار المرابطين، وهكذا اجتمع في أصول الورثلاني الدين والدنيا: الدين عن طريق جده ووالده اللذين كانا أيضا من المرابطين، والدنيا عن طريق أخواله أولاد أمقران الذين كانوا حكاما ورجال سيف. وقد تزوج الورثلاني نفسه من إحدى بنات هذه الأسر الكبيرة، وهي أسرة المسعود بن عبد الرحمن من بني عيدل. كما كانت أسرته على صلة بعائلات قسنطينة. ومع ذلك فإن الورثلاني نشأ نشأة فقيرة أساسها التقشف الصوفي. وفي المدرسة القرآنية، التي كان يديرها والده، حفظ الورثلاني القرآن الكريم وهو في سن مبكرة. وبعد أن شب ذهب يبحث عن العلم في مختلف الزوايا، فتعلم الفقه والنحو ثم أضاف إلى ذلك علمي التصوف والتوحيد، ولا شك أنه نال حظا من اللغة والأدب والعروض والتاريخ. وهكذا أصبح الورثلاني، كجده ووالده، من علماء المنطقة البارزين، ومن الذين يدين لهم الناس بالطاعة الروحية والاحترام. وقد أصبح بعد ذلك من المدرسين وشيخ زاوية الأسرة. وكان يذهب للتدريس في بجاية وغيرها. وتخرج على يديه عدد كبير من التلاميذ الذين تولوا بدورهم وظائف دينية سامية. وغلبت على الورتلاني الروح الصوفية أكثر من الروح الفقهية، ومع ذلك فقد كان يجمع بين علوم الظاهر والباطن. وكان يسير في مذهبه الصوفي على مبادئ الطريقة الشاذلية. وكان لا يهتم باللباس ولكنه كان يبدي اهتماما بأحوال الدنيا. كما كان يكره أهل الحضر والحكام العثمانيين. وأصبح كمرابط يتدخل بين الناس لإصلاح ذات البين ويعلم مبادئ الدين التي حرفها البعض عن مواضعها. وقد ذكر أنه أثناء رحلته الأخيرة أخذ معه زوجتيه: عيوشة التي كانت من

عائلة المسعود بن عبد الرحمن، وعائشة. وقد قال عن عيوشة التي توفيت له في تونس أثناء عودته من الحج، إنها كانت تحفظ ربع القرآن وتحفظ أيضا الوظيفة الزروقية وجزءا من رسالة ابن أبي زيد القيرواني. وكان له أبناء أحدهم، هو محمد كان متزوجا من فاطمة، أخت عيوشة المذكورة. وقد ذهب معه إلى الحج وروى كيف كان خائفا عليه من اللصوص في الجزيرة العربية. ألف الورثلاني عدة كتب معظمها في الفقه والتصوف والتوحيد وقد أشرنا إليها في مكانها من هذا الكتاب. وأكبر عمل ألفه في التاريخ والأخبار هو الرحلة التي نحن بصددها. وكان له شعور قوي بالتاريخ، خلافا لبعض علماء عصره. فعزم على أن يكتب عملا ضخما يضاهي به أو يفوق عمل الدرعي والعياشي وغيرهما من كتاب الرحلة المغاربة. وقد سمى رحلته تسمية تلفت نظرنا ونحن بصدد دراسة التاريخ، وهي (نزهة الأنظار في فضل علم التاريخ والأخبار). وانتقد في المقدمة، كما مر في بداية هذا الفصل، عدم اهتمام أهل بلاده بالتاريخ وسخريتهم من دراسته ودارسيه، بينما علم السيرة النبوية جزء منه. واعتبر هو علم التاريخ من العلوم التي تزيد في فضل الإنسان وتبعده عن القبائح. فكان هذا رأيا غريبا من الورثلاني الذي كان مهتما بالتصوف وعلوم الباطن أيضا. حج الورثلاني مرتين (أو ثلاث مرات) الأولى سنة 1153 والثانية سنة 1166 والثالثة سنة و 117. وفي إحدى هذه الحجات اضطر إلى الرجوع من تونس. وكان قد سافر بالبر لأنه وصف طريقه بالتفصيل. وقد مر الورثلاني في طريقه، بعد أن ودع وداعا حارا عائليا وشعبيا، بقصر الطير حيث آلاف الحجاج من جميع الطبقات والجهات. وقصد سيدي خالد وأولاد جلال وبسكرة، ومنها إلى سيدي عقبة فزريبة الوادي فزريبة حامد، ثم توزر وقابس. وبعد ذلك تابع سيره على الساحل الليبي متوقفا بطرابلس وبرقة. وقد وصف الورثلاني هذه الأماكن بالتفصيل، كما وصف مصر وأهلها وعلماءها وعاداتها. ومن مصر توجه إلى الجزيرة العربية وتحدث عن ساحل

البحر الأحمر وعن القرى والمدن التي تحاذيه وعادات القبائل هناك مع ركب الحجيج المغربي والمصري. كما تحدث، كلما اقترب من مكة، عن العيون والآبار والحياة السياسية والزراعية في المناطق التي مروا بها. وبالإضافة إلى ذلك تحدث عن مكة أيام موسم الحج وعن المدينة وحياتها، وعن العلماء الذين لقيهم. وكان يرغب في الإقامة بالمدينة غير أن أهله لم يتركوه يفعل فاضطر إلى العودة معهم. وقد تحدث هناك عن فقدان الأمن في الطريق ووفرة الماء وقلته ومقابلته لأمير مكة ولأمير فزان، وعن عادات المصريين مع المغاربة. اعتمد الورثلاني في هذه الرحلة على مصادر كثيرة، فعن الجزائر اعتمد بالطبع على مشاهداته الخاصة، وعلى ما رواه له العلماء الذين لقيهم فيها. وقد طاف فيها كثيرا من غربها إلى شرقها. وكان يهتم خاصة بالزوايا والمرابطين وحياة العامة مع السلطة العثمانية. ومن الكتب التي اعتمد عليها أيضا (عنوان الدراية) للغبريني، و (النبذة المحتاجة في ذكر ملوك صنهاجة) و (الوغليسية) بشرح عبد الكريم الزواوي. أما عن أخبار طريق الحج وتونس ومصر وطرابلس والجزيرة العربية فقد اعتمد على (رحلة) الدرعي بالخصوص، ثم العياشي وعلى (حسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة) و (الأدلة السنية) لابن الشماع وكذلك اعتمد على مؤلفات المقريزي والبكري، والعبدري، والسمهودي وابن فرحون، والشطيبي. كما أنه رجع إلى مصادر أخرى لم يذكرها. وقد أكثر الورثلاني من النقل على الدرعى الذي كان أحيانا ينقل عنه الصفحات كاملة، ويسميه (شيخ شيوخنا). وقد بين الورثلاني في المقدمة أنه كان ينوي كتابة رحلة عظيمة تكون مفخرة له ولبلاده، ولكنه سرعان ما ظهر عليه الفتور، وأكثر من النقل والاستطراد، وتداخلت معلوماته. (وبعد فإني لما تعلق قلبي بتلك الرسوم والآثار، والرباع والقفار والديار، والمعاطن والمياه والبساتين والأرياف والقرى والمزارع والأمصار، والعلماء والفضلاء والنجباء والأدباء من كل مكان من الفقهاء والمحدثين والمفسرين الأخيار، والأشياخ العارفين والأخوان والمحبين المحبوبين من المجاذيب المقربين والأبرار، من المشرق

إلى المغرب سيما أهل الصحو والمحو إذ ليس لهم مع غير الله قرار - أنشأت رحلة عظيمة يستعظمها البادي ويستحسنها الشادي، فإنها تزهو بمحاسنها عن كثير من كتب الأخبار، مبينا فيها بعض الأحكام الغريبة والحكايات المستحسنة والغرائب العجيبة وبعض الأحكام الشرعية، مع ما فيها من التصوف مما فتح به علي أو منقولا من الكتب المعتبرة) (¬1) ولا ندري إن كان الورثلاني قد ألف هذه الرحلة دفعة واحدة أو على مرات. فهو يذكر أن دفترا قد ضاع منه في ليبيا أثناء عودته وكان يحتوي على ملاحظات حول أماكن الماء ببرقة. كما أخبر كذلك أنه كان يغتنم فرصة استراحة القافلة ويكتب ملاحظاته. ولعل الورثلاني كان يأخذ أثناء الحج ملاحظات في شكل مذكرات وتقاييد حتى لا تفلت منه المعلومات، وعندما عاد إلى وطنه أخذ في كتابة الرحلة أو في إملائها. ويبدو أنه كان يمليها على تلاميذه وأنه لم يراجع ما أملاه، لذلك كثر التكرار والأخطاء وتداخل المناسبات (¬2). ولعل الكبر قد حال دون المراجعة، رغم أن الإملاء قد تم سنة 1182. وكان الورثلاني عند كلمته، ولا سيما بالنسبة لأخبار المتصوفة. فقد خصص قسما كبيرا من رحلته لأخبارهم في الجزائر وغيرها. وتحدث أيضا عن الخرافات والغيبيات والكرامة المنسوبة إليهم. وتحدث عن شروط الساعة، وكتب بعض مذكراته عند قبر بعضهم تبركا به، وعزم على صيام الدهر، وقال عن الحمى التي أصابته في المدينة إنها هدية من الرسول إليه، وأقر بنبوة خالد بن سنان العبسي، وتوجه بقلبه وروحه لزيارة قبر عبد الرحمن الأخضري، وقبر عقبة بن نافع، وغيرهم من الأولياء والصالحين. وناقش ¬

_ (¬1) الورتلاني، المقدمة، 3. (¬2) يذهب الحاج صادق في دراسته لرحلة الورتلاني إلى أن هذا لم يكن يعرف العربية جيدا، وهو ادعاء غير صحيح في نظرنا، لأن الورتلاني كان من الفقهاء العاملين، ولم تكن الأخطاء نتيجة جهله بقواعد اللغة ولكن لعدم مراجعة الكتاب بعد الفراغ منه، وكان قد أملاه على من لم يكن يحذق اللغة. انظر الحاج صادق (المجلة الإفريقية)، 1951، 390 - 391.

قضية شرب القهوة وتناول الدخان وسماع الموسيقى، واستنكر خروج المرأة متبرجة، وقطع الميراث عنها في بعض الجهات، وغير ذلك من العادات القبيحة في نظره والتي سماها عمل الجاهلية. كما استنكر طريقة الحكم العثماني وقلة العلم في عهده وشيوع الرشوة والاستيلاء على الأوقاف وانتشار الظلم. وقال عن أهل الجزائر أثناء الحج إن (أهل وطننا فيهم الغلظة والجفاء وسوء الأدب وعدم إذعانهم للحكم)، وفي مكان آخر قال عنهم أيضا (وأما الركب الجزائري فلا حكم عندهم أصلا، ولا يتوقفون عند الأمر والنهي). وقارن بين الجزائر وتونس وطرابلس فوجد أن الحياة الاقتصادية في البلدين الأوليين أغنى وأخصب، بينما كانت ليبيا تعيش على ما يرد إليها من الخارج وليس فيها من المناطق الخصبة سوى جزء ضئيل. وهذه الملاحظات نفسها أبداها بالنسبة لمصر والحجاز إذ أكثر من الحديث هناك عن فساد الأمن وقلة المياه وحالة الزراعة ونحو ذلك. وهكذا يتضح أن رحلة الورثلاني، رغم كل ما فيها، تعتبر موسوعة أخبار عن جزء كبير من العالم الإسلامي في القرن الثاني عشر (18 م). فهي من المراجع التي لا غنى عنها في هذا المجال. وكان تكرار حجه وإتقانه للعربية ومعرفته بعادات الشرق والغرب قد جعلت الورثلاني حكما منصفا على العصر وأهله في كثير من المناسبات، وقد يكون من المفيد للتاريخ أن نعثر على كناشاته التي كان يسجل فيها ملاحظاته أو على النسخة الأصلية المملاة من الرحلة. فرجل كالورثلاني تضم أوراقه هاتيك الملاحظات والانطباعات والأحكام جدير بالدراسة والبحث بطريقة أكثر عمقا وشمولا مما درس به حتى الآن (¬1). ¬

_ (¬1) عدنا في هذا التعريف بالورتلاني وعمله إلى رحلته المطبوعة، وإلى ما كتبه عنه الحاج صادق في عمله المذكور، وكذلك دراستنا عنه التي قدمناها لندوة تاريخ الجزيرة العربية، وعلى من يرغب في معرفة ما كتبه الورتلاني عن الجزيرة العربية والمشرق عموما، أن يعود إلى هذه الدراسة. وقد ظهرت عده بحوث عن الورتلاني منذ كتبنا عنه هنا، مثل بحث المختار فيلالي، جامعة قسنطينة.

الفصل السادس العلوم - الفنون

الفصل السادس العلوم - الفنون

مقدمة

مقدمة إذا كان الحكم على ازدهار الحياة الثقافية في عصر من العصور يقوم على تقدم العلوم والفنون فيه، فإن العهد العثماني في الجزائر يعتبر فقيرا في هذه الناحية. فقد عرفنا عناية العلماء بالعلوم الشرعية والأدب والتواريخ المحلية والتصوف، ولكن عنايتهم بتدوين الطب والحساب والفلك والرسم والعمارة والموسيقى قليلة. ذلك أن ما كان متداولا من هذه العلوم والفنون لم يكن يخرج عن تقليد السابقين ولم يكن ممارسوه يتمتعون بالاستقلال العقلي وروح الابتكار. ولعل هذا هو ما جعل الرحالة الأجانب الذين عاشوا في الجزائر خلال العهد المذكور يحكمون، عن حق، حكما قاسيا على علماء الجزائر ويتهمونهم حتى بممارسة السحر والشعوذة والتخلي عن تراث أجدادهم وأفكارهم الإبداعية التي شاعت في العصر العباسي في المشرق وفي العصر الأموي بالأندلس. فقد اختفت أو كادت الكتابة في علوم الملاحة والكيمياء والجراحة والموسيقى خلال هذا العهد، وحل محل الحساب معلومات سطحية عن التعديل وقسمة التركات، ومحل الطب والجراحة ممارسة الخرافات والسحر والتمائم، وأصبحت الكيمياء، كما قال بعض الناقدين، عبارة عن محلول ماء الورد. وظلت الموسيقى حية ولكنها كانت تعزف بدون قواعد ولا تدوين للنوطة. فإذا ظهر عالم مهتم ببعض هذه العلوم والفنون نظر إليه على أنه شاذ وغير منسجم مع روح العصر والمجتمع. وهكذا كتب ابن حمادوش نفسه ذات مرة بعد أن اطلع في الطب على أحد الكتب المترجمة إلى العربية (وهو كتاب عجيب التأليف حسن الصنيع، لولا

أنه محشو كفرا تزل فيه الأقدام، فيجب التحذير منه ..) (¬1). وقد لاحظ العلماء أنفسهم ظاهرة ضعف العناية بالحساب والفرائض، فقد ذكر عبد الكريم الفكون، وهو يتحدث عن ابن نعمون وولديه، أن (معهم معرفة مبادئ الفرائض قسمة، وبعض مسائل وصايا الصحيح، ومناسخات دون ما عدى ذلك من أبوابها ومشكلاتها لانقراض العلم في كل الأقطار فيما أعلمه، اللهم إلا ما شذ) (¬2). ولا يشير الفكون بعبارة (كل الأقطار) إلى الجزائر وحسب، ولكن إلى ما يعرفه من البلاد الإسلامية. حقا إننا نجد أحد العلماء يبرع في الحساب فيلفت النظر إلى نفسه لحاجة الناس إلى هذا العلم في التجارة وفي الوصايا والتركات ونحو ذلك. فعبد الكريم الفكون نفسه يشير إلى براعة أبي الحسن الغربي في الحساب والتعديل (¬3). كما أن ابن مريم قد ذكر أن محمد عاشور السلكسيني كان ماهرا في الحساب والفرائض (¬4). ولكن معظم ما كان يدرسه العلماء عندئذ في هذا العلم هو تلخيص ابن البنا المراكشي ومؤلفات القلصادي. فإذا زاد أحدهم شيئا عن ذلك فمن باب المهارة الشخصية وليس من باب الدرس والتحصيل. لذلك لاحظ الأجانب أيضا ضعف علم الحساب والفلك وما إليهما في العهد العثماني. فقد أخبر الدكتور شو، الذي عاش فترة طويلة في الجزائر، أن العلماء هناك كانوا لا يعرفون إلا قليلا من الحساب، وأن الآلات الحاسبية، مثل الأسطرلاب، كان ينظر إليها نظرة فضولية لا عملية. كما لاحظ أن الجبر والحساب العددي لم يكونا معروفين لشخص واحد من بين عشرين ألف نسمة. فالتجار كانوا، كما لاحظ، يحسبون بالأصابع. ومع ذلك فالمفروض أن العلماء وأمثالهم يدعون معرفة أسرار الحروف والأعداد ¬

_ (¬1) ابن حمادوش (الرحلة)، وهو يشير إلى (كتاب الدول) للملطي الذي قال عنه إنه رتبه على عشر دول، مبتدئا بآدم ومنتهيا فيه إلى أوائل القرن السابع. (¬2) (منشور الهداية)، 61. (¬3) نفس المصدر، 29. (¬4) (البستان)، 287.

وأنهم باستعمال هذه الأسرار يصلون إلى تحقيق أغراضهم كطرد الأرواح الشريرة وإيقاع الهزيمة بالعدو وجلب الحظ ونحو ذلك (¬1). ونفس الشيء يقال عن علم الفلك. ذلك أن رصيد المعرفة في هذا الباب عند العلماء هو تأليف محمد بن أحمد الحباك وابن أبي الرجال القيرواني، وشرح السنوسي على الأول وشرح ابن القنفذ على الثاني. كما أن أرجوزة محمد بن علي المعروف بابن أبي مقرع كانت متداولة، ولكن التقدم في هذا الميدان كان متوقفا. فقد كادت تنحصر الأعمال الفلكية في تقويم الصلوات وحركة الليل والنهار وتعديل بعض الكواكب، ورغم دقة مزاول الشمس وحركة الظل فإن علم الملاحة لم يكن متطورا، وهو العلم الذي كنا نتوقع البراعة فيه لشهرة الجزائر في العهد العثماني بالنشاط البحري، فبالإضافة إلى البحر الأبيض خرج الأسطول الجزائري إلى المحيط الأطلسي وبحر الشمال وسواحل إيسلاندا، ومع ذلك فإن البحارة كانوا، حسبما لاحظ أحد الأجانب، يقتصرون على الخريطة البسيطة وعلى تمييز النقط الثماني الرئيسية من البوصلة (¬2). كما أنهم قد تعلموا خط العرض بملاحظة الشمس عند منتصف النهار، وقاموا بترجمة الجداول الخاصة بهذا الموضوع إلى اللغة العربية، وإذا أعوزتهم المعرفة بعلم الملاحة وهم في المحيط أجبروا خبيرا من سفينة أوروبية على توجيههم إلى أن يعودوا إلى البحر الأبيض (¬3). وقد أصبح علم الكيمياء عملا يهرب منه العلماء بعد أن كان محببا في عصر الازدهار العلمي. فقد حكى الورتلاني أنه لم يكن يستعمله كما أنه لم يكن يستعمل أسرار الحروف والأوفاق، وهو هنا ينفي ذلك لأن غيره كان يلجأ إليها طلبا لفائدتها العاجلة أو الآجلة، أي أنهم كانوا يمارسون بها نوعا من السحر وليس نوعا من العلم. وقد تعجب الورتلاني حين وجد نقيب كسوة الكعبة في مصر يتعاطى علم الكيمياء كما أن النقيب قد تعجب من أن ¬

_ (¬1) شو (الرحلة) 1/ 364. (¬2) نفس المصدر، 356. (¬3) شيلر 57.

الحساب والفلك

الورتلاني لا يستعمل العلم المذكور (¬1)، فلا غرابة إذن أن يحكم شو بأن علم الكيمياء لم يعد في الجزائر سوى صناعة ماء الورد بعد أن كان محببا عند العلماء المسلمين الاوائل (¬2). الحساب والفلك فإذا عدنا إلى دراسة الإنتاج العلمي وجدنا منه كمية ضئيلة خلال العهد العثماني بالقياس مثلا إلى الإنتاج العلمي الذي عرفه القرن التاسع (15 م)، ولولا بعض الأعمال التي كتبها عبد الرحمن الأخضري وسحنون بن عثمان الونشريسي وابن حمادوش لخلا هذا العهد أو كاد من التأليف في العلوم الحسابية والفلكية ونحوها، ومع ذلك فإن هؤلاء كانوا يستمدون موادهم من تراث الحباك والسنوسي وابن القنفذ والقلصادي. فقد ظلت قصيدة علي بن أبي الرجال القيرواني في الفلك وشرح أحمد بن القنفذ عليها مصدرا هاما للمهتمين بهذا العلم (¬3). كما أن عمل الحباك (نيل المطلوب في العمل بربع الجيوب) كان يرجع إليه علماء الفلك خلال العهد المدروس (¬4)، ونفس الشيء يقال عن شرح محمد بن يوسف السنوسي (بغية الطلاب في علم الإسطرلاب) لأستاذه الحباك (¬5)، وكأن العقول في العهد العثماني قد تحجرت فلم تعد تنتج وإنما تستوحي من هذه الأعمال السابقة ما تحتاج إليه من غذاء، وبالإضافة إلى ذلك كان عمل ابن البنا في الحساب وشرح الحباك وشرح ابن القنفذ وكذلك شرح عبد الواحد الونشريسي عليه هي المادة التي يعود إليها ¬

_ (¬1) الورتلاني (الرحلة)، 261. (¬2) شو، 1/ 356. (¬3) انظر نسخة الخزانة العامة - الرباط، ح 31 مجموع، وكذلك فهرس مخطوطات المكتبة الظاهرية بدمشق، علم الهيئة، 4905 مجموع. (¬4) المكتبة الملكية - الرباط، 5266، فيه ست ورقات. (¬5) المكتبة الملكية - الرباط، 6678 مجموع، ويقع الشرح في 155 ورقة.

طلاب الحساب وعلماؤه (¬1)، ولكن مهما أجاد ابن البنا وشراحه فإن جمود العقول عند هؤلاء العلماء وعدم الاستفادة من تقدم العلوم الحسابية عند الأوروبيين مثلا يعتبر ظاهرة غريبة في حد ذاته. وقد مهر في الحساب، بعد ابن البنا، علي القلصادي، ولكن آثاره في الحساب طمست، كما طمست مقدمة ابن خلدون في العلوم الاجتماعية، فلم يستفد علماء العهد العثماني من عبقرية هذا ولا نبوغ ذاك (¬2). عاش علماء الفلك والحساب في العهد العثماني إذن على تراث القرن التاسع. ومن أبرز من ألف في علم الحساب والفرائض في العهد العثماني عبد الرحمن الأخضري. فقد نظم خمسمائة بيت في هذا المعنى سماها (الدرة البيضاء) وقسمها إلى ثلاثة أقسام الأول خاص بالحساب، والثاني خاص بقواعد الفرائض، والثالث خاص بالقسمة العملية للتركات، وقد وضع الأحضري نفسه شرحا على الدرة البيضاء ولكنه لم يكمله، ويبدو أنه قد شرح القسم الثاني منه على الأقل. ذلك أن المخطوطة كانت قد ضاعت منه وهو في أثناء عمله ثم عثر عليها فأكمل، كما أخبر بنفسه، شرح القسم الثاني. وقد أكمل عبد اللطيف المسبح القسنطيني هذا الشرح كما أخبرت بذلك عدة مصادر (¬3)، وكان عبد اللطيف المسبح من علماء الحساب والفرائض أيضا حتى اشتهر بذلك في وقته (توفي حوالي 980)، وحين طبعت (الدرة البيضاء) وشرحها في القاهرة سنة 1891 نص على أن القسم الثاني والقسم الثالث (ما عدا الفصول الثلاثة الأخيرة) قد شرحهما الأخضري بنفسه، وأن ¬

_ (¬1) عن شرح ابن القنفذ على ابن البنا. انظر الخزانة العامة - الرباط، 939، وعن شرح الحباك على ابن البنا. انظر (البستان) 219، وعن شرح الونشريسي على ابن البنا. انظر (سلوة الأنفاس) 2/ 147. (¬2) انظر ما كتبه أبو راس عن القلصادي في شرح (الحلل السندسية)، مخطوط باريس، 4619، وقد ترجم له أيضا أحمد المقري في (أزهار الرياض)، وطالما تناوله ابن حمادوش في التدريس والمطالعة. (¬3) انظر (منشور الهداية) لعبد الكريم الفكون، 16 - 17. أحمد توفيق المدني (محمد عثمان باشا) 77.

القسم الأول ليس من شرح الأخضري دون أن تشير إلى من قام بالشرح (¬1). والغالب على الظن أن المسبح هو الذي أكمل النقص كما أشرنا بإكمال القسم الثالث وشرح القسم الأول. وقد ظلت (الدرة البيضاء) وشرحها متداولة بين الطلاب والعلماء في المشرق والمغرب إلى عهد قريب، وهي تعتبر من أهم الأعمال التي قدمها الأخضري للعلم. وكما ألف الأخضري في الحساب ألف أيضا في الفلك، ولكن يبدو أن عمله في الفلك، رغم شيوعه، لم يحرز شهرة (الدرة البيضاء). فقد وضع الأخضري نظما سماه (السراج) في علم الفلك، ولكنه لم يشرحه أو شرحه ولكن لم يتمه (انتهى منه نظما سنة 939)، فقام تلميذه عبد العزيز بن أحمد بن مسلم الفارسي بشرحه شرحا ما يزال نادر الوجود، ويبدو أن أحدا لم يطلع على هذا الشرح سوى قلة، منهم سحنون بن عثمان الراشدي الونشريسي الذي قام هو أيضا بشرح (السراج) ونقل في ذلك عن شرح عبد العزيز بن مسلم، وقد سمى شرحه (مفيد المحتاج في شرح السراج) (¬2)، وبدأه هكذا (وبعد، يقول العبد الذليل، المفتقر إلى مولاه الجليل، سحنون بن عثمان بن سليمان بن أحمد بن أبي بكر الميدوي (أو اليديري). لما رأيت تأليف الشيخ العالم المتقي، سيدي عبد الرحمن بن محمد الأخضري، المسمى بـ (السراج) في علم الفلك، من أنفس الكلام، وهو مفيد لمن احتاج إليه من الأنام، وكان قليلا من تكلم عليه، جعلت هذا التقييد تكميلا لفوائده، ومبينا لبعض ما أنبهم عليه من ألفاظه، وأضفت إليه زوائد من غيره، وسميته (مفيد المحتاج في شرح السراج) (¬3). ولما كانت حياة سحنون بن عثمان ما تزال غامضة فإننا نود أن نقف ¬

_ (¬1) لوسياني، الجزائر 1921، 10 - 11. (¬2) عن سحنون بن عثمان. انظر رحلة ابن حمادوش. وبروكلمان 2/ 706، 715. انظر أيضا مخطوط مكتبة طولقة بعنوان (جواهر المحتاج في شرح السراج)، وقد طبع شرح سحنون بن عثمان في القاهرة، 1314، مع متن الأخضري. (¬3) مخطوط باريس، 2568.

عندها قليلا بما جمعناه حولها من معلومات. فقد كان من العلماء الذين اهتموا بالفلك والرياضيات والنجوم في وقت اهتم فيه طلبة العلم بالفقه والتصوف. ولذلك أهمله المترجمون إلا النوادر، ومن الذين تحدثوا عنه ونقلوا من كتابه (السراج) محمد بن سليمان صاحب كتاب (كعبة الطائفين) الذي يسميه (شيخ شيوخنا) (¬1) فإذا عرفنا أن ابن سليمان كان حيا سنة 1068 أدركنا أن سحنون بن عثمان قد يكون عاش فترة في القرن الحادي عشر، والظاهر أن سحنون بن عثمان قد تثقف في مدينة الجزائر ومليانة ومجاجة التي كانت في وقته قد اكتسبت شهرة علمية بفضل زاويتها، ولعله قرأ أيضا بتلمسان والمغرب، وقد نقل الحفناوي عن الشيخ ابن دوبة (؟) أن سحنون بن عثمان مدفون في بني وعزان نواحي الونشريس وأن قبره هناك مشهور (¬2). وقد أورد له ابن حمادوش، الذي اهتم مثله بعلوم الفلك والرياضيات، نظما في حل أحد الألغاز، ونقل عنه أيضا ابن سليمان كثيرا في مسائل الفلك في الجزء الثالث من كتابه، وسنعرف أن محمد بن علي الشريف الشلاطي قد نقل عنه أيضا. كما نقل عنه مؤلف (جواهر المحتاج في شرح السراج). فقال إنه ضمن كتابه شرح سحنون بن عثمان على (السراج) وأضاف إليه زوائد لغيره. وكل ما نعرفه الآن عن مؤلف (جواهر المحتاج) أنه كان حيا سنة 1189، وهناك مؤلف آخر استفاد من عمل سحنون بن عثمان في الفلك ولكن اسمه مجهول لدينا، وكل ما نعرفه الآن هو اسم كتابه الذي سماه (شرح الرضى على نهاية ما يرتضى) وهو أيضا شرح على السراج للأخضري يعود إلى منتصف القرن الحادي عشر حيث جاءت فيه عبارة (في عشرة الأربعين من القرن الحادي عشر) (¬3)، وهكذا ¬

_ (¬1) ابن سليمان (كعبة الطائمين) 3/ 84، وقد نقل عنه في عدة أماكن أخرى، وضبط نسبه هكذا: (شيخ شيوخنا العالم العلم سيدي سحنون بن عثمان اليديري). (¬2) (تعريف الخلف) 2/ 148، ونسبه فيه هكذا: سحنون بن عثمان بن سليمان بن أحمد ابن أبي بكر المداوي. (¬3) ناسخه هو محمد بن أحمد الملقب بالمحفوظ الزواوي مسكنا المثنيشي (؟) نسبا سنة 1219، وفيه حوالي أربعين صفحة.

يظهر أن سحنون بن عثمان، رغم أنه مغمور عندنا اليوم، لم يكن مغمورا عند علماء وقته، بل كاد عمله في الفلك يكون مصدرا أساسيا لهم لا يشبهه إلا عودتهم إلى شرح الأخضري نفسه على السلم المرونق. ولسحنون بن عثمان تأليف آخر سماه (سهام الربط في المخمس خالي الوسط). وقد اطلعنا منه على نسخة فإذا فيه أن بعض الإخوان طلب منه تحرير مقالة عن كيفية استعمال المخمس خالي القلب وتصحيح أوتاره فأجابهم إلى ذلك، وقسمه إلى فصول، فجعل قسما في موافقة أسماء الله إلى حاجة الإنسان ومناسبة الوقت لها، مثل طلب الرزق الذي يناسبه الرزاق، الفتاح، الغني، الكافي، الخ ... وإذا كان الموضوع العطف فإن ما يناسبه هو العطوف الرؤوف، الرحيم. وإذا كان عن المطر فإن ما يناسبه هو قوله تعالى: {واستغفروا ربكم إنه كان غفارا} الآية. وإن كان طلب صحو فقوله تعالى: {يا أرض ابلعي ماءك} الآية. وتأتي الفصول بعد ذلك تباعا: في طرح ما تدخل به في الوفق، في كيفية الدخول في الطروحات، في تعمير البيت الوسط، في البخور بعد الصلاة، فإن كان للخير فالتبخر بالجاوي والعود، وإن كان للشر فبالكبريت والحنتيت والثوم، بالإضافة إلى فصل في موافقة الأعداد، وقد ضمنه أبياتا لامية في طريق الوصول إلى سر الروح بالتطهر والتزهد والعمل بالعلم وتجنب السفهاء، بالإضافة إلى تقييد عن جلب الأفلاك الآبقة بالبخور ونحوه (¬1). ولكن ما كتبه سحنون بن عثمان هنا لا يخلو من خرافة وسحر رغم أنه حاول أن يصل فيه إلى نتيجة علمية. فقد ولع أشباه العلماء باستخدام الروحانيات واستعمال الحروف والأعداد حتى اختلط عندهم السحر بالعلم والشعوذة بالحقيقة، وتغلب، مع الجهل، روح الشعوذة على روح العلم. وساد ذلك الخاصة والعامة إلا ما ندر. ¬

_ (¬1) المكتبة الوطنية - الجزائر، 1535 وفيه ست أوراق، وانتهى منه المؤلف في 14 صفر سنة 1018. ذكر بروكلمان 2/ 715 أن منه نسخة أخرى بليدن 1235.

ومن الذين نقلوا من (مفيد المحتاج) لسحنون بن عثمان واستفادوا منه محمد بن علي الشلاطي المعروف بابن علي الشريف في كتابه (معالم الاستبصار بتفصيل الأزمان ومنافع البوادي والأمصار) (¬1). وهو كتاب في الفلك والتنجيم ألفه سنة 1192 بالجزائر. وكان هدفه من تأليفه، كما قال توضيح ما لم يوضحه أحمد بن علي السوسي المعروف بأبي مقرع (¬2). ولذلك قال ابن علي الشريف عن كتابه (فهو، بحمد الله، كتاب جامع، وبما يحتاج إليه المبتدئ كفيل ونافع .. وينفتح (به) منغلق السوسي ويتضح ما أهمله، وبينت ما أشار إليه وذكرت ما أغفله .. ورتبته على نمط عجيب غريب. يحتوي على فوائد مهمة .. من معرفة أوقات الصلاة والأذكار، وتحديد القبلة من جميع الأقطار، والتذكر في عجائب العلويات وغرائب السفليات، ومعرفة العام العربي وشهوره .. ومدخل السنة العجمية وكبسها، بضابط قريب .. ومجاري الشمس .. وزمان الحر والقر .. وكذا سائر الدراري وترجلها في البروج والمنازل، وأشير إلى الرياح والأرواح، والبروق والرعد والزلازل). وبالإضافة إلى النقل عن سحنون بن عثمان وعبد العزيز بن مسلم والأخضري نقل الشلاطي أيضا عن والده، وعن محمد بن يوسف السنوسي، وابن البنا، وعلي بن محمد الدساسي صاحب (شرح اليواقيت) وعن ابن عباد ¬

_ (¬1) نسخة منه، ولعلها الأصلية، توجد في مكتبة الكونغرس الأمريكي، وهي بدون رقم، وعندي منه نسخة بالميكروفيلم. وهو غير كامل وضمن مجموع، والذي اطلعنا منه ينتهي إلى ورقه 34، ولكن خطة المؤلف فيه تجعله كتابا ضخما لو أنه وصل إلينا كاملا، ذكره صلاح الدين المنجد في فهرس مخطوطات مكتبة الكونغرس العربية، بيروت 1969. وبعد كتابة هذا الفصل اطلعت منه أيضا على نسخة كاملة عند الأستاذ علي أمقران السحنوني تاريخ نسخها سنة 1205. (¬2) ألف أحمد بن علي (البطيوي؟) المعروف بأبي مقرع أرجوزة في التوقيت. ثم جاء محمد بن سعيد السوسي المرغيتي وشرحها عدة شروح منها (المقنع في اختصار علم أبي مقرع)، وقد توفي أبو مقرع أوائل القرن الثامن الهجري.

في رسالته، وأحمد الونشريسي، وعن أحمد بن بلقاسم الزواوي وغيرهم من علماء الجزائر وعلماء المشرق والمغرب الذين ألفوا أو شرحوا في علم الفلك والتنجيم. ومما نقله عن أحمد بن بلقاسم الزواوي، الذي كان حيا سنة 1105، جدول في الكبس والازدلاف لمدة القرن الثاني عشر، كما نقل عنه تصحيحه غفلة أحمد بن مزيان عن الازدلاف في السنة. ولم يقسم الشلاطي كتابه إلى فصول وإنما جعل له عناوين داخلية حسب الموضوعات التي تناولها. وقد تحدث فيه عن خطوط عرض بسكرة والقلعة وقسنطينة ومدينة الجزائر وزواوة ومليانة. وآخر حديث له فيه كان عن السماوات. ولو عثرنا على بقية كتاب (معالم الاستبصار) لوجدنا فيه فوائد جمة ليس فقط عن الموضوع الذي عالجه المؤلف ولكن ربما عن العصر وأهله أيضا. فقد شكا الشلاطي كثيرا من الظلم والجور وقلة العلم وتغير أحوال الناس. وقال إنه ألفه رغم ازدحام الناس، رجالا ونساء، على زاويته، واشتغاله بتدريس العلم للطلبة وإعطاء الأوراد والأذكار إلى المريدين (¬1). وقد أسهم عدد من التلمسانيين في الفلك ونحوه كالتنجيم والحروف المتصلة بالتصوف وعلوم الغيبيات. ومن هؤلاء أحمد بن محمد بن عيسى المرصاوي المعروف بقائد الجيوش. فقد كتب حوالي سنة 960، كتابا سماه (لسان الفلك) وهو في علم حساب الحروف والطبائع والبروج وما إلى ذلك. وقد افتتحه بقوله: (الحمد لله الذي أدار الأفلاك الدائرات، وأطلع فيها النجوم الزاهرات، وبعد فقد اختلج في صدري أن أبين ما تضمنته الجداول الأربعة المتشكلة في الزيارج السبتية (¬2) من أوتاد البيوت وحروف العدد والمقابلة والمناظرة والوجه والحد). وقد قسمه إلى أبواب وفصول وجاء فيه بجداول كثيرة وغنية. ومن موضوعاته أيضا مصادقة الكواكب ¬

_ (¬1) يبدو أن النسخة التي اطلعنا عليها كانت في ملك أحد علماء الجزائر الذين انتقلوا إلى الإسكندرية أمثال ابن العنابي والكبابطي، فقد وجدنا عليه تملكا ممحوا يعود إلى سنة 1205 مع ختم (المكتبة الحجازية بالإسكندرية). (¬2) نسبة إلى أبي العباس أحمد البستي المتوفى سنة 601.

وعداوتها، والسعود والنحوس، وكشف الضمائر والمغيبات (¬1). أما عبد الله بن عزوز المراكشي التلمساني فقد عرف بالكتابات التي جمعت بين علوم التصوف وعلوم الحكمة، ومنها الطب والفلك وغيره. ومن كتبه في ذلك: 1 - لباب الحكمة في علم الحروف ونعم الأسماء الإلهية. 2 - الأجوبة النورانية. 3 - أثمد البصائر في معرفة حكمة المظاهر. 4 - ذهاب الكسوف ونفي الظلمة في علم الطب والطبائع والحكمة (¬2). وقد اطلعنا على الكتاب الأخير فإذا معظمه في الطب. وقد قسمه المؤلف إلى سبعين بابا منها أبواب في الطبيعة وعناصرها، وفي العلم والحكمة، وفي علم التوليد بسبب المزاجات والأخلاط. وفي حديثه عن الطب فصل في ذكر العلاج لكل مرض، وكان آخر باب في الكتاب في صفة المعدة وأمراضها وعلاجاتها. أما بدايته فهي: (الحمد لله الذي أفاض على قلوب عباده المحبوبين فنون العلوم والمعاني الكثيفة واللطيفه، وأطلعهم ¬

_ (¬1) اطلعنا منه على نسخة باريس رقم 2595 المنسوخة سنة 1075، وهي في 58 ورقة، ومنه نسخة في برلين رقم 4231. (¬2) بروكلمان 2/ 704، انظر أيضا (مجلة المراسل الإفريقي)، 1884، 374. ويوجد من الكتاب الثاني والثالث نسخ في المكتبة الوطنية بالجزائر رقم 927، 1519/ 20، ومن الكتاب الأخير نسخة في باريس رقم 4758 وهي التي اطلعنا عليها، وهي في 118 ورقة وبخط جيد، وهو مؤلف حوالي 1178، غير أن النسخة التي اطلعنا عليها تعود إلى سنة 1288، ونسب له محمد الأخضر (الحياة الأدبية في المغرب على عهد العلويين) 253 كتابا آخر بعنوان (كشف الرموز) في النباتات، وقال إنه مخطوط رقم د 1551، وقد توفي عبد الله بن عزوز سنة 1204، وكان شاذلي الطريقة ويدعى أيضا سيدي بللا، وقد أشرنا إلى كتابه (تنبيه التلميذ المحتاج) في التصوف.

على الحكم والمعاني، وأدخلهم حضرتهم القدسية). ولا شك أن هذه العبارات وأمثالها هي التي جعلت بعضهم يصنف الكتاب في علم التصوف. والواقع أن عبد الله التلمساني كان ملما بالفلسفة القديمة غاية الإلمام، ولكنه في عصر يرتبط فيه كل شيء بالتصوف كان كلامه لا يخلو من مزالق في هذا الباب. وكان في عمله عميق النظر متحررا بالنسبة إلى علماء عصره. وقد ناقش في كتابه مجموعة من القضايا التي كانت تعتبر محل جدال ونظر بين العلماء، ولا سيما في كتابه (تنبيه التلميذ) الذي حاول فيه التوفيق بين الشريعة والحقيقة والطريقة. وفي هذا الباب أيضا نجد أحد التلمسانيين يقوم بشرح رجز أبي مقرع في الفلك. ونحن وإن كنا لا ندري الآن اسم هذا المؤلف فإنه يغلب على الظن أنه من أهل القرن العاشر أو الحادي عشر. واسم هذا الكتاب أو الشرح الكبير هو (التاج المرصع في شرح رجز أبي مقرع). ورغم أن هذا الكتاب مبتور الأول قليلا فإنه من الواضح أنه يبدأ بمولد الرسول (صلى الله عليه وسلم). وقد ضمنه المؤلف جداول كثيرة، وجاء بالخصوص بجدول لعرض مدينة تلمسان التي كان شديد الارتباط بها، حتى أنه كلما ذكرها في الكتاب قال: (أبقاها الله دار إيمان). ومن الذين نقل عنهم في ذلك محمد بن يوسف السنوسي وابن أبي حجلة (وكلاهما من علماء تلمسان) والجادري ونحوهم (¬1). وينسب إلى أحمد المقري أيضا عمل في علوم الجفر والزيارجة بعنوان (النمط الأكمل في ذكر المستقبل) (¬2). ولكننا عرفنا أن ميدان المقري هو الأدب والتاريخ والحديث وليس علوم الغيبيات وأسرار الحروف والكواكب. ولعل هذا التأليف منسوب إليه خطأ. ¬

_ (¬1) ولكونه مبتور الأول لم نستطع أن نتعرف على اسم المؤلف، وهو ضخم الحجم وغير مرقم، والنسخة التي اطلعنا عليها تعود إلى سنة 1191، وناسخها هو السيد علي بن عمرو نصر. مخطوط باريس رقم 2568. (¬2) منه نسخة في مكتبة جامعة برنستون (قسم يهودا) رقم 4621 مجموع، وقد صورناه من هناك، وفيه فصلان، وهو في 11 ورقة.

وفي هذا الصدد نظم أحد الجزائريين أرجوزة سماها (تعديل الكواكب لعرض بلد الجزائر) (¬1) وهي في علم الفلك كما يظهر من العنوان، ومذيلة بجداول فلكية. ونحن وإن كنا لا ندري من هو صاحب الأرجوزة الذي تشير إليه المصادر فقط باسم (الجزائري)، إلا أننا لا نستبعد أن يكون صاحبها هو محمد بن أحمد الصخري الآتي ذكره. ومن علماء مدينة الجزائر الذين أسهموا أيضا في علم الفلك والميقات محمد بن أحمد الصخري الأندلسي الأصل الجزائري المولد كما يقول عن نفسه. وكان الشيخ الصخري من علماء المالكية القائمين بتوقيت الجامع الكبير بالعاصمة. وقد أرخ تأليف كتابه بحساب الجمل وهو (بلوغ أمل) (1043؟). أما عنوانه فهو (القلادة الجوهرية في العمل بالصفيحة العجمية). ويبدو أن الشيخ الصخري كان ولوعا، بحسب المهنة، بالأشكال الهندسية ودوران الكواكب ومعرفة الظل ونحو ذلك من الربط بين التغيرات الطبيعية وحاجات الإنسان. فقد بدأ كتابه، بعد الديباجة على النحو التالي: (أنه لما اتفق لي في سنة (بلوغ أمل) أن منحت بصفيحة بديعة عجيبة من آلات الوقت الشعاعية، لها أسلوب (؟) غريب، ورقم عجيب، اسمها مكتوم، وطلعها مختوم .. ونادى لسان الوصل الحال أهلا ومرحبا .. فلبيت مجيبا للدعاء، لتحققي أن ذلك من أهم الأشياء .. وأوردتها مجموعة في مقدمة وخمسة عشر بابا وخاتمة .. وسميتها بالقلادة الجوهرية في العمل بالصفيحة العجمية) (¬2). وفي المقدمة عرف الشيخ الصخري بالصفيحة الشعاعية وبأعمالها وأجزائها وأشكالها. أما الأبواب فهي على النحو التالي: ¬

_ (¬1) الخزانة العامة، الرباط، رقم 2245 د مجموع. (¬2) اطلعنا على نسخة باريس رقم 2568، وفي آخره تاريخ يغلب على الظن أنه تاريخ التأليف وهو 1043. أما تاريخ نسخ النسخة التي اطلعنا عليها فهو سنة 1222. انظر أيضا بروكلمان 2/ 1022، وقد ذكر المؤلف هكذا: محمد بن أحمد الدخري الجزائري، ولم يذكر عنوان كتابه.

1) في معرفة تعديل الشمس وميلها وموضع القمر وما فيه من النور ومطرح شعاعه. 2) في معرفة وضع الشمس ونظيرها على مداري جزء كل منهما في خط الطول ومعرفة المطالع الاستوائية لكل منهما. 3) في معرفة أخذ الارتفاع، أي ارتفاع الشمس. 4) في معرفة استخراج العرض. 5) في معرفة غاية ارتفاع الشمس في دائرة نصف نهار مفروض. 6) في معرفة ما في كل واحد من النهار والليل من ساعة مستوية وكم كل واحد منهما، الخ. 7) في معرفة فضل الدوائر والماضي من النهار، الخ. 8) في معرفة سمت القبلة. 9) في معرفة استخراج الجهات الأربع ونصب القبلة. 15) في معرفة ارتفاع الشمس لوقت الظهر، الخ. 11) في الدائر وفضله. 12) في المطالع. 13) في مطالع الكواكب الاستوائية في الفلك المستقيم وأبعادها. 14) في العمل بالكواكب التي لها طلوع وغروب. 15) في الماضي والباقي من الليل. أما الخاتمة فقد جعلها في التفنن بهذه الصفيحة وذلك باستخراج المجهول بها من المعلوم، ونحو ذلك. والظاهر أن عمل الشيخ الصخري أكثر علمية من بعض الأعمال التي عرضت لنا حتى الآن. فهو غير مختلط بالأفكار الصوفية والغيبيات واستخدام الروحانيات. وإذا ثبت أن تاريخ تأليفه يعود إلى سنة 1043 فإن ما كتبه أيضا عبد الرزاق بن حمادوش، الذي جاء بعده بحوالي قرن، عن العمل بالصفيحة الشعاعية يعتبر مكملا له. فقد ألف ابن حمادوش، كما سنرى في ترجمته، أعما لا في الأسطرلاب، والروزنامة، والتواريخ، والرخامة الظلية، وصورة

الكرة الأرضية، وعلم الملاحة البحرية، والقوس الذي ترصد به الشمس، وغيرها. وكان ولوعا أيضا برسم الجداول ووضع الأشكال الهندسية واستخراج النتائج العلمية منها. وهو بالإضافة إلى ذلك كان مغرما بعلم الطب والصيدلة. وشبيه بعمل محمد الصخري في الفلك ما ألفه علي بن محمد بن علي البجائي، وهو (تبصرة المبتدئي وتذكرة المنتهى) الذي قال عنه إنه في معرفة الأوقات بالحساب من غير آلة ولا كتابة. وإذا كان محمد الصخري من الموقتين بالمهنة فإن الشيخ علي البجائي كان من المقرئين ومؤدبي الصبيان في مدينة بجاية. غير أن معلوماتنا عن علي البجائي ما تزال قليلة. فنحن لا نعرف عن تأليفه إلا هذا القدر الذي جاء عرضا في أحد المؤلفات الأخرى (¬1). وقد ذكرنا من قبل أن أحمد بن بلقاسم الزواوي قد وضع عدة جداول، منها جدول في الكبس والازدلاف وآخر في مدخل السنة العجمية، كما صحح خطأ الشيخ أحمد بن مزيان في الازدلاف (¬2). وهناك عمل ينسب إلى عبد القادر الراشدي القسنطيني بعنوان (متسعات الميدان في إثبات وجه الوزن وآلات الميزان). وهو العمل الذي ذكره له بروكلمان في باب الطب والعلوم الطبيعية، ولكنه أخطأ حين جعل الراشدي من أهل القرن الحادي عشر الهجري (¬3) (17 م). ¬

_ (¬1) عثرنا على هذه المعلومات في مجموع مخطوطة (معالم الاستبصار) تأليف ابن علي الشريف الشلاطي، وقد أشرنا إلى هذا الكتاب، كما ذكره سحنون بن عثمان في كتابه (مفيد المحتاج) المطبوع، 11، وقد سماه فيه أبا الحسن علي بن مجمد بن علي المغربي. (¬2) أشير إلى هذا الكتاب ضمن المجموع السابق. بمكتبة الكونغرس الأمريكي، وما زلنا غير متأكدين من ذلك. (¬3) بروكلمان 2/ 713. انظر أيضا (تعريف الخلف) 2/ 219، ولم يذكر الحفناوي عنوان كتاب الراشدي واكتفي بقوله وله تأليف في وزن الأعمال. وهو، حسب الظاهر، في المكاييل وليس في المقاييس الفلكية، ولعل الراشدي قصد بعمله الموازين الطبية والشرعية. غير أن هذا ما يزال غير واضح لأننا لم نطلع على التأليف.

الطب والجراحة والصيدلة

ومن جهة أخرى ألف أحد الجزائريين رسالة في الفلك أيضا سماها (الحاشية الاختصارية الرملية الفلكية)، وهو علي بن حسن الجزائري. والظاهر أن المؤلف كان من أتراك أو كراغلة الجزائر ثم استوطن مصر وبها ألف الكتاب لأنه يذكر في بدايتها عبارات تدل على ذلك مثل (الجزائرلي بلدة، الحنفي مذهبا) وأخبر أنه تلقى علم الفلك والحروف على بعض الصالحين فأراد أن يسهم في هذا الفن في وقت لحق فيه الناس، كما يقول، (التمدين واتخذوا البلاغة معدنه) ومما يدل على نسبته المذكورة أيضا ضعف لغته وعجمتها. ومهما كان الأمر فقد ألف عمله، كما قلنا، في مصر، وليس في عمله إلا إشارة واحدة إلى تاريخ وهو 11 ربيع الآخر سنة 85 (والظاهر أنه يعني سنة 1185). وقد اطلعنا على هذا التأليف فوجدناه أقرب إلى خطوط الرمل منه إلى العلم. ومما جاء فيه هذه العبارات ذات الدلالات الخاصة مثل (النار بيت السلطان والهواء بيت الوزير والماء بيت العمال والتراب بيت الرعايا والعساكر والدراويش .. النار تركي اللسان والهواء عربي اللسان والتراب هندي اللسان والماء فارسي اللسان. النار درهم والهواء نصف درهم والماء ربع درهم والتراب ثمن درهم. النار أبيض والهواء أحمر والماء أخضر والتراب أسود الخ) (¬1). الطب والجراحة والصيدلة ولكن العناية بالعلوم الطبية كانت أكبر من العناية بالعلوم الأخرى (ما عدا الفلك) خلال العهد العثماني. ذلك أن الإنسان كان في حاجة إلى ¬

_ (¬1) صورنا نسخة منه من مكتبة جامعة برنستون الأمريكية (قسم يهودا)، رقم 954، في حوالي 38 ورقة، خطها جيد وكاملة. انظر أيضا بروكلمان 2/ 1038، ونشير أيضا إلى عملين في هذا الموضوع لا ندري بالضبط عصرهما ولا نسبتهما، وهما (كاشفات المحيط والمحاط لانضباط أحواله من سمو والتواء وانحطاط) لأحمد بن يوسف بن عبد القادر الجزائري (؟)، بروكلمان 2/ 1019 و (مرآة الإعلام) في الفلك للحافظ أحمد بن الشيخ التلمساني (؟) بروكلمان 2/ 1019.

المعالجة، سواء كان في أعلى مكان أو أدناه. حقا أن الإيمان بالقضاء والقدر في هذا الميدان كان مسيطرا على العقول بصفة عامة ولكن بعض الناس كانوا يؤمنون بالعلاج والتداوي واتخاذ الوسائل والأسباب للمحافظة على الصحة، وهم أولئك المؤمنون بالحديث المنسوب إلى الرسول (صلى الله عليه وسلم): (العلم علمان، علم الأديان وعلم الأبدان). ولذلك وجدنا بعض التآليف والرسائل والأراجيز في علم الطب وفروعه، ووجدنا عددا من المتطببين أيضا. ومع ذلك فإن الخرافة قد اختلطت بالطب في معظم الأحيان. فالعامة كانت تؤمن بالتداوي بالشرب من بئر معينة أو بتعليق تميمة، أو بزيارة ولي، كما أن النسوة خصوصا كن يؤمن ببعض الأسباب غير الطبية للبرء من العقم وحفظ الولاء بين الزوجين، ونحو ذلك. ومعظم الأدوية الشائعة كانت تتناول الجانب الخارجي من جسم الإنسان. فالجراحة ونحوها كانت شبه معدومة. وكلمة حكيم كانت هي الشائعة عند الناس، وكان الطبيب محل احترام وتبجيل. وكان بعض العلماء وأشباههم يركبون الأدوية من النباتات المتوفرة في البلاد ويصنعون المعاجين والأشربة ويستعملون وسائل الكي والحجامة، ونحو ذلك. وقد وضعوا مجموعة من الوصفات للتغلب على بعض الأمراض الشائعة كوجع الرأس والمعدة والحروق والإصابات الجلدية وضعف الأعضاء التناسلية ووجع المفاصل وغيرها. كما نجدهم قد عينوا أدوية خاصة للتغلب على السموم والتأثيرات الخارجية الأخرى كالإصابة من حرارة الشمس. ونحن نجد في (كشف الرموز) لابن حمادوش وبعض مؤلفات أحمد البوني نماذج حية عن ذلك. والغريب أنه بالرغم من تقدم علم الطب في تاريخ الحضارة الإسلامية واشتغال علماء المسلمين بالجراحة والصيدلة، فإن أهل الجزائر، بمن في ذلك علماؤهم، كانوا يؤمنون بأن الطب مقصور على الأوروبيين (¬1). ¬

_ (¬1) لاحظ بانانتي الإيطالي، 260 - 261 أن أهل الجزائر يعتقدون أن كل أوروبي طبيب كما يعتقد الأوروبيون أن كل إيطالي مغن، ومن جهة أخرى نجد هذه العقيدة في قصر =

وقد لاحظ الأوروبيون العناية بأنواع العلاج الخارجي في الجزائر. فقد كاذ الجزائريون يتغلبون على الحمى بنبات الشندقورة ونحوه، والرضوض بالكي، والجروح بصب الزبدة الساخنة، والجدري بحفظ المريض في حالة دفء وإعطائه حبات من الكرميس في العسل. كما يعالجون للتورم والالتهاب بأوراق بعض النباتات. وكانت الحناء وسيلة لعارج الحروق والجروح البسيطة (¬1) وقد فصل ابن حمادوش في معجمه (كشف الرموز) القول في أنواع النباتات والعقاقير وكمياتها وطريقة استعمالها. وكانوا يتغلبون على لدغة العقرب والأفعى بوضع البصل والثوم على مكان اللدغة. كما كان العسل وسيلة كبيرة للعلاج. وكانت للنساء قوابل معروفات بالمهارة. أما على المستوى العام فإن الحكومة كانت تلجأ لحفظ الصحة إلى الحجر الصحي عندما تعلم بانتشار الطاعون والأمراض المعدية في إحدى السفن الداخلة إلى الجزائر. وكان كبار المسؤولين في الدولة يهتمون بشؤون صحتهم الخاصة ويصطنعون لهم الأطباء كلما وجدوا إلى ذلك سبيلا. حقا إنهم لم يشجعوا دراسة الطب في المدارس ولم ينشئوا أكاديميات طبية للبحث، لكنهم كانوا مهتمين فقط بالأسباب العاجلة. لذلك نقرأ في الوثائق أن بعض الباشوات والبايات قد جلبوا أطباء أوروبيين بالشراء ونحوه. ومعظم هؤلاء الأطباء كانوا يأتون أسرى عند النزاع البحري، ولكن بعضهم كان قد استجلب من بلاده أو كان مقيما في الجزائر لأغراض تجارية أو سياسية. فقد روى لوجي دى تاسي أنه كان للباشا بابا علي طبيب جراح فرنسي كان قد وقع أسيرا (¬2). كما قيل إن الطبيب الإنكليزي بودوين كان طبيبا للباشا حسين (¬3). وقد عرف ¬

_ = الطب على الأوروبيين موجودة أيضا عند ابن العنابي وحمدان خوجة. انظر كتابنا (المفتي الجزائري ابن العنابي)، الجزائر 1977، ط 2، 1990. (¬1) شو، 357 - 362. (¬2) لوجي دي تاسي (تاريخ)، 225. (¬3) انظر (قصة وصول الباخرة لابروفانس إلى مرسى الجزائر) باريس 1830، 69 تعليق 1.

عن صالح باي أنه اشترى طبيبا إيطاليا يدعى باسكال قاميزو بألف محبوب عندما وقع هذا الطبيب في أسر الرئيس محمد الإسلامي (¬1). كما أن الباي حسين بوكمية، باي قسنطينة، كان له طبيب هولاندي يدعى سانسون، وكان سانسون هذا على صلة بالطبيب الانكليزي الرحالة توماس شو وهو الذي قدم له معلومات جغرافية وغيرها عن قسنطينة عندما زار شو هذه المدينة (¬2)، ويظهر أنه بينما كان الباشوات والبايات يجلبون الأطباء لأنفسهم ويؤمنون بقيمة الطب (الأوروبي)، كانوا لا يهتمون بصحة السكان عموما، تاركين العامة للطب التقليدي الذي تحدثنا عنه. ومن أخبار الباي محمد الكبير أنه كان يعتني بالطب ويشجع العلماء على التأليف فيه واختصار المطولات منه. فكاتبه أحمد بن سحنون يقول عنه إنه كانت للباي في الطب اليد الطولى، وإنه كان يصف للناس الدواء ويدفع لهم ما حضر منه، حتى أن المساكين كانوا يفزعون إليه كما يفزعون إلى طبيب ماهر. ويدل هذا على عناية الباي بالطب عموما واهتمامه بصحة الناس. كما يدل على أن الناس كانوا يعتقدون في الدواء إذا توفر لهم. وبفضل عناية هذا الباي بالطب قام بعض العلماء بالتأليف فيه واختصار المطولات الطبية منه. فهو الذي أوحى إلى أحد الشيوخ، ويدعى عبد اللطيف (؟)، بوضع كتاب سماه (المنهل الروي والمنهج السوي في الطب النبوي). كما أمر كاتبه ابن سحنون بجمع طب القاموس، فجمعه له وزاد عليه من كلام الأطباء حتى صار تأليفا هاما. وكان الباي يجيز من يفعل ذلك بالمال الجزيل (¬3). ويظهر من هذا الخبر أن الباي كان يؤمن بالطب عموما والطب النبوي خصوصا، وأنه كان يقتدي بالنبي (صلى الله عليه وسلم) في طبه، وأنه كان (يصف الدواء لأصحابه ويتداوى في نفسه من عوارض الأمراض) كما يقول ابن سحنون. وقد قيل عن الباي محمد الكبير بأنه كان يفخر بوصف ¬

_ (¬1) دايفوكس (التشريفات) 90. (¬2) فايساث (روكاي) 1868، 367. (¬3) (الثغر الجماني) مخطوط باريس، ورقة 15 - 16.

نفسه بأنه (طبيب الفقراء) (¬1). وقد كانت مصادر الطب العربي متوفرة في الجزائر، وكنا لاحظنا من دراستنا للمكتبات وفرة الكتب الطبية ولا سيما تآليف ابن رشد وابن سينا وداود الأنطاكي وابن البيطار. وفي رحلة ابن حمادوش أسماء مؤلفات طبية بالعربية وأخرى مترجمة كان يرجع إليها هو وأمثاله، كما أن مدرسة تلمسان الطبية لم تأفل تماما، ولا شك أن كتابات إبراهيم بن أحمد التلمساني ومحمد بن يوسف السنوسي في الطب كانت معروفة ومتداولة (¬2)، ورغم أننا لا نعرف تأليفا في الطب لسعيد المقري فإن تلاميذه ومعاصريه يقولون عنه إنه كان يجمع بين العلوم النقلية والعقلية، ولا سيما الطب والتشريح والهندسة والفلاحة والتنجيم (¬3). والجمع بين التأليف في التصوف والطب لم يكن مقصورا على السنوسي. فهذا محمد بن سليمان الذي وضع موسوعة ضخمة في التصوف، وكان ممن جمع بين العلم والتصوف، قد نظم رجزا في الموازين والمكاييل الطبية والشرعية جاء فيه: ودانق حبوبه ثمان ... من أوسط الشعير لانقصان ورطلهم في الطب بالبغدادي ... والوزن في الزكاة قال الهادي يكون بالمكي والمكيال ... بالمدني مدمن ماء قالوا كما نقل عن محمد السنوسي في شرحه لحديث المعدة، وعن بعض ¬

_ (¬1) أحمد توفيق المدني (محمد عثمان باشا) 160. (¬2) انظر الفصل الأول من الجزء الأول من هذا الكتاب، فقرة الطب والعلوم الأخرى. (¬3) ابن مريم (البستان)، 105. يبدو أن ابن مريم قد اشتهر بين معاصريه بكتاب (فتح الجليل في أدوية العليل) أكثر من اشتهاره بكتاب (البستان). ذلك أن ابن سليمان في (كعبة الطائفين) 2/ 222 حين أراد تعريف ابن مريم قال عنه (مؤلف الشيخ الرقعي)، ولم يقل عنه صاحب كتاب (البستان) مثلا. وبعد اطلاعنا على (فتح الجليل) وجدناه كتابا في العقائد والتصوف، انظر نسخة المكتبة الوطنية - تونس رقم 4412، أوراقها 178.

المعاصرين له أمورا سحرية كتعليق المصاب بالحمى اسمي فرعون وهامان. والطب والسحر في هذا العصر كانا مختلطين، ومن جهة أخرى نقل ابن سليمان عن محمد البوني كلاما طويلا في الرياضة البدنية والصوفية (¬1)، وقد عرفنا أن ابن سليمان عاش في منتصف القرن الحادي عشر. ورغم اشتهار محمد بن أحمد الشريف بكتب المناقب والتصوف فإنه قد ألف أيضا رسالة في الطب النبوي سماها (المن والسلوى في تحقيق معنى حديث لا عدوى). وهي رسالة صغيرة تقع في ثلاث عشرة ورقة حلل فيها معنى الحديث المذكور وانتصر فيها للطب النبوي، وقد أهداها بنفسه إلى السلطان العثماني أحمد باشا سنة 1149 (¬2)، كما أن عبد الله بن عزوز المراكشي التلمساني قد جمع في كتابه: (ذهاب الكسوف ونفي الظلمة في علم الطلب والطبائع والحكمة) (¬3) بين التصوف والفلسفة والطب، كما ذكرنا سابقا. ولكن أبرز من ألف في الطب، بعد ابن حمادوش، هو أحمد بن قاسم البوني (¬4). وقد خلط البوني أيضا بين الطب المعروف والطب الروحاني، وله عدة أعمال في هذا المعنى. من ذلك تأليفه المسمى (إعلام أهل القريحة في الأدوية الصحيحة) الذي ألفه سنة 1116، والجزء الذي عثرنا عليه من هذا التأليف ناقص من أوله، لأن أوله هو نهاية الحديث عن أمراض العين، ويأتي بعد ذلك الحديث عن أمراض الأذن والأنف والأسنان والفم والسعال والسل، وقد تحدث البوني فيه أيضا عن أمراض الرحم والذكر وأدوية الجماع وحفظ الأجنة، وتكلم عن الأدوية المسمنة، وعن الحمى، ولدغة الحيات، وأشهى أنواع اللحم، ونحو ذلك، وهو يصف الداء والدواء، ولكنه يأتي بالخرافة وبالعلم معا. فعن سقوط الأجنة نصح المرأة بشرب كمون أو تعليقه، وكذلك ¬

_ (¬1) (كعبة الطائفين) 2/ 46. (¬2) مخطوطة مكتبة كوبروللو (إسطانبول)، رقم 69. (¬3) بروكلمان 2/ 704، 713. انظر أيضا فقرة الفلك وغيره في هذا الفصل. (¬4) عن حياته انظر الفصل الأول من هذا الجزء.

تعليق لؤلؤ أو مرجان أو زبد حر وأضاف بأن العقرب الميتة إذا علق على حامل بعد جعلها في خرقة لا تسقط أبدا، ولو كان من عادتها الإسقاط، وقال انه جرب فكتب كتابا وعلق في رقبة المحموم جوزة الطيب فزالت عنه الحمى. كما ذكر أنه عند إقامته بتونس، وهي كثيرة العقارب صيفا، كان يردد عبارة ذكرها تمنع العقارب من دخول البيت، ونحو ذلك. وقد نقل عن جده، محمد ساسي، بيتين فى الطب الروحاني، وعلق البوني على ذلك بقوله: (وهذا بحر واسع تكفي منه رشفة) (¬1)، ولعل هذا الخلط بين الطب والخرافة هو الذي جعل بروكلمان يذكر تأليف البوني هذا في باب التصوف والأسرار. وللبوني تأليف آخر في الطب سماه (مبين المسارب في الأكل والطب مع المشارب). وكان قد وضعه نظما في آخر حياته (سنة 1172). وهو تأليف أكبر من الأول حجما ولكنه جمع فيه بين عدة مصادر كالأول وخلط فيه أيضا بين العلم والخرافة. فهو في الواقع قد نقل عن غيره ما كتبوه في أسماء الأدوية وطريقة التدوي، وأنواع المأكولات والمشروبات، أمثال ابن البيطار والسيوطي وعلي الأجهوري وابن العماد والسنوسي والشعراني والأنطاكي، وأحمد زروق، وغيرهم، وقد بلغ نظمه هذا أكثر من ألفي بيت (¬2)، وجمع فيه نظم غيره أيضا، مثل نظم الأجهوري وصاحب المستطرف والخراطي، قائلا: وقد أكرر كأهل الفن ... زيادة في النفع دون من وقد بدأ نظمه بداية تقليدية مبينا أن دافعه هو الحديث القائل بأن الطب نصف العلم وأنه أراد أن ينفع بعلمه في هذا الباب: يقول أحمد الفقير البوني ... هو ابن قاسم الرضى المصون الحمد لله الذي أباحا ... الطيبات زادنا أرباحا جاعل علم الطب نصف العلم ... كما أتى عن النبي ذي الحلم وقد تحدث فيه عن المأكولات المستطابة والمفضلة وعن أدب الضيف ¬

_ (¬1) المكتبة الوطنية، الجزائر، رقم 1759 مجموع. (¬2) نفس المصدر، رقم 1775. انظر أيضا بروكلمان 2/ 715.

مع المضيف، وما أكله النبي (صلى الله عليه وسلم)، وما فيه منفعة طبية. وقسمه إلى فصول لها عناوين، مثل: أنواع المأكولات والمشروبات، آداب الضيف، مأكولات الرسول (صلى الله عليه وسلم) ومشروباته، شرب القهوة والدخان، ونحو ذلك. ومن أخباره الطبية أن أكل التين يذهب مرض القولنج، وشرب العسل على الريق أمان من الفالج، وأكل السفرجل مفيد للأطفال، وأن الرمان ينفع الكبد، وأكل الزبيب مذهب للوصب، وأكل الكرميس يقوي المعدة، وأن أطيب اللحم لحم الظهر وأفضله المشوي لا المطبوخ، وأن أكل الأرز يزيد في العمر، ولا سيما الأرز الأبيض بالزبدة والسكر. وأشار إلى أن شر الطعام الباذنجان، كما تحدث في تأليفه عن الأمراض المعنوية كالنسيان. ومن الموضوعات التي حظيت بالتأليف، الطاعون ومضاره والتغلب عليه. فقد ألف فيه ابن حمادوش رسالة سنعرض إليها. وذكر أحمد بن سحنون أنه نظم قصيدة في الطاعون الذي هاجمهم سنة 1202، واضطره هو للجلاء عن معسكر تاركا أوراقه ورقاعه (¬1)، وألف أبو راس الناصر كذلك كتابا سماه (ما رواه الواعون في أخبار الطاعون) ويبدو أنه جمع فيه ما قيل عن الطاعون وأضراره، ولعله قد استوحاه أيضا من طاعون سنة 1202، لأنه كان عندئذ بمعسكر، وكثيرا ما أصاب الطاعون الجزائر، شرقا وغربا، وتسبب لها في جوائع ووفيات كثيرة، والذي يقرأ (البستان) لابن مريم و (منشور الهداية) للفكون سيجد أن كثيرا من العلماء قد أودى بحياتهم الطاعون. وقد عانت منه تلمسان ومدينة الجزائر وقسنطينة حيث يزدحم السكان وتنتشر الأوبئة بسرعة. ومن الذين ألفوا في الوباء الذي أصاب مدينة الجزائر بالخصوص، محمد بن رجب الجزائري الذي لا نعرف الآن أن له مؤلفات أخرى. فقد جمع سنة 1200 رسالة سماها (الدر المصون في تدبر الوباء والطاعون) (¬2)، ولا ندري الآن حجم هذه الرسالة ولكن يبدو أنها مهمة. فقد طالع صاحبها ¬

_ (¬1) ذكرها في كتابه (الأزهار الشقيقة) ورقة 277 - 278. (¬2) (تعريف الخلف) 2/ 467.

كتبا عديدة في الطب مثل قانون ابن سينا وتذكرة الإنطاكي ومفردات ابن البيطار حول الوباء والطاعون، وقد رآها صاحب (تعريف الخلف) فوجد أن محمود بن علي بن الأمين قد أضاف إليها مقدمة من سبعة فصول وخاتمة. ومهما كان الأمر فإن رسالة ابن رجب عبارة عن جمع وتلخيص لأقوال الحكماء السابقين حول الطاعون، ولا ندري هل المقدمة التي كتبها لها محمود بن الأمين تعتبر هي أيضا جمعا وتلخيصا لما فات ابن رجب أو أنها كانت تضم تجاربه ومشاهداته الخاصة في الموضوع (¬1). وفي آخر هذه النقطة نشير إلى أن محمد بن علي بن باديس الصنهاجي قد ألف كتابا في الأدوية ومنافعها سماه (المنافع البينة وما يصلح بالأربعة أزمنة). وقد بنى عمله أيضا على قول الرسول (صلى الله عليه وسلم) (العلم علمان علم الأديان وعلم الأبدان). وجمع فيه ما اختصره من كتب الطب المختلفة والأحاديث المسندة، واعتمد على كتب الأقدمين في الأدوية كالرقا والخواتم ووقوع المرض في الشهور العجمية، ومعرفة النبض والبول، وما يستدل به على الأمزجة من الأحلام والفصد والحجامة والإنذار بالحوادث الرديئة. ومن مصادره في ذلك الرازي والطبري وابن زكريا والمنصوري وحنين بن إسحاق وأفلاطون وهرموس، ودقيوس وجالينوس. وقسمه إلى ثمانية أبواب على النحو التالي: في الأربعة أزمنة وما يستعمل فيها من حفظ الصحة، في علاج الرأس، في علاج العينين والوجه، في علاج الأذنين والأضراس والحلق، في علاج القلب والصدر والرئة والطحال، في علاج البطن والسرة والمعدة والكبد، في علاج الكلى والخاصرة، والحصا وحرقة البول، ومن يقعد بالدم ومن وجع الظهر، وعلل أرحام النساء ومقويات الجماع، ثم علاج الوركين والفخذين والركبتين والساقين والقدمين (¬2)، ولا شك أنه من التآليف المفيدة لو عرفنا عصر صاحبه. ¬

_ (¬1) عن هذا الموضوع انظر فصل العلوم التجريبية لاحقا. (¬2) رأيت منه نسختين في المكتبة الملكية بالرباط رقم 9250 ورقم 8544 وهو صغير الحجم في حوالي ثلاثين صفحة. انظر أيضا مقالة لعبد الله كنون عن مخطوطات تطوان في (مجلة المخطوطات العربية).

عبد الرزاق بن حمادوش

عبد الرزاق بن حمادوش ولد عبد الرزاق بن محمد بن حمادوش الجزائري في مدينة الجزائر سنة 1107 وعاش إلى أن تجاوز التسعين، حسب بعض الباحثين، ولكننا لا ندري متى توفي بالضبط، والغالب على الظن أن الوفاة قد أدركته بالمشرق بين 1197 و 1200 (¬1). وقد نشأ بمدينة الجزائر وتعلم بها العلوم الشائعة عندئذ، وكان من أسرة متوسطة الحال تلقب بأسرة الدباغ لأن والده وعمه، كما يظهر، كانا يشتغلان بالدباغة. وقد تجوز عبد الرزاق صغيرا من ابنة عمه حسب العائلات المحافظة، وكانت أسرته على صلة بطبقة التجار والحرفيين في مدينة الجزائر، لذلك تزوجت أخته من عائلة تشتغل بالحرارة، وتزوج هو مرة ثانية من عائلة تحترف صناعة النحاس وتلميعه، ويبدو أن والده قد توفي وهو ما يزال صغيرا لأنه لم يذكره في عقد زواجه الأول ولا الثاني بينما ذكره في عقد زواج أخته. وبعد زواجه من ابنة عمه ظل عبد الرزاق في رعاية عمه يسكن عنده، ولكن هذا الزواج مجهول القيمة بالنسبة لحياة ابن حمادوش، فهو لم يذكر أنه أنجب أطفالا من ابنة عمه كما تحدث عن أطفاله من زوجه الثانية. فهل تحدث عن ذلك في الجزء الأول المفقود من رحلته؟ وعلى كل حال فإن عبد الرزاق قد عاش حياة مليئة بالفقر والضيق ولم يستطع أن يشق طريقه إلى الثروة والجاه كما كان يفعل المتصلون بالولاة وأرباب السلطة من العلماء. وقد كان الفقر سببا في شقاء زواجه أيضا حتى هربت منه زوجه الثانية وطلبت الطلاق وفارقته أمه وأخوه. وحاول الجمع بين العلم والتجارة فلم يحالفه النجاح، لأنه، كما قال، كان لا يفارق الكتب. تعلم ابن حمادوش عن طريق الدرس والإجازة والرحلة، ومن سوء ¬

_ (¬1) انظر عنه كتابنا (الطبيب الرحالة)، الجزائر، 1982، ورحلة ابن حمادوش (لسان المقال)، الجزائر، 1983. كما أننا نشرنا عنه بحثا في (مجلة مجمع اللغة العربية) بدمشق، أبريل 1975، وهو منشور أيضا في كتابنا (أبحاث وآراء في تاريخ الجزائر)، الجزائر، 1978.

الحظ أن المصادر التي لدينا لا تتحدث عن ثقافته الأولى في الجزائر، ولكنه قد صرح فيما بعد أن كل العلوم تلقاها بالدرس إلا الكيمياء والسيمياء والموسيقى فقد أخذها بالإجازة. ومعنى ذلك أنه جلس للدرس في الجزائر وغيرها على مشائخ الوقت، أمثال المفتي محمد بن نيكرو، والقاضي مصطفى بن رمضان العنابي، والقاضي الأديب محمد بن ميمون الذي كان يسميه (شيخنا). ومن المؤكد أنه درس في المغرب على أحمد الورززي ومحمد البناني، وأحمد السرائري، وأحمد بن المبارك، وحصل منهم على إجازات سجلها في الجزء الثاني من رحلته، وتتلمذ في الطب على عبد الوهاب أدراق طبيب السلطان اسماعيل وأولاده، كما درس على الشيخ محمد زيتونة التونسي، وكان أيضا يسميه (شيخنا)، في مكان لا نعرفه، ولعله الإسكندرية أو تونس. وكان ابن حمادوش معاصرا في الجزائر لعلماء بارزين ذكرنا بعضهم، وخصوصا أحمد بن عمار وابن علي والحسين الورتلاني. فهو إذن من إنتاج القرن الثاني عشر (18 م) الذي عرفت فيه الحركة الثقافية نشاطا ملحوظا. ولكن ثقافة ابن حمادوش كانت تقوم أساسا على عنصرين هامين الأول الرحلة، والثاني قوة الملاحظة والتجربة. فقد بدأ الرحلة وهو صغير السن، فحج سنة 1130 بالبر عبر تونس، ولا ندري كم بقي في المشرق هذه المرة ومن لاقى من العلماء في تونس وطرابلس ومصر والحرمين، وما الإجازات والدروس التي حضرها. غير أننا نجده سنة 1145 في المغرب الأقصى حيث جاء في رحلته التي اطلعنا عليها أنه كان هناك عندئذ وأنه كتب قصيدة ليقدمها إلى السلطان عبد الله، غير أنه عدل عن ذلك لسبب غير واضح، ولعله يعود إلى خشونة الحجاب أو لضعف الشعر أو خمول الشهرة، وقد اكتفى ابن حمادوش بقوله (أغناني الله عن لقياه). ويبدو أنه كان يتردد على المغرب للتجارة والعلم. فقد وجدناه أيضا هناك سنة 1156، حين أطال فيه الإقامة، ووصف نشاطه. فقد درس على عدة مشائخ في تطوان وفاس ومكناس وأجازوه وجلس للتدريس بعض الوقت، واشترى وطالع ونسخ الكتب

الكثيرة، وعاين الثورات السياسية والعادات الاجتماعية والتطورات الاقتصادية في المغرب ووصف وكتب عن كل ذلك. وبعد أكثر من عام عاد ابن حمادوش إلى وطنه وقد اكتسب علما غزيرا ولكن تجارته كسدت وأوشك على الهلاك كما صرح بذلك، فاكتفى من الغنيمة بالإياب، وآخر تاريخ نعرفه عن تحركاته هو سنة 1161، ففيه كان في مدينة رشيد يؤلف رسالته (تعديل المزاج). والغالب على الظن أنه غادر الجزائر للحج أو نحوه في تلك السنة، ولا ندري إن كان قد عاد إلى الجزائر أو مات في المشرق (¬1). ورغم أن ابن حمادوش قد تثقف ثقافة معاصريه من لغة وفقه وأدب وتصوف وتوحيد، فإنه كان بطبعه ميالا إلى الكتب العلمية، وقد روى أنه درس تأليف القلصادي في الحساب، وشرح محمد السنوسي على الحباك في الإسطرلاب، والقانون والنجاح والطلاسم لابن سينا، ومقالات أقليدس، وشرح ابن رشد على منظومة ابن سينا، وتاريخ الدول للملطي وهو في أخبار العلماء والأطباء، وكتاب السطي في ذوات الأسماء والمنفصلات. وطالع عمل عبد الرحمن الفاسي في علم البونبة. كما ولع بكتب المنطق وألف فيه. وبالإضافة إلى هذه المصادر اعتمد ابن حمادوش على التجربة والمشاهدة. فقد كان يخرج للجبال المجاورة لمدينة الجزائر لإجراء التجارب والتقاط الأعشاب والتدرب على رمي البونبة ووزنها وبارودها ومسافة انطلاقها. وعندما كان في المغرب سجل ملاحظات علمية هامة أثناء مروره من تطوان إلى فاس والعكس. فلاحظ عذوبة وملوحة الأمياه، وأنواع الأشجار والطيور ¬

_ (¬1) وجدنا في أحد المخطوطات الفلكية، باريس رقم 2568، ورقة 75، نقلا عن ابن حمادوش جاء فيه أنه قام بتعديل الكواكب على طول الجزائر سنة 1168، وهذه هي العبارة (نقلتها - أي الكواكب - لتمام سبعة بموحدة بعد الثمانية وستين ومائة وألف، وعلى طول الجزائر، فيكون التعديل من نصف يوم الخميس بتاريخ عام ثمانية وستين ومائة وألف). ولعل هذه العبارة مأخوذة من رحلة ابن حمادوش المفقودة لأنها تشبه ما عندنا منه في الجزء الثاني من رحلته ولأنه يتحدث فيها بصيغة الماضي، أي أنه كان يكتب ذلك بعد سنة 1168.

والحيوانات وغرائبها، كما لاحظ حركات النجوم وعالج التغلب على الحمى، ونفس الشيء فعله عندما كان في الجزائر ومصر أيضا حيث سجل في كتابه (كشف الرموز) ما شاهده من غرائب النبات هناك، كما وضع ميزانا للماء وهو في الجزائر. ومن بين أنواع العلوم اهتم ابن حمادوش خصوصا بالطب والفلك، وألف في ذلك عدة تآليف سنذكرها، وقد كتب عن نفسه، وهو ما يزال في شبابه (سنة 1145) بأنه أصبح طبيبا وصيدليا وعشابا، وافتخر ذات مرة بأن الأعشاب التي قيدها في تأليفه كلها معروفة لديه، وكان كثير القراءة في كتب الطب القديمة، عربية وأجنبية. فقرأ ولخص ودرس تآليف ابن سينا وابن البيطار والأنطاكي. وقال عن كتاب الدول للملطي أنه (لم ير مثله في التراكيب العربية وأساليبها فيما عرب من كتب النصارى). ونقل عنه تراجم عدد من الأطباء، مسلمين وغيرهم، أمثال الرازي والفارابي، والبيروني، وابن سهل صاحب بيمارستان جند سابور، والمنجم أبي معشر البلخي، ومحمد بن جابر البتاني، ومحمد البوزجاني، وإقليدس. وقد أراد أن يؤلف كتابا كبيرا في علم الطب وفروعه فكان (الجوهر المكنون من بحر القانون)، الذي يبدو من عنوانه أنه اعتمد فيه على كتاب القانون لابن سينا. وقد تحدث ابن حمادوش في رحلته عن هذا الكتاب فقال إنه قد رتبه على أربعة كتب. الكتاب الأول في السموم وذوات السموم والعلاج منها، والكتاب الثاني في الترياقات وما يجري مجراها ... وبعض المعاجين التي يضطر إليها، والكتاب الثالث في الأمراض بناه على جدول حنين ابن إسحاق، أما الكتاب الرابع فقد خصصه لحل ألفاظ المفردات وتعريبها (¬1)، وقد قال ابن حمادوش عن كتابه (الجوهر المكنون) بأنه (كتاب جليل .. يتوشح به الأصاغر ولا تمجه الأكابر. فيه الأسباب والعلامات والعلاجات)، ¬

_ (¬1) نرجح أن يكون الكتاب الرابع هو المنشور اليوم بعنوان (كشف الرموز) لأن هذا يبدأ بالكتاب الرابع، كما سنرى وبذلك يكون (كشف الرموز) في الواقع عبارة عن جزء صغير من (الجوهر المكنون من بحر القانون).

كما جاء في رحلته بأنه قد أتمه بعد أكثر من سنة من العمل فيه، وبالإضافة إلى هذا الكتاب ألف ابن حمادوش في الطب رسالة سماها (تعديل المزاج بسبب قوانين العلاج) والظاهر أنه ألفها عندما كان في مدينة رشيد بمصر، وهي في أمراض وعلاج الأعضاء التناسلية ونحوها (¬1). كما ألف عدة رسائل وكتب في الفلك. فقد وضع تأليفا أضاف فيه ما تعلمه من كتاب عبد الرحمن الفاسي عن البونبة، وخرج بنفسه إلى ضاحية العاصمة وتعلم الرمي والمقاسات والأحجام ثم كتب ما كتب في الموضوع قائلا (فتممت ما بقي لي (من هذا العلم) .. وأخذت علم البونبة بارتفاعها وتعميرها ورميها وعجن بارودها، فأنا من علمائها). ودرس ابن حمادوش علم الطرق البحرية (وهو يسميه علم البلوط) وقال إن (يدي صحت في هذا العلم " وألف في ذلك، كما وضع خريطة توضح اتجاه الرياح ووصف طريقة استعمالها. وألف عملا آخر في صورة الأرض قال عنه (لم أسبق به). وسنذكر تآليفه في هذه العلوم وغيرها بعد قليل. لكن نلاحظ أن تآليف ابن حمادوش يغلب عليها اختصار المطولات وصغر الحجم. ومع ذلك فإنها تدل على أن اتجاه صاحبها كان اتجاها صحيحا سابقا لعصره، وأن ابن حمادوش لو وجد حكومة رشيدة ترعى العلوم والعلماء لكان له شأن آخر في وقته. ويمكن مقارنة ابن حمادوش الجزائري بقليليو الإيطالي ونيوتن الإنكليزي في الروح والتمرد على معايير العصر والإيمان بالعلم. ولنورد هنا قائمة تآليف ابن حمادوش في العلوم فقط (¬2) ليقف المتتبع لحياته على أنواعها وأهميتها: 1 - شرح على قصيدة الربع على كردفر. ¬

_ (¬1) ذكر لي الشيخ المهدي البوعبدلي أن لديه نسخة منه، وكان ليكليرك الفرنسي قد اطلع على نسخة منه ووصفها كما سيأتي. (¬2) ذكرنا في دراستنا المطولة عنه تآليفه في التخصصات الأخرى كالأدب والمنطق والرحلة، وقد أشرنا إلى تآليفه أيضا في أبوابها من هذا الكتاب.

2 - تأليف في الروزنامة. 3 - تأليف في الأعشاب لم يذكر عنوانه وإنما قال عنه (فإن الأعشاب المقيدة في تأليفي كلها معروفة عندي). ولعل هذا التأليف هو بعينه الكتاب الرابع من (الجوهر المكنون) الآتي ذكره. 4 - الجوهر المكنون من بحر القانون (في الطب). وهو التأليف الذي جعله في أربعة كتب، كما أسلفنا، أحدها (وهو الرابع) في الأعشاب. 5 - تأليف في الفلك جمع فيه التواريخ السبعة التي تعلمها. وقال في رحلته عنه (وسميته) ولكنه ترك بياضا بعد هذه الكلمة. 6 - تأليف في الإسطرلاب والربع المقنطر لم يذكر له عنوانا. 7 - تأليف في القوس الذي يأخذ به الأوروبيون (النصارى) حركة الشمس، ولم يذكر له عنوانا أيضا. 8 - تأليف في الرخامة الظلية بالحساب استخرجه من كتاب للأوروبيين، ولم يذكر له عنوانا. 9 - تأليف في صورة الكرة الأرضية مستوحى من مطالعته لكتاب رضوان أفندي في صورة الكرة، أشار إلى أنه (ساع في إكماله) ولم يذكر له عنوانا. 10 - تأليف في علم البلوط (أو معرفة الطرق البحرية)، لم يشر إلى عنوانه. 11 - كارطة (أو خارطة؟) لرسم اتجاهات رياح البحر، دون ذكر عنوان لها، ولكنه رسمها بدقة. 12 - تعليق على ألفاظ الديباجة الواردة في منظومة ابن سينا (؟) ولم يذكر لذلك عنوانا. 13 - بغية الأديب من علم التكعيب، أتمه سنة 1143. 14 - فتح المجيب في علم التكعيب، ألفه بعد أن اطلع على كتاب للأوروبيين في المساحة والهندسة وانتهى منه سنة 1160. ويبدو أنه تنقيح وتوسيع لكتابه (بغية الأديب).

كتابه كشف الرموز

15 - شرح على منظومة ابن غرنوط، والظاهر أنه هو نفسه (بغية الأديب). 16 - تأليف في عمل البونبة أضافه إلى ما كان قد تعلمه من تأليف عبد الرحمن الفاسي في نفس الموضوع. 17 - تعديل المزاج بسبب قوانين العلاج، أتمه على ما يظهر سنة 1161 في مدينة رشيد بمصر. 18 - تأليف في الطاعون الذي أصاب الجزائر في وقته، لا نعرف عنوانه. ولابن حمادوش، بالإضافة إلى هذه الكتب العلمية، مؤلفات أخرى في الأدب والرحلة والمنطق والنحو والشعر. وباستثناء التأليفين الأخيرين، فإن جميع بقية التآليف قد ذكرها في الجزء الثاني من رحلته ومعظم هذه الكتب غير معروفة الآن وهي في حكم الضائعة. وقد تناولنا في دراستنا الجزء الثاني من رحلته وفصلنا القول فيه لأنه موجود. وبقي أن نتحدث عن (كشف الرموز) الذي طبع عدة مرات وعن (تعديل المزاج) الذي وصفه من اطلع عليه (¬1). كتابه كشف الرموز: سبق أن أشرنا إلى أن الكتاب المطبوع بعنوان (كشف الرموز) لابن حمادوش هو في الواقع الكتاب الرابع من مؤلفه الكبير في الطب الذي سماه (الجوهر المكنون من بحر القانون). ولم يهتد إلى ذلك ليكليرك الذي ترجم ¬

_ (¬1) كتب عن ابن حمادوش أيضا وترجم عمله (كشف الرموز) لوسيان ليكلجرك الفرنسي، باريس 1874، وقد اطلعت على النسخة الأصلية الخطية لترجمته في المكتبة الوطنية - باريىس - كما ترجم له وحلل كتابه المذكور، قابريال كولان الفرنسي أيضا ونال على ذلك رسالة الدكتوراه في الطب من جامعة الجزائر، سنة 1905، ودراسته مطبوعة أيضا في نفس السنة. وعن ابن حمادوش انظر أيضا (تاريخ الطب العربي) لليكليرك، وكتابات إبراهيم بن مراد. وقد أعيد نشر كتاب (كشف الرموز) في بيروت، سنة 1996، دون تقديم جديد أو تحقيق.

الكتاب إلى الفرنسية ولا كولان الذي درس الكتاب وحصل به على الدكتوراه في الطب ولا ناشره بالعربية السيد أحمد بن مراد التركي المعروف برودوسي. غير أن كولان ورودوسي تفطنا إلى أن الكتاب غير مستقل بذاته نظرا لبدايته التي لا تتماشى مع ما اعتاده المؤلفون المسلمون من الديباجة المتضمنة للغرض من التأليف واسم الكتاب وخطته ونحو ذلك. ذلك أن (كشف الرموز) يبدأ مباشرة بالكتاب الرابع وينقل عن ابن سينا عدة صفحات ثم ترد فيه قائمة أسماء النباتات وغيرها والأدوية من الأمراض. وحين وصف ابن حمادوش في الرحلة الكتاب الرابع من (الجوهر المكنون) قال عنه (ونويت أن أجعل الكتاب الرابع في حل ألفاظ المفردات وتعريبها ما أمكن). وقد علمنا أنه قد انتهى من الكتاب ووفى فيه بما نوى، وشرح المفردات وعرب ما شاء. والذي كشف لنا عن هذه الحقيقة هو الجزء الثاني من رحلته. ولعل حرص الناس على التداوي بالأعشاب هو الذي جعل بعض النساخ يفصلون الكتاب الرابع عن بقية (الجوهر المكنون) الذي لا يهم في بقيته إلا الخاصة وأمثالهم، فكثر تداول الكتاب الرابع ونسي أصل الكتاب. لذلك كثرت نسخ الكتاب الرابع إذ نجد منها في الجزائر (¬1) وفي المغرب الأقصى (¬2) وفي باريس، وهكذا، بينما لا نعرف شيئا عن بقية (الجوهر المكنون) إلا ما وصفه به مؤلفه في الجزء الثاني من رحلته (لسان المقال). ومهما كان الأمر فإن (كشف الزموز) عبارة عن قاموس طبي سار فيه ابن حمادوش على طريقة المعاجم الأبجدية. وضمنه بعد مدخل في أنواع وأوصاف الأدوية، أسماء النباتات والعقاقير والحيوانات والمعادن أيضا. ولذلك فإنه من الخطأ إضافة عبارة (في بيان الأعشاب) التي ظهرت في الطبعة العربية، فالكتاب يتناول غير النباتات أيضا. ولم يذكر المؤلف حرفي الغين والضاد في معجمه، ربما لعدم توفر أسماء الأدوية ونحوها في هذين الحرفين. وقد ذكر فيه أسماء بتعريفات ومصطلحات الأطباء السابقين له. ¬

_ (¬1) مثلا رقم 1764 و 1765 المكتبة الوطنية - الجزائر. (¬2) الخزانة العامة، الرباط، مكتبة الأوقاف رقم 337 مجموع.

وكان يكثر من تأصيل كل اسم وما يعرفه عنه فيقول (عندنا) كذا، وفي مصر يسمى كذا، وفي سورية كيت وكيت، وهكذا. وجاء فيه عدد من أسماء الأدوية وغيرها التي وردت على الجزائر من أوروبا في العهد العثماني أيضا، بالإضافة إلى أسماء بعضها في اللهجات المحلية. والكتاب يضم حوالي ألف مادة (987 مادة) في مختلف الأنواع المذكورة، ويشتمل على جميع الأدوية والأمراض المعروفة في الجزائر في وقته. وقد اعتمد ابن حمادوش على مصادر كثيرة لكتابة عمله، حتى أن ليكليرك زعم أن ابن حمادوش قد اختصر أعمال الأقدمين في الطب وأنه سار على نفس طريقتهم الأبجدية، ولكنه أضاف إلى ذلك ما استحدث عند قومه وما ورد عليهم من الأسماء من أوروبا. وقد رجع ابن حمادوش إلى مؤلفين مسلمين ويونان. ولنذكر من هؤلاء داود الأنطاكي صاحب (التذكرة) الذي قيل إن ما أخذه عنه ابن حمادوش بلغ أربعين مادة. وأخذ أيضا عن ابن البيطار، كما استعان بابن سينا ولا سيما بكتابه (القانون) الذي طبع في رومة قبل ميلاد ابن حمادوش. ويرجح ليكليرك أن ابن حمادوش قد أخذ عن نسخة رومة، لأنه وجد نسخة في الجزائر وأخرى في وهران من هذه الطبعة. ولكن هذا غير مؤكد، فقد يكون أخذ عن نسخة مخطوطة من (القانون). ومن جهة أخرى أخذ ابن حمادوش عن علماء اليونان وغيرهم مثل: بول، وغاليان، وديوسكوريدس وغيرهم بطريقة غير مباشرة، أي أنه رجع في ذلك إلى مؤلفات المسلمين السابقة له. وأخيرا اعتمد ابن حمادوش على مؤلفين مسلمين آخرين أمثال ابن ماسويه، والإدريسي، والسنوسي، وزروق، والقزويني. ولكننا قد عرفنا أن أغنى مصدر رجع إليه ابن حمادوش هو التجربة الشخصية. كما عرفنا أنه كان يعود أيضا إلى الكتب المعربة عن الكتب الأوروبية وأنه قد أكثر من الإشارة إلى ذلك في رحلته. وقد أشاد كل من ليكليرك وكولان بأصالة فكر ابن حمادوش وأهمية العمل الذي قام به في (كشف الرموز) فقد قال الأول ان ابن حمادوش لم يستند إلى الخرافات في عمله وإن فيه إضافات جديدة في المواد الطبية التي

لا علاقة لها بالأدوية الأوروبية، وإن قرب تأليفه من وقت دخول فرنسا للجزائر هو الذي جعله يقدم على ترجمته، لأهمية موضوعه في التعرف على عادات التداوي عند السكان (¬1). وفي مكان آخر ذكر ليكليرك بأن عمل ابن حمادوش لم يكن مجرد اختصار لعمل غيره لأنه ضمنه أدوية لم تكن معروفة للأنطاكي وأمثاله وأنه ذكر فيه أدوية أوروبية أصبحت متداولة في الجزائر، ولذلك قال ليكليرك بأن (كشف الرموز) يشكل صفحة هامة في تاريخ الطب، وقال عن مؤلفه إنه يعد في نظره من أواخر الممثلين للطب العربي (¬2). أما كولان فقد أشاد (بعصرية) تفكير ابن حمادوش لبعده عن التصوف والخرافات. وقال عن (كشف الرموز) بأنه من الكتب التي تركت أثرا عميقا في تقاليد الطب في القطر الجزائري، وأنه مرجع للسكان في علاج الأمراض الشائعة عندهم (¬3). ولعل مصدر الإعجاب بـ (كشف الرموز) يعود إلى كون ابن حمادوش قد سار فيه على طريقة واضحة. فبعد المدخل أي النقل عن ابن سينا، والترتيب الأبجدي، يأخذ في تعريف الدواء ووصفه وأنواع الأسماء الأخرى التي تطلق عليه في مختلف البقاع، وذكر خصائصه وفوائده العامة وفوائده الخاصة، وكيفية استعماله والكمية الضرورية منه ومشتقاته. ومن جهة أخرى يذكر الأمراض التي يستعمل لها الدواء ويتعرض لها الجسم ويحدد منافع كل نبات أو غيره، فيقول إن كذا صالح لوجع كذا. وكان ابن حمادوش يذكر عبر كل ذلك مقادير كل دواء بالموازين الشائعة عندئذ، ولعل ذلك هو ما حبب الكتاب إلى الناس أيضا. وبناء على (كشف الرموز) فإن الموازين وما يقابلها بالغرامات هي ما يلي (¬4): ¬

_ (¬1) ليكليرك (تاريخ الطب العربي) 2/ 309. (¬2) ليكليرك ترجمة (كشف الرموز) 4 - 5. (¬3) كولان، 35، 39، وهذا ما يؤكد ما ذهبنا إليه من فصل النساخ للباب الرابع من كتابه (الجوهر المكنون) لحاجة الناس إلى ما في الباب الرابع - أي المفردات. (¬4) انظر جدول طبعة رودوسي سنة 1928 وكذلك كولان، 42 - 43.

كتابه تعديل المزاج

القمحة .......... وحدة الوزن .......... 0.0488 غرام القراط .......... 4 قمحات .......... 0.1954= الدرهم .......... 16 قراط .......... 3.1266 = المثقال .......... 1 درهم ونصف .......... 4.6899 = الوقية .......... 12 درهما .......... 37.5192 = الرطل .......... 12 وقية .......... 450.2304 = الدانق .......... سدس الدرهم .......... 0.5211 = الأسطار .......... 6 دراهم ونصف .......... 19.8018 = وإذا كان هذا هو شأن الكتاب الرابع من (الجوهر المكنون) فإننا نتوقع أن يكون ابن حمادوش قد بذل جهدا مضاهيا في بقية الأقسام التي لم نطلع عليها منه. ولعل الأيام تكشف عن هذا الكتاب لنعرف ما قام به ابن حمادوش في باب الطب، الذي يعتبر بحق من أبرز ممثليه من العرب والمسلمين في القرن الثاني عشر (18 م). كتابه تعديل المزاج: ومن الموضوعات الطبية التي عالجها ابن حمادوش أيضا الأعضاء التناسلية ووظائفها وأمراضها وأدويتها. ورسالته (تعديل المزاج بسبب قوانين العلاج) تتناول ذلك. ويظهر من العنوان أن مؤلفها تناول فيها المزاج البشري وأحواله وأسباب علاجه. وقد ألف ابن حمادوش هذه الرسالة في مدينة رشيد بمصر سنة 1161، أي بعد سفره من الجزائر بقليل. وقد وصلت منها نسختان إلى الجزائر الأولى اطلع عليها واستافاد منها السيد لوسيان ليكليرك، وهي التي استفدنا منها أيضا، والثانية توجد، حسبما علمنا، عند الشيخ المهدي البوعبدلي (¬1). وبناء على معلوماتنا فإن الرسالة في حجم صغير لا يتجاوز الكراستين. ¬

_ (¬1) اخبرني بذلك بنفسه ووصفه بأنه كتاب صغير. ولكن بعد اطلاعي عليه أثر كتابة هذا الفصل تبين لي أنه هو (كشف الرموز).

فالموضوع الرئيسي لرسالة (تعديل المزاج) هو وظائف الأعضاء التناسلية والاضطرابات التي تصيبها، وعلاجها وكيفية المحافظة عليها في حالة سليمة. وبناء على ابن حمادوش فإن الاضطرابات التي تصيب الأعضاء التناسلية نوعان: نوع غير عادي أو خارج عن قدرة الإنسان، ونوع عادي مثل تعكر أو توعك القلب والمخ والكبد. ويصف ابن حمادوش العلاج للنوع الأول فيذهب إلى استعمال الوسائل التقليدية مثل التمائم والرقى. كما يصف علاج النوع الثاني وطريقة رده إلى حالته العادية التي تؤدي إلى تعديل الأمزجة المصابة. وهو يصف لذلك أدوية بسيطة ومركبة بطريقة مباشرة أو غير مباشرة. كما أنه يذكر الأدوية أو العناصر التي تضعف الأعضاء التناسلية، وتلك التي تهيج اللذة لكلا الجنسين. وقد ذكر ابن حمادوش المصادر التي استقى منها معلوماته، بالإضافة إلى التجربة الشخصية. فعاد إلى كتابات العياشي وأبيقراط وغاليان وابن سينا وحنين ابن إسحاق، وابن رشد والدميري والقزويني وداود الأنطاكي والجاحظ والعطار، والبرزلي والشاذلي والبسكري. وقد اعتمد ابن حمادوش في هذا الكتاب، خلافا لما فعله في (كشف الرموز) على الأحاديث النبوية. كما أنه أوصى باستعمال بعض الأدوية مثل الكينة. وهكذا نجده متنوع المصادر هنا كما في كتبه الأخرى. فهو يعتمد على كتب الأولين من جزائريين وغيرهم، كما يعتمد على التجربة والمشاهدة. وقد لاحظ ليكليرك، الذي نوه بعقلانية ابن حمادوش في (كشف الرموز)، اعتماده على الوسائل غير العلمية في (تعديل المزاج) كلجوئه إلى التمائم والرقى. غير أن قيمة هذه الرسالة تظل هامة في موضوعها، لأنها رسالة متخصصة من جهة ولأنها متأخرة إذا قيست بكتب الطب العربي الأخرى (¬1). ¬

_ (¬1) عالج ليكليرك (تعديل المزاج) في مصدرين الأول في الجزء الثاني من كتابه (تاريخ الطب العربي)، 308 - 310، والثاني في آخر ترجمته لـ (كشف الرموز)، 380. انظر عن مصادر ابن حمادوش أول هذه الفقرة، وكذلك فصل العلوم التجريبية، لاحقا.

الفنون

الفنون رغم حديث بعض العلماء الجزائريين عن الموسيقى والغناء والرقص ونحوها فإنهم لم يخصوها بتأليف يؤرخ لها ويصفها ويحدد أنواعها ووظيفتها الفنية والاجتماعية. رأي العلماء والمتصوفة في الموسيقى: ومن الذين تحدثوا عن الموسيقى أحمد الونشريسي في كتابه (المعيار) حين روى أن أحد العلماء سئل في حكم الغناء والرقص بعد أن ثبت أن جماعة من أهل الخير والصلاح قد اجتمعوا وأنشدهم منشد شعرا في الحب وغيره فتواجد بعضهم ورقص، ومنهم من أصبح يصيح ويبكي، ومنهم من غشيته شبه غيبة. فهل هذا مكروه لهم؟ فأجاب العالم الفقيه بأن الرقص بدعة لا يتعاطاه إلا ناقص العقل وهو لا يصلح إلا للنساء. وأما سماع الإنشاد الذي يحرك المشاعر السامية، والذي يذكر الإنسان بأهوال الآخرة والتعلق بها فلا بأس به، بل هو مندوب عند فتور النفس. وأضاف صاحب الفتوى أن السماع أو الإنشاد لا يحضره من في قلبه هوى خبيث، ذلك أن (السماع يحرك ما في القلوب من هوى محبوب أو مكروه). وقد أضاف الونشريسي بأن معظم العلماء يكرهون الغناء بغير آلة طرب. أما بآلة ذات أوتار كالعود والطنبور والزمار فممنوع. وقال إن بعضهم قد استثنى من ذلك الغناء في الأعراس والحفلات التي لا تقدم شرابا مسكرا. أما الغناء (بصوت رقيق فيه تمطيط)، وهو الغناء العربي المسمى بالنصف، فقد أجازه الجميع لأن الصحابة قد أجازوه وفعلوه بحضرة الرسول (صلى الله عليه وسلم) (¬1). وفي القرن الحادي عشر (17 م) استنكر عبد الكريم الفكون لجوء بعض أهل التصوف إلى استعمال الموسيقى في الحضرة والإنشاد الذي ترافقه ¬

_ (¬1) (المعيار) 11/ 22 - 23، 61.

آلات وتصفيق وشطح أو رقص فيه تواجد ووله. وروى أن عالم عنابة في وقته، الشيخ محمد ساسي، قد استعمل ذلك حين ورد عليهم أحد متصوفة المغرب فأقاموا له في عنابة حفلات ساهرة تشبه على حد تعبير الفكون، ما كان يفعله أمثالهم في قسنطينة أيضا، وهم الذين سماهم (نادي جماعة الشرب)، في زعاقهم وآلات طربهم ولهوهم الذي يجعلونه بابا لدخول الحضرة الصوفية. وذكر الفكون أنه حين حان سفر الرجل المغربي من عنابة ودعه الناس وعلى رأسهم الشيخ محمد ساسي الذي رفع الصوفي المغربي على كتفيه، وكان ينشد الأشعار والجميع يردون عليه، وأضاف الفكون وقد (خرج جميع أهل البلدة وتراكمت السطوح واختلط النساء بالرجال)، بينما كان الرجل المغربي من جهته يزجل بأزجاله و (الكل يصفق ويشطح، ويصيح ومما عنده يطفح) (¬1). وخلال نفس الفترة (القرن الحادي عشر) أكد أحد الباحثين جواز السماع (الموسيقى) عند الصوفيين واعتبر هذا العلم من العلوم التي تجمع بين المعاملة والمكاشفة، ونقل جوازه عن بعض الزهاد والعلماء أمثال أبي مدين وأبي القاسم الجموعي وأبي الحسن الشاذلي والشطيبي. فقد أخبر محمد بن سليمان عن جواز سماع الموسيقى للصوفي الحقيقي. وأخبر أن شيخه موسى بن علي اللالتي كان حسن الإنشاد وأنه إذا أسمع وأنشد يكاد قلب السامع من تأثيره ينفطر وينهذ وأن شيخه كان يقول: (ورثنا هذا المقام عن داود عليه السلام). وكان أخوه (أخ محمد بن سليمان) محمد القاضي قد سمع بعض كلام الشيخ اللالتي فتواجد منه حتى قال: (سمعت بأذن قلبي خطاب الحق يقول: كلام موسى بن علي برق المحبوبين، وبرقه جالب لأحوال المجذوبين، وكلام المحبوب سلب للقلوب، فناهيك بهذا شرف؟). وكان اللالتي يشتكي ¬

_ (¬1) (منشور الهداية) 184، واسم الصوفي المغربي المشار إليه هو علي خنجل، وقد سبقت إليه الإشارة في فصل المرابطين من الجزء الأول.

لبعض تلاميذه من غلبة الحال والوجد عليه حتى أنه كان يقول لتلميذه (محمد بن سليمان) (يا ولدي، هذا عذاب عذبني الله به). وأخبر عنه أنه كان ذات يوم في رفقته فأنشده أبياتا لعبد القادر الجيلاني منها: رأيت ربي بعين قلبي ... فقلت لاشك أنت أنت فتواجد الشيخ اللالتي كثيرا. ولما أنشده قول الجيلاني أيضا: فمن بالعفو يا إلهي ... وليس أرجو سواك أنت سكن الشيخ وبرد وانطفأ عشقه وقال: ألا ما أحسن هذا الكلام! (¬1). وبعد حوالي قرن فصل الورثلاني في هذه القضية. فهو كرجل من أهل التصوف أباح استعمال الموسيقى والإنشاد لأهل التصوف ومنعه على غيرهم لأنه يؤدي، في نظره، إلى الاختلاط والفساد. وفي رحلته أمثلة عديدة على وصفه الفجور في البلدان التي زارها في الجزائر، فالغناء في نظره دواء لأهل العشق الصوفي ولكنه وسيلة من وسائل الشيطان لغيرهم، وفي حديثه عن نساء ورجال إحدى القرى التي زارها قال إنهم كانوا يجتمعون (عند الرقص والبكاء والتباكي والصياح وذكر الشوق من غير اشتياق والعشق من غير عشق والحب كذلك وغيرها من الزهد). أما المباح في نظره فهو أن يكون (مع أهله بشروطه الخالية من المحرمات. ومع ذلك انه دواء للمرضى من أهل الوله) (¬2)، وهو يعني (بأهله) أصحاب الحضرة الصوفية. وهناك من العلماء (غير المتصوفة) من كان يتذوق الموسيقى في ذاتها ويحلو له الإنشاد، فقد روي عن عبد الواحد الونشريسي (وهو ابن أحمد الونشريسي) أنه كانت له أزجال وموشحات وكان (رقيق الطبع يهتز عند سماع الألحان وآلات الطرب لاعتدال مزاجه وقوام طبعه) (¬3)، وقد كان عبد الواحد الونشريسي من كبار العلماء في وقته ولم يكن من رجال الصوفية. وأخبر ابن ¬

_ (¬1) ابن سليمان (كعبة الطائفين) 3/ 52. (¬2) الورتلاني، 40 - 41. (¬3) (سلوة الأنفاس) 2/ 47.

ممارسة الموسيقى والغناء

حمادوش في رحلته عن نفسه أنه يعلم علوما شتى من بينها علم الموسيقى الذي قال إنه تعلمه بطريق الإجازة (¬1) وفي (الرحلة القمرية) لابن زرفة أنه قد ورد على الباي محمد الكبير عالمان حنفيان من مليانة، أحدهما مفتي البلدة والثاني فقيهها، وإن كليهما كان من الموسيقيين المهرة (¬2)، وقد عرفنا من حياة المفتي أحمد بن عمار أن بعض علماء مدينة الجزائر، وهو منهم، كانوا يصوغون الموشحات المولدية ونحوها وينشدونها في المولد النبوي بالألحان المطربة، وتذكر المصادر أن العالم محمد القوجيلي قد استأذنه أحد علماء تونس في سماع الموسيقى فأجابه القوجيلي: فالقلب فيه اشتياق للسماع توى ... إذكل ذي كرم من شأنه الطرب (¬3) ممارسة الموسيقى والغناء: ويظهر أنه رغم اختلاف وجهة نظر العلماء حول الموسيقى والغناء، فإن المجتمع كان لا يستغني عنهما، وهناك ثلاث مناسبات على الأقل تشيع فيها الموسيقى والغناء والرقص: المناسبات الاجتماعية كحفلات الزواج ولقاء السيدات في الحمام والختان، والمناسبات الدينية كالمولد النبوي وتجمع ركب الحج وليلة القدر، والمناسبات الرسمية كتولي الباشا الجديد وحفلة الدنوش والاحتفال بانتصار كبير على الأعداء. وتذكر بعض المصادر أن السلطة كانت تجازي العازفين بهدايا وعطايا مناسبة. فقد كان رئيس الموسيقيين (أو الباشزرناجي) يتقاضى بمناسبة المولد النبوي عشرة بوجات، وكانت هدية الموسيقيين في هذه المناسب ترقى إلى خمسة وأربعين سلطانيا. أما حين يلبس الباشا الجديد القفطان الرسمي فعطية الموسيقيين تبلغ أحيانا مائة دورو فضية، وذلك بعد ثلاث ليال من ¬

_ (¬1) ابن حمادوش (الرحلة) مخطوطة، ولنلاحظ أنه قد اهتم في نقله عن تاريخ الكردبوس بأخبار الموسيقيين والمغنين. (¬2) خلاصة (الرحلة القمرية) كما لخصها هوداس في (المجموعة الشرقية) الجزائر 1905، 53. (¬3) (ديوان ابن علي)، مخطوط.

الاحتفالات (¬1)، وروى الزهار أن النساء أيضا كن يعزفن الموسيقى أثناء حفلات الدنوش، بالإضافة إلى عازفين من الرجال، أتراك وجزائريين. وهذا بالطبع خارج نطاق الموسيقى العسكرية المعروفة بالنوبة، وأثناء ذلك كانت تعزف الألحان الجزائرية والتركية. كما كان البايات يجازون هؤلاء الموسيقيين والموسيقيات بالمكافآت السخية (¬2). وتثبت بعض الوثائق أن هناك عازفين كانوا يتنقلون من بلد إلى بلد حتى على المستوى الرسمي، وأن الحفلات الموسيقية الرسمية كانت تقام أيضا في الأقاليم إذا دعت المناسبة. وأن بعض هؤلاء العازفين قد بلغوا درجة من الشهرة والتقدير بين المعاصرين، حتى أصبحوا يلقبون (بالأساتذة). فقد روى المؤرخ المغربي أبو القاسم الزياني أنه عندما حل بقسنطينة دعاه الباي حسن هناك إلى حفلة سمر وموسيقى جاءه عازفوها من مدينة الجزائر، وقد وصف الزياني عندئذ قصر الباي بأنه كان مزينا بالفرش والتحف الفضية والذهبية والساعات والأثاث الفاخر والأواني. ولاحظ أيضا أن الباي كان يخرج من وقت لآخر من الحفلة ثم يعود إليها، وأنه في كل مرة كانت تقوى عنده رائحة الخمر حتى عرفها الحاضرون جميعا (¬3)، ولا شك أن هذا النوع من الموسيقى هو الذي نهى عنه أهل التصوف، أمثال الورتلاني، لأنه في نظرهم يؤدي إلى المجون وتعاطي الخمر والتبذير والاختلاط. وكان المغنون والعازفون والراقصون يجازون أيضا في الحفلات الخاصة مجازاة سخية، ذلك أن الأهالي كانوا شديدي الحرص على سماع الموسيقى والتمتع بالإنشاد، وكان كثير منهم، ولا سيما أهل الحضر، يحتفظ بآلات موسيقية عنده يعزفها عندما ينفرد بنفسه كنوع من أنواع التسلية والهواية، وكان بعضهم يصطحب الموسيقيين معه إلى الريف حيث منازل ¬

_ (¬1) (التشريفات) 39. (¬2) الزهار (مذكرات) 37 - 38. (¬3) الزياني (الترجمانة الكبرى) 156. انظر ما قلناه عن أحوال الترك في الجزائر في الفصل الثاني من الجزء الأول.

الحضر الأغنياء، وكان الركب يتوقف من وقت لآخر فيعزف الموسيقيون ألحانهم، بينما الحضريون جالسين على مصطبة عالية غارقين تحت تأثير الموسيقى اللذيذ. وقد ذكر أحد الأوروبيين أن عازف الموسيقى في الجزائر يربح من عزفه أكثر مما يربحه عشرة من الأدباء (¬1). وكان هناك كثير من الهواة المشتغلين بالموسيقى، ولكن الذين كانوا يعزفون أمام العامة هم الذين يكسبون قوت يومهم من هذه الحرفة. أما الآخرون فيعزفونها في أوقات فراغهم ولأنفسهم، كما أشرنا، وذكر الورتلاني أن الشيخ علي المهاجري كان زمارا مشهورا بلغ الغاية في صنعته حتى أصبح الناس يشترطونه في الأعراس، ولا شك أنه كان يأخذ أموالا طائلة على ذلك، رغم أن الورتلاني قد حكم بحرمة صنعته لأن (زمارته تلهى كل اللهو)، لانضمام (النساء والشبان والرقص وذكر الخدود والقدود) إليها (¬2)، وبالإضافة إلى (الموبقات) التي فصلها الورتلاني، نشير إلى ما ذكره الدكتور شو من أن الشبان كانوا يقضون أوقاتهم في المقاهي يلعبون الشطرنج أو يأخذون خليلاتهم إلى الحقول حاملين معهم الخمر والآلات الموسيقية، بينما كان بعضهم يظلون في الحانات أو في دكان الحلاقين يشربون ويتجاذبون أطراف الحديث (¬3). ومهما كان الأمر فقد كان هناك على الأقل ثلاثة أنواع من الموسيقى، موسيقى الحضر أو الأندلسية، وموسيقى البدو، وموسيقى العثمانيين، ويمتاز كل نوع ببعض الخصائص وبعض الآلات الموسيقية. وتعتبر الموسيقى الحضرية أكثر تنوعا وتنغيما من موسيقى البدو، حسب الذين درسوها، ذلك أن معظم أنغامها حية ولذيذة، وهي أيضا تعزف بعدد من الآلات يفوق عدد آلات النوعين الآخرين، ومن جهة أخرى كان العزف يتم من الذاكرة وليس من نوطة يتعلمها العازفون، كما أنها قد بلغت من التعدد والتنوع أن أصبحت ¬

_ (¬1) بانانتي، 266. (¬2) الورتلاني، 70. (¬3) شو 1/ 421. انظر أيضا ما قلناه عن الحياة الاجتماعية في الفصل الثاني من الجزء الأول.

لها الفرق الضخمة البالغة العشرين أو الثلاثين عازفا، وكان العزف يطول ولكن السامعين يظلون طول الليل يستمتعون دون أن تحدث خلال ذلك ضجة أو هرج. أما آلاتها فالرباب ذو الوترين والذي يلامس بقوس، ثم العود الذي يحتوي على أوتار أكثر من عدد أوتار الرباب. وهناك أيضا أحجام مختلفة من القيثار الذي يعطي لكل حجم منه نغما أعلى من الآخر. وقد أدخل الحضر أيضا الصنج على الطار البدوي فتنوعت نغماته بتعدد ضرباته (¬1). ويستعمل عازفو البدو أيضا آلات موسيقية تناسب عقليتهم ووسائلهم المعيشية. وهم أيضا لا يكتبون موسيقاهم، وآلاتهم هي الربابة ذات الوتر الواحد والقصبة، وكذلك الطار أو البندار، ولا تختلف أنغامهم كثيرا بل هي متواصلة بالقصبة ورتيبة، أما الربابة فهي التي تبدأ بها النغمة وتنتهي، ويشترك في هذه الطريقة من العزف المداحون وبعض الدراويش أيضا، وكان هؤلاء وأمثالهم يجتمعون في حلقة في مكان قريب من السوق ونحوه ثم يشرعون في الغناء والعزف على الآلات المذكورة، ومعظم إنشادهم خلال ذلك يعتمد على المدائح النبوية وسيرة الصحابة والسلف والقصص العربي البطولي. أما العزف على الطار أو البندار المتكون من جلد ناعم وخشب رقيق فيستعملونه في الحفلات العامة، وهو بالإضافة إلى القصبة والربابة، يعطي أنغاما لطيفة ناعمة أحيانا وعالية أحيانا أخرى، حسب المناسبة (¬2). أما موسيقى الأتراك التي جاؤوا بها معهم إلى الجزائر بعد استقرارهم بها فقد شاعت أيضا ولكن في حدود ضيقة، وهي لا ترقى إلى موسيقى الحضر أو الأندلسية، وتمتاز موسيقى الترك، غير العسكرية، بحزن نغمتها، ومن آلاتهم الفضل وهو آلة طويلة العنق تشبه الربابة، وهناك آلة أخرى ذات أوتار تلامس بأصابع اليد أو بعصى رقيقة. وبالإضافة إلى ذلك شاعت عند ¬

_ (¬1) نفس المصدر، ص 368، انظر مقالة لعمر راسم (الموسيقى الأندلسية، بالجزائر)، مجلة المباحث التونسية 13، أبريل 1945، وبانانتي، ص 267، وقد ذكر الزهار (مذكرات) 38 من أنواع الآلة الموسيقية الحضرية الربابة والكامنجة والعيدان. (¬2) شو 1/ 367.

ذوي السلطة كالباشوات والبايات آلات محلية كالقصبة والطنبور والمزمار (¬1). ولهم أيضا فرق موسيقية تعزف لهم في المناسبات السياسية والحربية والاجتماعية، وكانوا كما أشرنا، يكافئون الموسيقيين على عزفهم مكافآت جيدة، ولعل ذلك يدل على تأثر العثمانيين بالبيئة المحلية التي وجدوا أنفسهم يتعايشون معها. وقد أشرنا إلى أن مصدر الأغنية هو التاريخ الإسلامي، ولا سيما سيرة الرسول (صلى الله عليه وسلم) والصحابة والسلف الصالح، بالإضافة إلى القصص البطولي الذي يمجد تاريخ العرب والمسلمين. وكثير من القصص الغرامي - الملحمي كان مستمدا من ألف ليلة وليلة وأمثالها من القصص الشعبي (¬2). وكان المغنون يبدأون قصتهم بفاصل ناعم يعزف على الربابة المرفقة بالقصبة ثم تعلو النغمة وتتواصل القصة في بساطة ونعومة، بينما السامعون مندمجون في سحر الموسيقى وتيار القصة. ولم يكن الرقص شائعا بين الرجال اللهم إلا رجال البادية. أما في المدن فالرقص مقصور على النساء غير الحرائر، وقد جرت العادة أن يمارس الرقص بنات الهوى والوصيفات، وكن يستدعين للحفلات ويعطين أجورا عالية. كما كن يرقصن في خيام خاصة خلال النهار تحدث عنها بعض الأوروبيين، وقال إن قضاء ساعة فيها كان يعد من أفضل المتع عند السكان. وكان الرجال أثناء ذلك يدخنون أوراق الورد أو يشربون القهوة اليمنية القوية. وقد لاحظ هذا الأوروبي أن الحفلة كانت تجري في هدوء تام فلا صخب ولا صياح، وقد تنتهي الحفلة ويفترق الجمع دون أن ينبس الحاضرون ببنت شفة (¬3). ولعل عادة الصمت هذه هي التي ورثها الجزائريون إلى اليوم. ¬

_ (¬1) نفس المصدر، 370. (¬2) بانانتي، 267، شبه بانانتي الأغاني الشعبية الجزائرية بالأناشيد الوطنية لسكان ويلز وموسيقى الرعاة عند أهل اسكتلاندا. (¬3) نفس المصدر، 222.

العمارة والخط والرسم

أما الرقص النسائي نفسه فيتكون من تحريك الجسم حركات رشيقة مع هز البطن والأرداف والتلاعب بالأذرع والتمايل ذات اليمين وذات الشمال، ويرافق كل ذلك ابتسامات ناعمة واهتزاز للشعر وغمزات بالعين، ونحو ذلك، ولا شك أن بعض هذا الرقص يعتمد على الإثارة الجنسية، وهو بالطبع خارج نطاق الأخلاق العامة وتعاليم الدين، وهو الذي رفضه العلماء والمتصوفة، كما لاحظنا. ويبدو أن السلطات كانت تتغاضى عن ذلك في سبيل الترفيه العام. وهناك أنواع أخرى من الرقص لا تنزل إلى ذلك المستوى. ذلك أن لأهل البادية رقصا رجاليا ونسائيا أكثر احتشاما، كما أن لنساء الحضر رقصا ترفيهيا في الحمامات ونحوها، بالإضافة إلى رقص الدراويش وأهل التصوف الذين كانوا يرقصون حتى تعتريهم غيبوبة ووجد. ورغم ما قلناه عن الموسيقى بأنواعها وعن الغناء والرقص فإننا لا نجد أحدا من العلماء خلال العهد المدروس قد تناولها ببحث أو تأليف. ولعل النقد الاجتماعي لمتعاطي هذه الفنون في ذلك العهد هو الذي منع الباحثين من التأليف فيها، رغم أن أجدادهم (1) قد ألفوا فيها ومارسوها وداووا بها المرضى، فالفنون، كالعلوم، عانت في الجزائر خلال العهد العثمانى من الإجحاف والجهل بقيمتها وتاريخها. العمارة والخط والرسم: ونفس الشيء يقال عن فن العمارة. فرغم كثرة المباني وجمالها وتنوعها فإن العلماء الجزائريين لم يؤلفوا في هذا الفرع من فروع المعرفة. (1) من أقدم من ألف في الموسيقى من الجزائريين أحمد التيفاشي الذي وضع كتابه (متعة الأسماع في علم الاستماع). وهو من أهل القرن السابع (13 م). ومن أحدث التآليف في الموسيقى الأندلسية بالمغرب العربي أطروحة السيد محمد قطاط التونسي التي نال بها دكتوراه الدور الثالث من السوربون، سنة 1977، وهي في جزئين وقد أرخ فيها للموسيقى الأندلسية منذ ظهورها إلى العصر الحديث، وسنعود للاستفادة منها في الأجزاء اللاحقة إن شاء الله. انظر كذلك مقالة السيد علي الجندوبي في مجلة (المناظر) جوان 1961، 18.

ولا نكاد نجد في كتب الجزائريين إلا بعض الإشارات النادرة، التي تكتفي فقط بالتاريخ ووصف البناء وصفا أدبيا. فإذا أرخوا مثلا لأعمال الباي محمد الكبير قالوا إنه بنى المسجد الأعظم بمعسكر والمدرسة المحمدية وبعض الأضرحة والقباب على الأولياء، وإذا تحدثوا عن أعمال صالح باي قالوا إنه بنى المدرسة الكتانية ومد الجسر المشهور ونحو ذلك، وقد وصف بعض الشعراء هذه الأعمال، كما وصف ابن عمار قصر ابن عبد اللطيف، ولكننا الآن لا نريد هذا النوع من الحديث والوصف، بل نريد تاريخ المآثر العمرانية في الجزائر وأشكالها وأنواعها وبناتها وطريقتهم في ذلك، ومدى تأثرهم بغيرهم وتأثيرهم، ومهارتهم، وتفاضلهم. وهذا هو الذي نفتقده في هذا الميدان. وتتمثل العمارة الجزائرية في المساجد ونحوها (الزوايا، قباب أهل التصوف) والقلاع والجسور والثكنات والدور والقصور. وقد استمد البناة طريقتهم من حضارتهم القديمة التي شاعت أيام الأغالبة والحفصيين والزيانيين. كما استمدوها من حضارة الأندلس التي تشترك في كثير من الخصائص مع حضارتهم. وقد هاجر الأندلسيون أنفسهم إلى الجزائر وجلبوا معهم صناعة البناء فكان تأثيرهم عظيما ولا سيما في القلاع والقصور. أما الأثر العثماني فقد ظهر خصوصا في بعض المساجد والقلاع والثكنات، وكانت البيئة وراء طريقة العمارة في الجزائر. فالحرارة والبرودة من جهة وعدم ظهور المرأة هي التي أملت كثيرا من أساليب بناء المنازل والمساجد والزوايا، وكان الغزو البحري وتعرض السواحل الجزائرية للهجمات المتكررة قد أملى طريقة بناء القلاع والحصون والمنائر للمراقبة والدفاع، ومن جهة أخرى أدت وفرة الجنود العزاب إلى كثرة بناء الثكنات ولا سيما في مدينة الجزائر التي كانت تضم على الأقل ثماني ثكنات كبيرة. وقد تحدث الكتاب الأوروبيون عن كيفية البناء وجلب مواده وأبرز من قام به من الأمراء والبناة. فنسبوا إلى عرب أحمد باشا بناء الأسوار الحصينة والفوارات والعيون وقلعة الفنار. ونسبوا إلى حسن باشا بن خير الدين بناء

قلعة حسن في الموضع الذي أقام فيه شارل الخامس، وبناء مستشفى وحمام كبير على غرار الحمام الذي بناه والده في إسطانبول (¬1)، ووصف بعضهم أيضا جامع السيدة وجامع علي بيتشين وجامع كيتشاوة ونحوها من المساجد التي اشتهرت بالجمال وثراء المادة وحسن الذوق (¬2)، كما أطال بعضهم في وصف قصر أحمد باي بقسنطينة (¬3)، وتحدث آخرون عن مآثر صالح باي العمرانية (¬4)، كما وصف بعضهم قصر أهجي مصطفى باشا الجميل (¬5). وقد لفت نظر بعض الأوروبيين طريقة البناء ومادة البناء أصلا عند الجزائريين فوجد أن المنازل على الخصوص كانت تمتاز بالأبواب الواسعة والغرف الفسيحة والأرضية الرخامية والردهة والباحة التي تنصب فيها في العادة فوارة، ولاحظ أن كل هذا يليق بالطقس الحار، وأن الغيرة على المرأة وفكرة الحريم قد أدت إلى قلة النوافذ في المنازل وندرة الشرفات التي قد تطل على الشوارع والمحلات العامة، وغالبا ما تفتح النوافذ، إذا وجدت، من الداخل، أما من الخارج فلا تفتح إلا في الحفلات ونحوها (¬6). وقد برع الصناع الجزائريون في بناء المساجد والقصور على الخصوص. وأهم ما يميز المسجد الصومعة والمحراب والمنبر والعرصات. وكانت الزرابي التي تفرش بها بعض المساجد من النوع الجيد. كما أن بعض المساجد، مثل التي ذكرنا، مبنية بالرخام والزليج المجلوب من الخارج ولا سيما من تونس وإيطاليا، ويضاف إلى ذلك الثريات الجميلة وقناديل الزيت والشموع في المناسبات الدينية. أما في القصور فقد استعملوا أيضا ¬

_ (¬1) مورقان، 368، 513. (¬2) ديفوكس (المجلة الإفريقية) 1862، 375، وكذلك سنة 1867، 451. (¬3) فيرو (روكاي) 1867 ج 11. (¬4) بنى صالح باي قصرا خاصا بحريمه، بالإضافة إلى مبانيه الدينية والعلمية والمدنية. (¬5) قتل سنة 1117 كما أشرنا من قبل، وقد أطال السيد لافاي (رحلة في شمال إفريقية)، 12، في وصف طبقاته وأبهائه وأجنحته وزخارفه ونقوشه. انظر أيضا هنري كلاين (أوراق الجزائر) في حديثه عن قصر الصيف (قصر الشعب اليوم). (¬6) شو، 1/ 373.

النقوش الرشيقة والحدائق والمياه وتماثيل الحيوانات والفوارات، بالإضافة إلى جلب المواد المرمرية الملونة والتفنن في الأشكال الهندسية. وقد انتشرت عند الحضر وأثرياء المدن والموظفين السامين وبعض رجال العلم عادة بناء الأحواش في بساتينهم التي يملكونها خارج المدينة، وكانوا يزينونها بأنواع الأسلحة الثمينة وبعض الآلات الموسيقية والزرابي الرفيعة وجلود الحيوانات النادرة والتحف الفضية والذهبية والساعات. وقد لاحظ الأوروبيون طريقة إعداد مواد البناء الواقية من الرطوبة والحرارة فوجدوا أن الجزائريين كانوا يمزجون رماد الخشب والجير والرمل ويخلطونها ثم يرشون عليها الزيت والماء في فترات معينة فتأتي من ذلك مادة بنائية جيدة تستعمل للأقواس والسقوف ونحوها من الأماكن التي يخشى منها تسرب الرطوبة وتقلبات الطقس. وكان الصانع الماهر في البناء يدعى (المعلم) تقديرا لمكانته في المجتمع. أما الحصون والقلاع ونحوها فلم يكن يراعى فيها الذوق بقدر ما كانت تراعى الصلابة والمقاومة، وفي بعض المنشآت العمرانية كان المسؤولون يستعينون ببعض الصناع المسلمين، ولا سيما من تونس والمغرب، وحتى ببعض الأوروبيين، كما استعمل صالح باي على مد جسر قسنطينة أحد المهندسين الإسبان. وكان التفنن في الخط والكتابة من وسائل التعبير الجمالي في هذا العهد. ففي الوقت الذي غاب فيه التصوير لعب الخط دورا بارزا في إظهار المواهب الفنية المحلية، وقد تحدثنا في فصل سابق (¬1) عن براعة الخطاطين والنساخين وانتشار مهنتهم وتقديرها بين الناس. ونضيف هنا فقط أن الكتابة المنحوتة أو المنقوشة على جدران المساجد وأبوابها ومحاريبها، وكذلك القصور ونحوها من المنشآت، كانت تجمع بين فن الخط والتصوير والنحت التي تشيع اليوم، ومع ذلك فلا نجد تأليفا خاصا بهذا الفن من علماء الجزائر خلال العهد المدروس. ¬

_ (¬1) انظر الفصل الثالث من الجزء الأول - فقرة المكتبات.

وقد اشتهرت أسرة ابن صارمشق التلمسانية بهندسة البناء والنقش والخطوط، ونذكر منها المعلم أحمد بن محمد بن صارمشق الذي بنى جامع العين البيضاء في معسكر سنة 1175 والمهندس الهاشمي بن صارمشق الذي رسم جامع سيدي بومدين في تلمسان، سنة 1208، وعرف من فناني هذه الأسرة وخطاطيها محمد بن صارمشق الذي وجدت نقوشه على عدة آثار عمرانية، وكان موجودا سنة 1164. ومن النقاشين أيضا الأصطا حسين وعلي بن محمد التونسي وأحمد بن عمر التونسي أيضا الذين وجدت خطوطهم على مسجد ومدرسة الخنقة. وكذلك إبراهيم الجركلي الذي نقش الآيات المحفورة في جامع كتشاوة، والمعلم اللبلابشي الذي نقش باب جامع علي بتشين. وهكذا. ولم يكن الرسم منعدما كما كان يعتقد بعض الناس إلى وقت قريب. حقا إن الفنانين لم يجدوا تشجيعا كالذي وجده فنانو عصر النهضة في إيطاليا وغيرها، ولكنهم مع ذلك استطاعوا أن يعبروا بالوسائل المسموح بها دينيا وذوقيا. وعلى كل حال فليس صحيحا ما يقال من أن الجزائريين كانوا لا ينتجون الرسوم الفنية لأن الدين قد حرمها أو أنهم لم يكونوا يفهمون البعد وتناسق الألوان في الصور (¬1). فقد عثر على لوحة رسمها بعض الجزائريين سنة 1824 بطلب من حسين باشا. وهي تصور المعركة التي جرت بين الجزائريين والإنكليز في السنة المذكورة. وكان الباشا قد وضع اللوحة في قصره حيث ظلت إلى أن جاء الكونت دي بورمون، قائد الحملة الفرنسية على الجزائر سنة 1830، فأخذها وسلمها إلى قائد أركانه تولوزي. وقد وضعت نسخة من هذه اللوحة في مكتبة الجزائر. أما اللوحة الأصلية فلا ندري الآن ما مصيرها (¬2). ¬

_ (¬1) بانانتي، 263. (¬2) بليفير (جلادة المسيحية)، 299. وقد كتب بليفير تحت هذه اللوحة عباره (قصف مدينة الجزائر سنة 1824 مأخوذة من رسم محلي).

وهكذا فإننا إذا حكمنا من التراث المكتوب فإن مساهمة المؤلفين الجزائريين في الفنون تكاد تكون معدومة. أما في العلوم فإن مساهمتهم طيبة، ولكنها لم تبلغ مبلغ تآليفهم في العلوم الشرعية والعقلية الأخرى. ولكل ذلك مبررات اجتماعية وسياسية تحدثنا عنها. انتهى الجزء الثاني ويليه الجزء الثالث

المحتوى

المحتوى

_ تنبيهات ............................................................. 5 الفصل الأول: العلوم الشرعية ........................................ 7 حول التقليد والتجديد ................................................ 9 التفسير ............................................................ 12 القراءات .......................................................... 20 الحديث .......................................................... 25 الأثابت .......................................................... 31 الإجازات ........................................................ 39 أحمد البوني .................................................... 60 الفقه ........................................................... 65 الآثار الفقهية .................................................. 66 - عبد العزيز الثميني - خليفة بن حسن القماري النوازل والفتاوى والفرائض ...................................... 79 الفصل الثاني: علم الكلام والتصوف والمنطق ................... 89 علم الكلام .................................................... 91 يحيى الشاوي ................................................. 102 التصوف ...................................................... 111 المناقب الصوفية ............................................. 113 شروح في التصوف ........................................... 128 المواعظ والردود ............................................. 133

_ المنطق ......................................................... 149 الفصل الثالث: علوم اللغة، النثر الفني ........................... 155 علوم اللغة ونحوها ............................................... 157 البيان والمعاني (البلاغة) والعروض .............................. 167 الشروح الأدبية - التقاريظ والإجازات والعقود - الرسائل - الوصف - الخطابة - القص والمقامات أحمد المقري ................................................... 212 أحمد بن عمار ................................................ 224 الفصل الرابع: الشعر .......................................... 237 مدخل ....................................................... 239 الشعر الديني ................................................ 245 الشعر السياسي ............................................. 253 الشعر الاجتماعي .......................................... 266 المجون والمزاح - المدح والفخر - الرثاء - وصف المنشآت العمرانية - الألفاز الشعر الذاتي ............................................... 289 الوصف - الحنين والشكوى ابن علي ................................................. 299 الشعر الشعبي ........................................... 310 الفصل الخامس: التاريخ، التراجم، الرحلات ................. 319 مفهوم التاريخ .......................................... 321 السيرة النبوية .......................................... 326 تواريخ عامة وتواريخ محلية ............................ 329 تراجم عامة .......................................... 350 تراجم خاصة ........................................ 358 ابن المفتي وتقييده .................................. 366

_ أبو راس الناصر ........................................... 376 الرحلات .................................................. 381 الورتلاني ورحلته .......................................... 393 الفصل السادس: العلوم والفنون ........................... 399 مقدمة ................................................... 401 الحساب والفلك .......................................... 404 الطب والجراحة والصيدلة ................................ 416 عبد الرزاق بن حمادوش ................................ 425 كشف الرموز - تعديل المزاج الفنون ................................................. 437 رأي العلماء والمتصوفة في الموسيقى ................... 437 ممارسة الموسيقى والغناء ............................. 440 العمارة والخط والرسم .................................. 445

دار الغرب الإسلامي بيروت - لبنان لصاحبها: الجيب اللمسي شارع الصوراتي (المعماري) - الحمراء، بناية الأسود تلفون: 350331 - 009611: Tel / خلوي: 638535 - 009613: Cellulair فاكس: 742587 - 009611: Fax / ص. ب. 5787 - 113 يروت، لبنان DAR AL - GHARB AL - ISLAMI B.P.: 113 - 5787 Beyrouth, LIBAN الرقم: 337/ 2000/ 11/ 1998 التنضيد: كومبيوتايب - بيروت الطباعة: دار صادر، ص. ب , 10 - بيروت

HISTOIRE CULTURELLE DE L'ALGERIE PAR Professeur Aboul Kacem SaadaWah Université d Alger Tome 2 1500 - 1830 DAR AL - GHARB AL - ISLAMI

الجزء الثالث

الدكتور أبو القاسم سعد الله تاريخ الجزائر الثقافي الجزء الثالث (1830 - 1954) دار الغرب الاسلامي

1998 دار الغرب الإسلامي الطبعة الأولى دار الغرب الإسلامى ص. ب. 5787 - 131 بيروت جميع الحقوق محفرظة. لا يسمح بإعادة إصدار الكتاب أو تخزينه في نطاق إستعادة المعلومات أو نقله بأي شكل كان أو بواسطة وسائل إلكترونة أو كهروستاتية، أو أشرطة ممغنطة، أو وسائل ميكانيكية، أو الاستنساخ الفوتوغرافي، أو التسجيل وغيره دون إذن خطي من الناشر.

تاريخ الجزائر الثقافي

مقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة هذا هو الكتاب الذي وعدنا به القراء منذ أكثر من خمسة عشر عاما، وهو كتاب يغطي، بمختلف أجزائه، عهد الاحتلال الفرنسي، أي من 1830 إلى 1954 (¬1). وقد درسنا فيه موضوعات ومظاهر الثقافة من تعليم وتصوف، ورجال دين وقضاء ونخبة، ومعالم وأوقاف، ومنشآت، كما عالجنا فيه الاستشراق والتبشير، والترجمة والمترجمين، والتيارات والمذاهب، وأنشطة المهاجرين، إضافة إلى دراسة الإنتاج الثقافي نفسه في العلوم الدينية والاجتماعية والتجريبية، وفي الآداب والفنون والتاريخ (¬2). ومصادر الكتاب غنية ومتنوعة تنوع محتوى الكتاب نفسه. وربما يكون من العبث أن نحاول وضع قائمة بالمصادر التي قرأناها أو رجعنا إليها. غير أن القارئ سيجد المصادر الأساسية في تعاليق كل فصل. وننبه إلى أن معظم المصادر كنا قد اطلعنا عليها خلال الثلاثين سنة الماضية، ولكن بطاقاتها ضاعت سنة 1988. وقد استدركنا الكثير منها وبقي البعض بدون استدراك، سيما المخطوطات والمقابلات والمراسلات. ومن ناحية أخرى فإن عددا من المصادر كان معروفا لدينا، بل ونملكه، ولكننا لم نستطع الوصول إليه لأننا كتبنا هذا الكتاب خارج الجزائر. وقد أمدنا أصدقاؤنا ¬

_ (¬1) أما العهد العثماني فقد خصصنا له الجزئين الأول والثاني. وقد طبعا طبعة أولى سنة 1981 وثانية سنة 1985. (¬2) انظر فصول كل جزء ومحتواها في فهرس الموضوعات.

وأقاربنا بالكثير من المصادر عن طريق البريد الذي لم ينقطع بيننا طيلة فترة البحث والتحرير. ونشير أيضا إلى أن بعض الفصول قد اعتمدت على مصادر متنوعة بينما بقيت مصادر بعض الفصول الأخرى محدودة إما لعدم وصولنا إليها وإما لأن الموضوع نفسه لم يعالجه إلا القليل من الكتاب. بنينا خطة الكتاب ليكون بأجزائه المختلفة موسوعة ثقافية جزائرية. وبناء على ذلك فإنك ستلاحظ أنه غطى الآداب والفنون والعلوم والتعليم والدين والتصوف، كما أنه لم يقتصر على مساهمة الجزائريين فقط بل درس مساهمة الفرنسيين أيضا، لأن دراسات الفرنسيين للفن واللغة والآثار والطرق الصوفية وما إلى ذلك، داخلة في صميم موضوعنا الثقافي. إن أعمال المترجمين والمستشرقين والفنانين والمؤرخين الفرنسيين كانت مستوحاة من تراث الجزائر وكانوا يحاولون توجيهه وجهة تخدم المصالح الفرنسية. وهنا يكمن الفرق بين العثمانيين والفرنسيين. فالعثمانيون لم يكتبوا عن الثقافة الجزائرية وإنما تركوا أهل البلاد يتولون ذلك بأنفسهم، أما الفرنسيون فقد تولوا شؤون الثقافة بأنفسهم وزحزحوا عنها علماء وأدباء البلاد. كما غطى الكتاب دور المهاجرين الجزائريين في المشرق والمغرب. ذلك أن الهجرة شملت في أغلب الأحيان رجال العلم والأدب والصحافة والسياسة والدين. فكانت مساهمة المهاجرين في البلاد العربية والإسلامية كبيرة، رغم أن بلادهم الأصلية قد خسرتهم. والواقع أن هناك صعوبة في هذا الصدد في تحديد الأسماء والمصطلحات والأدوار. فمن هو الجزائري في هذا الكتاب؟ إننا نؤمن بوحدة الثقافة العربية الإسلامية، وإن تتبعنا لدور الجزائريين في الشام أو تونس أو إسطنبول أو غيرها لا يعني فصلهم عن بيئتهم الجديدة التي استبدلوا فيها أهلا بأهل والتي وجدوا فيها الراحة والعزاء عما فقدوه من أرض وولد وجاه. فإذا تحدثنا عن (جزائرية) المكي بن عزوز والطاهر السمعوني وأحفاد الأمير عبد القادر وغيرها فإننا نفعل ذلك لنذكر الجيل الجديد بأجداده الذين ضربوا في الأرض مراغمين والذين أجبرهم الإحتلال على العيش في

المنافي، ولنذكرهم كذلك بدور أولئك الأجداد في خدمة الثقافة العربية الإسلامية. ومع ذلك فإننا لم ننتبع كل إسم ولا (كل) الأحفاد الذين نشأوا وانتشروا في العالم العربي الإسلامي. والكتاب، كما هو واضح من خطته، ليس كتابا في التراجم بالمعنى التقليدي. إن تركيزنا فيه منصب على الأفكار والتيارات وتصنيف المواد العلمية وليس على الأشخاص. فإذا ترجمنا لأحدهم فإننا ترجمنا له داخل التصنيف الذي نعالجه في أغلب الأحيان، أي حسب ما غلب عليه من نشاط، كالطب والصحافة والتاريخ والتصوف، وما إلى ذلك. وأغلب من ترجمنا إليهم هم من الأموات، وإذا ما تعرضنا لإنتاج أحد الأحياء أو المتأخرين فإننا توقفنا عادة عند سنة 1954، كما فعلنا مع الشيخ عبد الرحمن الجيلالي والشيخ أحمد توفيق المدني. وقد نشير في الهامش إلى بعض التفاصيل عن الأحياء أو المتأخرين. وقد حرصنا على أن يضم الكتاب الروافد المختلفة للثقافة. فقد تناولنا أيضا الأدب الشعبي بأنواعه ولهجاته. ورجعنا إلى إنتاج اللهجات العربية والبربرية. وقد لاحظنا أنه أدب يعبر عن مختلف أحزان وآمال الشعب الجزائري أمام جبروت الإحتلال. فكانت موضوعاته هي البكائيات والحب والفخر والإصرار على الأمل والتفاؤل رغم المأساة. وأثناء دراستنا للغة واللهجات ذكرنا أيضا جوانب من الدراسات البربرية. وقد ظهر في الثلث الأخير من عهد الاحتلال إنتاج جزائري باللغة الفرنسية، في القصة والشعر والمقالة والمسرحية. فرأينا أن كتابا في تاريخ الجزائر الثقافي لا بد أن يتتبع أيضا هذا الإنتاج ويدرس كيف تولد وكيف نما وإلى أين كان يسير. ولكن الكتاب يظل في صميمه يمثل الثقافة (الوطنية) المشتركة بين الجزائريين مهما تباعدت أجيالهم واختلفت لهجاتهم وتعددت اللغات الأجنبية التي يستفيدون منها، وهي الثقافة العربية التي انتشرت بالإسلام. ويأتي هذا الكتاب ونحن ندلف إلى القرن الواحد والعشرين. وكم هو

مفيد أن يقف المرء وقفة تأمل نحو الماضي ونحو المستقبل. إن الجزائر قبل سنة 1830 كانت، مثل كل البلاد العربية والإسلامية، تعاني من مرض التخلف والجهل، ومن مرض الجمود الفكري الذي اتفق الحكام والعلماء عندئذ على تأبيده. ولكن التخلف والجهل والجمود لا يناقض وحدة التفكير والشعور. فكان الناس يعيشون أنماطا من العيش يحدوهم فيها فكر واحد، ويتبادلون مشاعر مشتركة، وكانوا يسعدون ويحزنون في حياتهم حسب مقاييس ثقافية وضعوها لأنفسهم يباركها اللسان الواحد والدين الواحد والانتماء الواحد. وذلك هو معنى (الجزأرة) عندئذ، وهو معنى الثقافة الأصلية المشتركة بينهم وبين المغاربة والمشارقة. ويظهر ذلك في توجه الآلاف منهم نحو المغرب والمشرق عندما ادلهم الخطب وغزا العدو بلادهم ونكبوا في دينهم وأموالهم وأهليهم. ومنذ 1830 دخلت الجزائر في نفق مظلم. فكان على أهلها أن يصارعوا قوات الاحتلال العسكرية والثقافية، بل لقد كان عليهم أن يصارعوا من أجل بقاء الذات. وقد فهم أولئك الجزائريون بعد حوالي خمسين سنة من ذلك الصراع أن بقاء الذات يكمن في الخروج من التخلف والجهل والجمود. واكتشفوا أن للفرنسيين ثقافة غير ثقافتهم وأن لهم علوما كانت من قبل مزدهرة عند العرب والمسلمين، وتأكدوا أن خروجهم من النفق المظلم يمر بالسيطرة على العلوم الحديثة، وأن (الإستعمار) رغم أنه شر كله، فإنه لا بد لقهره من التقدم بدل التخلف والعلم بدل الجهل والحركة بدل الجمود. ولكن خروج الجزائريين من هذه الدائرة الشريرة احتاج إلى حوالي خمسين سنة أخرى. وعندما أتيحت لهم الفرصة مع الإستقلال انطلقوا يتعلمون ويتقدمون ويتحركون. وبلغوا في ذلك شوطا حير المعاصرين وأزعج المتربصين بهم، فكاد لهم الكائدون كيدا جعلهم ينحرفون عن سيرهم ويعانون محنة من أخطر ما عرفوه من محن. وها نحن نكتب هذه المقدمة والمحنة ما تزال مشتدة بينما سنوات القرن العشرين تزحف إلى نهايتها، فماذا عن الثقافة الجزائرية بعد سنة

2000؟ إذا كان التنبؤ حميدا في بعض المجالات العلمية فإنه قد يكون ذميما في المجالات الثقافية. إنه من الأكيد أن الشعب الجزائري الذي قد عركته الأيام سيخرج من محنته هذه قويا متماسكا، وسيصحح مساره الفكري، وسينطلق للقرن الواحد والعشرين وهو متمسك بأصالته، متخلصا تماما من التخلف والجهل والجمود، ومتسلحا تماما بالعلم والإيمان واليقظة والفعالية. ونحن على يقين من أن الجيل الحاضر من الجزائريين يدرك أنه لا مكان له بين الآخرين بدون أن ينافسهم في المجالات العلمية والتقنية والإبداعات المختلفة. وليس سرا أن نقول إن الكتاب يبرز الثقافة الجزائرية في ثوب المقاوم الصامد أمام أنواع الدمج والتذويب والنسيان. كما أنه ليس جديدا أن نكرر بأن الفرنسيين قد عملوا منذ وهلة الاحتلال على تهميش ثقافة الجزائر ومحاربة رموزها ومقوماتها ومحاربة القائمين عليها من أهل الأدب والعلم والفن والدين. إن الذين سينظرون إلى الكتاب على أنه سرد وتصنيف وتجميع سيظلمونه. كما أن الذين سينظرون إليه على أنه يمثل موقفا فكريا (إيديولوجيا) ضيقا سيظلمونه أيضا. فهو في الواقع كتاب يعالج آراء الجزائريين والفرنسيين في كثير من الحذر وأحيانا في كثير من الموافقة والتسامح. على أن الطابع الموسوعي واضح في الكتاب كما ألمعنا إلى ذلك. والمؤلف لا يزعم أنه أحاط بكل ما تناوله من معارف على حد سواء، وأنه خبير بكل موضوع تعرض إليه. فقد توقفنا عند مسائل عديدة إما لعدم توفر مادتها أو لعدم اختصاصنا فيها. ولكن حسبنا أننا مهدنا الطريق أمام الباحثين الذين نتمنى أن يواصلوا ما بدأناه، أو أن يصححوا ما أخطأنا فيه. وهناك نقطة طالما أشرنا إليها في كتبنا الأخرى، ونوذ أن نكررها، وهي عزوف الجزائريين عن الكتابة وتدوين حياتهم بكل ما فيها. ولا ينسحب هذا العزوف على فترة الإحتلال فقط، بل أننا وجدنا الظاهرة عامة في مختلف

العصور. ولا نريد الآن أن ندرس أسباب الظاهرة، ولكننا ننبه الجيل الجديد إلى أن عدم الكتابة والتدوين قد ترك المجال فارغا أمام المغرضين والمؤولين لتاريخ البلاد وخصائص أهلها والطعن في قدرتهم الفكرية. وسيلاحظ الجيل الحاضر كيف وظف الفرنسيون وغيرهم من الأجانب، عزوف الجزائريين عن الكتابة، فاعطوا تفاسير لتطورهم لا تنصفهم. وما نرجوه هو أن يحفز كتابنا جيل القرن الواحد والعشرين على الكتابة في مختلف المجالات وتصحيح ما تقوله المتقولون والخراصون عن وطنهم وأجدادهم. وإن خوف الجزائريين من تدوين التاريخ والكلمة المكتوبة قد أفضى بهم إلى حساسية مفرطة من النقد، فهم لا يتسامحون مع الناقد ولا يظهرون الإستعداد للجدل والمناقشة، بل يريدون من الكاتب أن (يقول خيرا أو يسكت)، وهذه الحكمة إن جازت في الأخلاق فإنها لا تجوز في العلم والتاريخ، فنحن مثلا قد نقلنا آراء وجلونا مواقف وعلقنا بما بدا لنا أنه أقرب إلى منطوق ومفهوم النصوص والظروف. وكل ما نرجوه أن يتقبل البعض ذلك منا بصدر رحب، وأن يناقشوه إن ظهر لهم أنه خلاف ما انتهينا إليه، وأن يتأكدوا أن السلف لم يكونوا ملائكة ولا شياطين وإنما كانوا بشرا مثلنا، تحكم فيهم الجهل والهوى أحيانا، وأجبرتهم الحوادث والظروف أحيانا أخرى. فليعتبر شبابنا بهم جميعا، في نجاحهم وخطئهم. ومن حق القارئ أن يعرف أن هذا الكتاب قد ولد مرتين: فقد كتبت منه ثلاثة فصول ونصفا عندما كنت أستاذا زائرا في جامعة ميشيقان سنة 1988. وأثناء رجوعي إلى الوطن ضاعت محفظتي التي فيها الفصول المكتوبة وبطاقات الفصول الأخرى ومراجع وأوراق ومصورات كثيرة. وكانت النكبة التي ذكرناها والتي هزت كياني وشلت فكري فترة طويلة (¬1). ثم أمرع الفكر ورجع الأمل، فأخذنا في تصفح الذاكرة بحثا عن المراجع التي عرفناها من قبل والمخطوطات التي سافرنا إليها. وهكذا استأنفنا المسيرة في ¬

_ (¬1) انظر ما كتبناه عن هذه النكبة في كتابنا (في الجدل الثقافي)، تونس، 1993.

البحث. وقد واتت الفرصة يوم تحصلنا على منحة (فولبرايت) فسافرنا إلى أمريكا واستقبلتنا جامعة منيسوتا أستاذا زائرا، سنة 1993. وفي هذه الجامعة ولد الكتاب ميلاده الثاني في خلوة (كيرول) بمكتبة ويلسون. فقضينا فيها الأيام وجزءا من الليالي على مدى ثلاث سنوات بين البحث والتحرير والتنقيح والتصحيح. ويجب القول أن خطة الكتاب الأصلية قد طرأ عليها تعديل كبير بين الميلاد الأول والثاني. فقد كانت الخطة الأولى تشغل جزئين فقط ولا تتوسع في التعليم والتصوف والإستشراق ونحوها من الموضوعات. فإذا بالخطة الجديدة تشمل كل ذلك وتتوسع فيه وفي غيره، فأصبح الكتاب في عدة أجزاء، كما فصلنا. وصدق الله العظيم إذ يقول: {وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم}. فإذا كان هدف المعتدي على المحفظة هو عرقلتي بعض الوقت فقد نجح، أما إذا كان هدفه هو سحق المشروع فقد خاب (¬1). بعد استئنافنا العمل في الكتاب مر إنجازه بثلاث مراحل: المرحلة الأولى جمعنا من الجزائر وغيرها ما استطعنا من مادته العلمية. ثم سافرنا إلى أمريكا واستمر عملنا في جمع المادة أيضا بعد أن توفرت شروط البحث. وكنا في سباق مع الزمن إذ كان علينا أن ننجز أكبر نصيب من الكتاب في ظرف تسعة أشهر (مدة المنحة). وبعد حوالي أربعة أشهر شرعت في تسويد كل فصل توفرت عندي مادته أو قاربت. فكنت أحرر ما استطعت في الصباح وأواصل البحث في المساء. وأثناء ذلك كنت أجد معلومات إضافية تهم الفصول التي حررتها فأضعها في حزم موزعة على الفصول المسودة. ثم مددت إقامتي بدون منحة، فكان علي أن أدرس بعض الوقت لتدبير العيش بينما حافظت على النظام السابق في التحرير والبحث. فلم يحن يناير 1995 حتى انتهيت من تسويد كل الفصول تقريبا. ¬

_ (¬1) يمكنني القول إنني عوضت تقريبا كل ما ضاع مني عدا شيئا واحدا، وهو يومياتي، إذ من المستحيل استعادة ما فيها من الأسفار والمشاهدات والإنطباعات والأحداث من الذاكرة وحدها. وهي تضم سنوات 1984 - 1988.

ثم توقفت فترة انتابتني فيها الحيرة حول المرحلة الثانية: هل أترك العمل كما هو مسود إلى أن أرجع إلى الجزائر حيث بعض المواد الإضافية التي أعرف أنها عندي أو عند الآخرين؟ ولكن متى ستكون عودتي والأوضاع كما هي والزمن لا يرحم؟ وأثناء حيرتي كنت أملأ الفراغ بمواصلة البحث في مظان أخرى سواء في الكتب الواردة علي عن طريق الإستعارة بين المكتبات أو عن طريق المراسلات مع الأصدقاء والأقارب في الجزائر. وقد ظلت مكتبة جامعة منيسوتا أيضا معينا لا ينضب لبحثي. وحين بدا لي أن الرجوع إلى الجزائر سيطول أمره وأن إرادة البحث والتحرير عندي ما تزال نشطة قررت الشروع في المرحلة الثانية من المشروع، وهي مراجعة كل فصل وتصحيحه وتنقيحه والإضافة إليه بناء على المعلومات الجديدة. وقد استغرقت هذه العملية حوالي سنة أخرى. وأثناء ذلك كنت أكتشف أيضا بعض الثغراب وأتردد أمام بعض التواريخ والأسماء والعبارات والمراجع فقررت أن أسجل ذلك إلى حين الطبع. والواقع أننا منذ السبعينات ونحن نتلقى المراسلات والوثائق والآراء والتسهيلات لإنجاز هذا الكتاب. وعندما صدر الجزآن الأولان (1981) راسلنا عدد من العلماء والمهتمين بصور من الوثائق وبالمعلومات المتعلقة بالمخطوطات والعائلات. وقد صدم الغيورون على الثقافة الوطنية عندما وقعت نكبة المحفظة وواسونا برسائلهم وهواتفهم. وتأثر بعضهم بما حدث فأعادوا مدنا بالمعلومات، ولكن بعضهم اعتراه الفشل والقنوط - كما اعترانا - فأحجم عن مراسلتنا. وإنه لمن المستحيل علينا الآن أن نورد قائمة بالأفراد والمؤسسات التي ساهمت من قريب أو من بعيد في إنجاز الكتاب، قبل نكبة المحفظة وبعدها. على أنه لا يمكنني أن أغفل مساهمة المرحومين المهدي البوعبدلي وعلي أمقران السحنوني. وتنويها بفضلهما ذكرتهما كلما رجعت إلى مراسلاتهما. وكان الأخ محمد الحسن عليلي نعم الرفد لي وأنا في الغربة إذ أمدني

بمصورات ومنسوخات كثيرة وكان بريده العلمي لا يكاد ينقطع عني. وكان الشيخ محمد الطاهر التليلي حاضرا لإجابتي كلما توجهت إليه بالسؤال رغم بعد المسافة وتقدم السن به. وكان أخي علي سعد الله واسطة لي في الحصول على معلومات هامة، ولا بد من التنويه بأبحاث بعض طلابنا في معهد التاريخ إذ استفدت منها فوائد جمة في بعض الفصول. وأخص بالذكر محمد العربي معريش وأحمد مريوش، وقد راسلنا كل منهما بمعلومات إضافية طلبناها منه. كما استفدت من بحث إبراهيم الونيسي حول جريدة المبشر، ومن أطروحة عبد الحميد زوزو المخطوطة عن الأوراس. أما أخي خالد (أبو بكر) سعد الله فقد كان هو الواسطة في كل مراسلاتي الأخرى، وكان هو المتلقي للفصول بعد تحريرها، والمنسق مع محمد الطيب عقاب في رقن الكتاب تباعا. ولا بد من إشادة خاصة بجهد الأخ عقاب في الرقن إذ خصص لي الكثير من وقته، وهو من القلائل الذين يحسنون قراءة خطي في المسودات. وإن الشكر والإمتنان يذهبان أيضا إلى عدد من المؤسسات. فقد فرغني معهد التاريخ بالجزائر فترة أطول من المعتاد وتحمل زملائي وطلابي فيه العبء أكبر في التدريس والإشراف على الأطروحات نيابة عني في غيابي. وأخص بالذكر في هذا المجال الدكتور ناصر الدين سعيدوني. وقد تفهموا بصدر رحب مهمتي وأبعاد مشروعي. ووافقت جامعة الجزائر على التفرغ، ودعمت وزارة التعليم العالي موافقة لجنتها الخاصة بالتعاون على منحة فولبرايت. وسهلت مؤسسة فولبرايت بمختلف موظفيها في الجزائر وأمريكا، مهمتي في السفر والإقامة. وقدرت مهمتي العلمية حق قدرها. وكان قسم التاريخ بجامعة منيسوتا كريما معي، فخصص لي درسا أعيش من دخله عندما توقفت المنحة. ومنحتني مكتبة ويلسون بالجامعة كل التسهيلات في استعارة الكتب واستعمال أجهزة الحاسوب (الكومبيوتر) والتصوير، ولعل من أكبر التسهيلات التي وجدتها في هذه المكتبة هو الحصول على الكتب والمجلات عن طريق الإستعارة بينها وبين المكتبات الأخرى، وهي خدمة جليلة لا

يعرف قدرها إلا الباحثون المجربون. ومن الواجب كذلك التنويه ببول بامفورد Paul Bamford الأستاذ المتقاعد بقسم التاريخ والذ! عينته مؤسسة فولبرايت ليكون زميلا لي أثناء تمتعي بالمنحة. فلقد وفر لي شروط الإقامة وزكى مطالبي، وتخلى لي عن خلوته الخاصة في مكتبة ويلسون بالجامعة، وهي الخلوة التي حررت فيها الكتاب كما ذكرت. ولو اتسع المقام لذكرت عددا آخر من الأساتذة الذين زكوني عندما تقدمت للتدريس، وأخص بالذكر توماس نونان T. Noonan، وجيمس تراسي J. Tracy وكيم مانهالند K. Munholland (وهو أحد أساتذتي الذين درست عليهم في الستينات). ومهما نوهت بفضل زوجتي، أم أحمد، فلن أوفيها حقها، فهي التي وفرت الشروط المعنوية لإنجاز الكتاب. وكانت تحفزني وتشجعني كلما رجعت إلى المنزل خائر القوى، وكان دورها في تضميد جراح نكبة المحفظة وفي الإنطلاقة الجديدة دورا فعالا. وطالما ساهمت معي في مناقشة الأفكار، وفي وضع الخطة وترجمة بعض العبارات الأجنبية. وأثناء تحريري للكتاب توفيت والدتي، هالي العبيدية، رحمها الله، وكان بيني وبينها المحيط والقارات، وكانت تنتظر عودتي وأنتظر رؤيتها، وكنت أمني نفسي بحمل الكتاب إليها لتقبله، كما كانت تفعل مع كتبي الأخرى، ولكن الموت تخطفها فلم أستطع رؤيتها في لحظات الحياة الأخيرة، بل إن أبناءها أشقائي في الجزائر لم يدركوها إلا بعد أن فارقت الحياة. فإلى روحها الطاهرة أقدم هذا الكتاب قربانا لعلها تغفر لي خطيئتي يوم حذرتني من السفر، ولكني سافرت، لكي أنجز هذا التذكار للجزائر والعروبة والإسلام ... ولها. أبو القاسم سعد الله مدينة مينيابلس، أول أبريل 1996

الفصل الأول التعليم في المدارس القرآنية والمساجد

الفصل الأول التعليم في المدارس القرآنية والمساجد

مدخل

مدخل خصصنا هذا الفصل للتعليم العربي الإسلامي (الأصلي) وكذلك الفصل الذي يليه. وهو تعليم عربي من حيث اللغة والثقافة وتعليم إسلامي من حيث المحتوى والروح. وكان ينعت بالتعليم التقليدي أحيانا باعتباره استمرارا للتعليم السائد خلال العهد العثماني، ولم يدخله التطور إلا عند ظهور الحركة الإصلاحية في القرن العشرين، رغم تأثر بعضه بالمدارس الفرنسية الرسمية. ومن الممكن وصفه بالتعليم الأصلي باعتباره تعليما يمثل المنهج التربوي الذي مارسته أجيال من المتعلمين، وباعتباره حافظ على التراث القومي في وجه الغزو الحضاري الأجنبي. وسواء كان اسمه هذا أو ذاك فقد كان تعليما موازيا للمدرسة الفرنسية والتأثير الفرنسي، وكان أهله يكافحون به بعد عجزهم عن مكافحة الاستعمار والاحتلال بالسلاح. وأبرز أماكنه هي المدارس الابتدائية القرآنية (المكاتب - الكتاتيب)، ودروس المساجد التقليدية. وقد كنا سندخل في هذا التعليم المدارس الشرعية الفرنسية المؤسسة سنة 1850 لولا أنها فرنسية الروح والإشراف منذ إنشائها. ثم أنها منذ 1876 أصبحت تحت الإدارة الفرنسية المحضة ولها برنامج ومنهج فرنسي كاملان، رغم تخريجها إطارات جزائرية لخدمة الديانة الإسلامية والقضاء والتعليم. وبالإضافة إلى المدارس القرآنية (الكتاتيب) ودروس المساجد سنعالج في هذا الفصل حالة التعليم غداة الاحتلال، وأعيان المدرسين في مختلف الولايات القديمة (الجزائر، ووهران وقسنطينة) وكذلك بعض نواحي

الجنوب، في المدن أو غيرها. كما سنتناول بعض الجوانب المتعلقة بالتعليم مثل المرتبات وإعداد التلاميذ والبرنامج الدراسي. وقد كشفت تقارير المفتشين (وهم مستشرقون مرتبطون بالإدارة الاستعمارية) عن صمود المقاومة الثقافية وموقف المتعلمين من توجيهات الإدارة. إن عمق الثقافة الوطنية يكمن في دراسة تفاعلاتها مع مخططات الاستعمار الفرنسي، وقد كانت تمثل خطا موازيا للثقافة الفرنسية إلى أن ظهرت الحركة الإصلاحية، فاشتد التنافس بين الثقافتين وساعد ظهور الأحزاب الوطنية على دعم هذه المقاومة. إن هذا الفصل لن يغطي كل أنواع التعليم الأصلي، فقد كان علينا أن نخصص فصلا للتعليم في الزوايا والمدارس الحرة التي أنشأها بعض الرواد ثم الحركة الإصلاحية منذ بداية القرن، وبعض الأحزاب بعد الحرب العالمية الثانية. فالفصلان اللذان يتناولان التعليم الأصلي يكمل بعضهما البعض إذن. لقد كنا عالجنا موضوع التعليم العربي الإسلامي خلال العهد العثماني بأنواعه وأطواره، فلا سبيل إلى الرجوع إليه هنا (¬1). ولذلك فأننا سنبدأ حديثنا عن التعليم منذ الاحتلال الفرنسي لنعرف انطباع الفرنسيين وغيرهم أثناء السنوات الأولى من (اكتشافهم) للجزائر ومجتمعها. ثم نتتبع تطور هذا التعليم في عهد الاحتلال وكيف استجاب أو تفاعل مع الضغوط الجديدة التي فرضتها السلطات الفرنسية، ونعرف الدور الذي قام به في استمرار الثقافة وتغذية الروح الوطنية إلى ظهور حركة النهضة والإصلاح التي تنادى فيها الجميع بالتعليم الوطني القائم على اللغة العربية والروح الإسلامية والأخذ بالعلوم الحديثة. وقبل أن نتحدث عن الآراء والتقارير التي كتبت حول التعليم العربي الإسلامي (الأصلي) من قبل الفرنسيين أثناء اكتشافهم للحياة الجزائرية، دعنا نذكر بأنه لا يمكن تصور مسيرة هذا النوع من التعليم دون معرفة العلاقة بينه ¬

_ (¬1) انظر الجزء الأول من (التاريخ الثقافي)، ط.2، 1985.

وبين أملاك الوقف. إن الأوقاف (الأحباس) كانت هي المصدر الأساسي للتعليم والمعلمين والمكتبات والمساجد والحركة العلمية على العموم. ومنذ اللحظة الأولى للاحتلال صادرت السلطات الفرنسية جميع أملاك الوقف وضمتها لأملاك الدولة الفرنسية المعروفة (بالدومين). ومن ثمة نضب معين التعليم والمعلمين وتوقفت الحياة العلمية وشغرت المساجد والمدارس والزوايا. وأصبح بعض رجال الدين موظفين عند الدولة الفرنسية تمنحهم إدارتها في الجزائر رواتب محددة بعد أن قل عددهم وتدجنت أفكارهم. وقد درسنا في فصل آخر موضوع الأوقاف ومال ريعها وحرمان المستفيدين منها بطريقة منافية لشروط الوقف. ولكن وجب التنبيه على ضرورة الربط بين هذا الفصل وذاك. كل الذين درسوا موضوع التعليم في الجزائر غداة الاحتلال اندهشوا من كثرة المدارس وحرية التعليم وكثرة المتعلمين ووفرة الوسائل من أجل التعلم، كالمداخيل الوقفية، ومحلات الأوقاف والأجور العالية. وفي المدن كما في الأرياف كان التعليم جزءا أساسيا من حياة الناس. وكان المعلم والمتعلم موضع تقدير الجميع، وحب العلم كان جزءا من العبادة. كما اندهش أولئك من وفرة المدارس التي كانت تزيد ربما عن نسبة السكان. وكان التعليم حرا وخاصا ويكاد يكون مجانيا وإجباريا قبل أن تشرعه فرنسا لأبنائها بعد 1873. فالسيد والمسود والحاكم والمحكوم كلهم سواء في البذل من أجل تعليم أبنائهم في ديموقراطية متناهية، إذ يلتقي أولاد الأغنياء وأولاد الفقراء على صعيد واحد ويتلقون نفس البرنامج على يد نفس المعلم، وبنفس اللغة والروح. وربما وظف الأغنياء معلمين (مؤدبين) خاصين لأبنائهم. ولكن هذا الوجه المشع لصورة التعليم غداة الاحتلال لا يخلو أيضا من عيوب شأن كل التجارب الإنسانية. ونحن وإن كنا سنعرض إلى هذه العيوب فيما سيأتي، فإننا نبادر إلى القول بأن التعليم، كأهله، لم يتطور مع الزمان وحاجة الإنسان إلى التقدم والابتكار وتقليد التجارب الناجحة عند الشعوب

الأخرى. حقيقة أن الجميع تقريبا كانوا يعرفون القراءة والكتابة، وتكاد الجزائر تخلو عندئذ من الأمية، ولكن الذين يواصلون دراستهم إلى التعليم العالي عدد قليل. وكانت طرق اكتشاف المواهب ضعيفة أو معدومة. وكان حفظ القرآن الكريم ومعرفة اللغة العربية نوعا من الت عبد وجزءا من التعمق في الدين وليس وسيلة لفهم الحياة وخوضها والصراع الفكري مع الأمم الأخرى. وقد اختفت من البرنامج أو كادت دراسة التاريخ الإسلامي والعلوم الطبيعية والرياضيات والحساب والجبر والطب وعلوم الفلاحة والتجارة. وحين سيطر الفرنسيون على الوضع في الجزائر - بعد 1850 - فرضوا أيضا شروطهم على الاستمرار في تدريس اللغة العربية والعلوم الإنسانية. فقد شجعوا اللهجات العربية والبربرية الدارجة، لإماتة الفصحى، وفرضوا اللغة الفرنسية في المدارس الابتدائية وغيرها من مؤسسات التعليم مثل مدرسة ترشيح المعلمين والمدارس الشرعية. ثم تدخلوا أيضا في طريقة تدريس الفقه فحذفوا منه بعض الأبواب فأصبح ممنوعا مثلا على المدرس أن يدرس باب الجهاد، ومنعوا أحيانا تدريس التوحيد، وأجبروا المعلمين على تحفيظ القرآن للأبناء دون تفسيره لهم، وطاردوا حتى المداح أو الشاعر الشعبي الذي ينشد في الأسواق والحفلات لكيلا يتعرض للتاريخ والغزوات والأبطال. ومع ذلك كان مسؤولو هذا التعليم يقاومون سرا وعلانية، كما سنرى، مستخدمين مختلف الوسائل لتمرير رسالتهم التربوية، ذلك أن التعليم ليس بالقلم والقرطاس فقط، ولكن بالمثل الأعلى والكلمات المعبرة والتوجيه القويم والنصائح الخالصة. وإذا كان الفرنسيون قادرين على مراقبة التعليم العربي الإسلامي في المساجد والروايا والمكاتب، فإنهم لم يكونوا قادرين على مراقبة التربية والتوجيه الصالح اللذين يبثهما المعلمون في تلاميذهم. ومن هؤلاء ستكون البذرة الخيرة للنهضة والحركة الإصلاحية.

حالة التعليم العربي الإسلامي غداة الاحتلال

حالة التعليم العربي الإسلامي غداة الاحتلال بعد مصادرة الأوقاف ونفي العديد من العلماء وترهيب الباقين، ترك الفرنسيون التعليم يموت دون الإعلان عن ذلك رسميا. اشتغلوا بالاستيلاء على الأراضي وتوطين أبنائهم فيها ومحاربة المقاومين، وأهملوا كل ما يتعلق بتعليم الجزائريين. وبعد حوالي عشر سنوات أخذ بعض مسؤولي المكاتب العربية (وهم عسكريون) يكتبون التقارير عن وضع التعليم عند المسلمين (الجزائريين) وموقفهم من المدرسة الفرنسية عموما. ومن هذه الكتابات تقرير الجنرال بيدو، وتقرير فاليري، وتقرير الجنرال درماس، وتقرير ليبيشو، ثم تقرير ديهو تبول. ففي فترة الأربعينات من القرن الماضي، نصبت لجان رسمية، وزار الجزائر أمثال أليكسس دي طوكفيل، وخرجوا جميعا برأي عن تجربة التعليم في الجزائر ماضيا وحاضرا. ويتلخص هذا الرأي فيما يلي: 1 - الاستمرار في إهمال التعليم العربي الإسلامي وعدم رد الأوقاف إليه، رغم تشبث السكان به ومقاطعتهم المدرسة الفرنسية. 2 - إنشاء تعليم مزدوج خاص بالجزائريين تدرس فيه اللغة العربية على أن تكون فيه الفرنسية وعلومها هي السيدة، ابتداء من سنة 1850. 3 - ترك التعليم في الزوايا الريفية والمعمرات على ما هو عليه مع مراقبة برنامجه ومعلميه حتى لا تكون الزوايا مراكز لمعاداة الفرنسيين. وقد اعترفت جميع التقارير بأن التعليم العربي الإسلامي كان منتشرا بين الجزائريين بشكل ملفت للنظر قبل الاحتلال، وأنهم بقوا متشبثين به رغم مصادرة الأوقاف وهجرة العلماء أو نفيهم. يقول لويس رين. كان القرآن في الجزائر هو كل شيء، هو المعلم والتعليم. وكان الفرنسيون كلما حاولوا مشروع إصلاح فكروا في عدم المس بالمشاعر الإسلامية، لكن المتعلمين (الجزائريين) الخبراء أصبحوا بمرور

الزمان، نادرين مما سهل على فرنسا تمرير مشاريعها. لقد كان هدف فرنسا منذ 1830 هو الحط من التعليم القرآني وتعويضه تدريجيا بتعليم أكثر عقلنة وأكثر علمية، وبالخصوص أكثر فرنسة (فرنسية). وقد نجحت فرنسا (وهو يكتب سنة 1884) في الفصل بين الدين والتعليم اللذين كانا في الماضي لا ينفصلان (¬1). وفي الوثائق الفرنسية الرسمية أن التعليم العربي الإسلامي كان على العموم مزدهرا سنة 1830. وهو يتألف من مستويات التعليم الثلاث المعروفة اليوم: الابتدائي والثانوي والعالي. وكان التعليم الثانوي والعالي مجانا، أما الابتدائي فقد كان بأجر اختياري ضعيف، وفي أغلب الأحيان يدفع الأجر عينا. وجميع أنواع التعليم لا تقدم إليها الدولة (الجزائرية) أية مساعدة، فكان تعليما حرا بمعنى الكلمة. وكانت المدارس متصلة بالمساجد في أغلب الأحيان، ويشرف عليها وكلاء الشؤون الدينية، وهي تتغذي من أملاك الأوقاف الخيرية. ولكن منذ الاحتلال دخلت أملاك الأوقاف في أملاك الدولة الفرنسية، فأهملت المدارس الإسلامية، وتوقف التعليم الابتدائي والثانوي، ولم تبق إلا بعض الزوايا البعيدة والمعزولة حيث الدروس العليا (¬2). ويضيف تقرير آخر أن المعلمين كانوا أيضا أحرارا. فهم لا يخضعون إلى أية ترقية، وشهرتهم هي التي تدل عليهم، وهذه الشهرة تكون في العلم والأخلاق الكريمة والسلوك الجيد، كما أنهم كانوا يحصلون على الشهادة (الإجازة) من أستاذ معروف. وكانت المدارس كثيرة، ورواتب المعلمين مضمونة من مداخيل المساجد (الوقف). وكان مشاهير الأساتذة يأتيهم المتعلمون من أماكن بعيدة - وقد أقيمت الزوايا المجاورة للمساجد لإيواء أمثال هؤلاء الغرباء. وكان عدد هذه الزوايا في مدينة الجزائر وحدها ستا، اثنتان لأهل الشرق وثلاثة لأهل الغرب وواحدة لأهل المدينة (الجزائر). وقد ¬

_ (¬1) لويس رين (مرابطون وإخوان)، الجزائر، 1884، ص 6. (¬2) السجل (طابلو)، سنة 1846 - 1849، ص 194.

اختفت جميعها ولم تبق منها بعد سنة 1846 سوى واحدة كانت تقع في سوق الجمعة. وكل هذه الزوايا كانت تصونها وتتعهدها أموال الأوقاف قبل مصادرتها. وكذلك لم يبق من المدارس القديمة إلا عدد ضئيل، وأصبح التعليم في الباقي منها ناقصا. واختفت كثير من المساجد أيضا بالهدم والتحويل عن الغرض الأصلي. أما خارج مدينة الجزائر، فإن التقرير يذكر أن المدارس الشهيرة والزوايا كانت متوفرة ثم اختفت نتيجة للاحتلال والإهمال ومصادرة الأوقاف وهجرة العلماء أو نفيهم. ومن هذه مدرسة صالح باي بقسنطينة، ومدرسة قرومة الواقعة على وادي الزيتون شرقي العاصمة، ومدرسة (زاوية) سيدي محمد بن عبد الرحمن بجرجرة، وبسهل متيجة كانت زاوية مربوني بالأربعاء، وزاوية سيدي خير الدين بين الخشنة وبني موسى، وزاوية النميلي في بني موسى، وزاوية سيدي السعيد بين بوفاريك والدويرة، وزاوية سيدي الحبشي بأولاد منديل، ثم زاوية البراكنة قرب شرشال (¬1). ويضيف التقرير أن الزوايا الواقعة في أوساط القبائل والأعراش قد اختفت أيضا نتيجة الحروب المريرة والحملات العسكرية الفرنسية، إذ تشتت المعلمون والمتعلمون، واختفت المخطوطات. كما أن المعلمين عموما تضاءل عددهم حتى في المدن لضعف الرواتب وعدم انتظام الدروس واستقرار الحياة العلمية. كان برنامج التعليم يكمل بعضه بعضا. ففي الابتدائي يحفظ الطفل كل أو أجزاء من القرآن الكريم، ويتقن الكتابة والقراءة، ويتعلم مبادئ الدين، ويحفظ المتون والنصوص الضرورية. وفي الثانوي يواصل المطالعة والفقه والتوحيد ودراسة النحو والصرف وأوليات التفسير ومصطلح الحديث والسيرة النبوية. وأما الدراسات العليا فتشمل الفقه أيضا وأصول الدين والتوحيد ¬

_ (¬1) تقرير بعنوان (التعليم العمومي في الجزائر)، نشره عبد الحميد زوزو (نصوص)، الجزائر، 1982، ص 205 - 208، عن تقرير بالأرشيف الفرنسي 235 R.M.G.H. ولعله هو تقرير الجنرال دوماس، انظر أيضا رسالة إبراهيم الونيسي عن جريدة (المبشر).

والتاريخ الإسلامي وبعض الحساب والفلك والجغرافية والطب والتاريخ الطبيعي. وقد لاحظت التقارير أن التعليم الأول كان يحصل عليه أبناء الطبقة الغنية وكذلك التعليم العالي الذي لا يواصله عادة إلا الطبقة التي كرست حياتها للعلم حتى أصبح فيها وراثة. والمقصود هنا هو علم الدين. وقد أضاف بعضهم إلى مواد التعليم العالي الهندسة، وعلم الرسم والزخرفة والخطاطة وكتابة الوثائق (¬1). والمدارس لم تندثر دفعة واحدة. ففي العاصمة كانت حوالي مائة مدرسة سنة 1830 لم يبق منها سنة 1840 سوى حوالي 24 مدرسة (مسيد) يتردد عليها 600 تلميذ. وفي سنة 1846 انخفض عدد هذه المدارس إلى 14 فقط يتردد عليها بين 320 و 400 تلميذ. ومع ذلك فإن الأولياء كانوا يفضلون هذا النوع من المدارس لأولادهم على المدرسة الفرنسية. لقد كانت المدارس تحت إشراف (الطلبة) (¬2) الذين يعلمون التلاميذ اللغة العربية والقرآن الكريم ومبادئ الدين. وهي منتشرة بكثرة خارج العاصمة، سيما قسنطينة ومنطقة زواوة. ويقول التقرير أن هذه المدارس بقيت حتى الآن (1846) خارج مراقبة السلطات الفرنسية. وقد أوصى التقرير بضرورة وضع كل أنواع التعليم تحت الرقابة، لأن (الوجود الفرنسي لا يمكن أن يتأسس نهائيا ... إلا إذا تولت السلطة المديرة تعليم كل الأجيال الجديدة في البلاد وأمسكته بيدها) (¬3). وسنذكر عدد المدارس والزوايا بعد قليل. وفي تقرير أوغيست ليبيشو عن التعليم وصف (حي) للتجربة الإسلامية فيه ومدى معاناته بعد الاحتلال. وكان السيد ليبيشو نفسه مسؤولا عن التعليم ¬

_ (¬1) السجل (طابلو)، 1846 - 1849، ص 194، وكذلك زوزو، مرجع سابق، ص 208. (¬2) تنطق بضم الطاء وتشديدها وتسكين اللام، وهم المعلمون أو المتعلمون عموما. (¬3) السجل (طابلو) سنة 1845 - 1846، ص 113.

في الجزائر. وقد شهد أن التعليم العربي - الإسلامي كان منتشرا في المدن والأرياف وحتى في الخيام. وكانت المدارس والزوايا تضم المخطوطات أيضا. ولكن كل ذلك تغير، حسب رأيه، فالحملات العسكرية بعثرت كل تجمعات الطلبة والعلماء. ولم يبق إلا بعض المدارس التي لا تقدم سوى تعليم غير كامل على الإطلاق. ذلك أن دراسة الدين قد أهملت، بينما لا يمكن فهم الدين إلا بالرجوع إلى الشروح التي يجب لفهمها إتقان اللغة العربية. وأصبح المتعلمون نادرين تدريجيا. وبذلك كثر أعداء فرنسا، حسب قوله. أما عن المخطوطات فقد قال أنها أيضا تبعثرت وأتلفت في معظمها، وكانت هي أساس التعليم (¬1). وقد جاء في تقرير الجنرال دوماس أنه بعد عشرين سنة من الاحتلال لم يعد في إمكان السلطات الفرنسية أن تجد من توظفه في القضاء إلا بصعوبة. وتمثل ذلك في الشؤون الدينية والتعليمية الأخرى. أما عن الأدب والثقافة والفن فلا حديث. وتؤكد مختلف الكتابات الفرنسية على هذا التحول الذي أصاب التعليم العربي - الإسلامي نتيجة الاحتلال. وقد جاء في إحداها أن التعليم التقليدي (وهو هذا الذي سميناه الأصلي) قد توقف عن أداء مهمته، لظروف الحرب من جهة، والاستيلاء على الأوقاف من جهة أخرى، وهجرة المعلمين أو نفيهم من جهة ثالثة. فقد خربت المدارس الثانوية (وهي التي كان منها يتخرج العلماء)، وغادر المتعلمون الزوايا القريبة من مراكز الاحتلال. والأساتذة إما اكتفوا بأداء الشعائر الدينية دون التعليم وإما انتقلوا إلى أماكن غير محتلة. وامتنع (الأهالي) عن إرسال أولادهم إلى المدرسة الفرنسية، لأن المدرسة في نظرهم هي حيث يتعلم الطفل القرآن والصلوات وقواعد الدين، بينما المدرسة الفرنسية لا تعلمهم إلا اللغة وربما تعلمهم أيضا مبادئ دين آخر. ومن ثمة اقترح صاحب التقرير (وهو غير مذكور): العودة إلى النظام القديم في التعليم الابتدائي والثانوي (بعد خمسة عشر عاما من الإهمال، لأن ¬

_ (¬1) عبد الحميد زوزو، أطروحة الدكتوراه، مخطوطة، ص 726، هامش 1.

التقرير مكتوب حوالي سنة 1845). مع الرقابة التامة والدقيقة للفرنسيين على هذا التعليم حتى في اختيار المؤدبين في الابتدائي والمدرسين في الثانوي، كما اقترح صاحب التقرير إدخال بعض المواد كالحساب والجغرافية في برنامج التعليم الابتدائي، وإدخال التاريخ والفيزياء والكيمياء إلى برنامج الثانوي. واقترح كذلك جلب المعلمين من تونس ومصر، لخلو الجزائر منهم عندئذ أو لعداوتهم للفرنسيين. أما بالنسبة للتعليم العالي فقد اقترح التقرير تركه إلى حين آخر، أي عندما يصل الجيل الذي سيتكون تحت الإدارة الفرنسية إلى المرحلة العالية. ومعنى ذلك توقيف دورة الحياة العلمية. وما دام القرآن نفسه قد مجد العلم فقد اقترح صاحب التقرير أن يبقي التعليم التقليدي على ما هو عليه في المدارس الصناعية والزراعية (الفرنسية) لأن المسلمين سيقبلون عليه باعتباره واجبا دينيا. ومن الطبيعي أن يوصي التقرير بأن يكون الهدف من كل هذه المحاولات هو خدمة الوجود الفرنسي في الجزائر (¬1). وبعد احتلال قسنطينة كتب الجنرال بيدو تقريرا عن التعليم فيها، وقدمه إلى وزير الحرب. وقد جاء فيه أن التعليم في قسنطينة كان منتشرا بصورة غير متوقعة للفرنسيين، فقد كان فيها مدارس من مختلف المستويات الإقليمية. فمدارسها الثانوية والعالية تضم بين 600 و 700 تلميذ يدرسون علوم التفسير (القرآن) وعلوم الحديث، ومحاضرات في الحساب والفلك والبلاغة والفلسفة. كما يوجد بها 95 مدرسة ابتدائية (مكتب) يتردد عليها بين 1، 300 و 1، 400 طفل. وكانت دروس المساجد (وعددها 35 مسجدا) والمدارس الثانوية (وعددها سبع) غاصة بالمستمعين، والأساتذة لهم شهرة تجلب إليهم الطلبة من بعيد. والمدارس الابتدائية تابعة للمسجد أو الزاوية. والنفقات جميعا كانت من الأوقاف المخصصة للمسجد أو الزاوية. وكان المؤدب يعينه ¬

_ (¬1) تقرير غير موقع وغير مؤرخ من ثلاث عشرة صفحة بعنوان (مذكرة عن التعليم الإسلامي العام)، أرشيف إيكس (فرنسا) 1732 - F 80. ولكن الظروف التاريخية تجعلنا نرجح أنه كتب ربما سنة 1845.

ناظر الأوقاف بوصية من العائلات، وهو (المؤدب) يقوم بدور الإمام والحزاب أيضا. وله منزل خاص به، وله أجر من أولياء التلاميذ يقدر بحوالي 14 ف. بالإضافة إلى الهدايا التي يتلقاها بمناسبة الأعياد وعددها أحد عشر عيدا، ويتلقى أيضا تبرعات مختلفة سيما عندما يحفظ التلميذ أجزاء من القرآن. وبذلك قدر دخل المعلم (المؤدب) بحوالي ثلاثين فرنكا سنويا، زيادة على عطاءات أهل الخير والإحسان. ولكن منذ الاحتلال تدهور كل ذلك. ففي عشر سنوات (1847) (¬1)، كاد يختفي التعليم في هذه المدينة (قسنطينة) العريقة في خدمة العلم والعلماء. ولم يبق من 600 أو 700 تلميذ في الثانوي سوى 60 فقط. والمدارس الابتدائية التي كانت تسعين لم يبق منها سوى ثلاثين، ولا يتجاوز الأطفال فيها 350 بعد أن كانوا بين 1، 300 و 1، 400. هذه إذن هي رسالة فرنسا الحضارية للجزائريين. وقد كان صاحب التقرير (الجنرال بيدو) والمعلق عليه (دي طوكفيل) صريحين جدا في ذلك. فقد قال بيدو أننا أهملنا التعليم في عاصمة الإقليم (قسنطينة) مما سيعطي لرجال الزوايا أهمية كبيرة ويزيد من نفوذهم وقوتهم بين السكان. وواضح من تقرير الجنرال أن خوفه ليس على الجزائريين من الجهل، ولكن على مصير الوجود الفرنسي من نفوذ الزوايا. ذلك أن اختفاء المعلمين قد حول أنظار الناس إلى شيوخ الزوايا في الأرياف. أما دي طوكفيل فهو صاحب الصيحة الشهيرة: (إننا جئنا لإضاءة الشموع فأطفانا الموجود منها)، وهو يقصد هنا بالشموع المدارس. ولكن دي طوكفيل كان أيضا في صالح الرسالة الحضارية الفرنسية وتثبيت الاستعمار في الجزائر (¬2). لقد نقصت المدارس والمساجد بعد أن حولت مداخيل أملاكها (الأوقاف) إلى أملاك الدولة كما ذكرنا، وتوقفت الدولة الفرنسية المحتلة عن ¬

_ (¬1) احتلت قسنطينة سنة 1837. (¬2) أليكسيس دي طوكفيل (عن المستعمرة في الجزائر)، باريس، ص 170. امتدح دي طوكفيل تقرير بيدو وقال أنه (بيدو) قد وزعه على اللجنة البرلمانية. انظر أيضا زوزو، مرجع سابق، ص 209 - 213.

صيانة المساجد، كما أنها لم تصن مساكن الطلبة والعلماء التي كانت مجانية. ونقصت قيمة العملة المتداولة، فلم تعد الوظيفة التي أصبح عليها رجال الدين يكفي دخلها، ولذلك لم تعد أمرا ممتازا يتنافسون عليه. وقد زاد أولياء التلاميذ في أجور المعلمين (المؤدبين) ولكن غلاء المعيشة أدى بالعائلات إلى توجيه الأبناء إلى أعمال أخرى أكثر ربحا، كما توقفوا عن استقبال الأقارب وأبناء الأعراش من خارج قسنطينة. بينما تدهور حال المدرسين والعلماء وافتقروا وأصبحوا متذمرين. وأدى كل ذلك إلى انخفاض مستوى التعليم ونقص مدته والمواظبة عليه. وكانت نتيجة هذا الوضع في مدينة قسنطينة هي رحيل التلاميذ القادرين إلى زوايا المناطق غير المحتلة بعد، مثل منطقة زواوة ومناطق الجنوب، طلبا للعلم. هذه الصورة السوداء التي رسمها تقرير الجنرال بيدو عن التعليم في قسنطينة وتدهوره وبعثرة أهله يتفق معه فيها زائر انكليزي زار هذه المدينة في نفس الفترة تقريبا. يقول الرحالة بلاكسلي: كانت الأوقاف كثيرة، وهي مورد التعليم المجاني. وكانت تزيد أحيانا عن حاجة المدرسة والمسجد فيخصص منها جانب للفقراء أيضا. وقد حضر بلاكسلي مع المستشرق شيربونو درسا كان يلقيه بعض المدرسين فقال أنه مدرس يمتاز بالذكاء والجاه، وكان الدرس في تفسير القرآن الكريم. أما في وقت الزيارة فقد أصبحت المدارس والمساجد والزوايا (مهجورة وخرابا في كل مكان بالجزائر). كما أن فقر السكان الذي جاء في أعقاب مصادرة أموال الأوقاف كان بدون شك السبب الرئيسي في هذا الخراب، رغم أن الحرب كانت سببا آخر أيضا (¬1). ونفهم من ذلك أنه بعد الاستيلاء على المدن ومصادرة الأوقاف وهجرة العلماء، قصد المتعلمون الراغبون المناطق البعيدة عن الفرنسيين لمواصلة ¬

_ (¬1) جوزيف بلاكسلي، (أربعة أشهر في الجزائر)، لندن 1859، ص 30. لا شك أن الزيارة كانت بعد 1850، لأن وجود شيربونو كان بعد هذه السنة. والمقصود هنا فتح المدرسة التي أسسها الفرنسيون في هذا العام في قسنطينة، وهي إحدى المدارس الثلاث الشرعية - الرسمية.

تعلمهم العربي والإسلامي، ومنه ذلك التعليم الذي كان منتشرا في مدارس وزوايا منطقة زواوة. ويقول تقرير كتب عن بجاية وما حولها سنة 1840 أن كل دشرة (قرية) كان لها طالب يحسن اللغة العربية، وهو يقوم في نفس الوقت بوظيفة إمام المسجد، ويعلم الأطفال الكتابة والقراءة وحفظ القرآن، وله أجر يشترك فيه الجميع، وكان بعض هؤلاء الطلبة قد حصلوا على مبادئ الفقه في الزوايا، وهم يحكمون بالصلح بين الناس أيضا. وفي كل قبيلة أماكن مخصصة للتعليم وتكوين التلاميذ في المواد التي ذكرناها، في أماكن عادة تكون قريبة من الزاوية التي فيها أو كان فيها مرابط اشتهر بين الناس بالورع والتقى. والدراسة مجانية ومدتها غير محددة، والجميع، المعلمون والتلاميذ، يعيشون من تبرعات وإحسان القبائل المجاورة، وأحيانا من مداخيل مخصصة لهم بمقتضى الأوقاف التابعة للزاوية منذ عهود سالفة. والزاوية مكان مقدس لدى الجميع ولا أحد يجروء على انتهاك حرمتها. وأبرز هذه الزوايا في المنطقة هي زاوية شلاطة التي كانت تبعد مسافة يومين عن سوق بجاية، وهي تقع على الضفة اليسرى لوادي آقبو. وتسمى أيضا زاوية ابن علي الشريف. ولها سمعة علمية تجاوزت حدود الجزائر إذ كانت الهدايا تأتيها من فاس وتونس وأسطنبول (¬1). وفي دراسة هانوتو ولوتورنو عن منطقة القبائل (¬2) ما يؤكد هذه الظاهرة كما سنرى، فقد قالا إن كل فرد في المنطقة يعرف القراءة والكتابة، وللسكان مدارس عامة، واعتزاز قوي بدعم هذه المدارس إذ يرون في ذلك واجبا دينيا ونخوة خاصة. ولغة التدريس هي اللغة العربية والمواد كلها إسلامية، وهي تتبع المنهج الإسلامي. والتعليم في هذه المؤسسات على مرحلتين: ابتدائي وثانوي. وهناك بعض المدارس الخاصة تحت إشراف المرابطين، وهم يقومون عليها بحماس ديني قوي، فهم يستقبلون العديد من الشباب ¬

_ (¬1) السجل (طابلو) - سنة 840 1، ص 377. عن أصول زاوية شلاطة (آقبو) انظر الجزء الأول والثاني من هذا الكتاب. (¬2) هانوتو ولوتورنو، (بلاد القبائل)، ط 2، 1893، ص 06 1.

ويوفرون لهم المسكن والمأكل، ويعلمونهم مجانا، وكان التعليم نفسه عموميا. وهذه الظاهرة كانت عامة، كما لاحظها مختلف الكتاب، ونعني ظاهرة انتشار الكتابة والقراءة وحفظ القرآن في المدن والأرياف على السواء، حسب برنامج موحد يقوم على دراسة العلوم الإسلامية باللغة العربية. ولاحظ أحد الضباط الفرنسيين أن منطقة ميزاب كانت تتبع نفس المنهج وبحماس كبير حتى أنه لا يوجد إلا عدد قليل جدا هناك لا يعرف القراءة والكتابة. وقال أن أعمال الحساب عندهم منتشرة حتى أن تجارهم في مدن التل يقومون بالحسابات في سجلاتهم دون وسائط. والتعليم عندهم يجري في المساجد على يد (الطلبة) أيضا. وكل مدينة لها جامع خاص بذلك. لكن السكنى للطلبة كانت في أماكن مخصصة لهم خارج المسجد، والطلبة (المعلمون) لا يأخذون أجرا من أولياء التلاميذ، وكل أجورهم يأخذونها من الأوقاف. وتوزع مداخيل الوقف نوعا لا نقدا (¬1). هذا عن التعليم الابتدائي، أما الثانوي فيحصلون عليه في المساجد الكبيرة بالدروس العامة المتطورة أو بالهجرة في سبيل العلم إلى مناطق أو بلدان أخرى. فإذا كان حال العلم غداة الاحتلال هو الازدهار والانتشار والاحترام، فأين هو بعد ربع قرن من ذلك؟ لقد أهمل الفرنسيون التعليم في المدن والأرياف، على السواء، لأسباب مختلفة منها اغتصاب موارده، وكثرة الحروب، ومشاركة الطلبة في واجب الجهاد. وبعد ضعف التعليم بل نكاد نقول انهياره في المدن على إثر الاحتلال، بقي التعليم في الزوايا والمعمرات، فخرج إليها التلاميذ واغتربوا فيها طلبا للعلم والمقاومة الثقافية. وبعد نجاح الاستعمار في التوغل في الريف أيضا ومراقبة المعلمين ¬

_ (¬1) كوين Coyene، في المجلة الإفريقية R.A.، 1879، ص 200. والمعروف أن منطقة ميزاب كانت إلى سنة 1882 محمية وغير محتلة، ومن ثمة فإن التعليم فيها عندئذ كان ما يزال يسير حسب التقاليد الإسلامية ولم تتأثر الأوقاف بالمصادرة إلا بعد 1882.

والتلاميذ ضعف التعليم هناك أيضا وحوصر إداريا بالقوانين ولغويا بالفرنسية، سيما منذ الستينات، وفي هذه الأثناء نشأت زوايا جديدة مثل زوايا الهامل وأولاد جلال وقصر البخاري، وفتحت زاوية نفطة أبوابها للجزائريين، وظلت زوايا زواوة مستمرة في التعليم إلى ثورة 1871. وكل هذه الزوايا ترجع إلى الطريقة الرحمانية عدا زاوية قصر البخاري التي كانت شاذلية. ومع ضغط الاستعمار في عهد الجمهورية الثالثة كادت حركة التعليم العربي - الإسلامي تختفي، وهكذا ارتمى الناس في أحضان الطرق الصوفية والغموض والدروشة، واعتقدوا أن الخلاص لم يعد بالسلاح ولا بالتعليم ولكن ببركة الشيخ الصوفي والمرابط. وسنعرف التطور الذي حدث منذ العشرية الأخيرة من هذا القرن، سواء في ميدان التعليم العربي الإسلامي أو في الميدان السياسي والفكري أو في الميدان الصوفي. أما في الناحية الغربية فقد أصيبت حركة التعليم بالشلل، نتيجة الحروب القاسية أثناء المقاومة التي قادها الأمير عبد القادر. فقد تعرضت المدن الرئيسية إلى تبادل الأيدي عدة مرات. فهذه تلمسان ومعسكر، ومستغانم ووهران، تعرضت جميعا إلى خروج أهلها منها عدة مرات، ومنهم بالطبع المعلمون والتلاميذ. وتوقفت مدرسة مازونة عن وظيفتها مدة طويلة، وتعرضت المكتبات والمساجد والزوايا والمدارس إلى النهب والهدم، والهجران. وقد اعتمد الأمير عبد القادر على فئة العلماء والمثقفين في إدارته، فجعل منهم القضاة والخلفاء والكتاب. ورغم اهتمامه بالتعليم في الخيام وفي المدن التي كانت تحت يده، فإن حركة التعليم قد تأثرت بشدة، ونفس الشيء يقال عن مليانة والمدية اللتين كانتا تابعتين لحكم الأمير إلى سنة 1840. ومن الزوايا الريفية في الجهة الغربية زاوية القيطنة التي توقفت أيضا عن أداء مهمتها في التعليم أثناء المقاومة، سيما بعد 1836. وقد عاشت هذه الظروف زاوية سيدي محمد بن عودة ناحية زمورة الغربية، وزاوية سيدي العريبي نواحي مينة، والتي يمتد نفوذها من مستغانم إلى أم السنام (الأصنام قديما)، وزاوية أولاد سيدي دحو، بمعسكر، وزاوية أولاد سيدي الشيخ

بالبيض، وزاوية أولاد سيدي عمار بن دوبة (كاشرو) الخ. ومنذ حوالي الستينات ظهرت زوايا جديدة نصبت نفسها للتعليم العربي الإسلامي رغم المراقبة والمضايقة الفرنسية والقيود القانونية وجفاف الموارد. ومن ذلك زاوية أولاد الأكراد بتيهرت (تيارت). وقبل أن نختم هذه الفقرة حول وضع التعليم العربي الإسلامي غداة الاحتلال في رأي الكتاب والملاحظين، نذكر أن بعضهم قد حكم على هذا النوع من التعليم بالفشل لأسباب: منها ما ذكرنا كالحروب ومصادرة الأوقاف الخ. ومنها اختفاء الطلبة والعلماء حتى أنه لم يبق منهم إلا بعض الطاعنين في السن، وفيهم من لا يكاد يعرف القراءة والكتابة (إنهم طاعنون في السن وإن جهلهم لا يعادله إلا البؤس العميق). الذي أصبحوا عليه. ومعنى ذلك أن الفرنسيين انتظروا عن قصد إلى أن أصبح وضع هذا التعليم كالمريض الميؤوس منه. وبعض الذين بقوا من متعلمي الزوايا قد تولوا وظائف أخرى غير التعليم الذي أصبح، كما لاحظ تقرير بيدو، تعليما لا يعيش أسرة ولا يقيم الأود. وتعترف بعض المصادر الفرنسية بأن اختفاء التعليم العربي - الإسلامي أو فشله يرجع أيضا إلى هدم العديد من المدارس والزوايا أثناء الثورات المتأخرة مثل 1857، 1864، 1871. وقد حدثت الأزمات الاقتصادية خلال الخمسينات والجوائح الماحقة بين 1867 - 1869. ثم إن الزوايا كانت تعيش من الأوقاف (الأحباس) إلى سنة 1863، ولكن في هذه السنة صدر المرسوم الشهير حول تمليك الأرض والذي قضى على أوقافها أيضا إذ كان كثير من الزوايا يعيش على الأرض الموقوفة، فلم يبق للزوايا بعد ذلك من الموارد سوى الزيارات التي يأتي بها أتباع الزوايا في مواسم معينة، وقد تدخلت السلطات الفرنسية في هذه الزيارات أيضا فمنعتها عمن تشاء وأبقتها فقط لبعض من الشيوخ الذين خدموا فرنسا بإخلاص. وليس السبب الاقتصادي هو وحده الذي كان وراء فشل الزوايا في أداء دورها - والتعليم من أبرزه - ذلك أن مجالات العمل أمام المتخرجين منها أصبحت معدومة تقريبا. فالفرنسيون كانوا يعتبرونها ملجأ للتعصب الديني

والتراث العربي الإسلامي. ولذلك زعزعوها من جذورها. ولم يكونوا يثقون في المتخرجين من الزوايا ولا من الذين يتخرجون من القرويين أو الزيتونة أو من الأزهر. وقد أسسوا المدارس الشرعية الرسمية الثلاث لتخريج من يحتاجونه في الوظائف الدينية والقضائية دون الحاجة إلى خريجي الزوايا أو معاهد المغرب أو تونس أو مصر. وبنى الفرنسيون بعض المدارس الابتدائية العربية - الفرنسية لتنافس تعليم الزوايا والمعمرات وللتأثير على جيل من المتعلمين لا رابطة بينه وبين ما يسمى التعليم الديني أو التقليدي. ولم يعد في استطاعة الزوايا التوسع في أوساط الأعراش وفي المدن كما في الماضي لأن مرسوم الأرض المشار إليه أخذ صلاحيات كثيرة من القيادات العربية السابقة وبدأ في تدجينها بتقليص مساحات نفوذها ونزع أهم اختصاصاتها وإدخال منافسين جددا ليسوا من أهل السيف. وبذلك ضعف التعاون الذي كان بين أصحاب الزوايا (المرابطين) والأجواد أو الحكام في هذا المجال، ونعني به مجال التعليم. وما دامت الزوايا لم تجد طريقا للتوسع فقد انطوت على نفسها، كما ذكرنا، واستعملت وسائل أخرى ربما تكون غير علمية كالاكتفاء بتحفيظ القرآن، واللجوء إلى اتخاذ الرموز والتلغيز وكتابة الحروز، وتمني الأماني على الله. ولكن يجب ألا يفهم من هذا اختفاء الزوايا ودورها التعليمي تماما. فرغم التدهور الذي أصابها خلال الستينات، كما ذكرنا، فإنها قد استمرت في أداء مهمتها في بعض المناطق كالجنوب وزواوة والأوراس. وكان بعضها يكتفي بالحد الأدنى (المسموح به) وهو تحفيظ القرآن الكريم ومبادئ الدين كزاوية تماسين التجانية وزاوية قمار، وزاوية أولاد الأكراد وزاوية العطاف، وبعض زوايا المدن التابعة للطرق الصوفية كالحنصالية في قسنطينة. ويذهب روبير آجرون إلى أن السلطات الفرنسية قد قامت بغلق بعض الزوايا اعتباطيا، تبعا للضغط عليها من الكولون، بعد 1870 (¬1). ولعل ما زاد في إضعاف دور الزوايا التعليمي قبول بعض رجالها التوظف في الوظائف المدنية ¬

_ (¬1) نقلت ذلك تامي كولونا (المعلمون الجزائريون)، 1984 ص 32 وهنا وهناك.

الفرنسية بعد الثمانينات (¬1). ولكن كل ذلك لم يجعل الزوايا ترفع العلم الأبيض. فقد بقي (في الزوايا خبايا) كما يقولون، ومن هذه الخبايا سيتخرج جيل مطعم بالتأثير العربي الإسلامي وبالجو العام الفرنسي، وسيكون هو العمود الفقري لحركة الإصلاح القادمة. وقد وجد هذا الجيل احتياطيا قويا في خريجي المعاهد الإسلامية الذين كانوا مهمشين وغرباء في بلادهم، إلى أن فتح الفرنسيون مجال التعليم من جديد في عهد كامبون، بشرط طلب الرخصة حسب قانون أكتوبر 1892، فأقدم الجزائريون على إحياء التعليم في مختلف مجالاته، في الزاوية والمسجد والمدرسة. وعند حديثنا عن الشيوخ الذين أوكل إليهم التعليم المسجدي سنعرف من كان منهم خريج الزاوية، ومن كان خريج المدرسة الشرعية، ومن درس في المعاهد الإسلامية خارج الجزائر. تلك آراء ومواقف الفرنسيين وبعض الأروبيين من التعليم العربي الإسلامي في الجزائر ومصيره. وقد اعتنى عدد من الجزائريين أيضا بهذا التعليم، بل دعاته، وانتقد منهجه ودعا إلى إصلاحه وتطويره. ومن الجزائريين من وظفته السلطة الفرنسية للدعوة إلى التعليم الفرنسي فقط، كما سنرى ذلك في آراء كتاب جريدة (المبشر). ولكن معظم الجزائريين لم يدعوا إلى نبذ تراثهم التعليمي، بل دعوا لتطويره لكي يتماشى مع الروح الإسلامية نفسها ومع روح العصر. ومن هؤلاء عبد القادر المجاوي في رسالته (إرشاد المتعلمين) وبعض كتبه الأخرى، ومحمد بن أبي شنب في ترجمته لبعض النصوص المتعلقة بالتربية عند المسلمين، ومحمد السعيد بن زكري في رسالته (أوضح الدلائل). وكل هؤلاء فعلوا ذلك قبل ظهور الحركة الإصلاحية الباديسية. وفي عهد هذه الحركة وقع تطوير التعليم العربي الإسلامي فعلا، وحلت المدرسة، كما قال جوزيف ديبارمي، محل المسيد (أو المكتب)، وحل المعهد محل الزاوية، بل أن الزاوية طورت نفسها أيضا لتواكب العصر والحاجة. ¬

_ (¬1) انظر فصلي الطرق الصوفية.

وقد لخص الشيح أبو يعلي الزواوي حالة هذا التعليم في جمل قصيرة ومفيدة سنة 1367 هـ في مقالة نشرها في البصائر. فوصف التعليم العربي الإسلامي بأنه كان بدون إشراف الحكومة في العهد العثماني وأنه كان يكتفى بتعليم القرآن والعربية تبركا فقط، وأن الزوايا وغيرها لم تكن تتبع إدارة موحدة ولا برنامج يضبط مراحل التعليم، ثم قال: (وبينما نحن كذلك ... إذ استولت علينا فرنسا فصار الأمر ضغثا على إبالة، فتمادى عدم الفرض على طلب العلم وفقدان الباعث ... فالحكومة الفرنسية اعتنت بلسانها فبثته وأيدته وعززته، فتوقف الكثير من الناس، ولم يرغبوا فيه خشية أن يتفرنجوا ويتفرنسوا ويتخلقوا بخلق الإفرنج المباينة للعربية والإسلامية. ثم هم كذلك إلى ما بعد ثورة عام 1871، فتم الاستيلاء على جميع الوطن جبرا وقهرا، فتمكنت الحكومة في البادية (¬1)، التي كانت بمعزل عن التعليمين العربي والإفرنجي، فأسست المدارس الفرنسية، وألزمت الناس ببعث أولادهم إلى تلك المدارس إجبارا، وقررت لذلك عقوبات للمتخلف فتم الدست على العربية وخلفتها الفرنسية، وأقيمت مقامها، فالأولاد الذين كانوا يقرأون العربية تركوها فصاروا يقرأون الفرنسية منذ نحو ثلثي القرن. ثم من الطامة الكبرى أن قد صار المعلمون في تلك المدارس الفرنسية ينهون عن العربية بأنها تتعب الأولاد وتشوشهم وتكلفهم ما لا يطيقون، وأن لا بد من الاقتصار على الفرنسية، وأن من خالف ذلك أو قاوم أو نازع يعاقب بالأنديجينية، فانعدمت العربية ...) (¬2). والشيخ أبو يعلى يقصد هنا الصراع بين اللغتين في مراحله المختلفة. ولا يفهم منه أن الفرنسية كانت منتشرة لتعليم الجزائريين ¬

_ (¬1) يعني في المناطق الريفية التي جرت فيها الثورة، ولا سيما منطقة زواوة. (¬2) أبو يعلى الزواوي (جماعة المسلمين) ط. 1948، ص 50 - 51، من مقال كان قد نشره في البصائر، عدد 25 (1397). ويقصد (بالانديجينية) قانون الأهالي البغيض الخاص بمعاقبة الجزائريين دون غيرهم. ونلاحظ أن معظم ما ذكره الشيخ أبو يعلى إنما كان يخص منطقة ثورة 1871.

التعليم في المدارس القرآنية

لأننا عرفنا أن نسبة المتعلمين منهم أيضا كانت ضئيلة جدا. التعليم في المدارس القرآنية كل مسلم تقريبا يعرف طريقة حفظ القرآن التقليدية عند الأطفال: الجامع في المدن، والشريعة (الخيمة) في البادية، والمؤدب، واللوحة، وقلم القصب، ودواة السمق، والطين، والعصا، والجلوس المربع، ورفع الأصوات بالقرآن عند الحفظ، والتنافس على الحفظ بين الأطفال، ثم الختم والاحتفال به في المنازل، وأخيرا التخرج كطالب والقرآن في الصدر، كما يقولون. لكن هذا تبسيط كبير للموضوع. وهو ما آل إليه تعليم القرآن في العهد الفرنسي. لقد درس الفرنسيون وضع هذا التعليم منذ أوائل الاحتلال، ورأوا أنه تعليم قاعدي تنبني عليه الدراسات الإسلامية في البلاد، وفي العالم الإسلامي كله. فإذا حاربوه ومنعوه ثارت عليهم ثائرة السكان، فاتفقت كلمتهم على الإبقاء عليه مع تجريده من مؤسساته في المدن، كما سنرى، والتحكم في المؤدبين من الناحية المالية والفكرية، وقطع التواصل بينه وبين التعليم المتوسط والثانوي، ومنع المؤدبين من تجاوز الحفظ إلى التفسير والتفهيم أو تعليم أي مادة أخرى معه، ثم إنشاء المدارس الضرة إلى جانبه، ونعني بها المدارس الفرنسية ذات الطراز العصري والبرنامج العملي والمنهج المتطور. وبذلك أصبح حفظ القرآن نوعا من العبادة فقط كالصلاة التي لم يمنعها الفرنسيون أيضا. ولكنه حفظ لا يقدم شيئا للمتعلم في الحياة إلا العقيدة في البركة. وقد حاولت بعض الزوايا منذ الستينات أن تربط بين حفظ القرآن وبرنامج التعليم، فكان التلاميد فيها ينتقلون من الابتدائي القرآني إلى المتوسط فالثانوي. وبذلك استمرت تجربة التعليم القديمة في هذه الزوايا. وكان المتخرجون منها يدخلون أحيانا إحدى المدارس الشرعية الرسمية (قبل 1876)، ويتفوقون في مسابقاتها على زملائهم. وكان بعضهم أيضا يغترب في المغرب أو تونس لمواصلة التعليم، ولكن الأغلبية الساحقة كانت تكتفي بما حصلت عليه في الزاوية لعدم وجود غيره، وقد بقيت قاعدة تعلمهم هي

حفظ القرآن الكريم. ومن جهتهم لجأ الفرنسيون لجلب المسلمين إلى المدارس الفرنسية القليلة التي أنشأوها منذ 1850 (حوالي 36 مدرسة في الجملة) إلى إدخال مادة حفظ القرآن فيها والعهد بها إلى (طالب) مسلم. وكاد التلاميد في هذه المدارس يحفظون القرآن بطريقة جديدة، وهي الجلوس على المقاعد وفتح المصاحف وحفظ الآيات التي يعينها الطالب لهم. ولكن هذه التجربة كانت قصيرة الأمد إذ أن الغرض منها هو، كما قلنا، جلب أبناء المسلمين إلى المدارس الفرنسية والتغلب على الفكرة القائلة أن الفرنسيين سينصرون أولاد المسلمين. لقد كان نوعا من التحايل المؤقت، ذلك أن التلميذ بعد مادة القرآن كان يتفرغ كلية للغة الفرنسية وموادها وتاريخ فرنسا وجغرافيتها وعلومها الخ. ثم أن المدارس المذكورة قد ألغيت بقرار سنة 1871، كما سبق. ولقد كان الجزائريون مستعدين للتطور لو وجدوا من يأخذ بيدهم إليه. فبعد أن أمكن لفكرة التعليم أن تنتشر قاموا بتنظيم مدارسهم القرآنية، وأصلحوها وربطوا بين أجزاء التعليم. وأصبح التلميذ في المدرسة الإصلاحية العصرية يحفظ القرآن ويقرأ العلوم الأخرى المكملة له. كما يدرس العلوم العملية واللغات. وهذا هو دور المدارس الحرة التي بدأت تجربتها سنة 1913، ولكنها نشطت منذ نهاية الحرب العالمية الأولى. وهذا لا يعني اختفاء التعليم القرآني التقليدي. بل إنه نشط وتوسع مع الإيمان بضرورة التعلم ومع وجود الرابطة بينه وبين المدارس الابتدائية الجديدة. ... أما من الناحية التاريخية فعلينا أن نبدأ من البداية. فما مصير المدارس القرآنية مثلا في المدن التي استولى عليها الفرنسيون كالجزائر وقسنطينة وبجاية وغيرها؟ كان بمدينة الجزائر أكثر من مائة مدرسة قرآنية عند الاحتلال (¬1). ولكن مصيرها كان مصير المساجد والزوايا، وهو الهدم أو ¬

_ (¬1) نستعمل المدرسة القرآنية هنا مرادفة لكلمة كتاب أو مكتب. وهذا في المدن. أما في =

التحويل عن الغرض الأصلي بجعلها مخازن ودكاكين، أو إعطائها إلى جمعيات فرنسية. وكانت معظم المدارس القرآنية ملاصقة للجامع أو الزاوية، فهي جزء منه أو منها، وهي داخلة في الاستفادة من الأوقاف من جهة الصيانة والإضاءة والتجهيز بالماء ونحوه. وهذه قائمة لبعض المدارس القرآنية التي هدمت منذ الاحتلال في مدينة الجزائر، مع تاريخ هدمها (¬1). ولاحظ أنها تذكر إلى جانب المسجد أو الزاوية التي كان مصيرها في الغالب واحدا: 1 - مدرسة تابعة لجامع ساباط الحوت (جامع البطحاء)، شارع القناصل، تاريخ الهدم 1854. 2 - مدرسة جامع السلطان، شارع تريكولور، تاريخ البيع والهدم 1838. 3 - مدرسة جامع خير الدين (جامع الشواش)، قرب مدخل الجنينة، هدمت مع قصر الجنينة 1831. 4 - مدرسة جامع ستي مريم (جامع ابن نيقرو)، تاريخ الهدم 1838. 5 - جامع مدرسة فرن ابن شاكر، شارع طولون، بعد جعله ثكنة، حول إلى مدرسة للبنات المسلمات (¬2). 6 - جامع سوق الكتان، شارع الباب الجديد، بعد استعماله من المصالح العسكرية. جعل مدرسة فرنسية (ودادية) ثم هدم. ¬

_ = الأرياف، سيما البادية، فهي مرادفة لكلمة الشريعة، وهي خيمة خاصة للقرآن والدين (الشريعة) عند القبائل الرحل. وفي بني ميزاب هناك المسجد، وفي زواوة توجد المعمرة. وقد تعرضنا إلى شيء من هذا في الجزء الأول من هذا الكتاب. (¬1) انظر فصل المعالم الإسلامية. (¬2) الغالب أنها المدرسة التي كانت تديرها السيدة أليكس (لوس) لتعليم اللغة الفرنسية والخياطة، وليس لتعليم القرآن، انظر فصل التعليم الفرنسي. ولا ندري مصير هذا الجامع - المدرسة بعد ذلك.

7 - مدرسة جامع الشيخ الثعالبي (وهو غير الزاوية الحالية)، شارع لاشارت، تاريخ الهدم 1859. 8 - مدرسة جامع الرحبة القديمة، كان الجامع يستعمل مدرسة قرآنية، هدمت وضمت إلى إحدى الدور، 1840. 9 - مدرسة بجوار الجامع المذكور السابق، أعطيت لملاك أروبي، 1841. 10 - مدرسة جامع عبد ي باشا، منذ 1870 وهي وهو ثكنة عسكرية. 11 - مدرسة مسيد الغولة، ألحقت بمكاتب الكاتب العام للحكومة. 12 - مدرسة القهوة الكبيرة أو مدرسة (مسيد) ابن السلطان، هدمت 1836. 13 - المدرسة العنانية (المولى بوعنان) كانت ملحقة بالجامع الجديد. مصيرها غير معروف لنا. 14 - مدرسة حي القيسارية، هدمت منذ بداية الاحتلال ودخلت في ساحة الحكومة (ساحة الشهداء). 15 - مدرسة جامع السيدة، بناها ساري مصطفى، هدمت مع الجامع، سنة 1830. وهي أول عملية هدم لمؤسسة دينية - علمية. 16 - مدرسة (مسيد) الديوان. مصيرها غير معروف لنا. 17 - مدرسة ساحة الجنينة قرب زاوية الشرفة (الأشراف). لا نعرف مصير المدرسة لكن الزاوية المذكورة باعها وكيلها، كما قيل، إلى أحد الأروبيين سنة 1832، وفي 1841 صادرتها السلطات وضمتها إلى المكاتب الرسمية. 18 - مدرسة (مسيد) الدالية، خربت 1839. 19 - مدرسة زاوية الشبارلية. هدمت ودخلت في بازار (سوق) أورليان سنة 1840.

20 - مسجد الركرك، يقوم مقام مدرسة قرآنية. هدم 1839. 21 - مدرسة جامع الحاج حسين (أحد الباشوات، المدعو ميزمورطو)، هدمت المدرسة والجامع سنة 1836، استمر الهدم 18 شهرا. 22 - مدرسة كوشة بولعبة، هدمت 1841. 23 - مدرسة مسجد سيدي الهادي، جعلها الفرنسيون مدرسة عربية - فرنسية (¬1)، ثم هدما معا 1855. 24 - مدرسة شيخ البلاد، من أحدث وأهم المدارس (¬2)، هدمت 1848. 25 - مدرسة (مسيد) كوشة الوقيد. دخلت في الساحة التي أقامها الجيش الفرنسي بأعلى المدينة. 26 - مدرسة (مسيد البرميل)، هدم سنة 1855. إن هذه المعلومات استيقناها من ألبير ديفوكس الذي كتب عن الموضوع خلال الستينات. وبدون شك فإن عددا آخر من المدارس القرآنية كان مصيره أيضا الهدم والتعطيل والخراب لاغتصاب الأوقاف (¬3). ويقول رحالة أوروبي زار مدينة الجزائر سنة 1854، أنه لم يبق من حوالي مائة مدرسة سوى النصف. ولا نظن أنه بقي الكثير بعد ذلك. فقد استعمل الفأس والمطرقة والجراف في المساجد والقباب والزوايا، وكانت المدارس تنهار معها بالتبعية. وكانت معظم المدارس القرآنية في أعلى المدينة تبعا للمؤسسات الدينية والسكان. ولا شك أن سكان المدينة لم ¬

_ (¬1) من ثمة يظهر أن القول بأن الفرنسيين بنوا مدرسة للجزائريين قول غير صحيح. (¬2) انظر عنها الجزء الأول من هذا الكتاب. (¬3) يجب التذكير بأن معظم المساجد التي هدمت أو حولت عن غرضها كانت مستعملة أيضا لتعليم القرآن، هي أو ملحقاتها. انظر فصل المعالم الإسلامية - المساجد والزوايا. مه

يهملوا أولادهم بعد ذلك، فقد أصروا على لسان المفتي الكبابطي سنة 1843 على ضرورة تعلم أولادهم القرآن قبل كل شيء. ولعل بعضهم اضطر إلى جلب المعلمين (المؤدبين) إلى منازلهم. ونحن وإن كنا نعرف ما يجري في هذه المؤسسة وطقوسها ومنهج التعليم فيها فإننا نورد هنا وصفا حيا لبعض الزوار الأجانب للمدرسة القرآنية أو الكتاب. فيقول السيد بولسكي: إن حصة الحفظ تجري في مدرسة (مكتب) صغير مفتوح عادة على الشارع. وكل المارة يشاهدون ما يجري. الأرض مغطاة بالحصير، والتلاميذ يجلسون عليها حفاة متربعين. ويقف المؤدب وسطهم بعصا في يده. وللتلاميذ ألواح خشبية يكتبون عليها بأقلام مبراة من القصب. وهم يكتبون من إملاء المؤدب. وبعد أن يطلع المؤدب على ما كتبوا، يقرأون جميعا بصوت عال. إن هناك الكثير من الضجيج في هذه المكاتب (يعني أصوات الأطفال وهم يقرأون). وقلما يفقد المؤدب صبره، وقلما يستعمل العصا، وله شخصية مهابة، والتلاميذ غالبا ما يظهرون الحماس والاهتمام. ثم أن الصياح والقراءة العالية تشغل التلاميذ عما يجري في الشارع وعن الزوار. إن هناك علاقة متينة وثقة متبادلة بين المؤدب والتلاميذ. وقد يؤدب المؤدب التلميذ بكلمات يترتب عليها أسفه. وعلاقة الود والاحترام بين المؤدب والتلميذ تستمر مدى الحياة ولا تنتهي بالخروج من المدرسة. وعدد التلاميذ الحاضرين لا يكاد يتجاوز الإثني عشر. ويغادر التلميذ المدرسة إذا وصل عمره الرابعة عشرة. ويدفع كل واحد منهم إلى المؤدب حوالي ربع بوجو شهريا (¬1). وهذا وصف آخر لمدرسة قرآنية - في العاصمة أيضا حوالي 1847. وفيه بعض الاختلاف يدل على أن التجربة غير واحدة للزآئرين. فالمؤدب هنا شيخ طاعن في السن، متكئ في المكتب، وله نظارتان قديمتان، وصوت متهدج ومرتعش. وبيده عصا قلما يستعملها. والمكتب عبارة عن دكان ضيق حشر ¬

_ (¬1) بولسكي (العلم المثلث على الأطلس)، لندن، نيويورك، 1854، ص 22. في النص (أربعة لربع بوجو).

فيه التلاميذ حشرا، وهم هنا حوالي ثلاثين تلميذا. كل تلميذ له لوح يكتب عليه بحبر معين. فهو يكتب الآيات ثم يحفظها بصوت واحد مع زملائه. ثم يمحو الآيات بعد أن تنقش في الذاكرة، وهكذا إلى آخر الحصة. وليس هناك شرح لأية كلمة. والتلاميذ لا يفهمون ما يقرأون. إذا حفظ التلميذ القرآن يسمى (طالبا)، وإذا أراد المزيد ليصبح فقيها فعليه أن يقصد المساجد ليتعلم على أيدي العلماء دروس الفقه وغيره من المعارف. ولكن القليل من التلاميذ فقط يفعلون ذلك. إن عدد هؤلاء العلماء قليل جدا، ولذلك فإن معظم الخريجين يبقون (طلابا)، وإذا رغب أحدهم في التجارة فعليه أن يتعلم الحساب، ولكن من النادر أن يصلوا إلى تعلم الكسور. إن الغني والفقير يشتركان في نفس التعليم ويحصلان على نفس الدرجة، مع فارق قليل، من الثقافة الفكرية. فتاجر التمر مثلا يعرف ما يعرفه البرجوازي، وهكذا (¬1). إن هذا النوع من التعليم كان يجري في الوقت الذي كان فيه الفرنسيون يغرون الجزائريين بإرسال أبنائهم إلى المدرسة العربية - الفرنسية (الحضرية) التي فتحوها سنة 1836، وظلت يتيمة وفقيرة من التلاميذ. ونفس الموقف وقفوه بعد فتح ما سمي بالمدرسة العربية - الفرنسية سنة 1850، وهي الوحيدة أيضا. وبينما أقبل يهود الجزائر وهم في نظر الفرنسيين، (أندجين) كالمسلمين، على تعليم أبنائهم في المدرسة الفرنسية، حتى لقد كان لديهم سنة 1847 مدرستان إحداهما للبنين والأخرى للبنات - فإن المسلمين ظلوا خائفين على أولادهم من التعليم الفرنسي وتمسكوا بالتعليم القرآني وحده. ويثبت إحصاء سنة 1838 إن عدد أطفال اليهود وحدهم بلغوا 683 تلميذ في الابتدائي، بينما لم يتجاوز أطفال المسلمين في كل المناطق المحتلة سوى 417. (منهم 352 في العاصمة، و 45 في عنابة، و 20 في مستغانم) (¬2). وأمام الاستيلاء على الأوقاف وهدم المدارس، وإفقار المؤدبين وهجرة ¬

_ (¬1) أدولف جوان A.Joanne، (رحلة في إفريقية)، الرحلة كانت 1847، والكتاب منشور سنة 1850، بروكسل، ص 66. (¬2) السجل (طابلو)، سنة 1839، ج 1، ص 111.

العلماء، تدهورت حالة التعليم القرآني في مدينة الجزائر، رغم إصرار الآباء على حماية أبنائهم. وكانت خطة الفرنسيين هي القضاء على هذا التعليم، كما أشرنا، دون مواجهة. فبدخول سنوات الخمسين وجدنا الكتاب يتحدثون عن تدهور ما بقي من المدرسة القرآنية في العاصمة. يقول موريل أن هدف هذه المدرسة (الكتاب) هو تحفيظ القرآن للأطفال، ولكن هذا الهدف قلما حصل. ذلك أن الفقر يمنع كثيرا من الآباء، من توفير أجرة المعلم البسيطة، ويجعلهم يسحبون أطفالهم بسرعة من المدرسة، إذا كانوا قد أرسلوهم إليها أصلا. وكانت في الماضي بعض المعلمات للبنات أيضا، ولكن الآن لم يبق منهن إلا النادر. فساد الجهل النساء المسلمات (¬1). وقد أكد ديتسون بعد عدة سنوات نفس الظاهرة، إذ قال أن الحضر يتعلمون، ولكن الفقر قد أضر بهم، لذلك يمكن القول أن أطفالهم قد بقوا جاهلين. ولكنه قال أن المدارس القرآنية متوفرة. ووصف إحداها بأنها تضم 24 تلميذا، وقدم وصفا حيا آخر عن حياة هذه المدرسة (الكتاب) (¬2). من مؤدبي مدينة الجزائر الذين تخرج عليهم تلاميذ كثيرون الشيخ سيدي عمرو. وقد أشاد به المفتي حميدة العمالي وقال أنه قرأ عليه القرآن وختمه على يده. ووصفه بأنه (شيخنا وبركتنا سيدي عمرو مؤدب الصبيان، وقد بلغ من العمر ما ينيف على التسعين سنة). وكان الشيخ سيدي عمرو قد أخذ على سيدي محمد بن عبد الرحمن الأزهري مؤسس الطريقة الرحمانية في الجزائر. كان، كما قال العمالي، ورعا زاهدا. وعند وفاته سنة 1275 (1858) دفن في ضريح شيخه سيدي محمد بن عبد الرحمن بالحامة (¬3). وهذا التنويه يثبت العلاقة الودية والاحترام الذي بقى بين الشيخ المفتي والشيخ المؤدب، كما أشار إلى ذلك من قبل أحد الكتاب الأجانب وكما هو ¬

_ (¬1) جون موريل (الجزائر)، لندن، 1854، ص 386. (¬2) ديتسون، G.L.Ditson.(الهلال والصليبيون الفرنسيون). نيويورك، 1859، ص 132، 134. (¬3) كناش الشيخ المفتي العمالي، مكتبة الشيخ المهدي البوعبدلي، بطيوة.

واقع حال المؤدبين والتلاميذ في تقاليد الجزائريين. إذا كان بعض الكتاب، مثل ديفوكس وأوميرا، قد درسوا حالة البنايات الدينية فإنهم قلما درسوا حالة المدارس القرآنية إلا باعتبارها جزءا من المساجد أو الزوايا أو الأضرحة، بما في ذلك المدارس الثانوية مثل مدرسة الجامع الكبير ومدرسة القشاش. ولكن الفرنسيين عموما عرفوا العلاقة الوطيدة بين الدين والتعليم أو بين المسجد والمدرسة. وإذا كان مس المشاعر الدينية للمسلمين يخيفهم، فإن المس بالتعليم كان لا يخيفهم، ولذلك أهملوه وتركوه يموت بالتدرج. ولكن حركة التاريخ أبت ذلك. سبق أن عرفنا من تقرير الجنرال بيدو أن عدد المدارس القرآنية في قسنطينة سنة 1837 بلغ 95 مدرسة وأنه لم يبق منها بعد عشر سنوات (1847) سوى 30 مدرسة. أما الباقي فقد سقط بفؤوس ومطارق الحقد على كل ما هو إسلامي أو عربي في الجزائر. وإذا كانت مدرسة سيدي الكتاني (مدرسة صالح باي) قد انتعشت حين جعلت مقرا للدراسات الشرعية - الفرنسية، منذ 1851، فإن مدارس أخرى قد حولت عن وجهتها أو هدمت نتيجة مد الطريق الوطني (العربي بن المهيدي اليوم)، ونتيجة هدم دار الباي الحاج أحمد (¬1). من ذلك مدرسة جامع سيدي الأخضر التي بناها أيضا صالح باي، فقد عطلها الفرنسيون عن غرضها واغتصبوا أوقافها وجعلوها مقرا لكرسي (حلقة) اللغة العربية الذي أحدثوه ليتعلموا هم العربية ويعلموا الجزائريين الفرنسية. وكان السيد شير بونو أول من فتح ورأس هذا الكرسي وقام بهذه المهمة في المدرسة المذكورة، منذ 1856. وكذلك حولوا جامع وزاوية (مدرسة) سيدي التلمساني إلى جمعية فرنسية - دينية تسمى (سيدات ليون باستور) سنة 1853. وكان مصير مدرسة جامع رحبة الطابية أو الشيخ علي مخلوف (توفي 586 هـ) أتعس من ذلك. إن قاعة الصلاة فيها (المصلى) قد حولت إلى إسطبل لخيول فرقة الصبايحية، ثم اندثرت، ¬

_ (¬1) انظر فصل المعالم الإسلامية.

وبقيت المدرسة فقط فلم تترك لتعليم المسلمين ولكن حولت إلى مقر للجمعية الأثرية التي كانت تصدر المجلة الشهيرة ب (روكاي). وكان مع جامع سوق الغزل مدرسة أيضا، ولكن تحويل الجامع إلى كنيسة عطل المدرسة عن مهمتها (¬1). وهكذا تعرقل التعليم الابتدائي الإسلامي وتوقف الناس عن استقبال أبناء الريف في قسنطينة، كما لاحظ تقرير بيدو. وقد وقع لمدارس بجاية وعنابة نفس المصير بعد الاحتلال، لأنها كانت تابعة للبنايات الدينية التي وقع هدمها ومصادرة أوقافها. وظاهرة الفقر التي أشار إليها بعض الكتاب نتيجة توقف الموارد هي ظاهرة عامة، ولا سيما في المدن حيث ركز الاحتلال قواعده من البداية. فمدن مثل وهران ومستغانم عانت مدارسها نفس المصير الذي عانته فيها المساجد والزوايا والأضرحة، ومحاولة تعويض المدارس القرآنية بمدرسة عربية - فرنسية (¬2). أما في الريف والمناطق غير المحتلة فقد استمرت المدارس القرآنية على أداء وظيفتها في مقاومة عنيدة، رغم أحداث المقاومة والثورات المتوالية. يقول الإسكندر بيلمار عن موقف الأمير عبد القادر من التعليم: لقد جعل التعليم مهمة أساسية، باعتباره سلطانا ومسلما، كما جعل من مهامه الأساسية رفع شأن الدين والعلم. ولكي ينتعش الدين الذي حارب به الفرنسيين، أنشأ الأمير مدارس يتعلم فيها الأطفال الصلوات وقواعد الإسلام والقراءة والكتابة. أما الذين يرغبون منهم في مواصلة التعلم، فكان عليهم أن يتوجهوا إلى الزوايا أو المساجد (¬3). ومعنى هذا أن الأمير رتب التعليم من الابتدائي القرآني إلى الثانوي المسجدي إلى العالي أيضا. وقد كان خبيرا في ذلك ويعرف مراحل التعليم من زاوية جده في القيطنة، وكان هو قد درس ¬

_ (¬1) انظر دراسة شيربونو عن آثار قسنطينة في مجلة (روكاي)، 1856 - 1857، ص 84، 110. (¬2) انظر عن ذلك في فصل التعليم الفرنسي. (¬3) الاسكندر بيلمار (عبد القادر)، باريس، 1863، ص 236.

على نفس الوتيرة، وكان يشارك بإلقاء الدروس على جنوده في التفسير وغيره. وبذلك كانت المدن التي تحت يده إلى حوالي 1843 - مليانة، المدية، تلمسان، معسكر، تاقدامت، الخ - كلها تنشط في التعليم القرآني كأساس للدراسات الثانوية والعالية بالمنهج الإسلامي. ومنذ واقعة الزمالة (1843) كان التعليم القرآني قد انحصر في الخيام رغم صعوبة الحياة ومطاردات العدو. في إحصاءات نشرت سنة 1851 جاء أن المدارس القرآنية في الريف بلغت 851 مدرسة وكانت كلها تعلم القرآن والكتابة والقراءة. ويتردد عليها حوالي 10، 925 تلميذ. وهذا بفضل جهود المواطنين لأن الدولة الفرنسية لم تفعل شيئا، بل إن الحروب ومصادرة الأوقاف وإفقار العلماء جعل حركة التعليم تسوء (¬1). وفي تقرير رسمي رفع إلى رئيس الجمهورية الفرنسية سنة 1851 من قبل وزير الحرب، أنه لا وجود لتعليم فرنسي في الأرياف - البوادي -. ولا يتعلم الأطفال سوى القرآن على يد (الطلبة)، الذين يدفع الآباء إليهم مبلغا من المال، وأنه لا وجود لمدارس حائطية لذلك وإنما هناك خيام فقط. ومعنى هذا أن التعليم في الأرياف بعد عشرين سنة من الاحتلال بقي على حاله: نفس المكان، نفس المنهج، والجديد فيه هو فقط أن الدولة الفرنسية اغتصبت من السكان مواردهم وشردت معلميهم. والغريب أن صاحب التقرير يتحدث عن فرض غرامات جديدة على الجزائريين لتنظيم مدارسهم. وهو يصف ذلك بشيء من الزهو والاعتزاز. وقد كان على الدولة المحتلة أن تفعل شيئا إزاء ذلك ولكن الضباط في الأقاليم، كما يقول التقرير، (قاموا بفرض تضحيات مالية) على السكان من أجل تنظيم مدارسهم. وقد ذكر نماذج لذلك: بني سليمان (دائرة البليدة)، وثنية الأحد، وتنس، وسيدي بلعباس، ونواحي تلمسان، وسكيكدة، وباتنة. ففي هذه النقاط تأسست، حسب التقرير، مدارس من ¬

_ (¬1) دي بوليري J.du Boulery، (المجلة الشرقية والجزائرية)، عدد 3، 1853.

أموال الأهالي (¬1). ولكن أية مدارس؟ إنها ليست القرآنية بدون شك، وأنها ليست العربية - الفرنسية أيضا لأن هذه أنشئت بمراسيم وقرارات خاصة وعددها محدود وأماكنها كذلك، بحيث كان منها سنة 1851 ست مدارس فقط، فلعلها كانت إذن مدارس أنشأتها إدارة المكاتب العربية لفتح نواة للمدرسة الفرنسية الموازية للقرآنية، مستغلين في ذلك إنشاء المدارس الشرعية الرسمية الثلاث (واحدة في كل أقليم) وحماس الناس للتعليم بالعربية فيها، ولو كانت تحت السلطة الفرنسية. فقد كانت المدارس الثلاث المذكورة تقبل أبناء الزوايا وخريجي المدارس القرآنية، كما سنرى. والمنهج التعليمي كان موحدا تجده في الجنوب وفي الشمال على السواء. فهو في بسكرة والأغواط والبيض وهو في ورقلة وتقرت والوادي، وفي المنيعة وتوات وبشار بنفس النمط. وقد أشرنا إلى انتشار التعليم القرآني في ميزاب وعناية المواطنين هناك به، فالمدرسة القرآنية هي هي في كل مكان، ملاصقة للجامع في كل مدينة. وليس في ميزاب زوايا. وعلى رأس كل مدرسة أحد العزابة، فهو المدير والقائم بالتربية والتعليم، وإذا كثر التلاميذ يستعين بقدماء التلاميذ الذين معه. وتقوم المدارس القرآنية بتعليم وتحفيظ القرآن، وتعليم القراءة والكتابة والرسم القرآني، إلى جانب التربية الدينية كالعقائد وحفظ بعض الأحاديث، وأداء الصلوات، وحسن الأخلاق (¬2). ومن الخطإ حصر دور المدارس القرآنية في تحفيظ القرآن الكريم، لأنه في الواقع يمتد إلى التربية الدينية والأخلاقية، وهذا هو الجانب الذي أراد الفرنسيون القضاء عليه، مع احتفاظهم باستظهار التلميذ للقرآن فقط. ولدينا صورة مفصلة عن التعليم القرآني في منطقة زواوة خلال الخمسينات رسمها الكاتبان هانوتو ولوتورنو (¬3). عند إنشاء مدرسة تقوم (الجماعة) المشرفة على الحياة العامة، باستدعاء معلم، وهو عادة الإمام في ¬

_ (¬1) تقرير وزير الحرب إلى رئيس الجمهورية، باريس، 1851، ص 56 - 57. (¬2) محمد علي دبوز، (نهضة الجزائر الحديثة)، ج 1/ 212، وهنا وهناك. (¬3) هانوتو ولوتورنو، (بلاد القبائل)، ط 2 مرجع سابق، ص 107 - 108.

القرية. ويقوم المعلم (المؤدب) بتعليم الأطفال في جامع القرية، بالطريقة نفسها التي يتعلم بها الأطفال الجزائريون في كل مكان، فهو يحفظهم القرآن، أو بعضه، مع مبادئ القراءة والكتابة والدين. وهناك ثلاث حصص في اليوم مجموعها حوالي سبع ساعات ونصف: ثلاث ساعات صباحا، وثلاث في الظهيرة، وبين الساعة والنصف والساعتين في المساء قبل المغرب. يذهب الأطفال إلى مدرسة عند سماع الأذان الذي يؤديه المعلم نفسه. والعطلة عندهم تبدأ من ظهيرة يوم الأربعاء إلى ظهيرة يوم الجمعة. ولهم ثلاث عطلات سنوية، وهي 15 يوما قبل و 15 يوما بعد كل عيد أضحى وفطر، وعشرة أيام في عاشوراء. ومجموعها 72 يوما. وتسمى فترة العطلات أو الراحة (تزويق الألواح) لأن التلاميذ عنئذ يزوقون ألواحهم برسومات مختلفة الألوان، ثم يمرون في مجموعات على البيوت مظهرين الرسومات أو التزويقات، ويطلبون البيض من النساء. ومن تفاصيل هذه الصورة أنه من حق المعلم (المؤدب) معاقبة التلاميذ يدويا إذا رأى ما يستوجب ذلك. ومن العقاب جذب الأذن، والضرب بالعصا التي لا تفارق المعلم. وقد يرى إبقاء التلميذ في الجامع بعض الوقت دون أكل أو شرب. ومصاريف التعليم يقوم بها أهل القرية. ولا يشترك المرابطون في الدفع رغم أن أولادهم هم المستفيدون الأولون من التعلم. وقد تقرر الجماعة أن يدفع كل ولي تلميذ، مبلغا سنويا للمعلم يختلف من 5 إلى 12.50 فرنك. وإذا لم يجمع هذا المبلغ الإجباري يتطوع الأولياء بدفع هدايا للمعلم، حسب حظوظهم وثروتهم. أما في الزوايا التي فيها المرابطون فقط فإن الآباء هم وحدهم الذين يدفعون راتب المعلم. وإذا كان المعلم بدون عائلة وغريبا عن القرية فإنه يأكل بالتناوب عند العائلات التي لها تلاميذ، والنوبة تكون على الدار وليس على عدد التلاميذ الذين يقرأون. وهناك حياة اجتماعية ملازمة لتعليم القرآن. فيوم افتتاح المدرسة يقيم الآباء مادبة يحضرها المعلم والتلاميذ والأولياء وأعيان القرية أو الزاوية. وتسمى هذه المناسبة (زردة). وفي نفس اليوم يقدم التلاميذ هدية من النقود

لمعلمهم تختلف من حوالي 60 سنتيم إلى فرنك واحد. ولكن العائلات الغنية تظهر عندئد سخاء ملفتا للنظر. وعندما يبدأ التلميذ في حفظ القرآن تقوم عائلته بتحضير وجبة يحضرها المعلم والتلاميذ، وأثناءها تقدم هدية جديدة للمعلم. وهناك حفلة كبيرة تقيمها العائلة أيضا إذا حفظ التلميذ القرآن الكريم كله، وهي عادة تكون عشاء عاما بالكسكسي واللحم. لا شك أن هذه التفاصيل ليست خاصة بمنطقة زواوة، وأن كل الذين مروا بهذه الطريق، مهما كان مكانهم، سيذكرون العادات والتقاليد الملازمة للمدارس القرآنية. وقد تختلف التفاصيل والجزئيات كأجور المعلمين وسن دخول التلاميذ وخروجهم، وتوزيع الحصص، وما إلى ذلك. ولكن المؤكد أن المنهج واحد، وهو منهج لم تضعه دولة ولا وزارة ولا حزب ولا لجنة معينة، إنه منهج وضعه الدين والحاجة إلى صيانته وعبادة الله في أحسن وجه، والجميع يشتركون في تقديس القرآن، واحترام العلم، وحرمة المعلم. وذلك هو مبلغ علمهم. وعندما وقع الاحتلال وتغلغل الفرنسيون في البلاد وتسربوا إلى صفوف العباد، حاولوا أن يضعضعوا هذه العلاقة بين السكان والدين، وبينهم وبين اللغة، ثم بينهم وبين أنفسهم. إذا كان التعليم القرآني قد أصيب بنكبة في المدن منذ الاحتلال للأسباب التي ذكرناها، فإنه قد أصيب أيضا في الأرياف إصابة قوية منذ 1871، لأسباب مختلفة، منها القضاء على مدارس وزوايا منطقة زواوة، وتغلغل الآباء البيض فيها، وإجبار الأهالي هناك على إرسال أطفالهم إلى المدرسة الفرنسية فقط (¬1)، دون غيرهم من الجزائريين. ومنها احتلال ميزاب منذ 1882 وفرض المراقبة على حركة التعليم التي كان يديرها الشيخ محمد بن يوسف أطفيش هناك ومحاولته توحيد الجهود من أجل بعث تعليم حيوي قائم على تعاليم الإسلام وتقاليد السلف. ومنها أيضا التسرب إلى المناطق الصحراوية مثل وادي سوف ووادي ريغ وورقلة وتوات وتيديكلت، واستعمال الطرق الصوفية لهذا الغرض، وهي الطرق التي لم يعد لها سر. ومن جهة أخرى أدت ثورة بوعمامة (1881)، إلى السيطرة على منطقة ¬

_ (¬1) انظر فصل التعليم الفرنسي والمزدوج.

الجنوب الغربي وضرب زاوية أولاد سيدي الشيخ وبعثرة الحركة التعليمية أيضا في الجهة. وفي الأوراس قامت ثورة العمري ثم ابن جار الله خلال السبعينات مما أدى إلى تشديد قبضة السلطات الفرنسية على الطرق الصوفية هناك وحتى على القياد والعناصر البارزة التي كانت، رغم خدمتها لفرنسا إداريا، تساند حركة التعليم القرآني. ومن جهتها قامت الجمهورية الثالثة بإجراءات انتقامية ضد الجزائريين،. فإلى جانب غلق المدارس القرآنية والزوايا في مناطق الثورات، ومصادرة الأراضي الباقية في أيدي الثائرين وإعطائها إلى مشردي الألزاس واللورين، فرضت الضرائب الثقيلة على المشاركين في الثورات من قريب أو من بعيد، ونفت الأعيان و (الطلبة) الذين رأت فيهم الأعداء الدائمين. وقد ضرب ذلك الإجراء حركة التعليم القرآني في الصميم، لا سيما في الأرياف، بعد أن ضربها في المدن. وقد زاد الطين بلة أن الجمهورية الثالثة ألغت التعليم الابتدائي المزدوج الذي كان قد بدأه العسكريون سنة 1851، فألغت تلك المدارس القليلة بقرار، ودمجت المعهد العربي - الفرنسي (الكوليج) في الجزائر وقسنطينة، في الثانويات الفرنسية. وأحكمت قبضتها على المدارس الشرعية الرسمية المعدة لتخريج القضاة ونحوهم. وقد استمر هذا العداء للتعليم القرآني وغيره، إلى بداية التسعينات. واذا شكا الجزائريون من إهمال تعليمهم رغم دفعهم الضرائب الثقيلة المتنوعة للميزانية ورغم حقوقهم المشروعة والمهضومة في الأوقاف، أجابهم بعض ممثلي الكولون في شيء من السخرية والاستعلاء: أن لديهم (أي الجزائريين) أكثر من ألفي مدرسة قرآنية، ألا يكفيهم ذلك؟. حقيقة أنه كان للجزائريين حوالي هذا العدد من المدارس القرآنية، ولكن التعليم العربي الإسلامي يشكل حلقات متواصلة، ولا يتألف من حلقة واحدة. فالابتدائي يحتاج إلى المتوسط وهذا إلى الثانوي، وهكذا. ومن أين يتغذى إذن التعليم القرآني إذا انعدمت الدروس المسجدية الرفيعة وحلقات الزوايا المفيدة ونهبت كنوز المخطوطات، وغاب مشاهير العلماء والفقهاء؟

إن هذه الحلقة هي التي حطمها الفرنسيون منذ الاحتلال وجردوا التعليم القرآني من كل حيوية، ومنعوا المؤدبين من تفسير الآيات وتفهيم التلاميذ محتوياتها، كما قطعوا الصلة بينهم وبين التعليم المسجدي وتعليم الزوايا الذي هو الحلقة الوسطى إلى الثانوي والعالي. فلا غرابة إذن أن يقول لوروي بوليو L.Beaulieu سنة 1886 أن معلمي المدارس القرآنية جهلة تقريبا، وهم لا يعرفون إلا القراءة والكتابة، وهم في العادة من خريجي الزوايا. ثم أنهم يسمون (الطلبة)، ولهم رخص لتحفيظ القرآن يمنحها لهم حاكم المنطقة العسكري. ولا شك أن حديثه هنا يصدق على التعليم القرآني في الريف حيث يعيش معظم الجزائريين وحيث الزوايا كان لها صوت نافذ. ويرى السيد بوليو أيضا أن عده هذه المدارس (القرآنية) قد قدر سنة 1878 بما يقرب من ألفي (2000) مدرسة، يتردد عليها حوالي ثمانية وعشرين ألف تلميذ (28، 000). وقارن بينها وبين المدارس الفرنسية الابتدائية (الموجهة للفرنسيين) (¬1). وبالطبع لم يكن للجالية الفرنسية في الجزائر هذا العدد من المدارس، وإنما هو قد ذكر العدد السابق لكي يسكت دعاة تعليم الجزائريين أمثال جول فيري J.Ferry والبان روزي A.Rozet، ولكي يتخلص رؤساء البلديات الذين عهدت إليهم سلطة بلادهم بفتح المدارس (للأهالي) من مخصصات ميزانية البناء وأجور المعلمين، فلم يفعلوا. كان الحاكم العام، الجنرال شأنزي Chanzy، ضد التعليم القرآني، وكان يعتبره تعليما معاديا لفرنسا. ولم يكن وحده في ذلك، فقد سبقه إليه معظم الحكام الآخرين، سيما ديقيدون De Guydon، فإذا كان الحكام أنفسهم ضد هذا النوع من التعليم الإسلامي، فماذا سيكون مصيره؟ ولعل الفرق بين حاكم وآخر هنا هو أن شأنزي قد طال عهده (حوالي ست سنوات) وأنه أصدر قرارا يحد فيه من فتح المدارس القرآنية ويضع نصوص العقوبة للمخالفين. فكانت الرخص لفتح هذه المدارس قبل شأنزي يمنحها جنرالات المناطق العسكرية أو الولاة في المناطق المدنية. لكن شأنزي رفض منح هذا (الشرف) لمؤدبي الصبيان، وأصدر بدلا من ذلك قرارا ينص على أن كل الرخص سيمنحها منذئذ ¬

_ (¬1) لوروي بوليو (الجزائر)، باريس، 1886، ص 251.

(1877) إداريون فقط مثل رؤساء البلديات أو الضباط السامين، بعد أخذ رأي المساعد الأهلي (جزائري) في المدرسة الفرنسية، أو رأي شيخ الدوار الذي يتبعه المؤدب الراغب في فتح المدرسة القرآنية والاستقرار فيه. وأضاف قرار شأنزي أن هذه الرخص يجب أن يرفضها المسؤولون المذكورون بصفة مطلقة بالنسبة: 1 - لمن كان أجنبيا من (الطلبة) (أي المعلمين - المؤدبين). 2 - للطلبة الراغبين في فتح مدرسة قرآنية عامة في مكان توجد فيه مدرسة بلدية (فرنسية) وفيها مساعد أهلي (¬1)، أو مدرسة عربية - فرنسية. وكوسيلة أخرى من وسائل الحرب ضد المدارس القرآنية والتعليم العربي - الإسلامي على العموم، فإن قرار شأنزي زاد في التضييق حتى أصبح من المستحيل تقريبا منح الرخصة. فقد نص على أنه إذا كان طالب الرخصة جزائريا وليس من الدوار الذي يرغب الإقامة فيه، فلا بد أولا من جمع المعلومات المفصلة عن هذا الطالب في المكان الذي كان يقيم فيه قبل ذلك، عن طريق السلالم الإدارية، أي البحث عن سلوكه، وماضيه، وسلوك وماضي أهله في علاقتهم بالفرنسيين. أما إذا أرادت إحدى العائلات أن تأتي بمؤدب لأطفالها فقد اشترط قرار شأنزي شروطا أخرى. فعلى هذه العائلة أن تطلب هي الرخصة لهذا الطالب المؤدب، سواء كان جزائريا أو أجنبيا، وأن تكتب عليها ملاحظة وهي أنها رخصة خاصة بالإقامة مع الإشارة إلى كونه معلما خاصا لعائلة فلان. ومن ثمة يمنع عليه فتح مدرسة أو قبول تلاميذ آخرين غير أولاد العائلة الطالبة للرخصة. وهذه العائلة هي التي تدفع له أجره، وهي الضامنة فيه أمام الإدارة الفرنسية (¬2). واضح أن الهدف من هذا القرار الصادر من حاكم يكره التعليم العربي الإسلامي، هو تكريس جهل الجزائريين بلغتهم ودينهم من جهة وتمكين المدرسة الفرنسية من التوغل في المناطق الريفية من جهة أخرى. ¬

_ (¬1) لأن دور المساعد الأهلي هو تعليم القرآن في المدرسة الفرنسية. ولا ندري لماذا يطلب رأيه إذن ما دام إعطاء الرخصة ممنوعا في المكان الذي هو فيه. (¬2) ديبون وكوبو لاني (الطرق الدينية الإسلامية)، الجزائر، 1897، ص 209.

ويبدو أنه كان لهذا الإجراء نتائجه. فقد انكمشت الكتاتيب وكادت تنعدم في بعض الجهات، سيما تلك الواقعة تحت النظر المباشر للسلطات الفرنسية. فقد شنت الحرب على العربية والإسلام في منطقة زواوة، كما ذكرنا، على يد الإدارة وكذلك على يد الكنيسة بقيادة الكاردينال لافيجري. ولاحظ الدارسون سنة 1904 أن أرياف منطقة التيطري أصبحت أمية تماما في القراءة والكتابة باللغة العربية، إذ ليس فيها مدارس عربية ولا زوايا. ولم يجد هذا الدارس سوى الآغا عبد القادر بن الجيلاني يعطي تعليما قرآنيا محدودا ناحية المدية. وأصبح وجود معلمي القرآن نادرين حتى إن من كان يرغب منهم في معرفة اللغة العربية عليه أن يذهب إلى زوايا منطقة زواوة، لأن زاوية الهامل وزاوية قصر البخارى فقدتا جاذبيتهما بعد وفاة شيخيهما (القاسمي والموسوم)، وكان الأطفال يذهبون أحيانا إلى الشيخ سيدي العربي بن الطاهر في معسكر (موران)، ولكن حظهم كان ضعيفا في التعليم (¬1). وإصلاحات 1892 الخاصة بالتعليم للجزائريين كان أول ضحاياها التعليم القرآني أيضا. فمن جهة انغرست إلى جانب الزوايا الشهيرة بتعليم القرآن مدرسة فرنسية (أهلية). ومن جهة أخرى حددت شروط فتح المدرسة القرآنية ولم يعد الأمر متروكا للزاوية أو المؤدب. فقد نص مرسوم 18 أكتوبر 1892 على ضرورة أن يلبي المؤدبون في المدارس القرآنية (الكتاتيب) شروط الصحة، وهذا شيء مهم ولا جدال فيه، ولكن الذي يلفت النظر في هذا المرسوم هو الاشتراط عليهم عدم استعمال وظائفهم لتعليم أمور أخرى غير القرآن، تلك (الأمور الأخرى) المضادة للأمن العام والتي (تعود إلى عهود مضت). ونص المرسوم على الغلق الدائم أو المؤقت للمدارس التي تخالف هذا القانون (¬2). وقد تعلل ألفريد بيل A.Bel الذي درس موضوع المدرسة القرآنية بالتفصيل، بأن الأهالي إنما كانوا يرسلون أولادهم إلى المدرسة القرآنية ليتعلموا شؤون دينهم فقط متمثلة في القرآن والصلوات ... وهذا في أصله صحيح ولكن عند أي نقطة تتوقف معرفة الدين، هل هي حفظ أجزاء من القرآن والوقوف على فرائض ¬

_ (¬1) الإسكندر جولي (دراسة عن التيطري) في SGAAN، 1906، ص 21 - 22. (¬2) ألفريد بيل (مؤتمر علماء شمال إفريقيا) ج 2، باريس، 1908، ص 230.

القرآن والوقوف على فرائض الصلاة؟ ذلك ما يريد الفرنسيون الاكتفاء به، فإذا تجاوزه المؤدب (المعلم) فإنه يكون قد دخل في السياسة وأزعج الأمن العام ورجع إلى الماضي، أي التعصب الديني في نظرهم. ومهما كان الأمر فإن تفاؤل الفرنسيين كان برقا خلبا، لأن الجزائريين لم يتخلوا أبدا عن المدرسة القرآنية. وقد طوروها بأنفسهم، كما ذكرنا، في أعقاب الحرب العالمية الأولى. ومنها ما بقي على ما كان عليه شاهدا على التحدي والمقاومة العنيدة، لا سيما في المناطق الريفية النائية أو التي ظلت عسكرية إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية. في الدراسة التي أشرنا إليها يذكر الفريد بيل ملامح التعليم القرآني في وقته (1908)، ويبدو أنه لم يتغير عما كان عليه منذ 1830. ومع ذلك فآراء الفريد بيل، هذا المستشرق المعادي للعرب والمسلمين والذي تولى وظائف بارزة مثل إدارة مدرسة تلمسان، هي آراء جديرة بالتأمل. وإن نصائحه إلى الإدارة الفرنسية ضد التعليم القرآني لتدل على تفاؤله الساذج، رغم علمه وكثرة تجاربه وتآليفه. يقول وهو يتحدث عن التجربة منذ إصلاح 1892، أن تلاميذ المدرسة القرآنية قد تركوها إلى المدرسة الابتدائية الفرنسية، وبعضهم كان يجمع بين المدرستين. وسيحل، في نظره، التعليم اللائكي (غير الديني) للفرنسية والعربية في المدرسة الفرنسية الخاصة بالأهالي، محل المدارس القرآنية بالتدرج. ثم أن المدرسة التحضيرية التي تنوي فرنسا إقامتها (وقد فعلت) في الأرياف، ستجعل الأطفال الجزائريين يتركون التعليم القرآني، لأن معظم الآباء إنما يرسلون أولادهم إليه ليتخلصوا منهم فقط. وفي هذه المدرسة التحضيرية écoles préparatoires - سيتعلم الطفل القراءة والكتابة بالعربية والفرنسية، ويتلقى مبادئ الحساب ومعارف مفيدة، تجعل منه عاملا ماهرا (وهو هدف التعليم الفرنسي الجديد). وبهذه الطريقة يخرج الطفل من المدرسة القرآنية ويذهب إلى المدرسة التحضيرية الفرنسية. وبعد أن قدم الفريد بيل صورة مفصلة عن المدرسة القرآنية (الكتاب)، والتلميذ والمعلم والأدوات (اللوح، والدواة، وقلم القصب ...) ومنهج التعليم يقول: إن التلميذ لا يفهم أي شيء مما يحفظ، ويمنع عليه أن يسأل

ذلك، كما أن الطالب الذي لا يفهم هو أيضا، يحذر التلميذ أن يسأله. وهذا رأي مبالغ فيه لأن المؤدب يعرف قوى التلميذ العقلية، فهناك أمور يعلمها له ويصارحه بها وهناك أمور تترك إلى مرحلة لاحقة. وما دام القانون الفرنسي يشترط عدم التفسير والتفهيم والشرح، فهل الذي يلام هو المنهج التعليمي أو التعسف الإداري؟ إن كثيرا من الكلمات كانت تؤول وتصل إلى الإدارة بطريقة مفخمة فتؤدي بالمعلم المسكين إلى المساءلة بل والسجن، تحت طائلة قانون الأهالي الاستثنائي. وفي عهد بيل هذا كان التعليم القرآني غير مجاني، ولكن الفقير معفى من الدفع. وليس هناك أجر محدد للمعلم. ففي المدن قد يصل ما يدفعه الموسرون إلى خمسة فرنكات للشهر. ولكن بعضهم يدفع أقل من ذلك. والدفع في الريف سنويا وهو عادة زمن الحصاد، ويدفع عينا لا نقدا، كما ذكرنا. وفي الريف والمدينة يقدم الآباء هدايا للمعلم، سيما في المواسم الدينية وعند ختم التلميذ لأجزاء من القرآن أو كله. وقد انتقد السيد بيل منهج التعليم القرآني، كما انتقده قبله زميلاه هانوتو ولوتورنو (¬1). وكل النقد كان منصبا بالدرجة الأولى على طريقة الحفظ دون الفهم. فالتركيز على تقوية الحافظة مما يترتب عليه، في نظر بيل، النظر إلى القرآن عند التلميذ نظرة تقديسية. وهكذا فإن روح البحث تعتاد على الكسل، كما تعتاد على الثقة في القيم الخارقة للعادة Surnaturel رجاء المساعدة من الله. إن وجود المدرسة (المسيد) والشريعة في القرية في حد ذاته يعتبر بركة عند السكان. وهذه في نظر بيل، هي عقيدة الشعوب البدائية في كل مكان، إذ تعتقد أن كل شيء مكتوب له قوة خارقة، فما بالك إذا كان المكتوب قرآنا! ثم أن التلميذ الذي حفظ القرآن يعتبر محظوظا عند الله، وهو لا يقوم بعمل يدوي، ولا يبقى له سوى جمع بعض المريدين من حوله، ¬

_ (¬1) يقول هانوتو ولوتورنو عن التعليم القرآني، والإسلامي عموما، أنه أسوأ تعليم موجود على وجه الأرض. انظر فقرة أخرى من هذا الفصل (الزوايا).

اعتقادا فيه أنه كائن شبه خارق للعادة، قادرا بفضل حفظه للقرآن، على صد كل المصائب. ويعتقد بيل أن (الطالب) الذي تكون بهذه الطريقة يعيش عيشة مشكلة. فهو يكسب معاشه من الصدقات، ويتقاضي أجرا على الأحجبة التي يكتبها لإخوانه في الدين. وقد أجاب بيل عن أصل المشكل بنفسه حين قال إن هذا الطالب يرضى بهذه العيشة التدجيلية (شارلتان) إذا لم يستطع أن يفتح مدرسة قرآنية. إن كل هذه الحياة المعضلة للطالب المشرد هي كونه لم يجد موردا للرزق مما تعلمه. وقد صدق السيد بيل في عدد من النقاط التي انتقد بها التعليم القرآني كالاكتفاء بالحفظ، وجمود الذهن، والكسل العقلي، وما إلى ذلك. وهذا بالطبع ليس من التربية في شيء، وليس مستمدا من القرآن نفسه ولا من السنة. وعلماء التربية المسلمون وضعوا الأساس للتعليم الصحيح (¬1). ولكن ظاهرة التخلف أوصلت التعليم القرآني، وغيره، إلى الحد الذي وصفه بيل. بقي سؤال، وهو ما دور الإدارة الفرنسية في ذلك؟ أليست إدارة احتلال وبيدها الميزانية والمسؤولية على التعليم الإسلامي والفرنسي؟ فماذا فعلت؟ أننا لا نقول أن الإدارة مسؤولة عن كل التخلف، ولكنها كانت شاهدة عليه ومشجعة له وكرسته في الطرق الصوفية المنحرفة وفي العلماء المدجنين وفي المدارس القرآنية التي تخرج أمثال الطالب الذي يتحدث عنه. وبدل أن يقترح بيل الارتقاء بهذا التعليم وإخراجه من الهوة التي وضعه فيها الإداريون والخبراء الفرنسيون أخذ يهوى بفأسه على رأس المؤدبين والتلاميذ وكتاب ¬

_ (¬1) تحدث ابن خلدون عن ظاهرة الحفظ في بلاد المغرب العربي، وعزاها إلى ضعف الملكة بانقطاع سند التعليم عند أهلها وقال: (فتجد طالب العلم منهم، بعد ذهاب الكثير من أعمارهم في ملازمة المجالس العلمية، سكوتا لا ينطقون ولا يفاوضون، وعنايتهم بالحفظ أكثر من الحاجة. فلا يحصلون على طائل من ملكة التصرف في العلم والتعليم ... وما أتاهم القصور إلا من قبل التعليم وانقطاع سنده. وإلا فحفظهم أبلغ من حفظ من سواهم، لشدة عنايتهم به، وظنهم أنه المقصود من الملكة العلمية، وليس كذلك). المقدمة، ط. بيروت، 1961، ج 1، ص 773.

التعليم في المساجد

الأحجبة لأنهم لم يتعلموا تعليما صحيحا على الطريقة العصرية الفرنسية. فهو يقول: أنه من النادر أن تجد عارفا بالقرآن يواصل دراسته. ومن الأندر أن يستطيع من واصل دراسته التخلص من رواسبه على مخه، تلك الرواسب التي تركها فيه التعليم القرآني (¬1). أما كون العارف بالقرآن تندر مواصلته للدراسة فذلك هو (فضل) فرنسا على الجزائر، كما يعرف ألفريد بيل. وأما تأثير التعليم القرآني على مخ المتعلم، فذلك طبيعي، وذلك ما يريده المسلمون، ولكن بيل يريد أن يقول: علينا أن نخلص الجيل من الرواسب بالتخلص من التعليم القرآني بتاتا. وقد أشار إلى ذلك في البداية. التعليم في المساجد بعد انتهاء الأطفال من المدرسة القرآنية يتوجه الراغبون منهم إلى المساجد والزوايا لمواصلة تعليم متوسط وثانوي. وقد تصل بعض الدروس فيه إلى مستوى التعليم العالي في مراحل متقدمة. وقد درسنا هذا الموضوع في الجزء الأول وقلنا أن من نقائص التعليم في الجزائر خلال العهد العثماني هو انعدام مؤسسة قارة وقوية للتعليم الاسلامي ذات إشعاع وطني مثل القرويين في فاس والزيتونة في تونس والأزهر في مصر. كانت دروس التعليم الثانوي والعالي مبعثرة في الجزائر وليس لها منهج أو مراحل تقطعها. كانت اجتهادية وظرفية، فهي خاضعة لمهارة وشهرة المدرسين ومناسبة الظروف السياسية والاقتصادية. وقد عرفنا أن بعض المدرسين البارزين كانوا يأتون من البلدان المجاورة إلى الجزائر للتدريس ونحوه فعوضوا بعض النقص، كما أن أذكياء الطلبة والطموحين منهم كانوا يهاجرون، في سبيل الحصول على العلم، ولكن بعد الاحتلال وقعت أمور أخرى أثرت على مسيرة التعليم الثانوي والعالي. فإذا كانت المدارس القرآنية قد استمرت في المدن، كما ذكرنا، رغم الصعوبات، فإن مراحل التعليم الأخرى قد عرفت تدهورا كبيرا لأسباب. ¬

_ (¬1) الفريد بيل، (مؤتمر ...) مرجع سابق، ص 209.

منها نفي أو هجرة العلماء، ومنها تدجين الباقين إذ أنهم أصبحوا موظفين يتقاضون أجورهم ومرتباتهم من الإدارة الفرنسية بعد أن كانوا مستقلين يتقاضون ذلك من مداخيل الأوقاف. وقد عرفنا أن هذه المداخيل قد استولت عليها الدولة الفرنسية وصادرت أملاك المساجد والزوايا نفسها التي كانت أماكن للعبادة والتعليم وإدارة القضاء. وكان التعليم الثانوي والعالي أول ضحايا هذه التطورات، من يدرس؟ أين يدرس؟ من يدفع؟ من يسمى؟ الخ. ولقد دامت هذه الحالة من الذبذبة والفوضى والإهمال إلى حوالي 1851. ولكن بين 1830 وذلك التاريخ (1851) انقرض جيل كامل من العلماء والطلبة والوكلاء. انقرضوا أو تبددوا نتيجة الحروب المتواصلة، وتقطعت بهم السبل في المنافي والمهاجر، أفرادا وعائلات: ولنذكر من الأفراد ابن العنابي والكبابطي والسكلاوي وحمدان خوجة، والقاضي عبد العزيز، وعائلة المشرفي وعائلة الأمير عبد القادر وعائلة ابن المرابط الخ ... وكثير من الأفراد والعائلات لم تهاجر من الوطن وإنما انتقلت إلى الأماكن التي لا يسيطر عليها الفرنسيون مثل عائلة ابن الحفاف، وابن رويلة، وأحمد البدوي والشريف الزهار وسيدي علي مبارك. ونحن لا نذكر هنا إلا العائلات والأسماء العلمية التي كان فيها التدريس والمكتبات. من جهة أخرى عرفنا أن هدم عشرات المساجد أو تحويلها إلى كنائس ومستودعات أو منحها للجيش والجمعيات الدينية الفرنسية، كل ذلك حرم العلم من مقراته ومن موارده أيضا، لأن كل بناية كان لها ريعها ووكيلها ومدرسها. ولا نريد أن نعود للحديث عن مصير المساجد أوائل الاحتلال، وحسبنا القول أن الدروس التي كانت تلقى في أغلبها قد توقفت نتيجة هدم العشرات منها أو تعطيلها. فدروس مساجد الحاج حسين باشا وعبد ي باشا، وجامع السيدة، كلها قد توقفت. وكذلك دروس مسجد كتشاوة ومسجد علي بتشين وجامع القصبة ... فقد توقفت لأنها قد تحولت إلى كنائس. وكذلك

جامع سوق الغزل بقسنطينة وجامع خنق النطاح بوهران وجامع العين البيضاء بمعسكر. وهناك دروس أخرى قد توقفت أيضا لأن المساجد قد حولت إلى ثكنات ومخازن واسطبلات. وحتى الجامع الكبير والجامع الجديد بالعاصمة لم يسلما من العبث والإهانة، إذ كلاهما استنقص منه وأغلقت منه بعض الأبواب ثم حجبا عن الأنظار من جهة البحر، وأخيرا هددا بالزوال تماما سنة 1905. وقل مثل ذلك في مساجد قسنطينة وبجاية وعنابة ووهران والمدية ومعسكر الخ. إن المدينة الوحيدة التي سلمت مساجدها تقريبا هي تلمسان، ومع ذلك فقد منحت مداخيلها أيضا كغيرها إلى أملاك الدولة وحول بعضها إلى متحف أو اعتراه البلى. أمام هذه المعاملات للمساجد لا أحد كان ينتظر استمرار الدروس فيها. فلا العلماء ولا الفقهاء كانوا مستعدين لمواصلة مهمتهم في جو من الارهاب والبطش وعدم الاستقرار، ولا الفرنسيون كانوا سيسمحون بذلك وهم يحاولون وضع أيديهم على كل شيء في البلاد، ولا الطلبة الذين لم يعد يطيب لهم المقام في مدن تحت قبضة العدو. وهكذا كان الاحتلال وما تلاه من إجراءات وإرهاب ومصادرة سببا في توتف دروس المساجد في المدن. وما دام الفرنسيون قد وضعوا أيديهم على المساجد منذ اللحظة الأولى للاحتلال، فإنهم قد وضعوا أيديهم أيضا على فئة العلماء والفقهاء الذين كانوا يدرسون فيها. ويبدو أن الفرنسيين لم يسمحوا باستئناف الدروس في المساجد إلا خلال الأربعينات، ولكن في حدود ضيقة جدا. فحوالي 1843 سمحوا لثلاثة فقط من (الطلبة) بإعطاء دروس في المساجد الثلاثة (؟) بمدينة الجزائر (¬1). ولا تخرج هذه الدروس عن الفقه وقواعد الدين للعامة وليس للراغبين في العلم، كما كان الحال. ولا ندري الآن أسماء المدرسين، ونعتقد أن الكبابطي قد كان أحدهم قبل نفيه. وقد جرت تعيينات مشابهة في قسنطينة أيضا. فعين الشيخ مصطفى بن ¬

_ (¬1) السجل (طابلو)، سنة 844 1 - 1845، ص 80.

جلول مدرسا بجامع سيدي الأخضر (يناير 1850)، وعين الشيخ المكي البوطالبي مدرسا بالجامع الكبير هناك في نفس الوقت، كما عين الطاهر بن النقاد على مدرسة جامع سيدي الأخضر، ومحمد بن أحمد العباسي على مدرسة جامع سيدي الكتاني. بالإضافة إلى وظائف أخرى في الإفتاء والقضاء (¬1). وقد شعرت السلطات الفرنسية بهذا الفراغ في الدراسات الإسلامية ابتداء من وسط الأربعينات. وقال بعضهم أنه إذا استمر الوضع على ما هو عليه، فإن الفرنسيين لن يجدوا من يعينوه قاضيا، وهو ما كان يهمهم أكثر من التدريس. ولذلك عكفوا على دراسة الوضع. وقد خرجوا بتوصيات شملت القضاء والتعليم وتنظيم المساجد، أو بعبارة أصح شملت الدين والتعليم والعدل. ويهمنا هنا التعليم. فقد لاحظوا أنه لا توجد لشباب الجزائريين مؤسسة للتعليم فوق الابتدائي، وليس هناك رجال أكفاء يقومون بالفتوى والقضاء ويمكنهم كسب النفوذ للسياسة الفرنسية، وهذا أمر ضروري (لسياستنا) (¬2). ولاحظوا أيضا أن إهمال التعليم الإسلامي في المدن قد نتج عنه تقوية المرابطين والزوايا في الأرياف. فقد كانت زوايا المرابطين تستقبل الراغبين في التعلم بدل الذهاب إلى المساجد في المدن التي استولى عليها الفرنسيون. كان المدرسون في الماضي يعينهم الداي باقتراح من الناظر من بين أفضل العلماء. وكانوا يتقاضون مرتباتهم من الأوقاف. وهي تبلغ بين 60 و 200 فرنك سنويا، وكانت لهم سكنى مجانية، كما يجوز لهم الجمع بين وظائف التدريس والقضاء والافتاء. وكانوا يتمتعون باحترام كبير. وبالإضافة إلى رواتبهم فأن لهم امتيازات أخرى تتمثل في الزيت والماء والحلويات خلال شعهر رمضان. ولكن منذ الاحتلال توقف كل ذلك عليهم للظروف التي ذكرناها. وكان التعليم العالي مزدهرا في بعض المدن مثل قسنطينة إلى ¬

_ (¬1) حسب سجل قائد البلاد المنشور في مجلة (روكاي) لسنة 1859، 1. ومحمد بن العباسي هو نجل الشيخ أحمد العباسي الذي اشتهر أمره. (¬2) زوزو، (نصوص)، مرجع سابق، 208 عن تقرير يرجع إلى حوالي 1846.

الاحتلال. فقد كان فيه حوالي 700 طالب، من بينهم حوالي 150 يتقاضون منحا. ولهم سكنى مجانية، إضافة إلى امتيازات أخرى في رمضان والمواسم. وكان حوالي ثلثي الطلبة من خارج المدينة (غرباء). فماذا بقي من هؤلاء بعد الاحتلال؟ لقد توجه الطلبة إلى زوايا منطقة زواوة وزوايا الجنوب طلبا للعلم نظرا لاستيلاء الفرنسيين على جميع الموارد في المدينة. أنه لم يبق بها منهم سوى 60 طالبا. كما أن العلماء أنفسهم قد تشتتوا أو هاجروا، ومنهم من قضى نحبه، ومنهم من انقطعت عنه الموارد. أما برنامج الدراسة للتعليم الثانوي والعالي فلا يخرج عن المواد العربية والإسلامية. فالثانوي يشمل عادة النحو والتفسير وحفظ المتون والمطالعة ومبادئ الفقه والتوحيد، والحديث، ومبادئ الفلك والحساب. ويقضي التلميذ فيه حوالي سبع سنوات. أما دروس التعليم العالي فتتألف من الفقه وأصول الدين والتوحيد والحديث، والحساب والفلك، والجغرافية والتاريخ الطبيعي والطب العام. هذا بصفة عامة، ولكن الأمير عبد القادر مثلا شجع الدروس بين المواطنين في المساجد وغيرها، وكان هو نفسه يقوم بإلقاء درس عمومي عندما لا يكون في حالة حرب مع العدو. وقد رتب في مختلف المدن علماء لهذا الغرض، وجعلهم طبقات وعين لكل طبقة راتبا عينيا أو نقديا. واستثنى العلماء من الضرائب. وكان يقوم هو نفسه باختبار المترشح، فكان يكرم الجيد ويعرض عن الجاهل. وكان التلاميذ يجدون المدرسين الجيدين والمكتبات للمطالعة ومحلات السكن. وقد عفا الأمير عدة مرات على مدرسين استحقوا عقوبة الموت، تقديرا للعلم. وكانت هذه السياسة سببا في ازدهار حركة التعليم في دولة الأمير وتنافس العلماء في تحصيل العلم وحفظ التراث، رغم ظروف الحرب القاسية (¬1). وكان معظم خلفائه من المدرسين ¬

_ (¬1) محمد باشا، (تحفة الزائر)، ط 1، ج 1، ص 309. وكذلك بيلمار، مرجع سابق، ص 237. 61

والمتفقهين أمثال مصطفى بن التهامي ومحمد بن عيسى البركاني، وأحمد الطيب بن سالم، والحاج سيدي علي السعدي، والحاج محيي الدين بن مبارك. وفي ميزاب حيث المساجد هي أساس التعليم الثانوي، ولا وجود للزوايا، نجد التلميذ ينتقل من التعليم القرآني الابتدائي إلى المتوسط فالثانوي، وعادة كان التعليم يعطى في دار العلم أو دار التلاميذ تحت إشراف العزابة. وبرنامج هذه المرحلة غني بالنسبة إلى غيره في أنحاء القطر. فهو يشمل العلوم الدينية من فقه وتوحيد وأصول الفقه، والتفسير والحديث والفرائض. ثم العلوم العربية والعقلية كالنحو والبلاغة والعروض والمنطق والحساب. وكانوا يعتنون بالحساب لعلاقته بالفرائض، وكذلك التجارة والمحاسبات. وكان التلاميذ يواظبون على الدروس في المساجد التي كانت مجانية لهم وكذلك بالنسبة للمعلمين (¬1). ولا يكاد يوجد رجل أمي في ميزاب لعناية أهله بالتعليم العربي الإسلامي من الأساس. أما التعليم العالي فيتلقونه على بعض الشيوخ البارزين أمثال الشيخ أطفيش ثم تلاميذه في مرحلة لاحقة، أو يهاجرون من أجله إلى تونس والمشرق. ... ابتداء من 1851 وقع تنظيم خاص للمساجد والمدرسين فيها. والتنظيم جاء بعد دراسة شاملة للدراسات الإسلامية وموظفيها عموما. وقد رتبت المساجد إلى خمس درجات، ولم يختص بالتدريس إلا مساجد الدرجة الأولى. وهذه المساجد لا تكون إلا في المدن الرئيسية. فكان ستة فقط في كل القطر من الدرجة الأولى ثلاثة في العاصمة واثنان في قسنطينة وواحد في تلمسان. وقد سمى المدرس (مفسرا للقرآن) فقط. فلم يعد تدريس اللغة والنحو والأدب والتاريخ وما إليها جائزا للمدرس، وإنما كان الفرنسيون هم الذين يختارون له موضوعات في الفقه وأخرى في التوحيد لا يخرج عنها (¬2). وكان ¬

_ (¬1) دبوز، نهضة، 1/ 212. وهنا وهناك. (¬2) انظر تصنيف وترتيب المساجد في فصل السلك الديني والقضائي.

وكان مرتب المفتي والإمام على حساب الدولة، ومن المفهوم أن المدرس هو أحد هذين. أما الموظفون الآخرون في المساجد فعلى حساب الميزانية المحلية والبلدية. وبذلك تخلت الدولة عن مهمتها نحو المساجد رغم أنها هي التي استولت على أوقافها وصادرت أموالها. وفي مكان آخر وصف دور المدرسين بأنه تعليم شؤون الدين للأطفال والتلاميذ البالغين (¬1). وهذا في الواقع هو مستوى التعليم الذي بقي معترفا به (التعليم القرآني). وفي سنة 1897 وصف المدرسون بأنهم هم الذين يقومون بالتعليم العالي في المواد الآتية: التوحيد والفقه والنحو والأدب وعلم الفلك، وعرفوا بأنهم العلماء أكثر تقدما في التعليم، وبذلك تطور مفهوم المدرس عما كان عليه منذ سنة 1850 في نظر الفرنسيين. فالعلماء أصبحوا يكونون التلاميذ لوظائف الديانة، ومن بينهم تختار الدولة عادة المفتين والقضاة (¬2). ولا شك أن هذا خلط بين وظيفة المدرس في المساجد ووظيفة المدرس في المدارس الشرعية الفرنسية التي تأسست هي أيضا سنة 1850. أما مدرسو المساجد في العهد الفرنسي فلا يعلمون الأدب ولا البلاغة ولا علم الفلك. أنهم يلقون درسا في التوحيد للعامة، كما قلنا، أو في مبادئ الدين، بأسلوب تراقبه السلطة، وهي التي تجعل عليهم عيونا راصدة. وهذا التعليم المبسط جدا أصبح يقوم به المفتون الذين كانوا على رأس مساجد الدرجة الأولى في المدن الكبيرة (¬3). في هذه المرحلة أيضا - الخمسينات - كان عدد المدرسين حوالي ستة في المساجد وحوالي تسعة في المدارس الشرعية الثلاث. فتكون الجملة حوالي خمسة عشر مدرسا رسميا في الجزائر كلها. ¬

_ (¬1) السجل (طابلو) سنة 1846 - 1849، ص 205، وكذلك لويس رين (مرابطون وإخوان)، الجزائر 1884، ص 13. (¬2) ديبون وكوبولاني، مرجع سابق، ص 13. (¬3) في إحصاء صدر في كتاب بعد الاستقلال أن عدد المدرسين في الجزائر خلال العهد الفرنسي كان 21 مدرسا، وعدد المفتين (وهم مدرسو المساجد) كان 25 مفتيا. انظر قوانار Goinard (الجزائر)، باريس، 1984. ص 296.

وإذا كان مدرسو المدارس الشرعية لا يهمنا أمرهم هنا (انظر فصلا آخر) فإن مدرسي المساجد على النحو المذكور كانوا لا تأثير ولا أثر لهم. فعلمهم كان ضئيلا وكان بعضهم لا يكاد يحسن الكتابة الصحيحة كما لاحظ المعاصرون، وكانوا موظفين طائعين يعملون على إرضاء الفرنسيين بكل الطرق، وهم في أغلبهم البقية التي لم تهاجر أو لم تغضب السلطات الفرنسية. وبعضهم كان مجهولا تماما فلم يكن له اسم ولا رسم بين العلماء السابقين ولا في العائلات العلمية التي كانت عادة تتوارث العلم أبا عن جد. وفي سنة 1878 زار الجزائر الشيخ محمد بيرم الخامس التونسي وتحادث مع بعض علمائها كالشيخين أحمد بوقندورة (المفتي الحنفي) وعلي بن الحفاف (المفتي المالكي) وأخبرنا أن في العاصمة وحدها عشرة مدرسين. ولا شك أنه قد جمع مدرسي المساجد والمدارس الشرعية الرسمية أيضا، لأنه لم يكن في العاصمة سوى أربعة مساجد للخطبة عندئذ. وأخبرنا أن معظم الدروس كانت في الفقه المالكي (مختصر الشيخ خليل) وقليلا فقط في الحديث وغيره. وكأنه أراد أن يقول أن دور المسجد في التعليم قد انتهى في العاصمة، إذ أن العناية بالعلم في رأيه إنما هي في قسنطينة وتلمسان وفي الجنوب. ونوه بالتعليم في الجنوب بالذات لوجود السند عند علمائه - كما يقول ابن خلدون - لأنهم يرحلون إلى طلب العلم إلى فاس وتونس وحتى إلى مصر ليأخذوا عن علمائها، لذلك لم ينقطع (العلم) في هذه الجهات ممن له اطلاع جيد ومشاركة. والقليل منهم فقط يتضلعون في العلوم لعدم وجود العلماء الفحول في أوطانهم، وإنما هم يقرأون صغار الكتب. وإذا مهر واحد ممن رحل في سبيل العلم فإنه لا يرجع إلى وطنه إلا نادرا (¬1). وهذا نتيجة هيئة التدريس الجديدة التي نصبتها السلطات الفرنسية في المساجد، إنها هيئة جاءت لتبارك العمل الفرنسي وتختم على أوراق الإدارة، وتصدر الفتاوى المناسبة والدروس الفاترة على من بقي من التلاميذ. ومن عادة الجزائريين عدم الثقة فيمن تعينه السلطات الفرنسية ولو كان من أنبغ العلماء، وهو ما لا يكون. ¬

_ (¬1) محمد بيرم الخامس (صفوة الاعتبار. ..) 4، ص 19.

ومنذ أوآخر القرن الماضي بدأ التفكير في توسيع دروس المدرسين تبعا لإصلاح المنظومة التعليمية الذي جاء سنة 1895. وكان هدف المسؤولين الفرنسيين امتصاص عدد من خريجي المدارس الشرعية (الفرنسية) الذين بقوا بدون عمل بعد تقليص دور القضاة المسلمين وحصره في الأحوال الشخصية فقط، كما أن غرضها كان محاولة استقطاب عدد من خريجي الزوايا الذين بقوا مهمشين مشكلين في نظر الفرنسيين خطرا عليهم. ومن جهة أخرى فإن توسيع دروس المساجد سيدعم حركة التعليم الابتدائي التي جاء بها إصلاح 1895. وهكذا شرع منذ حوالي 1955 في إحداث دروس في المساجد لم تكن من قبل، ووقع تجنيد عدد من المدرسين في مساجد كانت مهملة منذ عشرات السنين، في مختلف أنحاء القطر. وتتحدث المصادر على وجود واحد وعشرين مدرسا (21) فقط سنة 1955 (¬1)، ولكن هذا العدد تضاعف خلال عشر سنوات، كما سنرى من تقارير المفتشين. وكان هؤلاء المدرسون مقسمين كالآتي: أربعة في العاصمة: الجامع الكبير والجامع الجديد وجامع سيدي رمضان وجامع صفر (¬2)، واثنان في قسنطينة: الجامع الكبير وجامع سيدي الكتاني، ومدرس واحد في كل من المدن الآتية: البليدة، المدية، مليانة، تيزي وزو، الأغواط، مستغانم، وهران، تلمسان، سيدي بلعباس، جيريفيل، معسكر، بجاية، عنابة، طولقة، بسكرة، وهؤلاء المدرسون يتقاضون مرتباتهم من الميزانية الرسمية، وهم معينون من قبل الحكومة في هذه المسؤوليات. وفي 5 يونيو (جوان) 1955 صدر برنامج موحد للمدرسين في جميع أنحاء الجزائر، وهو صادر عن إدارة الشؤون الأهلية بالحكومة العامة، وكان على رأس الإدارة المذكورة عندئذ المستعرب دومينيك لوسياني D.Luciani، الخبير في شؤون الجزائريين والعرب والإسلام وناشر عدة مؤلفات بالعربية ¬

_ (¬1) أبو بكر بن أبي طالب (روضة الأخبار)، الجزائر، 1951، ص 58. (¬2) وهذه الأربعة هي كل ما بقي من مساجد الجزائر المائة، إضافة إلى جامع سيدي عبد الرحمن الثعالبي.

والبربرية بعد ترجمتها إلى الفرنسية (¬1). ويحتوي البرنامج على مواد إجبارية ومواد اختيارية، أما الإجبارية فهي مادة النحو طبقا للاجرومية، والعطارية (حسن العطار؟) ولامية الأفعال. وعدد ساعاتها الأسبوعية ثمانية، والهدف منها كما قيل هو التمكن من مادة النحو العربي واللغة. أما المواد الاختيارية فهي علوم الدين والأدب مثل الفقه على مختصر خليل والحديث من صحيح البخاري، والتوحيد من السنوسية (أم البراهين) (¬2)، إضافة إلى مادة الأدب العربي. وكانت المواد الاختيارية تدرس بعد الظهر ولها ست ساعات أسبوعية عدا الأحد. ولكن المدرسين فيما يظهر لم يلتزموا بهذا البرنامج رغم المراقبة. فقد كانوا يقدمون الفقه على النحو، وكانوا يتناولون موضوعات خطيرة على الفرنسيين مثل باب الجهاد. ذلك أن الهدف من تنظيم هذه الدروس سنة 1898 و 1955 هو تكوين مترشحين أكفاء في اللغة العربية لدخول المدارس الشرعية الثلاث، ولكن الطريقة التي سلكها المدرسون لذلك لا تحقق هذا الهدف، حسب نقد الفريد بيل. فالمنظمون عهدوا بالمراقبة على المدرسين إلى مترجمين قضائيين أو مترجمين عسكريين في المراكز التى فيها مدرسون، لعدم تنقل مدراء المدارس الشرعية للقيام بهذه المهمة. وكانت المراقبة للدروس قد وضعت تحت مسؤولية الولاة في المناطق المدنية، والضباط في المناطق العسكرية. وكان الخوف من عدم التزام المدرسين بالخط المرسوم لهم. وإذا كان تنظيم المدارس الشرعية الثلاث قد عهد به إلى مستشرقين فرنسيين أصبحوا هم المدراء، كما عرفنا، (فطهروا)، حسب تعبير الفريد بيل، هذه المدارس من المواد الخطرة، فإن زملاءهم المترجمين القضائيين والعسكريين لا يقدرون، في نظره على القيام بهذه العملية - التطهير - لغربتهم عن التعليم الإسلامي ولكثرة عددهم التي كانت تفوق عدد المدرسين ¬

_ (¬1) انظر حياته في فصل الاستشراق. (¬2) وهي من المؤلفات التي ترجمها ونشرها لوسياني. وتسمى أيضا عقيدة السنوسي، أو العقيدة الصغرى.

أنفسهم، ولكونهم مختلفين حول النظر في توجيه هذا التعليم. ومن ثمة ليس في قدرتهم (المترجمين) مراقبة المدرسين المسلمين في المساجد الذين يقدمون الفقه على النحو ويتناولون أبواب الجهاد والرق ونحوهما. ولماذا يفضل المدرسون الفقه؟ يقول بيل أنهم يفعلون ذلك لسببين: ارتباط الفقه بالدين، وهم فيه يظهرون براعتهم أمام تلاميذهم، وكون التلاميذ أنفسهم يرغبون في دخول المحاكم لوجود الأماكن الشاغرة فيها (¬1). وكان الحاكم العام نفسه، وهو شارل جونار CH. Jonnart، أثناء عهده الأول، قد افتتح هذا النوع من التدريس وشجعه. وقد أصدر بيانا إلى جميع المسؤولين في القطر الجزائري طالبا منهم حث الناس، ولا سيما من يرغب منهم في إحدى الوظائف المخصصة للجزائريين كالتعليم والقضاء، على حضور دروس المساجد التي يقوم بها موظفون رسميون، وخصوصا دروس النحو والصرف والحساب والفرائض والأدب والحديث والتفسير. وقد ذكر الحاكم العام بأن هذه الدروس المسجدية تخدم نفس الهدف الذي وضعه الإصلاح سنة 1895 (¬2). وقد استمر شارل جونار في تشجيع هذا النوع من التعليم المسجدي حتى أثناء عهدته الثانية والطويلة كحاكم عام للجزائر. ففي 6 مايو 1905، وعشية انعقاد مؤتمر المستشرقين 14 بالجزائر أصدر قرارا بتنظيم التعليم المذكور وتوسيعه، ولكنه استجاب للنقد السابق، فوضع الرقابة على الدروس في أيدي مدراء المدارس الشرعية، وهم بالطبع مستشرقون فرنسيون مهرة يخدمون الإدارة قبل خدمتهم لمهنة التعليم أو فائدة الجزائريين منه. وقد جعلت الرقابة (التفتيش) سنوية وبطريقة فعالة. وسندرس ذلك بعد قليل في الحياة التطبيقية. وفي منشوره إلى الولاة المدنيين والحكام العسكريين أشار جونار إلى الهدف من تدريس المدرسين في المساجد: أن مهمتهم هي تكميل ¬

_ (¬1) الفريد بيل (مؤتمر ...)، مرجع سابق، ص 264. (¬2) (المبشر)، 24 نوفمبر، 1955.

التعليم الأدبي لأولئك الذين لا يحاولون تولي الوظائف العامة، أو أولئك الذين لا يقدرون أو لا يريدون متابعة دروسهم في المدارس، ولكنهم يرغبون في تنمية معارفهم التي حصلوا عليها في المدارس الابتدائية. وهذا في الحقيقة هدف واحد فقط من المخطط، وهو نشر ثقافة عامة ابتدائية بين المتعلمين وحتى غير المتعلمين، وكان ذلك هو غرض التعليم في المساجد منذ ما قبل الاحتلال. ولكن التجربة انقطعت وثقافة المدرسين أنفسهم صعفت، كما عرفنا. ولكن ليس ذلك فقط. فمنشور جونار أشار أيضا إلى هدف آخر، وهو في الواقع المقصود بالذات في تلك الأثناء. ونعني به (إعداد الشبيية الأهلية في المدارس الابتدائية العربية - الفرنسية، لدخول مؤسسات التعليم العالي الإسلامي. وعليهم أيضا (أي المدرسين) في كلمة واحدة، أن يساهموا، في نطاق وسائلهم، في اليقظة العقلية والمعنوية للسكان الأهالي، ومن ثمة فإنهم لا يدرسون الفقه للعامة في المساجد أو للراغبين في وظيفة عمومية إلا بعنوان ثانوي فقط) (¬1). وهكذا بدأ مدراء المدارس الشرعية - الفرنسية في ممارسة تفتيشهم السنوي على دروس المساجد. وكانوا يقدمون تقاريرهم إما إلى الوالي في المناطق المدنية أو إلى الحاكم العسكري في المناطق العسكرية، وانتزعت الرقابة من أيدي المترجمين. وأخذ المراقبون الجدد في "تطهير) الدروس المسجدية من المواد الخطرة، كما قال الفريد بيل، وتحكموا في الأفكار وراقبوا سيرة المدرسين وقيمة طريقتهم ودرسهم، وحضور تلاميذهم الخ. وكانوا في كل تقرير يوصون بالعزل أحيانا والترقية أحيانا أخرى، ويبدون ملاحظات هامة على الأشخاص والمناهج والأفكار. إن هذا التعليم المسجدي الجديد كان يقوم به مدرسون جزائريون ¬

_ (¬1) واضح من هذا النص استجابة جونار لنقد مدراء المدارس الشرعية، فهو إلى جانب الرقابة يقلل من أهمية تدريس الفقه في دروس المساجد.

تسميهم الحكومة الفرنسية وتدفع إليهم أجورهم عليه. وهو تعليم يشبه في محتواه التعليم السائد في بعض الزوايا والذي كان موجودا من قبل في المساجد أيضا. ولقد كان المدرس في الماضي هو الذي يختار مادته التي يجيدها ويحضر إليه التلاميذ فإذا أعجبهم بقوا معه وتوسعت حلقته وذاع صيته في اختصاصه وترقى بمعارفه. أما خلال العهد الفرنسي الأول فقد عينت للمدرس، مهما كانت قدرته، مادتان لا يخرج عنهما، وهما التوحيد والفقه. وحتى في تدريس هاتين المادتين لم يكن حرا، فقد كان تحت المراقبة الشديدة وكانت بعض الأبواب ممنوعة عليه، في الفقه، كما أن مادة التوحيد قد ألغيت بعض الأحيان. أما الطريقة فهي الطريقة الإسلامية المعهودة، انتقاء المسألة وتقريرها وشرحها والاستشهاد لها وجلب مختلف الآراء حولها، ثم الخلاصة والاستنتاج. ولكن الفرنسيين ينعتون هذه الطريقة بطريقتهم هم في العصور الوسطى حين يقضي المدرس وقتا طويلا في شرح كلمة ومرادفها، والتلميذ لا يتبعه في ذلك). أما الحضور لهذه الدروس في الوقت الذي نعالجه (بعد 1905) فهم عادة يعرفون القراءة والكتابة ويحفظون القرآن أو أجزاء منه. ولكنهم يجهلون أبسط قواعد النحو. فهم يجلسون هامدين دون فهم شيء مما يلقيه عليهم المدرس من النص الأدبي خلال بضعة أشهر، وأحيانا خلال عدة سنوات، رغم شرح المدرس لهم. فالتلاميذ ينظرون إلى الكتب على أنها مقدسة، وهم بهذه النظرة إليها إنما يرضون الله في الدنيا والآخرة، حسب نقد النقاد الفرنسيين. لأنها كتب تخدم الدين. أما الأستاذ فهو يحاول فقط إظهار قوته الأدبية والخطابية ولا يكلف نفسه سؤال التلاميذ ومدى متابعتهم لدرسه. وإذن فالمدرسون لا يتبعون برنامج التدريس ولا المنهاج السليم في نقل معارفهم إلى تلاميذهم. وما دام التدريس خاليا من منهج التعليم الحقيقي فلا سبيل إلى تصنيفه حسب مستويات محددة كالابتدائي والثانوي والعالي. وإنما هو تعليم مصنف حسب مكانه: المسيد أو الشريعة، والزاوية ثم المسجد. هذا هو النقد الذي وجه إلى تدريس المدرسين بالمساجد. وفيه كثير

من الصحة. وقد كان يمكن أن يوجه إلى المدرسين سنة 1830 أو 1850 عند تصنيف المساجد ورجال الدين والقضاء. وكان يمكن للفرنسيين أن يفيدوا الجزائريين في هذا المجال، كما أفادوا تونس حين أدخلت عدة إصلاحات لتطوير التعليم في جامع الزيتونة، دون أن يتضرر التعليم من أساسه ولا الهدف منه. ولكنهم بالنسبة للجزائر قد أهملوا ذلك سبعين سنة إلى أن انقرضت أجيال وضحلت الحياة العلمية وتدجن العلماء، ثم نفخ الفرنسيون في الصور، ونادوا: حي على التعليم في المساجد. فأين التواصل في التجارب؟ وأين الإطارات المؤهلة لذلك؟ وأين الكتب المتطورة؟ إن البقية الباقية من المدرسين قد قدموا ما عندهم، وكان الكثير منهم ممن تخرجوا من المدارس الشرعية - الفرنسية، أي على يد الفرنسيين أنفسهم. وقليل منهم فقط درسوا في الزوايا أو تخرجوا من المعاهد الإسلامية (الأجنبية) في نظر الفرنسيين. وقد اضطهد الفرنسيون الجيدين منهم أمثال محمد الصالح بن مهنة والمولود الزريبي وعاشور الخنقي، لأنهم قد تخرجوا من غير المدارس الفرنسية (¬1). ومهما كان الأمر فإن المفتشين المذكورين انطلقوا في أعمالهم منذ 1905. وأصبح المدرسون تحت رقابة شديدة، وكان عليهم أن يطوروا دروسهم حسب رغبة الإدارة وليس حسب اختصاصهم وموهبتهم. وقبل البعض هذا الاضطهاد الفكري على مضض لأسباب مادية، ورفضه آخرون فاختاروا الهجرة مثل حمدان الونيسي. وأرغم المدرسون على تسجيل تلاميذ المدارس العربية - الفرنسية (الابتدائية) والاهتمام بالذين درسوا الفرنسية من قبل، وليس نشر الثقافة العامة أو اليقظة العقلية والمعنوية كما قال جونار. وكان على المدرسين أن يسلكوا منهجا آخر فيسجلون التلاميذ في الدفاتر بطريقة معينة، ويستعملون السبورة في المساجد، ويتبعون طريقة المساءلة والحوار، ويقدمون النحو على الفقه والعملي على النظري. وبذلك حدد هدف جديد لهؤلاء المدرسين وهو المساعدة على تخريج جيل مزدوج اللغة، ¬

_ (¬1) سندرس بعضهم بعد حين. انظر عن الزريبي دراستنا المستقلة عنه.

وهو ما يعني، أمام سيطرة اللغة الفرنسية في كل المجالات، جيلا أحادي اللغة، وهي الفرنسية، مع رفع الأمية فقط بالعربية. يقول ألفريد بيل، وهو أحد المفتشين البارزين الذين سنتعرف على تقاريرهم بعد قليل، إن هذا التطور في دروس المسجد قد حقق الهدف. فالتلاميذ المسجلون في المساجد أصبحوا هم خريجي المدارس الابتدائية العربية - الفرنسية، وأصبحت الطريقة مراقبة، وكذلك البرنامج. وأصبح المدرسون يسألون التلاميذ عن درس اليوم وتطبيقاته. وحلت الدراسات النحوية مكان الفقه والتوحيد في التعليم، وانفتح عقل التلميذ، فأصبح يفكر ويتأمل حتى ولو تخرج صاحبه من (المسيد). وأصبح المدرسون يعدون المترشحين لدخول المدارس الشرعية - الفرنسية الثلاث، ويقدمون من جهة أخرى، إلى الشباب الأهلي الذي سبقت له دراسة اللغة الفرنسية، دروسا في اللغة العربية الأدبية. وبذلك يصبحون قادرين على القراءة والكتابة بالعربية ومعرفة آدابها، وكذلك بالفرنسية التي تعلموها (في مدارسنا الابتدائية) وسيكونون مسلحين لخوض معركة الحياة في هذا البلد بإتقانهم اللغتين. وسيحل تعليم المدرسين محل (التعليم السيء) الشائع في المدارس القرآنية (المسيد والشريعة) والزوايا (¬1). ذلك إذن هو هدف المستشرقين أمثال بيل، وهدف الإدارة أيضا: القضاء على التعليم القرآني، وتعليم الزوايا، وتعليم المساجد التقليدي، ثم تكوين جيل مزدوج في الظاهر ولكن تسيطر عليه الفرنسية باعتبارها اللغة الرسمية ولغة السيادة والعلم، أي تخريج جيل لا يعرف من العربية إلا ما يعرفه عنها بعض المستشرقين. إن المدرس الذي يعنينا هنا هو أحد ثلاثة: مدرس المدارس الشرعية - الفرنسية الثلاث، وهذا تناولناه في فصل آخر. والمدرس ما قبل تنظيمات 1898 و 1900 ثم مدرس ما بعد هذه التنظيمات. وقبل أن نتحدث عن المدرسين بعد 1955 نذكر جملة من الذين عاشوا التجربة الصعبة في ¬

_ (¬1) بيل، (مؤتمر ...)، مرجع سابق، ص 212 - 214.

التدريس منذ 1830. كان هؤلاء في مدينة الجزائر قد عانوا أكثر من غيرهم، ربما لمواجهتهم الاحتلال في عنفوانه وقبل أن يختار للجزائر النموذج الذي ستعيش عليه. أما الآخرون من المدرسين فقد كان عليهم أن يسيروا في المسار وأن يطبقوا ما فعل زملاؤهم. من أبرز المدرسين أوائل الاحتلال في مدينة الجزائر محمد بن الشاهد، ومحمد بن العنابي، وعلي المانجلاتي، ومحمد السفار، ومصطفى الكبابطي. وتلا هؤلاء جيل آخر مثل حميدة العمالي وعلي بن الحفاف وعبد القادر المجاوي. وكان بعض هؤلاء يجمعون بين التدريس في المساجد وفي المدارس الرسمية الثلاث. وقد تناولنا حياة بعضهم في دراسات خاصة فليرجع إليها من شاء (¬1). وقد بكى ابن الشاهد، وهو المفتى والمدرس، ما آل إليه أمر التدريس والعلم في العشرية الأولى من الاحتلال فقال: ولثم درس العلم والجهل عسعس ... ونادى بتعطيل العلوم عن النشر كان هؤلاء وأمثالهم من فحول العاصمة، لم ينقطع منهم سند العلم الذي أخذوه عن كبارهم بالإجازة والدرس والحضور وليس بالسماع، كما صار الحال فيما بعد. فقد درس كل من ابن العنابي وابن الأمين وحمودة المقايسي في الأزهر ثم رجعوا إلى بلادهم للتعليم والإجازة فيه. وكان حمدان خوخة ممن انتصب للتدريس (حسب رواية عمر راسم) (¬2) وسافر طويلا في البلاد الإسلامية والأوربية، وكانت له معارف واسعة. ¬

_ (¬1) انظر (رائد التجديد الإسلامي، ابن العنابي) ط 2، 1995 و (قضية ثقافية بين الجزائر وفرنسا: موقف ابن الكبابطي 1843) في أبحاث وآراء في تاريخ الجزائر، ج 2. وعن محمد بن الشاهد انظر (تجارب في الأدب والرحلة)، 1983. (¬2) أخذ محمد علي دبوز، نهضة 1، عن كراسة بخط عمر راسم فيها تراجم بعض الجزائريين، ومنهم حمدان خوجة.

بعض أعيان المدرسين في العاصمة

بعض أعيان المدرسين في العاصمة أما الجيل الذي توظف للفرنسيين في الفترة الحالكة، فترة إهمال التعليم مطلقا، ومصادرة أوقافه وهدم مؤسساته، ومحاربة العلماء والمفكرين، فليس فيه أمثال هؤلاء، وقد انقطع عنهم السند العلمي، كما لاحظ محمد بيرم الخامس، فكانوا يكتفون بالكتب الصغيرة والملخصات، والإجازات السمعية، دون أن يرحلوا في طلب العلم أو يتلقوه على يد فحول متصلي السند واسعي المعارف. وسنذكر أنهم، حسب التنظيمات والتصنيفات الفرنسية، كانوا فقراء الجيب والعقل أذلاء العين والرأس، باستثناء النادر الذي لا يقاس عليه. ومن غير الممكن ذكر قائمة بهؤلاء المدرسين الذين تعينهم الإدارة الفرنسية لتدريس مادتي التوحيد والفقه عادة، للعامة وأشباههم. وحسبنا أن نذكر بعضا ممن اشتهر أمره: 1 - مصطفى القديري: المعروف بمصطفى بن أحمد، حسب ختمه الرسمي. تولى القديري سنة 1259 (1843) وظيفة المفتى المالكي في الجامع الكبير بالعاصمة، مكان الشيخ مصطفى الكبابطي، الذي عزله بوجو Bugeaud لرفضه فتح المدرسة القرآنية للمعلم الفرنسي لكي يعلم فيها اللغة الفرنسية للأطفال. وقد عثرنا للقديري على بعض الرسائل الإدارية التي كانت تصدر عنه إلى السلطات الفرنسية طالبا فيها منها توظيف شخص أو الإعلان عن غيابه أو وفاته، ونحو ذلك مما يدخل في عنايته كمسؤول عن شؤون موظفي الديانة الإسلامية، كما كانت تسمى. وآخر رسالة منه تحمل تاريخ 1852. وكان قد تولى الوظيفة المذكورة وهو كبير السن، ولم يكن معروفا بعلمه السابق ولا بوظائف أخرى تولاها مثل زملائه. ولعله كان من (ناس الحضور) في الجامع الكبير أو من قراء البخاري قبل أن يتولى الوظيفة الرسمية. كان الشيخ القديري، كما وصفته المصادر الفرنسية، طوع بنان إدارة الشؤون الأهلية. وهي تصفه بالمتسامح، أي الذي لا يقف ضد رغباتها أو يعترض على بعض التصرفات المنافية لاتفاق 1830. وكان له ابن أكثر منه تسامحا،

وقد طلب المفتي من السلطات الفرنسية تسهيل مهمة ابنه للدراسة في فرنسا وزيارتها، الخ. ولخموله لا نعرف للشيخ القديري موقفا سوى قبوله أوامر بوجو، ولا مؤلفا ولا درسا شهيرا، ولم يرجع إليه أحد فيما نعلم، للإجازة (¬1). 2 - محمد الأرناؤوط: ليس لهذا الشيخ مصادر كثيرة عندنا، إنما نعرف من جريدة (المبشر) الرسمية التي أبنته أنه تولى عدة وظائف ومنها الافتاء والتدريس بالعاصمة. وكان على المذهب الحنفي، وهو من أصول عثمانية (ألبانية). ولد بالجزائر حوالي 1791 وتوفي في 28 رمضان الموافق 24 أكتوبر، 1865، عن 74 سنة. وكان معاصرا لزميله القديري. ويبدو أنه أوسع من زميله علما وعملا. فقد درس بالجزائر على جيل ابن الأمين وابن الشاهد، وأصبح فيها مدرسا إلى سنة 1835 حين ولاه الفرنسيون وظيفة القضاء. ونادرا ما كان الفرنسيون يثقون عندئذ في العلماء ذوي الأصول العثمانية، ويبدو أنه كان استثناء بينهم. وقد بقى كذلك في القضاء إلى سنة 1842. ولأسباب مجهولة ربما هي نفس الأسباب التي جعلت الكبابطي يعزل من منصبه، استقال الأرناؤوط من وظيفته في هذه السنة وطلب الرخصة للحج، وهي الطريقة الوحيدة للهجرة بدون اتخاذ موقف سياسي. واغتنم هذه الفرصة، حسب الجريدة، فبقي في القاهرة والاسكندرية ثلاث سنوات، وربما لقي زميليه ابن العنابي والكبابطي، ثم رجع إلى الجزائر وتولى فيها وظيفة التدريس، سنة 1845، ثم الفتوى أيضا سنة 1848، وقد بقي في الوظيفة الأخيرة إلى وفاته. ولا ندري إن كان قد تلقى العلم في الأزهر أثناء إقامته في القاهرة، والغالب أنه قد فعل، ولم تتحدث (المبشر) عن حجته، فلعله قد أتمها. ولكنها تحدثت عن أبنائه الذين كانوا يخدمون فرنسا، تمويها منها على الناس ليفعلوا مثلهم، وقالت أنه كان (خزانة علم) وأنه دفن في ¬

_ (¬1) انظر دراستنا عنه في أبحاث وآراء ج 3، ط 3، 1991، مع ذلك المصادر التي أخذنا عنها.

ضريح الشيخ الثعالبي (¬1). 3 - أحمد بوقندورة: عائلة بوقندورة لها صيت وشأن في العهد الفرنسي. تولى الشيخ أحمد وظيفة الفتوى على مذهب الإمام أبي حنيفة بالعاصمة. وقبل ذلك عمل معاونا قضائيا في محكمة الجزائر مدة طويلة، من الخمسينات إلى الثمانينات، حسب السيد ألان كريستلو، ولكننا وجدنا في (المبشر) أنه تولى وظيفة الفتوى في نوفمبر سنة 1877 بالجامع الجديد. وكان يتقن الفرنسية. وربما هو الأول الذي ألقى خطبة بالفرنسية بالجامع أمام الحاكم العام سنة 1882، وهو الحاكم البغيض لويس تيرمان L.Tirman. وأشادت (المبشر) به لأنه أول من فعل ذلك. أما محمد بيرم الخامس فقد لقيه بالعاصمة ودخل داره، وشهد له بالدهاء السياسي و (التبحر في المعارف السياسية)، واتقان الفرنسية، وأخبر عنه أنه كان أيضا، عضوا في مجلس الحاكم العام (المجلس الأعلى للحكومة)، وله (مشاركة في الفقه والحديث). وهذه عبارة تعني عند العلماء أنه لم يصل إلى درجة الاتقان والتبحر في هذين العلمين وإنما له اطلاع وثقافة عامة فيهما. يقول عنه الشيخ بيرم، وكان على مذهبه الحنفي، أن بوقندورة كان إماما وخطيبا في أحد الجوامع (الجامع الجديد)، وأنه زاره في مقصورة الجامع، ودعاه بوقندورة لتناول العشاء في وليمة أقامها إكراما له في منزله. ووصف بيرم داره وبستانة بالجبل (؟)، فقال (وهو بستان ظريف، جامع للشكلين العربي والأروباوي، وبناؤه ظريف ونظيف، على النحو العربي المتقن) (¬2). ولعل تدجين العلماء على النحو الذي كان عليه بوقندورة هو الذي ¬

_ (¬1) المبشر، 2 مارس، 1865 (كذا وجدت في أوراقي مع التأكيد على أن تاريخ الدفن هو 25 أكتوبر 1865، ويبدو أن هناك خلطا في التاريخ فانتبه). (¬2) انظر عنه الآن كريستلو (المحاكم الإسلامية)، ط. 1985، ص 275. والمبشر، نوفمبر 1882 (؟) (وجدت عندي نوفمبر 1877، وهو غير دقيق ما دامت قد أشارت إلى خطبته سنة 1882). ومحمد بيرم الخامس (صفوة ...)، مرجع سابق، ص 16. وربما كان المقصود (بالجبل) ضاحية الأبيار أو بوزريعة.

جعل بعض الفرنسيين يندبون حظهم بعد ذلك إذ نزع الناس ثقتهم من (علماء فرنسا) ومالوا إلى المرابطين والطرق الصوفية. ذلك أن هؤلاء العلماء في نظر الرأي العام قد أهانوا الدين، وانفصلوا عن المسلمين، وأصبحوا طلاب عيش وخبز. ومن الذين تنبهوا إلى ذلك، ولكن بعد فوات الأوان، ديبون وكوبولاني، ولوشاتلييه وأوغسطين بيرك وديبارمي. أن الشيخ بوقندوة قد اشتهر أيضا بالخطبة التي ألقاها أمام جول كامبون J.Cambon، الحاكم العام الآخر، أثناء تأبين الشيخ أحمد التجاني في الجامع الجديد بالعاصمة، سنة 1897. وكانت الخطبة هذه المرة بالعربية وبحضور شيوخ الطرق الصوفية والعلماء والأعيان الفرنسيين والمسلمين. ولعل الحاكم العام نفسه، وهو من الأذكياء الدهاة، هو الذي أمر الشيخ أن يلقى خطبته بلغة دينه لأن فرنسا إنما جعلته في ذلك المنصب ليخاطب باسمها المواطنين لا يخاطبها هي بلغتها. ولا نملك الآن تاريخ وفاة الشيخ بوقندورة الذي ظل سنوات طويلة في الخدمة الرسمية، ولكننا نعرف من بعض المصادر أن أحد أبنائه، وهو محمد، قد خلفه في منصب الفتوى والتدريس أيضا، وهو لا سمعة له أيضا في ميدان العلم والتأليف رغم أنه عاش فترة اليقظة والحث على التعليم، وقد ذكر السيد كريستلو، أن محمد بوقندورة عارض التجنيد الإجباري سنة 1911 (¬1). 4 - حميدة العمالي: يختلف حميدة العمالي عن زملائه المعاصرين من عدة وجوه. فقد كان من أعمقهم فقها، وكان قد ترك بعض التآليف وله سند في شيوخ كثيرين، كما كان له تلاميذ اشتهر بعضهم حتى كاد يغطى عليه. فالعمالي من نوادر هذا العهد، رغم وظائفه الرسمية وعيشه فترة الجدب العلمي التي أشرنا إليها. ولعل سر قوته يرجع إلى تواضعه وإلى أخذه ¬

_ (¬1) كريستلو، مرجع سابق، ص 275. وجدنا في آثار الشيخ حميدة العمالي أن أحد أفراد عائلة بوقندورة، وهو حسن قد طلب سنة 1280 (1863) الذهاب إلى بلاد الشام (بقصد الهجرة؟) بعد أن كان حزابا في الجامع الكبير. انظر رسائل العمالي في (أبحاث وآراء) ج 3 ط 3. وسنشير إلى أحمد بوقندورة في أماكن أخرى من الكتاب.

عن بقية صالحة من سلف المدرسين والعلماء. ولد بالعاصمة سنة 1227 (1813)، وهو من جبل عمال من سلسلة جبال الأطلس التلية القريبة من العاصمة، ومن ذلك نسبته (العمالي)، وكان أبوه رحمانيا من أتباع وتلاميذ الشيخ محمد بن عبد الرحمن الأزهري. وكان مقدما له. وحفظ حميدة العمالي القرآن على المؤدب الشيخ سيدي عمرو، الذي ذكرناه سابقا، وقد نوه به العمالي في كناشه حين وفاته سنة 1275. وأخذ العلم عن شيوخ بقيت أسماؤهم وآثارهم محفورة، منهم مصطفى الكبابطي ومحمد بن الشاهد (¬1)، ومحمد واعزيز، ومحمد العربي، إمام الجامع الكبير في وقته. وقد أجازه محمد الصالح الرضوي البخاري، وحمودة المقايسي، وأحمد بن الكاهية، ومعظم هذه الإجازات في الحديث والصحاح الستة. وكانت أوليات حميدة العمالي في عهد بوجو وعهد راندون Randon، وكانت وظيفته الأخيرة، وهي الفتوى في عهد بيليسييه Pelissier وماكماهون Mac-mahon، وهي العهود الصعبة من حياة الجزائر، ويسميها الفرنسيون عهد الاحتلال والتهدئة. وقد عاصر ثورة 1871 أيضا، وكانت بقيادة رحمانية. وقد تولى العمالي عدة وظائف للفرنسيين منها القضاء 1849 والفتوى 1856، وكان الوظيف الأول أكثر خطورة لأنه عملي ومتصل بمصالح الناس ومصالح الفرنسيين التي كثيرا ما تتعارض، أما الفتوى فقد كانت شرفية فقط - له ولغيره - كما سنرى. وله رسائل إدارية وجهها إلى السلطات أثناء توليه الفتوى، وهي لا تخرج عن اقتراحات بشأن تعيين أو عزل بعض الموظفين في السلك الديني. انتصب العمالي للتدريس في الجامع الكبير. وكان متمكنا من عدة علوم، كالحديث والفقه والتوحيد، ولكنه لم يسمح له بتدريس ما يتقنه ¬

_ (¬1) يذكر المشرفي (أبو حامد) أن محمد بن الشاهد كان (شيخ الجماعة) في وقته. انظر (ذخيرة الأوآخر) كما نقل الحفناوي بن الشيخ في (تعريف الخلف)، 2/ 547. وقد اطلعنا نحن على الجزء الثاني من (الذخيرة).

ويرغب فيه، إذ كانت له مهارة في الأدب والبلاغة أيضا. وكان يدرس أحيانا ذلك على مختصر السعد. وتخرج على يديه ثلة من الطلبة أصبح بعضهم صاحب شهرة مثل حسن بن بريهمات، ومحمد بن عيسى الجزائري الذي انتقل إلى تونس وتولى فيها الكتابة بالوزارة الكبرى. وقرأ عليه أيضا علي بن عبد الرحمن الذي تولى الفتوى في وهران فترة طويلة، ومحمد القزادري، ومحمد بن العطار إمام ومدرس جامع سيدي رمضان، وكذلك محمد بن زاكور الذي تولى الفتوى فيما بعد، وعلي الفخار الذي تولى الفتوى في المدية. ولذلك كان العمالي يوصف بشيخ الجماعة قبل ظهور الشيخ عبد القادر المجاوي. ويذكر أصحاب التراجم أن حميدة العمالي قد حج ولقى أحد العلماء بالحجاز (في رحلته؟)، وهو عبد القادر بن يوسف القادري المعروف بحجة الإسلام. كما ورد عليه في درسه بالجزائر عبد الرحمن النابلسي فحضر مجلسه ثم سأله عن إحدى المسائل النادرة. قلنا أنه تولى الفتوى سنة 1856، وهي السنة التي شغر فيها المنصب بوفاة الشيخ مصطفى القديري. وفي رسائله تواريخ كثيرة أولها تاريخ الختم وهو 1856 وآخرها 1867. وفي هذه السنة والتي بعدها حدثت المجاعة الشهيرة والجوائح في الجزائر. ولكن الشيخ ظل في الفتوى إلى وفاته سنة 1873 في عهد ديقيدون البغيض، الذي حارب المدارس القرآنية وحتى المدارس العربية - الفرنسية التي تأسست سنة 1850. وتولى الشيخ أيضا وظائف أخرى كعضوية المجلس القضائي والتعاون على ترجمة نصوص تنظيم القضاء الإسلامي مع زميله محمد بن مصطفى وأحمد البدوي و (أحمد) بن الحاج موسى، إلى اللغة العربية (سنة 1859) (¬1). وقد رسخ العلم في أسرة العمالي أيضا فترك ابنا أصبح مثله من المدرسين. وهو علي العمالي. وأول إشارة وردت حوله كانت سنة 1867 ¬

_ (¬1) انظر عن ذلك فقرة القضاء من فصل السلك الديني، وعبد الرحمن الجيلالي (تاريخ الجزائر العام)، ج 4، ص 279 - 282، ورسالة إبراهيم الونيسي.

في رسالة والده إلى السلطات الفرنسية إذ اقترحه من بين ثلاثة لتولي وظيفة مؤذن في الجامع الكبير بدل عمر بن البحار الذي رقى إلى وظيفة القضاء. وقد أصبح علي العمالي هذا من المدرسين، وممن تتلمذ له في النحو الشيخ أبو القاسم الحفناوي (ابن الشيخ) صاحب (تعريف الخلف)، وأصبح علي العمالي إماما في الجامع الكبير حيث أفنى معظم وقته، كما يقول الحفناوي، في الإقراء والاستفادة من العلوم، وكان يدرس الصرف بشرح الزنجي، والتوحيد بمتن الجوهرة، والعقائد السنوسية. وبالإضافة إلى ذلك تولى علي العمالي التدريس في المدرسة الثعالبية، ولذلك خرج أساتذتها في جنازته (علي) إثر وفاته سنة 1326 (1908) (¬1). اختلف حميدة العمالي عن المدرسين المعاصرين في كونه ترك بعض التآليف، ولعلهم ألفوا ولكن لم تصلنا مؤلفاتهم. وقد رأينا له كناشا في مجلد كان في مكتبة المرحوم الشيخ المهدي البوعبدلي وقد أعاره لنا مدة. وهو محشو بالفوائد والنقول والتواريخ والنصوص النادرة، إضافة إلى بعض الأخبار عن حياة الشيخ العلمية والعائلية. وهم يذكرون له أيضا العمل المشترك حول القضاء الإسلامي سنة 1859، ثم مجموعة فتاوى ونوازل فقهية في حدود 300 مسألة، وله رسائل في أحكام المياه بالبادية، وأخرى في ترتيب محاكم القضاء (ولعلها هي العمل المشترك المشار إليه آنفا). ويقول الشيخ الحفناوي: (اتصلت بتأليف من تآليفه في القضاء، وتتبع فصوله وأنواعه، وحلية القاضي، وشروط القضاء). ولا ندري إن كان للشيخ العمالي تآليف في الحديث الذي قيل أنه اشتهر فيه، خصوصا صحيح البخاري الذي كان يدرسه دراية ورواية. كانت وفاة الشيخ العمالي سنة 1873 (1290 أو 1293) (¬2). ونحن لم نقف على آراء الشيخ العمالي في ¬

_ (¬1) حسب كناش حميدة العمالي أن ولده عليا قد ولد سنة 1274 وحفظ القرآن 1282. وذكر الحفناوي أن لعلي هذا ولدا اسمه محمد اشتغل أيضا بالعلم ولازم الجامع الكبير، وله نسل أيضا، الخ. انظر تعريف الخلف 2/ 546. (¬2) التاريخان الهجريان مذكوران في تعريف الخلف 2/ 154، 539. وفي مراسلة مع =

النوازل الفقهية ولا في القضاء. ويبدو أنه كان ناقلا لعدد من الفتاوى مثل فتاوى ابن العنابي، كما نقل ابن حمادوش وثائق جاءت في رحلته حول النكاح. وما نظن أن الفرنسيين كانوا يسمحون (بالاجتهاد) لأمثال الشيخ العمالي، فقد كان هو وأمثاله مجرد ناقلين ومترجمين ومفسرين لإرادة السلطة الفرنسية. وأن رجلا في علم الشيخ العمالي لا يخلو، فيما نعتقد، من أدب ومراسلات، ولكن أين هي؟. 5 - علي بن الحفاف: سيرة ابن الحفاف هي سيرة العالم الجزائري المخضرم زمن الاحتلال. فقد كان أجداده من أهل العلم والفتوى في الجزائر منذ عهود طويلة. وكان علي بن عبد الرحمن بن الحفاف من الأسر المعتبرة لعلمها. وكان شابا عند وقوع الاحتلال فخرج مع من خرج انتظارا للفرج وجلاء العدو، وانضم إلى حركة الأمير عبد القادر، في مليانة، حيث كان الحاج محي الدين بن مبارك وقريبه محمد بن علال على رأس حكومة الأمير هناك. فما كان من الفرنسيين إلا أن صادروا أملاكه وأملاك أسرته، ومنها أملاك أخته زوجة قدور بن رويلة. وعند وقوع زمالة الأمير في قبضة الفرنسيين 1843 وتشرد العائلات التي كانت فيها وموت ابن علال خليفة الأمير والقبض على الفتى أحمد بن رويلة، ابن أخت علي بن الحفاف، ونقله رهينة إلى فرنسا، عندئذ رجع علي بن الحفاف إلى مدينة الجزائر ليجد نفسه في حالة بؤس شديد، فهو عاطل عن العمل، وأملاكهم مصادرة، وفي نفس الوقت كان متهما بمعاداة الفرنسيين والانضمام إلى عدوهم. وقد كتب عدة رسائل تبريرية للسلطات الفرنسية، كما كتب إلى ابن أخته في فرنسا، رغم صغر سنه (13 سنة) يرجوه التدخل لصالحه مع شيوخه الفرنسيين والجهات العليا الأخرى. وبعد أن تبادل الفرنسيون فيما بينهم الآراء عن مصيره تغلب عندهم الرأي القائل بأن الرجل معاد لهم لا محالة ولكنه ما دام على حرمانه، وهو رجل مثقف فإنه يمكن لفرنسا أن تستفيد منه ما دام هو قد طلب ¬

_ = المرحوم البوعبدلي (30 يناير 1976) إن الوفاة كانت سنة 1290. كان الشيخ العمالي على مذهب أبيه في التصوف، إذ كان رحمانيا أيضا.

ذلك. والغالب عندهم أن ابن الحفاف سيتوب توبة نصوحا رغم عدائه السابق لهم، وكان ذلك هو رأي (دي لا بورت) مسؤول الشؤون الداخلية عندئذ. سمح الفرنسيون للمفتي عندئذ (1845) وهو مصطفى القديري أن يعطيه وظيفة حزاب وحضور بالجامع الكبير ليعيش منهما، وأظهروا له العفو والتغاضي (¬1). ولكن قضيته بقيت بدون حل. ففي 1844 كتب إلى ابن أخته في فرنسا يقول له أخبرهم أن (خالي عالم يقرأ وليس له شيء يدخله، وليس عنده وظيف، وليس الآن بيده شيء يعيش به). وكان ابن الحفاف يطالب بمسجد سيدي رمضان الذي كانت أسرته تتولاه منذ ستين سنة مضت، ولكن تولاه الشيخ قدور بن المسيسني إثر خروج ابن الحفاف من الجزائر. وفي 1847 ذكر في طلبه الجامع المذكور وألح على أنه عندئذ لا دخل له سوى عشرة فرنكات شهريا، مع أنه صاحب أولاد. ويبدو أن السلطات الفرنسية استجابت لطلبه فعينته سنة 1848 وكيلا لجامع سيدي رمضان. وفي سنة 1859 عينوه مفتيا في البليدة. معلوماتنا الأخرى عن علي بن الحفاف مفرقة وضعيفة رغم شهرة أسرته وشهرته هو بين المعاصرين. من رسائله نعرف أنه كان ضعيف الأسلوب والثقافة. ولكن الرسائل تنتهي عند توليه وظيفة الفتوى، وهو تاريخ مبكر نسبيا. ذلك أن حياته قد امتدت بعد ذلك. فهل اكتسب علما جديدا، ومن أين؟ يقول مترجموه أنه من تلاميذ إبراهيم الرياحي التونسي، ولا ندري كيف تمت هذه التلمذة، ذلك أن الرياحي لم يزر الجزائر فيما نعلم (¬2). وكان ابن ¬

_ (¬1) جاء في رسالة المفتي القديري إلى السلطات الفرنسية أن ابن الحفاف (طالب عظيم). انظر مقالتنا (من رسائل علماء الجزائر) في (أبحاث وآراء) ج 3. (¬2) جاء في كتاب (الحقيقة) لمحمد البهلي النيال، ص 330 أن إبراهيم الرياحي قد زار الحاج علي التماسيني سنة 1238، وكان التماسيني قد تولى مشيخة التجانية بعد وفاة أحمد التجاني بالمغرب. فإذا صح ذلك فإن زيارة الرياحي قد وقعت قبل الاحتلال الفرنسي للجزائر بحوالي عشر سنوات. ولعله زارها وهو في طريقه إلى المغرب سنة 1218 هـ. وقد يكون زارها بعد ذلك.

الحفاف ممن أخذوا الإجازة عن الشيخ محمد الصالح الرضوي البخاري ولكنها كانت إجازة في الاسم الأعظم فقط وليس في العلوم. ولعل ابن الحفاف قد درس على بقايا الشيوخ في عهد الأمير عبد القادر، وقد عرفنا أن من أصهاره قدور بن رويلة كاتب الأمير الشهير وواضع اسمه على كتاب (وشائح الكتائب). ولم يترجم أبو القاسم الحفناوي في تعريف الخلف لابن الحفاف رغم قربه منه ومعرفته له وأخذه إجازة عنه يوما واحدا قبل وفاته سنة 1307. ويبدو أن ابن الحفاف تولى الفتوى المالكية والتدريس في الجامع الكبير على إثر وفاة الشيخ حميدة العمالي سنة 1873. وبذلك يكون قد تولى في فترة الحاكمين العامين شأنزي ولويس تيرمان، وكلاهما حكم في فترة حالكة السواد من تاريخ الجزائر بالنسبة لاضطهاد العلماء والتعليم، كما عرفنا. ولذلك لا نستغرب أن يمل ابن الحفاف المقام في الجزائر وأن تحدثه نفسه بالهجرة إلى المشرق. فقد رأى وسمع بما حدث لمواطنيه على أثر ثورة 1871 وثورة بو عمامة. وشاهد غطرسة الكولون في عهد الجمهورية الثالثة المتنمرة وتجنيس اليهود الجماعي، وإهانة القضاء الإسلامي بإلغاء صلاحيات المحاكم الإسلامية إلا في الأحوال الشخصية. ونحو ذلك من أنواع الإذلال والغطرسة. وكانت في ابن الحفاف رواسب حركة المقاومة البكر التي انضم إليها. وقد حدثته نفسه حتى بالانضمام إلى الطريقة الشاذلية، طريقة الشيخ محمد الموسوم بقصر البخاري. ويقال أنه هو الذي اقترح هذا الرجل الصوفي إلى منصب مدير المدرسة الشرعية - الفرنسية الرسمية على السلطات. ولكن الشيخ الموسوم رفض العرض. وكان الشيخ ابن الحفاف يبحث عن ولي وصديق يشد به أزره ويشاوره في أمره. وجاء هذا في شخص محمد بيرم الخامس سنة 1878. فقد ساره بسره وخلجات نفسه، وهي الرغبة في الهجرة. وكان بيرم رحالة جواب آفاق، يعرف العالم الإسلامي والأروبي. فنصح ابن الخفاف بالبقاء لخدمة العامة لا الخاصة، في دروسه في الفقه والتوحيد وبعض المعارف الدينية المسموح

بها من قبل فرنسا منجاة للعامة ومحافظة على الدين، وقد أخبره الشيخ بيرم، وكان صادقا بأن أمثاله قليلون في القطر، وأن بقاءه أنفع للعامة وله عند الله، من خروجه برأسه، تاركا الأمة خالية عن مثله. بالإضافة إلى أن خروجه قد يحمل الغير على تقليده أيضا، وبذلك تبقى العامة بلا معلمين للدين، وتندثر الديانة الاسلامية من العامة بالتدرج. أما بقاؤه فيؤدي، في نظر بيرم، إلى نشر للعلم والعقائد والفقه وحفظ هذه الديانة. وذكره بأن الأسرى إذا لم يتمكن الفادون من افتدائهم جميعا يؤخر العلماء، حسب كتب الفقه. والمعروف أن ابن الحفاف قد شارك في موضوع الهجرة الجماعية التي أثارها صهره قدور بن رويلة مع الشيخ الكبابطي حوالي سنة 1844، وها هو يثير الموضوع فرديا سنة 1878. وصفه الشيخ بيرم بأوصاف العلماء (الأسرى) فعلا. فهو من الأخيار عنده. وهو يمتاز بالسكينة والتقوى والتفقه والسعة في الحديث، وأنه إمام وخطيب الجامع الكبير. وقد زاره في مقصورة الجامع حيث يستقبل خاصة الزوار. وهذا التنويه كان في محله لأننا نعرف أن لابن الحفاف تقاييد ومؤلفات وأشعارا. وله إجازات إلى بعض المعاصرين أمثال بلقاسم الحفناوي، والمكي بن عزوز، والقاضي شعيب بن علي (¬1). 6 - محمد بن مصطفى بن الخوجة المعروف بالمضربة وبمصطفى الكمال. قضى حياته العلمية بين المسجد وجريدة المبشر والتأليف. وأثناء أدائه لمهمة التدريس والخطابة جاء تنظيم الدروس بالمساجد سنة 1898 ثم 1955 و 1905. فكان من المدرسين المشار إليهم بالبنان، رغم قلة تلاميذه. ولعل قدرته على التأليف قد فاقت قدرته على التدريس، رغم فصاحة لسانه وقلمه، على ما قيل عنه. وكان يجمع الشعر إلى النثر، ¬

_ (¬1) انظر عنه من رسائل علماء الجزائر في (أبحاث وآراء) ج 3، ط. بيروت، ومحمد بيرم الخامس (صفوة الاعتبار ...) مرجع سابق، 4/ 16. وتعريف الخلف، 2/ 269. وكذلك أرشيف ايكس (فرنسا) 11.22 (رسالة وجهها إلى مدير الشؤون المدنية). وكذلك رسائل مصطفى القديري. وعن تآليفه وإجازاته انظر الأجزاء اللاحقة.

والتمسك بالتراث إلى الإيمان بالإصلاح على طريقة الشيخ محمد عبده. وباعتباره أحد مدرسي هذه الفترة في العاصمة استحق منا هذه اللفتة. أما مؤلفاته فسنعالجها في موضوعها إن شاء الله، وكذلك سنتناول دوره في جريدة المبشر في موضعه. من الذين عرفوه عن كثب وترجموا له هو الشيخ عمر راسم، الصحفي والرسام وقد اعتبره شاعر الجزائر وقال إن له ديوانا ضاع وأنه كان هجاء، الخ. ونحن لا يهمنا شعر محمد بن مصطفى خوجة الآن ولكن هذه الميزة التي عرف بها بين معاصريه. كما وصفه عمر راسم بأنه كان خبيرا بشؤون المشرق حتى كأنه عاش فيه مائة سنة. ونحن نفهم من هذا أنه كان يتابع تطورات المشرق في الفكر والسياسة والأدب نتيجة عمله في جريدة المبشر، ولعله كان مكلفا فيها بقسم المشرق وإنتاج المطابع هناك وشخصيات الشرق وتياراته الفكرية. ألم يسند هو حركة الشيخ محمد عبده ويؤمن بطريقتها في التعليم والتحديث والابتعاد عن السياسة؟ ألم يراسل الشيخ محمد رشيد رضا ويقرأ مجلة المنار ويعجب بمبادئها؟ وتشهد تآليفه عن المرأة وعن التسامح الديني وعن الدفاع عن الإسلام وغيرها على متابعته للقضايا الاجتماعية والثقافية والدينية التي كانت تتفاعل في المشرق. ولد الشيخ محمد بن مصطفى خوجة سنة 1281 (1865)، أي زمن الحديث عن المملكة العربية في عهد نابليون الثالث، وزمن المرسومين الشهيرين اللذين أثرا على مستقبل الجزائر (الفرنسية): أولهما مرسوم تمليك الأرض العرشية للأفراد، ومرسوم فتح التجنس بالجنسية الفرنسية لمن يشاء بشرط التخلي عن الأحوال الشخصية الإسلامية. لقد نشأ هذا الشيخ في مرحلة انتقالية من سيطرة العسكريين إلى سيطرة المدنيين الفرنسيين، وضياع حقوق الجزائريين بين هؤلاء وأولئك. ولا ندري إن كان الشيخ قد درس في إحدى المدارس الشرعية - الفرنسية الثلاث، والظاهر أنه لم يفعل لأن المترجمين يذكرون من شيوخه المفتي علي بن الحفاف وهو لم يكن من مدرسي هذه المدارس. وبدون شك أنه قرأ على آخرين مثل الشيخ محمد

السعيد بن زكري، وكان هذا من خريجي الزوايا وليس من خريجي المدارس. ولا نعلم أن ابن خوجة قد درس في غير العاصمة، لا في الزوايا الداخلية ولا المعاهد الإسلامية في الخارج، ولذلك يمكننا القول إنه كان عصاميا في اكتساب ثقافته. ويبدو أنه بدأ العمل في جريدة المبشر كمحرر فيها قبل العمل في التدريس بجامع صفر. وقد تعلم من المبشر العمل مع المستشرقين الفرنسيين وعرف عن كثب ماذا كانوا يريدون منه ومن الشعب، وكيف يحرفون الأخبار لتناسب أهواءهم وسياستهم، وعرف اهتماماتهم بالمشرق، زمن حكم السلطان عبد الحميد والثورة الإيرانية، واحتلال مصر، وثورة المهدي السوداني، فكان له ذلك في حد ذاته ثقافة عملية واسعة في فن الصحافة الاستعمارية وأحوال العالم الإسلامي. ولا نستبعد أن تكون بعض مؤلفاته من وحي هذه الظروف. وقد يكون بعضها من دافع الفرنسيين أنفسهم، مثل كتاب الصحة. وكانت الموضوعات التي عالجها حية وذات صلة بوقائع الساعة كالتعليم والمرأة وموقف الإسلام من العلم والتقدم. ولكن الرجل كان يراسل رجال الشرق مثل الشيخ محمد عبده ورشيد رضا ومحمد فريد ويراسلونه، وهذا لا يرضي الفرنسيين، لأنه كان في موقع، كما قلنا، حساسا جدا إذ كانت الجريدة التي يعمل بها هي لسان حال الإدارة الفرنسية للجزائريين - المسلمين عامة. وقد يكون ذلك هو سبب تفريغه لدروس المسجد والتأليف بدل التحرير في الجريدة. وقد وصف عمر راسم الشيخ ابن خوجة عندئذ بأبي النهضة الجزائرية. ولا شك أن ذلك كان انطلاقا من الأفكار المتسامحة والواعية التي كان ينشرها حول الإسلام والمسلمين واللغة العربية. ولنا أن نقول أيضا إن هذه الأفكار هي التي كان يبثها في دروس المساجد أيضا وفي خطب الجمعة. فهو إذن داعية إصلاح وتقدم اجتماعي بمفهوم ذلك الوقت. وقد وصفه المترجمون بأنه دعا إلى نبذ البدع والخرافات وتحرير العقل، وهذا يتماشى تماما مع دعوة الشيخ محمد عبده الذي يشايعه.

لا ندري ما العمل الذي مارسه الشيخ ابن خوجة قبل 1896. فقد كان عمره عندئذ حوالي 31 سنة. هل درس بالمدارس الشرعية بعد إصلاحها سنة 1895؟ هل مارس وظائف في القضاء؟ لا نملك الآن الوثائق على ذلك. إنما نعرف أنه بين 1896 و 1951 قد عمل في المبشر. ومنذ التاريخ الأخير جلس للتدريس في المسجد، كما ذكرنا، ولا نعرف أنه درس في غير العاصمة. وكان بالإضافة إلى التدريس يعمل في المطابع مصححا ومحققا لبعض الكتب. من ذلك أنه هو الذي صحح تفسير (الجواهر الحسان) للشيخ الثعالبي الذي نشرته مكتبة ومطبعة رودوسي حوالي سنة 1904. كما بدأ في تحقيق كتاب للشيخ السيوطي حول الاجتهاد. وكان في المساجد يدرس للعامة الفقه والتوحيد وبعض التفسير مما تسمح به السلطات الفرنسية. وقد وصفه عمر راسم بأنه كان حلو الكلام فصيح اللسان، وأنه كان يستشهد بالحديث والقرآن، وكأن الكتب القديمة مرآة بين عينيه يتذكرها ويستشهد منها بدون تكلف. وفي تقرير ويليام مارسي، مدير مدرسة الجزائر الشرعية - الفرنسية، الذي فتش دروس محمد بن مصطفى خوجة في المسجد، إشادة كبيرة به إذ قال عنه إنه أفضل من يعرف العربية، ويتكلم بها بطلاقة، كما أشاد بليبراليته. (أي اتساع أفكاره وتسامح آرائه) واعتبره من أفضل الدعاة (الوسائل) لنشر التحرر الفكري بين المسلمين. وكان ذلك بناء على تقرير سنة 1905 - 1906، وهي أول سنة أصبح فيها المدرسون المسلمون تحت رقابة المستشرقين الفرنسيين، مدراء المدارس الشرعية - الفرنسية. لا يختلف تقرير 1906 - 1907 عن سابقه حول مكانة الشيخ محمد بن مصطفى خوجة. فقد كان يدرس خمس ساعات أسبوعيا. ويبدو أن الشيخ قد أصيب بمرض خطير أعاقه عن التدريس فترة طويلة (دام أشهرا). ثم استأنف دروس النحو والقواعد العربية. وكان التلاميذ الذين يحضرون درسه هم: عمال المسجد، وتلاميذ السنة الخامسة من مدرسة الجزائر (أي القسم العالي)، ثم بعض الخواص من سكان مدينة الجزائر. ووصفه المفتش الفرنسي بأنه صاحب ذاكرة عجيبة، وأنه نابغة وخطيب، وهو يفرض قدرته

على الإفصاح والإبانة. وأنه يدعو التلاميذ إلى (حرية الفكر في موضوع العقيدة). ولا ندري ماذا يقصد المفتش بذلك، ولكن يبدو أن الشيخ كان غير متزمت - كما نقول اليوم - ولعله كان يدعو إلى التخلص من الدجل والخرافة. وأضاف المفتش أن ابن الخوجة كان يفيد التلاميذ كثيرا وأن له القدرة على التأثير في مستمعيه. وقد أضاف إلى ذلك مؤهلا آخر وهو كونه مؤلفا ورجل دين. ومن ثمة فإن الفرنسيين سيجنون من دروسه فائدة كبيرة إذ كان (نصيرا قابلا للاستعمال لعملنا الحضاري). بعد اندلاع الحرب العالمية الأولي دخلت الجزائر في عهد من المحاصرة والحصار وتوقف الحياة الفكرية، واختفاء الصحف والنوادي التي ظهرت خلال العشرية الأولى من هذا القرن. فما الذي فعله ابن الخوجة؟ لقد أشرنا إلى أن تقرير سنة 1907 يذكر أن مرضه خطير. ويبدو أنه قد قاوم المرض وظروف الحرب إلى 1915. فقد وجدنا تقريرا آخر لمفتش فرنسي جديد هو (سان كالبر)، الذي أصبح مديرا لمدرسة الجزائر بعد ديستان ومارسيه (ويليام)، يشير في سنة 1914 إلى الشيخ ابن الخوجة على أنه من الطبقة الأولى (راتبه 1800 فرنك سنويا) من المدرسين، ويسميه محمد الكمال، وأنه من مدرسي جامع صفر وخطبائه. ولكن تقرير 1916 يذكر أن مدرس وخطيب هذا الجامع لم يعد محمد الكمال (ابن الخوجة) وإنما هو حمود دحمان. وهكذا يكون ابن الخوجة قد توفي سنة 1915. وليس هناك عندئذ صحافة وطنية (أهلية) تنعاه ولا إذاعة، اللهم إلا جريدة المبشر لسان حال الإدارة الفرنسية والتي سبق له العمل فيها. إن هدف الفرنسيين من التعليم المسجدي الجديد ليس دروس الفقه والتوحيد، كما كان الحال سابقا، أو رفع مستوى العامة في شؤون دينهم وتراثهم، ولكن نشر الأفكار الفرنسية والترقي بالدراسات الإسلامية، كما يقول تقرير والي ولاية الجزائر عندئذ إلى الحاكم العام. كان تعليم النحو والأدب وقواعد اللغة إلى التلاميذ الذين يدرسون في المدارس الابتدائية العربية/ الفرنسية الخاصة بالأهالي، أو المترشحين لدخول إحدى المدارس

الشرعية - الفرنسية الثلاث. ولا شك أن تحرر أفكار ابن الخوجة وقلمه وفصاحة لسانه كانت تخدم هذا الاتجاه الفرنسي الجديد. ولكن بعض الجزائريين، مثل عمر راسم، كانوا يرون فيه داعية إصلاح وأبا لنهضة، فهو من مستوى عبد القادر المجاوي والشيخ أطفيش المعاصرين له، رغم صغر سنه نسبيا، إذ توفي عن خمسين سنة فقط (¬1). 7 - الحفناوي بن الشيخ: خلافا لزميله محمد بن مصطفى خوجة. كان الحفناوي بن الشيخ يمتاز بعدة أمور، منها أنه ابن بادية، ثم انتقل إلى الحاضرة، وأنه تعلم في الزوايا ثم لدى الفرنسيين، وأنه جمع إلى التحرير في المبشر التدريس في الجامع الكبير، ثم أنه تولى الفتوى المالكية وطال عمره حتى نضج بل هرم. ولد بقرية الديس قرب بوسعادة سنة 1850. وكانت المنطقة عندئذ ما تزال تحت تأثير ثورة الزعاطشة، التي أدت إلى احتلال بوسعادة ونواحيها وانتصاب المكتب العربي بها (الإدارة الفرنسية الجديدة)، ونفي أبرز الشيوخ الذين أيدوا الثورة مثل محمد علي بن شبيرة وأخيه. ولم تكن زاوية الهامل قد تأسست بعد. والزاوية المعروفة والقريبة عندئذ هي زاوية علي بن عثمان ¬

_ (¬1) هناك عدة مصادر رجعنا إليها حول ابن الخوجة. منها تقارير المفتشين ويليام مارسي، وديستان، وسان كالبر، وبعض هذه التقارير ضاعت منا سنة 1988، ولم نستطع تعويضها. ومن الأوراق الباقية الأرقام التالية: أرشيف ايكس (فرنسا) 47 H 14، (1905 - 1906)، و (12/ 9 - 1907)، و 1914، 1915، 1917، كذلك زوزو (نصوص)، مرجع سابق، ص 225، ودبوز، نهضة، 1/ 128 - 132 سيما ما نقله عن (تراجم بعض أعلام الجزائر) لعمر راسم. انظر أيضا رسالة الباحث عبد المجيد بن عدة (مظاهر الإصلاح)، معهد التاريخ، جامعة الجزائر. وتوجد مؤلفات ابن الخوجة في رقم 81 H 10 بأرشيف ايكس (فرنسا). وسنتناول مؤلفاته في جزء آخر.

بطولقة. فذهب إليها الفتى الحفناوي، بعد أن تعلم على والده مجموعة من المبادئ في النحو والصرف والعروض والفقه والتوحيد والمنطق والحساب والبلاغة. كانت تلك أول غربة للفتى الحفناوي حيث قضى في زاوية طولقة أربع سنوات. ولكن ذلك لم يشبع نهمه العلمي فتوجه بعد ذلك إلى زاوية ابن أبي داود بتاسلنت في زواوة، وهي الزاوية التي تخرج منها أيضا محمد بن بلقاسم مؤسس زاوية الهامل. وقد أشاد الحفناوي بزاوية ابن أبي داود في مؤلفاته، فقال إنها أم الزوايا العلمية. ولا ندري كم بقي هناك، إذ رجع ليدرس الحديث على الشيخ محمد بن بلقاسم الهاملي في زاويته الجديدة. ولكن تعطشه للعلم أبى عليه أن يرضى بما عنده، فذهب إلى نفطة حيث الزاوية العزوزية الشهيرة بالعلم والطريقة الرحمانية. ومن الملاحظ أن الزوايا التي تردد عليها الشيخ الحفناوي كلها رحمانية. ولا ندري إن كان قد اكتفى بنفطة أو ذهب أيضا إلى حاضرة تونس. وبعد سنوات من الرحلة في سبيل العلم والتلقي عن شيوخ كثيرين، توجه إلى العاصمة سنة 1883 في ظروف غير معروفة. وتولى بها وظيفة رسمية بعد سنة من وصوله، يقولون أنه جاء العاصمة ليبحث عن مسائل في كتب التراث. ولكن العاصمة عندئذ كانت مدينة أروبية، فهل أرسلته بعض الجهات في المكتب العربي لهذا الغرض (¬1)؟. ومنذ وصوله لاحظ عليه المستعرب (الشيخ آرنو)، مدير جريدة المبشر النباهة فأخذه عنده ليخلف الصحفي الشهير أحمد البدوي. وكان آرنو Arnaud متوليا أيضا وظيفة (رئيس المترجمين) بالإدارة الفرنسية، فلازمه الحفناوي فترة طويله، وتعلم على يده اللغة الفرنسية، والعلوم العصرية، كما يقول الحفناوي عن نفسه، وظل الحفناوي في جريدة المبشر إلى أن توقفت عن الصدور سنة 1927. وكان يقوم فيها بدور المحرر والمصحح، ولكن الموضوعات كانت من اختيار ¬

_ (¬1) كان لويس رين L.RINN عندئذ يجمع مادة كتابه (مرابطون وإخوان). وكان رين وهو من الضباط، مديرا مركزيا للشؤون الأهلية. فهل مجيء الحفناوي عندئذ إلى العاصمة له صفة بهذا الموضوع؟.

الفرنسيين، فكان يترجم من الوثائق الفرنسية، وكان يشيد بالآثار العلمية الفرنسية ترغيبا للجزائريين وإرضاء للفرنسيين، فمدح باستور وأبرز دوره في اكتشاف داء ودواء الكلب ولكنه ربط بين ذلك ودور العرب في الطب. كان الشيخ الحفناوي واسع المعارف، جماعا للكتب والوثائق، قوي الذاكرة. وقد ازدوجت لغته وتعمقت ثقافته العربية والفرنسية بالمطالعة والاتصال بأعيان المترجمين الفرنسيين. وقد استغل هؤلاء قدرته اللغوية ومعارفه العربية الإسلامية، لصالحهم، وكان أول من استغله هو (الشيخ آرنو) - كما يسميه. وقال عنه أنه الترجمان الأكبر بالحكومة العامة وأنه هو شيخه في العلوم العصرية واللغة الفرنسية، وأنه هو الذي رباه عقليا وعلميا فارتقى إلى (درجة أفتخر بها على أبناء وطني) (¬1)، وقال أنه قد علمه أيضا التواضع القلبي والترفع القالبي على أهل الكبرياء، ووصفه بأنه رجل حكيم، وقد لازمه اثني عشر سنة. هذه العلاقة قد نوه بها الحفناوي نفسه. وهناك علاقة أخرى لم يذكرها هو وإنما ذكرها الفرنسيون أنفسهم. يقول ديبون وكوبولاني Copolani و Dupont إن الشيخ الحفناوي قد وضع نفسه تحت تصرفهما أثناء تأليف كتابهما الضخم (الطرق الدينية الإسلامية). وأنه صحح بمعارفه الغزيرة Prodegue ترجماتهما في موضوع الطرق الصوفية. وقد خصاه بالشكر، وهو الوحيد الذي نوها به من علماء الجزائر، على مساعدتهما (¬2). ومن الشخصيات الأخرى التي عمل معها الحفناوي بن الشيخ مدراء الشؤون الأهلية المحنكين مثل دومينيك لوسياني وجان ميرانت J.Mirante أما الأول فقد نشر كتابه (تعريف الخلف) في عهد ¬

_ (¬1) الحفناوي بن الشيخ (تعريف الخلف)، 2/ 409. والمعروف أن (آرنو) اسم مستعار، ولا ندري الآن اسمه الحقيقي. فهل كان ذلك يغيب عن الحفناوي؟. (¬2) لعل الحفناوي قد استوحى مشروع (تعريف الخلف) أثناء عمله مع هذين المؤلفين، إذ رجعا إلى الموسوعات وكتب التراجم مثل ابتسام العروس لعمر الجزائري، والدرر الكامنة، وروض القرطاس، وابن خلدون، الخ. انظر ديبون وكوبولاني (الطرق الدينية ...)، ط الجزائر، 1897، المقدمة، ص 27 (بالأرقام الرومانية).

إدارته، وهو الذي وفر المال لطبعه على نفقة حكومة جونار. وأما الثاني (ميرانت) فقد نشر بالتعاون معه كتابا في حفظ الصحة مترجما إلى العربية من تأليف الفرنسي (دركل)، وغير ذلك. وبالإضافة إلى ذلك كان الشيخ الحفناوي يكتب في جريدة (كوكب افريقية) التي أسستها حكومة جونار وأسندت إدارتها إلى زميله الشيخ محمود كحول (¬1). فأين كل ذلك من التدريس الذي نحن بصدده؟ منذ 1897 تولى الشيخ الحفناوي أيضا التدريس في الجامع الكبير بالعاصمة. إنه لم يكن من خريجي المدارس الشرعية الفرنسية وإنما من خريجي الزوايا المرابطية والصوفية. ومع ذلك وجد طريقه إلى الوظيف الديني التعليمي الذي كان من المفروض أن يقوم به المفتى نفسه. وإلى جانب ذلك نلاحظ أنه قد جمع بين العمل في إدارة المبشر والتدريس في المسجد. فهل هذا امتياز له؟ إن أفكاره الظاهرية تتماشى مع الأفكار التي يريد الفرنسيون ترويجها بين الجزائريين. ويبدو أنه لم يكن له طموح سياسي ولا تطلع إلى زعامة، بل كان كما قال عن نفسه، متواضعا يحب العمل، وقد وجده في الثقافة، وقد غرق فيها باللغتين، ولا يهمه ما إذا كانت هذه الثقافة تخدم بلاده أو بلاد الآخرين. إن محيط الشخصيات الفرنسية التي ذكرناها والتي كان يتعايش معها قد وضع الضباب على عينيه، فلم يعد يرى أبعد من يومه. والغريب أننا نجده متأثرا بثقافته الصوفية في كتابه (تعريف الخلف) ولا نكاد نجده متأثرا بالعلوم العصرية التي افتخر أنه تعلمها على يد ارنو. وسنرى ذلك في حديثنا عن كتابه في جزء لاحق من موسوعتنا هذه. إذا كان كثير من القضاة والمدرسين يفتحرون بأنهم تلاميذ عبد القادر المجاوي، فإننا لا نجد إلا القليل النادر من الذين يفتخرون بأنهم تتلمذوا على الشيخ الحفناوي بن الشيخ، رغم طول عمره. حقا إن المجاوي كان مدرسا بالمهنة في مدرسة قسنطينة ثم الجزائر، أما الحفناوي فكان مدرسا ¬

_ (¬1) عن الشيخ كحول انظر الفصل الخاص بالمنشآت الثقافية.

بالهواية. فابتداء من سنة 1897 أخذ يدرس مواد لغوية ودينية في الجامع الكبير. ومن تلاميذه فيها الشيخ والمؤرخ عبد الرحمن الجيلالي الذي ترجم له في كتابه (تاريخ الجزائر). وبين توقف جريدة المبشر عن الصدور سنة 1927 وتوليه وظيفة الفتوى سنة 1936 بقى الشيخ الحفناوي مدرسا للعامة من جهة ولتلاميذ المدارس العربية - الفرنسية من جهة أخرى. ويبدو أنه لتواضعه أو لحيائه كان، كما يقول عنه تلميذه الجيلالي، ينيب عنه تلاميذه في الخطابة على المنبر منذ توليه الفتوى، إلا مرة واحدة. ومن الجدير بالذكر أنه تولى الفتوى خلفا للشيخ محمود كحول (ابن دالي) الذي اغتيل في ظروف غامضة سنة 1936. أما التدريس فلدينا بعض تقارير المفتشين الذين قيموا تجربة الشيخ الحفناوي، حسب الرغبة الفرنسية من دروس المساجد التي استحدثت حوالي 1955. وكان من أهل الطبقة الأولى كزميله ابن الخوجة. وكنا قد جمعنا عدة تقارير فيها اسمه من بين المدرسين لكنها للأسف ضاعت منا. ولم يبق لنا إلا التقرير الذي أشار إليه عبد الحميد زوزو، وهو يرجع إلى سنة 1906 - 1907. واسمه فيه هو أبو القاسم الحفناوي، وكان يدرس خمس مرات أسبوعيا، ويحضر إليه عمال الجامع، وبعض خواص المسلمين القاطنين مدينة الجزائر، لتوسيع معارفهم الدينية، وكان درسه في الفقه، رغم أن ذلك ليس من مهمات الدروس الجديدة. ولعل الجامع الكبير كان استثناء في ذلك، لصلته بالعامة، ولذلك لم نجد من بين الحضور تلاميذ المدارس الفرنسية. ويهمنا حكم المفتش وهو ويليام مارسيه، على الشيخ الحفناوي. فقد قال عنه أن له ثقافة واسعة، وفكرا حرا، وأسلوبا واضحا. وهو يعطي المستمعين إليه مبادئ العلوم الأروبية، وأنه ناجح في طريقة تقديمها إليهم دون مصادمتهم، وهم يستفيدون منه. وهذا يعني أن مهمته قد تحققت في نظر الفرنسيين (¬1). ¬

_ (¬1) عن الحفناوي توجد مراجع عديدة منها كتاب زوزو (نصوص)، مرجع سابق، ص 225، إضافة إلى ما ذكرنا قبل هذا، هناك سعد الدين بن شنب (النهضة العربية) =

توفي الشيخ الحفناوي بمسقط رأسه الديس، سنة 1942 عن أكثر من 95 سنة. ولعله عجز وتقاعد قبل تاريخ الوفاة. ولقد عاش أحداثا جساما مرت بالجزائر، وتداول عليها عدد من الحكام والقيادات الجديدة. وقد عاش حتى رأى سقوط فرنسا سنة 1940. ترى هل غير رأيه فيما كان يقول ويكتب في بداية القرن؟ (¬1) إن كل كتاباته المعروفة إنما ظهرت بين 1955 - 1915. فلماذا توقف قلمه بعد ذلك؟ وهل دون به ما لم يصلنا؟. 8 - عبد الحليم بن سماية: من أسرة علمية بالعاصمة. كان أبوه علي بن سماية من المدرسين في مدينة الجزائر مدة طويلة، وكان أيضا من محرري جريدة المبشر (¬2). ولد عبد الحليم في 15 يوليو، 1866، حوالي نفس التاريخ الذي ولد فيه معاصره وبلديه محمد بن مصطفى خوجة. ولعل لكليهما أصولا عثمانية بالمصاهرة أو بارتباطات أخرى. يبدو أنه درس في مدرسة الجزائر الشرعية - الفرنسية بعد إصلاحات 1877، وهي التي كان والده أستاذا بها. فهو يحسن الفرنسية أيضا، وفي نفس الوقت تمكن من اللغة العربية والعلوم الإسلامية. فهو من ذلك الجيل الذي درس في المدرسة بعد فرنستها بقرارات شأنزي، على ما نعتقد. ونعرف أيضا من مصادر مختلفة أنه زار بلاد الشام، ولعله أدى فريضة الحج، وانتقل إلى تونس حيث أقام أياما من أجل أخذ الإجازة عن أحد العلماء وهو: محمد بن عيسى الجزائري ¬

_ = في مجلة كلية الآداب، ص الجزائر 1964. ولنفس المؤلف أيضا بحث عن المؤرخين العرب (الجزائريين) في المجلة الإفريقية R.A، 19. انظر أيضا ورقة للباحثة رقية شارف، قسم الماجستير 1993، معهد التاريخ، جامعة الجزائر. انظر فصل التاريخ والتراجم لاحقا. (¬1) شارك الحفناوي أيضا ببعض المحاضرات في الجمعيتين الرشيدية والتوفيقية أوائل هذا القرن. انظر كتابنا (الحركة الوطنية)، الجزء 2 ط 4. (¬2) من الرسائل التي ضاعت منا سنة 1988 رسالة حررها بأسلوب جيد وإداري علي بن سماية يشكو فيها حاله إلى السلطات الفرنسية ويذكر فيها عدد السنوات التي قضاها بالمبشر. وقد ذكره إيميل ماسكري في كتابه (رؤى أفريقية) وتعلم العربية على يده ونوه به.

الأصل والذي هاجر وأصبح من كتاب الدولة التونسية. واتسعت ثقافة ابن سماية نتيجة لظروف أخرى يطول بنا الحديث لو ذكرناها بالتفصيل، فقد تبنى مذهب الشيخ محمد عبده في الإصلاح، وكان مواظبا على الاطلاع على مجلة المنار، وحين زار الشيخ عبده الجزائر سنة 1903 نزل بدار الشيخ عبد الحليم، وكان هو مرافقه الدائم، وله صور معه، ومراسلات، ومدح ورثاء له بالشعر ونحوه، سنذكرها في فصل الجزائر والمشرق. والأمر الثاني هو حضور ابن سماية مؤتمر المستشرقين الرابع عشر بالجزائر سنة 1905، وإلقاؤه بحثا فيه عن وضع الإسلام عندئذ. والثالث هو دوره في معارضة التجنيد الإجباري، وتزعمه للتيار الرافض له على أساس ديني وأخلاقي، وفهم الفرنسيون منه أنه موقف مؤيد للدولة العثمانية وحركة الجامعة الإسلامية. وقد وجد ابن سمايه مساندة قوية في ذلك من عمر راسم وعمر بن قدور وغيرهما من أعيان الصحفيين الوطنيين. رغم ثقافته المزدوجة، فإن إنتاجه العلمي غير قوي. فلم يبلغ إنتاجه مبلغ إنتاج ابن أبي شنب ولا ابن الخوجة ولا الحفناوي. له مقالات في الصحف المعاصرة، ومشروع كتاب لم يظهر، فيما نعلم، ويدل شعره ونثره على قدرة كبيرة لو أحسن توظيفها. ولعل مهنة التدريس قد استأثرت به، كما هو حال الكثير من المدرسين الذين تفرغوا لتكوين التلاميذ بدل الكتب. وقد كان متأثرا بروح العصر التقليدية أيضا، وهي البحث عن أسانيد العلم، عن طريق الإجازات. فإلى جانب رحلته إلى تونس لهذا الغرض حيث حصل على الإجازة في كتاب (المواقف) للعضد، هناك رحلته إلى زاوية الهامل حيث لقى الشيخ محمد بن بلقاسم، وبقى عنده أياما وأجازه، وله إجازة أيضا من قاضي تلمسان في وقته: شعيب بن علي. وقد يكون له إجازات أخرى بالمراسلة أو بالاجتماع أثناء رحلته إلى المشرق (¬1). ¬

_ (¬1) لابن سماية جوانب عديدة سنتناولها في موضوعها، مثلا ولعه بالموسيقى سنتناوله في فقرة الموسيقى، ومكتبته في فقرة المكتبات، وتآليفه في مكانها من الفن الذي نعالجه.

تولى ابن سماية التدريس بمدرسة الجزائر التي أصبحت تسمى الثعالبية، منذ حوالي 1896، عند إعادة تنظيم المدارس على أثر إصلاحات 1895. وهذا التدريس لا يعنينا هنا، إنما يعنينا التدريس في المسجد الذي تولاه في الجامع الجديد. وكانت تقارير المفتشين الفرنسيين تشيد به وبعلمه وبطريقته في التدريس وفصاحة لسانه. وكان من الذين نالوا أوسمة علمية تشجيعأ لهم أو اعترافا بفضلهم في أداء مهمة التدريس في الجامع والقسم العالي في المدرسة. وكانت الأوسمة توصى بها تقارير المفتشين، وقد نالها في عهد جونار عدد من الأساتذة، سيما الذين بدأوا حياتهم في المدرسة الفرنسية. بعض المترجمين لابن سماية لا يقدمون معلومات موثقة يمكن الاعتماد عليها دون مراجعة ومقارنة. من ذلك أن الشيخ الكبابطي كان جد ابن سماية لأمه، وأن والده (علي) أو جده (عبد الرحمن) قد درس في مصر ثم رجع إلى الجزائر. وأن عبد الحليم قد بدأ قراءته بالمدرسة القرآنية، ثم انهمك يقرأ من مكتبة والده. وأنه درس الكيمياء والطبيعة على الأستاذ جولي (الإسكندر A.Joly) في المدرسة الشرعية - الفرنسية. وأنه تعلم الفلك على عارف باي، وهو نجل عارف باشا حاكم بغداد، حين زار الجزائر. كما تذكر بعض المصادر أنه تعلم أيضا اللغة العبرية، وكان يلبس اللباس العربي الإسلامي ويعتز به، كما كان يفعل ابن أبي شنب والمجاوي وابن الكبابطي وغيرهم. وهذا التقليد كانت تشجع عليه الإدارة أيضا لأنه في نظرها يزيد من تأثيرهم على العامة والتلاميذ بخلاف ما إذا قلدوا الفرنسيين في ذلك إذ تذهب هيبتهم وينتفي تأثيرهم (¬1). هناك تقريران عن ابن سماية كمدرس ناجح في الجامع الجديد. الأول كتبه ويليام مارسيه، ووصفه فيه بفصاحة اللسان وحرية الفكر وسلامة اللغة، وقال عنه أنه من المتعاونين البارزين في المدرسة أيضا (القسم العالي)، كما أن مستوى درسه في الجامع كدرسه في المدرسة. أما المادة ¬

_ (¬1) انظر عن ذلك فصل التعليم الفرنسي والمزدوج.

التي حضر له فيها المفتش فهي النحو والبلاغة، وكان الشيخ عبد الحليم ولوعا بالأدب العربي ونصوصه. أما الحاضرون له فهم عمال المسجد وبعض الخواص من أعيان المدينة، إضافة إلى طلبة القسم العالي من المدرسة الثعالبية. وفي تقرير آخر للمفتش ديستان، وصفه بالمثقف المتمكن والمتنفذ في مدينة الجزائر. وكان ذلك على أثر حملة التجنيد الإجباري (1912). وقال التقرير أن له درسين في المسجد عام وخاص. وهو يستعمل دفتر المناداة. وعدد الحضور يتراوح بين العشرة والثلاثين. مع نفس تصنيف التلاميذ السابق. غير أن الدروس الخاصة يحضرها تلاميذ السنة الأولى للمدرسة مع تلاميذ أحرار مترشحين لدخول نفس المدرسة. وكان الدرس الخاص (للتلاميذ) في مادة النصوص الأدبية من كتاب (المستظرف) وغيره. أما الدرس العام فهو في التفسير وشرح الأحاديث. وأما عدد الساعات الأسبوعية في كلا التقريرين فواحد، وهو خمسة لقاءات. ولكن التقرير لاحظ أن الشيخ كان متغيبا في عطلة منذ 15 أبريل 1912. وإذا كان عدد المواظبين عليه حوالي 12 في الدرس الخاص وحوالي 20 في الدرس العام، فإن حركة التعليم المسجدي كانت غير قوية، إذ لا يوجد في العاصمة سوى أربعة مساجد تجري فيها الدروس على النحو المشار إليه. وهو عدد سنوي تقريبا، لأن التفتيش يجري سنويا (¬1). وباعتبار ابن سماية من الطبقة الأولى كان راتبه 1800 ف سنويا، ابتداء من سنة 1915. ¬

_ (¬1) ارجع إلى تقرير ويليام مارسي المذكور سابقا (1906 - 1907) وإلى تقرير ديستان 1912. وكذلك زوزو (نصوص)، مرجع سابق، ص 226 - 227. ودبوز (نهضة ...) 1، مرجع سابق، ص 106 - 127، وقد نقل عن تراجم عمر راسم أيضا. انظر أيضا عبد الرحمن الجيلالي (جوانب من كفاح الشيخ عبد الحليم بن سماية السياسي والثقافي)، مجلة الأصالة عدد 13 مارس - إبريل، 1973، ص 199 - 212. وابن عدة، مرجع سابق، مخطوط. وتزوج ابن سماية سنة 1887، وكان له سبعة أولاد. عن أوسمة الشيخ ابن سماية انظر دبوز (نهضة ...)، مرجع سابق، 121 - 122.

9 - محمد السعيد بن زكري: من أبرز مدرسي العاصمة في الفترة التي نتناولها. وقد تولى ابن زكري بالإضافة إلى التدريس، الإمامة والإفتاء. ولكننا لا نجده في تقارير المفتشين، فهل انقطع عن التدريس قبل وفاته سنة 1914 بفترة؟ إن مكانته وتلاميذه وآثاره تجعله من مشمولات هذا الفصل. وقد كان الشيخ ابن زكري من المتعلمين العصاميين. لم يدرس دراسة منتظمة، وإنما تخرج من المساجد والزوايا، فكان من القلائل الذين وصلوا بعد ذلك إلى أكبر منصب تخصصه فرنسا لرجال الدين الإسلامي. ولد 1267 (1851) في بني زكري بمنطقة زواوة أثناء ثورة الشريف بو بغلة وفتح عينيه على الانتفاضة التي استمرت في عهد لاله فاطمة نسومر والحاج عمر. ولم يكد يبلغ العشرين من عمره حتى وقعت الثورة الرحمانية بقيادة الشيخ الحداد والباشاغا المقراني. ولكنه مع ذلك حفظ القرآن في جامع القرية ثم التحق بزاوية الشيخ عبد الرحمن اليلولي التي بقى بها سنوات. وظل يتنقل بين الزوايا أو المعمرات لإتمام دراسته، إلى أن وصل إلى العاصمة سنة 1297 (1890). وقد قال عن نفسه أنه منحدر من نسل أحمد بن زكري المغراوي التلمساني المتوفى سنة 900 (1494) بتلمسان (¬1). ويعتبر ابن زكري نفسه من الأشراف. ولعله قد درس بالعاصمة في أماكن غير رسمية قبل أن يصبح إماما في جامع سيدي رمضان سنة 1896. وفي هذه السنة حصل على وسام الأكاديمية (التعليم). وكان لابن زكري علاقة مع مدير الشؤون الأهلية، دومينيك لوسياني الذي يعرف كيف يختار ضحاياه. وقد ذكر لوسياني نفسه أنه استعان بالشيخ ابن زكري في ترجمة قصائد الشاعر الشعبي إسماعيل أزيكيوي. كما استعان بغيره في ترجمة كتاب (أعز ما يطلب) لابن تومرت، والسلم المرونق للأخضري، الخ. ويبدو أن ابن زكري كان من الفقهاء المتمكنين من علمهم. وكان عارفا بعلم الكلام أيضا، ولكن مادته فيه هي ¬

_ (¬1) محمد الحاج صادق في مادة (ابن زكري)، دائرة المعارف الإسلامية، ص 23.

عقيدة السنوسي (أم البراهين). ويقول تلميذه وصديقه الشيخ أبو يعلى إنه كان يتبع سيرته في ذلك، إذ كان ابن زكري يقرئ أم البراهين وتعاليق السنوسي عليها ثم شروح وحواشي الدسوقي والباجوري عليها أيضا (¬1). ولابن زكري بعض المؤلفات المطبوعة، مثل (أوضح الدلائل) الذي سنتناوله. في جزء آخر. وله مراسلات مع معاصريه أمثال بلقاسم بن سديرة. وابتداء من 1896 عين ابن زكري أيضا أستاذا للفقه في المدرسة الشرعية - الفرنسية بالجزائرة ويغلب على الظن أن ترشيحه إلى ذلك كان على يد لوسياني نفسه. وفي سنة 1908 عين مفتيا للمذهب المالكي في العاصمة في الوقت الذي عين فيه ابن الموهوب في قسنطينة. وقد روى تلميذه أبو يعلى أن حديثا دار بين لوسياني وابن زكري حول ثورة 1871 وحول منع الفرنسيين لتدريس باب القتال (الجهاد) في الفقه، فأيد ابن زكري ذلك المنع، فاستغرب لوسياني منه ذلك. ولما استفسره أجابه بذكاء وحسن تخلص قائلا: إن للقتال شروطا في الإسلام وقواعد وآدابا وأحكاما، لم تتوفر للقائمين بتلك الثورة (1871) التي جرت على الوطن مصائب لا تحصى، وأن الذين قاموا بها هم الجهلة وأن الدين والعلماء لا دخل لهم فيها. وقد تبنى أبو يعلى هذا الرأي أيضا (¬2). وتظهر الصلة بين ابن زكري ولوسياني في حادثة أخرى، وهي أزمة التجنيد الإجباري سنة 1912. كانت أزمة حقيقية، لأنها هزت المجتمع الجزائري وحصحصت الحق من الباطل، وكشفت عن أوجه الذين كانوا مع الإدارة والذين كانوا مع الشعب، مع فرنسا أو مع العالم الإسلامي. وقد تصدى عبد الحليم بن سماية معارضا باسم الشعب الجزائري، وهو ليس مفتيا ولا قاضيا ولكن مدرسا رسميا. وكان موقف ابن زكري حرجا لأنه كان على كرسي الفتوى، فإما أن يؤيد فيسقط في أعين المعارضين والشعب وينضم إلى ¬

_ (¬1) أبو يعلى الزواوي، (درسي)، البصائر، 2 ديسمبر 1938. (¬2) البصائر، 9 سبتمبر 1938.

(حزب فرنسا) الذي كان زعماؤه من النخبة، وإما أن يعارض فتغضب منه السلطات الفرنسية ويكون بذلك قد وقف موقفا سياسيا لا يقفه من كان متوليا وظيفة رسمية. وقد رأى لوسياني أن ينقذ جلد ابن زكري فنصحه بالسفر إلى الخارج أثناء الأزمة. وهكذا سافر الشيخ إلى بلاد الشام سنة 1911. وقد حضر لوسياني الاجتماع الذي انعقد بمدينة الجزائر لمناقشة موضوع التجنيد علنا مع والي الجزائر، كما حضره ابن سماية، كما ذكرنا، وكان اجتماعا صاخبا، نقله قلم عمر بن قدور في وقته (¬1). وفي هذه الأثناء كان لوسياني ومارسيل موران (أستاذ وعميد كلية الحقوق) يعدان أيضا مشروعا آخر وهو تدوين الفقه الإسلامي. وكان لوسياني في حاجة إلى خبرة ابن زكري في الفقه. فاستعان به، كما استعان بغيره. وقد ذكرنا أن بعض المدرسين قد تخرجوا على يدي ابن زكري. فقد جمع بين تدريس الفقه في مدرسة الجزائر والتدريس في الجامع الكبير، والإمامة في جامع سيدي رمضان. وكلها وظائف لا تكاد تخرج عن الفقه. وقد بقي ابن زكري في وظيفة الفتوى إلى وفاته سنة 1914. ولا ندري إن كان قد حج أثناء رحلته المشرقية، وكم بقي هناك، ومدى صلته بالشيخ طاهر الجزائري الذي كان عندئذ هاربا إلى مصر خوفا من الشبان الأتراك. وكانت بين ابن زكري والشيخ طاهر مراسلات وصلات قبل ذلك (¬2). وأننا إذا عدنا إلى حياة ابن زكري وإالى حياة الشيخ أبي يعلى الأولى توقفنا علامات استفهام كثيرة. ولكن ما أكثر علامات الاستفهام أمام الآخرين أيضا!. 15 - محمد العاصمي: ومن هؤلاء الشيخ محمد العاصمي فقد كان من المثقفين العصاميين، أمثال ابن زكري والحفناوي بن الشيخ. جاب المساجد ¬

_ (¬1) انظر كتابنا (الحركة الوطنية الجزائرية)، ج 2. وكذلك فصل المنشآت الثقافية من كتابنا هذا. (¬2) انظر بحثنا (مشروع تاريخ زواوة) في (أبحاث وآراء) ج 2. وكذلك جريدة (كوكب أفريقية) 3 مايو 1914، وسعد الدين بن شنب (نهضة الجزائر ...) ورسالة الباحث ابن عدة، مرجع سابق. وسنذكر تدخل ابن زكري لصالح الشاعر عاشور الخنقي.

والزوايا والبادية والحاضرة، وحصل على علم غزير، وكانت له نفس بعيدة الهمة تواقة إلى المناصب فوجد ما يريده، ولكن على أي طريق؟ ولد محمد العاصمي حوالي 1888 بأولاد إبراهيم نواحي بوسعادة. وقد درس في قسنطينة (على من؟) ثم رحل إلى تونس فدخل جامع الزيتونة، ونال الإجازات وليس الشهادات. ومن شيوخه فيه أحمد الأمين بن عزوز، وهو من آل ابن عزوز جهة طولقة ومؤسسي زاوية نفطة الشهيرة. وبعد ذلك رجع العاصمي إلى زاوية الهامل، فدرس على الشيخ محمد بن عبد الرحمن الديسي، عمدة هذه الزاوية في وقته، ثم سافر إلى القرويين أيضا، فأخذ بها عن بعض المشايخ، وهكذا امتلأ وطابه بعلوم العصر الإسلامية وعلوم الحياة والسياسة أثناء العقد الأول من هذا القرن، وهو فترة دقيقة من حياة الجزائر وحياة العالم الإسلامي كله. وكما تنوعت دراساته تنوعت أيضا وظائفه. بدأ مساعدا (كاتبا؟) عند الباشاغا ابن الأحرش في الجلفة من 1912 إلى 1919، أي فترة التجنيد الإجباري والحرب الأولى. وكانت المنطقة ما تزال تحت نفوذ المكاتب العربية عندئذ، فالذي يوظف في الحقيقة ليس الباشاغا ولكن السلطات الفرنسية. ثم أصبح الشيخ العاصمي إماما في أحد مساجد العاصمة (جامع بورقيسة (؟)) عام 1920. وأخذ بعد ذلك ينشط في الأدب والدين، فنجده في جمعية تسمى (المهذبة)، وهي جمعية أدبية لا تهتم بالسياسة ولكن تهتم بالأدب والمسرح. وشارك مع الشيخ أحمد توفيق المدني في تحرير (تقويم المنصور) فكتب له فصلا، ووصفه الشيخ المدني بأنه كاتب كبير وجوالة. والكلمة التي كتبها العاصمي للتقويم عنوانها (المجتمع الجزائري وعماد نهضته الراهنة). وقد امتدح فيها الشعب الجزائري على تمسكه بالوطنية (التقاليد) ومعارضته لموجة التحضر. ورأى أن الإسلام من أقوى دعائم هذا التمسك الخ. وهو شعب، في نظره، يحب الحرية واللغة العربية، ويكره الجمود كما يكره الطفرة. وهذه خلاصة رأي رجل لا شك أنه استخلصه بعد تجربة.

وقد تطورت الحياة بالشيخ العاصمي، فرغم علمه وقلمه الظاهري وابتعاده عن الشعوذة والدجل، كما قال، فإننا نجده قد انضم إلى الجهة التي تساند الإدارة الفرنسية سنة 1932. فكان يكتب في جريدة (الإخلاص) لسان حال جمعية علماء السنة التي عارضت اتجاه جمعية العلماء الإصلاحي. ولعل وظيفته الرسمية، وليس قناعته، هي التي أملت عليه ذلك الموقف. وهذا الموقف أيضا هو الذي جعله يبقى في إطار الوظائف الرسمية ويتدرج فيها، فكان يعطي دروسا في اللغة العربية في جامعة الجزائر، وتولى الإمامة بجامع سيدي رمضان، ثم بالجامع الكبير، ومنذ 1944 تولى الفتوى بالجامع الجديد. وكان الشيخ العاصمي، موهوبا، وله قلم بارع، وفكر ناصع، وطموح يشبه الغرور. ومن الصعب على أمثاله أن يعيش في ظل الاستعمار الحرور، فهو إما أن يحترق معه أو يحترق خارجه (¬1). ولا ندري كيف سيكون موقف العاصمي من ثورة 1954 لو أدركها. وسنتحدث عن بعض إنتاجه في مكان آخر. ... بدون شك هناك غير هؤلاء من المدرسين في العاصمة موظفين وأحرارا، سيما في فترة ما بين الحربين. ومن أبرزهم الشيخ العقبي الذي غطى على الجميع بين 1929 - 1940. وقد نتناول حياته في موضوع آخر. وما أردنا بذكر الذين أتينا عليهم إلا لنعرف مدى هذه السياسة التي تبنتها السلطة نفسها وسمتها تنشيط المساجد. فهل حققت الهدف منها؟ وهل كان نوع التدريس يتماشى مع تقاليد التعليم المسجدي؟ قبل أن نجيب على ذلك ¬

_ (¬1) عنه انظر رسالة الباحث أحمد مريوش عن (الشيخ الطيب العقبي)، وقد جاء فيها أن الشيخ العاصمي قد تولى إدارة مجلة (صوت المسجد) التي كانت لسان حال رجال الدين الموظفين، وقد بقي في الفتوى إلى وفاته في حادث سيارة في 14 نوفمبر 1951. عن مقالته في (تقويم المنصور) السنة الخامسة (1348 هـ)، انظر ص 276 - 282.

التدريس بإقليم الوسط (غير العاصمة)

علينا أن نذكر نماذج من المدرسين أيضا في كل من ولاية وهران وولاية قسنطينة. كان في ولاية الجزائر كلها عشرة مساجد، تلقى فيها هذه الدروس الرسمية، أربعة منها في العاصمة، والستة الباقية في كل من البليدة والمدية وشرشال، ومليانة وتيزي وزو، وأم السنام (الأصنام). وبعد حوالي عشر سنوات من تنظيمها كان عدد الحضور (سنة 1911) 152 تلميذا في الدروس العامة، و 146 في الدروس الخاصة بينما عدد المسجلين 298. ونفس العدد كان سنة 1915. وهذا هو التوزيع على المراكز العشرة: الجامع الكبير بالعاصمة: 42 والجامع الجديد: 42، وجامع صفر: 25، وجامع سيدي رمضان: 4 فقط. أما خارج العاصمة فكالآتي: شرشال: 25، أم السنام: 16، البليدة: 14، المدية: 15، تيزي وزو: 8، مليانة: 8. ويقول التقرير إن جملة الحضور للدروس الخاصة والعامة هو: 298. وقد نقص العدد سنة 1918 فكان 180 فقط (أي مجموع التلاميذ الحاضرين في الدروس الخاصة والعامة) (¬1). التدريس بإقليم الوسط (غير العاصمة) ونريد الآن أن نتعرف على عدد من المدرسين في أقليم الجزائر (خارج العاصمة)، وكيف يحكم الفرنسيون على المدرسين ودروسهم، وما كانوا متوقعين منهم ومنها وماذا وجدوا. وننبه من جديد إلى أن بعض التقارير قد ضاعت منا سنة 1988، ولكن ما بقي منها يكفي في نظرنا لتوضيح المقصود. 1 - شرشال: كان المدرس فيها سنة 1905 - 1906 هو السيد حسن الدوعاجي عبد القادر، ولم يذكر التقرير ما إذا كان له درس عام وآخر خاص، وإنما ذكر أنه كان يلقى درسا في التوحيد والفقهء والغالب على الظن أن هذا هو موضوع الدرس الموجه للعامة. وقد وصف المدرس بأنه متحمس ¬

_ (¬1) تقرير ديستان، مدير مدرسة الجزائر، أرشيف ايكس (فرنسا): 47 H 14.

جدا لمهمته، وأنه متعلم وخريج مدرسة الجزائر الشرعية - الفرنسية. وتنبأ له المفتش بأنه سيصبح (عالما شهيرا) لأنه شخص جاد. وربما دل ذلك التعبير على أن هذا المدرس ما يزال شابا. وقد اشتكى للمفتش بأن حضور التلاميذ لدروسه في الجامع يعرقل المصلين عن الصلاة. ويفهم من هذا أمران أن درسه كان يحضره أيضا التلاميذ الصغار السن، وأن مواعيد الدروس لا تراعى أوقات الصلاة (¬1). وفي سنة 1915 كان مدرس شرشال هو ابن حمودة أحمد بن محمد، وهو من مواليد شرشال في 19 فبراير 1887. وقد تخرج من القسم العالي في مدرسة الجزائر الشرعية الفرنسية أيضا سنة 1959، حيث واصل من سنة 1903 كل مراحل التعلم فيها. وكان حاملا للشهادة العليا لهذه المدرسة، إضافة إلى دبلوم اللغة العربية الذي تمنحه مدرسة (كلية) الآداب بالجزائر. وبمجرد تخرجه سمى مدرسا في شرشال براتب 955 ف سنويا. ولعله قد حل محل من كان قبله. وإذن فهو جديد في مهمته، وقد فتشه مدير المدرسة التي تخرج منها، وهو السيد ديستان. ولكن تقرير السنة الموالية (1911) ذكر أن السيد ابن حمودة قد سمى أستاذا في مدرسة سان لويس بالسينغال (¬2). ولكن تقرير المفتش نفسه لسنة 1912 يقدم لنا شخصية أخرى في شرشال، وهو حمود حمدان بن الطيب. وقد ولد حمود بمدينة الجزائر في 27 أكتوبر 1886، وتخرج من مدرستها الشرعية المذكورة أيضا بين 1901 و 1908، فهو خريج القسم العالي، ومن الجيل الذي تكون في هذه المدرسة بعد إعادة تنظيمها، ودخل التدريس بالمساجد بعد تنظيمه الجديد. وكان تعيينه الأول في جامع سيدي بلعباس سنة 1908 براتب شهري قدره 75 ف. وبطلب منه نقل إلى شرشال في 15 نوفمبر 1910 بنفس الراتب. ويصفه ¬

_ (¬1) تقرير المفتش ويليام مارسيه (مدير مدرسة الجزائر)، سنة 1905 - 1906، ارسيف إيكس (فرنسا) رقم 47 H 14. (¬2) عن ابن حمودة انظر أيضا فصل الاستشراق.

التقرير بأنه كان متعلما متحمسا وله ضمير حي، كما له بعض التأثير في شرشال. وله درس خاص بالتلاميذ وآخر للعامة، وله حوالي 25 تلميذا، وقد أبدى رغبته في الانتقال إلى مدرسة الجزائر أو التدريس في أحد المساجد بها ... وتحقق له ذلك بعد حين، كما سنرى. وقد أوصى له المفتش بالشكر على حماسه وذكائه ونشاطه وحسن أدائه لمهمة التدريس (¬1). قلنا أن السيد حمود قد تحقق طلبه في الانتقال إلى العاصمة. ففي تقرير سنة 1917 نجده قد سمى مدرسا في جامع صفر، وهو المكان الذي شغر بوفاة محمد بن مصطفى خوجة، كما سبق. أما مكان حمود حمدان في شرشال، فقد عمره السيد نور الدين عبد القادر بن إبراهيم الذي لم يقدم عنه المدير الجديد لمدرسة الجزائر وهو المفتش سان كالبر، سوى معلومات ضئيلة في هذه السنة. فعدد تلاميذه لا يتجاوز التسعة. ولكن العدد ازداد في السنة الموالية (1918) حتى وصل إلى 39. وقد أشاد به نفس المفتش هذه السنة، فقال أنه خريج القسم العالي في مدرسة الجزائر، توظف في القضاء أولا بلقب عدل في كاسينيو ثم في شرشال، قبل أن يعين مدرسا في نفس هذه المدينة في 14 مارس 1916 مكان السيد حمود حمدان المذكور. وفي 1919 أكد نفس المفتش على ذكاء وإخلاص ونشاط المدرس نور الدين عبد القادر، غير أن تلاميذه هذه السنة كانوا حوالي 16 فقط (¬2). 2 - البليدة: اختلف على البليدة أيضا عدد من هؤلاء المدرسين. وقد ضاعت منا بعض المعلومات المتعلقة بهم، ولكننا نجد في أقدم تقرير بقى عندنا عنهم، أن مدرس البليدة سنة 1907 كان يدرس لتلاميذه الحساب والفقه والتوحيد. ولم يذكر صاحب التقرير، وهو السيد ويليام مارسيه، اسم ¬

_ (¬1) تقرير ديستان (مدير مدرسة الجزائر) 1912، نفس المصدر. سنرى أن حمود حمدان قد أصبح مفتيا في العاصمة وكان من المدافعين بقوة عن المصالح الفرنسية. انظر فصل السلك الديني. (¬2) تقرير سان كالبر (مدير مدرسة الجزائر) سنوات 1917 - 1918 - 1919. نفس المصدر.

المدرس وإنما انتقده بقوله إن أهل البليدة غير مستفيدين منه، كما قال أن هذه المدينة لم ترشح سوى تلميذ واحد لمدرسة الجزائر خلال السنوات الست الماضية (¬1). وكان المدرس في البليدة سنة 1915 هو سيدي عبد الرحمن بن أحمد زروق الذي انتقده ديستان أيضا في تفتيشه. ولعله هو نفسه المدرس الذي انتقده أيضا مارسيه. فقد قال عنه ديستان أنه تقليدي في دروسه ومنهاجه، فهو لا يستعمل السبورة ولا طريقة المساءلة. ولعل هذا النقد نابع من كون الشيخ ليس من خريجي المدارس الشرعية الفرنسية. إن سيرة تعلمه تشهد أنه من خريجي المساجد والدروس العامة (الزوايا؟) بالأسلوب الإسلامي التقليدي. فقد ولد بالمدية (وفي تقرير آخر أنه ولد بالبليدة) سنة 1847، وبعد أن قرأ بها على الحاج علي بن رقية وسى الحاج الطاهر، توجه إلى تلمسان حيث أخذ على الشيخ الحرشاوي المدرس بها. ثم توظف في الإمامة بجامع البليدة في تاريخ غير مذكور، ولكن في سنة 1899 (17 غشت) سمى مدرسا رسميا بنفس الجامع براتب قدره 955 ف سنويا. وفي تقرير 1912 الذي أعده نفس المفتش (ديستان) أن تعليم الشيخ زروق كاف ولكن تأثيره بسيط. ولاحظ التقرير أن من بين تلاميذه عندئذ شابا عمره عشرون سنة، يدعى محمد بابا عمر (¬2). وكان للشيخ زروق درس عام وآخر خاص. ورغم النقد الموجه إلى طريقته في التدريس فقد بقى الشيخ في وظيفته إلى 1914 حين وجدنا السيد قلال منور قد حل محله في سبتمبر، وكان قلال من خريجي مدرسة الجزائر الشرعية - الفرنسية (¬3)، وهو ما كان المفتشون حريصين عليه كثيرا في مختلف المساجد. ¬

_ (¬1) تقرير مارسيه، سنة 1907، أرشيف إيكس (فر نسا) رقم 47 H 14. (¬2) هو الشيخ بابا عمر الذي أصبح مفتيا في مدينة الجزائر سنة 1941. وقد تولى هذا الشيخ سنة 1921 حزابا بالبليدة (؟) وفي 1925 عين إماما في جامع القبة بالعاصمة، وفي 1934 إماما بالجامع الكبير، الخ. انظر لاحقا. (¬3) ديستان، 1910، 1912، أرشيف إيكس (فرنسا)، رقم 47 H 14.

إن الملاحظات العامة التي يبديها المفتشون عادة على المدرسين الذين درسوا بالطريقة التقليدية ولم يتخرجوا من المدارس الفرنسية هي التالية: عدم الاحتفاظ بسجلات التلاميذ، وعدم استعمال السبورة، وحضور أبنائهم لدروسهم، وكون تعليمهم غير عصري، ولا يبثون الأفكار الفرنسية في الحاضرين، ثم أن بعضهم كان مرابطا ويستعمل التصوف في دروسه، وأخيرا فإنهم لا يعرفون اللغة الفرنسية، وكذلك تلاميذهم غالبا. ومن أجل ذلك كانت كل التقارير (الجزائر، قسنطينة، وهران) توصى باستبدال الشيوخ بخريجي المدارس الشرعية - الفرنسية، سيما المتخرجون من القسم العالي بمدرسة الجزائر. 3 - المدية: مدرس جامع المدية سنة 1915 هو السيد الحسيني محمد بن الحاج بن عيسى. ولد في المدية سنة 1845. وقد درس بها على الشيخ علي بن رقية، كما درس في مدينة الجزائر على الشيخ محمد السعيد بن زكري. وحصل على إجازات ممن قرأ عليهم. واشتغل بعض الوقت معلما حرا، دون ذكر المكان، ولعله كان يلقى دروسا للعامة برخصة من السلطات الفرنسية. وقد سمى في 22 نوفمبر 1899 مدرسا بجامع المدية براتب 955 ف سنويا. وكان الشيخ الحسيني ذا مكانة رفيعة لدى أهل المدية. وكان تعليمه كافيا في نظر المفتش، رغم أنه من أهل الطريقة التقليدية، أي لم يتخرج من المدارس الفرنسية. وكان عمره سنة 1915 سبعين سنة، ولذلك أوصى له المفتش بوسام اعتراف (¬1). ومن الواضح أن الشيخ الحسيني قد طال عهده في التدريس بالمدية. ولم يذكر التقرير عدد تلاميذه، ولا مواد تدريسه، والغالب أنه كان يلقى درسا عاما وآخر خاصا. 4 - مليانة: أما في مليانة فالمدرس الذي بقي فترة طويلة أيضا هو الشيخ الشريف بن عودة بن الحاج سي أحمد. وهو من مواليد وادي الروينة (قرب الشراقة) سنة 1862. وقد درس الفقه على الشيخ دوبه الحاج محمد ¬

_ (¬1) ديستان، سنوات 1910، 1912، 1915.

بوادي الروينة ثم على الشيخ الهادي بدوار الشرفة (الأخضرية). فهو حينئذ من المتعلمين العصاميين، ثم انتصب هو للتعليم في مسقط رأسه مدة خمس سنوات، وبعدها انتقل إلى البرواقية ثم إلى مليانة، وفي المدينة الأخيرة سمى مدرسا في شهر غشت 1899. وليس له من الشهادات سوى الإجازات التي منحه إياها شيوخه بالطريقة القديمة. وكان راتبه السنوي 700 ت. وقد وصفه تقرير 1907 بأنه شاب متحمس لدرسه، وأنه يدرس النحو والفقه. ولا ندري كيف يوصف من قارب الخمسين من عمره بالشباب. وكان يلقي درسه في حجرة مجاورة لجامع سيدي أحمد بن يوسف. وقد لاحظ تقرير 1910 أن الشيخ طلب زيادة المرتب وتسميته مدرسا في المدرسة، فهو غير قانع بوظيفة المدرس بالجامع أو ما حوله. ويقول عنه تقرير 1912 أن راتبه قد وصل إلى 955 ت. وهي زيادة قليلة، وأنه متمكن من النحو العربي، وأن له درسا عاما وآخر خاصا، ولكن تأثيره معدوم (¬1). 5 - أم السنام (الأصنام): حسب تقرير 1907 أن المفتي هو الذي كان المدرس بها. وهو يدرس النحو والفقه. فمن هو؟. أنه كان من الشيوخ الذين يعتبرهم الفرنسيون تقليديين أيضا، ومع ذلك كانت له مكانة وعلم وتأثير في وقته، قل من تمتع بها أمثاله عندهم. فهو الشيخ بو مزراق الونوغي بن أحمد. ولد بمجانة سنة 1862. وقد تخرج من زاوية الهامل قرب بو سعادة على الشيخ محمد بن أبي القاسم، ثم دخل مدرسة الجزائر، ولكنه غادرها في السنة الثانية لأسباب لا نعرفها. وله إجازات من شيوخه الأولين، سيما محمد بن بلقاسم، ومحمد بن عبد الرحمن الديسي، ومحمد ابن الحاج محمد، الخ. سمى أولا إماما بالقليعة ثم في جوان - يونيو 1904 سمى مدرسا ومفتيا بأم السنام، براتب 955 ت سنويا. وكانت دروسه للتلاميذ لا تلقى في الجامع بل في حجرة مجاورة له. وهي الحجرة المخصصة عادة للتعليم القرآني. ولاحظ عليه المفتش أنه كان يستعمل السبورة. ¬

_ (¬1) تقرير مارسيه، مرجع سابق، وكذلك تقرير ديستان، مرجع سابق.

وهناك ملاحظات أخرى جاءت في تقارير المفتشين عنه. من ذلك أنه كان قد اشتغل في جريدة المبشر أيضا. وهي الجريدة الرسمية الموجهة للجزائريين. والملاحظة الأخرى هي أنه كان غير راض بوظيفته بل طلب وظيفة معلم في المدرسة، وكانت صحته غير جيدة، حسب التقرير. ولذلك حولته السلطات الفرنسية ابتداء من سنة 1915 إلى باريس، ليكون إماما في المسجد ولتمكينه من العلاج. وكان ذلك خلال الحرب الأولى وأثناء تواجد آلاف الجنود والعمال الجزائريين بفرنسا. ولكننا نعرف من مصادر أخرى أنه قام بكتابة رد، مع زميله عبد الرحمن قطرنجى، على دعوة شيخ الإسلام في اسطانبول للجهاد ضد فرنسا واتهام فرنسا بسوء معاملة المسلمين في الحرب (¬1). وقد كرر تقرير 1912 نفس طلبات الشيخ بو مزراق، ولكنه امتدحه بأنه مدرس ناجح، حي الضمير. وله مكانة واعتبار في البلدة. وأن له درسين خاصا وعاما (¬2). ولا شك أن للفرنسيين مقاييسهم الخاصة في انتقاء الأشخاص والحكم عليهم. ونحن إذا رجعنا إلى تقرير سنة 1911 وجدنا عدد التلاميذ في الدروس العامة لا يتجاوز ستة عشر (¬3). 6 - تيزي وزو: مدرس هذه المدينة هو السيد مطاهري بن الصادق بن سي أحمد. من مواليد سيسل أومالو سنة 1877. ولا نعرف أولياته في التعليم، لأن التقرير لم يذكرها، ولكننا نعلم أنه قد درس بعد ذلك في مدرسة الجزائر الشرعية - الفرنسية، وقطع فيها كل المراحل إلى أن حصل على دبلوم الدراسات العليا. شغل في البداية وظيفة خوجة. ولا نعلم متى تخرج من المدرسة ولا متى سمى في هذه الوظيفة. ولكنه في غشت سنة 1915 سمى مدرسا بجامع تيزي وزو براتب 955 ف سنويا. وقد وصفه تقرير سنة 1912 ¬

_ (¬1) انظر لاحقا. (¬2) تقرير ديستان، 1910، 1912، مرجع سابق. (¬3) يغلب على الظن أن بومزراق الونوغي هو ابن الونوغي بن أحمد أخو الباشاغا المقراني، صاحب ثورة 1871.

مدرسو المساجد في إقليم وهران

بأنه متعلم بما فيه الكفاية، ولكنه كان قليل الاهتمام بوظيفة التدريس بالجامع. وكان له درس عام وآخر خاص، ولكن لا تأثير له. وقد جاء في تقرير آخر (سنة 1911) أن عدد الحضور في الدرس العام ثمانية فقط (¬1). ومع ذلك فقد بقي السيد مطاهري في هذه الوظيفة التي لا يرغب فيها عدة سنوات. ولم تخلصه منها، فيما يبدو، إلا الحرب، إذ جاء في تقرير سنة 1915 أن السيد مطاهري قد استدعى للخدمة العسكرية وأن مكانه أصبح شاغرا (¬2). 7 - بو سعادة: تأسست مراكز جديدة للتدريس في ولاية الجزائر القديمة في غير المراكز العشرة المذكورة سابقا. ومن هذه المراكز بو سعادة. فقد وجدنا في تقرير سنة 1911 أن المدرس هناك هو الشيخ عبد القادر بن الحاج، الذي سمى مدرسا في 24 يوليو 1955، وكان راتبه 720 ف سنويا. وكان الشيخ ابن الحاج يلقي درسه في الجامع. وكان عدد الحاضرين يوم التفتيش ثمانية فقط، من بينهم أحد أبناء الشيخ. وكان ابن الحاج يدرس التوحيد والأدب والبلاغة والحساب والنحو والمنطق والفقه. ومن الواضح أن هذه المواد لا يشملها كلها البرنامج الذي عينته السلطات للمدرسين وعممته (¬3). مدرسو المساجد في إقليم وهران من أشهر مدن العلم في ولاية وهران خلال العهد الفرنسي الأول (ما قبل تنظيم التعليم في المساجد رسميا) هي تلمسان ومعسكر ومازونة. وشيئا فشيئا لحقت مستغانم ووهران الخ. وقد أصاب مساجد هذه المدن ما أصاب مساجد العاصمة، بل ربما أكثر، نتيجة المقاومة العنيدة في الناحية، وأصيبت ¬

_ (¬1) تشير التقارير في أغلب الأحيان إلى الحالة المدنية للمدرس، فتذكر ما إذا كان متزوجا، وعدد أطفاله الخ ... ولكننا أهملنا ذلك هنا. (¬2) تقرير ديستان، مرجع سابق، 1910، 1912. (¬3) نفس المصدر. تقرير 1911. من المراكز أيضا الأغواط. انظر تقرير 1915، إذ جاء فيه أن المدرس في جامع الأغواط قد توفي دون ذكر اسمه.

الناحية بجدب علمي كبير نتيجة هجرة العلماء إلى المغرب والمشرق. ومن العائلات التي كانت تشتغل بالتدريس ثم هاجرت: عائلة المشرفي من معسكر، وعائلة المجاوي وعائلة محمد بن سعد من تلمسان، كما نقلت السلطات الفرنسية بعض علماء الغرب إلى الشرق الجزائري، مثل عائلة بو طالب. وحين فتح الفرنسيون مدرسة تلمسان الرسمية سنة 1851 لم يجدوا من يعمرها في دراسة المواد العربية والإسلامية إلا القليل. ومن الأسماء التي دخلتها عندئذ الشيخ أحمد بن البشير ومحمد بن عبد الله الزقاي. وظلت عائلة بوراس المازونية تخدم العلم في مازونة أيضا. وقد تولى الشيخ أحمد بلبشير إدارة المدرسة، حسب بعض المصادر، إلى أن أصيب في عينيه. وتخرج على يده الجيل الأول، ولا نعرف أنه كان مدرسا قبل ذلك في المساجد بتلسمان. أما الشيخ الزقاي فقد كان تكوينه من الطراز القديم. فأخذ العلم في تلمسان ثم هاجر في سبيله إلى تونس ومصر، ومن تلاميذه قاضي تلمسان شعيب بن علي المعروف بالجليلي وعبد القادربن مصطفى المشرفي. وللزقاي تآليف ذكرها الحفناوي في تعريف الخلف، سنوردها في جزء آخر (¬1). وقد تعلم في موطنه ثم درس في الأزهر وأدى فريضة الحج وأخذ عن علماء الحجاز. وبعد رجوعه إلى الجزائر تولى التدريس في مدرسة تلمسان الرسمية كما تولى وظيفة القضاء وعضوية المجلس القضائي الرسمي أيضا. وقد حاولت السلطات الفرنسية أن توظف علم الشيخ الزقاي لدعايتها في توجيه الجزائريين لقبول المرسوم الشهير المتعلق بتقسيم الأراضي العرشية وجعلها ملكية فردية، سنة 1863. فقد وجدناه يكتب، دون أن يكون له معرفة بأبعاد وخطورة المرسوم على وحدة المجتمع، مقالة مطولة ينصح فيها ¬

_ (¬1) عن الزقاي انظر كناش تلميذه القاضي شعيب بن علي، مخطوط المغرب، ك 48. وفيه أنه نال إجازات عديدة من علماء الأزهر. وإجازة المشرفي له. انظر أيضا تعريف الخلف 2/ 155.

بقبول المرسوم باعتباره في فائدة المسلمين. ولا شك أن درايته بالفقه ووظيفته في المدرسة هي التي حملت السلطات على أن تطلب منه الكتابة في هذا الموضوع. والملاحظ أنه لم يكتب بعد صدور المرسوم مباشرة. ولكن سنة 1867 عند اندلاع الجوائح الكبيرة، وأثناء ثورة أولاد سيدي الشيخ، ومعارضة أرباب العروش لسياسة نزع الملكية الجماعية وإنشاء الملكية الفردية التي بدأت تظهر أنها نوع من التحايل على إعطاء الأرض للمستوطنين الفرنسيين. أما عنوان مقالته فهو (تنبيه أكيد لمن عساه يغفل عن فائدة التحديد). ويعني هنا (تحديد) الأرض العرشية، أي تقسيمها وتمليكها إلى الأفراد من العرش (الملكية الفردية) لتسهيل نقلها إلى الملكية الأروبية بالبيع ونحوه (¬1). وقد ظل الشيخ الزقاي يعمل في التدريس والقضاء ويمنح الإجازات للتلاميذ إلى أن توفى بالعاصمة في حدود 1290 هـ (1873) ودفن في مقبرة سيدي محمد. وإذا كان الشيخ الزقاي من مدرسي الدروس الخاصة بالتلاميذ المترددين على المدرسة الرسمية في تلمسان وكان فيهم كبار السن في مرحلتها الأولى، كما عرفنا، فلإن الشيخ علي بن عبد الرحمن عرف عنه التدريس في مسجد وهران وولاية الفتوى في نفس المدينة. ومن امتيازات المفتي الإشراف على غيره من المدرسين والأيمة في الولاية أيضا. وكان منصب المفتي شرفيا فقط وليس له ما قد يوحي به من الفعالية والرأي الأخير، كما كان الحال في الزمن القديم. وقد مر على وهران عدد من المفتين قبل علي بن عبد الرحمن، منهم حميدة بن القائد عمر المتوفى سنة 1870 (¬2). ¬

_ (¬1) انظر جريدة (المبشر) تاريخ 28 نوفمبر 1867، ورسالة الباحث إبراهيم الونيسي. (¬2) جاء في أحد المصادر أن حميدة هذا ولد سنة 1823 وتولى الفتوى سنة 1845، ونحن نستبعد ذلك، لصغر سنه، وقد كان الفرنسيون حذرين من إسناد بعض المناصب خوفا من عدم تأثير أصحابها على الأهالي. ثم أن نفس المصدر يذكر أن الشيخ كان مساعدا لشيخ البلدية حوالي 1868، وهذا غريب. انظر الصادق بن قادة =

ومن الظواهر الغريبة في حياة المفتين والعلماء الجزائريين عندئذ دخولهم في الطرق الصوفية رغم علمهم في الظاهر. وهذا ليس خاصا بالعلماء الذين قد يكونون أصلا من الزوايا أو درسوا فيها، بل كان أمرا شائعا حتى فيمن تخرج من المدرسة الشرعية - الفرنسية. لاحظنا ذلك على المفتي علي بن الحفاف مع (الشاذلية) والشيخ أبو القاسم الحفناوي بن الشيخ مع (الرحمانية)، والقاضي شعيب بن علي مع مختلف الطرق الصوفية، وهو واضح في حالة الشيخ المفتي علي بن عبد الرحمن مع الطريقة التجانية. ترى ما الذي حمل هؤلاء العلماء على الدخول في الطرق الصوفية، رغم أنهم كانوا موظفين ويتعاملون مع سلطة محتلة لبلادهم؟ فهل هو التقرب إلى الله أو التقرب إلى الحكام عن طريق رجال التصوف؟ أو هو نوع من شراء الأمن والاحتماء بالشيوخ؟ ولنذكر الناسين بأن علماء العهد العثماني كانوا على هذا النمط أيضا، وكان بعضهم يشتري الدنيا بالآخرة. وقد ذكرت عدة مصادر أن المفتي علي بن عبد الرحمن كان من أتباع الطريقة التجانية، بل من أبرزهم، فلا غرابة إذن أن تنتشر البدع بين الناس ما دام رجال الدين فيهم قد أصبحوا يغطون في النوم في ظاهر الأمر. وكان القاضي شعيب بن علي يكاتب ويجامل أحمد سكيرج المغربي الذي سخر قلمه للدفاع عن التجانية، فيطلب منه الإجازة والبركة. وقد صدق ابن باديس عندما هاجم سكيرج هذا قائلا أنه لم يدع إلى نهضة شعب أو يعارض الاحتلال لبلاده. ومهما كان الأمر، فإن الشيخ علي بن عبد الرحمن كان حيا إلى أوائل هذا القرن. وكانت السلطات الفرنسية يرضيها جدا أن يكون أمثاله على رأس الديانة الإسلامية في الجزائر. وكان ابن عبد الرحمن معاصرا لشخصيات أخرى لا تقل عنه غيرة على الصوفية، أمثال حميدة العمالي الذي كان رحمانيا، وعبد الحليم بن سماية الذي استجاز الشيخ محمد بن بلقاسم ¬

_ = (مثال من الاحتجاج الحضري في القرن 19، قضية مقبرة وهران الإسلامية)، في (دفاتر التاريخ المغربية)، ديسمبر 1987 عدد 1، ص 95.

الهاملي، لشهرته العلمية وبركته الصوفية. وقد ذكر لي الشيخ المهدي البوعبدلي (وهو مفتي وشاذلي الطريقة أيضا - درقاويا؟) أن الشيخ علي بن عبد الرحمن قد نسخ كتاب ابن حمادوش في الأدوية بخطه في 119 صفحة (¬1). كما ذكر البوعبدلي أن ابن عبد الرحمن قد توفي سنة 1324 هـ، وهو التاريخ الذي كتبه الحفناوي في (تعريف الخلف) أيضا. وجاء في أحد المراجع أن المفتي ابن عبد الرحمن كان من تلاميذ الشيخ علي بن الحفاف ومن مقدمي الطريقة التجانية (¬2). ... هناك هدف واحد ورئيسي وضعه الفرنسيون نصب أعينهم من التعليم في المساجد، وهو نشر الأفكار والتأثير الفرنسي عن طريق المسجد، وللوصول إلى ذلك وضعوا عدة مقاييس كان على رأسها اختيار المدرسين من غير السلك الديني القديم، ظانين أن الذين تخرجوا من المدرسة الشرعية - الفرنسية سيكونون أفضل المبشرين بذلك التأثير وتلك الأفكار. وإذا كان البعض من هؤلاء قد مشوا في الطريق تحت حماس التجربة وغطاء العلم مثل ابن الموهوب، فإن الآخرين من زملائهم كانوا (فاهمين) للخطة. وقد كان لوسياني وراء تجربة التعليم في المساجد ولكن الذين كانوا يطبقونها في الميدان ويسهرون على تنفيذها ومراقبتها بدقة هم المستشرقون مدراء المدارس الشرعية، كما ذكرنا. وقد كان هؤلاء على درجات، لكن أكثرهم ربما تعصبا وكراهية لكل ما هو عربي وما هو إسلامي هو ألفريد بيل، مدير مدرسة تلمسان، وتلميذ رينيه باسيه. وقد تغير المدراء على مدرسة الجزائر خلال العشرين سنة من أول هذا القرن، فكان ديلفان، ومارسيه، وديستان وسان كالبر، الخ. أما مدرسة تلمسان فقد طالت فيها إدارة بيل حتى أنه كان المفتش الوحيد على مختلف دروس المساجد في ولاية وهران طيلة عشرين سنة تقريبا. ¬

_ (¬1) من رسالة بتاريخ 30 يناير 1976. (¬2) عبد الباقي مفتاح (أضواء ...) مخطوط.

كان في هذه الولاية ثمانية مراكز على المفتش أن يزورها سنويا وأن يقدم بشأنها تقريرا إلى الحاكم العام. وفي هذه التقارير وصف للمعلم (المدرس) وتعليمه وطريقته وتلاميذه وتأثيره الخ. ثم اقتراحات وتوصيات بالتبديل أو العزل أو بالترقية وما إلى ذلك، وهذه المراكز هي: وهران، وتلمسان، ومستغانم، وسيدي بلعباس، ومعسكر، ومازونة، وندرومة، بالإضافة إلى جيرفيل في المنطقة العسكرية. ولننظر إليها مركزا مركزا، مبتدئين بوهران (¬1). 1 - وهران: مدرس الجامع الكبير فيها سنة 1905 هو الشيخ حريزي سي الحبيب البخاري. وكان عندئذ طاعنا في السن، عمره 75 سنة تقريبا، حسب التقرير، فيكون من مواليد سنة 1830 تقريبا. وقد سمى في هذه المهنة سنة 1868. ويقول التقرير أن المفتي الحالي لوهران (علي بن عبد الرحمن) هو الذي خلفه في التدريس. وكان راتب الشيخ حريزي 955 ف. سنويا. ويقول بيل أنه عندما علم الشيخ بزيارته التفتيشية حضر درسه ليلا فلم يزد عند التفتيش على أن قرأ نصا في النحو من الآجرومية بصوت عال. ولذلك انتقد طريقته بشدة، واستمر في نقدها في مختلف التقارير مع التوصية بإحالته على التقاعد إلى أن تم ذلك سنة 1907. ويقول بيل أن عدد تلاميذ الشيخ كانوا ثلاثة فقط. ونفهم من التقرير أن الشيخ كان أيضا يشتغل مساعدا في المحكمة براتب 175 ف. شهريا. ولذلك اقترح بيل أن الراتب الأخير يكفيه. ويدل هجوم بيل على طريقة الشيخ حريزي أن هذا الشيخ لم يدرس في المدارس الرسمية - الفرنسية. وفي تقرير سنة 1907 رجع بيل إلى نقد طريقة الشيخ حريزي واقترح ¬

_ (¬1) في البداية كانت المراكز ثمانية بوجود مدرسين اثنين في تلمسان ولا وجود لمركز في مازونة. وفي تقريره سنة 1907 اقترح ألفريد بيل إنشاء وظيفة مدرس في مازونة. فاستحدث فيما يبدو، بعد سنة 1912، لأن هذا المركز ظل إلى هذا التاريخ شاغرا وسنجده أيضا شاغرا سنة 1918.

من جديد إحالته على التقاعد، بدعوى أنه غير قادر على تدريس النحو للمبتدئين والمترشحين للمدرسة. ولاحظ أنه حضر درسا ألقاه خليفة الشيخ، وهو السيد بوخالفة الحبيب، فوجده يعرف النحو أفضل من الشيخ حريزي، وأن لغته أدبية أكثر منه، ولكنه مع ذلك لا يحسن طرق التدريس. وكان السيد بوخالفة مهتما، في نظر بيل، بتوسيع معارفه أكثر من اهتمامه بتفهيم السامعين له. ونظرا لضياع بعض التقارير منا فقد انقطعت حلقات المدرسين، لكننا نجد أن المدرس بوهران سنة 1917 هو الشيخ رحال منور الذي كان في عداد الطبقة الثانية من المدرسين. ولا نعرف كيف تعلم الشيخ رحال ولا أين. ولعله كان من خريجي المدارس الشرعية - الفرنسية. وفي تقرير آخر لبيل نفسه سنة 1923 نجد رحال ما يزال هو المدرس في وهران رغم أنه لا يدرس في المسجد، لعدم حضور الناس له، لكن التقرير لا يذكر السبب. ومعنى ذلك أنه كان لا يلقى درسا عاما، وهو أساس التعليم المسجدي، كما عرفنا (¬1). 2 - تلمسان: في تلمسان مركزان أو جامعان: الجامع الكبير وجامع سيدي السنوسي. أما الجامع الكبير فكان مدرسه هو الشيخ بوثلجة الذي كان يدرس الفقه والتوحيد. وذلك هو الدرس العام الذي أباحه الفرنسيون منذ الخمسينات من القرن الماضي بشرط عدم الخروج عن الخط المسطور. وكان الدرس موجها إلى عامة المسلمين بالمدينة. وراتب الشيخ سنة 1905 هو 600 ف. فقط، رغم أن له عائلة. ولكن المفتش بيل انتقد الشيخ بوثلجة بأنه منغلق الفكر قديم الطريقة ضحل المعلومات، رغم معرفته للنحو والفقه. ولا غرابة في أن يقول بيل عنه ذلك ما دام الشيخ من زاوية كرزاز. ومن ثمة فهو موضوع في خانة المرابطين. وكان بيل لا يطيق وجود أمثاله، سيما وأن ¬

_ (¬1) تقارير ألفريد بيل، أرشيف إيكس (فرنسا)، رقم 47 H 14 سنوات: 1906، 1907.

الشيخ، كما قال بيل، لا يعمل على التقرب من الفرنسيين. لكن بيل لا يتكلم إذا كان المرابطون الموظفون يعملون على التقرب من الفرنسيين ويسكتون عن مصالح المواطنين، والأمثلة كثيرة. وكان الشيخ بوثلجة هو ممثل زاوية كرزاز في تلمسان، وكان في دروسه يذهب إلى حد الدعوة إلى التصوف إذا لم تكن دروسه مراقبة. ونفهم من هذا أن السلطات الفرنسية كانت تضع المراقبين (الجواسيس) في تلاميذ وجمهور المستمعين للشيوخ المدرسين، وهو أمر عادي. أما جامع سيدي السنوسي، فكان المدرس فيه سنة 1905 هو أبو بكر بن شعيب، وهو ابن القاضي شعيب بن علي (¬1). وكانت بعض المصادر تتهم القاضي شعيب بالتجسس على زملائه أيام ثورة بوعمامة واحتلال تونس. وكان أبو بكر يحضر التلاميذ لدخول مدرسة تلمسان الشرعية - الفرنسية، كما كان منتظرا من هذا التعليم. وكان عنده حوالي 40 تلميذا، وقد اعتبره بيل مدرسا ناجحا ومسلما ليبراليا، وهو خريج القسم العالي في مدرسة الجزائر، وقد سجل في مدرسة (كلية) الحقوق، وهو يتقن التحدث بالفرنسية وله مطبوعات في الشريعة الإسلامية، وحاصل على وسام (نيشأن) سنة 1904 (¬2). وما دام المفتش بيل هو صاحب الأمر والنهي في الناحية فقد تصرف كما لو كان هو الحاكم العام، فقد عزل الشيخ بوثلجة من التدريس في الجامع الكبير بتلمسان وعين خلفا له السيد أبا بكر عبد السلام بن شعيب الذي كان في جامع سيدي السنوسي، كما عينه في وظيفة مدرس في مدرسة تلمسان أيضا. وبذلك أصبح أبو بكر يجمع بين وظيفتين، وكان أبوه من جهة أخرى في وظيفة القضاء، كما ذكرنا. أما جامع سيدي السنوسي فقد تعين له بو علي الغوثي الذي كان في جامع سيدي بلعباس. وكان الغوثي كزميله أبي ¬

_ (¬1) عن القاضي شعيب انظر فصل المسلك الديني والقضائي. (¬2) عن أبي بكر بن شعيب، وكذلك عن والده، انظر لاحقا.

بكر، متخرجا من مدرسة تلمسان الشرعية - الفرنسية ومن القسم العالي بمدرسة الجزائر. وهو في نظر بيل يقوم بتدريس أكثر تقدما من التدريس الذي يقوم به بو ثلجة. وقد اطلعنا له على شعر رائق وأفكار واسعة، وله مؤلف في الموسيقى الخ. سنعرض له. ومن اقتراحات بيل سنة 1907 منح وسام للغوثي أيضا (¬1). وأغلق بيل أحد المركزين بتلمسان، وفتح مدرسة بمازونة بنفس الراتب الذي كان مخصصا للشيخ بوثلجة المطرود. وهكذا بدل الزيادة في مراكز التدريس اقترح بيل تخفيض الدروس بتلمسان على أساس أن المدرسة الشرعية - الفرنسية تكفي مع مركز واحد. والظاهر أن السلطات قد استجابت لاقتراح بيل. ذلك أننا لم نجد في تقرير سنة 1923 سوى مركز واحد في تلمسان (¬2)، وهو الجامع الكبير. وكان المدرس فيه هذه السنة هو عبد الرحمن رستان الذي قال التقرير عنه أنه شغل المنصب منذ 46 شهرا، فيكون قد بدأ التدريس حوالي سنة 1920. ولعله مارس التدريس بالمدارس الفرنسية أيضا قبل ذلك. فقد تخرج من القسم العالي بمدرسة الجزائر. ووجدنا اسمه من بين تلاميذ الشيخ عبد الحليم بن سماية بالجامع الجديد بالعاصمة سنة 1919، وكان عمره آنذاك 23 سنة. وبذلك يكون قد عين مدرسا بمجرد تخرجه وهو في ريعان الشباب. وقد اعتبره تقرير سنة 1923 من أفضل مدرسي ولاية وهران، وأوصى له بيل بالارتقاء إلى الطبقة الثانية، رغم أن القانون يقضي بالبقاء في الطبقة الواحدة خمس سنوات على الأقل (وهو له أربع سنوات فقط) (¬3). ولا ندري إن كانت إدارة الشؤون الأهلية التي أصبح على رأسها جان ميرانت قد استجابت لهذا الاقتراح، والغالب أنها فعلت، لأن رأي بيل ورأى ميرانت في ¬

_ (¬1) في تقرير سنة 1908 اقترح بيل زيادة راتب السيد الغوثي من 955 ف إلى 1200 ف كمدرس بالجامع الكبير بتلمسان. (¬2) لم نجد تقارير المفتش سنوات 1916، 1917، 1918، 1919، 1920، 1921. (¬3) تقارير ألفريد بيل، المرجع السابق، سنة 1923 أما تقرير الجزائر لسنة 1919 فقد ضاع منا، ولا ندري الآن من حرره.

الدور المنوط بالمدرسين الجدد متفقان. 3 - معسكر: مدرس معسكر سنة 1905 هو الشيخ الدائجي محمد بن الحاج. وقد سمى مدرسا بالجامع الكبير في 17 غشت 1899 وراتبه 955 ف. سنويا. وقد حضر له المفتش بيل في سنة 1906 درسا في النحو وآخر في الفقه. وابتداء من سنة 1907 بدأ بيل يقترح تعويض هذا الشيخ وأخذ يوجه له النقد، بطريقة متشابهة لما فعل مع بوثلجة في تلمسان وحريزي في وهران. فهو لا يصلح للمهمة المسندة إليه في نظر بيل لأنه لا يحتفظ بسجل للحضور، ولا يحضر له إلا ثلاثة تلاميذ فقط، وهو لا يحسن طرق التدريس، ولا يملك كراسا لإعداد الدرس، ومن تلاميذه ابنه وبعض أقاربه. ولا يحضر درسه موظفو الجامع. وقد كرر بيل اقتراحه بتعويض الشيخ في تقرير سنة 1915 أيضا، وتعيين أحد خريجي المدارس الشرعية - الفرنسية مكانه. ورغم الإلحاح بضرورة تعويض مدرس معسكر، فان الشيخ قد بقى إلى 1922 على الأقل. ذلك أننا نجد في تقرير هذه السنة التأكيد من جديد على ضرورة تعويضه بمدرس شاب من المتخرجين من القسم العالي بمدرسة الجزائر. ولا ندري ما هي قوة الشيخ الدائجي في البقاء رغم معارضة بيل. ويبدو أن بيل نفسه قد لان نحوه بعض الشيء إذ لم يقترح عزله وإنما اقترح أن يعين في الافتاء بدل التدريس. ولم يذكره بيل بالاسم في التقرير ولكن من الواضح أنه يعنيه هو، عندما يقول عنه (مدرس معسكر). وقد قال أنه أصبح يستعين بابنه في الدرس. وهي طريقة كانت قديما موجودة (الاستعانة بالتلاميذ، إبنا أو غيره) ولكن المفتش بيل لا تروقه هذه الطريقة (¬1). 4 - مستغانم: كان علال محمد ولد مصطفى هو مدرس مستغانم سنة 905 1، وقد سمى في هذه الوظيفة في 18 يناير 1890 وراتبه عندئذ 955 ف. سنويا. وهو من الذين تخرجوا من مدرسة تلمسان سنة 1882. وبعد ¬

_ (¬1) تقارير بيل، المرجع السابق.

تخرجه منها عين إماما لجامع سيدي إبراهيم الغريب بتلمسان. واستمر في هذه الوظيفة ثماني سنوات. وقد بلغ 45 سنة فقط سنة 1905، وحصل على وسام (نيشأن) أكاديمية، سنة 1903. وحكم المفتش بيل على طريقته في التدريس بأنها حسنة. ولكن هذا الحكم أخذ يتغير بالتدرج. ففي تقرير سنة 1907 أن المدرس علال محمد ليس له سوى ثلاثة تلاميذ، من بينهم أحد أبنائه. ولم يذكره بيل بالاسم هذه المرة، وإنما وجدناه هو نفسه (علال محمد) في تقرير سنة 1912. وقال بيل أن تلاميذه لا يعرفون الفرنسية. ونصح بأن يرسل المدرس أبناءه إلى المدرسة الابتدائية الفرنسية. وفي تقرير 1915 اقترح بيل زيادة راتب علال محمد من 955 ف إلى 1200 ف للمرة الأولى. وفي تقارير لاحقة (1922) وجدنا مدرس مستغانم قد تغير فأصبح هو السيد العرفاوي. فهل توفي الشيخ علال محمد أو انتقل إلى مكان آخر؟ وحكم صاحب التقرير على العرفاوي بأنه غير أهل للتدريس. ولذلك جاء في تقرير سنة 1923 أنه قد أحيل على الإيداع وعين مكانه السيد الحاج حمو عبد القادر في 30 إبريل 1923 (¬1). ويبدو أن هناك عبثا قد حصل في هذه الدروس لاختلاف التصورات منها. وحين زار المفتش بيل هذا المدرس المبتدئ (قال عنه متربصا) وجده أيضا غير قادر على أداء مهمته، فلامه على ذلك. ولكن المدرس الشاب لم يحتمل اللوم فأرسل رسالة احتجاج ذكر فيها أنه لم يأت لتدريس الأبجدية التي هي من شأن المدارس القرآنية، كما قال. ولم يكن المفتش بيل، وهو من هو في منطقته وفي منطقه الاستعماري، ليسكت على هذا التحدي لصلاحياته، فأرسل يطلب من الحاكم العام توبيخ المدرس وعقابه على عدم الانضباط وعدم القيام بمهمته ¬

_ (¬1) في عدة مراجع أن الحاج حمو عبد القادر هو المؤلف عبد القادر فكري. وسنجد اسم هذا بين المؤلفين الأولين بالفرنسية. وقد توفي سنة 1953. انظر عنه جان ديجو Jean de Jeux (بيبلوغرافية منهجية. ونقدية للأدب الجزائري باللغة الفرنسية) 1945 - 977 1، الجزائر 1979، ص 17 - 18.

كما يجب (¬1). ولا ندري الآن كيف انتهت القصة، ولكن يبدو أن إدارة الحاكم العام ستستمع لبيل ولا تهتم بالحاج حمو عبد القادر. 5 - سيدي بلعباس: ذكرنا أن المدرس فيها كان السيد بو علي الغوثي بن محمد سنة 1905. وكان عمره آنذاك 27 سنة .. وكان متخرجا من القسم العالي بمدرسة الجزائر. وقد مارس القضاء بعض الوقت - وظيفة عدل - قبل أن يعين للتدريس في سيدي بلعباس سنة 1902. وقد وصفه صاحب التقرير - ألفريد بيل - بأنه ذكي وقادر على القيام بالعمل الموكل إليه، وهو يكتب ويتكلم الفرنسية جيدا، ولكن صحته عليلة. وقد عرفنا أن بيل اقترحه لمنصب مدرس بالجامع الكبير بتلمسان التي انتقل إليها سنة 1907، وبذلك بقى جامع سيدي بلعباس شاغرا، ولم يقدم هذا المركز أي مترشح لدخول المدرسة الشرعية - الفرنسية. وجاء في تقرير سنة 1908 أن الذي خلف الغوثي في سيدي بلعباس هو عبد الحق بن منصور. ولكن هذا لم يعمر طويلا هناك إذ دعي لوظيفة أستاذ في السينغال ولم يعوضه أحد (¬2). ولا ندري إن كان جامع بلعباس قد ظل بدون مدرس مدة طويلة، غير أننا وجدنا في تقرير آخر لسنة 1911 أن المدرس هناك هو الحبيب مالكي الذي كان أيضا من خريجي مدرسة الجزائر (القسم العالي). وبذلك يظهر أن وظائف التدريس بالمساجد قد أصبحت مفتوحة، سيما في المدن الصغيرة، لخريجي المدارس الثلاث الرسمية فقط. أما في سنة 1923 فالمدرس هو ابن اشنهو ابن عدة. ويذكر التقرير الخاص بهذه السنة أن ابن اشنهو قد عين في هذه الوظيفة منذ غشت 1918. وكان راتبه 4000 ف. فهو من أهل الطبقة الأولى عندئذ. ولكن المفتش اقترح له الترقية إلى الطبقة الثانية التي راتبها 5000 ف. ولاحظ المفتش عليه ¬

_ (¬1) تقارير بيل، مرجع سابق. (¬2) لاحظ التقرير أنه رغم إحداث مركز جديد في مازونة وبني صاف فإن أحدا لم يلتحق بهما لأن الراتب فيهما ضعيف، وهو 600 ف. فقط للعام.

أنه نجح في التدريس في مدينة مثل سيدي بلعباس حيث كان يلقي درسا للعامة في المسجد ودرسا آخر للتلاميذ في قاعات الدرس (المدرسة الابتدائية؟) ولكنه لم يذكر عدد التلاميذ ولا الحضور بالجامع، وإنما ذكر مهمة أخرى قام بها المدرس ابن اشنهو، وهي توليه الكتابة (سكرتير) لرئيس الطريقة التجانية ومرافقته إلى المغرب (¬1). ولا ندري ما هي المهمة المنتظرة من زيارة رئيس الطريقة عندئذ إلى المغرب، ما دامت على هذا النحو من الرسميات. 6 - ندرومة: في تقرير 1905 أن المدرس هو الحسين رحال، وهو ينتمي إلى أسرة ندرومية عريقة. وقد تخرج اثنان من هذه الأسرة من ثانوية (ليسيه) الجزائر الفرنسية، وهو أمر نادر في ذلك الوقت. وهذه الأسرة تشتغل بالتعليم والقضاء والزراعة والصناعة والتجارة أيضا، حسب تقرير المفتش بيل دائما. كما كانت تنتمي للطرق الصوفية (الدرقاوية؟). وكان الحسين رحال قد قضى خمس سنوات مستمعا للدروس بالقرويين بفاس منذ صباه، وبعد رجوعه إلى الجزائر دخل مدرسة تلمسان ثم القسم العالي في مدرسة الجزائر حيث حصل على الدبلوم سنة 1898. ومنذ تخرجه مارس وظيفة عدل ثم باش عدل إلى 1903 وفي شهر يوليو من هذه السنة سمى مدرسا في جامع ندرومة. ولم يحظ مدرس بهذا الوصف الكريم والاستحسان الواضح في تقارير بيل كما حظى الحسين رحال. وقد أضاف عنه بيل أنه كان يجيد اللغة العربية وبعض الفرنسية، وأن طريقته في التعليم طيبة. وأنه ما يزال شابا. وفي تقرير 1907 أكد بيل نفس المعلومات، وأخبر أن الحسين رحال كان يدرس النحو والقراءة المفسرة (المطالعة؟) في الجامع الكبير، ولكن تلاميذه لا يتجاوزون الخمسة. أما درس الفقه الذي كان يلقيه بالمساء فيحضره عدد أكثر. وقد مدح بيل المدرس على جهوده وقال أن ندرومة قدمت ثلاثة تلاميذ للمدرسة (مدرسة تلمسان الرسمية) خلال سنة 1906، ¬

_ (¬1) تقارير ألفريد بيل، مرجع سابق.

وقد ترشح منها هذا العام خمسة. ولذلك أوصى له بوسام الأكاديمية لأنه قضى في الخدمة ثماني سنوات. وقد وافقت الحكومة على اقتراحه. وكشف المفتش بيل عن نصيحة هامة قدمها للحسين رحال، وهي في الواقع ليست خاصة به، وإنما تتعلق بهدف الفرنسيين من هذا التعليم عموما ومن حذرهم بل خوفهم من بعض موضوعات المدرسين. وجد بيل المدرس يتعامل مع موضوعات الفقه كما جاءت في الكتب والآثار القديمة فاقترح عليه حذف بعضها لعدم تطابقها، في نظره مع الواقع. فقال: نصحته بأن يحذف من البرنامج الفقهي الفصول التي لا تنسجم مع الوضع الراهن تحت الحكومة الفرنسية (الاحتلال). ذلك أن جمهور الحاضرين لا فائدة لهم من معرفة نظام الضرائب في الحكومة الإسلامية ولا في معرفة ما قيل في باب الجهاد، الخ. وكأن معرفة المسلم لأحكام الدين التي هي لا تتجزأ، تضر بالمصالح الفرنسية. وكان على المدرسين تفاديها. ولا ندري ما كان رد فعل الحسين رحال، وربما استمر في ذكر الأحكام الشرعية بعد غياب المفتش بيل (¬1). وقد انقطعت حلقات التفتيش عن ندرومة خلال السنوات اللاحقة. فلا ندري هل استمر التدريس في عائلة رحال فقط أو تعين هناك بعض المدرسين الآخرين. وفي 1934 زار بيل مدينة ندرومة وأبدى عليها بعض الملاحظات ليس كمفتش ولكن كدارس لعاصمة الطرارة، كما سماها. وقد وجد فيها عددا من المساجد، ومنها جامعان للخطبة: الجامع الكبير وجامع الفخارين. أما المساجد الأخرى فهي: سيدي بو علي، ولاله علية، والحدادين، والرعية، وسيدي السياج. ويقول بيل أن بعض السكان لهم مبادئ في الثقافة العامة وكانوا يحاولون توسيعها بحضور الدروس اليومية التي تلقى في الجامع الكبير من قبل المدرسين الرسميين. وهذا بدون شك في مجال الفقه ¬

_ (¬1) تقارير بيل، مرجع سابق، سنة 1905 - 1907. ولم يرد اسم ندرومة في تفتيش سنة 1923.

والتوحيد. أما دروس النحو واللغة العربية الموجهة للتلاميذ والتي كان يلقيها المدرسون الرسميون أيضا، فإن الأولياء كانوا يرسلون أطفالهم إليها عن طواعية. وهؤلاء الأطفال هم الذين يتعلمون في المدارس الابتدائية الفرنسية. وقد لاحظ بيل أن البنات أصبحن أيضا يذهبن إلى هذه المدرسة الفرنسية ليتعلمن الفرنسية ومبادئ الطرز والنسيج وأشغال الإبرة (¬1). إن الفترة التي يتحدث عنها بيل هي فترة الصحوة الثقافية في الجزائر حين تسابق الجزائريون لتعليم أطفالهم، فكانوا يرسلون بهم إلى المدرسة الفرنسية من جهة والمدرسة العربية من جهة أخرى (مدارس جمعية العلماء). بينما أولياء الأطفال كانوا يحضرون دروس المساجد الرسمية وغير الرسمية، تلك المساجد (غير الرسمية) التي أصبحت تدعى الحرة، وهي التي شيدت بأموال الشعب عن طواعية تحت إشراف جمعية العلماء لتنشر دروس الوعظ والإرشاد وأحكام الشريعة باللغة العربية. ومن يرجع إلى جولات الشيخ ابن باديس في النواحي الوهرانية سيعرف مدى عمق هذه الحركة. وكان الشيخ محمد البشير الإبراهيمي قد حل بمدينة تلمسان سنة 1932 وجعل منها مركز إشعاع للإصلاح في كامل ولاية وهران بما في ذلك ندرومة. وسنعود إلى هذا الموضوع في وقته. وقد عرفت الناحية الغربية دروس المساجد الحرة أيضا. فكانت دروس الشيخين العربي التبسي وعبد القادر بوزيان في سيق ونواحيها أوائل الثلاثينات. ثم دروس الإبراهيمي في تلمسان وغيرها. ويذكر ابن بكار بعض العلماء الذين تطوعوا للتدريس في المساجد في معسكر وسيق وغيرهما أيضا. فقد تولى الحاج عبد القادر بن مصطفى ابن فريحة التدريس في غريس. واختصر ابن بكار حياته بقوله عنه أنه قد أعطي مالا فاتلفه في وجه الله وأعطى علما فبثه بين الناس. فهذا الشيخ (ابن فريحة) قد جعل بيته مدرسة في غريس فكان ¬

_ (¬1) ألفريد بيل، (ندرومة العاصمة الإسلامية للطرارة) في S.G.A.A.N (1934)، ص 515 - 516.

يدرس لتلاميذه مختصر الشيخ خليل وينفق على طلبته من ماله الخاص. وقد ظل على ذلك نحو الثلاثين سنة. ثم من غريس نقل الشيخ تعليمه إلى جامع تغنيف حيث تولى أيضا الخطابة والإمامة مدة عشرين سنة. ونرجح أن يكون ذلك وظيفة رسمية تولاها، وربما كان الجامع حرا. وذكر ابن بكار أن عدد الخريجين على يديه قد بلغ حوالي 400 طالب. وتوفي الشيخ عبد القادر بن فريحة حوالي 1930 عن 95 سنة. وكذلك انتصب للتدريس في الجامع الكبير بمعسكر الحاج محمد بن الرقيق، وهو أيضا من خريجي الأزهر. ولا ندري كيف درس في وطنه ولا متى ذهب إلى مصر ولكن تدريسه في الجامع الكبير بمعسكر يدل على أنه كان من الموظفين الرسميين، رغم أن اسمه لا يظهر في تقارير المفتشين الرسميين. وهذا الحاج علي بن البشير قد تولى التدريس أيضا في معسكر وسيق. وقد أخذ العلم بالجزائر ثم سافر إلى مصر ودخل الأزهر ومكث فيه ثماني عشرة سنة. وحصل منه على إجازات وشهادات. وبعد رجوعه أسس في سيق مدرسة ملحقة بالجامع الكبير، وتولى بها التدريس للطلبة الذين قصدوه. واستمرت مدرسته تعمل بعد وفاته إذ تولاها أخوه الحاج المنور، كما تولى أيضا خزانة كتبه. وكان الشيخ علي بن البشير من أتباع التجانية. وهذا يدل على أن التعليم لم ينقطع عند علماء هذه الطريقة. وقد ذكرنا قبل ذلك نشاط الشيخ علي بن عبد الرحمان مفتي وهران، وهو أيضا من التجانيين. أما الحاج منور بن البشير فقد تولى التدريس في جامع سيق، وهو شيخ الهاشمي بن بكار وغيره. وكان يدرس مواد عديدة، ولذلك كان يستعين بغيره على تدريسها. والمواد الدراسية هي نفسها المواد التقليدية من فقه وعقائد ولغة ومنطق وبيان. وكان الحاج المنور يدرس من أول الخريف إلى آخر الربيع (¬1). ولا ندري إن كان أيضا من أتباع التجانية. غير أن الثابت هو أن ¬

_ (¬1) الهاشمي بن بكار (مجموع النسب)، مرجع سابق، ص 140. ويقول ابن بكار أن =

مدرسو المساجد في مدينة قسنطينة

حركة التعليم العربي أخذت تنتشر في الناحية وأن تأثير المشرق كان مستمرا رغم تحفظات الإدارة الفرنسية. مدرسو المساجد في مدينة قسنطينة 1 - مدخل: اشتهرت قسنطينة بأنها مدينة العلم، سيما منذ أوائل هذا القرن. ورغم التجديد وحركة الإصلاح فقد حافظ علماؤها على تقاليد التعليم المسجدي منذ العهد الحفصي تقريبا. وكانت حركة العلم في عهد صالح باي ما تزال تؤتى أكلها عندما رزئت المدينة بالاحتلال الفرنسي البغيض، فتعطلت فيها الحركة العلمية وأصابها الشلل بعد معركتين ضاريتين في سنتين متتاليتين: 1836 - 1837. فقد سكت من سكت من العلماء، وهاجر من هاجر، وتعاون مع العدو آخرون تحت وطأة الحاجة. وهكذا تبدلت الخيول والسروج، وترجل البعض وركب آخرون. ومن أبرز الذين تصدوا للتدريس في المساجد ثلاثة كان لهم تأثير وجمهور: عبد القادر المجاوي (في عهده الأول)، وحمدان الونيسي، وعبد الحميد بن باديس. كما انتصب فيها للتدريس محمد الصالح بن مهنه وعاشور الخنقي. ولكن هناك طبقة أخرى قبل هؤلاء عمرت المساجد وحافظت على الوقود العلمي في المدينة الصخرية العنيدة. وقد كانوا متفاوتين في الشهرة والتأثير. فعندما حل أبو القاسم الزياني بمدينة قسنطينة أوائل القرن التاسع عشر، وجد فيها هذا الجيل من المدرسين، وهم علي بن مسعود الونيسي (¬1) الذي نعته بالعلامة الصوفي، ومبارك بن عمر الصائغي خطيب وإمام الجامع العتيق (الكبير؟)، والقاضي الفقيه محمد الحفصي العلمي، والمفتي الشاعر أبو القاسم المختالي، والمفتي الآخر أحمد بن المبارك العلمي، والكاتب ¬

_ = الشيخ ابن فريحة قد أخذ مختصر الشيخ خليل عن الشيخ الخلوي في غريس. ومن المفهوم أنه زاد عليه دراسته في الأزهر. (¬1) لعله أحد جدود الشيخ حمدان الونيسي الذي سنتحدث عنه. وقد توفي الشيخ علي بن مسعود الونيسي سنة 1222 هـ بقسنطينة.

المتصوف محمد المجاري، ثم الأديب لونيس البوزنياري صاحب القصائد العالية كما يقول الزياني (¬1). هذا الجيل انقرض مع بداية الاحتلال وخلفه جيل آخر من علماء المساجد أبرزهم أحمد بن سعيد العباسي، الذي كون جيلا من الطلبة ظلوا أوفياء له على مر السنين والذي جمع بين التدريس والقضاء. وقد توفي قبل احتلال قسنطينة بسنتين (1251). وكان من المتخرجين من جامع الزيتونة بتونس. وقد عاصره عمار بن شريط الذي تولى الإفتاء المالكي ونظارة الأوقاف، وكان من أهل البلاغة والأدب وتوفي في 1834 (1250)، ثم عمار الغربي (أبو راشد) المعروف بالشعر والفقه وولاية الفتوى والتدريس في جامع سيدي علي بن مخلوف وكذلك جامع القصبة ومدرسة سيدي الكتاني. وقد توفي سنة 1835 (1251) (¬2). ومن طبقتهم أيضا محمد العربي بن عيسى، أخ علي بن عيسى قائد الدفاع عن قسنطينة. وكان محمد العربي هذا متوليا للأوقاف والقضاء ساعة احتلال المدينة، ولكن نجمه قد أفل مع الآفلين، كما أفل نجم شيخ الإسلام محمد الفكون الذي كان ساعتها يجرجر ثمانين سنة وراءه. وكان إلى تلك الساعة ينعت بكونه (العلامة الجليل والخطيب الآهيل) كما يقول محمد العنتري (¬3). وعند تولي المكتب العربي في قسنطينة وانتصاب الإدارة الفرنسية ظهرت أسماء جديدة وبقيت بعض الأسماء القديمة. فقد بقيت أسماء مصطفى بن جلول، ومحمد العنابي الذي عزله الفرنسيون، فترك الإفتاء لزميله أحمد بن المبارك العطار. وبالإضافة إلى هذا ظهر اسم له وزن علمي ¬

_ (¬1) أبو القاسم الزياني (الترجمانة الكبرى)، ط. المغرب 1967، ص 153 - 154. وكان الزياني قد جاء الجزائر لاجئا سياسيا. (¬2) الحفناوي (تعريف الخلف)، 2/ 63، 264. (¬3) محمد العنتري (الفريدة المؤنسة). جاء ذلك في وثيقة حط المغارم التي وقعها الحاج أحمد باي والعلماء سنة 1830. انظر جمال قنان (نصوص سياسية)، الجزائر، ص 42 - 43. وفي هذه الوثيقة اسم أحمد العباسي، وعمار الغربي الخ.

على رغم الظروف السيئة وهو إسم المكي البو طالبي. وكذلك محمد بن فتح الله، ومحمد بن الشيخ العباسي، والطاهر بن النقاد. وكان الفرنسيون قد أخذوا يفصلون القضاء عن مهنة التعليم، كما فصلوه عن الديانة أو الوظيف الديني، فقد كانوا حريصين على إيجاد قضاة يحلون لهم المشاكل المادية أكثر من اهتمامهم بالمدرسين في القضايا الدينية والأدبية. وهكذا لمع المكتب العربي في قسنطينة وجوها جديدة مثل محمد الشاذلي الذي ولوه وظيفة القضاء، وجعلوا معاونيه المكي بن باديس ومحمد بن عزوز قبل أن يصبح كل منهما قاضيا مستقلا. كما جلبوا محمد العنتري وأضرابه من الساخطين على حكم الحاج أحمد. وبعد افتتاح المدرسة الشرعية - الفرنسية في قسنطينة سنة 1851 تولى إدارتها محمد الشاذلي والتدريس فيها المكي البو طالبي ومصطفى بن جلول وأحمد المبارك. فكان غرض الفرنسيين منها، كما في تلمسان والعاصمة، امتصاص التعليم المسجدي وتحويل الأنظار إلى المدرسة الرسمية، رغم أن التعليم فيها خلال هذه المرحلة لا يكاد يختلف عن دروس المساجد. وقد توفي الأول والثاني في نفس السنة وهي 1865، وتوفي مدير المدرسة (الشيخ الشاذلي) وأحمد المبارك خلال السبعينات في وقت متقارب. وقد روى شارل فيرو أن الأوساط العلمية في قسنطينة كانت تقول أن (العلم قد انطفأ عند المسلمين بموت سي مصطفى بن جلول وسي المكي البوطالبي) وحل أحمد بن جلول مكان البوطالبي في المدرسة سنة 1865 (¬1). ويقال أن البوطالبي قضى خمسين سنة من حياته في بث العلم. بذلك حرمت الإدارة الفرنسية عامة الناس من نور العلم. فقد استولت على الأوقاف، كما ذكرنا في فصل آخر (¬2)، وصارت المساجد والمدارس ¬

_ (¬1) شارل فيرو، مجلة (روكاي)، 1865، ص 68، هامش 2. توفي ابن جلول عن 96 سنة. والبوطالبي عن 72 سنة. وتوفي محمد الشاذلي سنة 875 1 عن 80 سنة، وأحمد المبارك سنة 1877 عن. (¬2) انظر فصل المعالم الإسلامية.

تحت نظر هذه الإدارة التي حرمت العلماء والطلبة من حقوقهم المنصوص عليها في الوقفيات، واكتفت بمن بقي منهم تحت رحمتها فخصصت لهم رواتب رسمية من ميزانية الإدارة العامة وليس من إدارة أوقاف مكة والمدينة أو أوقاف المعالم الإسلامية الأخرى. واستغنت عن تدريس المساجد بدروس المدرسة الرسمية (الشرعية - الفرنسية)، وفصلت القضاء عن الدين والتعليم. وهكذا جفت ينابيع العلم الحر وغاضت بحور الفكر. وكاد هذا الليل الطويل ألا ينجلي لولا نفحة هبت من الغرب، ونعني بذلك حلول عبد القادر المجاوي للتدريس في أحد المساجد بقسنطينة. وبعد أن قضى المجاوي في المسجد ثلاث سنوات، عين في المدرسة الشرعية - الفرنسية، ولكن إشعاعه لم يقتصر على هذه المدرسة. وخلال الثلاثين سنة الأخيرة من القرن الماضي ظهر إلى جانب المجاوي (في المدرسة)، حمدان الونيسي ومحمد الصالح بن مهنة. وكلاهما كان مدرسا رسميا في أحد المساجد، ولكنهما استطاعا أن ينشرا العلم في الناس رغم العراقيل وأن يجعلا من المسجد مدرسة عليا على الطريقة القديمة. حقيقة أن السلطات الفرنسية كانت تراقب هذا التعليم ولا تريده أن يتجاوز مبادئ الفقه والتوحيد الموجهة للعامة، ولكن المدرس الماهر ذا الضمير الحر يستطيع أن يوصل رسالته إلى التلاميذ النبهاء والحاضرين المتطلعين. وهكذا كان الونيسي وابن مهنة منذ عقد الثمانينات. وقد أثر ابن مهنة أيضا بمؤلفاته (¬1) وسمعته كمتخرج من الأزهر الشريف، وسنعرض لحياته في فصول أخرى، وكذلك مؤلفاته. أما حمدان الونيسي فقد أفردناه ¬

_ (¬1) اشتهر أيضا بموقفه من الأشراف وإثارة زوبعة ضده تولاها الشاعر عاشور الخنقي وآخرون. وله آراء بثها بطريقة غير مباشرة في تعاليقه على رحلة الورتلاني التي نشرها بتونس. وله مواقف أخرى سنعرض إليها. وما يؤسف له هو أن البطاقات التي جمعت حوله وحول الشيخ حمدان الونيسي قد ضاعت منا سنة 1988، ولم نعوض منها إلا القليل. وكان الشيخ عاشور الخنقي قد افتتح التدريس الحر في قسنطينة أيضا. انظر عنه فصل الشعر.

بهذه السطور، مستعينين بتقارير المفتشين عنه. وقبل أن نتحدث عن الشيخ الونيسي نذكر أن جيل العلماء المعاصرين له في قسنطينة وإقليمها خلال العشرية الأخيرة من القرن الماضي هم: عبد الكريم باش تارزي المفتي الحنفي ومقدم الرحمانية، والمفتي المالكي الطيب بن وادفل، والقاضيان الشريف بن باديس (مدينة قسنطينة) وحمو بن العمري (قاضي النواحي). والمدرسان بالمدرسة الرسمية (الشرعية - الفرنسية) عبد القادر المجاوي ومحمود بن الشاذلي، والإمامان: محمد بن جلول والحاج سعيد بن باش تارزي (¬1). وكان هؤلاء العلماء في طليعة الذين وقعوا عريضة بمظالم أهل البلاد سنة 1891 وقدموها إلى لجنة التحقيق الفرنسية برئاسة جول فيري. وفي سنة 1896 ظهر أيضا أحمد الحبيباتني المدرس بجامع سيدي الكتاني، ومن أعيان مدينة قسنطينة عندئذ حميدة بن باديس الذي كان من أصحاب الأملاك رغم أنه كان من أهل العلم والقضاء أيضا فترة طويلة، ومنهم مصطفى بن السادات، وهو من دعاة التقدم وكتاب الصحافة خلال الستينات (¬2). أما في المدن المجاورة فنجد أسماء: محمد علواش، ومفتي عنابة الحاج أحمد الأزهاري، ومفتي سطيف عبد العزيز قريشي بن محفوظ، وعالمها عندئذ الطاهر بن حلة، ومفتي قالمة محمد بن صالح الحسني. إضافة إلى عدد آخر من الأيمة والقضاة والعدول والمرابطين ومقدمي الطرق الصوفية. 2 - حمدان الونيسي: لا ترجع أهمية الشيخ حمدان الونيسي (أو ابن الونيسي) إلى كونه أستاذ عبد الحميد بن باديس فقط، ولكن إلى كونه أستاذا ¬

_ (¬1) أخذنا هذه المعلومات عن مدينة قسنطينة فقط، من العريضة التي قدمها أعيان هذه المدينة سنة 1891 إلى لجنة مجلس الشيوخ الفرنسية التي جاءت للتحقيق. وهناك أسماء أخرى ومنها اسم حمدان الونيسي نفسه. والعريضة مطبوعة ومترجمة. (¬2) انظر رقم 81 H 15 أرشيف إيكس (فرنسا). انظر أيضا فقرة الصحافة من فصل المنشأت الثقافية.

الشيخين العقبي والإبراهيمي أيضا. وله أهمية خاصة عندنا في هذا الفصل لكونه واصل وظيفة التدريس المسجدي المتعارف عليه بذكاء وحنكة رغم كونه موظفا رسميا ورغم القيود الإدارية الصارمة. وقد انتهى الأمر بطرده من الجامع الكبير سنة 1915 لأسباب ما تزال مجهولة. فاختار بعدها الرحلة إلى الحجاز والإقامة هناك إلى وفاته. ولكن كيف كانت سيرة حياته في قسنطينة؟. الواقع أن معلوماتنا عنه ما تزال قليلة ولا تشفي الغليل. إن عائلة الونيسي قديمة في قسنطينة. ومنها الشيخ علي بن مسعود الونيسي الذي كان حيا عند زيارة أبي القاسم الزياني لهذه المدينة أوائل القرن التاسع عشر. وللشيخ علي. بعض التآليف وله مكانة بين علماء العهد العثماني. وفي 1856 ولد حمدان الذي نحن بصدده، وهو ابن أحمد الونيسي الذي لا نعرف عنه شيئا الآن، ولكنه كان معاصرا لاحتلال قسنطينة والأحداث التي أعقبت ذلك. ولا شك أنه روى لابنه حمدان ما شاهد وعاش فامتلأت نفس الطفل بالسخط على الفرنسيين. ولا ندري على من درس الفتى حمدان بعد حفظ القرآن في الجامع. هل تردد على الدروس الباقية التي كان يلقيها الشيوخ المكي البوطالبي ومحمد الشاذلي وأحمد المبارك، أو تردد على دروس المدرسة الشرعية - الفرنسية التي كانت بإدارة الشيخ محمد الشاذلي، وكانت دروسها عندئذ عربية - إسلامية، أو ذهب إلى بعض الزوايا المجاورة؟ ذلك كله لا نعلمه من سيرته التي بين أيدينا. ولكن بعض المصادر تذكر أنه حضر مستمعا فقط، (أي غير رسمي) لدروس الشيخ عبد القادر المجاوي (¬1). ولعل ذلك كان أثناء تدريس الشيخ المجاوي في المساجد وليس في المدرسة الرسمية. وفي سنة 1880 (أو 1881) (¬2) عين حمدان الونيسي مدرسا بالجامع ¬

_ (¬1) ذكر ذلك شارل سان كالبر في تقريره لسنة 907 1. أرشيف إيكس (فرنسا)، 47 H 14. (¬2) ذكر التاريخ الأول نفس المصدر، ولكن تقرير موتيلانسكي سنة 1905 يذكر يناير 1881، فهو أدق.

الكبير بقسنطينة ولا يكاد عمره عندئذ يتجاوز الخامسة والعشرين. فما الذي جعل السلطات الفرنسية ترشح هذا الشاب إلى هذا المنصب التقليدي المخصص عادة لفحول العلماء وكبار الشيوخ؟ لقد كان في قسنطينة عندئذ أسماء باقية من عائلة ابن باديس والفكون وباش تارزي وابن جلول الخ. ولكننا نعرف أن السلطات الفرنسية كانت تميل إلى إدخال العناصر الجديدة على القديمة، برفع المنخفضين أحيانا وتقريب المبعدين أحيانا أخرى ونقل علماء الغرب إلى الشرق تارة ثالثة، وهكذا. وما صعود محمد الشاذلي والمولود بن الموهوب، وما السماح للمجاوي وترقيته ولآل أبي طالب وتقديمهم إلا جزءا من هذه الظاهرة. ولكن حمدان الونيسي لم يكن فيما يبدو من المنخفضين ولا من المبعدين ولا من الغرباء، ولذلك يظل السؤال حول تعيينه في تلك السن المبكرة لهذه الوظيفة الهامة في مدينة عريقة في تقاليدها قائما. ومهما كان الأمر فقد ملأ الشاب حمدان مكانه في الجامع الكبير وسرعان ما أصبح من الأعيان المشار إليهم بالبنان. ففي عريضة أعيان قسنطينة التي تضمنت مظالم أهل البلاد ضد السلطات الفرنسية وجدنا اسمه بين الموقعين سنة 1891. فهو حينئذ بين كبار الملاكين والنواب والمفتين والقضاة الرسميين. وقد تبنى مطالب أساسية حول الأرض والقضاء الإسلامي والتعليم العربي والضرائب والسياسة الأهلية ما يمكن أن تحاسبه عليه السلطات الفرنسية لجرأته، مع غيره. وكان ذلك في فترة حرجة من تاريخ الجزائر، وكانت بداية دروسه في عهد مظلم نسميه عهد لويس تيرمان (1882 - 1891). ومن الممكن القول إذن أن الشاب حمدان قد تعلم الكثير من السياسة الاستعمارية منذ 1881 (تاريخ تعيينه) ونشر ذلك في تعليمه للناس بالمسجد بطريقته الخاصة، كما شارك في الحياة السياسية العامة التي كانت تتحرك ببطء من حوله. يصفه خبراء الاستعمار، وهم هؤلاء المستشرقون الذين كانوا يفتشون دروسه منذ سنة 1905، بأوصاف تدل على أنه لم يكن مدرسا عاديا. يأكل

الخبز ويمشي بين الناس، كما كان أغلب الموظفين والمدرسين عندئذ. قال عنه موتيلانسكي مدير مدرسة قسنطينة في أول تقرير عنه، أنه مكسب لمدينة قسنطينة وأنه أهل للدروس العليا وليس الابتدائية. ووصفه شارل سان كالبر، الذي خلف موتيلانسكي في إدارة المدرسة المذكورة، أنه واضح الدرس رفيع المستوى، وأن تلاميذه أغلبهم من القرى المجاورة، وفيهم من جاء من عنابة وليس منهم من يرغب في الترشح للمدرسة الرسمية، وجميعهم يجهلون الفرنسية تقريبا. ولاحظ هذا المفتش أن حمدان لم يبد أية رغبة شأن الآخرين، لا في زيادة الراتب ولا في الترقية ولا في التحويل إلى جهة أخرى (¬1). وفي تقرير لاحق وصفه نفس المفتش (سنة 1908) بأنه (رجل ذكي جدا، وله روح رقيقة) وأن درسه مفيد جدا، وله طريقة حية يستعمل فيها الأسئلة، وله صوت نافذ ولغة سهلة. وقد قضى إلى ذلك الحين 28 سنة في التدريس. وأوصى له بوسام أكاديمية باعتباره قضى عمرا طويلا في المهنة وباعتباره (من بين المدرسين أكثر ذكاء وإخلاصا للتعليم الإسلامي). ومن كل ذلك نفهم أن لهذا الشيخ رسالة كان يبثها في تلاميذه وفي الناس الذين يحضرون دروسه الفقهية وغيرها. وهي الرسالة التي تلقاها عنه وفهمها بعضهم أمثال عبد الحميد بن باديس ولم يفهمها، ربما، أمثال الشيخ محمود كحول (ابن دالي) الذي كان أيضا من تلاميذه. عاصر حمدان الونيسي عددا من الشيوخ والعلماء في قسنطينة وغيرها. عاصر المجاوي الذي تنقل من الجامع إلى المدرسة الكتانية، ثم إلى المدرسة الثعالبية في العاصمة، وقد بلغ من الشهرة والنفوذ العلمي مكانة مرموقة. وعاصر محمود بن الشاذلي، وقد خلف والده في إدارة المدرسة ثم تولاها المستشرقون الفرنسيون، وبقي هو مدرسا شرفيا فقط، ولكنه ظل يلقي الدروس الفقهية في نفس المدرسة إلى أن تقاعد ثم توفي سنة 1905. ¬

_ (¬1) سان كالبر، مرجع سابق، تقرير سنة 1907. هل كانت للشيخ الونيسي خطة في تكوين التلاميذ لجامع الزيتونة مثلا؟ هل يأتيه المتخرجون من الزوايا والمدارس القرآنية الذين كانوا يبحثون عن شيوخ في مستواه يبل صداهم؟.

وعاصر المولود بن الموهوب، وقد سطع نجمه وخلف شيخه المجاوي في المدرسة الكتانية، وتولى الفتوى سنة 1908، وبذلك أصبحت له سلطة الإشراف على المدرسين في دائرته بمن فيهم الونيسي. ولا ندري هل كان لابن الموهوب دور فيما حدث للونيسي سنة 1915. ومن الأكيد أن السلطة الفرنسية لن تقضي أمرا بهذا الصدد دون الرجوع إلى المفتي، في الظاهر على الأقل. كما كان ابن الموهوب يساند بكل قوة مشروع حكومة جونار في نشر العلم بين الجزائريين عن طريق المدارس الفرنسية والدرس المسجدية المنظمة من قبل الإدارة. وكان (ابن الموهوب) أيضا يؤثر في غيره من منصة نادى صالح باي ونشر محاضراته في الصحف الفرنسية بالمدينة. وهناك شخصيات أخرى عاصرها حمدان الونيسي سيرد ذكرها. لا نريد أن نربط بين أحداث الجزائر، كالتجنيد الإجباري (الذي بدأ الحديث عنه بقوة منذ 1906)، وأحداث تونس وصحفها، سيما حادثة الجلاز ولهجة صحيفة الحاضرة، وظهور نشاط النخبة التونسية، ثم أحداث المشرق ولا سيما الانقلاب العثماني وما تلاه، قلنا لا ندري ما مدى تأثر الشيخ حمدان بكل ذلك. فنحن لا نملك المراسلات ولا المقالات التي تدل على ذلك التأثر. وكل ما نعرف من آثار الشيخ حمدان هو وجود اسمه في العريضة المذكورة وبعض الكتابات المخطوطة التي ليست لها أهمية سياسية. ولا نعرف أنه كتب في الصحف الجزائرية أو التونسية عندئذ، ولا حاضر في نادي صالح باي أو غيره. ويبدو أن الرجل كان ملتزما بمهنة التعليم المسجدي مخلصا لها كل الإخلاص، وكان حريصا على تخريج التلاميذ والتأثير في الناس بالكلمة والفكرة أكثر من التأثير فيهم بالتأليف والمقالة. ومع ذلك فيجب ألا ننفي علاقته بأحداث المشرق وتونس. فقد كان للعلماء الواعين أسلاك خاصة للمناجاة والاتصال ليست دائما معروفة للجميع. وما دمنا نتحدث عن التأثير والتأثر، فإننا لا نملك دليلا على أن الشيخ كان منتميا إلى أية طريقة صوفية عندئذ، رغم أن كثيرا من العلماء الموظفين كانوا ينتمون إلى هذه الطرق في قسنطينة وغيرها. فأحمد المبارك كان شيخ الحنصالية، وباش

تارزي كان شيخ الرحمانية، وهكذا. ولكن العالم الحقيقي هو الذي يكون طريقة خاصة به، تتجاوز الأتباع وتترفع عن الانتماء، وتفرض نفسها بالفكر المستقل والتفكير الحر. فهل كان الشيخ حمدان من هذا الصنف أو ذاك؟ في غياب الدليل المادي لا يمكننا إلا أن نعتبره من العلماء المستقلين فكريا، رغم أنه كان موظفا رسميا. وقبل أن ندخل في تفاصيل نشاطه التدريسي منذ ابتدأ الفرنسيون تفتيش دروسه نذكر أنه كان لحمدان الونيسي أخوة. من بينهم عبود الونيسي، وكان عبود هذا قاضيا في العين البيضاء سنة 1929. وقد رآه ونوه به الشيخ عبد الحميد بن باديس في السنة المذكورة عند زيارته لهذه البلدة، وربط بينه وبين أخيه (شيخه) حمدان، فقال أنه أخ شيخي وأستاذي العلامة الفقيه سيدي حمدان الونيسي دفين طيبة الطيبة (¬1). ويبدو أن الشيخ حمدان كان مشتغلا بالكتب أيضا، سيما النسخ. فقد نقل الشيخ أبو القاسم الحفناوي بن الشيخ في (تعريف الخلف) من خطه سيرة بعض علماء قسنطينة، مثل (منشور الهداية) لعبد الكريم الفكون (¬2). ولحمدان بعض التآليف سنذكرها في محلها. كانت السلطات الفرنسية قد سنت، كما ذكرنا، دروس المساجد حسب تنظيم جديد، يخضع لبرنامج محدد، وساعات أسبوعية، وذلك منذ آخر القرن الماضي، ثم تلاه إنشاء التفتيش على هذه الدروس وتقديم التقارير السنوية إلى الحاكم العام عن سير الدروس وتأثير المدرسين واتجاهاتهم، مع التوصيات والاقتراحات، وإسناد هذه المهمة إلى مدراء المدارس الشرعية - ¬

_ (¬1) آثار الإمام ابن باديس، ج 4، ط. 1985، ص 233 طبع وزارة الشؤون الدينية، الجزائر. والمقصود أن الشيخ حمدان دفين المدينة المنورة. كان الشيخ محمد عبده قد زار قسنطينة سنة 1903 زيارة خاطفة، ولا ندري إن كان الشيخ حمدان قد لقيه. ولكن من الأكيد أنه سمع بزيارته للجزائر وأصدائها في الصحف والمجالس. انظر فصل الجزائر في المشارق والمغارب. (¬2) تعريف الخلف، 2/ 108 - 159، وهنا وهناك.

الفرنسية الثلاث في كل ولاية أو أقليم. ومن ثمة كان تفتيش الشيخ حمدان على يد مدير مدرسة قسنطينة. وكان أول من فتش الشيخ هو موتيلانسكي المستشرق الشهير الذي تخصص في الدراسات الأباضية ورافق بعض البعثات الاستكشافية الفرنسية إلى الصحراء (¬1). كانت للشيخ حمدان دروس إجبارية وأخرى اختيارية، حسب البرنامج الرسمي (¬2)، وجملتها إثنا عشر ساعة أسبوعيا. وتشمل الدروس الإجبارية (الموجهة للتلاميذ المترشحين للمدارس الرسمية الثلاث) اللغة العربية بالرجوع إلى الألفية ولامية الأفعال وغيرها، والحساب بالرجوع إلى الأخضري والقلصادي. ثم الدروس الاختيارية (وهي الموجهة للعامة)، وتتضمن الفقه على مختصر خليل والتوحيد على السنوسية - أم البراهين. ومعدل الدروس ساعتان في اليوم، مدة ستة أيام. فماذا كان حظ الشيخ حمدان من هذا؟ وهل كان في حاجة إلى برنامج رسمي بعد ربع قرن في التدريس؟ إن الإدارة الفرنسية تقول بذلك. حضر له المفتش موتيلانسكي درسا في النحو في ربيع 1905. فأخبر أن تلاميذه كانوا 17 فردا، من بينهم الشيخ محمود كحول الذي كان عمره عندئذ 33 سنة. وكان كحول مدرسا في مدرسة سيدي الجليس، وهي مدرسة فرنسية - عربية. ولا نجد اسم عبد الحميد بن باديس من تلاميذ حمدان هذه السنة. ويقول المفتش أن التلاميذ قد فهموا الدرس لوضوحه، وأن للشيخ تجربة طويلة وقدرة تجعله مؤهلا للدروس العليا وليس الابتدائية، ولذلك أوصى المفتش بأن تبقى للشيخ حمدان الدروس العليا في الجامع الكبير، أما الدروس المبسطة فيقوم بها المدرس المعين لجامع سيدي الكتاني. ومما جاء في تقرير المفتش أيضا أن وجود الشيخ حمدان في قسنطينة يعد مكسبا لهذه المدينة (¬3). ¬

_ (¬1) انظر عنه الفصل الخاص بالاستشراق. (¬2) البيان الرسمي لهذه الدروس صدر في 5 يونيو (جوان)، 1905. (¬3) تقرير موتيلانسكي، سنة 905 1، مرجع سابق، 47 H 14 أرشيف إيكس (فرنسا).

وكان تقرير شارل سان كالبر سنة 1907 أكثر دقة وشمولا. وبعد أن ذكر عدد دروس الشيخ الأسبوعية وعناوينها، سواء منها الإجبارية أو الاختيارية، ذكر أن تلاميذ الشيخ تتراوح أعمارهم بين 18 و 32 وأن أصغرهم (18 سنة) هو عبد الحميد بن باديس، وهو أحد إثنين من عائلات قسنطينة، أما الباقون فكانوا من القرى المجاورة وحتى من عنابة. وصادف التفتيش أن كان التلاميذ قد غادروا الدرس لدخول شهر جوان (يونيو) ما عدا خمسة منهم كانوا حاضرين. كما لاحظ أن موظفي الجامع لا يحضرون الدروس، وأن سجل الحاضرين غير منتظم. أما عن المدرس نفسه، فقد كان في الواحد والخمسين من عمره، وكان قد تلقى بعض الدروس الحرة كمستمع على الشيخ المجاوي (¬1). أما دروسه فكلها شفوية، فهو لا يستعمل السبورة، ولكن طريقته حية ومستوى درسه هام. وهو واضح العبارة، وغالبا ما يستعمل طريقة المساءلة، وقد عود تلاميذه على أخذ المذكرات أو الإملاءات. وقد لاحظ المفتش سان كالبر أنه لم يترشح أحد من تلاميذ الجامع الكبير ولا جامع سيدي الكتاني لدخول مدرسة قسنطينة الرسمية، وأن تلاميذ المسجدين لا يعرفون الفرنسية تقريبا. ولذلك أوصى بإدخال مادة الفرنسية إلى دروس المساجد بأن يلقيها أحد المعلمين الفرنسيين. ووعد بأنه سيحاول إقناع الشيخ حمدان بتغيير طريقته خلال السنة المقبلة لكي يستفيد تلاميذ مدرسة سيدي الجليس (الفرنسية) من دروسه. ولم يبد الشيخ أية رغبة للمفتش (¬2). وفي السنة الموالية (1908) كان عدد تلاميذ الشيخ حمدان 32، من ¬

_ (¬1) كان المجاوي عندئذ في المدرسة الثعالبية بالعاصمة - القسم العالي. (¬2) تقرير شارل سان كالبر، مرجع سابق، سنة 1907. لاحظ أن الفرنسيين قد حاولوا منذ 1843 إدخال الفرنسية إلى دروس المساجد والتعليم القرآني، ولكن المفتي عندئذ (مصطفى الكبابطي) رفض فنفوه من البلاد.

بينهم عبد الحميد بن باديس أيضا. وأخبر المفتش أن سن ابن باديس 25 سنة. ومن بين هؤلاء التلاميذ أحد عشر من مدينة قسنطينة نفسها والباقي من خارجها. والظاهر أن المفتش قد وجد الشيخ أنجز ما وعده به السنة الماضية، لأن المفتش يخبرنا هذه المرة أن درس الأحد والخميس قد خصصه الشيخ لتلاميذ مدرسة سيدي الجليس ذات المستوى الابتدائي والمتوسط. وهؤلاء التلاميذ كانوا مستعدين للترشح للمدرسة الشرعية - الرسمية ة وحتى نأخذ صورة عن دروس الشيخ حمدان ننقل من التقرير هذا الجدول البسيط: النحو: أيام الأحد والخميس والثلاثاء، وكتبه هي الاجرومية وألفية ابن مالك. الحساب. ليوم الخميس، وكتابه حساب الأخضري، وقد سبق ان القلصادي كان مستعملا أيضا. الأدب العربي: ليوم الاثنين، ونصوصه تؤخذ من مروج الذهب وثمرات الأوراق والمستطرف. الفقه: يوم السبت، من مختصر الشيخ خليل، باب الزواج (النكاح). التوحيد: يوم الأربعاء، وكتبه هي أم البراهين للسنوسي والجوهرة (¬1). أما استعمال السبورة وإدخال الطريقة الجديدة في التعليم فقد لاحظ المفتش أن الشيوخ المدرسين على العموم لا يريدون إدخال أية طريقة جديدة على دروسهم. ولكنه متفائل بالنسبة للشيخ حمدان لذكائه القوي وروحه الرقيقة، وأكد المفتش أن الشيخ حمدان لن يتردد بعد اليوم في استعمال السبورة رغم أن تلاميذه قد تعودوا على أخذ إملاءات من دروسه. وكرر القول بأنه يستعمل المساءلة وأن درسه مفيد جدا، وله صوت واضح ولغة سهلة ودقيقة. ولذلك أوصى له بوسام الأكاديمية (التعليم) بمناسبة افتتاح ¬

_ (¬1) تقرير سان كالبر، مرجع سابق، سنة 1908. حصل التفتيش في 14 جوان من هذه السنة. والمقصود بالمدرسة الجديدة هو المكان الذي بنى في الشارع الوطني (ابن المهيدي اليوم) ليكون هو المدرسة الرسمية العربية - الفرنسية (الشرعية) بعد أن كانت في الكتانية والإشارة إلى كون سن ابن باديس سنة 25 غير دقيقة طبعا.

المدرسة في المكان الجديد (¬1)، لأن الشيخ حمدان يعتبر من بين المدرسين الأكثر ذكاء وإخلاصا للتعليم الإسلامي. وكان راتبه 75 ف. فقط. وليس وحده في ذلك، بل إن كل مدرسي المساجد، كما جاء في تقرير سان كالبر لسنة 1907، كانوا يتقاضون نفس الراتب. لكن هذا التنازل من المفتش، وهذا التقدير لدور الشيخ في التعليم والاعتراف بفضله وذكائه سرعان ما تبخرت. فما السبب؟ هناك سر ليس لدينا منه خيط. هل تضايق الشيخ حمدان نفسه من ملاحظات المفتش؟ هل ضايقته الإدارة في قضايا أخرى غير التعليم؟ هل كان للمفتي ابن الموهوب دور في ذلك؟ وهل كان للتنافس بين مدرسي المساجد ومدرسي المدرسة الشرعية الرسمية دور أيضا؟ ولو تغير المفتش لقلنا أن العلاقة مع الشيخ قد تغيرت معه أيضا. ولكن سان كالبر استمر هو المفتش بعد ذلك لفترة طويلة. فمن كان وراء طرد الشيخ حمدان من التدريس في الجامع الكبير بعد أن قضى فيه حوالي 30 سنة، وشهدت له التقارير بالنجاح في مهمته. يبدو أن المفتش قد عجز عن إقناع الشيخ بتغيير طريقته فاوصى (الإدارة) باتخاذ اللازم نحوه، فعزلته. ولكن هل المسألة تتعلق باستعمال السبورة فقط؟ لا نرى ذلك أبدا، فقد كان شيوخ آخرون في قسنطينة وفي غيرها لم يستعملوها ولم يكن مصيرهم الطرد، سيما مع مدرس يقال عنه أنه ناجح وله تأثير. إذن هناك سر آخر. فقد جاء في تقرير سان كالبر لسنة 1909 أنه (نصح الشيخ حمدان وكرر النصيحة باستعمال السبورة فلم يذعن لذلك، فأوصى بأن تتولى الإدارة نفسها الموضوع معه. وهكذا وجدنا في تقرير 1915 الصادر عن نفس المفتش أن الشيخ حمدان بن أحمد الونيسي قد طرد Révoqué من وظيفته كمدرس، وعوض بالشيخ عبد المجيد بن عبد الله بوجمعة، مدرس اللغة العربية والأدب بالمدرسة الشرعية الرسمية، وقد تولى ¬

_ (¬1) يبدو أنه ما عدا الفقه والتوحيد، يمكن للمدرس أن ينوع الكتب. فقد وجدنا بعضهم يستعمل أيضا ألف ليلة وليلة، ومقامات الحريري ومجاني الأدب، الخ.

بوجمعة وظيفته الجديدة في شهر مارس 1915، دون ذكر السبب في عزل الشيخ حمدان وطرده. ويذكرنا هذا الموقف بما حدث للشيخ الكبابطي سنة 1843 حين عزل من الإفتاء والتدريس في الجامع الكبير بالعاصمة ونفي إلى الخارج لمعارضته إدخال اللغة الفرنسية في المدرسة القرآنية. فهل وقف الشيخ حمدان موقفا شبيها بذلك أيضا فاستحق عليه هذا العقاب؟. إن الغريب في الأمر هو أن المفتش قد كرر في تقرير سنة 1959 منح الوسام للشيخ حمدان. ولا ندري الآن تاريخ العزل بالضبط. ولكن يبدو أنه كان خلال 1915 ما دام الشيخ بوجمعة قد استلم عمله الجديد في مارس من هذا العام. وهكذا بدل استلام الوسام استلم الشيخ قرار الطرد. ومن المحتمل أن يكون هذا القرار راجعا إلى رفضه الوسام (¬1). وقد قال المفتش في تقريره لسنة 1915 أن عدد التلاميذ قد ازدادوا بعد طرد الشيخ حمدان. فقد كانوا 29 سنة 1959، فأصبحوا 62 سنة 1915. والمتواتر بين المعاصرين أن الشيخ حمدان قد هاجر إلى الحرمين سنة 1915. والخروج من الجزائر عندئذ يحتاج إلى رخصة رسمية. فهل طلب الشيخ حمدان رخصة الحج أو رخصة أخرى فمنحت له دون تردد؟ إن حركة الهجرة نحو المشرق عندئذ كانت شائعة، وقد عرفت سطيف وقسنطينة وسيدي عقبة وغيرها حركة نشيطة نحو الشام والحجاز. ونعرف أنه خلال هذه الأثناء هاجرت أسرة الشيخ محمد البشير الإبراهيمي أيضا من نواحي سطيف. ثم جاءت الهجرة الجماعية من تلمسان 1911. فهل تدخل هجرة الشيخ حمدان ضمن هذه الحركة الاحتجاجية على التجنيد الإجباري؟. استقر الشيخ حمدان في المدينة المنورة. ولا ندري البلدان التي مر بها والعلماء الذين تعرف عليهم أو تعرفوا عليه. وبعد أدائه للشعائر الدينية انتصب للتدريس هناك. وقد وجدنا في أحد البحوث التي قام بها أستاذ من ¬

_ (¬1) ابتداء من سنة 1959 لا نجد اسم عبد الحميد بن باديس في قائمة تلاميذ الشيخ حمدان، وبذلك يكون عبد الحميد قد ذهب إلى تونس للدراسة.

السعودية حول التعليم في الحجاز في هذا القرن، إسم الشيخ حمدان ضمن المدرسين. وفي ظننا أنه لو كان الشيخ حمدان منتميا إلى بعض الطرق ذات الصلة بالسلطات الفرنسية لما كان مصيره الطرد من الجامع الذي قضى فيه ثلاثين سنة من عمره، بل الطرد من بلاده بطريقة غير مباشرة. ولكنه فضل الشرف على المذلة، وجوار الرسول (صلى الله عليه وسلم) على جوار الاستعمار. وكان في الحجاز مهاجرون جزائريون جدد وقدماء، ولا سيما في المدينة المنورة، التي كانت عندئذ بدون ضرع ولا زرع، ولا نفط ولا مياه محلاة. فاجتمع الشمل بأسرة العقبى وأسرة الإبراهيمي وبعض الأسر المغاربية، ثم التحق بهم عبد الحميد بن باديس حاجا، وكانت نفسه تحدثه أيضا بالهجرة. وكان القدر يخطط لكل قدره، فالشيخ الذي ذهب مراغما في الأرض نصح تلميذه بالرجوع إلى وطنه وتعمير المكان الذي شغر برحيله. وكان الشيخ حمدان يعرف مكانة أسرة ابن باديس في قسنطينة، ويعرف حدود حركة المتوظف لدى السلطات الفرنسية، فنصح تلميذه ابن باديس أيضا بأن يعمل حرا وأن لا يرتبط بوظيف إداري، مهما كان. وبعد عدة شهور استجاب التلميذ لنصيحة شيخه وشد الرحال عائدا إلى وطنه. وبعد عدة سنوات في التعليم (بطيبة الطيبة) توفي الشيخ حمدان راضيا مرضيا، فقد سمع عن البذور التي كان يبذرها تلميذه في الجزائر، ولم يبق إلا انتظار الحصاد (¬1). ولنبق في قسنطينة لنواصل الحديث عن بقية المدرسين فيها مستفيدين من تقارير المفتشين حولهم. لقد خضع مدرسو إقليم قسنطينة لنفس الإجراءات والبرنامج والمقاييس التي خضع لها مدرسو إقليم الجزائر ووهران. فصدر الأمر عن الحاكم العام بإجراء التفتيش على المدرسين في 6 ¬

_ (¬1) روى الشيخ الإبراهيمي ما دار بينه وبين ابن باديس في الحجاز وما اتفقوا عليه عندئذ. انظره في سجل جمعية العلماء، 1935، وفي (أنا) المنشور في كتاب (في قلب المعركة) الجزائر 1994. وعن الشيخ حمدان الونيسي، انظر أيضا المهدي بن شغيب (أم الحواضر في الماضي والحاضر)، قسنطينة 1980، ص 318. وكذلك رسالة الباحث أحمد مريوش عن (الشيخ الطيب العقبي) الخ.

مايو 1905. وكانت المراكز المعنية عشرة فقط رغم اتساع المنطقة. مركزان منها في مدينة قسنطينة نفسها، كما عرفنا، والمراكز الباقية هي: عنابة وسطيف وبجاية وميلة وبسكرة، والعين البيضاء ووادي الزناتي والمسيلة. ولم يفتش مدير مدرسة قسنطينة (موتيلانسكي Motylinski) سنة 1905 سوى المراكز الآتية: مسجدا قسنطينة، ومساجد عنابة ووادي الزناتي، وسطيف. ولم يقدم حول بعض المدرسين في هذه المراكز أية معلومات وأحيانا مجرد أسماء. ولم يزر بسكرة والعين البيضاء والمسيلة هذا العام، ووعد بزيارتها السنة الموالية، ربما لضيق الوقت منذ إنشاء التفتيش (¬1). والمعروف أن موتيلانسكي كان في هذه السنة منشغلا برحلته إلى غدامس ومشاركته في مؤتمر المستشرقين الذي انعقد بالجزائر. وقد توفي فجأة سنة 1906، ولذلك لم ينجز ما وعد به. 3 - عبد المجيد بوجمعة: بالنسبة للشيخ عبد المجيد بوجمعة فقد حل مدرسا في الجامع الكبير محل الشيخ حمدان الونيسي، كما ذكرنا. وقد واصل مهمته فوجدناه في تقرير 1913 له حوالي 63 تلميذا بأعمار مختلفة. ولا شك أن هؤلاء من التلاميذ الابتدائيين والذين سيترشحون للمدرسة الشرعية الرسمية. أما الحضور في المسجد نفسه للدرس الاختياري (الفقه والتوحيد) فلا ندري عدد الحضور فيه. ولاحظ المفتش أن حوالي عشرين فقط (من 63) من مدينة قسنطينة. أما الباقون فكانوا من خارجها، كما أن أكثرهم كانوا من التعليم الابتدائي. والمدن التي جاؤوا منها هي باتنة والمسيلة وسطيف وبجاية، الخ. وذلك ما كانت تريده الإدارة، أي تحضير تلاميذ المدارس الابتدائية لدخول المدرسة الشرعية - الفرنسية، وسواء ترشحوا أم لم يترشحوا فالهدف محقق وهو إلغاء التدريس المسجدي (التقليدي) وجعل هذه الدروس الجديدة حلقة للربط بين مدرستين فرنسيتين في الواقع. ولذلك أشاد المفتش بنشاط الشيخ بوجمعة وبطريقته في التدريس وبعدد الحضور عنده. وكان الفرنسيون يفضلون بالطبع المعلمين الذين ¬

_ (¬1) تقرير موتيلانسكي، سنة 1905، رقم 47 H 14، أرشيف إيكس (فرنسا).

تخرجوا من مدارسهم على الشيوخ الذين تخرجوا من الزوايا أو من المشرق أو المغرب أو تونس. وعندما ألجأهم الحال إلى تعيين نماذج من المتعلمين الأحرار سرعان ما أخذوا يتخلصون منهم بالتدريج وتعويضهم بزملائهم، كما رأينا مع بعض مدرسي وهران والجزائر أيضا. وقد استمر الشيخ بوجمعة فترة الحرب العالمية الأولى يقوم بنفس المهمة. وكان يجمع بين التدريس في المدرسة والتدريس في الجامع الكبير. ولا ندري إن كان ذلك فوق إرادة المفتي ابن الموهوب أو بإرادته. وفي سنة 1923 وجدنا المفتش الجديد، السيد دورنون Dournon، وهو في نفس الوقت مدير مدرسة قسنطينة الشرعية، ينتقد الشيخ بوجمعة لجمعه بين المنصبين من جهة ولكونه يقدم تلاميذه على غيرهم أثناء امتحان الدخول إلى المدرسة الشرعية باعتباره عضوا في لجنة الامتحان (¬1). 4 - ابن مرزوق: هذا عن مدرس الجامع الكبير بقسنطينة، أما مدرس جامع سيدي الكتاني (صالح باي)، فقد ظل هو أحمد بن سعيد بن مرزوق فترة طويلة، تقارب ربع القرن. ولا ندري ثقافة هذا الشيخ المعاصر أيضا لأحداث وشخصيات هامة عرفتها قسنطينة، ويبدو أنه ليس من خريجي المدرسة الفرنسية، كما يظهر من ملاحظات المفتشين الفرنسيين. وقد فتشه موتيلانسكي سنة 1905 ولكننا لا نجد له ملاحظات عليه، كما فعل مع الشيخ حمدان. أما المفتش التالي، وهو سان كالبر Saint-Calbre فيقول عنه سنة 1907 إن ابن مرزوق كان من تلاميذ الشيخ المجاوي، مستمعا حرا، أي أن تعليمه سماعي، عن طريق الإجازة وغيرها. ولم يتخرج من المدرسة الفرنسية، وكان عمره أربعين سنة 1907، وأنه عين للتدريس سنة 1894 في ¬

_ (¬1) تقرير دورنون، سنة 1923، أرشيف إيكلس (فرنسا)، 47 H 14. ضاعت منا البطاقات المتعلقة بالتفتيش بعد 1923، ولا ندري إن كان الشيخ بوجمعة قد استمر في الوظيفتين أو تفرغ للجامع فقط. وكان مالك بن نبي من تلاميذ الشيخ بوجمعة في مدرسة قسنطينة، وقد نوه به في مذكراته، فانظرها. وكان ابن نبي كثير النقد، مع ذلك، لمدير المدرسة درونون ويعتبره أحد أساطين الاستعمار.

مدرسو المساجد في إقليم قسنطينة والجنوب

المذكور (الكتاني). ولا نجد تقييما هاما لطريقة تدريسه في هذه المرة. لكن في سنة 1913 وجدنا المفتش سان كالبر نفسه يقيمه كالتالي: تلاميذه الأحرار حوالي عشرين، ولا يستعمل السبورة رغم أنه أعطي واحدة. وقد حضر إليه بعض تلاميذ المدرسة الابتدائية الفرنسية (مدرسة جول فيري) ثم غادروا درسه منذ الشهور الأولى، فلم يبق له إلا درسا المسجد والعامة. والشيخ ابن مرزوق لا يرغب في التدريس للمبتدئين، وليس له تأثير بين الأهالي، ثم أنه يفتقر إلى المبادرة والنشاط (¬1). ولكن (دورنون) لاحظ سنة 1923 أن ابن مرزوق قد أصبح كبير السن متدهور الصحة، وأنه لم يبق له إلا سنة واحدة على التقاعد. ونفهم من هذا أن الشيخ ابن مرزوق قد ظل مدرسا في جامع سيدي الكتاني كل حياته التعليمية تقريبا. وهو من النوادر الذين انتقدهم المفتشون ولم يطردوا أو يعزلوا. وقد اقترح المفتش دورنون تعيين الشيخ معيزة، مدرس جامع سطيف بدله، حين يحل أجل تقاعده. وقال عن الشيخ معيزة أنه أيضا كبير السن ولكنه معلم جيد، في نظره. وليس لدينا الوثائق التي تؤكد هذا التغيير سنة 1924 (¬2). مدرسو المساجد في إقليم قسنطينة والجنوب سطيف: كان المدرس في سطيف هو طالب علاوة. وقد حل محله في نفس السنة (يناير 1905) الحاج محمد بن خليفة الصحراوي الذي كان مدرسا في ميلة. وكان طالب علاوة قد طلب وظيفة قضائية لأنها أرفع راتبا من التعليم، فعين فيها. وكان من المتخرجين من المدرسة الشرعية الفرنسية (بالعاصمة). وكان تلاميذ الشيخ الصحراوي حوالي 25 وجميعهم ¬

_ (¬1) تقرير سان كالبر، لسنة 1913. نفس المصدر، انظر أيضا، زوزو (نصوص)، ص 228 - 230. (¬2) تولى التدريس في مساجد قسنطينة أيضا الشيوخ: عاشور الخنقي وعبد القادر المجاوي ومحمد الصالح بن مهنة. انظر سابقا.

تقريبا من كبار السن. ولاحظ عليه المفتش أنه كان متمكنا من الطريقة الإسلامية (العتيقة) في إلقاء الدروس. ونفهم من هذا أن الشيخ الصحراوي قد درس بطريقة حرة مثل الشيخ حمدان والشيخ ابن مرزوق، ربما في الزوايا (¬1). وبناء على تقرير سان كالبر سنة 1907 فإن عدد تلاميذ الشيخ الصحراوي بقي حوالي 20 ولكن الذين حضروا ساعة التفتيش كانوا عشرة فقط. وأعمارهم بين 10 و 47 سنة. ولاحظ المفتش أن المدرس الصحراوي له فكرة غامضة فقط عن مهمته وعن البرنامج الموكول إليه. وكان يدرس لتلاميذه النحو والفقه والحساب والتوحيد. وعمره 51 سنة. وهو متحمس لعمله، ولكن نجاحه ضعيف، ودرسه شفوي، فهو مثل زملائه لا يستعمل السبورة. وفي الامتحان الذي جرى في غشت سنة 1903 في قسنطينة لاختيار المدرسين نجح الحاج الصحراوي، وسمى في نفس السنة مدرسا في ميلة، ثم في سطيف خلال يناير 1905. وقد حاوله المفتش أن يعدل من وقته ومن برنامجه لكي يستفيد من دروسه في المسجد تلاميذ المدارس الابتدائية الفرنسية أيضا (¬2). ومع ذلك بقي الشيخ الصحراوي مدرسا في سطيف إلى حوالي 1917. وقد ضاعت منا بعض التقارير الخاصة به، ولكن تقرير سنة 1913 يشير إلى أنه ما يزال في سطيف، وكان له حوالي 22 تلميذا، بعضهم فقط من التعليم الابتدائي الفرنسي. وقد أبدى عليه المفتش ملاحظات في صالحه. وأوصى بزيادة راتبه هو وغيره لأن الرواتب غير كافية (¬3). أما تقرير دورنون سنة 1923 فيذكر أن الشيخ الصحراوي قد استخلف سنة 1917 وحل محله الشيخ معيزة، ولا ندري السبب، لضياع بعض الحلقات (¬4). ¬

_ (¬1) تقرير موتيلانسكي، سنة 1905، مرجع سابق. (¬2) تقرير سان كالبر، 1907، مرجع سابق. (¬3) تقرير سان كالبر، سنة 1913، مرجع سابق. (¬4) تقرير دوبرنون، سنة 1923، مرجع سابق، ولا ننسى أثر الحرب العالمية على الشباب =

عنابة: كان مدرس جامع عنابة سنة 1905 هو ابن العابد (¬1). وهو خريج القسم العالي من مدرسة الجزائر الشرعية الفرنسية وحامل لدبلوم الآداب من مدرسة (كلية) الآداب بالجزائر. ولا ندري متى توظف ابن العابد في عنابة، ولكنه سرعان ما نقل إلى مدرسة قسنطينة الشرعية فحل محله في التدريس بعنابة السيد محمد العربي بلايلي الذي تخرج أيضا من مدرسة قسنطينة الشرعية - الفرنسية والقسم العالي من مدرسة الجزائر. وحسب تقرير المفتش فالسيد بلايلي كان ناجحا في مهمته وله 24 تلميذا. وقد حضر مفتي عنابة درسه وشجع الآخرين من موظفي الجامع على حضور الدرس (¬2). وقد أعطانا المفتش شارل سان كالبر معلومات إضافية عن السيد بلايلي بعنابة. فقد بدأ فيها التدريس سنة 1951، وكان أصلا من هذه المدينة، ولذلك لم يبد بلايلي الرغبة في الانتقال منها إلا إذا شغرت وظيفة مدرس في إحدى المدارس الشرعية الثلاث. وكان راتبه 75 ف. فقط، وهو مبلغ لا يكفيه، حسب التقرير، لأنه صاحب عائلة. ولذلك فهو يقدم دروسا إضافية للشباب المترشح لدخول إحدى المدارس الثلاث. أما تلاميذه فهم حوالي عشرين، وأعمارهم بين 15 و 51 سنة، وهناك مواظبة في الحضور، ومن بينهم بعض المترشحين لمدرسة قسنطينة الرسمية. وكان الشيخ بلايلي يعطي دروسا عامة وأخرى خاصة بتلاميذ المدارس الابتدائية أيام الخميس والأحد، كما يلقى دروسا للعامة في التوحيد خلال شهر رمضان. وهو يدرس خمسة أيام في الأسبوع بمعدل ساعتين في اليوم. أما المواد فهي التي قررها البرنامج (¬3). وقد استمر نفس المفتش في الإشادة بالسيد بلايلي في التقارير ¬

_ = الجزائري وعلى المدرسين أيضا. (¬1) لعله هو محمد ابن العابد الجلالي صاحب (تقويم الأخلاق). فإذا صح أنه هو فإنه يكون من العناصر التي تفيض وطنية. ولمالك بن نبي ملاحظات على درسه في مدرسة قسنطينة لا تخلو من نقد لاذع. انظر مذكرات ابن نبي. (¬2) موتيلانسكي، 1905، مرجع سابق. (¬3) تقرير سان كالبر، 1907، مرجع سابق.

الموالية، كما فعل سنة 1913 أيضا. ولكن تلاميذه انخفضوا هذه السنة إلى 16 معظمهم من تلاميذ المستوى الابتدائي. كان هذا رأي المفتش سان كالبر في السيد بلايلي. ولكن الأمور تغيرت بعد ذلك. ولا ندري هل تغير المفتش فقط، أو تغير المدرس أو تغيرت الحياة ونظرة الناس إلى تعليمه ومحيطه. ذلك أن المفتش الجديد، وهو دورنون حكم عليه حكما قاسيا رغم أنه من تلاميذه في مدرسة قسنطينة. فقد قال دورنون أن بلايلي غير مؤهل للوظيفة التي يشغلها وأنه قد قضى في التعليم خمس عشرة سنة. وقال أنه شخص لا يوثق في كلامه، ولاحظ الإهمال على المكتبة عنده، الخ (¬1). فماذا كان مصير السيد بلايلي بعد ذلك؟ الواقع أننا لا نملك الآن بقية التقارير عنه. وربما أثرت ظروف الحرب على هذا المدرس وجمهوره. بجاية: كان المدرس فيها سنة 1905 هو السيد الأخضر (الخضير) بن أحمد العلمي، وهو خريج مدرسة قسنطينة الشرعية الرسمية. وكان مدرسا ناجحا، حسب تقرير المفتش موتيلانسكي، وله 25 تلميذا. وفي تقرير المفتش سان كالبر 1907 أن الحضور 19 تلميذا، أعمارهم بين 14 و 35، وأن موظفي الجامع لا يحضرون الدروس. وتلاميذه كانوا من بجاية نفسها إلا واحدا كان من خراطة وآخر من المسيلة. وأغلبهم يتكلمون قليلا من الفرنسية. بعضهم سيترشحون لدخول المدارس الشرعية. وكان عدد الحضور يوم التفتيش 12 تلميذا فقط. وكان السيد العلمي يلقي دروسه بمعدل ست مرات في الأسبوع، وكان أمينا على البرنامج المسطر (¬2). ¬

_ (¬1) دورنون، 1923، مرجع سابق. تقرير سان كالبر، 1907، مرجع سابق. (¬2) من البطاقات الكثيرة التي ضاعت منا تلك التي تحتوي على مكتبات المساجد التي يحفظها أيضا المدرسون، وهي جزء من هذا البرنامج التعليمي الرسمي. وكانت المكتبات موجهة أساسا للتلاميذ، فهى مكتبات مدرسية. وكل مفتش كان يقيم هذه المكتبات ويبرز دورها. انظر فصل المنشآت الثقافية - فقرة المكتبات.

وكان الدرس يوم التفتيش في مقامات الحريري. وقد أملى المدرس نصا من إحدى المقامات على أحد المستمعين في السبورة، بينما الباقون يكتبونه ذلك في الكراريس. وحكم المفتش بأن الشيخ العلمي قد أعد درسه بجدية. أما دروسه فقد كانت في ساحة المكتبة وليس في الجامع. وهناك نبذة عن حياة العلمي في هذا التقرير. فهو من مواليد 1868 ببلدية القرقور، وقد دخل مدرسة قسنطينة ثم تخرج منها على النظام القديم (قبل الإصلاح) سنة 1891. وقبل أن يتعين في بجاية، درس أولا في عنابة، وكان (فارسا) في بلدية جوزيف (؟)، وكان في بجاية يعمل مدرسا ومحافظا للمكتبة في وقت واحد. واعتبره المفتش سان كالبر من المدرسين المتحمسين (¬1). وفي 1913 اقترح له نفس المفتش وسام الأكاديمية (التعليم) لأدائه دوره على أحسن وجه، منذ ثلاث سنوات (؟) وقد رشح عددا من التلاميذ لمدرسة قسنطينة الرسمية من بين تلاميذه الأربعة والعشرين. ولا يحضر له إلا بعض تلاميذ التعليم الابتدائي (¬2). ولا ندري ما الذي حدث للشيخ العلمي بعد ذلك. فنحن لا نجده في تقرير المفتش سنة 1922. فهل توفي أو انتقل إلى جهة أخرى؟ ومهما كان الأمر، فإن المدرس في هذه السنة هو السيد الشريف سعدى. ويبدو أن الأمور قد تغيرت معه، فلم تعد الدروس في المساجد كما هو البرنامج، ولكن في أماكن أخرى كالمدارس والمكتبات، خصوصا للتلاميذ الابتدائيين. فتقرير سنة 1922 يذكر أن درس الشريف سعدي يحضره أيضا عدد من الأروبيين والأروبيات. وله أيضا نشاط آخر مع هؤلاء ومع الموظفين الرسميين. أما درسه فقد أهمله حتى أنه اكتفى بترجمة نصوص كان رئيس ¬

_ (¬1) تقرير سان كالبر، 1907، مرجع سابق. (¬2) تقرير سان كالبر، سنة 1913، نفس المرجع.

الدائرة قد نشرها في إحدى المجلات بباريس. أما أثناء تفتيش سنة 1923 فقد غاب السيد الشريف سعدي تماما إذ كان في العاصمة يحضر لزواجه، ومع ذلك طلبت منه السلطات المحلية تعليم العربية الدارجة، مما يوحي من التقرير أن ذلك مخالف للبرنامج الصادر عن الحاكم العام سنة 1955 (¬1). ميلة: منذ يناير 1905 كان الشيخ محمد بن معنصر هو المتولي التدريس في ميلة. وكان قبل ذلك يشغل وظيفة عدل في في مزالة، ولأسباب صحية تخلى عنها واختار التدريس في ميلة، وهي مسقط رأسه. وقد بلغ تلاميذه الثلاثين، ولكن ليس من بينهم الابتدائيون، وهو ما لا تريده الإدارة. وقد شكر المفتش موتيلانسكي طريقته في التدريس (¬2). وكان ابن معنصر، مثل عدد آخر من المعاصرين، متعلما حرا، في قسنطينة حيث كان يحضر بعض الدروس مستمعا فقط. وكان عمره 39 عاما سنة 1907 (¬3). وقد بقي ابن معنصر في وظيفه وفي مكانه فترة طويلة. ورغم ضياع التقارير الخاصة به من أيدينا، فإن أحد التقارير الباقية عندنا، وهو لدورنون سنة 1923، يذكر أنه ما يزال يؤدي مهمته. ونوه به دورنون كثيرا. فقال إن سمعته تجاوزت ميلة والميلية وفج مزالة. واعتبره رجلا متعاونا مع السلطات المحلية، وهذا أحد المقاييس الأخرى التي يقيس بها الفرنسيون كفاءة المدرس (¬4). وقد تعرضنا لسيرة ابن معنصر في حديثنا عن سيرة الشيخ مبارك الميلي فانظر أيضا. وادي الزناتي: تقرير التفتيش لسنة 1905 كتبه موتيلانسكي، وكان مقتضبا لأنه لم يمض على التجربة سوى سنة واحدة بالنسبة لمعظم المدرسين. وكذلك بالنسبة لإنشاء وظيفة التفتيش نفسها. لقد تعين المدرس ¬

_ (¬1) تقرير دورنون، سنة 1922 - 1923،، نفس المرجع. (¬2) تقرير موتيلانسكي، 1905، مرجع سابق. (¬3) تقرير سان كالبر، 1907، مرجع سابق. (¬4) دورنون، تقرير 1923، مرجع سابق.

الطيب الطيبي في وادي الزناتي في 30 يناير، 1905. فلم يتحدث المفتش عن سيرته طويلا، واكتفى ببعض اللقطات منها. فتلاميذه حوالي 25، ولا نعرف إن كانوا صغارا أم كبارا، من أهل الدرس العام الاختياري أو الخاص الإجباري حسب البرنامج. وقد لاحظ موتيلانسكي أن هذا المدرس ليس له شهادة من المدرسة الشرعية الرسمية (¬1)، فهو إذن من المتعلمين الأحرار. وقد أكمل تقرير سان كالبر معلوماتنا عن هذا المدرس. فقال أنه في الأربعين من عمره سنة 1907، وأنه من مواليد البرج (بوعريريج)، وكان قد تلقى دراسته في زاوية بني يحى ناحية آقبو، على يد الشيخ الهادي (؟). وشارك في امتحان المدرسين بقسنطينة فنجح فيه، وهكذا سمى بعده بوادي الزناتي في السنة المذكورة (1905). وقد ذكر لنا سان كالبر أن للشيخ حوالي 18 تلميذا تتراوح أعمارهم بين 15 و 50 سنة. وكان الشيخ الطيبي يطبق البرنامج الرسمي، وله بعض الكتب من الإدارة ومن البلدية، ولكنه لا يستعمل السبورة. ولا يخرج درسه عن الفقه والنحو والتوحيد والحساب والمطالعة (¬2). ثم تبدلت الأيدي على وادي الزناتي. ففي سنة 1913 نجد المدرس هو محمد بن الطاهر بن زراق. وكان تعريفه في التقرير مختصرا، فهو فقط مدرس ناجح في مهمته وله تأثير على السكان، ومتواضع، أما تلاميذه فعددهم 39، بعضهم فقط من الابتدائيين - المدرسة الابتدائية الفرنسية (¬3). ولم نستطع أن نعرف السيرة العلمية لابن زراق. وفي تقرير آخر يرجع إلى سنة 1917 أصبح المدرس في وادي الزناتي هو السيد الجنيد (أحمد مكي؟). فإذا كان المقصود به الجنيد أحمد مكي، فسيرته معروفة من كتاب (شعراء الجزائر)، ولكننا لا نملك تقرير المفتش عنه، ولا عن سلفه ¬

_ (¬1) تقرير موتيلانسكي، سنة 1905، مرجع سابق. (¬2) تقرير سان كالبر، 1907، مرجع سابق. (¬3) تقرير سان كالبر، 1913، مرجع سابق.

ابن زراق (¬1). ونفهم من تقرير دورنون سنة 1922 إن الجنيد ظل مدرسا في وادي الزناتي إلى هذه السنة، ثم تعين لإدارة إحدى المدارس بموريطانيا. بسكرة: لم يفتش موتيلانسكي مدرس جامع بسكرة سنة 1905 لضيق الوقت وانشغاله بمهمات أخرى، ثم أدركته الوفاة كما أشرنا. ولكن المفتش الجديد، سان كالبر، ترك لنا تقريرا عن المدرس في بسكرة سنة 1908، وهو الشيخ محمد بن بلقاسم خمار، ونفهم من التقرير أن الشيخ خمار قد تعين مدرسا هناك سنة 1891، وهي السنة التي جندت فيها السلطات الفرنسية عددا من المدرسين. وقد ساق السيد سان كالبر معلومات هامة عن الشيخ خمار. فقد تجاوز الخمسين من عمره، وكان يعاني من مرض دائم في عينيه، وله مكتبة شخصية متنوعة وكبيرة. وهو محب للكتب وبستعملها لمراجعة دروسه، وكان يدرس نفس المواد المنصوص عليها في البرنامج (النحو والفقه والأدب، والحساب والتوحيد)، ولكن الكتب التي يرجع إليها في ذلك تختلف وتزيد عن المتعارف عليه. وكانت له شهرة كبيرة بين الناس كعالم كرس جهذه للتعليم، وله سيطرة تامة على تلاميذه. وكان الشيخ خمار يدرس في ناحية قداشة في قاعة صغيرة أرضها من الطين Argile وسماؤها مفتوحة. فهو بعيد عن مركز بسكرة، ولذلك لا يحضر إليه أهل المدينة لبعد مكان الدرس. كان درسه ست مرات في الأسبوع. وتلاميذه حوالي 20 وليس منهم ¬

_ (¬1) كتب الجنيدي (الجنيد؟) أحمد مكي سيرته بنفسه في كتاب شعراء الجزائر، ط. 1927. وبناء على تقرير المفتش دورنون سنة 1922 أن الجنيد أحمد مكي قد عين منذ شهر فبراير من هذا العام مديرا لمدرسة بوتليميت في موريطانيا، منتدبا لمدة ثلاث سنوات. وبناء على التقرير فإن تعيينه بوادي الزناتي كان سنة 1917. انظر تقرير دورنون سنة 1922، مرجع سابق. عن الجنيد أحمد مكي انظر أيضا فصل الاستشراق.

من يتكلم الفرنسية، رغم أن في أهل بسكرة من يتكلمها قليلا، كما لاحظ التقرير. وتلاميذه لا يستعملون الكراريس للإملاء والمذكرات، ولا يستعمل السبورة، والدرس شفوي فقط أو نظري. ومن بين تلاميذه ابنه قدور خمار الذي يحمل شهادة عدل في المنطقة العسكرية. وللشيخ خمار ابنان آخران سيترشحان، كما قال التقرير، لوظيفة حزاب. ولم يبد الشيخ خمار أية رغبة خاصة، ومما يؤسف له أن التقرير لا يتحدث عن مكان دراسة الشيخ خمار ولا عن شيوخه. أما تقرير سنة 1909 فقد تغيرت فيه لهجة المفتش نحو الشيخ بطريقة تثير الاستغراب. وكان الذي كتب التقرير الجديد شخص آخر. فقد اقترح فيه تعويض الشيخ في الحال، وذلك لمرضه من عينيه مرضا لا يمكن الشفاء منه، ثم أنه يكاد يكون أصم. وقد تقدمت سنه (خمسون سنة!). ومضى عليه في الخدمة حوالي 19 سنة، ومن ثمة لا يمكنه التقاعد. ثم أنه يملك أربعة بساتين وأرضا للفلاحة. وقد وافق والي قسنطينة على تقرير المفتش وأرسل برأيه إلى الحاكم العام قائلا أنه أراد أن يضمن اقتراحه بعزل الشيخ خمار بشهادة طبية، ولكنه علم أن خمار ذهب إلى تونس للعلاج ولم يرجع بعد (أي إلى 13 أكتوبر 1915). وكان المفتش قد أوصى بتعيين شاب متخرج من المدرسة الشرعية - الفرنسية مكان الشيخ خمار، وفي هذه السنة (1959) أيضا ذكر المفتش أن الشيخ خمار كان يدرس في جامع سيدي الخنفري الذي يلاصق داره، وأنه لا يستطيع الذهاب إلى أماكن أخرى للتدريس. وقد كرر سان كالبر اقتراحه بتعويض الشيخ فورا سنة 1915، وكان راتب الشيخ خمار 800 ف. للعام. ولا نملك قرار العزل والتعيين للبديل عندئذ، ولكن تقرير المفتش لسنة 1911 ذكر أن مركز بسكرة أصبح خاليا من المدرس منذ عام، مما يفهم منه أن الشيخ خمار لم يرجع من تونس للتدريس، أو أنه رجع ووجد قرار العزل دون تعويضه بأحد المدرسين. وقد جاء في تقرير السيد سان كالبر أن أحدا لم

يترشح لمركز بسكرة لضعف المرتب (¬1). وهكذا بقيت بسكرة بدون مدرس رسمي أكثر من عام، وربما لمدة أطول. ولكن هناك شيخ آخر كان يعلم في بسكرة، وهو مصطفى بن محمد زادي. وقد وردت سيرته في تقرير المفتش سان كالبر لسنة 1908. غير أنه قال فيه أنه قد نقل هذا العام إلى المسيلة. وبناء على هذا التقرير فالشيخ زادي كان أيضا عصامي التعليم أو متعلما حرا. فقد حضر دروس الشيخ عبد القادر المجاوي في قسنطينة، كما درس في تونس والقاهرة. وكان عمره إذاك 45 سنة. وهو من النوادر الذين تعينهم السلطات الفرنسية للتدريس رغم خلفيات تعليمه، ثم رجع الشيخ زادي إلى التعليم في بسكرة، وربما في مكان الشيخ خمار. ذلك أننا وجدناه في تقرير سنة 1913 مدرسا في بسكرة. وكان له درس عام يحضره حوالي 19 شخصا أعمارهم من 10 إلى 65، حسب التقرير. وكان يلقي دروسه ستة أيام في الأسبوع. ويعلم نفس المواد الخمسة المنصوص عليها. وكان تقليديا في طريقته، ولكنه خصص درس يوم الأحد لتلاميذ المدرسة الابتدائية الفرنسية. وأخبر عنه المفتش أنه كان يعيش منعزلا عن الناس، وأنه لا يفهم مهمة المدرس كما تنتظرها منه فرنسا. ولذلك كان تأثيره على السكان معدوما. وقد أفهمه المفتش أن دوره كمدرس أكبر من ذلك (¬2). ولا ندري ما كان مصير الشيخ زادي بعد 1913، إذ ضاعت منا بقية التقارير عنه. غير أننا وجدناه رجع إلى بسكرة سنة 1915. وقد لاحظ عليه المفتش نفس الملاحظات القاسية، مثل قوله فيه إنه غير عصري ولا يستعمل السبورة وتلاميذه لا يترشحون لدخول المدارس الشرعية، الخ. وهدده هذه المرة بأن الترقية لا تكون بالأقدمية فقط ولكن بالنتائج الحسنة أيضا. ونعلم من تقرير سنة 1918 أن الشيخ زادي قد حقق هدفه وهو ولاية الفتوى في قالمة. وحل محله في بسكرة السيد الجنيد أحمد مكي الذي بقي إلى فيفري ¬

_ (¬1) تقارير سان كالبر سنوات 1908، 1909، 1910، مرجع سابق. وكذلك تقرير موتيلانسكي، سنة 1905، مرجع سابق. (¬2) تقرير سان كالبر، سنة 1908 - 1913، مرجع سابق.

فيفري 1922 حين ذهب إلى موريطانيا (¬1). وهكذا تغير المدرسون على بسكرة. لقد وجدنا في تقرير كتبه المفتش دورنون سنة 1923 أن مدرس بسكرة حينئذ هو السيد الزردومي، ولم يذكر التقرير إسمه الكامل، إنما ذكر أنه شاب وأنه تعين هناك منذ 13 يناير 1923. وأنه لقي معارضة من الآغا (شيخ العرب؟) ابن قانة الذي أراد الوظيفة لأحد أتباعه. كما وجد الشاب الزردومي معارضة من مدير المدرسة الابتدائية الفرنسية الذي رفض إعطاعه إحدى القاعات للدرس. فهل يرجع ذلك إلى نقمة المدير الفرنسي على المدرسين بالعربية أو إلى أمر آخر؟ ونفهم أن القاعة المعنية هي للدرس الخاص الموجه لتلاميذ المدرسة، أما الدرس العام فكان يلقى في أحد المساجد، كما عرفنا. ولم يعطنا التقرير معلومات عن أي درس من دروس الزردومي. والظاهر أنه لم يباشر عمله أبدا في المدرسة. ولم يوص المفتش بشيء ضد المدير الذي منع المدرس من استعمال القاعة (¬2). ولا ندري إن كان الزردومي هذا هو نفسه معمر بن الحاج رابح الزردومي الذي تولى القضاء في قمار (الوادي) أو هو من أسرته فقط. ذلك أن جريدة (الأخبار) الفرنسية قد نشرت في صفحاتها العربية سنة 1913 أن (الوجيه الفقيه الأديب) معمر الزردومي قاضي قمار (والمحرر بهذه الجريدة سابقا) (¬3) قد زار مكتبها. ولعل الزردومي الذي تحدث عنه تقرير دورنون سنة 1923 إنما هو أحد أقارب هذا القاضي. المسيلة: لم يفتش موتيلانسكي مدرس جامع المسيلة سنة 1905 أيضا. ولذلك لا نعرف من كان مدرسا بها عندئذ. وأول من أشارت إليه التقارير هناك (1908) هو الشيخ مصطفى زادي الذي انتقل إليها من بسكرة ¬

_ (¬1) تقرير سان كالبر، سنة 1915 - 1918، مرجع سابق. ومن ثمة نعرف أن مدة الجنيد أحمد مكي في وادي الزناتي كانت سنة واحدة 1917 - 1918. (¬2) تقرير دورنون لسنة 1923، مرجع سابق. (¬3) جريدة (الأخبار) - القسم العربي، 25 مايو، 1913. عن الزردومي انظر أيضا فصل السلك الديني والقضائي.

(انظر سيرته هناك). وقد حضر المفتش درسه فوجده تقليديا، رغم حماسه وحبه للعلم. فتدريسه شفوي، ولا يستعمل السبورة، وتلاميذه 24 وليس من بينهم من يتحدث الفرنسية، ولا من دخل المدرسة الابتدائية الفرنسية. أما الشيخ فهو، حسب التقرير، يجيد مادته، وهو متحمس لها، ولكن ليس في تعليمه أي شيء عصري. ومع ذلك فهو مفيد لأنه على استعداد كبير لو استعمل السبورة وحث تلاميذه على أخذ مذكرات من الدرس، وكان عليه أن يكرس وقتا أكثر لشرح النصوص. أما عن الرغبات فقد أبدى الشيخ زادي استعداده لتولي وظيفة مفتي. ولم يبين التقرير المكان الذي كان الشيخ يلقي فيه درسه، هل هو الجامع أو مكان آخر (¬1). ويبدو أن الشيخ زادي لم يطل الإقامة في المسيلة رغم أننا لا نعرف متى نقل منها. ولكننا نعرف أن المدرس فيها سنة 1912 - 1913 هو السيد صالح بن سعيد وهاب، وليس في التقرير سيرة لهذا المدرس، إنما فقط هو شاب ذكي يتقن مهمته، وهي عادة أوصاف يطلقها المفتشون الفرنسيون على من تخرج من إحدى المدارس الشرعية الفرنسية. كان الشيخ صالح وهاب يلقي درسين، أحدهما عام في المسجد، والآخر خاص في المدرسة الابتدائية الفرنسية. وتلاميذه عشرون، بعضهم من هذه المدرسة الابتدائية نفسها، وأعمارهم بين 14 و 60. وبناء على التقرير فإن السيد وهاب قد أحرز على ثقة السلطة والسكان معا (¬2). وقد يكون السيد وهاب بقي في المسيلة إلى حوالي 1919. ذلك أن المدرس الجديد فيها، حسب تقرير سنة 1923 هو الأطرش بن نية. وقال التقرير عنه أنه قد عين هناك منذ حوالي أربع سنوات. وليس له سيرة وافية في التقرير وإنما معلومات عامة تصدق عادة على من تخرج من المدرسة الشرعية - الفرنسية. فهو ناجح جدا في درسه الذي يبدو أنه كان يلقيه خارج ¬

_ (¬1) تقرير سان كالبر، لسنة 1908. (¬2) نفس المصدر، سنة 1913.

المسجد، إذ يحضر له عدد كبير حتى من غير المسلمين، مثل التلاميذ اليهود الراغبين في تعلم العربية. وقد اقترح له المفتش الترقية إلى رتبة أعلى، أي الطبقة الثانية في سلم المدرسين، وراتبها 5000 ف (¬1). قالمة: يبدو أن مركز التدريس في قالمة قد استحدث خلال الحرب العالمية فقط، فهو ليس من المراكز التي أنشئت سنة 1955. وأول إشارة في أوراقنا إلى مدرس في قالمة ترجع إلى سنة 1917 حين ذكر المفتش أن الشيخ معيزة كان مدرسا فيها قبل انتقاله إلى سطيف لتعويض الشيخ الصحراوي. وكان الشيخ معيزة (انظر سطيف) قد مدحه المفتش على تعليمه، رغم أنه من التقليديين. أما تقرير 1923 فيذكر أن المدرس في قالمة هو السيد فاضل. وكان من خريجي المدرسة الشرعية الفرنسية، القسم العالي بالجزائر. ولا ندري متى تعين في هذه الوظيفة، ولعله بعد انتقال الشيخ معيزة (1917)، ذلك أن التقرير يذكر أن السيد فاضل قد تحسن في تعليمه عن السنة السابقة. والغريب أن السلطات الفرنسية المحلية قد طلبت تدريس العربية الدارجة للتلاميذ الفرنسيين الابتدائيين وكذلك للعسكريين، وهو نفس الطلب الذي طلبته من الشريف سعدي مدرس بجاية، رغم أن هذه الدروس موجهة أساسا للعامة والتلاميذ المسلمين في المدارس الفرنسية. وقد حكم المفتش، مع ذلك، أن السيد فاضل (ولم يذكر اسمه الأول، وقد يكون محمد) مؤهل لوظيف القضاء أكثر من وظيف التعليم (¬2). تبسة: مركزها حديث النشأة أيضا. ومدرسها سنة 1923 هو السيد المكي بن علي. واعتبره المفتش من المدرسين الناجحين، وهو شخص وصف بالمتعاون جدا مع السلطات المحلية. كما أن له سمعة كبيرة بين الأهالي باعتباره من العلماء، وهو أيضا مدير المدرسة هناك. وامتدحه ¬

_ (¬1) تقرير دورنون، سنة 1923، مرجع سابق. (¬2) نفس المصدر.

المفتش بأنه يشرف أساتذته القدماء في المدرسة الشرعية - الفرنسية (؟). والسيد المكي من تبسة أصلا، ومزدوج اللغة، وكان عندئذ ما يزال شابا حسب التقرير. ولعل المفتش دورنون كان أحد أساتذته (¬1). والسيد المكي أول من ذكرته التقارير على أنه مدير لمدرسة. ولم يذكر المفتش تفاصيل عن تلاميذه ولا عن دروسه في المسجد. ويبدو أن دروس المساجد بالطريقة القديمة ثم التي انطلقت منذ 1955، أخذت تفقد معناها وأسلوبها بعد الحرب العالمية الأولى وأصبح التركيز على الدروس خارج المساجد لتحضير التلاميذ لدخول المدارس الشرعية - الفرنسية، وإشاعة اللغة الفرنسية والتأثير الفرنسي عن طريق الجيل المتخرج من هذه المدارس. وهذه هي الثغرة التي سيدخل منها رجال الإصلاح المتطوعين إلى مجال التعليم المسجدي الموازي وإرجاعه إلى سنته بالوعظ والإرشاد والتوعية، إلى جانب التعليم العربي الحر في المدارس الإصلاحية. العين البيضاء: أنشئ مركز العين البيضاء سنة 1955. وجرى التفتيش على المدرس هناك 1905. والمدرس الذي أشار إليه التقرير في هذه السنة هو السيد عمر بن عبد القادر بن الموفق. وهو خريج المدرسة الشرعية - الفرنسية (قسنطينة؟). بدأ ابن الموفق ممارسة مهمته منذ تنصيبه من قبل شيخ البلدية الفرنسي (¬2). وكان تعيينه في الوظيفة في 7 جوان 1905، أي عند نهاية السنة الدراسية تقريبا، ولكن دروس المساجد لا موسم لها. وبالرجوع إلى التقارير اللاحقة لا نكاد نجد ذكرا لمركز العين البيضاء. فإما أن المفتش لا يزوره د وإما أن المنصب نفسه قد ألغي. وكانت العين البيضاء مركزا نشيطا للتدريس المسجدي ولكن في مجال التطوع. فنحن نعلم أنه كان بها زاوية تجانية ومسجد حبسا لآل حم علي ¬

_ (¬1) تقرير دورنون، سنة 1923، مرجع سابق. (¬2) تقرير موتيلانسكي، سنة 1905، مرجع سابق.

المرتبات والتلاميذ والبرامج

الذين منهم الشاعر محمد العيد آل خليفة. وهي لا تخلو من العلم رغم الطابع الصوفي - الطرقي الذي كانت عليه. وفي سنة 1929 تحدث الشيخ عبد الحميد بن باديس، عند زيارته للعين البيضاء، أن بها مدرسا متطوعا هو الشيخ السعيد الزموشي، وبها المسجد الذي أقامه الشيخ موسى العربي الصائفي على أنقاض الزاوية المذكورة. إضافة إلى القاضي عبود الونيسي، أخ الشيخ حمدان، وكذلك إمام الجامع، الشيخ الزواوي بن معطي، وعبد الرحمن بن عزوز من الطريقة الرحمانية، والطاهر بن الأمين، والأديب الشاعر حسن بولحبال، وغيرهم (¬1). وهذا يعني أن الإدارة الفرنسية لم تعد هي وحدها المنشطة لحياة التدريس في المساجد. المرتبات والتلاميذ والبرامج بعد هذه الجولة في تقارير المفتشين عن المدرسين والتعليم الذي يفترض فيه أنه تعليم مسجدي وسط بين المدرسة الفرنسية الابتدائية الموجهة للجزائريين وبين المدارس الشرعية - الفرنسية الثلاث. دعنا نختم ذلك ببعض الملاحظات عن الرواتب وعدد التلاميذ واقتراحات المفتشين التي لا تخص مدرسا بعينه. كل المفتشين تقريبا كانوا يلحون على ضرورة رفع مرتبات المدرسين. كان قانون 1898 قد نص على جعل المرتبات السنوية هكذا: 600،.900، 1200 فرنك. أي أن هناك ثلاث طبقات من المدرسين. ولكن منذ 1906 أخذ المفتشون يوصون برفع هذه المرتبات لأنها غير كافية لمعيشة المدرس وعائلته. فأوصى ألفريد بيل سنة 1905، بأن يكون المدرسون على خمس طبقات ولكل طبقة أو صنف مرتبه السنوي هكذا: 900، 1200، 1500، 1800، 2100 فرنك. وأكد السيد ويليام مارسيه W.Marcais ذلك في تقرير 1908، وقال ان كل ¬

_ (¬1) آثار ابن باديس، 4/ 234، حسن بولحبال هو الأديب الذي ورد شعره في كتاب (شعراء الجزائر) للسنوسي. وترجمته كذلك فيه. وقد تولى عدة وظائف قضائية ودينية.

المدرسين الذين فتشهم كانوا يطالبون بزيادة المرتبات. وأبدى رأيه أن 955 فرنك لا تكفي، وأن خريجي المدارس الشرعية - الفرنسية لا يرغبون في وظيفة مدرس لضالة دخلها. واقترح ألفريد بيل أن يدفع للمدرسين من ميزانية الجزائر المخصصة للتعليم الأهلي العام وليس من ميزانية الديانة الإسلامية كما هو الشأن عندئذ. وجاء في تقرير آخر أن المدرسين كانوا موضوعين تحت سلطة المفتي باعتبارهم موظفين دينيين (رجال الدين) وأن وضعهم بهذه الصفة سيزداد سؤا إذا طبق عليهم مبدأ فصل الدين عن الدولة (¬1). ولاحظ ألفريد بيل أيضا أن المدرسين في الحقيقة موظفون في التعليم العام وأن تعليمهم غير ديني (¬2)، وهذا مهم لموضوعنا. وبناء على هذه التوصيات صدر قرار من الحاكم العام يخرج المدرسين من موظفين في التعليم الديني - الشريعة - إلى موظفين في (خدمة التعليم الإسلامي العالي)، وذلك في 11 غشت 1910. واستجابة لتوصيات المفتشين أيضا أصدر الحاكم العام بتاريخ 18 فبراير 1914 قرارا بتصنيف المدرسين إلى ثلاث طبقات، وجعل مرتبات كل طبقة على النحو التالي: الأولى راتبها السنوي 1800 فرنك، والثانية 1500 ف، والثالثة 1200 ف. ويبدو أن هذه الترقية جاءت بعد اقتراح ألفريد بيل الذي أوصى بفصل المدرسين عن موظفي الشريعة ثم ترقيتهم. وقد عرفنا أن مجموع هيئة تدريس المساجد على النحو المذكور لا تتجاوز الثلاثين منصبا: عشرة في أقليم الجزائر، وعشرة في أقليم قسنطينة، وثمانية في أقليم وهران. ولكن زيد عليها بالتدرج بعض المناصب التي لم تتجاوز العشرة في كل الأقاليم. منها مازونة وجيرفيل في الغرب، وبوسعادة والأغواط في الوسط، وقالمة وتبسة في الشرق. ¬

_ (¬1) هذا المبدأ طبق في فرنسا سنة 1905، وطبق في الجزائر على غير الدين الإصلامي فقط منذ 1907. (¬2) سيحاول المفتشون تجريد هذا التعليم من محتواه الديني، رغم أن معظم المدرسين - سيما التقليديون - كانوا يفهمون العكس.

إن دور المدرسين لم يعد هو نشر الثقافة الإسلامية وإحياء التراث، كما فهمه المدرسون الأوائل، أمثال حمدان الونيسي في قسنطينة، ومحمد خمار في بسكرة.، والدايجي في معسكر، الخ. ولكن دورهم أصبح هو تعليم التلاميذ الأهالي النحو والأدب العربي والفقه الإسلامي وإعداد المترشحين لوظيفة مدرسين، حسب تعبير الكاتب العام للشؤون الأهلية في الحكومة العامة (¬1). والواقع أن هذا الدور قد تقلص أيضا. فقد رأينا أن المفتشين كانوا يوجهون المدرسين إلى إعداد التلاميذ لدخول المدارس الشرعية - الفرنسية وليس لتعليم الأهالي النحو والأدب العربي والدين الإسلامي. وقد انتزعت عن المدرسين الصفة الدينية لا من حيث القانون الوظيفي فقط، ولكن من حيث المواد والتوجيه. وقد صدق وصف ألفريد بيل لهم بأنهم وسطاء بين معلمي التعليم الفرنسي - العربي في المدارس الابتدائية والتعليم العالي الذي تمنحه المدارس الشرعية - الفرنسية الثلاث أيضا (¬2). وقد دكرنا أن البرنامج أصبح موحدا. ولكن قبل ذلك شغل أمره الفرنسيين طويلا. فدروس المساجد قبل 1898 كانت محصورة في الفقه والتوحيد وموجهة للعامة، وكانت تحت رقابة مشددة، وبعد إفساح المجال لدروس أخرى في الأدب والنحو والحساب، خرجت بعض الدروس من المساجد إلى المدارس أو الحجرات المجاورة. وبقيت أحيانا أخرى في المساجد نفسها. وكانت الكتب المختارة غير مقررة ولا موحدة، وكان هناك مجال للاجتهاد الشخصي الذي لا يرغب فيه الفرنسيون، واعتبروا ذلك فوضى. ومن ثمة وحدوا البرنامج وحددوا الكتب لكل مادة. وكذلك حددوا الساعات الأسبوعية، والدروس الاختيارية والإجبارية، وأنشأوا دورة تفتيش سنوية، وصدر بذلك قرار من الحاكم العام على الجميع تنفيذه. وكان الشبح الذي وراء كل ذلك هو دومينيك لوسياني مدير الشؤون الأهلية عندئذ. ومنذ ¬

_ (¬1) أرشيف إيكس، رقم 47 H 14. (¬2) مدرسة العاصمة فقط هي التي كان فيها المستوى العالي.

1907 اقترح بعص المفتشين أن لا يحتكر المسجد هذه الدروس، وقالوا أنه يمكن إخراجها إلى قسم (فصل) في إحدى المدارس الابتدائية الفرنسية. ومن هنا بدأ الخلط ثم استمر. وقد أنشئت مكتبة عربية للمدرسين يرجعون إليها لتحضير دروسهم في كل مركز، وهو شيء جيد، ولكن هذه الكتب كانت مراقبة، وكانت تأتي عن طريق الشراء أو التبرع أو الهدية من السلطات الفرنسية نفسها. وكان بعضها من تأليف أو ترجمة المستشرقين أنفسهم. ويمكن للتلاميذ أيضا الاستفادة من هذه المكتبات. وقد أخذ المفتشون يوجهون تعليم المساجد نحو العصرنة، مطبقين قواعد المدرسة الفرنسية، كاستعمال المدرس للسبورة، والاحتفاظ بدفتر الحضور، وتدوين المذكرات من قبل التلاميذ، ومراعاة هيئة المدرس، وتأثيره في التلاميذ والمحيط، ولغته وصوته الخ. وأبرز المقاييس التي كان المفتشون يطبقونها على المدرس هي نوعية التلاميذ: من أهل البلاد أو من خارجها، ويتكلمون الفرنسية أو لا يتكلمونها، ومن أطفال المدارس الابتدائية الفرنسية أو من عامة الناس، وكم يترشح منهم لدخول المدرسة الشرعية الفرنسية. وليس المهم النجاح في هذا الاختيار ولكن المهم هو المشاركة والاتجاه. ويضاف إلى هذه المقاييس كون المدرس متعاونا مع السلطات المحلية أو منعزلا عنها أو متجافيا. وبالنسبة لإحصاء التلاميذ، ذكرنا نمادج منهم فيما مضى عند كل مدرس حسب تقارير التفتيش. ونذكر الآن نموذجا خاصا بتلاميذ ولاية الشرق (قسنطينة). وبناء على تقرير 1907 الذي كتبه شارل سان كالبر حول المراكز التسعة التي زارها (باستثناء العين البيضاء) كان مجموع التلاميذ 195 مسجلا، وهذا لا يعني استمرار حضورهم جميعا. وهم موزعون على قسنطينة (مسجدان)، وعنابة وسطيف وبجاية ووادي الزناتي، وميلة، وبسكرة والمسيلة: أعلاها 27 مسجلا في ميلة وأدناها 17 في الجامع الكبير بقسنطينة. وقد لاحظ صاحب التقرير أن النسبة تبدو مرتفعة ولكنها غير كافية، خصوصا وأنه لا يوجد من بين المسجلين سوى 25 مستمعا (من 190)

يعرفون الفرنسية قليلا، وحوالي عشرة فقط كانوا يرغبون في الترشح للمدرسة الشرعية - الفرنسية. وهذا في الواقع يعطينا فكرة واضحة عن هدف الناس من التعليم وهدف الإدارة منه. وهما هدفان متباعدان كما يبدو. فهل الأهالي ما يزالون يقاطعون المدرسة الفرنسية كما كانوا سنة 1830؟ وهل هم لا يقبلون إلا على تعليم عربي إسلامي على أيدي أبنائهم، كما حدث مع ظهور حركة التعليم على أيدي المصلحين؟ ومما جاء في تقرير المفتش سان كالبر أيضا أن بعض الدروس لا يحضرها تلاميذ المدارس الابتدائية على الإطلاق، كما لا يحضرها موظفو المساجد مما هو مخالف، حسب قوله، لقرار 14 نوفمبر 1900 (¬1). أما إحصاءات السنوات التالية، فقد أظهرت زيادة المسجلين، ولكن نلاحظ أن ذلك لا يعني متابعة الدروس بصفة دائمة. وقد أضيف إلى المراكز المذكورة مركز الخنقة وطولقة وسيدي عقبة أيضا (¬2). والإحصاء هو: 1907 - 1908= 258 تلميذا مسجلا بين كبار وصغار. 1908 - 1909= 266 تلميذا مسجلا بين كبار وصغار. 1909 - 1910 = 275 تلميذا مسجلا بين كبار وصغار. 1912 - 1913= 302 تلميذا مسجلا بين كبار وصغار. 1917 - 1918 = 222 تلميذا مسجلا بين كبار وصغار. ويرجع الانخفاض حسب المفتش خلال هذه السنة إلى ذهاب الشباب للحرب بمقتضى التجنيد الإجباري الصادر سنة 1912، وكذلك بعض الأساتذة المدرسين (¬3). وأعلى نسبة حضور سنة 1910 كانت في الجامع ¬

_ (¬1) تقرير سان كالبر، سنة 1907 (16 إبريل)، مرجع سابق. (¬2) انشئ مركز طولقة سنة 1892 وكان شيخه هو الحاج علي بن عثمان (توفي 1896)، وهذا في الواقع هو شيخ الزاوية الرحمانية هناك. ولم نجد عنه تقريرا من قبل المفتشين. كما أنشئ سنة 1903 مركز سيدي عقبة وكان مدرسه هو البشير بن الصادق بن إبراهيم الذي لم نجد عنه تقريرا لأحد المفتشين أيضا. (¬3) تقرير سان كالبر خلال السنوات المذكورة، مرجع سابق.

الكبير بقسنطينة (62 تلميذا)، وأدناها في بجاية ووادي الزناتي (16 تلميذا) في كل منهما. أما إقليم الجزائر فكان الإحصاء فيه مشابها في نفس الفترة وأكثر تفصيلا بالنسبة لدروس العامة ودروس الخاصة أو الكبار والصغار. في تقرير كتبه ديستان، مدير مدرسة الجزائر أن عدد التلاميذ في الدروس الخاصة (تلاميذ المدارس الابتدائية أو الراغبين في الترشح للمدرسة الشرعية - الفرنسية): 137، وعدد حضور الدروس العامة (في المساجد - مادة الفقه والتوحيد): 166، فالجملة 303، وذلك سنة 9111 - 1912. أما سنة 1910 - 1911 فالعدد كان أقل من ذلك وهو 298، وهو غير مفصل بين العام والخاص (¬1). والطبقات الثلاث التي كان عليها مدرسو أقليم الجزائر منذ فاتح سنة 1915 حين صدرت المرتبات الجديدة وفصل فيها المدرسون عن ميزانية الشريعة وألحقوا بميزانية التعليم الأهلي العام، هي: 1 - الطبقة الأولى: ومرتبها 1800 ف سنويا: الاسم ... الجامع ... ملاحظات محمدمصطفى باشا ... جامع سيدي رمضان ... لايذكر كثيرا، وجاء في تقرير سنة 1907 أن له ثلاثة تلاميذ فقط. اقتراح والي مدينة الجزائر استعماله في مهمة أخرى). محمد الكمال (خوجة) ... جامع صفر ¬

_ (¬1) تقرير ديستان، سنوات 1910، 1911، 1912، مرجع سابق. وعن الميزانية وتوجيه التعليم وتصنيف المدرسين انظر تقارير ألفريد بيل 1907، 1910 مرجع سابق. وكذلك ألفريد بيل (مؤتمر ...) مرجع سابق، ص 215. وتقرير ويليام مارسيه، سنة 1908، مرجع سابق، وتقرير سان كالبر، 1910، 1914، مرجع سابق، وتقرير والي الجزائر إلى الحاكم العام، سنة 1907 (12 سبتمبر)، 47 H 14 أرشيف أيكس.

بلقاسم الحفناوي ... الجامع الكبير عبد الحليم بن سماية ... الجامع الجديد محمد أرزقي بن ناصر ... الجامع الكبير أيضا ... (غير معروف كثيرا بين علماء الوقت). 2 - الطبقة الثانية: ومرتبها 1500 ف. سنويا: الاسم ... الجامع ... ملاحظات ابن عودة الشريف ... جامع مليانة محمد الحسيني ... جامع المدية ... (ظل 27 سنة في الخدمة، سنة 1915). عبد القادر بن الحاج ... جامع بوسعادة بومزراق الونوغي ... جامع أم السنام/ الأصنام (في هذه السنة 1915، ذهب إلى باريس، انظر عنه سابقا). حمودحمدان ... جامع شرشال 3 - الطبقة الثالثة: ومرتبها 1200 ف. سنويا: الاسم ... الجامع ... ملاحظات قلال ... جامع البليدة مطاهري ... جامع تيزي وزو ... (كان مترجما في القبائلية بالمجلس الحربي بمدينة الجزائر، استدعي للخدمة العسكرية 1915) (¬1). ونعتقد أن هذا التصنيف للأساتذة المدرسين قد جرى أيضا بالنسبة لإقليمي وهران وقسنطينة، ولكننا لا نملك حاليا وثيقة كهذه حول الإقليمين. ... هذه هي دروس المساجد التي نملك عنها وثائق. ولا شك أن هناك مراكز أخرى للتدريس أنشئت بعد الفترة التي كنا نعالجها أو أنشئت ولم تغط بالتقارير والملاحظات، مثل جيريفيل، وطولقة وسيدي عقبة والأغواط. والمعلوم أن دروس المساجد غير الرسمية لم تنقطع أيضا. سيما في الفترة ¬

_ (¬1) تقرير سان كالبر سنة 1915 مرجع سابق.

التي نتناولها. وقد ظهر المدرسون المتطوعون، وهم الذين كانوا يقومون بالتدريس للعامة بعد أخذ رخصة إدارية من السلطات المحلية، ولكنهم لا يأخذون أجرا على ذلك. ومنذ عهد الحاكم جونار تغاضت السلطات عن هذا النشاط. فاغتنمه بعض المدرسين أصحاب الضمائر الحية الذين وجدوا في ذلك فرصة لنشر العلم بالمفهوم التقليدي العام. وفي هؤلاء من كان عالما بفنون اللغة والفقه، وفيهم المتوسط. ولكن حماسهم وغيرتهم جعلتهم منافسين للمدرسين الرسميين أصحاب الأجور والتسميات. ولعل الناس كانوا يقبلون على المتطوعين أكثر مما يقبلون على الرسميين لارتباطات هؤلاء، في نظرهم، بالإدارة المستعمرة. وقبل أن نتحدث عن المدرسين المتطوعين أو الأحرار الذين ظهروا بالخصوص مع الحركة الإصلاحية، نذكر أن هناك مدرسين كانوا يجمعون بين التدريس ووظائف أخرى كالقضاء، ومنهم من عمر المسجد كموظف رسمي. ونعني بذلك المناطق الصحراوية بالخصوص. وكان الجنوب عامرا بالزوايا لم ينقطع منها العلم والعلماء، كما لاحظ ذلك بعض الرحالة مثل الشيخ محمد بيرم الخامس في القرن الماضي. وكانوا يقصدون الأماكن البعيدة لتحصيله، مثل تونس بالنسبة للجنوب الشرقي والمغرب الأقصى بالنسبة للجنوب الغربي. وكان بعضهم يصل حتى إلى مصر والحجاز. وفي الفترة التي نتحدث عنها كان الشيخ محمد بن يوسف أطفيش علما كبيرا في ناحية ميزاب (¬1). ومن جيله نجد الشيخ الحاج علي بن القيم المولود بقمار، سنة 1840. فهو بعد أن درس فيها وفي الزاوية العزوزية/ الرحمانية بنفطة، أدى فريضة الحج وجاور فترة بمكة، ثم رجع إلى مسقط رأسه، وتطوع للتدريس هناك، وكان درسه للعامة ولبعض الطلبة الذين لهم إلمام بالمعارف ويريدون المزيد. وكان الشيخ علي بن القيم (¬2) يتنقل بين جهات القطر الجزائري أيضا، وينسخ الكتب، ولعله كان يعيش من هذه الصنعة، فكان ¬

_ (¬1) انظر عنه لاحقا. (¬2) انظر عنه فصل المنشآت الثقافية.

يقصد الزوايا الشهيرة وبعض أعيان البلاد، وهم يهدونه الكتب، وفيهم من كان يحبسها عليه. ولا بد من الإشارة إلى دور المولود الزريبي الذي انتصب للتدريس في مسقط رأسه (زريبة الوادي) بعد رجوعه من الأزهر (¬1). ويمكن ذكر العديد من المدرسين المتطوعين في الجنوب مثل توات وميزاب وتقرت والوادي. ومنهم الشيخ محمد بن الأزعر الذي تطوع للتدريس في قمار رغم العراقيل التي وضعت في طريقه، وقد صبر فترة ثم هاجر إلى الحجاز. وقد عرفت تقرت دروس الشيخ الطاهر العبيدي، كما عرفت الوادي دروس أخيه أحمد العبيدي (¬2). ¬

_ (¬1) تناولناه في فصل لاحق بتفصيل واف. وكتبنا عنه بحثا مستقلا دفعناه إلى إحدى المجلات. (¬2) عن الطاهر العبيدي انظر كتابنا (تجارب في الأدب والرحلة) ولا سيما فصل (مراسلة غريبة بين ابن باديس وأحد علماء سوف).

الفصل الثاني التعليم في الزوايا والمدارس الحرة

الفصل الثاني التعليم في الزوايا والمدارس الحرة

نتناول في هذا الفصل نقطتين هامتين هما التعليم في الزوايا والتعليم في المدارس الحرة. وبعد الحديث عن الزوايا التعليمية عموما ودورها خلال العهد الذي ندرسه نفصل الحديث عن الزوايا حسب الجهات، وقد ركزنا على جهتين: منطقة زواوة ومنطقة الجنوب. وهذا ليس حسب مخطط اتخذناه لأنفسنا ولكنه نتيجة البحث الذي قمنا به. فقد اختفت بالتدرج الزوايا التعليمية في المدن الرئيسية. وحلت محلها المدارس الفرنسية والمدارس الرسمية الثلاث، وكذلك حل فيها رجال الدين (الديانة) الرسميين كموظفين في المساجد التي تشرف عليها الإدارة، وكان بعضهم يلقي دروسا في الفقه والتوحيد للعامة، وهي دروس جامدة وفارغة من أي محتوى سياسي أو اجتماعي. ومن جهة أخرى عانت الزوايا في المدن من اغتصاب الأوقاف كما ستعرف في فصل المعالم الإسلامية، فاستولى الفرنسيون على بناياتها وحولوها عن أغراضها وهدموا أغلبها. وهكذا لم تبق إلا زوايا الريف، وبالخصوص في زواوة والجنوب، كما ذكرنا. والمعروف أن الاحتلال قد بدأ بالمدن وانتهى بهذه الأماكن النائية، فلم يقع احتلال زواوة والجنوب إلا في الخمسينات من القرن الماضي. صحيح أن الاستيلاء على الأوقاف قد وقع في هذه الأماكن أيضا، كما أن بعضها قد هدم نتيجة ثورات لاحقة (مثلا 1871). ولكن بعض الزوايا عرفت كيف تواصل مسيرتها رغم التضييق عليها ماليا وتربويا حتى أصبحت محاصرة. كما أن بعض الزوايا التعليمية قد ولدت في العهد الاستعماري نفسه مثل زاوية الهامل وزاوية عميش. أما النقطة الثانية فهي المدارس الحرة. ونعني بها الانطلاقة التي بدأت بمعهد بني يسقن في ميزاب على عهد الشيخ أطفيش والتي تقمصتها مدرسة

التعليم في الزوايا

تبسة على عهد عباس بن حمانة. ثم شقت طريقها منذ الحرب العالمية الأولى. والمدارس الحرة هي تلك التي حاول أصحابها أن يطوروا بها المدارس القرآنية (الكتاتيب) القديمة، فبدل المسيد أو الكتاب الملحق بالجامع والذي بقي مقتصرا على تحفيظ القرآن ومبادئ القراءة والكتابة، ولدت المدرسة العصرية ذات الأقسام والإدارة والبرنامج المدرسي المتكامل في مراحله والتي تخرج تلاميذ بشهادات تسمح لهم بممارسة بعض المهن أو متابعة الدراسة الثانوية والعالية. ورغم المحاولات الرائدة في هذا المجال على يد رواد مثل ابن حمانة ومصطفى حافظ ورجال مدرسة الشبيبة، فإن التجربة قد نجحت على يد ابن باديس وجمعية العلماء التي وسعت من دائرة هذا التعليم الحر أو الحديث وتبنته باسم الشعب الذي ساهم فيه بحماس كبير بعد أن رأى النتائج الإيجابية التي نافست نتائج المدرسة الفرنسية، بل فاقتها في التكوين الوطني والإسلامي. وبالإضافة إلى ذلك تحدثنا في هذا الفصل عن معاهد أخرى مثل معهد ابن باديس ومعهد ابن الحملاوي ومعهد الحياة. وكذلك عن نقد برامج تعليم الزوايا وتعاليق لبعض الفرنسيين عن برنامج المدارس الحرة. التعليم في الزوايا تناولنا تعريف الزاوية في فصل الطرق الصوفية. وقد عرفنا أنها أصلا كانت رباطا للجهاد، ثم تطورت إلى مركز للتعليم والعبادة، وأخيرا أصبحت مقاما ثم ضريحا ومزارا لأحد المرابطين (من الرباط للجهاد إلى الرباط للعلم والعبادة). ولكن هذا المفهوم تطور أيضا حتى أصبح يدل في الزمن القريب منا على مقر الشيخ حامل البركة والمتصوف الذي ليس له علاقة بالجهاد ولا بالتعليم والعبادة، وإنما له علاقة بإعطاء الأوراد والإجازات واستقبال المريدين والمقدمين والإخوان وحاملي (الزيارات) أو التبرعات. وقد لصق بهذا المفهوم للزاوية ممارسة الحضرة والدروشة واستغلال جهل العامة. ثم أصبحت الزاوية علما على الخرافة والتجهيل والظلامية والاستغلال. وقد

لخص بعضهم نسبة الزوايا فقال أنها قد تنسب إلى مكان معين أو إلى مرابط أو إلى طريقة صوفية (¬1). وفي الفترة التي ندرسها عرفت الجزائر المرحتلين الأخيرتين من تطور الزاوية: فهي إما مركز لأحد مشاهير المرابطين مثل الشيخ محمد بن أبي القاسم الهاملي والشيخ محمد الموسوم، وفي هذه الحالة كانت الزاوية مركزا للتعليم والعبادة، وإما مركز للحضرة والزردات وممارسات البدع، مثل زوايا بعض شيوخ العيساوية والحنصالية والعمارية. ويهمنا في هذه الفقرة النوع الذي اهتم بالتعليم والعبادة. وقد صدق من عرف الزاوية بأنها مؤسسة شاملة، فهي مسجد للعبادة ومدرسة للتعليم، وملجأ للهاربين، ومأوى للغرباء، ومركز للفقراء. ومن جهة أخرى قلنا أن هناك فرقا بين تطور الزاوية في المدن وتطورها في الأرياف أو البادية. ففي المدن فقدت الزوايا تأثيرها بعد الاحتلال لوضع المحتلين أيديهم على المصادر المالية كالأوقاف، وهدم العديد من الزوايا وتعطيل غيرها بالبيع والاستغلال كجعلها ثكنة أو مخزنا. وقد ذكرنا في فصل المعالم الإسلامية نماذج للزوايا التي آل أمرها إلى الهدم والتحويل عن المقصود. ومن ذلك زاوية القشاش، وزاوية الجامع الكبير، وزاوية الشرفة، وزاوية الأندلس، الخ. وهي زوايا كانت للتعليم وإقامة الطلبة الغرباء والعلماء، وكانت تضم الكتب لفائدة المتعلمين. أما زوايا الأرياف والبادية فقد عرفت عدة مراحل في العهد الذي ندرسه. كانت في المرحلة الأولى قد عادت إلى تاريخها القديم، رباطات للجهاد وتجنيد المجاهدين ضد العدو. وكان ذلك في عدة نواح من الوطن، سيما الناحية الغربية، إلى حوالي 1850. ثم قامت زوايا أخرى بنفس الدور في الجنوب وفي زواوة خلال الخمسينات والسبعينات. وفي ¬

_ (¬1) حول تعريف الزاوية بشيء من التفصيل انظر ديبون وكوبولاني (الطرق الدينية الإسلامية)، الجزائر 1897، ص 206.

الستينات كانت منطقة الأوراس أيضا تشهد الانتفاضات المتواصلة. أما منذ 1880 فقد عرفت الصحراء الجنوبية انتفاضات أخرى في الشعانبة. سيما حركة المدقانات، ثم الهقار. فالزوايا من هذه الناحية قامت بدور جعلها تسترد قيمتها التاريخية. وإلى جانب هذه الزوايا النافخة في روح الجهاد كانت أخرى تواصل رسالة التعليم بالوسائل التي عندها بعد أن أصبحت محاصرة. كما ظهرت زوايا جديدة للتعليم فقط في طولقة، وزواوة والهامل وقصر البخاري وأولاد جلال، وأولاد الأكراد والوادي. ونريد أن نذكر هنا أيضا أن الزوايا التعليمية القريبة من العاصمة وغيرها من المدن قد تأثرت بالاحتلال مبكرا. ومن ذلك زاوية قرومة بالأخضرية، وزاوية البراكنة في شرشال، وزاوية القيطنة في معسكر، وزاوية مجاجة في الشلف. هذا أثناء المرحلة الأولى، أما خلال المرحلة الثانية (منذ الخمسينات تقريبا) فقد تأثرت زوايا الأرياف أيضا عندما تدخلت السلطات الفرنسية لمحاولة فرض رقابتها على التعليم والنشاط السياسي والاجتماعي في الزوايا. ومن ذلك زاوية شلاطة (زواوة) وزاوية علي بن عمر (طولقة) الخ. وفي المرحلة الثالثة وقعت السيطرة التامة على الزوايا التقليدية، وكان ذلك منذ الثمانينات تقريبا. فدجن عدد من المرابطين بالزواج المختلط والتوظيف في القضاء والإدارة، وهوجمت بعض الطرق الصوفية كالرحمانية والسنوسية، وحدد لبعضها مجال نشاطها، وهو ممارسات البدع والخرافات فقط وترك التعليم كالعيساوية والعمارية، وأصبح من يرغب في إعطاء درس عليه أن يستأذن السلطة الفرنسية التي لا تسمح له، إذا سمحت، إلا بعد تحقيق وتدقيق مكثفين. كما أن تعليم الزوايا على العموم حورب وحوصر بالمدرسة الفرنسية. منذ الاحتلال حاول الفرنسيون جر الجزائريين إلى إدخال أبنائهم في مدارس فرنسية في المدن أولا. وفي المرحلة الثانية أنشاوا ثلاث مدارس إقليمية (هي

التي أسميناها الشرعية - الفرنسية)، لتمتص التلاميذ الذين كانوا من قبل يتوجهون إلى الزوايا الريفية وإلى المرابطين للتعلم، أو يقصدون المعاهد الإسلامية خارج الجزائر. أما خلال المرحلة الثالثة فإن الفرنسيين، قد أنشأوا المدرسة الابتدائية الفرنسية بجوار الزوايا، وضيقوا - كما قلنا - على هذه الزوايا مجال النشاط، وفتحوا مع قادتها باب التدجين والتوظيف. وهكذا حوربت الزوايا على عدة جبهات: 1 - الأولى هدم بعضها ومصادرة أملاكها وأملاك الباقيات منها، وضم مداخيلها إلى أملاك الدولة الفرنسية، في المدن أولا ثم في الأرياف لاحقا. 2 - الثانية إنشاء المدارس الفرنسية الابتدائية في المدن ثم الأرياف لسحب التلاميذ من الزوايا ونشر التأثير الفرنسي آزاءها. 3 - الثالثة محاربة كبار المرابطين واستدراجهم بالوظائف والزواج المختلط، وتشجيع الدروشة والتدجيل بدل التعليم. 4 - وأخيرا منع الزوايا من نشر التعليم العام وفرض برنامج ضيق عليها لا يتعدى تحفيظ القرآن الكريم دون تفسيره أو تعليم قواعد اللغة وأصول الدين دون فهم. وفي إحصاء يرجع إلى سنة 1851 جاء أن عدد تلاميذ الزوايا في الأرياف كان 8.347 متعلما، وعدد الزوايا 593 زاوية (¬1). وكان برنامجها هو تعليم الفقه والنحو والتاريخ الإسلامي والأدب، الخ. ويدخلها التلاميذ الذين أنهوا المرحلة الأولى فحفظوا القرآن الكريم، وتعلموا القراءة والكتابة وبعض الحساب والمتون. ويتحدث تقرير آخر يرجع إلى سنة 1840 عن الزوايا الريفية فيقول: في كل قبيلة أماكن مخصصة للتعليم وتكوين الطلبة، وهذه الأماكن مبنية دائما تقريبا قرب زاوية أحد المرابطين الذي اشتهر بورعه وتقاه، سواء كان ¬

_ (¬1) ب. دي بوليري Boulery المجلة الشرقية والجزائرية، عدد 3، 1853، ص 60.

حيا أو بإشراف أولاده وحفدته. ومدة الدراسة في الزاوية غير محددة، والدروس مجانية، ويعيش الطلبة والمدرسون من تبرعات القبائل المجاورة، وأحيانا يعيشون من مداخيل خاصة بالزاوية (أحباس) ترجع إلى عهود قديمة قدمها إليها أعيان الأهالي الأتقياء والمحسنون. ولا يحمل طلبة الزوايا ولا شيوخها السلاح أو يشاركوا في الحروب بين القبائل. إن دورهم هو التهدئة والإصلاح، والزاوية مكان مقدس للجميع (¬1). ويقوم بالتعليم عادة أحد ورثة المرابط من عائلته. وهو يقوم بوظيفة مدرس، دون أن يكون مسمى من الحكومة مثل مدرس المسجد في المدينة (¬2). وكانت عائلات المرابطين حريصة على عدم ترك التعليم والتدريس يتدهور لأن ذلك يضر بسمعتها فتفقد المال الذي يتبرع به المحسنون إليها، كما تفقد تأثيرها. وكان حكام الأقاليم في الماضي يطلبون دعم المرابطين في مشاريعهم في مقابل الإعفاء من الضرائب، وقد لجأ الفرنسيون إلى هذه الوسيلة أيضا في عهود مختلفة. وقد شعر الفرنسيون بالخطر الذي أحدثه هدم زوايا المدن وتعطيلها، فقرروا تعويضها بإنشاء المدارس الإقليمية الثلاث. كما ذكرنا. يقول أحد التقارير: يجب العمل على ملء الفراغ الذي تركه (تهديم الزوايا تهديما يكاد يكون كاملا. لقد أدى ذلك إلى تعطيل كبير في الدراسات الفقهية) حتى أننا لم نجد من أين نوظف القضاة. وإذا لم نملأ نحن هذا الفراغ فسيأتي غيرنا ويقوم به كالدول المجاورة، فيأتي حينئذ من ينشر الفوضى والتعصب خارج رقابتنا، ¬

_ (¬1) السجل (طابلو)، سنة 1840، ص 377. (¬2) في 6 كتوبر 1852 نشر الحاكم العام (راندودن) منشورا حول شروط تولي المؤدب تحفيظ القرآن في الزاوية بهدف التخلص من المؤدبين الذين جاؤوا من تونس أو مراكش، فاشترط شهادة المجلس البلدي أو المكتب العربي، باعتبار أولئك المؤدبين خطرا على سياسة فرنسا في الأعراش. وقد وافق على ذلك وزير الحربية أيضا. ولم تعدل الشروط إلا بتاريخ 22/ 5/ 1877 (عهد شأنزي). انظر ديبون وكوبولاني (الطرق الدينية ...) مرجع سابق ص 208.

مستغلا جهل الناس). وقد رأى صاحب التقرير أنه من الأفضل إعادة تنظيم الزوايا بما يخدم المصلحة الفرنسية، وإعطاء التعليم العربي في المدن إلى معلمين مسلمين برهنوا على ولائهم. والمهم أن صاحب التقرير يعترف بأن الحكومة الفرنسية إنما أنشأت المدارس الشرعية الثلاث لملء ذلك الفراغ وتفادي الخطر الأجنبي ومحاصرة تعليم الزوايا. وبناء عليه فأنه يوجد بالبادية 8.092 متعلما في المرحلة المتوسطة والثانوية، و 427 مركزا أو زاوية (¬1). وقد ذكرنا أن هدف مرسوم 30 سبتمبر 1850 كان جعل الزوايا الريفية التي كان يسيطر عليها في نظر الفرنسيين، (معلمون متطرفون ومتعصبون، تحت تصرفنا بالتدرج) (¬2). وحين نتحدث عن الزوايا في منطقة زواوة سنعرف أن هناك نموذجا آخر للمؤسسة التعليمية، فقد كانت للزوايا هناك أراضي خاصة يحرثها الأهالي وتذهب محاصيلها إلى طلبة الزاوية، كما يدفع الأهالي عشر المحاصيل للزاوية. فالتعليم هناك مجاني، والطلبة كانوا يتناولون فيها طعامهم أيضا. وقد لاحظ البعض أن هذا النمط من الحياة هو الذي جعل العرب يهتمون بالحياة الفكرية أكثر من اهتمامهم بالأعمال اليدوية (¬3). ويذهب لوروي بوليو أن الزوايا توازي المدارس الثانوية في فرنسا في وقته. وقال أنها تدرس القرآن والتفسير والفقه والحديث، وأن القضاة المسلمين كانوا يتخرجون منها، ولكن الآن (الثمانينات) أصبحوا يتخرجون من المدارس الشرعية - الفرنسية في العاصمة وتلمسان وقسنطينة، التي أصبحت مهمتها تحضير الشبان العرب لوظائف القضاء الإسلامي (¬4). ¬

_ (¬1) السجل (طابلو)، سنة 1851 - 1852، ص 201. (¬2) زوزو، (نصوص)، مرجع سابق، ص 218. قارن ذلك بما جاء في مقالة بوليري، مرجع سابق. (¬3) زوزو (نصوص)، مرجع سابق، ص 205 عن تقرير يرجع إلى حوالي 1846. (¬4) بوليو BEAULIEU 1886، مرجع سابق، ص 151. يتحدث بوليو عن سبع زوايا (مدارس قرآنية؟) في العاصمة على عهده. وكانت تضم حوالي 390 تلميذا، ويدفع =

وفي المرحلة الثالثة حاول الفرنسيون أن يضعوا الزوايا تحت أنظارهم، كما أشرنا. فصدر مرسوم 18 أكتوبر 1892 فأدمج تعليم الزوايا في المدارس الابتدائية الفرنسية. وأخضعها للمراقبة وتفتيش السلطات الأكاديمية المدنية أو المحلية (العسكرية) مثلها في ذلك مثل المدارس الإقليمية الثلاث (الشرعية). وقد اشترط المرسوم أن يكون لكل زاوية سجل تسجل فيه أسماء التلاميذ وعائلاتهم ومحل إقامتهم وتاريخ ميلادهم ألخ. بنفس ما تفعل المدارس الفرنسية. ويعترف الفرنسيون أن الزاوية عند المسلمين عندئذ تعني المكان الذي تدرس فيه اللغة العربية والقراءة والكتابة ويحفظ فيه القرآن، ويتعلم فيه التاريخ والجغرافية والفقه والفلسفة والتوحيد. وإلى جانب كونها مدرسة فهي مأوى وملجأ ومستوصف، وهي ضريح المرابط أو شيخ الطريقة ودار الضياف ومجمع الأخوان (¬1). ورغم ما قد يبدو من مرسوم 18 أكتوبر 1892 من تسامح نحو الزوايا الباقية (وهو تسامح مقصود يدخل في سياسة كامبون نحن رجال الدين من جهة وسياسة فرنسا الإسلامية من جهة أخرى)، فإن كل الدلاثل تدل على أن الفرنسيين قد خططوا لعرقلة التعليم في الزوايا ومنافسته ووضع الشروط المضادة له وسحب التلاميذ منه وعدم التوظيف من خريجي الزوايا. وقد كانت النتيجة أن أعلن ألفريد بيل سنة 1908 قوله (يجب ألا ننزعج من تناقص التعليم في الزوايا، ذلك أن المدرسين الرسميين بالمساجد (التنظيم الجديد) قد حلوا محل معلميها كما حلت المدارس الابتدائية والتحضيرية الفرنسية ¬

_ = الأولياء بين فرنك وفرنك ونصف شهريا للمؤدب أو الشيخ. كما يتقاضى الشيخ 300 فرنك من الأحباس (الأوقاف)، ص 260. ولعل هذا الوصف يصدق على الكتاتيب وليس على الزوايا التي نحن بصدد الحديث عنها. (¬1) ديبون وكوبولاني، مرجع سابق، 206. ويقول المؤلفان أن القيود التي وضعها الحاكم العام شأنزي قد رفعها جول كامبون (1892) فاصبح لأصحاب الزوايا حرية التعليم بالشروط الجديدة فقط، وهي السجل وحفظ الصحة، والرخصة، الخ. انظر ص 209. والمقصود بالإخوان (اتباع) الزاوية والطريقة الصوفية.

محل المكاتب (المدارس القرآنية). إن الزوايا مآلها أن تصبح للعبادة فقط ولزيارة الغرباء والإخوان، وستختفي منها المدرسة الملحقة بها بحكم انقطاع التلاميذ عنها (¬1). وقد انتقد بيل تعليم الزوايا نقدا مرا، وكان على حق في بعض ما جاء به، ولكنه قد بالغ في ذلك لدرجة أنه خلط بين ربطه هذا التعليم بفكر المسلمين عامة، ونظام المدرسة الفرنسية. وهو يعلم أن ذلك كان مقصودا من مقنني النظام التربوي في الجزائر منذ الأربعينات من القرن الماضي. لقد انتقد بيل تعليم الزوايا بكونه تعليما دينيا غامضا، وتعليما صوفيا يعمل على الدمج في الله كما تدعو كتب التصوف، وهو يعني الحلول، وليس كل كتب التصوف ولا كل الطرق الصوفية تدعو إلى ذلك. وانتقد طريقة تدريس مختصر الشيخ خليل القائمة على الحفظ دون الفهم، كما يحفظ القرآن، واعتبر مختصر خليل نصا غامضا، وان المعلم نفسه لا يفهمه حتى بعد الرجوع إلى شراحه، وهو يقرأه مكسورا وملحونا لأن تعليمه في النحو لم يؤهله إلى فهم النصوص وإنما حفظ القواعد فقط. وحكم بيل بأن الدراسات النحوية تسقط تدريجيا في الجزائر لأن معرفة النحو أصبحت معرفة ضحلة. فأنت يمكن أن تكون أستاذا كبيرا، ولا تعرف تطبيق النحو. وذكر أن هناك فقهاء مشاهير وهم يلحنون عندما يقرأون نصا فقهيا، والفقيه يحفظ عدة كتب في الفقه ويفهمها فهما غامضا، ويكفيه ذلك أن يكون أستاذا في الفقه بالطريقة التي أخذه هو بها. وبيل هنا يعرض بدون شك بطبقة المدرسين الذين كان يفتشهم وبطبقة المفتين الذين عينتهم فرنسا. وقال إن دراسة النحو لا تخرج عن شرح متون الآجرومية والألفية. وعلى التلميذ أن يحفظ هذه المتون عن ظهر قلب، واعتبر بيل الأستاذ مسؤولا عن ذلك لأنه لا يمرنه ولا يطبق له الدرس (¬2). ¬

_ (¬1) ألفريد بيل، (مؤتمر)، مرجع سابق، 1908، ص 230. (¬2) نفس المصدر، ص 211. انظر أيضا مقالتنا عن المولود الزريبي. فآراؤه تكاد تكون متطابقة مع آراء بيل حول هذه النقطة (الثقافة النحوية للمعلمين).

والواقع أن المسؤول على ذلك هو نظام التعليم نفسه، وكان نظاما مقصودا كما عرفنا، لكي تصل الدراسات العربية - الإسلامية عامة إلى هذا المستوى في فاتح هذا القرن. والغريب أنه رغم هذا النقد اللاذع، والموضوعي في بعض وجوهه، دعا بيل حكومته إلى عدم التخلص من هذا النوع من التعليم، لأن الوقت لم يحن بعد للتخلص منه في رأيه. فهو يقول أن الحكومة متسامحة مع هذا التعليم الذي تعرف أنه لا يؤدي إلى اليقظة العقلية للجزائريين. فهو تعليم ليس في صالح المجتمع المسلم. واعتبر التعليم الإسلامي كله في الجزائر (من المسيد، إلى الشريعة، إلى الزاوية، إلى المسجد) تعليما دينيا (طقوسيا Confessionnelle، وهو بهذه الصفة لا يمكن أن يطور الأفكار وحرية الرأي عند التلميذ. فالتعليم في الزوايا (والجوامع) لا يعدو، في نظر بيل، أن يكون حفظا واستظهارا، وأن الدين فيه ليس سوى طقوس وأشكال بدون قيم (¬1). ومع ذلك، فإن ألفريد بيل لم يكن يعرف أسرار كل هذا التعليم الذي بقي يشكل أسلوبا من أساليب المقاومة في نظرنا أمام المحاصرة التي ذكرناها. فلم يكن أمام المعلمين ولا التلاميذ من طرق أخرى سوى الاستسلام للجهل أو الفرنسة. وقد أفلت بعضهم فأكمل تعليمه في البلدان المجاورة أو في مصر. ولم يكن بعض خريجي المدارس الشرعية الفرنسية ومدرسي المساجد الرسمية بأحسن حظا في التفكير والذكاء من زملائهم في الزوايا رغم تلقيهم العلم على أمثال ألفريد بيل من المستشرقين المهرة في أسلوب التعليم الحديث! ولماذا يا ترى لم يدع بيل إلى تطوير التعليم الإسلامي بدل الدعوة للقضاء عليه وإحلال التعليم الفرنسي مكانه؟!. وفي بداية هذا القرن كثر الحديث عن (إصلاح الزوايا) وجعل تعليمها يتماشى مع التطور المنهجي والنفسي. وشارك في ذلك الحديث الجزائريون والفرنسيون. كان المطالبون بإصلاحها يريدون المحافظة على اللغة العربية والتراث الإسلامي، وأما الذين لا يطالبون بإصلاحها فهم يريدون أن تبقى ¬

_ (¬1) ألفريد بيل (مؤتمر)، مرجع سابق، ص 211.

كذلك إلى أن تموت تلقائيا أو يعرض الناس عن التوجه إليها استغناء عنها بالمدرسة الفرنسية. وأثناء انعقاد مؤتمر المستشرقين الرابع عشر بالجزائر سنة 1905 رجع الحديث عن إصلاح الزوايا، فألقى المختار بن الحاج سعيد بحثا حول الموضوع وتمنى على الإدارة الفرنسية أن تنظمها تنظيما جديدا. وقد ساند الزعيم المصري محمد فريد الذي حضر المؤتمر دعوة زميله الجزائري للأصلاح وأخبر أن مصر قد أصلحت الكتاب (الزاوية) بعد تردد طويل، وأن التعليم فيه أصبح أوربيا تقريبا وأنه أعطى نتائج ممتازة. وتمنى أيضا على الإدارة الفرنسية في الجزائر أن تتبع طريقة مصر في هذا الإصلاح. ولكن الوفد الفرنسي في المؤتمر لم يرقه هذا الكلام. فتحدث السيد فوليه Vollers، وانتقد القرآن واللغة العربية بطريقة جرحت مشاعر المسلمين الحاضرين مما استوجب الرد عليه من طرف المختار بن الحاج سعيد ومن عبد العزيز جاويش عضو الوفد المصري. وقد تدخل السيد برودو Brudo من الوفد الفرنسي وانتقد رأي محمد فريد (في غيابه) وقال أن الأهالي (الجزائريين) لا يحتاجون اللغة العربية لأنهم يتكلمونها منذ طفولتهم، ولكنهم يحتاجون اللغة الفرنسية التي يجهلونها، وهي أكثر فائدة لهم (¬1). ومعنى ذلك هو الدعوة إلى إبقاء تعليم الزوايا على ما هو عليه وعدم إصلاحه لأن في إصلاحه تطويرا للغة العربية وبرنامجها. واستمرت الدعوة لإصلاح التعليم في الزوايا أو بالأحرى نقد تعليمها إلى أن ظهرت المدارس الحرة الحديثة على يد بعض الرواد الذين سنذكرهم. وهذا الشيخ أبو يعلي قد كتب في ذلك وهو في المشرق - خلال الحرب العالمية الأولى - وقارن بين المدة التي يقضيها الطفل في زاوية وفي مدرسة فرنسية فوجد أن التلميذ يخرج جاهلا من الأولى ومتعلما من الثانية، وأنه قد ¬

_ (¬1) انظر تفاصيل ذلك في ابن أبي شنب (المجلة الإفريقية)، 1905، ص 321. والسيد رودو كان الكاتب العام للرابطة الفرنسية في عنابة (Alliance Francaise). ولعلها منظمة ماسونية. ومن الذين ساهموا في هذا الموضوع محمد السعيد بن زكري في كتابه (أوضح الدلائل)، 1903. انظر لاحقا.

ضيع وقته في الأولى ولكنه استفاد من الثانية. واقترح مراحل للتعليم بين 7 - 12 سنة وبين هذه و 18 سنة. كما اقترح مجموعة من الكتب والبرامج، ولكن معظم الكتب المقترحة كانت هي المعروفة في المدارس التقليدية. أما المواد فهي لا تخرج عن التقليدية أيضا (نحو وصرف وفقه وتوحيد وبلاغة) ولكنه أضاف إليها مادة السياسة والجغرافية والتاريخ والإنشاء، وكذلك طالب الشيخ أبو يعلى بحسن إدارة التعليم في الزاوية على غرار إدارة المدرسة الفرنسية، وإدخال التفتيش والمراقبة التربوية (¬1). وسنجد اقتراح أبي يعلى في مدارس جمعية العلماء بعد حوالي عقدين. ولنتتبع الآن الزوايا التي لم تهدم ومواد تعليمها وأسلوبها، وسنعالج ذلك منطقة منطقة، حسب توفر المادة، مع ملاحظة أن الباقي من زوايا المدن لم يعد يؤدي دوره، ولذلك فاهتمامنا سيكون بزوايا الريف أو البادية، وهي غالبا قد انحصرت في منطقة زواوة ومنطقة الجنوب وبعض المراكز في النواحي الغربية والشرقية. - زوايا زواوة: اشتهرت هذه المنطقة بكثرة الزوايا التعليمية حتى وصلت عند البعض إلى 42 زاوية (¬2). وانتشرت الزوايا بالخصوص في سهل وادي بو مسعود (الصومام) وفي النواحي المجاورة. ولم يقتصر إنشاء الزوايا التعليمية على أهل الطرق الصوفية أو على المرابطين، كما قد يتبادر إلى الذهن، بل أن بعض الأعيان من الفئات الاجتماعية الأخرى أنشأت الزوايا أيضا لنشر العلم والمحافظة على الدين والقرآن. وقد لاحظ البعض أن الطريقة الرحمانية قد ¬

_ (¬1) أبو يعلى الزواوي (تاريخ الزواوة)، دمشق، 1924، ص 95 - 92. (¬2) من مراسلة مع الشيخ علي امقران السحنوني، 19/ 4/ 1980. وقد أرسل إلي ملفا فيه قوائم هذه الزوايا. وكذلك فعل الشيخ محمد الحسن عليلي الجنادي الذي زودني بدراسة وقوائم لزوايا منطقة زواوة، وقد رجعنا أيضا إلى هانوتو ولوترنو، وغير ذلك من المصادر. وأغتنم هذه الفرصة لأشكر الشيخين السحنوني والجنادي على مساعدتهما الثمينة.

نشرت بدورها هناك هذه الظاهرة، بعد الاحتلال الفرنسي، وكلما تقدم العدو نحو زواوة كلما كثر الأخوان وأقيمت الزوايا كحصون للعلم والجهاد. وهذا يذكرنا بدور الزوايا في الزمن القديم، والرباط هو أصلها، كما عرفنا. إن بعض الجاهلين قد اعتقدوا أن الزوايا في زواوة قد أنشأها المرابطون وهم من العرب. وأخذوا يوسعون في هذا القول ويبنون عليه استنتاجات باطلة، منها التبعيد بين المواطنين والمرابطين من جهة، وبين تعليم الزوايا وتعليم المدارس الفرنسية من جهة أخرى، ولو كان النقد بريئا لقبلناه لأن كل المجتمعات فيها ظاهرة الطبقية وتحديد العلاقات على أسس اقتصادية واجتماعية، وقد عرفت فرنسا نفسها هذه الطبقية حتى غصت بها، وعرفتها الشعوب المتحضرة كالإغريق والمصريين والرومان والهنود والصينيين. والجزائريون (ومنهم أهل زواوة) ليسوا بدعا في ذلك. وعلاقات المرابطين مع المواطنين كانت نمطا من العيش تقبله الجميع وعاش في ظله الجميع يكملون بعضهم البعض ولم يفرض بحروب ولا بطغيان واستبداد. وعندما أذن داعي التغيير استجاب له الجميع أيضا دون مقاومات ولا ثورات كالتي عرفتها الشعوب (المتحضرة). ومع ذلك فقد أثبت الباحثون الفرنسيون أنفسهم أن المرابطين لم يكونوا كلهم من (العرب)، بل كان أغلبهم من المستعربين البربر الذين أخذتهم الغيرة على الدين الإسلامي ولغة القرآن فانشأوا لذلك الزوايا ونظاما تعليميا دقيقا تعجز عنه في وقته بعض الوزارات في البلدان الأخرى. وهو نظام لم يكن فوق النقد طبعا في عصرنا الحاضر، كما سنرى. فهذا هانوتو ولوترنو توصلا إلى أن المرابطين كانوا من كل (الأعراق)، وتوصلا كذلك إلى أن منهم من كان تركي الأصل ومن كان زنجيا، ومن كان غير ذلك. وقد نفيا ما ادعاه الجنرال دوماس E.Dumas من أن أصل المرابطين في زواوة أندلسي، وكذلك ما ادعاه بعضهم من أن أصلهم من الأشراف، ونحن لا يهمنا الآن هذا كثيرا، لأن المواطنين الصالحين يعرفون الحقيقة دون الرجوع إلى الباحثين الفرنسيين ليدلوهم عن المرابطين ودورهم الإيجابي أو السلبي في

المنطقة. وسواء قلنا أنهم أصلا من الجزائر أو من الأندلس (وضمن الأندلسيين جزائريون كثيرون أيضا) أو من افريقية أو من الساقية الحمراء، فإن ذلك لا يجعلهم أجانب حلوا بين قوم آخرين في عصر الوحدة الإسلامية والاندماج الحضاري والعرقي. فالزوايا التعليمية حينئذ يجب النظر إليها على أنها مشروع اجتماعي جماعي اشترك فيه كل السكان وافتخروا به وساهموا في تمويله والسهر عليه، ثم وزعوا بينهم الأدوار، فكان هناك دور للجماعة (بالمعنى الإداري القديم) ودور لأهل القرية، ودور للمرابط وآخر للمعلم، ودور للأسرة، وهكذا. إنه مشروع حضاري بمعنى الكلمة. وقد شهد الباحثون الأجانب على أن سكان كل قرية كانوا يتنافسون على أن تكون زاويتهم أجمل الزوايا وأنظفها وأكثرها بياضا واتساعا، وكانوا يكرمون الضيوف ويطعمون الطلبة الغرباء بدون من ولا أذى، ويتبرعون للزوايا بسخاء دون جبر أو سلطة أو وعيد (¬1). تسمى الزاوية (معمرة) في منطقة زواوة. وهناك معمرات القرآن ومعمرات الفقه، كما سنذكر. ويرجع بعضها إلى تواريخ قديمة مثل زاوية اليلولي وزاوية ابن إدريس، وزاوية شلاطة وزاوية تيزي راشد. ويرجع بعضها إلى العهد الفرنسي فقط. ونحن هنا إنما نتكلم على الزوايا (المعمرات) التي اهتمت بالتعليم وليس بالتصوف وحده. زاوية شلاطة (آقبو): زاوية (معمرة) شلاطة اشتهرت أيضا باسم زاوية ابن علي الشريف، وزاوية آقبو. وهي من أقدم وأشهر الزوايا العلمية في المنطقة. وقد تحدثنا عنها في جزء سابق. ونشير فقط إلى أنها فقدت بالتدرج مكانتها العلمية في العهد الفرنسي، نظرا لقبول رئيسها عندئذ، محمد السعيد بن علي الشريف، الوظيف الرسمي من الفرنسيين، فقد قلده بوجو منصب باشاغا، وكان ما يزال شابا فوقع في غرام فرنسا، إذا صح التعبير. ونسي حقوق الزاوية وتاريخ أبيه ¬

_ (¬1) هانوتو ولوتورنو، (بلاد القبائل)، مرجع سابق، 18.

وجده، وكان وبالا على سمعة الزاوية والعلم، مهما قيل بأنه قد خدمها بقبوله الوظيف. وقد لعب أثناء عهده الطويل أدوارا مزدوجة، سيما أثناء ثورة 1871. وكان يمكنه أن يظل بعيدا عن السياسة، كما فعل بعض المرابطين المعاصرين له. كان ابن علي الشريف من رجال الزوايا الأوائل الذين تقلدوا الوظائف الرسمية مضحين بالدين والعلم. وقد أصبح مثلا لمن جاء بعده. ومع ذلك بقيت الزاوية تؤدي مهمة التعليم في العهد الفرنسي، وقد يقال أن وظيفة صاحبها قد حمت معلميها وطلابها من شر الإدارة الفرنسية، أحيانا. وقد درس فيها عدد من العلماء وعلى رأسهم الشيخ محمد البشير الإبراهيمي قبل هجرته إلى المشرق. وهناك مصادر عديدة تتحدث عن هذه الزاوية ومؤسسيها، من ذلك كتاب (طراز الخياطة) لمحمد العربي بن مصباح (¬1)، ودائرة معارف البستاني وتقويم الشيخ كحول، وتعريف الخلف لأبي القاسم الحفناوي، وفهرس الفهارس للكتاني، ومرابطون وإخوان للويس رين، وهانوتو ولوتورنو، وغير هؤلاء. وكان لها تأثير كبير في كل وادي الساحل (¬2)، ولا سيما أعراش ايلولا أوسامر، وشلاطة، وايغرام، وازلاقن، ثم عرش بني عيدل، وصدوق وعمالو، وبو حمزة وتموقرة، الخ. لم يستطع صاحب تعريف الخلف أن يكتب ترجمة وافية لابن علي الشريف رغم طلبه معلومات عنه من الزاوية نفسها، فاكتفى بما يعلم عنها من الناس ومن مراسلات والده مع الباشاغا محمد السعيد بن علي الشريف. فقال أن هذا من مواليد 1820 (1238) فيكون عمره عندما ولاه بوجو هذا المنصب (1844) حوالي 24 سنة. وقد استغل هذا الداهية الفرنسي سمعة الزاوية رغم أن الشاب في حد ذاته لم يقنعه منظره، على ما يبدو، وينسب الحفناوي هذه العائلة إلى الشرف، ومع ذلك يذكر الفرنسيون أن ابن علي ¬

_ (¬1) تحدثنا عن هذا الكتاب في الجزء الثاني من تاريخ الجزائر الثقافي. ويقول الشيخ علي امقران أن هذا الكتاب يوجد عند عائلة البشاغا ابن تونس القاطنة بسور الغزلان. (¬2) انظر لويس رين (المملكة الجزائرية في عهد آخر الدايات).

الشريف لم يستطع أن يثبت ذلك أثناء عملية تتعلق بالميراث (¬1)، ونحن لا يهمنا ذلك هنا، ولكنه يدل أيضا على أن المرابطين ليسوا كلهم دائما من الأشراف الذين يمكنهم إثبات النسب الحقيقي. استطونت عائلة ابن علي الشريف يلولة، وكان جده الأعلى هو الشريف سيدي موسى، ويقول الحفناوي أنه ينتهي إلى الشيخ عبد السلام بن مشيش الحسني، شيخ أبي الحسن الشاذلي مؤسس الطريقة الشاذلية. وبعد أن تزوج الشيخ الشريف سيدي موسى أسس زاوية بشلاطة وهي التي نتحدث عنها. وإذا كان لكل زاوية مادة علمية أو تخصص تشتهر به بين الناس، فإن زاوية شلاطة قد عرفت بالقرآن حفظا وقراءة وتفسيرا. توفي الشيخ (الباشاغا) ابن علي الشريف، سنة 1314 (1896) وخلفه في الوظيف الرسمي وفي الزاوية ابنه الشريف بن علي الشريف، ويستعمل الحفناوي عبارة الظاهر والباطن في ميراث ابن علي الشريف. وهو يعني بذلك الوظيفة الرسمية والبركة الصوفية. ولكننا لا نعتقد أن هناك (بركة) فيمن تولى للفرنسيين حركة، إنما هي الدنيا وما فيها والطموح وما يؤدي إليه، والجهل أنواع وطبقات. ويخبرنا الحفناوي أن الوريث (ابن علي الشريف) كان محترما عند الدولة الفرنسية وأنه كانت له محبة في العلماء والطلبة، وكان مهتما بعمارة زاوية آبائه، وهذا هو الذي يعنينا هنا، لأن الحفناوي كان يكتب أوائل هذا القرن (¬2). أما عبد الحي الكتاني فيقول عن زاوية شلاطة أنها كانت (أم الزوايا العلمية) وكانت مدرسة لعلوم الدين والفلك والحساب والنحو في زواوة ¬

_ (¬1) عن عائلة ابن علي الشريف انظر قوفيون (أعيان المغاربة، قسم الجزائر)، واعتاد قوفيون على إبراز الشخصيات التي خدمت فرنسا. انظر أيضا دراسة الزبير سيف الإسلام عن الصحافة فقد تعرض في كتابه (تاريخ الصحافة) إلى حياة ابن علي الشريف وإلى رحلته إلى فرنسا. وكذلك أحمد ساحي في كتابه عن علماء وأعيان زواوة. (¬2) الحفناوي (تعريف ...)، 2/ 544.

وغيرها. وعن مشائخ هذه الزاوية أخذ الكتاني بعض الأسانيد في الحديث وغيره، ومنهم محمد السعيد الزواوي المتوفى سنة 246 1 (1830) الذي يروى الكتاني عنه غالبا، بواسطة المكي بن عزوز ومحمد بن عبد الرحمن الديسي اللذين يرويان عن محمد بن بلقاسم الهاملي (زاوية الهامل). ومن شيوخ الديسي دحمان بن السنوسي بن الفضيل الديسي، الذي أخذ عن محمد بن السعيد الزواوي السند الفقهي، وكان الشيخ دحمان رجلا معمرا وكان مدرس زاوية الديس وعالمها، وعنه أخذ الشيخ محمد بن عبد الرحمن. وهكذا يتصل الشيخ الكتاني بعلماء زاوية شلاطة بطرق مختلفة (¬1). زوايا ثيزي راشد وابن إدريس واليلولي: ومن الزوايا القديمة التي كان لها دور رئيسي ثم انتهى بفعل التسلط الأجنبي، زاوية ثيزي راشد، وتسمى أيضا زاوية الشيخ الحسين بن أعراب. ولكن هذه الزاوية الهامة هدمت أثناء ثورة 1871، وبذلك فقدت أهميتها. وكانت من الزوايا التعليمية الشهيرة خلال العهد العئماني والعهد الفرنسي الأول. وقد تعرضنا إليها في غير هذا الجزء. وكان الشيخ ابن أعراب قد أسسها في قرية ايشرعيون (مكان الأربعاء بني راثن الحالي) من قبل، وهي من الزوايا التي ذكرها الشيخ الحسين الورتلاني في رحلته. والشيخ الحسين بن اعراب من أهل القرن الثاني عشر الهجري (18). وكان قد أخذ العلم في مسقط رأسه ثم رحل من أجله إلى مصر، فدرس على مشائخ منهم الخرشي شارح مختصر الشيخ خليل. ولذلك قيل أن الشيخ اعراب هو أول من أدخل شرح الخرشي إلى الجزائر واهتم بالدراسة الفقهية. وكان التلاميذ هناك يقرأون ويحفظون متن الشيخ خليل في السنة الأولى ثم المتن والشرح في السنة الثانية، ثم إعادة المتن والشرح في السنة الثالثة، ويسمى التلميذ في هذه السنة (معاود). وفي السنة الرابعة (مسبق) لأنه أصبح يدرس بدوره للطلبة. وهناك طقوس وممارسات خاصة بالزاوية لكي يتخرج ¬

_ (¬1) الكتاني، فهرس الفهارس، 2/ 1002.

منها التلميذ في هذا التخصص (¬1). وقد أخذ بطريقة الشيخ أعراب في تدريس الفقه محمد بن بلقاسم البوجليلي الذي سيرد الحديث عنه، ولكنه خالفها بعد ذلك اجتهادا منه. وممن أخذ عن ابن اعراب، محمد بن عبد الرحمن الأزهري، مؤسس الطريقة الرحمانية. وقيل أنه هو الذي وجهه للدراسة بمصر حيث أخذ (الأزهري) الطريقة الخلوتية. ومن تلاميذ الشيخ اعراب أيضا السيعد بن أبي داود مؤسس الزاوية المعروفة باسمه في تاسلنت (آقبو)، وقد بقيت زاوية ابن أبي داود هذه محافظة على طريقة ابن اعراب. ومن تلاميذه أيضا عمر السحنوني الذي نال منه إجازة في التوحيد، وقيل أن عمر السحنوني قد استشهد في ثورة 1871. ولا شك أن لابن اعراب تلاميذ آخرين. وكانت له شهرة واسعة في عهده، سيما في منطقة زواوة. ومن حسن الحظ أن زاويته ومقامه قد أعيد بناؤهما بثيزي راشد في عهد الاستقلال. وقد زرت هذا المكان لسنوات خلت. وكذلك عانت زاوية الشيخ محمد (امحند) الحاج التي كانت تقع في قرية (باجو) ببني وغليس، وكانت من أولى الزوايا التي تعرضت للضرر البالغ. وزاوية سيدي الحاج احساين (حسين) بسمعون بني وغليس قد تعرضت أيضا للأذى. ويرجع الشيخ صالح السمعوني إلى هذه العائلة. وهو الذي هاجر إلى المشرق هروبا من الاحتلال الفرنسي قبل منتصف القرن الماضي. وفي دمشق ولد له ولده الشيخ طاهر السمعوني المعروف بالجزائري. وقيل أن الفرنسيين سألوا عن عائلة الشيخ طاهر بعد انتشار شهرته في المشرق فوجدوا أنه من فرع (آل الشيخ) الذي انقرض الآن من الجزائر حسب بعض المصادر (¬2). ونحن الآن لا ندرس الزوايا التعليمية حسب الترتيب الزمني. ولو كان ¬

_ (¬1) من أوراق علي امقران السحنوني، 17 مارس، 1980. (¬2) أوراق الشيخ علي امقران السحنوني، 17 مارس 1980. وكذلك جواب الشيخ محمد الحسن فضلاء حول أصول عائلة الشيخ طاهر الجزائري السمعوني الذي نشرته بواسطتي (مجلة المجمع العلمي العربي) بدمشق، حوالي 1989 (؟).

الأمر كذلك لكان من أوائلها ربما زاوية أحمد بن إدريس. وزاوية عبد الرحمن اليلولي. فقد كانت شهرتهما واسعة في المنطقة ولكن لكل منهما دوره الخاص. ولنتحدث عن الأولى منهما بعض الحديث. يصف أهل زواوة طلبة زاوية ابن ادريس (¬1) بالصعاليك أو الأعراب لخشونتهم وخوف الناس منهم. ويعتبرهم البعض من الأشقياء والظلمة الذين تجاوزوا الحدود الشرعية في التعدي والمصادمات. ويبدو أن هناك بعض المبالغات التي تولدت عن عهد الاحتلال. وزاوية أحمد بن إدريس اليوم تقع في دائرة عزازقة ولاية تيزي وزو. وقد ذكرها الرحالة، ووصفوا طبيعتها وطبيعة تلاميذها. ومن الذين فصلوا القول في ذلك هانوتو ولوتورنو اللذان رويا عن أهل المنطقة وشيوخها. ومما جاء عنهما في ذلك أن هذه الزاوية اشتهرت في كل الجزائر بعادات تلاميذها الغريبة. وهي من الزوايا المستقلة تماما عن كل الزوايا الأخرى. والعادة المشار إليها قديمة قدم مؤسسها الشيخ أحمد بن إدريس الذي كان من العلماء، وهي جعل التلاميذ فرقا من الصعاليك يجلبون المال وغيره من السكان لفائدة الزاوية ولو باستعمال العنف. وكان الشيخ بالطبع يستفيد هو شخصيا من ذلك. وهي تقع في يلولة، قرب قرية آيت علي أو محمد. وتنتسب إلى عائلة زواوية (قبائلية) هي عائلة آل أواقوان، وهي العائلة التي أورثها الشيخ أحمد بن إدريس نفسه اعترافا بخدماتها له. ويتساءل هانوتو ولوتورنو ما إذا كان للأصل غير الديني لهذه الوراثة أثر على ظهور المستغلين، في دعواهما. رغم أن هؤلاء هم أيضا من المرابطين، إذ لا يقبل أي تلميذ في زاوية ابن ادريس ما لم يكن ينتمي إلى أهل الدين. وتلاميذ زاوية ابن ادريس صنفان: طلبة اللوحة وطلبة الدبوز. أما طلبة اللوحة فهم كغيرهم من تلاميذ الزوايا أو المعمرات في المنطقة، وأما غيرهم فيسمون طلبه الدبوز أو الهراوة، وهؤلاء لا يهتمون بالكتب والدراسة، وإنما ¬

_ (¬1) انظر ما كتبه عنه أحمد ساحي حديثا.

هم فرق من المشاغبين والصعاليك الذين يعملون على جلب الموارد للزاوية. وإاذا وقع سوء تفاهم بينهم تتدخل عائلة أواقوان للإصلاح. أما تسيير شؤون الزاوية - زاوية ابن إدريس - فكان كغيره من الزوايا. فهناك المقدم، والوكيل، والشيخ، وكان لفرقة الصعاليك مقدمهم ووكيلهم الخاص أيضا. وهم لا يمارسون هذه الإدارة والانضباط إلا خارج الزاوية. والمطبخ في الزاوية واحد للجميع. وكل التلاميذ كانوا يتناولون الطعام في الزاوية، غير أن المتزوجين منهم لا يبيتون فيها. كما أن فرقة الصعاليك لا تنام أيضا في الزاوية إلا نادرا، بل كان لها مكانها الخاص في المبيت. وكان رسم الدخول للزاوية واحدا للجميع أيضا، وهو ما يعادل 25 فرنك، في الستينات من القرن الماضي. ويقول هانوتو ولوتورنو أنه منذ الاحتلال سنة 1857 اختفى الصعاليك من زاوية أحمد بن إدريس وبقي فقط الطلبة العاديون، مثل كل الزوايا الأخرى (¬1). ونحن نعلم من جهة أخرى أن فرقة الصعاليك المذكورة لعبت دورا رئيسيا في مقاومة الغزو الفرنسي للمنطقة باعتبارها من الفرق المسلحة المتدربة على القتال ولها خبرة في الميدان. وقد ألحق المؤلفان المذكوران زواية الأحد (ثيزي طلبة الأحد) بزاوية أحمد بن إدريس في الممارسات غير المعروفة للزوايا الأخرى، وهي الصعلكة. وكانت تقع في بني راثن، ولها فرقة من طلبة الدبوز، حسب التعبير المحلي، بالإضافة إلى طلبة اللوح. ويزعم المؤلفان الفرنسيان أن هذا النشاط غير العادي قد توقف بعد هدم الزاوية ومطاردة الصعاليك من آل ايراثن وحلفائهم آل أومالو لتعرض الصعاليك لعناية قبيلة آل فراوسن (¬2). وكانت زاوية ابن إدريس متخصصة في القرآن الكريم، كما كانت زاوية عبد الرحمن اليلولي القريبة منها. وسنذكر نوعية الدراسة في هذه الزوايا القرآنية. واليلولي هو عبد الرحمن بن يسعد المصباحي. روى عن شيخه ¬

_ (¬1) هانوتو ولوتورنو (بلاد القبائل)، مرجع سابق، ب 2، ط 2، ص 126 - 131. (¬2) نفس المصدر، 132.

محمد السعدي البهلولي المدفون بزاويته خارج مدينة دلس. ولم تكن للشيخ اليلولي ذرية. وتوفي سنة 1105 (1691). وكان مشهورا في وقته بالقراءات السبع والعشر. وقد رسخ هذا النوع من الدراسات حتى كان من لم يقرأ القرآن في زاويته وبطريقته لا يعد عالما بالقراءات والرسم القرآني. وبناء عليه بعض الباحثين والعارفين أمثال محمد السعيد بن زكري الذي درس في زاوية طيلولي، أن هذه الزاوية قد بقيت إلى 1263 (1847) متخصصة في علم القراءات، ثم أدخل المسؤولون عنها علوما أخرى. أما الفقه الذي تخصصت فيه بعض الزوايا الأخرى، فكان على الطالب أن يحصل عليه بإجازة أو نحوها قبل دخول زاوية اليلولي (¬1). وما دام الشيخ اليلولي قد توفي بدون عقب ولا وارث فإن زاويته قد بقيت ملكا للتلاميذ يسيرونها جيلا بعد جيل في نظام إداري اجتماعي دقيق، فهي حسب تعبير البعض (جمهورية الطلبة)، فهم الذين يختارون رؤساء الزاوية وأساتذتها، وهم الذين يديرون أملاكها، ويحكمونها بدون رقابة ولا وصاية عليهم من أحد. وكان هذا النوع من التسيير قد ساهم في ازدهار الزاوية وجعل الناس يرغبون في التبرع لها ودعمها، فقد كانت مثلا أعلى في الإدارة والانضباط والغيرة على أداء الواجب. وقد أثارت إعجاب من لم يتعودوا على هذه الظاهرة. وحين زارها هانوتو ولوتورنو سنة 1862، أي بعد احتلال الناحية بخمس سنوات، وجدا فيها بين 70 و 80 تلميذا يتلقون العلم. وكان يسودها النظام التام، حسب تعبيرهما. ولم يكن من السهل على التلاميذ الدخول إليها إذ كانت (الجماعة) المسؤولة عنها تتصعب في قبول التلاميذ وتضع شروطا صارمة (¬2). وباعتبارها معمرة (زاوية) قرآن، فإن ¬

_ (¬1) كان الشيخ محمد أبو القاسم البوجليلي قد أخذ الفقه على الشيخ محمد امزيان الحداد في صدوق قبل دخوله زاوية اليلولي. انظر عنه زاوية اليلولي أوراق علي أمقران السحنوني، وكذلك (أوضح الدلائل) لمحمد السعيد بن زكري، وكتابات الشيخ أبي يعلي الزواوي، الخ. وعن البوجليلي انظر فصل الطرق الصوفية - الرحمانية. (¬2) هانوتو ولوتورنو، مرجع سابق، ص 126.

برنامجها هو برنامج كل الزوايا المتخصصة في ذلك. ولعلها كانت هي النموذج المحتذى، وقد كسفت زاوية اليلولي بعد ثورة 1871 وعطلت كما عطلت زوايا أخرى عديدة. ثم عادت إليها الحياة بعد الاستقلال فأصبحت معهدا دينيا معتبرا، وقد زرتها كما زرت زاوية أحمد بن إدريس. وبقرية إيمولا، بلدية صدوق، كانت زاوية سيدي الشيخ الموهوب المسماة زاوية شريف ايمولا، وهي أيضا من الزوايا التعليمية في المنطقة. وكان الشيخ المولود بن الموهوب متخرجا من هذه الزاوية، ولكنه من الفرع الذي سكن جبال البابور، ثم انتقل إلى قسنطينة. وكانت زاوية سيدي الموهوب هذه قد عارضت كما قيل، دعوة الجهاد التي دعا بها الشيخ محمد امزيان الحداد سنة 1871 (¬1). ومن الزوايا الشهيرة في المنطقة، زاوية (معمرة) سيدي منصور. وهي تقع في بلدية بني منصور عندئذ، دائرة عزازقة. ويشرف على الزاوية بنو جناد. وسيدي منصور هذا رجل يظن أنه من المرابطين جاء إلى زواوة ونزل قرية (آيت حيالي) الواقعة قرب شلاطة، ثم انتقل إلى ايعكورن. وهناك بنوا له مقاما ما يزال موجودا. ولم يستقر به الحال هناك أيضا فانتقل لأسباب مجهولة إلى بني جناد ونزل عند آل الهامل، وهم قبيلة كبيرة. فاشتهر أمره وبنى زاوية تيميزار، وتوفي فيها دون عقب. ويقوم بنو منيع القاطنون في وطن حمزة (البويرة) بشؤون هذه الزاوية، وبنو جناد، ومنهم آل الهامل الذين ساندوا سيدي منصور هم الذين ظلوا يشرفون على زاويته. وقد وقع الخلاف حول من يقوم بأمر الزاوية، فتدخل الشيخ محمد وعلي السحنوني فعين تلميذه محمد السعيد آيت يوسف الجنادي لهذه المهقة ودعمه بتزويجه من أسرة (أوقاسي) أمراء عمراوة، وهم من بني حماد. ولا ندري ما كان موقف بني منيع من ذلك. وقد ترك الجنادي المذكور ولدا اسمه أحمد، درس في ¬

_ (¬1) أوراق علي امقران السحنوني. وكذلك لويس رين، (المملكة ...)، مرجع سابق، ويقول عنها لويس رين أنها (زاوية إقطاعي) لعائلة سيدي الشريف الموهوب.

زاوية اليلولي ثم بزاوية البوجليلي. ومن بني جناد ظهر الشيخ الشريف محمد الطاهر الجنادي، الذي انتقل من بني منصور إلى زاوية اليلولي لدراسة القرآن والقراءات. وقد اعتبرت زاوية سيدي منصور من صنف زاوية اليلولي في الاهتمام بالقرآن الكريم. ومن زاوية سيدي اليلولي انتقل الجنادي إلى تونس حيث أصبح من المعلمين الخاصين لأحد أولاد الأمراء، ثم توظف في الحكومة التونسية. وقال عنه الشيخ محمد السعيد بن زكري أنه بذل جهذه في اتقان العلوم العربية والرواية وصناعة التدريس بأساليب جيدة وحديثة. وقد أثر في تلاميذه بزاوية اليلولي أيضا حتى كان منهم من يرث طريقته جيلا بعد جيل. وكانت هجرة الجنادي إلى تونس حوالي 1282 (1866) ولا ندري متى توفي بها (¬1). وقد لعبت الزاوية والقائمون عليها وأصهارهم آل أوقاسي، دورا هاما في ثورة 1871. وقد أصبحت بلدية بني منصور نفسها عبارة عن خلية من الزوايا والقباب إلى بداية هذا القرن. ويذهب أحد الفرنسيين الذين عملوا طويلا في هذه البلدية إلى أن المرابطين والمرابطات لهم قداسة خاصة في الناحية، تبنى لهم زوايا وقباب أثناء حياتهم أو بعيد وفاتهم، وتصبح مزارات ومدارس مخصصة للدين والتعليم. وذكر من النسوة الشهيرات لاله خديجة التي يحترمها النساء والرجال على السواء. وفي كل قرية من قرى بني منصور دار للجماعة، يشترك فيها الجميع وتستعمل مركزا للدين ومدرسة للتعليم. ويقوم (الطلبة) والأيمة بتعليم القرآن وأداء الصلوات مقابل أجور متواضعة من السكان. وفي كل دوار زاوية للطلبة وتعليم للأطفال. وفي بني حمدان (بنو ماني) يتعلم التلاميذ القرآن والفقه والتوحيد. وفي بوايلفان زاوية يتردد عليها التلاميذ. وفي قرية الشرفة (من نسل سيدي عمر الشريف من نواحي يسر) حوالي 50 طالبا يتعلمون القرآن. وزاوية أولاد سيدي الهادي التي كان بها حوالي 15 تلميذا. ولكن الكثير من التلاميذ أخذوا يختفون، وتحولت الدراسات في ¬

_ (¬1) أوراق علي امقران السحنوني، نقلا عن (أوضح الدلايل)، ص 55.

الزوايا إلى حفظ القرآن فقط. كما تحولت القباب إلى مزارات للزردات والاحتقال. ففي هذه الناحية (بنو منصور) قبة سيدي حمو عبد الرحمن، وهو من أولاد سيدي إبراهيم بو بكر. وقبة سيدي عمر الشريف بالشرفة، وكان يعلم القرآن في سلولا - أومالو، وله تأثير على أهل بجاية. ولمشاركة الشرفة في ثورة بو بغلة 1851 وثورة المقراني 1871 أصبحت الزاوية مهملة ولم يبق النشاط إلا للقبة. ثم قبة سيدي علي بن التومي بقرية أولاد إبراهيم في مشدالة. وقبة أخرى للاله خديجة، وهي واقعة في تراب بلبازة، وقيل بأنها كانت تذهب شتاء للتعبد في قمة جرجرة، ثم تأتي إلى مشدالة لتعيش اجتماعيا. وهناك أساطير كثيرة عن هذه السيدة. وإضافة إلى ذلك هناك قبة سيدي عيسى بن رحمون التي يشرف عليها أهل السبخة الرحمانيون. وهي قبة قديمة يأتيها الزوار من البرج وسطيف والسور، الخ. وكان زوارها يقدرون بالآلاف. ولا يعني هذا العناية بالتعليم والقرآن ولكن بالولاية والدروشة. وقد قدر الفرنسيون أن عدد زوارها سنة 1892 قد بلغ 4.950، ومصاريفهم 50 ك! أفرنك. وفي سنة 1893 بلغ الزوار 4.800 والمصروف 800 ف. وفي أهل القصر قبة سيدي أحمد بن سليمان بو خروبة. وكان أهل القصر قد حاربوا مع الأمير عبد القادر. وعاش سيدي علي بوناب في ذراع الميزان وأسس زاوية في بني كوفي. وقد بنى أهل اقوني قبة لسيدي محمد بن الحاج وهم يذهبون إلى أنهم من نسل هذا المرابط. ومعظم أهل بني منصور من أتباع الطريقة الرحمانية. وقد حاول الفرنسيون القضاء على نفوذ هذه الطريقة، كما عرفنا. وهم بالطبع لا يعترفون إلا بمن ربط مصيره بمصيرهم، ولم يعد له نفوذ في المنطقة، حتى أن المؤلف الذي أخذنا منه هذه الأفكار يذهب إلى أنه لم يعد هناك شخصية دينية أو سياسية ملحوظة في بني منصور. وذكر لنا اثنين قال أنهما من

الأشراف، أحدهما سي محمد صالح بن شيبان الذي قال إنه حارب مع قومه في صفوف الفرنسيين سنة 1871، والثاني سي علي بن الهادي حفيد مؤسس زاوية بني كاني KANI. وكان سي علي هذا قد عمل في فرقة الفرسان تحت الضابط بوبريطر من 1849 - 1860، ثم عمل شاوشا في المكتب العربي ببني منصور، وحارب في صفوف الفرنسيين سنوات 1850 - 1852، ثم 1857، ضد بو بغلة وفاطمة نسومر. وعانى سي علي بن الهادي سنة 1871 من حصار الرحمانيين لبني منصور، ولهذه الخدمات حصل على ميدالية ذهبية سنة 1886، ثم سمى (عونا أهليا) في البلدية، ونال على هذه الوظيفة صليب الفروسية. ولعل موقف هذا المرابط المتعاون يكذب المقولة التي تقول أن كل المرابطين أعداء لفرنسا (¬1). زاوية ابن أبي داود: مؤسسها الأول هو سليمان بن داود بن موسى بن عبد الله. أسس سليمان الزاوية في جبل بني سلام (آقبو) وظل هناك إلى أن توفي. ويبدو أن ذلك كان في نهاية القرن الثامن الهجري. ونزح بعض أولاده الذين عرفوا باسم أولاد أبي داود، إلى عوينة الشيخ حيث أسسوا أيضا زاوية، وبنوا قربها قرية باسمها (أولاد أبي داود)، ثم نقلوا الزاوية إلى (أقلميم). وسلسلة نسبهم الشريف محفوظة عندهم (¬2). واشتهرت هذه الزاوية في عهد الشيخ السعيد بن عبد الرحمن بن أبي داود في القرن 12 هـ. وهو الذي أخذ الفقه عن الشيخ الحسين بن أعراب المتقدم. وقد عاش السعيد يتيما، فتولاه تلامذة والده، كما تولاه محمد بن عبد الرحمن الأزهري فعلمه الطريقة الرحمانية. وقد تمهر الشيخ السعيد بالإضافة إلى الفقه، في علم النحو حتى ألف فيه، ربما لتلاميذه، وكان يقرض الشعر، وله مدائح نبوية باللغة البربرية ¬

_ (¬1) إيمانويل بوجيجا (مونوغراف عن بلدية بني منصور المختلطة)، في SGAAN (1921)، ص 44 - 45، 60 - 64، 72 وهنا وهناك. (¬2) أوراق الشيخ علي امقران السحنونى.

أيضا. ولا يذكر المترجمون تاريخ ميلاده، ولذلك يمكن القول أنه كان ما يزال حيا عند الاحتلال. ويذهب صاحب (تعريف الخلف) إلى أن الشيخ السعيد قد توفي سنة 1256 (1840). وأنه بقي نحو 50 سنة في التدريس، كما تخرج على يديه طلبة كثيرون (حوالي 600). وكان حفيده محمد الطيب (المولود سنة 1248/ 1832) من الذين ازدهرت في عهدهم الزاوية رغم ما عرفته المنطقة من تطورات أثناء الغزو الفرنسي. وقيل أن عمه أحمد بن أبي داود بدأ التدريس وعمره عشرون سنة، وظل فيه 25 سنة، وتخرج عليه حوالي 353 طالبا. ومن تلاميذ هذه الزاوية، الشيخ محمد بن بلقاسم الهاملي، وأبو القاسم الحفناوي، صاحب (تعريف الخلف). وقد نوه الحفناوي بزاوية ابن أبي داود واعتبرها (أم الزوايا العلمية) مدى ثلاثة قرون. منها انتشر الفقه والنحو والفلك والحساب في بلاد زواوة - إلى قسنطينة شرقا والأغواط جنوبا والمدية غربا (¬1). كان للزاوية فرعان: فرع سيدي أبي التقى ببرج بوعريريج. وهو الذي درس فيه الشيخ محمد بن بلقاسم الهاملي. والفرع الثاني في الدريعات بالمسيلة. أما الزاوية الأصلية فكانت في تاسلنت (آقبو). وكانت قد اشتهرت في دراسة الفقه، كما اشتهرت زاوية شلاطة بالقرآن. وقد أصبح شائعا بين طلبة العلم في القرن الماضي أن من لم يدرس القرآن في زاوية شلاطة والفقه في زاوية تاسلنت فليس بعالم. وقيل إن زواية ابن أبي داود ظلت محافظة على طريقة ابن اعراب في تدريس الفقه، سيما مختصر الشيخ خليل بشرح الخرشي، إلى 1957 حين خرب الفرنسيون هذه الزاوية (¬2). ولكن الزاوية وفرعيها كانت تدرس أيضا فنونا أخرى بالإضافة إلى الفقه. فهي تدرس أصول الدين والتفسير والحديث والتوحيد والمنطق، والنحو والبيان، والفلك والحساب، وتجويد القرآن ورسمه. وتنتهي الدراسة ¬

_ (¬1) أبو القاسم الحفناوي (تعريف الخلف)، 2/ 452. (¬2) أوراق الشيخ علي امقران السحنوني.

فيها بمنح الإجازة. أما الوظائف الأخرى للزاوية فمعروفة إذ لا تكاد تختلف عن الزوايا الأخرى في ذلك، ومنها فض الخصومات، وإصدار الأحكام في النوازل والفتاوى، وتوضيح تعاليم الدين للعامة. ولا يعرف أن أهل هذه الزاوية قد تولوا الوظائف الرسمية للإدارة الفرنسية (¬1). تبدأ الدراسة في الزاوية في فصل الخريف وتنتهي في آخر الربيع. وكان طلبتها ينقسمون إما إلى متخصصين في علوم القرآن وإما في العلوم الأخرى كالفقه بشرح الخرشي والعلوم العربية. وهم يهتمون بدراسة الفقه كثيرا لدرجة التعبد، إذ يحتفلون بيوم تدريسه ويجرى ذلك صباحا في الجامع العتيق، أما في المساء فيدرسون العلوم في جامع آخر. فالزاوية إذن مصنفة في زوايا الفقه، والدراسة فيها كانت بالطريقة القديمة فلا سبورة ولا دفاتر للحضور ولا محاورات. وإنما هي الحلقات والتدريس الشفوي، وربما كانت تسجل فيها إملاءات (¬2). من حيث الوظائف، لا يوجد في الزاوية منصب وكيل، ولكن لها مقدم يعينه رئيس الزاوية، وهو لا ينتخب كشأن بعض الزوايا الأخرى. وكل الطلبة كانوا يتحملون مسؤوليات في الزاوية. ولها نائب للرئيس متخصصا في شؤون الطلبة. والمسؤولية ليس لها مدة معينة. والدراسة فيها محروسة، وهناك طرق لإيقاظ التلاميذ، وللصلاة، والطعام، وقراءة الحزب وغيرها من السلوكات والطقوس. كما أن هناك اجتماعات دورية، وعند الضرورة ينادي المنادي (القداش) في ساحة الزاوية فيهب التلاميذ عن بكرة أبيهم. وهناك أيضا اجتماعات سنوية للزاوية في مناسبات معينة. وتقام خلالها حفلات للثقافة والفروسية تتماشى مع الدين والتقاليد. وهي حفلات تدوم أسبوعا، وهدفها تنشيط الحياة لعامة الناس وكذلك الحياة الخاصة للتلاميذ. ¬

_ (¬1) يقال أن بعض أفراد الزاوية تولى أيضا نقابة الأشراف في بلاد زواوة في العهد العثماني، وكان مقره برج منايل. (¬2) مراسله الشيخ علي امقران السحنوني، 18/ 5/ 1981.

وأثناء ذلك كان يقع نوع من سوق عكاظ الأدبي، فيتناظر المدرسون، ويتبارى الشعراء، ويتناقش الأدباء والفقهاء في المسائل العلمية والنظرية، ويتبادلون المعلومات عن الكتب ونحوها. وهناك أيضا زيارات إلى شيخ الزاوية في الأعياد يقوم بها الطلبة والأتباع. وخلال الثلاثينات من هذا القرن ابتدأت زاوية ابن أبي داود تقليدا جديدا لتنشيط العلم، وهو إرسال بعثات طلابية إلى البلدان العربية لمتابعة دراستهم التي لا يجدونها في بلادهم. وهو تقليد مارسه الجزائريون قديما، ونشط فيه بنو ميزاب ثم حركة ابن باديس. وتتغذى الزاوية من الأملاك التي لها (أوقاف) في كل من آقبو وتاسلنت، وبالإضافة إلى ذلك يخرج المسؤولون عنها كل سنة في مواسم معينة - أوآخر الصيف وأوائل الخريف - إلى المناطق المخصصة لهم ليجمعوا (العشر) من أتباعهم وأنصارهم، فيذهب أحد أبناء الزاوية (أولاد ابن أبي داود) إلى بعض طلابه في بلدة ما فينزل عنده، وهناك يأتيه ما جمع له من العشور عن طريق طلبة الزاوية القدماء والأنصار، وبذلك يجمعون الحبوب والقطاني والسمن وغيرها. ويعود بما جمع إلى زاوية تاسلنت، وهو نوع من الضرائب العرفية. وقد تدوم الجولة شهرا أو أكثر، وأثناء هذه الزيارة يجري الاتصال أيضا بالأعيان وعامة الناس (¬1). وكان الفرنسيون يتتبعون حركات الشيوخ أو المرابطين، كما يسمونهم، ويمنعون البعض من جمع هذه الضرائب ويرخصون إلى آخرين بها، كما عرفنا في فصل الطرق الصوفية. الزاوية السحنونية: وتعتبر زاوية حديثة نسبيا، إذ ظهرت في العهد الفرنسي فقط. وأصل الزاوية موجود في القرية السحنونية (ايسحنونن) بالقرب من أربعاء بني ايراثن، ولاية تيزي وزو. ومؤسسها هو الشيخ عمرو الشريف. أما الفرع فيوجد في ¬

_ (¬1) نفس المصدر. ونلاحظ أن هانوتو ولوتورنو لم يذكرا زاوية ابن أبي داود ضمن معمرات الفقه. عن الجانب المادي انظر أيضا فصلي الطرق الصوفية.

تاغراست، ببني وغليس، دائرة سيدي عيش، ولاية بجاية حاليا. وقد أسس هذا الفرع الشيخ محمد السعيد السحنوني. وكانت - أصلا وفرعا - رحمانية الطريقة وعلى صلة بالشيخ محمد امزيان الحداد بصدوق والزوايا الرحمانية الأخرى. من أبرز رجال هذه الزاوية الشيخ محمد السعيد السحنوني الذي ولد سنة 1839. وكان والده السعيد امقران، قد التحق بجيش الأمير عبد القادر واستشهد في المقاومة، حسب مصادر الأسرة، وقد ترك ابنه محمد السعيد جنينا في بطن أمه. وأثناء طفولته وصباه تولى تربيته ابن عمه الشيخ محمد وعلي السحنوني الذي سنذكره. وقد علمه القراءات والبلاغة والنحو والفلك والفقه والحديث الخ. ودرس محمد السعيد كذلك على شيوخ آخرين في الناحية، مثل الشيخ الحداد والبوجليلي. وبعد أن شب في العلم انتصب هو للتدريس في زاوية الحاج احساين بسمعون، ثم بزاوية عمرو والحاج جهة عزازقة. كما درس بزاوية أحمد زروق في بني وغليس، وزاوية سيدي موسى قرب سيدي عيش. وبعد تجربة في التدريس أسس زاوية خاصة به في تاغراست، كما ذكرنا، أوآخر القرن الماضي، لتكون فرعا لزاوية سيدي عمرو الشريف بالأربعاء (بني ايراثن). وأبرز المواد التي كانت تدرس في الزاوية هي التفسير والحديث والقراءات ثم العلوم العربية كالنحو والصرف وكذلك الفلك. ومن ثمة يظهر أن هذه الزاوية قد ظهرت أيام ضعف التعليم العربي الإسلامي في الجزائر وأيام توغل الإدارة الفرنسية في فواحي البلاد، سيما منذ ثورة 1871. فاهتمام الزاوية بالعلم والتعليم في وقت سيادة التصوف الغامض واللجوء إلى الروحانيات يعد بركة على البلاد. ويبدو أن جهودها قد تضافرت مع جهود زوايا أخرى في الجنوب ومع جهود بعض المدرسين الرسميين أمثال المجاوي والونيسي. وقد ضاعف الشيخ محمد السعيد جهوده في التعليم فكان يتردد أيضا على الزاوية الأصلية. واستعان ببعض طلابه في التدريس أيضا، شأن البوجليلي وغيره. وتوفي الشيخ محمد

السعيد سنة 1814 تاركا أبناء غير راشدين فتولى شؤون الزاوية تلاميذه (في الأصل والفرع) ومن أبرزهم الشيخ أبو القاسم بن طعيوج (¬1). وقبل أن نتحدث عن بعض شيوخ هذه الزاوية نذكر أنها تطورت في القرن العشرين حتى أصبحت تستقبل بعض التلاميذ من البلدان المجاورة. كما أنها وجهت بعثات إلى تونس للتعلم، وأسست لهم هناك دارا استقبال، وكان ذلك منذ أوآخر الثلاثينات من هذا القرن. وهذه الظاهرة - إرسال البعثات - سبقت بها مناطق ومنظمات أخرى كما أشرنا. كما أن بعض زوايا الطرق الصوفية كانت ترسل أبناءها أو أقاربها إلى معاهد العلم، ومنها الزاوية التجانية في قمار وتماسين، والزاوية القادرية في عميش (الوادي). وكذلك فعلت بعض الزوايا في الجهة الغربية بالنسبة للمغرب الأقصى. فإرسال البعثات على يد الزاوية السحنونية، وهي رحمانية، يدخل في هذا الإطار، وهو تشجيع الحصول على العلوم الإسلامية خاصة، باللغة العربية من البلدان المجاورة. ولم تكتف الزاوية بإرسال التلاميذ بل أنها جلبت إليها بعض الشيوخ من تونس للتدريس فيها مثل الشيخ إبراهيم صمادح. ومن الذين سلكوا هذه السياسة في التعليم محمد الشريف السحنوني بن الشيخ محمد السعيد. فقد تركه والده ابن عشر سنوات (ولد سنة 1905) ولذلك تولاه، كما تولى شؤون الزاوية، الشيخ طعيوج، كما ذكرنا. وبعد أن حفظ محمد الشريف القرآن وتتلمذ على ابن باديس، وحصل على نصيب في العلوم قصد تونس بنصيحة ابن باديس ونال من جامع الزيتونة شهادة التحصيل سنة 1931. وكان ذلك هو تاريخ تأسيس جمعية العلماء وصحوة التعليم العربي الحر في الجزائر. ولذلك كثر الطلبة بالزاوية حتى بلغ نحو 300. ¬

_ (¬1) هذه المعلومات وافانا بها حفيد الشيخ محمد السعيد، وهو علي امقران السحنوني، في عدة مناسبات، منها واحدة، ابريل 1979، عندما كنا نعد الجزء الأول والثاني من هذا الكتاب، ومنها 23 فبراير 1981 و 18 مايو 1981 الخ. فله الشكر. وقد توفي الشيخ علي امقران سنة 1995 أثناء تحرير هذا الكتاب، رحمه الله وأجزل أجره.

وبالإضافة إلى نشر العلوم الإسلامية، كانت الزاوية لا تتوقف عن تحفيظ القرآن الكريم حتى في الصيف. ويبدو أن الزاوية قد نشطت في عهد الشيخ محمد السعيد وعهد محمد الشريف الأول. فقد كان لها تأثير في نواحي سطيف والبرج وثنية بني عائشة وسكيكدة. وكان الشيخ محمد السعيد من التلاميذ الأوفياء للشيخ الحداد، وللشيخ المجاوي الذي كان يجالسه، وللشيخ حمدان الونيسي الذي ربما حضر بعض دروسه. وكان محمد السعيد يحذق النساخة. ومن الذين أثروا فيه ابن عمه محمد وعلي الذي رباه وعلمه إلى أن نفته (أي محمد وعلي) السلطات الفرنسية إلى (كايان) بعد ثورة 1871، فكان الشيخ محمد السعيد هو الوصي على عائلته بعد نفيه، وظل على صلة دائمة به حتى بعد أن لجأ (محمد وعلي) إلى المدينة المنورة. وكان لمحمد السعيد تلاميذ ذكرنا منهم ابن طعيوج، ونضيف إليهم محمد امزيان بودريوه الذي أسس زاوية بقرية الشرفة بأكفادو. أما الشيخ محمد الشريف الذي يبدو أنه تأثر بحركة ابن باديس منذ البداية فمن تلاميذه الشيخان البارزان في جمعية العلماء أحمد حسين وعبد الرحمن شيبان. ولا ندري هل انضم الشيخ محمد الشريف إلى جمعية العلماء أو ظل مستقلا عنها، وإذا لم يفعل، فلماذا؟ أما بالنسبة لحركة التعليم فنعتقد أنها كانت تصب أيضا في اتجاه المحافظة على التراث الوطني. ولعل طابع الطرقية لم ينتزع تماما من نشاط الشيخ محمد الشريف، رغم أن العصر والعلم الذي أخذه لم يجعلاه يعتقد في الطريقة الرحمانية بنفس عقيدة مؤسسها الشيخ الأزهري مثلا. أشرنا إلى اسم محمد وعلي السحنوني، ولا نعرف الآن تاريخ ميلاده ولا تاريخ وفاته، ولكن نعرف أن له دورا في ثورة 1871 وأنه قد توفي في المدينة المنورة بعد رحلة طويلة من النفي والمتابعة. درس في زاوية العائلة الأصلية، ثم في زاوية ابن اعراب بتيزي راشد، ثم درس على الشيخ محمد

امزيان الحداد بصدوق وأعطاه أيضا ورد الرحمانية. وأصبح الشيخ محمد وعلي من مقدمي الطريقة في أربعاء بني ايراثن. وقد تولى أيضا التدريس في الزاوية السحنونية إلى ثورة 1871. فكان الشيخ من المحاربين الشجعان، وتولى قيادة سهل عمراوة (سباو) وشارك في معركة ايشريضن الشهيرة، وتزعم المسبلين. وكان محمد وعلي مع أحمد بومزراق المقراني حين قبضت عليهم السلطات الفرنسية في الرويسات، ناحية ورقلة في العشرين من يناير 1872، حين كانوا في طريقهم إلى تونس عبر سوف، فأخطأوا الطريق. وبعد المحاكمة في قسنطينة نفي محمد وعلي إلى كايان، كما ذكرنا. ثم سمح له بالإقامة في غير الجزائر، فاختار المدينة المنورة. وقد دخل الحجاز عن طريق اليمن حيث ظل فترة مدرسا هناك، ومن اليمن دخل مكة عند موسم الحج. وفي المدينة أقام ودرس وتزوج امرأة من آل القاضي أرسلت إليه من الجزائر. وظل يراسل بني قومه، ومنهم الشيخ محمد السعيد السحنوني، إلى وفاته التي ربما تكون وقعت في نهاية القرن الماضي، ولكنه على كل حال كان حيا سنة 1891 حسب بعض رسائله (¬1). أما الشيخ الآخر الذي جاء ذكره بصدد الحديث عن الزاوية السحنونية، فهو أبو القاسم بن طعيوج. قلنا أنه من تلاميذ محمد السعيد وأنه تولى بعده (1914) شؤون الزاوية وتربية وتعليم أبنائه الذين منهم محمد الشريف. وكان الشيخ طعيوج من نواحي جيجل، وسكن السيلات قرب وادي الزناتي وعين عبيد، وما يزال أحفاده هناك. وفي السيلات توفي سنة 1932، ولكنهم نقلوه إلى زاوية تاغراست، حيث دفن في مسجده القديم. ومما قام به الشيخ طعيوج أيضا أنه تولى زاوية معطى الله الحركاتي بالعين البيضاء. وأثناء وجوده بها تعرف على الشيخين المكي بن عزوز وحمدان الونيسي وحصل منهما على الإجازة (¬2). ¬

_ (¬1) أوراق الشيخ علي امقران، 18 مايو، 1981. (¬2) يقول الشيخ علي امقران أن الإجازتين موجودتان في أرشيف الزاوية. وعن الشيخ طعيوج انظر لاحقا.

ولبعض شيوخ الزاوية السحنونية تآليف في التصوف وغيره، سنعرض إليها في الجزء المخصص لذلك. وتعتبر زاوية سيدي أحمد زروق من أقدم الزوايا في منطقة زواوة. وهي تقع في بني وغليس أيضا. وتنسب إلى الزاهد أحمد زروق البرنوسي دفين مسراته (ليبيا) (¬1). وكان الشيخ زروق قد أقام في بجاية وتزوج منها وأنجب ولدا اسمه محمد السعيد وهو الذي يقال إنه أسس هذه الزاوية، وقد ذكره أبو سالم العياشي والورتلاني. وكانت هذه الزاوية تنشر العلم أيضا. ولكنها تعرضت إلى ما تعرضت إليه مدينة بجاية بعد الاحتلال من التخريب والتعطيل. ويبدو أن الزاوية قد انتعشت في الفترة الحديثة. ومن أبناء العائلة الزروقية الشيخ الهادي الزروقي الذي استعاد شهرة الأسرة بعد أن درس في الأزهر الشريف، وتغرب طويلا ثم رجع وأسس المدرسة الخلدونية ببجاية، وكان من رجال الإصلاح وجمعية العلماء (¬2). ولنتذكر أن الشيخ أحمد زروق نفسه كان غير متصوف بالمعنى الذي فهمه المتأخرون، وإنما كان زاهدا ورعا وعالما عاملا. ومن تلاميذه محمد بن علي الخروبي وعبد الرحمن الأخضري، وكلاهما سار على نهجه. زوايا القرآن وزوايا الفقه في زواوة: حين درس هانوتو ولوتورنو الزوايا (المعمرات) في منطقة القبائل وجدا على الأقل تسع عشرة زاوية متخصصة في الدراسات القرآنية. وهذه الدراسات تشمل تفسير القرآن، والقراءات السبع، والرسم، والتوحيد، وكذلك علوم اللغة العربية من نحو وصرف، وبالأخص الآجرومية لمحمد بن داود الصنهاجي، والألفية لابن مالك، والعروض. بالإضافة إلى علوم الآلة مثل الحساب والفلك، والفرائض (قسمة التركات). والكتب المستعملة في هذا المجال هي مؤلفات علي القلصادي ومحمد بن يوسف السنوسي. أما ¬

_ (¬1) انظر عنه الجزء الأول من هذا الكتاب، وكتاب (منشور الهداية) لعبد الكريم الفكون، من تحقيقنا. (¬2) عن الهادي الزروقي انظر لاحقا.

المدرسون فهم عادة أستاذ رئيسي ومعه مساعدوه من طلبته القدماء الذين تقدموا في دراستهم على يديه. وساعات التدريس والراحة الأسبوعية والعطلات السنوية هي نفسها المطبقة على تلاميذ التعليم الابتدائي في المدارس القرآنية. وخلال الشتاء تضاف حصة رابعة على الضوء يسمونها (النوضة) من النهوض، أو السهرة. وظاهرة الحفظ هي التي كانت تميز التعليم في هذه الزوايا. فالمطلوب من التلاميذ حفظ النصوص والمتون التي يكلفون بها وحتى تلك التي لا يكلفون بها، لأن التلميذ الجيد هو الذي يحفظ أكثر من غيره ويتفوق على زملائه في ذلك. وليس مطلوبا من التلميذ أن يفهم أو يعلل المعلومات التي أخذها. وقد لاحظ النقاد لهذا النوع من التعليم أن دور المعلم كان يتمثل في الإشراف على حفظ التلاميذ حفظا دقيقا دون الغلط في حرف أو جزئية. ومن ثمة فإن حشو الأدمغة بالمعلومات غير المفهومة هو ما كان يتميز به هذا النوع من التعليم في نظر النقاد، كما أشرنا. ويدخل الزوايا التلاميذ الذين انتهوا من مدارسهم القرآنية، مدارس القرية. وهذه الزوايا على نوعين في المنطقة: زوايا أو معمرات القرآن وزوايا أو معمرات الفقه. وإليك الآن أشهر زوايا القرآن في حدود سنة 1868، أي بعد عشر سنوات من احتلال منطقة زواوة: 1 - زاوية أحمد بن إدريس - وقد ذكرناها. وهي في يلولا أو مالو. 2 - زاوية عبد الرحمن اليلولي، وهي كالسابقة، وقد ذكرنا وجه الخلاف بينهما. 3 - زاوية ابن علي الشريف بشلاطة، بيلولا أو سامر. 4 - زاوية سيدي محمد بن مالك، تقع بتفريت (¬1). ¬

_ (¬1) لعله هو محمد بن علي بن مالك التقابي شيخ أبي القاسم البوجليلي ووالد الشيخ أبي يعلى الزواوي. فقد ذكر أبو يعلى أنهما أخذا عنه الفقه والقراءات والنحو =

5 - زاوية سيدي عمر بن الحاج، بآيت ايجر. 6 - زاوية سيدي موسى تنبدار، ببني وغليس. 7 - زاوية سيدي علي ترلات، بتيزي تفريس. 8 - زاوية آيت منصور، بآيت اتسوراغ. 9 - زاوية سيدي علي أوطالب، بكوكو - آيت يحيى. 10 - زاوية شرفة البهلولي، بآيت غوبري. 11 - زاوية ايسلمونن، بجمعة الصهريج، في بني فراوسن. 12 - زاوية عروس، في بني ايراثن. 13 - زاوية عدني، في بني ايراثن أيضا. 14 - زاوية سيدي منصور، بتيميزار، وقد تعرضنا لها. 15 - زاوية ايعشوبة، في بني جناد. 16 - زاوية سيدي علي أو موسى، في بني بو خالفة. 17 - زاوية الشرفة، في بني بوخالفة أيضا. 18 - زاوية سيدي محمد أمزيان، أيضا في بني بوخالفة. 19 - زاوية الشرفة، في بني واقنون (¬1). أما زوايا الفقه فكانت تدرس بالخصوص مختصر الشيخ خليل بن اسحاق وشروحه الرئيسية كالخرشي وسيدي عبد الباقي والشيخ سالم، والتتائي والشيخ بهرام الخ. كما كانت تدرس التوحيد، وغيره كما سبق في الزوايا المتخصصة في تعليم القرآن، مثل النحو والصرف على الآجرومية والألفية، والحساب على القلصادي، وكذلك الحساب والفلك على محمد السوسي، بالإضافة إلى الإنشاء والعروض والتوثيق. وقد ذكرنا من هذه الزوايا زاوية الشيخ الحسين بن أعراب (ثيزي راشد) الذي قيل إنه أول من أدخل شرح شيخه الخرشي إلى الجزائر. وكذلك الزوايا المتأثرة مثل زاوية ¬

_ انظر مجلة (صوت المسجد)، عدد 7 (31 مايو، 1949)، وسنتحدث عن الشيخ البوجليلي لاحقا، انظر أيضا فصلي الطرق الصوفية. (¬1) هانوتو ولوتورنو، مرجع سابق، ص 159 - 115.

ابن أبي داود وزاوية آل سحنون اللتين سبق الحديث عنهما. والمدرس الأساسي واحد هنا أيضا. وهو يلقي درسه صباحا ثم يتولى تلاميذه التدريس في نظام محكم موزع عليهم بدقة حسب المستويات، وهو نوع من التعليم المشترك أو المتشارك. وهذه هي طبقاتهم أو مستوياتهم: 1 - المبتدئون المحجر عليهم (ايحجارن). 2 - المعيدون المسائيون (المعاودون). 3 - المعيدون الصباحيون. 4 - المحضرون أو المسبقون. وفي صباح كل يوم يقوم الشيخ المدرس بتعيين درس الغد للمحضرين. ثم يقوم هؤلاء بتقسيم الطلبة ويدرسون لهم ذلك الدرس في حصة المساء. وفي الغد يقوم المعيدون الصباحيون بتدريس الدرس للمبتدئين وللمعيدين المسائيين، وذلك مباشرة بعد درس الشيخ الرئيسي. أما في المساء فيحل المعيدون المسائيون محل الآخرين بالنسبة للمبتدئين فقط. وهكذا يكون الدرس قد تكرر أربع مرات متوالية خلال 24 ساعة. وكان للمعلمين، وهو الشيخ والمعيدون الصباحيون والمسائيون وكذلك المحضرون أو المسبقون، مساعد يسمى العدوال، وهو المسمع الذي يرفع صوته بالجملة عندما ينطق بها الشيخ المعلم أو مساعدوه. فالعدوال يكرر الجملة من فقه الشيخ خليل بصوت واضح ليفهمها التلاميذ الجالسون بعيدا، ثم يشرح الشيخ تلك الجملة شرحا مناسبا لفهم التلاميذ مستعينا بمختلف الشروح، كما ذكرنا. والشيخ الرئيسي هو الذي يختار لوظيفة العدوال (المسمع) من يناسب في صوته وذكائه من بين التلاميذ النجباء. ويحصل العدوال على حوالي 50 فرنك في السنة. أما الآخرون فيدفع لهم بين 4 و 5 فرنك فقط. وروى هانوتو ولوتورنو أن الأماكن تباع مرتين في السنة، والدراهم المحصلة من ذلك البيع تدخل في فائدة الطلبة الذين يشترون بها اللحم في العادة.

وفي نهاية العام الدراسي تقام حفلة التخريج. والشيخ الرئيسي هو وحده الذي يختار من ينجح ومن يعيد السنة ومن ينتقل إلى مستوى آخر. وهو يأتي معه بقرطاس (ورقة) مستطيل طوله حوالي 50 سنتم. ويضرب به رأس التلميذ الناجح. وتدوم الحفلة طول النهار وجزءا من الليل، وتقرأ الفاتحة قبل وبعد توزيع شهادات النجاح. وكل تلميذ يحتفظ بهذه الشهادة مدى الحياة. والشيخ الرئيسي أيضا هو الذي يعين المعيدين والمحضرين والمبتدئين للسنة الموالية. ويقضي التلاميذ مع أهاليهم شهرا أو شهرين، وهي العطلة السنوية. وعند افتتاح السنة الجديدة يعطى للتلاميذ الناجحين، سواء كانوا من زوايا القرآن أو من زوايا الفقه، نفقة أو كمية من الدراهم لشراء اللحم للطلبة الذين سيعلمونهم. وأبرز زوايا (معمرات) الفقه هي: 1 - زاوية آيت الحاج. 2 - زاوية آيت سيدي محمد أو الحاج، في آيت محمود. 3 - زاوية آيت عمر، في تمازيرت ببني ايراثن. 4 - زاوية الشرفة. 5 - زاوية القواضي. 6 - زاوية جمعة الصهريج، في آيت فراوسن. وسواء كانت زوايا القرآن أو زوايا الفقه، فليس هناك سن معينة لدخول الزوايا، وهي حوالي 14. أما مدة الدراسة فتتراوح بين 5 و 10 سنوات. وتكون عادة أطول في زوايا القرآن منها في زوايا الفقه. وإذا لم يكن للتلميذ عائلة قريبة منه، فإنه يقضي بالزاوية شطرا طويلا من حياته. وهناك من تتقدم به السن حتى يصل إلى الهرم ثم يموت، ومع ذلك يظل اسم (الطالب) لاصقا به ما دام في الزاوية (¬1). لم يسلم تعليم الزوايا كلها من النقد سواء من حيث سعة البرنامج ¬

_ (¬1) هانوتو ولوتورنو، مرجع سابق، ص 112 - 113.

وصعوبة المواد بالنسبة لسن التلاميذ أو من حيث المنهج المتبع في توصيل المعارف. وهذا النقد ليس خاصا بزوايا أو معمرات زواوة، بل هو شامل لكل الزوايا حيث يسود هذا النوع من التعليم المقاوم، كما قلنا، رغم كل المثبطات. ولكن ما دمنا في زواوة فلنستمر في ذكر بعض وجهات النظر حول نقد التعليم فيها. روى الشيخ أبو يعلي الزواوي أن شيخه محمد السعيد بن زكري قال أنه قضى عشر سنوات في زاوية اليلولي دون أن يستفيد شيئا، دخلها حافظا للقرآن وخرج منها حافظا للقرآن. وهذا بدون شك حكم صحيح وقاس في نفس الوقت. ولكن الشيخ يقصد أن معارفه لم تستثمر وأن مواهبه لم تكتشف كما كان يجب. أما إضافة المعارف الأخرى على حفظ القرآن فالزاوية كانت تقدمها لتلاميذها الذين بلغوا حوالي 80 تلميذا في عقد الستينات من القرن الماضي حين كان الشيخ ابن زكري تلميذا فيها تقريبا. وقد درس الشيخ أبو يعلى بنفس الزاوية أيضا. والظاهر أنه يؤيد شيخه في حكمه على نوعية التدريس فيها. وقد انتقدنا نحن طريقة التعليم في جامع الزيتونة وفي دار العلوم بمصر، ولكن هذا لا يعني عدم الفائدة كما يوحي كلام الشيخين، إنما بالمقارنة إلى التعليم الحديث فقط الذي يفيد التلميذ كثيرا وفي مدة قصيرة إذا توفرت شروط أخرى كالحوافز والمنافسة والفوائد المادية. وكلا الشيخين كان يعلن للفرنسيين أن تعليمهم أكثر فائدة وتقدما من تعليم الزوايا، وكلاهما أيضا انتقد ابن الحداد وثورته سنة 1871. ولا ندري ما وراء هذا الموقف منهما. وقد اعترف كل من ابن زكري وأبي يعلى أيضا بمكانة ودور الشيخ البوجليلي في وقته. وكان هذا الشيخ من شيوخ زاوية اليلولي، ثم أسس زاوية خاصة به في بني عباس. وقد درس عليه الشيخ ابن زكري ووالد أبي يعلى. فكيف يخرج ابن زكري من عنده كما دخل؟ ويقول أبو يعلى أن الشيخ ابن زكري كان كشيخه البوجليلي ذكاء وشهرة. وأنه أوعز إلى تلميذه هذا بأن يبطل الصلاة المبتدعة في آخر جمعة من رمضان (¬1). وهذا الرأي إنما يؤكد ما ¬

_ (¬1) أبو يعلى الزواوي، البصائر، 9 سبتمبر، 1938.

ذهبنا إليه من أن الشيخين - ابن زكري وأبي يعلى - إنما يبالغان عن قصد في نقد تعليم الزوايا، لأن الأول تولى الفتوى والتدريس للفرنسيين، والثاني توظف عندهم سنوات طويلة في الجزائر وخارجها قبل أن يلقي عصاه في جامع سيدي رمضان. هذا إلى أن الشيخ أبا يعلى كتب ما كتب زمن الحركة الاصلاحية التي جددت في الأساليب التعليمية وتخلصت من الطريقة السائدة في الزوايا. أما نقد هانوتو ولوتورنو لتعليم الزوايا ففيه الحق والباطل. إنه حق ما دام يبين جمود الطريقة التي كان يقوم بها المعلم للتلاميذ والاستمرار في تكريس الحفظ دون الفهم والتوضيح، والاقتصار من التعليم على ما يفيد عند الله فقط، وعدم مراعاة قدرة التلميذ العقلية في إعطائه المعلومات. ولكنه نقد باطل لأن القوانين الفرنسية نفسها حاربت التعليم العربي الإسلامي. وجمدته وأبقته هي أيضا في حفظ القرآن دون الفهم. والسلطات الفرنسية نفسها كانت تراقب هذا التعليم بدقة، ولو وجدت شيوخه ينشرون أفكارا لا تريدها أو يفسرون القرآن كما يجب لاعتبرت ذلك سياسة وتعصبا وعودة إلى الماضي. وهو ما كان ممنوعا بتاتا، والأمثلة متوفرة على ذلك. ثم أنه نقد باطل لأن المؤلفين يريدان أن يصلا إلى أن التعليم الإسلامي كله هو أسوأ أنواع التعليم الموجود على الأرض. ومن خلال ذلك الوصول إلى الحكم على تخلف الجزائريين وضرورة استسلامهم لرسالة فرنسا الحضارية. ومع ذلك نذكر ما قدماه (نعني هانوتو ولوتورنو) ليستفيد منه الجيل الحاضر فيأخذ بالحق ويتجنب الباطل من هذا النقد. إن البرنامج الدراسي في الزوايا محدود جدا، حسب رأيهما، إذا قارناه بمجموع المعارف عند الشعوب المتحضرة. فهو برنامج يفرض جهدا عظيما من أجل فائدة ضئيلة، إذ لا نتيجة تجنى من حشو رؤوس التلاميذ في المعمرات (الزوايا) القرآنية. خذ مثلا تلميذا قضى عشر سنوات في الزاوية، وحفظ القرآن وشروحه، ودقق معلوماته فلم يترك صوتا ولا حرفا إلا تعلمه، ثم اسأله عن أي معنى من المعاني فإنه سيعجز، لأنه لم يوجه إلى ذلك أبدا.

ونفس الشيء يقال عن المواد الأخرى، كالنحو والصرف. فالتلميذ يقرأ النص جيدا وينطقه نطقا سليما، لكنه يقلب المعنى بطريقة تثير ابتسامة الغريب عن الموضوع ويجعله يفهم أنه لم يدرك العناصر الأولية للنحو (¬1). أما عن الحساب فإنه لا يوجد في المنطقة كلها من اشتهر بمعرفة العمليات الأربع، وكذلك معارف الطلبة في علم الفلك. وفي ميدان الفقه تلعب الذاكرة دورا كبيرا ولكن لا وجود للذكاء والتعليل. ذلك أن الشيخ يكتفي بترديد أقوال الشراح الذين ينقل عنهم ولا يضيف رأيه إلى ما يقول لتلاميذه. فهو لا يبين لهم لماذا شرع التشريع، أو لماذا توقف المشرع عند هذه النقطة أو تلك. ذلك أن معرفة النصوص وحفظها هي علم الفقه عنده وعند غيره. وفي هذا الرأي كثير من الصواب، فطريقة التعليم كانت على الجملة عقيمة. وذلك هو ما أدى بالمجتمع الإسلامي كله إلى التدهور الفكري طيلة قرون. وقد عرف أحد الفقهاء أكثر شهرة في الجزائر ذات يوم فئات المتعلمين التعريف الآتي: العالم هو من إذا طرح عليه مشكل فقهي استحضر له على الفور نصوص المؤلفين السابقين. والطالب هو الذي لا يستطيع استحضار النصوص كالعالم، ولكنه يعرف أين توجد صفحاتها في الكتب بدون تردد. وبعد ذلك تأتي أصناف (الطلبة) حسب طبقاتهم العلمية، وكذلك حسب أهمية الموضوع، وقدرتهم على استحضار الصفحات في المؤلفات الخ. ومن النقد أيضا أن الزوايا لا تدرس علوما أخرى مثل الأدب والتاريخ والجغرافية والرياضيات والعلوم الطبيعية. والقليل من الناس فقط هم الذين سمعوا بهذه العلوم في المنطقة (¬2). وإلى جانب هذا النقد الصارم للبرنامج يوجد أيضا إعجاب واهتمام ¬

_ (¬1) قارن ذلك برأي ألفريد بيل أيضا في حكمه على تعليم المدرسين بالمساجد، أوائل هذا القرن (حوالي 1908). (¬2) هانوتو ولوتورنو، مرجع سابق، ص 113 - 114.

بنظام الزوايا في تسييرها وتمويلها. فهي جميعا تقريبا تحت إدارة التلاميذ أنفسهم، مثل زاوية اليلولي. وقد تكون الإدارة تحت يد المالك للزاوية، وذلك بالتعاون والتفاهم مع الشيخ المدرس. ويكون ذلك بتنظيم التلاميذ في مجموعات مسؤولة. وهؤلاء هم الذين ينتخبون من بينهم (المقدم)، وهو بالطبع غير مقدم الطرق الصوفية، وإنما هو شخص كالمدير. وهو الذي يشرف على أموال الزاوية. وهم ينتخبون أيضا الوكيل الذي يقوم بدور المحاسب. والمقدم والوكيل يعملان تحت إشراف مالك الزاوية. وقد يكون المالك أحد الورثة. وفي هذه الحالة لا تدخل الزيارات (التبرعات) في حساب الزاوية لأن الزاوية (المعمرة) إنما هي ملك للقرية كلها. أما الزيارات فتأتي للورثة المالكين. ومن حقوق المالك الاستفادة من أعمال التلاميذ لشؤون الزاوية وخدمتها. والتلاميذ يتقاسمون العمل فيما بينهم كالتحطيب وتوفير الماء ونحو ذلك. ولهم الحق في جمع التبرعات من الأسواق. ويقدم السكان إلى الزاوية زكاتهم (العشر) من الحبوب، وكذلك الحيوانات والدراهم إذا احتاجت منهم المساعدة. وللزاوية أملاك هي أحباس لفائدتها. ويدفع التلاميذ عند الدخول بين 15 و 50 فرنك إذا كان لهم مال. ومن شروط الدخول أن التلميذ يخضع لأسئلة كثيرة من المقدم والمالك. فيسألونه عن منبته وأهله ودراسته، ثم يؤجل النظر فيه، وبعد ذلك يصدر قرار بقبوله من المقدم والمالك والشيخ. ويخضع التلاميذ لنظام داخلي ولانضباط صارم. وهم يتعهدون بعدم كسر أو هدم أي شيء في الزاوية، واحترام المسؤولين، والزملاء. ومن تلاميذ الزاوية متزوجون تعيش نساؤهم في القرية. وفي هذه الحالة لا ينامون في الزاوية بل يذهبون إلى القرية، ويعطي لهم الوكيل حصتهم من مدخول الزاوية عينا (¬1). ولكي نقدر دور الزوايا في منطقة زواوة علينا أن نعرف أن السلطات ¬

_ (¬1) هانوتو ولوتورنو، مرجع سابق، 119 - 121. انظر أيضا إيمانويل بوجيجا (التعليم الأهلي) في SGAAN (1938)، عدد 153 - 154، ص 53. وقد نقل الكثير عن المصدر السابق.

الفرنسية جعلت المنطقة هدفا منذ احتلالها، 1857، وقد ازداد الاهتمام الخاص بها منذ ثورة 1871. ويخبرنا أحد الذين عملوا طويلا كإداري هناك، أن الحكومة الفرنسية قد تعاونت في ذلك مع الكنيسة منذ الستينات - عهد الجوائح الشهيرة وعهد الحاكم العام ماكماهون والكاردينال لا فيجري Lavigerie ويقول بوجيجا إن الكاردينال قد حاول أن يحتل أرواح وقلوب سكان المنطقة، بعد أن احتل الجيش الفرنسي أرضهم وديارهم، فأنشأ الكاردينال هناك إرساليات الآباء البيض قبل 1870. وحاول الجزويت نشر التعليم الذي كانت الحكومة تمنعه في فرنسا. ثم قام لافيجري بعد ذلك بإرسال الآباء والأخوات البيض إلى هناك فرفضهم السكان وطردوهم خلال بضعة أشهر، فاستقروا في الجنوب. وبعد محاولة أخرى ابتداء من سنة 1873، أي أثناء الاضطهاد الجماعي والمصادرة والنفي إثر ثورة 1871، مهدت مدارس الآباء البيض للحكومة الفرنسية لكي تنشئ بعض المدارس الخاصة بمنطقة زواوة (القبائل) سنة 1882. ويقول بوجيجا أيضا أن تجربة الحكومة لم تستمر لأسباب محلية، بينما استمرت جهود الآباء البيض (¬1). في هذا الإطار يجب النظر إلى التعليم الذي كانت تقوم به الزوايا في منطقة زواوة. إنه تعليم يدخل في نطاق المقاومة والمحافظة على الذات في وجه الغزو التنصيري الذي جاء في أعقاب الغزو العسكري للمنطقة. وبشهادة الدارسين الفرنسيين أنفسهم، فإن هناك تعاونا وثيقا بين مختلف الجهات الفرنسية: الجيش والكنيسة وإدارة التعليم بهدف التسرب إلى المنطقة والتحكم في أرواح أهلها وقلوبهم، حسب تعبير الكاردينال نفسه. وكان الفرنسيون يعيشون في خوف دائم من شبح ثورة أخرى شبيهة بثورة 1871 ومن تجذر الإسلام في المنطقة، ويقول ليونار بارليت L.Barlete سنة 1913، وهو يتحدث عن بلدة ذراع الميزان التي عمل فيها طويلا وكتب عنها: (إن الإسلام هنا منطبع ومنقوش العمق مما يجعل إزالته ليس بالأمر الهين في المدى القريب) (¬2). ¬

_ (¬1) إيمانويل بوجبجا، مرجع سابق، 54. (¬2) ليونار بارليت، عمل متصرفا لبلدية ذراع الميزان المختلطة عندئذ، وكانت تشمل =

ورغم النقد الذي قد يوجه إلى منهج التعليم في الزوايا المذكورة أو إلى استعمال الخرافات والبدع في بعض زوايا الطرق الصوفية، فإن المرء لا يملك إلا أن يزداد إكبارا وتقديرا لمقاومة رجال الزوايا التعليمية في منطقة زواوة التي جعلتها السلطات الفرنسية هدفا لمسخها ففشلت. فالزوايا التعليمية الباقية بعد الاحتلال والاضطهاد، والتي قدرت بين 17 و 19 زاوية يجب التنويه بها. وقد تعرض معظمها إلى الحرق والتلف أثناء ثورة التحرير مما يدل على الطغيان الاستعماري. وقد ذكرنا منها زاوية اليلولي، وابن أبي داود (تاسلنت)، وزاوية آل سحنون، وزاوية صدوق، وحتى زاوية شلاطة رغم مواقف بعض أصحابها الذين لم يقدروا حكم التاريخ. وقد بقي علينا أن نقول كلمة في زاوية ظهرت أيضا زمن الطغيان الاستعماري في المنطقة، وهي زاوية بوجليل في بني عباس. وصاحبها يستحق الدراسة من عدة وجوه، فهو عالم ومقدم طريقة ومؤلف. ونحن هنا إنما نهتم به كعالم ومدرس في زاوية لعبت دورا في نشر التعليم العربي الإسلامي. أما دوره في التصوف (وقد كان رحمانيا) فمكانه فصل الطرق الصوفية، وأما مؤلفاته فسنعالجها في الجزء الخاص بذلك. ولد الشيخ محمد بن بلقاسم البوجليلي حوالي 1836 في قرية بوجليل، إحدى قرى بني عباس حكم بجاية، وهي مقر آل المقراني قبل انتقالهم إلى مجانة. وأسرة البوجليلي معدودة في الأشراف حسب رواية الورتالاني. وظلوا يقومون على خدمة العلم. وقد اشتهر منهم محمد بن بلقاسم هذا في ميدان التعليم. وسمعت شخصيا تنويها كبيرا به من قبل المرحوم محمد البشير الإبراهيمي الذي حدثني عنه عندما كنت طالبا في مصر. ولم أكن إذاك أعرف شيئا عن الشيخ البوجليلي. والشيخ الإبراهيمي الذي قلنا إنه درس في زاوية شلاطة، ¬

_ = الأعراش الآتية: فليسة، آيت اسماعيل، والمعاتقة، والنزليوة، والعبيد، الخ. انظر (مونوغراف ... ذراع الميزان) في SGAAN، 1913 ص 462.

من أعرف الناس بتقييم العلماء في هذا الميدان لحاسته النقدية والعلمية الدقيقة، وكان قد سمع عن الشيخ البوجليلي من تلاميذه. التحق محمد بن بلقاسم بزاوية اليلولي سنة 1261 (1845). وكان قد حفظ القرآن على والده. فيكون عمره إذاك حوالي 14 سنة كما جرت عادة صبيان المنطقة. ومن شيوخه في زاوية اليلولي، العربي الأخداشي ومحمد الطاهر الجنادي ومحمد بن علي بن مالك التقابي، وقد ذكرنا قبلا أن زاوية اليلولي من المتخصصات في الدراسات القرآنية، ولذلك كانت قراءة البوجليلي مركزة على القراءات برواية قالون، ثم قرأ العشر، وتعلم النحو. ودام ذلك حوالي أربع سنوات. وتعلم بالإضافة إلى القراءات علوما ذكرناها كالفقه والتوحيد والنحو والصرف والحساب والفلك. وسند البوجليلي في القراءات مذكور في المصادر التي بين أيدينا عن شيوخه المذكورين عن شيوخهم إلى الشيخ اليلولي المتوفى سنة 1105 (1691). وأما سنده في الفقه والطريقة الرحمانية فقد أخذه عن شيخه محمد امزيان الحداد بصدوق. وختم على يديه أيضا السلم المرونق في المنطق للأخضري وكذلك الجوهر المكنون له في المعاني والبيان، كما أخذ عنه الاستعارات للسمرقندي. وبعد أربع سنوات في زاوية اليلولي انتصب للتدريس بها حوالي ثلاثين سنة. وقد درس علوما شتى هي التي تلقاها عن شيوخه، ولكنه عرف بالتمهر في علم النحو، وهو علم عقلي، كما نعرف. وعز عليه أن يرى بلاده وقد تنكر لها الزمان، وملكها الطغيان، وعاصر أحداث الثورتين في المنطقة - 1857، و 1871 وما رافقهما وما لحق وراءهما، سيما الثانية، من انتقامات مريعة. وتأمل في سبب ما عليه الفرنسيون من قوة وجبروت وما عليه الجزائريون من ذل وهوان. فأراد أن يجاهد بطريقته وأن يحافظ على التراث، وأن يبث في تلاميذه روح المواصلة للمقاومة مع نور العقل وروح الإصلاح. ولذلك لم يفتح زاوية لإعطاء الأوراد والبركات الصوفية ولكن فتحها للتدريس ومنح الإجازات (الشهادات)، كما لاحظ الخبراء الفرنسيون المعاصرون له. ولعله اتخذ التصوف المسموح به غطاء للعلم غير المسموح

زوايا الجنوب

به. ومن ذلك موقفه في إجازته لتلميذه محمد بن عمر السازيلجي سنة 1876، وهو تاريخ مظلم في المنطقة، فقد رخص له بتعليم كل العلوم التي أخذها عنه، وهي النحو والفقه والحديث. وجعله في مكانه ومكانته في هذه العلوم (¬1). ومن تلاميذ البوجليلي أيضا محمد السعيد بن زكري وأبو يعلى الزواوي ومحمد الصالح القلي، الذي مدح شيخه بقصيدة (¬2). وقد شهد بعض تلاميذه كابن زكري، أنه كان من المصلحين ودعاة القضاء على البدع التي كانت تساعد على نشر الشعوذة والخرافة، وكانت المدخل الذي يدخل منه المستغلون للشعب للسيطرة والتجهيل. زوايا الجنوب ليس هناك حد فاصل ومصطلح متعارف عليه لمفهوم الجنوب في الجزائر. فقد يعني تارة الخط الذي يلي الأطلس الصحراوي. وبذلك تكون بسكرة وبو سعادة والمسيلة والأغواط والبيض وعين ماضي كلها جنوبية. وقد يعني فقط أرض الرمال، كالعرق الشرقي والعرق الغربي، فتكون سوف وتقرت وورقلة وشبكة ميزاب ومتليلي وتوات هي الخط الجنوبي. وإلى آخر القرن الماضي كان المقصود بالجنوب هذه الحدود والبلدان والواحات حيث النخيل والرمال والشمس المحرقة صيفا والبرد اللافح شتاء. ولكن منذ آخر القرن الماضي امتدت الحدود إلى بشار وتندوف ورقان وعين صالح. ¬

_ (¬1) ديبون وكوبولاني (الطرق ...) مرجع سابق، ص 390 - 391. وقد ترجم الإجازة إلى الفرنسية الضابط جان ميرانت الذي أصبح بعد حين مديرا للشؤون الأهلية. انظر فصل الطرق الصوفية عن خلافة الشيخ الحداد بعد وفاته. وذكر ديبون وكوبولاني أن البوجليلي كان من دوار تيقرين، بلدية آقبو عندئذ. وكان يوقع اسمه بإضافة (الحسني) على أنه من الأشراف. وكان أتباعه الرحمانيون سنة 1897 يتجاوزون تسعة آلاف. (¬2) عنه انظر أيضا علي امقران السحنوني، من بحث له عن الشيخ البوجليلي، وكذلك بحث الدكتور عمار الطالبي الذي قدمه عنه لمؤتمر الفكر الإسلامي، 15 في بجاية.

والمنيعة وتمنراست وجانت. وأصبح الجنوب هو تلك المساحات الشاسعة من الصحراء التي تشمل الهقار وسكانه الملثمين. ونحن سنطلق كلمة الجنوب على كل المدن والقرى والواحات الواقعة وراء الأطلس الصحراوي والتي تمتد إلى حدود مالي والنيجر. وهذه المنطقة من الوطن غنية بتراثها العلمي والديني، وغنية بعلمائها ومؤلفيها، وبزواياها ونظمها، وكذلك غنية بآثارها ومكتباتها، ولكن البحث في ذلك ما يزال ضعيفا، ولم يهتم بها إلا الأجانب، رحالة ومستكشفين، وحكاما ودارسين، ومبشرين وجواسيس وتجارا. وقد اشتهر بعضها بالدين والتصوف مثل عين ماضي وتماسين وقمار وعميش والقنادسة والهامل وطولقة والرويسات والبيض. واشتهر بعضها بالكتب والعلم مثل تمنطيط وتوات وميزاب. وعرف عن بعضها الاهتمام بالتجارة والمغامرات وخبرة الطرق مثل غرداية ومتليلي وسوف والمنيعة وعين صالح. كما اشتهرت تقرت بأنها عاصمة سلطنة بني جلاب التي انقرضت، والهقار بآثار الطاسيلي التي ترجع إلى مئات السنين وبأبجدية التماشق. ومن منا قد درس أو تخصص في هذه الظواهر الحضارية للجنوب الغني والمتسع عبر مئات الأميال؟. إن اهتمامنا هنا سينصب فقط على ظاهرة الزوايا التعليمية وليس على الزوايا مطلقا. وقد تعرضنا في فصل الطرق الصوفية إلى دور الزاوية الديني والروحي والاجتماعي. وذكرنا هناك أن تعليم القرآن كان ظاهرة اشتركت فيها معظم الزوايا حتى تلك التي لا تتخذ من التعليم وسيلة للعيش أو التقرب إلى الله زلفى. أما الزاوية كمدرسة لنشر العلم بالمفهوم التقليدي فقد كان عددها قليلا نسبيا. ويمكن أن نقول أنها لا تتجاوز العشرة. وهناك مدرسون لم يؤسسوا زوايا وإنما اتخذوا التعليم وسيلة وقربة إلى الله، في منازلهم ومساجدهم، مثل ما فعل الشيخ محمد بن علي بن شبيرة وأخوه أحمد في بوسعادة (¬1). وما فعل الشيخ محمد بن عبد القادر من نفس ¬

_ (¬1) توفيا في حدود 1270 هـ وقد نفتهما السلطات الفرنسية إلى تونس لمشاركتهما في ثورة الزعاطشة.

زاوية طولقة

المدينة (¬1)، وكذلك ما فعل الشيخ محمد بن يوسف اطفيش في ميزاب (¬2)، والشريف بن الأحرش في الجلقة (¬3)، وعشرات غيرهم في بسكرة والوادي وتقرت وا لأغواط. زاوية طولقة ومن أقدم الزوايا التعليمية زاوية طولقة التي أسسها الشيخ علي بن عمر. وقد تعرضنا لحياته في الطرق الصوفية، وقلنا أنه توفي قتيلا سنة 1842. وقد عاشت الزاوية ظروفا صعبة صادفت تأسيسها، ونعني بذلك الاحتلال الفرنسي من جهة، وحركة الجهاد من جهة أخرى. وقد تنازع أهل المنطقة الولاء بين الأمير عبد القادر وأحمد باي وعائلة بو عكاز وعائلة ابن قانة. وكان على الزاوية أن تتخذ موقفا حذرا ومحايدا. كما واجهت الزاوية امتحانا آخر صعبا عند ثورة 1871، وكانت عندئذ بزعامة الشيخ علي بن عثمان. فلم تتبع الشيخ الحداد في دعوته للجهاد، وظلت الزاوية في ظاهر الأمر محايدة. ونحن نعرف أن فروع الرحمانية عندئذ قد استقلت وليس لها (شيخ) ترجع إليه. هذا عن الجانب السياسي. أما عن الجانب التعليمي فقد تطورت الزاوية مع الحياة تحت الاحتلال، وبذلت جهدا كبيرا في نشر التعليم العربي والعلوم الإسلامية، وقد اشتهرت بالخصوص في عهد علي بن عثمان الذي طال عهده (1842 - 1896). فقد كان محبا للعلم وللكتب فأسس مكتبة متنوعة. وفتح أبواب الزاوية للتلاميذ من مختلف النواحي، وكان تعليمها قويا. وكان والد الشيخ ¬

_ (¬1) توفي في حدود سنة 1300 هـ. وله أبناء وأحفاد ساروا على نهجه. جاء في إحدى الوثائق التي ترجع إلى سنة 1278 أن عمر بن عبد القادر البو سعادي كان طالبا أزهريا (تخرج من الأزهر بمصر) وأنه قد اطلع على ما دار بين محمد بن بلقاسم البوجليلي وسليم البشري، مفتى مصر عندئذ. فهل عمر البو سعادي هذا هو نفسه محمد بن عبد القادر؟ وهل (عمر) هو تحريف (محمد) أو العكس؟. (¬2) سندرسه في مكان آخر، انظر لاحقا. (¬3) توفي في حدود 1280، وله تآليف سنتناولها في جزء آخر.

الحفناوي مؤلف (تعريف الخلف) قد تولى التدريس بزاوية طولقة خلال الستينات من القرن الماضي. فكانت تضم بين 40 و 50 تلميذا، بالإضافة إلى جمع غفير من العامة يضيق بهم جامع الزاوية. وفي القرن العشرين استقبلت عددا من التلاميذ الذين برزوا في ميادين أخرى، منهم بعض أعضاء جمعية العلماء المسلمين فيما بعد. وهم مدينون لها بالولاء ولشيوخها بالاحترام. ويبدو أن الزاوية لم تكن معارضة للحركة الإصلاحية إذ بطبيعة المنطقة حب العلم واللغة العربية والتدين. ومن المعاصرين للشيخ علي بن عمر مقدما الرحمانية في خنقة سيدي ناجي وأولاد جلال، وهما عبد الحفيظ الخنقي والمختار بن خليفة. وكان الثلاثة من تلاميذ الشيخ محمد بن عزوز، في التصوف وفي العلم، وقد حجوا معه وتأثروا به. وأسس هو (ابن عزوز) زاوية البرج (برج طولقة) الشهيرة أوائل القرن 19. وأصبح له تلاميذ ومقدمون. وقد اتبع في ذلك شيخه عبد الرحمن باش تارزي وتعاليم الطريقة الرحمانية التي كانت تدعو إلى العلم والتصوف. وتوفي محمد بن عزوز سنة 1233 هـ، وخلفه أبناؤه في البرج وفي نفطة (تونس)، ومنهم مصطفى بن عزوز، الذي كان يدير زاوية نفطة الشهيرة بالعلم، والحسن بن عزوز الذي كان خليفة للأمير في الزيبان. وهكذا تكون المنطقة - الزيبان - كلها غنية بالتعليم على يد هؤلاء الشيوخ. ذلك أن حركة التعليم لم تكن مقتصرة على شيوخ الزوايا، كما عرفنا، إذ هناك المدرسون المتطوعون في مختلف المساجد، وهناك من كان يدرس في داره أو في غير ذلك من الأماكن. ولكن عندما قضى الاحتلال على ظاهرة التعليم الحر والمدعوم بالأوقاف، انحصر هذا النوع من التعليم أو كاد في الزوايا الصوفية أو زوايا المرابطين الذين انتزعوا الاعتراف لهم بذلك من السلطات الفرنسية لأسباب سياسية واجتماعية. وكانت زاوية طولقة هي وريثة زاوية البرج في الناحية. ونحن نعلم أن البعض من عائلة ابن عزوز قد لجأ إلى نفطة (تونس) بعد احتلال بسكرة

ونواحيها. وفي نفطة تأسست زاوية أصبحت من الشهرة بحيث طغت على زوايا بسكرة ونواحيها سيما في عهد الشيخ مصطفى بن عزوز. ونحن هنا نتكلم عن سمعتها في التعليم وليس في التصوف. وقد اقتدت بها الزوايا الأخرى في الزيبان وسوف فتنافست وتبادلت المدرسين والتلاميذ. ومن أبرز الذين درسوا في نفطة عندئذ الشاعر المعروف في وقته، وهو عاشور الخنقي. ويمكن القول أن اشتغال زاوية طولقة وزاوية الهامل (بو سعادة) بالتعليم خلال النصف الثاني من القرن الماضي كان بدافع التنافس من جهة وبتغاضي الفرنسيين من جهة أخرى، فقد كان هؤلاء يريدون انتزاع الفتيل أو الشعلة من يد زاوية نفطة التي كانت ملجأ للعلم وللسياسة أيضا. ولذلك خبا إشعاعها كثيرا بعد احتلال فرنسا لتونس سنة 1881. وكان شيوخ زاوية نفطة يأتون إلى الجزائر بحكم الأصل من جهة، وبحكم الروابط الروحية (الرحمانية) والتعليمية من جهة أخرى. ولذلك وجدنا عددا من شيوخ العائلة العزوزية قد استقروا في الجزائر أو درسوا فيها أو عبروها أو تجوزوا منها في عدة مناسبات. ومن أبرزهم الشيخ المكي بن عزوز الذي درس في زاوية الهامل وتنقل بين طولقة وغيرها من المدن والقرى. وكذلك فعل ابنه محمد الكامل. وقد قام الشيخ محمد الخضر حسين، وهو منهم، بجولات في الجزائر أوائل القرن فنزل عنابة وباتنة والعاصمة. ونجد ذلك في رحلته. ثم أسسوا زوايا تعليمية في العين البيضاء وخنشلة وخيران وسوق اهراس. وكانت سوف أقرب نقاط الحدود إلى نفطة، فاستفادت من الاتصال العلمي بزاويتها. وكانت زاوية سيدي سالم في الوادي تتبع زاوية نفطة في التعليم واقتناء الكتب واستقبال التلاميذ من الأوراس وغيره، ولكنها كانت تتبع زاوية طولقة من حيث الطريقة، لأن شيخها (سيدي سالم) قد أخذ الإجازة عن علي بن عثمان. ومن علماء سوف الذين درسوا في نفطة قبل الزيتونة، الشيخ عبد القادر الياجوري (¬1). وكان الشيخ العربي التبسي من تلاميذها أيضا. ¬

_ (¬1) انظر دراستنا عنه في مجلة الثقافة، 1995.

زاوية الخنقة

زاوية الخنقة وفي خنقة سيدي ناجي كانت زاويتان: الناصرية التابعة لعائلة ابن حسين والرحمانية التي أنشأها الشيخ عبد الحفيظ. وكلتاهما نشرت التعليم في البلدة وفي الناحية. وكانت السياسة الفرنسية تقضي بالتعامل على أساس (الصفوف) أو العداوات بين الساكنين. ولما كانت زاوية عبد الحفيظ قد مالت إلى السياسة المعادية لفرنسا بدعمها للثورات، كثورة الزعاطشة وثورة الصادق بن الحاج بالأوراس، فإن الفرنسيين اتكأوا على الزاوية الناصرية ووظفوا منها بعض الرجال وظائف قيادية. وفعلوا معها مثلما فعلوا تقريبا مع زاوية شلاطة في منطقة زواوة. ولكن نشر التعليم كان مبدأ محترما من الزاويتين. ومن تلاميذ زاوية خنقة سيدي ناجي الشيخ العربي التبسي الذي بقي فيها ثلاث سنوات حفظ خلالها القرآن ومبادئ الدين والعربية. وكانت زاوية أولاد جلال قد سارت في نفس الاتجاه أيضا على يد الشيخ المختار بن خليفة. وكانت قد خدمت أهل الناحية سيما أولاد نائل والسحاري بنشر التعليم والمحافظة على مبادئ الدين أثناء سيطرة الاحتلال على الجنوب. زاوية الهامل قرأ الشيخ محمد بن بلقاسم في زاوية ابن أبي داود بمنطقة زواوة. وكانت هذه الزاوية تهتم بدراسة الفقه، كما سبق. وكان معاصرا لشيوخ الرحمانية البارزين أمثال الحاج عمر والحداد والبوجليلي. كما عاصر مقاومة الأمير عبد القادر وثورات الشريف بو بغلة في زواوة والشريف محمد بن عبد الله في الجنوب، وثورة الصادق بن الحاج في الأوراس. إنه عصر الانتفاضات الشعبية ضد الاحتلال. وكانت هذه الحركات قد أدت إلى توقف العديد من الزوايا عن مهمة التعليم وتخريب بعضها وحمل الطلبة السلاح. وفي سنة 1849 أنشأ محمد بن بلقاسم زاوية أولى بالهامل على مسافة عشرة كلم عن بو سعادة. وهذا التاريخ مهم لأنه تاريخ ثورة الزعاطشة التي اهتزت لها بو سعادة أيضا وشارك فيها أهلها وعلماؤها أمثال ابن شبيرة الذي سبق ذكره. إن إنشاء أول زاوية في الهامل قد تصادف مع هذه الثورة وما تلاها من

خراب ومطاردات. وكانت أولاد جلال وزاوية الشيخ المختار من المجندين في هذه الثورة أيضا. إن العلم والتصوف والجهاد هنا لا ينفصل أحدهما عن الآخر. وقد حدث نفس الشيء أيضا في زوايا زواوة. وبعد أن رتب الشيخ محمد بن بلقاسم زاوية أولاد جلال رجع إلى الهامل وأسس الزاوية الحالية من تبرعات الأهالي السخية، وهو المشاع. ثم انتصب للتدريس في العلوم التي حذقها. وكان فصيح اللسان، ومطلعا ذكيا، وعالما واسع المعرفة، ولم يكن ليكتفي بما لقنه شيوخه بالطريقة التي انتقدها هانوتو ولوتورنو بشدة، بل قرأ كتبا غيرها، ولاحظ الآراء التي تقال هنا وهناك، وعلم أن العلم ليس في الحفظ وحده ولكنه في إدراك الحقائق عن طريق التأمل والمساءلة والمحاورة والشك. وكانت الناحية متعطشة للتعليم فأقبل عليه التلاميذ من كل فج، وانتشرت سمعته كعالم قبل كل شيء. ولكن منطق العصر رأى أن هذا العالم قادر أيضا على الإتيان بالكرامات، فاعتقد الناس في الشيخ محمد البركة والكرامة إلى جانب العلم والفصاحة. ولم يكن ليرفض ذلك للسبب الذي ذكرناه، ولأن السلطات الفرنسية لا تسمح بالتعليم على هذا النطاق إلا في حدود التصوف الذي يخدم مصالحها. ثم أن الشيخ، رغم مصاهرته آل المقراني، لم يشايعهم في ثورتهم، ورغم أنه رحماني فإنه لم يشايع الشيخ الحداد أيضا. وهكذا أظهر استقلاله التام وحياده إزاء ثورة 1871، ولكن ذلك لم يمنعه من استقبال اللاجئين إلى الزاوية من الفريقين (آل المقراني وآل الحداد)، ولنا أن نفهم أن الشيخ محمد بن بلقاسم قد استعمل العلم غطاء للتصوف واستعمل التصوف غطاء للعلم. كما استعملهما معا غطاء للسياسة. ولو تأملنا في سيرته وسيرة البوجليلي وسيرة الموسوم وعلي بن عثمان لوجدناهم من طينة واحدة في الذكاء والعلم والمناورة ليعيشوا مع العصر الذي وجدوا أنفسهم فيه. وقد قدموا جميعا خدمة كبيرة للتعليم العربي ولكنهم لم يستطيعوا أن يخترقوا حدود الواقع ولا أن يتقمصوا هوية الشعب، رغم أن بعض الباحثين

رأى أن موقفهم كان يمثل صمود ومقاومة الثقافة الوطنية (¬1)، وكلهم عرفوا الفرنسيين عن كثب وخالطوهم. استعان الشيخ محمد بن بلقاسم في التدريس بعدد من الشيوخ، خلافا للزوايا الأخرى. كان الشيخ يستعين فقط بتلاميذه القدماء ويجعل منهم طبقات تعلم إحداها الأخرى. ومن أشهر من استعان بهم ابن أخيه محمد بن الحاج ومحمد بن عبد الرحمن الديسي، وعاشور الخنقي. وكان الثلاثة، ولا سيما الثاني، قد كرسوا أنفسهم لخدمة العلم تدريسا وتأليفا. ففي ظلام حكم شأنزي ولويس تيرمان ومن جاء بعدهما كانت زاوية الهامل تبعث نورا عاليا في الخافقين. وقد يكون ذلك هو الكرامة الحقيقية للشيخ، لأن العلم هو أكبر كرامة للإنسان. كانت سمعة الشيخ محمد بن بلقاسم العلمية والروحية تملأ الأفق، ويسير بها الركبان، وكانت سمعة الشيخ الديسي في الفقه واللغة والعقائد قد وصلت إلى المغرب وتونس. أما سمعة الشاعر عاشور فقد لفتت الأنظار إلى ما في زاوية الهامل من رصيد أدبي قوي، سيما عندما نظم أشعاره في الدفاع عن الأشراف، وشارك علماء المغرب والمشرق في النزاع الذي نشأ حول هذه المسألة. وكان الشيخ عاشور يوقع أشعاره ورسائله بـ (كليب الهامل) أو حارس زاوية الهامل والأشراف (¬2). وبرنامج التعليم الذي راج في زاوية الهامل هو نفسه البرنامج القديم للدراسات العربية والإسلامية، فالشيخ محمد كان يدرس التفسير والفقه والحديث والتوحيد. ولكنه كان لا يهمل الأدب والتاريخ والسيرة النبوية. وتدعمت الدراسات الأدبية بانضمام الشيخ عاشور، كما تدعمت دراسة العقائد والمنطق بانضمام الديسي. وكانت الكتب المخطوطة والمطبوعة ترد على ¬

_ (¬1) كلنسي - سميث (ثائر وقديس)، فصل الشيخ وابنته، 1994. (¬2) سنعالج هذه القضايا في فصل الشعر. وللشيوخ الثلاثة (ابن الحاج، والديسي، والخنقي) تآليف سنعرض إليها. وعن بركة الشيخ الهاملي ونظرة الناس إليه كمتصوف انظر فصل الطرق الصوفية وما كتبه عنه ديبون وكوبولاني، وأشيل روبير ... أما ترجمته في (تعريف الخلف) فهي مليئة بالمبالغات السخيفة.

الزاوية بالهدايا ونحوها. حتى تكونت مكتبة مرجعية هامة. وأدت شهرة الشيخ إلى كثرة الزوار والعلماء للزاوية وإلى طلب الإجازات العلمية والصوفية. فنحن نعلم أن طلب الإجازة جاء من طلبة تونس والمغرب والجزائر وتلمسان وقسنطينة. واشتهرت مؤلفات الديسي وعرف برزانته واتساع علمه، رغم عاهة فقد البصر، فوردت على الزاوية الرسائل والمساءلات. ونحن نملك طلبات ونسخ الإجازات الصادرة عن الديسي والشيخ محمد الهاملي إلى العديد من علماء الوقت. ومنهم ابن سماية وعبد الحي الكتاني والقاضي شعيب بن علي والمكي بن عزوز. أما الزوار فبالإضافة إلى هؤلاء هناك الشيخ محمد بن يوسف أطفيش وسليمان الباروني. يقول البعض أن تلاميذ الزاوية بلغوا نحو الألف. وربما كان هذا رقما مبالغا فيه، وقد يكون الرقم نصف ذلك. إذ لا يمكن لزاوية في حجم زاوية الهامل أن تأوي هذا العدد في وقت واحد، اللهم إلا إذا كان المقصود عدد المتخرجين منها مجتمعين. كما أن الناحية لا يمكنها أن توفر كل هؤلاء التلاميذ. وقد يكون من بينهم عدد من الغرباء، وهو تقليد كان معروفا في الزوايا. والذي لا شك فيه هو أن الزاوية أصبحت مدرسة ثانوية فيها خلية كبيرة من المعلمين والتلاميذ. كانت تتبع برنامجا محكما للتكوين، ولها جهاز قوي للتموين والنظافة والنظام. ولعل الشيخ محمد، وقد أقام ثماني سنوات في منطقة زواوة، قد تأثر بنظام الزوايا هناك من حيث الإدارة والتنظيم والانضباط، فاتبع نفس الشروط في القبول والإدارة. ولكننا لا نعرف ما إذا كان الشيخ هو كل شيء في الزاوية أو كان له وكيل ومقدم يساعدانه على إدارتها. وهل كان التلاميذ هم الذين يسيرون الزاوية، كما كان تلاميذ زاوية اليلولي؟ وقد قيل أن ابنة الشيخ، وهي السيدة زينب، كانت تشرف على مداخيل الزاوية وسجلاتها. ولا بد لدخول التلميذ من حفظ القرآن، وإذا لم يكن التلميذ يحفظ كل القرآن فإنه يدخل في مرحلة إعدادية تؤهله لذلك. وكان التدريس القرآني بالمسجد التابع للزاوية. ولا يدفع التلاميذ رسوما للدخول ولا للدراسة. ومؤونة وتمويل الزاوية إنما هما من الزيارات

والتبرعات وإحسان المحسنين. وكان للزاوية أملاك وأوقاف كبيرة نمت بالتدرج (¬1). ويمكن القول أن برنامج التعليم في الزاوية كان يقلد برنامج جامع الزيتونة وأمثاله. فهناك مراحل ومستويات من الابتدائي إلى الدروس العالية. وهناك دورات انتقالية. وتكاد الكتب المقررة تكون واحدة. والعلوم المتداولة هي العلوم الدينية والعربية طبعا (¬2). وبالإضافة إلى ذلك فإن الفلك والحساب والمنطق والعروض كانت تدرس أيضا في الزاوية. وتعتبر دروس الشيخ محمد القاسمي (الهاملي) والديسي من الدروس العالية. توفي الشيخ الهاملي وهو في أوج سمعته الروحية والعلمية، سنة 1315 (1897). وكان قد عجز في آخر عمره حتى أنه لم يستطع حضور تأبين الشيخ أحمد التجاني في الجامع الجديد بالعاصمة، فأرسل ابن أخيه محمد بن الحاج نيابة عنه. وقد جرى حفل التأبين قبل وفاته بعدة أسابيع فقط. ثم أقيم له هو أيضا تأبين رسمي في بو سعادة. وقد اهتزت الزاوية بعده قليلا حول الخلافة الروحية، أما الخلافة العلمية فقد استمرت على حالها طالما ظل الشيخ الديسي هناك. كما أن الشيخ عاشور قد تضررت سمعته من السجن الذي تعرض له والهجمة التي قامت ضده من بعض الجهات إثر صدور كتابه (منار الإشراف). وهكذا تأثر التعليم بالزاوية وبقي أمره كذلك إلى ما بعد الحرب العالمية الأولى. وبعد هذه الحرب برزت شخصيات وأفكار جديدة. وكان على الرؤساء الجدد للزاوية أن يختاروا بين الخط الطرقي العتيق، أو الخط الإسلامي الحديث، ولم يعد الأمر كما كان زمن الشيخ محمد بن بلقاسم (الهاملي). وأمام ظهور الأحزاب السياسية والبحث عن الأنصار هنا وهناك، ¬

_ (¬1) ذكرت المؤلفة كلنسي - سميث أمثلة على ثروات زاوية الهامل من الأراضي الزراعية وغيرها. انظر كتابها (ثائر وقديس). (¬2) ذكر الشيخ محمد علي دبوز (نهضة) 1/ 20، 56، 71، نماذج من الكتب التي كانت تدرس في الزاوية، فأرجع إليه.

الزاوية التجانية

كان من الصعب على رؤساء الزاوية أن يناوروا وأن يحافظوا على مكانتها القديمة. وقد كان في إمكانهم أن يعيشوا على تقاليد شيخهم في العلم والتصوف السني. ولكنهم أعلنوا صراحة أنهم مع المعسكر الآخر. معسكر الإدارة الفرنسية. فتولى بعضهم الوظائف الرسمية، وهذا مخالف لسيرة شيخهم وتقاليد الزاوية العلمية. وأصبح الشيخ مصطفى القاسمي الهاملي هو المتكلم الرسمي في التجمعات الطرقية التي كانت تعد لها وتشرف عليها الإدارة الفرنسية. ورغم أن التعليم قد بقي حيا في الزاوية فإنه لم يبق من أجل الهدف الذي كان يعمل له الشيخ الهاملي والديسي، كما أن موقف رؤساء الزاوية لم يكن محايدا في الأمور السياسية والدينية التي كانت تتفاعل في الجزائر (¬1)، وقد عارض الشيخ مصطفى القاسمي الاتجاه الوطني الذي مثلته جمعية العلماء وحزب الشعب وساند، بل ترأس مؤتمر الزوايا الذي كان يسير في التيار المعاكس (¬2). ويصف ابن بكار، أحد أنصار هذا التيار، الشيخ مصطفى القاسمي بقوله (وهو يعتقد أنه يمدحه): (وهو الذي أسس جامعة الزوايا والمعاهد العلمية الدينية الصوفية في الجزائر للذود عن حرمة الدين وصيانة عقائد المسلمين السنيين، وحمل رايتها عند ظهور المتطرفين) (¬3). وهو يعني (بالمتطرفين) أعضاء جمعية العلماء التي شارك الشيخ مصطفى القاسمي في تأسيسها ثم انفصل عنها. ولعله كان الأفضل للشيخ مصطفى وللجزائر أن يواصل رسالة الزاوية الأولى في التعليم بعيدا عن هذه اللجان الرسمية وجامعة الزوايا والمعاهد العلمية الدينية الصوفية التي كانت تأتمر بأمر الإدارة الفرنسية. الزاوية التجانية رغم أن الزاوية التجانية قامت على تراث أحمد التجاني، وهو متصوف ¬

_ (¬1) انظر فصل الطرق الصوفية، وكتابنا الحركة الوطنية، ج 3. (¬2) توفي الشيخ مصطفى القاسمي سنة 19. (¬3) ابن بكار (مجموع النسب)، ص 157 - 158.

ومتعلم، قرأ العلم وأقرأه في عدة أماكن وبلدان. وهاجر من أجله ومن أجل السلوك الروحي، وترك إملاءات وآثارا تدل على قدرة عقلية كبيرة، فإن خلفاءه في الجزائر لم يتبنوا التعليم كأساس لنشر سمعتهم الصوفية وبركاتهم، بل اكتفوا في أغلب الأحيان بالأوراد والأذكار وممارسات طقوسية تكاد تنافي العلم. وولدا الشيخ أحمد التجاني، وهما محمد الكبير وأخوه محمد الصغير لم يتمكنا من بعض التعليم في المغرب إذ توفي والدهما وتركهما يتيمين في حالة قصور. وقد مات الأول في محاربة باي وهران بناحية معسكر، وعاش الثاني إلى سنة 1853. وكان رجلا مجربا وداهية أكثر منه عالما. ذلك أنه لم يتول أمر الزاوية إلا بعد وفاة شيخ تماسين (سنة 1844)، ولذلك لم تستقطب زاوية عين ماضي في عهده التلاميذ ولا كبار العلماء، وإنما كانت تقرئ القرآن فقط لأبناء البلدة شأن أي مسجد في أية قرية. ثم فقدت الزاوية مكانتها بعد وفاته أيضا، إذ تحول مركز الثقل إلى تماسين من جديد. وزاد الطين بلة فراغ زاوية عين ماضي بعده من أي مدرس أو مكتبة أو حتى وريث شرعي، حسب بعض الروايات الفرنسية. وكان المشرى الريان، هو الوصي على الزاوية وقايد البلدة للفرنسيين، هو رجل لا يهمه العلم ولكن تهمه السمعة والمال. ولذلك أهمل حتى تعليم الطفلين المشتبه في أمرهما وهما أحمد والبشير (¬1). وقد ظل أمر زاوية عين ماضي على تلك الحال حتى في العهود اللاحقة عندما انتقلت إقامة الشيخ أحمد إلى قصر كردان حيث أقام مع زوجته الفرنسية أوريلي بيكار. وكان الشيوخ عادة هم الذين يعطون المثل في التعليم والاهتمام بالتلاميذ وجمع الكتب ومراسلة العلماء وتبادل الزيارات معهم، ولكن هذه السيرة لم تعرفها عين ماضي مع الشيوخ الذين تولوا أمر زاويتها بعد الشيخ محمد الصغير. كما أن تماسين لم تعرف عن شيوخ زاويتها حب العلم والدعوة إليه وممارسته إلا قليلا. فمؤسس زاوية تماسين منذ 1214 (1799)، وهو ¬

_ (¬1) عن هذه القصة انظر رين (مرابطون ..)، وتروميلي، وكذلك فصل الطرق الصوفية فقرة الطريقة التجانية.

الحاج علي الينبوعي، كان بسيط المعرفة حسب المترجمين له. فلا نعرف له معلما ولا إجازة سوى الإجازة الصوفية التي أخذها عن شيخه أحمد التجاني عندما زاره في المغرب الأقصى. وكان الحاج علي فلاحا معتزا بالفلاحة أكثر منه عالما متعلقا بالعلم والتآليف. ولا شك أنه اهتم بتحفيظ القرآن لأبنائه وأبناء البلدة أيضا. ولكن ذلك ما هو إلا الخطوة الأولى في طريق التعلم. وقد عاش الشيخ طويلا (ثمانين سنة) وتولى المشيخة (البركة) منذ حوالي 1204. وكان هو الحامل لهذه البركة قبل الاحتلال الفرنسي وإلى وفاته سنة 1260 (1844). ومع ذلك لا نعرف له تأليفا أو وثيقة مكتوبة صادرة عنه تدل على علمه، ولم يجلس للدرس في أي فن من الفنون، حسب علمنا. والناس على دين شيوخهم. وقد ترك الحاج علي التماسيني مجموعة من الأولاد (22 ولدا) والأحفاد ندر من ظهر منهم في ميدان العلم، وإن كانوا قد برزوا في مجال التصوف والجاه، ومنهم ابنه محمد العيد الذي تولى بعده شؤون الزاوية، ثم أضاف إليها البركة بعد وفاة الشيخ محمد الصغير التجاني، كما أشرنا. وكان محمد العيد عارفا بأمور الدنيا والتصوف، وقد حج بيت الله، وزار تونس واطلع على بعض أحوال العالم، ومع ذلك لا نجده قد أسس كرسيا للتعليم في زاويته أو انتصب هو لذلك أو شجع عليه. وكان الشيخ محمد العيد معاصرا للشيخ محمد بن أبي القاسم في الهامل وغيره من أصحاب الزوايا التعليمية. ولو أراد محمد العيد ذلك لما أعجزه لتوفر المال من جهة وللعلاقة الخاصة مع الفرنسيين من جهة أخرى. وقد كان في إمكان الشيخ محمد العيد جلب المدرسين من تونس وغيرها للزاوية. وبعد وفاته سنة 1292 خلفه أخواه على التوالي محمد الصغير ومعمر، ثم ابنه هو (ابن محمد العيد) الذي دام في المشيخة إلى 1331 (1912). ولكن الزاوية التجانية بتماسين غيرت بعض الشيء من اتجاهها دون الإعلان الرسمي عن تبنيها للتعليم بالطريقة التي سارت عليها الزوايا الأخرى. فهي زاوية لا تعيش من التعليم، كالأخريات، ولكن من التصوف

والبركة. ويبدو أن ذلك التغيير حدث منذ أول هذا القرن. ولا ندري ما الدوافع التي كانت وراء ذلك. والمهم أن التعليم المقصود هنا ليس هو التعليم الشعبي المفتوح ولكن الخاص، الخاص بأبناء الزاوية أنفسهم، بل بأبناء الأسرة الينبوعية. فنحن نعلم أن الشيخ محمد العروسي كان من المتعلمين والأدباء في آخر القرن الماضي وأوائل هذا القرن (توفي حوالي 1925). ولعله درس في الزيتونة، أو جاء له والده بمن علمه الأدب والفقه والتوحيد، على عادة الأسر الكبيرة التي لا ترغب في الاختلاط بأبناء العامة (¬1). ومع انتشار حركة التعلم في الجزائر أوائل هذا القرن أصبح شيوخ زاوية قمار وتماسين يرسلون أبناءهم للتعلم أيضا في تونس على الخصوص. وفي عائلة محمد العيد الأولى نبتت فكرة اليقظة نحو التعلم. فبعد وفاة ابنه محمد (بن محمد العيد) سنة 1912 تولى البشير بن محمد، ولكن مدته لم تطل، فتولى بعده محمد العيد بن البشير (سنة 1336)، وقد عرف عهده بالتوجه نحو اكتساب العلم. وروى بعضهم (الشيخ بيوض) أن محمد العيد هذا كان أديبا وذكيا، وكان يكره البدع ويغار على الإسلام، ويدعو إلى النهوض والتقدم. وهو من تلاميذ الشيخ محمد الطاهر عمارة أحد علماء تقرت المؤمنين بالإصلاح والتغيير. وقال الشيخ بيوض أن الشيخ محمد العيد بن البشير قد أرسل أبناءه إلى تونس للتعلم. وكان ينصح ويوصي أبناء الزاوية بالاعتماد على النفس. وقد توفي وعمره حوالي أربعين سنة (سنة 1340/ 1927)، ثم خلفه عمه، أحمد بن محمد بن محمد العيد الأول، وطال عهد مشيخته حوالي 53 سنة (¬2). ونعرف من مصادر أخرى أن زاوية تماسين وزاوية قمار قد استجلبت بعض العلماء من تونس للتدريس لأبناء الزاوية، مثل الشيخ محمد اللقاني ¬

_ (¬1) عن دور محمد العيد ومحمد العروسي السياسي والديني انظر فصل الطرق الصوفية. (¬2) توفي سنة 1398 (1978). انظر عبد الباقي مفتاح (أضواء) مخطوط. وكذلك دبوز (النهضة) 1/ 50 - 51.

زاوية قصر البخاري

السائحي. وقد كان شاعرا وعالما متمكنا. وكان متنور العقل متأثرا بحركة النهضة والإصلاح. ولعله هو الذي نفخ روح الهجرة في سبيل العلم لأبناء الزاوية. وكان الشيخ اللقاني من علماء الزيتونة ومن مواليد نفطة، وله قصائد سياسية في الحث على النهضة الوطنية (¬1). ولكن ما قلناه عن الزاوية التجانية بفرعيها - عين ماضي وتماسين - وكذلك فرع قمار وفرع تاغزوت، لا ينفي عدم اهتمامها كمؤسسة بشؤون التعليم للجزائريين. إن الاهتمام الذي ذكرناه إنما هو فردي أو عائلي أو خاص بأبناء الزاوية. ولم يشترك فيه مشائخ الزاوية أنفسهم ليعطوا المثل لأبنائهم وخلفائهم ولعامة الناس، كما فعل بعض شيوخ الزوايا الأخرى. إن حديثنا يجب أن يكون عن مساهمة هذه الزاوية العتيدة في إنهاض الجزائريين والمحافظة على اللغة العربية والدين الإسلامي ومقاومة تيار الفرنسة الذي غزا البلاد وطغى على عقول الناس، وكاد يمسخ حتى المعالم والملامح ويمحو الهوية الوطنية للبلاد. هذه المساهمة غير متوفرة، عند الزاوية التجانية أو هي غير معلومة للباحثين حتى الآن (¬2). زاوية قصر البخاري لم تبلغ زاوية قصر البخاري أو زاوية الشيخ الموسوم ما بلغته زاوية الهامل من الشهرة العلمية. أما الشهرة الدينية فقد نافستها فيها وربما فاقتها في عهد الشيخين. وقد تحدثنا عن الشيخ الموسوم متصوفأ (¬3)، فلنتحدث عنه متعلما ومعلما. ¬

_ (¬1) انظر سيرته في كتاب (شعراء الجزائر) للهادي السنوسي. (¬2) ستعرف أن بعض العلماء كانوا منتمين للطريقة التجانية، مثل المفتي علي بن عبد الرحمن في وهران، الشاعر الكبير محمد العيد آل خليفة، ولكن حديثنا عن دور الزاوية نفسها وليس عن أفراد العلماء. (¬3) انظر فصل الطرق الصوفية.

فهو محمد بن محمد بن أحمد بن رقية المعروف بالموسوم (أو الميسوم حسب النطق الشعبي). ولد حوالي 1820 في غريب بين قصر البخاري ومليانة. وأمه هي فاطمة بنت العربي، من أعيان العائلات بالشلف الشرقي، ومنها عائلات سيدي العريبي، وسيدي الحاج محمد الأحمر، ومولاي العربي بن عطية، وكل هذه العائلات اشتهرت في عهد الأمير عبد القادر. وكان أبوه منحدرا من نسل الشيخ عبد العزيز الذي أسس قصر الشرف (أو الشارف) في جبال أولاد نائل حوالي القرن 16. درس محمد الموسوم على الحاج الشافية بن سي العربي بن سي الطيب الهادفي، ثم درس على الحاج يعقوب. كلاهما علمه القرآن ومبادئ الفقه. وأظهر منذ طفولته ميلا للدراسة، وهذا ما وضع ثقة شيوخه فيه. ثم درس سيدي خليل على الشيخ ابن علي البريشي، الذي قد يكون من المغرب الأقصى، ولكنه استقر في غريب لتحفيظ القرآن لأبناء الناحية. ومن غريب توجه محمد الموسوم إلى مازونة التي كانت لها سمعة كمركز علمي وما تزال فيها آثار أبي راس وأحفاده. فتابع الدراسة بها على الشيخ أحمد بن هني وعلى غيره. ثم رجع إلى غريب دون أن نعرف كم بقي في مازونة ولا المستوى الذي وصل إليه، ولكنه رجع بزاد علمي وبشهرة شأن العائدين من رحلة طلب العلم. لقد أصبح عارفا بالعلوم العربية كالنحو والصرف وكذلك المنطق والعروض، بالإضافة إلى العلوم الدينية. وتمشيا مع هوايته، افتتح الشيخ الموسوم عهد التعليم - ربما في نهاية الأربعينات - وهو عهد أخذت فيه ينابيع المعرفة تجف من البلاد بعد حروب المقاومة الطويلة وسياسة التجهيل المقصودة، كما ذكرنا. قبل الشيخ التلاميذ من كل الأعمار، وقسم دروسه إلى طبقتين أو مستويين، مبتدئين ومتوسطين. وبنى مسجدين صغيرين للتعليم، كان يعلم في أحدهما علوم الدين كالفقه والقرآن والتوحيد، وفي الآخر يعلم علوم اللغة والأدب كالمنطق والنحو والعروض. ويبدو أنه كان يحلم بمشروع كبير لو وجد الظروف والمناخ المناسب.

عاش على تلك الحال - أكثر من عشر سنوات في ظننا - إلى سنة 1269 (1860). فكر في الطرق الصوفية شأن متعلمي الوقت. فهي الغطاء السياسي وهي المأوى الروحي. كانت الرحمانية والشاذلية والمدنية والتجانية والوزانية (الطيبية) هي الطرق النشطة. فخطرت كلها على خاطره. فكر في الذهاب إلى وزان، ولكنه اكتفى بزيارة ضريح الشيخ الثعالبي بالجزائر والتجول في هذه المدينة (الأوربية) التي كان فيها (غريب الوجه واليد واللسان). وقد نصحه بعضهم بالذهاب إلى الشيخ عدة بن غلام الله بجبل اللوح بأولاد الأكراد، ولعل هذا الناصح كان من إخوان الدرقاوة الذين يمثلهم الشيخ عدة. وقد ترافق مع الشيخ عبد الرحمن العصنوني إلى زاوية الشيخ عدة. وبعد مدة نال منه الإجازة الصوفية والعلمية، لأن الشيخ عدة كان أيضا من علماء الظاهر والباطن. ثم رجع الشيخ الموسوم إلى غريب. أثناء فترة قلق، كان الشيخ الموسوم يطبق التعاليم الصوفية على نفسه بقسوة. كان يصوم ويتعبد، ويتهجد. وعرف بين الناس بذلك، فكثر المعتقدون فيه البركة والعلم معا. وكان يميل إلى الزهد والتقشف (وذلك شعار الدرقاوة). وفكر في الدخول في الطريقة الخلوتية (الرحمانية)، واستمر قلقه فترة أخرى. ثم قرر أن يكتب إلى الشيخ عدة طالبا منه إجازة مقدم. ودام انتظاره بعض الوقت. ثم وصله التقديم في الدرقاوية - المدنية، وهي فرع للشاذلية. وهكذا بدأ نشاطه الصوفي والتعليمي واستقراره الروحي أيضا. وكان قد أسس في بادئ الأمر زاوية في غريب. ولكنه بعد 1865 أسس زاوية أخرى في قصر البخاري. وكانت هذه في البداية فرعا للأولى، ثم أصبحت هي الأصل. وقد بنيت زاوية قصر البخاري على أنقاض زاوية قديمة أو قصر قديم ينسب إلى سيدي البخاري. وهكذا أصبح الشيخ يقضي الصيف في غريب والشتاء في قصر البخاري. فعل الشيخ الموسوم في زاويته ما فعله أيضا شيوخ التعليم الآخرون. فكان يدرس ويعطي الورد والإجازات. ولكنه اختلف عن زميله محمد بن

بلقاسم في كونه غير مستقل في إعطاء البركة، إذ نازعه فيها أحمد بن الشيخ عدة، بينما الشيخ محمد بن بلقاسم لم ينازعه أحد في منح البركة بعد وفاة شيخه المختار بن خليفة. وتوفي الشيخ عدة في 24 جمادي الثاني 1283 (1866). فأصبح الشيخ الموسوم هو الوريث (الشرعي) لبركة شيخه وبوصية منه. وكان مجاله واسعا يمتد عبر مناطق الجزائر والشلف والونشريس. لكن منازعة الشيخ أحمد بن عدة له جعلت سكان الونشريس تابعين لزاوية أولاد الأكراد، أما السكان القريبون من قصر البخاري، مثل أولاد عنتر وأولاد هلال، فقد اتبعوا الشيخ الموسوم. وقد شهدت عدة طرق هذا النوع من التنازع فكان الفرنسيون يوسعون من شقته إذا أرادوا أو يضيقون منه إذا كان ذلك يخدم مصلحتهم. وكان للشيخ الموسوم مقدمون متعلمون، منهم محمد بن عبد الله في معسكر وقدور بن سليمان في مستغانم. وكلاهما اشتهر أمره واستقل عن شيخه أثناء حياته (¬1). وهذه الشهرة للشيخ الموسوم وكثرة الأتباع والزوار للزاوية لفتت إليه أنظار السلطة أيضا. و (يا ويح من أشارت له الأصابع، ولو بالخير). فقد ورد اسمه مرشحا لإدارة مدرسة الجزائر الشرعية الرسمية. وكان الفرنسيون يرغبون في احتواء نفوذ الشيخ ويخشون من تأثيره الديني والتعليمي الذي قد يمهد لانتفاضة كما فعل الشيخ الحداد. ولذلك استدعاه الحاكم العام وعرض عليه المنصب المذكور فاعتذر (¬2) بالبقاء في خدمة الدين والعلم. وقد ازدادت شكوك الفرنسيين من حوله، خصوصا وإن أحد الجواسيس جاءهم بخبر كاذب وهو أن الشيخ يعد العدة لثورة وإن بزاوية غريب أسلحة. فداهمت القوات الفرنسية الزاوية أثناء غياب الشيخ فلم تجد ¬

_ (¬1) قدور بن سليمان كان من المؤلفين وأصحاب النظرة الصوفية. وقد هاجر إلى الحجاز واستقر بالمدينة. وله آثار نعرض إليها في مكان آخر. وله مراسلات وتبادل إجازات مع عدد من شيوخ العصر في الجزائر وغيرها، ومنهم القاضي شعيب بن علي في تلمسان. (¬2) انظر ذلك في فصل الطرق الصوفية.

أسلحة وإنما وجدت أوراق الشيخ فحملتها. وبعد 1870 اتهمه الفرنسيون بمعارضة الحكم المدني، فهاجموا الزاوية أيضا وفتشوا أوراقه فوجدوا أن جنرالا فرنسيا كتب إليه رسالة، ربما لتوريطه، يطلب منه معارضة التغيير (من الحكم العسكري إلى المدني) الذي حدث في الجزائر، ولكن الشيخ كتب على هامش الرسالة بالرصاص أنه لا يتدخل في مثل هذه الأمور. كما خشيت منه السلطات الفرنسية يوم زار (سيرقين) أو الحمام الساخن جهة قصر الشلالة، فتجمع حوله الناس وأقاموا له حفلا كبيرا وصاخبا. ولكن الحفل مر بدون عواقب سياسية، كما يقولون (¬1). رأينا أن الشيخ الموسوم كرس حياته للتعليم والدين والتصوف والتربية الروحية. وأنه كان مثالا للرجل المتفرغ لهذه الأمور فلم تغره المناصب الدنيوية التي عرضها الفرنسيون عليه، وكان في إمكانه أن يجعل علمه ودينه وشهرته مطية للدنيا، كما فعل بعض المعاصرين له. ورغم تشكك الفرنسيين فيه وشهادتهم بأنه كان يحاول الإبقاء معهم على الحد الأدنى من العلاقات وتهدئة الأوضاع زمن الثورات، فإنه تعرض إلى الإهانة واغتصاب أوراقه والاتهام بإخفاء السلاح. فما أصعب الحياة الكريمة في تلك السنوات البائسة من الحكم الاستعماري!. توفي الشيخ الموسوم في 3 فبراير 1883 في قصر البخاري. وترك تأثيرا كبيرا في المناطق القريبة والبعيدة. ويذكر الدارسون أن نفوذه الروحي قد وصل إلى معسكر وندرومة وتلمسان ومستغانم ومليانة والمدية والقلعة وغيلزان والجزائر وما بين ذلك. ثم إلى الجلفة وأولاد إبراهيم، والبليدة وشرشال. ومن العائلات والأعيان الذين تأثروا به دون الدخول في طريقته: 1 - عائلة سيدي علي بن مبارك، وهم مرابطو القليعة، ولهم فيه محبة خاصة. ¬

_ (¬1) تصرف الفرنسيون نفس التصرف مع زاوية طكوك السنوسية وشيخها عدة مرات. انظر حديثنا عن هذه الزاوية، فصل الطرق الصوفية.

2 - عائلة أولاد حمو، بمليانة، وهم خدم زاوية أحمد بن يوسف الملياني، وفيهم المدرسون. 3 - أهل ميزاب، وهم ليسوا على طريقته، ولكنهم يكنون له احتراما خاصا، وكانوا يقدمون إليه الهدايا (التبرعات). 4 - محمود بن مصطفى الذي كان يعلم القرآن في الزاوية بقصر البخاري. وهو أخ زوجة الشيخ. 5 - الأخضر بن مبارك، وهو إمام الزاوية. وكان هذا والذي قبله من أتباع الشيخ. 6 - سيدي علي بو حقة، قاضي المدية على المذهب المالكي. 7 - الشيخ المراشلي، قاضي المذهب الحنفي بالمدية أيضا. 8 - الشيخ محمد بن الطيب الذي تولى القضاء في المكتب العربي بالمدية أيضا. وهو من المؤلفين. 9 - الشيخ علي بن الحفاف، مفتي المذهب المالكي بمدينة الجزائر، وله مكانة علمية خاصة في وقته، وله تأليف هام في القراءات. 10 - الشيخ محمود الحرار، من علماء وأعيان مدينة الجزائر. من عائلة مصطفى الحرار (من صنعة الحرير) المتصاهرة مع عائلة ابن بريهمات. 11 - الشيخ الحرشاوي، قاضي تلمسان عندئذ. 12 - عائلة ابن رحال بندرومة، وهي عائلة علم وتصوف ووظائف رسمية، ومنهم محمد بن رحال الذي برز في أوآخر القرن الماضي كرجل سياسي (¬1). ¬

_ (¬1) اعتمدنا على دراسة الاسكندر جولي (دراسة عن الشاذلية) في المجلة الافريقية، R.A، 1907، ص 5 - 22. وهو قد اعتمد في سرد حياة الشيخ الموسوم على كتاب يسمى (شرح التحفة المختارة)، مخطوط. وقد يكون من وضع الشيخ نفسه أو أحد أتباعه، ونحن لم نطلع عليه. وقد رجعنا أيضا إلى ما كتبه جولي نفسه في (مجلة العالم الاسلامي)،. R.M.M، 1908 عن الشاذلية، والطرق الصوفية عامة، ص 370 -

ولم يكن الشيخ أحمد بن محمد الموسوم، الذي خلف أباه على رأس الزاوية في المستوى الذي تتطلبه المرحلة، مرحلة الثمانينات من القرن الماضي وعهد الظلام الدامس الذي أشرنا إليه. فتوارى تأثير الوالد والولد، وخبا نور الزاوية العلمي، وصفق الفرنسيون على أشلائها قائلين مع الاسكندر جولي: لا تخافوا منها ومن الطرق الصوفية عموما والزوايا، لأن مصيرها جميعا إلى التحلل والاندثار، شأن كل كائن حي في هذا الوجود. ومن زوايا التعليم بالمسيلة الزاوية التي أنشاها محمد بن عبد الله الديلمي، وهي رحمانية. وصاحبها هو الحاج محمد بن عبد الله بن عبد القادر بن أبي زيان بن مبارك بن الموهوب. وقد يكون نسبه متصلا بالشيخ محمد بن عزوز الديلمي المسيلي الذي ذكره صاحب (البستان). وهم يقولون أنهم من الأشراف. ولد محمد بن عبد الله في المسيلة، سنة 1264 ونشأ بها ودرس على والده، ثم رحل إلى بجاية لطلب العلم فأخذ بها عن الشيخ السعيد الحريزي. ولكن بجاية كانت عندئذ قليلة العلماء فليست هي بجاية الحماديين وإنما هي بجاية الفرنسيين، وكان العلم ما يزال خاما في منطقة زواوة فتوجه محمد بن عبد الله إلى زاوية الشيخ اليلولي ثم إلى زاوية أحمد بن يحيى. ومن زواوة (القبائل) قصد قسنطينة حيث كانت شهرة الشيخ المجاوي فجلس إليه أيضا. كما نال إجازة من الشيخ الحداد في الطريقة الرحمانية وأخذ التصوف على الشيخ عمارة بن أبي الديار، متصوف جبل الناظور. وسيرا على نفس التقليد، أحس الشيخ محمد بن عبد الله أنه الآن قادر على فتح زاوية ونشر العلم فيها. فذلك غاية ما توصل إليه علمه واجتهاده، وغاية ما تسمح به ظروف الحياة والسلطات الفرنسية. فهو لا يرغب في خدمة الفرنسيين، وكانت الأبواب الأخرى كلها مغلقة في وجهه. وبعد سنوات من التعليم، أدى فريضة الحج مرتين. وجاور بالحرمين، وأخذ عن بعض العلماء هناك، وطالع كتب التصوف، ولا سيما إحياء علوم الدين والمنقذ من الضلال

زوايا أخرى

للغزالي، والفصوص لابن عربي، والرسالة القشيرية. كان الشيخ محمد بن عبد الله يدرس كل السنة. ويفتتح الدرس بتفسير آيات من القرآن الكريم. وكان يدرس لتلاميذه النحو والفقه والتوحيد، وهي المواد المسموح بها من قبل السلطات الفرنسية، وأحيانا كانت لا تسمح حتى بتدريس التوحيد ولا بالتفسير الموجه ولا بأبواب معينة من الفقه. وكان محمد الديلمي، مثل شيوخ الزوايا الآخرين عندما يتكاثر عليهم التلاميذ، يستعين بقدماء التلاميذ. ودام على ذلك حوالي أربعين سنة. وكان أيضا يجمع التصوف إلى العلم، فكان يلقن الإخوان أوراد الرحمانية وأسماء الله الحسنى. وبعد حياة يبدو أنها متقشفة تقشف العصر الذي ظهر فيه، توفي الشيخ سنة 1361 (1942) ودفن بجوار جده في المسيلة (¬1). زوايا أخرى بعض فروع القادرية أيضا اهتمت بالتعليم إلى جانب تحفيظ القرآن للأطفال. وهناك تقليد لها في ذلك. فالقادرية في الأساس كانت تقوم على العلم والتعليم والتصوف، وما شيخها عبد القادر الجيلاني، إلا مثال على ما نقول، فهو عالم ومتصوف. وفي الجزائر كانت زوايا القادرية للتعليم أيضا، ومنها زاوية القيطنة بنواحي معسكر. وأثناء حرب المقاومة كان محمد السعيد بن محيي الدين (أخ الأمير) يقوم بشؤون الزاوية والتعليم فيها. وهناك زوايا أخرى للقادرية اهتمت بالتعليم قبل أن يعتريها ما اعترى مختلف الزوايا والطرق من كسوف وانحراف. ومنذ أواخر القرن الماضي كانت الزاوية القادرية في توزر (تونس) ¬

_ (¬1) أخذنا هذه المعلومات عن ابن بكار (مجموع النسب)، مرجع سابق، ص 171 - 173. وذكر أنه تلقى مناقب الشيخ محمد بن عبد الله أو سيرته عن السيد عبد الغني خطاب الذي كان معلما بتلمسان، وجاء ابن بكار بوثيقة (ص 173 - 174) تثبت إعفاء البايات لعائلة محمد الديلمي من الضرائب باعتبارهم من الأشراف. انظر عنه أيضا لاحقا. وكتاب (المرآة الجلية) تأليف الجيلالي بن صفية.

مهتمة بالتعليم أيضا. وكان صاحبها الشيخ إبراهيم هو أبرز شيوخ القادرية، إلى جانب الشيخ المازوني صاحب زاوية الكاف. ويهمنا من زاوية توزر أن فروعها في الجزائر قد أصبحت نشيطة في الجهة الشرقية، تقرت وقمار، وعميش وورقلة. ولعل أشهر هذه الفروع هو فرع عميش (الوادي) الذي كان على رأسه الشيخ الهاشمي بن إبراهيم المذكور. إن هذا الشيخ الذي تحدثنا عنه في المجال الصوفي (¬1)، كان قد سن سنة طيبة وهي أن على من يتولى من أبنائه بعده شؤون الزاوية أن يكون متخرجا من جامع الزيتونة. وهذه السنة كانت جديدة على أهل الطرق الصوفية. فكانت مفيدة وتدل على عقل سليم ومتنور. وبالفعل كان وريثه هو ابنه الشيخ عبد العزيز بن الهاشمي الذي تخرج من جامع الزيتونة (¬2). ولو توقف الأمر عند هذا الحد لما اهتممنا بالشيخ عبد العزيز. لأن بعض الطرق الأخرى أيضا وجهت أبناءها إلى التعليم، ولكنها لم تفتح مدارس لأبناء المنطقة، فكان تعليم أبناء الزاوية ذاتيا ولا يفيدهم إلا هم. أما الشيخ عبد العزيز بن الهاشمي فقد خطا خطوة أخرى، وهي تحويل الزاوية إلى مدرسة عصرية تحت لواء الحركة الاصلاحية في منتصف الثلاثينات. وقد عالجنا ذلك في محله، ولكننا هنا نلفت النظر إلى أن الشيخ عبد العزيز قد جند زملاءه الجزائريين الذين درسوا معه في جامع الزيتونة ليكونوا معلمين في مدرسته - زاويته الجديدة، كما نلفت النظر إلى أنه قد دفع ثمنا باهظا على هذا التحول من الطريقة إلى الإصلاح، فلم تغفر له السلطات الفرنسية هذا (الكفر) الصريح بنعمتها على أصحاب الطرق وحمايتها لهم والتغاضي عنهم عندما كانت في حاجة إليهم وكانوا هم في حاجة إليها (¬3). ¬

_ (¬1) انظر فصل الطرق الصوفية. (¬2) في بعض المراجع أن الشيخ عبد العزيز هو حفيد الشيخ الهاشمي وهو خطأ. (¬3) تعرضنا لظروف ظهور واعتقال الشيخ عبد العزيز، بالإضافة إلى فصل الطرق الصوفية، في دراستنا عن الشيخ الياجوري، وهو زميله. انظر دراسة عمار هلال عن الشيخ عبد العزيز بن الهاشمي. ومقالة الشيخ حمزة بوكوشة عن الشيخ الهاشمي. =

ورغم أن الفرنسيين قد قضوا على التجربة التي قام بها الشيخ عبد العزيز وجعلوه مثلا لغيره، فإن أبناء الزاوية قد واصلوا التقليد الذي سنه الشيخ الهاشمي، فكانوا من المتعلمين في الزيتونة وفي غيرها، وبذلك استفادت منهم الحركة التعليمية بعد الاستقلال أيضا. وكانت للزوايا التالية مكانة عظيمة أوائل الاحتلال، جاها وتعليما ودينا. منها زاوية سيدي أحمد الطيب بن سالم. وهو خليفة الأمير عبد القادر على زاوية حمزة. كانت زاوية معتبرة يلجأ إليها الهاربون، ورؤساؤها يرجعون إلى بني جعد، ويضم عرش أولاد سيدي سالم قرى عديدة حيث سوفلات اليوم ناحية عين بسام. ولكن مصير الزاوية قد تقرر على أثر انتهاء المقاومة سنة 1847 ورحيل سيدي الطيب بن سالم إلى المشرق. وكانت الزاوية تتبع الطريقة الرحمانية. ثم زاوية ثورثاتين وهم أولاد محيي الدين ولد سيدي التواتي. وهم من أعيان الدين في عرش بني سليمان بتابلاط. وكانت تنافس زاوية سيدي أحمد الطيب بن سالم. وبقيت عائلة أولاد محيي الدين نشيطة بعد الاحتلال أيضا. وكذلك لعبت زاوية سيدي علي مبارك بالقليعة دورها في عهد الحاج محيي الدين الذي ولاه الدوق دي روفيقو DE ROVIGO حكم منطقة متيجة. ثم انضم إلى حكم الأمير عبد القادر في مليانة. وكانت القليعة مدينة دينية ذات احترام كبير لوجود زاوية سيدي مبارك بها. أما زاوية البراكنة أو سيدي البركاني فهي تقع في عرش بني مناصر ناحية شرشال. ومن أشهر رجالها محمد بن عيسى البركاني الذي تولى عدة مسؤوليات في عهد المقاومة ومنها خليفة الأمير على المدية. وقد تغير وضع الزاوية بعد 1847 أيضا. وانتهى دورها كمعقل للتعليم والرباط. وكان الشيخ الهاشمي من بين الذين كتبوا يؤيدون فرنسا في الحرب العالمية الأولى. انظر فصل الطرق الصوفية.

وبالإضافة إلى ذلك، هناك زوايا في الشرق كانت مراكز تعليمية هامة. من ذلك زاوية سيدي مبارك بن السماتي التي كان زعيمها عند الاحتلال هو سيدي أحمد بن جدو، وهو من أهل حربيل، عرش بني يعلى، ثم زاوية أمادان، وهي مؤسسة دينية تابعة لأولاد سيدي محمد امقران بمجانة. ويعتبر أولاد مقران أنفسهم من الأشراف أيضا، وقد أصبحوا من ذوي السلطان. وهناك زاوية أولاد سيدي الجودي، والقائمون عليها يسمون بمرابطي القرقور. أما قرب قسنطينة فقد كانت زاوية سيدي خليفة التي تقع اليوم في ولاية ميلة. وهي ترجع إلى القرن الثامن عشر، وكان شيخها من الأدارسة. فقد كانت من زوايا التعليم بالمنطقة، واهتم شيوخها بجمع الكتب أيضا. وكان يقصدها الطلبة الغرباء. كانت زاوية مجاجة أو زاوية محمد بن علي المجاجي، من أشهر زوايا العلم والجهاد طيلة قرنين تقريبا خلال العهد العثماني (¬1). وقد كسدت بضاعتها مع الاحتلال الفرنسي. وعرفت مجاجة وكل الشلف وسواحل تنس وغيرها التسلط الاستعماري فأفل نجم العلم وانفضت مجالس الطلبة. وإلى سنة 1833 كان بزاوية مجاجة بصيص من النور، ولكن ماذا يفعل النور إذا كانت العاصمة هوجاء. يقول أبو حامد المشرفي إنه زار هذه الزاوية في سنة 1249 هـ. فوجد فيها عالمين جليلين، ولكنه لم يذكرهما بالاسم، ولا ما كانا يفعلان، ولعلهما قد فقدا الطلبة الذين التحقوا بحركة الجهاد (عهد الأمير) وغاب التلاميذ من الخوف والجوع، فبقي (العالمان الجليلان) يطالعان بعض الكتب في حالة رثاء ووحدة. ولكن المشرفي ذكر لنا أحد العلماء المعروفين، وهو الشيخ بلقاسم البزاغتي الذي كان أصلا من مدينة الجزائر ثم هاجر إلى ناحية مجاجة. ولعله إنما لجأ إلى هناك هروبا من حكم الفرنسيين فقط (¬2)، كما فعل غيره من علماء الجزائر وأعيانها، سيما بعد ¬

_ (¬1) تحدثنا عنها في الجزء الأول. (¬2) الحفناوي (تعريف الخلف) 1/ 448 نقلا عن (ياقوتة النسب الوهاجة) للمشرفي. وسيرد اسم البزاغتي وابنه في فصول أخرى.

المدارس الحرة

اشتداد المقاومة على عهد الأمير ونشأة الدولة الجديدة، أمثال علي بن الحفاف، وقدور بن رويلة، وحتى أحمد بوضربة. وقد استبشر ألفريد بيل بتدهور حركة التعليم الأصلي (العربي - الإسلامي) في زوايا إقليم وهران بحلول القرن العشرين. فقال أنه يمكنه ذكر العديد من الزوايا التي كانت تعلم العلوم كالنحو والأدب والتوحيد والفقه بالإضافة إلى تحفيظ القرآن، ولكنه لاحظ (سنة 1908) أن هذا النوع من الزوايا أخذ يضمحل ويختفي ولم يبق إلا النوع الذي لا يعلم إلا القرآن، أي أن الزوايا أصبحت مجرد كتاتيب. وقال أنه يمكنه أن يذكر نماذج على تلك الزوايا التي كانت تعلم العلوم المذكورة ثم اختفت أو تغيرت، ولم يبق منها إلا عدد قليل جدا، وهي في تناقص يومي. ثم استدرك قائلا بالعكس إنه لا يوجد، حسب معلوماته، كتاب (مدرسة) قرآني قد وسع تعليمه لكي يشمل أيضا الفقه أو غيره من المعارف العربية (¬1). ويبدو أن هذه الظاهرة كانت عامة في الناحية، لأنه، باستثناء بعض زوايا الأرياف، كدنا لا نجد زاوية تعليمية في النواحي الغربية شبيهة ببعض زوايا منطقة زواوة وزوايا الجنوب. فلماذا هذه الظاهرة السلبية؟ أين هي زوايا سيدي العريبي (سيدي بو عبد الله المغوفل) وسيدي محمد بن عودة، وسيدي دحو، وسيدي عمار بن دوبة، الخ؟ حتى زاوية أولاد سيدي الشيخ تولاها مواليهم وتخلوا هم عنها، وحولوها إلى مراكز لجلب الصدقات والزيارات والغفارة وليس للعلم والتعليم. المدارس الحرة نعني بالمدارس الحرة تلك المؤسسات التعليمية التي نشأت منذ أوائل هذا القرن، ثم انطلقت انطلاقة كبيرة منذ حوالي 1920 على يد أفراد أو جماعات لنشر التعليم العربي الإسلامي في الجزائر، ويدخل في هذا التعريف المدارس التي قامت في المدن وفي الأرياف، والتي كانت تحقظ القرآن في ¬

_ (¬1) ألفريد بيل (مؤتمر ...) 1908، مرجع سابق، ص 216.

الأساس أو التي أضافت إليها مواد أخرى، وأصبحت تطلق على نفسها اسم المدارس العصرية أو الحديثة. والواقع أن الجزائر لم تخل من المدارس (الحرة) حتى خلال القرن الماضي. فبعد استيلاء الفرنسيين على الأوقاف والمدارس والمساجد والزوايا في المدن، واصل الناس تعليم القرآن، كما عرفنا، في المسيدات أو الكتاتيب، في غرف صغيرة أحيانا معتمة، وفي بيوت ملصقة بدور العبادة التي بقيت، وكانت هذه المؤسسات، على ضعفها وتدهورها، حرة ولا تمولها السلطات الفرنسية، ولكنها تراقبها سياسيا. وفي الريف بقيت الزوايا والشريعات (الخيام) والمعمرات هي الأماكن التي يعلم فيها القرآن الكريم والعلوم الأخرى الدينية واللغوية. وكانت أيضا حرة لا دخل للسلطة فيها إلا المراقبة وأحيانا التحكم في البرنامج والمواد بمنع الزائرين والمتبرعين لها. إن التعليم الذي كنا نتحدث عنه في المساجد والزوايا كان كله من أموال الناس المتطوعين من أجل تعليم أبنائهم اللغة العربية والدين الإسلامي حسب طريقة معلومة عندهم. فهو تعليم حر، وكان القائمون عليه معلمين متطوعين، وإنما يضمن لهم أهل القرية القوت، وأحيانا تضمن لهم ذلك الزاوية نفسها. إننا عندما نتحدث عن المدارس الحرة يجب أن نتذكر الماضي، فما الجديد إذن؟ الجديد هو تخلف نظام التعليم القديم الذي قصدته السلطات الفرنسية قصدا، والذي تحدث عنه ألفريد بيل أوائل هذا القرن، ظنا منه أن ذلك سيؤدي إلى موت الدراسات العربية والإسلامية لصالح اللغة والحضارة الفرنسية. وأمام ذلك التخلف في المكان والمنهج والبرنامج جاء النقد، والتماس البدائل. وكانت تجارب المدارس القرآنية في المشرق العربي وفي تونس وإصلاحها قد تأثر بها أيضا بعض الجزائريين سواء الذين درسوا هناك أو الذين قرأوا عنها في الصحف. ومن جهة أخرى كانت المدرسة الفرنسية الخاصة بالأهالي تغزو أوساط الجزائريين فخاف هؤلاء على مصير أبنائهم. ولذلك ظهرت عدة تجارب قبل الحرب العالمية الأولى، ثم توسعت واستمرت منذ 1920، كما ذكرنا.

كان القانون الفرنسي الذي يرجع إلى 18 أكتوبر 1892 ينص على إمكانية فتح المدارس الحرة (وهو يعني هنا القرآنية فقط) بشروط ثلاثة: وجود المحل الصحي، والحصول على رخصة بفتح المدرسة (كتاب أو نحوه) ورخصة خاصة بالمعلم المسلم يوافق عليها والي الولاية التي تفتح فيها المدرسة مع أخذ رأي كل من المراقب الولائي للتعليم (وهو فرنسي)، وكذلك رأي السلطات الفرنسية المعنية. وقد ظل هذا هو حجر الزاوية في تأسيس المدارس الحرة على يد المسلمين الجزائريين. والفرنسيون هم الذين يقررون ما إذا كان المكان صحيا أو غير صحي، وما إذا كانت المدرسة تفتح في الحي أو القرية أو لا تفتح، وكذلك هم الذين يقررون ما إذا كان المعلم (بالمفرد فقط لأن المؤدب واحد، والمقصود في نظرهم هو معلم القرآن فقط)، مقبولا عندهم أو غير مقبول. وغير المقبول عندهم هو المعلم الأجنبي (مغربي أو تونسي ... الخ). ثم الأهلي الدارس في غير الجزائر، والذي لا يرضون عن سيرته أو سيرة أهله معهم. وقد ظل هذا القانون ساري المفعول أكثر من أربعين سنة، وبعد منشور ميشيل سنة 1933، وقرار رينيه (¬1) سنة 1935، صدر سنة 1938 (8 مارس) قرار من الحاكم العام، لوبو Le Beau، نص على إمكان فتح المدارس الحرة بدون طلب رخصة. وقد أصبح هذا القرار قانونا أو مرسوما عندما وقعه رئيس الجمهورية الفرنسية لوبران. وكانت الحركة الوطنية قد ضغطت على السلطات الفرنسية في عدة مناسبات مطالبة بفتح المدارس الحرة ما دامت الحكومة عاجزة عن توفير هذه المدارس لأبناء البلاد. وكانت حالة الحرب تنذر بتطور خطير في الأوضاع، وكان الفرنسيون يريدون أن يكسبوا الجزائريين إلى جانبهم إذا وقعت الحرب. ومن جهة أخرى بلغ سكان الجزائر (المسلمون) أكثر من ستة ملايين 6، 200، 000 سنة 1936، وكان حوالي 620، 000 طفل منهم في سن المدرسة (بين 6 - 13 سنة)، ولكن الحكومة لا توفر التعليم إلا ¬

_ (¬1) انظر كتاب الحركة الوطنية ج 3.

لعدد ضئيل جدا منهم (¬1). فقد كان يجب بناء 620 قسما (وليس مدرسة) سنويا للبنين فقط دون البنات، بينما لم تبن الحكومة سنة 1938 سوى 89 قسما. وأمام ذلك العجز، وذلك الإلحاح من الأهالي من أجل تعليم أبنائهم، صدر القانون المذكور بإنشاء المدارس القرآنية بدون طلب رخصة (¬2). لم يكن الجزائريون عاجزين عن تعليم أبنائهم لو لم يواجهوا العراقيل القانونية والمخططات الإدارية التي كانت تهدف إلى تحطيم الهوية العربية الإسلامية للجزائر من خلال طمس مؤسسات التعليم، كما كان بإمكانهم توفير التعليم لأبنائهم لو لم تستول السلطات الفرنسية على أموال الوقف الموجهة لخدمة العلم والدين، وكانت مطالبتهم بإرجاع حقوقهم من أموال الوقف قد ذهبت أدراج الرياح إذ تحول ما تقدمه منها فرنسا لهم إلى (مساعدة) خيرية للفقراء والمساكين خلال المواسم الدينية. وابتلعت الدولة الفرنسية أموال اليتامى والمعلمين والغرباء وفقراء مكة والمدينة والأشراف وأهل الأندلس، ونسي معظم الجزائريين ذلك، فأصبحوا لا يطالبون إلا بزيادة المساعدة الخيرية. ومن جهة أخرى أهملت الحكومة الفرنسية التعليم العربي للجزائريين إلا في المدارس الشرعية التي أسستها لتخريج الموظفين فقط، أما في المدارس الابتدائية فالتعليم كان بالفرنسية، وقد تستعمل العربية الدارجة معها. وكان القصد من ذلك هو إماتة العربية الفصحى أو لغة الكتابة والمطالعة والثقافة والتراث الإسلامي. أخذت الغيرة على اللغة العربية بعض الرواد فأسسوا أول مدرسة قرآنية عصرية حرة في تبسة سنة 1913. وكان وراء هذا المشروع السيد عباس بن حمانة. فقد اجتمعت إرادة المحسنين ورواد الأفكار النيرة على تأسيس جمعية خيرية أولا باسم (الجمعية الصديقية الخيرية للتربية الإسلامية والتعليم العربي والاصلاح الاجتماعي) برئاسة ابن حمانة، وكان أمين المال هو الحاج ¬

_ (¬1) انظر فصل التعليم الفرنسي والمزدوج. (¬2) افريقية الفرنسية A.F يوليو، 1938.

عمر العنق. ومن أعضائها النشطين الحاج بكير العنق، أخو السابق. ويخيل إلينا أن المشروع كانت له دوافع، من ذلك بوادر النهضة التي أخذت تلوح في الأفق في عهد الحاكم العام شارل جونار حين برزت الصحافة والجمعيات والنوادي في المدن الرئيسية (سيما العاصمة وقسنطينة)، وزيارة الشيخ محمد عبده وانعقاد مؤتمر المستشرقين، ثم فرض التجنيد على الشباب سنة 1912. والمعروف أن القضية الأخيرة قد حركت المثقفين والقادة، فبينما المثقفون بالعربية عموما رفضوا فرض التجنيد مهما كانت الوعود الفرنسية، وقف المثقفون بالفرنسية معه بشرط أن تعد فرنسا بمنحهم الحقوق السياسية الكاملة. ومن الدوافع في نظرنا إحداث مدارس مشابهة في تونس. فمنذ 1907 أسس الشيخ بشير صفر المدرسة القرآنية التي نجحت نجاحا كبيرا، كما انفصل عنه الشاذلي المورالي وأسس مدرسة السلام القرآنية أيضا. وكلتاهما كانت على الطراز الحديث، وكانت تعلم مختلف العلوم بما في ذلك اللغة الفرنسية. فمن يدري، لعل رواد المدرسة القرآنية العصرية في تبسة قد تأثروا بكل ذلك. تحدث محمد علي دبوز عن المدرسة الصديقية رواية عن أحد شهودها وهو الحاج بكير العنق وأحد تلاميذها وهو الصديق سعدي، وكذلك نقلا عن جريدة (الصديق). فقد كانت المدرسة تقع في بناية من أربعة طوابق تبرع بها للجمعية الحاج بكير بن عمر المرموري. وكانت للمدرسة مكتبة وصيدلية ومطبخ. واعتمدت في تعليمها برنامجا حديثا يهتم بالتربية الإسلامية وبالقرآن والأخلاق، والتاريخ الإسلامي - بما في ذلك تاريخ الجزائر - والجغرافية، كما اشتمل على المواد الرياضية والرياضة البدنية واللغة الفرنسية. ونص البرنامج على أن تكون مدة الدراسة ثماني سنوات. وللتلاميذ الواردين من بعيد قسم داخلي للإقامة. وكان على التلميذ أن يدفع مبلغا ماليا زهيدا. وللمدرسة قانون داخلي طبع في تونس، نص على أن هدفها هو إحياء اللغة العربية في تبسة. وهكذا تبلور المشروع ثم انطلق يحقق هدفه. وبعد بضعة أشهر صدر الأمر بغلق المدرسة من السلطات الفرنسية،

كما حلت الجمعية الخيرية ونفت المعلمين وشردت التلاميذ، وزج بابن حمانة في السجن. فما الذي حدث؟ ليس هناك جواب واضح. إن الكتاب الجزائريين يتهمون الإدارة والكولون بالتواطؤ على قتل المشروع في المهد. ويعزز ذلك أن عباس بن حمانة قد اغتيل أيضا اغتيالا سياسيا، حسب تعبير مالك بن نبي. فقد كان ذات يوم حار جالسا تحت شجرة يقرأ جريدة، فتقدم منه أحد الأشقياء وضربه بفأس على أم رأسه (¬1). ونعرف من عدة مصادر أن سيرة عباس بن حمانة كانت تثير القلق في الأوساط الفرنسية عندئذ، وهي الأوساط التي تعودت على تطبيق قانون الاندجينا المرعب، فلا يمكن الأهلي، أن يتحداها أو يسألها عما تفعل. ويبدو أن حمانة قد أخذ يتحدى الإدارة بالظهور كزعيم ليس في تبسة فحسب بل على المستوى الوطني. ورغم الغموض الذي ما يزال يكتنف حياته ومواقفه فإنه يمكننا تقديم هذه الصورة عنه بعد أن رجعنا إلى عدة مصادر (¬2). لم يظهر ابن حمانة على المسرح السياسي قبل فرض التجنيد. ويتحدث بعضهم أنه كان عالما بالأحوال السياسية وداهية وأنه كان مزدوج اللغة. وتظهره الصورة التي نشرها له دبوز بلباسه الوطني المؤلف من العمامة والبرنس. وربما يكون قد تخرج من إحدى المدارس الرسمية (قسنطينة؟). والواقع أن تبسة في عهده كانت في مفترق الطرق ثقافيا وسياسيا. فهي قد تأثرت بما حدث في تونس والجزائر وطرابلس منذ 1870. فقد دخلها الأمير محميي الدين بن الأمير عبد القادر في هذه السنة وثور أهلها وجعلها قاعدة لنشاطه بعض الوقت، ثم تأثرت باحتلال تونس سنة 1881 وبأحداث طرابلس سنة 1911 حين تحارب العثمانيون والطليان وشارك في الدفاع عن ¬

_ (¬1) كان ذلك يوم 16 يوليو، 1914. انظر دبوز (النهضة) 1/ 269. وكذلك دبوز (أعلام) 3/ 146. (¬2) لا يمكن لقضية ابن حمانة أن تظهر على حقيقتها إلا بالرجوع إلى الوثائق الفرنسية وجرائد الوقت، وروايات الأهالي، ومذكرات المعاصرين أمثال مالك بن نبي وابن الساعي والخالدي.

ليبيا أعداد من المتطوعة الجزائريين، وقد وجدنا اسم ابن حمانة ضمن النشطين في تجنيد المتطوعة، وله مراسلات مع الزعيم سليمان الباروني. وربما كان له أيضا اتصالات مع القيادات التونسية أوائل هذا القرن أمثال عبد العزيز الثعالبي ومحمد الخضر حسين والأخوين باش حانبة. وكانت الجرائد التونسية تصل إلى تبسة بسهولة. وهكذا فإن عباس بن حمانة يعتبر نتاجا لهذه التطورات. يذكر مالك بن نبي الذي عاش طفولته في تبسة والذي كان عمره حوالي تسع سنوات عند اغتيال ابن حمانة: إن تبسة قد شهدت حرائق مهولة في الغابات سنة 1912 فدمرتها. وكانت الغابات تحت حماية الفرنسيين، وكانوا يعاقبون على الحرائق بتطبيق قانون الاندجينا الذي يحكم بالمسؤولية الجماعية. وقد ساءت الحالة الاقتصادية للعائلات الكبيرة في المنطقة وتدهورت حالتها الاجتماعية أيضا. لقد كان الاستعمار في ذروته عندئذ. ويحدثنا ابن نبي على أن ابن حمانة كان مستقلا سياسيا وأن خصمه المدعوم من الإدارة هو السيد ابن علاوة، ولكن الإدارة لا تفهم الاستقلال إلا أنه معارضة لها. وقد شارك ابن حمانة في الوفد الذي توجه إلى فرنسا لتقديم مطالب تتعلق بفرض التجنيد. وهنا تختلف الروايات. فهل كان ابن حمانة مع أو ضد التجنيد الإجباري؟ يقول آجرون أن ابن حمانة كان مع فرض التجنيد بل كان متحمسا له، وأنه قاد حملة عنيفة لصالحه إلى جانب المهندس الفرنسي شارل ميشيل، ومن رأي آجرون أن ذلك الموقف هو الذي كان السبب في اغتياله سنة 1914 (¬1). ولكي تتم الصورة نذكر أن الكولون كانوا لا يوافقون على فرض التجنيد خشية أن يؤدي إلى توعية الجزائريين من جهة وأن يؤدي إلى حرمانهم (الكولون) من اليد العاملة في الحقول وغيرها من جهة ¬

_ (¬1) آجرون (ميلانج شارل اندري جوليان)، ص 243. أما دبوز فيقول أن ابن حمانة قد عارض التجنيد وطالب بإلغائه (نهضة) 2/ 263. ولكن المسألة فيها نظر، لأن معارضته حينئذ تتماشى مع موقف الكولون. وعن الوفد الذي سافر إلى باريس سنة 1912 انظر كتابنا (الحركة الوطنية) 2.

أخرى. فاغتيال ابن حمانة يضرب العصفورين معا. وللتذكير نقول أن من كانوا يسمون بالنخبة، وهم ذوو الثقافة الفرنسية كانوا في أغلبهم مع قبول التجنيد إذا كان سيؤدي إلى الحصول على المساواة السياسية. وبذلك نادى أبناء بوضربة، وابن حبيلس وابن التهامي. ولكن النخبة المعربة والقادة الإسلاميين مثل عبد الحليم بن سماية وعمر بن قدور قد عارضوا التجنيد مهما كانت النتيجة. فكيف يذهب محمد بن رحال، وهو مزدوج اللغة ومن الغيورين على العربية والإسلام ومن عائلة دينية - صوفية، مع عباس بن حمانة الذي لم تكن له شهرة ابن رحال، إلى باريس لتقديم مطالب باسم الجزائريين، وما هي؟ هل هي مطالب تختلف عن مطالب الفريقين السابقين؟ لقد علق ابن نبي على زيارة ابن حمانة لباريس بقوله أنه ذهب لتقديم مطالب أبناء البلاد (لم يقل ما هي) فمنحه الفرنسيون وسام الاستحقاق الزراعي!. لا شك أن نشاط ابن حمانة كان يهدد المصالح الفرنسية. فاغتياله قد حدث شهرا قبل وقوع الحرب العالمية. ولعل الفرنسيين قد خشوا منه إذا بقي طليقا مع تفاقم الأحداث الدولية. ويذهب ابن نبي إلى أن اسم ابن حمانة قد ارتبط بحادثة اغتيال سياسي هز الإدارة، وألف فيه أحد الفرنسيين كتابا بعنوان (قضية تبسة) (¬1). واعتبره ابن نبي أول من دافع عن اللغة العربية في تبسة وعمل على نشرها. وفي مكان آخر قال عنه أنه (أول جزائري عمل على بعث اللغة العربية في البلاد) (¬2). أما دبوز فقد روى عن الشيخ بكير العنق الذي كان يعرف ابن حمانة شخصيا: بأن هذا كان شخصا جديرا بأن يكون رجل دولة وأنه كان نظير الشيخ الثعالبي في تونس لو واتته الظروف. وقد وجد عباس بن حمانة المساندة في مشروعه من أبناء ميزاب التجار في تبسة، وكذلك من محمد (معمر؟) بن الحاج رابح الزردومي. ¬

_ (¬1) لم نطلع على هذا الكتاب، ولعل فيه آراء أخرى في الموضوع تساعد على فهمه. وكان حاكم تبسة عندئذ يدعى (سينيوري). (¬2) مالك بن نبي (المذكرات) ط. دمشق، دار الفكر 1984، ص 31 وهنا وهناك.

ويبدو أن ابن حمانة كان له أصدقاء أيضا في الأوساط الفرنسية. ونحن نستشف ذلك من حادثتين: الأولى أنه وجد دعما من بعض النواب عندما عرضت مسألة غلق المدرسة وحل الجمعية على البرلمان الفرنسي. فقد احتج لدى الحاكم العام ثم رفع المسألة إلى البرلمان، فوجد تعاطفا من بعضهم. ولكنه قبل أن يربح القضية وقع اغتياله. والحادثة الثانية نجدها في تعليق إحدى الجمعيات الفرنسية (جمعية ماسونية؟) التي ادعت أنها دافعت عن عباس بن حمانة واستطاعت إخراجه من السجن. ونحن نفهم من هذا السياق أن ابن حمانة قد زج به في السجن، ربما بعد غلق المدرسة، وربما للنزاع السياسي بينه وبين ابن علاوة. فهذه الجمعية التي تسمى (جمعية حقوق الإنسان) زعمت أنها تدخلت في قضيته لأن حاكم تبسة قد اتهمه (ظلما وجورا ورماه في السجن) فعملت لصالحه إلى أن استطاعت أن تظهر ظلم الحاكم وبهتانه وبراءة عباس وتخليصه من السجن (¬1). وهكذا فقد كانت تجربة عباس بن حمانة رائدة فعلا، ولكنها رمزية فقط. لأنها في الواقع كانت تجربة قصيرة. غير أنها أوحت لغيره بالتعلم والاستفادة منها بطريقة أكثر نجاحا. ولعل الشيخ العربي التبسي، الذي درس في زاوية نفطة ثم في جامع الزيتونة، كان متأثرا بذلك النموذج حين أنشأ مدرسة البنين والبنات في تبسة بعد رجوعه من مصر. ولكن قبل ذلك علينا أن ندرس تجارب أخرى في المدرسة الحرة العصرية. وهذا الشيخ عبد الحميد بن باديس، بدأ حركة التعليم الحر أثناء الحرب العالمية - منذ 1913 - . بدأ بالمسجد الحر، وانتهى بالمدرسة، ¬

_ (¬1) انظر مجلة (الشهاب) عدد يونيو 1930، ص 313. ولا نذكر المناسبة التي ورد فيها هذا الخبر الذي صادف مرور مائة سنة على الاحتلال. وقد تأسست جمعية حقوق الإنسان في فرنسا سنة 1898 على أثر حادثة الضابط دريفس DREYFUS الفرنسي اليهودي في الجيش. ويبدو أنها كانت تحارب معاداة السامية التي ظهرت في الجزائر في ذلك التاريخ (1898) وما بعده على يد رئيس بلدية الجزائر عندئذ، ماكس ريجس M.REGIS، وقد تكون جمعية ذات اتجاه ماسوني/ صهيوني.

مدرسة التربية والتعليم. وكانت هذه المدرسة في الحقيقة نموذجا احتذاه تلاميذه في الجهات الأخرى من الوطن، كما كانت نموذجا للمدرسة الحديثة عند جمعية العلماء بعد ميلادها سنة 1931. ومن الذين فعلوا ذلك، الشيخ محمد البشير الإبراهيمي الذي أنشأ بتبرعات السكان، مدرسة دار الحديث بتلمسان سنة 1937. ويدخل في هذه النماذج للمدرسة الجديدة معهد الحياة بالقرارة الذي تأسس سنة 1925 بأموال السكان أيضا. وكل هذه المدارس كانت من أجل التعليم العربي والإسلامي بطريقة عصرية مستفيدة من تجارب الشرق في المحتوى والفكر وتجارب الفرنسيين في المنهج والبناء والإدارة. وكانت دار الحديث قد أحيت أيضا الطراز العربي الإسلامي في الشكل الهندسي، وللإنصاف نقول أن هذا الشكل قد شجع عليه الحاكم العام جونار قبل ذلك بثلاثة عقود، وتمثل في المدرسة الثعالبية ومدرستي قسنطينة وتلمسان الرسميتين. ولم يكن هدفنا دراسة هذا الموضوع بطريقة الحوليات، ولكن إعطاء الرواد حقهم واجب هنا. ذلك أن إنشاء المدرسة الحرة كان يتطلب الحافز الفكري والوطني، كما يتطلب المال والمعلم والمكان والبرنامج. والمال لا يمكن أن يوفره فرد أو هيئة صغيرة، كما دلت التجارب الكثيرة. ومع ذلك غامر بعضهم بإنشاء المدرسة الحرة فاعتبر (بطلا)، ولكن المحاولة كانت فردية وقصيرة الحياة. على إثر الحرب العالمية الأولى ظهرت في مدينة الجزائر عدة محاولات لإنشاء المدرسة القرآنية العصرية - كما كانت تسمى - ويعتبر الشيخ مصطفى حافظ أول من فعل ذلك، حسب علمنا، بعد تجربة ابن حمانة. هذا (الشاب) (¬1) الذي تخرج من مصر ورجع إلى وطنه بفكرة إصلاحية، وهي تطوير المدارس القرآنية بعد أن اعتراها الهرم في أسلوبها القديم. وكان حافظ فيما يبدو متأثرا بما رأى في مصر من إنشاء المدرسة العربية - الإسلامية، على ¬

_ (¬1) سماه كذلك، محمد العابد الجلالي في (تقويم الأخلاق)، سنة 1927، ص 172.

أنقاض الكتاتيب (¬1). ويقول المرحوم أحمد توفيق المدني: أن مصطفى حافظ أول من فكر في التعليم الحر، أي التعليم القرآني المنظم. ولكن المدني لاحظ أن مشروع مصطفى حافظ كان فرديا، فولد ضعيفا وبقي ضعيفا (¬2). أسس مصطفى حافظ مدرسة سماها (الفلاح)، وهو اسم استفتاحي معبر، وفيه رمز ديني وفهم صوفي واضح. وأنشأ لها أيضا جمعية سميت جمعية الفلاح، استطاعت أن تجمع للمشروع أربعمائة (400) ألف فرنك لبناء محل خاص (مدرسة) للتعليم العربي، وشراء دار لاستعمالها كمقر رسمي لهذه الجمعية، ولإيواء التلاميذ الذين لا يجدون مكانا لهم في المدارس الدينية المسيحية، وتعليمهم القرآن والعلوم العربية والإسلامية بطريقة حديثة (¬3). ويقول محمد العابد الجلالي عن مصطفى حافظ أنه قضى في مصر مدة وأخذ العلوم هناك ثم رجع إلى الجزائر. ففكر في وسيلة تفيد الأمة (الشعب)، فوجدها في إنشاء (مدرسة قرآنية) تفيد الأطفال، ولما فعل ذلك هرع الناس إليه واتضحت لهم نتائج أعماله. ووصفه بالشاب النشيط و (البطل) وقال أن من حق العاصمة أن تفتخر به. وقد زار الجلالي هذه المدرسة حوالي 1925 والتقى بصاحبها فأطلعه على برنامج المدرسة، كما وزعه على أيام الأسبوع، ووجده الجلالي برنامجا جيدا، في نظره، كما وجد الشبيبة (تفيض أعينهم بالأمل البعيد والقريب) (¬4). ولا ندري كيف انتهت تجربة مصطفى حافظ الرائدة أيضا، غير أننا نعرف أن مدرسة أخرى ظهرت في العاصمة حوالي نفس الوقت. ونعني بذلك (مدرسة السلام) الحرة التي تأسست سنة 1930. وكانت معدة لتعليم البنين والبنات، ومتخصصة للتعليم العربي الإسلامي والمبادئ الدينية. ¬

_ (¬1) أشار إلى ذلك الوفد المصري إلى مؤتمر المستشرقين في الجزائر 1905 ة سيما عبد العزيز جاويش ومحمد فريد. (¬2) أحمد توفيق المدني (كتاب الجزائر) ط.2. (¬3) نفس المصدر. (¬4) محمد العابد الجلالي (تقويم الأخلاق) ص 172.

وكانت لها جمعية برئاسة السيد عمر إسماعيل، تسمى (جمعية السلام) وتضم نحو 200 تلميذ (¬1). أهم مدرسة للتعليم العربي الحر ظهرت في العاصمة هي مدرسة الشبيبة الإسلامية، وترجع أهميتها إلى نتائجها وطول مدتها واندماجها في إحدى مراحلها في الحركة الإصلاحية. وكان ظهورها سنة 1927 على يد جمعية تحمل نفس الاسم، ويرأسها السيد محمد علي دامرجي، وتضم عناصر من المحسنين والغيورين على اللغة العربية والقرآن والدين الإسلامي. وقد لعبت هذه المدرسة دورا رئيسيا في الحياة الثقافية والتربية والتعليم، سيما بين الحربين. ولا ندري من أدار المدرسة أول مرة، ولعله الكاتب والصحفي الشهير عمر بن قدور. ويبدو أن مدته، إذا كان هو، لم تطل، ولا ندري لماذا. أما الذي تولاها وطالت مدته فيها وأشهرها واشتهر بها فهو الشاعر العظيم محمد العيد آل خليفة. وقد تحدثنا في كتابنا عنه وعن ظروف تعيينه فيها ودوره وتنشيطه لحياة التلاميذ والمدرسين. إنما نريد أن نذكر هنا ما يفيد موضوعنا فقط، وهو أن كلمة (الشبيبة) كلمة سحرية في ذلك الوقت، وهي تعني النهضة واليقظة، كما تعني الأطفال والفتيان والشبان، إنها تعني جيلا من الأبناء الذين انهمكوا في إعداد مستقبلهم بالتربية والتعليم. وفي الشباب الحيوية والطموح والمستقبل. فالذين اختاروا هذا الاسم لم يكونوا غافلين عن معانيه المذكورة خلال العشرينات. بناء على رسالة (وثيقة) الدعوة التي وجهها رئيس الجمعية إلى محمد العيد، فإن مواد الدراسة هي: القرآن الكريم، واللغة العربية، والنحو والصرف، ومبادئ العلوم الدينية، والجغرافية، والحساب، ومبادئ علم الصحة. على أن يتم تعليم هذه المواد (بأساليب تعليمية عصرية). كان ¬

_ (¬1) أحمد توفيق المدني (تقويم المنصور) ج 5، سنة 1348 هـ. وفيه مقال بعنوان (مدرسة السلام والتعليم العربي في الجزائر) ص 304 - 307. وفيه صور للمجلس الإداري وللتلاميذ والمدرسين. وفي هذا المقال إضاءة هامة عن حالة التعليم العربي قديما من وجهة نظر معاصر.

الهدف من التربية والتعليم في هذه المدرسة هو (تهذيب الأخلاق)، وتثقيف الأفكار بالكيفية المستعملة بالمشرق، وهذا يدل على تأثر المخططين لهذا النوع من التعليم بتجربة المشرق في التعليم العربي الإسلامي على أسس حديثة، كما ذكرنا. وتهتم الجمعية ومدرستها بالمواسم الدينية، وهي عيد الفطر (سبعة أيام دون الجمعة والاثنين)، ومثله عيد الأضحى، وخمسة أيام للمولد النبوي، ويومان لعاشوراء، أما الراحة الأسبوعية فالجمعة والإثنين. وقد ختمت الدعوة بهذه العبارات الدالة على المشروع والهدف منه، وهي: (أملنا أن تشاركونا في مشروعنا الخيري الجليل، ألا وهو خدمة الدين والوطن وبث اللغة العربية) (¬1). بعد حوالي سنتين من إنشائها أخبر الشيخ المدني أن في مدرسة الشبيبة حوالي مائتي تلميذ. وكانوا بين بنين وبنات. وكان فيها على الأقل أربعة مدرسين نعرف منهم عندئذ: محمد العيد (المدير) والشيخ عبد الرحمن الجيلالي، والشيخ محمد الهادي السنوسي، وآخر لا نعرف اسمه، حسب بعض الصور. وقد وصف الشيخ الجيلالي بأنه مدرس القسم الابتدائي والشيخ السنوسي بأنه مدرس القسم العالي (¬2). ويبدو أن الذين وضعوا برنامج مدرسة الشبيبة الحرة وضعوه على نمط المدرسة الشرعية الرسمية بالجزائر ذات القسمين أيضا (الثانوي والعالي). ونعلم من بعض المصادر أن مكان مدرسة الشبيبة كان يقع فوق حديقة مرنقو، قرب ضريح الشيخ الثعالبي، وهي ¬

_ (¬1) نص الدعوة أو الرسالة مطبوع في كتاب محمد بن سمينة (محمد العيد آل خليفة)، الجزائر، ص 159، تاريخ الرسالة 7 جوان (يونيو) 1927. عن الشبيبة انظر أيضا خطاب الشيخ الطيب العقبي في جريدة (الأمة) لأبي اليقظان، 15 ديسمبر 1936. (¬2) المدني (تقويم المنصور)، مرجع سابق. يقول هذا المصدر أن الحكومة العامة كانت تقدم مساعدة مالية سنوية لمدرسة الشبيبة. كانت لهذه المدرسة سمعة خاصة حتى عند الشرطة الفرنسية. وأذكر أنني عندما كنت معلما في مدرسة الثبات بالحراش (قرب العاصمة) شتاء 1954 - 1955 داهمنا البوليس ليلا وسألونا، أنا وزميلي الأزهاري، عن عملنا ومكانه. فقلنا لهم إننا معلمون في مدرسة الشبيبة فتركونا في حالنا بينما الواقع أننا كنا نعلم في إحدى مدارس جمعية العلماء التي لا ترضى عنها الشرطة.

ملاصقة لثانوية عقبة بن نافع اليوم، ولكن لها ممر خاص، وقد دخلناها. ومن جهة أخرى حاولت الإدارة الفرنسية إدخال اللغة الفرنسية في برنامج مدرسة الشبيبة فرفضت إدارتها الأولى وتعللت بشتى العلل، ثم بعد ذهاب الشاعر محمد العيد منها، حوالي 1940، ومجيء إدارة جديدة، فرضت فرنسا لغتها على هذه المدرسة، إلى أن أصبحت كغيرها من المدارس التي تشرف عليها الإدارة. ومع ذلك بقي لها اسمها التاريخي. تكاثرت المدارس الحرة العصرية منذ العشرينات، وتبناها الشعب وأقبل عليها إقبالا كليا، فقد وجد أولا في جهود بعض الأغنياء والمحسنين أمثال الدامرجي وعمر إسماعيل، وحماس الغيورين أمثال مصطفى حافظ، وابن باديس، والطيب العقبي، ومبارك الميلي، والتبسي والإبراهيمي والهادي الزروقي، وعشرات المعلمين الجنود الذين انتشروا في الجزائر، يعلمون القرآن واللغة العربية وعلوم الدين بأسلوب عصري وأماكن جديدة وروح متحمسة للمستقبل. وقد استفادوا، كما قلنا، من التجربة الفرنسية المجاورة لهم، وفيهم من سبق له دخول المدرسة الفرنسية أو من له أقارب بها، ولكن أغلبهم كانوا من خريجي المدارس والزوايا القديمة أو مدارس تونس والمشرق، وكانوا متشبعين بروح الإصلاح والنهضة فتطوروا بسرعة وواكبوا الحياة في سيرها الطبيعي. والنموذج الذي تكرر في كل مكان هو هذا: جمعية محلية تنشأ من الأعيان في القرية أو الدوار، وتجمع المال بالتبرع ونحوه، وتحضر المكان الذي قد يكون دارا مكرية في البداية، ثم مدرسة عصرية في النهاية. وكانت الجمعية إما أن تبحث عن المعلم فتجده بنفسها وتعرض عليه التعليم والأجر والإقامة، وإما أن تراسل الشيخ ابن باديس، بعد اشتهار جمعية ومدرسة التربية والتعليم (¬1)، ليرسل إليها أحد المعلمين من طلابه. وبعد تأسيس ¬

_ (¬1) وجدنا في سريانة ناحية باتنة وثيقة عند إحدى العائلات الدينية بقلم ابن باديس يطلب فيها سرا الإعانة لمشروعه التعليمي عن طريق الدين أو السلفة، على أن يرد ذلك في وقت ذكره، كما ذكر ابن باديس أسماء بعض الذين سلفوه أو تبرعوا له.

جمعية العلماء وإنشاء لجنة التعليم فيها أصبحت المطالب من الجمعيات المحلية تأتي إلى إدارة جمعية العلماء التي كانت تتولى اختيار المعلمين وتوجههم إلى الجهات الطالبة، ليدرسوا حسب البرنامج الذي أعدته جمعية العلماء نفسها، وهو برنامج وطني في صميمه، يقوم على هذا الشعار: الإسلام ديني، والجزائر وطني، والعربية لغتي. وبذلك تصبح جمعية العلماء هي الضامنة في المعلم وفي المستوى، أما التكاليف المادية فتتولاها الجمعية أو الشعبة المحلية المستقبلة. والتعليم عند العلماء يقوم على مبدإ (الإحياء): إحياء الدين وإحياء اللغة وإحياء الوطنية. وهم كانوا يعتقدون أن مائة سنة من الاستعمار الفرنسي قد غيبت تلك المقومات الأساسية للهوية. واستعملوا عبارات أخرى مثل الطمس والمسخ كوسائل لجأت إليها الإدارة الفرنسية للقضاء على تلك المقومات. ولذلك كانت رسالتهم تتلخص في عملية الإحياء، وليس من غرضنا هنا دراسة فلسفة العلماء ومبادئهم الإصلاحية - وقد درسنا ذلك في غير هذا الكتاب - وإنما هدفنا الآن دراسة دورهم في التعليم العربي الحر المغطى بشعار الإحياء الإسلامي والوطني. يذهب علماء الاجتماع الفرنسيين، أمثال أوغسطين بيرك A.Berque، إلى أن التعليم الذي نشره العلماء كان يقوم على ربط الجزائر بالمشرق حضاريا وسياسيا. وقد استعمل العلماء لذلك سلاح الهجوم اللغوي والهجوم العقدي ضد فرنسا. وتحول التاريخ عندهم إلى تمجيد للشرق ومعاداة للغرب. ونشروا بين أطفال المدارس فكرة الخروج عن التقاليد البالية والاقليمية الضيقة، والانتماء إلى الإسلام العالمي. وكان على تعليم الزوايا أن ينافس تعليم المدارس الحرة إما بالازدياد في (التعصب) وإما بالاندماج في نفس برنامج العلماء بكل صراحة. وهكذا تبينت فرنسا أن كلا التعليمين خطر عليها. ومرة أخرى عبر بيرك عن كون التعليم الذي نشره العلماء كان مشرقيا بالمكشوف - بصراحة -. واستشهد على ذلك بالتعليم الذي نشرته مدرسة دار الحديث في تلمسان ومدرسة الفلاح بوهران ومدرسة التربية

والتعليم في قسنطينة (¬1). هذا من الناحية النظرية، أما عمليا فالمعروف أن زعماء العلماء كانوا في أغلبهم من خريجي المعاهد الإسلامية في تونس والمغرب والمشرق. وكانوا متمردين على الحكم الفرنسي لأسباب سياسية واقتصادية واجتماعية. فالتوظيف كان محتكرا من قبل خريجي المدارس الفرنسية، والجزائر كانت تفتقر إلى معهد عال للثقافة العربية والإسلامية. والإدارة كانت هي المستولية على الأوقاف والشؤون الإسلامية وتعيين الأيمة والمدرسين، بينما المرابطون ورجال التصوف قد وضعتهم الإدارة في خدمتها وسيطرت بهم على العامة. فكان ظهور زعماء العلماء قد خضخض هذا الوضع وأبان عن الاختلال الخطير في العلاقات. ورغم أن تعليم العلماء كان بعيدا عن اللغة الفرنسية فإنهم تسامحوا مع من تعلم هذه اللغة بل وجهوا أبناءهم إلى تعلمها في المدارس الفرنسية. وكان هذا من تناقضات حركة التعليم عند العلماء. وبتقادم العهد استطاعوا أن يجلبوا إلى صفوفهم أنصارا من المتعلمين في المدارس الفرنسية اقتناعا من هؤلاء الأنصار بالحداثة التي دعا إليها العلماء والتجديد الإسلامي، وربما كان في ذلك نوع من (الاختراق) أيضا، وقد حدث مثله في صفوف جبهة التحرير أثناء الثورة ثم الحركة الاسلامية المعاصرة. وقد جمع العلماء بين التدريس التقليدي في المساجد، باسم دروس الوعظ والإرشاد، وبين التدريس في المدارس الحرة الحديثة. فهم في الواقع كانوا يمثلون مرحلة العبور في التعليم الحديث. وكانت دروس المساجد موجهة في أغلبها إلى العامة ولكن بمحتوى وأسلوب يختلف عن محتوى وأسلوب مدرسي المساجد الرسميين. فالعلماء كانوا يتناولون موضوعات معاصرة ويوظفون لها الشواهد من القرآن والسنة والتاريخ، وبأسلوب حي يهدف إلى التوعية والنهضة. أما التعليم في المدارس الحرة، وهو المقصود ¬

_ (¬1) انظر مقالته الهامة (أسرى القداسة) في (مجلة البحر الأبيض) المجلد 10، 1951.

هنا، فقد كان يهدف إلى الإحياء الثلاثي الذي أشرنا إليه (الإسلام، الجزائر، العربية)، وهو موجه أساسا إلى الأطفال الذين حرموا من التعليم في المدارس الفرنسية. وكان العلماء ينافسون بمدارسهم المدارس الفرنسية، ولكنهم لا يعارضونها، فبرنامجهم كان يخضع لبرنامج وتوقيت هذه المدارس، وهم يعلمون التلاميذ الذين يذهبون إلى المدارس الفرنسية أيضا ويوفقون بين توقيتهم هنا وهناك. وكان ذلك على حساب التلاميذ أحيانا إذ كان عليهم أن ينهضوا أو يناموا ويعملوا في أوقات ضيقة جدا. أما التلاميذ الأحرار فليس هناك مشكل بشأنهم. غير أن التنافس بين التلاميذ في النوعين من المدارس قد أحدث غيرة وشعورا بالتعالي والتمايز من الطرفين. ولم يكن العلماء قد وضعوا كتبا ومقررات جديدة تتلاءم مع طموحهم في حركة الإحياء. فاعتمدوا في البداية على تقليد المعاهد الإسلامية. كانت معظم الكتب التي تدرس في مدارس تونس ومعاهدها كالزيتونة، وبعض معاهد الشرق ومدارسه تطبق في مدارس العلماء أيضا. وكان العلماء قليلي العدد في البداية وإمكاناتهم في التأليف والطبع ضعيفة، ولذلك كانوا يلجأون إلى الإملاءات. وبمرور الزمن أصبحت مدارس العلماء تتوفر على معلمين قادرين على التأليف حسب التجربة المحلية. فالكتب تحتوي على تعابير وأمثلة لا تتلاءم مع المتعارف عليه في البيئة الجزائرية. وهكذا ظهرت - سيما بعد الحرب العالمية الثانية - مؤلفات مدرسية في مختلف الفنون من الإنتاج المحلي. على أن ذلك لا يعني الاستغناء تماما عن التأليف المشرقي. بالإضافة إلى المواد التقليدية من علوم الدين وعلوم اللغة، اهتم العلماء بالتاريخ الإسلامي وتاريخ الجزائر وجغرافيتها. وكان الفرنسيون قد أهملوا ذلك أو أدمجوا التاريخ والجغرافية في البرنامج الفرنسي على أن الجزائر جزء من فرنسا. أما العلماء فقد ركزوا على إحياء التاريخ الإسلامي ودور العرب والحضارة الشرقية، وخصائص الجغرافية الوطنية والسكان وارتباطاتهم اللغوية والعرقية والدينية والطبيعية على أنهم يمثلون وحدة وطنية. كما وظف العلماء في مدارسهم العلوم الحديثة المكملة مثل الرياضة

والموسيقى والتمثيل والأناشيد. ولا شك أن ذلك جاء من تنافس مدارسهم مع المدارس الفرنسية وتمشيا مع روح الحداثة، وربما كان ذلك نتيجة حالة الاختراق التي أشرنا إليها. تطورت حركة التعليم في عهد رئاسة الإبراهيمي لجمعية العلماء، سيما منذ 1947 فأصبح للتعليم لجنة عليا تشرف عليه وتوجهه وتوظف المعلمين وترتبهم وتحدد رواتبهم وطبقاتهم وتعييناتهم وانضباطهم وترقياتهم. وكذلك تشرف على المدارس ومراسلاتها والمديرين ومسؤولياتهم. وهذه اللجنة هي التي تحدد أيضا الكتب المقررة وأوقات الراحة الفصلية والسنوية. وقد مجدت المدارس المواسم الدينية والتاريخية، وهو أمر داخل في عملية الإحياء المشار إليها. وعمل في هذه اللجنة عدد من مزدوجي اللغة مثل إسماعيل العربي والحفناوي هالي وإبراهيم مزهودي، كما عمل فيها وحيدو اللغة (العربية) مثل عبد القادر الياجوري ومحمد خير الدين والعربي التبسي. ومما يذكر أن الشيخ التبسي أصبح هو مدير معهد ابن باديس ونائبه هو محمد خير الدين. وذلك يدل على الاهتمام الذي أعطاه العلماء لهذا المعهد. كما كان الأديب المعروف، أحمد رضا حوحو (وهو مزدوج اللغة) هو الكاتب العام للمعهد. وكان الشيخ التبسي قد ولد سنة 1895 في البادية (في خيمة من الشعر) وتعلم على والده، ثم حفظ القرآن وبعض العلوم في زاوية خنقة سيدي ناجي، ومنها إلى زاوية نفطة. وفي كل زاوية قضى نحو ثلاث سنوات. ومن نفطة توجه إلى تونس للدراسة في جامع الزيتونة، حوالي 1913، وهي السنة التي ذهب فيها ابن باديس إلى المشرق. وتعاصر الشيخ التبسي في الزيتونة مع زميل له، وهو مبارك الميلي الهلالي، وكان القدر قد خطط لكل منهما دورا في خدمة التعليم والإصلاح. ولا ندري لماذا لم يتجند التبسي للخدمة العسكرية الإجبارية عندئذ، هل لوجوده في تونس أو لأسباب أخرى. أما منذ 1920 فقد ذهب التبسي إلى مصر ودرس في الأزهر. وكان سفره بدون جواز سفر وفي حالة تخف. وقد قضى في مصر سبع سنوات وتخصص في الشريعة وحصل

على العالمية. وفي 1927 رجع إلى الجزائر دون أن يزور أي مكان آخر (¬1). بدأ حركة التعليم في تبسة. وربما كان ذلك بإيعاز من ابن باديس. وقد وجد الشيخ التبسي حركة التعليم نشيطة. فاستعمل المسجد. ولما ضايقته الإدارة أشار عليه ابن باديس بالتوجه إلى سيق غربا، وهي المدينة التي طلب أهلها من ابن باديس إرسال معلم إليهم. وظل الشيخ التبسي يتردد بين تبسة وسيق بضع سنوات. وفي أثناء ذلك تبرع أحد أبناء تبسة المحسنين (الحاج الحواس) بدار له فحولها الشيخ التبسي إلى مدرسة وجلب إليها أربعة معلمين. وهكذا أصبحت مدرسة ابتدائية تضم حوالي 400 تلميذ. ولما ضاقت الدار، بنى أهل تبسة (مدرسة البنين والبنات) سنة 1934 تحت رعاية الجمعية الخيرية (تأسست سنة 1932)، وكان رئيسها هو الحاج الحواس نفسه. وقد واصل الشيخ التبسي إدارة هذه المدرسة إلى 1947 حين أصبح مديرا لمعهد ابن باديس (¬2). إن هذه ليست ترجمة لحياة الشيخ التبسي، ولكنها سطور تعكس مسيرة العلم والتعليم في عهد جمعية العلماء وكيف أصبح ابن الخيمة هو أحد أبرز أعضاء هذه الجمعية، فتولى نيابة رياستها وإدارة معهدها والتحدث باسمها أيام الثورة إلى أن استشهد. وكان كفاح العلماء مريرا في مصارعة الإجراءات الإدارية ضد المدارس والمعلمين بالعربية. ولا نريد أن نتبع ذلك في كل مراحله لأن ذلك يطول، ولكننا نكتفي بالإشارة إلى منشور ميشيل سنة 1933 وقرار رينيه 1938 فكلاهما ضيق الخناق على المساجد الحرة والمدارس التي تعلم بالعربية، وكذلك على المعلمين بدون رخصة إدارية (¬3). وقد جند ابن باديس قلمه ¬

_ (¬1) قام بزيارات للمشرق وأدى فريضة الحج في عهد لاحق. (¬2) يقول محمد علي دبوز (أعلام) 2/ 33 أن المدرسة استمرت إلى 1956 حين احتلها الجيش الفرنسي. وقد استشهد الشيخ التبسي سنة 1957 بعد اختطافه في العاصمة على يد مجهولين فرنسيين يظن أنهم من فرقة اليد الحمراء الإرهابية. (¬3) انظر ذلك في كتابنا الحركة الوطنية ج 3. وقد درس رابح التركي مسألة التعليم بتفاصيل كثيرة في كتابه (التعليم القومي)، فليراجع.

وحنكته وسمعته لرفع الضيم عن المدارس والمعلمين. فاحتج بأسلوبه الخاص، وخاطب (الديموقراطيق) الفرنسية بعبارات استنكارية، ونادى على كل الجزائريين مهما كانت مواقعهم ليتحركوا ضد ما يحاك لدينهم ولغتهم. فوجه كتابا مفتوحا إلى النواب (الأحرار)، وآخر إلى قضاة الشرع الإسلامي، وثالثا إلى معلمي الفرنسية الأحرار، ورابعا إلى جمعية قدماء المحاربين، طالبا منهم الوقوف ضد قرار رينيه (8 مارس 1938) القاضي بطلب الرخصة لمعلمي المكاتب (المدارس) العربية رغم أن طلب الرخصة لا يجاب، ولاستنجاد بهم، وتذكيرهم بدورهم أمام الله وأمام الأمة (¬1). وفي هذه الأثناء كتب ابن باديس مقالته (يالله للإسلام والعربية في الجزائر - كل من يعلم بلا رخصة يغرم، ثم يغرم ويسجن ... كل من يطلب الرخصة لا يجاب، هذا عمل الإدارة الكثير المتكرر) (¬2). وقد اطلعنا على رسالة بعث بها ابن باديس إلى أحد المعلمين، اسمه محمد شوفان. يستأذنه في نشر جوابه بالبصائر ليكون عبرة ضد من يحاول منع الناس من تعلم لغتهم ودينهم. وأشار عليه ابن باديس بطلب الرخصة أولا فإن منعت عنه فليعلم وليستعد للمحاكمة (والمخالف للقانون حينئذ هو الذي يمنع الرخصة من أهلها) (¬3). كما كتب ابن باديس مقالته (ماذا في الجنوب: اندجينا جديدة بعد 108 سنوات)، وهي عن منشور الحاكم العام إلى حكام الجنوب بالقبض وسجن كل طالب (معلم) منسوب إلى الجمعية حال جولانه باسمها أو دعوته إليها (¬4). وقد استمرت هذه المصارعة بين الجمعية والإدارة الفرنسية إلى قيام الثورة عام 1954، ولكن بدرجات متفاوتة وبأساليب مختلفة. وفي كتابات الإبراهيمي بعد 1947 ومحاضر الجمعية ما يلقى أضواء على هذه القضية. ¬

_ (¬1) البصائر 22/ 4/ 1938. (¬2) نفس المصدر، 8 أبريل، 1938. (¬3) الرسالة بتاريخ 22 يوليو، 1939، وقد مكنني من نسخة منها علي امقران السحنوني، بتاربخ 9/ 3/ 1980. (¬4) البصائر 13 مايو 1938.

وقد اهتمت الجمعية بنشر التعليم العربي حتى بين أبناء الجالية في فرنسا. فأرسلت إليهم الوعاظ والمعلمين. وقام هؤلاء بتأسيس بعض المدارس والنوادي. ومنهم سعيد صالحي والفضيل الورتلاني وسعيد البيباني والربيع بوشامة. وتوجد أخبار نشاطهم في جريدة البصائبر. وبعد أن أسس الورتلاني مدرسة التهذيب في فرنسا حوالي 1938، هاجر إلى مصر والتحق بالأزهر وربما ارتبط بحركة الإخوان المسلمين. ولكن الجمعية أعلنت في جريدتها أنه هو رئيس البعثة الموجهة من طرف جمعية العلماء إلى الجامع الأزهر وأنه تقدم لنيل شهادة العالمية وحصل عليها. وفي نفس الخبر أن علاوة الجيجلي قد حصل أيضا على هذه الشهادة (¬1). ومن ذلك نعلم أن في مصر عندئذ نواة (لبعثة) لجمعية العلماء، ولكننا لا نعرف عدد أفرادها ولا كيفية إرسالهم. فهل كان ابن باديس يخطط في ذلك الوقت لتكوين إطارات في المشرق لتتولى المرحلة الثانية من التعليم الذي بدأه؟ لقد أشرنا إلى أنه كان ينوي أيضا توجيه (بعثات) نسائية إلى دمشق. وسبق له أن وجه تلاميذه إلى جامع الزيتونة. ومهما كان الأمر فإن إعلان الحرب ثم وفاته (1940) قد أوقف مشروع البعثات إلى المشرق. ولم تستأنفه الجمعية إلا في أوائل الخمسينات مع خريجي معهد ابن باديس. وقد أشرنا إلى ذلك. ولا يفهم من هذا إن كل المدارس الحرة التي أنشئت كانت تحت لواء جمعية العلماء، إنما كان ذلك هو الغالب. فقد أنشئت مدارس حرة دون وضعها تحت جمعية العلماء إما لعدم اقتناع مؤسسيها بحركة الإصلاح، وإما لخوفهم أو الخوف على مشروعهم، من انتقام السلطة الفرنسية إذا انضموا للجمعية، وقد اضطهدت الإدارة الفرنسية من ينضم لجمعية العلماء ومن يطبق برنامجها ومن يقرأ جرائدها الخ. ولذلك فضل الآخرون العمل المستقل. وكانت الجمعية أحيانا تحرض على ذلك، لأن المهم عندها هو نشر التعليم ويقظة الناس، وكثيرا ما استعملت هي ومراسلوها التقية والتخفي ¬

_ (¬1) نفس المصدر، 11 غشت، 1939.

والرمز في ذلك، فتكون المدرسة مستقلة عن الجمعية ومع ذلك تطبق برنامجها. وكانت الجمعية وصحفها تتولى الكشف عن اضطهاد المعلمين، سيما في الأرياف النائية حيث المتصرفون الإداريون المستبدون يحكمون بأمرهم، بقطع النظر عن كون المعلم تابعا أو غير تابع للجمعية. في حدود 1931 كتب الشيخ أحمد توفيق المدني أن هناك حوالي 300 مدرسة قرآنية على النمط الجديد. وذكر أن من أحدثها المدرسة الخلدونية ببجاية التي أسسها الشيخ الهادي الزروقي، خريج الأزهر وحفيد الإمام أحمد زروق البرنوسي (¬1)، وكذلك مدرسة الإخاء في بسكرة. وكل هذه المدارس كانت من تبرعات المحسنين. وذكر نفس المصدر أن عدد التلاميذ كان يقدر عندئذ بحوالي ثلاثة آلاف تلميذ. ولكن هذا عدد ضئيل بالنسبة لمجموع التلاميذ الذين كانوا في سن التعليم، وهو 780 ألف، حسب الشيخ المدني نفسه (¬2). انتشر التعليم التطوعي حتى أصبح ظاهرة ملفتة للنظر بين الحربين. فكل من له القدرة على التدريس، وكان ذا نفس طموحة انتصب في مسجد، فإن لم يجد ففي منزل تبرع به صاحبه، فإن لم يكن هذا ولا ذاك جلس في فناء داره. وقد رويت لنا قصص مدهشة على ذلك، أنها (حملة) للتنوير والضوء. وكم تحمل أصحابها في سبيلها الضنك والعناء. فالنظر الشزر من خصوم التعليم، والشبهات كانت كثيرة. وكذلك الحرمان من الوظيف والأجور، فهؤلاء ليسوا موظفين عند الدولة ولا مأجورين عند العامة لأنه ليس هناك جمعيات محلية دعتهم للتعليم. ومن الأمثلة التي يذكرها أهل بلدتنا قمار حركة التعليم التي نشرها الشيخ عمار بن الأزعر قبل هجرته إلى ¬

_ (¬1) انظر ما كتبه عنه الشيخ أبو يعلى الزواوي الذي عرفه في القاهرة أثناء الحرب العالمية الأولى. (¬2) المدني (كتاب الجزائر). وقد ذكرنا أن عدد التلاميذ الذين كانوا في سن المدرسة سنة 1936 هو 620.000، حسب مجلة (إفريقية الفرنسية)، يوليو 938 1. انظر أيضا فصل التعليم الفرنسي والمزدوج.

الحجاز سنة 1935، فقد كان متطوعا بدروسه وكاد لا يجد المكان الذي يلتقي فيه بتلاميذه، وكان رغم علمه، وهو خريج جامع الزيتونة بشهادة التحصيل (التطويع)، مطاردا من الإدارة الفرنسية ومن بعض أهل الزوايا الذين يرفضون التغيير. كان الفرنسيون يرقبون هذا التحول في المجتمع الجزائري: من الرفض للتعليم الفرنسي إلى الإقبال عليه، ومن التمسك بالتعليم العربي العتيق إلى المدرسة العصرية الحرة. ومن التردد واللامبالاة إلى الإقبال والعزم والاهتمام بالنهضة والحياة والمستقبل. كان بعضهم لا يرى أكثر من موقع رجليه، ولكن بعضهم كانوا دقيقين حذرين، لا يخطبون ولا يزمجرون، فهم يضعون أيديهم على المكامن ويفتحون أعين قومهم على مواضع الداء. ومن هؤلاء بدون منازع جوزيف ديبارمي الذي كان في هدوئه وملاحظاته من موقعه في متيحة وصلته بالمدرسة والتعليم يكتشف عمق التجربة الجزائرية وتحولاتها منذ أوائل القرن. وتشهد كتاباته كلها على ذلك. ومنها مقالته التي سماها (رد الفعل اللغوي) (¬1). كيف وقع هذا التحول من (المسيدات) إلى المدارس الحرة العصرية؟ أليس ديبارمي هو الذي علمه قومه (وهو تلميذ المستشرق رينيه باصيه) أن الجزائريين لا يريدون التعليم وليس لهم قابلية فيه ولا الإقبال عليه؟ يقول ديبارمي ما خلاصته: لقد تفطن المسلمون (الجزائريون) إلى أن الدولة الفرنسية لم تستجب لدعوتهم في التعليم الحر (نظرا لقيود قانون 18 أكتوبر 1892) فتنادوا للتخلص من مكاتبهم (مدارسهم القرآنية) التعسة حسب رأيه، ومسيداتهم القديمة وزواياهم البالية، ودعوا إلى تعليم يقوم على التبرع بالمال وتنصيب (طالب) في كل دوار يدفع له سكانه أجرة تعليم القرآن، كما كان الحال تقريبا في قديم الزمان. والكثير من هذه المدارس الحرة كانت مدعومة من الجمعيات الخيرية ¬

_ (¬1) نشر هذا البحث الطويل والعميق - رغم ما فيه من نقول واراء - في مجلة S.G.A.A.N (الجمعية الجغرافية للجزائر وشمال افريقية)، سنة 1931 (بعد مائة سنة على الاحتلال).

(المحلية) التي لا تهتم بالمعنويات كما هو الحال في الجمعيات الفرنسية (لأن الدولة هي التي توفر ذلك بما فيه التعليم)، ولكنها تهتم بالحالة المادية. كما أن هذه المدارس مدعومة بالجمعيات الأدبية والودادية والشبيبة الإسلامية. هذا من جهة ومن جهة أخرى، فإن الحرب العالمية الأولى قد تولدت عنها أفكار حفزت الأهالي ونورت عقولهم. ومن ذلك ظهور أغنياء أمريكا وتبرعاتهم للجمعيات العلمية. كما أن الصحف قد ذكرتهم بأن الثروات في عهد الخلفاء الراشدين كانت تستعمل أيضا لنشر العلم. وهكذا فإن المؤسسات الإسلامية الخيرية القديمة قد تعصرنت بإنشاء المدارس الحرة، كما ظهرت شخصيات صغيرة الحجم في البلاد تفعل فيها ما يفعله روكفلر في أمريكا (يعني المحسنين الذين تبرعوا للعلم) (¬1). وأضاف ديبارمي إن هذه المؤسسات العصرية (المدارس) تتميز عن القديمة بالفكرة والبرنامج والطريقة. وأن الغيورين عليها لا يسمونها اليوم (مسيدات) أو كتاتيب قرآنية، ولكن مدارس بالمعنى القديم (MEDERSAS)، أي مدارس عليا (¬2). وليس إنشاؤها اليوم بهدف ديني فقط بل من أجل هدف وطني وقومي. ألم تكتب جريدة (النجاح) (¬3) في عدد 5 يناير 1930 عند افتتاح (جمعية الصفاء) (¬4) بالعاصمة هذا العنوان: (من أجل نشر اللغة العربية) ثم قالت فيه: إن الهدف من إنشاء هذه الجمعية وطني وقومي، إن الأمة التي ليس لها لغة لذاتها ليست أمة بمعنى الكلمة ... (نص طويل). وهاجمت الجريدة نفسها في عدد 9 مارس 1930 تعليم الكتاتيب الذي يبقى فيه التلميذ ¬

_ (¬1) لا شك أن ديبارمي يقصد أمثال محمد علي دمارجي وعمر إسماعيل من المحسنين الذين كانوا وراء تأسيس مدرسة الشبيبة، ونادي الترقي ومدرسة السلام. (¬2) المقصود بها المدارس الإسلامية، كما كانت في بغداد وغيرها من الحواضر الإسلامية. وكان في الجزائر منها مدرسة صالح باي (الكتانية) ومدرسة القشاش بالعاصمة والمدرسة المحمدية بمعسكر، ومدرسة مازونة. وقد أبقى الفرنسيون كلمة (مدرسة) La Médersa بالنسبة للمدارس الشرعية الرسمية فقط، وهي ثلاثة، كما ستعرف. (¬3) كانت (النجاح) ذات اتجاه وطني في أول عهدها. (¬4) لا نعرف مصدرا آخر تحدث عنها.

عشر سنوات يحفظ القرآن ثم لا يعرف كيف يفهمه ولا كيف يكتب رسالة، ولا كيف يؤدي وضوءه وصلاته ... واستشهد ديبارمي بمقالة أخرى للنجاح في أول مايو 1930 عنوانها (ليلة بدون سوابق في حوليات الجزائر) تحدثت فيها عن مسرحية مثلتها الشبيبة وظهر فيها طفلان بائسان أحدهما ماسح أحذية والآخر حمال، وقد جاءا لمعلم القرآن يطلبان منه الدخول إلى المدرسة فأجلهما لأنه لا يوجد فيها مكان لهما (¬1). أما جريدة (البلاغ) فقد هاجمت في عددها الصادر في الثاني من يناير 1930، زوايا منطقة زواوة، وقالت أنها مراكز للجهل والخرافة، وأن الهدف من التعليم فيها هو حفظ القرآن وقراءته على الموتى، وكتابة الحروز، وكان الواجب هو تكوين معلمين بالعربية، ليكونوا أدباء قادرين على قراءة القرآن وكتب آبائهم، والقدرة على الدفاع عن تراثهم وحضارتهم في وجه الحضارة الغربية الغازية. ومن جهة أخرى أعلنت النجاح عن تبرع أحد الجزائريين بـ 350.000 فرنك لبناء مدرسة عليا بالعاصمة، كما تبرع آخر بـ 910555 فرنك لشراء محل واستعماله كمدرسة (¬2). إن هذا التحول الذي يشير إليه ديبارمي لم يبدأ في العشرينات، ولكن منذ أوآخر القرن الماضي. وقد أخذ يظهر للعيان في أول القرن. ولكن وسائل الضغط السياسي والمعنوي عند الجزائريين لم تكن متوفرة إلا بعد الحرب العالمية. وكان التحضير للاحتفال المئوي بالاحتلال قد أيقظ النائمين ونبه الغافلين لمخططات الفرنسيين. وهكذا ظهرت الدعوة للإصلاح الاجتماعي والديني، والتربية والتعليم، ولإحياء اللغة العربية والهوية الوطنية. وضمن هذا الزخم ظهرت مدارس جمعية العلماء ببرنامجها الاصلاحي المتطور. ولا نريد أن نتوسع في ذكر هذه المدارس الآن. ويكفي أن نقول أنها أصبحت تعد بالعشرات خلال الثلاثينات. وكانت تشمل البنين ¬

_ (¬1) المسرحية معروفة (انظرها في فصل آخر)، والغالب على الظن أنها من تأليف محمد العيد. وقد مثلت بالعاصمة 26 رمضان 1348 (25 فبراير 1930). (¬2) ديبارمي، مرجع سابق، ص 24 - 26.

والبنات. وكان ابن باديس يخطط لتكوين ما أسماه جامعة شعبية أو كلية تكون نواة لاستقبال الذين أنهوا دراستهم الابتدائية والمتوسطة، ثم يأخذ التعليم العربي مجراه في التطور نحو العالي. وقد حقق خلفاؤه الفكرتين بعده، فأسسوا في قسنطينة (معهد عبد الحميد بن باديس) سنة 1947، كما أرسلوا البعثات نحو الشرق من طلاب المعهد نفسه منذ فاتح الخمسينات. ومن جهة أخرى ربطوا معهد ابن باديس بالجامع الأعظم (الزيتونة) في تونس من حيث الامتحانات والبرامج والشهادات. وإلى جانب ذلك تضاعف تأسيس المدارس الابتدائية العصرية التابعة للجمعية حتى وصل عدد التلاميذ سنة 1954، حسب المصادر الفرنسية إلى 25.000 تلميذ. ولكن حملة التعليم لم يشارك فيها جمعية العلماء فقط، فقد كانت عامة، وكل على قدر علمه وإمكاناته. حتى بعض الأحزاب السياسية أسست المدارس العربية وملأتها بأنصارها من معلمي العربية، وكانت تتبع في غالبيتها برنامج جمعية العلماء. وسواء كان ذلك من باب التنافس على كسب الأنصار أو من أجل الإيمان برسالة التعليم الحر، أو البحث عن عمل للأعضاء، فإن النتيجة واحدة وهي نشر التعليم العربي والروح الإسلامية بين الجمهور. وقد قدرت المصادر الفرنسية سنة 1954 مجموع التلاميذ الذين يترددون على المدارس القرآنية الجديدة والقديمة بحوالى مائة ألف تلميذ (¬1). وإلى جانب معهد الحياة في القرارة ومعهد ابن باديس في قسنطينة ظهر معهد جديد في قسنطينة أيضا سنة 1947. وقد سمي بمعهد الكتانية لأنه افتتح في مدرسة صالح باي الشهيرة بالكتانية، وهي التي آوت المدرسة الفرنسية الشرعية حوالي نصف قرن قبل تأسيس المدرسة الجديدة، في الشارع الوطني. وأحيانا يطلق على المعهد الجديد اسم معهد بلحملاوي (ابن ¬

_ (¬1) دير منغام (لجزائر الدينية) في (مدخل إلى الجزائر)، 1956، ص 260.

معهد بني يسقن وشيخه أطفيش

الحملاوي)، وهو شيخ الطريقة الرحمانية بوادي العثمانية. ورغم الخلفية الصوفية لهذا المعهد وصلته بالإدارة الفرنسية، فإنه قام برسالة مهمة في خدمة اللغة العربية والثقافة الإسلامية، وضم في أول أمره ثلة من العلماء المعروفين والمشهود لهم بالعلم والتعلم. وكان مديره الأول هو المولود الحافظي عالم الفلك الشهير وخريج الأزهر الشريف. أما نائبه فكان أحمد الجلالي، وكان عمر الجيجلي هو نائب مؤسس المعهد، وشيخ الطريقة هو عمر بن الحملاوي. ومن العاملين في إدارة المعهد عند التأسيس: أحمد بن بسام والطيب كعبش. أما المدرسون فمنهم: الزواوي بن سيدي الشيخ (من عائلة الفكون) وعبد الحفيظ بن الهاشمي، مدير جريدة النجاح، وعبد العالي الأخضري، والطاهر بن زقوطة (¬1). وقد ربط معهد الكتاني أيضا نفسه بجامع الزيتونة. معهد بني يسقن وشيخه أطفيش هو المعهد الذي أسسه الشيخ محمد بن يوسف أطفيش في بني يسقن منذ حوالي 1850 وظل يسيره يسهر عليه إلى وفاته سنة 1914. ولكن قبل أن نتحدث عن هذا المعهد نريد أن نتحدث عن حياة مؤسسه، وهي حياة طويلة وذات شعب، وسنترك التآليف التي تركها الشيخ إلى جزء آخر. ونهتم هنا بنشأته وتعليمه ودوره الاجتماعي والديني والسياسي أيضا، ثم دوره في ميدان التعليم خاصة. يقسم محمد علي دبوز مراحل النهضة العلمية والدينية في ميزاب إلى خمس، فجعل مرحلة الشباب فيها هي عهد الشيخ محمد بن يوسف اطفيش، أما البذرة فقد كانت للشيخ يحيي بن صالح الأفضلي، وأما النشأة ففي عهد ¬

_ (¬1) أخذنا الأسماء المذكورة من أوراق علي امقران السحنوني من وثيقة هي الخطبة الافتتاحية للمعهد سنة 1947 - 1948. وهي في عشر صفحات، وضمنها قصيدة من 18 بيتا كانت ستلقى بالمناسبة. ولا ندري الآن من أين كانت ميزانية معهد الكتاني حتى نعتبره حرا فعلا بالمعنى الذي قصدناه في البداية.

الشيخ عبد العزيز الثميني. ثم تتواصل المراحل إلى عهدي النضج والتمام (¬1). وتهمنا هنا طبعا المرحلة الثالثة سواء اتفقنا مع الشيخ دبوز على هذا التقسيم أو لم نتفق معه. ولد محمد بن يوسف سنة 1236 (1818). وهو ينتمي إلى أسرة شريفة ترجع بأصولها إلى بني عدي، القبيلة العمرية، ويقول هو عن نفسه في أرجوزة له: مع اجتماع في عدي بعمر ... وبالنبي في لؤي وزمر وبعضهم يقول أنه من الأسرة الحفصية التي حكمت بعد الموحدين وكان مقر حكمها تونس. ومؤسس هذه الأسرة الحفصية هو أبو حفص عمر الهنتاتي (¬2)، وهو من قبيلة المصامدة المتوطنة جنوب المغرب الأقصى. وهاجر أحد أجداد اطفيش من الساقية الحمراء واستقر بورجلان (ورقلة). ومنها إلى ميزاب في القرن التاسع الهجري. وجده المعروف (بامحمد) هو الذي حل في بني يسقن وترك بها ذرية. واسم هذا الجد الحاج محمد بن عبد العزيز. أما والده فكان يتاجر بين غرداية ومدن الجزائر الشمالية على عادة أهل ميزاب. ولم تطب له الحياة في بني يسقن. وقد أدى فريضة الحج، ثم توفي في بني يسقن، وترك ابنه محمدا في الرابعة من عمره فتولته أمه وعهدت به إلى مؤدب فعلمه القرآن (¬3). ظهرت عليه مخايل الذكاء وحب العلم منذ صغره. وقد درس على مشائخ منهم: محمد آزبار، وعمر بن سليمان والحاج سليمان بن يحيى، وأبو عيسى الداوي. ولكن مورد العلم كان لا يشفي غليله، مع ذلك. ¬

_ (¬1) دبوز، نهضة 1/ 289. (¬2) عن أصل الهنتاتي انظر روبير برنشفيك (تاريخ افريقية في العهد الحفصي) ج 1 ترجمة حمادي الساحلي، دار الغرب الإسلامي، بيروت 1986، ص 48. (¬3) فصل الشيخ دبوز حياة اطفيش، فمن أراد التوسع فليرجع إليه. وإنما نكتفي هنا منه ومن غيره بما نعتقد أنه ضروري لكتابنا.

فصادف رجوع أخيه إبراهيم من رحلة علمية في مصر وعمان. فوجد محمد في أخيه المزيد من المعارف التي تطمح نفسه إليها فلازمه حتى حصل منه على ما يعادل الآن المرحلة الثانوية. ومن العلوم التي أخذها عن أخيه علوم الدين والعربية والمنطق والحساب، والفلك والتاريخ. وكانت لمحمد بن يوسف ذاكرة قوية وموهبة عظيمة. وقد استفاد عندئذ من مكتبة أخيه ومكتبة الشيخ الثميني. ورغم صغر سنه فقد اعترف له شيوخه بالقدرة على التدريس ولما يتجاوز العشرين. منذ حوالي 1840 إذن أخذ محمد بن يوسف يدخل الحياة العامة عن طريق التدريس. وقد ظهر على علماء البلدة ثم على علماء ميزاب، ثم شاع أمره حتى بلغ أقصى الأقطار الإسلامية. وقال بعضهم أنه بلغ درجة الاجتهاد وصار مرجعا في الفتاوى. وبدأ يؤلف وهو في سن العشرين أيضا. واهتم بعلم النحو على الخصوص، وهو علم عقلي يحصن صاحبه من الوقوع في الخرافات. فدرس أعمال المؤلفين المعروفين في النحو. ونظم هو كتاب مغني اللبيب لابن هشام في 5.000 بيت، وهو ما يزال مراهقا. وكان كثير القراءة والمطالعة، وهي عادة لم تفارقه مدى الحياة، وكان يستفيد من ذلك ويؤلف أيضا حتى وهو في حالة سفر. أما حياة الشيخ محمد بن يوسف العامة فتميزت بإقامة أسرته، وتوليه شؤون العزابة والفتاوى، والتدخل لدى السلطات الفرنسية للمحافظة على تقاليد البلاد وحرمة الدين، والمراسلات مع الشخصيات العلمية والسياسية، كما سنعرف. تزوج الشيخ محمد بن يوسف ثلاث نساء، وقيل أن بعض زواجه منهن كان من أجل المكتبات التي كانت لأهلهن. وترأس العزابة في بني يسقن. وكان لا يتردد على الأسواق ولا يغشى الأفراح. وقد بدأ التدريس في المسجد. وكان له نظام حياة دقيق جدا: يدرس للعامة مع الفجر ويصلي الجماعة، ثم يذهب للتدريس لتلاميذه. وكان له أيضا درسان آخران: درس للعامة بين العصرين، ودرس لكبار التلاميذ المواظبين. وقد خصص وقتا من النهار للإجابة على الأسئلة الواردة إليه. وقال بعضهم أن هذه الأجوبة لو

جمعت لكانت في مجلدات. يعتبر الشيخ محمد بن يوسف باني النهضة العلمية في المنطقة. وكل من يحاول ذلك تعترضه عراقيل ومثبطات. فقد ظهر أمره في الوقت الذي غشي الجزائر كلها ضباب الجهل والاحتلال. ولذلك كان الشيخ اطفيش ينكر على الناس البدع التي ليست من الدين في شيء. وقد شدد عليهم في ذلك فهددوه حتى بالقتل واتهموه بالزندقة. وانتقد الشيخ أساليب التربية القديمة للأولاد. واضطر إلى الخروج من بني يسقن، فأخذ يتنقل في مدن ميزاب الأخرى، واستقر في البداية في بونورة حيث رحب به عزابتها، كما خرج معه زميله محمد بن ادريسو الذي كان مثله في الرأي والاستقلال. وبعد غيبة عن بني يسقن دامت سنوات، رجع إليها وتولى بها العزابة كما قلنا. وقد زاده ذلك شهرة في المنطقة، وكان لا ينفك أثناء ذلك عن الكتابة والتدريس. ولكنه ليس ابن بني يسقن وحدها، ولذلك أحس أن عليه واجبا نحو المدن الأخرى في ميزاب فأخذ يزورها الواحدة تلو الأخرى: بريان، القرارة، الخ ... وكان في زياراته يتصل بالعزابة ويلقي الدروس العامة على الرجال والنساء في الوعظ والإرشاد، وكان له درس خاص بالنساء. كما زار غير مدن ميزاب في المناطق القريبة والبعيدة. زار ورقلة وجال خلال آثار سدراته. وكذلك زار بو سعادة وتوقف بزاوية الهامل وألقى بها بعض الدروس بطلب من شيخها محمد بن بلقاسم (أبي القاسم). وزار قسنطينة ولعله التقي فيها بالشيخ المجاوي وغيره من علمائها. وعرج على سطيف والبرج والجلفة، وعنابة، وقصر البخاري. وكان يلقي دروسا في هذه الأماكن. وقد أدى فريضة الحج مرتين. إحداهما سنة 1886، أي بعد احتلال ميزاب (1882). وقد ركب البحر من عنابة إلى تونس، وأقام في هذه المدينة أياما في ضيافة أهل ميزاب، ولعله لقى بها بعض علماء الزيتونة. وفي الحجاز التقى ببعض العلماء منهم الشيخ الزيني دحلان، وتعرف على أحوال العالم الإسلامي، وألقى دروسا في المسجد النبوي. ولا نعرف أنه زار مصر أو غيرها من عواصم المشرق غير الحجاز، وكان ذلك أيام ظهور الحركة

الإسلامية الجامعة وتأثيرات جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده. كانت للشيخ محمد بن يوسف مراسلات واتصالات مع عدد من علماء الوقت ورجاله. ويذكر مترجموه أنه التقى بالشيخ محمد بن بلقاسم، كما سبق، وكانت له مراسلات مع الشيخ محمد عبده وعبد الله الباروني (والد تلميذه سليمان الباروني) وشيوخ الجزائر أمثال المجاوي وابن الموهوب. وكانت له أيضا مقابلات مع بعض علماء الفرنسيين أمثال ايميل ماسكري MASQUERY الذي طلب منه كتابة تأليف عن تاريخ ميزاب ففعل. وإن شيخا بلغ ما بلغه محمد بن يوسف لا يمكن إلا أن يكون له كثير من التلاميذ والأتباع. ولكنه لم يكن شيخ زاوية ولا من دعاة الولاية والتصوف حتى يكون له طريقة أو محفل أو قبة. إنه داعية سلفي يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر في وقت ساد فيه الجهل بدعم رسمي من الاحتلال. ومن تلاميذه البارزين إبراهيم امتياز وإبراهيم بن الحاج عيسى (أبو اليقظان)، وصالح بن عمر الذي خلفه في إمامة جامع بني يسقن، ويحيى بن عمر قاضي مدينة مليكة، وغيرهم. أما من غير الجزائر فنذكر من تلاميذه سليمان الباروني الزعيم الليبي خلال الحرب ضد إيطاليا وأحد رجال العالم الإسلامي في النصف الأول من هذا القرن (¬1). قلنا أن ظهور الشيخ اطفيش صادف طغيان الاحتلال الفرنسي الذي امتد أيضا إلى منطقة ميزاب. فكان اتفاق الحماية معها سنة 1853 ثم الاحتلال الكامل لها سنة 1882. وقد استمر الشيخ محمد بن يوسف يحتج على انتهاك اتفاق الحماية ويطالب باحترامه أو بالحكم الذاتي. وفي 1888 طالب الحاكم العام البغيض، لويس تيرمان، الذي امتد الاحتلال إلى ميزاب في عهده، طالبه بتخفيف الغرامة على أهل ميزاب، كما طالب بترك إيجارات أملاك الأوقاف في يد مساجد الإباضيين. ونحن نعرف أن السلطات الفرنسية قد صادرت أملاك الأوقاف في الجزائر كلها، وحولت مداخيلها إلى مالية ¬

_ (¬1) كتبنا عن الباروني مقالة منشورة في مجلة الثقافة، فانظرها.

الدولة. ولكن هذه السلطات صمت آذانها عن مطالب الجزائريين بمن فيهم أهل ميزاب. وفي نفس السنة أرسل الشيخ نسخة من كتابه (النيل) إلى القضاة الفرنسيين الذين أصبحوا يسيطرون على كل جوانب القضاء الإسلامي أيضا، ما عد الأحوال الشخصية التي تركوها للقضاة المسلمين. وكان هدف الشيخ أن يطبق أولئك القضاة الفرنسيون تعاليم الشريعة بالنسبة للإباضيين (¬1). وحين استجاب الشيخ لطلب ماسكري وألف رسالته (الشافية) عن تاريخ ميزاب قال إنها تخدم الإسلام ولا تضره. وفي سنة 1886 كان الشيخ أطفيش في طريقه إلى الجزائر عن طريق قصر البخاري، فسبقته رسالة من أبي بكر بن الحاج قاسم، وربما هو أحد القضاة هناك، إلى ماسكري مدير مدرسة الآداب بالجزائر (نواة كلية الآداب) أخبره فيها بقدوم الشيخ أطفيش في آخر مايو، وأوصى ماسكري أن يحتفى بالشيخ بما يليق به وأن يكلم في ذلك الحاكم العام وقائد القطاع العسكري ورئيس المحكمة العليا (يسميه: الرئيس الشرعي) ليلتقوا بالشيخ بعد وصوله ويكلموه على شرح (النيل) بحضور ماسكري فقط دون ترجمان آخر (لتكون لك بذلك مزية لدى الدولة لأنك (أي ماسكري) رجل مليح، جيد ظريف أديب) (¬2). والنهضة التي دعا إليها الشيخ أطفيش كانت تسير في اتجاه النهضة الإسلامية العامة. فقد عاصر حركة الجامعة الإسلامية، وكان يحس بها أكثر من علماء القطر الآخرين، ربما، لأنه اطلع بنفسه على نشاط الحركة في حجتيه، ومن جهة أخرى كانت منطقة ميزاب والجنوب عامة، مفتوحة على تيارات النشاط الإسلامي عن طريق تونس وليبيا وزنجبار وعمان. وهو لا ¬

_ (¬1) بيير كوبيرلي P.Cuperly (محمد أطفيش ورسالته) في IBLA (معهد الآداب العربية)، تونس، 1972، ص 269. بالنسبة للغرامة والأحباس ذكر هذا المصدر أنه رجع إلى رقم 15 H 22 من أرشيف أيكس (فرنسا). (¬2) بلقاسم بن سديرة (كتاب الرسائل) مرجع سابق. ص 213، وتاريخ المراسلة هو 28 مايو، 1886 من قصر البخاري، وهي السنة التي أدى فيها الشيخ أطفيش فريضة الحج.

يخرج في دعوته عن الحركة السلفية التي تدعو لتنظيف الدين مما ينسب إليه وليس منه، والعودة إلى الاجتهاد إذا توفرت شروطه، وتنشيط العقل عن طريق التعليم والتربية واكتشاف الذكاء والمواهب. وكان الشيخ أطفيش من دعاة إحياء وتجديد اللغة العربية والثورة على الجمود، وكان يقف بصراحة ضد التأثير الأجنبي في الحياة الإسلامية. ومن ثمة يجد نفسه في تيار دعوة رشيد رضا وأمثالها (¬1). وكانت للشيخ أطفيش أيضا مواقف لدعم الحركات الإسلامية واتصالات مع زعمائها كما أشرنا. إنه كان يتابع باهتمام حروب الدولة العثمانية في البلقان، وكان يتتبع أحوال العالم الإسلامي وهو يسقط القطعة بعد القطعة في أيدي المستعمرين. وعندما هاجمت إيطاليا ليبيا سنة 1911 دعا إلى التبرعات بالسلاح والمال لمساعدة المجاهدين. وفي 1950 توقف في غرداية سليمان بن ناصر، حاكم دار السلام (عاصمة تنزانيا اليوم)، ونزل في دار أطفيش، وهذه الزيارة تدخل في تمتين العلاقات مع الإباضيين. وكان ابن ناصر في طريقه إلى معرض باريس الدولي. وأهدى بعض سلاطين وأمراء الوقت أوسمة إلى الشيخ أطفيش، مثل السلطان عبد الحميد الثاني الذي كتب إليه أيضا رسالة شكر على حله لغز الماء، وكذلك أوسمة من سلطان زنجبار، وإمام عمان. وكان الشيخ يعتز بهذه الأوسمة ويضعها على صدره في المناسبات. كما أهدت إليه فرنسا وساما (نيشأنا) بمناسبة حله اللغز المذكور. وفي تقديرنا أن هذه الأوسمة كانت محاولة لشراء السكوت والرضى وليست تقديرا للعلم والعلماء. وقد طبعت للشيخ عدة مؤلفات أثناء حياته فزادت من شهرته وعرفته للقريب والبعيد. وكشفت عن عقله النير وأفكاره البعيدة. وكانت بعض مؤلفاته قد طبعت في الجزائر وبعضها في تونس ومصر وعمان وزنجبار. أما بعد وفاته فقد تعاون الشيخان سليمان الباروني وإبراهيم أطفيش (الذي هاجر إلى مصر، وهو قريبه) على إصدار عدد منها أيضا. وهي مؤلفات كثيرة تبلغ ¬

_ (¬1) كوبيرلي، مرجع سابق، ص 273.

الثلاثمائة بين الرسالة والمؤلف ذي الأجزاء. كان الشيخ أطفيش يعلم في منزله أيضا. فلم يبن معهدا خاصا ولا مدرسة على الطراز القديم (كما كان يعلم في الجامع ببني يسقن أو في بونورة أيام إقامته الطويلة بها)، وكان للشيخ في بني يسقن ثلاثة منازل، خصص كل واحد منها لمهمة، ومنها منزل حوله إلى معهد، وبه عرف. وقد ورد عليه التلاميذ من مختلف أنحاء ميزاب ومن غيرها خارج الجزائر حيث الإباضية، مثل جربة ونفوسة وعمان وزنجبار. ومن الطبيعي أن يراقب الفرنسيون هذا النشاط غير العادي في المنطقة وأن لا يرتاحوا إليه. وقد عرفنا أنهم طالما قبضوا على أناس في آخر القرن الماضي بدعوى أنهم جاؤوا لشراء الإبل أو السياحة وردوهم على أعقابهم. لقد اشتهر الشيخ أطفيش كمدرس ومصلح ومؤلف. فزاد ذلك من تلاميذه ومن خوف الفرنسيين من تأثيره. وقد لقبه تلاميذه وأنصاره بالقطب بل قطب الأيمة. ومن شروط قبول التلميذ في هذا المعهد حفظ القرآن الكريم، وقد جعله شرطا لا تحويل عنه. فالقرآن هو أساس كل العلوم الدينية واللغوية. يضاف إلى ذلك حفظ المتون الضرورية والاستقامة في السيرة والسلوك. وقسم التلاميذ إلى طبقات. وهو تقليد اتبعه القدماء وحتى بعض المعاصرين في الزوايا التعليمية، كما عرفنا، الأولى طبقة المبتدئين، والثانية طبقة المتوسطين. وكان يدرس لتلاميذ الطبقة الأولى المواد الآتية وهي متطابقة مع المواد المدروسة في الزوايا والمساجد الأخرى في القطر عدا كتب العقيدة والفقه. فالنحو على الأجرومية، والحديث والشعر والأدبيات والأخلاق والتربية. وفي العقائد عقيدة التوحيد للجيطالي أو عقيدة العزابة للشيخ عمر بن جميع. وفي الفقه رائية الشيخ ابن النظر، أما الطبقة الثانية فيدرسون القطر لابن هشام والحديث والأشعار والأدب ونحو ذلك، إضافة إلى نونية أبي النصر بن نوح في التوحيد. وأخيرا تأتي الطبقة الثالثة وهي كبار التلاميذ الذين كان عليهم أن يحفظوا ويتعلموا ألفية ابن مالك في النحو والصرف، والسمرقندية في البلاغة وأرجوزة في العروض، وكذلك الشعر والحديث

والأخلاق. أما في أصول التشريع فيدرسون ألفية السالمي. وهكذا يتضح أن المواد الدراسة في معهد بني يسقن كانت ذات شقين أو ثلاثة: العلوم الدينية من تفسير وحديث وقراءات وتوحيد وفقه وأصول الفقه، والعلوم اللغوية والأدبية وتشمل النحو والصرف والبلاغة والعروض والأدب. وأما الشق الثالث فيشمل التربية والأخلاق من مبادئ الدين والقطع الأدبية التهذيبية ونماذج من المثل العليا. ويقول الشيخ دبوز، رواية عن تلاميذ الشيخ القطب، أنه كان يبدأ بالدرس الصعب في أول النهار، وكان لا يزيد عن الكتب المعروفة في غير العقائد والفقه سوى قناطر الخيرات للجيطالي وهو تأليف في الأدب والأخلاق. وكان الشيخ يعطي اهتماما خاصا لأدب الأندلس. وكان يؤلف لتلاميذه إذا لم يجد تأليفا في الموضوع. وكان لا يدرس لهم يومي الخميس والجمعة. ولا نعرف كم كان عدد تلاميذه في الوقت الواحد. ويبدو أن شيخا في مثل شهرته وعلمه يكون قد استقبل بضع عشرات منهم ة وقد نغامر فنقول إنهم بين الثلاثين والخمسين في الموسم الواحد. وما دام قد علم طول حياته تقريبا (حوالي سبعين سنة من التعليم) فلنا أن نتصور أن تلاميذه قد بلغوا المئات. فإذا أضيف إلى ذلك فتاويه ومؤلفاته وزياراته عرفنا كم كان إشعاع هذا الرجل في عهد كاد ظلام الجهل يطمس كل المعالم في الجزائر. ولا شك أن وجوده في ميزاب، ووجود محمد بن بلقاسم الهاملي في نواحي بوسعادة، وعبد القادر المجاوي في قسنطينة ثم العاصمة، وحمدان الونيسي ومحمد الصالح بن مهنة، وعبد الحليم بن سماية ومحمد مصطفى بن الخوجة (¬1)، قد خفف من كثافة ذلك الظلام. وكانت للشيخ أطفيش مكتبة غنية جمعها عبر السنين، وكان يستنسخ الكتب ويدفع المال عليها، وقد كان له أحد النساخ المعروفين في غرداية ينسخ له ما يشاء من الكتب. وتزوج بعض نسائه من أجل الكتب، كما قلنا. ¬

_ (¬1) انظر عن هؤلاء فصل السلك الديني.

وكانت بعض الكتب ترد عليه أيضا من خارج الجزائر بالهدية ونحوها من تلاميذه وغيرهم. وسندرس مكتبته في الفصل الخاص بذلك. ولا شك أن مكتبته قد أفادت معهده وتلاميذه. وقد بقيت مكتبته ذخرا لبني ميزاب وللجزائر، وهي اليوم تحمل اسمه (¬1). وقد توفي الشيخ القطب في 23 ربيع الثاني سنة 1332 (مارس 1914) عن 96 سنة (¬2). وترك تراثا عظيما من الكتب والتآليف والتأثير في المنطقة وخارجها. ولا نعلم أن أحدا من عائلته قد واصل مهمة هذا الشيخ في التعليم بالمنزل - المعهد. فنحن نعلم فقط أن ابن أخيه قد هاجر إلى تونس ومنها إلى مصر، وأن أحد تلاميذه وهو أبو اليقظان قد رحل في سبيل العلم إلى تونس على رأس أول بعثة ميزابية فيها. ولكن النهضة التي أرسى قواعدها القطب لم تمت بموته، بل تبناها تلاميذه والمتأثرون بأفكاره وبروح العصر، فأسسوا سنة 1925 أول معهد حقيقي في القرارة، وهو المعهد الذي أصبح منارة في الصحراء. وتجاوبت بذلك أصوات النهضة العلمية في قسنطينة وتلمسان والجزائر وميزاب. سافرت البعثة الميزابية الأولى إلى تونس في مايو 1914، وكانت تضم حوالي عشرة تلاميذ. وتولاها أبو اليقظان وعمر العنق. وكان ذلك بعد غلق مدرسة تبسة المعروفة بالصديقية. ومن أبرز تلاميذ البعثة حمو بن عيسى المرموري. وكان الحرص على أخلاق التلاميذ وتوجيههم هو الذي جعل الأولياء والشيوخ لا يرسلون التلاميذ أحرارا. ولذلك جعل المشرفون على البعثة بعد استقرارها في تونس نظاما داخليا دقيقيا، يشمل الانضباط في الأكل ¬

_ (¬1) اعتمدنا في دراستنا على ما ذكرنا، وكذلك على إبراهيم أطفيش (ابن أخيه) صاحب كتاب (الأقوال السنية في حياة قطب الأيمة) الذي أخبر أنه ينوي طباعته، وكتاب (الدعاية إلى سبيل المؤمنين)، القاهرة، 1923، هامش، 107 - 159. وكذلك عبد القادر جغلول (عناصر ثقافية) 198، ص 13 - 16، وأحمد توفيق المدني، (كتاب الجزائر)، ط. 2، ص 91. (¬2) يرى كوبيرلي أنه توفي في مارس سنة 1911. ولعل هذا خطأ مطبعي فقط.

والطبخ والدراسة والحياة الاجتماعية. وكان إمام البعثة هو أبو اليقظان. ووجدت البعثة طريقها إلى مدرسة السلام القرآنية التي أسسها في تونس الشاذلي المورالي. ويقول دبوز إن هذه البعثة قد رجعت إلى الجزائر في 1915 (¬1) ولا ننسى أن هذه كانت فترة حرجة في التنقل والمعاش نظرا لاندلاع الحرب وتجنيد الشباب الجزائري فيها وإعلان حالة الطوارئ. فهل ان رجوع البعثة المبكر يرجع إلى هذه الظروف؟ ومهما كان الأمر فإن أبا اليقظان قد أسس في هذه السنة (1915) مدرسة قرآنية حديثة في القرارة وجعلها على غرار مدرسة السلام بتونس وأدخل فيها العلوم العصرية والرياضة البدنية، ولعل ذلك كان من آثار رحلته إلى تونس. وسافرت البعثة الثانية إلى تونس برئاسة أبي اليقظان أيضا. ومن ضمنها محمد علي دبوز وإبراهيم أطفيش ومفدي زكريا ورمضان حمود ومحمد الثميني. وكأنه كان مقدرا لها أن تكون بعثة مختارة لأن هؤلاء جميعا أصبحوا من زعماء الثقافة في الجزائر وتونس والمشرق. ثم سافرت بعثة أخرى إلى تونس برئاسة محمد الثميني (1919)، وأخرى برئاسة الحاج صالح بن باعلي، فأصبحت في تونس ثلاث بعثات ميزابية في وقت واحد. وفي سنة 1925 رجع أبو اليقظان إلى الجزائر واستخلف على البعثة قاسم بن الحاج عيسى (¬2). وفي الجزائر شرع أبو اليقظان في مشروعه التاريخي وهو إنشاء الصحافة العربية الحرة. وقد تحدثنا عن مشروعه هذا في فصل آخر. وتواصلت البعثات الميزابية إلى تونس بين الحربين. فكان الطلبة يخبرون بعضهم البعض، وكانت النتائج العلمية ومشاركة الميزابيين في الحياة السياسية بتونس (سيما في الحزب الدستوري برئاسة الثعالبي) والمساهمة في الحياة الأدبية، كل ذلك جعل سيل البعثات الدراسية يزداد تدفقا. ولم يقتصر الأمر على بني ميزاب بل شمل مختلف المناطق ولكن بدرجات متفاوتة. ¬

_ (¬1) دبوز (أعلام) 3/ 183، وهو رجوع مؤقت. (¬2) نفس المصدر، ص 206 - 250.

ولعل ما يلفت النظر في البعثات الميزابية هو الإشراف والتوجيه والانضباط. أما التلاميذ الجزائريون الآخرون فقد كانوا عادة يذهبون أحرارا وفرادى. على أن بعضهم، مثل تلاميذ أهل سوف، كانت لهم تنظيماتهم في تونس في شكل روابط وكذلك وسائل استقبال وتسهيلات الإقامة والدراسة (¬1)، نظرا لوجود جالية سوفية معتبرة. وأنشئ في ميزاب معهد الحياة الذي أشرنا إليه. وبدأت ثماره تظهر عبر السنين إلى أن قرر مسؤولوه، وعلى رأسهم الشيخ إبراهيم بيوض إرسال بعثة منه إلى تونس لمواصلة الدراسة الثانوية. ويذكر دبوز أنه كان أول تلميذ من هذا المعهد (¬2) وأنه رأس بعثته سنة 1942، ثم أخذ الطلاب يتواردون على تونس، فوصل بعضهم سنة 1943 وآخرون سنة 1944، وهكذا. ونحن نعلم أن ظروف الحرب الثانية كانت استثنائية في تونس، لأن هذه البلاد كانت مسرحا لتصارع قوات الحلفاء مع قوات المحور. فالسفر عندئذ كان مغامرة كبيرة. ومن تلاميذ معهد الحياة محمد العساكر وصالح خرفي وكلاهما التحق بتونس، وكذلك العالم الليبي علي بن يحيى معمر، وأصله من جبل نفوسة. وهكذا فإن معهد الحياة قد واصل رسالة معهد بني يسقن وربط النشاط التعليمي الحديث في ميزاب بنظيره في الجزائر وتونس والمشرق. فكان بحق رمزا لنهضة علمية قوية. ¬

_ (¬1) كنت شخصيا ضمن حوالي عشرة طلاب من قمار سنة 1947 إلى تونس، ولم يكن لنا (مسؤول) بعينه، وإنما الطلبة القدماء هم الذين يشرفون على الجدد ويوجهونهم إلى أن تستقر أوضاعهم بالتعاون مع عناصر الجالية في تونس. (¬2) دبوز، مرجع سابق، ص 264 - 268. أخبر دبوز أنه كان ضمن البعثة الثانية سنة 1916، ثم أخبر أنه كان أول تلميذ من معهد الحياة يحل بتونس ويكون بعثته ويرأسها سنة 1942. ولم نستطع الربط بين التاريخين. كما أخبر أنه ذهب إلى مصر سنة 1944.

الفصل الثالث التعليم الفرنسي والمزدوج

الفصل الثالث التعليم الفرنسي والمزدوج

مدخل

مدخل قبل الحديث عن تفاصيل التعليم في العهد الفرنسي رأينا أن نضع بين يدي القارئ جملة من الآراء حول تجربة التعليم في الجزائر عموما منذ الاحتلال. ذلك أن المؤلفين والمعلقين قد تضاربت أقوالهم في هذا الموضوع. فمنهم من ينسب الجهل الذي خيم على الجزائر خلال القرن الماضي إلى رفض الجزائريين إرسال أولادهم إلى المدارس تعصبا منهم ضد الفرنسيين وضد حضارتهم، ومنهم من ينسب التقصير إلى الحكومة الفرنسية وإدارتها في الجزائر لأنها قصدت إهمال تعليم الجزائريين وأرادت تجهيلهم وقطعهم عن ماضيهم وتعلم قرآنهم ولغتهم. ومن المؤلفين من ذهب إلى أن الجزائريين غير قابلين للتعلم أصلا رغم جهود الفرنسيين. وهناك من يرى أن الفرنسيين باستيلائهم على الأوقاف التي هي المصدر الأساسي للتعليم قضوا على التعليم من جهة وأفقروا من كانوا يعيشون به ومنه من جهة أخرى. وهكذا تتعدد الآراء حول هذا الموضوع الحساس. فمن يتحمل مسؤولية الجهل الذي خيم على الجزائر طيلة سبعين سنة (1830 - 1955) أي قبل الشروع الجدي في تأسيس بعض المدارس للجزائريين وتأطيرهم في النظام التربوي الفرنسي. ويفهم من الكتابات الفرنسية أن هذا التحول الذي بدأ في العشرية الأخيرة من القرن الماضي إنما جاء عن تفضل وتكرم من فرنسا. وإنه عمل إنساني تقوم به نحو (رعاياها) الجزائريين. والواقع أن هذا التحول إنما كان أيضا لمصلحة فرنسا من جهة وتمشيا مع سياسة الدول الاستعمارية من جهة

أخرى. وهذا ما دعا ضابطا مشهورا في إدارة الشؤون الأهلية وفي شؤون النهضة الإسلامية، وهو لوشاتلييه Le Chatelier، إلى القول بصراحة: إن ما سمي بحملة نشر التعليم الابتدائي في الجزائر إنما جاء تحت ضغط (قوة الأشياء)، لأنه لا يمكننا ترك (ستعمرتنا (الجزائر) معزولة عن العالم) (¬1). وهو الصوت الذي ردده لوري بوليو، ولويس فينيون L.Vignon، كما سنرى. أن هولندا قد أخذت تغير من سياستها نحو أندونيسيا في نفس الوقت، وكذلك بريطانيا في الهند. وكانت حركة الجامعة الإسلامية الفكرية قد تدعمت سياسيا بتأييد السلطان عبد الحميد الثاني لمبدإ العثمنة وتجديد الخلافة. ثم كان الخوف من تلاقي أفكار الطرق الصوفية في الجزائر والعالم الإسلامي. فكان موقف فرنسا من تعليم الجزائريين إنما هو استجابة لهذا الضغط الدولي أو قوة الأشياء والظروف، كما سماها لوشاتلييه. لقد احتلت فرنسا الجزائر بقوة السلاح، وهيمنت على مقدراتها وفرضت سيادتها. وأعلنت أنها صاحبة رسالة حضارية وأنها بهذا العنوان تتحمل مسؤولية (التنوير) والتحرير والتقدم. وكان مدنيوها وعسكريوها ورجال دينها ومستوطنوها يرددون هذا الشعار آناء الليل وأطراف النهار، حتى أن الذي يقرأ كلامهم ولا يرى واقعهم يحكم أن الجزائر في العهد الفرنسي كانت جنة الدنيا وأن أهلها قد تحضروا وبلغوا القمة في التقدم والتحرر والتنور. فلنتذكر هذه الأقاويل والشنشنات عندما نصطدم بالأرقام المذهلة لعدد السكان وعدد المدارس وعدد الأطفال الذين يترددون عليها. ولنتذكرها عندما نعلم عدد الأميين في الجزائر في فاتح هذا القرن ثم عند استقلال الجزائر 1962. إن بعض الكتاب الفرنسيين أمثال ¬

_ (¬1) لوشاتلييه، مجلة العالم الإسلامي (R.M.M)، 1910، ص 80، وهنا وهناك. وكان لوشاتلييه هو الذي يدير هذه المجلة القوية عندئذ. وهو مؤلف كتاب (الطرق الصوفية في الحجاز)، وقد تولى وظيفة رئيس المكتب العربي (العسكري) في ورقلة. وهو عارف بتيارات الحركة الإسلامية. وقد أصبح أستاذا لعلم الاجتماع الإسلامي في الكوليج دي فرانس.

آراء حول تعليم الجزائريين

غوتييه E.F.Gautier وألفريد بيل (¬1)، يكادون يتميزون غيظا وهم يتحدثون عن نجاح العرب والمسلمين في تعريب وأسلمة المعرب العربي في ظرف قصير بينما فشل الفرنسيون في النفاذ إلى قلب (الأهالي) وإلى عقولهم رغم قوة الوسائل التي يملكونها وبراعة الدعاية التي ينشرونها، ورغم التبجح بالرسالة الحضارية. آراء حول تعليم الجزائريين جاء في التقرير الرسمي الذي نشر سنة 1851 بعد دراسة مستفيضة دامت حوالي خمس سنوات من متخصصين فرنسيين أن انشغال الحكومة الفرنسية بالحرب في الجزائر منعها من الاهتمام بقضية تعليم الجزائريين. وبناء على هذا الرأي الرسمي فإن المبرر واضح لإهمال التعليم وهو تكريس كل الاهتمام للاحتلال والاستعمار دون المبالاة بمصلحة (المغلوبين). والمعروف أن الحرب ضد المقاومة بقيادة الأمير دامت إلى نهاية 1847 وأن الحاج أحمد باي قسنطينة قد استسلم في وسط 1848، ولكن (الحرب) لم تنته سنة 1851، فما تزال منطقة زواوة غير محتلة وسيوجه إليها الفرنسيون حملات عسكرية رهيبة في عهد راندون. كما أن الجنوب (الأغواط، ميزاب، وادي ريغ وادي سوف، وكذلك الجنوب الغربي) كان ما يزال غير محتل. ثم إن الحرب التي يتحدث عنها التقرير الرسمي لم تمنع الفرنسيين من مصادرة أملاك الوقف كلها والتصرف في العقارات والمساجد والزوايا والمدارس وحتى الأضرحة والقباب والجبانات، بالهدم والإلغاء، أو إنشاء الساحات والطرقات مكانها، أو تحويلها إلى كنائس وثكنات ومخازن، وإدخال أموالها في ميزانية الدولة الفرنسية لإنفاقها على جهود الحرب ضد المقاومة أو إعطائها إلى المستوطنين الفرنسيين وحرمان الفقراء والوكلاء والمعلمين منها. ولقد كانت ¬

_ (¬1) غوتييه هو مؤلف كتاب (العهود الغامضة) وهو عن تاريخ المغرب العربي في العصر الإسلامي. وأما ألفريد بيل فمن بين مؤلفاته (الفرق الإسلامية في شمال إفريقية). انظر عنه فصل الاستشراق.

المدارس، كما سنرى، من ضحايا هذه السياسة. ومع ذلك يتهم التقرير الرسمي الجزائريين بأنهم كانوا متعصبين وخرافيين لأنهم رفضوا الترحيب بالفرنسيين. يقول التقرير إن التعليم الإسلامي (أي تعليم الجزائريين) من بين المسائل الملحة التي تنتظر إيجاد حل لأهمية مستقبلها على الاحتلال والاستعمار. لكن الحرب منعت الحكومة من إيجاد حل لقضايا المجتمع الإسلامي ومنها التعليم العمومي. ويرى أصحاب التقرير أنه بقدر ما يسرع الفرنسيون في إيجاد حل لهذا الموضوع بقدر ما يضمنون وضع جيل تحت طاعتهم، وهو جيل سيكون مغايرا للجيل السابق، خاليا من التعصب والخرافة. لقد كان على الحكومة انتظار اليوم الذي تهدأ فيه الأوضاع لكي تعالج مشروع التعليم، لأنه يحتاج إلى كثير من الصبر والمهارة، نظرا إلى الحكم المسبق لدى الأهالي وإلى التعصب الإسلامي (¬1). واضح إذن أنه بعد القضاء على المقاومة، أو بعبارة أخرى بعد عشرين سنة من الاحتلال ظن الفرنسيون أن الوقت كاف لهزيمة الجيل الذي عاصر الاحتلال وحان وقت كسب جيل جديد يخضع لهم عن طريق المدرسة والتأثير المعنوي، كما يقولون. فالهدف ليس خدمة المجتمع الإسلامي عن طريق ترك أهله يتعلمون من ميزانية الدولة المحتلة أو تركهم يعلمون أنفسهم من ميزانية أوقافهم، وإنما الهدف هو إنشاء جيل خاضع وتابع لفرنسا يحل محل الجيل الذي قاومها وانهزم. فهل كان ذلك صحيحا حقا؟ لو كان صحيحا لرأينا تقدما كبيرا في مجال التعليم الفرنسي بالجزائر، ولرأينا جيلا متعلما في إطار الرسالة الحضارية التي أعلنت عنها فرنسا. ولكن ذلك كان بعيدا جدا، فقد أطفئت الشموع من حول الجزائريين، كما قال الكسيس دي طوكفيل A.de Tocqueville سنة 1848 (¬2)، فلا هم بالتعليم العربي - الإسلامي الأصلي ولا هم بالتعليم الفرنسي، لماذا إذن؟ ¬

_ (¬1) السجل (طابلو)، 1851 - 1852، ص 198. (¬2) انظر لاحقا.

إن المدافعين عن موقف الحكومة الفرنسية يجدون لها مبررات. يقول جان ميرانت الذي تولى إدارة الشؤون الأهلية في الجزائر خلال العشرينات من هذا القرن والذي كان ضابطا متخصصا في شؤون الجزائر والعرب والمسلمين: إن الاحتلال نفسه قد مر بمراحل (وقد أشرنا إلى ذلك)، وأن هناك مرحلة الحرب العوان، ومرحلة التهدئة والمناوشات، ومرحلة التوسع والانتشار من الجزائر إلى الصحراء حتى أن ميزاب احتلت فقط سنة 1882 وجنوب وهران 1883، وتوات وعين صالح بين 1899 - 1904. ومن جهة أخرى فإن فرنسا لم تقرر إلحاق الجزائر إلا سنة 1834، ولم ترم بكل ثقلها في الحرب ضد المقاومة إلا بعد تعيين بوجو سنة 1841، ولم تعتبر الجزائر جزءا لا يتجزأ منها إلا سنة 1848. ثم إن التعليم في فرنسا نفسها قد خضع إلى مراحل. ولم يكن للحكومات الفرنسية المتعاقبة نفس الرؤية حول التعليم في الجزائر، لأن للتعليم دائما هدفا وبرامج مختلفة، فهو عند الملكيين ليس هو هو عند الجمهوريين، وهو عند هؤلاء ليس هو تماما عند أتباع الامبراطورية، وهكذا (¬1). وكل هذه الاعتبارات تبدو سليمة. ومن يقول بغير ذلك؟ ولكن هل بقي المستوطنون الفرنسيون في الجزائر بدون تعليم أثناء هذه المراحل والترددات التي يوحي كلام ميرانت أن الفرنسيين قد خضعوا لها؟ أبدا. لقد كان فرنسيو الجزائر يتلقون تعليمهم العادي، كما هو الحال في فرنسا. وقد بنيت لهم المدارس وجيء لهم بالمعلمين ورصدت لهم الميزانية، فلم يبق سوى الجزائريين بدون تعليم أصلا، لأن وسائلهم المادية المرصودة للتعليم قد استولى عليها الفرنسيون ولأن المعلمين المسلمين هاجروا أو افتقروا، ولأن المدارس والمساجد قد هدمت أو ألغيت. ومن جهتها لم تتحمل الحكومة الفرنسية مسؤوليتها كدولة محتلة إزاء شعب محتل، له حق العيش والتعلم والبقاء. وإن الملفت للنظر حقا هو الطابع التمييزي - العنصري في تشريعات ¬

_ (¬1) جان ميرانت (كراسات الاحتفال المئوي)، 1930، ص 74.

التعليم الفرنسية. فبعد إهمال مطلق للتعليم بين 1830 - 1836 أنشئت في هذه السنة أول مدرسة موجهة للأهالي وسميت بالمدرسة الحضرية - الفرنسية في مدينة الجزائر. أنها (حضرية) لأنها موجهة إلى سكان المدينة فقط، بينما سكان الجزائر الآخرون مسكوت عنهم تماما. وهي (فرنسية) لأنها كانت تستهدف دمج المسلمين في الفرنسيين عن طريق اللغة الفرنسية التي كان يعلمها فرنسي. وهل تظن أن السلطات الفرنسية قد بنت فعلا هذه المدرسة من حر مالها للجزائريين؟ لا، أبدا، إنها فقط بناية صادرتها هذه السلطات من الأوقاف الإسلامية. فهي مدرسة أو زاوية إسلامية أصبحت موطنا لأقدام الفرنسيين يعلمون فيها أبناء المسلمين في دعواهم ويؤثرون فيهم. هذا جانب من التمييز العنصري. أما الجانب الآخر فهو أن الفرنسيين قد تركوا الخواص الأوروبيين يفتحون المدارس الابتدائية للنصارى واليهود بين 1830 - 1832. وفي السنة الموالية (1833) تدخلت السلطة وأنشأت مدرسة سميت بمدرسة التعليم المشترك mutuel، وهي طبعا موجهة لأبناء النصارى واليهود ولمن أراد من المسلمين. وتذهب المصادر إلى أن بعض التلاميذ المسلمين قد دخلوها، ثم تناقص عددهم خوفا من التحول الديني. وقد رفص هؤلاء الأطفال أن يتوسموا بوسام المدرسة حتى لا يتهموا بأنهم نصارى (فرنسيون). ولكن ما هذا الوسام؟ لقد كان على أولياء التلاميذ في مدينة الجزائر أن يقبلوا بالدخول إلى هذه المدرسة (المشتركة) تحت الرعاية الفرنسية وبالبرنامج الفرنسي أو يبقى أبناؤهم في جهل تام (¬1). وفي سنة 1848 حل النظام الجمهوري محل النظام الملكي في فرنسا، وكان لذلك أثره على التعليم في الجزائر. لقد جاءت الجمهورية الثانية الليبرالية جدا بشعار دمج الجزائر في فرنسا، والمقصود هنا دمج المصالح الإدارية والتشريعية والمالية في مثيلاتها في فرنسا. وهذه الفلسفة (الاندماج) جاءت نتيجة تغييرات دستورية وهي أن الجزائر قد أصبحت في نظر ¬

_ (¬1) سنذكر أن تجربة مدرسة التعليم المشتركة للمسيحيين واليهود قد أنشئت أيضا في وهران وعنابة في نفس الفترة.

الجمهوريين ودستورهم، جزءا لا يتجزأ من فرنسا. ولذلك أعلنت حكومة الجمهورية أن التعليم الأوروبي في الجزائر قد أصبح تابعا لوزارة المعارف العمومية في فرنسا وليس من اختصاصات وزارة الحربية ولا الحاكم العام الفرنسي في الجزائر. وقد أنشأت الوزارة المذكورة في الجزائر (أكاديمية) تشرف على نظام التعليم الأوروبي، كما هو الحال في الولايات الفرنسية الأخرى. أما التعليم (الأهلي) أو الإسلامي فقد بقي كما كان، أي تحت إشراف وزارة الحربية والإدارة المباشرة للحاكم العام العسكري (¬1). وليس هناك أكاديمية له، كما لا تهتم به الأكاديمية المذكورة. هذا من الناحية الإدارية المحضة، أما عمليا فقد ظل تعليم المسلمين مهملا تماما، كما لاحظنا ذلك في التقرير الرسمي، لأن السلطات الفرنسية كانت منشغلة في دعواها بالحرب وردع المقاومة. وحين أنشئت مدارس ابتدائية فرنسية موجهة للجزائريين سميت باسم خاص، وهو المدارس العربية - الفرنسية، وكان عددها قليلا جدا، ومحتوى برامجها لا يتجاوز غسل المخ وتوجيه جيل من الجزائريين نحو الفرنسية وقطعه عن جذوره، وذبذبة الأسرة والمجتمع من ورائه. وسنرى أن عدد هذه المدارس سنة 1870 لم يصل في يوم من الأيام إلى الأربعين في الجزائر كلها، وكان يشرف عليه ضباط المكاتب العربية بعنجهيتهم وتعاليهم. وإلى جانب هذا المظهر من مظاهر التمييز، فإن هذه المدارس قصد بها فئة واحدة من الجزائريين وهم أبناء الموظفين لدى الإدارة الفرنسية - من قياد وباشغوات وقضاة الخ. ولم تكن المدارس مفتوحة لكل الجزائريين. ويمكننا أن نستمر في إبراز هذا الطابع التمييزي للتعليم، على ضعفه وذبذبته، بذكر أمثلة أخرى. فمن ذلك أن التعليم قد جعل إجباريا في فرنسا سنة 1872، وعلى أبناء الأوروبيين في الجزائر سنة 1873. أما بالنسبة للجزائريين فالإلزام لم يكن واردا، رغم اعتبار الجزائر جزءا من فرنسا، ¬

_ (¬1) صدر القانون بذلك في 7 غشت و 8 سبتمبر، 1848.

ودخولها تحت مظلة السيادة الفرنسية. والغريب أن أحد الباحثين ذكر أن الفرنسيين كانوا يبررون ذلك التمييز بقولهم إن الجزائريين رعايا والفرنسيين مواطنون (¬1). والرعية ليس سواء مع المواطن. مع أن الفرنسيين يزعمون أنهم ألغوا الرق وحملوا شعار المساواة. وبهذا الصدد (التمييز) كتب البعض بأن يترك التعليم للفرنسيين والفأس والمحراث للجزائريين، لأن ذلك أجدى لهؤلاء وأنفع من تعلم التاريخ (¬2). وسنرى أن عملية التمييز هذه ستكون أبرز بعد إنشاء فرعين (فرنسي وجزائري) في مدرسة ترشيح المعلمين (النورمال). وبالإمكان الاستمرار في سرد هذه الآراء حول إهمال تعليم الجزائريين لنصل إلى حكم موضوعي يجيب على السؤال: ما كان وراء هذا الإهمال بين 1830 - 1900؟ هل هو التعصب الديني والخوف من التنصر وعدم الرغبة في التعلم والمقاطعة الثقافية عموما أو هو حرمان التعليم الإسلامي من موارده وبعثرة رجاله والتدخل في شؤونه بفرض اللغة الفرنسية والمعلم الفرنسي وهدم مدارسه ومساجده؟ ومن يا ترى ظهر بلباس التعصب والعدوانية: هل ذلك الذي صب حقده على المساجد منذ 1830 فهدمها وحول بعضها إلى كنائس وأنشأ أسقفية في أملاك الأوقاف وفرض اللغة الفرنسية والمعلم الفرنسي في المدارس القرآنية التابعة للجامع؟ أو هو الذي قاوم كل ذلك بما أمكنه، بينما ظل يطالب بحقه في التعلم وفي احترام اتفاقية 1830؟. إن الجزائريين قد استمروا طيلة السبعين سنة ينادون بالتعلم، ولكن بلغتهم وفي مدارسهم. فالذي يتحدث عن (التعليم) مطلقا سيكون غير منصف. لأن التحفظ الذي أبداه الجزائريون إنما كان حسب المعطيات الاجتماعية والتاريخية، حول التعليم الذي ثبت أن أهله لم يحترموا العهود ¬

_ (¬1) ذكر ذلك جورج مارسيه G.MARCAIS في بحثه في مؤتمر إفريقية الشمالية، باريس، 1908، مجلد 2، ص 186. (¬2) من رسالة نشرتها جريدة (الطان) بتوقيع (جزائري قديم)، وأعادت نشرها (إفريقية الفرنسية) A.F.، ملحقها، يناير 1895، ص 13.

ولا الدين الإسلامي ولا الأوقاف ولا رجال العلم ولا اللغة العربية. أما التعليم الذي طالب به الجزائريون فهو الذي يتماشى مع تقاليدهم ويحفظ لهم تراثهم ومعالمهم. لندرس بهذا الصدد العرائض الجماعية التي تقدم بها أهل المدن منذ السبعينات، فإننا سنلاحظ أنها تطالب بالتعليم العربي واحترام الإسلام والشريعة. وقد ظهر ذلك على لسان الأفراد أيضا ابتداء من رسالة المجاوي (إرشاد المتعلمين) سنة 1877. وكان تمسك المرابطين في زواياهم الريفية بالتعليم العربي خير دليل على ما يرغب به الجزائريون من أنواع التعليم رغم تخلفه قياسا على المناهج الحديثة. ولكن الفرنسيين سخروا بعض الجزائريين ليحثوا أخوانهم على التعلم بالفرنسية وتلقي الحضارة الفرنسية، وذلك في المقالات التي نشرها مصطفى بن السادات، ومحمود بن الشيخ علي وغيرهما في جريدة (المبشر) الرسمية خلال الستينات. ثم إن الجزائريين لم يروا خلال الفترة المشار إليها (1830 - 1900) فائدة حقيقية مباشرة للتعلم بالفرنسية. ولو رأوها لتغيرت نظرتهم إليه. والدليل على ذلك هو ما حدث بعد ذلك من الإقبال على هذا التعليم والتنافس من أجله، لأن الفائدة المباشرة منه أصبحت جلية. لقد كان هدف التعليم الفرنسي الموجه للجزائريين من البداية متصفا بطابع التحدي الديني واللغوي والحضاري. كان الفرنسيون يشعرون ويعملون على أنهم ما داموا قد نجحوا في احتلال مدينة الجزائر وفرض سيطرتهم المادية على الحصون والقلاع ورفع العلم، فإن ذلك يبيح لهم انتهاك كل الحرمات والدوس على جميع المقدسات والتدخل في كل الشؤون حتى العائلية والمدرسية والدينية. ولكنهم كانوا واهمين، فالمقاومة لم تتوقف وكان الناس مؤمنين بأن النصر سيتحقق لا محالة ضد العدو، غير أن هذا النصر قد طال انتظاره، فتمسكوا بالجانب الآخر من المقاومة وهو الجانب الحضاري فلم يتنازلوا للفرنسيين عن مقاليدهم الحضارية بالسهولة التي توقعها هؤلاء. وهنا تظهر في الواقع عبقرية الشعب الجزائري وعبقرية الإسلام في المقاومة. وقد تفطن لذلك بعض المفكرين الفرنسيين أنفسهم، وهم أولئك الذين ظلوا ينبهون قومهم بأنه

من الغلط الاعتقاد بأن الجزائريين قد انهزموا، فأسلوب المقاومة قد اختلف والأشخاص قد تغيروا ولكن روح المقاومة ظلت هي هي (¬1): كان التعليم في الجزائر واجبا دينيا واجتماعيا. والآيات والأحاديث التي تأمر بالتعلم وتحث عليه من أجل إثبات الإيمان والعقيدة كثيرة حتى أن المرء يخرج منها بينما إيمانه وإسلامه غير كاملين إذا لم يتعلم الحد الأدنى مما يعرفه بالله وبمخلوقاته والتزاماته الشرعية. ولسنا بصدد إثبات الأدلة على ذلك لأن مجاله في غير هذا الكتاب. غير إننا نقول إن التعليم السائد سنة 1830 كان قائما على الدين ولخدمة الدين في المجال الواسع، باعتبار الإسلام دينا ودولة. وما دام مفهوم التعلم قد اتبع مفهوم السيادة ومفهوم الجهاد ومفهوم التقدم، فإن النتيجة كانت تخالف هذه المفاهيم جميعا، بما في ذلك المقصود الشرعي من التعلم. وإذا كان هذا المفهوم في القديم منطلقا من إدراك حقيقة الله وكنه الأشياء فقد ضعف هذا المفهوم سنة 1830 حتى أصبح التعليم كأنه تعبد وممارسات طقوسية فقط. فحفظ القرآن كان للبركة ونيل الوظيفة أكثر منه لفهم الدين والعمل به في مجال السياسة والمجتمع والاقتصاد. وقس على ذلك العلوم المتصلة بالقرآن. هذا عن الجانب الديني من التعليم، أما الجانب الاجتماعي منه والسائد سنة 1830، فإن الجزائريين كغيرهم من المسلمين كانوا يعتقدون أن المتعلم خير من الجاهل، وأن الله يرفع الذين أوتوا العلم درجات على غيرهم، وأن وظيفة العالم مضمونة، وأن احترامه واجب، وأن حب العلم من الإيمان. وقد كانت بعض العائلات تورث العلم والوظائف لأبنائها. والذي يدرس الحياة الاجتماعية، حتى الجانب الفولكلوري منها، سيجد أن الجزائريين كانوا يحتفلون بالعلم منذ دخول الطفل المدرسة الابتدائية إلى تخرجه من الثانوية والدراسات العالية. لأن العلم والدين مترابطان. وصاحب العلم ¬

_ (¬1) من أبرز من تنبه إلى هذا هو جوزيف ديبارمي J.Desparmet، وقبله تنبه إليه الدكتور فيتال Dr.Vital وإسماعيل عربان (توماس أوربان T.Urbain). وسنعرف عن عربان في فصل لاحق. انظر أيضا الحركة الوطنية، ج 1.

محترم عند الله والناس وعند الحكام. فهناك الإعفاء من الضرائب، وهناك الخدمات الاجتماعية التي لا حصر لها، وتحبيس الكتب وغيرها على الطلبة والمتعلمين. بالإضافة إلى أن هناك جانبا عمليا من التعليم وهو الوظائف القضائية والتوثيقية والإدارية والتعليمية، وحتى الترجمة. أما قرض الشعر وكتابة الرسائل، وحل مشاكل التركات، والاطلاع على ما عند الآخرين وعلى التراث العلمي، فذلك موضوع آخر له أهميته في هذا المجال. ولكن روح التخلف والجمود قد سرت هنا أيضا. فالتعلم رغم الأبهة والسمعة الطيبة لصاحبه، لم يكن هو الوسيلة المثلى للرزق والسلطة، فالحكام كانوا جهالا إلا من رزقهم الله حظا من الذكاء الفطري أحيانا. والمناصب الأخرى غير مقصورة على ذوي العلم. والتجارة غير قائمة على دراسة قوانينها وإنما هي الظروف و (الشطارة) وبعض الأعراف. والمبادلات مع أوروبا كان يحتكرها التجار اليهود بترخيص وتواطؤ من الحكام، أما البنوك فقد كانت منعدمة. ورغم وفرة المال في الخزينة فإن مجال تصريفه وإنعاشه كان محدودا. من هنا بقي للتعلم فضيلتان: فضيلة الدين وفضيلة الرزق والمباهاة لفئة معينة في المجتمع. ويهمنا هنا الجانب الأول لأن الجانب الثاني (فضيلة الرزق) في الواقع هو نتيجة للأول. إذ أن من تفقه في الدين بوسائل الكتابة والقراءة وحفظ القرآن وإدراك بعض العلوم، حصل على المنصب والرزق ونال الحظوة بين الناس. ومن هنا نأتي إلى نقطة أخرى حول هذا التعلم الذي ساد سنة 1830 وهو أنه كان تعلما خاصا لا ترعاه وزارة ولا حكومة. ولكن ترعاه مؤسسات وقفية وجهود فردية، ويساهم فيها المجتمع بكل فئاته ومواقعه، من المدينة إلى الريف. وهذه ظاهرة ما تزال في حاجة إلى بيان وتعمق حين يتحدث الناس عن (الخوصصة) في التعليم والاقتصاد وغيرهما. إن مجتمعنا القديم كان يقوم بنفسه وتلقائيا في هذا المجال. فالتعليم، كما قلنا واجب ديني واجتماعي، وليس واجبا سياسيا. ليس هناك تشريعات حكومية ولا برامج واجبة التطبيق للوصول إلى هدف معين بعد المدرسة. وإنما هناك العرف وهناك شروط الأوقاف، وهناك أيضا أوامر ونواهي الدين.

التعليم الفرنسي

وعلى هذا الأساس كثرت المدارس وانتشر التعليم في الجزائر حتى أثار ذلك استغراب ودهشة المحتلين الفرنسيين الأوائل والسواح الذين جاؤوا على أثرهم، كما شهدت عليه التقارير الرسمية التي سنعرض إليها. إننا سندرس في هذا الفصل التعليم الفرنسي، والتعليم المزذوج (الفرنكو - ميزولمان). كل عنوان له تفريعات ومحاور سنوردها في مكانها. وللتعليم الفرنسي في الجزائر مراحل سنعرفها، كما أن للتعليم المزدوج مراحله. ولا بد أن نذكر هنا أن التعليمين نشطا منذ العشرينات من هذا القرن، وتنافسا، رغم عدم التكافؤ في المنافسة. التعليم الفرنسي نعني بالتعليم الفرنسي التعليم الذي تشرف عليه الإدارة الفرنسية مهما كانت لغته. ومعنى ذلك أننا سندرس تحت هذا العنوان التعليم الموجه للجزائريين وأحيانا التعليم الموجه للفرنسيين أيضا. وأثناء ذلك سيكون التعليم وحيدها أو مزدوجها، وقد يكون تعليما منفصلا (عنصريا) أو مندمجا. كما أن التعليم الفرنسي بأنواعه قد عرف مراحل عديدة في كل نوع. فكيف جرى ذلك؟ ولنتحدث الآن عن التعليم الفرنسي الموجه للفرنسيين والأوروبيين الذين حلوا بالجزائر منذ 1830. نشأة المدرسة الابتدائية الفرنسية: لم يعرف هذا التعليم أية صعوبات لا مادية ولا إدارية ولا مالية. فالميزانية متوفرة دائما سواء من الدولة أو من الحكومة العامة أو من البلديات. وقد وصف دائما بأنه تعليم مزدهر، وأنه يتماشى مع روح الاستعمار التي يغذيها المستوطنون (الكولون) ومن المعروف أن هذا النوع من التعليم موجه إلى خدمة الجالية الفرنسية وإسعادها وتلبية مطالبها. وكانت هذه الجالية تزداد مع السنين بدرجات متفاوتة. فبين سنوات 1830 و 1850 استوطن الجزائر 63.497 بين فرنسيين وأوروبيين. وبين 1851 و 1860

وصل الرقم إلى 103.323 مستوطنا. وبنهاية عهد الامبراطورية (1870) وصل الرقم إلى 129.898. وقد ازداد هذا الرقم بهجرة الإلزاسيين سنة 1871 فوصل في سنة 1880 إلى 195.418 مستوطنا. وعشية الاحتفال المئوي للاحتلال (سنة 1929) وصل عدد الجالية الفرنسية في الجزائر إلى 675، 641. وإذا أخذنا بالإحصاءات الفرنسية وحدها فإن عدد السكان الجزائريين تراوح من حوالي مليون ونصف سنة 1830 إلى 2، 183، 793 سنة 1856. وهو التاريخ الذي يقول الفرنسيون إنهم بدأوا يحصون فيه سكان الجزائر (¬1). وقد ظل عدد السكان متقاربا إلى سنة 1886 حين شهد ارتفاعا ملحوظا وهو 3، 264، 879. ثم وصل عدد السكان إلى 4.072.089 سنة 1951، بينما وصل سنة 1926 إلى 5.648.058. فإذا أخذنا في الاعتبار هذه الأرقام حول السكان الجزائريين والفرنسيين نكون قد أخذنا صورة صادقة عن أرقام التعليم لدى المتعلمين من الجزائريين والفرنسيين. فليس من المهم ذكر الأرقام في حد ذاتها ولكن المهم هو مقارنتها دائما بعدد السكان من هذا الجانب أو ذاك، لأن إغفال هذا العامل يترتب عليه حكم غير صحيح على تقدم أو فشل التعليم هنا أو هناك. ذكرنا أن بداية التعليم الفرنسي في الجزائر قد تركت في أيدي الخواص خلال السنتين الأوليين. فأنشأوا بعض المدارس الابتدائية لتعليم الأطفال الأروبيين واليهود بين 1830 - 1832 كما سبق. وخلال هذه الفترة التي كان الفرنسيون المدنيون فيها محصورين في مدينة الجزائر فتحت مدرسة لليهود أيضا ضمت أربعين طفلا، وكذلك عدة مدارس لأبناء الفرنسيين الذين أخذوا يستقرون ¬

_ (¬1) ليس هنا محل تفاصيل إحصاء السكان، وسنعالجه في مكان آخر. إنما نذكر أن المصادر الجزائرية والفرنسية تختلف في عدد السكان سنة 1830، كما تختلف في عدد الضحايا بالمجاعة الكبرى سنوات 1867، 1868، 1869، وضحايا الحروب والمنافي والهجرة الذين فقدتهم بلادهم، ثم أن سنة 1856 ليست دقيقة في إحصائها لأن عددا من المناطق الجزائرية لم تكن قد احتلت بعد.

ويتاجرون. وأثناء النقاش الذي كان يدور حول الجلاء عن الجزائر أو البقاء فيها، سارعت السلطات الفرنسية في الجزائر بتنظيم المدرسة في إطار التعليم العام، على أن يتعلم الأطفال المواد الابتدائية كما في فرنسا، يضاف إليها اللغة العربية. وقد ظهر ذلك في أول مدرسة رسمية فرنسية في الجزائر وهي التي سميت بمدرسة التعليم المشترك لتعليم القراءة. والكتابة والحساب (افتتحت في إبريل 1833). وكانت تضم حوالي 200 تلميذ. وقيل إن بعض الأطفال الجزائريين قد دخلوها أيضا، ولكنهم عادوا وقاطعوها، وبعد احتلال عنابة فتحت بها مدرسة أيضا (1833) على نفس النمط (مدرسة مشتركة) موجهة بالدرجة الأولى للأطفال الفرنسيين. وبعد سنة واحدة فتحوا مدرسة أخرى في عنابة أيضا. وقد دخل الأخيرة بعض الجزائريين (12 طفلا، حسب التقرير) ولكن لم يمكثوا بها طويلا. إن القرار الفرنسي بالبقاء في الجزائر قد صدر في صيف 1834، وهذا يعني كثرة الهجرة الفرنسية والأوروبية إليها، ومن ثمة الحاجة إلى تأسيس المدارس. وهكذا ظهرت مدارس مشتركة أخرى في دالي إبراهيم سنة 1834، وفي القبة 1835، وقيل إن حوالي ثلث أطفال مدرسة دالي إبراهيم كانوا من أبناء جنود الفرقة العسكرية الجزائرية التي كونها الفرنسيون والمسماة (بالزواف)، وكان عدد الجميع في مدرسة دالي إبراهيم حوالي 50 تلميذا في سنة الافتتاح. وهناك نوعان آخران من التعليم الموجه للفرنسيين والأوروبيين خلال هذه الفترة. الأول هو أن بعض الأطفال كانوا في حاجة إلى مدرسة تعلم مستوى الثانوي (المتوسط؟) أيضا بمفهوم ذلك الوقت، لأن بعض العائلات اضطرت إلى إرسال أولادها إلى فرنسا لمواصلة التعليم. وسدا لذلك أسست السلطات مؤسسة سمتها (كوليج الجزائر) في يناير 1835. ولا نعرف كم عدد التلاميذ الذين دخلوا هذا (الكوليج) ويبدو أنهم كانوا في عدد قليل. أما النوع الثاني من التعليم الذي أسسه الفرنسيون لأنفسهم فهو حلقه (كرسي) اللغة العربية. وكان ذلك سنة 1832، وهو درس أسس في مدينة الجزائر على نفقه الحكومة الفرنسية. وكان الهدف منه هو تعليم

اللغة العربية للفرنسيين الكبار والراغبين في الوظيفة من جهة أو العمل في الجيش والحياة المدنية والاستيطان من جهة أخرى، لأن معرفة اللغة العربية ستعتبر أساسية، بل إجبارية كما سنرى، للاتصال بالسكان، ودراسة تاريخهم وأوضاعهم. وقد تولى هذه الحلقة أو الدرس في أول مرة رجل سوري - مصري الأصل يسمى جوني فرعون، ثم تولاه مستشرق فرنسي يسمى لويس برينييه L.Bresnier. كما أن هذه الحلقة ستدوم طويلا وسوف لن تظل يتيمة بل سترفدها واحدة في قسنطينة وثالثة في وهران (¬1). وقد تواصل إنشاء المدارس الابتدائية الموجهة للفرنسيين في عدة مدن كلما وقع احتلالها واستيطانها من الجاليات الفرنسية والأوروبية التي تعتبر هي المدعمة للاحتلال. فقد تأسس في وهران أربع مدارس ابتدائية سنة 1838، وفي عنابة خمس مدارس من هذا المستوى. لكن من الواضح أن البعض منها فقط كان موجها إلى الأوروبيين ويحضره أبناء الجزائريين إذا شاء ذلك أولياؤهم، ومن ذلك مدرسة من النوع الذي أطلق عليه اسم المدرسة العربية - الفرنسية. وأحيانا كانت تسمى المدرسة الحضرية. والمعروف أن وهران قد أخذ أهلها يعودون إليها، خصوصا بعد معاهدة التافنة (1837)، كما أن مدينة عنابة قد عاد إليها السكان بعد احتلال قسنطينة سنة 1837. وأخذت الجالية الفرنسية تتضخم في كلتا المدينتين. ومن جهة أخرى نشير إلى أن السيدة فيالار Vialar قد أسست سنة 1836 مدرسة خاصة للبنات الأوروبيات الفقيرات، ويبدو أنها قد وجدت إقبالا حتى أنها افتتحت في ديسمبر من تلك السنة بـ 84 طفلة (¬2). ولنلاحظ أيضا أن بعض التعليم الابتدائي قد أصبح في أيدي الأسقفية الكاثوليكية التي تأسست سنة 1838، وهو ما نسميه بالمدارس الدينية أو الكنسية. ¬

_ (¬1) انظر السجل (طابلو)، سنة 1838، ج 2، 250 - 251. وعن فرعون وبرينييه انظر فصل الاستشراق. (¬2) انظر السجل، مرجع سابق، 1838، ج 2، 250 - 251.

وقد توسع التعليم الابتدائي للفرنسيين حيثما نجح الاحتلال واستقرت الجاليات الأروبية. فانتشرت المدارس الابتدائية في المدن الأخرى، مثل قسنطينة وبجاية والبليدة وتلمسان ومستغانم. ثم نشأت مدارس مماثلة في ضواحي هذه المدن وفي المستوطنات التي أنشئت بغرض الاستعمار. ولذلك فإننا سنكتفي فقط بذكر الإحصاءات الإجمالية لهذه المدارس وعدد التلاميذ. وقد جاء في الإحصاء الرسمي لسنة 1844 أن عدد التلاميذ بلغ في تلك السنة 2.448 من الأوروبيين. وهو رقم يأتي في أتون الحرب مع الأمير عبد القادر. لكن بعد هزيمته سنة 1847 فإن الأرقام ستختلف كثيرا، وستدل على كثرة أبناء الأوروبيين في المدارس (¬1). بينما ارتفع الرقم إلى 4.562 سنة 1845، وهو موزع بين الذكور والإناث في درجة متساوية تقريبا: 2.231 ذكور، 2.331 إناث (¬2). وإليك هذا الجدول الذي يشهد على الزيادة المطردة في عدد التلاميذ الفرنسيين والأوروبيين في الفترة ما بين 1847 و 1850 (¬3): السنة ... عدد التلاميذ (الأوروبيين) 1847 ... 7.347 1848 ... 8.334 1849 ... 8.828 1850 ... 9.679 ¬

_ (¬1) نفس المصدر، 1843 - 1844، ص 70. أما سجل سنة 1841، ص 93، فقد ذكر فيه أن عدد التلاميذ بلغ في هذه السنة 1، 954، منهم فقط 79 من الجزائريين (الإحصاء الأوروبي المذكور يدخل فيه اليهود أيضا. (¬2) نفس المصدر، سنة 1845 - 111، 1846. (¬3) نفس المصدر، سنة 1846 - 1849، ص 189.

ونلاحظ أن هناك مؤسسات تعليمية أخرى أنشئت لأطفال الأوروبيين سنة 1848 وتسمى المخيمات الزراعية، وكانت تضم في تلك الفتوة بين 2000 و 3000 تلميذ. ويثبت إحصاء سنة 1852 أن عدد التلاميذ قد وصل سنة 1851 إلى 12.766، وأن حوالي نصفهم من البنات (6.504). كما أثبت هذا الإحصاء أن عدد المدارس الابتدائية قد وصل سنة 1551 إلى 223 مدرسة. بينما كان العدد 52 فقط سنة 1845. بالإضافة إلى 30 ملجأ جمع فيه 2.073 تلميذ من الجنسين وذلك سنة 1851. وهناك أيضا مدارس الكنائس الكاثوليكية والبروتيستانتية، والمدارس المسماة الفرنسية - الإسرائيلية (¬1). ومعنى هذا أن التعليم الابتدائي الفرنسي كان في نهضة وازدهار، وفي تقدم مستمر. وكان يجد الدعم من السلطات العسكرية والمدنية على السواء. كما يجد المال لبناء المدارس وتجهيزها، وتحضر له البرامج وتشرف عليه المصالح المعنية بعناية فائقة. يقول السيد لوروى بوليو سنة 1886 إن كل واحد يعرف أن التعليم مزدهر في أوساط المستوطنين. فالجزائر الأوروبية تقع في الصف الأول من كل البلدان بالنسبة للحضور في المدرسة الابتدائية. وقد لاحظ نفس الكاتب، وهو بصدد المقارنة، أن فرنسا لم تقم بأي شيء جدي لتعليم الجزائريين رغم أنها قد تسلطت عليهم منذ خمسين سنة (¬2). إن التعليم الابتدائي الفرنسي قد ازداد انتشارا بعد انتشار الاستعمار في البلاد وحصول الآلاف من الأروبيين على الأرض الخصبة التي أقاموا عليها القرى وأقاموا بها واستثمروها لصالحهم. وكان ذلك بعد احتلال زواوة سنة 1857 وأثناء العهد المسمى بعهد التهدئة. وزاد ضغط المدنيين على العسكريين في الجزائر فحصلوا من الحكومة على القوانين الاندماجية التي تجعلهم يعيشون وهم في الجزائر ¬

_ (¬1) انظر السجل (طابلو)، 1851 - 1852، ص 195. (¬2) لوروي بوليو (عن الاستعمار)، باريس، 1902، ص 292، 264.

بالقوانين الفرنسية والأحكام الفرنسية الجارية على مواطنيهم في بلادهم، ومن ذلك كل ما يتصل بالتعليم. وكان سقوط الامبراطورية وتولى الجمهورية الثالثة سنة 1870 فاتحة العهد الذي حل فيه الحكم المدني محل العسكري، وسيطر فيه الكولون (المستوطنون) على مقاليد الجزائر، إدارة واقتصادا. وبالقدر الذي أهملوا فيه التعليم الجزائري - كما سنرى - بالقدر الذي كرسوا فيه الجهود لتعليم إبنائهم وتوفير جميع المستويات لهم، من الابتدائي إلى العالي. وكانت البلديات (المدنية) تتنافس على بناء المدارس لأبناء الجالية الفرنسية (الكولون) وتوفر لهم المنح والقروض، بينما تعليم الأهالي ظل محل احتقار وتهاون. وذلك هو العهد الذي يشير إليه لوروى بوليو. ففي هذا العهد (سنة 1882) لاحظ بوليو أن عدد المدارس الابتدائية للفرنسيين بلغت 697 مدرسة. بينما لا توجد سوى 21 (واحد وعشرين) مدرسة للجزائريين. أما عدد التلاميذ في الابتدائي فهو 53.666 بالنسبة للفرنسيين (والأوروبيين عموما). ولكنه لا يتجاوز 3.172 تلميذ من الجزائريين. فإذا تذكرنا أن عدد السكان كان بنسبة واحد إلى عشرة تقريبا، عرفنا الطابع الحقيقي لموقف الإدارة الفرنسية من التعليم في الجزائر، وهو ما وصفناه بالطابع التمييزي والعنصري والذي اتخذ أسلوب الإهمال المتعمد. ويجب أن نعرف أيضا أن التعليم الابتدائي كان إجباريا لأبناء الفرنسيين ولكنه غير إجباري لأبناء الجزائريين (¬1). وقد وجد يوجين إيتيان E.Etienne، زعيم الكولون في البرلمان الفرنسي، تلك الفوارق ذريعة لتدخله سنة 1884، ضد سياسة الاندماج مع الجزائريين لأن فوارق التعليم تؤدي بالضرورة إلى فوارق حضارية واجتماعية لا يقرها السيد إيتيان. فكيف يندمج سكان يتجاوز عددهم المليونين (الجزائريون) مع سكان عددهم أربعمائة ألف نسمة فقط (الفرنسيون) في الوقت الذي يقدم هؤلاء خمسين ألف تلميذ في الابتدائي ¬

_ (¬1) فرض التعليم خلال الثمانينات على بلديات عين الحمام (فورناسيونال) فقط بالنسبة لغير الفرنسيين. عن الإحصاء المذكور انظر بوليو، مرجع سابق، ص 258.

وأولئك ثلاثة آلاف تلميذ فقط (¬1)؟ إن الاندماج في نظر السيد إيتيان يجب أن يكون في انسجام بين عدد السكان وعدد المتعلمين. إن سياسة التعليم الفرنسية إزاء أبناء الجالية الفرنسية وأبناء الجزائريين تظهر في القروض المخصصة للطرفين. ولنلاحظ ذلك مع فارق عدد السكان دائما في العهد الذي قيل فيه إن هذه الإدارة قد غيرت موقفها من التعليم للجزائريين (عهد 1902 - 1908) وأصبحت تسند له جزءا من الميزانية بعد أن كان مهملا (¬2): قروض التعليم (بالفرنك) السنة ... للتعليم الفرنسي ... للتعليم الجزائري 1902 ... 5، 081، 823 ... 1، 389.274 1903 ... 5.558.978 ... 1.179.165 1904 ... 5.732.003 ... 1، 299.424 1905 ... 7.847.368 ... 1.314.234 1906 ... 8، 189، 649 ... 1، 385.064 1907 ... 8.955.390 ... 1، 594.464 1908 ... 9.923.368 ... 1، 617.639 ومع ذلك شهد التعليم الابتدائي الفرنسي للجزائريين انطلاقة كبيرة بين الحربين، ثم بعد الحرب العالمية الثانية. ففي سنة 1920 كان عدد التلاميذ الأهالي المسجلين: 36.797، بينهم 2.034 تلميذة. وكان ذلك في بداية الانطلاقة. وخلال 1944 طلع الجنرال كاترو (الحاكم العام مدة قصيرة) ¬

_ (¬1) جيمس كوك (يوجين إيتيان) في مجلة (أفريكا كورترلي A.Q)، 1972، ص 287. وكان إيتيان نائبا عن الكولون في البرلمان الفرنسي عدة سنوات، وكان يملك جرائد مؤثرة. وتولى الوزارة. وله نفوذ واسع. وكان صديقا لمحمد بن رحال. (¬2) المصدر (مجلة إفريقية الفرنسية)، يناير 1908، ص 23.

بفكرة مفادها أن المدرسة باللغة الفرنسية هي السبيل الوحيد للتفاهم بين المسلمين (الجزائريين) والفرنسيين، واقترح لذلك خطة عشرية تضمن تعميم التعليم الفرنسي إلى أن يشمل المرأة أيضا. وعندما صدر قانون 1947 المعروف (بدستور الجزائر) نص على ضرورة توسيع التعليم بالعربية أيضا، كما نص على جعل اللغة العربية لغة رسمية. ولكن تطبيق ذلك لم يقع (¬1). وقد تدافع التلاميذ على المدارس الفرنسية والعربية (المدارس الحرة لجمعية العلماء) تدافعا غريبا، حتى أن ماسينيون L.Massignon - وبعض المربين - استغربوا كيف يستطيع التلميذ الجزائري أن يدرس أربع عشرة ساعة من الأربع والعشرين ساعة اليومية. وكان ذلك مثلا في ميزاب (كان أيضا شائعا في غيرها). فهم يترددون على المدرسة الفرنسية في النهار والمدرسة العربية عند الفجر وفي المساء (¬2). التعليم الثانوي: ذكرنا الكوليج العربي وقلنا إنه مدرسة ابتدائية في أول أمرها. أن هذا الكوليج الذي بدأ سنة 1836 بـ 32 تلميذا، قد تحول منذ 1848 إلى ثانوية (متوسطة) فرنسية، وهي الأولى من نوعها في الجزائر. ولكن خلال العشر سنوات أو نحوها التي عاشها الكوليج، كان تلاميذه فرنسيين وأوروبيين. والملاحظ أن المسلمين لم يدخلوه. وكان عدد تلاميذه قليلا، إذ لم يتجاوزوا سنة 1837 ثمانين تلميذا. وكانت مواده هي اللغة العربية الفصحى، واللاتينية والفرنسية، والإغريقية، والجغرافية، والتاريخ، والعلوم الطبيعية، والرياضيات. وسرعان ما انخفض العدد إلى 19 تلميذا فقط لصعوبة اللاتينية حسبما أشيع. وكانت أعمار التلاميذ بين السابعة ¬

_ (¬1) عارضت ذلك جريدة (نشرة) المفتشين الابتدائيين وطالبت بإلغاء هذا النص. انظر ماسينيون (الحولية)، 1954، ص 236. (¬2) نفس المصدر. وضرب ماسينيون المثل بميزاب، وهو صحيح، وكانت كثير من جهات القطر تطبق نفس النظام، وأعرف ذلك شخصيا من تجربة مدرسة النجاح بقمار (وادي سوف). فالرغبة في التعليم باللغتين أو بواحدة منهما، كانت جارفة على مستوى الجزائر كلها.

والتاسعة عشر .. فهو ليس بثانوية كما نفهمها اليوم، ولكنه معهد فيه مختلف المستويات، وتنتهي بمستوى الثانوي أو المتوسط (¬1). وأثناء عهد الجمهورية الثانية فصل التعليم الفرنسي عن سلطة وزير الحربية والحاكم العام وضم إلى اختصاص وزير المعارف وممثله في الجزائر وهو مدير إدارة التربية (الريكتور). وقد شمل ذلك المدارس الإسرائيلية أيضا، رغم أن اليهود في ذلك الوقت (1848) لم يكونوا قد تجنسوا بالجنسية الفرنسية ولذلك فإنهم كانوا يعتبرون أهالي ورعايا. ونص القرار الجديد على أن مسؤول التعليم في الجزائر يتراسل مباشرة مع الوزير بشأن المدارس الأوروبية. أما بشأن المدارس الإسلامية فيتراسل نفس المسؤول مع الحاكم العام فقط، لأن المدارس الجزائرية ما تزال خاضعة لسلطة وزير الحربية، كما ذكرنا. وهذا من تفننات نظام الاحتلال في التمييز بين الجزائريين والفرنسيين. وكان (دولاكروا) Delacroix هو أول مدير للتربية (ريكتور) في الجزائر، وكانت مؤسسته تسمى الأكاديمية. وقد أعطى مدير التربية مكانا رئيسيا في الإدارة الجزائرية إذ هو عضو رسمي في مجلمس الحكومة العامة التي تدير شؤون البلاد. والتجديد الآخر الذي حدث سنة 1848 هو إلغاء اسم (الكوليج) وإحلال اسم الثانوية محله، فأصبح يطلق عليه (ليسيه الجزائر)، وهو إطلاق غير دقيق، كما لاحظنا، لأن مستوى التعليم فيه كان متوسطا، وسنعرف أن أول ثانوية فرنسية حقيقية قد تأسست خلال الستينات. وكانت قد وقعت محاولة لإنشاء مركزين ثانويين في عنابة وسكيكدة سنة 1846 لكنهما توقفا سنة 1848، 1849 على التوالي. وقد ألحقت بالليسيه مدرسة باسم جديد تكمله، وهي مدرسة ابتدائية/ عليا، وهي في الواقع، رغم التسمية، مدرسة دون المتوسط. وأصبحت اللغة العربية التي تدرس في هذه (الثانوية) هي العربية ¬

_ (¬1) من تقرير كتبه برينييه، أستاذ كرسي (حلقة) اللغة العربية بمدينة الجزائر، كتبه بباريس في أكتوبر 1837، انظر أرشيف ايكس 6732 - 80 F.

الدارجة. ولكن عدد التلاميذ كان متواضعا إذا قيس بأعدادهم في الابتدائي، مما يدل على أن بعض الفرنسيين كانوا يرسلون أولادهم إلى فرنسا للدراسة الثانوية الحقيقية. وإليك هذا النموذج لاعداد تلاميذ الثانوية سنة 1849 (¬1): السنة ... عدد التلاميذ 1847 ... 165 1848 ... 167 1849 ... 204 1850 ... 226 وكانت الدراسة في ثانوية الجزائر هي نفسها في ثانويات فرنسا حتى قيل أنه لا يجند إليها من المعلمين إلا حملة التبريز، كما أن المستوى والبرنامج وطريقة الانتقال كانت واحدة أيضا هنا وهناك، حسب الملاحظين. لكن الثانوية الحقيقية (الليسيه) التي أسسها الفرنسيون في الجزائر هي الثانوية التي سميت في وقت لاحق باسم المارشال بوجو. وقد افتتحت في الستينات من القرن الماضي. وقد ذكرنا في فصل المعالم الإسلامية والأوقاف أن هذه الثانوية قد أكلت معها جبانة المسلمين في باب الواد وعددا من المساجد والمدارس التي كانت في المكان الذي أقيمت فيه، وهي الثانوية التي تدعى الآن (ثانوية الأمير عبد القادر). هذه الثانوية قد بنيت على أنقاض ¬

_ (¬1) السجل (طابلو)، 1846 - 1849، ص 189 - 190. بالنسبة لخريطة مديرية التربية نلاحظ أنها كانت تشرف على قطاعات التعليم كلها، عدا التعليم الإسلامي، الذي بقي تحت إشراف الحاكم العام. وسلطتها تشمل الأقاليم الثلاثة (الجزائر، وهران، قسنطينة). ويساعد مدير التربية مفتش أكاديمي، وبالنسبة لمصلحة التعليم الابتدائي هناك مفتش خاص بها، يساعده مفتشون يقيم الأول في الجزائر والثاني في وهران والثالث في قسنطينة. انظر السجل، سنة 1846 - 1849، ص 189.

معالم إسلامية كانت لها أوقافها ووكلاؤها وفقراؤها، قلما وجد فيها الجزائريون مكانا لأبنائهم، بل ظلت تقريبا ثانوية خاصة بأبناء الفرنسيين. وسنرى أن هناك عددا ضئيلا يقولون عنه أنه من الأهالي، ولكن أي أهالي؟ ونحن نتحدث الآن عن أوليات هذه المؤسسة أي إلى بداية القرن الحالي. أما بعد ذلك فقد دخلها بعض الجزائريين، ولكن عددهم ظل محدودا جدا بالنسبة لعدد السكان. ومع ذلك نلاحظ أن عدد التلاميذ عموما في المستوى الثانوي كان قليلا لأن بعض الفرنسيين كانوا يوجهون أبناءهم لاستكمال الدراسة في فرنسا نفسها. ففي سنة 1886، أي في عهد الجمهورية الثالثة، كان بالجزائر ثماني عشرة مدرسة ثانوية ومعهدا، أبرزها ثانوية الجزائر المذكورة وثانوية قسنطينة وثانوية وهران. وكانت المؤسسات التعليمية الأخرى التي تقدم تعليما ثانويا تسمى بالكوليجات أو المعاهد البلدية. وعددها عندئذ تسعة. يضاف إليها مدرستان حرتان وأربع حلقات (سيمنارات) ذات طابع ديني - مسيحي. وكان يتردد على هذه المؤسسات الثانوية سنة 1885 - 1886، من الأوروبيين 3.352، أي بمعدل 200 تلميذ لكل مؤسسة. ومن بين هؤلاء يوجد 228 تلميذا من الأجانب الأوروبيين (غير المتجنسين)، أما عدد التلاميذ الجزائريين فلا يتجاوز 115 من مجموع السكان الذي يقارب ثلاثة ملايين ونصفا. ولعل هذا يفسر دور المدرسة الابتدائية الفرنسية الموجهة للجزائريين. فقد كان الغرض منها ليس الثقافة والترقي إلى سلم التعليم الثانوي، ولكن مسخ الهوية وغسل المخ ثم ترك التلاميذ نهب الأقدار مذبذبين، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء. وقد تساءل الكاتب بوليو عن ذلك وشك أن يكون راجعا إلى ارتفاع الثمن في هذا التعليم، وهو شك في غير محله، لأن بعض العائلات الجزائرية على الأقل كانت قادرة على رصد منح لأبنائها لو وجدت إلى ذلك سبيلا، كما حدث بعد ذلك، ثم إن الدولة الفرنسية المحتلة كانت ترصد المنح للدراسة في الثانويات لأبناء الأوروبيين. فأين هي المنح بالنسبة للجزائريين الذين يدفعون ضرائب أعلى عدة مرات مما

يدفعه الفرنسيون. كما شك بوليو في أن عقول الجزائريين كانت لا تستسيغ التعليم الفرنسي في هذا المستوى (¬1). وهو تشكيك غريب منه. وربما كان متأثرا بمدرسة داروين ونيتشه وغوبينو وغيرهم من أصحاب نظرية النشوء والارتقاء والتفوق العنصري. وكانت عندئذ في أوجها. ولعل ملاحظات أصحاب (مجلة المغرب) سنة 1917 كانت أكثر موضوعية في هذا الصدد. فالتعليم الفرنسي من الأساس كان يهدف إلى خدمة الجالية الفرنسية وسعادتها. فإذا قدم منه شيء للجزائري فلا يخرج عن الطابع الاستغلالي كحذق بعض شؤون الزراعة لمساعدة المستوطنين، وحذق الطرز ونسج الزرابي لبيعها للسواح وتصديرها، أو تخريج بعض الجنود والقضاة والمترجمين. أما التعليم الذي يكون ويربى المواطن ويرفع المستوى العقلي ويضمن له الوظائف، فذلك كان حكرا على الفرنسيين. لاحظت (مجلة المغرب) أن الثانويات والكليات إنما أنشئت للأوروبيين فقط وقلما يدخلها غيرهم. وكان التعليم يعطي بالفرنسية ولا يعطي بالعربية في بلاد شعبها عربي، لأن هدف الإدارة الاستعمارية هو إحداث الذبذبة العقلية ومسخ الهوية (¬2). حقيقة أن السلطة الفرنسية أنشأت للأروبيين المؤسسات التعليمية في جميع المستويات، من الابتدائي إلى العالي. وإذا سمح للجزائريين بدخول الثانويات ففي أقسام خاصة بهم تسمى الأقسام (الأهلية). ومن الملاحظ أنه بالإضافة إلى الثانويات في عواصم الأقاليم الثلاثة، هناك المعاهد (الكوليجات) في كل من البليدة ومستغانم وتلمسان والمدية وسكيكدة وعنابة وسطيف وبلعباس. وهذا بعد مرور قرن على الاحتلال (أي 1930). وفي هذه المؤسسات كلها كان عدد التلاميذ الفرنسيين حوالي 11، 000 من سكان عددهم أقل من نصف مليون نسمة. بينما عدد التلاميذ ¬

_ (¬1) بوليو، مرجع سابق، 256. (¬2) مجلة المغرب R.M. عدد 3، 1917. انظر بشير التليلي (الكراسات التونسية). C.T عدد 26، 1978، ص 72.

الجزائريين 776 فقط من سكان عددهم خمسة ملايين نسمة. وهناك تضارب أحيانا في الأرقام. ففي سنة 1920 كتب ماسينيون يقول إن عدد طلبة الليسيات كلها في الجزائر قد بلغ 6.820 من بينهم 363 فقط من الجزائريين. وقد وصل عدد التلاميذ سنة 881، 1936 يضاف إليهم 99 بنتا ليكون المجموع 980. أما التلاميذ الفرنسيون فكان عددهم 11، 543 (¬1). وبالإضافة إلى التعليم الثانوي العام هناك التعليم الثانوي الخاص. ولهذا التعليم ست عشرة مؤسسة كانت تضم 1، 941 تلميذا سنة 1936، منهم 1، 681 فرنسي، و 231 فقط من الجزائريين (¬2). ورغم أن التعليم العام يستلزم عدم التفريق بين التلاميذ الجزائريين والفرنسيين في المؤسسة الواحدة وفي شروط القبول، إلا أن السلطات الإدارية ظلت تميز الأطفال الجزائريين عن سواهم بشتى الصور. فهي لا تقبلهم إلا بعد امتحان خاص، ثم صدر ما يفيد استثناء أبناء العائلات التي خدمت فرنسا من ذلك الامتحان. وعلى هذا فإن العدد القليل الذي دخل المدرسة الفرنسية الثانوية من الجزائريين إنما كان من فئة معينة لا تخرج عن أبناء (الخيام الكبيرة)، والعائلات التي تولى أربابها المناصب الفرنسية (القياد والآغوات الخ). وكذلك الموظفين كأبناء الخوجات والمترجمين والعائلات المتنفذة التي تبنت الأفكار الفرنسية. وهذه السياسة قد ظهرت بالخصوص في عهد الحاكم العام شارل لوتو Ch.Lutaud، الذي حكم من 1913 إلى 1918. ورغم ذلك فإن أعداد التلاميذ الجزائريين في الثانويات الفرنسية كان قليلا جدا. ¬

_ (¬1) إيمانويل يوجيجا E.Bugija (عليم الأهالي) في S.G.A.A.N سنة 1938 رقم 153 - 154، ص 66. وماسينيون، (الحولية)، مرجع سابق، ص 96. (¬2) أرشيف إيكس (فرنسا)، رقم 61 H 10، عن جريدة (وهران الجمهورية) تاريخ 18 يوليو 1937. وقد لاحظ هذا المصدر بالنسبة للمدارس الخاصة أن سبعا منها ما هي إلا مدارس ابتدائية وتضم 1.044 من التلاميذ. فليس لها من التعليم (الثانوي) إلا الاسم. كما لاحظ أن في الثانويات العامة بعض الأجانب بناتا وأولادا وصل إلى 115، وفي المؤسسات الخاصة 29 أجنبيا.

ومن الملفت للنظر أنه لم يكن بين 1898 - 1899 سوى 86 تلميذا جزائريا في جميع الثانويات الفرنسية. وقد وصل العدد إلى 386 سنة 1914 وإلى 776 سنة 1930. وفي سنة 1951 لا يوجد في الدراسة الثانوية من الجزائريين سوى 3.214 (مقابل 25.500 أوروبيين) (¬1). التعليم العالي: فإذا انتقلنا إلى التعليم العالي نجده قد قطع أشواطا كبيرة بالنسبة للفرنسيين والأوروبيين، ولكن حظ الجزائريين فيه كاد يكون غائبا. والواقع أن الفرنسيين ظلوا يرسلون أبناءهم ليواصلوا تعليمهم الجامعي إلى فرنسا نفسها. ولم تشهد الجزائر ميلاد نواة الدراسات العليا إلا خلال السبعينات من القرن الماضي، حين نشأت مدارس عليا للآداب والحقوق والعلوم. أما مدرسة الطب فقد سبقت إلى الظهور، ثم تحولت هذه المدارس العليا جميعا إلى كليات سنة 1909، وضمتها جميعا جامعة الجزائر المعروفة اليوم. وكانت في الحقيقة جامعة فرنسية روحا ومحتوى وأساتذة وهدفا. وليس لها من الجزائر إلا الاسم. ومع ذلك فنحن هنا نؤرخ لهذه المؤسسة ونريد أن نعرف من استقبلت من الطلاب وكيف تطورت (¬2). ومما يذكر بهذا الصدد أن الجهات الفرنسية العليا كانت دائما مترددة في إنشاء جامعة في الجزائر خوفا من أن تشيع فكرة الانفصال عند الكولون - المستوطنين، وليس خوفا من انفصال الجزائريين، لأن التعليم غير موجه إليهم منذ البداية، وأن في بقاء الدراسات والشهادات العليا في فرنسا نفسها ضمانا لاستمرار الارتباط بين فرنسا وأبنائها في الجزائر. رغم أن مؤرخي التعليم يذهبون إلى أن إنشاء حلقات اللغة العربية ¬

_ (¬1) تامي كولونا T.Colonna (المعلمون الجزائريون)، 1984، ص 93. وماسينيون (الحولية). 1954، 236. (¬2) عدد سنة 1905 من (المجلة الإفريقية R.A.) مقالات متنوعة عن نشأة المدارس العليا في الجزائر بمناسبة انعقاد مؤتمر المستشرقين الرابع عشر، ومنها مقالة مطولة عن مدرسة الآداب والدراسات الاستشراقية، انظر ذلك في العدد المذكور، ص 406 - 462.

خلال الثلاثينات يعد أول خطوة في التعليم العالي الفرنسي في الجزائر (¬1)، فإن المحاولة الأولى في هذا الميدان، في نظرنا، هي إنشاء مدرسة الطب بالجزائر سنة 1857. وهناك من يعتبر هذه المدرسة هي النواة لجامعة الجزائر. وكان الدكتور بودان Baudens، الطبيب العسكري، قد أنشأ مع غيره من الأطباء العسكريين سنة 1832 مدرسة طبية وصيدلية قرب حديقة الباي، وهي عبارة عن قاعات (براكات) خشبية احتوت على ألف سرير. وكان التعليم فيها عمليا في أغلبه نظرا للظروف العسكرية التي كانت تمر بها الجزائر. وبعد أربع سنوات وقع التخلي عن هذه المحاولة (¬2). أما التأسيس الحقيقي لمدرسة الطب فقد نص عليه قرار 4 غشت 1857. وقد بدأت بداية متواضعة، فكان بها فقط ثمانية من الأساتذة المرسمين وأربعة احتياطيين. ولم يكن هدفها هو تدريس الطب وخدمته كما في فرنسا، لأنها كانت في بيئة أخرى، كما ذكر دوتيه، تختلف بالدين والعرق عن بيئة فرنسا. ولذلك قال الدكتور أميري فريسون في خطبة الافتتاح لسنة 1862 أن رسالتها (مدرسة الطب) ليست تكوين أطباء أوروبيين أو أهالي، ولكن هدفها مساعدة الطب لمشكل الحضارة الأهلية. وكان الدكتور فريسون قد اختار عنوانا موضوعه هكذا (تأثير العلوم عامة والطب خاصة على حضارة العرب). وفي سنة 1892 كرر الدكتور تيكسييه، مدير مدرسة الطب بالجزائر، مقولة الوزير دي سالفندي أمام مؤتمر طبي بباريس: (أن الجيش العربي لا يمكن التعامل معه إلا من خلال الدين والطب. فأما الدين فيفرقنا عنه، وأما الطب فيجمعنا به) (¬3). ولكن مدرسة الطب قد تكونت وأدت خدمات هامة في ضوء الحضارة ¬

_ (¬1) انظر الفقرة الخاصة بهذا النوع من التعليم (إنشاء كراسي اللغة العربية في الجزائر وقسنطينة ووهران). (¬2) بيلي J.BAYLE. (عندما أصبحت الجزائر ...)، مرجع سابق، ص 285. (¬3) إدمون دوتيه E.DOTTE، المجلة الإفريقية، 1905، 414. انظر أيضا بأولى، نفس المصدر، ص 408. وكذلك فصل العلوم من هذا الكتاب.

العربية الإسلامية في الجزائر وبالوسائل العلمية الفرنسية. وقد بقيت محتكرة من قبل الفرنسيين. فلم يدخلها من الجزائريين إلا النادر. كان إنشاؤها بمبادرة من المارشال راندون، الحاكم العام في وقته (1852 - 1857)، وكانت تستقبل الشباب الفرنسيين للشروع في الدراسات الطبية الميدانية الأولى في عين المكان. وكان قانونها يسمح للشبان الجزائريين أيضا بدخولها سواء في ميدان الاستعمالات الطبية أو الجراحة العامة، على أن يعمل هؤلاء الشبان فيما بعد في الأوساط الريفية التي يتحكم فيها الطب الشعبي والشعوذة والسحر (¬1). وفي سنة 1867 كان بالمدرسة جزائريان فقط، وهما علي بن محمد بن بولكباشي وقدور بن محمد (¬2). كما أن هدفها من قبول بعض الجزائريين هو مساعدة المتخرجين منها لذويهم وإخراجهم من ربقة التخلف وربطهم بركب الحضارة الحديثة، حسب تعبير جريدة (المبشر) الرسمية (¬3). وهو بدون شك، تعبير جميل ولكنه غير واقعي. وقد اشترط لدخول الشباب الجزائريين إليها معرفة اللغة الفرنسية ومعرفة العلوم الطبيعية. ومن أين لهم بذلك؟ إن الوسيلة الوحيدة هي أن يكونوا قد درسوا في كوليج الجزائر سابق الذكر أو أن يكونوا من الرهائن الذين أخذوا إلى فرنسا قسرا خلال الأربعينات. ولذلك أخبرت جريدة المبشر أن الذين لبوا الشرط، بعد أكثر من عشر سنوات من إنشاء المدرسة، لم يتجاوزوا ثلاثة، وقد استطاعوا بذلك الحصول على المنح الدراسية في المدرسة وتخرجوا منها. وكان بها سنة 1869 ثلاثة آخرون (¬4). وليس بهذا العدد سينتشر الطب في الجزائر أو يتقدم المجتمع! ففي سنة 1872 لم يكن بمدرسة الطب من الجزائريين سوى خمسة. ¬

_ (¬1) زوزو، نصوص، مرجع سابق، 215. (¬2) المبشر، 3 أكتوبر 1867. يظهر من اسم الشابين أنهما من أبناء الملتحقين بالجيش الفرنسي. وكانا قد تخرجا من الكوليج الامبراطوري (المدرسة السلطانية). (¬3) المبشر، عدد 21 أكتوبر 1869. (¬4) نفس المصدر. مما يذكر أن (المبشر) وهي جريدة للدعاية الفرنسية عندئذ، أخبرت أنه لو كان للجزائريين أطباء لما حدثت لهم أزمة وجائحة سنة 1866 - 1867. ولكن كيف؟ ومن المسؤول عن ذلك؟.

وعند إنشاء المدارس العليا سنة 1879 تطورت مدرسة الطب وأضيفت إليها الصيدلة وأعيد تنظيمها، فأصبح لها أربعة كراسي، هي: الفيزياء، والمواد الطبية، والأناتوميا الباتوليجيكية والهسيتولوجية، ثم أمراض البلاد الحارة. وفي سنة 1909 أصبحت المدرسة المذكورة هي كلية الطب والصيدلة التابعة لجامعة الجزائر والتي سيرد ذكرها في الحديث عن الجامعة. أما بالنسبة للجزائريين فقد بقيت مدرسة الطب مغلقة تقريبا في وجوههم رغم الدعاية والإعلان عن كونها لخدمة الحضارة العربية في الجزائر. فقد أثبت إحصاء سنة 1905 أنه منذ إنشائها لم يسجل بها سوى 33 طالبا جزائريا، واثنين في الصيدلة. وقد حصل منهم 12 على دبلوم الصحة - وهو ذو مستوى بسيط، و 6 على الدكتوراه. واستطاع طالبا الصيدلة الوصول إلى القسم الثاني، أما الباقون فلم يواصلوا التعليم. هذه هي حصيلة مدرسة الطب في الجزائر خلال الخمسين سنة (¬1). لقد تأسست ابتداء من سنة 1879 أربع مدارس عليا في الجزائر، كما قلنا، وشملت، بالإضافة إلى الطب، الآداب والحقوق والعلوم. وقد ألحق بالمدرسة الأخيرة في تاريخ متأخر مرصد ومخبر للمحطة الزيولوجية البحرية. ثم أنشئ أيضا (معهد باستور). ولكنه كان بعيدا عن سلطة الجامعة، بل كان تابعا للحكومة مباشرة. ويلاحظ أنه رغم الدراسات في الجزائر فإن إجراء الامتحانات والحصول على شهادة الليسانس لا يكون إلا في فرنسا. وهذا يؤكد ما قلناه وهو الخوف من أن تكون الجامعة وسيلة مشجعة على الانفصال السياسي والإداري عن فرنسا، وانغلاق الجامعة على نفسها. ولعل وراء ذلك أيضا المحافظة على المستوى وتوحيد الشهادات الفرنسية (¬2). وكانت المدارس العليا الجديدة مغلقة أيضا في وجه الجزائريين، شأن ¬

_ (¬1) دوتيه، المجلة الأفريقية، 1905، 414. (¬2) دوتيه، مرجع سابق، 406، وبيلي (عندما أصبحت. . .)، 285.

مدرسة الطب والصيدلة قبلها. فالتعليم العالي العمومي كان محتكرا من الفرنسيين رغم أن الجزائريين كانوا أكثر منهم عددا، وهم أهل البلاد، والدافعون للضرائب الثقيلة. وقد جاء في إحصاء سنة 1882 أن عدد الطلبة الفرنسيين في المدارس العليا الأربع قد بلغ 557، أما عدد الطلبة الجزائريين بها فلم يتجاوز 35، أغلبهم في الحقوق (28)، بينما أربعة في الآداب، وثلاثة في الطلب، وصفر في العلوم. ومهما كان الأمر فقد دعمت الدراسات العليا بمكتبة جامعية، أصبحت تضم سنة 1905 (عشية إنشاء الجامعة) خمسين ألف مجلد، وحوالي مائة أطروحة، ونشرات جامعية. وسنتناول المكتبة الجامعية في فصل المؤسسات الثقافية. ومن الملاحظ أيضا أن بعض الكتاب قد دعوا منذ البداية إلى جعل التعليم مزدوج اللغة في الجزائر ولو كان موجها للفرنسيين، ذلك أن اللغة العربية في نظرهم (وسيلة ثمينة) في الجزائر، وعليه يجب أن تكون مستعملة في جميع معاهد التعليم حتى تلعب الجزائر (الفرنسية) دورا رئيسيا في إفريقية والعالم العربي (¬1). ولكن ذلك لم يحدث إلا في بعض التخصصات التي تهم المستشرقين. لقد طالت المناقشات حول إنشاء جامعة الجزائر. ويكفي الإشارة إلى أنه صدر قانون في فرنسا سنة 1896 ينظم نشأة الجامعات الفرنسية بعد مراجعة المنظومة التعليمية. وأثناء ذلك جرت مناقشات حول التعليم العالي في الجزائر، لأننا لاحظنا أن الحصول على الليسانس كان يتم في فرنسا. وقد أنشئت عدة لجان سنة 1903 لدراسة هذا الموضوع. وجاء صوت البرلمان المحلي (الوفود المالية) ليدعم فكرة الجامعة بالجزائر ورصد المالية لها (¬2). وحلت بالجزائر عدة شخصيات لمعاينة الوضع عن كثب. وقد انتهت هذه الدراسات كلها إلى ضرورة إنشاء الجامعة بهدف توحيد نظام التعليم الجاري في المدارس العليا، وجعله تعليما عمليا، وإنشاء معاهد علمية متخصصة ¬

_ (¬1) بوليو، مرجع سابق، 264. (¬2) كان البرلمان المحلي في قبضة المستطونين (الكولون)، وكان إنشاء الجامعة لصالح أولادهم طبعا.

مطبوعة بطابع جزائري (فرنسي) لا يقود الطلبة إلى الحياة الإدارية والعامة فقط ولكن إلى كل جوانب المعرفة، من زراعة وتجارة وصناعة وجيولوجيا وجعرافية وتشريع واقتصاد سياسي وفيزياء، وكيمياء، وعلوم نباتية، وبالإضافة إلى ذلك ذكروا أن من مهمة هذه الجامعة هو الاهتمام بتاريخ شمال إفريقية والإسلام ولغات وآداب وحضارة المنطقة (¬1). وهذا بدون شك دور نظري عظيم للجامعة من حيث هي مؤسسة. ولكن السلطات الفرنسية حولتها إلى أداة احتكار للمعرفة واضطهاد لتاريخ الجزائر والمغرب العربي ووسيلة للسيطرة الاستعمارية، لقد عهد إلى الجامعة بالتحضير للاحتفال بمرور قرن على الاحتلال سنة 1930، ومساعدة الخبراء العسكريين وغيرهم في حكم البلاد، والتوسع نحو إفريقية والعالم الإسلامي. إن هناك فرقا بين دور الجامعة النظري والعملي. لقد تأسست الجامعة لتخدم الإدارة الاستعمارية وتحكم السيطرة الفكرية على الجزائر. وهذا هو الدور الحقيقي الذي قامت به الجامعة على يد مجموعة من الأساتذة الذين اشتهروا في مجالات اختصاصهم. ومن حق الفرنسيين أن يسموا جامعة الجزائر (السوربون الإفريقية). فهي فعلا مؤسسة علمية فرنسية في قلب الجزائر وقلب المغرب العربي وإفريقية. وقد أسندت إليها مهمة مواصلة أشغال (لجنة الاكتشاف العلمي) (¬2) التي لم تنجز، فأبدت الجامعة استعدادها لذلك في الخمسين مجلدا التي نشرتها بمناسبة الاحتفال المئوي المذكور. كما اهتمت بهذا الصدد بالمتاحف والنصب التذكارية والنشر الخ. ولكن أكبر عمل قامت به الجامعة، لخدمة أهداف فرنسا، هو إنشاء المعاهد المتخصصة والإشراف عليها ومدها بالدراسات والمعلومات: مثل معهد البحوث الصحراوية، الذي كانت له نشرة خاصة، وكان ينشر البحوث المعمقة التي ينجزها التابعون له. ومعهد الدراسات الشرقية، وكانت له حولية ¬

_ (¬1) انظر (إفريقية الفرنسية) A.F جوان 1909، ص 208 - 209. (¬2) سندرس أعمال هذه اللجنة في فصل آخر. وعبارة (السوربون الإفريقية) من استعمالات غوستاف ميرسييه G.Mercier في (مدخل إلى الجزائر)، 1956، ص 331.

ومنشورات تهم الدراسات الإسلامية والعربية. إضافة إلى معهد الدراسات القانونية، والمعهد الحضري. كما أن هناك معاهد تابعة لكليات مثل معهد الجيولوجيا التطبيقية، وجمعيتي العلوم الفيزيائية والكيميائية التابعتين لكلية العلوم. وقد ظهرت أيضا إدارات وجمعيات لها طابع خاص مثل مكتب البحوث المنجمية وجمعية البحوث البترولية (¬1). فإذا عدنا إلى موضوع التعليم في الجامعة وجدناه محتكرا أيضا من الفرنسيين. فالجزائريون الذين سمح لهم بمواصلة التعلم على مستوى الجامعة عددهم قليل جدا لا يتناسب مع نسبة السكان على الاطلاق، وهو صفعة في وجه من يتشدق بالمهمة الحضارية الفرنسية في الجزائر وبالمساواة والحرية والإخاء، التي يحلو للجاهلين ترديدها. فعشية الاحتفال المئوي بالاحتلال (1929 - 1930)، كان عدد طلبة الجامعة بالجزائر 1، 813 من الفرنسيين والأوروبيين و 77 فقط من الجزائريين. وإليك هذا الجدول الذي وضع سنة 1929 - 1930 (¬2): الكلية ... الجزائريون ... الفرنسيون والأوروبيون الحقوق ... 17 ... 831 الطب ... 7 ... 324 الصيدلة ... 6 ... 211 العلوم ... 14 ... 198 الآداب ... 33 ... 249 الجملة: ... 77 ... 1.813 ¬

_ (¬1) غوستاف ميرسييه في (مدخل إلى الجزائر)، 334 - 336. (¬2) المصدر: أرشيف إيكس (فرنسا)، 61 H 10.

حلقات اللغة العربية

وبعد ست سنوات (1936) وصل مجمل طلاب الجامعة إلى 2.250 طالبا في مختلف التخصصات. فكان عدد الجزائريين من ذلك هو 94 طالبا فقط (¬1). وقد انخفض هذا العدد سنة 1940 إلى 89 طالبا فقط (¬2). أما سنة 1951 فقد كانت الكليات تضم 4.404 طلبة ليس من بينهم سوى بضع عشرات من الجزائريين (¬3). هذا هو التعليم العمومي الفرنسي في الجزائر. وهذا حظ الجزائريين منه، ابتداء من التعليم الابتدائي إلى الجامعي. فنحن هنا أمام فراغ مهول بالنسبة للشعب الجزائري. فأبناؤه لم يعرفوا طيلة قرن وربع معنى التعليم الحقيقي لا في لغتهم ولا في لغة المستعمر، بل كانوا محرومين من نور العلم، رغم كثرة الحديث عن الرسالة الحضارية ومهمة فرنسا الإنسانية. وقد انخدع الأغرار بهذا الكلام المعسول والدعاية المغلفة فاعتقدوا أن الجزائريين كانوا في بحبوحة من العيش وفي جنة من العلم والنور ما دامت الدولة التي تستعمرهم هي فرنسا - موطن حركة التنوين ووطن فولتير الخ -. حلقات اللغة العربية نود الآن أن نتحدث عن نوع آخر من التعليم الموجه للفرنسيين وهو تعلم اللغة العربية. ونحن وإن كنا سنعود إلى هذا الموضوع في حديثنا عن الاستشراق في فصل آخر، إلا أننا هنا نتحدث عن الجانب التعليمي منه. فقد اعتبر الفرنسيون في أوائل الاحتلال أن معرفة اللغة العربية أساسية لهم لكي يحكموا سيطرتهم على الجزائر. ورغم وقوع خلاف نظري حول ما إذا كان على الجزائريين أن يعرفوا الفرنسية أو على الفرنسيين أن يعرفوا العربية، فإن ¬

_ (¬1) المصدر: أرشيف إيكس، 61 H 10، عن جريدة (وهران الجمهورية)، 18 يوليو 1937. من بين عدد الفرنسيين 15 من الطلاب الأجانب. وليس في الطلاب الجزائريين أي عنصر نسوي، بينما شمل الرقم المذكور 538 فتاة فرنسية. (¬2) كولونا، مرجع سابق، 93. انظر أيضا إيمانويل بوجيجا في S.G.A.A.N، 1938، 66. (¬3) لويس ماسينيون، (الحولية)، باريس، 1955، ص 236.

الأمر قد حسم في العقود الأولى لصالح الرأي الثاني. إن تعليم الجزائريين (الأهالي) لم يكن واردا البتة عندئذ، كما عرفنا. وكان الفرنسيون منشغلين بالقضاء على المقاومة الشديدة، ومن جملة أسلحتهم في ذلك تعلم اللغة العربية، الفصيحة والدارجة، عملا بالأثر: من تعلم لغة قوم أمن شرهم (¬1). ظهر هذا التعليم الموجه للفرنسيين في شكل حلقات أو (كراسي) اللغة العربية أولا في العاصمة منذ 1832 ثم منذ 1846 في قسنطينة ووهران أيضا. وكانت البداية على يد جوني فرون ثم تولاه برينييه، منذ 1836، كما سبق. وقد ظل هذا يؤدي عمله في العاصمة، مدرسا ومؤلفا وموجها إلى وفاته سنة 1869. وكثيرا ما كانت الدروس تكشف في أول الموسم الدراسي. ثم تتقلص تدريجيا، حسب الظروف وطريقة الأستاذ في التعليم والوظائف المتاحة والقوانين الملزمة. والمعروف أن معظم المستعربين من الجنود ومن الموظفين المدنيين ورؤساء المكاتب العربية والمترجمين الفرنسيين قد مروا بالحلقات. ومن هذه الحلقات أيضا انطلق الاستشراق الفرنسي قبل ميلاد مدرسة الآداب (كلية الآداب) في الجزائر. لقد كانت الإدارة تشجع على معرفة اللغة العربية للفرنسيين لا حبا فيها أو تقديرا لها، ولكن باعتبارها لغة وظيفية وأداة للحكم والسيطرة ومعرفة أفكار وتاريخ الجزائريين وما يدور بينهم في الأسواق والزوايا والبيوت، وما في كتب الفقه والأدب من نصوص وقوانين وقيم. وكانوا يقولون إن اللغة العربية صعبة، ومع ذلك لا بد منها، خصوصا عندما ارتبطت بها الترقيات الإدارية والوظائف الرسمية. فكانت العربية المكتوبة أو الشفوية شرطا لازما. كما أن معرفة الفرنسية للعاملين الجزائريين في المصالح الفرنسية لازمة (¬2). وكانت في باريس مدرسة اللغات الشرقية التي يحضرها الفرنسيون المترشحون للعمل في الجزائر. ولكن المقارنين لاحظوا أن الحضور في حلقات الجزائر كان أكثر كثافة من حضور ¬

_ (¬1) وفي وقت لاحق تعلم الفرنسيون اللغة البربرية أيضا لأسباب سياسية وعلمية. انظر فصل الاستشراق. (¬2) السجل (طابلو)، 1838، ج 2، 251 - 252.

دروس مدرسة الاستشراق الفرنسية. والغريب أن التسمية لم تتغير، فقد بقيت تحت هذا العنوان (حلقات اللغة العربية) في الغالب أو الدروس العربية أحيانا. بينما كان بالإمكان إطلاق اسم مدرسة أو كوليج عليها. وبذلك تكون مثلا فرعا من مدرسة اللغات الشرقية في باريس. ولكن ذلك لم يحدث. ولم نعرف أن هناك من اقترح تغيير الاسم رغم وجود عناصر استشراقية بارزة على رأس كل حلقة، مثل شيربونو Cherbonneau وبرينييه، وهوداس O.Houdas وأضرابهم. ولم تكن مهمة هذه الحلقات هي تخريج المستشرقين بالمعنى الدقيق للكلمة، كما هو شأن مدرسة اللغات الشرقية، ولكن تخريج موظفين مدنيين وعسكريين يتولون شؤون (العرب) كما كان يقال، بالإضافة إلى الراغبين من المستوطنين الذين يريدون معرفة اللغة العربية كوسيلة للاتصال مع (الأهالي) في الحياة اليومية، للعمل والتجارة. وكذلك كان يحضرها المترشحون للمدرسة السلطانية (الكوليج الامبراطوري) وغيرهم من التلاميذ. أما الجزائريون فقد كانوا غير معنيين بهذه الحلقات. في 15 أبريل 1845 صدر مرسوم ملكي يجعل معرفة اللغة العربية إجبارية على كل المترشحين للوظيف المدني في الجزائر ابتداء من سنة 1847. وقد استبشر بهذا المرسوم أنصار حلقات اللغة العربية مثل شيربونو وبرينييه. وكان الحاكم العام المارشال بوجو، قد شجع على ذلك، وهو الذي كان يفرضه حتى قبل صدور المرسوم. وكان قد غير الإدارة وأنشأ إدارة الشؤون العربية ودعم المكاتب العربية. وكلها كانت تقوم على الترجمة ومعرفة لغة البلاد، فكانت حلقة الجزائر وحدها تضم 20 متعلما سنة 1845. وكان الدرس عادة يبدأ بحضور حوالي أربعين ثم ينخفض العدد تدريجيا، كما ذكرنا. ويعتبر التعليم في هذه الحلقات من التعليم العالي، رغم أن المصطلح (العالي) قد لا يصدق عليه. لأن برينييه مثلا كان يلقي درسا في اللغة

الفصحى أو المكتوبة أو الأدبية، ودرسا آخر في الدارجة أو الشفوية. وهو يكرر ذلك في عدة مستويات. أما حلقتا العربية في قسنطينة ووهران فقد كانتا بالدارجة. وكان الفرنسيون يخططون لإنشاء حلقات للعربية في مدن أخرى حين يتوفر المال (¬1). ويبدو أن هذا النوع من التعليم كان سيتوطد ويستمر، ولكن حدثين أثرا عليه، الأول انتهاء مهمة بوجو من الحكومة العامة في الجزائر في صيف 1847، وهي سنة تطبيق القرار بإلزامية معرفة العربية في التوظيف. والحدث الثاني هو سقوط الملك الذي أصدر المرسوم المذكور في فبراير، 1848. ان قيام الجمهورية الثانية في فرنسا قد نتج عنه تغيير إداري في الجزائر، ومنه إنشاء الأكاديمية كما ذكرنا، وفصل التعليم الفرنسي عن التعليم الموجه للجزائريين. فأصبح الأول تابعا لوزارة المعارف في فرنسا، أما الثاني فقد بقي تابعا لوزارة الحربية الذي يخول صلاحياته للحاكم العام. هذا بالنسبة للتعليم عموما بعد قيام الجمهورية. أما حلقات اللغة العربية التي تعتبر من مشمولات التعليم الفرنسي فقد أغفلت تماما من القرارات الصادرة عن السلطة التنفيذية الجديدة في فرنسا، كما لاحظ ذلك أوغست كور A.Cour، وهو أحد المستشرقين. وقد تساءل ثم أجاب بأن السلطة المذكورة كانت تعتبر ذلك التعليم (الحلقات) من مشمولات التعليم الإسلامي. (ما دامت قد أهملته في القرارات المذكورة) غير أن كور لاحظ أنه من الناحية المالية كانت ميزانية دروس اللغة العربية تصدر عن وزارة المعارف في فرنسا وليس من الجزائر، ومن ثمة فهي دروس تهم الفرنسيين. وقد ختم كور ملاحظاته عن تذبذب الموقف الرسمي إزاء هذا النوع من التعليم، بقوله: إنه رغم إهمال حلقات العربية فإن الإدارة الفرنسية والسلطات المحلية ظلت تهتم بتدريس اللغة العربية للأوروبيين من جهة واللغة الفرنسية الأهالي من جهة أخرى (¬2). ¬

_ (¬1) السجل (طابلو)، سنة 1845 - 1846، 111. (¬2) كور، المجلة الإفريقية، 1924، 41 - 42.

وقد وجه نقد شديد بين 1849، و 1851 لحلقات اللغة العربية للأوروبيين. فجاء في التقرير الرسمي لسنة 1849 أنها الدروس الوحيدة في الجزائر التي تعتبر دروسا عالية، وأنه رغم الحماس لها في البداية فإنها لم تعط الثمرة المرجوة منها. ووجه النقد بالخصوص لدروس وهران لقلة حضورها، ومرد ذلك إلى صعوبة اللغة العربية (كذا) التي لا يواظب عليها إلا الأذكياء (¬1). ومن الملفت للنظر أن الناقد لم يقل شيئا عن الإخلال بتطبيق مرسوم 1845، وركز نقده على صعوبة اللغة. وأين مثلا كفاءة المدرسين وقدرتهم على اجتذاب التلاميذ، وتوفير الشروط لإنجاح الحلقة؟ ان الأساتذة أنفسهم كانوا يشتكون من عدم الأماكن والوسائل. وبعد أن ركز ناقد آخر على أن التعليم في الحلقات الثلاث ظل في مستوى العالي ذكر أن الحكومة كانت تشجعه وأنها أعطت فرصا كثيرة للحاصلين عليه، لكن المواظبين عليه يجعلون منه، في نظره، تسلية فقط ولم يأخذوه مأخذ الجد. كما أنهم كانوا يغيرون إقاماتهم فلا يواظبون عليه. وقد لاحظ هذا الناقد أن دراسة اللغة العربية ذات أهمية كبيرة للفرنسيين، ومع ذلك لم يحصل التقدم المطلوب فيها إلا بدرجة ضعيفة (¬2). كما وصف التعليم في الحلقات بأن القليل فقط من أساتذته يعلم أيضا العربية الفصحى التي يسمونها المكتوبة أو الأدبية. وفي سنة 1848 قال بيليسييه دي رينو أن عدد الحضور في الحلقات الثلاث لا يتجاوز الستين، وأن حالها كحال دروس الكوليج دي فرانس. وفي تقرير آخر ذكر أن النتائج كانت غير مرضية رغم مؤهلات الأساتذة، ورغم الحماس الذي يبدونه. ومن النقد الموجه إلى هذه التجربة أنه رغم الاعتراف بأهمية اللغة العربية كوسيلة اندماج بين الجزائريين والفرنسيين وكوسيلة تجارية، فإن البرنامج المعد لذلك لا يحقق الهدف. لقد كان الواجب هو الشروع في تعليم ¬

_ (¬1) السجل (طابلو)، 1846 - 1849، 189 - 195. (¬2) نفس المصدر، سنة 1851 - 1852، 190.

العربية منذ الابتدائي حتى يحضر التلاميذ لتلقيها في الدروس العالية على يد الأساتذة في الكراسي أو الحلقات. ذلك أن أكبر مشكل كان يعانيه الأساتذة هو أن التلاميذ الذين يتقدمون إليهم لا يعرفون أوليات العربية. وهكذا اضطر الأساتذة إلى التعليم على مستويات ثلاثة: ابتدائي باللغة العامية، ومتوسط يعلمون فيه النحو وقراءة القرآن، وعالي يعلمون فيه تراجم المؤلفين ومختلف أنواع الكتابة. وكل مستوى انخفض إلى ساعتين في الأسبوع فقط. ولو كانت العربية تدرس في الابتدائي لاختلف الوضع. ولذلك طالب مفتش التعليم بالجزائر بتدريس العربية في الابتدائي والثانوي قائلا إنها بالنسبة للكولون أولى من الإيطالية والإسبانية لقلة استعمالهما، بينما العربية هم في حاجة إليها مع الأهالي. وإذا تخلص أساتذة الحلقات من مستوى الابتدائي في اللغة العربية فإنهم سيتفرغون حقا إلى المستوى العالي ويأتون بنتائج طيبة. وعلى المدارس الابتدائية والمتوسطات (الكوليجات) أو تنشر اللغة العربية العامية حتى تساعد على اختلاط الأطفال الفرنسيين والجزائريين ويتفرغ أساتذة الحلقات لتعليم الفصحى (¬1). ولم يهتم صاحب التقرير طبعا بما سيستفيده الطفل (الأهلي) من تعلم العامية التي يعرفها منذ الرضاعة. ويرى ناقد آخر أن تدريس اللغة العربية كان ينظر إليه، من جانب الإدارة، على أنه وسيلة للتوغل السياسي وليس لنشر الثقافة الفكرية، بالإضافة إلى أنها فقط وسيلة اتصال مع الأهالي والعلاقات التجارية. وقد ساعد على ذلك أيضا أن مؤلفي الكتب المدرسية كانوا يكرسون هذا المفهوم في عقول تلاميذهم وفي الجمهور. فهم يؤلفون كتبا في النحو وغيره للتطبيق العملي على اللهجة المحلية، دون الإحساس بضرورة الارتفاع إلى معالجة المنهج وتقديم النماذج المحللة على تجاربهم مع النصوص. ويقول هذا الناقد، إن الإدارة والمؤلفين معا قد نسوا أن ذكريات حضارة الشعب إنما ¬

_ (¬1) كور، ص 42، 59 - 62. وتقرير المفتش المذكور مقدم في عهد الحاكم العام شأنزي (تولى سنة 1873). وهو منشور في إحصاءات سنوات 1872 - 1875. أي أن نقد التجربة جاء في أوائل عهد الجمهورية الثالثة.

ترقد في كتب التراث المؤلفة في اللغة العربية. وبالإضافة إلى ذلك فإن الوضع الإداري لحلقات اللغة العربية قد بقي غير واضح. فقد كانت الحلقات تتبع وزارة المعارف، كما ذكرنا. وفي 1858 وقع إلغاء حكومة الجزائر وعوضت بوزارة مقرها في باريس. ولكن حلقات اللغة العربية ظلت تابعة لوزارة المعارف ولم تكن الوزارة الجديدة معنية بها أيضا. ورغم وصف تعليمها بالعالي، فإن التقارير بين 1860 - 1879 كانت لا تشير إلى الحلقات في ذلك، وتكتفي بوصف التعليم في مدرسة الطب والصيدلة فقط على أنه عال. وما دامت الحلقات كانت تابعة مباشرة لوزارة المعارف فإنها كانت لا تتلقى المساعدات من الميزانية المحلية - الجزائر، بينما كانت مدرسة الطب تنال مساعدات منها (¬1)، لأنها تتبع وزارة الحربية (أو الميزانية المحلية في عهد الجمهورية الثالثة). ومن جهة أخرى كان هناك أنصار وخصوم لحلقات العربية، سيما في عهد المكاتب العربية. وكان قصور الحلقات عن أداء مهمتها حجة في يد المطالبين بالإبقاء على المكاتب العربية (العسكرية) لأنها في حد ذاتها مدرسة للاتصال مع الأهالي عن طريق اللغة العامية، وهي (المكاتب) منظمة وسيطة بين الفرنسيين والأهالي، بينما يرى البعض (الأنصار) أن خريجي الحلقات قد أصبحوا بالآلاف، موظفين ومستوطنين، ولذلك فلا داعي لوجود المكاتب العربية أصلا، ولا حاجة إلى هذه الواسطة بين الفرنسيين والأهالي. ولذلك اعتبرت المكاتب العربية حجر عثرة في سبيل (الاندماج) المنتظر بين الطرفين، وهي تقف ضد كل تقارب بينهما. وكان الدكتور وارنييه Warnier وزميله دوفال Deval من أنصار الحلقات وضد المكاتب العربية، بينما كانت جريدة باريسية تسمى (الدستوري) تقف مع هذه المكاتب (¬2). ¬

_ (¬1) كور، ص 58. (¬2) كور، ص 59. كتب وارنييه ودوفال عدة كتب (نشريات) خلال الستينات ضد المكاتب العربية وسياسة نابليون في الجزائر.

ومهما كان الأمر، فإن الجمهورية الثالثة قد ألغت المكاتب العربية من المناطق المدنية وعوضتها بالبلديات الشاملة والمختلطة. أما حلقات اللغة العربية الثلاث فقد أدمجتها في التعليم العالي الجديد الذي أنشئ في 20 ديسمبر 1879. وأصبحت مدرسة الآداب العليا هي التي تمنح شهادة تسمى (بروفي اللغة العربية) و (دبلوم اللغة العربية). وهما الشهادتان الوحيدتان اللتان تمنحان في الجزائر، أما شهادة الليسانس في الآداب فلا تمنح إلا في فرنسا، إلى أن تكونت كلية الآداب وجامعة الجزائر سنة 1959. وفي سنة 1849 أيضا وقعت دراسة شاملة لموضوع العربية والفرنسية في الجزائر على أثر الاهتمام الخاص الذي ظهر من تقرير (بارو F.Barot) الشهير. لقد عينت وزارة التعليم والأديان في الحكومة الفرنسية لجنة ذات مستوى عال برئاسة الجنرال Bedeau الذي سبق له العمل في وهران وقسنطينة. ومن أعضائها المستشرق بيرسونال من الكوليج دي فرانس، والدكتور بيرون Perron مدير مدرسة الطب بمصر (¬1) وفيرناندان بارو الذي اختير مقررا لهذه اللجنة. كان أمام اللجنة نقطتان: كيفية تدريس العربية للفرنسيين وكيفية تدريس الفرنسية للجزائريين. وإذا شئت مشكل التعليم الاندماجي في الجزائر. ولاحظت اللجنة أن الحلقات لم تؤد مهمتها المرجوة أيضا. وأنه لا بد من تطويرها، وكذلك رأت ضرورة العمل على نشر الفرنسية بين الجزائريين باعتبار ذلك عملا مستعجلا لمساعدة عمليات الاستعمار (أي الاستيطان ومصادرة الأراضي واستثمارها لصالح فرنسا)، وضرورة اتباع الوسائل الآتية وهي التهدئة أي القضاء على جيوب المقاومة، وجلب الجزائريين إلى الجانب الفرنسي وتحقيق الاندماج. ونظرت اللجنة إلى دراسة اللغتين على أنه وسيلة لتسهيل الاتصال بين الجنسين: العربي والفرنسي. أما بالنسبة لتعليم الفرنسية للأهالي فسيظهر أثره في المدارس الابتدائية المسماة بالعربية - الفرنسية. وأما بالنسبة لحلقات اللغة العربية الموجهة ¬

_ (¬1) سيأتي الحديث عنه بعد قليل.

أساسا لتعليم الفرنسيين، فاللجنة لاحظت أن هناك أربعة دروس: اثنان بالعاصمة وواحد بقسنطينة والرابع في وهران، وأن درسي العاصمة أحدهما لتلاميذ الثانوية (كوليج الجزائر - الليسيه) وكان يحضره حوالي مائة تلميذ منقسمين على ثلاثة أقسام بمعدل حصتين في الأسبوع. أما الدرس الثاني فهو مفتوح للجميع ويتولاه برينييه. وعدد حضوره غير مضبوط. ففي بداية السنة يكون التلاميذ حوالي مائة ثم لا تأتي نهاية السنة حتى يكون العدد بين 15 و 20 فقط. وكان برينييه يعقد حوالي ستة لقاءات أسبوعيا، ثلاثة منها للتدريب الشفوي والنطق والقراءة، والرابعة للنحو والإملاء والأسلوب، والخامسة للأدب وشرح النصوص الأدبية والعلمية، والأخيرة لترجمة الرسائل والعقود والكتابات العادية التي سيواجهها المتخرجون في الحياة اليومية وأيضا في كتب التراث العربي والإسلامي. وعندما كانت اللجنة (لجنة بيدو) مجتمعة لم يكن قد مر على فتح حلقات العربية في قسنطينة ووهران إلا حوالي سنتين، لذلك فمن الصعب تقييم التجربة هناك. وكان شيربونو هو المتولي لحلقة قسنطينة منذ 1847 إذ افتتح درسه في فيفري من هذه السنة. وكان عدد تلاميذه حوالي خمسة عشر. وكان يعلم مبادئ الكتابة والقراءة العربية، أما شرحه للنصوص فيسير فيه على الطريقة الفرنسية الكلاسيكية، وكذلك كان يعلم قواعد النحو العربي، ويحلل أعمال المؤلفين، ولا يختار منهم إلا أصحاب الأسلوب المعتاد والقصص وغيرها مما هو قريب من لغة الحياة اليومية الوظيفية. إن هذا الدرس الموجه إلى عدد قليل من المتعلمين الفرنسيين، كان يأخذ طابع التعليم الفرنسي العالي. ومن أجل ذلك كانت دروس اللغة العربية في هذا المستوى مصنفة عندهم في التعليم العالي، كما لاحظنا في البداية. ومن جهة أخرى فإن شيربونو قد نجح، حسب كور، في جلب عدد من الأهالي إلى درسه باللغة الفرنسية، وذلك باستعمال جهوده الشخصية وطريقته، وحصل من ذلك على نتائج طيبة. ولا نجد هذه المحاولة قد وقعت على يد برينييه في الجزائر. فلا نعلم أنه عقد درسا بالفرنسية لأهل الجزائر، عامتهم أو

خاصتهم. أما مسؤول حلقة اللغة العربية في وهران فقد كان هو السيد (هادمار)، وقد بدأها في شهر أبريل 1847. ولكن لم يسجل فيها من التلاميذ سوى حوالي خمسين من أبناء الجنود المعسكرين في مدينة وهران. وكان يلتقي بهم ثلاث مرات في الأسبوع بمعدل ساعة في كل لقاء. هذا عن درس العربية للفرنسيين، أما عن درس الفرنسية للجزائريين فقد سجل فيه ستة، منهم المفتي والإمام وبعض أبناء الشيوخ أو خوجات المكاتب العربية. ويبدو أن بعض الموظفين المذكورين قد سجلوا أنفسهم خوفا أو طمعا فقط. هذا عن الواقع وسير الدروس. أما عن اقتراحات اللجنة، فقد رأت أن الدروس العربية في حاجة إلى إعادة تنظيم وتوسيع ودعم. واقترحت أيضا أن يكون درس العربية ساعة في كل مرة. وعبرت عن رغبتها في فتح حلقات أخرى في مدن مثل تلمسان وسكيكدة وعنابة والبليدة، لتكون العربية متوفرة على أوسع نطاق للراغبين فيها من الفرنسيين. وليس من الصعب في نظر اللجنة العثور على أربعة أساتذة أكفاء قادرين على تعليم العربية في الجزائر في هذه المراكز الجديدة. غير أن اللجنة لاحظت أن نتيجة الدروس كادت تكون صفرا، رغم حماس المدرسين ومؤهلاتهم. ولذلك اقترحت بعض التشجيعات للأساتذة وفتح المجال للتلاميذ مثل جعل التوظيف المدني مشروطا بإتقان اللغة العربية. أما عن تعليم الفرنسية للجزائريين، وهي النقطة الثانية في جدول أعمال اللجنة، فقد أوصت بعدم التنازل عن تعليمها واشتراطها لأنها (لغة سيادة)، فالتمسك بها ضروري لأن الجزائريين يستمعون من خلالها إلى أحكام القضاء المدني والجنائي، ثم إن كل الاتصالات الرسمية ستكون بها عاجلا أو آجلا، وسيتم بها تحرير كل الوثائق العامة. ومن جهة أخرى فإن الفرنسيين قادرون على جلب الجزائريين نحوهم وعلى دمجهم فيهم (وفرنستهم)، ولكن في حدود عاداتهم ودينهم (؟). ورغم هذا العرض والنقد لتجربة حلقات اللغة العربية من قبل لجنة

مدخل إلى التعليم المزدوج

1849 فإن توصياتها لم تؤد إلى مس هذه الحلقات ولم يحدث جديد بشأنها. وكان برينييه قد توقف فترة سنة 1850 عن الدروس لمرضه، وعندما رجع سنة 1851 جعل درسه الساعة 11.30 في كل مرة. لكن الجديد في الموضوع، ولعله من وحي دراسة اللجنة، هو إنشاء جوائز سنوية لمن يعرف اللغة العربية (جائزة أولى قيمتها 400 فرنك، وجائزة ثانية قيمتها 200 فرنك) بعد امتحان ومسابقة تقوم على الترجمة الشفوية بالفرنسية والعربية وكتابة رسالة باللغة العربية، والنقل من الفرنسية إلى العربية الخ. أما الجديد الثاني في هذا المجال فهو إعلان وزارة الحربية التي تقع الجزائر تحت طائلتها، عن تفضيلها في التوظيف المدني لمتقني اللغة العربية، وكان ذلك سنة 1853 (¬1). هذا هو نمط التعليم الذي تسميه الوثائق الفرنسية عاليا، والمختص بتوصيل اللغة العربية إلى عدد كبير من الأوروبيين في الجزائر. وقد تواصل هذا النوع من التعليم إلى عقد السبعينات. وتطور عبر السنين على أيدي مستشرقين آخرين تولوا كلية الآداب والمدارس الرسمية الثلاث. وهؤلاء هم الذين كانوا قد أضافوا أيضا حلقة اللغة البربرية، وتبادلوا الأيدي بين الجزائر وفرنسا على حلقات العربية والبربرية. وستتكاتف جهود أصحاب حلقات اللغة العربية والمدارس الحكومية الثلاث ومدرسة الآداب العليا (ثم كلية الآداب) ثم المعاهد المتخصصة، على خدمة المصالح الفرنسية العليا، أي خدمة الاستشراق والاستعمار. وسنعالج هذه النقطة في فصل الاستشراق. مدخل إلى التعليم المزدوج نتناول الآن التعليم العربي - الفرنسي أو المزدوج، وهو بيت القصيد من هذا الفصل. والمقصود به ذلك النوع من التعليم الموجه إلى الجزائريين. ¬

_ (¬1) اعتمدنا على كور، مرجع سابق، ص 45 - 53 بخصوص تقرير لجنة بيدو - بارو. وسترى أن هذه اللجنة هي التي أوصت أيضا بإنشاء المدارس الحكومية الثلاث سنة 1850.

وهو على أنواع، منه المدرسة الحضرية - الفرنسية، فالمدرسة العربية - الفرنسية، ثم المدرسة الخاصة بالأهالي. وكلها كانت مدارس في مستوى التعليم الابتدائي. ثم هناك المدارس الرسمية الثلاث التي ابتدأت عربية محض ثم أصبحت مزدوجة. وهي مدارس كانت تخرج القضاة والمترجمين والمدرسين. وكان مستواها هو التعليم المتوسط والثانوي، رغم أن بعض الاستعمالات الفرنسية تعطيها صفة التعليم العالي أيضا، وسنتناولها على حدة. وأخيرا هناك المدرسة السلطانية، كما تسميها (المبشر) أو الكوليج الامبريالي (الامبراطوري) كما هو أصل التسمية الفرنسية، وهو معهد (كوليج) أسس للدراسة المزدوجة والعالية في الجزائر بإدارة فرنسية. وسنتناوله على حدة أيضا. إن هناك قدرا مشتركا بين هذه الأصناف الثلاثة من مؤسسات التعليم، وهو تنفيذ مخططات الحكومة الفرنسية في السيطرة على الجزائر ودمج شعبها إذا أمكن، في الحضارة الفرنسية. ومهما اختلفت التسمية ومهما تدخلت اللجان والقرارات فإن الهدف من التعليم في هذه المؤسسات هو خدمة المدرسة الاستعمارية وإبعاد الجزائريين عن أصولهم وتراثهم وسلخهم عن ماضيهم وإدخالهم في بوتقة الفرنسة بالذبذبة في البداية والجاذبية في النهاية. إن ما قيل وكتب عن مقاطعة الجزائريين في البداية للمدرسة الفرنسية، ومقاومتها بكل الوسائل هو حقيقة لا يتنازع فيها الباحثون اليوم. ولكن المقاطعة والمقاومة لم تكونا للمدرسة والتعليم بل للفرنسة وفرض برامج لا يرضون عنها لأبنائهم، لأنهم تأكدوا من التصريحات والتصرفات الفرنسية منذ اللحظة الأولى، إن الهدف من الاحتلال هو مسخ الجزائريين وسلخهم عن دينهم وعن تراثهم. إن السلطة التي استطاعت أن تنصر المسجد بجعله كنيسة لا يعجزها أن تنصر الأطفال الذين يأتون إلى مدرستها. ثم إن السلطة التي

هدمت المدارس القرآنية والزوايا كزاوية الجامع الكبير وزاوية القشاش، لا تتوانى في هدم آثار الدين واللغة في قلوب وألسنة الأطفال. ولذلك كان موقف الجزائريين الأولين بطوليا وداخلا في برنامج المقاومة. وهم لم يبقوا مكتوفي الأيدي إزاء تعليم أبنائهم، الذي هو واجب مقدس، بل تصرفوا بما في طاقتهم، فعلموهم في بيوتهم وفي المكاتب (الكتاتيب) الباقية، وأرسلوا بهم إلى زوايا المرابطين في رؤوس الجبال والمناطق النائية، وهاجروا بهم إلى المغرب وتونس وغيرهما، وطالبوا السلطات الفرنسية أن تعلمهم بلغتهم تعاليم دينهم، ثم أصبحوا يطلبون الرخص بفتح المدارس الابتدائية لأبنائهم وتحت إدارتهم، فكانت مدرسة الشيخ محمد أطفيش في ميزاب ومدرسة عباس بن حمانة في تبسة، ثم مدرسة السلام والشبيبة بالعاصمة، وأخيرا جاءت مدرسة التربية والتعليم في قسنطينة، ومدارس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في مختلف أنحاء القطر. وكانت هذه المدارس تنافس المدرسة الفرنسية والمزدوجة، فكان الطفل يجمع بين التعليم الوطني والتعليم الفرنسي بطريقة تثير الدهشة والإعجاب إذ كان يختلس له معلمو المدارس العربية الأوقات التي لا يكون فيها في المدرسة الفرنسية، فيعلمونه فيها. بالإضافة إلى أن هناك من تفرغ منهم للتعليم العربي فقط، كما أن الزوايا من جهتها كانت تقوم بمهمة كبيرة في مسيرة المقاومة. وهناك من رحل للتعلم خارج الجزائر. لقد مرت المدارس المزدوجة بعدة مراحل يمكننا تلخيصها فيما يلي: المرحلة الأولى من 1830 إلى 1850 والمرحلة الثانية من هذا التاريخ إلى 1870، والمرحلة الثالثة من هذا التاريخ إلى إصلاحات 1892، والمرحلة الرابعة منذ هذا التاريخ. في المرحلة الأولى كان الإهمال المطلق لتعليم الجزائريين هو الظاهرة العامة رغم التظاهر بالقول إن الجزائريين هم الذين لم يهتموا بالمدرسة الفرنسية ولم يأتوا إليها. والرأي الصحيح هو أن هناك مقاومة من جانب

الجزائريين وحربا عوانا من جانب الفرنسيين (وقد تقدم ذلك في تقريرهم الرسمي). والحرب ليست في الميدان العسكري والاقتصادي فقط، بل كانت في الميدان الحضاري (الديني واللغوي) كما عرفنا في فصل المعالم الإسلامية. فقد صودرت البنايات الدينية التي كانت للعبادة والتعليم، وضمت أوقافها، واستخدمت أموالها في الحرب بدل التعليم، بل في فرض الجهل بالقوة. وبينما أسس الفرنسيون مدارس خاصة ثم عمومية لأبنائهم، كما عرفنا، لم يفتحوا مدرسة للجزائريين إلا سنة 1836. وهي مدرسة لم يبذلوا فيها أي جهد لأن المبنى كان قائما من قبل، وقد أطلقوا عليها اسم المدرسة الحضرية - الفرنسية، ولهذا الاسم ينسبونها إلى الحضر، سكان المدينة أو أهل المدر، كما يقول ابن خلدون، لأنها موجهة في نظرهم إلى أبناء فئة التجار الباقين والموظفين وأهل الحرف والصنائع والمتعلمين. والمعروف أن مدينة الجزائر عندئذ (1836) قد جلا عنها أهلها من علماء وأغنياء وسياسيين بالنفي والتهجير أو بالخوف من البقاء تحت حكم الأجنبي وانضموا للمقاومة تحت لواء الأمير عبد القادر، ففي هذه الفترة وقع نفي ابن العنابي وحمدان خوجة، ووقع التحاق علماء أمثال قدور بن رويلة وعلي بن الحفاف بالأمير عبد القادر، وسجن إبراهيم بن مصطفى باشا وغيره. فمن هم الحضر الذين أسس الفرنسيون المدرسة لأبنائهم؟ وقبل أن ندخل في تفاصيل هذه المرحلة، نقول إنه ابتداء من حوالي 1846 أنشأ الفرنسيون لجنة من خبرائهم لدراسة الوضع الديني واللغوي في الجزائر، ومصير التعليم الذي تشرف عليه نظريا وزارة الحربية ويطبق الحاكم العام تعليماتها فيه. وتقول التقارير إن الفرنسيين استمروا أربع سنوات في دراسة الوضع التعليمي في الجزائر، وكتبوا عن الزوايا وعن الكتاتيب القرآنية وعن دروس المساجد وعلاقة ذلك بالأوقاف، ومعاناة هذا التعليم نتيجة الاستيلاء على الأوقاف وأموالها. وكيف كان التعليم في كل مدينة وفي كل منطقة ريفية سواء احتلت أو ما زالت، وكذلك دراسة وضع حلقات اللغة العربية التي مر ذكرها، وحال كوليج الجزائر الذي تحول إلى ثانوية (وهو غير

الكوليج الإمبريالي). وبعد أن انتهت هذه اللجنة من أعمالها وقدمت توصياتها، ظلت الحكومة الفرنسية سنة أخرى يقال إنها كانت فترة تأمل، وهي في الحقيقة فترة إهمال للتعليم في الجزائر وانشغال بغيره. إذ في هذه الفترة (1848 - 1850) كانت الجمهورية الثانية قد وضعت بندا في دستورها يعتبر الجزائر جزءا من فرنسا. وكانت الجمهورية تعيش صراعها مع الملكيين والرجعيين وأنصار نابليون الأول. فقد هجرت عددا كبيرا من هؤلاء السياسيين والمغامرين إلى الجزائر أو بالأحرى نفتهم إليها وفرضت عليهم الإقامة بها. وفي هذه الأثناء زار الجزائر الكسيس دي طوكفيل عدة مرات، وقدم أيضا تقاريره وآراءه، وكان نائبا في برلمان الجمهورية، وسنعرض إلى آرائه فيما يتعلق بالتعليم الفرنسي والتعليم الإسلامي. فالحكومة الفرنسية لم تكن في لحظة تأمل عندئذ وإنما في لحظة انشغال تام عن مصلحة الجزائريين، فإذا احتج واحد من هؤلاء على وضع البلاد حكم عليه بأنه متعصب ومتوحش وضد الحضارة والتقدم. ولنذكر أيضا أن سنة 1849 - 1850، هي سنة ثورة الزعاطشة وظهور الشريف بوبغلة في زواوة والشريف محمد في ورقلة والأغواط والصحراء الشرقية. وابتداء من 1851 صدرت بعض القرارات حول تعليم الجزائريين. ولكن كيف؟ أولا، هناك قرار بإنشاء عدة مدارس تحت عنوان جديد، وهو (المدرسة العربية - الفرنسية). وقد استحدثت فعلا بعض هذه المدارس في عدة مدن، سنذكرها، كما بدأت المدارس الشرعية الرسمية الثلاث، تؤدي مهمتها، وهي مدرسة المدية (ثم العاصمة)، ومدرسة قسنطينة، ومدرسة تلمسان. وكانت في أول أمرها تحت إدارة جزائرية وتلاميذها جزائريون وبرنامجها عربي - إسلامي، هدفه سد الفراغ الذي حدث بغلق المساجد والزوايا أو هدمها، وكان هدف المدارس الثلاث أيضا هو توفير موظفي القضاء والديانة للسلطات الفرنسية. وبعد حوالي سبع سنوات (1857) أنشأت هذه السلطات مدرسة في العاصمة ثم أخرى في قسنطينة (1867) أطلق عليها اسم الكوليج الإمبريالي ولنسمها المدرسة السلطانية - كما سمتها

المبشر. وهذه المدرسة بفرعيها قد استمرت إلى 1870. ولما كان اسمها مرتبطا (بفكرة المملكة العربية) وباسم نابليون الثالث، فإن الجمهورية الثالثة التي قامت بعد حرب 1870 سارعت إلى إلغاء المدرسة السلطانية بفرعيها. كما سارعت إلى إلغاء المدارس العربية - الفرنسية الابتدائية التي نحن بصددها، ولم تبق إلا على المدارس الشرعية الثلاث المذكورة، على أنها ستتدخل أيضا في (تنظيمها) ابتداء من سنة 1875 - 1876، كما سنرى. وبذلك دخلنا في الحقيقة في المرحلة الثالثة التي شهدت عدة تغييرات في مجرى التعليم. فهي مرحلة ألغت بعض مؤسسات التعليم تماما، وأعادت تنظيم بعضه لصالح المؤسسة الاستعمارية التي جاءت الجمهورية الثالثة متحمسة لها إلى أقصى الحدود، ومن جهة أخرى فهي مرحلة جاءت بتغييرات هامة لصالح التعليم، بين 1883 و 1892، فهناك عدة إجراءات اتخذت على يد جول فيري J.Ferry الذي كان وزيرا للتعليم عندئذ، وزملائه مثل لوبورجوا. وهذه التغييرات كانت في الحقيقة نتيجة لتغييرات مماثلة حدثت في فرنسا نفسها، حين أعيد النظر في المنظومة التعليمية التي اتهمت بأنها كانت وراء هزيمة فرنسا سنة 1870. وهكذا تأثر الفرنسيون بالمنظومة الألمانية. وقد قرروا إجبارية التعليم في فرنسا 1873 وكذلك في الجزائر بالنسبة للأوروبيين (¬1). كما قرروا إعادة تنظيم مدرسة ترشيح المعلمين، وغير ذلك من الإجراءات. ولكن أكبر خطوة اتخذت في هذه المرحلة هي زيارة لجنة مجلس الشيوخ للجزائر برئاسة جول فيري نفسه. وكان من أعضائها كومبس الذي تولى فيها قضية التعليم. ونتيجة للتحقيق الطويل الذي جرى على يد اللجنة المذكورة والاستماع إلى شكاوى الجزائريين ومطالبتهم الملحة بتعليم أبنائهم بلغتهم العربية ودينهم، صدرت التوصيات بوضع برنامج واسع للتعليم والرؤية جديدة للعلاقات الجزائرية - الفرنسية. ¬

_ (¬1) سبق القول إن إجبارية التعليم بالنسبة للجزائريين لم تطبق إلا جزئيا على بعض البلديات في زواوة، ابتداء من سنة 1883.

المدرسة الابتدائية المزدوجة

وبذلك نصل إلى المرحلة الرابعة التي استمرت منذ 1892، مرورا بعهد شارل جونار (سيما فترته الثانية 1903 - 1913) وبفترة الحرب العالمية الأولى التي كاد يتوقف فيها التعليم تماما. ثم الانطلاقة الكبيرة للتعليم العربي الإسلامي (الأصلي) من العشرينات حين لم يعد للإدارة أي مجال سوى أن تلاحق هذا التعليم وتنافسه. وهو تعليم قام على تبرعات الشعب وليس من ميزانية الدولة الفرنسية. أما التعليم الفرنسي خلال هذه المرحلة التي سميناها الرابعة فقد أصبح من ميزانية الدولة التي طالما تغيبت في الماضي عن أداء واجبها. ولا تتصور أن إحداث برنامج لتعليم الجزائريين منذ 1892 معناه رصد الأموال الكافية وبناء المدارس اللازمة واستيعاب كل التلاميذ في سن التمدرس، وقطع التلاميذ لكل المراحل التعليمية. لقد عرفنا أنه في سنة 1940 لم يكن في جامعة الجزائر سوى 89 طالبا. وكان عدد التلاميذ الجزائريين في الثانويات الفرنسية لا يتجاوز بضع مئات. إننا هنا نشير فقط إلى أن التعليم في الجزائر قد دخل مرحلة لا عهد له بها، وهي تتمثل في احتضان الدولة له، تحت ضغط (قوة الأشياء)، كما قال لوشاتلييه، لأن العالم الإسلامي كله كان يتحرك تحت أقدام المستعمرين الهولدنيين والبريطانيين والفرنسيين، الخ. ولأن هذه القوى الاستعمارية قد أخذت تغير من سياستها وفلسفتها إزاء مستعمراتها كما قال مارسيه (¬1). المدرسة الابتدائية المزدوجة 1 - ولنبدأ الآن بالمرحلة الأولى، مرحلة الإهمال واللامبالاة الفرنسية من تعليم الجزائريين، وهي ما بين 1830 إلى 1850. لقد قضى الفرنسيون على عشرات المدارس الابتدائية التي كانت بمدينة الجزائر وغيرها غداة ¬

_ (¬1) هو جورج مارسيه الذي قال سنة 1908 أنه منذ حوالي عشرين سنة (حوالي 1888) اهتمت كل القوى الاستعمارية الأوروبية بقضية التعليم في المستعمرات. وقد تولى مارسيه وظائف هامة في ميدان التعليم والتأليف عندئذ. انظر بحثه عن التعليم في الجزائر، في (مؤتمر شمال إفريقية) لسنة 1908، ج 2، باريس، ص 181.

الاحتلال (¬1)، عندما صادروا أملاك الأوقاف، ثم أرادوا حمل الجزائريين على إرسال أولادهم إلى المدرسة الفرنسية المحض ليخلقوا جيلا جديدا يبدأ في التفاهم معهم باللغة الفرنسية. ومع ذلك قالوا عن الجزائريين الذين قاطعوا هذه المدرسة انهم متعصبون. ولنستمع إلى المتصرف المدني الفرنسي سنة 1832، وهو جنتي دي بوسيه الذي كان مسؤولا عن التعليم في الجزائر والمخطط للسياسة الفرنسية في هذا الميدان: (من المستعجل جدا أن نمكن الأهالي من لغتنا أكثر مما هو مستعجل أن نمكن أنفسنا من لغتهم. فالعربية لن تكون مفيدة لنا إلا من جهة علاقتنا مع الإفريقيين (يقصد الجزائريين)، أما اللغة الفرنسية فهي لا تبدأ علاقتهم معنا فقط، ولكنها بالنسبة إليهم هي المفتاح الذي به يدخلون بر الأمان، فهي التي تجعلهم يعرفون كتبنا، ويتعرفون على أساتذتنا، أي يكونون على اتصال بالعلم الفرنسي. ان تعلم العربية ليس وراءه سوى اللغة لذاتها، أما تعلم الفرنسية فوراءه كل المعارف الإنسانية وكل ما أنتجه التقدم العقلي عبر السنين) (¬2). وإذا كان في هذا الكلام بعض الحق بالنسبة لمدى التقدم الذي عليه الفرنسيون والتخلف الذي عليه الجزائريون في مستوى الحضارة المادية، فإنه كلام يحمل في نفس الوقت روح التعالي والتغطرس. ولو ترك الفرنسيون للجزائريين مدارسهم ثم أنشأوا هم المدارس الفرنسية إلى جانبها وأغروا الجزائريين بإظهار الفرق بين نوعين من التعليم لكانوا في الطريق الصحيح، ولكنهم جاؤوا بروح العداء لكل ما هو عربي وما هو إسلامي، وأرادوا القضاء على حضارة كاملة وإحلال حضارة أخرى غريبة محلها بروح ¬

_ (¬1) انظر فصل المعالم الإسلامية، وكذلك فصل التعليم العربي الإسلامي. (¬2) نقل ذلك عنه جان ميرانت في (كراسات الاحتفال المئوي)، ص 75. وعنوان كتاب دي بوسيه هو (المنشآت الفرنسية في إيالة الجزائر)، ط. 1839، وقد تولى دي بوسيه الوظيفة المذكورة في الجزائر بين 1832 و 1835. وعلى يديه نشأت نواة التعليم الفرنسي.

التعصب والعداء. فما كان من الجزائريين إلا الرفض والمقاومة والتمسك بحضارتهم، أي أنهم قابلوا التعصب بتعصب مثله وقوة التحدي بقوة مضادة لها. عندما بدأ الفرنسيون في إنشاء المدارس الابتدائية لأبنائهم في الجزائر لاحظوا أن اليهود قد أرسلوا أولادهم إليها بينما قاطعها المسلمون. وكان الارتباط بين الفرنسيين واليهود قد بدأ في عدة مجالات منذ لحظات الاحتلال الأولى. إذ قدم اليهود أنفسهم للفرنسيين على أنهم (الوسطاء) بينهم وبين المسلمين. فقد كانوا على علاقة قديمة مع الفرنسيين في مجال التجارة والترجمة والبنوك وغيرها. وبعد الاحتلال كان اليهود أكثر انفتاحا على العالم الأوروبي من المسلمين، فحاولوا أن يستفيدوا من الفراغ الذي حدث بعد هزيمة المسلمين عسكريا وسياسيا واقتصاديا. فلا غرابة عندئذ أن يتحالف الفرنسيون مع اليهود ضد المسلمين منذ البداية. وقد ظهر هذا التحالف بالخصوص في النواحي الروحية والتعليمية ثم تطور إلى أن تقرر التجنيس الجماعي لليهود في عهد كريميو والجمهورية الثالثة سنة 1870. أما المسلمون فلم يكن يعنيهم عندئذ التجنس ولا انتهاز الفرص ولا التحالف مع طرف ثالث من أوروبا، كما فعل اليهود. إن ما كان يهم المسلمين هو قضية وجودهم الحضاري وحفظ تراثهم واستقلال بلادهم، وهزيمة عدوهم الذي جاء لإخراجهم من أرضهم وديارهم ودينهم ولغتهم. لجأ الفرنسيون إلى إنشاء ما أسموه بالمدارس الخاصة، وأعطوها اسم (المدرسة الحضرية - الفرنسية) بالنسبة للمسلمين، والمدرسة الإسرائيلية - الفرنسية بالنسبة لليهود. وبينما أقبل أبناء اليهود على هذه المدارس لم يستجب لها المسلمون لأنهم رأوا فيها فخا منصوبا لأطفالهم، كما وقعوا هم في فخ اتفاق 1830 الذي يعدهم بحرمة المساجد والأملاك والنساء فإذا كل ذلك الوعد أصبح في مهب الريح. شرع الفرنسيون ذلك لليهود سنة 1832 وللمسلمين سنة 1836. وكانت البداية في مدينة الجزائر. ويجب ألا يفهم من هذا أن الفرنسيين قد أنشأوا سلسلة من المدارس على هذا النحو أو أنهم

خططوا خطة تعليمية لرفع مستوى الجزائريين. إن التجربة كانت محدودة في المكان والزمان. وكان هدفها، كما صرحوا هم بذلك، هو نشر الفرنسية والفرنسة. يقول ميرانت نقلا عن دي بوسيه: (إن الهدف كان محو التعصب الديني والكراهية عن طريق التعليم بالفرنسية والحضارة والتقدم، وذلك لا يكون إلا بإحداث لغة مشتركة في الجيل الصاعد وتقريبه من الفرنسيين بتبنيه نفس الأفكار ونفس المصالح) (¬1). ترى، من المتعصب إذن؟ وكما قاطع المسلمون المدارس التي سميت خاصة، قاطعوا أيضا المدارس التي سميت بالودادية أو المشتركة mutuel) التي كانت موجهة لأبناء الفرنسيين في الأساس. وقد مر بنا أن بعض الجزائريين قد أرسلوا أولادهم إليها ثم سحبوهم، ربما تحت تأثير الرأي العام المسلم أو بعد أن تأكدوا من الخطر على أولادهم من التعليم في هذه المدارس سيما بعد أن وصف بأنه تعليم لائكي (¬2). وكان موقف الجزائريين واحدا بهذا الصدد سواء في الجزائر أو عنابة أو وهران، وهي المدن التي احتلت عندئذ (أي إلى 1836)، وأنشئت فيها المدارس المشتركة الفرنسية. وإذا كان برنامج المدارس المشتركة فرنسيا، فإن ما سمي بالمدارس الخاصة كان عربيا عدا اللغة الفرنسية وما يتصل بها من تأثيرات حضارية. فالتلاميذ في هذه المدارس الخاصة يتلقون دروسا في مبادئ القراءة والكتابة بالعربية على يد معلم (أهلي)، ولكنهم كانوا يتلقون أربع ساعات في اليوم لغة فرنسية على يد معلم فرنسي. وقد اشتكى الأولياء من أن المعلم (الأهلي) الذي تعاون مع الفرنسيين في هذا المجال، لم يكن يتوفر على شروط المعلم والمؤدب، بل كان عربيدا وغير متخلق، مما زادهم نفورا من هذه المدرسة الفرنسية الخاصة. إن هذه التجربة لم تكن ناجحة إذن، وهي الخطوة الأولى فيما سيصبح ¬

_ (¬1) جان ميرانت، مرجع سابق، 77. (¬2) كولونا (المعلمون الجزائريون). مرجع سابق.

التعليم الإسلامي - الفرنسي والذي استمر إلى عهد الاستقلال. وفي مصادر سنة 1837 أن عدد الأطفال المترددين على هذا النوع من المدارس كان لا يتجاوز التسعين تلميذا، وكانوا غير مواظبين على الحضور. فقد كانوا يحضرون أو يتغيبون على هواهم. ولكن المصدر يقول إن المعارضة آخذة في البرود وأن روح (التسامح) آخذة في الظهور، وأن الأطفال المسلمين أصبحوا يقلدون الأطفال الفرنسيين في الألعاب ونحو ذلك. إنها (العدوى) كما يقول هذا المصدر (¬1). وبعد عشر سنوات من هذه التجربة كانت النتيجة متوقعة. فهي غير مبنية على رغبة الجزائريين وإنما فرضتها روح الغطرسة والتعالي إن لم نقل التعصب والكراهية من جانب الطرف الفرنسي. فإحصاء سنة 1841 أثبت وجود 260 تلميذا فقط في مدرسة الجزائر (الحضرية - الفرنسية)، وهي المدرسة الوحيدة، وقد بقيت مدة طويلة على ذلك. أما التلاميذ الأوروبيون والإسرائيليون الذين كانوا يدرسون في المدارس المشتركة فقد وصل عددهم إلى 1، 945 من بينهم 79 تلميذا جزائريا. فجملة المتعلمين الجزائريين في المدارس الابتدائية الفرنسية هو 339 تلميذا وذلك بعد أكثر من عشر سنوات من الاحتلال (¬2). فأين هي نتائج الرسالة الحضارية الفرنسية؟ ويقول السيد إيمانويل بوجيجا وهو يصف هذه المرحلة من التعليم: إن فرنسا لاحظت أن المسلمين جاهلون، وكانت هي منشغلة بالحرب والاحتلال، وإن المسلمين في المدن لم يلبوا نداء المدرسة الفرنسية (¬3). ولكن لماذا حرمت فرنسا الجزائريين من مدارسهم بهدمها ومصادرة ¬

_ (¬1) السجل (طابلو)، سنة 1838، 252. (¬2) السجل (طابلو)، سنة 1841، 93. وعدد التلاميذ الجزائريين في المدرسة المشتركة بعنابة كان 75 وفي وهران 8 فقط. وبعد ثلاث سنوات (إحصاء 1844) وصل عدد أطفال المدرسة الحضرية - الفرنسية في الجزائر إلى 330 تلميذا ولا شيء في وهران أو عنابة. انظر نفس المصدر، سنة 1834 - 1844، ص 70. (¬3) إيمانويل بوجيجا، (تعليم الأهالي)، SGAAN (1938) عدد 153 - 154، 52.

أموالها ثم تخيرهم بين الدخول إلى مدرستها أو الجهل المطبق؟ وقد علق جان ميرانت عن تجربة التعليم المشترك فقال إن فرنسا أرادت به الجزائريين قبل كل شيء لأنه (الوسيلة أكثر تأكدا في الانتصار عليهم لمصلحة فرنسا والحضارة). وقال ميرانت أيضا إن لعب الأطفال العرب والفرنسيين معا منذ السن المبكرة وممارسة الدراسة معهم سيجعل روح التعصب والكراهية والأحكام المسبقة الدينية تختفي عند الأطفال الحضر. لقد كانت الحكومة الفرنسية تعمل على ربط الجيل الصاعد (الجزائري والفرنسي) بلغة واحدة مشتركة، وتقريب هذا الجيل إلى الفرنسيين بالاتفاق على نفس الأفكار ونفس المصالح. ولكن الحضر غادروا المقاعد الدراسية) (¬1). وما دام الهدف هكذا واضحا فلماذا يلام الجزائريون على ترك هذه المقاعد التي خطط لها أن تكون وسيلة لقطع الصلة بين الأطفال المسلمين ودينهم وماضيهم ولغتهم وربطهم بالأفكار والمصالح الفرنسية؟ فإذا كان الفرنسيون أذكياء وقوميين جدا فقد ظهر لهم أن الجزائريين كانوا لا يقلون ذكاء وقومية واعتزازا بوطنهم وهويتهم. بقيت مدرسة الجزائر الحضرية - الفرنسية (الخاصة) إذن هي الوحيدة مدة طويلة. وحين طلب مفتش التعليم سنة 1839 فتح مدرسة حضرية مشابهة في عنابة ووهران لوجود أطفال في سن المدرسة ضائعين، كان الجواب هو أن المحلات غير متوفرة. وهو ادعاء باطل إذ استولى الفرنسيون في عنابة ووهران على أملاك المسلمين ومساجدهم ومدارسهم، وكان من الممكن فتح مدرسة في أحد هذه الأماكن، لكن الحقيقة كشف عنها وزير ¬

_ (¬1) جان ميرانت (كراسات الاحتفال المئوي)، 77، وقد نقل ذلك عن دي بوسيه، الجزء الثاني، ص 204. وقد جاء في دي بوسيه أن التجربة في وهران وعنابة كانت غير مشجعة أيضا. وعلق ميرانت على ذلك بقوله إنه من بين 66 تلميذا في وهران سنة 1833 هناك 5 فقط من الحضر، وفي عنابة من بين 32 هناك 12 تلميذا من الحضر سنة 1834. والحديث هنا بالطبع على المدارس المشتركة (الودادية) وليس عن الحضرية - الفرنسية أو الخاصة.

الحربية الفرنسي حين كتب إلى الحاكم العام المارشال فاليه Vallé يخبره بأن الهدف ليس ترك الأطفال الجزائريين يتعلمون على طريقتهم وفي مدارسهم، ولكن تحويلهم إلى دعاة للحضارة الفرنسية عن طريق آبائهم. وكان في ذهن الوزير مشروع إنشاء مدرسة في فرنسا تستقبل أبناء الأعيان الجزائريين، وبعد غسل مخهم هناك واتصالهم بالأطفال الفرنسيين والحياة الفرنسية يرجعون إلى ذويهم ليؤثروا فيهم. يقول الوزير في مراسلته بتاريخ 20 ديسمبر 1837 (على أثر احتلال قسنطينة): إن هدف الحكومة هو جعل العرب يقدرون الفوائد التي تنجر إليهم من تعلم حضارتنا، وذلك بجمع عدد من الفتيان العرب وإرسالهم إما إلى الجزائر العاصمة وإما إلى باريس نفسها. إن هؤلاء سيرجعون بعد الحصول على المعارف من مدارسنا، إلى صفوف أهاليهم وإلى السكان عموما، ويقصون عليهم بحضورهم الشخصي، ما عرفوه من الأنوار العلمية والعجائب، مما سيكون له مفعول كبير لصالح قضيتنا. وتذكر المصادر الفرنسية أيضا أن الوزير الفرنسي كتب كذلك إلى الأمير عبد القادر بهذه الفكرة أثناء صلح التافنة، وهي إرسال الفتيان العرب إلى فرنسا أو إلى عاصمة الجزائر. وكانت المناطق الغربية والوسطى من البلاد تحت حكم الأمير. ولكن الأمير، كما قالوا، لم يرد على هذا العرض لأنه كان متخوفا من عواقبه (¬1). وكان الفرنسيون قد أحدثوا في باريس معهدا خصا سموه (الكوليج العربي) سنة 1839، الهدف منه استقبال الفتيان العرب وصهرهم في البوتقة الفرنسية، ثم إرجاعهم إلى الجزائر ليقوموا بدور المبشرين بالحضارة الفرنسية تمهيدا للسيطرة والاستعمار، حسب مخطط الوزير المذكور. ولهذا المعهد وظيفتان الأولى إكرام الأعيان العرب (الجزائريين) الذين يزورون فرنسا زيارات منظمة، وحسن استقبالهم، وتطريتهم. والثانية تعليم مجموعة من الفتيان الجزائريين الذين يوضعون تحت إشراف ورقابة (رجال ثقاة وتقاة منهم) على أن يتلقوا تعليما على أيدي معلمين فرنسيين. كما ألحقت بهذا ¬

_ (¬1) ميرانت، مرجع سابق (كراسات)، ص 78.

المعهد مدرسة للترجمة من العربية الدارجة (الجزائرية)، ويدخلها أيضا شبان فرنسيون، وبذلك يصبح المعهد، كما قيل، مشتلة للمترجمين المقدر لهم العمل بالجزائر. ويبدو أن هذا المشروع طموح، وكان يهدف إلى التعليم والدعاية معا، وبدل إنشاء المدارس للجزائريين في بلادهم أراد الفرنسيون نقل بعض الأطفال إلى باريس ليتعلموا فيها ويتأثروا بها، ثم يرجعون إلى الجزائر كدعاة وأبواق تسبح بحمد فرنسا وشكرها. ولكن الأعيان الجزائريين رفضوا هذا العرض السخي الذي قيل إنه يتماشى تماما مع الكرم العربي المعهود، وربما كان الرفض راجعا إلى الخوف على الأطفال. ولذلك فشل المشروع في مهده. وقد فكر الفرنسيون في إنشاء قسم خاص ملحق (بكوليج الجزائر) يدخله الأطفال الجزائريون ويتلقون فيه تعليما متميزا عن الأطفال الفرنسيين، ولكنه تعليم يضمن الاتصال واللعب بين الأطفال وبث روح (العدوى) بينهم (¬1). وظل إهمال تعليم الجزائريين هو طابع السياسة الفرنسية في انتظار انقراض الجيل المعاند أو المحافظ وظهور جيل آخر على رماد الحروب. وفي منتصف الأربعينات تكونت اللجنة التي سبقت الإشارة إليها والتي كانت برئاسة الجنرال بيدو، ودام عمل اللجنة خمس سنوات، كما عرفنا. وفي 14 يوليو سنة 1850 صدر مرسوم بإنشاء ست مدارس في الجزائر، تسمى المدارس العربية - الفرنسية. وبالإضافة إلى مدرسة الجزائر السابقة (الحضرية) أنشئت أخريات في وهران وقسنطينة وعنابة والبليدة ومستغانم، برنامجها هو تعليم الفرنسية والعربية للأطفال الجزائريين. وتلك هي بداية المرحلة الثانية من مسيرة التعليم العربي - الفرنسي. ¬

_ (¬1) السجل (طابلو)، سنة 1838، 115 - 116. وقد صدر مرسوم ملكي بإنشاء الكوليج العربي بباريس في مايو، 1839. ويقول بوجيجا إن هذا الكوليج لم ينطلق لرفض الأعيان إرسال أطفالهم إليه. ولكننا سنعرف أن محاولات أخرى جرت خلال الأربعينات سيما منذ 1843 عندما (خطف) الفرنسيون أطفال الأعيان والخلفاء الذين كانوا في زمالة الأمير وحملوهم كرها إلى باريس وعلموهم (بالقوة).

2 - لقد ترك المجال مفتوحا أمام الحاكم العام لينشئ مدارس مماثلة في مدن أخرى إذا رأى ذلك. وبين 1850 - 1870 لم تنشئ فرنسا سوى 34 مدرسة عربية - فرنسية (البعض يقول 36) فإذا كانت فرنسا تتعلل في المرحلة الأولى بمقاومة الجزائريين وبالحروب، فإنها في المرحلة الثانية لا تجد ما تتعلل به، سيما وأن عهد الحروب قد خف ودخل عهد التهدئة، كما يسمونه. وإن مقاومة الجزائريين أخذت تضعف بعد تشريدهم وشعورهم بالحاجة إلى التعلم على أثر القضاء على معالمهم الدينية والتعليمية القديمة. وقد وصل عدد هذه المدارس سنة 1864 إلى ثماني عشرة مدرسة فقط يتردد عليها حوالي 700 تلميذ (¬1). وقد قلنا إن عدد المدارس قد وصل سنة 1870 إلى 34 مدرسة، تلاميذها حوالي 1، 155 هذا في المناطق المدنية، أما في المناطق العسكرية فقد أنشأ الفرنسيون خمس مدارس فقط (¬2). ولنتذكر أن معظم البلاد كانت ما تزال تتبع النظام العسكري. لكن يجب أن نعرف أن ما يتلقاه التلميذ الجزائري في هذه المدارس لا يعدو أن يكون من نوع غسيل المخ أيضا. فالتلميذ لا يتلقى حصيلة معرفية تؤهله لأي وظيفة في الحياة. فبعد أن يقضي عدة سنوات في هذه المدارس يخرج منها ويرجع إلى داره وإلى الشارع وقد نسي ما قرأه اللهم إلا بعض المقارنات بين العربية والفرنسية، وبين حياة الفرنسيين وأفكارهم (المتقدمة) وحياة الجزائريين وأفكارهم (المتخلفة)، وذلك هو بالضبط ما كان يريده مشرعو المدرسة العربية - الفرنسية. كان المعلمون غير متوفرين باللغتين، ولذلك كانوا يأتون بهم ممن هب ودب، من الجنود ومن لا حرفة لهم. وليس هناك مستوى مطلوب في المعلم أخلاقيا ولا علميا. وقد ظل الحال ¬

_ (¬1) ذكرت (المبشر) بتاريخ 3 يناير 1867، أن الحاكم العام قد أصدر قرارا لإنشاء مدرسة عربية - فرنسية في كل من مغنية وسيدي بلعباس. وقبل ذلك أنشئت مدارس مماثلة في بسكرة، ومليانة وايغيل علي، الخ. (¬2) ونلفت النظر هنا إلى أنه خلال المرحلة الثانية (1850 - 1870) أنشئت أيضا المدارس الثلاث والكوليج الإمبريالي.

كذلك إلى إنشاء المدرسة النورمالية أو ترشيح المعلمين. وكانت هذه المدارس مفتوحة للذكور والإناث ليتعلموا فيها مبادئ القراءة والكتابة في اللغتين. ولكن ما دامت الفرنسية هي لغة المستعمر ويسيطر على جو المدرسة الطابع الفرنسي، فإن التلاميذ كانوا يأخذون في الانسلاخ شيئا فشيئا عن مجتمعهم وماضيهم. وبالإضافة إلى ذلك فإن بقية المواد كان يتغلب عليها أيضا الطابع الفرنسي فتصبح العربية مجرد لغة. أما المعارف العملية فهي بالفرنسية، مثلا يتعلم التلاميذ الحساب بالفرنسية وكذلك التاريخ والجغرافية والموازين والمكاييل للذكور، والخياطة للإناث. كان لكل مدرسة معلمان. أحدهما فرنسي، وهو المدير، والآخر مسلم مساعد له. يعين الحاكم العام كليهما بقرار، بناء على اقتراح من حاكم الناحية التي بها المدرسة. ويشترط في المعلم الفرنسي (المدير) أن تكون له شهادة النجاح في الترجمة كدليل على معرفته للعربية (الدارجة). أما المعلم المسلم فيستظهر فقط بشهادة من المفتي أو القاضي تشهد على تمكنه من العربية والدين، وهي الإجازة التي كان يعمل بها في السابق. وكانت أجرة المدير 1200 فرنك سنويا. وأجرة المعلم المسلم 200 فرنك فقط سنويا. ويمكن للحاكم العام أن يضيف إليهما علاوات سنوية في شكل مكافآت، بشرط ألا تتجاوز نصف الراتب. والملاحظ أن ميزانية هذه المدارس كانت من الجزائريين أنفسهم، فالرواتب للمعلمين كانت من الغرامة المضافة على العرب، كما تقول (المبشر) (3/ 1867/1). وحين تترك الميزانية للبلديات ترفض أو تتلكأ في إعطاء ميزانية للتعليم الموجه للأهالي، كما سنرى. والتعليم في هذه المدارس كان مجانيا واختياريا. وكانت المدارس تحت إشراف الحاكم العسكري للمنطقة (كان النظام كله عسكريا خلال المرحلة - سوى سنتين 1858 - 1860)، وهو الذي يقدم عنها تقريرا فصليا إلى الحاكم العام، ويتصل الوزير بتقرير عنها أيضا عن طريق الحاكم العام. لاحظنا أن هذا التعليم كان موجها للبنين والبنات. وقد أنشئت ثلاث مدارس للبنات في كل من الجزائر ووهران وقسنطينة. ولم تكن في الواقع

مدارس جديدة وإنما وظفت بعض الزوايا والمدارس وحتى المساجد القديمة لذلك، مثلا مدرسة البنات في قسنطينة كانت في جامع سيدي الرماح. ومن حيث المبدأ فإن كل مدرسة للبنات كانت تخضع لنفس الشروط في مدرسة البنين. فلكل مدرسة معلمتان، إحداهما فرنسية، وهي المديرة، والأخرى مسلمة (¬1)، وتخضعان لنفس شروط التعيين. ولكن أجرة المديرة الفرنسية 1000 فرنك سنويا، وأجرة المعلمة المسلمة 500 ف فقط. ولا تحسبن أن هذا التعليم كان مفتوحا للجميع، فالديموقراطية لم تكن معروفة. والتعليم إنما أنشئ لخدمة اللغة الفرنسية وحضارتها وتمكين السلطة الفرنسية في البلاد. ولم يكن من مصلحة الفرنسيين أن يفتحوا المدرسة الابتدائية المحدودة لكل الأطفال الأبرياء. إن العبرة هنا بالآباء والمستقبل. ولذلك فإن هذا التعليم كان مفتوحا فقط لأبناء الأعيان والعائلات التي خدمت فرنسا أو التي تتعامل معها. أما العائلات التي حاربتها أو تلك المجهولة فلا مكان لأطفالها في المدارس العربية - الفرنسية. وفي 1866 أعلنت جريدة (المبشر) (¬2) الرسمية بصوت تسوده الغبطة والسرور أن الحاكم العام قد (أنعم على 76 تلميذا من أولاد العرب بقبولهم في المدارس العربية - الفرنسية ابتداء من يناير 1867. ثم أوضحت الجريدة نماذج من العائلات العربية التي اختيرت لهذا الإنعام السامي في إقليم قسنطينة، وهي عائلة أولاد مقران (مجانة)، وعائلة أولاد بلقاضي (باتنة)، وعائلة ابن مراد (قالمة)، وعائلة ابن عاشور (فرجيوة)، وعائلة ابن باديس (قسنطينة)، إما لوظيف تقلده أعيانها وإما (سجية) بانت منه للدولة إلى الآن). وهذا تعبير غامض لا تفهمه إلا جريدة (المبشر) والسلطة التي تصدرها. والمهم هو أن العائلات التي اختيرت كانت مفيدة لمصالح فرنسا عاجلا أو آجلا وأن أبناء هذه ¬

_ (¬1) سنتحدث عن تعليم المرأة المسلمة على حدة. (¬2) المبشر، عدد 27 ديسمبر 1866. انظر أيضا رسالة الباحث إبراهيم الونيسي حول جريدة المبشر. معهد التاريخ - جامعة الجزائر. وكذلك أرشيف إيكس (فرنسا) رقم 20 I 1.

العائلات ستحصل لهم (المناصب في الحكم العمومي أو الحكم الخصوصي). وهناك ميزات أخرى تميز هذا الصنف من التعليم، وهو جعله تحت رقابة لجنة حسب الفرنسيون أنهم ضمنوا بها رضى المسلمين. فقد جندوا أناسا ممن كانوا طوع بنانهم من الجزائريين، وسموهم مفتين وقضاة، ثم جعلوا هذه المدارس تحت أنظارهم لكي ينزعوا عن الأولياء الشك في أهداف المدرسة. ولكن الفرنسيين كانوا لا يخفون نواياهم أبدا، وكانوا يقولون بصراحة: إننا نريد تعليما يخدم أهداف فرنسا لا أهداف الجزائريين. وهذه اللجنة الصورية كانت في الظاهر برئاسة المفتي أو القاضي. ولكن من هو هذا أو ذاك؟ فعندما عصي المفتي الكبابطي أمر بوجو عزله ونفاه سنة 1843 وجيء بمفت صوري مكانه. والمفروض في هذه اللجنة أن تراقب الدروس وتفتش المعلمين. وكان التلميذ يخضع لمراقبة صحية من قبل طبيب يزور المدرسة دوريا. وهناك امتحان في آخر المرحلة الدراسية عن طريق لجنة، وإذا نجح التلميذ يحصل على دبلوم (بروفي)، وهذا الدبلوم يؤهل للوظائف الدنيا المخصصة للأهالي في الإدارة الفرنسية وهي محجوزة لخريجي المدارس الفرنسية من الجزائريين، أما غير المتخرج منها فلا يطمع غالبا في الوظائف الدنيا ولا العليا. وأخبرت المصادر الرسمية أن التجربة سارت بنجاح وأن بعض الأولياء اقتنعوا بأهمية التعليم الجديد سيما وهم يرون المفتي في لجنة الإشراف والمعلم المسلم في حجرة المدرسة، ولذلك هنأ الفرنسيون أنفسهم عندما رأوا أن بعض المفتين قد أرسلوا أبناءهم أيضا إلى هذه المدرسة التي يشرف عليها معلمون مسيحيون مما يبرهن في نظرهم (الفرنسيين) على التغلب على روح التعصب (¬1). ولكن هذا التفاؤل ستظهر الأيام أنه كان في غير محله. ¬

_ (¬1) السجل (طابلو)، سنة 1851 - 1852، ص 200. انظر أيضا نفس المصدر، سنة 1846 - 1849، ص 195. من الملاحظ أن المدارس العربية - الفرنسية كانت مفتوحة لأبناء الأوروبيين أيضا.

وإليك نموذجا لمدرسة عربية - فرنسية في مدينة الجزائر سنة 1867. فعدد التلاميذ المسجلين فيها 213، منهم 173 مسلما و 40 أوروبيا. وفي آخر السنة كان عدد الحضور منهم: 159 فقط، منهم 81 من المسلمين و 28 من الأوروبيين. أما المعلمون، فالمدير/ المعلم هو أوغست ديباي A.Depeile والمعلم الفرنسي المساعد هو إيميل مانتي E.Mantis، ومعلم الرسم والموسيقى فرنسي ثالث يسمى ليليستان ليوجي L.Liogier، والمعلم المساعد الوحيد المسلم هو أحمد بن محمد القبطان، وهو معلم سيرد ذكره بعد ويكون من أصحاب النياشين بعد تقدم السن به. ومواد الدراسة (البرنامج) هو: اللغة الفرنسية نحوا وصرفا، والعمليات الأربع في الحساب، وتاريخ فرنسا وجغرافية أوروبا، والرسم والموسيقى (¬1). ثم اللغة العربية. ولا ندري لماذا تحتاج المدرسة إلى إشراف القاضي أو المفتي ما دام كل شيء يتم فيها لا دخل فيه. فالتلميذ لا يتعلم مبادئ الدين ولا تاريخ بلاده ولا جغرافيتها. وحتى الحساب قيل عنه إنه كان حساب النظام الميتري الفرنسي. وإلى جانب هذا النوع من التعليم الموجه للأطفال، هناك تعليم آخر (مزدوج) موجه لبعض الكبار - من فاتهم سن التعلم، ومن تخرج من المدرسة أو أخرجته وأراد المتابعة. هذا الصنف من الجزائريين وجدت لهم السلطات الفرنسية طريقة للإبقاء على صلتهم بالفرنسيين ومحاولة دمجهم في الفكر الفرنسي. وقد كلفت بذلك أساتذة حلقات اللغة العربية في وهران وقسنطينة والجزائر بفتح لقاءات ودروس لهؤلاء باللغة الفرنسية، وهم بالطبع يعرفون العربية (الدارجة)، وهم يقدمون دروسهم أو لقاءاتهم ثلاثة أيام في الأسبوع. والموضوعات المقررة هي الحساب وتاريخ فرنسا والجغرافية أيضا إلى جانب اللغة الفرنسية. ومن أبرز المدرسين خلال هذه الفترة، ¬

_ (¬1) المصدر، أرشيف إيكس (فرنسا)، رقم 20 I 1. لم يذكر هذا المصدر مادة اللغة العربية فأضفناها.

برينييه في الجزائر وشيربونو في قسنطينة. ولكن هذا كله لا يفيد شيئا تقريبا، لأن ميزانية المدارس قد أصبحت في يد البلديات منذ 1861. والبلديات كان يسيطر عليها الكولون والعناصر التي لا تهتم بالمدارس العربية - الفرنسية ولا بتعليم الجزائريين مطلقا. ولذلك توقفت البلديات عن تخصيص ميزانية للصيانة والرعاية المالية والبناء والرواتب. والمعروف أن بلدية وادي العلايق مثلا رفضت إنشاء مدرسة عربية - فرنسية، وكانت البلديات تقول إن للعرب أكثر من 2000 مدرسة قرآنية وهذا يكفيهم (¬1). وبدأت البلديات بقطع الميزانية المتعلقة باللغة العربية. فاعترى المدارس الإهمال والهرم، كما أن المدارس الجديدة لم تر النور، بل إن الموجود منها اختفى خلال المرحلة الثالثة (¬2). 3 - أما المرحلة الثالثة فقد عرفت تغييرات في هذه المدرسة العربية - الفرنسية القائمة على الازدواجية اللغوية والفكرية. لقد أدى ذكاء الفرنسيين سنة 1850 إلى محاولة الدخول في شخصية الجزائري وشطرها عن طريق هذا النوع من التعليم. فحين وجدوه رافضا لتعليمهم الخاص وتعليمهم العام، لجأوا إلى هذه الحيلة، وهي وضع العربية إلى جانب الفرنسية والمعلم الفرنسي إلى جانب المعلم المسلم، والحروف العربية إلى جانب الحروف اللاتينية والمعارف الدينية الإسلامية إلى جانب المعارف الفرنسية المسيحية. وكل ذلك كان تحت إشراف مفت أو قاض نظريا. ولكن هذه المرحلة (الثانية) كانت جسرا فقط، وكانت مؤقتة، ولم تكن شاملة ولا ديموقراطية، ولم تحصل منها نتيجة مفيدة للشعب الذي بقي على حبه للتعليم وتمسكه بتراثه وظل يقاوم ما وسعته المقاومة، وهذا لا ينفي وجود بعض المستفيدين من التجربة الفرنسية المذكورة. وحين أحس الفرنسيون بأنهم لم يعودوا في حاجة إلى مراعاة شعور ¬

_ (¬1) انظر فصل التعليم في المدارس القرآنية والمساجد. (¬2) كولونا، مرجع سابق، 16. انظر أيضا بيلي، مرجع سابق، 286.

الجزائريين، أغلقوا حتى هذه المدارس. فقد اغتنموا فرصة ثورة 1871 في الجزائر، وفرصة تغيير نظام الحكم والحماس للنظام الجمهوري والاستعمار والامبريالية في فرنسا، فقضى الحاكم العام الجديد، الأميرال ديقيدون، لإغلاق المدارس العربية - الفرنسية، وقطع ميزانيتها، عقابا، في نظره، لأبناء العائلات التي ثارت رغم إنعام فرنسا عليها. ثم إن الجمهورية الجديدة كانت متحمسة جدا للفرنسة والاندماج (¬1)، وكل مؤسسة فيها اسم العربية أو الإسلام تعتبر في نظرها مؤسسة عدوة. ولذلك صدر الحكم بإعدامها. والواقع أن فترة 1870 - 1892 تعتبر فترة ظلام أخرى في ميدان التعليم. ولا نعني أن ما سبقها كان فترة تنوير، ولكن على الأقل كانت فيها محاولات محدودة باستخدام وسائل معينة لدمج الأهالي في المنظومة الفرنسية التربوية تحت مظلة المملكة العربية التي تبناها نابليون الثالث. أما مسؤولو الفترة الثالثة فهم في الوقت الذي قضوا فيه على تجربة المدارس العربية - الفرنسية لم ينشئوا البديل لها، بل ازدادوا عتوا وطغيانا، فقطعوا المدد عن المدرسة الموجهة للأهالي مهما كانت، وفرضوا الضرائب الإضافية على السكان وغرائم الحرب الباهظة، وصادروا الأراضي من جديد وأعطوها لمهاجري الألزاس واللورين، وسنوا قانون الأهالي (الأندجينا)، وضربوا عرض الحائط بكل شكاوى الجزائريين من الظلم الذي أصابهم في كل الميادين، ولا سيما ميدان القضاء الإسلامي والتعليم العربي. وهكذا فمن بين ثلاثة ملايين جزائري سنة 1880 لا يتردد على المدارس الابتدائية التي يديرها الفرنسيون سوى 2.814 تلميذ من البنين و 358 من البنات. وبدل أن تزيد المدارس نقصت، فلم يكن منها سنة 1882 سوى ست عشرة (البعض يقول 13 فقط) مدرسة في القطر كله، ولولا اعتماد الجزائريين على أنفسهم وانطلاق التعليم في الزوايا ونحوها لدخلت الجزائر عصر الكهوف. ¬

_ (¬1) المقصود هنا دمج المؤسسات والمصالح التي تهم الكولون (المستوطنين) مع مثيلاتها بفرنسا، وليس دمج الجزائريين في فرنسا، وهو أمر كان يعارضه الكولون.

في الوقت الذي تترك فيه السلطات الفرنسية الجزائريين في حالة الجهل والإهمال وترصد فيه ميزانية للتعليم الإجباري للأطفال الفرنسيين، نجدها تطلق العنان للكاردينال لا فيجري وإخوانه وأخواته البيض يبنون أعشاشهم في منطقة زواوة وبعض المناطق الصحراوية. وقد طرد الجزائريون هؤلاء العنصريين (البيض) من زواوة سنة 1870. ولكنهم رجعوا إليها بعد ذلك بأسلوب جديد. ويقول الفرنسيون إن لا فيجري أراد احتلال القلوب والأرواح لسكان زواوة (القبائل)، فأنشأ هناك الإرساليات. وحاول الجزويت، من جهتهم، نشر تعليمهم الخاص الذي كانت الحكومة (العسكرية) تمنعه. وقد دعمت الحكومة الفرنسية جهود لا فيجري هذه المرة في محاولة منها للسيطرة على منطقة زواوة التي رفضت المنصرين وإرساليات لا فيجري (¬1). ان زواوة قد خضعت عندئذ لترويض خاص اشترك فيه الجيش والإدارة والقضاة والمنصرون (المبشرون)، كل في ميدان اختصاصه. وكانت جهود لا فيجري لا تتمثل في التعليم فقط ولكن أيضا في سلب الجزائري من انتمائه واقتلاعه من جذوره، بوسائل عديدة كالمستوصفات والورشات ونحوها. لقد فعل ذلك جهة العطاف (سان سيبريان) وسمى المستشفى هناك باسم (القديسة اليزابيت). كما انتشر (الآباء البيض) في غرداية وورقلة وبسكرة، الخ. وهكذا بدل أن تنشر الحكومة الفرنسية التعليم بين الجزائريين، كما كان واجبها كدولة محتلة، وكما كان يطالب به الجزائريون أنفسهم، تركت الجزائريين لعبث الآباء البيض وجيش لا فيجري والجزويت يعيثون فسادا بينما كانت تحميهم بنادق الجيش الإفريقي ومليشيات الكولون. ويشهد بوجيجا الذي عمل طويلا في الإدارة الفرنسية، أن جهود لا فيجري هي التي مهدت الطريق لفتح المدارس الرسمية فيما بعد في زواوة (1882)، مع أن مشروع لا فيجري الديني قد فشل (¬2). ¬

_ (¬1) عن نشاط الآباء البيض في زواوة وغيرها انظر فصل الاستشراق. (¬2) مانويل بوجيجا (تعليم الأهالي)، في S.G.A.A.N (1938)، عدد 153 - 154، ص 53.

لقد شهد عقد 1880 - 1890 عدة إجراءات تتعلق بالتعليم عموما وتعليم الجزائريين خصوصا. فبعد الإهمال المتعمد الذي تميزت به فترة السبعينات، ظهر الاهتمام بالموضوع من جانب بعض المسؤولين الفرنسيين في باريس، وكان جول فيري عندئذ هو وزير التعليم (سنة 1879). فأظهر اهتماما بمسألة التعليم في الجزائر. وقبل أن يقرر بشأنها شيئا أرسل لجنة تتفحص الوضع، وكان في هذه اللجنة عدد من أعيان العلم والسياسة الاستعمارية بعيدي النظر، منهم ما سكرى، وهنري، ولو بورجوا. وكان جانمير Jeanmaire هو مدير التعليم (ريكتور) في الجزائر عندئذ. وكان هو بدوره (جانمير) متحمسا لنشر رسالة فرنسا الحضارية في ميدان التعليم. وكانت البلديات قد عطلت دفع الأموال للتعليم الأهلي كما ذكرنا، فخربت المدارس القائمة وهجرت وأغلقت إدارة الحاكم العام (ديقيدون) الباقي منها، وشددت الرقابة على التعليم الإسلامي في الزوايا. ولكن جول فيري خصص ميزانية من وزارته لبناء 15 مدرسة ابتدائية في الجزائر سنة 1880، غير أن هذه المدارس لم تبن كلها، وظل مشروعها يتمطى إلى سنة 1887 حتى سميت بالمدارس الوزارية لأن أموالها من الوزارة. ويخبر مارسيه أن إنشاء المدارس كان في اطراد ابتداء من الثمانينات. ففي سنة 1882 كان الباقي من المدارس العربية - الفرنسية ست عشرة مدرسة، فوصل عددها سنة 1887 إلى 86 مدرسة. وكان يتردد عليها بين سبعة وتسعة آلاف تلميذ أهلي. ثم نمت بسرعة بعد ذلك إلى أن وصل عددها إلى 124 مدرسة سنة 1892، وهي السنة التي سيبدأ فيها الإصلاح المشهور للمدرسة الفرنسية في الجزائر والتعليم بصفة عامة. وكانت هذه المدارس الأخيرة (أو الأقسام) تضم 12، 63 تلميذا أهليا، و 218 معلما (¬1). ¬

_ (¬1) جورج مارسيه، (مؤتمر شمال إفريقية)، ج 2، مارس 1908، 183 - 184. وقد ظل جانمير مديرا للتعليم في الجزائر مدة ربع قرن. وقد عرفنا أنه في نفس الفترة (1882) كانت المدارس الفرنسية المحض في الجزائر تعد 697 ابتدائية وتضم 53.666 تلميذ فرنسي أو أوروبي، مع الفارق الشاسع في عدد السكان طبعا. انظر =

إن هذه الأرقام لا تثير دهشتنا لأنها تعطي صورة مشرقة عن انطلاقة التعليم الأهلي بدعم من الحكومة هذه المرة. لكن هناك من يذكر أن عدد المدارس سنة 1884 كان 30 مدرسة فقط، وتلاميذها لا يكادون يبلغون 4.000 تلميذ. وفي 1886 كان عدد المدارس 68 مدرسة وتلاميذها 5.600 تلميذ. ومهما كانت دقة الأرقام فإن الاتجاه الذي أصبحت تبنى عليه المدارس أصبح واضحا. لقد وقع التخلي عن التعليم الابتدائي المزدوج واتجه التعليم الآن إلى الفرنسة الصريحة تحت لواء الجمهورية الثالثة. وهو تعليم تسيطر عليه الروح اللاتينية والمسيحية (رغم الادعاء بأنه تعليم لايكي أو علماني) والتعالي الثقافي. وهذه هي الفترة التي أصبح على الأطفال الجزائريين فيها أن يقرأوا في كتبهم بأن أجدادهم هم سكان الغال (فرنسا) (¬1). وقد وضع التعليم الأهلي تحت معلمين فرنسيين أو متفرنسين، ولكن في أقسام خاصة منزوية. ووقع النص على أن التعليم إجباري سنة 1881 كما هو في فرنسا، ولكن تطبيق ذلك على الجزائريين كان غير وارد. وسميت المدارس الجديدة (بالعادية) وأصبح يشرف عليها معلمون فرنسيون، ثم أنشئت أقسام للطفولة من الجنسين بإشراف نساء فرنسيات أو جزائريات. وهناك أيضا مدارس سميت (رئيسية) وهي التي تضم ستة أقسام على الأقل. ومع كل هذه الضجة توقفت القروض من الحكومة للبلديات بدعوى أن هذه لا تطلبها، كما أن البلديات لم تصرف على التعليم الأهلي بدعوى أن الأهالي غير قابلين للتعلم أو أن لديهم ما يكفيهم من المدارس القرآنية، بل هناك من ذهب إلى أن تعليمهم سيوقظهم ضد الفرنسيين فالأفضل إذن تركهم في حالة الجهل. ومهما كان الأمر فقد حدثت نكسة لهذه التجربة القصيرة نتيجه عدم القروض وانعدام الميزانية. والباحثون الفرنسيون يعزون استمرار التعليم ¬

_ = رأي جورج مارسيه عن الفرق بين المدارس والأقسام، لاحقا. (¬1) بيلي (عندما أصبحت ...)، مرجع سابق، 286.

للجزائريين رغم هذه النكسة، إلى جهود جانمير مدير التعليم، لأنه كان من المؤيدين لنشر التعليم الفرنسي بين الجزائريين، وتوحيد التعليم في الجزائر وفي فرنسا باسم (الاندماج) الثقافي، وهو المبدأ الذي جاءت به الجمهورية الثالثة. دعنا الآن نذكر بعض التواريخ والإحصاءات المتعلقة بهذه المرحلة (الثالثة). فحسب تقرير رسمي كتب سنة 1875 كان عدد المدارس العربية - الفرنسية الباقية من المرحلة السابقة هو 23 مدرسة، وكانت تحتوي على 1، 069 تلميذا من بينهم 737 فقط من التلاميذ المسلمين. وفي سنة 1886 وجدت 55 مدرسة خاصة بالجزائريين مع إضافة 28 قسما خاصا بهم أيضا. وكانت الأقسام ملحقة بالمدارس العادية الفرنسية، ويشرف عليها معلمون جزائريون بدرجة ممرن. وضمن الـ 55 مدرسة، 19 فقط أنشئت منذ 1883، تاريخ المرسوم الشهير حول التعليم الأهلي في الجزائر. فهذا المرسوم، بعد أن انتقد الوضع التعليمي وأبدى أسفه على حالته ونتائجه منذ خمسين سنة من الاحتلال، وعد اصلاح الخطإ وتدارك ما فات وفتح المدارس للأهالي، كما سجل مبدأ إجبارية هذا التعليم. ثم نص على ما يلي (13 فبراير 1883): كل بلدية كاملة عليها أن تنشئ مدرسة ابتدائية أو أكثر تكون مفتوحة مجانا للأطفال الأوروبيين والأهالي. وفي البلديات الكاملة والمختلطة يكون التعليم الابتدائي مجانيا للأطفال من الجنسين البالغين ست سنوات، مهما كانت جنسية الآباء. وهذه المادة لا تنطبق على الأهالي المسلمين ولو في البلديات الكاملة إلا بالشروط المذكورة في المادة 34 الآتية. وتقول هذه المادة (34) إن قرارات أخرى ستصدر من الحاكم العام تحدد عدد المحلات المدرسية المسموح بها وكذلك البلديات أو الأجزاء من البلديات التي تطبق فيها إجبارية التعليم على التلاميذ الأهالي. ويشير التقرير الرسمي إلى أنه في نهاية سنة 1886، كان هناك 400 ألف

طفل في سن المدرسة، ولكن لا يدخلها منهم سوى سبعة آلاف طفل من الجزائريين. وهم موزعون على النحو التالي: أطفال من الجنسين في المدارس المسماة الأهلية، وعددهم ... 3.823 أطفال من الجنسين في المدارس الفرنسية العامة: ... 3.230 الجملة: ... 7.053 تلميذا والتقرير الرسمي المشار إليه يلقى باللائمة على كاهل الكولون لتأخيرهم مشاريع التعليم للجزائريين. وفيه نقد مركز باستعمال التسطير أو الحروف البارزة لإظهار قوة الاحتجاج على موقفهم. ومما جاء فيه أن مسألة تعليم الأهالي تتعقد أكثر فأكثر بالصعوبات المادية (المالية) والمعارضة العرقية (عرب - فرنسيون)، والأحكام المسبقة الدينية والاجتماعية، ثم يتساءل: ولماذا السكوت؟ ويمضي قائلا: (إنه الحرمان الغريزي) للكولون ضد الأهلي، لأن المستوطن الفرنسي يخشى ثورة الأهلي ولا يمكنه أن يرتبط معه بأية علاقة تجارية مؤكدة. (وإذا لم تتدخل السلطات العمومية، فمن المحتمل أن تغلق في وجهه (الأهلي) المدارس المشتركة، ومن المؤكد أن لا يخصص المال الضروري لبناء مدارس خاصة به) (¬1). ونجد في حديث لويس فينيون ملاحظتين هامتين: الأولى حول المعلمين في المدارس الابتدائية خلال الثمانينات. فهو يدعي أن المعلمين الفرنسيين كانوا مفضلين عند الجزائريين، والملاحظة الثانية هي قوله إن البلديات الكاملة وحتى المدن هي التي تقف في وجه تعليم الجزائريين (حيث يسيطر المستوطنون طبعا). فهذه المراكز لا تقوم ببناء المدارس الأهلية، إذ ¬

_ (¬1) لويس فينيون (فرنسا في شمال إفريقية)، 259 - 260، وهو يشير إلى التقرير الرسمي الذي نشره ش. غاشان Ch.Ghachant عن التعليم العمومي في الجزائر، في (المجلة التربوية) R.Pedago.، بتاريخ 15 نوفمبر 1886.

لا يوجد سنة 1886 مدارس للجزائريين في البليدة والمدية ومليانة وتيزي وزو، الخ. أما في مدينة الجزائر حيث يقطن أكثر من ثلاثين ألف جزائري، فلا توجد أكثر من مدرسة واحدة لهم (¬1). ورغم هذه الصورة المضببة عن التعليم الابتدائي خلال الثمانينات فإن كاتبا مثل بول غفريل Gaffarel رأى أنه تعليم مرضي جدا. وقد وصل إلى هذه النتيجة رغم أنه مر بالأرقام البائسة بالمقارنة إلى أرقام الأوروبيين. ففي سنة 1873 لاحظ هو نفسه وجود 687 مدرسة تحتوي على مجموع 57، 200 تلميذ، منهم فقط 1، 233 جزائري و 258 جزائرية. ويقول إن الباقي من الأطفال يقرأون القرآن في الزوايا، بدون إعطاء رقم. ويذكر إلى جانب ذلك 24 مدرسة ابتدائية في المناطق العسكرية، وهي التي لم تلغها إدارة ديقيدون بعد، ولا يتردد عليها سوى 622 تلميذا، كما يذكر 12 مدرسة ابتدائية دينية (زوايا؟) في زواوة وبو سعادة والأغواط. أما الآباء البيض فقد قال إن لديهم 163 ملجا يحتوي على 17.600 طفل (¬2). ولكن الملجأ غير المدرسة بالطبع. وقد اعتبر غفريل أن هؤلاء جميعا تلاميذ يتلقون المعرفة الابتدائية، في حين أنه لا يوجد لهم برنامج محدد ولا مدارس متشابهة ولا معلمون من ذوي الكفاءات. وكل مؤسسة من هذه المؤسسات التي ذكرها كانت تدرس بلغتها وتغني بغنائها، أما الملاجئ الكنسية فهي معروفة الهدف من إنشائها. وقد ثبت أن العبرة ليست في المراسيم والقرارات، ولا في النقد الذي يظهر هنا وهناك. فقد وقع التعرف على داء المدرسة الجزائرية منذ 1880 ولم يقع التحرك اللازم. وتخلت الدولة عن القروض للتعليم، كما تهربت البلديات بل رفضت دفع ما عليها للتعليم الأهلي، رغم أنها هي المسؤولة ¬

_ (¬1) نفس المصدر، ص 260. (¬2) بول غفريل (الجزائر)، باريس 1883، 630. والمعروف أن التعليم في الزوايا كان لا يكلف الدولة ولا البلديات أية مصاريف. والحديث في الواقع هو عن المدارس المدعومة من قبل السلطات الرسمية.

قانونيا، كما أنها هي المستفيدة من ضرائب الجزائريين (¬1)، ووقع الإعلان عن إجبارية التعليم ولم ينفذ إلا في بعض نواحي زواوة، وأعطيت الصلاحيات للحاكم العام ليصدر قراراته عن أماكن هذه المدارس، فوقع هذا تحت ضغط زعماء الكولون أمثال يوجين إيتيان. وقد صب لوروا بوليوجام نقده على التهاون في التعليم ورثى حاله خلال الثمانينات أيضا، كزميله فينيون وواهل (¬2) Wahl، ولكن نقدهم لم يكن من أجل غرض حضاري أو إنساني بل الخوف على مصير فرنسا في الجزائر وسمعة فرنسا في العالم. ثم جاء جان ميرانت ليقول سنة 1930 أن النتيجة كانت غير حاسمة لأن دراسة المجتمع الأهلي بعناصره وقواه العقلية تجعل من الصعب أن يحدث التغيير بسرعة. فلا بد إذن من تجارب كثيرة ومن محاولات عديدة (¬3). فهو بهذا يلقي التبعة على (تعقيدات) المجتمع الأهلي وليس على الإدارة المسؤولة والمستفيدة منذ 1830 من الاحتلال، وليس على الدولة المحتلة التي تخلت عن واجبها في رصد ميزانية التعليم لمن احتلتهم أو ترك مداخيل الوقف على الأقل لأهلها يتعلمون منها كيفما شاؤوا. ... إن هناك مقدمات عديدة سبقت إصلاحات 1892 في نطاق التعليم. ولكن الجزائري ظل هو الضحية لسياسة التردد والانتظار، وتبادل النقد بين الفرنسيين، ولعبة جذب الحبل بين الكولون واللجان المرسلة من باريس، وزيارات بعض شخصيات من أمثال النائب البان روزي A.Rozet. إن عهد حكومة لويس تيرمان في الجزائر كان مثل العقد الأول من الاحتلال، قد عاش فيه الجزائري الحرمان والاضطهاد. ومن حسن الحظ أننا في الثمانينات بدأنا نسمع بتحرك أعيان المدن والضغط على الإدارة بالعرائض والشكاوى حول التعليم والقضاء. وقد صدر مرسوم 13 فيفري 1883 المشار إليه والذي ¬

_ (¬1) انظر دور البلديات في قضية الأوقاف أيضا، في فصل المعالم الإسلامية. (¬2) بوليو، مرجع سابق 251 - 253 وكذلك واهل (الجزائر)، مرجع سابق، 317. تولى (واهل) Wahl تفتيش التعليم في المستعمرات الفرنسية. (¬3) ميرانت (كراسات ...)، 84.

اعتبره البعض فتحا جديدا في ميدان التعليم الأهلي بالجزائر (¬1). واشترك فيه رجال أمثال فونسين، Foncin وبويسن Bouisson ورامبو. وقد صنف المرسوم المدارس الأهلية إلى ثلاثة أصناف: 1 - مدارس رئيسية يشرف عليها معلم فرنسي. 2 - مدارس تحضيرية يتولاها مساعدون أو ممرنون جزائريون. 3 - مدارس طفولة - بين 3 - 8 سنوات، من الجنسين تشرف عليها معلمات فرنسيات أو معلمات جزائريات. ونص هذا المرسوم كذلك على عدة أمور أخرى منها، أن أبناء الجزائريين في المدن التي يقطنها الأوروبيون سيسمح لهم بدخول المدارس الفرنسية بنفس الشروط مع تطبيق مبدإ إجبارية التعليم الابتدائي للبنين من الجزائريين، إذا رأى الحاكم ذلك، ونص على إنشاء شهادة الدراسة الابتدائية الخاصة بأبناء الجزائريين. لكن أين المدارس؟ أين الميزانية؟ لذلك فإنه يمكن القول إن المرسوم قد بقي حبرا على ورق يرجع إليه الباحثون ليتعرفوا على (نوايا) بعض الفرنسيين ثم يتوقفون. وقد صدق السيد (فونسين) عندما أعلن أن فرنسا حصدت ما زرعت. ولكن كلامه يجب أن يسري على العهد الفرنسي كله وليس على فترة معينة فقط. في 1884 ألقى فونسين محاضرة بمقر الجمعية التاريخية علق فيها برأيه حول اللغة الفرنسية في الجزائر فقال: (إننا لم نحصد من العالم الأهلي الجزائري سوى حصاد ضئيل جدا - لماذا؟ لأننا بذرنا بيد شحيحة حبات قليلة سقطت بطريق الصدفة أو المغامرة) (¬2)، ولعل رأيه هذا يذكرنا برأي دوطوكفيل سنة 1848، ¬

_ (¬1) نوه به إيمانويل بوجيجا كثيرا وكذلك السيدة كولونا. (¬2) نقل ذلك بوجيجا، مرجع سابق، ص 56. وقد اعتبر جان ميرانت أن مرسوم 1883 قد وضع التعليم الأهلي الابتدائي على أسس جديدة تماما، وأنه تجديد مخلص، ولكنه جاء قبل الأوان وكان غير ناضج، وكانت نتائجه ضحلة. أما بوجيجا فقد امتدح المرسوم، وجاء فشله في نظره من كونه مرسوما بدون مال وبدون ميزانية حكومية، فلم تبن المدارس. انظر ميرانت 84.

رغم أنه في اتجاه آخر. كل الوثائق تقريبا تشير إلى أن التعليم الأهلي قد أخذ دورة جديدة منذ 1892. ويأتي ذلك نتيجة عدة عوامل داخلية وخارجية. من العوامل الأولى مراسيم وإجراءات 1882، 1883 التي لم تنفذ بالنسبة للجزائريين. ومنها التحقيق الذي أجرته لجنة مجلس الشيوخ سنة 1892، وهو التحقيق الذي جرى بالنسبة للوضع في الجزائر كلها وليس حول التعليم فقط، مثل سلطة الحاكم العام، وقضية الأرض، والقضاء الإسلامي، والتمثيل البرلماني، والضرائب وغير ذلك. أما بالنسبة للتعليم الأهلي فقد انتهى التحقيق إلى ضرورة إنعاشه وتوجيهه وجهة عملية (مهنية). وكان على رأس الذين اهتموا بهذا الجانب كومبس، أحد أعضاء لجنة التحقيق. ومن العوامل الداخلية أيضا زيارات النائب البان روزي المتكررة للجزائر وإثارته في البرلمان مشكل التعليم فيها، وكشف بعض النوايا السيئة أو غير الواقعية التي كان يختبئ وراءها دعاة سياسة التجهيل من نواب الكولون. أما العوامل الخارجية التي أثرت في دورة التعليم الجديدة فمنها اتجاه الدول الاستعمارية إلى الاهتمام بقضية التعليم في مستعمراتها تبعا لظهور تيارات فكرية ودينية في أوروبا تدعو إلى حقوق الإنسان، ولو كان إنسانا مستعمرا، وكذلك ضغط الحركة الماركسية وبعض الضغوط من رجال الدين المسيحي. وهناك عامل آخر مهم بالنسبة للجزائر وهو ظهور النهضة العربية الإسلامية على أساس التعليم ومحاربة الغزو الأوروبي للعالم الإسلامي. وكانت بوادر هذه النهضة قد ظهرت في مصر والهند وسورية والدولة العثمانية على العموم. وكان من مصلحة الغرب، ومنه فرنسا، عدم تعريض نفسه للنقد المكشوف بكونه أخر المسلمين وأعاقهم عن التقدم بتبنيه سياسة التجهيل في المستعمرات. في ضوء كل ذلك تحركت الجهات الفرنسية في الجزائر في الاتجاه الجديد. وكان الحاكم العام عندئذ هو جول كامبون (1891 - 1897).

وكان من الواعين للسياسة الجديدة والمتبنين لها. فساعد على تطبيقها ولم يضع أمامها العراقيل، كما كان الحال زمن لويس تيرمان. وقد أبقى مرسوم 81 أكتوبر 1892 الجديد على تصنيف المدارس الذي جاء به مرسوم 1883 تقر يبا، وهي: 1 - المدارس الأساسية وهي التي تتضمن ثلاثة أقسام على الأقل، وعلى رأسها مدير فرنسي. 2 - المدارس الابتدائية، وهي التي تتضمن قسما أو قسمين، وعلى رأسها معلم فرنسي أيضا. 3 - المدارس التحضيرية، وهي التي لها قسم واحد، ويشرف عليها معلمون جزائريون سواء كانوا مساعدين أو متدربين. والمدارس الأخيرة تقع تحت رقابة مديري المدارس الأساسية أو المعلمين الفرنسيين القرييبين منها، بحيث يزورها المدير أو المعلم عدة مرات لضمان سيرها طبقا للروح والبرنامج الفرنسي. وبناء على قرار من الحاكم العام صادر في 3 يناير 1893 فإن المدارس التي كانت من قبل تسمى المدارس العربية - الفرنسية والتي بقي بعضها في المناطق العسكرية، قد ضمت إلى الأصناف الثلاثة الجديدة. كما ضمت المدارس الأوروبية التي كان أغلب تلاميذها من الجزائريين، وبذلك حصل التخلص من التعليم المزدوج، ولكنه ظل مع ذلك تعليما عنصريا، بجعل التعليم الأهلي ثانويا. ونص القرار الأخير كذلك على إنشاء أقسام خاصة بالجزائريين ملحقة بالمدارس الأوروبية، على أن تكون هذه الأقسام تحت إشراف معلمين فرنسيين من التعليم الأهلي، وهي تتبع البرنامج الخاص بالجزائريين. وقد لاحظ جورج مارسيه الذي تولى إدارة التعليم، أن التعليم الأهلي قام على وحدة القسم وليس على وحدة المدرسة. فالخبراء مثلا يتحدثون عن تكاليف القسم وليس عن تكاليف المدرسة، ثم إن الأقسام كانت خاصة

وموجهة ولها برنامجها الذي ليس هو برنامج المدرسة الفرنسية العادية. وعلى هذا الأساس كان بالجزائر سنة 1893: 125 مدرسة تضم 216 قسما، يضاف إليها 28 قسما خاصا ملحقا بالمدارس الأوروبية، فالجملة 244 قسما. وعدد تلاميذها 12.000 تلميذ من الأهالي. أما سنة 1951 فقد وصلت المدارس إلى 228 وكانت تحتوي على 427 قسما، يضاف إليها 47 قسما خاصا ملحقا بالمدارس الفرنسية، فتكون جملة ذلك 474 قسما، يتردد عليها 25.000 تلميذ. وفي سنة 1905 كانت 241 مدرسة، 450 قسما (وإضافة 63 قسما خاصا ملحقا) أي 513 قسما في الجملة، وقد ارتفع عدد التلاميذ إلى 29، 000. وقد وصل العدد سنة 1906 إلى 248 مدرسة بـ 458 قسما (و 68 قسما ملحقا) أي 526 قسما، يتردد عليها 30.000. ثم في سنة 1907 وصل العدد إلى 255 مدرسة تحتوي على 473 قسما (و 69 قسما ملحقا)، أي 542 قسما ضمت 31، 000 (¬1). وقد لاحظ المصدر الذي أخذنا منه هذه المعلومات البطء الذي حصل في إنجاز عدد الأقسام منذ سنة 1951، بالنظر إلى الانطلاقة. وبناء على تقرير الحاكم العام شارل جونار، سنة 1907 فإن النتيجة تكاد تكون متوافقة مع نتائج مارسيه. لكننا نجد في تقريره بعض التفاصيل الإضافية. فالمدارس الخاصة بالجزائريين بلغت هذه السنة 272 مدرسة بـ 506 أقسام، يضاف إليها 69 قسما ملحقا. ومن بين هذا العدد 9 مدارس للفتيات تضم 15 قسما، و 8 مدارس للطفولة .. وجاء في التقرير أيضا أن هناك 14 مدرسة حرة (بإشراف الفرنسيين؟)، منها 11 مدرسة للبنين وثلاث للبنات، ولها جميعا 24 قسما. وبناء على التقرير فإن عدد التلاميذ ¬

_ (¬1) ج. مارسيه (مؤتمر شمال إفريقية) ج 2، 1908، باريس، ص 190. أيضا كولونا، (المعلمون)، ص 16.

الجزائريين في الابتدائي سنة 1907 هو 185. 31 (منهم 2.181 بنات). وإليك إحصاء التلاميذ الجزائريين بين 1882 - 1907 (¬1). السنة ... العدد 1882 ... 3.172 1887 ... 9.064 1892 ... 12.263 1897 ... 22.468 1902 ... 25.921 1906 ... 31.391 1907 ... 32.517 هذا إذن التطور الذي حدث في التعليم نتيجة انطلاقة 1892. إنهم يقولون إنها انطلاقة تقوم على رؤية شمولية لموضوع المدرسة الموجهة للجزائريين، وأن الرأي العام الفرنسي قد تروض لقبول مبدإ تعليم (الأهالي) بعد أن كان رافضا. كما قالوا عن سنة 1892 بأنها شهدت ميلاد النص الرسمي الواضح الذي يلزم الجميع ويحدد للتعليم نظامه وبرنامجه. لقد حدث ذلك بعد جهود (بيردو) الذي قدم تقريرا حول ميزانية الجزائر لسنة 1891 في مجلس النواب، وجهود كومبس (Combes) في مجلس الشيوخ الذي تكلم باسم اللجنة المكلفة بإدخال التغييرات في الجزائر، ثم جهود السيد لوبورجوا في مجلس الشيوخ أيضا والذي ألقى خطبة مؤثرة حول تعليم الجزائريين. وقد نص المرسوم على نشر التعليم الفرنسي بين الأهالي في المدن الآهلة بالسكان وفي زواوة (¬2). ¬

_ (¬1) المصدر: (مجلة العالم الإسلامي). R.M.M، أبريل 1908، ص 803 - 804. (¬2) منذ نوفمبر 1881 تقرر إنشاء ثماني مدارس ابتدائية عمومية في زواوة على نفقة =

لكن الخطة لم تنفذ كما بدأت. وكان لذلك أسباب مادية واجتماعية وسياسية. فقد انخفضت ميزانية بناء المدارس للجزائريين من 265.000 فرنك سنوات 1895 - 1899 إلى 5.000 21 فقط سنة 1955، بدل أن تزيد. وكان المجلس المالي Delegations Financieres الجديد في الجزائر، وهو الذي يسيطر عليه نواب الكولون، قد تردد في وضع ميزانية للتعليم الأهالي، وعارض بعض النواب تعليم الأهالي تماما، بل إن بعضهم خشي من هذا التعليم وعواقبه. ان تجهيل الجزائري هو ضمان للسيطرة عليه عند هؤلاء النواب، فإذا تعلم أفاق وحاسبهم ونافسهم. وهم لا يريدون ذلك. وقد حاول جونار أن يتجاوز مشكل الميزانية بإحداث مدارس زهيدة الثمن (بورخيص)، فأثمرت جهوده بعض الشيء. ولجأ إلى استخدام المسلمين أنفسهم في المساجد وغيرها، (انظر التعليم المسجدي). ويذهب السيد مارسيه إلى أن معارضي التعليم الأهلي أصبحوا نادرين سنة 1.908، وأن دعاة تعليمهم ينطلقون من مبدإ وهو أن قلب مسلم يتكلم الفرنسية هو كسب لفرنسا. ويقول مارسيه إن حجة الذين لا يؤيدون تعليم الجزائريين تقوم على الركائز التالية: 1 - إن كل محاولة لتقريب الأهالي من الفرنسيين عن طريق المدرسة هي محاولة عقيمة. لأن التعليم لن يكون له أثر عليهم لوجود فوارق عرقية وعقائدية وغيرها. 2 - إن المدارس (الأهلية) لا يأتيها إلا الأطفال الذين يتعامل ذووهم مع الفرنسيين، أما ما عدا هؤلاء فإن هذه (القصور المدرسية) المخصصة ¬

_ = الدولة. ولكن في أماكن محددة، دعما لجهود الآباء البيض هناك. وكان قد زار هذه المنطقة ثلاثة من وزراء التعليم في فرنسا، وهم جول فيري ولوبورجوا وبيرتيلو. وكان لوبورجوا هو الذي اقترح التركيز على زواوة في التعليم. انظر جان ميرانت (كراسات ..) 84 وبوجيجا في S.G.A.A.N (1938)، عدد 153 - 154، وكذلك مارسيه، مرجع سابق، 184.

للجزائريين تظل فارغة ولا تمتلئ إلا يوم التفتيش أو زيارة أحد الوزراء. 3 - إن تعليم الجزائريين ليس فقط عقيما وغير مفيد ولكن نتائجه الضعيفة قد تكون خطيرة، اجتماعيا وسياسيا، على مستقبل الجزائر، لأن التعليم غير كاف لأدخالهم في الحضارة الفرنسية، وهو سينزعهم من وسطهم الأهلي وسيبعدهم عن العمل اليدوي، (الذي يستغله الكولون). ويذهب السيد مارسيه إلى أن هذه الدعاوى قد تجاوزها الوقت (1908)، لأن الاتجاه أصبح يسير نحو تعليم الجزائريين تعليما يقوم على مبدأين اثنين: أ - أنه موجه إلى سكان هم سياسيا فرنسيون، ولكنهم أجانب من جهة التاريخ والعرق. ب - أنه تعليم يجب أن يكون، إلى أن يحدث نظام جديد (الرعايا) وليس (لمواطنين). وبذلك اقتنع الجميع، حسب رأي السيد مارسيه (¬1). ولا شك أن هذا الرأي يعكس خلاصة الرحلة الطويلة التي قطعها التعليم الأهلي الابتدائي على يد الفرنسيين. وواضح مما ذكره مارسيه أن الزعم بأن الجزائريين هم الرافضون للتعليم رفضا مطلقا ما هو إلا أسطورة، وأن وراء رفضهم مقاومة من جهتهم وعنصرية من جهة الفرنسيين. ونعني بها هذه الإرادة الفرنسية الكامنة والقائمة على احتقار الإنسان الجزائري وسلبه من كل شيء دون إعطائه في المقابل أي شيء، حتى حق التعلم. ومهما كان الأمر، فقد وجه هذا التعليم فعلا توجيها خاصا يخدم المبدأين اللذين ذكرهما مارسيه: كونه لأجانب وكونه لرعايا. نعم أجانب في بلادهم ورعايا للدولة الفرنسية المحتلة. وعلى الأجنبي/ الرعية أن يكون في خدمة رب الدار وسيدها وهو الفرنسي. ولذلك كان تعليم الجزائريين الجديد يهدف إلى العمل المهني واليدوي في المزارع الفرنسية والوظائف المهنية التي يحتاجها الفرنسيون كالطرز والنسيج. وكان تعليما منفصلا عن التعليم الفرنسي المعطى في المدارس العامة. فالمساواة في الأدبيات الفرنسية هي شعار يأكلون به الخبز العالمي ويضحكون به على عقول المغفلين. يقولون ¬

_ (¬1) مارسيه، مرجع سابق، ص 182.

إن الطفل الجزائري ينسى ما تعلمه في المدرسة بمجرد عودته إلى قريته، ولذلك يجب أن يتلقى تعليما مهنيا فقط يفيده في حقله وداره ومع جيرانه وفي العمل عند الفرنسيين. وأصروا على أن يكون التعليم قائما على اللغة الفرنسية وبعض المواد المهنية فقط. وهذا ابتداء من تقرير (بيردو Burdeau) سنة 1891 إلى تقرير (مارسيه) سنة 1908. وقد زعموا أيضا أن التلاميذ الجزائريين كانوا يتغيبون عن المدارس. ولكن المفتشين والملاحظين أثبتوا العكس. فقد قال السيد واهل، مفتش التعليم بالمستعمرات، إنه غير صحيح ما يقال إن التلميذ الجزائري يهرب من المدرسة، وقبل القول بذلك يجب البحث فيما نقدمه له (¬1). ولاحظت مجلة العالم الإسلامي سنة 1908 أن معدل سنوات الحضور للتلاميذ كانت بين أربع وخمس سنوات (¬2). وهي المدة التي تخرجهم بعدها المدرسة مستغنية عنهم بعد أن تتركهم بدون تكوين حقيقي ولا مستقبل واضح. ويؤكد السيد بوجيجا أن الإحصاءات تشهد على أن نسبة التغيب عند الجزائريين كانت 10% فقط (¬3). وهو التغيب نفسه عند التلاميذ الفرنسيين إن لم يكن أقل عند الجزائريين. وذكر السيد بول بيرنار P.Bernard، مدير مدرسة بوزريعة (النورمال)، أن الحضور بين التلاميذ الأهالي مرضي، بل إنه تجاوز الحضور عنذ التلاميذ الأوروبيين. إن الصعوبات الإضافية للتلاميذ المسلمين تجعل المرء يزداد تقديرا لحضورهم. فهم يقطعون بين الخمسة والستة كلم. للوصول إلى المدرسة. وذلك بمحض الإرادة والرغبة منهم، وليس عقابا، لأن إجبارية التعليم لم تطبق في الجزائر على التعليم الأهلي. وعزا السيد بيرنار ذلك إلى تأثير المدرسة في الأطفال إذ قد يأتون إليها مخالفة لرغبة والديهم (¬4). وكان ¬

_ (¬1) واهل (الجزائر ...)، 317. (¬2) مجلة العالم الإسلامي R.M.M إبريل، 1908، 804. (¬3) بوجيجا، مرجع سابق. (¬4) بول بيرنار (التعليم الابتدائي للأهالي المسلمين)، مجلة العالم الإسلامي (1906)، ص 18.

السيد بيرنار بالطبع سعيدا بالنتيجة، لأن ثلاثين ألف طفل جزائري أصبحوا يتلقون تعليما فرنسيا، وهم سيحملون إلى ذويهم بعض الأفكار الفرنسية ومناهج وحضارة فرنسا، وسيصبحون، في نظره، زبائن جاهزين للتجارة الفرنسية، واحتياطيين للتأثير الفرنسي (هكذا يرى الفرنسيون رسالحهم في الجزائر). لكن الجميع اصطدموا بضعف الميزانية التي يدفع المواطن الجزائر أغلبها، ومع ذلك لا ينال منها عشر ما يناله منها الكولون الذين يدفعون إليها أقل منه. لقد بدأ التعليم الأهلي بداية ملفتة للنظر ثم أخذ يتدهور نتيجة ضعف الميزانية وقلة القروض. حماس في البداية ثم تردد وتراجع. كان مقرر الميزانية سنة 1893 هو شارل جونار الذي سيصبح حاكما عاما في الجزائر، بعد عشر سنوات. وبناء على تقريره فإن ميزانية التعليم الأهلي (1893) هي ما يلي: 50.000 فرنك = للدراسة في المعاهد والثانويات الفرنسية (في شكل منح) 621.000 فرنك= للصرف على مختلف أوجه التعليم الابتدائي (بناء المدارس، ورواتب المعلمين). 51.000 فرنك - من أجل المدارس الحكومية الثلاث (فرنكو - إسلا مية). المجموع: 622.850 فرنك، (ويضاف إليها بعض القروض التي تعطى للبلديات لبناء المدارس) (¬1). ولكن هذا البرنامج قد واجه معارضة وعراقيل. فقد كان ينص على إنشاء 600 مدرسة خاصة بالأهالي، خلال عشر سنوات. وكان أصحاب هذا البرنامج يظنون أنها مدارس كافية لاستيعاب الأطفال الذين في سن المدرسة، ¬

_ (¬1) شارك تيار (الجزائر في الأدب ..)، مرجع سابق، ص 160. وقد عرفنا أن البلديات كانت لا تبني المدارس وتصرف مخصصات التعليم الأهلى على المدارس الفرنسية.

ولكن بحلول سنة 1951 كان عدد التلاميذ المتمدرسين يمثل 4.3% فقط، أي ثلاثين ألف تلميذ من مجموع 70.000 في سن المدرسة، وهو عدد قليل جدا، كما لاحظ السيد بول بيرنار (¬1). وهذا العدد يصبح ثلاثين ألفا على 150.000 أي بنسبة 1، 5%، عند السيد مارسيه (¬2). ومعنى ذلك أن روح وحماس مرسوم 1892 لم يتحققا. فالميزانية قد انخفضت كما لاحظنا من 621.000 فرنك (للابتدائي) إلى 215.000 فرنك فقط. ويرجع ذلك، كما قال بيرنار إلى عدم دفع البلديات نصيبها من المال لبناء المدارس من ميزانيتها. وقد توقفت الحكومة عن دفع القروض للبلديات، كما تردد المجلس المالي (الوفود المالية) في الموضوع، واشتدت معارضة العناصر المعادية للتعليم الأهلي. وأمام تدهو التعليم الأهلي من جديد، قام الحاكم العام شارل جونار سنة 1908 بمبادرة أنعشت هذا التعليم قليلا. ولكن المبادرة كانت محل انتقاد شديد أيضا. فقد تعهد ببناء 60 قسما (وليس مدرسة) سنويا لأطفال المسلمين، وحصل على قرض يقدرب 340.000 فرنك. ثم بلغ القرض سنة 1959 ما قدره 540.000 ف. لكن برنامجه لم ينفذ بحذافيره. فلم يبن سنة 1908 سوى أربع مدارس. وتساءل بوجيجا هل يرجع ذلك إلى العراقيل؟ لقد أراد جونار أن ينشر التعليم الفرنسي بين الجزائريين بوسائل غير مكلفة، أي إنشاء مدارس أو أقسام، لا تستجيب لكل الشروط المطلوبة وقليلة المصاريف، وإعطاؤها معلمين من الجزائريين أنفسهم، لأنهم أيضا غير مكلفين، بينما المعلم الفرنسي له راتب محدد. وقد سمى بعضهم هذا النوع من المدارس (المدرسة - القربي - الكوخ)، وسمي هذا التعليم تفكها وسخرية تعليم بورخيص (بومارشي). ذلك أنه كان تعليما لا يحقق الهدف عندهم، وهو تكوين إنسان جزائري متأثر بالفرنسية وحضارة فرنسا ومسلوخ من حضارته. فقالوا إن المعلم الفرنسي يكون متحمسا من أجل فكرة وهي ¬

_ (¬1) بول بيرنار، مرجع سابق، ص 21. (¬2) مارسيه، مرجع سابق، 191.

بث الأفكار الفرنسية في الأهالي، أما المعلم الأهلي فلن يكون له ذلك الحماس. ومن جهة أخرى فإن المعلم الفرنسي يحمل شهادات معينة تؤهله للتعليم، أما المعلم الجزائري فلا يحمل أكثر من الشهادة الابتدائية (¬1)، إلى غير ذلك من الفروق التي تجعل التعليم ضعيف المستوى ولا يحقق هدف مرسوم سنة 1892 في نظرهم. وها نحن نذكر بعض الإحصاءات التي تنتهي بنا إلى سنة 1921. فبين 1959 ونهاية الحرب العالمية الأولى بنيت بعض المدارس والأقسام وازداد عدد التلاميذ في الابتدائي، ولكن ليس بالشكل الذي كان مخططا له، إما لظروف الميزانية التي ذكرناها واستمرار العراقيل، وإما لظروف الحرب التي كادت توقف بناء الأقسام والمدارس، وإما للأزمة الاقتصادية التي تولدت عن الحرب مباشرة. وهذه هي بعض الأرقام، كما أوردها السيد إيمانويل بوجيجا: السنة ... المدارس ... التلاميذ (الأهالي) 1959 ... 286 ... 33.887 1915 ... 301 ... 34.811 1914 ... 452 ... 43.270 1919 ... 474 ... 33.747 (¬2) 1920 أضيف 24 مدرسة، ووجود 916 يقصدها حوالي 35.295 1921 لم تضف مدارس جديدة، لكن الأقسام بلغت 925، ومجموع التلاميذ هو 36.262. ¬

_ (¬1) بوجيجا، مرجع سابق، 62. (¬2) يرجع الانخفاض كما قيل، إلى عدم بناء المدارس خلال الحرب. ولوحظ أيضا أن الأرقام أصبحت تؤخذ لعدد التلاميذ الحاضرين في اليوم الذي تحدده مديرية التربية وليس عدد المسجلين. كما لوحظ أن المواظبة أكثر من السابق، انظر بوجيجا، مرجع سابق، ص 61 - 62.

4 - إن الوضع بعد الحرب قد غير عقلية الجميع وأحدث مفاهيم جديدة في العلاقات والنظرة إلى المستقبل. ومن ذلك الموقف من التعليم الموجه إلى الجزائريين. فقد أصبح الزعماء الجزائريون أكثر إلحاحا على المطالبة بتعليم أولادهم وبحقوقهم المدنية والسياسية. وظهرت محاولات التحدي في هذا الميدان بإنشاء المدارس الخاصة المتبرع لها من قبل الجزائريين أنفسهم، وأخذ هؤلاء يطالبون برخص فتح المدارس لتعليم أولادهم كما اشترط مرسوم 18 أكتوبر 1892. وكان المسؤولون الفرنسيون تارة يستجيبون وتارة يمتنعون. ولكن ذلك كله أدى إلى الضغط على الحكومة الفرنسية، فأصبحت ترصد المال اللازم سواء من ميزانية الجزائر التي يصوت عليها المجلس المالي أو القروض الحكومية المباشرة. وتذكر التقارير أن ميزانية التعليم لسنة 1924 بلغت 13.458.500 فرنك مضافا إليها حوالي خمسة ملايين فرنك لإنجاز البنايات الجديدة (¬1). ويقول بوجيجا إن التعليم الأهلي قد أصبح من مسؤولية الحكومة وليس من مسؤولية البلديات، فهي التي تصرف عليه، فكانت المشاريع تنجز في وقتها في أغلب الأحيان. واتفق الجميع على أن هناك انطلاقة جديدة في ميدان التعليم خلال العشرينات والثلاثينات بفضل النهضة الوطنية، سيما حركة الأمير خالد وحركة ابن باديس. يقول جان ميرانت الذي عاصر هذه الفترة أنه منذ 1922 ازداد التقدم نحو التعليم بين الجزائريين، بنين وبنات. لقد أصبح عدد البنات سنة 1930 مثلا يفوق ست مرات عددهن سنة 1890. فبينما كان عددهن في هذه السنة 1.132 أصبح 6.712 سنة 1929. لقد تدافع التلاميذ على المدارس الفرنسية، بينما كان الأمر من قبل يحتاج إلى ضغوط على الأولياء لإرسال أولادهم إلى هذه المدارس، وأصبح التلاميذ يواظبون على الحضور حتى بلغت نسبة حضورهم 95%، كما أصبح قادة الأهالي يطالبون بفتح ¬

_ (¬1) تيار، مرجع سابق، 160. عن التغيير في الذهنية العامة الذي حدث بعد الحرب الأولى انظر كتابنا الحركة الوطنية، ج 2.

المدارس الجديدة في كل مكان، وبتوسيع القديمة، وهكذا انتزعوا زمام المبادرة من أيدي الإدارة. كما لاحظ ميرانت أن بعض القرى أصبحت هي التي تقدم المكان، منزل مثلا، ليكون مقرا للمدرسة. ولاحظ أن هناك أعيانا يتفاهمون مع المعلمين الفرنسيين لتعليم أولادهم على حسابهم. والغريب أن ميرانت لا يفسر هذه الظاهرة باستجابة الجزائر لداعي النهضة والتأثر بروح المرحلة في أوروبا وفي الشرق، ولكن يفسرها بالتفضل الفرنسي، إذ يقول إن المدرسة الفرنسية قد (احتلت) قلوب الجزائريين، رغم التعصب السابق والكراهية لها والأحكام المسبقة. وبذلك أصبحت المدرسة (الفرنسية) في حد ذاتها محبوبة ومحل اعتبار في نظره. والواقع أن الجزائري كان يحب العلم حيث وجده، وقد كان يتدافع على المدرسة العربية الجديدة كالشبيبة والتربية والتعليم. كما كان يهاجر في طلب العلم ولو في الصين. ولكن ميرانت يذهب إلى أن الجزائريين قد تأثروا بحكم اتصالهم بالفرنسيين وتجنيدهم في الجيش الفرنسي واختلاطهم بالكولون، وذهابهم إلى فرنسا للعمل، وبكونهم فهموا أن مصلحتهم تقتضي تعلم الفرنسية وامتلاك التعليم الابتدائي بها (¬1). وهذا الرأي، إذا كان صحيحا بالنسبة للنقطة الأخيرة وهو السفر إلى فرنسا للعمل، فإنه قد لا يكون صحيحا بالنسبة لقضية الجندية والاختلاط بالفرنسيين، ذلك أن الجزائريين قد عرفوا الفرنسيين وخدموا في جيشهم كمتطوعين، منذ الاحتلال وحاربوا معهم في مختلف أنحاء العالم أيضا (¬2). ويتفق بوجيجا في بعض النقاط مع الرأي السابق، سيما في قضية الحضور المكثف، حتى لقد بلغ العدد 43 تلميذا في الفصل (القسم)، وكذلك المواظبة. وقد ازداد تبعا لذلك عدد المدارس والأقسام وعدد التلاميذ. وإذا كان الفضل في هذا الإقبال يرجع إلى روح النهضة والوعي السياسي والوطني ¬

_ (¬1) ميرانت (كراسات ...)، 90 - 91. (¬2) حاربوا معهم في عدة نقاط كإيطاليا، والمكسيك، ومدغشقر، وألمانيا، والهند الصينية.

في الجزائر، وهو ما لم يدركه الفرنسيون إلا في وقت لاحق، وإلى انتظام ميزانية التعليم إلى حد كبير، فإن بوجيجا يذكر فضلا آخر، ولكنه ينسبه إلى جهود ثلاثة رجال عاصروا هذه المرحلة. فمنذ 1909 استحدث وظيف جديد يسمى المفتش العام للمدارس الأهلية بجانب مدير التربية (الريكتور). فكان المفتش يساعد المدير في مهمته. وقد تولى منصب المفتش على التوالي منذ إنشائه: جورج مارسيه، ثم هيرلوك (1913)، ثم جاكار. وفي سنة 1936 تولاه دوماس. وإلى هؤلاء يرجع الفضل، في نظر بوجيجا، في جعل المدارس واسعة وسهلة البناء. وهكذا أصبح بإمكاننا أن نقدم بعض الإحصاءات لفترة العشرينات والثلاثينات لنفهم من خلالها مدى التقدم الذي حصل من جهة ومدى الحاجة إلى المزيد من جهة أخرى. ذلك أن عدد السكان الجزائريين كان يفرض مضاعفة العدد الموجود من المدارس والأقسام. ونحن نعرف أن مدارس الحركة الإصلاحية في هذه الفترة، كانت تنافس المدارس الفرنسية عددا وعمرانا، وهي تعتبر مدارس خاصة وحرة. في 1926 بلغ عدد الأقسام 1.018 قسما للبنين، في كل قسم حوالي 43 تلميذا. وبلغت نسبة الحضور 90%. وعدد التلاميذ الإجمالي بلغ 43.318 وتشير الإحصائية إلى زيادة 1، 211 تلميذ على سنة 1925. أما سنة 1926 فقد كانت هناك 519 مدرسة تضم 1.033 قسما، بمجموع 45.000 تلميذ يترددون على المدارس (الأهلية). وهناك 9، 000 تلميذ يترددون على المدارس الأوروبية في أقسام خاصة تسمى (ملحقات) الأهالي. وفي سنة 1933 هناك 570 مدرسة للجزائريين تضم 1.506 أقسام، ويتردد عليها 56.330 تلميذا. وقد ثبت أن التلاميذ (الحاضرين) في المدارس العمومية بلغ 40.866 وفي المدارس الخصوصية 663، فالجملة 41.529 تلميذا (¬1). ¬

_ (¬1) بوجيجا، مرجع سابق، 63 - 64. لاحظ بوجيجا أن الفرنسيين اهتموا منذ الثمانينات من القرن الماضي بالتعليم في زواوة خاصة، وقال إن المدارس الابتدائية قد بلغت =

وحسب إحصاء سنة 1936 فإن عدد الأطفال الجزائريين في المدارس الابتدائية الأهلية قد بلغ 75.191 تلميذا، منهم 66.861 بنين، و 8.330 بنات. وعدد هذه المدارس عندئذ 732. فإذا أضيف إلى ذلك عدد التلاميذ المسموح لهم بالذهاب إلى الأقسام الخاصة أو الملحقات في المدارس الفرنسية، فإن العدد يصل إلى 101، 253، منهم 85.389 بنين، و 15.854 بنات (¬1). ورغم هذه الأرقام فإنه يجب أن لا تخدعنا. فهي لا تدل على الحضور الفعلي، ولا تنص على عدد الخريجين الذين ينالون الشهادة الابتدائية الخاصة بالأهالي. فنحن إلى الآن لا نعرف مدى تأثير هذا التعليم في الحياة اليومية للناس، رغم (احتلال) المدرسة قلوب الجزائريين، كما قال جان ميرانت. فكم تخرج من هذه المدارس سنويا؟ وماذا يفعل المتخرجون بتعليمهم؟ وهل تقبلهم المؤسسات المتوسطة والثانوية الفرنسية، وإذا لم تقبلهم (بتعليمهم الأهلي) فإلى أين يتجهون؟ إنها دوامة لا يجد الباحث لها جوابا سريعا. إن التلاميذ المسموح لهم بدخول الثانويات الفرنسية عدد ضئيل جدا، كما لاحظت. وليس هناك متوسطات ولا ثانويات خاصة بالمسلمين، كما هو الشأن في الابتدائي. فلماذا إذن هذه الضجة؟ إن عدد الذين وصلوا إلى الجامعة من الجزائريين لم يتجاوز 89 طالبا (سنة 1940). ومع ذلك فالتعليم على ¬

_ = سنة 1930 بين عامة وخاصة 549 مدرسة، بعضها بقسم (فصل) واحد فقط، وبعضها بعشرة أقسام. وبلغ عدد معلميها، وهم في الغالب جزائريون، 383 معلما. والظاهر أنه يقصد بالمدارس الخاصة مدارس الآباء البيض. انظر ص 63. ويقصد بوجيجا بكلمة (الحاضرين) أن هناك فرقا بين التسجيل والحضور في عدد التلاميذ. وإيمانويل بوجيجا كان رجلا متقاعدا وإداريا قديما، عاش في منطقة زواوة، وحضر زيارة جول فيري وبيرتيلو وغيرهما لها في الثمانينات من القرن الماضي - 1887 - أما زوجته، ماري بوجيجا فقد تخصصت (منذ أربعين سنة) في قضية المرأة المسلمة (المضطهدة) في نظرها. (¬1) أرشيف إيكس (فرنسا) 61 H 10 نقلا عن جريدة (وهران الجمهورية) 18 يوليو، 1937.

انحرافه عن الهدف التربوي الحقيقي وعن ربطه بالمجتمع، فإنه فتح أعين الجزائريين على حقائق جديدة، وقد نجحت الحركة الإصلاحية والحركة السياسية، في تجنيد مجموعة من أبناء التعليم الأهلي الفرنسي فأنقذتها ووجهتها ورمت بها وسط الشعب لأداء المهمة الحضارية الحقيقية. فاثمرت جهودها في الإصلاح الاجتماعي والتحرر السياسي. ونحن لا نستغرب أن يخرج أحد الفرنسيين مثل (جورج هاردي G.Hardy) لينتقد مسيرة التعليم الأهلي الفرنسي سنة 1937 بشيء من السخرية والتحدي. فهو يرى أن المسألة بلغت حد التضحية. مائة ألف تلميذ جزائري في المدرسة! هكذا تعجب السيد هاردي. ومع ذلك فإن الحضور الحقيقي لا يتجاوز الثمانية أو التسعة آلاف طفل. إن السكان يتزايدون، وفي كل عام تفتح أقسام جديدة لأعداد جديدة من التلاميذ. وميزانية هذا التعليم صخرة ثقيلة على صدر الميزانية العامة، في نظره، وهي الميزانية التي يرصدها له المجلس المالي والحكومة العامة، رغم شدة الحاجة إلى هذه الميزانية في جهات أخرى (؟) حسب دعواه. وقال جورج هاردي إن الحكومة تقدم كل عام 187 مليون فرنك معونة لميزانية الجزائر لتصرف على تحسين أحوال الجزائريين، ومن ذلك المبلغ 35 مليونا للتعليم. وأعلن أن هذا النوع من المعونة جديد في تاريخ الاستعمار، ولا يمكن استمراره. والحل؟ إما بقاء الحالة البطيئة للتعليم والتي لا فائدة منها في القريب العاجل، وإما الاعتماد على تلاميذ المدن فقط وعددهم لا يزيد عن 65 ألف تلميذ بين بنين وبنات في كل الأقاليم الثلاثة. أما أبناء الأرياف فلا حظ لهم عند جورج هاردي في ذلك الوقت وعليهم الانتظار (¬1). وهناك ملاحظات أخرى أبداها أحد الأجانب على التعليم الأهلي الفرنسي، جديرة بالنظر أيضا لأن الفرنسيين يضخمون فصائلهم حتى لا يرون في أنفسهم وأعمالهم إلا الحق والخير، ولو كان الأمر عكس ذلك. يقول ¬

_ (¬1) انظر مقالته في (إفريقية الفرنسية)، عدد غشت/ سبتمبر 1937.

هذا الكاتب إن المعلم الفرنسي البعيد في الواحات والمناطق النائية لا يتعب نفسه من أجل أولاد يعرف مسبقا أنهم لن يستفيدوا من جهده. فالأولاد لا يبقون أكثر من سن 13 أو 14، وهم ينسون بعد خروجهم كل ما قرأوا إلا القراءة والكتابة. وأولياؤهم لا ينكرون فائدة تعليمهم، ولكنهم يستفيدون منهم أكثر إذا خرجوا من المدرسة أو بقوا إلى جانبهم من البداية. ثم إن بعض الأعيان كان يدفع عن أبنائه حتى المنح الدراسية في الثانويات الفرنسية، ولكن بعد تخرجهم وعودتهم إلى أهلهم يجدون أنفسهم لا يختلفون عن أخوتهم الذين اكتفوا بقراءة القرآن والتعليم التقليدي، ولم يضيفوا جديدا سوى العيوب الأوروبية. وقد لاحظ هذا الكاتب أيضا كثرة المتكلمين بالفرنسية من العرب الجزائريين، بينما في الهند فالبريطانيون الرسميون هم الذين يتعلمون الأردية ليتصلوا عن طريقها بالسكان. وأما في الجزائر فالعرب هم الذين عليهم أن يتعلموا الفرنسية ليتصلوا بالفرنسيين. وإذا كان التلميذ المتخرج من المدرسة الابتدائية على درجة طيبة من الذكاء فأمامه مدرسة ترشيح المعلمين (النورمال) وهو يدخلها مجانا ليصبح بعد التخرج منها معلما في المدارس الفرنسية (¬1). إلى هنا نكون قد أتينا على المراحل الأربع التي وعدنا بها بالنسبة للتعليم العربي/ الفرنسي الابتدائي للجزائريين. وقد رأينا أن المرحلة الأولى قد تميزت بالإهمال من جانب الفرسيين والانشغال بالاحتلال والحرب والاستيلاء على الأوقاف والأرض. كما كان الجزائريون خلالها يقاومون النفوذ الفرنسي المتمثل في الغزو بشتى أشكاله، ومنه الغزو عن طريق المدرسة. وكان الجزائريون يأملون في جلاء فرنسا عن بلادهم، وتغلب حركة الأمير عبد القادر. ومنذ انتهاء هذه المقاومة ونضوب معين العلم وإطلاق إشارات الخطر من كتاب أمثال دي طوكفيل وقادة أمثال الجنرال بيدو، تكونت لجنة لدارسة الوضع التعليمي وخرجت ببرنامج يتبنى التعليم ¬

_ (¬1) هذه الملاحظات أبداها بودلي R.V.C.Bodley (الجزائر من الداخل)، لندن، 1927، فصل التعليم العربي. وهو يتفق في بعض ملاحظاته مع بعض الفرنسيين أنفسهم.

المزدوج على أن تكون فيه اللغة الفرنسية هي السيدة. وبذلك بدأت المرحلة الثانية منذ 1851. وقد تميزت بعدم الفعالية أيضا لأن مجموع ما ظهر من المدارس المزدوجة لا يعدو 34 أو 36 مدرسة في مجموع القطر الجزائري إلى سنة 1870. وخلال المرحلة الثالثة ألغيت هذه المدارس إلا ما كان منها في المناطق العسكرية، ورجع الإهمال للتعليم الجزائري، إلى 1883 حين ظهرت بوادر الاهتمام، ولكن في شكل قرارات وإجراءات جزئية فقط، دون إنشاء المدارس ورصد الميزانية اللازمة له، وكانت معارضة الكولون وزعماؤهم للتعليم الأهلي قوية، وبذلك انتهت المرحلة الثالثة بدون نتيجة إلا من بعض المراسيم التي ظلت في أغلبها حبرا على ورق. لكن المرحلة الرابعة هي التي شهدت ميلاد المدرسة الفرنسية الخاصة بالجزائريين، رغم التعثرات، وكان التعليم فيها موجها توجيها خاصا ويهدف إلى إخراج إنسان جزائري مسلوب من كل تاريخه ولغته وبيئته ودينه، فهو يتلقى تعليما خاصا في مدارس خاصة على يد معلمين خاصين وكأنه كان من جنس خاص. وبعد أن يتشوش ذهنه خلال ست سنوات ونحوها يرمى به للشارع. إذ لا حظ له في المواصلة، وقد ابتعد عن المدارس القرآنية. والنادرون فقط هم الذين يلتحقون بمدرسة ترشيح المعلمين في القسم الخاص (بالأهالي) أيضا. وقد يلتحق بعضهم بإحدى المدارس الرسمية الثلاث التي سنتحدث عنها. وهكذا، فإنه إلى سنة 1940 لم تكن قضية تعليم الجزائريين قد وجدت حلا جذريا في الإدارة الفرنسية لعدم الحسم في هوية الجزائري: هل هو فرنسي فيتلقى تعليما كالفرنسيين؟ كيف يقع إقناع الأولياء بذلك؟ أو هل هو عربي مسلم فيتلقى تعليما يتماشى مع هويته وحضارته؟ وكيف يقتنع الكولون بذلك؟ وبينما كانت الإدارة الفرنسية جامدة أو مترددة في موقفها، كانت الحركة الإصلاحية قد وجدت الجواب فأخذت تعلم أبناء الوطن تحت شعار: الإسلام ديننا، العربية لغتنا، الجزائر وطننا (¬1). ¬

_ (¬1) عالجنا ذلك في فصل التعليم في المدارس الحرة.

المدارس الشرعية الثلاث

المدارس الشرعية الثلاث لم يفكر الفرنسيون في إنشاء تعليم في المستوى المتوسط والثانوي للجزائريين إلا منذ 1850، أي بعد عشرين سنة من الاحتلال. وقد تزامن ذلك مع ظهور المدرسة العربية - الفرنسية الابتدائية التي أنشئ منها ست مدارس فقط إلى السنة المذكورة. أما المتوسط فقد أنشئ له ثلاث مدارس فقط في كل من البليدة وقسنطينة وتلمسان. وتسمية هذه المدارس خضعت لعدة اعتبارات. فمن حيث الإشراف عليها هي مدارس حكومية رسمية، ولذلك كانت تسمى في أغلب الأحيان بالمدارس الحكومية الثلاث أو المدارس الرسمية. وكان الفرنسيون يطلقون عليها الاسم العربي وهو (المدارس Les Medersas). ولا يسمونها بالاسم الفرنسي écoles أو lycées أو colleges، أو يترجمون معنى هذه إلى العربية. بل انطلقوا في التسمية من التقاليد الإسلامية التي تطلق اسم المدرسة على المكان المخصص لتدريس العلوم بالمستويات الثانوية والعالية، مثل المحمدية بمعسكر والكتانية في قسنطينة والقشاشية في العاصمة. وكانت عبارة المسيد أو الكتاب أو المكتب خاصة بالتعليم الابتدائي (القرآني). أما التعليم العالي فكان مقره المساجد الكبرى والزوايا الشهيرة. وأما من حيث البرامج والأهداف فقد كانت المدارس الثلاث تسمى بالفقهية، وهذا من إطلاقات جريدة (المبشر) الرسمية. ذلك أن برنامج المدارس تضمن تدريس الفقه والمواد الدينية الإسلامية وكان يهدف إلى تخريج القضاة والأيمة الذين تحتاجهم الإدارة. وكانت الدراسة في أول إنشاء هذه المدارس كلها بالعربية (¬1)، ومنذ 1876 أدخلت عليها تغييرات، منها ¬

_ (¬1) يقول ميرانت أنه ابتداء من سنة 1863 أضيف أستاذ فرنسي لتعليم اللغة الفرنسية إلى هيئة التدريس في كل مدرسة من المدارس الشرعية. انظر (كراسات)، ص 80 =

ازدواجية برنامجها ولغة التدريس فيها. وأصبحت من ذلك العهد يطلق عليها المدارس العربية - الفرنسية أو الفرنسية الإسلامية (فرنكو - آراب/ فرنكو - ميزولمان). وعند إنشائها كان وضعها فوضويا، لا حدود فيها لسن الداخل إليها، ولا شروط في مستوى تعليمه، فقد يدخلها من سبق له التعلم ومن لم يسبق له، ويدخلها صغير السن والمتقدم في السن. ولا شروط أيضا في معلميها من حيث المستوى والشهادات. تكفي فيهم فقط الشهرة في وقتهم والولاء لفرنسا. ولكن هذا الوضع قد تغير بعد 1876 أيضا. فقد اتخذت إجراءات عديدة تتعلق بالتلاميذ والمعلمين والامتحانات والإدارة، سنتحدث عنها. من الصعب أن نقول إن المدارس المذكورة كانت ابتدائية أو متوسطة أو ثانوية أو حتى عالية. فإذا نظرنا إلى فترة تأسيسها وانطلاقتها إلى حوالي 1876 فإنها لا تعدو أن تكون مدارس متوسطة، رغم وجود بعض الشيوخ المؤطرين لها ومستوى دروسهم التي كانت أحيانا في مستوى الثانوي. وبين 1876 و 1895 كانت المدارس تبث تعليما في مستوى الثانوي بالفرنسية وفي مستوى المتوسط بالعربية، رغم أن الفرنسيين يصفون التعليم بالعربية فيها بأنه (عال) superieur، ولكن منذ 1905 استحدث في مدرسة الجزائر فقط تعليم يمكن تسميته عاليا، إذ لا يدخله من التلاميذ إلا من قضى أربع سنوات بالمدرسة وحصل على (البروفي؟) وخارج هذا القسم الخاص لا يوجد تعليم عالي في الجزائر مزدوجا أو عربيا، ولكن من الناحية النظرية يمكن للجزائريين دخول جامعة الجزائر، والدراسة فيها بالفرنسية فقط. وقد لاحظنا أن الجامعة كانت محتكرة للفرنسيين، فلم يكن في كلياتها الخمس ومعاهدها من الجزائريين سنة 1940 سوى 89 طالبا. ¬

_ = وكانت مدرسة الجزائر هي الوحيدة التي تنقلت بين المدية ثم البليدة (1855) ثم العاصمة من جديد 1859 حيث استقرت. وكانت المدارس الثلاث تابعة للحكم العسكري، أما إصلاح 1876 فهو الذي وضعها تحت الحكم المدني وسلطة (الأكاديمية) أو مديرية التربية.

وبالنظر إلى برنامج المدارس الثلاث وأهدافها المذكورة يمكننا أن نبقى على تسمية جريدة المبشر لها وهي تسميها بالفقهية. ولكن هذا الاطلاق يصدق فقط على العهد الأول حين كانت تحت إدارة عربية وكانت موادها عربية - إسلامية. أما منذ تولاها المستشرقون وتغيرت برامجها فالتسمية بالفقهية لم تعد صالحة في نظرنا. والأولى أن نسميها بالمدارس الشرعية - الفرنسية. وكلمة (شرعية) هنا لا تعني الشريعة أو التشريع الإسلامي فقط، ذلك أن القانون الفرنسي كان أيضا يدرس في هذه المدارس، وقد فقدت الشريعة الإسلامية فيها سلطتها منذ حوصر القضاء الإسلامي في المحاكم، كما أن اللغة الفرنسية والأفكار الفرنسية كانت هي الغالبة عليها. ولذلك نميل إلى التسمية المذكورة، وهي الشرعية - الفرنسية. سبق إنشاء المدارس الشرعية - الفرنسية عدة محاولات ولكنها جميعا لم تثمر. فبعد إهمال التعديم الابتدائي العربي - الإسلامي، وقع فراغ مخيف في الحياة العلمية والثقافية، وكذلك بالطبع في الحياة الدينية ولا سيما في ملء الوظائف القضائية والإمامة وما إليها. فمهما اشتغل الفرنسيون بالحرب وقمع المقاومة، ومهما اشتغلوا بمصادرة أموال الأوقاف والأماكن الدينية، فإنهم كانوا في حاجة إلى موظفين جزائريين في إدارة القضاء والقيام بالعبادات في المساجد وغيرها مما لا يمكنهم هم أن يقوموا به. كانت المحاولة الأولى هي إنشاء كوليج الجزائر (1837) وهو للتعليم الثانوي الفرنسي لكن من حيث المبدإ يمكن للجزائريين دخوله. وقد رأينا أنهم قاطعوه. فطرأت فكرة أخرى على الفرنسيين وهي إنشاء كوليج عربي في باريس لاستقبال التلاميذ والضيوف العرب، (سنة 1839)، ولكن التجربة أيضا لم تنجح إذ لم يذهب إليه الجزائريون وعارضوا إرسال أبنائهم إليه، كما لاحظنا أيضا. وفي سنة 1844 كتب الضابط ليون روش Leon Roche (¬1) ¬

_ (¬1) عن ليون روش انظر كتابنا الحركة الوطنية، ج 1. وكان قد تجسس على الأمير عبد القادر لصالح المارشال بوجو، وزار الحجاز متنكرا باسم (عمر) ورجع بفتوى ضد المقاومة، وتولى وظائف عليا، منها قنصل فرنسا في المغرب ثم تونس. وله =

تقريرا اقترح فيه إنشاء معهد عربي في الجزائر، لتدريس المواد العربية والإسلامية لسد الفراغ في هذا الباب وتوظيف خريجيه فيما تحتاج إليه فرنسا. وقد صادف هذا التقرير بداية الاهتمام لدى السلطات الفرنسية بقضية التعليم للجزائريين ووضع فلسفة تخدم الوجود الفرنسي. تجمد تقرير ليون روش وبدأت لجنة الجنرال بيدو في عملها. وقد استغرق البحث والدراسة أربع بل خمس سنوات، ثم خرجت التوصيات والاقتراحات بإنشاء تعليم يقوم من جهة على الازدواجية ومن جهة أخرى يقوم على قطع الطريق على المغامرين في نظر الفرنسيين، وهم أولئك المسلمون الذين يأتون إلى الجزائر من المغرب أو من تونس أو غيرهما لنشر التعليم وتولي القضاء والإمامة بدعوى أن الجزائر قد أصبحت شاغرة من أصحاب هذه الوظائف. صدر مرسوم إنشاء المدارس الشرعية - الفرنسية بتاريخ 30 سبتمبر 1850. وقد نص على إنشاء ثلاث مدارس واحدة في قسنطينة، وأخرى مقرها تلمسان، وثالثة في المدية. ويقول المستشرق ألفريد بيل الذي تولى إدارة مدرسة تلمسان مدة طويلة بعد ذلك، إن الهدف من إنشاء المدارس الشرعية الفرنسية، هو إعادة الثقة للمغلوبين (الجزائريين)، وجلب الطلبة الذين كانوا من قبل يتوجهون للدراسة في الجامعات (الأجنبية)، وخصوصا المغرب. والمقصود من المدارس تكوين المترشحين للوظائف المتصلة بمصالح الدين والقضاء والتعليم العام للأهالي وللمكاتب العربية (¬1). كان لكل مدرسة ثلاثة معلمين مسلمين (جزائريين) أحدهم مدير ¬

_ = كتاب في جزأين قص فيه حياته ومغامراته، سماه (اثنان وثلاثون سنة في الإسلام)، باريس 1884. وقد نشر عنه يوسف مناصرية كتابا سماه (مهمة ليون روش في الجزائر والمغرب)، 1990. انظر أيضا بحثنا (فرنسيان في الحجاز) مجلة (المنهل) عدد غشت، 1996. (¬1) كان في كل مكتب عربي (وهو في الواقع مكتب عسكري فرنسي) قاض جزائري، وقد لاحظ الفرنسيون أنهم لم يعودوا يجدون من يوظفون في هذا المنصب الحساس. وكان ذلك من دوافع إنشاء هذه المدارس.

للمدرسة. وكانوا يتوزعون المواد التي هي: النحو، والأدب، والفقه، وأصول الدين، والتوحيد. ونلاحظ أن إنشاء المدارس كان في كل مدينة إسلامية عريقة، فتلمسان معروفة كعاصمة قديمة لمملكة بني زيان، واشتهرت بعلمائها وصلحائها ومساجدها وقبابها ومدارسها وحضارتها وصنائعها الإسلامية. ومدينة قسنطينة كذلك كانت مدينة العلم والحكم في العهد الحفصي، واشتهرت أيضا بعائلاتها العلمية وبمشيخة الإسلام في العهد العثماني وبالمدرسة الكتانية في عهد صالح باي. أما مدينة المدية فقد كانت معتزة بمحافظتها على التقاليد العربية الإسلامية، وبكونها عاصمة إقليم التيطري في العهد العثماني، وكانت نقطة ارتكاز هامة أثناء المقاومة تطل على العاصمة في عهد الأمير عبد القادر، ولها مساجدها وعمرانها. وقد عرفنا أن إقامة المدرسة في المدية لم تطل، وأنها انتقلت بعد خمس سنوات إلى البليدة، وبعد حوالي أربع سنوات نقلت إلى العاصمة. من الميزات كذلك أن المدارس الشرعية - الفرنسية قد وضعت منذ البداية تحت إشراف السلطات العسكرية، رغم أن إدارتها كانت عربية ومعلميها من العرب. فهي مدارس تقع تحت إشراف الحاكم العام، وتحت مراقبة الضباط الحاكمين في كل إقليم من الأقاليم الثلاثة عندئذ. ومن خصائصها أنها نشأت إلى جانب أحد المساجد أو قريبا من ذلك. وكانت السلطات الفرنسية تجري عليها تفتيشا سنويا، يقوم به مفتش فرنسي له علاقة بالشؤون العربية (العسكرية)، ويساعده في ذلك أحد المستشرقين القائمين على حلقات اللغة العربية الثلاث، وكان الحاكم العام هو الذي يعين هذا المساعد للقيام بمهمته. وكان التعليم مجانيا في المدارس الشرعية - الفرنسية، وليس هناك امتحان دخول إليها في البداية. وكان على الطالب أن يتقدم فقط بطلب إلى المكتب العربي بالناحية على أن يوافق عليه الحاكم العسكري. وبعد تقدم السنوات أضيف شرط، وهو امتحان دخول لمعرفة ما إذا كان التلاميذ يعرفون القراءة والكتابة بالعربية. ولذلك قلنا إن مستوى تعليمها في هذه المرحلة

ابتدائي، رغم قول الفرنسيين أنه ثانوي أو عالي. فكون المتلقي كبير السن لا يجعل مستوى التعليم عاليا سواء كان المتلقي يعرف القراءة والكتابة أو لا يعرفهما. لقد كان في إمكان التلاميذ أن يدخلوا المدارس المذكورة في أي وقت شاؤوا من السنة، فدروسها عبارة عن دروس حرة. وكان طلابها أو تلاميذها متقدمين في السن، ومنهم من وصل إلى سن الأربعين، وفي أغلب الأحيان قد وخطهم الشيب، كما يقول المستشرق بيل. وبناء على توصية من لجنة (قاستنبيد) جرى امتحان دخول للمدارس الثلاث وشارك فيه لأول مرة سنة 1869 رجال الزوايا. وكان ذلك بإلحاح من المكي بن باديس الذي قيل عنه أنه كان ضد المدارس الثلاث وكان يقف مع استقلال المجالس القضائية ويدافع عن الدين الإسلامي. وقد فاز رجال الزوايا بوظائف القضاء، ولكن مشاركة رجال الزوايا ألغيت في عهد الحاكم العام شانزي (انظر لاحقا) سنة 1877. ويبدو أن الإقبال على المدارس الرسمية في البداية كان مرتفعا إذ يذكرون أن عدد التلاميذ في المدرسة الواحدة كان بين 50 و 60 بسبب ما أشيع من أن التلميذ المنتظم يتحصل على حوالي 80 سنتيم في اليوم. ولكن ذلك لم يستمر، لأن معدل الحضور، كما سنرى، كان بين 15 و 20 فقط. وقد قدرت بعض التقارير أن المنحة السنوية للتلميذ المنتظم كانت حوالي مائة فرنك سنويا، إذا أثبت التلميذ أنه نجيب. وكان يمكن للتلاميذ السكنى في المدرسة إذا توفر لها ذلك. ولكن التقارير أثبتت أن الشروط الصحية كانت سيئة. كذلك لم يكن هناك شروط لاختيار المعلمين، ولا المدير، ولا توجيه التعليم. فقد ترك توجيه التعليم للمعلمين أنفسهم، على أن يخضع لزيارة المفتش الفرنسي، كما لاحظنا، ليطلع على سير التعليم. والغريب أن السلطات العسكرية قررت إلغاء مادة التوحيد من التدريس، وهو قرار خارج عن نص المرسوم بإنشاء المدارس. ويقول المستشرق بيل أن أحدا (من الأهالي) لم يتقدم بشكوى من ذلك. وسنرى أن باب الجهاد والضرائب قد ألغى أيضا من أبواب الفقه. وكانت مدة الدراسة ثلاث سنوات فقط. وقلما يواصل التلاميذ تعلمهم إلى نهاية الفترة، على قصرها، إذ أنهم يغادرون

المدرسة كلما وجدوا وظيفة (صغيرة) في القضاء أو الديانة. هكذا يصف المستشرق بيل وظيفة الديانة والقضاء بالصغيرة، وأنها لكبيرة لو كان يدرك هو ومن تولاها مغزاها وأهميتها. ولكن هذه الوظيفة استهزئ بها زمن الاحتلال حتى تولاها الأميون وأشباههم، وكانت النتيجة هي ذلك الضحل من العلم والإساعة إلى الدين الإسلامي والقضاء والتعليم. وفي 1863 عدل مرسوم إنشاء المدارس وأضيفت اللغة الفرنسية والحساب والهندسة والتاريخ الفرنسي والجغرافية إلى مواد الدراسة كما سبقت الإشارة. والمهم هو أن هذه المواد كان يغطيها معلمون فرنسيون، وكان المدير يغطي مادة واحدة. وبالإضافة إلى المعلمين كانت كل مدرسة تضم أيضا وقافا أو قيما (¬1). إن برنامج المدارس الشرعية - الفرنسية قد أصبح يساير المدرسة العربية - الفرنسية، بعد حوالي ثلاث عشرة سنة من إنشائها. وقد جاء في أحد التقارير أن للمدارس الشرعية - الفرنسية (صبغة سياسية). وأنها لكذلك. فقد ذكرنا أنها كانت تخضع لرقابة السلطات الحاكمة، والعسكرية بالخصوص. وأن مادة التوحيد والجهاد قد أزيلت من برنامجها. والذين عينهم الفرنسيون على رأسها هم من القضاة السابقين في المكاتب العربية مثل الشيخ محمد الشاذلي بقسنطينة. وأثبت التقرير أيضا أنه بعد حوالي خمس سنوات من إنشائها أصبح بالإمكان توظيف خريجيها وإدخال المواد الفرنسية على برنامجها وأن دروسها على ما يرام بعد أن أثبت التفتيش ذلك، كما أثبت تطوير المعلمين المسلمين فيها، وأنه لن يطول الزمن حتى ينفروا من الدراسات القرآنية والتقليدية ويستقبلوا الدراسات والأفكار الفرنسية بصدر رحب. وقد أثبت هذا التقرير أيضا أن عدد التلاميذ الإجمالي هو 66 تلميذا كانوا موزعين هكذا: 26 في مدرسة البليدة، و 26 في مدرسة قسنطينة، و 14 في مدرسة تلمسان. أما الميزانية السنوية فتبلغ 23.000 فرنك. وهي تخرج من ميزانية الدولة (¬2). ¬

_ (¬1) السجل (طابلو)، سنة 1846 - 1850، ص 195 - 196. (¬2) عبد الحميد زوزو، (نصوص ...)، مرجع سابق، ص 218 - 220.

أما المدراء والمدرسون فكان وزير الحرب هو الذي يعينهم باقتراح من الحاكم العام. وأما الحارس أو الوقاف فيعينه الوالي بناء على اقتراح من مدير المدرسة. وأجرة المدير كانت 2.100 ف. سنويا. وأجرة المعلمين 1، 500 ف. وليس هناك شروط لاختيار المعلمين. ومن أوائل مدراء هذه المدارس هم حسن بن بريهمات في البليدة - الجزائر، ومحمد بن عبد الله الزقاي في تلمسان، ومحمد الشاذلي في قسنطينة (¬1). واشتهر من بين شيوخها في قسنطينة الحاج أحمد المبارك المعروف بالعطار والمكي البوطالبي، وكلاهما من بقايا المدرسة القديمة ولهما إلمام واسع بالمعارف الإسلامية. وكان الطاهر بن غراس من أوائل شيوخ مدرسة تلمسان التي بدأت عملها في مدرسة سيدى بومدين بقرية أو ضاحية العباد ثم تحولت إلى تلمسان نفسها ابتداء من سنة 1853 (¬2). لقد كانت المدارس الشرعية - الفرنسية وسيلة أخرى لتجنيد الجزائريين إلى جانب الإدارة الفرنسية. فبعد الفراغ الذي خدفه (المتعصبون) المعاصرون للحملة، وهم الذين حملوا السلاح وقاوموا الاحتلال، أرادت السلطات الفرنسية أن تعلم جيلا من أبناء هؤلاء ليكونوا لها مطية في تولي الوظائف القضائية والدينية، كما تولى القسم الآخر من هذا الجيل الوظائف الإدارية - الباشغوات والأغوات والقياد الخ. - وقد أثمرت الجهود فأخذ الفرنسيون يعينون، منذ منتصف الخمسينات، من خريجي المدارس التي أنشأوها. وكما حل أغوات فرنسا محل خلفاء الأمير عبد القادر حل كذلك قضاة فرنسا محل قضاة الأمير، وكذلك محل القضاة الآخرين الذين لم يمروا بالمدرسة الفرنسية ولم يلامس أمخاخهم الفكر الفرنسي، قضاة وعلماء كانوا قد درسوا ¬

_ (¬1) وكلهم اشتغلوا أيضا في السلك القضائي. انظر فصلا آخر تناولنا فيه هذا السلك. (¬2) انظر ألفريد بيل، (مؤتمر شمال إفريقية)، ج 2، 1908، باريس، ص 219. وقد تعرض الباحث إبراهيم الونيسي إلى ما جاء في جريدة (المبشر) عن المدارس الشرعية - الفرنسية، سيما أعدادها 12 جوان، 1861، و 24 أكتوبر 1877. انظر رسالته، مرجع سابق.

في المغرب أو المشرق. وقد وجدنا جريدة المبشر تنشر سنة 1867 بمناسبة المجاعة المهولة التي حدثت بالجزائر كلها، الرسالة التي بعثت بها مجموعة من قدماء مدرسة الجزائر إلى مديرها الشيخ حسن بن بريهمات. وفي الرسالة بعض النقود التي تبرعوا بها لتلاميذ المدرسة المتضررين من المجاعة، وكتابين للمدير، واعتزاز بانتمائهم إلى المدرسة وبالوظائف التي أصبحوا يتولونها بعد تخرجهم منها. وكان عددهم، حسب الرسالة، ستة عشر قاضيا وعدلا وباش عدل، في دوائر المدية، والأصنام (الشلف)، ومليانة، وسور الغزلان. ومنهم محمد العنتري (بني مناصر)، ومحمد الحميسي (العطاف)، والحاج محمد طيفور (¬1). ولكن ليس كل خريجي المدارس الشرعية - الفرنسية كانوا يجدون الوظائف مفتوحة أمامهم. إنها وظائف قبل كل شيء محدودة بأعيانها. وهي القضاء والديانة، ولذلك كان العدد يتحدد مسبقا. وقلما يزيد عدد التلاميذ في المدرسة عن العشرين. وقد كثر (العاطلون) بين من تخرجوا منها منذ ألغيت الوظائف القضائية الإسلامية وإحلال القضاة الفرنسيين محل القضاة المسلمين، أي منذ الخمسينات ولكن بالتدرج. ويبدو أن المستوى في المدارس كان ضعيفا جدا في اللغة وفي الفقه والأدب، ولا ندري مدى تقدم الخريجين في المواد الفرنسية، وهي المواد التي لا تفيدهم كثيرا في أداء وظيفة القضاء والديانة. وهذه رسالة بعث بها أحد الخريجين إلى مدير التعليم الفرنسي (الريكتور) يخبره أنه قرأ في مدرسة تلمسان ثلاث سنوات ونال الشهادة منها سنة 1888 (أي بعد إصلاحها) ومع ذلك لم يجد وظيفة (والطلبة الأجنبية (أي الذين لم يدرسوا في المدرسة) يضحكوا (كذا) علي ويقولوا (كذا) لي إجازة المدرسة ليس فيها فائدة). وهو يطلب من المدير أن يدله على وظيفة شاغرة لكتابة عقود الزواج والطلاق والميلاد والوفاة بين ¬

_ (¬1) المبشر، عدد 28 مارس، 1867. لا شك أن الوظائف المفتوحة أكثر من غيرها عندئذ هي الوظائف القضائية. أما الدينية فما تزال في أيدي فئة أخرى، سنتحدث عنها.

العرب. وقد ألح عليه في الطلب (بجاه الأنبياء والمرسلين والأولياء والصالحين). ونحن لا نعرف من هو هذا المتوسل المسكين، ولكنه كان من نواحي وهران، وكان ضحية من ضحايا الإدارة الفرنسية، وتدل رسالته على مستوى تعليمي وعقلي بسيط (¬1). انتقد المستشرق بيل المتحمس جدا للفرنسية، النتائج التي تحصل عليها الفرنسيون من المدارس الشرعية - الفرنسية قبل الإصلاح سنة ص 1876. ومن رأيه أنها أدت مهمتها في عدة نواحي ولكنها ظلت قاصرة عن إدراك الهدف الحقيقي وهو خدمة المصلحة الفرنسية قبل كل شيء. فقال إنه بعد 25 سنة من إنشائها تكون قد أدت دورها بالنسبة للمسلمين، لأنها كانت تضم عددا كبيرا من المترشحين رغم حالتهم السيئة في السكنى والعناية. كما أن الإدارة الفرنسية قد وجدت فيها موظفين اعتمدت على مشاعرهم وولائهم بعد أن عركتهم في الميدان فوجدتهم أقل خطرا عليها من أولئك الذين وظفتهم من المدارس الحرة (الزوايا؟) أو من الجامعات الأجنبية (الإسلامية). ويرجع الفضل في ولاء الخريجين وكسب مشاعرهم إلى تعلمهم اللغة الفرنسية، رغم أنه كان تعلما بسيطا. فقد كان له الأثر الإيجابي الكبير على عقلية التلاميذ فقربهم قليلا من الفرنسيين. ولكن هذه النتائج في نظره لم تكن كافية، لأن هناك عدة أخطاء ارتكبت في الأثناء وأصبح لا بد من إعادة النظر ومراجعة البرنامج. من ذلك الخطأ في تنظيم المدارس نفسه وعدم وجود إدارة مناسبة لها. وانعدام المراقبة الفعالة للدروس والطريقة السيئة في اختيار التلاميذ، فهؤلاء كانوا لا يعرفون إلا القليل من العربية، والأقل من ذلك أو لا شيء على الإطلاق من العربية الفصيحة أو الأدبية عند دخولهم، مع تقدم السن بعدد كبير من التلاميذ، وكانوا يفتقرون إلى الذكاء والطموح. وبتعبير آخر فإن هذه النقائص ¬

_ (¬1) الرسالة نشرها بلقاسم بن سديرة في (كتاب الرسائل)، مرجع سابق 311. وهي بتاريخ 13 سبتمبر 1890، وكان مدير مدرسة تلمسان عندئذ (ديرسيوا) هو الذي نصحه بالكتابة إلى مدير التعليم.

كلها ترجع إلى أن المدرسة كانت تحت إدارة جزائرية وبرنامج عربي في مجمله وتلاميذ غير مختارين بدقة، إذ جاء أغلبهم من الزوايا حيث يحملون معهم مادة قوية من التعصب الديني ضد الفرنسيين، ويرفضون كل الأفكار الليبرالية الفرنسية التي يحاول الفرنسيون زرعها في التلاميذ. أما النقد الآخر فقد وجهه بيل إلى السلطات العسكرية التي كانت تتحكم في هذه المدارس في حين أنها غير مؤهلة لإدارة التعليم فيها (¬1). لقد رأى الفرنسيون إدخال إصلاحات على المدارس الشرعية - الفرنسية ابتداء من سنة 1876. كان عقد السبعينات يمثل مرحلة خاصة في مختلف الميادين. وفي ميدان التعليم بالذات لاحظنا إلغاء المدارس العربية - الفرنسية بقرار من الحاكم العام ديقيدون، وإلغاء الكوليج الامبريالي في كل من الجزائر وقسنطينة. وجاء دور المدارس الشرعية - الفرنسية، فلم تلغ تماما لحاجة الإدارة إلى خريجيها في بعض التخصصات، ولكنها نظمت تنظيما خاصا بحيث تؤدي دورها المحدود، وهو تخريج بعض القضاة الخاصين بعقود الزواج والتركات، وتخريج بعض الأيمة في المساجد، مع التركيز على الفرنسية في اللسان وفي الأفكار. لقد جاءت الجمهورية الثالثة لمحو ما بقي يدل على وجود عربي - إسلامي في الجزائر. فجاء مرسوم 15 غشت 1875 ليمنح الحكومة العامة في الجزائر حق إنشاء مدارس إسلامية، ذريعة لإحداث تغيير هام في بنية ووظيفة المدارس الشرعية الثلاث ابتداء من 16 فبراير 1876. وبناء على القراء الأخير فإن الحاكم العام في الجزائر يحتفظ بحق المراقبة السياسية والإدارية للمدارس المذكورة. كما يتكفل مدير التعليم بإدارة الدراسات والانضباط الداخلي فيها. وقد اعتبر التعليم في المدارس الثلاث عبارة عن تعليم عال، على أنها مؤسسات للتعليم العالي الإسلامي. أما هدفها فقد ظل كما كان تقريبا، وهو تخريج المترشحين لوظيفة القضاء والديانة الإسلامية والتعليم العام الإسلامي، وكذلك كل الوظائف الأخرى المخصصة حسب مرسوم 21 إبريل 1866، للأهالي المسلمين غير ¬

_ (¬1) بيل (مؤتمر شمال إفريقية)، مرجع سابق، 219.

المتجنسين بالجنسية الفرنسية (¬1). وبناء على هذا الإصلاح تناقص عدد التلاميذ في المدارس الشرعية - الفرنسية خلال سنوات 1877، 1878 وإلى 1891. فقد كان مثلا عددهم أكثر من 50 تلميذا في تلمسان خلال سنوات 1860 - 1882 فإذا به ينحدر إلى أقل من 40 سنة 1882 ثم إلى 21 فقط سنة 1890، و 1881 (¬2). ويذكر بوليو أن العدد في المدارس الثلاث قد انخفض إلى 78 فقط سنة 1878، أي بمعدل 29 تلميذا لكل مدرسة (¬3). وقد حدد الإصلاح الجديد عمر الدخول للتلاميذ بـ 18 إلى 25 سنة. وقبل الدخول كان على المترشح أن يمثل أمام لجنة الاختبار، وبعد ذلك يظهر اسمه في قائمة المقبولين التي تقدم للحاكم العام نفسه ليختار منها من يرغب فيه. ويكون ذلك بعد دراسة دقيقة لملف المترشح ووضع أهله السياسي والاجتماعي وسيرتهم وعلاقتهم بالفرنسيين ماضيا وحاضرا. كما أن الحاكم العام هو الذي يسمى المدرسين والمفتشين. ويقدم المفتش تقاريره إلى مدير التعليم. وفي القرارات التنظيمية اللاحقة ¬

_ (¬1) عن المراسيم والقرارات الخاصة بالإصلاح المذكور انظر جريده (المبشر) عدد 12 مايو، 1877. وهو نص أمضاه الحاكم العام شانزي، ويتضمن النواحي الإدارية والرواتب والبرنامج، وكذلك (لائحة ما تجب معرفته على طالبي وظائف الشريعة الإسلامية) وهي لائحة مفصلة في نفس الجريدة عدد 11 غشت، 1877. انظر أعداد نوفمبر 1876 من الجريدة المذكورة. (¬2) يذكر بيل (مؤتمر ...)، ص 221، أن سنتي 1877، 1878 انخفض فيها عدد التلاميذ إلى ما دون الخمسين. وظل دون الأربعين منذ 1882، بينما سبق له أن وصل إلى 62 سنة 1868 (سنة المجاعة). ويجب ألا يغيب عن الأذهان أن هناك فرقا بين عدد المسجلين وعدد الدائمين، الذي لم يكن يتجاوز 15 - 20. وجاء في إحصاء ذكره بوليو أن سنة 1879 قد عرفت ارتفاعا في أعداد التلاميذ، فبلغت 128 تلميذا، موزعين هكذا: الجزائر: 26، تلمسان 45، قسنطينة 27، أما في سنة 1882 فقد وصل العدد إلى 96. وتوزع التلاميذ هكذا: الجزائر 43، تلمسان 24، قسنطينة 29. انظر بوليو، ص 265. (¬3) بوليو، مرجع سابق، ص 265.

تفاصيل إضافية. فقد انتزع قرار 21 نوفمبر 1882 حق المراقبة في المناطق العسكرية من يد الضباط وأعطاه إلى الولاة. ثم جاء قرار 26 يوليو، 1883 فوضع إدارة المدارس في يد مدير التعليم (ريكتور). أما الميزانية فقد بقيت تخرج من الدولة. كان امتحان الدخول إلى المدارس الثلاث يجري خلال جوان/ يونيو من كل عام، ولكن منذ سنة 1886 استحدث امتحان دخول آخر في أكتوبر (دورة ثانية). ويتضمن الامتحان العناصر الآتية: 1 - إملاء بالعربية مع إعراب في النحو من الإملاء نفسه. 2 - شرح نص بالعربية في الشريعة الإسلامية. 3 - تدريب على التحرير بالعربية. 4 - اختبار في اللغة الفرنسية يتضمن القراءة والكتابة بها، مع محادثة شفوية. 5 - أسئلة عن الأعداد العشرية. وهي عناصر تدل على الفرق الذي كان بين مدرسة 1850 ومدرسة 1877. ومن الواضح أن الذي يمكنه اجتياز هذا الاختبار هو التلميذ الذي نجح بالمدرسة العربية - الفرنسية السابقة أو بالأقسام الأهلية الملحقة بالمدارس الفرنسية، أما في العربية فيبدو أن هناك ضعفا متواصلا للتلاميذ لطغيان المواد الفرنسية على مواد الاختبار ثم على مواد الدراسة. ولنذكر هنا أن معظم الداخلين إلى هذه المدارس هم الذين كان يدرس لهم عبد القادر المجاوي في هذه الأثناء سواء في قسنطينة أو الجزائر. ولا نعرف له نظيرا في مدرسة تلمسان. أما مدة الدراسة فقد بقيت ثلاث سنوات، كما كانت منذ 1850. ثم صدر قرار سنة 1884 يحدد المواد الدراسية في التالي: الشريعة الإسلامية، والنحو والأدب العربي، واللغة الفرنسية، ومبادئ القانون الفرنسي ثم الحساب والتاريخ الفرنسي والجغرافية. ومنذ 1887 أضيفت مواد أخرى إلى البرنامج وهي مواد تدرس بالفرنسية، مما جعلنا نؤكد أن الاتجاه كان نحو

الفرنسية حتى في هذه المدارس التي من المفروض فيها خدمة الدين الإسلامي والقضاء الإسلامي والتراث العربي. فقد أضيفت في السنة المذكورة مبادئ العلوم الطبيعية والفيزيائية وحفظ الصحة والتربية الأخلاقية والمدنية، وجميعها كانت تدرس باللغة الفرنسية. وبناء على إحصاء ذكره المستشرق بيل بالنسبة لمدرسة تلمسان (وهو الإحصاء نفسه في المدرستين الأخريين) فإن عدد الساعات المخصصة للسنة الأولى هي 29 ونصف ساعة، منها عشرون فقط للغة العربية والشريعة. ومن بين الساعات المخصصة للسنتين الأولى والثانية ومجموعها 32 وثلاثة أرباع، نجد عشرين ساعة فقط أيضا للمواد العربية والشرعية (¬1). أما المعلمون فقد مسهم أيضا قرار أو إصلاح سنة 1876، ونص على تحسين أوضاعهم وطريقه توظيفهم ورواتبهم، الخ. والمديرون، الذين أصبحوا فرنسيين، قد صنفوا إلى ثلاث فئات حسب طبقاتهم: 2200، 2500، 3000 فرنك. وراتب المعلم يبدأ بـ 1، 200 ف. وفي إمكانه أن يرتقي إلى 1.500 ف و 1.800 ف. وكان مدير مدرسة تلمسان ممن يعرفون العربية ويشغل وظيفة مدير في نفس الوقت لإحدى المدارس الابتدائية في المدينة. فهو يجمع بين إدارتين، ولذلك لا يكاد يجد الوقت لمراقبة شؤون المدرسة الشرعية - الفرنسية التي نحن بصددها. وكان عليه أن يقوم فيها بدروس معينة. كما كانت المدرسة تضم معلمين فرنسيين آخرين يشغلان أيضا وظيفة التعليم في الثانوية البلدية (الكوليج)، ويحصلان على تعويض مقابل تدريسهما في المدرسة الشرعية، وليس لهما معرفة في اللغة العربية. وفي المدرسة أيضا ثلاثة معلمين جزائريين لا ندري من أين وظفوا وبناء على أية مؤهلات، وهم لا يعرفون الفرنسية وليست لهم أية وظيفة أخرى غير التدريس في المدرسة (¬2). والغالب أن وضع مدرسة الجزائر وقسنطينة كان هو ¬

_ (¬1) بيل، مرجع سابق، ص 221. (¬2) نفس المصدر، وقد اعتمدنا على تقريره، ولذلك كانت الأمثلة بمدرسة تلمسان في وقت إدراته، وقد كتب بحثه سنة 1908.

نفسه وضع مدرسة تلمسان. والنقد الذي وجه إلى هذه التجربة شديد أيضا رغم مدح الإصلاح الذي حقق الكثير من الأهداف الفرنسية. وهذا النقد موجه إلى وضع التلاميذ وليس إلى البرنامج أو المعلمين. فهم يدخلون المدرسة بمعرفة بسيطة باللغة الفرنسية لا تمكنهم من فهم المعلومات الملقاة عليهم بالفرنسية أيضا. واختيارهم كان شكليا لأن عدد المترشحين كان قليلا فلا يجري عليهم المختبرون عملية تصفية دقيقة بل يقبلونهم جميعا. وأما بخصوص العربية فهم فيها خليط وليس لهم فيها مستوى واحد. ومن عادة المدرس المسلم الارتفاع بالدرس إلى مستوى الأفضل من تلاميذه فلا يفهم عليه المتوسطون والضعفاء، ومن عادة المعلم الفرنسي النزول إلى مستوى الضعفاء في النحو الفرنسي والحساب. وبذلك يحس المعلم أنه يقدم معلومات أولية جدا، إضافة إلى كون المديرين لا وقت لهم لتوليهم إدارة ثنائية وقيامهم بالتدريس أيضا. وقد ظل الأمر كذلك إلى الإصلاح الثاني الذي عرفته المدارس الشرعية الفرنسية، وهو الصادر في 1895 (¬1). وهذا الإصلاح الثاني جاء في الواقع ضمن التوجهات الجديدة الشاملة للحكومة الفرنسية في الجزائر وغيرها. فالأمر لا يتعلق بالمدارس الشرعية وحدها أو التعليم وحده، ولكن المسألة تهم جميع الميادين الإدارية والمالية وغيرها. وكان ذلك نتيجة التحقيق الذي أجرته لجنة مجلس الشيوخ بين 1891 - 1892، وكان السيد كومبس من بين أعضائها، كما مر، ثم أصبح وزيرا للتعليم. وأثناء قيامه بهذه المسؤوليات قدم التقرير المعروف باسمه إلى البرلمان وتبناه عندما وافق عليه زملاؤه وأخذ يطبقه كوزير. وقد ساعده على ذلك آخرون كانوا يشاطرونه الرأي، ومنهم جول فيري، وجول كامبون، وشارل جونار، والبان روزي، ووا لدك روسو. وقد ظهر مقال بدون توقيع في (مجلة إفريقية الفرنسية) سنة 1896 ¬

_ (¬1) بيل، مرجع سابق، 221 - 222، وكذلك جان ميرانت (الكراسات)، 88.

لخص أفكار كومبس حول إصلاح المدارس الشرعية - الفرنسية (¬1). ولأهميته نذكر نقاطه البارزة فيما يلي: قال صاحب المقال: إنه كان للجزائر عند الاحتلال موظفون مؤهلون في ميدان القضاء والديانة. ولكن ذلك الجيل أخذ ينقرض، فتفطن العسكريون الفرنسيون لذلك الفراغ وأنشأوا المدارس الشرعية - الفرنسية سنة 1850. وكانت مدة الدراسة في القانون الفرنسي هي ثلاث سنوات، والقانون الفرنسي في نظر العسكريين أصعب من الشريعة الإسلامية، ولذلك حددوا مدة الدراسة في هذه المدارس بثلاث سنوات أيضا. وعلى ذلك فقد كان بإمكان التلاميذ الجزائريين أن يكتسبوا معارف جيدة لو أن شروط الدخول هنا كشروط الدخول هناك، ولكن الأمر في الجزائر لم يكن كالأمر في فرنسا، لأن المتخرجين من المدارس الثلاث كانوا، عدا المتفوقين، أدنى من المستوى المطلوب، رغم ذكائهم وحماسهم. ومن الأخطاء في نظر صاحب المقال الذي بنى فكرته على تقرير كومبس والنقد الذي جاء فيه، قضاء التلاميذ وقتا طويلا في تعلم اللغة الفرنسية ظنا من الفرنسيين أن اللغة تجعلهم أكثر ولاء وإخلاصا لفرنسا مما لو أنهم قضوا وقتا أطول في تعلم العلوم العربية الفقهية واللغوية. وقد تبين أن اللغة الفرنسية وإن كانت تفيد التلميذ فإنها لا تمنحه أي تأثير على مواطنيه. ولكن هدف فرنسا هو تعيين رجال يكون لهم تأثير معنوي على مواطنيهم، ومن ثمة كان لابد من تعليمهم بعمق في العلوم الإسلامية والعربية، أما الفرنسية فلتكن فقط في الدرجة الثانية بالنسبة إليهم، أي عندما يعاد النظر في قانون التوظيف الذي سيبنى على مراعاة مصلحة فرنسا. ومن جهة أخرى فإن ثلاثة ملايين ونصفا من الجزائريين لهم وزن اقتصادي وسياسي عظيم. ومن الأخطاء التي بررت إصلاح سنة 1895، نشأة الكوليجات ¬

_ (¬1) مجلة إفريقية الفرنسية. A.F. (يناير 1896)، ص 42 - 43.

(المعاهد) العربية - الفرنسية (¬1)، فقد كان الهدف منها تعويض الفراغ الذي أحدثه إلغاء المدارس والمعاهد العربية للتعليم الثانوي. وكان القصد من إنشاء الكوليجات هو إعطاء المكانة للغة الفرنسية حتى لا تتغلب عليها اللغة العربية. ولكن التجربة دلت على أن الأوروبيين والجزائريين قد نظروا بشزر إلى تلك الكوليجات، فالأوروبيون اعتبروها تدليلا للجزائريين وحسدوهم عليها ما دام أولاد الأوروبيين كانوا يتلقون التعليم الثانوي في إحدى الثكنات الانكشارية. أما الجزائريون فقد تخوفوا من وجود الكوليجات ولم يرتاحوا إليها (¬2). وبعد 1870 نظر الأوروبيون إلى الجزائريين على أنهم مرتبطون بالعهد العسكري (عهد الامبراطورية)، فقاموا بإضعاف اللغة العربية في المدارس الشرعية - الفرنسية وتقوية الفرنسية فيها (إصلاح 1876). فإذا بهذه المدارس قد ابتعدت عن هدفها وأصبحت لا تخرج إلا الضعفاء غير المؤهلين لتولي المناصب الدينية والقضائية. وكان ذلك في الوقت الذي ظهر التنافس لها على أشده في الزوايا المحلية والجامعات الإسلامية والأجنبية. ولو ترك الفرنسيون الأمور تتطور على هذا النحو لألغيت المدارس الشرعية - الفرنسية تماما ولكان ذلك خطرا على المصالح الفرنسية وعلى الجزائريين معا. وقد امتدح صاحب المقال جهود الحاكم العام كامبون أيضا لأنه هو المسؤول على تطبيق المراسيم الحكومية الجديدة. فهو الذي أشرف على إعادة تنظيم المدارس الشرعية، وقد أصبحت الدراسة فيها ست سنوات لمن أراد التوظف في السلك الديني والقضائي، وأصبح على الجزائريين دراسة اللغة الفرنسية من البداية، ودراسة اللغة العربية والعلوم الإسلامية في هذه ¬

_ (¬1) سندرسها في فقرة أخرى، وكانت قد نشأت قبل 1870 ثم ألغيت مع سقوط الامبراطورية. والإشارة إلى الثكنات دليل على أن الفرنسيين استخدموا المنشآت العسكرية والدينية السابقة لصالح تعليمهم وإدارتهم. انظر فصل المعالم الإسلامية. (¬2) وهذا ادعاء غير صحيح في جملته إذا نظرنا إلى الإقبال على الكوليجات التي خصصت لأبناء العائلات التي خدمت فرنسا. ولكن الجزائريين كانوا إلى ذلك العهد (عهد الامبراطورية) متحفظين من المدارس الفرنسية عموما.

المدارس التي هي بمثابة الثانويات لهم. أما الذين لا يريدون منهم العمل في القضاء ولا في السلك الديني فعليهم أن يدخلوا الثانويات الفرنسية المحض. وكانت الميزانية من الدولة، ولكنها تقدم في شكل مساعدات فقط، بينما ميزانية التعليم الفرنسي أساسية. ولذلك لخص صاحب المقال المذكور هذا الموقف بقوله: إن 400.000 ساكن أوروبي في الجزائر يأخذؤن 3.000.000 فرنك من الميزانية للتعليم، أما المسلمون (الجزائريون) البالغون 3.400.000 فيأخذون 70.000 فرنك من الميزانية، ولكن في شكل مساعدات فقط. والإصلاحات التي اقترحها تقرير كومبس بالنسبة للمدارس الشرعية تتلخص في عشر نقاط أساسية. وهي: 1 - إعادة تنظيمها بناء على الاقتراحات التي يقدمها مدير التعليم (ريكتور) ويوافق عليها الحاكم العام. 2 - الاستمرار في أداء وظيفتها باعتبارها مدارس (عليا) تحضر للوظائف الإسلامية العامة (¬1)، على أن تصبح مفتوحة أمام جميع الشبان المسلمين (الجزائريين) بناء على طلبهم ومؤهلاتهم (¬2). 3 - برنامجها الإسلامي يتضمن دروسا في التوحيد والفقه والأدب العربي والتاريخ الإسلامي. أما برنامجها الفرنسي فيتضمن دروسا في الأدب الفرنسي والتاريخ والجغرافية الفرنسية والحساب ومبادئ القانون الفرنسي والتشريعات الفرنسية في الجزائر ومبادئ العلوم الطبيعية والصحية والبدنية. 4 - مدة الدراسة بها ست سنوات. وتكون على مرحلتين. المرحلة الأولى مدتها أربع سنوات يتخرج بعدها الطالب ليمارس الوظائف الدنيا. والمرحلة الثانية ومدتها سنتان، وهي تخرج للوظائف العليا. وجميع ¬

_ (¬1) هكذا الوصف (عليا) رغم أنها في درجة متوسطة وثانوية، وسينشأ فيها قسم عال. (¬2) إشارة إلى أنها في السابق كانت مقصورة على بعض الفئات من المجتمع. انظر أيضا جول كامبون (حكومة الجزائر).

الوظائف لا تكون إلا بعد النجاح في الامتحان، وهو إلزامي. 5 - لا يمكن توظيف أي كان في الوظائف القضائية إذا لم يكن الطالب متحصلا على شهادة التخرج الممنوحة من المدرسة. 6 - بالنسبة للقضاء أيضا، فإن التعيين فيه لا يكون إلا من الحاكم العام، باقتراح من الوكيل العام لدى محكمة الاستئناف بالجزائر العاصمة. 7 - مجموع المنح في المدارس واحد، وهو 300 فرنك. 8 - القبول في المدارس سواء للمنحة أو القراءة العادية، مشروط بالاستظهار بشهادة دراسات التعليم الابتدائي - العالي، أو بنتيجة امتحان معترف به إذا كان التلميذ المتقدم للدخول حرا ويريد إثبات قدرته على متابعة الدراسة. 9 - تنشأ في ولاية الجزائر مدرسة ابتدائية عالية خاصة بالأهالي لكي تستجيب للشروط السابقة، والشبان المسلمون الأفضل من بين الحاصلين على شهادة الدراسات الابتدائية يتقاضون منحا. 10 - زيادة عدد الموظفين في القضاء والديانة الإسلامية ورفع مرتباتهم. وتكون تسمية القضاة على رأس المحاكم الملحقة، أما بالنسبة للديانة فستنشأ وظائف للفتوى والإمامة بعدد كاف وحسب الحاجة (¬1). نلاحظ مما سبق أن إصلاحات المدارس الشرعية كانت تخدم التوجه الجديد للسياسة الفرنسية في الجزائر وفي العالم الإسلامي. فقد وقف كومبس بين الذين يريدون إلغاء هذه المدارس تماما وبين الذين يرغبون في جعلها مدارس عليا للدراسات الإسلامية على غرار المدارس العليا الأخرى التي أصبحت كليات جامعية، فاقترح أن تظل مدارس خاصة تحضر لوظائف معينة تخدم المصالح الفرنسية، ولكنه في نفس الوقت اقترح دعم برنامجها ¬

_ (¬1) النص الكامل في مجلة إفريقية الفرنسية A.F.، فبراير 1894، عدد 2، ص 11 - 12. مسألة القضاء هنا هامة لأن الشكوى كانت كبيرة من تقليص وظائفه بعد أن تفرنست كل الأجهزة القضائية عدا الأحوال الشخصية. انظر فصل السلك الديني والقضائي.

بالمواد العربية والإسلامية والفرنسية معا. وقد زاد من مدة الدراسة فيها من ثلاث إلى ست سنوات للوظائف الإسلامية العليا. وأصبح دبلوم التخرج منها شرطا لتولي هذه الوظائف. وقد صدر المرسوم في 23 يوليو 1895، وحدد الدراسة في المرحلة الأولى بأربع سنوات. واشترط على المترشحين شهادة التعليم الابتدائي - الإعدادي. مع ضرورة المشاركة في امتحان دخول. ونص كذلك على إنشاء قسم عال في مدرسة الجزائر فقط، وهو يفتح للتلاميذ الحاصلين على شهادة النجاح والتخرج بعد الأربع سنوات في إحدى المدارس الثلاث. كما نص على تدريس اللغة والعرف الزواوي في مدرسة مدينة الجزائر فقط. وإليك برنامج السنوات الأربع في المدارس الشرعية الثلاث: فهو يشتمل على خمس مواد موزعة على السنوات الأربع بعدد مدروس من الساعات يجعل اللغة العربية تفوق قليلا ساعات الفرنسية. ولكنه تفوق نظري فقط. ذلك أن البيئة والمؤثرات الأخرى تجعل الفرنسية، مع ذلك، هي المتفوقة. والمواد العربية والإسلامية هي: اللغة العربية، الشريعة الإسلامية مع تطبيقاتها العملية (هكذا جاء في البرنامج)، التوحيد (¬1)، أما مواد اللغة الفرنسية والحضارة الفرنسية فهي: اللغة الفرنسية، وفكرة عن التاريخ والجغرافية، والقانون العام والنظام الإداري، ثم الحساب وفكرة عن الهندسة، والعلوم الفيزيائية والطبيعية. أما برنامج القسم العالي الخاص، فهو أيضا مؤلف من عنصرين رئيسيين، الأول مواد في الحضارة العربية - الإسلامية، والثاني مواد في الحضارة الفرنسية. ومن المفهوم أن المواد الأخيرة هي المتغلبة لا من حيث العدد، ولكن من حيث النفوذ والتأثير والروح العملية والارتباط بالحياة الاجتماعية والاقتصادية. وها هي مواد الحضارة العربية - الإسلامية: ¬

_ (¬1) كانت مادة التوحيد موجودة في برنامج هذه المدارس حين إنشائها، ثم حذفت بقرار خاص، وها هي ترجع في إصلاح 1895.

التوحيد، وأصول الشريعة الإسلامية، والأدب العربي ثم البلاغة والمنطق. وأما مواد الحضارة الفرنسية فهي تاريخ هذه الحضارة، وعناصر القانون الفرنسي والتشريعات الجزائرية. وإلى جانب ذلك هناك درس في علم الصحة يلقيه طبيب على التلاميذ (¬1). فأنت ترى أن الازدواجية اللغوية والثقافية كانت لطبع البرامج المدرسية مع تغلب الفرنسة لوجود السيادة وحضور الكولون والتأثيرات الاجتماعية. وإذا أكمل التلميذ الست سنوات يحصل على شهادة تسمى (دبلوم الدراسات العليا). وهي التي تؤهله للوظائف العليا المنصوص عليها. أما برنامج الامتحانات فيخضع لموافقة الحاكم العام بعد اقتراح من مدير التعليم (¬2) .. وقد أصدر الحاكم العام جول كامبون في 29 يوليو 1895 قرارا يقضي بأنه ابتداء من أول يناير 1898 لن توظف حكومته في مجالات القضاء (العدالة) والديانة الإسلامية إلا من كان متخرجا (من مدارسنا). والمقصود بها هذه المدارس الشرعية التي نحن بصددها. وقد ألح الحاكم العام على ذلك تفاديا، كما قال، لتوظيف أناس لم يتخرجوا من مدارس فرنسية بل جاؤوا من (زوايا سرية) أو تعلموا في الخارج تعليما بعيدا عن الروح الفرنسية (¬3). وهو هنا يعني الجزائريين الذين تخرجوا من الزوايا أو ذهبوا للدراسة في المغرب أو تونس أو الأزهر بعد عجزهم عن إيجاد معهد يقبلهم في بلادهم. ¬

_ (¬1) سنعرف أن بعض الأطباء الجزائريين، مثل الدكتور الطيب مرسلي في قسنطينة، وبريهمات في العاصمة، هم الذين كانوا يقدمون هذا الدرس. كما ظهرت بعض التآليف في هذه الأثناء تتحدث عن علم الصحة، وهي بدون شك تخدم هذا البرنامج ومن وحي هذه الظروف. (¬2) جول كامبون (حكومة الجزائر العامة)، الجزائر، 1918، ص 54 - 55. انظر أيضا أرشيف إيكس (فرنسا) 61 H 10. (¬3) جول كامبون، من خطبة له ألقاها (تقرير) عن الوضع العام في الجزائر أمام المجلس الأعلى للحكومة، انظر مجلة إفريقية الفرنسية. A.F. (أبريل 1896)، ص 126.

وفي 17 أبريل 1896 زار كومبس نفسه مدرسة الجزائر بصفته وزيرا للتعليم هذه المرة. وكان مديرها عندئذ هو المستشرق ديلفان. وحضر مع الوزير المستشرق هوداس المدرس بمدرسة اللغات الشرقية بباريس والذي سبق له التدريس في الجزائر أيضا. كما حضر المدرسون الجزائريون بالمدرسة، ومنهم عمر بريهمات ومحمد السعيد بن أحمد بن زكري، وكذلك عدد من الأعيان، منهم المفتي والقاضي والإمام. وعلى رأس هؤلاء الأعيان الحكيم (طبيب) محمد بن العربي، عضو المجلس البلدي، ومحيي الدين الشريف الذي خاطب الوزير بالفرنسية باسم موظفي المساجد، وأمين قدور بن عبد الرحمن، وأحمد بن القبطان، وكلاهما من الأيمة، وعلي الشريف (الزهار)، الذي كان الفرنسيون قد خطفوه وهربوه إلى فرنسا أوائل الاحتلال (1843). ويهمنا من هذا كله أن الوزير قد خصص ميزانية لبناء مدرسة جديدة، لضيق الأولى، ووعدهم بدعم إصلاحاته ورؤيته لجعل فرنسا لا تظهر في العالم الإسلامي في صورة الدولة المضطهدة للمسلمين، كما كان يشاع عنها (¬1). وفي سنة 1896 نشرت جريدة المبشر أسماء المعلمين والمواد التي يعلمونها في كل مدرسة من المدارس الشرعية. وقد رأينا ذكر ذلك هنا ليطلع القارئ على أسماء المدرسين من عرب وفرنسيين من جهة وليعرف توزيع المواد بينهم في بداية عهد الإصلاح الجديد. ونلاحظ قبل ذلك أنهم كانوا يسمون طلبة كل سنة (طبقة)، وأن المدرسين كانوا يتبادلون أو يتقاسمون الطبقات (السنوات). مثلا مادة النحو يدرسها فلان للطبقة الأولى ويدرسها فلان للطبقة الثالثة، وهكذا. ونفس الشيء في المواد الفرنسية. ولعل هذه التسمية مستمدة من نظام جامع الزيتونة بتونس. ومعدل الساعات هي اثنا عشر للمواد العربية والإسلامية، وثمانية للمواد الفرنسية. مع التنبيه على أن ¬

_ (¬1) المبشر، 11 أبريل وكذلك 18 أبريل 1896. انظر أيضا إفريقية الفرنسية، مايو 1896. وعن أحمد بن القبطان انظر سابقا، وقد كان إماما ومؤدبا في عهد الامبراطورية.

مدرسة الجزائر تحتوي أيضا على القسم العالي، كما ذكرنا. 1 - مدرسة الجزائر: المواد ... المدرس ... تعليق وملاحظات الأدب والنحو ... عبد الرزاق الأشرف ... (تعين قاضيا في نقاوس 1905) النحوا الفقه/ التوحيد ... الشيخ علي العمالي ... (وهو نجل حميدة العمالي المفتي المالكي). الفقه الفرسي/ الفقه الإسلامي/ عمر بريهمات ... (والده حسن بريهمات كان مديرا للمدرسة مدة طويلة). التوحيد. الأدب العربي ... عبد الحليم بن سماية ... (والده علي بن سماية كان أحد مدرسي المدرسة ومحررا في المبشر، واشتهر عبد الحليم أكثر من والده). الفقه/ التوحيد ... محمد السعيد بن زكري ... (أصبح مفتيا بعد ذلك، وله تأليف، وتولى ابنه أحمد التدريس بعده). التاريخ القديم (يوناني/روماني) ... غوتييه ... (الظاهر أنه هو إيميل غوتييه، صاحب كتاب القرون الغامضة وغيره، وهو من أعداء العرب والمسلمين وسخر موهبته لخدمة الاستعمار المتطرف). الجغرافية العامة والقديمة ... غوتييه تارخ إفريقية الشمالية/ العرب ... غوتييه جغرافية إفريقية ... غوتييه اللغة الفرسية ... غوتييه تاريخ فرنسا وجغرافيتها ... غوتييه الأدب الفرنسي ... غوتييه العلوم الطبيعية ... جولي ... (اشتهر بكتاباته عن الأدب الشعبي في البادية، والطرق الصوفية ...) الرياضيات ... جولي اللغة الفرنسية ... جولي هذا خلال القسم الأول من الدراسة، أي خلال الأربع سنوات أو الطبقات. أما بالنسبة للقسم العالي فهذه هي مواده ومدرسوه:

الحضارة الفرنسية ... ديلفان ... (عمل في مدرسة تلمسان، أصبح مديرا لمدرسة الجزائر. معتدل في آرائه. اهتم بالتاريخ والأدب الشعبي). المحادثة في الأدب الفرنسي ... ديلفان فقه جزائري (تشريعات؟) ... عمر بريهمات ... (شاعر، ومؤلف، توفي مبكرا). الفقه التوحيد/ أصول الدين ... محمد السعيد بن زكري ... (إضافة إلى ما ذكرناه عنه فهو خريج الزوايا - زاوية اليلولي) المنطق/ البيان/ التفسير ... عبد الحليم بن سماية الإنشاء الأدبي (¬1) ... (دون أستاذ) ... (لعل أستاذ المادة هو عبد الحليم بن سماية) 2 - مدرسة قسنطينة: المواد ... المدرس ... التعليق والملاحظات التوحيد ... الشيخ محمود بن الشاذلي ... (هو ابن محمد الشاذلي اول مدير لمدرسة قسنطينة - انظر كتابنا عنه). الفنون الأدبية (نثر ونظم) ... م. بن الموهوب ... (سيتولى الفتوى 1908، ويكون من دعاة التعليم والإصلاح، وله تآليف ونشاط أدبي، لم ينسجم مع ابن باديس). الفقه الإسلامي (الشريعة) ... م. بن الموهوب إنشاء الوثائق الشرعية ... دون ذكر المدرس (لعله ابن الموهوب). النحو والصرف ... عبد القادر المجاوي ... (من أبرز الشخصيات العلمية. له درس آخر في الفنون الأدبية لطبقة أخرى، نقل في آخر القرن إلى مدرسة الجزائر. له تآليف) القوانين الشرعية الفرنسية ... موتيلانسكي ... (مترجم عسكري، مستشرق اهتم بتاريخ الإباضية، وقبائل الصحراء. تولى إدارة المدرسة) التاريخ والجغرافية ... موتيلانسكي لغة فرنسية ... بيريه ¬

_ (¬1) المبشر، 26 ديسمبر 1896.

الحساب والهندسة ... بيرييه العلوم الطبيعية ... بيرييه التاربخ والجغرافية ... سان كالبر ... (اهتم بتاريخ وشخصيات قسنطينة، تولى إدارة مدرسة الجزائر، ودرس اللغة الفرنسية أيضا) (¬1) 3 - مدرسة تلمسان: التوحيد ... احمد بن البشير ... (تولى إدارة المدرسة قبل 1876، درس الفقه أيضا لطبقة أخرى) الفقه ... البغدادي ... (كذا، بدون الاسم الأول، مادة الأدب العربي ترك مكانها فارغا، وكذلك مادة النحو في بعض السنوات رغم أنها مواد أساسية) الفرنسية ... جورج مارسيه ... (مدير المدرسة قبل ألفريد بيل. ألف كثيرا في الآثار العربية الإسلامية. معتدل الرأي. انتقل إلى مدرسة الجزائر، تولى تفتيش التعليم الأهلي) التاريخ والجغرافية ... جورج مارسيه الحساب ... جوح مارسيه القوانين الفرنسية ... جورج مارسيه العلوم الطبيعية ... رندرق ... (أحيانا يذكر على أنه مدرس للحساب والجغرافية لطبقة أخرى) (¬2) ¬

_ (¬1) المبشر، 5 ديسمبر، 1896. نلاحظ أن السيد (أريب) قد درس أيضا مادة القوانين الشرعية الفرنسية. كما درس محمود بن الشاذلي مادة الفقه الإسلامي لطبقة أخرى. وموتيلانسكي درس مادة اللغة العربية والفنون الأدبية، رغم أنه من المستشرقين. الحصص الأسبوعية 21 ساعة. (¬2) المبشر، 5 ديسبر، 1896؛ مجموع الساعات الأسبوعية 20 في مدرسة تلمسان. والعادة وجود ثلاثة مدرسين من الجزائريين وثلاثة من الفرنسيين بمن فيهم مدير المدرسة. انظر أيضا أبو بكر بن أبي طالب (روضة الأخبار)، ط. 1901، ص 57. وربما كان ضعف هيئة التدريس في مدرسة تلمسان وسيطرة شخصية الفريد بيل على =

وفعلا رصدت أموال لبناء المدارس الشرعية الثلاث على الطراز العربي - الإسلامي الأثري (الأندلسي). فقد تحولت مدرسة الجزائر من المدية والبليدة، ثم كانت في ضيق بالعاصمة منذ 1859 رغم وجود القصور التي منحت لمصالح فرنسية دينية وإدارية. أما المدرسة الشرعية فقد ظلت في مكان ضيق اشتكى منه المستشرق ديلفان مديرها إلى الوزير كومبس. وقد افتتحت المدرسة الجديدة باسم (الثعالبية) أوائل القرن (1904). كما كانت مدرسة تلمسان تعاني من الضيق والإهمال إذ كانت عبارة عن منزل خاص قيل إن الحكومة أجرته من صاحبه لهذا الغرض. وقد بنيت أيضا واحتفل بافتتاحها في سنة 1905. وهي المدرسة التي بنيت قرب مدرسة أولاد الإمام الشهيرة في تلمسان القديمة (¬1). وكانت مدرسة قسنطينة أفضل حالا إذ استعمل الفرنسيون المدرسة الكتانية التي كان قد بناها صالح باي، ثم بنوا هم أخرى على الطراز الجديد، ولم تفتح إلا سنة 1908، وهي الواقعة اليوم في شارع العربي بن المهيدي. والمدارس الثلاث من الناحية العمرانية تمثل تحفا فنية. وكان الفرنسيون يريدون بها منافسة مباني القيروان والقرويين ومدارس تلمسان وفاس القديمة دفعا للحملات التي كانت تقول إن فرنسا قضت على المعالم الإسلامية. ولو حافظت فرنسا على الآثار والمعالم الإسلامية في الجزائر وقسنطينة وبجاية وعنابة ووهران ومعسكر لكان خيرا لها وللمسلمين. يتكون معلمو المدارس من جزائريين وفرنسيين، وهم عادة ثلاثة من كل جنس، وجميعهم يعينهم الحاكم العام باقتراح من مدير التعليم. ويتولى أحد المدرسين الفرنسيين إدارة المدرسة أيضا بتعيين من الحاكم العام. ويشترط في المدرسين الفرنسيين معرفة اللغة العربية والبرهنة على الإخلاص لمهمتهم ومهنتهم ولهم شهاداتهم العلمية من الأهلية أو دبلوم اللغة العربية الذي تعطيه مدرسة (كلية) الآداب بالجزائر، أو مدرسة اللغات الشرقية ¬

_ = إدارتها سنوات طويلة هو الذي جعل مدرسة تلمسان لا تنافس أختيها مدرسة الجزائر ومدرسة قسنطينة في الحركة الأدبية والفقهية. (¬1) ألفريد بيل، (مؤتمر ...) مرجع سابق، 227.

بباريس. أما المعلمون المسلمون فبالإضافة إلى تعيينهم من الحاكم العام واشتراط الكفاءة، كان يفضل تعيينهم من بين حملة شهادة دبلوم الدراسات العليا من نفس المدارس. ورواتب المدرسين مرتفعة نسبيا وهم على ست درجات. أعلاها راتب 3000 ف. وأدناها راتب 1500 فرنك. وقد نصت قرارات لاحقة على زيادة الرواتب (قرار 1907) حتى وصلت الطبقة العليا إلى 5000 فرنك، والدنيا إلى 2000 ف. وكل ثلاث سنوات يترقى المدرس بطلب منه. وبعد خمس سنوات يترقى بالأقدمية. كما أن للمدير حق الإدارة وهو ألف فرنك إضافية. ويتقاضى مدير مدرسة الجزائر بالذات ألفي (2000 ف.). وواضح أن مسؤولية المدرسة تقع على عاتق الحاكم العام نفسه وعاتق مدير التعليم أيضا. وهناك موظفون آخرون في كل مدرسة. أولا هناك مفتش عام يقوم بتفتيش المدارس سنويا، وهو معين من قبل الحاكم العام أيضا. وهذا المفتش يحضر الدروس ويعطي رأيه في المعلمين وطرق التدريس والنتائج من التعليم كله. وفي 19 أكتوبر 1904 صدر قرار بإلحاق طبيب بكل مدرسة ليعطي دروسا في الصحة لتلاميذ السنتين الثالثة والرابعة، كما ذكرنا. وبالإضافة إلى ذلك فقد كان في كل مدرسة وقاف أو حارس (مراقب؟) وكذلك منظف يعتني بالمدرسة (¬1). ومن رأى المستشرق بيل مراعاة ظروف خاصة عند اختيار المعلمين في هذه المدارس. فالأبواب يجب أن لا تفتح لهم بدون حدود وشروط. إن مراعاة (الجانب السياسي) أمر مهم هنا في نظره، وهو يعني بذلك إثبات الولاء لفرنسا منهم ومن ذويهم. كما دعا إلى عدم تعيين معلمين لم يثبت إخلاصهم لفرنسا. ويجب عليهم أن يثبتوا ذلك بالعمل والسلوك معا، سواء مع تلاميذهم أو مع إخوانهم في الدين أو داخل المؤسسة (¬2)، ومن ثمة نفهم ¬

_ (¬1) الفريد بيل (مؤتمر ...) مرجع سابق، 224، وجول كامبون (حكومة ...) مرجع سابق ص 54 - 56. (¬2) بيل، مرجع سابق، ص 230.

حساسية العلاقة بين الجزائريين والفرنسيين. وكان على الذين يطمحون إلى وظيفة في هذه المدارس أن يدجنوا أنفسهم قبل أن يغربلهم الفرنسيون. أما التلاميذ فقد ذكرنا الشروط التي كانوا يقبلون بها في المدارس الشرعية الثلاث، الشهادة وامتحان الدخول في إحدى الدورتين (يونيو أو أكتوبر). وقد نشرت جريدة (المبشر) (¬1) الرسمية شروط المسابقة للدخول في 15 أكتوبر 1896 فكانت كما يلي: طلب بخط اليد من المترشح على ورق رسمي (60 سنتيم) إلى مدير المدرسة مصحوبا بشهادة ميلاد تثبت أن عمره لا يقل عن 16 ولا يزيد عن 20 سنة، وشهادة حسن السيرة والسلوك من الحاكم الفرنسي في دائرة سكنى التلميذ، والشهادة الابتدائية أو نظيرها. وجاء في المبشر أيضا أن اختبار الدخول يتألف من: تحرير رسالة أو حكاية باللغة الفرنسية من نوع الإنشاء البسيط، ثم تحرير رسالة أو حكاية باللغة العربية المعربة (الدارجة؟)، مع أسئلة شفوية في اللغتين العربية والفرنسية. وكذلك علم الحساب. ومن هذا النموذج نرى الازدواجية من البداية. فالقول بالتعمق في الدراسات العربية والإسلامية هو محض نظريات. وإذا قبل التلميذ فإنه يحصل على منحة من 350 ف. سنويا. ويمكن للتلاميذ الآخرين أن يحضروا كمستمعين إلى دروس المدرسة إذا شاؤوا، ولكن لا حق لهم في الامتحان ولا في المنحة، ومع ذلك يجري عليهم الانضباط الذي تطبقه المدرسة. وقد لاحظ بيل أن العائلات قد اقتنعت بجدوى الدراسة بعد أن أصبحت بعض الوظائف مفتوحة لأبنائها بعد التخرج. وفي هذا رد على من يقول إن الجزائريين قاطعوا التعليم لذاته. كما أن اختبار الدخول لم يعد شكليا كما كان بعد إصلاح 1876 حين كانت اللجنة تقبل كل المترشحين لقلة عددهم. ولذلك ظهرت عناصر جدية بين التلاميذ. ومن رأي بيل أن يكون اختيار التلاميذ على أساس الروح الليبرالية (التسامح؟) والقدرة على أن يكونوا من النخبة elite المثقفة بعد التخرج ¬

_ (¬1) المبشر، عدد 27 جوان، 1896.

وليكونوا من الطبقة القائدة والخالية من كل روح ارستقراطية وكل تعصب ديني، كما اشترط في التلاميذ أن يكونوا من ذوي المشاعر الحسنة نحو الفرنسيين. ومن الأفضل أن يكون التلاميذ يحسنون بعض العربية الأدبية بحضورهم للدروس الجديدة التي افتتحت في المساجد، لأن هذه الدروس قد فتحت في الواقع لحملة الشهادة الابتدائية الذين يرغبون في الدخول إلى المدرسة الشرعية. وعليه يحسن أن يأتي التلميذ المترشح بشهادة مواظبة من أحد مدرسي المساجد. وقد لاحظ كذلك أن حجم الساعات الأسبوعي في مدرسة تلمسان يدل على قوة اللغة الفرنسية على حساب اللغة العربية. وهذا بالطبع ليس نقدا أو رفضا لهذا الواقع. فإن بيل رآه شيئا جديدا، رغم أنه مخالف لروح الإصلاح المعلنة سنة 1895. فقد قال بيل إن معرفة الخريج المسلم للغة الفرنسية ستجعله قادرا على التعبير الجيد بها وعلى فهم (الإنتاج العلمي والأدبي للعبقرية الفرنسية) لأن التلاميذ بدون اللغة الفرنسية لا يستطيعون فهم (أفكارنا ولا متابعة تقدمنا ولا الهدف الإنساني من سياستنا وإدارتنا). وهذا الكلام هو نفسه تقريبا ما قاله جنتي دي بوسيه أوائل الاحتلال، وقال به أيضا الدوق دوروفيقو 1832. وإذا حصل الطلبة على ذلك المستوى أمكنهم بث الأفكار بين إخوانهم في الدين بحكم الدالة التي لهم عليهم نظرا للسمعة التي يتمتعون بها (¬1). وهذا كلام مقبول إذا كان المقصود من إنشاء المدارس الشرعية هو الدعاية الفرنسية، ولكنه غير مقبول إذا كان الهدف منها هو تخريج قضاة ومعلمين وأيمة أكفاء في اللغة العربية والعلوم الإسلامية يستطيعون أن يردوا بالحجة والبرهان على خريجي الزوايا في الجزائر والأزهر بمصر، كما صرح بذلك كامبون وأكده جان ميرانت وأوغسطين بيرك (¬2). وقد علق بيل أيضا على البرنامج الذي وضعه مصلحو 1895 للمدارس ¬

_ (¬1) بيل (مؤتمر ..)، مرجع سابق، 224، 231. ولعل ذلك يفسر أيضا ضعف المستوى الأدبي واللغوي في مدرسة تلمسان على عهد ألفريد بيل. (¬2) جان ميرانت (كراسات ...)، ص 88. وقد سبق لنا التعرض لرأي جول كامبون.

الشرعية الثلاث. فقال بخصوص مادة القانون الفرنسي إن على الموظف المسلم المقبل أن يعرف القوانين الفرنسية والنظام السياسي والإداري والقضائي الفرنسي. أما النحو العربي فقد قال عنه إنه صعب، وكذلك حكم على مختصر الشيخ خليل، وأوصى أن يضع المدرس أمام التلاميذ الترجمة الفرنسية لهذا المختصر لإدراك المصطلح الشرعي العربي. ومعنى هذا أن التلاميذ سيقرأون المختصر الذي هو في الفقه المالكي، بالفرنسية وليس بالعربية. أما علم التوحيد فقال عنه إن مكانته غير كبيرة في البرنامج، ولكن يكفي أنه يعطي للتلاميذ فكرة وجيزة عن العقائد الإسلامية، لأن معرفتهم به تجعلهم في نظر إخوانهم الجاهلين الذين ما يزالون يمارسون السحر والمتعلقين بدين مليء بالخرافات ... يسمى المرابطية، تجعلهم يظهرون بمظهر التفوق عليهم. وهناك ملاحظة أبداها جان ميرانت أيضا (وهو معاصر لبيل) حول مادة التوحيد، فقال إننا لسنا في زمن الأشعري والغزالي، فهو علم لم يعد يهم المعاصرين في نظره. وليس تدريسه سوى سلاح يتسلح به الخريجون ليناقشوا خريجي الأزهر إذا واجهوهم في ذلك. فعلى القاضي والإمام في الغد أن يجمع، في نظر ميرانت، بين الثقافة الإسلامية وبين المعارف العميقة عن (تاريخنا ولغتنا وحضارتنا) (¬1). وإذا نظرنا إلى عدد الساعات الأسبوعية الموزعة على المواد وجدناها في الجملة 23 ساعة في السنتين الأوليين و 24 ساعة في السنتين الأخيرتين. ومن 23 ساعة توجد 12 للمواد العربية و 11 للمواد الفرنسية. أما في السنة الثالثة والرابعة فالساعات فيهما مقسمة بالنصف 12 ساعة لكل مجموعة. ولكن يلاحظ أن المواد العملية (رياضيات، صحة، جغرافية، الخ). كلها بالفرنسية (¬2). ¬

_ (¬1) ميرانت (كراسات)، 88. وكذلك بيل، مرجع سابق، 225 - 226. (¬2) انظر بيل، مرجع سابق، 224.

وبناء على إحصاءات 1911 - 1912 فإن مجموع من كانوا بالمدارس الشرعية الثلاث هو 176 تلميذ. وهم موزعون كالتالي: مدرسة الجزائر 83 تلميذا، بما في ذلك تلاميذ القسم العالي. مدرسة تلمسان 39 تلميذا. مدرسة قسنطينة 54 تلميذا (¬1). وفي سنة 1908 نشر الفريد بيل إحصاء لتلاميذ مدرسة تلمسان بين 1901 - 1908 فكانوا دائما في ازدياد، وإليك هذا الجدول (¬2): 1901 ... 32 تلميذا 1902 ... 34 تلميذا 1903 ... 38 تلميذا 1904 ... 46 تلميذا 1905 ... 49 تلميذا 1907 ... 59 تلميذا 1908 ... 66 تلميذا وفي سنة 1920 بقي عدد التلاميذ في المدارس الشرعية - الفرنسية هو نفسه (176)، لكن يلاحظ أن من بين هذا العدد هناك 24 تخصصوا في اللغة البربرية (الزواوية)، وهذا من توجيهات الفرنسيين للفكر الجزائري ولعزل سكان المنطقة عن إخوانهم، كما أن اتجاه الدراسة العلمي في المدارس الثلاث، كما يقول ماسينيون، كان اتجاها فرنسيا. فبعد أن كانت الدراسة في المدارس الشرعية عربية - إسلامية، أضيفت إليها الفرنسية وأخيرا أضيفت الزواوية. وقد نصت (إصلاحات) 1895 على تدريس العرف الزواوي أيضا. ¬

_ (¬1) جول كامبون (حكومة. ..)، 56 - 76. في هذه الصفحات أيضا تقرير كومبس وبمشاركة كامبون. (¬2) بيل، مرجع سابق، 226، قارن هذا الجدول بما سبقه حيث العدد 39 فقط.

أما توزيع التلاميذ فكان كالتالي: مدرسة الجزائر: 55 + 14، مدرسة قسنطينة 48 + 10، مدرسة تلمسان 49 (¬1). وقد نقص مجموع عدد التلاميذ سنة 1931 فأصبح 143 فقط. منهم 23 في البربرية (عشرون في مدرسة الجزائر وثلاثة فقط في مدرسة قسنطينة). وهكذا يكون تلاميذ مدرسة الجزائر 64 (القسم الأول والعالي)، ومدرسة قسنطينة 43، ومدرسة تلمسان 36 (¬2). ثم ارتفع العدد فوصل سنة 1936 إلى 171 (دون تفصيل) مع أنه لم يبلغ الرقم 176 الذي وصله سنة 1911 - 1912. كما أن الزيادة لم تكن بحجم الحاجة في الوظائف التي كان من المفروض أنها تزيد كل سنة. وإليك توزيع التلاميذ لسنة 1936: مدرسة الجزائر 69 (بقسميها)، ومدرسة قسنطينة 61، ومدرسة تلمسان 41 (¬3). إن الشهادة التي تمنحها المدارس الشرعية تؤهل إلى الوظائف الدنيا المخصصة (للأهالي) في الإدارة الفرنسية. وهذه الوظائف هي: (أ) العون، والحزاب، والمؤذن، والطالب (المعلم) في المدارس الابتدائية، والوكيل، والخوجة، والعدل، والدلال عند القاضي. (ب) الباش عدل، والأمام، والقاضي، والمفتي. أما وظائف الصنف الأول فهي مخصصة لحملة شهادة الدراسة التي يحصل عليها التلميذ عند الانتهاء من السنة الرابعة واجتيازه الامتحان بنجاح. وأما وظائف الصنف الثاني فمخصصة لحاملي دبلوم الدراسات العليا، أولئك الذين أكملوا الست سنوات واجتازوا الامتحان بنجاح أيضا. وهذه الوظائف ¬

_ (¬1) (حولية العالم الإسلامي) إشراف لويس ماسينيون، سنة 1923، ص 96. (¬2) أرشيف إيكسى (فرنسا) 61 H 10. يذكر بوجيجا، S.G.A.A.N، مرجع سابق، 66، في إحصاء سنة 1930 أن المجموع هو 161 وبذلك يكون العدد قد انخفض كثيرا بعد سنة واحدة. (¬3) بوجيجا، مرجع سابق، 66.

كلها مصنفة عند الفرنسيين إلى وظائف المناطق المدنية ووظائف المناطق العسكرية (¬1). ومن الخريجين من كان يستنكف عن بعض الوظائف لعدم جدواها المادي. فقد لاحظ الفريد بيل سنة 1908 أن الخريجين عادة يرغبون في الوظائف الآتية: إمام في بعض المساجد الهامة، أو عدل في محكمة، أو مدرس، أو خوجة. وهي الوظائف التي تجلب إليهم حوالي 50 فرنكا شهريا. ولكنه لاحظ أن هذه الوظائف محدودة جدا. والشغور فيها قليل في السنة الواحدة. وقد ذكر أنه في ولاية وهران كلها عندئذ لا يمكن أن تفرغ أكثر من عشرة مناصب في العام. ولنقس عليها الولايتين الأخريين (الجزائر وقسنطينة) وكذلك المناطق الصحراوية - العسكرية. والخريجون عادة لا يريدون وظائف دنيا مثل الحزاب والمؤذن ووكيل المحكمة وعون المحكمة. فهي وظالف لا تجلب أكثر من 10 فرنكات إلى 30 ف في الشهر، وهو مبلغ لا يمكنهم من تنشئة عائلة، ولذلك أوصى بيل بأن لا تقبل المدارس الثلاث أكثر من 60 تلميذا، أي بمعدل تخريج عشرة أفراد لكل منها في السنة تبعا للوظائف المفتوحة. وقد حذر من أن الذين يتخرجون ثم لا يجدون عملا سيصبحون خطرا على الفرنسيين لأنهم سينشرون السخط والتذمر. ومن جهة أخرى لا يمكن توظيف الجميع (¬2). ويبدو أن هناك مجالا آخر يمكن لخريجي المدارس الشرعية طرقه، وهو مواصلة الدراسة العالية في كلية الآداب مثلا. ونحن لا ندري كيف كان يقع ذلك ما دام دبلوم الدراسات العليا قد لا يؤهل لدخول الجامعة، وهو ليس معادلا للبكالوريا. فهل يشارك حاملوه في امتحان خاص أو في البكالوريا الحرة؟ إن السيد جان ميرانت يقول إن مستوى الدراسة في المدارس الشرعية قد تحسن وأصبح في استطاعة تلاميذها متابعة الدراسة في ¬

_ (¬1) جول كامبون (حكومة ...)، مرجع سابق، 56. وكذلك ألفريد بيل، (مؤتمر ...)، مرجع سابق، 223. وأرشيف إيكس (فرنسا)، 61 H 10. (¬2) بيل (مؤتمر ...)، مرجع سابق، ص 227.

الكليات، وأن بعضهم قد نجح في امتحان الليسانس (¬1). وقد جاء في أحد التقارير لسنة 1931 أن الفرنسيين يعتبرون المدارس الثلاث كليات فرنسية - إسلامية بالنظر إلى برنامجها، وهي كليات للتعليم الأهلي بالنظر إلى تلاميذها، وأن إطارها هو تعليم (عالي) إسلامي وتعليم (ثانوي) فرنسي (¬2). وهذا كله يدل على الذبذبة التي عليها الذهن الفرنسي إزاء الجزائريين، وهي ذبذبة تقوم على عدم الإقرار بالمساواة البشرية والحضارية. وحتى بالنسبة للشهادة التي تمنحها المدارس الشرعية كانت تضاف إليها دائما عبارة خاصة، وهي (بالمدرسة) أي شهادة الدراسات (بالمدرسة) ودبلوم الدراسات العليا (بالمدرسة)، خوفا من أن تختلط بالشهادات الفرنسية العادية (¬3). وقد استمرت الدراسة على هذا النحو في المدارس الشرعية - الفرنسية إلى 1944. حين تحولت إلى ثانويات ذات مستويين (متوسط وثانوي)، بينما تحول القسم العالي التابع لمدرسة الجزائر سنة 1946، إلى معهد للدراسات الإسلامية العليا لإعداد المدرسين ورجال الديانة. وقد بلغ عدد طلبة التلاميذ في المدارس الثلاث سنة 1950، 289. أما في سنة 1951 فقد أصبحت المدارس الثلاث ثانويات (ليسيات) فرنكو - ميزولمان/ فرنسي - إسلامي: اثنتان في العاصمة، وواحدة في قسنطينة والرابعة في تلمسان، وأصبحت مهمة المدارس هي التحضير للباكلوريا، وبلغ عدد تلاميذها سنة 1953، 430 تلميذا (¬4). وقبل أن نختم الحديث عن المدارس الشرعية نشير إلى أنه قد أنشئ بمدرسة الجزائر قسم تجاري سنة 1908. وكان ذلك باقتراح من المفتش ¬

_ (¬1) ميرانت (كراسات ...)، مرجع سابق، 88. (¬2) أرشيف إيكس (فرنسا)، 61 H 10. (¬3) من سيرة مالك بن نبي نعرف الكثير عن وضع المتخرجين من المدارس الشرعية لامكانات العمل المحدودة أمامهم. وهو نفسه كان قد تخرج من مدرسة قسنطينة التي أمضى فيها أربع سنوات، وبعد أن عمل فترة في سلك الترجمة والقضاء، ذهب إلى فرنسا للدراسة في الكهرباء (بعد أن عجز عن دخول مدرسة اللغات الشرقية). انظر مذكراته. (¬4) آجرون (تاريخ الجزائر المعاصر)، ج 2، ص 536.

هوداس. وصدر القرار بإنشاء القسم المذكور عن الحاكم العام شارل جونار، وبدأ العمل به في أكتوبر من السنة المذكورة. وكان القسم يقبل التلاميذ الذين قبلوا في امتحان الدخول إلى السنة الرابعة بالمدرسة، أي بعد أن يكونوا قد قطعوا ثلاث سنوات فيها. كان الهدف من إنشائه فيما يبدو هو توظيف الجزائريين في مجالات التجارة في إفريقية والمشرق العربي واستفادة فرنسا من خبراتهم وعلاقاتهم في هذا المجال (¬1). وقد قال ألفريد بيل إن في إمكان القسم التجاري أن يخرج أفضل العملاء والزبائن للشركات الفرنسية التجارية (الجزائر وتونس ومراكش ومصر وطرابلس، وسورية). واستشهد بالفوائد التي جناها الفرنسيون في المغرب الأقصى من حرفائهم الجزائريين خريجي مدرسة تلمسان، لأن الثقافة العربية هي وحدها التي تجعل، كما قال، من تلاميذنا (عملاء جيدين للتوغل في البلاد الإسلامية لمصلحة فرنسا) (¬2). وهكذا تكون المدارس الشرعية - الفرنسية الثلاث قد أدت خدمات كبيرة لفرنسا وليس للثقافة العربية ولا الثقافة الإسلامية. فلم تخرج علماء في الفقه الإسلامي ولا في اللغة العربية قادرين على ملء الفراغ الذي تركه الجيل القديم بالانقراض والهجرة، ولم يبرز منها منافسون لعلماء الزوايا أو الأحرار العصاميين في الثقافة الإسلامية الذين كان الفرنسيون يخشون من توظيفهم لأنهم خطرون وغير موثوق في نواياهم، كما أن تلامذ المدارس الشرعية، وقد بلغ عمرها قرنا كاملا، لم يستطيعوا منافسة علماء الزيتونة أو القرويين أو الأزهر في الأدب واللغة والتوحيد والفقه وحركة التأليف، رغم أن تصريحات بعض الفرنسيين الأولى يفهم منها أن الهدف من إنشائها وإصلاحاتها هو الوصول إلى هذه النتيجة. وسنجد أوغسطين بيرك في الأربعينات يوجه نقدا ¬

_ (¬1) انظر مقالة إسماعيل حامد عن الأهالي والتجارة. في مجلة العالم الإسلامي R.M.M . (¬2) بيل، (مؤتمر ...)، مرجع سابق، 228، استشهد بشهادة زملائه دوتيه وسيقونزاك الخ. على الخدمات التي قدمها خريجو مدرسة تلمسان في المغرب الأقصى. وقد جندت فرنسا أعدادا منهم في التعليم والتجارة والبحث والإدارة الخ. انظر أيضا الآن كريستلو (المحاكم)، مرجع سابق، ص 244 - 245 عن توظيف المثقفين الجزائريين في غرب إفريقية والعالم الإسلامي لخدمة المصالح الفرنسية.

المعاهد (الكوليجات) العربية - الفرنسية

حادا لسياسة بلاده في تكوين رجال الدين والقضاء واللغة العربية. وكثير من المشاهير الذين مارسوا التدريس فيها لم يتخرجوا في الواقع منها بل تكونوا في غيرها أو ساهمت عوامل أخرى في تكوينهم، مثل عبد القادر المجاوي وحسن بن بريهمات وعبد الحليم بن سماية والمولود بن الموهوب ومحمد السعيد بن زكري. صحيح أن لغة تلاميذها كانت مزدوجة وأن ثقافتهم كانت متنوعة وعقليتهم كانت علمية أكثر من زملائهم خريجي الزوايا ومعاهد الشرق وتونس والمغرب، ولكننا نتحدث هنا عن الدور المنتظر منهم في تخصصهم، وهو القضاء الإسلامي واللغة العربية والأدب العربي والترجمة وما إلى ذلك. ومن أبرز المتخرجين من المدارس الشرعية مالك بن نبي، ولكنه لم يبرز إلا بعد أن ذهب إلى فرنسا نفسها واكتشف عبقريته هناك (¬1). المعاهد (الكوليجات) العربية - الفرنسية هذا نمط آخر من المدارس أنشأه الفرنسيون في القرن الماضي لفترة محددة ثم ألغوه بعد حوالي اثني عشر سنة من إنشائه. وقد أطلقوا على مؤسسته اسم الكوليج الإمبريالي، أو الامبراطوري نسبة إلى الامبراطور نابليون الثالث الذي تأسس الكوليج في عهده. وكانت جريدة المبشر الرسمية تسميه (المدرسة السلطانية) لأنها تترجم الامبراطورية بالسلطنة. وقد فضلنا أن نطلق عليه اسم المعهد العربي - الفرنسي تمييزا للمدارس العربية - الفرنسية، وكثر استعمال لفظ (الكوليج) خلال القرن الماضي، ولذلك يجب عدم الخلط في الأسماء، فقد سبقت الإشارة إلى إنشاء كوليج الجزائر سنة 1837، وهو في مستوى متوسطة، وكان خاصا بالفرنسيين والأوروبيين الذين أنهوا دراستهم الابتدائية. ثم أنشأوا الكوليج العربي في باريس سنة 1839، وكان موجها للجزائريين أعيانا وشبانا، ولكن التجربة فشلت فألغي بعد قليل. ثم ظهر الكوليج العربي/ الإمبريالي (السلطاني) الذي نحن بصدده، وكان تاريخ إنشائه هو 14 مارس 1857. لقد ظل الجزائريون بدون مدرسة متوسطة تشرف عليها الدولة الفرنسية ¬

_ (¬1) انظر ترجمتنا له في فصل العلوم الاجتماعية.

إلى سنة 1850 حين تأسست المدارس الشرعية - الفرنسية، كما أشرنا، فكانوا لا يجدون أين يواصلون تعليمهم بعد أن يكون الأطفال قد انتهوا من المرحلة الابتدائية في المكاتب (الكتاتيب) ونحوها. وإذا كانت الزوايا متوفرة عندئذ في الأرياف، فإنها في المدن قد وقع الاستيلاء عليها وتحويلها إلى أعراض أخرى ذكرناها في فصل المعالم الإسلامية. وتدهورت حالة التعليم عموما بكل مستوياته. وفي سنة 1844 اقترح ليون روش على بوجو إنشاء (كوليج) في مستوى التعليم المتوسط، ولكن التنفيذ لم يتم. ثم تألفت لجنة الجنرال بيدو وخرجت سنة 1849 بتوصيات حول التعليم الموجه للمسلمين منها إنشاء ست مدارس عربية - فرنسية ابتدائية وإنشاء ثلاث مدارس شرعية - فرنسية. وقد فهم من ذلك أن الأخيرة هي التي تستقبل تلاميذ المدارس الابتدائية، رغم أن المدارس الشرعية بدأت بكبار السن وبمن لا يعرفون حتى القراءة والكتابة. وكانت الدراسة فيها بالعربية والفرنسية (¬1). كان الهدف الأساسي عند الفرنسيين، بعد فترة الإهمال المتعمد لتعليم الجزائريين، هو فرنسة تعليمهم من حيث اللغة ومن حيث المحتوى الفكري وتوجيه الخريجين وجهة تخدم المصالح الفرنسية. فأنشأوا بعد انقراض الجيل القديم عدة مدارس ابتدائية بالفرنسية أيضا، رغم ذكر عبارة (عربية) معها. ثم أنشأوا بعد 27 سنة من الاحتلال مؤسسة تعليمية للجزائريين لا تدرس إلا بالفرنسية. ونعني بذلك المعهد (الكوليج) العربي - الفرنسي. والواقع أنهما اثنان في الجزائر كلها، الأول بدأ يعمل في العاصمة سنة 1857 - 1858، والثاني بدأ يعمل في قسنطينة سنة 1867. وكان من المخطط توسيع التجربة وإنشاء معاهد أخرى في وهران وغيرها، ولكن سقوط الامبراطورية وظهور الجمهورية الثالثة الساخطة على سياسة نابليون (العربية) في الجزائر أديا إلى إغلاق حتى المعهدين المذكورين. ظهر المعهد في عهد الحاكم العام المارشال راندون الذي واصل سياسة بوجو في القضاء على الثورات والاستيلاء على المناطق الباقية من الجزائر ¬

_ (¬1) انظر سابقا.

مثل منطقة جرجرة والواحات. وصدر مرسوم إنشاء المعهد في 14 مارس 1857 كما ذكرنا، ونشرته جريدة المبشر في 15 أبريل. وهو ينص على أن التعليم فيه شبه مجاني، وعلى إعطاء المنح لعدد من تلاميذ، وكونه مفتوحا للجزائريين والأوروبيين أيضا، إذا كانت أعمارهم بين التاسعة والاثني عشر. والتلاميذ فيه على ثلاث مجموعات: مجموعة من 45 تلميذا يدرسون على حساب الدولة، ومجموعة أخرى من 45 تلميذا تدفع عنهم الدولة حوالي ثلاثة أرباع المصاريف. ومجموعة من 60 تلميذا لا تدفع عنهم الدولة سوى نصف المصاريف، وكان الفرنسيون يريدون مكافأة العملاء الجزائريين على خدماتهم لهم، ولذلك خصصوا الدخول إلى المعهد لأبناء الذين قاتلوا إلى جانب الفرنسيين أو خدموا القضية الفرنسية بإخلاص. والدراسة في المعهد ابتدائية ومتوسطة. والتلميذ يظل في المرحلة الابتدائية ثلاث سنوات، يتدرب فيها على اللغة الفرنسية. ولا ينتقل إلى المرحلة التحضيرية (المتوسطة) إلا بعد اجتياز امتحان صعب في اللغة الفرنسية. وكان التلميذ الجزائري يعتبر ساذجا وبسيطا وصغير المخ ما دام من بيئة عربية يتحكم فيها القرآن والتقاليد الإسلامية. ومعظم التلاميذ لهم مبادئ بالفرنسية عند الدخول، كلاما وكتابة وقراءة. لذلك يعين لهم معلمون يدخلونهم بالتدرج في الحياة الفرنسية وينقلونهم، كما يقول غوستاف دوقا Dugat، من الحياة الإسلامية إلى الحياة الفرنسية. ولما كان التلاميذ متأثرين باللغة العربية التي لا تتسع، في نظره، إلى جميع الأفكار العصرية، فإن الوصول إلى الهدف المنشود، وهو دمجهم في الحياة الفرنسية، سيكون بطيئا. ويسمى دوقا هذه المرحلة مرحلة (فصل التلميذ عن القرآن)، وهي ما قبل سنة التخصص. وقد ألبس الفرنسيون الدراسة في هذا المعهد بلباس إسلامي أيضا تمويها على الأهالي. فجاؤوا بمؤدب يقرئ القرآن للتلاميذ، وهو أيضا إمام يؤمهم في الصلوات الخمس. أما اللغة العربية التي تدرس في المعهد فهي العربية الدارجة، ولا تدرس إلا بمعدل ساعة في الأسبوع على يد أحد الفرنسيين. وقد اعتبرت لغة (أجنبية)، مع ذلك. أما اللغة العربية الفصحى

الكلاسيكية، كما يسمونها، فتدرس مرة في الأسبوع في السنة الثانية وفي الأقسام النهائية مرتين في الأسبوع، ولا يشرحها أو يتحدث عنها المعلم الفرنسي إلا باللغة الفرنسية. وفي المرحلة التحضيرية يتلقى التلميذ دروسه في التاريخ الفرنسي والجغرافية الفرنسية، والحساب، والتحليل العميق للنصوص بالفرنسية. فإذا اجتاز التلميذ هذه المرحلة التي سماها دوقا (فصل التلميذ عن القرآن)، يأخذ في تلقي دروس الأدب الفرنسي ويتمرن على طريقة التراجم الفرنسية وتحليل أعمال الكتاب الفرنسيين، كما يدرس تاريخ فرنسا منذ 1789. أما في السنة الثالثة فيأخذ دروسا في تاريخ إفريقية (¬1)، أي أنه يدرس كل شيء تقريبا إلا تاريخ الجزائر وتاريخ العرب والمسلمين وحضارتهم. بدأ معهد الجزائر بـ 105 من التلاميذ الداخليين و 68 خارجيين، يضاف إليهم تلميذان في الطب. والداخليون هم أولاد العرب، كما يقول الفرنسيون، وكان عددهم يتزايد سنة بعد أخرى (¬2). وكان التلاميذ الذين تتحمل الدولة الفرنسية نفقتهم هم أبناء القيادات الأهلية التي خدمت فرنسا كما ذكرنا. ويتضح ذلك من قائمة التلاميذ عند النجاح ونيل الجوائز فهم عادة أبناء كبار الموظفين عند فرنسا أو ممن قتل آباؤهم أو جرحوا أثناء أداء الخدمة لفرنسا أيضا. وكانت الميزانية المحلية والبلدية تساهم أيضا في النفقة والجوائز. وللتلاميذ المسلمين نظام داخلي خاص بهم. أما التلاميذ الأوروبيون فهم خارجيون (¬3). أول مدير للمعهد العربي - الفرنسي (الكوليج) منذ إنشائه هو الدكتور ¬

_ (¬1) غوستاف دوقا المجلة الإفريقية R.A، 1869، ص 248. (¬2) بوليو، مرجع سابق، 254. (¬3) انظر رسالة إبراهيم الونيسي عن جريدة المبشر، مرجع سابق، وكذلك ميرانت كراسات)، ص 80. ويذكر ميرانت أن هناك علاقة بين إنشاء المعهد ومدرسة الطب، ولاحظ أن راندون خطط بأن يدخل تلاميذ المعهد إلى مدرسة الطب ليصبح هؤلاء بعد ذلك في خدمة الطب الفرنسي في الأعراش (الأرياف).

نقولا بيرون Perron. وهو كمدير كان يعين من قبل وزير الحربية. وبيرون مستشرق له حياة متنوعة، درس العربية والطب وحياة الشرق، وترجم عدة مصادر إسلامية من بينها مختصر الشيخ خليل في الفقه، وبعض التجارب الطبية العربية، وحياة المرأة العربية قبل الإسلام. وعاش في القاهرة، وتولى بها مدرسة الطب، وكانت الثقافة الفرنسية في مصر قوية منذ عهد محمد علي باشا. ولذلك فإن عددا من الذين سبقت لهم التجربة في مصر جيء بهم إلى الجزائر لتشابه الحياة والظروف في البلدين. وقد تناولنا سيرة الدكتور بيرون في فصل الاستشراق. وفي سنة 1864 خلفه في إدارة المعهد المستشرق شيربونو الذي كان على رأس حلقة اللغة العربية في قسنطينة، كما كان شيربونو يلقي دروسا في الفرنسية للراغبين فيها من الجزائريين الموظفين. أما معهد قسنطينة فتولاه السيد (أوبن) سنة 1869. ويشترط في المعلمين الجنسية الفرنسية سواء كانوا فرنسيين بالأصالة أو متجنسين، ولا يقبل في المعهد غير هؤلاء بمن فيهم الجزائريون. وكلهم كانوا تحت رقابة الحاكم العام. ويشترط فيهم أيضا معرفة اللغة العربية الدارجة وعادات أهلها. والحاكم العام هو الذي كان يرشح للوزير أسماء المعلمين ليقوم بتعيينهم. وكان المؤدب أو المعلم للقرآن في المعهد عندئذ هو الشيخ (أحمد؟) بوقندورة، وهو اسم ظل يتردد إلى فاتح هذا القرن، لأن عائلة بوقندورة قد تولت وظائف عالية أيضا كالإفتاء. ولاحظ أحد التقارير أن هذا المؤدب (سنة 1865) كان لا يعرف الفرنسية ولا الحساب، وطالب بأن يعين شاب فرنسي إلى جواره (¬1). وبعد التخرج يحصل التلاميذ على شهادة تؤهلهم لبعض الوظائف الدنيا. وهي وظائف مدنية وعسكرية. فهم إما يتجهون لأداء الخدمة ¬

_ (¬1) أرشيف إيكس (فرنسا)، 1732 F 80. والتقرير كتبه من مرسيليا إلى الوزير السيد أوريلي orielle في 5 جوان (يونيو)، 1865. انظر كذلك زوزو (نصوص)، مرجع سابق، 220. ترى ماذا ستكون مهمة الشاب الفرنسي: هل سيعلمه الصلاة أو يحفظه القرآن؟! عن عائلة بوقندورة انظر فصل السلك الديني والقضائي.

العسكرية التطوعية، وإما يتولون وظائف القياد أو الخوجات أو الترجمة، أو الطب، أو الفقه. ومنهم من يتوجه إلى مدرسة الفلاحة بفرنسا، ولكن عدد الخريجين ضئيل جدا، إذ لا يتعدى الخمسة أو الستة في العام. وقد لاحظت (المبشر) أن التلاميذ يتوقفون عادة في سن السادسة عشرة لحاجة ذويهم إليهم، وهم عادة من عائلات فقيرة، وادعت أيضا أن السكان لهم قابلية في تعلم الحرف والصنائع خلافا لما كان يشاع عنهم، بل ولهم قابلية في التعلم عموما. ولعل في ذلك تكذيبا للمقولة السائدة عندئذ، وهي رفض الجزائريين التعليم وعدم القابلية فيهم أصلا. ولكن صاحب هذا الرأي أبى إلا أن يطعن في اللغة العربية إذ قال عنها إنها لغة غير صالحة للتقدم، وهي لا تؤدي إلى التطور والإصلاح (¬1). برنامج المعهد محدود وموجه جدا. أما كونه محدودا فلأنه مقصور على مواد معينة في الحضارة الفرنسية، وهو كذلك غير مفتوح لكل الجزائريين. وأما كونه موجها جدا فلأن كل المواد تصب في هدف واحد وهو إبعاد المتعلم الجزائري عن أصله وتراثه ولغته ودينه وربطه بالحضارة الفرنسية. ولا يغرنك وجود القرآن في المعهد، فقد لاحظ الفرنسيون أن التلاميذ يحفظون آياته دون إدراك معناها، والمؤدب يقوم معهم في المعهد بما يقوم به زملاؤه في المكتب (الكتاب) وهو حفظ بعض السور والآيات. كما لا يغرنك وجود العربية لأنها هي الدارجة فقط وبحصة واحدة أسبوعيا وعلى يد معلم فرنسي، وتعليمها لا يكون إلا باللغة الفرنسية، فهو في الواقع تشويه لها في أذهان التلاميذ الذين هم أعرف بالدارجة ونطقها بالسجية من الفرنسي. أما اللغة الفصحى فكذلك لا تدرس إلا بالفرنسية. والمواد الفرنسية في البرنامج هي الأساسية، وهي اللغة بنحوها وصرفها وتمارين ¬

_ (¬1) المبشر، 25 مارس 1869، مقالة عربتها عن زميلتها (الأخبار) في 15 مارس، والمقالة بقلم غوستاف دوقا. وجعلت المبشر عنوان المقالة الطويلة (النبذة اللطيفة في شأن تأديب وتعليم صبيان المسلمين). وانظر العدد 1 أبريل 1869 من المبشر أيضا. والمقالة على كل حال مفيدة.

إنشائها وإملائها والقراءة في نصوصها، مع مادة الحساب والرسم والخط والموسيقى. وكذلك التاريخ الفرنسي والجغرافية، والمحفوظات (¬1). ومن المواد المدروسة أيضا العلوم الطبيعية والهندسة والرياضة البدنية. وبعد اجتياز الامتحان بنجاح في هذه المواد يمنح التلميذ شهادة تعتبر في مستوى البكالوريا، ولكنها (شهادة خاصة) ولا ترقى في الواقع إلا إلى مستوى الأهلية (¬2). في سنة 1869، أي بعد 11 سنة من إنشاء المعهد العربي - الفرنسي تخرج من معهد الجزائر 16 تلميذا مسلما. وقد ذكرت المبشر أن ثلاثة منهم دخلوا مدرسة سان سير العسكرية، والتحق واحد منهم بمدرسة الخيالة بسومور، وتلميذ آخر بمدرسة الطب البيطري ببلفور، أما الباقون فقد قالت عنهم إن منهم من كان يرغب في الدخول إلى مدرسة الطب (الجزائر)، ومنهم من تطلع إلى وظائف أخرى (¬3). ويظهر من أسماء الذين التحقوا بمدرسة سان سير أنهم من أصول عثمانية (¬4). أما معهد قسنطينة فلم تطل مدته حتى تظهر نتائجه بوضوح. فقد افتتح ¬

_ (¬1) أرشيف إيكس (فرنسا) من كتيب رقم 27 I 1 . الأرقام التي كانت تستعمل في المعهد هي الأرقام التي نسميها اليوم الهندية، وهي الأرقام العربية المستعملة في المشرق. (¬2) رسالة إبراهيم الونيسي، مرجع سابق. (¬3) المبشر 21 كتوبر 1869. ذكرت المبشر في العدد الموالي وهو 28 أكتوبر 1869 أن وزير الحربية قد رخص لثلاثة من خريجي المعهد العربي - الفرنسي بدخول المدرسة المذكورة (سان سير) وهم: حسن بن محمد، ومحمد بن إبراهيم مامو، وعمرو بن محمد بن الشاوش، من خريجي المعهد لسنة 1867، وأن اثنين قبلا في مدرسة الطب بالجزائر، وهما علي بن محمد بن بولكباشي وقدور بن محمد، وذلك بعد امتحان دخول خاص. انظر المبشر 3 أكتوبر 1867. (¬4) بوليو، مرجع سابق، 254. وكذلك دوقا، مرجع سابق (R.A) 1869، 280. في سنة 1869 تخرج من معهد قسنطينة 13 جزائريا، منهم 4 واصلوا التعليم في مدرسة عربية رسمية (فرنسية)، و 3 في مدرسة سومور، و 3 مهندسين، وفارس في ديوانة القنطرة، وواحد بيطري. انظر بيلي (عندما أصبحت ..) مرجع سابق، ص 284.

فقط سنة 1867 وبعد أربع سنوات صدر قرار إغلاقه من الحاكم العام المتعصب ضد العرب والمسلمين، والناقم على عهد نابليون الثالث، وهو الأميرال ديقيدون. وقد غشيها عند افتتاحها 156 تلميذا منهم 112 تلميذا مستقرا أو داخليا، و 40 نصف داخلي، و 12 خارجيين (أوروبيون؟)، مع تلميذين متخصصين في الفقه الإسلامي. بدأ المعهد في شهر يناير فقط. والإقبال الذي شهده هذا المعهد جعل السلطات تفكر في تعميم التجربة. واعتبر السيد بوليو التجربة ناجحة جدا، وقال إنه يمكن التفكير في إنشاء سبعة أو ثمانية معاهد أخرى مماثلة (¬1). أما جان ميرانت فقد اعتبر هذا النوع من التعليم دليلا على كرم فرنسا وليبراليتها وجميل صنيعها. وذكر أن معهد قسنطينة قد افتتح في بناية إسلامية جميلة تقع على منحدرات سيدي مسيد. وضم 112 تلميذا، منهم 108 من الأهالي، وقد أصبح سنة 1870 يضم 199 منهم 117 من الأهالي. وقد خطط الفرنسيون لإنشاء معهد ثالث في وهران، ولكن ذلك لم يحصل لتغيير نظام الحكم. تبين بعد تجربة قصيرة أن فكرة إنشاء المعاهد لم تحقق كل الهدف الذي وضعه المنظرون الفرنسيون. فاللغة الفرنسية لم تكن إلى سنة 1864 شرطا أساسيا لدخول المعهد. ووجدوا أن بعض التلاميذ دخلوه وهم لا يعرفون حتى القراءة والكتابة. ولعل ذلك راجع إلى قلة التلاميذ المتقدمين وحرص المسؤولين على فرنسة كل من جاءهم عندئذ، مهما كان مستواه. وأمام هذا الخلل كتب الحاكم العام مذكرة إلى والي الجزائر قائلا إنه لا يمكن التسامح بعد اليوم في ذلك، فقد حان الوقت الذي لا يدخل فيه المعهد إلا التلاميذ العارفون بالفرنسية. وتشجيعا لذلك رصد الحاكم العام منحتين لتلميذين يعرفان قراءة الفرنسية، وإذا أمكن يعرفان كتابتها أيضا، مع جودة الصحة البدنية. هذا بالنسبة للغة الفرنسية، أما المنح الخاصة بأبناء من خدموا القضية الفرنسية فقد رصدها الحاكم العام أيضا، وهي تدخل فيما فرضه الفرنسيون على العرب من غرائم والتي تسمى (الغرامة ¬

_ (¬1) ميرانت (كراسات)، ص 81. وهناك اختلاف في أرقام التلاميذ عند الافتتاح.

العربية) (¬1). وإذن فالفرنسيون لا يدفعون المنح ولا المرتبات من ميزانية الحكومة وإنما يدفعها الجزائريون، رغم أن أولادهم لا يدرسون، كما عرفنا، وهم في الواقع يدفعون مرتين مرة في شكل أموال الأوقاف المغتصبة ومرة في شكل الغرامة العربية، بالإضافة إلى الضرائب العادية. ومع ذلك فإنه يبدو أن تجربة إنشاء المعهدين قد جلبت الأنظار إليها حتى من غير الفرنسيين. ولعل هؤلاء قد أكثروا من الضجة حول نجاح التجربة. ففي 1869 جاء أحد الخبراء الروس إلى الجزائر مبعوثا من وزيره للتعليم ليشهد التجربة الفرنسية في الجزائر بنفسه وليحاول الوزير الروسي تطبيقها على مسلمي بلاد القوقاز والجركس، إذا اقتنع بجدواها. فالتجربة الفرنسية قامت على فرض الفرنسية على الجزائريين مباشرة وإلغاء العربية، وكان الروس يريدون أن يفعلوا ذلك مع لغتهم ولغة مسلمي القوقاز. والغريب أن الجريدة الرسمية (المبشر) قد تبجحت (بالطريقة الجديدة) في ميدان التربية والتعليم، كما تقول، وهي تقوم على (تحريم) استعمال العربية في تدريس اللغتين الفرنسية والعربية للتلاميذ المسلمين، لإدراك معنى اللغة الفرنسية. وقالت إنه: (لا يخفى على أحد أن الصور والأشكال الحسية هي الكتاب الأنفع في تعليم الصبيان اللغة الأجنبية، مهما كانت اللغة) وأخبرت الجريدة أن المسؤول الروسي قد تأمل في الطريقة الجديدة وكيف كان الفرنسيون يعلمون لغتهم مباشرة (لأبناء العرب دون ارتكاب اللغة العربية للتوصل إلى المعنى) (¬2). وعشية افتتاح معهد قسنطينة نشرت المبشر مقالة طويلة في عددين أو أكثر، لأحد المتأدبين من أهالي قسنطينة عنوانها (النصيحة الدرية في تأديب الذرية)، وصاحب المقالة هو مصطفى بن السادات. ويظهر أنه كتبها بإيعاز من سلطات المبشر والإدارة ترغيبا لأهل المنطقة في إرسال أولادهم إلى ¬

_ (¬1) انظر أرشيف إيكس (فرنسا) 21 I 1، وكذلك المبشر، 3 أكتوبر 1867. (¬2) المبشر، 11 فبراير 1869.

المعهد الجديد وعدم الخوف من التعليم الفرنسي الذي كانوا يحذرون منه. وقد أخبر ابن السادات أن الدولة تحث الناس على التعلم باللغة الفرنسية لأنها لغة العلم والسيادة، وأن من لم يحرز بها وظيفة تمتع بآدابها، وأنها في المستقبل هي وسيلة الوظيف والخبز. وقد كتب المقالة بأسلوب مسجع أحيانا، وأخبر أنه إلى ذلك الحين تخرج 31 تلميذا من معهد الجزائر، وظهر منهم الترجمان والمهندس والمعلم والحاكم بالأعراش والجندي. وقد سمي معهد قسنطينة الجديد (المدرسة السلطانية التي أعدت لبث العلوم الفرنسية بقصد صالحي الذرية الإسلامية في مدينة قسنطينة) (¬1). وقد تبعه زميله محمود بن الشيخ، المحرر بالمبشر أيضا، بمقالة على نفس الوتيرة، وعنوانها (نصيحة عمومية لأهل الحضر والبادية)، وظهرت هذه المقالة بعد الأولى بحوالي سبعة أشهر. وكلتاهما (تنصح) الجزائريين بإرسال أولادهم ليتعلموا الفرنسية التي هي خير وسيلة للعلم والتعلم ونبذ الجهل وإحراز المناصب، لأن (التعلم يؤلف بين العباد على اختلاف ألسنتها وطبائعها)، وضرب لهم مثلا بالنهضة في مصر، وحثهم على العلم طبقا للآيات والأحاديث، وبين خطأ الاعتقاد في أن علوم الدين وحدها كافية. وأشار إلى أهمية اللغة الفرنسية كلغة حديثة وما توصل إليه الفرنسيون من اختراعات ونهضة (¬2). وهذا حق أريد به باطل. فالسلطة الفرنسية أهملت التعليم للجزائريين ثم خططت لنوع من التعليم يهمها هي تريد من ورائه إبعاد الجزائريين عن ¬

_ (¬1) المبشر، 27 ديسمبر 1866. هذه المقالة لم نعثر على أولها إذ الأعداد السابقة لهذا التاريخ مفقودة في المجموعة التي رجعنا إليها. وقد وجدنا في العدد المذكور تتمة وعبارة انتهى. وسنشير إلى مصطفى بن السادات في فصل المنشآت الثقافية (الصحافة). (¬2) المبشر 25 يوليو، 1867. انظر كذلك رسالة إبراهيم الونيسي، مرجع سابق. ونرجح أن محمود هذا هو ابن الشيخ علي بن عبد القادر بن الأمين، الذي تولى الفتوى عدة مرات في آخر العهد العثماني. وعن محمود بن الشيخ علي انظر لاحقا.

لغتهم وماضيهم وشخصيتهم. وأوعزت لبعض منهم ليخاطبوا مواطنيهم بما يرغب فيه الفرنسيون. فالجزائري لم يرفض التعليم بل كان يطالب به، ولم يرفض الفرنسية لو أنها كانت فقط لتدعيم ثقافته العربية الإسلامية. وقد جاء في العريضة الشهيرة المسماة (مقالة غريق) والتي حررها أهالي قسنطينة سنة 1891 قولهم للسلطات الفرنسية (إننا لا نستحي من القول بأن السبب المنافي للبعظ (كذا) منا من إرسال أولادهم إلى المدارس هو تحققهم بعدم تدريس لغتهم الأصلية العربية بتلك المكاتب (المدارس)، وخولهم من فساد عقولهم الضعيفة ونسيانهم لأصولهم ودينهم وملتهم) (¬1). ومع ذلك فإن الذي ألغى المعهدين المذكورين ليس هم الجزائريين. ويقول بوليو إن إلغاء المعهدين سنة 1871 عمل تعصبي أو (شوفينيستي). وقد هنئ ديقيدون (الحاكم العام) في تقريره سنة 1873 على هذا العمل التخريبي. وقال بوليو إنه كان من المفروض أن تتوسع شبكة هذه المعاهد حتى تصل إلى عشرين أو ثلاثين مدينة في الجزائر، وبذلك تجلب إليها عشرة آلاف من الشبان الجزائريين الذين يمكن لفرنسا ممارسة نفوذها عليهم عقليا ومعنويا. وطالب بأن يكون للغة العربية مكانها في الجزائر حتى في الليسيات الفرنسية، وهي في نظره لغة واجبة على الفرنسيين أيضا لأنها وسيلتهم إلى السفر نحو السودان والصحراء والمغرب الأقصى. وندد بوليو بالشعور المعادي لتعليم الجزائريين وللردة التي ظهرت في الوثائق الرسمية، كما قال، منذ سنة 1870، وهو الشعور الذي غذته النقمة من ثورتي 1871 و 1881 (¬2). ورغم أن المعهدين لا يمكن اعتبارهما مدرستين ثانويتين للجزائريين، كما ذكرنا، فإنهما كانا نافذتين لمن يرغب في متابعة الدراسة المتوسطة وحتى الثانوية بعد اجتياز مرحلة المدرسة الابتدائية المسماة العربية - الفرنسية. ¬

_ (¬1) انظر العريضة (مقالة غريق) وهي مطبوعة على حدة في قسنطينة، وقد نشرها أيضا جمال قنان (نصوص سياسية). (¬2) بوليو، مرجع سابق، 255. وكان بوليو من أنصار دمج الجزائريين حضاريا. ولذلك رأى أن تجربة المعاهد تخدم ذلك الهدف.

مدرسة ترشيح المعلمين (النورمال)

ولكن هذه على قلتها (حوالي 34 مدرسة فقط سنة 1870) كانت قد ألغيت أيضا من قبل ديقيدون. فماذا بقي أمام الجزائريين من مؤسسات تعليمية؟ الواقع أن كل التجربة الفرنسية في هذا الميدان قد ولدت مشوهة وانتهت مشوهة. فلا تعليم ابتدائي منتظم ولا تعليم متوسط يتلقف التلاميذ ويقودهم نحو الثانوي والعالي. وقد عرفنا مرحلة الفراغ الأخرى التي كانت بين 1870 و 1892 وكيف بقي الجزائريون على حالة دنيا من الإهمال والجهل بينما كان التعليم الفرنسي للفرنسيين يسير سيرا طبيعيا منذ البداية، رصدت له الميزانيات وبنيت له المدارس والليسيات والجامعة، في منظومة دقيقة يقود بعضها إلى بعض، وكان تعليما إجباريا كشأنه في فرنسا. فأين الجزائريون من كل ذلك؟ (¬1) وقبل أن نجيب على هذا التساؤل نذكر المدرسة الفرنسية الأخيرة في هذا الصدد، وهي مدرسة ترشيح المعلمين (النورمال) التي كان لها دور مهم في تأطير بعض الجزائريين في تجربة التعليم الفرنسي. مدرسة ترشيح المعلمين (النورمال) نشأت هذه المدرسة في الجزائر سنة 1865. وكان إنشاؤها تلبية لحاجة المدرسة الابتدائية الفرنسية/ الفرنسية إلى المعلمين الأكفاء. فقد كثرت المدارس وازداد التلاميذ الفرنسيون تبعا لازدياد عدد المستوطنين. ومن دواعي ظهورها أيضا تثبيت المدرسة الابتدائية الموجهة للجزائريين والتي سميت بالمدرسة العربية/ الفرنسية. وهي التي ظهر منها سنة 1850 ست مدارس، ثم ازدادت حتى وصلت إلى حوالي 34 سنة 1870. أول توصية بإنشاء مدرسة لترشيح المعلمين (النورمال) ظهرت في تقرير لجنة الجنرال بيدو سنة 1849، وهي اللجنة التي درست موضوع التعليم بتوسع، سيما المتعلق منه بالتعليم الموجه إلى الجزائريين. فقد جاء في تقرير هذه اللجنة: نقترح إنشاء مدرسة لترشيح المعلمين (نورمالية) ابتدائية تكون فيها اللغة العربية (الدارجة) ذات مكانة بارزة وإجبارية. والمقصود أن يكون على المعلم المتخرج من هذه المدرسة، سواء كان ¬

_ (¬1) لقد رأيت أن معهد الجزائر لم يتخرج منه بعد عشر سنوات على إنشائه سوى 31 تلميذا.

أوروبيا أو جزائريا، عارفا باللغة العربية، لأنه سيدرس لأطفال يوجدون على أرض الجزائر، سواء كان آباؤهم جزائريين أو أوروبيين. ولذلك درست اللجنة المذكورة أيضا إمكانية توظيف المعلمين الجزائريين الذين يحسنون قدرا من الفرنسية في المدارس الفرنسية/ الفرنسية. وقد رأى بعض الأعضاء أن هذا الاحتياطي من المعلمين الجزائريين سيشكل خطرا إذا لم تستوعبه المنظومة التعليمية الفرنسية، لأن الفراغ يجعلهم يستعملونه ضد النفوذ الفرنسي، وليس من الحكمة ترك هؤلاء غير ملحقين بالفرنسيين. ولكن المسألة الملحة هي هل الأفضل تركهم يعلمون العربية على هواهم أو لا بد من وضعهم تحت وصاية معلم فرنسي (¬1). ولكن إنشاء مدرسة ترشيح المعلمين لم يأت إلا بعد 15 سنة من هذه المداولات ومن إنشاء المدارس الابتدائية العربية/ الفرنسية للجزائريين (¬2). غير أنه استحدث في أكتوبر سنة 1863 وظيف جديد سمي وظيف المفتش لمؤسسات التعليم العمومي المفتوحة للأهالي. وكان الهدف هو مراقبة التعليم الموجه للجزائريين سواء كان تحت الإدارة مباشرة كالمدارس الابتدائية المذكورة أو خارجا عنها مثل الزوايا والمكاتب القرآنية. لذلك أخذ المفتش الجديد يزور المدارس الشرعية - الفرنسية الثلاث والمدارس العربية - الفرنسية والزوايا والمكاتب القرآنية. وكان الفرنسيون يتوجسون خيفة من التعليم الذي لا يقع تحت نظرهم ويتهمون أصحابه بالتعصب وتغذية الثورات، لذلك عملوا منذ الخمسينات على جعله يخضع لشروطهم ونظرهم. وفي هذا النطاق كونوا أيضا لجنة مهمتها الإشراف على أيديولوجية التعليم الموجه للجزائريين ودراسة القضايا الخاصة به كالتكوين وإعداد المعلمين وتأليف الكتاب المدرسي ووضع البرنامج، الخ. وكان ذلك كله يجري على أيدي العسكريين وغير الاختصاصيين لأن التعليم الموجه للجزائريين كان خارجا عن وزارة التعليم منذ فصلت حكومة الجمهورية ¬

_ (¬1) أوغست كور، مرجع سابق، 47. (¬2) انظر سابقا.

الثانية التعليم الفرنسي وألحقته بوزارة المعارف، بينما أبقت التعليم (الأهلي) تابعا لوزارة الحرب وممثليها العسكريين في الجزائر. كانت فلسفة المدرسة العربية/ الفرنسية (الابتدائية) في الجزائر تقوم على أن التعليم فيها هو نسخة من التعليم الفرنسي، والفارق الوحيد هو وجود اللغة العربية (الدارجة) في برنامجها. وقد كتب الحاكم العام المارشال ماكماهون في 9 يناير 1865 قائلا إن البرنامج كان موضوعا على أساس برنامج المدرسة الابتدائية الفرنسية، مع ترك مكان لتعليم اللغة العربية. وعبر مدير التعليم (الريكتور) أيضا على نفس الرأي مع الإلحاح على توحيد البرنامج وترويج اللغة الفرنسية، رغم أن التعليم موجه إلى الجزائريين (¬1). وتمشيا مع هذه الروح وضمانا لإيجاد الإطار المناسب من المعلمين في المدارس الابتدائية العربية - الفرنسية أنشئت مدارس ابتدائية لترشيح المعلمين في مدينة الجزائر بمرسوم امبراطوري، في مارس - أبريل 1865. وجاء في تبرير إنشائها أن الجزائريين بدأوا يقبلون بإرسال أبنائهم إلى المدرسة الابتدائية - الفرنسية، وهذا يعني ضرورة إتقان التعليم فيها والبحث عن المعلمين أكفاء للتأثير على الجيل الناشيء من الأهالي، عن طريق مدرسة ترشيح المعلمين. إن الهدف من فتح المدارس العربية - الفرنسية هو نشر اللغة والأفكار الفرنسية بين الأطفال الجزائريين بسرعة، وهذا لن يتحقق إلا إذا وضعوا بين أيدي معلمين يعرفون اللغة العربية الدارجة والعادات والتقاليد والتأقلم مع التقاليد الثقافية للأهالي. وإذا لم يعد المعلمون إعدادا خاصا بذلك فإنهم سيبقون غرباء عن هذه البيئة، ولن يتحقق الهدف من المدارس العربية - الفرنسية. ولكن إعداد المعلمين ليس خاصا بمدارس أبناء الجزائريين بل هو شامل أيضا المدارس الفرنسية - الفرنسية. وصفة التمييز ¬

_ (¬1) عندما فهم الجزائريون ذلك الهدف من التعليم الموجه لأبنائهم واعتبروه خطرا على مستقبلهم، اتهمهم الفرنسيون بالتعصب والنفور من التعليم والحضارة .. انظر بوليو، مرجع سابق، 253. وقد توقع بوليو أن خريجي مدرسة ترشيح المعلمين سيجعلون أبناء الدواوير يتأثرون بالحضارة الفرنسية.

بين المتعلمين الفرنسيين والجزائريين ظهرت أيضا في مدرسة ترشيح المعلمين. ذلك أن عدد التلاميذ - المعلمين من الجزائريين المسموح لهم بالدخول يجب ألا يزيد عن الخمس فقط، أما الباقون فهم أوروبيون. وقد نص المرسوم على أن التلاميذ الأهالي سيحظون بعناية خاصة في المدرسة بحيث يمارسون شعائرهم ويأكلون ويشربون حسب طقوسهم الدينية (¬1). افتتحت المدرسة سنة 1865/ 1866 كما قلنا. وقد أعلنت شروط قبول التلاميذ الجزائريين والمشاركة في امتحان الدخول. كان عليهم أن يتقدموا بطلب إلى مدير التعليم، وأن تكون سنهم بين 16 و 22 سنة، وأن يكون لهم شهادة تثبت تاريخ ميلادهم ومكان نشأتهم، ثم شهادة طبية. أما المستوى فتثبته شهادة من إحدى المدارس الشرعية - الفرنسية الثلاث، بالإضافة إلى كتابة التزام يتعهد المترشح بمقتضاه بممارسة مهنة التعليم عشر سنوات بعد التخرج، ثم يختم ملف الشروط بشهادة حسن السيرة والسلوك إما من مدير المدرسة التي درس بها المترشح وإما من قايد الناحية التي يسكنها. وقد حدد المرسوم عدد التلاميذ بثلاثين تلميذا، منهم عشرون أوروبيا وعشرة جزائريون (¬2) (وهو غير الخمس المذكور). فإذا تذكرنا نسبة عدد السكان عرفنا إلى أين كانت تميل الكفة ومدى روح التمييز والمحاباة. ولكن مدرسة ترشيح المعلمين لم تنطلق انطلاقة جيدة. فقد كان المترشحون قليلين جدا. ووجد المسؤولون عنها صعوبة في جلب المعلمين إليها، وكان المستوى فيها منخفضا. وقد اضطروا إلى جلب التلاميذ إليها من فرنسا، ولم يكن من بين 36 تلميذا مترشحا سنة 1868 سوى عشرة من الجزائر، من بينهم ثلاثة فقط من العرب. وقد أحس الجزائريون منذ البداية بأن الهدف منها هو فرنسة الأطفال فلم يقبلوا عليها. فالتعليم فيها (انظر البرنامج) كان يهدف إلى التوغل الفرنسي في المجتمع الجزائري ونشر الأفكار الفرنسية على ¬

_ (¬1) جان ميرانت (كراسات)، مرجع سابق، 82 - 83. (¬2) رسالة إبراهيم الونيسي، مرجع سابق.

حساب القيم الأخرى (¬1) وبالإضافة إلى مدرسة الجزائر أنشئ فرع لها في مدينة قسنطينة. لم يتحقق الغرض حينئذ من دمج المعلمين الجزائريين انطلاقا من مدرسة ترشيح المعلمين. فقد بقي العدد محدودا جدا بشكل ملفت للنظر. ثم جاءت قرارات 1871 التي ألغت المدارس العربية - الفرنسية عدا القليل الذي بقي في المناطق العسكرية، ولم يحدث تغيير في هذا النطاق إلا سنة 1882 حين تأسست دروس (cours) خاصة بترشيح المعلمين الأهالي وألحقتا بمدرسة الجزائر وقسنطينة. ثم انتقلت مدرسة الجزائر بدورها سنة 1886 إلى بوزريعة فانتقل الدرس الملحق معها أيضا (¬2). أما القسم الفرنسي من المدرسة المذكورة فقد سار عاديا منذ نشأته، إذ استمر في تخريج المعلمين للمدارس الفرنسية/ الفرنسية دون الحاجة إلى المرور لا بالدروس ولا بالفرع الخاص الذي سنتحدث عنه. إن الخصوصيات لا تأتي إلا مع الجزائريين. وكانت مدة الدراسة للمعلمين الأهالي سنتين ولكنها منذ 1892 أصبحت ثلاث سنوات، كما ألغيت دروس مدرسة قسنطينة سنة 1887 وبقيت فقط دروس مدرسة الجزائر. وإذا لم يجد المعلم (التلميذ) المتخرج مكانا يعلم فيه فإنه يبقى سنة رابعة تحت التدريب. ولدخول الدروس الخاصة في مدرسة بوزريعة لا بد من المشاركة في مسابقة خاصة أيضا. وكانت المسابقة تجري في الولايات الثلاث. وكانت كل دفعة تضم حوالي عشرين مترشحا، لكن العدد كان يتناقص حتى أن بعض الدفعات لم تزد عن عشرة (سنة 1897) وعن ثمانية فقط سنة 1899). وكان على هؤلاء التلاميذ أن يحضروا شهادة الأهلية (البروفي) بحضورهم للدروس الخاصة في مدرسة ترشيح المعلمين. وهم يحصلون على هذه الشهادة عادة ¬

_ (¬1) بيلي (عندما أصبحت ..) مرجع سابق، باريس 1981، 284. الواقع أنه منذ 1831 أعلن المستشرق جومار jomard عن ضرورة نشر الحضارة الفرنسية في الجزائر عن طريق المدرسة. (¬2) كانت مدرسة ترشيح المعلمين الأولى في جهة مصطفى باشا (أول ماي حاليا).

في نهاية السنة الثالثة. ثم يقضون السنة الرابعة في التدرب والتحضير التربوي في إحدى المدارس الابتدائية الخاصة بالأهالي، كما يتدربون على الأعمال اليدوية وعلى العربية الدارجة (رغم أنهم يتكلمونها في حياتهم اليومية). ونتيجة للتجربة التي ترجع إلى 1865 كان الفرنسيون يعتبرون المعلمين الجزائريين مفيدين ومضرين معا. فمن جهة يريدونهم سفراء لهم حاملين لواء الحضارة الفرنسية للتأثير على أهلهم في القرى النائية. ومن جهة أخرى يريدونهم ألا يظهروا ظهورا يتناقض مع تقاليدهم ولغتهم. ولذلك قالوا إن الهدف من دخولهم مدرسة ترشيح المعلمين ليس هو نزع الإسلام من صدورهم، ومن رأيهم أن بقاء المعلمين بلباسهم التقليدي ومنع المشروبات الكحولية عنهم، وصيامهم رمضان - كلها تجعلهم مقبولين أكثر عند ذويهم مما لو قلدوا الفرنسيين في لباسهم وأكلهم وشربهم وسلوكهم. ومن جهة أخرى لاحظوا، وهم يعرفون ذلك، أن الأهالي كانوا يفضلون المعلم الفرنسي، لأنه لا يتكلم معهم إلا الفرنسية، أما المعلم الذي لا يتكلم العربية وهو عربي ولا يعرف الإسلام وهو مسلم فيسقط في أعين الأهالي، ومن ثمة يضر بالقضية الفرنسية. وقد لخص جورج مارسيه المشكل عندما قال إن المعلمين الأهالي قد يكونون نافعين لفرنسا جدا وقد يكونون مضرين لها كذلك (¬1). كانت المدرسة كما لاحظنا قد قامت على التمييز بين المعلمين الفرنسيين والمعلمين الجزائريين. فالمسابقة كانت خاصة، والدروس كانت خاصة، واللائحة الداخلية خاصة، ومدة الدراسة خاصة، والرتب خاصة. وهكذا. وقد استمر هذا الوضع إلى حوالي 1924 حين توحدت المسابقة ¬

_ (¬1) مارسيه (مؤتمر)، مرجع سابق، 189 - 190. لأسباب لم يفصح عنها وإنما قال: (أسباب مختلفة) عمل الفرنسيون على تجنيد المترشحين الأهالي من مدارس منطقة زواوة بالخصوص حيث نشط الآباء البيض، وبعد التخرج من المدرسة النورمالية كانوا يوجهونهم إلى مناطق لا تعرف إلا العربية، فحدثت خصومات وردود أفعال كانت مقصودة من المستعمرين الفرنسيين.

لدخول المدرسة. ولكن الدروس لم تندمج إلا حوالي 1928، عشية الاحتفال بمائة سنة على الاحتلال (¬1). وفي سنة 1937 كان بالمدرسة النورمالية 120 تلميذا/ معلما جزائريا من بين 308، وكان معظم التلاميذ فيها من منطقة زواوة، ولذلك حكم لويس ماسينيون بأن التجربة الاندماجية كانت ناجحة (¬2). ويجب التنبيه إلى أن الدروس الخاصة كانت من إبداعات مدير التعليم جان لومير J.Lemaire الذي ظل ربع قرن مسؤولا على التعليم في الجزائر من عهد الجمهورية الثالثة. ويعتبره المؤرخون الفرنسيون هو المنظم الحقيقي للتعليم الأهلي. وقد سبق أن عرفنا أنه تعاون في هذا المجال مع شخصيات فرنسية تتفق معه على نفس الأفكار. ومن إبداعاته أيضا في هذا المجال أنه أنشأ فرعا خاصا في مدرسة ترشيح المعلمين للفرنسيين المتوجهين للتعليم الأهلي. وجاء ذلك في القرار الصادر في 20 أكتوبر 1891، وقد شاعت التسمية حتى أن الذين يدخلون هذا الفرع يسمون بين زملائهم بالفرعيين sectionnaires، فهم يضيفون سنة أخرى إلى حياة تدريبهم ويتلقون طرقا تربوية إضافية خاصة بالبيئة الجزائرية وما يجب على المعلم الفرنسي فعله مع الأطفال وذويهم لأداء (المهمة الفرنسية) بنجاح. أما المترشح العادي للمدارس الفرنسية فلا يبقى إلا سنة واحدة في المدرسة. وهؤلاء المعلمون كان يسميهم مدير التعليم، وكانوا يختارون من بين المعلمين المرسمين والمتربصين الذين سبق لهم ممارسة التعليم سواء في فرنسا أو في الجزائر. وإذا لم يتوفر هؤلاء تقوم إدارة التعليم بجلب المترشحين من حملة الشهادة الأهلية (البروفي) العالية أو الأهلية المتوسطة. وكل دفعة من الخريجين كانت تضم حوالي 40 تلميذا، غير أن الأعداد كانت في تناقص حتى وصلت إلى 12 فقط في بعض الأحيان. وفي سنة 1908 كان ¬

_ (¬1) كولونا، مرجع سابق، 127، وميرانت (كراسات)، 94. (¬2) ماسينيون (الحولية) 1954، ص 236.

العدد 20 تلميذا (معلما)، وجملة المعلمين سنة 1907 كانت 293 معلما فرنسيا (¬1). وقد لاحظ مارسيه أن هناك استثناء في المعلمين بالجزائر لا يوجد في المعلمين بفرنسا، وهو أن المعلمين في الجزائر ليسوا جميعا مواطنين فرنسيين إذ هناك إلى جانبهم معلمون رعايا (وهم الجزائريون). وهناك استثناء آخر، وهو أن شهادة الأهلية المتوسطة ليست دائما مطلوبة في المعلم، إذ وظفت الإدارة معلمين جزائريين بشهادة الدراسة الابتدائية فقط. وبناء على ذلك فالمعلمون الفرنسيون كانوا مقسمين هكذا: 1) معلمون مساعدون متربصون موزعون على أربع طبقات. 2) معلمون مساعدون مرسمون موزعون على خمس طبقات. 3) مديرون يجري اختيارهم من بين المعلمين المرسمين. أما المعلمون الجزائريون فأصنافهم: 1 - متدربون (متمرنون) لا يقلون عن 16 سنة ويكونون حاملين على الأقل لشهادة الدراسة الابتدائية.2 - مساعدون موزعون في طبقات على نفس النمط الذي عليه المتربصون الفرنسيون. وهم يتقاضون نفس الراتب وعليهم أن يكونوا حاملين لنفس الشهادة (الأهلية العالية أو المتوسطة). ولكن هناك ميزة أساسية هنا أيضا، وهي أن المساعد الأهلي لن يكون معلما مرسما إلا إذا أحرز على حق المواطنة (الجنسية) الفرنسية عن طريق التجنس Naturalisation وما دام الجزائريون قد فضلوا البقاء على حالة الرعية (إلا القليل منهم) فقد اعتبر المعلم الأهلي موظفا خاصا ومكلفا بعمل خاص، وعليه أن يتكون تكوينا خاصا، كما يقول مارسيه. وهذه الخصوصيات جميعا هي من اختراعات السلطة الفرنسية، وهي لا تحتاج إلى كل هذه التبريرات لتحرم الجزائري من حقه في العمل والتعلم والترقي المنشود. إن كل هذا التعليم كان أيضا خاضعا لسلطة ورقابة الإدارة عن طريق المفتش ومدير التعليم والحاكم العام. والرقابة تشمل، كما ذكرنا، حتى ¬

_ (¬1) مارسيه (مؤتمر)، 188. وكذلك بول بيرنار (التعليم الابتدائي)، مرجع سابق،. R.M.M. (1906)، 14 - 18.

المدارس القرآنية التي تدخل في مشمولات مفتش التعليم الابتدائي الأهلي (¬1). ومن الناحية الإحصائية ها هو توزيع المعلمين سنة 1905: 1 - معلمون فرنسيون: 369 (من بينهم 83 معلمة). 2 - معلمون جزائريون: 183 (من بينهم الممرنون) (¬2). وبناء على إحصاء سنة 1907 فإن عدد المعلمين هو: 1 - فرنسيون: 393 (من بينهم 100 معلمة). 2 - جزائريون: 198 (بين مساعد وممرن). وفي سنة 1908 كان عدد التلاميذ - المعلمين الجزائريين في مدرسة ترشيح المعلمين 65 تلميذا في السنوات الأربع (¬3). وقد ارتفع العدد بشكل ملحوظ سنة 1936، بعد دمج القسمين، فوصل عدد الجزائريين في المدرسة المذكورة إلى 333 (¬4) عند بوجيجا، وهو عدد مشكوك فيه. ذلك أن المستشرق ماسينيون لم يذكر سوى 120 من بين 308، وهو رقم معقول. وقد اهتم الباحثون الفرنسيون بعملية الدمج كظاهرة حضارية، وتحدثوا بأن التجربة مع المدرسة النورمالية كانت ناجحة للغاية، حسب ماسينيون. وقد طبق الفرنسيون سياسة الدمج وسلخ الجزائري عن هويته في عدة أمثلة، ومنها حمل التلاميذ إلى فرنسا والتأثير عليهم ليرجعوا بأفكار جديدة إلى ذويهم وينقلبوا ناقمين على مجتمعهم. وهذه التجربة قديمة ترجع إلى عهد كلوزيل وبوجو، ولكننا وجدناها أيضا مطبقة في عهد كامبون ومع طلبة المدرسة النورمالية بالذات. ففي سنة 1896 كتبت المبشر الرسمية أن تسعة عشر معلما (تلميذ) نبغوا في المدرسة ببوزريعة، فكوفنوا بالذهاب إلى ¬

_ (¬1) مارسيه (مؤتمر ..)، مرجع سابق، 187 - 188. وكولونا، مرجع سابق، 19. وكذلك بول بيرنار (التعليم الابتدائي ..)، مرجع سابق، ص 18. (¬2) بول بيرنار، مرجع سابق، 21. (¬3) مجلة العالم الإسلامي (إبريل 1908). R.M.M، 803. (¬4) بوجيجا، مرجع سابق، (S.G.A.A.N)، 66.

البرنامج والميزانية

باريس ومقابلة وزير التعليم، وكان يرافقهم مفتش المدارس العربية في الجزائر. ولاحظت الجريدة أن معظم المعلمين الشبان كانوا من منطقة زواوة، وكانوا يحملون الشهادة الابتدائية، ويتكلمون الفرنسية بطلاقة، وقد عبروا عن إعجابهم بما شاهدوه في فرنسا من مظاهر التمدن، وقالت: (ولا شك أنهم لما يعودون إلى مقرهم يبقى ما رأوه أثناء سفرهم في الوطن (فرنسا) الذي كأنه وطنهم، منقوشا في صفحات قلوبهم). وبذلك يكونون في رأيها قادرين على (بث تمدننا في وطنهم الأصلي). وأثناء هذا الحفل الاستقبالي وبعد خطاب الوزير، عبر أحد التلاميذ بكلمات مناسبة، وكان هذا التلميذ ممن سبق لهم العمل في الجيش الفرنسي بمدغشقر بصفته ترجمانا، كما عمل وشارك في المعارك (¬1). ومن الواضح أن المدرسة النورمالية كانت في ذهن الفرنسيين مشتلة للاندماج الحضاري والدعاية، رغم أنها كانت قائمة على التفريق العنصري في برنامجها واختيار تلاميذها، كما لاحظنا. البرنامج والميزانية تحدثنا حتى الآن عن برامج وتمويل المدارس الرسمية الثلاث، والمعاهد، ومدرسة ترشيح المعلمين، داخل كل وحدة. ونريد الآن أن نتحدث عن برنامج وتمويل التعليم العام (ابتدائي وغيره) الموجه للأطفال الجزائريين. بالإضافة إلى المواد المقررة في مدرسة ترشيح المعلمين. فمنذ البداية كان هدف البرامج التعليمية الفرنسية هو فرنسة الإنسان الجزائري وسلخه عن ماضيه وإدخاله، إذا أمكن، في الهوية الفرنسية أو يظل على جهله الكامل. وكان الفرنسيون لا يخفون ذلك لا في تصريحاتهم ولا في تقارير لجانهم ومسؤوليهم. ولذلك فإنه بعد الإهمال المقصود لتعليم ¬

_ (¬1) جريدة المبشر، 22 غشت، 1896. سبقت منطقة زواوة إلى التعليم الفرنسي منذ الثمانينات لأن جهود الآباء البيض والمسؤولين الفرنسيين قد ركزت عليها. كما كان معظم تلاميذ مدرسة ترشيح المعلمين الأوائل من نفس المنطقة كما أشرنا.

الجزائريين مدة العشرين سنة الأولى من الاحتلال قرروا إنشاء بعض المدارس التي تهدف إلى ما ذكرنا دون مواربة. وهي المدارس الابتدائية الست الأولى سنة 1850. ورغم التظاهر بوجود مادة حفظ القرآن فيها والعربية الدارجة فإن البرنامج الحقيقي كان فرنسيا، فالتلميذ عليه أن يدرس اللغة الفرنسية دراسة مباشرة بطريقة ذلك الوقت، أي بالعين والأذن، ثم يتعلم الحساب والتاريخ الفرنسي والجغرافية والتاريخ الطبيعي ومبادئ الزراعة، والأخلاق، والموازيين والمكاييل الفرنسية وطبقا للنظام الفرنسي. ويضاف للبنات أشغال الإبرة. فالمنهج كان فرنسيا وطبقا لما يجري في مدارس فرنسا نفسها، عدا مادة القرآن والعربية الدارجة الموكولتين إلى معاون مسلم. وللتمويه أنشئت لجنة لمراقبة المدرسة فيها المفتي أو القاضي (¬1). وقد استعمل الفرنسيون ما أسموه بالطريقة الجديدة في تعلم اللغة وهو تلقينها إلى الطفل دون واسطة لغة الأم. واستغلوا ذلك في تعليم الفرنسية لأبناء الجزائر بدون واسطة العربية، وقالوا إن تلك هي الطريقة الطبيعية، وهي الأسرع والأعدل، حسب تعبير دوقا (¬2). وفي وقت لاحق نادي مارسيه بضرورة مراعاة بيئة الطفل وحضارته والجغرافية المحلية والحياة الاجتماعية والاقتصادية للسكان عند تعليم الأطفال الجزائريين. ولكن المناداة باستعمال الفرنسية المباشرة كانت هي الأقوى. وبين 1887 - 1892 جرى درس المناهج والبرامج مجددا في ضوء الحماس للفرنسة الذي جاءت به الجمهورية الثالثة. وقد عالج نص سنة 1887 هذه النقطة. وهو النص الصادر عن لجنة تعرف بلجنة قسنطينة، لأن مقرها كان في هذه المدينة، وكان هدفها هو (وضع خطة الدراسات والبرامج للتعليم الابتدائي الأهلي في الجزائر) كما جاء في عنوان عملها. ويعتبرها الفرنسيون لجنة ذات قيمة كبيرة. وكانت مهتمة بدراسة أوضاع جميع ¬

_ (¬1) السجل (طابلو) 1846 - 1849، 195. وكذلك سنة 1851 - 1852، ص 200 - 201، وكذلك ميرانت (كراسات ..) مرجع سابق، 79. (¬2) دوقا، المجلة الإفريقية R.A، مرجع سابق، 285.

المدارس العمومية الأهلية دون التمييز بينها، بلدية أو غير بلدية، تابعة لبلدية أهلية أو غيرها حسب مصطلحات ذلك الوقت في المدارس الأهلية. وقد أقرت اللجنة ضرورة الإبقاء على المواد المبرمجة في المدرسة الابتدائية الفرنسية في فرنسا، ولكنها اقترحت إدخال مادة تاريخ وجغرافية الجزائر. واهتمت بتجديد المناهج وإعطائها طابعا نفعيا وتطبيقيا مع اعترافها أنها كانت مناهج حية وفعالة ونشيطة! وأوصت بالابتعاد عن كل تعليم تجريدي. فالزراعة مثلا يجب أن تصبح تطبيقية من البداية. وبينما يتعلم الطفل الفرنسي الإملاء في اللغة الفرنسية يتعلم الطفل الجزائري هذه اللغة لذاتها، والمفردات التي تتألف منها، وتشكيل الكلمات في جمل وحروف وروابط، لأن المقصود ليس فهم الفرنسية فقط ولكن كيفية استعمالها الجاري. ومن ثمة فإن اللجنة أبقت على هذا المبدأ غير الجديد في الواقع، وهو أن (المكانة الرئيسية في تعليم الأهالي بقيت للغة الفرنسية)، ويجب أن توظف جميع الدروس الأخرى لتعليم الفرنسية ونشرها، فهي في الجغرافية وفي الحساب وفي الرسم والأشغال اليدوية، فكل درس في أية مادة يجب أن يعلم المفردات ويعلم التعبير أيضا. من هذا المنطلق انطلق التعليم الأهلي في تصور خبراء الفرنسية الجدد. وكان على اللغة العربية (الدارجة) أن تترك الطريق لهذه الموجة العاتية من العلم اللغوي والتسلط الاستعماري. وما زادت اللجنة المعتبرة، في الواقع على أن بلورت ما كان مضببا ولخصت ما كان مشتتا. وعلى عقول الأطفال الجزائريين أن تتكيف حسب الرغبة الفرنسية في إنشاء جيل ممسوخ. وقد بقيت توصيات هذه اللجنة محترمة حتى بعد صدور مراسيم جديدة تخص التعليم خلال 1892 - 1898. ويعتبر جان ميرانت خطة هذه اللجنة مرحلة هامة من تاريخ توجيه التعليم الأهلي، وهو يقول عنها إنها: (خطة تمثل التقدم الأكثر حسما وهو الذي بدأ وتحقق منذ 1830) (¬1). ¬

_ (¬1) جان ميرانت (كراسات ..)، مرجع سابق، 86. طبعت خطة اللجنة القسنطينية سنة 1890 نشرها المتحف التربوي (البيداغوجي).

إن هذه الفترة (1882 - 1892) كانت فترة صدور القرارات والمراسيم والتصورات التي لم تأخذ مجراها الحقيقي وتبدأ نتائجها في الظهور إلا حوالي مدار القرن. وقد سبق لنا ذكر مراسيم وإجراءات وزارة جول فيري وزيارة اللجنة التي أرسلتها وتوصياتها خلال الثمانينات (¬1). ويهمنا هنا ونحن بصدد الحديث عن المناهج أن مرسوم 13 فبراير 1883 قد أشار إلى عدة ركائز في المدرسة الفرنسية بالجزائر، كأفكار وتصورات. أما إنجازها فذلك مسألة أخرى. من تلك الأفكار والتصورات: إلزامية البلديات بفتح مدرسة واحدة فيها على الأقل، ولكن البلديات لم تمتثل كلها لذلك. والمفروض أن المدرسة البلدية تستقبل التلاميذ الأوروبيين في أقسام عادية، والتلاميذ (الأهالي) في ملحقات خاصة بهم. كما اعترف المرسوم بمجانية التعليم وإلزاميته عمليا للأوروبيين ونظريا فقط للجزائريين. وتسمت البلديات بالنسبة للتعليم بلديات كاملة أو مختلطة أو أهلية. وفي النوعين الأولين يذهب التلاميذ الأهالي إلى المدرسة الأوروبية نفسها إذا لم تكن لهم مدرسة خاصة بهم، والدراسة هنا طبعا بالفرنسية، أما في البلديات الأهلية، وهي الغالبة، فالتعليم بالعربية الدارجة والفرنسية في مدارس تسمى (خاصة) speciales بالأهالي. ونص المرسوم أيضا على ضمان حرية الضمير في المدرسة، وقد فسر بعضهم ذلك بأنه يعني اللائكية أو عدم إخضاع التعليم للدين. أما بالنسبة للكتب الخاصة بالتعليم الأهلي فستفتح بشأنها مسابقة ويقرر منها الأفضل الذي يتماشى مع الفرنسة ونظرية الجمهورية الثالثة في المستعمرات. أما شهادة التخرج فقد نص على أنها ستسمى بالدبلوم الخاص أو (شهادة الدراسات الأهلية). وقد شمل المرسوم أيضا إحداث وظائف مؤقتة للمفتشين الابتدائيين المكلفين بالمدارس الأهلية على أن يكونوا تحت إشراف مدير التعليم، الذي له صلاحية تسمية المعلمين الابتدائيين وكذلك مدراء المدارس الأهلية المسماة بالرئيسية (¬2) (principales). ¬

_ (¬1) انظر سابقا. (¬2) كولونا، مرجع سابق، 18. وكذلك جان ميرانت، مرجع سابق، 86.

وإذا كان مرسوم 1883 قد جاء مقيدا، فإن مرسوم 1887 قد أطلق هذه القيود في عدة مظاهر. من ذلك عدم تحديد نوعية البلدية (كاملة أو مختلطة أو أهلية) فالمرسوم الجديد تحدث عن التعليم العمومي للأهالي في الجزائر كلها دون تحديد المكان، كما أن مرسوم 1887 جعل وظائف المفتشين المذكورين وظائف دائمة وليست مؤقتة. ومن جهة أخرى تدخل المرسوم الجديد حتى في تعليم القرآن وتعليم الزوايا. ولم يهمل موضوع التعليم المهني. ومع ذلك فإنه ظل مرسوما نظريا أيضا لأن البلديات لم تلتزم بتخصيص المال لبناء المدارس للأهالي، ولذلك حدث ما يسمونه (بالنكسة) في التعليم. وقد ظل الأمر كذلك إلى مجيء لجنة مجلس الشيوخ 1892. ودون إلغاء مرسوم 1887 جاء مرسوم 1892 لتنظيم عدة مسائل تتعلق بالمدرسة الأهلية ذات التصور الفرنسي الجديد، مثل شروط إنشاء المدارس والتسيير واللجان التعليمية والرواتب وترقية المعلمين والتصنيف، وبرامج تعليم البنين والبنات، والتفتيش وما إلى ذلك. وقد لاحظ ميرانت أن لجنة قسنطينة (1887) قد ركزت على المنهج التعليمي، أما مرسوم 1892 فقد ركز على التنظيم. ومعنى ذلك أن المرسوم جاء مكملا ومنظما لتصورات لجنة قسنطينة (¬1). والتعليم بناء على مرسوم 1892 ينقسم إلى أطوار: تحضيري وابتدائي ومتوسط، وينتهي (بشهادة الدراسات الخاصة بالأهالي). وأعمار التلاميذ تتراوح بين السادسة والثالثة عشر في العادة. ومواد الدراسة هي اللغة الفرنسية التي تأخذ المكانة الأولى - كما أوصت لجنة قسنطينة وكما كانت دائما منذ الاحتلال. فهي تستأثر بثلاثة أرباع الوقت، أو 15 ساعة أسبوعيا. وللتلاميذ الأهالي كتاب خاص بالقراءة ليس هو بالطبع كتاب الطفل الفرنسي. ثم يدرس التلاميذ الحساب والرسم والأشكال الهندسية. وللعربية الدارجة ساعتان ونصف فقط أسبوعيا في كل طور من الأطوار الثلاثة المذكورة. وبالأضافة إلى ذلك هناك الأعمال اليدوية والزراعية التطبيقية، ثم ¬

_ (¬1) ميرانت (كراسات ..)، مرجع سابق، 86.

المعارف العامة كالصحة والاقتصاد المنزلي ومبادئ العلوم، وكذلك التربية الأخلاقية، والتاريخ والجغرافية، والإدارة (¬1). وهناك نقاط في برنامج سنة 1898 جديرة بالتوقف قليلا لأنها داخلة فيما سمي بالتوجيه والأيديولوجية الفرنسية عندئذ. إن الهدف كما ذكرنا هو نشر اللغة الفرنسية وسط الأهالي وإخضاع كل أنواع التعليم الأخرى إلى هذه اللغة باعتبارها وسيلة اتصال للجزائريين مع الفرنسيين بعد خروجهم من المدرسة. وقد جاء في البرنامج أنه من السطحية القول بأنه ليس من مهمة التعليم الابتدائي الأهلي جعل الأهالي يتذوقون الأدب الفرنسي والثراء العلمي للغة الفرنسية، أو الخصوصيات الصناعية والتجارية لها، أو حتى المعارف النحوية. إننا نكرر أن الهدف من تعليمها لهم هو جعلهم قادرين على التعبير بها فقط عن بعض المعارف العامة وبعض الأفكار ذات المعنى العملي أو التربوي، وتكوين الطفل الجزائري بهذه الطريقة ليس للوظيف العام ولكن للعمل في الحقول أو الورشات، وهذا التعلم يجب أن يعطى له بالفرنسية ليحس بالتقدم وما قامت به فرنسا من أجل الجزائر ومن ثمة يقترب من الفرنسيين. أما بالنسبة لمادة التربية الأخلاقية فقد جاء في البرنامج أن المقصود منها ليس تعليم الأطفال تعليما مجردا ولكن تعليم الأخلاق أيضا. وانطلاقا من أن المعلمين الفرنسيين قد تعلموا احترام القناعات الدينية للجزائريين، وأن هؤلاء المعلمين قد تعلموا أنه يمكن للجزائريين أن يكونوا أحسن المتعاونين مع الفرنسيين مع بقائهم على إسلامهم، فإنه لا يسمح للمعلم الفرنسي أبدا أن ينتقد تعاليم القرآن. وعليه أن يعامل الدين كشيء خاص ومقدس كالضمير. والمعلمون الفرنسيون لا يجهلون أن فكرة الإله موجودة في الأديان وفي معظم الفلسفات. وفي هذا الموضوع يمكن للمعلم أن يتحدث ¬

_ (¬1) سبق أن ذكرنا رأي مارسيه في اللغة والأخلاق والتاريخ وطريقة تدريسها في الجزائر. انظر سابقا (مؤتمر ..)، مرجع سابق، 191 - 201. عن البرنامج انظر أيضا كولونا، مرجع سابق، 19، كذلك 208.

مع التلاميذ. إن فكرة الأخلاق في نظر البرنامج الفرنسي مبنية على فكرة الإله. وعليه يمكن للمعلمين أن يبينوا للتلاميذ أن الحقائق الأخلاقية موجودة في القرآن والإنجيل، وكذلك لدى الأخلاقيين القدماء والمحدثين. وهم جميعا يوصون بنفس الشيء في أغلب الأحيان ويدعون إلى تجنب نفس الأخطاء أيضا. وهذا التحليل يتماشى في الواقع مع الأفكار الماسونية التي كانت وراء الثورة الفرنسية. وكان الحكام العامون في الجزائر وعدد من المسؤولين أعضاء في المحافل الماسونية. والغريب أن البرنامج يخلط بين التربية الأخلاقية والتربية السياسية. وهو يدخل الولاء لفرنسا ضمن هذه التربية. فإذا كانت حقائق الأخلاق موجودة في كتب الأديان وفي الفلسفات فأين حقائق الولاء لفرنسا في هذه؟ فقد جاء في البرنامج التنصيص على توجيه التلاميذ نحو طاعة الوالدين واحترام المعلم. وهذا واضح ومعقول. ولكن تعليمهم وتعليم ذويهم الواجبات نحو فرنسا مقابل حمايتهم وتوفير العدل لهم وحفظ السلام والمصالح العامة، وكون فرنسا فعلت الخير نحوهم لأنها علمتهم ومدنتهم. كما نص البرنامج على تعليم الطفل طاعة واحترام من يحكم ويسير البلاد باسم فرنسا، بل واحترام العلم المثلث والجيش الفرنسي، وكذلك احترام القانون والسلطات على أنه شعار كل أمة متحضرة، (ويجب الإلحاح على هذه الحقيقة الأساسية بالخصوص)، وكذلك (الإلحاح على ضرورة دفع الضريبة، وعدم ارتكاب الغش) (¬1). ولا تخلو المواد الأخرى أيضا من فلسفة عند البعض. بالنسبة للعربية يرى بول بيرنار، مدير مدرسة ترشيح المعلمين، أن تعليمها جاء استجابة للمطالب المتجددة من الجزائريين، ثم أن العربية هي لغة التجارة في نظره. ولكنه أكد على أنه يعني اللهجة الدارجة فقط. فهل طالب الجزائريون بالعربية ¬

_ (¬1) خلاصة البرنامج واردة في كولونا، مرجع سابق، 212. انظر كذلك 207 - 214. وعن فلسفة البرنامج الموجه للأهالي انظر كذلك بول بيرنار (التعليم الابتدائي ...)، مرجع سابق، 5 - 9. وهو يسمى ذلك بالمذهب التربوي: Doctrine pédagogique.

الدارجة أو بالمكتوبة؟ إن العرائض كانت تطالب باللغة العربية المكتوبة، لغة التعليم والقراءة والكتابة والعلم والبحث. أما الدارجة فلا تفيد إلا المستشرقين والتجار الفرنسيين، وقد انتقد بعض علماء الفرنسيين أنفسهم تعليم الدارجة إذ لا طائل من ورائها، ذلك أن اللغة المكتوبة هي لغة التراث والقرآن والتجارة أيضا - وهم يقصدون بالتجارة الاتصال بالبلاد العربية والإسلامية عن طريقها. ولكن أيديولوجية القضاء على اللغة العربية لتعيش الفرنسية هي التي كانت تملي اختيار اللغة الدارجة التي رفضها الجزائريون من التعليم على كل حال. أما في الحساب فقد ظهرت مقدرة الطفل الجزائري على الحساب العقلي والكتابي، وكان الأطفال يتعلمون النظام الفرنسي في المقاييس والمكاييل. والمادة التي تعالج المعارف العامة عن فرنسا والجزائر لا يأخذها إلا التلاميذ الاكثر تقدما في السن، إنها مبادئ عامة بالصور والحكايات، وليس تاريخا بمعنى الكلمة. فتاريخ فرنسا كان يقدم للتلاميذ ممزوجا بالإنتاج الحضاري وبفكرة التقدم والحرية والعدالة (؟) وما فعلته فرنسا من خير للجزائر، (هذا بالطبع إذا كان المعلم فرنسيا في بداية القرن العشرين)، أما بالنسبة لمادة الفلاحة فيمكن للجزائريين تحسين فلاحتهم وتعلم طرق المحاسبة والحالة المدنية ووظيفة البريد وغيرها مما سمي بالمعارف العامة. وأما بالنسبة لتعليم البنات فيقع التركيز على صناعة الزرابي والطرز العربي (¬1)، فالبرنامج الفرنسي للجزائريين كان يتلخص في فرنسة اللسان والعقل واستغلال الأيدي والأبدان لصالح السلطة الفرنسية، وليس في البرنامج ما يدل على تكوين الإنسان والمواطن الصالح في ثقافته من أجل قومه وبلاده. أما المواد المقررة في مدرسة ترشيح المعلمين (النورمال) فهي: بيدا غوجية (منهجية) المدرسة الأهلية، والزراعة، والأعمال اليدوية، واللغة العربية والبربرية، والطب الشائع. والهدف هو تخريج معلم فرنسي للمدارس الأهلية ¬

_ (¬1) بول بيرنار، مرجع سابق، ص 10 - 15.

قادر على التعليم وعلى المداواة، لأن عمله الطبي يقربه من الأهالي، ويساعده على إزالة الشك والعداء المتأصل فيهم نحو الفرنسية (كذا). وتوجد مدرسة للتدريب قريبة من مدرسة النورمال وحقول شاسعة للتطبيق الفلاحي وعدة ورشات. ويعمل البرنامج على إعطاء المعلمين الفرنسيين مدخلا ضروريا لحياة الجزائريين ولغتهم ولهجاتهم وعاداتهم وتقاليدهم، فالتغيير الاجتماعي المنتظر على أيديهم يتطلب أولا معرفة المجتمع نفسه، كما يقول بول بيرنار. وقد عمل الحاكم العام شارل جونار على فتح دروس في التمريض أيضا وكذلك في الطب العام في مستشفى مصطفى باشا وفي غيره ليتدرب المعلم الفرنسي على مختلف الأمراض المنتشرة في الريف وطرق علاجها (¬1). ومن رأى مارسيه أن البرنامج الفرنسي للمدارس الأهلية لا يلبي حاجة الطفل ولا يسير مع روح التربية. وقد ذكر من ذلك النقاط التي علقنا عليها، وهي تعليم العربية الدارجة على يد معلم فرنسي، وقضية الأخلاق والدين، ومسألة التاريخ والسلام (Pax) الفرنسي والروماني. ومن الملاحظات التي أبداها مارسيه لتوجيه التعليم نذكر ضرورة الأخذ في الاعتبار حضارة الطفل والبيئة الجغرافية والاجتماعية والحياة الاقتصادية للسكان والجو الفرنسي العام في الجزائر. وضرب لذلك مثلا بحياة المدن والإعلانات واللغة الفرنسية. ونادى بأن يحاول التعليم القضاء على الأحكام المسبقة وأن يقرب الأهالي من الفرنسيين وأن يعرفهم بالأفكار الفرنسية. وبالإضافة إلى ذلك ربط مارسيه بين التعليم والمعيشة، فقال بضرورة تحسين الوضع الاقتصادي للجزائري لأنه لا يمكن القضاء على الجهل مع بقاء الفقر، لذلك نادى بأن يكون إلى جانب التعليم العام تعليم آخر مهني وفلاحي مختلف (¬2). ¬

_ (¬1) بول بيرنار، مرجع سابق، ص 14 - 18. وكذلك مارسيه (مؤتمر ..) مرجع سابق. (¬2) تساءل مارسيه عن كيف يمكن لمعلم فرنسي أن يعلم طفلا جزائريا اللهجة الجزائرية العربية. وطالب بتعليم الأطفال اللغة الفصحى، لغة الكتابة لأن الدارجة غير مكتوبة، =

إن الثغرة الكبيرة في ميدان التعليم المسمى بالأهلي هي تخلي الحكومة الفرنسية عن تمويله ومنح تلك المسؤولية إلى سلطة البلديات. والمعروف أن الكولون والعناصر المعادية لتعليم الجزائريين هم الذين سيطروا على البلديات. ورغم أن ميزانية الدولة الفرنسية هي التي استوعبت أموال الأوقاف المخصصة في جزء كبير منها إلى التعليم، فإنها لم ترصد ميزانية قارة وهامة منها لهذا التعليم وإنما استوعبت أموال الأوقاف الإسلامية في أغراض أخرى غير إسلامية، ومنها تعليم الفرنسيين أنفسهم، والاكتفاء بتخصيص (معونة) سنوية تقدمها لميزانية الجزائر لتصرف في شكل مساعدات خيرية وليس بالضرورة عن التعليم. وبناء على القوانين الفرنسية فإن التعليم الفرنسي كان منذ 1848 يتبع وزارة المعارف (التربية والتعليم) أما التعليم الجزائري فظل يتبع وزارة الحرب التي يمثلها الحاكم العام. وبقي الصراع على أشده بين العسكريين والمدنيين الفرنسيين إلى 1870 حين تغلب المدنيون واستولوا على مقاليد الإدارة، وأبعدوا العسكريين إلى الأماكن النائية فقط والتي سميت بالمناطق العسكرية. وسيطر الكولون وممثلوهم على ميزانية الجزائر فوجهوها لصالح أبنائهم وأنشأوا لهم المدارس المخصصة لكل مرحلة تعليمية، من الابتدائي إلى الجامعي، وازدهر التعليم الفرنسي في الجزائر كما عرفنا، بينما ظل التعليم على اضطرابه وتدهوره بالنسبة للجزائريين لعدم وجود ميزانية. لقد كان الجزائريون هم الذين يدفعون الكثير لميزانية فرنسا ولا يجنون إلا القليل. وفي سنة 1886 قدرت الضرائب التي يدفعونهاب 6.300.000 ¬

_ = ولأن الأهالي أنفسهم يطالبون بتعليم الفصحى. ولاحظ مارسيه أن البرنامج يعلم الطفل أن الله هو الأب لكل البشر، وقال إن هذه فكرة مسيحية لا تليق بالمسلمين! كما انتقد فكرة التربية من غير مؤمن لمؤمن. انظر مارسيه (مؤتمر شمالي إفريقية ...)، مرجع سابق، 191 - 201. وعن البرنامج لسنة 1898 انظر الكتاب الذي صدر متضمنا خطة الدراسة وبرنامج التعليم الابتدائي الأهلي في الجزائر، وهو بعنوان: Plan d'etudes et programme de L'enseignement primaire des indigènes en Algérie, Aovet, 1898 Jourdan, ALGER. 1900.

فرنك. وهي تزداد كل سنة، وكانت بالطبع توضع في خزينة الدولة الفرنسية التي كانت ممثلة في خزينتي الولاية والبلدية. فماذا خصصت هاتان الخزينتان لميزانية التعليم؟ لقد قدره السيد لويس فينيون بـ 79.000 فرنك فقط، وقد لاحظ في نفس الوقت مدى الفرق بين المدفوع والمصروف، وأظهر أن هناك تضحية كبيرة من جانب الأهالي، ولكن بدون تعويض. وطالب بما أسماه بعمل عادل في الموضوع رغم أنه كان ضدهم سياسيا وحتى عنصريا. كما حذر من أن الجزائريين يرسلون أولادهم إلى الزوايا التي كانت تعلم في نظره القرآن والكراهية للاحتلال الفرنسي، ومن رأيه أن المتخرجين سيصبحون عندئذ أنصارا للطرق الصوفية. وطالب بضرورة تعليمهم الفرنسية وتخصيص ميزانية للتعليم تقدرب 219.000 فرنك لسنة 1887. ومن رأيه أنه كان على الجزائريين جميعا أن يتكلموا الفرنسية كما يتكلمها الفلاحون الفرنسيون (¬1). لقد نصت ميزانية وزارة التعليم سنة 1886 على تخصيص مبلغ 45.000 ف لتقديمه (معونة) لبلديات الجزائر لتشجيع التعليم الابتدائي عند الأهالي. ووافقت (بعض) البلديات في نفس الوقت على تغطية مصاريف التعليم مؤقتا. ومن نتيجة ذلك بناء 19 مدرسة أهلية (قسما؟) وقد بلغ الصرف عليها 34.000 ف. وبذلك يصبح مجموع الصرف هو 72، 00 72 ف. ومن جهة أخرى طلبت الحكومة من البرلمان رفع المعونة (وهي 45.000 ف) إلى 219.000 ف. لتوجيهها إلى التعليم الأهلي، وقد تحصلت فعلا على المبلغ (¬2). ولكن البلديات الأخرى رفضت تخصيص المبلغ المالي السنوي للمدارس الأهلية تحت عدة دعاوى، منها أن لدى الأهالي عددا كبيرا من المدارس القرآنية (الكتاتيب) وهذا يكفيهم، ومنها أن ¬

_ (¬1) كل هذه الآراء تدل على أن هدف فرنسا هو جعل الجزائريين (يتكلمون) الفرنسية، فكل ما سمي (بالمهمة الحضارية) كان يتمثل عند الفرنسيين في تحريك اللسان بالفرنسية وليس التثقف بها. ولكنهم كانوا متناقضين مع أنفسهم فهم من جهة يحبون لغتهم ومن جهة أخرى يبخلون عنها ببعض الفرنكات. (¬2) لويس فينيون (فرنسا في شمال إفريقيق)، مرجع سابق، 260 - 261.

الأهالي غير قابلين للتعلم وأن المدارس تظل فارغة، وكان أعداء تعليم الأهالي يسمونها (بالقصور الخاوية). وفي أحسن الأحوال تقول تلك البلديات أنها لا تملك المال. والواقع أن هناك نوعين من الميزانية في ميدان التعليم عندئذ: ميزانية الموظفين وهذه كانت تتولاها الدولة، ولا نزاع بشأنها عادة، ثم أصبحت تتولاها ميزانية الجزائر منذ 1955. ثم ميزانية بناء المدارس أو تجديدها وصيانتها، وهذه هي محل النزاع الكبير. فالميزانية الأخيرة كانت تأتي من البلديات كما ذكرنا. ثم تأتي الدولة لمساعدتها بالمعونة المشار إليها أو القرض الذي قيل إنه يتراوح بين 40% و 80% من المصاريف الكاملة. ورغم أن القرض وصل أحيانا إلى 90% فإن البلديات كانت تغض النظر عن كل مطالبة ببناء المدارس أو توفيرها للأهالي رغم أن بعض البلديات كانت تملك بالإضافة إلى الضرائب الأهلية، أملاكا وقفية إسلامية تسلمتها من الدولة الفرنسية نفسها، وكان لهذه الأملاك الوقفية مداخيلها المالية للبلدية. وكانت المطالبة بإنشاء المدارس، كما يقول مارسيه، تأتي من الإدارة العليا (الحكومة العامة) في الجزائر (¬1)، ومن الجزائريين أنفسهم. ولكن من المسؤول على تعليم الأهالي: الدولة أو ممثلها أو البلدية؟ إن الأصابع تشير دائما إلى الدولة صاحبة السيادة على الجزائر والغائبة عن واجبها في هذا المجال. لقد بح صوت الجزائريين من المطالبة بإسماع أصواتهم إلى (الجهات العليا) الفرنسية بالنسبة للتعليم وغيره. وقدموا العرائض فظلت في الأدراج، ورفعوا الشكاوى والاحتجاجات فبقيت في سلال المكاتب العربية والبلدية. وجاءت لجنة فيرى وحققت في عدة قضايا وأصدرت توصياتها. وظهر (الفاهمون) للموضوع أمثال جونار وكامبون، ولكنهم غرقوا في (اللوبي) الكولوني، بينما أصوات النواب الاستعماريين كانت تجلجل من على منصة البرلمان الفرنسي. وطالب بعض الجزائريين ¬

_ (¬1) مارسيه، (مؤتمر ...)، مرجع سابق، 186.

بالتمثيل السياسي لإسماع صوتهم فلم يستمع أحد إلى مطالبهم. وظلت قضية ميزانية التعليم جزئية من بين القضايا الكبرى التي كان يعاني منها الجزائريون لتتخلى الدولة الفرنسية عنها، تاركة الحبل على الغارب. ولم يتغير هذا الوضع إلا بعد الحرب العالمية الأولى. وقد صدق جورج مارسيه عندما قال سنة 1908 إن ترك البلديات تقرر مصير التعليم للأهالي منتقذ بأن الحكومة العامة، وهي التي تمثل الدولة الفرنسية، قد ظلت غريبة عن تعليم الأهالي وتكوينهم المعنوي والعقلي. ولهذا كاد تعليمهم أن يكون مستقلا عن الحكومة العامة (¬1). إن الميزانية التى أعدها جونار سنة 1893 قد تضمنت مخصصات التعليم الأهلي وهي: 622.850 فرنك، موزعة على المنح الدراسية في الثانويات: 50.000 ف والصرف على أوجه التعليم الابتدائي الأهلي: 621.000 ف، وللمدارس الشرعية - الثلاث، والمنح التابعة لها: 51، 850 ف. وكان مقررا حسب برنامج 1892 بناء من 60 إلى 80 قسما (فصلا) دراسيا كل سنة، ويعني ذلك زيادة ميزانية التعليم الابتدائي سنويا إلى حوالي 150.000 ف. للموظفين، وحوالي 400.000 ف. لبناء المدارس. لكن لأسباب مختلفة، كما قال مارسيه، لم تتواصل هذه الخطوة، بحيث كانت ميزانية بناء المدارس 265.000 ف. فقط بين سنوات 1895 و 1899، ثم انخفضت إلى 215.000 فقط سنة 1955. وأثناء منح القروض (1892 - 1894) بنيت مدارس ابتدائية في مدن وهران والجزائر وقسنطينة وعنابة وفي البلديات المختلطة بمنطقة زواوة، وهي المنطقة التي اقترح لوبورجوا التركيز عليها خلال الثمانينات (¬2). لكن القرض انخفض كما لاحظنا من 400.000 ف إلى 215.000 ف. ويمثل تاريخ 1955 نشأة ¬

_ (¬1) مارسيه، (مؤتمر ...)، مرجع سابق، 185. (¬2) ويقول ميرانت (كراسات ...)، ص 84، إن الدولة الفرنسية بنت على نفقتها ثماني مدارس ابتدائية عمومية في منطقة زواوة بناء على مرسوم 9 نوفمبر 1881.

التعليم المهني

مجلس النيابة المالية (الوفود المالية). وهذا المجلس، الذي كان يسيطر عليه الكولون، هو الذي تردد في رصد ميزانية للتعليم الأهلي، بل عارضه بعض أعضائه بصراحة. ولذلك أصيب التعليم بنكسة قوية. وظل الأمر كذلك إلى 1908 حين اقترح جونار بناء 60 فصلا سنويا للتعليم الأهلي، وهي المدارس (الأقسام) التي سميت مدارس بورخيص أو (القوربي) كما سبق. وقد ارتفع القرض إلى 340.000 ولكنه لم يصل إلى المبلغ الذي حدد منذ 1892. وفي 1909 بلغ القرض 540.000 ف. لكن برنامج جونار لم ينجز كما خطط له. وقد انتكس التعليم من جديد طيلة الحرب العالمية. ولكنه انتعش منذ العشرينات، ورصدت له ميزانية بلغت 13.458، 55 ف. لسنة 1924. وأضيف إليها حوالي خمسة ملايين فرنك لبناءات مدرسية جديدة أو إصلاح المتداعي منها. وقد ذكرنا أنه في سنة 1937 بلغت ميزانية التعليم الأهلي حوالي 35.000.000 ف. وكانت تقدم في شكل معونة (¬1). وذلك في فترة حكومة الجبهة الشعبية ومطالب الجزائريين الملحة بالتعليم من خلال الصحف والنيابات وكذلك من خلال المؤتمر الإسلامي الجزائري، الذي انعقد سنة 1936. وكان للحركة الإصلاحية منافسة شديدة في ميدان التعليم مع المدارس الرسمية. التعليم المهني ليس من غرض هذا الفصل الخاص بالتعليم أن ندرس فيه التعليم المهني لأن هذا التعليم أو التكوين المهني، خارج عن نطاق اهتمامنا، سواء تعلق الأمر فيه بالفرنسيين أو الجزائريين. وإنما نريد أن نبدي بعض الملاحظات المتعلقة بتوجيه التعليم المهني الخاص بالأهالي. والملاحظة الأولى هي أن ¬

_ (¬1) انظر بوجيجا. S.G.A.A.N مرجع سابق، 61 - 62، ومارسيه (مؤتمر ..) مرجع سابق، 184، وشارل تيار (الجزائر في الأدب ..) مرجع سابق، 160، وإفريقية الفرنسية، عدد غشت/ سبتمبر، 1937.

التعليم عموما كان موجها لتخريج جزائريين (عاملين) في المصالح الفرنسية كالجندية والزراعة والمصانع. وقد أشرنا إلى ذلك من قبل. فقد كرر المسؤولون الفرنسيون أن غرضهم ليس تثقيف الجزائري وجعله مكتسبا للمعارف النظرية والعملية، وإنما غرضهم إذا فتحوا له قسما خاصا في مدرسة فرنسية أو أنشأوا له ورشة هو أن يجعلوا منه خادما صالحا أو فلاحا متعلما قليلا أو معلما في مدرسة ابتدائية يظل طول حياته (معاونا) أو ممرنا لأنه ليس مواطنا وإنما هو رعية. أما الملاحظة الثانية فهي نشر ذلك النصيب القليل من التعليم باللغة الفرنسية البسيطة. ونقول (البسيطة) لأن المسؤولين الفرنسيين طالما كرروا أن غرضهم ليس جعل الجزائري يتذوق جمال اللغة أو يتمتع بأدبها ومعارفها وإنما غرضهم هو أن يجبروه على النطق بها والتعبير عن شؤون حياته والاتصال عن طريقها بالمستعمرين والإدارة الفرنسية. وبتعبير صريح فالغرض من تعليمها له هو أن تحل هي على لسانه وذهنه محل اللغة العربية فيتشوش ذهنه ويضطرب لسانه، ويبتعد عن تراثه، سيما وأن العربية التي تعطى له في المدرسة مع الفرنسية هي الدارجة، ومن ثمة لا يكون له اتصال كتابي مع لغة القرآن وفهم تراكيبها ومعانيها. والملاحظة الثالثة هي التمييز بين الجزائريين والفرنسيين تمييزا عنصريا واضحا. فالتلاميذ الجزائريون لا يجلسون إلى جانب التلاميذ الفرنسيين ولا يتلقون نفس التعليم ولا يخضعون لنفس شروط الدخول والمسابقات ولا يحصلون على نفس الشهادات. وبالطبع لا يتولون نفس الوظائف. إن الجزائري في نظر الفرنسيين من سلالة منحطة، من مظاهرها التخلف العقلي والكسل والقذارة. ولا يليق بالفرنسي (الممتاز) والمتمدن وصاحب المواهب أن يجلس أو يخالط أو يتعلم مع إنسان أدنى منه. وقد شاعت هذه الفكرة خلال القرن الماضي وأوائل هذا القرن، ولم تأخذ في الاختفاء إلا بين الحربين، وهي في الواقع لم تختف. ومن أسباب التخفيف منها ظهور النظرية العرقية النازية فهي التي جعلت الفرنسيين يتظاهرون بأنهم

إنسانيون وديموقراطيون من دعاة المساواة بين الشعوب. والمثل يقول: رب ضارة نافعة. حين أسس الفرنسيون مدرسة الطب سنة 1857 كان من أهدافها تخريج بعض الجزائريين في التمريض والتطبيب المحلي والمعالجة حسب الأمراض المنتشرة في الجزائر. وسموا هؤلاء احتياطيين يدفعون بهم إلى الأرياف بدل الفرنسيين، للاتصال بالأهالي والتغلب على بعض الأمراض واتباع أساليب الصحة هناك. ولكن ندرة المتخرجين من هذه المدرسة جعلت الفكرة في حد ذاتها مجرد خيال. فبعد أكثر من عشر سنوات على إنشائها لم يتخرج منها سوى ثلاثة من الجزائريين نال أحدهم شهادة طبيب ضابط في الصحة، ونال زميله شهادة صيدلي أو مركب أدوية من الدرجة الثانية. ولا نعرف شيئا عن اختصاص الثالث. وقد أخبرت جريدة المبشر أنه ليس في المدرسة الطبية سنة 1869 سوى ثلاثة من المسلمين .. وذكرنا أن المعهد (الكوليج) العربي - الفرنسي لم يخرج سنة 1869 (تأسس سنة 1857 أيضا) سوى 16 تلميذا تفرقوا على المدارس العسكرية والبيطرة، أما مدرسة ترشيح المعلمين التي تأسست سنة 1865 فلم يتخرج منها سنة 1869 سوى جزائريين اثنين (¬1). وفي نفس الفترة تأسست مدرسة البحرية وأعلن أنها ستقبل بعض الجزائريين أيضا لأن هؤلاء أثبتوا في (عهد القرصنة) قدرتهم على ركوب البحر. وكان هدف الفرنسيين من السماح لهم بدخولها هو الاستفادة منهم في ميدان التجارة البحرية، كما يستفيدون منهم في الميادين العسكرية. ومن جهة أخرى الاستفادة منهم في عمليات النشاط البحري في المدن الجزائرية. وحين أنشئت المدرسة كانت عبارة عن بارجة راسية في ميناء الجزائر، وكان بها حوالي ستين تلميذا بين 12 - 15 سنة، وقد جيء بهم من الولايات الثلاث عندئذ. وبعد قضاء سنتين بالمدرسة يأخذون في التدريب على العمل بالسفن، وأثناء ذلك كانوا يوقعون عقدا للعمل ثلاث سنوات، على أن تتطور ¬

_ (¬1) المبشر، عدد 21 أكتوبر، 1869.

علاقتهم بعد ذك بالملاحة البحرية (¬1). هذا هو المشروع الذي كان المارشال راندون، الحاكم العام، قد تبناه. لقد أنشئت فعلا عدة مدارس وورشات للتأهيل، بعضها كان خاصا بالجزائريين ويجري في أقسام خاصة أيضا. ومن ذلك المدرسة المهنية في عين الحمام بزواوة، حوالي 1881، وعدة منشآت أخرى للمساعدات الاجتماعية كانت تصب في نفس الفكرة، ومعظمها كانت تحت إشراف جمعية الآباء والأخوات البيض في مناطق محددة مثل ميزاب وزواوة. وافتتحت ورشات عديدة في المدن الرئيسية لتعليم البنات المسلمات أشغال الإبرة والنسيج والطرز وغير ذلك مما كان الأوروبيون في حاجة إليه، تحت شعار تجديد الفن الأهلي وإحياء بعض الفولكلور كالزرابي وصناعة الفخار وضرب الفضة وغيرها. وفي 1896 تأسست بوهران مدرسة ضخمة للتكوين المهني. وكانت تجمع الفرنسيين والجزائريين تحت سقف واحد، ولكن برنامج كل فريق كان مختلفا عن الآخر. وكانت هذه المدرسة تعلم مختلف المهن كالحدادة والنجارة والطرز والنحت والنسيج، وقد توفرت على آلات دقيقة وحديثة. وكانت تجمع البنين والبنات (¬2). وفي نفس الفترة كتب ريكار P.Ricard بحثا عن برامج مدارس التكوين المهني في الجزائر. وكان ذلك في زمن الحاكم العام شارل جونار الذي اجتهد في إحياء التراث الشعبي واهتم بالتعليم عموما. وبناء على مقالة ريكار فإن التعليم المهني كان يتكون من ثلاث نقاط وهي: دروس موجهة للعمل العادي، كصناعة الخشب والحديد ودبغ الجلود وصناعة الفخار، وأعمال البناء، والبناء بالحجر، ثم دروس موجهة لخدمة وبعث الصناعات الشعبية، كالرسم على الخشب والطرز والخزف، وألوان النجارة، أما الدروس الثالثة فكانت موجهة للفنون النسائية مثل التعليم المنزلي (الغسيل، والكي، ¬

_ (¬1) زوزو (نصوص)، مرجع سابق، 220. (¬2) ريكار، في (مجلة العالم الإسلامي)، عدد غشت، 1908. مقال طويل ومصور للمدرسة والمعلمين والتلاميذ والأجهزة. من صفحة 663 - 682.

والخياطة، والطباخة) ثم أعمال التريكو والطرز ونسج الزرابي. وهناك مدارس كانوا يسمونها أساسية لهذه الدروس، وهي موزعة على وهران ومستغانم وتلمسان وقسنطينة. وبناء على دراسة السيد ريكار فإن التلاميذ الجزائريين في مدارس التكوين المهني قد بلغوا أكثر من ثلاثين ألفا (29.000 بنين و 2، 000 بنات). وهناك ملاحظة أبداها ريكار وهي أن البنات هن اللائي يتوجهن غالبا إلى التعليم المهني بعد التخرج. ولذلك خصص لهن البرنامج من 10 إلى 15 ساعة أسبوعيا. أما البنون فلهم معدل ساعة واحدة أسبوعيا. ويجب التذكير بأن هذا التكوين كان يتلقاه التلاميذ العاديون في التعليم العام. أما التعليم المهني فلا يناله سنة 1907 سوى حوالي 300 من البنين و 400 من البنات (¬1). وقد عرفنا أن التعليم بمدرسة ترشيح المعلمين كان قائما أيضا على تعلم جميع المهن الشائعة. يقول جان ميرانت الخبير في الشؤون الأهلية، لقد نظمت مديرية التعليم بالجزائر سنة 1910 نماذج للمدرسة/ المزرعة في عدة مناطق، ذكر منها مازونة، وعمي موسى، وتاوريرت وابن شيكاو. وحيث يكون للمدرسة أرض يذهب التلاميذ لممارسة الأعمال الزراعية، فإذا تخرجوا منها يصبحون مهتمين بالأشجار المثمرة وبالعمل عموما، وبذلك يصبحون عمالا زراعيين ناجحين. إن الحديقة النموذجية في المدرسة لا يراها التلاميذ فقط بل أولياؤهم أيضا، كما يأتيها الفلاحون لمشاهدة أشجارها وتقليدها. وقد أشرنا أيضا إلى أن القسم الخاص في مدرسة ترشيح المعلمين كان يتضمن دراسة الطب العادي والأمراض الشائعة وحفظ الصحة وممارسة الأعمال الزراعية والأشغال اليدوية والفنون التقليدية. ¬

_ (¬1) ريكار (مؤتمر شمال إفريقية) ج 2، باريس، 1908، ص 256 - 257. وذكر أن مدرسة تلمسان المهنية فتحت سنة 1951 فقط بثلاثة تلاميذ، وفي 1907 بلغوا ثلاثين تلميذا.

حول تعليم المرأة والفنون التقليدية

وقد نص مرسوم 18 أكتوبر 1892 على إنشاء مناصب مفتشين خاصين بغرض تفتيش مختلف المهن كالفلاحة والتكوين الفني والصناعي. ومن الملاحظ توجيه تعلم الطرز ونسج الزرابي إلى المعلمات المسلمات اللائي كان عليهن أن يتربصن تربصا خاصا بذلك منذ 1910. ولكن عددهن كان ضئيلا جدا: المتربصان 3 سنة 1905، و 6 سنة 1910، و 15 سنة 1929 (¬1). ولذلك كان عدم الاهتمام بهذا التعليم عموما محل نقد شديد من الحركة الوطنية (¬2)، كما طالبت بتنشيطه وتوسيعه. حول تعليم المرأة والفنون التقليدية لم نفرق فيما مضى بين تعليم الطفل والطفلة، لأن الإهمال شملهما معا. وكان تعليم البنات أقل انتشارا أيضا في العهد العثماني، كما لاحظنا في جزء آخر من هذا الكتاب. وما دام المحتلون الفرنسيون قد اتبعوا سياسة التجهيل نحو الجزائريين فلا ننتظر منهم أن يخصوا البنات بالتعليم دون البنين أو أن يسووا بينهم. ومع ذلك نلاحظ أنه عند البدء في نشر التعليم الفرنسي كان التركيز على البنين دون البنات. وسنذكر الإحصائيات التي تدعم ذلك. وجدير بالذكر أن تحفظ الجزائريين من التعليم الفرنسي في البداية كان خوفا على مصير أبنائهم جميعا، ولا سيما البنات. ولعل هذا الموقف كان من بين الأسباب في تأخير دخول البنت إلى المدرسة. ومن جهة أخرى فإن المجتمع الفرنسي نفسه كانت له تحفظاته على تعليم المرأة عموما، سيما قبل عهد الجمهورية الثالثة. أما بعد ذلك فقد لاحظنا أن أعداد البنات الفرنسيات في المدارس كانت تفوق عدد البنين أحيانا. وكان الفرنسيون قد أسسوا مبدأ التعليم الإجباري للجنسين من قومهم منذ بداية الثمانينات. ¬

_ (¬1) ميرانت (كراسات ..)، مرجع سابق، 94. انظر أيضا إيمانويل بوجيجا،. S.G.A.A.N، 1938، مرجع سابق، 64. (¬2) انظر بشير التليلي (الكراسات التونسية)، 26، 1978، 72 نقلا عن (مجلة المغرب) عدد 3، 4، 1917.

اهتم الفرنسيون بالبنت المسلمة من وجهين. الأول كونها المدخل الأساسي للأسرة الجزائرية ونشر التأثير الفرنسي عن طريقها، بعد أن ظل الرجال (ومن ورائهم النساء) حاملين علم الثورة والمقاومة. والمقصود بالرجال هنا كل البالغين أو الذين وصلوا سن السادسة عشر. وكان أهل المدن أكثر هدوءا بعد الاحتلال من أهل الأرياف والقرى. وقد سيطر الفرنسيون على الإدارة والأسواق والتجارة والسفر. وانحصر المواطنون الذين لم يهاجروا في المدن التي تفرنست في مظاهرها بالتدرج، سيما الجزائر ووهران وعنابة وبجاية. فقد أصبح الجزائريون أقلية وسط أغلبية فرنسية أو متفرنسة جاءت من مختلف أنحاء أوروبا. وبذلك أصبح الطريق للتوغل الحضاري الفرنسي ممهدا في المدن المذكورة منذ الأربعينات. والوجه الثاني هو أن المرأة عامل اقتصادي هام. وكان الفرنسيون قد هدموا الأسواق التقليدية (البازرات) حيث الكتب والملابس والحلي والعطور والمصنوعات الجلدية والحريرية، الخ. وهي المنتوجات التي كانت تمثل الصناعات التقليدية وتنشط الاقتصاد المحلي. وقد تعود الأوروبيون على شراء هذه المصنوعات على أثر الاحتلال وقبل الهدم. ولذلك فكر بعض الفرنسيين في إحياء هذه الصناعة عن طريق المرأة، وبواسطتها يتحقق الهدف الآخر أيضا وهو نشر التأثير الفرنسي في الأسرة وترويج اللغة الفرنسية. ولم يفتح الفرنسيون مدرسة رسمية لتنشيط الصناعات التقليدية في البداية، وإنما تركوا بعض المغامرات الفرنسيات يقمن بذلك ثم اعترفوا بجهودهن وقدموا لهن التسهيلات. كان النساء الفرنسيات والزائرات الأخريات يبكين حالة المرأة المسلمة في الجزائر. فهي في نظرهن مسكينة وجاهلة ومحرومة من متع الحياة. وهي ضحية الرجل الذي كان يشتريها بدراهمه (هكذا يسمون المهر)، وهي راضية بالطلاق وبالعمل الشاق والزواج عليها بضرة، وهي مستسلمة للقدر والمكتوب والتقاليد. ويعرف تاريخ المرأة في الجزائر أسماء العديدة من النسوة اللائي نصبن أنفسهن للدفاع عن حقوقها المدنية والاجتماعية دون السياسية طبعا. ومن هؤلاء أليكس في أول

الاحتلال وماري بوجيجا في أوآخره. منذ الأربعينات (حوالي 1846) أنشأت أليكس Allix معهدا أو مدرسة صغيرة لتعليم البنات المسلمات الفرنسية والعربية، بعد أن ذهبت لزيارة البيوت والاتصال بالأمهات. كان ذلك في عهد المارشال بوجو وهو العهد الذي بدأت تشيع فيه فكرة التوغل السلمي داخل المجتمع الإسلامي، وهو ما يسميه البعض أيضا بالاحتلال المعنوي، وقد اعتبرت السيدة أليكس مشروعها ثورة في حد ذاته، ذلك أن البنات هن أمهات المستقبل وأن الحضارة الفرنسية أكثر عملية من الحضارة الإسلامية، وأن تعليم البنات المسلمات على جانب خطير من الأهمية في نظرها. وفي تقرير كتبته إلى الإدارة بالجزائر (إدارة بوجو) طلبت منها المساعدة والتأييد، ولم يذكر التقرير (1846) متى فتحت المدرسة ولا عدد التلاميذ غير أنه أشار إلى أن النجاح كان إلى ذلك الوقت غير كامل (¬1). وهذا النوع من المدارس يسميه الفرنسيون مدارس خاصة. ولا شك أن السيدة أليكس (وهو اسم زوجها) كانت تعلم البنات اللائي التحقن بورشتها اللغة الفرنسية بالدرجة الأولى وكذلك الطرز وأشغال الإبرة. وحوالي نفس الفترة (يناير 1847) وجدنا الحاكم العام (بوجو) قد رخص بإنشاء مدرسة (ورشة) للبنات المسلمات في مدينة الجزائر. وكانت تضم ستين تلميذة فقط. وكانت بدون شك هي مؤسسة أليكس نفسها، فقد أعطيت الضوء الأخضر للاحتلال (المعنوي). وأعطيت أيضا المساعدة اللازمة لذلك، ولكننا لا ندري درجة النجاح بعد ذلك (¬2). وكانت هذه السيدة المولودة سنة 1804 قد جاءت إلى الجزائر هاربة بالروح، كما يقولون، بعد زواج فاشل. وعاشت فيها باحثة عن لقمة الخبز في أي مكان تجده، إلى أن ¬

_ (¬1) أرشيف إيكس (فرنسا) 1732 80 F. عن مشروع أليكس انظر أيضا الحركة الوطنية، ج 1. وقد أخطأنا هناك فجعلنا أليكس ولوس Luce امرأتين مختلفتين، وهما في الواقع اسمان لامرأة واحدة. (¬2) السجل (طابلو)، سنة 1845 - 1846، ص 13. يقول ميرانت (الكراسات)، ص 53 إن السلطات (رخصت) بفتح مدرسة للبنات سنة 1845 وتوقعت الخطر.

وجدته في مشروع الورشة الذي يخدم بلادها وحضارتها عن طريق البنات المسلمات والتسرب عن طريقهن إلى المجتمع الجزائري. وقد دام مشروعها مدة طويلة وكان نموذجا احتذاه غيرها أيضا. كانت تسمى (مدام لوس Luce) أو الآنسة يوجين بيرلو BERLEAU. وكان أبوها كاتبا في بلدية تورين (فرنسا) فاستفادت من مكتبته، وكان تعليمها غير منتظم، وقد عاشت في الحقبة الرومانتيكية التي اشتهر المنضوون إليها بحب الطبيعة والحقول، والمغامرة في المجهول. ومن بين ما اشتهر به الرومانتيكيون أيضا الرغبة في معرفة الشعوب الأخرى (البدائية) وأنماط عيشها. جاءت أليكس إلى الجزائر أول الاحتلال تاركة ابنتها عند والدتها في فرنسا. وفي الجزائر تعلمت الخياطة، واشتغلت غسالة في المستشفى العسكري، وتوفي والدها سنة 1837 وهي في الجزائر. ثم بدأت تخطط لإنشاء مدرسة (ورشة) للبنات المسلمات يتعلمن فيها الحضارة واللغة الفرنسية. وفي سنة 1843 عارض المفتي مصطفى الكبابطي إدخال الفرنسية في المدارس القرآنية فنفته السلطات الفرنسية. وبدأت فكرة التسرب إلى الأسرة. ولكن حالة المرأة المسلمة مضنية، كما يقولون، فهي لا تخرج ولا تتعلم ولا تختار الزوج، وهي لا تنضج قبل الزواج. إنها إنسانة محقورة. هكذا تصورت السيدة أليكس (لوس) حالة المرأة فعزمت على إنقاذها. بدأت بتعلم اللغة العربية باعتبارها الوسيلة الضرورية للدخول إلى قلب المرأة. ومنذ 1845 بدأت في جمع التبرعات لمشروعها. ثم بذلت المساعي لإقناع الأمهات اللائي أغرتهن بالسماح لبناتهن بالحضور إلى مدرستها، بضع ساعات في اليوم ليتعلمن اللغة الفرنسية والحساب والخياطة. فلم يأت إليها سنة 1846 إلا أربع بنات. ولكنها لم تفشل. لقد اختارت منزلا تعلم فيه، ثم وصل العدد إلى 30 ثم 40. فسألت الحكومة المساعدة. وقد عرفنا أن إدارة بوجو أقرت المدرسة وساعدتها. وكانت المدرسة تقع في شارع طولون. وأهم ما كانت تعلم، بعد اللغة الفرنسية، هو الطرز، لأن الأوروبيين كانوا يقبلون على المطروزات، ولا سيما السواح الإنكليز. ويشمل الطرز على المناديل

والستائر، بالذهب والحرير، وبمختلف الألوان والأشكال كالملابس والصدريات. وقد اتسعت المدرسة - الورشة بمعروضاتها حتى خارج الجزائر، إذ شاركت السيدة أليكس في المعرض الكبير ببريطانيا سنة 1862 (¬1). من الواضح أن ما قامت به السيدة أليكس ليس تعليما بالمعنى المتعارف عليه، ولكنه نوع من التكوين المهني عن طريق اللغة الفرنسية، وهو استغلال لطاقة البنات المسلمات لفائدة الحياة الاقتصادية الفرنسية والتسرب إلى داخل المجتمع الذي بقي مغلقا في وجه الغزو الفرنسي. وفي سنة 1850 صدرت مراسيم إنشاء بعض المدارس العربية - الفرنسية، كما ذكرنا، ومنها الست مدارس في أغلب المدن التي احتلت إلى ذلك الحين. وفي هذا النطاق نص المرسوم أيضا على إنشاء مدارس في الجزائر وقسنطينة والبليدة ووهران وعنابة ومستغانم للفتيات المسلمات يأخذن فيها تعليما ابتدائيا وأشغال الإبرة. وقد قيل عندئذ أن لجنة من النساء يعينها الوالي (البريفي) ستشرف على هذه المدارس (¬2). ولكن التجربة كانت فاشلة فيما يبدو، لأننا وجدنا الفرنسيين يشكون من تحكم العادات في المجتمع. وفي تقرير لسنة 1852 لا نجد سوى 150 (وهو رقم ملفت للنظر) تلميذة يذهبن إلى مدرسة فرنسية تديرها امرأة فرنسية. وقد كن يتعلمن فيها بالإضافة إلى مواد التعليم المعروفة في المدرسة العربية - الفرنسية، عمل الإبرة والنشاط المنزلي. وفي ورشة ملحقة بالمدرسة يتعلم كبار النسوة الخياطة (¬3). ¬

_ (¬1) السيدة روجرز Rogers (شتاء في الجزائر)، لندن، 1865، ص 103 - 199. ظهر وصف لأعمال أليكس في مجلة نسائية بريطانية اسمها (جورنال المرأة الانكليزية) بقلم السيدة بوديشون. وهو الذي استفادت منه السيدة روجرز. وجاء في تقرير لسنة 1857 أن هذه المدرسة كانت خاصة. أرشيف إيكس (فرنسا)، 20 - I 1. يقول السيد بوجيجا إن السيدة لوس (أليكس) هي زوجة رئيس فرقة موسيقية في الجيش، ومؤلفة. وأن الوزارة قد اعترفت رسميا بمدرستها في 6 يناير 1847. انظر S.G.A.A.N مرجع سابق، 70. (¬2) السجل (طابلو) سنة 1846 - 1849، ص 195. (¬3) نفس المصدر، سنة 1851 - 1852، ص 201.

وفي مدرسة الجزائر العربية - الفرنسية وقع توزيع الجوائز سنة 1854 بحضور السيدة أليكس، ويقول الفرنسيون إن الفتيات ظهرن غير متحجبات خلال الحفل، وأدارت اثنتان منهن حوارا معناه أن فرنسا هي الدولة الحامية للجزائر. وهذا بالطبع ما كانت تريد السيدة المذكورة والإدارة الفرنسية والكنيسة، من تعليم المرأة المسلمة لإخراجها من حرمانها وغبنها في نظرها. ومهما كان الأمر فقد فتحت ورشة لتعليم النسيج والأشغال اليدوية أولا في مدرسة الجزائر سنة 1861 ثم في مدرسة قسنطينة بعد ذلك. أما المدارس التي نص عليها مرسوم 1850 وهي ست، فلم ينجز منها إلا البعض. وشيئا فشيئا بدأ يظهر اسم الجزائريات، فكان اسم السيدة ماحي MAHE سنة 1853، وهي سيدة كانت تعطي دروسا في التوليد، وقد نجح ثمانية من أحد عشر وظفن لهذا الغرض، وفي سنة 1856 حصلت الفتاة نفيسة بنت علي، وكانت تلميذة في مدرسة السيدة أليكس، على (بروفي) التعليم. وكانت هي الأولى في هذا الميدان (اللغة الفرنسية والطرز) لكنها سرعان ما توفيت - 28 فبراير 1861. وفي سنة 1850 أيضا أنشات السيدة ابن عابن ABEN مدرسة في الجزائر للبنات شبيهة بمدرسة السيدة أليكس، فهي أيضا كانت تعلم اللغة الفرنسية والقراءة والكتابة والحساب والرسم (وهو برنامج المدرسة العربية - الفرنسية) إلى جانب أشغال الإبرة وإدارة المنزل. وقد بقيت هذه المدرسة إلى سنة 1870 ثم حولتها الإدارة إلى مدرسة ابتدائية فرنسية محض. ثم ظهرت مدارس أخرى، وهي في الحقيقة ورشات، بإشراف الأخوات البيض (الكنيسة) وسيدات أخريات تابعات لمذاهب دينية غير كاثوليكية، ولكنها كانت تتنافس على إخراج البنت الجزائرية من بيتها وتقاليدها وربطها بالثقافة الفرنسية، بأية وسيلة. وكل ذلك كان في غياب الحكومة الفرنسية التي يفترض فيها السهر على حرمة العائلة الجزائرية وتوفير التعليم المفيد للبنت وللمجتمع (¬1). وفي ¬

_ (¬1) لا نجد سوى أصوات خافتة خلال ذلك من رجال السلك الديني والقضائي وأعيان البلاد، لتسلط أجهزة القمع والقهر عليهم.

هذا الصدد أنشئ قسم خاص بالبنات المسلمات في المدرسة الفرنسية ببجاية، ثم تلاه إنشاء مدرسة من ثلاثة أقسام. بالإضافة إلى ورشات الآباء البيض في زواوة وميزاب وورقلة وبسكرة. ونفس المحاولات وقعت على أيدي نساء أخريات، منهن السيدة سوسروت، مديرة مدرسة البنات بقسنطينة، فقد أنشأت أيضا مدرسة خاصة للطرز ونسج الزرابي. واستعملت طرق الصباغة التقليدية الشائعة عند الأعراش وفي البوادي. ثم أنشأت السيدات: ديلنو، وأتانو، وباري، مدارسهن. وتضافرت جهود هؤلاء النسوة مع جهود الأخوات البيض، وكثرت الورشات من الشمال إلى أقصى الجنوب، وهي ورشات لا تدخل أبدا في نطاق التعليم الابتدائي، لأنها كانت ورشات خاصة تستعمل، بالإضافة إلى اللغة الفرنسية والتأثير الفرنسي، مختلف أنواع الطرز ونسج الزرابي والأغطية، والمضفورات، والرسومات الشعبية والألوان حسب المناطق، مثل الطابع الونشريسي والميزابي والزواوي (القبائلي)، والأوراسي والعربي والبربري. وقد ظهرت ورشات جديدة في تبسة وشرشال والقليعة وتلمسان والأغواط وغرداية، معظمها كانت بإشراف الأخوات البيض. ثم سمح لسيدات انكليزيات (بروتيستانت) بإنشاء ورشات مماثلة أيضا في شرشال وفي ضاحية مصطفى باشا بالعاصمة (¬1). ومن جهتها أسست السيدة قيتفيل (التي سبق لها أن أسست مدرسة البنات في وهران وعملت في القيروان) مدرسة في الجزائر أيضا سنة 1909، وتوسعت هذه المدرسة حتى كانت تضم 170 تلميذة، ولها ورشة بـ 16 تلميذة تتراوح أعمارهن بين 10 - 13 سنة. وقد ذاع اسم هذه المدرسة لأنها تخصصت في صنع الزرابي القديمة من النوع الفارسي والقبطي، كما قيل، وكذلك صنع الوسائد والمطروزات التركية والجزائرية والمراكشية. ثم مدرسة آيت هشام في ميشلي التي تأسست سنة 1890 ونالت جائزة سنة 1955 وتولتها سنة 1913 السيدة بيران Perrin ¬

_ (¬1) بوجيجا، S.G.A.A.N (1938)، مرجع سابق، 70 - 74.

وزوجها منذ التاريخ الأخير. وكانت تضم 34 تلميذة. ثم مدرسة الأصنام التي كانت بإدارة الآنسة شوبير، ولها ثلاثة أقسام و 146 تلميذة (¬1). وفي آخر القرن أيضا وجدنا المرأة المهجنة أو نتاج الزواج المختلط، قد أخدت تلعب دورها في الموضوع. وهو الدور الذي أصبحت تقوم به بعض النساء بعد الاستقلال أيضا، إذ أصبحت هن المتحمسات للفرنسة وتخليص المرأة من (العبودية) في نظرهن أكثر من تحمس الفرنسيات أنفسهن. وكان هدف الفرنسيين هو تكوين الوسطاء، سواء من الرجال أو من النساء. نحن الآن أمام سيدة أخرى تسمى كيسنو، ومساعدتها السيدة سيسيل عائشة بوركايب. ولعل اسم (سيسيل) يوحي بأن هذه المرأة كانت نتاج زواج مختلط. أما عائلة بوركايب فقد اشتهرت في بداية الاحتلال بارتباط أحد أبنائها، وهو حمدان بوركايب بالإدارة الفرنسية الأولى. وفي 1894 نشرت جريدة المبشر الرسمية خبرا ملفتا للنظر بعنوان (مأثرة تذكر فتشكر)، وفائدة هذا الخبر هي أن حكومة جول كامبون في الجزائر قد رأت إحداث درس للبنات المسلمات، فكان ذلك على يد السيدة كيسنو (وتلقبها المبشر باللقب التركي وهو الخاتون)، وأن الدرس قد امتلأ بأربعين تلميذة. وتمنت الجريدة المزيد من الإقبال عليه. أما بالنسبة للسيدة بوركايب فالمبشر قالت بأنها جاءت لمساعدة السيدة كيسنو. وكانت بوركايب متحمسة جدا لعملها، وكانت تعلم الفتيات القواعد العلمية الأولية. وقد تعينت رسميا في هذه المهمة، ونوهت الجريدة بجهودها وبعائلتها القديمة الوجيهة (كريمة ذات من ذوات مسلمي الجزائر). أما البرنامج فهو حسب الجريدة أصول العلوم الابتدائية وما سهل من أعمال الخياطة (¬2). ولم تذكر المبشر أن أصول العلوم هنا تعني اللغة الفرنسية والتاريخ الفرنسي والجغرافية والحساب والدخول في الحضارة الفرنسية ¬

_ (¬1) ألفريد كولون (دروس الصناعة للفتيات الأهليات)، في S.G.A.A.N (1913)، ص 545 - 563. (¬2) المبشر، عدد 8 سبتمبر 1894. عن أصول وفروع عائلة بوركايب، انظر بول أوديل P.Eudel (الحلي الجزائري والتونسي)، الجزائر، 1902، ص 323.

المتفوقة، حتى لا تنبه قراءها المسلمين إلى ما يتلقاه البنات حقيقة في هذه المدرسة. وفي تجربة المدرسة العربية - الفرنسية أيضا (أنشئت سنة 1850 كما سبق) نجد المواد الدراسية مشتركة بين البنين والبنات .. فقد كان المعلم الفرنسي (وهو عادة المدير) يعلم الأولاد اللغة الفرنسية ومبادئ الأخلاق والتاريخ الفرنسي والجغرافية والزراعة والتاريخ الطبيعي. وهذا هو نفسه برنامج مدرسة البنات أيضا. ولكن الساعتين الأوليين من حصص الصباح مخصصتان للغة العربية إذ يفتح المصحف الشريف بين يدي التلميذة، أما الساعة الثالثة فمخصصة لأشغال الإبرة. وهذا القسم كانت تشرف عليه المديرة الفرنسية، بواسطة نائبتها المسلمة (انظر قانون إنشاء هذه المدارس). وفي المساء ساعتان للغة الفرنسية وساعتان لأشغال الإبرة أيضا. وهذه الأشغال قد قسمت إلى قسمين كما ذكرنا، في حصة الصباح تعلم بما يناسب الوسائل الإسلامية وفي المساء بما يناسب الوسائل والمنهج الفرنسي. ويقول السيد ميرانت، ونحن لا ندري كيفية ذلك تفصيلا، فإذا كان تعليم القرآن صباحا منهجا إسلاميا واضحا، وتعليم الفرنسية في المساء منهجا فرنسيا واضحا، فلا نفهم كيف تتحول أشغال الإبرة إلى إسلامية وفرنسية. ويدخل في برنامج البنات أيضا الغسيل بالصابون وكي الملابس، مدة نصف ساعة كل يوم ثلاثاء وخميس (¬1). هل هذا هو التعليم الإسلامي أو التعليم المطلوب لإخراج المرأة الجزائرية من وهدة الجهل إلى نور العلم والحياة؟ إن البرنامج، على ما فيه من تحايل لنشر اللغة الفرنسية والحصول على مردود اقتصادي، ومسخ للمجتمع، قد انتهى سنة 1871، كما ذكرنا، على يد الحاكم العام ديقيدون. ولم يعوض بأي تعليم آخر للمرأة أو غيرها إلا منذ التسعينات، وحينئذ ¬

_ (¬1) ميرانت (كراسات ..)، مرجع سابق، 79. بعض المدارس العربية - الفرنسية أنشئ في المسجد نفسه كما حدث في جامع سيدي الرماح بقسنطينة الذي حول إلى مدرسة للبنات. انظر سابقا.

ظهرت مدارس ابتدائية خاصة بالأهالي وأقسام ملحقة بمدارس فرنسية. وكان الزمن قد تغير كثيرا، وظهر الجيل الثالث في عهد الاستعمار الفرنسي. ورغم مطالبة الجزائريين بالتعليم لبنيهم وبناتهم فإن السلطة الفرنسية كانت شحيحة جدا. وقد ظل تعليم البنات بالخصوص مطبوعا بالطابع الاقتصادي - العملي، كما ذكرنا، وليس بالطابع العلمي - التربوي. ومن ثمة لم تتحصل البنت الجزائرية لا على ثقافتها العربية الإسلامية ولا على ثقافة فرنسية علمية مفيدة. وقد صدق ألفريد بيل حين قال سنة 1908 إنه لا يوجد للبنات المسلمات مدارس خاصة بهن لمتابعة دراستهن لا بالعربية ولا بالفرنسية. ونحن نعلم أن ألفريد بيل من غلاة المستشرقين الاستعماريين. لقد كان بعضهن يدخلن المدارس الفرنسية الابتدائية، وكان عددهن قليلا جدا. أما الأخريات فكن يتعلمن اللغة الفرنسية في مدارس التكوين المخصصة للأهالي، ونسيج الزرابي والأشغال اليدوية (¬1). وهو عدد قليل جدا أيضا. وقد تدخلت الإدارة الفرنسية لتنشيط وتحديث الفنون والصناعات التقليدية، وألحقت ذلك بإدارة التعليم (ريكتور). ومن ذلك إنشاؤها مكتبا للرسم للقيام بجرد دقيق للأنواع والنماذج الفنية بالجزائر، وإحياؤها حسب الحاجة. ومن مهام المكتب الرجوع إلى الأشكال القديمة (الكلاسيكية) والاستفادة من نماذج تونس والمغرب والمشرق والفنون البربرية. ولعل الفرنسيين قد أحسوا بالذنب الكبير نحو التاريخ والفن والحضارة العربية الإسلامية في الجزائر حين هدموا المعالم وداسوا على الأضرحة والقباب واستباحوا قلع الزليج والفسيفساء والأبواب الخشبية المنقوشة غداة الاحتلال. فأخذوا يراجعون النماذج الباقية ويحصونها ويستجلبون نماذج أخرى من الخارج ظانين أنها من أصل واحد. فنقحوا زرابي القرقور والقلعة ورجعوا إلى الفن البربري القائم على الشكل الهندسي (الجيومتري). واستعانوا في الطرز بالنوع الرباطي (المغرب) المعروف بوروده وألوانه الزرقاء والخضراء والبنفسجية الغامقة والمذهبة، وسايروا الذوق العربي ¬

_ (¬1) ألفريد بيل (مؤتمر ..)، مرجع سابق، 228.

والإسلامي في الزخرفة. ونفس عملية الإحياء والتجويد وقعت مع الصناعات النحاسية. فدمجوا الطراز السوري مع الطراز المحلي، وأصبح هذا النوع المولد من برنامج الورشات. وذكر جان ميرانت أنه وقع اللجوء إلى المواد الكيمياوية في الألوان، وأن الأكاديمية قد أنشأت مدرسة للصباغة وكلفت السيد دلاييه بالإشراف عليها. وكانت الأصواف مثلا تعطى للورشات بعد صباغتها. واعترف ميرانت أن الفن البربري والعربي قد أصابه الذبول نتيجة الإهمال والتدهور واختلطت ألوانه وفقد أصالته، غير أن عملية الإنعاش، في نظره، قد أعطت نتائج طيبة. وقد عرفنا أن الورشات التي أنشئت منذ القرن الماضي كانت تعلم بعض الفرنسية والتأثيرات الحضارية الأخرى، بالإضافة إلى الحساب والطرز والخياطة ونسيج الزرابي. واشتهرت بذلك ورشات العاصمة وقسنطينة (حيث كان يجري الطرز بالفضة على الحرير) وشلالة وبجاية (¬1). وإليك الآن بعض الإحصاءات. ففي سنة 1882 هناك مدرستان فقط للبنات في الجزائر كلها. و 358 بنتا يتعلمن (¬2). وفي 1906 كان للبنات سبع مدارس (¬3). وفي سنة 1907 أصبحت تسع مدارس ولها خمسة عشر قسما، إضافة إلى ثلاث مدارس حرة (مهنية؟). وكانت جميعا تضم 2.181 بنتا، وكلهن في المستوى الابتدائي (¬4)، ولا وجود للفتاة المسلمة في المتوسطات أو الثانويات. وفي 1930 (بعد قرن من الاحتلال) كان عدد البنات المسلمات في التعليم الابتدائي الفرنسي قد وصل إلى 6.712 حسب الإحصاء الرسمي (¬5). ثم وصل العدد إلى 8.330 سنة 1936، هذا في ¬

_ (¬1) جان ميرانت (كراسات)، ص 51 - 53. انظر أيضا أوغسطين بيرك (الجزائر بلاد الفن والتاريخ)، ومساهمته في كراسات الاحتفال المئوي. (¬2) بوليو، مرجع سابق، 258 - 259. (¬3) بول بيرنار (التعليم الابتدائي الأهلي ..)، مرجع سابق، R.M.M (1906) ص 21. (¬4) مارسية (مؤتمر ..)، مرجع سابق، ص 803. (¬5) جان ميرانت (كراسات ..)، مرجع سابق، ص 95.

المدارس المخصصة للأهالي فقط، ويضاف إلى ذلك البنات اللائي دخلن الأقسام الخاصة بالأهالي في المدارس الأوروبية. فإذا جمع الرقم هنا وهناك وصل العدد إلى 15.854 بنتا، وكلهن في المستوى الابتدائي. وهذا كله في زمن الصحوة التعليمية وظهور مدارس جمعية العلماء والمدارس الحرة الأخرى كمدرسة الشبيبة في العاصمة ومعهد الحياة في ميزاب. لكننا لا نجد سنة 1936 إلا 99 فتاة جزائرية في الثانويات الفرنسية ثم لا فتاة في جامعة الجزائر (¬1)، ولا في المدارس الشرعية - الفرنسية الثلاث. ونريد أن نختم هذه الفقرة بالإحصاء الذي أورده السيد إيمانويل بوجيجا سنة الاحتفال المئوية بالاحتلال ومدى ما نالته المرأة المسلمة من الدولة الفرنسية (الحامية) وحاملة رسالة (المهمة الحضارية). يقول إن سنة 1930 قد انتهت بهذه النتائج بالنسبة للمرأة الأهلية: 30 بنتا حصلت على شهادة الدراسة الابتدائية. 2 حصلتا على شهادة (البروفي) الأولى. B.Elem. 1 (واحدة) على شهادة (البروفي) العالي. B.Sup. 8 بنات دخلن المدارس الابتدائية العالية. Ecoles P. Sup (هكذا التسمية، ولكن لا علاقة لها بالتعليم العالي). 4 بنات في ليسيه الجزائر (الثانوي). 4 بنات في ليسيه وهران. 44 بنات في ليسيه قسنطينة. 2 بنتان في ليسيه (كوليج) عنابة. أما بالنسبة لسنة 1936 فقد شهدت بعض الزيادات في الأرقام الإجمالية. ولكننا لا نعرف عدد المتحصلات على الشهادات. وهذا هو التوزيع بالنسبة إلى سنة 1936: ¬

_ (¬1) أرشيف إيكس (فرنسا)، 61 H 10 نقلا عن جريدة وهران الجمهورية، عدد 18 يوليو، 1937.

7، 34 بنتا في المدارس الابتدائية الأولية (الفرنسية). 8.330 بنتا في المدارس الخاصة بالأهالي. 39 بنتا في المدارس الابتدائية العالية والدروس المكملة C.Comp. أما المدارس نفسها والتوزيع عليها فكان كما يلي: (سنة 1936): 16 مدرسة ابتدائية خاصة وثانوية تضم 231 تلميذة. - في التعليم الثانوي 99 تلميذة. - في التعليم الجامعي صفر تلميذة (¬1). هذه هي تجربة التعليم الفرنسي والمزدوج في الجزائر طيلة أكثر من قرن. وقد أشرنا إلى أطوار التجربة ومراسيمها والآراء حولها وأنواع التعليم سواء كان موجها للفرنسيين أو للجزائريين، مفرنسا أو مزدوجا، وكذلك مؤسساته من الابتدائي إلى العالي. وكان يمكن للمدارس الشرعية - الفرنسية أن تدخل ضمن التعليم العربي - الإسلامي في مرحلتها الأولى ولكننا أدخلناها ضمن هذا الفصل لأن إدارتها وبرامجها أصبحت فرنسية، ولم نشر إلى تطور التعليم عند يهود الجزائر إلا نادرا لارتباطه منذ أول وهلة بالتعليم الفرنسي، حتى قبل تجنيس اليهود الشامل عام 1870. انتهى الجزء الثالث ويليه الجزء الرابع ¬

_ (¬1) بوجيجا S.G.A.A.N مرجع سابق، ص 75.

المحتوى

_ مقدمة ............................................................................................ 5 الفصل الأول: التعليم في المدارس القرآنية والمساجد ............................................... 15 مدخل ........................................................................................... 17 حالة التعليم العربي الإسلامي غداة الاحتلال ...................................................... 21 التعليم في المدارس القرآنية ...................................................................... 36 التعليم في المساجد .............................................................................. 57 بعض أعيان المدرسين في العاصمة ............................................................. 73 القديري - الأرناؤوط - بوقندورة - العمالي - ابن الحفاف - ابن الخوجة (الكمال) - ابن الشيخ - ابن سماية - ابن زكري - التدريس بإقليم الوسط (غير العاصمة) ...................................................... 102 شرشال - البليدة - المدية - مليانة - أم السنام - تيزي وزو - مدرسو المساجد في إقليم وهران .............................................................. 109 وهران - تلمسان - معسكر - مستغانم - ندرومة - مدرسو المساجد في مدينة قسنطينة ........................................................ 225 الونيسي - بوجمعة - ابن مرزوق - مدرسو المساجد في إقليم قسنطينة والجنوب ................................................ 143 سطيف - عنابة - بجاية - ميلة - وادي الزناتي - بسكرة - المسيلة - قالمة - تبسة - العين البيضاء - المرتبات والتلاميذ والبرامج ............................................................... 157 الفصل الثاني: -التعليم في الزوايا والمدارس الحرة ........................................ 167 التعليم في الزوايا ....................................................................... 170 1 - زوايا زواوة: شلاطة (آقبو) - ثيزي راشد - ابن إدريس - اليلولي

_ ابن أيي داود - السحنونية - زوايا القرآن وزوايا الفقه 2 - زوايا الجنوب ................................................................ 213 زاوية طولقة - زاوية الخنقة - زاوية الهامل ... الزاوية التجانية .................................................................... 223 زاوية قصر البخاري ............................................................... 227 3 - زوايا أخرى .................................................................. 234 المدارس الحرة .................................................................... 238 معهد بني يزقن وشيخه أطفيش .................................................... 264 الفصل الثالث: التعليم الفرنسي والمزدوج ........................................... 277 مدخل ............................................................................ 279 آراء حول تعليم الجزائريين ........................................................ 281 التعليم الفرنسي ................................................................... 290 حلقات اللغة العربية .............................................................. 311 مدخل إلى التعليم المزدوج ........................................................ 321 المدرسة الابتدائية المزدوجة ...................................................... 327 المدارس الشرعية الثلاث ......................................................... 367 المعاهد (الكوليجات) العربية/ الفرنسية ............................................ 402 مدرسة ترشيح المعلمين (النورمال) ................................................ 413 البرنامج والميزانية ................................................................ 422 التعليم المهني .................................................................... 435 حول تعليم المرأة والفنون التقليدية ................................................. 440

دار الغرب الإسلامي بيروت - لبنان لصاحبها: الجيب اللمسي شارع الصوراتي (المعماري) - الحمراء، بناية الأسود تلفون: 350331 - 009611: Tel / خلوي: 638535 - 009613: Cellulair فاكس: 742587 - 009611: Fax / ص. ب. 5787 - 113 يروت، لبنان DAR AL - GHARB AL - ISLAMI B.P.: 113 - 5787 Beyrouth, LIBAN الرقم: 337/ 2000/ 11/ 1998 التنضيد: كومبيوتايب - بيروت الطباعة: دار صادر، ص. ب , 10 - بيروت

HISTOIRE CULTURELLE DE L'ALGERIE PAR Professeur Aboul Kacem Saadallah Université d'Alger Tome 3 1954 - 1830 DAR AL - GHARB AL - ISLAMI

الجزء الرابع

الدكتور أبو القاسم سعد الله تاريخ الجزائر الثقافي الجزء الرابع (1830 - 1954) دار الغرب الاسلامي

1998 دار الغرب الإسلامي الطبعة الأولى دار الغرب الإسلامى ص، ب، 5787 - 131 بيروت جميع الحقوق محفرظة، لا يسمح بإعادة إصدار الكتاب أو تخزينه في نطاق إستعادة المعلومات أو نقله بأي شكل كان أو بواسطة وسائل إلكترونة أو كهروستأتية، أو أشرطة ممغنطة، أو وسائل ميكانيكية، أو الاستنساخ الفوتوغرافي، أو التسجيل وغيره دون إذن خطي من الناشر،

تاريخ الجزائر الثقافي

الفصل الأول الطرق الصوفية (1)

الفصل الأول الطرق الصوفية (1)

خطة هذا الفصل والذي يليه

بسم الله الرحمن الرحيم خطة هذا الفصل والذي يليه تحتاج إلى توضيح من البداية، فقد كانت الخطة هي أن نكتب فصلا واحدا عن الطرق الصوفية، نتناول فيه أصولها وفروعها، ومبادئها ومصطلحاتها، وكذلك تطورها السياسي والاجتماعي والمعنوي، ثم مواردها وعلاقتها بزبائنها وأتباعها، ولكن الفصل تمطى وكثرت مادته، ومع ذلك تركناه على حاله حتى تضخم. فعزمنا بعد الانتهاء منه، على جعله فصلين (أو قسمين). وفكرنا في كيفية تنظيم وتوزيع مادته من جديد، فبدا لنا أن نخص أحد الفصلين بأصول وفروع الطرق الصوفية، ونترك للفصل الآخر كل ما عدا ذلك: من المصطلحات والتطور السياسي والاجتماعي والموارد والإحصاءات ونحوها، ولكننا لاحظنا أن مادة الفصل الأول (أصول وفروع الطرق الصوفية) ستبقى مع ذلك غزيرة وسيبقى الفصل غير متوازن طولا مع صاحبه، ولذلك عزمنا على ترك المكتوب كما هو في الأصل وتقسيم المادة على فصلين، ينتهي أولهما بالحديث عن الرحمانية، ويبدأ الثاني بالحديث عن التجانية، وبذلك تظل المادة متصلة كما كانت في الخطة الأولى. إن على القارئ الحريص على معرفة الإحصاءات والموارد والمناقشات السياسية حول الطرق الصوفية أن لا يكتفي بالفصل الأول بل عليه أن يقرأ ما هو حريص عليه في الفصل الثاني (أو القسم الثاني) أيضا، والحق أن عالم الصوفية عالم غريب على من لم يدخل بيت أسراره. وليس كل باحث يستطيع أن يفهم أو يتعمق في حياة أهله ويحكم عليهم بنزاهة ووضوح، وقد ألفت كتب كثيرة في الموضوع، من المسلمين والمسيحيين والهنود وغيرهم، وتناوله بالخصوص المستشرقون خلال القرنين

مصطلحات وتعاريف

الماضيين أيضا بشيء من التحليل الجديد، فأرخوا له ودرسوا حياة المتصوفة، ووقفوا من ذلك موقف المتفلسفين أحيانا والحائرين أحيانا أخرى، ونحن لا نزعم أننا سنأتي بدعا في تناولنا للطرق الصوفية، كما أننا لا نزعم أننا سنعالجها في عمومياتها، وفي مختلف مناطقها وعلاقاتها، ذلك أن خطتنا هي دراسة الطرق الصوفية في الجزائر منذ حوالي قرن ونصف، ودراسة تفاعلها مع الأحداث وتطوراتها مع الزمن المتغير، وقد كنا درسنا أصول التصوف وبعض الطرق في الجزء الأول من هذا الكتاب (¬1). مصطلحات وتعاريف وقبل أن نتناول تطور الطرق الصوفية وتفاعلاتها، نود أن نتعرض في البداية لبعض المصطلحات والتعريفات والمسائل المشتركة بينها، إن هناك عدة تعريفات للتصوف في الماضي والحاضر، وسنكتفي بتعريف ابن خلدون، إذ قال عن أصل طريقة القوم (التصوف): (وأصلها العكوف على العبادة والانقطاع إلى الله تعالى، والإعراض عن زخرف الدنيا وزينتها، والزهد فيها مما يقبل عليه الجمهور من لذة ومال وجاه، والانفراد عن الخلق في الخلوة للعبادة) (¬2). وكان ذلك معروفا في الصحابة والسلف، حسب رأيه، ولما أقبل الناس على الترف في الدنيا، اختص الذين تمسكوا بالعبادة باسم الصوفية، فالتصوف عند ابن خلدون، إذن، عبادة ومجاهدة للنفس ومحاولة لإدراك الحقيقة. وقد قال في مكان آخر (ص 864) (ولا يزال المريد يترقى من مقام إلى مقام، إلى أن ينتهي إلى التوحيد والمعرفة التي هي النهاية المطلوبة للسعادة). وقد سمى المقام الذي أشار إليه (مقام التوحيد والعرفان). أي أن غاية المتصوف هو التوحيد والمعرفة، وفي مكان آخر ذكر ابن خلدون أن ¬

_ (¬1) الجزء الأول من تاريخ الجزائر الثقافي، ط، 2، 1985. (¬2) عبد الرحمن بن خلدون (تاريخ العلامة ابن خلدون) المجلد الأول، ط، 2 بيروت، 1961، ص 683،

أصل التصوف (ويسميه الطريقة أو طريقة القوم) هو محاسبة النفس على الأفعال والتروك، ص 865. أما رجال الطرق أنفسهم فيختلفون حول تعريف التصوف حسب الوسائل التي يستعملونها للوصول إلى هدفهم، إن البعض يراه في الممارسات والوسائل التي توصل إلى الحقيقة، وهي ممارسة التطهر والتقشف والقيام بالواجبات الشرعية على أتم وجه والتحلي بالأخلاق والفضائل وتجنب كل الشبه والمزالق، بينما يراه آخرون منهم في الوصول إلى الإلهام والكشف والرؤى والسرحان في عوالم الأسرار الغامضة، ولكن النتيجة واحدة تقريبا، فهي التسامي والتطهر للوصول إلى الدرجة العليا في القربى إلى الله ونيل رضاه، وفي تعريف الأمير عبد القادر لأحوال المتصوفة وأذواقهم مثال على رأي آخر حديث نسبيا (انظر تناولنا لكتابه (المواقف) في جزء آخر من هذا الكتاب). وقد نفى أحد الباحثين الأجانب أن يكون التصوف إسلاميا أو مسيحيا أو هنديا، فهو في نظرة لا هذا ولا ذاك، إنه ليس فلسفة قائمة بذاتها، وليس فرقة دينية معروفة ومحددة بمذهب معين، بل إن التصوف عنده مجرد نمط من العيش في حالة طهر وصفاء كاملين، كما نفى هذا الباحث أن يكون التصوف عقيدة أو قاعدة ثابتة، أو تفكيرا عقليا معللا، ذلك أن التصوف الحقيقي لا يظهر إلا في الشعور والإلهام والانطباع وغيرها من المعطيات الغامضة (¬1). وهذا أحد المتصوفين في القرن الماضي، وهو الشيخ محمد الموسوم (الميسوم). قد عرف التصوف بأنه القيام بالواجبات الشرعية من صلاة وصوم وحج، ومعرفة الله وشكره وحمده والتضرع إليه في كل وقت، وهو ترديد الشهادة (لا إله إلا الله) كلما أمكن ذلك، ومن واجبات المتصوف عنده الابتعاد عن مغريات الحياة الدنيا التي يعيش فيها، وأن يضع نصب عينيه دائما ¬

_ (¬1) لويس رين، مرابطون وإخوان، ص 68،

الحياة الأخرى ويستعد لها، كما عليه أن يتخلى عن الحسد والفخر بالنفس، وأن لا يكلف نفسه ما لا طاقة له به وأن لا يلقي بنفسه إلى الهلاك، ويعمل الصوفي جهده للبحث عن مكان (خلوة) يمارس فيه عبادته ونشاطه الروحي بإتقان وخشوع وسط جو من الحرية والإرادة، أما من لا يفعل ذلك فهو ليس من المتصوفة في شيء بل هو مزيف في نظر الشيخ الموسوم (¬1). ويمكن الحكم على رأي الشيخ الموسوم بأنه رأي معتدل بالنظر إلى ممارسات البعض من أدعياء التصوف، فمنهم من كان يبالغ في الممارسات الظاهرة كالرقص والتواجد والتضارب، ومنهم من كان يبالغ في الانقطاع والانعزال والتضحية ليس بنفسه فقط ولكن بأخذ غيره من الأتباع بذلك، ومنهم من كان يبالغ في أرقام الأدعية والأوقات، كما سنرى، حتى تصبح الحياة كأنها ما خلقت إلا لكي يقضيها في طقوس يحددها الشيخ للأتباع، ولعل هذا الفريق هو أقرب إلى الدراويش منه إلى المتصوفة، وربما هو أقرب في ذلك إلى المشعوذين، حقا أن هناك أيضا مرابطين يمارسون التعاليم الدينية ويتطهرون ويتقشفون ويفعلون الخير طمعا في حياة أخرى مثالية، وأملا في أن يكونوا أولياء الله، صالحين في نظر الناس بعد موتهم، ولكن هؤلاء رجال صالحون وليسوا متصوفة، كما أنهم ليسوا من رجال الطرق الصوفية المعروفة. وإضافة إلى المتصوف والدرويش والمرابط والشيخ هناك الشريف، وهذا هو الذي ينتسب إلى الرسول (صلى الله عليه وسلم) عن طريق ابنته فاطمة، ويسمي البعض هؤلاء بأنهم أشراف الأصل، وقد ظهر الأشراف في القرن الماضي ظهورا سياسيا وغير سياسي، وكان بعضهم وراء الثورات، ولكن أيضا كانوا يعلمون الناس الطقوس والممارسات القريبة من التصوف، ويظهرون لهم الكرامات وخوارق العادات، قبل أن يطلبوا منهم القيام بأي عمل آخر، وسنرى أن الجهاد كان أحد وسائلهم، ولكن بعض الأشراف كانوا مسالمين ¬

_ (¬1) روى ذلك عنه لويس رين، نفس المصدر، ص 69 - 70،

مكتفين بحفظ شجرة النسب الشريف، وكانوا أقرب إلى الفقر منهم إلى الغنى، ما عدا أولئك الذين توظفوا أو هاجروا من البلاد، وقد أطلق بعض الباحثين اسم (الأشراف المزيفون) على الذين قاموا بالثورات ضد الفرنسيين، كما سنرى. ولنعرف الآن كل فريق تعريفا قصيرا بقدر الإمكان: فشيخ الطريقة (ويسمى أيضا خليفة الورد، ومولى الطريقة) هو حامل البركة التي عرفها بعضهم بأنها الكثرة والعندية والقناعة المعنوية، وهو الذي يرث إمام الطريقة أو المؤسس، وقد يكون الشيخ وليا صالحا أو عالما شهيرا كالشيخ عبد الرحمن الثعالبي في الجزائر وأبي مدين في تلمسان، وذهب بعضهم إلى أن الشيخ قد يكون من الجن، سواء كان له اسم أو لا، وقد يكون شخصية مجهولة إلى حد كبير، ولكن الشيخ المتعارف عليه في الأزمنة المتأخرة عند أهل الطرق الصوفية، هو الذي يعطي البركة لغيره، وهو الذي يعين خليفته ومقدميه ويمنح الإجازات، وتكون إقامة الشيخ عادة عند قبر مؤسس الطريقة أو في الزاوية الرئيسية، ويعتبر (الشيخ) هو ظل الله في الأرض والنائب عنه في نظر البعض، وعلى (الإخوان) (الأتباع) الطاعة، لأن الله يحكم بطريق الشيخ. وتظهر العقيدة في الشيخ في أشكال مختلفة، في القباب والأضرحة والخلوات والزوايا والأحجار التي تقام أو تنصب إيمانا به، وتمسكا بتعاليمه حقيقة أو خرافة، وستظهر لنا في الممارسات عند الحديث عن بعض الطرق وشيوخها، كما تظهر العقيدة في الشيخ في شكل الخرق المحفوظة والمعلقة وفي الشموع والمصابيح، والأعلام والأشجار، وحول الكهوف ومنابع المياه، ويقوم المعتقدون في الشيخ بأعمال وممارسات تعبر عن تعلقهم به، وذلك بالتبخير، والصلوات والأدعية، والزغاريد، والقرابين، والقيام بألعاب وحركات معينة، وإلقاء الخطب، والالتجاء إليه، والتداوي عنده، وبعض هذه الأعمال تكون فردية أو جماعية، ومن الأعمال الجماعية تلك الاحتفالات الموسمية الكبيرة التي لها دور اجتماعي كالتضامن والتقارب

والتغافر والاشتراك في التراث والعادات والتقاليد، وإنشاد الأناشيد والأغاني الدينية، وإطعام الفقراء، والتلاقي بعد افتراق طويل (¬1). ولهذه المواسم أسماء عديدة، حسب الطريقة الصوفية وشيخها، مثل الحضرة، والزردة، والوعدة. والشيخ هو الذي يعطي الإجازة، وهي على أنواع، منها الإجازة المفصلة المسلمة للخليفة (أو النائب عند بعض الطرق). وقد تكون بالمراسلة، والإجازة هي شهادة ووصية أيضا، فالشيخ يكتب ويوصي ويشهد بأن خليفته هو فلان، وأنه قد منحه بركته وأورثه إياها، وأن هذا الخليفة هو محل ثقته وهو مكلف من قبله بإعطاء الإجازة لغيره وكذلك إعطاء الأوراد وإدخال المريدين في الطريقة، وعليه أن ينشر الطريقة وأن يحافظ على سمعتها ومبادئها وأموالها، والخليفة عادة يكون من أقرب الناس إلى الشيخ كابنه أو صاحبه أو تلميذه، وتحمل الإجازة العبارات الدينية والسلسلة الصوفية وكيفية إدخال الناس في الطريقة، أما الإجازات للمقدمين فتكون عادة مختصرة وتقتصر على خلاصة تعاليم الطريقة كما تلقاها الشيخ، وقد يكتب الشيخ مجرد رسائل للتزكية والتوصية (¬2). وتختلف طريقة إدخال الراغبين في الطريقة من واحدة إلى أخرى، فمنهم من يأخذ يدي المريد بين يديه، ومنهم من يأخذ يدا واحدة منه بين يديه، ثم تكون القراءة بعده لعبارات محفوظة (سنعرفها) ثم الذكر، وإذا كانت امرأة فإن الشيخ أو خليفته يطلب من السيدة وضع يدها في إناء من الماء، ومنهم من يجعلها تمسك فقط طرف السبحة، وهناك من يكتفي فقط بطلب ترديد الفاتحة والذكر خلفه، ومهما كان الأمر فإن على المريد الطاعة المطلقة (كالميت بين يدي غاسله) حسب العبارة المستعملة، وجرت العادة أن يكون للشيخ أو الخليفة زاوية يشرف عليها، ومعه هيئة كاملة من الشواش والخدم والطلبة الخ (¬3). ¬

_ (¬1) انظر بير منغان، مدخل إلى الجزائر، Initiation 1957، ص 258. (¬2) عن الإجازات انظر العلوم الدينية. (¬3) أوكتاف ديبون واكسافييه كوبولاني (الطرق الدينية الإسلامية). الجزائر، 1897، =

وقد تداخلت في الأعوام الأخيرة لفظة المرابط، فأصبحت تطلق بعمومها حتى على الدراويش والشيوخ ورجال التصوف والشعوذة، وهذا الاستعمال أقرب إلى الاستعمالات السياسية منه إلى التاريخ، فكلما نقم البعض على أهل الدين أو لاحظوا بعض التخلف في التفكير قيل لفلان هذا إنه (مرابط). يعني أنه رجل دين متخلف أو خرافي، والواقع أن لفظ المرابط له معنى تاريخي وسياسي بعيد، فهو يعني المجاهد (¬1). لأنه أصلا جاء من كلمة (رباط). والرباطات قامت أساسا في الثغور وأماكن الخطر التي يهجم منها الأعداء، وهكذا كانت الرباطات قلاعا وحصونا لمنع الخطر الأجنبي، وكان المرابطون هم المجاهدين الذين يحمون الثغور ويتصدون للأعداء، وبعد تولي العثمانيين الدفاع على الثغور انحصر نشاط المرابطين في أعمال البر والتعليم وإصلاح ذات البين وتأمين الطرق، وقد بنوا لأنفسهم أو بنى لهم الناس زوايا، بدل الرباطات، أو تحولت الرباطات إلى زوايا ومعاهد. إن المرابط الذي يعنينا الآن هو أيضا من رجال الدين، ولكنه ليس بالضرورة من أهل الطرق والصوفية أو له طريقة صوفية، وسنرى أنه بالنسبة لموضوعنا فإن المرابط كان خلال فترة طويلة، مستقلا عن رجال الدين الرسميين (الفقهاء والقضاة) وعن رجال الطرق الصوفية (¬2). فكان ملاحظا عن بعد مستقلا في إدارة شؤونه وتفكيره، ولكن بعد توسع الاحتلال وإخضاع كل البلاد ونظمها وقادتها، ضعف استقلال المرابط ووظفت السلطات الفرنسية نفوذه وعلمه لصالحها بطريقة سنعرض إليها، وقد قال حمدان خوجة المعاصر لبداية الاحتلال: إن المرابطين في جميع أنحاء الجزائر محترمون سواء كانوا أمواتا أو أحياء، لأن مهمتهم هي إطعام الطعام للفقراء والغرباء، لإطفاء الفتن بين الناس، وتأمين الطرق للسابلة (¬3). ورغم أنه لم يذكر التعليم ¬

_ = ص 193، وهنا وهناك. (¬1) انظر الجزء الأول من تاريخ الجزائر الثقافي. (¬2) انظر فصل السلك الديني والقضائي. (¬3) جمال قنان، نصوص سياسية، الجزائر، 1992، ص 56 نقلا عن خوجة،

فإنه كان أحد مهام المرابطين أيضا، أي تعليم الناس قواعد الدين وقواعد اللغة، ومبادئ العلوم. ونظرا لعلاقة المرابط بالجهاد قديما ولتأثيره بين الناس حديثا اهتم به الفرنسيون اهتماما خاصا، وقد وجد باحثوهم أن النفوذ، في الريف تتقاسمه ثلاث قوى محلية هي المرابطون والأجواد والأشراف، وعرفوا المرابطين، على طريقتهم، بأنهم نبلاء الدين وأن هذا النبل عندهم وراثي، ونظرا لمكانتهم فإن الناس قد أوقفوا على زوايا المرابطين الأوقاف (الأحباس) الكثيرة (¬1). وقد كان لبعضهم زوايا عظيمة، وأملاك كثيرة، وبعضهم كانت له زوايا صغيرة، وكانوا يعيشون في فقر وبؤس، بتقدم الزمان. وبعد خمسين سنة من الاحتلال (1880) وجد أحد الباحثين أن عدد عائلات المرابطين في الجزائر لا يتجاوز 115 (مائة وخمس عشرة عائلة). منها 20 في إقليم وهران، و 55 في إقليم الجزائر، 40 في إقليم قسنطينة، (دون ذكر الجنوب لأنه كان غير محتل بعد في عدد من أجزائه). ولاحظ هذا الباحث أن لهؤلاء المرابطين نفوذا عظيما يفوق أحيانا نفوذ الأجواد أو الرؤساء الذين يمارسون السلطة الزمنية كموظفين عند فرنسا، ولكن المرابطين لم يكونوا متساوين في السلطة أو في الوضع الاجتماعي أو في الثقافة، فمنهم، كما سبق، من كان صاحب زاوية غنية ورثها عن آبائه وأجداده، وورث معها سمعة دينية يعيش عليها، سمعة كانت لأحد أجداده سواء كان شريفا بالنسب أو جاءته سمعته من التدين والعلم والورع، بينما كان بعضهم مرابطين صغارا لهم زوايا فقيرة، وسمعة محدودة، ويعيشون على الصدقات إلى جانب ضريح قديم فيه رائحة القداسة لأحد الأجداد (¬2). وهناك ميزات لهذه الفئة من المرابطين يجهلها عامة الناس، فقد عرفنا ¬

_ (¬1) ألبير ديفوكس، (المؤسسات الدينية في مدينة الجزائر). الجزائر، 1878، - المقدمة -، عن الأجواد والأشراف انظر لاحقا، وكذلك بعض الفصول الأخرى. (¬2) رين، مرجع سابق، ص 14، وما بعدها،

أن الأصول ترجع إلى الجهاد والسمعة والتدين، ولذلك فإن (المرابطية) هنا تأتي عن طريق الميلاد وليست وراثية، ولا يمكن للشخص أن يكون مرابطا أثناء حياته، لأن المرابطية ليست صفة مكتسبة، وهناك أعراش كاملة تتصف بصفة المرابطية مثل عرش الشرفة وعرش أولاد سيدي الشيخ، ويلاحظ أنه ليس للمرابطين من الأتباع والأخوان ما للطرق الصوفية، وإنما لهم تلاميذ تخرجوا على أيديهم، وقد يكون لهم أنصار يساندونهم أو أناس يخدمونهم دينيا، وللمرابط حق الزيارات التي يعرف كيف يأتي بها إذا تأخرت، رغم أنها في ظاهر الأمر اختيارية، وهي تخضع لثروة الزائرين وطاقتهم، وقد عرفنا أن للمرابط زاوية، وتكون سكناه عادة قرب هذه الزاوية أو في مكان قريب من ضريح أو قبة جده حيث يلتمس الناس التطهر الروحي، وهناك تقام الحفلات الموسمية كالوعدة ونحوها، وكلما ازدادت المكانة الاجتماعية للمرابط ازدادت تأثيراته وامتدت سمعته، رغم أن تقديس الناس لذكرى المرابط الأصلي واستمرارهم على ذلك قد تكون هي السبب في انتشار السمعة وازدياد النفوذ (¬1). وبذلك يؤلف المرابطون فئة مستقلة ذات نفوذ على الناس، وهم دعاة مهرة وغير منتمين إلى الطرق الصوفية، كما ذكرنا، وبهذه الصفة حاول الفرنسيون في وقت لاحق (بعد الثمانينات) أن يؤثروا فيهم وأن يجلبوهم إلى خدمتهم، وهذه نقطة سنعالجها عند الحديث عن العلاقات السياسية بين المرابطين والفرنسيين. وهناك مجموعة أخرى من الدراويش والحمقى والمرضى عقليا .. ومجموعة أخرى من زعماء الطرق الصوفية الذين تسميهم العامة جميعا (مرابطين). فحديثنا السابق إذن هو عن الصنف الأول، وليس على هذين الصنفين، (الدراويش وبعض زعماء الطرق). تتفق الطرق الصوفية في كثير من التقاليد والممارسات، ومن ذلك حفظ ¬

_ (¬1) نفس المصدر، ص 17،

السلسلة، أو السند، فلكل طريقة سندها الذي يرجع بها إلى الرسول (صلى الله عليه وسلم). إما عن طريق السيدة فاطمة، وبذلك يكون صاحب الطريقة (الشيخ) شريفا أو منتسبا للشرف، وإما عن طريق آخر، مثل طريق أبي بكر الصديق (ض) وعمر بن الخطاب (ض). والإمام علي (ض). ومن الطرق التي تنتسب إلى الشرف الطيبية والتجانية والعيساوية والزيانية والقادرية والسنوسية، والسند يذهب من الرسول (صلى الله عليه وسلم) إلى جبريل ثم إلى الله سبحانه، وكل الطرق تقول إنها تملك السلسلة (السند) الذهبية التي تربطها بالمؤسس الأول، مرورا بالأولياء والصالحين ورجال الطرق الأخرى الذين نقلوا إليها الحقيقة، غير أن بعض الطرق تخرج عن هذا التقليد وتدعي الكشف المباشر، أي التلقي من الله دون واسطة، ومعنى ذلك أن صاحب هذه الطريقة أو مؤسسها يزعم أنه قد فتح الله عليه الغطاء وأزال عنه الحجاب فرأى ما لا يراه الآخرون، وأن الله قد خصه بعنايته دون غيره، وأطلعه على أسراره وعوالمه الخفية، وإذا كان أصحاب الطريقة يؤكدون ذلك على أنه كرامة لصاحبهم فإن من كان خارج الطريقة لا يكاد يصدق ما يدعون، وهناك من قال إنه كان يملك الاثنين: السلسلة والكشف المباشر، ومن ثمة تزداد شعبية المكشوف له بين العامة، وتتميز الطرق الرحمانية والتجانية والعيساوية والخضرية، بالسلسلة والكشف (¬1). وعقيدة الاتصال المباشر تكون بأحد طريقين: إما الرؤى مناما أو يقظة، وإما بواسطة الخضر، وإذا كانت المرائي كثيرة في أخبار المتصوفين، وفيها مؤلفات ومدونات بأقلامهم، فإن الخضر يعد عند البعض، من الأنبياء الذين شربوا من منبع الحياة واستثني من الموت، وله شخصية متعددة الجوانب، ويعيش في عمق البحر، وهو الواسطة العادية بين الله والإنسان الصوفي، فهو الذي يكشف للصوفي حجاب المستقبل أو الغيب، ويمنحه البركة والقدرة على التصوف والإتيان بالكرامات وخوارق ¬

_ (¬1) نفس المصدر، ص 59، والواقع أن معظم فروع الرحمانية المعروفة لا تدعى الكشف المباشر، وهي تعتمد فقط على السند،

العادات (¬1). ويذهب الباحث (رين) إلى أن المسلمين يقرون بعقيدة الاتصال المباشر، سواء عن طريق الرؤيا أو عن طريق الخضر. وجميع الطرق تتفق أيضا في الحرص على تنفيذ الوصايا الخمس التي لا تتناقض في جوهرها مع الكتاب والسنة، وهذه الوصايا هي: الخوف من الله تعالى، وعدم حب الناس أو كرههم إلا لله وفي الله، والرضى بما حكم وقدر الله للإنسان، وترك كل شيء لله يصرفه لأن كل شيء من عنده خيرا أو شرا، والعمل طبقا للسنة النبوية، والذين يعملون بهذه الوصايا يدخلون في الفرقة الناجية التي توقع الرسول (صلى الله عليه وسلم) أنها ستكون الوحيدة من بين الـ 73 فرقة التي ستنقسم عليها الأمة الإسلامية بعده، وأغلبية الطرق تتمسك بتعاليم القرآن كأساس لها، ولكنها تبالغ في عقيدة شيخها وتعلن أنها تدعو إلى الله وحفظ دينه، وأن هدفها هو هداية الإخوان إلى الطريق المستقيم، طريق الرسول (صلى الله عليه وسلم). الذي هو طريق الله سبحانه. وللطرق مصطلحات شائعة بينها وتكاد تتفق فيها جميعا، وإذا اختلفت ففي بعض التفاصيل، فهي (طريقة) (طريق) موصلة إلى النجاة والسعادة، والطريقة في هذه الحالة ليست سلما للوصول فقط ولكن أيضا مجموعة من الشعارات والممارسات والأذكار التي قد تختلف فيها كل طريقة عن الأخرى في العدد والأزمنة، وتسمى الطريقة أيضا (وردا). والورد هو المنبع وهو الوصول، وهو أيضا الدخول في الطريقة، ويقال ورد أو دخل الطريقة على حد سواء، على أن الداخل في الطريقة يأخذ الورد من الشيخ أو خليفته أو مقدمه، وعلى هذا يصبح الورد هو تعاليم الطريقة وعقيدتها أو مذهبها، وفيه أيضا معنى التقديم والإدخال إلى الطريقة. وهناك مراحل يمر بها المريد، وهي تبدأ من دخول الطريقة إلى مرحلة الجذب، وهي أعلاها، وهذه الظاهرة تكاد تتوفر لدى كل الطرق أيضا، وقد ¬

_ (¬1) نفس المصدر، والمعروف أن (رين) قد استقى معلوماته في معظمها من متصوفة زمانه، انظر لاحقا،

أوصلها بعضهم إلى سبع مراحل، وكلها تقوم على تطهير النفس وتصفية القلب، والمجاهدة وترديد الذكر وإتقان الواجبات، ويمكن في المراحل الأولى لمختلف فئات الإخوان أن يصلوا إلى هذه الرتبة بعد السلوك الصارم في الحياة، حسب تعاليم الطريقة، ثم تأتي بعد ذلك درجات أخرى من الأذواق التي تؤدي إلى مرحلة الجذب: كالجذب العاطفي والجذب القلبي، والجذب النفساني، والجذب الصوفي، وأخيرا جذب التملك، وتتلخص كلها في الوصول إلى ما يسميه ابن خلدون بالمقام، وما يسميه البعض بالحال، أو الحق، ولا يتوصل إلى هذه الدرجة إلا عن طريق التقشف ونكران الذات، والحرمان من الملذات، والقسوة على النفس بالصوم والتهجد والتيقظ القلبي ومراقبة الله في السر والعلانية. وهذه مصطلحات الدخول إلى الطريقة التي هي أيضا مصطلحات شائعة بينها، ولا تكاد تختص بها واحدة دون الأخرى، فـ (التلميذ) هو الحاضر بالذات الذي جاء يبتغي الدخول في الطريقة، و (المريد) هو الذي أصبح داخلا في الطريقة ولكنه ما يزال في بداية الطريق إلى الله، فهو الراغب في الله الساعي إلى حرمه الآمن، وإذا تقدم المريد في ممارسات الطريقة وتعاليمها يصبح (فقيرا) بالمعنى الصوفي للكلمة، والفقير هنا هو الذي اختاره الله لحبه وجنابه، ولكنه إذا ازداد قربا من الله ووصل إلى حد المكاشفات التي لا يعرفها كل الناس، فإنه يصبح (سالكا). وقد فسروا ذلك بأنه هو الماشي في طريق الله، أي الذي وجد الطريق الحق وأخذ يسير فيه، فهو مهتد لأنه قد هدي إلى الصراط المستقيم، أما الأكثر قربا إلى الله في هذا السلم فهو (المجذوب). والمجذوب هو الذي يرى الرؤى غير الطبيعية، حين يفقد الإنسان التوازن بين الروح والمادة وتشعر النفس بالانجذاب إلى الله أكثر من انجذابها إلى متاع الدنيا، وهي حالة يترجمها البعض بالجنون، فالمجذوب الصوفي هنا هو المجنون أو الدرويش عند العامة، إنه شخص من الناس جسميا ولكنه ليس منهم روحيا. ويذهب بعض الباحثين إلى أن هناك علاقة بين ما يمكن أن يترقى إليه

الإنسان في عالم التصوف هذا وبين التأثيرات الأخرى من المذاهب والعقائد، إذ إن الدرجة التي تأتي بعد الجذب هي أن يصير عندهم (محمديا). أي أن روح محمد (صلى الله عليه وسلم) قد حلت فيه وأصبح خارج الحياة المادية، ومن ثمة أصبح لا ضرورة عنده لممارسة الواجبات الدينية لأنه مغفور له مثل المحمدين الآخرين، إذ لا يستطيعون فعل أكثر مما فعلوا، وأما الحالة الأخيرة فهي حالة (التوحيدي) أو حالة (المعرفي). أي الذي أصبح يتنعم بروح الله مندمجا فيها، وهي الحالة التي أشار إليها ابن خلدون بقوله: (مقام التوحيد والعرفان) أو (التوحيد والمعرفة) (¬1). وفي هذه الحالة يفقد الإنسان فرديته ويقع الحلول والاندماج، وهو ما يطلق عليه (النيرفانة) الهندية (¬2). وكثير من الطرق الصوفية تقبل في صفوفها النساء والرجال، وهذه الطرق الرحمانية والقادرية والتجانية وغيرها، تقبل النساء كأخوات (خونيات). وحتى مقدمات، وفيهن من تميزن بذكاء حاد وقدرة على التنظيم والزعامة ونشر الطريقة، والشيخ هو الذي يعطيهن الورد أمام العموم، كما سبق، وهن يحضرن الاجتماعات مع الرجال، لكن متجنبات، وقد لعبت بعض النسوة أدوارا هامة سياسية أو غيرها داخل الطريقة الصوفية، ويسري عليهن ما يسري على الرجال في وجوب الطاعة الكاملة وممارسة الطقوس، وحفظ أسرار الطريقة والتضامن، وهذا التضامن يظهر في الصلاة الجامعة، والطاعة، والتشارك في المصالح العامة حتى تصبح أخوتهم كأخوة الدم، وما يقدمونه ليس للشيخ وحده ولكن للجميع. ورأى البعض أن دخول النساء للطرق الصوفية يعتبر من علامات الحرية والديموقراطية عند المجتمع الصوفي، فهو مجتمع (أخوي) يعمل بالمساواة بين مخلتف أفراده رجالا ونساء. وقد فصل البعض أصناف المريدين إلى ثلاثة، وهي: المريد خيار ¬

_ (¬1) ابن خلدون، مرجع سابق. (¬2) رين، مرجع سابق، ص 62 - 68،

الخلوة، والمريد الخيار، ومريد العامة، كما فصلوا أنواع الممارسات على النحو التالي: العزلة عن الناس، والاختلاء، والسهر في العبادة، والصيام، وحضور الحضرة والزردة وغيرهما من التجمعات، ثم أداء الزيارة (الصدقات والعطايا) وتقديم الهدية للشيخ أو خليفة زاويته أو مقدمه وممارسة الذكر على النحو المخصوص عليه في كل طريقة (¬1). (والزيارة) ظاهرة أخرى مشتركة بين مختلف الطرق، وأيضا لدى المرابطين، وهي تعني التوجه إلى شخص مقدس أو مكان معظم دينيا، وقد تكون الزيارة لأضرحة، وهي عادة مرفوقة بالعطاءات، من دراهم وغيرها، وقد ارتبطت الزيارة بالدراهم حتى أصبحت هذه لا تذكر صراحة، والزيارة (الترحم) بالنسبة للطرق تصبح واجبا على الإخوان، إنها في الواقع نوع من الضريبة تدفع للمقدم علامة على الإخلاص والطاعة، كما يدفع المواطن الضريبة للدولة علامة لخضوعه لقوانينها وأداء لواجباته المدنية والسياسية، فالزيارة عند الطرق واجبة ومحددة، والمقدم يرسل الشاوش إلى من تخلف في الدفع، والإخوان يدفعون ما عليهم عن طيب خاطر، وأما الزيارات للمرابطين فقد تتخلف أحيانا ولكن المرابط القوي يعرف كيف يطلبها ويحصل عليها، وهي تدفع له من أجل سمعته وأعماله التي يقوم بها، وهي واجبات تطوعية، خلافا لإخوان الطرق الصوفية (¬2). وقد أصبحت هذه (الزيارات) هي المفتاح الذي تتحكم فيه السلطات الفرنسية في الطرق الصوفية وفي المرابطين معا، فمن شاءت وفرت له الزيارات وسمحت له بها فاستغنى وتنفذ وسكت، ومن شاءت منعتها عنه فافتقر وغلب على أمره ولجأ إلى حيل أخرى أو اختفى. ¬

_ (¬1) نفس المصدر، ص 93. (¬2) وصف مالك ابن نبي خداع ومكر وشيطنة (في نظره) رجال الطرق الصوفية في الحصول على المال من العامة خلال العشرينات من هذا القرن، وهم يعرفون كيف يبتزون المال بالظهور في شكل مواكب ذات أعلام ملونة وإظهار الكرامات، انظر (مذكرات) ط، دمشق، ص 181، 185،

ومن بين الواجبات على الإخوان أيضا دفع الهدية لخزينة الطريقة، والهدية على هذا النحو تفرض على الإخوان الذين أخلوا بواجباتهم التي ينص عليها النظام الداخلي أو لم يمارسوا الشعائر المطلوبة منهم، فهي في الواقع نوع من الغرامة أو العقوبة، وهناك هدايا يدفعها حتى بعض الرؤساء الزمنيين (الحكام) إتقاء للعنة الشيخ أو المقدم، تلك اللعنة التي قد تحصل بالاغتيال أو حرق الممتلكات أو التسمم أو نحو ذلك من الجوائح، ويقول السيد (رين) إن الرؤساء الذين يدفعون الهدايا هم الذين لم ينضموا للثورة التي دعت إليها الطريقة، فإذا صح هذا، فإن الشواهد عليه كثيرة في تاريخ الثورات وحتى في زمن السلم، وسنعرف أن بعض الرؤساء الزمنيين دفعوا سنة 1901 هدايا ثمينة إلى شيخ الطريقة الرحمانية بخيران (قرب خنشلة) بمناسبة زواج ابنه، كما أن ثورة 1954 - 1962 قد شهدت ربما تصرفات عديدة على ذلك النحو. وإلى جانب الزيارات والهدايا تتلقى بعض الطرق ما يسمى بالغفارة، والغفارة واجب على الإخوان نحو الطريقة يدفعونه في شكل خدمات دينية، كما هو الحال في الطريقة الشيخية (أولاد سيدي الشيخ). والغفارة هي مجموعة الحيوانات والبضائع والأموال التي تحددها الطريقة وتفرضها على كل قبيلة أو جماعة، وقد عرف الشيخ مبارك الميلي الغفارة بأنها ضرب من النذر، بل اعتبرها من أقبح النذر، وذكر أنها منتشرة في غرب الجزائر ووسطها أكثر من شرقها، والغفارة عنده (وظيفة مالية (لزمة؟) يلتزم بهاء امرؤ بأدائها كل سنة لمن اعتقد فيه جلب منفعة أو دفع مضرة، وينسحب هذا الالتزام على ورثة الملتزم لورثة الملتزم له، وبطول المدة وانتشار النسل تصبح الغفارة ضريبة لقبيلة موصوفة بميزة دينية على أخرى منعوتة بالخدمة والطاعة لتلك، فيقولون هذه القبيلة يغفرها (بالتضعيف) أولاد سيدي فلان) (¬1). أي يأخذون منها الغفارة، وهذا التعريف ينطبق على أولاد سيدي ¬

_ (¬1) مبارك الميلي (رسالة الشرك ومظاهره). ط، 2، 1966، ص 251،

الشيخ أكثر من غيرهم نظرا لمكانتهم في الشرف والقبيلة ثم لقيامهم بأدوار سياسية تارة ضد الفرنسيين وأخرى معهم، وقد ألزموا عددا من القبائل المحتمية بهم (الموالي) بدفع الغفارات المتنوعة، وكان الميلي يعرف ذلك من خلال إقامته الطويلة في الأغواط. وهناك اجتماعات دورية للطريقة، فكل شيخ يجمع إليه المقدمين مرة أو مرتين في السنة، وقد عرفنا أن المقدم مكلف بإعطاء ورد الطريقة بواسطة الإجازة والسلسلة التي حصل عليها من شيخه، والمقدمون مكلفون بجمع الزيارات التي يعطيها الإخوان للطريقة، ثم يسلمونها إلى الشيخ أو خليفته، ويكون الاجتماع مع الشيخ فرصة لمناقشة الأمور العامة والخاصة التي تهم الطريقة وأتباعها وزاويتها، والمقدمون من هذه الناحية كأنهم سفراء شيخهم أو طريقتهم، فهم يقدمون التقارير ويبدون الآراء ويقترحون الحلول، حسب الوضع في البلاد وموقف السلطات، وموقف الطرق الأخرى، وأخبار الداخل والخارج، ولذلك فإن المقدم إذا لم يستطع الحضور بنفسه، عليه أن يكلف غيره بالحضور بدله، بشرط أن يكون هذا الشخص محل ثقة وبموافقة الشيخ على ذلك، ولهذا الاجتماع الكبير اسم معروف وهو (الحضرة). وأثناء الحضرة تدرس أيضا أحوال الميزانية، وتسمية المقدمين الجدد، وتكتب الرسائل إلى الإخوان والأعيان، وحتى إلى السلطات، إذا لزم الأمر. وحين يرجع المقدم إلى مقر نشاطه يجمع بدوره إخوان الطريقة ليطلعهم على ما حصل في اجتماع الحضرة، ويسمى هذا الاجتماع (زردة). والبعض يطلق عليه (جلالة). والمشهور أن الزردة عبارة عن موائد تصف، ويحضرها العامة من إخوان الطريقة، وأن الزردة فرصة لممارسة أنشطة صوفية من رقص وضرب دفوف وإنشاد وضجيج، وهذا هو الوجه الظاهري لها، أما الوجه الآخر فهو أن المقدم يطلع الإخوان على ما جرى بالحضرة، ويقرأ عليهم رسائل الشيخ ويثير حماسهم إلى الطريقة والانتماء إليها، ثم يقوم باستعراضهم الواحد تلو الآخر عندما يأتون لتقبيل رأسه، وهو جالس، ويسلمون إليه ما جاؤوا به من دراهم الزيارة فيضعونها في طبق يكون عادة

موضوعا أمام المقدم، كما يقع في هذا الاجتماع قبول الداخلين الجدد في الطريقة، كل ذلك يتم حسب طقوس خاصة، ثم يحثهم المقدم على التمسك بالإسلام والطاعة للشيخ والطريقة والصوم والعبادة، وقبل التفرق تقرأ الفاتحة جماعيا (¬1). بذلك يتضح أن الزردة عبارة عن مؤتمر خاص بأهل الطريقة، وعبارة (الوعدة) من مصطلحاتهم أيضا، وهي من الوعد بفعل شيء إذا حدث كذا، فهي كالنذر، ولكن في مصطلحات بعض الطرق، الوعدة عبارة عن زيارة لضريح الشيخ، والتضحية عنده بشاة أو بقرة أو عجل أو حتى دجاجة، والوعدة أيضا طريقة تقليدية لزيارة العائلة أو القبيلة تقوم بها شهريا أو سنويا في أمكنة ذات تقديس واحترام، وليست بالضرورة هي ضريح الشيخ، بل قد تكون منزلا معينا أو شجرة أو حتى مغارة، وأحيانا تأخذ الضحية صفة معينة كالماعز الأحمر، وتسمى (نشرة) بضم النون. بعض الشيوخ كان يسمي خليفته قبل وفاته، وبعضهم يترك اختيار الخليفة للمقدمين يختارون من بينهم أفضلهم، تقليدا لفعل الرسول (صلى الله عليه وسلم). وفي بعض الطرق التي يرجع مؤسسوها إلى أصل شريف، يسمى الشيخ خليفته أو وريثه بنفسه، وهو عادة من العائلة نفسها، ويعتبر الخليفة عند التجانية وريثا للطريقة، أما عند القادرية فالخليفة هو المبعوث من بغداد أو الحامل للسلسلة من هناك أو الوصية أو الشجرة، وكذلك فعلت الطريقة الطيبية، ولكن الغالب عندهم هو اجتماع الشيخ في مناسبة محددة بعد الصلوات والخلوة، بكبار المقدمين وموضع سره منهم، للتشاور في الخليفة، فإذا اختار هو ذلك فإنهم غالبا ما يوافقون بالإجماع، كما فعل محمد بن عبد الرحمن الأزهري مع محمد بن عيسى المغربي، وإذا تم الاتفاق تحرر الوثيقة وتبقى محفوظة إلى وفاة الشيخ، عندئذ تعلن باعتبارها وصية مقبولة منه، وتسمى في المصطلح (إجازة). وسنرى أن هذا التقليد قد اختل أحيانا، فافترقت الطريقة الواحدة إلى ¬

_ (¬1) رين، مرجع سابق، ص 86،

عدة طرق فرعية نتيجة عدم الاتفاق على خليفة واحد، وقد حدث ذلك للرحمانية بعد نفي الشيخ الحاج عمر والقضاء على الزاوية الأم في آيت إسماعيل 1857، ثم بعد ثورة 1871 وموت الشيخ الحداد، أما الشيوخ الذين يختارون خلفاءهم أثناء حياتهم فهم بذلك يقلدون أبا بكر الصديق (ض) إذ أوصى بعده بالخلافة إلى عمر بن الخطاب (ض). وجرت العادة أن يكون اختيار الخليفة موفقا، فهم يختارون الأعلم والأكبر سنا والأتقى والأقدر على جذب الناس للطريقة وحفظ الأخوان، وهم يراعون في ذلك مصلحة الطريقة قبل كل شيء، فالمنصب تكليف لا تشريف، وقد حكى أحد الفرنسيين أن القليل فقط من السفارات الأوروبية تملك محررين مهرة في فن الدبلوماسية يضاهون محررات ومراسلات شيوخ الطرق الصوفية، فهم من أرقى الناس ذوقا في فن القول واختيار الألفاظ المناسبة والمعاني الدقيقة والعبارات البروتوكولية المهذبة (¬1). ولكل طريقة ذكر يردده أتباعها بطقوس خاصة، وهم يستندون في ذلك إلى الآية الكريمة: {يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا ..}، والإخوان يذكرون الله فرادى أو جماعات، والعدد يختلف من مرة إلى ألف، وهم يكثرون من ذكر اسم (الله) وحده أو عبارة الشهادة (لا إله إلا الله). أو عبارة الاستغفار (أستغفر الله). أو قراءة آيات من القرآن، أو سورة الإخلاص، ولكن كلما كان اللفظ أو الذكر قصيرا كثر ترديده، ولكل طريقة عبارة تركز عليها في ذكرها، وهي التي تحدد عدد المرات، وأوقات الذكر، وعبارات الأدعية، ثم أن لكل طريقة لباسا مخصوصا، وعمامة وحزاما وهيئة وأعلاما وألوانا، ونحو ذلك من المظاهر التي سنشير إلى بعضها. وقد حاول بعضهم أن يعطي ميزة لكل طريقة بين الأخريات، فوجد أنها فعلا تتميز عن بعضها في التفاصيل أثناء الممارسات الصوفية، فالقادرية تتميز بالإحسان والصدقة، والرحمانية بالعزلة والانفرادية (الخلوة). والعيساوية ¬

_ (¬1) نفس المصدرة وكذلك ديبون وكوبولاني، ص 194 - 195،

بالغموض والتصرف الخشن بما يوحي بعدم أهمية الإحساس البدني عندها، والدرقاوية بتفضيل الفقر والابتعاد عن طلاب السلطة، والطيبية تلح على احترام آل البيت والإخلاص إليهم، والتجانية عرفت بالتسامح والاعتدال، والسنوسية بإعطاء الأولوية للسلطة الدينية والدعوة للجامعة الإسلامية، أما الطريقة البكداشية، وهي لا توجد في الجزائر الآن، وكان لها تأثير ما في العهد العثماني، فقد لاحظ هذا الباحث أنها تتميز بإذلال النفس وإخضاعها وحرمانها من الشهوات (¬1). ولا شك أن هذه الأحكام قد تصدق بالنظر إلى مواقف كل طريقة إزاء السلطة الفرنسية خلال القرن الماضي أو إلى 1884 حين كان هذا الكاتب (رين) يؤلف عمله ويدرس تفاعلات الطرق الصوفية مع السياسة الفرنسية، أما مواقفها إزاء الدين والعامة وإزاء بعضها البعض فسنراها عند الحديث عن كل منها. وإذا كانت هناك درجات في سلم الانتماء إلى الطريقة، مثل الشاوش، والفقير، والصاحب، والخادم، والأخ، ومثل أصحاب الطريقة، وأصحاب الفتوى، وأهل الطريقة، الخ، فإن هناك أيضا درجات في سلم المشيخة، وهي عادة درجات تذكر في السلسلة أو السند، وتبدأ بالغوث وتنتهي بالولي، وهي درجات تصنف كالتالي: الغوث، والقطب (وقطب الأقطاب). والوتد (جمع أوتاد). والأخيار، والأبدال، والنجيب، والنقيب، والولي، وتمتلئ كتب الصوفية، وسلسلاتهم وإجازاتهم بذكر شيوخهم وأساتذتهم الذين يلقبونهم بمثل هذه الألقاب التي لها، كما لاحظ البعض، أصول في الفلسفة، ولكن الجاهلين اليوم لا يربطون بينها وبين أصولها ويأخذها رجال منعزلون، معتمدون فقط على حفظ السلسلة ولا يضيفون جديدا من عندهم، بل يرفضون كل تجديد، معتبرين ذلك بدعة وزندقة (¬2). ولكل طريقة زاوية، والزاوية بالمعنى الصوفي هي خلوة للعبادة، وقد ¬

_ (¬1) رين، مرجع سابق، ص 76. (¬2) يذهب (رين). ص 54 إلى أن هذه الألقاب - القطب، والغوث، الخ، متصلة بالأقنوستوكية والمزدكية، Mazdians، والأفلاطونية الجديدة،

كانت أساسا رباطا للجهاد، كما سبق، وقد كثر استعمال كلمة الزاوية (وهي الخانقاه في المشرق) حتى أسيء استعمالها أحيانا، وهذا أحد الباحثين يقول إن الزاوية لا تخرج عن ثلاثة أنواع: زاوية مطلقة أو منسوبة لمكان ما، بنيت للعلم وأفعال البر والإحسان، ولا تنسب إلى شخص معين (وهذه أحسن أنواع الزوايا). ثم الزاوية المنسوبة إلى شخص ميت تقدسه العامة وتحيي ذكراه، وهو مدفون بالزاوية وتنسب إليه، وفي هذه الحالة تأتي العامة إلى الزاوية زائرة وطالبة للبركة لا للعلم ولا للإحسان، أما النوع الثالث، وهو موضوعنا، وهو الزاوية المنسوبة إلى إحدى الطرق الصوفية، وهي إما زاوية الطريقة الأم وإما فرع لها ولكن تنسب إليها (¬1). وسنرى أن بعض الزوايا كانت منطلقا لإعلان الجهاد، وبذلك كانت تقوم بدور الرباط المعهود. ويفرق بعض الباحثين بين الزوايا القديمة أو زوايا المرابطين، وزوايا الطرق الصوفية، فالنوع الأول مؤسس، في نظره، للطلبة ونشر العلم، أو هو لاستقبال الغرباء والبؤساء والمحرومين الذين يبحثون عن ملجإ، أو هو مكان للزوار الذين يأتون لتقديم الصدقات، والمسافرين المقطوعين، والمشردين، وهذا النوع من الزوايا موجود لدى العائلات المرابطة القديمة، ومن ثمة نرى الصلة بينها وبين الجهاد والعلم وخدمة الفقراء والغرباء، أما النوع الثاني فهو زوايا الطرق الصوفية، والتي قيل عنها إنها غير ذات أهمية خارج المناطق الإقليمية والدار الأم، وقد وجد أن بعضها في الواقع ما هي إلا أكواخ يعطي التعليم بالقرب منها في الهواء الطلق، وهي زوايا للاجتماع الدوري لأصحاب الطريقة (¬2). وقد فرق السيد ديفوكس بين زوايا الأرياف وزوايا المدن، فقال إن الأولى مبنية حول قبر لمرابط غير معروف كثيرا، ويوجد القبر في دوار تقطنه إحدى القبائل، وفي الدوار أحفاد المرابط، وقال إن هذا التجمع يطلق عليه ¬

_ (¬1) محمد علي دبوز (نهضة الجزائر المباركة). 1/ 47. (¬2) رين، مرجع سابق، ص 14،

زاوية، وللزاوية أوقاف كبيرة من أراض وبساتين، تطعم منها الطعام للفقراء والضيوف، وحق الزاوية هو العشر (العشور) من غلة الجيران، وهذا هو نصاب الزكاة، فإذا أرادت القبيلة عدم الدفع فلها ذلك، ومن العادة أن القائم على الزاوية هو حفيد المرابط، ومن احتمى بها فهو آمن ولا يتابع، وتقوم الزاوية بالتعليم، ولا يقوم المرابطون ولا حفداؤهم بالأعمال اليدوية لأنهم متخصصون في التعليم وتربية الأطفال، وهذا النوع من الزوايا منتشر بكثرة في الأرياف، ونلاحظ أن هذه المعلومات لا تتحدث إلا عن زوايا المرابطين وليس عن زوايا الطرق الصوفية، في الفترة التي كتب فيها دوفوكس، وهي منتصف القرن الماضي. أما في المدن فالزاوية عبارة عن بناية كبيرة لإيواء المشردين والطلبة والعلماء الغرباء، وتتوفر فيها الإضاءة والماء، وقد تصبح الزاوية مدرسة عليا إذا تخصص لها أو ألحق بها مدرس شهير لتدريس العلوم العالية، وتحمل الزاوية اسم مؤسسها أو الحي الموجودة فيه، وأحيانا اسم المرابط التابعة له (¬1). وفي التعريف المذكور نلاحظ أن هناك خلطا بين الزاوية عموما وزاوية الطريقة الصوفية. وشبيه بذلك تعريف شيربونو، للزاوية العمومية أيضا، دون زاوية الطرق الصوفية، إذ قال إنها مؤسسة دينية لا نظير لها في الغرب (أوروبا). فهي مقر لعائلة المرابط الذي أسسها، وهي مسجد للصلاة الجامعة، ومدرسة تدرس فيها مختلف العلوم، وهي أيضا ملجأ يهرع إليها الهاربون من العدالة، أو الفارون من العدو، فيجدون فيها الأمن والنجاة (¬2). وهناك من رأى أن الزوايا عبارة عن أماكن للتعليم والضيافة والعبادة، وهذا وارد في كل أنواع الزوايا تقريبا، ولكنه أضاف أن الزوايا عبارة عن مكان يجد فيه المسلمون (الإخوان) الفكرة الدينية المتعصبة، التي من ¬

_ (¬1) دوفوكس، مرجع سابق، المقدمة، تناولنا الزاوية - المدرسة، في فصل التعليم. (¬2) شيربونو، مجلة (روكاي). 1856 - 1857، ص 133، هامش 1،

خصائصها الجهاد الدائم ضد الكفار (الفرنسيين). يضاف إليها فكرة المهزوم الحاقد (الجزائري) على الهازم والسيد (الفرنسي). وفي نظره أن الزوايا لن تتوقف عن النفخ في روح الجهاد أبد (¬1). ورغم هذا الاختلاط في تعريف الزوايا، فإن الطرق الصوفية وحدها اشتهرت بزواياها التي قد ينطبق عليها التعريف السابق تماما، وقد لا ينطبق، ذلك أن بعضها لم يؤسس للتعليم أصلا كما كان الحال في السابق، ولم يكن لها من المال والوقف ما تطعم به الفقراء والغرباء، ومع ذلك ظلت زوايا قائمة في المصطلحات، وكأنها أصبحت مرادفة لاسم الشيخ أو المقدم، كما أن السلطات الفرنسية قد قلصت من دور الطرق الصوفية بمراقبة زوارها وعدم إعطاء الرخص لهم للزيارة، مما شل حركة الزوايا الاجتماعية والتعليمية، كما سنرى. عدد الطرق الصوفية الفاعلة في الجزائر بلغ أكثر من ستة وعشرين (26). منها فقط حوالي أربعة أنشئت في العهد الاستعماري، كالسنوسية والعليوية، والباقي كان موجودا منذ العهد العثماني، ومن هذا العدد ما هو مؤسس في الجزائر كالرحمانية والتجانية، وما هو مؤسس في المغرب كالطيبية والعيسوية والدرقاوية، وما هو مؤسس في المشرق كالقادرية، كما أن الشاذلية بدأت في تونس ولكن تأسست في المشرق، أما الشابية فقد عرفت في تونس، وهناك المدنية التي نشأت في طرابلس، وانتماء أهل الجزائر إلى الطرق الصوفية ليس وليد العهد الفرنسي، كما قد يفهم، فقد لاحظنا في الجزء الأول من هذا الكتاب اهتمام الناس بهذه الطرق ودخولهم فيها، لأسباب ذكرناها، وكان يدخلها العامي والتاجر والمثقف والحاكم، كل لغرض في نفسه، وقد عزا بعضهم المقاومة الشديدة التي وجدها الجيش الفرنسي إلى انتماء الناس إلى هذه الطرق الصوفية التي كانت تحمس للجهاد ¬

_ (¬1) هنري قارو، (الحركة الإسلامية) في مجلة جمعية جغرافية الجزائر وشمال إفريقية (S، G، A، A، N). 1906، ص 175،

وتدعو للمقاومة، حتى قال هذا الباحث: إن كل سكان الجزائر (ويقصد أهل المدينة - العاصمة، ولكن التاريخ الذي سيذكره يجعل كلامه شاملا). كانوا ينتمون إلى الطرق الصوفية، وهم بذلك يشكلون جيشا صلبا متدربا بمهارة، مستعدا دائما، للدفاع عن البلاد ضد الأوروبيين، وهذا ما يفسر، في نظره، صعوبة تغلب الجيش الفرنسي عليهم، إذ بقي مدة ثلاثين سنة (1827 - 1857) في حرب متواصلة معهم، قبل إيقاع الهزيمة بهم (¬1). وهناك كتب عديدة تناولت إحصاءات الطرق الصوفية وأتباعها وزواياها ومقدميها وشيوخها، ومن هؤلاء السيد لويس رين، الخبير في الشؤون الجزائرية مدة طويلة والمؤلف لعدة أعمال حول الجزائر، وقد عمل سنوات مستشارا للحكومة العامة، فقد ذكر فى كتابه (مرابطون وإخوان) المنشور سنة 1884 أنه بينما كان عدد الجزائريين (الأهالي) هو 2، 846، 757، فإن عدد الزوايا فيهم قد بلغ 355 زاوية منتشرة عبر القطر كله، كما هناك 1، 955 مقدما، و 167، 019 من الإخوان أو التابعين المعروفين للفرنسيين، وهم منظمون ومنضبطون تحت إشراف الطرق الصوفية، أما الشيوخ فقد وصل عددهم إلى عشرين شيخا من الكبار، وكلهم تقريبا، حسب رأيه، من الغرباء (أي ليسوا جزائريين؟) الذين يتلقون الإيعازات والتعليمات والإشارات من رؤسائهم البارزين في العالم الإسلامي، سواء في المشرق أو في المغرب الأقصى (¬2). ¬

_ (¬1) أشيل روبير، (الدين الإسلامي) في مجلة (روكاي). 1918، ص 282، لاحظ أن سنة 1827 تمثل ضرب الحصار الفرنسي ضد الجزائر، وسنة 1857 تمثل احتلال زواوة، ولاحظ أيضا أن المؤلف (أشيل روبير) مختص في شؤون الجزائر فهو إداري رئيسي للبلدية المختلطة، ورئيس شرفي، ومراسل وزارة التعليم. (¬2) نقل ذلك شارل طيار (الجزائر في الأدب الفرنسي). 1925، ص 400، إضافة إلى مؤلف رين، ومؤلف ديبون وكوبولاني المذكورين، هناك مؤلفات أخرى فرنسية تنبهت للطرق الصوفية ودورها، من ذلك: 1 - دي نوفو De Neveu (الطرق الصوفية عند مسلمي الجزائر). 1845، أعيد طبعه سنة 1913، وكان دي نوفو من كبار المسؤولين في الشؤون الأهلية، ومن =

ظلت كل طريقة متماسكة فيما بينها، لها شيخ أو خليفة يعترف به بقية المقدمين والأتباع، ومن ثمة كانت كل طريقة لها وزنها وخطرها، سيما إذا كانت شهيرة الشيخ، قوية السمعة، كثيرة المال والأتباع، وهي بهذا الحجم والصفة كانت تخيف كل حاكم، عثمانيا أو فرنسيا، وقد عرفنا أن بعض الطرق كانت تخيف الحكام العثمانيين، وأشرنا إلى الثورة الدرقاوية بقيادة ابن الأحرش وابن الشريف، وثورة التجانية وهجومها على مدينة معسكر وتمردها نواحي عين ماضي وشلالة وبوسمغون، وكان هؤلاء الحكام قد خشوا نفس المغبة من الطريقة القادرية (رغم أنها في الشرق كانت حليفة للعثمانيين عموما) فاعتقلوا شيخها محيي الدين وابنه عبد القادر (الأمير) أثناء توجههما إلى الحج، وهذه الطرق هي التي واجهت الاحتلال الفرنسي، وكان عليها أن تتولى هي الجهاد دفاعا عن الإسلام والأرض والعرض بعد استسلام السلطة المركزية وهزيمة الجيش الرسمي، فكان الحاج سيدي السعدي في متيجة، والحاج محيي الدين ثم ابنه في نواحي وهران ومعسكر، ثم ظهرت أسماء أخرى مثل موسى بن حسن الدرقاوي، ومحمد بن عبد الله (بو معزة) وهو من الطيبية، وكل هؤلاء شيوخ ومقدمون ومبعوثون للطرق الصوفية. وقد بقي الفرنسيون مدة تزيد على خمس عشرة سنة وهم لا يدركون أهمية دور هذه الطرق ولا أسرارها وألغازها إلى أن ألف لهم الضابط دي ¬

_ = المنتمين للحركة السانسيمونية، وقد تزوج من جزائرية مسلمة. 2 - بروسلار Brosselard (الأخوان) 1859. 3 - هانوتو ولوتورنو (بلاد القبائل والعادات القبائلية). باريس، ط، 2 1893. 4 - دوتيه Doutte (المرابطون). 5 - هنري دوفيرييه H، Deveyrier (اكتشاف الصحراء: طوارق الشمال). 1864، كشف عن أهمية الطرق الصوفية بالصحراء ودورها سيما التجانية والسنوسية. 6 - لوشاتلييه (الطرق الإسلامية في الحجاز). وهو من ضباط المكاتب العربية في ورقلة ثم أستاذ بكوليج دي فرنسا بباريس ومؤسس لـ (مجلة العالم الإسلامي). وقد ربط بين بعض الطرق في الحجاز والجزائر، وصدر كتابه المذكور سنة 1887،

نوفو، الكتاب الذي ذكرناه، ولعله استقى معلوماته من زوجته الجزائرية ومن دوره في المكاتب العربية، ومن (أصدقائه) الجزائريين الساذجين، وكان على الفرنسيين أن يتصدوا لهذه الطرق التي اعتبروها عدوهم الذي لا يقهر، فجندوا لها الجيش ولكن بأسلحة أخرى لتشتيت الصفوف وتمزيق الوحدة داخل الطريقة الصوفية الواحدة، والكشف عن أسرارها بجلب ضعاف النفوس إليهم من بعض الطرق، واستعمال العصا والجزرة معا، وشراء الذمم، وتحالف بعض الطرق معهم، وتزويج بعض رجالها من فرنسيات، ونحن نذكر هذه العموميات هنا لأننا سنرى ذلك مفصلا عند الحديث عن كل طريقة وكيف تعاملت هي أو تعامل معها الفرنسيون للوصول إلى ذلك الهدف، وهو القضاء على الثورات من جهة والتحكم في سير وتطوير المجتمع الجزائري من جهة أخرى. ومن الإجراءات الأولى التي اتبعها الفرنسيون هو اللجوء إلى ضعضعة وحدة الطريقة الخطيرة في نظرهم، بجعلها تتفرع إلى فروع، وعدم تبعية فروعها إلى شيخ واحد (قائد واحد، إذا شئت) يصدر التعليمات في الحرب والسلم، وكان ذلك بالخصوص هو مصير الرحمانية بعد 1857 و 1871، كما ذكرنا، وكذلك هو مصير القادرية والدرقاوية، سيما وأن الأولى ترجع بسلساتها الذهبية إلى بغداد والثانية إلى فاس. ولم يأت آخر القرن (سنة 1897) حتى أعلن المختصون الفرنسيون أن الرحمانية قد تمزقت إلى 25 فرعا، لا يعترف أحدها بالآخر، أي كل فرع كان له شيخ مستقل، رغم الأصل الواحد (وهو زاوية آيت إسماعيل التي خربها الفرنسيون سنة 1857) والمبادئ الواحدة، ومن هذه الفروع: 1 - فرع الهامل (بوسعادة) وشيخه محمد بن أبي القاسم. 2 - فرع طولقة، وشيخه علي بن عثمان. 3 - فرع وادي العثمانية، وشيخه ابن الحملاوي. 4 - فرع أقبو، وشيخه محمد بن أبي القاسم البوجليلي،

5 - فرع نفطة (تونس). وشيخه مصطفى بن عزوز البرجي. 6 - فرع وادي سوف، وشيخه سالم بن محمد الأعرج السالمي. 7 - فرع قسنطينة، وشيخه محمد السعيد باش تارزي (وهو الذي يفترض فيه الإشراف على جميع هذه الفروع للإجازة، التي كان يحملها). إضافة إلى فروع أخرى كانت في خنقة سيدي ناجي، وخيران، وأتباع ابن طلحة في السمندو، وأتباع عمارة بوديار بالناظور (¬1). وتفرعت أيضا الطرق الدرقاوية والقادرية والتجانية والشاذلية وغيرهاإلى فروع ضعيفة لا تعترف ببعضها، بل تتنافس مع بعضها بفعل اكتشاف السلطات الفرنسية لنواحي الضعف فيها: فالدرقاوية تفرعت إلى ثمانية فروع أو أكثر، والقادرية إلى ستة فروع على الأقل، وكان للتجانية فرعان في الجزائر وثالث في المغرب، وفرعا الجزائر غير مستقلين تماما عن بعضهما بحكم بقاء المشيخة في فرع واحد فقط دواليك بين عين ماضي وتماسين، ولكن الفرنسيين لاحظوا أن كل رئيس لفرع كان يجمع الأموال لنفسه من الأتباع ولا يبعث بها إلى الفرع الآخر (¬2). وفي تلك الأثناء (1897) كانت زاوية قمار أو فرعها، قد أخذت مبادرات تدل على استقلالها أيضا بقيادة الشيخ محمد العروسي، وكان فرع عين ماضي عندئذ يحاول استعادة مكانته واسترجاع منصب (الشيخ) الذي فقده منذ وفاة محمد الصغير التجاني سنة 1853، وكانت وفاة أحمد التجاني بقمار سنة 1897، قد جاءت أثناء محاولته استعادة اللقب المذكور لنفسه، ولكن السلطات الفرنسية كانت تبذل جهدها لتبقى خلافات الفرعين (تماسين وعين ماضي) مخفية لحاجة الفرنسيين إلى نفوذ الطريقة في الصحراء وفي إفريقية، كما سنرى. كذلك كان للطريقة الشاذلية فروع عديدة في وسط وغرب الجزائر. ¬

_ (¬1) ديبون وكوبولاني، مرجع سابق، ص 247. (¬2) نفس المصدر،

الطرق الصوفية والمقاومة الشعبية

سيما بعد وفاة الشيخ محمد الموسوم (1883). فقد كان فرع قصر البخاري وفرع غريب وفرع أندات وفرع عنابة الذي كان يشرف عليه بلقاسم بوقشبية، تتنافس فيما بينها ولا تعترف بشيخ واحد لها. الطرق الصوفية والمقاومة الشعبية كان طبيعيا أن يتنادى الجزائريون من أجل المقاومة لمواجهة الاحتلال الفرنسي، وقد عقدوا لذلك عدة مؤتمرات تدل على التجاوب الوطني وروح المسؤولية الدينية والسياسية، من ذلك اجتماع البرج البحري 1831، واجتماع متيجة 1832، وبوخرشفة 1833 و 1839، هكذا استمرت الاجتماعات التي كانت عبارة عن مؤتمرات شعبية - وطنية لدراسة مستقبل البلاد والإجراءات اللازمة لمواجهة الخطر الأجنبي، ثم هناك الاجتماعات الإقليمية كالذي عقده الحاج أحمد باي قسنطينة إثر رجوعه من العاصمة بعد سقوطها، وقد أعلن مع كبار رجال دولته على العفو العام وإسقاط الضرائب الإضافية وإجراءات أخرى تساعد على الوحدة والتضامن من أجل القضية المشتركة، ولعل أكبر تجمع وطني ديني على مستوى إسلامي هو مبايعة الحاج عبد القادر بن محيي الدين أميرا للمؤمنين في معسكر سنة 1832، وهي المبايعة التي رجعت بالأذهان إلى طريقة السلف من الخلفاء الراشدين (¬1). وعلى أثر المبايعة أصدر الأمير تعليماته بوجوب الطاعة، وتعهد بإجراء العدل على سنة الله ورسوله، واحترام الشريعة والعمل على طرد العدو، ثم أعلن الجهاد في سبيل الله والوطن، والجهاد قد دعا إليه أيضا الداي حسين وغيره ممن كانوا يعملون على تحرير الجزائر من الاحتلال، ولكن مبايعة الأمير قد نظر إليها عندئذ على أنها صادرة من طريقة صوفية هي القادرية، وإذا كان الحاج أحمد قد استعمل الجهاد أيضا مثل الداي حسين. ¬

_ (¬1) انظر ذلك في (تحفة الزائر) للأمير محمد، ط 10، الإسكندرية، 1903، ص 96، وكذلك شارل هنري تشرشل (حياة الأمير عبد القادر). ترجمة أبو القاسم سعد الله، ط، 2، الجزائر، 1982، ص 69،

فإن ذلك من شأنهما لأنهما من رجال السيف والحكم والحرب، أما أن تصدر الدعوة إلى الجهاد من طريقة صوفية فذلك هو عين التعصب الديني والطموح الشخصي، حسب تعبير المصادر الفرنسية (¬1). والواقع أن الفرنسيين أنفسهم حاولوا استغلال الطرق الصوفية لصالحهم منذ البداية، ففي سنة 1831 وقع اتفاق هو الأول من نوعه بين قائد الجيش الفرنسي الجنرال (بيرتزين) والحاج محيي الدين بن مبارك، مرابط مدينة القليعة، وكان ذلك بنصيحة الناصحين أو المستشارين الذين أشاروا على الجنرال بأن الذي سيهذئ من المقاومة هو إعطاء أحد المرابطين قيادة المناطق المجاورة للعاصمة، فأعطى الجنرال لقب (الآغا) إلى الحاج محيي الدين وكلفه بتهدئة الأوضاع وبمهمة الوساطة بين العرب والفرنسيين، ولكن عهد الجنرال بيرتزين لم يطل وجاء بعده (الدوق دورفيقو) بعقلية الغطرسة والتحكم، وقضى على آمال الواسطة، وعادت المقاومة كأشد ما تكون، وهرب الحاج محيي الدين إلى مليانة حيث سلطة الأمير عبد القادر، وخدم الأمير إلى أن مات حوالي 1834، والذي يهمنا هنا هو أن قيادة المرابطين والطرق الصوفية أخذت تلعب دورا رئيسيا في الأحداث بل الدور الأول، وذلك في الوقت الذي تخاذلت فيه السلطة الزمنية على يد الزعماء العثمانيين من أمثال الداي حسين، والباي حسن بن موسى (وهران) ومصطفى بومزراق (التيطري). وعلى يد رجال المخزن أمثال مصطفى بن إسماعيل في غرب البلاد وفرحات بن سعيد في شرقها، وبعد احتلال قسنطينة (1837) سيظهر أيضا بشكل أجلى تخاذل السلطة الزمنية في أمثال المقرانيين وأولاد ابن قانة، وقيام الطرق الصوفية، سيما الرحمانية التي تحالفت مع الأمير عبد القادر إلى هزيمته 1847، ثم تولت هي (الرحمانية) المقاومة والجهاد بعده، في زواوة ¬

_ (¬1) البحث الذي كتبه مجهول بعنوان (الجهاد أو الحرب المقدسة عند المسلمين) والذي نشر في مصدرين مختلفين وفي زمنين متفاوتين، أحدهما (سجل الإحصاءات - طابلو - لسنة 1839). ص 251 - 258، والثاني في (المجلة الشرقية والجزائرية) سنة 1852، ص 448 - 451، نقلا عن أرشيف وزارة الحربية،

(850 1 - 1857). ثم 1871. لكن الفرنسيين يعرفون أن الطرق الصوفية لم تستسلم وإنما انهزمت أمام القوة، وهم يعرفون أن المواطن قد خاب أمله، في آخر القرن الماضي، في دعاة الجهاد الذين لم يحققوا النصر، رغم ادعاء الكرامات وخوارق العادات، فالأجنبي ظل جاثما على صدر الجزائر، والمرابطون والأشراف انهزموا الواحد بعد الآخر، وأخذ المواطن يبحث عن منقذ آخر، فلا داي ولا باي ولا أمير ولا مرابط ولا جواد (¬1) استطاع أن ينقذ البلاد، إذن فليرتم هذا المواطن في أحضان الصوفية، وليعش في عالم الروح وعالم التخيلات، ومن ثمة نفهم لماذا تعلق المواطنون تعلق الغريق بالطرق الصوفية وشيوخها، واتبعوها مذعنين في ممارساتها ومطالبها، مهما كانت، حتى شاع عنهم التعبير الشهير (ما يأمرني به الشيخ أعمله، ولو أمرني بالإفطار في رمضان لفطرت) متيقنين أن الخلاص سيكون على أيدي الشيوخ المتصوفة، الخلاص الدنيوي من القهر والحرمان والخلاص الروحي بما فيه من جنة ونعيم، ولكن الطرق الصوفية، قد ظهرت على هذا النحو في وقت انسدت فيه أبواب الخلاص، وانقطعت فيه وسائل المقاومة، ووقعت فيه الجزائر فريسة لجيش عرمرم وقوة استيطانية تجذرت وتشابكت مصالحها مع الخارج، وإدارة مباشرة تسمى إدارة المكاتب العربية وقوانين استثنائية جائرة، ومخططات ترمي إلى سلب الجزائري المسلم هويته ودينه عن طريق تغيير الحالة المدنية، ونشر تعليم اندماجي وإفساد مقصود للأخلاق والطبائع، فماذا تفعل الطرق الصوفية؟ لقد تحولت هي أيضا إلى جهاز استغلالي في يد السلطة الفرنسية، بواسطتها تحكم وتتحكم. لقد استطاع الفرنسيون أن يسيطروا على أعيان السياسيين والمحاربين ¬

_ (¬1) الجواد مفرد (الأجواد) وهم رجال الحكم والسيف، ويستعمل أحيانا، سيما في شرق الجزائر لفظ الذوادي (الذواودقة). في مقابل رجل الدين من مرابطين وأشراف وشيوخ طرق، ويحلو للفرنسيين (والأوروبيين عموما) إعطاء لقب نبلاء السيف للفريق الأول ونبلاء الدين والشرف للفريق الثاني،

منذ السنوات الأولى، ففرقوا شملهم كما فعلوا مع ابن العنابي وحمدان خوجة (العاصمة) أو أسكتوهم بالوظائف كما فعلوا مع علي بن عيسى وابن الحملاوي (قسنطينة). أو نفوهم إلى خارج البلاد كما فعلوا مع مصطفى بومزراق والأمير، أو قتلوهم في الميدان مثل محمد بن علال وبوزيان الزعاطشي والشريف بوبغلة، أو غيبوهم في السجون أمثال إبراهيم بن مصطفى باشا والشريف بومعزة وشريف ورقلة، والذين قبلوا التوظف من العائلات الكبيرة زرعوا بينهم العداوة والبغضاء حتى لا يتحدوا ضدهم، وراقبوهم عن كثب حتى لا يتصلوا، وعآقبوا المخالف منهم العقاب الصارم حتى يتعظ به الآخرون، فلم يبق للمواطن أمل في زعيم ولا رجاء في خلاص، غير أن غشاوة اليأس كان يرفعها من وقت لآخر من يسميهم الفرنسيون (الأشراف المزيفين). أولئك الأفراد المجهولون عادة والذين يتخذون صفة (المهدي) أو رجل الساعة، فهؤلاء الأشراف والمهديون هم الذين كانوا يظهرون ليردوا الفار من الزحف، ويرفعوا شعلة الحماس والجهاد، ويعطوا للعامة روح الأمل، كان على الفرنسيين أن يتصدوا لهذه الشخصيات الصاعقة التي تضرب وتختفي، كانت شخصيات شبحية تثير الرعب في العدو بعد أن يظن أنه قضى على آخر المقاومة وخلد إلى الراحة، انتهى إذن دور السياسيين والمحاربين، وانتهى دور الطرق الصوفية المكافحة، ودور المرابطين، وبقي فارسان، أحدهما هؤلاء الأشراف المجهولون، وثانيهما هؤلاء الشيوخ الرابضون في الزوايا يحملون البركة وأسرار الدعوة إلى الجهاد، رغم أنهم في ظاهر الأمر كانوا مستسلمين. بعد الأمير عبد القادر ظهرت شخصيات عديدة مجهولة تقول إنها شريفة الأصل وأخذت تقود انتفاضات جماهيرية خطيرة على العدو، كم من (شريف) عرفته الجزائر خلال القرن الماضي وما يزال تاريخه مجهولا إلى الآن؟ من هو بومعزة؟ من هو بوبغلة؟ من هو بوزيان؟ من هي لاله فاطمة؟ من هو ذلك المداح في كل سوق؟ من هو لابس القشبية؟ ومن هو بوبرمة؟ ومن هو بوعود؟ ومن هو بوسيف؟ ومن هو محمد بن عبد الله؟ فإذا استطعنا

أن نكشف حياة هؤلاء وأمثالهم فإننا نكون قد عرفنا الكثير من تاريخ الجزائر المجهول. إنهم جميعا انتفضوا وفشلوا، لقد كانوا روح الشعب المقاومة التي لا تموت، يظن الفرنسيون أنها انتهت ثم تنتفض ثانية وعاشرة، فإذا هم يسفهون بعضهم البعض، هذا يقول إن المقاومة انتهت ولن تقوم لها قائمة، والآخر يقول إن (روح التعصب) لم تمت أبدا، إننا نعيش على فوهة بركان، والرأي الأخير هو رأى (الكولون) الذين كانوا يحقدون على الجزائريين بقدر ما يحقد الجزائريون عليهم، لأنهم رمز الاستعمار الذي أخذ الأرض واغتصب أموال الأوقاف الدينية، كان الكولون، رغم تطرفهم، هم الذين يدركون حقيقة (الأهالي) لأنهم على اتصال دائم بهم، أما السياسيون الفرنسيون وبعض الضباط والكتاب فينظرون إلى (الأهالي) من البرج العاجي، وكانوا مهتمين بالرسالة الحضارية لفرنسا أكثر مما كانوا مهتمين بالحياة اليومية، وفي نظري أن جوزيف ديبارمي المستشرق والباحث الأنثروبولوجي، كان يفهم روح المواطن الجزائري أكثر مما كان يفهمها أي حاكم رغم أن هذا هو الذي كان يمثل السلطة الفرنسية، فقد درس ديبارمي انتفاضات المواطنين على يد الأشراف، ودرس أشعار المداحين، وتعمق في فهم الألغاز والرموز التي يستعملونها كناية أو تقية (¬1). استمرارا لعقيدة المقاومة، ولو بالسكوت. إذن، فلنستمع إلى رأي الكتاب الفرنسيين في حركة المقاومة على يد الأشراف بعد الأمير عبد القادر، فهم يقولون عنهم إنهم كانوا يخرجون الأعلام من زوايا المرابطين، ويرفعون الهلال على الصليب، فوق كوخ تهزه ريح الجهاد، هناك على قمة جرجرة، يلعلع صوت للاله فاطمة وهي بالحائك الأحمر، واقفة على ضفة الوادي، ولكن فرنسا (المتحضرة) كانت تتقدم دائما، رغم المقاومة الدامية واليائسة، لقد أصدر الجنرال ميسيا Maissiat أمره لجنوده: اهجموا! فلم يمنع صوت فاطمة الصفوف المقاومة من ¬

_ (¬1) سندرس آراءه في مكان آخر من هذا الكتاب انظر فصل اللغة والنثر،

التصدع، لقد وجد الجنود الفرنسيون المسبلين في الخنادق، في لباس قصير، متواثقين بحبل حول ركبهم، كان عليهم أن يموتوا جميعا بسنكى البنادق الفرنسية، إنهم المسبلون المحاطون بالمرابطين والمستعدون للموت عن آخرهم في سبيل الأرض المقدسة، أرض أجدادهم، كان ذلك سنة 1857، وفي 1871 سجل المؤرخون نفس المشهد: 300 مسبل في عين الحمام سقطوا عند عتبة السور، مسجلين بدمائهم عذاب هذه المعركة الفاصلة التي أوحت إلى خيال عدد من كتاب الروايات والمغامرات (¬1). وعندئذ ظهر المداح والشاعر الشعبي يعلن أن المرابطين والأشراف فشلوا وأن النصر سيأتي من جهة أخرى. يذهب رين إلى أن المرابطين غير خطرين خطورة الأشراف (المزيفين). المرابط حكيم ولا يغامر، في نظره، أما الشريف فهو شخص متآمر، وبعض الأشراف كانوا مزيفين ولكنهم أذكياء، وهم ينتمون إلى النخبة، ويعرفون كيف يستغلون طيبة العامة، ويقول إن هؤلاء ليسوا خطرين، أما الخطرون فهم نصف المتعلمين منهم، وهم الذين تجعلهم الخرافة الشعبية أشرافا وذوي كرامات، والشريف المزيف في نظره، لا ينتمي إلى طريقة صوفية معينة، لأن انضباط هذه الطرق يمنع من أن يغامر أحد أتباعها بمصيرها ومصير شيوخها، ويستعد الأشراف للقيام بدور المتقشفين والزهاد، وجلب الكرامات كوسائل لإقناع العامة، وبالتواطؤ مع بعض الأتباع، واللجوء إلى الرؤى المنامية، وإرسال الرسائل الغامضة بإمضاء مجهول، وهم في ذلك يتفقون مع المرابطين الذين اتبعوا الزهد والكرامة والرؤى ونحوها، ولكن المرابطين أثبتوا ذلك بالحياة المثالية، والأخلاق والخلوة والمعارف، أما الأشراف المزيفون، في نظر رين، فقد انكشف أمرهم بثوارتهم الفاشلة، ودورهم الذي كان سياسيا أكثر منه دينيا، وهم خطرون حقا، ولذلك كانت الإدارة قاسية ¬

_ (¬1) يشير المرجع إلى الكاتب هوق لورو H، Le Roux الذي كتب رواية عنوانها (مولى الساعة) المستوحاة من ثورة 1871، باريس 1897، انظر ديبون، وكوبولاني، مرجع سابق، ص 178، وكلمة (مسبلين) تعني الذين باعوا أنفسهم في سبيل الله استعدادا للشهادة، وقد شاعت الكلمة نفسها زمن الثورة الأخيرة 1954 - 1962 أيضا،

عليهم، فهي تراقبهم دائما، لأنهم كانوا وراء الثورات، وهم مهيجون للعامة (¬1). وهو لم يذكر الثورات، مكتفيا بذكر زعمائها، عدا واحدة (¬2). ولكننا نعرف هذه الثورات التي كانت في نظر (رين) من فعل الأشراف المزيفين، فهي كل الانتفاضات التي قادها رجال مجهولون، مكتفين بألقاب وأسماء حربية، كالشريف فلان، أو محمد بن عبد الله، ويبدو أن رين يحبذ أن يبقى الجزائريون هادئين وادعين مادين رقابهم للذبح بدون بعبعة، وبذلك يزول الخطر ويحلو المقام للفرنسيين. هذا هو وضع الأشراف عندما كانوا يجدون في الساحة مجالا، أما بعد المراقبة الإدارية المشددة، وبعد فشل الانتفاضات، فقد اختفى (المغامرون) وسكن العاديون، ورضوا ظاهريا على الأقل، بالحياة المقدرة، وقد فقد الباقون منهم استقلالهم حتى لم يبق منهم في آخر القرن الماضي من يمكن اعتباره مستقلا (¬3). وكان للأشراف التاريخيين مدرسة وزاوية وأوقاف، ونعني بالتاريخيين أولئك المنحدرين من نسل فاطمة الزهراء والإمام علي بن أبي طالب (¬4). ومن أبرز العائلات الجزائرية في هذا الميدان، عائلة الشريف الزهار التي انضم جدها للمقاومة وخدم تحت لواء الأمير عبد القادر ثم توجه إلى المغرب، واختطف الفرنسيون ابنه (علي الشريف) عند واقعة الزمالة ¬

_ (¬1) رين، مرجع سابق، ص 128. (¬2) وهي ثورة واحة العمري سنة 1876، ويذهب رين إلى أن محمد بن العايق كان فيها أداة في يد أحد السياسيين، وهو محمد بن يحيى الذي عزل من وظيفته، ومن ثمة تكون الثورة ذات أسباب سياسية، في نظره، كما روى أن هناك رسائل ضبطت سنة 1875 تدعو للجهاد جهة سطيف، وتشير إلى اسم الشيخ الريحاني، قيم قبر الرسول (صلى الله عليه وسلم). وذكر أحداث سيدي عقبة سنة 1880، ووجود رئيس الرحمانية هناك ضد أحد الموظفين الرسميين، وكتب أحدهم (وهو عمارة بن أحمد السوفي الطرودي) رسالة على أنها من الرسول (صلى الله عليه وسلم) إلى رئيس الرحمانية، انظر ص 137، وربما كان كل ذلك من اختلاقات وتخيلات المخبرين وهم الذين كان يروي عنهم (رين) أخباره. (¬3) ديبون وكوبولاني، مرجع سابق، المقدمة. (¬4) انظر الجزء الأول من هذا الكتاب،

(1843). وهربوه وهو صبي إلى فرنسا، وربوه على طريقتهم إلى أن أصبح ضابطا في الفرسان (الصبائحية). أما أخوه الشريف الزهار فقد تولى القضاء للفرنسيين سنوات طويلة، كما ستعرف، وهذا النوع من الأشراف هم الذين يعتبرهم (رين) غير خطرين لأنهم غير متآمرين ولا مغامرين. وإذا كان فشل الثورات قد أدى إلى ظهور الشاعر الشعبي أو المداح، وظهور الطرق الصوفية المدجنة التي أصبحت أداة للإدارة الفرنسية في السيطرة على المواطنين، فإن هناك ظاهرة أخرى لجأ إليها التعبير الشعبي قبل عصر الأحزاب السياسية والمنظمات والنوادي، ونعني بها الدروشة والدراويش، والحقيقة أن هذه الظاهرة ليست غريبة على المجتمع، فقد عرفنا منها حتى في العهد العثماني النصيب الكبير، وإذا شئت فراجع كتاب عبد الكريم الفكون (منشور الهداية) ورحلة الحسين الورتلاني وغيرهما، إنما نعني بالدراويش هنا أولئك الذين جمعوا بين الدين والسياسة بالمستوى الشعبي، فهم في لحظة يائسة يدعون الكرامة بعدم اختراق الرصاص لأجسادهم، أو بعدم إصابتهم بالأمراض أو بأي سوء، وقد سبق القول إن العامة كانت لا تفرق بين الشريف والمرابط والدرويش، فكلهم مرابطون ما داموا يأتون بالكرامات والمعميات، وقد كان الفرنسيون يراقبونهم خشية أن يتحولوا إلى مهيجين للعامة، مستغلين الجهل والخرافة. ولكن الفرنسيين كانوا يريدون في نفس الوقت الإبقاء على هذه السذاجة من الجميع، لأن الفطنة تترتب عليها الصحوة وطلب الحقوق، وهناك قصص لدراويش ظهروا خلال القرن الماضي ذكر منهم بعض الباحثين جملة، مثل سي علي بن الأخضر من قبيلة أولاد علي بن يحيى، دائرة تبسة، الذي ادعى سنة 1866 أن السلاح لا يخترقه، فمات به في قصة مروية، ومثله سي أحمد القوري الصدراتي المتوفى سنة 1900 الذي شفي بعد أن جرح، وبلقاسم بن الحاج سعيد (بوقشبية) الذي توفي سنة 1912، وكان بلقاسم هذا مقدما لإحدى الطرق قرب اليدوغ (عنابة). أما سيدي أبو التقى فقد اشتهر أمره ببرج بوعريريج سنة 1836، وكان قد جاء من المغرب الأقصى، ودرس على

الشيخ سعيد بن أبي داود بزاوية تاسلنت، وتوفي سنة 1838 وله قبة، وكان من أتباع الرحمانية، كما نذكر بلقاسم بن قربة، وهو من التلاغمة، وكان من الرحمانيين أيضا (¬1). وهناك شخصيات اهتمت بالعلم والتصوف السني والزهد، ومع ذلك اعتقدت فيها العامة الدروشة والإتيان بالكرامات، أو هي تدخل إلى قلوب العامة عن طريق هذه الأفعال بدل النهي عنها، وستعرف نماذج من هؤلاء في شيوخ الطرق الصوفية التي سندرسها مفردة، فمن جهة هناك شيخ الطريقة أو مقدمها، وهناك أفعال الدراويش والخرافات والبدع التي تضطهد عقول الناس وتساعد سلطات العدو على التمركز والتحكم، وإذا كانت أفعال الخرافة ربما مقبولة من شيخ قليل العلم غامض التصرف مثل الحاج مبارك بن يوسف، زعيم الطريقة (البوسنية) جهة قالمة، فإنها غير مقبولة حين تنسب إلى شيخ قامت سمعته على العلم والذكاء وقوة الحفظ والذاكرة، مثل الشيخ محمد بن أبي القاسم، شيخ زاوية الهامل. ولكن ليس كل الجزائريين يؤمنون بالتصوف أو لهم طرق صوفية، ففي ميزاب ليس للناس دراويش ولا مرابطون، بالمعنى السابق، وليس لهم طرق صوفية، وإنما لهم مشائخهم المحترمون الذين يطيعون أوامرهم، ولهم مجالسهم الدينية والدنيوية، ولهم روابط روحية ورموز، كالحلقة، والإمام، فمجلسهم الديني الشرعي يضم مجموعة من المشائخ يتقاسمون فيما بينهم المسؤوليات، كالعدالة، والتعليم، والصلاة، ويرأس المجلس أحد الشيوخ الأكثر علما وورعا والأكثر حرمة واحتراما، وهم متقشفون ذاتيا، ومتطهرون دينيا، ولهم علماء وفقهاء، يخلدون ذكراهم، كالإمام القطب محمد بن يوسف أطفيش، وليس لهم عقيدة في الواسطة كما هو الشأن في المسلم الصحيح، ولأهل ميزاب عقيدة خاصة في الإمامة، ولهم جوامع ولكن ليس لهم زوايا، ومن ثمة ليس لهم أن يفعلوا شيئا من الحضرة والذكر وغيرها من ¬

_ (¬1) عن هؤلاء وأمثالهم، انظر أشيل روبير في (روكاي). 1924، ص 256 - 276، وعن أبي التقى انظر حديثنا عن عاشور الخنقي، فصل الشعر،

الطريقة القادرية

مظاهر الطرقية (¬1). وقد نعود إلى الحديث عن التنظيم الاجتماعي والسياسي لبني ميزاب في فصل آخر. الطريقة القادرية كان بالإمكان أن نرتب علاجنا للطرق الصوفية حسب الأهمية التي كانت عليها أثناء الاحتلال والدور الذي لعبته إيجابا وسلبا، وقد خطر لنا أن نلجأ إلى معالجة ظهورها زمنيا في المجتمع الجزائري، إذ لا شك أن هناك طريقة قديمة الظهور وأخرى حديثة، كما أن هناك الطرق الأصلية التي ظهرت في الجزائر وتفرعت فيها وفي خارجها، وهناك العكس، وهو تلك الطرق التي هي فروع لأصول موجودة خارج الجزائر، سيما في المغرب الأقصى وفي المشرق، ثم إننا نجد الطرق الكبيرة ذات الآلاف من الأتباع الذين تشملهم خريطة البلاد كلها، والطرق الصغيرة المحدودة الأتباع والمكان، وقد استقر بنا الرأي على معالجة الطرق حسب قدمها أو ظهورها، لأن بعضها متفرع عن بعض في أغلب الأحيان، وأول هذه الطرق في الظهور هي الطريقة القادرية، وسنكتفي غالبا بدور كل طريقة ونشاطها ورجالها وزواياها زمن الاحتلال، محيلين على الجزء الأول من كتابنا بخصوص نشاطها خلال العهد العثماني، تنسب القادرية إلى الشيخ عبد القادر الجيلاني (الكيلاني) المتوفى في بغداد سنة 561 هـ، وهو يعتبر عند المتصوفين سلطان الأولياء، وقطب الأقطاب، والغوث، وعضد الإسلام، وله كرامات وخوارق تنسب إليه، وأتباعه يحلفون بجاهه، ويلقبونه أيضاب (مولى بغداد). والشيخ الجيلاني عالم وله تآليف منها (لطائف الأنوار). وله عشرة أولاد، مات بعضهم بالقاهرة، وانتقل آخرون منهم إلى الأندلس والمغرب العربي، ومعهم انتقل أيضا نسب الأشراف، سيما من الساقية الحمراء، وهذا الشرف، حسب السلسلة، يرجع إلى فاطمة الزهراء والإمام علي (¬2). ¬

_ (¬1) انظر رين، مرجع سابق، الفصل من ص 138 - 156، وقد رجع بتاريخ الإباضية إلى زمن ظهور الخوارج على عهد الخلاف بين الإمام علي ومعاوية. (¬2) هناك أيضا كتابان في نسب أشراف القادرية، وهما كتاب (النسب) للعشماوي وكتاب =

والزاوية الأم للطريقة توجد في بغداد، ولها فروع في الجزائر، وكل فرع مستقل عن الآخر، وأصحاب هذه الفروع يتصلون مباشرة بالأصل في بغداد، إذ أن الإجازة والسلسلة تردان من هناك، وعلى كل فرع من فروع الزاوية مقدم، وقد كنا ذكرنا أن أول من أسس فرعا للقادرية في الجزائر هو الشيخ مصطفى بن المختار الغريسي سنة 1200، والواقع أن فروع هذه الطريقة كانت موجودة من قبل في مختلف المدن، ولها زوايا وأضرحة وقباب ومساجد في الجزائر وتلمسان وقسنطينة، وبجاية وغيرها، ولها أوقاف كثيرة، كانت ترسل مع الحجاج إلى الزاوية الأم ببغداد، وقد بقي الحال كذلك في العهد الفرنسي أيضا، مع قيود سنذكرها. والسلسلة القادرية ترجع إلى آدم عليه السلام، وهناك وثيقة ترجع إلى 1875 (1292 هـ) تذكر شجرة النسب الشريف للقادرية وسلسلتها، وعنوان الوثيقة (لا إله إلا الله، والشيخ عبد القادر شيء (كذا) الله). وتصل بالنسب إلى الإمام علي ثم إلى آدم، كما ذكرنا. والذكر عند القادرية هو ذكر الله وحده، وهو ما فعله الشيخ الجيلاني نفسه، والإكثار من الصلوات، وقد أضاف بعضهم: (أستغفر الله، أو اللهم صل على سيدنا محمد النبي الأمي، وذكر محمد بن علي السنوسي (مؤسس الطريقة السنوسية) أن أهل القادرية (المقربين) أثناء الحضرة يقرأون أيضا الفاتحة بعد الصلوات الخمس، ويصلون على النبي صلى الله عليه وسلم وآله، عدد 121 مرة في شكل جماعي، كما أخبر أنهم يذكرون عبارة (سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر) 121 مرة أيضا، ويقرأون سورة ياسين، وغير ذلك من الأدعية والقراءات، وجاء في الكتب الفرنسية أن زعماء القادرية الذين كانوا يفدون على الجزائر كانوا يقولون: إذا سألت عن الطريقة (القادرية) فهي العلم والأخلاق والصبر والاتقان، وإذا سألت عن ¬

_ = (العرف العاطر) ل عبد السلام - القادري؟ - وقد ترجم القسيس الفرنسي جياكوبيتي الكتابين ونشر الترجمة في (المجلة الإفريقية) سنة 1908 على حلقات،

الواجبات عند الطريقة فهي ذكر الله، والصدق، والابتعاد عن شؤون الدنيا، وأن تحب الناس وتخاف الله، ولخصوا تعليم القادرية بأنه مستمد من أفكار أخلاقية وفلسفية مشتركة بينها وبين الطرق الصوفية الأخرى، ومن ثمة كانت القادرية قاعدة لمختلف الطرق التي جاءت بعدها، حتى تلك التي استقلت عنها بقيت على صلة بها، ولا تمنع القادرية أتباعها من أن يجمعؤا بينها وبين طريقة أخرى (¬1). وهذا طبعا عن الجانب النظري في هذه الطريقة، أما الجانب العملي فسنرى أن هناك عدة ثغرات كانت الطريقة تعاني منها. حاول البعض أن ينسب المقاومة على عهد الأمير عبد القادر إلى الطريقة القادرية (¬2). وهذا من الخطأ الجسيم في نظرنا، حقا إن سمعة الحاج محيي الدين (والد الأمير) قد لعبت دورا في تجميع المقاومة حول شخصه، باعتباره زعيما روحيا محترما في المنطقة وباعتباره ضحية الباي حسن بن موسى قبل الاحتلال، ولكن مبايعة ابنه (الأمير) والتفاف الجماهير من حوله، مهما كانت عقيدتهم الصوفية، جعل القضية تخرج عن نطاق الطريقة إلى النطاق الوطني، ولكن دعاية الحرب الفرنسية عندئذ كانت تبذل قصارى جهدها لتفريق الصفوف حول الأمير مدعية أنه إنما كان يحارب باسم طريقته الصوفية، وأنه كان طموحا سياسيا، وقد صدق ذلك أمثال الشيخ مصطفى بن إسماعيل، زعيم الدوائر، كما صدقه الشيخ محمد الصغير التجاني، زعيم الطريقة التجانية، واستمر الفرنسيون في الضرب على هذا الوتر حتى بعد هزيمة الأمير وحدوث تطورات أخرى. ولكن القادرية استمرت على نشاطها إلى جانب المقاومة عندئذ، فلا شك أن تأييد الحاج محيي الذين لابنه له أثر في التفاف إخوان الطريقة من حوله، وبعد وفاة الحاج محيي الدين تولى ابنه محمد السعيد (أخو الأمير) شؤون الطريقة فهو (خليفة) والده بالمصطلح الصوفي، وهو الابن الأكبر له، وكان الفتى أحمد بن محمد السعيد من أوائل من استشهدوا عند أسوار وهران ¬

_ (¬1) رين، مرجع سابق، ص 179 - 180. (¬2) هنري قارو، مرجع سابق، ص 162، وهو يذهب إلى أن الأمير حمل السلاح باسم (القادرية). وقال إن بوعمامة (قادري) أيضا،

سنة 1832، وكان في سن المراهقة، وتعاونت الطرق في عهد الأمير (من رحمانية، ودرقاوية، وطيبية، وشيخية). ولم يفرق الأتباع بين صوت المجاهدين، فكلما دعا الداعي استجابوا بقطع النظر عن مصدر الصوت، وبعد هزيمة الأمير سافر معه أخوه محمد السعيد وسجن معه، ثم استقر الأخوان بالمشرق، كما هو معروف، ولكن الجديد هو أن الشيخ محمد المرتضى بن محمد السعيد (حفيد الحاج محيي الدين) هو الذي أصبح خليفة الطريقة القادرية في بيروت، وهو الذي كان في آخر القرن الماضي الشيخ الذي يقصده الجزائريون للبركة، ويستقبل منهم الزيارات والمال، وله في الجزائر أتباع واتصالات (¬1). كما سنرى. هذا عن الفرع الذي بدأ المقاومة من القادرية، وبعد انتقال زعمائها إلى فرنسا والمشرق بقيت بقايا الطريقة في الجزائر في ظل بنادق الفرنسيين، وتفرقت في قيادات صغيرة اتخذت شكل الأسطورة، وانتشرت في مختلف أنحاء القطر، فكان من رموزها سيدي محمد بن عودة، في نواحي زمورة (ولاية غليزان) الذي يعتبر حامي حمى سهل مينة، والذي يعتقد فيه أهل البادية والحاضرة، والمعروف أن زاوية شلاطة كانت قادرية الأصل، وكذلك بعض الرموز في بني عباس بزواوة، وظهر شخص يدعى ابن النحال في زاوية الفجوج في نواحي قالمة ووادي الزناتي (¬2). ولم تفقد القادرية في نواحي وهران تأثيرها الكبير، إذ أصبح الشيخ بوتليليس (شعبة وادي اللحم) صاحب شأن وتأثير في المنطقة، وكان هو الخليفة (أو المقدم) للقادرية بعد أن جاءه ¬

_ (¬1) لا نستغرب أن يكون محيي الدين بن الأمير عبد القادر قد جاء إلى الجزائر سنة 1871 - 1870 لإثارة شعبها ضد فرنسا، تحت تأثير أخيه محمد السعيد شيخ القادرية، وهو جانب لم يتعرض إليه الباحثون مكتفين بغضب والده عليه من المحاولة، والمعروف أن محمد المرتضى هو ابن أخيه الشقيق، وكلاهما من الجيل الثاني في الحرب والطريقة، عن محمد السعيد والمرتضى انظر أيضا فصل المشارق والمغارب، وانظر ليون روش (اثنان وثلاثون سنة). ج 1، باريس 1884، وكتاب (تحفة الزائر). ج 1. (¬2) ديبون وكوبولاني، مرجع سابق، ص 367،

التعيين من المشرق (من محمد المرتضى). كما انتعشت زاوية شلافة (قرب هليل) التي كانت سنة 1897 تحت مشيخة سي الأحول عبد القادر، وكانت تجمع حوالي خمسين مقدما، وبضعة آلاف من الأخوان (¬1). وكانت زاوية سي الأحول هذه ذات أهمية روحية، وهي واقعة في وادي الخير الذي يصب في وادي الشلف، بين مستغانم وغيليزان، وقيل إن الشيخ الأحول عبد القادر كان قد نصب خيمة من الشعر وسط الزاوية على أنها ملتقاه مع الشيخ عبد القادر الجيلاني، وينسب الناس الكرامات إلى الشيخ الأحول ويتبركون به، وكانت الزاوية مدرسة للعلم والقرآن أيضا، ولكن عدد الطلبة فيها كان قليلا (¬2). ولعل أحد أولاد الأحول هو الذي دعا الجزائريين سنة 1939 إلى مساندة فرنسا في حربها ضد الألمان، وقال لهم إن الساعة قد حانت لإعلان الولاء لها والدفاع عن (أم الوطن). وقد فعل ذلك أسوة أيضا بموقف شيخ زاوية الهامل وغيره من شيوخ الطرق، وزعماء الاندماج، أمثال الدكتور ابن جلول والدكتور الأخضري، ورجال الدين الموظفين عند الإدارة الفرنسية (¬3). كما انتشرت القادرية ناحية تيارت (تيهرت) والجنوب الغربي، ومن زعمائها هناك بلعربي عبد القادر بن قدور، وكانت زاويتها هناك سنة 1844، مدرسة لتعليم الأطفال القرآن والدين، وكان قد أسسها قدور بن مسعودة، جد المقدم المذكور، وكانت هناك قبة تعرف بقبة سيدي بلقاسم حيث رفات قدور بن مسعودة وأحفاده، وفي الناحية مرابطون بارزون يحترمهم الناس مثل آل تريش وآل سيدي علي، وأولاد سيدي خالد، ولجميع هؤلاء، بما فيهم الشيخ عبد القادر الجيلاني، موسم سنوي لإطعام الطعام وذبح الخرفان، ويكون ذلك يوما من الفروسية والنشاط والزيارات، يحضره أيضا بعض ¬

_ (¬1) نفس المصدر، ص 312 - 315. (¬2) ابن بكار الهاشمي (مجموع النسب). 158 - 159. (¬3) (إفريقية الفرنسية). غشت/ سبتمبر، 1939،

الإداريين الفرنسيين الذين كانت توجه لهم الدعوة، وفي هذه الحفلة السنوية يشعر الفقراء بالاندماج في المجتمع وبالحرية والأخوة حيث لا طبقية، ويقوم البراحون في الأسواق بدعوة الناس لوضع زياراتهم (تبرعاتهم المالية) عند الشيخ أو المقدم (¬1). وقد أشرنا إلى ملاحظات مالك بن نبي في نفس الفترة على نشاط القادرية في ناحية آفلو. وظهرت فروع أخرى في شرق الجزائر وجنوبها، كان لها دور بارز أثناء غزو فرنسا للصحراء في النصف الثاني من القرن الماضي، وفي هذا الصدد نذكر زوايا عميش (الوادي) والرويسات (ورقلة). كما نذكر زاوية نفطة وزاوية الكاف، وكلتاهما بتونس ولكن لهما نفوذ بالجهات المجاورة في الجزائر، كما نذكر زاوية منعة بالأوراس، المعروفة بزاوية بلعباس، وفي مذكرات مالك بن نبي إشارات هامة إلى نشاط وتحولات القادرية في تبسة ونواحيها. ومعظم زوايا الشرق الجزائري والجنوب ذات صلة بزاويتي نفطة والكاف القادريتين، ومؤسس زاوية نفطة هو أبو بكر بن أحمد الشريف، وهو تلميذ الشيخ المنزلي (نسبة إلى منزل بوزلفة - تونس). وقد تطورت الزاوية بفضل جهود الشيخ إبراهيم بن أحمد الشريف النفطي، حتى قال بعضهم إن تأثيره سنة 1897 وصل إلى غدامس وغات والجزائر وعين صالح وتوات وتيديكلت، وله أتباع في بلاد الطوارق، وعلى رأسهم الشيخ عابدين، وكان عابدين هو مقدم الشيخ محمد بن إبراهيم، وقد ترك الشيخ إبراهيم أولادا تقاسموا بركة والدهم على النحو التالي: الأكبر منهم، وهو محمد، تولى الزاوية الأم بنفطة، وأسس الهاشمي زاوية في عميش بوادي سوف، وأصبح (نائبا) لأخيه، ونشط الهاشمي في تجنيد الأتباع ونشر الطريقة إلى أقصى الجنوب، وربط علاقات مع السودان وغات، وجند العديد من ¬

_ (¬1) هنري بارليت (مونوغرافية إقليم تيهرت). في مجلة الجمعية الجغرافية للجزائر وشمال إفريقية S، G، A، A، N 1912، ص 337 - 338،

أهل سوف الذين يمارسون التجارة الصحراوية، وأما أخوهما، محمد الطيب، فقد نشر الطريقة في ناحية ورقلة، وأسس زاوية في الرويسات، وكان له أتباع في الأغواط وغرداية وبين الشعانبة، ولهم أخ رابع اسمه الحسين، أسس زاوية بقمار (وادي سوف). بينما أسس الأخ الخامس زاوية في تبسة، والسادس، وهو محمد الإمام، زاوية في صحن الشعانبة (بسوف أيضا). أما في تونس فإن الأخوة أسسوا بالإضافة إلى نفطة، زوايا من المدن الآتية: قفصة (محمد العربي). الكاف (محمد الأزهر). قابس (الحاج أحمد). وهكذا فنحن نرى أن زاوية نفطة القادرية قد تفرعت إلى هذه الفروع الصغيرة الكثيرة، والتي ترجع في الواقع إلى عائلة واحدة، ولا شك أن انتشار هذه الفروع كان بإذن وترخيص من الفرنسيين، وتتصل زاوية نفطة بالسلسلة القادرية عن طريق الشيخ علي بن عمار المنزلي الشائب، ولها ورد طويل قد يطول عن ورد الطريقة ببغداد (¬1). أما زاوية الكاف فقد أسسها محمد المازوني (الميزوني) (¬2). وقد لعبت دورا متعدد الجوانب، كما سنرى. وللقادرية أيضا زوايا في الجنوب الغربي من البلاد، فزاوية كنته قادرية الأصل، ومن أبرز رجالها الشيخ المختار الكنتي المتوفى سنة 1826، وقد استمر أتباعه على دربه، واستعملوا مؤلفاته العديدة، والشيخ الكنتي يذهب إلى أنه من نسل الصحابي الفاتح عقبة بن نافع، وتمتد سمعته إلى المغرب والسودان وكذلك بين طوارق الصحراء (¬3). ومن مراكز القادرية أيضا زاوية أحمد البكاي في تومبكتو (؟). ولكن تأثيره قد امتد نحو الجنوب الغربي. ¬

_ (¬1) نفس المصدر، ص 305 - 312. (¬2) يذكر محمد البهلي النيال (الحقيقة التاريخية) ص 323 أن مؤسس هذه الزاوية مغربي، وأنه سبق له أن أسس أخرى في الديوان بعاصمة تونس سنة 1845، انظر العمارية لاحقا. (¬3) عنه انظر إسماعيل حامد (الأدب العربي الصحراوي). في مجلة العالم الإسلامية R، M، M (1910). وقد درس محمد حوتيه نشاط زاوية كنته فى رسالة ماجستير حصل عليها بمعهد التاريخ، جامعة الجزائر،

وكان للقادرية على يده انتشار كبير، كما أنها قاومت التسرب الأجنبي. وقد حدث للقادرية ما حدث لكل الطرق في آخر القرن الماضي، فقد أصبحت جميعها تقريبا تحت رحمة المخابرات الفرنسية والضغط المتعدد الجوانب لكي تعمل وفق إرادة المحتل، كما وظفت في عدد من المناسبات عن علم أو جهل من زعمائها، ولا سيما عند حاجة الفرنسيين إلى نفوذ هذه الطرق في الصحراء حين خططوا لاكتشافها واحتلالها وربطها بمستعمراتهم الإفريقية، وتذكر المصادر الفرنسية أن مقدم القادرية في ورقلة محمد الطيب هو الذي رافق بنفسه بعثة المستكشف الفرنسي، فلامان Flumand، إلى تيديكلت، سنة 1899، فقد أخذ المقدم محمد الطيب معه عشرين شخصا مسلحين لحماية القافلة، وهم من خدمه، وقد تعرضت البعثة إلى هجوم كبير من عرب الصحراء قاده حوالي 75 شخصا، كما تذكر نفس المصادر أن محمد الطيب (وهو نائب أخيه محمد) قد اعتمد عليه الحاكم العام جول كامبون، سنة 1895 لتمهيد تيديكلت للتأثير الفرنسي، وهذا يدل من جهة أخرى على ما لهذا الفرع القادري من نفوذ في الصحراء النائية (¬1). وكان المقدم محمد الطيب قد قتل في إحدى هذه المعارك، وهو كما عرفنا أخ لعدد من أولاد إبراهيم بن أحمد الشريف الذين تقاسموا بركة أبيهم وأسسوا زوايا قادرية في الجزائر وتونس. وفي هذا الصدد يذكر الجنرال لاروك Laroque أن للقادرية عددا كبيرا من الأتباع وينصح بلاده بالاستفادة من نفوذهم، ولا سيما من زاوية عميش بقيادة الشيخ الهاشمي وزاوية الرويسات بقيادة أخيه محمد الطيب، ويقول الجنرال (سنة 1879) إن كليهما يحتفظ بعلاقات جيدة مع الفرنسيين، وأنهما قدما لهم خدمات في الصحراء لما لهما من تأثير، ورغم أنهما لا يلعبان دورا من ¬

_ (¬1) انظر مجلة جمعية الجزائر وشمال إفريقية، S، G، A، A، N (1899 - 1900). رقم 5 - 5، 12، وكان (فلامان) أستاذا في مدرسة العلوم (كلية) بالجزائر، ومتخصصا في الجغرافية، وقد أخذ معه أيضا المستشرق الإسكندر جولي A، Joly للقيام بمهمة علمية - جغرافية،

الدرجة الأولى إلأ أنهما استطاعا رد الثائرين إلى الطريق والهدوء في عدة مناسبات، ويذهب هذا الجنرال (لاروك) الذي كان المسؤول العسكري على إقليم قسنطينة، بما فيه الصحراء الشرقية، إلى أن القادرية تقف حائلا دون تسرب السنوسية من الشرق والجنوب، وفي سنة 1894، كما يقول، جاء عدد من الطوارق إلى شيخهم، محمد الطيب، في ورقلة، يطلبون منه المساعدة على تكوين مجموعة من الغزاة للثأر من هجومات الفزانيين المدفوعين من السنوسية، والجنرال لاروك لا يتحدث فقط عن القادرية كحائل ضد السنوسية ولكن عن التجانية وبعض فروع الرحمانية أيضا، فكل هذه الطرق يجب أن تجعل منها فرنسا، في نظره، (عملاء) للاستعلامات، لأن لها مراسلات مع آلاف الأتباع في الزوايا المنتشرة من إفريقية إلى الهند، ومن ثمة تستفيد منها فرنسا في بث فكرها وحضارتها (¬1). والواقع أن هناك شخصية غريبة تداخلت في الوضع بين الطرق الصوفية واستعملت إلقادرية لحساب فرنسا، ونعني بذلك الضابط ديبورتر Deporter الذي أصبح يدعى (المواطن الصحراوي) والذي عمل سنوات في صحراء الجزائر وتونس، سيما في بسكرة ووادي سوف وغرداية وتوزر وقابس وقبلى، وكان ديبورتر من مواليد فرنسا، وهو ابن أحد المستوطنين الفرنسيين في قسنطينة، وتعلم ديبورتر العربية في الوادي وتوزر حتى أصبحت كأنها لغته الأصلية، وتطوع في فرقة الرماة وعمره سبعة عشر عاما، وشارك في الحملات ضد الجزائريين في زواوة وفي الجنوب، ثم دخل مصلحة الشؤون الأهلية وتولى إدارة المكتب العربي في برج بوعريج، ثم في بسكرة، ثم في الوادي سنة 1881، ومن هناك شارك في الحملة ضد تونس واحتلالها عن طريق الجريد وتمغزة، وعمل فترة في جهاز الاستخبارات بتونس. وأثناء عمله في الوادي وتوزر ربط علاقات (صداقة) مع الشيخ محمد الكبير بن إبراهيم، شيخ زاوية نفطة القادرية، وحصل منه على دبلوم مقدم كان ¬

_ (¬1) روى عنه ذلك ديبون وكوبولاني، مرجع سابق، ص 274، 288،

يستخدمه عند الحاجة حتى اعتقد فيه العامة أنه مسلم قادري الطريقة، وفي المقابل رخص ديبورتر لأبناء إبراهيم بفتح فروع لهم في عدة أماكن بالجزائر، منها عميش (بقيادة الهاشمي) التي كانت فيها زاوية قادرية قديمة أسسها أحمد الشريف جد الهاشمي، ومنها الرباح حيث أسس سليمان بن إبراهيم زاويته، وقمار حيث أقام الحسين بن إبراهيم، والرويسات حيث أسس محمد الطيب زاويته كما ذكرنا، وأشهر هؤلاء الأخوة هو محمد الهاشمي الذي اعتبره الفرنسيون شخصية جذابة ولكنها (متعبة) لهم، لطموحه وتقلباته في نظرهم، كما اشتهر منهم محمد الطيب الذي اعتبره الفرنسيون أفضل أخوته عندهم لخدماته التي أداها لهم في تيديكلت حين نجح في اعتقال قتلة الماركيز دي موريس MORRES، كما أن محمد الطيب قد مات في توات حيث كان يحارب إلى جانب الضابط الفرنسي بأن PEIN، ولذلك كافأته فرنسا على خدماته، وأثناء إقامة ديبورتر بالوادي أنشأ فيه قبيلة من الشعانبة (شعانبة الوادي) إذ جاء بهم من شعانبة بوروبة قرب ورقلة، وعندما أصبح ديبورتر في غرداية تراجع عن المسألة مما سبب اضطرابات في الجهة، فعزلوه عن وظيفته، وقد مات بالإسهال سنة 1892 في ولاته حين كان يقوم برحلة بمساعدة الطريقة القادرية أيضا مستخدما دبلومها في أغراضه الاستعمارية (¬1). وسنرى أن الضابط بوجا Pujat قام بتوظيف الطريقة التجانية المنافسة للقادرية، في نفس الوقت لخدمة الأغراص الاستعمارية أيضا (¬2). وفي نطاق العمالة والجوسسة اللتين يتحدث عنهما الجنرال لاروك، جاءت أحداث المغامرة، إيزابيل ايبرهارت E، EBERHDT الشهيرة، ولا حاجة إلى ذكر تفاصيل حياتها، فقد ألفت فيها الكتب، وألفت هي نفسها الكتب والمقالات، وكتبت عن الإسلام وعن اعتناقها له، وحبها الشديد لحياة البادية ¬

_ (¬1) انظر (الكتاب الذهبي) تأليف بيرونيه، R، Peyronnet، Livre d'or, II, Alger, 1930, p 391، وقد نثر ديبورتر كتابا بعنوان (الجنوب الأقصى للجزائر). فونتانة، الجزائر سنة 1890. (¬2) انظر الطريقة التجانية بعد قليل،

والصحراء ووقوعها في غرام سليمان هاني (حني؟) وغيره من عشاقها، ومغامراتها في وادي سوف والعين الصفراء (¬1). لقد ادعى الفرنسيون أنها كانت جاسوسة عليهم، وأنها كانت تعمل لحساب ألمانيا، فاهتموا بها، من وزارة الخارجية إلى الحاكم العام بالجزائر إلى قائد المناطق العسكرية، إلى آخر (بيرو عرب) - مكتب عربي - في أقصى الجنوب، ودارت بينهم المراسلات السرية بشأنها، وهي المراسلات التي لا يعرف المواطنون ولا حتى السياسيون عنها شيئا والتي ما تزال في الأرشيف تنتظر النشر والتحليل، ماذا قالوا؟ إن هذه الآنسة التي كانت تتكلم عدة لغات، ومنها العربية، وتعتنق الإسلام وتعشق الأصل العربي، وتؤلف الكتب والرسائل، وتلبس لباس الشاب العربي، وتتمنطق بالسلاح، وتمارس الفروسية، هذه الآنسة كانت غير عادية طبعا، وها هي في وادي سوف، تدخل الطريقة القادرية عن طريق المدعو عبد العزيز عثمان، صديق محمد الطيب، مقدم زاوية الرويسات، وقد أعطيت ذكر الطريقة، والسبحة، واللباس الخاص، وصامت هناك رمضان، وكان الحسين بن إبراهيم مقدم قمار، هو الذي أدخلها في الطريقة، وكان عشيقها سليمان هاني أيضا قادريا. وحضرت إيزابيل في تقرت حفلة استقبال أقيمت للشيخ الهاشمي مقدم زاوية عميش، الذي كان عائدا من باريس، وكان الحفل مرخصا به طبعا، وحضره مئات الفرسان والفضوليين، والإخوان، كما حضره ممثلو الطرق الأخرى كالرحمانية والعيساوية والطيبية، لأن أصولها جميعا قادرية، ورفعت الأعلام الخضراء والصفراء والحمراء، وارتفع صوت البارود إلى عنان السماء، وها هو الشيخ الهاشمي بعمامته الخضراء والقندورة الخضراء أيضا يشق صفوف الجماهير، وكان كوفي Gaston Couvert رئيس المكتب العربي في الوادي يتابع الأحداث ويحركها، ورأى أن وجود إيزابيل مشبوه، فأمرت السلطات بنقل صاحبها سليمان إلى باتنة، وحاولت هي منع ذلك، وتوسلت ¬

_ (¬1) من آخر ما صدر عنها كتاب مفصل بعنوان (إيزابيل - حياة إيزابيل ايبرهارت) تأليف أنيت كوباك A، Kobak، نيويورك، 1989،

بكل الوسائل، ثم التجأت مع صاحبها إلى الشيخ الهاشمي وإخوته، أليست من القادرية؟ وبينما كانت في قرية البهيمة مع بعض أتباع القادرية تقرأ عليهم رسالة، تقدم منها شخص يدعى عبد الله محمد بن الأخضر وضربها ضربة بسيف أصابت رأسها وكتفها ولكنها ضربة غير قاتلة، وحملت للعلاج في مستشفى الوادي على يد المكتب العربي نفسه وطبيبه الخاص (¬1). وقد أعلن الهاشمي بنفسه اتهام الطريقة التجانية بتدبير الحادث، وطلب اعتقال الجاني الذي ثبت أنه كان من أتباع التجانية، وهذه أحداث تثلج صدور الحكام الفرنسيين وتعطيهم الفرصة للتحرك والسيطرة. وماذا يهم؟ إن الفرنسيين يريدون أن يستفيدوا من كل الطرق الصوفية وليس من طريقة واحدة، ويريدون إضعاف الجميع حتى لا تتقوى ضدها بالتضامن، أن فرنسا تستفيد من القادرية، كما تستفيد من التجانية، ولكنها تريد منهما عدم التفاهم ضدها، ولذلك فسر الفرنسيون أن ضرب الآنسة المغامرة داخل في التنافس بين الطريقتين، وذهبت الخيارات إلى أن الآنسة كانت على علاقة خاصة مع الشيخ الهاشمي، وأن (التعصب الديني) هو الذي كان وراء الحادث الذي حدث لها، ولعل هذه الأحداث كلها كانت من نسيج المكتب العربي بالمنطقة وتحريك أصابع المخابرات الفرنسية. وكانت للشيخ الهاشمي بن إبراهيم مراسلات مع الزعيم الليبي. ¬

_ (¬1) وقع الحادث في 29 يناير 1951، كانت إيزابيل قد توسلت بالهاشمي كما ذكرنا، وذهبت إليه مع صاحبها سليمان، فأعطاهما 170 ف، ولم يجدا فائدة في تدخله، ولا في تدخل أخيه الحسين أيضا، وكان الشيخ الهاشمي يستعد لأداء الزيارة لأخيه محمد بن إبراهيم بنفطة عند وقوع الحادث، ولا نعلم لماذا ذهب الهاشمي إلى باريس؟ وقد قامت السلطات الفرنسية أيضا بإبعاد السيد عبد القادر بن سعيد، المعلم بإحدى المدارس، وصديق الهاشمي، إلى ورقلة، انظر كوباك، المرجع السابق، ص 136 - 140، 152 - 155، وكان زعيم زاوية قمار التجانية عندئذ هو الشيخ محمد العروسي، وتوجد بالكتاب المذكور صورة الأخوين محمد الطيب والهاشمي، مأخوذة سنة 1900 عن نهاية المغامرة ايبرهارت، انظر فصل مذاهب وتيارات،

سليمان الباروني باشا أثناء حرب طرابلس 1911 - 1912، وكان واسطة هذه المراسلات هو السيد سالم بن أحمد، ووجدنا أن سليمان الباروني قد طلب من الشيخ الهاشمي الفاتحة (البركة) والإجابة السريعة عما طلبه منه، وهو غير معروف، وقد يكون بعض المساعدات أو التدخلات لدى جهات أخرى، ومن الملاحظ أن الشيخ الهاشمي كان معدودا عند سليمان الباروني من أنصار الدولة العثمانية المتحمسين (¬1). ومعنى ذلك أنه كان في نظر الفرنسيين من أنصار حركة الجامعة الإسلامية. ولكن مزاج الشيخ الهاشمي بن إبراهيم تحول إلى الطرف الآخر (فرنسا) عند إعلان الحرب العالمية الأولى، فقد وجه نداء أيضا، مثل مختلف الطرق الصوفية في الجزائر، إلى إخوانه يبشرهم فيه بانتصار فرنسا وانكسار ألمانيا، وحكم ببلادة الأتراك (وقلة بصارتهم (كذا)) لأنهم ألقوا بأنفسهم إلى التهلكة، ولا علم لهم بكتاب الله، وقال الهاشمي في ندائه إن مسلمي الجزائر وإخوان الطريقة لا يفرطون في (خدمة دولتنا الفرنسوية العزيزة) (وهذه الجملة واردة حرفيا تقريبا في مختلف النداءات (النصائح) الصادرة عن الطرق الصوفية عندئذ حتى كأن كاتبها واحد). ونجد نفس العبارات مكررة أيضا كإحسان فرنسا للجزائريين ووجوب رد الجميل إليها (؟) وكون الأتراك ظلموا الجزائريين قديما ظلما (تتفطر منه الأكباد) بينما في العهد الفرنسي أصبحت الجزائر وقد (شيدت فيها المساجد والمدارس ونورتها بالعلم وفتحت طرق السعادة) (¬2). هذا هو الهاشمي الذي ستتهمه فرنسا بالثورة ضدها (¬3). وتظهر الأبحاث الجديدة أن الهاشمي قد استطاع أن يجند كثيرا من ¬

_ (¬1) زعيمة الباروني (صفحات خالدة). ص 133، 184، وقد كتبنا بحثا عن سليمان الباروني، انظره في مجلة الثقافة، 1995. (¬2) مجلة العالم الإسلامي R، M، M، ديسمبر 1914، ص 240 - 242. (¬3) انظر ما كتبه حمزة بوكوشة عن (ثورة) الشيخ الهاشمي،

الأتباع لطريقته خلال الحرب العالمية، وسبب نجاحه يرجع إلى معارضته لمنع الفرنسيين التجارة مع غدامس، كما أن الهاشمي قد (تورط) في مظاهرة معايدة للفرنسيين في نوفمبر 1918 عندما كان هؤلاء يجندون العمال للخدمة في فرنسا، وانطلقت الإشاعات على أن هؤلاء المجندين سيلحقون بالجيش فور وصولهم إلى فرنسا، وكانت المظاهرة أمام مكتب القائد الفرنسي بالوادي، وكان الهاشمي شخصيا على رأسها، وقد نفاه الفرنسيون إلى تونس بعض الوقت، وتوفي سنة 1923، وقيل إن ابنه قد توفي أيضا بعد قليل، ثم تولى ابنه الآخر عبد العزيز الذي توصل إلى تفاهم مع التجانية، وبذلك خفت حدة التوتر بين الطريقتين بعد اختفاء الشيخين المتنافسين مدة طويلة: العروسي (التجانية) والهاشمي (القادرية) (¬1). فقد قام عبد العزيز بن الهاشمي بالانضمام إلى جمعية العلماء المسلمين الجزائريين سنة 1937 وفتح مدرسة باسمها في زاويته وتوجيه الدعوة إلى وفد من الجمعية لزيارة المنطقة، فكان ذلك من أسباب زيارة الشيخ عبد الحميد بن باديس لوادي سوف ولزاوية عميش سنة 1937، فما كان من السلطات الفرنسية هذه المرة إلا أن اعتقلت الشيخ عبد العزيز وزملاءه المعلمين المصلحين، وأعلنت حالة الطوارئ في المنطقة، متهمة إياهم بالإعداد لثورة بالتواطؤ مع جهات أجنبية (إيطاليا - ألمانيا). وهذه الأحداث هي التي غطاها ابن باديس بعدد من المقالات، سيما بعد اعتقال الشيخ عبد العزيز وعبد القادر الياجوري وعلي بن سعد في سجن الكدية بقسنطينة، وقد وضعت السلطات الفرنسية شيخا آخر من العائلة على رأس الزاوية، واتهمت الشيخ عبد العزيز بالجنون. إننا نذكر هذه الأحداث مختصرة لنقول إن استفادة السلطات الفرنسية من بعض فروع القادرية كان مؤقتا، وكان لأغراض آنية يستفيد منها الطرفان. ¬

_ (¬1) كلنسي - سميث (ثائر وقديس). مرجع سابق، عن عبد العزيز، انظر أيضا فصل التعليم في المدارس الحرة،

وإذا كانت هذه السلطات استفادت من تنافس القادرية والتجانية، والوقوف ضد تقدم السنوسية، وبقاء العامة مخدرين ببركة الشيوخ، فإن هؤلاء قد استفادوا أيضا من تأكيد تأثيرهم ونشر نفوذهم واستفادوا مالا، ومنهم من استعمل المال في التعلم، حتى أنه يروى أن الشيخ الهاشمي قد علم أولاده في جامع الزيتونة واشترط أن لا يتولى بعده أمر الزاوية إلا من نال شهادة التطويع من الزيتونة، وقد عرفنا أن الشيخ عبد العزيز قد ناصر حركة الإصلاح وفتح مدرسة بزاويته القادرية، وانتهى به الأمر إلى السجن المضيق (¬1). وليست كل فروع القادرية كانت على هذا النحو، فزاوية الكاف، رغم أهميتها كانت لها أدوار، وقد حكم الباحث محمد البهلي النيال على دورها الذي صادف احتلال تونس (1881) فقال إنها زاوية مشكوك فيها وفي صاحبها، إذ قيل إنها لم تؤسس إلا لأغراض سياسية عسكرية، وكان الجاسوس الفرنسي (روا) يقوم بأعمال فيها قبل احتلال تونس، ثم صار بعد احتلالها هو الكاتب العام للحكومة التونسية المحمية، وكانت له اتصالات متبادلة مع شيوخ زاوية الكاف القادرية (¬2). ونحن لا نستبعد هذا الدور للزاوية، لأن المصادر الفرنسية تكثر من الإشادة بها والاعتماد عليها، ويبدو أن بعض الشيوخ كانوا إما غافلين ساذجين وإما أنانيين طماعين. كنا أشرنا إلى علاقات القادرية (الخارجية). فهي من الطرق التي ليس لها زاوية أم في الجزائر، وتكثر المصادر الفرنسية من التركيز على هذه العلاقة الخارجية باعتبارها مصدر قلق بالنسبة إليها، فهي لا تستطيع أن تسيطر على الرأس كما تفعل مع بعض الطرق المحلية، إن الأمر بالنسبة للقادرية يتقرر في بغداد أو بيروت، وهذا يحتاج إلى أيادي كثيرة ووسائل عديدة، ثم أن هناك ¬

_ (¬1) انظر مقالتنا عن (الشيخ عبد القادر الياجوري) في مجلة الثقافة، 1995، والياجوري كان أحد زملاء عبد العزيز بن الهاشمي، وكان قد سجن معه واضطهد اضطهادا شديدا. (¬2) النيال، مرجع سابق، ص 323، وقد توفي محمد المازوني سنة 1296 (1878) ودفن بالكاف،

أموالا تخرج من الجزائر أمام أعين الفرنسيين متوجهة إلى شيوخ القادرية في بلدان أجنبيه، وهذا استنزاف لا ترضاه السلطات الفرنسية، وتذكر هذه السلطات أن الزاوية الأم ترسل بالسلسلة القادرية إلى بعض المقدمين في الجزائر لتعتمدهم، وذلك عن طريق الحجاج أو الزائرين للمشرق، كما أن بعض المقدمين من هذه الطريقة يأتون إلى الجزائر، ويسمى هذا الزائر (رقابا) وهو وأمثاله كانوا تحت الرقابة المشددة من الفرنسيين، وكانوا ينزلون في المدن الساحلية كتجار يحملون الأوراق الرسمية والصحيحة، ولكن لهم علاقات وطيدة مع شخصيات معروفة لدى الفرنسيين، يتخذونها غطاء لتحقيق مهمتهم، والرقابون لا يظهرون، خلافا للطرق الأخرى، أي اهتمام بالصدقات والتبرعات المالية - الدينية، وهذا يزيد في رفعتهم عند الناس. وقد اكتشف الفرنسيون في العشرين سنة الأخيرة من القرن الماضي أن الأموال كانت ترسل من الجزائر إلى بيروت، بطريق الحوالات البريدية ونحوها، إضافة إلى تلك التي كانت تذهب إلى بغداد، وكان الفرع الجديد، بزعامة محمد المرتضى بن محمد السعيد بن محيي الدين (والد الأمير). فقد عرفنا أن والده، محمد السعيد، هو الذي تولى شؤون الطريقة أثناء كفاح أخيه (عبد القادر). وقد ظل على ذلك حتى بعد هجرة العائلة إلى الشام، ولمحمد السعيد مريدون، وله بعض المؤلفات المذكورة في كتب التراجم، ونعته أحد مترجميه بأنه (شيخ الطريقة القادرية) في المغرب (الجزائر) (¬1). وقد ترك ولدين هما محمد المرتضى وعبد الباقي، تولى الأول شؤون الطريقة في بيروت وتولى الثاني فتوى المالكية في دمشق، وبعد مدة من وفاة والده (1278 هـ) انتقل محمد المرتضى إلى بيروت، وكان قد زار إسطانبول بنصيحة من الأمير عبد القادر (عمه). ورتب له السلطان راتبا ماليا، وحج مع عمه (الأمير) سنة 1281، وبعد رجوعه عكف على نشر العلم وأوراد الطريقة القادرية، وكان له تلاميذ في دمشق وبيروت، وله نظم ¬

_ (¬1) زكي مجاهد (منتخبات تواريخ دمشق). 2/ 696، وقد دفن الشيخ محمد السعيد بجبل قاسيون، بدمشق،

في المديح النبوي، ودروس في الوعظ والإرشاد، وقد توفي في بيروت سنة 1316 (1902) (¬1). وقد وجدت السلطات الفرنسية أن الذين يرسلون المال للشيخ محمد المرتضى فيهم أيضا بعض الموظفين الرسميين عندها، ولعل خوف الفرنسيين يرجع إلى كون القادرية كانت جسرا للدعاية العثمانية وحركة الجامعة الإسلامية، وهم يعتبرونها من الطرق المعادية للمسيحيين، سيما وأن الذين ينشطونها هم من أسرة الأمير ومن مواليد الجزائر، كما أن القادرية، تاريخيا، من الطرق القريبة من السلطة العثمانية، كما عرفنا. ويقدر الفرنسيون عدد أتباع الطريقة القادرية في الجزائر كما يلي: 1882 ... 14، 574 إخوانيا ... 268 مقدما ... 29 زاوية (¬2) 1897 ... 24، 578 إخوانيا ... 558 مقدما ... 33 زاوية (ويذكر المصدر الأخير أيضا ما يلي: وكيل واحد، و 521 من الطلبة، وأربعة شيوخ، كما يذكر أن من ضمن مجموع الإخوان، هناك 2، 695 امرأة أو خونية) (¬3). 1906: 25، 555، إخوانيا (منهم 2، 800 من النساء) و 33 زاوية (¬4). ¬

_ (¬1) نفس المصدر، ص 793 - 795، انظر أيضا سهيل الخالدي (دور المهجرين الجزائريين في المشرق ..). مخطوط، ص 381، ومحمد المرتضى ولد بالقيطنة (معسكر) سنة 1245 (1829). وقرأ على عمه الأمير، وعلى والده محمد السعيد وغيرهما، وكان متزوجا من إحدى بنات عمه الأمير. (¬2) رين، مرجع سابق، 201، عندما كان رين يكتب (1884) كان جزء من الجنوب غير محتل بعد. (¬3) ديبون وكوبولاني، مرجع سابق، 213 - 315. (¬4) هنري قارو، مرجع سابق، ص 162، وهذا المصدر هو الذي ركز على عداوة القادرية للمسيحيين في المغرب والسنغال،

وقبل أن نختم الحديث عن القادرة نود أن نشير إلى نقطتين: الأولى أنها أم الطرق على العموم، والثانية ذكر دعاء القنوت الذي يردده أتباعها، أما كونها أما للطرق على العموم فنحن سنلاحظه من دراستنا للطرق الأخرى التي يبدأ أصحابها بالانتماء إليها، ثم يجمعون بينها وبين طريقتهم الجديدة، وقد أخذ محمد بن علي السنوسي أوراد القادرية، رغم أن الفرنسيين، لجهلهم، كانوا يريدون أن يجعلوا بعض شيوخ القادرية ضد السنوسية، بتشجيع الغيرة والحسد، وكون هذا من الداخل وذلك من الخارج، يضاف إلى ذلك أن الداخل في القادرية لا يمنعه دخوله من الانضمام إلى طريقة أو طرق أخرى، لأن الطرق كلها في الأساس تدعو إلى الله، كما عرفنا وتدافع عن الدين، ولكن الجاهلين هم الذين وظفوا الأتباع ليتضاربوا أحيانا لا من أجل مبدأ ولكن من أجل فرنسا، وقد كان الأمير عبد القادر أخذ، بالإضافة إلى القادرية، الطريقة المولوية بدمشق، على يد الدرويش صبري، كما أن الأمير أخذ الطريقة الشاذلية بمكة أثناء حجه، على الشيخ محمد الفاسي (¬1). وكان قدور بن سليمان يجمع بين الشاذلية والتجانية، وكذلك قاضي تلمسان شعيب الجليلي كان يجمع بين عدة طرق. أما دعاء القنوت، فالمعروف أن للطريقة القادرية أذكارا عامة وأذكارا خاصة، أما العامة فتتمثل في أن يردد المريد 165 مرة كلمات الشهادة (لا إله إلا الله) عقب كل صلاة، وأما الأذكار الكبيرة فهي ترديد العبارات التالية مائة مرة لكل منها إلا العبارة الأخيرة فخمسمائة مرة، حسب بعض المصادر، وهذه العبارات هي: أستغفر الله العظيم، سبحان الله، اللهم صلى على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه، والأخيرة هي الشهادة (لا إله إلا الله). هذا عن الأذكار العامة، أما الدعاء الخاص، فهو دعاء القنوت، وهو الذي أعطاه المقدم في بغداد إلى بعض الحجاج الجزائريين سنة 1896، وعبارته هي: (اللهم إنا نستعينك، ونستغفرك، ونؤمن بك، ونتوكل عليك، ونخنع لك ¬

_ (¬1) محمد الهاشمي ابن بكار (كتاب مجموع النسب). الجزائر 1961، ص 37 - 38،

العمارية/ القادرية

ونخلع، ونترك من يكفر بك، اللهم إياك ن عبد، ولك نصلي ونسجد، وإليك نسعى ونحفد، نرجو رحمتك، ونخاف عذابك الجد، إن عذابك بالكافرين ملحق) (¬1). العمارية/ القادرية من الطرق التي التصقت بالقادرية، طريقة عمار بوسنة، أو العمارية، ورغم أن تاريخ ميلاد عمار بوسنة يرجع إلى 1123 (1712). فإن الذين يهمهم أمر الطرق الصوفية ونشاطها السياسي وظفوا لها شخصية غريبة، أحيت الماضي ونشطت الحاضر وساعدت على أداء الخدمات اللازمة في وقتها، لسنا هنا إذن أمام طريقة صوفية عادية لها مؤسسها المشهور بالشرف والبركة والعلم، ولكننا أمام شخصية مغامرة نصف درويش ونصف سياسي، وهو رجل أمي لا يقرأ ولا يكتب، ومع ذلك كان يقوم بإعطاء الأوراد والإجازات، وحاشا أن يكون ذلك هو عمار بوسنة، إنه الحاج مبارك بن يوسف المغربي صاحب الأدوار الغريبة والأطوار العجيبة، واللعبة المسخرة في يد الفرنسيين أثناء سبعين سنة من عمره على الأقل، ويبدو من كل الدلائل أن الفرنسيين هم الذين كونوا أو لفقوا هذه الطريقة المنسوبة إلى الشيخ عمار بوسنة في وقت كانوا فيه يريدون السيطرة على الزوايا والطرق الصوفية، بل كانوا يريدون احتلال قسنطينة، ثم احتلال تونس، فإذا بهم يجدون كل العون من هذا الدرويش المغلف بأقنعة كثيرة. يدكرون أن مبارك بن يوسف جاء من مراكش (المغرب) إلى الجزائر سنة 1815، وأنه زنجي يقول إنه من مرابطي (بخارى). وكانت عائلته تقيم قرب ¬

_ (¬1) ديبون وكوبولاني، مرجع سابق، ص 296، وقد ترجم دعاء القنوت إلى الفرنسية جان ميرانت، المترجم العسكري عندئذ بالحكومة العامة، بالجزائر، وقد اعتمد رين في ترجمة أبي مدين على ما كتبه عنه شارل بروسلار في (المجلة الإفريقية) تحت عنوان (الكتابات العربية في تلمسان). سنة 1859، ص 1 - 17 و 81 - 93، كما اعتمد بروسلار على ابن مريم وابن صعد وغيرهما من المصادر العربية،

مكناس، ولم يربطوا بين (بخارى) المشرق وعبيد (البخاري) الذين اتخذهم السلطان المنصور الذهبي جيشا له، واشتهروا بين أهل المغرب بذلك الاسم (عبيد البخاري) لأنهم كانوا يتقدمون الصفوف بقراءة أحاديث البخاري، وظل مبارك بن يوسف في الجزائر يمارس مهنة الإسكافية إلى احتلالها من قبل الفرنسيين، فذهب إلى الحج (1830) وخرج منها، كما خرج الكثيرون من أهلها، وقد كرر الحج ثماني مرات بعد ذلك في وقت كان الجزائريون ممنوعين من أدائه، وبعد أن التقى بعدد من شيوخ الطرق أو حاول التقرب منهم، رجع إلى الجزائر عن طريق تونس، وتجول في عنابة واستقر في قالمة، وكان يمارس التطواف والتجوال والاتصال بأهل الله وغيرهم، وكون فرقة موسيقية، وأخذ ينشد بواسطتها الأناشيد الدينية وحتى الحربية، وأضاف إلى ذلك الآيات القرآنية، وبعض الأدعية التي استخلصها من الطريقة العيساوية التي أصبح مقدما لها، وفي سنة 1836 استفاد منه الفرنسيون، كما قالوا، أثناء حملتهم الفاشلة على قسنطينة، ونتيجة لذلك كافأه اللقيط يوسف (والغريب أن حياتهما متشابهة، لأن اللقيط يوسف ادعى للفرنسيين أنه ابن غير شرعي لنابليون الأول، واستفادوا أيضا من خبرته ونسبه المشبوه، وعينوه عندئذ - 1836 - بايا على قسنطينة، لينازعوا به شرعية حكم الحاج أحمد) فبنى له اللقيط يوسف زاوية بقبة تعويضا له على خدماته، وهذه الزاوية كانت تقع على بعد قليل من قالمة عند أقدام (ماهونة). وهي تعرف بزاوية عين الدفلى، ولا علاقة لها بعين الدفلى الغربية، وقد أصبحت هذه الزاوية هي مسكن الحاج مبارك المعتاد. وكان من أهداف تكرار الحج بناء شخصية هذا (المرابط) الجديد في نظر العامة، ذلك أنه كلما رجع من حجة تقام له حفلات الاستقبال التي لا حد لضخامتها وهرجها وبذخها، وكان عدد الأتباع يزداد في كل حجة، وأضاف إلى حجاته الثماني، زيارة إلى المغرب الأقصى، فرجع منها بإجازة مقدم من شيخ زاوية مولاي إدريس، وكذلك جاء بورد الحنصالية من زاويتها الأم بدادس، وكلما غاب ورجع تقام له الحفلات وتضرب الدفوف وتعزف

الموسيقى الصاخبة، ثم يقوم بالجولات على رأس فرقته التي تتألف من اثني عشر عضوا حاملين (الغيطة) والبندير، وكان أتباعه يمارسون الرقص والحركات البهلوانية إلى جانب الإنشاد، وقد حملتهم أرجلهم إلى مختلف مناطق الشرق الجزائري من أقبو إلى بسكرة مرورا بقسنطينة وبجاية وغيرهما من المدن، وقد لاحظ الشيخ مبارك أن الاعتبار للشيخ عمار بوسنة قد خف عند الأتباع وكاد يصبح مجهولا، فعزم على إحيائه والتعلق به وجعل بوسنة هو شيخه، فأصبح الشيخ مبارك بن يوسف هو خديم الضريح، وفي بوحمام (قبيلة بني قائد، بلدية نشماية عندئذ) نصبت قبة أصبحت هي الزاوية الأم للطريقة الجديدة، قطن الشيخ مبارك ضريح الشيخ بوسنة بهدف تكوين طريقة يلم بها شعث الأتباع المتفرقين من المعجبين بالشيخ بوسنة، واشتهر مبارك بأنه فاعل خير، وأصبح هو الذي يقوم بخدمة (خديم) سيدي عمار، وحصل من وكيل الضريح على رخصة جلب الماء على ظهره من منبع غير بعيد من الضريح ليسقي به العطاش، ثم بدأت الزردات تقام باسم الشيخ عمار مرتين في العام، وجاء الحاج مبارك بكرامات أدهش بها الناس الذين أصبحوا يأتونه حتى من تونس، وهي الكرامات التي يقول إنها تأتن من طريق شيخه سيدي عمار باعتباره خديما له. وشيئا فشيئا أصبح الحاج مبارك (شيخا) لا منازع له، فقد طلب سنة 1876 رخصة لبناء غرفة في ضريح الشيخ عمار نفسه، وأصبح الوكيل يقدم إليه هو الزيارات التي يأتي بها الأتباع، وكان الشيخ عمار بوسنة قد اشتهر عنه أنه من ناشري الطريقة القادرية وأن عائلته كانت كذلك، وكان متحمسا لنشر تعاليمها، فاستغلت هذه القصة أثناء احتلال فرنسا لتونس، سنة 1881 أيضا، إذ تكونت طريقة الحاج مبارك رسميا سنة 1882، وأصبح لها ذكر ألفه لها الشيخ المازوني، رئيس فرع القادرية بالكاف، والشيخ المازوني (الذي يبدو أنه من مازونة) كان يرى في طريقة عمار بوسنة فرعا ثانويا للقادرية، وهكذا اتبع الحاج مبارك تعاليم المازوني، رغم أميته، فعلم الذكر لأحد أبنائه، وذكر هذه الطريقة (العمارية) يستند فقط على سلسلة الشيخ عمار

بوسنة ولا يزيد، ولكن بعضهم قد أوصلها بالشيخ عبد القادر الجيلاني نظرا لحماس الشيخ بوسنة، كما يقولون، للقادرية، ويتلخص الذكر في تكرار عبارات دعائية ونحوها عدة مرات كل ليلة، من الأحد إلى السبت، مثل: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم (يوم الأحد) وعبارة الشهادة (يوم الاثنين) وهكذا. عاش الحاج مبارك حياة طويلة، حتى قيل إنه عمر 130 سنة، أو ثمانين سنة، وقد توفي حول مدار القرن، فيذكر بعضهم أنه توفي عام 1897، ويذكر آخرون سنة 1955 وعمره مائة سنة، وأثناء حياته روج لطريقته بأسلوب سحري بينما تحاصر فرنسا معظم الطرق الأخرى، فيذكر (رين) خلال الثمانينات أن العاصمة ونواحيها كانت تقيم الحفلات مرتين في الأسبوع باسم الحاج مبارك في المقاهي، وهناك تنشد الأناشيد وتجمع التبرعات الدينية، وأخذت بعض هذه الفرق المتجولة على مرأى ومسمع من السلطات الفرنسية، تنتقل في الأرياف، فخافت هذه السلطات من العاقبة فمنعتها، ويلاحظ رين أن السلطات كانت تخشى أن يتصل الحاج مبارك بطرق صوفية أخرى في المشرق ويكون خطرا على الفرنسيين، أما في سنة 1884 فقد كان لا يشكل خطرا، حسب رأيه، رغم أن بعض أتباعه كانوا يعتقلون أحيانا ويعآقبون لإتيانهم أمورا ممنوعة (؟) أو باعتبارهم من المشردين، ويرى مصدر آخر أن هناك قصصا عجيبة تروى عن الحاج مبارك في الورع وأنواع الكرامات، وأنه كان يتحول إلى شخص آخر ويقوم بالجولان في المناطق التي لا يقوم فيها الناس بأمر الدين (؟) ويذهب إلى عدة أبواب في المدينة، وهذا يكفي لردع الضالين، والغريب أن هذا المصدر يذكر أن الحاج مبارك ترك ولدين، وهما السبتي والأخضر، ويقول عن الأخير إنه لا يتقيد كثيرا بالتعاليم القرآنية، ومن ثمة لا يتمتع بسمعة والده (¬1). أما عدد الأتباع والزوايا لهذه الطريقة الجديدة - العمارية/ القادرية - ¬

_ (¬1) أشيل روبير، مرجع سابق، ص 258،

الطريقة الشاذلية

فتذكر إحصاءات 1882 أنه 1، 062 إخوانيا، وخمس عشرة زاوية، وكلهم في إقليم قسنطينة (¬1). وأما إحصاء 1897 فيذكر لها 6، 435 من الإخوان، وهذه زيادة معتبرة خلال خمسة عشر عاما إذا نظرنا إلى الزيادات في عدد الطرق الأخرى، أما التأثير والتوسع فيظهر في عدد الزوايا والشيوخ، وهو: 26 زاوية، و 46 مقدما، وشيخ واحد، وثلاثة وكلاء، و 36 خليفة، إضافة إلى عدد من الفقراء (5، 774) والشواش والطلبة، ومن بين أتباعه بعض النسوة (22 امرأة) (¬2). وهكذا تتطور الطرق، وتتحول إلى أداة في خدمة السلطات الاستعمارية، على يد أناس مجهولي الهوية أو مغامرين، مستغلين اسم طريقة من أقدم الطرق، وهي القادرية، واسم شيخ أو مرابط يحترم الناس ذكراه وهو الشيخ عمار بوسنة. الطريقة الشاذلية لم نتوسع في حياة الشيخ أبي الحسن الشاذلي ولا في فروع طريقته، في الجزء الأول من هذا الكتاب، وكان الواجب أن نفعل ذلك، ونود الآن أن نستدرك ذلك بعض الشيء، فالشاذلية ترجع إلى المشيشية وهذه إلى المدينية، وهذه ترجع إلى القادرية التي ترجع بدورها إلى طريقة الجنيد، كيف ذلك؟ يعتبر شعيب بن حسين الأندلسي، المعروف أبو مدين، دفين تلمسان، هو مؤسس مدرسة التصوف السني نقلا عن الشيخين عبد القادر الجيلاني وأبي القاسم الجنيد، وهو الذي نشر هاتين الطريقتين في بلاد المغرب والأندلس، وقد ولد أبو مدين بإشبيلية سنة 500 هـ وعاش 94 سنة بعضها بالأندلس وبعضها في فاس وتلمسان وبجاية، كما عاش في المشرق. ¬

_ (¬1) رين، مرجع سابق، ص 118 - 119. (¬2) ديبون وكوبولاني، مرجع سابق، ص 356 - 366، عن وفاته يقول هذا المصدر إنها وقعت أثناء طبع الكتاب (1897) ولذلك نرجح هذا التاريخ، انظرص 365، هامش 1، وذكر المصدر أنه كان عندئذ عاجزا وأنه شبح فقط، وعاش 110 سنوات،

بتلمسان سنة 594 هـ، وحياته حياة المنقطع للعلم والصلاح والتوحيد. بعد الأندلس نزل أبو مدين فاس ودرس بها ثم نزل تلمسان فلم تقبل عليه أول الأمر، ثم ظهرت عليه علامات الصلاح فوجد فيها متسعا وتبجيلا، ومثل كل العلماء في تلك العصور ارتحل للحج وطلب العلم ولقاء العلماء، وقد التقى في بغداد بالشيخ عبد القادر الجيلاني، ثم رجع إلى الأندلس وحل بإشبيلية وقرطبة، وكانت بجاية عاصمة أخرى للعلم، فارتحل إليها وعزم على الإقامة بها، ولشهرته وابتعاده عن أهل السلطة، جاءته وفادة من سلطان الموحدين عندئذ، يعقوب المنصور، وطلب حضوره ليسأله، كما قيل، عن مسائل علمية، وكانت السن قد تقدمت به، وحذره أصحابه من مغبة هذا السفر السياسي المشبوه، ولكنه خالفهم وأخبرهم أن السلطان لن يراه (!) وحين اقترب من تلمسان أدركه المرض ثم الموت، ودفن بالعباد في تلمسان، حيث ضريحه الذي اتخذه البعض مزارا روحيا ودينيا ومعماريا، ورغم نسبة الكثير من الكرامات (¬1) إلى أبي مدين، فإنه كان قبل كل شيء عالما صالحا، وموحدا زاهدا، ومربيا ناجحا، ولأبي مدين سلسلة تربطه في التصوف بأبي القاسم الجنيد، وتبدأ من جبريل إلى محمد (صلى الله عليه وسلم) إلى الإمام علي، إلى الحسن البصري إلى حبيب بن العجمي، إلى داود الطائي، إلى معروف الكرخي، إلى السري السقطي، إلى أبي القاسم الجنيد ... إلى أبي مدين، وهو الثالث عشر في هذه السلسلة، وله سلسلات أخرى بعضها يذكر فيها اسم الجنيد وبعضها لا يذكر فيها، وقد انتقلت سلسلة أبي مدين إلى تلميذه عبد السلام بن مشيش (¬2). وابن مشيش هو أحد تلاميذ أبي مدين البارزين، نشأ في المغرب الأقصى، وهو من أشراف بني عروس عند جبل عالم بتطوان، كان ابن مشيش ¬

_ (¬1) عن كراماته انظر بعض ما جاء في ترجمته في كتاب محمد بن مريم (البستان). ط، الجزائر، 1909، وهنالك مؤلفات عديدة تناولت حياة أبي مدين، ومن أواخرها تأليف الشيخ عبد الحليم محمود. (¬2) رين، مرجع سابق، ص 217،

من زعماء الفكر في دولة الموحدين، وكان معاصرا ل عبد المؤمن بن علي، خليفة المهدي بن تومرت، أوصى ابن مشيش أصحابه وتلاميذه (ومنهم أبو الحسن الشاذلي) بالابتعاد عن أصحاب السلطة والسياسة والوظائف الدنيوية، وعاش هو مثالا لرأيه، ولعل ذلك كان سببا في اغتياله سنة 625 هـ، وكانت حياته مكرسة لخدمة الدين والتصوف، وقبره في جبل عالم المذكور، وانتشر صيته في كل المغرب العربي، ويتفق معظم الباحثين على أن شهرة ابن مشيش قامت على شهرة تلميذه أبي الحسن الشاذلي فهو الذي كونه ووجهه، بل نصحه بالذهاب إلى تونس بعيدا عن مؤامرات السياسة في المغرب عندئذ، وقد اشتهر ابن مشيش بدعاء يعرف (بالصلاة المشيشية) وهي الصلاة التي أصبحت متداولة لدى كثير من المتصوفة. ولد أبو الحسن علي الشاذلي في قبيلة غمارة قرب سبتة بالمغرب الأقصى، سنة 593، أي سنة قبل وفاة أبي مدين، وأخذ تعاليم شيخه ابن مشيش، وهو شاب، ولم يكد يبلغ الثانية والعشرين حتى توجه إلى قرية شاذلة خارج عاصمة تونس، واختلى بها، ويقولون إنه استقر في جبل جلاس واختلى فيه، ثم اشتهر أمره وجاءه الزوار والفضوليون، ولكن السلطة السياسية كانت له بالمرصاد، وقد خافوا منه، وكان للسلطة فقهاء يوافقونها، وخشي أبو الحسن الشاذلي أن يكون مصيره هو مصير شيخه ابن مشيش، وهو الاغتيال أو الحبس، فخرج من تونس إلى مصر، ولكن خصومه سبقوه إليها وشيعوا فيها ولدى علمائها أنه ملحد، وحتى لا تقع المواجهة اختار الشاذلي المكث بعيدا، إذ بقي في كهف عند بحر الإسكندرية، وقد عانى من الفقر والوحدة، ولا نعرف متى جاء مصر، ولا متى صفا له الجو بعد عبوس، إذ أظهر كرامات، كما قيل، ودعا على قاضي تونس ابن البراء (الذي يبدو أنه وشى به لدى السلطان). وقد ذهب الشاذلي إلى القاهرة وعاش فيها، وكما أظهر كراماته للعامة أظهر أيضا علمه للخاصة، ومن الذين انتصروا له بعد أن كانوا من خصومه، حسب كتب التراجم، هو العز بن عبد السلام المعروف بسلطان العلماء والذي كان رئيس علماء مصر عندئذ، وهكذا كثر أتباع أبي

الحسن الشاذلي، بعد أن كان خائفا يترقب ويعاني من العزلة والفقر، أصبح يحج كل عام ويجاور هناك فترة، ويبدو أنه أثناء إحدى حجاته وافاه الأجل في مكان مجهول حتى الآن، إلا أن بعضهم يجعله في أعالي مصر في المكان المعروف (بالأبيار الشاذلية). وكان ذلك سنة 656 هـ (¬1). سئل الشاذلي عن شيخه وهو في المشرق، فأخبر أنه هو عبد السلام بن مشيش، ولكنه تطور وأصبح يرى أن شيوخه من بني آدم هو الرسول (صلى الله عليه وسلم) والخلفاء الراشدون الأربعة، ومن الملائكة جبرائيل وميخائيل، وإسرافيل، وعزرائيل، ورغم خلواته وعزلته وأوقاته الكثيرة فإن الشاذلي لم يترك مؤلفا بخط يده، ترك أتباعا أو كتبا متنقلة في شكل تلاميذ، كما كان يقول، ومن هؤلاء التلاميذ الذين حفظوا عنه أو كانوا صورة لأفكاره مثل كتبه، هو أبو العباس أحمد المرسي، فهو الذي أكمل وطور الفكر الصوفي لشيخه الشاذلي، وقد ألف أحمد بن محمد عباد الشافعي كتابا سماه (المفاخر العلية في المآثر الشاذلية). وهناك أيضا الأدعية والأذكار المعروفة باسم (حزب البحر) والمنسوبة للشاذلي، وهو تأليف يضم تعاليم الشاذلي وطريقته (¬2). قلنا إن شهرة أبي الحسن الشاذلي قد طبقت الآفاق أثناء حياته وكذلك بعد مماته، ويرجع الفضل في إشاعة تعاليمه إلى تلاميذه، ومنهم أبو العباس أحمد المرسي (ت، 686). وقد امتدت سلسلته إلى ابن عطاء الله الإسكندري (ت 709) وأحمد زروق، وأحمد بن يوسف الملياني ثم العربي بن أحمد الدرقاوي، ولذلك يعتبر الدرقاوية إحدى الطرق المتفرعة ¬

_ (¬1) رين، مرجع سابق، ص 227، وكذلك ديبون وكوبولاني، مرجع سابق، ص 443 - 447. (¬2) نفس المصدر، ويذكر رين أن الذي ترجم له عن (المفاخر العلية) هو (آرنو) المترجم العسكري بالحكومة العامة بالجزائر، كما ذكر أن الشيخ محمد الموسوم، زعيم الطريقة الشاذلية في وقته هو الذي أعطاه (لطائف المنن) للشعراني والذي تضمن أيضا آثار وأقوال الشاذلي، وقد ترجم له عنه أيضا (آرنو) المذكور،

عن الشاذلية، وهي طريقة ظهرت في المغرب الأقصى في آخر القرن الثامن عشر الميلادي ثم انتشرت في الجزائر، كما ظهرت الشاذلية في طرابلس في فرع آخر يدعى المدنية، سنتناوله، أما في الجزائر فقد بقي لفظ (الشاذلية) غالبا على الفرع الذي تزعمه الشيخ محمد الموسوم، والفروع الثلاثة ترجع إلى سلسلة واحدة وهي أبو الحسن الشاذلي عن عبد السلام بن مشيش عن أبي مدين الغوث، الخ. انتهى أبو الحسن الشاذلي إلى أن أصبحت له طريقة خاصة في التصوف والفلسفة والعلم، عن طريق ممارسة الأخلاق والفضيلة والتوحيد، وقد ذاع صيته كعالم وفيلسوف أكثر منه درويشا له كرامات وخوارق، وكثر تلاميذه في المغرب العربي والمشرق، وشيئا فشيئا أخذوا يستقلون به عن أصحاب الطرق الآخرين، ويمكن القول إن طريقة أبي الحسن الشاذلي تقوم على الرحلة الفكرية والتأمل المستمر في وحدانية الله، وعلى الهيمان في أرض الله بحثا عن التطهر والتسامي، وعلى إهمال الذات وقمعها في سبيل الله، وعلى القيام بالصلوات والواجبات الشرعية في كل وقت وفي كل الظروف وفي كل مكان، لكي يعيش المريد في وحدة دائمة مع الله، والطريقة الشاذلية لا تؤمن بالخلوة ولا بالممارسات التهريجية ولا الانتفاضات والطفرات، بل تهتم بالعلم الروحاني الذي يقود المريدين إلى العيش الدائم في ذات الله، وقد أضاف بعض الباحثين أن الشاذلية يؤمنون بإمام مختف في القاهرة، وأن مذهبهم هو المساواة، وأنهم يقفون ضد التطور الاجتماعي، ويعارضون المسيحيين، ويرفضون قبول الوظائف الإدارية (¬1). ولا شك أن هذا الرأي مستوحى من العلاقات الدينية - الفرنسية (الاستعمارية) التي كانت سائدة في الجزائر، أو أنه مستوحى من نموذج معين من الشاذلية، وقد قلنا إن تعاليم الشاذلية قائمة على مذهب أبي القاسم الجنيد الذي جاء به أبو مدين الغوث إلى الأندلس والمغرب العربي. ¬

_ (¬1) قارو، مرجع سابق، 163،

ويؤمن أتباع الطريقة الشاذلية بأن أبا الحسن الشاذلي شريف من نسل الإمام علي، وله سلسلتان إحداهما سلسلة الورد وتبدأ بالشاذلي نفسه وتمر ب عبد السلام ابن مشيش، وتنتهي بالإمام علي وبالرسول (صلى الله عليه وسلم) وجبرائيل عن الله سبحانه وتعالى، وهناك سلسلة البركة، وهي لا تختلف كثيرا عن الأولى، وتنتهي أيضا بالإمام علي، وقد تناولت كتب الطريقة الشاذلية السلسلتين بالتفصيل، سيما كتاب (المفاخر العلية) لأحمد بن محمد بن عباد الشافعي الشاذلي، وللطريقة الشاذلية علماء ومتصوفة يروون أخبارها ويسجلون أذكارها، ومنهم ابن الصباغ وابن عطاء الله الإسكندري، اللذان شرحا ونوها بكتاب (حزب البحر) الذي يضم تعاليم أبي الحسن الشاذلي، كما سبق القول. ويلتزم أتباع الشاذلية بطريقة معينة للذكر، نجدها بالخصوص عند الشيخ محمد الموسوم، وهي الاستغفار مائة مرة (أستغفر الله). والصلاة على الرسول (صلى الله عليه وسلم) مائة مرة (اللهم صلي على سيدنا محمد النبي الأمي). والشهادة مائة مرة (لا إله إلا الله). وذلك كل صباح ومساء، بالإضافة إلى حضور الحضرة مرة في الأسبوع على الأقل، وزيارة المقدم والحديث إليه مرة في الشهر على الأقل، ثم التوبة الدائمة، وطلب الغفران من الله، والرجوع إليه بكرة وعشيا، هذا هو الوجه الظاهري أو العام للأذكار والممارسات الشاذلية، وهناك جانب آخر خاص أو باطني، وهو مجال لا حدود له من التأمل والتفكر والتعمق في المخلوقات والخالق. ذكرنا أن الشاذلية تفرعت إلى فروع عديدة، وأصبح كل فرع منها مستقلا بشيخه، وأن بعض الفروع زادت في الذكر بعض التفاصيل، وذكر الباحثون أن هذه الفروع تصل إلى نحو العشرين، بعضها موجود في المشرق غالبا مثل الوفائية والحفنية، وبعضها موجود في المغرب الأقصى بالخصوص مثل السهيلية والغازية، أما الطرق الفرعية للشاذلية والتي لها في الجزائر أتباع كثيرون أو قليلون فهي: الجزولية والزروقية واليوسفية، والعيساوية،

والبكائية، والأحمدية (الكرزازية). والشيخية، والناصرية، والطيبية، والزيانية، والحنصالية، والحبيبية، والمدنية، وهناك فروع أخرى لم نستطع تحديد مكانتها في الجزائر وهي: العروسية، والبكرية (¬1). ويعود كل فرع إلى مؤسس خاص ينسب إليه، وبعض هذه الفروع في المغرب الأقصى، ولكن له تأثير بالجزائر كالطيبية، والناصرية والعيساوية، ولأهمية بعض هذه الفروع سنخصص لها فقرة في هذا الفصل، أما الباقي فنذكره عرضا، ولكن قبل ذلك نود أن نواصل الحديث عن الشاذلية نفسها. فقد اشتهر في الجزائر الفرع الذي تولاه الشيخ محمد الموسوم في القرن الماضي بأنه هو الممثل للشاذلية وأن له سلسلة في ذلك، وهو محمد الموسوم بن محمد بورقية (ابن رقية) وأصله من غريب نواحي مليانة، بلدية جندل، وسكن قصر البخاري جنوب المدية على مشارف الصحراء، وأسس هناك زاوية للشاذلية، أصبحت ذات سمعة كبيرة في وقته، كما كان هو من الشيوخ المشار إليهم، ولكنه جاء في وقت شهد الثورات من جهة وغطرسة السلطات الاستعمارية من جهة أخرى، فكانت حياته وحياة زاويته نموذجا للعمل الصوفي في وقت الاضطراب السياسي والاقتصادي، ويذكر الإسكندر جولي الذي درس الشاذلية بإمعان، إن الشيخ الموسوم ولد حوالي 1820، وأنه ظل يتردد على الطرق الصوفية يأخذ من هذه وتلك في وقت كان فيه نشاط موسى بن حسن الدرقاوي قويا في الناحية، وكذلك نشاط الشيخ عدة بن غلام الله الدرقاوي أيضا، إلى أن عزم الموسوم على اتباع الشاذلية، سنة 1866، ولا نستبعد أن يكون استقلال الشيخ الموسوم داخلا في مخطط السلطات الفرنسية في تفتيت المرابطين والطرق الصوفية، وقد لا يكون هو واعيا بذلك، ولكن ظهوره كمهدئ للأوضاع وداع إلى السلم ووقف ¬

_ (¬1) ذكر رين تسع عشرة طريقة فرعية، هي التي ذكرناها، ولكنه أهمل الرحمانية، وهي أيضا مستمدة من الشاذلية عن طريق الحفنية، وكذلك الدرقاوية التي لها علاقة واضحة بالشاذلية، أما السنوسية فصاحبها (محمد بن علي السنوسي) قد صرح بأنه أخذ عن الشاذلية أيضا،

(النفاق) أو الثورة يؤكد هذه السياسة، يقول (رين) إن الشيخ الموسوم قام، من تلقاء نفسه، ثم بطلب من السلطات الفرنسية باستعمال نفوذه سنة 1864 (ثورة أولاد سيدي الشيخ) وسنة 1871 (ثورة المقراني والحداد). فكتب إلى (الإخوان) رسائل ومناشير يحرم عليهم الانضمام للثورة، ويلعن من يتدخل في السياسة (¬1). أخذ الشيخ الموسوم ورد الطريقة الشاذلية على شيخه عدة بن غلام الله، وهذا أخذه عن شيخه، العربي بن عطية، وهذا أخذه عن العربي الدرقاوي، شيخ الدرقاوية التي هي بدورها فرع من الشاذلية، وقد ذكرنا سابقا محتوى هذا الورد، هذا عن شيخه في مجال التصوف أو الحقيقة، كما يقولون، أما شيخه في العلوم الشرعية وغيرها فهو الحاج الشفيع، وقد تعلم الشيخ الموسوم في مازونة، وكان أبوه قد تولى القضاء في أوائل الاحتلال، وأصبح الشيخ الموسوم بارعا في علوم اللغة والأدب والبلاغة والفقه وعلم الكلام، رغم المستوى المتدني للتعليم في وقته، ولكن موهبته وتفتح ذهنه جعله من القلائل في ذلك العهد الذين ألموا بهذه العلوم، ولو في المستوى المتوسط، ولعل ذلك هو الذي جلب إليه أنظار السلطات الفرنسية فعرضت عليه وظيفة إدارة المدرسة الحكومية الثعالبية بالعاصمة، فاعتذر (¬2). وتفرغ للوعظ والإرشاد في قصر البخاري، وذاع صيته بين الناس في الناحية واعتقدوا فيه الصلاح والولاية، رغم أنه، كمعاصره محمد بن أبي القاسم في بوسعادة، كان يبث العلم الممكن في وقت الاحتلال ويبث مبادئ الدين والتصوف (¬3). ولعله كان يعتقد أن ذلك أبلغ وسيلة في الجهاد ضد العدو، الذي كاد يخنق أنفاس أمثاله ¬

_ (¬1) رين، مرجع سابق، ص 264، كلمة (النفاق - بالقاف المعقودة أو البدوية) تعني الخروج عن الحكم القائم أو التمرد. (¬2) الآن كريستلو، (المحاكم الإسلامية والدولة الاستعمارية). برنستون، 1985 ص 275. (¬3) ترجمته في أبي القاسم الحفناوي (تعريف الخلف برجال السلف). الجزائر، 1906 (ط، مصورة 1988). 2/ 516، وكذلك ابن بكار (مجموع النسب) مرجع سابق، ص 159 - 160،

ممن تسميهم السلطات الفرنسية بالمرابطين المستقلين. أسس الشيخ الموسوم زاويته بقصر البخاري في حدود سنة 1865، وهي تقريبا الفترة التي أسس فيها زميله صاحب الهامل زاويته أيضا، فنحن في عهد اختفت فيه المدارس وحورب فيه تعليم الدين واللغة من قبل السلطات الاستعمارية، ونحن أيضا في عهد شهد زيارة نابليون الثالث للجزائر وصدور مرسومين مشؤومين ضد المجتمع والهوية، أولهما مرسوم 1863 الذي سهل انتزاع الأراضي من أصحابها واقتلاع جذور المجتمع من أساسها بتمليك الأرض فرديا وحل النظام القبلي، والمرسوم الثاني أعلن أن الجزائريين رعايا فرنسيون لا حقوق لهم في الحياة السياسية والمدنية ولا جنسية لهم إلا إذا تخلوا عن أحوالهم الشخصية، وقد تخرج على يد الشيخ الموسوم عدد من التلاميذ في العلم والتصوف، منهم الشيخ محمد الشرقي العطافي، وقدور بن محمد بن سليمان المستغانمي، وكان الشيخ تحت رقابة السلطات الفرنسية في برنامجه التعليمي وفي أذكاره الصوفية، ويبدو أن (رين) مؤلف الكتاب الشهير عن المرابطين، كان يعرفه شخصيا، وقد سأله عن حياة الطريقة وأورادها، كما سأل غيره من رجال الطرق، لأن كتابه في الحقيقة، ما هو إلا خلاصة تقارير وتقاييد ومؤلفات وصلته من مختلف المصادر (¬1). ويذهب الإسكندر جولي إلى أن الشيخ الموسوم اشتهر في المنطقة بالعلم والتقى والزهد والغيرة الدينية، فأثر على الناس وجعلهم يتخلون عن الخرافات والبدع، وقد أعطى هو المثل فكان يرفض المدح، وكذلك العروض Propositions التي قدمها له الفرنسيون، وما عدا ذلك فقد عاملهم معاملة حسنة فاحتفظوا له بذكرى طيبة، كما يذهب جولي إلى أن وفاة الشيخ الموسوم قد أثرت في الجميع، وقال إن مشروعه الذي شيده قد انحط من بعده، إذ تقاسم أبناؤه التركة الروحية وتقاسموا زاوية بوغار (البخاري) ¬

_ (¬1) اطلعنا نحن على بعض هذه التقارير المرسلة إليه من رجال العلم والطرق الصوفية، وهي تذكر له السلاسل والأذكار والإحصاءات والميزانيات، وكان ذلك حسب ما يطلبه هو من معلومات في استبيانه،

وزاوية كامب موران؟ فانخفض الحماس الديني عند الأتباع وذهبت هيبة الزاوية، وأصبحت العلاقات بين الزاويتين على غير ما يرام، ولذلك تبعثرت الجهود التي كان الشيخ الموسوم قد بذلها (¬1). توفي الشيخ الموسوم في 24 ربيع الأول 1300 (3 فيفري 1883). حوالي أربعة أشهر قبل وفاة الأمير عبد القادر، وقد خلفه على رأس الزاوية ابنه أحمد، بوصية منه، وترك الموسوم مجموعة من المؤلفات ليس هنا مجال الحديث عنها، إنما نشير إلى أنها مؤلفات صغيرة الحجم ومتخصصة في التصوف في أغلبها، وعددها أربعة عشر مؤلفا، منها تأليف في التوحيد رآه الشيخ الحفناوي صاحب (تعريف الخلف) وقال عنه: (طالعته فوجدته عجبا عجابا). ومنه رحلة ذكر فيها شيوخه، قد تكون ذات أهمية لعلاقتها بأحوال العصر ورجاله، ومنها أيضا تأليف ملفت للنظر يبدو أنه كبير الحجم (خمس كراسات). ألفه سنة 1297، أي ثلاث سنوات قبل وفاته، وسماه (النور الوقاد في تعزية الأولاد). وذكر مترجموه أنه ألفه عند وفاة أحد أولاده، وله قصائد يذكرها الإخوان عند اجتماعهم، ومنها (الغوثية) التي أوردها له الشيخ ابن بكار في آخر كتابه، والغوثيات مجال واسع لأهل الدين والتصوف يتوسلون فيها إلى الله لتفريج الكروب ورفع الضيم، واستعمال الرموز عند الشدة، وهي تشبه قصائد المداحين والشعراء الشعبيين من بعض الوجوه (¬2). كانت وفاة الشيخ الموسوم في الوقت الذي أخذت فيه السلطات الفرنسية تضيق الخناق على رجال الطرق الصوفية، إنه زمن ما يسمونه الحكم المدني وعهد لويس تيرمان الحاكم العام، وقد قلنا إن أحمد المختار هو الذي خلف والده على الزاوية وحمل بركته الصوفية، ويبدو أن الشيخ أحمد لم يكن في درجة والده علما وموهبة، فقد تفرعت الزاوية إلى فروع في عهده ولم يحافظ هو على وحدتها، ولعل الأمر كان فوق طاقته، لأن ذلك كان هو ما ¬

_ (¬1) الإسكندر جولي، خلاصة بحثه عن الشاذلية في قصر البخاري والطرق الصوفية منشورة في (مجلة العالم الإسلامي). R، M، M، أكتوبر 1908، ص 370 - 371. (¬2) عن مؤلفات الشيخ الموسوم انظر فصل العلوم الاجتماعية،

تريده السلطات الفرنسية، وهو تشتيت الزوايا وتفريعها وتشجيع استقلالها بعضها عن بعض حتى تظل وحدات صغيرة متنافسة. وفي هذا الصدد أرسلت السلطات الفرنسية المستشرق الإسكندر جولي في بعثة خاصة لدى الشيخ أحمد المختار حيث بقي إلى جانبه عدة شهور، يدرس أحوال الزاوية وأتباعها وزياراتها، وعقيدتها الصوفية، وعلاقاتها، وفروعها، وخرج من ذلك بدراسة مطولة ومفصلة سماها (دراسة عن الشاذلية) (¬1). وكان الفرنسيون يعتقدون أنهم من خلال هذه الدراسات يعرفون أيضا أحوال المغرب الأقصى الذي تفرعت فيه الشاذلية، وكان لهم في ذلك العهد أطماع في احتلاله، كما كانوا يريدون معرفة العلاقة مع أهل الشاذلية في المشرق ليحددوا علاقاتهم مع العالم الإسلامي، أليس هذا زمن صدور (مجلة العالم الإسلامي) التي كان يديرها الضابط المتخصص في الطرق الصوفية، لوشاتلييه؟ (¬2). وقد انتهى الإسكندر جولي من دراسته إلى أن الطرق الصوفية تموت تلقائيا بموت العضو الحي، إذ يعتريها الهرم والفناء، ومن رأيه أن الطريقة تعيش شبابها وكهولتها بحياة شيخها المؤسس ثم يخلفه خلف أضعف منه وأقل حماسا فتضعف الزاوية وتنكمش سمعتها عند العامة ويكثر التنافس بين الفروع، ومن ثمة تتحلل وتنتهي. وهناك دلائل على صدق هذه النظرة، فالشيخ أحمد المختار بادر بإرسال رسالة إلى السيد (رين) على أثر وفاة والده، يخبره فيها بالوفاة، ويطلب منه أن يكون دعما له لدى السلطات، وأنه باق على سيرة والده في احترام الدولة الفرنسية، وأنه متمسك بالسيرة السابقة للزاوية، وهي المحافظة ¬

_ (¬1) الإسكندر جولي (دراسة عن الشاذلية). الجزائر، ط، جوردان، 1907، وقد نشرها مقالات متوالية في (المجلة الإفريقية) قبل ذلك. (¬2) انظر كتابه (الطرق الصوفية في الحجاز). 1887، وقد صدرت مجلة العالم الإسلامي من باريس سنة 1906، وهي تحمل عنوان (البعثة المغربية). ولعل زيارة الشيخ محمد عبده (1903) تدخل في هذا النطاق، وغير ذلك من الفعاليات مثل انعقاد مؤتمر المستشرقين 14 في الجزائر (1905).

على الأمن (والعافية). وقد يبدو لنا هذا الكلام تعبيرا عن خنوع وخضوع بدون داع، ولكن الظروف التي تحدثنا عنها تجعل ذلك، فيما يبدو، أمرا بروتوكوليا، بل ضروريا، والفرونسيون لا يصدقونه على كل حال، لأن الذي يهمهم هو الفعل وليس القول، النتيجة وليس المجاملة، كان رين عندئذ (حاكم مجمع أمور عرب إيالة الجزائر) حسب تعبير الشيخ المختار، وهو الوظيف الرسمي في الحكومة العامة (المتكلف بالشؤون الأهلية). أخبره أن والده قد دفن في المسجد الذي بناه بنفسه من أجل ذلك بقصر البخارى وأنه (كان حبيبك وحبيب أهل الدولة المنصورة) وأنه أوصاه بخلافته (في جميع الأمور، وخصوصا حب الدولة الفخيمة الفرانساوية التي تمتعنا في ضلها (كذا). وعشنا في عافية تامة من قوة إحسانها، لنا ولجميع من احتمى بحمايتها، كما أوصى علينا جميع الأحباب الحاضرين بأن يبقوا على العهد والوداد، والتمسك بطريق الرشاد،) والمقصود (بالأحباب) هنا هم الإخوان، أتباع الطريقة، ولكن هذه الوصية كما سنرى لم يلتزموا بها، إذ سرعان ما تفرعت الفروع وقل الزوار عن الزاوية الأم، وختم الشيخ المختار رسالته إلى رين طالبا منه أن يظل صديقا للزاوية وأن يعمل على حمايتها حتى لا تؤذيها عناصر أخرى (واسأل من فضلك، أن تعاملنا بالإحسان، كما كنت تعامل أبينا (كذا) وتقم (كذا) مقامنا عند حكام الدولة) (¬1). وقد صدق (رين) عندما قال في كتابه المذكور إن أسلوب المراسلات مع المرابطين قد يفوق أسلوب المراسلات الدبلوماسية عند القناصل الأجانب: مهارة في تظليل الكلمات واختيار المعاني المحتملة،. لقد طال عهد الشيخ أحمد المختار، ولكن الزاوية الشاذلية لم تزدد سمعة على عهده ولم تحافظ حتى على ما كانت عليه، ولعل الولد الذي ألف فيه الشيخ الموسوم كتابه هو الذي كان يعده للخلافة، ذلك أن الشيخ أحمد كان صغير السن عند وفاة أبيه ولعله لم يكن أذكى ولا أقدر أبناء الشيخ ¬

_ (¬1) الرسالة مكتوبة في نفس اليوم الذي توفي فيه الشيخ الموسوم (3 فيفري). وهي موجودة في (كتاب الرسائل) لبلقاسم بن سديرة، ص 218،

الموسوم على تسيير شؤون الزاوية، وقد طال عهده حتى أن الشيخ الحفناوي ذكر في (تعريف الخلف) أنه رآه سنة 1321 (1904) واجتمع به وأخذ منه سيرة والده (¬1). وقد ذكر مؤلفا (الطرق الدينية) سنة 1897 أن الشيخ أحمد كان يدير الزاوية تبعا لتقاليد والده، أي في علاقتها مع السلطات الفرنسية، ومهما كان الأمر فقد أسس تلاميذ الشيخ الموسوم زوايا فرعية لم تكن تدين بالولاء للزاوية الأم (زاوية قصر البخاري). ففي بلدية ثنية الحد أسس الشيخ أحمد بن أحمد زاويته، وغير الذكر الذي تعلمه على شيخه قليلا، ولاحظ الفرنسيون أن سمعته تتوسع على حساب الزاوية الأم والوارث الروحي (البركة) للشيخ الموسوم. وهناك فرع آخر كان يديره بلقاسم بن الحاج سعيد المعروف بوقشبية، وكان بناحية اليدوغ، دائرة عنابة، وتلاحظ المصادر الفرنسية أن العرب والأوروبيين يعتبرون صاحب هذا الفرع حامي الغابات، حتى أنهم لا يخشون من الحرائق عليها، وأن له سمعة كبيرة، ويبدو أن الدروشة كانت غالبة على هذا الشيخ، ولكن الفرنسيين كان يهمهم حماية الغابات التي استولوا عليها والأمن على أملاك الأوروبيين، فلماذا لا يستغلون في ذلك اسم الشاذلية؟ وقد رأينا خاتم شيخ هذا الفرع فإذا هو مكتوب بالحروف العربية واللاتينية بطريقة مؤسفة، هكذا: (سيد بالقاسم بن الحاج اسعيد الشيخ الطرقة الشدولية) (¬2). وهو يلقب (بوقشبية) أي الخرقة التي يلبسها، حتى شاع بين الناس أنه صاحب طريقة بذاتها فيقولون (طريقة بوقشبية). وقد أصبح هذا الشيخ يعطي بدوره الإجازات لمقدميه، ومن ذلك إجازته لمحمد بن الطاهر التي أذن له فيها بإعطاء ورد (طريقتنا الشاذلية). ووقعها هكذا: أبو القاسم بن الحاج اسعيد القرفي نسبا، الشاذلي طريقة، وقال إنه أخذ الذكر والاسم من ¬

_ (¬1) يبدو أن الشيخ أحمد المختار لم يعش إلى الحرب العالمية الأولى، ذلك أن اسما آخر عندئذ كان على رأس الزاوية، وهو عبد الرحمن بن الموسوم، وهو على ما يبدو، أحد أخوة الشيخ أحمد المختار، انظر لاحقا. (¬2) النص اللاتيني هكذا: Sidi Belkacem Ben Said،

الزروقية واليوسفية

شيخه الحاج محمد بن خليفة عام 1296 (1878) (¬1). ويبدو أن دور بوقشبية في الشاذلية كان لا يختلف كثيرا عن دور مبارك بن يوسف في القادرية. وبعض تلاميذ الشيخ الموسوم قد أسسوا فروعا لأنفسهم وعاشوا بها يقومون بتعاليمها ويمارسون واجباتها، كالصلاة والذكر والتأمل، ومن هذا فرع الشيخ قدور بن محمد بن سليمان الذي شب على الطريقة الشاذلية، وأذن له فيها شيخه الموسوم، ثم أضاف إليها الطريقة التجانية التي تلقاها على شيخها أحمد التجاني (الحفيد) وأذن له في تلقينها، وقد توفي الشيخ قدور سنة 1322 (1905). ودفن في زاويته، وعمره يزيد عن الستين، وكان قدور يشبه شيخه الموسوم في الجمع بين العلم والتصوف، قال بعضهم إنها تزيد على العشرين، ونسبوا إليه كرامات، وله كتاب في (المرائي) (¬2). وللشاذلية فروع أخرى، غير التي ذكرناها، كانت منتشرة في البلاد، ويمارس أصحابها أورادهم وأذكارهم بزيادات من عندهم، ونعني بذلك فروع زاوية الشيخ الموسوم بقصر البخاري، أما فروع الشاذلية الأصلية فكثيرة، وسنأتي على بعضها بعد حين. وفي آخر القرن الماضي (1897) كان أتباع الشاذلية في الجزائر قد قدروا بـ 14، 206، موزعين على إقليم الجزائر وقسنطينة، وكان للطريقة 11 زاوية، 195 طالبا، 9 شيوخ، 99 مقدما (¬3). الزروقية واليوسفية قلنا إن للشاذلية عموما فروعا كثيرة بلغت العشرين عند البعض، ومن ¬

_ (¬1) ديبون وكوبولاني، مرجع سابق، ص 449 - 451، وقد توفي الشيخ (بوقشبية) في رمضان 1329/ 1912، انظر التقويم الجزائري للشيخ كحول، سنة 1912، ولا ندري الآن من هو محمد بن خليفة، فهل هو أحد مقدمي الشيخ الموسوم؟ (¬2) الحفناوي، تعريف، مرجع سابق، 2/ 330. (¬3) ديبون وكوبولاني، مرجع سابق، 454،

هذه الفروع الزروقية، نسبة إلى الشيخ أحمد زروق البرنوسي الفاسي، دفين مصراته (ت، 899). وكان أحمد زروق قد أقام في الجزائر في آخر القرن التاسع، وفي بجاية وقسنطينة، وهو أيضا من العلماء المتصوفة وليس من أصحاب الطرق التي نفهمها اليوم والذين اشتهروا بالغموض والدروشة واستغلال العامة، كان معلما ناجحا وفقيها، ولكنه كان أيضا يؤمن بالتأمل واستعمال الفكر، ولم يؤسس طريقة وإنما ترك أفكارا وتعاليم شبيهة بأفكار الشاذلي وأبي مدين، وله وظيفة قام أتباعه وتلاميذه بشرحها وتداولها، وترك كذلك عدة كتب في التصوف منها (عقيدة المريد)؟ ونسب إليه كتاب عنوانه (الأنس) اشتهر به عند المتعلمين، وأتباعه لم يؤسسوا طريقة باسمه، فظلت الزروقية نوعا من (التنظيم) غير المحكم حتى تساءل أحد الباحثين عما إذا كانت الزروقية ستختفي (¬1)؟ وكانت الزروقية منتشرة في قسنطينة وتلمسان وبجاية، ومن أنصارها عبد الرحمن الأخضري وعبد الكريم الفكون (¬2). أما في العصر الذي نحن بصدده فقد عرف الشيخ الطيب بن الحاج البشير، ضاحية أولاد طريف (البرواقية). والشيخ ابن جدو في مسكيانة أنهما من أنصار الزروقية، وقد وجد في خاتم الشيخ الطيب أنه شاذلي الطريقة، وأن تاريخ الختم هو 1277 (1860). وهو مكتوب بالحروف العربية واللاتينية، وقدر الفرنسيون عدد الأتباع بأقل من ثلاثة آلاف إخواني (2، 734) سنة 1897 (¬3). وبالطبع ليس للزروقية زاوية أم. ومن تلاميذ أحمد زروق الشيخ أحمد بن يوسف الملياني الذي تحدثنا عنه في الجزء الأول والمتوفى سنة 931، وذكرنا هناك دور الملياني في العلاقات بين العثمانيين والزيانيين، وللملياني تعليق على وظيفة الشيخ زروق، وبقي له أتباع في نواحي تلمسان ومليانة، لكن الفرنسيين يذكرون أن ¬

_ (¬1) ديبون وكوبولاني، مرجع سابق، 459. (¬2) انظر عن الأخضري والفكون الجزئين الأول والثاني من هذا الكتاب، وكذلك كتابنا (منشور الهداية). تحقيق، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1995. (¬3) كوبولاني وديبون، مرجع سابق،

الاغتيالات كانت تطارد أحفاده، فقد ذكروا أن أحدهم اغتيل سنة 1872، وآخر سنة 1881، وثالثا اغتيل سنة 1895 لأسباب غير واضحة، وهم ينسبون ذلك إلى خصومه من الشرفة (الأشراف). ولعل ذلك كان بتشجيع من الفرنسيين أنفسهم لإبقاء التوتر، لأن الشيخ الملياني كان حليفا للنظام العثماني، كما عرفنا، وكان أحفاده من المقربين للدايات، حتى أن الداي الأخير (حسين باشا) كان متزوجا إحدى حفيداته، ومهما كان الأمر فإن مصطفى ولد الحاج الساحلي قد اغتيل في فيفري 1872 وكان قايدا (حاكما) على طيوط، ثم تولى أخوه الحاج الملياني مكانه في القيادة فوقع اغتياله أيضا في 29 مارس 1895، وهذا يدل على فوضى الحكم والسلطة في العهد الفرنسي، سيما وأن ذلك واقع في عهد يسمونه عهد الهدوء والاستقرار، أما الثالث الذي اغتيل سنة 1881 فلا نعرف اسمه الآن، وكان الفرنسيون قد أخذوا، كما أشرنا، يوظفون من رجال الطرق الصوفية في القيادات والمناصب الإدارية منذ أواسط الثمانينات، ويلمح الفرنسيون إلى أن هناك علاقة بين الاغتيال الثالث وثورة بو عمامة (1881) إذ أن المعادين للفرنسيين (النصارى، كما تقول الوثيقة) قد نقموا على مرابط طيوط (من أتباع أو أحفاد الشيخ الملياني) لأنه سهل مهمة الجنرال (دي بانيير) في وقف الثورة. وكان الفرنسيون يراقبون تحركات الطرق الصوفية عموما ولا سيما تلك التي لها علاقات مع الخارج، وقد لاحظوا أن هناك حركة مشبوهة بين درقاوية المغرب ويوسفية (¬1) الجزائر فراقبوها عن كثب، ووجدوا أن سي عبد القادر، مرابط طيوط قد استقبل سنة 1880 أحد رجال الطريقة الدرقاوية، وهو محمد الشاوي، وكان ذلك بدون طلب الرخصة من السلطات الفرنسية التي تريد أن تعرف كل وسيلة للاتصالات، فاتهمت سي عبد القادر بأنه من أتباع الدرقاوية، أي أنه تابع لطريقة (أجنبيه) نتيجة رحلته إلى زاوية مدغرة التي كان يديرها سي محمد بن العربي، وعندما أحس سي عبد القادر بالتضييق عليه طلب السكن في تلمسان والابتعاد عن طيوط ¬

_ (¬1) اليوسفية هي الطريقة المنسوبة إلى الشيخ أحمد بن يوسف الملياني،

ومشاكلها وعلاقتها مع المغرب الأقصى، وقد وافقت السلطات على طلبه، وقضى بقية حياته في تلمسان إلى أن مات سنة 1888، وكان ل عبد القادر هذا أخوة أحدهم سي زروق، وهو الذي كان يدير شؤون الزاوية في سنة 1897، ولكنه كان مهتما بالحياة الآخرة ومبتعدا عن الناس، أما الذي كان يدير الزاوية اليوسفية فعلا في الجزائر، فهو المسمى مولاي، الأخ الثالث له، وهو الذي كان على اتصال مع الخارج، أي السلطات الفرنسية وغيرها. وليس لليوسفية كثير من الأتباع، ومعظمهم كانوا مرتكزين في النواحي الغربية من البلاد، ولها أفراد هنا وهناك في بقية الجزائر، وحسب إحصاء سنة 1882 فإن لها في الجزائر زاوية واحدة، وخمسة مقدمين، 519 من الإخوان، أما إحصاء 1897 فيعطيها حوالي 1، 446 من الإخوان (¬1). واليوسفية - الراشدية كثيرا ما تختلط بالزروقية/ الشاذلية، كما ذكرنا. ويذكر مؤلف (مجموع النسب) أن محمد بن الشرقي العطافي، تلميذ الشيخ محمد الموسوم قد تزوج من فرنسية، ويفهم من كلامه أنه طلقها بعد مدة، إذ قال إنه تزوج من (علجة رومية وبقيت تحته مدة) وله نسل لا ندري هل منها أو من امرأة أخرى، وتوفي سنة 1341 عن 98 سنة، وكان الشيخ محمد الشرقي هذا من الأدارسة ومن مواليد 1239 هـ، وبعد وفاة شيخه الموسوم استقل بالزاوية في العطاف ولم يعترف بالزاوية الأم (قصر البخاري). وكان قد أخذ أيضا عن شيوخ آخرين، أمثال عدة بن غلام الله بواسطة الحاج محمد البعبيدي، وكان محمد الشرقي من متعلمي الوقت، ولم يسافر خارج الجزائر حسب المعلومات (¬2). وكانت الشاذلية قد انتشرت أيضا في تلمسان ونواحيها، ومن أشهر رجالها في أوائل هذا القرن، الشيخ محمد بن يلس الذي هاجر إلى دمشق سنة 1911 مع أسرته، وقد واصل هناك مشيخة الشاذلية، فهو من مواليد ¬

_ (¬1) رين، مرجع سابق، 265، وديبون وكوبولاني، مرجع سابق، 466. (¬2) ابن بكار (مجموع النسب). ص 163 - 164،

الطريقة العيساوية

1264 (1847). ومن شيوخه في الجزائر محمد البوزيدي ومحمد الهبري، وكلاهما درقاوي، ولكن الشاذلية هي المعروفة في المشرق، ولم نسمع أنه انتسب هناك للدرقاوية، وقد جلس للتدريس في جامع عز الدين وفي بيته عندما كان في دمشق، وكان له مريدوه، ثم انتقل إلى زاوية بحي الشاغور، وله ديوان شعر وبعض المؤلفات الأخرى، وتوفي سنة 1346 (1927) بدمشق، وقد خلفه في الزاوية والطريقة هناك تلميذه الذي هاجر معه أيضا الشيخ محمد الهاشمي التلمساني (¬1). وقد استغل الفرنسيون سمعة الشاذلية وطلبوا تأييدها في حربهم سنة 1914، فقد أصدر شيخ زاوية قصر البخاري التي تعتبر الزاوية الرئيسية لهذه الطريقة، نداء إلى أتباعه طلب منهم أن يطيعوا الفرنسيين لأنهم أولو الأمر الذين نصت عليهم الآية {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر} وفسر {أولي الأمر} هنا بأنهم هم الحكام الفرنسيون، وعلى الجزائريين بالإخلاص إلى فرنسا (قلبا وقالبا). وذكر مزايا فرنسا على الجزائر، ثم قال: {وشيدت لنا المساجد وفتحت لنا المدارس وبنت لنا المستشفيات وعلمتنا الصنائع، واحترمت ديننا وعوائدنا (بينما كانت (الجزائر) قبل ذلك غنيمة في يد الأتراك حيث ارتكبوا فيها (الفظائع الكبرى). وأخبرهم أن دولة تركيا الآن هي بأيدي بعض الأوباش، واعتبر فرنسا (دولتنا ... المحبوبة) (¬2). وكان هذا المتحدث باسم الزاوية الشاذلية عندئذ هو عبد الرحمن بن الشيخ الميسوم. الطريقة العيساوية والعيساوية من فروع الشاذلية/ الجزولية أيضا، ومؤسسها هو الشيخ محمد بن عيسى، دفين مكناس بالمغرب الأقصى، وقد اشتهرت العيساوية ¬

_ (¬1) الخالدي (المهجرون ...) مرجع سابق، 376، مخطوط. (¬2) مجلة العالم الإسلامي R، M، M، ديسمبر 1914، ص 246 - 248، وقد بدا لنا أن هذا الأسلوب من وضع بعض المستشرقين وأن (المرابطين) اكتفوا بوضع أسمائهم عليه فقط،

بين العامة على أنها من الطرق المهرجة، فهي تمارس أعمالا ظاهريا لا علاقة لها بالعبادة والتصوف، كالرقص وأعمال العنف والتضارب والسحر وغيرها من أوجه النشاط العضلي والبدني على مسمع ومبصر كل الناس، ويذهب (رين) إلى أن لديه رسالة من شيخ الزاوية الأم بمكناس، يستنكر فيها ما يقوم به بعض الأتباع من أعمال لا علاقة لها بالطريقة، وهو يوصيهم بعدم الخلط بين السحر والتصوف، وأكد له أن بعض المنتسبين للعيساوية ما هم إلا سحرة، ويضيف رين أن شيخ مكناس ألح في رسالته على ضرورة جمع التبرعات مما يدل، في نظر رين، على أن اهتمام الشيخ كبير بجمع المال والشؤون الدنيوية رغم أن الزاوية غنية (¬1). ويبدو لنا أن العيساوية قد اتخذت طابعا شعبيا في الجزائر وفي المغرب، ونقصد بالطابع الشعبي ذلك المظهر الذي يختلط فيه الجد والهزل والدين والشعوذة تنفيسا وترويحا على روح الشعب المكبوت، إنها نوع من الانفجار الداخلي، ولكن في اتجاه آخر، ليس ضد العدو كالثورة، ولكن باستخدام وسائل العنف ضد الجسد وتبسيط الدين إلى درجة القيام بأعمال السحر والخرافة، إنها (الكاريكاتور) الصوفي إذا صح التعبير، وهي توازي بأعمالها في الحياة الدينية ما يقوم به عندئذ المداح في الحياة الأدبية، والشعوب تتخذ لها مسارات جديدة للتنفيس عن نفسها كما يتخذ الماء المضغوط مجاري جديدة، ولكن البعض يرى في أعمال العيساوية أداة لتخدير الشعب ومساعدة السلطة الاستعمارية على التحكم والبقاء. ورغم استنكار الفقهاء والعقلاء والمتعلمين ما يأتي به بعض أتباع العيساوية من ممارسات سلبية، فإن أتباعها كانوا يقومون بأعمال اعتبرها بعضهم مفيدة كمداواة المرضى، فهم يذهبون إلى البيوت ويقومون بصلوات وأدعية عند المريض، ويظهرون المعاناة والحزن من أجل الآخرين، والعامة، حسب (رين). تحب ذلك منهم لأنهم، دون الطرق ¬

_ (¬1) لم يذكر (رين) كيف حصل على هذه الرسالة، ولكنه قال إنه ترجمها عن العربية،

الأخرى، يبدون الحرص على حياة البائسين. وللعيساوية أوراد وأذكار، ولهم صلوات وأدعية، ومع ذلك ابتدعوا ما ليس موجودا، وجاؤوا بأعمال تحدث التشنج العصبي الخطير، ويطلقون صرخات مدوية على ضربات الموسيقى والطبول، وهي صرخات وحركات تبدأ ببطء ثم تتصاعد وتتشنج إلى أن تصل إلى الغيبوبة والسكر الجسماني، ثم يكون الرقص المتوتر وفقدان التوازن، ولكي يجذبوا الجماهير ويذهلوها يقومون بأمور عجيبة غير مألوفة ولا معروفة عندها، ولكنها معروفة عند الكيمياويين، كما يقول رين، وهم يعتبرون ذلك من أسرار المهنة والشؤون الداخلية، ولكن غيرهم يعتبرها سحرا وشعوذة وبهلوانية، وهذا الطابع الاحتفالي الذي تكتسي به أعمال العيساوية هو الذي جعل السواح والفضوليين يحضرون حفلاتها ويعتبرون ذلك هو الإسلام حقيقة وهو حال المسلمين فعلا. ومع ذلك فالعيساوية ممدوحة عند أصحاب السلطة أيضا، سواء في العهد العثماني أو في العهد الفرنسي، ويذكر الفرنسيون أنهم وجدوا 23 رسالة لدى شيخ العيساوية في الجزائر كلها تعفي زاويته من الضرائب، وهي صادرة من الدايات ومن بايات التيطري، كما تعفيهم من حق التويزة (السخرة) في القبائل المجاورة وتأمر باحترامهم، وقد قاومت زاوية وزرة القريبة من المدية والتي تمثل مشيخة العيساوية، قاومت الفرنسيين إلى سنة 1842 حين احتلوا المدية بعد استئناف الحرب ضد الأمير عبد القادر، ورغم أن الفرنسيين لم يلاحظوا عليها كطريقة لا كافراد، مساندة أخرى للثورات أو الدعوة إليها بعد ذلك، فإنهم ظلوا يخشون أتباع العيساوية لشعبيتهم ولوجود علاقات خارجية لهم (مع المغرب الأقصى). وتبدي هذه الطريقة تسامحا مع الفرنسيين فتتركهم يحضرون ممارساتها الصوفية، رغم أن تصوفهم، كما يقول رين، معارض للتقدم، أي لا يتفق مع المخططات الفرنسية، أما شيوخ الطرق الأخرى فلا ترضى أغلبتيها بتصرفات العيساوية وتراها مخلة بالوقار والتعاليم الصوفية الراسخة، ويذكرون أن محمد بن علي السنوسي قد روى

سنده في مختلف الطرق إلا العيساوية، فإنه لم يذكرها رغم أنه ذكر الجزولية التي هي الأصل مع الشاذلية للعيساوية. قلنا إن قبيلة (وزرة) منحدرة من الشيخ محمد بن عيسى مؤسس العيساوية بمكناس، وفي آخر القرن الماضي (1897) كان شيخ العيساوية في وزرة هو الحاج علي الذي كان له ابن يدعى حامد بن علال، وكلاهما عندئذ شيخ هرم (¬1). وللشيخ ختم مدور مكتوب فيه (الواثق بذي الكمال كبير المرابطين علي بن علال، 1266). وقد تأسست الزاوية بوزرة على يد أحد أجداد الأسرة سنة 1788، وكان جدهم علال قد جاء من المغرب الأقصى إلى وزرة حوالي 1570، وهم فيما يقال من نسل محمد بن عيسى مؤسس زاوية مكناس، ويقولون إنهم يملكون جلد النمر الذي كان الشيخ محمد بن عيسى يحب النوم عليه، كدليل على أنهم من نسله، وما يزال هذا الجلد موجودا عندهم إلى آخر القرن الماضي، ولهم فيه عقائد، والناس يتداوون به، سيما النساء، على أنه محل للكرامات والعجائب (¬2). وربما يختلط الأمر على البعض فيظن أن (سيدي محمد بن عيسى) المسماة عليه بلدة سيدي عيسى بين السور وبوسعادة، هو من العيساوية، ونحن لا ندري الحقيقة ولكن الذين بحثوا قالوا إنه لا علاقة بين الاسمين، ويذهب رين الذي له كتاب في تاريخ القبائل والأعراش بالجزائر حسب أقاليمها ومناطقها، إلى أن أولاد سيدي عيسى من الأشراف (المرابطين) وليسوا فرعا من الطريقة العيساوية، وكان الرئيس الديني لقبيلة أولاد سيدي عيسى عندئذ (1884) هو سي الأطرش بن محمد بن عذبية، وكان عمره 88 سنة، وكان قيما على ضريح حفيد سيدي عيسى، وليس له زاوية ولا مدرسة، وهو شيخ كان يعيش بعيدا عن الفرنسيين، وينسب إليه الناس رؤى منامية ¬

_ (¬1) لهما صورة ثنائية في ديبون وكوبولاني، مرجع سابق، ص 352 يظهر فيها الحج علي في منتهى الشيخوخة. (¬2) يقول نفس المصدر إن الجلد كان موجودا لدى أحد المعاونين (الموظفين) الجزائريين في بلدية جندل، طلبه ليتداوى به،

عجيبة، وله أولاد كان يمكنهم في نظر الفرنسيين أن يلعبوا دورا سياسيا إذا أرادوا نظرا لشهرة والدهم بهذه الكرامات، ويقصد رين أنه في إمكان الفرنسيين توظيف أمثال هذه الكرامات والسمعة لصالحهم بإسناد وظائف لأولاد الشيخ المذكور، وكان للشيخ الأطرش ولد يدعى الحسين مرشحا لخلافته، وقد نعته رين بأنه رجل عاقل ويحصل على الغفارة من القبائل المجاورة والبعيدة، من بسكرة إلى المدية وإلى البرج (¬1). وللعيساوية أيضا فروع في الجزائر، زاويتها الأولى هي في وزرة، ورئيسها عندئذ هو علي بن محمد بن الحاج علي، المقيم في البرواقية، ثم محمد الكبير المقيم في البليدة، وهناك زاوية الرمشي، قرب تلمسان، ورئيسها الكزولي ولد الحاج محمد، وهي زاوية لها أهمية، لأن شيخها ورع، وله سمعة بين الأهالي على أنه بهلواني Jongleur، أما الفرع الآخر فهو في قسنطينة، وله فيها زاوية، كما له مركز في عنابة ومقدمون. وإذن فالطريقة منتشرة في وسط الجزائر وغربها وشرقها، ولكن أتباعها مع ذلك قليلون، فقد كانوا 3، 116 إخوانيا حسب إحصاء 1882، بالإضافة إلى 12 زاوية و 45 مقدما، أما إحصاء 1897 فقد جعل الأتباع (الإخوان) 3، 580، من بينهم 33 من النسوة، وهو عدد قليل بالنسبة لسمعة العيساوية الشعبية من جهة وبالنسبة لأتباع بعض الطرق الصوفية الأخرى التي سنتحدث عنها من جهة أخرى، ولعل هذا العدد من الأتباع يدل على أن الناس كانوا يحضرون ملتقيات وممارسات العيساوية كفضوليين أكثر منهم إخوانا فيها، لهم قيود والتزامات محددة نحو الشيوخ والمقدمين، أما الأوجه الأخرى للإحصاء فقد أعطتهم (سنة 1897): شيخا واحدا، و 39 مقدما، وعشر زوايا، وخمسة من الوكلاء وثمانية وخمسين من الشواش (¬2). ¬

_ (¬1) رين، مرجع سابق، فصل العيساوية، ص 303 - 334. (¬2) ديبون وكوبولاني، مرجع سابق، ص 353، وحسب إحصاء 1906 كان عددهم 4000، وقال قارو، مرجع سابق، ص 64، إن العامة تقلد العيساوية وليسوا منها، وهو حكم قريب من الحقيقة،

الطريقة الحنصالية

الطريقة الحنصالية والحنصالية فرع آخر من فرع الشاذلية، ومؤسسها هو سعيد بن يوسف الحنصالي، من المغرب الأقصى، من أهل القرن 17 م، وتوفي سنة 1114 (1702). وهو من حنصالة، فرقة من بني مطير، جنوب فاس، وكان الحنصالي من عائلة مرابطين (¬1). وقد حملها إلى الجزائر سعدون الفرجيوي الذي كان قد تتلمذ على الشيخ يوسف الحنصالي في المغرب الأقصى، وقد أصبح سعدون مقدما لشيخه، ثم خلفه في ذلك معمر الذي يوجد قبره في التلاغمة، ثم خلفه أحمد الزواوي الذي أكسب الطريقة الحنصالية شهرة، لأنه من عائلة مرابطية أولا ثم لموقفه من صالح باي ثانيا، إذ كان لا يخاف أرباب السلطة، وقد اشتهر الزواوي بالكرامات لدى العامة، ومنها تلك الرحلة الخيالية في البحر لكي يرى النصارى عند هجومهم على الجزائر (حملة أوريلي) سنة 1775، وكان ذلك كله في العهد العثماني. أخذ الحنصاليون تعاليم الشاذلية، خصوصا تلك التي تبنتها العيساوية والطيبية، وانتهوا عند الشيخ محمد بن سليمان الجزولي صاحب (دلائل الخيرات) وهو رقم 26 في السلسلة، كما أخذوا بمبدإ التسامح، وهو ما يحبذه الفرنسيون من الطرق الصوفية، إذ أن ما يقابل التسامح في نظرهم هو التعصب الديني الذي يعني رفض الاحتلال ومقاومته بالدعوة إلى الجهاد، كما يأخذ الحنصاليون بمبدإ الإحسان وأفعال الخير، ولكنهم أيضا يقومون بأفعال شبيهة بأفعال العيساوية من رقص وحركات جماعية هي أقرب إلى البهلوانية من غيرها، ويعتقد فيهم الناس عقائد شاعت عنهم، مثل إشفاء المرضى، والعثور على الأشياء الضائعة والمسروقة، ومعرفة الأسرار، والتعرف على المجرمين، ونحوها، ولهم حضرة محاطة بالسرية، وهم يستعملون الإنشاد العصبي في أذكارهم، ويقرأون بالخصوص القصيدة ¬

_ (¬1) وقع منا سهو في الجزء الأول حين ذكرنا أن الحنصالي من جهة قسنطينة،

الدمياطية الشهيرة (¬1). التي اشتهرت عند العامة باسم (الزمياطية) وتعني ممارسة السحر والمخدرات والكيف والغياب عن العالم الحاضر، كما ينشدون أشعارا أخرى في نفس المعنى. ووردهم يتألف من عبارات دينية وأدعية يرددونها صباحا ومساء في أوقات مضبوطة - عقب أوقات الصلوات الخمس، فبعد الفجر يقرأون الفاتحة عشرين مرة ويستغفرون الله مائة مرة، وبعد الظهر يتشهدون مائة مرة، وبعد العصر يقرأون الفاتحة عشرين مرة، والبسملة مائة مرة، وبعد المغرب يقرأون الفاتحة أيضا عشرين مرة وسورة (الإخلاص) مائة مرة، وبعد العشاء يقرأون الفاتحة عشرين مرة، ويصلون على النبي (صلى الله عليه وسلم) مائة مرة، وإذا قرأوا القصيدة الدمياطية في جماعة برخصة من المقدم يهيجون ويفقدون توازنهم ويصبحون حمقى، وهذا هو معنى (الزمياطي) الذي اشتهر عند العامة، الحنصالية بقيت دائما هادئة ولم يرتبط اسمها بالثورات، ويعتبر الفرنسيون ذلك منها موقفا صحيحا، وهم لا يخافون منها كما يخافون من بعض الطرق الأخرى حتى الهادئة منها، لكثرة أتباعها أو لعلاقتها الخارجية، ورغم أن الحنصالية ترجع إلى زاوية أصلية توجد في دادس بالمغرب ألأقصى، فإنها لم تكن تثير مخاوفهم كما قلنا، وهم يذكرون أن خليفة الحنصالية سنة 1884 كان معاونا أهليا (أي موظفا جزائريا عند الإدارة الفرنسية) في بلدية روفاش، قرب قسنطينة. والإحصاءات لا تذكر إلا حوالي أربعة آلاف إخواني كأتباع للحنصالية، رغم اسمها الشهير في قسنطينة ونواحيها، وهي لا تكاد تذكر في غير هذه الناحية، فيذكر لها رين (1884) 3، 598 إخوانيا، ويذكر قارو (1906) رقما كاملا وهو 4، 000، أما بقية الإحصاء، حسب رين، فهو كما يلي: خمس زوايا، وخمسون مقدما (¬2). أما إحصاء 1897 فيذكر للحنصالية ¬

_ (¬1) نسبة إلى الشيخ الدمياطي. (¬2) رين، مرجع سابق، 385 - 398،

الكرزازية (الأحمدية) والزيانية

ثماني عشرة زاوية، و 4، 253 إخوانيا، وشيخا واحدا، و 48 مقدما، و 176 طالبا، وقد عثر هذا المصدر على إجازة يرجع تاريخ ختمها إلى سنة 1295 وكاتبها هو بلقاسم بن الزواوي، وتاريخ الإجازة هو 1307 (¬1). وهم لا يذكرون معها علماء ولا تآليف، ولكن أحد شيوخها، وهو أحمد المبارك المعروف العطار، كان أستاذا في مدرسة قسنطينة، وله تأليف عن تاريخ مدينة قسنطينة ألفه بطلب من المستشرق الفرنسي شيربونو، على أغلب الظن. الكرزازية (الأحمدية) والزيانية وفي الجنوب الغربي للجزائر ظهرت الطريقة الكرزازية نسبة إلى مؤسسها الشيخ أحمد بن موسى الحسني مولى كرزاز، وقد ولد هذا الشيخ سنة 907 هـ، وعاش إلى أن تجاوز المائة إذ توفي سنة 1016 (حوالي 1608 م) وتوجد الزاوية الأم جنوب القنادسة في الطريق المؤدي إلى توات، وكان الشيخ أحمد أحد الأشراف في المنطقة، اشتهر بالعلم والورع إلى أن أصبح مقدما للشاذلية التي أخذها على شيخيه أحمد بن يوسف الملياني وأحمد بن عبد الرحمن السهيلي، وكان السهيلي مقدما للشاذلية في وقته وله زاوية قرب وادي قير، وتعرف الطريقة الكرزازية بالأحمدية أيضا نسبة إلى مؤسسها. وتعتمد الكرزازية السلسلة الشاذلية، فهي تمتد إلى جبرائيل والرسول (صلى الله عليه وسلم) عن طريق الإمام علي والحسن البصري، عبر أبي الحسن الشاذلي وتلاميذه، إلى أحمد بن عبد الرحمن السهيلي، وذكر الكرزازية أيضا هو نفسه ذكر الشاذلية من حيث المبدإ، لكن أحمد الكرزازي أضاف البسملة إلى أذكار الصبح حيث تكرر خمسمائة مرة، وتمر السلسلة في أحفاد الكرزازي إلى أن تصل إلى الشيخ الكبير بن محمد المتوفى سنة 1881، ثم أحمد بن الكبير بوحجاجة المتوفى سنة 1896، ثم عبد الرحمن بن محمد، وهو الخامس عشر في السلسلة، والذي كان شيخا للزاوية سنة 1897. ¬

_ (¬1) ديبون وكوبولاني، مرجع سابق، ص 495 - 496،

وللزاوية هيئة إدارية نشيطة من الرئيس والخلفاء والمقدمين والخدم، فالرئيس أو الشيخ له خلفاؤه، والمقدمون لهم نوابهم، وللجميع خدم دنيويون يقومون لهم بالواجبات، والخلفاء يختارون عادة من بين أعضاء عائلة الشيخ، أما المقدمون فيختارهم الإخوان، وتختلف الكوزازية بعض الشيء عن غيرها في أن إدخال الأخ في الطريقة لا يكون أمام الحضرة ولكن فرديا، كما لا تعطى الإجازات للإخوان البسطاء الذين لم يبلغوا درجة من العلم والذكاء والدبلوماسية، ويقولون إن الزاوية الأم فقيرة جدا، ولذلك تحتاج إلى حقوق الزيارات، ومع ذلك يذكرون عنهم أنهم لا يقبلون الطعام من أحد، وإذا ما دعوا إليه فإنهم يعدون طعامهم بأنفسهم!، ولعل ذلك كان مجرد رياء وتظاهر. وبالإضافة إلى الجانب الديني والصوفي، يقوم إخوان الكوزازية، سيما المقدمون ونوابهم، بالإصلاح بين الناس، وهم يحتفظون بالحياد عند الخصومات، وتحمى الزاوية ضحايا الاعتداءات في الطرق التجارية، وهي ملجأ للهاربين والفقراء، وكانت لهم علاقة طيبة مع سلاطين المغرب والحكام الفرنسيين بالجزائر، حسب المعلومات الفرنسية، لكن الفرنسيين يلاحظون أن أولاد سيدي الشيخ كانوا دائما يجدون الملجأ في زاوية كلازاز، رغم الموقف الحيادي لها، ولها أتباع في الناحية كلها من بني سناسن إلى توات، وللزاوية أملاك في هذه الناحية، غير أن أغلب الأتباع في بني غيل، ودوي - مينا، وحميان وتلمسان وعين تموشنت. وعلامة على علاقاتها الحسنة مع الفرنسيين، رغم شعار حيادها، عرض شيخ الزاوية سنة 1881، وهو أحمد بن الكبير بوحجاجة، إعادة بعض الهاربين إليه من ثورة بوعمامة، وعند وفاة هذا الشيخ سنة 1896 بادر خليفته، عبد الرحمن بن محمد بإخطار الفرنسيين بالوفاة وتسميته هو خليفة له، ووعدهم باتباع سيرة سلفه وسياسته معهم، وقد بعث بذلك إلى الجنرال الفرنسي، حاكم العين الصفراء (¬1). وأخذت الزاوية في العهد الأخير تتوسع ¬

_ (¬1) انظر رين، مرجع سابق، 342 - 348، وديبون وكوبولاني، مرجع سابق، =

في بني كومي، والفجيج والقورارة ووادي الساورة. وتثبت إحصاءات سنة 1882 أن لزاوية كرزاز 2، 924 من الإخوان، و 62 مقدما في إقليم وهران، ولا شك أن لها أتباعا أيضا في شرق المغرب والجنوب الجزائري، لأنها كانت مهتمة بحماية قصور (قرى) الصحراء والتجار، أما إحصاء سنة 1897 فيثبت لها حوالي ثلاثة آلاف من الإخوان، و 78 مقدما، واحصاء سنة 1906 لا يضيف جديدا لعدد الإخوان، ولكن يذكر أنها تشرف على حوالي عشر زوايا أخرى. ... ولا نكاد نضيف جديدا عما قلناه في الجزء الأول عن الزيانية (¬1) بالقنادسة، عدا أننا نبدأ هنا من حيث انتهينا هناك، وبعض التفاصيل عن السلسلة والذكر لهذه الطريقة، فالسلسلة الزيانية تمر بعدد من العلماء والصالحين، أمثال أبي مدين شعيب، وأبي الحسن الشاذلي، ومحمد بن ناصر الدرعي، أما الذكر فإن الزيانية تمارس أذكار الشاذلية مع بعض التغيير، على هذا النحو: الاستغفار مائة مرة عند الفجر، والصلاة على الرسول (صلى الله عليه وسلم) مائة مرة (بهذه الصيغة: اللهم صل على سيدنا ومولانا محمد وآله وصحبه وسلم). والتشهد ألف مرة، والتسبيح مائة مرة، وذكر اسم الجلالة ألف مرة، كما أن بعض أتباعها يقرأون الوظيفة الزروقية أيضا. وقد عرفنا أن مؤسس هذه الزاوية والطريقة هو الشيخ محمد بن عبد الرحمن بن بوزيان، المتوفى سنة 1145 (1733) على الأرجح، وأن هناك مصادر تناولت حياته بالتفصيل اعتمدنا على بعضها، سيما كتاب (طهارة الأنفاس) لمصطفى بن الحاج البشير الذي قدمه ولخصه أوغست كور، المستشرق الفرنسي، وكنا قد ترددنا حول عصر المؤلف (مصطفى بن الحاج البشير) ولكننا ¬

_ = ص 502، وقارو، مرجع سابق، ص 166. (¬1) نشير إلى أننا ذكرنا في الجزء الأول أن عبد الرحمن الكرزازي المعاصر لأبي زيان هو (مؤسس) زاوية كرزاز، والصواب أنه أحد شيوخها فقط وأحد خلفائها، أما المؤسس فقد عرفنا أنه أحمد بن موسى وأنه توفي سنة 1016 (1608).

عرفنا هذه المرة أنه من أوائل هذا القرن إذ أنه كان حيا سنة 1915، وبذلك يكون قد عرف السيد (كور Cour) شخصيا لأن هذا كان أستاذا في مدرسة تلمسان عندما اطلع على كتاب (طهارة الأنفاس) وعرضه (¬1). وقد جاءت المعلومات التي عرضها السيد كور عن حياة بوزيان وزاويته بعد عدة سنوات من تأليف كل من رين وكوبولاني وديبون عن الطرق الصوفية، ومنها الزيانية (¬2). أوصى بوزيان بالخلافة لأحد أبنائه، وهو محمد الأعرج الذي أورثه سره وبركته الصوفية، وأمر أتباعه بطاعته، واتجه الشيخ محمد الأعرج نحو التعليم والدعوة للطريقة والدين، واشتهر أمره، ومدحه بعض الشعراء أمثال محمد بن الحاج التلمساني، وقد توفي الشيخ الأعرج سنة 1175 (1761). ثم تتابع الخلفاء فكان أبو مدين بن محمد الأعرج، وهو الذي بنى جامع القنادسة، كما بنى منارة الزاوية هناك وأخرى لزاوية فاس، وتعاطى أبو مدين التجارة وأصبح من الأثرياء، وهو الذي قيل فيه إنه زاوج بين الدنيا والآخرة، وقد توفي سنة 1204 (1790). وخلفه محمد بن عبد الله بن أبي مدين، وتوفي هذا سنة 1242 (1826). وكان الخلفية الرابع هو أبو مدين بن الخليفة السابق (محمد بن عبد الله). وكان أديبا وشاعرا أيضا إلى جانب الفقه والتصوف، وقد توفي سنة 1268 (1852). وأظهر الخليفة الخامس، محمد المصطفى، عطفا خاصا على الفقراء والأيتام، وتوفي سنة 1275 (1858) (¬3). والخليفة السادس هو مبارك الذي ¬

_ (¬1) حصل (كور) على نسختين من الكتاب إحداهما نسخة الزاوية الزيانية، والثانية نسخة قدمها له السيد محمد نهليل، وهو أحد المترجمين العسكريين الجزائريين، وكان عندئذ في بني عباس بغرب البلاد، انظر عنه فصل الاستشراق، ومقالتنا (المترجمون الجزائريون وافريقية) في مجلة الثقافة، 1996. (¬2) نشر كور دراسته في (مجلة العالم الإسلامي). R، M، M، سنة 1910 على حلقتين، الأولى، نوفمبر، ص 359 - 379، والثانية ديسمبر، ص 571 - 590، أي بعد ربع قرن من ظهور دراسة رين، وثلاث عشرة سنة من دراسة ديبون وكوبولاني. (¬3) يذكر (رين) ص 408، تواريخ أخرى لبعض الخلفاء فيقول إن أبا مدين، الخليفة G، A الرابع، توفي سنة 1270 (1853). وأن أخاه محمد بن محمد توفي سنة =

لم يبق إلا تسعة أشهر ثم ترك شؤون الزاوية لأخيه محمد بن عبد الله (توفي مبارك سنة 1867/ 1248). وهو (محمد) الذي يقول عنه رين أنه هو المتولي عند كتابة كتابه سنة 1884، وقد طال عهد محمد بن عبد الله إلى سنة 1312 (1895). ويدعى أيضا محمد بن بوزيان - على اسم جده - ابن محمد المصطفى، وهو الخليفة السابع في السلسلة، أما الثامن فيها فهو إبراهيم بن محمد بن عبد الله، الذي كان على رأس الزاوية عندما كتب عنها كل من ديبون وكوبولاني (1897) وكذلك كور (1915). وهو الذي انتهى به كتاب (طهارة الأنفاس) المشار إليه. وتتحدث المعلومات الفرنسية عن الطريقة الزيانية بأنها تقدم خدمات كبيرة في ناحيتها، سيما وقت الاضطرابات، والخليفة يذهب سنويا إلى القبائل المجاورة والأعراش للتفتيش وجمع الزيارات، ويعتبرها الفرنسيون طريقة متسامحة، وهي تسهل حركة القوافل والتجارة، وتقدم زواياها الضيافات للعابرين، وهي تؤوي المهزومين والهاربين، وتتدخل للصلح بين الناس، لقد سمح شيخ الزاوية بلجوء أعداء فرنسا عنده ولكنه لم يشجع على الثورة ضدها، وهي (الطريقة) تحافظ على العلاقات مع فرنسا بدون توتر، حتى أن أول الخارجين عن ثورة بوعمامة سنة 1881 كانوا هم أتباع الزيانية والتجانية بعد أن كانوا قد انضموا إلى الثورة، وتذكر المصادر الفرنسية أن الزاوية الزيانية قدمت الشعير وحيوانات الذبح إلى بعثة الجنرال (وينفين) في وادي قير سنة 1870، وكان الجنرال في حاجة ماسة إلى ذلك، ولكنها كانت تواجه منافسة من طرق أخرى هناك مثل الطيبية والدرقاوية والشيخية (¬1). ومن الفوائد التي جناها الفرنسيون من زاوية القنادسة تأييدها لهم أيضا في حربهم ضد ألمانيا سنة 1914، فقد بعث الشيخ وصية إلى كافة أتباعه ¬

_ = 1272 (1855). ونحن نميل إلى التواريخ المذكورة في كتاب (طهارة الأنفاس) كما عرضه (كور) لاعتماده على مصادر الزاوية. (¬1) رين، مرجع سابق، ص 408، وديبون وكوبولاني، مرجع سابق، ص 499 - 500،

يستنكر فيها استعانة تركيا بألمانيا، ولاحظ أن الاستعانة تعني استعباد تركيا (بالأصفر الرنان) (وهي العبارة التي وردت في وصية الطريقة التجانية أيضا). وتنبأ بأن تركيا وألمانيا ستنهزمان، وأعلن أن الطريقة متمسكة بدولة فرنسا المحبوبة المحسنة، ولم يذكر شيئا عن ماضي الأتراك في الجزائر، ولكن العبارات الأخرى تكاد تكون واحدة، ولم يذكر فضائل فرنسا وأفضالها على الجزائريين، فهل ذلك راجع إلى أن احتلال المنطقة (القنادسة) حديث العهد؟ و (الوصية) كانت صادرة عن الشيخ إبراهيم القندوسي، كبير الزاوية القندسية (¬1) - كذا -. وبناء على مصادر أخرى فإن الشيخ إبراهيم القندوسي قد توفي سنة 1913، ومن ثمة لم يحضر الحرب العالمية الأولى، ويبدو أن الذي جاء بعده هو محمد بن الأعرج الذي كان موجودا سنة 1931 وهو ابن أخ لإبراهيم المذكور، وقد حكم الفرنسيون بأن ابن الأعرج كان صديقا لهم وأنه كان مناصرا (للتقدم) ومن المعجبين بالنظم الفرنسية، وذكروا أنه قد أعانهم خلال الحرب العالمية، وقد توفي محمد بن الأعرج في 13 فبراير 1934 وخلفه ابنه عبد الرحمن (¬2). وقريبا من القنادسة تقع زاوية رقان الشاذلية أيضا، وكان رئيسها أوائل هذا القرن هو الشيخ مولاي الحسن بن عبد القادر الذي كان في الخمسين من عمره، وكان قد فر من رقان إلى تافيلالت عند احتلال الفرنسيين توات ونواحيها، وكانت للزاوية علاقة بزاوية القنادسة أيضا، وتشير المصادر إلى أن شيخ زاوية رقان من الأشراف، وكان نفوذ الزاوية يمتد إلى توات والقورارة وتيديكلت وحتى تمبكتو، ومن المترددين عليها سكان منطقة الطوارق، وهم يقدمون إليها الزيارة، وتعتبر السلطات الفرنسية أن نفوذ زاوية رقان في الطوارق قد أفادها (أي السلطات). وكان أحد شيوخ الزاوية وهو ¬

_ (¬1) مجلة العالم الإسلامي R، M، M، ديسمبر 1914، ص 258. (¬2) قوفيون، كتاب أعيان المغرب الأقصى، ص 893 - 898، وتوجد صورة الشيخ محمد بن الأعرج ص 897،

الطريقة الطيبية

عبد المالك، معاصرا للشيخ محمد بن بوزيان شيخ زاوية القنادسة في وقته، وكان كلاهما يعطي الورد الجيلاني (القادرية). وكان بوزيان يكن احتراما خاصا لمعاصره عبد المالك، كما كان هذا الشيخ يقرأ تعاليم الشاذلية من الحكم العطائية، وله كرامات، وكانت زاوية رقان مركزا لحل مشاكل الجهة أيضا، فيأتيها الناس من أجل ذلك، وفيهم حتى قائد بلدة دلول الذي عينه الفرنسيون، وكلهم يستمعون إلى نصيحة الشيخ مولاي الحسن، ويجمع هذا الشيخ، في الواقع، بين عدة طرق، كالقادرية والتجانية إضافة إلى الشاذلية، وربما الطيبية أيضا، ولذلك يختلط الأمر في تصنيف زاوية رقان، ولعلها كانت تحت تأثير البكائية/ القادرية أيضا، والمهم أن الطرق الصوفية كانت هناك متداخلة وبراغماتية، وأن السلطات الفرنسية كانت تحاول الاستفادة منها واستغلالها إلى أقصى حد في التوسع بالمنطقة وفي المحافظة على هدوء السكان (¬1). الطريقة الطيبية ونبقى في مجال الطريقة الشاذلية لنتناول هنا الطريقة الطيبية، لأن سلسلة التصوف عند هذه الطريقة مرتبطة بالشاذلية أيضا، ويرجع تأسيس الطيبية إلى إدريس الأكبر، حسب الشائع وحسب السلسلة الذهبية عندهم، أي التي تربطهم بالشرف، ونحن قد تناولنا أوليات الطريقة الطيبية في الجزء الأول من هذا الكتاب، ولا نزيد عليه إلا ما رأيناه ضروريا أو له علاقة بالعهد الذي ندرسه، إن للطيبية زاوية أما في وزان، وتسمى (دار الضمان) وفيها دفن الشيوخ، ولها زوار كثيرون وأغنياء يمدونها بالمال، وشخصيات معتبرة، وهي من الزوايا التي لعبت دورا سياسيا في المغرب وفي الجزائر، وقد حاول الفرنسيون ترويج أسطورة (رغم أنهم يزعمون أنهم لا يؤمنون بالأساطير وأن ¬

_ (¬1) توري (ملاحظات على الزاوية الرقانية) في (مجلة الجمعية الجغرافية للجزائر وشمال إفريقية). S، G، A، A، N، 1903، ص 46 - 58،

ذلك من شأن العرب والمسلمين فقط) مفادها أن الشيخ الطيب المؤسس التاريخي للطريقة (انظر الجزء الأول) قد تنبأ لأصحابه بأنهم سينتشرون في الجهة الشرقية (والمقصود الجزائر) لأنها ستقع في أيدي بني الأصفر (وهو اسم الروم عند القدماء، والمقصود جنس الفرنسيين). ثم قال لهم: إنكم ستأخذونها أنتم قبلهم أو بعدهم. قلنا إن للطريقة الطيبية سلسلتين الأولى ذهبية لشرف النسب، وهي تبدأ من الرسول (صلى الله عليه وسلم) ثم ابنته فاطمة، مرورا بإدريس الأكبر، إلى أن تصل السلسلة إلى الحاج العربي ثم ابنه عبد السلام ثم العربي بن عبد السلام الذي كان موجودا سنة 1893، أما السلسلة الثانية فهي لإثبات السند الصوفي، وفي هذه الحالة نجد الطريقة ترجع إلى الشاذلية والجزولية والعيساوية والناصرية والحنصالية، بدءا بالملك جبرائيل إلى الحاج العربي ثم إلى ابنه عبد السلام وابنه العربي، وهكذا. وتعاليم الطيبية لا تكاد تختلف عن تعاليم الطرق الأخرى، فهي مثلها، تدعو إلى التقوى وفعل الخير والقيام بالواجبات الدينية، وإطعام الفقراء والتدخل لحل خلافات الناس وإصلاح ذات البين، مع التقرب إلى الله بأدعية وأذكار سنوردها، والابتعاد عن الحياة الدنيا وزخرفها (رغم أن شيوخها كانوا مهتمين بالحياة المادية، كما سنرى). والتأمل في ملكوت السماوات والأرض، ورغم ادعاء مقاديمها بأنهم لا يهتمون ولا يتدخلون في السياسة فإن الواقع يجعل طريقتهم عبارة عن جمعية دينية ذات وزن سياسي وأن لها أهدافا سرية غير معلنة (¬1). ويذهب (رين) إلى أن طريقة إدخال الأتباع تسمى عند الطيبية (تسييس) الأتباع، وقال إن لها أهدافا سياسية، وهي لا تشبه الطرق الأخرى في أذكارها - إذ أن أذكارها عبارة عن ألفاظ مترابطة ومترادفة يمكن أن تكون كلمات (سرية) في أي وقت، والدخول في الطريقة عندهم سهل، فعندما يقصدهم الأخ ليطلب الورد من المقدم، يحاول هذا أن يثنيه ¬

_ (¬1) رين، مرجع سابق، ص 39 وهنا وهناك،

وأن يصعب أمامه طريق الدخول، فإذا أصر الأخ يفتح له المقدم باب الطريقة، ويقرأ الفاتحة، أما اختيار المقدمين عندهم فيتم أثناء الحضرة أو الجلالة، وهم يتفقدون زواياهم كل عام بحيث يأتي الخليفة من الزاوية الأم ليراقب ويعين المقدمين ويجمع حقوق الزيارات (المال) ويجدد العهد. أما ورد الطريقة الطيبية فيتكون من جمل وعبارات دينية يرددها الإخوان أثناء الصلوات غالبا، من ذلك تسبيح الله وحمده (سبحان الله وبحمده) مائة مرة صباحا ومساء، والصلاة على الرسول (صلى الله عليه وسلم) وأزواجه وذريته خمسين مرة صباحا، وعبارة (اللهم صل على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم) مائة مرة صباحا ومساء، والشهادة (لا إله إلا الله) مائة مرة صباحا ومساء، وعقب الصلوات الخمس يقول الأخ عشر مرات (لا إله إلا الله محمد رسول الله، صلى الله عليه وسلم وعلى آله) وفي المرة الحادية عشرة يقول (لا إله إلا الله، شفيعنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم وعلى آله). أما الحزب عندهم فيتألف من البسملة والصلاة على الرسول (صلى الله عليه وسلم) وآله، والتعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وقراءة الآية: {إن الله وملائكته يصلون على النبي ...} إلى غير ذلك، في أعداد مضبوطة، خمسين مرة و 75 مرة الخ ... وأخيرا نذكر أن من أوراد الطيبية قراءة كتاب (دلائل الخيرات) للجزولي عدة مرات كلما أمكن ذلك، ومن شروط الذكر عندهم اتباع السنة واجتناب البدعة (هكذا يقولون، ولكن البدعة موجودة، حسب نقاد الطرق الصوفية). ومصاحبة أهل الخير ومجانبة أهل الشر، وأداء الصلوات الخمس في أوقاتها وفي الجماعة، وتعمير أوقات الفراغ بذكر الشهادة والصلاة على النبي (صلى الله عليه وسلم) (¬1). ويذهب رين إلى أن تلك الأذكار كلها ¬

_ (¬1) ابن بكار، مرجع سابق، ص 67 - 68، ويذكر هذا المصدر الذي هو نفسه من إخوان الطيبية أن وردها طيبي، شاذلي، مشيشي، كما يذكر أنه أخذ هذا الورد من خليفة زاوية وزان، علي بن عبد السلام، عندما جاء هذا إلى سعيدة، حوالي سنة 1342، وكان ابن عم هذا المؤلف هو شيخ الزاوية الطيبية بمدينة معسكر، وأن جده ظل في (القطبانية) ثلاثين سنة، انظر نفسه، ص 72،

تسمى (الذكر البسيط). لكن الذين يريدون الوصول إلى الرؤى والمشاهدات والحياة الأخرى، علهيم أن يرددوا الذكر مرات أخرى تبلغ 4، 650 مرة يوميا. لكن الأتباع، وحتى المقدمين، لا يعرفون كل شيء عن أفعال شيوخهم واتصالاتهم الداخلية والخارجية، ذلك أن من شروط الدخول في الطريقة الطاعة العمياء وعدم السؤال لماذا وكيف وماذا، إنهم كالميت بين غاسله، كما يقولون، فماذا كان يفعل شيوخ الزاوية الطيبية مع السلطات الفرنسية في الجزائر؟ إن العلاقات قديمة بين الطرفين طبعا، فنحن نعرف أن محمد بن عبد الله المعروف بومعزة كان من إخوان الطيبية، وقد حارب الفرنسيين في موازاة الأمير عبد القادر في عدة معارك، واشتهر بأحداث الظهرة سنة 1845، وإلى الآن لم يحل لغز شخصيته وأصله ونسبه، ولا ندري إن كان له دور في البداية أو النهاية شبيه بدور الحاج مبارك بن يوسف المراكشي المعاصر له، فقد استسلم بومعزة إلى السلطات الفرنسية سنة 1847 قبل هزيمة الأمير ببضعة أشهر، وحمله الفرنسيون إلى سجن (بو) بفرنسا، ثم ظهر اسمه أو مدعي اسمه في الجزائر بعد ذلك دون أن يكون لشخصه أي سند تاريخي، ولكن اسمه تردد أيام حرب القرم (1854 - 1856) في المشرق، وهي الحرب التي شاركت فيها فرنسا إلى جانب العثمانيين ضد روسيا، ثم اختفى اسم بومعزة بعد ذلك (¬1). وهناك أحداث صغيرة ذات معنى كبير جرت في شرق البلاد بين السلطات الفرنسية ومقدمي الطريقة الطيبية، فقد كانت هذه السلطات تريد أن تكون لها الكلمة الأولى والأخيرة في اختيار المقدمين حتى يكونوا طيعين للطريقة ولها أيضا، وحتى تجبر زاوية وزان الأم على الدخول في مفاوضات ¬

_ (¬1) عن بدايات وحياة بومعزة انظر (انتفاضة الظهرة) للضابط ريشار، الجزائر 1846،

معها تكون فيها هي مطية للتسرب إلى المغرب، ولو بعد حين، وكان قناصل فرنسا في طنجة مسلحين بتعليمات محددة، فبعد احتلال قسنطينة ظهر صفان أو حزبان متنافسان على منصب مقدم الطيبية، أحدهما بزعامة ابن عيسى، والثاني بزعامة الشريف شريط، وعندما فاز الأول احتج الثاني، وتدخلت السلطات الفرنسية لدى زاوية وزان لحل الخلاف الواقع داخل (مملكتها). وحدث إشكال شبيه بالأول بعد ذلك أيضا، فقد عين شريف وزان مقدمه في قسنطينة، قدور بن زروق فنازعه على هذا اللقب عمر بن شريط (ابن المقدم السابق المتوفى). وبعد انتخابات جرت برضى شريف وزان نفسه فاز ابن شريط وانهزم ابن زروق رغم أنه كان معينا من الزاوية الأم والشريف الأصلي، ولم يسع شريف وزان إلا الموافقة على هذا الانتخاب (الديمقراطي). وتولت السلطات الفرنسية تعيين ابن شريط (رسميا) في وظيفته كمقدم. ويقولون إن العلاقات بين أشراف وزان والسلطات الفرنسية في الجزائر ترجع إلى عهد بوجو، وبالضبط سنة 1843 حين وجه بوجو قنصل بلاده في طنجة (وهو ليون روش). إلى الاتصال بالحاج العربي، شيخ الزاوية ورئيس الطريقة، وذلك لتسهيل مهمة الفرنسيين في الجزائر على يد مقدميه وإخوانه، وكان بوجو قد حاول نفس المحاولة، ولكن بطريقة أخرى، حين نال من بعض علماء المسلمين فتوى تثبط الجهاد والمقاومة في الجزائر وتفتي بوضع السلاح والاستسلام ما دام (الكافر) قد سمح بأداء الشعائر الدينية للمسلمين وما دام هؤلاء عاجزين عن طرده (¬1). والظروف التي تحرك فيها بوجو هي نفس الظروف التي كان يتحرك فيها بومعزة في الجزائر، وكان لغزا من الألغاز، والمعروف أن بوجو هاجم المغرب ليجبر سلطانه على ضرب الأمير ¬

_ (¬1) انظر ذلك في فصل مذاهب وتيارات، وهي المهمة التي قام بها الجاسوس ليون روش (الحاج عمر) سنة 1842 في القيروان ومصر والحجاز، وليوسف مناصرية كتاب عنوانه (مهمة ليون روش في المغرب). الجزائر، 1990،

وطرده، سنة 1844 (معركة إيسلي). ترى ما المساعدات التي قدمتها زاوية وزان عندئد؟. لكن العلاقات بين السلطات الفرنسية وزاوية وزان لم تعد خافية إلا على معصوبي العينين، منذ 1891، فقد كان لعاب فرنسا يسيل للاستيلاء على الصحراء وأراضي الجنوب، وكانت في حاجة إلى دعم (أصدقائها) مشائخ الطرق، سواء كانوا من الطيبية أو التجانية أو القادرية أو غيرها، وبالإضافة إلى ذلك فإن شريف وزان (عبد السلام) قد سبق له أن تزوج من انكليزية، واعتنق مبدأ (التقدم) الذي يدعيه الغرب عندئذ كما يدعي اليوم مبدأ الديموقراطية وحقوق الإنسان، كما أن شريف وزان دخل تحت الحماية الفرنسية، وهو نظام (الحماية الشخصية) الذي فرضته الدول الغربية على سلطان المغرب، الحسن الأول (1873 - 1894) بحيث يمكن لرعاياه أن يكونوا رعايا دولة أجنبية باختيارهم (¬1). وفي هذا النطاق جاء إلى الجزائر شريف وزان نفسه، عبد السلام بن العربي، في زيارة رسمية، واستقبله الحاكم العام جول كامبون، وبقي ضيفا رفيع المستوى خلال شهرين، ومدحته الوثائق الفرنسية بأنه قاوم الضغط من بعض الجهات الأجنبية (بريطانيا؟) حتى لا ينفذ الزيارة، ويهمنا هنا أنه حصل من هذه الزيارة على موافقة أهل القورارة على الدخول تحت الحماية الفرنسية أيضا، مع التزامه هو شخصيا نحو فرنسا، على أن تكون لها هي الكلمة العليا في بيت وزان (مسألة الولاية). بالإضافة إلى قضايا أخرى دبلوماسية، بقيت من الأسرار الدقيقة غير المعلنة بين الطرفين (¬2). ¬

_ (¬1) عن هذا الموضوع انظر كتاب محمد العربي معريش (المغرب الأقصى في عهد السلطان الحسن الأول). بيروت، 1989. (¬2) تذهب المصادر الفرنسية إلى أن اتفاق مدريد سنة 1880 قد أعطى لفرنسا حق حماية شريف وزان وزاويته لأن للطيبية أتباعا في الجزائر تحت السيادة الفرنسية، كما أن (الحماية) الفرنسية قد أعطيت له تعويضا له على خدماته، وبناء على طلبه، رغم أن حكومة السلطان كانت تحتج على هذا التدخل في شؤون رعاياها، وبدون جدوى، =

وزيارة الشيخ عبد السلام لها مقدمات وإرهاصات، كان الشيخ متزوجا من معلمة انكليزية، كما قلنا، وقد أنجب منها ولدين هما العربي ومحمد، وله ولد ثالث اسمه التهامي، من زوجة أخرى، ولكي تضمن فرنسا الاستمرارية في العقب لجأت إلى نظام الحماية وضمان التدخل في شؤون العائلة، وتمهيدا لذلك جاءت ببعض أبناء الشيخ لكي يدرسوا في الجزائر ويعالجوا في فرنسا، والواقع أن الشيخ عبد السلام قد طلب الحماية الفرنسية منذ 1876 ولكنها رفضت له، ويشيد الفرنسيون رغم ذلك، بموقفه منهم، لأنه (تفهم) الرفض وبقي على موقفه مؤيدا للمصالح الفرنسية، وإذن لا بد من تجريبه ووضعه على المحك لمعرفة إخلاصه، وفي سنة 1883 طلب الشيخ منحة لأحد أبنائه من غير المرأة الإنكليزية، فحصل عليها، وجاء ذلك الابن إلى الجزائر ودخل الليسيه الوحيد فيها، وفي سنة 1884 حصل الشيخ على لقب (حماية فرنسي) بشروط معاهدة مدريد، وكان ذلك ضربة معلم من فرنسا، حسب تعبير وثائقها لأنها كانت ستجد صعوبات جمة في الجزائر وغيرها لو بقي أتباع الطيبية خصوما لها، وهذه الوثائق تتحدث بل تفخر بأن الحماية الفرنسية على زاوية وزان وشيخها قد ساعد على نشر سمعة فرنسا في المغرب الأقصى، وأشادت بالشيخ عبد السلام لمقاومته انتقاد المسلمين له على دخوله تحت الحماية الأوروبية (¬1). ولا شك أن فرنسا قد عاونت أيضا الطريقة الطيبية على الانتشار في الجزائر، على حساب الطرق الأخرى، للمصلحة المشتركة بين فرنسا وبين الطيبية، ولا سيما في القضاء على ثورة بوعمامة. وتوالت زيارات أقطاب زاوية وزان إلى الجزائر على عهد كامبون، ففي سنة 1892 توجه الشيخ عبد السلام لزيارة زواياه في الجنوب، وركب في موكب (قوم) كبير بقيادة أولاد سيدي الشيخ، وحل الوفد بتوات وغيرها. ¬

_ = انظر إفريقية الفرنسية (A، F) نوفمبر، 1895، ص 314. (¬1) رين، مرجع سابق، 382 - 384،

وأعطى الشيخ بركته لمقدميه وإخوانه، وجمع منهم الزيارات برخصة من فرنسا، واعتبرت فرنسا مجرد دخوله تلك المنطقة عنوانا على سيطرتها هي السياسية ودخولها أيضا تحت سيادتها، لكن الشريف عبد السلام لم يكد يرجع إلى بلاده حتى أدركه الموت، وقيل إن ذلك راجع إلى تعبه الشديد من الرحلة وإلى تقدمه في السن، ولا ندري كيف فسرت الخرافة الشعبية موته المفاجئ، ولكن الفرنسيين حققوا هدفهم على كل حال، فقد تدخلوا في شؤون الزاوية إلى أن أوصى الشيخ بالبركة لابنه العربي فأصبح على رأس الزاوية الأم، وبعد انتصابه جاء أيضا إلى الجزائر خلال غشت 1892، واستقبله الحاكم العام بحفاوة مبالغا فيها في قصر مصطفى باشا الرسمي، وأعلن الشيخ العربي للفرنسيين أنه سيتبع سياسة والده نحو بلادهم (¬1). وقبل رجوعه تفقد أيضا زواياه وأتباعه في إقليم وهران، ووسم بوسام جوقة الشرف الذي طلبه بنفسه، حسب الرواية الفرنسية (كأن الأوسمة تعطى حسب الطلب؟). وهناك زيارة أخرى قام بها علي بن محمد بن عبد السلام الوزاني سنة 1893، وجاء رفقة خمس عشرة شخصية ومنهم كاتب الشيخ الأكبر، الشريف العربي، رئيس الزاوية، وجاء معه بهدية من الزاوية إلى الحاكم العام وتتمثل في حصانين من عتاق الخيل قطعا المسافة برا من طنجة إلى تلمسان، وأعلن أن الزيارة تدخل في نطاق تسمية المقدمين وتفقد الأتباع (¬2). واستمرت الزيارات والعلاقات بين الطرفين ما دام كل منهما يحتاج إلى ¬

_ (¬1) ديبون وكوبولاني، مرجع سابق، ص 268 - 270، انظر أيضا (إفريقية الفرنسية) A، F مرجع سابق، فقد قالت إن التهامي بن عبد السلام جاء إلى فرنسا ليعالج من مرض الوحدة asile d'aliène، وذكرت أن ل عبد السلام ولدين آخرين هما أحمد وعلي وكلاهما درس في ليسيه الجزائر، وعلي هذا هو الذي دخل أيضا مدرسة سان سير العسكرية وعمل في الجيش بعض الوقت، وقد ذكرت المجلة أن محمد بن عبد السلام الوزاني قد توفي سنة 1895 بوزان، وأنه طالب فرنسا بالتدخل في شؤون البيت الوزاني حماية لمصالحها، لأن هناك مؤامرات، كما قالت، وهناك أملاك ومصالح تجبر فرنسا على التدخل في شأن الوراثة بالزاوية. (¬2) إفريقية الفرنسية (A، F) أكتوبر 1893، ص 7،

الآخر، أما بعد إعلان الحماية على المغرب كله سنة 1912 فالعلاقات قد اتخذت طابعا آخر بين الطريقة الطيبية والفرنسية (¬1). معظم انتشار الطريقة الطيبية في الإقليم الوهراني، ولكن لها زوايا وأتباع حتى في أقاليم الوسط والشرق والجنوب، والإحصاءات تعطي لها أرقاما مختلفة ومتباعدة خلال حوالي عشر سنوات، فبينما تعطيها إحصاءات 1882 عدد 15، 744 من الإخوان تعطيها إحصاءات 1897 عدد 22، 148 إخوانيا، أما الزوايا فالإحصاء الأول يعطيها عشرين زاوية في الجزائر كلها، (11 منها في ولاية وهران عندئذ) بينما يعطيها الإحصاء الثاني ثماني زوايا فقط في مجموع القطر، ويذكر لها الإحصاء الأول من المقدمين 301، بينما الإحصاء الثاني يذكر 234 فقط، كما يذكر لها الإحصاء الأخير مائة شاوش و 128 طالبا بالمصطلح الصوفي، وليس للطيبية شيوخ في الجزائر، لأن الشيخ الرئيسي هو شريف وزان (¬2). بقي أن نذكر أن الطيبية تعرف أيضا في المغرب الأقصى باسم (التهامية). كما نشير إلى أن عبد السلام كان رقم 41 في سلسلة البركة الصوفية، وأن ابنه الذي كان موجودا إلى سنة 1906 على رأس الزاوية، وهو العربي بن عبد السلام، يعتبر رقم 42 في نفس السلسلة. وظلت الصلة قائمة ومتينة بين الفرنسيين ورجال الطريقة الطيبية، وازدادت متانة بزواج أحد مقدميها بامرأة فرنسية سنة 1912، وهذا المقدم اسمه إبراهيم بن عبد الجليل، شيخ زاوية مولاي الطيب في دلبول بالجنوب الوهراني، فقد تزوج من ابنة مدير الضرائب التي كانت تقطن سانت إيتيان (فرنسا). وكان ذلك أثناء سياحة له هناك حسب تعبير ¬

_ (¬1) عن تطور الحلاقات بين السلطات الفرنسية والطرق الصوفية منذ الحرب العالمية الأولى انظر لاحقا. (¬2) عن هذه الإحصاءات انظر رين، مرجع سابق، 384، وديبون وكوبولاني، مرجع سابق، ص 489،

الطريقة الشيخية

المصدر الذي أورد الخبر (¬1). وعند نشوب الحرب العالمية الأولى ولجوء فرنسا إلى الطرق الصوفية لتحصل منها على التأييد المعنوي والسياسي، كتب ممثل الطريقة الطيبية في وهران نداء إلى أتباعه حثهم فيه على حب فرنسا وقال إن الله قد وضع غشاوة على عيني دولة تركيا، واعتبر الأتراك لئاما لأنهم أنكروا خير فرنسا عليهم، (واللئيم لا يربح). ودعا على ألمانيا بالدمار، كما دعا لفرنسا بالانتصار، ويهمنا أن موقع هذا النداء هو أحمد بن الحسين بن إبراهيم الشريفي، شيخ الطريقة الطيبية في وهران (¬2). ومن أبرز شيوخ الطيبية في فترة ما بين الحربين الهاشمي بن بكار الذي تولى عدة وظائف دينية في ناحية معسكر، وكان من المدافعين المتحمسين عن رجال الطرق الصوفية، ومنها الطيبية، معتبرا موقفهم هو السليم بينما اعتبر موقف المصلحين فسادا وتطرفا. الطريقة الشيخية وتنسب الشيخية إلى (سيدي الشيخ). وهو عبد القادر بوسماحة، دفين البيض، وكانت وفاته سنة 1023 (1615). وأصولها الصوفية ترجع إلى عدة طرق منها القادرية والشاذلية والطيبية والصديقية والبكرية، وكان مؤسسها قادري الطريقة إلا أنه أصبح مقدما للشاذلية على يد محمد بن عبد الرحمن السهيلي، وأوصى أولاده عند وفاته باتباع تعاليم الشاذلية، وقد ذكرنا أن معظم الطرق الصوفية تأخذ من بعضها البعض، وأن الأتباع يمكنهم أن يجمعوا بين عدة طرق في نفس الوقت، إلا أتباع التجانية فإن من شروط دخولهم فيها عدم جمعهم بينها وبين طريقة أخرى، حسب المشهور عنها، وقد أخذ الشيخ عبد القادر بوسماحة الطريقة الشاذلية عن السهيلي، كما ذكرنا، وأخذ هذا عن ¬

_ (¬1) (التقويم الجزائري) للشيخ محمود كحول، سنة 1912. (¬2) مجلة العالم الإسلامي، ديسمبر 1914، ص 234،

أحمد بن يوسف الملياني، إلى آخر السلسلة، المعروفة بسلسلة البركة، وقد ترك بوسماحة (سيدي الشيخ) ثمانية عشر ولدا وأوصاهم باتباع الطريقة الشاذلية، وهذه هي السلسلة: سليمان بن بوسماحة إلى ابنه محمد، إلى حفيده عبد القادر (سيدي الشيخ). إلى الحاج بوحفص، والحاج عبد الحكيم، إلى ابن الدين، إلى العربي، إلى بو بكر مولى الجماعة، إلى النعيمي، إلى بو بكر الصغير، إلى حمزة، إلى بو بكر، إلى حمزة (المولود سنة 1859) وهو الذي كان متوليا لوظيفة آغا جبال عمور والمتزوج من فرنسية، وقد ورث السلسلة معه إخوته: سليمان ومحمد وأحمد وقدور (صاحب اتفاق 1892 مع الفرنسيين) وابن أخيه العربي الذي ورث من أبيه البركة أيضا. أما السلسلة الذهبية أو النسبية فأولاد سيدي الشيخ يرجعون إلى أبي بكر الصديق، حسب الشائع عنهم، ويذهب أحد الكتاب الفرنسيين الذي تعرف عليهم مبكرا (سنة 1859) أنهم يرجعون إلى الأشراف، أي من نسل فاطمة والإمام علي (¬1). لكن الشائع، كما قلنا إنهم صديقيون، ويذهب (رين) إلى أن السلسله تمتد إلى الخليفة أبي بكر عن طريق ابنه محمد عن طريق سلمان (ويكتبه سليمان) الفارسي، وقد نزحوا من مكة بعد طردهم من الجزيرة العربية في وقت غير معروف، لأسباب سياسية - دينية، ويذهب (دوفيرييه) إلى أن نزوحهم كان من تونس، وأن جدهم كان غاضبا لأسباب عائلية، فذهب إلى الصحراء واستقر بالبيض بعيدا عن الخلق، وأسس فيه زاويته المعروفة، وتوارث أبناؤه تراثه في آخر أيام دولة بني زيان واحتلال الإسبان لوهران، ثم أوائل العهد العثماني، وكان الشيخ مقدما للقادرية - الشاذلية، كما عرفنا. ومن السلسلتين والوضع السياسي والاجتماعي يظهر أن عائلة سيدي الشيخ كانت وارثة لمجد ديني ومجد نسبي، وقد جلب إليها ذلك مكانة ¬

_ (¬1) هنري دوفيرييه (اكتشاف الصحراء). باريس، 1864، ص 315،

مرموقة بين الناس وزادها وضعها الجغرافي المفتوح على الطرق الصحراوية جنوبا والتلية شمالا، أهمية خاصة، فاستغنت بالدين والتصوف وتحكمت بالسياسة والجاه، ولذلك اختلط أمرها على كثير من الدارسين (¬1). فمنهم من يدرس الشيخية على أنها طريقة دينية فإذا به يكتشف أنها إقطاعية اقتصادية سياسية، واتحادية كبرى من الأعراش والقبائل والنفوذ السياسي (¬2). ومنهم من يدرسها على أنها (إمارة) وسلطة حاكمة فإذا به يجد نفسه أمام قوة روحية وشخصيات من طراز المرابطين الأولين، ولذلك اختلط تاريخ أولاد سيدي الشيخ الديني بالسياسي، سيما وأنهم من أوائل الطرق الصوفية التي تولت السلطة للفرنسيين، لأن الطرق الأخرى لم تقبل بالوظائف الإدارية إلا بعد تدجينها بالانقسام والتزويج بالفرنسيات والتجسس عليها ونحو ذلك (¬3). وفي هذا النطاق نجد أن أولاد سيدي الشيخ قد لعبوا أدوارا مزدوجة أيضا، تارة يكونون في مقدمة الثائرين ضد الاحتلال والنظام الفرنسي، وتارة يكونون خدما له وولاة يطبقون الأوامر الإدارية والتعليمات على أفضل ما يكون. ونحن هنا لن ندرس دورهم السياسي المحض، لأن ذلك مكانه تاريخ الحركة الوطنية، ولكن نشير إلى الجانب الروحي أو الطرقي عندهم وعلاقته ¬

_ (¬1) يقول (رين). مرجع سابق، ص 349 وما بعدها: إن الطريقة الشيخية ليست جماعة دينية، ولا طريقة صوفية، ولا جمعية خيرية بالمعنى الحقيقي للكلمة، إنها خليط من تأثيرات مرابطية في أيدي أناس كثيرا ما يكونون منقسمين، لكن لهم أصل واحد، ويضعون سلطتهم الدينية في شكل مزدوج، ولا شك أن ذلك كان عندما سلك الفرنسيون معهم سياسة (فرق تسد). (¬2) سندرس دور أولاد سيدي الشيخ فى الثورات في الجزء الأول من تاريخ الحركة الوطنية، وقد تناول دورهم السياسي كل من بيزي، 1864، وتروملي 1884 Trumelet اهتم بهم بعض الباحثين الأجانب في السنوات الأخيرة، مثل بيتر فان سيفرز P، VenSivers من جامعة يوتا الأميريكية. (¬3) ممن تزوج بفرنسية حمزة بن بوبكر، آغا جبل عمور، واسمها (فيري، Feret). وهي بنت لقائد مشاة فرنسي كان في حالة تقاعد، انظر: هنري قارو، مرجع سابق، ص 174،

بأحداث البلاد، لقد طلب منهم الأمير عبد القادر (وهو ابن طريقة كانوا ينتسبون إليها أصلا) أن ينضموا إليه ويساعدوه على العدو المشترك، فاعتذروا إليه بعزلتهم وفقرهم، فقبل عذرهم وقبل أيضا مشاركتهم الرمزية، أو حيادهم، ولعله قبل ذلك منهم مؤقتا فقط، إلى أن يوحد بقية الأعراش والطرق الصوفية، وقد وجدنا أولاد سيدي الشيخ قد عاونوا الفرنسيين، بل هم الذين ألقوا القبض على محمد بن عبد الله (شريف ورقلة) رغم أنه كان مسنودا بالطريقة السنوسية، وهي ترجع إلى نفس الأصول الصوفية التي يرجعون إليها (¬1). وهناك تلاقى بينهم وبين الطريقة الطيبية في آخر القرن، بل منذ 1883، في تمهيد الطريق للفرنسيين في الصحراء، وعندما جاء شريف وزان سنة 1891، 1892، لزيارة زواياه ومقدميه في توات والقورارة، وهي تابعة لهم إداريا، كانوا على رأس الموكب (القوم) الذي استقبله، كما التقى زعيمهم قدور بن حمزة بالحاكم العام، جول كامبون سنة 1892، في المنيعة لنفس الغرض، إن هذه المواقف تجعل أولاد سيدي الشيخ أداة في يد السياسة الفرنسية، وتجعلهم يظهرون كأنهم أناس لا (سياسة) لهم ولا برنامج، تمزقهم الخلافات العائلية والأطماع الفردية، وتتحكم فيهم الظروف المفروضة عليهم من الخارج، كما تفعل الآن بالساسة العرب في المشرق والمغرب، لقد كان أولاد سيدي الشيخ يثورون بدون برنامج، ويتراجعون بدودن نتيجة، رغم مكانتهم الكبيرة التي استغلها العدو لصالحه، وثقافتهم الروحية، ووزنهم السياسي والجغرافي. ¬

_ (¬1) مدح (دوفيرييه) الخليفة حمزة الذي كان المتولى عندئذ باسم فرنسا على الجنوب الوهراني كله، على تهدئة كل القبائل التابعة للشيخية من حيث الطريقة، من حدود المغرب الأقصى إلى ورقلة والمنيعة، وكان حمزة هو الذي كتب إلى أعيان المنيعة يطلب منهم عدم التعرض لدوفيرييه وحسن معاملته، فلم يؤذوه ولكنهم لم يستضيفوه، فخاف منهم وانسحب، وسي حمزة هو الذي احتل المنيعة باسم فرنسا سنة 1861، بأمر من الحاكم العام، وابنه بوبكر هو الذي ألقى القبض على محمد بن عبد الله (شريف ورقلة) وسلمه للفرنسيين، انظر دوفيرليه، مرجع سابق، ص 315،

جد أولاد سيدي الشيخ الأول يسمى معمر بن سليمان العالية، وهو دفين الأربعاء التحتاني، وأولاده مدفونون إلى جانبه، وقد جاء من مكة على رواية أو من تونس على رواية أخرى، وتناسلت منه العائلة إلى أن وصلت إلى عبد القادر بوسماحة، كما ذكرنا، وهذا هو الذي تفرعت منه فروع لكثرة أولاده، ومنهم من سكن التلول والمدن، ومنهم من استوطن المغرب الأقصى، ومنهم من بقي في المنطقة حول قبور الآباء والأجداد، وقد اهتموا بالحياة الدينية والدينيوة معا، فكانوا من نبلاء الدين (أشراف على رواية) ومن نبلاء السيف أيضا، وقد نشروا طريقتهم الدينية على طريق سلطتهم السياسية، فهم بحكم وظائفهم الإدارية أو الزمنية جلبوا العبيد والخدم، ثم حرروهم وجعلوهم يقومون بشؤون الدين والزوايا، ويقول بعض الباحثين إن دورهم الديني يتضاءل كلما سكنوا المدن وكذلك يضعف وزنهم السياسي، ولذلك فإن مكانتهم الحقيقية تكمن في عزلتهم واحتفاظهم بأصالتهم الدينية والسيفية، أو كما عبر عنه البعض: إن قوتهم تكمن في بداوتهم، وقد اختار بعضهم طرقا صوفية أخرى، بعد هذا التطور، مثل سليمان بن قدور الذي دخل في الطيبية وأصبح تابعا لزاوية وزان. من فروع أولاد سيدي الشيخ الدينية ما سماه بعضهم (بالعمامية) نسبة إلى الشيخ بوعمامة، الثائر المشهور، وهو محمد بن العربي من ذرية سيدي التاج، أحد أبناء عبد القادر بوسماحة (سيدي الشيخ). والده (العربي) مدفون بفجيج بالقصر المعروف بالحمام الفوقاني. وقد تثقف محمد بن العربي - بوعمامة - ثقافة دينية ولغوية في جهته، (الحمام الفوقاني). ودرس على شيخ يدعى محمد بن عبد الرحمن، أحد مقدمي سيدي الشيخ، وأصبح سنة 1875 مقدما في الموقار، وكان يعطي ورد الطريقة الشيخية، واشتهر أمره وجاءته الزيارات وأصبح في أعين الناس من أهل الكرامة والولاية، وقد ساعد على هروب أحد أفراد العائلة، وهو حمزة بن بوبكر سنة 1878، ثم أعلن الثورة المعروفة سنة 1881 لظروف

ليس هنا محل ذكرها، ولكن الفرنسيين يقولون إن الثورة كانت بدافع التعصب الديني، وقد حاول بوعمامة توحيد أولاد سيدي الشيخ المتفرقين بطريق الروابط الروحية والعائلية، وقال المعاصرون إنه جاء (بمذهب جديد). وأنه رجل يقظ وحذر، وأنه حاول الاستفادة من الانقسام الموجود في العائلة لصالحه، وذلك بإنشاء قيادة واحدة، ولكن الفرنسيين كان لا يرضيهم ذلك، سيما وأن الفترة (الثمانينات) كانت هي الفترة التي أخذوا فيها يسعون بين الطرق كلها حتى لا تتوحد ولا تصبح خطرا يهدد مصالحهم، ومهما كان الأمر فإن محاولة بوعمامة أن يكون هو (خليفة) سيدي الشيخ مباشرة، لم تنجح، ولكن أصحابه أعلنوا أنه أصبح قطبا، وأجاز هو لأصحابه أن يجمعوا بين طريقته وطريقة أخرى، وكان له ذكر يعطيه لأتباعه قال إن سيدي الشيخ أعطاه إياه بالرؤية والمكاشفة (¬1). وقد نجح الفرنسيون في عزل أولاد سيدي الشيخ الآخرين من الانضمام لثورته، رغم أنه منهم، واتهموا بوعمامة بأنه كان يقلد الشيخ السنوسي في عدائه (للنصارى). وللشيخية الأذكار الشاذلية التي يتلقاها الأتباع ويرددونها في أوقات معينة بعد دخولهم للطريقة، وهم يضيفون إلى ذلك قراءة الفاتحة ثلاث مرات بعد كل صلاة من الصلوات الخمس، وهذه الأذكار يعلمها شيوخ الزوايا الشيخية الذين هم من العبيد العتقاء والذين يتوارثون في أولادهم إدارة هذه الزوايا، وإعطاء الأوراد والأذكار، سواء كانوا من الشراقة أو من الغرابة (الزوة). أما الذكر الذي نسب لبوعمامة فهو التشهد والاستغفار والصلاة على النبي (صلى الله عليه وسلم) في أوقات معينة أثناء الصلوات الخمس، وله أيضا دعاء (يا لطيف) ألف مرة، وعبارة (لا إله إلا الله، بو عمامة ضيف الله) تردد عدة مرات في اليوم، وكذلك عبارة (لا إله إلا الله، بوعمامة ولي الله) (¬2). ومن عادة ¬

_ (¬1) ديبون وكوبولاني، مرجع سابق، ص 477، والمترجم العسكري في جيريفيل (مارتن) هو الذي اعتبر بوعمامة مؤسسا لطريقة خاصة، عنه انظر أيضا عبد الحميد زوزو (نصوص سياسية). الجزائر، 1988، ص 85، 137. (¬2) ديبون وكوبولاني، مرجع سابق، ص 478،

الشيخية أن التابع إذا جاء لتقديم الزيارة يأخذ المقدم يده بينما يبدي الزائر رغبته في شؤون الدنيا كرزقه بأولاد بدل بنات، وحصوله على زراعة جيدة، واستمتاعه بصحة سليمة، طالبا من الله ذلك في خشوع وتضرع، كما يقرأ مع المقدم ورد الشاذلية. ولأولاد سيدي الشيخ تقليد قلما نجده في طرق أخرى، ويسمى الغفارة، والغفارة تقديم حيوانات وبضائع ونحوها يعينها الشيخ سنويا، وهي في الواقع ضرائب دنيوية اتخذت صفة دينية، ومثالها نعجة على كل خيمة أو ناقة، وكيس من القمح أو التمر، حسب ما يفرضه الشيخ على كل تابع، وبناء على تقرير لأحد الضباط المراقبين لهذه الأعمال (¬1) أن غفارة أولاد سيدي الشيخ تتألف مما يلي: ربع الحوارات (وليد الناقة) المولودة في نفس العام مفروضة على بعض القبائل، و 2000 شاه على قبائل أخرى، واثنا عشر برنوسا، وغير ذلك من البضائع، إضافة إلى 1، 500 فرنك مفروضة على شعانبة البرازنة، وهذه الغفارة السنوية تقسم بين الفروع كما يلي: 103 من الشياه إلى الدين وقدور بن حمزة، و 30 جملا إلى أولاد الحاج بو حفص، و 100 شاه، مع منسوجات قطنية وسكر وقهوة وغيرها من المواد الغذائية إلى أولاد الحاج الدين، و 1، 500 فرنك سنويا إلى بوعمامة. ويذهب البعض إلى أن هذه المداخيل من الغفارة ومن الزيارات المالية هي التي أدت إلى استقلال فروع الطريقة الشيخية والانقسامات العائلية بهدف جمع المال والبضائع من الأتباع، كل على طريقته الخاصة (¬2). أما السلطات ¬

_ (¬1) اسمه ديدييه، قائد دائرة غرداية، في آخر القرن الماضي، وكان ديدييه قد عمل في الشؤون الأهلية في بوسعادة والميلية وتيزي وزو، والشلف وغيرها، إلى أن شارك في الحملة ضد تونس، ثم عين على غرداية حيث ظل في الثمانينات ونصف التسعينات (تقاعد 1895). انظر بيرونيه (الكتاب الذهبي). 2/ 381، وعن الغفارة انظر الميلي (رسالة الشرك). ص 247. (¬2) ديبون وكوبولاني، مرجع سابق، ص 244 - 245، عن الغفارة انظر أيضا (رين). مرجع سابق، ص 362 - 368، وهذا المصدر يفصلها،

الفرنسية فلها موقف من هذه الغفارات والزيارات، سنعرض له عند الحديث عن تمويل الطرق الصوفية ومداخيلها، ونكتفي هنا بالقول بأنها كانت تملك وسيلة الضغط فمن ترضى عنه من الطرق تتغاضى عليه، وربما تشجعه على جمع المداخيل من الزيارات والغفارات، ومن تسخط عليه تمنعها عنه، فيفتقر، وما عليه إلا أن يستسلم أو ينقرض (¬1). لأولاد سيدي الشيخ ثلاث زوايا رئيسية، اثنتان في الناحية الشرقية (الشراقة). وواحدة غربية (الغرابة). وتسمى الأولى الزاوية الأم أو زاوية سيدي الشيخ بالبيض، والثانية زاوية الحاج بوحفص، أما الثالثة فهي زاوية الحاج عبد الحكيم، ولكل زاوية مديرون أو مسيرون، وهم يجمعون حقوق الزيارات، وقال بعض الباحثين إن من لم يدفع ليس له حق في زيارة ضريح الشيخ، ولا شك أن الثورات العديدة قد أثرت على المداخيل وعلى الرؤساء أيضا، ويكفي أن نعرف أن جثمان سيدي الشيخ قد حمل إلى جريفيل بعد أن هدم الجيش الفرنسي زاوية سيدي الشيخ سنة 1881 عقابا لهم على الثورة، ثم شيدت لسيدي الشيخ قبة جديدة بعد اتفاق 1883، ونقل إليها الجثمان، أما عدد الأتباع فهو بالنسبة للطرق الأخرى كثير، لأن أتباع الشيخية ليسوا دينيين فحسب ولكن رعايا سياسيين أيضا، وقد عرفنا أن سلطة أولاد سيدي الشيخ في الزمن الأول - الأربعينات والخمسينات - كانت تمتد من حدود المغرب إلى المنيعة وورقلة، ولكن منذ الستينات أصابهم ما أصاب كل القيادات الجزائرية من تقليص وتحجيم وتقسيم، ونحن يهمنا الآن (الإخوان) أو الأتباع الدينيون لهذه الطريقة، ويذكر إحصاء سنة 1882 أن لهم 2، 780 من الأتباع، و 39 مقدما، وخمس زوايا، بينما ذكر لهم إحصاء سنة 1897 عددا أكثر من الأتباع وعددا أقل من الزوايا، فالأتباع، 10، 216 ¬

_ (¬1) الحقيقة أن التدهور كان باديا على الطريقة الشيخية منذ الستينات، وهذا ما لاحظه (دوفيرييه) لأن أولاد سيدي الشيخ اشتغلوا بالدنيا والمناصب وأهملوا زواياهم، فأصابها التدهور، وقد أدت الثورات التي كان يقوم بها أولاد سيدي الشيخ إلى تحطيم الزاوية الأم سنة 1881 على يد الضابط (نقرييه). كما أشرنا،

إخوانيا، ولهم أربع زوايا، و 45 مقدما، وقد أكد إحصاء 1906 هذا الإحصاء الأخير (¬1). أشرنا عدة مرات إلى اتفاق 1883 واتفاق 1892 بين زعماء أولاد سيدي الشيخ والسلطات الفرنسية، أما الأول فقد جاء على أثر ثورة بوعمامة (الغرابة). ومحاولة فرنسا فصل العائلة عن بعضها وفصل الطريقة الواحدة إلى فرعين متنافسين، وكان الفرع الشرقي بقيادة أولاد حمزة هو الثائر في عدة مرات، سيما ثورة 1864 التي دامت فترة طويلة وأدت إلى تحطيم ما كان للطريقة والاتحادية من قوة وسلطان، وكان هذا الاتفاق يعني عزل بوعمامة، وتمهيد الطريق لفرنسا لاستعادة نشاطها في الصحراء (¬2) بعد أن توقف منذ بعثة دوفيرييه، ومقتل بعثة فلا ترز على يد الشعانبة الموالين لبوعمامة. أما اتفاق 1892 فهو أهم وأخطر من سابقه، ففي الوقت الذي كان فيه زعيم الطريقة الطيبية، شريف وزان، يزور الجنوب الغربي (ليتفقد) زواياه ويجمع حقوق الزيارات المسموح بها من قبل فرنسا، كان الحاكم العام جول كامبون - يلتقي في المنيعة بقدوربن حمزة الذي كان ثائرا ثم غاضبا ولاجئا بضع سنوات، وقد أعلنت وسائل الإعلام الفرنسية أن قدور بن حمزة سلم حصانه إلى كامبون رمزا للطاعة والرجوع عما كان عليه، وكأننا هنا أمام مشهد سنة 1847 حين سلم الأمير عبد القادر حصانه إلى الدوق دومال في الغزوات، ولكن هذه الوسائل أضافت أن قدور بن حمزة قد حى العلم الفرنسي الذي حياه جده في ورقلة عندما كان خليفة عليها، فالمسألة هنا ليست مجرد إعلان للطاعة ولكن تقليد للآباء والأجداد أيضا، ومن جهتها اعترفت فرنسا بقدور بن حمزة كتابع إقطاعي لها، بعد أن كان عاقا لها وناقمة عليه، وقد امتدح المستشرق (ماسكري) أستاذ مدرسة الجزائر العليا، طريقة كامبون في التعامل مع (الأهالي) إذ خرج كامبون من قصر مصطفى باشا ومن ¬

_ (¬1) انظر رين، مرجع سابق، 368، وديبون وكوبولاني، مرجع سابق، ص 475، وقارو، مرجع سابق، 174. (¬2) لويس فينيون (فرنسا في شمال إفريقية). باريس 1887، ص 214،

الطريقة الدرقاوية

الصالونات الأوروبية إلى المنيعة ليفتح لفرنسا أبواب الصحراء التي ظلت مغلقة، بواسطة أبنائها أتباع الطيبية والشيخية (¬1). وقد حدث هذا في الوقت الذي ما يزال فيه بوعمامة لم يستسلم إلى فرنسا (¬2). وهكذا فنحن أمام طريقة صوفية لا نعرف أنها دين أم دولة، وقد اختلط أمرها على أتباعها، بدون شك، فلم يعودوا يعرفون، وأمامهم الطرق الصوفية الأخرى، هل تجبى منها الغرامات أو تفرض عليهم الغفارات أو تطلب منهم الصدقات للفقراء والمساكين، وكيف يكون الرجل من أولاد سيدي الشيخ (خليفة) باسم الحكومة الفرنسية و (خليفة) باسم الطريقة الشاذلية في نفس الوقت، هذا على الأقل قبل أن تشاركهم طرق صوفية أخرى نفس المصير. الطريقة الدرقاوية حديثنا عن الطريقة الدرقاوية سيشملها في فروعها أيضا، كالمدنية والعليوية، وحتى الهبرية، وقد كنا تناولنا وضع الدرقاوية السياسي أيام العثمانيين وعلاقة نشاطهم بالعلاقات بين الدولتين المتجاورتين: الجزائر والمغرب عندئذ (¬3). ولم نتوسع في نشاطها الديني والصوفي، ولذلك سنحاول الآن تناول هذه النقطة بشيء من التفصيل. كل المصادر تشير إلى أن أصل الدرقاوية هو الشاذلية، وقد ظهرت في المغرب الأقصى، كما ظهرت طرق صوفية أخرى قبلها، وهي تنسب إلى محمد العربي الدرقاوي المتوفى سنة 1823، والدرقاوي (ولد سنة 1214) نسبة إلى قبيلة درقة التي منها جده يوسف أبو درقة، وقد توفي الشيخ في ¬

_ (¬1) مقالة (ماسكري) في إفريقية الفرنسية (A، F). إبريل 1892، ص 8 - 10، وقد توفي قدور بن حمزة سنة 1897. (¬2) أرسل الحاكم العام (لافريير) سنة 1899 عهد الأمان مع الحاج علي بن أحمد بوطالب (من عائلة الأمير عبد القادر) إلى بوعمامة لكنه لم يثق في العهد. (¬3) انظر الجزء الأول من هذا الكتاب، الفصل الثاني،

زاوية بوبريح شمال فاس، في قبيلة بني زروال، وخلفه محمد البوزيدي، ثم يتوالى الخلفاء، ومنهم عبد الرحمن بن الطيب الذي كان متوليا سنة 1884 على نفس الزاوية، وكان له تأثير كبير، وهذه الزاوية تعتبر هي الأم لفروع الدرقاوية الأخرى، تليها زاوية تافيلالت التي أسسها أشراف مدغرة، والتي لعبت أيضا دورا رئيسيا في الناحية عندئذ، وكانت ملجأ للثائرين أمثال بوعمامة وأتباعه، كما كانت ناقمة على الحكومات، ويقال عنها أنها ضد المجتمع الحضري، والثالثة زاوية مدغرة التي أسسها أحمد البدوي، وهو أيضا من الأشراف، ودفين فاس، وقد أعاد تنظيمها شيخها أحمد الهاشم بن العربي المتوفى سنة 1892 عن 93، والشيخ أحمد الهاشم كان من المعارضين للنفوذ الفرنسي في المنطقة، وهو الذي أعلن الجهاد ضد الفرنسيين في تافيلالت سنة 1888 (¬1). والدرقاوي تتلمذ على الشيخ أبي الحسن علي بن عبد الرحمن الجمالي الفاسي، وله سلسلة صوفية مستمدة من أحمد بن يوسف الملياني وابن عطاء الله الإسكندري وأحمد زروق وأحمد المرسي عن أبي الحسن الشاذلي، وتنسب إلى الدرقاوية مواقف مختلفة، منها أنها خالفت تعاليم الشاذلية في التسامح والحياد إزاء السياسة والمهادنة، ومنها أنها أعطت دفعا جديدا للشاذلية رغم بقائها من الناحية الفلسفية تلميذة لها، أما مظاهرها من لباس وممارسات وعبادات فقد تعددت الأوصاف لها، فمن قائل إن أتباعها كانوا يقلدون كبار الصحابة وغيرهم في بعض المظاهر، مثل لبس المرقعات، لأن أبا بكر وعمر لبساها، ومثل حمل العصا لأن موسى (عليه السلام) قد حملها، وهم يرقصون على اسم الله، لأن جعفر بن أبي طالب قد احتفى باسم الله بأداء الرقص، وهم يحملون السبحة لأن أبا هريرة في دعواهم كان يحملها في رقبته، كما أنهم يفضلون العزلة ويمشون حفاة، ويحتملون الجوع، ولا يخالطون إلا الصالحين، ويتفادون أصحاب السلطة، ويصدقون في أقوالهم. ¬

_ (¬1) ديبون وكوبولاني، مرجع سابق، ص 508،

ولا ينامون إلا قليلا ويقضون الليل مت عبد ين، ويكثرون من الصدقات، ويطيعون شيخهم ويطلعونه على كل كبيرة وصغيرة، وفي الجزائر قبلوا الوظائف الدينية كالإمامة والقضاء ولكنهم رفضوا الوظائف الإدارية الأخرى، وهم على كل حال ضد الفرنسيين (المسيحيين) وضد الحضارة الغربية. وهذه الصورة تجعلهم على الحافة من السياسة والثورة، ولذلك وجدنا منهم من لم يطق حياة العزلة والهدوء إذا لم تخدم الدين، فثاروا في العهد العثماني كما ثاروا في العهد الفرنسي، ويهمنا هنا العهد الثاني، لقد ظهر منهم المنادون بالثورة والجهاد مثل موسى الدرقاوي المعاصر للأمير عبد القادر، وعبد الرحمن الطوطي (¬1). وغيرهما، ولكن هناك من شيوخ الدرقاوية من بقي محافظا على تعاليم الشاذلية ورفض الارتماء في الوظيفة، مثل محمد بن إبراهيم والعربي بن عطية، لقد حاول الأمير استمالة العربي بن عطية زعيم الدرقاوية في الونشريس، إلى الجهاد، ولكنه اعتذر له فقبل عذره، أو على الأقل تفهم موقفه، وقد انتهى الأمر بالشيخ ابن عطية إلى الهجرة من الجزائر والوفاة بتونس. أما محمد بن إبراهيم فقد جاءه الحشم والحرار وأهل فليته يطلبون منه أن يكون حكما بينهم وأن يقضي في أمورهم، وذلك في وادي العابد (سيدي بلعباس). ولما أحس بالضغط ذهب معهم إلى غريس قرب معسكر، وحاول إقناعهم مدة أسبوع بالصلح والسلم، وأخبرهم أن (الحكومة لله). ولكن هذا الوعظ لم يقنع الذين يريدون زعيما وقائدا للثورة، ولما عرف أنه لا يستطيع إقناعهم بعدم تولي المسؤولية هرب ليلا وترك لهم رسالة على وسادته شارحا لهم فيها الأسباب التي جعلته لا يتدخل في السياسة والحياة الدنيا، وتذهب بعض المصادر الفرنسية إلى أن الأمير عبد القادر كان يريد خطف محمد بن إبراهيم للتأثير به على الدرقاويين، وقد ملأ هذا الفراغ عبد الرحمن الطوطي، المقدم الذي كان محمد بن إبراهيم نفسه ¬

_ (¬1) انظر عنهما كتابنا (الحركة الوطنية الجزائرية). ج 1، ط، الجزائر/ بيروت 1992، وعن الطوطي انظر الشقراني (القول الأوسط). تحقيق ناصر الدين سعيدوني، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1989،

قد عينه للأخوان، وكان الطوطي مخالفا لرأي شيخه فأعلن الجهاد سنة 1845 في نواحي بلعباس، وقد توفي محمد بن إبراهيم سنة 1840، ولم يسع المقدمين الآخرين، أمثال الحاج محمد ولد الصوفي والحبيب بن أميان، إلا الهروب، الأول إلى المغرب والثاني إلى الدوائر، وهكذا تغلب فريق الحرب على فريق السلم في الطريقة الدرقاوية. وفي نفس الوقت كان موسى الدرقاوي يقوم بالجهاد أيضا، وحياته مليئة بالمغامرات التي تستحق كتابا كاملا، فهو من مواليد مصر، وقد تجول في سورية واسطانبول، ثم وصل ليبيا، ودخل الشاذلية على يد مقدمها محمد بن حمزة سنة 1829، واتجه إلى المغرب وأخذ هناك الطريقة الدرقاوية، وبعد الاحتلال بقليل دخل الجزائر واتصل بالحاج سيدي السعدي وعيسى البركاني في متيجة ونسقوا معا حركة الجهاد - ابتداء من سنة 1833، إن لم يكن قبل ذلك، وزار الحاج موسى الشيخ العربي بن عطية في الونشريس محاولا إقناعه بتأييد الجهاد ودعوة الإخوان إليه، فلم يفلح، فحارب الفرنسيين مع الأمير، كما تحارب معه على الفوز بالمدية، ولما هزمه الأمير ظل الحاج موسى تائها على وجهه فنزل في أولاد نائل بجبل مساعد وحارب بهم الفرنسيين، ثم دخل الأغواط ونظم نواة لطريقته - الدرقاوية/ المدنية، وعين خليفتين له أحدهما محمد بلحاج، على الجنوب، وقويدر بن محمد، على الشمال، ولكن الفرنسيين طاردوه على يد اللقيط يوسف، كما اعتقلوا خليفته (قويدر) وأفسدوا بذلك خططه في الجنوب والوسط، فهرب الحاج موسى إلى بني يعلى بزواوة، ثم تحول إلى متليلي عند الشعانبة، سنة 1848، وعند ثورة الزعاطشة (1849) كان مع الشيخ بوزيان زعيم هذه الثورة واستشهد إلى جانبه وعلقت رأسه إلى جانب رأس بوزيان على باب المعسكر الفرنسي، وقد ترك الحاج موسى الدرقاوي ولدين أحدهما بقي على رأس زاوية الأغواط المعروفة عند الناس بزاوية درقاوة سيدي موسى، وهو أبو بكر الذي تقول المصادر الفرنسية (1894) أنه كان متحفظا من الموظفين الفرنسيين ومن عملائهم الجزائريين، وأما ولده الثاني (مصطفى) فقد سلك

اتجاها آخر، وهو قبول وظيفة معلم اللغة العربية في معهد (لافيجري) بتونس، الذي كان يشرف عليه الآباء البيض (¬1). ومن شخصيات الطريقة الدرقاوية عدة بن غلام الله، الذي لم يظهر كمحارب، ولكنه ظهر كشخصية دينية وعلمية ذات وزن كبير، وهو عدة بن الموسوم بن غلام الله البو عبد لي، وكان شاذلي الطريقة شريف النسب كما قيل، وينتسب إلى إدريس، ولد عدة سنة 1202 في بطحاء الشلف، وبعد أن حفظ القرآن الكريم، قرأ على الشيخ ابن حوا (معسكر؟) ودرس التوحيد واللغة والحديث والفلك على شيخ الطريقة الطيبية، محمد بن عبد الرحمن، ثم انتقل إلى مازونة فأخذ بها الفقه على الشيخ أبي طالب المازوني، وقد تمسك أولا بالطريقة الرحمانية التي أخذها عن والده، ثم أخد القادرية عن عبد القادر بن الأحول (وادي مينة؟). كما أخذها عن الشيخ ابن القندوز، ضحية السياسة في آخر العهد العثماني، كما أخذ الطريقة الطيبية على مقدمها المذكور (محمد بن عبد الرحمن) ثم عن الحاج العربي مولاي أحمد، ثم العربي بن عطية. وفي عهد الأمير عبد القادر تولى عدة بن غلام الله وظيفة القضاء، بأمر من الأمير، وقبل أن يتولى الوظيفة استشار شيخه العربي بن عطية فيها، وكان تعيينه قاضيا على بلاد الظهرة ومينه، وبعد مدة ترك القضاء وتفرغ للعبادة والتعليم والإرشاد، وشاع أمره، وسميت طريقته بالشاذلية - الدرقاوية - البو عبد لية، وقد ترك الشيخ عدة مؤلفات وقصائد تزيد على 400 بين فصيحة وزجلية، كما له أحزاب أو أذكار، واستغاثات (¬2). وقد توفي سنة 1283 عن نحو 80 سنة، وتعرف زاويته بزاوية أولاد الأكراد، وله تلاميذ أصبحوا من أصحاب ¬

_ (¬1) بالإضافة إلى ما كتبناه عن الحاج موسى الدرقاوي في الجزء الأول من الحركة الوطنية الجزائرية، نذكر (ملاحظات على تاريخ الأغواظ) لمانجان MANGIN في المجلة الإفريقية R، A، عدد 38، سنة 1894، ص 97. (¬2) عن سيرته انظر ابن بكار، مرجع سابق، ص 155 - 156، وفي آخر هذا المرجع غوثية من غوثيات الشيخ عدة بن غلام الله،

الطريقة الهبرية

الطرق والزوايا أيضا، منهم محمد الموسوم بقصر البخاري، وابن عبد الله بن عبد القادر بمعسكر، ومحمد الشرقي بالعطاف، ومحمد بن أحمد باندات. بالنسبة لزاوية أولاد الأكراد، كانت في آخر القرن الماضي تحت إشراف محمد غلام الله الذي بقي إلى 1902، وفي هذه السنة خلفه عمه أحمد ولد عدة الذي يبدو أنه من نسل الشيخ عدة المؤسس، وكان لها حوالي 3، 500 من الأتباع، منهم 500 في أولاد الأكراد فقط، وكانت إلى هذا التاريخ تعلم الدين والقرآن وتخرج (الطلبة) الذين ينتشرون في الأعراش لتحفيظ القرآن بعد ذلك، ولهم نشاط آخر كالقراءة على الأموات وفي الموالد، وشيخ الزاوية يتلقى العوائد، والزاوية تييى مناسبتين في السنة، إحداهما في الخريف وتدوم ثلاثة أيام، تطعم فيها الطعام وتقيم الحضرة ويجتمع المقدمون، ويرتلون أدعية وأذكارا، ثم يقفون في شكل دائرة ويرددون اسم الجلالة إلى أن يصبحوا عاجزين وينهكهم التعب، وبذلك تنتهي هذه الحفلة التي تشبه ما كانت تفعله العيساوية، على ما قيل (¬1). الطريقة الهبرية ومنذ آخر القرن الماضي لوحظ وجود طريقة درقاوية - شاذلية أخرى فرعية كانت (بصدد التكوين) حسب تعبير ديبون وكوبولاني، وهي الطريقة الهبرية، وقد تولدت نتيجة الحركة النشطة في الجماعات الصوفية في المناطق الغربية، سيما مدغرة وسعيدة ومعسكر وأولاد الأكراد (تيهرت). ويقول المصدر إن هذه الحركة كانت نشطة (مند سنوات). ومن هؤلاء النشطين الحاج محمد الهبري الذي حاول أن يحيي الطريقة الدرقاوية بالحماس والصفاء اللذين ظهرت بهما على يد مؤسسها الأصلي، وكانت له تعاليم صارمة في التقوى والورع والتأثير، والدليل على ذلك أن بعض الإخوان تركوا الشيوخ الآخرين واتبعوه هو، وله زاوية على وادي كيس في مكان يعرف بدريوة في بني سناسن، ويمتد نفوذه بين جبال الريف غربا ووهران ¬

_ (¬1) عن الدرقاوية انظر لاحقا - نهاية الحديث عن الهبرية،

شرقا، وعائلته مرابطة تدعى أولاد بوعزة، وكان محمد الهبري في البداية مقدما على زاوية الخيثر في بني يحيى بالريف المغربي، ثم أظهر استقلاله وأصبح يهدد بابتلاع الفروع الأخرى، وتصفه المصادر الفرنسية بالتعصب، ولكننا لا ندري ماذا كانت تتوقع منه في وقت كانت تمتد عيون فرنسا إلى المغرب الأقصى لابتلاعه أيضا، فهل كانت تتوقع أن تجد طريقة جديدة مساندة لها تدخل بها جنوب الجزائر والمغرب كالطيبية؟ لقد أصبحت هذه الطريقة تسمى (الهبرية) منذ آخر القرن الماضي، وقد توقع الفرنسيون أن تتكون طريقة بذلك الاسم، ولكن بعد وفاة شيخها، وجاءتها هذه الخصوصية من ممارسة الأذكار، ولكن ذكر الشاذلية - الدرقاوية ظل هو هو عندها، وكان للهبرية مقدم في سعيدة وكان درقاويا متحمسا، ولكنه لا يهمل الجوانب المادية كما قيل، وقد أسس لهذا الفرع الجديد زاويتين، وهو يبتعد عن أنظار الفرنسيين ويكثر من العبادة، ويمكن أن يكون ملجأ المتعصبين والثائرين، كما يقولون (¬1). وربما كان محمد الهبري هذا هو نفسه الذي توفي سنة 1901، فإذا كان الأمر كذلك فإنه يكون من مواليد سنة 1863 (1280). ومن قبيلة زغبة العربية، المتفرعة عنها قبيلة الهبرة (؟). وكان للهبري ولع بالأعشاب، وربما كان يستعملها في التداوي ويجلب بذلك العامة والأتباع، ونحن أمام السيرة التي أوردها له (قوفيون) نجد أنفسنا غير قادرين على إصدار حكم على الطريقة الهبرية عندئذ، فهم من أتباع الدرقاوية، ولكنهم ثاروا على السلطان بالمغرب (الحسن الأول؟ وقد ثار الدرقاويون ضد العثمانيين قبل ذلك، كما أشرنا). ولا ندري إن كان الهبري قد توفي طبيعيا أو مات مقتولا، ولكننا نعرف أنه ترك أحد أبنائه، وهو محمد الهبري الذي أصبح مواليا للفرنسيين، حسب مصادرهم، وكان أصغر الأبناء، وربما لم يكن هو الذي ورث البركة عن أبيه، ومهما كان الأمر، فكتاب أعيان المغرب الأقصى يصفه بأنه صديق الضابطين موجان وليوتي، وأنه ساعد الفرنسيين على تهدئة الأوضاع سنة ¬

_ (¬1) ديبون وكوبرلاني، مرجع سابق، ص 509،

1914 (الحرب العالمية). وقد دعته فرنسا للإقامة في شرق الجزائر فجاء وبقي عدة شهور في عنابة، فهل كان ذلك نوعا من الإقامة الجبرية خوفا من شغبه؟ إن قوفيون قال: إن الهبري كان يحث الناس على الولاء لفرنسا ويطلب منهم أن يكونوا (فرنسيين جيدين). وهذا الولاء أثبته محمد الهبري زمن ثورة الأمير عبد الكريم الخطابي أيضا، إذ يذكر قوفيون أن الزاوية الهبرية أصبحت ملجأ للموالين لفرنسا (¬1). قلنا إن أذكار الشاذلية هي نفسها أذكار الدرقاوية، ولكن الدرقاوية أعطت نفسا جديدا للشاذلية، فممارساتهم صارمة، وانضباطهم مثالي، وهم يعيشون حياة من العبادة والتطهر الدائم، وعلى المسلم الذي سيقابل درقاويا أن يتطهر طهارة الصلاة، ويأتي الشيخ فيضع يده بين يديه وينطق بالشهادة (لا إله إلا الله). ثم يستحلفه على المحافظة على تعاليم الطريقة وعلى حب إخوانه، وأن يقدم إليه النصائح المفيدة، ثم يقدمه الشيخ إلى إخوان الآخرين فيندمج معهم ويدخل الحضرة معهم، وقد عرفنا أن من تعاليم الشاذلية السهر والصمت والخلوة أو العزلة عن الناس، وذكر الله، كما أن الدرقاويين يقرأون الصلاة المشيشية وهي تكرار (لا إله إلا الله محمد الحقيقة الواضحة، الأمين، الصادق، ونبيه). مائة مرة في اليوم (¬2). وإخوان الدرقاوية في الجزائر كانوا في آخر القرن الماضي حوالي عشرة آلاف، وهو عدد كبير نسبيا، ولكن الإحصاءات ليست واحدة في هذا الصدد، فإحصاء 1882 يجعلهم 14، 574، يضاف إليهم 268 مقدما، كما يذكر لهم عددا كبيرا من الزوايا، وهي 32 زاوية، ولكن نلاحظ أن الإحصاء يتحدث عن الشاذلية/ الدرقاوية عموما، بما في ذلك بعض الفروع التي ذكرنا مثل فرع قصر البخاري، والتي سنذكرها مثل المدنية، كما نلاحظ شيئا ¬

_ (¬1) قوفيون (أعيان المغرب الأقصى). ط، الجزائر، 1934، ص 887. (¬2) يقول رين، مرجع سابق، ص 264، أن أتباع الدرقاوية، رغم ادعائهم بأنهم ينتمون إلى طريقة (عالمة) فإنهم، وحتى مقدميهم، يجهلون ما كتبه شيوخهم وما شرحوه من كتب وما علقوا به على كتب التصوف،

آخر، وهو أن عدد المقدمين متفوق في الإقليم الغربي (185 مقدما) بينما هو ينخفض في الشرق (52) والوسط (31). أما عدد الزوايا فأكثره في قسنطينة (18 زاوية) وسبعة فقط بين وهران والجزائر (¬1). أما إحصاء سنة 1897 فيذكر الدرقاوة فقط وعلى هذا النحو: 9، 567 من الإخوان، و 134 من الطلبة و 9 من الشيوخ، و 72 من المقدمين، بالإضافة إلى عشر زوايا (¬2). وهناك طريقة درقاوية أخرى تسمى طريقة الشيخ البودالي، وكانت زاويتها في بلدية فرندة، وكذلك زاوية زقزل التي تنتمي للدرقاوية رغم أنها تبدو مستقلة عن مختلف الطرق، والأخيرة أسسها مولاي أحمد بن محمد الينبوعي (من جهة البحر الأحمر). ويذكرون أنه شريف من الأدارسة، ومن قصصه أنه جاء إلى تلك الجهة على حمار، وكان خطاطا ونساخا للكتب، وأن أحد شيوخه قد نصحه بالتوجه نحو الغرب (؟). وقد نزل في وادي زقزل وأقام خلوته في أولاد إبراهيم، وتزوج من ابنة أحد المرابطين هناك، اسمه محمد بن يعقوب، وربما عاش الينبوعي إلى سنة 1842 (1255). وترك سبعة أولاد، منهم بوشطة الذي لقيه بعضهم سنة 1959، وانتشر أولاده في الأرض وكونوا أيضا زوايا، وكانوا يقولون إنهم مستقلون وغير منتمين إلى أية طريقة، رغم أن لهم سلسلة في الخلوتية وأخرى في التجانية أيضا، ويقولون عن أنفسهم إنهم حمدانيون (نسبة إلى جدهم أحمد، لكن النسبة الحقيقية هي أحمديون) وقد أصبحت زاويتهم الأصلية تعرف بالصديقية نسبة إلى الصديق أحد أبناء أحمد الينبوعي، وكان رئيس الزاوية سنة 1909 هو الهاشمي بن الصديق. ولزاوية زقزل سلسلة، كما قلنا، وأوراد، ومن أورادها التعوذ بالله عشر مرات، والبسملة مائة مرة، والاستغفار مائتي مرة، والشهادتان مائة مرة، والصلاة على الرسول (صلى الله عليه وسلم) مائتي مرة، وذكر آخر (¬3) مائة مرة (معناه أن المؤمنين هم ¬

_ (¬1) رين، نفس المصدر، ص 264. (¬2) ديبون وكوبولاني، مرجع سابق، ص 511. (¬3) لعله هو الآية الكريمة {الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور ... الآية}،

الذين يتركون الظلام إلى النور). بالإضافة إلى الدعاء بالرحمة للوالدين وجميع المسلمين والمسلمات، سبعة وعشرين مرة (¬1). ومع موقفهم المتحفظ الذي تحدث عنه الكتاب الفرنسيون وجدنا بعض زعماء الدرقاوية يعلنون لأتباعهم وجوب الولاء لفرنسا عند اندلاع الحرب العالمية الأولى، أسوة بالطرق الصوفية الأخرى، فهذا الشيخ أحمد بن المبخوت مقدم الدرقاوية في المشرية، وجه نداء في آخر 1914 إلى أتباع الطريقة، أطال فيه وصف الألمان بالوحشية ووقوع الأتراك في براثن ألمانيا، وأخبرهم أن فرنسا كانت تنصر الحق، وأنها فعلت الخير مع الجزائريين ومن واجبهم نحوها مقابلة الإحسان بالإحسان (¬2). ومن المعروف أن بعض الدرقاويين قبلوا بالوظائف القضائية، بل إن بعضهم قبل الوظائف السياسية كعضوية مجلس الوفود المالية، مثل النائب غلام الله، وقد كان على موقف نقيض لمواقف الحركة الإصلاحية والسياسية. والخاتمة التي ختم بها (رين) حكمه على موقف الدرقاويين من الحكم الفرنسي هي أنهم ليسوا أنصارا للفرنسيين وليسوا أعداء لهم أيضا، إنهم قد رفضوا المناصب الإدارية ولكنهم قبلوا بالوظائف الدينية من إمامة وإفتاء وقضاء، ولعل ذلك قياسا على ما فعله بعض أوائلهم، وهم لا يمكن أن يكونوا (احتياطيين) للفرنسيين يعتمدون عليهم في الملمات، ولكن يمكن التعاون معهم في بث (لحضارة) التي ينشرها الفرنسيون في الجزائر. وهناك ملاحظة أخرى نختم بها هذه الفقرة، وهي أن الدبلوماسية الفرنسية كانت ترى في الدرقاوية العدوة التقليدية للأتراك، إذ ثارت ضدهم قديما، فلماذا لا تستفيد منهم، ربما، في وقت تتوتر فيه العلاقات مع الدولة العثمانية أو مع بعض الطرق المؤيدة لها كالمدنية والسنوسية؟ ولكن فروع ¬

_ (¬1) محمد نهليل، مترجم عسكري (ملاحظات على زاوية زقزل وتوابعها). في (المجلة الإفريقية). 1909، ص 271 - 284. (¬2) مجلة العالم الإسلامي R، M، M ديسمبر 1914، ص 252 - 254،

الطريقة المدنية

الدرقاوية، كما رأينا كثيرة، و (رين) وأمثاله لم يعيشوا إلى القرن العشرين ليعرفوا كيف تصرفت بعض الطرق منذ الحرب العالمية الأولى، وقبل أن نتناول ذلك نود أن نقول كلمة أيضا عن الطريقة المدنية. الطريقة المدنية عرفنا بداية الطريقة المدنية في الجزائر ابتداء من الحاج موسى بن حسن المصري الدرقاوي الذي لعب منذ 1833 دورا بارزا في الثورات بالجزائر إلى أن استشهد إلى جانب بوزيان في الزعاطشة سنة 1849، وكما قيل عن الحاج موسى أنه انفصل عن الشاذلية بدعوته للجهاد وتدخله في السياسة، كذلك قيل عن الطريقة المدنية بأنها تخلت عن التعاليم الشاذلية في الحياد ونبذ السياسة وأصبحت أداة للسياسة في يد السلطان العثماني عبد الحميد الثاني ولفكرة الجامعة الإسلامية، أو كما يقول الفرنسيون أصبحت المدنية معادية للتقدم والحضارة الأوروبية (الفرنسية). فما هي الطريقة المدنية؟ ومن صاحبها؟ وأين ظهرت؟ ظهرت هذه الطريقة في أوائل القرن الثالث عشر الهجري/ التاسع عشر ميلادي في طرابلس، وفي مصراته بالذات، وكان الشيخ محمد بن حمزة المدني قد أخذها عن شيخه محمد العربي الدرقاوي، و (المدني) نسبة إلى المدينة المنورة، ويقولون إنها تأسست سنة 1820، وانتشرت بسرعة كبيرة، وكانت زاويتها الرئيسية في مصراته، وكانت ليبيا عندئذ تمر من مرحلة حكم إلى آخر، نتيجة التحول من عائلة القرامانليين إلى الحكم العثماني المباشر عن طريق تعيين الولاة من قبل اسطانبول، كما نشطت أثناء تأسيس ونشاط الطريقة السنوسية في جغبوب في الطرف الشرقي من ليبيا، وصادف ظهورها أيضا (أي المدنية) احتلال فرنسا للجزائر والثورات فيها ضد هذا الاحتلال ثم احتلال تونس، وهذه الظروف كلها ساهمت في الانتشار السريع للمدنية، ثم للسنوسية أيضا، لملء الفراغ الذي أحدثه الضعف السياسي في المنطقة كلها وتدهور الحكم الإسلامي فيها،

ثم تولى الطريقة محمد ظافر المدني الذي وصلت المدنية في عهده أوج سمعتها، ولد محمد ظافر في مصراته سنة 1828 (1244). وتربى في مسقط رأسه، وحفظ القرآن الكريم، وبعد ذلك ارتحل إلى القاهرة ثم الحجاز وأخذ العلم فيهما واختلط بالطرق الصوفية وعاش الأحداث السياسية التي كانت - تخض المنطقة، والتقى بالشيخين إبراهيم الرياحي ومحمد بن علي السنوسي، ثم ارتحل إلى اسطانبول عاصمة الدولة، ولقي الأمراء، وقابل سلاطين الوقت من عبد العزيز إلى عبد الحميد، وقد حضر جلوس السلطان الأخير سنة 1876، واعتقد السلطان نفسه في طريقته الشاذلية/ الدرقاوية، وأعانه هذا السلطان فأقام له زاوية (تكية) في اسطانبول، وهي الزاوية التي دفن فيها بعد ثمانين سنة من العمر (سنة 1903/ 1321). وقد ترك محمد ظافر أربعة عشر ولدا عدا البنات (¬1). وهناك رواية أخرى ذكرها (مارتن لانغز) وهي تفيد أن محمد ظافر المدني (بن محمد بن محمد حسن بن حمزة ظافر المدني) كان قد خرج من المدينة سنة 1807 واتجه غربا فاجتمع بالمغرب الأقصى بشيخ الطريقة محمد العربي الدرقاوي وبقي عنده تسع سنوات في بني زروال (زاوية بوبريح) وأخذ عنه الطريقة، ثم أمره الدرقاوي بالرجوع إلى المدينة، وبعد ثلاث سنوات رجع المدني إلى المغرب وبقي فيه خلال الشهور الأخيرة من حياة شيخه وحضر وفاته ثم رجع إلى المدينة، وفي طرابلس (حوالي 1821) التف حوله الناس ودخلوا طريقته الجديدة (الدرقا وية/ 1 لمدنية) (¬2). ويتبين من ذلك أمران على الأقل: صلة الطريقة المدنية بالشاذلية، وصلتها بسياسة الدولة العثمانية، وتدعى المصادر الفرنسية أن محمد ظافر ¬

_ (¬1) (الأعلام الشرقية) 3/ 125 - 127، ويذكر هذا المصدر أن من مصادر المدنية أيضا: تقويم جريدة (المؤيد) لسنة 1322، وكتاب (النفحة العلية في أوراد الشاذلية) ل عبد القادر زكي، وما كتبه أيضا إبراهيم المويلحي عنها. (¬2) مارتن لانغز (الشيخ أحمد العلوي). بيروت، 1979، ص 69 - 71، وهو يروى عن (الأنوار القدوسية في طريق الشاذلية). اسطانبول، 1884،

المدني قد أصبح مستشارا للسلطان عبد الحميد، وأصبحت الطريقة تتشكل حسب رغبة الشيخ المدني وطموحه السياسي وطموح السلطان في نشر فكرة الجامعة الإسلامية، وليس حسب تعاليم الشاذلية - الدرقاوية، فقد ألف محمد ظافر المدني كتابا سماه (النور الساطع) ونشره باسطانبول سنة 1885، وطرح فيه مبادئ طريقته، فركز على تعاليم الشاذلية في التوحيد والتصوف، ولكنه، كما يقولون، أضاف إلى ذلك التعاليم الدبلوماسية والدعاية لجمع الأتباع لفكرة الجامعة الإسلامية، ويبدو أن محمد ظافر المدني كان من المتصوفين المثقفين بثقافة العصر السياسية فجمع بينها وبين التصوف وحاول أن يخدم كل منهما الآخر، في حين أن التصوف الذي يريده الفرنسيون هو التصوف الجامد غير المتجدد والسلبي غير الفعال والبعيد عن السياسة والتعصب الديني، كما يزعمون. ولذلك أعلن أحدهم (رين) سنة 1884 (أي قبل نشر كتاب النور الساطع) بأن المدنية طريقة متميزة بنفسها، وهي منفصلة عن الشاذلية - الدرقاوية، ولا علاقة لها بشاذلية محمد الموسوم الذي أخبر عنه (رين) بأنه كان سكونيا لا حركيا، وحياديا لا مشاركا في الأحداث الجارية على ساحة بلاده، بل قال عنه إن كان يطلب من الإخوان عدم المشاركة في الثورات بطلب من فرنسا، وقد فعل ذلك من تلقاء نفسه، شتان إذن بين فرع وفرع لطريقة واحدة، هي الشاذلية! ولكن رين يضيف جديدا عن المدنية لا يخلو من عبرة، وهو قوله إن محمد ظافر المدني قد أصبح خادما لسلطان اسطانبول وخرج عن الحياد السياسي، وهو يحاول أن يستعمل أخوانه ضد معارضي السلطان من السنوسيين والتجانيين والطيبيين والشاذليين، ثم لاحظ أن المدنية تلعب في وقته، دورا مزدوجا وخطيرا، فهي من جهة (مبيوعة) (كذا) للسلطان، وهي من جهة أخرى تخدم السنوسية، ومحتفظة في نفس الوقت باستقلالها مما يسهل مهمتها في المناورة، وكان شعار المدنية عندئذ هو (وحدة كل المسلمين لطرد المسيحيين من إفريقيا (واسيا)) (¬1). ¬

_ (¬1) رين، مرجع سابق، ص 243،

لقد كان الشيخ محمد ظافر المدني يدير نشاطه من خلوته في (يلدر كوشك) في اسطانبول، وكان يوجه مبعوثيه إلى المغرب العربي وإلى الحجاز حيث ملتقى الحجاج، وتذهب المصادر الفرنسية إلى أنه كان يرسل (آلاف العملاء) هنا وهناك لربط مشاعر الشيوخ المستقلين الذين يديرون الطرق الصوفية القوية، وهذا هو الوقت الذي كانت فيه فرنسا تحاول أن تعيد النظر في سياستها الإسلامية ليس في الجزائر فحسب ولكن في كل العالم الإسلامي، ولذلك كانت ترى في أمثال المدنية والسنوسية طريقتين عدوتين لأنهما تتبنيان سياسة الجامعة الإسلامية ومحاربة الاستعمار الأوروبي، وبعد موت أخيه حمزة في طرابلس، أعطى الشيخ محمد ظافر المدني بركته لأبناء أخيه، واعتبرهم الفرنسيون عملاء للدولة العثمانية في إفريقية، ويقول الفرنسيون إن الوعود والعطاءات قد صدرت لكبار الناس وعلمائهم من قبل المدنية والعثمانيين، أما البسطاء فقد هددوا بنقمة الله عليهم إذا لم يتبعوا طريق المدنية والسياسة العثمانية. أما التعاليم الدينية للطريقة المدنية فنراها في الإجازة التي حصل عليها أحد مقدميها في الجزائر، وهو الشيخ يحيى بن أحمد (¬1). كان الشيخ يحيى مقدما على أولاد نائل في الجنوب/ الوسط، وأعطاه الإجازة الشيخ محمد أحمد بن عبد الله المدني (المداني). وكان هذا قد أخذ الطريقة عن والده أحمد بن عبد الله التونسي الصفاقسي الذي أخذها بدوره عن الشيخ محمد ظافر بن حمزة المدني، وهذا أخذها عن الشيخ محمد العربي الدرقاوي، إلى آخر السلسلة الدرقاوية - الشاذلية التي تمتد إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم). وجاء في الإجازة أن والده قد أمره بتقوى الله في السر والعلانية والإحسان إلى عباد الله، وأمره بالسياحة مع الفقراء، وقال عن يحيى بن أحمد إنني: (قدمته على الطائفة المدنية) وأجزته إجازة تامة، وجعلته في ذلك نائبا عني، ثم ¬

_ (¬1) نص الإجازة بالعربية وترجمته الفرنسية في ديبون وكوبولاني، مرجع سابق، ص 514 - 517،

الطريقة العليوية

أوصاه بالتقوى في السر والعلانية والإحسان كما أوصاه أن يترفع بهمته عن الناس، وأن لا يتعاطوا إلا المنفعة الخاصة بالديانة .. وأن يطيعوا الأمير (وهذا كلام يعجب الفرنسيين لو كانوا هم المقصودين) ويتواضعوا للغني والفقير ... وأن يذكروا الله دائما، وأن لا يشتغلوا إلا بما يعنيهم، وأن لا ينشغلوا بمجالس الغفلة، ولا بالقيل والقال، لقد كان للمدينة مقدمون في الجزائر وتونس ومصر والمغرب والحجاز وليبيا وإفريقية وتركيا، وحيثما توجد المدنية يكون (العداء للتقدم والحضارة) حسب تعبير بعض المصادر الفرنسية، وهي (المصادر) تقصد العداء للاستعمار والغزو الحضاري للعالم الإسلامي. وليس لدينا إحصاءات عن أتباع المدنية في الجزائر، والظاهر أنها كانت بأعداد قليلة، ولكنها نشطة، ولم يذكر رين أرقاما دقيقة لإخوانها أو زواياها أو مقدميها في الجزائر، أما ديبون وكوبولاني (1897) فقد ذكرا لها زاويتين، وأربعة عشر مقدما، و 1، 673 من الإخوان، وشاوشا واحدا، وأحد عشر وكيلا، وهي منتشرة في إقليمي وهران والجزائر، حسب رأيهما، وكان ذلك في أوج نشاط هذه الطريقة، ولا شك أن سقوط نظام السلطان عبد الحميد سنة 1908 ومجيء لجنة الاتحاد والترقي، واحتلال ليبيا من قبل إيطاليا سنة 1911، كل ذلك قد أثر على نشاط إخوان الطريقة المدنية وجعلهم يغيرون (تكتيكهم) وأساليب نشاطهم الصوفي - السياسي، ولكن في الوقت الذي كانت تجري فيه تلك الأحداث كانت الجزائر تشهد ميلاد فرع جديد للطريقة الشاذلية - الدرقاوية، ونعني به الطريقة العليوية، وكان بينهما تنسيق وتواصل. الطريقة العليوية وهي الفرع الأخير للشاذلية/ الدرقاوية، وتنسب إلى الشيخ أحمد بن مصطفى بن عليوة (العلاوي والعلوي أيضا). وقد ولد في مستغانم في تاريخ غير متفق عليه، وهو 1867 عند أحمد توفيق المدني، و 1873 عند محمد

البوهلي النيال، وهو 1874 عند أوغسطين بيرك، أما تاريخ وفاته فهو محل اتفاق، وهو سنة 1934، وترجمة الشيخ متوفرة، ولكن بعض المترجمين يرفعونه وبعضهم يقلل من شأنه، ومهما يكن فإنه أخذ المبادئ العلمية في مستغانم، أخذ التصوف عن الشيخ محمد البوزيدي، وتصدر بعده لعمارة زاوية شيخه، ثم استقل وأسس زاوية خاصة به في مستغانم وأخريات في معسكر وغيليزان والجزائر ووهران وزواوة، ولا ندري متى أسس هذه الزاوية المستقلة، فبعضهم يجعل سنة 1910 (المدني) هو تاريخها، والبعض يجعل التاريخ، 1909، هو تاريخ هجرته إلى المشرق (¬1). وسواء كان تأسيس الزاوية في العشرية الأولى من هذا القرن أو بعد ذلك، فإن الذي لا شك فيه أن نشاط الشيخ لم يظهر إلا بعد 1919، وبذلك تكون فترة نشاطه حوالي أربع عشرة سنة، وهي فترة قصيرة في عمر مؤسس الزوايا التي عرفناها، تعرف طريقة الشيخ ابن عليوة بأنها طريقة عصرية عند البعض، لماذا؟ لأن الشيخ استعمل وسائل حديثة لبث أفكاره وتعاليمه: وسائل لم تستغلها الطرق الصوفية الأخرى المختبئة خلف حيطان الزوايا والخلوات والعبادات الليلية والسرية، أما الشيخ ابن عليوة فقد اشترى مطبعة للزاوية، وأسس صحفا كانت تنشر نشاطه، كما كانت تدافع عن الزاوية ضد مخالفيها أو منتقديها، ومن أشهر الصحف التي صدرت عن الزاوية العليوية صحيفة أسبوعية تسمى (لسان الدين) وصحيفة (البلاع الجزائري) الأسبوعية أيضا، وقد اهتمت الأخيرة بشؤون الجزائر السياسية والوطنية، وكان لها آراء صريحة لتأييد الجامعة الإسلامية واليقظة الوطنية، وقد وقفت ضد الاندماج وأنصاره، وضد التجنيس، ودافعت بشدة عن اللغة العربية، ومن الوسائل (لعصرية) التي لجأ إليها الشيخ نشر آرائه في كتيبات ومطبوعات ليطلع عليها المطلعون، وقد نشرها في تونس والجزائر، ومنها، بالإضافة إلى قضايا التصوف والعبادات، قصائد الشعر، ولكن بعض المعاصرين، أمثال الشيخ أحمد حماني والشيخ نعيم النعيمي، يؤكدون على أن الشيخ كان (أميا). وإنما ¬

_ (¬1) عن ذهابه إلى المشرق انظر لاحقا،

أصحابه هم الذين كانوا يكتبون له وينشرون باسمه، وأما أوغسطين بيرك قد رفعه إلى درجات عالية وجعله من فلاسفة العصر، واعتبره (مرابطا عصريا) (¬1). بفضل هذه الوسائل وأمثالها انتشرت الطريقة العليوية انتشارا سريعا وواسعا لم تحظ به الطرق الأخرى حتى المرضي عنها من قبل الإدارة الفرنسية، ونحن نعلم أن الطرق ليست (حرة) في هذا النشاط، وأن الإدارة تملك سلاح تقييدها أو تحريرها، وعلى الطريقة إما أن توالي الإدارة وتجاملها وتقدم لها عربون الطاعة والإخلاص، وفي هذه الحالة فهي في حل تفعل ما تشاء بل تجد كل الدعم المادي والمعنوي، وإما أن تتمرد وتجاهر بالعداء وفي هذه الحالة تواجه العراقيل والمؤامرات والقيود التي تثبطها إن لم تقض عليها، يقول أحد أنصار هذه الطريقة وهو الشيخ الهاشمي بن بكار في ترجمة الشيخ ابن عليوة، إن الناس قد دخلوا طريقته حتى من الريف المغربي وأن العلماء قد وفدوا عليه، ثم يضيف (ونصب مرشدين (مقدمين؟) بإذن في فرنسا والحجاز، والعراق واليمن، وغير ذلك لما، وكان الشيخ ابن عليوة في مقدمة المدافعين عن الزوايا وصيانة عقائد أهل السنة عند ظهور المتطرفين، وهو يقصد (بالمتطرفين) رجال الإصلاح والحركة الباديسية عموما، والمعروف أن الشيخ ابن عليوة قد ساند في البداية الحركة الإصلاحية، وتأسيس جمعية العلماء، ثم انضم للحركة المنفصلة عنها، وهي التي مثلتها جمعية علماء السنة سنة 1932، ولم يلبث الشيخ أن توفي بعد ذلك بسنتين، كما ماتت جمعية علماء السنة في نفس الفترة. ولكن هناك من يرى في الطريقة العليوية مجالا للقيل والقال، وهم ¬

_ (¬1) انظر مقالته الطويلة في المجلة الإفريقية (R، A) 1936، ص 691 - 776، (مع صورة الشيخ). كما توجد ترجمة الشيخ في العدد 53 من جريدة (لسان الدين) السنه الثانية، مايو 1938 (30 أو 20 مايو؟). انظر كذلك أطروحة أحمد مريوش عن الشيخ الطيب العقبي - معهد التاريخ، جامعة الجزائر، نوقشت سنة 1993، وكتاب مارتن لانغز (الشيخ أحمد العلوي). بيروت، 1973،

يستندون في ذلك إلى تأييد فرنسا لها تأييدا ظاهرا وباطنا، (بكل الوسائل). حسب تعبير أحدهم (¬1). ومن أكبر المؤيدين لها الشيخ عبد الحي الكتاني المغربي، الذي لعب، رغم علمه الواسع، دورا مشبوها في حركة الطرق الصوفية والزوايا على مستوى المغرب العربي، وسنتحدث عنه وعن دور هذه الزوايا بعد قليل، وقد دخل الطريقة العليوية بعض الفرنسيين المشبوهين الذين ادعوا اعتناق الإسلام، كما دخلها وألف فيها كتبا ومقالات بعض الانكليز أيضا، وقد نسب إلى الشيخ ابن عليوة أنه يقول بالتثليث، ولكن ليس التثليث الذي يؤمن به النصارى، بل تثليث الأديان: الإسلام والمسيحية واليهودية، وهو مذهب قريب جدا من عقائد الماسونية التي تؤمن بالتثليث الآخر، وهو (الحرية والإخاء والمساواة). كما نسب إلى الشيخ القول بالحلول الذي جاء على لسان أبي منصور الحلاج، ولكن الجميع متفقون على أن الطريقة العليوية جديدة، وعصرية وغير عادية بين الطرق، فإلى أي حد إذن هي شاذلية أو قادرية أصلا؟ فهل هي جديدة في التصوف كما هي جديدة في السياسة وفي الموقف من الأديان؟ إن السلسلة التي اتبعوها تمتد إلى محمد العربي الدرقاوي والشاذلي، ولكن ابن عليوة استقل في الأخير عن الجميع، وأصبحت الطريقة باسمه، وأتباعها يستعملون الحضرة أيضا ويمارسون الأذكار والاجتماعات ويحبون الخلوة حتى ألزموا المريد بالاختلاء أربعين يوما إذا لزم الأمر، وأثناء ذلك عليه ألا يكف عن ذكر اسم (الله) ومد المقطع الأخير منه، وعلى المريد أن يذكر الشهادة خمسة وسبعين ألف مرة، وأن يصوم أثناء الخلوة طول النهار ولا يأكل إلا ليلا، ومن مبادئهم أن (الكشف) قد يأتي للمريد في بضع دقائق، وقد يأتي في بضعة أسابيع أو شهور، وهؤلاء الأتباع يستعملون الرقص والتواجد، ويذكرون الله في حركات خاصة إلى أن تصل إلى التشنج والصرع، كما أسلفنا، ويعلقون السبحة في أعناقهم ما عدا المشارقة فقد قيل إن ابن عليوة أباح لهم حمل السبحة في أيديهم، وفي السبحة تسعة وتسعون ¬

_ (¬1) النيال (الحقيقة التاريخية للتصوف الإسلامي). ص 341،

حبة، وفي وسطها قطعة خاصة تكمل المائة (¬1). ومن رأى (لانغز) أن ابن عليوة يتبع في تصوفه مذهب محيي الدين ابن العربي. أما علي مراد فقد رأى أن ابن عليوة قد غرق في التصوف القديم دون استعداد ديني ودراسي كاف، فكان في نظر العامة صاحب مكانة عالية في الفقه والتصوف، غير أنه كان يفتقر إلى الفهم للنصوص وإلى القدرة على استيعاب المسائل والذوق، ولذلك اتهمه الإصلاحيون بالزندقة والإلحاد، وأبرز علي مراد ظاهرة أخرى في ثقافة ابن عليوة وهي أنه تخلف فكريا بينما واصل معاصروه من العلماء الدراسة والاطلاع على إنتاج المشرق وتخرجوا من المعاهد الإسلامية، وإلى جانب ذلك ظل ابن عليوة يدور في فلك ما اسماه علي مراد بالمركزية الإسلامية - المسيحية، وهذا الموقف قد جلب إليه بعض العطف والاهتمام مؤقتا لأسباب سياسية، ولكن ابن عليوة فشل في جلب المسلمين والمسيحيين إلى هذه المركزية. وقد رأى مراد أن ابن عليوة لم يستطع إنجاد المرابطية في وقت كانت تواجه فيه هجمة الإصلاح، ولو كان عالما أصيلا أو من رجال الدين الأقوياء لكان في استطاعته التصدي لذلك الهجوم وإنقاذ المرابطية (روحانية الطرق الصوفية). ومن جهة أخرى فإن التطورات الحديثة قد جعلت المرابطية متخلفة، ففرنسا وجمعية العلماء أخذتا منها التعليم، والمجتمع الحضري أخذ منها الاحسان وأفعال البر، واستوعبت الحياة المادية لبناء الزوايا، وفقدت هذه المؤسسات زبائنها، وهكذا انعزلت المرابطية أمام قوى الحداثة والتقدم (¬2). وليس في هذا جديد، وحتى إطلاق اللحى وتعليق السبحة وقبول بعض الوظائف ونحو ذلك، كان معروفا لدى طرق سابقة، سيما الدرقاوية. ¬

_ (¬1) لانغز، مرجع سابق، ص 81 وهنا وهناك. (¬2) علي مراد (الإصلاح الإسلامي). مرجع سابق، ص 75 - 76، بالإضافة إلى أوغسطين بيرك، ذكر علي مراد عددا من المستشرقين الآخرين الذين اهتموا بالشيخ ابن عليوة، ومنهم تيتوس بورخارت BURCKARDTT وإيميل بيرمنغام، وكذلك مارتن لانغز الإنكليزي،

ولكن بعضهم يضيف أن أتباع الشيخ كانوا يركبون العجلات ويظهرون الحزم والنشاط كما يفعل الآباء البيض (¬1). ويذهب مصدر آخر إلى أنهم كانوا يعقدون اجتماعات عامة لمناقشة القضايا الدينية والاجتماعية كما تفعل الجمعيات المدنية، أي بروح عصرية (¬2). ويبدو أن طريقة الشيخ أحمد بن عليوة من الطرق المثيرة للجدل والتي ما تزال في حاجة إلى دراسات مستفيضة، بعد الكشف عن الوثائق الفرنسية المعاصرة، ونعني بذلك وثائق إدارة الشؤون الأهلية، أما بعض المصادر الأخرى فقد نوهت بالشيخ وطريقته لا سيما (مجموع النسب) لابن بكار و (الأعلام الشرقية) لمحمد مجاهد و (الشيخ أحمد العلاوي) لمارتن لانغز، وقد قال صاحب الكتاب الأخير إن الشيخ ابن عليوة بدأ بالطريقة العيساوية وممارسة طقوسها، وهذه معلومة جديدة يضيفها هذا المصدر (¬3). ثم إنه تعلق بالدرقاوية، وبعد أن اطلع على ما عند الشيخ البوزيدي اشتغل بطلب العلم، فدرس اللغة العربية، وبعض القرآن والسنة، ثم أمعن في الفلك (فسلك فيه مسلك المتأخرين). وهو تعبير غامض، لا نعرف إلى أي شيء يقصد بالفلك ولا بمسلك المتأخرين فيه، ولعله يعني به التنجيم. وهذا المصدر (كتاب مجموع النسب) إذن يقر باطلاع الشيخ على العلوم الدينية والعربية والصوفية، ولا ندري إن كان ذلك الإقرار منه عن عقيدة ومعرفة أو عن تقليد بالنقل عن كتب الشيخ أو المنسوبة إليه مثل (المنح القدوسية). ¬

_ (¬1) النيال، (الحقيقة التاريخية ..) مرجع سابق، ص 341. (¬2) أحمد توفيق المدني (كتاب الجزائر) ط، 2، القاهوة، 1963، ص 353. (¬3) يضيف هذا المصدر معلومات عن نسب الشيخ ابن عليوة العائلي هكذا: فهو أحمد بن مصطفى بن محمد بن أحمد المعروف بالقاضي، ابن محمد المعروف ببوشنتوف، ابن مدبوغ الجبهة (وهو ولي صالح) ابن علي المعروف بعليوة المنتسب إليه (العليوي) ابن غانم المستغانمي، ويبدو أن هذه السلسلة العائلية قد وصلت إلى المؤلف من الشيخ نفسه أو من أحد أتباعه المقربين أو وجدها في كتابه المسمى بـ (المنح القدوسية). انظر الأعلام الشرقية، مرجع سابق، 3/ 93 - 94،

ونحن نميل إلى الاحتمال الثاني، وقد نسب إلى الشيخ تأليف حوالي أربعة عشر كتابا، وهي في الواقع رسائل وكتيبات صغيرة تشبه التقاييد، معظمها في التصوف والشعر، ولكن منها على الأقل اثنان مذكوران بعناوينهما، أحدهما (مفتاح الشهود في مظاهر الوجود). والثاني (المنح القدوسية). والغريب أن ابن بكار الذي يعرف الشيخ ابن عليوة شخصيا وسافر معه، كما قال، إلى مدينة الجزائر، لم يتحدث عن تآليفه، ولم ينوه بأي منها، وحتى عندما ذكر المطبعة قال إنه فعل ذلك (لطبع كتب التصوف وطبع الردود على المنكرين) ولم يقل لطبع كتبه هو في التصوف. وكما تحفظ ابن بكار، وهو من الطريقة الطيبية/ الشاذلية، كما عرفنا، ومن ثمة قريب منه في التصوف، في ذكر تآليف الشيخ ابن عليوة، تحفظ كذلك في مصير الزاوية والطريقة بعده، فقد قال إن (أغلب) الأتباع اتفقوا على أن يكون رئيس الزاوية بعده هو صهره الشيخ عدة بن تونس، ولم يتحدث عن هذا (الشيخ) الوريث للبركة ولا عن الطريقة بعده، رغم أنه نشر كتابه (مجموع النسب) سنة 1961 (¬1). وقد ذكرنا آنفا أن العادة جرت إما أن يعين الشيخ من يخلفه ويرث بركته كأحد أولاده، كما فعل عدد من الشيوخ، أو شخصا غريبا عن العائلة تماما، مثلما فعل مؤسس الطريقة الرحمانية، وإما أن يترك لأتباعه الاختيار بعد وفاته بحيث يجتمعون لاختيار أفضلهم علما وتقوى وأكبر سنا وأشهرهم حرمة بين الناس، لأن الهدف هو استمرار نجاح الطريقة بعده، أما في العهد الفرنسي فقد جرت العادة أن تنحل الطريقة الواحدة إلى فروع صغيرة متنافسة بفعل الإدارة الفرنسية التي تخشى الوحدة في القيادة لأي تجمع، فماذا كان مصير طريقة الشيخ ابن عليوة؟ لم يكن للشيخ وريث ولم يوص هو بأحد بعده، أما الشيخ ابن بكار فقد عرفنا رأيه، وأما غيره فقد قال إن الفرصة كانت مواتية لصهر ابن عليوة، وهو عدة بن تونس، أحد أتباعه وسائق سيارته، فنصب نفسه خليفة على ¬

_ (¬1) ابن بكار، مرجع سابق، ص 169،

الزاوية ووارثا للبركة، (رغم غضب الأتباع والمقاديم في الداخل والخارج) لأنهم كانوا يعرفون أن عدة بن تونس كان إسكافيا ثم بائع أسماك، ثم ضابط صف في الجيش الفرنسي، ثم سائق سيارة الشيخ، فلا ثقافة له ولا حسب يرفعه إلى مقام القيادة الروحية للطريقة (¬1). ومهما كانت صحة هذا الرأي فمن الأكيد، بناء على التجارب الأخرى، أن الإدارة الفرنسية ما كانت لترضى بهذه الوراثة لو لم تخدم أهدافها، ولكن المعروف أن الطريقة قد شاع أمرها، في المغرب العربي والسينغال ومدغشقر وكذلك انتشرت، كما يقولون، حتى في أوروبا وآسيا وأمريكا (¬2). أثناء حياة الشيخ ابن عليوة. وحياة ابن عليوة مبسوطة في كتاب (الروضة السنية) الذي قيل إن عدة بن تونس قد ألفه بعد عامين من وفاة الشيخ، كما أن الشيخ قد أملى على أحد أتباعه سيرة ذاتية مختصرة (¬3) بعنوان (نبذة). ويبدو أنه أملاها حوالي 1924، لأنه تحدث فيها عن التطورات التي حدثت في تركيا عندئذ وعن إلغاء الخلافة، وقد ضمنها معلومات عن بداياته وعن شيوخه وعن تفكيره في الهجرة من الجزائر ورحلته إلى طرابلس واسطانبول، وقد استفدنا من هذه السيرة عدة أمور، منها أن الشيخ لم يدرس دراسة منتظمة، وأنه لم يصل في القرآن الكريم سوى إلى سورة (الرحمن). وهو جزء صغير منه، وأنه بدأ حياته الروحية في الطريقة العيساوية، حيث كان يمارس الرقص البهلواني والحركات العصبية والتلاعب بالحيات السامة، وكذلك استفدنا من هذه السيرة أن محمد البوزيدي الدرقاوي هو الذي أثر فيه ¬

_ (¬1) بقي عدة بن تونس شيخا للطريقة إلى وفاته سنة 1952. (¬2) من وثائق الشيخ علي امقران السحنوني، وتضيف هذه الوثائق أنه في سنة 1947 أنشأ عدة بن تونس جمعية (أصدقاء الإسلام) فدخلها عدد من رجال المخابرات وأصبحوا يتنقلون بحرية تحت غطاء الصداقة للإسلام، كما أصبح للأعضاء الأجانب الحق في تولي المناصب الحساسة في الطريقة. (¬3) هذه النبذة موجودة في زاوية ابن عليوة بمستغانم، وهي مخطوطة، نقل منها مارتن لانغز المعروف بالحاج أبو بكر سراج الدين في كتابه (الشيخ أحمد العلوي) ترجمة محمد إسماعيل الموافي، بيروت، دار الكتاب الجديد، ط، 1973، ص 47 - 75،

ووجهه وأخرجه من العيساوية إلى الدرقاوية، وكان يحضر بعض دروسه وأذكاره. ومن جهة أخرى استفدنا من السيرة الذاتية أن الشيخ ابن عليوة تزوج أربع مرات، ولم ينجب أولادا، وأنه طلق الجميع لعدم الانسجام معهن، وقد تنازلت بعضهن عن المهر من أجل مفارقته، واعترف هو أن التقصير كان منه لأنه كان مشغولا بأمور أخرى، ونفهم أيضا أن والديه قد ضرباه خلال صباه، فضربه والده كما قال من أجل حفظ القرآن، وضربته أمه وشتمته لكي تمنعه من الخروج ليلا ومخالطة أصحاب الطرق، وقد توفي والده وهو ابن سبعة عشر عاما، وكان عليه أن يعمل في مختلف الأعمال كالخرازة والتجارة. أما الهجرة فإن السيرة تكشف عنها بكل دقة، فقد كان الشيخ مثل عدد آخر من الجزائريين المعاصرين له، يفكر في الهجرة، ثم اتخذ لذلك أسبابا، فطلب الرخصة إلى الحج ومنحت له، وباع منزله وأثاثه وودع أهله، ولم تكن هجرته وحده، بل كان سيهاجر مع أبناء عمه، ولا ندري السبب لهذه الهجرة سوى ما ذكره هو، وهو قوله: (لفساد أخلاق الوطن). ولم يذكر أن من أسباب ذلك المناقشات الجارية حول التجنيد الإجباري، فبين 1908 - 1912 كان الحديث جاريا حول هذا الموضوع، وبسببه هاجرت عائلات بأكملها إلى المشرق، وهكذا هاجر حمدان الونيسي والإبراهيمي، وعائلات من تلمسان، وأخرى من سطيف وبسكرة، وقد فكر ابن باديس في الهجرة أيضا، وفي سنة 1909 هاجر أبناء عم ابن عليوة واستقروا بطرابلس، ولحق هو بهم، ولكنه عندما وصل إلى تونس سمع أن فرنسا قد ألغت رخصة الحج للجميع ومنعت الحج ذلك العام، فلم يرجع ابن عليوة ولكنه واصل السفر إلى طرابلس في باخرة متوجهة إلى جربة ومنها إلى طرابلس، ولم يبق إلا ثلاثة أيام هناك حتى سمع المنادي ينادي على من يرغب في زيارة اسطانبول فتوجه إليها، وقد أعجب بطرابلس ورآها صالحة (للانتقال) إليها لتشابه اللغة والعادات والتقاليد، وهذا يكشف على أن ابن عليوة كان متضايقا من العيش في بلاده تحت الاستعمار، ولم يدر أن طرابلس نفسها ستقع فريسة

للاستعمار بعد حوالي سنتين. إن حكم ابن عليوة على ما كان يجري في اسطانبول جدير بالملاحظة، فقد جاءت زيارته في وقت كانت الفوضى على أشدها هناك بعد الانقلاب على السلطان عبد الحميد وتولى لجنة الاتحاد والترقي وتغلغل النفوذ الصهيوني عندئذ، ولذلك ضاقت نفسه وحبذ الرجوع إلى بلاده على مشاهدة ما كان يحدث في عاصمة الخلافة التي كان يظن بها خيرا، ورغم أنه لم يتعرف على الجالية الجزائرية (والمغاربية) هناك ولم يدرس الآثار والمجتمع، إما للفوضى التي وجدها وإما لأن نفسه لم تكن نفس باحث فضولي، فإنه قد يكون حقق بعض ما كان يطمح إليه، ولا ندري من مساق السيرة لماذا رجع إلى الجزائر ولم يقم في طرابلس التي أعجبته، مع أبناء عمه، وقد تعرف فيها على أحد الأتراك فعرض عليه الإقامة في إحدى الزوايا وإجراء الأوقاف عليه، وكيف استأنف ابن عليوة حياته في الجزائر بعد أن كان قد باع داره وأثاثه، والذي لا شك فيه الآن هو أن ابن عليوة لم يحج عندئذ ولم يزر بلاد المشرق الأخرى كما أشيع عنه. ومهما كان الأمر فإنه شرع في بناء زاوية في مستغانم، ثم توقف البناء عدة مرات، ثم استكمل حوالي 1922، وكان العملة والمهندسون يعملون بالتناوب وفي سبيل الله، ولا يأخذ العمال أجرا وإنما يعملون متطوعين حوالي شهرين لكل واحد، وهم من الجزائر وتونس، ولكنهم كانوا يطعمون الطعام وينامون فقط، ثم يأتي آخرون بدلهم، وهكذا، وعند الانتهاء من البناء أقيم حفل صوفي كبير، وكان الشيخ يمارس مع أصحابه مظاهر الزردة والرقص والإنشاد، في حركات تبدأ بطيئة ثم تتسارع وتعنف مع ذكر اسم (الله) في البداية إلى أن يتحول إلى نفس طويل، ثم يسقطون صرعى، حسب وصف الطبيب (مارسيل كاريه) الذي خبرهم وجالس ابن عليوة طويلا وعالجه. وهناك أضواء على صوفية ابن عليوة نأخذها من مصادر الأوروبيين

الذين خالطوه عن كثب ودخل بعضهم في طريقته، ومن هذه المصادر كتابات مارسيل كاريه عنه، والفنان الفرنسي عبد الكريم جوسو الذي قيل إنه اعتنق الإسلام، والمستشرق المعروف أوغسطين بيرك (والد جاك بيرك). والخبير الإنكليزي مارتن لانغز الذي سمى نفسه الحاج أبو بكر سراج الدين، ومن هذه المصادر نعرف أن جماعة ابن عليوة كانوا يتفوهون بعبارات قريبة من المسيحية مثل السلام الباطني، وقولهم: من الأعماق ناديتك يا إلهي! وفسر ابن عليوة نطق أحد أتباعه بلفظة (الله) مطولة بأنه كان يفعل ذلك لكي يحقق ذاته في ذات الله، وقيل إن ابن عليوة ناقش الطبيب (كاريه) وقال له إن المسيحية واليهودية ديانتان منزلتان أيضا، ولكن محمد (صلى الله عليه وسلم) هو خاتم الأنبياء ومكمل الرسالات، وقد وصفوا ابن عليوة بالتسامح، وظهر له أن كاريه كان في نظره (ملحد) عندما ناقشه في العقيدة والدين، وطلب منه ابن عليوة أن يكون واحدا منهم فقبل وقال له: أنت أقرب إلى الله مما تظن. أما بيرك فقد زاره في زاويته عدة مرات بين 1921 - 1934 (تاريخ وفاة الشيخ). ولاحظ عليه أنه كان من عشاق البحث الميتافيزيقي والخوض في الفلسفات، وكان يستشهد كما ذكروا، بقول الرسول (صلى الله عليه وسلم): (ربي زدني تحيرا فيك). وأنه كان على علم واسع بالكتب المتقدمة مثل التوراة والإنجيل ومأثورات رجال الكنيسة، وبنوع خاص إنجيل يوحنا ورسائل القديس بولص، ويذهب بيرك الذي أعجب بالشيخ غاية الإعجاب، في ظاهر الأمر، إلى أن ابن عليوة استطاع أن (يوفق بين التعدد والوحدانية في مفهوم التثليث للأقانيم الثلاثة في وحدة طبيعية). ولكن هذا الرأي جاء مختلطا عند بيرك، فهو تارة يقول إن الشيخ قد رفض هذا المفهوم وتارة جعله من المتمسكين به، وكذلك قال بيرك إن بعض أعداء ابن عليوة اتهموه بالاعتقاد بالتثليث (¬1). وكان الشيخ يعتقد أنه مجدد، وأنه من الذين قيل عنهم إنهم يظهرون على رأس كل مائة سنة، ولذلك كان يقول: (أنا الساقي المجدد). وقال في شعره الذي طبع بعد موته: ¬

_ (¬1) لانغز، مرجع سابق، ص 77، 80، وقد أشرنا إلى ذلك،

صرح يا راوي باسم العلاوي ... بعد الدرقاوي خلق الله والمعروف أن ابن عليوة قد سحب نفسه من الدرقاوية أيضا وأظهر استقلاله، ولا عجب في ذلك إذا عرفنا كيف عمل الفرنسيون على تمزيق الطرق الصوفية وتجريدها من مرجعها الأصلي. ومن رأى بيرك أن ابن عليوة له قدرة عجيبة على تنويم أتباعه بطريق التأثير المغناطيسي، ولكنه نسب ذلك الفعل إلى خصومه، إذ قال بيرك إنه اتهام ليس له أساس، غير أنه اعترف بأن ابن عليوة يسمى طريقة تأثيره في أتباعه (بالخمرة) (خمرته). فهو يعامل المريد معاملة الميت بين يدي غاسله، بحيث يكون المريد سلبيا مستسلما، واعترف بيرك بقوة تأثير الشيخ على الغير، وقال إنه رغم صوفيته كان لا يتخلى عن الأحوال السياسية والشؤون المحلية. ومما يذكر أن ابن عليوة كان يعرف الفرنسية جيدا حتى أنه استغنى عن ابن أخيه الذي كان يترجم عنه مع الطبيب كاريه، وقد دعي ابن عليوة ليؤم الناس في أول صلاة وإلقاء أول خطبة بمسجد باريس سنة 1926، وسافر على ظهر باخرة، ولا ندري كيف عومل هناك ولا انطباعه هو عن المسلمين والفرنسيين، وقد وصفه بيرك بأنه كان مهيبا، ويتكلم بصوت منخفض ورقيق، وله نظرة ثابتة بل قاسية تقريبا، وكان يظهر كالنائم، ورأسه يميل أماما تارة والخلف تارة أخرى تبعا لإيقاع الموسيقى والرقص والإنشاد في نفسه، وبالغ بيرك فقال إنه شبيه بسيدنا إبراهيم الخليل، وأن طبيعته هي طبيعة القادة والقديسين، ومن رأي ابن عليوة (أن الموسيقى تنفذ كتيار سيال وتحمل الإنسان إلى الحضرة القدسية) (¬1). والخلاصة أن الشيخ ابن عليوة كان رجلا صاحب نفوذ على أتباعه وتأثير على زواره ومثارا للجدل لدى خصومه أو الذين لم يفهموا تصرفاته الغريبة أحيانا، وكانت الصحف المحلية تزيد الرماد نفخا فادعت أن أتباعه ¬

_ (¬1) لانغز، مرجع سابق، ص 115، 117،

تجاوزوا المائتي ألف، وإنهم كانوا في مختلف أجزاء العالم، وادعت أنه زار عدة بلدان شرقية وأنه تغرب حوالي عشر سنوات، ولكن هذا الادعاء لم يثبت أبدا، لأن الشيخ لم يخرج إلا إلى تونس وطرابلس واسطانبول قبل الحرب العالمية الأولى وفي زيارة خفيفة لكل منها، أما بعد هذه الحرب فقد زار باريس، ثم أدى فريضة الحج سنة 1932، وخلالها زار أيضا سورية وفلسطين، وقد أكد عرفاؤه، أمثال الشيخ محمد الهاشمي الدرقاوي (الذي كان بدمشق منذ هجرته إليها سنة 1911). هذه المعلومات عن أسفار ابن عليوة ونفى غيرها تماما (¬1). ومن المواقف المتناقضة أحيانا مقاومة ابن عليوة للتنصير في الجزائر وغيرها، ولكنه في نفس الوقت كان يدافع عن التنصير ضد الحملات المعادية، ومن رأيه، كما قيل، إنه ليس كل المبشرين بالنصرانية أدوات سياسية للدول التي أرسلتهم، وكان ابن عليوة قد وقف ضد الحركة الإصلاحية التي هاجمت المرابطية ولا سيما الممارسات التي كان يقوم بها أمثاله، فكان رده الشخصي بصفة عامة غير عنيف، ولعله ترك العنف لغيره، والمعروف أنه التقى بابن باديس في حفلة أثناء إحدى جولاته (ابن باديس) ناحية مستغانم، 1931، ولكن ابن عليوة صرح بأن الخطر على الإسلام يأتيه من بعض المسلمين، ولاشك أنه يقصد بذلك جمعية العلماء ورجال الإصلاح، مستشهدا بالآية {وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا: إنما نحن مصلحون}، وبناء على وصف المعاصرين فقد كان الشيخ محافظا: فهو ضد الحركات المعادية للأديان كالشيوعية، وضد التفرنج والتزي بالزي الغربي وتقليد العادات الأوروبية، ووقف كذلك ضد التجنس بالجنسية الفرنسية للمسلمين، وهو مطلب كان يطلبه أنصار الاندماج، وقد ¬

_ (¬1) نفس المصدر، ص 76، ذكر علي مراد (الإصلاح الإسلامي). ص 75 - 76، أن بيرك وإيميل ديرمنغام وتيتوس بوركارت، بالإضافة إلى لانغز، قد اهتموا بابن عليوة وأحاطوه بهالة خاصة، وربما لأن ابن عليوة كان يمثل في نظرهم مركزية مسيحية - إسلامية، أما المصلحون فقد اتهموه بالزندقة والإلحاد والشعوذة،

الطريقة الرحمانية

عرفنا أنه دافع عن اللغة العربية. ومهما كان الأمر فإن ابن عليوة قد أصيب بنوبة قلبية سنة 1932، وعالجه الطبيب كاريه، واسترجع صحته بعدها، فقد كان نحيف الجسم، ضعيف النبض، فكان طيلة عامين يكبو وينهض إلى أن توقف قلبه سنة 1934 (¬1). ومن هذا العرض نتبين أن تطور الشاذلية/ الدرقاوية قد مر بمراحل، وخضع لظروف عديدة، فبعض الفروع اتبعت الحياد في المسائل السياسية والثورات، وسلكت طريق التصوف والعبادات، وبعضها سلك طريق الثورة والجهاد على أعداء الإسلام والمسلمين حيث ثقفوهم، في الجزائر أو في غيرها، مخالفين في اجتهادهم نصائح شيوخهم وكبارهم، وبعضهم أصبح غطاء ليد الإدارة الفرنسية تضرب به الثورات أو الحركة الوطنية في مختلف مظاهرها، بل كانت أداة للتسرب إلى عمق الإسلام وضرب وحدته وعقيدته، كما تفعل اليوم بعض الدول، ولكن هذه الظاهرة ليست خاصة بالشاذلية/ الدرقاوية، بل موجودة في مختلف الطرق الصوفية، وها نحن نعود إلى هذه الطرق في أشكالها العامة، ونبدأ بالرحمانية. الطريقة الرحمانية تحدثنا في الجزء الأول من التاريخ الثقافي عن حياة مؤسس هذه الطريقة، محمد بن عبد الرحمن الأزهري الجرجري، وعن خليفته علي بن عيسى المغربي، كما تحدثنا في الجزء الأول من الحركة الوطنية عن النشاط السياسي والعسكري للطريقة الرحمانية في عهد الأمير عبد القادر وفي العهد الذي يمتد إلى سنة 1857، عام استيلاء الفرنسيين على زواوة وتخريب ¬

_ (¬1) نقل لانغز صفحات كاملة من كاريه عن ابن عليوة (ص 9 - 34). ويبدو أن كاريه M، CARRET كان معينا له من قبل إدارة الشؤون الأهلية والمخابرات الفرنسية إلى أن أصبح محل ثقته ومن خواصه، وكان المصلحون قد اتهموا أتباع الشيخ ابن عليوة بمحاولة اغتيال الشيخ ابن باديس سنة 1927 في قسنطينة، وقد قبض على الجاني، وقيل إنه اعترف بذنبه،

زواوة وتخريب الزاوية الأم بآيت إسماعيل على يد الجيش الفرنسي وأسر السيدة فاطمة وهجرة الحاج عمر بعد ذلك، ولا نريد الرجوع إلى هذه الأحداث، خصوصا السياسية والعسكرية هنا، وعلينا الآن أن ندرس كيف تفرعت الزاوية الرحمانية وكيف تصرف مقدموها خلال العهد الفرنسي. أما حياة الشيخ محمد بن عبد الرحمن فلا نعود إلى تناولها إلا من بعض النقاط التي كنا أهملناها فيما مضى، وهي: رجوعه من السودان مع زوجه وخادمه، وتحبيذه نشر العلم والتربية الدينية والصوفية على طريقة علماء السلف، وخلافا لبعض شيوخ التصوف الآخرين الذين أهملوا التعليم في زواياهم واهتموا بالممارسات الصوفية المبتدعة، وخوف سلطة الجزائر السياسية من نشاطه واتهامه بالزندقة من بعض الفقهاء، وانعقاد مجلس علمي لمناظرته، وإبطال التهمة ضده، وكان المجلس برئاسة مفتي المالكية في الوقت، علي بن عبد القادر بن الأمين، الذي تولى الفتوى مرات عديدة، ودرس أيضا في الأزهر، مثل الشيخ ابن عبد الرحمن نفسه، وهناك نقطة أخرى وهي خلافته سنة 1793 (1208). فقد أوصى ابن عبد الرحمن بها للشيخ علي بن عيسى المغربي، وقد طال عهد ابن عيسى وانتشرت تعاليم الزاوية في عهده، وكانت موحدة، فقد بقي حوالي 43 سنة على رأس الزاوية، وعاصر الاحتلال الفرنسي، إذ توفي سنة 1836، ولكن منطقة الزاوية الأم لم تحتل إلا سنة 1857، غير أن الرحمانيين كانوا منتشرين في وسط وشرق البلاد، وكان الشيخ ابن عيسى متزوجا، حسب بعض المصادر، من السيدة خديجة التي اشتهرت بالناحية شهرة كبيرة، وهي التي تذهب الأخبار إلى أنها أم للسيدة فاطمة، وأنها تولت شؤون الزاوية بعد وفاة زوجها بعض الوقت، كما سميت عليها قمة جبال جرجرة، وهذه الأمور كلها في حاجة إلى تحقيق وتدقيق، ولكننا نذكرها لأن بعض المصادر الفرنسية تذهب إلى ذلك، ومنها ما يذهب أيضا إلى أن السيدة فاطمة كانت زوجة للحاج عمر، رغم أن قصة زواج هذه السيدة معروفة، وهي أنها كانت في عصمة شخص آخر لم يرض بحل عقدتها لتتزوج غيره، ولكن كل هذه الاخبار تدل على أن

شخصيات الطريقة الرحمانية كانت متقاربة وعائلية في منطقة جرجرة بالذات، وقد عين الشيخ ابن عبد الرحمن مقدمين آخرين أثناء حياته، ومنهم محمد بن عبد الرحمن باش تارزي في قسنطينة الذي أصبح نائبا عنه في منطقة الشرق والجنوب وحتى في تونس، وقد ذكرنا في غير هذا الكتاب أن الشيخ قد أعطى الإجازة لعدد آخر من المقدمين، ومنهم بلقاسم بن محمد المعاتقي، والعابد بن الأعلى الشرشالي، وقبل أن نذكر الفروع التي تولدت خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر عن انتشار الرحمانية نذكر علاقة هذه الطريقة بالقادرية. تحالفت الطريقتان على الجهاد ضد الاحتلال منذ 1830، ورغم أننا قلنا إن الأمير عبد القادر كان يعتبر رجل دولة وليس شيخ طريقة، ورمزا وطنيا وليس درويشا صوفيا، فإن ظروف الخريطة الدينية للجزائر عندئذ جعلت المعاصرين ينظرون إلى زعامته على أنها زعامة للطريقة التي كان والده شيخا لها، وكان الأمير قد قدم رجال الدين في الوظائف الإدارية والحربية على رجال المخزن، وهكذا لجأ إلى تجنيد رجال العلم الذين كان كثير منهم قد تخرجوا من الزوايا مثله، وقد رأينا أنه عين أيضا من الطريقة الدرقاوية، وها نحن نجده يعين أشخاصا من الرحمانية، ومن أبرز رجالها الذين خدموا دولته بإخلاص أحمد الطيب بن سالم، ولا ندري الآن ما إذا كان أحمد الطيب من مقدمي الرحمانية أو كان فقط من أخوانها، كما لا ندري صلة الحاج سيدي السعدي بالطريقة الرحمانية، ولكن عددا من المؤشرات تشير إلى أنه كان منها أيضا، وقد حارب في متيجة إلى جانب ابن زعموم إلى حوالي 1837 (¬1). إلى جانب هؤلاء نجد الحاج سيدي السعدي، وقد حدثنا عنه أدريان بيربروجر حين رآه في يناير 1838، وكان ذلك أثناء الصلح بين الطرفين، ووصف بيربروجر الحاج السعدي بأنه المرابط الشهير لمنطقة سباو، ونحن ¬

_ (¬1) عن هذه الظروف انظر الجزء الأول من الحركة الوطنية الجزائرية،

نعلم أنه كان هو الخليفة هناك قبل تولية أحمد الطيب بن سالم، ويفهم من كلام بيربروجر أن الأمير عبد القادر قد عين الحاج السعدي على منطقة تقع شرقي الجزائر مما يجعله على قدم المساواة مع البايات، وكان الحاج السعدي مجروحا في ركبته فتقدم من الطبيب بوديشون، عضو الوفد، لعلاجه فوضع له ضمادة، وقد حدثهم على مشروعه من أجل السلم بين العرب والفرنسيين، ويتلخص في أن يتخلى الفرنسيون عن القصبة وأن يرفع هو العلم الأحمر عليها (العلم العثماني؟). وحكم بيربروجر على مشروع الحاج السعدي بانه يثير السخرية، وأخبرنا أن قبة جد الحاج السعدي كانت ما تزال قائمة قرب ضريح الشيخ الثعالبي وهي ترى من بعيد، حسب قوله (¬1). ورغم أن بيربروجر لا تهمه الطريقة التي كان عليها الشيخ السعدي، فإننا نرجح أنه كان رحمانيا. وبين الخليفة علي بن عيسى والشيخ محمد أمزيان الحداد، زعيم ثورة 1871 عدد من الشيوخ نذكرهم باختصار هنا لنعرف كيف تطورت الطريقة الرحمانية، ونسارع إلى القول بانه رغم الضعف الذي أصابها أحيانا، فإن الطريقة انتشرت بسرعة، وهو ما اعتبره (رين) أمرا عجيبا (¬2). تولى بلقاسم بن الحافظ وهو من شيوخ المعاتقة (¬3). بعد علي بن عيسى، ولكن الزاوية افتقرت خلال فترة إلى قيادة حكيمة وقادرة نظرا لتطور الأحداث بالبلاد ولكثرة الأتباع، ولعل ذلك قد ساعد على استقلال الفروع التي سنذكرها، إذ ¬

_ (¬1) أدريان بيربروجر (رحلة إلى معسكر عبد القادر في برج حمزة وجبال ونوغة). ديسمبر 1837 - يناير 1838، فصلة من (مجلة العالمين) 15 R، des Deux Mondes غشت، 1838، وقد طبع بيربروجر رحلته منفصلة وأضاف إليها ملاحق، طولون، 1839، ص 45، ثم قمنا بترجمتها إلى العربية مع تعاليق وأرسلنا بها للنشر. (¬2) رين، مرجع سابق، ص 452. (¬3) لا ندري إن كان هو نفسه بلقاسم بن محمد المعاتقي الذي أجازه الشيخ محمد بن عبد الرحمن وجعله أحد مقدميه، ونحن نرجح ذلك، ويقول (رين) إن الشيخ بلقاسم قد توفي مسموما، دون توضيح السبب، ص 457،

أن الزاوية الأم لم تعد قادرة على المحافظة على تماسك أجزائها، ثم تولى مغربي آخر يدعى الحاج البشير، شؤون الزاوية، وأصبح وارثا لبركة الشيخ، ولا ندري من قدمه لهذه الوظيفة الكبيرة، غير أن العادة جرت أن يجتمع المقدمون وينتخبون واحدا من بينهم، وتذكر المصادر الفرنسية أن انتخاب الحاج البشير لم يكن محل إجماع مما أدى إلى تدخل الأمير عبد القادر لتقريب وجهات النظر وتغليب كفة الحاج البشير بطلب من السيدة خديجة أرملة علي بن عيسى، وفي إحدى المرات اضطر الحاج البشير إلى مغادرة الزاوية والتوجه إلى الأمير، فتولت السيدة خديجة مكانه نيابة عنه، مع بناتها، وعاد الأمير إلى التدخل فرجع الحاج البشير إلى الزاوية بعد الاتفاق على مشيخته، واستمر في مهمته إلى وفاته سنة 1257 (1841). وقد دفن بجامع تالة أو غانمي بالشرفة، وإلى هذا التاريخ كانت زواوة ما تزال محررة من السيطرة الفرنسية، ولكن التنافس السياسي للقادة الزمنيين والمصالح الاقتصادية المرتبطة بأسواق المدن الواقعة في قبضة الإدارة الاستعمارية، أثرا على استقرار ونشاط الزاوية الرحمانية. بعد الحاج البشير تولى شؤون الزاوية الشيخ محمد بن بلقاسم نايت عنان مدة سنة واحدة، ولم يكن هذا الشيخ يتمتع بسمعة ولا قدرة على القيادة، ففقد الصلة بزوايا الجنوب الرحمانية، ولذلك لم يطل عهده، وتولى بعده الحاج عمر حوالي سنة 1259 (1844). وتدعي بعض المصادر الفرنسية أنه كان زوجا للسيدة فاطمة (¬1). ومهما كان الأمر، فإنه لعب دورا في مقاومة زواوة سنة 1857، وقد هدمت الزاوية في عهده على يد الجنرال (ديفو). واضطر الحاج عمر إلى الهجرة إلى تونس ثم إلى الحجاز ¬

_ (¬1) نستبعد ذلك، وقد ذكره رين، ص 458، للسبب الذي ذكرناه سابقا، ولأن الحاج عمر هاجر بزوجته، بينما للاله (السيدة) فاطمة كانت معتلقة في نواحي تابلاط وماتت في سجنها، انظر لاحقا، وقد كنت صورت ملفا كاملا عن حياة الحاج عمر من الأرشيف الفرنسي بايكس، ولكنه ضاع مني مع محفظتي في القصة المعروفة عنها، ولا نعرف عن وفاته أي تاريخ،

بأهله ومعه ولد الشريف بوبغلة. وعلى أثر احتلال زواوة سنة 1857 ونفي الحاج عمر وقعت خيبة أمل في المرابطين المقاومين وتحول الناس إلى الطرق الصوفية، وكانت الرحمانية هي زعيمة الطرق في زواوة، وكانت قبل ذلك التاريخ منحصرة في القشطولة وما جاورها، ولكن التضييق من جانب الفرنسيين ثم الاحتلال وهدم الزاوية الأم، أدت إلى انتشار سريع للرحمانية عكس ما كان يتوقع الفرنسيون، وقد ظهر الأدب الشعبي الذي يعبر عن خيبة الأمل في المرابطين، فقد خاطب الشاعر الشعبي، المرابط ابن أعراب الذي كان يعتقد أنه سيقوده إلى النصر قائلا: (لماذا اختفيت أيها المرابط، يا ابن أعراب البائس؟ لماذا قلت لنا إن النصارى لن يصعدوا إلى الجبال؟ ألم يصلوا إلى بني يني؟) إن الطرق الصوفية إذن هي التي جعلت المناضلين يختفون عن أنظار الفرنسيين، ويدخلون في حركة سرية، ورأى الفرنسيون أن هذه الطرق تشكل خطرا داهما عليهم، وهم يعنون الرحمانية هنا، ورأى المرابطون أنهم لا يستطيعون وقفها فدخلوا فيها أيضا حتى لا يظهرون بمظهر المتخلين عن الدين، ومن ثمة يضمنون الإبقاء على نفوذهم، وكانت الطريقة تتميز بطابع المساواة بين الجميع، ومن ثمة كانت تتلاءم مع طبيعة الناس أيضا، فجميع الطبقات، بما فيها النساء تجد نفسها في الطريقة، وهم يتواصون بالعزلة عن الناس وبالسهر والخلوة والصيام والذكر والاجتماع للصلاة على النبي (صلى الله عليه وسلم) وإقامة الحضرة (¬1). إن نفي الحاج عمر قد أدى إلى إنشاء فرع في الكاف (تونس) للرحمانية، ومن هناك اتسع نفوذها أيضا في سوق أهراس ونواحيه، كان الحاج عمر متزوجا من حفيدة علي بن عيسى المغربي، خليفة محمد بن عبد الرحمن، وقد أسس علي بن عيسى (الحفيد؟) زاوية الكاف الرحمانية التي يشير (كور) إلى أنها لم تكن بعيدة عن ثورة 1871 أيضا، وكان علي بن ¬

_ (¬1) هانوتو ولوتورنو (بلاد القبائل). ط 2، ج 2/ 99 - 105،

عيسى هذا يتمتع بسمعة في الورع والتقوى، فازدهرت الزاوية وبسطت نفوذها، ولكن ابنه، صالح بن علي، لم يسر، حسب كور، على خطى والده، فقد أكثر من جمع المال، ويبدو أن المصالح الفرنسية كانت تتبع سيرته سنة 1909، وتبين لها أنه لا يمكن أن يكون شيخا ناجحا، ومع ذلك انتشرت الزوايا الرحمانية في الجهات القريبة (¬1). وتذهب المصادر إلى أن الحاج عمر بقي وهو في المهجر، الشيخ الأكبر للطريقة، ولكن الإخوان اختاروا بعده شيخا آخر يدبر أمرهم، فكان هو الشيخ محمد الجعدي، وهو من بني جعد نواحي سور الغزلان، ويبدو أن الشيخ الجعدي قد جاء في وقت صعب للغاية، أي بعد احتلال المنطقة من قبل الفرنسيين ومحاصرة الرحمانيين في كل مكان هناك وتشريد السكان وحرق المداشر، وهي المعارك والحرائق التي أشرف عليها الحاكم العام راندون وثلاثة جيوش أخرى، وانتهت بمعركة إيشريضن التي لا تنسى حتى لدى الفرنسيين، إذ أقام لها جول كامبون سنة 1896 نصبا تذكاريا تخليدا لذكرى قتلى الفرنسيين فيها، كما جاء الشيخ الجعدي في وقت شعر فيه مقدمو النواحي الأخرى بارتخاء قبضة الزاوية عنهم، وأمام ذلك انتخب الشيخ محمد أمزيان الحداد شيخا للطريقة مع الاستقرار في صدوق، وقد استمر في إدارة شؤون الزاوية إلى ثورة 1871، وفي عهده اشتهرت الزاوية الأم (صدوق) بالعلم والحيوية، وعادت لها حركتها السالفة، رغم محاولات الإدارة، الاستعمارية السيطرة على الزوايا عموما ومراقبتها، والمعروف أن الشيخ الحداد كان مثل الشيخ محمد بن عبد الرحمن، يجمع العلم إلى التصوف (¬2). ورغم مكانة الشيخ الحداد، فإنه لم يستطع أن يوحد كل الفروع حتى في زواوة نفسها، فإذا كانت فروع قسنطينة والخنقة وبوسعادة (الهامل) ¬

_ (¬1) كور، (بحوث ..) المجلة الإفريقية، 1921، ص و 32 - 331. (¬2) سندرس بعض آثاره في جزء آخر من هذا الكتاب،

وطولقة وسوف ونفطة تشعر بالاستقلال لبعدها عن المركز، فإن أتباع الشيخ الجعدي ظلوا على ولائهم له في المعاتقة ونواحيها، وكانت لهذا الفرع حضرة سنوية في جامع سيدي نعمان، وقد انضم إلى هذا الفرع أبناء الحاج البشير، الخليفة السابق، وهما محمد الصالح ومحمد البشير، وكان هذان الأخوان يقيمان الحضرة في جامع (عزوم النبي) بين قرية ايغندوسن وقرية إحدادن (¬1). ولكن هذا التفرع لم يمنع من انضمام الرحمانية في المعاتقة إلى إخوان الشيخ الحداد بعد إعلان الجهاد سنة 1871، وكان الرحمانيون في المعاتقة ممن تحمسوا للجهاد والعداء للفرنسيين، وقد حكم هؤلاء بالنفي على الشيخ محمد الجعدي. هذا عن فروع الرحمانية في زواوة إلى 1871، فماذا عن فروعها الأخرى في الجنوب والشرق؟ ذكرنا أن الشيخ الأزهري قد قدم عنه محمد بن عبد الرحمن باش تارزي في قسنطينة، وهو شيخ جمع أيضا بين العلم والتصوف، وقد ورث الشيخ باش تارزي بركة الطريقة لابنه مصطفى الذي ورثها أيضا لأبناء عائلته (باش تارزي) فترة طويلة، ولكنه ورثها أيضا لشخصية أخرى خارج قسنطينة، وهو محمد بن عزوز البرجي (برج طولقة). ويعتبر محمد بن عزوز هذا ليس مقدما للرحمانية في الجنوب فقط ولكن في جريد تونس أيضا، كما أنه لشهرته وكثرة فروع أتباعه، أصبح كأنه مؤسس لطريقة جديدة، تسمى العزوزية - الرحمانية، وكان احتلال بسكرة من قبل الفرنسيين وتطور أحداث الجزائر وتونس سببا آخر في تفريعات هذه الطريقة، فعند احتلال بسكرة (1843 - 1844) هاجر مصطفى بن عزوز (بن محمد) إلى نفطة بتونس وأسس، بها زاوية رحمانية أصبحت ذات شهرة واسعة في العلم والتصوف وملجأ للهاربين من ظلم الاستمعمار الفرنسي، سيما قبل احتلال تونس سنة 1881، وتجدر الإشارة إلى أن الحسين بن عزوز (وهو ابن محمد أيضا) كان قد تولى للأمير عبد القادر الخلافة على الزيبان قبل اعتقاله ونفيه إلى أحد المنافي الفرنسية، فالعلاقة بين الدين والتصوف والثورة ¬

_ (¬1) رين، مرجع سابق، ص 460،

والجهاد واضحة في عائلة ابن عزوز عندئذ. وقبل وفاته عين الشيخ محمد بن عزوز (¬1) مقدمين من تلاميذه، وهم: علي بن عمر (طولقة) والمختار بن خليفة (أولاد جلال). ومبارك بن خويدم والصادق بن الحاج (الأوراس). وعبد الحفيظ (خنقة سيدي ناجي). وعند وفاة الشيخ محمد بن عزوز أوصى بخلافته لابنه (مصطفى بن عزوز). وبعد حين أضيف فرعان آخران، فرع الهامل في بوسعادة، وفرع وادي سوف، وقد تولى الفرع الأول الشيخ محمد بن بلقاسم، وتولى الفرع الثاني الشيخ سالم بن محمد الأعرج (¬2). وأخذ محمد بن بلقاسم عن الشيخ المختار بن خليفة، كما أخذ الشيخ سالم بن محمد الأعرج عن علي بن عمر، ولنقل كلمة عن كل فرع، ونبدأ بفرع طولقة. قلنا إن الشيخ علي بن عمر قد أخذ الطريقة الرحمانية عن الشيخ محمد بن عزوز عن الشيخ محمد بن عبد الرحمن باش تارزي عن الشيخ محمد بن عبد الرحمن الأزهري، إلى آخر السلسلة التي سنذكرها، وتذهب بعض المصادر إلى أن علي بن عمر قد أخذ مباشرة عن الأزهري أثناء رجوعه من الحج سنة 1794 حين زاره الأزهري سنة وفاته، بجرجرة، ولذلك أخذ علي بن عمر أيضا لقب القطب وشيخ الشيوخ، وعلي بن عمر قيل إن أصله من أشراف الساقية الحمراء، هاجر أجداده في القرن الخامس عشر الميلادي، ولم يكن ينتمي إلى أية طريقة صوفية أخرى قبل أخذ الرحمانية، وقد حج مرة أخرى مع شيخه محمد بن عزوز. ¬

_ (¬1) يذكر صاحب (تعريف الخلف) 2/ 485 أن محمد بن عزوز أدى فريضة الحج مع بعض تلاميذه كالشيخ علي بن عمر وعبد الحفيظ الخنقي ومبارك بن خويدم سنة 1232، وحج معهم من المغرب الأمير عبد الرحمن بن هشام قبل توليه السلطنة، وبعد توليه إياها جرت بينه وبين ابن عزوز مراسلات ودية، وأبى الحفناوي إلا إسناد بعض الكرامات للشيخ ابن عزوز. (¬2) ديبون وكوبولاني، مرجع سابق، 393، وإبراهيم العوامر (البحر الطافح). مخطوط، وكذلك الحفناوي (تعريف) 2/ 399،

كانت طولقة في أول القرن التاسمع عشر على صفين: صف أولاد زيان وهم من الأعيان، وكانوا أيضا مهاجرين من فاس، أي من رجال الدين، ولكنهم تحولوا إلى مخزنية وتولوا الإدارة العثمانية، وهم منتشرون في فوغالة والعمري والزعاطشة، وبتلك الصفة (المخزنية) كانوا مجفيين من الضرائب، أما الصف الثاني فهم أهل طولقة، وهم خليط من السكان، وبينما كان أولاد ابن عزوز يميلون إلى أولاد بوعكاز الذواودة كانت زاوية طولقة تميل إلى أولاد ابن قانة، وهكذا تداخلت الزاوية، رغم ادعائها الحياد، في شؤون الصفوف والحكم. حين وفاة محمد بن عزوز عين ابنه مصطفى لخلافته، وفي نفس الوقت عهد به إلى الشيخ علي بن عمر لتعليمه، وتزوج علي بن عمر ابنة تلميذه مصطفى (¬1). وأثناء الصلح بين المتحاربين ضربته رصاصة طائشة توفي على أثرها (سنة 1842). وبقي مصطفى بن عزوز هو الخليفة على الزاوية إلى أن قرر الهجرة إلى نفطة كما ذكرنا، نتيجة احتلال بسكرة، فتولى شؤون الزاوية بعده علي بن عثمان، وحاولت زاوية طولقة البقاء على الحياد أثناء ثورة الزعاطشة حين عرض شيخها وساطته على بوزيان والفرنسيين، ولكن أهل طولقة انضموا للثورة وهاجموا مقر شيخ العرب ابن قانة، الذي تحالف مع الفرنسيين، ومن الملاحظ أن زعماء الرحمانية في الناحية لم يكونوا متحدين، فالشيخ عبد الحفيظ الخنقي وعلي بن عثمان لم يكونا على وفاق، وكان ولاء الشيخ عبد الحفيظ لمصطفى بن عزوز في نفطة، حتى قيل إنه هاجر إليها على اثر ثورة الزعاطشة ومات هناك بعد سنة واحدة (1851). وهو قول في أغلب الظن غير صحيح. ¬

_ (¬1) اسم ابنة مصطفى بن عزوز (ذخيرة). وعن هذه الظروف انظر جوليا كلنسي - سميث (ثائر وقديس). بيركلي، لندن، 1884، ص 80، وقيل إن علي بن عمر قد ترك مكتبة غنية، وكذلك الشيخ محمد بن عزوز، وتوجد ترجمة مصطفى بن عزوز في أحمد بن أبي الضياف (الإتحاف).

وقد عاصر الشيخ علي بن عمر أحداث بسكرة وتغيير الأيدي عليها أثناء فترة حرجة (النزاع بين عائلة بوعكاز وعائلة ابن قانة على مشيخة العرب، ونفوذ الحاج أحمد، باي قسنطينة، ونفوذ الأمير عبد القادر الذي امتد لعائلة ابن عزوز، كما ذكرنا، ومحمد بن الحاج أحد أشراف سيدي عقبة). ويظهر أن الشيخ علي بن عمر لم يتدخل مباشرة في السياسية ولا في هذا الصراع على الأمور الزمنية، فكان قد فتح الزاوية للجميع يعلم ويت عبد وينشئ مكتبة ويطعم الفقراء، ويصلح بين الناس، وقد اتبع خلفاؤه سيرته أيضا فلم نجدهم يتدخلون في الأحداث السياسية التي عرفتها المنطقة بعد ذلك أو البعيدة عنه مثل ثورة 1871، وقد أورث بركته لابن أخيه علي بن عثمان، ويعتبر هذا الفرع كأنه الفرع الأم للزوايا الرحمانية الصحراوية فترة طويلة، وأذكار زاوية طولقة متطابقة مع أذكار زاوية نفطة. وللشيخ علي بن عثمان إجازة نموذجية تتضمن طريقة إدخال الإخوان في الرحمانية والأذكار، كما أنها من الناحية اللغوية تعتبر قطعة مقبولة نظرا لضعف تحرير الإجازات وضعف ثقافة المقدمين عموما، وهذه الإجازة عامة وغير موجهة لشخص إذ أن اسم المجاز محذوف فيها، وقد ذكر فيها كيفية تلقين الذكر للأخ (المريد). والأذكار التي عليه أن يرددها والأوقات المخصصة لذلك، كما تضمنت الإجازة وصية الشيخ للإخوان بالمؤاخاة والحضرة والطاعة والصبر والتسليم لخلق الله والتعاون ... (¬1) وجدير بالملاحظة أن الإجازة تشير إلى الصلاة الشاذلية، كما تشير إلى التسليم لخلق الله، وهي عبارة هامة في النص دينيا وسياسيا، وعبارة أن الطريقة الرحمانية كسفينة نوح وكمقام إبراهيم، من دخلهما كان آمنا وناجيا، موجودة أيضا في إجازات الشيخ محمد بن عبد الرحمن الأزهري. وقد أنشأ الشيخ المختار بن خليفة الجلالي أيضا فرعا للرحمانية أو زاوية في أولاد جلال، خدم بها المنطقة وكذلك نواحي أولاد نائل، واشتهر ¬

_ (¬1) النص بالعربية والفرنسية، في ديبون وكوبولاني، مرجع سابق، ص 401،

الشيخ الجلالي أيضا بالورع ونشر العلم، وكان طويل القامة، قليل شعر اللحية، نظيف البشرة، وله إنشاد في مدح شيوخه، وهو واعظ ماهر ومؤثر، ويروى عنه أنه اشتاق إلى الأكل، فعاقب نفسه بالصيام ثلاث عشرة سنة، وقد خلف أولادا صغارا عند وفاته سنة 1276 (1862). فأوصى عليهم وعلى الزاوية تلميذه محمد بن بلقاسم الذي سيرد ذكره، وبعد أن رتب هذا أمور زاوية أولاد جلال تبعا للوصية، تركها، وتولاها بعده أحد أبناء الشيخ المختار، وهو محمد الصغير الذي طال عهده حتى أنه كان ما يزال على قيد الحياة سنة 1906، وقد قلنا إن الشيخ المختار قد أخذ الطريقة على شيخه محمد بن عزوز عن محمد بن عبد الرحمن باش تارزي عن محمد بن عبد الرحمن الأزهري إلى آخر السلسلة الصوفية، وقد رثاه الشيخ المكي بن عزوز في إحدى قصائده معتبرا فقده كالليل الدامس (¬1). وخلافا لبعض فروع المنطقة فإن الشيخ المختار قد ساند ثورة الزعاطشة (1849). وأرسل النجدة إلى الشيخ بوزيان هناك، واستجابت الرحمانية على يده لداعي الجهاد بقطع النظر عن طريقة المجاهد، وقد عرفنا أن من قادة الزعاطشة موسى الدرقاوي، وهكذا يكون الشيخ الجلالي من الذين جمعوا بين التعليم والجهاد والتصوف، وقد وصفه أحد الفرنسيين قائلا إن نفوذه قد عم أولاد نائل وأولاد علاف والسحارى الذين كانوا يزورون زاويته بأعداد كبيرة، وقد شارك إخوانه بالإضافة إلى الزعاطشة، في انتفاضة سنة 1861 في الجلفة المعروفة (بقضية بوشندوقة). وكان باشاغا الجلفة الشريف بن الأحرش، متزوجا من إحدى بنات الشيخ المختار، وقد مات ابن الأحرش قتيلا سنة 1864 (¬2). ويشبهه في ذلك زميله عبد الحفيظ المعروف بالخنقي نسبة إلى خنقة سيدي ناجي، فهو أيضا من تلاميذ الشيخ محمد بن عزوز في التصوف ومن معاصري الشيخ المختار الجلالي والشيخ علي بن عمر الطولقي، أصبح الخنقي هو مقدم الرحمانية في الخنقة ونواحيها، وعمل على نشر التعليم ¬

_ (¬1) الحفناوي (تعريف). مرجع سابق، 2/ 576، ذكر منها الحفناوي أربعة أبيات. (¬2) ف، فيليب (مراحل صحراوية). ص 121،

والأذكار الصوفية، وبقي على ولائه لفرع الرحمانية بنفطة (العزوزية). وتذكر المصادر الفرنسية أنه كان في منافسة مع شيخ زاوية طولقة، ولذلك لم يعترف بمشيخته، كما أن أولاده ظلوا محافظين على هذا التنافس، ربما بتدخل من السلطات الفرنسية، وكان الشيخ عبد الحفيظ من الذين شاركوا رغم تقدم السن به وتفرغه للعلم، في ثورة الزعاطشة أيضا، ودعا إخوانه للجهاد فلبوا، وقد دخل المعركة شخصيا، وله دور في أحداث بسكرة على العموم (¬1). ترك الشيخ عبد الحفيظ أولادا، منهم محمد الأزهاري والحفناوي، وقد أنشأ الأول زاوية في خيران في جبل ششار (قرب خنشلة). ويقول عنه (رين) سنة 1884 إنه كأبيه يعيش في عزلة وخلوة وسط إخوانه الذين لا يتحدث عنهم (¬2). ويبدو أن الأزهاري قد عاش بعيدأ عن الأنظار، وتوفي سنة 1896، والغريب أن جريدة (المبشر) الرسمية نشرت بمناسبة وفاة الشيخ محمد الأزهاري، خبرا ونعيا تقول فيه إنه مات عن 59 سنة في خيران، وأن والده عبد الحفيط كان ميالا إلى فرنسا (؟). وأن ابنه قلده في البر والإحسان والحكمة والنصيحة والأخلاق، وأنه نشر نفوذ والده وسمعته من هناك إلى الحدود التونسية، وكانت له مراسلات مع أخويه في تونس وتمغزة وكلاهما يكن له الاحترام، واسم هذا الوريث ليس محمد العربي بل عبد الحفيظ، وعمره 26 سنة، وقالت لعله يكون كأبيه، إذ هو يرغب في تعلم اللغة الفرنسية ومعجب بتمدن فرنسا وعوائدها (¬3). ويبدو هذا الكلام من (المبشر) فيه خلط بهدف خدمة المستقبل ونسيان الماضي، ومهما كان الأمر فإن أحد أبنائه، وهو محمد العربي هو الذي كان على رأس الزاوية سنة 1951، فقد وجدنا تقريرا كتبه قايد جبل ششار إلى ¬

_ (¬1) انظر كتابنا الحركة الوطنية، ج 1، وبناء على المصادر فإن الشيخ عبد الحفيظ قد قتل أثناء قتال مع الضابط الفرنسي (جيرمان). كما أن الضابط قد قتل أيضما في نفس القتال. (¬2) (رين). مرجع سابق، ص 460. (¬3) (المبشر) عدد 30 مايو، 1896،

الحاكم الفرنسي عن نشاط الزاوية بمناسبة زفاف الشيخ محمد العربي وتزويج أخيه سعد السعود، والزيارات التي وردت عليه من أعيان وأخوان الناحية مما يدل على ازدهار الزاوية وعقائد الناس فيها عندئذ، وأنها لم تعد صغيرة ومعزولة كما كانت سنة 1884، ويتحدث التقرير عما حمله أهل الناحية رجالا ونساء (وكبار الأعراش) من ماشية وتمر وسكر وقهوة وشمع، وسمن وقمح وحطب وعسل وجوز ودقيق، إلى جانب الدراهم، وقد أحصينا الأعراش الممثلة في الزيارات فكانت عشرة، فمن الأقارب أولاد تفورع، وأولاد ثابت، والبراجة وأولاد نصر، ومن الأباعد (كما يقول التقرير) البعادشية، والعمامرة والمحاشة، وأولاد رشاش، وأولاد بوعريف، وأولاد عبد ي، وتدل القائمة على أن الزاوية تأخذ فعلا شيئا كثيرا من أهل الناحية، وقد طلب الحاكم الفرنسي لدائرة خنشلة أن يخبره القايد عما يقوله الشيخ محمد العربي لزائريه فأجابه القايد بأنه يحثهم على خدمة الزاوية وعائلته، وكان الناس يطلبون منه الدعاء ثم ينصرفون (¬1). ويظهر من العرض السابق أن الشيخ عبد الحفيظ قد ترك عدة أبناء، منهم من بقي بالجزائر ومنهم من انتقل إلى تونس وأنشأ بها زوايا أيضا، ونحن نعلم أن ابنه محمود قد أنشأ واحدة في تمغزة بالجنوب الغربي لتونس، وأن الحفناوي قد أنشأ أخرى بتونس العاصمة، وكان أبناء الشيخ عبد الحفيظ على محلة بزاوية نفطة الرحمانية - العزوزية، حتى أن الأذكار هنا وهناك واحدة، وكانت فرنسا تشجع على هذا التفرق في الزوايا والشيوخ كما ذكرنا لأسباب تتعلق بتسهيل التحكم فيها، سواء في الجزائر أو تونس، ولكن الإخوان لم يكونوا في غالب الأمر واعين لهذه الخطة، ولاحظ الباحثون الفرنسيون أن هناك فروعا للفروع أيضا، فزاوية نفطة والخنقة لهما فروع في الكاف وتوزر والقيروان، وأتباع في بنغازي وغدامس وجنوب طرابلس ¬

_ (¬1) أطروحة دكتوراه عبد الحميد زوزو، باريس، 1992، فقد أورد التقرير بكامله، وهو مترجم 15 جوان 1901، كما أورده زوزو في كتابه (نصوص). مرجع سابق، ص 174 - 176، وفي التاريخ خطأ فليراجع،

والمدينة المنورة، وجملة الإخوان لهاتين الزاويتين (نفطة والخنقة) تقرب من أربعة عشر ألف شخص، وهو رقم قد يكون مبالغا فيه جدا، وإليك البيان حسب إحصاء سنة 1897: الزوايا 15، والإخوان 13، 940 منهم 1، 206 امرأة، ولكن لهم شيخ واحد (ابن عزوز). والمقدمون 76، والطلبة 66، والشواش 80 (¬1). وزاوية نفطة لا تهمنا من حيث الجغرفية ولكن تهمنا من حيث الطريقة، فقد عرفنا أنها تأسست لأسباب سياسية بعد احتلال بسكرة، وأن مؤسسها هو مصطفى بن عزوز، وترجع شهرة زاوية نفطة إلى كونها أصبحت مدرسة للتعليم، بالإضافة إلى الدور الديني والاجتماعي، وكان رجالها يكملون تعليمهم بجامع الزيتونة، ويتولون الوظائف الدينية كالقضاء والتعليم، ومنهم المكي بن عزوز والخضر بن الحسين، وذهب إلى هذه الزاوية عدد من طلبة الجزائر للدراسة أيضا، مثل عاشور الخنقي، كما هرب إليها بعض الثوار أمثال ناصر بن شهرة وشريف ورقلة، ونزل فيها محي الدين بن الأمير عبد القادر سنة 1870 - 1871 حين دعا إلى الجهاد، فأهل بسكرة وتبسة والوادي وتقرت كانوا يقصدون زاوية نفطة للتعلم والسلوك معا. أما فرع الوادي فقد كان تابعا لزاوية علي بن عمر الطولقي، ولكن شيخه سالم بن محمد الأعرج، كان على صلة أيضا بزاوية ابن عزوز بنفطة، أخذ الشيخ سالم الطريقة الرحمانية عن علي بن عمر، عن طريق محمد بن عزوز البرجي، عن طريق محمد بن عبد الرحمن باش تارزي عن طريق محمد بن عبد الرحمن الأزهري، إلى آخر السلسلة الرحمانية، والشيخ سالم هو ابن محمد بن محمد .. بن المحبوب، دفين القيروان، وبعد وفاة الشيخ سالم تولى ابنه محمد الصالح شؤون الزاوية بالوادي، واشتهر أمره بالصلاح، وقد ألف الشيخ إبراهيم العوامر رسالة في الشيخ محمد الصالح، وأسند له ¬

_ (¬1) ديبون وكوبولاني، مرجع سابق، ص 399 - 400، وننبه إلى أن الرقم خاص بنفطة والخنقة، عن زاوية نفطة انظر ترجمة محمد بن عزوز في (تعريف الخلف) للحفناوي، 2/ 485،

كرامات وخدم زاويته (¬1). وفي سنة 1860 وصف هنري دوفيرييه زاوية سيدي سالم بأنها ذات منارة طويلة تشرف على سوف كلها وأنها تقع قرب ساحة السوق، وأنها تتبع زاوية طولقة، أما الضابط كوفيه COUVET (المكتب العربي بالوادي) فقد كتب حوالي 1907 بأن زاوية سيدي سالم لم تتدخل في سياسة فرنسا الصحراوية، هذا في ظاهر الأمر (¬2). ومن مقدمي الرحمانية في قمار الشيخ سعيد (المعروف سي سعيد). وقد أطلق اسمه على مسجد بها ما يزال قائما، وهو أحد أقاربنا من جهة الأم. وظهر في الأوراس فرعان للرحمانية، هما فرع واحة المصمودي بقيادة الصادق بن الحاج وفرع الدردورية بقيادة الهاشمي دردور، ونلاحظ أن للرجلين علاقة بأحداث الجزائر وأنهما تعرضا إلى السجن والنفي معا، بسبب جلادهما ضد الاحتلال، فهما إذن من الفروع الرحمانية المناضلة، أما الشيخ الصادق بن الحاج فقد كان عمره 69 سنة 1859 وبذلك يكون من مواليد 1790، وقد أخذ الطريقة الرحص نية على شيخه محمد بن عزوز، ولعله قد حج معه سنة 1232 هـ، وكان الصادق بن الحاج كثير الحماس للطريقة ¬

_ (¬1) اسم الرسالة الكامل (البحر الطافح في بعض فضائل شيخ الطريق سيدي محمد الصالح). رأيناها مخطوطة، وقد نقل منها الحفناوي، مرجع سابق، 2/ 399، وذكر محمد البهلي النيال (في الحقيقة التاريخية) ص 337 عددا من زوايا الرحمانية في تونس، ونوه بزاوية نفطة التي اعتبرها من إنشاء مصطفى بن عزوز، وقد أخبر أن وفاته كانت سنة 1865 (1282) وأنه دفن بزاويته، ولهذه الزاوية فروع منها واحدة بسليانة وزاوية الحاج مبارك بتالة، وزاوية ابن قضوم (عظوم؟) بالقصرين، ولها فروع أخرى بتونس (أي الرحمانية) مثل زاوية سيدي محمد البشير المتوفي 1442 (!). وهي ترجع إلى الحاج البشير المغربي الذي انضم إلى الأمير عبد القادر، (وقد ذكره مرة أخرى على أنه البشير الزواوي). وزاوية ابن عيسى بالكاف وزاوية عين الصابون في تونس، ومؤسسها هو محمد الصالح الحمراني، وزاوية القسطلي بباجة، وغيرها، انظر ترجمة البشير الزواوي (المغربي) في ابن أبي الضياف، انظر عنه النيال، ص 309 - 310. (¬2) كوفيه، مجلة الجمعية الجغرافية S، G، A، A، N، 1934، ص 252،

مخلصا لها، مواظبا على أذكارها، ولكنه في نفس الوقت لم يتخل عن مبدأين هامين هما: التعليم والجهاد، فقد أنشأ زاوية في واحة سيدي المصمودي عند جبل أحمر خدو، فأصبحت مركزا عاما للتعليم الديني والسياسي، ونحن نجد الصادق بن الحاج من المساندين الرئيسيين لثورة الزعاطشة سنة 1849، وقدم المساعدات للشيخ أبي زيان هناك، وأثار الأعرلش في جبل أحمر خدو، وبني بوسليمان. وبعد عشر سنوات، قام بثورة خاصة به، 1858 - 1859 في الأوراس، وقد أحرق الجنرال (ديفو) زاوية المصمودي عن آخرها، سنة 1859، انتقاما من الشيخ وأتباعه، وجاء في إعلان هذا الجنرال للسكان أن الصادق بن الحاج يضللهم وأنه يجتمع بالنساء ويقلل من أهمية فرنسا وجيشها ويطلب من المرابطين الآخرين، أمثال ابن كريبع وابن النجاري الانضمام إليه، وقد توعد ديفو السكان بمصير الزعاطشة (التخريب الكامل) وقال إن الدين الإسلامي لا يبيح ما فعله الصادق بن الحاج (¬1). ثم أسر الصادق بن الحاج مع أبنائه وأعوانه المقربين، وانعقدت له محكمة عسكرية، حكمت عليه بالنفي والسجن خمس عشرة سنة وعلى الآخرين عشر سنوات، لرفعهم السلاح ضد فرنسا وتحريضهم الناس على التمرد، وكان منفاه جزيرة كورسيكا، ثم أعيد إلى سجن الحراش، ورغم طلب مدير السجن التخفيف عنه لكبر سنه والتزامه بشروط السجن وصبره، فإنه ظل سجينا إلى موته سنة 1862، وبقي ابناه الطاهر وإبراهيم سجينين بعد فترة، وقد طلب ابناه العفو عنهما لتشتت نسائهما وأراضيهما وأولادهما، من الحاكم العام المارشال بيليسييه (¬2). ولا ندري متى أطلق سراحهما، وهل كان عليهما أن ¬

_ (¬1) ملاحق أطروحة زوزو، الاعلان بتاريخ 25 جمادي الأولى 1275 (31/ 12/ 1858) وهو بالعربية والفرنسية وموجه إلى قبائل أحمر خدو، وأولاد داود، وغسيرة، الخ ... (¬2) أورد عبد الحميد زوزو، (الأطروحة) عدة ملاحق من بينها رسالة بقلم إبراهيم بن الحاج طالبا فيها العفو وإطلاق سراحه وسراح أخيه بعد موت والدهما في السجن، =

يتما المدة (عشر سنوات). والمعروف أن الشيخ الطاهر بن الصادق بن الحاج قد عاد إلى سيرة أبيه الذي ورث منه البركة الصوفية وأنشأ زاوية جديدة في تيبيرماسين، فرقة من أولاد يوب، عرش جبل أحمر خدو، ويظهر (رين) ناقما على هذه الزاوية الجديدة أيضا إذ قال إنها تعلم التعصب ومعاداة الفرنسيين، وقال إن محمد بن عبد الرحمن الذي ظهر في ثورة الأوراس سنة 1879 كان متخرجا من هذه الزاوية، واعتبره شريفا مزيفا (¬1). وتحدث ديبون وكوبولاني سنة 1897 عن نشاط سي الطاهر بن الحاج في زاوية تيبيرماسين، وذكر أن للزاوية 2، 476 من الأتباع، منهم 708 من النساء، وأن لها ثلاث زوايا، و 25 طالبا، وشيخا واحدا، وثلاثة عشو مقدما، و 24 شاوشا (¬2). ومعنى ذلك أنهم لا يعترفون إلا بالشيخ الطاهر شيخا للطريقة هناك، ولا شك أن هذا الفرع لم يؤسس طريقة خاصة وإنما هو امتداد للرحمانية سواء اعترف بشيخ آخر أعلى منه أو لم يعترف، ولا ندري إن كان مستقلا أو تابعا لزاوية طولقة أو نفطة. ونفس الشيء يقال عن الفرع الآخر الذي ظهر في الأوراس أيضا على يد الشيخ الهاشمي بن علي دردور، من عرش أولاد عبد ي، فقد قيل إنه أسس جمعية (طريقة؟) سرية سنة 1876، وهو من مواليد مدرونة، وكان تلميذا في زاوية خنقة سيدي ناجي الرحمانية، ولعله أصبح أحد مقدميها بمدرونة ونواحيها، وقالوا عن الشيخ الهاشمي دردور إنه رحماني، وقال آخر ¬

_ = تاريخها بالحراش في 25 رمضان 1278 (26 مارس 1862). وفيها عبارات التشفع والخضوع، والطلب موجه إلى الحاكم العام (بيليسييه). وطلب آخر كتبه إبراهيم وأخوه الطاهر في نفس المعنى والمكان ولكن بتاريخ 26 إبريل 1279 أي بعد عام، والنص الأول أورده زوزو أيضا في كتابه (نصوص ...) مرجع سابق، ص 184 - 185. (¬1) رين، مرجع سابق، ص 460، هامش 1. (¬2) ديبون وكوبولاني، مرجع سابق، ص 410 - 411،

أنه سنوسي، ومن قال إنه رحماني اعتمد على أن الشيخ كان يلتزم بتعاليم هذه الطريقة وأنه كان يدعو أتباعه إلى الحركة والعمل، وأنه اتهم المعارضين له في الطريقة الرحمانية بأنهم هم الذين خرجوا عنها واتبعوا شيوخا آخرين. ونتيجة (لتعصبه) عوقب الهاشمي دردور بالنفي إلى كورسيكا بعد المحاكمة سنة 1880، و (التعصب) هنا هو التمرد عند الفرنسيين، وقد قضى الشيخ دردور في سجن كورسكيا سنوات لا نعلم كم دامت وكيف انتهى أمره، إنما نعلم أن عائلته وأقاربه تقدموا بطلب إلى السلطات لتسريحه لأنهم ضاعوا بدونه وافتقروا بعد أن حجزت السلطات كل شيء لديهم وقضت على الزاوية، وقد شمل السجن جماعة أخرى منهم عمر بن يوسف من عرش حيدوسة، وكان مقدما للشيخ الهاشمي، ومحمد أمزيان بن نادرة من عرش حالوحة، وهو مقدم آخر للهاشمي، وأبو بكر بن خالد، مقدم ثالث، وقد أوصى قائد دائرة باتنة العسكرية بنفيهم جميعا إلى كورسيكا لخطرهم في المنطقة، وذلك في 7 يناير 1880، وعريضة طلب العفو عن الشيخ الهاشمي جاءت كما قلنا، من عائلته وكذلك من ضمانة عرش أولاد عبد ي كله، وقد أيد قايد الناحية عندئذ، وهو إسماعيل بن العباس، (وهو من الطريقة القادرية) طلب العفو وقدمه إلى السلطات الفرنسية، ممثلة في المكتب العربي بباتنة، وذلك رأفة بأولاده وزوجاته، وقد ضمن هذا القايد أيضا في عدم حدوث أي شيء من قبل الشيخ الهاشمي بعد إطلاق سراحه (¬1). ولم يكن للدردورية كثير من الأتباع، وإنما نشاطها في وقت خاص جعل السلطات الفرنسية تنظر إليها على أنها خطر كبير، ولم يبق لها سنة 1897 سوى شيخ واحد ومقدم واحد وحوالي ألف (1، 020) من الأتباع، منهم 250 امرأة، وكلهم يتبعون زاويتهم بمدرونة، والوقت الخاص الذي ¬

_ (¬1) عن هذا الموضوع انظر زوزو (الأطروحة). وكذلك (نصوص ..). مرجع سابق، ص 186، 188، وديبون وكوبولاني، مرجع سابق، ص 412، هامش 1، وتاريخ العريضة هو 24 سبتمبر 1883،

ظهرت فيه الدردورية هو الهجمة الشرسة التي أبداها الاستعمار الفرنسي خلال السبعينات في عهد ما أسموه بالجمهورية الثالثة، وكذلك في وقت اشتد فيه نشاط السنوسية على الحدود الجنوبية الشرقية، وخططت فيه فرنسا لاحتلال تونس، وحدوث ثورة بوعمامة وثورة المهدي السوداني، فهذه الأحداث كانت علامات (للتعصب) الإسلامي في نظر الفرنسيين، ومن ثمة الربط بين حركة الهاشمي والسنوسية عند البعض منهم. ومن زوايا الجنوب الرحمانية زاوية الهامل قرب بوسعادة، وحياة هذه الزاوية هي حياة مؤسسها الشيخ محمد بن بلقاسم، وهو ليس باعثا أو مؤسسا لطريقة خاصة وإنما كان محافظا على الطريقة الرحمانية التي أخذها على بعض مقدميها، وحياة الشيخ محمد بن بلقاسم تكاد تكون حياة رجل علم وتعليم لا حياة متصوف صاحب خلوة ومرابطة، ولكن البيئة العامة وعقائد الناس في الصالحين وشراسة الاستعمار الفرنسي في معاملة السكان جعلت أمثال الشيخ محمد بن بلقاسم يظهرون من رجال الساعة وموالي الوقت أو المهديين المنتظرين، فأخذوا ينسبون إليه الكرامات وخوارق العادات كأنه من الدراويش والمجاذيب، إنها نفس العقلية التي كادت تنسب إلى ابن باديس الكرامات أيضا، بينما هو رجل إصلاح ونهضة، وسترى أن السلطات الفرنسية هي التي سعت أو ساعدت على تحويل رجال العلم إلى أصحاب خرافة ودروشة، وكأن المتصلين بالدين الإسلامي واللغة العربية عندها هم بقية سلف فاقد للعقل منجذبا نحو الخرافات والشعوذة والسحر، لكي تحافظ هي على ما كانت تسميه رسالة التقدم والحضارة التي جاءت بها إلى الجزائر، والذي يدرس كتاب الحفناوي (تعريف الخلف) (¬1) يدرك أن هذا الرجل (الحفناوي) الذي درس الفكر الفرنسي واللغة الفرنسية على (آرنو). كان يلصق البركات والكرامات بكل شخص ترجم له من المعاصرين، ولو كان من فئة العلماء وليس من فئة المرابطين. ¬

_ (¬1) وهو كتاب جمع من وحي إدارة الحاكم العام (جونار) والمكلف بالشؤون الأهلية (لوسياني). رغم ما فيه من فوائد جمة ومن جهد عظيم،

وذلك يصدق على ترجمة الشيخ محمد بن بلقاسم، إنها ترجمة طويلة ولكن في غير ما كان عليه الشيخ في واقع الأمر، وإذا قارنا ما قاله فيه الشيخ الحفناوي وما قالته فيه المصادر الفرنسية وما جاء في ملاحظات تلاميذه، نجد هناك فروقا كبيرة في تناول هذه الشخصية، ونحن نميل إلى أن الشيخ كان من علماء الوقت، اكتسب حظا واسعا من اللغة العربية والدراسات الدينية بحكم بيئته وتعلمه في زوايا متخصصة في نشر المعارف، واستجلابه أفضل العلماء إلى زاويته (معهده). وإنما عقائد الناس والدعاية الفرنسية جعلت منه رجلا مرابطا وشيخ زاوية يقيم الحضرة ويتقبل الزيارات، لأن هذا الصنف من الناس عندها ليس له وصف آخر ولا مجال عمل آخر غير ذلك، وعلى هذا الأساس يمكننا أن نطرح جانبا كل ما جاء في كتاب الحفناوي وأمثاله من نسبة الخرافات إلى الشيخ محمد بن بلقاسم. فهو محمد بن أبي القاسم بن ربيح (أو رجيح) بن محمد بن عبد الرحيم بن سائب بن المنصور، وتذهب بعض الروايات إلى أنه شريف النسب، حسني النجار، معتمدين على قصة استقرار شريفين مغربيين في بوسعادة سنة 900 هـ، أحدهما هو جد الشيخ محمد بن بلقاسم (¬1). ولكن آخرين لا يقرون بأصالة هذه الرواية وينظرون إليها على أنها من التلفيقات، كنسبة الكرامات لغير أهلها، ثم إن قيمة المرء بعرضه وقلبه ولسانه وتقاه، ولد الشيخ ببادية الحامدية، ضاية الحرث جهة جبل تاسطارة، من بلاد أولاد الأقويني، فريق أولاد محمد، حسب رواية الحفناوي، وذلك في رمضان عام 1239، وكان لهذا الميلاد والنشأة في البادية أثره الإيجابي على مستقبل الشيخ، وبعد حفظ القرآن الكريم التحق بزواوة ودرس في زاوية علي ¬

_ (¬1) هذان الشريفان هما: عبد الرحمن بن أيوب، وأحمد بن عبد الرحيم، والأخير هو الذي نزل (الهامل) وأعطاها هذا الاسم وهو جد الشيخ محمد بن بلقاسم، بناء على هذه الرواية، ويقول ديبون وكوبولاني إن الشيخ قد استفاد من سمعة جده، ص 406، أما صاحب (تعريف الخلف) فيذكر أن جده يدعى محمد بن عبد الرحيم وليس (أحمد).

الطيار بالبيبان بعض الوقت ثم بزاوية السعيد ابن أبي داود الشهيرة بالعلم، ناحية آقبو، وقد قضى ثماني سنوات هناك متعلما ومعلما، ونال رصيدا واسعا من الدراسة اللغوية والدينية. ونلاحظ أن وجوده في زواوة عندئذ كان بعيدا عن الفرنسيين لأن تلك الناحية لم تكن قد احتلت بعد، وقد تخرج حوالي سنة 1844، ورجع إلى موطنه، ولا ندري إن كان قد أخذ الطريقة الرحمانية أيضا في زاوية ابن أبي داود، لأن هذه الزاوية اشتهرت بالعلم أكثر من التصوف، ولكن المنطقة كلها كانت خاضعة لتأثيرات الرحمانية على كل حال، وكانت الرحمانية كما عرفنا طريقة مجاهدة عندئذ في زواوة تحت راية الأمير وخليفته أحمد الطيب بن سالم، وبين 1844 و 1859 كان على الشيخ محمد أن يجد له مكانا في ناحيته، وأن يكتشف مستقبله شأن من وصل إلى سنه وعلمه، وكانت ناحية بوسعادة وبسكرة وأولاد جلال وطولقة تعيش على ذكريات حركة الجهاد التي أشرنا إليها قبل أن يحتل الفرنسيون منطقة الزيبان سنة 1843 - 1844، بل إن بقاياها عادت إلى الظهور في ثورة الزعاطشة التي تدخل فيها أيضا أهل بوسعادة (بقيادة محمد بن علي بن شبيرة) وأهل أولاد جلال (بقيادة الشيخ المختار). كما كانت الرحمانية نشيطة على يد الشيخ المختار والشيخ علي بن عثمان بطولقة والشيخ عبد الحفيظ بالخنقة، إنها فترة حرجة بالنسبة لشاب في العشرينات من عمره مثل محمد بن بلقاسم، وكان عليه أن يختار. لقد اختار إنشاء زاوية للتعليم كأستاذه أحمد بن أبي داود وجيرانه الشيخ المختار والشيخ علي بن عثمان، فهو لم يكن من رجال الجاه الديني مثل ابن علي الشريف الذي عينه الفرنسيون (باشاغا) رغم مقامه وزاويته التي كانت علمية أيضا، وليس من المغامرين الذين سماهم (رين) (بالأشراف المزيفين) الذين يندسون وسط السكان والأعراش ويتحالفون مع بعض السياسيين الطموحين ويعلنون حركة جهاد تهز العدو هزا مؤقتا ثم تنهار، كما فعل بوزيان وبوبغلة ومحمد بن عبد الله، إن (فن الممكن) عندئذ لدى الشيخ

محمد بن بلقاسم هو إنشاء الزاوية ونشر التعليم وتكوين أسرة، وفي ذلك من الجهاد ما فيه! أليس ذلك أولى من الهجرة وأنفع من التصوف السلبي القائم على الانزواء والبعد عن الناس؟ ومن يدري لعل الشيخ محمد كان ينوي ما نواه ابن باديس بعد قرن، وهو تكوين حركة تعليمية يصارع بها الجهل الذي ضربته السلطة الاستعمارية على الجزائريين أكثر من نصف قرن، وتخريج طلائع تتولى بنفسها مصير البلاد؟ كان الشيخ قد استقر بالهامل، وأخذ ينشر التعليم، وعندما كثر تلاميذه استعان ببعض المدرسين من أمثال الشيخ محمد بن عبد الرحمن الديسي وعاشور الخنقي، وبني زاوية للعلم والطريقة الرحمانية لكي يستقبل فيها الزوار والغرباء والضيوف، ولكي يجد الطلبة سكناهم وقاعات دروسهم، وكان يتردد على زاوية أولاد جلال، وهناك أخذ عن شيخها المختار بن خليفة ورد الرحمانية (¬1). وقد سلك الشيخ محمد بن بلقاسم في الهامل سلوك الشيخ علي بن عمر وابن أخيه علي بن عثمان في طولقة إزاء الثورات والمواقف السياسية، كلاهما لم يتدخل مباشرة في الموضوع، وظل على الحياد حتى عندما أعلن الشيخ الحداد من صدوق الجهاد ضد الفرنسيين سنة 1871 باسم الطريقة الرحمانية، ورغم أن الشيخ محمد بن بلقاسم كان متزوجا من ابنة محمد المقراني (¬2) فإن الشيخ لم يتبعه في ثورته، وإنما استقبل المقرانيين الفارين من العدو وحماهم وعلم صغارهم، وانتشر صيته كمرابط وكثر إخوانه في زواوة والتل والصحراء وتونس (¬3) حتى عدهم ديبون وكوبلاني (1897) أكثر من 43 ألفا، وهو رقم قد يكون فيه كثير من المبالغة، لأن هناك طرقا كبيرة لم تصل إلى هذا الرقم، وإليك الأرقام التي قدمها هذان المؤلفان: ¬

_ (¬1) عن علاقة الشيخ محمد بن بلقاسم بالشيخ المختار وزاويته انظر سابقا. (¬2) أشيل روبير، مرجع سابق، (روكاي). 1924، ص 258 - 262. (¬3) نشرت المبشر في عدد 9 مايو، 1896 أن الشيخ محمد بن أبي القاسم قد نال وسام الأكاديمية الذي تمنحه إدارة التعليم التابعة للحكومة العامة بالجزائر،

الزوايا 29، الشيوخ 2، الطلبة 168، الشواش 4، المقدمون 164، الوكلاء 1، الإخوان 40، 810، الأخوات 20، 091. وتوفي الشيخ في 2 يونيو (جوان) 1897 أثناء عودته من الجزائر إلى بوسعادة، وحدثت الوفاة في قبيلة السحارى بأولاد إبراهيم في بوغار، حسب ديبون وكوبلاني، وكان عمره إذاك 78 سنة، وفي يوم 14 يوليو جرت له حفلة تأبين رسمية جدا في جامع الإمامين في بوسعادة، وقد حضر الحفل الضباط الفرنسيون والمدنيون الرسميون، في جمع غفير من المتعلمين والتلاميذ والجمهور، وقد خطب قائد مركز بوسعادة، الضابط كروشار، منوها بدور الشيخ ومساعدته لفرنسا، كما قال، في نشر رسالتها الحضارية التي فهمها بذكائه، والفرنسيون يهمهم الاستفادة من الأموات للأحياء لأن ذلك هو الدرس الذي على الحاضرين أن يعوه من حياة الشيخ كلها، فلا التعليم العربي والإسلامي ولا المحافظة على الهوية الوطنية ولا الدور الديني والاجتماعي للزاوية يهم فرنسا في شيء، إنما المهم هو الإعلان عن أن الشيخ كان يخدم رسالة فرنسا في الجزائر (مخاطرا في ذلك بسمعته). وبعد كروشار خطب أعيان العرب ومنهم ابن أخ الشيخ المتوفى الذي سيتولى مكانه، وقاضي بوسعادة، إبراهيم رحماني، وكلاهما ذكر بالأصول الشريفة للشيخ وبفضائله، وانتهت الحفلة لإقامة ضيفة كبيرة (زردة) جمعت الفقراء والمساكين، وهي الضيفات التي لا يعجز عنها الناس، وإنما الإدارة الاستعمارية كانت إذا رضيت تجيزها وتتبرع لها سرا وعلانية، وإذا سخطت منعتها أو اعتقلت القائمين عليها، وإذن فإن هذه الحفلة لم تكن بريئة، وهي تشبه الحفلة الرسمية جدا أيضا التي أقامتها السلطات الفرنسية في الجامع الجديد بالعاصمة بمناسبة وفاة الشيخ أحمد التجاني في نفس السنة (1897) (¬1). أعلنت مصادر ذلك الوقت أن الشيخ محمد بن بلقاسم ترك خلافته ¬

_ (¬1) ديبون وكوبولاني، مرجع سابق، ص 406 - 409،

الروحية لابن أخيه الحاج محمد بن بلقاسم، صاحب كتاب (الروض الباسم) في سيرة ومناقب الشيخ، ولكن لأسباب عائلية لم يتول الحاج محمد شؤون الزاوية مباشرة بعد وفاة عمه، بل تولتها السيدة زينب ابنة الشيخ، وحسب (أشيل روبير) فإنها أدارت شؤون الزاوية بنجاح، ورفضت الزواج، وظلت على رأس الزاوية إلى وفاتها سنة 1904. ولكن ولايتها لم تكن م عبد، بالورود، فقد كان عليها أن تناضل للحصول عليها، ضد ابن عمها وضد السلطات الفرنسية المحلية معا، فقبل وفاة أبيها بعث برسالة أو وصية إلى القائد الفرنسي كروشار (رئيس المكتب العربي) في بوسعادة أعلمه أن خليفته هو ابن أخيه الحاج محمد، وكانت السلطات الفرنسية تلح عليه في تعيين خليفته، وهي تقصد بذلك الحاج محمد الذي قيل إنه كان على علاقة طيبة مع هذه السلطات الحريصة على استقرار الزوايا وأمنها، لكن زينب اعترضت على هذه الوثيقة بعد وفاة والدها وقالت إن السلطات قد استصدرتها من والدها وهو في حالة لا يملك معها قواه، ثم إن زينب استعملت وثيقة أخرى قديمة لتثبت حقها في خلافة والدها، ففي 1877 أصيب الشيخ بنوبة قلبية، وبعدها كتب وصية موثقة على يد القاضي على أن أملاكه - وهي كثيرة - توضع تحت تصرف ابنته زينب، في شكل حبس عائلي، على أن تأخذ منه هي النصف، خلافا لما جرت به العادة، وفسرت زينب ذلك بأن هذه الوثيقة ترشحها هي لخلافة والدها، وهكذا دخلت في نزاع مع كروشار ومع ابن عمها، كما انجر الخلاف إلى الأتباع، وقد انتصرت هي في النهاية، ولكن حياتها لم تطل إلا سبع سنوات بعد وفاة والدها. من المحتمل أن تكون زينب من مواليد الخمسينات من القرن الماضي، وقد نشأت في حجر والدها، وهي ابنته الوحيدة، وعلمها القرآن والعلوم والمحاسبة، وعاشت في مكتبة الزاوية مهتمة بالمخطوطات، وكانت هي التي تحفظ سجلات أملاك الزاوية، وعاشت عزبة طول حياتها، وتفرغت للزاوية والحياة الروحية والعبادة، وكاذت، بناء على وصف من راها، نحيفة الجسم

وعلى وجهها آثار الجدري وآثار الوشم، وفي آخر حياتها كانت ذابلة، وقد ازدادت نحولا وضعفا، وكانت تحضر مع والدها ولائم الزاوية ومآدب الزوار من مسلمين وأوروبيين، وكانت أثناء توليها شؤون الزاوية تستقبل الزوار من شيوخ الرحمانية والمسؤولين الفرنسيين، وكانت تظهر أمام الأتباع، ومن الذين شاهدوها وتحدثوا إليها من الأوروبيين وسجلوا أنطباعهم عنها: الفنان قيوميه، والمغامرة الأديبة إيزابيل إيبرهارد، والغريب أن هذه المغامرة قد زارتها عدة مرات، وكان الجواسيس الفرنسيون يسجلون حديثهما، وقد توفيتا في وقت واحد: إيزابيل في أكتوبر، وزينب في نوفمبر، عام 1904 (¬1). ولا شك أن لابن عمها وجهة نظره أيضا في هذه المسألة الخلافية، ويبدو أن الكتاب انتصروا عموما لزينب ورأوا أن السلطات الفرنسية كانت تتدخل فيما لا يعنيها، وربما كان هذا الاتفاق على زينب لأنها امرأة، وقد أصبحت المرأة موضوعا اجتماعيا كبيرا بدعوى أن المجتمع لم يرحمها، وقد اعترف أشيل روبير بأن زينب قد أدارت الزاوية بنجاح، واعترف القضاء الفرنسي، بعد أن خرجت مسألة الخلاف من بوسعادة إلى الجزائر، أن الحق كان مع زينب، ويبدو أن السلطات الفرنسية العليا قررت الانتظار وترك المسألة للزمن تفاديا لتشعب الخلاف، ولعل هذه السلطات كانت تعرف أن زينب لن تعيش طويلا، وهكذا اختفت من المسرح بالموت وحل ابن عمها محلها تلقائيا، وتفادت الزاوية الانقسام الذي عانت منه زوايا أخرى (¬2). ونحن لا ندري كيف صارت حالة الزاوية بعد وفاة الشيخ الكبير (محمد بن بلقاسم). ولكن يبدو أنها مرت بمرحلة انتقالية، ونلاحظ أنه حلافا لبعض الزوايا لم تنقسم زاوية الهامل على نفسها وتتفرع إلى زوايا ¬

_ (¬1) حول تفاصيل هذا الموضوع انظر كلنسي - سميث (ثائر وقديس). فصل - الشيخ وابنته - ص 214 - 253. (¬2) لم يطل عهد ابن عمها أيضا، ففي سنة 1914 كان على رأس الزاوية ابنه المختار، عن موقف الطرق من فرنسا خلال الحرب العالمية الأولى، انظر لاحقا،

صغيرة رغم كثرة الأبناء والأحفاد، فهل ذلك كان بوعي من أبناء العائلة القاسمية نفسها، أو كان هو رغبة السلطات الفرنسية؟ المهم أن الزاوية بقيت موحدة، وبقيت على سيرتها في التعليم أيضا، سيما أثناء حياة الشيخين: الديسي والخنقي (¬1). وأثناء مشيخة مصطفى القاسمي ستكتسب زاوية الهامل شهرة كبيرة، ولكنها وظفتها في أغراض أخرى معادية لحركة الإصلاح والتطور، وقد ظهر الشيخ مصطفى القاسمي متزعما لتيار هذه المعارضة فكتب هو وغيره الرسائل والتقارير إلى السلطات الفرنسية ضد الحركة الإصلاحية (¬2) وترأس المؤتمرات الموالية للإدارة وتحالف مع الشيخ عبد الحي الكتاني وغيره لجمع كلمة أصحاب الزوايا المؤيدة لفرنسا على مستوى المغرب العربي. وما دمنا نتحدث محن الشيخ محمد بن بلقاسم (المرابط) كما أراده أهل الوقت والسلطات الفرنسية فلنقل إنه قد نسبت إليه كرامات كثيرة، ونحن لا ندري عقيدة الشيخ نفسه في ذلك وفيما كان يقال عنه، لأن علماء من أمثال أبي مدين الغوث ومحمد بن يوسف السنوسي وعبد الرحمن الثعالبي أصبحوا في نظر العامة وحتى في نظر المستعمرين ذوي النوايا الخاصة، من أصحاب الدروشة والكرامات، ونسي الناس علمهم وكتبهم وآراعصم في الدين والفلسفة والفلك ودورهم في قوة الأمة الإسلامية، وعلى هذا النحو فهم مستعدون أيضا لإلصاق الكرامات بابن خلدون وابن رشد وابن سينا والجاحظ ونحوهم، ومن أراد أن يطلع على بعض كرامات الشيخ محمد بن بلقاسم في ¬

_ (¬1) إضافة إلى ما ذكرنا، انظر محمد علي دبوز، مرجع سابق (نهضة الجزائر). 1/ 56 وهنا وهناك، ولم يهتم الشيخ دبوز بالحياة الصوفية للزاوية، ونحن هنا اهتممنا بالجانب الطرقي، انظر عن الجانب التعليمي فصل التعليم. (¬2) من ذلك التقرير الذي كتبه الشيخ مصطفى القاسمي وهو بتاريخ 7 سبتمبر 1936 وقدمه إلى الحاكم العام، وقد ادعى فيه أن العلماء المصلحين يشتغلون بالسياسة، وأنهم لا أصل لهما عائليا ولا يتبعهم إلا الأوباش، خلافا لأصحاب الزوايا، انظر التقرير كاملا في ملحقات أطروحة عبد الحميد زوزو، ص 1311 - 1321،

نظر معاصريه فليطالع ترجمته في (تعريف الخلف) إذ يقول صاحب هذا الكتاب: (ما وقع نظره على عاص إلا أطاع، ولا على ناس إلا استيقظ، ولا مر بأرض مجدبة إلا أنبتت). فكيف يستقبل أبناء الجزائر اليوم هذا الكلام وكيف يفهمونه؟ ويقول أشيل روبير، بعد أكثر من ربع قرن من الوفاة، إن قبر الشيخ محمد بن بلقاسم يزار يوميا من 155 إلى 200 شخصا، ويحمل بعضهم إليه الزيارات الكريمة، وكان الشيخ قبل موته إذا تجول في الريف يأتيه الناس زرافات ووحدانا يقبلون برنوسه كقديس ويتمسحون بأوراقه ورسائله، معتقدين فيه الشرف، زار الشيخ الجزائر والبليدة والبرج والمدية والسور والبرواقية والمسيلة، وكان يجلس للناس ويقدم إليهم النصائح، ويأتيه من يطلب البرء من المرض ومن يطلب إنجاب الأطفال، ولا يجلس إلا على حصير وبعض الوسائد، دعاه مرة موظف رسمي إلى وليمة فجاء في الوقت وخلفه بعض الطلبة كالعادة، فكان هؤلاء يكددون عظام الدجاج الذي أكله الشيخ فيجدون في ذلك لذة خاصة، وذات يوم حضر لقاء كانت فيه نسوة فرنسيات، طلب من إحداهن كم لها من الأولاد فقالت إن لها بنات فقط، فطلب كوبا من الحليب فشرب منه رشفة ثم طلب من السيدة أن تشرب منه، مضيفا أن هذه الطريقة لا تتخلف في إنجاب الأولاد، لكن المرأة شربت من جانب آخر من الكوب، وبعد عام حضر الشيخ في مناسبة مشابهة فاستخبر عن المرأة فأجابوه أنها أنجبت بنتا، فقال: إن الله وحده هو المدبر! ومن الكرامات المنسوبة إليه هروب قطاع الطرق عندما أغاروا على قافلة محملة بالمؤونة إلى الزاوية، ومنها توقف قطار البليدة لكي يصلي الشيخ العصر رغم رفض السائق وقف القطار (¬1). أرأيت كيف ضاعت شخصية الشيخ محمد بن بلقاسم العلمية في ¬

_ (¬1) أشيل روبير، مرجع سابق، ص 262، ص 262، عن علاقة الشيخ محمد بن بلقاسم بناصر الدين ديني وإسلامه على يديه، انظر كلنسي - سميث، مرجع سابق،

ضباب هذه القصص الأسطورية؟ ولكن من كان يروج لها ويستفيد منها؟ اللهم إن هذا بعيد عن تعاليم الطريقة الرحمانية الأصلية التي قامت على بث العلم وخدمة الدين، على الأقل بالمفهوم البسيط، من عبادات وسلوك طيب مع الناس ومع الله. ونعود إلى فروع الرحمانية في قسنطينة بعد وفاة الشيخ الحداد، ففرع قستطينة بقي مستقلا في عائلة باش تارزي، وعندما احتلت قسنطينة كانت الطريقة الرحمانية هناك في يد مصطفى باش تارزي الذي ورث والده، ثم السعيد بن أحمد باش تارزي الذي كان متوليا آخر القرن الماضي، وكان نشاط زاوية قسنطينة الرحمانية قد تأقلم مع الحياة المدنية في عهد الاحتلال، وتولى الرحمانيون هناك الوظائف الإدارية، ولكنهم ظلوا على صلة بالعلم والدين أيضا، أما المواقف السياسية فلا نجد لهم مشاركة فيها إلا ضمن العرائض التي كان يقدمها أعيان قسنطينة إلى السلطات الفرنسية مثل الشكوى لرفع الظلم أو طلب تعديل قانون جائر (¬1). ولا نعرف أن الرحمانيين في قسنطينة قد شاركوا في ثورة 1871 التي دعا إليها الشيخ الحداد. وكان للزاوية الرحمانية في قسنطينة نشاط وفروع ومقدمون، وهي تتبع القواعد الرحمانية في الأذكار والممارسات والحضرة، وقد أصدر الشيخ محمد السعيد بن أحمد بن عبد الرحمن باش تارزي إجازة بتاريخ 1312 هـ وجهها إلى أتباعه وأصدقائه المحبين للزاوية، فأوصاهم فيها بذكر الله وترديد (لا إله إلا الله). والإجازة منجرة إليه من والده أحمد بن عبد الرحمن، وختمها يحمل تاريخ 1251، وحسب إحصاء آخر القرن (1897) فإن أتباع زاوية قسنطينة بلغوا 10، 070 بينهم 1، 958 امرأة، ولها ثماني زوايا، ووكيل واحد، و 25 طالبا، وشيخ واحد، و 85 مقدما، و 104 من الشواش، ومعظم هؤلاء الأخوان كانوا في إقليم قسنطينة، وبعضهم كانوا ¬

_ (¬1) وجدنا أسماء لعائلة باش تارزي تولى أصحابها وظائف القيادة للفرنسيين جهة الأوراس،

في إقليم الجزائر أيضا (¬1). ولكن الرحمانية قد مرت بامتحان عسير منذ 1871، سيما في المنطقة الممتدة من الأخضرية إلى القل، فقد استجاب الإخوان هناك لنداء الجهاد الذي أصدره الشيخ الحداد في 8 إبريل 1871، ونتيجة لذلك خربت زاوية صدوق، وسجن شيخها في 13 يوليو وقبض على ابنيه عبد العزيز ومحمد، وحوكم المقدمون والوكلاء وأعدم عدد منهم، وشرد الباقون تشريدا نموذجيا، وطوردوا إلى حدود تونس، وصودرت أملاكهم ووزعت على المستعمرين الفرنسيين، وزاد هؤلاء نكاية في الرحمانيين خاصة والجزائريين عامة، فاقاموا على أرض الزاوية وأوقافها قرية استيطانية قالوا إنها قرية جميلة، وأصبح خماسوها خدما عند الكولون (¬2). ولا تهمنا الثورة في حد ذاتها هنا لكن يهمنا مصير الرحمانيين، لقد تجاوز عمر الشيخ الحداد الثمانين عندما أدركته الوفاة في سجن الكدية بقسنطينة. كان الخليفة المنتظر للشيخ الحداد هو ابنه عبد العزيز (عزيز). وكان عزيز هو الذي شجع والده على إعلان الجهاد، وتحمس للثورة، وكان يتحدث الفرنسية ويعرف بعض القادرة الفرنسيين، ولولا نفيه إلى كاليدونيا الجديدة لكان هو الخليفة الروحي للرحمانيين، ولذلك أوصى الشيخ الحداد بخلافته لتلميذه الحاج علي بن الحملاوي بن خليفة، وهو مقدمه في زاوية أولاد عبد النور، وكانت وصية الحداد قد كتبت واحتفظ بها إلى ما بعد وفاته، وبالتدرج تحول مركز الزاوية إلى وادي العثمانية، وقد أصبح هذا المركز مشعا على مجموعة من النواحي الأخرى، وأصبح لابن الحملاوي مقدموه أيضا، ومنهم الشيخ محمد البشير بن أحمد بن البواب الزموري الذي منحه الإجازة، وأصبحت زاوية وادي العثمانية ذات فروع أيضا، ولكن لم ¬

_ (¬1) ديبون وكوبولاني، مرجع سابق، ص 396 - 397، بقي الشيخ محمد السعيد باش تارزي حيا إلى أن بلغ التسعين سنة، وتوفي سنة 1329 (1912). انظر عن ذلك التقويم الجزائري للشيخ كحول، 1912. (¬2) رين، مرجع سابق، ص 474،

تتبعها الفروع الرحمانية الجنوبية، وقد قدر الباحثون الفرنسيون أنه كان لابن الحملاوي 44 زاوية سنة 1897 و 136 طالبا، و 227 مقدما، و 352 شاوشا، أما الأخوان فقد قدروهم بـ 39، 528 من بينهم 3، 043 من النساء، وقيل إن له أتباعا أيضا في تونس وطرابلس والقاهرة وجدة. وقد وصف الشيخ ابن الحملاوي بأنه محافظ جدا على عادات الطريقة، وأنه زاهد، ولا يخرج من الزاوية أبدا تقريبا، وكان يمتاز بالذكاء الحاد والعلاقات الصحيحة مع الفرنسيين، وقد بنى زاوية وادي العثمانية مجاورة لأخرى كانت بشلغوم العيد (شاطودان). وكانت له علاقات ودية مع بعض الأوروبيين في المنطقة، وهم يشهدون له بأنه أعانهم بالمال عندما كانوا في حاجة إليه، وقد شهد له بذلك وبحسن سيرته مع الفرنسيين (أوكتاف ديبون) أحد مؤلفي كتاب (الطرق الدينية الإسلامية) سنة 1897 (¬1). ويظهر من كلام الفرنسيين عن الشيخ ابن الحملاوي أنهم كانوا يفضلونه على الشيخ أبي القاسم البوجليلي الذي كان ينافسه في خلافة الشيخ الحداد، ولا ندري إن كان الشيخ الحداد قد أخذ في الاعتبار الاختلاف بين الشخصيتين ومدى فائدة الطريقة في ذلك، والغالب أن ذلك لم يكن خافيا عنه، ويقول (رين) إن اختيار الشيخ ابن الحملاوي كان اختيارا حكيما، لأنه كان مجهولا فلا يسبب حرجا للسلطات الفرنسية ولا للأعضاء المنفيين من عائلة الشيخ الحداد، وأن السلطة الفرنسية كانت تراقبه عن كثب (¬2). فلعل الشيخ الحداد فضل ابن الحملاوي على البوجليلي محافظة على الطريقة التي نكبت بعد ثورة 1871، ومهما كان الأمر فنحن لا ندري مدى ثقافة علي بن الحملاوي هذا، ولا جهوده في نشر العلم بالناحية، أما تلقين الذكر وهو (لا إله إلا الله). مع رفع الصوت واغلاق العينين، وإعطاء العهد، فقد جاء في إجازته لمقدمه محمد البشير الزموري، ونصت هذه الإجازة أيضا على وضع الشيخ كف اليد اليمنى على كف اليد اليمنى للمريد وترديد الذكر، أما بالنسبة للمرأة فالعهد يعطى ¬

_ (¬1) ديبون وكوبولاني، مرجع سابق، ص 390، وكان ديبون مفتشا عاما للبلديات. (¬2) (رين). مرجع سابق، 475،

لها بوضع يدها في الماء أو بإحاطة خرقة على اليد، ويقوم الشيخ بنفس الشيء معها أيضا. أما الشيخ محمد بن بلقاسم الحسني البوجليلي العباسي، فهو نموذج آخر من العلماء والزهاد، رغم أنه كان أيضا مقدما للشيخ الحداد، وقد ركز البوجليلي على العلم والتعليم بدل التصوف والممارسات المنسوبة للدين، كان الشيخ البوجليلي عالما بمفهوم ذلك الوقت، وهو يشبه شخصيات أخرى مماثلة ومعاصرة له، ولكن الاستعمار الفرنسي ثبطها وكبت مواهبها، مثل محمد الموسوم وعدة بن غلام الله ومحمد بن بلقاسم الهاملي ومصطفى بن عزوز، فلو أتيح لهؤلاء المناخ المناسب والحرية الفكرية لأعطوا للجزائر وجها آخر يمتاز بالمعرفة واتساع الأفق وخدمة اللغة والدين، كان الشيخ البوجليلي من الشخصيات المعترف لها كمقدم لزاوية بوجليل، دوار تيقرين، بلدية آقبو المختلطة عندئذة وقد أكب على التعليم والتأليف، وخدمة الدين، فاشتهر أمره وورد عليه الطلبة، فكان يجيزهم بالعلم لا بالذكر، وهذه ملاحظة المؤلفين الفرنسيين عليه (¬1). فقد أجاز تلميذه محمد بن عمر السازيلجي في 18 ذي الحجة 1292 (15 يناير 1876). وكان ذلك عند نهاية الدراسة، رخص له فيها بتعليم كل العلوم التي أخذها عنه من نحو وفقه وحديث، وغيرها، قائلا: (ليس هناك فرق بيني وبينه للراغب في هذه العلوم). فنحن إذن أمام شهادة علمية وليس إجازة بذكر الطريقة الرحمانية، كما اعتاد المشائخ، ومع ذلك فالشيخ عند السلطات الفرنسية وعند عامة الناس إنما هو مقدم بوجليل، وكان له أيضا إخوان يعلمهم الذكر، وهم يعدون 7، 904 إخوانيا، منهم بعض النسوة 1، 115، وله 42 زاوية تابعة، وهو الشيخ الوحيد، بالإضافة إلى ثمانية من الوكلاء، و 64 مقدما، فمجموع إخواف 9، 092 حسب إحصاء سنة 1897. ¬

_ (¬1) سندرس حياته في المؤلفين والعلماء أيضا، والإجازة التي نستشهد بها ترجمها (ميرانت). المترجم العسكري بالحكومة العامة، انظر ديبون وكوبولاني، مرجع سابق، ص 390.

ونلاحظ هنا تركيز الفرنسيين على استقلالية الفروع الرحمانية بعد الشيخ الحداد، وقد ذكروا أن هناك فروعا أو مقدمين لا يعترفون بأي شيخ، ولكنهم بقوا يؤدون الزيارة السنوية إلى الزاوية الأم بآيت اسماعيل أو مدينة الجزائر حيث مزار الشيخ محمد بن عبد الرحمن (بو قبرين). وذكروا من هؤلاء الشيخ محمد بن الحسين المقيم في قرية (آيت أحمد) والذي كان يتمتع - بسمعة كبيرة في الدين والورع، وقيل عن هذا الشيخ إنه كان يثبت ولاءه للفرنسيين بإرسال قطع من السكر أو بضع برتقالات إليهم، مع بركته (¬1). كذلك بقي في آيت إسماعيل الشيخ محمد البجاوي وغيره ممن يقولون إنهم من نسل الشيخ ابن عبد الرحمن (بوقبرين). باعتبارهم مرابطين وليسوا مقدمين للرحمانية في المنطقة، وإضافة إلى ذلك هناك حوالي خمسة عشر مقدما آخرين في أنحاء الجزائر عندئذ، ولهم زوايا وأتباع رحمانيون، وقد قدر عدد أتباعهم وزواياهم كما يلي: حوالي 21، 000 إخواني، و 19 زاوية في المجموع، هذا طبعا خارج زوايا وأتباع الفروع التي ذكرناها. لكن فرار الشيخ عزيز من منفاه في كاليدونيا الجديدة، سنة 1881 قد سبب إحراجا للأشياخ الرحمانيين، خصوصا ابن الحملاوي، وللسلطات الفرنسية، جاء الشيخ عزيز إلى مكة والمدينة بعد عشر سنوات قضاها في المنفى، وأصبح يتردد بين مكة وجدة، وكانت له فرصة في لقاء الحجاج ومراسلة إخوانه الرحمانيين عن طريقهم ومحاولة الرجوع إلى أرض الوطن، للأهل والأبناء، ولكن السلطة الفرنسية التي احتلت تونس وعاشت ثورة بوعمامة، غير مستعدة أن تفتح باب الجزائر للذي كان أحد زعماء ثورة 1871، ومع ذلك لم يقطع عزيز الأمل لقد كانت فرنسا مستعدة لشيء آخر وهو مراقبته عن طريق قناصلها ومراقبة مراسلاته عن طريق جواسيسها، كان الشيخ عزيز على صلة مباشرة، كما تقول المصادر الفرنسية، بكل رؤساء ¬

_ (¬1) ديبون وكوبولاني، مرجع سابق، ص 395، كذلك ص 391.

الدين الإسلامي، وكانت تأتيه المراسلات من أتباعه في الجزائر عن طريق البريد والحجاج، ويعلق (رين) على محاولات ومناورات عزيز قائلا: إنه قد نضج بالسن، وتكون في مدرسة الشر، وهو يعرف أن إخوانه مسجونون في كورسيكا، وأن أقاربه ونساءه وابنه في قبضة الفرنسيين، ولذلك كان يبدي المشاعر النبيلة منذ فراره (¬1) من الفرنسيين، محاولا إقناعهم بتوبته النصوح، لكي يحصل على العفو، وكان يستخدم في ذلك كل الوسائل، من بينها معرفته الشخصية لبعض الدبلوماسيين الفرنسيين. والمهم ليس ذلك، وإنما الخلافة الرحمانية، فالشيخ عزيز لم يتخل عنها سواء عفا عنه الفرنسيون أو لم يعفوا، ولكن هؤلاء غير مستعدين لتمكين عزيز من الرجوع إلى الجزائر، فهو حامل لواء ثورة 1871 وكان قد سمى نفسه (أمير جيش الجهاد). وهو الذي أثار السكان، وهو في نظرهم متفرنس وطموح إلى حد الغرور والكراهية لهم، وهو الذي تزعم اجتماع 27 مارس بصدوق وخطب فيه امرأ بقتل الفرنسيين، وقد أرسل عزيز رسائل الدعوة إلى الجهاد إلى الأقارب وأهل طريقته، فكيف يعفو الفرنسيون عنه؟ ومن يكن له الحقد الأعمق إذن؟ إضافة إلى ذلك كان عزيز ينتمي للرحمانية، التي هي فرع فقط لخلوتية الموجودة في القاهرة، وبينها وبين الشاذلية مبادئ مشتركة، وهي منتشرة في أنحاء العالم الإسلامي، وللرحمانية والشاذلية علاقات مع الطريقة السنوسية، ثم إن للرحمانية سنة 1884 حوالي مائة ألف من الأتباع - دون النساء (¬2) - فكيف تغامر فرنسا بالعفو عن عزيز؟ ولعل ذلك هو السبب الذي جعل فرنسا ترضى بخلافة ابن الحملاوي الذي قيل عنه إنه كان مجهولا أو مغمورا، وبذلك ينقطع الطريق أمام عودة ¬

_ (¬1) يذكر رين، أن عزيز نصح القنصل الفرنسي في جدة بعدم السماح للحجاج الجزائريين هذه السنة بالمجيء إلى الحجاز لانتشار (عدوى) ثورة الشيخ المهدي السوداني هناك، بدأت ثورة المهدي (محمد أحمد) سنة 1881، وتوفي المهدي سنة 1885. لكن الثورة استمرت إلى 1899 وانتهت بمقتل خليفته عبد اللهي (عبد الله). (¬2) هذه الأفكار واردة في (رين). مرجع سابق، ص 479.

عزيز. إن السلطة الفرنسية كانت تهيء الجو، في الواقع، لابنه صالح (ابن عزيز). الذي أصبح موظفا إداريا، والذي سيكون نعم الخلف لشر سلف، إذ يتماشى تعيينه على رأس الرحمانية، مع مبادئ هذه السلطات في تفتيت الطرق الكبرى وجعلها فروعا مشتتة أو مستقلة، كما يقولون. ولكن ذلك لن يكون ما دام الشيخ عزيز حيا. وقد بقي عزيز حيا إلى سنة 1895، وحصل فعلا على العفو في هذه السنة، بعد جهود مضنية جعلته يعد الفرنسيين بنصائح وفوائد يجنونها من عودته، فقد رخصت له السلطات الفرنسية بالتوجه إلى باريس للعلاج في السنة المذكورة (1895). ولا ندري ما الضمانات التي حصل عليها ولا المأمول منه لدى هذه السلطات، فالظاهر أن الجانب الإنساني كان وراء الترخيص، ولكن السلطات الفرنسية كانت تعرف أن عزيز على صلة، كما قالوا، بكل أعيان العالم الإسلامي الروحيين، في وقت كانت فيه فرنسا تعيد ترتيب سياستها الإسلامية في المشرق على ضوء تيار الجامعة الإسلامية، فلماذا تترك هذا الغريم يعكر صفو خططها ويشوه سمعتها في الحجاز وغيره، ويكون مطية لأي راكب ضد السياسة الفرنسية؟ ألم تسمح للهاشمي بن الأمير عبد القادر بالرجوع والاستقرار في الجزائر بأسرته سنة 1892 (عهد جول كامبون)؟ ألم ترخص بزيارة فرنسا والجزائر لبعض أعيان وصحافي الشرق؟ ولكن عزيز لم تطل إقامته في باريس، فقد توفي بعد قليل من حلوله بها، دون أن نعرف الآن سبب الوفاة، وقد جيء بجثمانه إلى قسنطينة ودفن بها (¬1). وتذهب بعض المصادر الفرنسية التي يحلو لها تخليط الأوراق لمصلحتها أن بعض مقدمي الرحمانية في الجزائر بقوا على ولائهم لعزيز بعد وفاة أبيه ولم يعترفوا بخلافة ابن الحملاوي، وتقول إن هؤلاء سيعترفون بابن عزيز، صالح، كشيخ عليهم عندما يكون هذا قد قرر أخذ شؤون الطريقة الرحمانية ¬

_ (¬1) ديبون وكوبولاني، مرجع سابق، ص 285.

بين يديه، بعد أن أصبح موظفا في الإدارة الفرنسية، ومهما كان الأمر فإن عزيز قد استمر، من جانبه، يمنح بركته عن طريق الإجازات للإخوان، بالمراسلة من جدة ومكة، ومن الذين حصلوا منه على إجازة، الشيخ محمد بن عمارة، وقد جاء في اخرها: من عزيز الحداد (المبعد عن أهله) (¬1). وكان لعزيز أختام يوقع بها، منها واحد يظهر فيه اسمه هكذا (الشيخ عبد العزيز الجزائرلي) بطريقة النسبة التركية للجزائر، وفي هذا الختم تاريخ غير واضح، ولكن من الأكيد أنه بعد هروبه إلى الحجاز، وهناك ختم آخر يظهر فيه اسمه هكذا (الشيخ عزيز بن الشيخ الحداد) محاطا بغصني زيتون. للطريقة الرحمانية عموما سلسلة الحقيقة وسلسلة الشريعة، ولها إجازات، ومصادرها في ذلك هي وصية الشيخ محمد بن عبد الرحمن الأزهري لأتباعه ومصادر الخلوتية، والرحمانية تستمد أيضا من تعاليم الشاذلية، ومن إجازة الشيخ الأزهري لعلي بن عيسى نعرف نموذج الورد الذي كان على هذا التلميذ أن يعطيه لغيره من الإخوان وسائر المسلمين، والورد هو (لا إله إلا الله، الله هو حق حي قيوم قهار) في كل وقت، ولاسيما من عصر يوم الجمعة إلى عصر يوم الخميس، وعليه أن يذكر الصلاة الشاذلية أيضا وهي: اللهم صل وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، من عصر يوم الخميس إلى عصر يوم الجمعة، طاهرا أو غير طاهر، ثم يذكر عبارة اللهم صل وسلم على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم، عدد ثمانين مرة بشرط أن يكون على طهارة، وقد أخذت الطريقة الرحمانية سبعة من أسماء الله الحسنى التسعة والتسعين، وهي: الله هو الحق والحي والقيوم والعلام والقهار. وسلسلة الطريقة هي من المقدم إلى شيخه إلى الأزهري إلى الحفناوي الخلوتي، إلى بقية السلسلة التي تصل إلى الملك جبرائيل عن طريق الإمام ¬

_ (¬1) نفس المصدر، ص 385، والإجازة بدون تاريخ ولا مكان، ولا يوجد نصها العربي، وإنما الترجمة الفرنسية فقط، وقام بها الضابط جان ميرانت.

علي ومحمد (صلى الله عليه وسلم). وتبدأ هكذا: لقن رب العزة جبريل عليه السلام، وهو لقن النبي (صلى الله عليه وسلم). وهو لقن علي بن أبي طالب، إلى أن تصل إلى الحفناوي الخلوتي الذي لقن محمد بن عبد الرحمن الأزهري وتسمى أيضا الإجازة، وهي تلتقي مع السلسلة الشاذلية في عدة شيوخ. وطريقة تلقين الورد موجودة في عدة مصادر، مثل وصية الشيخ الأزهري نفسه، وكذلك إجازة الشيخ علي بن عثمان إلى بعض الأتباع، وهي تبدأ هكذا: أما بعد فإني أذنت وأجزت إجازة تامة شاملة الحامل المنور الصالح العامل الحاذق الأديب العارف بربه، ولدنا قلبا لا صلبا، سيدي (فلان) أن يعطي أوراد طريقتنا الخلوتية المتصل سندها إلى خير البرية، صلى الله عليه وسلم، وصفة التلقين هي أن يمسك إبهام يمين الطالب ويقول له: (غمض عينيك واسمع إلي وتبعني: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، باسم الله الرحمن الرحيم، أستغفر الله، تبنا لله ولرسوله، اللهم يا رب اغفر لنا ما مضى وأصلح لنا ما بقي، ثم تقول: اسكت، وتقول وحدك: لا إله إلا الله ثلاثا، ثم يقولها ثلاثا، ثم تأخذ الفاتحة لكما وللنبي والشيخ المربي، ثم تأمره بطاعة الله ورسوله، ويذكر بعد صلاة الصبح ثلاثمائة مرة لا إله إلا الله، وإن زدتم فحسن، ومن عصر يوم الخميس إلى عصر يوم الجمعة الصلاة الشاذلية، وهي اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، ما يسر الله، وبعد عصر يوم الجمعة أختم بالأمي، وهي اللهم صل وسلم على سيدنا محمد النبي الأمي، وعلى آله وصحبه وسلم، ثمانين مرة، يغفر الله لقائلها ذنب ثمانين سنة). واستمرت الإجازة توصي الإخوان بقول الشيخ علي بن عثمان (ومن أخذ منه كأنما أخذ مني، وعليكم بطاعته، ومداومة الحضرة صباحا ومساء مجتمعين ليحصل المدد النبوي منه، صلى الله عليه وسلم، وعليكم بمخاوات (مؤاخاة) بعضكم بعضا، وعليكم أيضا بالصبر والتسليم لخلق الله، وتعاونوا على البر والتقوى، وجدوا واجتهدوا في ذكركم لتدخلوا في حزب الطريقة المنورة، فإن من دخلها دخل في حزب وضمانة المصطفى، صلى الله عليه وسلم، ومن دخلها كمن دخل سفينة نوح، وكمن دخل مقام إبراهيم، قال

رسول الله (صلى الله عليه وسلم): (طريقتك هذه كسفينة نوح من دخلها نجا ومقام إبراهيم من دخله كان آمنا، وبشارة المصطفى للمشائخ جيلا بعد جيل، ولم تنقطع إلى الآن، وهو زمن التاريخ) (¬1). وقد أطلنا في إيراد هذه الإجازة لأنها شاملة وواضخة، وهي تعطي صفة التلقين، وأصل السلسلة الصوفية، وتبين العلاقة بين ورد الرحمانية والخلوتية والشاذلية، ورأينا كيف تنص على الصبر والتعاون و (التسليم لخلق الله) الذي فهم منه عدم التدخل في السياسة والخصومات، كما تذكر عدد مرات الذكر وتحدد أوقاته، ثم تترك المجال للمزيد بقولها: (ما تيسر، أو وإن زدتم فحسن). والعبارات التي تشير إلى أن الطريقة كسفينة نوح موجودة في إجازات الشيخ الأزهري ووصاياه أيضا، وله رؤية يخبر فيها أنه رأى الرسول (صلى الله عليه وسلم) فأخبره أن طريقه كسفينة نوح، وقد لخصها الشيخ الأزهري في العبارات الآتية: سيكون ناجيا من النار كل من اتبع طريقتي، أحب طريقتي أو أحبني، زارني حيا أو وقف على قبرى، قرأ ذكري (¬2). لذلك يجتمع أتباع الرحمانية في زواياهم ويرددون الذكر ويطبقون وصية الشيخ الأزهري، يجتمعون من عصر الخميس إلى عصر الجمعة، ويذكرون بأصوات عالية، ويمكنهم الدخول والخروج بشرط أن يبقى جماعة منهم تواصل الذكر والأدعية والصلوات، وهناك زوايا ينقسم فيها الإخوان إلى أفواج حسب ساعات منتظمة لمواصلة الذكر، حتى لا ينقطع اسم الله من ¬

_ (¬1) وهو 28 جمادي الأولى، 1302 (1884). في ديبون وكوبولاني، مرجع سابق، ص 401، ويوجد النص العربي والفرنسي لهذه الإجازة، انظر أيضا الحفناوي (تعريف) مرجع سابق، 2/ 457، وكذلك رين، مرجع سابق، ص 469. (¬2) رين، مرجع سابق، ص 466، بعض الإجازات الصادرة من الفروع قد تختلف قليلا في عدد مرات الذكر أو بإضافة عبارة أو التركيز على أخرى، ولكن الأصل واحد والممارسات واحدة، انظر مثلا الإجازة التي ذكرها ديبون وكوبولاني، ص 399، والمنسوبة إلى الشيخ مصطفى بن عزوز شيخ زاوية نفطة، وتاريخها هو 16 ربيع (؟) 1278 (21 سبتمبر، 1861) أي أربع سنوات قبل وفاته.

مسجد الزاوية، ومن ممارساتهم أثناء ذلك قراءة مرايا الشيخ محمد بن عبد الرحمن الأزهري، ولكن الوصية مقروءة أكثر من المرايا عند الإخوان، وتبدأ الوصيه هكذا: اسمع مني وصيتي إليك، واعمل بها كما ألزمت نفسك عهد الله وميثاقه، أن تتقي الله في سائر أحوالك، وتخلص في جميع أعمالك، الخ (¬1). أما الإجازة والسلسلة في الشريعة عند الرحمانيين فتبدأ هكذا: بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، والصلاة على سيد المرسلين، ثم تذكر الإجازة، كما رأينا في إجازة البوجليلي لتلميذه في العلوم التي درسها عليه، وخلافا لبعض الطرق الصوفية، فإن الرحمانية تعمل على نشر العلم وتعتبره من مهماتها إلى جانب نشر الطريقة، ذلك أن الشيخ الأزهري لم يكتف بتأسيس الطريقة والزاوية وإنما بث المعارف من فقه وتوحيد وتفسير ولغة، لذلك أصبح التعليم عندهم جزءا عاما من مهمات المقدمين الذين كانوا عادة من بين المتعلمين، وتشهد إجازاتهم على أنهم يعملون بالعلم الظاهري أو الشريعة بالإضافة إلى العلم الباطني أو الحقيقة والطريقة، وقد رأينا كيف نشأت معاهد ومدارس في ظل الزوايا الرحمانية ومكتبات وحلقات درس في وقت كادت فيه شمس العلم أن تغرب خلال العهد الفرنسي. وإحصاء أتباع الطريقة الرحمانية من الصعب إدراكه بدقة، والذين حاولوا ذلك توقفوا في عدة نقاط، فالذين أحصوا الرجال لم يستطيعوا عد النساء، والذي أحصوا إخوان الشمال لم يستطيعوا إحصاء إخوان الجنوب، كما أنهم لاحظوا أن تفرق الزوايا والمقدمين بعد الضربات التي تلقتها الطريقة جعل الإخوان ينضمون إلى هذه الزاوية أو تلك دون عراقيل، ولذلك صعب إحصاء عددهم، كما قلنا، وعند نهاية القرن الماضي بلغوا أكثر من مائة وستين ألف تابع، فلو كان لهذا العدد رأس واحد (شيخ واحد) - كما هو تقليد الطرق، لأصبح على الفرنسيين أن يواجهوا حزبا دينيا يقض مضاجعهم ¬

_ (¬1) الحفناوي، مرجع سابق، 2/ 457.

ويهدد وجودهم، ولذلك كانوا يتواصون بالحذر من الرحمانيين ومراقبتهم، كما سنرى. يثبت إحصاء سنة 1882 أن عدد الإخوان الرحمانيين بلغ 96، 161 من الرجال فقط، أما المقدمون فهم 754، وأما عدد الزوايا عندئذ فهو 220 (¬1). وقد جاء في إحصاء 1897 أن العدد قد بلغ 160 ألفا في مجموع الزوايا التي درست، ومعنى ذلك أن هناك مناطق ظلية لم تدرس وهناك إخوان لم يدخلوا بعد في العدد، وقد حمد الله صاحب هذا المصدر على أنه لم يكن لهؤلاء الرحمانيين قوة محركة واحدة (يقصد شيخا أو زاوية واحدة) وإلا لكان على فرنسا أن تنسج كفنها بسرعة، وقد تنبأ بأن الرحمانية ستتلاشى مع الأيام وتنتهي عاجلا أو آجلا بالاختفاء من مسرح الحياة (¬2). وقد أعطى هنري قارو الذي درس الحركة الإسلامية في أوائل هذا القرن، إحصاء آخر للطريقة الرحمانية سنة 1906. فكان مجموع الإخوان الرحمانيين، بناء على رأيه هو 133، من بينهم أكثر من 13000 من النساء، وهذا هو جدول الأتباع والزوايا بناء على إحصاء قارو: وادي العثمانية ... 40، 000 إخواني ... 40 زاوية آقبو ... 9، 000 إخواني ... 42 زاوية قسنطينة ... 10، 000 إخواني ... 8 زوايا طولقة ... 16، 000 إخواني ... 17 زاوية الهامل (بوسعادة) ... 43، 000 إخواني ... 29 زاوية أحمر خدو (الأوراس) ... 2، 000 إخواني ... 3 زوايا نفطة (تونس) ... 13، 000 إخواني ... 15 زاوية ¬

_ (¬1) رين، مرجع سابق، ص 479 - 480. (¬2) ديبون وكوبولاني، مرجع سابق، ص 412 - 413، كان الكاتبان يبالغان في عدد الرحمانيين لإثارة الانتباه إلى خطورتهم على الأمن العام وعلى الأوروبيين في الجزائر.

ونلاحظ أنه لم يذكر فرع وادي سوف (زاوية سيدي سالم). وذكر فرع نفطة رغم أنه في تونس ربما لكثرة أتباع هذا الفرع في الجزائر ولأصوله الجزائرية، كما لم يذكر فروعا رحمانية أخرى مثل الخنقة وخيران (¬1). وقبل أن نطوي صفحة الحديث عن الرحمانية نذكر أن بعضهم يقول إنها كانت وراء انتفاضة عين التركي سنة 1901 التي وقعت بالقرب من مليانة والتي قادها الشيخ يعقوب (المرابط الرحماني) ضد المسيحيين في الناحية، محاولا إجبارهم على اعتناق الإسلام، حسب رواية هذا المصدر، وقد أعد الشيخ العدة للهجوم على المراكز الأوروبية قبل إعلان الجهاد (¬2). وأضاف هذا المصدر (هنري قارو) أن انتفاضة الشيخ عمر (عمار؟) بن عثمان التي حدثت سنة 1906، في أعقاب انتفاضة الشيخ يعقوب المذكورة كانت أيضا رحمانية، وقد وقعت في القصرين Kasserine (؟). وهيج هذا الشيخ المسلمين باسم الجهاد وهاجم الأوروبيين الذين رفضوا اعتناق الإسلام، بل ذهب هذا المصدر إلى القول بأن الشريف بوبغلة زعيم ثورة 1851 - 1854، كان مقدما رحمانيا، وهكذا كان بعض الباحثين الفرنسيين (يتخيلون) أشباح الإخوان الرحمانيين وهي تطاردهم في كل حدث يقع ضدهم. نعم هكذا كانوا يتخيلونها، فهذا ديبون وكوبولاني يقولان (¬3) إن الرحمانية انتشرت بسرعة عبر الجزائر في أقل من قرن، وإنه يمكن مقارنتها بكنيسة (كذا) وطنية مقسمة إلى أكثر من عشرين فرعا بقساوستها (كذا) وكهنتها ومسؤوليها، ولكنها كنيسة بدون وحدة إدارية (بدون بابا). فهي ممزقة، وان ممثليها يتنافسون فيما بينهم تبعا للمصالح الداخلية، وهم يديرون زواياهم باستقلال، ويجلبون الأتباع لأنفسهم، ولهم مقدمون نشطون ¬

_ (¬1) هنري قارو، مرجع سابق، ص 171. (¬2) نفس المصدر، 187، انظر عن انتفاضة عين التركي، كتابنا الحركة الوطنية الجزائر، ج 2/ ط، 5. (¬3) ص 412 - 413.

يسكنون المدن ومتمردون عن مراكزهم وزواياهم، لقد كانت الرحمانية طريقة دينية (صوفية؟) وتحولت إلى جمعية سياسية (حزب). حيث العلاقات مندمجة مع المصالح المادية أو الزمنية، لقد انتهى تأثير الشيوخ الكبار أو سينتهي لكن كل مقدم بقي غيورا على الإجازة التي يملكها والتي بها يجلب الإخوان ويعطي العهد ويتقبل الهدايا من الزوار، وما يزال الذكر مشتركا بين الرحمانيين والممارسات واحدة، وهم (يحسون) بوجود بعضهم البعض. وقبل ذلك كان رين قد أبدى ملاحظات مشابهة حول تطور الطريقة الرحمانية، فمقدموها يسميهم (الخليفة) بطلب من الإخوان وباقتراحهم، وكل خليفة له ختم يختم به على الإجازة وعليه تاريخ توليته، وتضم الطريقة عددا كبيرا من النساء أيضا وفيهن بعض المقدمات، وقد تداخل الرحمانيون بنشاط في مختلف الثورات ضد الفرنسيين، ولكنهم لم يكونوا دائما هم المثورين المباشرين بل كانوا أحيانا مجرد عملاء نشطين لزعماء آخرين، يتنقلون بين الثوار ويحمسونهم للجهاد، ويذهب رين الذي كان يكتب سنة 1884 أن فرعين من الرحمانية بقيا موالين للسلطات الفرنسية، وهما فرع طولقة وفرع أولاد جلال، وموقف هذا الفرع تبناه أيضا شرفة الهامل، وكان ذلك هو موقف الشيخ الحداد أيضا بين سنوات 1857 و 1871، لقد كشف (رين) عن ممارسة غير غريبة على السلطات الفرنسية عندئذة وهي استخدام الطرق الصوفية ضد بعضها البعض، وذلك في قوله إن فروع الرحمانية في الجنوب توجد وسط مناطق ينتشر فيها أيضا أتباع الطريقة التجانية، وهم يتساوون معهم أو يتفوقون عليهم من حيث العدد، وذكر أن أتباع التجانية يقومون بمراقبة الرحمانيين لأنهم خصومهم، ولأن التجانية، في نظر رين طريقة مهدئة لا غبار عليها (¬1). وردد هنري قارو نفس الرأي تقريبا إذ قال سنة 1906 إن الزوايا الرحمانية المستقلة في نفطة وطولقة والهامل قد اتبعت ¬

_ (¬1) رين، مرجع سابق، ص 474.

إشارة الطريقة التجانية بأن الساعة لم تحن بعد لطرد الرومي (الفرنسي) (¬1). ولكن (رين) حذر قومه قائلا: إذا كنا اليوم نعتمد على فروع الرحمانية في الجنوب فقد يكون ذلك غير ممكن غدا، ذلك أن المقدمين الرحمانيين في الصحراء وفي التل يعيشون متحررين من الالتزام، وإذا لم يكن هناك زعيم صف (حزب) سياسي قدير على جميع الزيارات وتبديل العلاقات، فإن بإمكانهم حينئذ أن ينضموا لهذا أو ذاك، دون حرج، كما حذر من العلاقات (الخارجية) التي للرحمانية مع الشاذلية والسنوسية والخلوتية، وهي العلاقات التي لا يمكن لفرنسا مراقبتها دائما وبدقة. إن الرحمانية كانت منتشرة أيضا في مناطق شرقية أخرى غير الجنوب. وقد دلت البحوث الفرنسية على انتشارها في نواحي تبسة وخنشلة ومسكيانة وسوق أهراس والعين البيضاء، وكانت زاوية نفطة العزوزية هي الأكثر نشاطا في تلك النواحي، ومنذ احتلال تونس 1881 تغير نشاط هذه الزاوية لأن الفرنسيين تدخلوا في شؤونها وراقبوها، كما أنهم أحدثوا الشقاق بينها وبين زاوية طولقة من جهة وبينها وبين الزاوية التجانية من جهة أخرى، وقد وجد (أوغست كور) لذي درس الزوايا والأتباع في النواحي المذكورة حوالي 1914 أن الرحمانية وحدها كانت تضم أكثر من نصف عدد السكان، والتجانية أكثر من الربع، والقادرية أكثر من العشر، غير أنه لاحظ أن التأثير الحقيقي ليس بالعدد ولكن بنفوذ المقدمين، وكان أكثر هؤلاء المقدمين من فروع الرحمانية بتونس (نفطة وتمغزة). أو من طرابلس بالنسبة لبعض الطرف الأخرى كالمدنية، وهكذا لم يبق لتأثير الطرق الجزائرية، حسب تعبيره، سوى النصف (¬2). ¬

_ (¬1) قارو، مرجع سابق، ص 171. (¬2) كور (بحوث في الطرق الصوفية بنواحي الشرق الجزائري) في (المجلة الإفريقية) 1921، ص 298 وهنا وهناك، المقال مكتوب سنة 1914 ولم ينشر بسبب الحرب، وتوقف المجلة.

وهناك فرع للرحمانية نشأ في سوق أهراس على يد الشيخ الكامل بن المكي بن عزوز، ولا نريد أن نطيل في الحديث عنه رغم أنه قد يكشف عن خلفيات هامة في علاقات التصوف بالسياسة وعلاقات الجزائر بالمشرق، والشيخ الكامل هو حفيد الشيخ مصطفى بن عزوز الذي هاجر إلى نفطة بعد احتلال بسكرة 1844، كما سبق، وكان للشيخ مصطفى عدد من الأبناء، هم: الحفناوي الذي خلفه على زاوية نفطة، ومحمد الذي أسس زاوية بالقيروان، ومبروك الذي أسس زاوية بالأغواط وتوفي فيها سنة 1888، والمكي الذي اشتهر بالعلم والهجرة إلى المشرق والعمل في نطاق الجامعة الإسلامية، وأحدث الفرنسيون، بعد احتلال تونس تنافسا بين زاويتي طولقة ونفطة أو بين الحفناوي المذكور والحسين أخ علي بن عثمان شيخ زاوية طولقة، فقد اتهم الحسين معاصره الحفناوي بانه معاد لفرنسا، كما تقول الوثائق الفرنسية، وانتهى الخلاف بينهما إلى الانفصال، وهو ما كان يعمل له الفرنسيون، ولكن بعض زعماء الطرق الصوفية عندئذ كانوا غافلين. بقيت الخصومة بين الفرعين: طولقة ونفطة حتى بعد اختفاء الحسين والحفناوي، فقد ذهب البليدي بن الحسين إلى توزر لتأسيس زاوية منافسة للعزو زية، وبعد وفاة الحفناوي خلفه ابنه محمد الأزهاري الذي وجد صعوبة في المحافظة على رصيد الزاوية الذي كان لها في عهد جده مصطفى (¬1). وكان الشيخ المكي قد تزوج من نواحي بوسعادة وأنجب ولده الكامل في الجزائر التي كان يتردد عليها من تونس، ويقول (كور) إن الكامل ولد في برج طولقة، وعلمه والده إلى أن تخرج مثله من جامع الزيتونة، ولكنه لم يهاجر معه إلى المشرق، فقد رجع الكامل إلى الجزائر وحاول نشر الرحمانية دون التدخل في السياسة، سكن العين البيضاء وحصل على أرض هناك ¬

_ (¬1) من الغريب أن مبروك بن محمد بن عزوز تمرد، كما قالوا، على تقاليد أبيه وأخوته وعمل عينا للفرنسيين على إخوته، بمن فيهم مصطفى بن عزوز، انظر كلنسي - سميث (ثائر وقديس). مرجع سابق.

بالكراء حوالي سنة 1905، وكانت الطرق الفاعلة هناك هي الرحمانية التابعة لزاوية نفطة ثم الطريقة التجانية، ووسط خلافات عائلية (عائلة ابن بوزيد وعائلة سي عون) وخلافات المخازنية والمرابطين وتدخلات الإدارة، أخذ الكامل ينشر طريقته، وقد قيل إن الإمام الرسمي للجامع قد تركه يخطب بدله في الناس مما جعل الإدارة تتحرك ضده (الكامل) وتجبره على مغادرة العين البيضاء سنة 1907، فذهب إلى العاصمة، ثم رخصوا له في الذهاب إلى سوق أهراس حيث كان جده من جهة الأم يشتغل بالقضاء في ناحية مجردة، واشترى الشيخ الكامل مزرعة هناك وكثر مقدموه وأتباعه نظرأ لسمعة جده مصطفى وكذلك سمعة والده (المكي). وكانت المزرعة ملكا لأحد الكولون، ولكن الكامل حولها إلى زاوية. وعند إعلان الحرب العالمية (1914) طلب الشيخ الكامل، كما قال كور، من أتباعه تأييد فرنسا (¬1). وحاول الفرنسيون أن يستعملوا نفوذه أيضا ضد زاوية طولقة وزاوية الخنقة، ويذكر (كور) أن الكامل كان تحت (المراقبة الشديدة) من قبل الفرنسيين وأنه نشط نشاطا خاصا أثناء حرب طرابلس ضد الإيطاليين وجمع التبرعات للمجاهدين (¬2). ولا ندري الآن كيف انتهت زاوية سوق أهراس. وشخصية صالح خاوة من النوع (الميلودراما) في العلاقات بين رجال الدين والدنيا والفرنسيين، وقصته طويلة وتعبر عن ظلال كثيفة لا يمكن رؤية ما خلفها بسهولة في الوقت الراهن، ونحن لا نهتم هنا إلا بالجانب الديني - الرحمانية - والإدارة، وصالح هو ابن يوسف بن عبيد، كان جده عبيد قاضيا في عنابة في العهد الفرنسي، وكذلك تولى أبوه يوسف القضاء في بوحجر، حيث ولد صالح حوالي 1856، والعائلة من دوار المريج ببلدية مرسط، وأصلهم من قبيلة الهمامة القاطنة تونس في أغلبها، ويبدو أن صالح كان ¬

_ (¬1) لم نجد نداءه ضمن العدد الخاص من (مجلة العالم الإسلامي). R.M.M، وهو العدد الذي ضم نداءات ونصائح ووصايا زعماء الطرق الصوفية. (¬2) كور (بحوث ...) مرجع سابق، ص 319 - 325.

طموحا ونشطا ولكنه وجد عراقيل إدارية وتواطؤا محليا، فلجأ إلى المغامرة ومواجهة الأمر الواقع بدون عدة، وصفه كور بأنه رجل وسيم الطلعة، له صوت طليق، وحديث جذاب، وكان صوته مسموعا على بعد، وعيناه نافذتان، وكان فخورا بنفسه لدرجة الادعاء والغرور، حسب تعبير كور. أمام العراقيل الإدارية، حصل صالح خاوة على إجازة من مقدم الرحمانية في زاوية الكرشة، قرب عين مليلة، وهو الشيخ أحمد الشريف، وأصبح مقدما رحمانيا، وكان الشيخ أحمد الشريف تابعا لزاوية باش تارزي في قسنطينة، وكان الشيخ صالح يتصرف باستقلال فيعطي بدوره الإجازات لمن يقومون بالدعاية له، كما كان، حسب كور، يقوم بالتطبيب ويمارس السحر، فجاءته الزيارات (المالية) بكثرة، وكانت له أرض غرسها أشجارا، واستولى على منبع الماء هناك (دوار عين الملاحة). وحين أرادت السلطات أخذ الضرائب منه رفض وادعى أنه على أرض تونسية، وتقول السلطات الفرنسية إن رفضه كان قاطعا وخشنا وأمام الأهالي الذين أراد أن يستثيرهم ضد هذه السلطات، ومن ثمة يفهم أن الإدارة كانت تخشاه وتتهمه بالاستفزاز ضدها وتهديد الأوضاع عامة، ولذلك سجنوه دون محاكمة كما تدل الرواية التي ساقها كور، وكان المتصرفون الإداريون يفعلون ما يريدون بالأهالي، حسب قانون (الأندجينا) المعروف. واستنجد خاوة بالنائب البان روزي، الذي عرف عنه الاهتمام بشؤون الجزائر والتردد عليها لمعرفة ما يجري فيها، ووصلت شكوى صالح خاوة ضد حاكم مرسط إلى أسماع جورج كليمنصو، رئيس الوزراء، وجرى التحقيق سنة 1910، ولكنه لم يسفر على إنصاف خاوة بل الاستمرار في سجنه، فباع أرضه إلى أحد الأوروبيين واشترى أرضا أخرى في تونس وطلب رخصة بالإقامة فيها فلم يرخص له، بل أنه حمل إلى سجن تقرت حيث ساءت صحته. وظل يحتج على سوء المعاملة والظلم طالبا إذن الإقامة على ملكه في تونس، وحين نشبت الحرب العالمية كان ما يزال سجينا، ونظرا لسوء صحته أطلقوا سراحه ومات في تآجرونة قرب الكاف سنة 1919، وهكذا اختفى رجل لا

نعرف التهم التي كانت ضده بالضبط، فهل كانوا يخشون من رحمانيته أو عدائه الواضح للإداريين المحليين؟ هذا مع اعتراف الفرنسيين أن جده وأباه قد خدماهم في نطاق القضاء (¬1). ولكن الحرب العالمية الأولى وجدت الرحمانية مستعدة كغيرها للإعلان عن تأييد فرنسا ضد تركيا وألمانيا، والزوايا الثلاث التي أعلنت رأيها كلها (جنوبية) حسب تعبير الفرنسيين، وهي زاوية الهامل وزاوية طولقة وزاوية أولاد جلال، ولا ندري لماذا لم نجد اسم زاوية وادي العثمانية التي أخذ شيخها ابن الحملاوي بركة الشيخ الحداد، كذلك لا نجد اسم زاوية باش تارزي في قسنطينة التي كانت (الأم) لعدد من زوايا الجنوب في وقت سابق. فقد وجه شيخ زاوية طولقة عندئذ عمر بن علي بن عثمان، نداء إلى إخوانه الرحمانيين والمسلمين عامة قائلا إن بين زاويته والدولة الفرنسية علاقات وثقى (حتى صرنا معها (الدولة الفرنسية) كالأصابع الملتصقة بالراحة، فنحن وإياها ذات واحدة (وهذا تعبير صوفي بدون شك) وما يصيب أحد الطرفين يؤلم الآخر). وبعد هذه اللغة الصوفية - السياسية، وصف الشيخ عمر موقف تركيا بأنه مخز، ووصف ألمانيا بالتوحش، وقد تنبأ بسقوط الخلافة التي اغتصبها الأتراك، وأورد الشيخ عمر رؤيا غريبة حول الحرب وانضمام تركيا إلى معسكر الظالمين، كما قال، وبذلك تخرج الخلافة من يدها لأنها اغتصبتها اغتصابا، كما تنبأ بانتصار فرنسا، وأخبر أتباعه بأنه يدعو (لدولتنا الجمهورية العزيزة بالنصر آناء الليل وأطراف النهار) (¬2) ويذكرنا موقف زعماء الطرق الصوفية سنة 1914 بموقف زعيم حزب الشعب، مصالي الحاج، من فرنسا سنة 1939، فهو وإن لم يدع بالنصر لها لأنه كان ¬

_ (¬1) كور (بحوث ...) مرجع سابق، ص 121 - 123. (¬2) مجلة العالم الإسلامي، R.M.M (ديسمبر 1914). ص 222، مما يذكر أن الحاكم العام الجديد للجزائر، وهو شارل لوطو، قد زار زاوية طولقة سنة 1913، وقيل إن الشيخ عمر بن عثمان قد احتفى به، انظر (التقويم الجزائري) للشيخ كحول، سنة 1913، وقد تضمن هذا العدد صورة الحدث.

سجينا عندها، فإنه رفض الخروج عنها والانضمام إلى أعدائها في الحرب قائلا ما معناه إن استعمارا تعرفه خير من استعمار لا تعرفه. وأعلنت زاويتا الهامل وأولاد جلال تأييدهما لفرنسا أيضا على لسان شيخيهما: المختار بن الحاج محمد بن بلقاسم الهاملي ومحمد الصغير بن المختار الجلالي، فقد هنا الأول أتباعه على إعانتهم لفرنسا، وأظهر لؤم الأتراك الذين لم يعترفوا بجميل الدولة الفرنسية التي طالما أعانتهم في البلقان، والغريب أن هذا الشيخ أعلن أن الجزائريين مدينون لفرنسا (كما هو مقرر في الأذهان) لأنها قدمت لهم أفضالا لا تحصى، (فهذه مدة تقرب من قرن ونحن بفضلها رقود في مهد العافية والأمن) قال ذلك ليقارن بين العهد الفرنسي وعهد الأتراك الذي تحدث عنه الآباء عن الأجداد بأنه كان عهد فضائح، وعلى الجزائريين أن ينتظروا أكثر مما مضى من أفضال (دولتنا الفخيمة) (¬1). أما الشيخ محمد الصغير الجلالي فقد اختصر كلامه وإن كان يصب في نفس المعنى، فحكم بخطأ تركيا في إعلان الحرب على فرنسا، وكونها واقعة تحت النفوذ الألماني ولا تملك لنفسها نفعا ولا ضرا، وكون ألمانيا دولة متوحشة وفرنسا دولة قدمت في الماضي المساعدات إلى تركيا، أما العلاقات الدينية مع الأتراك فلم تعد الآن قائمة بينهم وبين الجزائريين لأن حكام تركيا عندئذ غير متدينين، وأضاف أن الجزائريين عرب والأتراك عجم، ودعا كغيره الجزائريين إلى الوقوف إلى جانب فرنسا التي أحسنت إليهم، والاستعداد للدفاع عنها بكل الوسائل (¬2). ويبدو أن نداءات ونصائح هذه الزوايا لم تثمر، فإن منطقة الأوراس قد انتفضت سنة 1916، وشملت الانتفاضة مناطق هذه الزوايا، وظلت المنطقة محاصرة ومعزولة طيلة أمد الحرب، وبذلك أظهر الجزائريون أنهم غير ¬

_ (¬1) مجلة العالم الإسلامي، مرجع سابق، ص 216 - 218. (¬2) نفس المصدر، ص 226، ذكرت بعض التقارير الفرنسية أن زاوية مولى القرقور في بلازمة قد لعبت دورا (متوازنا) أثناء ثورة 1916 في الأوراس، انظر أرشيف 89 H 10 بايكس (فرنسا).

مستعدين للدفاع عن فرنسا ولا للاعتراف بجميلها وأفضالها كما أراد بعض الشيوخ، كما أن شيخ زاوية سيدي منصور في بني جناد بزواوة، وهو أحمد بن محمد الداودي، قد وجه نداء إلى أتباعه والمسلمين كافة لمساندة فرنسا والوقوف ضد ألمانيا، ولم يتعرض للأتراك، وقال عن فرنسا إنها احترمت العادات والتقاليد (ونحن في خير وعافية وبسط ورغد عيشة وافية). وإنها فعلت مع الجزائريين ما تفعله الأم بأولادها (¬1). لقد مرت الطريقة الرحمانية، كغيرها من الطرق، بمراحل وهزات. وكان عليها أن تتأقلم مع الظروف الجديدة، ومنها الانقسام المراد لجميع الطرق والتشتت، ومنها الضعف العام والتنافس مع بعضها ومع بعض الطرق الأخرى، تنافسا ذاتيا أحيانا أو محركا من قبل السلطات الفرنسية أحيانا أخرى، وقد لعبت هذه السلطات أوراق الطرق القادرية والتجانية والطيبية والرحمانية لصالحها، وحتى الشيخية والسنوسية، وذلك بالدس والتحريض، والترفيع والتخفيض، والتحريش والتهويش، وكان المشائخ أحيانا أدوات طيعة، والأتباع الجهلة مطايا ذليلة، فكان المستفيد الوحيد من ذلك هو الاستعمار الفرنسي أولا وأخيرا، وكان الخاسر هو الدين الإسلامي الذي تزعم تلك الطرق أنها تدافع عنه وتتولاه، ومهما كان الأمر فإن لكل طريقة سجلها الفخري أو غير الفخري في خدمة الدين والبلاد أو خدمة الإدارة الفرنسية. وستتضح السجلات بشكل أكثر وضوحا عند دراستنا لبقية الطرق الصوفية. ¬

_ (¬1) مجلة العالم الإسلامي، مرجع سابق، ص 262، والشيخ أحمد قد يكون هو أحمد بن محمد السعيد البويوسفي.

شجرة الطريقة الرحمانية (*) [صورة]

_ (*) المصدر: ديبون وكوبولاني، مرجع سابق، ص 384، ولم يذكر هذا المصدر عزيز الحداد، ولا مقدمي الرحمانية المستقلين، وتاريخ الحاج بشير يصل إلى 1843. لكن في المصدر 1837، وهو خطأ، وتواريخ بقية الخلفاء والمقدمين غير مذكورة. وقد أخذ البوجليلي مباشرة عن الشيخ الحداد وليس عن ابن الحملاوي. (1) أخذ مصطفى بن عزوز عن عبد الحفيظ أيضا،

الفصل الثاني الطرق الصوفية (2)

الفصل الثاني الطرق الصوفية (2)

الطريقة التجانية

الطريقة التجانية أ - عموميات: تعرضنا لتأسيس الطريقة التجانية في الجزء الأول من هذا الكتاب، وتناولنا حياة الشيخ أحمد التجاني إلى أن وافاه الأجل في فاس بالمغرب الأقصى سنة 1814 (1230). وكانت عندئذ تعوزنا بعض المصادر الأساسية للطريقة، ولا نريد اليوم أن ندرس حياة الشيخ من جديد، ولكن نريد أن نذكر بعض المصادر التي يرجع إليها تقريبا كل دارس لهذه الطريقة، أولها الكتاب المعروف بالكناش، وهو الأم لكل الكتب التي جاءت بعده، وسنرجع إلى تناوله، ثم كتاب (جواهر المعاني) للحاج علي حرازم، وكتاب (الجامع) لمحمد بن المشري، و (الرماح) لعمار الغوثي السوداني، و (الياقوتة) لمحمد بن العربي، و (كشف الحجاب) لأحمد سكيرج، و (الإفادة الأحمدية) للطيب السفياني، إضافة إلى كتاب (أضواء) الذي ألفه عبد الباقي بن أحمد مفتاح، وما يزال مخطوطا (¬1). ¬

_ (¬1) اطلعنا عليه لإبداء الرأي فيه، وهو مجهود ضخم وفيه معلومات مفيدة، ولكن بعضها يحتاج إلى توثيق كالقول إن محمد الصغير التجاني قد ساعد الأمير عبد القادر في حربه، أو أن أحمد بن محمد الصغير كان يخطط لثورة ضد فرنسا قبل أخذه إلى بوردو وزواجه من أوريلي، الخ، ولكن الفصل الذي تضمن حياة الشيخ أحمد التجاني (المؤسس) واف، وهو الثامن في الكتاب، فقد ضمنه أبرز مراحل حياته من ولادته 1150 إلى وفاته 1230، دراسته، وحجه وأخذه الطريقة، وتدريسه، وتنقلاته بين تلمسان وعين ماضي، ثم هجرته إلى المغرب الأقصى. ونلاحظ من جهة أخرى أن ترجمة الشيخ التجاني كلها تقريبا جاءت من قبل =

وقد تناول الأجانب أيضا الطريقة التجانية مثل دو فيرييه ورين وديبون وكوبولاني، كما صدرت ردود عليها متهمة إياها بالانحراف الديني والصوفي وبالزندقة وحتى بالكفر، بالإضافة إلى دراسات جامعية عن دور هذه الطريقة في السينيغال وغرب إفريقية، وهكذا ترى أنه ليس من السهل دراسة التجانية لأنها ليست طريقة ساكنة مت عبد، مثل بعض الطرق الروحية المجردة، وليست من الطرق المتحركة التي تواجه الانتصارات والهزائم، ولكنها من الطرق الساكنة والمتحركة في نفس الوقت والعاملة ضمن مساحة جغرافية عريضة، يهمنا منها نحن هنا مساحة الجزائر فقط. ونحب أن نبين نقطتين قبل المضي في الحديث عن التجانية وتطوراتها، الأولى صوفية، والثانية عسكرية، ونعني بالنقطة الصوفية أن الشيخ المؤسس قد أخذ عدة طرق قبل أن يستقل بطريقته، فقد أخذ القادرية عن مقدمها في فاس الشيخ محمد بن حسن، والطيبية عن مؤسسها مولاي الطيب نفسه، والرحمانية عن مؤسسها أيضا الشيخ محمد بن عبد الرحمن الأزهري في آيت إسماعيل، والناصرية عن الشيخ محمد بن عبد الله التزاني، والحبيبية عن المقدم أحمد الحبيب الصديقي، كما أخذ المدنية عن محمد بن عبد الكريم السمان، في المدينة المنورة، والخلوتية عن محمود الكردي العراقي في القاهرة، وأخذ عن شيوخ اخرين طريقتهم مثل أحمد الطواشي بتازة، وعبد الصمد البوجوري بتونس، وأحمد بن عبد الله الهندي بمكة المكرمة، ولعله أخذ أيضا عن شيوخ الشاذلية، ونلاحظ أن بين الرحمانية ¬

_ = تلاميذه في الطريقة وزملائه والمعجبين به، مثل علي حرازم، وقد أخذ عنهم كتاب التراجم اللاحقون سيرته مثل: (الإعلام) لعباس بن إبراهيم، و (شجرة النور) لمحمد مخلوف، و (حلية البشر) للبيطار، و (سلوة الأنفاس) لمحمد جعفر الكتاني، ومن المراجع التي لم نطلع عليها كتاب (تاريخ) أبي الحسن علي بن أبي القاسم الرزقي، مقدم التجانية بتونس العاصمة، وقد اعتنى بجمعه ابنه محمد الطاهر في أوائل القرن الرابع عشر، وهو موجود في زاوية تماسين ومخطوط في عدة مجلدات، ذكره صاحب (أضواء). وترجم له أيضا صاحب (تعريف الخلف). 2/ 38 - 42.

والتجانية سلسلة واحدة تبدأ من الخلوتية عن طريق الشيخ محمود الكردي، وقد ذكرها الشيخ التجاني نفسه، وتبنى هذه السلسلة التي تصله بالإمام علي إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إلى جبريل، مرورا بالحسن البصري وحبيب العجمي وأبي القاسم الجنيد، والحفني المصري، ثم محمود الكردي، ولكن مصادر التجانية تذهب إلى أن الشيخ قد تخلى عن جميع الطرق بعد أن ظهر له الفتح الكبير (رؤية الرسول (صلى الله عليه وسلم)) في بوسمغون، وهو الذي أمره، كما يقولون، بترك جميع الطرق، لأنه هو الذي سيقوده ويتوسط له عند الله ويكون المساعد الاحتياطي له، ومن ثمة أخذ التجاني يعلم أتباعه قواعد طريقة جديدة، ومنها الذكر الخاص بها والذي يقولون إن الرسول (صلى الله عليه وسلم) هو الذي علمه إياه، وقد فرض التجاني على أتباعه شرطا لم يكن موجودا في الطرق الأخرى من قبل وهو عدم الانضمام لأية طريقة أخرى، وإذا فعلوا ذلك فإنه ينالهم الطرد من حضرة الله واللعنة منه، وسنعمد لنوعية الذكر الذي يردده التجانيون. أما النقطة الثانية والتي قلنا إنها عسكرية فترجع إلى علاقة التجانية بالنظام العثماني السياسي وقت انتشارها وإلى حدود سنة 1830، وقد عرفنا أن علاقة هذا النظام بالطرق الصوفية عموما لم تكن على ما يرام في الثلاثين سنة الأخيرة قبل الاحتلال الفرنسي، فقد هاجر أحمد التجاني نفسه إلى المغرب بعد أن أحس بالمضايقات في الجزائر من جانب بايات الغرب، وقد وجد تكريما خاصا من سلطان المغرب، المولى سليمان، وعرفنا أن محمد بن عبد الرحمن الأزهري قد اتهم بالزندقة، ونصب له مجلس لمناظرته على يد المفتي علي بن عبد القادر بن الأمين الأزهري، ثم ترك في حال سبيله، وثارت الطريقة الدرقاوية ثورتها المشهورة في غرب البلاد وحتى في شرقها، حتى قال بعض الباحثين إن اسم (الدرقاوة) كان يعني الثورة والتمرد، كما تعني ربما كلمة (فلاقة) في العهد الفرنسي، واخر ما نشير إليه هو ما تعرض له شيخ القادرية (محيي الدين) وولده عبد القادر على يد الباي حسن بوهران، حين عزما على الحج، ومن ضحايا العثمانيين في هذه الظروف أيضا

الشيخ محمد بلقندوز الذي اغتيل للاشتباه فيه، فأين التجانية من كل ذلك؟، الواقع أن هذه الطريقة كانت مطاردة، حتى بعد وفاة شيخها في المغرب وخلافة الحاج علي الينبوعي له بتماسين، ولم يكن بعين ماضي عندئذ 1826 - 1827 سوى ابني الشيخ التجاني اللذين جاء بهما الحاج علي من فاس (¬1). وهما: محمد الكبير ومحمد الصغير، وقد وقعت عدة أحداث وهجومات بين باي وهران والتجانيين بعين ماضي من جهة وبين باي التيطري وعين ماضي من جهة أخرى، ثم هاجم محمد الكبير التجاني مدينة معسكر وكاد يحتلها لولا أنه قتل خلال ذلك، وكان أخوه محمد الصغير في بوسمغون فلم يحضر هذا المصير، فرجع إلى عين ماضي وأخذ قيادة الطريقة والسياسة، ولكنه كان أميل إلى الهدوء من أخيه، وتحالف مع أحمد بن سالم زعيم أحد الصفوف بالأغواط، ولكن بركة الطريقة الحقيقية كانت في يد الحاج علي بتماسين، ولا ندري موقفه إزاء الهجومات التي قام بها التجانيون ضد بايات وهران، وتقول المصادر الفرنسية إن قيادته الحكيمة للطريقة هي التي فرضت على محمد الكبير (الذي قتل في معسكر) الخط الذي سار عليه هو في الجانب الشرقي من الجزائر وفي تونس، إننا نذكر هذه الأحداث السياسية - العسكرية وعلاقة التجانية بها لنفهم بعد ذلك ما قيل عن رفض انضمام التجانية للمقاومة ضد الفرنسيين من أنه رفض يقوم على أساس مبدئي وهو تفضيل التصوف والسكون على الجهاد والحركة، وقد استغل الفرنسيون هذا الموقف أقصى حدود الاستغلال، رغم أنه لم يكن منسجما مع موقف التجانية من النظام العثماني، ولا مع مواقفها في غرب إفريقية. انتشرت الطريقة التجانية في التل وفي الجنوب عن طريق القوافل التجارية بالخصوص. وكثر مقدموها وأتباعها وزواياها، وأصبحت قوة ينشد ¬

_ (¬1) تذهب المصادر إلى أن أحمد التجاني قد أوصى بولديه (محمد الكبير ومحمد الصغير) إلى محمد بن أحمد التونسي، أما شؤون الزاوية فقد أوصى بها إلى الحاج علي التماسيني، ولكن محمد التونسي توفي بعد قليل من وفاة التجاني، ولذلك جاء الحاج علي إلى المغرب وأخذ الولدين لرعايتهما في الجزائر.

تحالفها الراغبون في التحالف سواء من العناصر الإسلامية أو من الأجانب، كانت القوافل التجارية تعبر شمالا وجنوبا وشرقا وغربا، نحو فاس وتلمسان وتوات والهقار وفوتا والسينيغال، الخ، كلما كثر الأتباع والمقدمون كلما جاءت الزيارات والأمداد والنفوذ، وقد أصبحت عين ماضي وتماسين مركزين ثريين بالمال عن طريق التجارة وعمارة الأسواق، وكانت الزاوية هنا وهناك هي المحرك لهذه الشبكة من القوافل التي تحمل الذهب والعبيد والتبر ومختلف البضائع المتبادلة بين المغرب العربي وإفريقية في ذلك العهد، وهذه الظاهرة لم تكن تخفى على الفرنسيين ولا على الإنكليز ولا حتى الألمان عندئذ، فقد كان الفرنسيون في السينيغال يرقبون تحرك التجانية وارتباطاتها بالأمراء وقوة زواياها، وكانت مخابراتهم في الجزائر وفي السينيغال نشطة في ربط الاتصالات ومنافسة الإنكليز والاستفادة من هذه القوة (الدينية المحلية). ويجب أن نذكر أن هذه هي فترة الحاج عمر في غرب إفريقية، وكان الحاج عمر هذا قد تأثر بالوهابيين، وتحول من القادرية إلى التجانية، وكان يحارب الفرنسيين بدون هوادة إلى أن هلك، وقمعت حركته رغم أن ابنه قد واصل جهاده، فكيف تكون التجانية محاربة لفرنسا في غرب إفريقية وموالية لها في الجزائر؟ وكيف تكون القادرية محاربة لفرنسا في الجزائر بسيف الأمير عبد القادر وساكنة في نواحي شنقيط وتمبكتو وغيرهما على يد أحمد البكاي القادري (¬1)؟ هل هي حالة الإسلام والمسلمين عندئذ كما هي حالة الاسلام والمسلمين اليوم بدون منطق ولا رابطة ولا رأس؟. هز الاحتلال الفرنسي الجزائر كلها ولكن ليس في وقت واحد، لقد أسقط الاحتلال النظام المركزي ولكن أسلوب الحكم السابق جعل ردود الفعل ليست على درجة واحدة، فقد شعر البعض بالانهيار بينما شعر آخرون بالتحرر، وهم لم يعرفوا بعد معاملة الفرنسيين لهم ولا نواياهم في البقاء والاستيطان، كما أنه لم تظهر قيادة ناضجة موحدة ومسموعة الكلمة غداة الاحتلال، وكان على هذه القيادة أن تعركها التجارب ويصهرها الزمن قبل أن تصبح ¬

_ (¬1) عن أحمد البكاي والحاج عمر انظر لاحقا - الطريقة البكائية.

معروقة ومسموعة الكلمة، ولكن عندما وقع ذلك كانت السلطة الفرنسية بدورها قد تجذرت وجلبت خيلها ورجلها وعزمت على استخدام كل الوسائل للهجوم والبقاء، وقد احتلت الجزائر بالمراحل، حسب درجة المقاومة، وآخر جزء من شمالها احتل سنة 1857، أما الصحراء الشمالية فقد احتلت خلال الأربعينات والخمسينات، وكان دخول الفرنسيين عين ماضي سنة 1844 حين داسها العقيد سانطارنو ومن معه بنعالهم وفرضوا على أهلها الضرائب الحربية، وبعد عشر سنوات (1854) وقع احتلال تماسين، وبين 1830 - 1844 كانت الطريقة التجانية تعيش أحلامها، كانت تظن أنه في الإمكان البقاء على الحياد في معركة جند لها العدو كل سلاحه، وفي وقت فقدت فيه البلاد كل القيادات (¬1) عدا قيادة المرابطين والطرق الصوفية، حاملة البركة ووارثة الأشراف والأنبياء، أما الباقون فمخازنية يخدمون من يدفع أكثر ويهتمون ببطونهم قبل دينهم ووطنهم، أو حضريون دجنتهم المدينة وبطرهم العيش الرخي ففقدوا الشهامة والغيرة وأخلدوا إلى الراحة والسكون. يجد الفرنسيون مبررا لكل حركة معادية للوحدة الوطنية، فقد قالوا. كما رأينا، عن الدرقاوية - الشاذلية إن موسى الدرقاوي قد خرج عن تعاليمها برفعه السلاح وإعلانه الجهاد، وأن شيخها العربي بن عطية قد نصحه بالرجوع إلى تعاليم الطريقة والتزام الحياد، وقالوا عن الرحمانيين الذين لم يؤيدوا ثورة 1871 إنهم استمعوا إلى (نصيحة) التجانية بأن الوقت لم يحن لطرد الفرنسيين وأن الله (قدر) تغلبهم على المسلمين هذه الساعة، وقالوا عن أحمد بن سالم الأغواطي إنه أجاب موسى الدرقاوي حين دعاه للجهاد، بأنه (ابن سالم) تجاني الطريقة، وأن الشيخ التجاني قد وضع التمر في فمه فأصبح بذلك ملتزما بعدم الحرب، ولكنه لا يمنع من يرغب في الانضمام إليه (الدرقاوي). ونصل الآن إلى موقف التجانية من حركة الأمير، لقد استغل الفرنسيون موقف التجانية أشنع استغلال في كل حديث لهم عن هذه الطريقة ¬

_ (¬1) لسنا غافلين هنا عن قيادة الحاج أحمد باي، وهو ليس من المرابطين ولا الصوفيين ولا العلماء.

وفي كل الظروف، فكلما ذكروا التجانية مجدوها في دعواهم، بأنها صاحبة الموقف المعادي للأمير والمؤيد لفرنسا، وهو الموقف الذي بقي ثابتا لا يتغير إلا نادرا، فانسحب موقف التجانية من الأمير في نظر الفرنسيين، على موقفها من كل الحركة الوطنية، ولعل هذا هو أسوأ أنواع الاستغلال لحدث من الأحداث. لا شك أن الأمير قد جس نبض التجانية منذ توليه الإمارة سنة 1832. فقد اتصل بطرق صوفية أخرى وبشخصيات لعلها دون التجانية في المنزلة والأهمية، وقد عين خلفاءه ووزراءه ونحوهم من مختلف المرابطين ورجال الطرق الصوفية، ومن موظفي الدولة السابقة ومن العلماء، ولم يميز بين طريقة وطريقة أو بين فئة وفئة إلا بالعلم والكفاءة والالتزام للجهاد، فعين من الرحمانيين والدرقاويين والقادريين والشاذليين وراسل الشيخية، كما عرفنا، وراسل العربي بن عطية زعيم الشاذلية - الدرقاوية، ورسائل الأمير إلى هذا الشيخ تدل على احترام وتقدير كبير له، رغم تحفظ ابن عطية من الحرب، وقبل الأمير عذر الشيخية، فهل يكون قد أغفل الاتصال بالشيخ محمد الصغير التجاني في عين ماضي والحاج علي الينبوعي في تماسين؟ لا نظن ذلك (¬1). يقول رين: إن الأمير حاول أن يجلب التجانية إلى قيادته، منذ 1836 (وربما قبل ذلك). ولكنه فشل، ويؤكد بيان الأمير ورسائله أنه أجرى اتصالات مع محمد الصغير التجاني قبل هجوم 1838، وأنه لم يقم بذلك إلا عندما ثبت له خطر الاتصالات بين التجاني والفرنسيين (¬2). والرسالة نفسها تشير إلى تقدير الأمير للتجاني وظنه الخير فيه لأنه من أهل الدين ¬

_ (¬1) نعرف أن الأمير قد أرسل كاتبه محمد الخروبي في مهمة إلى تقرت، وقد رافقه في رحلته ليون روش الفرنسي، ولا ندري هل شملت تماسين أيضا، انظر عن ذلك كتاب ليون روش (اثنان وثلاثون سنة في الإسلام). (¬2) انظر رسالة الأمير إلى ممثله في المغرب الحاج الطالب بن جلون، نصها وترجمتها، نشرها جورج ايفير تحت عنوان: (عبد القادر والمغرب) في (المجلة الإفريقية). 1919، ص 93 - 98.

والذين هم محل احترام عند الأمير. ويذكر موجان في كتابه (تاريخ الأغواط) أن محمد الصغير التجاني كان قد بعث بخيول الطاعة إلى خليفة الأمير، الحاج العربي بن عيسى، وكذلك فعل الآغا جلول قائد جبل عمور، ويبدو أن الخليفة الحاج العربي بن عيسى هو الذي لم يحسن استغلال الفرصة، ولعله قد اكتشف ما يجعله يتصرف ذلك التصرف، فقد كان المعارض الحقيقي له هو أحمد بن سالم قائد الأغواط الذي رفض أن يفعل ما فعله الشيخ التجاني والآغا جلول، وكانت بين الحاج العربي وابن سالم خلافات محلية، ولما اقترب الخليفة الحاج العربي من الأغواط ومعه قطعة من الجيش النظامي، انضم إليه سكان الأغواط بكل صفوفهم، وكذلك أهل الأرباع الذين كان قائدهم هو ناصر بن شهرة، ولكن أحمد بن سالم قد هرب إلى صهره ابن شهرة، ثم خشي العاقبة فابتعد إلى بني يسقن في وادي ميزاب، ولو نجح الخليفة الحاج العربي في التعامل مع القادة المحليين، بمن فيهم شيخ عين ماضي، لقضى على سوء التفاهم الذي حصل بين الأمير وهذا الشيخ. ومحتوى رسالة الأمير إلى ممثله بالمغرب أنه بعد أن أعاد تنظيم الأوضاع في الولايات الشرقية (حمزة ومجانة وسطيف ...) وأصلح حالها وعين عليها الخلفاء والقواد، عزم على تنظيم الأوضاع في الجهة الجنوبية أيضا، ولما بلغ ذلك محمد الصغير التجاني كاتب الأمير طالبا منه عدم القدوم إلى (قصور الصحراء) وأن لا ينفذ رأيه في ذلك، وفي نفس الوقت شرع التجاني في الاستعداد للحرب، فجمع الخلفاء من مختلف النواحي وأدخلهم داخل بلدة عين ماضي، وفي رأي الأمير أن ذلك يعد تشويشا لأهالي الصحراء ومبادرة بالقتال من جانب التجاني، ومن جهة أخرى قالت رسالة الأمير أن مخابراته اكتشفت رسائل من التجاني إلى الحاكم العام الفرنسي (المارشال فاليه). وهذه الرسائل كانت بخط التجاني نفسه، وهو يقول فيها للقائد الفرنسي: اشغل أنت الأمير من جهة البحر وأنا سأشغله من جهة الصحراء، وقد كاتب التجاني أيضا أهل الأغواط، وادعى لهم، حسب

رسالة الأمير، أنه خليفة الله في أرضه، وكان الأمير قد خاب ظنه في التجاني بعد الاطلاع على رسائله وتصريحاته، فقد كان يعتبره من المرابطين، ويعامله معاملة أهل الخير (وأحد أعيان الوطن). ويعتقد جورج ايفير Yver أن الأمير قد لجأ إلى هذا الأسلوب لكي يقنع السلطان عبد الرحمن بن هشام بخطأ موقف التجاني، ولكي يستعطف تعاون المغاربة معه، سيما إرسال الأسلحة والمعدات الحربية التي ذكرها الأمير في رسالته إلى ممثله ابن جلون، ومن المفيد أن نلاحظ أن الأمير كان يخطط للحرب ضد الفرنسيين بعد ذلك، فقد كشف في رسالته المذكورة أن هؤلاء كانوا يستعدون لاستئناف الحرب معه بعد أن احتلوا قسنطينة، وكان الصلح معه من أجل قضاء مآربهم، وكان الأمير مسرعا في تنظيم البلاد وتوحيدها قبل استئناف الحرب مع الفرنسيين، وقد قال عن العدو: (وما أخرنا عن عداوته (أي حربه) إلا جمع الحرج (الآلة العسكرية) والإقامة (المؤونة)) (¬1). وبناء على هذه الرؤية فإن إخضاع التجاني كان يدخل في توحيد البلاد والحصول على اعتراف الجميع بسلطة مركزية واحدة (¬2). وكذلك يؤكد كلام (رين) إصرار التجاني والحاج علي التماسيني على عدم الانضمام إلى حركة الأمير، عن منطق وقناعة، إذ يقول إنهما كانا على يقين من أن الأمير سيفشل لا محالة في حربه ضد فرنسا وأنهما لن يجنيا شيئا منه حتى ولو نجح، لأن التل يقع بين يدي طرق صوفية أخرى أقدم من ¬

_ (¬1) جورج ايفير، رسالة الأمير إلى ممثله بفاس، مرجع سابق، ص 98، وقد أرسل الأمير الرسالة بتاريخ 8 غشت 1838 أثناء حصاره لبلدة عين ماضي، وعن حلول الأمير بالناحية الشرقية (الونوغة) انظر بيربروجر (رحلة إلى معسكر الأمير). باريس. (¬2) يجب أن نتذكر بأن محمد الصغير التجاني قد فضل السلم على الحرب ضد العثمانيين قبل الاحتلال، خلافا لأخيه محمد الكبير الذي قتل في معسكر، وتذهب الروايات إلى أنه شخصية تفضل السلم على الحرب، ومما يثبت ذلك أنه لم يقد القتال بنفسه خلال حصار عين ماضي.

التجانية وأكثر تجذرا بين السكان، ورأيا أن التبعية للأمير غير مناسبة لهما، ولذلك رفضا الانضمام إليه رفضا رسميا (¬1). ولكن هذا التفسير يلقي الأضواء على رأي الفرنسيين عندئذ في العلاقات بين الطرق الصوفية أكثر مما رأى التجاني في سياسة الأمير. ونفهم من كلام رين أن الرفض كان بسبب الهجوم على عين ماضي من قبل الأمير، ونحن لا نظن ذلك، لأسباب منها أنه لو التزم كل منهما (التجاني والتماسيني) الحياد الفعلي لما هاجم الأمير ربما، مقر التجانية، فقد سبق لطرق أخرى أن أعلنت الحياد، كالشيخية (وهي أكثر أهمية من حيث العدد والموقع من التجانية) والدرقاوية، ومع ذلك لم يهاجمهما الأمير، ومن جهة أخرى، نعلم أن مشيخة الطريقة التجانية عندئذ كانت في تماسين (الحاج علي) وليس في عين ماضي (محمد الصغير) الذي لم يأخذ هذه المشيخة إلا بعد وفاة الحاج علي سنة 1844، وكانت تبعية إخوان التجانية بالتالي لتماسين وليس لعين ماضي، فكان الأولى بالأمير والحالة هذه أن يهاجم تماسين، وكان يمكن لخليفته في الزيبان أن يقوم بذلك لو أصدر له الأمر، ولكن ذلك لم يحدث، فلم يبق إلا الموقف الذي أشرنا إليه وهو الاتصالات التي جرت بين الشيخ محمد الصغير التجاني والسلطات الفرنسية والتي تشير رسالة الأمير إلى أنه اكتشفها عن طريق مخابراته، وقد أكدت ذلك المراسلة التي دارت بين المارشال فاليه ومحمد الصغير التجاني. ومع ذلك فمن حق الباحث أن يسأل: ماذا لو أن الأمير لم يهاجم عين ماضي، وهي بعيدة إلى ذلك الحين عن مراكزه وعن مراكز الفرنسيين معا ولم يكن قد انتقل بعد إلى تاكدمت أو اضطر إلى ترك المدن الداخلية كتلمسان ومعسكر ومليانة الخ؟ وكان الجزائريون ينضمون لحركة الجهاد بالغريزة وبالمجاورة وتبعا للمصالح المشتركة، فكيف نتصور أن (أحباب) التجانية في مناطق الأمير لم ينضموا إلى حركة الجهاد؟ وهل في استطاعة أي قائد، ¬

_ (¬1) رين، مرجع سابق، ص 423 - 427.

روحي أو غيره، أن يمنع الناس من الجهاد عندئذ، حتى ولو كان محمد الصغير التجاني؟ إننا نعتقد أن حركة الجهاد الأولى قد ساهم فيها تقريبا كل الجزائريين، بقطع النظر عن رؤساء الطرق الصوفية أو الزعامات الأخرى، حقيقة أن الفرنسيين أخذوا ينوهون بالقيادات التجانية منذئذ، لأنها رفعت شعارا مثبطا لحركة الجهاد، وهو قولها: إن الله قد حكم وقدر للجزائر الآن أن تكون بيد الفرنسيين، وأن تحريرها متوقف على عامل الوقت، وهذا الوقت لم يحن بعد، ولن يحين ما دام الفرنسيون أقوياء، وبمعنى آخر إنهم (التجانية) رفعوا الشعار الآتي، وهو أن الاحتلال مكتوب ومقدر ولا فائدة من محاولة التخلص من المكتوب والمقدور ولأن ذلك ضد إرادة الله (¬1). جرى إذن حصار الأمير لعين ماضي سنة 1838 أيام الهدنة بينه وبين الفرنسيين (معاهدة التافنة). وكان حصارا غير موفق، فبعد المسافة وحرارة الصيف، وانقطاع المؤونة، ومقاومة المحاصرين العنيدة، كلها أدت إلى النتيجة غير المتوقعة، وهي فرض الطاعة على الشيخ محمد الصغير التجاني وقطع الصلة بينه وبين الفرنسيين حتى لا يكون وسيلة للالتفاف على حركة الجهاد بعد ذلك، وكانت معاهدة التافنة تسمح للأمير بشراء السلاح من الفرنسيين ومن غيرهم، وزاد الطين بلة وجود الجاسوس ليون روش الذي كان يلعب دور المورط بين الأمير وشيخ عين ماضي، فالفرنسيون سيكونون هم الرابحين على كل حال، لأن فاليه كان يريد إغراء الأمير بتغيير بعض بنود معاهدة التافنة المتعلقة بالحدود الشرقية (وقد فتح المفاوضات فيما بعد مع المولود بن عراش في الجزائر أثناء رجوع ابن عراش من مقابلة الملك الفرنسي في باريس) (¬2). ولو ربح محمد الصغير التجاني المعركة لكانت ¬

_ (¬1) نجد ذلك في كل تحرك فرنسي، إذ يستعملون النفوذ التجاني، مثل احتلال بسكرة والأغواط وتقرت ووادي سوف، ثم الهقار وغدامس، وغير ذلك. (¬2) انظر التحفظات التي كتبها فاليه ووقعها ابن عراش، دون موافقة الأمير، في عدة مصادر، منها حياة الأمير عبد القادر لتشرشل، ترجمة سعد الله، و (عبد القادر والجزائريون) لرفائيل دنزقر.

فرنسا قد كسبت أيضا لأن حركة الجهاد ستتصدع بوجود زعيم آخر منافس للأمير، وكانت نتيجة حصار عين ماضي معروفة، وهو الحصار الذي دام حوالي ثمانية أشهر وقد انتهى بالمفاوضة وليس بالسلاح، فقد أرسل الأمير صهره وخليفته مصطفى بن التهامي، وهو من رجال الدين والعلم والأدب، أرسله إلى محمد الصغير التجاني وعرض عليه إنهاء الحرب بالصلح. رغم الحصار الطويل فإن نهايته كانت مثالا على المعاملة الطيبة في حالة الحرب، ودرسا في الاحترام اللازم للطرفين، فلم يكن هناك انتقام ولا تمثيل أو قتل أو حرق، لا ضرورة له، كما فعل الفرنسيون مع القرى والأشخاص المقاومين، فقد عامل الأمير (المرابط) التجاني وعائلته معاملة تليق به وأعطاه الوقت الكافي ليجمع شؤونه، وكذلك أعطاه لوازم الحمل والركوب، وأخذ كل ما يريد أخذه معه، ثم أمر الأمير بانسحاب الجيش من عين ماضي استجابة لطلب التجاني، وعندما أعلن التجاني عن نيته في التوجه إلى الأغواط طلب الأمير من أهلها إعداد منزل لائق للتجاني وعائلته، ومن جهة أخرى، أهداه محمد الصغير التجانى ما قيمته 30 ألف ريال (خمسة وخمسون ألف فرنك عندئذ) وملابس وعبيد وخيول، وربما كان هذا المبلغ نوعا من الضريبة الحربية، وأرسل التجاني ابنه إلى الأمير رهينة على رأس وفد من الأعيان، وهي عادة عربية قديمة في مثل هذه الظروف، وقد قبل الأمير شرط التجاني بالانسحاب إلى الأغواط مع أخذ عائلته معه وكل ما يريد، فأخذ التجاني، كما قيل، قافلة كاملة من الحاجات، وكذلك سمح له الأمير بعدة أيام جمع فيها أموره استعدادا للرحيل ووفر له ولعائلته وسائل النقل، مضيفا إليه بغلين وحصانين مجهزين غاية التجهيز، أحدهما، ليركبه الشيخ التجاني، وبطلب من التجاني ابتعد جيش الأمير إلى سيدي بوزيد شمال عين ماضي، وعندما خرج التجاني من أحد أبواب البلدة دخلها الأمير من باب آخر، وبقي فيها حوالي أسبوع، وتلقى فيها مبايعة أهلها وأهل النواحي الصحراوية، طبقا للعادة، وفي يوم 26 يناير 1839 رجع

الأمير إلى تاكدامت، وبعد عدة شهور رجع التجاني إلى عين ماضي (¬1). ويمكن القول إن هجوم عين ماضي قد أضر بسمعة الأمير أيضا لأن طول الحصار قد بدا للناس وكأنه عجز عسكري من جانبه، كما أن طول غيابه عن شؤون الدولة الفتية، التي كان يريد تأسيسها في عهد الصلح مع الفرنسيين، قد جعل الأمور تسير ببطء، وهو ما لم يكن في الحسبان، فقد كان الأمير في سباق مع الزمن، لأنه كان متأكدا أن الفرنسيين سيعودون إلى حربه بعد الاستيلاء على قسنطينة (1837). فكان حصار عين ماضي مضيعة للوقت والجهد والسمعة، ولعل الفرنسيين هم الذين افتعلوا العداوة بين الأمير والتجاني ليستفيدوا منها في وقت لاحق، وهو ما حدث فعلا. قلنا إن الفرنسيين استغلوا هذا الحادث لتوسيع الهوة بين التجانية وحركة الجهاد ليس فقط في عهد الأمير ولكن خلال عهد الاحتلال كله، وقلنا أيضا إن الفرنسيين سيكونون هم الرابحين من حصار عين ماضي لأنهم سيظهرون كأصدقاء للمنتصرين والمنهزمين معا، وإذا كان صلحهم مع الأمير قد انتهى بإعلان الحرب من جديد سنة 1839 فإن صداقتهم للتجانية في دعواهم قد دامت طيلة الاحتلال تقريبا، وقد كان الفرنسيون يعرفون أن التجانية لن يرتموا في أحضانهم كمسيحيين، بعد أن حاربوا العثمانيين ورفضوا طاعة الأمير، ولو فعلوا ذلك علنا، كما فعلت فئات وطرق أخرى، لانكشف سر الطريقة وانتهى نفوذها بين الناس، فكانت المعاملة حذرة من كلا الطرفين، فلا الطريقة التجانية تستطيع أن تجاهر بحبها لفرنسا ولا هذه ¬

_ (¬1) انظر العقيد تروميلي، المجلة الإفريقية، 1877، ص 336 - 338، و (تحفة الزائر). ج 1/ 196، وليون روش (اثنان وثلاثون سنة ...) 1/ 327، وقد تضمن الاتفاق أن يدفع التجاني تكاليف الحصار، ولكن له الحق في نقل منقولاته جميعا والبقاء أربعين يوما، ويتحدث روش عن كون المدافع التي وصلت للأمير كانت من السلطان عبد الرحمن (سلطان المغرب) وليس من المارشال فاليه، أما هذا فقد كان وعد الأمير لإرسال 400 قذيفة، بناء على معاهدة التافنة.

تريد منها أن تفعل ذلك، خشية العذال والشامتين والحاسدين، إنه الغزل العذري فقط وليس الزواج!. يقول (رين): لا يمكن لمحمد الصغير التجاني ولا الحاج علي أن يكونا نصيرين للمسيحيين بعد الأتراك، لكنهما تابعا الاحتلال الفرنسي بانتباه، وعرفا أن المسلمين عليهم أن يقبلوا الاحتلال إلى أن يأتي وقت آخر، ما دام الفرنسيون يتركونهم ي عبد ون ربهم ويعتمدون على العدالة والمساواة الفرنسيتين، لقد كانا ينظران إلى مؤسساتنا نظرة تعاطف، وقد اتخذنا نحن منهما موقفا واضحا منذ 1840 (أي منذ إعلان الحرب الطاحنة ضد حركة الجهاد بقيادة الأمير علي يد فاليه ثم بوجو). ذلك أن محمد الصغير التجاني قد عرض على فاليه دعمه الروحي والمادي ضد الأمير (¬1). من هنا بدأت (1840) الصلة بين التجانية والفرنسيين، وهذه اللغة التي يعلن عنها (رين) ستتكرر في الوثائق الفرنسية، سنجدها عند كل من عالج موضوع الطرق الصوفية ومواقفها من الاحتلال، وعند السياسيين أيضا أمثال جول كامبون، الحاكم العام في تأبينه (سنة 1897) للشيخ أحمد التجاني نجل محمد الصغير، وأمثال روجي ليونار R. Leonard الحاكم العام الآخر سنة 1952، كما سنرى، ولذلك قلنا إن هذه الصلة قد استغلت عن حق أو عن باطل، أبشع استغلال، وإذا كان قادة التجانية يعلمون ذلك، فإن الأتباع كانوا يجهلون هذه الصلة التي اتصلت منذ 1840 والتي كان من الممكن أن تنقطع لو أعلن أحد الطرفين الهجران والتخلص من هذا (الغزل) (¬2). ولعلنا أطلنا في هذا المدخل عن علاقة التجانية بأحداث البلاد منذ الاحتلال إلى حوالي 1840، فقد كان من الممكن أن يدخل حصار عين ماضي التاريخ ويهمش كما دخل التاريخ وهمش حادث الدوائر والزمالة، ¬

_ (¬1) رين، مرجع سابق، ص 427، توجد رسائل التجاني إلى المارشال فاليه في (مراسلات فاليه). خمسة أجزاء، الجزائر. (¬2) وقد نوه عدد آخر من الكتاب والعسكريين بدور محمد العيد التماسيني، مثل هنري دو فيرييه، وبدور محمد العروسي، مثل الضابط فورو.

ب - فرع عين ماضي

وحادث المشور، وحادث موسى الدرقاوي، وحادث أبي معزة، لأنها جميعا كانت أحداثا متشابهة، ولكن لحاجة ما وقع تهميش كل هذه الأحداث بينما بقي حصار عين ماضي ينسف جمره كلما جاء ذكر الأمير والتجاني والفرنسيين، أليس في ذلك سر يحير الألباب غير الواعية للتاريخ؟. ... ب - فرع عين ماضي: ولنتابع الآن تطور الأحداث في عين ماضي وتماسين والعلاقة مع الفرنسيين، ثم نتناول أذكار الطريقة التجانية وإحصاء أتباعها ونحو ذلك، كما فعلنا مع الطرق الأخرى، رجع محمد الصغير التجاني إلى عين ماضي بعد بضعة أشهر ورممها ونشط الزاوية من جديد، ويقول أحد المصادر: إن الأمير قد أعاد إليه الرهائن وفيهم ولده وقدم إليه هدية واعتذر إليه (¬1). ومحمد الصغير من الشخصيات التي عركتها الأحداث إلى جانب ثقافته الدينية والصوفية، فقد ولد 1217 هـ في المغرب الأقصى، وحفظ هناك القرآن الكريم وأخذ مجموعة من العلوم والمعارف قبل وفاة والده سنة 1230، فكان عمره عندئذ حوالي ثلاث عشرة سنة، ثم رجع به الحاج علي التماسيني، مع أخيه، إلى الجزائر، وقد عرفنا أن الحاج علي هو وارث بركة الشيخ التجاني، فأبقى الولدين في عين ماضي إلى أن كبرا، وتعلما الفروسية أيضا، وقد رأينا أيضا طمع السلطات العثمانية في إخضاع بلدتهما ورد فعلهما بالهجوم على معسكر، فالذين يقولون إن التجانية طريقة غير محاربة عليهم أن يتذكروا هذه البداية على يد ابني الشيخ التجاني نفسه، وعند وفاة الحاج علي سنة 1844 ورث عنه محمد الصغير البركة التجانية، فأصبح هو شيخ الطريقة، وفي هذه الأثناء (1844) وقع احتلال بسكرة على يد الدوق دومال، ¬

_ (¬1) مفتاح (أضواء). مخطوط.

فأشار الحاج علي، حسب المصادر الفرنسية، على أهل تلك الجهة بعدم التعرض للفرنسيين لأن إرادة الله شاءت ذلك، وفي نفس السنة جاء الجنرال (ماري مونج M. MONGE) إلى الأغواط فخضع له أحمد بن سالم، حاكمها ومقدم التجانية فيها، بنصيحة من شيخه محمد الصغير التجاني، فعين ماري مونج ابن سالم، خليفة على الأغواط باسم فرنسا. وفي سنة 1844 ايضا جاء الفرنسيون لاحتلال الصحراء بعد حروبهم ضد الأمير والقضاء على الزمالة، نزل الجنرال ماري في 12 ديسمبر 1844 في تجمعوت فاستقبله أحمد بن سالم الأعواطي والأعيان، ولكن محمد الصغير التجاني لم يخرج إليه واكتفى بإرسال رسالة ووفد، ولما سأل الضابط الفرنسي عن ذلك قيل له إن الشيخ لا يخرج للملوك والحكام وأنه لم يقابل حتى الأمير عبد القادر بعد حصار عين ماضي لأنه لا يعترف بأي سلطة زمنية، وبدل أن يفرض عليه الجنرال الفرنسي الخروج جرب معه طريقة أخرى ليرى ما إذا كان صادقا في دعواه الإخلاص والأمن، فأرسل إليه فرقة عسكرية صغيرة من اثني عشر ضابطا على رأسهم العقيد سانطارنو، وكان الهدف هو التعرف على المدينة أيضا، كما أرسل معهم جنودا فرنسيين و 200 من الفرسان الموالين لأحمد بن سالم، ورؤساء الأرباع، وكان من بين هذا الوفد أحمد بن سالم نفسه، ورغم أن محمد الصغير قد خاف من هذه (الحملة). فإنه أحسن استقبالها واستفسر عن الأحوال، وأقام لهم ضيفة، وحققوا هدفهم الآخر وهو التعرف على المدينة من الداخل، وأعلن الشيخ محمد الصغير لهم الخضوع ودفع إليهم ضريبة الطاعة في اليوم التالي، وقدرها 2000 بوجو (¬1). ولنلاحظ أن الأمير عبد القادر لم يفرض سوى دفع ثمن الحصار، وشتان بين المعاملتين!. ¬

_ (¬1) كتب سانطارنو عدة رسائل في وصف المدينة والزاوية والشيخ والاستقبال الودي غير المتوقع، ومن الجدير بالملاحظة أن محمد الصغير كان ما يزال مقدما فقط عندئذ. لأن الحاج علي لم يتوف إلا بعد شهور من هذه الزيارة الفرنسية للزاوية.

وفي مناسبة أخرى استقبل الشيخ محمد الصغير في عين ماضي القائد الفرنسي عندئذ، وهو بيليسييه، كان ذلك على أثر المعركة التي دارت في الأغواط بين جيش العدو وقوات محمد بن عبد الله (شريف ورقلة) في ديسمبر 1852، وقد أحسن التجاني استقبال بيليسييه أيضا، وقيل إن ذلك كان آخر استقبال له للقادة الفرنسيين قبل وفاته بحوالي شهرين (آخر فيفري 1853). والغريب أن السلطات الفرنسية في الجزائر لم تكن تثق فيه كل الثقة، ولذلك أرسلت إليه من المدية قاضيين ليأتيا به، فوجداه جثة هامدة، إذ أدركه الموت. وقد ترك الشيخ محمد الصغير ابنا صغير السن لا يمكن تكليفه بشؤون الزاوية، فوضع تحت وصاية المشري الريان إلى أن يبلغ، وتولى الريان تسيير شؤون الزاوية من جهة وإدارة عين ماضي من جهة أخرى بتكليف من الفرنسيين، وكان الريان محل ثقة الشيخ محمد الصغير، وهو الذي قام ببناء الزاوية وأصبح وكيل الشيخ في مختلف المسائل، وبناء على وصيته تولى الريان الإشراف على الزاوية والنواحي الروحية فيها، كما تولى القضاء في البلدة، ولكن ابن التجاني المذكور توفي بلدغة عقرب، حسب العقيد تروميلي، سنة 1857 (¬1). توفي الشيخ محمد الصغير في فبراير (أو مارس) 1853، فخلفه في قيادة الزاوية والبركة التجانية الشيخ محمد العيد بن الحاج علي بتماسين، وهكذا كان التبادل على المشيخة بين الزاويتين، عين ماضي وتماسين، لكن المشيخة هذه المرة ستظل في عائلة الحاج علي إلى آخر القرن الماضي، رغم ما حدث من توتر بين الزاويتين والعائلتين، وهو التوتر الذي كاد يخرج إلى الأتباع أيضا لولا تدخل الفرنسيين في الوقت المناسب، وخلال هذه الفترة الطويلة (1853 - 1897) كانت القيادة الروحية للطريقة بيد ¬

_ (¬1) تروميلي، المجلة الإفريقية، 1877، ص 342 - 343، ولا نعرف اسم ابن الشيخ التجاني هذا، ومن الواضح أنه ليس الابن الذي قدمه رهينة عند الأمير سنة 1838.

محمد العيد، من 1853 إلى 1875، ثم أخيه محمد الصغير بن الحاج علي من 1875 إلى 1892، ثم أخيهما، معمربن الحاج علي من 1892 إلى 1893، ثم محمد بن محمد العيد من 1893 - 1897، ولم ترجع بركة الطريقة إلى فرع عين ماضي إلا في عهد البشير بن محمد الصغير التجاني، ويزعم الفرنسيون أن هذا الاشتراك في القيادة الروحية بين الفرعين أدى إلى كسر الهيمنة للطريقة التجانية وتفتيت وحدتها الإدارية (المركزية) (¬1). والسبب في هذا التوتر فيما يبدو، يرجع إلى وراثة الشيخ محمد الصغير التجاني، فقد توفي ابنه الكبير أثناء حياته، واختلف في عقبه الآخر من الذكور، فبعض المصادر تثبت أنه ترك عند وفاته ولدين صغيرين، أحدهما ثلاث سنوات والآخر سنة واحدة، واسمهما أحمد والبشير، وبعض المصادر تقول: إنه لم يترك عقبا وإنما جرى تدبير الأمر بطريقة غامضة على يد السلطات الفرنسية، وذلك بإدخال أمة إلى الزاوية ومعها ولدان في نفس السن وبالوصف والاسم الذي ذكرناه، ثم وقع إعلام الناس بأن ولديها كانا من نسل الشيخ، ويشير (رين) إلى ذلك بقوله: إنه قد وقع التنازع في (شرعية الولدين) (¬2). والخلاصة عن وراثة الشيخ محمد الصغير التجاني في عين ماضي أن هناك عدة آراء، بعضها قال إنه لم يترك وريثا من الولد، وإنما ترك بنات تزوجن من أبناء شيخ زاوية تماسين، ولكي تبقى الوراثة مستمرة في آل الشيخ التجاني، دبر الفرنسيون خطة، وهي جلب وصيفة كان لها ابنان صغيران كما قلنا، وأدخلوهما إلى الزاوية وجرى الإعلان أنهما من أولاد الشيخ واسمهما أحمد والبشير الخ، والرأي الآخر: قال: إنه كان للشيخ ولد وهو الذي كان ¬

_ (¬1) ديبون وكوبولاني، مرجع سابق، 422، وقد وصف (رين). مرجع سابق، 428 زاوية عين ماضي ومحتوياتها، وضريح الشيخ محمد الصغير المدفون هناك. (¬2) رين، مرجع سابق، 428 - 430، وهو يذكر أن العقيد تروميلي قد روي القصة بحذافيرها في (المجلة الإفريقية). عدد 1877، ص 343.

قد أعطاه رهينة للأمير عبد القادر آخر سنة 1838، ثم رجع الولد إلى والده، وعاش إلى 1857، أي بعد وفاة والده بأربع سنوات، ثم لدغته عقرب فمات، وبذلك انتهت أسرة التجاني وانقطع نسله حسب تعبير العقيد تروميلي، وكان هذا الابن الذي لا نعرف اسمه، قد وضع تحت وصاية المشري الريان الذي كان يقوم بشؤون الزاوية العامة، وعزا تروميلي الدور الرئيسي بعد ذلك إلى الريان الذي لم يقبل بهذا الوضع، فقد كان في حاجة إلى سمعة الزاوية والى نقود الزائرين، وكان يعرف أن انقطاع نسل الشيخ يعني موت الزاوية في عين ماضي، كما يعني توجه الأتباع نحو زاوية تماسين فقط، وإذن فلا بد من البحث عمن يكون (ابنا) للشيخ التجاني لتستمر به الزاوية، وقد أطال تروميلي في إيراد قصة البحث عن (أحمد) الوريث المزعوم للشيخ، واشغرق في روايتها أكثر من عشر صفحات، ونحن نلخصها فقط فيما يلي: تذكر المشري الريان أن شيخه محمد الصغير قد ضاجع وصيفة بين 1840 - 1845، وبدأ البحث عن هذه الزنجية التي قد يكون عندها الوريث المطلوب، ولكن الذي اشتراها غير معروف، قال بعض الأتباع: إنها في تونس، وقال آخر: إنها في طرابلس، وثالث: إنها جهة الأوراس، لقد اختفت مع ابنيها منذ عام دون أن يعلم أحد وجهتها، وذات يوم جاء زاوية عين ماضي أحد الفرسان وأخبر الريان أنه وجد الوصيفة والطفلين، وعلامات ذلك هو الشبه، وحصل الفارس، واسمه أبو حفص بن عبد الرحمن (من أولاد ابن قانة). على الجائزة المرصودة، وذهب مع ثلاثة اختارهم الريان، إلى باتنة حيث كانت الأم وولداها، وقد وصلوا إلى المكان فوجدوا الأم والابن الصغير، أما الكبير، وهو أحمد، فلم يأت إلا عند المغرب، وكان يدفع أمامه حمارين، وكان عمره عندئذ بين 15 - 16 سنة، فأخذوا أحمد إلى عين ماضي ونصبوه على أنه الوريث، أما أمه وأخوه الصغير (البشير؟) فقد بقيا في باتنة، وفي سنة 1864 كتب تروميلي هذه القصة وقال: إن أحمد (التجاني) عندئذ كان بين 20 و 25

سنة، وأنه زنجي (¬1) هذه هي رواية تروميلي، وهناك رواية أخرى ذكرها العقيد كوان Coyne تختلف إلى حد ما عن سابقتها ولكنها تتفق معها في النتيجة، ويبدو لنا أن قصة الوراثة في زاوية عين ماضي بعد وفاة الشيخ محمد الصغير تحتمل الصدق والكذب، وفيها خيال كثير ومغامرات تصلح للأدب أكثر مما تصلح للتاريخ، ولا بد أن يكون للطريقة نفسها مصادرها في ذلك، ولعل الأرشيف الفرنسي يضم أيضا معلومات هامة عن الموضوع، ومهما كان الأمر فإن أحمد المذكور هو الذي تزوج من الفرنسية أوريلي بيكار، وتوفي في زاوية قمار سنة 1897 وجرى تأبينه تابينا رسميا في العاصمة تحت رعاية السلطات الفرنسية وبحضور الحاكم العام جول كامبون نفسه. ويقول رين أيضا: إن هناك وثيقة غير مسلم بصحتها (Très Discutable) تعطي الولدين للمشري الريان، قائد عين ماضي ووكيل الزاوية، كي يرعاهما، ولذلك فإن ما سيحدث للولدين وما سيصدر عنهما من تصرفات تنسبه السلطات الفرنسية إلى سوء تربية المشري الريان لهما، أو بالأحرى إهمال تربيتهما التربية المطلوبة لتولي قيادة الزاوية وحمل البركة الصوفية، كما تحمله (المشري) السلطات مسؤولية ترك الأمور تتوتر بين الزاويتين حتى وقعتا في التنافس، نتيجة الزيارات والطمع في المال، وأنه قد جر معه الولدين في ذلك النزل، فقد كان الريان يريد أن توجه العطاءات والجبايات إلى عين ماضي بدل تماسين، وحاول أن يحصل على دعم مقدمي التجانية في الجهة الغربية، وذهب، حسب الفرنسيين، إلى حد إثارة الشك في المرابطية والشرف في الطريقة التجانية عن طريق إشاعات مغرضة، وكان في الواقع يحضر لفصل الزاويتين، دون مراعاة مصالح الطريقة التجانية نفسها. ¬

_ (¬1) العقيد تروميلي، (المجلة الإفريقية). 1877، ص 393 - 404، ويذكر تروميلي أنه كتب بحثه سنة 1864 ولم ينشره إلا سنة 1877، وهو يتحدث بلسان المتكلم، فيقول: دخلنا عين ماضي، واستقبلنا الريان والسيد أحمد، وأقاما لنا ضيفة على شرف الجنرال (اللقيط) يوسف.

ولذلك خرج الفتى أحمد (التجاني) عن المشري الريان منذ بلغ خمس عشرة سنة وتحرر من الوصاية عليه، ولا شك أن ذلك لم يأت تلقائيا، فالأمور كانت تجري على مرأى ومسمع من المكاتب العربية التي لا تنام لها عين، فقد ولى الفرنسيون الفتى أحمد قيادة عين ماضي منذ 1865، بدل الريان، وفي هذه السنة، كانت ثورة أولاد سيدي الشيخ على أشدها، وهم جيران عين ماضي، وقد اشترك فيها الإخوان (الأحباب) التجانيون دون الرجوع إلى طريقتهم، بغريزة الجهاد التي كانت تدفع الجزائري إلى الثورة ضد العدو بقطع النظر عن الطريقة الصوفية، ولكي يفصل الفرنسيون التجانيين عن ثوار أولاد سيدي الشيخ وأتباعهم، عينوا أحمد التجاني قائدا على عين ماضي وكذلك مقدمأ للتجانية، ليلعب هذا الدور، فأكد لهم، كما يقولون، ولاءه، رغم أن ذلك يضر بسمعته بين المسلمين في الناحية الغربية، لأن الطرق الأخرى هناك - القادرية، والطيبية والدرقاوية - تراقبه وتحكم عليه وتحاسبه، وكذلك الكرزازية والزيانية، لأن الجميع لهم مصالح في المغرب والصحراء، ولا يريدون للتجانية التوسع، ولم يكن أحمد ولا أخوه (12 سنة) (¬1) في مستوى ما يحاك حولهما من ظروف وتحالفات دينية وسياسية، وقد لاحظ الفرنسيون أن ذلك سرى أيضا إلى الزعامات الأهلية (أهل السيف والحكم) التي كانت متولية لفرنسا، إذ أصبحوا تحت تأثير الطرق المعادية للتجانية، ويقول (رين): إن هذا العداء للولدين، أحمد والبشير، قد ظهر حتى في بعض الأوساط الفرنسية الرسمية القيادية (¬2). وفي ضوء ذلك جرى اعتقال الأخوين سنة 1859، فلماذا وكيف؟ بعض الروايات تذهب إلى أن الاعتقال راجع إلى تهاون أحمد التجاني قائد عين ماضي في غلق أبواب البلدة في وجه الثوار، كما فعل سلفه، حسب ¬

_ (¬1) مسألة سن الولدين، أحمد والبشير، مسألة خلافية، ويتوقف أمرها على نسبتهما إلى محمد الصغير التجاني (الذي علمنا أن وفاته كانت سنة 1854). (¬2) رين، مرجع سابق، 431، ولعل القصة التي رواها العقيد تروميلي تدخل في هذا (العداء الفرنسي) للولدين.

تعبيرهم، مع الأمير ومع العثمانيين، وبعضها يذهب إلى أن الاعتقال كان لشبهة الانضمام للثورة، كما شاع بين الناس، وأخيرا هناك من يقول إن الاعتقال كان تخويفا للتابعين، وإليك بعض التفصيل، كان أولاد زياد (بجيرفيل) التجانيون يعيشون وسط أولاد سيدي الشيخ الثائرين، فحاربوا إلى جانبهم، وقد طلبوا، ربما بإيعاز من الفرنسيين، من أحمد التجاني التفاوض مع لمحيادة أولاد سيدي الشيخ، لفصلهم عن الثورة وعودتهم إلى منطقتهم، فقام أحمد بالمفاوضات لصالحهم، وجاء أولاد زياد إلى الأغواط، وجاء معهم البعض من أولاد سيدي الشيخ، حسب التقاليد العربية، ودخلوا عين ماضي، فخرجت الإشاعات على أن ولدي التجاني قد انضما إلى الثوار، ومنعا لهذا الاحتمال، كما يقول رين، قام العقيد (دي سونيس) باعتقال أحمد وأخيه البشير، في أول فيفري 1869، وبعثهما إلى مدينة الجزائر حيث سجنا، وبعد بضعة أشهر استسلم التجانيون من أولاد زياد (¬1). لكن قصة الأخوين التجانيين لم تنته بعد، فقد كان أحمد بين 25 - 30 سنة، حسب ملاحظة العقيد تروميلي، وظل في العاصمة حوالي سنة، فإذا بفرنسا تدخل في الحرب مع ألمانيا، وكان على الرؤساء (الأهالي) أن يرسلوا عرائض التأييد لفرنسا جبرا أو نفاقا، فكان من بين الموقعين على العريضة الصادرة من أهل العاصمة، أحمد التجاني، وخلافا لما يقال إن السلطات الفرنسية هي التي (نفته) إلى بوردو، تقول رواية أخرى إنه هو الذي تطوع لحمل عريضة أعيان العاصمة إلى حكومة بوردو (¬2). ولكي تؤكد فرنسا براءتها، أشاعوا بأن أحمد التجاني قد أرسل قبل سفره منشورا إلى أتباع ¬

_ (¬1) أنت ترى كيف تتلاعب السلطات الفرنسية بالولدين (أحمد حوالي 19 سنة، البشير 17 سنة، حسب بعض الروايات) لخدمة أغراضها، مستغلة جهل العوام واسم الطريقة التجانية. (¬2) بعد احتلال باريس من قبل الجيش الألماني، سنة 1870، انتقلت الحكومة الفرنسية، وكانت تسمى (حكومة بوردو). إلى مدينة بوردو، إلى أن رجعت إلى باريس بعد دفع التعويضات الحربية وجلاء الجيش الألماني عن باريس.

التجانية في الغرب يخبرهم أنه ذاهب إلى فرنسا من تلقاء نفسه، وعليهم بالطاعة والخضوع، ثم سافر مع حاشيته يوم 16 غشت 1870 وحل بباريس، ثم التحق به أخوه البشير، ويقول رين: إن الفرنسيين حملوا الأخوين من باريس إلى بوردو في 4 سبتمبر 1870، اتخاذا للحيطة (؟). وهناك استقبلهما الجنرال دوماس، وأسقف المدينة ورئيس محكمة الاستئناف، وفي 17 أكتوبر حضر أحمد مع حاشيته حفلة لصالح المجاريح بالمسرح فاستقبل أثناءها بالموسيقى الرسمية، ثم تزوج هناك بأوريلي ابنة الضابط المتقاعد، ثم طلق زوجاته الأخريات بعد رجوعه إلى الجزائر سنة 1872 (¬1). ودون أن يكون المرء تجانيا أو غير تجاني، فالتجارب الإنسانية وحدها تخبرنا أن شابا في سن أحمد التجاني كان بين أيدي الفرنسيين ومترجمي المكاتب العربية ومخططات السلطة الفرنسية للزوايا عموما والتجانية خصوصا، كل ذلك يجعل العبء صعبا على أمثال أحمد التجاني وأخيه البشير حتى ولو اجتهد المشري الريان في تربيتهما تربية علمية وصوفية وأخلاقية تليق برجال الزوايا والمرابطين، فما بالك بشابين تثبت مصادر الوقت أنهما وقعا ضحية الإهمال التعليمي والاجتماعي، لقد تزوج أحمد، وهو في بوردو، فتاة فرنسية اسمها أوريلي بيكار، وكان والدها ضابطا في الدرك (الجندرمة). ومن الأكيد أنه لو شاء الفرنسيون عدم زواجه منها لمنعوه أو منعوها، كما فعلوا مع غيره، فقد كان قاضي قسنطينة، محمد الشاذلي، ذات مرة يرغب في الزواج من فرنسية أيضا في باريس، ولكن السلطات في الجزائر سارعت إلى التدخل لمنع هذا الزواج (¬2). حرصا على مصالحها ¬

_ (¬1) رين، مرجع سابق، ص 431 - 433، والغريب أن رين يقول: إن أحمد الذي كان في التاسع عشرة من عمره، حسب بعض الروايات، طلق زوجاته - هكذا بالجمع - فمتى تزوجهن؟ وهل كن مع الحاشية التي يتحدث عنها؟ لعله فقط خيال المتخيلين لكي يثبتوا أن المرأة الفرنسية لا تبقى مع ضرة مسلمة. (¬2) انظر القصة في كتابنا (القاضي الأديب، محمد الشاذلي القسنطيني). ط، 2، 1985.

وليس على مصالحه الأنه كان قاضيا عند فرنسا). ونحسب أن مقام أحمد التجاني أكبر من مقام محمد الشاذلي في نظر الأتباع ونظر السلطات الفرنسية أيضا، ولكن ما دام هذا الزواج سيخدم المخططات البعيدة لهذه السلطات فقد وافقت عليه وباركته كنيسة بوردو، وكذلك باركه الكاردينال لافيجري في الجزائر، وقد كتب الكثير عن (ملكة الرمال، أريلي التجاني) (¬1) ودورها في حياة الزاوية التجانية، فقد غيرت حياة الزاوية تماما، وبنى لها أو بنت لنفسها، قصر كوردان على بعد قليل (حوالي عشر كلم) من عين ماضي، وأصبح القصر نواة للحضارة الفرنسية في الصحراء، حسب تعبيرهم، وكان الضيوف الفرنسيون ينزلون فيه كما ينزلون في أي قصر أوربي، من حيث الأثاث والمأكل والمشرب والمنتزهات، مضافا إليه الملمح العربي والروحانية الإسلامية (؟) وهناك فرق بين ما يكتبه الفرنسيون عن هذا القصر في كتبهم وبين ما يكتبونه في مذكراتهم ورسائلهم، ويذهب الجاهلون من الجزائريين إلى أن الشيخ أحمد قد تزوج أوريلي على سنة الله ورسوله، وأنه طلق نساءه الأخريات، وأن المفتي الحنفي هو الذي حرر العقد بعد رجوع الزوجين (1872) من فرنسا، وأشهر الزواج، فهل كان الزواج قبل ذلك زواجا سريا أو غير شرعي، وما دروا أن الاستعمار إذا أراد شيئا قال له كن فيكون (¬2). وما أكثر الجاهلين فينا بالأمس واليوم!. وخلال السبعينات والثمانينات عاشت الجزائر أحداثا جساما، عسكرية وسياسية واجتماعية، من ثورة 1871 إلى ثورة 1881، ومن قرارات كريميو إلى قرار إنشاء الحالة المدنية، ومن مصادرة ما بقي من الأراضي لإعطائه إلى لاجيء الألزاس واللورين إلى قانون الأهالي - كود دو الأندجينا - البغيض، وقد عرفنا أن بركة الطريقة التجانية ما تزال خلال هذا العهد، في أولاد الحاج ¬

_ (¬1) هذا هو عنواد الكتاب La Reine De Sables (¬2) قالت مجلة (إفريقية الفرنسية) إن أحمد التجاني قد تزوج أوريلي الفرنسية لأنه أراد (أن يمحو ما قد يكون علق في أذهان الحكام الفرنسيين من انحرافه). انظر كراسة تأبينه، ط، فونتانة، الجزائر 1897.

علي التماسيني، وكان أولاد محمد الصغير التجاني، ينظرون بعين السخط إلى هذا الوضع حتى كادت الزاويتان تنفصلان، كما أشرنا، ويبدو أن الفرنسيين لم يقرروا ما إذا كان الجو مناسبا لإعلان أحمد التجاني، على ما هو عليه، شيخا للطريقة، ولذلك اكتفوا به مقدما، وسمحوا له فقط باستقبال الزيارات، وبقيت أوريلي التجاني - التي لم نعرف أنها غيرت اسمها رسميا إلى اسم إسلامي خلافا للعادة - هي عين الفرنسيين التي ينظرون بها إلى الزاوية والطريقة عموما، ويبدو أن أحمد التجاني كان يشعر بالحرمان من حق البركة، ولذلك لجأ إلى حلول أخرى يلجأ إليها كل محروم، ولكنها بقيت في طي الكتمان، وكذلك أخوه البشير، ولم يظهر من هذه الحلول إلا بعض الدخان، وفي إحدى المرات ذهب أحمد إلى تماسين لمحاولة رأب الصدع وإيجاد حل لقضية الوراثة والجبايات، ولكنه توفي في الزاوية التجانية في قمار سنة 1897، كما ذكرنا آنفا. وبمناسبة وفاته أقيم لأحمد التجاني حفل تأبين في الجامع الجديد بالعاصمة، وهو حفل رسمي جدا، الغرض منه ليس خدمة المرحوم ولكن خدمة الأحياء من الفرنسيين وغيرهم، وقد طبع محضر الحفل على نفقة الحكومة العامة في الجزائر في نفس السنة (¬1). حضر الحفل المدنيون والعسكريون الفرنسيون يتقدمهم الحاكم العام نفسه، جول كامبون، كما حضر السلك الديني من المسلمين وعلى رأسهم المفتون والقضاة ورؤساء الطرق الصوفية، بالإضافة إلى أعيان المسلمين من أغوات ونحوهم، وكانت الحفلة مناسبة لذكر خصائل المرحوم ومحاسن أبيه وفضل التجانية على فرنسا، مع ذكر كل حادثة جديرة بالتنويه. ونعود إلى البداية ونسوق لغة الفرنسيين، فمحمد الصغير (الذي يسمى هنا الحبيب) قاوم حصار الأمير ثمانية أشهر وامتنع من ملاقاة عدو فرنسا ¬

_ (¬1) ط، فونتانة، 1314/ 1897، موجود بحذافيره في زوزو (نصوص). مرجع سابق، 251 - 257، انظر أيضا عنه (إفريقية الفرنسية) (ابريل، 1897). وكذلك ديبون وكوبولاني، مرجع سابق، ص 426 - 430.

(الأمير). ثم مساعدة التجانية في تماسين للدوق دومال D'Aumale على احتلال بسكرة سنة 1844، وكان أحمد التجاني قد (انحرف) عن الخط سنة 1869 (¬1). فإنه ذهب إلى فرنسا سنة 1870 لتهنئة الجنود المسلمين الذين حاربوا مع فرنسا ضد ألمانيا (¬2). وكان زواجه من الفرنسية (البكر) الحرة، المصونة أوريلي بيكاردا تكفيرا عما يكون قد بقي في خاطر الحكام الفرنسيين ضده من (انحرافه). السابق، وكانت بيكار هي السبب في تحويل كوردان من زاوية صحراوية إلى قصر هجين يسر الناظرين (¬3). واستمر أحمد التجاني محل شك لدى السلطات الفرنسية التي كانت لا تصدق براءته، فبعد ثورة بوعمامة سنة 1881 ظهرت إشاعات جديدة مفادها أن أحمد قد تورط فيها أو أنه لم يمنع توريط أتباعه من الانضمام إليها، وحامت حوله الشكوك لاعتقاله، وبدل أن تنفيه السلطات هذه المرة أيضا اكتفت (بدعوته) إلى الجزائر للإقامة بها بعض الوقت، ومن هناك وتحت إشراف الفرنسيين، كتب الرسائل إلى إخوانه ومقدميه يحذرهم من مشايعة الثورة، ولكي يبرهن على براءته، حسب دعواهم، طلب من هذه السلطات إرسال ضابط إلى عين ماضي ليطلع على الأمور، وقد فعلت، كما طلب منها إرسال معلم فرنسي إلى هناك أيضا (1882). وفي سنة 1881 توجه أحد مقدمي التجانية وهو عبد القادر بن حميدة، صحبة العقيد (فلاترز) دليلا لبعثته، وقد قتل فلاترز ومات معه ابن حميدة، وأرسل أحمد التجاني الرسائل إلى توات وعين صالح وبورنو وسقوطو رغيرها لتقديم المساعدات للنفوذ الفرنسي، ونفس الشيء قامت به زاوية ¬

_ (¬1) اتهامه بأنه أيد ثورة أولاد سيدي الشيخ، وهو الاتهام الذي أدى إلى اعتقاله في الجزائر، انظر سابقا. (¬2) لم يشر هنا إلى كونه (تطوع) لحمل رسالة أو عريضة أعيان الجزائر إلى حكومة بوردو، وهي رواية رين الذي يذكر أيضا وضعه أثناء ثوره بوعمامة، ص 434. (¬3) المقصود أن القصر صار يجمع بين الميزات العربية الإسلامية وبين مظاهر الحضارة الأوربية.

تماسين أيضا، وتقديرا لهذا الدور حضر الحاكم العام شخصيا حفلة التأبين المذكورة، وألقى كلمة نوه فيها بدور الطريقة ودور أحمد التجاني ودور أوريلي بيكار في كوردان أيضا، ومما ذكره الحاكم العام أن أحمد التجاني كان عازما على إحداث مستشفى لزائري زاويته تكون إدارته في يد الآباء البيض، كدليل على تحرره وتقبله المدنية وخدمة الحضارة. ومن خطباء هذه المناسبة الرسمية جدا والتي لا يستطيع المدعوون إليها رفض حضورها، المفتي الحنفي أحمد بوقندورة، والمفتي المالكي محمد بن زاكور، والمفتي الأول هو الذي ألقى كلمة رجال الدين الموظفين، أما كلمة رجال الطرق الصوفية فقد ألقاها محمد بن الحاج محمد بن بلقاسم الهاملي نيابة عن عمه الذي حضر رغم مرضه (¬1). أما الأهالي فقد ألقى كلمتهم الآغا الأخضر حاكم الأرباع. وقد ظلت شمائل الشيخ أحمد التجاني تتردد على أفواه الحكام الفرنسيين إلى 1952، ففي افتتاح (متحف برازا) بالجزائر عرج الحاكم العام، روجي ليونار، على ذكريات برازا BRAZZA في إفريقية، فقال: كيف ننسى بهذه المناسبة ذكرى الشيخ أحمد التجاني رئيس الطريقة التجانية القوية وزوج تلك (المرأة) الفرنسية من اللورين، التي دخلت الأسطورة بالاسم الجميل وهو (أميرة الرمال)؟ إن أحمد التجاني هذا هو الذي أعطى إلى برازا الرسائل الثمينة لتقديمه إلى زعماء الكونغو من أعضاء طريقته، وهو الذي استجاب لدعوة برازا لتسهيل مهمة (فور - لامي FORT-LAMY) نحو تشاد (¬2). ¬

_ (¬1) توفي بعد ذلك بقليل، كما ذكرنا، انظر عن زاوية الهامل حديثنا عن الرحمانية، (توفي في 2 جوان 1897). أي بعد أربعين يوما من التأبين (التأبين 2/ 4/ 1897). (¬2) (مجلة البحر الأبيض) عدد 2، مجلد 12، 1952، مما يذكر أنه كان للشيخ أحمد التجاني ختم مربع مكتوب فيه: (يا عالم الخفايا، يا رازق البرايا، من فضلك العطايا، اغفر لنا الخطايا) وفي وسطه: (عبده أحمد بن مولاي محمد التجاني، 1879). انظر ديبون وكوبولاني، مرجع سابق، ص 426، وفي هذا المصدر صور أيضا لزاوية تماسين وزاوية قمار، وقصر كوردان، وضريح الحاج علي بتماسين.

بعد وفاة الشيخ أحمد، كانت البركة ما تزال في الشيخ محمد بن محمد العيد التماسيني، ورأت فرنسا أنه آن الأوان أن تفعل عدة أمور محافظة على مصالحها في الصحراء وإفريقية عن طريق التجانية، وبإشارة من الحاكم العام، جول كامبون، تزوج البشير التجاني من أرملة أخيه، أوريلي بيكار، وهكذا بقي قصر كوردان (عامرا). وكان أحمد قد ترك ولدين من هذه المرأة، الأمر الثاني الذي فعله الفرنسيون هو إعادة البركة إلى زاوية عين ماضي في شخص الشيخ البشير هذه المرة، رغم أن الشيخ محمد بن محمد العيد كان يحملها منذ 1893، ولكن يبدو أن فرنسا كانت غير مرتاحة له، وكانت تفضل عليه الشيخ محمد العروسي، شيخ زاوية قمار، لاعتبارات سنذكرها، الأمر الثالث هو المحافظة على وحدة الزاوية وعدم ظهور التصدع عليها، ولذلك قال ديبون وكوبولاني: إنه رغم الشقاق بين الزاويتين فإن الخط السياسي لهما ظل هو هو مع الفرنسيين، وقد اعترف الأتباع في الأغواط والمناطق المجاورة بالشيخ البشير كزعيم روحي للطريقة، وتوقع ديبون وكوبولاني أن ينمو نفوذه بالتدرج، وبعد إقامة العلاقات المتماسكة مع زاويتي تماسين وقمار من جهة وأتباع الطريقة في تونس وغيرها أيضا على عهده (أي البشير) من جهة أخرى. ومن أخبار الشيخ البشير التجاني (وقد سبق الحديث عن نشأته الغامضة) أنه استمر في مشيخة الزاوية بعين ماضي وحمل البركة التجانية إلى وفاته في قمار أيضا سنة 1912، وكان قد جاء من عين ماضي لتفقد زوايا التجانية بقسنطينة والصحراء الشرقية، وبهذه المناسبة ذكر أنه كان أول من ركب العربة (الكليش) التي يقودها حصانان، قادمأ من تقرت إلى قمار، وقد جاء أتباعه لاستقباله، وكانوا يضعون برانيسهم تحت عجلات العربة ليمنعوها من المرور وليحظوا برؤيته، ثم أصبحت كأنها محمولة من دفع وتدافع هؤلاء الأتباع (¬1). وأما أرملته (أوريلي) فقد عاشت إلى منتصف الثلاثينات. ... ¬

_ (¬1) كوفيه (رئيس المكتب العربي في سوف) مقالة بعنوان: (ملاحظات عن سوف =

ج - فرعا تماسين وقمار

ج - فرعا تماسين وقمار: هذا عن فرع التجانية في عين ماضي، أما فرعها في تماسين الذي أشرنا إليه في عدة مرات، فقد كان أكثر استقرارا واستمرارية بفضل شخصية الحاج علي وأولاده وأحفاده، فقد أسس هذا الفرع الحاج علي الينبوعي الذي جاء أجداده، حسبما هو الشائع، من (ينبع) بالحجاز، في ظروف مخير معلومة، وقد ولد لأبيه الحاج عيسى، في تماسين، سنة 1180، ونشأ على التصوف ويبدو أن تعليمه كان بسيطا، ذهب الحاج علي عدة مرات لزيارة الشيخ أحمد التجاني (مؤسس الطريقة) في عين ماضي ثم في فاس، مرة سنة 1204 وأخرى سنة 1214، وآخرها كان عند وفاة الشيخ التجاني في فاس، وفي إحدى المرات ذهب لأخذ الوصية منه لكي يكون هو حامل البركة بعده في الجزائر وراعى ابنيه، كما سبق، وقد بنى الشيخ علي زاوية تماسين منذ 1214 - في ضاحية تعرف بتملاحت، ورغم الخلاف بين عائلة بني جلاب (سلاطين تقرت) والحاج علي على النفوذ (السلطة الزمنية والروحية). فإننا لا نعرف أن السلطات العثمانية قد تدخلت في تماسين كما تدخلت في عين ماضي، كما لا نعرف أن الحاج علي كانت له وثائق (حماية) من حكام قسنطينة، كما جرت العادة مع بعض المرابطين والأشراف وحتى رؤساء الطرق الصوفية، ولعل ذلك راجع إلى تنافس بايات قسنطينة وبايات تونس على وادي ريغ وسوف، وكان الحاج علي يحبذ الفلاحة فشجعها مما أدى إلى عمارة تماسين بالنخيل والأشجار المثمرة، وبعد بلوغه ثمانين سنة توفي سنة 1260 (1844) (¬1). ولدينا أوصاف عديدة لشخصية الحاج علي ودوره إبان الاحتلال ¬

_ = والسوافة). في مجلة جغرافية الجزائر وشمال إفريقيا (S.G.A.A.N) (1934). ص 252، وحسب التقويم الجزائري للشيخ كحول لسنة 1912 أن الشيخ البشير توفي في رجب 1329، وخلفه ابنه محمد الملقب الكبير، ونرجح أن يكون محمد الكبير من امرأة أخرى غير أوريلي. (¬1) مفتاح، أضواء، مرجع سابق.

الفرنسي، يقول دو فيرييه: إن من عقائد الطريقة أن دعوات الحاج علي هي التي جعلت الجزائر تسقط في يد الفرنسيين عقابا للأتراك الذين قتلوا ابنه (¬1). ويخبر دو فيرييه، الذي كتب بعد سنوات قليلة من احتلال تقرت ووادي سوف، أن الحاج علي هو الذي أخبر أهالي وادي سوف ووادي ريغ والزيبان بتقدم الفرنسيين نحو بسكرة وقال لهم: إن الله هو الذي أراد أن يعطي الجزائر إقليمها للفرنسيين، وهو الذي مكن لهم فيها، فأبقوا مسالمين، ولا تطلقوا البارود عليهم ... فاتركوا الفرنسيين وشأنهم يفعلون ما يريدون، لأنهم اتخذوا في الظاهر طريقا عادلا وحكيما ... والواقع أن هذه القصص عن الحاج علي ليست خاصة بدو فيرييه، بل إن زملاءه الذين جاؤوا قبله وبعده رددوها أيضا، ونحن لا ندري صحة ذلك ولا صحة صدوره عن هذا الشيخ، إنما نذكره كرأي للفرنسيين في أعدائهم وحلفائهم من الجزائريين عند تقدم احتلالهم، فهم يبنون على أقوال الحاج علي استيلاءهم على جنوب إقليم قسنطينة (بدون مقاومة) (¬2). ويذهب ديبون وكوبولاني أنه كانت لدى الحاج علي وصية وهي أنه بعد موته تكون الخلافة على الطريقة متبادلة اختيارا بين أبنائه وأبناء الشيخ أحمد التجاني، وعلى هذا الأساس ترك الحاج علي الوراثة للشيخ محمد الصغير بن أحمد التجاني، كما أشرنا، وكان للحاج علي اثنان وعشرون ولدا، وما دام الشيخ محمد الصغير حيا فإن أبناء الشيخ الحاج علي لا حق لهم في الوراثة، لذلك انفتح المجال أمامهم سنة 1853، سنة وفاة شيخ عين ماضي، سيما وأن ابنه الكبير قد توفي أيضا وأن الولدين المنسوبين إليه صغيران، فآلت الوراثة إذن إلى أحد أبناء الحاج علي وهو الشيخ محمد ¬

_ (¬1) لا نعرف ذلك ولم يذكره أحد غير دو فيرييه، ولعله من نسج خيال الأسطورة، وقد أشاع الفرنسيون مثل هذه التنبؤات، ونسبوا بعضها إلى الدراويش والصالحين، مثل الحاج عيسى الأغواطي الخ، انظر دو فيرييه (اكتشاف الصحراء). مرجع سابق، ص 309. (¬2) دو فيرييه، مرجع سابق، ص 309.

العيد، وقد ولد هذا الشيخ سنة 1230، وتشيد به المصادر الفرنسية المعاصرة له، سيما دوفيرييه الذي عرفه وصوره وحمل رسائله، كما عرفه رين الذي ألف كتابه تسع سنوات بعد وفاته، وتقول بعض المصادر: إن محمد العيد كان على ثقافة طيبة واستعداد لأداء دور رئيس الزاوية، وأنه حج عن طريق تونس، ويصفه دوفيرييه (1859) أنه كان وفيا لتقاليد الطريقة التجانية، وأنه رجل ممتاز ومتعلم وخير وورع، ولذلك كان موضع احترام الجميع، وكان يلقب (بالولي). ويشهد له دوفيرييه أنه هو الذي ساعده، بوصية من الجنرال ديفو، القائد العسكري لإقليم قسنطينة، على الدخول بكل أمن وأمان إلى بلاد الطوارق رغم معارضة مقدمي الطريقة السنوسية، وقد أعطاه محمد العيد لقب التابع للطريقة وهو (الأخ). لحمايته من الأذى، وقلده سبحة الطريقة، فسافر محميا، على أنه عضو في الطريقة التجانية، واستقبله أتباعها وأنصارها على أنه منها فعلا (¬1). ويقول رين (1884) إن محمد العيد قد سار على نفس النهج الذي سارت عليه الطريقة التجانية بالنسبة للفرنسيين، وأظهر كل التفهم والإخلاص، وكان تأثيره في سوف ووادي ريغ قد سهل كثيرا مهمة الجنرال (ديفو Desvaux) سنة 1854 في تأسيس السلطة الفرنسية (الاحتلال) بهذه المنطقة، ولما يمر عليه سوى عام على تقلده شؤون الطريقة، وأنه هو الذي منح دوفيرييه سنة 1860 سبحته ووصية إلى إخوانه، وبفضل ذلك حقق دوفيرييه رحلة ناجحة في بلاد الطوارق، ويصفه رين أيضا بأنه كان يدير زاوية تملاحت (تماسين) بحذر وحنكة كبيرين، وكان رئيسا روحيا ناجحا للطريقة، وظل موقفه من فرنسا هو هو، محترما وصحيحا، وكانت له في بلاد الطوارق سياسة حكيمة، وبفضل ورعه وفضائله الشخصية كان يلقب بـ (صديق الجميع). وقد كان موقفه إبان ثورة 1871 صريحا وسلوكه واضحا فلم يقع بين إخوانه عصيان على سلطته، ولكن تأثير التجانية بين 1860 و 1881 على ¬

_ (¬1) نفس المصدر، أورد دو فيرييه صورة للشيخ محمد العيد تحتل صفحة كاملة من كتابه.

الطوارق قد ضعف نتيجة نشاط السنوسية في المنطقة إذ كان نفوذ هذه الطريقة يزداد هناك منذ 1860، ومنذ ثورة 1864 فصل التجانيون قضيتهم عن قضية أولاد سيدي الشيخ الذين كان عدد كبير منهم قادريين، وهكذا فإنه كان للفرنسيين مؤشرات Indications ثمينة من زاويتي عين ماضي وتماسين، ضد أولاد سيدي الشيخ (¬1). وقد ذكرنا أن الشيخ محمد العيد قد توفي سنة 1875. وقد وصف دو فيرييه زاوية تماسين في عهد الشيخ محمد العيد بأنها كانت أعظم زوايا الجزائر، وقال إنك حين تدخلها تحس بعظمة المؤسسة وحكومتها القوية، فيها مسجد للصلاة، وعدد من المنازل للأتباع والخدم، وقصر ضخم لإقامة الشيخ يحتوي على مرايا جيء بها من البندقية، كما تحتوي على الأرائك المزينة على الطراز الأوربي، وكل ذلك من الضخامة بحيث لا تظن نفسك في مدينة صحراوية، والغريب أن دو فيرييه أضاف، بعد أن ذكر أن الزاوية قد أبقت على العلاقات الطيبة مع السلطات الفرنسية، بأنها كانت مركزا كبيرا وأنها كانت تحت حماية حكام فاس وتونس (¬2). وقال: إن ¬

_ (¬1) رين، مرجع سابق، ص 430، وكانت وفاة الشيخ محمد بن علي السنوسي سنة 1859. (¬2) ثبت من بعض الوثائق التونسية أن للشيخ محمد العيد يدا في إلقاء القبض على الثائر علي بن غذاهم، سنة 1864، وقد أشار إلى القصة ابن أبي الضياف في كتابه بدون توضيح، لكن أحد الكتاب، وهو عمر القروي، أضاف على نسخته من (الإتحاف) أن محمد العيد قد كاتب أثناء أدائه الحج (سنة 1864) علي بن غذاهم ووعده بالشفاعة والأمان باسم القطب الرباني أحمد التجاني، فلما قدم عليه طلب منه وضع سلاحه لأن ذلك من شروط التوبة والأمان والطاعة وطلب الشفاعة، ثم كاتب الوزير في الحين بوجود علي بن غذاهم في قبضته، ولم يذكر له مكتوب الشفاعة، فبعث الوزير من اعتقل ابن غذاهم، وأخذ محمد العيد جائزة على فعله، وكان محمد العيد قد نزل بهنشير خلاد، قرب مدينة قربص، انظر النيال (الحقيقة). مرجع سابق، ص 331 - 332، ويذكر (رين). ص 450، أن محمد الصادق (باي تونس) كان تجانيا، وأن عدة شخصيات من قصر باردو كانوا ينتمون إلى الطريقة التجانية أيضا.

نفوذها يمتد إلى تمبكتو والسودان ومصر ومكة، وأن بعض أمراء وملوك الزنوج في إفريقية أعضاء في الطريقة التجانية وهم يقومون بحملات ضد الوثنية في إفريقية الوسطى (¬1). وهناك رواية أخرى تتحدث عن الشيخ محمد العيد ودوره في المنطقة بطريقة تختلف في تفاصيلها، ونعني بذلك حديث الضابط فيرناند فيليب سنة 1874، أي بضعة شهور فقط قبل وفاة الشيخ، وكان فيليب هذا في حملة الجنرال ليبير ضد الصحراء، وكان ليبير عندئذ هو قائد المنطقة الشرقية التي مقرها قسنطينة، فحين تقدم الموكب الفرنسي من تملاحت (تماسين) وجد في استقباله الشيخ محمد العيد وأخاه معمر، راكبين على بغلين، وقد نزلا عن المركوب تحية للزوار، وتأسفا على أن الموكب لم يقبل دعوتهما لزيارة الزاوية، ولكن لماذا لم يزر الجنرال ليبير الزاوية إذن؟ يقول فيليب: إن الجنرال كان يشك في أن للزاوية التجانية ضلعا في مقتل العربي المملوك، قائد وادي سوف، ولذلك اكتفى بالتوقف بتملاحت (¬2). وبعد التحية المعتادة حمل الخدم الشيخ وأركبوه على بغلته ودخل تماسين، أما أخوه معمر الذي كان مكلفا بالحياة المادية والدبلوماسية للزاوية، فقد رافق الموكب الفرنسي إلى بلدة عمر. يصف فيليب الشيخ محمد العيد بأنه كان في نحو الستين من عمره عند وفاته، وكان رجلا بدينا جدا، وله بشرة داكنة السمرة (وكذلك تظهر صورته في كتاب دو فيرييه) ولحية قصيرة وكلها بيضاء تقريبا، وكان له وجه لا يعبر، إذا تأملته، عن أي شيء، ولكنك تعترف عندما تراه أنه الرجل الذي إذا أراد شيئا تحقق فورا لعدم وجود الوقت لديه، أما أخوه معمر فقد كان أصغر منه سنا ¬

_ (¬1) دو فيرييه، مرجع سابق، ص 310، مع صورة لزاوية تماسين. (¬2) عن حادثة مقتل العربي المملوك، انظر الحركة الوطنية ج 1، لم يكن معروفا عن زعماء التجانية الخروج لاستقبال رجال الدنيا، وقد عرفنا تصرف محمد الصغير في عين ماضي مع الجنرال ماري سنة 1844، فلماذا خرج محمد العيدلاستقبال الجنرال ليبير؟.

وأطول منه قامة وله بشرة مهجنة وعينان جاحظتان، يمتاز بالذكاء والأنف المفرطح، وله شفتان كبيرتان وشهوانيتان، وكان معمر رجلا حيويا أيضا وهو الرجل الرئيسي في العائلة، حتى أن أخاه محمد العيد، على سمو مقامه الديني والروحي، يتبع نصائحه ويشاوره في أموره، سيما فيما يتعلق بالفرنسيين. وسلطة محمد العيد الروحية، حسب رأي فيليب، كانت قوية في الجنوب إذ يمتد نفوذه إلى جبل الهقار، كان محمد العيد يبتعد عن المسيحيين بغرض المحافظة على سمعته الدينية عند أتباع الطريقة، فهو لا يتصل بالفرنسيين في المسائل الإدارية، تاركا ذلك لأخيه معمر الذي يقوم بمختلف شؤون الدنيا، ويقول فيليب: إن محمد العيد قد حقق غرضه من سياسته، ذلك أن الطرق المنافسة للتجانية لم تجد ثغرة تدخل منها لنقدها أو نقده على صلته بالفرنسيين، بينما أخوه معمر هو الذي كان يتصل بالفرنسيين، وهو ليس شيخ زاوية أو مقدمأ للطريقة، رغم أن الجزائريين الآخرين الذين يسميهم الفرنسيون متعصبين وحسادا وأطهارا كانوا ينعتون معمر بأنه الرجل المتعامل مع الكفار، ولذلك حكم فيليب على أن معمر هذا لا يمكنه أن يكون، من أجل ذلك، مقدما للطريقة التجانية، فهو يتناول العشاء مع الجنرالات الفرنسيين، يستقبله الضباط السامون، ويحصل على زيارات (جبايات) الأحباب في الطريقة، ولكنه، حسب رأيه، لا يمكن أن يطمح إلى أن يكون شيخ الطريقة (¬1). غير أن رأي فيليب كان في غير محله، فقد رأينا من الشجرة العائلية أن معمر هذا قد تولى لفترة قصيرة مشيخة الطريقة مع ذلك، سنة 1892، ولعل ذلك هو السبب الذي جعل الفرنسيين يرشحون زاوية عين ماضي لتقود الطريقة التجانية من جديد ابتداء من سنة 1897، حين رخصوا للبشير التجاني، الزوج الثاني لأوريلي الفرنسية، ليكون هو حامل البركة بعد أن مز جيل على حادثة الوراثة ونسيها الناس إلا القليل منهم. ¬

_ (¬1) فيرناند فيليب (مراحل صحراوية). الجزائر، 880 1، ص 44 - 48.

وقد عثرنا على بعض الرسائل المرسلة من بعض شيوخ زاوية تماسين في الثمانينات، إلى مدير مدرسة تقرت السيد جان لاقليز Lagleyz. من ذلك رسالتا اعتذار من الشيخ معمر إلى لاقليز عن حضور حفل بالمدرسة، الأولى بسبب وجود الجنرال الفرنسي قائد الناحية العسكرية في تقرت وضرورة حضوره، وهي بتاريخ 12 مايو 1885، والثانية اعتذاره لمرضه بالزكام وذلك بتاريخ 30 ديسمبر 1887، ويبدو أن الحفلة الأخيرة كانت بمناسبة رأس السنة الميلادية تحت عنوان نزهة (حفلة؟) المكافآت. وهناك رسالة من الشيخ محمد الكبير إلى لاقليز أيضا، وهي مرسلة إليه من تماسين في يناير 1887 لشكره على الدواة التي وصلته منه، وتعهد له الشيخ بجلب الأشجار التي طلبها لاقليز من توزر، وفي هذه الرسالة بعض العبارات الفرنسية (¬1). ولا ندري من هو محمد الكبير بالضبط، فهل هو محمد بن محمد العيد، شيخ الزاوية نفسه عندئذ؟. على أثر وفاة محمد العيد اجتمع المقدمون وانتخبوا خليفة له يوم 19 نوفمبر 1875، فكان هو أخاه محمد الصغير بن الحاج علي، وكان محمد الصغير هذا مقدما على زاوية قمار بوادي سوف، وتذكر المصادر الفرنسية أن هذا الانتخاب قد سبب دهشة في أوساط الناس وأحرج أحمد التجاني في عين ماضي كثيرا، ذلك أن المعتقد العام هو أن الوراثة للبركة متبادلة بين العائلتين والزاويتين، وأن ذلك يعني أن الدور الآن على الشيخ أحمد التجاني، ويذهب رين، وهو صوت السلطات الفرنسية المعاصر للأحداث والخبير بدقائقها، إلى أن هذا الانتخاب، كان مع ذلك موفقا، وهذا بالطبع رأي السلطات الفرنسية التي كان في إمكانها أن تغير الأوضاع لو أرادت لمكانتها ولمصلحتها في الزاويتين، بل يضيف رين: إن الانتخاب كان (منطقيا وجيدا). لماذا؟ لأن معظم الطرق كانت تلجأ إلى هذه الوسيلة، وتقدم مصلحة الطريقة العامة على المصالح الفردية الخاصة، وهو المبدأ الذي يخضع له الجميع، هذا من ¬

_ (¬1) انظر (كتاب الرسائل) لبلقاسم بن سديرة، ص 180 - 183.

جهة، ومن جهة أخرى، فلأن الشيخ أحمد التجاني لم يكن الرجل المؤهل لهذا المنصسب (الخليفة أو الشيخ) لعدة أسباب، منها، في نظر رين، (سوابقه) أي تداخله أيام ثورة أولاد سيدي الشيخ، و (سلوكه). ونحن لا ندري إلى أي شيء يشير (رين) بذلك، ولعله كان يلمح إلى ما أشيع من أن الشيخ أحمد كان يتناول الخمر في قصره أو إلى موقفه المشبوه أيام ثورة 1864، وأخيرا فإن عمره لم يكن سوى أربع وعشرون سنة، ولا ندري لماذا لم يذكر رين أيضا كون الشيخ أحمد كان متزوجا من الفرنسية أوريلي بيكار، وخلاصة رأي رين، الذي هو رأي السلطة الفرنسية، أن الشيخ أحمد لم يكن الرجل الذي يتوفر على (القوة المعنوية) لأخذ أمور الطريقة بين يديه وادارتها بسلطة ونجاح (¬1). كان محمد الصغير بن الحاج علي في الخامسة والستين من عمره حين تولى مشيخة الطريقة التجانية في زاوية تماسين، وقد جاء في وقت كان فيه نشاط الطريقة السنوسية في الجنوب الشرقي وفي ليبيا وإفريقيا كبيرا ويشكل خطرا على السلطات الفرنسية، وكان على التجانية أن تبذل جهدها بالتعاون مع فرنسا لوقف تقدم السنوسية ووقف دعاية الجامعة الإسلامية، ولذلك كان لا بد من اختيار شخصية ناضجة ومتفهمة وحكيمة، وهذه الأوصاف تتوفر، حسب المصادر الفرنسية في محمد الصغير بن الحاج علي، فقد جمع، حسب قولهم، كل الخصائص المطلوبة، من ورع وعلم وفضيلة، وهو أيضا رجل متسامح في فكره، وبسيط في مظهره، رقيق الحاشية، كما أنه أظهر، مثل أخيه محمد العيد، إرادة خيرة نحو الفرنسيين وإخلاصا كاملا لهم، ولكي لا يتداخل شخصيا في الأمور السياسية والعلاقات العامة، جعل أخاه، معمر بن الحاج علي، سندا له وعينه للقيام بدور السفير والمتحدث الرسمي باسمه ورئيس المراسيم، كما كان معمر يقوم بشؤون الموظفين وكل القضايا المادية، ويلاحظ رين على معمر أنه كان ذا قيمة ثقافية، ولكنه كان خشنا في ظاهره. ¬

_ (¬1) رين، مرجع سابق، ص 438.

وكان دميم الخلقة ولكن يعترف له بالدبلوماسية والقدرة (¬1). وكانت بين السلطات الفرنسية والطريقة التجانية بفرعيها مراسلات متبادلة، وكانت السلطات الفرنسية تحتاج في كثير من المناسبات إلى تدخل الزاويتين أو إحداهما في إفريقية حيث الثورات والقيادات المتصارعة المنتمية إلى هذه الطريقة الصوفية أو تلك، وكانت فرنسا عندئذ تخوض حربا ضد الحركة الإسلامية بقيادة الحاج عمر وابنه في غرب إفريقية، وكان الحاج عمر من زعماء الطريقة التجانية بعد أن كان قادريا، واستعملت فرنسا نفوذها لدى التجانية في الجزائر للتأثير على التجانية المحاربين لها في إفريقية، وقد جاء رين بعدد من الرسائل المتبادلة بين السلطات الفرنسية وزاويتي عين ماضي وتماسين، منها رسالة من لويس تيرمان، الحاكم العام للجزائر يطلب فيها تزكية مهمة السيد بورنبي - ديسبورد الذاهب إلى سيقو وفوتا، حيث الحركة الإسلامية المعارضة للتسرب الفرنسي، رغم أنهم من أتباع التجانية، وتظهر الرسالة التي كتبها الاخوان: محمد الصغير ومعمر، ابني الحاج علي، روح التسامح، كما قال رين، وكلمة (التسامح) تعني التساهل مع المسيحيين وتقبلهم والابتعاد عن الجهاد ضدهم، وهي كلمة تستعمل في مقابلة (التعصب) التي يصف بها الفرنسيون من كانوا ضدهم أو جاهدوهم (¬2). وهناك رسالة أخرى مماثلة صادرة عن الشيخ أحمد التجاني من عين ماضي، إضافة إلى رسالتين أخريين من الزاويتين موجهتين في نفس المعنى، إلى الشيخ احمادو بن الحاج عمر، بسيقو (¬3). ¬

_ (¬1) رين، مرجع سابق، ص 439. (¬2) رين، مرجع سابق، ص 439، والرسالة بين صفحات 436 - 438، ومؤرخة في 27 محرم، 1300 (8 ديسمبر 1882). ورسالة شيخ التجانية تاريخها 8 ذو الحجة 1300. (¬3) نفس المصدر، ص 438 - 439، ويذكر كامبون (حكومة الجزائر). ص 66، أنه طلب من أحمد التجاني أن يوصي حكام سقوطو وبورنو بمسافرين فرنسيين إلى =

إن العلاقات بين السلطات الفرنسية والطريقة التجانية ليست محصورة في الجزائر دافريقية، ولو كان أمرها متعلقا بالجزائر لربما عاملتها فرنسا كما عاملت الطرق الأخرى، ولكن المصلحة البعيدة اقتضت أن تكون بين الطرفين معاملات خاصة، فلا الدرقاوية/ الشاذلية ولا الرحمانية، ولا حتى القادرية كان يمكنها أن تلعب الدور الذي لعبته الطريقة التجانية في إفريقية وداخل الحركات السياسية هناك، وقد لاحظ دو فيرييه أن للتجانية زاوية بين طوارق الأزجر وطوارق الهقار، وهي تقع في مكان يسمى (تيماسينين). وكان قد أنشاها الحاج الفقي حوالي 1700. ومن الأكيد أنها لم تكن زاوية تجانية عندئذ لأنها (التجانية) لم تؤسس إلا في آخر القرن 18 م، وقد عرفت هذه الزاوية عدة مقدمين، منهم الحاج البكري، الذي قال عنه إنه عاش 108 سنوات، وتوفي 1831، والحاج عثمان، والأخير هو الذي لقيه دوفيرييه، وسيرد اسمه في هذا الكتاب، فقد رافق هذا المقدم (الحاج عثمان) دو فيرييه إلى غدامس وأوصى عليه اخنوخن الذي أوصله إلى مرزوق، وكان للتجانية زاوية أخرى في القورارة بمنطقة توات، ومقدمها هو الحاج محمد الفجيجي، وانتشر التيجانيون في إفريقية الوسطى وبورنو وتمبوكو وبلاد الفوتا، وخص دو فيرييه مدينة الوعاد EL-OUAD وتماسين وشنقيط بالنشاط التجاني (¬1). ونظرا لذلك كله كانت فرنسا في حاجة إلى دعم التجانية، ولكي تحصل على هذا الدعم القوي، عليها أن تحافظ على وحدة الطريقة وقوتها أيضا. فرغم التوتر الذي شهدته الزاويتان منذ انتخاب محمد الصغير سنة 1875 فإن الانفصال الفعلي لم يقع بينهما، ولو حدث ذلك التوتر في طريقة أخرى لشجعه الفرنسيون وكونوا للطريقة الواحدة عدة رؤوس، كما لاحظنا، ولكننا هنا أمام مسألة خاصة، كان الشيخ أحمد التجاني يعتبر نفسه هو ¬

_ = النيجر، ففعل التجاني ذلك (عن طيب خاطر) ونعته بأنه (رجل مخلص لنا). (¬1) دو فيرييه، مرجع سابق، ص 310.

القائد الأعلى الحقيقي للطريقة وليس محمد الصغير في تماسين، ولم يكن يعترف بسلطته ولم يقبل بانتخابه، ولكنه أبقى على علاقة مجاملة معه، لأن فرنسا لم تعطه الضوء الأخضر للانفصال، فاكتفى بالإشراف على زاوية عين ماضي وعلى المقدمين الواقعين غرب خط الجزائر - الأغواط، فأصبح للطريقة فرعان في واقع الأمر، يشرف على كل منهما شيخ، أحدهما منتخب والثاني يرى نفسه هو الأحق بالخلافة، وتذكر مصادر الفرنسيين أن هؤلاء كانوا يتراسلون مع كليهما على قدم المساواة، أي دون سحب الاعتراف بأي من الشيخين، لأن مصلحة فرنسا السياسية تقتضي ذلك (¬1). وكانت الزيارات متبادلة بين الزاويتين، فقد زار البشير التجاني تماسين لبضعة أسابيع سنة 1884، وقد عرفنا أن أحمد التجاني نفسه قد ذهب بعد وفاة الشيخ محمد الصغير، إلى قمار لإيجاد صيغة للوراثة ترضي الطرفين، ولكن الوفاة أدركته هناك. ويبدو أن هناك حادثة جرت ناحية تماسين سلطت بعض الظلال على العلاقات بين فرنسا وفرع تماسين، في أوائل عهد محمد الصغير (1878). والحادثة في ظاهرها عائلية ولا تستحق كل الاهتمام الذي أعطى لها، ولكن تطوراتها وتفريعاتها وتوقيتها جعلت منها حادثة سياسية أيضا، فقد تزوج المسمى محمد بن بلقاسم، وهو من أولاد السائح القريبين من تماسين، من أخت معمر بن الحاج علي، الرئيس الزمني للزاوية، وأنجب منها أربعة أولاد، وكان معمر لا يميل إلى أبناء أخته، فلم يهتم بتربيتهم ولا بسلوكهم، فهام اثنان منهم، وهما محمد الصغير وأحمد، في الأرض وأخذا يجمعان الزيارات (النقود ...) باسم شيخ الزاوية، مستغلين علاقة القرابة، وتداخلا مع الطوارق، واعتقدت السلطات الفرنسية أن الزاوية نفسها متورطة في ذلك، وأجرت السلطات التحقيق وتبينت براءة الزاوية، أو هكذا انتهى التحقيق، وظهر أن الزاوية كانت تشكو من تصرف الولدين، وطالبت بتسليط العقوبة عليهما، ولما علم الوالدان بذلك هربا إلى تونس، وبعد حين رجع ¬

_ (¬1) رين، مرجع سابق، ص 441، كان البشير كثير التردد على زاوية تماسين وقمار.

أحدهما، وهو محمد الصغير إلى الجزائر فسجنته السلطات في بريكة، ثم كتب سنة 1880 رسالة إلى خاله معمر، يعلن توبته وخضوعه لشروط الزاوية، باسمه وباسم أخيه الذي بقي في تونس، فأطلق الفرنسيون سراح محمد الصغير، ورجع الوئام بين الزاوية والأخوين، ولكن الفرنسيين بقوا حذرين من هذا (الوئام) فقد أقام الأخوان زاوية جميلة وكبيرة في الطيبات (مقر أولاد السائح) القبلية وسكنا فيها، ورأى الفرنسيون أن معمر قد يكون اكتفى بعدم التعرض لزاوية نائشة، وأن الأفضل نسيان ما حدث من ابني أخته، ولكنهم (الفرنسيين) كانوا يتوجسون خيفة من انفصال هذه الزاوية عن زاوية تماسين، كما حاولت هذه الانفصال عن عين ماضي (¬1). وهناك حادثة أخرى وقعت في زاوية تماسين لعلها أكثر أهمية لما لها من آثار على العلاقات مع زاوية عين ماضي أيضا، ونعني بذلك الانقسام الذي حدث بعد موت الشيخ محمد الصغير سنة 1892، فقد تولى أخوه معمر، شؤون الزاوية الروحية والزمنية لمدة سنة واحدة (¬2). ثم وقع انتخاب محمد بن محمد العيد خليفة له، دون إعادة هذه الخلافة لزاوية عين ماضي برئاسة أحمد التجاني، ويفهم من المصادر الفرنسية أن عائلة الحاج علي نفسها لم تكن متفقة على هذا الانتخاب، فإذا كان موقف زاوية عين ماضي معروفا وقديما منذ انتخاب محمد الصغير سنة 1875، فإن ما حدث بزاوية تماسين يعتبر جديدا ويحتاج إلى معالجة حكيمة قبل أن يستفحل ويظهر للعيان، يقول ديبون وكوبولاني إنه بعد انتخاب محمد بن محمد العيد زعيما روحيا للطريقة التجانية كلها، خرج البعض وشكلوا حزبا في تماسين، بعضهم لم يعترفوا ببركته (عهدته) والبعض الآخر لم يعترفوا إلا ببركة زاوية عين ¬

_ (¬1) رين، مرجع سابق، ص 440 - 441. (¬2) يبدو أن سبب التغيير السريع هو وفاة معمر المذكور، سنة 1310 هـ (1893). انظر وصف (رين) وفيليب له فيما بعد.

ماضي (¬1). وقد بقيت الأمور على ذلك النحو من الانقسام وسوء التفاهم إلى سنة 1897، سنة وفاة الشيخ أحمد التجاني وتولى أخيه البشير التجاني الذي حمل البركة أيضا (بالتقاسم) مع محمد بن محمد العيد، ويظهر أن السلطات الفرنسية كانت تستفيد من هذا الانقسام المزدوج أكثر من ذي قبل، إذ أبرزت الأحداث شخصية جديدة لعبت دورا من الدرجة الأولى، ونعني بذلك الشيخ محمد العروسي. والشيخ محمد العروسي كان من نتاج هذه الفترة، فهو محمد بن محمد الصغير بن الحاج علي، قرأ القرآن على طالب شنقيطي اسمه محمد الطالب، ثم قرأ الفقه على قاضي قمار، الأخضر بن أحمد، والتصوف على والده (¬2). وكان متعلما ذكيا، وله ولع بالعلوم والمعارف، وله طموح وتطلع إلى لعب دور قيادي، وقد ذكرنا أن والده كان شيخا لزاوية قمار، ولعل محمد العروسي يكون قد ولد لأبيه فيها، ومهما كان الأمر فقد تولى في عهد أبيه وظيفة مقدم زاوية قمار، وهو الذي جعل من هذه الزاوية محط الأنظار لرجال زاوية تماسين وعين ماضي، وكذلك لرجال السلطة الفرنسية الذين سال لعابهم لتأثير الشيخ محمد العروسي في النواحي الجنوبية بدل رؤسائه في تماسين، كما كانت الزاوية في عهده مدرسة لتدريس العلوم، على الأقل لعدد محدود من أبناء الزاوية وأصدقائها، وقد صادف وجوده على رأس الزاوية في قمار اهتمام السلطات الفرنسية بمنطقة الهقار والتعرض لتقدم السنوسية، أي فترة العشرية الأخيرة من القرن الماضي وبداية هذا القرن، وعاصر الشيخ العروسي عهدي جول كامبون وشارل جونار وشارل ليتو، الحكام العامين على التوالي في الجزائر، وتوفى سنة 1920، وصفه ديبون وكوبولاني سنة 1897 بأنه في الوقت الذي تعاني فيه زاوية تماسين الانقسام حول دور الشيخ محمد بن محمد العيد، أصبح الشيخ محمد العروسي هو الشخصية التي غطت على الجميع في مقره بزاوية قمار، فهو شخص له ¬

_ (¬1) ديبون وكوبولاني، مرجع سابق، 436. (¬2) مفتع (أضواء). مخطوط.

مؤهلات متميزة، ومتعلم، وورع، غير متعصب، وذكي، ونشيط، ثم إنه الشخص الوحيد من عائلة الحاج علي، الذي له علاقات مع الأتباع البعيدين عن الزاوية الأم (تماسين) سواء في الصحراء أو في السودان. وقد تعرضت عدة مصادر فرنسية إلى دور الشيخ العروسي آخر القرن الماضي في الجزائر والصحراء وإفريقية، ولنقل إن رئيس المكتب العربي عندئذ في سوف وتقرت هو الضابط - المهندس بوجا Pujat الذي اهتم بالمباني والمياه، وفي الوقت الذي كان فيه زميله ديبورتر يفضل التعامل مع زعماء القادرية (انظر سابقا). كان بوجا يفضل التعامل مع التجانية، ومن أبرز زعمائها حينئذ هو الشيخ العروسي بدون شك، فقد اعتمد عليه بوجا في حل مشاكل الصحراء وتسهيل مهمة الضابط فورو وغيره من (المستكشفين الفرنسيين). والتعاون مع زعماء قبيلة الأزجر مثل الشيخ عبد النبي (¬1). وبدوره ذكر الحاكم العام، كامبون، الأحداث التي وقدت في عهده في الصحراء، فنوه بدور التجانية لمساعدتها في بعثة فلاترز رغم فشل البعثة ومقتل زعيمها مع مقدم التجانية الذي كان يرافقه، وفي آخر 1892 جاء عبد النبي على رأس (ميعاد) تارقي إلى العاصمة، واستقبلهم هو (الحاكم العام) بمظاهر كبيرة من الفخفخة، وتعهد الميعاد - أو الوفد - بتمهيد احتلال عين صالح وتيديكلت، وفي سنة 1893 جاء ميعاد تارقي آخر ونزل بقمار واستقبله هناك الجنرال دولاروك قائد الناحية العسكرية الشرقية، وقد طلب الميعاد حماية فرنسا من (الطرابلسيين). وفي 1895 جاء عبد النبي على رأس خمسة خيام تارقية من قبيلة ايفوغاس وطلبوا النزول في وادي سوف فرارا من (الشعانبة المتمردين). وقد سمح لهم بالبقاء فترة في برج بلحيران. وتعهدت قبائل الأزجر بالسماح للمسافرين الفرنسيين بالمرور بمنطقتهم بشرط أن تدفع فرنسا لهم تعويضات عن إبلهم التي أخذت منهم، وكان ذلك الطلب ¬

_ (¬1) روبير بيروني R.Peyronnet (الكتاب الذهبي) الجزائر، 1930، ص 470 - 474، وفيه حياة بوجا وسياسته في المنطقة.

بتدخل من فورو، فقبل الحاكم العام الشرط إذا جاء أصحابه لقبض تعويضهم في الوادي، ولكن التوارق (لا يحترمون إلا القوة) حسب ملاحظة فورو، ولذلك قام الفرنسيون ببناء برج في تيماسنين (¬1). وكان فورو (خونيا) من أتباع التجانية، بناء على وثيقة سلمها له الشيخ العروسي، واستطاع فورو بذلك أن يشق طريقه في الصحراء إلى السودان، كما رافقه في ذلك المقدمون التجانيون الذين طلبهم فورو من الشيخ العروسي، واعترف فورو بأنه لولا هؤلاء المقدمون لما استطاع عبد الحكيم بن الشيخ، رئيس الشعانبة الذي رافقه في كل الرحلة ورجع معه إلى فرنسا، ومن هؤلاء المقدمين نذكر: عبد النبي، وأحمد باي، وعبد القادر بن هيبة، محمد بن بلقوم ومحمد بن قدور، الأولان من التوارق، والثالث من الشعانبة، والرابع والخامس من وادي سوف، وقد زودهم الشيخ العروسي بمجموعة كبيرة من الرسائل إلى الأعيان في كل محطة، ومنها خمس عشرة رسالة سلمها فورو إلى عبد النبي الخبير في المنطقة، ولكن بعض المقدمين لقي حتفه مع ذلك، مثل أحمد باي الذي قتله، كما قيل، جماعة من التوارق في صيف 1899، وكانت هذه البعثة تضم أكثر من ثلاثمائة رجل معظمهم جنود جزائريون، ومنها 28 أروبيا، وكان مسؤول الجزائريين ضابطا اسمه بلقاسم بن الهلالي، ولعله من نواحي الزاب (¬2). وقد استغلت السلطات الفرنسية هذه (المؤهلات) التي تميز بها الشيخ محمد العروسي، فعن طريقه جرت المراسلات وإعداد وفد (ميعاد) بزعامة عبد النبي بن علي، وهو ابن أخ الشيخ عثمان (¬3). ونزل الوفد في ضيافة الشيخ ¬

_ (¬1) جول كامبون (حكومة الجزائر). ص 415 - 416. (¬2) عن هذه البعثة ودور الشيخ العروسي والتجانية انظر: ف، فورو F.Foureau (من الجزائر إلى الكونغو عن طريق تشاد). باريس، 1902، ط. 1990. (¬3) الشيخ عثمان هذا هو زعيم إحدى الزوايا التجانية في بلاد الطوارق، وقد جاء إلى الجزائر لأول مرة سنة 1856 وكان مرفوقا بعدة أشخاص، وهو الذي رافق دو فيرييه إلى غدامس، 1860. وذهب سنة 1862 إلى باريس، انظر لاحقا.

محمد العروسي والزاوية التجانية بقمار، وأعلن الوفد (وهو نوع من السفارة) أنه جاء ليعرف شروط ومطالب وعروض الفرنسيين في نواحي الهقار، وأبدى استعداد قومه لمعاقبة الذين قتلوا البعثة الفرنسية التي كان يقودها العقيد (فلاترز). وأخبرت الصحف الفرنسية أن الوفد (التارقي) قد اندهش من الكرم الذي وجده من السلطات الفرنسية من خلال الزاوية، ومن الاهتمام بلغة الطوارق وعاداتهم من قبل الفرنسيين، والمعروف أن الذين كانوا يتولون (الربط) والترجمة هم المستشرقون الفرنسيون، أمثال (ماسكري) و (موتيلانسكي). وقد وصف (ماسكري) الحفل الذي أقيم للميعاد التارقي في قمار، والموائد والخيام ونحو ذلك، تحت إشراف المكتب العربي طبعا، وبعد الاستراحة والتعرف على الشروط والعروض من الطرفين توجه الميعاد إلى مدينة الجزائر لمقابلة الحاكم العام، كامبون، وترأس الشيخ محمد العروسي بنفسه هذا الميعاد، خلال أكتوبر 1892، وأثناء حفل أقامه كامبون بالعاصمة خطب هذا كما خطب الشيخ محمد العروسي أيضا وقام بالترجمة عليه (موتيلانسكي). وقد جرى الحفل في قصر مصطفى باشا حيث مقر الحاكم العام، وفي وصفه للحفل قال (ماسكري) إن فرنسا وجدت دائما الولاء من الطريقة التجانية وأن الفضل في هذه المرة يرجع إلى الشيخ محمد العروسي، وكان الشيخ العروسي قد ذهب بنفسه إلى بلاد الطوارق، حسب تقرير كتبه (رولان). وأثر فيهم وجاء (العروسي) معهم إلى الجزائر، وأشاد رولان أيضا بدور العروسي الشخصي في الموضوع (¬1). كان الفرنسيون يعتقدون أن نهاية بعثة فلاترز 1881 ليست ضربة للمصالح والسمعة الفرنسية فقط ولكن لدبلوماسية الطريقة التجانية أيضا، ذلك أن البعثة قد هلك فيها مقدم التجانية أيضا، ولذلك لجأ الفرنسيون إلى ¬

_ (¬1) انظر مجلة إفريقية الفرنسية (A.F). أكتوبر، 1892، ص 5 - 7. أما ديبون وكوبولاني، ص 272، فيذكر أن أن الشيخ العروسي قد بعث أحد المخلصين له إلى الطوارق، وهو أحمد بن محمد بن بلقاسم، وحثهم على أن يأتوا إلى فرنسا كحلفاء لا كأعداء.

شخصية قوية ولها علاقات مثل الشيخ محمد العروسي، وهو الذي ربط بينهم وبين زعماء الطوارق ووظف سمعته وسمعة الزاوية لهذا الغرض، وتكررت (الميعادات) القادمة من الهقار إلى الوادي ثم الجزائر، كما تكررت البعثات الفرنسية المنطلقة من الوادي نحو الهقار، من ذلك ميعاد 15 نوفمبر سنة 1893 الذي جاء لشكر الحكومة الفرنسية على حسن استقبالها لوفد عبد النبي، ومناقشة قضايا إدارية وغيرها مع السلطات، مثل الإبل المسروقة، والغارات (السنوسية). وقد طلب الوفد أيضا من الجنرال (لاروك) معاونته على خصومهم، وتعويضهم عن خسائرهم، ثم وضعوا أنفسهم تحت الحماية الفرنسية، وهكذا، جاءت إلى قمار حوالي أربعة وفود تارقية في ظرف سنتين، ثم انطلقت بعثة فرنسية، من ورماس (الوادي) نحو الهقار، في 13 يناير 1894 (¬1). ومنذ تولاها الشيخ محمد العروسي اكتسبت الزاوية التجانية بقمار مكانة مرموقة، وكانت للتجانية أيضا زاوية أخرى بتاغزوت ولها مقدم ونفوذ، ولكن لم تبلغ سمعتها ما بلغته جارتها في عهد الشيخ العروسي (¬2). وقد عرفنا أن شيخي زاوية عين ماضي قد زارا الشيخ العروسي، وهما الأخوان: أحمد التجاني سنة 1897، والبشير سنة 1911، ولا شك أن من بين أسباب زيارتهما إصلاح العلاقات بين زاويتي عين ماضي وتماسين ¬

_ (¬1) نفس المصدر (A.F) عدد فيفري، 1894، ص 9. في كثير من المرات يشير ديبون وكوبولاني إلى عداوة الأمير عبد القادر لفرنسا أثناء حديثهما عن التجانية سنة 1897 (؟) وإلى عداوة السنوسية لها، وقالا بصراحة إننا نريد من التجانيين، وهما يشيدان بجهود الشيخ العروسي، أن يكافحوا دعاية (إخوانهم) المعادية لفرنسا في مراكش والسودان الغربي، ص 288، ذلك أن موقف التجانية في الجزائر ليس هو نفسه موقفها في كل من المغرب الأقصى وإفريقية. (¬2) أحد أبنائه هو الشيخ السائح بن محمد العروسي، الذي ولد سنة 1266، وكان السائح من المثقفين، ومن شيوخه الحاج علي بن القيم ومحمد الصالح بن الخوصة، ومبارك بن مبارك ومحمد بن سويسي، والطيب بن الأخضر، وله شعر وأدب، وعاش إلى سنة 1945، وهو مدفون بقمار، كوالده، انظر مفتاح (أضواء). مخطوط.

تعاليم وأوراد التجانية وموقفها من فرنسا وتركيا سنة 1914

وتوسيط الشيخ العروسي للوصول إلى ذلك الإصلاح، كما أن هواء قمار الصحي كان يجلب شيوخ وعائلات زاوية تماسين إليها لقضاء بضعة أشهر من كل سنة في الربيع والصيف، حتى أنهم كانوا يعتقدون أن الأولاد يموتون لهم إذا بقوا في تماسين في تلك الشهور. أما زاوية تماسين فاستمرت الوراثة فيها بعد الشيخ محمد بن محمد العيد على النحو التالي: توفي الشيخ محمد هذا سنة 1331 (1912). وخلفه ابنه البشير إلى وفاته 1336، ثم خلفه ابنه محمد العيد وتوفى سنة 1340 (1927). ثم خلفه عمه أحمد بن محمد الذي امتد عهده 53 سنة، وتوفي سنة 1398 (1978). تعاليم وأوراد التجانية وموقفها من فرنسا وتركيا سنة 1914 استخدم الفرنسيون مختلف الوسائل لاستغلال ما أسموه (بالصفوف) وهم يعنون بها الأحزاب والانشقاقات والنزاعات القبلية والشخصية والدينية والطبقية ونحوها، ويهمنا هنا (صفوف) الطرق الصوفية، فقد أوحوا إلى كل طريقة بأن الطريقة الأخرى تنافسها وتريد أخذ مكانها وأتباعها وزياراتها (نقودها). ثم أوحوا إلى كل مقدم في الطريقة الواحدة بأن المقدمين الآخرين ينافسونه على الزعامة والمال والجاه، وهكذا نشأ بين الطرق توتر لا عهد لها به، ونشأ بين المقدمين تنافس لا يعرفونه من قبل. وهكذا أوحوا للطريقة التجانية بضرورة (قطع العلاقات) مع القادرية منذ عهد الأمير، ومع الشيخة منذ الستينات، لأن من الشيخية من يتبع القادرية التي مثلتها فرنسا للتجانية كأنها الخصم العنيد لها، بينما الواقع أن كلا من الشيخية والقادرية أصبحتا تتعاملان مع الفرنسيين بطريقة الأمر الواقع، وقد رأينا أن فرنسا قد ركبت الشيخية ووظفتها لأغراضها أيضا، كما ركبت القادرية ووظفت بعض فروعها، على الأقل، لأغراضها أيضا، فما

الفرق إذن؟ الفرق أن ممثلي الفرنسيين لا مبدأ لهم في التعامل مع (الرعايا) الجزائريين، سواء كانوا تجانيين أو قادريين أو شيخيين أو غيرهم، ما داموا جميعا يعلنون الولاء لفرنسا ويضربون بعضهم البعض. ونفس الموقف وقفه الفرنسيون من الطيبية والزيانية والكرزازية فقد أعلنوا للتجانيين أن هذه الطرق (مغربية) وأنها تريد أن تضعف من نفوذهم في غرب الجزائر، وأن فرع فاس التجاني عميل للسلطان في المغرب، وخوفوا التجانيين بأن نفوذهم في الساورة والرقيبات والساقية الحمراء سيضيع، وقالوا لهم، سنة 1884، أن نفوذكم في السودان وإفريقية الوسطى أقل مما كان عليه منذ عشرين سنة، لأن الطريقة السنوسية هناك أخذت منكم المبادرة، ويضيف أحد الكتاب الفرنسيين الزيت للنار فيقول: إن الطرق الأخرى تنظر إلى التجانية نظرة سخط (عدا الطيبية) لمهادنتها الفرنسيين، ولأنها كانت محل هجوم هذه الطرق المنافسة لها في كثير من المناسبات (¬1). وحين ظهرت الحركة الإصلاحية في العشرينات وقع هجوم آخر على الطريقة التجانية ليس فقط من جهة موالاتها ومهادنتها لفرنسا التي لم تعد في حاجة كبيرة إليها، وإنما من جهة عقيدتها الصوفية وتعاليمها وأذكارها وممارساتها (¬2). فما هي العقيدة الصوفية للتجانية؟. ... والمرجع الرئيسي للتجانية هو كتاب (الكناش) الذي أشرنا إليه والذي قلنا إن الشيخ أحمد التجاني قد أملاه على بعض تلاميذه، وهما الحاج علي حرازم ومحمد بن المشري السائح، وضمنه تاريخ حياته وعقيدته الصوفية، ووصاياه إلى أتباعه، وهو يحمل تاريخ ذي العقدة 1214 (مارس/ ابريل ¬

_ (¬1) هنري قارو، مرجع سابق، ص 168 - 169، ذكر دو فيرييه، ص 308 أن الطيبية قد تعاونت مع بني جلاب لزعزعة نفوذ التجانية، في عهد الحاج علي التماسيني، وبنو جلاب هم حكام (سلاطين) تقرت حيث تقع زاوية تماسين، ويرجع أصل بني جلاب إلى بني مرين. (¬2) سنذكر ذلك في حينه، انظر لاحقا.

1800). ولكن ليس كل التجانيين يعرفون الكناش أو يقرأونه، اللهم إلا الخاصة منهم أو خاصة الخاصة، لضخامته من جهة ولغموض محتواه الصوفي عليهم من جهة أخرى، وقد قيل إن الشيخ أملاه بعد رؤيته للرسول (صلى الله عليه وسلم). فقد كلفه فيها بمهمة القيام بشرح الآيات الغامضة من القرآن الكريم والسنة النبوية، وأن يشرح ويعلق على الدروس التي صدرت عن الشيوخ والفقهاء المسلمين، وقد ذكرنا أن عنوان الكتاب الكامل هو (جواهر المعاني). وأنه يضم حوالي 600 صفحة، وقال (رين) إنه لو ترجم إلى الفرنسية لجاء في خمسة أو ستة مجلدات، وأخبر أنه لم يعد كتابا سرا لأن مكتبة الجزائر أصبحت تتوفر على نسخة جيدة منه تابعة لقسم المخطوطات العربية، ووصفه بأنه مقسم إلى ستة فصول، ويطلق عليها كتب (¬1). وإليك محتوى هذا الكتاب، فالفصول أو (الكتب) الستة بعد المقدمة التي تتناول فضل التصوف، هي: الأول: الميلاد والأصل والعائلة والنسب والشباب للشيخ التجاني. الثاني: دراساته في التصوف، ونمط حياته، خصائصه، خيرته ومناقبه. الثالث: كراماته Prodiges، وعلمه وورعه. الرابع: أوراده وأذكاره وطريقته، وصورة الباحث عن الحقيقة فيه، وأنواع الأدعية عند التجاني. الخامس: تفسير بعض الآيات من القرآن الكريم والحديث، الخ. السادس: بعض كراماته. ¬

_ (¬1) رين، مرجع سابق، 443، تمنى رين لو أن الكناش قد ترجم إلى الفرنسية، لأن ترجمته لا تخلو من فائدة، سيما وأن مذهب الشيخ التجاني يمتاز في نظره، بالليبرالية، وقال إن الضابط (آرنو) قد ترجم له من الكناش خلاصات بطلب منه، وأورد رين نماذج من تفسير القرآن عند الشيخ التجاني ليبرهن على ليبراليته وتفتحه، وأبرز بالحروف المفخمة قول التجاني في بعضها (إن الكفار يقعون في دائرة حماية حب الله). ص 444 - 446.

وقد لفت نظر الدارسين الفرنسيين ما في (الكناش) من آراء (مستقلة) ومن ليبرالية نحو المسيحيين، فأورد رين العبارة التي ذكرناها حول شمول حب الله للمسيحيين، حسب تفسير التجاني، كما أورد رأي التجاني في لعنة الله بمن يعطي الزكاة للطغاة من الأمراء المسلمين، ولكي لا يسري ذلك على (الطغاة) الفرنسيين أيضا علق رين بقوله: إن التجاني يعني الحكام الأتراك، لأن هذا الرأي إذا تمسك به التجانيون فلن يجلب إليهم الأنصار في شمال إفريقية، وكان رأي رين صريحا عندما استنتج من ذلك وهو يخاطب الفرنسين، إن موالاة التجانية لفرنسا قد ضربت التجانيين في الصميم وعرقلت تطور طريقتهم، ولكنه قال إن المرء إذا عرف أن هذه الأفكار - حول المسيحيين وعلاقتهم بالله - قد ولدت في قصر بفاس وفي بلاد إسلامية أوائل القرن التاسع عشر، ويتأكد أن المؤلف لا علاقة له بالمسيحيين، يعرف مدى استقلالية التجاني في تفكيره (¬1). وهذه الليبرالية والاستقلالية والتسامح التي استوحاها رين من كلام أحمد التجاني في (الكناش). قد أخذها وألح عليها سابقه، دو فيرييه أيضا، فقد قال هذا إن التجانية طريقة تؤمن بالتسامح والليبرالية، وأخذ يشرح عبارة (ناصر الحق بالحق والهادي إلى صراطك المستقيم) الواردة في أذكار التجانية، بأنها تعني نصرة القانون بالقانون والتسامح في طريق الله، وتعني أيضا أن الحق يتبع الحق، وأن كل ما جاء من عند الله يجب أن يحترم، واستنتج دو فيرييه، بحرية مطلقة، قائلا: إن هذه الفلسفة هي التي أدت إلى مواجهة الأقلية (الأوليغاركية) التركية وإنهاء القرسنة، ويعني بذلك طبعا الاحتلال الفرنسي وهيمنة فرنسا على الجزائر، فكأن (فلسفة) التجانية قد وجدت من ينفذها وهي فرنسا، أما عن الكناش نفسه فقال دو فيرييه: إنه (دليل) إخوان التجانية، وهو ينص على أن كل شيء سائر في طريق الله لا ¬

_ (¬1) رين، مرجع سابق، ص 449 (لم نستطع التأكد من ترجمة العبارة حول الزكاة للطغاة).

يمكن انتهاكه (¬1). وللتجانية مبادئ خاصة، مثل بعض الطرق الأخرى، ولكنها تختلف عنهم في التضييق على التابع وإلزامه بالبقاء فيها إذا اختارها وعدم الدخول في أخرى وهو فيها (¬2). كما أن مسألة إعطاء الورد ليست سهلة عندها، بالإضافة إلى أن هناك درجات في ترديد الذكر وشروطا في التصويت به، وفي الحضرة والزيارة، وغير ذلك، فهم يقولون عن التجانية إنها تؤمن بأن عقاب الله وحتى الموت، سيحل بمن تخلى عن الورد بعد أخذه، وأنه لا يمكن لأتباع طريقة أن يأخذوا ورد التجانية إلا إذا تخلوا تماما عن طريقتهم السابقة وأن يعدوا بعدم الرجوع إليها أبدا، وقد لفتت العبارات الأخيرة أنظار الباحثين، لأنها قيد كبير في عنق الأتباع ومخالفة لما سارت عليه معظم الطرق الأخرى، وهو الجمع بين طريقتين أو أكثر، ولعل هذا المبدأ مستنتج من أخذ الشيخ التجاني نفسه عن الطرق الأخرى أول مرة ثم التخلي عنها تماما واتباعه الرسول (صلى الله عليه وسلم) مباشرة، كما زعم. ومن تعاليم الطريقة التجانية أنه لا يمكن لأحد إعطاء الورد إلا برخصة من الشيخ الأكبر - شيخ الزاوية الأم - حامل البركة، ويفهم من هذا أن الإخوان لا يمكنهم وحدهم أن ينتخبوا المقدم، كما تفعل الطرق الأخرى، وأن الشيخ الأكبر هو وحده المرجع في تعيين الشيوخ، ومن ثمة تظهر هذه المركزية الشديدة في الطريقة التجانية، ولعل ذلك راجع إلى عدم تعددية شيوخها (زاويتان رئيسيتان لكن بالتبادل). ويلاحظ القارئ أن الرجوع في ¬

_ (¬1) دو فيرييه، مرجع سابق، ص 308. (¬2) جاء في (رسالة الشرك) لمحمد مبارك الميلي أن التجانية يبالغون في الإنكار على من فارق طريقتهم إلى طريقة أخرى، وفكر أنه رأى كتابا ألفه أحد التجانيين وحكم فيه بردة من فارق الطريقة، وعنوان الكتاب هو (تنبيه الناس على شقاوة ناقضي بيعة أبي العباس). ولم يذكر الميلي من هو المؤلف ولا ما إذا كان الكتاب مطبوعا. وأبو العباس في العنوان كنية أحمد التجاني، انظر (رسالة الشرك). ط، 2، 1966، ص 273.

القرار الأخير إلى الشيخ الأكبر، قد نتج عنه عدم تفتيت الطريقة إلى فروع متنافسة واستقلالية المقدمين كما حدث في الطرق الأخرى، وقد قلنا إن ذلك كان بإرادة فرنسا التى لو شاءت لحدث للتجانية ما حدث لغيرها، سيما تلك التي ثارت وأعلنت الجهاد، وكل من دخل الطريقة التجانية عليه أن يحلف اليمين على أنه سيلتزم بشروطها، لأن المهم ليس الورد في حد ذاته، لأن الأوراد متشابهة في الوسائل التي تؤدي إلى الخلاص، ولكن المهم هو العمل بتعاليم الطريقة نفسها، ومن تعاليمها أن كل تابع (حبيب) خرج من طريقة أخرى لا خوف عليه من شيخه القديم ولا من الرسول (صلى الله عليه وسلم) ولا من الله تعالى، ولا أن يشك في أي شيء، إذا اختار الطريق الذي عليه التجانية، وأبعد من ذلك هو أن كل تابع اتصل بشخص تابع لطريقة أخرى سيجرد من التزامه فورا، ومن الشروط كذلك أن كل تابع للطريقة يجب ألا يزور أي شيخ آخر على قيد الحياة، ولكن يمكنه زيارة الأموات منهم لأن المشايخ (الأموات) هم الأبواب التي يدخل بها الأتباع إلى الله تعالى (¬1). وهذه هي أوراد التجانية العامة - كما وردت في الكناش -: الذكر ألف مرة لكل عبارة من العبارات الآتية: يا لطيف، استغفر الله، لا إله إلا الله. ثم (اللهم صلي وسلم، وبارك على سيدنا محمد، الفاتح لما أغلق، والخاتم لما سبق، ناصر الحق بالحق، والهادي إلى صراطك المستقيم، وعلى آله حق قدره، ومقداره العظيم). أما الورد الخاص، الذي لا يقرأه إلا المتعلمون فقط، فهو: اللهم ... عين الحق التي تتجلى منها عروش الحقائق ... والورد الأخير يقرأ اثني عشر مرة، وللعامة أن يقرأوا بدله سورة (الإخلاص) اثني عشر مرة (¬2). والإحصاء الرسمي لسنة 1882 يعطي للتجانية 11، 982 تابعا في ¬

_ (¬1) رين، مرجع سابق، ص 443، علق رين على تحريم زيارة الشيخ الحي، فقال إن ذلك يعني المقدمين الغرباء عن الطريقة التجانية. (¬2) نفس المصدر، نص الورد المعروف بصلاة الفاتح أرسله إلي ابن عمي عبد الرحيم مشكورا، أما الورد الخاص فلم نجد من يرسله إلينا كاملا.

الجزائر، وهو عدد غير ضخم إذا قيس حتى ببعض الطرق الفرعية الأخرى، وهم موزعون على كامل القطر، لكن يلاحظ كثرتهم في إقليم قسنطينة ثم الجزائر ثم وهران، ويبدو أن عددهم في الإقليم الغربي ضعيف جدا عندئذ، ولعل ذلك راجع لنفوذ الطيبية والكرزازية والزيانية والشيخية، أما السنوسية فلا تأخذ الأتباع من التجانية هناك، وإليك هذا الإحصاء (¬1): إقليم الجزائر 3 زوايا 26 مقدما 4، 348 إخوانيا (حبيبا) إقليم وهران 2 زاويتان 20 مقدما 588 إخوانيا إقليم قسنطينة 12 زاوية 54 مقدما 6، 146 إخوانيا أما إحصاء سنة 1897 فيعطي الطريقة التجانية عددا أضخم، مما يدل على انتشارها في آخر القرن، بفضل توسعها نحو الصحراء ربما، وبفضل جهود محمد الصغير بن الحاج علي ومحمد العروسي في زاويتي تماسين وقمار، ودون توزيع العدد حسب الأقاليم فجملته هي: 25، 323 أي بمضاعفة العدد الذي أورده رين وزيادة، ويسري ذلك أيضا على عدد الزوايا والمقدمين، فالزوايا هنا 32، والمقدمون 165، والوكلاء تسعة، والشواش اثنان، وقد ذكر هذا المصدر أن للتجانية خونيات أيضا أو تابعات من النساء (¬2). ولم يضف هنري قارو سنة 1906 جديدا في عدد الأتباع ولا عدد الزوايا (¬3). ... وعندما اندلعت الحرب العالمية الأولى لجأت فرنسا إلى الطرق الصوفية تطلب منها الدعم المعنوي لمناداة أتباعها بموالاة فرنسا، وعدم الاستماع إلى الدعاية التركية (العثمانية) والألمانية، وكانت الطريقة التجانية في طليعة هذه الطرق، وقد وجدنا نداءات ونصائح بأسماء مقدمي هذه الطريقة في كل من عين ماضي وتماسين وقمار، وها نحن نذكر بعض ما جاء ¬

_ (¬1) المرجع: رين، مرجع سابق، ص 451. (¬2) ديبون وكوبولاني، مرجع سابق، ص 438. (¬3) قارو، مرجع سابق، ص 159.

فيها: 1 - من علي بن أحمد (القطب الأكبر - كذا -) التجاني شيخ الطريقة في عين ماضي إلى أنصاره في العالم الإسلامي، فقد وجه نداء إليهم حثهم على ذم تركيا لدخولها الحرب، وذكرهم بما فعل الأتراك في الجزائر من ارتكاب الفواحش والضرر بالدين وعادات الأهالي، وأورد حديثا نسبه إلى الرسول (صلى الله عليه وسلم): (اتركوا الترك ما تركوكم). وطلب من أنصاره التعلق بذيل فرنسا (صاحبة الفضل والفضائل، شاكرين نعمها العظيمة، ومزاياها الجسيمة التي لا تعد ولا تحصى، فهي أمنا الحنينة ... ويجب علينا معاشر المسلمين أن نعينها بنفوسنا وأموالنا وأولادنا على عدوتها ألمانيا وحليفتها النمسا وحليفتها تركيا) (¬1). 2 - من محمد بن محمد البشر ابن (القطب الأكبر - كذا -) أحمد التجاني، وهو نداء موجه أيضا إلى أنصار الطريقة في جميع البلدان، ويسير النداء على نفس الخط، مضيفا ذم (جون ترك) - الشباب التركي - لعدم معرفتهم بالدين، ولبيعهم بلادهم لألمانيا من أجل (الأصفر الرنان). وقال النداء: (نحن عرب وهم (اتراك) وسلطانهم عجم). والأتراك أول من انتزع من العرب بلادهم، ولذلك أوصانا أجدادنا بمعاداة الترك، أما (دولتنا العزيزة الفرنسوية .. فقد كثرت علينا من نعمها، وسقتنا ماء عدلها .. فكيف لا نكون متمسكين بأذيال رايتها المثلثة التي هي عنوان عن الحرية والأخوة والمساواة، فإن عدوها إنما هو عدو لنا) (¬2). ¬

_ (¬1) مجلة العالم الإسلامي، عدد ديسمبر 1914، تحت عنوان (المسلمون الفرنسيون والحرب). ص 192، والغالب أن العبارات إما كتبتها إدارة الشؤون الأهلية وليس لزعماء الطرق الصوفية سوى التوقيع عليها، أو أنها تحمل مجاملات ونفاقا كبيرا، ونرى أن بعض التحليل السياسي وذكر بعض الأحداث في هذه النداءات وغيرها يتجاوز القدرة السياسية لزعماء الطرق الصوفية عندئذ، ويبدو أن علي بن أحمد التجاني هو ابن أحمد المتوفى سنة 1897 من زوجته أوريلي الفرنسية (؟). (¬2) نفس المصدر، ص 196 - 198.

الطريقة السنوسية/ الطكوكية

3 - من محمود بن محمد البشير ابن (القطب الأكبر - كذا -) أحمد التجاني، إلى أنصار التجانية أينما كانوا، نفس المعاني الواردة فى الندائين السابقين مع التذكير بفضل فرنسا على تركيا، ولولا ذلك الفضل لما بقيت تركيا دولة مستقلة إلى ذلك الحين، وكون الأتراك اغتصبوا الخلافة، وضرورة الدفاع عن (دولتنا الفرنسوية العزيزة إلى آخر رمق). وقال النداء إن (الألمان أصلهم جرمان، والترك أصلهم تتار، ونحن عرب، والفرق بين العرب والتتار كالفرق بين السماء والأرض) (¬1). 4 - من محمد العروسي نجل محمد الصغير التماسيني، شيخ زاوية قمار، إلى سائر المقاديم وأنصار الطريقة التجانية: نفس الأفكار، مع طلب الاستعداد لبذل المال والنفس للدفاع عن النفس، وكون (أبنائنا) داخلين في الحرب إلى جانب فرنسا، والإشادة بما قدمت فرنسا للجزائر من خيرات. وطلب الشيخ العروسي من الأتباع الاقتداء به في موقفه ليفوزوا في الدارين (ببركة الغوث التجاني) (¬2). 5 - من محمد البشير نجل محمد التماسيني، شيخ زاوية تماسين: نداء موجه إلى المقدمين وأحباب الطريقة التجانية (¬3) في نفس المعنى ... أما عن الدور الثقافي للطريقة التجانية وعلمائها، فانظره في الفصول الخاصة بذلك. ... الطريقة السنوسية/ الطكوكية كتب المؤلفون كثيرا عن السنوسية في السياسة والإصلاح، وفي الدين ¬

_ (¬1) نفس المصدر، ص 202 - 204. الثاني والثالث كلاهما غير واضح العلاقة العائلية لنا، انظر قصة الانتساب إليه، سابقا. (¬2) نفس المصدر، ص 212. (¬3) نفس المصدر، ص 208.

والدولة، ونحن لن ندعي أننا سنأتي بجديد حولها في ذلك، كما كتبوا عن الطريقة السنوسية وأصولها وسلسلتها وتعاليمها، والزاوية السنوسية وقوتها وانتشار الدين والتصوف منها، ومحاصرتها من قبل السلطات الاستعمارية سواء في الجزائر أو في غيرها من المناطق الإفريقية. وتناولوا علاقات السنوسية مع العلماء والحكام المسلمين في مصر واسطانبول والحجاز وفي ليبيا والجزائر وإفريقية، ثم علاقاتها مع الدول الأجنبية مثل بريطانيا وفرنسا وإيطاليا، وقد نسبوا إليها آراء ومواقف أملتها أغراض الوقت الذي ظهرت فيه، وتناول المؤلفون أيضا حياة الشيخ محمد بن علي السنوسي بالتفصيل من ميلاده في الجزائر إلى دراسته في فاس ومصر والحجاز، إلى نشاطه العلمي والصوفي في ليبيا ووفاته بها، فما الجديد الذي نطمح إلى الإعلان عنه الآن؟. لا نظن أنه كثير، ذلك أننا سنكتفي من السنوسية بالنقاط التي لها علاقة بالوضع في الجزائر، صوفيا وسياسيا، ومراجعنا في حياة الشيخ السنوسي هي: مؤلفات رين، وديبون وكوبولاني، وعبد الحي الكتاني، وشكيب أرسلان، ولاباتو، ودو فيرييه، ولوشاتلييه، وغيرهم، بالإضافة إلى كتاب رحلة الحشائشي وبعض مؤلفات السنوسي نفسه كالسلسل المعين، والفهرس وبعض الإجازات، وفي أرشيف الحكومة الفرنسية بالجزائر وثائق ودراسات عديدة، منها دراسة كولاس، وبيلار، وكلاهما كان مترجما عسكريا. ولد محمد بن علي السنوسي قرب مدينة مستغانم، سنة 1206 طى أغلب الظن، وتكاد المراجع تتفق على أنه من الأشراف، ولكن بعضها يجعله شريفا من جهة الأب والبعض من جهة الأم فقط، فهو عند الكتاني محمد بن علي بن السنوسي كما هو معروف في بلاده (ابن السنوسي). ولم يذكر عن شرفه ما يفيد رأيه رغم أن الكتاني من المولعين بذلك، وقد حلاه بعبارات فخمة وعامة، ولكنها تمثل الصورة المعروفة عن السنوسي الذي جمع بين علم الشريعة وعلم الحقيقة، فقال عنه: (الإمام العارف الداعي إلى السنة

والعمل بها، ختم المحدثين والمسندين، الكبريت الأحمر والهمام الغضنفر، حجة الله على المتأخرين) (¬1). ولم يتعرض دو فيرييه لقضية النسب والشرف وكان يكتب عنه بعد وفاته بقليل (¬2). ولكن رين فصل القول في ذلك، فقال: إن السنوسي لا علاقة له بالشيخ محمد بن يوسف السنوسي دفين العباد في تلمسان (¬3) ولا بني سنوس القاطنين حول تلمسان، وإنما هو اسم شائع في غرب الجزائر، قد يكون تبركا بالشيخ السنوسي المذكور، وتذهب عائلة السنوسي إلى أن جدهم سيدي عبد الله، شريف منحدر من أحد الأشراف الذين حلوا بالمنطقة في القرن الثاني عشر الهجري، وتزوج سيدي عبد الله امرأة بربرية وتناسل منهما الجيل بعد الجيل، ويقولون إن جدهم هو سيدي عبد الله بن خطاب بن العسل بن علي بن راشد، ولكن هذا الجد هو الجد الحقيقي لأشراف قبيلة فليته الشهيرة أيضا، ويدعى (رين) تصحيح هذا النسب فيقول: إن أولاد سيدي عبد الله ينتمون إلى عائلة بني زيان الذين طردهم السلطان المريني أبو يعقوب من تلمسان سنة 1293 م، وفي بداية القرن السادس عشر جاء عبد الله بن خطاب جد القبيلة، واستقر في عين مسرة وتزوج فيها بفتاة تنحدر من أصل شريف أيضا، يسمى الحسن الصادق الذي قدم من المغرب الأقصى، وكان الحسن الصادق هذا حسنيا أي من فاطمة والإمام علي، غير أن السنوسيين يقولون إن الشرف عندهم كامل ومباشر. أما سلسلة نسبهم فيذكرها رين هكذا: محمد بن علي بن السنوسي الخطابي الحسني الإدريسي المجاهري، من قبيلة أولاد سيدي يوسف، عرش أولاد سيدي عبد الله بن الخطاب المجاهري، وكان موطنهم بين سهل سيرات وغابة النارو، دوار طرش، أي الأرض التي عليها اليوم بلدية هليل، وقد اكتفى مؤلف (حاضر العالم الإسلامي) بقوله: إن السنوسي (من سلالة النبوة) ¬

_ (¬1) الكتاني، فهرس الفهارس، 2/ 1040. (¬2) دو فيرييه، مرجع سابق. (¬3) عن محمد بن يوسف السنوسي انظر الجزء الأول من هذا الكتاب، ط، 2، 1985.

دون تفصيل، كما أن مكان وتاريخ ميلاد الشيخ السنوسي غير متفق عليهما، فهذا رين يذكر دوار طرش، غير البعيد عن مستغانم، سنة 1206 (¬1). كما أن الكتاني يذكر أن السنوسي من مواليد مستغانم سنة 1202 (12 ربيع الأول) / 1787 م، ويقول صاحب (حاضر العالم الإسلامي): إن السنوسي من مواليد 1800 م، بالقرب من مستغانم، وهو بعيد (¬2). وهكذا تختلف التفاصيل، أحب السنوسي القراءة والعلم منذ بداية حياته، فتحصل من ذلك على قسط وفير في منطقته، فكان تلميذا لعلماء مستغانم ومازونة ولا سيما محيي الدين بن شهلة ومحمد بلقندوز المستغانمي، ومحمد بن علي بن الشارف، وبوطالب المازوني، وبوراس المعسكري، وأضاف الكتاني هذه الأسماء: عبد القادر بن عمرو المستغانمي، ومحمد بن التهامي البوعلقي، ومحمد بن عبد القادر، وابن أبي زوينة المستغانمي، ولعله كان سيظل في ناحيته لولا حادث بسيط غير مجرى حياته، وبعض المؤلفين يذكرون الحادث على أنه مسألة عائلية أدت إلى مغادرة السنوسي الجزائر إلى فاس، وبعضهم يذكر القصة بالتفصيل فيقولون: إن أحد أبناء عمومته (واسمه محمد بن الأطرش). وكان معه في خصومة، قد صفعه أمام المجلس الفقهي الذي قضى ضده، ومهما كان الأمر فقد توجه محمد بن علي السنوسي إلى فاس حيث بقي سبع سنوات، وكان عمره ثلاثين سنة، (غادر 1821/ 1237 حسب رواية رين). وهو من الشيوخ لا التلاميذ، ولكن السنوسي أبى إلا أن يتتلمذ في فاس على مشايخ القرويين وغيرهم أمثال الطيب بن كيران، وإدريس البقراوي، وحمدون بلحاج، والتاودي بن سودة، ولم يذكر الكتاني من شيوخه المغاربة إلا أهل الطريقة فذكر منهم محمد العربي الدرقاوي بالخصوص. ويبدو أن محمد بن علي السنوسي كان سيواصل الإقامة في المغرب الأقصى لولا التحفظ من السياسة وشباكها، وقد بلغ مرحلة النضج (37 ¬

_ (¬1) كذلك يوافقه ويسير على منواله ديبون وكوبولاني، مرجع سابق، ص 546. (¬2) شكيب أرسلان (حاضر العالم الإسلامي) 1/ 295، واضح أن ذلك منقول عن المستشرق ستودارد.

سنة). ومعظم المؤلفات تجعل خروجه من المغرب الأقصى صدفة أو قضاء وقدرا، ولكن رين يذكر أن السلطان سليمان أراد أن يختبره فأعطاه مخطوطا وطلب منه التعليق عليه، وكان هذا السلطان مطلعا على الأحوال ومتداخلا في قضايا الفقه والطرق الصوفية ومحيطا بأحوال السياسة والعصر، لكن الشيخ السنوسي اعتذر عن ذلك وخاف العاقبة، مثل سلفه أحمد المقري، فغادر البلاد سنة 1829 معلنا نية الحج، وقد علق رين على هذا الموقف بأن السنوسي كان (بطبعه) غير مجامل، كما أنه كان قد دخل ميدان التصوف (¬1). وكأننا بالسنوسي قد سلك طريق الحج المغربي القديم، طريق الصحراء، كما فعل الدرعي والعياشي، فهو لم يركب البحر أو يذهب عبر المدن الساحلية، ولكنه رحل عبر التلول والمدن الداخلية، قاطعا المسافات ببطء، كما لاحظ أحد الكتاب، فكان يتوقف عند مشايخ الطرق، كما فعل مع شيخ القنادسة (الزيانية) وشيخ كرزاز (الكرزازية). وقد أخذ الطريقة عن كليهما، ولا ندري إن كان للحصار البحري الذي ضربه الفرنسيون حول الجزائر منذ 1827 دخل في سلوك السنوسي طريق البر نحو الشرق، ولكن الأكيد أن صدى الحملة على الجزائر الذي بدأ منذ يناير 1830، وتصاعد منذ إبريل وانتهى باحتلال الجزائر والمرسي الكبير في صيف السنة نفسها، قد أثر على مجرى الرحلة، ونحن نعلم أن الشيخ لم يرجع إلى الجزائر بعد ذلك، ولكنه كان من النضج ومن شدة الملاحظة أثناء الطريق ما يجعله يحتفظ بصورة واضحة عن الأوضاع الاجتماعية والسياسية والدينية فيها. كان الشيخ السنوسي يتوقف في الطريق، وقد انتصب للتدريس في بعض البلدان مثل الأغواط، ونزل عين ماضي وجبل عمور ومساعد، وأخذ ذكر الطريقة التجانية، ودرس الفقه والنحو في الأغواط، وتزوج في مساعد امرأة تدعى منة بنت محمد بن عبد الرحمن، ودخل الجلفة، ثم بوسعادة، وأقام عدة أشهر بين بوسعادة وجبل السحاري، وكان ذلك في الصيف حين كانت الحملة الفرنسية تنزل بالجزائر، وقد علم بذلك وهو في الصحراء، كما ¬

_ (¬1) رين، مرجع سابق، ص 483.

قص ذلك بنفسه، وفي بوسعادة طلق زوجه (¬1). وواصل الطريق، فمر بتماسين حيث شيخ الزاوية التجانية الحاج علي، والغالب على الظن أنه مر بوادي سوف ومنه دخل إلى جريد تونس ثم طرابلس وبرقة، ثم مصر، ويرى صاحب كتاب (حاضر العالم الإسلامي) أن السنوسي قد حج سنة 1829 ثم رجع إلى المغرب (؟) وبقي ينشط ويعلم في الأغواط، ثم ذهب إلى المشرق من جديد سنة 1839، ولعل ذلك مجرد هفوة، لأنه لم يتحدث أحد عن عودة السنوسي بعد حجه الأول إلى المغرب، رغم أن صاحب الكتاب المذكور يروي الخبر عن حفيده (¬2). لقد نزل الشيخ بمصر وأقام بها مدة، وقرأ بالأزهر وأخذ الإجازات العلمية وأذكار الطرق الصوفية، كان متطلعا إلى الجو العلمي الذي يسود المشرق، ولا سيما مصر في ذلك العهد، حين كانت الحركة التجديدية بين مؤيد ومعارض، وكان تأثير الغرب، وخصوصا فرنسا، قويا هناك، وكان بعض علماء الأزهر يخدمون ركاب السلطة بالتقرب إليهم زلفى، وقد نوه السنوسي نفسه ببعض العلماء وأهل الطريق الذين لقيهم في القاهرة وتصادق معهم وارتبطوا بعلائق قوية للمستقبل، وكان الشيخ نفسه على ما ذكرنا من المناطحة وعدم المجاملة، ولعله كان متحفظا من أولئك المتزلفين بدون دل، وقد لاحظ أحد الكتاب أن بعضهم (راعه ما هو فيه من استقلال الفكر والنزوع إلى الاجتهاد فأفتى بمخالفته للشرع) (¬3). ويقول ديبون وكوبولاني إن ¬

_ (¬1) يحلو للفرنسيين أن يجعلوا من الحبة قبة في موضوع المرأة بالذات، يقول (رين) أن المرأة قد (أهديت) إلى السنوسي من قبل أهل الورع، وأنها لم تحمل منه، ولكنها تزوجت بعد ذلك، وأنجبت بنتا، اسمها (سعيدة). واعتقد الناس أن أمها كانت حاملا بها من الشيخ السنوسي نفسه عند طلاقها، ولاحظ أيضا أن الشيخ السنوسي لم يبال بعد ذلك لا بأمها ولا بالبنت، مرجع سابق، ص 484. (¬2) أرسلان (حاضر). مرجع سابق، 2/ 399. (¬3) نفس المصدر، وذلك هو رأي المستشرق ستودارد، وقد علق شكيب أرسلان على ذلك بقوله إنه قد يكون إشارة إلى رأي الشيخ محمد عليش مفتي المالكية عندما بلغته أشياء لم يقف على حقيقتها، فأصدر فتوى بحق الشيخ السنوسي، ويضيف ارسلان: =

علماء الأزهر قد هاجموا السنوسي لآرائه ومذهبه (المتزمت) واعتبروه مجددا ومصلحا في الدين، وقد أفاض في الحديث عن الفتوى التي كان قد أصدرها الشيخ محمد عليش ضد الشيخ أحمد بن إدريس الفاسي، شيخ السنوسي في مكة، ثم أصدرها بعضهم بعد ذلك في حق السنوسي نفسه، بعد وفاته (؟) (¬1). وقد ضخم (رين) علاقة السنوسي بعلماء الأزهر وجاء بالفروق بين العلماء الرسميين التابعين للخديوي والسنوسي الذي كان يبحث عن العلم في رأيه في الصحارى وعند المتصوفة، ونسج رين من وراء ذلك أسطورة لا شك أن أعداء السنوسية قد تخيلوها في وقت تأليف كتابه (1884). ولكنه يعترف أن الشيخ السنوسي نفسه لم يرو الأسطورة وأن سبب رحيله من مصر ليس (كرهه للمصريين دا ولكنه حث أحد أقطاب الصوفية له بالتوجه إلى مكة (¬2). قبل ذهابه إلى مكة كان السنوسي قد أخذ مجموعة من الطرق في المغرب الأقصى والجزائر، ومنها القادرية، والشاذلية والتجانية، والزيانية، والكرزازية، والدرقاوية، ولعله قد أخذ الرحمانية أيضا، وحين وصل إلى مكة تتلمذ في الطريق على الشيخ عبد الحفيظ بن محمد العجمي وعمر بن عبد الرسول، ولكن (عمدته) في التصوف هناك هو الشيخ أحمد بن إدريس الفاسي، وكان الفاسي هو شيخ الطريقة الخضرية، وقد ارتبط به السنوسي تماما، فكان يتبعه في إقامته وترحاله، وأشاد به في مؤلفاته، ثم أخذ السنوسي أيضا الطريقة النقشبندية، وكان الشيخ الفاسي إذا غضب من علماء مكة يقصد (صوبيا) في عسير فكان السنوسي يتبعه إليها، وكان الفاسي قد أخذ عن عبد الوهاب التازي الذي عاش 130 سنة، وأدرك الشيخ عبد العزيز الدباغ، وأخذ عنه الطريقة المعروفة بالخضرية، ويروى صاحب (حاضر ¬

_ = وقيل: إنه تراجع عنها بعد أن عرف الحقيقة. (¬1) ديبون وكوبولاني، مرجع سابق، ص 346 - 333، وخلال هذه الصفحات يجد القارئ أخبار الفتوى المذكورة والتعاليق المحبذة لها. (¬2) رين، مرجع سابق، ص 491.

العالم الإسلامي) أن الشيخ السنوسي قد وقعت فيه ريبة من أنه يميل إلى بعض المبادئ الوهابية (¬1). ولكن شيخه الفاسي ما لبث أن توفي (سنة 1835). فكان على السنوسي وقد تجاوز الأربعين، أن ينظر في حاله وحال العالم الإسلامي من حوله، وأن يقدم ما عنده من معارف سياسية وعلمية ودينية لهذا العالم المبعثر والمغزو في عقر داره، وكانت مكة تعج بمختلف الطرق وواقعة في قبضة دولة إسلامية ضعيفة، وتتصارع في مكة الأفكار التي ترد مع الحجاج، ومنها الأفكار الغريبة عن الدين الإسلامي نفسه، كتلك التي يأتي بها الجواسيس والدعاة المزيفون باسم الفرنسيين والبريطانيين وغيرهم، وكان في مكة أيضا هاربون من ظلم الاستعمار الغربي في بلادهم مثل الجزائريين ومسلمي روسيا، والهند، فكانت مكة بحق مهبط أفئدة المسلمين في الحج والزيارة، وملتقى الأفكار والمذاهب. وقد أسس السنوسي زاوية في جبل أبي قبيس المطل على الكعبة. وأخذ ينشر طريقته الجديدة حسب التعاليم التي سنذكرها، وكان زميله في التتلمذ على الشيخ أحمد بن إدريس الفاسي هو الشيخ محمد صالح الميرغني الذي أسس بدوره زاوية في مكة تسمى (دار الخيزران) وأصبحت تعرف بالميرغنية، وكلتاهما ترجع إلى الخضرية/ القادرية، كما حملها عبد العزيز الدباغ، وكان مجال الميرغنية بعد ذلك مكة والسودان، كما كان مجال السنوسية مكة وليبيا ثم إفريقية والجزائر، وكان السنوسي قوي الشخصية غزير العلم مستقلا في رأيه مبتعدا عن الحكام والسياسة، فجلب عليه ذلك توجس الحكام ولكنه استقطب العلماء المستقلين أمثاله، فاغنوا زاويته وطريقته وتقوت بهم، ولكن السنوسي بقي على خلاف مع أبناء شيخه ابن إدريس الفاسي، كما أنه كان في مكة عابرا فقط لأن مهمته في الدعوة إلى ¬

_ (¬1) أرسلان، (حاضر) 2/ 399، وفي الهامش علق شكيب أرسلان بأن ذلك ينكره السنوسيون.

الدين والطريقة ومكافحة النفوذ الأجنبي كانت تدعوه إلى الخروج من مكة، إلى الميدان والجهاد، كما خرج الصحابة والتابعون من قبل من مكة والمدينة لنشر لواء الإسلام وتعاليمه، وهكذا اغتنم إحاطة وفد من حجاج ليبيا به ودعوتهم له بالنزول عندهم، حسب الروايات، فغادر مكة إلى برقة، تاركا زاوية أبي قبيس في يد أحد مقدميه، وكان ذلك سنة 1843. وفي ليبيا بنى السنوسي عدة زوايا وازدهرت طريقته بسرعة، أول زاوية بناها كانت البيضاء بالجبل الأخضر، وكانت أول مهد لحركته، ثم تكاثرت الزوايا حتى وصلت أثناء حياته، اثنتين وعشرين زاوية، منها ثمانية عشر في ناحية برقة - بنغازي، ومنها بعض الزوايا في تونس والجزائر، سيما نواحي توات والصحراء عموما، وأسس سنة 1855 زاوية جديدة في جغبوب، ثم انتقل إليها مبتعدا عن الاحتكاك بالسلطة العثمانية المتمركزة بالسواحل، لكي يضمن حرية الحركة والاتصال بالأهالي وبإفريقية بعيدا عن أنظارها، وتقع جغبوب جنوب غرب بنغازي مسافة 15 يوما مشيا مع القوافل، ولقد ساءت العلاقة بين الشيخ السنوسي وبين السلطة العثمانية التي أصبحت تخشاه، فكان انتقاله إلى الجنوب فرصة لاستكمال بناء الطريقة وتكثير الأتباع قبل القضاء عليها في المهد، ولكن الوفاة أدركته سنة 1859 وهو في أوج عطائه وقوته الشخصية. قلنا إن السنوسي شخصية امتازت بالطموح والهيبة، ونضيف أنه كان عالما قوي العلم، وله هدف محدد وواضح، وأنه عرك الحياة الدينية والسياسية للعالم الإسلامي من المغرب إلى المشرق، وعرف أن هناك داء ينخر جسم هذا العالم، ويتمثل في الحكام الجهلة والمنحرفين عن شريعة الإسلام، وفي العامة السائبة بدون راع ولا تنظيم ولا علم، ومن حول هذا العالم أطماع شرهة ينقض أصحابها هنا وهناك مفترسين جسم المعالم الإسلامي قطعة قطعة، فلم يكن السنوسي أميرا ليعلن عن إنشاء دولة جديدة، ولا ضابطا يقوم بانقلاب على حاكم فاسد، ولكنه رجل دين وعلم فسعى إلى أن يؤسس للدين منارة تسمى طريقة وللعلم معهدا يسمى زاوية، وكان

مشهورا بالانضباط والتنظيم، وكان قليل الكلام بعيد الهمة، ولا يظهر للناس إلا قليلا، متمسكا بالكتاب والسنة، متشددا مع نفسه ومع الناس، وكان في استقبالاته يضبط الوقت بالساعة، وهو طويل القامة بادي الهيبة، سهل الحديث بسيط المظهر فصيح اللسان يتمتع بجاذبية نادرة، وطريقة تكوين الدعاة عند السنوسيين كانت تتمثل في شراء الرقيق من الزنوج صغارا ثم يربونهم تربية إسلامية ويعتقونهم، ثم يرسلونهم لبث تعاليم الإسلام، فأصبح سلطان وداي مثلا تابعا للطريقة السنوسية، وأصبح أهلها يأتون إلى الزاوية، وكان هدف السنوسي هو تحرير الإسلام من النفوذ الأجنبي وإقامة حكم إسلامي على الأسس التي كان عليها في عهد الخلفاء الراشدين، كما كان هدفه هو (إعادة الإمامة العامة) ويقول (رين): إنه أسس داخل الدولة العثمانية دولة دينية مستقلة (¬1). كان مع الشيخ السنوسي رجال أخلصوا له كل الإخلاص وتشبعوا بتعاليمه وآمنوا بهدفه البعيد، ومن هؤلاء عبد الله السني الذي عاش إلى سنة 1877، وهو الذي أمر ببناء سبع زوايا حول طرابلس، والحاج أحمد التواتي الملقب (العالم) الذي كان يشرف على مجموعة من الزوايا في نواحي فزان ومرزوق، وهناك شخصية أخرى قوية كان صاحبها مرشحا لخلافة الشيخ، ويدعى عبد الله التواتي، غير أنه قتل سنة 1851 قرب المدينة المنورة، وقد ترك السنوسي ولدا عمره، حين وفاة أبيه، حوالي 14 سنة، وهو المهدي، لكن الزاوية كان يتولاها مستشارون أقوياء العقيدة ومعلمون متمرسون، منهم معلم الأولاد: المدني بن أحمد التلمساني، ومنهم علي بن عبد المولى التونسي، وأحمد الغماري، وأحمد الريفي، وكلاهما من المغرب الأقصى، وعمران الطرابلسي، وغيرهم. وقبل أن ننتقل إلى الحديث عن تعاليم السنوسية وانتشارها نذكر حادثين وقعا في عهد السنوسي نفسه ويتعلقان بالجزائر، الأول موقف ¬

_ (¬1) انظر أرسلان، (حاضر). 2/ 400، ورين، مرجع سابق، 494.

السنوسي من مهمة ليون روش، الجاسوس الفرنسي الذي حمل نص فتوى إلى علماء مكة ليوافقوا عليه، ومحتوى النص هو دعوة الجزائريين إلى الكف عن حرب الفرنسيين ما داموا قد سمحوا لهم بالعبادة، والمعروف أن روش قد روى بنفسه في كتابه القصة وكيف ذهب إلى مكة ومن رافقه من مقدمي الطرق الصوفية الجزائريين، وقد تنكر روش مدعيا أنه مسلم باسم (عمر). وكان ذلك سنة 1842، وقد اعترف روش أن العالم الوحيد الذي عارض الفتوى في المجلس العلمي الذي دعا إليه الشريف غالب، حاكم مكة، هو السنوسي (¬1). وكانت حركة الجهاد على أشدها عندئذ في الجزائر بقيادة الأمير عبد القادر، وقد علق الفرنسيون الفتوى في المساجد بعد أن وافق عليها علماء المذاهب الأربعة في مكة، وقرئت في خطب الجمعة من قبل الأئمة والخطباء الرسميين، كما قرئت في الأسواق ونشرتها (المبشر) الرسمية. أما الحادث الثاني فهو الدعم الكبير الذي تلقاه ثائر الصحراء الشرقية، محمد بن عبد الله، من السنوسية خلال الخمسينات بل إلى وفاته، ومحمد بن عبد الله هذا كان التقى بالسنوسي في مكة ونسق معه الرجوع إلى الجزائر في حدود 1850، وكتب السنوسي الرسائل إلى أهل الطرق والمؤيدين له يطلب منهم دعم حركة هذا (الشريف). وقد شملت المنطقة التي حارب فيها الشريف محمد، بلاد الطوارق وورقلة وبني ميزاب والأغواط وتوات ووادي ريغ ووادي سوف والزيبان (¬2). ويروى دو فيرييه أن الشخصية التي كانت وراء دعم هذا الشريف هو الحاج أحمد التواتي المعروف (بالعالم). وكان هو العضد الأيمن للسنوسي، وكان أحمد التواتي هذا يعيش طالب علم في ¬

_ (¬1) انظر الفتوى في ديبون وكوبولاني، مرجع سابق، وفي كتاب ليون روش (32 سنة في الاسلام) ج 1، ط، باريس، 1884. (¬2) عن هذه الثورة انظر كتابنا الحركة الوطنية، ج 1، وربما كان السنوسي والشريف يحرفان بعضهما البعض من قبل، فهما من منطقة واحدة ومن جيل واحد، وقد سبق الشريف أن اشتغل بشؤون الدين في الجزائر قبل هجرته.

تيديكلت، كما كان ناقما على الفرنسيين الذين يصفونه بدورهم بالتعصب، وبتزكية من الشريف محمد بن عبد الله ذهب الحاج أحمد التواتي إلى السنوسي فعينه مقدما على المنطقة الغربية، أي فزان ومرزوق وتوات وبلاد الطوارق، وقد تحالف التواتي مع الشريف فكان التواتي، حسب روايات فرنسية، يجند الأتباع للسنوسية والشريف هو الذي يحارب بهم، وأخبر دو فيرييه أنه إذا تحول موقف الزاوية السنوسية إلى موقف هجومي، فإن الحاج التواتي سيكون على رأسها، فقد كان يدعو إلى الجهاد في كل مكان ويتنقل من مكان إلى آخر، ويأمر بشراء الأسلحة والذخيرة، وكان يدفع بالشريف إلى الدخول في هجومات، وهو الذي أوعز إليه بتنظيم الحملة الأخيرة التي انتهت باعتقال الشريف سنة 1861، وكان الحاج التواتي قد أفتى بقتل بعثة دو فيرييه بمن فيها من المسلمين، حسب قول هذا الرحالة الفرنسي (¬1). والمعروف أن السنوسي قد رجع إلى ليبيا سنة 1843، وتعتبر هذه السنة مهمة في حياة الجزائر، أليست هي السنة التي فقد فيها الأمير عبد القادر الزمالة الشهيرة؟ ومع ذلك استمرت حركة الجهاد ضد الفرنسيين إلى نهاية 1847، كما هو معروف، لكننا نذكر أن قبيلة السنوسي، أولاد سيدي عبد الله، حاربوا في هذه الحركة أكثر من عشر سنوات، لكنهم أجبروا على الاستسلام سنة 1841 ودخلوا تحت قيادة المجاهر (الأغاليك) التي عينها الفرنسيون بعد أن استولوا على المنطقة في عهد بوجو (¬2). ... ألف السنوسي عددا كبيرا من الكتب في علوم الظاهر والباطن، كما يقولون، أو الشريعة والتصوف، ومنها تلك التي ذكر فيها أسانيده ومسلسلاته، وقد ذكر الكتاني جملة منها في كتابه (فهرس الفهارس) حسب عناوينها، مثل الأوائل، وسوابغ الأيدي، والمنهل الروي الرائق ... ومنها ¬

_ (¬1) دو فيرييه، مرجع سابق، ص 306. (¬2) رين، مرجع سابق، ص 481.

كتاب (السلسل المعين في الطرائق الأربعين) (¬1). وقد اعتمد رين كثيرا على هذا الكتاب وعلى فهرسة السنوسي، وقال عن الفهرسة إنه ذكر فيها شيوخه ورحلاته وأسافيده، وقد صاغ الرحلة في المقدمة، ومن جملة ما ذكره حوالي 150 كتابا بأسانيدها وكلها تتصل بعلم الشريعة أو علم الظاهر، ثم ذكر مجموعة بأرقام جافة عن مختلف الطرق الصوفية التي أخذ منها ودرسها، وهي تمثل علم الحقيقة أو الباطن، فقد قال السنوسي في الفهرسة إنه رحل من مكان إلى آخر في سبيل العلم ولقي العديد من الشيوخ المشهورين والمغمورين وصاحب كثيرين منهم، ووصف علمهم بالقوة والصلابة، وقال إن من بينهم الخطيب والإمام، وكان بعضهم يريد أن يصل إلى الحقيقة والتصوف وبعضهم كان يكتفي بنيل الإجازة، كان لقاؤه بهم في مختلف الأماكن التي مر بها، في الصحارى والخلوات، وفي القرى والواحات، بين الجزائر وتونس وليبيا ومصر، فكون معهم صحبة العلم والطريقة وتكلم معهم بلغة ليست هي لغة العامة، وارتبطوا جميعا بروابط العلم والصداقة والعمل المشترك (¬2). وألح الشيخ السنوسي على أنه تلميذ لأحمد بن إدريس الفاسي بمكة واعتبر نفسه استمرارا له بعد موته، وقد ذكر سنده منه، والكتب التي أخذها عنه، وكذلك الطرق الأصلية والفرعية التي أخذها عنه، فكانت 64 طريقة، أما كتابه (السلسل المعين) فقد تضمن أربعين طريقة أخذها، لكن هناك فروع لبعض الطرق لم يذكرها (¬3). وقد ذكر السنوسي أن من أوائل من أخذ عنهم الإجازة في مستغانم هو بدر الدين بن عبد الله المستغانمي، وهو تلميذ الشيخ محمد بن علي بن الشارف المازوني، ويظهر مما سبق ومن دراسات الباحثين أن الطريقة السنوسية هي خلاصة الطرق القديمة والمعاصرة، وأنها تميزت ¬

_ (¬1) عبد الحي الكتاني، مرجع سابق، 2/ 1040 - 1044. (¬2) رين، مرجع سابق، ص 485 - 486، هامش 1، 2. (¬3) ديبون وكوبولاني، مرجع سابق، ص 554، كتاب (السلسل المعين) يكتب أحيانا (السلسبيل المعين) ترجمه إلى الفرنسية كولاس، المترجم العسكري الفرنسي.

برفع شعار الرجوع إلى عمل السلف والعمل بالكتاب والسنة وتصفية الدين مما علق به من الشوائب كالخرافات والزيغ والبدع الضالة، وما دام صاحبها من علماء الوقت فإن طريقته قد استعملت العلم والتعليم وسيلتها إلى قلوب الناس وعقولهم، وإلى إحياء العمل بالدين الخالص، والوقوف في وجه الغارات الأجنبية على العالم الإسلامي فكريا وعسكريا، ماديا ومعنويا. وباعتبارها طريقة صوفية أيضا اعتمدت السنوسية أنماطا من الطقوس يمارسها أتباعها ليدخلوا في حظيرتها ويصبحوا من أنصارها، من ذلك ذكر لا إله إلا الله مائة مرة، بعدد حبات السبحة، ومائة أخرى لعبارة الاستغفار، ومائة أخرى لعبارة اللهم صل على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم، وإذا لم يكن هناك غريب عن الطريقة يجوز للتابع أن يقول أيضا: لا إله إلا الله محمد رسول الله، صلى الله على سيدنا محمد في كل لمحة ونفس عدد ما وسعه علم الله، وهذه أذكار قريبة من أذكار الطرق الأخرى، مثل الشاذلية، ومن تعاليم السنوسية أيضا عدم تعليق السبحة في الرقبة، كما يفعل الدرقاويون، بل يحملونها في أيديهم، وكذلك عدم استعمال الطبول، ولا آلالات الموسيقية في الاجتماعات، ولا الرقص والإنشاد، ولا التدخين ولا شرب القهوة، أما الشاي فمسموح به، ويقول المسلم عقب صلاة الفجر: يا رب اغفر لي ساعة الموت وما بعد الموت، أربعين مرة (¬1). وللطريقة حضرة أو مجلس بحضرة الشيخ بنفسه، ولها وكلاء في مرتبة الوزراء. وهناك ميزات تتميز بها السنوسية عن غيرها من الطرق، من ذلك أنها لا تمنع أتباعها من الانضمام إلى أية طريقة أو طرق أخرى، فيمكن للتابع أن يبقى درقاويا أو تجانيا أو رحمانيا ومع ذلك يكون سنوسيا إذا أراد، لأن مؤسسي الطرق في الواقع يرجعون إلى أصل واحد في نظرها، وهو القرآن الكريم، ولوحظ أن السنوسيين يتميزون عن غيرهم ظاهريا في وضع أيديهم ¬

_ (¬1) هذه المعلومات جاءت في كل من رين وديبون وكوبولاني،

على صدورهم عند الصلاة، وذلك بوضع اليد اليسرى في اليمنى، خلافا للسدل عند المالكية، ويذهب رين إلى أن السنوسية ليست طريقة مجددة ولا مصلحة، لأن ما تدعو إليه هو السلفية، والرجوع إلى الكتاب والسنة مجردين من كل البدع التي نشأت عبر السنين، سواء من قبل الحكام أو من قبل شيوخ الطرق، الذين خرجوا عن تعاليم القرآن، ومعنى ذلك أن السنوسيين يدعون (للإمامة) والحياة الصافية المثالية في التأمل والإخلاص، وتعني الإمامة عند (رين) الجامعة الإسلامية الدينية - الثيوقراطية (الخلافة). ذلك هو محور الدعوة السنوسية، وهم لا يدعون إلى تحقيق ذلك عن طريق الثورة والعنف، وإنما يدعون إليه بكل هدوء وصبر، فهم يريدون في نظر رين البقاء خارج الشؤون السياسية، ومع ذلك فهم في الشؤون السياسية أخطر من غيرهم، لأن الإسلام المتجدد سيقف في وجه الاختراعات (الشيطانية) للحضارة الأروبية وروح التقدم العصرية، إن كل ما يصدر عن السنوسية في نظره، له محرك ديني وهدفه ديني (¬1). ويذهب دوفيرييه الذي قام برحلته على إثر وفاة الشيخ السنوسي نفسه. إلى وصف الطريقة السنوسية بأنها حركة احتجاجية (قياسا على المذاهب الأروبية الدينية). فهي في نظره تقف ضد التنازل للغرب، وضد البدع التي حدثت نتيجة لتقدم الغرب، وضد محاولات الغرب الامتداد إلى المناطق الإسلامية الباقية، واعتبر هذه الطريقة عدوة ومتعصبة، وقال إن الشيخ السنوسي ثار ضد حكام إسطانبول وحكام مصر لأنهم استعملوا التقاليد الفرنسية والنظم الغربية، ولكن دوفيرييه اعترف بظلم الحكام في العالم الإسلامي والهبوط المعنوي الذي عليه حالة المجتمع الإسلامي، والتخلي عن الدين وظهور الشرور والفساد، واعترف أيضا بأن الشيخ السنوسي كان مثقفا وكثير الأسفار والاطلاع على أحوال العصر والمجتمعات، وأنه (السنوسي) يرى أنه لا بد من تبني التقدم الآتي من الشرق وإنشاء قلعة حصينة سياسية - دينية تدافع عن الإسلام وتحميه، وقال دوفيرييه إن السنوسية ما تزال ¬

_ (¬1) رين، مرجع سابق، ص 496.

دفاعية ولكنها قد تتحول إلى حركة هجومية (¬1). وإذا كان برنامج السنوسية يجد معارضة من الغرب ومن الحكومات الإسلامية الواقعة تحت تأثير الغرب، فإنه كان يجد معارضة أيضا من بعض العلماء الرسميين وحتى من بعض الطرق الصوفية المتحركة بتعليمات أنانية أو بإيعازات غربية، رأينا كيف انتفل السنوسي من الجبل الأخضر إلى جغبوب بعيدا عن أنظار وضغط الحكام العثمانيين ليؤسس زاويته ونفوذه بحرية، ومع ذلك بقيت الاتصالات بينه وبين السلطة العثمانية من جهة والمبعوثين الغربيين من جهة أخرى، محاولين معرفة نواياه والاستفادة من نفوذه، وسنعود إلى هذه النقطة بعد حين، وقد قال (ستودارد) إن السنوسي كان حذرا من الحكومات النصرانية (الغربية) والحكومة العثمانية (¬2). وكان الفرنسيون في الجزائر يحركون بعض الطرق الصوفية في الجنوب، كما رأينا، ضد نفوذ السنوسية مخوفين إياها بأن السنوسية ستأخذ منها الأتباع وتحرمها من الزيارات والاستقلالية، ونحو ذلك من الأساليب، ولذلك قال ديبون وكوبولاني إن برنامج السنوسية في الجزائر وتونس يواجهه شيوخ الطريقة التجانية والقادرية في الجنوب (¬3). وقد رأينا أن الفرنسيين كانوا يوظفون التجانية، في تماسين وقمار، وبعض فروع القادرية في ورقلة وعميش، ضد السنوسية، ومن جهة أخرى رأينا كيف نشرت بعض الجهات فتوى لبعض علماء الأزهر (الشيخ محمد عليش) ضد تعاليم ونشاط السنوسية، وهي الفتوى التي كانت في الأصل ضد الشيخ أحمد بن إدريس الفاسي بمكة (¬4). ¬

_ (¬1) دو فيرييه، مرجع سابق، ص 306. (¬2) شكيب أرسلان (حاضر). مرجع سابق، 1/ 295، علق أرسلان على رأي (ستودارد) بأن السنوسي كان مؤيدا للسلطان باعتباره خليفة. (¬3) ديبون وكوبولاني، مرجع سابق، ص 558. (¬4) انظر خلاصتها في نفس المصدر، ص 552، وفي الرد عليهم جاء أنهم يعاملون الشيخ معاملة الملوك، ولا يذكرون للتابع ما هو محرم عليه، ويدعون العمل بالكتاب =

ومهما اختلف الناس حول تعاليم وبرنامج السنوسية، فإن نظامهم في الزاوية الأم كان ملفتا لنظر الجميع لما امتاز به من إحكام وضبط وولاء وسرعة انتشار، ففي ظرف قصير تعددت الزوايا وأصبح الأتباع بالآلاف في آسيا وإفريقيا، لقد أصبحت الطريقة عبارة عن حكومة، كما وصفها بعضهم، وأصبح الشيخ السنوسي في زاويته كأنه رئيس دولة، وعلى رأس كل زاوية مقدم أو قيم يدير شؤونها ويرتب أمورها ويبث دعايتها ويحمي أتباعها، ويعطي عهودها، وكان فوقه وكيل دوره هو دور الحاكم المحلي، وكلاهما ينسق مع الآخر ويسهر على الأمن والنظام في القبيلة والزاوية، تنفيذا لأوامر الشيخ السنوسي، وبواسطة هذين المسؤولين تجبي الضرائب وتصرف المصاريف في المصالح العامة، ويجري العدل بين الناس وتفلح الأرض وتسوق السلع، وكانت أراضي الزاوية تحرث وتحصد بمقتضى عمل تطوعي لكل فرد في القبيلة، وبالإضافة إلى ذلك فإن الزاوية هي المسجد للصلوات والأذكار واللقاء الاجتماعي، وهي المدرسة حيث يتلقى الأطفال تعليمهم ويدخلون إلى تعاليم الدين، وفيها تجري عقود الزواج والصلاة على الأموات، وكانت الزاوية أيضا ملجأ الغريب ومأمن الخائف، سيما في المناطق النائية حيث القوافل والمنقطعون (¬1). قوة الزاوية السنوسية ومركزيتها شهدت لها كل الكتابات المعاصرة. ومنها ما بالغ ربما في عدد الأتباع، فقد قال دوفيرييه سنة 1861 أن أتباع السنوسية قد بلغوا حوالي مليون ونصف، بينما قال لويس فينيون سنة 1887 أنهم ثلاثة ملايين (¬2). وهذا الرقم يدفع أصحابه الضرائب ويطيعون الشيخ ويدربون على السلاح، ويتبعون تعاليم السنوسية القائلة بأن الدين كله لله، ¬

_ = والسنة لكن يأمرون الناس بأخذ الورد، وطالبوهم بالرجوع إلى التعاليم المالكية، الخ. (¬1) شكيب أرسلان (حاضر). مرجع سابق، 1/ 297. (¬2) لويس فينيون (فرنسا في شمال إفريقيا). باريس، 1887، ص 219 - 221. وهو رقم مبالغ فيه.

وأن التابع لا يطيع إلا سلطة رئيس واحد (إمام). رئيس دولة مسلم، يجمع بين السلطة الزمنية والدينية، وهذا الرئيس (الإمام) يفقد كل حق له على رعاياه إن تخلي عن العمل بأحكام الدين، كما تحددها الطريقة السنوسية، ويصبح من الواجب الثورة على هذا الرئيس أو الإمام، ويقولون في مبالغة واضحة أن السنوسية تحرم التجارة والتعامل مع غير المسلمين، بل وتحرم حتى الحديث معهم أو تحيتهم (¬1). وهو قول يهدف إلى تخويف الغربيين من السنوسية، فهؤلاء يرونها خطرا ليس على الأروبيين فحسب بل على الخلافة في إسطانبول أيضا، لأن السنوسية تؤمن (بطرد) السلطان الخارج عن الدين، ولكن لماذا يخرج السلطان عن الدين قبل كل شيء؟. وقد وصفت النصوص المعاصرة واحة جغبوب بأنها كانت محسنة ولها أربعة أبواب وتضم بين ستة وسبعة آلاف ساكن، وزاويتها عجيبة الشكل لبنائها بالرخام المزين، وحولها محطات للقوافل العابرة، وفي الزاوية ضريح الشيخ السنوسي نفسه مغطى بأغطية ثمينة، ويقيم في الزاوية حوالى 400 شخص من شتى أنحاء العالم الإسلامي، ولهم منازل خاصة، ومعظمهم عزاب، والعزاب هم طلبة يخضعون لانضباط قاس، وفي الزاوية حوالي مائة زنجي يخدمونها من الداخل، وتسقى الواحة بثلاث عشرة بئرا، وكل الأشخاص مسلحون فيها، لأن الدفاع عنها ضروري، وفي الزاوية حوالي 400 بندقية و 200 سيف، هذا في الحياة اليومية، أما في الاحتياط فهناك أسلحة تكفي 3، 000 شخص، وفي الزاوية غرف مليئة بالبارود والرصاص، وحوالي 15 مدفعا، وفي جغبوب صناع، لمختلف الحرف، منها صنع الأسلحة، وهناك بريد منتظم عن طريق الخيول والمهاري، يتجه إلى مختلف الاتجاهات من مصر إلى برقة إلى فزان إلى طرابلس إلى وداي، إلخ. كان لهم نظام شرطة محكم، ودار للضيافة ينزل بها الغرباء، ولهم أسلوب حكيم لمعرفة هوية الغريب قبل أن يواصل مسيرته، وفي سنة 1884 كان عدد زوايا السنوسية قد وصل إلى أكثر من مائة زاوية في مساحة تمتد من الجزيرة العربية إلى إفريقية، وكل ¬

_ (¬1) نفس المصدر.

زاوية تخضع لنفس النظام، فلها أيضا شيخها ووكيلها ورقابها، وطلبتها وخدمها، ومدريستها ودروسها الوعظية والدينية، والسلطات العثمانية تعفي الزوايا من دفع الضرائب (¬1). وتسمى السنوسية بالطريقة المحمدية وأتباعها يدعون الإخوان مثل معظم الطرق الأخرى، ولكنها تستوعب عددا كبيرا من الأتباع نظرا لعدم قيودها أو شروطها كما لاحظنا، وقد ذكر بعضهم أن حوالي عشر طرق منتشرة في الجزائر وتونس لها أتباع في السنوسية وتخضع لتعاليمها، وقد اتهمت حتى التجانية بأنها ضالعة في هذا التيار، وعلق لويس فينيون بأنه إذا صح ذلك فعلى فرنسا أن تراجع سياستها إزاء هذه الطريقة - التجانية، أما الشاذلية والدرقاوية والمدنية فبالتأكيد أنها مستوعبة في السنوسية، وقد ذكر فينيون أن أتباع السنوسية مستعدون لتنفيذ الاغتيالات والقيام بالثورات، ثم عدد ما واجهه الفرنسيون من أتباع السنوسية منذ 1852، تاريخ الهجوم على الأغواط من قبل الشريف محمد بن عبد الله صديق السنوسي، وكذلك مبعوثي السنوسي سنوات 1879، 1880، 1881، ووجود شخصيات منها في ثورات أولاد سيدي الشيخ، واغتيال بعثة فلاترز 1881، إلخ، هذا بالنسبة للجزائر، أما بالنسبة لدور السنوسية في تونس والسينغال وغيرهما فهناك قائمة أيضا من الثورات والاغتيالات، حسب لويس فينيون (¬2). في عهد المهدي السنوسي أصبح ترتيب الإخوان على درجات، يأتي (المجتهد) في أعلاها، وهو العالم، ثم المجتهد الثاني والثالث، أما الدرجة الرابعة فهي العامة، أولئك الذين لا يعرفون من الدين إلا ما يؤدون به صلاتهم، والدخول في الطريقة لا يكون إلا عن طريق مجتهد من أية درجة، وبالإضافة إلى ما ذكرناه عن سلوكهم العام، فهم أيضا لا يتنازعون فيما ¬

_ (¬1) رين، مرجع سابق، ص 506 - 509. (¬2) مرجع سابق، ص 211. وكذلك لاباتو، مرجع سابق، ص 71، كان فينيون يستعمل أسلوب الاستعداء على السنوسية لإثارة الرأي العام الفرنسي ضدها. ولذلك كرر ذكر الاغتيالات والثورات التي كانت السنوسية وراءها في نظره.

بينهم، ولا يلبسون إلا أحسن الثياب، وكانوا يستهلكون الطيب، وخصوصا العنبر، بكميات كبيرة، ويمارسون التسليات، ولا يهزلون إلا بجد، والنظافة من مظاهر الحياة في الزاوية، ولها ثروة كبيرة، ولها رجال بلغوا حد الحماس لها، أمثال الحاج التواتي الذي ذكرناه آنفا، ومحمد البسكري الذي كان يستقبل الأجانب على أنه هو المهدي أو بتفويض منه (¬1). وقد اختلفت الآراء حول موقف السنوسية من الحكومة العثمانية، فبعض المصادر تجعلها عدوة لهذه الدولة لانحرافها وتنازلاتها للأروبيين وعدم وفائها بأحكام الدين، ومن ثمة دعوة السنوسية إلى طرد السلطان الجائر والخارج عن الدين، وإلى الإمامة العامة بين المسلمين، أي غير الوراثية، ولذلك يشبهون السنوسية في هذا المجال بالحركة الوهبية (ويكتبها بعضهم الوهابية فيختلط الأمر على غير العارفين). ويعتبرونها حركة خارجية، من أجل ذلك، وهم يستشهدون ببعض التوترات بين السنوسية والعثمانيين كابتعاد السنوسي عن الجبل الأخضر وتأسيس الزاوية في جغبوب، وابتعاد خلفائه أيضا إلى واحة الكفرة وغيرها، ولكن آخرين يذكرون أن السنوسية لم تكن سوى طريقة من الطرق الإسلامية التي تؤيد (الخليفة) المسلم وتعمل على إنجاح حركة الجامعة الإسلامية التي دعا إليها السلطان عبد الحميد، وأنها قد دعت المسلمين إلى الهجرة من كل أرض احتلها (الكفار). واستشهد هؤلاء بإعفاء السلطات العثمانية الطريقة السنوسية وزواياها من دفع الضرائب، وإرسال المبعوثين من السلطان إلى السنوسي بالهدايا ونحوها (¬2). وتقرب من السنوسية في القرن الماضي الألمان والإيطاليون أيضا. ¬

_ (¬1) يذهب أحد المراجع إلى أن محمد البسكري قد يكون أحد أبناء السنوسي من زوجة تزوجها أثناء مروره بين بوسعادة وبسكرة. (¬2) يذكر لاباتو، أن الحشائشي يقول إن السنوسي يحب الترك (يعني الشيخ محمد بن علي). ولكن لاباتو نفسه يذكر أن السلطان قد أرسل ضابطا كسفير لدى السنوسي مع هدية للتعرف على نواياه، وأن السيد فلاح (؟) كان مستشارا للسلطان عبد الحميد، وهو الآن سنوسي متحمس، انظر لاباتو، مرجع سابق، ص 73 وما بعدها.

فجاء البروسيون سنة 1872 ودعوا المهدي السنوسي إلى إعلان الجهاد ضد فرنسا، حسب رواية الفرنسيين، ولكنه أبى، وحين جاء الرحالة الألماني (رولفس) لمقابلة الشيخ المهدي لم يقابله شخصيا وأرسل إليه الشيخ محمدالبسكري لمقابلته على أنه هو المهدي، وذلك في بئر سالم، أما الأيطاليون فقد جاء الضابط (كامبيريو) إلى برقة سنة 1881 على أنه مستكشف وحاول أن يجر السنوسية إلى إعلان الجهاد ضد فرنسا في تونس، فلم ينجح في مهمته، كذلك لم تفعل السنوسية شيئا إزاء ثورة عرابي بمصر (¬1). أما ثورة المهدي السوداني فقد أشيع أنها تلقت تأييد السنوسية، ولعل ذلك راجع إلى العلاقة بين هذه الطريقة والطريقة الميرغنية. وقد اعتبر الفرنسيون السنوسية خطرا عليهم، ابتداء من دوفيرييه إلى لاباتو (1911). ولكن درجات الخطر تختلف من كاتب إلى آخر، ويقول رين إن الفرنسيين أخذوا يهتمون بالسنوسية منذ 1855، إثر زيارة السنوسي للجريد (¬2). ولكن أول من لفت الأنظار إلى (خطر) السنوسية هو دوفيرييه الذي ألف كتابه بين 1859 (تاريخ وفاة محمد بن علي السنوسي) و 1864 تاريخ نشر الكتاب على نفقة الجمعية الجغرافية الباريسية، فقد تجول بالصحراء ونزل بغدامس وعبر بلاد الطوارق، وتحسس أثر السنوسية وغيرها من الطرق، وجمع وثائق هامة عن المنطقة في عاداتها ورسومها ولغتها ومجتمعها وعلاقتها، وأصدر أحكاما اتهامية ضد السنوسية لأغراض يقول البعض إنها تخدم تيارات معينة في فرنسا، وكان يظهر السنوسية كأنها جرثومة أو مرض معد يجب الحذر منه، وقد رأينا كيف صور شخصية الحاج التواتي ودوره، ويقول هذا المصدر إن إيطاليا قد أخذت فيما بعد برأي ¬

_ (¬1) رين، مرجع سابق، ص 496. ولرين رأي آخر في موقف السنوسية من ثوره المهدي السوداني، كما له تحليل لموقفها من ثورة عرابي، انظره. (¬2) رين، مرجع سابق، ص 498، لا ندري من هو السنوسي الذي زار الجريد عندئذ لتدشين إحدى الزوايا، وجاءت الأخبار إلى الفرنسيين بأنه شريف يدعو إلى الجهاد. ولا نظن أنه هو الشيخ محمد بن علي السنوسي نفسه، ولعله أحد مقدميه.

دوفيرييه في تعاملها مع السنوسية. ولرين ولوشاتلييه موقف مشابه، فقد كان رين رجلا معاديا للدين عموما. وكان يرى الدين خطرا على الفرنسيين فما بالك على الشعوب التي يسميها المنهزمة (المحتلة). فالدين يصبح هنا أشد خطرا في نظره، وقد درس رين الطرق الدينية عموما، لكنه يتفق مع زميله دوفيرييه بالنسبة للخطر السياسي الذي يكمن في السنوسية، وقد ذكرنا أنه لا يرى السنوسية طريقة مجددة ولا مصلحة، خلافا لزميله، كما يتفق معه في أهميتها، أما خطرها فهو مبالغ فيه عنده، ويذهب رين إلى أن السنوسية حركة لها أهمية قومية وإسلامية وثيوقراطية، أما لوشاتلييه (¬1) فقريب من رأي دوفيرييه حول السنوسية، فهو يقر بخطرها ويعطيها حجما كبيرا في عمله، واعتبرها مسيطرة على شؤون الإسلام في ذلك العهد، وكان لوشاتلييه رئيسا للمكتب العربي في ورقلة، ونتيجة لذلك ألفط كتابا (مونوغرافيا) حول الموضوع، ثم واصل عمله في الحجاز نفسه، وقال إن للسنوسية تأثيرا كبيرا في الحجاز، وهي قادرة على إعلان الجهاد، وقال إن الحجاز تحت تأثير إمامة جغبوب، وتنبأ أن الجهاد ستعلنه السنوسية في الحجاز كما أعلنته الوهابية في نجد، وهو تنبؤ كان في غير محله طبعا. أما دراسة ديبون وكوبولاني عن السنوسية فكانت أكثر اعتدالا نحوها. وقد نظرا إلى أن الطرق الصوفية مبالغ في دورها، والسنوسية في الحقيقة طريقة مستوحاة من الواقع، ورأيا أن تأثير السنوسية جغرافيا مبالغ فيه وكذلك في عدائها للمسيحيين الذي لا يختلف عن موقف المسلمين الآخرين، وكلاهما يقول برأي رين في أن السنوسي (مرابط). وأنه ولي له أصالة وإنما دعا إلى الرجوع إلى السلفية (¬2). وقد رأيا أيضا عدم نسبة الاغتيالات التي وقعت ¬

_ (¬1) نشر كتابه (الطرق الإسلامية في الحجاز) سنة 1887، أما رين فقد ذكرنا أن كتابه صدر سنة 1884. (¬2) هذه الآراء حول الكتابات الفرنسية عن السنوسية والطرق الصوفية وردت في بحث جياني البيرقوني G.Albergoni، بعنوان (تنويعات إيطالية عن موضوع فرنسي: =

الطكوكية

في الصحراء إلى السنوسية بطريقة مباشرة، ومنذ آخر القرن الماضي ظهر تيار في الكتابات الفرنسية ينادي بعدم إعلان الحرب على السنوسية، إذ من الممكن أن تكون قوة تنشد فرنسا التحالف معها ضد الإنكليز أو الألمان وقت الحاجة، فالعداء السافر لها ليس في صالح السياسة الفرنسية بعيدة المدى، واعتبر بعض الكتاب أن السنوسية لا تدعو المسلمين إلى العنف ولكن إلى الهجرة إلى دار الإسلام، وهي لا تدعو الناس إلى التمرد والثورة وإنما الذين تأثروا بها هم الذين يفعلون ذلك ولا سيما دعوتها للإمامة والسلفية، وكان الفرنسيون يفتحون الرسائل والمراسلات الأخرى ولم يجدوا ما يدل على دعوة السنوسية للثورة. الطكوكية ورغم كثرة الزوايا السنوسية في العالم، فإنه لم يكن لها في الجزائر سوى زاوية رئيسية واحدة سمحت بها السلطات الفرنسية، وهي زاوية طكوك أو تكوك، نواحي مستغانم، حوالي سنة 1859 (عام وفاة السنوسي الكبير). وقد عاشت هذه الزاوية نفس الظروف والتقلبات التي عرفتها الطرق الصوفية في الجزائر خلال الاحتلال، كما عاشت الظروف التي كانت تؤثر على السياسة الإسلامية/ الفرنسية في الخارج ولا سيما بالنسبة للطريقة السنوسية، ويبدو أن الفرنسيين حاولوا أن يجعلوا من زاوية طكوك صلة وصل بينهم وبين السنوسية في ليبيا، وبالخصوص في العهود المتأخرة. ومؤسس الزاوية الطكوكية قيل إنه قادري ورحماني وأنه درقاوي - شاذلي، ثم سنوسي، والواقع أنه قد يكون كل ذلك لأننا رأينا أن السنوسية لا تمانع في أن يجمع التابع لها بين مختلف الطرق الصوفية، وقد فسر ¬

_ = السنوسية) في كتاب (معرفة المغرب العربي). إشراف كلود فاتان c. Vatin (Connaissance du Maghreb) ص 114 - 115. عن موقف ديبون وكوبولاني من مراجعة الآراء الفرنسية حول السنوسية، انظر كتابهما، مرجع سابق، ص 561 - 562.

بعضهم انتقال الشيخ طكوك إلى السنوسية كون محمد بن علي السنوسي من نفس البلدة والقبيل الذي ينتمي إليه، وسيرته تظهر تعامل السلطات الفرنسية مع ضحايا من أصحاب الطرق التي لا مطمع لها فيهم أو الذين تشك في انتماءاتهم وتوجهاتهم، وقد ساق ديبون وكوبولاني سيرته فكانت عبرة للمعتبرين، يقولان إنه هو الشيخ طكوك الشارف، ولد الجيلاني عبد الله بن طكوك، المولود حوالي سنة 1794 بمجاهر قرب مستغانم (نفس المنطقة التي ولد فيها السنوسي). درس على عدة مشائخ في الناحية، منهم شيوخ السنوسي نفسه، كالشيخ محمد بلقندوز الملقب (قتيل الترك). لأن الباي حسن، باي وهران، حكم بقتله سنة 1829 بمازونة، رغم علمه، ربما لأنه كان من مقدمي الدرقاوية الذين ثاروا قبل ذلك بحوالي عقدين، وقد خشي طكوك على نفسه من المصير الذي عاشه شيخه فهاجر إلى المغرب، تماما كما فعل زميله محمد بن علي السنوسي، ولكن لسبب آخر فيما يبدو. لا نعرف متى رجع الشيخ طكوك إلى إقليم وهران، ولكن من الأكيد أن رجوعه كان بعد هزيمة الأمير عبد القادر (1847). لأن الفرنسيين يقولون إنه رجع بعد الاحتلال النهائي، ولعل رجوعه كان زمن ثورة الشريف محمد بن عبد الله بالصحراء الوسطى والشرقية (عقد الخمسينات) والذي عرفنا أنه كان مدعوما من قبل الشيخ السنوسي، ويقول الفرنسيون إنهم لاحظوا على الشيخ طكوك تأثيره على العامة بكلامه الغريب، وهم كانوا يتحفظون من هذا النوع من الناس ويضعون حولهم العيون التي لا تنام، فاستدعوه في مركز الأمن في (عمي موسى). ولكنه لم يحضر، فجاءته العساكر وحملته، ودام اعتقاله (سنوات) حسب ديبون وكوبولاني، بمركز عمي موسى (¬1). وبعد إطلاق سراحه رجع إلى موطنه الأصلي (المجاهر؟) وأخذ يكون أتباعه وينشئ ¬

_ (¬1) بعض شيوخ الزوايا كانوا يتفادون الظهور أمام الفرنسيين واستقبالهم حفاظا على (حرمتهم) عند العامة، وكان الفرنسيون يقبلون ذلك من البعض، ولا ندري لماذا أجبروا الشيخ طكوك على الظهور وفرضوا عليه السجن، واعتبروا موقفه عصيانا.

زاويته في أولاد شفاعة، وذلك حوالي سنة 1859 كما ذكرنا، وفي هذا العهد كانت ثورة شريف ورقلة تشرف على نهايتها أيضا (اعتقل سنة 1861). وقد لاحظ الفرنسيون أنه أخذ يربط علاقات مع (الخارج). فكان مبعوثوه يتوجهون إلى لييبا ومصر والحجاز ثم يعودون، فما الأمر؟ لقد أثار حوله الشكوك من جديد، ودون سبب واضح اعتقلوه مرة أخرى ولكن في مستغانم هذه المرة، ولعل من أسباب اعتقاله هو الخوف من تداخله أثناء ثورة قبيلة فليته وشيخها ابن الأزرق، ثم ثورة أولاد سيدي الشيخ بعد ذلك (1864). ولكن الفرنسيين لاحظوا أن الشيخ طكوك لم يدع للجهاد ولم يكن مثورا للناس بل كان مهدئا، رغم أنه كان على رأس زاوية تعتبر خصيمة للفرنسيين بانتمائها إلى السنوسية، ونفس الملاحظة أبداها الفرنسيون على موقف هذا الشيخ أثناء ثورة المقراني والشيخ الحداد (سنة 1871). لكن تقدم السن بالشيخ طكوك جعل شخصيات من حوله تستغله وتشير عليه بأمور رآها الفرنسيون ضد مصالحهم، سيما عندما حدثت ثورة بوعمامة (1881). فهم يعرفون مدى الارتباط بين الشيخية والقادرية والسنوسية والدرقاوية، ولذلك خشوا أن يكون الشيخ طكوك مطية يركبها المغامرون كما فعلوا، في نظرهم، مع الشيخ الحداد. ولكي نصل إلى علاقة زاوية طكوك بالزاوية السنوسية نقول إن العلاقات لا شك كانت ترجع إلى عهد تأسيس الزاوية السنوسية بأبى قبيس (مكة) سنة 1835. فالحجاج كانوا ينقلون الأخبار والرسائل والإجازات، وقد عرفنا أن الشيخ طكوك كان عندئذ مهاجرا في المغرب الأقصى، ومن يدرينا لعله حج والتقى بالشيخ السنوسي في مكة، أما الرواية التي يسوقها ديبون وكوبولاني فهي عاطفية أكثر منها دينية، فقد قالا إن بطانة (السوء) هم الذين اقترحوا على الشيخ أن يرسل ابنته إلى الحج، على أن تتوقف أثناء رجوعها، في جغبوب للزواج من الشيخ المهدي السنوسي، فهل كان ذلك بترتيب مسبق بين المهدي السنوسي (وبطانة السوء)؟ ومهما كان الأمر فقد

حجت البنت فعلا وعادت عبر جغبوب، حسب الخطة المرسومة، ولكن الزواج المخطط لم يتم، دون أن نعرف السبب، فرجعت البنت إلى أبيها، وتزوجت من رجل آخر، يقول الفرنسيون إنه أحد (القياد) السابقين، وقد جرى كل ذلك دون معرفة بتواريخ الأحداث. لكن في سنة 1876 أبلغ المخبرون أو الوشاة أن في زاوية طكوك أسلحة وذخيرة، فهرع الفرنسيون إلى الزاوية واحتجزوا الأسلحة وصادروا الزاوية نفسها، واعتقلوا شيخها مرة ثالثة، ووجهوا إليه تهمة الاغتيال، وساقوه إلى سجن مستغانم أيضا، والمؤلفان، ديبون وكوبولاني، يسوقان هذا الحدث وكأنهما يكتبان رواية خيالية أو قصة (بوليسية) تذكرنا باغتيال الشيخ كحول واعتقال الشيخ العقبي ووجود السكين البو سعادي عند المتهم عكاشة، سنة 1936، ولكن الإدارة الفرنسية هي هي سواء مع الشيخ طكوك أو الشيخ العقبي، والغريب في الأمر أنهم بعد أن اعتقلوا الشيخ وصادروا ما في الزاوية تبينوا براءة الشيخ (دون محاكمة طبعا) إذ قالوا إنه لم يدع قبيلة المجاهر إلى الثورة، وكان في إمكانه أن يفعل لأن نفوذه فيهم قوي، بالعكس لقد طلب الهدوء من أتباعه، ومع ذلك سيق إلى السجن كما يساق المجرمون، وذكر آجرون أن الشيخ اعتقل سنة 1877 بناء على هجوم الإعلام الكولوني عليه واتهامه بإخفاء السلاح، وكان ذلك في عهد الحاكم العام شانزي، وفي سنة 1879 اعتقل الشيخ طكوك من جديد وقيد إلى سجن مستغانم، وكان بإمكانه أن يثور عشرين ألفا من الناس، ولكنه مع ذلك دعاهم إلى الهدوء (¬1). ومع ذلك فإن الذين فعلوا به ذلك هم الذين قيل إنهم مشوا في جنازته وأظهروا التأسف عليه. ولا ندري كم المدة التي قضاها الشيخ في الاعتقال هذه المرة. لأن الذي عاش بين 1870 - 1890 يعرف أن قانون الأهالي ليس له مرجع في القانون العام، وأن الإنسان الجزائري كان مسحوقا بيد الجمهورية الثالثة، ¬

_ (¬1) آجرون (الجزائريون المسلمون وفر نسا). 1/ 309، وأيضاص 516.

وحكامها العامين من أمثال ديقيدون، وشانزي ولويس تيرمان، وقد تزوج الشيخ طكوك على كبر سنه بإشارة من حاشيته، حسب ديبون وكوبولاني، طمعا في نيل الزيارات التي منعتها فرنسا على الطرق الصوفية إلا على من ترضى عنها، ويفهم من هذا، لأن العبارة غير صريحة، أن هذا الزواج كان فرصة لجلب المال للزاوية، ولا ندري متى وقع هذا الزواج ولكن قيل إنه كان في آخر أيام الشيخ، في 5 غشت سنة 1890، فقد توفي الشيخ في هذه السنة عن 96 سنة، ودفن في زاويته، وترك خلافته الروحية لأخيه أحمد طكوك، ويبدو أن الفرنسيين ممن يبكون على الميت بعد أن يقتلوه، إذ قالوا إن الأروبيين كانوا يحترمون الشيخ ويلجأون إليه عند وقوع السرقة وغيرها، ولذلك حضر عدد منهم جنازته مع المسلمين أسفا على فقده، وحضر جنازته حوالي ثمانية آلاف شخص. ولم تسلم الزاوية من الغلق مرة أخرى رغم وفاة شيخها الشهير بتهدئة الأوضاع، وكان غلقها راجعا إلى أسباب سياسية، كما قال ديبون وكوبولاني، وزج بشيخها الجديد في السجن أيضا، ولكن في (أينكرمان) هذه المرة، ويذهب آجرون إلى أن المتصرف الإداري لبلدية هليل قد حكم بغلق الزاوية 1890 لمعاقبة شيخها بالنيابة لأنه جمع أموالا (زيارات) على أثر وفاة أخيه، ولما حاكموه وجدوه شخصا شرها ونشيطا جدا فسجنوه (¬1). كما سجنت فرنسا أحمد بن الشيخ طكوك بعد رجوعه إلى الجزائر بعد غربة دامت خمس سنوات في زاوية جغبوب، ويقولون إن أحمد بن طكوك قد ذهب إلى المشرق على إثر زواج أبيه المشار إليه، ثم رجع بعد وفاة والده بثلاث سنوات (أي 1893، في عهد جول كامبون). وكان الشيخ أحمد الإبن قد تزوج في جغبوب من إحدى بنات أخوة الشيخ المهدي السنوسي، وقد حل أحمد محل عمه الذي ربما يكون قد توفي في سجنه، ذلك أن هذا المصدر الفرنسي يقول إن أحمد الإبن كان على رأس الزاوية عند اعتقاله، (لأسباب ¬

_ (¬1) آجر ون (الجزائريون) 1/ 516.

سياسية لا وهي، حسب آجرون، أفكار الجامعة الإسلامية، وقد سجن أولا في كاسينيو Cassaigne، ثم في كالفي CALVI (كورسيكا) (¬1). والأسباب السياسية المشار إليها يمكن إدراكها بوضوح، ذلك أن عودة الشيخ أحمد بن طكوك إلى الجزائر، بعد الارتباط بالسنوسية عن طريق المصاهرة، والارتباط النسبي والوطني القديم، كانت كلها تخيف الفرنسيين إذ جاءت في الوقت الذي كان فيه الكتاب الفرنسيون يحذرون من خطر السنوسية داعية الجامعة الإسلامية والهجرة إلى دار الإسلام (¬2). فلعل هذا الشيخ قد اتهم بمثل هذه الاتهامات، ولكن دون إثبات، وقد أخبر آجرون أن هذا الشيخ قد بقي (عدة شهور) في المنفى والسجن، ثم أطلق سراحه، وأنه أظهر تعاونا مع الإدارة سنة 1900 حين دعا إلى تجنيد فرقة من الرماة، كما كانت الإدارة تريد. وفي ترجمة لأصحاب زاوية طكوك ذكر ابن بكار، معلومات إضافية عن مؤسس الزاوية ولكنها قليلة (¬3). فقد أضاف إلى الشيخ اسم محمد، فهو إذن محمد بن طكوك، وقال إن نسبه يتصل بنسل الولي سيدي عبد الله دفين مستغانم، بقرية المطمر، ويتصل نسبه كذلك بإدريس الأصغر، وقد ذكرنا انفا كلام (رين) حول نسب أولاد سيدي عبد الله الذين هم أيضا أصل محمد بن علي السوسي، وأضاف ابن بكار أن محمد بن طكوك قد فتح زاويته للعلم، ونحن لا نستغرب ذلك ما دامت السنوسية قد جعلت التعليم من مهامها الأساسية، ولكن المستغرب هو ماذا يمكنه أن يعلم في بلاد حكم عليها الفرنسيون بالجهل؟ ومن الجدير بالملاحظة أن هؤلاء الشيوخ: محمد بن طكوك، وعدة بن غلام الله، ومحمد الموسوم، وعلي بن عمر الطولقي، ¬

_ (¬1) ديبون وكوبولاني، مرجع سابق، ص 567. (¬2) أورد رين، مرجع سابق، ص 498 - 499، رسالة من المقدم السنوسي (الحبيب بن عمار). شيخ زاوية النجيلة، بلدية هليل، يدعو فيها الإخوان إلى الهجرة قياسا على ما فعله المهآجرون الأولون، لأن أرض الله واسعة، كما قال. (¬3) ابن بكار، مرجع سابق، ص 1671.

ومحمد بن بلقاسم الهاملي، وسعيد بن أبي داود ... كلهم متعاصرون، وكلهم حاولوا التعليم عن طريق الزوايا، وكأنهم كانوا على اتفاق وبرنامج موحد، ولكن تجربتهم لا تقاس بتجربة مصطفى بن عزوز في نفطة ولا بتجربة محمد بن علي السنوسي في جغبوب لحرية التعليم في تونس وليبيا وسيطرة الاستعمار في الجزائر، ولم يذكر ابن بكار أن خليفة الشيخ طكوك الأول هو أخوه، كما ذكر ديبون وكوبولاني، وإنما ذكر ابنه أحمد مباشرة. فقال (وبعد وفاته خلفه ابنه أحمد بن طكوك). ولم يذكر شيئا أيضا عن الاعتقالات التي تعرض لها الشيوخ الثلاثة، لماذا؟ وقد لاحظ ابن بكار، الذي كان من أتباع الزاوية الطيبية، إن الزاوية الطكوكية اشتهرت بالعلم، وبتحفيظ القرآن في زمن أحمد بن طكوك، والظاهر أن عهد هذا الابن قد طال أيضا مثل والده، إذ يقول ابن بكار أنه عاش إلى أوائل النصف الثاني من القرن الرابع عشر، وتوفي عن 80 سنة، والغريب أن ابن بكار لم يقل إن زاوية طكوك سنوسية، بل قال إنها قادرية - شاذلية، فلماذا هذا التعتيم أيضا؟. وفي هذا الجو الاضطهادي المتميز بين الطرق الصوفية لا يمكن أن يكثر الأتباع في الجزائر بالآلاف، كما حدث مع الطرق المخلصة للإدارة أو الجامدة أو الثائرة التي عرفناها، ففرع طكوك من الزاوية السنوسية كان يعيش على الهامش بين الزوايا والطرق، ولعله لم يكن يعلن أنه سنوسي أصلا، وكان يكتفي بأنه قادري أو شاذلي، كما لاحظ ابن بكار، لأن السنوسية طريقة (أجنبية) وخصمة لفرنسا. ومع ذلك كان الفرنسيون يحسون بالعلاقات بين الزاوية الأم وهذا الفرع اليتيم في موطن السنوسي الأصلي، ولذلك فنحن لن نذكر (ملايين) أتباع السنوسية في العالم، كما قال بعضهم، ومئات الزوايا والمقربين والوكلاء، يقول إحصاء رين سنة 1882 أن عدد إخوان السنوسية في الجزائر حوالي 480 فردا، ولهم زاوية واحدة (زاوية طكوك) وثلاثون مقدما، وقد صنف رين زاوية طكوك ضمن الطريقة الخضرية، وبعد عشر سنوات ذكر ديبون وكوبولاني (1897) أن للسنوسية 950 إخوانيا، وعشرين مقدما، وشيخا واحدا وزاوية واحدة.

لكن السنوسيين كانوا منتشرين في أتباع الطرق الأخرى كما لاحظ الفرنسيون، وقد قالوا إنهم موجودون في المدن والبوادي، ولذلك كانوا يتواصون بوجوب المراقبة الشديدة والحذر الدائم منهم، رغم أن رين يقول إنه منذ 1875 أصبحت التقارير تكشف أنه لا وجود للسنوسية سوى ما يأتي من جهة مستغانم، ولكن هذا لم يجعله يغفل عن إسداء النصح لقومه بالتزام المراقبة المستمرة للسنوسيين (¬1). وقد كان مجال نشاط السنوسية هو الجنوب بالخصوص، والكتابات التي رجعنا إليها حتى الآن ترجع إلى أواخر القرن الماضي، لكن احتلال إيطاليا لليبيا والحرب العالمية الأولى وما تلاها من أحداث جعل السنوسية تنشط بوجه آخر في الجزائر وغيرها، ومنها أحداث الطوارق سنة 1916 ومقتل شارل دي فوكو، الجاسوس/ القديس، والثورة التي وقعت في تلك المنطقة، ومقاومة التسرب الفرنسي في فزان. وقد شارك أحمد الشارف طكوك، كغيره من زعماء الطرق الصوفية، في توجيه نداء إلى أنصاره وأتباع طريقته السنوسية بأولاد شافع (شفاعة). وتبدو العبارات الواردة في ندائه أخف حدة ضد تركيا من غيرها، وجاء فيه عن فرنسا (أننا أبناؤها وخدامها من قلب وقالب، مستعدون للدفاع عن حوزتها). وذكرهم الشيخ بأن فرنسا قد قدمت للجزائريين العدرل والإحسان وحسن أحوالهم المادية والمعنوية بعد ظلم الترك وجورهم وقتلهم الأولياء ظلما وعدوانا (¬2). وفي سنة 1954 كتب إيميل برمنغام مقالة عن الجزائر الدينية، جاء فيها أنه بالرغم من القول إن السنوسية كانت معادية للأجانب، فإن زاوية الشيخ ¬

_ (¬1) لم يضف هنري قارو، 1906، وليباتو، 1911، جديدا عن موضوع السنوسية، وكلاهما سبقت الإشارة إليه. (¬2) مجلة العالم الأسلامي، R.M.M، ديسمبر 1914، ص 230 - 232، عدد خاص، والإشارة إلى (قتل الأولياء) ربما تعني الشيخ بلقندوز شيخ السنوسي وطكوك.

البوعلية

طكوك في الجزائر كانت مسالمة، ولكنها كانت تتداخل في الخلافات الداخلية (¬1). ... إضافة إلى ما ذكرنا، هناك طرق صوفية ذات نفوذ قليل في الجزائر، أما أصولها فتوجد في تونس أو الحجاز أو بغداد أو المغرب، ومعظمها ترجع إلى طرق معروفة كالقادرية أو الشاذلية، وكان يمكننا إضافتها إلى هذه العناوين لولا أن لها أسماء محلية خاصة بها، مثل الشابية والبوعلية ونحوهما. البوعلية: ترجع إلى بوعلي السني دفين نفطة، وتاريخه هو القرن السادس الهجري (توفي 610). وقد اشتهر بالنفطي لأنه دفين نفطة، كما اشتهر بالسني لأنه انتصر لأهل السنة ضد أهل المذاهب الأخرى، سيما الخارجية التي انتشرت في منطقة الجريد والجنوب التونسي ووادي سوف، فكان أبو علي (الحسن) من المتحمسين للسنة، وكان من أصحاب وتلاميذ أبي مدين، دفين تلمسان، المتوفى 594، وللنفطي مناقب ألفها أحد أتباعه، وهو الحسن بن أحمد البجائي (¬2). ونظرا لقربها من الحدود فإن بعض الجزائريين تأثروا بهذه الطريقة التي ترجع إلى القادرية، وكان أتباعها في العهد الذي ندرسه موجودين في قسنطينة وعنابة وتبسة وسوف، وهي الجهات التي يقصدها التجار التونسيون أيضا، والسلطات الفرنسية التي كانت حريصة على جمع أخبار هذه الطرق، أكدت أن البوعلية تكاد تكون غير معروفة في الجزائر إلى احتلال تونس (1881). وقد ذكر رين أن أول إشارة إليها كانت سنة 1876 حين لاحظوا في عنابة وجود شخص من قابس اسمه الحبيب بن الصغير، فاعتقلوه وحاكموه ثم طردوه في الجزائر، ثم ظهر شخص آخر من سوف في نفس ¬

_ (¬1) إيميل برمنغام في (الجزائر الدينية) فصل في كتاب (مدخل إلى الجزائر). 1956، ص 257. (¬2) محمد البهلي النيال (الحقيقة التاريخية). تونس، 1964، ص 211، (الصفحات 5 - 213 غير موجودة في هذا الكتاب).

الشابية

الفترة، لكن اعتقال الأول أسكت الثاني، حسب تعبير رين، وأتباع الشيخ بوعلي السني في الجزائر يمارسون الرقص العصبي والتشنج، وهم بذلك يشبهون العيساوية (¬1). وإذا كانت التقارير في عهد رين لا تعطيها الاهتمام اللازم ولا تعثر لها إلا على أثر بسيط، فإن التقارير اللاحقة قد بينت أن البوعلية لها نفوذ أقوى من وصف رين له، فقد كان لها زاوية فرعية في خنشلة، ولها مقدم اسمه عماره بوخشم، ولها عدد آخر من المقدمين والشواش، وكان لها في أقليم قسنطينة وحده أربع زوايا، حسب إحصاء ديبون وكوبولاني، (1897). كما لها 364 من الإخوان، وفيهم بعض النسوة، وستة مقدمون، أما شيخها الرئيسي ففي الزاوية الأم بنفطة (¬2). وهكذا نرى أنها طريقة ليست بذات أهمية لا سياسيا ولا اجتماعيا، ولا ندري إن كان الفرنسيون قد وظفوا منها عناصر لصالحهم في الجزائر كما فعلوا مع غيرها، ولا تكاد المصادر الأخرى التي تعرض للطرق الصوفية تذكر تأثير البوعلية في الجزائر (¬3). الشابية: تاريخ الشابية في الجزائر يرجع إلى القرن السادس عشر، وهي طريقة ناصرية لأن مؤسسها أحمد بن مخلوف، كان أحد أتباع الشيخ محمد بن ناصر الدرير، وقد نشطت الشابية في نواحي القيروان وأسسوا زوايا عديدة في تونس والجزائر، وتسيسوا كثيرا بحيث ظهر منهم تياران، تيار ديني يمثله مسعود الشابي، وتيار سياسي يمثله عبد الصمد الشابي، وكان عرفة القيرواني هو الذي ثار ضد الحفصيين ثم ضد العثمانيين أثناء عهد انتقالي اتسم ¬

_ (¬1) رين، مرجع سابق، ص 120. (¬2) ديبون وكوبولاني، مرجع سابق، ص 355. (¬3) في صيف 1989 زرت نفطة ودخلت الزاوية البوعلية، فكانت على هيئة جيدة، وكان الناس، من مختلف الطبقات، سيما الفقيرة، يتهاطلون عليها، وقيل لي عندئذ إن أوقاف الزوايا قد صادرتها الحكومة التونسية عدا أوقاف زاوية بو علي السني، ولم نتكد من هذه المعلومات.

بالفوضى، وحاول تأسيس مملكة، وقد انتشرت الشابية في نواحي الجريد (تونس) ووادي سوف وتبسة وعنابة وخنشلة والخنقة، بحيث كانت لها زوايا ومقدمون، بل وثورات ومداخلات سياسية في هذه المناطق، وفي العهد الذي ندرسه لعبوا نفس الدور تقريبا، وقد دخلوا أيضا في السياسة، فكان منهم محمد الطاهر بن الحاج على الراعي المعروف بومعيزة، الذي أصبح قايدا على اليدوغ (عنابة) وعضوا في المجلس العام بولاية قسنطينة، وكان أتباع الشابية يأتونه بصفته ممثلا لهم، وكان ذلك بدون شك برضى السلطة، وهو من مقدمي بدر الدين، وبدر الدين هذا هو أحد خلفاء أحمد بن مخلوف الشابي، وهو مدفون في القيرية، قرب تبسة. أما شيخ الشابية الفعلي فهو محمد عبد الهادف (كذا) الذي أنشأ زاوية في جبل ششار تسمى زاوية المسعود الشابي، وكان ابنه المسعود يساعده على نشاطه الذي يشمل خنشلة وتبسة وسوف، وآثار الشابية تظهر في شكل مؤسسات دينية، كالمساجد، وهي موجودة بالخصوص في سوف، ومن حفداء الشيخ المسعود الشابي، ابن جدو بورقعة ورمضان، وللأخير ابن يسمى عمار ترك جبل ششار والتحق بتوزر وأنشأ بها زاوية تسمى (بيت الشريعة). ووريثا عمار بن رمضان هما الحاج أحمد، وابن جدو، وقد أصبح الأخير هو شيخ الطريقة الشابية، ويساعده ابن أخيه الحاج محمد بن الحاج إبراهيم، ورغم صلة الشابية بالناصرية (المغرب الأقصى) فإنها، حسب التقارير الفرنسية، لا تقيم معها أية علاقة. وللشابية إجازة متداولة صادرة عن الشيخ أحمد بن عمار بن رمضان الشابي، شيخ بيت الشريعة، في 4 جمادي الثانية، سنة 1279 (سبتمبر 1862). ولها أذكار وقواعد تسير عليها، شبيهة بأذكار الطرق الأخرى، مثل تكرار الاستغفار مائة مرة ولا إله إلا الله مائة مرة، واللهم صل على سيدنا محمد وعلى آله وسلم، مائة مرة، بعد صلاة الفجر، لكن الشابية تتميز بخاصية في هذا الذكر وهي رقم سبعين (70) حتى أن قاعدتهم الأساسية تسمى السبعينية، ولعلها هي كلمة السر عندهم أو علامة الفال والسرور.

البكائية

وقد لعبت الشابية دورا سياسيا في عهد الاستعمار، كما لعبته من قبل في العهد العثماني، فهي من الطرق التي تجمع بين الدين والدنيا، ويقال عنها إنها طريقة تتقرب من الحكومات وأصحاب النفوذ لكي تحافظ في الظاهر على فوائد الزيارات التي يأتي بها الأتباع، ويذكر الفرنسيون أنهم وجدوا من قادة الشابية مساعدة أثناء احتلال تونس، ولم يذكروا شيئا عن استعمالهم لنفوذها في التوسع بالجزائر أيضا، ومهما كان الأمر فقد أعانت الشابية الفرنسيين على استتباب الأمن وحتى على إرجاع المتمردين أو الهاربين منهم، فعندما حل الجنزال (فيليبير) بالجريد لأول مرة فر من أمامه أهل توزر ونواحيها، فكان ابن جدو شيخ الشابية هناك، وقد عاون على إعادتهم، وكان ابن جدو هو الواسطة بينهم وبين الفرنسيين، ثم عمل على نشر التهدئة، وقد عوضه الفرنسيون على هذه الخدمة بتعيينه (قايد بيت الشريعة) فأصبح يجمع بين القيادة الروحية والزمنية، ولعل قبول الشيخ هذه الهدية المسمومة هو الذي جعل العائلة الشابية تختلف فيما بينها، كما جعل الطريقة نفسها تضعف في أعين الناس، حتى قال الفرنسيون أنفسهم بعد احتلال تونس بحوالي خمس عشرة سنة إنها تكاد تختفي تماما، هذا في تونس، أما في الجزائر فقد لاحظ الفرنسيون أن الشابية كانت ما تزال قوية في سوف لأن أهل الوادي ما يزالون على احترامهم لأجداد الشابية (¬1). البكائية: وأتباع البكائية في الجزائر قليلون أيضا، وشيخهم هو أحمد البكاي. ومقر الطريقة الرئيسي في تمبكتو (¬2). ولكنها منتشرة في الجهات الغربية والجنوبية من الجزائر، سيما توات وكنته والقورارة ثم بلاد الطوارق، والبكائيون ينتمون إلى الفاتح عقبة بن نافع، وقد لعبوا دورا رئيسيا في ¬

_ (¬1) ديبون وكوبولاني، مرجع سابق، ص 483 - 484، اعتمادا على تقرير خاص كتبه الجنرال (لاروك) عن الشابية، عن هذا الجنرال انظر لاحقا، وعن الشابية قديما انظر محمد العدواني (تاريخ العدواني). بتحقيقنا، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1996، أما الشابية حديثا فانظر عنها مؤلفات علي الشابي. (¬2) أسسها الشيخ عمر بن أحمد البكاي، سنة 960 هـ.

أحداث غرب إفريقية بين السكان والمحتلين الفرنسيين والطامعين من الإنكليز والألمان، وكان (بارث BARTH) الألماني قد لقي أحمد البكاي وكتب عنه وعن طريقته وأفكاره وعن شجرة العائلة، ثم التقى دوفيرييه الفرنسي بابنه الأكبر سنة 1861 وبعلي ابن أخيه، وأشاد بكليهما، ومن أجدادهم شيخ يدعى عبد الكريم، استقر أحد أبنائه بتوات في ناحية بو علي، وحول قبره بني قصر (قرية) أصبح يعرف بزاوية الشيخ ابن عبد الكريم، وقد عمرت بهم زاوية قبيلة كنته (¬1). ولا يعرف المهتمون ورد البكائية، والغالب أنه هو ورد القادرية لمن يعتبرهم قادريين، رغم أن بعضهم يعتبرهم شاذليين (¬2). ولكن الملاحظ عليهم أنهم لا يهتمون عموما بالسياسة ولا يتداخلون فيها، وإنما هم مهتمون بالشؤون الدينية والتعليم، وفي هذا النطاق كانوا يساعدون القوافل ويصلحون بين الناس ويوفرون الأمن للسابلة والغرباء، وللبكائية فروع في تيديكلت، وتوات، ودانزيقمير، وأولاف، وسالي، وقد ذكر دوفيرييه أن للبكائية أملاكا عظيمة في توات التي ما تزال في نظره (متعصبة). وقال إن البكائية هي مفتاح الطريق من الجزائر إلى توات إلى تمبوكتو، وامتدح ابن أخ البكاي معتبرا إياه (صديقا) وحاميا له أثناء رحلته، كما كانت العائلة متسامحة جدا مع (بارث) الألماني، وقال إنك لا تكاد تعرف هل البكائيون من تمبوكتو أو من توات لكثرة أملاكهم وترددهم هنا وهناك، حتى أن الشيخ البكاي في الواقع هو المالك لأقابلي وزاوية كنته والجديد في تيديكلت (¬3). من شيوخ البكائيين المختار الكنتي صاحب التآليف (¬4). والمتوفى سنة 1826، وليس صحيحا دائما ما قيل عن ¬

_ (¬1) عن (كنته) انظر ما كتبه عنها إسماعيل حامد في (مجلة العالم الإسلامي) R.M.M، (1910). (¬2) اعتبرهم دو فيرييه قادرية، ولكن رين اعتبرهم شاذلية، والأول أصح لتاريخهم ومواقفهم في غرب إفريقية كما ذكرنا، ولاتناقض بين الطريقتين على كل حال. (¬3) دو فيرييه، مرجع سابق، ص 321، هامش 2. (¬4) انظر إسماعيل حامد (كنته) في مجلة العالم الإسلامي، 1910.

البكائية والسياسة، فإنهم وقفوا مع الشيخ ماء العينين الشهير آخر القرن الماضي، وكان قادريا وبكائيا، وكذلك تزعم الشيخ عابدين الطوارق ودعاهم للجهاد ضد الأجانب، وكان أيضا بكائيا (¬1). والبكائية ينتمون إلى جدهم الكنتي، عمر بن أحمد البكاي الذي عاش في القرن 16 م (ولد سنة 1504). وكان عمر هذا هو الناشر لورد الطريقة القادرية الذي أخذه عن الشيخ محمد بن عبد الكريم المغيلي الداعية الإسلامي الشهير، وتسمى البكائية هناك بالمختارية نسبة إلى الشيخ سيدي المختار الكبير الذي جدد الطريقة في آخر القرن 18 وأوائل 19، وكانت القادرية الكونتية قد عارضت نشاط التجانية في الناحية، وكان تحالفهما مع الأجانب مختلفا أيضا، قلنا إن القادرية انتشرت على يد المغيلي هناك وفي النواحي الصحراوية والسودانية، وقد أخذها عنه في البداية الشيخ أحمد البكاي الجد، ولكنه لم يعمل على نشرها كما فعل ابنه عمر البكاي الذي أصبح داعية كبيرا للقادرية بعد أبيه وبعد المغيلي، وكان للبكائية زوايا في توات وتمبكتو وغيرهما. أما أحمد البكائي الحفيد فقد ولد سنة 1803، ودرس على جده الشيخ المختار الكنتي، ومند حوالي 1847 أصبح أحمد البكاي هو زعيم الطريقة القادرية بلا منازع في الناحية، وأصبح له نفوذ روحي وزمني كبير، وقصده المستنجدون والرحالة الأجانب، وفاوض على أن تكون تمبكتو هي المدينة التي يديرها أهل سنغاي، وقد زارها الرحالة بارث سنة 1853 فوجد ذلك النظام هو السائد في تمبكتو، واستقبل البكاي بارث، وهو الذي أعطاه من مشى معه مسافة طويلة كما أعطاه عهد الأمان، وامتد نفوذ البكاي إلى سكوطو وبحيرة تشاد، وقد أشاد به بارث على أنه متسامح وذكي ومتفتح الذهن والروح، وإنه كان فضوليا يحب المعرفة حيثما وجدها، وحين سمع باحتلالط الفرنسيين لورقلة أعذ البكاي حملة ضدهم، ولكن بارث نصحه ¬

_ (¬1) ديبون وكويولاني، مرجع سابق، ص 276، ومحمد مصطفى ماء العينين توفي حوالى 1378 هـ.

المكاحلية (الرماة)

بالعدول عن ذلك، فاكتفى بإرسال رسالة احتجاج ضد الاحتلال مع التحذير من التوسع في الصحراء والجنوب. ومن جهة أخرى أظهر البكائيون تسامحهم أيضا مع الرحالة دوفيرييه سنة 1861، وخدموه في رحلته بين غدامس وتوات وغات، كما سبق القول، كما أنهم ربطوا علاقات مع فيديرب، الحاكم الفرنسي للسينغال، منذ 1864، وتراسلوا مع الإنكليز أيضا. وقد حاول الكونتيون اجتذاب حركة الحاج عمر في غرب إفريقية والعمل معه في نفس الاتجاه، فامتدحه البكاي بأنه (مجدد الإسلام). وكان الحاج عمر في البداية من أتباع القادرية، غير أنه تحول منها إلى التجانية، ورفع لواء الجهاد ضد الفرنسيين، وأظهر اللامبالاة بل العداء للبكائي، فما كان من هذا إلا أن عاداه أيضا ودخل معه في صراع حول التوسع والنفوذ الروحي والزمني، وأعلن البكاي أن الحاج عمر خارج عن الدين الإسلامي لعدم تلبيته لمبادئ السنة النبوية، وكان ذلك الانشقاق قد أدى إلى ضعف المسلمين جميعا في غرب إفريقية، مما سهل عملية الاحتلال الفرنسي للمنطقة كلها، وتوفي الزعيمان في وقت متقارب (الحاج عمر 1864، والبكاي 1865) (¬1). المكاحلية (الرماة): هؤلاء ليسوا طريقة بالمعني الصوفي، إنهم تنظيم من عصبة أو عصابة يكاد يكون (ميليشيا) بالمعنى الحديث، وبهذا المعنى كانوا يخيفون الفرنسيين، رغم قلة أعدادهم وقلة انتشارهم، وأصل المكاحلية أو الرماية - الرماة، يرجع، كما يقولون، إلى عهد سعد ابن أبي وقاص والصحابة الآخرين، فقد كانوا يمارسون الرياضة على النشاب والقوس والكرة والسهم. ¬

_ (¬1) للتوسع انظر (دراسة شاملة عن الكونته) في (مجلة العالم الإسلامي). R.M.M، 1918 - 1919، ص 92، 128 - 129، انظر أيضا دراسة محمد حوتيه عن زاوية كونته، رسالة ماجستير، معهد التاريخ، جامعة الجزائر، 1993.

الناصرية

وهي الأسلحة التي استعملت في الغزوات النبوية، هذا عن الأصل، أما تأسيسها ومكانها في الجزائر ففي الجهة الغربية، سيما نواحي معسكر والعين الصفراء ومغنية وفرندة، وسعيدة، كما أنها معروفة في البيض وتيهرت، ولا يكاد يوجد لها ذكر في النواحي الشرقية من الجزائر، وكانت شائعة في فرق الفرسان (الصبائحية). وقد يكون أصلها في السوس الأقصى، ثم انتقلت إلى الجزائر. وحسب إحصاء 1882 فإن إعداد هذه العصبة أو التنظيم، لا يتجاوزون 500 فرد، ولهم حوالي ثلاثين مقدما (¬1). ولكن ليس لهم زاوية أو شيخ، ولا تعرف لهم أذكار دينية ولا سلسلة نسبية، لأن ممارساتها في الواقع كانت رياضية - عسكرية (الفروسية). وكان الفرنسيون يتصيدون أتباعها لخوفهم منها، ولعلهم كانوا يخشون أن تستغلها بعض الطرق الصوفية الغاضبة. الناصرية: نقصد هنا فرع الناصرية بالخنقة (خنقة سيدي ناجي). وهي ترجع إلى مرابط قديم اسمه سيدي ناجي، وكانت لها زاوية ومسجد بالخنقة، وازدهرت في القرن 18 م ونشرت التعليم، كما ذكرنا في غير هذا، وفي العهد الفرنسي نافستها الرحمانية، ودخل رجالها الوظيف الإداري الرسمي فضعف نفوذها الروحي والتعليمي، ومنها عائلة ابن حسين (¬2). وعن موقفها السياسي انظر ما كتبه أحد أفراد هذه العائلة في جزء لاحق من الكتاب. طرق أخرى: هناك طرق عديدة ظهرت في المشرق ولم تؤسس لها فروعا في الجزائر، وكان من المفروض أن لا نذكرها، ولكن رأينا التنبيه على صلة بعضها بطرق معروفة في الجزائر، فالسهروردية ليس لها أتباع في الجزائر ولكنها تتصل بالرحمانية وبالشاذلية، وهم يأخذون عن الشيخ أبي نجيب ضياء ¬

_ (¬1) رين، مرجع سابق، ص 126. (¬2) فيرناند فيليب (مراحل صحراوية). 1880، ص 146.

في ميزاب ومتليلي

الدين السهروردي، كما أن طريقة أبي القاسم الجنيد ليس لها أتباع في الجزائر ولكن الشاذلية قد أخذت عنها وكذلك السنوسية، وبعض الطرق تعتبر الجنيد (قطب الأقطاب). وقال السنوسي إن معظم الطرق متصلة بالجنيد. ومن جهة أخرى أشرنا إلى الصديقية المنسوبة إلى الخليفة أبي بكر الصديق، وهي تتصل في الجزائر بالطريقة الشيخية التي تنتسب إلى الخليفة أبي بكر الصديق، كما أخذ السنوسي عن كبار شيوخ الصديقية، وهي متصلة عندهم بالرسول (صلى الله عليه وسلم). وقد قلنا في مكان آخر إنها متصلة بالخليفة عن طريق سلمان الفارسي، أما العويسية فترجع إلى عويس بن قرآني المتوفى سنة 37 هـ، وليس لها أتباع في الجزائر، ولكن السنوسي أخذ عنها وانضم إليها، وهي ترجع إلى الخليفة عمر بن الخطاب، كما يقولون، وكان السنوسي (خطابيا). كما ذكرنا في نسبه. كذلك ذكرنا الخضرية التي كان يمثلها أحمد بن إدريس الفاسي في الحجاز إلى وفاته سنة 1835. وليس للخضرية أتباع مباشرة في الجزائر ولكننا تحدثنا على أن السنوسي قد أخذ عن الشيخ الفاسي واعتبره عمدته، وكانت زاوية طكوك تقول إنها خضرية، وليس للميرغنية أو الختمية أتباع أيضا في الجزائر، ولكننا عرفنا أن أصل السنوسية والميرغنية (الختمية) واحد، وهو الخضرية، وهناك عدد من الطرق في الجزائر، كالشاذلية، تذكر الخضر في سلاسلها الصوفية، ولا نعرف أن للنقشبندية ولا البكداشية أتباعا في الجزائر في العهد الذي ندرسه، وإنما نعلم أن الأمير عبد القادر قد أخذ النقشبندية عن شيخها في الحجازأثناء حجه سنة 1863. في ميزاب ومتليلي: ذكرنا أن الطرق الصوفية لم تنشأ في وادي ميزاب لأسباب ترجع إلى المذهب الإباضي نفسه، وربما ترجع أيضا إلى فشل حركة الجهاد في بقية الجزائر من جهة والطابع العلمي والتجاري لأهل الصحراء، ولا سيما بنو

ميزاب، ولكن عقيدة الشيخ كانت موجودة سواء عند أهل المذهب الإباضي أو عند أتباع المذهب المالكي بالناحية، ذلك أن الشيخ أطفيش مثلا كان (قطبا) عندهم وإن لم تبلغ العقيدة فيه ما بلغته عقيدة الشيخ في بعض الطرق الصوفية، فقد كان قطبا في العلم والعمل ليس في التصوف والزهد، ويبلغ الاحترام عند بني ميزاب لشيوخهم مبلغا كبيرا، ولكن ليس عندهم أوراد ولا حضرات ولا زيارات كما هو حال معظم الزوايا في المناطق الأخرى. لكن انتشر بينهم تقديس بعض المقامات والأضرحة والأماكن التي يعتقدون فيها البركة والأسرار الخفية، وهذا لا يكاد يختلف عما هو موجود في المناطق الأخرى، وقد قام بعض الباحثين بدراسة لهذه الظاهرة في وادي ميزاب فوجد بعض المقامات والأضرحة والخرائب والرموز التي يتردد عليها أهل كل بلدة ويعتقدون فيها العقائد المختلفة في الضر والنفع، وذكر مسجد الشيخ أبي عبد الرحمن القرطبي الذي قيل إنه كان معتزليا ثم تمذهب بالمذهب الإباضي، وكان قبره يزار وتقدم عنده الصدقات، وخرائب تيميزيرت في مليكة وبونورة، ومقام سيدي عيسى في غرداية، وضريح الشيخ أبي محمد في بني يزقن، وضريح الشيخ زكريا في العطف، ومقام الشيخ العرفجي الذي قيل إنه من وادي ريغ (¬1). وقبة الشيخ عمي سعيد، ومقام الشيخ محمد بن الحاج بلقاسم، ومشهد عجاين على هضبة مليكة، وغارداية، وهناك كثير غيرها. أما في ناحية متليلي فتوجد أماكن محترمة بل مقدسة للشيوخ وآثارهم المتمثلة في القباب والمساجد والمزارات، من ذلك مقام الشيخ السايس بن بوبكر، وضريح مولاي سليمان بن مولاي محمد، زعيم أشراف متليلي، كما توجد جبانة خاصة بالشرفة، وكانت محل أدعية وزيارات سنوية، وزاوية ¬

_ (¬1) في مدخل سوف من جهة طريق بسكرة مكان يعرف بالعرفجي، وفيه نخيل وبعض السكان، ولا ندري صلته باسم العرفجي الموجود في ميزاب.

تمويل الزوايا

الحاج موسى بن أحمد، وهم يعتقدون أنه من نسل العباس عم الرسول (صلى الله عليه وسلم). وتقام له حفلة سنوية في ساحة الزاوية، وقبة الحاج بو حفص بن سيدي الشيخ، ويعتبر من حماة متليلي، وله أوقاف وتذبح عنده الذبائح، وهناك ثلاث قباب للشيخ عبد القادر الجيلاني كان بعضها لأتباع الشيخ بوعمامة، وكذلك مقام الشيخ ابن الدين حيث الذبائح والزيارات والأدعية، وكان للزنوج مقامهم أيضا، وهو مقام الفلاح بن بركة الذي أصله من السودان (¬1). وتحتوي غرداية وضواحيها على عدد من المساجد ذات الطابع الصوفي والمقامات والمزارات الخاصة بأهل كل مذهب، ولكننا لا نجد فيها الزوايا المعروفة في بقية القطر، ولا الطرق الصوفية نفسها كالتجانية والرحمانية، وربما وجد ذلك بين الأفراد والأتباع ولكن ليس في شكل مؤسسات ومشيخات. تمويل الزوايا للطرق الصوفية مصادر للعيش والتوسع، فإذا انقطعت أو نضبت تقلص نفوذ الطريقة واعتراها الانكماش والفناء، ولذلك كانت كل طريقة حريصة على تحصيل المال بوسائل معلنة وغير معلنة، تقليدية ومتجددة، ونريد الآن أن نعرف مصادر التمويل ووسائل التحصيل. معظم الطرق لها زوايا يديرها الشيخ حامل البركة، وهذه الزوايا منها التقليدية المبنية منذ عهد قديم، ومنها الجديدة التي بناها المقدمون المنفصلون عن شيوخهم الأصليين، والزوايا القديمة كانت مقرأ لبعض المرابطين المشهورين وهم الوارثون لقداسة جدهم وتركته وسمعته وأمواله. ومعظم الزوايا القديمة كانت لها أحباس (أوقاف) تتمثل في الأراضي الزراعية، وكانت الأرض تحرث وتزرع وتحصد ثمراتها على يد السكان ¬

_ (¬1) (أساطير ميزابية) في مجلة (الجمعية الجغرافية للجزائر وشمال إفريقية) S.G.A.A.N 1919، ص 93 - 115، ليس لهذا البحث اسم مؤلف، فقط حرف (x).

أنفسهم عن طريق تخصيص يوم أو أكثر لها، فهو عندهم عمل مجاني لله، ومن أجل بركة الشيخ عند أصحاب الزاوية، ولكنه في المفاهيم الحديثة هو نوع من السخرة الممنوعة، ومهما كان الأمر فإن الزاوية تجني من وراء ذلك المال والثمرات من مختلف الإنتاج الذي تأتي به الأرض. ولم يكن للزاوية إلا الأرض، فهناك أيضا العقارات كالدكاكين والمحلات الأخرى التي يذهب ريعها للمرابط والزاوية. هذا النوع من الوقف قد توقف في العهد الفرنسي بعد أن استولت الإدارة الاستعمارية على جميع أحباس الزوايا وضمتها إلى أملاك الدولة، في المدن أولا ثم في الأرياف، ولذلك اعتمدت الزوايا على طرق أخرى في التمويل والعيش والانتشار. ومن ذلك حق الزيارات، وقد شرحنا هذا اللفظ من قبل والذي يعني ما يأتي به الزائر من عطية أو صدقة أو هبة للزاوية وصاحبها، والزيارات على هذا النحو خاصة بكل فرد تابع للطريقة (إخواني). فكل من جاء للتبرك أو السؤال أو زيارة قبر الشيخ، يأتي معه بمبلغ من المال، أو يقدم عينا من كل نوع يستطيع، من الملابس إلى المواد الغذائية إلى الحيوانات المختلفة، وهناك الزيارات المنظمة أو الموسمية التي يحددها الشيوخ والمقدمون، حسب طبيعة المنطقة ومواقيت جني المحاصيل وحصول الناس على مداخيلهم، كأوقات الزكاة، ومواسم الزواج والأفراح، وتكون الزيارات في هذه الحالة جماعية، وما يأتي منها مبالغ محددة لكل فرد، أو لكل عرش أو قبيلة. وهناك نوع آخر من المداخيل يحصله، في مواسم معينة، الشواش والوكلاء باسم كل طريقة، إذ يذهب هؤلاء موسميا، وبأمر من الشيخ أو المقدم، لتحصيل المستحق على الأفراد أو الجماعات من الإخوان، وإذا رجع الشيخ من الحج، أو صح بعد مرض، أو احتفلت الزاوية بإحدى المناسبات، فإن على الإخوان واجب التبرع والزيارة أيضا وتقديم ما عليهم إلى شيخ الطريقة، كل حسب استطاعته، وقد عرفنا أن من بين المناسبات التي تجمع فيها الأموال أو الأعيان هو الحضرة التي تعقد مرة أو أكثر في

السنة والتي يحضرها الشيخ بنفسه في أغلبية الطرق، وهناك مناسبات أخرى لجمع المال للطريقة، كالوعدة والنذر وميلاد الأولاد والبرء بعد المرض ونحو ذلك، وقد ذكرنا أن الإخوان يدفعون ما عليهم في أغلب الأحيان عن طيب خاطر لأن ذلك من واجب الانتماء للطريقة والتقدير للمرابط. وقد ذكرنا أن من بين المدفوعات أيضا الهدايا والغفارة والغرامات التي تدفع للزاوية، وبعض هذه المدفوعات قد تكون لتفادي حدوث كوارث أو للحماية أو التبعية، بالإضافة إلى التقدير والاعتبار للشيخ، سيما في الزوايا التي تقوم بالضيافة والتعليم. ولكن كل ذلك أصبح خاضعا للسياسة والعلاقات بين الطريقة والسلطة الفرنسية، فالمال سلاح خطير في نظر الفرنسيين، ولا يمكنهم التغاضي عمن يجمعه لاستعماله ضدهم، ولذلك وضعوا شروطا للزيارات والحضرة والخدمة ونحو ذلك مما فيه معنى الدعم للطريقة، ئم منعوها تماما إلا على من يرخصون له لمصلحة سياسية، كما سنذكر، ولكن المنع والقيود الرسمية لم تمنع الطرق من تحصيل المال بالطرق المستقيمة والملتوية، فالإخوان الأوفياء لشيخهم يدفعون إليه في الخفاء ما كانوا يدفعونه إليه علنا، وفي المناسبات التي ذكرنا قد لا تقدم الزيارة بطريقة تقليدية ولكن تقدم أشياء مادية أخرى بعناوين مختلفة. والإستيلاء على الأحباس من جهة وتقييد ثم منع الزيارات من جهة أخرى إجراءان أضرا طبعا بنشاط وقوة الزاوية والطريقة. بالنسبة لمنع الزيارات اشترط الفرنسيون في البداية الرخصة المسبقة للتوجه للزيارة ومنح المال، دون الاعتراف بالزيارة نفسها، كما يقولون، أو التدخل في كيفية أدائها، ثم وقع التدخل حين رأى البعض، ربما بتشجيع من السلطة نفسها، عدم الدفع والتخلص من هذا الولاء المكلف للطريقة، وإلى هنا كان يمكن لأي شيخ أن يحصل على حق الزيارة بطلب منه إلى المكتب العربي في ناحيته، كما يمكن للوفد أو الفرد المتوجه للزيارة أن يطلب الرخصة من نفس

المكتب، ولكن الدراسات أثبتت للفرنسيين بالتدرج أهمية المرابطين والطرق الصوفية في الحياة السياسية واليومية للناس فرأوا أن تضييق الخناق هو الوسيلة العملية للسيطرة عليهم ومراقبتهم. وسلك الفرنسيون أفانين من التصنيفات في هذا المجال، فبدلا من اشتراط الرخصة وقع تخفيض عددها، وبدلا من منح الرخصة في عين المكان ودون إجراءات من السلطات المحلية، كالبحث عن هوية الزائر والمزور، وعلاقاتهما، وتاريخ الطريقة، ونوع الزيارة، أصبح الضباط المسؤولون في عين المكان، ثم من فوقهم في المقاطعة من جنرالات وولاة، هم الذين يمنحون الرخصة، وبذلك لم يعد من السهل الحصول على الرخصة إلا بعد إجراءات بحثية وتنقلات مكانية، وانتظار طويل، وزيادة في التصعيب سحب أحد الحكام العامين (ألبير قريفي A. GREVY) سنة 1880، حق منح الرخصة من هؤلاء جميعا، ومنع الزيارة مبدئيا على أساس أنها تدخل في مجال التسول وطلب الصدقات، ولم يجزها إلا في حالات استثنائية، وقد أثبتت الحالات الاستثنائية أنه لم يكن صادقا في اعتبارها (شحاتة) أو تسولا، لأن الذين أجاز لهم فيما بعد ليسوا مساكين ولا متسولين، رغم أن الزيارات، بالطريقة التي أصبحت عليها عند بعض الطرق، هي فعلا نوع من الاستغلال لعرق الناس ونوع من الاستجداء، والحالات الاستثنائية عند هذا الحاكم العام هي التي تقررها الحكومة لأسباب سياسية، وفي هذه الحالة تعطى الرخصة لشيخ الطريقة الصديقة لفرنسا أو التي تنتظر منها فرنسا خدمة ما، ويقول الفرنسيون بأنه منذ هذا التاريخ لم تعط الرخصة إلا في حالات نادرة جدا (¬1). وقد ذكر رين أربع حالات منحت فيها السلطات الفرنسية الرخصة بالزيارة لبعض الطرق الصوفية، الحالة الأولى لشريف وزان، شيخ الطيبية، وذلك بطلب من الوزير الفرنسي في طنجة، ويبررون ذلك بأن الزيارة كانت ¬

_ (¬1) رين، مرجع سابق، ص 95.

لابن الشريف المذكور فقط وليست للمقدمين الطيبين عموما، ولكن رين لم يحضر نهاية القرن عندما جاء شريف وزان بنفسه إلى الجزائر وجمع ما راق له من زيارات من زواياه وأتباعه، وقد وصل إلى القورارة وتوات، من أجل تسهيل مهمة فرنسا في تلك النواحي. والحالة الثانية لشيخ الطريقة الزيانية بالقنادسة تعويضا له على خدماته أثناء، لتمرد، ويقصدون بذلك معارضته لثورة بوعمامة سنة 1881، والحالة الثالثة كانت لشيخ الطريقة التجانية دون تحديد، والغالب أن المقصود به هو أحمد التجاني في عين ماضي بعد تأثره من عدم انتخابه شيخا للطريقة على أثر وفاة الشيخ محمد العيد بن الحاج علي سنة 1875، وبعد أن شحت عليه زاوية تماسين بالزيارات الإخوانية، فرخصت فرنسا لأحمد التجاني أن يجمع الزيارات من إخوانه أيضا في النواحي الغربية، وذلك هو زمن التوتر بين الفرعين التجانيين (عين ماضي وتماسين). أما الرابعة فقد رخصت فرنسا للشيخ علي بن عثمان شيخ زاوية طولقة الرحمانية على خدماته أيضا، وربما كان ذلك راجعا إلى موقفه من عدم اتباع الشيخ الحداد في إعلان الجهاد سنة 1871، لأن الشيخ علي بن عثمان، كان متبوعا من معظم الرحمانيين في الجنوب، ومع ذلك لم ينضم للثورة، ولذلك أكد رين قائلا إن الرخصة قد منحت في الحالات الأربع من أجل خدمات قدمت للسلطات الفرنسية (¬1). ولكن رين كان يكتب سنة 1884 وما يزال العهد طويلا والعلاقات متداخلة بين الفرنسيين والطرق الصوفية. لقد رأى الفرنسيون أن أموالا طائلة كان يجمعها أصحاب الطرق الصوفية تحت غطاء الدين وأن ذلك يعتبر في نظرهم منافسة لهم في الحكم، لأن الفكرة التي جاء بها الفرنسيون أن علامة الطاعة والخضوع عند العرب والمسلمين هي الإلتزام المالي، من غرامة وضريبة ونحوهما، ورأوا أن المرابطين وأصحاب الطرق الصوفية قد أفتوا بأن الحكومة الكافرة تفرض ¬

_ (¬1) رين، مرجع سابق، ص 95.

الضرائب على المسلمين، وأن الحكم الإسلامي غير موجود، وإذن فإن المال الذي كان يدفع لبيت المال أصبح حلالا على أصحاب الطرق عن طريق الزيارات، فالزيارة إذن أصبحت واجبة عند أصحاب الطرق، وأشاعوا في الناس ذلك حتى أصبح عقيدة عندهم وهي أن خلاصهم من عذاب الله يمكن في دفع الصدقات للزاوية، وكانت الزيارة في الماضي مستحبة فأصبحت في عهد الحكم غير المسلم واجبة، فدفع العشور والزكوات والصدقات الدينية إنما هو للمرابط أو الشيخ أو المقدم، وأما الغرامة فهي للحاكم الفرنسي، وليس للزيارة مبلغ محدد، وهي عادة بين عشرة ومائة فرنك، وقد تكون أكثر، بحساب القرن الماضي، وكانت قطعة الخمسة فرنك هي ما يدفعه الخماس أو الفلاح للمقدم، مرة في السنة، عند موسم الحصاد في الصيف وعند نهاية العمل في الخريف، وهناك من يدفع مبالغ اعتبارية تدخل في الجاه والثروة والمكانة للدافع، ذلك أن الدافعين قد يكونون من الموظفين البارزين، قبل زوال نعمتهم، وقد يكونون من رؤساء الأعراش وأصحاب الخيام الكبيرة الذين يدفعون للشيخ من أجل الحماية المعنوية والعقيدة في البركة والدعم السياسي. وهناك عناوين أخرى للدفع إلى الزاوية، منها العمل الجماعي كالتويزة، ومنها العمل اليومي الفردي لصالح الزاوية وأرضها بدون مقابل، وهناك (المعونة) التي تدفع عند المهمات والمناسبات والكوارث، ولكن الزيارة تظل هي المصدر الأساسي والدائم للزاوية وأصحابها، وهي عنوان ولاء والتزام الإخوان نحو شيخهم، ويذكرون أن الاحتفال بدخول (الأخ) إلى الطريقة وبإعطائه الجائزة من الشيخ تأتي معه صدقة أيضا غير محدودة إلى الشيخ. وقد بالغ الفرنسيون في حساباتهم لهذه (الضرائب) الدينية المدفوعة للطرق الصوفية بدل أن تدفع لهم، أو تبقى عند أهلها، فوجدوا أن أكثر من سبعة ملايين من الفرنكات بحساب القرن الماضي، كانت تدفع للطرق الصوفية، واعتبروا أن ذلك خطر سياسي داهم، قائلين إنه يجعل من الطرق

دولة داخل الدولة، فقد قدروا سنة 1897 أن في الجزائر حوالي 24 طريقة صوفية تحصل من الزيارات رغم القيود، على حوالي ثلائة ملايين فرنك، ومن الإجازة والاحتفالات بها حوالي مليون ونصف، يضاف إليها ناتج الزيارات، والتويزة ونحو ذلك، فكان المبلغ الإجمالي سبعة ملايين ونصفا، ثم قارنوا ذلك (بالضرائب العربية) المفروضة التي يدفعها الجزائريون لفرنسا، فوجدوا أن الطرق الصوفية تحصل على حوالي نصف هذه الضرائب الرسمية، صاليك ما ذكره تقرير سنة 1897: نتاج الصدقات = 3، 000، 000 فرنك نتاج الزيارات = 3، 000، 000 فرنك حق دخول الطريقة = 1، 500، 000، فرنك سخرة (تويزة) = (غير مذكور). المجوع = 7، 500، 000 فرنك (¬1) وبعد أن ذكر شارل تيار TAILLART سنة 1925 المبالغ السابقة التي تحصل عليها الطرق الصوفية، فقال إن رجالها ليسوا متآمرين ولا حمقى بل هم أناس مهرة يعرفون أن الحرب ضد فرنسا تقضي على الزيارات وأن الأمن هو الذين يضمن لهم استمرارية الحياة من هذه المداخيل، ولكن تيار جعل شيوخ الزوايا مستغلين للجماهير وهدوئها (¬2). وقد ربط الفرنسيون أيضا بين هذه الأموال التي جعلت من الطرق دولة داخل الدولة، وبين (جمود الثروة العامة) وتفقير السكان لفائدة طبقة معينة ووحيدة، وخفض الدخل الضريبي للدولة الفرنسية، فدقوا طبول الخطر وأنذروا بالعواقب الوخيمة إذا استمر هذا النزيف، وقالوا إن هذه الأموال تجمعها الطرق الصوفية والزوايا بعد اختفاء الأحباس التي كانت مقررة ¬

_ (¬1) ديبون وكوبولاني، مرجع سابق، ص 243، ذكروا أيضا أن مبلغ الضرائب العربية بلغ سنة 1895 ما يلي: 16، 187، 092 فرنك و 90 سنتيم. (¬2) شارل تيار (الجزائر في الأدب الفرنسي). الجزائر، 1925، ص 400.

إحصاءات الطرق والزوايا

ومخصصة لكل مؤسسة دينية والتي قلنا إن السلطات الفرنسية قد استولت عليها، ولعل ما كان يقض مضاجع الفرنسيين ليس المال الذي يبقى في الجزائر عند أصحاب الطرق، ولكنه المال الذي يخرج منها إلى (الخارج). إلى الزوايا الأم في بغداد والحجاز وبيروت والمغرب الأقصى، فقد اكتشفوا أن من الجزائريين من كان يرسل المال عن طريق الحوالات البريدية مستغلين هذه (الوسيلة الجديدة). دون الحديث عن النقود المرسلة مع الأفراد المسافرين والحجاج. إحصاءات الطرق والزوايا أثبتت التقارير التي جمعتها المصالح الفرنسية من مختلف مراكزها أن هناك عددا كبيرا من الأتباع للطرق الصوفية في الجزائر، وبالإضافة إلى التقارير الرسمية جمعوا المعلومات من شيوخ الزوايا أنفسهم فيما يخص الأتباع والمقدمين والثروات، وكان الشيوخ بدون شك متحفظين في ذكر الأرقام الحقيقية، خوفا من المتابعات والأسئلة وليس تواضعا منهم. كما لاحظت التقارير أن الطرق الصوفية وأتباعها منتشرون في الأرياف أكثر من المدن لأسباب اجتماعية واقتصادية، ففي المدن يشتغل الناس غالبا بالتجارة والحرف ونحو ذلك، وهم من جهة أخرى أكثر وعيا بمصالحهم وأموالهم فلا يريدون أن يشركهم فيها أحد، ويضيف الفرنسيون بأن أصحاب المدن قد جعلهم احتكاكهم بالفرنسيين أقل (تعصبا) من أهل الريف، ومن ثمة لا يقبلون على أهل الزوايا ولا يعتقدون في خلاصهم وبركتهم، ويذهب أهل المدن إلى المساجد ولكن بعقلية ليست هي عقلية الذاهب إلى ضريح الشيخ أو لمقابلة المقدم في الأرياف. والطرق العاملة في الجزائر أي التي لها زوايا وشيوخ ومقدمون، تصل إلى حوالي 23 طريقة، بعض هذه الطرق نشأ في الجزائر وبعضها كان يتبع طريقة أم في بغداد كالقادرية أو في المغرب الأقصى كالعيساوية والطيبية،

وقد نمت هذه الطرق ليس في عددها فقط ولكن في توسعها وزيادة زواياها ومقدميها أيضا، فبينما قدر رين مجموع الزواياب 355 زاوية، قدره ديبون وكوبلاني مجموعاب 349 زاوية، ونفس الشيء يقال عن عدد أتباع كل منها، 81 بينما 29 لذكر رين عدد الأتباع 169، 000 يذكره ديبون وكوبلاني: 295، 189. ونلاحظ أنه في الفترة التي كتب فيها رين كان الموقف الفرنسي من الطرق الصوفية غير واضح، أما في عهد ديبون وكوبولاني فقد أخذت هذه السياسة تتحدد، وذلك عن طريق أخذ إجراءات تضمن تفتيت الطرق وإضعافها والاستفادة منها، دون القضاء عليها أو مواجهتها، وسيكون لهذه السياسة عواقبها خلال العشرينات والثلاثينات من هذا القرن عندما ظهر وكان هذه الطرق قد استنفدت طاقتها وأدت دورها وكان عليها أن تترك المجال لموجة جديدة من (حماة الدين) وهم رجال الحركة الإصلاحية، إذا أخذنا بتفسير أوغسطين بيرك الذي سنذكره. إحصاء لويس رين: سنة 1884 الطرق الصوفية في الجزائر ... 16 طريقة الزوايا ... 355 زاوية هامة الإخوان ... 169، 000 إخواني عدد السكان المسلمين الإجمالي ... 2، 842، 000 وهذا تفصيل الأتباع، حسب كل طريقة، ونلاحظ أن أضخمها هي الرحمانية وأقلها الحبيبية، وقد اكتفى رين بذكر الطرق الرئيسية من رقم 16 المذكور، أما تفاصيل ما لكل طريقة فهو مذكور معها في الفقرة الخاصة بها من الفصل:

1 - الشاذلية

الرحمانية ... 96، 915 إخواني الطيبية ... 16,045 إخواني القادرية ... 14,842 إخواني التجانية ... 11,182 اخواني الشاذلية/الدرقاوية ... 10,252 إخواني الحنصالية ... 3,648 إخواني العيساوية ... 3,116 إخواني الحبيبية ... 0,040 إخواني الكرزازية ... 2,986 إخواني الشيخية ... 2,819 إخواني الزيانية ... 3,400 اخواني المدنية ... 1,601 إخواني السنوسية ... 511 إخواني اليوسفية/ الراشدية ... 413 إخواني الناصرية ... 1,000 إخواني الدردورية ... 204 إخواني (¬1) أما ديبون وكوبولاني فقد أحصيا 23 طريقة، كما ذكرنا، ورتباها على هذا النحو، مع المعلومات الإضافية التابعة لها: 1 - الشاذلية: لها أربعة فروع في الجزائر وإحدى عشرة زاوية، و 195 طالبا (¬2). وتسعة شيوخ، و 99 مقدما، و 13، 251 إخوانيا، و 652 امرأة (خونية). وهذه الطريقة منتشرة في إقليمي الجزائر وقسنطينة، أو الوسط والشرق، وقد رأينا أن ممثلها لفترة طويلة هو الشيخ محمد الموسوم صاحب زاوية قصر البخاري، وقد توفي سنة 1883. 2 - القادرية: لهذه الطريقة أربعة فروع في الجزائر، وهي منتشرة في كل القطر، ولها ¬

_ (¬1) رين، مرجع سابق، ص 549، ولويس فينيون، مرجع سابق، ص 214 - 215 هامش 3، وينقل فينيون عن رين قوله إن الطرق التي حاربت الفرنسيين هي الرحمانية والدرقاوية الذين كانوا الملهمين للثورات، أما التجانية والحنصالية والعيساوية فإن رؤساءهم قدموا خدمات لفرنسا، ولذلك فإن هذه الطرق ضعفت بينما تقوت الطرق الغاضبة والثائرة. (¬2) هذه الكلمة (طالب - مفرد طلبة) لا تعني التلاميذ بلغة اليوم، وإنما تعني المتعلمين أو المتفقهين قليلا.

3 - الرحمانية

33 زاوية، و 521 طالبا، وهم يتلقون التعليم الديني والصوفي، وأربعة شيوخ، و 301 مقدما، و 21، 056 إخوانيا، و 2، 695 امرأة، وليس لها في الجزائر رأس واحدة وفروعها مستقلة وإنما تتبع زاوية الشيخ عبد القادر الجيلاني في بغداد، وفي وقت لاحق من القرن الماضي أصبح فرع بيروت (رئيسه هو محمد المرتضى) (¬1) محطة هامة لها، ورشحت فرنسا زاوية الكاف بتونس (المازوني) لتلعب دور المنسق لفروع القادرية. 3 - الرحمانية: اضطهدت بعد ثورة 1871 وهدمت زواياها الواقعة في المناطق الثائرة، وتفرعت إلى فروع وفقدت مركزيتها بعد هدم زاوية صدوق بزعامة الشيخ الحداد الذي توفي فى سجن قسنطينة سنة 1872، ونفى زعماؤها إلى خارج الجزائر، ولكنها كانت أكثر الطرق انتشارا، عدد زواياها 177، وطلبتها أكثر من 676، وشيوخها أكثر من 22، ولها 873 مقدما، و 849 شاوشا، و 140، 596 من الإخوان، إضافة إلى 13، 186 امرأة، والإحصاء العام يذكر لها حوالي 165، 214 تابعا، ولكن هذا الرقم دون الواقع بكثير، والرحمانية منتشرة في كل الجزائر عدا الجهة الغربية، وهي أيضا منتشرة في تونس، بعد إنشاء زاوية نفطة وهجرة أهل زواوة إلى تونس بعد ثورة 1871. 4 - التجانية: لها فرعان رئيسيان، عين ماضي وتماسين، ولها شيخان ابتداء من 1897، أما قبل ذلك فكانت المشيخة واحدة إما في تماسين وإما في عين ماضي، وللطريقة 32 فرعا منتشرين في الصحراء والتل والهضاب العليا، في كل الجزائر، ولها أيضا 165 مقدما و 162 شاوشا، كما لها 19، 812 من الإخوان (الأحباب). و 5، 164 امرأة. ¬

_ (¬1) عن هذا الشيخ انظر عائلة الأمير عبد القادر، ومحمد المرتضى هو ابن محمد السعيد أخو الأمير.

5 - الطيبية

5 - الطيبية: زاويتها الرئيسية كانت في المغرب الأقصى، وشيخها واحد وهو المعروف بشريف وزان، ولكن لها 234 مقدما في الجزائر، ولها ثماني زوايا، و 21 وكيلا، و 19، 115 من الإخوان إضافة إلى 2، 547 امرأة، وهي منتشرة في كل أنحاء الجزائر، سيما الجهات الغربية، ويزور رئيسها الجزائر ليتفقد زواياه باتفاق مع السلطات الفرنسية مقابل خدمات يؤديها لها، وكان شيخها قد اختار الحماية الفرنسية، حتى في المغرب الأقصى، وتزوج من إنكليزية، ودرس أولاده في الجزائر وفرنسا. 6 - الحنصالية: مركزها الرئيسي في قسنطينة ونواحيها، والهضاب العليا والتل أيضا، ولها ثماني عشرة زاوية، وشيخ واحد، وزاويتها الأصلية في المغرب الأقصى، ولها 48 مقدما، و 102 شاوشا يشرفون على 3، 485 من الإخوان، و 438 امرأة، كما لها 176 طالبا، والحنصالية اعتبرت من الطرق المسالمة في هذا العهد، ومن شيوخها أحمد بن المبارك المعروف بالعطار، من علماء قسنطينة في منتصف القرن الماضي. 7 - العيساوية: أصلها في مكناس حيث الزاوية الأم، لكن علاقتها بها ضعيفة لمضايقات الفرنسيين لها، ومقرها في الجزائر بلدة وزرة، بين المدية والبرواقية، ولها أتباع منتشرون في مختلف أنحاء الجزائر، ولها أيضا عشر زوايا، و 3 وكلاء، و 58 شاوشا، وشيخ واحد مقره وزرة، و 39 مقدما، أما مجموع إخوانها فمنهم 3، 444، إضافة إلى 33 امرأة، ولكن ممارساتها وشعبيتها تجعل هذا الرقم دون الحقيقة.

8 - العمارية

8 - العمارية: وهي كالعيساوية في ممارساتها، وقد أحياها مبارك بن يوسف المغربي بتشجيع من الفرنسيين لأغراض الهيمنة بها والمخابرات. ولها 26 زاوية و 3 وكلاء، و 79 طالبا، وثلاثة شيوخ، و 46 مقدمأ و 188 شاوشا، و 284 من الإخوان، و 22 امرأة، كما لها 36 خليفة، لكن لها فقراء يقدر عددهم بـ 5، 774. وتوجد في الوسط والشرق (¬1). 9 - الزروقية: لا تكاد توجد إلا في مناطق معينة من الجزائر كالبرواقية وتابلاط والسور، وربما وجدت لها بقايا في تلمسان وبجاية، ولها زاوية واحدة، وهي شاذلية، ولها شيخ واحد، و 55 طالبا، و 16 مقدما، و 13 شاوشا، و 2، 614 من الإخوان، إضافة إلى 35 امرأة، وتنسب إلى أحمد زروق البرنوسي. 10 - السنوسية: لها زاوية واحدة بالجزائر هي زاوية الشيخ طكوك قرب مستغانم، وشيخ واحد أصبح في الثمانينات صهرا لشيخ الزاوية الأم في ليبيا، ولها عشرون مقدما، وعشرة شواش، و 874 إخوانيا، و 13 امرأة، و 35 طالبا. 11 - الناصرية: تنسب إلى زاوية درعة بالمغرب الأقصى، ولها ثلاث زوايا وأربعة شواش، وشيخ واحد، وثلاثة مقدمين، و 468 إخوانيا، و 165 امرأة، ومقرها خنشلة، وهي تختلط عند البعض بالشابية المستمدة منها، وفي خنقة سيد ناجي آثار لها. ¬

_ (¬1) عن حياة الشيخ مبارك بن يوسف انظر القادرية وفروعها.

12 - الدرقاوية

12 - الدرقاوية: وهي من فروع الشاذلية الرئيسية، ولها ثمانية فروع، أصبح فرع منها بالتدرج تحت سلطة الشيخ الهبري في بني سناسن (¬1). وهي موجودة في الغالب في أقليم وهران، ثم انتشرت بعد ذلك بالتدرج، ولها عشر زوايا، و 134 طالبا، وتسعة شيوخ، و 72 مقدما، و 8، 232 إخوانيا أو درويشا، كما لها 1، 118 امرأة، وشاوشان، أي حوالي 9، 567 من الأتباع، وكان من شيوخها العربي بن عطية في زمن الأمير، وقد توفي ابن عطية في تونس، ثم عدة بن غلام الله، صاحب زاوية أولاد الأكراد قرب تيارت في النصف الثاني من القرن الماضي. 13 - المدنية: مركز إشعاعها طرابلس، لكن أصلها من المدينة المنورة، وهي شاذلية الأصل، ولها في الجزائر زاويتان، و 14 مقدما وشاوش واحد، و 1، 673 إخوانيا، و 11 وكيلا، وتوجد في النواحي الغربية والوسطى، ولها يد في نشر فكرة الجامعة الإسلامية وعلاقات مع سلاطين آل عثمان، ومن شيوخها المحاربين موسى الدرقاوي في عهد الأمير، وقد ازدهرت في عهد السلطان عبد الحميد الثاني، ومن شيوخها محمد ظافر المدني الذي استقر بأسطانبول. 14 - الزيانية: مقرها القنادسة، لها زاويتان، و 76 مقدما، وأربعة شواش و 2، 673 من الإخوان، وهي منتشرة في النواحي الغربية. ¬

_ (¬1) في عصرنا انتشرت الهبرية انتشارا كبيرا، ولها شيخ معروف، وهيئة للذكر وأوراد وطقوس، وقد انتشرت بين المتعلمين خاصة، وهي بدون شك درقاوية - شاذلية الأصل.

15 - الكرزازية

15 - الكرزازية: مقرها زاوية كرزاز، ولها 78 مقدما، و 1، 673 إخوانيا، و 263 امرأة، وهذه الطريقة والتي قبلها لها علاقة قوية بطرق المغرب الأقصى، وكانت في خدمة القوافل التجارية عبر الصحراء، ولعبت دورا في استيلاء الفرنسيين على المناطق الغربية والجنوبية. 16 - المكاحلية: أو الرماة الأحرار، وهم يوجدون في الجنوب خاصة، ولهم مقدمان، وحوالي 120 من الإخوان، وهم فرسان وفتوة أكثر منهم أهل تصوف. 17 - الشيخية: للشيخية أربع زوايا، و 45 مقدما و 10، 020 من الإخوان، و 140 امرأة، ولها أحد عشر وكيلا، وهم منتشرون في عمالة وهران والجنوب عموما، صاذا عد أتباع بو عمامة، وهم ثلاثة آلاف، يكون للشيخية حوالي 13، 020 إخوانيا، والمقصود بها طريقة أولاد سيدي الشيخ الصديقيين. 18 - اليوسفية: وهي طريقة تكاد تنقرض، ولعل ذلك راجع إلى صلتها القديمة بالعثمانيين أو لأسباب أخرى غير سياسية، وهي محصورة في الوسط - نواحي مليانة - ولها شيخ واحد، و 8 مقدمين، و 437 من الإخوان، ومن أقطابها القدماء أحمد بن يوسف الملياني، دفين مليانة، وتسمى أيضا بالراشدية. 19 - الشابية: أصلها مدينة القيروان وجريد تونس، ولها 2، 500 من الخدام في نواحي عنابة وقالمة ووادي سوف وقسنطينة.

20 - جمعية ابن نحال

20 - جمعية ابن نحال: لها خدم في نواحي قالمة، يقدرون بـ 500، 1 شخص، ولها زاوية واحدة، وبعض الفقراء حوالي 220 (¬1). وإذا أجرينا المجاميع على بعض الأرقام وجدناها هكذا: - مجموع الزوايا 349 زاوية. - مجموع عدد الأتباع 295، 189 إخوانيا. ويضاف إلى ذلك بعض الطرق التي دخل تأثيرها الجزائر في آخر القرن الماضي مع حركة الجامعة الإسلامية، ومنها السلامية، وهي طريقة شاذلية منسوبة إلى عبد السلام بن مشيش، ومقر السلامية هو تونس وطرابلس، وهي من الطرق المتسيسة، وتسمى أيضا العروسية، وفي آخر القرن الماضي أصبح لها زاويتان وثلاثة مقدمين، و 77 إخوانيا، وخمس نساء وستة شواش، ونواحي نشاطها هي قالمة وسوق إهراس والمسيلة، الخ (¬2). لقد نمت الطرق الصوفية في آخر القرن الماضي بالجزائر نتيجة عدة عوامل، إن فكرة الخلاص الروحي على يد الشيخ كانت أبرز هذه العوامل، لقد وضع الاستعمار، بجيشه واستيطانه وإدارته وقوانينه الاستثنائية، كلكله على صدر الجزائر فلم يعد لأهلها من طريق للخلاص إلا العقيدة في الشيوخ، فالتحرك السياسي كان منعدما والتدخل الخارجي غير وارد والثورات قد فشلت، وهكذا كانت الطرق الصوفية هي الملجأ، وقد لاحظ ذلك علماء الاجتماع الفرنسيون، ورأوا أن ذلك كان لفائدة الإدارة الفرنسية ولصالح الهدوء والاستقرار. ولقد ¬

_ (¬1) إضافة إلى طرق أخرى مثل الدردورية والحبيبية التي كان لها أتباع قليلون في الأوراس وتلمسان على التوالي. (¬2) ديبون وكوبولاني، مرجع سابق، ص 215 - 216.

شجع الفرنسيون ذلك فأكثروا من الطرق (المستقلة) ومنحوا الشيخ سلطات روحية على أتباعه بشرط أن يكون مواليا ومخلصا لفرنسا، وزاد الجهل الذي تولد عن سبعين سنة من الإهمال للتعليم وتدجين العلماء الموظفين، من تعميق التخلف العقلي لدى العامة فارتموا في أحضان الطرق الصوفية باعتبارها تمثل الدين وتعد بالخلاص بينما ارتمت الطرق الصوفية نفسها في أحضان السلطة الفرنسية. وبناء على ذلك شهد عقد الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي نموا سريعا في عدد الزوايا والمقدمين والأتباع، وقد جمع الفرنسيون المعلومات الإحصائية من مختلف المصادر، فكانت على النحو التالي بالنسبة للاعداد الإجمالية لمختلف الطرق: الشيوخ ... 57 المقدمون ... 2.149 الزوايا ... 349 الطلبة ... 2، 000 الوكلاء ... 79 الدراويش ... 8، 232 الخلفاء ... 36 الأحباب (¬1) ... 19، 821 الخونيات ... 27.172 الفقراء ... 5.894 الخدام ... 4، 000 الشواش ... 1.512 الإخوان ... 224.141 المجموع: 300، 000 من الإخوان المنتمين للطرق، وهو رقم في نظر الفرنسيين دون الحقيقة. ¬

_ (¬1) في ديبون وكوبولاني، المقدمة، أن رقم الأحباب هو 19، 821، وهذا المصدر هو الذي أخذنا عنه الإحصاء المذكور، ونفس الأرقام حول الأتباع وعدد الزوايا الخ، نجدها في هنري تارو، مرجع سابق، ص 175، انظر كذلك لويس ماسينيون (حولية العالم الإصلامي). 1954، باريس 1955، ص 235. وهو يسمى العيساوية والعمارية طريقتين بهلوانيتين. ولفظة (الأحباب) مستعملة بالخصوص لدى التجانيين، أما أصحاب الطرق الأخرى فالتحبير الشائع هو الإخوان.

الطرق الصوفية والسياسة

ورغم الادعاء بوجود (ملايين) الأتباع للطرق الصوفية عشية الحرب العالمية الثانية، فإن الاحصاءات المعقولة تثبت أن عدد الأتباع سنة 1937 هو حوالي 190 ألف نسمة (190، 000). بينما كان عددهم سنة 1910، حسب إحصاء آخر هو 295، 000 (¬1). ومعنى ذلك أن الأتباع كانوا في تناقص كبير، ولكن مكانة شيوخ الطرق الصوفية ظلت مؤثرة على الأتباع المتعقدين فيهم. الطرق الصوفية والسياسة من الأكيد أن النظرة إلى الطرق الصوفية في الجزائر قد اختلفت من كاتب إلى كاتب في ضوء المصلحة العامة الفرنسية، وقد دار جدال من 1860 إلى 1900 بين دارسي هذه الطرق حول خطورتها وكيفية التعامل معها والموقف منها مستقبلا، وكانت أولى المحاولات في ذلك هي دراسة العقيد (ثم الجنرال) دي نوفو سنة 1845 عن الطرق الصوفية و (اكتشاف) أهميتها في الثورات التي كادت تقضي على أحلام الفرنسيين في الاحتلال السريع، وكان دي نوفو خبيرا بالمجتمع الجزائري إذ عمل في مختلف الوظائف، ومنها وظيفة المكتب العربي، وتزوج من جزائرية، وكان من أتباع سان سيمون، كما كان يعرف العربية. ثم جاءت دراسة شارل بروسلار الذي كتب عن المؤسسات الدينية في تلمسان، وكان أيضا قد تولى المكتب العربي في هذه المدينة العريقة واتصل بأهلها من الحضر وعرف الحياة المدنية الإسلامية والتراث الديني الذي كانت تتمتع به تلمسان، وكان بروسلار يجيد العربية فاستعملها للاطلاع على الثروة الهامة من المخطوطات العامة في الزوايا والمساجد، والخاصة عند العائلات. وكان هنري دو فيرييه قد فتح بابا جديدا للنقاش حول الطرق الصوفية حين رحل إلى الجنوب حتى وصل غدامس تحت حماية شيوخ الطرق الذين ¬

_ (¬1) علي مراد (الإصلاح الإسلامي). ص 61. الإدعاء المبالغ فيه منقول عن مجلة (أفريقية الفرنسية). مايو 1938، ص 220.

سلموه من يد إلى يد في الأمن والأمان، وقد كتب كتابه الهام في وقته عن الطوارق و (اكتشاف) الصحراء، وكشف فيه بالخصوص عن أهمية بعض الطرق الصوفية في الجنوب كالتجانية والسنوسية والطيبية والقادرية والبكائية والشيخية، وكان هو في حماية التجانية خلال معظم رحلته، ويقسم دوفيرييه الطرق إلى عدوة وصديقة، بعد أن (كشف) عن أهمية النوعين في التنظيم والنفوذ، وهو يوصي بأن تسلك فرنسا طريق اللين والكرم مع الطرف الصديقة حتى تستفيد من تأثيرها، وأن تحتاط وتستعد ضد الطرق العدوة التي تعمل على إخراج فرنسا من الجزائر بواسطة أتباعها ونظمها وأشرافها. وتتويجا لهذه الدراسات المتفرقة قام لويس رين بوضع كتاب شامل وإحصائي لمن سماهم (المرابطون والإخوان) وأخرجه سنة 1884 (¬1). ورين من الخبراء البارزين في الإدارة الأهلية الفرنسية، فهو ضابط تقلب في مختلف الوظائف في الجزائر، فعرف القبيلة والمسجد والزاوية وسكان المدن وسكان الريف، وعرف نبلاء السيف ونبلاء السبحة والعلم، وقد ألف في مختلف الموضوعات التي تهم الحياة الجزائرية القبلية والدينية والاجتماعية والثورات، ولكي يؤلف كتابه عن المرابطين والإخوان لجأ إلى التقارير الرسمية التي تصل إلى الإدارة المركزية تباعا من المكاتب العربية والولايات، سواء منها التقارير السرية أو العادية، ثم استعمل نفوذه كضابط مسؤول في الإدارة العامة فطلب تقارير من مختلف الشيوخ والمقدمين عن حالتهم صاحصاء أتباعهم وأصولهم النسبية والدينية وعلاقاتهم، وأضاف إلى ذلك مراسلاته مع شيوخ المغرب وتونس، وتقارير القناصل الفرنسيين في مختلف البلاد الإسلامية، وقد خرج من كل ذلك بآراء سنتوقف عندها بعد قليل. أما آخر الدراسات العامة عن الطرق الصوفية فهي التي قام بها الكاتبان: أوكتاف ديبون وايكزافييه كوبولاني في آخر القرن. وقد ¬

_ (¬1) لا بد من الإشارة إلى دراسة هانوتو ولوتورنو عن دور الطرق الصوفية في زواوة خلال الخمسينات والستينات من القرن الماضي، وقد اهتم بنفس الطرق أيضا ايميل ماسكري في الفترة ذاتها تقريبا.

جندت لها حكومة جول كامبون إمكاناتها في البحث والتمويل، وكان المؤلفان مسؤولين إداريين أيضا، فهما خبيران بالشؤون الأهلية وتطور الحياة الجزائرية في عهد الجمهورية الثالثة وفي ضوء سياسة الجامعة الإسلامية التي تبناها السلطان عبد الحميد من جهة ومصالح فرنسا السياسية في العالم الإسلامي من جهة أخرى، كما أن هذه الدراسة قد جاءت في وقت كانت فيه فرنسا تحاول ربط مستعمراتها في غرب افريقية وأفريقية الوسطى بشمال أفريقية، لذلك كانت دراسة الطرق الصوفية العاملة هنا وهناك مسألة حيوية بالنسبة للسلطات الفرنسية، وقد تجندت هنا أيضا التقارير الإدارية، وتقارير القناصل الفرنسيين في البلدان الإسلامية، وتقارير شيوخ الزوايا أنفسهم، لخدمة هذا المشروع، وحين انتهى المؤلفان من عملهما قامت الحكومة العامة بطبعه على نفقتها، وقد تضمن آراء وتوصيات جديرة بالمناقشة، وظل بعضها يتحكم في السياسة الفرنسية نحو الطرق الصوفية ونحو العالم الإسلامي لفترة طويلة، وسنحاول أيضا أن نتوقف عند بعض الآراء والتوصيات لنفهم منها تعامل الفرنسيين مع الجزائريين عموما والطرق الصوفية خصوصا. لقد ظهرت بعد ذلك عدة دراسات أخرى للطرق الصوفية ولكنها لم تأت في شكل شامل مثل عمل رين وديبون وكوبولاني، ذلك أن الإدارة الفرنسية قامت، بعد حوالي عشر سنوات من نشر الكتاب الأخير، بتوجيه خبرائها إلى دراسة الظاهرة الإسلامية من جديد، فكانت دراسة الاسكندر جولي، ودراسة هنري قارو، ودراسة أدمون دوتيه، وأضرابهم عشية الحرب العالمية الأولى، ثم دراسة أوكست كور خلال الحرب، وظهرت في نفس الفترة (مجلة العالم الإسلامي) التي تولى رئاستها الضابط المختص في الشؤون الإسلامية، ألفريد لوشاتلييه الذي سبق له إصدار كتاب عن الطرق الصوفية في الحجاز (1887). وكان قبل ذلك مديرا للمكتب العربي في ورقلة، وعن طريق هذا المكتب عرف نشاط ودور الطرق الصوفية في الجنوب، كانت المجلة صورة لتوجه السياسة الفرنسية الاسلامية نحو المشرق

ونحو المغرب الأقصى أيضا، وقد برزت على صفحاتها شخصيات فرنسية مهتمة بالعالم الإسلامي، ومنها لويس ماسينيون الذي سيصبح من أبرز خبراء فرنسا في شؤون الإسلام والمسلمين. وقد رأى ماسينيون أن السنوسية والدرقاوية لهما دور سياسي خاص يختلف عن الطرق الأخرى، في عهده، فذكر أن للأولى زاوية طكوك الواقعة بهليل، كما لها مراكز وتأثير في نواحي الطوارق والصحراء عموما. أما الدرقاوية التي سماها (المغربية) فقد قال عنها إنها تحاول توحيد جميع الفروع الشاذلية، وأنها طريقة متقشفة ورافضة لكل مساومة مع الفرنسيين. ولها 25، 000 من الإخوان و 21 زاوية، منها زاوية غلام الله بتيهرت، وهي تعتبر من الزوايا الأكثر حداثة. وعلق ماسينيون على الطريقة العليوية فقال إنها فرع جديد للدرقاوية والبوزيدية، وكانت منذ 1918 بقيادة الشيخ أحمد بن مصطفى بن عليوة المستغانمي. وكانت نشيطة، وهي تقول إن لها أتباعا يمتدون من مليلة إلى تونس ويصلون إلى ثلاثمائة ألف نسمة (؟) وهو رقم مبالغ فيه بدون شك. وقد كشف ماسينيون على أن هناك تأثيرات صوفية أخرى غير الطرق الصوفية المعروفة، مثل تأثير أبي زيد البسطامي في بختي ناحية زوسفانة، وتأثير أبي القاسم الجنيد في القورارة، والرقود السبعة في قصر البخاري وبسكرة وقجال ونقاوس، ثم ضريح أبي مدين الغوث في تلمسان (¬1). وفي هذا السياق كتب بعض المستشرقين الفرنسيين دراسات عن الإسلام والمسلمين في الجزائر وعن الطرق الصوفية، نذكر من بينها دراسة ألفريد بيل عن الفرق الإسلامية، وهو أستاذ شهير كان على رأس مدرسة تلمسان الرسمية المتخصصة في إخراج القضاة والمعلمين والمترجمين، ومثله معاصره ويليام مارسيه، وآخرون، أما إيميل غوتييه فقد فاجأ الجميع ¬

_ (¬1) ماسينيون، حولية العالم الاسلامي، 1954، باريس 1955، ص 236، وعن هذه الطرق انظر سابقا.

بكتابه (القرون الغامضة) الذي ألفه في وقت لم تعد فيه السلطات الفرنسية في حاجة إلى الطرق الصوفية وذلك عشية الاحتفال بمرور مائة سنة على الاحتلال، وقد برر فيه الوجود الفرنسي الذي أضاء، في نظره، الماضي المظلم، ورتب الأمور بعد فوضى واستعاد الحضارة اللاتينية الطريدة منذ دخول الإسلام. ولعل آخر الدراسات في هذا المجال هو ما نشره إيميل بيرمنغام تحت عنوان (الجزائر الدينية) في كتاب (المدخل) الذي نشرته الحكومة العامة حوالي سنة 1957. وقد استعرض بيرمنغام في بحثه ما بقي من الطرق الصوفية، بنفس المواقف تقريبا، مع شيء من (التحرر) الذي فرضته المعطيات الجديدة في الجزائر والمشرق، وفي الفترة نفسها نشر أيضا الجنرال أندري ANDRE كتابا عن الطرق الصوفية والإسلام، أثبت فيه أن العنصرية العرقية عنده قد انتقلت إلى العنصرية الدينية، وصب فيه جام غضبه العسكري على الإسلام والمسلمين بدل أن يثبت قدرته الدفاعية كجندي في الميدان، فكان كتابه يمثل آخر (التخريفات) الفرنسية عن حياة التصوف عند المسلمين الجزائريين. وفي هذا المجال سنتناول آراء وتوصيات وملاحظات لويس رين وديبون وكوبولاني لأن السياسة الفرنسية قد استفادت منها فيما يبدو كثيرا، ولأنها دراسات شاملة ومتخصصة، ولكننا سنستفيد من الآراء والملاحظات الأخرى كلما لزم الأمر. يذهب رين إلى أن التعصب نادر عند المرابطين ما لم يكونوا منضوين تحت طريقة صوفية لأن مصالحهم المادية تحتم عليهم الليونة ومواجهة الواقع بروح عملية. واستشهد على ذلك بأن بعض المرابطين كان يقدم الملجأ للمدنيين الفرنسيين عند حدوث الثورات وتعرضهم للخطر، وحتى في الأوقات العادية كان منهم من قدم خدمات للمدنيين الفرنسيين أثناء عزلتهم أو ضيقهم أو حاجتهم، واستشهد على ذلك بموقف الشيخ عبد الصمد (الأوراس - جبل بو عريف) وهو من شيوخ الرحمانية، وكان عبد الصمد قد

حمى بعض الفرنسيين سنة 1871 معتبرا ذلك موقفا إنسانيا، ورفض عبد الصمد المكافاة والتوسيم الذي عرضه عليه الفرنسيون اعترافا بالجميل، قائلا: إنه لم يقم إلا بواجبه كمسلم، ونفس القول كرره عبد الصمد يوم حضر المحكمة في قسنطينة بصفته شاهدا، فقد شكره القاضي على موقفه فرد عليه بنفس العبارة (¬1). وأثبت رين أن أمثال هذا المرابط كثيرون، وقد استعمل المرابطون نفوذهم لتهدئة قبائل ثائرة أو نافرة، ولإصلاح ذات البين بين المتخاصمين، وهذا النوع من المرابطين هم من يسميهم رين بالمستقلين، ومنهم مرابط زاوية شلاطة (ابن علي الشريف) التي كانت تمنع طلابها من الانخراط في الطرق الصوفية، وقد فعل الآغا الصحراوي في تيهرت نفس الشيء فازداد نفوذه على إخوانه (¬2). ولذلك أوصى رين بالنسبة لهؤلاء المرابطين بضرورة مراقبتهم بصفة غير علنية، ولكن معاملتهم بالحسنى لأنهم هم الاحتياطيون الذين يعينون الفرنسيين في حالة حدوث ثورات من الطرق الصوفية. من الملاحظات الهامة التي أبداها رين، بعد دراسة وإمعان، أن الطرق الصوفية التي تحالفت مع فرنسا فقدت حيويتها وانخفض عدد أتباعها بينما الطرق التي ظلت على عدائها أو حيادها اكتسبت أتباعا وتجددت، ولذلك نصح بعدم اتخاذ أسلوب المواجهة والانتقام ضد الطرق العدوة كهدم الزوايا واعتقال الزعماء ونفيهم لأن ذلك يخدمها ويضر بالمصلحة الفرنسية، وقال إن أكثر الطرق عداء في وقته هي الرحمانية والدرقاوية، وأكثرها ولاء هي الحنصالية والعيساوية والتجانية، وكرر القول بأن الطرق التي استفادت من ¬

_ (¬1) يشير رين إلى أن الشيخ عبد الصمد حمى بعض الفرنسيين بعد حريق المعذر القريب من باتنة من طرف الثوار سنة 1871، انظرص 17. (¬2) رين، مرجع سابق، ص 19، قال رين إن ما فعله الصحراوي يعد نادرا في الجزائر، لأن النتيجة هي أن دائرة تيارت (تيهرت) كانت في سنة 1851 تضم 2، 325 من الإخوان التابعين للطرق الصوفية، أما في سنة 1882، فلا يوجد منهم سوى 578 إخوانيا. وهو وضع ليس له مثيل في الجزائر كلها، حسب رأيه.

حماية الفرنسيين واستفادوا هم من خدمتها ظلت بدون تطور، لأن الخدمات التي قدمها رؤساؤها للفرنسيين قد أضرت بهم لدى المخلصين من قومهم. واعتبر رين ضرب الزوايا وأصحابها خطأ ارتكبته الإدارة لأن ذلك أدى إلى تعاطف الناس معها واختفاء الإخوان حتى أصبح الفرنسيون يجهلون موضع اجتماعهم وعددهم وأماكن إقامة المقدمين منهم. وقد انتقد رين سياسة بلاده غير المحددة من الطرق الصوفية، ذلك أن فرنسا لم تجرأ على الاعتماد على هذه الطرق علنا ولا على القضاء عليها نهائيا، وهكذا بقيت سياستها، كما قال، مترددة بين اضطهاد في منتهى القسوة أحيانا، ومعاملة في منتهى اللين أحيانا أخرى، فلم تنجح فرنسا لا في زيادة سمعة الأصدقاء ولا في القضاء على سمعة الأعداء، واقترح أن تتبع بلاده سياسة الحكمة وبذل النقود لدى هذه الطرق لتستفيد منها وتتصادق معها وتقلم أظفارها، اقتداء بما كان يفعله حكام مصر والمغرب وتونس واسطانبول مع رجال الدين والتصوف في بلدانهم، ويتجسد ذلك في صيغة خاصة، وهي اعتراف فرنسا بشرعية الرؤساء الذين يمكنهم الانضواء تحت حماية فرنسا ومنحهم مقادير مالية وشرفية، وبذلك يبقون خارج النشاط السياسي منشغلين بمصالحهم، ولكنهم في نفس الوقت يبقون متداخلين مع الفرنسيين ومرتبطين بهم، وينتهي بذلك خطرهم وتأثيرهم على الجماهير. ويرى رين أن الذي يقف وراء الثورات ليس هو التعصب الديني ولكن الطموحات السياسية والشخصية، أما الدين والجهاد فيتخذان فقط غطاء للأهداف السياسية والشخصية، وهو يقيس على ما جرى بالخصوص في ثورة سنة 1871 التي كتب عنها كتابا، ورأى أن الجهاد استعمل عندئذ كوسيلة لتحقيق طموحات المقراني وعزيز الحداد، ذلك أن كلا منهما كان موظفا لدى السلطات الفرنسية، الأول باشاغا والثاني قائد، وكان طموح الأول أن يكون خليفة وأن يعاد له النفوذ السابق الذي فقده، بينما كان طموح عزيز أن يكون باشاغا، فاثر عزيز على والده فاعلن الجهاد كوسيلة لجمع الجماهير وتجنيدها، ورأى رين أيضا أن الثورة، مهما كانت، أقوى من الناس، أي أن

الذين ينضمون إليها ليسوا بالضرورة من إخوان الطريقة الداعية لها، رغم أن قيادة الثورة والإيمان بها يظل منحصرا في الذين قاموا بها أول مرة، كل ذلك قياسا، فيما يبدو، على أحداث ثورة 1871. وقارن رين أيضا بين موقف علي بن عثمان شيخ زاوية طولقة وموقف عزيز الحداد. ورأى أن الأول صحراوي لا يحب العمل ولا التجارة، وكان يعيش بعيدا عن السياسة ومخالطة الفرنسيين، وحياته قائمة على الدين والتعليم والعزلة، ولم يكن رافضا للفرنسيين، أما عزيز فهو ابن الجبل، وكان موظفا عند الفرنسيين ويعرف لغتهم، ومع ذلك انضم للثورة لتحقيق طموحه الشخصي والسياسي، فالثورة لم تكن لصالح الإسلام، في نظر رين، ولكن من أجل المصالح الفردية المادية، إن الفكرة الدينية هنا كانت وسيلة لتحقيق الفكرة السياسية، وعد رين ثورات العمري 1876، والأوراس 1879، وأولاد سيدي الشيخ 1880 - 1881 على أنها كلها في نظره قد أثبتت أن التعصب الديني ليس إلا عنصرا ثانويا وراية يجتمع حولها الناس (¬1). ولعل هذه الآراء التي أبداها رين تدخل في موقفه الخاص من الدين، فقد لاحظ عليه البعض أنه كان شخصيا ضد الدين عموما بالمفهوم الأروبي عندئذ، بالإضافة إلى أنه كان ينفي الطابع الوطني للثورات، وكان يلصق بها الأهداف السياسية/ الشخصية فقط، كما رأينا. ومن أغرب الآراء التي أبداها رين في هذا المجال دعوته إلى إعادة العمل بلقب (شيخ الإسلام) في الجزائر بتقديم شيخ التجانية إلى هذا المنصب (¬2). إن فرنسا قد قضت على هذا اللقب في الجزائر بعد الاحتلال. ¬

_ (¬1) رين، مرجع سابق، ص 108 - 114. (¬2) لا ندري من هو الشيخ الذي كان رين يرشحه لمشيخة الإسلام، فأحمد التجاني كانت تحوم حوله شبهات عديدة، ولم يستطع أن يحصل على البركة من شيوخ زاوية تماسين، وقد توفي الشيخ محمد العيد التماسيني سنة 1875، وخلفه أخوه محمد الصغير الذي كان معاصرا لرين، فهل كان رين يرشح هذا الشيخ لمنصب شيخ الإسلام في عهد فرنسا؟.

وكان موجودا في قسنطينة في عائلة الفكون، وكان رئيس المجلس العلمي في الجزائر خلال العهد العثماني بمثابة شيخ الإسلام رغم أنه لا يحمل هذا اللقب. وقد أحس الفرنسيون بأن إلغاءهم لهذا المنصب ربما كان وراءه عقيدتهم المعادية للبابوية من جهة والخوف من خطورة المنصب على الوضع السياسي في الجزائر، من جهة أخرى وها هو رين في أوائل الثمانينات يريد تدارك ذلك وينصح بلاده باستعادة اللقب خدمة للمصالح الفرنسية في داخل الجزائر وخارجها. وقد مهد لذلك بقوله إن الطريقة التجانية هي الوحيدة التي لها أصولها في الجزائر ومبادئها وعلاقاتها ومصالحها المادية، وهي أيضا الوحيدة التي بمقتضى دستورها، لا يمكن أن تكون لها روابط دينية مع المشرق أو مع المغرب، فهي، حسب تعبيره، (نوع من الكنيسة الإسلامية الجزائرية)، وقد كان أعضاؤها دائمأ احتياطيين مخلصين للحكومة الفرنسية، ووصولا إلى ذلك اقترح رين جعل حرمة واعتبار خاص لرئيس الطريقة التجانية لكي يكون فوق كل الموظفين الرسميين من خلفاء وأغوات وقياد، وسينظر المسلمون في الجزائر وفي الخارج إلى ذلك نظرة طبيعية، ونتيجة لذلك سيكون الشيخ محل اعتراف من قبل الجميع كشخصية رسمية، أي الرئيس الفعلي للديانة الإسلامية بالجزائر، وعن طريقه ستجني فرنسا فوائد جمة، وذلك بجعل هذا الشيخ في مواجهة ناجحة مع شيوخ الإسلام في اسطانبول ومكة وغيرهما، وقد حذر رين بأن بقاء الفرنسيين على موقفهم سيؤدي إلى إضعاف التجانية في وجه المتعصبين وستنمو في الظل طرق لها علاقات مع الخارج مثل السنوسية والمدنية والطيبية والخلوتية (الرحمانية) (¬1). وكثيرا ما لاحظ رين وغيره ضرورة تقوية التجانية لتكون حاجزا ضد تسرب الطرق المعادية في الجنوب، على الخصوص. وتبعا لذلك اقترح رين تعيين الأيمة في البادية (الأرياف) من أتباع ¬

_ (¬1) نفس المصدر (رين). ص 450.

الطريقة التجانية، وبذلك يصبح الأتباع موظفين مطمئنين على مستقبلهم، كما يكونون عينا على مقدمي الطرق الأخرى، وسيعملون على إغراء هؤلاء المقدمين بقبول نفس الوظيف المربح فيصبحون غيورين على وظيفهم ومكانتهم الاجتماعية ويتخلون عن مشايعة الثورات، وتنحل عقدة الابتعاد عن الفرنسيين وتجنبهم، وتصبح المصالح هي التي تتحكم في العلاقات، ويقع تذويب شحنة العداء الديني في بوتقة الخدمات العامة، ذلك أن من بين أصحاب الطرق الصوفية من هو مستعد للتعامل مع الفرنسيين وقبول الوظائف منهم، إذا أرضت فرنسا شرفهم ومصلحتهم، وتكسب فرنسا بذلك خدمة كبيرة، ولاحظ رين أن الاندماج الاجتماعي الحقيقي سيكون بالوسيلة التي وصفها وليس بالمراسيم والبنادق والخعطب، وهو في هذا ينتقد أنصار الاندماج عن طريق القوانين (عهد تيرمان) واستعمال القوة العسكرية والخطب البرلمانية والمقالات الصحفية الرنانة، وقال إن الاندماج الحقيقي عنده يكمن في المدرسة والحراثة وسكة الحديد والتجارة ومراعاة المصالح (¬1). ويهمنا من هذا كله رأيه في توظيف الطرق الصوفية ضد بعضها البعض وجعل بعض أتباعها أيمة ومخبرين (¬2) وأدوات جذب لأتباع الطرق الأخرى. ومنذ الثمانينات ظهر في الطرق الصوفية الاستعداد لتقبل الوظائف الإدارية ونحوها، ولم تعد تكتفي بالاستسلام للأمر الواقع، فقد قبل بعض قادتها وظائف الآغا والقايد، ومنهم من حصل على أوسمة رسمية كالآغا الحاج قدور الصحراوي (تيارت). ولكن القائمة قد فتحت وستظل طويلة، لأن إدماج هؤلاء (الشيوخ) في الحياة الإدارية الجالبة للمال، هو جزء من ¬

_ (¬1) نفس المصدر، ص 516 - 520، منذ السبعينات من القرن الماضي، سيما عهد تيرمان (1882 - 1891) عمل الفرنسيون على دمج الجزائر عن طريق القرارات الإدارية دون مراعاة الفوارق. (¬2) استعمل الفرنسيون بعض الأيمة مخبرين فعلا، وقد شهد بذلك رجل فرنسي آخر، وهو أوغسطين بيرك، سبق له أن تولى إدارة الشؤون الأهلية مثل لويس رين. انظر لاحقا.

مخطط وضع في الستينات، كما سنرى، ومن أبرز القادة الدينيين الذين قبلوا بالوظائف الإدارية منذ الخمسينات هم أولاد سيدي الشيخ الذين أصبح منهم الخليفة والآغا، ويقول رين إن جميع المرابطين قد فهموا أن الفرنسيين سيصلون إليهم بسهولة سواء لأشخاصهم أو لأملاكهم، ولذلك استسلموا ولم يعودوا مضادين لفرنسا، وحتى الذين بقوا مضادين إنما وقفوا ضد (المسيحيين) فقط، فقد كان المرابطون يدفعون الضرائب، ويتبعون التعليمات الإدارية ويطيعون أوامر الشرطة، وهذا لا يتناقض مع ضمائرهم لأنهم يؤمنون بأن الله هو الذي حكم بإعطاء الجزائر للفرنسيين وجعل المسلمين في قبضة المسيحيين، وقد سبق القول بأن رين يعتبر التعصب الديني نادرا عند المرابطين، وأنه تحدث عن تسامح بعض هؤلاء وإنسانيتهم في حالة الشيخ عبد الصمد سنة 1871 (¬1). ولكن رين يعترف أن الطرق الصوفية تظل معرقلة لتقدم الاستعمار، إذ هي تقف ضد (الحضارة) الفرنسية، وتعارض سياسة فرنسا في الجزائر، ورغم أن لها قواعد مكتوبة تقول فيها إنها لا تتدخل في السياسة، فإنه سيكون من الخطأ في نظره الاكتفاء بهذا التصريح وتصديق نواياها في ذلك (¬2). فالمراقبة والتدجين واستخدامها ضد بعضها البعض، واستعمال سياسة اللين والرشوة بالنقود ... هي خير الوسائل لجعل الطرق الصوفية في خدمة المصالح الفرنسية. ومن بين الوسائل التي سكت عنها رين تشجيع الزواج بين المرابطين والفرنسيات، ونحن لم نطلع على خطة مرسومة في ذلك، ولكن بداية الظاهرة في وقت الحديث عن تدجين الطرق الصوفية يجعلنا نشك في أن هناك مخططا مدروسا، ولم يكن أحمد التجاني هو الوحيد الذي بدأ في تطبيق هذا المخطط بل هناك آخرون. تزوج هو من أوريلي التي بقيت (عين) ¬

_ (¬1) نفس المصدر (رين). ص 14 - 17. (¬2) نفس المصدر، ص 75.

الفرنسيين على الطريقة التجانية من تاريخ الزواج سنة 1871 إلى وفاتها سنة 1933، وهذا بشهادة الفرنسيين أنفسهم، ورغم الإعلان عن عقد الزواج بخط المفتي الحنفي بالجزائر، بعد رجوع الزوجين من فرنسا، وإشهار ذلك منعا للشبهات وإسكات الهمسات، فإن الفرنسيين أنفسهم يثبتون أنها بقيت على مسيحيتها (¬1). وحتى لا تفقد فرنسا عينها على الطريقة التجانية (أجبر) الحاكم العام جول كامبون، البشير التجاني على الزواج من زوجة أخيه (¬2). ولكن أوريلي لم تكن شاذة في هذا الباب، فقد تزوج أحد أقطاب أولاد سيدي الشيخ بامرأة فرنسية أيضا، وهي الآنسة فيري Feret. ونعني بذلك حمزة بن بو بكر، آغا جبل عمور، وكذلك تزوج محمد الشرقي العطافي (تلميذ الشيخ الموسوم وعدة بن غلام الله وصاحب زاوية العطاف) من امرأة فرنسية، يسميها البعض بلغة القدماء (جارية علجة رومية). وقد عرفنا أن شيخ الطيبية في المغرب الأقصى، عبد السلام بن الطيب، قد تزوج من امرأة انكليزية ودخلت تحت الحماية الفرنسية، وأن هذه المرأة لم تسلم إلى أن ماتت حسب تعبير ابن بكار، كما أن ابن الشيخ البودالي الهبري تزوج من امرأة فرنسية (¬3). وقد تأثر لويس فينيون بكتاب رين، فأخذ منه وأضاف عليه ملاحظات في كتابه عن (فرنسا في شمال أفريقية) الذي أصدره سنة 1887، فقال فينيون إن التعصب لدى الطرق الصوفية كان موجودا من قبل وليس جديدا وكان موجودا عند كل فرد، أما الجديد فهو التنظيم والانضباط والمال الذي لدى الجمعيات السرية (الطرق الصوفية) والحركات المضادة لفرنسا. وإن هذه الجمعيات كان يشرف عليها الشيوخ وينفذ تعاليمها المقدمون، عن طريق ¬

_ (¬1) ايميل بيرمنغام، مرجع سابق، ص 256. (¬2) انظر حفلة تأبين الشيخ التجاني سنة 1897، في مجلة أفريقية الفرنسية، وكتاب جول كامبون (حكومة الجزائر). 1918. (¬3) ابن بكار، مرجع سابق، ص 162، وعن زواج الآغا حمزة بن بو بكر انظر هنري قارو، مرجع سابق، ص 174.

الاجازات والدعوات وتوفير المال بالزيارات وتكثير الأتباع، ويستعمل الشيوخ والمقدمون مختلف الوسائل للتأثير على الإخوان، ومنها الكرامات، وللشيوخ زبائن وخدم دينيون ليسوا بالضرورة متدينيين، ولكن المصالح السياسية تجعلهم يخدمون الطريقة، وقد بسطوا الدين حتى أصبح مجرد أذكار وأوراد يرددونها بأصوات وحركات، والفرق بين طريقة وأخرى كان يتمثل فقط في كيفية ترديد الذكر، والخطورة تكمن في الطاعة العمياء من الأتباع للشيوخ وفي المراسلات التي يجريها هؤلاء مع الخارج، سيما استطانبول، عن طريق جريدة (الجوائب؟) وهي تذكر لها الولاء للإمامة، ونبه فينيون إلى أن للطرق الصوفية عملاء يتجولون في كل وقت وتحت عناوين مختلفة لأنهم يؤمنون بوطن لا حدود له، واعتبر ذلك يمثل ما سماه هجمة العالم الإسلامي على العالم المسيحي (؟)، ورغم وجود خلافات بينها وعدم قدرتها على القيام بعمل مشترك، وأن العرب يطالبون بالخلافة من العثمانيين، وأن بعض الطرق لا تعترف بالسلطان العثماني، رغم ذلك كله فإنهم على استعداد للقيام من أجل انتصار ولو كان مؤقتا، لسياسة الجامعة الإسلامية، انتصار يسكت الخلافات ويجمع العرب إلى الترك، تحت راية واحدة، وبذلك يمثلون خطرا كبيرا على كل الأمم المسيحية التي لها رعايا مسلمون، مثل فرنسا (¬1). مما يطلبه الفرنسيون من المعلومات عن شيوخ الطرق الصوفية ومقدميهم جملة من البيانات التي تمس حتى العظم والمخ. وهم يبدأون بمعلومات شخصية عن الفرد، مع وصف دقيق لحياته ومؤهلاته وصفاته وأملاكه، بالإضافة إلى صورته، ثم يأتي تأثيره السياسي والمعنوي وعلاقاته سواء بالجزائريين أو بالفرنسيين، ويأتي بعد ذلك الإفصاح عن تأثيره الديني ¬

_ (¬1) فينيون، مرجع سابق، ص 207، وقد علق أوغسطين بيرك على هذه المدرسة - رين، فينيون، ديبون، وكوبولاني - بأنهم كانوا متأثرين بحادثة (دريفس) والحملة ضد الماسونية معتبرين الطرق الصوفية كالجمعيات السرية في أروبا. انظر لاحقا. والجدير بالذكر أن فرنسا كانت في ظاهر الأمر، تؤيد القومية العربية والقومية التركية وتعادي الجامعة الإسلامية والسلطة العثمانية.

في الداخل والخارج، أما الزاوية نفسها فلا بد من وصف لها وإثبات صورتها، وتأريخ تأسيسها، وهل تؤدي أيضا وظيفة المدرسة، وهل هي مؤسسة اجتماعية للإحسان وإيواء الفقراء والضيوف، وهل فيها مسجد للصلاة (¬1). إن اهتمامهم بالشيخ وزاويته وأفكاره دليل على اهتمامهم بدوره في الحياة، وهم من خلال ذلك يوظفون الوسائل له، كاستعماله المال والسياسة، حسب رين، واستعمال نفوذ طريقته ضد طرق أخرى مخيفة لهم، وتحضير الوسائل الأخرى للتدجين كالزواج والوظيف والوسام. وفي هذا الصدد أوصى ديبون وكوبولاني، بعد دراسة مستفيضة، بثلاث توصيات على فرنسا تنفيذها لتضمن استمرار استعمارها فى الجزائر وحضورها في العالم الإسلامي: الوصية الأولى: إقامة العلائق مع الطرق الصوفية، والتمييز بينها، كما ذهب إلى ذلك رين، بغرض وضعها تحت الوصاية الفرنسية، وجعل شيوخها ورجالها أيمة ليس لهم رواتب ولا تابعين للدولة في الظاهر، وهذا اقتراح شبيه باقتراح رين، ولكن رين حصر الإمامة في التجانية وبعض الطرق الأخرى الموالية. الوصية الثانية: ربط علاقات مع جماهير الأهالي التابعين للطرق الصوفية أو الواقعين تحت تأثيرها و (التسرب) إلى مشاعرها عن طريق وضع اليد Main Mise على الزوايا الموجودة وإظهار التسامح معها في كل مكان، وهو اقتراح يشبه اقتراح رين أيضا حين قال إن على فرنسا أن تستعمل المال والسياسة مع الطرق الصوفية. ولكن توصية ديبون وكوبولاني تضيف إلى ذلك إنشاء زوايا مشابهة ومجاورة للزوايا القائمة، بالتدرج، أي زوايا ضرة تكون تحت سلطة فرنسا، وتحديثها، واستعادة العمل بالخصائص التي كانت للزاوية قديما، إلى هذه الزوايا الجديدة، وهذه الخصائص هي الدين والعبادات، والتعليم، والإحسان. ¬

_ (¬1) زوزو، (الأطروحة)، مرجع سابق.

الوصية الثالثة: عن طريق الطرق التي لها علاقات خارجية يمكن لفرنسا أن تربط علاقات تجارية وسياسية وحضارية، مع السودان الشرقي والغربي، بواسطة هذه الطرق تعمل فرنسا على تسريب أفكارها الحضارية إلى العالم الاسلامي كله (¬1). وهذا اقتراح لم يأت ضمن مقترحات وملاحظات رين بشكل صريح. ولماذا اتباع هذا الأسلوب في التعامل مع الطرق الصوفية؟ لأن مكافحة هذه الطرق واضطهاد قادتها وإخضاعهم بالقوة قد دلت التجارب على فشله، ذلك أن الإسلام واحد، وإن القوة لم تعد هي الوسيلة في القضاء على الطرق بعد أن مر على الاحتلال عشرات السنين، ولا شك أن الطريقة الصوفية ستجد لها مكانا آخر وظروفا أخرى مناسبة لو استعملت فرنسا القوة ضدها، وسيصبح زعماؤها شهداء، وسيزداد (التعصب) عند أتباع الزوايا، فالتسامح إذن هو الحل إلى أن تصل فرنسا إلى مشاعر وقلوب الإخوان، فيتنورون ويستيقظون ويتركون التعصب من تلقاء أنفسهم، وحينئذ تتفتت الطريقة الصوفية وتتلاشى، وبذلك يحصل الهدف الفرنسي البعيد، وقد استعمل الحكام المسلمون سابقا هذا الأسلوب في التعامل، حسب الاستنتاج الفرنسي، فتسامحوا مع المقدمين والأتباع، وأظهروا لهم اللين، ودخل بعض حكام المسلمين في الطرق الصوفية، إلى أنا (تسربوا) إلى قلوب أهلها، ودخلوا إلى قلب هذه (الجمعيات السرية) الغامضة، وقربوا الشيوخ منهم. وهذا يصدق على حكام الجزائر أيضا مثل صالح باي، وبعض السلاطين العثمانيين، وباشا مصر (¬2)، فلماذا لا تسلك فرنسا نفس السياسة فتحصل على النتائج المرجوة والهدف المنشود، دون عناء كبير، يجب إذن الذهاب أمام ¬

_ (¬1) ديبون وكوبولاني، مرجع سابق، المقدمة. (¬2) كان سلاطين المغرب أيضا يقربون شيوخ الزوايا والطرق الصوفية إليهم، وكان بعضهم، مثل السلطان سليمان، قد دخل في عدة طرق، ومنها التجانية والدرقاوية والناصرية والطيبية الخ. وما ترحيبه بالشيخ أحمد التجاني، بعد اضطهاد العثمانيين له في الجزائر إلا جزءا من هذه السياسة.

الشيخ أو المرابط المعارض لفرنسا والحديث إليه بصراحة عن المشاريع الفرنسية، بلغة السلم والهدوء والتسامح، فيزول عنه التعصب ويحس أن الفرنسيين يعملون من أجل الصالح العام، وسيتحقق هذا بالاتصال بمختلف شيوخ الطرق، سواء كانت طرقا هامة أو غير هامة، والعمل على جعلها تحت الوصاية الفرنسية كما سبق (¬1). وقد امتدح ديبون وكوبولاني سياسة الحاكم العام جول كامبون نحو الطرق الصوفية منذ توليه سنة 1892، وهي السياسة التي قامت على الاحتفاظ بحرمة الشيوخ الذين بقوا بعيدين عن الفرنسيين، وكانوا بالآلاف، لأنهم كانوا يعتبرون أنفسهم ويعتبرهم أتباعهم أيضا الملجأ الوحيد لخلاص المجتمع المسلم مما حل به، وقد تحددت هذه السياسة في العناصر الآتية: 1 - إعطاء الشيوخ برنوسا أحمر لا يستطيعون رفضه، وكذلك منحهم الكلمة العليا في الدوار والقبيلة لمحاولة إخراجهم من عزلتهم وربطهم بالحياة المادية الصعبة، وهذه السياسة كان قد اتبعها بوجو منذ 1844 حين عاملهم معاملة الحرمة الدينية الواجبة لهم، مع إظهار التسامح نحوهم، كما رأى كامبون دعوتهم لتولي السلطة تحت المظلة الفرنسية، ولكن بهدف جعلهم أصدقاء لفرنسا. 2 - احترام إرادة الشيخ والإخوان حين يختارون مقدمهم وعدم التدخل في شؤونهم، فإذا عين الشيخ مقدميه أو انتخبهم إخوانهم فما على فرنسا إلا الموافقة لأن تدخلها بالرفض ونحوه يسبب التوتر والعداء لها، كما تسهر فرنسا على تعيين الشيوخ والخلفاء في الطرق التي يتوارث أصحابها البركة. 3 - الموافقة على الإجازات الصادرة من الشيوخ للمقدمين والاعتراف بها، لأن ذلك يزيد في حرمتهم وثقتهم في فرنسا، وبذلك تصبح هناك هيئة دينية منتظمة واقعة تحت يد فرنسا، وجعل الشيوخ ¬

_ (¬1) كرر ديبون وكوبولاني الوصايا السابقة بشيء من التوسع، ص 280 - 282، وأبرزا أفكارهما الرئيسية بحروف بارزة لفتا للأنظار وتذكيرا بالأهمية.

الرئيسيين ممثلين للحكومة بعنوان روحي - دنيوي، أو على الأقل يكونون مفتين كبارا، وبذلك يتحرر أتباعهم ومقدموهم ويصبحون مستقلين في زواياهم الثانوية. 4 - إخراج الإخوان من ربقة التبعية الصوفية وذلك بإرضاء الحاجات الدينية لهم، لأن الوقوف موقف اللامبالاة من جانب السلطة الفرنسية يجعل هؤلاء الإخوان واقعين تحت نفوذ البركة الصوفية، ولكن هذا الاقتراح غير كامل لأنه لم ينص على الوسائل ولا الكيفية التي سترضي بها فرنسا الحاجات الدينية للإخوان. 5 - وفي انتظار تحقيق تلك الخطوات اعتمد المشروع أيضا على إحلال خريجي المدارس الثلاث الحكومية الرسمية محل المقدمين - الآيمة بالتدرج، والخريجون ما هم إلا شباب رضعوا من لبان الثقافة الفرنسية، وتشبعوا بأفكارها، وبذلك تؤتى الجهود الفرنسية أكلها (¬1). 6 - إنشاء زوايا موازية وعصرية إلى جانب الزوايا القديمة، فقد كان بالجزائر في آخر القرن الماضي حوالي 400 زاوية معظمها بني حديثا، ومنها حوالي مائة فقط كانت من الطراز القديم، ولكنها أصبحت بتقادم الزمن عبارة عن سكنى خاصة بالمرابطين، وهي ملك متوارث للعائلة الواحدة، وبهذه الصفة لا يمكن دخولها ولا معرفة ما فيها، فبناء زاوية أخرى إلى جانبها تكون مصلى ومدرسة وملجأ، كما كان حال الزوايا في القديم (¬2)، قد يكون هو الفكرة الصائبة للتسرب (¬3)، إلى مشاعر الناس وتحقيق الهدف من السيطرة الفرنسية، فالزاوية الجديدة ستكون تحت نظر الفرنسيين، ومن خلالها يمكنهم مراقبة الزاوية القديمة المجاورة، وحث صاحبا الاقتراح على وضع ¬

_ (¬1) نفس المصدر، ص 283. (¬2) هذا النوع كان قديما يسمى رباطا وليس زاوية. (¬3) كلمة (التسرب) أو التغلغل ترجمة للكلمة الفرنسية Penetration، وهي مثل كلمة الاندماج، لها مدلول اسعتماري خاص لا يحس به إلا الذي عرف ودرس الظاهرة الاستعمارية ومصطلحاتها، مثل المهمة الحضارية، والتعصب، والتسامح، الخ.

نموذج معماري جذاب لهذه (الزاوية الفرنسية) والإكثار منه لدى الحاجة، لأنه بدون شك سيكون نموذجا جذابا إذا وضع إلى جانب الزوايا القديمة التي ما هي إلا أكواخ بالية أو خيام، وستكون الزاوية الجديدة عصرية كما قلنا وذات طابع عمومي، وتقوم بالمهمة الثلاثية التي كانت تقوم بها الزاوية قبل الاحتلال، وهي الدين والتعليم والإحسان. هذا هو برنامج ديبون وكوبولاني للسيطرة على الزوايا والطرق الصوفية في آخر القرن الماضي، ولإنجاحه اقترحا أيضا إضافات تبدو هامة كإعادة العمل بنظام الأحباس (الأوقاف)، وهو النظام الذي توقف منذ استولت السلطات الفرنسية على الأملاك الإسلامية في ديسمبر 1830، وتضمن الاقتراح الجديد حصول فرنسا على العشر من الأحباس إذا ما أعيد إنشاؤها، ويكون ذلك وسيلة لفرنسا لتتدخل في شؤون الزوايا والطرق الصوفية، عن طريق طلب المحاسبة المالية على الملايين التي يتلقاها الشيوخ والتي قدرها صاحبا الاقتراح بثمانية ملايين، ويسمح بإشراف فرنسا أيضا على الأموال المرسلة إلى الخارج للزوايا الأم، كما تظهر فرنسا في نظر الجزائريين بالوجه الكريم العادل فيتسرب كرمها وعدلها إلى مشاعر المسلمين، ومن جهة أخرى يكون الشيوخ مجبورين على إطعام الفقراء والزائرين. ويتطلب إنجاز هذا البرنامج أيضا تكوين فرقة من (الأطباء الاستعماريين) - هكذا اسمهم في الأصل -، أو الضباط - الأطباء المخصصين للأهالي، مع إمكانية تكوين أطباء من الأهالي أنفسهم لهذا الغرض، وهو المعالجة داخل الزاوية التقليدية، ويزاد إلى الزاوية واجب رابع وهو العلاج - بعد الدين والعلم والإحسان -، ويكون في إمكان الفرد من الأهالي أن يأتي إلى الزاوية للعلاج عند الأطباء الاستعماريين، ولا يكون التعليم في الزاوية تقليديا بل ستدخله اللغة الفرنسية على يد المعلم الفرنسي الذي يعلم لغته في الزاوية الفرنسية - الإسلامية، بينما (الطالب) (¬1) يعلم القرآن للأولاد. ¬

_ (¬1) كلمة (طالب) تستخدم هنا بالمعنى التقليدي أي المؤدب، أو معلم القرآن الكريم.

ويصبح هذا النمط الجديد من الزوايا أيضا مقرا لإجراء العدل الفرنسي حيث يجلس القضاة لإجراء الأحكام ويحببون فرنسا للناس، تماما كما يحبب الإمام الله للمصلين (؟). وما دامت الزاوية فرنسية فإن قوانينها أيضا ستكون فرنسية، وبذلك ستتحول هذه القوانين إلى قوانين إسلامية أيضا برائحة الزاوية وبركة الشيوخ (¬1). في نهاية القرن الماضي كانت الطرق الصوفية تخيف الفرنسيين باعتبارها القوة الوحيدة الباقية للمسلمين الجزائريين. فقد فشلت جميع الثورات وعرائض أهل المدن وشردت النخبة القديمة، فاستسلم الأهالي إلى قوة المرابطين ورجال الطرق الصوفية، وكان الفرنسيون يحسبون أن تحت كل عمامة قنبلة وأن في حبات كل سبحة عدد الرصاص الذي تملكه الطريقة، وأن الإخوان جنود مجندة وراء الشيوخ ينتظرون الإشارة لإلقاء الفرنسيين في البحر، فأعد هؤلاء العدة وتنادوا يحذرون بعضهم البعض من الخطر الداهم الرابض من حولهم، والذي يمكنه أن يأتي بالنجدات من خارج الحدود أيضا، لذلك تكفل لويس تيرمان (الحاكم العام) بدراسة رين، وتكفل كامبون (الحاكم العام) بدراسة ديبون وكوبولاني، وكلتاهما اقترحت العلاج، بعد أن وصفت المرض أو خطة العمل، كما رأينا. لقد تعامل الفرنسيون مع الظاهرة الدينية في الجزائر منذ الاحتلال، وتعاملوا مع الطرق الصوفية والمرابطين بالخصوص، فكان لهم ما شاهدوا من القادرية والدرقاوية والتجانية والشيخية والسنوسية خلال سبعين سنة قبل نهاية القرن الماضي، فرأوا القادرية التي بدأت محاربة قد انتهت مسالمة في الجنوب، وفي منعة بالأوراس، ورأوا الرحمانية التي شنت الثورات المتوالية قد انتهت إلى فروع متفرقة مجتهدة، لكل منها مذهبه، مثل مذهب عبد الصمد الذي أصبح إنسانيا سنة 1871 في جبل بو عريف، ومثل مذهب علي بن عثمان الذي التزم الصمت في نفس السنة، وكذلك فعل محمد بن ¬

_ (¬1) ديبون وكوبولاني، مرجع سابق، ص 286.

بلقاسم، صاحب زاوية الهامل (¬1). وكانت السنوسية في فرع زاوية طكوك قد وقفت موقفا شبيها بذلك، رغم أن شيخها لم يسلم من الاضطهاد والسجن والإبعاد، والتجانية أعلنت الولاء منذ حوالي 1840، ولكن الفرنسيين ظلوا يتوجسون منها خيفة، مع ذلك، لأن أتباعها مسلمون على كل حال، ويمكن للطرق الأخرى أن تجرهم إليها في حالة الخطر، ولم تطمئن فرنسا لأولاد سيدي الشيخ رغم ولائهم الظاهري: فقد كانوا من جهة خلفاء وحكاما باسمها ومن جهة أخرى ثوارا عليها، وتاريخهم معها سلسلة من المصادمات والتقارب والتباعد إلى نهاية القرن، ولكن الفرنسيين كانوا يملكون سلاحا ماضيا وهو (سلاح فرق تسد) الذي استعملوه في الطريقة الواحدة والعائلة الواحدة، ثم بين مختلف الطرق والعائلات، ولم يكن لشيوخ هذه الطرق من الوعي السياسي والإمكانات المادية. ومنذ وصل كامبون إلى الحكومة العامة في الجزائر سلك سياسة التقارب مع الطرق الصوفية، لأسباب مختلفة، منها حاجة فرنسا إلى دعمها في الصحراء، وحاجتها إليها في الوقوف ضد سياسة الجامعة الإسلامية/ العثمانية، والسيطرة بها على عامة الجزائريين، وكسر شوكة العداء الذي تكنه الطرق الصوفية للتسلط الفرنسي/ المسيحي، وكان من نتيجة هذه السياسة الكامبونية الاتصال بشيوخ كانوا منسيين أو مهملين وإعطاؤهم الاعتبار والحرمة، وقد دعا كامبون رئيس الطريقة الطيبية لزيارة الجزائر وسهل مهمته في الاتصال لإخوانه، كما تفاهم كامبون مع زعماء أولاد سيدي الشيخ المتمردين مثل قدور بن حمزة الذي جاء لملاقاة كامبون في المنيعة، وأعاد إليه الاعتبار على أساس العمل لصالح السياسة الفرنسية في المنطقة، وكذلك رجع الشيخ المسن، وهو الأعلى بن بو بكر، إلى جيرفيل (¬2). كما جرت ¬

_ (¬1) أوصى نفس المصدر (ديبون وكوبولاني) ص 289، بأنه يمكن لفرنسا أن تستخدم زاوية طكوك بالجزائر لربط علاقات مع الشيخ المهدي السنوسي. (¬2) توفي قدور بن حمزة 10/ 2/ 1897. أما الأعلى بن بوبكر فهو الذي كان وراء ثورة أولاد سيدي الشيخ منذ 1864.

محاولات غير ناجحة لإعطاء الأمان لبو عمامة، وافتخر كامبون بأنه قد أنجز مشروعا كبيرا لفرنسا في الصحراء بهذه السياسة (¬1). وكيف لا، وقد مهد له الطريق زعماء الطيبية والشيخية والتجانية وبعض فروع القادرية - كلهم تجندوا لهذا الغرض - وأصبحت الطرق الصوفية المخيفة أدوات طيعة في خدمة الإدارة الفرنسية، وقد تحدثنا عن (الميعادات) التي كانت تتوالى من بلاد الطوارق إلى الجزائر عن طريق الزاوية التجانية بقمار، منذ 1892، وتحدثنا عن المقدمين المرافقين للمستكشفين الفرنسيين منذ دو فيرييه، بل منذ بعثة إسماعيل بو ضربة سنة 1858 إلى غات، والرسائل الإخوانية التي تعتبر الجاسوس الفرنسي أخا (خونيا) في الطريقة الصوفية، كما أشرنا إلى الظلال التي سلطت على مغامرة اليزابيت ايبرهارت أول هذا القرن، في نواحي وادي سوف وبو سعادة والعين الصفراء ومحاولة تورطها في التنافس بين التجانية والقادرية. وآخر صيحة أرسلها ديبون وكوبولاني، بعد إبداء رأيهما المتناقض في عدد من المرات، هي وضع برنامج لمواجهة هذه الجمعيات السرية كثيرة الأتباع، وكثيرة العلاقات، إنه برنامج يجب أن تأخذ به فرنسا زمام الموقف من القوة الوحيدة التي بقيت لدى الأهالي، وهي الطرق الصوفية، إنه برنامج يحولها عن وجهتها العدائة وتسخيرها لخدمة المصالح الفرنسية، وهذه العلاقة ستكون مؤقتة فقط، ففي اليوم الذي يمكن لفرنسا أن تعارضها فيه بقوة أخرى، ستتخلى عنها، وهذه القوة (الثالثة) ستكون أكثر تنورا وأكثر تمدنا، وقد تكون هي النخبة الناشئة، وقد تكون طريقة صوفية عصرية، وقد تكون هي جمعية العلماء التالية، وعندئذ فقط تستغني فرنسا عن دور الطرق الصوفية وتواصل تفتيتها حتى تتلاشى (¬2). وعند هذه النقطة بدأ الاسكندر جولي بحوثه مع زملائه، فبعد حوالي ¬

_ (¬1) ديبون وكوبولاني، مرجع سابق، ص 265 - 267، وكذلك جول كامبون (حكومة الجزائر) الجزائر، 1918، وآجرون (الجزائريون المسلمون) 1/ 513، وكلنسي - سميث (ثائر وقديس)، 1994. (¬2) ديبون وكوبولاني، مرجع سابق، المقدمة.

عشر سنوات من دراسة ديبون وكوبولاني رأي جولي أن الطرق الصوفية قد أدت مهمتها وأنها مدعوة إلى الاختفاء وترك مكانها لبديل آخر، إنها في نظره حققت الكثير للمجتمع فحافظت على وحدته وتدينه، وقدمت خدمات اجتماعية وتعليمية، ولكنها لم تعد (حوالي سنة 1910) تساير الركب، إن العقليات قد تغيرت والمجتمع أخد يعيش تطورات جديدة لا عهد له بها، ولم يعد للطرق الصوفية قوة المقاومة والصلابة التي تمتعت بها منذ عشرات السنين، ولا خوف على السلطة الفرنسية بعد اليوم من خطرها لأن الطرق لم تعد قادرة على الثورة الجماعية القوية، فإذا كان في استطاعتها أن تتوحد لمواجهة الخطر الفرنسي في وقت ما فإنها سرعان ما تشتت وتبعثرت جهودها بعده الهزيمة، وقد حل التنافس بينها محل التفاهم والتوحيد، وتغلبت المصالح المادية عند الرؤساء على مصالح الطريقة، ولم يعد للروحيات عندها إلا أثر ثانوي، ويضيف جولي أن هذه الآلية (الطرق الصوفية) قد أدت مهمتها، وهناك آليات جديدة أكثر مضاء واتقانا لخدمة المجتمع من هذه الآلية القديمة، وقد ضغطت الإدارة على الناس فأصبحوا مرتبطين بالمصالح الخاصة، وهي عندهم المحرك الوحيد أمام مداهمة الخطر، وإذا لم تغير الطرق الصوفية جلدها، كان تصبح دنيوية Secular، فإنها تختفي تلقائيا لأن قانون الطبيعة يفرض أن كل عضو اعتراه الهرم والشيخوخة عليه أن يموت ويترك مكانه لعضو شاب يتمتع بالحيوية والقوة (¬1). ويكاد أوغسطين بيرك يسير على نفس المنوال عند حديثه عن دور الدين والطرق الصوفية في المجتمع الجزائري، فقد لاحظ أن الفكر الديني عموما في الجزائر قد خضع لظاهرة دورية، ففي كل مرة تظهر حركة تطهيرية تتولد عن الحركة الأولى التي يعتريها الهرم، وهو في هذا المجال كأنه يقلد رأي ابن خلدون بالرغم من أنه انتقده بشدة وانتقد حتى من يؤمن بنظريته في دورة ¬

_ (¬1) جولي، مرجع سابق، ص 370 - 371، وللتذكير نقول إنه كتب هذا الرأي سنة 1908 بعد دراسته المستفيضة عن الشاذلية.

الحياة (¬1). وقد ذهب بيرك إلى أبعد من ذلك فقال إن المذهب المالكي قد جمد وحجر العقل في المغرب العربي، وغامر مع غيره (¬2) الذين يقولون إن فرنسا قد ساعدت على نشر الإسلام (الإسلام الجزائري، كما يقولون) بين الجزائريين وتبنت المذهب المالكي باتباعها فقه مختصر الشيخ خليل واختيار القضاة طبقا لهذا المذهب، أما عن المرابطين فقد قال بيرك إنهم هم الذين تولوا الدفاع عن المجتمع الجزائري بعد 1880 وقاموا بحركة التطهير والتجديد عندما أعلنوا الحرب على المسجد الرسمي، أي على علماء الدين الموظفين من قبل فرنسا للإمامة والتدريس والإفتاء ونحو ذلك، كما طلبوا الإعانة من الشرق متجاوزين الحدود التي أقامتها فرنسا، ورأى بيرك أن (الإسلام الجزائري) أي الدين كما مارسته الطرق الصوفية والمرابطون، لم يرتفع إلى السماء ولم يكن دعوة مجردة، بل هو الإسلام الذي يقترب من الناس ويوفر المعبود المحسوس (؟). وهكذا يصبح المرابط في الأرياف هو هذا المعبود المحسوس عند الناس، فهو المذهب والعقيدة، وهو الكرامة والبركة، ولذلك يأتيه الناس بالزيارات والصدقات ويطلبون منه النجدة والولادة والعلاج والغفران. وقد طور بيرك هذه الأفكار حول التصوف في الجزائر فقال إنه لا توجد طريقة صوفية هنا بالمعنى الأسيوي - المشرقي، إن الموجود في الجزائر هو تجمع حول ولي واحد، ذلك أن المرابط هنا يبتلع الطريقة الشرقية ويصفيها من زخمها ويغلقها ويعدلها، ويجعلها طريقة محلية، فالطرق الصوفية في الجزائر ذات طابع منغلق ومستتر وليست طرقا مفتوحة ومستقطبة، ولاحظ أن الجغرافية تلعب دورا في هذا المجال، فالرحمانية في زواوة تتميز عن الرحمانية في الجنوب، والتجانية في عين ماضي غيرها في تماسين وقمار، وهناك ظاهرة أخرى وهي الهجرة السنوية من الجنوب إلى الشمال، إلى التل والهضاب العليا، حيث تذهب أعراش وقبائل، كالأرباع وأولاد نائل وأولاد ¬

_ (¬1) قال بيرك إن ابن خلدون قرأ أرسطو وأفسد نظرياته وأنه لم يأت بجديد. (¬2) من هؤلاء المستشرق ماسكري.

زكرى وأولاد سيدي الشيخ وسعيد عتبة. وقد لخص بيرك دورة الطرق الصوفية في الجزائر في ثلاث مراحل: مرحلة 1830 - 1900، وخلالها كانت الطرق ورؤساؤها معارضين للاحتلال بأساليب مكشوفة أحيانا ومقنعة أحيانا أخرى، والمرحلة الثانية بين 1900 - 1920 (¬1). وخلالها تبنت فرنسا سياسة جديدة نحو الطرق الصوفية ورجال الدين واعتمدت عليهم بطريقة مكشوفة، فاعلنوا خضوعهم وتحالفوا معها وساهموا في التهدئة العامة خلال الحرب الكبرى (1914 - 1918). أما المرحلة الثالثة التي تبتدئ من سنة 1920 فقد اضطرب فيها رأي بيرك، فقال مرة إن هذه الطرق قد أظهرت علامات الخروج عن الخط في بعض المناطق، ثم أصبحت الظاهرة أكثر شمولية سنة 1930، وفي مكان آخر ذكر أن الحركة الاصلاحية قد حلت محل الطرق الصوفية في الدور الذي سماه عملية التطهير الدوربة في المجتمع. ومهما كان الأمر فإن بيرك يجعل قانون الأرض لسنة 1863 حجر الزاوية في التطور الاجتماعي، فقد انتهى، في نظره، عهد الأجواد وفتح عهد المرابطين ورجال الزوايا، أو بالأحرى فإن القانون قضى على الارستقراطية السيفية ونشط الارستقراطية الدينية - الثيوقراطية، ويستعمل بيرك أحيانا عبارة انتصار رجل الدين منذ 1900، أو انتصار الزاوية على البرج الاقطاعي، الأول رمز للطرق الصوفية والمرابطين والثاني رمز للتحصن والحكم والسلطة، فقد أصبح الناس يطيعون الزاوية بدل طاعة البرج الاقطاعي (أي القياد والخلفاء والباشغوات). ونختم الحديث عن رأي بيرك في موضوع الطرق الصوفية بملاحظتين، الأولى أنه يذهب إلى أن شخصية المرابط في الجزائر أقوى من العقيدة أو الفكرة الصوفية نفسها عند الناس، فالناس لا يهمهم الجديد الذي يأتي به ¬

_ (¬1) عن هذه المرحلة انظر دعوة رجال الدين والمرابطين إلى تأييد فرنسا خلال الحرب الأولى في (مجلة العالم الإسلامي). عدد ديسمبر 1914.

توظيف الطرق الصوفية وتدجينها

الشيخ أو ما يتميز به عن غيره من أفكار، ولكن تهمهم شخصيته سلطته الروحية، كراماته، فصاحته. وهكذا كانت شخصية ابن طكوك (السنوسية) أقوى من طريقته الصوفية، في نظر بيرك، وكذلك كانت سمعة ابن عليوة وشخصيته أقوى من تصوراته الصوفية التي لا يدركها الناس. وفي بلاد المغرب عموما، حسب رأيه، لا يهتم الناس بفكر الرجل ولكن بالرجل نفسه، وفي الطريقة الكبيرة الواحدة المعروفة بتعاليمها وقواعدها يأتي شخص قوي فيتبعه الناس ويخرج بهم عنها فيتبعونه وينفصل عن الأصل، دون الاهتمام بالفكرة الأولى والتعاليم، فالاهتمام هنا بالشخص بقطع النظر عن العقيدة، وهذا الرأي في عمومه صحيح قياسا على التاريخ والواقع. أما الملاحظة الثانية التي جاء بها بيرك فهي انتقاده لكل من لويس رين ولديبون وكوبولاني في تناولهم الطرق الصوفية وقضية المرابطين، ملاحظا لهم أن المصير السياسي لهذه الطرق مصير غير موحد وغير مترابط، ذلك أن كتبهم صورت الطرق الصوفية عموما بانها العدوة غير المتهاونة للاحتلال وللحكم الفرنسي، لكن الواقع التاريخي أثبت أن هذه الطرق أصبحت اليوم متهمة بأنها عميلة هذا الحكم ومناصرته، فهل يرجع ذلك إلى التغيير في السياسة الفرنسية، أو يرجع إلى تركيبة الطرق الصوفية نفسها، كما لاحظ الاسكندر جولي؟ واتهم بيرك زميليه ديبون وكوبولاني بأنهما كتبا عن الجزائر بروح ما كان موجودا في باريس، وتصورا مشروعهما عن الإسلام بصورة ما هو في باريس، فلونا الطرق الصوفية في الجزائر بألوان لا تملكها في الواقع، وما كان في باريس عندئذ هو الحملة ضد الماسونية وأعمال الجمعيات السرية الأروبية (¬1). توظيف الطرق الصوفية وتدجينها رأى خبراء الفرنسيين بعد 1871 أن رؤساء الطرق الصوفية قد حلوا في ¬

_ (¬1) أوغسطين بيرك، مرجع سابق، (مجلة البحر الأبيض المتوسط)، عدد 10، 1951، البحث بعنوان (أسرى الألوهية)، ص 296 - 302.

الأهمية محل الأجواد وزعماء العشائر نتيجة ضعف هؤلاء من جراء قانون الأرض سنة 1863 - 1873 وما يعرف بعهد المملكة العربية. وقد وقف منهم الحكام العامون الثلاثة (شانزي وتيرمان وكامبون) مواقف مشابهة أحيانا وهي المراقبة والتشدد، ومختلفة أحيانا أخرى، سيما عند كامبون، وقد أشرنا في عدة مناسبات إلى السياسة الفرنسية منذ 1871 نحو الطرق الصوفية، ففي عهد الجنرال شانزي طلبت مصلحة الشؤون الأهلية (تعيين من يجب أخذهم كرهائن) من زعماء الطرق الصوفية في حالة حرب أروبية، ورأى الفرنسيون أن استقلال هؤلاء الزعماء عن الإدارة وعدم قبولهم الوظيفة يجعلهم خطرين ومشكوكا في ولائهم. ولذلك تقررت مراقبتهم عن كثب بالتحكم في مداخيلهم المادية ومنع إعطائهم الرخص لجمع أموال الزيارات، وجاءت تقارير من قناصل فرنسا في تونس والاسكندرية تندد بالإخوان عموما، وندد تقرير تونس بالشيخ أحمد التجاني رغم أن السلطات الفرنسية تحميه، ورأى القناصل أن بعض العلماء الألمان تسربوا إلى الطرق الصوفية مثل (رولفس RUHLFS). وكان شانزي قد منع، بضغط من نواب الكولون، إعطاء الامتيازات لشيوخ الزوايا عدا شيخ زاوية تماسين، بدعوى أن تأثيره مفيد للقضية الفرنسية، وأصدر شانزي منشورا سنة 1876 يأذن فيه للسلطات المحلية بإعطاء الرخص لبعض الشيوخ لزيارة أتباعهم بشرط هدف جدي وبصفة استثنائية وتحديد خط السير وبضرورة المرور بالجزائر، أما الشيوخ المقيمون في الخارج فقد احتفظ شانزي لنفسه بامتياز التصرف فيهم، وهكذا استثني محمد بوزيان، شيخ زاوية القنادسة فسمح له بزيارة أتباعه وجمع المال منهم، كما استثني عبد السلام، شيخ الطيبية، واستقبله في الجزائر استقبالا فخما (¬1). وفي عهد لويس تيرمان (1882 - 1891) كثرت الضغوط على شيوخ ¬

_ (¬1) آجرون (الجزائريون المسلمون). 1/ 306، 309.عن شيخ الطيبية انظر الحديث عن هذه الطريقة.

الزوايا، وألف رين كتابه المعروف. وحدثت ثورة بو عمامة، ومقتلة بعثة فلاترز، وكثر الحديث عن السنوسية، وتجدد اتهام أحمد التجاني بعدم الولاء لفرنسا، بل إن المكتب العربي في تلمسان تحدث عن مؤامرة التجانية في عين ماضي، واعتقلت السلطات عددا من الأهالي في سبدو ونفتهم إلى جزيرة كورسيكا، لكن الشرطة لم تثبت اتهام التجاني ولا طريقته في الأحداث، بالعكس فقد قالوا إن أحمد التجاني قد وجه إلى أتباعه نداء يطلب منهم الهدوء وعدم المشاركة في ثورة بو عمامة، وقالت إنه سهل مهمة العقيد ديبورد إلى السودان، لكن مشروع التمرد الذي ولد في زاوية تلمسان قد ظهر الحديث عنه سنة 1930 أيضا في كتاب صادر عن الحكومة العامة نفسها (¬1). وفي عهد تيرمان أيضا ظهر كتاب دو فيرييه عن السنوسية وحملها مسؤولية ثورات عديدة ضد فرنسا في الجزائر، ورأى تيرمان أن السنوسي له علاقة ببو عمامة وأن كليهما له علاقة بثورة المهدي في السودان، ومن جهة أخرى كان تيرمان يرى في الجامعة الإسلامية خطرا يهدد الجزائر، وقد تحدثت وسائل مخابراته عن مبعوثين جاؤوا من سورية والعراق لكي يدعوا إلى الهجرة وينتقدوا سياسة فرنسا، ومن أجل ذلك لم يرخص تيرمان لشيوخ الزوايا بالتنقل إلا نادرا، ورأى زيس (أحد كبار القضاة) التخلص من رجال الدين بنشر المدارس الفرنسية، ورأى غيره أن إضعاف رجال الدين يكمن في منع المال عنهم واللجوء إلى السياسة الميكيافيللية، أي باستعمال الانشقاق وحط الاعتبار ولكن دون مواجهتهم (¬2). وبناء على ذلك جرت دراسات وسجلت آراء حول رد الفعل الفرنسي. فكان الاقتراح البارز هو المراقبة المتشددة دون المهاجمة، ودفع الشيوخ إلى أن يعلنوا ولاءهم أو عداوتهم، ومطالبتهم بتقديم عدد المنخرطين عندهم، وتساءل الكتاب عن الطرق التي زادها الاضطهاد انتشارا وشعبية مثل الرحمانية ¬

_ (¬1) نفس المصدر، ص 309. (¬2) آجرون (الجزائريون المسلمون)، 1/ 311 - 312، والرأي الأخير منسوب إلى دي كونستانت الذي كتب عن (الجمعيات السرية عند العرب) (يعني الطرق الصوفية) في (مجلة العالمين). أول مارس 1886.

(الشمالية) والدرقاوية، رغم أنهما طريقتان أقرب إلى التقشف منها إلى الحياة الرغدة، وقالوا لماذا لم ينضم الفلاح إلى الطرق (الارستقراطية) مثل التجانية والطيبية. ولكن الذي تفطن إلى اتباع أسلوب جديد نحو هذه الطرق هو جول كامبون، فقد رأى أن يقترب من الطرق المصنفة (عدوة) ويستميل رؤساءها، وهكذا استمال زعيم أولاد سيدي الشيخ وتفاوض مع بو عمامة (وهو منهم). وعرض الوظائف عليهم، ولا سيما الدرقاوية والرحمانية، وأذن لزعيم الطيبية بزيارة أتباعه في الجزائر، وسلم إلى رؤساء هذه الطرق وغيرها برانيس وأوسمة، وأقام لمن مات منهم احتفالات التأبين (التجاني، القاسمي ...). وكان هدف كامبون هو توظيف نفوذ الطرق الصوفية في خدمة المصالح الفرنسية في الصحراء، ومن أجل ذلك لجأ أيضا إلى الحصول على فتوى من علماء المسلمين (سنة 1895) شبيهة بالفتوى التي حصل عليها روش قبل ذلك (¬1). ومع ذلك أيد كامبون غلق الزوايا التابعة للطريقة الدرقاوية (¬2). وقد سار الحاكمان العامان شارل جونار (1903 - 1912) وشارل ليطو (1912 - 1918) على سياسة مشابهة نحو الطرق الصوفية، ورأينا كيف استخدمت الإدارة نفوذ هذه الطرق خلال الحرب العالمية ضد الدعوة إلى الجهاد التي صدرت عن شيخ الإسلام بإسطانبول، ورغم بداية الضعف الذي اعترى الطرق الصوفية فإن الإدارة استمرت في توظيف نفوذها إلى الحرب العالمية الثانية، وسترد عليك أمثلة على ذلك. لم تستنفد الطرق الصوفية كل طاقتها عشية الحرب الأولى، كما قال الاسكندر جولي، فقد رأيناها قد ساهمت في تهدئة السكان خلال هذه الحرب، ثم ان دورها لم ينته مع الاحتفال المئوي، كما قال أوغسطين بيرك، ¬

_ (¬1) استعمل كامبون الصحفي الشهير في وقته، جيرفي كورتيلمونت، الذي تنكر وذهب مع أحد المسلمين الجزائريين (اسمه الحاج اكلي) إلى مكة، وحصل على مرغوبه، وهو تثبيط الهجرة من الجزائر وتسهيل سياسة فرنسا في الصحراء، انظر بحثنا (فرنسيان في الحجاز) في مجلة (المنهل). غشت، 1996. (¬2) آجر ون، (الجزائريون) 1/ 514 - 515.

بل استمرت السلطة الفرنسية في توظيفها لمعارضة التيارات السياسية والإصلاحية التي ولدت في الجزائر منذ 1920 (¬1). ولا حاجة بنا إلى شرح الظروف التي أدت إلى ظهور التيارات السياسية كحركة الأمير خالد ونجم الشمال الإفريقي واتحادية النواب، أو ظهور الحركة الإصلاحية بزعامة ابن باديس ثم جمعية العلماء سنة 1931 (¬2). إن الإدارة التي كانت تتحدث منذ أواخر القرن الماضي عن البديل للطرق الصوفية والتي رأته في النخبة الجديدة المتخرجة من المدارس الفرنسية وفي التحولات الاجتماعية التي أدت إلى تنور الأتباع ووعيهم، هذه الإدارة فوجئت بتحولات من نوع آخر تولدت من الحرب الكبرى، من جنود عائدين من الميدان ومن صحافة نشطة ومن مطالب جماعية برفع الضيم ونيل الحقوق، بالإضافة إلى التيارات السياسية والإصلاحية التي أشرنا إليها، وإذن لا بد من فعل شيء يحدث التوازن في المجتمع الأهلي ويحافظ على الهدوء، الذي ترجوه الإدارة دائما. ولم يحدث خلال العشرينات أن ظهرت هيئة أو جمعية تعارض الطرف الصوفية سواء بدعم من فرنسا أو بغير دعمها، وإنما ظهر أمران أمام مسمع ونظر الإدارة، وكلاهما يضر بالطرق الصوفية التقليدية، الأول ظهور طريقة الشيخ أحمد بن مصطفى بن عليوة التي اعتبرها الفرنسيون نموذجا جديدا للتصوف (العصري)، وقد تعرضنا إليها وبينا أنها كانت تختلف في أسلوب دعوتها وتحركات شيخها وصحفها ومطالبها عن الطرق القديمة والمتجذرة، وقد كانت الإدارة راضية، إن لم تكن مشجعة، عن هذه الظاهرة التي ستؤدي عند بعض محلليها إلى تغيير وجه الطرق الصوفية من الأساس، أما الأمر الثاني فهو نشاط الحركة الإصلاحية بين 1920 - 1931 بزعامة ابن باديس، ويهمنا الآن من هذه الحركة موقفها من المرابطين والطرق الصوفية. ففي ¬

_ (¬1) كانت الطرق الصوفية بين الحربين ما تزال تتمتع بعدد من الأتباع ولها عليهم تأثير ونفوذ، وما تزال التقاليد الشعبية تعطيها أهمية خاصة. (¬2) ارجع في ذلك إلى كتاب الحركة الوطنية، ج 2، وإلى كتاب علي مراد (الإصلاح الإسلامي في الجزائر)، ليدن، 1967.

الصحف ذات الاتجاه الإصلاحي التي ظهرت خلال هذا العهد هجوم قوي على الظاهرة المرابطية والشعوذة والبدع والخرافات التي كان يمارسها الأشياخ، والموقف السياسي لهم وتبعيتهم للإدارة، وتضليل الناس عن الدين، ونشر الخرافة والتخدير بين الناس بممارسات معينة كالحضرة والذبائح والزيارات والكرامات، وكانت الإدارة تراقب هذا التحول في المجتمع وتدرس عواقبه وتعرف أنه سيزعزع جذور الطرق الصوفية التي طالما حاربتها وخافت من خطرها. وعندما تقدمت (جمعية العلماء المسلمين الجزائريين) بطلب التأسيس سنة 1931 لم تمانع السلطات الفرنسية في ذلك، بل إن بعضهم قد لاحظ السرعة التي تمت بها الموافقة، وكان الجو الذي خلقه الاحتفال المئوي يبرر هذه الموافقة، ربما، لأن الجزائريين تذمروا كثيرا من غطرسة الفرنسيين بعد قرن من الاحتلال والتحكم، ولاحظت ذلك صحفهم، حتى المعتدلة منها، ففي الموافقة على طلب العلماء تفريج لهذا التوتر، ولكن الموافقة تخدم أغراضا أخرى للإدارة أيضا، فقد أعلنت الجمعية في قانونها الأساسي أنها تقبل بعضوية (العلماء) غير الموظفين، ومن هؤلاء بعض رجال الطرق الصوفية، وأن انضمام عناصر من هذه الطرق إلى الجمعية كان يخدم موقف فرنسا المعلن منذ آخر القرن الماضي وهو (تذويب) الطرق في غيرها وإحلال البديل محلها طبقا لمقتضيات التطور الاجتماعي والسياسي، والغرض الآخر الذي تخدمه الموافقة على إنشاء جمعية العلماء هو أن النشاط الشيوعي كان قويا في الجزائر وهو يحاول أن يحتوي العناصر الأهلية المستعدة لممارسة السياسة والهجوم على الامبريالية والاستعمار، فميلاد جمعية العلماء المتحمسة للنهضة الإسلامية والمعتمدة على السلفية والإصلاح الديني سيكون حاجزا ضد توغل التنظيم الشيوعي في الأوساط الأهلية، في نظر الإدارة، ولكن هذه التوقعات لم تكلل بالنجاح المطلق، لقد كان على رأس الإدارة الأهلية عندئذ جان ميرانت الضابط المختص في قضايا الجزائر الإسلامية، وهو الذي كان يعمل مترجما في الحكومة العامة منذ آخر القرن

الماضي، وكان من المساعدين في الترجمة لكل من ديبون وكوبولاني أثناء تحرير كتابهما سنة 1897. ولا شك أنه أقر توصياتهما لأن الكتاب نشرته الحكومة العامة وتبنت كثيرا مما جاء فيه. ومبدأ توازن القوى يفرض على الإدارة أن لا تقضي تماما على الطرق الصوفية وأن لا تعطى لخصومهم كل التسهيلات، بل لا بد من جعلهم في درجة واحدة أو جعلهم يتبادلون القوة والضعف دواليك. وقد ظهر من انتخاب المجلس الإداري الأول والثاني لجمعية العلماء أن العناصر الإصلاحية هي المتحكمة وأن العناصر الطرقية كانت في المركز الأضعف، ولعل الإدارة كانت تريد العكس، لأن وجود عناصر من العلماء الدارسين في الشرق أو الزيتونة يزعج الإدارة، ويصعب من تشديد قبضتها على الجمعية، ولذلك لم يدم تفاهم المصلحين والطرقيين إلا حوالي سنة، ففي 1932 انفصل أصحاب الاتجاه الطرقي وكونوا (جمعية علماء السنة) التي تقمصت مبادئهم، وهذا الانقسام كان يحقق أيضا أهداف الإدارة من الطرق الصوفية ومن المصلحين معا، لأن خلق التنافس والصراعات عادة قديمة وأسلوب ناجح مارسه الفرنسيون طيلة عهدهم، وبه تحكموا في رقاب الجزائريين. وإذا كانت مسيرة (جمعية العلماء المسلمين الجزائريين) مدروسة ومعروفة سواء في عهد ابن باديس أو عهد الإبراهيمي، فإن مسيرة نقيضتها (جمعية علماء السنة) والجمعيات الأخرى المشابهة غير معروفة. ذلك أن الإدارة الفرنسية رأت أن الجمعية الأخيرة وليد ضعيف بالأسلوب الذي وقع به الانفصال وبالشخصيات التي تبنت هذا الاتجاه والوسائل المختارة والأهداف المرسومة، فلم تعش جمعية علماء السنة إلا عاما أو بعض العام، وقد حاولت هذه الجمعية أن تقلد نشاط المصلحين، فأنشأت جريدة (الإخلاص) وفتحت ناديا، وأعلنت أنها تعمل من أجل (الإسلام الجزائري) الذي سماه أوغسطين بيرك الإسلام المنغلق على نفسه، ويمكن القول إن جمعية علماء السنة هي (رابطة الطرق الصوفية) بأسلوب عصري، ذلك أن فرنسا كانت تخشى تجمعهم في الماضي ولم تحاول أبدا من جهتها تكوين رابطة أو ناد

لهم، بل كانت تعمل على تفتيتهم وتمزيقهم حتى لا يتوحدوا ضدها، حتى فكرة رين في إعطاء سلطة فوق العادة لشيخ التجانية وتنصيبه في مكانة (شيخ الإسلام) في الجزائر لم يقدر لها التنفيذ، أما بين الحربين ففرنسا أخذت تحاول أن تؤطر الطرق الصوفية وأن تحدثها لمواجهة جمعية العلماء من جهة، والحركة الشيوعية والتيارات الأخرى السياسية (المتطرفة). ودعما لجمعية علماء السنة التي ولدت ضعيفة، كما قلنا، أوعزت الإدارة بعقد مؤتمر يضم مختلف الطرق الصوفية والزوايا في الجزائر، وربما كان هو الحدث الأول من نوعه، انعقد هذا المؤتمر الذي أطلق عليه (مؤتمر رؤساء الطرق الإسلامية) في الأسبوع الثاني من نوفمبر 1933 بالعاصمة، وفي (نادي الإخلاص) التابع لجمعية علماء السنة، ومن قراراته أن أعضاء المؤتمر يصبحون أعضاء في الجمعية، وأن جريدة (الإخلاص) تتحول إلى مجلة لنشر المقالات حول الأخلاق والدين والمجتمع، وقد ترأس المؤتمر الشيخ مصطفى القاسمي (زاوية الهامل) وأوضح الهدف حين ذهب وفد منه لزيارة الحاكم العام، جول كارد، وكان الوفد مرفوقا بجان ميرانت الذي أشرنا إليه، وأمام الحاكم العام ألقى الشيخ القاسمي كلمة باسم زملائه رؤساء الطرق، وأعلن له تعلقهم بفرنسا والإخلاص لها، كما فعلوا في الماضي، ولكن الوفد طالب الحاكم العام أيضا بتحسين حالة (الرعية). وقد علق محمد سعيد الزاهري العضو في جمعية العلماء المسلمين عندئذ، بقوله إن جمعية علماء السنة قد تحولت إلى (سنديكا) - نقابة - من شيوخ الزوايا، وأن هدفها هو تكوين (كهنوت) وليس الدفاع عن الإسلام (¬1). وقبل أن نواصل الحديث عن المؤتمرات الطرقية الموازية للنشاط الإصلاحي الذي تقوم به جمعية العلماء المسلمين، نشير إلى العريضة التي بعث بها عدد من رجال الطرق الصوفية في تلمسان ضد الشيخ الإبراهيمي سنة ¬

_ (¬1) جريدة (الصراط) - لسان حال جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، عدد 11، 27 نوفمبر 1933، انعقد المؤتمر المذكور بين 7 - 11 نوفمبر.

1933، وكانت العريضة موقعة من قبل خمسة عشر فردا، من أعيان البلدة (مستشارون، وتجار، وشيوخ). من بينهم خمسة من مقدمي الطرق الصوفية، وكان الإبراهيمي قد حل بتلمسان في نهاية سنة 1932 كممثل لجمعية العلماء في الناحية الغربية، وكانت الجمعية قد وقفت ضد منشور إداري يسمى منشور ميشيل صدر في 16 فيفري 1933، وهو منشور يحد من نشاطها ويصف أعضاءها بالوهابية والتبعية للخارج، وكان المنشور جزءا من تدخل الإدارة الذي ذكرناه من أجل إحداث التوازن بين الطرق الصوفية وخصومها، ذلك أن موقف الإدارة كان ضد الاثنين معا، ولكن لا بد من هذا الأسلوب الذي يقدم البعض ويؤخر الآخرين لإحداث التوتر والمنافسة لكي تعيش الإدارة في أمن وهدوء. والغريب أن أصحاب العريضة قالوا عن الإبراهيمي إنه (أجنبي) وعليه أن يرجع إلى (بلاده) سطيف، وقد ذكروا الإدارة الناسية في نظرهم، بأن الطرق الصوفية عاشت منذ قرون في تفاهم وأنها تقف مع السلطة الفرنسية موالية ومخلصة الولاء، وأضافوا أن الإبراهيمي ينتمي إلى (جمعية سرية) هدفها زعزعة الحضور الفرنسي، وأنها تستعمل الدين كغطاء لهدفها، وأنها أصبحت تستعمل النوادي بعد منع المساجد عليها (طبقا لقرار ميشيل). وقد اعتبرت العريضة ما تقوم به هذه الجمعية السرية (جمعية العلماء) والشيخ الإبراهيمي بالذات هو (موجة وطنية ومعادية لفرنسا). أما الإبراهيمي وأصحابه فقد اعتبروهم أهالي متعلمين (وشبانا أتراكا) من صنف آخر، وأخبروا الحاكم العام الذي وجهوا إليه العريضة، أن في تلمسان حوالي عشر طرق صوفية كلها ذات صلة عميقة بفرنسا. أما نشاط الإبراهيمي فهو (جرثومة آتية من الشرق). وتساءلوا: لماذا تسمح الإدارة (للأجانب) مثل الإبراهيمي بالعمل في الجزائر مع أن هدفهم هو إثارة الشغب؟ (¬1). ¬

_ (¬1) العريضة من خمس صفحات مرقونة بالفرنسية، نسخة منها سلمني إياها محمد القورصو. تاريخها هو 26 مايو 1933، وتاريخ قرار ميشيل هو 16/ 2/ 1933. والخمسة الممثلون للطرق هم: سليمان عمامو (العيساوية). حمادي الصقال =

وكلما تقدمت جمعية العلماء في نشاطها الإصلاحي وازداد نشاط التيارات السياسية الوطنية، برز على المسرح نشاط الطرق الصوفية في ثوب جديد، لقد أصبحت هذه الطرق موظفة بكل عناية من قبل الإدارة، لم يعد هناك خوف ظاهر منها، وبدل أن تموت عضويا، كما قال الاسكندر جولي، كانت الإدارة تبعث فيها الدم وتحاول ملاءمتها مع الوضع الجديد، وبعد مؤتمر الطرق الإسلامية في العاصمة، كما رأينا، تأسست (الجمعية الطرقية الدينية الإسلامية) (¬1) في قسنطينة سنة 1937 على إثر انعقاد المؤتمر الإسلامي ونشاط العلماء والنواب فيه، خصوصا في مدينة قسنطينة، ولكن نشاط هذه الجمعية لم ينحصر في قسنطينة، بل امتد إلى أنحاء القطر كله، وكان أعضاؤها يتكونون من المقدمين والشواش ورؤساء الزوايا والإخوان، ولها مجلس إداري من أربعين عضوا هو الذي يسيرها، وهو منتخب من الجمعية العامة، ويرأسها شرفيا، الحاكم العام للجزائر والولاة الثلاثة (وهران والعاصمة وقسنطينة)، وكذلك حكام المقاطعات الجنوبية الثلاثة (وكلهم فرنسيون طبعا). وماليتها تأتي من اشتراك الأعضاء والتبرعات ومن (إعانات الحكومة) والولاية، أما هدفها فهو المحافظة على نفوذ الزوايا والطرق، وعلى شهرتها وسمعتها ومكانتها بالإضافة إلى الاهتمام بالفقراء (المنتشرين في المساجد والزوايا وإصلاح حالهم)، وكلمة (فقراء) هنا قد تعني البائسين عموما، وهو الأقرب، وقد تعني فقراء الطرق الصوفية الذين هم صنف من الأتباع. ومثل كل الجمعيات غير السياسية عندئذ أعلنت هذه الجمعية الطرقية ¬

_ = (القادرية)، محمد بلولة (الطيبية) حمادي زياني (التجانية)، عبد القادر يوسفي (الدرقاوية). أما الآخرون فنواب وتجار، وهم: الحاج محمد العشعاشي، وسي بن علي بن منصور، والغوثي الحصار، ومحمد بن الأعرج، والغوثي بن ثابت، ومحمد بن منصور، وعيسى بن يحيى، ومحمد بن عبد الله، ومحمد ولد حمو بن ثابت، ومحمد بن سليمان. (¬1) يظهر من العنوان أنه اختراع فرنسي، لأنه لا توجد طرق غير إسلامية، فكيف تسمى الجمعية (دينية إسلامية).

أنها لا تتدخل في السياسة، ومفهوم ذلك بلغة الوقت عدم انتقاد السياسة الفرنسية في الجزائر أو المطالبة بحقوق سياسية للمواطنين. أما مقر الجمعية فهو: الزاوية التجانية بمدينة قسنطينة، وكاتبها هو أحمد بن بسام (¬1). واستمرت الإدارة تحرك أصحاب الطرق الصوفية لأغراضها، وكانوا من جهتهم يحسون أنهم يدافعون عن وجودهم المهدد في الواقع من الإدارة نفسها، كما عرفنا، وليس من الحركة الإصلاحية، لأنه إذا كان مأخذ السلطة الفرنسية عليهم هو الثورة والسياسة، فإن مأخذ الحركة الإصلاحية عليهم هو التجارة بالدين واستغلال العامة مما نتج عنه خدمة الاستعمار. فقد انعقد في الجزائر مؤتمر آخر لأصحاب الطرق يسمى (بجامعة اتحاد الزوايا)، في افريل سنة 1938 ودام ثلاثة أيام، وكان انعقاده على إثر قرار مارس من نفس السنة بعد زيارة وزير الداخلية الفرنسي رينيه، وهو القرار الذي يشبه قرار ميشيل، وكان يهدف إلى وقف التعليم العربي وتوقيف دروس الوعظ والإرشاد في المساجد، ومعاقبة المعلمين بدون رخصة، وكانت رئاسة المؤتمر الجديد أيضا للشيخ مصطفى القاسمي (زاوية الهامل). كما حضر رجال الزوايا الآتية: طولقة (رحمانية). عميش (قادرية) (¬2). وكان هناك ضيفان غريبان، الأول هو محمد سعيد الزاهري بعد خروجه من جمعية العلماء، والأغرب من ذلك أنهم نعتوه (بالفاشيست) لأنه كان عضوا في الحزب الفرنسي اليميني، أما الضيف الغريب الثاني، فهو عبد الحي الكتاني، رئيس إحدى الطرق الصوفية في المغرب الأقصى ونصير فرنسا هناك وفي الجزائر، وسيرد اسمه بعد حين، كانت كل جلسة تفتتح بالقرآن الكريم، ثم بالخطب في موضوعات دينية شتى. وقد دعا أصحاب الزوايا الذين اجتمعوا تحت المظلة الفرنسية، إلى ¬

_ (¬1) البصائر، عدد 13 يناير 1939. (¬2) عن موقف فرنسا من زاوية عميش وزعيمها (عبد العزيز بن الهاشمي). انظر فصل التعليم الحر.

عدم التعرض للسياسة ونبذ البدع (والأخير يعتبر أحد مطالب جمعية العلماء، والمقصود به بالنسبة إلى الدين ما لم يرد في القرآن والسنة النبوية ولم يأت في فعل أو قول السلف الصالح) ومن الذين حضروا أيضا الشيخ السائح (التجانية؟) الذي ألقى قصيدة في المناسبة، كما حضر الشيخ اسطانبولي إمام الجامع الكبير بالمدية، ومحمد بن الموهوب (قسنطينة). وعبد الحميد عثماني (طولقة) ومحمد الصالح بن الهاشمي (الوادي). والشريف الصائغي مدير مدرسة السلام بقسنطينة، ونلاحظ أن بعضهم (ابن الهاشمي) قد ألقى خطبة لتأييد الإصلاح واتباع طريق السنة النبوية، وهو الخطاب الذي ألقاه باسم أخيه (عبد العزيز) الذي اعتقلته السلطات الفرنسية سنة 1937، والغريب أيضا أن هذا الخطاب تضمن مقولة الشيخ عبد العزيز بأنه كان طرقيا وتحول إلى الإصلاح، وإن الحكومة العامة تريد القضاء على الدين واللغة العربية بقرار 8 مارس (1938)، وهو رأي يظهر نشازا في ذلك التجمع الطرقي لا ندري كيف سمح له بإعلانه على الحاضرين (¬1). وفي 1938 أيضا طلبت فرنسا من مختلف الهيئات في الجزائر الإعلان عن تأييدها لها في الحرب القادمة ضد ألمانيا، وبادرت الأحزاب الموالية تفعل ذلك، وتحفظت جمعية العلماء، كما هو معروف من (حادثة البرقية) الشهيرة والتي أدت إلى خروج الشيخ الطيب العقبي منهاة ولم تكتف فرنسا بالمواقف الفردية للزوايا والطرق الصوفية في الجزائر، بل نسقت ونظمت وخرجت بطبخة جديدة سمتها مؤتمر الزوايا على مستوى المغرب العربي كله. وانعقد المؤتمر في مدينة الجزائر في شهر إبريل 1939، وبالإضافة إلى ¬

_ (¬1) البصائر عدد 111، 29 أبريل 1938. انظر أيضا عدد 112، 113 من نفس الجريدة، عن الشيخ عبد العزيز بن الهاشمي ورفاقه، سيما عبد القادر الياجوري وعلي بن سعد، وما كتبه الشيخ ابن باديس عن أحداث سوف، انظر مقالتنا: (مجاهد من صنف آخر) فى مجلة الثقافة، 1995، وقد أحلت السلطة الفرنسية محمد الصالح بن الهاشمي مكان أخيه عبد العزيز على رأس زاوية عميش القادرية بعد أحداث سوف المشار إليها.

الجزائريين حضره من المغرب الأقصى عبد الحي الكتاني الذي سبق ذكره، ومن تونس الفاضل بن عاشور، والتبريزي بن عزوز، شيخ الزوايا بتونس، وكان حضور ابن عاشور بالطائرة قد جعل بعض الكتاب يعلق على ذلك بطريقة تهكمية، ومن ليبيا حضر وفد يمثل طريقة (طائفة) سيدي عبد السلام (السلامية؟) ولكنه جاء من مصر، لأن الخبر يقول إن إيطاليا لم تسمح لوفد طرابلس بالحضور، وكان المؤتمر برئاسة الشيخ مصطفى القاسمي أيضا. وكالعادة ذهب وفد من المؤتمرين لمقابلة الحاكم العام وتقديم فروض الطاعة لفرنسا، وعلى إثر المؤتمر نشرت الجرائد عريضة (رجال الدين والعلم) في تأييد الحكومة العامة بالجزائر، واعتبروا أنفسهم ممثلين لمشائخ الطرق ورؤساء الزوايا وعلماء الدين، والمتكلمين باسم أكثر من ثلاثة ملايين، وقد وضعوا ثقتهم في فرنسا وسياستها، وقرروا ما يلي: 1 - قطع الطريق على المشوشين والمغرضين، أعداء فرنسا في الجزائر (وهو ما كانت السلطة الفرنسية في الماضي تنسبه إلى أصحاب الطرق أنفسهم). 2 - على المسلمين (الجزائريين) (الثبات الراسخ على إخلاصهم لفرنسا، وتضحيتهم في سبيلها، ومحبتهم لها)، (واضح أن هذا هو الهدف من المؤتمر والعريضة، لأن هدف الإدارة هو توظيف سمعة شيوخ الطرق لصالحها أمام الخطر الألماني والإيطالي). 3 - تنبيه الجزائريين إلى أن قانون 8 مارس (1938) (لا يمس الدين الإسلامي بحال). وفي ذلك رد على جمعية العلماء المقصودة به، والتي جندت ضده إلى جانبها التيارات السياسية الأخرى، وقد لاحظت العريضة ردود الفعل القوية على ذلك القانون (القرار) عندما قالت إنه (صار مبعثا جديدا لزرع بذور الحقد السائد في الجزائر الآن). ذلك أن فرنسا لا تريد أن تواجه الخارج بجبهة مضعضعة من الداخل، وكأنها بهذه العريضة تريد التخفيف من وقع ذلك القرار (¬1). ¬

_ (¬1) البصائر، 5 مايو 1939. وقد نشرت العريضة في جريدة (لا ديباش ألجيريان) 19 =

وقد هاجم الإصلاحيون هذا المؤتمر ما داموا هم قد تحفظوا من اتخاذ موقف مشابه، كما ذكرنا، وحكموا على المؤتمر بأنه انعقد بوحي من الإدارة الفرنسية، وقد انتقدوا حضور الفاضل بن عاشور (ابن الشيخ الطاهر، شيخ جامع الزيتونة عندئذ) وإعلانه الولاء لفرنسا وتأييده للطرقية، ويبدو أن ابن عاشور حاول أن يمسك العصا من الوسط وأن يوفق بين الإصلاح والطرقية، ولذلك كانت محاضرته بعنوان (الوحدة الإسلامية)، ولكنه فشل في هدفه، حسب تعليق البصائر (¬1). والواقع أن الانتقاد كان مسلطا على الطرقية عموما باعتبارها أداة في يد الإدارة وليس ضد التصوف من حيث هو، وكانت الحركة الإصلاحية تنتقد أيضا العلماء الذين يفتون لهذه الإدارة بما تريد منهم لا ما يريده الدين أو ينص عليه، ويطول بنا الحديث إذا استعرضنا كل ذلك هنا، فهدفنا هو تقرير ما وصلت إليه الطرق الصوفية بعد مسيرة قرن من الاحتلال الفرنسي، وقد تناول هذا الموضوع معظم رجال الإصلاح الأوائل كابن باديس والإبراهيمي والعقبي والتبسي والميلي وأبي يعلى الزواوي، بل إن علماء من أمثال المجاوي وابن الموهوب وابن زكري قد تعرضوا له ولكن بشكل غير صريح صراحة رجال جمعية العلماء، ولعل العقبي والميلي والزاهري (قبل خروجه من الجمعية) كانوا من أوائلهم وأكثرهم تفرغا لهذا الموضوع. ثم تراجع الزاهري، وخفت حدة العقبي بعد 1936، ولكن كتاب الميلي (رسالة الشرك ومظاهره) يظل الوثيقة الأساسية في انتقاد الطرق الصوفية ووصف حالة التصوف عندئذ بطريقة هي أقرب إلى الموضوعية من خطب ومقالات زملائه، وفي المقابل ظهرت أدبيات أخرى أيضا اشتهرت منها جريدة (البلاغ) الجزائري بين الحربين، (وصوت المسجد) بعد الحرب العالمية الثانية، وكتاب من أمثال محمد العاصمي. ¬

_ = أبريل 1939. وهي طبعا موجهة إلى الرأي الحام الفرنسي والخارجي. ثم ترجمتها البصائر كاملة (انعقد المؤتمر بين 14 - 17 أبريل، 1939). (¬1) البصائر، 5 مايو، 1939.

وكان النقد غالبا موجها (للطرقية) دون تمييز، أي إلى الظاهرة في حد ذاتها باعتبارها مؤثرا اجتماعيا سلبيا ومعرقلا في مسيرة الإصلاح المنشود، ونظرا لعلاقة الطرق الصوفية بالاستعمار الفرنسي منذ تجريدها من سلاحها في فاتح هذا القرن وجعلها آداة في يد الإدارة، فإن الهجوم عليها كان (كاسحا) بالأولوية، وحتى الاستعمار نفسه، بقوانينه وتعسفاته، لم يحظ بمثل الهجوم الذي شن على الطرق الصوفية، ولعل الهجمة في الجزائر على هذه الظاهرة كانت أشد من غيرها في العالم الإسلامي (¬1)، نظرا لشراسة الاستعمار من جهة وسيطرة الطرق على عقول الناس من جهة أخرى، ففي غياب التعليم وفي ظل العزلة القاتلة حكم الفرنسيون على الجزائر بالإعدام المعنوي من خلال عدة ظواهر، ومن بينها توظيف الطرق الصوفية. ونادرا ما يذكر المهاجمون طريقة بعينها إلا العيساوية ربما، فقد انفردت أحيانا لشعوذتها وبهلوانيتها (ومثلها العمارية). وكذلك التجانية لغموضها وضلالتها و (إلحادها) على حد تعبير ابن باديس. فرغم دور التجانية في المغرب وفي غرب افريقية في مقاومة الاستعمار ونشر الدين الإسلامي، فإنها في الجزائر قد اعتبرت طريقة متسترة على فظائع الاستعمار، وقد لاحظنا ذلك في الجانب السياسي فيما مضى، أما الجانب العقائدي فقد ظهرت عدة كتابات في نقد بعض أذكار التجانية وما نسب إليهم من تفسير لبعض الآيات، وما نسب إلى شيخها من فتوحات وكشوفات لا تتلاءم مع التصوف السني، ومن تلك الكتابات النقدية ما ظهر في مجلة (الفتح) المصرية ونقلته عنها (الشهاب) (¬2). ومنها ما كتبه محمد الحجوي المغربي في مجلة (الرسالة) ضد التجانية، وقد تبنى ابن باديس ما جاء به الحجوي وتوسع فيه، فإذا بأحد المغاربة وهو الشيخ أحمد سكيرج يرد على ابن باديس معتبرا إياه (مهدم الطائفة ¬

_ (¬1) قد يشبهه في ذلك موقف أتباع محمد بن عبد الوهاب في الجزيرة العربية أول أمرهم. (¬2) الشهاب، 1939.

التجانية). ولم يكن ابن باديس فيما يبدو ضد الطريقة في حد ذاتها ولكن ضد أمور اعتبرها إلحادية وضالة ومنومة لأتباعها. وقد طلب من علمائها والمنتسبين إليها أن ينفوا ذلك عنها وأن يتبرأوا منه نفيا للتضليل في الدين، ولكنه قال إنه لم يتلق أو يقرأ بيانا في ذلك، إلا ما جاء على قلم سكيرج. قال الحجوي: (إن التجانية ليست كسائر الطرق بدعة وضلالة في الإسلام، بل هي هدم صريح وضد عتيد للإسلام ...). فأخذ ابن باديس هذه العبارات وأوضحها قائلا إنه صرح بما جمجم به الحجوي: (صرحنا فيه بذلك، وبيناه بدلائله، وبنينا كلامنا فيه على كلام الشيخ الحجوي، وطلبنا من جميع المنتسبين للتجانية أن ينفوا ما نسب إليها أو يتبرأوا منه، وتحديناهم في ذلك، فلم نر منهم جوابا من عالم إلى الآن)، ثم قال ابن باديس: (نعم، إن الحملة على الطرقية وبيان ضلالتها وفضح التجانية وبيان إلحادها، كل ذلك محمول على كاهلي ومربوط به رأسي، وإن كنت فيه كواحد من إخواني) (¬1). أما الشيخ أبو يعلى الزواوي فقد هاجم فكرة (المهدي) المنتظر من أساسها، واعتبر الإيمان بالعصمة والشعوذة من الضلالات، وقال إن ما جاء به ابن تومرت من مبدإ (الإمام المعصوم المهدي المعلوم) فكرة ملعونة، واعتبر هذه الدعوة التي جاءت في قواعد الدولتين الفاطمية والموحدية، دعوة المهدي والعصمة، إنما هي ضلالة ولعنة، وقد أخذها المتصوفة أيضا وبالغوا فيها، ولذلك سلط نقده العنيف على الطرقية وأدعياء العصمة في الشيخ، ¬

_ (¬1) البصائر، 3 مارس، 1939، كان ابن باديس يرد على راديو مونديال ووكالة هافاس لأنهما نقلا عن سكيرج أنه كتب كراسا في الرد على ابن باديس، ووصفا سكيرج بأنه من حملة الأقلام، وتساءل ابن باديس: (هل رأيتم آثار قلمه في نصرة حق أو مقاومة باطل أو إعلان فكرة أو تقرير مبدإ أو توجيه شعب ... غير ما يسوده من صحائف في طريقته الضالة من الكلام المعاد فيستدر بها أتباعها المنومين). كتب ابن باديس ذلك سنة قبل وفاته.

وقال إن الشيخ سعيد بن زكري (مدرس وإمام ومفتي) قد أيده فيما ذهب إليه (¬1). ولكننا لن نتتبع هنا كل الأدبيات المتعلقة بهذا الموضوع، فهي في الحقيقة تحتاج إلى معالجة منفصلة وهادئة في إطارها الحقيقي من تطور المجتمع الجزائري. وغرضنا الآن هو معرفة كيف انتهى مصير الطرق الصوفية. إنها لم تنته كما توقع الفرنسيون، ولم تتلاش، رغم الأدبيات التي صدرت ضدها، ورغم تطور المجتمع وظهور الحركات السياسية والإصلاحية وانتشار التعليم والوعي العام، ولكنها لم تبق كما كانت تخيف السلطة وتجند آلاف الجماهير، ونحن وإن كنا ننتهي بهذه الدراسة إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية فإننا نشير إلى أن ثورة نوفمبر قد جندت آلاف الإخوان الذين كانوا سابقا احتياطيين في الطرق الصوفية، وأن هذه الطرق في جملتها قد رأت في مجاهدي 1954، صورة لمجاهدي القرن الماضي الذين قدمتهم فداء لتحرير الدين والوطن، وإذا أخذنا بنظرية الدورة التاريخية لابن خلدون والتي طبقها أوغسطين بيرك على الحركات الدينية في الجزائر، فإنه يمكن القول بأن ثورة 1954 كانت إحدى الدورات - بعد الطرق الصوفية ثم جمعية العلماء - وإن الحركة الإسلامية التي ظهرت أخيرا ما هي إلا حلقة أخرى في هذه الدورة التاريخية، وقد رأينا في السنوات الأخيرة أيضا كيف انبعثت الطرق الصوفية من مرقدها نتيجة الضغط السياسي والانحراف الاجتماعي، لكن يجب ألا نضع كل الطرق الصوفية والمرابطين في كيس واحد، إن أصلها متشابه وممارساتها تكاد تكون واحدة، وأساليبها متقاربة، ولكن أهدافها ومواقفها ووسائلها قد اختلفت باختلاف رجالها وظروفهم، فمن الطرق الصوفية ما كافح بشتى الوسائل وكذلك المرابطون، ولكن الموجة كانت أعتى منهم، وقد ظلوا منطوين على أنفسهم ومخلصين لتراثهم النضالي فربوا جيلا على ذلك فكانوا الشرارة للثورة التي عرفتها الجزائر. وإذا بحث ¬

_ (¬1) الزواوي (الإسلام الصحيح). دمشق 1924، ص 92.

الباحثون مستقبلا عن أصول القادة والمناضلين البارزين فسيجدون منهم من كان له تاريخ طويل في النضال داخل الطرق الصوفية والحركة الدينية عموما، ولا ننسى أن بعض أصحاب الطرق قد اختار الهجرة، وهو موضوع لم نتناوله هنا، سيما من زواوة ومن تلمسان، كما هاجرت عائلات مرابطة إلى المغرب الأقصى من جهة معسكر. والتصنيف الفرنسي لدور الطرق الصوفية يصدق أحيانا إذا قيس بموجة الاحتلال نفسها، فهي قوية عاتية بين 1830 - 1860، ثم تأتي مرحلة المملكة العربية 1860 - 1870، حين تضاءل دور كبار الأعيان وحكام الخيام الكبيرة، ثم عادت قوة الاحتلال كأشد ما تكون بعد ثورة 1871 فضربت الجزائر في العمق، وتلا ذلك قوانين جائرة وتغييرات في البنية الاجتماعية، فكان رجال الزوايا والمرابطين والطرق هم الملجأ الآمن للناس، وكان صوتهم يمثله الشاعر الشعبي والمداح. ولكن ابتداء من فاتح هذا القرن غير الفرنسيون من تعاملهم وأخذوا في نشر التعليم بلغتهم وتقديم النخبة المتفرنسة، وتشجيع العلماء الرسميين على إعطاء الدروس العامة، ونشرت بعض الآثار والمخطوطات والصحف وفتحت النوادي، كل ذلك كان على أيدي الفرنسيين أنفسهم أو بتشجيع وإيعاز منهم، فإذا الطرق الصوفية تظهر وكأنها تخلفت عن الركب، وعندما ظهرت الحركة الإصلاحية في العشرينات والثلاثينات حاولت فرنسا بعث الحياة في الطرق الصوفية لتوازن بها (المتطرفين) دعاة الوهابية والعروبة والإسلام السلفي، حسب الدعوة الفرنسية، وقد رأينا أنه كان للطرق الصوفية والزوايا دور هام في حركة التعليم.

الفصل الثالث السلك الديني والقضائي

الفصل الثالث السلك الديني والقضائي

مدخل

مدخل نتناول في هذا الفصل موضوعين رئيسيين، وهما الديانة الإسلامية والقضاء الإسلامي، ونحن لا نميل إلى استعمال كلمة (الديانة)، ونفضل بدلها كلمة الدين، وهو الإسلام عند الله وعندنا، ولكن الفرنسيين أبوا إلا استعمال كلمة الديانة التي هي ترجمة للكلمة الفرنسية (Culte). وكذلك كنا نفضل إطلاق كلمة القضاء بدون إضافة، وهي معروفة، ولكن الاستعمال التاريخي والإداري جعلنا نتحدث عن القضاء الإسلامي في مقابل القضاء الفرنسي الذي استحوذ بالتدرج على كل اختصاص كان للقضاء الإسلامي ما عدا الأحوال الشخصية. مجال هذا الفصل إذن هو شؤون الديانة ورجال الدين ورجال القضاء واختصاصاتهم وأصنافهم ورواتبهم وأنشطتهم وأدوارهم وأوضاعهم مع السلطة الفرنسية، (رجال الدين؟) أليس القضاة أيضا من رجال الدين؟ ألم يكن المدرسون أيضا من رجال الدين؟ نعم، هو كذلك تاريخيا، ولكن الأوضاع انقلبت في العهد الفرنسي، كان الدين هو أساس كل التصرفات والوظائف الأخرى قبل هذا العهد، فالقاضي يمكن أن يكون خطيبا ومدرسا وإماما، والعكس صحيح أيضا، ومنذ الاحتلال تفطن الخبراء الفرنسيون إلى هذه العلاقات الوطيدة فعملوا على الفصل بينها، ونشأت بذلك ثلاثة اختصاصات، وسندرج في الفصل أيضا شؤون الحج وسير بعض رجال الدين والقضاء، ونختم بالحديث عن تدوين الفقه الإسلامي. إن هناك رجل الديانة (الدين الإسلامي) وهو الموظف الرسمي القائم

بأمر المسجد من صلاة وعبادة وفتوى وخطبة وحزب وأذان وجنائز وقراءة القرآن على الموتى، وما إلى ذلك. وهناك (المدرس) الذي احتفظ بلقب Mouderres حتى في الأدبيات الفرنسية، وهو ناشر العلم، وهو المعلم في المدارس والمساجد، وهو موظف رسمي أيضا، يعين بقرار حكومي، كرجل من رجال الديانة، ولكن المدارس قضى عليها الفرنسيون بالهدم ونحوه، فلم يبق إلا مدرسو المساجد (عدا مدرسي المدارس الرسمية الثلاث). وكان المدرس حرا في درسه يختار مادته كما يشاء، ولكن في العهد الفرنسي أصبح المدرس لا يدرس إلا أبوابا معينة من الفقه، والتوحيد، وأصبحت دروسه للعامة فقط وليست للطلبة والعلماء كما كان الحال في السابق، وبعد تنظيم دروس المساجد أوائل هذا القرن سمح للمدرسين أن يدرسوا مواد أخرى محددة كالنحو والصرف، ولكن للمترشحين للمدارس الفرنسية فقط وفي مراكز محددة، وغالبا ما كانت خارج المساجد، وألحق المدرسون حوالي سنة 1910 بسلك المعلمين وأخرجوا تماما عن السلك الديني. أما القضاء فقد أصبح وظيفا مستقلا عن الديانة والتدريس، لقد أصبح وظيفا سياسيا بكل معنى الكلمة، وكان القضاة قد بدأوا يمارسون نشاطهم الجديد في ظل المكاتب العربية، وهي مؤسسات عسكرية لإدارة شؤون الجزائريين في مختلف أنحاء المدن والقرى، كان القاضي تابعا ذليلا للعقيد الفرنسي الذي يترأس المكتب العربي. وكان القاضي مبغوضا في نظر المواطنين لأنه تابع لهؤلاء الحكام المستبدين ومنفذ لتعليماتهم، وكان هو تحت ضغط الحاجة والضمير والدين، بالإضافة إلى ضغط الفرنسيين الذين يشكون في نزاهة أحكامه وفي قدرته ويحيطونه بجهاز من الرقابة والتحقيق، ولذلك هاجر عدد من القضاة بعد أن تخلوا عن هذه المهنة الخطرة في تلك الظروف، وكان أجدادهم يعتذرون عنها حتى عندما كانوا مستقلين فيها لأنهم يعرفون أن معظم القضاة في النار، وأنها مهنة تورث أصحابها الهلاك وسوء المصير.

وهكذا مر القضاء الإسلامي في العهد الفرنسي بأطوار سنعرفها. ولقد أضعف الفرنسيون جهاز التعليم منذ البداية فأهملوا المدارس والمدرسين واستولوا على الأوقاف، ووضعوا أيديهم على المكتبات والكتب، وراقبوا مواد التدريس وتحكموا فيها، فكان التعليم (التدريس) أول ضحية لإدارة الاحتلال التي شعرت بعدم الحاجة إليه مطلقا ما دام يتعلق بالمسلمين. بينما تحكم الفرنسيون في شؤون الديانة وحاولوا أن يجدوا موظفين يواصلون الصلوات بالناس ويقرأون على الأموات ويباركون أو يبررون الأعمال التي تقوم بها الإدارة، وكان قادة الفرنسيين يعتقدون أنهم بذلك قد حافظوا على (الدين المحمدي) كما نص عليه اتفاق يوليو 1830، فكأن الدين الإسلامي عندهم هو فقط الصلوات وأوجه العبادات الأخرى، وقد استغلوا هذا السلك استغلالا شنيعا حتى كانوا لا يعينون فيه إلا من لا يروف خطرا عليهم، وهم أضعف رجال الدين وأكثرهم انقيادا، وبالتدرج انقرض هذا الجيل وجاء بدله جيل آخر تخرج من المدارس الشرعية الفرنسية الثلاث التي كان التعليم فيها موجها ومتواضعا سيما أمام انحطاط الوضع الثقافي وإهمال التعليم العمومي. وهذه المدارس الشرعية - الفرنسية هي التي أصبحت تخرج القضاة أيضا على المقاس الفرنسي، وأول شروط هذا المقاس هو معوفة الفرنسية وشيء من الفقه على قواعد مختصر الشيخ خليل والرسالة لأبي زيد القيرواني، وشيء من النحو في مستوى الآجرومية وقطر الندى، أما القاضي المتعمق في التراث الفقهي والعارف بالتفسير والحديث وأصول الفقه والمذاهب الإسلامية، والدارس للتاريخ الإسلامي والمدارس الفكرية فيه، فلا حديث عنه في العهد الفرنسي إلا ما شذ وندر وبجهود شخصية محضة، ثم إن هؤلاء القضاة قد سلبوا من اخمصاصهم من قبل القضاة الفرنسيين، فلم يعودوا مؤهلين للحكم في الجنايات ولا في المسائل التجارية ولا حتى في

التركات إلا إذا كان المبلغ كذا وكذا. إن الفرنسيين كانوا يبحثون عن الأداة الاستثنائية، كما قالوا هم عن حسن بن بريهمات، وليس عن العالم الكفء المستقل بعلمه، كان يهمهم الشخص الطيع المنقاد الطماع الذي لا يهمه دين ولا ملة بقدر ما يهمه الجيب وإرضاء الأسياد، وقد أحس بعض الفرنسيين بذلك بعد حين وعلموا أن ذلك النوع من الناس يضرهم ولا ينفعهم على طول المدى، وأحس بعضهم بالندم على توظيف غير المؤهلين والجشعين والانتهازيين وضعاف العلم والنفس، ولكن الندم لم يعد يفيد، يقول أوغسطين بيرك، وهو الذي قضى معظم حياته في خدمة الإدارة الفرنسية في الجزائر مختصا بشؤون (الأهالي). يقول سنة 1949 عن (غلطة فرنسا الكبرى) في هذا المجال: إن الخطأ الثقيل الذي ارتكبناه في سياستنا الدينية ... هو تساهلنا مع رجال رسميين جهلة وشرهين بدون ثقافة، وكل مؤهلاتهم هي ضحالتهم .. لقد رأينا أحد المفتين يطلب معلومة عند الشيخ الطيب العقبي حول طفل قطعه الأطباء مائة قطعة، وكثر الجدل حوله، ولكن هذا المفتي كان مخبرا للشرطة، ورأينا أكثر من موظف رسمي من هذا الصنف وهو يلقي خطبة في أحد المؤتمرات فأثار الضحك والسخرية بين علماء المغرب وتونس، إن هذا العالم الرسمي كان حلس مكاتب الشرطة أيضا، وكم من حزاب رأيناه لا يكاد يعرف مبادئ القرآن ويرتكب أخطاء فظيعة لا يقبلها حتى أكثر المسلمين تخلفا، لكن هذا الحزاب كان عميلا انتخابيا Agent Electorat. وقد ختم بيرك ملاحظته بقوله: إننا بذلك عجلنا بتدهور أصحاب الديانة الإسلامية التابعين لنا، إنها غلطة لا يمكن أن تغتفر، وها نحن ندفع اليوم ثمنها غاليا، لقد كان بيرك يكتب عن ذلك ليستنتج منه نتيجة وهي نجاح جمعية العلماء على حساب رجال الدين الذين وظفتهم فرنسا (¬1). ¬

_ (¬1) أوغسطين بيرك (أساري الألوهية ...) في مجلة البحر الأبيض المتوسط، م. 15، 1951، ص 425.

ولعل أبلغ من ذلك قول (مجلة العالم الإسلامي) سنة 1910، والمقال ربما كان من تحرير مديرها عندئد (لوشاتلييه) الذي لم يوقع اسمه. يقول صاحب المقال: إن فرنسا قد اصطنعت في الجزائر (إسلاما) فريدا خاصا بهما، كما اصطنعت له رجالا من نوع خاص، وكل هذا الاصطناع جاء عن طريق اضطهاد المؤسسات الإسلامية، إن فرنسا قد دخلت إلى إفريقية الإسلامية عن طريق الجزائر. وخلال ثمانين سنة اصطنعنا إسلاما فذا في العالم، بدون أوقاف، وبمساجد إدارية، وأهل دين ورعين Dévôt Résansés، وقضاة موظفين، وحج برخصة، وها نحن نصوغ الآن (كودا) لقيطا من إنتاج الفقه الإسلامي والقانون الفرنسي (¬1). إننا خلال 40 إلى 50 سنة من الحملات والجيوش يمكننا أن ننسب نصفها على الأقل إلى اضطهاد المؤسسات الإسلامية، إنه لا يمكن الآن الرجوع إلى الوراء لكي نؤسلم الجزائر من جديد، إن الإساءة قد وقعت (¬2). والواقع أنه منذ 1833 أخبرنا حمدان خوجة بأنه لم تبق للعلماء جرأة أمام الحكام الفرنسيين المتغطرسين، فالعلماء لا يقولون ما يغير مزاج هؤلاء الحكام، لأن نفي القاضي وقع بدون وجه حق، وأن كلوزيل Clauzel نفى المفتي - شيخ الإسلام - بعد أن ادعى عليه دعوات ونصب له حيلا، وقال خوجة معلقا على هذا الوضع: إن علماءنا يفنون شبابهم في العلم في الجوامع، وكانوا لا يختلطون بالناس، ولا علم لهم بالشؤون السياسية، ولا مخالطة لهم مع الملوك والسلاطين، فإن قالوا أو سكتوا عن خوف حكم عليهم بالنفي أو الحبس (¬3). وفي هذا الجو إذن نشأت الهيئة الدينية (الإسلامية) التابعة للإدارة الفرنسية. ¬

_ (¬1) يشير بذلك (Code) إلى مسألة تدوين الفقه الإسلامي، وكانت شهيرة عند كتابة المقال (1910). (¬2) مجلة العالم الإسلامي R.M.M، (سبتمبر - 1910) ص 79 - 80. (¬3) خوجة، عن قنان (نصوص). ص 59.

الهيئة الدينية

الهيئة الدينية وجد الفرنسيون ساعة الاحتلال هيئة دينية قائمة الذات، وكانت تتألف من العلماء الذين يشملون القضاة والأيمة والمفتين والمدرسين، الخ، وكان على رأس هؤلاء (شيخ الإسلام). الذي كان مقدما عن جميع العلماء، وكان في المراسيم الرسمية يقدم على غيره احتراما للدين والعلم، وللعلماء مجلس أعلى يعقد أسبوعيا للنظر في القضايا الشائكة أو المعلقة التي لم يستطع القضاة أن يجدوا لها حلا، وكان يحضر هذا المجلس المفتون والقضاة وكبار العلماء والداي أو ممثله، وفي عاصمة كل إقليم (قسنطينة، وهران بالخصوص) مجالس مشابهة، وفي قسنطينة بالذات كان منصب شيخ الإسلام منحصرا في عائلة الفكون منذ القرن العاشر الهجري، وكان مقدما على جميع العلماء وله مكانة روحية وسياسية يستطيع بها أن يسقط البايات وأن يحمي الهاربين إليه من الحكم بالإعدام، وبالإضافة إلى ذلك كان شيخ الإسلام معفي من الضرائب وكل الالتزامات المالية (¬1). هذا الوضع كان يعرفه الفرنسيون جيدا عند الاحتلال، وقد عنوه، كما عناه الداي، عندما وقعوا اتفاق 1830 الذي نص على حرية العقيدة وعلى احترام الدين الإسلامي والمساجد، الخ، ولكن ذلك الاحترام لم يدم طويلا، وكان الاتفاق المذكور، كما قال عنه كلوزيل، وهو يرد على حمدان خوجة، مجرد (لعبة حرب) في نظرهم، وهكذا بقي الإسلام تحت النفوذ الفرنسي، مضطهدا أكثر من قرن، كما قال ماسينيون (¬2). ومن أوائل ما فعل الفرنسيون هو نفي (شيخ الإسلام) وهو محمد ابن العنابي، وإلغاء هذا المنصب سنة 1830، كما أن وظيفة شيخ الإسلام قد ألغيت في قسنطينة منذ احتلالها سنة 1837، وكان آخر من لقب بذلك هو محمد الفكون الذي كان عمره ثمانين ¬

_ (¬1) انظر كتابنا (شيخ الإسلام، عبد الكريم الفكون). بيروت، 1986، وكذلك (رائد التجديد الإسلامي: ابن العنابي). ط 2، 1989. (¬2) ما سينيون (الحولية). باريس، 955 1، ص 234.

سنة عند احتلال المدينة. وقد أحس بعض الفرنسيين بالخطأ الذي ارتكبته بلادهم - في حق نفسها - بإلغائها وظيفة شيخ الإسلام، لأنه كان بإمكانه أن يفيدها في العالم الإسلامي، وأن يكون صاحب سلطة مركزية لأهل الدين في الجزائر، ومن خلاله كان يمكن لفرنسا أن تحصل على الفتاوى والآراء التي تحتاجها، كما كان يفعل حكام الدولة العثمانية ومصر والمغرب الخ، إذ كان لهؤلاء مرجع في الشؤون الدينية، وأما في الجزائر فليس للديانة مرجع أو رأس منذ الاحتلال، فكل إمام أو مفتي أصبح مستقلا في وظيفته في مسجده ولا يخضع إلا للسلطة الإدارية الفرنسية التي يقع مقر إقامته فيها، ومن رأى بعض الفرنسيين أيضا أنه لو حافظت فرنسا منذ البداية على منصب شيخ الإسلام لما تطورت الحياة الدينية في الجزائر على النحو الذي تطورت به، من ظهور حركة الجهاد بقيادة الأشراف ورجال الطرق الصوفية والمرابطين، بطريقة فوضوية، ولو فعلت فرنسا ذلك لاستطاعت أيضا أن تعزل مسلمي الجزائر عن إخوانهم مسلمي المشرق، لأن صاحب منصب شيخ الإسلام، سيكون في نظر هذا الفرنسي، من صنيعة فرنسا وتحت تصرفها، ولكان عليها أن تفعل ما فعله سلاطين المغرب الإسلامي بعد انفصالهم عن خلفاء بغداد ودمشق، وكان صاحب هذه الفكرة قد طرح اسم شيخ الطريقة التجانية (سنة 1884) كمرشح لهذا المنصب الأداة (¬1). ولكنه مع ذلك رأى أن الزمن قد فعل فعله وأن الفكرة قد تكون خيالية. اكتفى الفرنسيون بالإبقاء على منصب (المفتي). وفي المدن الرئيسية أبقوا على مفتي للمذهب المالكي وآخر للمذهب الحنفي، وكان المفتي يمثل اللقب الأكثر رفعة واحتراما نظريا، وهو في نظر المسلمين العالم الذي يجمع بين العلم وسعة الأفق والتدوين والمعرفة العميقة بالعلوم الإسلامية والعلوم ¬

_ (¬1) انظر فصل الطرق الصوفية، الطريقة التجانية، والرأي طرحه الضابط لويس رين صاحب كتاب (مرابطون وإخوان).

العربية، بالإضافة إلى التوازن في الرأي والأخلاق الكاملة والنزاهة، ومن للجزائر بذلك الرجل في العهد الفرنسي؟ إن المفتي في نظر الفرنسيين هو مجرد (رجل ديانة) ويحمل لقب المفتي شرفيا فقط، وهو لقب أعطته له فرنسا التي تختاره عادة من بين الأئمة البارزين، ويقول السيد لويس رين: إن لقب المفتي في البلاد الإسلامية يتجاوز لقب القاضي، ولكنه في الجزائر مجرد لقب شرفي. وللمفتي دائرة تصرف محددة، فهو الذي يشرف على الأئمة في دائرته أو مدينته، وهو (رئيس الديانة) كما يقولون، وليس للمفتي يد على الإمام الواقع خارج المدينة أو الدائرة المحددة له، فالإمام هنا يصبح مستقلا تماما عن المفتي، ولا وجود لسلالم إدارية بينهما، لا دينيا ولا إداريا، وكل من المفتي والإمام تختاره السلطات الفرنسية مبدئيا من بين المتعلمين ومن بين الشخصيات التي انحازت للقضية الفرنسية، كما يقول رين (¬1). وما دام المفتون مرتبطين بالقضية الفرنسية فإنهم كانوا ناعمين في مواقفهم من القضية الوطنية والدينية، وكانوا، كما قال خوجة، قد فقدوا الجرأة والغيرة الدينية مع الأيام، فلم يكونوا ليرفضوا للفرنسيين طلبا أو يواجهوهم برأي، وتصفهم بعض المصادر بأنهم كانوا أكثر من مدجنين، لقد كان فيهم حتى المتفرنسون جدا، على حد تعبير رين، وكانوا يعرفون أنفسهم أنهم تحت رحمة الإدارة الفرنسية، هي التي توظفهم وتدفع إليهم الأجور، ولم يعد حالهم كحال أجدادهم يعيشون من مصادر الأوقاف بعيدين عن سلطة الحكام، ولذلك وصفوا (بالشجاعة) أيضا، لأنهم في موالاتهم للفرنسيين كانوا يغضبون مواطنيهم ويثيرون الشكوك من حولهم، وكان هؤلاء (الشجعان) المتفرنسون جدا، يستضيفون، سيما في المدن الساحلية، الشخصيات الفرنسية وعائلاتهم لحضور الحفلات الاجتماعية والمواسم ¬

_ (¬1) لويس رين (مرابطون وإخوان). مرجع سابق، ص 9. وكذلك لويس فينيون (فرنسا في شمال إفريقية). ص 246.

الإسلامية في المساجد الرئيسية، وكان ذلك تطوعا منهم، كما كانوا يأتون أيضا لحضور الصلوات الدينية الكاثوليكية والمناسبات الرسمية، ويحضرون إنشاد (التوديم) Tedem، والقداسات الكنسية عند الدفن، أو عند زواج الفرنسيين الذين يعرفونهم (¬1). ولا شك أن الفرنسيين كانوا يعتبرون ذلك تحررا وليبرالية من هؤلاء الأئمة والمفتين. ويسري هذا التوظيف أيضا على القضاة والمدرسين، وقد ذكرنا أن اهتمام الفرنسيين الأول كان لإدارة القضاء، أي بتعيين شخصيات دينية في مناصب الحكم بالشريعة تحت الإدارة الفرنسية، وكان هؤلاء أيضا موظفين مأجورين بعد أن كانوا يعيشون من مال الأوقاف ومستقلين، وسنتحدث عنهم بتوسع في فقرة أخرى، أما المدرسون فقد أهملت وظيفتهم لعدم الحاجة المستعجلة إليهم بالنسبة للفرنسيين ولأنهم عبء على ميزانية الإدارة بعد اغتصاب الأوقاف، ويهمنا من الصنفين: القضاة والمدرسون، أنهم أصبحوا بحكم الوظيف الرسمي منبوذين عند الأهالي وغير موثوق فيهم، فهم أيضا كانوا من الهيئة الدينية الجديدة (¬2). من الناحية الرسمية والشكلية أيضا، اتخذت منذ أول جمعة بعد الاحتلال صيغة دعاء حذف منها اسم السلطان العثماني الذي كان دعاء صلاة الجمعة باسمه، ففي الخميس الأول بعد الاحتلال اجتمع مجلس من العلماء ورجال الدين في المدينة، بطريقة تلقائية، حسب رأي رين، وذلك لدراسة موضوع صلاة الجمعة والدعاء فيها، وبعد مداولات طويلة، انتهوا إلى الصيغة التالية في الدعاء دون الإشارة إلى اسم السلطان: (اللهم أيد من أيد الملة الحنيفية، وأحيي قلب من أحيى السنة النبوية، ونجنا من الفتن الدنياوية والأخراوية، إنك على كل شيء قدير)، وقد قدمت هذه الصيغة إلى قائد الحملة الفرنسية، بورمون Bourmont، فوافق عليها، وقد استمرت هذه ¬

_ (¬1) رين، مرجع سابق، ص 9. (¬2) ديبون وكوبولاني (الطرق الدينية ...) مرجع سابق، المقدمة، ص 9، وكذلك هنري قارو (الحركة الإسلامية) في S.G.A.A.N، 1906، ص 178.

الصيغة إذ وافق عليها أيضا بقية الحكام العامين باسم فرنسا، وجعلوا هذا النص رسميا حتى بعد تغيير النظم السياسية الفرنسية (ملكية، جمهورية، الخ ..) ويعترف رين أن بعض (المتعصبين) الجزائريين كانوا يدعون في الصلاة إلى السلطان فتقوم السلطات الفرنسية بمعاقبتهم، هم والمتواطئون معهم، على هذه التظاهرات المعادية لفرنسا، في نظره، وكان الفرنسيون يعرفون أن ذلك نوع من أنواع المقاومة للاحتلال. ومن جهة أخرى كانت (الفاتحة) تضاف إلى صلاة الجمعة بمناسبة بعض المواسم الفرنسية أيضا، كطلب الغفران، و (التوديم) الخ، وذلك بأمر يصدر من الحاكم العام، وقد استندوا في ذلك إلى أن الفاتحة هي التي تقرأ في الاحتفالات العامة في الدول الإسلامية، ولكن شتان بين المقامين، وكان الإمام يدعو قبل ذلك بالدعاء التالي: اللهم أيد حكومة فرنسا المباركة La Fortunè. ويذهب رين إلى أنه لم يصدر نص رسمي في ذلك (¬1). واعتقد بعض الحكام الفرنسيين في الجزائر أنهم يمثلون شعبأ مسلما، فقلدوا الحكام المسلمين أيضا في صيغة الأختام والطوابع التي يختمون بها أوامرهم ونواهيهم، وأول من فعل ذلك هو الماريشال بوجو سنة 1843، فقد أخذ برأي مستشاريه الذين نصحوه بتقليد الحكام والأمراء المسلمين في مصر وتونس والمغرب الأقصى واسطانبول، وكذلك دايات الجزائر السابقين، وذلك بطبع ختم يحمل عبارات دينية وحكمة عقلية، ولعل بوجو كان في ذلك منافسا للأمير عبد القادر الذي جعل ختما فيه العبارة التالية: (ناصر الدين عبد القادر بن محيي الدين)، ثم قلده من جاء بعده من الحكام الفرنسيين، ومنهم أمير البحر ديقيدون، ولويس تيرمان، وجول كامبون، وليبين وجونار، وكان الختم مكتوبا بالعربية المسجعة عادة مع اسم الحاكم العام، وهو عادة يحمل تاريخ التولية، وفيه الهلال والنجمة في غالب الأحيان ¬

_ (¬1) رين، مرابطون، مرجع سابق، ص 11 - 12، بقي الدعاء في الجهة الشرقية من الجزائر للسلطان العثماني، وفي الجهة الغربية للأمير عبد القادر ولسلطان فاس، إلى أن وقع احتلال تلك الجهات أيضا.

بالإضافة إلى الزخرفة العربية، أما أشكال الختم فكلها دائرية وإنما التصرف يكون داخل الدائرة حيث يتفنن الفنانون في تنميق الكلمات والسطور حسب المساحة، فأحيانا يكتبون العبارات في أربعة سطور وأحيانا في خمسة سطور، وكذلك حسب الشكل والمساحة المتوفرة، وكلمة الجزائر تكتب أحيانا (الجزائرية) وحدها، أي الحكومة أو الولاية، وأحيانا تكتب مسبوقة بكلمة عمالات وأيضا ولاية في بعض المرات، مع ملاحظة أن تواريخ التولية كلها بالأرقام العربية - الهندية المستعملة الآن في المشرق. وهكذا كان اسم ليبين مكتوبا: (الواثق بالمعين، عبده ليبين، وإلى عموم قطر الجزائر، وقاه الله سوء الدوائر، سنة 1897). والختم دائري كبير، والكتابة في خمسة أسطر، وتحيط بالدائرة زخرفة عربية وأهلة ونجوم. وجاء ختم جونار حاملا العبارة التالية: (الواثق بالفاعل المختار، عبده جونار، سنة 1900، وإلى عموم الجزائرية، حفظه الله في السر والعلانية). وفي أعلى الختم هلال ونجمة، والكتابة في أربعة سطور ضمن شكل هلالي وتحيط بذلك زخرفة عربية. وعبارة ختم ريفوال هي (المعتصم بذي الجلال، عبده ريفوال، سنة 1951، وإلى عموم الجزائرية، صانه رب البرية). والكتابة في أربعة أسطر، داخل نجمة مثمنة الشكل، وجزء من الكتابة داخل شكل هلالي في سطر واحد، مع دائرة مزخرفة. وختم لافيريير هو (الواثق بالقدير، عبده لافيريير، وإلى عموم الجزائرية، حفظه الله في السر والعلانية، سنة 1898). وكتابته في خمسة أسطر، وسط دائرة، والبقية مثل ختم ليبين. أما ختم جول كامبون فيحمل هذه العبارة: (الواثق بمن أمره بين الكاف والنون، عبده جول كامبون، سنة 1891، الوالي العام بالولاية الجزائرية، حفظه الله في السر والعلانية). والختم دائري الكتابة، ما عدا الاسم والتاريخ، وكلها جاءت في ستة سطور، والإشارة بالكاف والنون إلى كلمة

(كن). فعل الأمر من كان، والمقصود به الله جل جلاله. وكان ختم لويس تيرمان يحمل العبارات التالية: (الواثق بالرحمان، عبده لويس تيرمان، سنة 1882، الوالي العام بالعمالات الجزائرية، حفظه الله لحفظه المكنون). والسجع هنا غير وارد في العبارة الأخيرة، وكلمة لحفظه موجودة كذلك، وهي تعني (بحفظه). والختم غير مزخرف. وأما ديقيدون فقد اختلف ختمه عن المتأخرين ولا ندري أختام من سبقه لنقارنها به، خالف أولا بوضع كلمتين لاتينيتين داخل الختم، وهما كلمة Evince أو (النصر) وكلمة Eguida أو (القوة). وخالف ثانيا بعدم ذكر اسم الجزائر في الختم ولا ما يدل عليها، وخالف ثالثا في كونه وضع في الختم رسم جهاز رسو السفن وصورة الأسد والصليب ... وأما العبارة العربية الواردة في الختم فهي (المتوكل على مولاه في السر والجهر، والي الولاية الكونت ديقيدون أمير البحر) (¬1). ولا شك أن اختيار العبارات الدينية والكتابة بالحروف العربية واستعمال السجع كلها تدخل في التقرب إلى نفوس الجزائريين ظاهريا، ولعلها تدل على أن الفرنسيين قد ظلوا عمليا ينظرون إلى الجزائر على أنها بلاد إسلامية مستعمرة، رغم أن دستورهم يقول إنها جزء لا يتجزأ من فرنسا، فالحكام في فرنسا نفسها لا يستعملون اللغة العربية والعبارات الدينية الإسلامية من مثل: الواثق بالقدير، والمتوكل على مولاه في السر والجهر، والمعتصم بذي الجلال، والواثق بالرحمان، وحفظه الله في السر والعلانية .. وقد كانت الهيئة الدينية في الجزائار تتأثر بذلك، وكانت تنقل ذلك التأثر إلى غيرها. ونرى من الضروري أن نذكر عناية الأمير عبد القادر بالشؤون الدينية ¬

_ (¬1) ن. لاكروا (عن الأختام والطوابع عند المسلمين) في المجلة الإفريقية، R.A، 1910، ص 201 - 224 (مع صور واضحة للأختام التي ذكرناها، ودراسة تاريخية عن الأختام عند المسلمين).

ومناسباتها منذ تأسيسه أول دولة جزائرية في العصر الحديث قائمة على مبادئ الشريعة الإسلامية، وقد شهد الفرنسيون الذين حضروا احتفالاته بالمناسبات الدينية بأنها كانت مثالا في الاهتمام والبساطة أيضا، وقد رتب الأمير الوظائف الدينية وكانت بلا أجر، وكان هو الذي يعين الإمام والقاضي، غير أنه جعل للقضاة راتبا، كما سنرى، ليكفيهم الطمع في حاجات الناس، فالمؤذن والإمام كانا بدون أجر، وفي أغلب الأحيان ليس هناك جامع مبني وإنما هناك خيمة كبيرة تقام فيها صلاة الجمعة وهي خيمة الإمام، وكانت خطب الجمعة تحث على الجهاد وتذكر المصلين بالآيات التي تنص على مجالدة الغزاة، وكان منصب الإمامة شرفيا فقط، ولا يعهد به إلا لمن عرف بالصلاح والتدين والعلم والنزاهة، أما عند سماع الأذان اليومي (الصلوات الخمس) فإن الناس يصلون حيث كانوا جماعة أو فرادى (¬1). ونلاحظ أن هذه الطريقة جديدة في القيام بالوظائف الشرعية، فهي قبل كل شيء عمل تطوعي وفرض كفاية، وهي وظائف لا تغطيها أموال الأوقاف، كما كان الحال في العهد العثماني ولا أموال الدولة كما أصبح الحال في العهد الاستعماري، ذلك أن الهيئة الدينية (الكليرجي) التي أنشأتها فرنسا أصبحت معتمدة كل الاعتماد على الحكومة الفرنسية في الحركة والسكون وفي المعيشة، ومن ثمة فقدت استقلاليتها وحريتها. وللإمام في زواوة عشية احتلالها، وظائف عديدة، وهو يتقاضى عليها مالا من أهل القرية، وهو عندهم يسمى المرابط أيضا، فهو الذي يؤمهم في الصلاة، ويحضر المناسبات الدينية والاجتماعية كعقود الزواج والولادات والجنائز، وهو الذي يقوم بتعليم الصبيان القرآن ومبادئ الدين والقراءة والكتابة في مدرسة خاصة، ومن مهمات الإمام أيضا الكتابة لأمين الجماعة، فكل محررات أو محاضر الإدارة تصدر عن الإمام، وإذا خلت قرية من مرابط ¬

_ (¬1) قوستاف دي منوار، مذكرة نشرها مارسيل ايمريت في (المجلة الإفريقية). 1900، ص 151، عدد 442.

تختار الجماعة الإمام، وكانت الإمامة وراثية في بعض العائلات الدينية، رغم وجود متعلم أفضل من الوارث، والمرابطون هم الذين يختارون الإمام سواء منهم أو من خارجهم، وإذا كان وارث منصب الإمام رجلا أميا بالميلاد فإن الجماعة هي التي تختار مرابطا متعلما ليتولى الإمامة. وفي مقابل الوظائف المذكورة يتلقى الإمام من القرية مبلغا ماليا، وله الحق في السكنى إذا كان غريبا عن القرية، وله الحق أيضا في الحطب للتدفئة، والماء الذي يكفيه لعائلته، ومن واجبهم أيضا تقديم بعض الهدايا إليه من قمح وشعير وتين وزيت، كل حسب طاقته، وللإمام المعلم فوائد إضافية، وهو يتمتع بالحصانة والاحترام (¬1). ومن المفهوم أن التوظيف الرسمي، وتقاضي الأجور من الإدارة الفرنسية، ثم هذه التبعية الناعمة لرجال الدين (الفقهاء/ العلماء) هي التي جعلتهم لا يقنعون مواطنيهم بنزاهتهم وخدمتهم للدين، وسيتأكد الفرنسيون من أن سياستهم تلك قد أدت إلى تخلي المسلمين عن الهيئة الدينية الرسمية والاتجاه نحو المرابطين المقاومين في البداية ثم نحو الطرق الصوفية كبدائل لرجال الدين، فقد كان علماء الإسلام يعتبرون حراس الدين وحماته و (مصابيح الظلام) وأهل العلم والحكمة، أما في العهد المدروس فقد أصبحوا أدوات في يد السلطة الفرنسية تقؤلهم ما تشاء وينطقون باسمها ما تريد، ولم يكن يشاطرهم في سمعتهم ومكانتهم سوى رجال التصوف والمرابطين، وقد أدى تعاون فرنسا ورجال الدين الرسميين إلى ابتعاد الناس عنهم، وهكذا بقيت (الهيئة الدينية) بدون نفوذ ولا تأثير، وكان دورها يقتصر على إقامة الصلوات الخمس وأداء الجمعة والأعياد، دون أن ينسوا أنهم موظفون رسميون ماجورون من قبل الإدارة الفرنسية. ولعل أول وثيقة صدرت عن رجال الدين بالمعنى الذي نقصده، وقبل أن تتبلور الأمور، هي النداء الذي صدر عن القاضيين والمفتيين سنة 1830 - ¬

_ (¬1) هانوتو ولوتورنو (بلاد القبائل). 1/ 36 - 37.

أسابيع فقط بعد احتلال العاصمة - والموجه إلى سكان متيجة والمدية، بمناسبة خروج قائد الحملة للنزهة والتفرج، حسب تعبيرهم، ونحن نعلم أن كلا من بورمون وكلوزيل قد حاول فك الحصار المضروب على العاصمة والخروج نحو الجنوب لاكتشاف المواقع ولاختبار إرادة السكان الذين قاطعوا أسواق المدينة والتعامل معها بعد احتلالها، فالخروج لم يكن للنزهة والتفرج وإنما كان للاستكشاف وجس النبض. صدر النداء المذكور من المفتي (شيخ الإسلام) محمد ابن العنابي قبل الحكم عليه بالنفي من كلوزيل، والمفتي المالكي علي بن محمد المانجلاتي، والقاضي الحنفي الذي لم يذكر اسمه في الوثيقة لأن بورمون قد نفاه، والقاضي المالكي مصطفى بن محمد، وهو هنا ابن الكبابطي الذي سيتولى الفتوى مكان المانجلاتي بعد وفاته، وسيكون مصيره النفي أيضا على يد بوجو سنة 1843 (¬1). وبذلك يكون أصحاب هذا النداء الثلاثة قد نفاهم الفرنسيون، أما الرابع فقد توفي طبيعيا، والنداء قد أعلن للسكان أن القائد الفرنسي سيتوجه إلى متيجة والمدية دون نية له في الحرب ولكن للتعامل وشراء البضائع، وأن على السكان ألا يواجهوه بالحرب، لأنه، إذا فعلوا ذلك، سيحاربهم دفاعا عن نفسه، واستشهد هؤلاء العلماء خطأ بالآية الكريمة: {وإن جنحوا للسلم فاجنح لها}. وقد تبين أنهم كانوا مخطئين في قراءتهم لنوايا الفرنسيين، فهؤلاء كانوا ينوون الاطلاع على عورات المسلمين ونقاط ضعفهم وجلب المواد الغذائية، ومن ثمة معرفة القوة والضعف لكي يتوسعوا بعد ذلك في الاحتلال، والدليل على ذلك أنهم أرسلوا أسطولهم إلى كل من وهران وعنابة أيضا في نفس الوقت، وأنهم حولوا النزهة إلى غزوة في كل من البليدة والمدية، وكم من مرة استعمل علماء المسلمين والعرب في العصر الحاضر الآية المذكورة غفلة منهم أو تضليلا لشعوبهم، لأن شروط الجنوح إلى السلم معروفة، وهي غير متوفرة. لقد احتج علماء سنة 1830 بحسن نية القائد الفرنسي، وكونه حلف ¬

_ (¬1) عن الكبابطي انظر دراستنا عنه في كتابنا (أبحاث وآراء ...) ج 2، ط. بيروت، 1992.

بالإيمان المغلظة، ووضع ختمه الخ، ولو علموا ما في الصدور لما تعهدوا أمام مواطنيهم طالبين منهم السلم (والصلح خير) ولما أوقعوا بأنفسهم في هذه الورطة أو الغلطة، يقول النداء: (إلى إخواننا المسلمين في البلدان والقرى من عرب وأتراك وقبائل ... أما بعد اعلموا .. أن الجلنار، السر عسكر (¬1)، الذي ملكه الله بلادنا بحكمه النافذ وتقديره السابق (¬2)، قد علمنا منه وتحققنا أن خروجه إلى ناحيتكم لم يكن بقصد حرب ولا قتال، وإنما هو بقصد الاستيلاف (¬3) والتفرج وإعانة الضعفاء، وأنه يسالم من يسالمه، ويحسن إلى جميع من لقيه بغير سلاح، ويعطي ثمن كل ما يشتريه، ممن يأتيه به بثمن يرضيه، وأعطانا عهد الله وميثاقه على ذلك بإيمان مغلظة بحيث لم يبق لنا شك في ذلك، قال الله تعالى: {وإن جنحوا للسلم فاجنح لها، وتوكل على الله}. ونصيحتنا لجميعكم هي أن تجنحوا إلى ما أمر الله، وصونوا دماء المسلمين، ونحن نضمن لكم أن لا يعتريكم منه في خروجه هذا ما يضركم، لا فرق في ذلك بينكم وبين من بالمدية، فإنه آمن على نفسه وبلاده وعساكره ما لم يتعرض لمكروه، فأما من شهر السلاح وأراد الحرب منكم فوباله على نفسه (¬4). والسر عسكر مجبور (عندئذ) على مدافعته ومقابلته بالحرب، (والصلح خير). وكل حد (أحد؟) مقرر على دينه (¬5) وأملاكه وما تحت حوزه، وهذا ختمه وطابعه مقرر لما أعلمناكم به) (¬6). ¬

_ (¬1) الجلنار هو الجنرال أو اللواء. والسر عسكر هو القائد العام للجيش. (¬2) هذا التعبير فيه استخذاء وتواكل، ويعني أن الله تعالى قدر بأن تقع الجزائر في أيدي الفرنسيين، إنه (مكتوب). كما أصبح التعبير الشائع، فلا داعي للمقاومة. (¬3) كذا (الاستيلاف) وليس لها معنى إلا كونه يريد البيع والشراء أو نحو ذلك، أما الاستيلاف من السلفة فليس لها معنى هنا. (¬4) لقد حارب أهل متيجة والبليدة واعتبروا خروج القائد الفرنسي دون الاتفاق معهم حربا عليهم، انظر كتابنا (محاضرات في تاريخ الجزائر). (¬5) كذا النص، والتعبير الفقهي هو (وكل واحد مقر على دينه الخ ..) أي كل فرد باق على دينه .. ولعل هناك خطأ في النقل أو في الطبع. (¬6) عبد الحميد زوزو (نصوص ...) ص 57 - 58، والنص مطبوع وموجود في المكتبة الوطنية بباريس، 1319 - 8، L.K.

هذه هي الخطوات الأولى في توظيف رجال الدين في الجزائر من قبل الفرنسيين، وقد استمر هذا الدور لهم مدة العهد الاستعماري، وكان منهم من استقال من وظيفه واختار العافية، ومنهم من هاجر تاركا وطنه وذكرياته، ومنهم من انتبه ضميره ولكن بعد حين، وأغلبيتهم رضيت بالحياة الذليلة وعاشت على الأجر القليل، سيما بعد أن تقدم العهد وانقطعت الصلات بالماضي ورجاله، فالهيئة الدينية كانت خليطا من الغث والسمين، وكان لبعضهم ظروفهم التي أملت عليهم هذا الوضع المحرج. فمن هم عناصر هذه الهيئة؟ إنها تتألف من المفتي، والقاضي، والإمام، والمدرس، والخطيب (إمام الجمعة والعيدين). والباش حزاب، والطلبة، والباش مؤذن (أو المؤقت). والمؤذن، وقراء تنبيه الأنام، والحضور، والشعالين، والكناسين، والوكلاء، والمؤدبين. ولا شك أن حجم هذه العناصر قد ازداد في آخر القرن الماضي وأوائل العشرين، ولا سيما بعد التوسع في تعليم المساجد (1898 - 1900). وبعد إعادة النظر في سياسة فرنسا في العالم الإسلامي، وفي خطبة له عن الوضع العام في الجزائر سنة 1896 قال جول كامبون إن عدد موظفي الديانة والقضاء في تلك السنة قد بلغ الألفين، وكان حريصا على ذلك منعا لتوظيف (أجانب) عن المدرسة الفرنسية كخريجي الزوايا والمعاهد الإسلامية في المغرب وتونس (¬1). وفي عهد كامبون أيضا كانت الوظائف التقليدية ما تزال مطبقة في أغلبها، رغم أن بعضها قد يكون تقلص، وقد فصل لنا ديبون وكوبولاني سنة 1897 هذه الوظائف، وعندما نتامل في تعاريفهما لا نجد إلا قليلا من التغيير قد حدث لها ولأهلها، ويجب أن نلاحظ أن هذه المعلومات قد كتبت قبل إعادة تنشيط التعليم في المساجد بالطريقة الفرنسية، كما ننبه إلى أن وظيفتين ¬

_ (¬1) مجلة (إفريقية الفرنسية). عدد مايو، 1896، ص 159، وعدد إبريل من نفس السنة، ص 126.

قديمتين غير مذكورتين وهما الشاوش والعون، ويمكن أن نضيف إلى ذلك وظيفة الخوجة، وكان الخوجة هو مساعد الوكيل في الحسابات، والشاوش يساعد المفتي في الجامع، وقريب منه العون. يعرف ديبون وكوبولاني المفتي في العهد الفرنسي (وهو ليس في درجة المفتي بالمشرق، كما عرفنا) فيقول: إنه يمثل أعلى درجة في السلم الديني، وهو الذي يدير الجامع الرئيسي، وهو رئيسه، ويؤدي صلاة الجمعة، ويعلم التوحيد (؟) ويصدر الفتوى، وعلى هذا النحو فالمفتون متساوون وليس بينهم سلالم أو تفاوت. والخطيب موجود فقط في جامع الصنف الثاني، وهو يؤدي وظائف في نظر ديبون وكوبولاني، شبيهة بما يقوم به رجال الدين الفرنسيين في كنائسهم، فهو يشرف على الشؤون الدينية، ويسهر على المسجد التابع له، ويقوم أيضا باداء صلاة الجمعة كالمفتي، ويلقي خطبتها وخطب الأعياد والمواسم الأخرى. ويلقي المدرس درسا في المستوى العالي في التوحيد والفقه والنحو والأدب وعلم الفلك، الخ، وهذا نظريا فقط، لأننا عرفنا أن هذا النوع من التدريس قد اختفى مع السنوات الأولى للاحتلال، وحتى بعد تنظيم التعليم المسجدي وضعت السلطات برنامجا محددا للمدرسين وبالتدرج، وبتوصيات المفتشين الفرنسيين تحولت الدروس من المساجد إلى مؤسسات تعليمية فرنسية، ثم فصل المدرسون تماما عن جسم السلك الديني الإسلامي وألحقوا بإدارة التعليم العام الأهلي، وقد صدق ديبون وكوبولاني في قولهما إن المدرس هو أكثر رجال الدين تعلما، وأنه هو الذي يكون التلاميذ والطلبة الذين من بينهم يترشح المترشحون لمنصب الفتوى والقضاء، غير أن هذا المنصب في الحقيقة كان تعيينيا وليس مسابقة أو نحوها، إن السلطة هي التي تختار الإطارات، وهم عادة من الذين خدموا مصالحها المختلفة، بما فيها المخابرات والتجسس على مواطنيهم،

ويأتي بعد ذلك الباش حزاب والحزابون، وهم الذين يقرأون أجزاء من القرآن أو كله، ويقول المؤلفان المذكوران إن عددهم يصل عادة إلى الستين شخصا، وهم طبقات، بعضهم يقرأ في الصباح عند الفجر، وعند العصر، وهم يفعلون ذلك بطريقة تمكنهم من ختم القرآن كل شهر، ويقرأ حزابة النهار عند الظهر فقط، وفي نهاية العام تكون الطبقة الأولى قد ختمت القرآن اثني عشر مرة والطبقة الثانية ست مرات فقط. والباش مؤذن (المؤقت) والمؤذنون العاديون يقضون الأربع والعشرين ساعة منشغلين بالوقت بالتناوب، وهم ساهرون دائما لتحديد أوقات الصلاة والمناداة لها من أعلى الماذن في أوقاتها المضبوطة، والمفترض فيهم أنهم ذوو أصوات جهورية ويمتازون بحسن الأداء. ووظيفة (تنبيه الأنام) تعني قراءة القراء المكلفين بهذا الكتاب أو غيره من كتب السيرة والدين، خلال ساعات معينة، ويختار القارئ عادة كتب الصلوات والدعوات وشمائل الرسول (صلى الله عليه وسلم) وأعماله لتكون قدوة للمؤمنين، وتكثر قراءة تنبيه الأنام بالخصوص يوم الجمعة منذ الساعة الحادية عشر والنصف أو قبل الصلاة بحوالي ساعة أو عندما يرتفع علم أخضر على المئذنة، ويكون جمهور المصلين عندئذ قد اجتمع في الجامع، ويبدو أن القراءة كانت جهزية بحيث ترتفع الأصوات وتحدث أثرا مهيبا في النفوس. ويختلف تعريف (الحضور) نوعا ما عما عرفناه في العهد العثماني، فهو عندئذ عبارة عن قراءة سردية لصحيح البخاري في المناسبات المعينة، أما ديبون وكوبولاني فيقولان إنه اجتماع (الطلبة) - القراء - الذين يتابعون دروس المدرس في مساجد الدرجة الأولى، فهذا التعريف يصدق على المتعلمين في وقتنا الحاضر، وهم المستمعون الذين لهم رغبة في التعمق في الدين، وأيضا قدما لنا تعريفا غير دقيق (لناس الحضور). ولا ندري من قدم لهما المعلومات عن هؤلاء الموظفين، فقالا عن ناس الحضور بأنهم

أولئك الذين يشتركون في حضور درس المدرس أو المفتي في مساجد الصنف الأول، ويشتركون في الاستماع للكتب الأكثر تقديرا عند المسلمين، وهو تعريف مأخوذ من اللفظ فقط، ولا علاقة له بالواقع في أغلب الظن. ثم يأتي دور الشعال أو السراج، وهو الذي يقوم بإسراج المصابيح في الأوقات المحددة، وإطفائها أيضا، ولعله هو الذي يملأ المصابيح زيتا، وينبه على نفاد الزيت، ثم الكناس وهو الذي يقوم بالتنظيف العمومي للمؤسسة من غبار وعنكبوت وغير ذلك، كما أنه يقوم بغسل المطاهر وتوفير الماء للوضوء، ويعتبر عمل السراج والكناس من الأعمال اليدوية الشائعة إذا قيس بالوظائف الدينية الأخرى (¬1). والطلبة (بضم الطاء وتسكين اللام) هم التلاميذ، طلاب العلم عادة. وهم الذين يوظف منهم السابقون، وأحيانا يطلق الاسم (الطلبة) على العلماء أنفسهم، كما يطلق على من يحفظ القرآن للأولاد، وهم المؤدبون عندئد. وقد تعتقد أن هذه الوظائف الدينية والتعليمية قد بقيت كلها بأعيانها خلال العهد الاستعماري، والواقع أن الكثير منها قد اختفى بالتدرج، وسنذكر الوظائف الباقية التي يحصل أصحابها على رواتب من ميزانية فرنسا بعد أن كانوا يحصلون عليها من الأوقاف، ونلاحظ هنا أن الجامع الكبير بالعاصمة هو الذي بقي فيه أكبر عدد من هذه الوظائف، أما بقية المساجد فقد احتفظت بعدد قليل منها، كالإمامة والأذان، وأحيانا يكون الإمام هو القائم بكل شيء، إماما للصلاة وخطيبا للجمعة، ومدرسا للعامة، ومؤدبا للصبيان، ومؤذنا، الخ، ومعظم المساجد كانت على هذا المنوال، وذلك تقليلا من المصاريف ¬

_ (¬1) ديبون وكوبولاني (الطرق الدينية ...). مرجع سابق، ص 233 - 234. انظر دراستنا عن ابن حمادوش ورحلته (لسان المقال). وكذلك نور الدين عبد القادر (صفحات من تاريخ مدينة الجزائر).

وتضييقا على الموظفين الدينيين، ومنعا لانتشار الثقافة الدينية والتعليم. ويتفق الباحثون الفرنسيون على أنهم عملوا منذ الوهلة الأولى على إنشاء (كليرجي) إسلامي كما فعلوا ذلك في فرنسا بعد الثورة، وعلى عدم ترك (الكنيسة) الإسلامية - في نظرهم - تسيطر على التعليم وعقول الناس والسياسة، كما كانت تفعل الكنيسة الكاثوليكية، قبل الثورة الفرنسية، وبعبارة أدق، فإن الفرنسيين في الجزائر جاؤوا بفكرة مسبقة عن الدين عموما وعن الدين الإسلامي خصوصا، وهي تجريد الإسلام من سلطته في البلاد، وما دام لا يوجد كهنوت في الإسلام ولا (كليرجي) رسمي، أو بابوية، فقد اكتفى الفرنسيون بتذويب قوة الإسلام بإجراء عدة تنظيمات وهي التالية: مصادرة الموارد التي يتغذى منها الدين والتعليم والقضاء (الأوقاف) والتحكم في مداخيلها لصالح الدولة، ثم تنظيم هيئة دينية هشة ورخوة تعمل تحت إمرة وباشارة الإدارة. وفي حين كانت إدارة الديانة في فرنسا تشرف على الأديان وموظفيها ومصاريفها وأمكنة العبادة الخ، كانت الهيئة الدينية (الإسلامية) في الجزائر تتبع الإدارة العسكرية التي تتبع بدورها وزارة الحرب، فالمفتي والقاضي في الجزائر إنما يعينهما الحاكم العام العسكري (¬1). وبعد ثورة 1848 في فرنسا أصبحت إدارة الأديان، غير الإسلام، تابعة للوزارة الخاصة في فرنسا، أما الشؤون الإسلامية فقد بقيت تابعة للحاكم العام العسكري إلى 1870، وفي هذا التاريخ تحولت الإدارة الفرنسية في الجزائر إلى إدارة مدنية، ولكن الشؤون الإسلامية بقيت تابعة لإدارة الشؤون الأهلية التي كانت بدورها تابعة لوزارة الداخلية، وقد ظل الأمر كذلك إلى 1907 حين طبق الفرنسيون مبدأ فصل الدين عن الدولة في الجزائر أيضا، ولكنهم استثنوا من ذلك الدين الإسلامي، فقد أصبح النصارى واليهود مستقلين في تدبير شؤون دينهم بعيدا ¬

_ (¬1) توماس دوباري (قسيس) TH. Debary (ملاحظات على إقامة)، لندن، 1851، ص 340.

عن الدولة، أما المسلمون فقد بقيت شؤونهم الدينية تحت إشراف إدارة الشؤون الأهلية الفرنسية، كما كان الحال قبل الفصل. لقد أدى هدم المساجد بالعاصمة وغيرها، والاستيلاء على الأوقاف إلى إفقار رجال الدين وهجرة العديد منهم، إن أبواب الرزق قد سدت في وجه الكثير منهم بعد أن كانوا وكلاء أو مدرسين أو قراء، كما أن بعض رجال القضاء والفتوى والوكلاء، لم يستطيعوا التأقلم والانسجام مع الفرنسيين، وفي مراسلات المفتين مع الإدارة الفرنسية نماذج لذكر الفقراء من هذه الهيئة التي نحن بصددها، ونماذج أخرى من المهاجرين (¬1). وكثير من المراسلات تطلب من الإدارة المالية (الدومين) دفع رواتب، ولو قليلة، لموظفي المساجد بعد الاستيلاء على أوقافها، ومنهم علي بن جحبار (البحار؟) في جامع صفر، وأحمد بن شعبان في مسجد ابن ثلجون (قبل هدمه)، ومحمد الحرار، ومحمد بن عيسى، وعلي بن الحفاف (الذي سيتولى الفتوى). وقد أصبح بعضهم يمد يده من الفقر بعد أن كان له معاش من إحدى المؤسسات الدينية، فهذا وكيل زاوية الشيخ الثعالبي، واسمه أحمد بن محمد، يكتب رسالة إلى الحاكم العام يشكو فقره وسوء حاله بعد أن بقي ثلاثة أشهر بدون دخل، وكان قد كتب إلى إدارة المالية (الدومين) التي استولت على أوقاف الزاوية المذكورة طالبا منها ما يعيش به، فلم ترد عليه، (فضاق علي الحال ولم يمكني إلا أن نشتكي حالي إليك، لأني لم أقبض شهريتي ثلاثة أشهر) (¬2). وفي سنة 1868 (عام المجاعة) وردت على نابليون الثالث رسالة شكوى من المؤذن بالجامع الكبير بمدينة معسكر، وهو الشيخ مصطفى بن المختار بن المكي المعسكري، قائلا: إن أملاكهم من بساتين وأرض وديار قد استولت عليها الدولة الفرنسية وأن والده كان قاضيا، ولم ¬

_ (¬1) بعض هذه المراسلات نشرناها في (من رسائل علماء الجزائر في القرن الماضي) في كتابنا (أبحاث وآراء ...) ج 3. (¬2) بلقاسم بن سديرة (كتاب الرسائل). ص 283، الرسالة بدون تاريخ (حوالي الأربعينات من القرن الماضي).

يبق له شيء يعيش منه وليس له حرفة، وله إخوة ووالدة الخ، وطلب منه أن (يتصدق عليه) بما تجود به يده (¬1). وقد اشتكى شيخ آخر عمره 87 سنة، وكان من (أعيان الجزائر وأشرافها)، بأن الحياة ضاقت به، وأصبح مقعدا في فراشه، فعجز عن النفقة على عياله وأولاده، وكان قبل ذلك قد عمل كاتبا لأهل المخزن وخوجة في البلدية، وكاتب ضبط في المحكمة، ثم أصبح من حضور الجامع الكبير بالعاصمة، فهو حينئذ من المتعلمين والكتبة، ومع ذلك طلب من الحاكم العام أن يخصص له شيئا من أوقاف مكة والمدينة ليعيش منه في الأيام القليلة التي بقيت له (¬2). وفي مراسلات رجال الدين مع السلطات الفرنسية إشارات عديدة إلى هجرة العلماء والقضاة، وكان استعمال الحج أحيانا ذريعة للهجرة الدائمة، ثم إن الهجرة قد تكون للمغرب الأقصى أو المشرق، وسنتحدث عن هجرة القضاء في الفقرة الخاصة بهم، كما أننا تحدثنا عن هجرة المرابطين والعلماء الأحرار في فصول أخرى، أما هنا فيعنينا هجرة من تولوا الوظائف الدينية نتيجة للفقر أو المضايقات، فنحن نجد في مراسلات المفتي مصطفى القديري الذي تولى سنة 1843، اسم الطيب بن بلقاسم، الحزاب بالجامع الكبير، وكان هذا يريد السفر إلى الحج، وطلب المفتي ملء مكانه، وفي مراسلة المفتي حميدة العمالي إشارة إلى اسم محمد بن الطاهر، الحزاب أيضا في جامع سيدي رمضان، وقد ذهب إلى الحج، وفيها أيضا أن السيد حسن بوقندورة قد ذهب إلى الشام، وكذلك قدور بن مرابط الذي توجه أيضا إلى الشام باهله (¬3). وكان قبل ذلك يشغل وظيفة حضور (قارئ صحيح البخاري) بالجامع الكبير، ومن جهة أخرى، نجد أن السيد مصطفى بن يوسف قد هاجر إلى المغرب الأقصى بعد أن كان حزابا في جامع سيدي رمضان. ¬

_ (¬1) نفس المصدر، ص 278، وتاريخ الرسالة 8 يوليو، 868 1 من مدينة معسكر (أم العساكر). (¬2) بلقاسم بن سديرة، مرجع سابق، ص 260. (¬3) عن دور عائلة ابن مرابط في الشام انظر فصل في المغارب والمشارق.

وكانت هجرة العلماء من الجزائر على أنواع وهي ترجع إلى أسباب مختلفة، ويهمنا منها هنا رفض العلماء تقبل الحكم الفرنسي وسيطرة إدارة أجنبية (مسيحية) على المسلمين، وبدأت هذه الهجرة داخليا فقط أي الهروب من العاصمة والمدن الساحلية الأخرى (وهران، عنابة، بجاية، مستغانم ...) إلى مناطق داخلية حتى لا يخضع المسلم لحكم الفرنسيين (المسيحيين). وحين توسع الاحتلال أخذت الهجرة تتجه نحو الخارج، سيما المغرب وتونس، ومنهما أحيانا إلى المشرق، وقد تطورت حركة الهجرة عبر سنوات الاحتلال واختلفت أسبابها، فمن ذلك فشل الثورات في زواوة والأوراس والجنوب خلال الخمسينات والستينات والسبعينات، فقد هاجر بسبب ذلك عدد من العلماء، سيما إلى تونس والشام، وكانت آخر موجات الهجرة هي التي دفع إليها التجنيد الإجباري ابتداء من فاتح هذا القرن. وقد دارت مناقشات ساخنة بين العلماء حول مشروعية الهجرة، فأفتى بعضهم مثل قدور بن رويلة وعلي بن الحفاف بضرورة الهجرة من الجزائر ما دام العدو قد تغلب عليها، وأفتى آخرون بضرورة البقاء محافظة على الدين وتعليم العامة ما دام العدو قد ترك المسلمين يتعبدون ويقيمون شعائرهم الدينية، ومن هؤلاء مصطفى الكبابطي ومحمد بن الشاهد، وأدى خلاف العلماء حول هذا الموضوع إلى مضاعفات أخرى، فقد فكر الأمير، على إثر هزيمة الزمالة وتغلب العدو على جميع مدنه وأمواله وأسلحته، أن يدعو الجزائريين إلى الهجرة الجماعية، كما أن المارشال بوجو قد أحس بذلك فأرسل سنة 1842 الضابط الجاسوس اليون روش) في مهمة لدى مراكز الفتوى في العالم الإسلامي، وحرر صيغة الفتوى، كما تقول المصادر الفرنسية، الشيخ محمد التجاني وبعض المقدمين عن الطرق الصوفية الأخرى، منهم مقدم الطيبية (¬1). ومحتواها أن المسلمين إذا تغلب الكافر على ¬

_ (¬1) لا ندري من هو محمد التجاني المذكور في (مجلة العالم الإسلامي) R.M.M. فيفري - مارس 1912، ص 82، فهل هو محمد الصغير التجاني شيخ زاوية عين ماضي عندئذ؟. وفي الصيغة بعض الغموض إذ تقول الجملة إن الذي حرر الفتوى =

أرضهم ودافعوا عنها ثم عجزوا وأصبح دفاعهم يؤدي بهم إلى التهلكة والانتحار، وكان الكافر قد سمح لهم بإقامة شعائر دينهم، هل تجب عليهم الهجرة؟ أخذ ليون روش هذه الفتوى وغير اسمه إلى عمر، واصطحب معه مقدم التجانية وبعض المقدمين الآخرين، واتجهوا إلى القيروان، والقاهرة، ومكة، ورجعوا بما أفاد ضرورة بقاء المسلمين في بلادهم وليس عليهم حمل السلاح ما داموا قد عجزوا عن الدفاع، وعليهم بالتسليم والاستسلام (¬1). وقد استفادت السلطات الفرنسية من هذه الفتوى في بسط نفوذها على الجزائر، واستصدر جول كامبون أيضا سنة 1895 فتوى شبيهة من علماء المشرق لبسط نفوذ فرنسا في الصحراء وقمع الثورات، وقد شارك العلماء الجزائريون في وضع صيغة هذه الفتوى رغم أننا لا نعرف أسماءهم الآن. وعهد كامبون بتنفيذ الخطة إلى السيد كورتيلمون (¬2). هذا عن الهجرة العامة، أما عن الهجرة الخاصة، فالعلماء استمروا في قلقهم كأفراد ولم يكونوا مرتاحين لوضعهم الديني الاجتماعي، وقد روت المصادر أن المفتي علي بن الحفاف كان يفكر في الهجرة فثبطه محمد بيرم الخامس وذكره بأن وجوده ضروري لحفظ الدين وتعليم العامة، فوجوده في الجزائر كان في حد ذاته نوعا من الجهاد، وقد هاجر الشيخ حمدان الونيسي القسنطيني بعد أن ضايقه الفرنسيون في بداية هذا القرن، وهاجر أيضا الشيخ قدور بن محمد بن سليمان المستغانمي، والشيخ عمار بن الأزعر القماري، والقائمة طويلة (¬3). وكان لرجال الدين (مجلس علمي) يحلون فيه القضايا الكبيرة أو ¬

_ = أيضا هم مقدمو الزوايا الطيبية، وسيدي عقبة، وأولاد سيدي الشيخ. (¬1) انظر كتاب ليون روش (اثنان وثلاثون سنة في الإسلام). 1884، جزآن. (¬2) ديبون وكوبولاني، مرجع سابق، ص 37، سنخصص لموضوع الهجرة فقرة كاملة في فصل مذاهب وتيارات. (¬3) انظر فصل في المشارق والمغارب.

المعقدة ويحضره كبراؤهم، وكان على العموم مجلسا محترما، لأن الذين يحضرونه هم خيرة المتعلمين وأن القضايا فيه معظمها تهم الصالح العام، وكان اجتماع العلماء في هذا المجلس فرصة لتبادل الآراء والمناظرة والرجوع إلى الكتب والنوازل، غير أن السلطات الفرنسية جمدت هذا المجلس فلم يعد يعقد إلا برخصة منها في السنوات الأولى، ثم انتهى دوره بالتدرج، ويبدو أن ذلك راجع إلى أن الإدارة نفسها هي التي أصبحت تجد الحلول للقضايا المعلقة بالطريقة التي تناسبها هي، كما أن وجود مجلس من رجال الدين المسلمين على ذلك النحو لم يكن ليخدم مصالحها، وقد تكون رأت فيه خطرا على هذه المصالح، وسنرى أن الاهتمام قد انصب منذ الخمسينات على جانب القضاء، فتأسس عندئذ المجلس الفقهي، ثم المجلس الشرعي الأعلى، وكلها تعني انتهاء دور المجلس العلمي الأسبوعي الذي كان الهيئة العليا في تطبيق الشريعة الإسلامية. وآخر ما وجدنا لهذا المجلس من أدوار كان لا يشرف الإدارة ولا أصحابه، ففي سنة 1852 تدخلت السلطات الفرنسية لتحسم خلافا وقع بين المفتي المالكي والمفتي الحنفي أدى إلى تبادل الإهانات، حسب بعض الوثائق، كان مفتي الحنفية، محمد بن مصطفى قد (أساء الأدب، حسب التعبير الرسمي، أمام المفتي المالكي، مصطفى القديري، فكتبت السلطات الفرنسية، باسم والي (بريفي) الجزائر نفسه، توبخ المفتي الحنفي وتحذره من العواقب إذا لم يعتذر علنا أمام أعضاء المجلس لزميله، ولكن المفتي الحنفي لم يعتذر رغم أن رسالة الإدارة قرئت علنا في المجلس وفهمها المفتي، فعادت الإدارة إلى التدخل خشية أن يعني سكوتها أو حيادها الضعف، فامهلت المفتي الحنفي بعض الوقت حتى يرجع عن (صممه)، حسب التعبير الرسمي، وأخبروه أن المهلة تصبح ضعفا إذا لم يؤدبوه ويعاقبوه على فعله و (عدم إنصاتك لأمرنا). وقد طلبت الإدارة من المفتي المالكي أن يخبرها رسميا باعتذار زميله إليه (بحضرة المجلس) و (المسامحة) لفظا ومعنى) (¬1). ¬

_ (¬1) الرسالة في أرشيف ايكس (فرنسا)، 22 I 1، وهي صادرة عن والي الجزائر، المكتب =

ولا نملك الآن تقرير المفتي القديري عن الحادثة التي يبدو أنها قد انتهت إداريا، ولكنها لم تنته معنويا، ذلك أنها دلت على الضعف الذي أصبح عليه هذا الصنف من العلماء وعلى تداخل الفرنسيين في شؤون المجلس. ... إن مصدر تكوين رجال الدين كان التعليم المسجدي الذي وصفناه (¬1). فمن الكتاب (المدرسة القرآنية) إلى دروس المساجد والزوايا المحلية. وكان بعضهم مثل ابن الشاهد وابن الأمين وابن العنابي والمقايسي قد أكملوا تعليمهم في المعاهد الإسلامية خارج الجزائر، وقد وجدت السلطات الفرنسية في أول الأمر مجموعة من هذا الصنف فعينت رجال الدين في المساجد ونحوها، وكانوا على العموم متكونين على جيل متمكن على الأقل في المواد الدينية كالفقه والتوحيد والحديث، ومن هؤلاء مصطفى الكبابطي الذي تحول من القضاء إلى الإفتاء في العهد الفرنسي، وكان عالما بالحديث والتفسير، وكان يقرض الشعر، وقد عارض الهجرة كما عرفنا، وعارض كذلك الإجراءات الفرنسية في الجامع الكبير فحكمت عليه بالنفي، وكان أحمد العباسي في قسنطينة من كبار القضاة والمدرسين وهو من خريجي جامع الزيتونة. ولكن هذه الطبقة أخذت تنقرض بالتدرج، فلم تأت سنة 1850 (عشرون سنة بعد الاحتلال) حتى شعر الفرنسيون أنهم لم يجدوا إطارات لتوظيفها في القضاء والديانة، لقد أخذت تلك الطبقة تنقرض بالهجرة أو بالوفاة أو بالعجز، وكان على الفرنسيين أن يوظفوا أي شخص وقف ببابهم دون مراعاة العلم والدين والنزاهة والكفاءة، وقد لاحظنا أن التعليم العربي الإسلامي قد أهمل إهمالا كاملا منذ الاحتلال، وجفت مصادره، وتمركز ما ¬

_ = العربي الولائي رقم 436 بتاريخ 17 سبتمبر، 1852. ومحررة باللغة العربية. (¬1) انظر فصل التعليم في الكتاتيب والمساجد.

بقي منه في الزوايا وبعض المساجد الريفية، ولكن الحروب والثورات أثرت أيضا على هذه المراكز، فمن أين إذن تجند فرنسا السلك الديني لملء وظائف الفتوى والتعليم والقضاء والإمامة الخ؟ لقد كونت الحكومة الفرنسية عدة لجان لدراسة الوضع منذ منتصف الأربعينات، ولكن تنفيذ توصيات اللجان لم يبدأ إلا في فاتح الخمسينات ومن ذلك التوصية بإنشاء المدارس الشرعية - الفرنسية الثلاث (¬1). لم يكن أعضاء السلك الديني خلال الأربعينات والخمسينات إلا من البقايا الذين لم يموتوا أو يهاجروا بعد الاحتلال، ولنا أن نتصور أنهم كانوا ضعافا في المعلومات ومن ثمة ضعافا في شخصياتهم، وقد زاد ذلك في مرونتهم نحو السلطة الفرنسية، فالعالم القوي والمعتد بعلمه لا يرضى بالذل والمهانة لشخصه وعلمه، إلا إذا كان مخلوع الضمير، وقد حسب الفرنسيون باعتمادهم على ذلك الصنف الضعيف من العلماء أنهم يحسنون صنعا، ولكن ثبت أن ذلك كان إحدى غلطاتهم الكبيرة إذ اتجه الشعب إلى المرابطين ثم الطرق الصوفية، وأخيرا اتجه الناس إلى العلم في تونس والمغرب والمشرق، وتركوا الإدارة الفرنسية تضرب على أوتارها الخاصة. أصبحت المدارس الشرعية - الفرنسية الثلاث إذن هي مركز التكوين للسلك الديني الذي نحن بصدده منذ 1851، وقد وضع لها الفرنسيون برنامجا على مقاس ضيق جدا، يسميه الفرنسيون تعليما إسلاميا عاليا، وما هو بالعالي أبدا، فهو تعليم متوسط في أفضل الحالات، وقسموا المواد إلى دينية ولغوية، وعهدوا بها إلى عناصر في جملتها ضعيفة، سيما مع تقدم السنين، حقا إن بعض العناصر في أول الأمر كانت مقنعة في بعض التخصصات، ومنها في الجزائر حسن بن بريهمات وفي قسنطينة المكي البوطالبي، وفي تلمسان محمد بن عبد الله الزقاي. وعندما جدد برنامج هذه المدارس خلال السبعينات ثم التسعينات لم ¬

_ (¬1) انظر عن هذه المدارس، فصل التعليم الفرنسي والمزدوج.

يتحسن المستوى إلا قليلا. فالإدارة أصبحت فرنسية وأدخلت مادة اللغة الفرنسية والتاريخ والجغرافية، الخ، وتولى التعليم مدرس بارز في قسنطينة ثم العاصمة، وهو عبد القادر المجاوي الذي تكون في القرويين، ولم تستفد هذه المدارس من علم الشيخ محمد بن يوسف اطفيش (بني يسقن) أو علم أخيه إبراهيم الذي رجع بعلم غزير من عمان ومصر، ولا من علم محمد الصالح بن مهنة الذي تخرج من الأزهر، وإنما انغلقت على نفسها وأصبح الداخلون إليها من دائرتها، والخارجون منها هم الذين يرجعون إليها مدرسين، فكانت تدور في حلقة مفرغة، والعلم يقتضي اتساع الدائرة وتلقيح الأفكار والتجارب، وكان الفرنسيون يخشون من الأفكار (الخارجية)، ونكاد لا نجد إلا المجاوي في هذا العهد، وكان استثناء لا ندري لماذا؟ ولعل صلته بالأمير عبد القادر وآل أبي طالب الذين تحول معظمهم نحو الفرنسيين، هي التي كانت السبب في الاحتفاظ به رغم أنه من خارج الإطار المرسوم للتوظيف في المدارس المذكورة. يضاف إلى هذا الضعف تفضيل الفرنسيين ضعاف العلم وضعاف النفوس من رجال الدين، فالجزائر كانت تتوفر على عدد طيب من العلماء في مختلف مراحل العهد الفرنسي، ولكنهم لم يجدوا سبيلا إلى العمل بعلمهم في الإدارة الفرنسية لأسباب، أهمها الخوف من تأثيرهم، وهذا الوضع هو الذي سيؤدي منذ 1920 إلى ترجيح كفة العلماء الأحرار على العلماء الرسميين في نظر الشعب، وقد ذكرنا ملاحظة أوغسطين بيرك في ذلك. وعلى هذا الأساس كان السلك الديني في الجزائر ضعيفا في أغلب الأحيان، وقد انحصر دوره في أداء الشعائر الدينية في المساجد التي لم تهدم أو لم تحول عن غرضها، وفي بعض الزوايا ذات الطابع الرسمي كزاوية الشيخ الثعالبي وزاوية سيدي محمد الشريف في العاصمة، ومن الطبيعي أن نتذكر أن المعالم الدينية لم تكن كلها تحت إدارة موظفين مأجورين من الدولة الفرنسية، فقد كانت عشرات المساجد، مثلا، يديرها أهل القرية أو البلدة.

ولكن أئمة المساجد كانوا معينين من قبل السلطة دون منحهم راتبا منها، ولم يكن دور السلك الديني في هذا العهد القيام بأي عمل فيه مصلحة عامة للمسلمي، كالتدريس على نطاق واسع، أو حث الناس على العمل في مشاريع تفيدهم، أو نقد الأوضاع العامة في ضوء القيم الإسلامية، أو الدعوة إلى الآداب والأخلاق الإسلامية، أو تناول التاريخ والتراث. إن الموضوعات التي يتناولها خطباء المساجد كانت مقننة ومبرمجة مقدما، وهي تصدر عن إدارة الشؤون الأهلية، ولا حرية للمبادرة فيها من أي خطيب، فهي خطب مكتوبة من قبل المستشرقين الفرنسيين مكرسة فقط للتنويم والتخدير، وليس فيها إلا الحديث عن الآخرة والموت والخضوع لأولي الأمر (؟) وما إلى ذلك، أما شؤون الدنيا من تقدم وتضامن اجتماعي وعمل صالح وعلم نافع، فلا مكان فيه في خطب الأئمة الرسميين، وأذكر أن خطيب بلدتنا كان يخرج، بعد صعوده على المنبر، ورقة صفراء مكتوبة على الجهتين ومطوية على أربع، طولا وعرضا، فكان يقرأ من وجهها الخطبة الأولى ومن ظهرها الخطبة الثانية، وكانت نفس الورقة (الخطبة) تتكرر في كل جمعة حتى كانت الورقة تبدو بالية مهلهلة، وفي كل جامع كان يجلس المخبرون الذين يقدمون تقاريرهم بعد أداء الجمعة عن خطبة الإمام وما حدث في الجامع بين المصلين، وعدد المصلين، وما إذا خرج الإمام بكلمة واحدة عن نص الورقة الصفراء، أو زار الجامع شخص غريب. وكان تعيين رجال السلك الديني يتم عادة في إطار داخلي، أي أن القاضي قد يصبح مفتيا، وأن مؤدب الصبيان قد يصبح حزابا، وأن الحزاب قد يصبح إماما، بل وجدنا مؤذنا قد أصبح قاضيا، وقد يعين أحد المدرسين حزابا، وربما كان اللهاث وراء الوظائف لأسباب مادية، ولكن الدائرة تظل منغلقة على نفسها، سيما في النصف الأول من القرن الماضي، أي قبل تخريج دفعات من المدارس الشرعية - الفرنسية الثلاث.

وهناك ظاهرة أخرى في هذا السلك الديني كانت شائعة في القديم وظلت موجودة حتى في العهد الفرنسي، ولكن بدرجة أقل، ونعني بها تداول أفراد الأسرة الواحدة على نفس المنصب الديني، فابن الحفاف طالب (بحقه) في وظيفة جامع سيدي رمضان لأن والده كان موظفا فيه، وحميدة العمالي اقترح ابنه (علي) كمؤذن في الجامع الذي كان مفتيا فيه، وعندما مات الشيخ محمد الحرار طالب المفتي بتعيين ولده (ولد الحرار) ليحل محل والده في المسجد الذي كان تحت يده، ويقول المفتي بصراحة: (وعادة بلادنا من له مسجد وخلف ولدا يقرأ القرآن، فهو أحق به من غيره)، وظلت هذه الظاهرة متواصلة أيضا، فنحن نجد محمود بن الشاذلي قد خلف والده في المدرسة بقسنطينة، وعبد الحليم بن سماية قد خلف والده في مدرسة الجزائر، وخلف أحمد بن زكري والده في مهنة التدريس، وهكذا، إن هذه الدائرة الضيقة للسلك الديني (والتعليمي أيضا) قد أضرت بالمستوى العام من جهة وجعلت الفرنسيين ينظرون إلى دور رجال الدين نظرة استهزاء وسخرية، ولم يكن يهمهم الأمر ما دام ذلك يجلب إليهم الراحة والأمن، ذلك أن الابن عادة سيقلد والده في سلوكه نحو الفرنسيين أصحاب النعم السابغة على العائلة، وبذلك يتكرس ضعف المستوى وضعف الضمير، ومن ثمة ضعف الدور الأجتماعي للسلك الديني. وهذا التضييق في دائرة التعيين وقلة الفرص أمام رجال السلك الديني جعلتهم متحاسدين متباغضين أيضا، وكانوا يحرسون بعضهم البعض ويشون ببعضهم إلى السلطات الفرنسية التي كانت تحب ذلك منهم وتعتبره علامة إخلاص وكفاءة، فإذا تولى أحدهم وظيفة أخرى شنعوا عليه وطلبوها منه واتهموه بأنه يملك كذا وكذا غيرها، ونذكر نموذجا على ذلك شكوى ابن الحفاف، قبل ولايته الفتوى، من القاضي قدور بن المسيني الذي استولى على وظيف جامع سيدي رمضان إلى جانب وظيف القضاء وغيره، وفي مراسلات هؤلاء الرجال مع السلطات الفرنسية نماذج عديدة لما نقول.

وكانوا في مراسلاتهم مع الإدارة الفرنسية يتزلفونها بطريقة مهينة لهم، فالواحد منهم يتذلل في طلب زيادة الراتب، أو قبض راتب متخلف، أو طلب الإذن في كذا، ولم يكونوا يفكرون أنهم يمثلون العلم والدين، أو أنهم رموز للشعب المحكوم، أو نحو ذلك من التفكير العالي، وكانوا يستعملون لذلك ألقاب المدح الذليل للحاكم أو مدير الداخلية أو غيرهما، ولم تكن المراسلات إدارية محضة بل فيها من التكلف المعنوي واللفظي ما يؤدي إلى التقزز أحيانا، خذ مثلا على ذلك طلب المفتي الحنفي أحمدبن محمد من مدير الداخلية دفع مخلف الزيادة المترتبة على ترقيته منذ وقت الترقية، ولنتأمل في ألفاظها التذلل وعبارات التواضع السخي، فقد عبر عن سروره بزيادة الراتب (الذي نقبضه من حضرتك الرفيعة ... كثر الله خيرك وشكر سعيك وأطال عمرك ... نطلب منك ومن جزيل فضلك صاحسانك أن تنعم وتتفضل علي بالزيادة الماضية من وقت التاريخ السابق، أو كما يظهر لك، لأن الحاجة قد دعتني إلى ذلك، والطلب من سعادتك، هذا ولا يخفى على سيادتك، وأنت عالم بهذا، وأنا قصدتك، وأنت من عادتك وحسن طبعك ومودتك، (ان) من قصدك لا يرجع خائبا، وعليك ألف سلام) (¬1). إن الجهل العلمي والسياسي هو الذي أدى بهذا المفتي إلى أن يريق ماء وجهه بهذه الطريقة، فلو كان يعلم أن مدير الداخلية لا يعطيه إلا ما أخذه منه، وأنه اغتصب أموال الأوقاف وجعلها تحت يده وأصبح يمن بها، لما مد المفتي يده على النحو المذكور، ولو كان المفتي يحترم علمه لأكرم لحيته بنفسه وعرف قدره، فالمفروض أنه قدوة لغيره في الهمة والشبوب والشفوف، وعزة النفس، ولكن الجهل وتغير الحال أدى إلى تغير الرجال، ولا تقل إن هذا كان في الأربعينات من القرن الماضي وانتهى، فقد وجدنا المتذللين يطلبون بنفس الطريقة تقريبا في آخر القرن الماضي وأوائل هذا القرن. ¬

_ (¬1) مراسلة بتاريخ 11 مايو 1847، أرشيف ايكس (فرنسا). انظر المراسلات في كتابنا (أبحاث وآراء ...) ج 3.

وقليل من رجال السلك الديني من كان يحسن كتابة رسالة صحيحة. ونعني هنا المفتين والأئمة وليس المؤذنين والفراشين. إن المراسلات التي اطلعنا عليها قلما تجد فيها رسالة خالية من الأخطاء النحوية والإملائية، على قصر الرسالة، ولم نطلع لهؤلاء على أعمال أدبية أو شروح فقهية أو تقاييد لنحكم عليهم من خلالها، وقد علمنا أن عددا منهم كانوا أيضا ينتمون إلى الطرق الصوفية المعاصرة، فكانوا يأخذون ويعطون (إجازات) ضعيفة النسج أيضا، وعباراتها مكررة في الإجازات الأخرى وليس لهم فيها سوى النقل والحفظ، وقل من المفتين من اشتهر بمؤلف، باستثناء عدد قليل منهم مثل ابن الحفاف، وأبي القاسم الحفناوي، ومحمود كحول، ومحمد السعيد بن زكري، وابن الموهوب، واشتهر في وهران المفتي محمد بن عبد الرحمن، ولكن لم نطلع على بعض مؤلفاته، كما اشتهر الونوغي في أم السنام (الأصنام) الذي اشترك مع القطرانجي في الرد على مفتي اسطانبول، وبالجملة فإن السلك الديني كان ضعيف الثقافة رغم وجود أشخاص نادرين يؤكدون القاعدة ولا ينفونها. وكانوا غير مستقلين حتى فيما يدخل في دائرة اختصاصهم المحددة. وذلك راجع، في نظرنا، إلى تضييق السلطات الفرنسية عليهم، فالمفتي القديري لم يستطع أن يبت في ظهور زوجة الحاج أحمد، باي قسنطينة، أمام المجلس بنفسها، ولذلك كتب يطلب رأي (سلطان الجزائر وعمالاتها)، وهو الحاكم العام عندئذ، المارشال بوجو، وأخبره أنه قد ثقل ذلك على أعضاء المجلس، فظهر لهم أن يخصصوا لها وقتا (لحرمتها وحرمة زوجها) ثم توقفوا عن ذلك إلى أن يأتيهم الأمر من الحاكم العام (إن أذنت لنا فعلنا وإلا فلا) (¬1). ولا شك أن ذلك يعني الميراث وما إليه. ¬

_ (¬1) الرسالة بتاريخ 21 ابريل 1852، أرشيف ايكس (فرنسا) 11 H 1. كان أحمد باي متزوجا من عدة نساء، ولعل هذه المرأة هي التي ترجع إلى عائلة أولاد مقرآن، وقد وجدنا لها مراسلة إلى نابليون الثالث بعد ذلك، ضاعت لنا من بين الأوراق التي فقدناها في محفظتنا سنة 1988.

رأينا إذن أن دور رجال السلك الديني محدود جدا، فلا المجلس العلمي ولا المفتي ولا الإمام كان قادرا على إصدار شيء دون الرجوع إلى السلطات الفرنسية، أما التعيينات في الوظائف الدينية الصغيرة، كالحزاب، والفراش، والمؤذن الخ .. فلا بد فيها من كتابة محضر ومراسلة مقننة تعرض فيها أسماء ثلاثة مرشحين، مع تبريرات محددة، كشغور المنصب بالوفاة أو الحج أو الهجرة، ثم يترك للسلطة المذكورة لكي تتخذ القرار الأخير، وأحيانا يعطي المفتي أو المجلس الأسماء على الترتيب في الاستحقاق والأولوية، وهذا كل اجتهاده، وقد يذكر الحالة المادية للمترشح، وكذلك الصلة بالمنصب كالمؤهل والعلاقة العائلية مع صاحب المنصب الشاغر، وقد لاحظنا أنه في حالة شغور منصب المفتي فإن المجلس يقترح أربعة أشخاص، مرتبة أيضا. (بهذه الحالة المترتبة عرفوهم، وبها وصفوهم)، وقد ختم أعضاء المجلس ذات مرة اقتراحهم بقولهم للمسؤول الفرنسي: (ونظرك أوسع، لأنك تعرف ما لا نعرف) (¬1). استعمل الفرنسيون رجال السلك الديني في أغراضهم السياسية والاجتماعية أيضا، كما استعملوا رجال الطرق الصوفية فيما بعد، ولو استعملنا اللفظ على عمومه لقلنا إنهم استغلوا العلماء استغلالا فظيعا، كانوا لا يتناولون موضوعا يخص الجزائر إلا لجأوا إليهم في مؤلفاتهم وآرائهم ومع ذلك قلما يذكرونهم أو يعترفون لهم بالفضل، أما الإدارة فقد استغلت نفوذها عليهم وأسكتتهم أو أنطقتهم حين تشاء هي، وكانت تنعم على بعضهم بالأوسمة والنياشين والعضوية في المجالس واللجان والإرسال في المهمات الخاصة داخل الجزائر أو خارجها، ولا نريد هنا أن نتوسع في الموضوع، لأن لذلك مكانه من الكتاب (¬2). ¬

_ (¬1) المراسلة بتاريخ 1848، وهي تتعلق باقتراح المفتي الحنفي الجديد، انظر أرشيف ايكس (فرنسا)، 22 I 1. (¬2) انظر فصل الاستشراق والترجمة.

رجال الدين والسياسة

رجال الدين والسياسة ولا نعرف أن السلك الديني قد اتخذ موقفا من الثورات والمحاكمات والتغييرات التي حدثت في الجزائر، وما أكثرها، ولذلك شعرت الإدارة بواجبها نحو عناصر من هذا السلك فمنحتهم أوسمة معينة سميت بالأكاديمية أو العلمية، وكان ذلك في عهد بداية (التنوير)، عهد جول كامبون (1891 - 1897). ومن رجال الدين الذين حصلوا على الوسام إمام الجامع الكبير، واسمه أمين قدو ربن محمد بن عبد الرحمن، ومحمد السعيد بن زكري إمام جامع سيدي رمضان، وعلي بن الحاج موسى، قيم ضريح الشيخ الثعالبي، وأحمد بن القبطان الإمام المتقاعد (¬1). وهذه النياشين قد منحت لعدد آخر من رجال الدين الرسميين وحتى غير الرسميين مثل الشيخ محمد بن يوسف اطفيش في بني يسقن، ومحمد بن بلقاسم شيخ زاوية الهامل، وليس الهدف هنا ذكر قائمة من هؤلاء، ولكن الإشارة إلى المكافاة على الخدمة الهادئة والمخلصة التي قدمها أمثال هؤلاء للسلطة الفرنسية، ومن الجدير بالذكر أن منح الأوسمة لرجال الدين كان من إبداعات كامبون لإحكام قبضته بالتقرب إلى هذه الفئة. ومن هذه الخدمات الوقوف مع فرنسا في الحرب العالمية الأولى ضد ألمانيا والدولة العثمانية، وقد بدأت القضية في الواقع منذ الإعلان عن فرض التجنيد الإجباري (1912). وكان رجال السلك الديني يواجهون امتحانا عسيرا أكثر ربما من زملائهم المدرسين في المدارس الرسمية ¬

_ (¬1) انظر المبشر عدد 18 ابريل 1896، وعدد 9 مايو 1896، أحمد بن القبطان كان إماما في المدرسة العربية الفرنسية التي أسسها الفرنسيون، وكان مأدبا للصبيان، وفي قائمة الممنوحين أيضا أبو القاسم الحفناوي (المحرر في جريدة المبشر) عندئذ، وعمر بن سماية المشهور بالنقش والرسم، وكذلك عمر بن بريهمات المدرس في مدرسة الجزائر، وكذلك عدد من القضاة والقياد.

والقضاة، فالفتوى والإمامة أقرب في ذهن العامة إلى الدين من القضاء والتدريس (بعد فصل السلطات الفرنسية بين الدين والتعليم والقضاء). ولذلك اختفى محمد السعيد بن زكري مفتي العاصمة، سنة 1912، باقتراح من دومينيك لوسياني (مدير الشؤون الأهلية) حتى لا يتعرض للضغط الشعبي، ولم نسمع برأي ابن الموهوب مفتي قسنطينة الذي طالما سمعناه ينادي على مواطنيه بدخول المدارس واتباع خطوات الفرنسيين في التقدم، ولا برأي مفتي وهران علي بن عبد الرحمن المنتمي للطريقة التجانية. وعندما حصحص الحق وأعلنت الحرب العالمية لم يتوان ابن الموهوب والمفتي الحنفي عبد الكريم باش تارزي في إصدار (فتوى) لصالح فرنسا، وجاء في نص الفتوى أن ثلاثة عشر من أعيان قسنطينة يؤيدونها أيضا، ومنهم محمد بن الشيخ الفكون (الذي قد لا يكون له وظيف ديني) ومحمد المصطفى بن باديس (والد الشيخ عبد الحميد). وعبد القادر بن الشيخ الحسين، والسعيد عمران (مقدم الطريقة الشاذلية) (¬1). وعنوان هذه الفتوى الغريبة هو (وصية للمسلمين). وقد جاء فيها الإشادة بفرنسا والحلفاء وذم الألمان والعثمانيين، ومما جاء فيها: (هذه رسالتنا ننصح بها أنفسنا، معشر الواضعين خطوط أيدينا فيها، وننصحكم بها وفاقا للدين والعقل والسياسة والعادة، فدوموا صادقين مخلصين لدولتنا الفرنسوية الفخيمة، قائمين على ساق الجد لإعانتها على أعدائها، دمرهم الله! وأراح منهم الحلفاء، وتمتعوا بعافيتكم في دياركم تحت قوة دولتنا، نصرها الله! واسمعوا وأطيعوا واصدقوا لتكونوا من المسلمين الكاملين العارفين). ولنستمع بعد ذلك إلى هذا الدعاء الذي نورده دون تعليق، تاركين الوثيقة تتحدث بنفسها: ¬

_ (¬1) عن موقف رجال الطرق الصوفية من الحرب العالمية وتأييد فرنسا، انظر فصل الطرق الصوفية، ونحن نعلم أن الشيخ عبد الحميد بن باديس قد سماه والده على اسم السلطان عبد الحميد الثاني، وكان الشيخ عبد الحميد يقول إن له خؤولة تركية، ولكن الاستعمار وظروف الحرب قد غيرت العلاقات.

(اللهم اعن فرنسا التي هي أمنا ونحن أبناؤها، إنك على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير) (¬1). وقد كان الفرنسيون في الماضي يمنعون رجال السلك الديني من التعرض (للسياسة) أو الحديث فيها، فهل لا يعتبرون هذا الموقف من رجال الدين من صميم السياسة؟. ونفس الموقف اتخذه مفتيا العاصمة اللذان لم يذكرا اسمهما، وهما المفتي المالكي والمفتي الحنفي، فقد أصدرا أيضا فتواهما بعنوان (وصية) لنصح المسلمين الجزائريين بعدم اتباع شيطان الألمان الذي وسوس للدولة العثمانية فاستهواها فاتبعته، وطلبا من المسلمين الخضوع والطاعة لفرنسا ذات الباس الشديد والجيش الجرار وصاحبة النعم التي لا تحصى، ولولا الإطالة لأتينا على كل النص، ولكن حسبنا الآن منه هذه العبارات المعبرة عن مقصود المفتيين: (إن شيطان الألمان، بما له من الزور والبهتان، قد وسوس الدولة العثمانية واستهواها، وأضلها، وأغواها، وأصمها وأعماها، وخدعها بمكائده، وأوقعها في حبائله ومصائده، حتى مكرت مكرا كبارا، وأعلنت الحرب جهارا، على الدول العظام: فرنسا وروسيا وانكليزا، بهذا الغرور قد جاءت (الدولة العثمانية) شيئا فريا، وأضرت نفسها، وأهلكت جنسها، حيث لم تتكامل في المآل بل أسرعت، وعليه فلا تحصد إلا ما زرعت، وخصوصا إذا (إذ) خالفت قوله تعالى: {وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم، ولا تعتدوا}. كما خالفت قوله تعالى أيضا: {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} (¬2). وبعد ذلك أعلن المفتيان عن خضوعهما لفرنسا والإذعان لها، والإعراب لها عن (إخلاصنا وتعلقنا بأذيالها، ورغبتنا في الاستظلال تحت ظلالها. وننكر على تركيا غلطها الفاحش فيما أقدمت عليه من هذه الحرب ¬

_ (¬1) النص الكامل في (مجلة العالم الإسلامي) R.M.M، ديسمبر 1914، ص 182. (¬2) نفس المصدر، ص 174، 178.

النحيسة، ونتبرأ من التشيع لها ...) ثم نصحا الجزائريين بالصبر وعدم التهور، وعدم التشيع لألمانيا: (وعدم الاشتغال بالسياسة). ومسالمة (حكومتهم) الفرنسية، وعدم مشاركة الأتراك، لأن (خليفة المسلمين كان عليه أن يذب عنهم ويدافع عن الدين والمال والبدن، وإلا فهو غير مجتهد للمسلمين بل غاش لهم، إن تركيا في الدرك الأسفل من الضعف والاعتلال، والعجز والقصور والاختلال). أما الدولة الفرنسية، فهي ذات القوة والبأس، والعدل والإحسان والكرم. والواقع أن هذه اللغة وهذا الموقف قد أكدا على ما قلناه من أن الإدارة الفرنسية كانت تستغل رجال السلك الديني، وهي بذلك تضعف من مركزهم في نظر المواطنين، وذلك أن هؤلاء قد وجدوا المتكلمين باسمهم في فئات أخرى، وتركوا هؤلاء المفتين والأئمة في غيهم يعمهون، يباركون أعمال المحتل وينصحون بالخضوع إليه والتسبيح بحمده، ويتدخلون في السياسة وينهون عنها مواطنيهم، ونحن نعلم أن هذه الفتاوى والنصائح قد تكون صادرة عن الإدارة الفرنسية نفسها، وأنه لا حول ولا قوة لهؤلاء الشيوخ في رفضها أو تعديلها، ولكننا لم نسمع عن أحد منهم أنه استقال من منصبه، فالواحد منهم يظل في وظيفه إلى أن يخرج منه إلى القبر، أو ما دام الفرنسيون راضين عنه. وقد أخبرنا أوغسطين بيرك بكل صراحة أن بعض هؤلاء الموظفين كانوا من رجال المخابرات وكانوا يقدمون تقاريرهم إلى الشرطة، فوظيفتهم دينية إسلامية في الظاهر فقط، أما في الباطن فلهم دور آخر يلعبونه، ولذلك كان الفرنسيون يتشددون في اختيار الواحد منهم، وإذا عدنا إلى قائمة المفتين والأئمة الرسميين المأجورين (لأن هناك أئمة معينين غير مأجورين كما سبق) لوجدنا أن أغلبهم مروا بكل المراحل التي تجعلهم تحت مجهر الشرطة والمصالح السرية، من تلميذ في المدرسة، إلى موظف في جريدة المبشر، إلى تابع في إحدى مصالح الأهالي، إلى قاض أو باش عدل، قبل أن يعهد إليهم بالرتبة الدينية الصورية، وخلال ذلك كانت توضع لكل واحد منهم

ملفات وبطاقات تسجل فيها حركاته وآراؤه ومستواه وطموحاته وعلاقاته، فإذا اختل واحد من مقاييس التوظيف الضرورية فلا يدخل المترشح ذلك الوظيف ولا يتولى المنصب ولو شاب الغراب. وكلما تطورت الحياة في الجزائر وجدنا السلك الديني طوع بنان الإدارة، إن الاحتفال بالاحتلال سنة 1930 كان وصمة عار ذكرت الجزائريين بتازيخ فقدان استقلالهم وسيطرة العدو على أرضهم (¬1). ومع ذلك وجدنا رجال السلك الديني في منصة رئيس الجمهورية الفرنسية (غوستان دومورك) أثناء تلك المناسبة، وكانت لعنات الشعب توجه إليهم من العيون والقلوب، ولكنهم كانوا في وضع لا يحسدون عليه، وكان المتكلم باسم المدرسين هو إمام الجامع الكبير الشيخ دحمان حمود، وهو الذي أصبح مفتيا أيضا (انظر عنه فصل التعليم في المساجد). وأحيانا يكون استعمال رجال السلك الديني في أخطر من ذلك، إن حياتهم قد تصبح معرضة للخطر، ونحن نذكر ما حدث للشيخ محمود كحول المعروف بابن دالي، مفتي المالكية، سنة 1936، فقد نسبت إليه الإدارة برقية موجهة إلى السلطات الفرنسية في باريس ضد شرعية وفد المؤتمر الإسلامي، ولا سيما أعضاء جمعية العلماء، في تمثيل الشعب الجزائري، وقد فسر المعاصرون الأحداث التي أدت إلى اغتيال الشيخ كحول في رابعة النهار واتهام الشيخ الطيب العقبي بالتحريض عليه، بأنها كانت من تدبير الإدارة الفرنسية ومصالح المخابرات، لضرب وحدة المؤتمر الإسلامي وزعزعة الرأي العام الوطني من جهة، وضرب جمعية العلماء باتهامها بالاشتغال بالسياسة وعزل الجمهور عنها من جهة أخرى، ويبدو أن الإدارة قد نجحت على الأقل في الهدف الأول لأن المؤتمر ¬

_ (¬1) من الذين حضروا من غير السلك الديني: السيد بومدين باسم النواب، والسيد بلحاج باسم المدرسين، والسيد محمد المصطفى بن باديس باسم الأعيان، وأورابح باسم العائلات الكبيرة، وعلي بن مبارك بن علال باسم المرابطين، وقد تناول الكلمة عدد منهم وأشادوا بالاحتلال.

الإسلامي قد فشل وتنازع أعضاؤه نتيجة الحادث، كما أن جمعية العلماء أصيبت بنكسة بخروج الشيخ العقبي من إدارتها، غير أن الجمعية واصلت رسالتها مع ذلك. لقد حركت الإدارة الفرنسية (رجال الدين) ضد رجال الإصلاح والسياسة، وعندما أبرق الشيخ كحول إلى رئيس وزراء فرنسا يتهم العلماء بالاشتغال بالسياسة وبالمغامرة وبعدم صدق تمثيلهم للشعب، كان في الحقيقة ينطق باسم رجال الدين الآخرين، ونحن لا يهمنا هنا التحقيق القضائي وبراءة هذا وتجريم ذاك، إنما يهمنا التذكير بدور رجال الدين الرسميين وكيف كانت السلطات تسخرهم لخدمة أغراضها في الأوقات الحرجة مثل تأييد فرنسا ضد الخلافة الإسلامية في الحرب الأولى، ومثل الظهور على المنصة الرسمية عند الاحتفال المئوي، ومثل ضرب التضامن الوطني خلال المؤتمر الإسلامي. كان الشيخ كحول من المتعلمين الحذقين، بدأ حياته في قسنطينة (ولد حوالي 1872) مستمعا لدروس علمائها مثل المجاوي والونيسي، ومدرسا في إحدى مدارسها الابتدائية الفرنسية (سيدي مسيد). ثم اشتغل محررا في جريدة المبشر بالعاصمة، وهي مدرسة للصحافة والمخابرات معا، وعهد إليه سنة 1907 بإدارة تحرير جريدة (كوكب إفريقية) التي أسستها إدارة جونار وأشرفت عليها مطبعة فونتانة، وقد أظهر حنكة وخبرة خلال عمله الصحفي، ثم تولى مع لويس بودي L.BOUDI إنشاء (التقويم الجزائري) فأصدرا منه ثلاثة أعداد (ثلاث سنوات). وكان كحول ناجحا في حشو (التقويم) بالمعلومات والصور والإحصاءات والأشعار، وقد أصبح التقويم مصدرا مهما، باعتباره حولية صادرة من ميزانية الإدارة وتحت إشرافها، ثم تولى الشيخ كحول أيضا الإمامة والتدريس في مدرسة الجزائر الشرعية - الفرنسية، ثم الفتوى، ولو سخر قلمه لفائدة الدين والعلم والوطن لقدم فائدة كبيرة لأنه كان متعلما قويا، ولكن الله شاء له تلك النهاية، فعندما نقل جثمانه إلى قسنطينة لم يتطوع أحد حتى للصلاة عليه، فتقدم صديق قديم للصلاة

عليه، وهو الشيخ أحمد الحبيباتني، ولكن هذا الشيخ قد عرض حياته للتهديد إذا هو فعل ذلك (¬1). والإمام الذي وقف سنة 1930 على منصة الرئيس الافرنسي ليحتفل بالاحتلال ويمارس السياسة على أوسع نطاق، هو الذي أفتى - وقد صار مفتيا - سنه 1937 بعدم استعمال الجامع للسياسة، كان ذلك عندما لجأ بعض أنصار (حزب الشعب) أثناء إحدى المظاهرات، إلى الجامع الكبير، بعد اشتباكهم مع الشرطة الفرنسية، فقد أصدر المفتي حمدان حمود بيانا استنكر فيه لجوء المتظاهرين إلى الجامع، وقال إن ذلك يجب ألا يتكرر لأنه لا يليق بحرمة الجامع، وقال أيضا إنه لا يليق بجماعة سياسية الاعتداء على حرمة المسجد، خصوصا وأنها تنتمي إلى حزب سياسي منحل (¬2). وكان متوقعا أن يتخذ رجال الدين بمناسبة الحرب العالمية الثانية مواقف مشابهة لما اتخذوه من مواقف في بداية الحرب الأولى، سواء كان ذلك بإرادتهم أو أملي عليهم إملاء، ويبدو أن أكثرهم حماسا هو المفتي حمدان حمود الذي لا نعرف عن كفاءته الدينية والعلمية سوى أنه من خريجي مدرسة الجزائر الرسمية، فمن هو حتى يمثل الإسلام والمسلمين؟ لقد اغتنم رجال الدين هؤلاء - من مفتين وأئمة - فرصة حلول ليلة الإسراء والمعراج، وعقدوا اجتماعهم (السياسي) جدا، وبعد خطاب ألقاه المفتي المذكور (دحمان حمود). طلب من المصلين الدعاء بالنصر للأمة الفرنسية (¬3). ولكن ¬

_ (¬1) انظر الصحف المعاصرة، ولا سيما مجلة إفريقية الفرنسية، A.F، غشت/ سبتمبر، 1936، ص 464 وفيها تفاصيل، كان الشيخ كحول يبلغ 68 سنة عند اغتياله، وكان يحمل وسام جوقة الشرف الفرنسي (الليجون دونور). وكان له ستة أبناء، وقد خلفه في منصب الفتوى أبو القاسم الحفناوي الذي كان زميله في (المبشر) وهو صاحب كتاب (تعريف الخلف برجال السلف). (¬2) مجلة إفريقية الفرنسية، ديسمبر، 1937، تأسس حزب الشعب في هذه السنة في باريس، وكان له فروع وأنصار في الجزائر، وقد حكمت السلطات بحله. (¬3) نفس المصدر، غشت - سبتمبر، 1939، عقد اجتماع رجال الدين، حسب هذا =

تصنيف المساجد وموظفيها

الحكومة الفرنسية سقطت في أقل من عام، وعانت الأمة الفرنسية من التمزق والاحتلال بدورها ما كان عبرة للجزائريين والعالم. تصنيف المساجد وموظفيها إذا نظرنا إلى هيئة رجال الدين فسنجدها لا تلفت النظر في حجمها ولا فعاليتها، ففي آخر العهد الفرنسي بلغ عدد المفتين 25، والأئمة 124، والمدرسين 21، وبلغ الحزابون والمؤذنون 150، وهناك أشخاص آخرون توظفهم الإدارة الفرنسية في المساجد وتسميهم بالأشخاص الرئيسيين وعددهم 6189، والأشخاص الثانويين وعددهم 253 (¬1). كل ذلك في شعب تعداده حوالي عشرة ملايين نسمة. هذا عن المساجد التي تشرف عليها الإدارة وعن الموظفين الذين تصرف عليهم من ميزانية الدولة (بعد ضم الأوقاف إليها). أما المساجد الأخرى فهي كثيرة، وهي إما تحت رقابة السلطات المحلية دون الإشراف المالي عليها، وإما حرة تماما، وهي المساجد التي نشأت منذ 1920 تقريبا، وتذكر المصادر الفرنسية أن فرنسا أصلحت من الجامع الكبير بالعاصمة ونقلت إليه عرصات جامع السيدة بعد هدمه، وأنها رممت بعض المساجد في عواصم الأقاليم الأخرى مثل وهران وقسنطينة، كما قامت بإنشاء مسجد باريس، وهو مشروع سياسي في الحقيقة ولا يهم الجزائريين وحدهم، وقد بدأ العمل فيه والحديث عنه منذ آخر القرن الماضي (عهد كامبون). ولو أن السلطات الفرنسية تركت للمسلمين مساجدهم دون أن تهدمها أو تحولها عن وجهتها أو تبيعها لأغراض دنيوية، لقاموا بشؤونها أفضل بكثير مما فعلت هي، سيما لو أنها ردت إليهم أوقافهم المصادرة، وقد لخص الشيخ محمد ¬

_ = المصدر في 11 سبتمبر. عن دحمان حمود (حمو دحمان أحيانا) انظر فصل التعليم في المساجد. (¬1) قوانار P.Goinard (الجزائر ...). ص 296.

بيرم الخامس الوضع عند زيارته للجزائر في القرن الماضي بقوله عن السلطات الفرنسية والمساجد (وفي كل بلد (بلدة) اقتصرت (السلطات) على عدد من المساجد مخصوص تقوم به، وتصرفت في غير ذلك بما يناسبها، وحرمت المستحقين من مال الأوقاف الذي هو مالهم، مثل أوقاف الحرمين) (¬1). لم تكن الجزائر في حاجة إلى مساجد عندما احتلتها فرنسا، ولم يكن الشعب عاجزا عن إنشاء المساجد والمحافظة عليها، فالوثائق الفرنسية تشهد أن الأعراش كانت تبني المساجد من تلقاء نفسها، رغم الحرمان والفقر والحروب ومصادرة الأراضي، ويذكر تقرير يرجع إلى سنة 1846 - 1849 أن ثلاثة مساجد بنيت في البليدة، وستة في أم السنام (الأصنام)، واثنين في معسكر، وواحدا في كل من سور الغزلان وسكيكدة، وقالمة، وسطيف وباتنة (¬2). فالمجموع ستة عشر مسجدا قيل عنها إنها بنيت من أموال الأعراش والقبائل وليس من ميزانية الإدارة الاستعمارية. وفي إحصاء آخر يرجع إلى سنة 1851 أن في الجزائر، المحتلة عندئذ، 1، 569 مسجدا، منها 75 في المناطق التي أطلقوا عليها مدنية (أي المدن الساحلية وما حولها) موزعة كالتالي: 33 في إقليم الجزائر، و 28 في إقليم قسنطينة، و 14 في إقليم وهران، أما المساجد في المناطق الريفية (البادية أو العسكرية) فتبلغ 1، 494 مسجدا، منها 951 في إقليم قسنطينة، 947 في إقليم الجزائر، 194 في إقليم وهران، ولكن هذه المساجد كلها (عدا المصنفة التي سنذكرها) لا يحصل القائمون عليها على أي راتب لا من الأوقاف التي صودرت ولا من ميزانية الحكومة الفرنسية، غير أن التناقض يظهر في أنهم (الأئمة) جميعا كانت تعينهم السلطات الفرنسية للإشراف عليهم سياسيا فقط (¬3). ¬

_ (¬1) محمد بيرم (صفوة الاعتبار ...)، 4/ 19. (¬2) السجل (طابلو)، 1846 - 1849، ص 727 - 728. (¬3) السجل (طابلو)، 1851 - 1852، ص 206.

وما سمي بتصنيف المساجد في الجزائر جرى سنة 1851. فخلال عشرين سنة من الاحتلال ظل وضع المساجد وموظفيها على ما هو عليه دون دراسة في ضوء التغيرات التى حدثت نتيجة الاحتلال، ولا سيما التغيرات الكبيرة مثل: 1 - الاستيلاء على الأوقاف. 2 - هدم وتحويل العديد من المساجد. 3 - هجرة وموت الكثير من الوكلاء والموظفين. وقد ترتب على الإجراءات الفرنسية المذكورة الإهمال لشؤون المساجد وموظفيها، فقد انتزعت الرواتب من هؤلاء دون أن يحصلوا على ما يؤمن بقاءهم في تسيير شؤون المساجد، وكذلك كان مصير الوكلاء، الذين كانوا يشرفون ويسيرون أوقاف كل مؤسسة، وهذا في الوقت الذي كانت فيه السلطات الفرنسية تفسح المجال وتساعد على إنشاء الكنيسة الكاثوليكية في الجزائر وتقدم لها العون المالي والأراضي وحتى المساجد لتحولها إلى كنائس (¬1). وبعد دراسات مستفيضة دامت سنوات، صدر تصنيف المساجد حسب أهمية المسجد والمدينة الواقع فيها، مع ملاحظة أن التصنيف لا يشمل الجامع الكبير بالعاصمة، وهو الجامع الذي نظر إليه الفرنسيون على أنه ذو اعتبار خاص، كما كانوا ينظرون إلى كنائسهم الكبرى - أو الكاتيدرالية (وكان في الواقع ذا حرمة كبيرة في العهد العثماني، وكان من حيث التعليم في مقام الجامعة، ولكن الفرنسيين قلصوا حجمه ووظيفته وغطوه من جميع الجهات، وكادوا في عدة مرات يهدمونه، وإليك الآن أصناف المساجد: 1 - الصنف الأول: المساجد ذات المنارة الكبيرة. 2 - الصنف الثاني: المساجد ذات منابر الخطب الجمعية والعيدين. ¬

_ (¬1) عن ذلك انظر فصل المعالم الإسلامية.

3 - الصنف الثالث: المساجد ذات المنابر الأقل أهمية. 4 - الصنف الرابع: المساجد التي ليس لها منابر. 5 - الصنف الخامس: الزوايا (أو المساجد التابعة لها) (¬1). وبناء على هذا التصنيف، الاعتباطي في الحقيقة والذي راعى الجانب المالي أكثر من الجانب الروحي، أصبح في الجزائر كلها تسعة مساجد فقط من الصنف الأول: ثلاثة في العاصمة (عدا الجامع الكبير). وهي: الجامع الجديد، وجامع سيدي رمضان وجامع صفر، وكم كان في العاصمة من المساجد ذات الصوامع الكبيرة والجميلة ولكنها هدمت أو حولت عن غرضها مثل جامع كتشاوة وجامع السيدة، وفي قسنطينة كذلك كانت عدة مساجد من الدرجة الأولى من التصنيف لو أنها بقيت على حالها، ولكن هذا التصنيف ذكر منها الجامع الكبير وجامعا آخر لا يحضرنا اسمه، أما في تلمسان فلم يبق إلا الجامع الكبير، وقد كان في معسكر مسجد ذو منارة عالية أشاد به الفرنسيون أنفسهم، ولكنه أهمل من هذا التصنيف، ربما لأن مدينة معسكر لم تعد لها الأهمية التي كانت لها زمن الأمير والبايات. وعدد مساجد الصنف الثاني تسعة فقط أيضا، أي تلك التي لها منابر للخطبة، منها اثنان في قسنطينة واثنان في تلمسان، وواحد في كل من البليدة وعنابة ووهران ومستغانم ومعسكر، ومن الصنف الثالث اثنا عشر مسجدا: قسنطينة (5)، وتلمسان (ضضض 2)، وواحد في كل من شرشال وتنس والمدية ومليانة ودلس. لاحظ أن التصنيف لم يذكر لمدينة الجزائر التي كانت تضم عشرات المساجد، أي مسجد من الصنف الثاني ولا من الثالث، أما الصنف الرابع فقد كان يضم 14 مسجدا، وكان حظ مدينة الجزائر منه أربعة فقط، وقسنطينة ستة وتلمسان اثنين، وواحد في سكيكدة والقليعة، ونلاحظ أن مدينة بجاية التي كانت تتوفر على عدد كبير من المساجد (انظر الفصل ¬

_ (¬1) للمزيد عن أصناف المساجد انظر فصل المعالم الإسلامية وفصل التعليم في المساجد.

الخاص بذلك) لم يذكر لها التصنيف أي مسجد من أي صنف من الأصناف الأربعة، ولم يذكر لعنابة إلا مسجدا من الدرجة الثانية رغم ما كان فيها من مساجد، وقس على ذلك مدنا أخرى. أما المساجد التي بداخل الزوايا والتي صنفت في الزوايا، فمنها سبعة وثلاثون (37). منها في العاصمة 12، وفي ساحلها 7، وفي قسنطينة 6، وفي تلمسان 5، ثم واحد في كل من بجاية وجيجل وميلة، وسطيف، وباتنة، ووهران، وسيدي بلعباس (¬1). فجملة المعابد والمساجد التي شملها التصنيف 78. وبمقتضى هذا التصنيف للمساجد يتحدد الموظفون ودرجاتهم وعددهم، وقد قلنا إن الذي تحكم في التصنيف كما يبدو، هو الميزانية التي ستخصص للموظفين والصيانة ونحو ذلك، وعلى هذا الأساس فإن المساجد التي ترجع إلى الأصناف الثلاثة الأولى يشرف عليها ويسيرها موظفون من نوع المفتين ويساعدهم في مهمتهم واحد أو اثنان من نوع الأئمة، كما يساعدهم عدد آخر من الموظفين بأهمية أقل، أما المساجد التي تدخل في الصنفين الرابع والخامس فيشرف عليهما موظفون من نوع الأئمة، ويمكننا أن نقوم بعملية لإخراج عدد المفتين وعدد الأئمة الرسميين، فمدينة الجزائر كان لها مفتيان - مالكي وحنفي - وكذلك قسنطينة، وفي تلمسان مفتي واحد، ولكن عدد الأئمة كان تقريبا بعدد المساجد، أي حوالي 78 إماما في الجملة، وهؤلاء هم الذين سيتقاضون مرتبات من الميزانية الاستعمارية (هكذا كانت تسمى). أما أئمة المساجد الأخرى، المساجد غير المصنفة وغير الرسمية - فلا يتقاضون مرتبات، كما ذكرنا، وعددهم بالمئات. وبعد أن عرفنا بعض الموظفين أثناء الحديث السابق، وهم المفتون ¬

_ (¬1) السجل (طابلو). سنة 1846 - 1849، ص 204 - 205. انظر كذلك زوزو (نصوص) ص 243، عن أرشيف وزارة الحربية بفانسان، 229 H.

والأئمة، دعنا نذكر الآن بقية الموظفين في المساجد والذين ستيقاضون أيضا أجورا من الميزانية الاستعمارية، وهؤلاء الموظفون موزعون أيضا حسب أهمية المسجد التابعون له، أي من أي صنف من الأصناف المذكورة هو، فموظفو مساجد الصنف الأول هم: مدرس واحد، وباش حزاب، وثلاثة حزابين آخرين من الدرجة الأولى، وثلاثة من الدرجة الثانية، (والحزاب هو قارئ القرآن) ومؤذن، وأربعة من الطلبة يطلق عليهم (ناس الحضور) أو الحضور فقط، وهم قراء صحيح البخاري في مواسم معينة مثل شهر رمضان المعظم. وأما موظفو مساجد الصنف الثاني، فبالإضافة إلى المفتي والإمام (أو هما معا) هناك حزاب من الدرجة الأولى، وحزابان من الدرجة الثانية، ومؤذن، ثم موظفو مساجد الصنف الثالث، وهم بالإضافة إلى المفتي والإمام، هناك حزاب واحد من الدرجة الثانية، ومؤذن، أما موظفو مساجد الصنف الرابع فيضاف إليهم مؤذن واحد فقط، ومن المفهوم أنه ليس للصنف الخامس موظف آخر غير الإمام فهذا هو الذي يقوم في المساجد المعنية بكل الوظائف تقريبا، بما فيها الإمامة في الصلاة والأذان وقراءة القرآن، وقد سبقت الإشارة إلى ذلك. بقي أن نتعرض للجامع الكبير بالعاصمة الذي استثني من التصنيف، لمراعاة سياسية، فيما يبدو، والجامع الكبير (الأعظم، كما كان يسمى) كان مقرا للمجلس العلمي، وللمفتي المالكي، وكانت له أوقاف ضخمة متميزة، وسمعة هائلة لمكانة مدرسيه ومرافقه المريحة لاستقبال العلماء الغرباء ومكتبته الغنية بالمخطوطات، الخ .. وقد بلغ أوجه كمؤسسة علمية في عهد الشيخ سعيد قدورة، وطل محتفظا بأهميته إلى وقت الاحتلال (¬1). وعندما صادرت فرنسا الأوقاف (ومنها أوقاف الحرمين والأشراف الخ ..) استثنت أوقاف الجامع الكبير، ولكن عندما بدأت بمصادرة أوقاف المساجد بدأت ¬

_ (¬1) انظر عنه الجزء الأول من هذا الكتاب.

بأوقاف الجامع الكبير سنة 1843، وكان المفتي الكبابطي قد عارض ذلك وغيره من الإجراءات الفرنسية، فكان مصيره النفي، ومن ثمة نرى أن الجامع الكبير بالعاصمة ظل في وضع استثنائي منذ الاحتلال، وكان يمكنه أن يلعب دورا استثنائيا أيضا في الحياة العلمية والدينية للبلاد لو أنه وجد علماء يقدرون ذلك ويعرفون مكانته ومكانتهم في التاريخ، ولكنه أصيب (بموظفين) خنعوا للضغط وطمعوا في المنصب، فكان حال الجامع كحال بقية المساجد (بدون استثناء)، وكان حالهم كحال بقية الموظفين في المساجد الأخرى. ولا تظهر المكانة المعنوية للجامع الكبير في عدد الموظفين الذين يتقاضون أجورا من السلطات الفرنسية، ولكن في الدور العلمي والديني، وهو الدور الذي فقده منذ الاحتلال، ومع ذلك فإن الفرنسيين قد خصصوا لهذا الجامع عددا أكبر من غيره من الموظفين، فكان هؤلاء يشملون: المفتي، والإمام، والمدرس، والباش حزاب (رئيس القراء)، وستة حزابين من الدرجة الأولى، و 12 حزابا من الدرجة الثانية، وباش مؤذن وهو ناظر الجامع أو القيم عليه، وثلاثة مؤقتين، و 9 مؤذنين و 4 يسمون ناس الحضور، وهم، كما قلنا، أناس متعلمون (طلبة) مهمتهم قراءة صحيح البخاري، ونلاحظ هنا عدم ذكر الوكيل الذي كانت مهمته الإشراف على الأوقاف وتسييرها وحفظ مداخيلها، وهو وظيف لم يعد له ضرورة ما دامت الأوقاف قد دخلت في الإدارة المالية (الدومين) وأصبح المشرف داخل هذه الإدارة نفسها تأتيه السجلات والحسابات إلى مكتبه، كما لا نجد ذكرا هنا لقارئ أو قراء (تنبيه الأنام) الذي كان ضمن موظفي بعض المساجد، وقد ذكرت المصادر الفرنسية أن المدرس هو (مفسر القرآن)، وهذا يعني أن الدور المسنود للمدرس في الجامع الكبير خلال هذا العهد قد انحصر في الدرس الديني، وهو في الواقع درس في الفقه والتوحيد انطلاقا من آية أو نص من حديث، ولذلك قلنا إن الجامع الكبير الذي كان في الماضي يعج بالمدرسين الأحرار قد خصص له مدرس واحد - وأي مدرس؟ - ليلقي على العامة درسا

في مبادئ الدين، ومن ثمة فقد الجامع مكانته العلمية، وكثير من الموظفين المذكورين سيقع الاستغناء عنهم أيضا فيما بعد. بالنسبة للرواتب أو الأجور نلاحظ أن تصنيف سنة 1851 قد نص على بعض التفصيل، فأجور المفتين والأئمة (حوالي 80 فردا) تخرج من ميزانية الدولة الفرنسية، أي من وزارة الحرب لأن الجزائر كمستعمرة كانت تابعة لهذه الوزارة، وأما أجور الموظفين الآخرين، ممن ذكرنا، المدرس، الحزاب، الخ، فتخرج من الميزانية المحلية أو البلدية (¬1). وفي السبعينات ذكر ألبير ديفوكس أن موظفي جامع سيدي رمضان (جامع القصبة القديمة، كما كان يسمى) كانوا على النحو التالي: خطيب وهو أيضا الإمام الذي يؤدي الصلاة اليومية والجمعة، ووكيل، ومؤذنان عاديان (من الدرجة الثانية). وثلاثة مؤذنين خاصين بيوم الجمعة، وستة من الحزابين، وخمسة من قراء كتاب (تنبيه الأنام)، وقارئ واحد لصحيح البخاري، وقارئ للتوحيد (¬2). وقراء آخرون احتياطيون لقراءة القرآن خلال شهر رمضان، وقارئ وأحد لقراءة كتاب سيدي عبد الرحمن (¬3). ثم رئيس للموظفين، وسراج وهو موقد المصابيح، ويسمى أحيانا الشعال، والكناس أو المنظف للمطاهر ونحوها. ولجامع سيدي رمضان مصاريف تتمثل في الصيانة والإضاءة خلال رمضان وغيره، من ذلك شراء الشمع: اثنتين خلال رمضان بخمسة فرنكات للواحدة، وتسعة مكاييل زيت للإضاءة، وسكريات، ثم شراء الحصر والزيت للإضاءة العادية، وتبييض الجامع مرتين في العام، والإصلاحات الضرورية الأخرى، وقد كانت للجامع أوقاف ضخمة (حوالي خمسين بناية) تغطي هذه ¬

_ (¬1) السجل (طابلو)، سنة 1846 - 1849، ص 205. (¬2) كذا، ولعل المقصود أحد الكتب الدينية فقط. (¬3) كذا، وقد يكون هو كتاب (العلوم الفاخرة) للشيخ الثعالبي، وله عدة كتب في الزهد والتصوف.

المصاريف وغيرها، ولكنها ضمت كغيرها إلى الإدارة المالية الفرنسية (الدومين) (¬1). وأصبحت هذه الإدارة تقتر عليه وعلى موظفيه. وهناك نموذج آخر ذكره ديفوكس وهو يخص إحدى الزوايا، أي الصنف الخامس من التصنيف المذكور، ونعني بها زاوية سيدي محمد الشريف المتوفى بالجزائر سنة 948 (1522) (¬2). وكانت تضم مسجدا من الدرجة الثانية (تصنيف ديفوكس) وله صومعة، وأضرحة، وغرفة فيها ضريح سيدي محمد الشريف، وجبانة لدفن المسلمين، ولكن الفرنسيين أوقفوا الدفن فيها منذ 1830 (ضضض 2). وكان بها أيضا مدرسة وثلاث غرف للسكنى، وكانت الزاوية مقرا للوكيل ولها موظفون كانوا يختارون عادة من نسل الشيخ سيدي محمد الشريف نفسه، وهم إمام (الخطيب) ومؤذن، وحزابان، وشاوش، وسراج، وكناس، ومنظف، وللزاوية مصاريف تنحصر تقريبا في التبييض مرتين سنويا لكل من الجامع والزاوية، وشراء حوالي 60 ليترا من الزيت للإضاءة شهريا، ثم شراء الحصر، و 25 رطلا من السكر للشربات المخصصة للعلماء وزوار الزاوية، وكانت الزاوية تطعم بمناسبة المولد النبوي، عددا من الفقراء الذين يحضرون إليها، كما كانت تشتري ثورين لهذا الغرض، و 18 كيلة من القمح، و 30 رطلا من الزبدة، و 15 أحمال من الحطب، و 6 كيلات من الزيت، بالإضافة إلى الخضر والفحم (¬3). من الطبيعي أن تختلف المصاريف من مؤسسة إلى أخرى، حسب الحجم والمال، وكذلك من عهد إلى آخر، وقد عرفنا أن جزءا فقط من الميزانية كانت تتحمله الدولة الفرنسية، رغم أنها هي التي استولت على مصادر التمويل لهذه المؤسسات وموظفيها، أما الجزء الباقي فمتروك ¬

_ (¬1) ديفوكس، (المؤسسات الدينية ...) ص 227. (¬2) انظر فصل المعالم الإسلامية. (¬3) ديفوكس، مرجع سابق، ص 239.

للسلطات المحلية (العسكرية) والبلدية، ونحن نعلم من دراستنا للأملاك الحضرية التي تعرض إليها السيد أوميرا، أن الحكومة الفرنسية كانت أحيانا تقدم جزءا ضئيلا فقط في شكل (مساعدات) خيرية للسلطات المحلية والبلدية، وكانت هذه السلطات لا تخصص شيئا أو لا تخصص إلا القليل من ميزانيتها للمؤسسات الإسلامية، ولذلك كان هناك مساجد بنيت من أموال الشيعب وتبرعات المحسنين. في 1831 كان دخل زاوية الولي داده وحدها: 403، 5 بياستر، وكان لها فائض هو 187 بياستر، وهذا الدخل موزع كما يلي: الإمام 24، 5، الخطيب 24، القارئ 18، زيت المصابيح 96، المنظف 30، الحصير 12، مواد أخرى متنوعة 12، وكان الفائض يرجع إلى الوكيل، وقد جرت العادة قبل الفرنسيين أن يكون للوكيل خوجة يساعده في الحسابات، كما أن على هذه الزاوية وغيرها أن تدفع مالا لفقراء مكة والمدينة، ولفقراء الجزائر أيضا، هذا عن الدراهم أما مداخيل الإيجارات التي تنجر عن أملاك الوقف والتي كانت تابعة دهذه الزاوية فلا ذكر لها هنا. وهذه الإيجارات تسمى (العنا). كما أن من مداخيل هذه الزاوية وغيرها ما يدفعه الزوار للتبرك والتعبد، وهو عادة يكون بكميات كبيرة (¬1). ولكن هذا الوضع قد تغير تماما بعد التصنيفات المذكورة سنة 1851. ومن عدة مصادر نعرف بعض ما كان يتقاضاه بعض الموظفين من الإدارة الفرنسية الجديدة بعد مصادرة الأوقاف، فهذا أحد الأئمة في جامع زاوية القاضي كان يتقاضى سنة 1845، مرتبا شهريا هو 5، 40 فرنك، وقد أناب عنه في الإمامة شخصا آخر (وهي عادة كانت جارية) ويعطيه نصف ذلك المبلغ، وكان المفتي الحنفي سنة 1266 هـ (1849 م) يأخذ من نفس الإدارة 250 ف شهريا. وفي سنة 1845 أيضا وجدنا إماما (مسجد ابن شلمون) ¬

_ (¬1) القس بلاكسلي (أربعة أشهر في الجزائر). لندن، 1859، ص 30، في هذا المصدر كذلك مدخولات زاوية الولي داده. أنظر ص 29، وهي تشمل مخزنين، وقطعة أرض زراعية، ومنازل ومحطة سفر، ومطمور للحبوب.

يقبض 1، 200 فرنكا سنويا، وهكذا (¬1). ويخبرنا أبو حامد المشرفي الذي زار تلمسان حوالي سنة 1878 أن إمام الجامع الكبير بها (وهو الشيخ ابن عودة بن غبريط) كان يقبض 15 ريالا دورو شهريا، وكان رئيس الحزابين (القراء) يقبض 12 ريالا دورو، وبناء على الشيخ المشرفي فقد كان بتلمسان عندئذ ثلاثون مسجدا عدا المراكز (المكاتب) القرآنية والجامع الكبير (¬2). وكان ذلك بعد التصنيف الذي اعتبر معظم مساجد تلمسان من النوع الرابع والخامس، وعندما زار بيرم الخامس مدينة الجزائر وجد فيها، كما قال، عشرة مدرسين، وأخبر أن القراعة كانت في النحو والفقه المالكي، وقليل من الحديث أو غيره (¬3). ويذكر رين أن رواتب رجال الدين المسلمين الموظفين عند الدولة الفرنسية قد بلغت 166، 490 فرنك سنة 1884، وهي موزعة كما يلي: 1 - 16 مفتيا يقبضون من 1، 200 فرنك إلى 4، 000 فرنك، أي 28، 200 فرنك. 2 - 81 إماما يتقاضون من 300 ف إلى 1، 500 ف، أي 40، 300 ف. 3 - عدد من الموظفين لا يوجد إلا في المساجد الكبيرة، وهم: 1 - المدرسون: وهم المكلفون بتعليم الدين للأطفال والتلاميذ البالغين (¬4). ¬

_ (¬1) انظر مراسلات علماء الجزائر في كتابنا (أبحاث وآراء) ج 3. (¬2) المشرفي (ذخيرة الأواخر). مخطوط، ص 19: وربما كان الإمام ابن عودة بن غبريط والدا لقدور بن غبريط الذي اشتهر في النصف الأول من هذا القرن على أنه من أبرز الموالين لفرنسا، انظر عنه فصل المشارق والمغارب، انظر أيضا فقرة (شؤون الحج) من هذا الفصل. (¬3) محمد بيرم (صفوة الاعتبار). مرجع سابق، 4/ 19. (¬4) هذا التفسير لدور المدرس يوضح الحالة التي وصل إليها التعليم عموما والتعليم المسجدي خصوصا. وكان لويس رين من خبراء هذا الموضوع.

2 - الباش حزابون: وهم قراء القرآن من الدرجة الأولى، وحزابون آخرون لقراءة القرآن وغيره من الكتب الدينية. 3 - الباش مؤذنون والمؤذنون العاديون، وقد عرفنا دورهم. ويقول رين: إن هؤلاء الموظفين في الأرقام الثلاثة الأخيرة يكلفون الميزانية الرسمية 76، 070 ف. أما صيانة المساجد والوسائل الأخرى الخاصة بإدارتها والمرصودة على ميزانية الجزائر، فقد كلفت الميزانية 49، 850 ف، فجملة تكاليف الديانة الإسلامية في الميزانية الفرنسية (مساجد وموظفون الخ) وصلت 216، 340 ف. وهذا مبلغ ضئيل جدا بالنسبة لعدد السكان المسلمين الذين بلغوا في الثمانينات ثلاثة ملايين نسمة، وقد أكد على ذلك لويس رين نفسه، سيما وقد لاحظ مدى تدين الجزائريين وحرصهم على عقيدتهم (¬1). وسنقارن هذه الميزانية بالميزانية المخصصة من قبل الدولة الفرنسية نفسها للأديان الأخرى في الجزائر، خلال نفس الفترة، وقبل ذلك نريد أن نؤكد على أن مساجد الجزائر لم تكن فقيرة وإنما حرمانها من أوقافها هو الذي جردها من الموارد المالية وترك موظفيها القليلين عالة على الإدارة الفرنسية، وكان الجزائريون في الواقع هم الذين يدفعون المبلغ المذكور (216، 340 ف) لأن السلطات الفرنسية كانت تفرض عليهم الضرائب العادية وضرائب أخرى دينية وأخرى تسميها (الضريبة العربية). فالقول بأن (ميزانية) الدولة أو الحكومة الفرنسية هي التي تغطي مصاريف المساجد ورواتب الموظفين هو محض تمويه غير مقبول. ... وبناء وصيانة المساجد كان مشكلة مزمنة، ويخبرنا آجرون أن المبلغ الذي تخصصه الدولة الفرنسية سنويا لذلك (وهو 45، 000 ف) كان لا ¬

_ (¬1) لويس رين (مرابطون وإخوان). مرجع سابق، ص 13.

يكفي، وكان يضيع في المرافق الأخرى لأن السلطات المحلية تتصرف فيه، ورغم كثرة الحديث عن بناء المساجد فإن المشاريع لا تتم بدعوى عدم توفر المال، وقصة جامع سبدو مثل على ذلك، ففي سنة 1880 (عهد الحاكم العام قريفي) بدئ فيه، ثم توقف العمل بعد سنة، وقيل: إن الحاكم العام تيرمان رخص للأهالي بجمع التبرعات له سنة 1888، ثم توقف العمل فيه من جديد بعد أن بلغ حائطه أربع مترات، بدعوى عدم المال، وكيف لا يكون التحيز واضحا في معاملة ميزانية الأديان الثلاثة في الجزائر، فرغم أن الإسلام دين الأغلبية الساحقة من السكان فإن ميزانيته أقل 22 مرة من ميزانية الديانة المسيحية وأقل 7 مرات من ميزانية الديانة اليهودية (¬1). وقد أشرنا إلى اضطهاد الديانة الإسلامية في مجال آخر، وهو عدم الفصل بينها وبين الدولة أسوة بالفصل الذي حدث بالنسبة للديانتين المسيحية واليهودية سنة 1907، فإلى 1947 كانت الدولة الفرنسية هي التي تسير الشؤون الإسلامية (¬2). ورغم صدور القانون بالفصل في التاريخ الأخير، فإن التطبيق لم يتم نظرا للعراقيل الكثيرة التي وضعها الكولون والحكام العامون، فقد كان خوفهم كبيرا من استقلالية الديانة الإسلامية، وكانوا يدعون أن المسلمين لم يتفقوا على كيفية الإشراف على ديانتهم، بينما كانت جمعية العلماء ومن أيدها ترى ضرورة قيام هيئة إسلامية لتشرف على ذلك، بينما كان الفرنسيون يريدون تكوين جمعية خاضعة للقوانين الفرنسية وتتحرك كما يتحرك الكاثوليك وغيرهم، وتنصيب (مجلس أعلى) منتخب، على طريقتهم في الانتخاب، وقد وظفت الإدارة عملاءها المعتادين لعرقلة كل تقدم في عملية فصل استقلالية الدين الإسلامي عن فرنسا. وإلى سنة 1952 كانت خطبة الجمعة، كما يقول ماسينيون، باسم ¬

_ (¬1) آجرون (الجزائريون المسلمون) 1/ 314. (¬2) صدر القانون عن البرلمان الفرنسي في صيف 1947، وفي 20 سبتمبر 1947 نصت المادة 56 من القانون على استقلالية العقيدة الإسلامية عن الدولة، غير أن هذا القانون لم يطبق حتى بعد اندلاع الثورة.

شؤون الحج

الخلفاء الراشدين الأربعة، وقد أشرنا إلى الصيغة التي ارتضاها المسلمون غداة الاحتلال، وليس فيها إشارة إلى الخلفاء الراشدين، ولا عبرة بالمرجعية التاريخية التي أصبحت في الحقيقة شكلية فقط، ما دامت الخلافة نفسها قد ألغيت سنة 1924، وما دام المسلمون غير قادرين على حكم أنفسهم بأنفسهم وتطبيق شريعتهم. وحوالي هذا التاريخ (1952) كان عدد الموظفين الرسميين في الديانة الإسلامية 573 من بينهم 25 مفتيا كما سبق، والباقون يشكلون الفئات الأخرى: الأئمة والخطباء والمدرسون والحزابة والمؤذنون، وكانوا جميعا يعينون تعيينا من قبل السلطات الفرنسية، أما عدد المساجد (الرسمية؟) فقد بلغ 174 مسجدا (¬1). وسواء نظرنا إلى عدد الهيئة الدينية أو إلى عدد المساجد، فإنه بالمقارنة إلى عدد السكان (قرابة العشرة ملايين سنة 1952) لا يمثل سوى نسبة ضئيلة جدا، ولا يدل على احترام مشاعر المسلمين ولا مكانة دينهم. شؤون الحج الشؤون الدينية (الديانة) في العهد الفرنسي كانت تشمل الصلوات والحج والصوم والزكاة وما تفرع منها كالعمرة والمواسم الدينية والجنائز وما يتصل بالطرق الصوفية والزوايا، ونحو ذلك، فالميدان واسع من حيث الاختصاصات، ولكن السلك الديني الذي نحن بصدده لم يسبق له من ذلك كله سوى اختصاصات محدودة تتعلق معظمها بالصلوات والعبادات الأخرى المتصلة بها، وحفظ المساجد الرسمية وإلقاء الدروس الدينية والظهور في المناسبات الدينية - والرسمية أحيانا - وإصدار رأي ديني تحتاجه السلطة، أما الشؤون الأخرى فلها جانبان: تقليدي وعملي، أما الجانب التقليدي فتتولاه الممارسات الشعبية دون الرجوع فيه إلى رجال الدين كزيارة المقابر والأولياء وإقامة الصلوات المبتدعة والأذكار وغير ذلك، وأما الجانب العملي فقد تولته ¬

_ (¬1) ماسينيون (الحولية). مرجع سابق، ص 234.

إدارة شؤون الأهالي لما له من أهمية اقتصادية أو سياسية كالزكوات والأعشار والمواريث والديات. فالزكاة تولتها الإدارة الفرنسية باعتبارها هي الضرائب الإسلامية، وقد أضافت إليها ضرائب أخرى مدنية، أطلقت عليها اسم (الضريبة العربية). فزكاة الحبوب والماشية كانت تجمع من قبل الجباة الفرنسيين في مواسمها، وبطريقة منتظمة، ولا دخل لرجال الدين في ذلك، وأما المواريث (التركات) فقد تولتها المحاكم الفرنسية، بعد أن انتزعتها من القضاة المسلمين. وكان الحج قضية سياسية منذ بداية الاحتلال، من جهة كان الحج مدرسة دينية - سياسية في حد ذاتها يستفيد منه المسلمون باجتماعهم في أقدس مكان عندهم كل سنة، ومن جهة أخرى، كان بعض الحجاج الأحرار لا يعودون من الحجاز ويفضلون البقاء هناك على العيش تحت النظام الفرنسي، وكان الحجاج يركبون سفنا غير فرنسية في أول الأمر، وقد تفطن الفرنسيون إلى ذلك فأصدروا قرارا بمنع الحج في غشت (أوت) سنة 1838 سواء كان رسميا أو حرا، ذلك أن بعض الذين كانت الإدارة تنظم حجهم كانوا أيضا لا يرجعون، وتوقفت الإدارة عن إعطاء الرخص للحج الحر، وظهرت أصوات منددة بهذا المنع لإحدى الشعائر الدينية المقدسة، وقرر بعضهم الذهاب إلى الحج مهما كانت العقوبة، ومع ذلك أكد الفرنسيون في مرسوم 4 ابريل 1856 مرسوم غشت 1838، ثم وقع التخفيف الجزئي منذ 1858 إذ صدر مرسوم آخر يمنح الرخص للحجاج الأحرار بشرط الخضوع لشروط معينة، ومن هذه الشروط التحريات الدقيقة عن أصل الحاج وسلوكه وأملاكه وأخلاقه، ومعنى ذلك ضمان رجوعه إذا سافر وضمان عدم تأثره بالأفكار (الأجنبية) في الحج، فالحجاج أصبحوا عندئذ هم الذين تختارهم الإدارة بنفسها (¬1). ¬

_ (¬1) رسالة إبراهيم الونيسي عن القضايا الوطنية في جريدة (المبشر). معهد التاريخ، جامعة الجزائر.

ومنذ 1847 كانت جريدة المبشر الرسمية ترغب الحجاج بعدم السفر إلا عن طريق الإدارة الفرنسية، وكانت تعلن لهم أن لفرنسا قناصل مهمتهم حماية الحجاج الجزائريين باعتبارهم رعايا فرنسيين، وهؤلاء القناصل، حسب قولها، منتشرون في مصر والشام والحجاز، وقالت إن أخذ الحاج تذكرة السفر الفرنسية (هي حمايتكم، وبها يعتزون، وفي ذلك فائدة عظيمة) (¬1). ويبدو أن ذلك مجرد (إعلان) رسمي فقط من المبشر، أما الإدارة نفسها فقد كانت تمنع إعطاء الرخص للحج عندئذ، ولا سبيل إليه إلا عن طريق الهروب والتعامل مع الشركات الإنكليزية وغيرها، وقد نشرت (المبشر) خبرا عن الطرق التي يسلكها الحجاج إذا سافروا مع السفن الفرنسية، فهي حسب قولها: طريق الإسكندرية، وثمن التذكرة في الدرجة الأولى 484 فرنك ونصف، والدرجة الثانية 313 ف ونصف، والثالثة 146 ف ونصف، أما طريق بيروت فتذكرة الدرجة الأولى فيه 495 ف ونصف، والثانية 338 ف ونصف، والثالثة 153 ف ونصف، وهناك أيضا طريق يافا وتذكرته الأولى 522 ف ونصف، والثانية 349 ف ونصف، والثالثة 158 ف ونصف، ثم طريق مرسيليا التي تسافر منها البواخر مرتين في الشهر (¬2). وكان الحجاج الجزائريون يخضعون لضغوط مختلفة في الحجاز، فهم يجدون إخوانهم الذين سبقوهم إلى هناك واستقروا في المدينة أو مكة، كما يجدون أولئك الذين هاجروا إلى بلاد الشام مع الأمير عبد القادر أو قبله يؤدون فريضة الحج، وكثيرا ما يطلب هؤلاء من أولئك عدم الرجوع والبقاء في أرض الله الطاهرة، ولا شك أن الدولة العثمانية كانت ترغب الجزائريين في البقاء في المشرق، وكانت لها أطماع قديمة في الجزائر بعد أن ضيعتها سنة 1830، وإلى 1847 لم تعترف رسميا باحتلال فرنسا للجزائر، وفي سنة ¬

_ (¬1) المبشر، العدد الأول، سبتمبر، 1847. (¬2) المبشر، 15 مارس، 1853.

1858 جرت مظاهرة في الحجاز ووقع أثناءها تعيير الجزائريين على خضوعهم لفرنسا، ولعل ذلك كان من بين الأسباب التي أدت إلى أن يعلن نابليون الثالث أنه يحمي كل رعايا دولته حيثما كانوا. ويزعم فايسات أن آل الفكون (قسنطينة). قد حافظوا على وظيفة أمير الركب التي كانت لهم في الماضي، إلى (سنة 1867) (¬1). والواقع أن هذه العائلة قد فقدت مجدها حتى قبل ولاية حمودة الفكون مشيخة المدينة على أثر الاحتلال سنة 1837، أما والده، شيخ الإسلام محمد الفكون فقد كان شيخا هرما، عندئذ وقد جيء به محولا على كرسي لمقابلة المارشال فاليه الذي دخل قسنطينة دخول المنتصرين، ثم أوقف الفرنسيون العمل بوظيفة (شيخ الإسلام). فكيف تبقى عائلة الفكون على وظيفة (أمير الركب) أي رئيس الحجاج؟ وكان أمير الركب هو الذي يحمل (صرة) ما وفرته أوقاف مكة والمدينة كل عام إلى فقراء الحرمين، ولكن الفرنسيين صادروا هذه الأوقاف وغير ها. وإلى جانب التعللات السياسية والاقتصادية، كان الفرنسيون يتعللون أيضا بانتشار الأمراض في الحجاز ويجعلون ذلك سببا في منع الحج، وكان ذلك يتكرر بكثرة، حتى لقد أصبح أمرا مفضوحا وغير مقنع، فقد كان يخفي وراءه الخوف من المرض السياسي، وقد تغيرت الإجراءات قليلا منذ الخمسينات ومرسوم 1858. منذ البداية كان الفرنسيون مهتمين بالحجاز لا من أجل قضايا الحج فقط ولكن من أجل التجارة والنفوذ السياسي ومزاحمة الإنكليز أيضا، وكان لفرنسا جواسيسها من الحجاج الجزائريين ومن أبنائها، وقد أصبح معروفا ذلك الدور الذي قام به ليون روش سنة 1842 في الحجاز، ولم يكن الأمر متعلقا بالفتوى الشهيرة فقط، ولكنه متعلق أيضا بدراسة أوضاع الحجاز التجارية والسياسية والدينية وتقديم صورة عنها إلى السلطات الفرنسية بعد ¬

_ (¬1) فايسات، مجلة (روكاي). 1867، ص 258.

رجوعه، وكان قد اصطحب معه بعض رجال الدين الجزائريين الذين كانوا في واقع الأمر جواسيس أيضا لأن ذهابهم معه لم يكن لغرض ديني، (وإنما لكل امرئ ما نوى). وكانت طرق القوافل والحج موضوع دراسات فرنسية مبكرة، وكان أصحاب الدراسات يحثون حكومتهم على الاستفادة من نفوذ أعيان المغرب العربي وتجارتهم (¬1). ولكن أبواب الحج كانت غالبا مغلقة لأسباب سياسية، ففي سنة 1848 (سنة قيام الجمهورية الثانية، على إثر هزيمة الأمير الذي حمل إلى سجون فرنسا) كان على الحجاج أن يحصلوا على رخصة مسبقة لتسهيل مراقبتهم، ومن شروط الرخصة أن يثبت الحاج أن لديه مالا يكفيه للذهاب والإياب، وغالبا ما كانت الرخصة مرفوضة لأن الحج في نظر الفرنسيين يزيد الحجاج (تعصبا)، وقد أعلن الأميرال ديقيدون (1871 - 1873) صراحة بأنه لن يرخص في الحج لأن الحجاج يرجعون أكثر كراهية للفرنسيين (¬2). وتغيرت هذه السياسة بعض الشيء في عهد الجنرال شانزي فرخص بالحج سنة 1873، وسافر الناس في أعداد راها المعاصرون كثيرة، وهي 1500 حاج، ثم توقفت الرخصة سنة 1874، 1877، للأسباب المعتادة وهي وقوع الوباء في طرابلس والحجاز، والحروب في الدولة العثمانية، ويذهب آجرون إلى أن الحج قد رخص به سنوات 1875، 1876، 1878 لكنه لا يذكر العدد ولا وسائل النقل ولا شروط الرخصة (¬3). والمعروف أن حركة هجرة، جماعية أحيانا، وقعت خلال السبعينات، وكانت السلطات الفرنسية تمنع ذلك خشية من تشويه سمعتها في العالم الإسلامي (¬4). وفي هذا النطاق رخص الحاكم العام قريفي (1879 - 1881) بالحج ¬

_ (¬1) انظر فورتان ديفري Fortin D'Ivry في (الجزائر) في مجلة الشرق R.de l'Orient، باريس، 1845، المجلد 8. (¬2) آجرون (الجزائريون) 1/ 298، 301. (¬3) نفس المصدر، ص 307. (¬4) انظر فصل المشارق والمغارب.

سنة 1879، ففيها سافر 946 حاجا فقط وعلى حسابهم الخاص، وكانوا موزعين، حسب أحد التقارير، على الولايات الثلاث كما يلي: الجزائر 519، وهران 279، قسنطينة 148، وقد ذكر التقرير أن العدد كان أكبر من ذلك في الأوقات العادية، ولكن وجود المرض المعدي (الوباء؟) في هذه السنة بالجزيرة العربية لم يسمح إلا بالعدد المذكور، وهذا تبرير واه لأن العدد لا دخل له في الإصابات، وليس هناك شروط تشترطها البلاد المستقبلة (¬1). ثم لجأ قريفي إلى منع الحج بطرق ملتوية وذلك بإصداره منشورا (1881) يقيد فيه الحج ويمنع على الحجاج الدخول في طرق صوفية معادية لفرنسا (مثل السنوسية والمدنية) أو يربطون علاقات مع المهيجين والدعاة اللاجئين في الدول الإسلامية، ولعل المقصود بهم بعض المهاجرين الجزائريين الذين أصبحوا جالية متنفذة في الشام والحجاز واسطانبول، وقد فهم آجرون أن ذلك الموقف من قريفي يعني منع الحج السري الذي يبدو أنه كان بكثرة ما دامت السلطات قد منعت الحج العلني، وقد يكون ذلك راجعا إلى قلة العدد الذي سمح له بالحج وإلى حسن (اختياره) من الإدارة، فاضطر الناس إلى الحج السري الذي اختلط أيضا بالهجرة، وكان الوباء هو الراية التي يرفعها الفرنسيون لإقناع عامة الناس برفض الرخصة (¬2). والمعروف أيضا أن سنة 1881 قد شهدت ثورة بوعمامة، ومؤامرة القضاة (انظر لاحقا). وفي هذه السنة أيضا كان القنصل الفرنسي روستان في الشام يحذر من (الجمعيات السرية) في البلاد الإسلامية، فمنع الحج إذن كان مرتبطا بكل هذه التطورات. ورغم طول عهد لويس تيرمان (1882 - 1891) فإن الحج لم يقع فيه إلا قليلا، والحجة المعتادة والواهية هي وجود الوباء وتوتر الجو الدولي، ثم أضيف إلى ذلك عدم استعداد السفن الإنكليزية لحمل الحجاج، والحقيقة هي أن تيرمان كان له وجهان، ففي الظاهر كان يلجأ إلى ما ذكرنا، وفي الباطن ¬

_ (¬1) حكومة ألبير قريفي، ص 49 (هكذا وجدت مقيدا بأوراقي وقد ضاع مني الباقي). (¬2) آجرون (الجزائريون) 1/ 310.

كان يوصي المسؤولين بعدم الترخيص للحج للأخطار التي ترجع منه على المصالح الفرنسية، وكان يعرف أن المنع الرسمي للحج غير مأمون العاقبة ولذلك كان يلجأ إلى التحايل، وكان يرى في الحج وسيلة سياسية معادية، ولذلك جعل الترخيص به مقصورا على الحاكم العام نفسه، وفي سنة 1884 احتج تيرمان بثورة المهدي ضد الإنكليز في السودان، وقيل: إن عددا من الحجاج تمكن من أداء الفريضة سنة 1880، 1888، ثم منع الحج تماما إلى سنة 1891 حين سافر 1500 حاج، بعد أن اشترط عليهم توفير المال للتذكرة ذهابا وإيابا (¬1). وفتح جول كامبون الباب نحو الشرق الإسلامي باستصداره أيضا فتوى مشابهة لفتوى سلفه بوجو، وبإرساله بعثة متنكرة للتجسس أيضا على أحوال العالم الإسلامي في الحجاز (¬2). وفي هذه المرة كان (البطل) هو (جيرفي كورتيلمون) الذي كتب رحلة إلى مكة روى فيها مغامراته من الجزائر إلى مكة، وقد ذهب هناك في غير وقت الحج لأننا لا نجد في رحلته حديثا عن الوقوف بعرفة، وجيرفي هذا كتب دراسات عن الجزائر وتونس والمغرب الأقصى ومصر، وتخصص في الحياة الإسلامية، وكان يعيش في العاصمة ومشتغلا أيضا بقضايا الفن Editeur d'Art، وكان يعتقد أن مكة، باعتبارها عاصمة دينية وثقافية جديرة بالدراسة، لذلك قرر زيارتها سنة 1895، وقد اصطحب معه صديقا له جزائريا وهو الحاج أكلي الذي قال: إنه لا يشك في إخلاصه له ولفرنسا، وقال عن أكلي إنه قد سبق له الذهاب إلى مكة تسع عشرة (19) مرة، وما دام الأمر كذلك، فإن الحاج أكلي نفسه ربما كان يقوم بمهمات خاصة لفرنسا في الحجاز لأن الحج لم يكن مرخصا به للجميع، فما ¬

_ (¬1) آجرون (الجزائريون) 1/ 315. قيل إن بعض الصحفيين كتبوا بأن الحجاج رجعوا بالعكس أقل تعصبا من ذي قبل عندما قارنوا حالتهم بحالة المسلمين في مصر والحجاز وحياة البدو في المناطق التي مروا بها. (¬2) يقول قوانار (الجزائر) ص 296، أن كامبون قد سمح بأربع حجات، وفي إحداها مات 2000 من 7000 حاج بالكوليرا (سنة 1893).

بالك بهذه المرات الكثيرة. روى جيرفي تفاصيل رحلته إلى مكة رفقة الحاج أكلي، ففي جدة شكت فيه الشرطة التركية وكاد يكتشف ويقع في مأزق، ولكن الحاج أكلي تدخل وأنقذه، وبعد دخوله مكة ظل الشك يحوم حوله أيضا، وأظهر أنه طبيب وقام بعلاج بعض المرضى، وأقام علاقات صداقة في مكة وحصل من هؤلاء الأصدقاء (!) على معلومات ثمينة حول الوضع السياسي والتجاري والصحي، وقام بالشعائر وطاف مع مطوف يسمى عبد الرحمن وهو متخصص في تطويف الجزائريين، كان جيرفي، كما قلنا، مكلفا من حكومته بمهمة سرية لدى شريف مكة، وقد أنجزها، ونحن لا ندري ما هي هذه المهمة، ولعلها تلميع صورة فرنسا أو فتح بعض المجالات التجارية إلى جانب الإنكليز. أما الملاحظات العامة التي أبداها جيرفي فهي مهمة لنا ما دامت تتعلق بالجزائريين في الحج وصورة فرنسا هناك، يقول جيرفي إن الطريق بين جدة ومكة غير آمن من هجمات البدو على الحجاج، وأن تأثير فرنسا السياسي والتجاري شبه معدوم في الحجاز، والناس هناك يتحدثون عن فرنسا كدولة تضطهد الجزائريين والتونسيين، وهم يقولون إن النحس قد أصاب الجزائر وتونس بتسلط فرنسا عليهما ووقوعهما في أيدي النصارى، ويضيفون أن عرب الجزائر وتونس قد جردوا من أراضيهم، وفرضت عليهم الضرائب الثقيلة، وهم لذلك في حالة فقر مدقع وضنك شديد، ويقولون: إن فرنسا تهمل الحجاج الجزائريين وتتركهم بدون موارد، هذه هي الصورة السوداء إذن التي وجدها جيرفي عن بلاده في الحجاز، وكان عليه أن يبيضها، كما كان عليه، وهذه مهمته، أن يربط علاقات تجارية مع هذا البلد، ولذلك أوصى بأن تنشر فرنسا في أوساط مكة مناشير حول تونس والجزائر تذكر فيها بما قامت به فيهما من تقدم، وبذلك تتطور علاقات فرنسا السياسية والتجارية مع الحجاز، ونحن نفهم من رحلة جيرفي أن حالة الجزائر كانت معروفة في الحجاز وأنها حالة سيئة، وأن فرنسا هي التي كانت تتحمل المسؤولية في ذلك، وكان عليها أن تغير هذه الحالة لكي تفتح المجال

التجاري والسياسي مع المشرق، وخاصة مع الحجاز (¬1). ولا ندري إن كان ادوارد ألار Allard قد ذهب بنفسه إلى الحجاز أيضا سنة 1895، ولكننا نعلم أنه كان الطبيب المتصرف لدى الحكومة العامة في الجزائر، مكلفا بشؤون الحج، وفي هذا النطاق كتب تقريرا طويلا في السنة المذكورة عن الأمراض المعدية والوقاية منها، وكان قد نشر تقريره (أو دراسته) في مجلة متخصصة، ونقلته عنها مجلة إفريقية الفرنسية، ومن رأى (ألار) أن تمنع الحكومة العامة الحج مباشرة وأن لا تكثر من التشريعات في ذلك، بل تترك الوقت يعمل عمله، وعليها إغراء الحجاج المسلمين المتنورين بتفادي الأمراض والاختلاط بغيرهم، ومن رأيه أيضا أن على الحجاج الجزائريين البدء بزيارة المدينة المنورة قبل مكة المكرمة، لأسباب صحية (¬2). وفي 1902 قام بروفاش، وهو متصرف إداري للبلديات المختلصة في الجزائر، بمرافقة الحجاج الجزائريين إلى جدة، وبعد رجوعه قدم انطباعاته عن (الحج إلى مكة) أمام العلماء المستشرقين في مؤتمرهم بالجزائر 1905، وقد ركز على نقطتين: الأخطار التي يتعرض لها الحاج الجزائري كاستغلال المطوفين والتجار له، والأمراض في مكة ومنى، أما النقطة الثانية فهي اتهام ¬

_ (¬1) جيرفي كورتيلمون (رحلة إلى مكة). هاشيت، باريس، 1896، راجعتها (إفريقية الفرنسية). أكتوبر 1896، ص 326، وكان جيرفي قد قرأ جزءا من رحلته في مقر الجنة إفريقية الفرنسية) بتاريخ 29 نوفمبر 1895 بفرنسا، انظر إفريقية الفرنسية A.F، يناير 1896، ص 4 - 5. ومن الغريب أن صورة الحجاز عندئذ كأنها هي صورة حجاز اليوم، فقد لاحظ جيرفي أن الإنكليز هم كل شيء هناك، وأن الناس يقولون في مكة إن الإنكليز سيعتنقون الإسلام، وأنهم إذا فعلوا ذلك فإن دولة العالم ستكون إسلامية، أما اليوم فهؤلاء الناس يقولون بدون شك إن الله قد أرسل الأمريكان ليخدموا المسلمين ويدافعوا عنهم، وما علينا نحن إلا الراحة والأحلام، فماذا تغير إذن؟، عن رحلة جيرفي انظر أيضا بحثنا (فرنسيان في الحجاز) في مجلة (المنهل). عدد اغسطس، 1996. (¬2) إفريقية الفرنسية، يوليو، 1895، ص 229 - 231.

الأتراك هناك بصنع الكحول وشربها في مكة، وقد رد عليه في ذلك بعض علماء المسلمين الحاضرين، كما رد عليه ابن أبي شنب ضمنيا في مقاله، وكانت توصيات بروفاش شبيهة بتوصيات زميله ألار (¬1). وطبقا لهذه التوصيات سارت الأمور في عهد شارل جونار الذي أظهر نوعا من التسامح مع المسلمين الجزائريين في مجال الحج، فقد كتب أحد الفرنسيين مشجعا على الحج باعتباره سيعطي نتائج إيجابية لفرنسا، وقال هذا الكاتب: إن الحجاج الجزائريين يرجعون إلى دواويرهم ويقارنون بين ما رأوا في الحجاز وما يعيشونه في الجزائر، ففي الشرق سيجدون التعصب والكحول، وسيجدون الجنود عاجزين عن وقف الهجوم على كسوة الكعبة، وهذه الصورة السيئة ستتغير عند الحاج إذا رجع إلى موطنه وعندئذ سيحمد حكم فرنسا، وهذا هو التطور البطيء الذي عناه (ألار). ولا شك أن الدعاية الفرنسية كانت تصور الشرق على النحو المذكور تمشيا مع وصية جيرفي من جهة، وإعطاء صورة متناقضة عن صورة فرنسا في المشرق، وقد أضاف المستشرق (هوداس) أن مكة ستفقد قيمتها الدينية والتجارية لدى المسلمين بتقادم الزمن!. وفي هذه الأثناء أيضا قام الدكتور الطيب مرسلي، وهو طبيب جزائري متزج من فرنسية ولعله كان أيضا من المتجنسين بالجنسية الفرنسية، قام بجولة طويلة في الحجاز، وسجل ملاحظات لفائدة الإدارة الفرنسية (¬2). وهناك ثلاثة من هذه الملاحظات نود التوقف عندها، الأولى: مكانة بني ميزاب عند الشريف عون، شريف مكة، فهو يفضلهم على غيرهم من الحجاج الجزائريين، حسب هذه الرواية، حتى أنه هدم بعض آثار مكة استجابة لشكواهم سنة 1902، وكان بنو ميزاب يزاولون التجارة أيضا أثناء الحج ويربطون علاقات التجارة مع الهنود والسوريين، والملاحظة الثانية: ¬

_ (¬1) محمد بن أبي شنب، عرض ما ألقي في مؤتمر المستشرقين 14 (الجزائر 1905). المجلة الإفريقية، 1905، ص 328 - 329. (¬2) عن الدكتور مرسلي انظر فصل الترجمة.

عن الذبائح والتبذير فيها إذ روى الدكتور مرسلي أن حوالي مائة ألف رأس قد استهلكت في ذلك، والملاحظة الأخيرة أن القاضي لم يوافق على أن يأخذ الحاج عددا كبيرا من النسوة معه إلى الميناء، وذكر من ذلك بالخصوص حجاج الضواحي العليا لمدينة الجزائر (¬1). إن هذه الأمور الدينية إذا أضيفت إلى الأمور الاقتصادية والصحية والسياسية تجعل الفرنسيين يعرقلون الحج ويتدخلون فيه دون الرجوع إلى الهيئة الدينية الرسمية. كان الحاكم العام جونار قد أعلن سنة 1907 عن الترخيص بالحج وقيام الإدارة بالتزاماتها الدينية نحو الجزائريين، ونشرت الجرائد المحلية ذلك في أكتوبر من نفس العام، وبعد بضعة أشهر تغير الموقف فجأة، وأعلن نفس الحاكم العام عن منع الحج عام 1908، وسواء أكان المنع لأسباب صحية، كما جاء في الإعلان، أو لأسباب أخرى، فإن الناس لم يصدقوا الرواية الرسمية، ذلك أن من بين الأسباب الخفية حالة التذمر التي بدأت في الجزائر منذ أنشئت لجنة لدراسة فرض التجنيد على الشباب، وقد أخذت بعض العائلات والأفراد تهاجر سرأ وعلانية، كما أن تطور الأوضاع في تونس والدولة العثمانية في نفس الفترة كان يساعد على التفكير في أن السبب في المنع لم يكن كله صحيا، ومع ذلك فالبيان الصادر من الحكومة العامة قد هول الحالة، وقال: إنه قد ظهر الوباء في السواحل الجزائرية، ورغم الاحتياطات فإنه يخشى من انتشاره إذا تجمع الحجاج في الموانئ، وأضاف البيان أن الكوليرا قد انتشرت في البحر الأحمر، وأن لها ضحايا من حجاج الهند، وغيرهم، وأن البرقيات تحدثت عن ظهور الكوليرا في مكة أيضا، وأن ضحاياها بلغوا 80 ضحية، منها 50 حالة مميتة، ومن جهة أخرى أصبحت مصر مهددة أيضا حيث ظهرت الكوليرا في دمياط، وأمام كل ذلك قرر الحاكم العام (جونار) التراجع عن قراره السابق (¬2). ¬

_ (¬1) من مقالة كتبها بروفاش Bruvache بعنوان (الحج إلى مكة) في S.G.A.A.N، 1905. (¬2) إفريقية الفرنسية، فبراير، 1908، ص 59. عن إلغاء الحج سنة 1908 انظر أيضا =

وبالتدرج تحول الحج الرسمي إلى مسرحية سياسية، كانت الإدارة هي التي تنظمه وتشرف عليه وتختار عناصر الحجاج من الأعيان المعروفين لديها، وتصدرهم وتجعلهم يتفوهون بعبارات الشكر والحمد، والإخلاص والموالاة، وكانت تخلط بين رجال الدين والدنيا، بل وكانت تجمع بين أعيان الجزائر والمغرب وتونس، ومن ثمة أصبح الحجاج المختارون في الواقع سفراء لفرنسا، وليس غرض هذه الفقرة تتبع كل المراحل من الحج الرسمي المنظم فذلك يخرجنا عن موضوعنا، وإنما نذكر أن السلطات الفرنسية في الجزائر قد منعت الحج طيلة السنوات السابقة للحرب العالمية الأولى نظرا لأوضاع الجزائر نفسها بعد الهجرة الجماعية سنة 1911 وبعد التصديق على مشروع فرض التجنيد الإجباري وتشوش الرأي العام الجزائري، كذلك كانت حرب طرابلس (1911 - 1912). واحتلال المغرب الأقصى (1912) والانقلاب العثماني (1908 - 1909) من العوامل التي لم تساعد على حرية الحج، وعند اندلاع الحرب العالمية نفسها كانت فرنسا في معسكر والدولة العثمانية في معسكر اخر، فازداد المنع والتضييق على الحج. وكان على فرنسا أن تجند الرأي العام الجزائري ضد الدولة العثمانية، فأوعزت إلى رجال الدين ورؤساء الطرق الصوفية أن يعلنوا عن انحراف تركيا عن خدمة الإسلام، ولم يجد النخبة حرجا في ذلك، واهتم الكتاب، مثل ديبارمي، بما أسموه برواسب التعاطف مع الدولة العثمانية في الجزائر، وقد تضرر الحجاج من كل ذلك فانقطعت السبل باتجاه الحجاز إلى سنة 1916، ففي هذه السنة قام الشريف حسين بالتعاون مع الحلفاء بالثورة على الدولة العثمانية وإعلان الحرب عليها، وأرسل ابنه فيصل مع لورنس الإنكليزي إلى الشام، وكان الشريف في ذلك كله مخدوعا لأن الحلفاء كانوا في نفس الوقت يضعون خريطة جديدة للعالم العربي بعد هزيمة الدولة العثمانية، وهي ¬

_ = فصل الطرق الصوفية (حياة الشيخ ابن عليوة). وفي سنة 1914، وأمام الخوف من ردود الفعل الجزائرية خلال الحرب، أعلنت فرنسا أنها ستسمح بالحج بدون الطلب المسبق للرخصة، ولكن تطور الأحداث جعل ذلك مجرد ذر للرماد في العيون.

الخريطة المعروفة باتفاق سايكس - بيكو، وبالإضافة إلى ذلك كان الحلفاء يعدون اليهود بالوطن القومي في فلسطين، وهكذا فإن الفرنسيين بعد أن منعوا الحج على الجزائريين، كانوا متورطين في سلسلة من المؤامرات ضد الإسلام والمسلمين والعرب. وكما انخدع الشريف حسين وغيره في المشرق انخدع زعماء الرأي العام أيضا في الجزائر، فبعد ثورة الشريف حسين في الحجاز رخصت فرنسا بالحج لعدد من الشخصيات الرسمية المختارة، بلغوا 290، معظمهم من رجال) لدين، وكان على رأسهم قدور بن غبريط، ورافق الوفد الحاج بعثة دبلوماسية بقيادة الضابط محمد ولد قاضي، وكان ابن غبريط قد ولد في نواحي سيدي بلعباس وتعلم، ربما في مدرسة تلمسان الشرعية - الفرنسية، وأصبح مترجما في القنصلية الفرنسية في طنجة سنة 1893، وقام بمهمات لدى الحكومة المغربية تحضيرا للاحتلال الفرنسي، وأرسله الفرنسيون في مهمات دبلوماسية أيضا إلى روسيا، وكان عضوأ في اللجنة التي خططت الحدود بين الجزائر والمغرب سنة 1903، وها هو الآن (1916) على رأس وفد الحج الرسمي (¬1). ومع ذلك فإن الحج قد اعترضته عراقيل أخرى بعد ثورة الشريف حسين. وفي سنة 1917 حدث تطوران هامان: الأول: هو إنشاء الفرنسيين لجمعية الأوقاف (الأحباس) والأماكن المقدسة الإسلامية، وكان الهدف منها جلب المسلمين وإرضاءهم خلال الحرب، وكان رئيسها هو قدوربن غبريط، وكانت الجمعية وسيلة فرنسية أيضا للتدخل في الحجاز وفلسطين بعد أن شعرت فرنسا أن الإنكليز قد خططوا لحصر الفرنسيين في لبنان وسورية فقط، فكانت الأوقاف والحج وسيلة سياسية لنشر التأثير الفرنسي في ¬

_ (¬1) ربما يكون والده هو ابن عودة بن غبريط، إمام الجامع الكبير بتلمسان في آخر السبعينات من القرن الماضي، وقد تحدث عنه المشرفي في (ذخيرة الاواخر) بعد أن زار الجزائر سنة 1878، والبعثة الفرنسية إلى الشريف حسين كانت برئاسة الضابط الفرنسي، بريمون Bremond انظر فصل المشارق والمغارب.

مناطق التأثير الإنكليزي، وكان ابن غبريط من رجال الإدارة الفرنسية المخلصين، وكان ينعت على أنه من أنصار التقدم والتدرج السياسي. وفي هذا النطاق رشح لعمادة وإمامة جامع باريس عند افتتاحه سنة 1926، وكان هذا الجامع مؤسسة سياسية أيضا قبل أن يكون مؤسسة دينية (¬1). أما الحدث الثاني فهو وعد الفرنسيين اليهود بالوطن القومي في فلسطين، وكان الشائع إلى هذه السنوات أن الذي وعد اليهود بذلك هم الإنكليز على لسان (بلفور Balfour). ولكن الوثائق برهنت على أن الفرنسيين كانوا أسبق من الإنكليز في ذلك، فعلى لسان وزير الخارجية، ستيفان بيشون Pichon، وأمين عام الخارجية جول كامبون، أعلن الفرنسيون، قبل الإنكليز بعدة شهور، أنهم في صالح إنشاء الوطن القومي للصهاينة في فلسطين، وقد أعطوا وعدهم المكتوب إلى سوكولوف Sokolov، ممثل الصهاينة، (¬2). ويذهب علي مراد إلى أن صدور وعد بلفور (ولم يشر إلى وعد بيشون وكامبون) قد كشف للجزائريين عن التحالف المسيحي/ اليهودي ضد الإسلام، سيما وأن ذكرى قرار كريميو بتجنيس يهود الجزائر كانت ما تزال حية، وفي نظر مراد أن القضية الفلسطينية، قد أضيفت إلى القضية العثمانية وزادت من قلق المسلمين الجزائريين سياسيا ودينيا (¬3). كانت حرية الحج كما رأينا، تختلف من سنة إلى أخرى، حسب المزاج السياسي في الجزائر والمشرق، وها نحن نجد مجموعة من الحجاج العلماء والأعيان أدوا فريضتهم ورجعوا مسرورين، منهم بعض رجال الدين، ومعظمهم كانوا من شرق الجزائر، وقد وجدنا أحد المفتين يشكر الله على أن ¬

_ (¬1) كريستلو (المحاكم). ص 258. وقد ذكر زكي مبارك في كتابه (ليالي باريس) أنه حضر الصلاة في جامع باريس وأشاد بخطبة ودبلوماسية ابن غبريط. (¬2) انظر دراستنا عن هذا الموضوع، وقد أرسلنا بها للنشر، اعتذرت المجلة عن نشرها لأنها وجدتها (محرجة) وسنحاول نشرها على كل حال. (¬3) علي مراد (الإصلاح الإسلامي). 1967، ص 38.

وفق (قبائل الشاوية) فحج منهم عدد لم يسبق له نظير، كما قال، وكذلك حج من بقية الوطن عدد كبير، وكان ذلك سنة 1352 هـ (1933). ومن أهل العلم الذين حجوا هذا العام نذكر: أحمد الحبيبي (الحبيباتني؟) المدرس بقسنطينة، وتلميذيه أحمد البوعري (الذي توفي في الحجاز ودفن في رابغ). والشيخ المحسن الصحراوي إبراهيم، ثم الشيخ بلقاسم بن منيع المدرس بزاوية سيدي الحسين القشي، ومفتي تلمسان الحبيب بن عبد المالك، والطاهر بن زقوطة الإمام بأحد مساجد قسنطينة، والشيخ محمد أبو الحبال، الإمام بجيجل، وهو من الماهرين في القرآن (¬1). ورغم الحرب العالمية الثانية، فإن الفرنسيين وفروا باخرة لحمل الحجاج الرسميين إلى مكة وإعادتهم في ظرف شهر، ومن عجيب الصدف أن الباخرة التي حملتهم كانت تحمل اسم الأميرال (ديقيدون). ذلك الحاكم العام (1871 - 1873) الذي اضطهد الجزائريين ومنعهم من الحج، فقد حملت هذه الب ا، م حجاجأ من الجزائر وتونس والمغرب الأقصى وغرب إفريقية، فكان مجموع الجزائريين 273 فقط من بين 619 حاجا، وفي قائمة الجزائريين كل من رضيت عنه السلطات الفرنسية من أمثال شيخ العرب وزعيم (الميعاد الخيري) السيد بوعزيز بن قانة، وابن علي الشريف، وغلام الله محمد، وقاضي تلمسان، والباشاغا ابن شنوف، والباشاغا السماتي، وبعد أداء الحج جاء وفد منهم إلى الحاكم العام - لوبو Lebeau - لشكر فرنسا في شخصه، ووجدوا في استقبالهم قدور بن غبريط، ومدير الشؤون الأهلية، ميو، وقيل: إن الملك عبد العزيز بن سعود قد منع أية دعاية خلال الحج، مهما كان مصدرها (¬2). ومهما كان الأمر فإن الحج الرسمي كان منظما، كما ¬

_ (¬1) من مخطوط (تنبيه المسلم إلى فضائل زمزم) تأليف الحسن أبو الحبال، مفتي بجاية في وقته، مكتبة الشيخ علي أمقران السحنوني، ولعل أبو الحبال المذكور هو نفس الحاج، عن حسن بو الحبال انظر السنوسي (شعراء الجزائر). (¬2) مهندس (إفريقية الفرنسية) فبراير - مارس 1940، ص 48، وصلت الباخرة إلى جدة في 16 يناير، ورجعت إلى الجزائر في 14 فبراير، ولا شك أن هذا الوفد يمثل =

قلنا، وكان يرافق الحجاج وفد من الأطباء أيضا، ولا يخلو التنظيم من التجسس على الحجاج وأفكارهم من جهة والتجسس على حالة المسلمين في الحج من جهة أخرى، فقد كانت دائما وراء الحج الإسلامي حاجة فرنسية. وخلال هذه التنظيمات المختلفة للحج السياسي، لا نعلم أن رجال (الهيئة الدينية) قاموا بأي دور أو دعوا إلى أن يلعبوا في ذلك دورا، فلم يتدخلوا في منع الحج أو الترخيص به، ولم يترأسوا بعثة دينية في الحجاز أو كان منهم (أمير للركب) كما كان الحال في الزمن القديم، نعم، لقد حج بعض المفتين والأئمة والقضاة منذ القرن الماضي، ولكنهم حجوا كأفراد عاديين، وكان عليهم في القرن الماضي أن يتخلوا عن وظائفهم قبل الحج، وقد بقي أحد الموظفين عدة سنوات في المشرق قبل رجوعه،) ذا رجعوا فإنهم لا يجدون مكانهم في السلك الديني تلقائيا، وكان بعضهم لا يرجع أصلا، كما عرفنا، وقد استمرت السياسة الفرنسية نحو الحجاج خاضعة للمصالح السياسية والاقتصادية ودون مراعاة لمصالح الجزائريين، إلى عشية الثورة، ففي 1951 كانت الإدارة ما تزال تهتم بحجيج الأعيان، رغم أن الإعلان الرسمي ذكر أن الحجاج بلغوا في تلك السنة 1، 620 (¬1). ... هذا عن الحج، أما عن الصوم، فإن شهر رمضان المعظم كان يتخذ ¬

_ = الحجاج الرسميين فقط، أما عامة الحجاج فلا نعرف عنهم شيئا، وربما منعتهم السلطات الفرنسية من الحج بتعلات معروفة، انظر أيضا: دي لاشاريير (إفريقية الفرنسية). إبريل 1939، وقد تحدث في مقالة له عن الاستقرار في الجزائر عشية الحرب الثانية، ودور (أصدقاء فرنسا) في المغرب العربي، والحج على الباخرة (سيناء). أما عن قدور بن غبريط (عميد وإمام جامع باريس) فلينظر كتاب (أعيان المغرب الأقصى). قوفيون 1926، ص 260، انظر سابقا. (¬1) ماسينيون (الحولية). مرجع سابق، 1954، ص 253.

طابعا شعبيا، ومنذ الاحتلال فقد الصوم طابعه الرسمي، فالسلطة الفرنسية لا تعترف بالأعياد الدينية الإسلامية، فعيد الفطر وعيد النحر والمولد النبوي وعاشوراء ونحوها كلها أصبحت مناسبات يتولاها المسلمون، ولا دخل فيها للسلك الديني الرسمي إلا باعتبارهم من المسلمين، فليس هناك عطلات رسمية ولا احتفالات، ولكن الفرنسيين لم يمنعوا الاحتفالات بذلك، سيما في رمضان والمولد، وفي رمضان بالذات يمكن أن نذكر مناسبتين قد تدخلان في الممارسات الرسمية، الأولى إطلاق المدفع عند الإفطار، سيما في مدينة الجزائر من بطارية في المرسي، وكان المسلمون هم الذين يدفعون ثمن الطلقات في شكل ضريبة خاصة، ويستمر ذلك خلال الشهر، والثانية هي إنشاء لجنة في الحقبة الأخيرة أطلق عليها (لجنة الهلال) وكانت تحت إدارة الشؤون الأهلية، والمقصود الظاهري منها توحيد الإعلان عن الصيام والإفطار بالرجوع إلى الجهات الرسمية وعدم اتباع الدول الإسلامية الأخرى في ذلك أو الاعتماد على رؤية الهلال جماعيا وفرديا، وكانت هذه اللجنة قد أثارت بلبلة في أوساط المسلمين، وكان بعضهم يخالفها، ولو كانت صادقة، لأنها كانت تحت إشراف السلطة المحتلة، ولأن الهيئة الدينية التي تشير بذلك كانت مغلوبة على أمرها. وعلى المستوى الشعبي دائما كان عيد الفطر يستمر ثلاثة أيام، وكان إعلانه عن طريق المدفع أيضا، سواء اتبعه المسلمون أو اتبعوا غيره، وأثناء رمضان تضاء المآذن وتكثر الصلوات، وتنشط المقاهي، وتظل هذه مفتوحة إلى حوالي الثانية صباحا في المدن، وقد احتفظ الجزائريون بعادة المسحراتي، وهناك أعلام خاصة ترفع على الماذن، ويحيي الناس ليالي رمضان بطول السهر أكثر من الأوقات العادية، والتفنن في الألعاب والموسيقى والمأكولات، وفي يوم العيد يتفنن الناس في الملابس والحلويات، وتقام الصلوات الجماعية وتوزع الصدقات وتزار المقابر والأقارب، وقد استحدثت بدع كثيرة لابتعاد الناس عن تعاليم الدين، وكانت السلطة الفرنسية تشجع عليها لأنها تساعد على تغييب العقل والتعلق

إجحاف في حق الدين ورجاله

بالخرافات بدل السياسة، وقد ترك رجال الدين سنة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا سيما في المولد النبوي وغيره إذ تدخلت بعض الطرق الصوفية وأصبحت تمارس فيه أفعالا بعيدة عن سيرة الأسلاف (¬1). وقد سجل بعض الكتاب الجزائريين بالفرنسية وصف ممارسات مواطنيهم في رمضان للفرنسيين، ويبدو أنهم كانوا يعتقدون أنهم بذلك يخدمون الإسلام، وكانوا في الواقع إنما يخدمون الفرنسيين من جهة، ويسجلون واقعا اجتماعيا ودينيا من جهة أخرى، ولعلهم إنما كتبوا ما كتبوا للتدرب على الكتابة بالفرنسية ليكونوا مقبولين عند علماء الاجتماع والفولكلور الفرنسيين، أما أهل البلاد فلم يستفيدوا شيئا من كتاباتهم، ومن ذلك ما كتبه الشيخ محمد بن أبي شنب ومحمد صوالح عن عادات رمضان (¬2). إجحاف في حق الدين ورجاله ورغم هذا الغياب الطويل لرجال الهيئة الدينية عن الشؤون الدينية المحضة، فإننا نجد بعضهم يقفز إلى السطح أحيانا، ويكون هو المحرك عادة لمسألة فقهية وقع فيها خلاف بين مفتي وآخر، ويكون خلافهما أحيانا حادا فيؤدي إلى تدخل آخرين لنصرة هذا أو ذاك، ويقع الهجاء أحيانا وتقوم زوبعة ولكن في فنجان، كما يقولون، لأن المسألة لا تستحق كل ذلك الهرج، وقد تتدخل السلطة إذا رأت أن الخلاف قد ينجر عنه عواقب وخيمة في الأمن وزعزعة الأوضاع، كما فعلت في حالة الشيخ عاشور الخنقي مع الشيخ محمد الصالح بن مهنة، حول مسألة عصاة الأشراف، ومن المسائل التي تحضرنا الآن الخلاف الذي وقع بين المفتيين حميدة العمالي وأحمد بوقندورة، والذي ألفت فيه بعض التقاييد وقيلت فيه بعض القصائد وانتصر فيه القاضي ¬

_ (¬1) عن بعض هذه المخلفات وما بقي من الشعائر الدينية - الاجتماعية في الجزائر انظر اشيل روبير (الدين الإسلامي ..) في مجلة (روكاي) 1918، ص 246 - 260. (¬2) عن محمد صوالح انظر فصل الاستشراق وفصل الترجمة.

الطيب بن المختار للعمالي (¬1). وكذلك مهاترات أبي طالب الغريسي المعروف بأحمد المجاهد، انتصارا للمفتي علي بن الحفاف ضد محمد المصطفى المشرفي، وكل هذه الموضوعات سنعالجها في مكانها. كما أننا سنتحدث عن دور الكنيسة الفرنسية في مكان آخر من الكتاب. ونود الآن أن نقارن بين ما تخصصه السلطة الفرنسية للدين الإسلامي الذي هو دين الأغلبية الساحقة من السكان، وما تخصصه للديانة المسيحية والديانة اليهودية، ففي سنة 1884 ذكر لويس رين توزيع الميزانية بين الأديان الثلاثة مقارنة بأعداد السكان لكل دين، مع نسبة المخصصات لكل رأس أو فرد (¬2). الديانة ... عدد السكان ... الميزانية (بالفرنك) ... للفرد أو الرأس المسلمون ... 2، 842، 497 ... 216، 340 ... 0، 073 الكاثوليكيون ... 310، 000 ... 920، 100 ... 2، 93 البروتيستانتيون ... 7، 000 ... 83، 100 ... 11، 08 الإسرائيليون ... 35، 665 ... 26، 100 ... 0، 731 وقد تواصلت هذه السياسة المجحفة في حق الديانة الإسلامية طيلة العهد الفرنسي، مثلا قبل قانون فصل الدين عن الدولة (1907) كانت النفقات ما تزال غير عادلة، فقد كان المسيحيون جملة يتقاضون من إدارة الأديان مبالغ تعد ضعف ما للمسلمين رغم اختلاف عدد السكان الكبير. ¬

_ (¬1) عن العمالي انظر فصل التعليم في المدارس القرآنية والمساجد. (¬2) لويس رين (مرابطون ...) مرجع سابق، ص 13، وكذلك لويس فينيون (فرنسا في شمال إفريقية). ص 244، وبعد سنتين (1886) نجد زيادة طفيفة في ميزانية اليهود والبروتيستانت، والنقص القليل للكاثوليك، والثبات في ميزانية المسلمين، مع ملاحظة أن الكاثوليكية والبروتيستانتية ديانة واحدة في الأساس.

وإليك هذا الجدول: الديانة ... السكان ... النفقات (بالفرنك) المسلمون ... 4، 500، 000 ... 337، 000 المسيحيون ... 623، 000 ... 884، 000 الإسرائيليون ... 64، 000 ... 31، 000 ولم يغير قانون فصل الدين عن الدولة شيئا تقريبا بالنسبة للدين الإسلامي، إن فرنسا طبقت ذلك القانون على نفسها منذ 1905، وفي 27 سبتمبر 1907 سرى مفعول ذلك القانون على الجزائر أيضا، ولكن بالنسبة للمسيحية واليهودية فقط، أما بالنسبة للإسلام فقد ظل وضعه كما كان تقريبا، تتولى الإدارة فيه كل شيء، فهي التي كانت تسمي الموظفين في الحقيقة، وهي التي تتصرف في الأوقاف، وهي التي تضع المساجد والمعابد الإسلامية الأخرى تحت نفوذها، أما الجديد فهو استحداث الجمعيات الخيرية للتغطية فقط. ولو سارت الأمور بعد الفصل مع الإسلام كما سارت مع النصرانية واليهودية لكان على تلك الجمعيات أن تتولى هي الشؤون الدينية بالنسبة للمسلمين، كما هو الحال مع الأديان الأخرى، فإذا اعتمدت فرنسا الجمعية الدينية أصبحت هي المتصرفة في شؤون دينها، ولكن الأمر ليس كذلك بالنسبة للمسلمين، صحيح أن الجمعيات قد تكونت ولكنها لم تمارس حقوقها في هذا الجانب، ولا تهتم إلا بأمور الفقراء والمساكين، فهي لا تتدخل في الترشيح ولا التسمية ولا رواتب رجال الدين، وهكذا بقيت إدارة الشؤون الأهلية الرسمية هي التي تسمي رجال الدين وهي التي تنفق عليهم أو تعزلهم، وكان انتخاب أعضاء الجمعيات الخيرية نفسه مزيفا، وكانت الجمعيات عبارة عن ظل للإدارة، ويقول الشيخ أحمد توفيق المدني الذي عاش في الجزائر منذ 1925 ودرس أحوالها، إن الأمير خالد قد طالب بتطبيق فصل الدين عن الدولة الفرنسية بالنسبة للإسلام أيضا، وأضاف أن الإدارة

قسمت الجزائر خلال العشرينات، إلى 95 منطقة دينية، كانت تضم 166 مسجدا رسميا وزاوية، وكان المفتي في الظاهر هو رئيس المنطقة الدينية (¬1). وكانت الدولة الفرنسية هي التي تسمى رجال الدين في المساجد على يد الجمعيات التي لا تمثل إلا نفسها. هذه التبعية الدائمة لرجال الدين للإدارة هي التي أنزلتهم منازلهم الحقيقية في نظر الشعب، فقد فقدوا الثقة وأصبحوا لا يمثلون إلا أنفسهم والإدارة التي عينتهم، وكان ضعفهم العلمي والديني وبالا على السياسة الفرنسية نفسها، كما لاحظ أوغسطين بيرك وغيره، ويبدو أن رين كان راضيا بوضع رجال الدين الإسلامي عندما قال عن الأشخاص الذين توظفهم فرنسا بأنهم يخدمون قضيتها، فلم يكن يهم الإدارة الفرنسية مكانة المفتي أو الإمام أو المدرس بين قومه ولكن ما يمكن أن تجنيه منه هي، يقول رين: (لا نستغرب أن نجد أئمة يرضون بالأجر (الفرنسي) من أجل القيام بالشؤون الدينية، ونحن نجد منهم ما نريده. لكن جعل رجال الدين (موظفين) فذلك أمر كان يصدم المتعلمين المسلمين، لأن بعض المؤلفات الإسلامية أوصى أصحابها بعدم أخذ الأجر على الصلاة وتعليم القرآن والفقه، ذلك أن رجال الدين في العالم الإسلامي يتقاضون مداخيلهم من أوقاف الجامع الذي يخدمونه) (¬2). وفي آخر القرن الماضي عبر ديبون وكوبولاني عن رأي قريب من ذلك، مع الإلحاح على ضياع هيبة العلماء ورجال الدين بالنظر إلى هؤلاء الموظفين، إن قضاء السلطة الفرنسية مآرب أخرى من أموال الوقف جعل رجال الدين، في نظر هذين المؤلفين، لا يحصلون إلا على جزء ضئيل في شكل مرتبات من الدولة وليس من الجامع أو المؤسسة التي يخدمونها، ومن ¬

_ (¬1) أحمد توفيق المدني (كتاب الجزائر) 348، 350. ورغم أن الزوايا كانت (حرة) أي غير داخلة في الهيئة الدينية، فإن الإدارة مع ذلك كانت تتدخل في تعيين المقدمين والشيوخ، وتتحكم في الزيارات ونحوها، انظر فصل الطرق الصوفية. (¬2) لويس رين (مرابطون ...) مرجع سابق، ص 9، وكذلك كان الحال في العهد العثماني بالجزائر أيضا، إذ كانت الدولة لا تتدخل في أجور رجال الدين.

مدخل إلى السلك القضائي

ثمة بقوا بدون اعتبار في نظر مواطنيهم وفقدوا سمعتهم بينهم. (إنهم تواروا شيئا فشيئا عن الأنظار إلى أن اختفوا، وقد غطت عليهم شخصيات الطرق الصوفية) (¬1). وبعد عدة عقود سيعبر أوغسطين بيرك عن نفس الرأي حول رجال الدين الرسميين ولكن بالنسبة لرجال الإصلاح هذه المرة، وهم الذين جعلوا رجال السلك الديني الرسمي يظهرون أقزاما، إن فرنسا قد أهانت في هؤلاء الدين الإسلامي فأهانوا هم شعبهم، وقد تحول أشخاص كانوا يبشرون بخير ولهم فكر نير، مثل محمد العاصمي، إلى عنصر مندمج في هذه الهيئة، وأصروا على العناد، وكونوا منهم كوكبة ضالة، كادوا يجرون إليهم حتى الشيخ الطيب العقبي، وقد أنشأ جماعة منهم، في عهد التكتلات والجمعيات، مجلة (صوت المسجد) التي كانت في الحقيقة صوت (المسجد الفرنسي). ومن الواضح أن الذين لا توظفهم فرنسا إلا بعد تحريات وفحوص دقيقة لا يمكن أن يكونوا في صالح الشعب الجزائري ولا الدين الإسلامي. مدخل إلى السلك القضائي لا يختلف اثنان في أهمية القضاء في أي بلد، وإن بلدا كالجزائر خضع للاحتلال الأجنبي كان أول ما واجهه هو تطبيق الأحكام الشرعية. وكان اتفاق 1830 بين الداي حسين وبورمون قد نص على احترام الدين الإسلامي، مما فهم منه احترام تطبيق الشريعة الإسلامية وجريان أحكامها على أيدي القضاة المسلمين، ولكن ذلك لم يحصل إلا جزئيا وعلى مراحل، ثم أخذ الفرنسيون يغيرون القوانين ويفرضون قوانينهم ويجردون القضاة المسلمين من صلاحياتهم إلى أن لم يبق لهم ما يحكمون فيه سوى الأحوال الشخصية، فكيف سارت الأمور؟. شعر الفرنسيون أنهم ما لم يسيطروا على القضاء الإسلامي فإن شخصية ¬

_ (¬1) ديبون وكوبولاني، مرجع سابق، ص 235، ثم سيختفي دور رجال الطرق الصوفية أيضا ويظهر رجال النخبة وأعضاء جمعية العلماء إلى آخر ما أسماه بعضهم بدورات التاريخ في التيار الديني بالمغرب العربي (الجزائر خاصة).

الجزائر تظل قائمة والمقاومة بمختلف أشكالها تظل مستمرة، فالقاضي هو رمز السلطة الشرعية والساهر على تطبيق أحكام الدين، وبإمكانه، من هذا الموقع، أن يعارض السلطة الفرنسية مباشرة أو غير مباشرة باعتباره الوسيط بينها وبين الشعب، ومن ثمة يظهر أن دور القاضي كان أكثر خطورة من دور المدرس أو إمام المسجد، على الأقل بعد فصل الفرنسيين بين صلاحيات الثلاثة (القاضي والإمام والمدرس)، كما عرفنا. كان القضاة في الماضي يتكونون في نفس المدرسة التي يتكون منها العلماء والفقهاء، فهم من رجال الدين بالمفهوم الواسع للكلمة، وهم أيضا من العلماء المفسرين للأحكام والفقهاء المصدرين لها، وكان كبار العلماء والنزهاء يفرون من منصب القضاء إذا عرض عليهم ويعتذرون عنه بأنواع الاعتذارات لخطورته في نظرهم عند الله وعند الناس، وقد استفاد الفرنسيون من بعض العلماء الذين وجدوهم ورضوا بالتعامل معهم في بداية الاحتلال، فعزلوا ونفوا بعض القضاة، وعينوا آخرين مكانهم، كما فعلوا مع رجال الدين الآخرين، ورغم أنهم أهملوا وظيفة التدريس ولم يعطوا أهمية للأئمة والسلك الديني الآخر، فإنهم أعطوا أهمية خاصة للقضاة لما لهم من علاقة بسير الحياة التجارية والمدنية والجنائية في البلاد، ذلك أن الإدارة الفرنسية الجديدة كانت في حاجة ماسة إلى مساعدة القضاة في استمرار الحياة على المستوى الإداري والديني والأمني، وكان الحاكم العام هو الذي يعين القضاة. وقد استمر الاعتماد على بقايا العلماء في تعيين القضاة منهم وتجنيدهم إلى أن نضب المورد لعدم وجود مدرسة خاصة بتخريج الدفعات منهم، ولتوقف دروس المساجد، كما ذكرنا وإهمال التعليم العربي الإسلامي فترة طويلة، وقد استمر هذا الفرك حوالي عشرين سنة، ثم صدر كما عرفنا، مرسوم إنشاء المدارس الشرعية - الفرنسمة الثلاث، واحدة في كل إقليم، وكان الهدف من إنشائها هو تخريج القضاة بالدرجة الأولى، ولذلك كانت جريدة المبشر الرسمية تسميها أحيانا (المدارس الفقهية). وقد أسميناها نحن الشرعية، وهي المدارس التي تطورت عبر عدة مراحل، تعرضنا إليها في

دراستنا عنها (¬1). ومن الملاحظ أن برنامج هذه المدارس قد خضع في عمومه بحسب حاجة السلطة الفرنسية إلى القضاة، فإلى 1870 كان القضاة ما يزالون يتمتعون بأهمية في الإدارة الفرنسية، ولكن منذ الجمهورية الثالثة تقلص دورهم فتغير أيضا برنامج المدارس الشرعية، تبعا لذلك، ومهما كان الأمر فإن مصدر القضاة في الأحكام هو مختصر الشيخ خليل بن إسحاق في الفقه المالكي وشروحه، وقد قام علماء الاستشراق الفرنسيون بترجمته إلى الفرنسية، واعتمدت عليه أيضا المحاكم الفرنسية بشأن المسلمين بعد أن أخذت من المحاكم الإسلامية صلاحياتها، كما استعملت وترجمت رسالة ابن أبي زيد القيرواني وكانت أيضا متداولة، وكذلك تحفة الحكام لابن عاصم. وكان القضاة المسلمون في نظر الشعب هم رموز السلطة الباقية - سلطة الدين التي تعني الهوية في كل أبعادها. فهم يمثلون التحدي السياسي، والمقاومة الثقافية، وجذور المجتمع المتميز عن المجتمع الفرنسي، وكل الخصوصيات الحضارية الأخرى، وقد تحدث عن هذا الموضوع عدد من الكتاب، وألفت فيه بعض الأطروحات، وسنتعرض إلى بعض الآراء حوله، وكان تحطيم جهاز القضاء الإسلامي في نظر الفرنسيين يدخل في مخطط تحطيم المجتمع الجزائري الشامل، مثله مثل القضاء على اللغة بجعلها أجنبية، والقضاء على ملكية الأرض بمصادرتها وإعطائها للمستوطنين، والقضاء على وحدة المجتمع بتفتيت الأعراش والقبائل وإنشاء الدواوير ثم البلديات الفرنسية مكانها، والقضاء على الأنساب والأصول بإنشاء الحالة المدنية على الطريقة الفرنسية، والقضاء على الدين الصحيح بتشجيع الذروشة والخرافات والتدجيل، إنه مخطط شامل، كما قلنا، ولكنه سار على مراحل، حسب الحاجة الفرنسية إلى ذلك، ولم يكن القضاة، في أغلب الأحيان، في وضع يحسدون عليه، ولم تكن مشكلتهم مشكلة خبز فقط، مثل بعض الموظفين الآخرين، ولكنها مشكلة مبدأ ورسالة أيضا. ¬

_ (¬1) انظر فصل التعليم الفرنسي والمزدوج.

كانت سلطة القاضي غير محدودة فيما مضى، فهو مسؤول فقط أمام الله وأمام ضميره، وأحكامه غير قابلة للطعن إلا إذا رأى عرض الصعب منها على المجلس العلمي الذي كان يعقد دورة أسبوعية، وكانت أحكام القاضي نافذة وسريعة وبدون مقابل، وقلما يحكم بالسجن لأن السجن يعطل الحياة ويحرم العائلة من عضو تسترزق منه، كما أنه قلما يحكم بالغرامة لخزينة الدولة ولكنه يجكم بالتعويض للمتضرر، وقد يحكم بالتعزير والضرب، أما حكم الموت فهو نادر، ولكن تنفيذه أو العفو فيه من شان الحاكم نفسه، وكان القاضي محل تقدير وهيبة عند الجميع، فهو يمثل الدين كما يمثل السلطة الزمنية، وتفترض فيه شروط تحدثت عنها المؤلفات المختصة، أبرزها العلم بالأحكام والكفاءة والمروءة والنزاهة والخوف من الله. وكان القضاة متوفرين في المدن وفي الأرياف، ففي المدن الرئيسية قاضيان مالكي وحنفي، إلى جانب القاضي بالمذهب الإباضي، ولا حدود في اختصاصهم، فهم يحكمون في الأحوال الشخصية وفي النوازل التجارية والمعاملات وفي مختلف المنازعات، وكذلك يحكمون في الجنايات، ويساعد القاضي نائب أو أكثر وعدد من الكتاب أو الخوجات، ومهمتهم هي تسجيل الأحكام، ويحضر المحكمة أيضا الشهود، كما تكون المحكمة مفتوحة والأحكام علنية، ولا يتقاضى القاضي أجرة من المتخاصمين وإنما يأخذ راتبه من بيت المال، وبالإضافة إلى ذلك كان هناك مجلس قضائي أو علمي، ينظر في الحالات المستعصية على القضاة، ويعقد دورة أسبوعية يوم الجمعة، بعد الصلاة، ويحضر الجلسة المفتيان والقاضيان والعدول والنظار، ويكون المجلس برئاسة الحاكم نفسه أو من ينوب عنه، وأعضاء هذا المجلس يشكلون (هيئة العلماء) في كل مدينة رئيسية، وقد أبقى الفرنسيون على هذا النموذج في المرحلة الأولى، وكانت قصيرة. وهناك قضاة أيضا لسكان الريف، لهم نفس الصلاحيات، ولكن ليس لهم مجلس يرجعون إليه، فإذا عرض لهم ما يتوقفون فيه كاتبوا العلماء

في ذلك، سواء من قرب منهم أو من بعد، وقد يشتكي المدعي إلى قاضي المدينة القريبة منه، ولكن أغلب أهل الريف كانوا يلجأون إلى المرابطين، أي رجال العلم والدين والصلاح المشتهرين بينهم، وهم ليسوا أصحاب الطرق الصوفية، بل فئة أخرى لها مكانتها الاجتماعية والدينية، ولها عادة زاوية ورثتها عن أحد الجدود، وقد تعرفنا إلى ذلك في غير هذا المكان (¬1). إن هؤلاء المرابطين هم الذين كانوا يحكمون بين الناس بالعدل ويصلحون ذات البين، ويجعلون المجتمع يعيش في أمن وانسجام، وفي العهد الفرنسي أعطيت الصلاحيات في القضاء في المناطق الريفية إلى القياد والباشغوات والمكاتب العربية، ثم تولتها المحاكم الفرنسية التي سنتحدث عنها (¬2). وقد تطور الموقف من القضاء الإسلامي بتطور الاحتلال نفسه، وخلافا للعاصمة، ووهران وعنابة وبجاية ومستغانم التي احتلت منذ البداية، فإن المدن والجهات الأخرى قد وضعت تحت سلطة عسكرية إدارية تسمى المكاتب العربية، وفي كل مكتب عربي عين أحد القضاة المسلمين وبعض المساعدين له، وهكذا تعين في هذه الوظيفة السامية والخطيرة من هب ودب، فيهم طبعا الصالحون، ولكن أغلبهم كانوا طالحين، ويتميزون بالمغامرة والانتهازية، وكانوا قليلي العلم لانعدام مصادره ومدرسيه، وسنتعرض إلى أمثلة منهم. ومن الطبيعي أن تكون العاصمة هي التي شهدت مختلف التجارب في القضاء، وفي غيره، وقد سبق القول إن الفرنسيين نفوا القاضي الحنفي، كما نفوا المفتي سنة 1830، وقد وجدوا من عينوه في مكانهما، وكان القاضي المالكي هو عبد العزيز والمفتي هو مصطفى الكبابطي، وحدث أن وقعت مشكلة تدخل في صميم القضاء الإسلامي سنة 1834، وهي هروب امرأة ¬

_ (¬1) انظر فصل الطرق الصوفية. (¬2) عن هذه الخلفيات انظر السجل (طابلو)، سنة 1840، ص 357، وكذلك رسالة الماجستير للباحث بوعلام بلقاسمي (السياسة الاستعمارية نحو الأرض). مخطوط ص 86.

معتدة من بيت الزوجية ومن أسرتها لتتزوج بأحد العسكريين الفرنحسيين، وقيل إنها اعتنقت المسيحية لتفر من حكم القضاة بإعادتها إلى أهلها حتى تقضي عدتها، وقد تولى العسكريون ورجال الدين الفرنسيون تعميدها وتهريبها إلى فرنسا، وبينما كانت المحكمة تنظر في أمرها دخل العسكريون الفرنسيون فاحتج القاضي والمفتي واستقالا، أما القاضي عبد العزيز فقد هاجر إلى المغرب، وأما المفتي الكبابطي فقد استرضاه الفرنسيون وتراجع عن استقالته، وقد عين الفرنسيون قاضيا جديدا وهو أحمد بن جعدون مكان القاضي الذي هاجر، إن الحادثة قد لا تكون مهمة في حد ذاتها ولكنها اكتسبت أهمية خاصة لعدة أسباب: تدخل الفرنسيين في استقلال القضاء، والعبث بالقيم والتعاليم الإسلامية التي لها ما تقول في حالة المرأة المعتدة، وتهريب الشخص موضوع النزل وتعميده حتى يخرج عن ربقة القضاء الإسلامي، وبالإضافة إلى ذلك فقد اكتسبت القضية بعدا سياسيا آخر وهو استقالة القاضي وهجرته، وتدخل الحاكم العام وحتى وزير الحرب في الموضوع، وظهور حركة احتجاج صاخبة في العاصمة في المحكمة وأمامها، وربما كانت هي الحركة الشعبية (¬1) الثانية من نوعها بعد الاحتجاج على هدم جامع السيدة سنة 1832. والقاضي الجديد وهو الشيخ أحمد بن جعدون، كان من عائلة دينية وعلمية محترمة خلال العهد العثماني، وقد تعرضنا لأسرته في غير هذا الجزء، ولدينا وصف لشخص أحمد بن جعدون ومحكمته في العهد الفرنسي قبل أن يفقد القضاة هيبتهم وصلاحياتهم، يقول بولسكي الذي وصف المحكمة الإسلامية قرب شارع باب الواد، إنها كانت مفتوحة للجمهور، ولها هيبتها، وكان القاضي المالكي (وهو أحمد بن جعدون) هو أكثر حرمة بين الجالسين، ومنهم المفتي الحنفي، وكان ابن جعدون كبير السن، هادئ الملامح، معتدلا، وقورا، عليه السمات الشرقية (الإسلامية) في مستواها الأعلى، وكان يبدو كأنه نبي، اكتملت رجولته ونبله، وكان يلبس الهندام ¬

_ (¬1) عن هذه الحادثة انظر كتابنا (الحركة الوطنية). الجزء الأول، ص 73 - 74، واسم المرأة هو عائشة بنت محمد.

المحلي الجذاب، ويتميز عن غيره من الحضر بالعمامة الكبيرة العالية، وكانت جلسة المحكمة معقودة في غرفة تزينها الزرابي فقط، والعمامة كانت أيضا هي لباس الخوجات (الكتاب)، وهي نفسها موجودة أيضا لدى الأئمة في المدن ولدى رجال الدين بصفة عامة، بمن فيهم المرابطون والطلبة داخل البلاد، وكان القاضي ابن جعدون يجلس على كرسي عال وسط طاولة بيضاوية الشكل، وأمامه نسخة مفتوحة من المصحف الشريف، وهي مجلدة ومذهبة، وعن يمينه وشماله في نفس الطاولة كان يجلس الخوجات الذين كانوا يحررون كل نازلة، ويكتبون بها الوثيقة التي تتعلق بالبيع أو غيره من أنواع المعاملات، ومن وقت لاخر كان الخوجات يهمسون بنصائحهم وآرائهم للقاضي في النوازل المهمة، ويقدم الشاوش كلا من المدعي والمدعي عليه إلى طاولة القاضي، أما إذا كانت صاحبة الدعوة امرأة، فإنها لا تدخل المحكمة وإنما تتكلم من خارجها في مكان مخصوص وتعرض قضيتها على القاضي من النافذة، وكان القاضي لا يتأثر بأية منازعات بل كان محافظا على هدوئه ووقاره التام، وكان عدد الخوجات حوالي 12، وهم ينوبون عن بعضهم البعض، وكان بعضهم رجالا كبار السن وخطهم الشيب، وهم بلحى كثيفة، وشعر أبيض وبشرة أصبحت مجعدة، بينما آخرون منهم ما يزالون في عنفوان الحياة (¬1). وقد ترك الفرنسيون في بادئ الأمر المحاكم الإسلامية تعمل ولكن تحت نفوذهم، فلها النظر في كل المنازعات والأحكام غير الجنائية بين المسلمين، وكذلك فعلوا مع المحكمة اليهودية التي كانت تنظر في القضايا الخاصة باليهود، وأنشأوا محاكم خاصة بهم: مدنية وعسكرية، ومن هذه المحاكم ما هو ابتدائي وما هو استئنافي وتسمى الأخيرة بالمحكمة العليا، وهكذا فقد كان لكل دين من الأديان الثلاثة محاكمه، وفي البداية أيضا كانت المحكمة العليا (الفرنسية) تتكون من رئيس وخمسة قضاة، من بينهم مسلم ويهودي، فهي إلى حد ما محكمة مشتركة، ذلك أن من بين ما يقدم إليها ¬

_ (¬1) بولسكي، (العلم المثلث). لندن، 1854، ص 25.

بداية التدخل في القضاء الإسلامي

قضايا بين مسلمين ونصارى، ثم خفضت إلى ثلاثة أشخاص، فقط: هو رئيس وقاضيان، والمحكمة العليا هذه كانت تحكم في القضايا المدنية ما عدا التجارية التي نصب لها الفرنسيون محكمة خاصة، كما تحكم في القضايا التي تكون بين المسلم والمسيحي واليهودي، وقد نصبت المحكمة العليا في منزل حضري استولت عليه السلطات الفرنسية، وكان يحضرها الجمهور، وإلى جانب القصاة الخمسة (ثم الثلاثة) هناك التراجمة والموثقون والشهود وغيرهم. وهناك أيضا المحاكم العسكرية، وكانت محكمة العاصمة العسكرية منعقدة باستمرار، وكان مقرها في أول العهد قرب باب عزون، ذلك أن الجرائم كثيرة من جراء هجرة الجماعات غير المنتظمة من أوربا إلى الجزائر، وكانت المحكمة العسكرية تتألف من سبعة ضباط ويرأسها عقيد، وأكثر الجرائم في الجيش هي تلك التي تتعلق بالهروب وببيع السلاح والذخيرة والأمتعة، فقد كان الجنود يبيعونها إلى يهود الجزائر، وكانت الأحكام عادة هي الأشغال الشاقة لمدد معينة، كما صدرت أحكام بالإعدام، ومن بين القضايا المثيرة التي نظرت فيها المحكمة العسكرية، قضية الجندي (مانصيل)، فقد هرب من الجيش لأخذ ثاره من غريمه الفرنسي، وانضم إلى الحجوط حلفاء الأمير عبد القادر، واعتنق الإسلام وتزوج امرأة مسلمة وحارب معهم، وأثناء ذلك تمكن من قتل غريمه الفرنسي، ثم وقع القبض عليه وحوكم وصدر الحكم ضده بالإعدام، سنة 1836 (¬1). بداية التدخل في القضاء الإسلامي ولكن استمرار وضع المحاكم الإسلامية على النحو الذي ذكرناه لم يعد يرضي الفرنسيين بعد التوسع في الاحتلال والقرار بالبقاء في الجزائر، فأخذوا يغيرون منها ويتدخلون في شؤونها بالتدرج، فقد صدر في 15 غشت 1834 مرسوم ملكي يثبت القضاة المسلمين على ما هم عليه ويمنحهم الحق في ¬

_ (¬1) نفس المصدر (بولسكي). ص 24 - 25.

الحكم في الأمور الجنائية والتجارية والمدنية (الأحوال الشخصية). ولكن طلب منهم الاحتفاظ بسجلات ووثائق الأحكام، ومنذ 1838 بدأ التذمر من أحكام المحاكم الإسلامية، وأخذ النقد يتوالى، ومن ذلك الصعوبة في فهم اللغة العربية، وتساهل القضاة المسلمين في أحكامهم مع المتنازعين، وكثرة الأحكام بالبراءة، وقد اتهموا القضاة بأنهم كانوا يتساهلون مع الذين يأتون إليهم مباشرة، ولكنهم يتصعبون مع الذين تحولهم عليهم السلطة الفرنسية، ومن أوجه النقد الهامة في نظر الفرنسيين أن القضاة المسلمين لا يستطيعون إصدار الأحكام في القضايا الجنائية إذا وقع التسامح بين الخصمين، وبالإضافة إلى ذلك فإن وجود المحاكم الفرنسية إلى جانب المحاكم الإسلامية جعل بعض الجزائريين يقارنون ويرون أن أحكام المحاكم الأولى أكثر دقة وجدية - هكذا يقول النقاد الفرنسيون عندئذ، وربما شكا بعض الغاضبين من حكم القاضي المسلم إلى السلطة الفرنسية فاغتنمت هذه الفرصة أيضا ضد القضاة المسلمين عموما، وهكذا، وقد أضيف إلى ذلك أن القضاة المسلمين لم يعملوا بمرسوم 10 غشت 1834 في حفظ السجلات والوثائق (¬1). وكان هذا النقد في جملته تحضيرا لبداية تجريد المحاكم الإسلامية من اختصاصاتها وتحويلها إلى المحاكم الفرنسية، فالفرنسيون يريدون لغتهم هي لغة القضاء كله، وهم يربطون بين اللغة وبين السيادة، وكذلك أحسوا أن أحكام القضاة المسلمين متهاونة أو متساهلة وهي تنتهي بحكم البراءة والصلح بين المتخاصمين، وهم (الفرنسيون) لا يريدون ذلك، بل يريدون التشدد وقبض المقابل من المتخاصمين، ولعلهم فسروا تساهل القضاة المسلمين بأنه موقف سياسي ضد الاحتلال هدفه التعاون بين الجزائريين، وكان إنشاء ¬

_ (¬1) السجل (طابلو)، سنة 1838، ص 96، وسنة 1839، أنشأ الفرنسيون عندئذ محاكم أيضا في وهران وعنابة، وهناك المحاكم الابتدائية، ومحاكم الجنح، والمحكمة العليا، والقضاء أنواع عندهم: قضاء الصلح ويتولاه قاضي الصلح (جوج دوبي) Juge De Paix، والقضاء الجنائي، والقضاء التجاري، ثم الاستئناف في المحكمة العليا في كل ذلك، وقد ذكرنا أنه لا يمكن للقضاة المسلمين النظر في الجنايات حتى بين المسلمين.

الازدواجية في القضاء - المحاكم الفرنسية إلى جانب المحاكم الإسلامية - يتماشى مع الازدواجية في التعليم حيث أنشأوا أيضا المدرسة الفرنسية إلى جانب المسجد والزاوية ليفرضوا على الناس المقارنة من جهة والرقابة من جهة أخرى، وما لم يستسغه الفرنسيون هو أن المسلمين لا يستأنفون الأحكام في المحكمة العليا الفرنسية، بل كانوا يقبلون راضين بما يصدره القاضي المسلم في قضيتهم، ولاحظوا أن استئنافين فقط حدثا سنة 1840، وكان القضاة الفرنسيون لا يثقون في القضاة المسلمين، فكانوا يراقبون أحكامهم، كما لاحظوا أن السكان يفضلون أحكام القضاة المسلمين لأسباب دينية واجتماعية، وهذا لا يرضى طموحات الفرنسيين في السيطرة والتوغل إلى النفوس والألسنة والعقول، وكان السكان يفضلون قضاتهم لأن هناك حياة خاصة لا يطلع عليها غير المسلم، بالإضافة إلى العامل الديني، ولكن الفرنسيين يعترفون أن القضاء الإسلامي لا يكلف المتنازعين مالا كثيرا وأنه سريع، بخلاف القضاء الفرنسي الذي يتميز بالبطء وارتفاع التكاليف (¬1). لقد رأت السلطة الفرنسية أن أحكام القضاة المسلمين لا تتماشى مع قوة دفع الاحتلال، سيما بعد تعيين المارشال بوجو سنة 1841 ومنحه سلطات واسعة لسحق المقاومة مهما كانت الوسائل، وقد اتهموا القضاة المسلمين بالتواطؤ السياسي مع المقاومة وعدم إدخال الفرنسيين في الموضوع، لذلك صدرت بين 1841 و 1854 مجموعة من الإجراءات والمراسيم أدت في النهاية إلى انتزاع سلطة القاضي المسلم وجعله مجرد أداة منفذة وتحت رقابة القضاة الفرنسيين، فالمرسوم الملكي الصادر في 28 فبراير 1841 انتزع من القضاة المسلمين حق الحكم في الجنايات والجنح، كما فرض استئناف الأحكام في المحاكم الفرنسية، وأضاف مرسوم 26 سبتمبر 1842 قيودا جديدة على القاضي المسلم، فقد أصبح في استطاعة المحاكم الفرنسية النظر في القضايا التي تخص المسلمين أيضا وأن تصدر هي الأحكام بشأنها، فكان ذلك بداية التعسف في تطبيق القانون غير الإسلامي على المسلمين، فإذا كانت المحاكم الفرنسية تطبق القانون الفرنسي على ¬

_ (¬1) السجل (طابلو)، سنة 1840، ص 107.

الأوربيين والفرنسيين فإنها كانت تطبق في الحقيقة القوانين الاستئنافية على المسلمين (¬1). وكان غرض المحاكم الفرنسية من ذلك هو قمع الثورات والقضاء على المقاومين والمشتبه في أمرهم والاستيلاء على الأراضي، فكانت السجون والإعدامات والمحتشدات وأحكام النفي الفردي والجماعي والتغريم ومصادرة الأملاك. وكأنه عز على الفرنسيين أن يسير الجزائريون شؤونهم دون الرجوع إليهم، فقد كانت دولة الأمير عبد القادر قد اهتمت بسير القضاء اهتماما خاصا، وكان الأمير قد اجتهد في تعيين أفضل العناصر في القضاء سواء لدى الجيش أو لدى الشعب في المناطق التي عليها خلفاؤه، وقد جلس هو شخصيا للقضاء يوميا، وإليك ما تحدث به أحد الفرنسيين عن عناية الأمير بالقضاء، فقد جعل لكل قبيلة قاضيها الخاص، ومهمة هذا القاضي الفصل فيما ينشأ بين الأهالي من منازعات إذا لم تكن قد حلت عن طريق القائد أو الآغا أو الخوجة أو الخليفة أو حتى الأمير نفسه، وألحق الأمير بكل خوجة قاضيا، يساعده أربعة عدول، ويحكم القاضي ضد الأشخاص الذين اتهموا بالجرائم وغيرها من المخالفات، لكنه لا يستطيع إصدار حكم الإعدام على أحد إلا بحضور الخليفة نفسه، وبعد الاستماع إلى الشهود ومعرفة القرائن، وللقضاة شواش يسهرون على تنفيذ الأحكام الصادرة عنهم وهي تتراوح بين الإعدام وقطع اليد اليمنى والجلد والغرامة والسجن أحيانا، والأمير هو وحده الذي يعلن عن حكم السجن (وهو حكم غير معمول به في العادة). أما في القضايا الخلافية بين عدة أطراف فإن الذي يحكم فيها هو المجلس - وهناك مجلس في كل إقليم - الذي يراجع أحكام القضاة (¬2). ¬

_ (¬1) بلقاسمي، رسالة ماجستير، مخطوطة - بالإنكليزية، ص 86، وكذلك أحمد توفيق المدني (كتاب الجزائر). ص .... وكذلك السجل (طابلو) سنة 1845 - 1846، ص 84. (¬2) توستان دي منوار، مذكرة نشرها مارسيل ايمريت (المجلة الافريقية)، 1955، ص 147، انظر أيضا: (تحفة الزائر) ج 1.

ومن قضاة الأمير عبد القادر المعروفين الشيخ عدة بن غلام الله، وقد أشرنا إليه في فصل الطرق الصوفية، صاذا رجعنا إلى نماذج من قضاة الأمير وجدناهم في أغلبهم من أعيان العلماء والفقهاء، ولم يتسامح الأمير مع القضاة المنحرفين عن الخط الذي حدده لأن وظيفتهم سياسية وشرعية في آن واحد، ومن القضاة الذين عوقبوا في عهد الأمير سيدي أحمد بن الطاهر البطيوي، فقد ثبت للأمير أنه كان يتعامل مع العدو، فاقترب من بطيوة واستدعاه، وقيل إنه أمنه، ثم حمله معه إلى معسكر حيث حاكمه مجلس، وفي غياب الأمير نفذ فيه حكم القتل، ولعل الأمير كان يظن أن الحكم ضد القاضي سيكون السجن فقط. بينما كان القضاة في العاصمة وغيرها يجرون القضاء في بادئ الأمر طبقا لأحكام الشريعة، فيحرمون الفرنسيين من المال ومن الاطلاع على نوعية المشاكل، ومن ثمة يبعدونهم عن أمور المسلمين الخاصة، وقد استغرب أحد التقارير المكتوب في حدود سنة 1843 كيف صدرت أحكام البراعة بالجملة من القضاة المسلمين، كما أن المجلس القضائي لم تسجل فيه أية قضية (كان للمجلس دور الاستئناف تقريبا). فمن بين 1، 209 من القضايا المدنية حل القاضي المالكي في مدينة الجزائر منها 991 قضية عن طريق التراضي، ومن بين 1، 865 قضية مدنية عرضت على القاضي الحنفي: حكم في 8 منها فقط بالتراضي، أما في وهران فالقاضي حكم في 52 قضية جنائية، ومن بين 107 قضايا مدنية حكم في 32 منها بالتراضي، وفي عنابة أصدر القاضي 26 حكما جنائيا، و 169 حكما مدنيا منه 168 بالتراضي (كلها تقريبا). وفي سكيكدة أصدر القاضي 5 أحكام جنائية و 93 حكما مدنيا و 744 حكما بالتراضي (¬1). يقول لويس رين بهذا الصدد: إن فرنسا قد أحلت منذ 1842، قانونها ¬

_ (¬1) السجل (طابلو) سنة 1843 - 1844، ص 290، أما (السجل) لسنة 1844 - 1845 فلم يذكر أي إحصاء لأحكام المحاكم الإسلامية، رغم أنه جاء بإحصاءات ضافية عن الأحكام الصادرة من المحاكم الأخرى، انظر ص 271 - 286.

الجنائي محل القصاص وغيره في القرآن دون أن تحدث أية معارضة من الأهالي، أما الحدود المدنية فقد بقيت بأيدي القضاة والمسلمين يطبقون عليها مبادئ الشريعة الإسلامية، مع بعض التحفظ، لأن هؤلاء القضاة كانوا يطبقون الشريعة دون المساس بشعور أحد، ولكن أحكامهم كانت مستغلة من الشخصيات الدينية ضد فرنسا (بصفة صماء) (¬1). إن الجزائريين في الواقع قد عارضوا تجاوز الأحكام القرآنية ولكن بطريقتهم، ففي عهد بوجو الظلوم كانت المقاومة على أشدها في سيف الأمير عبد القادر وغيره، وكان ذلك أبلغ معارضة لفرض القوانين الفرنسية وكل مظاهر الاحتلال الغاشم. حقيقة أن مرسوم 26 سبتمبر 1842 قد أبقى على المحاكم الإسلامية وكلف الحاكم العام بتسمية القضاة والمفتين، وخصص لهؤلاء وأولئك رواتب من الحكومة الفرنسية، وبناء عليه أيضا فإن القضاة المسلمين لم يعد لهم صلاحية النظر في المسائل الجنائية، ولم يبق لهم إلا المسائل المدنية والتجارية الخاصة بالمسلمين، ولكن أحكامهم غير مطلقة وغير نهائية إذ يمكن للمتنازعين استئنافها لدى المحاكم الفرنسية، وأصبح القاضي المسلم يجمع بين صفة القاضي وصفة الموثق، وبإمكانه تحرير العقود والاتفاقات الخاصة بالمسلمين، وفي حالة عدم وجود موثق فرنسي على مسافة 20 كلم، يمكن للقاضي أن يحرر قضيته وحكمه في الأمور التي يكون فيها المسلم طرفا، وتنص المادة 46 من المرسوم المذكور على أن القاضي يسجل أحكامه في جميع القضايا التي حكم فيها في سجل خاص ثم يسلمه كل شهر للتأشيرة عليه من قبل الوكيل العام الفرنسي. ويبدو أن المعارضة كانت قوية لهذا المرسوم على خلاف ما يزعم رين، حتى لدى القضاة أنفسهم، فالمصادر الفرنسية تذكر أن القضاة تماطلوا في تطبيق المرسوم، إذ ظل إلى سنة 1846 دون تطبيق إلا في حدود ضيقة ¬

_ (¬1) رين (مرابطون). مرجع سابق، ص 5.

وغير كاملة نتيجة الإهمال، حسب تعبير المصدر (¬1). ومنذئذ كان تطبيق المرسوم يسير ببطء، وقد حاولت الجمهورية الثانية (1848) أن تنشط إدماج الجزائر في فرنسا فمست مختلف الميادين بما فيها القضاء، فصدر عنها في هذه السنة تنظيم القضاء فيما يسمى بالمقاطعات المدنية، ثم صدر عن الحاكم العام قرار في 29 يوليو، 1848 أيضا أعاد تشكيل المجلس العلمي (هيئة العلماء) الذي يعتبره الفرنسيون نوعا من المحكمة العليا الإسلامية، كما مس القرار إعادة ترتيب محاكم القضاة على المذهبين المالكي والحنفي. وفي قرار آخر بنفس التاريخ أنشأ الحاكم العام منصبا جديدا في المحاكم الإسلامية، وهو منصب الوكيل الذي كلف بمهمة خاصة، وهي مساعدة المتنازعين والدفاع عنهم مجانا، وهو نوع من التدخل الفرنسي المباشر في تسيير شؤون المحاكم الإسلامية والتعرف على ما يجري فيها والتعجيل بالاندماج في الإجراءات القانونية، وهو الاندماج الذي كان سائرا في مجالات أخرى موازية، وفي قرار آخر بنفس التاريخ فرضت على المحاكم الإسلامية أيضا أجرة وحقوق الكتابة، وهو ما لم تعرفه المحاكم من قبل، وكان على القضاة أن يحضروا سجلات فيها النصوص المعتمدة والأحكام الصادرة عن كل محكمة، وكان على هذه السجلات أن تقدم مرة كل شهر إلى الوكيل العام في الجزائر لإجازتها، وفي غير الجزائر كانت تقدم إلى وكيل الجمهورية أو إلى قاضي الصلح لإجازتها واعتمادها، وفي ذلك إخضاع تام لأحكام القضاة المسلمين للرقابة الفرنسية وسيادة القانون الفرنسي على الشريعة الإسلامية. أما من جهة المسائل المعروضة وأنواع الحكم الصادر فيها، فإن الإحصاءات الفرنسية الصادرة في الأربعينات من القرن الماضي تذكر أن النوازل التجارية والمدنية بصفة عامة، وحسب الأهمية، هي ما يلي: طلبات دفع الأجور، وطلبات دفع أثمان البضائع، وطلبات الطلاق. ويقول ¬

_ (¬1) السجل (طابلو)، سنة 1846 - 1849، ص 186.

الإحصاء: إن المنازعات بشأن العقارات لا تأتي إلا في الدرجة الثانية، أما المسائل الجنائية فهي لا تخرج عن الخمر التي تحتل نوازلها حيزا كبيرا (¬1)، والإفطار في رمضان، والكفر أو لعن الدين، وسوء السلوك في الأماكن الدينية، ومن التطورات التي حدثت في هذا المجال منذ الاحتلال، أن القضاة بدأوا يصدرون أحكامهم بالسجن بدل الضرب، رغم أن الضرب كان ما يزال مستعملا لأن أعراف البلاد تبيحه، ويقول المعلق على الإحصاء: إن استعمال السجن بدل الضرب يدل على التأثير الفرنسي في الجزائر (¬2). يجب أن نربط هنا بين التطور السياسي والإداري للجزائر وصدور المراسيم والإجراءات المتعلقة بالقضاء الإسلامي، ففي العشر سنوات الأولى من الاحتلال نستطيع القول إن دور المحاكم الإسلامية بقي على حاله في الجملة، رغم مرسوم 1834 الذي كان يهدف إلى الاندماج القضائي ورغم تأثر القضاء، كغيره، بمصادرة الأوقاف وإهمال التعليم والتدخل في شأن الدين (الديانة). وابتداء من العشرية الثانية للاحتلال وأمام اشتداد المقاومة الوطنية، واتهام القضاة بالتساهل مع المواطنين، لجأت سلطة الاحتلال إلى تقليص صلاحية القضاة المسلمين بعدة مراسيم وقرارات أشرنا إليهاة وقد صدرت كلها بين 1844 و 1848، وتمثل السنة الأخيرة هزيمة الأمير عبد القادر واستسلام الحاج أحمد، باي قسنطينة، وقيام الجمهورية الثانية في فرنسا، وهي الجمهورية التي تراجعت عن كلمة فرنسا بالنسبة للأمير وسجنته بدل تركه يذهب إلى المشرق، وهي التي أمطرت الجزائر بقوانين وقرارات تجعلها (جزءا لا يتجزأ) من فرنسا، كما جاء في دستور هذه الجمهورية، وكان القضاء من أبرز العناصر المتأثرة بهذه التغييرات، لأهميته السياسية والدينية والأمنية، وكانت قوانين الجمهورية الثانية كلها تهدف إلى دمج الجزائر في فرنسا، بما في ذلك القضاء الإسلامي، مع ملاحظة أن هذا القضاء ¬

_ (¬1) لا شك أن ذلك راجع إلى التأثير الفرنسي الذي سنذكره، ذلك أن الخمر والإفطار في رمضان كانا من الكبائر التي لا يمكن المجاهرة قبل الاحتلال. (¬2) السجل (طابلو)، سنة 1846 - 1849، ص 187.

تجربة المجالس القضائية ومراسيمها

كان يتبع وزارة الحرب، أما القضاء الفرنسي فكان يتبع وزارة العدل. منذ 1851 كانت وزارة الحرب التي تتبعها الجزائر إداريا، تحضر لتغيير آخر يخص القضاء الإسلامي، لقد أطلقوا عليه مشروع ضبط الكفاءات والاختصاصات والاستئناف والرقابة وإدارة المحاكم الإسلامية، وكانت هناك لجنة استشارية تتولى دراسة هذا الموضوع (¬1). فالقضاء الإسلامي ما يزال مزغجا للسلطات الفرنسية وهو وسيلة غير آمنة إذا ما تركت في أيدي غير فرنسية، وتصادفت دراسة مشروع إعادة النظر في القضاء الإسلامي مع إنشاء المدارس الشرعية - الفرنسية الثلاث، وكذلك مع إنشاء بعض المدارس الابتدائية التي سميت بالعربية - الفرنسية، وكانت الجمهورية الثانية برئاسة لويس نابليون الذي سيقوم بالانقلاب في ديسمبر 1852، ويحول النظام من جمهوري إلى اجمبراطوري، ويصبح هو نابليون الثالث، فنحن إذن سندخل فترة الخمسينات مع مرحلة جديدة في دور القضاء الإسلامي (¬2). تجربة المجالس القضائية ومراسيمها ولا ندري إن كان تغيير النظام السياسي في فرنسا قد أدى إلى تأخير المشروع المشار إليه حول القضاء، ذلك أن المرسوم الخاص بذلك التغيير لم يصدر إلا سنة 1854، وفي هذه الأثناء كان الحاكم العام في الجزائر هو المارشال راندون الذي عهد إليه باستكمال (رسالة) بوجو في (التهدئة)، ففي أكتوبر من السنة المذكورة (1854). صدر مرسوم تنظيم القضاء الإسلامي، وقد نص على ما يلي: إنشاء مجلس فقهي - وقد كان موجودأمن قبل، ولكن أعيد إليه الاعتبار، ومنحه صلاحية محكمة الاستئناف، وقد كان ذلك معمولا به أيضا قبل ذلك، دون أن يحمل نفس التسمية، ولعل الجديد في الموضوع هو (استقلالية) القضاء الإسلامي بعد أن كان القضاة ملزمن بتقديم سجلاتهم ¬

_ (¬1) السجل (طابلو)، سنة 1850 - 1852، ص 185. (¬2) عن التدخل في شؤون القضاء الإسلامي ومحاولات دمجه في القضاء الفرنسي منذ 1834، انظر آجرون (الجزائريون) 1/ 201 وهنا وهناك.

إلى الوكيل العام أو وكيل الجمهورية أو قاضي الصلح للتأشيرة عليها، والجديد أيضا هو إلغاء الاستئناف إلى المحكمة الفرنسية العليا، وبمقتضى ذلك المرسوم أيضا أصبحت الجزائر مقسمة إلى مناطق قضائية في كل منطقة محكمة، لها قاض ومساعدان، أما المنطقة التي ينشأ فيها (مجلس). فإن المجلس يتألف من رجال الدين والقضاء (هيئة العلماء قديما) وهم المفتيان والقاضيان (المالكي والحنفي) والمساعدان، وتنظر المحاكم الإسلامية الجديدة - وكذلك المجالس - في الشؤون المدنية والتجارية (المعاملات) وغيرها مما هو ليس خطيرا كالجنايات أو ما يدخل في مسؤوليات القضاء الفرنسي، وكان تعيين القضاة من صلاحيات الحاكم العام، وكانوا جميعا يخضعون لرقابة إدارية مشددة (¬1). ويرى بعض الكتاب أن هذه (الإصلاحات) سارت في طريق السرعة والمجانية، ولكنه يعترف بأنها فصلت بين النوعين من القضاء: الإسلامي والفرنسي إذ أنشأت دائرة الاستئناف الإسلامية بدل الاستئناف في المحكمة الفرنسية (¬2). وسنرى أن عمر هذه الإصلاحات كان قصيرا. أنشئت إذن محاكم القضاة والمجالس القضائية، وكنموذج لأحد المجالس يحدثنا باحث فحص موضوع القضاء بدقة، عن مجلس مدينة معسكر بين 1854 - 1856، كانت هذه المدينة كغيرها من معظم المدن الجزائرية محكومة بالجهاز العسكري المعروف بالمكب العربي وتحت إشراف ضابط فرنسي، وكان عدد سكانها سنة 1855 قد بلغ 75000 نسمة، وهو رقم يدل إذا صح، على نموها السريع، بعد أن عانت من حريق كلوزيل 1835، وهجرة أهلها منها سواء إلى تاكدمت أو في الزمالة أو إلى المغرب الأقصى، وقد احتلها الفرنسيون سنة 1842، وكونوا فيها المكتب العربي لإدارتها وعينوا فيه أحد القضاة، وقد صادر الفرنسيون الأرض التي غاب عنها أهلها وعينوا على مختلف القبائل والأعراش قيادا وباشغوات تابعين لهم في ¬

_ (¬1) بلقاسمي، رسالة ماجستير، ص 87. (¬2) جاكلين بايلي Baylè (عندما أصبحت الجزائر فرنسية). ص 46.

الظاهر، وكان المرابطون ورجال الدين الذين خدموا الأمير عبد القادر وبايعوه تحت الشجرة، (شجرة الدردارة) ما تزال منهم بقايا ونفوذ، وتألف، مع المرسوم الجديد (1854). مجلس ضم قاضي المكتب العربي وفقراء المرابطين بالناحية. وكان المجلس ينظر في عدة قضايا منها الأرض، وكان الأعضاء أنفسهم يملكون الأرض، كما كان المجلس ينظر في أمور المنازعات وغيرها من القضايا المحلية. وكان المجلس أيضا يعطي رأيه حتى في الأمور السياسية. ورأى الباحث المشار إليه أن دور المجلس أخذ يضعف بالتدرج لسيطرة المكتب العربي على مقاليد الأمور ولأن الفرنسيين كانوا هم الذين يصدرون الأحكام في القضايا الجنائية، وكانت أحكامهم تتراوح بين المقصلة والسجن، ولهم محاكمهم الخاصة بذلك وسجونهم، ومع ذلك فإن الاعتبارات المعنوية والدينية ظلت محفوظة عند أعضاء المجلس، معتبرين أنفسهم كأنهم هم الذين بايعوا الأمير سنة 1842، أو ورثتهم .. وتظهر أهمية دور المرابطين في نظر الباحث مراعاة الأنساب والألقاب عند المناداة وتسجيل الوثائق: مثلا: المشارفة، وعائلة سيدي دحو، وأولاد أحمد بن كلي، كما أن هناك ألقابا في الوثائق مثل فلان البركة، وسيدي فلان، وعبارة فلان رضي الله عنه، أما الناس العاديون فلا يضاف إليهم لقب كالذي ذكرنا. وفي دراسة لسجل المجلس المذكور بمعسكر وجد هذا الباحث أن الأحباس (الأوقاف) قليلة ولم يشر إليها السجل بالمرة، وإنما تذكر المصادر الفرنسية أنهم وجدوا حوالي 200 هكتار تابعة لزاوية القيطنة، والمعروف أن السلطات الفرنسية قد وضعت يدها على جميع الأوقاف منذ 1844 على المستوى الوطني، أما أرض الملك، والتي كانت على الشياع، فقد كانت موجودة، وهي غير قابلة للبيع والتوزيع لأنها ملك للعائلة أو القبيلة كلها، وإذا قسمت فإنها تقسم طبقا لأحكام الشريعة (¬1). ¬

_ (¬1) كريستلو، (المحاكم الإسلامية)، مرجع سابق، ص 55 - 56، ذكر هذا المصدر أن الوثائق الفرنسية تذكر أنه لا توجد أراضي حبس (وقف) في وهران ولا سيدي =

كان رئيس مجلس معسكر الفقهي هو الشيخ الطاهر بن عمر، قاضي المكتب العربي، وهو من عائلة مرابطين من الحياينة بنواحي برج معسكر. وكانت تركيبة المجلس تضم صغار القيمة وكبارها، والصغار هنا هم الذين توظفوا لملء الفراغ وحاجة الفرنسيين إليهم، ومنهم القضاة والعدول والشهود، وهم يعملون تحت المظلة الفرنسية، فلهم نفوذ وسلطة، أما الكبار فهم أولئك الجيل من الفقهاء والمرابطين الذين سبق لهم العمل في دولة الأمير ونضجوا في المقاومة السياسية، ولكن الظروف جعلتهم يدخلون المجلس أيضا، وكانوا في الواقع يشمكلون (المعارضة) الصامتة، وكانوا بدون نفوذ، ولكن الصغار أو الجدد كانوا لا يستغنون عنهم ويستشيرونهم في مختلف القضايا، ويسمونهم بأسماء التبجيل والاحترام، ومن هؤلاء محمد بن معاشو الذي عمل مع الأمير عبد القادر، ثم دخل المجلس قاضيا في عهد الفرنسيين، ولكن هؤلاء اتهموه بالتواطؤ مع صديقه وقريبه محمد بن جلال الدرقاوي سنة 1854، ونفوه إلى جزيرة سانت مرغريت بعد تجريده من القضاء (¬1). وقد عاش مجلس معسكر، كغيره من المجالس، هجوم المستوطنين (الكولون) عليه باعتباره تحت حماية العسكريين، سيما بعد حادثة (دوانو) في تلمسان سنة 1856، وكان الطاهر بن عمر من ضحايا هذا الهجوم أيضا إثر فضيحة 1858، فقد جرد من القضاء ومن عضوية المجلس، وكان ما يزال في الأربعينات من عمره، وظل اسمه مختفيا إلى سنة 1866 حين تولى القضاء ثانية ولكن لفترة قصيرة - سنة واحدة - ثم اختفى مرة أخرى ولم يعرف له خبر، وقد انتهى مجلس معسكر كغيره من المجالس سنة 1859، كما سنرى. ¬

_ = بلعباس، ولا معسكر، منذ قانون 1844، ولا يوجد من أراضي الحبس إلا القليل في تلمسان ومستغانم. (¬1) نفس المصدر، ص 60.

وكان كاتب مجلس معسكر عندئذ هو السيد الطاهر بن محمد المحفوظي، وهو من أسرة دينية معسكرية، وكان عمه وخاله كلاهما تولى القضاء في العهد العثماني الأخير، وكان الطاهر شابا عند الاحتلال الفرنسي لأنه من مواليد 1817، ومنذ البداية هرب إلى وهران حيث كان يتمركز الفرنسيون وربط مصيره بقاضي وهران عندئذ محمد بلقايد، وكان بلقايد هذا من نخبة المخزن الذين اعتمد عليهم الفرنسيون، وليس من نخبة العلماء والمرابطين الذين اعتمد عليهم الأمير، وهكذا وجد الطاهر المحفوظي نفسه في الصف المعادي للأمير، سيما بعد تحالف الزمالة والدوائر مع الفرنسيين منذ سنة 1835، ومنذ 1842 ارتبط المحفوظي بالفرنسيين ووظائفهم، فتولى وعمره 25 سنة، الكتابة لحاكم تلمسان بعد احتلالها في السنة المذكورة (1842). وبقي كذلك إلى 1846 حين أصبح مفتيا لتلمسان، ثم تولى بعد استقالته أو إقالته، قضاء التركات في معسكر، وفي سنة 1853 أصبح المحفوظي كاتبا للمجلس بمعسكر أيضا، وهي الوظيفة التي حافظ عليها بعد تنظيم 1854، ويبدو أنه قد ربط مصيره أيضا مع القاضي محمد بلقايد، الذي كان يعتبر عدوا للأمير، فقد سافرا معا (بلقايد والمحفوظي) إلى معرض باريس الدولي سنة 1855، وفي سجل مجلس معسكر أخبار هامة عن اأحمحفوظي، وكان قد زار قسنطينة سنة 1278 (¬1). ¬

_ (¬1) كريستلو (المحاكم) مرجع سابق، ص 58 - 59، وكذلك كريستلو (السلالة الشريفة والشؤون الدينية في معسكر ..) في (مجلة دراسات الشرق الأوسط) المجلد 12، الجزء 2، سبتمبر 1980، ص 144، وذكر هذا المصدر أنه توجد أخبار عن الطاهر المحفوظي في أرشيف وزارة الحربية (لأن المكاتب العربية كانت تابعة لها)، المتصرف العسكري بمرسيليا، ديسمبر 1855 (6 H 17). وكذلك في سجل المكتب العربي بمعسكر سنوات 1853 - 1856، ووثائق وهران وتلمسان (1851) 55 J 1. كما ذكر كريستلو أن الأب بارجيس Barges ترك انطباعا عن المحفوظي حوالي 1846، في رحلته إلى تلمسان المسماة (ذكريات رحلة إلى تلمسان) باريس 1859، الفصل العاشر، أما عن زيارة المحفوظي إلى قسنطينة فانظر مخطوط محمود بن الشاذلي، وقد ذكر أنه زار المدرسة الكتانية واجتمع به وسماه (العالم الأديب).

وبناء على المرسوم المذكور (أكتوبر 1854) أصدر وزير الحربية في 27 أبريل 1855 قرارا بإنشاء المجلس الفقهي في الجزائر ليكون هو محكمة الاستئناف الإسلامية، وقد ضم عناصر من بقايا العلماء المخضرمين، وهم: الاسم ... العضوية ... ملاحظات 1 - بلقاسم بن البزغتي (¬1) ... رئيس المجلس ... قاضي المكتب العربي بام السنام (الأصنام) 2 - حسن بن بريهمات (¬2) ... كاتب المجلس ... قاضي المكتب العربي بالبليدة 3 - حميدة بن العمالي ... عضو ... قاضي المالكية بالعاصمة (قبل توليه الفتوى) 4 - الطاهربن غراس ... عضو ... مدرس بمدرسة تلمسان الشرعية - الفرنسية 5 - أحمدبن عياد ... عضو ... قاضي المكتب العربي بتلمسان 6 - محمدالعياشي بن برنو ... عضو ... مفتي مستغانم 7 - الحاج أحمد بن البارك (¬3) ... عضو ... مؤلف ومدرس بمدرسة قسنطينة الشرعية - الفرنسية. 8 - الكي البليدي (¬4) (كذا) ... عضو ... مدرس بمدرسة قسنطينة الشرعية - الفرنسية. ونلاحظ أن أغلبية الأعضاء من قضاة المكاتب العربية وهم أربعة، ويأتي بعدهم المدرسون في المدارس الشرعية - الفرنسية، سيما تلمسان وقسنطينة، وهم ثلاثة، ثم مفتيان، ونلاحظ غياب المدرسين من مدرسة الجزائر، عدا ابن بريهمات، ومن الغريب عدم وجود اسم الشيخ محمد الشاذلي ضمن التشكياة، فقد سبق له أن كان قاضيا في المكتب العربي بقسنطينة عدة سنوات، ثم أصبح مديرا لمدرسة هذه المدينة منذ إنشائها، وكان يجمع بين القضاء والتدريس والإدارة. كان المقر الرسمي للمجلس الفقهي هو، الجامع الكبير بالعاصمة، وقد ¬

_ (¬1) أصله من العاصمة، وانتقل إلى مجاجة، ربما في عهد الأمير، ويكتب أبو القاسم، وقد خلفه ابنه مصطفى، انظر لاحقا. (¬2) انظر ترجمتنا له لاحقا. (¬3) انظر ترجمتنا له، في فصل التاريخ. (¬4) كذا وجدناه، وهو ربما الشيخ المكي البوطالبي.

عقد أول دوراته في 25 غشت 1855 (¬1). وكانت صلاحيات هذا المجلس تنحصر في مراقبة سير المجالس المحلية المشابهة وقضايا محاكم القضاة في مختلف الدوائر. لم يلبث الفرنسيون أن تراجعوا عن تجربة المجالس القضائية والمحاكم الإسلامية والمجلس الفقهي الاستئنافي، فقد تبينوا أن ذلك كان خطأ منهم، وأنه لا يخدم مصالحهم التي تقتضي جعل كل شيء في الجزائر تابعا لهم وليس مستقلا عنهم، فقد تبينوا أن التجربة ترجع بالقضاء الإسلامي إلى استقلاليته الأولى، واستقلال القضاء يعني الكثير، سيما وأن معظم القضاة كانوا من المتعلمين ذوي الأصول المرابطية والعلمية المتنفذة في البلاد، وبعضهم كان قد تولى القضاء في دولة الأمير وله تكوين سياسي واضح، وقد شن المستوطنون حملة ضد المجالس واستقلال القضاء الإسلامي ونافى وا بضرورة وضعه تحت القضاء الفرنسي، ونددوا بالعسكريين الذين كانوا في نظرهم يحمون القضاة المسلمين، وكان للتجربة الإدارية والجديدة أيضا دخل في هذا التغيير في المحاكم والمجالس الإسلامية، فقد ألغيت وظيفة الحاكم العام في الجزائر لأول مرة سنة 1858، وأنشئت في فرنسا وزارة الجزائر والمستعمرات، ودامت هذه التجربة سنتين فقط، ثم عادت وظيفة الحاكم العام، وخلال ذلك التغيير قدم الوزير شاسلو - لوبا تقريرا سنة 1859 انتقد فيه بشدة إنشاء المجلس الاستئنافي الإسلامي والمجالس القضائية الإسلامية، وكان ذلك صدى لنقد المستوطنين الذي ذكرناه، كما وقعت عدة (فضائح) بين 1856 - 1858 ينسبها المدنيون إلى المكاتب العربية العسكرية التي كانت تتعامل مع القضاة المسلمين. وهكذا اجتمعت كل العناصر على إلغاء تجربة المجلس الفقهي الاستئنافي وإعادة الأمور إلى ما كانت عليه قبل تنظيم 1854 بشأن القضاء الإسلامي، فقد أصبحت المجالس لا تقرر شيئا وإنما تعطي رأيها فقط، فهي ¬

_ (¬1) رسالة الباحث إبراهيم الونيسي.

مجالس استشارية، وكان على المسلمين أن يستأنفوا أحكامهم أمام المحاكم الفرنسية، وأن يخضعوا لما يخضع إليه الفرنسيون من إجراءات وتدقيق وترجمة وحقوق الدفاع وتولية المحامين، رغم بطء هذه المحاكم وتعقيداتها وغلاء تكاليفها مما لم يتعود عليه المسلمون، وكان يكلفهم مالا ووقتا للانتظار، وكثيرا ما ضاعت حقوقهم في تلاعب المترجمين والمحامين والقضاة الفرنسيين، وقد صدر بذلك مرسوم في 31 ديسمبر 1859 (¬1) تصادف أيضا مع استرجاع منصب الحاكم العام في الجزائر الذي تولاه المارشال ببليسييه سنة 1860. ورغم إلغاء مرسوم 1859 تحت ضغط الكولون، فإن زيارة نابليون للجزائر، ولا سيما الزيارة الثانية سنة 1865، قد كشفت له أن القضاء الإسلامي قد جرد من محتواه وأن التقاضي أمام المحاكم الفرنسية كان مكلفا للجزائريين، ووصلت شكاوى كثيرة وتذمرات إلى المكاتب العربية من القضاة وغيرهم، ومن تلك الشكاوى أن القضاة الفرنسيين لا يعرفون العربية، وأنهم يجبرون المرأة المسلمة على الظهور أمامهم سافرة، فكان الاتجاه نحو إنشاء اللجنة المعروفة باسم (لجنة قاستنبيد) سنة 1865، كان رئيسها يوجين قاستنبيد، عضوا في مجلس الدولة ومستشارا في محكمة الاستئناف بباريس، ومن أعضاء اللجنة بيري، الذي كان قد صاغ مرسوم 1859، وهو رئيس محكمة الاستئناف بالجزائر، ومنهم أيضا دي كليري المدعى العام، بالإضافة إلى إسماعيل عربان (توماس أوربان) الذي كان عندئذ مستشارا للمحاكم في الشؤون الأهلية، والعقيد قريزلي رئيس المكتب السياسي، وكان سابقا من رجال المكاتب العربية. ¬

_ (¬1) ترجم مرسوم 1859 إلى العربية من قبل لجنة عينتها السلطة الفرنسية وتتألف من رجال الدين والعلماء الآتية أسماؤهم: حسن بن بريهمات، وحميدة العمالي، وأحمد المدوي، ومحمد بن مصطفى، وابن الحاج موسى، وانتهى ذلك في 21 مارس 1860 ونشرته (المبشر) في عدد 15 يونيو/ جوان 1860، انظر أيضا: آجرون (الجزائريون) 1/ 204 - 205.

ومن الجزائريين الذين شاركوا في هذه اللجنة: حسن بن بريهمات، والمكي بن باديس، وحمزة بن رحال، والطيب بن المختار، ومحمد السعيد بن علي الشريف، والعياشي بن بورنو، وسليمان بن صيام، ومحمد بن زغودة، ومحمد بن الحاج محمد، ومن هؤلاء رجال علم وقضاء، أمثال بريهمات وابن باديس وابن بورنو وابن زغودة وابن الحاج محمد وابن المختار، ومنهم رجال سياسة وتصوف وسلطان، مثل: ابن رحال وابن علي الشريف وابن صيام، وكان ابن المختار من أقرباء الأمير، وابن علي الشريف اعتبره الفرنسيون من المنافسين للشيخ الحداد زعيم الطريقة الرحمانية، وقد غاب عن هذه اللجنة الحاج محمد المقراني من الشخصيات المعتبرة عندئذ، ولكن كريستلو يقول إن المقارني كان ممثلا من قبل قريبين له، وهما ابن زغودة وابن الحاج محمد. وقد دار النقاش في اللجنة حول المجالس القضائية، فكان المسلمون يطالبون بإعادة الاعتبار إليها كما كانت قبل 1853، لأنها في نظرهم تضمن حقوق القاضي وتوفر للمتخاصمين شروط التقاضي طبقا للشريعة الإسلامية، وتوقع السيد كريستلو، في غياب محضر اللجنة، أن المكي بن باديس قد تولى الدفاع عن المجالس القضائية بقوة، كما توقع أن يكون بيري قد عارضها لأنها ضد مبدأ الاندماج الذي قام عليه الاحتلال، وكانت النتيجة هي صدور توصيات اللجنة التي تضمنها مرسوم 12/ 1866. والتوصيات هي التالية: 1 - تعيين مجالس استشارية فقط، بدل المجالس ذات السيادة التي طالب بها الأعضاء المسلمون. 2 - إنشاء غرف خاصة بالمسلمين في كل محكمة (فرنسية). 3 - منح المعاونين (أساسور) المسلمين صوتا تداوليا فقط، رغم أن عددهم أقل من عدد القضاة الفرنسيين. 4 - إنشاء (مجلس أعلى للفقه الإسلامي) مهمته إعطاء الرأي في

المسائل العويصة التي تعرض على محكمة الاستئناف الفرنسية والمحاكم الفرنسية عموما، ورأي هذا المجلس استشاري فقط. 5 - تصنيف القضاة المسلمين إلى ثلاث طبقات وتحديد أجور كل طبقة. 6 - تخفيض عدد الدوائر القضائية للتخلص من القضاة القدماء والسماح للقضاة الأكفاء بالدخول في هيئة القضاء. 7 - اختيار القضاة عن طريق الامتحان (المسابقة) (¬1). هذه هي التوصيات التي توصلت إليها لجنة قاستنبيد، وخلاصتها واضحة، وهي تجريد القاضي المسلم من صلاحياته، وتجريد المجالس القضائية (الفقهية) من سيادتها، ودمج القضاء الإسلامي في القضاء الفرنسي، والتخلص من إطار القضاة القدماء الذين لهم صلة بالمقاومة، وإدخال عناصر جديدة نشأت في عهد الاحتلال (والسلام) الفرنسي، وتخفيض عدد الدوائر القضائية أي التقليل من عدد القضاة المسلمين والتوسع في نشر المحاكم الفرنسية، ويمكن أن نضيف إلى ذلك، التوجه نحو نزع استقلالية القضاة وجعلهم يدخلون في تيار البروقراطية الإدارية الفرنسية عن طريق الأجور والامتحان والطبقية، بالإضافة إلى جعلهم تابعين للقضاء الفرنسي، في ثوب مستشارين ومعاونين. ولعل ما يلفت النظر في قرارات اللجنة هو إجراء المسابقة لاختيار القضاة والسماح لرجال الزوايا بالترشح إليها، وقد لمحان اختيار القضاة من قبل يتم غالبا عن طريق التعيين من بين خريجي المدارس الشرعية الفرنسية، وقد أظهرت التجربة الجديدة أن رجال الزوايا كانوا أقوى تكوينا من رجال المدارس الثلاث. وسنكر بعض الإحصاءات، ويذهب السيد كريستلو إلى أن المكي بن باديس هو الذي كان وراء الاقتراح بإجراء المسابقة وترشح رجال الزوايا لها، وكان ابن باديس لا يرتاح لرجال المدارس الفرنسية، ربما لسيطرة ¬

_ (¬1) كريستلو (المحاكم). ص 185، وآجرون (الجزائريون) 1/ 205.

التأثير الفرنسي عليها أو لضعف معلميها، ومع ذلك فإن مشاركة رجال الزوايا لم تدم سوى حوالي عقد من الزمان ثم ألغيت عند إصلاح نظام المدارس الثلاث في آخر السبعينات من القرن الماضي، وقد يكون ذلك راجعا إلى الخوف من تأثير الزوايا والطرق الصوفية التي بدأ اتهامها على نطاق واسع بأنها متآمرة مع الخارج، كما أن الإصلاح المذكور يعني وضع المدارس الثلاث تحت إدارة المستشرقين الفرنسيين وإدخال الثقافة الفرنسية فيها بشكل مكثف. أول امتحان (مسابقة) جرى في نوفمبر سنة 1869، ورغم صعوبة المواصلات فقد جاء المترشحون من كل صوب، وكانت التجربة جديدة على المتعلمين الجزائريين، وكان عليهم أن يعتمدوا على الجدارة فقط دون تدخل الأصدقاء الفرنسيين والأعيان الجزائريين، وأن يلتقوا في مراكز محددة، وأن يظهروا علمهم وأدبهم، وأن يخوضوا في حديث الدين والسياسة والأدب واللغة في فرصة لم تتح لهم من قبل، وكان المترشحون، كما قلنا من أبناء المدارس الثلاث ومن أبناء الزوايا، وكانت المراكز هي: وهران والعاصمة وقسنطينة، وكان عدد المترشحين قد بلغ 252 لكل الوظائف، وهي القاضي، والباش عدل والعدل، وقد نجح منهم مائة، وكانت لجان الامتحان تتألف من مسلمين وفرنسيين، وكان التنافس على أشده، ولذلك كانت النتيجة ملفتة للنظر، فقد حصلت الزوايا على ثلاثة أرباع الوظائف، وعلى نصف وظائف الباش عدل والعدل، وكان الناجحون، حسب الجدول الذي نشرته جريدة المبشر، كمايلي: 1 - الناجحون في وظيف القاضي: ولاية الجزائر ... 7 كلهم من الزوايا ولاية وهران ... 18 منهم 14 من الزوايا (4 من المدرسة الشرعية - الفرنسية) ولاية قسنطينة ... 17 منهم 11 من الزوايا (6 من المدرسة الشرعية - الفرنسية) الجملة: 42 قاضيا منهم 15 فقط من المدرسة. 2 - الناجحون في وظيف الباش عدل والعدل: ولاية الجزائر ... 11 منهم 5 من الزوايا و 6 من المدرسة

ولاية وهران ... 16 منهم 8 من الزوايا و 8 من المدرسة ولاية قسنطينة ... 31 منهم 15 من الزوايا و 16 من المدرسة (¬1) الجملة: 58 باش عدل وعدل. وكان الامتحان يجري سنويا في مكان ووقت تحددهما لجنة الامتحان التي هي لجنة ثمانية في كل ولاية من الولايات الثلاث، ورئيس كل لجنة يجب أن يكون فرنسيا وكذلك نائبه ثم المقرر للجنة، أما الأعضاء فهم كما يلي: مدرسون فرنسيون من مدرسة اللغة العربية (¬2). ورؤساء المكاتب العربية، وترجمان، بالإضافة إلى ثلاثة فقهاء من المسلمين، أي أن الأعضاء المسلمين كانوا يمثلون ثلاثة من ثمانية في كل لجنة، وعلى مدراء المدارس الشرعية - الفرنسية الحضور عند اللجان ليشهدوا ما إذا كان المترشحون قد درسوا عندهم (¬3). والامتحان كتابي وشفوي، وإذا رسب المترشح في الأول فلا يسمح له بدخول الثاني، وعلى كل لجنة أن تسأل المترشح إذا كان يعرف الفرنسية أو يكتب بها، والامتحان الكتابي يتمثل في كتابة إنشاء حول أصحاب الشريعة الإسلامية، والشفوي أسئلة في مسائل الفقه المالية والبدنية وترتيب المحاكم الشرعية، ثم القراءة من كتاب مطبوع أو مخطوط، وإعراب بعض الكلمات، وكذلك أسئلة في الحساب والجغرافية وغيرها من المعارف العامة، ومما يذكر أنه يحق للمترشح أن يكون من الدارسين في الزوايا أيضا، واشترط في المترشح لوظيف القضاء ألا يقل عمره عن 27 سنة، ولوظيف باش عدل عن 25 سنة، ولوظيف عدل عن 22 سنة. ¬

_ (¬1) المبشر 17 مارس، 1870، وكذلك كريستلو (المحاكم). ص 188. (¬2) إلى ذلك الحين كانت المدارس الرسمية الثلاث لا تخضع مباشرة لإدارة فرنسية، ولكن تلقى فيها دروس باللغة الفرنسية والتاريخ والجغرافية الفرنسية، كما كانت مدرسة عربية - فرنسية أخرى تسمى (الكوليج) في العاصمة وقسنطينة، ولا ندري المقصود من النص (مدرسة اللغة العربيقا الوارد في شان أعضاء اللجان. (¬3) كان مدراء المدارس الثلاث إلى ذلك الحين عربا.

وتقول (المبشر) وهي الجريدة الرسمية، ان مرسوم نابليون سنة 1866 قد عدل من مواد مرسوم 1859 أيضا وأبطل عددا منها وعوضها بمواد أخرى معدلة، من ذلك أن الشريعة الإسلامية تبقى معمولا بها في أنحاء القطر سواء بين المسلمين أو بينهم وبين الأجانب، في جميع المعاملات وغيرها، ولكن إذا أراد المتنازعان بالتراضي رفع القضية إلى المحاكم الفرنسية فإن الحكم سيصدر طبقا للشريعة الإسلامية، لأن المعاون المسلم هو الذي سينفذ الحكم الذي يصدره قاضي الصلح الفرنسي (جوج دي بي). أما إجراءات الاستئناف فتخضع للقوانين الفرنسية، وتكون محكمة الاستئناف أيضا مختلطة، تمشيأ مع سياسة الاندماج. ومن جهة أخرى، نص تنظيم 1866 على اختلاط غرف الاستئناف أمام المحاكم الفرنسية، وكان الجزائريون في المناطق المدنية مخيرين بين الاستئناف وعد [...] ام المحاكم الفرنسية، ذلك أن القانون الجديد قد نص، كما ذكرنا، على إنشاء غرفة خاصة في كل محكمة استئناف، تضم قضاة فرنسيين ومعاونين مسلمين للنظر في القضايا المستأنفة، وهذه الطريقة جعلت من القضاة المسلمين تابعين لقضاة الصلح الفرنسيين ومنفذين لأحكامهم، كما ذكرنا، وأصبح الاستئناف ممكنا في الولايات الثلاث بعد إنشاء محكمة فرعية له في كل من وهران وقسنطينة، بالإضافة إلى المحكمة العليا بالعاصمة، وكانت المبشر تسمى هذه (بالمحكمة السلطانية). ترجمة لعبارة المحكمة الامبريالية. ولكي تتم الحلقة أنشأ المرسوم الجديد (1866) مجلسا إسلاميا جديدا، يضم خمسة أشخاص، ولكن مهمتهم استشارية فقط، وقد سمي (بالمجلس الأعلى للفقه الإسلامي). وهو اسم ضخم ولكن بدون فعالية، ومكان هذا المجلس هو محكمة الاستئناف وليس الجامع الكبير، مما يدل على انتقال السيادة الدينية والقضائية إلى المحاكم الفرنسية، وكان المجلس الجديد ينظر في القضايا الشرعية المحولة عليه من القضاة الفرنسيين. وإذا

أصدر رأيه فإنه يصبح نافذا، فهو مجلس، في الواقع، للفتوى الجماعية، وترى السيدة جاكلين بايلي أن هذا المجلس كان محكمة عليا حقيقية موازية للقضاء الفرنسي، ولكن الوضع في الحقيقة غير ذلك. وفي مرسوم 1866 بنود تتعلق برواتب القضاة المسلمين سنويا، وهي على ثلاثة أصناف، كما نص على أن الحاكم العام هو الذي يعين القاضي ونائبه، وأن كل محكمة يكون فيها قاض ونائب أو نائب وعدل، وكان على القاضي المسلم أن يحلف اليمين التالية: (أقسم بالله أمام عباده، ووثوقا بأمانة نفسي وصدقها، أن أحفظ عهد سلطان فرنسا (نابليون). وأقوم بحقوق وظيفي قيام ذوي العدل والإنصاف) (¬1). وهي صيغة من الواضح أنها مترجمة عن الفرنسية. وبناء على المرسوم المذكور صدرت تسمية أعضاء المجلس الأعلى الفقهي الجديد الذي تسميه المبشر (المجمع الفقهي). ونظرأ لمكانة هذا المجلس، رغم أنه استشاري، فإن تسمية أعضائه قد صدرت بمرسوم أيضا، وكل أعضاء المجلس جدد إلا حسن بن بريهمات، وهذه هي القائمة: الاسم ... الوظيفة المشغولة ... ملاحظات 1 - حسن بن بريهمات ... مدير مدرسة الجزائر الشرعية - الفرنسية ... سبق أن كان كاتبا في المجلس الذي أنشئ سنة 1854، وهومن العاصمة. 2 - الشيخ ابن الدين ... رئيس مجلس الأغواط سابقا ... غير مشهور 3 - الحاج محمد بن عبد الله الزقاي ... مدرس بمدرسة تلمسان الشرعية - الفرنسية ... من خريجي الأزهر 4 - الصديق بن عربية ... رئيس مجلس مليانة ... من عائلة تولت القضاء 5 - محمد الخبزاوي ... (دون ذكر وظيفة له) ... شغل وظيفة قاضي في سيدي بلعباس 6 - يوسف بن عربية ... عدل بالمجلس (مليانة؟) ... من عائلة الصديق بن عربية ¬

_ (¬1) المبشر، 18 ابريل 1867، ويحتوي هذا العدد على نصوص المرسوم كاملة - وكذلك انظر بلقاسمي، رسالة ماجستير، ص 87، والمدني، (كتاب الجزائر). وبايلي (عندما أصبحت ..) مرجع سابق، ص 47.

ونلاحظ عدم وجود أي عضو في هذا المجلس من قسنطينة، وفيه عضوان من عائلة واحدة - ابن عربية - كما يدل اللقب، ولا نعرف الكثير عن مؤهلات ابن الدين (¬1). ومن جهة أخرى، صدرت في المبشر قائمة بأسماء القضاة المتبقين واخرين جدد، في مختلف نواحي الجزائر: العاصمة، وتلمسان، وقسنطينة، وعنابة، وسطيف، وسكيكدة، ووهران، وقالمة، ومستغانم، الخ. لقد كان الفرنسيون في حاجة إلى هذا الإطار الديني - القضائي لتمرير أحكامهم في الجزائر أكثر من حاجتهم إلى الأئمة والمدرسين، ومن هؤلاء القضاة من كان صاحب سمعة عائلية وماض شريف، ومنهم الموظفون الجدد خريجو المدرسة الشرعية - الفرنسية أو الذين يحاولون التسلق على أكتاف الفرنسيين، ومن الذين ذكرتهم (المبشر): 1 - الشيخ أحمد بو قندورة، الذي ثبت في منصبه كمساعد (أساسور Assesseur) بالمحكمة العليا الفرنسية بالعاصمة، وقد تولى بوقندورة وظائف عديدة ولعب أدوارا ملونة ووصل إلى الفتوى وطال عهده فيها، وهو الذي لقيه الشيخ محمد بيرم حوالي سنة 1877 ودخل منزله (القصر) (¬2). وقد تولى ابنه الفتوى من بعده، وهي وظيفة شرفية كما عرفنا، يمنحها الفرنسيون لمن يرضون عنه من القضاة والأئمة. 2 - الحاج أحمد بن المبارك المعروف بالعطار، وقد كان عضوا في المجلس الفقهي لسنة 1854، ومدرسا بمدرسة قسنطينة، وكان صديقا لشيربونو، ولعب أيضا أدوارا ملونة في الإدارة الفرنسية، وسماه المرسوم ¬

_ (¬1) لا ندري إن كان هو صاحب الرحلة التي ترجمناها في كتابنا (أبحاث وآراء) ج 2، والظاهر أنه أحد أفراد عائلته لتقادم السنين، وأسرة ابن الدين معروفة في ناحية الأغواط والونشريس، وقد تولت وظائف رسمية للفرنسيين، ونفس الاسم موجود في أولاد سيدي الشيخ، وتولى أحدهم باسم ابن الدين، اغا جبل عمور، وكان متزوجا من فرنسية. (¬2) انظر عنه أيضا فصل التعليم في المدارس القرآنية.

الجديد عضوا في محكمة قسنطينية الفرنسية الاستئنافية الجديدة. 3 - الشيخ الحبيب بن البخاري الذي سمي بمحكمة وهران الاستئنافية الجديدة، وقد ذكرت الجريدة أن الشيخ الحبيب هذا كان طالبا (مدرسا) في تلمسان، وطال عهده في القضاء إذ وجدناه سنة 1894 ما يزال متوليا وظيفة معاون (أساسور) في نفس محكمة وهران، كما ذكره ألفريد بيل سنة 1905 بأنه عين مدرسا في جامع وهران الكبير وعمره اذاك 75 سنة، ثم ذكره في تقريره عن المدرسين سنة 1908، واقترح عزله وتعويضه في التدريس والاكتفاء براتبه من وظيفة المعاون في المحكمة التي ظل يحتفظ بها (¬1). 4 - مصطفى بن أحمد غياطو، قاضي المالكية في الوقت، وكذلك محمد بن مصطفى القاضي الحنفي، كلاهما سمي في محكمة الجزائر التي أصبحت كغيرها محكمة مختلطة. وكان أول اجتماع للمجلس الفقهي الجديد هو يوم الاثنين 14 أكتوبر، 1867 وأثناءه قدم المترجم العسكري (بليستروس) صيغة حلف اليمين للأعضاء فأدوها كما هي، وهي نفس الصيغة التي ذكرناها من قبل (¬2). وبعد سنتين وجدنا اسما جديدا أضيف إلى قائمة المجلس الفقهي، وهو الشيخ محمد الشريف الصفصافي (¬3). وقد وقع التوسع في توظيف القضاة، بل ظهرت الحاجة إلى المزيد من التوظيف منهم رغم طمس دورهم في الواقع، وهكذا فإن جملة القضاة أصبحت 184، سنة 1867، ولا يمكن ذكر أسمائهم جميعا هنا، فقد وزعوا على مختلف المحاكم في الولايات الثلاث (باستثناء الجنوب وزواوة ¬

_ (¬1) انظر (فصل التعليم في المدارس القرآنية). (¬2) عن المرسوم الجديد والأعضاء واليمين انظر: المبشر، 29 غشت، 1867، وعدد 24 أكتوبر، 1867 أيضا، انظر كذلك أعداد 27 يونيو، و 11 يوليو، 1867. (¬3) المبشر، 4 ما رس، 1869.

ميزاب). وونلاحظ أن كل قاض كان معه باش عدل وعدل، وأحيانا أربعة عدول، ونحن هنا لا يعنينا إلا القضاة رغم أن القاعدة تقول إنه إذا غاب القاضي ناب عنه الباش عدل، أو النائب: الجزائر: مصطفى بن غياطو، ومحمد بن مصطفى، القاضي المالكي والحنفي على التوالي. متيجة (الفحص): الحاج محمد بن زغودة. سور الغزلان: محمد بن الحاج حسن. دلس: أحمد بن محمد بن جعدون، من عائلة القاضي أحمد بن جعدون الذي تولى 1834 القضاء بالعاصمة، وكان الباش عدل في دلس هو علي بن عبد الرحمن (¬1). تنس: إبراهيم بن ملزي، من عائلة تولت القضاء للأمير عبد القادر في شرشال. مليانة: علي بن الحاج موسى، من عائلة علمية ودينية في العاصمة. وقد تخلى بعد ذلك عن القضاء واشتغل بوكالة ضريح الشيخ الثعالبي، وله مؤلفات سنعرض إليها. البليدة: محمد بن محمد الشريف، قد يكون من عائلة الشريف الزهار، صاحب زاوية الشرفة بالعاصمة. القليعة: عبد الرحمن بن شعوة. شرشال: محمد بن عاشور. المدية: محمد بن ميلود. وقد أضيف إلى مدينة الجزائر أيضا حمام ملوان، وبوزقزة، وأبو كرام. وبنو وطاس، ومجموع قضاة ولاية الجزائر (66) ستة وستون قاضيا، بخلاف الباش عدول والعدول، بينما مجموع قضاة ولاية وهران (47) قاضيا ¬

_ (¬1) قد يكون هو علي بن عبد الرحمن الذي أصبح مفتيا في وهران مدة طويلة، وكان من شيوخ التجانية، انظر عنه فصل التعليم بالمدارس القرآنية. وقد يكون شخصا آخر.

دون الباش عدول والعدول، ونذكر منهم في: وهران: محمد بن مصطفى باشا، ولا ندري ما علاقته بعائلة الداي مصطفى باشا، وفي أوائل هذا القرن كان أحد المدرسين بهذا الاسم في العاصمة (انظر فصل التعليم). مستغانم: ابن عودة بن عبد الحليم. معسكر: محمد بوراس، وهو حفيد الشيخ بوراس المؤرخ. تلمسان: أحمد بن العنتري (أضيف إليه أبي إزار الكبير؟). وعائلة ابن العنتري من مليانة. وهي غير عائلة العنتري القسنطينية. أما جملة قضاة ولاية قسنطينة فحوالي (71) واحد وسبعون، وهم موزعون على مختلف المدن والمراكز، ومنهم في: قسنطينة: محمد بن عزوز، وقد ذكر معه المكي بن باديس (الجد الأعلى للشيخ عبد الحميد) على أنه قاضي الفحص بوادي العثمانية. عنابة: قدور بن تركية. سكيكدة: محمد بن الحاج محمد. جيجل: عبد الله بوجمعة (¬1). وأعمال المجلس غير واضحة، ويمكن أن نقول إنها تافهة، فهو فقط يجيب على ما يطلب منه من قبل المحاكم، وقلما تطلب هي ذلك إذ أصبحت هي المتولية الفعلية لمحاكمة المسلمين في مختلف النوازل، مثلا في 1869 وجدنا فتوى أصدرها المجلس بعدم شرعية حمل امرأة من زوجها الأول المتوفى، لأنها ادعت بعده أنها حامل، ثم بعد ستة أشهر ادعت أنها كاذبة، ثم وضعت حملا بعد تسعة أشهر، وقد اعتمدت المحكمة على رأي المجلس، مثل هذه القضايا كان يكفي فيها حكم القاضي المسلم دون الرجوع إلى تعاريج المحاكم الفرنسية وفتوى المجلمس الفقهي، ولكن الفرنسيين كانوا يريدون تاكيد سيادتهم على الشريعة الإسلامية، عن طريق دمج القوانين ¬

_ (¬1) عن المبشر أعداد 11، 18، 25 يوليو، 1867.

واختلاط القضاة، ونحو ذلك من الإجراءات التعسفية (¬1). وقد بدأ الحديث منذ الستينات عن توحيد المصطلحات القضائية أيضا. فقد ذكرنا أن لجنة من العلماء المسلمين قد ترجمت إلى العربية مرسوم 1859، وانتهت منه سنة 1860، وقد نشر في المبشر، وبعد أن أصبح القضاء مندمجا ومختلطا احتيج إلى توحيد المصطلحات، فظهرت وثيقة تسمى (تحرير الأصول، وتيسير الوصول، فيما على القضاة والعدول). ولا شك أن الترجمة هنا كانت من الفرنسية إلى العربية أيضا، فمهمة القضاة المسلمين هي تطبيق المصطلحات الفرنسية المعربة عند تنفيذ أحكامهم، ولم يكن العكس صحيحا إلا في بعض الحالات مثل ترجمة مختصر الشيخ خليل إلى الفرنسية في الخمسينات على يد الدكتور (بيرون). وقد احتاجه القضاة الفرنسيون بعد أن أصبحوا يحكمون في القضايا الإسلامية أيضا، ولكنهم اشتكوا من صعوبة عباراته. وكان قد شرع في محاولة توحيد المصطلحات القضائية منذ 1865. فقد أنشأ الحاكم العام، ماكماهون، لجنة لدراسة توحيد مصطلحات التوثيق في المحاكم، وتولى لوتورنو (¬2) رئاسة هذه الهيئة، وكان أيضا هو رئيس المحكمة العليا بالجزائر، وفي اللجنة فرنسيون مطلعون على الشريعة الإسلامية بالإضافة إلى أعضاء المجلس الفقهي المذكورين، وقد توصلت اللجنة إلى مجموعة من المصطلحات اتفق على بداية تنفيذها منذ يناير 1870 بالنسبة لجميع القضاة، وهذه المصطلحات هي التي أطلق عليها عنوان (تحرير الأصول ...) كما ذكرنا، ومن أبواب هذا العمل: 1 - في المتداعين والوكلاء. 2 - أسباب الحكم. 3 - صيغة الحكم. ¬

_ (¬1) المبشر، 4 ما رس، 1869. (¬2) هو الذي اشترك مع هانوتو في كتاب (بلاد القبائل). في ثلاثة أجزاء.

4 - في المقال والجواب. 5 - في الرسوم المحتج بها. 6 - في اليمين. 7 - خروج القاضي والعدول للوقوف على المتنازع فيه. 8 - البينات (وهو فصل طويل). 9 - خاتمة. ومما ورد في الخاتمة (يتعين على القضاة والعدول العمل بمقتضى هذه الأصول (القواعد) مع صور الأحكام الموجهة إليهم التي هي في الحقيقة أمثلة لهذه الأصول، وكذا العمل بصور الرسوم التي اشتمل عليها كتاب - جامع الرسوم - المطبوع بتاريخ 15 يناير، 1865، الواصل إليهم قبل هذا .. وحسب الواقف منهم عليها (أي الرسوم أو الأصول) أن يعمل بها ولا يتعداها، ومن خالف يوشك أن تحل به العقوبة الشديدة) (¬1). وكان يحلو للفرنسيين إيجاد الفوارق الاصطناعية بين السكان، وهم لا يستطيعون العيش بدون خلق الاختلافات بين الناس، وميدان القضاء، كميدان التعليم والإدارة والدين الخ، من الميادين التي برع فيها الفرنسيون في التفريق بين منطقة وأخرى في الجزائر رغم أن الإسلام واحد فيها جميعا، فقد قسموا البلاد أولا إلى مناطق مدنية وأخرى عسكرية، وهذا تقسيم إداري قسوه على حجمهم هم، أي حيث يكونون بكثرة أو قلة أو غير موجودين أصلا. ومع أن زواوة (القبائل) تقع ضمن ما سمي بالنظام المدني، فقد اعتبرت منطقة خاصة في إجراءات القضاء، فكان الحكم فيها للعرف لا لمحاكم الشريعة الإسلامية، وبقيت (الجماعة) فيها هي التي تسير شؤون كل قرية أو دشرة تحت نفوذ الإدارة الفرنسية، وقد دام ذلك من احتلال زواوة سنة 1857 إلى ثورة 1871. ¬

_ (¬1) المبشر أول ابريل 1869، وهذه التوصيات (الأصول) منشورة في عددين متواليين من الجريدة وبحروف صغيرة، وأما كتاب (جامع الرسوم) فلم نطلع عليه، ويبدو أنه كان قد وزع على القضاة ليهتدوا به قبل (تحرير الأصول).

ومن جهة أخركما، فإن الفرنسيين قد أطلقوا عبارة النظام العسكري على المناطق الجنوبية، وهي تسمية فضفاضة لأن ما كان عسكريا في الجنوب أصبح مدنيا بالتدرج وتابعا للشمال مع تقدم السنوات وتوسع الحكم المدني الخاضع لمنطق الفرنسيين الإداري، وهكذا فإن أجزاء كثيرة من التل والهضاب العليا كان يطلق عليها مناطق عسكرية ثم أدمجت في الإدارة المدنية، سيما بعد 1871، وكانت منطقة ميزاب ضمن الجنوب ومع ذلك اعتبرها الفرنسيون وحدة قضائية لأنها، تتبع المذهب الإباضي، كما أن بني ميزاب كانوا (محمية) فرنسية من 1853 إلى 1882. وكان اتفاق الحماية قد اعترف لهم بإجراء الشريعة الإسلامية على ما كانوا عليه وعلى اتباع تقاليدهم ومجالسهم المحلية، ولكن الأمر لم يبق كذلك بعد احتلال المنطقة سنة 1882، ومع ذلك بقي القضاء هناك تبعا للمذهب الإباضي. وقد أصبح أنموذج (تحرير الأصول) الذي حررته لجنة لوتورنو المذكورة، هو المتبع في المدارس والامتحانات، إنه محاولة لتوحيد المصطلحات، كما قلنا، وقد أوصت تلك اللجنة بالابتعاد في الفقه عن كل ما يتعلق بالعبادات والرق، لأن ذلك غير موافق (لشرائعنا) أي القوانين الفرنسية، كما أوصت بالابتعاد عن الحدود التي حجرت على القضاة، وأنواع الغرامات، ومن ثمة فالذي سيكون محل اهتمام المدرسين والمترشحين في مسائل الفقه هو المسائل المالية والبدنية، وهي ميدان اشتغال القضاة في أحكامهم، وتذكر المبشر أن اللجنة التزمت، مع ذلك، بأبواب الفقه كما وردت في مختصر الشيخ خليل حتى لا يقع إشكال على المدرسين في التعليم لو تغيرت قواعده (¬1). ... ولكن كثيرا من التغير حدث في ميدان القضاء الإسلامي بعد سقوط نابليون الثالث وبداية عهد الجمهورية الثالثة، وحدوث ثورة 1871. ¬

_ (¬1) المبشر، 19 غشت، 1869.

فقد كان ذلك مرحلة أخرى من مراحل العلاقات الجزائرية - الفرنسية في القضاء وفي التعليم وفي الأرض وغيرها، وإذا كانت الأربعين سنة السابقة قد تميزت بالاحتلال العسكري والعنف المادي والمواجهات، فإن المرحلة الجديدة قد تميزت بالاحتلال المدني وفرض القوانين الفرنسية والدمج القسري لشؤون الجزائر في مختلف المرافق الفرنسية، ومن ذلك القضاء الإسلامي، وسنسوق هنا بعض ما حدث من تغيير في هذا المجال، رغم أن عهد الستينات كان أيضا عهد الاستحواذ الذكي على صلاحيات القضاة المسلمين، كما رأينا: 1 - افتتحت الجمهورية الثالثة، المدنية، بقيادة الحاكم العام ديقيدون، عهدها بمصادرة الأرض الواقعة في منطقة ثورة 1871 ونصب المحاكم العسكرية، وفتح السجون أمام الثوار، وكانت المحاكمات تجري في مدينة قسنطينة، ولكن المستوطنين قد نصبوا محاكمهم الخاصة، وقد صدرت أحكام الإعدام والنفي والمصادرة والتغريم والسجن بالآلاف (¬1). 2 - منذ 29 غشت 1874 تغيرت السياسة القضائية في زواوة، فلم يعد القضاة هم الذين يصدرون الأحكام بين الأهالي هناك، ولا الجماعة ولا المرابطون (المصلحون)، بل أصبح قضاة الصلح (جوج دي بي) الفرنسيون هم الذين يقومون بذلك، وتماديأ في المس بالدين الإسلامي ترك الفرنسيون الحرية للمتقاضي، إما أن يختار الحكم حسب العرف القبلي أو حسب الشريعة الإسلامية، ولكن هذا الاختيار كان مؤقتا فقط، إذ أن قرار 17 ابريل سنة 1889 قد أجبر أهل زواوة على التحاكم أمام المحاكم الفرنسية فقط ولو كانوا خارج منطقتهم، فأحوالهم المدنية من زواج وطلاق وتركات كلها يجب أن تجري أمام قاضي الصلح الفرنسي، وقد قاوم الأهالي ذلك وتمسكوا بالشريعة الإسلامية، رغم بقاء العرف سائدأ في عدم توريث المرأة. ¬

_ (¬1) انظر لويس رين، (تمرد 1871). وكذلك يحيى بوعزيز (دور عائلتي المقراني والحداد في ثورة 1871).

3 - أدخلت الجمهورية الثالثة أيضا نظام المحلفين بمرسوم 28 أكتوبر 1870، وهو نظام غير مألوف في القضاء الإسلامي، وكان المحلفون في الجزائر يتألفون من المستوطنين الفرنسيين الحاقدين على الجزائريين لمقاومتهم العنيدة للاحتلال ومصادرة الأرض، فوجد المستوطنون الفرصة للانتقام عن طريق نظام المحدفين الجديد، ولا سيما فيما يتعلق بانتزاع ما بقي من الأراضي وقمع الثورات، وبعد تجنسهم بالجنسية الفرنسية أصبح اليهود أيضا من المحلفين، ولذلك نظر الجزائريون إلى نظام المحلفين على أنه يعني حكم المستوطنين فيهم وسيطرتهم على مقاليد البلاد بدل الحكومة الفرنسية، وقد أكثر المحلفون من إصدار الأحكام ضد الأهالي، ففي سنة 1872 أصدروا الحكم ضد 620 شخصا، والحكم بالإعدام على 71 نتيجة حرائق الغابات، ويقول آجرون: إن الكولون (وفيهم اليهود) أرادوا أن يكونوا هم القضاة، وكانوا يحكمون حتى على الرؤساء الأهالي، وكانت فظاعة هذه الأحكام هي التي أدت إلى عنف المقاومة (¬1). 4 - وكان قانون الأرض لسنة 1873 الذي سارع بإنجاز قانون 1863 الخاص بإنشاء الملكية الفردية في الأرض، قد أدى إلى تقليص مسؤولية القاضي المسلم في الأحكام الخاصة بالأرض، فقد ألغى قانون 1873 حق القضاة المسلمين في النظر في مسائل الملكية (¬2). إضافة إلى قانون سنة 1874 الخاص بزواوة والذي يكرس القضاء في يد القاضي الفرنسي فقط، وزاد الطين بلة صدور قانون 1875 الذي ألغي مجالس القضاء التي أنشئت سنة 1866، والتي اعتبرت من مخلفات عهد المملكة العربية (عهد نابليون الثالث) كما ألغي بنفس القانون (المجلس الفقهي). رغم أنه مجلس استشاري فقط، كما رأينا، وهكذا ظهرت الجمهورية الثالثة وهي تضرب بعنف كل رمز من رموز الهوية الجزائرية، ومنها القضاء الإسلامي (¬3). ومن ¬

_ (¬1) بلقاسمي، رسالة ماجستير، وكذلك آجرون (تاريخ الجزائر المعاصر) 2/ 34. (¬2) المدني (كتاب الجزائر). (¬3) في نفس الفترة ألغيت المدرسة العربية - الفرنسية (الكوليج) في كل من العاصمة =

جهة أخرى نقص عدد القضاة نقصا كبيرا بعد أن أعطيت صلاحياتهم للقضاة الفرنسيين ولم تعد هناك حاجة لتوظيفهم. 5 - أنشأ الفرنسيون قانون الأهالي الاستثنائي البغيض (كود دو لاندجينا) سنة 1871 وظلوا يدعمونه بقوانين إضافية إلى أن وصلت مواده إلى أكثر من 25 مادة، ومن ذلك محاكم الردع والسجن بدون محاكمة، والاعتقال بالشبهة، وإخفاء مكان السجين أو المعتقل، وتشمل مواده أيضا الضرب والتغريم والنفي والسجن وغيرها دون اللجوء إلى المحاكم والقضاة، فهو قانون استثنائي ولا يخضع إلى القانون الفرنسي ولا للشريعة الإسلامية، وقد وجد القضاة المسلمون أنفسهم وسط مأزق، من جهة كانوا يمثلون السلطة المتعسفة، ومن جهة أخرى كانوا يمثلون في أعين المواطنين سلطة القانون والشريعة، وبهذا الصدد أصدر الحاكم العام سنة 1879 قرارا بسجن (المشبوهين) الجزائريين في السجون العسكرية، وكانوا يعاملون فيها معاملة المجرمين، وعبارة (المشبوهين) مطاطة، فكل من لا ترضى عنه السلطات الفرنسية أو دارت حوله شبهة يمكن اعتقاله وسجنه، وقد صنف الأهالي إلى أصناف، حسب بطاقة معينة، فهم: 1 - العائلات السياسية الكبيرة. 2 - والأعيان الدينيون، مرابطون وغيرهم. 3 - أناس لهم أهمية محلية. 4 - من صدرت أحكام سابقة ضدهم. 5 - المشبوهون، وهم الذين لا يدخلون في أي صنف من الأصناف الأربعة الأخرى. لقد شهدت عشرية السبعينات والثمانينات قمعا وحشيا للحريات ¬

_ = وقسنطينة، وألغيت المدارس الابتدائية المسماة بالعربية - الفرنسية، وعددها 36 مدرسة، وأعيد تنظيم المدارس الشرعية الثلاث بجعلها تحت السيطرة الفرنسية المباشرة وتغيير برنامجها، الخ.

والآراء الشخصية والمدنية، وكانت الإدارة تدعم هجمة المستوطنين في إلغاء رغبات الجزائريين ودفعهم إلى الهجرة أو إلى الصحراء والكبت الرهيب، وكانت وسيلتهم في ذلك هي المحاكم التي تولاها القضاة الفرنسيون فقط، ولم يبق فيها صوت للقضاة المسلمين، وكان هدف القضاة الفرنسيين الذين كانوا من المستوطنين أنفسهم، هو نزع الأسلحة من الجزائريين وتجريدهم من الأرض وقمعهم وإرهابهم بدعوى أنهم لصوص ومجرمون لا يفكرون إلا في النهب والثورة، ولذلك سنت المحاكم أيضا المسؤولية الجماعية في الدواوير، فالفرد وحده لا يعنيهم إذا ارتكبت جريمة أو وقع حريق، بل كل سكان المكان كلهم مسؤولون، وقد تضاعفت وسائل الضغط باستعمال كلمات خاصة ضد الجزائريين في المحاكم والصحف، مثل اللصوص، والقتلة والفلاقة، ولذلك زيد في عدد الشرطة والدرك والأعوان من هذا النوع كالجواسيس (¬1). وأمام ذلك وجد القضاة المسلمون أنفسهم عاجزين، وقد اعتدى الفرنسيون على اختصاصاتهم، كما نقص عددهم وانحطت قيمتهم. ولذلك ظهرت حركة احتجاج واسعة سنذكرها. 6 - من اختراعات هذه الفترة أيضا تغيير الحالة المدنية، كان الجزائريون قبل عقد الثمانينات يدعون بأسماء آبائهم وأجدادهم، وينسب الإنسان إلى قبيلته أو عائلته أو عرشه، فيقال فلان بن فلان من أولاد كذا أو من بني فلان، والمرأة هي فلانة بنت فلان، الخ .. وفي هذا النظام تحافظ العائلات على أنسابها وتواصل أعقابها، وتعرف كل قبيلة مكانها وأصلها، ولو تفرقت فروعها وتباعدت، وتعرف كل طبقة مكانتها في المجتمع، فهناك الحضر والبرانية وأهل البادية أو العرب، وهناك أهل الصنائع والحرف والعلم والتجارة، أما الريف ففيه الأجواد (أو الذواودة في بعض المناطق). والمرابطون، والفلاحون، والجبالة، والبدو، والرحالة، وداخل هذا النسيج الاجتماعي هناك الأغنياء والفقراء والمتوسطون، وبين الجميع علاقات محددة تحفظ للمجتمع قيمه وأصوله وخصائصه. ¬

_ (¬1) بلقاسمي، رسالة ماجستير، ص 90 - 93.

ولكن هذا النسيج قد تغير بعدة عوامل، من بينها المساس بالحالة المدنية والألقاب، فقد فرض الفرنسيون على كل عائلة أن تختار لقبا خاصا بها يحمله الأبناء والأحفاد على الطريقة الأوربية، ولم يكن الجزائريون واعين بأهمية وخلفية هذا التغيير إلا القليل منهم، فاختاروا لأنفسبهم وأولادهم ألقابا تبعدهم عن أصولهم وتنسيهم ماضيهم وانتماءهم وتفصلهم عن أقاربهم في الدم والنسب، وكان هدف الفرنسيين البعيد هو اقتلاع جذور المجتمع وقطع العلاقات مع الماضي العربي الإسلامي، وتحضير المجتمع للدمج في الغير، وهم الفرنسيون، وقد ذكر شارل روبير آجرون نمموذجا للمسخ الذي حدث بفرنسة الأسماء والأعلام في الجزائر: فهذه مريم بنت علي بن محمد بن موسى قد أصبحت ماري موسات (¬1) Mari Moussat، وقد كان على القضاة أن يسجلوا ذلك في السجلات وأن ينادوا الناس بالألقاب الجديدة الممسوخة، ولا حول لهم ولا قوة في القول إن ذلك مخالف لأصول المجتمع وقواعد الدين، وقد قاوم الجزائريون ذلك وظلوا ينادون بعضهم بأسمائهم الإسلامية في أغلب الأحيان. 7 - وقد دخلت بعد ذلك مصطلحات جديدة في القضاء والمحاكم، وكلها تقريبا مصطلحات مترجمة عن الفرنسية ولا عهد للشريعة الإسلامية بها، فأصبح هناك: محاكم الجنايات، ومحاكم العرف، والمحاكم الابتدائية، ومحكمة النقض والإبرام، ومحكمة الجرائم، ومحكمة (دائرة) الاستئناف، والمجالس التأديبية، وغرفة الاتهام، والتشريع الكمي، والأحكام المستعجلة، ثم المحلفون، وأعوان الشرع، والمحامون، والمختصون في تقديم القضايا، وشهود المعاملات، والمترجمون الشرعيون، والمترجمون المحلفون، ثم التغريم المشترك أو الجماعي، وحجر الأملاك، بالإضافة إلى المحاكم العسكرية أو المجالس الحربية. وبعد قرن (1930) من الاستعمار، كان عدد المحاكم الجنائية 4، ¬

_ (¬1) بلقاسمي، رسالة ماجستير، ص 93 عن آجرون.

والمحاكم الابتدائية 17، ومحاكم قضاء الصلح العادية 17، ومحاكم قضاء الصلح ذات السلطات الواسعة 96، والمجالس العسكرية 14، ومحاكم تجارية 4، أما محكمة الاستئناف فواحدة بالعاصمة فقط، بالإضافة إلى مجالس عرفية عددها 15، وهي خاصة بأهل الحرف والصنائع، والإجرام على نوعين عند الفرنسيين، إذا كان المجرم أوربيا فيحاكم أمام محكمة الجنايات، وإذا كان جزائريا فإنه يحاكم أمام محكمة الجرائم (كريمينال). والمحاكم التجارية خاصة بالأوربيين فقط، أما بقية المحاكم فللجميع، لكن نلاحظ أنها محاكم فرنسية يتولاها قضاة فرنسيون ولا دخل فيها للقضاة المسلمين (¬1). 8 - إن الضغط والهجوم على القضاء الإسلامي من قبل الفرنسيين جعل القضاة الجزائريين يتحركون، وسنتحدث هنا عن تحرك بعض الأفراد، ثم التحرك الجماعي أي المطالبة بتغيير الأوضاع، فالفرنسيون كانوا ينظرون إلى القضاء الإسلامي على أنه استمرار للذاتية (الهوية) العربية - الإسلامية للجزائر، لذلك كانوا يطالبون بإلغاء دور القضاة المسلمين الذين يعتبرونهم يمثلون النخبة التقليدية المرتبطة بالدين واللغة والعادات، كما كانوا ينظرون إليهم على أنهم عقبة في وجه تطبيق القوانين الفرنسية ودمج الجزائر في البوتقة الفرنسية. قاوم الجزائريون ذلك بشتى الوسائل، وقد ظهر فيهم رجال من أمثال المكي بن باديس وابنه حميدة بن باديس، ومحمد بن رحال، ومحمد بن الحاج حمو، والسعيد بن شتاح، وأحمد بن الفاسي، وعلاوة بن ساسي، وصالح بن بوشناق. إن هؤلاء وأمثالهم قد لعبوا دورا بارزا في رفض الدور الثانوي للقضاة المسلمين وفي رفض مسخ المجتمع عن طريق التجنس وتطبيق الحالة المدنية، وقد تعرض بعضهم للاضطهاد الشديد. ¬

_ (¬1) المدني (كتاب الجزائر). والحديث هنا عن المصطلحات وأنواع المحاكم، كما أصبحت سنة 1930، وكلها تقريبا من اختراعات عهد الجمهورية الثالثة.

المكي بن باديس والعرائض

المكي بن باديس والعرائض ومن هؤلاء المكي بن باديس القسنطيني الذي عاصر الاحتلال في عنفوانه، ولد حوالي سنة 1820 بقسنطينة، وكان في أول أمره مساعدا في المكتب العربي بقسنطينة لمحمد الشاذلي، القاضي عندئذ، وقد تخرج على بقايا علماء قسنطينة الذين ذكرهم أبو القاسم الزياني في رحلته والذين عاصروا حكم الحاج أحمد، فكانت فيه بقية علم ودراية بالإضافة إلى ماضيه العائلي في المدينة وفي التاريخ، وقد رأيناه قاضيا أيضا في وادي العثمانية في الستينات (¬1). وبحكم اختلاطه بالفرنسيين كان يتكلم الفرنسية، ويذهب السيد كريستلو الذي درس حياته، إلى أن المكي بن باديس كان عصامي الثقافة والتكوين، وقال عنه إنه بالمقارنة إلى حسن بن بريهمات لا يمكن تسميته بالمفكر أو المثقف الحر، ولا تسميته بالعصري، وهي الصفة التي تنطبق على بريهمات أكثر من ابن باديس، وكان ابن باديس مستعدا لتقبل التأثير الفرنسي في الميادين الزراعية والمادية، ولم يكن أيضا تقليديا بل كان يقبل بالتغيير في حدود، وكان المكي بن باديس غير مرتاح للمدارس الشرعية - الفرنسية الثلاث ويفضل عليها تعليم الزوايا وخريجيها. تولى ابن باديس القضاء فترة طويلة (1856 - 1876) معظمها في قسنطينة وضواحيها، وأصبح متكلما سياسيا وداعية صحفيا، وكان من القلائل الذين تفطنوا لأهمية الصحافة والإشهار في خدمة القضية التي ينافح عنها، وكان مستعدا للمساومة في الشؤون السياسية والاقتصادية ولكنه غير مستعد لذلك بالنسبة للشؤون الدينية، وقد كتب مرة أن هناك ثلاثة أمور تقرر مصير الإنسان، وهي الاعتداء على ثروته الدنيوية، والاعتداء على بدنه، والاعتداء على دينه، وأخف هذه الاعتداءات هو الأول وأوسطها الثاني، ولكن أخطرها هو الاعتداء الثالث لأنه اعتداء على ما هو مقدس عند الضمير الإنساني، وهكذا ظهر ابن باديس غير مساوم في الشؤون الدينية. ¬

_ (¬1) ذكر مرة على أنه قاضي الفحص، مع الشيخ محمد بن عزوز.

خلال الخمسينات والستينات من القرن الماضي كان ابن باديس عضوا في مختلف اللجان الرسمية، وفي السبعينات أصبح مستشارا عاما في مجلس ولاية قسنطينة (¬1). وسلم في منصبه كقاض يمكن نقله إلى أي مكان، واستلم بدله وظيفة مساعد أو معاون (أساسور) في محكمة قسنطينة (تريبونال) بعد إنشائها طبقا للتغيير الجديد (1866). أما دوره في الإشهار والدعاية الإعلامية لقضية الإسلام والجزائر، فقد دل على تقديره لأهمية الصحافة التي لم يبدأ الاهتمام بها عند الآخرين في ذلك الوقت، ويعتبر من أوائل السياسيين الجزائريين الذين استعملوا هذه، الوسيلة مستفيدا من تجربة الأوربيين فيها، وهذا دليل على تقديره للكلمة المكتوبة، والدارس لخطبه في المجلس العام بالولاية وما أصدره من كتيبات ونشرات تبرهن على أن الرجل كان مركزا على ثلاثة عناصر: الأول: توسيع التمثيل السياسي للمسلمين في مختلف المجالس النيابية، من البلدية إلى البرلمان، والثاني: معارضة القوانين الجزرية الصادرة ضد الأهالي، أي تلك المسماة (كود دو لاندجينا). أما الثالث: فهو مكافحة التجنيس الجماعي للمسلمين، وعلاقة النقطة الأخيرة بالقضاء الإسلامي واضحة، لأن التجنس يعني التخلي عن الأحوال الشخصية، ومن خطبه في المجلس العام تلك التي ألقاها حول التمثيل السياسي في 17 أكتوبر 1881 في الوقت الذي كان البير قريفي على رأس الحكومة العامة بالجزائر (¬2). من الكتيبات التي نشرها المكي بن باديس سنة 1875 ذلك العمل الذي سماه (بيان القوانين الردعية المطبقة على اللصوص في الأرياف الجزائرية). وكان يريد به الدفاع عن الشريعة الإسلامية والمطالبة بتطبيقها على الأهالي ¬

_ (¬1) كان يسمى مجلس العمالة، والعمالة هي الولاية (المحافظة) اليوم، وكان مجلسا مختلطا فيه الأوربيون أعضاء كاملو الصلاحيات وفيه بعض الأعيان المسلمين كمستشارين للترضية والاستئناس بارائهم، وقد أنشئت المجالس الثلاثة (العاصمة، وقسنطينة ووهران) في 1858. (¬2) البير قريفي كان أخا لرئيس الجمهورية الفرنسية، قريفي، عندئذ.

الذين يرتكبون المخالفات بدل تطبيق قانون الأهالي الاستثنائي الذي كان من وضع المستوطنين الفرنسيين، كما طالب ابن باديس بإحلال الشريعة محل قانون الأهالي بعد أن رأى فشل نابليون في تطبيق مرسوم 1866 الخاص بالقضاء والذي نص على إعادة تنصيب المجالس القضائية (الفقهية) ذات السيادة، أو المحاكم الإسلامية التقليدية، ويتلخص سعي ابن باديس، حسب رأي بعض الباحثين، في المواءمة بين الشريعة الإسلامية والقانون الجنائي الفرنسي بالنسبة للأهالي، ولكنه فشل في ذلك لمعارضة المستوطنين الذين كانوا ينادون بتطبيق (كود دي لاندجينا) الذي لا يعطي للجزائر حماية القانون الفرنسي ولا فائدة الشريعة الإسلامية. ومنذ 1882 تخلى المكي بن باديس لابنه حميدة عن منصب النائب في المجلس الولائي العام بقسنطينة، وقد اهتم حميدة بالمشاكل الفلاحية (¬1). وألف كتيبا في ذلك، ودافع عن قضايا الجزائر أمام لجنة مجلس الشيوخ سنة 1892، وقد عاصر فترة كتابة العرائض في قسنطينة، فترة الثمانينات بالخصوص، وكانت ثقافة حميدة بن باديس كثقافة والده قوية وعصامية، وكان يكتب بعربية سليمة، ودافع عن قضايا المسلمين بشدة حتى اعتبره كريستلو من أوائل ممثلي حركة (الشباب الجزائري) التي أخذت في الظهور خلال الثمانينات، وحميدة هو والد مصطفى بن باديس والد الشيخ عبد الحميد بن باديس، وكان حميدة قد رئى ولده مصطفى على الابتعاد عن تعليم المدرسة الشرعية - الفرنسية والنظام القضائي كله، حسب بعض الباحثين (¬2)، بل أبعده عن قبول الوظائف الفرنسية كلها. ومن المعاصرين للمكي بن باديس، نجد صالح بن بوشناق، وهو من الذين درسوا في المدرسة الشرعية - الفرنسية، وبدأ حياته في القضاء سنة 1864، وهو أضلا من نواحي سطيف وتولى القضاء في ميلة، وكذلك تولى ¬

_ (¬1) من أبناء المكي بن باديس أيضا الشريف بن باديس المولود حوالي 1840، وقد عمل أيضا في المحاكم بقسنطينة، ثم تقاعد وتفرغ للعمل في الزراعة بوادي العثمانية. (¬2) كريستلو (المحاكم الإسلامية ..). ص 220 لى 233.

منذ 1885 العضوية في المجلس الولائي العام بولاية قسنطينة كزميله حميدة بن باديس، وكان بوشناق قد زار فرنسا في أكتوبر سنة 1880، وأثناء نيابته خطب وعارض التجنس بصراحة ومهما كان الأمر، وقد لفتت خطبته الأنظار إليه، وكان على خطى المكي بن باديس في ذلك، وكان بوشناق من أولئك الذين بدأوا حياتهم في القرى والمدن قبل أن يصلوا إلى عاصمة الإقليم، كما يقول كريستلو. وفي 10 سبتمبر، سنة 1886 أصدر الفرنسيون مرسوما جديدا حول القضاء الإسلامي، أبطلوا فيه بالخصوص دور القضاة المسلمين في المسائل العقارية، وقد اتهم القضاة المسلمون بأنهم عطلوا قصدا تطبيق قانون الأرض سنة 1873، وهو القانون الذي اعتبره القضاة المسلمون بالفعل معطلا لهم، فقالوا إنه قد صيرهم عاجزين عجزا كليا، وجعلهم موظفين بصفة كتاب رسميين فقط، ونتج عنه ضرر كبير لأبناء جنسهم، ونتيجة لذلك قدم أهل قسنطينة إلى السلطات الفرنسية عريضة في سنة 1887 تطالب بإلغاء المرسوم المذكور والرجوع إلى مرسوم ديسمبر 1866، وقد ذكرت العريضة أن (الناس في جميع المواطن الجزائرية) قد تضررت بمرسوم 1886، وأنهم لم يرفضوه في بدايته حتى يظهر للحكام عدم جدواه وأنه لا يليق بالمسلمين للضرر الكبير منه، وذكرت العريضة أيضا أن النواب في مختلف المجالس المنتخبة وكذلك الأهالي على العموم في الولايات الثلاث، قد شكوا للوزراء الفرنسيين الذين زاروا الجزائر من الضرر الذي أصابهم من جراء ذلك المرسوم، وقد بنوا شكواهم على عدة أمور: 1 - التزام فرنسا سنة 1830 باحترام الدين الإسلامي والعادات، الخ. وقد تغير الكثير من أمور الشريعة (القضاء) حتى ضاع منها شيء مهم. 2 - صدور مراسيم من الدولة الفرنسية تنتزع في كل مرة صلاحيات من الشريعة الإسلامية وتعطيها إلى القضاة الفرنسيين، وتوسع في ذلك من تصرفات هؤلاء القضاة، وهكذا رأى القضاة المسلمون أن أمور الشريعة (تضيق بالتدرج حتى كادت تصل إلى نقطة النهاية ...) وقد لاحظوا ذلك

وتعجبوا، ولكنهم واصلوا خدماتهم، وبينما كانوا ينتظرون استرجاع ما انتزع منهم فإذا بمرسوم 10 سبتمبر 1886 يعطلهم تماما، (من بين ما جاء به هذا المرسوم هو إحلال قاضي الصلح الفرنسي محل القاضي المسلم في الحكم بالشريعة الإسلامية، إذا رضي الخصمان بذلك، أي عدم ضرورة المحاكم الإسلامية). 3 - المطالبة بإعادة أمور القضاء في الخصومات المالية وغيرها إلى القضاة المسلمين لاعتبارات منها سرعة الحكم وانخفاض المصاريف، وبتعبير آخر المطالبة بالرجوع إلى العمل بمرسوم ديسمبر، 1866. ونلاحظ أن العريضة خففت من حدتها وكأن المحررين لها خافوا على أنفسهم من مغبتها، فتراجعوا إلى حد ما بطريقة دبلوماسية، إذ قالوا إنه إذا كان الرجوع إلى مرسوم 1866 غير ممكن بطريقة شاملة، فإنهم يطالبون بتغيير جزئيات المرسوم الجديد (1886) وإبطال ضرره على القضاء الإسلامي في الناحيتين التاليتين: 1 - أن يكون للخصمين اختيار القاضي الذي يفصل بينهما، أي اختيار القاضي المسلم أو قاضي الصلح الفرنسي. 2 - إذا كانت النازلة تكلف من خمسة إلى خمسمائة فرنك فالمطلوب الإبقاء على فصلها على يد القاضي المسلم تنقيصا للمصاريف على المتخاصمين، وقد ثبت أن المصاريف القضائية قد أضرت بالناس كثيرا في مسائل تافهة، والخصومات كثيرة، وكان القضاة المسلمون من قبل هم الذين يفصلون فيها (¬1). ¬

_ (¬1) الفصل السابع من (مقالة غريق ..) ط. قسنطينة، والعريضة عندي، وهي منشورة أيضا في قنان (نصوص). ص 230، والغريب أن العريضة تفرق بين الدين (الديانة، العناية بالمساجد ..) وبين الشريعة (القضاء). وتقول إن الدين بقي على ما هو عليه، وحافظ الفرنسيون عليه وجمعوا مدخوله وخصصوا رواتب للقائمين عليه، وهذا غير صحيح في أساسه لأن الفرنسيين صادروا الأوقاف واستولوا على المساجد وضموا =

ولم يكن كل الأعيان والقضاة متفقين على هذه الصيغة في الطلب من التخلص من آثار مرسوم 1886 على القضاء الإسلامي، فقد كان هناك المطالبون بإلغائه تماما وهناك المناورون، كما رأينا، ومن المطالبين بإلغائه تماما حميدة بن باديس الذي قدم عريضة وحده في ذلك، وقد أحس أن زملاءه المستشارين إنما يريدون المحافظة على الذاتية الإسلامية فقط، وكانوا في نظره يخادعون أنفسهم، لأن هذه الذاتية ستكون فارغة إذا لم تكن وراءها سلطة سياسية، كما أن حميدة بن باديس كان يعرف أنه كلما توافق رأي المستوطنين والمستشارين المسلمين، فإن الحصول على نتيجة مشرفة تكون عادة نادرة. وقد فشل الطرفان الجزائريان، أصحاب العريضة من المستشارين وابن باديس الذي انفرد عنهم، كان زملاؤه من خريجي المدرسة الشرعية - الفرنسية، وهو ليس منهم، وكان والده (المكي) يعتبرهم (متعاونين) مع السلطات الفرنسية، ورأى حميدة الآن أن على الجزائريين أن يقوموا بعمل أكبر من مجرد الوصول إلى مساومات مع شيوخ البلديات الفرنسيين، كما ظهر في العريضة السالفة، ورأى ابن باديس أيضا أن السلطة الفرنسية تعرف كيف تجر زعماء الدين وأنصار الذاتية إلى الوسط، وتضيع منهم الفرصة، كما حدث أثناء تقديم العريضة، وفي عدة مناسبات سابقة ولاحقة، ولذلك ترك ابن باديس سنة 1887 الميدان لزميله بوشناق، وكان في قسنطينة وما حولها أيضا شخصيات أخرى ذات وزن، من أمثال عبد القادر المجاوي والسعيد بن شتاح، وابن الفاسي، وسيلعب هؤلاء دورا ضاغطا بالتدرج، سيما خلال التسعينات (¬1). ¬

_ = المداخيل إلى ميزانية الدولة، وفصلوا بين دور الإمام ودور القاضي ودور المدرس، وكلها كانت تخدم الدين، فكيف يقولون إن الدين بقي على ما هو عليه؟. (¬1) كريستلو، (المحاكم ..). ص 242.

(مؤامرة) القضاة ومسألة التجنس والزواج المختلط

(مؤامرة) القضاة ومسألة التجنس والزواج المختلط وقبل أن نصل إلى ذلك نذكر أن هناك حادثة وقعت، بقالمة سنة 1881، ويطلق عليها البعض (مؤامرة القضاة)، وهي حادثة كشفت عن عدة جوانب، منها ضعف القضاء الإسلامي، وبداية التحدي، وطريقة تجنيد القضاة، ونظرة صحف الوقت الاستعمارية للموضوع، كما أنها أعطت فكرة عن بروز بعض التيارات السياسية عندئذ، والقضاة الثلاثة المعنيون هم ابن الشتاح، وابن الفاسي، وعلاوة بن الساسي، وقد كانوا يحضرون لهجوم مضاد على هجوم السياسيين المستوطنين ضد القضاة المسلمين والمحاكم الإسلامية، وكان الثلاثة من العاملين خارج قسنطينة، ولكن حركتهم كانت موجهة من هذه المدينة، كما كانت منسقة على نطاق واسع، وتاريخ 1881 يذكرنا بغزو فرنسا لتونس، وكانت فرنسا حساسة لأي تحرك عندئذ، مفسرة إياه على أنه مؤامرة ضدها، وكان الفرنسيون تتملكهم فكرة منذ 1871، وهي إمكانية حدوث ثورة أخرى مشابهة في أي وقت، ولذلك كانوا يعيشون في خوف دائم، وهكذا كانت التهمة الموجهة للقضاة الثلاثة هي محاولة تنظيم قوة لتأييد المقاومة في تونس، وكانت التهمة تشمل غيرهم من أعيان الناحية أيضا، ويقول آجرون: إنه كانت للقضاة جمعية شرعية وليست سرية، لها لجنة تجتمع علنا ولها سجل للمداولات، وكانت الجمعية تضم ستين قاضيا وباش عدل، وتذهب تقارير الشرطة إلى أن هناك بيانات تدعو الجزائريين إلى النهوض (الثورة؟) فاعتقلت السلطات عددا من القضاة (¬1). وكان مصدر الاتهام هو الشاب مسعود الجياري، وكان من خريجي المدرسة الشرعية - الفرنسية أيضا، ولكنه لم يجد مجالا للعمل في القضاء إذ أدت المراسيم الجديدة إلى التقليص من الموظفين فيه على نطاق واسع، حتى ¬

_ (¬1) انظر: آجرون (الجزائريون) 1/ 310.

ظهر التذمر وتسريح البعض وغلق باب التخرج إلا بعد وجود المنصب الشاغر (¬1). وكان الجباري من الجزائريين (المشبوهين) عند الفرنسيين، وقد وجد وظيفة في السكة الحديدية (¬2). ذلك هو أصل التهمة التي وجهت إلى القضاة المذكورين، بالإضافة إلى بعض الأفكار السياسية الغامضة، وبعد أن مثل المتهمون أمام المحكمة بالعاصمة أطلق سراحهم لعدم ثبوت التهمة ضدهم، ومع ذلك صدر ضدهم إجراء انضباطي، ولم يرتح سعيد بن الشتاح لذلك فاستقال من القضاء غيظا بعد ذلك بقليل، ومن الواضح أن ذلك الموقف يجعله معارضا للفرنسيين ولو لم يعلن ذلك، وظلت الشبهات تدور حوله، إلى أن اتهم سنة 1889 بأنه كان يحرض الناس على الهجرة إلى سورية (¬3). إن الحادثة أو المؤامرة السابقة كشفت عن أمرين على الأقل الأول: هو وجود تنسيق وتواطؤ بين أعيان قسنطينة ودور القضاة في ذلك، والثاني: هو ضعف حركة الاحتجاج السياسي عندئذ إذ سرعان ما انتهى مفعولها بمجرد الضغط أو توجيه ما يسمى بالانضباط القضائي أو الإداري. شهد عقد الثمانينات إذن تحركا واسعا من جراء المساس بصلاحيات القضاء الإسلامي، من الناحية الأمنية قدرت الإحصاءات أن (محاولات إجرامية) وقعت في النصف الأول من سنة 1882، بلغ عددها 1، 136 محاولة ¬

_ (¬1) في 1873 أانخفض عدد القضاة من 184 إلى 159 بدل أن يزيد، ثم في السنة الموالية (1874) أصبح العدد 134 قاضيا فقط، انظر بلقاسمي، رسالة ماجستير. (¬2) مسعود الجباري ولد نواحي عنابة، وأصبح بعد ذلك متطوعا في الخيالة، وشارك في البعثات الفرنسية في إفريقية خلال التسعينات، وكان مترجما عسكريا، وله تصريحات وتآليف، تناولنا حياته في فصل الترجمة، انظر أيضا بحثنا (مثقفون جزائريون وافريقية) في مجلة الثقافة، 1996. (¬3) نفس المصدر، ص 234 - 235، حين زار بيرم التونسي الجزائر سنة 1878 التقى فيها بالسعيد بن الشتاح وقال: إنه كان قاضيا في قالمة، وأخبر عنه أنه كان مشاركا في الفنون الآلية (التكنولوجية) وأن له اطلاعا واسعا في الفقه، ومدحه بالاستقامة والعفاف، انظر: (صفوة الاعتبار) 4/ 17.

ضد الأوربيين وأملاكهم، وبلغ 1، 599 محاولة في النصف الأول من السنة الموالية (1883). بينما وقعت حوالي 3، 019 محاولة من صيف 1888 إلى صيف 1889، لقد وقع ذلك رغم قسوة الأحكام التي كان يصدرها القضاة الفرنسيون ورغم وجود (قانون الأها لي) والقمع الإداري (¬1). ومن الناحية القضائية أعطى الحاكم العام عندئذ (تيرمان) الصلاحيات للقضاة الفرنسيين بإصدار الأحكام كلما اقتضى الحال، وفي سنة 1883 ألغيت وظيفة القاضي المسلم الموثق في الأماكن التي فيها قضاة فرنسيون، وبذلك أصبح القضاة الفرنسيون يطبقون على الجزائريين القانون الفرنسي ما عدا في الأحوال الشخصية والميراث. أما من الناحية السياسية فقد شهد عقد الثمانينات حركة احتجاج قوية رغم أنها قمعت، وتعتبر الحركة الأولى من نوعها بعد ستين سنة من الاحتلال، وكان الدافع لهذه الحركة هو الدفاع عن القضاء الإسلامي (الشريعة) الذي كان ينظر إليه على أنه رمز الذاتية (الهوية) الوطنية، ولكن السلطات الفرنسية سلطت على هذه الحركة عدة قوى، الأولى: استعمال المحاكم الفرنسية نفسها لقمع المتحركين مثل ما حدث في مؤامرة قالمة، والثانية: استعمال الجيل الجديد ضد الجيل القديم أو خريجي المدارس ضد خريجي الزوايا والمساجد القديمة، أو ضرب العناصر المتحركة بعضها ببعض، والثالثة: تجريد القضاة المسلمين من صلاحياتهم وجعلهم أعوانا فقط للقضاة الفرنسيين، وبذلك انخفض عددهم وسقطت همتهم في نظر المواطنين، ولكن الأعيان، والقضاة من بينهم، سيظهرون بقوة خلال التسعينات، سيما منذ زيارة لجنة مجلس الشيوخ وبدء الاهتمام بمنظومة التعليم الأهلي. وكانت قضية التجنس بالجنسية الفرنسية قد ارتبطت أيضا إلى حد ما بموضوع القضاء الإسلامي، كان باب التجنس قد فتحه مرسوم 1865 ¬

_ (¬1) بلقاسمي، رسالة ماجستير، ص 91.

بشروط، من بينها التخلي عن الأحوال الشخصية الإسلامية، والدخول تحت طائلة القانون الفرنسي في قضايا الزواج والطلاق والإرث، وقد فسر المعاصرون ذلك بأنه تخل كامل عن العقيدة الإسلامية وأنه ارتداد عن الدين، وإذا كانت الجماهير لا تفهم ذلك على حقيقته فإن القضاة ورجال الدين عموما عارضوا التجنس إلا القليل منهم، ويدخل ذلك في المحافظة على الهوية الوطنية والعقيدة الإسلامية، فالتمسك بالتعاليم الإسلامية كان مظهرا من مظاهر المقاومة للاحتلال، وقد عرفنا أن المكي بن باديس وابنه حميدة قد عارضا التجنس بقوة واعتبر المكي أن الاعتداء على الدين أقوى أنواع الاعتداء على الإنسان، (وقد التزم حفيده عبد الحميد بهذا المبدأ فيما بعد) (¬1). وكان بوشناق والمجاوي من المعارضين أيضا، رغم أن الأخير لم يكن من رجال القضاء وإنما كان أستاذا لكثير منهم في مدرستي قسنطينة والعاصمة. غير أن السلطات الفرنسية كانت تجد من تتكئ عليه دائما لضرب وحدة المقاومة، ومن ذلك تأييد علي بن إسماعيل والهاشمي بن الونيس (بلونيس) للتجنس، وكلاهما كان في منصب قضائي بارز، والأول كان يشغل أيضا وظيفة مستشار بلدي في مدينة الجزائر سنة 1887، وفي موقعه ذلك دافع عن التجنس، ولكنه هوجم من زملائه المنتجين برسالة نشرتها جريدة (الأخبار) الفرنسية، أما الهاشمي بن الونيس فقد كان يشغل وظيفة مدرس (أستاذ محاضر) في اللهجة البربرية بالمدرسة العليا للاداب منذ إنشائها سنة 1879 - 1880، كما كان يشغل وظيفة (مساعد) في محكمة الاستئناف بالعاصمة، وكان عندئذ مرشحا لوظيفة مستشار في المجلس ¬

_ (¬1) أصدر الشيخ عبد الحميد بن باديس فتواه المشهورة ضد التجنس سنة 1938 فأثارت رعب الفرنسيين ولم يغفروا له ذلك الموقف الذي كان له أثر كبير لا في الجزائر وحسب ولكن في تونس ومراكش أيضا، سيما أن الفتوى صدرت عشية الحرب العالمية الثانية حين كانت فرنسا تبذل المساعي للحصول على ولاء الجزائريين (وجميع مسلمي المغرب العربي) لها عالميا.

البلدي أيضا سنة 1882 (بالعاصمة) وكان مدعوما في ذلك من قبل بعض العمال الجزائريين، كما قيل، وكان الهاشمي، وكذلك علي بن إسماعيل، يمثلان اتجاها مرتبطا باليسار الفرنسي - الأوربي، وهو اتجاه مؤيد للتجنس بين الجزائريين، داعيا إلى ضرورة تدوين الفقه الإسلامي (الشريعة). لأنه إذا تحقق التدوين، فإن المتجنس قد لا يضطر إلى انتخلي عن أحواله الشخصية (¬1). إن عدد المتجنسين كان قليلا جدا، ففي سنة 1885 كان عددهم 55 فقط، وخلال عشرين سنة 1865 - 1885 كان العدد 667 متجنسا، ولكن إذا عرفنا أن معظم المتجنسين كانوا من المتعلمين بالفرنسية (النخبة) عرفنا أن العدد، مع ذلك، كان عاليا، ولم يكن هدف الفرنسيين تجنيس الجزائريين جماعيا كما فعلوا مع اليهود سنة 1870، ولكنهم كانوا يهدفون إلى امتصاص النخبة منهم تدريجيا، ولذلك كان موقف المعارضين للتجنس من القضاة يحمل ثقلا خاصا، ذلك أنهم كانوا من فئة المتعلمين من جهة ومن الذين يمثلون الثقافة العربية - الإسلامية من جهة أخرى، كذلك نلاحظ أن الكثيرين منهم كانت لهم ارتباطات عائلية ومصاهرات، وارتباطات أخرى مع المهاجرين في المشرق، مثل الشيخ المجاوي والطيب بن المختار وعائلة أبي طالب، الخ، كما كان معظم القضاة يتكلمون الفرنسية ومتجذرين في المجتمع، وليس من السهل تجاوزهم أو احتواؤهم مثل ما فعلت الإدارة مع بعض رجال الدين والمرابطين. ويرجع البعض قلة المتجنسين إلى عوامل أخرى أيضا، من ذلك رفض السلطات الفرنسية نفسها لطلبات التجنس، لأنها كانت تصر على تحقيق الشروط المنصوص عليها في المرسوم، ولا تتساهل في تكثير الجزائريين لمجرد التكثير، وهناك عامل آخر وهو أن في المرسومين: 14 يوليو، 1865 ¬

_ (¬1) كريستلو (المحاكم ..) مرجع سابق، ص 243، وتاريخ جريدة (الأخبار) المشار إليها هو 31 يوليو 1887.

الهجوم على القضاة وبعض خصائصهم

و 21 ابريل 1866 شروطا تجعل من الصعب الحصول على التجنس بل إن التحقيقات المطلوبة في ذلك كان هدفها إبعاد الأهالي عن التجنس، في نظر بعض المؤرخين، ومن العوامل أيضا اشتراط التخلي عن التزامات الزواج والطلاق والإرث وغيرها في نطاق الشريعة الإسلامية، وهو أمر خطير في نظر المسلمين، ثم إن هؤلاء المسلمين لا يتكلمون الفرنسية، وهو أمر (خطير) أيضا في نظر الفرنسيين (¬1). إن عوامل الدمج كانت متوفرة ولكن لها عراقيل في نظر الفرنسيين والجزائريين المتحمسين للاندماج، ولعل من أبرزها أيضا قضية الزواج المختلط، فرغم توفر شروطه فإن عدد الحالات كان قليلا، فقد شهدت سنة 1882 عشرين حالة، والسنة التي تليها ست عشرة حالة، والسنة التالية أربع عشرة حالة، والمقصود هنا الزواج بين المسلمين والفرنسيات (¬2). وهذا يعني عند دعاة الاندماج أن السكان ظلوا يعيشون منفصلين وليس هناك اختلاط بينهم، فالعرب في دواويرهم والمستوطنون الجدد في قراهم، مع مراعاة جانب الكثافة السكانية: ثلاثة ملايين مسلم إلى جانب نصف مليون فرنسي - أوربي. الهجوم على القضاة وبعض خصائصهم والواقع أن الهجوم على القضاة كان متصلا منذ الأربعينات من القرن الماضي، وقد اشتد الهجوم عليهم خلال الخمسينات، عندما ثبت للكولون أن المجالس القضائية تحاول استعادة ما فقدته، وما إلغاء المجالس سنة 1859 وتأكيد ذلك سنة 1866 إلا مواصلة لتيار الهجوم على القضاة، وجاء قانون الأرض سنة 1863 فأدى إلى سخط على القضاة من جانب المسلمين أيضا باعتبارهم يمثلون الإدارة، ولذلك حدثت بعض الاغتيالات والانتقامات في باتنة وسور الغزلان وشرشال والبويرة وقالمة. وأعلن بعض ¬

_ (¬1) لويس فينيون (فرنسا في شمال إفريقية). مرجع سابق، ص 243. (¬2) نفس المصدر.

القضاة أن وضعهم جعلهم هدفا كأعداء، ونتيجة لثورة 1864 في الظهرة والجنوب الغربي والبابور تزعم بعض القضاة تلك الثورات؟ ولكن بعضهم كانوا ضحية لها، والمعروف أن من أسباب ثورة 1864 هو قانون 1859 و 1863، ومن نتائج هذه الثورة (1864) عزل اثني عشر قاضيا وثمانية باش عدول، وتسعة عدول (¬1). ورغم أن بعض القضاة هوجموا لظلمهم أو لأمور تتعلق بالمرأة، فإن بعضهم قد تمرد على السلطة مثل الحاج البشير بن خليل، أحد قضاة معسكر، ويشك البعض أن سبب تمرده يرجع إلى كونه أراد خلع آغا فرندة ليصبح حرا في رئاسته للمجلس، وكذلك تمرد أخوه عمار بن خليل، ومن المتمردين بعد ثورة 1864 عدد من القضاة في عمي موسى وغيليزان وأم السنام (الأصنام). وكان الحاج الطاهر بن البشير، قاضي جيجل أحد هؤلاء، فقد كان مرتبطا هو وأقاربه بثوار نواحي البابور سنة 1864، ودعوا الناس إلى رفض دفع الضرائب للفرنسيين وقايدهم (محمد بوعرور). وقد اعتقلت السلطات الفرنسية الحاج الطاهر في جيجل عندما جاء لشراء البضائع للثوار، وزجوا به في السجن، ولكنه حفر حفرة وهرب منها واتصل بقايد فرجيوة، بوعكاز (¬2). ومنذ الثمانينات شنت حملات مكثفة ضد القضاة مما جعل هؤلاء يتجهون إلى السياسة أو ما سماه مالك بن نبي بالإصلاح المحلي، وأسباب الحملات ضدهم ترجع إلى عدة اعتبارات، منها الرغبة في الاندماج بينما القضاة بحكم ارتباطهم بالشريعة كانوا حجر عثرة في طريق الاندماج، ومنها رغبة الكولون في الحصول على وظائف لقضاة الصلح الفرنسيين، وقد ادعى الكولون أن المحاكم كثيرة ويجب تقليصها، وإذا تم ذلك فإن وظائف جديدة ستفتح أمام قضاة الصلح، وكان هؤلاء القضاة ¬

_ (¬1) كريستلو (المحاكم ..). ص 178. (¬2) نفس المصدر، ص 180.

يأتون من فرنسا، في مرحلة الشباب، متخذين الجزائر مطية فقط للصعود إلى درجات عليا في فرنسا، وكأنهم في الجزائر إنما كانوا يقضون فترة عقوبة، وكان بعضهم ينتحرون، ولا يقضون أكثر من سنة في المركز الواحد تفاديا لاغتيالهم. وكان البرلمان الفرنسي قد ساعد أيضا على ذلك الهجوم، فقد خفض ميرانية الشريعة الإسلامية بين 1875 - 1885 من 205، 700 إلى 95، 000 فرنك، وكان الهدف من ذلك هو توفير المال لتوظيف قضاة الصلح على حساب قضاة الشريعة، وقد كتب أحدهم باسم مستعار (عبد الله) متهما القضاة بالرشوة وابتزاز المال من المتخاصمين، وكون دور العدول أصبح شكليا فقط، كما اتهمهم بالتلاعب في الأحكام وارتكاب المظالم، وكان (سوتيرا) وهو من القضاة البارزين ومن المستعربين أيضا، قد طالب إلغاء وظيفة القضاء الإسلامي بصفة كاملة (¬1). ولم تخف الحملة ضد القضاة إلا خلال التسعينات، ففي هذه الفترة برزت من جديد مسألة التجنس بالجنسية الفرنسية التي طالب بها بعض النخبة، وكان الكولون يرون هذا التجنس خطرا عليهم فعارضوه، ورأوا أن القضاة في النهاية لا يشكلون خطرا، لأنهم يؤمنون ببقاء الفصل بين المسلمين والأوربيين، ويعارضون التجنس مثلهم. ولذلك كان القضاة يعيشون وضعا غير مريح، إن قانون 7 ابريل 1889 قد زاد من التضييق عليهم في ممارسة صلاحياتهم الشرعية، وقد اعتبره البعض هو (الضربة القاضية) للقضاء الإسلامي، ذلك أن هذا القانون لم يترك للقضاة المسلمين سوى الحضانة والزواج والطلاق والرجعة والمواريث، على أن القضاء الفرنسي يتدخل حتى في هذه الأمور أيضا، فهو قد ترك الحرية للمتخاصمين أن يحولوا نوازلهم من القضاة المسلمين إلى قضاة الصلح ¬

_ (¬1) كريستلو (المحاكم ..). ص 229. وقنان (نصوص سياسية)، ص 178، والاسم المستعار (عبد الله) قد يكون لأحد الفرنسيين الحانقين على القضاة.

الفرنسيين حتى في المواريث والأحوال الشخصية، وفي المواريث لا يحكم القضاة المسلمون في نوازل العقارات أو العروض مع العقارات لأنه أصبح يدخل في اختصاص قضاة التوثيق الفرنسيين، وانتزعت نوازل الجنح والجنايات وكل أنواع التأديب وأنواع المعاملات الأخرى من أيدي القضاة المسلمين، وقد جاء في إحدى مواد هذا القانون المتعلقة بشؤون الميراث، إن حكم القاضي المسلم ماض إذا كان رأس مال النازلة أقل من 500 فرنك، فإذا تجاوز ذلك المبلغ فإن حكم القاضي المسلم يعاد إلى المحكمة الابتدائية الفرنسية وجوبا. وكانت نظرة الفرنسيين إلى موضوع القضاة نظرة ممزوجة بالسياسة والدين، فهم يعتبرون أنفسهم أصحاب السيادة حتى في الشريعة الإسلامية باعتبارهم ورثة الحكام المسلمين، ثم إن وزير العدل الفرنسي هو نفسه وزير الديانات (الأديان) أيضا، وكان الفرنسيون يدعون أنهم يأتون بالفائدة العامة للجزائر كلما وسعوا من أحكامهم فيها، ولو على حساب الشريعة الإسلامية (¬1). ومهما كان الأمر فإن التضييق من صلاحيات القضاة المسلمين الرسميين قد أدى إل التوسع لدى قضاة الريف الأحرار (المرابطين) الذين يصلحون بين الناس، دون الرجوع إلى المحاكم الفرنسية. ولقد افتتح عقد التسعينات بالاهتمام بشؤون الجزائر من قبل الحكومة الفرنسية، بما فيها شؤون القضاء الإسلامي، ونشطت الجهات الجزائرية في رفع صوتها واحتجاجها على التعدي على ما رأته من اختصاصات الشريعة، ولا سيما من قسنطينة، وكانت الفرصة قد سنحت عندما زارت الجزائر لجنة مجلس الشيوخ (لجنة 18) سنة 1892، فقد قدمت إليها عرائض ورسائل الشكوى واستمعت اللجنة إلى زعماء الرأي العام الجزائري في مختلف المدن، وكان من أبرز المتكلمين أمامها محمد بن رحال (ندرومة) الذي تولى ¬

_ (¬1) محمد العابد الجلالي (تقويم الأخلاق). 1927، ص 16 - 18، كان وزير العدل والأديان عندئذ هو السيد ريكارد، الذي لم يكن يثق في القضاة المسلمين، كما لاحظ الجلالي.

وظائف إدارية، وقد نافح على الخصوص في موضوعين هامين، وهما: القضاء الإسلامي، والتعليم باللغة العربية، وقد عضده في ذلك زميله الطبيب محمد بن العربي، وكان من أعيان العاصمة (¬1). كما قدم حميدة بن باديس عريضة هامة حول القضاء، وكتب محمد بن الحاج حمو مشروعا لإصلاح القضاء الإسلامي، وقدمه إلى اللجنة المذكورة سنة 1893، وكان الحاكم العام جول كامبون، أكثر تفهمأ من سلفه، لشكوى الجزائريين عموما، وكانت السياسة الفرنسية نفسها تمر بمرحلة مراجعة سواء في الجزائر والصحراء أو في المشرق العربي والإسلامي، ولذلك شهدنا نوعا من الترضيات خلال هذا العقد، ولكن لم تبلغ حد الاستجابة لمطالب الجزائريين (¬2). وفي فاتح هذا القرن وجدنا شكوى جماعية ضد قانون 17 ابريل 1889 من القضاة المسلمين الذين قدموا عريضة إلى الحاكم العام شارل جونار حوالي سنة 1905 يطالبون فيها بضرورة رفع رواتبهم، والغريب أن هؤلاء القضاة لم يقدموا مشروعأ للإصلاح واستعادة نفوذهم في القضاء الإسلامي، ولكنهم طالبوا بزيادة الراتب فقط، ومع ذلك فقد كاكا نقدهم مرا لقانون 1889 الذي يبدو أنه ظل هو الأساس في العلاقات بين القضاة المسلمين والفرنسيين وفي موقف الحكومة الفرنسية من تطبيق الشريعة الإسلامية حتى بعد قرار فصل الأديان عن الدولة (باستثناء الإسلام). قال القضاة في شكواهم المذكورة: إن القاضي قد انحطت قيمته وهيبته بين الناس، وتضررت مروءته وعرضه، فهو في حاجة إلى اللباس والسكن والطعام والمركوب، لنفسه ولعياله، ثم قالوا مخاطبين الحاكم العام: نطلب منك (أن ترفع جاميكتنا) إلى ثلاثة الاف فرنك لكي يرتفع عنا بذلك بعض الأضرار، وليكون رزق من دعته الحال إلى التقاعد في الحرمة شبيها بأرزاق ¬

_ (¬1) سنتعرض لحياة الرجلين: ابن رحال وابن العربي، في فصول أخرى. (¬2) كريستلو (المحاكم) مرجع سابق، ص 222، عن الحاج حمو انظر لاحقا.

المتقاعدين عنها من غير القضات (كذا). وليحصل أيضا التنافس للقضات (كذا) في تحسين السيرة كي يرتقوا إلى (مستوى) قضاء المدن) (¬1). واضح أن اهتمام هؤلاء القضاة كان منصبا على الجانب المادي والمعنوي لأشخاصهم، فهم لم يطالبوا باستعادة اختصاصات القاضي المسلم حتى ترجع إليهم الهيبة والحرمة، كما ترجع إلى الدين والمواطنين أيضا، وإنما رأوا أن المسألة تتعلق بأرزاقهم وعيالهم وسمعتهم ومصيرهم عند التقاعد، ولعلهم رأوا أن مسألة الشريعة في حد ذاتها مسألة سياسية، وقد مضى على قانون 1889 وغيره من القوانين المنتقصة من صلاحيات القضاة، سنوات طويلة وأصبحت الممارسات بذلك مقبولة وواقع حال، فما الفائدة من إثارة موضوع شائك كهذا؟ إن السلطات الفرنسية في نطاق استغنائها عن القضاة أو التخلص منهم قد وظفت بعضهم أيضا في التدريس بالمساجد، ذلك المشروع الجديد الذي بدئ فيه حوالي سنة 1900، وأصبحت السلطات تشترط للتوظيف التخرج من القسم العالي بمدرسة، الجزائر، وفي 1912، عند فرض التجنيد الإجباري على الشباب الجزائري، أصدرت الحكومة العامة قانونا ينص على محاكمة (رجال الشريعة الإسلامية) أمام المجالس التأديبية، إذا ارتبكوا ما يخل بحرمة وظائفهم (¬2). وكان ذلك أحسن رد في نظر السلطة الفرنسية، على طلبات القضاة بزيادة الراتب وضمان العيش واسترجاع الهيبة. إن كل الدلائل قد توفرت على أن الفرنسيين قد ساروا مع القضاة المسلمين كما ساروا مع قادة الأهالي في الأرياف (القياد الخ ..) ومع رجال ¬

_ (¬1) مخطوط ك 48 (مكتبة الكتاني، الخزانة العامة بالرباط). هو مخطوط، يبدو أنه كان ملكا للقاضي شعيب بن علي التلمساني، و (الجامكية) هي على ما يبدو، الراتب أو الشهرية، والوثيقة تقول من الواضعين أسماءهم، ولكن الأسماء غير موجودة لأنها منقولة، وقد استغنى الناقل عن ذكر الأسماء. (¬2) (التقويم الجزائري) وضع الشيخ محمود كحول ولويس بودي، سنة 1912.

الدين والزوايا، فقد رمى بهم الفرنسيون بعيدا على إثر الانتهاء من مهمتهم بالتدرج، لقد قضوا حاجاتهم منهم وحكموا بهم ساعة العسر واستفادوا من خدماتهم، ثم أخذوا يقلمون أظافرهم شيئا فشيئا ويأخذون صلاحياتهم حتى لم يبق لهم إلا الاسم، وبالنسبة للقضاء كانت المسألة أكثر حساسية لأنها متصلة بالدين من جهة والدنيا من جهة أخرى، فرغم أن القضاة كإطار اجتماعي وإداري قد تخرجوا من المدرسة الشرعية - الفرنسية، فإن وظيفتهم ذات طابع ديني - سياسي، وقبل أن يتجهوا إلى المعارضة السياسية، باسم الدين، جردهم الفرنسيون من نفوذهم الشرعي، وتخلصوا من المشبوهين منهم بعدة طرق انضباطية إلى أن رجع الجميع إلى الخط، ورضوا بالمأ لة في الدين والدنيا، وأصبحوا لا يطالبون إلا بالترقية وزيادة الراتب. ... لم يكن القضاة على درجة واحدة من المروءة والأخلاق، ويشهد المعاصرون أنهم عرفوا منهم نماذج جيدة ونماذج سيئة، شأن كل الفئات الاجتماعية، وقد أتينا على ذكر بعض القضاة في قسنطينة ومعسكر، وسنذكر اخرين بعد حين، وقد زار محمد بيرم الخامس الجزائر في عهد الجمهورية الثالثة (1878) وترك لنا وصفا للمحكمة الجزائرية وتصرفات بعض القضاة والمترجمين، سواء بالنسبة للمحكمة الإسلامية أو المختلطة (المجلس): 1 - بالنسبة للمحكمة الإسلامية، كان القاضي المسلم يتولى الحكم في الأحوال الشخصية (الزواج والطلاق والمواريث) لدى المسلمين، ومرجعهم في ذلك هو مختصر الشيخ خليل، وكان القاضي يجلس وإلى جانبه عدلان كشاهدين على المتخاصمين، وإذا غاب القاضي ينوب عنه أكبر العدلين، وليس هناك حاجة إلى الترجمة، والأحكام تسجل، وهي سريعة وغير مكلفة. 2 - المحكمة المختلطة أو المجلس، وفيها ثلاثة قضاة فرنسيين

ويساعدهم قاض مسلم، وذلك في النوازل الجنائية والمعاملات، وهذه المحكمة ترجع إلى القانون الفرنسي وإلى النص المترجم من مختصر الشيخ خليل، فإذا كانت الدعوى بين خصمين مسلمين من أنواع المعاملات الاختيارية فلهما الحق في عرضها أمام المحكمة الإسلامية أو المحكمة المختلطة، أما إذا كانت الدعوى من نوع الجنايات أو كانت بين مسلم وغير مسلم فإنها تعرض وجوبا أمام المحكمة الفرنسية - المختلطة، وإذا عرضت دعوى المعاملات الاختيارية على المحكمة الإسلامية فإن للمحكمة المختلطة حق التحقق على القضاة المسلمين في أحكامهم، فليس هناك ثقة مطلقة في القاضي المسلم وأحكامه، سيما في المعاملات. 3 - محاكم الأرياف (الإسلامية) ليست محاكم بالمعنى الحقيقي، ولكن من حق القياد والأغوات والقضاة أن يحكموا بين أهل الريف في النوازل التي تعرض عليهم، وفي ذلك تعاون بين هذا الجهاز الرسمي وبين المكتب العربي الذي يسيره الفرنسيون وهو المسؤول على الجميع، فالذي يحكم في الحقيقة هو المكتب العربي بواسطة المذكورين. 4 - كان تعيين المترجمين ضروريا لعدم معرفة القضاة الفرنسيين في المحاكم المختلطة للغة العربية (¬1). وكانت هناك فرقة كاملة من المترجمين القضائيين - الشرعيين وأخرى من المترجمين المحلفين، والمفروض أن العضو المسلم في المحكمة يساعد على عدم الوقوع في الظلم، ومع ذلك فلا يحصل العدل، كما يقول الشيخ بيرم، ويكون ذلك راجعا لسوء الترجمة جهلا أو عمدا، وعدم كفاءة العضو المسلم في المحكمة، وجهل المتخاصمين بتعيين المحامي العارف بالفرنسية والمطلع على الأحكام، وكان المترجمون يهودا ونصارى. ¬

_ (¬1) رغم أن الفرنسيين بدأوا بالعناية باللغة العربية وأمروا رجالهم بتعلمها في أول الاحتلال واشترطوها في الوظائف الرسمية، فإنهم قد تخلوا عن ذلك منذ حوالي 1870، وأصبح على الجزائريين أن يعرفوا الفرنسية، وفي هذه المرحلة الوسطى كانت الترجمة أساسية.

حضر بيرم محكمة عنابة متفرجا، وكانت تحاكم شخصا في دعوى جنائية، وبينما هذا الشخص يتكلم إذ تحدث المترجم مع القاضي فصدر الحكم بسجنه فورا، والمتهم ما يزال يعرض دعواه، وقد أخرج الشخص المتهم من المحكمة (باللكم واللطم والسب من أعوان المجلس) وهؤلاء الأعوان كانوا من الأهالي المكلفين بالتجسس والتدخل، ولا يتمتعون بالثقة، وقد انتقد بيرم تصرف القضاة المسلمين أيضا لعدم جدارتهم بالمنصب وسوء اختيارهم، فهم (لا يتقون الارتشاء ولا يحسنون ناموس المنصب) وقد شاهد في عنابة قاضيا يتضارب، مع الخصوم، ويجلس في الحانات مع الأراذل، وبرر لجوء العامة إلى المحاكم الفرنسية وتفضيلها على المحاكم الإسلامية لشيوع مثل هذه التصرفات عند القضاة المسلمين، وقد خشي الشيخ بيرم أن يشيع في العامة الاعتقاد بأن فساد القضاة المسلمين واستقامة القضاة الفرنسيين راجع إلى اختلاف الشعائر الدينية (¬1). من حوالي مائتي قاض في الجزائر كان هناك الغث والسمين (¬2). هناك من بدأ حياته مجاهدا وانتهى متعاونا مع الفرنسيين لأسباب اجتماعية واقتصادية، وهناك من بدأ حياته متعاونا معهم ثم ظهر معارضا لسياستهم في بعض التفاصيل وظل شوكة في حلقهم، كما نجد الصنف الخامل الذي رضي بالوظيف وعاش به إلى أن أدركته الموت، ومن القضاة من ألف بعض الكتب وترك الرسائل والشعر، وجلس في اللجان وقدم رأيه في الفقه وغيره، وبعضهم قد تولى وظائف أخرى كالإمامة والتدريس والفتوى، ووجدنا من القضاة من أرسله الفرنسيون في مهمات، ومن قدموه في المناسبات، لمكانته من جهة وخدماته من جهة أخرى، فمن الصعب أن نحكم على فئة القضاة بمسطرة واحدة، وفي تعرضنا لحياة بعضهم صورة لما نقول. ¬

_ (¬1) محمد بيرم (صفوة الاعتبار ..). ج 4/ 18، وفي مذكرات مالك بن نبي بعض الأخبار عن القاضي الذي كان يشرب الخمر خلال العشرينات من هذا القرن. (¬2) انظر المبشر، أوت (غشت). 1876، عن توزيع القضاة في الولايات الثلاث.

وقد ترجمنا نحن لمحمد الشاذلي القسنطيني فوجدناه شخصية مهزوزة إلى أبعد الحدود، وقد مثل دور القاضي الانتهازي بمعنى الكلمة، فثقافته بسيطة ومع ذلك ولاه الفرنسيون أخطر منصب عند احتلال قسنطينة وهو القضاء، وكان مقر عمله هو المكتب العربي الذي أنشأوه في المدينة تحت قيادة الضابط بواسونيه، وكان مع الشاذلي عدد من نواب القضاة، منهم المكي بن باديس ومحمد بن عزوز، كان الشاذلي مضطربا في تصرفاته، فقد مدح الأمير حتى دعاه لإنقاذ قسنطينة من الاحتلال، ثم شكر الفرنسيين على اعتقاله، وعينه الفرنسيون لمرافقة ومؤانسة الأمير بسجنه في امبواز (وربما التجسس عليه) فشغل نفسه بالزيارات والتردد على المسرح والتفكير في الزواج من فرنسية مجهولة الأصل، وكان يمدح الفرنسيين تملقا لا حبا، ويمدح قادتهم وبلادهم ومآثرهم ليجعلوه نصب أعينهم، وكان له طموح أبعد من إمكاناته، وفي 1851 أعفاه الفرنسيون من منصب القضاء وعينوه مديرا لمدرسة قسنطينة الشرعية - الفرنسية (الكتانية) حيث ظل مديرا ومدرسا بها إلى وفاته سنة 1877 (¬1). وقلما كان الفرنسيون يعينون القاضي في بلده أو جهته، سيما إذا كان معروفا والبلدة صغيرة، وهو تقليد جيد، لعله كان لحماية القاضي نفسه من جهة، وإبعاد خطره من جهة أخرى، ذلك أن كثيرا من القضاة كانت لهم مصاهرات وعلاقات اجتماعية يخشى منها الفرنسيون أن تؤدي إلى التجمع والغضب السياسي، وكان هدفهم أيضا منع نفوذ أهل المدينة الكبيرة بواسطة قضاتهم، ونحن نجد أمثلة على ذلك في توظيف الشاذلي في القضاء على قسنطينة، رغم أنه دخيل عليها، وكانت عائلة العباسي وعائلة ابن باديس وعائلة ابن جلول وغيرها من العائلات الحضرية المتجذرة أولى من عائلة الشاذلي في ذلك المنصب لو بقي الحكم في يد إلبايات مثلا، ويدخل في ¬

_ (¬1) تفصيل حياته في كتابنا (القاضي الأديب: محمد الشاذلي القسنطيني)، ط 2، 1985. وكذلك المجلة الآسيوية J.A، العدد 5، ص 116 - 118، والمجلة الشرقية والجزائرية، ج 1 (1852). ص 234 - 244.

نماذج من القضاة

ذلك أيضا نقل قضاة الجهة الغربية، سيما معسكر وغريس وما جاورهما إلى الجهة الشرقية - قسنطينة، سطيف، تبسة، الخ .. ويحضرنا في ذلك الآن عائلة أبي طالب أبناء عم الأمير عبد القادر، وقد أصبح بعض هؤلاء أيضا من نوع محمد الشاذلي في تملق الفرنسيين، خصوصا القاضي أبا بكر بن أبي طالب، صاحب كتاب (نزهة الأفكار). ومن القضايا العامة حول القضاة أيضا صلتهم بالطرق الصوفية المعاصرة، إن الانتماء للطرق الصوفية من قبل العلماء والقضاة لم يكن دائما من أجل حب الشيخ وخضوعا لبركته، ولكنه كان حماية للنفس عند الحاجة ودفعا للعزلة عند الخطر، وقد وجدنا ذلك شائعا لدى رجال السلك الديني والتعليمي من أئمة ومفتين ومدرسين، وحتى بين رجال القضاء والسلطة الإدارية، كالقياد والأغوات، وكانت الطرق الصوفية عندئذ كالأحزاب السياسية اليوم، لها وسائل إعلامها ودعايتها، ولها محاموها، ولكن ليس بنفس الحداثة الموجودة اليوم، ومعظم الطرق كانت لها خيوط مع السلطة الفرنسية أيضا، وسنذكر أن بعض القضاة كانوا موالين للحنصالية أو التجانية أو لغيرها تمشيا مع الفكرة المذكورة، كما نلاحظ أن عددا من القضاة جعلوا مهنتم وراثية في أولادهم وأحفادهم، كما كان الحال في عهد العثمانيين. نماذج من القضاة ولنتحدث عن نماذج من هؤلاء القضاة باختصار، مكتفين في الترجمة الطويلة لاثنين منهم (¬1): 1 - أحمد المجاهد بن محمد عبد القادر بو طالب: كان من القضاة الذين عاشوا في الجزائر والمغرب الأقصى وتونس والمشرق، ولهم صلات قربى بعائلة الأمير عبد القادر، ونشأوا في نواحي معسكر، ولكنهم عملوا في شرق الجزائر، وتركوا أولادا تولوا أيضا القضاء، كما كانوا على صلة بالطرق ¬

_ (¬1) سنخص بالترجمة الطويلة الشيخين حسن بريهمات وشعيب بن علي.

الصوفية، فقد ولد أحمد بوادي الحمام قرب معسكر، سنة 1252 (1836). وأدت المقاومة الوطنية إلى بعثرة الأسرة، إذ كان أبناء بو طالب مختلفين مع ابن عمهم، الأمير عبد القادر، فهاجر محمد بو طالب والد أحمد المجاهد، إلى طنجة التي أصبحت مأوى لعدد من المهاجرين الجزائريين، ثم انتقل والده إلى فاس، مدينة العلم، وقد تثقف أحمد على يد شيوخ ذكرهم الحفناوي في ترجمته له (¬1). كما توجه مع أبيه إلى تونس وأخذ بها عدة علوم على شيوخ الزيتونة، وكانت المصاهرة بين عائلتي الأمير وعائلة أبي طالب، فقد تزوج والد أحمد المجاهد من ابنة أخ الأمير، وهو محمد السعيد، ولذلك وجدنا أحمد المجاهد مع جده في الشام. تولت أسرة أبي طالب وظيفة القضاء للفرنسيين مبكرا، بدأ ذلك أحمد بن علي بن أبي طالب، عم أحمد المجاهد، الذي تولى القضاء في سطيف، وبعد استتباب الأمور في الجزائر رجع إليها عدد من الذين هاجروا منها أمثال أحمد المجاهد ووالده، وتولوا بها الوظائف للفرنسيين، ولعل ذلك كان بتحريض وتدخل من الأمير نفسه، بعد فشل المقاومة، تولى أبوه محمد بوطالب القضاء في سطيف ثم قسنطينة، وعندما خلا منصبه في سطيف تولاه ابنه الذي كان قبل ذلك في مستغانم، ثم انتقل من سطيف إلى الأربعاء، قرب العاصمة، وكان وجود والده في قسنطينة ووجوده هو بسطيف قد جعله قريبا أيضا من عبد القادر المجاوي الذي جاء من الغرب (تلمسان). وهو صهرهم، وكانوا جميعا في طنجة وفاس قبل ذلك، ثم حلوا جميعا بولاية قسنطينة. كانت صلة أحمد المجاهد بالتصوف قوية أيضا، فقد كان جده عبد القادر بو طالب درقاويا، وعارض الأمير عبد القادر لأسباب تبدو صوفية، وقد عاش عبد القادر بو طالب خلال الثلاثينات والأربعينات من القرن الماضي، وأثناء وجود أحمد المجاهد في الشام تعمق في التصوف أيضا، فقد ¬

_ (¬1) الحفناوي (تعريف الخلف برجال السلف). ج 2، ص 72.

كان جده، محمد السعيد قادري الطريقة، وهو الذي كان قد حافظ على الزاوية بالقيطنة أثناء كفاح أخيه الأمير عبد القادر، وبقي على ذلك بعد الهجرة أيضا، وكان محمد المرتضى بن محمد السعيد قد واصل طريقة والده محمد السعيد وجده محيي الدين، وانتقل بالزاوية إلى بيروت، كما عرفنا في فصل الطرق الصوفية، وكان أحمد المجاهد قد أخذ العلم والتصوف على كليهما (محمد السعيد ومحمد المرتضى) أثناء وجوده بالشام خلال الستينات، وبعد أن حل بسطيف وقسنطينة يبدو أنه تقرب من الطريقة الحنصالية التي كانت سائدة هناك، وكذلك في العلمة، وقد عرفنا أن الدرقاوية والحنصالية متفرعتان عن الشاذلية، ووجد بعض الدارسين أن أتباع الحنصالية كانوا فقط حول مدينة معسكر، فيما عدا منطقة قسنطينة، وكان شيخ الحنصالية عندئذ في قسنطينة هو أحمد المبارك الذي تولى التدريس والقضاء في العهد الفرنسي أيضا. إن هذه الصلات الصوفية والعلمية والعائلية قد جعلت أحمد المجاهد من الشخصيات البارزة ليس في القضاء فحسب ولكن في التأليف أيضاوفي قضايا الوقت، فهو صهر عبد القادر المجاوي الذي كان في قسنطينة يساهم في تنوير الأفكار ويبث العلم ويخرج القضاة من المدرسة الكتانية ثم المدرسة الشرعية - الفرنسية، وتنطبق على هذه الأسرة مقولة الشاعر (وكل غريب للغريب نسيب). فكلهم اقتلعوا من الجهة الغربية وزرعوا في الجهة الشرقية، وقد نشط قلم أحمد المجاهد في سطيف، فألف بعض التقاييد، سنعرض إليها في جزء آخر، كما ساهم في المهاترات التي حدثت بين المفتي علي بن الحفاف ومحمد المصطفى المشرفي حول مسألة خلافية تتعلق برمضان، وقد انتصر أحمد المجاهد لابن الحفاف، كما عرفنا، وعندما انتقل للعمل في الأربعاء تمكن من الاتصال بعلماء العاصمة أمثال حميدة العمالي وابن الحفاف، وأخذ عنهما، وقد حضر دروس الأول وأخذ التجويد والتصوف على الثاني. توفي أحمد المجاهد في سطيف التي جعلها دار إقامة والتي تذكره بجو معسكر، سنة 1308 (1890). ودفن بضريح الشيخ سيدي سعيد الزراوي.

وقد ترك أولادا تولوا أيضا القضاء مثله، ومنهم محيي الدين وأبو بكر ومحمد المأمون، تولى الأول القضاء في إقليم قسنطينة والثاني في عدة أماكن، منها البليدة، أما الثالث فقد كان نائب القاضي (باش عدل) في وهران (¬1). وكان أحمد المجاهد من المثقفين بمفهوم ذلك الوقت، فإلى جانب تكوينه المشار إليه في الجزائر وطنجة وتونس والشام، كان يقرض الشعر، وقد مدح به عددا من الشيوخ من رجال العلم والتصوف، وسنذكر ذلك في مكانه، فهو من القضاة المخضرمين الذين لم يتكونوا في المدرسة الفرنسية ولكنهم عاصروا المتخرجين منها، وكانوا عندئذ متقاربين في التكوين والتفكير. 2 - الطيب بن المختار بن البشير: وهو يعتبر كأحمد المجاهد من عدة وجوه، فهو أيضا من مواليد معسكر، ومن أقرباء الأمير عبد القادر، كما هاجر إلى الشام، وعاش هناك فترة، إلى جانب أبناء موطنه وغيرهم من المهاجرين، ثم عاد إلى الجزائر، ربما بتحريض من الأمير، الذي هو ابن عمه، كما يقول، وتولى الطيب بن المختار القضاء للفرنسيين وعاش في الجزائر، ولكنه عاود الزيارة إلى دمشق، وتوفي بالجزائر سنة 1307، ويهمنا من ذلك وظيفته في القضاء، فقد درس في معسكر على شيوخها عندئذ، ومنهم مصطفى بن التهامي، خليفة الأمير وصهره، وابن عبد الله سقط ¬

_ (¬1) سنعرض لمؤلفات أحمد المجاهد في جزء آخر، انظر عنه (تعريف الخلف) 2/ 72، وكذلك كريستلو (المحاكم ..). ص 213، 281، وهو الذي جعل تاريخ الوفاة 1308، أما الحفناوي فجعله 307، انظر أيضا ابن سديرة (كتاب الرسائل)، ص 127، وكان أخو أحمد المجاهد، وهو زين العابدين بن محمد بوطالب قد تولى أيضا القضاء في عدة أماكن (سطيف، غليزان، القليعة، بجاية، الخ ..) ولكنه عزل منه لأسباب نجهلها، سنة 1883، وقد جاء في بعض المراجع أنه كان يطالب السلطات الفرنسية بإعادته إلى وظيفه مستشهدا بولائه وتكوينه في العلوم الشرعية (كان عمره عندئذ 37 سنة ومتزوجا) وبصلته بالأمير عبد القادر، وكان يكتب في ذلك لوزير العدل والأديان، انظر ابن سديرة (كتاب الرسائل) مرجع سابق، وتاريخ الرسالة 12 يناير 1884 في قسنطينة (عند قاضي قسنطينة).

المشرفي، ثم سافر (الطيب بن المختار) إلى القرويين، ربما لأسباب ترجع إلى الأمن والسياسة، في جملة المهاجرين الجزائريين، وهناك أخذ العلم عن أبي عبد الله المجاوي - والد عبد القادر المجاوي - الذي كان مدرسا فيها بعد هجرته من تلمسان مع القاضي محمد بن سعد. تولى الطيب بن المختار القضاء للفرنسيين في غريس مدة طويلة، وعمل أيضا في مجلس قضاء معسكر أواخر الخمسينات، وكان عضوا في لجنة (قاستنبيد) التي درست موضوع القضاء الإسلامي واختصاص القضاة المسلمين، وفي سنة 1865 ذهب إلى مرسيليا لمقابلة الأمير، وكان ذلك برضى السلطات الفرنسية طبعا، وكان متزوجا من عائلة بو طالب، وهي تمثل فرعا آخر من عائلة الأمير، وله أخ (محمد الصغير) تولى أيضا وظائف في محاكم معسكر، وكلاهما بقي في القضاء إلى تقاعده سنة 1881، أما عن قرابة الطيب بن المختار للأمير، فهو دائما يسمى الأمير (ابن عمنا)، وقد مدحه بقصيدة أجابه الأمير بمثلها، وسنعرض إليها في فصل الشعر، وكان الطيب يمثل رابطة متواصلة مع أسرة الأمير المهاجرة، على أن هناك من قال إن الطيب بن المختار من أولاد أحمد بن علي، وبعضهم قال إنه قريب بالمصاهرة من أولاد سيدي فريحة بن خاطر، وكان متهما بقتل ابن عم له عندما دخل مجلس قضاء معسكر، وقد ترجم الطيب بن المختار لأعيان غريس في كتابه (القول الأعم). ويبدو لنا أنه كان مثل أحمد المجاهد، من العناصر المخضرمة ومن بقايا المتكونين بقوة في المواد الشرعية، فهو من الفقهاء الذين يجمعون بالمفهوم القديم بين الفقه والتأليف والأدب والشعر (¬1). 3 - محمد الشرقي: من أبناء عم الأمير عبد القادر أيضا، وكان منافسا له ولم ينضم إليه عند كفاحه، وتولى الفتوى والقضاء في معسكر ¬

_ (¬1) انظر عنه ابن بكار (مجموع النسب) مرجع سابق، 143، وكريستلو، (المحاكم) مرجع سابق، 52، 277، وسنعرض إلى بعض إنتاجه لاحقا.

للفرنسيين، وبالتدرج رأى أن سلطة القاضي وصلاحياته قد أخذت منه ومن غيره وأعطيت للقاضي الفرنسي، فهم بالهجرة وترك الوظيف، ويبدو أن الشرقي قد هاجر إلى مكة والمدينة، لأن من ذكره قال إنه رفض الهجرة إلى الشام، حيث الأمير عبد القادر، قائلا: سأهاجر إلى من يشفع فينا معا، ويعني بذلك الرسول (صلى الله عليه وسلم). ولا ندري هل هاجر فعلا، ويقال إن الأمير سر عندما بلغه ذلك عنه (¬1). ونحن هنا أمام نموذج من القضاة الذين تأثروا بنزع السيادة عن القضاء الإسلامي. 4 - علي بن الحاج موسى: وهو من عائلة علمية قديمة في العاصمة، كانت أيضا تشتغل بالشؤون الدينية، ومنها القضاء، أبوه هو أحمد بن الحاج موسى الذي وجدنا اسمه يتكرر في مراسلات بعض المفتين مع السلطات الفرنسية في منتصف القرن الماضي، ولد الشيخ علي سنة 1833، وتثقف على بقايا الشيوخ أمثال مصطفى الحرار، وعاصر حسن بريهمات والعمالي والحفاف، وتولى القضاء للفرنسيين في عدة مراكز منها مليانة وتلمسان وتنس، وكان ذلك خلال الستينات، وهو عهد المملكة العربية، حين كان للقاضي بعض الصلاحيات، ولكننا رأينا أن قانون 1866 قد مس أيضا هذه الصلاحيات، ولا ندري إن كان ذلك وراء استقالته من القضاء وتفرغه للعبادة والتأليف، فقد كان الرجل أميل إلى التصوف منه إلى القضاء، وله تأليف سماه (ربح التجارة) في سيرة الشيخ أحمد بن يوسف الملياني، وربما ألفه وهو قاض بمليانة، وتولى بعد تفرغه من القضاء وكالة ضريح الشيخ الثعالبي، وقد ذكره محمد بيرم في رحلته (صفوة الاعتبار). وكان يتراسل مع قاضي تلمسان شعيب بن علي ومع عبد الحي الكتاني في المغرب الأقصى وغيرهم، وله ولوع لالإجازات أخذا وعطاء، وقد توفي سنة 1913 عن ثمانين سنة، وتدل سيرته في القضاء على أن بعض القضاة كان لا يطاوعهم ضميرهم على العمل مع الفرنسيين مهما كان الثمن، وسنعرض لحياته العلمية في غير هذا. ¬

_ (¬1) ابن بكار (مجموع ..). ص 143.

5 - محمد بن الحاج حمو: ولد بمليانة حوالي 1778، ونشأ بها. وبها حفظ القرآن الكريم، وقرأ على مشائخها العلوم المتوفرة عندئذ من أمثال سيدي الطيب بن الحسين الذي قرأ عليه مختصر الشيخ خليل، كما درس على آخرين العلوم العربية، وكان يتردد على العاصمة ولما يبلغ العشرين سنة، فأخذ بها صحيح البخاري على المفتي علي بن الأمين، ولازم علي الانجلاتي الذي كان هو المفتي المالكي وقت الاحتلال، كما قرأ على حمودة المقايسي ومفتاح الدين العجمي ومصطفى الحرار، وقد درس في الجزائر الحديث وأصول الدين والفقه والنحو والمعاني والبيان والمنطق والعروض والفلك، وكان نموذجا للطالب الناجح في ذلك الحين، ثم رجع إلى مليانة وتولى بها أمور الفتوى والتعليم إلى أن حدثت كارثة الاحتلال الفرنسي. كان عمره سنة 1830 حوالي 52 سنة، وقد اضطربت أحوال الجزائر عندئذ، فكر بعض أهلها في سلطان اسطانبول الذي عجز عن حمايتهم، وفكر آخرون في سلطان المغرب، وكانت الناحية الغربية قد عينت وفدا من أعيان العلماء للتوجه في ذلك الأمر إلى سلطان المغرب، فكان من بينهم الشيخ محمد بن الحاج حمو، وقد أطال البقاء في المغرب الأقصى وقابل السلطان، وكان هذا يحب اختبار العلماء ويتبع طريقة آبائه في ذلك، وبعد أن سرحهم السلطان وأمدهم بجيش وحامية وخليفة عنه، رجع الشيخ حمو إلى بلاده، ولكنه ظل يتراسل مع بعض المسؤولين المغاربة مثل الوزير محمد بن إدريس. وبعد إعلان دولة الأمير عينه هذا أمينا على خزائن بيت المال، ومكلفا بالتموين العسكري، وهي مهمة خطيرة تقوم مقام وزير المالية والتسليح اليوم، وكانت مليانة ضمن دولة الأمير، وعليها محيي الدين بن المبارك خليفة عنه قبل أن يتولاها محمد بن علال، وأثناء هذه الوزارة الخطيرة كان الحاج حمو قد أقام تجارة واسعة مع أحد القناصل وهو (قراييني) (¬1) لشراء ¬

_ (¬1) أو قرافيني، وكان يشغل قنصل أمريكا أيضا في الجزائر في نفس الوقت، وقد عينه =

السلاح والقماش والكبريت والرصاص وأحجار الزناد وورق النحاس الخاص بضرب النقود (السكة) المحمدية التي سكها الأمير. (إلى غير ذلك مما يلزم العساكر من الأدوات الواجبة للقيام بهم)، وكان الأمير يقدره ويستشيره ويستمع إلى كلامه. ولكن دولة الأمير قد دالت بسقوط الزمالة 1843 رغم أنه ظل يكافح إلى نهاية 1847، وقد تفرق عنه الأنصار وكثر الخصوم، وجندت فرنسا ضده كثيرا ممن كانوا أعوانا له في مختلف الوظائف ومنها القضاء، وضاقت السبل بالبعض فلم يدروا أين يتجهون، فالعدو قد سيطر والصديق قد انهزم، فإلى أين النجاة؟ فر الحاج حمو بنفسه إلى الجبال المنيعة، جبال بني مناصر، وأخذ أهله معه كما أخذ كتبه ودفاتره. (وبقي يتردد بين شعابها وأوديتها والعساكر الفرنساوية تشن الغارات على المهاجرين (الهاربين)، فاحترقت كتبه ودفاتره، وضاعت أسبابه وأمواله)، وما أشدها لحظات على عزيز النفس! فكر الحاج حمو في الحل، فاتصل بصديق له، هو سليمان بن صيام الذي تولى للفرنسيين على مليانة، كاتبه الحاج حمو يطلب تدخله للحصول على الأمان من العدو، فاتصل ابن صيام بالضابط سانطارنو الذي كان مسؤولا على المنطقة والذي كان المسؤول أيضا على مجزرة غار الظهرة سنة 1845، فوافق سانطارنو على إعطائه الأمان، ورجع الشيخ الحاج حمو إلى أملاكه فوجد الفرنسيين قد صادروها كما فعلوا مع أملاك ابن الحفاف وغيره ممن انضموا للأمير، ويقول المصدر الذي استفدنا منه هذه المعلومات، ان السلطات الفرنسية قد أعادت إليه أملاكه وأعانته ببعض الثيران والحبوب للزراعة، ولا ندري متى كان ذلك بالضبط، ولكن نعلم أن الفرنسيين قد ولوه وظيفة القضاء سنة 1258 هـ (1842). وقد استمر على ذلك إلى سنة 1274 حين تجاوز الثمانين سنة وتولى بعد ذلك خطة الإمامة والفتيا إلى وفاته سنة ¬

_ = الأمير قنصلا عنه بعد التافنة (1837) في مدينة الجزائر لدى الفرنسيين، ولكن هؤلاء رفضوا هذا التعيين، فبقي قرافيني يتعامل مع الأمير تجاريا الخ، انظر (رحلة إلى معسكر الأمير) التي كتبها بيربروجر، وقد ترجمناها، باريس، 1839.

1285 (1868). وقد دفن بمليانة، بالغا من العمر تسعين سنة. وكان الحاج حمو يتردد على العاصمة، وقد وصفه حسن بن بريهمات الذي أبنه بأنه كان حلو الفكاهة، حاضر الجواب، متضلعا في العلوم العقلية والنقلية، كثير الحفظ، وكان يحفظ مقامات الحريري، عارفا بالسير والشواهد والتواريخ، وله باع طويل في فن الإنشاء، كما كان ينظم الشعر، وله مشاركة في الموسيقى، وكان ينكر على المغالين في الدين، ويدعو إلى تعلم معارف الفرنسيين، وفي هذا النطاق أدخل ابنه (عبد الحق) إلى المدرسة العربية الفرنسية (الكوليج) بالجزائر، ووقعت له مخاصمات مع بعض أقاربه حول الأرض فأعيدت إليه عن طريق المحكمة العليا (محكمة الاستئناف الفرنسية) (¬1). إن مصير محمد بن الحاج حمو الملياني لم يكن منعزلا، فقد عاشه عدد آخر من القضاة بعد أن شردوا وتبدلت بهم الحياة غير الحياة الأولى، ولكن يبدو لنا أن هذا الشيخ كان من أقوى معاصريه تكوينا وذكاء وإخلاصا، وكانت السلطة الاستعمارية تعرف من تجلب إلى خدمتها ومن ترفض، وقد اعتمدت على الكثيرين في بادئ الأمر من هذه العناصر الجيدة التي كانت مع الأمير ثم ضاقت بها السبل فرجعت تخدم أعداءها وأعداءه، وقد رأينا معاملة ديلابورت لابن الحفاف بعد رجوعه إلى العاصمة إذ قال عنه إننا نعرف أنه عدو لنا ولكن الإدارة ستستفيد من خدمته، ذلك أن هذه الإدارة تريد من ورائه كسب المؤيدين له أو الذين يثقون فيه، وكان الحاج حمو خبيرا حقا في شؤون الدين والقضاء واللغة، وكان أمثاله قليلين، سيما في فترة الخمسينات والستينات، وكثير من جيله قد انتهوا مشردين ومهاجرين ومنفيين، أما موقفه من سلب القضاء الفرنسي صلاحيات القضاء الإسلامي فقد عبر عنه في مشروعه الذي قدمه إلى السلطات الفرنسية (¬2). ¬

_ (¬1) من الكلمة التي أبنه بها حسن بن بريهمات ونشرها في المبشر، عدد 627، 31 ديسمبر 1868، وكان الحاج حمو معاصرا وصديقا لوالد حسن بن بريهمات. (¬2) انظر كريستلو الذي قال إنه قدم مشروعا في ذلك، والغالب أن ذلك كان قاضيا آخر =

6 - الحاج قدور الشريف الزهار: وشبيه بسيرة الحاج حمو نجد سيرة الحاج قدور الشريف الشهير بالزهار، وحياة هذه العائلة معروفة إلى حد ما، فهي عائلة قديمة في مدينة الجزائر ترجع إلى القرن العاشر الهجري، وزاويتهم ظلت قائمة بعد الاحتلال رغم تعرض أملاكها للمصادرة كغيرها، كما خضعت لضيق وتضييق شديدين (¬1). وقد شاركت العائلة في كفاح الجزائر إلى أن ضاقت السبل بأبنائها فرجع بعضهم إلى قبول الوظيف من العدو، وكان جد العائلة هو محمد بن أحمد بن أحمد بن محمد ... الذي ينتهي نسبه إلى الإمام علي والسيدة فاطمة، وقد توفي محمد الشريف سنة 948 هـ، ولهذه العائلة أيضا نسب مع الشيخ أحمد بن يوسف الملياني (¬2). وكانت فيها نقابة الاشراف بالجزائر. ويهمنا من هذه العائلة الآن دورها في القضاء في العهد الفرنسي، وبالذات دور الحاج قدور الشريف الزهار، كان والده أحمد الشريف الزهار، من الذين انضموا للمقاومة الوطنية وخدموا الأمير عبد القادر بإخلاص إلى أن وقعت كارثة الزمالة (1843). فتفرق الشمل وأسر من أسر وقتل من قتل وهاجر من هاجر، وكان لأحمد الشريف ابنان: علي وقدور، أما علي فقد أسره الفرنسيون، وكان فتى في حوالي الثالثة عشر من عمره، وهربوه إلى فرنسا كرهينة وأدخلوه إلى مدارسهم ليعلموه ويجعلوه وسيلة للتأثير فيما بعد، ولم يكن وحده في ذلك فقد أخذوا معه مجموعة من الفتيان، ومنهم قريبه محيي الدين بن علال، وأحمد بن رويلة ابن كاتب الأمير قدور بن رويلة، وغيرهم، وتكون بعضهم في مدرسة سان لويس بفرنسا بعيدا عن أهلهم ورغم أنفهم، كان مصير علي الشريف الزهار خدمة السلطة الفرنسية إذ ¬

_ = باسم الحاج حمو، وقد يكون من نفس الأسرة، لأن الحاج حمو الذي نحن بصدده، قد توفي سنة 1868، والمشروع قدم للفرنسيين في 1892. (¬1) انظر الزوايا، في فصل المعالم الإسلامية، وكذلك أحمد توفيق المدني (مذكرات الشريف الزهار). (¬2) تعريف الخلف، 2/ 476.

تخرج جنديا ثم ضابطا في الجيش الفرنسي ومترجما احتياطيا، ووجدناه سنة 1910 من الضباط المتقاعدين (تقاعد سنة 1863) الذين يعيشون على ماض حزين، خططه له قادة الاحتلال الفرنسيين وعلى رأسهم المارشال بوجو، وقد أصبح علي الشريف مستشارا عاما في مجلس ولاية الجزائر. أما أخوه قدور، موضوع حديثنا الآن، فقد حمله والده إلى المغرب الأقصى مهاجرا، ولا ندري المدة التي بقياها، ولعل الفتى قد تعلم في فاس أو في غيرها ما أهله لتولي الوظائف الدينية والقضائية، ثم رجع مع والده إلى الجزائر، وتولى والده، أحمد الشريف، نقابة الأشراف بتاريخ لا نعلمه الان، ثم توفي سنة 1289 وقد ناهز الثمانين، كما جاء في كناش العمالي، وواصل قدور دراسة اللغة العربية وحده وعلى من وجد من بقايا العلماء، كما اشتغل بالفلاحة، وأتيحت له فرصة الحج فأداه مع والدته السيدة خديجة بنت الشيخ محيي الدين بن علي مبارك القليعي (¬1). وكان حجه مع صهره علي بن الحفاف الذي تولى الإفتاء بالعاصمة، كما عرفنا، وقد توفيت والدته خديجة في طرابلس، دون أن نعرف هل كان ذلك أثناء الذهاب أو الرجوع من الحج، ومن ثمة نعرف هذه المصاهرة بين عدة عائلات في المنطقة: عائلة الشريف الزهار، وابن الحفاف، وسيدي أحمد بن يوسف الملياني، وسيدي علي مبارك، وابن رويلة. وعند فراغ وظيف المعاون الأهدي (القاضي المسلم) في المحكمة الفرنسية بالجزائر عين الحاكم العام (شانزي) فيها الحاج قدور الشريف، وكان ذلك في تاريخ غير محدد، قد يكون 1875، وعند وفاة أبيه، أحمد الشريف، أصبح الحاج قدور هو النقيب أيضا، كما كان إماما في مسجد زاويتهم (سيدي محيمد الشريف). وقد استمر في وظيفة المعاون المسلم في ¬

_ (¬1) هو محيي الدين بن علي مبارك الذي تولى وظيفة (آغا العرب) في عهد الجنرال بيرتزين 1831 - 1832، وكان من المرابطين، من عائلة سيدي علي مبارك بالقليعة. وهو أول من تولى ذلك الوظيف للفرنسيين، وفي عهد روفيقو (1832 - 1833) هرب محيي الدين إلى مليانة حيث تولى للأمير عبد القادر وظيفة الخليفة هناك.

المحكمة الفرنسية فترة طويلة دون أن نعرف متى انتهت، لأنه تقاعد قبل وفاته سنة 1910، وكافأته السلطات الفرنسية بوسام جوقة الشرف ووسام الأكاديمية، وقد بقي يشتغل بالأعمال الخيرية والدراسة إلى وفاته، وهكذا استطاع الفرنسيون أن يجعلوا من هذه الأسرة الدينية - السياسية وسيلة للتأثير المعنوي وأن يذوبوا غضبها في بوتقة التقارب بينهم وبين الجزائريين، فأعطوها الأوسمة والوظائف، والاعتبارات الزائفة، من ذلك ما قيل من أن علي الشريف الزهار، أول ضحية لهذه الأسرة تسقط في يد الفرنسيين سنة 1843، قد أصبح ضابطا متقاعدا، وآغا شرفيا، وحاملا أيضا لوسام جوقة الشرف مثل أخيه قدور، ورئيسا للديانة الإسلامية بالعاصمة Culte Musulmane، وعضوا في التعليم العمومي (وهو وسام). وبذلك تكون خطة المارشال بوجو قد نجحت نجاحا باهرا. وفي نطاق هذه التشريفات والشكليات أقيمت للحاج قدور جنازة رسمية عند وفاته سنة 1910، لم يترك الفرنسيون والمسلمون المقلدون شيئا يناسب المقام إلا فعلوه، فقد رفعت الأعلام الخضراء على مآذن الجزائر، حدادا عليه، باعتباره نقيبا للأشراف، وحضر الجنازة أعيان البلاد، ويهمنا منهم شاب ما يزال في الخدمة ولكن مصيره لن يكون مصير الضابط المتقاعد، علي الشريف، ونعني بذلك الأمير خالد بن الهاشمي بن الأمير عبد القادر، وكان الأمير خالد عندئذ من ضباط الصبايحية (الخيالة). وحضر أيضا بوطيبة النائب المالي وعضو المجلس الأعلى في حكومة جونار، وابن صيام المستشار العام والنائب المالي أيضا، وأفراد من عائلة بو طالب أقارب الأمير عبد القادر، كما حضر ابنا الفقيد وهما محيي الدين الشريف، الذي كان متوليا القضاء في البليدة، ومحمد الشريف الذي يبدو أنه خلف والده كمعاون أهلي في المحكمة الفرنسية، ومن أفراد العائلة أيضا محمود الشريف، وأحمد الشريف بن علي الشريف (الضابط المتقاعد). الذي كان متوليا القيادة على بني بو يعقوب، وبعد الصلاة عليه في جامع صفر دفن في مقبرة الزاوية برخصة خاصة من الحاكم العام جونار، لأن الفرنسيين كانوا قد منعوا الدفن

في مقبرة الزاوية منذ 1830، أما الشخص الذي ألقى كلمة التأبين فهو الدكتور زروق بريهمات حفيد حسن بن بريهمات الذي سنترجم له بعد قليل (¬1). رغم مكانة هذه العائلة لدى المسلمين ولدى الفرنسيين، ورغم دور أحمد الشريف الزهار صاحب (المذكرات) والمناضل مع الأمير عبد القادر، فإنها لم تستعمل نفوذها في أي مجال للدفاع عن قضية الدين الإسلامي، سيما في ميدان القضاء الذي رأت أيدي الفرنسيين تنتهبه انتهابا، وقد رضيت بالمناصب المادية والأوسمة الشرفية والاعتبارات المعنوية التي تخصها هي وحدها، بينما لا نجد لها، حسب علمنا، تدخلا أو موقفا لصالح القضية الوطنية الكبيرة، ونحن إنما نتحدث عن عهد الحاج قدور وأبنائه، وعلي الشريف وأبنائه، إن المجتمع الحق هو الذي يلعب فيه أمثال هؤلاء الأعيان دورهم في ترسيخ التقاليد الحميدة والقيم النضالية من أجل المحافظة على الذاتية الوطنية في وجه كل الغزاة، فاذا تحول أعيان المجتمع إلى جماعة من الانتهازيين سهل على العدو افتراس كل المجتمع والقضاء عليه وعليهم أيضا. 7 - عبد الرزاق الأشرف: لم نعثر له على ترجمة وافية، رغم تردد اسمه في علماء وقضاة الجزائر أواخر القرن الماضي وأوائل هذا القرن، تولى التدريس في مدرسة الجزائر الشرعية - الفرنسية مدة لا ندري كم هي، وقد وجدناه في هيئة تدريسها سنة 1896 أي بعد إعادة تنظيمها، وكان معاصرا ¬

_ (¬1) روت خبر الوفاة وما جرى في التابين والحضور (مجلة العالم الإسلامي). R.M.M، يونيو (جوان) 1910، ص 323 - 325 بتوقيع (م). ويغلب على الظن أن هذا الحرف يشير إلى اسم ماسينيون، الذي بدأ حياته في الاستشراق بالكتابة في هذه المجلة قبل إنشاء (حولية العالم الإسلامي) حوالي سنة 1925، عن علي الشريف الزهار انظر تقارير ديمواينكور الذي عينه بوجو للإشراف على الشبان الرهائن، في رقم 1571 - F 80 وكان علي الشريف من مواليد 1829، واشتغل بالترجمة بعد تخرجه، انظر شارل فيرو (مترجمو الجيش الإفريقي). مرجع سابق، ص 309.

فيها لعلي بن سماية والد الشيخ عبد الحليم، كما كان الأشرف عضوا في الجمعية التي أنشأت (مجلة جغرافية الجزائر وشمال إفريقية) والتي تأسست سنة 1896، وكان يرأسها الحاكم العام، جول كامبون، شرفيا، وكان الأشرف من الأعضاء الجزائريين القلائل في مثل هذه الجمعيات التي كان هدفها خدمة التوسع الاستعماري في إفريقية أيضا، ويبدو أنه كان صاحب كلمة مسموعة لدى المثقفين والسياسيين الفرنسيين، إذ رشح لهم بعض زملائه للعضوية في الجمعية وقبلوا ترشيحه لهم (¬1). والظاهر أن عبد الرزاق الأشرف قد تخرج من إحدى المدارس الشرعية - الفرنسية الثلاث، فقد كان يعرف الفرنسية، وتدل عضويته في الجمعيات الفرنسية على ذلك، ولكنه كان يحسن العربية أيضا، فقد عهد إليه في بداية هذا القرن بتصحيح (الجواهر الحسان). وهو تفسير القرآن الكريم الذي ألفه الشيخ عبد الرحمن الثعالبي، وقد وجدنا اسمه على بعض الكتب الصادرة عن مكتبة ومطبعة رودوسي قدور بالعاصمة، ولا ندري إن كان قد ألف أعمالا ذاتية، كما وجدنا له مراجعات لبعض الكتب بالفرنسية نشرت في المجلة الإفريقية وغيرها، ولكن مساهمته في ذلك قليلة. أما في ميدان القضاء فلا نعرف بالضبط متى دخله، وغاية الأمر أننا وجدناه قاضيا في نقاوس سنة 1903، وهذا يعني أنه خرج من التدريس إلى القضاء في الأماكن النائية، لأن نقاوس التي كانت تمثل بلدية أولاد سلطان، كانت من المراكز البعيدة المعزولة عندئذ، فهل هو الذي فضل ذلك أو كان ذلك نوعأ من النفي له، وقد حكى عنه صديقه وزميله في مدرسة الجزائر الشرعية، الإسكندر جولي A.Joly، إنه قد عاونه في ترجمة وفهم الشعر الشعبي الذي جمعه (جولي) من إقليم قسنطينة، وقال جولي أيضا: إن ¬

_ (¬1) انظر العدد الأول من المجلة المذكورة S.G.A.A.N (1896)، ص 51. فقد اقترح الأشرف ترشيح السيد كسوس محمد بن يوسف فقبل رسميا في جلسة 11 نوفمبر 1896. وكان السيد كسوس يشغل وظيفة خوجة (كاتب) في بلدية الطاهير، انظر أيضا المجلة الإفريقية R.A، 1905، ص 478.

الأشرف قد جمع له بعد ذلك مجموعة أخرى من الشعر الشعبي وأبدى له بعض التعاليق والملاحظات الدقيقة وأرسل إليه ذلك بالبريد، وشهد له جولي بأنه كان يتقن العربية والفرنسية (¬1). وفي مكان آخر وجدنا أن الأشرف قد تولى القضاء أيضا في بسكرة، فهل تعين فيها بعد أن قضى فترة في نقاوس؟ لكن المهم أننا وجدناه قد رجع قاضيا في مدينة الجزائر على المذهب الحنفي سنة 1912 (¬2). وكان الأشرف من الذين استشارهم الفرنسيون في تدوين الفقه الإسلامي فأيدهم في ذلك، وقد أشير إليه فقط بقاضي نقاوس دون ذكر اسمه (¬3). ولكن رغم تكوينه المزدوج وثقافته التي تبدو متقدمة، فإنه لم يترك تأليفا، وليس له مواقف من القضاء الإسلامي سوى ما نسب إليه من تأييد حار لتدوينه، معتبرا ذلك، كما قال، شرفا لفرنسا، ولعله كان من بين أولئك القضاة الذين طلبوا من جونار زيادة الراتب سنة 1912، فإذا صح كل ما وجدناه عنه وما نسب إليه، فإن عبد الرزاق الأشرف، رغم مكانته، كان من ذلك الصنف الذي يعيش لذاته مسخرا علمه لخدمة الدولة المستعمرة وليس لخدمة الشعب الذي أنجبه. 8 - أحمد لعيمش: عرف أنه قد ترجم القرآن الكريم، مع زميله، ابن داود، إلى الفرنسية، وهذا الموضوع سنعالجه في فصل الترجمة، إنما نريد الآن أن نتحدث عن أحمد لعيمش القاضي أو المحامي، كان في البداية مدرسا في مدرسة تلمسان، ثم أصبح محاميا في محكمة الاستئناف بالجزائر، وقد وصفه جوزيف ديبارمي بأنه قد عالج موضوع اللغة الفرنسية عند الأهالي في محاضرة له ألقاها سنة 1930، وقال فيها: إن اللغة الفرنسية هي لغة الحضارة بالنسبة إليهم، وقد ترجم أحمد لعيمش أيضا (بداية المجتهد) لابن ¬

_ (¬1) الإسكندر جولي، المجلة الإفريقية، R.A، 1904، ص 6، هامش 1. (¬2) التقويم الجزائري للشيخ كحول، 1912. (¬3) ايميل عمار (مشروع تدوين الشريعة الإسلامية) في مجلة العالم الإسلامي R.M.M (1908). أكتوبر، ص 362 - 369.

رشد إلى الفرنسية مما يدل على تمكنه من اللغتين ومن الدين والفقه بالخصوص، وعينه الفرنسيون عضوا في لجنة تدوين الفقه الإسلامي خلال العشرينات، كما سنرى. ويبدو من وظيفته كمحامي، ومن ترجمته لبداية المجتهد، وعضويته في لجنة موريس فيوليت (¬1) لتدوين الفقه الإسلامي أن أحمد لعيمش كان من الشخصيات الجزائرية التي بإمكانها أن تلعب دورا في ميدان القضاء الإسلامي المضطهد، ولكن يبدو أنه كان مهتما بجانب الاندماج الحضاري عندئذ، وهو شعار النخبة المتفرنسة، أكثر من اهتمامه بعلاقة القضاء بالوطنية والذاتية الإسلامية للشعب الجزائري، غير أننا لا نستطيع أن نحكم عليه حكما نهائيا الآن لأننا لا نعرف كيف انتهى أمره حول هذه القضية (¬2). وقد رأينا أنه اختار سنة الاحتفال المئوي إلقاء محاضرته عن أهمية اللغة الفرنسية للجزائريين. 9 - أحمد بن محمد دغمان: ولد ونشأ بقمار، وادي سوف، وحفظ القرآن فيها ودرس بعض العلوم، ثم انتقل إلى الجريد التونسي، ولعله قد درس في زاوية نفطة الرحمانية، شأن أبناء تلك المنطقة في القرن الماضي، ومن هناك توجه إلى جامع الزيتونة حيث استكمل دراسته، وقد يكون ذلك أوائل الاحتلال الفرنسي لوادي سوف الذي حدث سنة 1854، ولم يرجع أحمد دغمان إلى سوف مباشرة بل عقم بالكاف، وهي أيضا مدينة تونسية ¬

_ (¬1) موريس فيوليت M.Violette تولى حكم الجزائر خلال العشرينات، وألف كتابا اشتهر به وهو (هل ستعيش الجزائر؟). وهو صاحب مشروع دمج النخبة الجزائرية في المجتمع الفرنسي خلال الثلاثينات، وهو المشروع الذي فشل فيه رغم تبني رئيس الحكومة الفرنسية، ليون بلوم L.Blum له سنة 1936. (¬2) عنه انظر أحمد توفيق المدني (كتاب الجزائر). ص 319، وجوزيف ديبارمي (رد الفعل اللغوي) في S.G.A.A.N، عن محاضرة أحمد لعيمش حول اللغة الفرنسية والأهالي انظر نفس المصدر، رقم 96، وعن ترجمة القرآن انظر ماريس كنار M.Canard في R.A المجلة الإفريقية، عدد 74 سنة 1933، ص 366 - 368، وسنعرض إلى ذلك في فصل الترجمة.

حدودية، وفيها الطرق الصوفية، وأبرزها عندئذ القادرية، ثم رجع إلى قمار وتولى القضاء في الزاوية التجانية هناك حيث بقي أربع عشرة سنة، ولعله كان يعلم أيضا أبناء الزاوية إذ كانت شؤون القضاء في قمار ليست ثقيلة، وربما كانت علاقة الزاوية بالسلطة الفرنسية خلال الثمانينات هي التي رشحته أيضا لتولي القضاء بالوادي لدى المكتب العربي الذي كان يسير شؤون المنطقة كلها، ومهما كان الأمر فقد وجدنا أحمد دغمان قاضيأ بالوادي سنوات 1293 - 1295، وتوفي سنة 1308 (1890) (¬1). وكانت بين الشيخ أحمد دغمان والمكي بن عزوز مراسلات وتبادل أفكار، ولعله قد تعرف عليه في زاوية نفطة العزوزية حيث كان الشيخ المكي مدرسا بها قبل أن يرحل إلى تونس ثم المشرق، ولم يساهم الشيخ دغمان في ميدان القضاء فقط بل في الأدب والشعر، وله بعض التقاييد، ولعل أكبر مساهمة له هي تخريج عدد من المتعلمين إذ كان يدرس للطلبة أثناء ولايته القضاء، وكان في وقته قد اشتهر بالعلم والصلاح، ويعتبر من فقهاء الريف الذين ظلوا بعيدين عن التأثير الفرنسي، كما ظل محافظا على القضاء الإسلامي في روحه الأولى، غير أن تدخل السلطات الفرنسية في القضاء الإسلامي جعل مهمة الشيخ دغمان منحصرة في الأحوال الشخصية وتقديم رأي استشاري للمكتب العربي (العسكري) فيما يخص القضايا الأخرى. 10 - معمر بن الحاج الزردومي: في 25 مايو، 1913 نشرت جريدة (الأخبار) بالجزائر هذا الخبر (حضر إلى العاصمة حضرة الوجيه الفقيه الأديب السيد زردومي معمر بن الحاج رابح، قاضي قمار، والمحرر بهذه الجريدة سابقا)، ونفهم من هذا أن القاضي الزردومي، كما أصبح معروفا، كان محررا بجريدة الأخبار قبل أن يتولى القضاء، ولم يكن وحده في ذلك، فقد مر بالصحافة عدد من المدرسين والمفتين والقضاة في بداية حياتهم. ¬

_ (¬1) الشيخ محمد الطاهر التليلي (تقاييد). مخطوط، وعبد الباقي مفتاح (أضواء)، مرجع سابق، مخطوط، انظر أيضا عادل نويهض (معجم أعلام الجزائر).

وكان ميدان الصحافة الرسمي هو جريدة (المبشر). ولكن جريدة (الأخبار) أنشأت منذ حوالي 1907 قسما بالعربية أسندته إلى الشيخ عمر بن قدور، فهل القاضي الزردومي كان محررا في هذا القسم أو في القسم الفرنسي الأصلي؟، إننا نرجح الأول. تولى معمر الزردومي القضاء في قمار سنة 1911 وبقي فيها إلى سنة 1913 (1329 - 1331). ومعنى ذلك أنه قد عمل في الجريدة المذكورة قبل 1911، وإذا عرفنا أنه كان من نواحي تبسة وأن قبيلته (الزرامة) يقطنون بحيرة الأرنب جنوب تبسة، علمنا أنه ما ذهب للعمل في الجزائر إلا لكونه قد تخرج من القسم العالي بمدرستها الشرعية - الفرنسية، رغم أننا لا نملك دليلا واضحا على ذلك، والغالب أنه قد درس أولا في مدرسة قسنطينة التي تستقبل أمثاله من طلبة الإقليم الشرقي، وأكمل في القسم العالي بمدرسة الجزائر، وهو القسم الوحيد على مستوى القطر، والصورة المتواترة على هذا القاضي أنه من النوع الذي وصفه محمد بيرم الخامس (¬1). ومهما كان الأمر فإنه لم يساهم برأي أو موقف من معاملة الفرنسيين للشريعة الإسلامية، وعندما كان قاضيا في قمار كان عليه أن يرضي جهتين ليبقى في وظيفه: الزاوية التجانية بقمار، وقد كان على رأسها الشيخ محمد العروسي، والمكتب العربي بالوادي، وقد كان على رأسه العقيد كوفي، وفي هذه الأثناء وقع اغتيال عباس بن حمانة (1914) في تبسة، وقد ذكرت بعض المصادر أن محمد (وليس معمر) بن الحاج رابح الزردومي قد ساند ابن حمانة (¬2). ¬

_ (¬1) بيرم (صفوة الاعتبار). ج 4. (¬2) عن معمر الزردومي انظر جريدة الأخبار 25 مايو، 1913، ورسالة خاصة من الشيخ محمد الطاهر التليلي بتاريخ 4 ابريل، 1977. ودبوز (نهضة) 2/ 264، والغالب أن محمد هو معمر لأن كتابة الاسمين قد تختلط، عن الزردومي انظر أيضا فصل التعليم العربي الإسلامي، وقد وجدنا اسم الزردومي مدرسا في بسكرة سنة 1932. وذكر ريتولت الفرنسي أنه استعان به في الحفريات حول وادي جدي قرب بسكرة، فهل هو =

11 - الحنيفي بن عبد الله: من متعلمي مدينة معسكر، وكان صغير السن عند الاحتلال، فلم يعرف ثقله إلا بعد أن نضج، ودخل الوظيف القضائي صغير السن أيضا، فتعلم بذكائه الفرنسية من مخالطة الفرنسيين، دون مدرسة، في ظاهر الأمر، وقد ساعده ذلك على شق طريقه في الإدارة والمعاملات معهم، وهكذا تولى عدة وظائف أولها كاتب (خوجة) مجلس المكتب العربي في معسكر، والمجلس هنا هو المجلس القضائي كما عرفنا، وذلك سنة 1854، وكان الحنيفي يقوم أيضا مقام الشاهد في المحكمة إذا احتاجت إليه، ثم ترقى لوظيف معاون (أساسور). في محكمة معسكر (تريبونال) بعد ذلك، وهي الوظيفة التي أصبحت مخصصة للقاضي المسلم وسط القضاة الفرنسيين، وقد مكنته معرفة اللغة الفرنسية من الوصول إلى مستشار في المجلس الولائي بوهران C.G، وهو منصب استحدث سنة 1858، ولكن لا ندري هل تولاه عندئذ أو بعد ذلك، ومنذ 1886 وإلى وفاته بمعسكر سنة 1892 كان الحنيفي يشغل وظيفة قاضي مدينة معسكر، وهي الوظيفة المخصصة للأحوال الشخصية والميراث بالتفصيل الذي ذكرناه، طبقا لقانون 1889 (¬1). 12 - أبو راس المازوني: كان في نفس المجلس الذي فيه الحنيفي بن عبد الله خلال الخمسينات، ولعله هو ابن (أو حفيد) المؤرخ الحافظ أبو راس الناصر الشهير، وقد تولى وظيفة نائب قاضي (باش عدل) لمدة عشرين سنة، وقد حكم بعض الدارسين أنه كان ضعيف المواهب لأنه لم يتغير حاله خلال تلك المدة الطويلة في القضاء، واستشهد هذا الباحث على ضعف أبي راس أيضا أنه لم يستطع أن يمنع إتلاف كتاب ألفه والده (أو جده). وهو يعني بذلك كتاب أبي راس عن أشراف غريس، ويقول هذا الباحث أن للكتاب أهمية سياسية، لأنه يتعرض لتاريخ الأعيان والأشراف ويذكر علاقاتهم ¬

_ = معمر الزردومي أو من عائلته فقط؟ انظر مجلة S.G.A.A.N، 1933، ص 55. (¬1) كريستلو (المحاكم). مرجع سابق، ص 60.

ومكانتهم، ولكن بقاء أبي راس الابن (أو الحفيد) في نفس الوضع خلال مدة طويلة يرجع أيضا إلى تصرفات السلطة الفرنسية مع الذين معها والذين ضدها، فلعله كان متجانبا لهذه السلطة، مكتفيا بالقليل، وقد نعود إلى قصة المخطوط المذكور في فصل آخر (¬1). 13 - محمد الخبزاوي: من قبيلة الهزج بالقرب من سيدي بلعباس. تولى القضاء في سيدي بلعباس، ثم المحمدية، وأصبح عضوا في المجلس الأعلى للفقه الإسلامي الذي تأسس في السبعينات وبقي فيه إلى التسعينات، وكانت بينه وبين القاضي شعيب بن علي مرارة قوية إذ قام هذا، كما يرى البعض، بجهد شخصي ضد الخبزاوي، مما جعله لا يستطيع تولى القضاء في تلمسان، وكان الخبزاوي هو الباش عدل في محكمة شعيب بن علي، ولعل الخبزاوي كان يحس أنه أولى بوظيف القضاء من زميله ما دام هو عضوا في المجلس الأعلى المذكور، ويروى السيد كريستلو أن شعيب بن علي قد أخبر الفرنسيين عن الخبزاوي أنه كان ينصح العامة بالتطهر كلما قرأوا رسالة من (رومي). وهكذا بقيت المرارة بين الرجلين طوال حياتهما، إذ كان الخبزاوي يرى أن شعيب بن علي هو الذي عرقله في سلم الترقي، وقد ظهر أثر ذلك في كتابة الحفناوي في (تعريف الخلف) عن الخبزاوي (¬2). 14 - محمد بن سعد: من قضاة تلمسان أوائل الاحتلال، ولكنه لم يتول للفرنسيين، كان من علماء الوقت الذين درسوا العلوم الدينية والعربية وتمكنوا منها، ويقول القاضي شعيب بن علي أن محمد بن سعد درس على أبي طالب المازوني، وهذا درس على الشيخ محمد عليش المصري، ولعل ¬

_ (¬1) كريستلو (المحاكم). مرجع سابق، ص 59. (¬2) نفس المصدر، ص 204 - 205، ومن أبرز قضاة هذا العهد منوار عبد الرحمن ولد بومدين، ولد سنة 1850 في أولاد سيدي علي بن يوب، ودرس في مدرسة تلمسان الشرعية، ثم دخل ميدان القضاء في الجزائر ومستغانم، وأصبح مستشارا بلديا في وهران، حصل على أوسمة من فرنسا وتونس والسويد، نفس المصدر، ص 277.

محمد بن سعد كان قد درس أيضا في فاس لأن من عادة علماء تلمسان استكمال دراستهم في القرويين كما يفعل علماء قسنطينة مع جامع الزيتونة بتونس، ويدل على صلة محمد بن سعد بالمغرب الأقصى توليه القضاء في تلمسان أثناء عهد ما يسميه الفرنسيون (الحكم المغربي) وهو عهد الأمير عبد القادر الأول، وكان محمد بن سعد هو عم (أو خال) القاضي شعيب المذكور، وكان عالما بالعربية والبلاغة والمنطق. وكانت علاقة القاضي محمد بن سعد بالمقاومة الوطنية وبالتدخل المغربي في تلمسان قد جعلته لا يبقى في هذه المدينة إذا تغلب عليها الفرنسيون، وهكذا كان يخرج منها ويعود إليها تبعا للظروف السياسية، ويقول السيد (كور) إن عبد الرحمن بن هشام سلطان المغرب، هو الذي سمى محمد بن سعد قاضيا في تلمسان سنة 1831، ولعله كان قاضيا فيها قبل ذلك، والمعروف أن حركة المقاومة عندئذ كانت بزعامة الشيخ محيي الدين والد الأمير مرابط القيطنة، وبعد ظهور الأمير بقي القاضي محمد بن سعد في وظيفته أثناء خلافة محمد البوحميدي على تلمسان، ولكن كلوزيل قام بحملة ضد هذه المدينة آخر سنة 1835 فهرب منها القاضي المذكور ولجأ إلى المغرب الأقصى، ولكن تلمسان رجعت إلى حضن دولة الأمير بعد معاهدة التافنة، فرجع إليها القاضي محمد بن سعد من جديد، ويبدو أنه استمر في وظيفه الأول، فقد أرسل رسالة إلى السلطان عبد الرحمن بن هشام فعرف محتواها من رد السلطان عليها، ومما جاء في هذا الرد أن السلطان اتصل برسالته التي يخبره فيها عن هناء الوطن وأمنه وتطهيره من (الرجس والنجس) - يقصد الفرنسيين - وقد تاقت نفسك للرجوع إليه، والقدوم بالأولاد والحشم عليه، لما جبلت عليه نفس الإنسان من حب الأوطان، وفي الحديث حب الأوطان من الإيمان). وقد بقي القاضي محمد بن سعد في تلمسان طيلة حكم الأمير فيها، أي من 1837 إلى 1842. ولكن المارشال بوجو غزاها في هذه السنة كما غزا معسكر، فخرج أهل تلمسان من جديد، وفيهم القاضي محمد بن سعد

ومحمد بن عبد الله المجاوي (والد الشيخ عبد القادر) وأبو طالب المازوني، وغيرهم من أعيان تلمسان، وقد توجهوا إلى المغرب الأقصى من جديد، ويقول كور: إن الفرنسيين هم الذين (طردوا) محمد بن سعد من تلمسان سنة 1842، وأن هذا القاضي قد مات بعد ذلك بقليل بمدينة فاس في بؤس وفقر مدقع (¬1) Une Grande Misère، ولا شك أن كور يريد أن يبالغ في مصير الذين لم يرضوا بالاحتلال الفرنسي، ونحن نتفق معه أن كثيرا من القضاة والعلماء قد أصبحوا في بؤس شديد بعد الاحتلال لكونهم كانوا مع قضية الجهاد والوطنية، ولكن البؤس أصاب أيضا القضاة والعلماء الذين بقوا في (ظل) الاحتلال الفرنسي، وقد وجد الجزائريون عندئذ من أهل المغرب الأقصى كل ترحيب ورعاية. 15 - إبراهيم العوامر: من قضاة الوادي ومن المؤلفين في التاريخ والتصوف، ومن المدرسين أيضا، ولد بوادي سوف سنة 1881، وهي السنة التي احتلت فيها تونس، ونشأ في عهد الحاكم العام البغيض، لويس تيرمان، وهذا الحاكم كان أول حاكم في مستواه يزور سوف، ثم نشأ في عهد جول كامبون الذي اهتم باستعمار الصحراء، وكان الضابط (كوفيه) عندئذ هو رئيس المكتب العربي بالوادي، وعاصر العوامر أيضا التنافس الشديد بين الطريقتين التجانية بزعامة الشيخ محمد العروسي الذي كان مقره في قمار، والقادرية بزعامة الشيخ الهاشمي بن إبراهيم الذي كان مقره في عميش، ونتيجة لذلك التنافس برزت قضية ايزابيل ايبرهارد في سوف، وفي شبابه كانت الدروس المسجدية قد سمح بها الفرنسيون، وكان الوادي مركزا لنشاط خاص تمثل في ¬

_ (¬1) اغوست كور (الاحتلال المغربي لتلمسان) في المجلة الإفريقية، R.A، 1908، ص 29 - 73. ونص رسالة السلطان إلى القاضي محمد بن سعد وترجمته يقعان في ص 62 - 64، والرسالة بتاريخ 14 ربيع 2، 156 (1840). عن محمد بن سعد انظر أيضا الكتاني: سلوة الأنفاس، ج 3/ 78، وقد تحصل كور على بعض الوثائق، ومنها الرسالة المذكورة، من القاضي شعيب بن علي، انظر أيضا ك 48 (الخزانة العامة - الرباط).

اهتمام الفرنسيين بالجنوب والمعاملات مع بلاد السودان والحد من نشاط السنوسية، كما أن في عهده المبكر حدثت حرب طرابلس، وربما كان ذلك أيام دراسته في تونس، وكانت تونس عندئذ تشهد أيضا نشاطا سياسيا على يد بعض شيوخ الزيتونة وحركة الشباب التونسي، وأخيرا نذكر معاصرته للحرب العالمية الأولى وظهور الحركة الإصلاحية والتجمعات السياسية بعدها. فلا غرابة أن يتأثر العوامر بكل ذلك في وظيفه وتأليفه، درس على شيوخ الوادي ومنهم عبد الرحمن العمودي ومحمد العربي بن موسى، وفي تونس دخل الزيتونة ودرس على الشيوخ: محمد النخلي ومحمد الخضر حسين، وكلاهما كان من المتنورين، وهما من شيوخ ابن باديس أيضا، ولا ندري تواريخ إقامته في تونس ولا تواريخ توظيفه، إنما نعلم أنه توظف في القضاء بمحكمة الوادي التي كانت تحت إشراف المكتب العربي (العسكري). وشارك في النشاط الثقافي بتأليفه في العروض والمواريث والتاريخ والتصوف (¬1). ويبدو أنه كانت له علاقة أو إعجاب بالشيخ المولود بن الموهوب مفتي قسنطينة فقد شرح العوامر له نظمه في العروض وشطر قصيدة له، ونشر ذلك في جريدة (الفاروق). وكانت القصيدة في ذم البدع والدعوة إلى الإصلاح الاجتماعي، وكان ابن الموهوب من أنصار دعوة الشيخ محمد عبده، واهتم العوامر أيضا بالطرق الصوفية التي كانت متنفذة ومنها في الوادي: التجانية والقادرية والرحمانية، وقد انضم إلى جميعها رغم ما بينها من اختلاف في المواقف السياسية، وكانت التجانية هي طريقة والده والقادرية طريقة والدته، أما الرحمانية فقد يكون أعجب بها من خلال شيخه محمد الصالح شيخ زاوية سيدي سالم بالوادي، وقد خص العوامر شيخه محمد الصالح بتأليف، ولعله انتمى لهذه الطرق للاحتماء بها فقط لأن بعضها كانت ذات نفوذ لدى السلطات الفرنسية، ومما يلاحظ عليه أنه انضم إلى قادرية الجريد (توزر) بزعامة الشيخ المولدي بدل قادرية الوادي بزعامة الشيخ ¬

_ (¬1) عن تآليفه انظر فصل التاريخ.

الهاشمي، ويبدو أنه لم يكن على علاقة طيبة مع الشيخ الهاشمي أو أنه تفاداه، لأن الشيخ الهاشمي كان في صراع واضح مع الشيخ العروسي، فكان العوامر يذهب سنويا إلى توزر لزيارة الشيخ المولدي. قام العوامر بالتدريس تطوعا في جامع النخلة بالوادي، ولا شك أن ذلك كان تحت رقابة المكتب العربي، وشملت دروسه العلوم الدينية، خصوصا التفسير ومختصر الشيخ خليل، والعلوم اللغوية كالنحو والصرف، ومن تلاميذه الشيخ حمزة بوكوشة، وتولى أيضا الفتوى بطريقة غير رسمية، فكان متسامحا في آرائه ولا يلتزم بالمذاهب الأربعة، ودافع عن اللغة العربية بعد أن رأى انتشار التعليم الفرنسي، وكان متأثرا بكتيب ينهي مؤلفه المسلمين عن إرسال أولادهم إلى مدارس الفرنسيين (¬1). والفتاوى التي كان يصدرها إنما عبر عنها في المحكمة التابعة للمكتب العربي، وقد طال عهده في القضاء، ولكنه لم يمارسه في سوف فقط، فقد عين أيضا في أولاد جلال ثم في تقرت حيث توفي سنة 1934، ولا ندري إن كان إخراجه من الوادي عقابا أو أنه كان داخلا ضمن حركة القضاة، وكانت رتبته سنة 1926، هي باش عدل، وكان إلى هذا التاريخ ما يزال في الوادي (¬2). ورغم ميل العوامر إلى الإصلاح فإننا لا نعلم أنه انضم لجمعية العلماء التي تأسست سنة 1931. 16 - شعيب بن علي الجليلي: من القضاة الذين خبروا الإدارة الفرنسية وخبرتهم، واستفادوا منها واستفادت منهم، نحو أربعين سنة، إنه شخصية لعبت أدوارا وتطورت أطوارامع الزمن والحاجة، تكون في عهد الاحتلال وتطور معه دون ضجة، قرأ في المدرسة الشرعية - الفرنسية وتولى الإمامة ثم القضاء، وألف في عدة فنون، وحذق الفقه والتصوف والشعر ¬

_ (¬1) هو (إرشاد الحيارى وتحذير المسلمين من تعليم أولادهم في مدارس النصارى)، تأليف يوسف النبهاني. (¬2) جريدة (صدى الصحراء) عدد 13، 29 مارس، 1926. وحمزة بوكوشة وحسني الهاشمي، مقدمات كتاب (الصروف)، ط، 1977.

والموسيقى، وشارك في مؤتمر المستشرقين باستكهولم (السويد). وتعامل مع الفرنسيين ضد بعض الموظفين، وترك أحد أبنائه يتبع خطاه ويسير على هداه، فهو شعيب بن علي بن محمد فضل الله الجليلي، ومن بلدة (الفحول) القريبة من تلمسان، ولد حوالي 1835، كان والده من أغنياء الوقت، دخل مدينة تلمسان وأصبح فيها معلما ومالكا للأرض، عاش في تلمسان عيشة الغني الدخيل، وعند وفاته ترك لابنه شعيب اثني عشر سكاس Sakkas من الأرض بينما كانت أحسن العائلات لا تملك سوى واحد أو اثنين فقط، كما ترك له عددا من المنازل والبساتين، درس شعيب في مدرسة تلمسان الشرعية - الفرنسية أثناء مرحلتها الأولى عندما كانت لا تعلم إلا بالعربية، وكان الفرنسيون مكتفين بمراقبتها ووضع برامجها فقط، وكان من شيوخها عندئذ محمد الزقاي، وقد درس عليه وعلى غيره، جماعة سنذكرهم، كما أخذ شعيب العلم بطريقة الإجازة والعصامية، فالظاهر أنه كان قوي الذاكرة طموحا، وله استعداد قوي. قرأ عدة علوم ذكرها في كناشه الذي ال إلى الشيخ عبد الحي الكتاني. وليس من السهل تتبع هذه العلوم جميعا، فقد قرأ القرآن الكريم على عبد القادر بن دح، وغيره. وأخذ مختصر الشيخ خليل على محمد بن دحمان ومحمد بن العيدوني، والألفية والفقه على القاضي محمد بن سعد (وهو قريبه كما ذكرنا). والمنطق والبلاغة على القاضي أحمد بن أبي مدين بن الطالب، ومنظومة الاستعارات للطيب بن كيران على القاضي إدريس بن ثابت، والتوحيد وغيره على محمد الزقاي، والفلك على محيي الدين شبي العامري. أما الإجازات فله منها نصيب وافر. بعضها كتابة وبعضها مشافهة، بل إن بعضها منامية، والإجازات المكتوبة معظمها في التصوف والأوراد، عندما تقدمت سنه وتوسع في العلاقات مع المعاصرين، وأما ما كان منها في غير التصوف، كالفقه والنحو والتوحيد والحديث، فذكر أنه أخذها عن شيخه

أحمد بن البشير بن عبد الله، ومن الذين أجازوه بالمراسلة: المكي بن عزوز، ومحمد بن عبد الرحمن الديسي، وعبد الكبير الكتاني، وعلي بن الحفاف، وسنذكر علاقته بالتصوف بعد قليل. هذه الحصيلة من العلوم والمعارف، إضافة إلى ماضي العائلة إذ يذكر أن جده هو مؤلف كتاب (تنبيه الأنام) في التصوف، وهو جد أسرة المجاوي أيضا، وإلى ثروته - كل ذلك جعل الشيخ شعيب يصعد السلم بسرعة ويتمتع بسلطة قلما حازها قاض في العهد الفرنسي، فبعد تخرجه من المدرسة عينوه إماما رسميا في جامع سيدي بومدين الغوث، وهو وظيف يجلب مالا وسمعة، وبعد أربع سنوات في هذا الوظيف ولوه القضاء سنة 1869، فبقي فيه إلى تقاعده أو وفاته أوائل هذا القرن، وكانت ولاية القضاء تشمل أيضا بلدته الأصلية وعددا من أضرحة أجداده، كان عمره 34 سنة عندما أصبح قاضيا، وعند ولايته كان القاضي ما يزال يتمتع ببعض الصلاحيات وقد عاش شعيب بن علي (يكتب بنعلي أحيانا) كل مراحل انتزاع تلك الصلاحيات في عهد الجمهورية الثالثة دون أن نحس بتحركه ضد تلك الإجراءات أو نسمع له صوت احتجاج فرديا أو جماعيا، بالعكس فإن القاضي شعيب قد اضطهد عددا من نوابه، مثل محمد الخبزاوي، وبلغ به التنفذ لدى الفرنسيين أنهم كانوا يسمعون قوله وينفذون إرادته في زملائه، كالاستغناء عن البعض وتعويضهم بآخرين، بل إن الفرنسيين قد سجنوا بعضهم، ولا ندري إن كان ذلك بإشارة منه، وكان يتهم زملاءه بالجهل والفساد، ويقول إنهم لا يعرفون حساب التركات إلا باستعمال الأصابع، وقال عن الخبزاوي إنه يعرض بالفرنسيين عندما ينصح الناس بالتطهر إذا قرأوا رسالة من (رومي). ويقول السيد كريستلو: إنه وعد في الوثائق ما يدل على أن الشيخ شعيب بن علي كان يتجسس للفرنسيين على زملائه حتى خارج تلمسان، سيما أيام ثورة أولاد سيدي الشيخ - بوعمامة - (1881) وأثناء احتلال تونس. وعند عزل زملائه (غشت 1896) وسجنهم، ملأ هو الفراغ بأشخاص آخرين عينهم بنفسه، ومن أبوز هؤلاء إدريس بن ثابت وهو من عائلة ملكية

تلمسانية، حسب الشائع، ولعل إدريس بن ثابت هذا كان أحد شيوخ شعيب إذ في أوراقه ما يدل على ذلك، وكان ثابت قاضيا في تلمسان ومدرسا في الفقه خلال الخمسينات، وقد واصل مهمته إلى 1865 حين قارب العمى فسمح له بالهجرة إلى فاس مع عائلته، وكان الشيخ ثابت هذا صاحب نفوذ وتأثير في فاس، وبعد أن عرف ابنه إدريس أن ثروة العائلة قد تبددت في فاس رجع إلى تلمسان، ولكن قبل ذلك جرب التعليم في وجدة، وفي سنة 1869 (وهي السنة التي أصبح فيها شعيب بن علي قاضيا) دخل إدريس بن ثابت امتحان القضاء ونجح، وكان ترتيبه ما قبل الأخير من 18 فائزا، دخل إذن سلك القضاء، ولكنه لم يتعين قاضيا إلا بعد ثلاث سنوات (1873) وبمساعدة شعيب نفسه (¬1). ومنذ تعيينه تعهد شعيب بن علي إلى الضابط الفرنسي بأنه سيبذل جهده في مهمته، والاجتهاد في السيرة الصالحة (طبقا لرغبتك وطبقا للسنة والشريعة). وعندما اقترح على الضابط عزل زملائه جميعا في المجلس القضائي قال له إنه فعل ذلك (خوفا من الله ومنك). وهذا الموقف من الزملاء ومن التعامل الخاص مع الفرنسيين هو الذي جعل الشيخ شعيب غير محترم من بعض القضاة، فقد قيل: إن قاضي الغسول، وهو عبد القادر بن عبد الرحمن قد ناشد الضابط الفرنسي ألا يسمح لشعيب بالجلوس في المجلس الذي كان يراجع أحكامه سنة 1878، ولا شك أن السلطات الفرنسية كانت تستغل هذه الحساسيات الشخصية والتحاسد والتنافس بين القضاة لصالحها، كما كانت تفعل مع الفئات الأخركما، وهي تسمى ذلك عملية (الصفوف)، أي ضرب صف بصف أو جهة بجهة أو شخص بشخص. ولعل مكانة القاضي شعيب العلمية وخيوطه الكثيرة مع رجال العلم والتصوف في وقته، بالإضافة إلى علاقته الخاصة بالمستعربين الفرنسيين هي التي رشحته ليكون ضمن الوفد الفرنسي في مؤتمر المستشرقين الثامن الذي ¬

_ (¬1) كريستلو (المحاكم)، ص 204.

انعقد في استكهولم (السويد) سنة 1889، ولم يكن دوره بارزا في هذا المؤتمر، وإنما ألقى قصيدة لا ندري قيمتها الأدبية، مدح فيها ملك السيد (أوسكار الثاني) والمؤتمرين، وقد تعرف هناك على الوفود العربية والإسلامية، وهي ليمست كثيرة، ومنها محمد أمين فكري باشا المصري ورئيس محكمة الاستئناف المصرية، ومدحت باشا (تركيا). وسفير إيران، ومحمود شكري الألوسي، وقد تحدث فكري باشا عن القاضي شعيب في بعض العبارات المقتضبة ووصفه (بوافد الجزائر) وقال إنه قد يكون تجاوز الستين سنة وأن ملابسه صوفية بيضاء، ومما ذكره فكري باشا أيضا أن أحد المرافقين لشعيب، واسمه الشيخ البشير، كان هو المترجم لشعيب، وهو (البشير) يشغل وظيفة كاتب في محكمته (¬1). ونحن نرجح أن تكون وظيفة هذا المرافق هي تسجيل ما يجري أيضا، وهو أمر لا يغيب عن ذهن القاضي شعيب، وواضح من ذلك أن القاضي شعيب كان لا يعرف الفرنسية. ومع ذلك فقد كانت للشيخ شعيب علاقة حسنة مع المستشرقين الفرنسيين، ويقول السيد كريستلو: إنهم كانوا يرونه نموذجا للقاضي المسلم، وكانوا يطلبون نصيحته (فتواه). وقد استحق على ذلك أوسمة عديدة، ومن ذلك التعاون أنه ساعد الضابط سينييت على ترجمة مختصر الشيخ خليل، وأثناء انعقاد مؤتمر المستشرقين الرابع عشر بالجزائر سنة 1905، نظم القاضي شعيب قصيدة رائية (¬2) مدح فيها الحاكم العام جونار، والجزائر والمؤتمرين، وقد ألقاها ابنه، أبو بكر عبد السلام، نياية عنه، وربما كان ذلك لتقدمه في السن أو لمرض ألتم به، إذ وجدناه يشتكي حالته الصحية في مراسلاته عندئذ، وكان يتبادل الشعر والمراسلة مع رئيس محكمة ¬

_ (¬1) محمد أمين فكري باشا (إرشاد الألبا إلى محاسن أوربا). القاهرة، 1892، ص 608. (¬2) نصها غير واضح في مخطوط ك 48، فيه شطب وحروف ممحوة، وعليها تعاليق في الهامش قد تكون للكتاني، وهي عبارة عن مسودة، ومطلعها تارة: (العلم قد طلعت له أقمار) وتارة: (العلم قد سطعت له أنوار) الخ.

الاستئناف بالجزائر، السيد (زيس) Zeys، ومن ذلك أن زيس نفسه قد أرسل إليه قطعة شعرية رائية، جاء فيها اسمه صراحة في البيت الثاني عشر، واخر بيت فيها هو: من ناء عن الخلان والقلب عندهم ... (زئيس) رئيس الشرع سكنى الجزائر (¬1) أما قصيدة القاضي شعيب في المؤتمر الأخير فقد نعرض إليها في فصل الشعر. هذا عن مكانة القاضي شعيب لدى الفرنسيين، أما مكانته لدى العرب والمسلمين فالظاهر أنها كانت علمية دينية لا سياسية، وكل الأوراق التي اطلعنا عليها حول حياته تذكر أنه كان معروفا لعدد من العلماء ورجال الفكر، ولكن الذين أشادوا به وبعلمه قليلون، وأكثرهم من أهل التصوف، ولذلك نجد الإشارات إليه هكذا: (ذكره فلان) و (أثنى عليه فلان) ونحو ذلك دون وجود النصوص الدالة على ذلك والمفصلة، وقد رأينا حديث محمد أمين فكري باشا عنه، وقد قيل إن الشيخ محمد عبده قد أثنى على بعض قصائده، وأن محمد فريد بك قد ذكره في رحلته (من مصر إلى مصر). وأن المهدي الوزاني، مفتي فاس، قد ذكره أيضا في رحلته التي سجل فيها زيارته للجزائر وتونس، وممن نوهوا به في الإجازات ونحوها: محمد بن عبد الرحمن الديسي الذي شرح نظمه في التوحيد، وكذلك عبد السلام اللجائي الفاسي الذي شرح أيضا نفس النظم، ومدحه الاغا حمزة (والد محمد بن رحال؟). بقصيدة، وكذلك فعل محمد بن سعيد، حفيد شيخه القاضي محمد بن سعد الذي سبقت إليه الإشارة، وعلي بن الحاج موسى، وراسله عدد ممن ذكرنا، وترجم له الحفناوي في تعريف الخلف، وقرظة أحمد سكيرج المغربي. ¬

_ (¬1) مخطوط ك 48 (الخزانة العامة - الرباطا). وجاء مع القصيدة أنها ضمن رسالة كتبها (رئيس الشرع بريزيدان لاكور دابيل) (أي رئيس محكمة الاستئناف) في الجزائر. انظر أيضا عن قصيدة المؤتمر وحضور الابن دون الأب، المجلة الإفريقية، R.A، 1905، ص 325 من مقالة للشيخ محمد بن أبي شنب عن المؤتمر.

وكان الشيخ شعيب كثير الاهتمام بنفسه ولفت الأنظار إليه، فعندما طبع (عقيدة التوحيد) أخذ يرسل منها النسخ إلى العلماء والمعاصرين ويجيز بها من يطلب الإجازة، وقد أرسل 75 نسخة من (العقيدة) إلى مدير جريدة الحاضرة التونسية، وهو علي بوشوشة (هدية للمتعلمين مثلي من أبناء القطر، سائلا غض الطرف عنها من مثلكم، فضلاء العصر). وحملها إلى تونس بعض الشبان التلمسانيين (¬1). كما كان الشيخ شعيب يمنح الإجازات لغيره في مختلف العلوم بما فيها التصوف، واستنجد به البعض لمكانته وسماع كلمته، فوجدناه قد أجاز عبد الحليم بن سماية، وعبد الحي الكتاني، والهاشمي بن أحمد (وكذلك أولاده وأحفاده). وجاءه الشيخ محمد الشافعي النفطي (تونس) لزيارته في داره في تلمسان فلم يجده، وقبل الزيارة بعث إليه بقصيدة ورسالة (عام 1330). وكتب إليه عبد الله الشريقي بن حسن قصيدة وقطعة نثرية يتملقه، وطلب منه محمد بن عيسى بلله (؟) التدخل من أجل الحج سنة 1321، وراسله مفتي مستغانم عبد القادر بن قار مصطفى يشكو له العجز والانشغال. كان القاضي شعيب منشغلا بالتصوف أيضا، ويبدو لنا أنه لم يكن (متصوفا) بالفعل والقلب وإنما كان يتخذ رجال التصوف والطرق لأغراض اجتماعية أخرى أو باعتبار ذلك بضاعة العصر، فهو لم يكن مرابطا ولا رئيس طريقة ولا حتى مقدما، ونستدل على ذلك أيضا من كونه جمع بين طرق كثيرة، وحتى ما كان منها لا يجمع مع غيره، في وقت واحد، وهذا ما جعل عبد الحي الكتاني يكتب إليه كراسة سماها (المرفوعات الحسان) يسأله أسئلة تبدو محرجة عن أخذه أوراد الطريقة من هنا وهناك، وعن بعض الإجازات التي لم تكن مسنودة، كما جرت العادة، ومهما كان الأمر فإن القاضي شعيب يروي أن له رؤى منامية متعددة وهو يقصها بالوصف المفصل، وقال إنه أخذ ¬

_ (¬1) مخطوط ك 48، والرسالة بتاريخ 11 ربيع 2، 1322 (؟) (لعله 1333).

أوراد الشاذلية عن الحبيب بن موسى الخالدي، المتوفى سنة 1287 (¬1). ثم عن الحاج عبد الله بن عدة الشويرف، المتوفى سنة 1298، ثم عن قدور بن سليمان المستغانمي، أما دلائل الخيرات فقد أخذه عن قاضي وهران (الآن) الشيخ أحمد بن حسن الشريقي المختاري، وذكر شعيب أنه شاذلي/ درقاوي منذ 1283، كما أخبر أنه أخذ الطريقة التجانية أيضا عن الشيخ علي بن عبد الرحمن مفتي وهران (يسميه علي الوهراني). ولما حاججه الكتاني في ذلك وسأله كيف يجمع بين هذه الطريقة وغيرها وكان شيوخها لا يأذنون فيها إلا لمن انسلخ من غيرها، أجابه شعيب جوابا غير دقيق فقال إنه كانت له دالة على الشيخ علي بن عبد الرحمن (يسميها تدللا ولا ندري سبب ذلك التدلل) فأذن له فقط في (صلاة الفاتح) من غير عدد الخ، وأضاف شعيب أنه أخذ الطريقة التجانية أيضا عن شيخه قدور بن سليمان المستغانمي الذي هاجر إلى الحجاز، وكان قدور هذا وكذلك الشيخ الموسوم (وهما شاذليان) يأذنان في التجانية ولا يشترطان الانسلاخ من غيرها، وكذلك كانت بينه وبين أحمد سكيرج علاقات وطيدة، وكان يلتقي به في الزاوية التجانية بتلمسان ويمدحه، وهو (سكيرج) من أقطاب التجانية (¬2). وقد تكون للقاضي شعيب انتماءات أخرى. وقد ألف القاضي شعيب عددا من المؤلفات، وليس من بينها كتب أو رسائل في التصوف، بل إن جميعها تدل على عقلانيته ودنيويته، وهي تتراوح من علم التوحيد إلى علم الموسيقى، وشارك في نظم الشعر ولكنه لم يكن ¬

_ (¬1) قال عنه إنه كان من أهل التصريف (الكرامات) حين هاجر بنو عامر إلى المغرب هاجر هو إلى سبخة وهران، ولما رجعوا رجع، واعتبره من أساطين الطريقة الشاذلية (الدرقاوية). وكان الشيخ الخالدي يرى أن الهجرة الصورية (البدنية) انقطعت، أما الهجرة الروحية فباقية ببقاء الدنيا، ك 48 مخطوط، وقد دفن شرقي وادي مكرة من أرض بني عامر. (¬2) انظر مخطوط ك 48، وقد قرظ سكيرج (الكلمات الشافية) وهو شرح العقيدة الذي وضعه الديسي وأثنى على الناظم (شعيب) والشارح، ومن جهته مدح القاضي شعيب التجانية ودعا بعمارة زاويتها وتكثير عدد أتباعها.

شاعرا، وإنما استعمل الشعر على عادة الفقهاء القدماء، وقد حافظ على تقاليد جيدة في ذلك، فكان استثناء بين معاصريه، كما شارك في حل الألغاز وتبادل القطع الأخوانية، وله رسائل عديدة لا تدل على مهارته في النثر، ولكنه كان متين الأسلوب، وإذا عرفنا ظروف الدراسات العربية والإسلامية في الجزائر أكبرنا جهده في ذلك، وقد كان شعيب في تلمسان من نوع المجاوي في قسنطينة والعاصمة، غير أن هذا كان مدرسا فقط والآخر قاضيا فقط، فكان تلاميذ المجاوي أكثر من أتباع شعيب، وكلاهما من نفس المدينة ومن نفس الأصل، وكانت تلمسان في عهده تنافس العاصمة وقسنطينة في الاهتمام بالدراسات العربية، رغم أن الشيخ شعيب كان يعمل خارج إطار المدرسة الشرعية - الرسمية، وسندرس تآليفه في جزء آخر. قلنا إنه لم يكن للشيخ شعيب تلاميذ، لكن يجب تدارك ذلك، إن تلميذه الوحيد البارز هو ابنه أبو بكر عبد السلام، فقد كان نسخة من أبيه تقريبا في العلم والسلوك، ويقول السيد كريستلو: إن القاضي شعيب قد أعد ولده ليكون قاضيا بعده، وقد تكون أبو بكر تكوينا شبيها بأبيه فتخرج من مدرسة تلمسان الشرعية - الفرنسية، ثم من مدرسة الحقوق بالجزائر وهي التي أصبحت كلية بعد إنشاء الجامعة (1909). وفي حياة والده شق طريقه أيضا على نفس النهج، فبدأ عدلا في جهة عمي موسى، ولكن يبدو أنه مال عن القضاء إلى التدريس، فالتحق بمدرسة تلمسان التي تخرج منها، في عهد إدارة المستشرق الفريد بيل، وكان أبو بكر كوالده أيضا يتقرب من المستشرقين الفرنسيين وينشر في مجلاتهم ويحدثهم عن عادات وتقاليد العرب والمسلمين ويدافع عن الحضارة الإسلامية، وسندرس آثاره في غير هذا، إنما نضيف أنه ناب عن والده في مؤتمر المستشرقين بالجزائر سنة 1905، فألقى قصيدته المشار إليها، كما ألقى أبو بكر عبد السلام نفسه بحثا عن (تصنيف العلوم الإسلامية) قال عنه محمد بن أبي شنيب إنه عملية ليس من السهل تلخيصها، وفي 1900 حضر أبو بكر مؤتمر علم الاجتماع الكولونيالي وفاخر فيه بثقافة الجزائر القديمة، ولكنه جعل عنوان بحثه (دمج

أهالي الجزائر المسلمين) ودعا فيه إلى ضرورة إلحاق الجزائريين بالأوربيين، ورغم أنه يقرأ العربية جيدا فإنه كان يكتب ويؤلف بالفرنسية لأن الخطاب موجه إلى الفرنسيين وليس إلى الشعب الجزائري (¬1). 17 - حسن بن بريهمات: يمكننا أن ننظر إلى حسن بن بريهمات على أنه من خيرة إنتاج المدرسة الفرنسية في الجزائر ومن بواكيرها، ولو أخرجت هذه المدرسة الكثير من أمثاله لكانت قد قدمت فائدة كبيرة للبلاد، ولكن العدد كان ضئيلا والنماذج منه أقل من القليل، وبصفته من نتاج المدرسة الفرنسية كان حسن بن بريهمات ممثلا لجيل بل أجيال كانوا يداهنون ويراوغون ويحاولون الجمع بين رضى أهلهم واسترضاء المستعمرين، بين رضى الله ورضى الحاكم الفرنسي، وقد أنجب حسن أولادا كانوا أقل منه قدرة على أسلوب الاسترضاء ودون مستواه في العلم التراثي الإسلامي، فأخذوا يذوبون في غيرهم، رغم علمهم ومكانة والدهم، إلى أن اختفوا أو كادوا، وكانوا درسا قاسيا لأنصار الاندماج والذوبان. ولد حسن بالعاصمة في تاريخ مجهول قد يكون أول القرن التاسع عشر (حوالي 1821) (¬2). وكان من أوائل الجزائريين الذين دخلوا المدرسة العربية - الفرنسية (الابتدائية) التي أنشئت سنة 1836، كان والده من الحضر، يكتب لوكيل الحرج (وزير البحر والخارجية) خلال العهد العثماني، وستكون وظيفة حسن شبيهة بوظيفة والده، ولكن مع الفرنسيين، وكان والده صاحبا في القراءة الأولى للشيخين: محمد بن الحاج حمو ومصطفى الحرار، ولكن العقد قد انفرط بالجميع، ويبدو أن والد حسن قد توفي مبكرا، وكانت ¬

_ (¬1) كريستلو (المحاكم)، مرجع سابق، ص 205، وكذلك المجلة الإفريقية، R.A، 1905، ص 325. وبالإضافة إلى ما ذكرنا عن الشيخ شعيب، انظر تعريف الخلف. (¬2) استنتجنا ذلك من كونه سيقول لتلاميذه (سنة 1861) إن له أربعين سنة لم يفرح بالعيد فرحه بالعيد الذي كانوا فيه معه (انظر لاحقا).

العاصمة عند نشأة حسن تعج بالوجوه القديمة والجديدة، فعاصر عهدين مختلفين تماما وشاهد استبدال سلطة بأخرى بطريق العنف والجبروت، وقد يكون له في العائلة والأقارب والجيران من طوحت بهم الأقدار بالنفي والإبعاد، فتكونت في نفسه كراهية الفرنسيين والخوف منهم وضرورة مجاملتهم إذا كان سيعيش في الجزائر ولا يكون مصيره مصير العلماء الذين سيقوا كالمجرمين إلى السفن المهاجرة عبر البحر. كان المكتب العربي في البليدة يبحث عن قاض فوجده في حسن بن بريهمات، شاب عرف المدرسة الفرنسية في باكورتها، وصهر لعالم متصوف هو مصطفى الحرار، (مدرس في جامع صفر). وابن لأحد الخوجات السابقين. وكان الفرنسيون يقدمون من يعرف لغتهم ومن عاش في عهدهم على غيره، مهما كانت المؤهلات الأخرى، فوجدوا في هذا الشاب ضالتهم، وقد يكون ذلك أول وظيف رسمي له، ومهما كان الأمر فقد ظل يترقى في سلم الوظيف حتى وصل إلى عضوية المجلس الشرعي ومدير المدرسة الرسمية، وكان حسن من مستقبلي نابليون الثالث حين زار الجزائر، كان توليه القضاء في البليدة في 15 ابريل 1853 بتعيين من الحاكم العام راندون، خلفا لمحمد الدلسي، وكان القضاء عندئذ منصبا سياسيا عند الفرنسيين لأن القاضي لا يمثل الشرع الإسلامي في الحقيقة ولكنه يمثل الدولة الفرنسية، كما أن سلطة القضاة المسلمين ما تزال ممتدة إلى المنازعات والتركات والتجارة ونحوها، ومن ثمة فالقاضي إنما هو رمز للسلطة الفرنسية (¬1). ولكن وظيفه في القضاء كان دورة فقط، اكتشفه فيها الفرنسيون، ولاحظوا عليه الذكاء والمهارة والطموح، فاقترحوه لوظيفة أخرى ذات أهمية أوسع، سيما وأنهم كانوا مقبلين على تنظيم القضاء الإسلامي بما يناسب إدارتهم وسلطتهم، وفي اقتراح رئيس القطاع العسكري له سنة 1855 ليكون ¬

_ (¬1) عن تعيينه انظر المبشر عدد 135، ابريل 1853. وكذلك رسالة الباحث إبراهيم الونيسي.

مديرا لمدرسة الجزائر الشرعية - الفرنسية، لاحظ الضابط أن حسن بن بريهمات سهل الانقياد وذكي، وأنه يحب الأفكار التقدمية ويعرف كيف يوائم بين الواجبات الدينية ومتطلبات التقدم، فهو في نظر الضابط (أداة طيعة منقطعة النظير) وظل رأي الفرنسيين فيه ثابتا حتى بعد أن وصفوه بالمسلم الصادق في إسلامه وبالتعامل الضروري مع الفرنسيين أو بأنه رجل تقدمي ومعجب بالحضارة الفرنسية، وقد يكون فعل ذلك تفاديا لإثارة الغضب ضد الفرنسيين وحماية للدين والوطن، كما قال بعضهم (¬1). عاش حسن بن بريهمات حوالي أربعين سنة في الوظيف الفرنسي، وتقلب مع مختلف الموجات والحكام، من راندون، إلى بيليسييه، إلى ماكماهون، وديقيدون، وشانزي، وعاش حتى جزءا من عهد تيرمان، وبينما رمت الموجات بزملائه يمينا وشمالا ظل هو يحسن السباحة والغطس والطفو دون أن يمسه سوء، فبالإضافة إلى المدرسة التي نقلت من البليدة إلى الجزائر، عهد إليه في 21 مارس سنة 1860، مع لجنة من زملائه، بترجمة القانون الخاص بتنظيم المحاكم الإسلامية في الجزائر، وهو القانون الذي أصدره نابليون الثالث في 1859، وكان من أعضاء اللجنة المفتي حميدة العمالي والصحفي السياسي أحمد البدوي ومحمد بن مصطفى، وقبل ذلك، أي سنة 1854، عين ابن بريهمات عضوا في المجلس الفقهي الذي أنشأه الفرنسيون (¬2). ومن الوظائف الأخرى الهامة، رغم أنها رمزية فقط، عضويته في المجلس الاستشاري بالحكومة العامة سنة 1865، وهو منصب خاص ببعض الجزائريين الذين تعينهم السلطة (لتمثيل) الأهالي. وقد نشط ابن بريهمات خلال الستينات، فوجدناه في تونس سنة 1286 هـ (1869) في مهمة لا نعلمها، وكان يكتب المقالات في المبشر، وينوه بكتاب خير الدين باشا التونسي شعرا ويراسله به، والناس إذا رأوا ¬

_ (¬1) آلان كريستلو (محاكم الشريعة الإسلامية)، برنستون، 1985، ص 2 - 114. (¬2) انظر سابقا.

شخصا طلع نجمه توجهوا إليه وقلما يسألون لماذا وكيف، وهكذا اشرأبت الأعناق إلى ابن بريهمات فكان هو العالم، والصحفي، والمدير، والقاضي، والمعلم، والشاعر، والنائب ... ففي سنة 1860 استضاف حوالي 40 من تلاميذه في بيته بمناسبة عيد الفطر، وكان هؤلاء يتلقون العلم في المدرسة السلطانية التي أسميناها المعهد (الكوليج) العربي، وكان الفرنسيون يحبون هذه المبادرات التي لا تربط بين المعلم والتلاميذ ولكن بين من يمثل أفكارهم والجيل الجديد من الأهالي، حتى أن جريدة المبشر التي أوردت الخبر قالت بعد التنويه إنها مبادرة تدخل في مهمة فرنسا لصالح عامة الناس (¬1). وفي السنة الموالية كرر حسن بن بريهمات نفس المبادرة ولكن بمناسبة عيد الأضحى، وبعد تناول الطعام خاطب تلاميذه فنوه بالعلم وحثهم على تقليد أسلافهم الذين رحلوا من أجله إلى الصين، وهذا أمر لا غبار عليه، ولكن المسألة كانت وراء ذلك وهي أن الفرنسيين كانوا عندئذ يشنون حملة لحمل الجزائريين على إرسال أبنائهم إلى المدارس الفرنسية الابتدائية الى 36 التي أنشأوها. وكان معظم الجزائريين يقاطعونها خوفا على أبنائهم من المسخ الفكري ونسيان لغتهم والتأثير في دينهم، ونوه ابن بريهمات كذلك بالدكتور (بيرون) مدير المدرسة (الكوليج). ودعاهم إلى حمد وشكر (سيدنا السلطان نابليون الثالث) ودعا أيضا للامبراطورة (يوجيني) بطول العمر وحفظ ابنها الوحيد (ذلك الفرقد الوقاد) حسب تعبيره، وكان موقف ابن بريهمات عندئذ كموقف ابن الموهوب بعد نصف قرن، إذ قال: على التلاميذ أن يشكروا فضل من أنشأ لهم المدرسة (الكوليج) ويسر لهم العلم (¬2). وحانت فرصة أخرى ظهر فيها ابن بريهمات الشخصية العلمية الأولى في البلاد، وذلك على إثر وفاة الخليفة حمزة زعيم أولاد سيدي الشيخ، سنة ¬

_ (¬1) المبشر، عدد 15 مايو 1860، وكذلك بحث إبراهيم الونيسي. (¬2) المبشر، عدد 319، 12 يوليو، 1861، كانت الضيفة يوم 18 جوان 1861، وكذلك رسالة إبراهيم الونيسي، وسبب ذكر نابليون وزوجته عندئذ أنهما زارا الجزائر لأول مرة سنة 1860.

1861، وكان اختفاء هذا الخليفة محل شبهة إذ كثرت الإشاعات والأقاويل حول موته أو قتله من قبل الفرنسيين بعد استدعائه إلى الجزائر وإثارة الشكوك حول موقفه (¬1). وليس هنا محل الحديث عن الخليفة حمزة، ولكن محل الحديث عن ابن بريهمات الذي عينه الحاكم العام المارشال بيليسييه للإشراف على كل مراسيم التأبين من القراءة عليه والصلاة والتجهيز والخطب والدفن وتقبل التعازي، كل ذلك بحضور العلماء الرسميين وغير الرسميين والسلك القضائي والسلطات الفرنسية، وعلى رأسها المارشال بيليسييه نفسه، وقائد القطاع العسكري وفرقة من الجيش، وكان هذا التأبين، الرسمي أكثر من اللازم، من أجل تغطية شبهة قتله وذر الرماد في العيون، وكان دور ابن بريهمات هو التنسيق بين كل هذه الأجهزة، فهو الذي أعد المدرسة الرسمية لاستقبال الجثمان، وأحضر جيشا من القراء ومنشدي قصيدة البردة ومعدي الطعام للفقراء الذين بلغوا حسب الجريدة (المبشر) قرابة الألفين، وجاء ابن بريهمات بإمام الجامع الكبير لتغسيله، وبالمفتي حميدة العمالي للصلاة عليه، وبعد دفن الجثمان في مقبرة سيدي محمد (محمد بن عبد الرحمن الأزهري) وقف ابن بريهمات يتقبل التعازي نيابة عن أسرة الفقيد التي كانت غائبة، إنها لمسرحية حبكت أدوارها بدقة، وكان الممثل الرئيسي فيها أو البطل هو حسن بن بريهمات. وفي 1865 زار نابليون الثالث الجزائر للمرة الثانية، وكان ذلك في عهد حاكم عام جديد، هو المارشال ماكماهون، وكان الحديث قد كثر عن المملكة العربية وفرسانها، وصف ابن بريهمات وصول موكب الامبراطور إلى مدينة الجزائر بالبحر في 3 مايو 1865، وتفنن في ذلك بما سمح به قلمه، وتحدث عن شخصية نابليون وعن زيارته الأولى أيضا، وعن مراسيم الاستقبال التي أعدت له وكيف اتخذت المدينة زينتها، وعن الخطب التي ألقيت بالمناسبة، وأثناء المادبة الرسمية التي أقامها نابليون على شرف أعيان ¬

_ (¬1) انظر تفصيل ذلك في المبشر، وقد نقله إلي الباحث إبراهيم الونيسي مشكورا من (الميكروفيلم). 8 يناير 1990.

الجزائر والقيادات العربية، ألقى ابن بريهمات باتفاق مع السلطات طبعا، كلمة الشرف، وكانت في مدح الامبراطور وأسرته وجلائل الأعمال التي تقوم بها فرنسا في عهده، وقال عن التآليف التي ألفت في عائلة نابليون الثالث إنها (تشهد بفضله وعدله ... لو كتبت بماء العين لكان قليلا في حقها ..) (¬1). وظهر قلم ابن بريهمات أيضا في تأبين شخصيتين من أعيان البلاد وأصدقاء والده، الأول منهما هو الشيخ حسن بن أحمد - أمين البنائين أو المهندس المعماري، وكان أحمد هذا هو الذي هندس وبنى عددا من حصون ومساجد وقصور الجزائر قبل الاحتلال، وشارك في بناء جامع كتشاوة، وجدد بناء جامع صفر (سفير) وجامعي القصبة الداخلي والخارجي، وكان من الذين عرفوا رئيس الطريقة الرحمانية (محمد بن عبد الرحمن الأزهري) شخصيا وأخذها عنه، وقد أشاد به ابن بريهمات أثناء تأبينه لابنه، وكان ابن بريهمات يعرف أن معظم البناءات التي بناها أحمد هذا قد هدمت، وأن جامع كتشاوة قد حول إلى كنيسة، وأن الفرنسيين قد احتلوا السراية (القصر) الخ، فلم يتعرض ابن بريهمات إلى أي شيء من ذلك رغم أنه شاهد هدم بعضها في طفولته، وهي عندئذ ما تزال قائمة، وعندما تحدث عن ابنه (حسن بن أحمد) قال إنه من حفظة القرآن ومن تلاميذ مصطفى الحرار (صهر ابن بريهمات). وقد عينته فرنسا سنة 1845 محافظا لخزانة المكتبة الرسمية (السلطانية، كما سماها). وفي 1858 عينته فرنسا أيضا إمامأ للمدرسة (الكوليج) العربية ليؤم التلاميذ المسلمين، وقد جمع بين الوظيفتين، وظل كذلك إلى وفاته سنة 1867 (¬2). أما الشخص الثاني الذي أبنه وأطال، فهو محمد بن الحاج حمو، أحد العلماء، ويهمنا من ذلك أن ابن بريهمات يمر على الأحداث التاريخية الحساسة فلا يعلق عليها بشيء، ذلك أن الشيخ محمد بن الحاج حمو كان ¬

_ (¬1) المبشر، عدد 12 مايو، 1865 ورسالة إبراهيم الونيسي. (¬2) المبشر 21 فبراير، 1867.

من مليانة، وكان قد التحق بالأمير عبد القادر وشارك في المقاومة الوطنية، وكان كغيره ممن تبدلت عليهم الأحوال وعاشوا الأهوال حتى أصبح هاربا بأسرته لا يلوي على شيء، وقد صادرت السلطات الفرنسية أملاكه فأصبح بدون مأوى ولا قرار، وبعد ذلك توسط بسليمان بن صيام أحد أعيان مليانة الذين سبقوه إلى الانضمام للفرنسيين فردوا له أملاكه وعينوه قاضيا وخطيبا، وقد انصب تأبين ابن بريهمات على هذا الجانب فقط، وكان ينمق كلماته ويسجع جمله (¬1). أعجب ابن بريهمات بمظاهر الحضارة الفرنسية وخالط أهلها، ولا ندري ما إذا كان قد ترك كتابا أو رسالة يحلل فيها إعجابه بذلك ويبرره على ضوء الدين الإسلامي والعادات المتفشية. إن كل ما وجدناه له هذه الكلمات التي يكتبها في مناسبات معينة، وفيها يشير إلى بعض تلك المظاهر الحضارية، سيما العلم والمنشآت، أما الحياة المادية الأخرى فلا نجد له أثرا في وصفها، وكان وجوده في القضاء وفي أعلى سلطة قضائية كالمجلس الفقهي والمجلس الشرعي يدل على احتفاظ الفرنسيين به هناك لانسجامه مع أفكارهم ولكونهم لاحظوا، كما قال كريستلو وكما لاحظ الضابط الذي اقترحه، أنه يحاول التوفيق بين الالتزامات الدينية ومتطلبات الحياة المادية التي يفرضها الفرنسيون، وقد وصفه تلاميذه وعارفوه بأنه كان يحسن التكلم باللغة الفرنسية (خطابا وجوابا)، ومدحه الحفناوي بأنه كانت (له خبرة بمجريات الأحوال) (¬2). وهو يقصد بذلك السياسة وشؤون الحكم والعلاقات الاجتماعية. ونعرف من عدة مصادر أنه أعجب بكتاب (أقوم المسالك في أحوال الممالك) لخير الدين باشا التونسي، وقد طبع هذا الكتاب أيام أن كان ابن بريهمات في أوج سمعته ونشاطه، ونشرت المبشر (أقوم المسالك) على ¬

_ (¬1) المبشر 31 ديسمبر 1868، عن ابن صيام انظر فصل الرحلات، وكذلك رسالة إبراهيم الونيسي، وعن القاضي محمد بن الحاج حمو انظر سابقا. (¬2) (تعريف الخلف). 2/ 120.

حلقات فاطلع عليه قراء العربية في الجزائر، لأنه كان يتماشى مع الدعوة التي تدعو إليها فرنسا، وهو الإشادة بتقدم أوربا وعلومها، وتدل القطعة الشعرية التي نظمها ابن بريهمات في أقوم المسالك ومؤلفه على أنه من أنصار الفكرة نفسها التي دعا إليها خير الدين، وفيها يقول (¬1): لله درك خير الدين من علم ... أبدى منار الهدى للناس في القنن نهجت نهجا قويما قل سالكه ... إلى السياسة كي ينجو من الفتن بينت طرق السداد بل وأقومها .. وقمت منتصرا للدين والوطن حق على أمة الإسلام شكركم ... ورعي تأليفكم بالقلب والأذن فهو يعتبر (أقوم المسالك) انتصارا للدين والوطن ومن واجب المسلمين العمل به والاستفادة منه (¬2). ولا ندري السبب الذي حمل حسن بن بريهمات على زيارة تونس سنة 1286 هـ (1869). وهل كانت زيارة رسمية أو خاصة، والغالب أنها كانت الأولى، لأنه كان عندئذ متوليا للمجلس الفقهي، ولعل الزيارة تدخل في التنسيق بين هذه المسؤولية وما كان يجري في تونس في مثلها، وقد تلقاه عندئذ علماء وأدباء تونس بالترحيب، ومدحه أثناءها الشيخ محمد السنوسي بقطعة شعرية، منها قوله: فيه السياسة قد حازت رياستها ... تلقاه منبسطا كالطير حين رنا (¬3) ولم يكن نشاط ابن بريهمات هو هذه المسؤوليات الرسمية والتعليم والشؤون القضائية فقط، بل إنه كان أديبا وشاعرا أيضا، وكان يكتب في الصحيفة العربية الوحيدة (المبشر). وهي صحيفة رسمية لا مجال فيها ¬

_ (¬1) القطعة بتاريخ 1284 هـ (1867). (¬2) نفس الرأي نجده أيضا عند الأمير عبد القادر حين أشاد بكتاب (أقوم المسالك). انظر دراستنا عن ذلك في (أبحاث وآراء في تاريخ الجزائر) ج 4. (¬3) مخطوط المكتبة الوطنية - تونس، كناش السنوسي رقم 16631، والقطعة هي رقم 3 في الكناش.

للعواطف والأدبيات والإخوانيات، وكان العصر أيضا عصر تصوف وطرق صوفية، وكان الانتماء إلى إحدى هذه الطرق أو أكثر هو الظاهرة الغالبة على العلماء والفقهاء أيضا، فالأمر لم يكن قاصرا على الأشراف والمرابطين والمقدمين والدراويش، فما طريقة حسن بن بريهمات إن كانت له طريقة؟ لقد ذكر الطريقة الرحمانية عدة مرات بالنسبة لمن أبنهم، ونفهم أن شيخه وصهره مصطفى الحرار كان من أتباع الرحمانية، ويضيف لويس رين الذي درس الطرق الصوفية ورجالها المعاصرين أن ابن بريهمات كان قادري الطريقة، قائلا إنه قد أخذ معلومات شفوية عن القادرية منه وأنه كان أحد أتباعها (¬1). هذه الشخصية المتحركة في مجالات الأدب والسياسة والعلم والقضاء في الجزائر خلال النصف الثاني من القرن الماضي، من أي مدرسة تخرجت وعلى أي شيوخ درست؟ إن الوثائق لا تتحدث عن الكثير من ذلك، ونكاد نقول إن حسن بن بريهمات قد ثقف نفسه بنفسه، فالمدرسة الفرنسية الأولى وجدته ابن خمس عشرة سنة تقريبا، وفي تلك السن كان قد حفظ القرآن الكريم وسار على عادة الحضر في العاصمة من حفظ المتون والأشعار وقواعد الدين، وكان والده من أهل الكتابة الإدارية - الديوانية، وقد تكون له مكتبة ووثائق يطالع فيها هذا الابن الذكي جدا، ومنذ 1834 أسس الفرنسيون مدرسة حضرية حاولوا أن يجلبوا بها بعض أبناء الحضر، ولكن التقارير تقول إنها بقيت فارغة، ثم أنشأوا المدرسة العربية - الفرنسية سنة 1836، ويكون ابن بريهمات قد دخلها بعض الوقت، ولم تكن تشترط سنا معينة، وربما لم تطل إقامته بها لأنها ظلت تتعثر ومعظم الحضر قاطعوها، ولذلك يبقى السؤال: كيف تثقف هذا الفتى وعلى يد من؟. إن كبار المدرسين في العهد الذي يصادف سن طلب العلم عند حسن ابن بريهمات هم محمد بن الشاهد، ومصطفى الكبابطي، وعلي ¬

_ (¬1) لويس رين (مرابطون وإخوان)، ص 173، هامش 3.

المانجلاتي وعلي بن الأمين، وأحمد بن الكاهية، ومصطفى الحرار، الخ، وقد بقي بعضهم إلى سنة 1843 مثل الكبابطي، و 1845 مثل الحرار (¬1). ولكننا لا ندري على من درس ابن بريهمات غير صهره الحرار، فهذا الشيخ هو الذي ذكر في إجازته له أنه لازمه عدة سنين ودرس عليه العلوم العقلية والنقلية ربما في جامع صفر الذي كان مدرسا به، وقد مدحه بأنه فاق أقرانه فيها، ولذلك أجازه في تلك العلوم إجازة مطلقة وعامة، وبالإضافة إلى ذلك أجازه الحرار بما أجازه به الشيخ محمد صالح الرضوي البخاري، وهو المصافحة وسند الحديث، وبذلك تكون معلومات حسن بن بريهمات ضيقة جدا إذا نظرنا إليها من هذا الجانب، ومع ذلك يصفه الحفناوي بأن له (اليد الطولى في الآداب العربية والعلوم الدينية ... وعلم عجيب بالتاريخ وطبقات الأدباء)، وقد عرفنا أن زمن ملازمته لشيخه وصهره الحرار هو فترة الأربعينات (فترة حكم بوجو) تقريبا، عندما كان هو في العشرينات من عمره، ولم يكن الجو العلمي عندئذ صافيا ولا هنيئا، فالعديد من المدارس والزوايا والمساجد قد هدمت أو أغلقت أو عطلت، ومات بعض العلماء المذكورين وهاجر آخرون، ومع ذلك فقد برز الشاب حسن بن بريهمات من هذا الرماد كالطائر الأسطوري ليملأ الفراغ ويكون المبشر بجيل جديد. لم يشتهر حسن بن بريهمات بأنه كان من (المدرسين) التقليديين في المساجد، لقد مارس القضاء وإدارة المدرسة وعضوية اللجان ونحو ذلك، ولكنه لم يجلس لبث المعارف والعلوم في المسجد ونحوه، ولا نعرف ما المادة التي كان يدرسها أثناء إدارته للمدرسة، ولعلها مادة الفقه، ما دام تخصصه العملي تقريبا هو الأحكام الشرعية. وقد علمنا أن (تلاميذه) كانوا يزورونه من وقت إلى آخر، كما كان يستضيفهم في المناسبات. ومن تلاميذه الذين نوهوا به هو أبو القاسم الحفناوي صاحب (تعريف الخلف). فقد قال ¬

_ (¬1) تاريخ إجازة الحرار له هو سنة 1272 هـ (1855) وكان الرضوي قد زار الجزائر سنة 1261، انظر (الإجازات) في العلوم الدينية، من العلماء الذين كانوا أحياء عند الإجازة: محمد واعزيز، وحمودة المقايسي، ومصطفى الكبابطي الخ.

الحفناوي: إنه أول من ضمه إليه وعرفه بالجزائر وما فيها من خبيث وطيب، ونفهم من كلام الحفناوي أنه قد دخل (المدرسة الدولية) (أي الشرعية - الفرنسية)، أيام إدارة ابن بريهمات لها وهي التي أصبحت تسمى الثعالبية فيما بعد، وقد أضاف الحفناوي أنه قد تخرج على يديه عدد من العلماء والقضاة، وذكر منهم يحيى بن محمد الجرومي (القرومي) (¬1). من المعاصرين لحسن بن بريهمات في مجال القضاء نجد المكي بن باديس في قسنطينة، وكانت لكل منهما شخصيته وتكوينه، وقد عقد السيد كريستلو الذي تخصص في القضاء الإسلامي وشخصياته بالجزائر خلال القرن الماضي، مقارنة بين الرجلين، ومن رأيه أن الذي تشدد حقا بالنسبة للقضاء وكان من المجددين فيه والأكثر شعبية وشهرة هو المكي بن باديس (وهو الجد الأعلى للشيخ عبد الحميد). فبينما كان ابن بريهمات يحتج أيام الفرنسيين بأن الإسلام ليس متخلفا نجد ابن باديس يقوم بالدفاع عن الإسلام وتفوقه، وكان يدافع عن ذلك بقوة، ويرى كريستلو أن ابن بريهمات استعار المبادئ، أما ابن باديس فقد استعار المنهج ولكنه بقي إسلاميا - أصوليا، وكلاهما له رؤية متماسكة من كيفية التحدي الأوربي، وهذا هو ما جعل كليهما متكلما فعالا باسم المسلمين، وكلاهما خرج من مركز حضاري عريق عرف بالثروة والتقاليد الثابتة، وكلاهما كان يحسن الفرنسية وحصل على وسيلة التجديد الثقافي الضرورية في العالم العربي خلال القرن 19، لكن هذا التجديد في الجزائر كان من أجل التعبير السياسي (¬2). أنجب حسن بن بريهمات ثلاثة أبناء هم: إبراهيم وأحمد وعمر، وكلهم ساروا على نهجه في الازدواج الثقافي والتعامل مع الإدارة الفرنسية، ¬

_ (¬1) كان الجرومي عندئذ (1906) قاضيا في تيزي وزو، وكان يحسن الفرنسية (تعريف الخلف) 2/ 119، وقرومة تقع قرب الأخضرية، ولاية العاصمة عندئذ، وكانت شهيرة بعلمائها في العهد العثماني. (¬2) كريستلو (المحاكم) مرجع سابق، ص 114. توفي حسن بن بريهمات سنة 1301، انظر عنه أيضا المدني (كتاب الجزائر). ص 91.

ولكن مصائرهم كانت مختلفة، وكان أكثرهم ثقافة وصلة بوالده هو عمر. أما إبراهيم فقد ولد في 27 غشت 1848، وكانت حياته قصيرة لحادث حدث له أدى إلى وفاته وهو في الخامسة والعشرين من عمره، ولا ندري التعليم الذي مكنه منه والده في البداية، ولكننا نتصور أنه حفظ القرآن في المدرسة العربية/ الفرنسية الوحيدة في العاصمة عندئذ، ونعلم أن إبراهيم كان من أوائل الداخلين للكوليج العربي في الجزائر منذ إنشائه سنة 1857، وكان عمره عندئذ عشر سنوات، وبقي في الدراسة تسع سنوات، ولفت انتباه أساتذته الفرنسيين بتنوع معارفه وتقدم أفكاره وذكائه، ومن شيوخه فيها المستشرق شيربونو، ثم ذهب إلى فرنسا والتحق بثانوية (كلوني) ودرس فيها الأدب الفرنسي والتاريخ والجغرافية، الخ .. ويبدو أنه لم ينسجم فيها لظروف عزاها المترجم فيرو إلى قسوة الشتاء على صحته، فرجع إلى الجزائر، وشارك في امتحان الترجمة فنجح فيه كمترجم عسكري احتياطي، وباشر عمله ثماني سنوات بهذه الوظيفة في أم السنام (الأصنام). ولكنه سقط ذات يوم عن ظهر الحصان فمات، يناير 1868 (¬1). والابن الثاني له هو أحمد الذي تخرج أيضا مترجما عسكريا، وطالت مدته، وترك بعض الآثار سندرسها في الفصل المخصص للترجمة والمترجمين، ونعلم أنه نشر بالتعاون مع لويس رين سنة 1895 تأليفا (قاموسا؟) يخدم اللغة الفرنسية وعنوانه (اللسان يكمل الإنسان). كما نشر القسم الأول من رحلة العياشي، سنة 1880 في إحدى الدوريات، ولعله هو العمل نفسه الذي نشر سنة 1899 أيضا، ويبدو أن أحمد بريهمات كان قويا في اللغتين، ولكنه وظف جهده لخدمة الفرنسية وليس العربية (¬2). ¬

_ (¬1) شارل فيرو (المترجمون العسكريون) مرجع سابق، ص 321 - 323. يذكر فيرو أن هناك ابنا آخر لحسن بن بريهمات، لم يذكر اسمه، كان متوليا شؤون الفلاحة وكان عضوا في استشارية المجلس العام بولاية الجزائر Cons.General فهو موظف آخر من العائلة في الإدارة الفرنسية العليا. (¬2) انظر فصل الترجمة.

أما الابن الثالث والقريب من سيرة والده، فهو عمر بريهمات، وقد ولد حوالي 1861 وتثقف كوالده ثقافة مزدوجة، ولكننا لا نعلم الآن أين تلقاها، هل في المدارس الشرعية الفرنسية بعد تنظيمها سنة 1876 أو في المدارس العربية/ الفرنسية الأخرى، والذي نرجح الآن هو الاحتمال الأول، وكان عمر أكثر إخوته إنتاجا في ميدان التأليف، وقد أصبح مدرسا بالمدرسة الثعالبية، وتخرج على يديه بعض التلاميذ، وكان معاصرا فيها للشيخين المعروفين: المجاوي، وابن سماية، ولكن الموت أدركه ولما يبلغ الخمسين من عمره، وذلك سنة 1909، وقد حصل على وسام التعليم ونيشان الافتخار (¬1). ظهر عمر بن بريهمات على الأقل في مناسبتين، الأولى سنة 1896 حين أنشد قصيدة في استقبال الوزير كومبس عند زيارته مدرسة الجزائر التي كان عمر يدرس بها، والثانية نشر تأليفه في القانون الفرنسي ومقارنته بالفقه الإسلامي، سنة 1908، كانت زيارة وزير التعليم (كومبس) قد تصادفت مع إصلاح المدارس الشرعية الفرنسية سنة 1895، وفي حفل أقيم بهذه المناسبة وزعت فيه الأوسمة على مجموعة من المدرسين، منهم عمر بريهمات نفسه (وسام التعليم - الاكاديمية)، قام عمر وألقى قصيدة شكر فيها فرنسا والحاكم العام (كامبون)، والوزير (كومبس)، وهي من الناحية الأدبية فقط تدل على أن الشاعر كان له استعداد كبير لو وجد الجو المناسب، وقد جاء فيها: قطر الجزائر قم صافح موافيكا ... من أمة هي خير من يصافيكا واصدح لهم ولها (¬2) بالشكر إذ جلبت ... إليك كل نفيس لم يكن فيكا وطالما كنت قبل الفتح مضطربا ... والسفك يسطو على أجيال ثاويكا أعيان قوم هم (الإفرنج) أصلا وإن ... قلت الفرنسيس بالأرواح أفديكا (¬3) ¬

_ (¬1) خصصت له (كوكب افريقية) مقالة طويلة، 26 فبراير 1909، ترجمتها عنها ملخصة (مجلة العالم الإسلامي) R.M.M، ابريل، 1909، ص 443 - 444. (¬2) (لها) الضمير يرجع على الأمة الفرنسية المذكورة قبل ذلك. (¬3) المبشر في 18 ابريل 1896، والقصيدة كاملة، فيها 23 بيتا، وقد أطلق على =

قضية تدوين الفقه الإسلامي

أما الكتاب الذي سماه (النهج السوي في الفقه الفرنسوي) فسنعرض إليه في جزء آخر. ومن عائلة بريهمات أيضا زروق ابن أحمد، حفيد حسن بريهمات. ولد أيضا بالعاصمة. ودرس الطب وتخرج منه بدرجة الدكتوراه. وكان مزدوج الثقافة أيضا. ولا ندري إذا كان فكره مثل فكر عمه عمر أو كان يختلف عنه. وكان زروق قد نشر عدة مقالات في (كوكب إفريقية) 1908، حول علم الصحة، وهي موجهة إلى الجزائريين. وكان زروق عضوا في الجمعية الرشيدية. وقالت عنه مجلة العالم الإسلامي إنه كان يتبع تقاليد أسرته (¬1). قضية تدوين الفقه الإسلامي اهتم علماء المسلمين منذ القديم بتقريب المذاهب الفقهية من بعضها البعض، وتدوين الأحكام العامة والآراء التي توصلوا إليها خلال عملهم في القضاء ونحوه، وعندنا ما سجله المازوني في (الدرر المكنونة)، والونشريسي في (المعيار)، والفكون في مجموعة فتاويه غير المطبوعة، وقد قام ابن العنابي بوضع كتاب سماه (صيانة الرياسة) جمع فيه ما تتفق فيه المذاهب الأربعة ليعمل به القضاة وتقل المنازعات بين الناس. وكان المختصر للشيخ خليل بن إسحاق هو عمدة المذهب المالكي في الجزائر في العقود المتأخرة، وهو متن مركز وعليه شروح عديدة أشهرها شرح الخرشي، وقد عرفنا أن تدريس متن خليل وشروحه قد شاعت في القرن الثاني عشر للهجرة في زواوة أكثر من غيرها بعد أن أدخله إليها الشيخ ¬

_ = الاحتلال اسم (الفتح) وذكر أن الجزائريين كانوا يسفكون دماء بعضهم بعضا قبل الاحتلال، وهي المقولة التي ملأ الفرنسيون بها عقول تلاميذهم الجزائريين حتى انطلت عليهم المؤامرة، وصدق الذين قاطعوا المدرسة الفرنسية ما دامت لا تخرج إلا هذا النوع من التفكير المسموم. (¬1) انظر مجلة العالم الإسلامي، ابريل 1909، ص 444، وعن الجمعيات انظر فصل المنشآت الثقافية.

الحسين بن أعراب، ولكن مذهب الإمام مالك كانت له متونه وشروحه قبل ذلك، ومن أشهرها تحفة الحكام لابن عاصم، والمدونة لسحنون، والمختصر لابن الحاجب، والرسا لة للقيرواني. ومنذ الاحتلال الفرنسي للجزائر أبقت الإدارة الفرنسية على هذه المصادر الفقهية، وأبقت القضاء الإسلامي على ما هو عليه في المرحلة الأولى، أي خلال العشرية 1830 - 1840، بينما نشأت محاكم فرنسية عسكرية ومدنية موازية، أخذت تنتزع بالتدرج صلاحيات المحاكم الإسلامية، إلى أن لم يبق للمحاكم الأخيرة سوى قضية النكاح والطلاق، وخلال ذلك قام علماء الفرنسيين بالاطلاع على مصادر الفقه الإسلامي، وترجموا نصوصها إلى الفرنسية، وكان على رأسها متن الشيخ خليل (المختصر). وكان المستشرقون يساعدون رجال الحكم على التعرف على المصادر الكبرى للتشريع الإسلامي بالترجمة الكاملة أو الجزئية، والتعريف بأكابر فقهاء المسلمين وارائهم. وكانت المدارس الشرعية - الفرنسية الثلاث التي أنشأتها الإدارة الفرنسية بالجزائر تهتم بالفقه بالدرجة الأولى، لأن مهمتها هي تخريج القضاة المسلمين الذين تحتاجهم الإدارة، ولكن هذه الدراسات لم تكن قوية متجددة مع الزمن، ولها مدرستها الفكرية ومجتهدوها، وإنما كانت تعتمد على مختصرات المؤلفات التي ذكرناها، وعلى تقليدها دون تعمق في محتواها ولا في لغتها، وخلال ذلك كانت الجزائر تفقد بقية علمائها دون أن تعوضهم بأمثالهم أو بمن هو أفضل منهم، إلى أن تجمدت الدراسات الفقهية وأصبحت عبارة عن اجترار القواعد دون فهمها وتطبيقها، وكانت الإدارة الفرنسية تتفادى توظيف العلماء الجزائريين الذين لم يتخرجوا من مدارسها الثلاث المذكورة خشية أن يكونوا حاملين معهم بذور التشويش الديني والسياسي، ولا سيما أولئك الذين درسوا في المعاهد الإسلامية خارج الجزائر، فكان معظم هؤلاء لا يرجعون إلى وطنهم لوجود الفرنسيين فيه ولعدم إمكانية التوظف، فإذا أضيف إلى ذلك غزو القضاء الفرنسي للفقه

الإسلامي في المحاكم، والغزو الثقافي العام، أدركنا إلى أي مدى تخلفت الدراسات الفقهية في الجزائر بحلول القرن الحالي. وقد كان في إمكان الإدارة الفرنسية السعي إلى تدوين الفقه الإسلامي وأحكامه في وقت مبكر، أي قبل الاعتداء على الشريعة الإسلامية وانتزاع كل أنواع المعاملات والجنايات من أيدي القضاة المسلمين، وكانت الدولة العثمانية فعلت ذلك خلال القرن الماضي، وكذلك تونس (¬1) ومصر، دون ضجة كبيرة ودون أن تتأثر مسيرة تطبيق القوانين الشرعية، ولكن الفرنسيين لم يشرعوا في العمل على تدوين الفقه الإسلامي إلا حوالي 1904 - 1905، أي حين قرروا فصل الدين عن الدولة في بلادهم وحين لم يبق للقضاة المسلمين غير صلاحية الحكم في النكاح والطلاق، وقد صدقت (مجلة العالم الإسلامي) (¬2) حين انتقدت بشدة هذه الخطوة التي جاءت متأخرة، بل جاءت بعد سلسلة من الإجراءات التي تهدف إلى مسخ الإسلام في الجزائر وجعله (إسلاما فرنسيا) على مقاس المستوطين والحكام، وقد ثبت أن نية علماء الاستعمار الفرنسي لم تكن تقريب المذاهب الإسلامية وتفادي الخلافات وإنما كانت نيتهم هي دمج ما بقي من اختصاص المحاكم الإسلامية في القانون الفرنسي، ونحن نعلم أنه في هذه الفترة كثر الحديث عن الزواج المختلط والدمج الحضاري عن طريقه وعن طريق المدرسة والتشريعات، ويظهر أن فكرة تدوين الفقه غير جديدة، فقد نوقشت منذ 1865، ثم في أوقات مختلفة بعد ذلك، ولكن المكي بن باديس قد استبعدها (¬3). ¬

_ (¬1) عن تدوين الفقه التجاري والجنائي في تونس انظر مجلة العالم الإسلامي، ابريل، 1911 ص 170 - 178، ويرجع تاريخ المحاولة إلى 1896، وقد ابتدأت لجنة التدوين في تونس بالأحكام المذكورة، اما الأحوال الشخصية والملكية العقارية فقد أجلتها إلى 1910. (¬2) R.M.M، سبتمبر 1910، ص 79 - 80. (¬3) إيميل عمار (مشروع تدوين الشريعة الإسلامية) في (مجلة العالم الإسلامي) R.M.M، أكتوبر 1908، ص 362، عن محاضرة ألقاها أرنست رينان E.Renan في السوربون =

ومنذ 1883 حث أرنست رينان فرنسا أن تأخذ بيد الشعوب الإسلامية نحو التحرر العقلي، وأن تعين مسلمي الجزائر على أن يكونوا على الأقل في مستوى إخوالمهم في الدين في البلدان الأخرى، وهو يعني هنا مصر وتونس والدولة العثمانية، حيث يتقدم الإسلام في المدارس اللائكية، كما قال، وقد قال عن الإسلام بأنه (يمثل الاتحاد بين عالمي الدنيا والآخرة، المادي والروحي، وأنه تحكيم للعقيدة، وأنه السلسلة الأكثر ثقلا والتي لم تحمل الإنسانية مثلها) (¬1). ويقول إيميل عمار: إن القرآن كتاب غير مترابط ولكنه مثير للإعجاب في نفس الوقت، وقد ظهرت أثناء ذلك دراسات عديدة عن الطرق الصوفية في العالم الإسلامي والجزائر، وعن (الإسلام الجزائري) كما سماه ادمون دوتيه، وعن الحركات الإسلامية وأثرها على الرأي العام في الجزائر، ولذلك فإن الحديث عن تدوين الفقه الإسلامي في فاتح هذا القرن لم يكن معزولا عما ذكرنا من الآراء المنتقدة للإسلام. ثم اهتم نواب الكولون في المجلس المالي بفكرة التدوين ظنا منهم أن الشريعة تقف حجر عثرة في وجه المعاملات ولا سيما مسألة الأرض، واهتم بالتدوين المستشرقون الذين تولوا المحاكم وأشرفوا على المدارس الثلاث ومدرسة (كلية) الحقوق وإدارة الشؤون الأهلية، وكان بعضهم يؤمن بأن تدوين الفقه سيفتح المجال امام عقلنة الشريعة وجعلها تواكب العصر وحاجات فرنسا في المغرب العربي وإفريقية، وعلى رأس هؤلاء أوكتاف هوداس مفتش تعليم المدارس الثلاث، وتدخل أيضا روبير ايستوبلان Estoublon الذي عمل في تونس والجزائر، والذي درس الشريعة الإسلامية، فنصح الحاكم العام جونار بأن تستعين فرنسا بعلماء المغرب وتونس، مما يدل على أنه لا يثق في كفاءة العلماء المتخرجين من المدارس الثلاث، ولكن ¬

_ = بعنوان (الإسلام والعلم)، يوم 29 مارس 1883. (¬1) كريستلو، (المحاكم)، ص 253.

ايميل لارشي أحد القضاة الفرنسيين عارض تدوين الفقه لأنه رأى فيه خطوة نحو التعريب (¬1). أما الجزائريون فقد انقسموا انقساما واضحا حول هذه المسألة، وظهرت آراء مفصلة وأخرى مجملة، وكان بعضها يتجه نحو فكرة التقدم وتسهيل التجنس والعلمانية، وبعضها كان يتجه إلى التخلص من الاختلافات الفقهية التي لا طائل من ورائها والتخلص من الاستئنافات في المحاكم، وهناك من عارض التدوين أصلا وتمسك بالفقه كما هو إما خوفا على مصير الشريعة من الذوبان في القانون الفرنسي تماما، بما في ذلك الأحوال الشخصية، وإما محافظة فقط على التقاليد، فقد أعلن هني بن السائح، وكان قاضيا، أن التدوين سيكون مضيعة للوقت، ومع ذلك عين في لجنة التدوين، ورأى علاوة بن الساسي - أحد القضاة المشتركين في مؤامرة 1881 - أن التدوين خطوة تستحق المدح لأنه يستجيب لشروط التقدم، ووقف محيي الدين بن خدة مثله، وهو أحد قضاة المدية، ونادى بالتدوين القائم على القرآن والسنة والمذاهب الأربعة والمصالح والأعراف، وشاركهم يحيى غرامو، قاضي تيزي وزو حيث كان قضاة الصلح الفرنسيون يستعملون العرف فقط، فطالب بالتدوين وتطبيقه على كل الجزائريين بقطع النظر عن المذاهب والأعراف (¬2). كان محرك هذا المشروع هو دومينيك لوسياني الذي عمل طويلا كمدير للشؤون الأهلية (إدارة شؤون الجزائريين) في الحكومة العامة، والذي أصبح منذ 1904 مستشارا لدى هذه الحكومة في نفس الموضوع، ونحن نفهم من ذلك أن مسألة تدوين الفقه الإسلامي عندئذ كانت من إيحائه هو بل من أعماله الصريحة، وقد قيل أيضا إن نواب الكولون في المجلس المالي قد وافقوا على ذلك، وقيل إن الهدف من هذا المشروع ليس فائدة الأوربيين ¬

_ (¬1) نفس المصدر، ص 244. (¬2) نفس المصدر، ص 224. وهو رأي أزعج دعاة فصل زواوة عن بقية القطر بتحكيم العرف فيها وليس الشريعة الإسلامية.

(الفرنسيين) ولكن فائدة الأهالي، رغم أن القضاة الفرنسيين سينسقون أحكامهم معه ويجدون فيه ما يساعد أحكامهم، وقد جعل للمشروع عنوان وهو (تدوين الحيثيات والخصوصيات في الشريعة الإسلامية المطبقة على المسلمين في الجزائر). وكلف الأستاذ مارسيل موران M.Morand وهو عندئذ عميد مدرسة الحقوق (كلية فيما بعد) بالجزائر، بإعداد المشروع، ولكن لوسياني هو روح اللجنة التي أنشئت لهذا الغرض (¬1). وتألفت اللجنة سنة 1906 من ستة عشر عضوا فرنسيا وخمسة جزائريين فقط، وكان رئيسها هو الأستاذ مارسيل موران، وهذه هي أسماء الجزائريين: علي محيي الدين ومحمد الشريف بن علي الشريف، كلاهما كان نائبا في المجلس المالي، وهني بن السائح، وكان قاضيا ونائبا في المجلس المذكور أيضا، ثم عبد الرزاق الأشرف الذي كان متوليا للقضاء في نقاوس أو بسكرة، وعبد القادر المجاوي الأستاذ الشهير بالقسم العالي بمدرسة الجزائر الشرعية، وكان الأشرف هو الذي يترجم عليه، وفي سنة 1907 أضيف إلى اللجنة عضو سادس وهو مصطفى بن أحمد الشرشالي أحد القضاة السابقين، وكان عندئذ مدرسا للفقه في مدرسة الجزائر الشرعية، وقد قال السيد كريستلو إن مناقشات هذه اللجنة كانت تشبه مناقشات لجنة قاستنبيد سنة 1865، إذ دار نقاش طويل حول رؤية الخاطب لمخطوبته، وهل تظهر المرأة سافرة أو متحجبة، وهل كل المخطوبات سواء أو هناك فرق بين المرأة ذات الجاه والاعتبار والمرأة ذات المستوى الاجتماعي العادي، وتبين لبعض الملاحظين أن مسألة المرأة كانت طبقية بالدرجة الأولى وتمر بالمخططات السياسية والاقتصادية (¬2). وقد استفتت اللجنة المسلمين بطريقة سمتها مشاورة، فتحمس البعض للمشروع ورفضه آخرون، وأعلنت إحصاءات القابلين والرافضين، فكانت كما يلي: من بين 224 شخصا وافق على التدوين 132، أما الذين رفضوه ¬

_ (¬1) من بين أعضاء اللجنة المستشرق هوداس، والأستاذ ايستو بلان. (¬2) كريستلو (المحاكم). ص 255. انظر أيضا ماسينيون (الحولية). 1954، ص 253.

فهم 92. أي أن هناك أغلبية لصالح التدوين، ولكن المعارضة كانت أيضا قوية، ونعتقد أن الذين استشيروا هم النخبة والقضاة ورجال الدين. أما بالنسبة للقضاة المسلمين فقد تضاربت الآراء، فقد أعلن تسعة من بين ستة عشر من رؤساء المحاكم أنهم ضد التدوين، كما أعلن 45 قاضيا أنهم ضده بينما وافق عليه 42 من بين 87 قاضيا جرت استشارتهم، هذا عن القضاة المسلمين، أما القضاة الفرنسيون (قضاة الصلح) فقد رجحوا الكفة لصالح التدوين، إذ عبر 73 منهم عن الموافقة بينما لم يرفضه إلا 32 منهم، ومن بين القضاة المسلمين الذين أيدوا المشروع قاضي نقاوس الذي لم يذكر بالاسم وإنما فهمنا نحن أنه هو عبد الرزاق الأشرف، لأنه هو الذي عين هناك عندئذ، وذكر تقرير لوسياني أن هذا القاضي (الأشرف) قد حث على قبول المشروع معتبرا إياه شرفا لفرنسا، لأن مصر وتركيا قد دونتا الفقه أيضا. أما من غير القضاة فقد أيد المشروع أيضا أبو بكر عبد السلام، وكان هذا قد ولى القضاء بعض الوقت في عمي موسى، بصفته عدلا فقط، قبل أن يصبح مدرسا في مدرسة تلمسان الشرعية - الفرنسية، ويكتسي رأيه طابعا خاصا لأنه هو ابن شعيب بن علي، قاضي تلمسان منذ 1869، وكان شعيب عندئذ ما يزال حيا ومؤثرا ومن ثمة نعتبر رأي الابن هو رأي الأب أيضا، سيما وقد عرفنا أنه رباه ليكون خليفة له، رغم أن هذه القاعدة ليست دائما ثابتة، كتب السيد أبو بكر مقالة بالفرنسية عنوانها (تدوين الفقه الإسلامي) ذكر فيها أن هناك عدة انتقادات لمشروع التدوين، ولكنه يقف إلى جانبه، وقد تعرض في مقاله إلى أصول الشريعة وهي القرآن والسنة والإجماع والقياس والاجتهاد، وأطال في عرضه، وتحدث عن المذاهب الأربعة وأسباب ظهورها، وهو هنا يخاطب الفرنسيين وليس الجزائريين، واستعرض معلومات معروفة بالضرورة حتى لدى الفرنسيين المتخصصين في الموضوع، وأخيرا رفض أبو بكر أطروحة الناقدين الرافضين للتدوين وأيد اللجنة في مشروعها، معتبرا التدوين تجديدا ممتازا ... فإذا تحقق المشروع فإنه سيكون، في رأيه، مفيدا للقضاة الموظفين لحاجتهم إليه في التعامل مع

المسلمين، ولغير القضاة أيضا من الفقهاء الذين، لولاه، سيجدون أنفسهم مضطرين للتأويل والتفسير (¬1). أما الراقضون من غير الجزائريين فأبرزهم كاتب مجهول في مجلة العالم الإسلامي، ولعله هو رئيس تحريرها، المستشرق لوشاتلييه، فقد وصف المشروع باللقيط، والملفق من الفقه الإسلامي والقانون الفرنسي، وقاك إنه محاولة لأسلمة الجزائر من جديد بعد اضطهاد المؤسسات الإسلامية فيها خلال ما يقرب من ثمانين سنة، وقال أيضا: إن الإساءة للمسلمين قد تحققت فلا يجب الرجوع إلى الوراء، وكان يعرض بسياسة جونار في الجزائر عندما قال إننا نزعم أننا نقرب بين الحضارة المغزوة والحضارة الغازية، بدون اندماج، بينما نحتفظ بوضع الرعايا للمغزوين المسلمين، وقد أتينا من قبل على عبارته القوية حين قال: لقد اصطنعنا إسلاما فذا في العالم (في الجزائر). بدون أوقاف، وبمساجد إدارية، وأهل دين ورعين، وقضاة موظفين، وحج بالترخيص (¬2). ومهما كان الأمر فقد صدر تقريران، أحدهما لرئيس اللجنة الأستاذ موران، والثاني للوسياني، وانتهت اللجنة إلى صيغة التدوين في الأحوال الشخصية، ولا سيما الزواج (النكاح)، على أساس أن الموافقة قد تمت بشأنه، وقد قلنا إن هناك علاقة بين التدوين والزواج المختلط وكذلك قضية التجنس بالجنسية الفرنسية التي كان قانونها يشترط على المسلم التخلي عن الأحوال الشخصية قبل التمتع بها، ولا ندري ما إذا كان رفض الرافضين للتدوين يرجع إلى هذه العلاقة التي ذكرناها. أصدر الأستاذ موران (مجلة الأحكام الإسلامية) ودامت فترة قصيرة، وقد ضمت ما توصل إليه من نتائج في الفقه الإسلامي والقانون الفرنسي. ¬

_ (¬1) أبو بكر عبد السلام بن علي (تدوين الفقه الإسلامي) في مجلة العالم الإسلامي R.M.M، يوليو - عشت، 1909، ص 446 - 456. (¬2) نفس المصدر، سبتمبر، 1910، ص 79 - 80.

وأخذ القضاة الفرنسيون والمجالس الابتدائية يعملون بما جاء في هذه المجلة، وكذلك حاول بعض القضاة المسلمين تطبيق ما جاء فيها، ولكن المجلة لم تكن ملزمة بل كانت للاستشارة فقط، وبعد حين تبين أنها غير وافية بالأحكام الشرعية، وقيل إن موران خلط فيها بين عدة مذاهب، بالإضافة إلى المذهب المالكي، وتوالت الانتقادات عليها (¬1). ورغم عدم الاتفاق على مشروع تدوين الإرث والوقف، فإن موران قد ذكر له المراجع الأساسية أيضا - الفقه الإسلامي - ولكن لوحظ على هذا المشروع أنه خرج عن فقه الإمام مالك ومختصر خليل إلى فقه الإمام أبي حنيفة والإمام الشافعي، وكان على القاضي المسلم، وكذلك القضاة الفرنسيين، إذا طبقوا أحكام الشريعة، أن يواجهوا مشاكل في ذلك (¬2). أما المذهب الإباضي فالمعول عليه فيه هو كتاب (النيل) تأليف عبد العزيز الثميني وشرح محمد بن يوسف اطفيش عليه. وقد أرسل الشيخ نسخة من شرحه إلى لجنة تدوين الفقه لتهتدي به في المذهب. وظل الرأي العام غير مستقر في هذا الجانب خلال الحرب العالمية الأولى، ولما تولى موريس فيوليت الحكومة العامة خلال العشرينات أحس بشكوى المسلمين من تعسف الأحكام المبنية على مجلة الأستاذ موران، وكان فيوليت أكثر تأثرا من غيره لصوت الأهالي، فألف لجنة جديدة لدراسة الموضوع، وكانت كالسابقة تضم أصحاب الإدارة والقانون الفرنسي، كما ¬

_ (¬1) صدرت عدة نصوص ووثائق عن التدوين عندئذ، من ذلك ما نشرته الحكومة العامة - إدارة الشؤون الأهلية بعنوان (رأي رؤساء المحاكم ووكلاء الجمهورية وقضاة الصلح والقضاة المسلمين)، الجزائر، ط، فونتانة، 1905، 195 صفحة، وكذلك محاضر جلسات اللجنة سنة 1907، 241 صفحة، بهذا الصدد انظر أيضا بوضربة (أحمد؟) (القضاء الإسلامي المدني) في مطبوعة جمعية الدراسات السياسية والاجتماعية، 2 (1904)، ص 4 - 12، وهي جمعية كان يشرف عليها السيد اوميرا - شرفيا - وكاتبها هو بوضربة، وكان من المحامين. (¬2) مجلة العالم الإسلامي، R.M.M، 1911، ص 181.

تضم بعض القضاة والعلماء المسلمين الرسميين. ومن أعضائها الجزائريين: أحمد لعيمش ومصطفى الشرشالي وأبو القاسم الحفناوي ومحمود كحول ومحمد بن الحاج (بلحاج) وعبد الرحمن الصديق (¬1). وكان فيهم الإمام والمدرس والمحامي، ولكن هذه اللجنة كان حظها أقل نجاحا إذ لم يصدر عنها ما صدر عن الأولى من اجتهادات. والمعروف أن فيوليت قد عوض في الحكومة العامة بالسيد بيير بورد سنة 1927، وترك موضوع تدوين الفقه مطلقا. وأمام ذلك اقترح الشيخ محمد العابد الجلالي سنة 1927 هيئة إسلامية من العلماء المسلمين بدل اللجنة المذكورة، وقال إن ذلك يحرر الجزائريين من نظر الأجنبي في قضاياهم ودينهم ولغتهم وعاداتهم في منصب القضاء الإسلامي أو التشريع له، وهدف هذه الهيئة الإسلامية في نظره هو تقريب وجهات نظر المذاهب وتوحيد الأحكام في المسائل الخلافية، وهو اقتراح طموح وله أهداف سياسية بعيدة، وقد سبق لنا ذكر المحاولات التي قام بها ابن العنابي وغيره، ولكن اقتراح الشيخ الجلالي لم يلتفت إليه على ما نعلم، وكان ظهور جمعية العلماء المسلمين الجزائريين سنة 1931 قد أدى إلى تحقيق جزء من اقتراح للشيخ الجلالي، فقد أثر وجودها وفتاوى علمائها في حياة القضاة أيضا، ولكن هؤلاء بقوا مرتبطين بالوظيافة الرسمية والأحكام الدائرة في فلك المحاكم الفرنسية، وكان الشيخ الجلالي قد اقترح أيضا إنشاء معاهد علمية في الجزائر لتخريج الاكفاء من العلماء لإصدار الأحكام وإبداء الرأي في المسائل الفقهية الخلافية، وطالب بأن يكون ذلك من إنشاء الجماعات الإسلامية بدل ترك الموضوع للحكومة الفرنسية فقط (¬2). وارتباطا بهذا الموضوع، موضوع الأحكام الشرعية وتدوينها، ظهرت ¬

_ (¬1) المدني (كتاب الجزائر)، مرجع سابق، ص 319، عن أحمد لعيمش انظر سابقا، وأما الحفناوي وكلحول فقد تعرضنا إليهما في فصل آخر. (¬2) محمد العابد الجلالي (تقويم الأخلاق)، مرجع سابق، ص 16 - 18.

عدة دراسات أيضا حول المرأة والشريعة الإسلامية، فأصدر ميرسييه كتابا عن المرأة بعنوان: المرأة المسلمة في شمال إفريقية، وأصدر ليون ميو كتابا بعنوان المرأة المسلمة في المغرب (العربي). اهتم فيه بالشريعة والعرف ودور الحضارة الفرنسية إزاء المرأة (¬1). كما أصدر محمد بن مصطفى خوجة بحثه عن (الاكتراث بحقوق الإناث) في الشريعة الإسلامية، وظهرت دراسات عن المرأة في زواوة الخاضعة للعرف المحلي، وكذلك المرأة في جهات أخرى من القطر، وقد اهتمت السيدة بوجيجا بموضوع المرأة عموما في الجزائر ثم هرو والشريعة خاصة، وسندرس ذلك في مكانه، كما ظهرت عدة دراسات حول المحاكم الإسلامية وقواعد العمل فيها، منها دراسة السيد علي حسين (¬2). ورغم اللجان والضجة التي حصلت، فإن تدوين الفقه الإسلامي لم يحصل لأن الممارسات الحقيقية كانت للقانون الفرنسي، وكان على القضاة الجزائريين أن يعملوا على التخلص من هذه السيطرة التي تدخل في عملية الاندماج، وسيكون للحركة الوطنية الكلمة الفصل في ذلك، لأن تحرير القضاء هو جزء من تحرير الأرض. انتهى الجزء الرابع ويليه الجزء الخامس ¬

_ (¬1) مجلة العام الإسلامي، R.M.M، 1911، ص 182. (¬2) على حسين (المحاكم)، ط، 3، الجزائر، 1934 - بالفرنسية -.

المحتوى

_ الفصل الأول: الطرق الصوفية (1) .......... 5 مصطلحات وتعاريف ...................... 8 الطرق الصوفية والمقاومة الشعبية .......... 33 الطريقة القادرية ............................ 42 العمارية/ القادرية ........................... 80 الطريقة الشاذلية ............................ 64 الزروقية واليوسفية .......................... 77 الطريقة العيساوية ........................... 81 الحنصالية .................................. 86 الكرزازية (الأحمدية) والزيانية ................ 88 الطريقة الطيبية ............................. 94 الطريقة الشيخية ............................ 103 الطريقة الدرقاوية ............................ 112 الطريقة الهبرية .............................. 117 الطريقة المدنية .............................. 122 الطريقة العليوية ............................. 126 الطريقة الرحمانية ............................ 139 الفصل الثاني: الطرق الصوفية (2) .......... 189 الطريقة التجانية ............................. 191 أ. عموميات ................................. 191

_ ب. فرع عين ماضي .............................................. 205 ج. فرع تماسين وقمار ............................................. 219 تعاليم وأوراد التجانية وموقفها من فرنسا وتركيا سنة 1914 .......... 236 الطريقة السنوسية ................................................. 244 الطكوكية ......................................................... 266 البوعلية .......................................................... 274 الشابية ........................................................... 275 البكائية ........................................................... 277 المكاحلية (الرماة) ................................................. 280 الناصرية ......................................................... 281 طرق أخرى ....................................................... 281 تمويل الزوايا ...................................................... 284 إحصاءات الطرق والزوايا .......................................... 291 الطرق الصوفية والسياسة .......................................... 301 توظيف الطرق الصوفية وتدجينها .................................. 325 الفصل الثالث: السلك الديني والقضائي ............................. 343 مدخل ............................................................. 345 الهيئة الدينية ...................................................... 350 رجال الدين والسياسة .............................................. 379 تصنيف المساجد وموظفيها ........................................ 386 شؤون الحج ....................................................... 399 إجحاف في حق الدين ورجاله ...................................... 416 مدخل إلى السلك القضائي ......................................... 420 بداية التدخل في القضاء الإسلامي ................................. 427 تجربة المجالس القضائية ومراسيمها ................................ 435 المكي بن باديس والعرائض ........................................ 482 (مؤامرة) القضاة ومسألة التجنس والزواج المختلط ................... 468 الهجوم على القضاة وبعض خصائصهم ........................... 473

_ نمانج من القضاة ....................................................... 483 المجاهد - ابن المختار - الشرقي - ابن الحاج موسى - الحاج حمو - الزهار - الأشرف - لعيمش - دغمان - الزردومي - ابن عبد الله - المازوني - الخبزاوي - ابن سعد - العوامر - الجليلي- بريهمات قضة تدوين الفقه الإسلامي .............................................. 528

دار الغرب الإسلامي بيروت - لبنان لصاحبها: الجيب اللمسي شارع الصوراتي (المعماري) - الحمراء، بناية الأسود تلفون: 350331 - 009611: Tel / خلوي: 638535 - 009613: Cellulair فاكس: 742587 - 009611: Fax / ص. ب. 5787 - 113 يروت، لبنان DAR AL - GHARB AL - ISLAMI B.P.: 113 - 5787 Beyrouth, LIBAN الرقم: 337/ 2000/ 11/ 1998 التنضيد: كومبيوتايب - بيروت الطباعة: دار صادر، ص. ب , 10 - بيروت

HISTOIRE CULTURELLE DE L'ALGERIE PAR Professeur Aboul Kacem Saadallah Université d'Alger Tome 4 1954 - 1830 DAR AL - GHARB AL - ISLAMI

الجزء الخامس

الدكتور أبو القاسم سعد الله تاريخ الجزائر الثقافي الجزء الخامس (1830 - 1954) دار الغرب الإسلامي

1998 دار الغرب الإسلامي الطبعة الأولى دار الغرب الإسلامي ص. ب. 5787 - 113 بيروت جميع الحقوق محفوظة. لا يسمح بإعادة إصدار الكتاب أو تخزينه فى نطاق إستعادة المعلومات أو نقله بأي شكل كان أو بواسطة وسائل إلكترونية أو كهروستاتية، أو أشرطة ممغنطة، أو وسائل ميكانيكية، أو الاستنساخ الفوتوغرافي، أو التسجيل وغيره دون إذن خطي من الناشر.

تاريخ الجزائر الثقافي

الفصل الأول المعالم الإسلامية والأوقاف

الفصل الأول المعالم الإسلامية والأوقاف

مقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة سندرس في هذا الفصل البناءات الإسلامية في العهد الفرنسي، من مساجد وزوايا وأضرحة وجبانات، وندرس أوقافها التي آلت بالمصادرة إلى أملاك الدولة الفرنسية، كما سندرس الأوقاف العامة الأخرى مثل أوقاف مكة والمدينة وسبل الخيرات وبيت المال والعيون والطرقات والأندلس والأشراف، وهي التي كانت قد صودرت قبل أوقاف البناءات الدينية الخاصة كالمساجد والزوايا. أما المدارس فسنكتفى بذكر أسمائها وأوقافها، أما دورها التعليمي والتربوي فسنعالجه في الفصول الخاصة بالتعليم، وكذلك الأمر بالنسبة للزوايا. وهناك مصطلحات لا بد من التعرض إليها قبل التفصيل في النقاط المذكورة، وكذلك مراسيم وقرارات صدرت من السلطات الفرنسية لتحديد الصلاحيات وتبرير المصادرة سنتعرضں إليها أيضا. وقد أنشأت هذه السلطات أجهزة تتولى باسمها تسيير الأوقاف الإسلامية وتقديم المساعدات للفقراء مثل المكتب الخيري الإسلامي والجمعية الخيرية، ونحو ذلك. وكان علينا أن نتتبع تطورها أيضا ومشاكلها ومعاناة المستحقين لمداخيل الأوقاف. وأثناء ذلك نعرض لرد فعل الجزائريين إزاء هدم المساجد أو تحويلها إلى كنائس أو إسطبلات أو ثكنات أو مسارح، ورد فعلهم من الاستيلاء على الأوقاف وتمويلها عن أغراضها وإعطائها إلى الأوروبيين. وقد اعتمدنا في كتابة هذا الفصل على عدة مصادر ومراجع. هناك أولا الأرشيف الذي يضم وثائق عديدة وتقارير حول أوضاع الأوقاف والبناءات الدينية والخيرية الإسلامية. إلى جانب معرفتنا بنظام الوقف في الشريعة الإسلامية، وخلال العهد العثماني، وهو العهد الذي انتظمت فيه طريقة

التسيير لهذا الجهاز (الوقف) الاجتماعي والثقافي والاقتصادي، والذي ورث منه العهد الفرنسي نفس التركة، من وكلاء مجربين ومحاسبات دورية وسجلات محفوظة وهيئة علمية ساهرة ومستفيدة. وبالإضافة إلى ذلك نجد في كتابات بعض الفرنسيين مادة كبيرة سجلت موقف السلطات من أملاك الوقف الإسلامي من البناءات الدينية، هدما وبيعا وتحويلا عن الغرض الديني. ومن الكتاب الذين تناولوا هذا الموضوع ألبير ديفوكس، وأوميرا، وأشيل روبير، وشيربونو، وبروسلار، وفيرو، والإسكندر جولي، وهنري كلاين، ولويس رين، وديبون وكوبولاني. وفي الكتب المتخصصة بالمناطق والمدن (المونوغرافات) نجد وصفا مفصلا أحيانا للمؤسسات الدينية في كل منطقة، وهي الكتب التي ألفها عادة رؤساء المكاتب العربية الذين عملوا في المنطقة طويلا وخبروها، فجمعوا من تقاريرهم ومذكراتهم وملاحظاتهم كتبا نشروها بعد انتهاء مهامهم أصبحت ذات قيمة بما فيها، وتضم معلومات خاصة ومفصلة. ومن ذلك بعض الكتب المتعلقة بزوايا ومساجد زواوة والأوراس، وبعض المناطق الأخرى مثل تيهرت (تيارت) والمدية ووادي سوف وغرداية. ومن المؤلفات الجزائرية التي تعرضت للموضوع كتاب حمدان خوجة (المرآة)، وكان أول وثيقة تستنكر فعل السلطات الفرنسية من المساجد والأضرحة وعظام الموتى، وأول من رفع صاحبه عقيرته بالاحتجاج بالقلم على ذلك الفعل. ولكن الكتاب يظل مقتصرا على فترة قصيرة جدا. (ثلاث سنوات) من عهد الاحتلال البغيض. ولو عاش حمدان خوجة بعد ذلك في الجزائر وشاهد ما ارتكب في عهد خلفاء كلوزيل، مثل بي جو وراندون وبيليسيه الخ. لما سكت عن أفعالهم ولترك ربما لنا تفاصيل أخرى مفيدة. وهناك كتابات ليست فرنسية ولا جزائرية حول الأسلوب الفرنسي في التعامل مع التراث الديني الجزائري. نذكر منها مؤلفات القسيس بلاكسلي، وبولسكي، وسيتون، ومورقن. وهم رحالة سجلوا ملاحظاتهم على سلوك الاحتلال في عقوده الأولى. إن على المرء أن يتوقف قليلا ويتأمل في فعل الفرنسيين في الجزائر

سنة 1830، ويحكم: هل احتلوا الجزائر ليستعمروها أو ليخربوها؟ وهل جاؤوا لينتقموا من الإسلام والمسلمين أو ليقيموا مستعمرة يحلون فيها مواطنيهم ويحمونها بجيشهم ويستفيدون من اقتصادها ومواردها؟ من السهل إعطاء الجواب منذ البداية ولكن على المرء أن يواصل معنا هذه الرحلة الشاقة في تصرفات لا مبرر لها في ظاهر الأمر سوى الحقد والجهل بقيمة التاريخ والغرور الأخرق. وقد لاحظ بعض علماء الفرنسيين أنفسهم الأخطاء التي ارتكبت في هذا المجال وحكموا على أصحابها بأنهم أهانوا بفعلهم ذلك شرف المسلمين الذين لن يغفروا لهم إساءتهم، وقد كان ديفوكس وأوميرا ورين أجرأ مما كنا نتوقع حول الموضوع، ولكن جرأتهم جاءت بعد عشرات السنين من الاحتلال. وقبل البدء في الفقرة التالية نقول إننا اتبعنا في تصنيف البناءات الدينية جغرافيا ثلاثة أصناف: بناءات إقليم الوسط (الجزائر)، وبناءات إقليم الغرب (وهران) وبناءات إقليم الشرق (قسنطينة)، وهو التقسيم الإداري والتقليدي للقطر الجزائري أثناء الاحتلال وإلى سنة 1954. وطريقتنا في ذلك هي أن نذكر البناية الدينية وحالتها وتاريخها إذا توفرت المعلومات عنها، وأوقافها إذا ذكرت إلى جانبها، ومصيرها بعد الاحتلال. وعندما ننتهي من البنايات الدينية في الإقليم الواحد ننتقل إلى نفس البنايات في الإقليم التالي، وهكذا. وسيلاحظ القارئ بدون شك، عدم التوازن في المادة وفي التعامل بين وضع هذه البناءات في الأقاليم الثلاثة. ويرجع السبب الرئيسي في ذلك إلى وفرة الكتابات في ناحية دون أخرى، من جهة، وإلى أن السلطات الفرنسية لم تتعامل بنفس الطرية في مختلف أنحاء البلاد. مثلا عانت العاصمة أكثر من غيرها من هدم المساجد والزوايا والأضرحة لأنها هي الأولى في الاحتلال وأنها الأولى التي انطلق منها التوسع العمراني الأوروبي على حساب الأحياء المسماة العربية. وكان الفرنسيون قد قضوا فيها على البناءات الدينية تحت دعاوى عديدة، مثل الدفاع عن المدينة، ومد الطرقات وفتح ساحة الحكومة (الشهداء حاليا) الخ. وكانت تلمسان من

مساجد العاصمة

المدن التي لم تتضرر كثيرا بالأسلوب الذي طبق في العاصمة وبجاية وقسنطينة مثلا، كما أن زواوة والجنوب لم يدخلهما الاستعمار إلا خلال الخمسينات من القرن الماضي، أي بعد أن اطمأن الفرنسيون على مكاسبهم وخف حقدهم على المعالم، وإن كان قد بقي ضد أهلها. مساجد العاصمة نستعمل كلمة المسجد والجامع لنفس الشيء، رغم أن المصطلح الفرنسي يفرق بين الجامع وهو المصلي الذي له منارة أو صومعة، وتصلي فيه الجمعة وتلقي فيه الخطبة ويمتاز بالحجم الكبير والضخامة والاتساع للمصلين. أما المسجد فهو المصلى الصغير الحجم والذي ليس له منارة أو صومعة أو له صومعة صغيرة. ويستعمل المسجد على هذا الاعتبار للصلوات الخمس فقط. وهناك مساجد صغيرة الحجم ولكن كانت مصلى لبعض الخاصة كمسجد الداي. وبعض المساجد الصغيرة كانت تابعة للزوايا أو للقباب (الأضرحة)، كما سنذكر، وستعرف أن المساجد الكبيرة (الجوامع) ذات الصوامع والخطباء والمدرسين مذكورة بهذه الصفة في أوقافها في كثير من الأحيان. ولذلك فقد رأينا أن نحافظ على التسميات التاريخية كما وردت في الوثائق، فإذا كانت البناية مذكورة على أنها مسجد في الوثيقة فلن نعطيها اسم جامع، وإذا كانت مذكورة على أنها جامع فلن نعطيها اسم مسجد، ولو كان هذا الجامع تابعا لزاوية فقط أو في حجم صغير. إن أول مسجد وقع عليه الاعتداء بالهدم الكامل هو جامع السيدة. وكان ذلك سنة 1830. وستعرف وصف هدمه بأقلام فرنسية. ثم تلاه توزيع المساجد على الجيش لربط خيوله ووضع عتاده ومراقده ومستشفياته، ثم بدأ تحويل بعض المساجد إلى الكنائس التي سنذكرها وإلى إقامات للجمعيات الدينية الفرنسية، وفي أثناء ذلك كان المعول يستعمل لهدم المساجد الأخرى أو بيعها إلى الأوروبيين ليهدموها، ويبنوا عليها المنازل والحمامات

والكوش. وقد استعمل بعض المساجد كمخازن للحبوب، وصيدليات ومسارح. كان عدد مساجد العاصمة عند الاحتلال 122 مسجدا بين صغير وكبير (13 جامعا كبيرا بالمنطق الفرنسي)، بعضها يرجع إلى قرون خلت (القرن 7 هـ)، وبعضها يرجع إلى آخر العهد العثماني. ومن هذه المساجد ما كان قائما يؤدي مهمته وله أوقافه منذ القرن 16 م. وجاء وصفه في كتب الرحالة والمعاصرين أمثال ليون الإفريقي وهايدو الإسباني. عند تناول البنايات الدينية في العاصمة اتبع المؤلفون طرقا مختلفة في إحصائها ووصفها. فألبير ديفوكس درسها أولا من خلال الأحياء داخل المدينة. فتناول ما هو بالوسط (القصبة) وما هو بالناحية الغربية (باب الواد) وما هو بالناحية الشرقية (باب عزون). ثم تناول ما هو خارج الأسوار، أي الواقع في الضواحي أو (الفحوص)، متبعا أيضا ذلك جهة يد جهة أو فحصا بعد فحص إلى أن أتى على مجموع حوالي 176 بناية دينية أو معلما، ومنها 122 مسجدا التي أشرنا إليها (¬1). وكان ديفوكس من خبراء هذا الموضوع، لأنه كان مكلفا بالوثائق العربية والتركية مدة طويلة، وقد استخرج منها معلومات كثيرة تهم الاحتلال ¬

_ (¬1) درس الأستاذ ناصر الدين سعيدوني أوقاف الجزائر والفحوص. وعرف الفحوص أنها تتكون من الروابي المحيطة بالعاصمة (الساحل) على مسافة حوالي اثني عشر كلم. وتحدها أوطان بني خليل والخشنة وبني موسى. والفحوص تنقسم إلى ثلاثة مناطق انطلاقا من حصون العاصمة وأسوارها والطرق المؤدية إليها، أي أن هناك فحوص باب الواد مثل بوزريعة والسد والرملة ووادي قريش، ثم فحوص الباب الجديد مثل بني مسوس وعين الزبوجة والقادوس. ثم فحوص باب عزون مثل العين الزرقاء، والحامة وبئر الخادم، الخ. انظر سعيدوني (الأوقاف بضواحي الجزائر في آخر العهد العثماني) في (الوقف في العالم الإسلامي المعاصر) وقائع ندوة مستديرة جرت في إسطانبول، نوفمبر، 1992. منشورات المعهد الفرنسي للدراسات الأناضولية، إسطانبول، 1994، ص 99 - 101.

وتارخ القناصل الفرنسيين والشركات الفرنسية في الجزائر في العهد العثماني، ثم البنايات الدينية والأوقاف التابعة لها، وما إلى ذلك. وكان لا يحسن التركية، ولذلك وظف مجموعة من الجزائريين الذين كانوا يترجمون له من التركية إلى العربية، ذكر منهم الشيخ محمود بن عثمان خوجة الذي قد يكون من عائلة حمدان بن عثمان خوجة. وبعد ذلك كان ديفوكس يترجم من العربية إلى الفرنسية. وفي دراسته للبنايات والمعالم الدينية الإسلامية لم يرتبها ديفوكس حسب الأهمية ولا حسب الوظيفة ولا حسب النوعية، وإنما كان يذكر (قاتمة) بهذه البنايات في الفصل المخصص للجهة التي يدرسها. والمهم أن نذكر أن ديفوكس عاصر تصرف سلطات بلاده في المساجد وغيرها، ولكنه لم يكتب عن ذلك ولم يصفه إلا بعد عدة سنوات (¬1). أما أوميرا فلم يكتب عن الموضوع إلا سنة 1898. وقد اعتمد على زميله ديفوكس في كثير من الجوانب، ولكنه تميز عنه بالتركيز على أملاك الوقف وليس على البنايات الدينية نفسها. ومع ذلك تناول عددا من المساجد والزوايا والقباب (الأضرحة) بشيء من التفصيل ليظهر مكانتها في التراث وقيمتها في الوقف. وقد صنف ذلك إلى ما هو داخل المدينة وما هو خارج عنها. كما أنه ذكر 32 مسجدا أصابها الهدم والتعطيل والتحويل والخراب. وبعضها (وهو ستة فقط) بقيت إلى وقته هو. وسنعرف عن الزوايا والقباب والجبانات التي تناولها أوميرا أيضا. ولذلك سنستفيد نحن من الدراستين في هذا الباب. وسنكملها بملاحظات ومعلومات جمعناها من مراجع أخرى. إن بعض هذه المساجد كانت ذات شهرة وقيمة علمية كبيرة في العهد العثماني ولكن الاحتلال لم يرحمها. ومثال ذلك جامع القشاش وجامع ¬

_ (¬1) نشر كتابه (البنايات الدينية القديمة في مدينة الجزائر) سنة 1874 بعد أن نشره فصولا في المجلة الإفريقية. R.A . وننبه إلى أننا لم نقلد ديفوكس في إيراد المساجد حسب الأحياء القديمة للمدينة، لأن ذلك التقسيم غير معروف اليوم. انظر أبو القاسم سعد الله (تاريخ الجزائر الثقافي) ج 1، ط. 2، الجزائر 1985.

عبدي باشا وجامع حسين ميزمورتو، وجامع خضر باشا (¬1). ولقد واصلت السلطات الفرنسية عمليات التخلص من المساجد إلى فاتح القرن العشرين، فبين 1905 - 1911 جرت مناقشات ساخنة في بلدية الجزائر حول هدم الجامعين الرئيسيين الباقين وهما الجامع الكبير والجامع الجديد (التجميل) العاصمة وبناء فندقين مكان الجامعين. ولولا خوف هذه السلطات من ردود فعل المسلمين ومواقف بعض النواب الجزائريين في البلدية، وعلاقة ذلك بموضوع التجنيد الإجباري وحركة الهجرة (¬2)، لمضى الفرنسيون إلى الجامعين المذكورين وتخلصوا منهما كما فعلوا مع الجوامع الأخرى ولبقيت العاصمة اليوم ربما خالية تماما من الآثار الإسلامية. وإليك أسماء مساجد العاصمة ومصائرها: 1 - جامع السيدة: كان من بين المساجد السبعة الرئيسية منذ القرن 16 م (العاشر الهجري). أقدم الوثائق التي تتحدث عنه ترجع إلى سنة 1564 م. تحدث عنه هايدو الإسباني سنة 1581 وعده الثالث في الأهمية من بين المساجد السبعة بالعاصمة. اتخذه الباشوات مصلى لهم لقربه من قصر الجنينة (قصر السلطان والحكم). واعتبره ديفوكس من جوامع الدرجة الأولى، لجماله وفخامته. وكان ديفوكس حاضرا، لهدمه سنة 1830، ولكنه كان صغير السن، ولذلك اعتمد في وصف طريقة الهدم على زميله أوغست لودويه A. Lodoyer، عضو الجمعية التاريخية الجزائرية، التي أسسها الفرنسيون سنة 1855. فقال لودوييه إن جامع السيدة كان أول جامع هدم بالمطارق والفؤوس بأيادي فرنسية، وذلك لضرورة توسيع المجال حول قصر ¬

_ (¬1) الجزء الأول من تاريخ الجزائر الثقافي، مرجع سابق. (¬2) أبو القاسم سعد الله، (الحركة الوطنية الجزائرية)، ج 2، ط. 4، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1991. وقد أخبرنا البروفيسور آلان كريستلو أنه أعد دراسة وقدمها إلى ندوة علمية في أمريكا عن موقف محمد بن العربي (بلعربي) من محاولة هدم الجامع الكبير والجامع الجديد بالعاصمة. ووعدنا بتاريخ ديسمبر، 1996 أنه سيرسل إلينا نسخة من هذه الدراسة وقد فعل مشكورا.

الدايات (¬1) الذي وضع تحت يد السلطات العسكرية الفرنسية كمخزن ومحطة رئيسية. وكان التوسيع أحد الأسباب فقط. وهناك سبب آخر ذكره لودوييه وهو خوف الفرنسيين من أن يتخذ المسلمون جامع السيدة مركزا لهم ونقطة تجمع ومظاهرات. وذلك ليدل على أهمية جامع السيدة من الناحية المعنوية. ولعل هذا هو السبب الرئيسي، بالإضافة إلى عنصر الرواسب الصليبية. وقد هدموا معه المنازل المجاورة والملاصقة له لإقامة فضاء حر داخل المدينة ونقطة للدفاع لو حاول المسلمون الثورة على الفرنسيين. وبعد هدم الجامع والقبة الضخمة التابعة له، بقيت الصومعة قائمة إلى سنة 1832 حين أسقطوها قطعة واحدة باتجاه الشرق. وقد استعمل الفرنسيون عدة وسائل لإسقاط الصومعة فأعيتهم، مثل الحبال والطرق بالفؤوس الغليظة، ثم التجأوا إلى تلغيم الصومعة ونسفها نسفا (¬2). وبناء على ديفوكس فإن جامع السيدة كان يقع في ساحة الحكومة (الشهداء حاليا). وقد تحدث أوميرا أيضا عن مصير جامع السيدة فقال إن الفرنسيين هدموه قبل التفكير في إقامة ساحة الحكومة خلافا للتفسير القائل، إن الهدف من الهدم هو فتح مجال واسع وسط القصبة لتهوية المدينة وتجميلها الخ. وأضاف أوميرا أن الجامع كان يقع بين بداية شارع باب الواد وفندق الأيالة (ريجنس) وجزء من ساحة الحكومة الحالية سنة (1898) المواجهة للجنينة، والممتدة إلى أقواس دار السلطان (القصر) التي اختفت هي أيضا لمد شارع الديوان. وقال أوميرا إنه يوجد الآن أثر لهذه الأقواس على أحد جوانب قصر الأسقفية. لقد كان جامع السيدة، بحكم قربه من دار السلطان تتردد عليه الارستقراية الحاكمة. وهو من الجوامع القديمة. وكرر أوميرا كلام ديفوكس ¬

_ (¬1) يعني قديما، أي قبل 1817. أما منذ هذا التاريخ فقد تحول قصر الداي إلى أعالي القصية - الباب الجديد. (¬2) ديفوكس (البنايات الدينية في مدينة الجزائر)، مرجع سابق ص 152. وهناك مساجد أخرى عجل الفرنسيون بهدمها في نفس السنة (1830) ومنها مسجد الباديستان، انظر لاحقا.

حول الجامع ناقلا عن هايدو أنه كان يقع في شارع (الأرتولوجي) سنة 1581، ثم أورد أيضا كلام لودويه A. Lodoyer حول هدم جامع السيدة (¬1). وقد علق أوميرا (الذي كان من العلمانيين وربما من الماسونيين، ورئيسا لجمعية الصحفيين وجمعية العلوم الاجتماعية في الجزائر) على فعل سلطات بلاده فقال إنه لم يكن بدافع عاطفة معادية للدين الإسلامي وإنما كان لضرورة فتح الطرق العمومية، وقد نفى أوميرا أيضا عاطفة التعصب عن المسلمين بدليل أنهم في نظره لم يحتجوا أو يثوروا ضد هدم أجمل مساجدهم، جامع السيدة. وكانوا حاضرين، ويرددون عبارة (مكتوب، مكتوب). ولذلك اعتبرهم أوميرا (قدريين) فقط. ولكن كلام أوميرا فيه نظر. فمن جهة نعلم أن لجنة الحفر بقيادة حمدان خوجة قد احتجت وصرخت وكتبت ضد هذه الأعمال غير الحضارية، وكتابه (المرآة) وعرائضه تشهد على ذلك. ولعل أوميرا لم يرجع إليها. ولم يرجع أيضا إلى الأدب الشعبي الذي بكى مصير المساجد والأسواق والحصون التي هدمت (¬2). ثم إن المسلمين الذين بقوا في العاصمة عدد ضئيل جدا، إثر الاحتلال، وكانوا من صنف الفقراء والعجزة الذين لم يستطيعوا الخروج من المدينة. وأخيرا سنعرف أن الاحتجاج الناطق والصامت قد استمر عند المسلمين، كما تثبته المراجع التي سنذكرها. 2 - جامع محمد باشا: كان في مقابلة قبة سيدي يعقوب (انظر القباب) على البحر. وهو جامع صغير، هدمه الفرنسيون، كما يقول ديفوكس، منذ أمد بعيد - لم يحدد ديفوكس التاريخ -. وقليل من الأهالي يذكرونه في عهد ديفوكس، وحتى الذين يذكرونه لا يعلمون أنه لمحمد باشا، ذلك الداي غير العادي والذي حكم 25 سنة (وهذه المدة الطويلة ظاهرة نادرة في ذلك ¬

_ (¬1) أوميرا (الملكية الحضرية في مدينة الجزائر) في المجلة الإفريقية،. R.A، 1898، ص 178 - 180. (¬2) سنذكر قصيدة الشيخ عبد القادر في بكاء الجزائر، وقصيدة ابن الشاهد أيضا في نفس الموضوع.

الوقت) من سنة 1179 إلى 1295 (1765 - 1791) (¬1). ولهذا الجامع وقفية وقعت أمام القاضي الحنفي عندئذ. وكان محمد باشا قد أنشأ أوقافا حبسها على مقبرة شهداء الجهاد (الغزو البحري) خارج باب عزون. وقد أعلن الباشا على لسان الشاوشں أنه خصص جزءا من تلك الأوقاف للجامع الذي بناه والذي أصبح يحمل اسمه (¬2). 3 - مسجد سيدي السعدي: كان يقع فوق حديقة مرنقو (ضريح الشيخ الثعالبي)، وربما يرجع إلى القرن السابع عشر (؟)، وهو بدون منارة، وفيه ضريح سيدي السعدي الذي كان مرابطا يقدسه السكان، وفي الضريح تابوت مزين بالأعلام. وكان سيدي السعدي حيا سنة 1119 د، حسب الوثائق (¬3). وحسب وقفية ترجع إلى سنة 1834 فإن للمسجد ضيعة ومنازل وورشتين للفخار وحانوتين، مدخولها جميعا (سنة 1834) 255 فرنك و 60 سنتيم. وكان للمسجد وكيل من عائلة الشيخ المرابط نفسه، وله راتب من أوقافه. وعطلت السلطات الفرنسية هذا المسجد منذ الاحتلال، ثم منذ 1847 جعلته مخزنا للبارود، ثم حول إلى مصلحة الضرائب سنة 1850 (¬4)، ولم يذكر ديفوكس ما إذا كان قد هدم بعد ذلك، كما أن أوميرا لم يذكره أيضا. ولكننا لا نجد له أثرا بعد ذلك في المساجد. وكان الحاج سيدي السعدي من أحفاد المرابط المذكور. وقد ناضل ضد الفرنسيين، وتولى للأمير ولاية حمزة وزواوة. ¬

_ (¬1) انظر كتاب (محمد عثمان باشا) لأحمد توفيق المدني، ط. 2، الجزائر 1984. وفيه مختلف الأحداث التي جرت في عهده. (¬2) ديفوكس، مرجع سابق، ص 24. ولم يذكر أوميرا جامع محمد باشا. (¬3) وهو أحد جدود الحاج سيدي السعدي الذي تولى الدفاع عن مدينة الجزائر ثم انضم إلى الحاج ابن زعموم للدفاع عن متيجة، ثم إلى الأمير عبد القادر. وجاء ذكر الشيخ سيدي السعدي في وثيقة ترجع إلى تاريخ 1184 (1788). انظر المجلة الإفريقية، 1894 ص 325 - 333. عن الحاج سيدي السعدي في عهد الاحتلال انظر كتابنا الحركة الوطنية ج 1. (¬4) ديفوكس، مرجع سابق، ص 25. ولم يذكر كلاين الذي كتب بعد حوالي قرن ماذا حدث لهذا الجامع.

4 - مسجد قرب قبة الشيخ عبد الرحمن الثعالبي: وقد هدمه الفرنسيون أيضا. وحلت محله دار تسمى دار أنطونيني. ثم هدمت الدار أيضا عند بناء الليسيه الفرنسي (ثانوية الأمير عبد القادر حاليا). لكن ديفوكس قال إنه لم يجد في الوثائق التي عنده أثرا لهذا المسجد ولا لأوقافه (¬1). ولم يذكره أوميرا. 5 - مسجد المصلى: عطله الفرنسيون ثم أعطوه للجيش منذ الأيام الأولى للاحتلال، فاستعمله ثكنة عسكرية. كانت له أوقاف تتمثل في سبع حوانيت. وفي سنة 1860 زار نابليون الثالث الجزائر فاستعمل مسجد المصلى والملجأ الذي بجواره (انظر القباب) مقرا للفرسان المرافقين للأمبراطور. وفي 1862 هدم مع الملجأ المذكور لبناء الليسيه الفرنسي الأول في الجزائر. وهو الليسيه الذي ابتلع، كما قال ديفوكس، العديد من المؤسسات الإسلامية القديمة! وقد أطلق على هذا الليسيه عبارة الوحش (¬2) Monstre أو البعبع، لأنه بموقعه قد ابتلع المساجد وغيرها كما سنذكر. 6 - مسجد ابن نيقرو، ويعرف أيضا باسم مسجد ستي مريم أو ستنا مريم. وعائلة ابن نيقرو من العائلات الأندلسية القديمة في الجزائر، وكان منها قضاة ومفتون. وكانت العائلة هي التي تدير المسجد، كما قال ديفوكس، قرنين قبل الاحتلال. وذكر كلاين أن المسجد بني سنة 1660. وهو مسجد من الدرجة الثانية، أي بدون صومعة. أما مصيره فمنذ الاحتلال عطل وسلم إلى المتصرف العسكري ثم سلم إلى أملاك الدولة من قبل سلاح الهندسة العسكرية (سنة 1837)، وأصبح، كما قيل، في حالة سيئة، فهدمته (سنة 1837 بناء على كلاين) مصالح الأشغال العامة. فدخل ¬

_ (¬1) ديفوكس، ص 26. (¬2) نفس المصدر، ص 51 - 52. وذكر هنري كلاين في (أوراق الجزائر - القديمة) أن هناك مصلى قديما كان بيد الإنكشارية في القصبة. ولكنه لم يتحدث عن مصيره. كما ذكر مصلى آخر قال إنه ذو عرصات جميلة ورشيقة بناه حسين باشا (آخر الدايات). وبعد أن استعمله الجيش الفرنسي مرقدا للجنود حولوه إلى متحف عسكري.

جزء من كيانه في الطريق العمومي، أما جزؤه الباقي فقد بيع أو أجر، وهذا الجزء يبلغ حوالي 58 مترا (¬1). ونلاحظ أن عبارة (آيل للسقوط) أو في (حالة سيئة) تهدد الأمن العام، هي العبارة التي تبرر بها السلطات الفرنسية هدم بعض المساجد بعد أن تظل فترة طويلة أو قصيرة في يد الجيش أو غيره، وبعد أن تظل بدون صيانة محرومة من أموال الوقف المخصصة لصيانتها. والبناء إذا لم يكن تظهر عليه الشقوق وعلامات البلى. وقد أضاف أوميرا أن مسجد ابن نيقرو هذا قد هدم سنة 1838 وأنه كان يقع عند ركن (زاوية) شارعي باب الواد وسيدي فرج، كما ذكر أن هناك مدرسة كانت تتبعه (¬2). 7 - مسجد (حمام) يطو: كان له وكيل يدعى إبراهيم بن حميدة، سماه الفرنسيون سنة 1833، وله وقفيه صححت سنة 1834 قيمتها 96 فرنكا و 33 سنتيما. وكان هذا المسجد يؤدي وظيفته العادية إلى 1840. ففي هذه السنة حكمت السلطات بهدمه للمنفعة العامة (¬3). 8 - جامع علي بتشين: وهو من مساجد الخطبة، وكان بانيه يدعى أيضا علي بجنين. مساحته حوالي 500 متر مربع. وله منارة طولها 15 مترا فوق مستوى الشارع. وكان قائما على ثماني عرصات. وكان بناؤه في القرن الحادي عشر الهجري (1032/ 2 162)، وهو من مساجد المذهب الحنفي. وكان علي بتشين مشهورا في غزوات البحر في وقته ومن أغنياء الجزائر. وله تأثير في السياسة الخارجية للبلاد. بلغت أوقاف الجامع سنة 1834، 1,610 فرنكات و 15 سنتم. بينما لا يصرف منها إلا 744 فرنك و 40 سنتم لتغطية نفقاته. وآخر وكل له هو إبراهيم ولد سيدي ابن علي الذي لعله يرجع إلى أسرة (ابن علي) القديمة في الجزائر والتي منها الشاعر الشهير في القرن 12/ 18. وسيبقى اسم (سيدي ابن علي) ضمن هيئة رجال الدين في الجزائر بعد الاحتلال. أما مصير هذا الجامع فهو التعطيل والتحويل إلى كنيسة كاثوليكية. ¬

_ (¬1) ديفوكس، ص 55. (¬2) أوميرا، مرجع سابق، ص 183. (¬3) ديفوكس، ص 56.

منذ 1831 افتك الفرنسيون جامع علي بتشين من أيدي المسلمين وسلموه إلى الصيدلية المركزية للجيش الفرنسي. وفي سنة 1843 سلم إلى الإدارة المدنية، فسلمته هذه إلى المصالح الداخلية لوضعه تحت تصرف الكنيسة الكاثوليكية. والغريب أن الفرنسيين الذين يقول عنهم أوميرا إنهم لا يتصرفون بعاطفة دينية معادية للاسلام، هم الذين قالوا إن علي بتشين (مرتد) إيطالي عن المسيحية، وما دام الحكام الآن مسيحيين فرنسيين فإن الجامع (يرتد) عن الإسلام ويتحول إلى الدين الأصلي لبانيه، وبناء على هذا المنطق أعاد الفرنسيون دعم عرصاته، أي صانوه حتى لا يؤول إلى السقوط كالمساجد الأخرى، ولعلهم فعلوا ذلك بأموال الأوقاف الإسلامية وليس من ميزانية الكنيسة، لأن باب الجامع قل إليه من جامع كتشاوة القريب منه. وكان منقوشا على هذا الباب عبارة (ما شاء الله كان) بخط جميل منسوب إلى الخطاط أحمد اللبلابجي (¬1). وعن جامع علي بتشين أيضا أضاف أوميرا بعض المعلومات. فقال إنه يقع سنة (1898)، بين شارعي باب الواد والقصبة من جهة وشارع النصر من جهة أخرى. ووصفه بالجامع الكبير، واعتبره الجامع الثالث الذي تعطيه الحكومة الفرنسية إلى الديانة الكاثوليكية فأطلقت عليه اسم سيدة الانتصارات (نوتردام دي فيكتوار). وعند الإصلاحات التي أدخلت على جامع كتشاوة استعمل جامع علي بتشين هو الكاتيدرالية بعض الوقت (¬2). وبعد الاستقلال أعيد جامع علي بتشين إلى وظيفته الإسلامية، رغم ما أدخل عليه من تغييرات أثناء العهد الاستعماري، مثل التنقيص من منارته سنة 1860، وتحويل محرابه سنة 1923 (¬3). ¬

_ (¬1) ديفوكس، 61. يذكر ديفوكس أن اللبلابجي قد عين أمينا لنقابة النجارين. انظر عن ذلك أيضا أوغسطين بيرك (الفن القديم والفن الإسلامي بالجزائر)، في (كراسات الاحتفال المئوي)، 1930، ص 94. (¬2) أوميرا، مرجع سابق، 185. (¬3) أضاف كلاين، مرجع سابق، أن صاعقة قد أسقطت الصليب الذي وضعه الفرنسيون =

9 - جامع سيدي الرحبي: ويعرف أيضا بجامع ابن كمخة، وقد اعتبره ديفوكس من مساجد الدرجة الثانية لأنه دون صومعة. وكان ابن كمخة أحد وكلاء هذا الجامع. ويرى ديفوكس أن الجامع قد يشتهر عند الناس باسم الوكيل إذا كان رجلا عالما أو ورعا، وينسون اسم الولي أو الباني الأصلي، وأحيانا يظل اسم صاحب الجامع الأصلي ملتصقا به، مهما تبدل الوكلاء. وقال إنه يعتبر هذا الجامع أكبر جوامع الدرجة الثانية لضخامته واتساع مساحته. وهو جامع قديم يرجع إلى القرن السادس عشر (العاشر الهجري)، وكان من الجوامع التي وصفها هايدو الإسباني سنة 1581 وعده من المساجد الكبيرة. وللمسجد أوقاف كثيرة سنة 1834 بلغت قيمتها 586 فرنك. والوكيل الذي كان مكلفا به سنة 1830 هو السيد حسن بن خليل باش كلفاط. وبقي جامع سيدي الرحبي على وضعه الأصلي حوالي ثلاث سنوات، ثم عطل عن غرضه وسلمته السلطات إلى الجيش فاستعمله لتخزين المواد الصيدلية، وكان يعتبر المخزن المركزي للأدوية العسكرية. وقد بقي على ذلك سبع سنوات. ثم وقع هدمه سنة 1840 بدعوى أنه أصبح متداعيا وآيلا للسقوط. وكانت عشر سنوات كافية لخرابه، رغم أنه كان مخزنا للصيدلة. كانت مساحة جامع سيدي الرحبي مائتي (200) متر مربع. وقد دخلت مساحته بعد هدمه في جملة المساحات التي بنى عليها الفرنسيون (¬1). ثم أضاف أوميرا أن الجامع كان يقع بين شارعي باب الواد وتورفيل. وأكد إعطاءه للصيدلة المركزية للجيش سنة 1833 وهدمه سنة 1840، كما أكد أن هايدو قد عده من بين الجوامع السبعة بالمدينة (¬2). ¬

_ = عليه. وعلى ذكر العوامل الطبيعية نشير إلى أن هنري كلاس قد ذكر أن التذكار الهرمي الذي نصبه الفرنسيون في سيدي فرج سنة 1844 نليدا لجيش الاحتلال قد هدمته أمواج البحر بعد ثلاث سنوات (1847). (¬1) ديفوكس، ص 62. (¬2) أوميرا، 183. انظر أيضا عنه كلاين، مرجع سابق.

10 - مسجد دار القاضي: هدم سنة 1857، وقيل إن ذلك كان من أجل المنفعة العمومية. وأدمجت مساحته في المساحة التي بنيت عليها المنازل التي تكونت منها زنقة شارع كيليوبطرا، حسب رأي ديفوكس. وكانت لاصقة به زاوية بنفس الاسم وقع هدمها معه أيضا (¬1). 11 - جامع الشماعين: ويسمى أيضا جامع الدياسين. ومن أيمته قاضي المالكية، محمد القوجيلي، وهو من العائلات العلمية في العهد العثماني. وكان من كبار أدباء الوقت، وله شعر متين (¬2). ومنذ الاحتلال سلمت السلطات الفرنسية هذا الجامع إلى المتصرف العسكري وبقي في يده إلى أن عطل عن غرضه الديني والعسكري سنة 1841، ثم هدم سنة 1861 (¬3). وعبارة ديفوكس حوله غامضة، لأنها لا تقدم البيانات الكافية حول تداول الأيدي على الجامع إلى أن وقع الهدم. وقد حدد أوميرا موقع الجامع فقال إنه كان بين شارع باب الواد وكيليوبطرا وزنقة كوربو (حي تجار الشمع) ثم شارع حي باعة البلاغي. أما عن مصيره فقد كرر أوميرا عبارات ديفوكس (¬4). 12 - مسجد زنقة للآهم: وهو اسم الحي الذي يقع فيه المسجد، و (للاهم) قد يكون اسم سيدة كانت محل احترام أو ولاية. واعتبره ديفوكس من الدرجة الثانية. وكانت له أوقاف بلغت 109 فرنك و 80 سنتم سنة 1834، حسب الإحصاءات الفرنسية في تلك السنة. وآخر وكيل له هو محمد بن مصطفى الكبابطي، صاحب الموقف المشرف سنة 1843 الذي أدى إلى نفيه من البلاد تماما، إذ اعتبره الحاكم العام (بوجو) من العصاة لأوامره. ¬

_ (¬1) ديفوكس، 46، 67. (¬2) انظر عنه الجزء الأول من (تاريخ الجزائر الثقافي)، وكذلك كتاب (أشعار جزائرية)، من تحقيقنا، الجزائر، 1989. (¬3) ديفوكس، 69. يقول كلاين إنه هدم سنة 1841. وذكر أن تاريخ بنائه يرجع إلى سنة 1740. وأن الفرنسيين احتلوه منذ 1830. (¬4) أوميرا، 183.

وقد تولى الكبابطي القضاء للفرنسيين فترة ثم الإفتاء. ومات في الإسكندرية بمصر (¬1). أما الجامع الذي نحن بصدده فقد هدم سنة 1841 من أجل المنفعة العامة، كما قيل (¬2). ولم يذكر أوميرا هذا الجامع. 13 - مسجد ليشتون، أو قيشطون: ويسمى أحيانا مسجد بنت المظفر. ولعلها هي المرأة التي بنته. وكان هذا الشك من ديفوكس. كما لاحظ هذا أن ليشتون وما بعده قد لا يكون اسما عربيا، وقال إنه لم يجد تفسيرا لذلك. ومهما كان الأمر، فإنه بعد أن أهمل الجامع منذ الاحتلال، رغم استيلاء السلطات على أوقاف الصيانة، ظهر عليه التداعي وعلامات السقوط فحكموا بهدمه من أجل الأمن العمومي. وآخر وكيل له سنة 1837 هو محمد بن علي. وكان دخل أوقافه سنة 1834 يقدر ب 108 ف (¬3). 14 - مسجد ابن عوشة أو ابن عيشة: وهو يقع في شارع التجارة. وكان مصيره هو مصير ما سبقه. ويغلب على الظن أن الاسم ابن عوشة (أو ابن عيشة؟)، هو لأحد وكلائه فاشتهر به وليس هو اسم بانيه، ويعرف أيضا باسم مسجد ابن دودو. وكانت له أوقاف تتمثل في أربعة منازل وأربعة دكاكين. ومساحته 83,40 متر مربع. وفي على حاله إلى سنة 1837 حين أدى الإهمال وعدم الصيانة إلى تداعيه، كما قيل، وأصبح آيلا للسقوط ومهددا للأمن العام. فبيع في المزاد العلني سنة 1840 (¬4). آخر وكلائه اسمه أحمد بن الشيخ علي. 5 - جامع الساباط الأحمر: يقول ديفوكس إن هذا الجامع من الدرجة الثانية، وأن المسلمين هم الذين توقفوا عن الذهاب إليه. وفي سنة 1849 ¬

_ (¬1) انظر حياته وموقفه في الجزء الثاني من كتابنا (أبحاث وآراء في تاريخ الجزائر)، ط 2، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1990. (¬2) ديفوكس، 69. (¬3) نفس المصدر، 70. (¬4) نفس المصدر، 70.

أصبح متداعيا، فسلم إلى أحد الملاك الأوروبيين (¬1). ولم يكمل ديفوكس القصة، ولكن مفهومها أن الجامع قد هدم وأقيم مكانه منزل أو دكان. 16 - جامع علي باشا: هكذا يعرفه الجيل المعاصر للاحتلال، ولكن له اسم آخر وهو جامع سيدي أبي التقى (بتقا) في الغالب (¬2). وموقعه في الحي المعروف باسم الحمام المالح. وهو من الجوامع التي لها صومعة. وحسب ديفوكس فإن حاله لم يتغير كثيرا (!) وأن منارته ما تزال قائمة، ولكنها داخلة في واجهة أحد المنازل الأوروبية. ويضيف بطريقة غامضة، أن المنارة باقية كشاهد صامت على عدم استقرار الأمور الإنسانية (¬3). ولعله يقصد بذلك أن الجامع قد عطل وبيع إلى أحد الأورويين فهدمه وبنى مكانه وترك منارته قائمة، لأنها أعجزته. هذا في زمن ديفوكس، أما في عصرنا فلا نظن أن هناك منارة قد بقيت قائمة في ذلك المكان. وعند أوميرا معلومات إضافية عن جامع علي باشا الذي هدم واندثر. فقد قال إن موقعه هو شارع (ميدي) وكان ملاصقا لثكنة قديمة للانكشارية، وبعد الاحتلال احتل الجيش الفرنسي هذه الثكنة وألحق بها جامع علي باشا فأصبح تابعا لمصالح الهندسة العسكرية. أما جامع أبي التقي (بتقا) فقد أضافه أوميرا لجامع علي خوجة الذي سيأتي الحديث عنه (¬4). ولعل علي باشا وعلي خوجة قد اختلطا على أوميرا، ونحن نميل إلى رأي ديفوكس باعتباره كان مسؤولا على الأرشيف ومعاصرا للأحداث التي جرت للمساجد، وهو أقدم من زميله. 17 - مسجد سيدي عمار التنسي: وهو من المساجد الصغيرة القديمة ولكن ذات الأهمية لشهرة صاحبه، وشهرة بعض وكلائه أيضا. وكان وكيله ¬

_ (¬1) نفس المصدر، 72. وقد يكون صحيحا أن المسلمين أهملوه، لأن أكثر من ثلثي سكان مدينة الجزائر قد خرج منها، وبعضهم هاجر إلى المشرق. (¬2) انظر أيضا رقم 74 (مسجد علي وشا). (¬3) ديفوكس، 75. (¬4) أوميرا، 185.

في العادة من أسرة التنسي نفسه، وهو من المرابطين المشهورين في زمانه. وحسب وقفية ترجع إلى 1813 أن إمامه هو المفتي علي بن عبد القادر بن الأمين، من علماء الجزائر الذين تولوا الفتوى عدة مرات. وتتلمذ عليه جيل من علماء الوقت. وكان من خريجي الأزهر الشريف. ومنذ الاحتلال استولت إدارة المدفعية على هذا المسجد، فجعلت منه ثكنة، كما قال أوميرا. ولم يذكر ديفوكس ولا أوميرا ولا كلاين مصير جامع سيدي عمار التنسي. والغالب على الظن أنه قد هدم أيضا لأنه لا يوجد اسمه في الجوامع الباقية الآن. وكان موقعه، حسب أوميرا، هو شارع جان بار (¬1). 18 - مسجد ساباط الحوت: ولعل التسمية ترجع إلى المكان القريب منه - سوق الحواتين. ويسمى أيضا في بعض الوثائق مسجد البطيحة (تصغير بطحاء) (¬2)، ومسجد أبركان. وكان مصيره يثير الرثاء. فلقد جعلته السلطات منذ أول الاحتلال مخزنا للحبوب، وظل كذلك إلى سنة 1838، فأصبح خلال ثماني سنوات، حسب المصادر الفرنسية، في حالة يرثى لها، وكان يقع في حي هجره المسلمون (؟) ولا ينتظر أن يرجع إلى الدين الإسلامي نظرا لوضعه المتداعي وهجره. فأعطى للسلطات العسكرية التي انتفعت به بين 1838 - 1845 ثم ترك لينهار وحده، سنة 1854. ومن الملفت للنظر أن الذين يؤرخون لهذه البناءات نسوا تماما أوقافها التي كانت حافظ عليها والتي صودرت وأدخلت في خزينة الدولة الفرنسية. والأكيد أن هذا الجامع وأمثاله لو بقي مصانا بأوقافه وأهله لما وقع له ما وقع. فكان مصيره هو أن يؤول إلى أحد الأوروبيين فاستعمل فيه الفأس وهدمه من الداخل وجعله مخزنا واحتفظ بواجهته جزئيا (¬3). أما أوميرا فيقول عنه إنه انتقل من مخزن حبوب إلى ثكنة عسكرية، ثم بيع سنة 1854 بسبب الخراب. وكانت تلاصقه مدرسة، فكان مصيرها هو مصيره أيضا. وقال إنه كان يقع في شارع ¬

_ (¬1) ديفوكس، 76، وأوميرا، 153. وكلاين. (¬2) يسميه أوميرا مسجد البطحاء بدون تصغير. (¬3) ديفوكس، 76. وكذلك كلابن.

القناصل (¬1). ولم يتحدث أوميرا عن الأوروبي الذي اشتراه وأعاده إلى حاله كمخزن حبوب أيضا. 19 - مسجد العين الحمراء: ويعرف أيضا بجامع التادلي، وهو اسم الوكيل الأخير الذي عينه الداي حسين، على أوقافه وصيانته. والمعلومات التي أوردها عنه ديفوكس قليلة جدا، فقد اكتفى بالقول إن المسجد آل إلى السلطات العسكرية منذ 1837، وأن حالته أصبحت تنذر بسقوطه، فمصيره إذن هو الاختفاء (¬2). ولا يرجع ذلك لهجر المسلمين له، لاستعماله في غير ما بني له، وتجريد الدولة له من أوقافه التي كانت تصونه. وكان يقع في شارع فيليب، حسب رواية أوميرا. 20 - مسجد قاع السور: وهو مسجد صغير، بقي تحت يد عائلة من المسلمين تقول إنها كانت تملكه. لم يذكر ديفوكس مآله (¬3). ولكن كلاين قال إنه دخل في شارع 14 يونيو (جوان) الذي دشنه الحاكم العام شارل جونار، سنة 1910. ومفهوم ذلك أن الجامع قد هدم قل هذا التاريخ. 21 - مسجد سيدي فليح: لفظ (سيدي) هنا وفي غيره، تدل على نسبة المسجد إلى المرابطين أو الصالحين، وهو مسجد بدون صومعة، ولم تحترم السلطات الفرنسية قداسة المرابط ولا مشاعر المسلمين، فجعلته منذ 1836 مخزنا، واستمر على ذلك إلى سنة 1842، عندئذ أعلنوا أنه أصبح مهجورا ومتداعيا فوقع التخلي عنه. وقد هدم وأدخلت مساحته في أحد المنازل (¬4). 22 - جامع عبدي باشا: وكان من الجوامع الكبيرة ذات الخطبة والدرس. وكان الجامع يقع إلى جانب ثكنة المقرين (المقرين). وكانت له أوقاف ¬

_ (¬1) أوميرا، 183. (¬2) وقال كلاين إن المسجد قد حول إلى ثكنة منذ 1830 ثم هدم عند هدم الساباط المجاور. (¬3) ديفوكس، 79. (¬4) نفس المصدر، 80.

هامة. وتداول عليه عدد من الخطباء والأيمة المعروفين في الحياة الدينية والعلمية خلال العهد العثماني (¬1). ولكن السلطات الفرنسية التي زعمت للجزائريين في اتفاق يوليو 1830، أنها ستحترم العقائد والدين الإسلامي والأملاك سارعت منذ 1830، كما يقول ديفوكس، إلى تحويل هذا الجامع إلى ثكنة عسكرية وكذلك المدرسة التابعة له. ويقول ديفوكس إن السلطات العسكرية محتفظة به إلى الآن (1874) (¬2). وعبدي باشا المعروف أحيانا بالكردي، كان من مشاهير الباشوات في الجزائر أوائل القرن 18 م (1725). وقد أضاف أوميرا أن هذا الجامع والمدرسة ظلتا تحت أيدي السلطات العسكرية إلى أيامه هو أيضا (سنة 1898). وقال إن الجامع يقع في شارع مكرون (المقرون). وأكد معلومات زميله ديفوكس من أن الجامع والمدرسة التابعة له قد تعطلتا وحولتا إلى ثكنة عسكرية منذ 1830. ولا نعرف أن هذا الجامع قد رد للمسلمين بعد ذلك، ولعله بقي جزءا من ثكنة أو كان من ضحايا الفأس الفرنسية بعد 1898. 23 - جامع القشاشں: هذا الجامع تعتبره التقاليد والفرنسيون أيضا من الدرجة الأولى. اكتسب شهرة عظيمة خلال العهد العثماني للدروس التي كانت تلقى فيه وفي المدرسة المتصلة به والزاوية المسماة بنفس الاسم والتي كانت من الزوايا العلمية (¬3). وكانت له أوقاف عظيمة لشهرته، وكثرة الطلبة والغرباء فيه. يقول ديفوكس إن أقدم الوثائق التي كانت عنده ترجع الجامع ¬

_ (¬1) راجع كتابنا تاريخ الجزائر الثقافي، ج 1. (¬2) ديفوكس، 81 ويقول كلاين إن الجامع كان يقع قرب ثكنة المقرين (جمع قارئ). وهو الاسم الذي حوله النطق المحلي إلى المقرون، ثم حوله النطق الأوروبي إلى (المكرون). وأضاف كلاين أن ابن بكير باشا أضاف مدرسة إلى هذا الجامع سنة 1748. وقد استولت السلطات العسكرية على الجامع والمدرسة والثكنة منذ 1830. انظر كلاين، مرجع سابق. (¬3) ممن تحدث عن هذا الجامع والزاوية المؤرخ أبو راس الناصر حوالي 1814. انظر كتابه (فتح الإله) تحقيق محمد بن عبد الكريم. وكذلك كتابنا (أبحاث وآراء) ج 2: (مؤرخ جزائري معاصر للجبرتي).

إلى سنة 1570. وهو من الجوامع السبعة التي تحدث عنها هايدو. وكان له عدد كبير من الموظفين يتغذون من أوقافه. من آخر وكلائه الشيخ قدور بن المسيسني الذي سماه الحاج علي باشا سنة 1224 (1808)، وكان من علماء الوقت ومن عائلة معروفة بالجزائر، وربما هو نفسه (قدور) الذي تولى القضاء في العهد الفرنسي. وللجامع صومعة غير عالية في حجم مربع. وقد استولت عليه أيضا المصالح العسكرية الفرنسية منذ 1831. فاستعملته مراقد للجنود. ثم استعملته مستشفى مدنيا بضع سنوات، ثم أرجع إلى السلطات العسكرية فرممته لا ليرجع إلى المسلمين أو لوظيفته الدينية ولكن ليكون مخزنا مركزيا للمستشفيات. كان يحمل رقم 31 من شارع القناصل ثم رقم 28 منذ سنة 1854. ولا يتحدث ديفوكس ولا أوميرا عن مصير هذا الجامع الذي لا يستحق كل هذا البؤس والاحتقار (¬1). أما هنري كلاين فيقول إنه أصبح مدرسة الفنون الجميلة. ويضيف كلاين أن طراز الجامع كان بربرية، وأنه مثل الجامع الكبير وجامع سيدي رمضان كان قديما جدا. وكذلك الزاوية التي تحمل نفس الاسم. 24 - جامع باب الجزيرة (دزيرة بلهجة الحضر): ويسمى أيضا باسم بانيه الداي شعبان خوجة الذي تولى على الجزائر بين 1101 - 1106 هـ، ثم وسعه الداي الآخر، حسن بن حسين، بعد قرن، أي سنة 1209 (وقع التوسيع سنة 1795)، وهو الداي الذي استعاد وهران من الإسبان. وكان هذا الجامع (بني سنة 1693) من جوامع الخطبة والدرس، وقد تداول عليه وكلاء، بعضهم كان من العلماء والقضاة. وكان له موظفون كثيرون نظرا لكثرة أوقافه. وكان تحت رعاية مؤسسة (سبل الخيرات) التي ترعى جوامع المذهب الحنفي. ولم ينتظر الفرنسيون حتى تجف الدماء وينقشع غبار المعركة، بل بادروا منذ 1830 إلى جعل هذا الجامع ثكنة عسكرية، ثم وقع تسليمه إلى مصلحة أملاك الدولة (الدومين). والغريب أنهم زعموا أنه بعد ¬

_ (¬1) ديفوكس، 85. وكذلك كلاين، مرجع سابق.

أربع سنوات فقط أصبح مهددا بالانهيار، لذلك هدموه وأدمجوه في المنازل المجاورة له، سيما الدار رقم 36 من شارع القناصل، كما يقول ديفوكس (¬1). فأين وكلاؤه وأوقافه الي لم تتركه ينهار أكثر من قرن ونصف، ولكنه أنهار في ظرف أربع سنوات؟ وقد أضاف أوميرا أن جامع الداي شعبان خوجة كان يقع بين شارعي البحرية والقناصل، وأنه عطل وحول إلى ثكنة لسلاح الهندسة، ثم خرب سنة 1834، فأعطى لإدارة (الدومين) التي باعته بتاريخ 26 سبتمبر 1835، ثم بني في مكانه فدخل في الدار المسماة (الدار الفرنسية) (¬2). 25 - مسجد المرسى (أو باب المرسى): وترجع شهرة هذا الجامع إلى أنه واقع في الباب الذي كان يدخل ويخرج منه المجاهدون في البحر. ومن خلاله كانت تأتي الغائم الوفيرة وتدخل الأسرى. ولعل المجاهدين كانوا يستعملون هذا الجامع لصلاة المودع عند الذهاب، وصلاة الشكر والحمد عند الإياب. وقد حاول ديفوكس أن يستدر الدموع والعواطف وهو يصف باب المرسى وجامعه فقال إن الأسرى المسيحيين كانوا يدخلون منه وهم يبكون حريتهم وعائلاتهم وأوطانهم. وقد يكون ذلك صحيحا، فالأسر في كل مكان قيد لحرية الإنسان وتعطيل لحواسه وقدراته، ولكن ديفوكس نسي أن بلاده (فرنسا) كانت أيضا تأسر المسلمين في العهد العثماني وتربطهم في المجاديف التي لا يستطيعون الفكاك منها مدى الحياة، ولا تقبل حتى الفدية منهم. فهل كان أسرى المسلمين في السفن الفرنسية أقل شعورا بالحرية وأرخص دموعا وأوطانا من الأسرى الفرنسيين؟ ثم إن بلاده كانت تأسر الجزائريين وهم في وطنهم وترسل بهم إلى المنافي البعيدة. وحسب ديفوكس فإن باب المرسى هذا كان يدعى أيضا (باب الجهاد) وأيضا باب دزيرة (ولعله هو الذي قبله). ولكن الفرنسيين الذين يقول عنهم ¬

_ (¬1) ديفوكس، 88. (¬2) أوميرا، 184. ولم يتحدث كلاين عن مصيره.

أوميرا، إنهم لم يكونوا يحملون شعورا معاديا للإسلام، غيروا اسم (باب الجهاد) إلى (باب فرنسا). لقد كان جامع المرسى الذي نتحدث عنه خاصا بالبحارة فيما مضى من الأيام، لأنه كان يقع خلف باب الجزيرة، وداخل المرسى (¬1). وكان بدون منارة. وقريبا من البرج الكبير، ملاصقا لمبنى الأميرالية. ويذكر أوميرا أن جامع المرسى قد أدمج سنة 1830 في تحصينات الإميرالية، وإنه كان عند أقواس الأميرالية في الجانب المواجه للمدية (¬2). 26 - الجامع الكبير: ويسمى أيضا الجامع الأعظم. وهو من أقدم المساجد في الجزائر. وقد تحدثنا عنه في الجزء الأول. وبقي خلال العهد الاستعماري تقريبا على حاله في أداء الوظيفة الدينية وخدمة المسلمين، مع اختلاف درجة الموظفين والخدمات. وتداول عليه أيمة ومفتون ومدرسون من درجات متفاوتة (¬3)، ولكنه لم يسلم هو أيضا من الأذى والإهانة، فقد استنقصوا منه الجزء المواجه للبحر، ثم غطوه عن أعين القادمين من المرسى إلى المدينة بعمارات وبنايات ذات طوابق. وفي سنة 1843 وقعت له إهانة عظيمة بنفي المفتي الكبابطي والاستيلاء على أوقاف الجامع التي كانت في الأهمية تأتي فقط بعد أوقاف مكة والمدينة. وضمت أوقافه إلى أملاك الدولة الفرنسية، بقرار من المارشال بوجو صادر في 4 يونيو 1843 (¬4). ويزعم الفرنسيون ¬

_ (¬1) ديفوكس، 92. (¬2) أوميرا، 184. وكذلك كلاين. (¬3) انظر فصل السلك الديني والقضائي. (¬4) ديفوكس، 125. لقد أطال ديفوكس في وصف الجامع الكبير وأوقافه وتاريخه. ولم نر نحن لذلك ضرورة هنا ما دمنا قد تعرضنا له في الجزء الأول. وغرضنا هنا كما هو واضح، هو ذكر مصائر هذه المساجد في الزمن الفرنسي والتذكير بحالها عند الاحتلال وبعده، حتى لا يظن البعض أن ما ذكرناه في الجزء الأول قد بقي قائما بعد الاحتلال. كما أن كلاين أطال فى وصفه، وادعى أنه بنى على أنقاض كنيسة وهى أيضا مبنية على حصن روماني. وقد جاء في محراب الجامع أنه قد بني سنة 409 هـ (1018 م)، وأن منارته قد شيدت في عهد السلطان الزياني أبو تاشفين سنة 1324 م. وذكر كلاين أيضا أن الجيش الفرنسي قد احتل سوابيط الجامع سنة 1830 =

أنهم بعد ذلك جملوا واجهته ببعض العرصات التي كانت في جامع السيدة بعد هدمه. وهم ينسبون الفضل لأنفسهم في ذلك رغم أن أوقاف الجامع الكبير كانت تكفي لشراء أجمل العرصات المرمرية. والغريب أنهم بينما يفعلون ذلك استولوا أيضا على مدرسة وزاوية الجامع الكبير وقضوا عليهما، كما سنرى. والواقع أن هذا الجامع قد فقد أيضا هيبته ومكانته العلمية بتدجين علمائه وجعلهم أصواتا ناطقة بما تريد السلطة الفرنسية فقط. وقد كاد الفرنسيون يهدمون الجامع الكبير أيضا مرتين، مرة سنة 1888 ثم سنة 1905. فأعد مهندسوهم الخرائط، ووضعوا الخطة لإقامة فندق مكانه وطمس معالمه. ولكن المحاولة فشلت. ففي الأولى جاء الحاكم العام (لويس تيرمان 1888) بنفسه إلى الجامع ووافق علماء السوء على المشروع واستبدال الجامع بفندق وباء جامع في مكان آخر بيد، وفي نفس الوقت حضر الجمهور فاحتجوا وصرخوا وخشي الحاكم غضبة شعبية فتراجع. والمرة الأخيرة كانت في عهد شارل جونار (1905) الذي كاد ينفذ الخطة القديمة، ثم وقع العدول عنها. ويرجع الفضل في إفشال المشروع إلى حنكة بعض الأعيان وعلى رأسهم الحكيم محمد بن العرب (¬1). 27 - مسجد الجنائز: وله اسم آخر أجمل من هذا وهو مسجد الحاج باشا الذي جدده سنة 1545. وكان عندئذ يحكم الجزائر بالنيابة. فالجامع ¬

_ = ثم أجرت إلى الخواص سنة 1836، أي أنها فصلت عن الجامع. واستلمها السيد بيكون PICON واستقر بها. (¬1) انظر ترجمتنا لحياة ابن العربي في فصل العلوم التجريبية، وكذلك (تقويم الأخلاق)، محمد العابد الجلالي، 61. ويذكر كلاين أن الجامع الكبير كان مقرا للمجلس الشرعي، وأن من بين المفتين فيه: مصطفى الكبابطي، وحميدة العمالي، وعلي بن الحفاف، والحاج قدور الشريف، ومحمد بن زاكور، وابن ناصر الذي كان موجودا سنة 1919. انظر كلاين، ص 150 - 152.

إذن قديم رغم صغره. وآخر وكيل له سماه الداي حسين حوالي 1825، وهو الشيخ محمد بن مصطفى غرناوط الذي سيرد اسمه بين علماء الوقت في عهد الاحتلال أيضا. ويقول ديفوكس إنه كانت لهذا الجامع أوقاف متواضعة. وليت شعري كيف عاش بهذه الأوقاف ثلاثة قرون ولم يعش بها إلا بضع سنوات في عهد الاحتلال. فقد عطلته سلطات الاحتلال سنة 1836 وجعلته جزءا من المستشفى المدني. وبعد سنتين جعلته جزءا من المخزن المركزي للمستشفيات العسكرية (¬1). ويذهب أوميرا إلى أن هذا الجامع قد بقي إلى سنة 1898 في وظيفته المذكورة وأخبر أن جزءا منه قد أعيد بناؤه. وكان يقع في شارع أورليان (¬2). ولكننا لا نعرف جامعا بذلك الاسم بعد ذلك. 28 - مسجد الملياني: هذا المسجد كان سيء الحظ منذ أول الاحتلال. فقد عطلته السلطات الفرنسية عن أداء مهمته الإسلامية منذ 1830، كما يقول ديفوكس، وتركه للاهمال والاندثار. ويفهم من هذا أنه ترك بدون وكيل وبدون أوقاف وصيانة، فساءت حاله. ولم تأت سنة 1840 حتى هدم مع بنايات أخرى مجاورة له، بدعوى فتح طريق عمومي (¬3). ولا نعرف مكان هذا المسجد بالضبط، لأن أوميرا أيضا لم يذكره، رغم أن من عادته تحديد المواقع. 29 - مسجد سيدي عبد الرحمن الثعالبي: وهو غير المسجد والضريح المعروفين اليوم. فهو مسجد صغير، له أوقافه الخاصة، وله موظفوه من ¬

_ (¬1) ديفوكس، 127. ولم يذكر كلاين شيئا عن مصيره. (¬2) أوميرا، 184، أشار كلاين إلى مصلى (مسجد) الجنائز حيث يصلى على الميت قبل دفنه في مقبرة باب الواد. وقال إن هذا المسجد يقع غير بعيد من بوطويل وضريح الشيخ الثعالبي، وأن له منارة وقبتين، وإن الذي بناه يدعى محمود الذي كان رئيسا للوجق سنة 1675. هذا الجامع حوله الفرنسيون إلى ثكنة سنة 1830 ثم هدموه سنة 1862 لإنشاء الليسيه الفرنسي. (¬3) ديفوكس، 127.

وكيل وإمام وحزاب الخ. وآخر وكلائه كان الحاج حسين بن قريش (قرواش؟) الذي ظلت عائلته تتولى الوكالة عليه قرنين أو ثلاثة قبل الاحتلال. هذا المسجد تعرض أيضا للهدم سنة 1859 دون ذكر السبب. ويضيف أوميرا أنه كان يقع في شارع لا شارت La Charte، وأنه هدم لتدخل أرضه في الساحة التي كانت حديقة للكاتب العام للحكومة (الفرنسية) خلال فترة طويلة، والتي هي اليوم (1898) تابعة للدار الأندلسية - الموريسكية المخصصة لاجتماعات مجلس ولاية الجزائر العام (¬1). 30 - مسجد كوشة ابن السمان: هذا المسجد بقي إلى سنة 1834 على حاله، لكن في هذه السنة تعطل عن غرضه وجعل مخزنا لآلات الشنق والمقصلة - أي والله! - وفي سبتمبر من سنة 1836 جرى هدمه من أجل المنفعة العامة (¬2). أو هكذا برروا هدمه. وكان يقع في شارع دوكيني. 31 - مسجد سيدي الجودي: بعض الوثائق التي تذكره ترجع إلى سنة 1081 (1671) أي كان له على الأقل قرابة قرنين عند الاحتلال. وقد ورد ذكره في قصيدة ابن عمر عن الغارة الدنماركية ضد الجزائر. وكان يقع في شارع تروا كولور، وهو مسجد من الدرجة الثانية، حسب تعبير ديفوكس الذي لم يذكر مصيره بالضبط، غير أن الزاوية والجبانة التابعتين له قد هدمتا سنة 1838 و 1840، وبنيت في المكان عدة منازل (¬3). ونعتقد أن المسجد قد هدم أيضا أثناء ذلك أو بعده بقليل لأنه قد اختفى من الوجود. 32 - مسجد (جامع السلطان): له عدة أسماء أخرى منها جامع عين السلطان وجامع القهوة الكبيرة. وأقدم الوثائق التي تتحدث عنه ترجع إلى ¬

_ (¬1) أوميرا، 187. عن عائلة ابن قرواش انظر الجزء الأول من تاريخ الجزائر الثقافي. (¬2) ديفوكس، 129، وكذلك أوميرا، 184. (¬3) ديفوكس، 129. انظر عنه أيضا قصيدة ابن عمر (1788) في المجلة الإفريقية، 1894، مرجع سابق. وهناك تفاصيل أخرى عن ذلك في حديثنا عن الجامع الجديد.

القرن الحادي عشر الهجري (1088/ 1677). وهو مسجد صغير، له أوقاف خاصة به، وكان يقع في ركن شارع تروا كولور وشارع ماهون. ومنذ 1837 عطل عن وظيفته واستولت عليه مصلحة الموازين. ثم في 1838 هدم وبنيت على أرضه إحدى الدور (¬1). ونفس المعلومات تقريبا أوردها حوله أوميرا أيضا. 33 - مسجد الباديستان: ويسمى أيضا مسجد البابستان. وكان صغير الحجم، ويقع قرب البحر، واشتهر بنزول الأسرى غير المسلمين في الملجأ حوله، أو سوق الرقيق. ومنذ الساعات الأولى للاحتلال هدم كل من المسجد والباديستان معا، لأن الفرنسيين جاؤوا منتقمين أيضا، فيما يبدو، لغيرهم من النصارى الذين تعرضوا للأسر في ذلك المكان. وموقعه كان ساحة ماهو (¬2). ويقول أوميرا إنه كان من المساجد الخمسة التي هدمت فور الاحتلال - بين 1830 - 1832 (¬3). 34 - الجامع الجديد: وهو من المساجد الباقية إلى الآن. ولكنه لم يسلم من التشويه والإهانة، مثل زميله الجامع الكبير (الأعظم). وكانت له منارة عالية ترى عن بعد من البحر، وله محراب مغطى بالفسيفساء. وكان ناصع البياض، فخم المنظر، يندهش القادم من المرسى لمرآه. وله قباب عديدة ورشيقة رشاقة فائقة، وهي من القباب المدورة. وكانت قاعدته على رمال شاطئ البحر. وقد نسج حوله الفرنسيون قصة أو أسطورة غريبة، قالوا إن بانيه (سنة 1660) كان من الأسرى النصارى، وأجبره المسلمون على بناء المسجد، فقرر في نفسه أن يبنيه على شكل صليب، وكانت النتيجة قتل الأسير وبقاء المسجد قائما على شكل صليب لاتيني، كما يقول أوغسطين بيرك. والغريب أن هذه الأسطورة المفتعلة يرددها كتابهم من رجال الدين إلى رجال الدنيا، من هم عقلاء ومؤرخون، ومن هم خرافيون وموتورون. ¬

_ (¬1) ديفوكس، 131. (¬2) نفس المصدر، 132. (¬3) أوميرا، 181.

وعندما كان الفرنسيون يختارون أي المساجد الكبرى والجميلة لكي يحولوه إلى كاتدرالية كاثوليكية، اقترح بعضهم اسم الجامع الجديد ليكون الضحية، وتناقشوا في ذلك طويلا، وملأوا الصحف والتقارير والمجالس بالمبررات، ولكنهم أخيرا اختاروا جامع كتشاوة ليكون هو الضحية، وأبقوا على الجامع الجديد، تخليدا لذكرى الأسير الأسطوري، وتخليدا لشكل الصليب الذي نواه، واحتراما لإرادته في الدارين. غير الفرنسيون اسم الجامع الجديد إلى جامع الصيد البحري. واستولوا على أوقافه الكثيرة التي كانت تشرف عليها مؤسسة (سبل الخيرات) الحنفية. وأخذوا يغيرون منه جهة البحر عندما كانوا يعدون شارع الإمبراطورية الموازي لسيف البحر. وبذلك غيرت مصالح الأرصفة واجهة الجامع البحرية تماما، وغطته عن الأنظار فأصبح عبارة عن دهاليز معتمة حجبت عنه الشمس. ويقول ديفوكس الذي كان شاهد عيان لهذه المجزرة العمرانية - الصليبية: إن مصالح الأرصفة قد غيرته تماما عما كان عليه، واختفى بذلك التغيير منظر بحري جميل كان هو المصدر الأول لرشاقة الجامع. ومن هذه التغييرات التي أفسدت شكل الجامع أنهم أغلقوا نهائيا بابه الجنوبي - الغربي، كما أغلقوا بابه الذي كان يفتح نحو البحر لمد الطريق المذكور، وكذلك أجروا تعديلا على بابه الثالث. وتبلغ مساحة الجامع الجديد 1371 مترار و 20 سم (8 متر عرضا في 39 متر 59 طولا). أما طول منارته فكان 30 مترا. ولكن الدفن الذي حصل في شارع البحرية أنقص منها خمسة أمتار. كان الجامع الجديد مقرا للمفتي الحنفي. وآخر المفتين فيه عند الاحتلال هو الحاج أحمد بن الحاج عمر بن مصطفى الذي تولى سنة 1243/ 1827. وترجع الوثائق بناء الجامع الجديد إلى سنة 1070/ 1660، في مكان مدرسة بوعنان. وينسب بناؤه إلى المجاهد الحاج الحبيب (¬1). وتسميه ¬

_ (¬1) ديفوكس، 132 - 149. في هذه الصفحات تفاصيل غنية لمن أراد الاستزادة. انظر أيضا أوميرا، 187. وكذالك أوغسطين بيرك (الفن القديم والفن الإسلامي بالجزائر) فى (كراسات الاحتفال المئوي)، 1930، 95. ويقول بيرك إنه كان الجامع كرسى =

العامة أيضا جامع البطحاء (ساحة الحكومة/ الشهداء). وقد ظل الجامع الجديد مهددا بالهدم إلى فاتح هذا القرن. فقد جرت مناقشات في بلدية الجزائر بين النواب الفرنسيين والمسلمين حول هدمه من أجل تجميل المدية. ثم وقع العدول عن ذلك. ومن الذين تولوا الدفاع عن إبقاء هذا الجامع، وكذلك الجامع الكبير، السيد عمر بوضربة الذي اعتبر إزالتهما ضربة لمشاعر المسلمين. وساعده على ذلك زملاؤه: ابن مرابط، وابن رضوان، وباش أحمد. ومن الملفت للنظر أن قرار الإبقاء على الجامعين كان بحجة اعتبارهما من الآثار التاريخية وليس باعتبارهما من المعالم الإسلامية أو من أملاك المسلمين (¬1). ¬

_ = مرمري ونسخة نادرة ضخمة من القرآن الكريم مرسلة من قبل سلطان إسطانبول (منتصف القرن 18 م) إلى باشا الجزائر. وقد وصفه أيضا ألبير بيللو سنة 1904 في المجلة الإفريقية، ص 170. وقال إنه يتميز بالرشاقة والجمال لوجود الفن الإسلامي (الأرابسك) في محرابه ومنبره، وتناسق الآيات القرآنية المكتوبة على جداره. ويقول كلاين إن المصحف كان تحفة نادرة وجميلة بزخرفتها وخطها. وأن مدخل الجامع كان عند قاع السور وكانت على الباب كتابات بالتركية (العثمانية)، ولكنها خربت سنة 1846 من قبل متعصب مسلم (!) عندما كان عالم فرنسي يحاول فهمها. وقد وضع الفرنسيون ساعة على جانب منارته سنة 1853 (صنعت في مصانع واغنر WAGNER وقال إن المسلمين قد عارضوا بشدة إلصاق الساعة بالمنارة وأظهروا مشاعر هائجة .. ولكن بمرور الزمن هدأت مشاعرهم. وفي سنة 1857 علقت على الجامع ثلاثة نواقيس تزن على التوالي 50، 80، 120 ك غ. وقد استخدم الجيش الفرنسي المبنى الأرضي من الجامع كمخازن إلى سنة 1864، وفي هذا التاريخ استلمها الدومين فأجرها إلى الخواص، فاستلمها السيد سيماطو ClMATO وفي 14 يوليو من كل سنة (عيد الثورة الفرنسية) تعلق الأعلام الفرنسية على الجامع الجديد. انظر كلاين، ص 53 - 54. (¬1) انظر المداولة مفصلة في جريدة (الأخبار) - القسم الفرنسي منها - عدد 27 مارس 1905. ومن الصدف أن عمر بوضربة الذي دافع عن الجامعين كان جده، وهو أحمد بوضربة، من أنصار الحملة الفرنسية سنة 1830، وكان متزوجار من فرنسية. ثم تبين خطأه السياسي، فانضم للأمير عبد القادر، ثم مات غريبا، في طنجة. وفي سنة 1912 نشر (التقويم الجزائري) الذي كان يصدره الشيخ محمود كحول نفس الخبر عن الجامعين. ولا ندري لماذا نشر ذلك بعد سبع سنوات، اللهم إلا لتهدئة المشاعر التي =

35 - مسجد المرابطة: ويسمى أيضا مسجد المرابطة الزرزورة. وتذكرها الوثائق (سيدتنا) - فهل هي التي شيدت هذا المسجد؟ وتاريخه غير معروف، لكن يرجح أنه من القرن 11 هـ/ 17 م. وهذا المسجد كان يقع على بعد أمتار فقط من الجامع الجديد، من جهة البحر. كانت له أوقاف خاصة، يعود تاريخ بعضها إلى سنة: 1034/ 1624. وكان له إمام عند الاحتلال يسمى الطيب خوجة بن الحاج محمد الشريف، ويعرف بابن حسن الشريف. وتعرض المسجد للهدم من الأيام الأولى للاحتلال (1832) من أجل المنفعة العامة، كما قالوا (¬1). واعتبره أوميرا من المساجد الخمسة الأولى التي تعرضت للهدم بين 1830? 1832. 36 - مسجد الحواتين: وقد هدم أيضا (للمنفعة العامة) حسب المصطلح المتداول. وكان يقع غير بعيد من الجامع الجديد. واسمه يدل على أنه كان لصيادي السمك. وقد بناه لهم حسين باشا. وجرى هدمه مع ما هدم لبناء الأرصفة على شارع الإمبراطورة في مواجهة البحر. ويقول ديفوكس إنه لم يكن للمسجد أوقاف جارية، وهذا غريب (¬2). لأن التقاليد جرت أن كل جامع له أوقافه ولو كانت قليلة. 37 - مسجد المقايسية: ويسمى أيضا مسجد الصباغين. والمقايسية هم صناع الأساور. وكان الحيان (المقايسية والصباغين) من أشهر أحياء العاصمة في الحرف والصناعات. ولكن المعول الفرنسي أبى إلا أن يبادر بهدم هذا الجامع أيضا منذ أول الاحتلال، من أجل المنفعة العامة، ومنفعة من؟ وقد كان من أقدم المساجد بالعاصمة إذ يعود تاريخه إلى القرن العاشر الهجري ¬

_ = قد يكون أحدثها النقاش حول الهدم. وقد تحدثنا عن عمر بوضربة في مكان آخر على أنه كان من المتجنسين وبالجنسية الفرنسية والتجار. كذلك لعب الحكيم محمد بن العربي دورا بارزا في إنقاذ الجامعين. انظر حديثنا عن الجامع الكبير. (¬1) ديفوكس، 150. (¬2) نفس المصدر، 151. أشار كلاين إلى هذا المسجد أيضا.

(980/ 1572) (¬1). ولو كان للفرنسيين حس تاريخي لحافظوا عليه كمعلم من المعالم قبل أن يكون مسجدا. والغريب أنهم بينما يهدمون هذا المسجد كانوا يبحثون ويحفرون على آثار الرومان ويجمعونها في المتاحف. ومن أشهر المنتصبين لصنعة المقايس (الأساور) الشيخ حمودة المقايسي الذي تخرج من الأزهر، وكان قد عاصر الاحتلال مدة خمس عشرة سنة. وكان الجامع يقع في أقواس ساحة الحكومة (الشهداء). وقد أكد أوميرا معلومات ديفوكس حول هذا الجامع. ولم يذكر أن له أوقافا، وكأنه عاش أكثر من قرنين بدون وقف. 38 - مسجد خير الدين: ويسمى أيضا جامع الشواش. وخير الدين بربروس هو أول من أدخل الجزائر في حماية الخلافة العثمانية، وكان قائدا للأسطول الإسلامي العثماني لبضع سنوات. ومن أول الاحتلال عطل المسجد عن وظيفته وسلم إلى الجيش الفرنسي - فرقة الحرس. وكان مكانه في ساحة السلاح (بلاص دارم). وبعد هدمه بنيت على أرضه مجموعة من المنازل. ويقول ديفوكس إن بناء الجامع يرجع إلى سنة 1520، وكانت له أوقاف متواضعة، دون أن يحددها (¬2). أما أوميرا فقال إن مسجد خير الدين كانت تتبعه مدرسة، وكان يقع قريبا من مدخل الجنينة، وكان يشكل جزءا من واجهة قصر الباشوات القديم، ثم أصبح جزءا من واجهة ساحة الحكومة، وأخيرا هدم هو والقصر في نفس الوقت منذ بداية الاحتلال (¬3). 39 - جامع كتشاوة: جامع كتشاوة كان من ضحايا الروح الصليبية الفرنسية (¬4). وإذا كان جامع السيدة قد اعتدوا عليه بالفأس والمطرقة ¬

_ (¬1) نفس المصدر، 151. انظر أيضا كلاين. فقد ذكر مجموعة من الجوامع التي هدمت لفتح ساحة الحكومة ومنها جامع المقايسية، وجامع الشواش الذي قال إنه أصبح مقرا لفرقة الحرس قبل الهدم. (¬2) ديفوكس، 159. (¬3) أوميرا، 184. (¬4) عن مصير الجامع وكيف تحول إلى كاتيدرالية، انظر كلاين.

والديناميت فإن جامع كتشاوة قد اعتدوا عليه بتحويله إلى كاتيدرالية للديانة الكاثوليكية وبمباركة الحكومة والبابوية معا. وقد قاوم المسلمون الباقون في مدينة الجزائر هذا الاعتداء على الحرمات الدينية التي نص اتفاق 1830 على عدم المساس بها، ولكنهم تعرضوا للقتل والضرب في الجامع نفسه. ولا سبيل لوصف ما حدث في هذا الجامع من تغيير وتبديل بأيدي الحكام الرسميين ورجال الدين، لأن غرضنا كما قلنا هو ذكر مصائر البنايات الدينية فقط وبعض أحوالها في عهد الاحتلال. أول إشارة إلى جامع كتشاوة ترجع إلى سنة 1021 (1612). ثم جرى توسيعه وتجميله على يد الداي حسن سنة 1209 (1794)، وهو الداي الذي فتحت وهران في عهده، كما سبق. وكان من الباشوات الأقوياء. وقال ديفوكس إنه اتخذ جامع السيدة نموذجا له عند توسيع وتجميل جامع كتشاوة. وقد خلد البناة عملية التوسيع بكتابات ولكن الفرنسيين جردوه منها، ووضعوها في متحف، سنة 1855، ويذهب ديفوكس إلى: ان السلطات الفرنسية قد (أعطته) إلى الديانة الكاثوليكية بعد سنوات قليلة من الاحتلال، ويضيف أنه قد هدم تماما شيئا فشيئا، نتيجة التعديلات المتوالية التي أدخلت عليه لجعله كاتدرائية (¬1). وأضاف أن العرصات فقط هي التي نجت من الهدم في هذا الجامع الجميل. وهو عمل، في نظر ديفوكس، كان محل أسف هواة الفن المعماري الأهلي. وكل من تناول وصف الجامع يعترف بجماله وسعته وصحته، لأن تجديده جرى قبل الاحتلال بأقل من أربعين ¬

_ (¬1) ولا ندري المسجد الذي عناه دي بوسيه، المتصرف المدني في كتابه (عن المؤسسات الفرنسية في الجزائر) ج 1، ص 143، حين قال إن الكاثوليك وجدوا سنة 1832 مكانا يليق بهم في أحد مساجد العاصمة. وكان هو يكتب سنة 1835. وذكر من الآيات القرآنية التي كانت منقوشة على حيطانه: {لمسجد أسس على التقوى ...} و {إن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا} و {إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا} و {حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى}. وذكر دي بوسيه أن الذي كتب هذه الآيات هو الخطاط إبراهيم جاكرهي سنة 1610.

سنة. ومع ذلك فإن الفرنسيين هم الذين يصفون المسلمين الجزائريين عندئذ بالتعصب! ويقول أوميرا الذي كتب في عصر الليبرالية واللائكية والحياد إزاء الدين، إن الكاثوليك كانوا متحمسين لبعث (كنيسة إفريقية) تناسب التاريخ والمقام. وكانوا يريدون إنشاء كنيسة تستجيب لهذا الحماس. ولكنهم بدلا من ذلك أخذوا يهدمون جامع كتشاوة ويحولونه، بأسلوبهم، إلى كنيسة تناسب المقام والتاريخ اللذين يتصورونهما، فلم يبقوه جامعا على أصله ولم يبنوا كنيسة على ذوقهم. وقد أشرنا إلى الخلاف الذي جرى بين الفرنسيين حول تمويل الجامع الجديد أو جامع كتشاوة إلى كنيسة? كاتيدرالية. وما دام بعضهم يحث عن الفخامة والفن والتاريخ فقد وجد ذلك في جامع كتشاوة ولم يجده في الجامع الجديد. وكان الأثريون يرون الاقتصار على تحويل المسجد دون المساس به ليبقى أثرا أندلسيا - موريسكيا قائما للتاريخ. ولكن رجال الكنيسة لم يكن يرضيهم ذلك فدمروا الجامع تدميرا بأسلوبهم وجردوه من فنه المعماري وطرازه المحلي الإسلامي، وبقيت عملية التدمير حوالي ربع قرن، لكن عملية التحويل الأول كانت سنة 1838، أي منذ جاء الأسقف دوبوش Dupuch ووافق البابا في رومة على فتح أسقفية في الجزائر. واسم كتشاوة (أيضا كجاوة) ليس هو اسم باني الجامع ولا مجدده، وإنما هو اسم للمكان الذي بني عليه. وكانت أوقافه تحت يد (سبل الخيرات) باعتباره من الجوامع الحنفية (¬1)، ومنها مجموعة من العقارات. وكان جامع كتشاوة من أكبر المساجد بالعاصمة، وكان له خطيب ومدرسون، وموظفون آخرون. وكان يقع في شارع الديوان. وقد وصفت قبته بالفخامة ومحرابه بالجمال، وكانت بيت الصلاة فيه مربعة ومحاطة بالعرصات المرمرية المدورة، وكان مزينا بالكتابات الدينية والزخارف من ¬

_ (¬1) وصفه ورسمه السيد رفوازييه في سلسلة (الاكتشاف العلمي للجزائر)، 1840 - 1842. انظر فصل الاستشراق.

الداخل، وأما مدخله الرئيسي فكان من ناحية الجنوب (¬1). 40 - جامع القائد علي: هذا مسجد صغير وبدون صومعة، وكان له وقف غير محدد، وليس له تاريخ محدد لبنائه. وينسب إلى القائد علي الذي لعله من الموظفين السامين في العهد العثماني. وكان الجامع يقع في شارع السودان. ولا نعرف مصيره قبل 1842، ولكن منذ هذا التاريخ (عهد الحاكم العام بوجو) سلمته السلطات الفرنسية إلى جمعية تسمى أخوات القديس يوسف (سان جوزيف)، هكذا بدون تبرير (¬2). وقد أكد هذه المعلومات كل من ديفوكس وأوميرا. ولكن ما مصيره بعد ذلك؟ ليس هناك معلومات إضافية، ويبدو أن مآله كان الهدم أو الاندثار. 41 - جامع شارع الديوان: وهو جامع صغير وليس له اسم خاص به، إنما كان يسمى باسم الشارع الذي يقع فيه (الديوان)، وكانت السلطات الفرنسية تسميه باسم مسجد سيدي عبد الرحمن، لكن ديفوكس يقول إن الوثائق لا تؤكد هذه التسمية، وأن بعضها تسميه مسجد البكوش. وكانت له أوقاف لكن غير محددة. ومهما كانت التسمية فإن هذا المسجد قد عطل عن وظيفته منذ 1830 واحتلته مصلحة الأشغال العمومية إلى 1839. ومنذ هذا التاريخ هدم ودخل في الطريق العام (¬3). وكان يقع في شارع العقيد بوتان Boutin الذي كان من جنود نابليون الأول. 2 - مسجد سوق السمن: يروي ديفوكس أنه لا توجد وثائق حول هذا المسجد. وهو بدون شك يأخذ اسمه من الحي الذي وجد فيه: (سوق السمن). وقد عطل عن وظيفته منذ 1837. ويزعم ديفوكس أن المسلمين ¬

_ (¬1) ديفوكس، 146 - 170. وكذلك أوميرا، 186. وصفه أيضا أوغسطين بيرك، مرجع سابق، ص 98 قائلا إن رخامه كان قد جلب من إيطاليا، وكانت به حدوة الحصان فكسرت، ووصف زخارفه من الداخل على أنها تثير الإعجاب، وكان له باب خشبي عليه نقوش من قبل أمين النجارين أحمد بن اللبلابجي. وقال إن طرازه تركي. (¬2) ديفوكس، 173. (¬3) نفس المصدر 174.

أهملوا هذا المسجد فهدمته السلطات الفرنسية سنة 1857 (¬1). وإذا صح هذا الإهمال فإنه لم يكن إلا نتيجة استيلاء مصلحة أملاك الدولة على أوقاف المسجد وعدم تعيين وكيل له يتولاه ويصونه منها. وكان مسجد سوق السمن يقع في شارع ليزار. وبعد هدمه دخل في الأرض التي بني عليها بازار سليمان (سلمون) بين شارعي الباب الجديد وليزار. 43 - مسجد الدالية: وهو من المساجد القديمة إذ تثبت الوثائق أنه يرجع إلى القرن العاشر على الأقل (سنة 964/ 1556). وكان معه مكتب أو مدرسة قرآنية. ورغم طول عهده فلم يتأثر إلا بعد الاحتلال، إذ أثبت ديفوكس أنه عطل ووقع التصرف فيه سنة 1839 بسبب تداعيه وانهياره (¬2). وكان هذا المسجد يقع أيضا في شارع ليزار. 44 - مسجد سوق اللوح: لعل هذه التسمية جاءته من الحي الذي كان فيه - النجارة -. ومنذ الاحتلال شغلته مصلحة بيت المال التي أصبحت فرنسية، ووضعت مكاتبها فيه، ودام ذلك إلى سنة 1836. وهو تاريخ هدمه وإدخال أرضه في الطريق العام. ولا شك أن ذلك كان تحت غطاء المنفعة العامة. وكان المسجد يقع في شارع الملك جوبا (يوبا). ومن الإشارات إلى المسجد ما يرجع إلى القرن الحادي عشر (1070/ 1659). وكان الداي الشهير محمد بن عثمان باشا قد أوقف عليه وقفار هاما سنة 1179. ومن وكلائه القدماء محمد بن جعدون وهو من عائلة أندلسية اشتغلت بالعلم. وقد تولى منها في بداية الاحتلال، أحمد بن جعدون وظيفة القضاء (¬3). 45 - مسجد سوق القبائل: ويسمى أيضا مسجد القبيل. وترجعه الوثائق إلى القرن 17 م. وكان يقع بين شارع بوزا وشارع باب عزون، ويظن ¬

_ (¬1) نفس المصدر، 176. (¬2) نفس المصدر. (¬3) ديفوكس، 154. وعن أحمد بن جعدون وتعليمه وتوليته القضاء انظر فصل السلك الديني والقضائي. وقد ذكر كلاين هذا المسجد أيضا (مسجد سوق اللوح).

أنه مسجد قديم وأن علي بتشين قد يكون جدده حوالي 1620. ثم فقد الجامع اسم مؤسسه واسم مجدده، واحتفظ عند العامة باسم الحي: سوق القبيل أو القبائل. وهناك وثائق كثيرة تتحدث عنه. وله أوقاف غزيرة. وكان إمامه سنة 1830 يسمى أحمد بن محمود، وهو في أغلب الظن وكيله أيضا. وقد احتفظ المسجد بوظيفته إلى 28 مايو سنة 1836 حين بيع (كذا) ثم هدم وأصبح مكانه داخلا في الطريق العام (¬1). هكذا كتب عنه ديفوكس، أما أوميرا فقد قال إن مسجد القبائل كان من المساجد الخمسة التي هدمت بين 1830 - 1832 (¬2). 46 - جامع المعجزين (العجزة؟): وهو يسمى أيضا جامع السوق الكبير، أي الحي، كما يسمى جامع ابن تركي، وهو كيله. وهو مسجد صغير. وله أوقاف ووثائق تؤرخه وترجعه إلى القرن العاشر الهجري. وكان عند الاحتلال يحمل رقم 175 من شارع باب عزون، ولم يدم حاله على ذلك طويلا، ففي سنة 1836 هدم ودخلت أرضه في الطريق العام، بينما دخل جزء منه في تراب دار أوروبية (¬3). 47 - جامع خضر باشا: تولى خضر باشا حكم الجزائر ثلاث مرات. وقد بنى جامعه هذا حوالي 1005 (1596) على أنقاض جامع آخر صغير. وأوقف عليه أوقافا عظيمة (¬4). وكان الجامع للصلاة الجامعة والخطبة والتدريس. وعند الاحتلال عطل الجامع عن غرضه وألحق بمستشفى الخراطين، وهو المستشفى الذي أقيم داخل ثكنة الخراطين القديمة. ثم هدم الجامع جزئيا سنة 1836 وأصبح جزء منه داخلا في أحد المنازل الأوروبية وبعضه الآخر داخلا في بيعة (معبد) يهودية. وكان هذا هو جزاء خضر باشا الذي طالما جاهد في سبيل الله وإعلاء راية الا. سلام. ويلاحظ ديفوكس أن ¬

_ (¬1) ديفوكس، 185. (¬2) أوميرا، 181. (¬3) ديفوكس، 167. (¬4) عن أوقافه انظر الجزء الأول من تاريخ الجزائر الثقافي.

هذا الجامع كان على الطراز العربي داخليا وخارجيا، وأنه كان يقع في شارع شيبو (¬1) الإفريقي الذي احتل شمال إفريقية باسم رومة، ثم في شارع باب عزون. وأضاف كلاين أن سقف الجامع كان من القرمود، وأكد على هدم الجامع سنة 1837. 48 - جامع الركرك أو القندقجية: و (الركرك) هو اسم الإمام، حسب وثيقة ترجع إلى القرن العاشر. كما يسمى جامع سوق القندقجية. وكانت له أوقاف هامة مثبتة بالوثائق. وهو مسجد صغير له منارة، وكانت تلاصقه مدرسة. وينسب إلى الولي سيدي عيسى بن العباس (1588). ومن أيمته عبد الرحمن بن البدوي (1814)، الذي لعله أحد جدود أحمد البدوي الذي سيظهر اسمه في وقت الاحتلال كمترجم وصحفي وسياسي. ورغم صحة الجامع كل هذه العصور ووفرة أوقافه، فإن السلطات الفرنسية زعمت أنه أصبح يهدد الأمن العام فهدمته سنة 1839 (¬2). وكان يقع في شارع القفطان. وقد دخل مكانه في الدار الواقعة على هذا الشارع وشارع باب عزون. 49 - جامع الباشا الحاج حسين ميزمورطو: كان الحاج حسين من مشاهير باشوات (حكام) الجزائر. وقد بنى جامعا كبيرا بصومعة رشيقة محلاة بالزليج، وكان من جوامع الخطبة، وكانت للجامع قبة متميزة وأصيلة. وقد بني حوالي 1097 (1685) على أنقاض جامع صغير ودكاكين. وأوقف عليه الباشا المذكور أوقافا كبيرة ذكرناها في غير هذا. وإلى جانب الجامع مدرسة. وكان له خطباء وأية ومدرسون ووكلاء وموظفون آخرون اشتهر بهم الجامع. ولكن الاحتلال الفرنسي أبى إلا أن يجعل هذا الجامع كغيره، أثرا بعد عين. فمنذ 1830 استولى عليه الجيش وحوله إلى مستشفى عسكري. وفي سنة 1836 سلمه الجيش إلى ¬

_ (¬1) ديفوكس، 190. (¬2) نفس المصدر، 193.

الإدارة المدنية، فشرعت في هدمه ودام ذلك، كما يقول ديفوكس، ثمانية عشر شهرا. وقد دخل الجزء الكبير من ترابه في الطريق العام، ودخلت أطرافه في المنازل المجاورة مثل دار بازار فيالار. وكان يقع في شارع شارتر (¬1). وقد تحدث بيربروجر في كتابه (الجزائر المصورة والتاريخية والأثرية) عن جامع الحاج حسين باشا فقال إنه كان أحد المعالم العربية لمدينة الجزائر التي يأسف المرء على هدمها. وقد وصفه كما وصف منارته التي قال إنها تقع في أحد أطرافه جهة باب عزون. وكانت مزينة بالزليج، وكانت تتصاعد في الجو برشاقة وأصالة. ولها ثلاثة أدوار وتقوم على أربعة أعمدة. واعتبر بيربروجر هذا الجامع من المباني العظيمة من الوجهة العمرانية (¬2). وكان بيربروجر معاصرا لهدم هذا الجامع وغيره، لأنه جاء الجزائر سنة 1835، على أنه أثرى. ولكن هذه الكلمات التأسفية التي تخرج أحيانا من أفواه بعض الكتاب، مثل بيربروجر وديفوكس وأوميرا، ما هي إلا من نوع البكاء على الأطلال، وهي في الواقع لا تصل حتى إلى البكاء. 50 - مسجد سويقة عمر: إن أقدم المعلومات عنه نرجع إلى سنة 1031 (1621)، فهو إذن من المساجد القديمة التي عاشت دهرا ولم تبل، ومع ذلك فإن الفرنسيين هدموه سنة 1869 من أجل الأمن العام، ودخل ترابه في الطريق العام (¬3). ولا ندري لماذا أبقوه إلى ذلك التاريخ بينما غيره هدموه منذ البداية. ¬

_ (¬1) ديفوكس، 193 - 200. وقد أطال هذا المصدر في وصف أوقاف الجامع ووثائقه ووكلائه الخ. واكتفينا نحن هنا بما يوفي بالغرض. انظر التاريخ الثقافي، ج 2. (¬2) أشار إلى ذلك ديفوكس، ص 200 هامش 1. ناقلا من كتاب بيربروجر المذكور، ج 1، ص 58. وعن حياة بيربروجر في الجزائر انظر فصل الاستشراق. (¬3) ديفوكس، 203.

51 - مسجد الكبابطية: ويدعى أيضا. مسجد الحلفاوية والحلفاوين. وهو من المساجد القديمة التي تحدث عنها هايدو الإسباني، وقد عده الخامس من السبعة الكبار التي وصفها. ويقول ديفوكس إن ذلك احتمال فقط، أي كون هايدو عناه هو بالذات، لأن كلامه في ذلك غير واضح، ولأنه تحدث عن مسجد يقع في سوق يصنع أهله المعاطف (الكبابط). ومهما كان الأمر فإن المسجد قديم واسمه يدل على أنه من العهد العثماني. وفي سنة 1839 هدم هذا المسجد بدعوى المنفعة العامة ودخل مكانه في الطريق العام كما دخل جزء منه في أحد المنازل الأوروبية (¬1). وقد آلت أوقافه إلى إدارة الدومين. 52 - مسجد سوق الرقاعين: وقد سماه ديفوكس أيضا مسجد سوق السمن، وحتى لا يختلط بالمسجد الذي سبق ذكره والذي يحمل نفس الاسم (السمن أو السمان) فقد حافظنا على اسمه الثاني (الرقاعين). وهو مسجد صغير، وهدم سنة 1839 بدعوى الأمن العام، وقد دخل مكانه في الطريق العام جزئيا (¬2). 53 - مسجد سيدي عبد العزيز: وهذا المسجد المنسوب لأحد المرابطين كان يقع في سوق الحيوانات المسمى: المركاض. ويذكره ديفوكس على أنه بقي بضع سنوات (غير محددة) غير معطل عن وظيفته، ثم عطل وحول عن غرضه، وبنيت على أرضه دار فرنسية تأخذ من شارع قسنطينة وشارع روفيقو. ومن جهة أخرى يرى ديفوكس أن حياة سيدي عبد العزيز غير معروفة، وأن المسجد كان يقع على بعد مائة متر من باب عزون، لكن الوقفية تقول إنه خارج باب عزون (¬3). 54 - مسجد بجوار مسجد علي بتشين: ليس لهذا المسجد اسم في ¬

_ (¬1) نفس المصدر، 204. (¬2) نفس المصدر. (¬3) نفس المصدر، 206.

الوثائق الفرنسية المعاصرة للاحتلال، فقالوا إنه المسجد الواقع فوق جامع علي بتشين. وقد احتفظ بوظيفته فترة ثم هدم وأدمج في إحدى الدور التي بنيت على أنقاضه. وكان يقع بين شارعي القصبة وباب الواد (¬1). 55 - المسجد الأخضر: جامع صغير، هدم سنة 1844 بدون مبرر مذكور. كان يقع في شارع يحمل اسمه لكنه حرف هكذا (شارع لكدور). وله أوقاف، أقربها عهدا يرجع تاريخه إلى سنة 1231 (حوالي) (¬2). 56 - مسجد ابن ميمون: اسم صاحبه هو محمد بن عبد الله بن ميمون. وتعود تواريخ بعض أوقافه إلى القرن الثاني عشر الهجري، 1171 (1757). وقد هدمته السلطات الفرنسية سنة 1840، فدخل مكانه في إحدى الدور (¬3). وكان يقع في شارع يحمل اسمه محرفا هكذا (شارع آكرميمونت). ولعل ابن ميمون هذا هو الشاعر الذي تناولناه في غير هذا، والذي تولى عدة وظائف قضائية ودينية. 57 - مسجد مصطفى باشا: رغم بقاء اسم هذا الباشا بيننا في المستشفى الرئيسي بالجزائر وبقاء قصره مدة طويلة مقرا للحاكم الفرنسي، وحيه (حي مصطفى باشا) جهة أول ماي حاليا، فترة طويلة من الاحتلال الفرنسي فإن اسم الداي مصطفى باشا يذكرنا بتمكين التجار اليهود، سيما عائلة بكري وبوشناق، في عهده من السيطرة على اقتصاد البلاد. والمسجد الذي يحمل اسمه لم يشيده وإنما جدده فقط. ويحمل المسجد أيضا اسم إمامه العالم، المانقلاتي. وهو من أسرة علماء وأدباء اشتهروا في الجزائر منذ القرن الحادي عشر، ومنهم عمر وأحمد وعلي، وكان الأخير معاصرا للاحتلال، ¬

_ (¬1) ديفوكس، 210. (¬2) نفس المصدر، 210. (¬3) نفس المصدر، 211. وعن ابن ميمون انظر (أشعار جزائرية) و (أبحاث وآراء)، ج 1.

ومن المفتين. ورغم إبقاء الفرنسيين على قصر مصطفى باشا فإنهم لم يحتملوا المسجد الذي يحمل اسمه، فهدموه سنة 1837، وبقي جزء منه أضافوه إلى مدرسة بلدية كانت تديرها في عهد ديفوكس جماعة تسمى (أخوة المذهب المسيحي) (¬1). وقبل أن يتحول إلى مدرسة كان جزء الجامع داخلا في قاعة عرض وألعاب. وكان الجامع يقع في شارع المتصرف (المدني؟). 58 - مسجد سيدي داود: يقع هذا المسجد في شارع هيئة الأركان، وله وقفية تثبت له التسمية المذكورة. ولكن الفرنسيين لم يصبروا على بقائه فهدموه سنة 1833 بدعوى توسيع ساحة السودان (¬2). 59 - مسجد سوق الجمعة: يقول ديفوكس إن المسلمين هم الذين أهملوا هذا الجامع منذ الاحتلال. فوقع تعطيله وهدمه سنة 1841، وهكذا أصبح مكانه دارا فرنسية، وهو يسمى أيضا مسجد عقبة ابن شاكر. وكان يقع في شارع سوجيمه (¬3). 60 - مسجد كوشة بولعبة: ويسمى أيضا جامع سيدي سليمان الشريف. وقد نسي الناس اسم المرابط وبقي اسم الكوشة. ولكن الوقفية تشير إلى اسم المرابط (الشريف). وكان المسجد يقع في شارعي بولعبة والهلال (كرواسان). ونظرا لتداعيه، كما قالوا، حكم الفرنسيون عليه بالهدم في يونيو (جوان) 1841. وبنيت على أرضه دار فرنسية (¬4). 61 - مسجد الشيخ سيدي أحمد بن عبد الله: يقول ديفوكس إن الشهرة تسميه مسجد فرن ابن شكور (شاكر؟)، أو عقبة ابن شكور. وله وقفية تذكره بالاسم الأول. وكان يقع في شارع طولون، وقد احتله الجيش من أول وهلة ¬

_ (¬1) ديفوكس، 211. (¬2) نفس المصدر، 212. (¬3) نفس المصدر، 213. (¬4) نفس المصدر.

وبقي في أيدي الدرك باعتباره ثكنة عسكرية مدة طويلة. وفي عهد ديفوكس أصبحت بناية المسجد تابعة لمدرسة البنات المسلمات (¬1). وربما هي المدرسة التي كانت تشرف عليها السيدة أليكس (لوسي) التي كانت تعلم فيها اللغة الفرنسية والطرز بدعم من الحكومة. وأحمد بن عبد الله قد يكون هو أحمد الزواوي صاحب (المنظومة الجزائرية) الشهيرة والذي عاش في عهد الشيخ عبد الرحمن الثعالبي (¬2). وعلى هذا يكون الجامع قديما (القرن 15). 62 - مسجد ابن الشاهد: هذا المسجد معروف عند العامة بمسجد بوشقور، اسم المرابط المجاور له. وابن الشاهد اسم رنان في الأدب الجزائري، والتاريخ الثقافي. فهو من عائلة شهيرة بالعلم. آخرها محمد بن الشاهد المفتي والشاعر الذي درسناه في غير هذا المكان. وكان في بعض الوقت وكيلا لأحد المساجد، فلعل هذا هو مسجده. وقد بكى سقوط مدينة الجزائر في أيدي الفرنسيين بكاء مرا وبكى هدم المساجد. ولهذا المسجد أوقاف غير محددة. وكان يقع في شارع هيئة الأركان. وكان مسجد ابن الشاهد من أوائل ضحايا الاستعمار والصليبية. فقد قال ديفوكس إنه هدم منذ السنوات الأولى للاحتلال ودخل كله في الطريق العمومي (¬3). 63 - مسجد المشدالي: لا شك أن هذا اسم لأحد وكلاء المسجد. وقد كانت أسرة المشدالي أيضا شهيرة بالعلم. وكانت شهرتها في بجاية ونواحيها. أما باني المسجد فهو رمضان باشا، ومع ذلك لم يشتهر به. ورمضان هو أحد الحكام الذين تداولوا على السلطة. وكان إمامه عند الاحتلال ¬

_ (¬1) ديفوكس، 214. (¬2) عن أحمد بن عبد الله الزواوي انظر التاريخ الثقافي، ج 1، 2. وقد ورد اسم أحمد بن عبد الله في قصيدة ابن عمر عن القنبلة الدنماركية (1788). انظر المجلة الإفريقية، 1894، ص 325. وجاء في هذه الوثيقة أن أحمد بن عبد الله دفين قبة قرب البحر خارج باب الواد. (¬3) ديفوكس، 214.

أحد أفراد عائلة المشدالي، ويدعى سيدي أحمد المسدالي (كذا). ويقع المسجد في شارع سالوست. وقد عطل ثم هدم سنة 1844، بدعوى تداعيه للسقوط (¬1). 64 - مسجد ابن فارس: ويذهب ديفوكس إلى أن هذا الاسم يرجع للحي، ولعله اسم لأحد الوكلاء. أما المرابط فاسمه سيدي الحربي، ولذلك يسمى به المسجد أيضا فيقال مسجد سيدي الحربي. وكان مصيره هو الهدم سنة 1842، بسبب الإهمال والتداعي للسقوط. وكانت قد بنيت على أنقاضه دار تسمى الدار الفرنسية، ثم هدمت هذه الدار أيضا من أجل بناء البيعة (المعبد) اليهودية، وفتح ساحة راندون. وهكذا فإن أرض هذا المسجد تقع في جزء منها على الأقل تحت البيعة اليهودية، حسب الوثائق. وهذا هو النموذج الثاني لهذا التصرف الغريب وتنازع أهل الأديان. وابن فارس رجل أندلسي بدأ يظهر اسمه في الوثائق منذ القرن الحادي عشر الهجري (1089)، وهو الحاج علي بن فارس الذي كان يملك دارا بهذا الحي. وكان المسجد يقع في شارع كاتون (¬2). 65 - مسجد الجامع المعلق: هكذا يذكره ديفوكس، ويقول إن عمره أكثر من قرنين أي أن أول إشارة إليه كانت سنة 1036 هـ (1626 م). ومع ذلك فقد عطله الفرنسيون ثم هدموه سنة 1844، وأدمجت أرضه في إحدى الدور الفرنسية (¬3). وموقعه في شارع بلو (الأزرق) (¬4). 66 - مسجد حوانيت سيدي عبد الله: وكان يعرف أيضا باسم المرابط سيدي شعيب، لكن العامة زمن الاحتلال تعرفه باسم الحي. وهو يقع في شارع (سيدي؟) عبد الله عندئذ. أما ما بقي من سيدي شعيب عند الاحتلال فهو ¬

_ (¬1) ديفوكس، 215. (¬2) نفس المصدر، 216. (¬3) نفس المصدر. (¬4) نفس المصدر.

خلوة فقط تقع في شارع تمبكتو. ويقول ديفوكس إن هذا المسجد ما يزال يستعمل للديانة الإسلامية (¬1). ولكن أين هو؟ 67 - مسجد عين العطش: وهو يقع أيضا في شارع (سيدي) عبد الله. وله أوقاف، بعضها يرجع إلى 1105، سبتمبر 1693، ولم تحل سنة 1863 حتى عطل المسجد عن وظيفته، دون أن يقول ديفوكس ما إذا كان قبل ذلك بأيدي المسلمين، ثم هدم بسبب البلى والتداعي للسقوط (¬2). 68 - مسجد ابن جاور علي: وهو يقع في شارع اسطاويلي. ويعرف أيضا بشارع الحاج عبد العزيز. وهو اسم حسب ديفوكس، غير معروف عند العامة عند الاحتلال، وهناك حي يدعى أيضا حومة ابن جاور علي. وقد جاء ديفوكس بمعلومات موسعة عن هذا الاسم الذي يعني الكافر (جاور أو كور)، والمقصود به علي رايس الشهير في آخر القرن الحادي عشر الهجري (¬3). هذا المسجد هدمه الفرنسيون سنة 1848 دون مبرر، وأخبروا أن موقعه كان في ساحة راندون التي تجاور المعبد اليهودي. 69 - جامع سيدي مصباح: له وثائق عديدة، بعضها يشير إلى تاريخ 973 (1565). ويظهر من الاسم أنه لأحد المرابطين والأولياء. وكان يقع في شارع الجيتول. وفي 1841 حكمت سلطات الاحتلال بهدمه بسبب التداعي في دعواها، وأصبح مكانه في عهد ديفوكس واقعا في شارع سان فانسان دوبول (¬4). 70 - مسجد سوق الكتان: من المساجد التي لا نعرف تاريخ بنائها ¬

_ (¬1) ديفوكس، 217. أشرنا إلى أن ديفوكس نشر مقالاته في المجلة الإفريقية ثم جمعها في كتاب سنة 1874. وقد ذكر كلاين جامعا بهذا الاسم، له منارة. (¬2) ديفوكس، 217. (¬3) نفس المصدر، 217 - 219. هكذا جاء في هذا المصدر، ولكن لماذا يلقب علي رايس ب (جاور) بينما اسمه اسم إسلامي؟ ويدل لقبه على أنه كان من غزاة البحر. (¬4) نفس المصدر، 220.

بالضبط، لكن هناك ما يثبت تجديده سنة 1820 من قبل أحد الفضلاء وهو مصطفى السائجي. ومنذ الاحتلال جعلته السلطات العسكرية مستودعا للطبول التي تستعملها المليشيا. وعندما انتهت مهمتهم منه وبلى وعفى عليه الزمن والإهمال، هدموه سنة 1843 وأدخل مكانه في إحدى الدور الواقعة في شارع الباب الجديد (بورت ناف). أما أوميرا فيضيف عن هذا الجامع معلومات أخرى، فيقول إنه أصبح بعد ترك المليشيا له، (مدرسة مشتركة عربية - فرنسية)، ثم هدم سنة 1855 نتيجة إصلاح شارع لالير، وأصبح عندئذ يدعى شارع نابليون، وأن الجامع قد دخل في الطريق العمومي (¬1). 71 - مسجد سيدي الهادي: ويرجح أن هذا اسم لأحد الوكلاء، وليس لولي من الأولياء. وفي الوثائق العربية يطلق عليه اسم الجامع الأعظم مما يدل على فخامته. وقد بناه مامي رايس، وهو أحد غزاة البحر المشاهير. وتوصل ديفوكس إلى أن بناءه يرجع إلى القرن العاشر الهجري (910/ 1504)، ويقول عن سيدي الهادي إنه أحد العلماء، وفي القرن الثامن عشر الميلادي (12 هـ) كان اسم سيدي الهادي معروفا في الأوساط العلمية، وقد استولت على هذا المسجد الإدارة العسكرية أيضا. وبعد أن قضت حاجتها منه، سلمته ليكون مدرسة أهلية، وهي إحدى المدارس التي كانوا يسمونها (عربية - فرنسية)، أي أن فرنسا عجزت عن بناء مدرسة تعلم فيها لغتها للجزائريين فجاءت تعلمها لهم في أحد مساجدهم بعد أن داسته أحذية عساكرها. ومهما كان فإن هذا المسجد الذي قاوم عاديات الزمن ثلاثة قرون ونصفا لم يبق لا مسجدا ولا مدرسة وإنما هدم سنة 1855، وكان يقع في شارع نابليون (¬2). ¬

_ (¬1) ديفوكس، 220، وأوميرا، 186. وكذلك كلاين. (¬2) ديفوكس، 223. وذكره كلاين على أنه يقع في شارع لا لير (بوزرينة حاليا) وظهر اسم مصطفى السائجى فى قائمة أول بلدية نصها الفرنسيون سنة 1830.

72 - مسجد حومة السلاوي: وقد قال ديفوكس أنه ما يزال على عهده كما كان إلى سنة 1854 حين كان يجمع مادة بحثه. ولكنه سكت عن مصيره بعد ذلك. ومفهوم كلامه أنه عطل عن وظيفته ووقع التصرف فيه. وكان يقع في شارع سنتور. وهناك إشارات إليه في الوثائق التي ترجع إلى سنة 1128 (1715) (¬1). ولم يرد اسم المسجد في كتابات أوميرا. 73 - مسجد الإنكشارية الجديدة: وتسميه الوقفية مسجد رمضان باشا، وهو أحد باشوات الجزائر، وقد سبق ذكره. وكان يقع في شارع ميدي. ومعروف أن ثكنات الإنكشارية كلها قد احتلها الفرنسيون. ونعتقد أن هذا المسجد قد عبث به الجيش الفرنسي ثم هدموه، رغم أن ديفوكس لم يضف عما قلناه جديدا عنه (¬2). 74 - مسجد علي باشا: وكثير من المساجد السابقة صغيرة الحجم، لكن هذا الجامع (علي باشا) تقول عنه الوثائق إنه من كبار الجوامع، وإنه للخطبة ومن الدرجة الأولى، وأن له منارة. وكان قد بنى سنة 1164 هـ على أنقاض زاوية سيدي محمد الأكحل التي تسمى أيضا زاوية أقرون. وتشير الوقفية إلى أن علي باشا قد جدده فقط عام 1172. يقول ديفوكس عن هذا المسجد الكبير إنه ما يزال في وقته بيد سلاح الهندسة كجزء من الثكنة العسكرية. وكان يقع في شارع ميدي. ولكن أين هو؟ لقد اختفى المسجد في حلقة الكاردينال لافيجري أولا ثم في قاعة المارشالات ثانيا، كما ذكر كلاين (¬3). ¬

_ (¬1) ديفوكس، 223. (¬2) نفس المصدر. (¬3) نفس المصدر، 224. أما كلاين فيقول إن مسجد علي باشا بنى سنة 1750، في مكان زاوية سيدي الأكحل (بن خلوف؟)، وأن الجامع دخل في ثكنة ميدي. وفي 1870 استولى عليه الكاردينال لافيجري وحوله إلى مقر للحلقة الدراسية (سيمينار). ثم اختفى الجامع بعد أن تحول إلى (قائمة المارشالات). انظر كلاين. مرجع سابق.

75 - جامع سوق البلاط: وهو جامع قديم يرجع تاريخه إلى سنة 999 (1590) ولم يذكر ديفوكس مصيره مع بداية الاحتلال، ولكنه يقول إنه هدم سنة 1850 بسبب خطره على الأمين العام. ودخلت أرضه في شارع نابليون (¬1). وكان يقع في شارع نمور. 76 - جامع علي المدفع: ويسمى أيضا جامع سيدي عبدالغفار. ويرجح ديفوكس أن الاسم الأخير هو اسم لأحد الأولياء الذي نسي الناس اسمه. وله وقفية تشير إلى هذا الاسم. ومصير هذا الجامع الذي كان يقع في شارع الزرافة (الجيراف) هو الهدم منذ سنة 1838، لأنه أصبح في نظر الفرنسيين خطرا على الأمن العمومي (¬2). 77 - مسجد ابن شلمون: يرجع إلى القرن الحادي عشر على الأقل (أي سنة 1057 هـ/ 1647 م) ففي هذا التاريخ كان الفقيه سيدي رمضان بن شلمون من المدرسين. ولعله كان من علماء الأندلس، لأن الصيغة توحي بذلك. وهو يقع في الباب الجديد. ويقول ديفوكس إنه ما يزال مستعملا للديانة الإسلامية (¬3). ويجب ألا يختلط هذا المسجد بمسجد سيدي رمضان الذي سيأتي الحديث عنه والذي بقي قائما إلى الآن. 78 - جامع سيدي رمضان: هذا من الجوامع التي قدر لها البقاء خلال الاحتلال، صدفة أو قضية مدروسة؟ ورغم أن أوقافه قد صودرت أيضا كغيرها، فإنه ظل يؤدي الوظيفة الإسلامية، وظل له موظفون من رجال الدين، قدرهم ديفوكس خلال عهده بثلاثين موظفا. وجامع سيدي رمضان يرجع إلى عهد الممالك الإسلامية السابقة للعهد العثماني، ولكن تاريخه غير مضبوط، ولهذا الجامع منارة تشبه منارات جوامع تلمسان. ولا يتميز بطراز معماري معين، وقد وصفه الفرنسيون بأنه لا يدل على أية خصوصية، ¬

_ (¬1) نفس المصدر، 225. (¬2) ديفوكس، 225. (¬3) نفس المصدر، 226.

وأنه كان مغطى بالقرمود الأحمر مثل الجامع الكبير وجامع القشاش وغيرهما من الجوامع القديمة في العاصمة. و (سيدي رمضان) اسم لأحد الأولياء المشاهير عند الناس، ولكن حياته غير مسجلة، وقال ديفوكس إن قبة الضريح كانت بائسة، وهي بداخل الجامع. وللجامع أوقاف هامة قدرت بخمسين بناية يستعمل مدخولها للصرف على الجامع وموظفيه. وموظفو الجامع هم: الخطيب الذي يقوم بخطبة الجمعة والعيدين. ومن مهمة الخطيب عادة إلقاء الدروس العامة في الدين والأخلاق والتوحيد والتفسير. ثم إمام يقوم بالصلوات الخمس. وفي العهد الفرنسي أصبح الإمام هو الذي يلقى الخطبة أيضا، اقتصادا في النفقات. ومؤذنان عاديان لجميع الأوقات؛ أما صلاة الجمعة فلها ثلاثة مؤذنون، وستة من الحزابين أو قراء القرآن، وخمسة موظفين لقراءة كتاب (تنبيه الأنام) في المواعظ والتصوف. وقارئ واحد لصحيح البخاري، وآخر لقراءة التوحيد، بالإضافة إلى قراء احتياطيين للقرآن الكريم خلال شهر رمضان. ويذكر ديفوكس أيضا أن هناك قارئا آخر لكتاب سيدي عبد الرحمن، ولا ندري من هو ذلك القارئ ولا الكتاب المقروء، ولعله أحد كتب الشيخ عبد الرحمن الثعالبي في التصوف والأخلاق. وهناك موظفون آخرون مثل الكناس والسراج (الذي كان يوقد الشموع أو القناديل)، ومنظف المطاهر أو الميضآت، ورئيس للموظفين. وكان للاوقاف وكيل أيضا. وتتمثل مصاريف جامع سيدي رمضان العادية في شراء لوازم الصيانة والإضاءة والفراش. وتضاف مصاريف أخرى لشهر رمضان. ومن ذلك شراء شمعتين كبيرتين في الشهر المذكور، وتسعة مكاييل من الزيت، والسكريات، والحصير، وكان الجامع يبيض مرتين في العام. وتجري عليه الإصلاحات الضرورية إذا ظهر عليه تصدع أو ضرر. ولو أن الجوامع الأخرى لقيت هذه الصيانة أو قريبا منها لما هدمها الفرنسيون بدعوى تداعيها للسقوط وخطرها على الأمن العام، فكل بناء تعرض للإهمال تظهر عليه علامات الهرم، ولكننا قد رأينا بعض المساجد قد هدمت منذ اللحظات الأولى تحت إدعاءات

وحجج مختلفة وأخرى بعد أربع أو ثماني سنوات فقط، ومع ذلك قيل إنها أصبحت خطرا على الأمن العام (¬1). أما أوميرا فقد تحدث عن جامع سيدي رمضان بعبارات أخرى لا ندري إن كانت تصدق عليه. فقد قال إنه في شارع سيدي رمضان، وهو داخل في القصبة القديمة، وإنه فقد وظيفته الدينية منذ 1830 على إثر احتلال الجيش الفرنسي للقصبة التي كانت بيد الداي والأتراك (¬2). وقد ذكره أيضا كلاين وأكد المعلومات السابقة. وأضاف أن لجنة الجزائر القديمة جعلته من الآثار. وقال إنه يحتوي على ثماني عشرة عرصة بداخله في شكل صفين، وبناؤها أحدث من بناء الجامع نفسه. 79 - مسجد قطع الرجل: هذا المسجد منسوب للحي الموجود فيه. وهو فيما يبدو حي تسكن فيه الحركة وتنقطع الرجل عن المشي. وتتبع المسجد جبانة. ويظهر أنه كان صغير الحجم. ويقع في شارع قطع الرجل، قرب جامع سيدي رمضان السابق، ويسمى أيضا المسجد الكائن بقبور أولاد السلطان. ولا شك أن لذلك قصة ترجع، حسب ديفوكس، إلى العهد السابق للعثمانيين، ومن ثمة الإشارة إلى أولاد السلطان (الحاكم) الذين قد يكونون عاشوا ودفنوا هناك. والغريب أن الفرنسيين زعموا أن هذا الجامع، الذي له أوقاف، قد أصابه الهرم قبل الاحتلال. ومع ذلك انتظروا إلى سنة 1842 لكي يهدموه (¬3). ¬

_ (¬1) ديفوكس، 227 - 228. ويذهب هذا المصدر إلى أن اسم (سيدي رمضان) لصق بالجامع منذ القرن 12 هـ فقط. أما قبل ذلك فكان يدعى جامع القصبة (القديمة). ولعل ديفوكس نقل ذلك عن المعاصرين من أعيان الجزائر. انظر كذلك ألبير باللو (الفن الإسلامي في الجزائر) في المجلة الإفريقية، 1904، ص 170. (¬2) أوميرا، 185. ومن أشهر من تولى الخطبة في جامع سيدي رمضان في الفترة المتأخرة الشيخ أبو يعلى الزواوي الذي حل به حوالي 1920 وبقي فيه إلى وفاته سنة 1952. (¬3) ديفوكس، مرجع سابق، 229.

80 - مسجد الشاطبي: ويسمى أيضا مسجد بير الرمانة. ولا نملك وصفا وافيا له، كأوقافه وحجمه وموظفيه. ومع ذلك قال الفرنسيون عنه ما قالوه عن سابقه، وهو أنه أصابه الهرم والبلى قبل الاحتلال، فهدموه واندثر تماما إذ أصبح ضمن إحدى الدور الفرنسية، وقد نسيه الجيل الحاضر - جيل بعد الاحتلال - كما يقول ديفوكس (¬1). أما الشاطبي فهو اسم لأحد وكلاء المسجد. والغالب عندنا أنه من الأندلسيين النازحين من شاطبة. وكان المسجد يقع في شارع القصبة في أوائل الاحتلال. 81 - مسجد ابن شبانة: ويقع أيضا في شارع القصبة. وهو صغير وبدون منارة. وابن شبانة اسم لأحد وكلائه. وقد بقي تحت أيدي المسلمين إلى سنة 1843، ولكن في هذه السنة نزلت عليه مطارق وفؤوس الهدم والحقد فأصبح أثرا بعد عين. ودخل جزء منه في الطريق العمومي، والباقي منه فتحت فيه عين جارية عند شارعي القصبة وديزي (¬2). 82 - مسجد سيدي عبد العزيز بونحلة: سيدي عبد العزيز اسم لولي له ضريح في المسجد، وهو مسجد صغير تحدثت عنه الوثائق خلال القرن 12 هـ، وأحيانا تصفه الوثائق بأنه المسجد الواقع في أعلى بير الجباح. ويقول الفرنسيون إن الجامع قد خرب سنة 1839 وأنه بعد هدمه أصبح مكانه مندمجا في الدار الواقعة في ملتقى شارع حنبعل وشامو (¬3). 83 - مسجد ساباط العرص: وهو مسجد ترجعه الوثائق إلى سنة 1052 هـ (1632 م). وقد أصبح في العهد الأول للاحتلال يقع في شارع الدلتا. ويذكر الفرنسيون أنه بقي في أيدي المسلمين إلى سنة 1848، وعندئذ قررت سلطات الاحتلال هدمه لكونه أصبح آيلا للسقوط. ويقول ديفوكس إن مكانه ما يزال موجودا عدا جزءا منه ضم إلى الطريق العام (¬4). ¬

_ (¬1) نفس المصدر، 229. (¬2) نفس المصدر، 230. (¬3) نفس المصدر. (¬4) نفس المصدر، 231.

84 - مسجد سيدي ابن علي: ويدعى سيدي أحمد بن علي. وقد ذكرنا أن اسم عائلة ابن علي كان شهيرا في أسماء العلماء والشعراء خلال القرنين الحادي عشر والثاني عشر الهجريين. ولكن ديفوكس يقول إن أحمد بن علي كان أحد المرابطين القدماء، ويذهب إلى أن (أحمد) هذا غير معروف للأهالي، ولا ندري من أين جاء به ديفوكس إذن. والمسجد صغير وتتبعه جبانة. وكان يقع في شارع الامبراطور (¬1). ويقول ديفوكس إن المسجد ما يزال في يد المسلمين. ولكننا نعرف أنه ليس من المساجد الباقية بعد ذلك، مما يدل على أنه قد هدم. ولم يتعرض له أوميرا. 85 - مسجد الحوانيت الغربية: تصفه الوقفية بأنه يقع فوق بير الجباح، قرب كوشة الوقيد. وهو معروف أيضا باسم أحد أيمته قديما، وهو الشيخ أحمد بن داود. أما نسبته إلى الحوانيت الغربية فنسبة حديثة العهد، وهي نسبة للحي الذي يوجد فيه الجامع. وكان يقع في شارع غريبة منذ 1830، ويبدو أنه بقي في أيدي المسلمين إلى تاريخ هدمه، وهو 1853، لأن ديفوكس لم يذكر ما إذا كان قد عطل أو أعطي إلى جهة أخرى قبل ذلك. وعلى كل حال فإنه في هذا التاريخ (1853) هدم بحجة الأمن العام. وقد بيع مكانه عن طريق المزاد العلني إلى أحد المسلمين، ويقول ديفوكس إن مكان الجامع في وقته قد دخل في إحدى الدور الواقعة في شارع غريبة (قريبة) (¬2). ولعل هذا هو الجامع الذي تحدثت وثائق أخرى أن أحد المسلمين اشتراه وأراد بناء مسجد آخر مكانه فمنعته السلطات الفرنسية من ذلك. ومهما كان الأمر فإن ديفوكس لم يذكر ماذا فعل الرجل المسلم بأرض الجامع. 86 - مسجد دار ابن الرقيسة: حسب الوقفية فهو مسجد مبني على أقواس أمام دار الرقيسة قرب ساباط العرص. أما وثائق التملك والشهرة فتطلق عليه اسم مسجد دار ابن الرقيسة. وكان يقع في شارع السرارخيين. وإلى سنة ¬

_ (¬1) نفس المصدر، 231. (¬2) ديفوكس، 232. انظر لاحقا جامع الزيتونة.

1854 كان ما يزال في أيدي المسلمين، حسب رواية ديفوكس (¬1). ولا شك أن مصيره بعد ذلك كان مصير غيره من المساجد التي هدمت. ولم يشر إليه أوميرا (¬2). 87 - مسجد ساباط الذهب: حددته الوقفية بأنه المسجد الواقع بمحاذاة حمام القائد موسى، قرب بير الجباح. ولكنه أصبح معروفا بمسجد ساباط الذهب الذي يعني أنه قريب من الأقواس التي يباع فيها الذهب. ويزعم ديفوكس أن هذا المسجد قد أهمله المسلمون منذ الاحتلال، فأعطى للإسعاف أثناء كارثة وباء الكوليرا سنة 1835، ثم في سنة 1842 هدم بحجة الأمن العام، وأدرجت أرضه في الدار التي تقع في شارع الأهرام (البيراميد). ويقول أوميرا إن هذا المسجد قد دخل في الطريق العمومي (¬3). 88 - مسجد ابن الصديق: ترجعه الوثائق إلى القرن 12 هـ (1170 هـ/ 1756 م) حين كان يتولاه المؤذن محمد بن الصديق، فبقي اسم المؤذن (والإمام؟) علما على المسجد. أما الوثائق الأقدم من ذلك فتذكره باسم المسجد الواقع فوق حمام القصبة والملاصق لدار أحمد شلبي، وهناك من يذكره أيضا على أنه جامع سيدي يوسف. ومهما كان الأمر فإن المسجد كان يقع في شارع بلين. ويزعم ديفوكس أن المسجد بقي في أيدي المسلمين إلى 1848، ولكنهم أهملوه مدة طويلة، فهدمه الفرنسيون حرصا على الأمن العام، خلال نوفمبر 1851 (¬4). ولا ندري إن كان ديفوكس يجهل سبب إهمال المسلمين - إن كان ذلك صحيحا - للمسجد. إن الذي أدى إلى الإهمال واندثار المسجد هو الحرمان من الأوقاف التي كانت تصونه وحرمان الوكلاء والموظفين من حقوقهم في هذه الأوقاف. فالمسؤول عن الإهمال والهدم ¬

_ (¬1) نفس المصدر، 232. (¬2) أثناء دراستنا لحياة الشيخ محمد العاصمي وجدنا أنه تولى الإمامة سنة 1920 في جامع بورقيسة (وليس ابن الرقيسة). فهل هناك صلة بين الجامعين؟ (¬3) ديفوكس، 232، وأوميرا، 185. (¬4) ديفوكس، 233.

هي سلطات الاحتلال. وقد دخلت أرض الجامع في الساحة التي أقامها سلاح الهندسة العسكرية في أعلى المدينة القديمة. ولعل ذلك هو الغرض الأساسي من هدم الجامع. 89 - مسجد حوانيت زيان: يعرف أيضا بمسجد أحمد شلبي (الجليبي)، حسب وثائق القرن 11 هـ (1095/ 1683)، ومسجد الباري، منذ القرن 12 هـ. ويذهب ديفوكس إلى أن هذا المسجد أخذ الاسم الجديد (حوانيت زيان) منذ آخر القرن 12 هـ. وكان المسجد يقع في شارع القصبة. ونفس الحجج الواهية كررت معه أيضا وهي أن المسلمين أهملوه منذ الاحتلال. فهدمه الفرنسيون سنة 1837 حرصا على الأمن العام. والمعروف أن آلاف المسلمين قد خرجوا فعلا من مدينة الجزائر نتيجة الاحتلال، ولكن كيف ينهار المسجد خلال سبع سنوات فقط؟ لقد أعطت السلطات الفرنسية أرضه إلى الجيش ليقيم عليها ثكنة. وعبارة أوميرا تختلف عن عبارة ديفوكس في هذا الشأن، فقد قال إن المسلمين أهملوا الجامع. فسلم إلى الجيش ليكون ثكنة عسكرية، سنة 1837 (¬1). 90 - مسجد الداي حسين: هذا مسجد يقولون إنه كان يقع خارج القصبة، وكان مبنيا قبل عهد الداي حسين. لكن هذا الداي جدده ووسعه سنة 1233 هـ (1818). ولهذا الجامع أوقاف ترجع إلى سنة 1064 (1653)، وتشير الوقفية إلى أنه جامع صغير ويقع في مواجهة باب القصبة الجديدة، ولكن بناءه يرجع إلى ما قبل هذا التاريخ، أما الداي حسين فقد جعله جديرا باستقبال الموظفين السامين الذين ارتحلوا معه إلى القصبة بعد نقل الإدارة إليها من الجنينة. وكان من مساجد الخطبة. وأصبح له وضع جامع السيدة بالنسبة لقصر الجنينة. وهناك كتابات على الجامع تشير إلى سنة تجديده وتوسيعه على يد (صاحب الخيرات والحسنات السيد حسين باشا). وقد ألحقت بالجامع ميضآت ومطاهر وحمامات باردة. وكان قديما يسمى (مسجد ¬

_ (¬1) ديفوكس، 233، وأوميرا، 186.

القصبة). وكان الداي حسين قد أضاف إليه الزليج المستورد من الخارج، وهذا فقط ما يميزه، حسب رواية ديفوكس، وله منارة مثمنة ذات نسب صغيرة، كما له بابان، أحدهما يفتح على شارع القصبة والثاني على شارع النصر (فيكتوار). هذا المسجد احتلته السلطات العسكرية الفرنسية سنة 1830 وجعلته مرقدا للجنود. وفي 1839 أعطاه سلاح الهندسة العسكرية إلى أملاك الدولة التي سلمته في نفس اليوم إلى إدارة الشؤون الداخلية (المدنية). فقامت هذه بمنحه لقمة سائغة إلى الديانة الكاثوليكية. ومنذ ذلك الوقت أصبح يحمل اسم كنيسة (سانت - كروا) أو الصليب المقدس. ولا ندري هل ذلك كان انتقاما من المسلمين أو من حسين باشا؟ وقد أكد أوميرا وكلاين هذا المآل للجامع. وأضاف الأخير بأن المحكمة التي كانت بجوار الجامع قد ضمت إلى الكنيسة أيضا (¬1). 91 - مسجد القصبة الداخلي: هذا مسجد آخر قديم ولكن الداي حسين جدده ووسعه أيضا سنة 1819/ 1234. وكان يقع داخل القصبة خلافا للمسجد السابق. ويصفه ديفوكس بأنه كان كبيرا ومكشوفا وبسيطا، وكان قديما جامع خطبة للإنكشارية المكلفين بحماية وحراسة القلعة قبل انتقال الباشوات إلى أعلى القصبة. والداخل إلى الثكنة العسكرية التي استولى عليها الفرنسيون ووضعوا فيها المدفعية، يرى أمامه مسجدا جميل المنظر كبير الحجم تعلوه قبة مزخرفة من الداخل بعرصات مرمرية جميلة متقاربة وعالية، وهي في نسبها وفي مواقعها تسر الناظرين. ولكن المرء يشاهد بداخل المسجد صفوفا من الأسرة للجنود مما يفسد رشاقة منظر المحراب. هذه هي نهاية المسجد الذي يستحق، حسب ديفوكس، مصيرا أفضل. ومعنى هذا أن الفرنسيين اتخذوا المسجد المذكور مراقد لجنودهم وبيتا يعبثون فيه ويعربدون. ¬

_ (¬1) ديفوكس، 235، وأوميرا 186. كان الفرنسيون يكررون عند الحملة على أنهم سينتقمون من الداي فقط ثم يرجعون إلى بلادهم. انظر التعليق حول جامع القصبة، لاحقا.

إن هذا المسجد الذي بناه الداي حسين ليكون جامع خطبة الجمعة، كان يكتسب أهمية خاصة على توالي الأيام باعتباره قريبا من مقر إقامة الباشوات. وتشهد الكتابات التي وجدت فيه على ذلك (ثلاثة أبيات شعرية تقليدية تؤرخه وتذكر اسم بانيه وتدعو له الخ). وبداخل الجامع مقصورات خاصة بالداي وعائلته وأصدقائه، تؤدى فيها الصلاة. ويفهم من وصف ديفوكس أن مصير هذا الجامع أو التحفة العمرانية هو وضع السلطات العسكرية يدها عليه، ولكن ديفوكس لم يقل صراحة كيف تم تحويل هذا الجامع عن غرضه. فاكتفى أوميرا بقوله إن الجامع كان دائما ضمن الشقق الخاصة بالداي وعائلته وأقاربه (¬1). ويبدو أن جامع القصبة قد بقي في أيدي العسكريين. ففي سنة 1904 كتب ألبير باللو يقول إن أحد مسجدي القصبة ما يزال مخزنا لملابس الجنود (¬2). 92 - مسجد سيدي بوقدور: مسجد صغير كان يستعمل لتحفيظ القرآن الكريم. وكان يضم قبر الولي بوقدور، بدون رايات ولا زخارف. وأصل التسمية ترجع حسب أسطورة شعبية إلى عهد حملة شارل الخامس ضد الجزائر سنة 1541. ففي هذه السنة قاد شارل الخامس (شارلكان) أسطولا عظيما، ثم قامت عاصفة هوجاء حطمت معظم الأسطول (¬3). وكاد ¬

_ (¬1) ديفوكس، 235 - 236، وأوميرا، 185. (¬2) البير باللو (الفن الإسلامي في الجزائر) في المجلة الإفريقية، 1904، ص 170 - 175. وهو يقول إن منارتي مسجدي القصبة (مسجد الداي حسين ومسجد القصبة الداخلي) في شكل مثمن، مثل منارة جامع كتشاوة وجامع علي بتشين (كلاهما تحول إلى كنيسة). (¬3) عن حملة شارلكان ضد الجزائر انظر أحمد توفيق المدني (حرب الثلاثمائة سنة بين الجزائر وإسبانيا)، ط. 2، انظر أيضا كتابنا هذا ج 1. وتدخل حملته في الصراع بين الدولة العثمانية والدولة الإسبانية. وهي من الوقائع التاريخية التي لم يقدرها الجزائريون والمسلمون عموما حق قدرها إلى الآن. انظر أيضا كتاب جون وولف (الجزائر وأوروبا) من ترجمتنا. الجزائر، 1986.

الأمبراطور أن يغرق أمام مدينة الجزائر. وبوقدور هو أحد الأولياء الأربعة الذين أنقذوا الجزائر بإثارة العاصفة حسب الأسطورة، وأما الأولياء الآخرون فهم: ولي دادة، وأبو التقى (سيدي بتقا) وسيدي يوسف الزنجي. ويقول ديفوكس إن مسجد سيدي بوقدور (المكتب) ما يزال بأيدي المسلمين في عهده. وأنه يقع في شارع كليبر (¬1). 93 - جامع سفير: هذا من المساجد التي تحدثنا عن أصلها في الجزء الأول من هذا الكتاب، وقلنا إن أصله يرجع إلى إحسان عبد الله صفر، الذي أعتقه خير الدين باشا (بربروس)، وأن الاسم تحول شعبيا، من صفر إلى سفير، وأن تاريخ تأسيسه يرجع إلى سنة 940 (1534). ولكن ديفوكس وأمثاله يقولون إن الجامع كان تفضلا وكرما من عبد كان مسيحيا واعتنق الإسلام وسمي بالقائد صفر بن عبد الله. وإن هذا الرجل قد درس الإسلام وأتقن اللغة العربية، وكان من حفظة القرآن الكريم. والذي يعنينا اليوم هو أن هذا من الجوامع التي أبقاها الاحتلال تحت اسم (جامع سفير) ربما لرائحة المسيحية في أصله، كما زعموا. وسيرد اسم الجامع لاصقا ببعض أسماء رجال الدين الذين توظفوا فيه أثناء الاحتلال مثل الشيخ محمد بن مصطفى خوجة المعروف بالكمال. وقد قام الداي حسين أيضا تجديده وتوسيعه سنة 1826 (¬2). وكان يقع في شارع كليبر، الذي لا يتناسب مع اسم الجامع ولا تاريخ صاحبه في الجهاد. ويقول ديفوكس إن ¬

_ (¬1) ديفوكس، 240. وولي دادة هو الذي تنسب إليه الأسطورة الدور الرئيسي في إثارة العاصفة ضد أسطول شارلكان. وكانت له أوقاف ضخمة وزاوية هامة، وكان حيا زمن الحملة، وكان يتمتع بسر خاص لدى الجنود المتوجهين للجهاد والغزو. وكان ضريحه يقع قرب دار القنصلية الفرنسية. انظر فصل الزوايا. وكذلك كلاين، ص 160. (¬2) يقول كلاين إن الذي جدده هو الداي بابا حسن سنة 1791 قبل الداي حسين باشا. كلاين ص 155. ويذكر أن إمام جامع سفير في وقته (1914 - 1937) هو الشيخ القميشى (؟).

هذا الجامع لا يعتبر من أجمل المساجد بالعاصمة، رغم رشاقة الإضافة التي أضافها الداي حسين. ويقوم الجامع على ثماني عرصات نصفها من المرمر والنصف الآخر من الحجر. وهي عرصات منخفضة ومدورة وفخمة الشكل، وتقوم على هذه العرصات قبة ضخمة متينة. والمحراب مغطى بالزليج الأبيض والأزرق وكذلك إطارات النوافذ. وكنا قد تحدثنا عن أوقاف هذا الجامع في غير هذا. ولكن تلك الأوقاف كلها صودرت من السلطات الفرنسية كما ذكرنا. ويذهب ديفوكس إلى أن اسم (القائد صفر) بقي لاصقا بالجامع إلى القرن 13 هـ. ومنذ هذا التاريخ لم تعد لفظة (قائد) مستعملة، كما وقع منذئذ تحريف (صفر) إلى (سفير) - ربما نتيجة التأثر بالنطق الفرنسي -. وهناك وثائق تدل على تجديد الداي حسين بناء هذا الجامع في السنة المذكورة، وتصف (حسين باشا بالمجاهد). وللجامع منارة مثمنة الشكل وغير عالية (¬1). 94 - مسجد عبد الرحيم: وهذا مسجد ترجع وثائق تأسيسه إلى القرن 11 هـ (1089/ 1678) وتذكر أن مؤسسه هو السيد مصطفى بن محمد الأندلسي المعروف بابن كرونبة. وكان ذلك فوق الحمامات بقرب ضريح الولي سيدي محمد الشريف. وكان يقع في شارع دامغريفيل. وكان معروفا أيضا باسم جامع الحمامات، وجامع عبد الرحيم. ويبدو أن الاسم الأخير كان لأحد وكلائه. وكان مصير هذا المسجد هو الهدم بحجة الأمن العام كأنه في نظرهم قد آل للسقوط، وذلك في نوفمبر 1850. ولا ندري هل بقي بين 1830 - 1850 في أيدي المسلمين أو في أيدي مصالح فرنسية. وقد دخل جزء من أرضه في الطريق العمومي والباقي بيع، وأصبح جزءا من إحدى الدور الواقعة في نفس الشارع (¬2). وقد جرت العادة أن الجامع إما أن يجدد ويصان وإما أن يبنى مكانه مسجد آخر أصح منه وأوسع وأجمل. ولكن الفرنسيين لم يأتوا من أجل ذلك. ¬

_ (¬1) ديفوكس، 245 - 246. (¬2) نفس المصدر، 246.

95 - مسجد الحمامات: وهو غير المسجد المذكور قبله. وقد اكتسب هذه التسمية لموقعه في الحي الذي يطلق عليه حي الحمامات. ويقع في شارع الباب الجديد. وكان ما يزال في عهد ديفوكس بأيدي المسلمين، كما قال (¬1)، ولكن مصيره بعد ذلك بقي مجهولا. والظاهر أنه هدم. ولم يذكر صاحب هذا المصدر هل اختلفت عليه الأيدي، وما مقدار أوقافه الخ. 96 - مسجد عين الشاه حسين: وكان يقع أيضا في الباب الجديد. ورغم صغر حجمه فقد كانت له منارة مذببة. وكان يأخذ اسمه من العين الجارية القريبة منه والمسماة عين الشاه حسين، ويرى ديفوكس أن لفظ (الشاه) هنا هو تحريف للفظ (الشيخ) وليس من كلمة (الشاه) الفارسية. ولكن لا دليل على هذا التحول. فما يمنع أن يكون أحدهم يحمل هذا اللقب (الشاه) السلطاني. ومع ذلك فإن التحريف جائز. أما تاريخ بناء المسجد فيرجع إلى القرن العاشر الهجري. في عهد الاحتلال عطل المسجد عن وظيفته، وبيعت أرضه سنة 1844 بدعوى الإهمال، ودخل مكانه في إحدى الدور التي بنيت على أنقاضه في شارع الباب الجديد. ولا يصف ديفوكس أوقافه وحالته قبل 1844 (¬2). 97 - مسجد الزيتونة: مصير هذا الجامع غريب رغم جمال اسمه. وهو يقع في شارع الباب الجديد أيضا. وله أوقاف تقول إنه مسجد سيدي إبراهيم التكروني تحت الباب الجديد. وهو معروف باسم جامع الزيتونة. ويرجع اسم سيدي إبراهيم التكروني إلى القرن 11 هـ (1055/ 1645). وهو يذكر أحيانا باسم إبراهيم التكرور. وقد نسي الناس اسم هذا الولي (السوداني؟) واحتفظوا للجامع باسم الزيتونة. وقاوم هذا الجامع الحرمان من الأوقاف والصيانة إلى سنة 1851 حين رأت السلطات الفرنسية خلال شهر فبراير أن تعمل فيه المطرقة والفأس أيضا بحجة الأمن العام. وبعد أن تعرت أرضه ¬

_ (¬1) نفس المصدر، 247. (¬2) ديفوكس، 248.

بيعت في المزاد العلني خلال مايو 1852، فاشتراه أحد الغيورين، وهو السيد حمود بن الحاج محمد بأربعمائة فرنك. ونوى إعادة بنائه مسجدا، ولكن وسائله المادية لم تكن، كما يقول ديفوكس، في مستوى نيته الخيرة. ولا ندري لماذا لم يعط الجامع للمسلمين من قبل هدمه. وقد أضاف ديفوكس أن مكان جامع الزيتونة ظل أرضا عارية سائبة (¬1). ولا ندري مصيره، ولا نذكر أن أوميرا الذي كتب في نهاية القرن قد أشار إليه، مما يدل ربما على زواله. 98 - مسجد الباب الجديد: هذا المسجد كان معتمداد على حصن أو قلعة الباب الجديد. وهو يقع في شارع الباب الجديد، الذي أعطاه اسمه. وقد ظل فترة طويلة مقرا لفرقة الحرس الفرنسية. ولا ندري كم هي المدة التي بقيها كذلك، لأن عبارة ديفوكس لا تجيب على سبب اختفاء (هدم؟) المسجد. وقد اكتفى ديفوكس بعبارة غامضة جدار وهي أن المسجد كان عليه أن يختفي (!) مع التحصينات التركية القديمة التي هدمها الفرنسيون، دون إعطاء تاريخ لهذا الاختفاء. ونفس التعبير استعمله أيضا أوميرا في وصف مآل الجامع (¬2). 99 - مسجد قلاق عبدي: وكان يقع في شارع النصر (فيكتوار). والتسمية أعلاه جاءت في الوقفية الخاصة به، ومع ذلك لم يعد الناس يذكرون (قلاق عبدي) سنة 1830. كان هذا المسجد يستعمل (مكتبا) قرآنية أو مدرسة لتحفيظ القرآن. ولكن الفرنسيين أزالوه من الوجود في تاريخ غير محدد، وحين ذكره ديفوكس قال إن هدمه قد وقع (منذ أمد طويل)، دون ذكر السبب، كما جرت العادة. وأخبر أن مكانه قد دخل في الطريق العمومي (¬3). 100 - مسجد كوشة الوقيد: هذ مسجد آخر يحوط الغموض بمصيره، ¬

_ (¬1) نفس المصدر، 248. انظر سابقا، جامع الحوانيت الغربية. (¬2) ديفوكس، 249، وأوميرا، 185. (¬3) ديفوكس، 249.

إذ ترجعه الوثائق إلى القرن الحادي عشر (1068/ 1657). وكانت إلى جانبه مدرسة تشير إليها الوقفية أيضا. ويذهب ديفوكس إلى أن هذا المسجد قد سقط من البلى قبل الاحتلال. ويفهم من كلامه أن الفرنسيين هم الذين أزالوه من الوجود. وقد دخلت أرضه وأرض المدرسة في الساحة التي أقامها الجيش الفرنسي في أعلى المدية القديمة (¬1). وكان يقع في شارع كوندور. 101 - مسجد حوانيت ابن رابحة: ويسمى أيضا مسجد التفاحي، وهذا اسم قد يكون لأحد الوكلاء. وأما اسم ابن رابحة فهو اسم الحي، واللفظ الشعبي هو برابحة (بتشديد الراء). ويذهب ديفوكس إلى أن المسجد قد آل للسقوط قبل 1830، ومع ذلك بقي إلى 1842 حين هدمه الفرنسيون. وتصفه الوقفية بأنه كان يقع على أقواس (ساباط) القائد قاسم. وكان يقع في شارع البحر الأحمر (¬2). 102 - مسجد سيدي عبد الرحمن المرايشي: وإذا كانت بعض المساجد قد هرمت قبل الاحتلال، كما يذهب بعض الفرنسيين، فماذا نقول في هذا المسجد الذي يحمل اسم أحد الأولياء، وهو سيدي المرايشي؟ إن قبر هذا الولي كان بالمسجد. وقد حكمت عليه السلطات الفرنسية بالهدم بحجة الأمن العام، سنة 1849. وضمت أرضه إلى أرض دار واقعة في شارع ميدي (¬3). 103 - مسجد زنقة بوعكاشة: ويسمى أخبار مسجد البيلو، الذي يرجح ديفوكس أنه أحد الوكلاء الأندلسيين. وكان لهذا المسجد منارة، وله أوقاف. ويبدو أن اسم الوكيل قد نسي وبقي اسم الحي (أبو عكاشة)، ولماذا لا يكون أبو عكاشة اسما لأحد الوكلاء أيضا؟ وكان المسجد يقع في شارع غرناظة. وقد حكمت السلطات الفرنسية على هذا المسجد بالهدم أيضا بحجة الأمن ¬

_ (¬1) نفس المصدر، 250. (¬2) ديفوكس، 250. (¬3) نفس المصدر، 251.

العام، في أفريل 1855، أي أنه بقي ربع قرن بعد الاحتلال، ومع ذلك لم يقل ديفوكس ماذا فعلت به السلطات قبل ذلك. ولكنه قال إن أحد المسلمين اشترى مكان المسجد في نفس هذه السنة (22 سبتمبر، 1855) وأن موقعه قد دخل في إحدى الدور الواقعة في شارع غرناطة المذكور (¬1). فهل بنى المسلم داره على أرض الجامع؟ أو أنه باعها، كما يذكر أوميرا في إحدى مقالاته؟ الجواب الشافي غير معروف. 104 - مسجد سيدي الجامي: بناية تضم المسجد والضريح، والقبة، وهي عبارة عن زاوية. ونكتفي هنا بذكر المسجد لأن الوقفية تحدثت عنه. وكان يقع في باب الواد. وينطق أحيانا سيدي الجامع. وكانت له أوقاف مهمة منها سبعة عشر حانوتا، وخمسة منازل، وغرفة، ورحى وأرض ريفية. وكان له وكيل يقوم مقام الإمام والمؤذن أيضا. وآخر وكلائه هو علي بن رمضان، الذي سمي سنة 1835. ويقول ديفوكس إن معظم أملاك هذا المسجد قد هدمت، بدون توضيح. ومنذ الاحتلال عطلت هذه البناية عن غرضها الديني، فاحتلها الدرك مدة طويلة، ثم سلمت إلى أملاك الدولة في غشت 1850. فأعطتها بدورها إلى جمعية مسيحية تعرف (بالترابيست). وفي عهد ديفوكس كانت هذه الجمعية ما تزال تحتل المسجد، وقد أطلقوا عليه اسم (اسطاويلي الصغيرة). وكان المسجد يقع عند المدخل السفلي للحديقة المعروفة باسم مرنقو على يمين الصاعد إلى القصبة (¬2). 105 - مسجد الشيخ عبد الرحمن الثعالبي: اشتهر الشيخ عبد الرحمن الثعالبي (ت 873) بزاويته أكثر من مسجده. ومع ذلك فقد كان المسجد على ¬

_ (¬1) نفس المصدر، 251. انظر سابقا جامع الحوانيت الغربية ومسجد الزيتونة. (¬2) ديفوكس، 20. وحديقة مرنقو هي التي تضم مسجد وضريح وجبانة سيدي عبد الرحمن الثعالبي. وأضاف كلاين أن الآغا يحيى قد دفن قرب هذا المسجد، وهو الآغا الذي سبق الآغا إبراهيم الذي هزم في معركة اسطاويلي سنة، 1830.

على درجة هامة. وحياة الشيخ معروفة وقد درسناها في غير هذا. ويقول أوغسطين بيرك إن بناء المسجد يرجع إلى الداي الحاج محمد (أحمد) العلج سنة 1696، ويرجح أن هذا الداي قد أعاد البناء فقط أي جدده، وهو تقليد كان جاريا. ولاحظ بيرك أن بالمسجد آثارا من العهد السعدي في المغرب الأقصى وأن هناك عرصة واردة من فاس أو من مراكش. وللمسجد منارة ومحراب مزخرفتان بالفسيفساء الفارسية، وتوابع أخرى. أما القبة فمثمنة. ومنارته مربعة ومزينة بالزليج أيضا (¬1). وقبل هذا كان الشيخ الثعالبي الذي اشتهر بالعلم والتصوف السني والجهاد في سبيل الدين بالمعنى السلفي للكلمة، يعيش في منزل أو خلوة بشارع شارت charte رقم 2 في البداية ئم أخذت رقمي 54 و 60. وهذه الخلوة قد هدمها الفرنسيون ودخلت في ما اسموه (فندق الإدارة العامة). وكان بقرب الخلوة التي قضى فيها الشيخ حياته متعبدا ومؤلفا وواعظا، مسجد صغير يحمل اسم الشيخ أيضا، وهو رقم 29 فيما ذكرنا من المساجد. وكما لاحظ بيرك فإن بناية الشيخ الثعالبي الحالية ترجع إلى 1696 حين بناها أو جددها الداي الحاج أحمد عطشى، وقد ألصق به الفرنسيون لقبين وهما العلج والطباخ (عطشى)، لكي يؤكدوا من اللقب الأول (العلج) على مسيحيته الأصلية قبل اعتناق الإسلام، ويؤكدوا من اللقب الثاني (عطشى) على الحط من قيمته باعتباره كان طباخا ثم وصل إلى سدة الحكم. وكانت مساحة مسجد الثعالبي وتوابعه كبيرة بلغت 1، 400 متر. وكان المسجد حسب ديفوكس من الدرجة الثانية، وله منارة صغيرة وجميلة، ثم وصفها بما وصفها به بيرك سابقا. ولاحظ أن القبة مزينة من الداخل وهي من الحجم الفخم. والقبة تضم عددا، من الأضرحة، ومنها ضريح الشيخ الثعالبي نفسه المغطى بتابوت عليه أعلام وخرق ورموز، بالإضافة إلى ملحقات من الغرف والبنايات لاستعمال الوكيل ومن معه من الموظفين. وهناك أيضا قاعة ¬

_ (¬1) بيرك، مرجع سابق، 98. وكذلك باللو (المجلة الإفريقية)، 1904، ص 170.

للعجزة، وجبانة خاصة. ويتبع ذلك أيضا ميضآت ومطاهر عامة. كانت أوقاف الثعالبي تكون من أحد عشر عقارا عند تأسيس الوقفية. لكن في سنة 1834 كانت الوقفية تتكون من 69 ملكية يبلغ دخلها ستة آلاف فرنك. وهو مبلغ كبير بالنسبة للأوقاف الأخرى. ولاحظ ديفوكس أن هناك ثلاث عشرة ملكية أخرى كانت غير منتجة إما لعدم صلاحيتها وإما لهدمها من قبل الفرنسيين. وكانت مداخيل المسجد وتوابعه قد ازدادت نتيجة الصدقات والتبرعات التي كان يتقدم بها المحسنون. وهناك موظفون يترأسهم (شيخ الحضرة) الذي يشرف على جلسة للذكر والدعاء والقراءة على روح الشيخ، رغم أن ذلك لا يعني انتسابها لأحدى الطرق الصوفية. وقد صادرت السلطات الفرنسية أوقاف الشيخ الثعالبي أيضا في آخر سنة 1848 (¬1)، فضاق الحال بالوكيل حتى اشتكى إلى السلطات الفرنسية، لكن بدون جدوى (¬2). ... بعد المساجد الواقعة في العاصمة القديمة، ذكر ديفوكس المساجد والأضرحة الواقعة في الفحوص أو الضواحي مثل بوزريعة والقبة، وبئر الخادم، وبئر مراد رايس والزحاولة (السحاولة؟) والقادوس وسيدي فرج، وتقصرين، والحامة. ولكن معظم ما ذكره في هذه الأماكن كان من الأضرحة، كما سنذكره في مكانه، أما المساجد فقليلة، ومعظم هذه المساجد مذكور فقط بالاسم، وليس هناك تفاصيل عن تاريخ بنائها وأوقافها ¬

_ (¬1) ديفوكس، 37 - 43. من أشهر الذين تولوا الإشراف على ضريح الشيخ الثعالبي هو الشيخ علي بن الحاج موسى، أحد العلماء الذين تولوا عدة وظائف للفرنسيين ثم استقروا على السهر على الضريح والمسجد والتأليف. انظر فصل السلك الديني. (¬2) بلقاسم بن سديرة (كتاب الرسائل)، الجزائر 1896، ص 283. رسالة من وكيل جامع الثعالبي سنعرض إليها في الأوقاف. انظر لاحقا زاوية الشيخ الثعالبي. ولم يخف كلاين معلومات هامة عن جامع الثعالبي. ومما قاله إنه يضم مدافن بعض العلماء والأعيان، مثل المفتي ابن زاكور، وأحمد بوقندورة، وبعض الدايات والبايات. وقال إن إمام الجامع الحالي (؟) هو الشيخ أمين قدور.

وتبادل الأيدي عليها ووكلائها، ونحو ذلك. ولنشر أيضا إلى أن ديفوكس جعل هذه الأماكن الإسلامية - مساجد وأضرحة وزوايا - في شكل ذيل لكتابه فقط. ولم تكن من مهامه الرئيسية. والملاحظ أن يد الهدم قد مست عندئذ البنايات الواقعة في العاصمة بالخصوص. وهذه هي مساجد الفحوص عندئذ: 106 - مسجد بئر مراد رايس: هذا المسجد يرجع إلى عهد الداي عبدي باشا (الذي سبق ذكره وذكر مسجده رقم 22)، وكان ذلك في بداية ريع الأول سنة 1137 (1724) حسب وقفية للقاضي الحنفي بذلك التاريخ. والمسجد يحمل اسم الحي (بئر مراد رايس)، وكان مراد رايس هو الذي حفر البئر المسمى عليه الجامع (¬1). وقد ذكر كلاين أن هذا المسجد قد سكنه الجنود الفرنسيون. 107 - مسجد بئر الخادم: وثائق سنة 1124 هـ (1711 م) تتحدث عن بئر الخادم، كحي من الأحياء، لكن الجامع المنسوب لهذا الحي لم يذكر عنه ديفوكس أي تفصيل، كما أشرنا (¬2). ولا نعرف من بناه، لكننا نعرف أن بئر الخادم كانت تقع على وادي تيكلوت، وأنها اليوم ضاحية بجنوب شرق العاصمة. ولم يضف كلاين جديدا بشأنه. 108 - مسجد الزحاولة: والزحاولة نسبيا، بعيدة عن العاصمة في القديم، ومع ذلك اعتبرها ديفوكس من الفحوص. وقال إن مسجدها، الذي لم يقدم حوله أي وصف أو معلومات، قد بناه أحد الضباط العثمانيين باسم يوسف بولكباشي، سنة 1799 (¬3). ¬

_ (¬1) ديفوكس، 254. ومما يذكر أن مراد رايس أصله من الفلامان وأنه اعتنق الإسلام، وعاش خلال القرن 17 م ووصلت سفنه الجهادية أعالي البحار، ثم إلى إيسلاندا سنة 1616. انظر عنه أيضا كتابنا هذا ج 1. وقد ترجمنا بحثا كتبه المستشرق بيرنارد لويس عن الجزائريين في جزيرة إيسلاندا. ولم ننشره حتى الآن، وكان مراد رايس قد احتل جزر الكناري عدة شهور ثم انسحب منها. (¬2) نفس المصدر، 254. (¬3) نفس المصدر، 254. انظر أيضا دراسة سعيدوني المشار إليها في أول هذا الفصل.

آراء وتعاليق حول مصير مساجد العاصمة

109 - مسجد تقصرين: لم تذكر عنه أية معلومات. 110 - مسجد القادوس: يقع على الضفة اليمنى من وادي الكرمة. 111 - مسجد سيدي محمد بن عبد الرحمن: وهو مسجد يقع بالحامة، وينسب إلى الشيخ محمد بن عبد الرحمن الأزهري (بوقبرين)، مؤسس الطريقة الرحمانية. ونحن هنا أمام مجموعة من البنايات الدينية، مسجد وضريح (قبة) وجبانة، وزاوية. وحياة الشيخ درسناها في غير هذا المكان (فصل الزوايا). ويجب أن نذكر أن المسجد وتوابعه قد بنيت في عهد الداي حسن باشا (1791). وبعضهم يقول إنها بنيت في عهد الداي مصطفى باشا (ت 1805). وفي الجامع سلسلة لنسب الشيخ محمد بن عبد الرحمن تربطه بالشرف عن طريق السيدة فاطمة والإمام علي. وتاريخ البناء هو سنة 1206 (1791)، حسب الوثيقة وهو عهد الداي حسن باشا (¬1). 112 - مسجد الحامة: وهو مسجد صغير ومعه مدرسة، وكان يقع في الحامة، وذكره ديفوكس باختصار، وقال إنه يقع في مقابلة حديقة التجارب (¬2) التي أنشأها الفرنسيون لتربية النباتات (¬3). آراء وتعاليق حول مصير مساجد العاصمة إن المساجد التي ذكرناها حتى الآن لا تعني إحصاء كاملا شاملا لمساجد العاصمة. وعلى الباحث أن يرجع إلى التقارير الأقدم من ذلك وإلى ¬

_ (¬1) ديفوكس، 255 - 258. وقد ذكره أيضا أوغسطين بيرك، وقال عنه إنه بني سنة 1792. وإن له قاعتين، ولم يذكر أن له منارة، ولكنه وصف محرابه. وقد توفي الشيخ ابن عبد الرحمن سنة 1790. انظر الفن القديم والفن الإسلامي بالجزائر في (كراسات الاحتفال المئوي)، 1930، ص 98. (¬2) نفس المصدر، 258. (¬3) انظر أيضا فقرة الزوايا وفقرة القباب.

وثائق الأوقاف لمعرفة العدد والأسماء والمواقع الصحيحة، وكذلك كتب الرحالة القدماء. وإذا كانت معظم المساجد قد هدمت أو حولت عن غرضها حسبما جاء في أعمال ديفوكس، فإنه أشار إلى أن بعضها كان (ما يزال في أيدي المسلمين)، أي خلال الستينات، عهد المملكة العربية ومراعاة حياة المسلمين تحت مظلة نابليون الثالث الذي قال إنه (امبراطور العرب والفرنسيين معا). ولا شك أن الأمور قد تغيرت بعد ذلك. ففي سنة 1870 انتصرت الليبرالية وحلت الجمهورية الثالثة محل الامبراطورية الثانية وحل الاستعمار المدني محل الاستعمار العسكري، وانطلق العهد الثاني من تخريب وتشويه كل ما هو (أهلي). وقد اختفى ديفوكس الذي حصل على مجموعة من الأوسمة والنياشين على أعماله. وظل الفأس والمطرقة يعملان في البنايات الإسلامية، ومنها المساجد. ولذلك فإن أوميرا الذي كتب بعد ربع قرن من ديفوكس لم يذكر سوى 32 مسجدا وجامعا قال عنها إنها هدمت أو حولت إلى مصالح عسكرية أو مدنية، وأضاف أنه لم يبق سوى ستة مساجد داخل مدينة الجزائر احتفظت بوظيفتها الإسلامية. ولكن هذه قد تقلصت أيضا، فلا الجامع الكبير ولا الجامع الجديد بقي كما كان حجما وأوقافا وتوابع. مثلا هدمت الزاوية والمدرسة التي كانت تابعة للجامع الكبير، وأزيل نصيب من الجامع الجديد، كما أوضحنا. بل كاد الجامعان يختفيان أيضا. ولم يذكر باللو سنة 1904 سوى ستة مساجد قال إنها ما تزال على قيد الحياة وتؤدي وظيفتها الإسلامية (¬1). وبعد حوالي ربع قرن كتب أشيل روبير عن مساجد العاصمة فقسمها إلى قسمين رئيسيين، مساجد المذهب المالكي وعددها، كما قال، 89 مسجدا بين كبير وصغير. ومساجد المذهب الحنفي وعددها أربعة عشر. ¬

_ (¬1) وهي الكبير والجديد وسيدي رمضان وصفر (سفير)، والثعالبي ومحمد الشريف. انظر باللو، المجلة الإفريقية، 1904، ص 170.

وكلها من النوع الكبير. ومن المساجد المالكية التي بقيت إلى وقته الجامع الكبير وجامع سيدي رمضان. ومن المساجد الحنفية الجامع الجديد وجامع سفير. وقد ذكر تقريبا نفس القائمة التي جاء بها ديفوكس ولكن بدون تفصيل. ولاحظنا عليه أنه أوردها مع ذكر شوارعها للتاريخ. وفيها أسماء لم تمر بنا حتى الآن، مثل جامع سيدي هلال، وجامع الديارم، ومن ال 89 مسجدا مالكيا ذكر 48 من الجوامع الكبيرة. والباقي، وهو 41، عدها من الصغيرة. وقد أورد تقسيمات أخرى للمساجد حسب الأحياء قال إن معظمها كان في القصبة ثم باب الواد: 8 في القصبة، 6 في باب الواد، 6 في باب عزون، 5 في ساحة الحكومة، 4 في الباب الجديد، 4 في شارع شارتر، 3 في شارع القناصل، 3 في شارع ميدي، الخ. ثم تتوزع الباقيات على الأحياء الأخرى. ومن المساجد الحنفية التي لم يمر اسمها بنا جامع المقرين، وجامع اسطاويلي (¬1). وهناك مساجد أخرى لم يشر إليها السابقون، وإنما وجدنا إشارات إليها في مؤلفات أخرى عرضا. من ذلك المسجد الذي حوله الفرنسيون إلى كنيسة تسمى (سان فيليب) ولا ندري الآن ما اسمه الأصلي. فقد جاء في أحد المؤلفات أن وزير المعارف منح أحد المساجد إلى النساء فسمي كنيسة سان فيليب. ويذكر هذا المصدر قصة غريبة وهي أن الوزير المذكور (طلب) من المفتي الجزائري التنازل عن الجامع، فأجابه المفتي جوابا يدل على التسامح اللامتناهي أو على فهم عميق للدين أسمى من فهم فلاسفة الفرنسيين المتمردين، إذ قال المفتي المغلوب على أمره: إنك أيها الوزير تطلب منا معبدا (مسجدا) لتؤدي فيه عبادتك. يمكنك أخذه إذن، فاعبد فيه الله الذي هو إلهنا أيضا (¬2). ¬

_ (¬1) أشيل روبير، (روكاي، 1918)، مرجع سابق، 239 - 243. وآشيل هذا هو الذي رد عليه الشاعر محمد العيد آل خليفة بقصيدته المعروفة بعنوان (ما بال آشيل يهذي؟) بعد أن تعرض آشيل للإسلام، ويبدو أن الشيخ ابن باديس قد بادر بالرد عليه وتبعه الشاعر. (¬2) جاكلين بيلي Bayle (عندما أصبحت الجزائر فرنسية ..)، 280.

وقد لاحظ الرحالة والزائرون لمدينة الجزائر طمس المساجد بكل الوسائل وتحت مختلف الأغطية. فقال القس بلاكسلي سنة 1858 إن من بين بقايا المساجد القديمة الجميلة ما هو مستعمل الآن ثكنة عسكرية للمدفعية أو لأغراض عسكرية أخرى. وقد عانت هذه المساجد من التخريب والتعديل والتحولات بحيث لم يعد المرء يفرق بعد ذلك ما إذا كانت هي نفسها المساجد التي كانت من قبل. وكانت مدارس لتحفيظ القرآن متصلة بالمساجد، فاندثر كل ذلك معها (¬1). وعن مصير مساجد العاصمة أيضا كتب السيد بولسكي فقال لقد كان بها عشرة جوامع كبيرة وحوالي خمسين صغيرة، لكن الآن (1854) انخفض ذلك العدد إلى النصف. إن كثيرا منها قد هدم لتوسيع الطرقات أو لإفساح المجال لبناء المنازل. وقد حول أحدها إلى مسرح (وهذا ما لم يذكره ديفوكس)، وآخر إلى مخزن لعلف الدواب، وآخر إلى براكة (ثكنة). وأضاف هذا المصدر، أن الحكومة الفرنسية طالما تلقت النقد على سياستها الدينية السيئة نحو بيوت العبادة الإسلامية، وهي السياسة التي لا يمكن للمسلمين أن ينسوها أو يغفروها للحكام الفرنسيين (¬2). وهناك ملاحظات أخرى أبداها بولسكي حول المساجد. من بينها أن عدد السكان المسلمين في مدينة الجزائر قد تناقص كثيرا بالهجرة الخارجية والداخلية. وهذا الوضع جعل المساجد تظهر كأنها أكثر من حاجة السكان الباقين (¬3). وهذا رأي لعله كان في أذهان الفرنسيين عندما حملوا الفؤوس لتخريب المساجد الزائدة عن الحاجة في نظرهم. لقد أرغم الفرنسيون (الأتراك) على الخروج من الجزائر، ثم خرج منها كثير من أهل الحضر ذوي ¬

_ (¬1) بلاكسلي (أربعة أشهر في الجزائر)، لندن، 1859، 29. (¬2) بولسكي (فاغنر)، (العلم المثلث فوق الأطلس)، لندن، 1852، 17 - 18. وقد صدق في نبوءته، لأن المسلمين لم ينسوا ما حل بمساجدهم. (¬3) وذلك ما كان يقصده ديفوكس وغيره عندما يقولون إن المسلمين قد أهملوا بعض المساجد.

النفوذ والجاه والثروة والعلم. وبذلك تناقص عدد المترددين على المساجد، حسب رأي بولسكي. أما الجيش الفرنسي والمستوطنون الأوروبيون فقد كانوا في ازدياد، وكانوا جميعا في حاجة إلى منازل ومقرات للإقامة، فكانت المساجد هي إحدى الوسائل. وهناك ملاحظة أخرى أبداها بولسكي أيضا وهي أن دخول المساجد لم يعد ممنوعا، بل أصبح الأوروبيون يدخلونها بحرية بعد نزع أحذيتهم، وهذا بالنسبة للمساجد القائمة التي تؤدي وظيفتها أما تلك التي تحولت عن غرضها وعطل العمل الديني فيها فقد عرفنا أنها ديست بالأقدام وغيرها وأصبحت أماكن للعربدة والعبث، بل واسطبلات. ويذكر مؤلف آخر أنه دخل جامعا قديما فوجد فيه الجنود يعربدون ويصرخون، وهم يعزفون على آلاتهم الموسيقية ويضربون الطبول وغيرها لأن هذا الجامع السيء الحظ قد جعلته السلطات الفرنسية مقرا لإحدى الفرق العسكرية (¬1). (انظر عنه قائمة المساجد، والمقصود به جامع الداي حسين بالقصبة). وقد تساءل أوميرا نفسه سنة 1898 قائلا: ماذا بقي من ال 150 مسجدا. التي كانت بالعاصمة؟ ثم أجاب: إن ثلاثة منها قد حولت إلى كنائس كاثوليكية، وبعضها حول عن غرضه وأعطى إلى المصالح العامة، عسكرية ومدنية، ثم إن معظم المساجد حدث لها ما حدث للزوايا والأضرحة. فقد هدمت لفتح الطرق والساحات أو توسيعها أو بناء مؤسسات عمومية كبيرة كالمستشفيات والمدارس والمسارح والكنائس (¬2). وكان الليسيه (الثانوية) الأول في الجزائر المعروف فيما بعد باسم ليسيه بوجو، قد ابتلع عددا كبيرا من المباني الدينية من مساجد وأضرحة، كما ابتلع جبانة باب الواد الشهيرة، حتى وصفه ديفوكس بالبعبع أو الوحش. ¬

_ (¬1) ج. ل. ديتسون (الهلال والصليبيون الفرنسيون)، نيويورك، 1859، 103. (¬2) أوميرا، مرجع سابق، 200. ولكن أوميرا يعترف أن حكومته قد هدمت جامع السيدة قبل (التفكير) في إنشاء ساحة الحكومة، نفس المرجع، ص 177 - 178. لاحظ قوله إن بعض المساجد حولت إلى مسارح، وهو ما لم يرد فى ديفوكس.

وفي سنة 1913 كتب جورج ايفير، المتخصص في تاريخ الاستعمار والأستاذ بجامعة الجزائر، عن المساجد التي عانت من الاحتلال بناء على الوثائق المعاصرة. وقد لاحظ أن بعض المساجد حولت إلى كنائس كاثوليكية، وأن بين خمسة وستة مساجد أصبحت مخازن، وإن من بين ال 80 (ثمانين) مسجدا وزاوية التي كانت بالعاصمة سنة 1830 هدم منها ستة وستون بين 1830 - 1832 فقط. وأن هناك مسجدا سلم سنة 1832 إلى السيد لكروتز ليصنع فيه الأسرة العسكرية. ونحن نجد أصداء لذلك في كتاب (المرآة) لحمدان خوجة وكتاب بيشون المسمى (الجزائر سنة 1832) (¬1). ولو وقفت الحكومة الفرنسية موقفا واحدا من الأديان لقيل عنها إنها لائكية أو ثورية/ جمهورية، أو ماسونية، أو نحو ذلك، ولكنها في الوقت الذي كانت فيه تعمل الفأس في بيوت الله الإسلامية، كانت تبني الكنائس على حسابها، (ومن حسابها مال الأوقاف الإسلامية). فقد ذكر أحد المصادر أنها بنت سبعة وثلاثين كنيسة كاثوليكية واثنتين للمذهب البروتيستنتي في الجزائر، قبل 1858. ويذكر هذا المصدر أيضا أن الأسقف دوبوش وحده قد بنى من أموال الكنيسة والتبرعات الخاصة 47 كنيسة ومعبدا خلال سبع سنوات. هذا بالنسبة لجالية أوروبية ما تزال صغيرة تقدر ببضعة آلاف فقط. أما المسلمون الذين يقدر عددهم بالملايين فقد بنت لهم الحكومة، ثلاثة مساجد، حسب هذا المصدر. وبدون شك فإن هذه المساجد الثلاثة لم تكن في العاصمة، وكانت من أموال المسلمين (¬2). ¬

_ (¬1) انظر جورج إيفير (مذكرات حمدان خوجة) في المجلة الإفريقية 1913، ص 134. وهو ينقل أيضا عن بيليسييه دي رينو (الحوليات الجزائرية)، ج 1 الكتاب 9. وبيشون، ج 1 الفصل 5، الخ. (¬2) بلاكسلي، 44. والمساجد التي بنتها الحكومة توجد في سكيكدة، ودلس، وبوفاريك.

بعض المساجد في إقليم العاصمة

بعض المساجد في إقليم العاصمة وإذا خرجنا من العاصمة إلى مدن إقليمها، نجد الوضع يختلف بعض الشيء. ذلك أن المبررات التي ذكرت بالنسبة للعاصمة غير موجودة بالنسبة لغيرها من مدن الإقليم كالبليدة وشرشال والمدية، ومليانة والقليعة. فليس هناك حاجة لثكنات كبيرة، ومتعددة، ولا حاجة ملحة للمخازن والمنشآت العامة ولا تهديد للأمن العام، ولا حاجة مستعجلة لفتح الطرق وتوسيع الساحات كما زعموا في الحالات الأخرى، وكذلك لم تعش المدن الأخرى نفس الظروف التي عاشتها العاصمة وبناياتها الدينية. ومع ذلك فإنها لم تسلم من الأذى والإهانة والتعطيل. ففي البليدة، هذه المدينة المتحضرة في قلب متيجة اعتدى الفرنسيون على مسجدها أيضا. وكان أول ذلك أثناء الحملة ضد المدية على يد كلوزيل سنة 1830. فقد هاجم الفرنسيون المسلمين في المسجد نفسه بعد التجائهم إليه. وفي حملة لاحقة كان الحاكم العام نفسه، المارشال فاليه، هو الذي سلم الجامع إلى الأسقف ديبوش، فحوله هذا إلى كنيسة كاثوليكية. وحضر ديبوش الحفلة التي رفع فيها الصليب على منارة الجامع. والغريب في الأمر أمم جاؤوا بستة من العرب ليحملوا إليهم هذا الصليب الضخم من المصهرة التي صهر فيها الصليب. ثم لكي تتخذ الحفلة طابعا رسميا ودينيا جيء بالجنود الفرنسيين فحملوا الصليب إلى أعلى الجامع وثبتوه هناك على ضوء شعلة كان يحملها العرب (¬1). إن المدن الآتية: المدية، وشرشال، ومليانة لم يحتلها الفرنسيون إلا بعد 1840 لأنها كانت تحت حكم الأمير عبد القادر. وأما زواوة فلم يحتلوها إلا بعد 1857، أما المناطق الجنوبية فقد احتلت في بداية الخمسينات. ونفهم من هذا أن البنايات الدينية في عهد الأمير عبد القادر قد بقيت سليمة في المدن والمناطق المذكورة إلى الأربعينات. وبعد احتلالها كان الفرنسيون ¬

_ (¬1) توماس ديرابي Th. Deraby (ملاحظات إقامة)، لندن، 1851، 333.

قد أخذوا يتأقلمون في الجزائر وربما خفت حدة سخطهم على البنايات الإسلامية. فلم يعد الهدم هدفا سريعا من أهدافهم، ولكن هناك وسائل أخرى لجأوا إليها للإضرار بهذه البنايات كثيرا، ونعني بذلك مصادرة أوقافها كما هو الشأن في الأوقاف جميعا. وهذه المصادرة أدت، مع طول الزمن، إلى إهمال المساجد وخرابها، كما أدت إلى عزوف المواطنين عن تقديم التبرعات إليها أو التحبيس عليها ما دام مالهم وعقارهم سيؤول إلى الفرنسيين في النهاية. ولذلك لم تتنعش حركة بناء المساجد إلا منذ العشرينات من القرن الحالي مع ظهور الحركة الإصلاحية، وهي المساجد التي كانوا يطلقون عليها اسم (الحرة) في مقابل تلك الواقعة تحت يد إدارة الشؤون الأهلية الفرنسية. على أن المسلمين في الجزائر لم يتوقفوا عن بناء المساجد، ولا سيما في الأرياف. وكانت السلطات الفرنسية تستولي على هذه المساجد الجديدة أيضا، كما استولت على القديمة، وكانت هي التي تعين فيها الأيمة والموظفين وتراقبهم، ولو لم تكن هي التي تدفع إليهم أجورهم، لأن المسجد كان دائما في قبضة إدارة الشؤون الأهلية حتى بعد قانون فصل لدين عن الدولة (1907)، كما سنذكر. ولذلك فإنك إذا قرأت عن إنشاء مسجد في العهد الفرنسي فاعلم أنه بني من أموال المسلمين وليس من أموال الدولة الفرنسية. وتذهب بعض الإحصاءات إلى أن إقليم العاصمة (الوسط) كان يضم 48 مسجدا سنة 1853، منها ستة حديثة العهد (¬1). وهذا الرقم لا يشمل بالطبع مساجد العاصمة نفسها. وليس لدينا إحصاء لمساجد المدن المذكورة (المدية، وشرشال، والبلدية الخ.) ولا مصائرها. وهناك إشارات إلى أن بعض المساجد قد تعرضت للتخريب أثناء الثورات، كما حدث لجامع بوزكرى في زواوة. فقد أشعل الجنود الفرنسيون النار في هذا الجامع سنة 1857 (ثورة فاطمة نسومر) ¬

_ (¬1) ب. بوليري B. Boulery في المجلة الشرقية والجزائرية، عدد 3 (1853) 60 - 61.

مساجد إقليم قسنطينة

فاحترق. وقد رثاه أحد شعراء بني راثن واستنجد بالأربعين مرابطا الذين تذهب الأسطورة الشعبية إلى أنهم حماة الجامع (¬1). وفي تقرير يرجع إلى سنة 1905 كتبه فيكتور ويل، الأستاذ بمدرسة الآداب (كلية) العليا وقدمه إلى الحاكم العام شارل جونار، أن جامع سيدي علي بشرشال قد عطل وحول إلى إسطبل لخيول سلاح الهندسة العسكرية، وأنه لم يبق منه في التاريخ المذكور سوى بعض العرصات الواقفة (¬2). مساجد إقليم قسنطينة ليس لدينا دراسات مفصلة عن مساجد إقليم قسنطينة بعد الاحتلال سنة 1837. وكانت مدينة قسنطينة محل اهتمام بعض الباحثين الفرنسيين مثل شيربونو، وميرسييه وفيرو وفايسات. وكانوا مثل زملائهم الذين تخصصوا في هذا الموضوع بالنسبة لمدينة الجزائر، يعتمدون على علماء المسلمين وعلى السماع والنقوش المكتوبة التي وجدوها على البنايات نفسها وبعض الوثائق الرسمية. والذين تناولوا البنايات الدينية قدموا لنا معلومات وأوصافا سريعة ومختصرة لا تفي بالغرض إلا بالنسبة لبعضها، كالمسجد الذي حولته السلطة إلى كنيسة، ولم يفصلوا في إحصائهم العام بين المسجد والزاوية والقبة. والحقيقة أن الأمر كثير ما اختلط حتى عند المسلمين. ذلك أن العدد الكبير من المساجد كان جزءا من مؤسسة دينية كاملة تضم أيضا الضريح والمدرسة والزاوية والجبانة. وكانت مساجد الخطبة والصلوات الخمس كثيرا ما تلتصق بها مدرسة القرآن الكريم أو الكتاب (المكتب) أيضا. ولذلك فإننا سنواجه هنا، سيما مع مدينة قسنطينة، صعوبة الفصل بين أجزاء المؤسسة الدينية. وننبه إلى أننا قد خصصنا هذا الحيز للمساجد فقط، ¬

_ (¬1) هانوتو ولوتورنو (بلاد القبائل)، ج 2، ط. 2، ص 103. وقد جرى إحراق الجامع في 24 مايو، 1857. (¬2) ويل waille، المجلة الإفريقية، 1905، ص 78.

مؤجلين الحديث عن الزوايا وغيرها إلى فصول أخرى. وتشير الإحصاءات إلى أن مدينة قسنطينة وحدها كانت تحتوي على حوالي مائة مسجد، حسب روسو (1838)، وسبعين مسجدا سنة 1837، تاريخ احتلالها، وقد استكثر شيربونو ذلك على مدينة قيل إنها كانت تضم حوالي عشرين ألف نسمة على أضعف تقدير (¬1). ولكنه سرعان ما لا حظ، وهو الخبير الذي أقام في قسنطينة زمنا طويلا وعرف علماءها وطلبتها عندما كان أستاذا لحلقة دراسات اللغة العربية، إن أهل قسنطينة متدينون جدا، كما لاحظ أن الناس أخذوا يتحولون في وقته (1857) من المساجد إلى الزوايا والطرق الصوفية (¬2)، وهي ظاهرة أشرنا إليها في فصل آخر (الطرق الصوفية)، وهي غير خاصة بهذه المدينة. وسنحاول إعطاء أرقام للمساجد التي سنذكرها مع المعلومات الإضافية الممكنة. وإذا وجدنا اسما لمسجد عاريا من المعلومات، فسنتركه كذلك إلى أن نستطيع نحن أو غيرنا إضافة البيانات اللازمة عنه. 1 - جامع رحبة الصوف: قيل إنه يرجع إلى القرن الخامس الهجري. وكانت له أوقاف شأن مختلف البنايات الدينية (¬3). هذا المسجد القديم الذي يرمز إلى الوجود الإسلامي في المنطقة عطله الفرنسيون عن وظيفته منذ الاحتلال، وجعلوه مخزنا للشعير تحت الإدارة العسكرية. وفي سنة 1848 جعلوه ملجأ لإيواء ضحايا المجاعة حين كان الأهالي يموتون في الطرقات جوعا. وكتب الفرنسيون على باب هذا الجامع - الملجأ - عبارة بالعربية، وهي (الجمهورية الفرنسية، الأم الرؤوم للفقراء والأيتام). ولعلهم ¬

_ (¬1) عدد السكان الحقيقي أكثر من ذلك. ولكن المدينة بعد احتلالها جلا عنها كثير من سكانها. (¬2) شيربونو (آثار قسنطينة) في (المجلة الشرقية والجزائرية)، م 3 (1853)، 321. (¬3) خلافا لمساجد العاصمة التي درسها ديفوكس من خلال وثائق أوقافها (الوقفية) فإن المساجد الأخرى في الجزائر قلما تذكر معها أوقافها، ومن ثمة لا نعرف الكثير عن تحول أسمائها وأماكنها ووكلائها وموظفيها الآخرين، ومؤسسيها وقيمة وقفها إلا نادرا.

لو منحوا للجامع أوقافه لما افتقر الناس إلى هذا الحد ولما احتاج الفرنسيون إلى هذه الدعاية المكشوفة. وفي سنة 1852 أسقطوا منارته (¬1). وبعد عدة سنوات كتب أرنست ميرسييه عن هذا الجامع قائلا إنه اختفي ليقام مكانه المستشفى المدني (¬2). 2 - جامع القصبة: يرجع إلى العهد الحفصي. وقدر تاريخ تجديد بنائه سنة 683 هـ، فهو إذن كان موجودا قبل هذا التاريخ كما لاحظ شيربونو. ولكن مكانته واشتهاره كان في العهد الحفصي، وقد اشتهر بالعلماء الذين درسوا فيه وورد ذكره في كتب عبد الكريم الفكون وغيره. لكن الفرنسيين لم يراعوا حرمة الدين ولا حرمة التاريخ والآثار فعطلوه عن وظائفه وحولوه إلى بناية عسكرية تضم تارة الأسلحة وتارة الأدوية. وفي عهد شيربونو كان الجامع مخزنا لعتاد الهندسة (¬3). وقد قال عنه ميرسييه إنه اختفى تماما، من أجل إقامة المستشفى العسكري (¬4). وفي كتاب (منشور الهداية) لعبد الكريم الفكون بعض الأخبار عن هذا الجامع الذي كان مقصدا للعلماء. ومن مدرسيه قبل الاحتلال عمار الغربي المعروف بأبي راشد. وكان مفتيا وشاعرا أيضا (¬5). وكذلك الشيخ أحمد العباسي. 3 - الجامع الكبير: وهو يقع بين الساحة المسماة بالبطحاء وسوق الجلود. وكان في خدمة آل الفكون لمدة قرون. وقد جاء ذكره في بعض مؤلفاتهم. وكان مقرار لشيخ الإسلام في العهد العثماني، كما كان يحتوي على أربعين عرصة. ووصفه شيربونو بأنه يشكل في الحي شبه جزيرة، وزعم أنه قد يكون مبنيا على معبد وثني (؟) ولكن الحفريات والبحوث لم تثبت هذه ¬

_ (¬1) شيربونو (آثار ..) في (المجلة الشرقية والجزائرية) عدد 3، ص 321. (¬2) أرنست ميرسييه، (قسنطينة ...) في (روكاي)، 1878، 96. (¬3) شيربونو (آثار)، 322. انظر (المجلة الشرقية والجزائرية)، م 3، 1853، 167. (¬4) ميرسييه (قسنطينة)، روكاي، مرجع سابق 96. لاحظ الاضطراب في العبارة (العسكري أو المدني)، ولا ندري الآن هل الخطأ من ميرسييه أو من نقلنا عنه. (¬5) تعريف الخلف، 2/ 294.

الفكرة. وتشهد الكتابة العربية المنقوشة على سارية محرابه أن الجامع الكبير مبني بعد القرن السادس الهجري، 603 هي حسب بعض الروايات. والغريب أن الجامع الكبير لم يرد ذكره في قائمة ميرسييه. ومن شيوخه في العهد الفرنسي حمدان الونيسي ومحمد الصالح بن مهنة والمولود بن الموهوب. وجاء في بعض المراجع أن نصف الجامع الكبير قد هدم، كما هدمت منارته من أجل توسيع شارع الحي الأوروبي. أما منارته الحالية فهي حديثة العهد (¬1). 4 - جامع صالح باي: يسمى أيضا جامع سيدي الكتاني. وقد اعتبره شيربونو الجامع الوحيد الذي يتميز بثروة فنية وفخامة في البناء. وكان من مساجد المذهب الحنفي. ولم نجد لهذا الجامع ذكرا في بحث ميرسييه. والمعروف أن جامع سيدي الكتاني كانت تتبعه مدرسة اشتهرت في العهد الفرنسي حين أصبحت هي المدرسة الشرعية الرسمية منذ 1850. وكان من خطبائه أحمد العباسي الذي توفي حوالي 1834. وكان الجامع يقع في سوق العصر الذي كان في الواقع جزءا من الجامع والمدرسة، ولكن الفرنسيين هم الذين فصلوا السوق عن الجامع. ومنذ 1947 أصبحت المدرسة الكتانية والجامع التابع لها تدعى المعهد الكتاني الذي كان تحت إشراف عمر بن الحملاوي (الطريقة الرحمانية) والذي كان ينافس معهد ابن باديس. 5 - جامع سوق الغزل: وهو الذي حوله الفرنسيون إلى كنيسة بعد سنتين من احتلال المدينة. ففي 3 مارس، 1839 جاء القسيس سوشيه وأشرف على اغتصابه وافتتاحه كنيسة. وكان الحاكم العام، المارشال فاليه، هو الذي أعطاه الرخصة في ذلك دون الرجوع إلى المسلمين ولا إلى اتفاق 1830 القاضي باحترام الدين الإسلامي. وكان الجامع من أجمل مساجد قسنطينة وأوسعها. وقد كررت السيدة (بروس) المعاصرة لهذا الحدث أن العرب كانوا لا يفرقون بين إله الفرنسيين وإله المسلمين وأن الله عندهم ¬

_ (¬1) محمد الساسي (مشاهداتي في قسنطينة)، المطبعة الجزائرية الإسلامية، 1955. وهو يروي عن الشيخ محمود بن المطماطية.

واحد، ولذلك كانوا يأتون إلى هذه الكنيسة/ الجامع متطفلين ليشاهدوا الطقوس الدينية عند المسيحيين. ولا ندري أي صنف من (العرب) تتحدث عنه، وكيف يصح ذلك مع الروايات الأخرى التي تصف المسلمين (العرب) بالتعصب الديني؟ لا شك أن الواعين من أهل قسنطينة كانوا يفرقون بين الله الواحد وآلهة الشرك والتثليث، وبين الإسلام والنصرانية. وكان بعض رؤساء العرب قد دعاهم الفرنسيون إلى هذا الاحتفال فحضروا (¬1). أما ميرسييه فقد اكتفى بالقول إن جامع سوق الغزل قد اختفى بعد تحويله إلى كاتدرالية. وجامع سوق الغزل منسوب إلى الباي حسين وكمية الذي كان حاكما سنة 1115 (1713). وهناك كتابة تخلد ذلك، ذكرناها في مكانها. هذا هو الشائع والموثق. ولكن باحثي الفرنسيين حصلوا من الشيخ مصطفى بن جلول على وثيقة تثبت أن جده عباس بن علي جلول (عباس بن عبد الجليل)، هو الذي بنى الجامع بنقوده في حي سوق الغزل، ولتخليده وضع عباس لوحة رخامية فوق الباب الرئيسي عليها نقش بالخط المشرقي نادر المثال، ولكن الباي حسين، دعاه وطلب منه أن يضع هو اسمه بدل عباس على النقيشة التلخيدية، وما دام طلب الحكام يعتبر أمرا فقد وافق عباس على طلبه وأعطاه التعويض على البناء، أو اعتبره هدية. وبعد موت عباس جاء الحسدة والكائدون ووسوسوا للباي بأن عباس ما وضع اسمه إلا ليكون هو المخلد وأن أهالي قسنطينة سينسون اسم الباي، فقام هذا بمحو اسم عباس ووضع اسمه بدله. ولكن ما قيمة كل ذلك عند الله وعند الفرنسيين؟ إذا كان الله هو الذي يعرف حقيقة ما جرى بين الباي حسين وعباس بن جلول، فإن الفرنسيين لا يعنيهم ذلك في شيء، وإنما الذي كان يعنيهم هو الاستيلاء على هذا الجامع النادر الصنعة والذي جلبت إليه أحجار الغرانيت من نواحي عين ياقوت، كما يؤكد شيربونو، وكان موقع الجامع هو ساحة قصر الباي أحمد (¬2). ¬

_ (¬1) السيدة بروس Prus (إقامة في الجزائر)، لندن، 1864 ص 288. (¬2) شيربونو (روكاي)، 1854? 1855، 102، 107. واللوحة الرخامية المخلدة للبناء =

6 - الجامع الأخضر: أو جامع سيدي الأخضر. وقد بناه الباي حسن المعروف بوحنك سنة 1156 (والمتوفى سنة 1167). وهو من مساجد المذهب الحنفي، ويشهد الأثريون أنه كان مسجدا بديع الصنعة، له خمس بلاطات (أروقة) وأجملها الوسطى. وكان يضم أضرحة العائلة. وقد ألحقت به مدرسة جميلة أيضا بناها صالح باي. وتسمى مدرسة جامع سيدي الأخضر. وهذه المدرسة هي التي اغتصبها الفرنسيون من يد المسلمين وجعلوها مقرا لحلقة اللغة العربية التي أحدثوها لأنفسهم، أي تدريس العربية لمن سيتولون شؤون المسلمين كضباط المكاتب العربية وموظفي الإدارة المدنية. وفي هذه المدرسة كان المستشرق شيربونو هو أول من تولى حلقة اللغة العربية (¬1). وقد اشتهر الجامع الأخضر منذ الحرب العالمية الأولى بدروس الشيخ عبد الحميد بن باديس، زعيم النهضة الوطنية. 7 - جامع عبد الرحمن المناطقي: واسم المناطقي كان يوحي بحرمة كبيرة في قسنطينة حتى أن بعض الناس كان يحلف برأسه، بقطع النظر عن كون هذا من الشرك بالله. وقد بني الجامع حوالي 1022 هـ (1613 م)، من قبل قايد الباب. ويقال إن المناطقي رجل من المغرب الأقصى، ويرجع تاريخه إلى العهد الحفصي، ربما في عهد السلطان عبد الواحد بن أبي حفص. ولا يعرف تاريخ وفاة المناطقي. وله كرامات عديدة (¬2). ¬

_ = نقلت إلى قصر الحاج أحمد بعد تحويل الجامع إلى كنيسة حتى ينسى الفرنسيون أن هذا الجامع له تاريخ مكتوب بالعربية وأن جهة إسلامية هي التي بنته. أما الشيخ مصطفى بن جلول فيبدو أنه كان يتقرب للفرنسيين بوثائقه وتصريحاته، لأنه قدم معلومات أخرى مشابهة إلى فايسات أيضا. وعن تاريخ جامع سوق الغزل انظر أيضا (روكاي) سنة 1865، ص 67. (¬1) عن شيربونو وحلقة اللغة العربية انظر فصل الاستشراق. وفي كتابة ترجع إلى 1955 أنه لم يكن في قسنطينة عندك سوى ثلاثة جوامع للخطبة، وهي الجامع الكبير والجامع الأخضر والجامع الكتاني. انظر السياسي (مشاهداتي في قسنطينة)، مرجع سابق. (¬2) البهلي النيال (الحقيقة التاريخية)، مرجع سابق، ص 209 - 210.

8 - جام الأربعين شريفا: ولا نعرف عنه الآن سوى أن السلطات الفرنسية قد حولته إلى محكمة للأحوال الشخصية الإسلامية. ولا ندري ما إذا كان قد استعمل قبل ذلك في غير غرضه الأصلي. 9 - جامع البيازري: هذا الجامع اختفى، كما يقول ميرسيي دون ذكر السبب. 10 - جامع الجوار: وقد هدم دون ذكر السبب. 11 - جامع الجوزة: ويسمى أيضا جامع سيدي أحمد زروق. والمعروف أن أحمد زروق البرنوسي كان يتردد على قسنطينة، قادما إليها من المغرب الأقصى، كما جاء ذلك في كتاب (منشور الهداية). هذا الجامع (اختفى) أيضا على يد الفرنسيين. 12 - جامع خليل: هدمته السلطات الفرنسية أيضا دون تسجيل السبب. ونذكر الآن جملة من المساجد التي هدمت بصريح عبارة السيد ميرسيه الذي نشر ذلك سنة 1878، والمساجد هي: 13. سيدي الوردة الذي هدم لإنشاء الساحة المعروفة باسم ساحة نمور، وهو لقب ابن ملك فرنسا. 13. (مكرر). سيدي فرغان هدم لإقامة ساحة القصر. 14. سيدي قليو. 15. سيدي حسون. 16. سيدي حجام. 17. سيدي حيدان. 18. سيدي ياسمين. 19. سيدي قنيش. 20. سيدي كرامة. 21. سيدي محمد زواو (الزواوي). 22. سيدي حسن بن ميمون. 23. سيدي مفرج. 24. سيدي سبعين. 25. سيدي يحيى الفسيلي. والملاحظ أن الأسماء كلها تبدأ بلفظ (سيدي) وهي لذلك تدل على أن صاحبها من أهل الولاية والصلاح عند العامة. فنحن نذهب إلى أن هؤلاء كانوا من صلحاء وأولياء قسنطينة القديمة. وقد أضاف السيد شيربونو تواريخ وفيات بعضهم مما يدل على قدم هذه المساجد. فهذا سيدي يحيى الفسيلي قد توفي سنة 676 هـ. وهذا سيدي حسن بن علي بن ميمون من آل القنفذ

المشاهير، وكان من الدرسين، وقد توفي سنة 664 هـ. 26 - جامع سيدي فاريش (فارس؟): قال عنه شيربونو إنه قد هدم سنة 1848 لفتح طريق (ديمواييه) (¬1). وهناك مساجد ذكر الباحثون أنها في وقتهم قد عطلت عن وظيفتها بفعل السلطات الفرنسية لأسباب مختلفة. وها نحن نذكر بعضها: 27 - جامع سيدي أبي عبد الله محمد الصفار: هذا الجامع ذكر شيربونو أن السيدة ماكماهون (¬2) قد حولته إلى روضة للأطفال، ومن أجل ذلك رفعوا عليه الصليب الذي وضع في أعلى صومعته نكاية في المسلمين. وكان محمد الصفار من علماء الجزائر مبرزا في الحديث الشريف. ويذكر شيربونو أنه توفي بالوباء الذي حدث سنة 750 للهجرة (¬3). 28 - جامع سيدي علي بن مخلوف: لقد حدث له تغيير ثم هدم. وعلي بن مخلوف هو أحد الصالحين، توفي سنة 586 للهجرة. واقتطع من الجامع الجزء الأكبر فهدم لصالح (لوبلان) سنة 1851. ثم حولت قاعة الصلاة (المصلى) إلى اسطبل لخدمة فرقة العسكر المسماة الصبايحية النظامية. وكان يتبع هذا الجامع مدرسة وهي التي بقيت إلى سنة 1856، وفيها كانت تعقد الجمعية الأثرية (¬4) اجتماعاتها. أما الجامع فقد اختفى تماما بفعل ما ذكرنا. 29 - جامع سيدي علي التلمساني: وقد بني في القرن العاشر الهجري ¬

_ (¬1) شيربونو (روكاي)، 1856 - 1857، مرجع سابق، 81. (¬2) المارشال ماكماهون فيما بعد، حكم قسنطينة أولا ثم أصبح حاكما عاما للجزائر، ثم رئيس جمهورية فرنسا بعد 1870. ومات 1893. وكانت زوجته تقوم بما يسمى بالأعمال الخيرية للجالية الأوروبية. (¬3) شيربوى (روكاي)، 1856 - 1857، مرجع سابق، 91. (¬4) هي الجمعية الأثرية لإقليم قسنطينة التي كانت تصدر مجلة (روكاي) المعروفة في البداية باسم الحولية (انوير). وقد تأسست الجمعية سنة 1853.

(سنة 954). ويذكر شيربونو أنه وجد كتابة تقول إنه بني (على يد سيدنا ... القطب الرباني، سيدي علي التلمساني) في السنة المذكورة. ويبدو أن التلمساني كان من أهل العلم والتصوف. ولعله قد حل بقسنطينة قادما من تلمسان، كما جرت عادة علماء وصلحاء الوقت في التنقل والترحال. وإلى جانب هذا الجامع كانت هناك زاوية تحمل نفس الاسم. وقد تحولت البناية كلها (الجامع والزاوية) إلى أيدي الفرنسيين. ففي سنة 1855 احتلتها (سيدات بون باستور) ثم هدمت. وفي البحث الذي نشره ميرسييه نجد مجموعة من المساجد التي تحولت عن غرضها أيضا، أي بعد ما كتب شيربونو بحوالي عشرين سنة. نذكر منها ما يلي: 30 - مسجد بن علناس (¬1): وقد اكتفى ميرسييه بقوله عنه إنه حول عن غرضه الإسلامي. وكذلك ذكره الشريف مقناوة. 31 - مسجد سيدي الجليس: تحول إلى مدرسة عربية - فرنسية تابعة للإدارة الفرنسية. ومن معلميها الشيخ محمود كحول المعروف ابن دالي، وهو المفتي المغتال سنة 1936. 32 - مسجد سيدي الرماح (¬2): قال عنه إنه قد حول إلى مدرسة للبنات المسلمات، والمقصود أنه أصبح تابعا للإدارة الفرنسية التي أعطته إلى إحدى السيدات الفرنسيات فأقامت فيه ما يسمى ورشة atelier لتعليم الخياطة والطرز لخدمة السياحة والاقتصاد الفرنسي، وليس لتعليم المسلمات، كما قد يفهم. وهناك مساجد أخرى جاءت في مقالة الشريف مقناوة المنشورة عام 1930 والمعتمدة على سجل قائد البلاد (رئيس البلدية) لسنة 1848. وكان السجل قد أشار إلى اثنين وعشرين مسجدا في قسنطينة عند الاحتلال، وكلها جرت تسميات الموظفين لها، ثم أخذت تتغير أحوالها بالهدم والتعطيل وتبادل الأيدي. ولا نريد تكرار أسماء المساجد. التي ذكرت سابقا، وإنما ¬

_ (¬1) جاء في رحلة الورتلاني، ص 694 أن اسمه (سيدي أحمد عين الناس). (¬2) كذا ذكره الورتلاني أيضا، مرجع سابق.

نكتفي بما لم يذكر، وهي: 33 - مسجد سيدي الشاذلي، بعد ثلاث تسميات للموظفين، اندثر ولا وجود لأثره. والغالب أنه هدم. 34 - سيدي علي الطنجي، بعد تسميتين له، أصبح لا وجود له، دون ذكر كيف اختفى. 35 - سيدي بو شداد، نفس الملاحظات السابقة، أي الاختفاء والسكوت عن حاله. 36 - سيدي عفان، مسكوت عنه، بعد تسميتين للموظفين، ونفهم من بعض الكتابات المعاصرة أنه بقي دون هدم (¬1). 37 - سيدي محمد بن ميمون، نفس الملاحظة التي تخص ما قبله. 38 - سيدي علي القفصي، أصبح لا وجود له بعد تسمية واحدة، أي أنه كان قد هدم مبكرا. 39 - سيدي إبراهيم الراشدي، نفس الملاحظة التي تخص ما قبله. 40 - سيدي فتح الله، مسكوت عن مصيره. وتوجد له تسمية واحدة. وعائلة فتح الله بقيت معروفة في المدينة حتى بعد الاحتلال. انظر العطار (تاريخ حاضرة قسنطينة). 41 - سيدي فليسه، لا وجود لأثره، ولا توجد تسمية له. 42 - سيدي هواهوارن (كذا)، أيضا لا أثر له. ولا يعرف ماذا حدث له. ولا شك أن هناك تحريفا في الاسم. 43 - سيدي قيس، وكان في سنة 1930 مقرا للزاوية العقارية. ووجدت له تسمية واحدة فهي السجل المذكور. 44 - سيدي مفرج (¬2)، بعد تسمية واحدة، اختفى دون أن عرف كيف ذلك. (انظر قائمة ميرسييه، سابقا). ¬

_ (¬1) محمد الساسي (مشاهداتي في قسنطينة)، 1955. (¬2) كذا جاء ذكره في رحلة الورتلاني، ص 694.

45 - سيدي محمد (عبد الله) الشريف، كذلك اختفى بعد تسمية واحدة. 46 - سيدي نقاش، اختفى أيضا، دون الإشارة إلى التسمية لموظفيه. فأنت تلاحظ كيف آل مصير مجموعة من المساجد بين 1837 و 1878، أي تاريخ الاحتلال والتاريخ الذي كتب فيه ميرسييه مقالته عن المعالم. ونفهم من بحث الشريف مقناوة أن المساجد المذكورة كانت موجودة سنة 1848 بدليل تسمية الموظفين لها في سجل قايد البلاد (¬1). فخلال ثلاثين سنة (1848 - 1878) جرت مجزرة كبرى للمعالم الإسلامية في قسنطينة، إضافة إلى الاستيلاء على أوقافها. وهي الفترة التي أحس فيها الفرنسيون أنهم أصبحوا سادة البلاد وأن الشعب الجزائري قد غلب على أمره. وقبل أن ننهي الحديث عن مساجد قسنطينة نذكر بعض الملاحظات: الأولى هي أن فتح الطريق المعروف بالطريق الوطني (في عهد الفرنسيين) قد أدى إلى هدم العديد من المباني الدينية، ومنها المساجد، وغير الدينية كالمنازل والأسواق. وكان أثره على هذه المباني كأثر ليسي الجزائر على المباني المجاورة له، كما هدم الفرنسيون المساجد التي كانت بقرب دار أحمد باي التي هدموها أيضا وكانوا يسمونها ثكنة الإنكشارية، وكذلك المنازل التي حولها (¬2). ¬

_ (¬1) الشريف مقناوة (سجل قايد البلاد) في مجلة (روكاي)، 1930، ص 5 - 7. جاء في المقال أيضا أسماء المساجد الآتية: الجامع الكبير وصالح باي (سيدي الكتاني) ورحبة الصوف وسيدي الأخضر والمناطقي وعلناس. انظر سابقا. ورقم 45 سماه الورتلاني: سيدي أبي عبدالله الشريف، وأبو عبدالله كنية من اسمه محمد. ومن المساجد الأخرى التي ذكرها الورتلاني: سيدي عبد اللطيف (المسبح؟). وسيدي عبد المؤمن، وسيدي عبد الكريم الفكون، وسيدي عمر الوزان (وغيرهم ممن لا يحصى). (¬2) انظر ميرسييه، مرجع سابق (روكاي، 1878)، ص 55. وهو يذكر أن الفرنسيين مدوا الطريق الوطني (شارع ابن المهيدي اليوم) ليصل ساحة فاليه بباب القنطرة، وسوق الحبوب مع محطة القطار، وطريق سكيكدة مع طريق باتنة. أما تغيير وجه المدينة فله مكان آخر.

والملاحظة الثانية هي أن هذا الهدم والتصرف قد وقع بين 1837 و 1878. ولا نملك الآن الوثائق التي تتحدث عن الهدم الذي توالى بعد ذلك. أما الملاحظة الثالثة فهي أن أوقاف هذه المساجد كلها قد استولت عليها الإدارة الفرنسية، كما ذكرنا، ومن ثمة حدث الإهمال والاضمحلال للمباني الدينية في غير قسنطينة. والملاحظة الأخيرة هي أن بعض المساجد التي ذكرناها كانت في نفس الوقت جزءا من بناية تضم الزاوية والضريح الخ. كما هي العادة. ... وبجاية كانت من المدن التي تعرضت هي ومساجدها للتخريب. ولدينا وصف لما حدث لها كتبه شارل فيرو سنة 1859، وقد مضى عندئذ على الاحتلال قرابة ثلاثين سنة. وبعد ذلك قد يكون حدث لما بقي من المساجد تخريب آخر أزالها من الوجود. والمعروف أن بجاية قد احتلت سنة 1833. ويذكر فيرو أن من بين أحيائها الواحد والعشرين هدم خمسة عشر، أي قبل سنة 1859، وهذه هي أسماء الأحياء المهدمة: 1 - البريجة. 2 - سيدي بوعلي. 3 - الشرشور. 4 - القنيطرة (قرب زاوية سيدي محمد التواتي الشهير). 5 - باب اللوز (خرب جزء منه). 6 - باب المرقوم (خرب جزء منه وهو مقابل لجبل خليفة). 7 - غريب بخشى (خرب جزء منه). 8 - سيدي عبد الحق الإشبيلي المتصوف والعالم الشهير. 9 - دار الصنعة (سيدي الصديق). 10 - عين آمسيون. 11 - عين يلس. 12 - عين بوخليل. 13 - سيدي الحيمي. 14 - ابن درة. 15 - تيغلت (¬1). ومن الملاحظ أن سقوط هذه الأحياء والأبواب يؤدي حتما إلى سقوط المساجد والبنايات الدينية المجاورة، لأن لبجاية أيضا قصبتها كالعاصمة، فكان البناء متقاربا ومدعوما بعضه ببعض، فإذا سقط جزء منه تداعى الباقي وسقط مثله. أما المساجد التي هدمت في بجاية قبل سنة 1859 أو حولت عن غرضها فنوجز ذكرها فيما يلي (لأنه ليس لدينا وصف لتاريخ بنائها ولا ¬

_ (¬1) شارل فيرو، المجلة الإفريقية. R.A، 1859، 299.

لأوقافها بالطريقة التي وصف بها ديفوكس مساجد الجزائر): 1 - الجامع الكبير: وكان يقع في القصبة نفسها. وقد استولت عليه السلطات الفرنسية وحولته إلى ثكنة عسكرية ثم مستودعا للمواد العسكرية، ولا ندري مصيره بعد ذلك. 2 - جامع سيدي الموهوب. 3. جامع صفية. 4. جامع عين يلس. 5. جامع البريجة. 6. جامع سيدي البصرومي. 7. جامع سيدي عبد الهادي. 8. سيدي الخضر. 9. سيدي المليح (وهو يقع حول حصن البراق الذي خرب أيضا). 10. سيدي بوعلي (¬1). 11. سيدي حماني (خرب 1849). 12. سيدي عيسى. 13. أم عالمة (حليمة؟). وإلى جانب هذه المساجد التي خربت تماما، ذكر فيرو بعض المساجد التي خربت جزئيا أو كانت في حالة خراب عندما كان يكتب، نتيجة الإهمال. كما ذكر مجموعة أخرى حولتها السلطات الفرنسية إلى مصالح عسكرية وغيرها. من ذلك هذه المساجد المستقلة أو التابعة لإحدى الزوايا، وهي: 14 - مسجد زاوية الشيخ التواتي، فقد استولت عليه السلطات العسكرية وحولته إلى ثكنة. 15 - مسجد لاله فاطمة الذي تحول مع الزاوية إلى سكنى عسكرية. 16. مسجد أحمد النجار الذي أصبح هو والزاوية ثكنة عسكرية. 17. مسجد سيدي أبي زكريا يحيى، استولت عليه إدارة الحرس الفرنسية. وهناك عدة بنايات ومساجد قال عنها فيرو إنها ما تزال في يد المسلمين أو هي في حالة خراب وإهمال دون أن يذكر ما إذا كان الفرنسيون قد استولوا عليها قبل ذلك (1859). وهي: 18 - جامع السيدة (في حالة خراب). 19. سيدي محمد أمقران. 20. ¬

_ (¬1) علق فيرو على هذا الاسم فقال: إن سيدي أبا علي كان أحد القضاة المشاهير في عهد المولى الناصر. وإلى جانب المسجد كانت زاوية يوجد بها بئر يسمى زمزم.

سيدي الصوف (في يد المسلمين). 21. بابا سفيان التسوري. 22. سيدي الصديق (في يد المسلمين). 23. سيدي يحيى القرطبي (في حالة خراب). 24. لاله القوراية في أعلى الجبل الذي يحمل نفس الاسم. 25. جامع السوق (مسكوت عنه) (¬1). لقد كان استيلاء الفرنسيين على أوقاف هذه المساجد هو السبب الرئيسي في خرابها. وكان استعمالها أيضا من قبل السلطات العسكرية سببا آخر في إتلافها وإهانتها. وكان لهدم الأحياء المذكورة (واحد وعشرون حيا) أثر كبير على المساجد والأوقاف معا. ثم أدى خروج المسلمين من المدينة ساعة الاحتلال وبعده بسنوات، سيما عند انتفاضة الشريف بوبغلة وغيرها، إلى إهمال المساجد والزوايا مما جعل الفرنسيين يستبدون بها ويعيثون فيه فسادا ولا يراعون لها حرمة. وقد ذهبت معها ثروة من العلم والكتب والكتابات الأثرية والزخارف والفنون المعمارية. ونتوقع أن تكون حالة ما بقي منها بعد 1859 قد ازدادت سوءا لغطرسة الإدارة الاستعمارية، سيما بعد 1870، مما جعل مدينة بجاية ققد بالتدرج طابعها العربي - الإسلامي وتصبح تقريبا مستوطنة فرنسية. ... ولم تتأثر مساجد المدن الأخرى بالاحتلال كما تأثرت مساجد المدن التي ذكرنا حتى الآن. فهذه عنابة التي عانت قصبتها أيضا من الاحتلال منذ 1831، كانت تضم مجموعة من المساجد، وقد تحدث عنها سنة 1889 السيد بابييه (¬2)، وذكر أنه كان بعنابة حوالي 37 مسجدا. ويهمنا منها هنا مصير هذه المساجد. والظاهر أنها جميعا قد خربت وهدمت نتيجة الإهمال وانعدام مداخيل الصيانة بعد اغتصاب الأوقاف. والمساجد الباقية إلى 1889 ¬

_ (¬1) فيرو، مرجع سابق، 299 - 302. عن سيدي الصديق انظر سابقا، حي دار الصنعة، لعله هو. (¬2) بابييه Papier (جامع عنابة) في المجلة الإفريقية. R.A، 1889، ص 312 - 320.

هي: جامع صالح باي ويسمى أيضا بالجامع الجديد، وثمة جامع آخر بناه أيضا صالح باي ويسمى جامع أبي رفيسة، ثم جامع سيدي أبي مروان. وأما المساجد الأخرى فقد آلت إلى إدارة أملاك الدولة وهدمت. وجامع سيدي أبي مروان كان أعظم مساجد عنابة لضخامته ولاحتلاله موقعا هاما يشرف على البحر الأبيض من جهة ويل على المدينة من جهة أخرى، وهذا الجامع قد هدمه الفرنسيون أيضا مع كل توابعه - الضريح والزاوية والمسجد - بما في ذلك المنازل المجاورة، ليجعلوا مكانه مستشفى عسكري ولم يتركوا من الجامع سوى جزء صغير وقبة داخل المستشفى لتكون هي كنيسته (أي المستشفى). ولكي تزيل الإدارة الفرنسية كل أثر للإسلام فيه علقت على سطح صومعة الجامع ساعة وتمثالا لديك يتحرك مع حركة الرياح. وكانت الصومعة المربعة الجوانب ترتفع حوالي عشرين مترا، وكانت ذات طابقين. ومن التناقض أن الفرنسيين فعلوا ذلك بجامع سيدي أبي مروان في الوقت الذي احتفلوا فيه احتفالا منقطع النظير بإرجاع بقايا القديس أوغسطين من فرنسا، وجاء معها عشرات القساوسة على ظهور المراكب المتزاحمة إلى عنابة. ووجدوا في استقبالهم الأسقف دوبوش وعساكر المارشال بوجو يدقون الطبول تحت أقواس النصر (¬1). ومع ذلك كانوا يتهمون المسلمين بالتعصب الديني. وكان مصير جامع أبي رفيسة (جامع صالح باي) لا يختلف كثيرا عن مصير جامع سيدي أبي مروان، فقد حجبه الفرنسيون بواجهة ضخمة سنة 1852 بلغت أربعين مترا طولا، وأقاموا عند ذلك أقواسا وعرصات في ساحة أسموها (ساحة السلاح) حيث كان المسجد. وتبلغ مساحة الجامع حوالي 85 مترار في شكل مستطيل و 12، 75 مترا عمقا و 14، 50 مترار عرضاد. وكانت له اثنتا عشرة عرصة مزدوجة، محيط كل منها 1,05 م في القاعدة، و 3,28 م ارتفاعا. ¬

_ (¬1) انظر عن هذا الاحتفال بوجولا (دراسات إفريقية)، وبيلي (عندما أصبحت الجزائر ..) وفصل الاستشراق من هذا الكتاب.

وكان جامع أبي رفيسة من جوامع الخطبة، ويقع إلى جانبه مجلس القضاء، وزاوية (مدرسة) ملتصقة به كما هي التقاليد. ويقع محرابه ومنبره على الجانب الأيسر منه. وكان خشب المنبر مدهونا باللونين الأحمر والأخضر، شأن كل الخشب الذي في الجامع. وله عين جارية (سبالة أو حنفية) للوضوء. أما منارته فكانت مدورة وتقع على الزاوية الشمالية الشرقية منه، وطولها 15، 14 م، ومحيطها 5، 65 م. وقد توقف صوت المؤذن في الجامع منذ سكن الفرنسيون حوله، وهكذا لم يعد المصلون يسمعون صوته الداعي للصلاة. ويقول بابييه إن بالجامع بعض الزخارف التي ترجع إلى 1855، ولا سيما في القبة الرئيسية منه وفي المحراب، وقد تبرع بها أغنياء السكان، وبعضها جاء من بقايا جامع سيدي أبي مروان. ولا ندري الآن ما هي هذه الزخارف. وهناك نقيشة على المرمر تخلد أبياتا شعرية. وهذه النقيشة تقع خارج الجامع وهي ملتصقة بحائطه. وهي في خمسة أبيات تمجد صالح باي صاحب الفضل في بنائه (¬1). والغريب أن محمد بيرم الخامس الذي دخل عنابة مرتين، إحداهما كانت سنة 1295 هـ، اكتفى من وصف مساجدها بواحد وهو الجامع الكبير (؟) وقال إنه قائم الذات والصفات مثل جوامع تونس، نظيفا ومحروسا ومفروشا بالحصير، وقد سكت عن المساجد الأخرى، فلم نعرف منه ماذا حدث لها (¬2) فهل قصد بذلك جامع أبي رفيسة؟ وهل كان يجهل إلى ذلك الحد مصير جامع سيدي أبي مروان؟ وفي القل كان أحمد القلى (وهو أحد القادة) قد بنى الجامع الذي ¬

_ (¬1) انظر بابييه (جامع عنابة) في المجلة الإفريقية، 1889، ص 312 - 320. وكذلك باتورنيه في نفس المصدر، 1890، ص 266. وقال بابييه إن التاريخ غير معروف للنقيشة ثم صحح نفسه في العدد الموالي بأنه 1206/ 1791 وهو نفس التاريخ الذي ذكره باتورنيه. انظر أيضا الجزء الثاني من هذا الكتاب. (¬2) محمد بيرم (صفوة الاعتبار ..) 4/ 4 - 5.

أصبح معروفا بالكبير، حوالي 1756. ثم تولى بعد ذلك حكم قسنطينة. وكانت للجامع منارة كلغ أربعين درجة. وأوقف أحمد القلى عليه أوقافا هامة بلغت عشرين دكانا على الأقل. ولم يقل فيرو شيئا عن مصير هذا الجامع بعد الاحتلال. ولكنه قال إن القل كانت تحتوي على خمسة عشر مسجدا بالإضافة إلى جامع القلى. وأخبر أن الناس يطلقون عليها اسم الجوامع. وهي جوامع: سيدي بوحديد، وسيدي الأخضر، وسيدي إبراهيم، وسيدي التواتي، وسيدي أحمد، وسيدي علي، وسيدي عبد السلام، وسيدي مسعود، وسيدي عزيز، وسيدي عمار، وسيدي مصباح، وسيدي الزاوش، وسيدي شنوف. وفي سنة 1875 قال إنه لم يبق من هذا العدد الكبير من الجوامع سوى أربعة استطاعت، في نظره، أن تقاوم عوادي الزمن! ولعل البعض من الباقي لم يستطع أن يقاوم أيضا بعد ذلك (¬1). ... أما بسكرة وغيرها من مدن الجنوب فلم تتعرض مساجدها، حسب علمنا، إلى الهدم والاحتلال، وإنما عانت ما عانته المساجد الأخرى من الاستيلاء على الأوقاف، والإهمال. ومثل ذلك وقع لجامع سيدي عقبة ببلدة سيدي عقبة الواقعة اليوم في ولاية بسكرة. وقد كان لبسكرة نفسها سبعة عشر مسجدا سنة 1880، بعضها يرجع إلى قرون خلت مثل جامع سيدي الجودي (¬2). وفي شكوى من أهالي بسكرة إلى السلطات الفرنسية أن هذه ¬

_ (¬1) فيرو (تاريخ مدن إقليم قسنطينة: فيليب فيل - سكيكدة)، 1875، ص 169 - 170. وقد أغفل ذكر اثنين من الخمسة عشر. كما أنه لم يذكر ما هي الجوامع الباقية في عهده. (¬2) الستة عشر الباقية هي: 1 - سيدي علي المقري. 2 - سيدي منصور. 3 - سيدي الصحابي. 4 - سيدي الداودي الفوقاني. 5 - سيدي الداودي السفلى. 6 - سيدي زوال. 7 - سيدي كوفي. 8 - سيدي بلقاسم. 9 - سيدي صالح أحمد. 10 - سيدي علي دليل. 11 - سيدي حيواني. 12 - سيدي إبراهيم العمري. 13 - سيدي هاني. 14 - سيدي أمعمر. 15 - سيدي موسى. 16 - سيدي العاجن. هذه المعلومات من تقرير رسمي بالفرنسية موجود في المؤسسة الوطنية للوثائق بالجزائر. وقد أطلعني عليه السيد أحمد مريوش مشكورا. انظر أيضا سيمون H. Simon (ملاحظات على =

المساجد كانت في حالة إهمال فظيع، وأنهم عجزوا عن القيام بها لحرمانهم من أوقافها. والمعروف أن وادي ميزاب كان يضم مجموعة من المساجد، منها الكبير والصغير. وليس في بلاد ميزاب زوايا بالطريقة المعروفة في المناطق الأخرى. ولذلك فإن كل المساجد في ميزاب قائمة بذاتها. وقد نص الاتفاق الذي وقع بين أهل ميزاب والفرنسيين سنة 1853 على احترام الدين والعادات والتقاليد في المنطقة. ولذلك لا نتوقع أن يكون الفرنسيون قد اعتدوا على مساجد ميزاب كما فعلوا في بعض المناطق الأخرى، على الأقل إلى سنة 1882 تاريخ احتلال ميزاب. وقد كان أهل ميزاب حريصين على صيانة مساجدهم، ولكن الفرنسيين طبقوا عليها نفس القوانين بالنسبة للأوقاف، فقد استولوا هنا أيضا على أوقاف المساجد وضموها إلى أملاك الدولة الفرنسية. ورغم ذلك، فإن أهل ميزاب أبقوا على مساجدهم في حالة جيدة فلم تتعرض للخراب والتلف نتيجة الإهمال والحرمان من الأوقاف، كما حدث في بعض الجهات الأخرى. والمساجد في ميزاب كانت للمذهبين الإباضي والمالكي. وتوجد مساجد إباضية في جهات أخرى مثل تماسين. فقد ذكر بيربروجر منذ حوالي سنة 1851، أن بها مسجدا (لمرابط) ميزابي، اسمه باعيسى (¬1). وقريب منه كان يقع الجامع الكبير وهو للمذهب المالكي، ولكن منارة هذا الجامع اعتراها الهرم فأصبحت مهددة بالسقوط فأسقطت سنة 1858. وكان ذلك غداة احتلال الواحات الشرقية، ومنها تماسين. ولم يكن الفرنسيون قد احتلوا وادي ريغ إلا سنة 1854. والجامع ¬

_ = مقام سيدي عقبة) في المجلة الإفريقية، 1909 ص 26 - 45. وكان سيمون حاكما لدائرة توقرت. (¬1) يذكر تقرير بيربروجر أيضا أن إحدى القباب تحمل اسم الحاج باحمون - الولي الميزابي، وهي تقع خارج المدية في الزاوية الشرقية من ضاحية الحفائرة، ولكن المعروف أن بني ميزاب لا يمارسون التصوف الشائع عند غيرهم من المسلمين.

الكبير في تماسين قديم البناء يرجع تاريخه إلى سنة 817 (1414) حسبما هو مسجل على بابه عندئذ، وقد بناه أحمد بن محمد الفاسي الذي يبدو أنه كان من المغرب الأقصى. (كان أصل بني جلاب، حكام وادي ريغ، من بني مرين). أما الجامعان الآخران فهما جامع الحاج عبد الله، وقد اعتبره بيربروجر أجمل مساجد تماسين، ثم جامع الحاج علي الينبوعي، شيخ الطريقة التجانية (¬1). وقد وصفه دوفيرييه (¬2)، وهو مسجد تابع للزاوية. ولتقرت ووادي سوف مساجد معتبرة وبعضها قديم ويعد من الآثار الهامة. ولكن سياسة الاستيلاء على الأوقاف جعلت الناس لا يقبلون على التبرع للمساجد مما أدى إلى إهمالها وعدم صيانتها، لأنها أصبحت جميعا تحت نظر ومسؤولية السلطة الفرنسية، ماديا ومعنويا. كما أن تدجين الأيمة والخطباء جعل الناس يشكون في خدماتهم وإخلاصهم للدين. ولذلك التجأ العامة إلى الطرق الصوفية وأخذوا يتبرعون لها سرا وعلانية اعتقادا منهم أن الخلاص سيكون على يدها وليس على يد أيمة المساجد، الذين أصبحوا أدوات في يد السلطة الفرنسية إن شاءت عينتهم وإن شاءت عزلتهم. وكانت تقرت هي عاصمة وادي ريع ومقر سلطنة بني جلاب ومهبط القوافل العابرة للصحراء، ومتجر الحجاج، قبل الاحتلال. كما أن الزاوية التجانية منذ تمركزت (في تماسين) على يد الحاج علي الينبوعي قد جلبت الزوار من مختلف الجهات. وكان ذلك مدعاة لنشأة المساجد في المنطقة - ولعل وجود الزاوية التجانية ثم القادرية (في آخر القرن) قد خفف من عبث الفرنسيين بالمساجد. وفي تقرت الجامع الكبير أو العتيق، وفيه كتابات ترجع إلى عهد بني جلاب، وقد جدده إبراهيم الجلابي. وكانت سوف كذلك معبرا للتجارة والسلع المحملة بين تقرت وتونس ¬

_ (¬1) هذا التقرير رفعه بيربروجر إلى وزير الحربية الفرنسي فرخص الوزير بنشر جزء منه فقط، ونشرته (المجلة الشرقية والجزائرية)، عدد 2 (1852) 86 - 89. (¬2) انظر كتابه (اكتشاف الصحراء)، باريس، 1864.

وبين إفريقية وشمال الجزائر. وقد تحدثت الوثائق عن مساجدها المنسوبة للصالحين، ومنهم شيوخ الشابية. وفي (كتاب العدواني) آثار من ذلك، ثم (كتاب الصروف) للعوامر، و (تقاييد) الشيخ التليلي. واهتم بذلك الضباط الفرنسيون الذين كتبوا مؤلفات خاصة (مونوغرافات) عن سوف، مثل الضابط ف. فيليب، والدكتور ايسكار، وكوفيه، وباطايون، وجوس. وفي هذه المؤلفات أوصاف للحياة الدينية في سوف، ولا سيما المساجد، وعددها في كل بلدة، وتاريخ إنشائها، وحالتها. ولكن يلاحظ على هذه المساجد (مثل كل مساجد الجنوب) أنها بسيطة في بنائها وهندستها، وأنها قليلة الأوقاف، وأن أيمتها كانوا تحت رقابة المكتب العربي (العسكري) سواء كانوا يتقاضون أجورا من المكتب أو من عامة الناس. أما الاعتداء على المساجد بالهدم والتعطيل فلم تعرفه حسب علمنا، مساجد سوف ولا مساجد الجنوب على العموم (¬1) ربما لعدم الحاجة إليها. ¬

_ (¬1) انظر كتاب العدواني من تحقيقنا. دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1996. و (الصروف) للعوامر، ط. تونس، 1974. وقد اطلعنا عند الشيخ التليلي على تقاييد هامة سيما عن مساجد قمار. ورجعنا إلى المؤلفات الفرنسية المذكورة عن سوف، خصوصا. كوفيه في المجلة الجزائرية SGAAN، 1934، ص 15 وما بعدها. وجوس (نشرة هيبون) رقم 22، 1886، وايسكار، نفس المصدر، 24، 1886 - 1890. وأفادني الشيخ التليلي بالقائمة التالية لمساجد سوف نقلا عن نسخة ترجع إلى الشيخ مصطفى السالمي: مسجد الزقم (966 هـ)، مسجد تاغزوت (988 هـ)، مسجد قمار (1006 هـ)، مسجد سيدي المسعود الشابي بالوادي (1009 هي)، مسجد كوينين (1043 هـ)، مسجد أولاد خليفة بالوادي (1108 هـ)، مسجد سيدي عبدالرزاق بالوادي (1159 هـ)، مسجد أولاد حمد بالوادي (1199 هـ)، مسجد سيدي عبد القادر بالوادي (1219 هـ)، مسجد سيدي سالم بالوادي (1239 هـ)، مسجد سيدي موسى بالوادي (1280 هـ). وقول الشيخ التليلي إنه لا يثق كثيرا بهذه التواريخ، وهي لا تشير إلى تواريخ التجديد. وإليك أسماء مساجد قمار وحدها: مسجد سيدي المسعود الشابي، ومسجد بيت الشريعة، ومسجد سيدي إبراهيم، ومسجد الزرياطة، ومسجد سيدي سعيد، ومسجد العمامرة، ومسجد سيدي عبد الرحمن الحطابي (قيل إنه أقدم المساجد إذ يرجع إلى =

وما قلناه عن بسكرة وسوف وتقرت نقوله أيضا عن ورقلة والأغواط وبوسعادة (¬1)، فكل مدينة من هذه المدن لها مساجدها العتيقة المصانة بالأوقاف قبل الاحتلال، ولكنها تعرضت بعده إلى الإهمال. ويبدو إن إقليم قسنطينة كان أحرص الأقاليم على بناء المساجد، فالإحصاء يذكر أن هذا الإقليم كان يضم قبل الاحتلال 837 مسجدا قديما. وبالإضافة إلى ذلك بنى الناس 46 مسجدا منذ الاحتلال، بينما لم يبن أهل إقليم العاصمة (الوسط) سوى ستة مساجد جديدة، وأهل، اقليم وهران ثلاثة فقط، منذ الاحتلال. فمجموع ما في إقليم قسنطينة من المساجد سنة 1853 هو 883 مسجدا (¬2). ولا ننسى أنه في التاريخ المذكور كانت مناطق عديدة من الإقليم لم تخضع بعد للاحتلال الفرنسي ولا يجري عليها الإحصاء. ¬

_ = 757 هـ)، ثم مسجد فشير، ومسجد الطلبة، ومسجد الرحبة، ومسجد النخلة. من كناش الشيخ التليلي (الفوائد المنثورة)، وصلتني المراسلة منه في شهر يناير، 1996. (¬1) قرأنا في حوليات معهد الدراسات الشرقية، م 10 (1952)، ص 434 أن السيد جاكمان D. Jacquemin ألقى محاضرة عن (المساجد المالكية في ورقلة)، وذلك في 27 أبريل سنة 1952. ولكننا لم نطلع على نص المحاضرة. أما بالنسبة لمساجد بوسعادة فقد ذكر البارون هنري أوكبتان في (مذكرة عن بوسعادة) أن بها ثمانية مساجد بدون منائر. وذكر منها: جامع الدرويش، وجامع الخرخلات (النخلة؟)، وجامع الأعشاش، وجامع الشرفة، وجامع أولاد حميدة، وجامع أولاد زروم، وجامع الأممين، ثم جامع أولاد عتيق. وأسماء الجوامع تتماشى أيضا مع أسماء الأحياء الموجودة فيها. انظر المجلة الإفريقية،. R.A، 1862، ص 51 - 52. وهذا تاريخ مبكر، ولا بد أن تكون بوسعادة قد شهدت بناء مساجد أخرى بعد ذلك. ومما ذكر أوكبتان أن الجيش الفرنسي قد احتل الجامع الكبير واحتمى به. فأيها يعني بالجامع الكبير؟ (¬2) ب. بوليربى (المجلة الشرقية والجزائرية)، عدد 3، 1853، 60 - 61.

مساجد إقليم وهران

مساجد إقليم وهران في الإحصاء العام الذي ختمنا به الفقرة السابقة جاء أن إقليم وهران (الغرب) كان يضم 151 مسجدا سنة 1853، منها فقط ثلاثة بنيت في عهد الاحتلال. وهذا الرقم (151) وإن كان أكبر من رقم إقليم العاصمة (الوسط) الذي شهدت مساجده تهديما لا نظير له، فإنه أقل بكثير من رقم مساجد إقليم قسنطينة (الشرق) وهو 873 مسجدا (¬1). والملاحظ أن مساجد إقليم وهران كانت أقل تعرضا للهدم والتحويل والتعطيل من غيرها. فإذا استثنينا مدينتي وهران ومعسكر فإن مساجد الإقليم الغربي بقيت على عهدها تقريبا. أما من حيث الإهمال والحرمان من الأوقاف وإفقار العلماء فقد جرى لها ما جرى للأخريات. وتواريخ الاحتلال للمدن الغربية مختلفة، ويرجع ذلك إلى أن الفرنسيين وضعوا قدمهم منذ الشهور الأولى في المرسى الكبير ثم مدينة وهران، ثم مستغانم. أما المدن الداخلية فقد كانت تحت يد الأمير عبد القادر حوالي عشر سنوات. وقد أدت حملة كلوزيل سنة 1835 - 1836 إلى احتلال مؤقت لمدينتي معسكر وتلمسان ثم جلا عنهما الفرنسيون بمقتضى معاهدة التافنة (1837) ورجعتا إلى الأمير. وبذلك حافظت المدن الغربية على طابعها الإسلامي إلى استئناف الحرب بين الأمير والعدو في نهاية سنة 1839. ولم يحتل الفرنسيون مليانة وشرشال إلا سنة 1840، ثم احتلوا معسكر وتلمسان سنة 1842، وتيارت 1843، وهكذا. وإلى هزيمة الأمير عبد القادر 1847، بقيت الحرب دواليك بين الطرفين فلم يكن للفرنسيين مجال لإقامة المستوطنات وهدم الأحياء ومد الطرقات وإقامة المنشآت العامة ¬

_ (¬1) نفس المصدر. لاحظ أن الإحصاء يعطي لإقليم الغرب رقما أقل في عدد الزوايا أيضا، وهي 45 بينما الرقم المعطى لإقليم الجزائر هو 157 زاوية، وإقليم قسنطينة 57 زاوية. ولكن لا يجب الاطمئنان الكامل إلى هذه الأرقام، لأن الناحية الغربية معروفة بكثرة الزوايا والمرابطين.

على ذوقهم، كما فعلوا في بعض المدن الأخرى. ولكن هذه الحرب الطويلة في المدن وما حولها أدت إلى أضرار أخرى بالحياة الدينية والمدنية، ونعني بذلك خروج السكان من المدن كلما تبدلت الأيدي عليها. فإن مدينة مثل وهران لم يبق فيها حين دخلها الفرنسيون أكثر من خمسمائة فرد. وحين دخل كلوزيل مدينة معسكر وجدها خالية من سكانها، وكذلك حين دخل تلمسان إذ لم يجد فيها إلا عناصر كانوا غير راضين بحكم الأمير (الكراغلة) فذاقوا وبال الحكم الفرنسي بفرض كلوزيل ضريبة حرب عليهم لا قبل لهم بها. ومدينة وهران كانت آخر عاصمة إقليمية للإدارة العثمانية. وكانت مساجدها نسبيا قليلة لأنها حديثة العهد بالحكم الإسباني أيضا (¬1). وبين العهدين الإسباني والفرنسي بنى المسلمون بعض المساجد. كما أن مدينة وهران عرفت منذ القديم بمساجدها العتيقة. وإذا كانت مساجدها القديمة قد عانت على يد الإسبان فإن مساجدها الحديثة قد عانت على يد الفرنسيين. ومن المساجد الحديثة جامع خنق النطاح الذي حرفه الفرنسيون إلى (كارقانطة)، وهو المسجد الذي بناه الباي محمد الكبير بعد الفتح (1792). ويقول أوغسطين بيرك عن جامع خنق النطاح إنه ذو طابع أندلسي وله زخرفة تقليدية ولكنه منفتح على الطبيعة بشكل يثير الدهشة (¬2). ولكن هذا الجامع قد تضرر بفعل الاحتلال. فقد قال عنه باللو (1904) إنه كان خارج المدينة، وله شكل مربع وأنه كان نصف مهدم. ونسبه إلى محمد الكبير أيضا. وأخبر أن مصلحة الآثار قد (أنقذته) من أيدي الهدامين (¬3). ¬

_ (¬1) خرج منها الإسبان سنة 1792 بعد الفتح الذي وقع على يد الباي محمد الكبير. (¬2) بيرك (كراسات الاحتفال المئوي)، ص 99. ويقع المسجد في سهل يحمل نفس الاسم شرقي مدينة وهران. وقد دفن فيه بانيه الباي محمد بن عثمان. وكانت له منارة متوسطة ومنبر و 14 عرصة. وقد حوله الفرنسيون إلى مسكن للمهاجرين الإسبان، وظل بعيدا عن العبادة إلى الخمسينات من هذا القرن حين أعطوه إلى من أخذ يعلم فيه القرآن. (من مراسلة مع الأخ يحيى بوعزيز، مارس 1996). (¬3) ألبير باللو (الفن الإسلامي في الجزائر) في المجلة الإفريقية، 1904، ص 175.

وكان دوبوش الذي تولى أسقفية الجزائر الجديدة متحمسا لتحويل المساجد إلى كنائس واستعادة الكنيسة القديمة التي عفى عليها الإسلام في نظره. ففي سنة 1839 حول دوبوش أحد مساجد وهران إلى كنيسة وأطلق عليها اسم كنيسة (سانت كروا) أو الصليب المقدس. ورغم وجود عدد من الكنائس التي تركها الإسبان أو بناها الفرنسيون، فإنها لم ترض رغبة دوبوش في تحويل الجامع إلى كنيسة ليشفي غليله. وكان خليفته الأسقف بافي Pavy، قد قلده في ذلك أيضا حين حول مسجدا آخر إلى كنيسة سماها (سان اندري)، وكان ذلك بعد سنة 1850 (¬1). وهذا المسجد هو الذي بناه مصطفى بوشلاغم سنة 1708، وهو باي الغرب عندئذ. وكانت للمسجد أسماء مثل مسجد البرانية ومسجد بني عامر. وقد هدمه الإسبان بعد احتلالهم الثاني لوهران وأقاموا عليه برج قورد، وبعد استعادة وهران رجع مسجدا، ثم حوله الفرنسيون إلى الكنيسة المذكورة (سان اندري) وغيروا شكله وأغلقوا محرابه. وفي عهد الاستقلال أطلق عليه اسم أبي عبيدة بن الجراح. ومن المساجد العتيقة في وهران مسجد سيدي الهواري. ويقول ألبير باللو سنة 1904 إنه يتميز بمنارة على الطراز التلمساني (الأندلسي). أما منارة جامع الباشا فقال إنها في شكل مثمن (¬2). ويعتبر جامع الباشا حديث العهد نسبيا إذ يرجع إلى سنة 1796. وقد أمر ببنائه الداي بابا حسن الذي حكم (1791 - 1798)، وله مئذنة عالية مثمنة وعليها نقوش. وكانت له أوقاف كثيرة مسجلة على لوحة، وهي حاليا في المتحف البلدي، حسب رواية الأستاذ بوعزيز. وكان يقع في شارع فيليب. ¬

_ (¬1) بيلي (عندما أصبحت الجزائر فرنسية)، 280. (¬2) باللو، مرجع سابق، 175. ويقع مسجد سيدي الهواري في حي القصبة. ويرجع إلى القرن 14 م. وفيه 16 عرصة، كل اثنتين منها ملتصقتان. وله قبة مستطيلة ذات نوافذ زجاجية ملونة. وكان المعلم الإسلامي الوحيد الذي بقي قائما في العهد الإسباني.

وكانت مدينة معسكر هي العاصمة السياسية والعلمية قبل انتقال مقر السلطة إلى وهران سنة 1792. ثم جعلها الأمير عبد القادر أيضا عاصمة ملكه. فكانت معسكر مؤهلة بمبانيها ومساجدها ومدارسها القديمة وتجارها وعلمائها لكي تقود من جديد وتشع على النواحي. ولكن العدو ضربها، كما قلنا، سنة 1835، وأضرم النيران في أحيائها وتركها دخانا ثم غادرها. وكان لذلك الفعل الفظيع أثره على الحياة الدينية والعلمية. لقد رجع السكان إليها وأعادوا بناء منازلهم ولكنهم ظلوا يتوقعون عودة العدو. لذلك أخذ الأمير يعد العدة لبناء عاصمة داخلية أخرى بعيدة عن متناول الفرنسيين وهي (تاكدامت). وقد عاشت معسكر مع ذلك مدينة ذات طابع عمراني خاص. ففي تقرير الفرنسيين لسنة 1839 جاء أن هذه المدينة في حالة متدنية، وليس فيها من السكان سوى 3، 840 نسمة. وهي تقريبا مدينة مهدمة (¬1). لكن تقرير 1841 يذكر أنها قد بنيت من جديد وأن ما هدمته حملة 1835 قد بناه العرب وأصلحوه، وأن المدية في حالة جيدة باستثناء بعض المشاريع غير ذات الأهمية (¬2). أما عن المساجد في معسكر فليس هناك إحصاء لها. وإنما تذكر التقارير بعض المساجد عرضا لجمالها أو لموقعها في المدينة. ففي داخل سور المدينة يوجد مسجدان، أحدهما ربما هو مسجد الباي. وكانت معسكر في عهد الباي محمد الكبير عاصمة سياسية وعلمية واقتصادية. وقد شيد فيها هذا الباي بعض المساجد. ولا ندري ماذا حدث لمسجد الباي في حكم الفرنسيين، ولا للمسجد الآخر. وربما استغلتهما السلطات الفرنسية لبعض المصالح الدنيوية قبل التخلي عنهما. وتشير المصادر إلى المسجد الذي يقع في ضاحية العين البيضاء جنوب المدينة دون إعطاته اسما، وقد أعجبت به التقارير الفرنسية لجمال بنائه ¬

_ (¬1) سجل (طابلو) سنة 1839، 202، 265. (¬2) نفس المصدر، سنة 1841، 23 - 24.

ولكون منارته الرشيقة كانت تعلو جميع المنازل. وهو المسجد الذي كان قد أمر ببنائه الباي محمد بن عثمان عندما كانت معسكر هي مقر حكمه، وتشير الكتابات إلى أن بانيه هو أحمد بن صارمشق التلمساني، سنة 1175 هـ. وكان الأوروبيون يعجبون بالجامع ويزورونه كمعلم سياحي. ولكن السلطات الفرنسية لم ترحم أيضا هذا الجامع الجميل والأثري، فقد حولته إلى مخزن لبيع الحبوب. وقد لمح ليكليرك إلى ذلك في قوله إن أهمية هذا الجامع وحالته تجعله محفوظا مسخرا لمصير آخر. ولا ندري ما المصير الآخر الذي كان ينتظر أجمل مساجد معسكر غير إقامة الشعائر فيه. وقد أضاف ليكليرك أن العامة تجهل وجود هذا الجامع (¬1). ولا شك أن كثرة الزوايا في معسكر ومن حولها تجعل المساجد أيضا متوفرة، لكن ليس لدينا أوصاف أو إحصاء بها. وفي مازونة ثلاثة مساجد بدون صوامع، حسب إحصاء سنة 1839 (¬2). ولا ندري ماذا جرى لهذه المساجد بعد الاحتلال، هل حولت عن مقاصدها أيضا أو حول بعضها أو تركت لحالها وأهلها. والمعروف أن مازونة التي كانت عاصمة إقليمية بعض الوقت، في العهد العثماني الأول، كانت مدينة العلم والعلماء بنزول العديد من الأسر الأندلسية بها، ورسوخ أشرافها، وشهرة مدرستها، وقد ظل بصيص نورها يضيء أيضا رغم الظلمات أثناء الاحتلال الفرنسي (¬3). وحين احتل الفرنسيون مدينة مليانة سنة 1840 لاحظوا أن سكانها أغنياء ومنازلها جميلة وفخمة، وأن فيها مصانع ومخازن تكفي لإيواء ستمائة ألف وجبة ومستشفى له 350 مريض، وإن ثكنات المدينة ومنازلها المهجورة تكفي لاستقبال 4,600 أوروبي. أما عن مساجدها وزواياها فقال التقرير إن ¬

_ (¬1) ليكليرك (الكتابات العربية في معسكر)، في المجلة الإفريقية، أكتوبر 1859، 42. (¬2) سجل (طابلو) سنة 1839، ص 283. (¬3) تحدثنا عنها في الجزء الأول من التاريخ الثقافي.

أكثر المساجد فخامة فيها هو الجامع الكبير، وعد من الزوايا فيها أربعة. ولكننا لا نملك وصفا لهذه البنايات الدينية ولا مصيرها في تقرير سنة 1841 (¬1). ومن الأكيد أن بلدأ هجره سكانه ودخله العدو الباحث عن الاستقرار والاستعمار سيكون معرضا لكل الاحتمالات ومن بينها الاستيلاء على المساجد والزوايا واستعمالها لأغراض عسكرية ومدنية. وفي ندرومة عدد من المساجد لا نعرف أنها تعرضت للاستيلاء وسوء الاستعمال. وأكبر المساجد فيها هو الجامع الكبير وجامع القدارين، وكلاهما كان جامع خطبة، ويعود تاريخ الجامع الكبير إلى عهد المرابطين، وكان في ندرومة أيضا مساجد أخرى كثيرة ولكنها عديمة الصوامع أو كانت لها صوامع ولكن منخفضة لا تكاد ترى فوق المنازل. والجامعان الأولان يقعان كلاهما في حي بني زيد في جنوب شرق المدينة. وفي الحي الجنوبي - الغربي مساجد سيدي بوعلي ولاله عالية (علية). وهناك مساجد أخرى في شمال المدينة، وهي جامع الحدادين وجامع الرعية وجامع سيدي السياج (¬2). ولا شك أن مساجد ندرومة قد تعرضت جميعا إلى الإهمال والحرمان من الأوقاف جد استيلاء الفرنسيين عليها. لكن المدينة التي تميزت بالمساجد والزوايا وغيرها في الإقليم الغربي هي بدون منازع تلمسان. ومن حسن الحظ أن هناك عدة دراسات لمساجدها ¬

_ (¬1) سجل (طابلو)، 1841، 19. قدر الفرنسيون عدد سكان مليانة عندئذ بين 7 و 8 آلاف نسمة. ولكن المدينة كانت مهجورة. وكان خليفتها هو محمد بن علال، خليفة الأمير منذ منتصف الثلاثينات. (¬2) الفريد بيل (ندرومة العاصمة الإسلامية للطرارة) في SGAAN (1934)، 515 - 516. انظر أيضا جورج مارسيه، مجلة معهد الدراسات الشرقية (الجزائر)، المجلد 8، 1949 - 1950، ص 266 - 277 مع رسومات. والبحث عن مساجد تلمسان. وفيه إشارة فقط إلى الجامع الكبير في ندرومة. وكان جورج مارسيه وأخوه ويليام مارسيه قد أصدرا كتابا سنة 1903 بعنوان (المعالم الإسلامية لتلمسان). ويقول يحيى بوعزيز إن لجامع ندرومة 30 عرصة وله منارة عالية مربعة الشكل جميلة النقوش. مراسلة معه، مارس 1996.

من قبل بعض الفرنسيين، كما أن أهلها قد سجلوا ذلك منذ القديم. ومن الذين كتبوا عن مساجد تلمسان شارل بروسلار الذي استغل وجوده كرئيس للمكتب العربي فيها وتلقى المعلومات الكافية من علماء وأعيان البلاد ونشر عن ذلك سلسلة من المقالات في المجلة الإفريقية تحت عنوان (الكتابات والآثار العربية في تلمسان)، كما خصها الباحث جورج مارسي وأخوه ويليام بكتاب في أوائل هذا القرن حللا فيه أوضاع وتواريخ مساجد تلمسان (انظر الهامش). ويقول أبو حامد المشرفي الذي زار تلمسان بعد الاحتلال: إن بها نحو ثلاثين مسجدا غير الجامع الكبير (¬1). وأما تقرير الفرنسيين سنة 1839، أي قبل احتلالها، فيقول إن بها عددا كبيرا من المساجد، دون تحديد، معظمها صغير الحجم ما عدا الجامع الكبير الذي يتميز بالضخامة والصومعة العالية ووقوعه وسط المدينة. وقال التقرير إن المدينة تتمتع بأمن تحسدها عليه أكبر المدن. وكانت بعض المساجد، مثل مسجد سيدي أبي مدين شعيب، تقع في الضواحي التي كانت تعتبر (قرى) مجاورة لتلمسان مثل العباد والمشور وعين الحوت وعين الحجر (¬2)، وجامع سيدي محمد بن يوسف السنوسي. وأشار التقرير أيضا إلى المنصورة ومنارتها الأثرية العالية. ففي العباد، عند قدم جبل بني ورنيد ولاله ستي، يوجد مسجد سيدي أبي مدين (¬3). وقد اعتبره الفرنسيون أجمل بناية أثرية دينية في إقليم وهران كله. وقالوا إن لهذا الأثر مداخيل عظيمة من الأوقاف حتى أنهم قدروا أنه يملك ربع أملاك مدينة تلمسان كلها وما حولها في شكل هبات. كما أن البناية لها صفة الملاذ الذي من دخله أمن على نفسه، ولو كان من أكبر المذنبين. ولا شك أن هذه المداخيل هي التي سال لها لعاب الفرنسيين بعد استيلائهم على تلمسان سنة 1842، فقد بادروا بوضع أيديهم على جميع الأوقاف التابعة لسيدي أبي مدين وغيره من المساجد والزوايا والقباب. ¬

_ (¬1) أبو حامد المشرفي (ذخيرة الأواخر والأول)، مخطوط، ص 19. (¬2) السجل (طابلو)، 1839، 289 - 290. (¬3) عن حياته انظر فصل الطرق الصوفية.

وقد تحدث بروسلار عن مصير جامع سيدي بوجمعة في تلمسان. فقال إنه كان لهذا الجامع أوقاف هامة تسمى بستان طاحونة الريح. وقد استولى الفرنسيون على هذا البستان الكبير بوضعه في أملاك الدولة الفرنسية منذ الاحتلال. ثم وزعته السلطات الفرنسية على عدد من الكولون، وبذلك حرموا منه الجامع وموظفيه الذين كانوا يصونونه به من جهة ويعيشون منه من جهة أخرى. كما أن الوقف كان موردا للتعليم، كما هو معروف، وبذلك حرم منه الأطفال أيضا. وقد اعترف بروسلار بأن المحبس الأصلي لم يتوقع ذلك دين كان يضع شروطه وقيوده في الوقفية، ولكنه لاحظ (بروسلار) أن جامع سيدي بوجمعة يتلقى الصدقات من المؤمنين رغم حرمانه من الأحباس (¬1). ومنذ السنوات الأولى لاحتلال تلمسان لاحظ السكان الخراب الذي أصاب جامع أغادو (العتيق). ولكن الأب بارجيس الذي أخبر أن الجامع كان سنة 1845 في حالة خراب، نفى ذلك وقال إن خرابه كان نتيجة الإهمال وأن سقوط الجامع يرجع إلى عدم الصيانة السابقة. ونفس الملاحظة أبداها كل من جورج ووليام مارسيه اللذين كتبا عن مساجد تلمسان. والمعروف أن جامع أغادير كان قائما في القرن السادس عشر ميلادي وأن إمامه عندئذ كان علي بن يحيى السلكسيني (¬2). وبعد أن نوه باللو بالفن العربي في تلمسان واعتبرها بحق مدينة الفن الأصيل وأنها تضاهي بآثارها الجميلة قرطبة وغرناطة وإشبيلية، قال إن مساجدها تماثل مساجد الأندلس، وذكر منها مساجد سيدي بومدين وسيدي الحلوى وسيدي أبي الحسن وكذلك الجامع الكبير والمنصورة. أما المشور ¬

_ (¬1) شارل بروسلار (الكتابات والآثار العربية في تلمسان)، في المجلة الإفريقية، 1860، 258. (¬2) ألفريد بيل (تنقيبات في موقع الجامع العتيق بأغادير) في المجلة الإفريقية، 1913، ص 31. وعن السلكسيني انظر (البستان): لابن مريم.

فقال عنه إنه قلعة عسكرية رغم أنه يحتوي على مسجد أيضا. وقد حول الفرنسيون جامع أبي الحسن إلى متحف جمعوا فيه كل القطع الفنية والأثرية التي قال إنهم احتفظوا بها منذ أمد طويل. وكان محراب الجامع (المتحف) مزخرفا بالأرابسك الجميل. وكان الجامع يقع بوسط المدينة غير بعيد من الجامع الكبير، وكأن الفرنسيين عجزوا عن بناء متحف للفن فلجأوا إلى الجامع. أما الجامع الكبير فقال عنه باللو (سنة 1904) إنه يرجع إلى القرن الثاني عشر ميلادي، وأن منارته تبلغ 35 مترا وهي مبنية بالآجر، وأن الجامع محلى بالفسيفساء، وفيه ممرات خشبية ذات طراز عربي، وأن محرابه رائع وكذلك قبته. أما الثريا التي تتدلى من القبة فترجع إلى عهد السلطان يغمراسن الذي حكم في القرن الثالث عشر الميلادي، وهو الذي أهداها إلى الجامع. وهي مصنوعة من خشب الأرز ومغطاة بالبرونز (¬1). وفي تلمسان مساجد أخرى قاومت عوادي الخراب والإهمال إلى فاتح هذا القرن. وقد ذكر منها باللو جامع سيدي الحلوى الذي كان يتميز بمنارته الجميلة والغنية بالفسيفساء. وأخبر باللو أيضا أن هذا الجامع يحتوي على ثماني عرصات رشيقة متميزة في أعلاها بالفن العربي، ومطعمة بالحجر الأسود الكريم. ولكن باب الجامع كان مهدما، وهو باب كبير، ولا يمكن معرفة ما فيه من ثروة فنية. ومن المساجد الأخرى ذكر باللو: جامع سيدي الحسن (هل هو المتحف؟)، وسيدي يدون، وسيدي البمرا، ولاله الغريبة، ولاله الروية، ومسجدا آخر باسم مسجد ريغ (باب زير؟)، وغيرها. ومنها أيضا جامع سيدي بومدين بالعباد. أما منارة المنصورة فقد قال إنها تبلغ 41 مترا ارتفاعا بالإضافة إلى أربعة أمتار أخرى في جزئها الأعلى (¬2). ولكن باللو ¬

_ (¬1) كرر جورج مارسيه نفس الوصف تقريبا لجامع تلمسان الكبير. وأضاف أنه من إنشاء المرابطين. ثم اعتنى به يغمراسن الزياني. انظر مارسيه، مجلة معهد الدراسة الشرقية، مرجع سابق. (¬2) ألبير باللو (الفن الإسلامي في الجزائر) في المجلة الإفريقية، 1904، 176 - 183.

لم يتعرض إلى جامع سيدي بوجمعة الذي ذكره بروسلار ولا جامع أغادير. ولعلهما قد أصبحا عندئذ من الذكريات الأثرية فقط. وفي مراسلة مع يحيى بوعزيز أفادني أن الجامع الكبير في تلمسان قد شيد سنة 530/ 1136 على يد علي بن يوسف بن تاشفين. وهو يضم قبة تتدلى منها ثريا ضخمة، وله منارة مثمنة الأضلاع ذات 35 درجة من بناء يغمراسن الزياني، وقد نقلت الثريا إلى المتحف بعد تاكلها، غير أن ثريا أخرى تقع قرب السدة لها 365 مشكاة جددها الفنان محمد بن قلفاط سنة 1943. على أن السلطات الفرنسية قامت بالنسبة للجامع الكبير في تلمسان بما قامت به نحو الجامع الكبير بالعاصمة (وكلاهما يرجع إلى عصر واحد) فأحاطته بالمباني التي حجبته عن الأنظار، كما استولت على الأراضي التابعة له. أما جامع المشور فيرجع أيضا إلى عهد المرابطين أو إلى عهد الزيانيين، وقد حوله الفرنسيون إلى كنيسة ثم جعلوه مخزنا للمستشفى العسكري. وما تزال آثار الكنيسة به مثل الصلبان، رغم أنه رجع إلى حالته كمسجد منذ الاستقلال. أما مسجد العباد فيرجع إلى العهد المريني (بنى سنة 739/ 1339) وله منارة مربعة وفيه زخرفة، على محرابه وجدرانه نقوشں. وقد جدد الأمير عبد القادر منبره. وبالإضافة إلى ما ذكرنا من مساجد تلمسانية هناك التالية: مسجد إبراهيم المصمودي، وأولاد الإمام، وسيدي زكري، وسيدي إبراهيم الغريب، وأبي عبد الله الشريف، وسيدي عبد الله بن منصور، والشرفاء، وسيدي الحسن الراشدي (حوله الفرنسيون إلى مستوصف)، وسيدي البنا (¬1). وقد أكد أوغسطين بيرك الطابع الفني الأصيل لمساجد تلمسان وعلاقة ذلك بالفن الأندلسي، ولا سيما المنارات، وقال إن طابع مساجد تلمسان يجذب المؤمنين (المصلين) بالفن وغموض العصور الغابرة، بخلاف المنارة ¬

_ (¬1) مراسلة معه في شهر مارس 1996. وكان بوعزيز قد كتب عن مساجد تلمسان سنة 1986 للإذاعة الجزائرية فأرسل لي نسخة من عمله، مشكورا.

الزوايا في إقليم الوسط

ذات الطراز التركي التي لها دور في التهدئة، لأنها في نظره حكومية وإدارية، وهي أقل حدة وصراخة من المنارات الأندلسية الطابع. واعترف بيرك أن (الفن العظيم قد اختفى). وكان بيرك يقارن بين العهد العربي - الإسلامي والعهد العثماني (التركي)، ولكنه سكت عن دور الاحتلال الفرنسي في اختفاء هذا الفن العظيم (¬1). ورغم كثرة مساجد تلمسان وبناياتها الدينية وجمالها، فإنها جميعا قد حرمت من أوقافها، وتعرضت بذلك للتلف والبلى إلا ما بقي يقاوم لسمعة صاحبه أو نحو ذلك، مثل جامع وضريح سيدي أبي مدين. وكم من زاوية ومسجد عفى عليها الزمن في مدينة تلمسان نفسها خلال الاحتلال الفرنسي، لا بفعل الفأس والمطرقة كما حدث في الجزائر وقسنطينة وبجاية، ولكن بفعل الإهمال والحرمان واغتصاب الأوقاف التي هي حق من حقوق المؤسسة الدينية والمواطنين. الزوايا في إقليم الوسط نذكر الآن مصير الزوايا والأضرحة والقباب وحدها في مدينة الجزائر وإقليمها، وننبه إلى أن الزاوية لا تستعمل بالمفهوم الديني وحده كما هو الشائع اليوم أو كما أصبح شائعا لدى بعض الطرق الصوفية (¬2)، بل الزاوية كانت مؤسسة كاملة فيها السكن والطعام والملجأ والتعليم والعبادة. وكان بعضها يعتبر مدارس عليا لمواصلة التعليم الذي بدأه الفتيان في المكاتب أو المدارس القرآنية. ومن الزوايا ما هو خاص بفئة اجتماعية مثل الأشراف والأندلسيين. والزوايا في الريف تضيف إلى ذلك دورا اجتماعيا هاما، وهو الإصلاح بين الناس وتأمين الطرق ونحو ذلك. وقد عرفنا أن أساس الزاوية هو الرباط الذي قام على مبدإ الجهاد ونصرة الدين ورد الأعداء. ¬

_ (¬1) أوغسطين بيرك (كراسات الاحتفال)، 1930، 99. (¬2) عن الزوايا بالمفهوم الديني - الصوفي، انظر فصل الطرق الصوفية.

وقد يفهم من الأضرحة والقباب أنها مجرد قبور لأصحابها. وهذا أيضا سوء فهم. لأن الأضرحة التي سنتحدت عنها والتي نعنيها اليوم كانت مؤسسات دينية واجتماعية ذات حجم كبير، وهي تضم حقا قبر الولي، ولكنها تضم أيضا مصلى ومساكن للوكيل والموظفين وجبانة لموتى المسلمين ومطاهر، ونحو ذلك. وسنرى أن بعض هذه الأضرحة استعملته السلطات العسكرية الفرنسية لأغراض مختلفة، ولكن اسم الزاوية واسم الضريح يختلطان أحيانا، لأن الزاوية تحتوي على الضريح والضريح يستلزم الزاوية لاستقبال وإيواء الزائرين. وقد عرف بعضهم الضريح (القبة) بأنه بناية تضم قبر الولي (المرابط) وأحيانا قبور بعض أسرته أيضا. وقبر الولي يكون عادة مرتفعا ومغطى بتابوت خشبي عليه أقمشة مذهبة وملونة حريرية وغيرها، ومحاطا بشباك، ومعلقا عليه مصباح شرقي الصنعة، وتكون الأعلام والرايات التي ترجع إلى الطريقة التي ينتمي إليها إن كان من أصحاب الطرق، معلقة عليه أو تتدلى منه. إضافة إلى غرفة خاصة بالوكيل الذي يسهر على الضريح ويجمع الزيارات والتبرعات، ويصون القبة والضريح بالزينة والإضاءة (¬1) ويوفر حاجاتها. وتعرضت الزوايا والأضرحة لما تعرضت له المساجد من الهدم والإهمال والتحويل عن مقصد الواقفين، واغتصبت السلطات الفرنسية أوقافها أيضا. وبذلك حرمت آلاف الموظفين والعلماء والفقراء من حقوقهم المشروعة، التي نصت عليها الأوقاف. وهذه البنايات الدينية كانت كثيرة وذات أحجام متنوعة ومواقع مختلفة. وقد تناولها عدد من الكتاب إحصاء ووصفا ومصيرا، بالنسبة لمدينة الجزائر. أما بالنسبة لغيرها فإن الوثائق شحيحة، ومصدرنا بالنسبة لمدينة الجزائر هو ديفوكس، وأوميرا، وروبير أساسا. وغرضنا ليس الإحصاء في حد ذاته، ولكن معرفة مصير البنايات الدينية. وسنحاول تقسيم ذلك إلى قسمين رئيسيين: الأول الزوايا المتعارف عليها أو التي ورد اسمها كذلك، ثم ¬

_ (¬1) أشيل روبير، مرجع سابق، في (روكاي)، 1918، 244.

القباب أو الأضرحة والجبانات. الزوايا: ذكر السيد أوميرا سنة 1898 حوالي خمس عشرة زاوية في مدينة الجزائر، وكلها قد اشتهرت بهذه التسمية (الزاوية)، وسنورد هنا هذه الزوايا وندعمها إذا أمكن بمعلومات أخرى استقيناها من غيره. 1 - زاوية القاضي: وكانت تقع في شارع باب عزون وزنقة كوربو. وكان مصيرها هو الهدم بحجة الصالح العام، سنة 1857 (¬1). ويقول عنها ديفوكس إن القاضي المقصود هنا هو القاضي المالكي. وأنها كانت مسكنا للطلبة في العهد العثماني، ولها غرف صغيرة تكفي الضرورات، وقد كان مصيرها هو مصير جامع دار القاضي ومسجد الشماعين المجاورين لها. ويضيف ديفوكس أن الزاوية قد أدمجت بعد هدمها في المنازل الواقعة في زنقة كيليوباطرا (¬2). 2 - زاوية القشاش: وكانت تقع في شارع القناصل، وملاصقة للجامع الذي يحمل نفس الاسم (القشاش)، وكان مصيرها هو مصير الجامع المذكور، وكانت تضم مجموعة من الغرف، وكان بعض الناس يسمونها (وكالة) كما هو الحال في تونس، أي مبنى عموميا له أوقاف. وكانت ضخمة وتستعمل لإقامة العلماء والغرباء والطلبة الفقراء، وكان هؤلاء يحصلون فيها أيضا على الغذاء. وكانت زاوية القشاش ملجأ ومدرسة عليا. وممن نزلها قبل الاحتلال بسنوات قليلة الشيخ محمد بوراس الناصر المؤرخ والحافظ المعروف. وكان للزاوية أستاذ واحد على الأقل يدرس الفقه والتوحيد، وعشرة قراء يؤدون ما نصت عليه الوقفية من القراءات. وآخر وكيل كان مسؤولا على الزاوية هو محمد بن الجيلاني، والمعروف أن هذه المؤسسة (الجامع والزاوية) من أقدم المؤسسات الدينية. ويعتقد الباحثون أن قبر الشيخ القشاشں كان في إحدى الغرف السفلى للزاوية التي وقد حملت رقم 35 من ¬

_ (¬1) أوميرا، مرجع سابق، 188. (¬2) ديفوكس، مرجع سابق، 64، 67.

شارع القناصل في البداية. ثم كان مصيرها الاحتلال العسكري ثم الهدم، كما هو مذكور مع الجامع (¬1). 3 - زاوية سيدي الجودي: قال أوميرا إنها كانت تقع في شارع تروا كولور، وأن لها مسجدا، وجبانة كبيرة عمومية. وقد هدمت الزاوية سنة 1838 والجبانة سنة 1840، وكانت الجبانة قد عطلت منذ الاحتلال. أما الزاوية فكانت تضم رفات الولي سيدي الجودي، وموقعها كان داخل المدينة من جهة باب الواد (¬2). 4 - زاوية الجامع الكبير: رغم قربها بل ملاصقتها للجامع الكبير فقد كانت مستقلة عنه، وكان لها مسجد صغير بدون منارة للصلاة يصلي فيه الطلبة والساكون بها. وكانت الزاوية عبارة عن مدرسة عليا ومسكن للعلماء والغرباء وملجأ للفقراء، وتتألف من طابقين من الغرف، ومطهرة عمومية وعيون جارية، بالإضافة إلى مساكن أخرى لعموم الناس. وإذا كان تاريخ الجامع الكبير يرجع إلى عهد المرابطين فإن بناء الزاوية يرجع إلى سنة 1039 (1629) بأمر من به الشيخ سعيد قدورة، عالم الجزائر ومفتيها في وقته والذي توارث أباؤه وأحفاده الخطابة والتدريس في الجامع الكبير، وكذلك توارثوا الوكالة عليه وعلى مكتبته الشهيرة. وقد بنيت الزاوية من فائض مداخيل الجامع الكبير. لكن الاحتلال الفرنسي أبى إلا أن يطفئ هذه الشمعة التي كانت تقدم التسهيلات للطلبة والعلماء من أجل البحث والدراسة. وإذا كان الفرنسيون قد انتظروا إلى سنة 1843 ليستولوا على أوقاف الجامع الكبير وينفوا مفتيه الشيخ مصطفى الكبابطي، ¬

_ (¬1) نفس المصدر، 85. انظر سابقا. (¬2) نفس المصدر، 129، وأوميرا، 188. وقد جاء في أحد المصادر أن ضريح سيدي الجودي كان يقع داخل المدينة وأن اسمه علي. انظر (أنشودة جزائرية من القرن 18 م). في المجلة الإفريقية، 1894، 325 - 333. وفي هذا المصدر جاء ذكر الأولياء سيدي عبد الرحمن الثعالبي، وسيدي علي الفاسي، وسيدي ولي دادة، وسيدي عبد القادر. وكذلك الرجال السبعة، بالإضافة إلى سيدي الجودي.

فإنهم لم ينتظروا كل ذلك بالنسبة لزاوية هذا الجامع. فمنذ 1833 أعطوها لأحد المهاجرين الفرنسيين فحولها إلى حمامات فرنسية، وفي 1840 تخلى عنها هذا الفرنسي وهدمت وضمت إلى ما حولها من المنشآت الجديدة (¬1). وبشأن زاوية الجامع الكبير قال أوميرا لقد تعودنا أن نرى المساجد هي التي تتبع الزوايا، أما بالنسبة للجامع الكبير فقد رأينا أن الزاوية هي التي تتبع الجامع. وكان موقعها في مقابلته وفي نفس الشارع (شارع البحرية). وبعد أن ذكر بشأنها ما ذكره زميله ديفوكس، قال أوميرا إن الزاوية لم تتخل عن وظيفتها بل استعملت كحمامات فرنسية بعد 1840 (خلافا لما قال ديفوكس)، والجديد في نظره، هو أنه وقع بيعها بعد أن كانت مؤجرة (¬2). ولا تسأل أين حقوق الجزائريين في هذه المؤسسة، تلك الحقوق التي نصت عليها وثائق الوقف. فالفرنسيون لم يكونوا مهتمين بذلك، رغم تعهداتهم المكتوبة سنة 1830. 5 - زاوية أحمد أيوب: وتعرف بزاوية يوب. وهي زاوية واسعة، وكانت كغيرها من الزوايا تستعمل للأغراض الاجتماعية والعلمية. وكانت تقع في شارع تروا كولور، ويتبعها مصلى وجبانة. وكانت وكالتها وراثية في عائلة الولي أيوب. وقد اعترفت السلطات الفرنسية بهذه الوراثة للعائلة، ولكن الزاوية مع ذلك خرجت من يد الوكيل بطرق أخرى غير شرعية. يقول ديفوكس إن الوكيل رضي بالتخلي عنها لفائدة بعض الأوروبيين. أما أوميرا فقد جاء برواية أخرى تبرر الاستيلاء غير الشرعي على هذه الزاوية الواسعة، وهي أن الوكيل كان قليل التعصب الديني، فرضي بأن يبيع الزاوية، زاوية أجداده، إلى الفرنسيين (¬3). ¬

_ (¬1) ديفوكس، 125. (¬2) أوميرا، مرجع سابق، 191. (¬3) نفس المصدر، 189، وديفوكس، 130.

6 - زاوية الشرفة (الأشراف): وهذه زاوية أخرى كان مصيرها يشبه مصير سابقتها. وكانت تقع في شارع الجنينة وزنقة بروس. ويرجع بناؤها إلى عهد الداي محمد بكداش (أوائل القرن الثامن عشر)، الذي أمر ببنائها تقربا إلى الأشراف ورجال الدين في الجزائر. وقد تحدثنا عنها في غير هذا. وكانت لها جبانة ومسجد وأرض وأوقاف، وكانت تضم مساكن ومطاهر ونحوها، مثل غيرها من الزوايا. ومنذ 1832 طمع فيها الفرنسيون فعطلوها وبيعت بطريقة التحايل زاعمين أن وكيلها قد رضي بذلك. وهي في الواقع لا تخص شخصا بعينه ما دامت وقفا على الأشراف جميعا. ولم يكتف الفرنسيون بذلك بل صادروا الزاوية سنة 1841 واستولوا على أرضها وجبانتها وأوقافها، ثم هدموها ووسعوا بها، كما قالوا، مكاتب إدارة الداخلية - المدنية (¬1). وقد أضاف أوميرا معلقا على ما حدث للزاوية فقال (إن هذا يدل مرة أخرى على أن مسلمي الجزائر ليسوا متعصبين بالدرجة التي تقال عنهم). ولكنه أكد ما جاء في كتابة زميله، وقال إن مكانها تشغله الآن (سنة 1898) مكاتب الحكومة العامة، عدا الجزء الذي سقط منها في الطريق العمومي سنة 1841 (¬2). 7 - زاوية سيدي ولي دادة: ويرجع تاريخ هذا الولي وأهميته إلى القرن العاشر الهجري وإلى معركة الجزائر سنة 1541، تلك المعركة الكبرى التي انهزم فيها الامبراطور شارلكان. وتعزو الأسطورة الشعبية إلى الولي داده أنه ببركته وكرامته ثارت عاصفة هوجاء أثناء المعركة أدت إلى هزيمة المعتدي (شارلكان)، ومن ثمة أنقذ الولي دادة الجزائر وأبقاها للإسلام بعد أن كادت تضيع كما ضاعت الأندلس. وقد حظيت زاوية الولي دادة بالتبرعات والزيارات، وهي تضم قبر الولي، ومسجدا وملجأ للعجزة ¬

_ (¬1) ديفوكس، 164. (¬2) أوميرا، مرجع سابق، 189.

والفقراء. وقد جاء في وثائق القرن 18 م أن ضريح وزاوية الولي كانت تقع بالقرب من الدار القنصلية الفرنسية (¬1). ويقول بلاكسلي (سنة 1858) إنه كان لهذه الزاوية أوقاف هامة، منها مزرعة تقع على الضفة اليسرى لوادي الحراش (¬2). وماذا فعلت السلطات الفرنسية مع هذه الزاوية؟ يقول ديفوكس إنها صادرتها، وبذلك أخرجتها عن غرضها الإسلامي والاجتماعي. وفي سنة 1864 ألحقتها بمبنى (جمعية الرحمة) الكاثوليكية، أما رفات الولي دادة فقد نقلت من ضريحه هناك إلى زاوية الشيخ عبد الرحمن الثعالبي، وتصرفت السلطات الفرنسية فيما بقي من زاوية الولي دادة، فالملجا مثلا ألحق ببناية أخرى (¬3)، أما الأوقاف الكثيرة التي كانت للزاوية وكانت معاشا للفقراء والعجزة فقد حولت إلى خزينة الدولة الفرنسية وذهبت في مهب الرياح في جيوب الفرنسيين، وكأنها ليست ملكا خاصا محددا بالشروط القانونية لأصحابه. والغريب أن أوميرا أهمل ذكر زاوية الولي دادة تماما، رغم أنه ذكر ما هو دونها في الأهمية. 8 - زاوية المولى حسن: يقول عنها ديفوكس إنها كانت منزلا مخصصا لسكنى المسلمين غير المتزوجين، وإن السلطات الفرنسية قد عطلتها وحولتها عن غرضها منذ 1840، ولكنه قال إنها ما تزال قائمة إلى وقته (1874). أما أوميرا فقد حددها بقوله إلا كانت تقع في شارع الديوان، ثم أكد ما قاله زميله، ولكنه لم يصفها في وقته (1898). ولعلها قد أدمجت في غيرها أيضا (¬4). 9 - زاوية الأندلس: لقد تأسست هذه الزاوية في القرن الحادي عشر ¬

_ (¬1) فانتور دي برادي، (أنشودة جزائرية ...) المجلة الإفريقية،. R.A (1894)، 325، وما بعدها. (¬2) بلاكسلي، مرجع سابق، 29. (¬3) ديفوكس، 173. (¬4) أوميرا، 189. وديفوكس، 173.

(1033/ 1623) استجابة للنزوح الأندلسي نحو المغرب العربي، وقد كان العطف على الأندلسيين عندئذ يشبه العطف على الفلسطينيين اليوم، ولكنه في كلا الحالتين كان عطفا بدون قوة تدعمه، عطف الضعيف على الضعيف، لأن الدويلات المحلية كانت عاجزة، برغم قوة الجزائر الظاهرية، ولأن الدولة العثمانية كانت في حالة تدهور. كان لهذه الزاوية مسجد أيضا بنفس الاسم. وهو خاص بأهل الأندلس. وكانت الزاوية تقع في شارع بور، ولها أوقاف كثيرة وغنية، ووكيل يديرها، ومهمتها التضامن مع الأندلسيين وتقديم المساعدات للنازحين منهم أو من كان أصله من الأندلس. هذه الزاوية التي قاومت مدة قرنين تعاقب الحدثان لم تستطع أن تبقى في نظر الفرنسيين بضع سنوات بعد الاحتلال. وقالوا إنها تدهورت سنة 1843 فأخلوها وعطلوها وتصرفوا فيها كما لو كانت ملكا لأجدادهم. كما اغتصبوا أوقافها. ويذهب ديفوكس الذي كان شاهدا على هذا التصرف والذي زكاه وباركه، إلى أن الحكومة الفرنسية استمرت في تقديم المساعدات للعائلات الأندلسية المستحقة (¬1). لكن من أين؟ وإلى متى؟ ألم يكن لهذه العائلات ما يكفيها من الأوقاف ويغنيها عن التسول من سلطات الاحتلال؟ وقد أكد أوميرا كلام زميله حول هذه الزاوية، ولكنه سكت عن المساعدات الفرنسية، لأنها بدون شك قد انقطعت في وقته. 10 - زاوية الشبارلية: ويطلق عليها أيضا زاوية شيخ البلاد وزاوية كتشاوة. وهي من آثار شيخ البلاد (رئيس البلدية) الحاج محمد خوجة المكتابجي سنة 1201 (1786). وكانت تقع في شارع الكورون، وهذه الزاوية في الواقع ليست لولي من الأولياء مثل بعض الزوايا الأخرى، فهي مدرسة للعلم بكل معنى الكلمة، ولذلك كان فيها كل ما يهم الطلبة والمدرسين، من مسجد وغرف، ومطاهر. وقد أوقف عليها الحاج محمد بنفسه ثم أوقفت عليها زوجته (حيفة) بعد ذلك. وكان يشرف عليها وكيل ¬

_ (¬1) ديوكس، 176.

سبل الخيرات. أما مصير هذه الزاوية - المدرسة، فهو التعطيل ثم الهدم. وبذلك حرم منها الطلبة والعلماء، واغتصبت أوقافها وأرضها ومسجدها. فقد استولى عليها أولا الجيش الفرنسي (الدرك)، ثم تخلى عنها بعد خمس سنوات إلى مكاتب بيت المال التابعة لمصلحة أملاك الدولة. وفي 1840 حولت عن غرضها، وهدمت، ودخلت في بناءات ما سمي ببازار أورليان (¬1). وقد نقل السيد أوميرا كلام ديفوكس حول هذه الزاوية ولم يضف إليه جديدا. 11 - زاوية أبي التقي: وتسمى أيضا زاوية شخطون، وهو اسم لأحد وكلائها (¬2). أما أبو التقى فهو أحد الأولياء. وكانت تقع في شارع ليقل (النسر). ومنذ الاحتلال صودرت الزاوية أيضا وضمت إلى الثكنة المعروفة بالخراطين، ثم تحولت هي والثكنة إلى مستشفى عسكري. وفي أكتوبر 1838 ألحقت الزاوية بالمستشفى المدني وكذلك الخزينة والبريد. وكان مصيرها هو الاختفاء تماما لأن المقاولين الذين مدوا الشارع قد جعلوا بقاياها تختفي فيه. والشارع المقصود هو شارع الجمهورية الذي يقول عنه أوميرا إن فتحه وتوسيعه (حتم) اختفاء الثكنة والزاوية معا (¬3). 12 - زاوية سيدي أحمد بن عبد الله: وهي كغيرها من الزوايا القديمة وكانت تتألف من مسجد وجبانة وبيوت للعلماء والغرباء والطلبة. وأحمد بن عبد الله مثل الشيخ الثعالبي، كان يعتبر من العلماء وكان معاصرا له، وهو صاحب القصيدة المعروفة (بالمنظومة الجزائرية) في التوحيد، وكانت قصيدة مدروسة ومشروحة ومتداولة بين العلماء في الجزائر وغيرها، لمدة قرون. وكانت الزاوية في مدة الاحتلال تقع في شارع كوسيجا. وقد اغتصب الفرنسيون أوقافها الكثيرة وعطلوها عن وظيفتها منذ الاحتلال، وألحقوا جزءا ¬

_ (¬1) نفس المصدر، 182. (¬2) يقول كلاين إنها ترجع إلى القرن 16. وقد أكد نفس المعلومات بشأنها. (¬3) ديفوكس، 192، وأوميرا، 189. انظر قبة أبي التقى في القباب، وكذلك ارجع إلى اسمه في المساجد أيضا.

منها بالشارع المجاور الذي أحدثوه، أما الجزء الباقي فقد جعلوه مدرسة عربية - فرنسية (¬1)، ولو تركوها جميعا تؤدي وظيفتها في التعليم لكان خيرا للمسلمين. وقد ذكر السيد أشيل روبير (1918) أنها قد هدمت، ولا ندري متى. 13 - زاوية سيدي السعيد: ليس هناك وصف لهذه الزاوية فيما كتبه ديفوكس، ولم يذكرها أوميرا. ويقول الأول إن مصير الزاوية كان هو مصير جامع ابن شكور (شاكر؟). فإذا عدنا إلى هذا الجامع نجده قد قال عنه إنه احتل من قبل الجيش ونزل به الدرك وأصبح ثكنة مدة طويلة. أما زمن الكتابة (1874) فقد أصبح الجامع، وكذلك الزاوية، تابعين للبناية المخصصة لمدرسة البنات المسلمات (¬2). وقد كنا أشرنا إلى أن هذه التسمية خاطئة أو مضللة لأن المؤسسة تصبح عبارة عن ورشة فرنسية تابعة (للدومين) وليست تابعة للمسلمين. ومن ثمة فإن المسؤولين على هذه الورشة (لتعليم الطرز والخياطة واللغة الفرنسية) كن نساء فرنسيات متطوعات أو معينات. 14 - زاوية سيدي عبد المولى: كانت هذه الزاوية كغيرها تتبعها بنايات إضافية كالجبانة. وقد استغلها الفرنسيون في البداية دون أن نعرف، في أي شيء، ولكن استيلاءهم على أوقافها وضمها إلى مصلحة أملاك الدولة، جعلها تتدهور وتؤول للسقوط. وقد ذكر ديفوكس أنهم أهملوها سنة 1840 بسبب حالتها، ثم هدمت ودخلت في البيوت المجاورة لها (¬3). أما أوميرا فلم يذكر هذه الزاوية. 15 - زاوية سيدي محمد الشريف: هذه من الزوايا التي بقيت ¬

_ (¬1) ديفوكس، 212. (¬2) نفس المصدر، 214. ويؤكد كلاين هذه المعلومات ويضيف أن السيدة لوس بن عابن هي التي أدارت ورشة (مدرسة) الطرز، وأن مكان هذه الورشة قد تحول فيما بعد إلى مدرسة عمومية. (¬3) ديفوكس، 231.

للمسلمين، لكنها تعرضت إلى تعديل وتغيير وتعطيل أيضا. كانت من الزوايا الكبيرة في العاصمة. وكانت تتألف من باحة واسعة، فيها مجموعة من القبور، ومن مطهرة وميضآت، ومن غرفة (قبة) مربعة ومزينة بالأعلام تحتوي على ضريح سيدي محمد الشريف، والضريح مغطى بتابوت غير مزخرف، حسب رواية ديفوكس. وتضم الزاوية مسجدا بمنارة (¬1) ودهليزا فيه قبور أخرى، وغرفة أخرى فيها ضريح ولد سيدي محمد الشريف، وهي في نفس الوقت مقر لوكيل الزاوية، كما تضم جبانة عمومية، ومدرسة حديثة البناء، ثم ثلاث غرف للسكنى. وتاريخ وفاة سيدي محمد الشريف هو 948 (1542). أما مصير هذه الزاوية فقد رواه ديفوكس وغيره كما يلي: منعت السلطات الفرنسية الدفن في جبانة سيدي محمد الشريف سنة 1830، هكذا تعسفا وبدون مبرر، بطريقة مخالفة لما هو في وثائق الواقف. ورغم أن هذه السلطات قد أبقت الزاوية في يد المسلمين إلا أنها أغلقتها سنة 1830، ثم أعادتها بعد أن رممتها وبنت إزاءها مدرسة، ولكن هذه المدرسة هدمت أيضا سنة 1855 بدعوى توسيع الزاوية (¬2). ونستنتج من ذلك أنه قد وقع العبث بهذه الزاوية من قبل السلطات الفرنسية، فمن جهة أغلقتها ومنعت الدفن فيها، ثم استولت على أوقافها، ثم عادت لأسباب سياسية (ترضية فئة الأشراف (¬3)) فرممتها وبنت إزاءها مدرسة ثم هدمتها ووسعت الزاوية، ولا نظن أن هذه الزاوية قد احتفظت بكل عقاراتها ¬

_ (¬1) نفس المصدر، 239. وأوميرا، 190. (¬2) لم نتحدث عن هذا المسجد في المساجد لأنه فيما يبدو ظل قائما، ولأن سمعة الزاوية كانت هي الغالبة. (¬3) من الأسباب أن عائلة سيدي محمد الشريف الزهار قد انضمت للمقاومة بقيادة الأمير عبد القادر، وهاجر بعض أفرادها إلى المغرب، ثم رجعوا بعد هزيمة الأمير، ومن ثمة محاولة الفرنسيين إظهار التلطف نحو عائلة نقيب الأشراف والمعتقدين فيها. انظر ترجمة أحمد الشريف الزهار في فصل التاريخ. وكان أحد أبناء العائلة من المختطفين سنة 1843، إذ حمله الفرنسيون رهينة إلى باريس. وهكذا نفهم لماذا عبث الفرنسيون بهذه الزاوية.

ومساحتها رغم بقائها بيد المسلمين. 16 - زاوية سيدي أحمد العباسي: وهو أبو العباس أحمد بن سالم العباسي الشرق. وترجع إلى القرن العاشر الهجري (925/ 1520). وتعرف أيضا بزاوية سيدي عيسى بن الحسن (بلحسن)، وقد وقع لهذه الزاوية ما وقع لشقيقتها (¬1). فقد زعم بعض الكتاب أن السلطات الفرنسية قد (اعترفت) بالزاوية ملكية خاصة لأسرة الشيخ العباسي. وقامت بتمليكها لها، نعم هكذا! وكأن القرون السابقة والوثائق لا تكفي لتملك هذه العائلة الشريفة فظلت تنتظر السلطات الفرنسية لتعترف لها بتراث أجدادها. وقد أضاف هؤلاء الكتاب فقالوا إن العائلة باعتها إلى أحد الفرنسيين بعد ثبوت ملكيتها. هكذا أيضا! ثم قام هذا الفرنسي بهدمها وتصرف فيها بالبناء ودخلت بعد ذلك في المنازل المجاورة لها. وكانت هذه الزاوية تقع في شارع التمر (دي دات) وكانت تتبعها جبانة وغيرها من مستلزمات الزوايا. ولا ندري كيف تصرف الشاري الفرنسي مع هذا التراث الإسلامي. وقد أكد أوميرا كلام زميله واستغرب كيف تم البيع رغم أن البائع مسلم. ولكن ديفوكس علق على عملية البيع بقوله إن المسلمين إذا اعترف لهم بالحق فإنهم لا يترددون عن بيع ما يرجع إليهم من بنايات مخصصة للدفن أو للصلاة إلى الفرنسيين، مضحين بتقاليدهم الدينية من أجل مصالحهم (الدنيوية؟)، ورد ديفوكس على من انتقد الحكومة الفرنسية على استيلائها على أملاك المسلمين بقوله: إن على المرء ألا يكون مسلما أكثر من المسلمين أنفسهم! ونحن بدورنا نتساءل ما المصلحة التي تجعل المسلم يبيع زاوية عائلته وضريح جده إلى فرنسي؟ لا بد أن يكون هناك سر سكت عنه ديفوكس وأوميرا، إذا كانت عملية البيع هذه صحيحة فعلا. 17 - زاوية سيدي الرحمن الثعالبي: وتعتبر من أهم الزوايا خلال العهد ¬

_ (¬1) انظر سابقا: زاوية سيدي محمد الشريف.

العثماني وقد بقيت كذلك زمن الاحتلال أيضا. ولا ندري التطورات التي خضعت لها، سيما بعد إقامة (حديقة مرنقو) بجوارها وهدم العديد من المساجد والقباب والجبانات القريبة منها والتي أصبحت داخلة في الليسي الذي أصبح اليوم ثانوية الأمير عبد القادر. إن هذه الظروف لا تتحدث عنها المصادر الفرنسية. ولكن زاوية الشيخ الثعالبي بقيت على أية حال. وقد زارها أوميرا سنة 1898، وعاصر ديفوكس الأحداث التي ذكرناها أيضا، وهو الذي وصف أوقافها ذات الثروة الهائلة التي استولى عليها الفرنسيون وأدخلوها في مصلحة أملاك الدولة. وقد بقي للزاوية وكيل ولكنه أصبح فقيرا معدما بعد أن حرم من مدخول الوقف، وكان اسمه أحمد بن محمد. فقد كتب أحمد هذا شكوى إلى الحاكم العام، ذاكرا أوقاف الزاوية واستيلاء السلطات عليها، ومذكرا له بأن غلة (ريع) الأحباس كانت تصرف في إطعام الطعام للفقراء والمساكين في كل ليلة جمعة وفي المواسم، وكذلك في صيانة المسجد وأجور الإمام والحزابين، وغير ذلك. وقال هذا الوكيل المسكين في شكواه إنه ذهب كالعادة إلى مصلحة الدومين لتعطيه النصيب الذي قرروه له، فامتنعوا، (فضاق علي الحال، ولم يمكني إلا أن نشتكي حالي إليك، لأني لم أقبض شهريتي ثلاثة أشهر) (¬1). كانت زاوية الشيخ الثعالبي، تضم مجموعة من المصالح، مسجد بمنارة مربعة ومزينة بالزليج الملون، وقبة ضخمة تضم عدة أضرحة، أهمها ضريح الشيخ الثعالبي، وجبانة ومساكن، وميضات وغرفا للموظفين، ومطاهر (¬2). ومن الذين دفنوا في جبانة الثعالبي، الحاج أحمد، باي ¬

_ (¬1) ابن سديرة (كتاب الرسائل)، 283، ولا بد أن كون هذه الشكوى صادرة بعد 1848، وهي السنة التي ضمت فيها أوقاف الزاوية إلى أملاك الدولة الفرنسية، وكانت عائلة ابن الحاج موسى تتوارث وكالة الشيخ الثعالبي حوالي قرن. انظر سابقا وكذلك فصل السلك الديني. (¬2) أوميرا، 192.

قسنطينة، وبعض أفراد عائلة حمدان خوجة. ولم تكن زاوية الشيخ الثعالبي مشهورة بالتعليم في العهد العثماني. ولكن الفرنسيين أنشأوا إزاءها مدرسة رسمية لتخريج القضاة، سموها (الثعالبية) .. 18 - زاوية سيدي يعقوب: وكانت تقع خارج باب الواد في الجزء الشمالي منه وتتبعها أيضا جبانة وقبة خاصة بسيدي يعقوب. وكان مصير هذه الزاوية التي لا نعرف حجمها ولا دورها، هو الاحتلال العسكري، منذ 1830. فقد احتلها الجيش الفرنسي واستعملها لأغراضه. ويقول أوميرا إنها اليوم تشكل ملحقة سالبتريير (¬1) Salptriere . وكانت للزاوية أوقافها وهي تتمثل في ستة حوانيت وبستان وضيعة. ويضيف كلاين أنها تعرف أيضا بمرابط الزيتونة. وأن السلطات العسكرية سلمتها إلى مدينة الجزائر في مارس، 1865، وأن أقواسها العربية الجميلة والأصيلة قد اختفت سنة 1910، بينما شيدت في مكانها دار جديدة، أي أن الزاوية قد هدمت. 19 - زاوية سيدي عمار التنسي: هذه الزاوية كانت تقع في الجزء الأسفل من المدينة لكن فوق مدخل باب الواد، وهي تتألف من مسجد بدون منارة، وقبة لضريح الولي. وكان لها وكيل وأوقاف. لكن الدرك الفرنسي احتلها منذ 1831، وحولها إلى ثكنة عسكرية. وظل أمرها كذلك إلى أن هدمت وضمت أرضها إلى الأرض التي بنى عليها ليسي بوجو (الأمير حاليا) (¬2). 20 - زاوية جامع الصباغين: وتسمى أيضا زاوية المقايسية. وكانت تقع تحت الأقواس بساحة الحكومة (الشهداء حاليا) ولكنها هدمت مع المسجد الذي يحمل نفس الاسم (جامع المقايسية - انظره). 21 - زاوية جامع السيدة: وقد هدمت أيضا، مع الجامع الذي يحمل نفس الاسم، منذ 1830 ودخلت في ساحة الحكومة (انظر جامع السيدة). ... ¬

_ (¬1) نفس المصدر، وكذلك ديفوكس، 23. (¬2) نفس المصدر.

لا يعني هذا أننا أتينا على كل الزوايا التي تصرف فيها الفرنسيون بعد الاحتلال في العاصمة (¬1). ولكننا حاولنا أن نذكر تلك التي تأثرت بالهدم والتعطيل والتحويل ونحو ذلك نتيجة استيلاء السلطات الفرنسية عليها واغتصاب أوقافها. وقد رأينا أن تعطيل الزوايا أو هدمها أدى إلى البؤس الاجتماعي والجفاف العلمي. كما فقدت البلاد معالم أثرية - حضارية كانت تدل على التراث العمراني الذي هو ملك للأجيال. وقد وجدت الزوايا أيضا في سهل متيجة والمدن الوسطى كالبليدة والمدية وشرشال ومليانة، ولكن الزوايا خارج المدن لم تتضرر كثيرا بالهدم والتعطيل. ومع ذلك هدم بعضها نتيجة الحروب والانتفاضات. ومنها زاوية سيدي محمد بن عبد الرحمن - بوقبرين - التي تعرضت للهدم مرتين. الأولى في آيت إسماعيل أثناء الثورة التي قادها الحاج عمر سنة 1857 والتي كانت نهايتها احتلال زواوة. والمرة الثانية كانت على إثر ثورة 1871 التي تزعمها الشيخ محمد أمزيان الحداد، شيخ الرحمانية عندئذ في صدوق. ويقول ليونار بارليت: إن (آيت) بني إسماعيل ظلوا على ثورتهم بين 1857 و 1871. ففي هذه السنة أعلن الشيخ محمد الجعدي الجهاد في آيت مرجة عند قبة سيدي محمد بن عبد الرحمن، وكان محمد بن الحاج بلقاسم، أمين أمناء بني إسماعيل، قد شارك بقسط وافر في هذه الثورة. ولذلك كان ¬

_ (¬1) من الزوايا التي لم نتناولها هنا زاوية سيدي محمد (الأزهري) بالحامة. وذكر كلاين عدة زوايا أخرى انقرضت، منها زاوية سيدي عيسى التي ترجع إلى 1682 والتي أصبح مكانها سينما. وزاوية سيدي عبد القادر الجيلاني التي اختفت سنة 1866 حين مد الشارع (قسنطينة) وكذلك اختفت معها النخلة الباسقة التي كانت علامة عليها والتي كانت تشرب مباشرة من باطن الأرض. كما ذكر زاوية كتشاوة التي ترجع إلى سنة 1786 والتي بناها الحاج محمد خوجة المقطاعجي كاتب قصر الداي. وقال كلاين إن هذه الزاوية (مدرسة؟) قد احتلها الدرك سنة 1835 ثم استولت عليها بيت المال، ثم هدمت. وهناك زاوية القيصرية التي هدمت من أول وهلة لفتح ساحة الحكومة. وزاوية سيدي سالم التي اتخذها الجنود مرقدا سنة 1830 ثم اختفت سنة 1862 حين دخلت في ساحة الأيالة.

أول قرار اتخذه الجنرال سيريز هو غلق جامع سيدي محمد بن عبد الرحمن ومنع أي تجمع فيه وأي زيارة له. وقال بارليت إن الولاية قد أكدت هذا المنع والغلق سنة 1874 أيضا، وأن ذلك القرار بقي ساري المفعول إلى سنة 1913. ولكن بارليت لا يذكر أن السلطات العسكرية قامت أيضا بتخريب الزاوية عن آخرها سنة 1871 (زاوية صدوق) ونفت رجالها إلى كايان وكاليدونيا الجديدة وحكمت عليهم بالغرامات الثقيلة واستولت على أراضيهم. ومن جهة أخرى قسمت السلطات الفرنسية بني إسماعيل إلى قسمين انتقاما منهم سنة 1893 (دوار بونوح، ودوار أنيسمان). وكانت قد أطلقت العنان للمبشرين (الآباء والأخوات البيض) على أرض بني إسماعيل، بين سنوات 1879 و 1885 (¬1). وهناك زاويتان أخريان تعرضتا للهدم والتدمير في زواوة. الأولى هي زاوية محمد (أمحند) الحاج الواقعة في قرية باجو، ببني وغليس. وكان مصيرها الانقراض مع أوائل الاحتلال. أما الثانية فهي زاوية تيزي راشد المعروفة باسم زاوية الحسين بن أعراب، وكان ذلك نتيجة لثورة 1871. وهذه الزاوية كان لها سمعة كبيرة في نشر التعليم، خلال القرن 18 م. وقد ذكرناها في غير هذا. وقد توقف نشاطها منذ الاحتلال وانقرضت بعد الثورة المذكورة. وممن تخرج منها قديما مؤسس الطريقة الرحمانية (سيدي محمد بن عبد الرحمن) والسعيد بن أبي داود مؤسس زاوية تاسلنت (آقبو) (¬2). ولكن زوايا زواوة، كغيرها من زوايا الوطن، قد تعرضت للمراقبة الشديدة والتدخل السافر في شؤونها الداخلية، وفي منهج تعليمها والحد من نشاطها الديني والاجتماعي، بالإضافة إلى الاستيلاء على أوقافها. وفي ذلك كله ضرر كبير وإلغاء ¬

_ (¬1) ليونار بارليت (مونوغراف بلدية ذراع الميزان المختلطة) في SGAAN (1913)، 443 - 444. وكان بارليت متصرفا مساعدا للبلدية المختلطة، فهو يكتب عن خبرة وتجربة. (¬2) من أوراق الشيخ علي أمقران السحنوني.

الأضرحة في إقليم الوسط

لدورها في التاريخ. ولكن ذلك تصادف مع حاجة الاحتلال إلى الزوايا وشيوخها ضد رجال السيف والخيام (العائلات الكبيرة). ومن ثمة وقع نوع من التقارب المؤقت بين شيوخ الزوايا والسلطات إلى نهاية الثمانينات تقريبا (¬1). وهناك ملاحظة أخرى نذكرها بخصوص الزوايا خارج المدن، وهي أنها بقيت (مستقلة) بمرابطيها وورثة صلحائها إلى ما بعد 1870. فبعد هذا التاريخ بدا للفرنسيين أن الزمن قد حان لتشجيع الزواي على حساب الأجواد أو رجال السيف والبارود أو الاعتماد على المرابطين بدل أهل السلطة. ولذلك أخذ الفرنسيون يتغاضون عن انتشار الزوايا والتكثير منها، كما لاحظنا في الطرق الصوفية، ولكن الموقف المالي منها بقي هو هو لم يتغير. فقد استولى الفرنسيون على أوقاف هذه الزوايا، وأبقوا مع ذلك على حق الزيارات بشرط الولاء لفرنسا وتقديم الخدمات لها عند الثورات. الأضرحة في إقليم الوسط وإذا رجعنا إلى الحديث عن القباب أو الأضرحة فإننا هنا أمام عدد هائل منها، سواء في مدينة الجزائر أو غيرها. فعبارة (قبة سيدي فلان) أو (ضريح الباشا فلان) كثيرة في الجزائر عموما، وفي العاصمة على الخصوص. كما أن المقابر أو الجبانات متعددة، سواء تلك التي كانت تتخذ طابعا عاما أو تلك الداخلة في أرض تابعة لولي من الأولياء. وليس من غرضنا هنا أن نأتي على قائمة طويلة من القباب، ولكن غرضنا يتمثل في شيئين: كون هذه البنايات ذات طابع ديني وعمراني - حضاري، وكون أوقافها اغتصبتها السلطة الفرنسية، وهي من أموال وأملاك ¬

_ (¬1) انظر فصل الطرق الصوفية. وكان في مليانة عدد من الزوايا، مثل زاوية سيدي أحمد بن يوسف، وزاوية القلعي وزاوية سيدي محمد، وزاوية ابن قاسم. ولا نعرف الآن مصيرها تحت الاحتلال. ولكن الزاوية الأولى ظلت تعمل رغم أنها فقدت أهميتها لارتباط أهلها بالعهد العثماني وفقدانها للأوقاف.

المسلمين. ولذلك فإنا سنكتفي بذكر ما علمنا أنه هدم أو حول عن غرضه الإسلامي. أما ذلك الذي بقي قائما ولو في حالة متدنية، فإننا لن نذكره هنا سواء في العاصمة أو في غيرها. كما أننا سنحاول عدم إعطاء كل التفاصيل حول كل بناية، إلا إذا رأينا ذلك ضروريا وفيه فائدة عامة. ويجب أن نلاحظ أيضا أن بعض الكتاب لم يذكر كل التفاصيل عن كل بناية، مع اختلاف أزمنة الكتابة. فهذا مثله أشيل روبير الذي نشر بحثه سنة 1918 لم يذكر من الثماني عشرة قبة التي جاء بها سوى عدد قليل قال عنه إنه هدم. بينما الذين سبقوه بفترة طويلة ذكروا أن بعضها قد هدم. ومن ذلك: 1 - قبة بنت جعفر الكتانية: وهي من القباب التي قال عنها ديفوكس إن معاول الحضارة قد هدمتها. وكانت ضمن مقبرة باب الواد التي أزالها الفرنسيون منذ أوائل الاحتلال والتي ضاعت معها معالم وكتابات تاريخية هامة. ولهذه القبة أوقاف تتمثل في حانوت الخ. 2 - قبة سيدي محمد النشا: نفس الملاحظات السالفة عن المكان ومناسبة إزالة القبة. فالقبة كانت خارج باب الواد، تحت زاوية الشيخ الثعالبي. وكان لهذه القبة أوقاف تتمثل في ضيعة وحانوتين، الخ. 3 - قبة الحاج باشا: حدث لها نفس المصير، وكان مكانها خارج باب الواد. ومن أوقافها ثلاثة حوانيت. وقد رجح ديفوكس أن (الحاج باشا) هو الذي حكم بالنيابة سنة 1543 بعد حسن آغا الذي حارب ضد حملة شارلكان (1541)، وكان الحاج باشا من الذين ذكرهم هايدو الإسباني، وقد توفي بالحمى عن 80 سنة، وكان حسب هايدو، حاكما محبوبا ومحترما. وفي كلاين أخبار أخرى عن هذه القبة. فقد استولى عليها الجنود سنة 1833، ثم سلموها إلى الدومين سنة 1848. وفي هذه السنة استولت عليها الكنيسة ووظفتها للحلقة (السمينار) الكبيرة. والغريب أن كلاين يذكر أن عرب المنطقة طلبوا المرابط (الرفات؟) سنة 1846 فأعطى لهم. ويبدو أن الأرض هناك كانت لعائلة عبد اللطيف الشهيرة.

4 - قبة حسن باشا: وتصفها الوقفية بأنها قريبة من ضريح الشيخ الزراد، وأنها خارج باب الواد. وقد خضعت قبة حسن باشا لما خضعت له القباب السابقة من الإزالة عن طريق العنف. ولم يستطع ديفوكس تحديد من هو هذا الباشا لأن أسماء الحسن والحسين كثيرة في الباشوات. 5 - قبة (ضريح) الشيخ الزراد: ليس هناك معلومات عنها عدا ما ذكر في رقم 4، وقد أزيلت القبة بنفس الطريقة السابقة، وهي العنف. 6 - قبة سيدي الياقوت: وكانت لها وقفية ترجع إلى سنة 1130 (1718). وتقع القبة أيضا خارج باب الواد. وحصل لها ما حصل لسابقاتها. 7 - قبة سيدي الكتاني: أثبتتها الأخبار الشفوية، والتقاليد، حسب تعبير ديفوكس، أي لم يجد بشأنها وثائق مكتوبة كالوقفيات. وهي قبة كانت على حافة البحر. وقد كد أوميرا أن مصيرها هو مصير القباب الست السابقة (¬1). ولعل نادي الكتاني اليوم يشير إلى هذه الخلفية التاريخية. 8 - قبة سيدي المسعود: قال ديفوكس إن الناس في وقته أهملوها ولم يعد يذكرها أحد إلا رجل واحد من الجزائريين أكد له أنها كانت للشيخ سيدي المسعود، وأنها الآن (حوالي 1870) لصهر ديفوكس واسمه (جيلي Geylers)، والذي كان يعمل في الأشغال العامة بالعاصمة (¬2). وقد أكد أوميرا ذلك، فقال إن القبة عطلت واشتراها فرنسي يدعى (جيلي) وهو مقاول، فحولها إلى دار سكناه (¬3). ¬

_ (¬1) المعلومات حول القباب السبعة مأخوذة من ديفوكس، 18 - 22، وكذلك أوميرا، 196 - 192. وعن رقم 3 معلومات في كلاين. (¬2) ديفوكس، 24. ومن ذلك نفهم أيضا لماذا كان ديفوكس يعرف من صهره مصير المعالم الأثرية والدينية التي كتب عنها. (¬3) أوميرا، 195. وأضاف أوميرا أن قبة سيدي المسعود كانت تقع على بعد حوالي 500 متر من المدية. وكانت من الحجم الكبير، وحولها جبانة كبيرة، وكان =

9 - قبة سيدي السعدي: وكانت تابعة للجامع الذي يحمل نفس الاسم، وقد تحدثنا عنه في المساجد. أما القبة فقال عنها ديفوكس إنها ما تزال قائمة في وقته. وكانت تضم ضريح الشيخ سيدي السعدي (المقدس جدا) عند الأهالي. وكان الضريح مغطى بتابوت مزين بالأعلام، وكان الشيخ حيا سنة 1119 (1707) (¬1). وكان حفيد هذا الشيخ هو الذي تولى للأمير عبد القادر على زواوة وحارب الفرنسيين بلا هوادة. 10 - قبة المرابط الطبيب: وقد هدمها الفرنسيون، وهي فيما يقال قبة بناها أحد الدايات لطبيب كان يعالجه. وبعد هدم القبة حملت الكتابة التي كانت عليها إلى المتحف، وحملت الرفات إلى حديقة مارنقو، حيث قبة صغيرة مفتوحة الجوانب الأربعة في المكان المسمى عندهم (بوسكي دي لارين). ويذكر ديفوكس أن إحدى العائلات في الجزائر تسمى ابن الطبيب (¬2). 11 - قبة سيدي سالم: استولت عليها السلطات العسكرية منذ الاحتلال، وبقيت كذلك إلى أوائل الستينات حين ضمت إلى أرض الليسيه. 12 - ملجأ بو طويل: استولت عليه أيضا- السلطات العسكرية منذ 1830 وبقي عند فرقة المدفعية فترة طويلة. وحين زار نابليون الجزائر سنة 1860 خصص المبنى وكذلك جامع المصلى القريب منه لتكريم فرسان الامبراطور، وسماه الفرنسيون بعد ذلك جناح المائة حارس، وكتبوا عليه ذلك بخط أسود بارز على بياض ناصع. ولكن هذا الملجأ كان ضحية أخرى من ضحايا الليسيه الفرنسي فقد هدم لصالحه (¬3). ¬

_ = المسلمون يترددون عليها كثيرا. وهذا دليل على ما قلناه من أن القباب كانت أكثر من قبور للأولياء. (¬1) ديفوكس، 25، عن سيدي السعدي انظر كتابنا الحركة الوطنية ج 1. (¬2) ديفوكس، 26. (¬3) نفس المصدر، 52، وكذلك أوميرا، 196. وقد أكد كلاين هذه المعلومات.

13 - قبة سيدي هلال: هذا الضريح أو القبة أهانها الفرنسيون إهانة جديدة، بوضع بيت العاهرات قربها. وبعد أن كان المكان مقدسا كما يقول ديفوكس وكان يعج بالزائرين للقبة، هجرها المسلمون كما هجروا الحي كله. وكان وضع العاهرات قربها قد جرى لمدة طويلة بين 1832 - 1853. وشهد هذا المؤلف مناظر مزعجة كانت تبعث على الغثيان، بل إنها مناظر دموية، كما قال، كانت تجري عند جدران قبة سيدي هلال. ولم يؤرخ للضريح ولكنه قال إنه يرجع إلى زمن قديم. ومع ذلك فقد ذكر أن له وكيلا خلال الستينات (بعد أن تحول عنه بيت العاهرات؟) يدعى عبدالرزاق بن بسيط الذي تتوارث عائلته هذا المنصب (¬1). 14 - قبة سيدي علي الفاسي: وهو من الأولياء المشاهير، وقد جاء ذكره في الأدب الشعبي منذ القرن 18 م، كما في الأنشودة التي نشرها فانتور دي بارادي (انظر سابقا). وادعى الفرنسيون أنه أثناء بناء إحدى الدور أصبحت القبة مهددة فحملت رفات الولي الفاسي إلى زاوية العباسي سنة 1841، بعد أن اختار له المفتي ذلك المكان (؟). وفي 1842 سلم مكان القبة إلى صاحب الدار الفرنسي ليتوسع في البناء على حساب الولي الصالح. وآخر وكيل لضريح الشيخ الفاسي، وهو أحمد بن الصفار، كان الداي حسن باشا قد عينه سنة 1791 (¬2). 15 - مطاهر (ميضات): كانت تقع في باب عزون، قرب جامع خضر باشا. وقد ألحقها الفرنسيون سنة 1836 بثكنة عسكرية تسمى (البارك)، وبعد ثلاث سنوات ألغيت المطاهر وحولت عن أصلها (¬3). 16 - قبة سيدي منصور: وتذهب بعض الوثائق إلى أن سيدي منصور قد توفي سنة 1054 (1644). وهذه القبة قد هدمها الفرنسيون سنة 1846. ¬

_ (¬1) ديفوكس، 72. (¬2) ديفوكس، 78. وحسن باشا هو الذي فتحت وهران للمرة الثانية في عهده. (¬3) نفس المصدر، 191.

وحتى يضحك الفرنسيون على مشاعر المسلمين نشرت جريدة الأخبار في عدد 30 ديسمبر 1845، خبرا قالت فيه إن السلطات قد اتخذت إجراءات لنقل رفات سيدي منصور وأفراد عائلته من القبة إلى زاوية الشيخ الثعالبي. وقال الإخبر إن الرفات قد حملتها كوكبة من جنود الزواف (¬1). ومشى خلفهم حوالي أربعين من المسلمين. والملاحظ أن الجريدة قالت إن الرفات ستظل في زاوية الشيخ الثعالبي (مؤقتا). وكان سيدي منصور يسكن في دكانه فمات فيه وقبر هناك، وله عند نقل رفاته حوالي ثلاثة قرون. وكانت له أوقاف عظيمة لشهرته بين الناس (¬2). 17 - قبة سيدي محمد بن خليفة: وكانت تقع غير بعيدة من قبة ومسجد سيدي السعدي، واختفت أيضا لفائدة الليسيه الفرنسي منذ الستينات (¬3). 18 - قبة سيدي أبي التقى (بتقة): وهي قبة للفقراء والمرضى والعجزة. ويرجح أن سيدي أبا التقى كان معاصرا لحملة شارلكان على الجزائر سنة 1541، وكانت تقع على يمين باب عزون على حافة البحر. وكان يديرها (بيت المال) باعتبارها من المؤسسات الخيرية العامة، ولها أوقاف عامة وأخرى من بيت المال. وكان لها بالإضافة إلى ذلك حمامات وجبانة وميضات عمومية. ومنذ أوئل الاحتلال احتلتها على التوالي فرقة الهندسة العسكرية ثم الأشغال العمومية. وبين 1842 و 1854 سلمتها السلطات الفرنسية على التوالي لتكون سوقا للزيت ثم سوقا للحبوب، وقد قاومت مع ذلك، ولم تسقط نهائيا، كما قالوا، إلا أثناء عمليات بناء ساحة نابليون وشارع قسنطينة (¬4). ¬

_ (¬1) أصل الكلمة (الزواوة)، وهي أقدم من تاريخ الاحتلال. واستعمال الجنود الزواوين في الخدمة العسكرية كان شائعا في الجزائر وتونس، قبل 1830. (¬2) نفس المصدر، 202. (¬3) أوميرا، 195. (¬4) ديفوكس، 206. وتذكر المصادر أن هذه المؤسسة الخيرية - الاجتماعية كانت أيضا مسكنا لحفار القبور الذين يصونون الجبانات. انظر أوميرا، 192.

19 - قبة سيدي بوحمى: وهي مسماة على رجل كان قد اشتهر بالمداواة من الحمى، وكانت تقع في مواجهة دار الصابون. وينطقه العامة سيدي بوحمه. ومصير هذه القبة هو الهدم ودخولها في الطريق العمومي (¬1). 20 - قبة لاله تسعديت: حدث لها ما حدث لما قبلها. 21 - قبة سيدي عبد الحق: كانت خارج باب عزون، ويتبعها جامع صغير وزاوية وجبانة. ودخلت أيضا في الطريق العام بعد هدمها. 22 - قبة سيدي عيسى (زاوية): وهي ترجع على الأقل إلى القرن الحادي عشر الهجري. احتلها الجيش الفرنسي. وما تزال إلى سنة (1870) تحت يده. 23 - قبة سيدي علي الزواوي: ومعها جامع صغير وجبانة. وكانت أيضا خارج باب عزون، وتديرها عائلة بوخدمي. وفيها مياه جارية يعتقد الناس أنها تبرئ من الحمى، وتخصب العقيمات، وتحافظ على أمانة الزوجين. وقد استفاد الوكلاء من ذلك لكثرة من يتردد على الماء فيها، لكن السلطات الفرنسية بادرت إلى هدمها دون أن نعرف متى ذلك، وكانت القبة تقع بين شارعي روفيقو وايزلي (¬2). 24 - قبة سيدي عبد القادر: كانت تعرف بنخلة شهيرة، قالت المصادر الفرنسية إن الريح أسقطتها (النخلة) سنة 1865. أما القبة نفسها فقد هدمها الفرنسيون سنة 1866 لفتح طريق عمومي، وهو طريق قسنطينة. وكانت النساء المسلمات متعلقات بهذه القبة كثيرا ويعتقدن في الماء الجاري هناك عقائد خرافية كالبرء من بعض الأمراض، وطلب الحمل، وطرد الأرواح الشريرة. وكانت في هذه القبة بئر يعقد العامة أن سيدي عبد القادر الجيلاني حفرها عندما زار الجزائر (!) ورغم أنه غير مدفون ¬

_ (¬1) ديفوكس، 206. (¬2) ديفوكس، 208. حاليا بين شارعي ذبيح الشريف والعربي بن مهدي.

في هذه القبة، إذ هو دفين بغداد، فإن في القبة ضريحا مغطى بتابوت كانت عليه الرايات والأعلام من كل صنف ولون. وقول ديفوكس إن العامة كانوا يأتون إلى قرب هذ التابوت ويجلسون على ركبهم ويدعون الله ويستغيثون بالشيخ. ولا تذكر الوثائق تاريخ بناء هذه القبة لكن تاريخ تجديدها يرجع فقط إلى سنة 1223 (1808) على يد الداي أحمد باشا (¬1). وقد قال أوميرا إنه كان على فرنسا أن تبقى على القبة لأن معظم البلاد الإسلامية فيها قباب لهذا الولي. 25 - قبة سيدي صاحب الطريق: وهي لشخص مجهول ذكرته الوقفية التي ترجع إلى سنة 1101 (1689) على أنه سيدي صاحب الطريق، ولعله كان أحد الدراويش أو المتصوفة الجوالة الذين يبيتون في الطرقات، ويتركهم الناس على هواهم. ومهما كان الأمر فإن الفرنسيين قد أزالوا هذه القبة منذ أول احتلالهم. وقد كانت القبة تقع تحت القوس حيث الدار التي كان يشغلها المتصرف العسكري. وفي مكان آخر ذكر ديفوكس أن هناك قبة أخرى تحمل نفس الاسم (سيدي صاحب الطريق)، وهي في نظره اسم لولي آخر. وهناك ثالثة بنفس الاسم هدمها الفرنسيون (¬2). 26 - قبة سيدي بوشاكر (بوشاقور): وقد أزيلت زاويتها منذ 1844. ولكن الضريح والتابوت والأعلام الخاصة بالولي قد (اختفت) قبل ذلك بكثير (¬3). ولم يذكر ديفوكس إلى أين حملت هذه الآثار ولا متى وقع ذلك. 27 - مطاهر: كانت تقع عند ساحة القصبة. وألغاها الفرنسيون وأدخلوها في الطريق العمومي منذ 1830. ويجب أن ننبه هنا إلى أن ¬

_ (¬1) نفس المصدر، 208. أيضا أوميرا. وقد كانت للشيخ عبد القادر الجيلاني قباب في مختلف مدن الجزائر. وجاء ذكره في أنشودة بالقرن 18. انظر سابقار. (¬2) ديفوكس، 211، 233، 250. (¬3) نفس المصدر، 215.

الميضات والمطاهر والعيون عموما، كانت لها أوقاف خاصة، يجريها المسلمون. 28 - قبة سيدي رمان: وقد عطلت وأصبح مكانها هو حديقة القيادة العسكرية لساحة القصبة (¬1). 29 - قبة سيدي يعقوب: قرب المكان المعروف بسبع عيون جهة باب الواد. وكان الزنوج يحتفلون في هذه القبة ولهم عقائد في صاحبها. 30 - قبة سيدي بلال: جهة الحامة. كانت أيضا مقرا لاحتفالات الزنوج يوم أول أربعاء من نيسان (أبريل). ولكن القبة كانت نصف مدفونة بالرمال سنة 863 1 (¬2). 31 - قبة سيدي فرج: هذا الولي الذي شهدت قبته بداية الغزو الفرنسي للجزائر وعند أعتابها نزلت طلائع الحملة في 14 جوان 1830، كان مصيرها أيضا الهدم والاختفاء سنة 1847. فقد قرر الفرنسيون إقامة برج أو قلعة في المنطقة فعزموا على إزالة القبة من الوجود. وقد أفتاهم، كما قالوا، الشيخ مصطفى القديري، مفتي المالكية في التاريخ. ولذر الرماد في عيون العامة أحضر الفرنسيون كل مستلزمات الحفلة الدينية ومراسيم الاحترام. فحضر مدير الداخلية الفرنسي، ووقع التعرف على بقايا رفات الولي سيدي فرج (وشخص آخر يدعى سيدي روش) (¬3) من قبل الإمام الثاني للجامع الكبير، وكذلك مسؤول بيت المال. وحضر أيضا (العرب) - أي العامة عند الفرنسيين - ووضعت رفات الوليين في صندوقين من الخشب وحملا على ¬

_ (¬1) نفس المصدر، 237. (¬2) السيدة روجرز (شتاء في الجزائر)، لندن 1865، ص 73. (¬3) تذهب الأسطورة إلى أن أحد القراصنة الإسبان اعتاد النزول على شاطئ الجزائر للتزود بالماء، وذات مرة عزم على خطف الولي سيدي فرج فحمله إلى سفينته وأراد التوجه به إلى إسبانيا فلم تتحرك السفينة رغم محاولاته. فعلم أن هناك كرامة، فأطلق الشيخ وآمن بصلاحه وأسلم على يديه وعاشا معا وماتا ودفنا معا. والاسم الشعبي لهذا الإسباني المسلم هو (روش).

بغل. وسار البغل، وسار الجمهور من حوله، إلى مقبرة سيدي محمد الحقار باسطاولي. ثم اختار المدعو محمد القسنطيني (الإمام؟) المكان الذي دفن فيه رفات كل ولي على حدة بعد حفلة دينية عادية (¬1). 32 - قبة سيدي محمد بن عبد الرحمن: بقيت في أيدي المسلمين، وكانت بعيدة عن مركز الاستقرار الأوروبي في أول العهد، وهي اليوم بالحامة وتتبعها جبانة إسلامية كبيرة. وقد لاحظ جميع الكتاب أنها كانت مزارة للمسلمين في مختلف المواسم والمناسبات (¬2). ونذكر هنا أن سيدي محمد عالم متصوف، ومؤسس الطريقة الرحمانية في الجزائر فلا غرابة أن يزورها المريدون وغيرهم لأنها في نظرهم قبة شيخ الطريقة والبركة. أما معظم القباب الأخرى فيزورها الناس للبركة فقط لأن أصحابها لم يؤسسوا طرقا صوفية، عدا بعضهم مثل الشيخ عبد القادر الجيلاني. 33 - قبة سيدي الجامي (أو الجامع): انظر عن هذه القبة في المساجد. وقد حولت عن غرضها بعد أن احتلها الدرك الفرنسي، ومعها جبانة. ثم أعطيت إلى جمعية (الترابست) المسيحية وسميت باسطاولي الصغيرة. وهناك مجموعة من القباب ذكرها ديفوكس وسكت عن مصيرها، ولا سيما تلك الواقعة في الفحص القديم للعاصمة، مثل بوزريعة، والأبيار، وحيدرة، وبئر الخادم، وبئر مراد رايس، والقبة، والقادوس، وتقصرين، والزحاولة، والمرادية. 34 - غير أنه (أي ديفوكس) ذكر اختفاء قبة الشيخ المغزى، قرب الأبيار، ¬

_ (¬1) ديفوكس، 253. وعن الشيخ مصطفى القديري انظر (أبحاث وآراء) ج 3. (¬2) أوميرا، 196. كان عبد الحميد بن باديس من الذين ذكروا أنهم زاروا ضريح الشيخ محمد بن عبد الرحمن، حوالي سنة 1919. انظر دراستنا (مراسلة غريبة بين ابن باديس وأحد علماء سوف)، في (تجارب في الأدب والرحلة). الجزائر، 1982.

دون بيان السبب، وأخبر أن سيدي المغزى هذا قديم يرجع في نظره إلى حملة شارلكان على الجزائر سنة 1541. 35 - قبة سيدي إبراهيم، ولي البحارة، وهي تقع في مرسى الجزائر (¬1). ... ونريد أن نلاحظ أن معظم القباب كانت تتبعها جبانات لدفن أموات المسلمين. وقد حافظ عدد من التسميات القديمة على نفسه إلى اليوم. وننبه الجيل الحاضر إلى أن قبة سيدي مرزوق في ابن عكنون مثلا هي التي أعطت اسمه إلى الحي المعروف باسمه اليوم (حي مرزوق، ومثله سيدي يحيى الطيار بحيدرة، وسيدي مبارك بوادي الرمان. كما ننبه إلى أن اسم ضاحية القبة جاء من (قبة الحاج باشا) الذي حكم الجزائر سنة 1545، فاختفى اسم المنشئ وبقيت القبة، أو كما يقول النحاة حذف المضاف إليه وبقي المضاف (¬2). وقبل أن ننتقل إلى الحديث عن خارج العاصمة، نسوق المعلومات التالية عن جباناتها وما آلت إليه. لقد لاحظنا أن الجبانات كانت كثيرة وكانت تابعة في معظم الأحيان إلى القباب والزوايا. وبتعطيل وهدم هذه البنايات هدمت الجبانات أيضا وتعطلت معها. وقد لاحظنا أيضا، أن بعض الجبانات قد منع الفرنسيون الدفن فيها منذ الاحتلال. وكثر الجدال والنقاش حول موقف المسلمين من التعرض لمقدساتهم ومن نقض الفرنسيين اتفاق 1830 الذي تعهدوا بمقتضاه باحترام هذه المقدسات. كما دار النقاش بين الفرنسيين حول أهمية البنايات من الوجهة الأثرية - الحضارية، وكان بعضهم قد نظر إلى القضية نظرة أخرى جانبية، فيما يبدو، وهي مدى تعصب أو تسامح ¬

_ (¬1) انظر مجلة الجي - ريفو Alger Revue، أكتوبر 1955. وذكر السيد أوميرا قبة أخرى هي: سيدي مبارك البحري، بين طريق قسنطينة وشارع الحرية. (¬2) عن قبة الحاج باشا انظر فقرة القباب رقم 3.

المسلمين إزاء ما قام به الفرنسيون نحو مؤسساتهم. يقول السيد أوميرا لقد أدى إلغاء كل الجبانات إلى ظلم حقيقي لعدد من الوكلاء الذين كانوا يصونونها. فقد اختفت المداخيل والعلاقات مع اختفاء وهدم القباب والأضرحة، وهو هنا يرى أن كل القباب هي في الواقع جبانات لأن قبة الولي ليست وحدها في المكان. وهذا أمر حقيقي. ولكن ذكر الوكلاء وحدهم هنا فيه إجحاف بحقوق الآخرين الذين تضرروا من اختفاء وهدم الأضرحة والقباب والجبانات العامة. فقد كانت مداخيل هذه البنايات تستعمل لأغراض اجتماعية ودينية وتعليمية. ولذلك لا بد من تصحيح هذا الرأي. في جولة دراسية قام بها الإسكندر جولي إلى منطقة التيطرى حوالي سنة 1904 بطلب من الإدارة الفرنسية، وجد أنها تضم عددا من القباب ولكنه لم يذكر ما إذا كانت قد تعرضت للهدم أو التعطيل. وقد أورد من ذلك قبة سيدي علي بن فارس بين وادي عروة ووادي الحاكم، وقبة سيدي ناجي قرب البرواقية، وقبة سيدي محمد ولد البخاري (وهو ابن مؤسس قصر البخاري). وقال جولي إن سمعة الشيخ سيدي البخاري كانت عظيمة بين أهل الناحية ويعتبرونه ناشر الدين الإسلامي هناك. ومع ذلك فإن قبته، رغم ارتفاعها وكبرها على غير العادة، تبدو حزينة ومتقشفة في بلاد نائية ذات طابع صحراوي. ومما قاله في هذا الشأن إن هناك علاقة بين الإنسان والبناء أو العمران. أما مدينة المدية فلم يصف. جولي قبابها، ونحن نعرف أن الأيدي قد تبدلت على هذه المدينة عدة مرات بين الفرنسيين والأمير من جهة وبين الأمير وبعض الطموحين الآخرين أمثال ابن المعطي، وموسى الدرقاوي من جهة أخرى. فهل تضررت القباب والبنايات الدينية من ذلك؟ إنا لا نشك في شيء واحد وهو أن حرمان البنايات الدينية (القباب) من أملاكها قد تسبب في تقشف وإهمال الخدمات الواجبة لها. وليس لدينا دراسة عن وضع قباب مليانة وشرشال والبليدة والقليعة

تعاليق حول الآثار الإسلامية

والشلف (الأصنام). أما القباب التي كانت في أوطان متيجة فلم يبق منها إلا القليل، ويبدو أن إقامة المستوطنات الفرنسية على أرض متيجة وتمديد الطرقات وتحديد حدود المزارع ونحو ذلك قد أدى إلى إزالة بعضها على الأقل، والباقي نسيه الناس فأهمل. تعاليق حول الآثار الإسلامية أما من الوجهة العمرانية، فقد نقل أوميرا رأي للصحفي (موتانيو) الذي كان يعيش زمن هدم المعالم والبنايات الدينية، فقال: إن الفرنسيين في الجزائر قد حولوا جهة باب الواد - وهي التي كانت تضم القسم الأكبر من البنايات الدينية - إلى ساحة مناورات عسكرية وإلى منتزهات، على حساب معالم وآثار ذات قيمة لقربها من المدينة، وهي آثار تعود إلى قرنين أو ثلاثة قرون، وربما أقدم من ذلك. وقد علق أوميرا على ذلك بأن الفرنسيين كانوا يخشون جرح عواطف المسلمين الدينية، وكذلك النواب في البرلمان الذين بكوا - كما قال - على الآثار وعلى الموتى، وعلى القبور (¬1) ... وقد ذكرنا أن إقامة الليسي الفرنسي في منتصف الستينات من القرن الماضي قد أدى أيضا إلى إزالة ما بقي من مساجد وقباب وجبانات في جهة باب الواد. ومن جهة أخرى أشار السيد ديفوكس إلى أن بعض الأشخاص قد لاموا الإدارة الفرنسية على هدم المساجد والتصرف فيها إذا كانت تهدد بالانهيار أو تشكل عراقيل في تنفيذ بناءات جديدة لتنظيف وتجميل المدينة. وقد رد هو على هؤلاء بأن المسلمين أنفسهم يتصرفون كذلك إذا حصلوا على الإنصاف في حقوقهم. وضرب مثلا بصاحب زاوف سيدي العباسي، الذي باعها لأحد ¬

_ (¬1) أوميرا، 194. كان أوميرا من الصحفيين والمفكرين الليبراليين. وقد شارك في الكتابة عن معاداة السامية التي هزت الأوروبيين في الجزائر آخر القرن الماضي. وقد أشرنا إلى حياته باختصار في عدة مناسبات.

الفرنسيين بعد أن اعترفت له السلطات بحقوقه الوراثية فيها. واعتبر ديوكس هذا المسلم مثالا للمسلمين الذين ضحوا بالتقاليد وبالدين من أجل المصالح الذاتية، وقال إن لديه عدة أمثلة على ذلك. وقد رد على المنتقدين بقوله إن على الفرنسي أن لا يكون مسلما أكثر من المسلمين (¬1). ويبدو لنا أن ديفوكس قد ناقض نفسه في هذا المجال، لأنه كان في عدد من المرات ينتقد هدم الآثار الإسلامية من قبل سلطات بلاده أو من قبل المقاولين والملاك. ولعله كان برأيه الأخير يحاول أن يبرئ نفسه لأنه هو الذي تولى حصر المعالم والبنايات والتعرف على وثقائها ومتابعة سجلات الوكلاء وغير ذلك. كما أن أحد أصهاره كان مقاولا وعلى يديه جرت تهديمات عديدة للمعالم. وعند حديثه ذات مرة عن حي قطع الرجل وما جرى فيه من هدم للآثار الإسلامية، تأسف ديفوكس قائلا إنه لا أحد قام بإجراء تنقيب عن هذه الآثار المهدمة في الحي. ولاحظ أن البنايات الفرنسية الجديدة قد دفنت تحتها كاتابات وآثار كثيرة ترجع إلى العهد البربري (الإسلامي)، ولن تخرج من تحتها أبدا. وأضاف صراحة بأن تلك الكتابات (قد كسرت بدون رحمة بيد الهادم الجاهل) (¬2). لكن آخرين لا يتفقون مع هذا الرأي ويرون أن الفرنسيين ارتكبوا خطأ فادحا. في هدم البنايات والمعالم الإسلامية. ولا داعي لتكرار رأي كل من ديتسون، وبلاكسلي، وبولسكي وغيرهم، وقد ذكرنا ذلك من قبل. بقي أن نعلق على حركة الاحتجاج من جانب المسلمين على هذه الأعمال: إن أوميرا وديفوكس يذكران أن المسلمين كانوا قدريين ومتسامحين ولم يبدوا أية حركة معارضة نحو هدم مقدساتهم، بل أثبتا أن بعضهم قد عطلها بنفسه وباعها للفرنسيين، وقد مر بنا أيضا أن بعض (المفتين) ورجال السلك الديني الرسمي كانوا يوافقون الفرنسيين على ¬

_ (¬1) ديفوكس، 247. الأمثلة تخص مالكي زاوية سيدي العباسي وزاوية سيدي أيوب. (¬2) نفس المصدر، 229.

تحويل بعض المساجد إلى كنائس، ونقل رفات الأولياء وهدم أضرحتهم. وهذا مخالف للأحداث التي رواها هذان المؤلفان من جهة ومخالف للوثائق التي ربما لم يطلعا عليها من جهة أخرى. إن الاحتجاج السري أخطر من الاحتجاج العلني أحيانا، ومع ذلك فلم يكن الجزائريون دائما صامتين في احتجاجهم. فقد ضم كتاب (المرآة) لحمدان خوجة كتابات احتجاجية علنية وكانت قد نشرت في وقتها، ويبدو أن كلا من ديفوكس المعاصر له وأوميرا المتأخر عنه لم يطلعا على كتاب المرآة، ولا على احتجاج المفتي ابن العنابي، ولا احتجاج المفتي ابن الكبابطي وابن الشاهد وغيرهم من رجال الدين والعلم. ولعل هؤلاء الفرنسيين يقصدون بالاحتجاج حركة عامة في شكل مظاهرة. إن غياب القادة الدينيين والسياسيين بالنفي المنظم والسجن والهجرة الاختيارية قد جعل عامة الناس بدون قيادة. ومع ذلك فقد كانت هناك حركة احتجاجية تلقائية مرتين على الأقل في العاصمة. الأولى عند إهانة المحكمة الإسلامية بدخول أحد الضباط الفرنسيين إليها عند مناقشتها لقضية تنصير امرأة مسلمة (عائشة بنت محمد) وخطفها وهي في عصمة زوجها المسلم (سنة 1834). والحركة الثانية عند تحويل جامع كتشاوة إلى كنيسة. وهناك أحداث أخرى فردية عديدة لا داعي لذكرها جميعا. ويكفي أن نشير إلى أن ديفوكس نفسه أورد حادثة ذات معنى في هذا الشأن، جرت سنة 1846. فقد قال إن أحد (المتعصبين) واسمه الحاج جلول، ضرب بالمطرقة قطعة من الرخام عليها كتابات بالعربية تابعة للجامع (الجديد)، وكانت القطعة قد ظلت مرمية في الطريق بعض الوقت. وكان غرض الحاج جلول هو ألا يهين النصارى اسم الجلالة الموجود في الكتابة. ومن أجل ذلك اعتبره ديفوكس متعصبا (¬1). ولكن ديفوكس نفسه وصف الرجل المسلم الذي باع ¬

_ (¬1) ديفوكس، 147. عن رأي حمدان خوجة في رد الفعل انظر محمد بن عبد الكريم (حمدان بن عثمان خوجة الجزائري)، دار الثقافة، بيروت، 1972، ص 222 - 225.

حقه في زاوية سيدي العباسي بالمتسامح (¬1). والغريب أن ديفوكس هو نفسه الذي ذكر حركة الهيجان لدى المسلمين عند إزالة مقبرة باب الواد. فقد قال إن الطريقة التي تمت بها عملية الإزالة قد أثارت هيجانا عميقا لدى الأهالي وأعطتهم فكرة وهي أن الفرنسيين لا يحترمون رمم الموتى ولا يقدسونها. وقد وصف الكتاب اللاحقون حالة الفرنسيين المعاصرين للاحتلال فقالوا إنهم كانوا غير متدينين حتى بنصرانيتهم ولا يحترمون المسيح - عليه السلام. فكانوا إما جهلة من حثالات المجتمع وإما لائكيون وماسونيون من رواسب الثورة الفرنسية ونقمتها على رجال الدين والكنيسة. وقد انعكس ذلك حتى على موقفهم من الأوقاف الإسلامية ورجال الدين المسلمين. إذ نظروا إلى رجال الدين الإسلامي نظرة رجال الدين في فرنسا وطبقوا على الأوقاف الإسلامية ما طبقوه على أملاك الكنيسة في فرنسا نفسها. وسنذكر ذلك في الحديث عن الأوقاف. إن إزالة الجبانة العمومية الواقعة في ناحية باب الواد منذ أول وهلة للاحتلال وبطريقة وحشية جعل المسلمين يأخذون عبرة خالدة من علاقتهم بالفرنسيين. وقد استنكر ذلك حتى من كانوا يدافعون عن هدم الآثار والمعالم الإسلامية للضرورة العامة من الفرنسيين. يقول ديفوكس واصفا إزالة المقبرة المذكورة بالجرافات وما لا ذلك من بعثرة عظام الموتى، ما يلي: إن أول المتأثرين بالاحتلال مباشرة هم الموتى المسلمون. لقد كان عليهم أن يتركوا المكان لشعب (متحضر) ونشيط جاء ليعمل ويحتل المدينة. ذلك أن وجودهم (الموتى) بها لا يتناسب مع وجود أحياء من جنس ودين آخر. فكان عليهم أن يتركوا المكان للساحات والحدائق والطرق العمومية ونحو ذلك (¬2). ¬

_ (¬1) ذكر أوميرا عدة مرات موقف المسلمين المتسامح، انظر صفحات، 181، 200 من بحثه. (¬2) تقول بعض المصادر إنه عند أداء اليمين لأول بلدية في مدينة الجزائر سنة 1834 حلف المسلمون بالقرآن ولكن الفرنسيين حلفوا بالإخلاص للملك وطاعة القانون. وقيل إن العرب يحترمون كل الأديان لأنهم يحترمون دينهم. وقد استغرب المسلمون =

لكن ديفوكس اعترف أن العملية لم تتم بناء على الاحترام الواجب للأموات (وكأن الأحياء لا يستحقون ذلك أيضا). فقد اتخذت العملية شكل الاعتداء والإهانة. إن عظام الموتى بقيت (لمدة سنوات) مكدسة ومبعثرة هنا وهناك، ويمكن للمرء أن يراها خلال تلك الفترة كلها. وكانت هذه العظام مسحوبة ومجروفة بعنف من أضرحتها. وكانت ترمى في الهواء بغلظة. وكان يمكن تفادي ذلك مع بعض الاحتياط. ولم يقل ديفوكس إن ذلك كان لا يتناسب مع دعوى التحضر والتمدن التي يتشدق بها الفرنسيون، وإنما قال إن ذلك قد أثار هيجانا عميقا لدى الأهالي وجعلهم يعتقدون أن الفرنسيين لا يحترمون رفات الموتى. وهل كان الأهالي مخطئين في حكمهم؟ هذا عن الأحياء الفرنسيين مع الأحياء والأموات الأهالي. أما عن التاريخ والآثار فمسألة أخرى. قال ديفوكس: إن التاريخ عليه أن يتأسف على إزالة مقبرة أخرى كانت مخصصة لدفن الباشوات. فقد محيت هذه المقبرة تماما من الوجود، وهي مقبرة قديمة جدا أشار إليها هايدو الإسباني سنة 1581. وقد ضاع مع ذلك جانب هام من التاريخ والآثار. لقد تعهد الفرنسيون بإزالة الجبانات بعناية تحافظ على كرامة الأموات وقيمة التاريخ، ولكن ذلك التعهد لم يحترم. فقد استعملوا المعاول والجرافات لا لنشر ما في القبور ولكن لكسر المشاهد والشواهد والكتابات وتحصيل الأحجار للبناء وبيع عظام الموتى في أسواق مرسيليا. وقد شهد ديفوكس الذي كان ما يزال صغير السن عندئذ، بأن معالم تاريخية هامة قد ضاعت مع ضياع الأضرحة والقباب، مثل التواريخ المحفورة على الرخام أو على اللوحات (الشواهد). لقد وقع تخريب هذه الصفحات، كما قال، تخريبا مطلقا. وضاعت معها الوثائق الخطية التي تؤدي إلى معرفة تواريخ حكم الباشوات وأزمنة الموظفين السامين في الجزائر. إن جميع ذلك إما هدم ¬

_ = عدم التدين الذي كان عليه الفرنسيون. انظر بيلي (عندما أصبحت الجزائر فرنسية)، 282.

وإما بقي غنيمة للصوص والمضاربين. وقد استعملت أحجار الشواهد كمواد للبناء. ولم ينج من هذه المجزرة الرهيبة للموتى والآثار التاريخية إلا القليل من الشواهد التي وجدت طريقها إلى المتحف. ومن ثمة فإن القباب التي ذكرناها والتي بقيت بعض الوقت قائمة هي التي لم تكن ضمن المقابر التي تعرضت للهدم الجماعي والتي وصفها ديفوكس (¬1). والغريب في الأمر أيضا أن الوقفية الهامة التي سجلت جميع هذه المعالم قبل هدمها وبعده قد فقدت سنة 1843. فقد كانت وقفية مفصلة لها باب خاص كل معلم ديني: مساجد، قباب، زوايا، مدارس، أضرحة، جبانات. وهي وقفية أصلية. هذه الوقفية فقدت أثناء وضع الإدارة الفرنسية يدها على أوقاف الجامع الكبير (1843). ثم عثر على نسخة غير كاملة منها وغير مؤرخة. وكانت هذه النسخة الناقصة قد وضعت عند القاضي المالكي، وهي ترجع، حسب ديفوكس، إلى أوائل القرن الثاني عشر للهجرة (حوالي (1101 - 1125) (¬2). وقد علمنا أن الجامع الكبير والجامع الجديد بالعاصمة قد خضعا للهدم الجزئي والتشويه العمراني، ثم خطط الفرنسيون لإزالتهما تماما مرتين، مرة في عهد تيرمان في الثمانينات وأخرى في عهد جونار سنة 1905. ولولا الخوف من رد فعل السكان والهيجان الذي رافق التحضير لإصدار قرار الإزالة لما تراجع الفرنسيون عن خطتهم. فكيف نقول إن الجزائريين كانوا متسامحين في أمور دينهم ومعالم حضارتهم؟ حقيقة أن السلطات الفرنسية أخذت تراعي مشاعر المسلمين وتداهنهم عندما تمس الآثار الإسلامية. ونحن نجد عدة أمثلة على ذلك. فكانت تستصدر أولا (فتوى) من رجال ¬

_ (¬1) ديفوكس، 18 - 19. وقد شارك في هذا (الأسف) زميله أوميرا حين قال إن عظام هؤلاء المسلمين (الباشوات والأولياء) قد رميت للريح، وبيعت حجارتها الشاهدية في المزاد العلني. وهي شيء (مؤسف) حسب تعبيره، لأنها كانت تحتوي على كتابات هامة وأثارا. أوميرا، 195. (¬2) ديفوكس، 16.

الدين، وتحضر الرأي العام للعملية التي ستقبل عليها. حدث ذلك عند نقل رفات سيدي فرج إلى جهة سطاويلي ونقل رفات سيدي منصور من قبته إلى مقبرة الشيخ الثعالي. ويروي جورج مارسيه أن الكولون كانوا يحسون بالغيرة من المدن والآثار الإسلامية. فقد كانوا يعملون على تخليص أو تطهير المدينة التي هم فيها من أي شيء يجلب الزوار إليها مثل المعالم الإسلامية. وكان مارسيه يتحدث عن موقف الكولون من مدينة تلمسان. إن الكولون فيها كانوا لا يريدون لعاصمة بني زيان أن تنافس أي دائرة من دوائر فرنسا. وقد وعدهم مارسيه نفسه بأن تلمسان الأثرية ستنقرض بالتدرج، كما انقرضت في نظره مدينة الجزائر القديمة، وستسقط (تلمسان) تحت ضربات معاول المنتصرين (الفرنسيين)، ولكنها ستظل مدة طويلة محجة لزوار الفن المعماري (¬1). واعترف بعض علماء الفرنسيين بأن الجزائريين قد حافظوا على الآثار. ومنذ 1846 كتب أحد المستشرقين، وهو أشيل فوكيه، بعد أن تجول في نواحي قسنطينة وبسكرة، قائلا: إن العرب (يقصد الجزائريين) قلما يهدمون الآثار. فالصخور المتراكمة فوق بعضها لا يمسونها. واعترف فوكيه أن الفرنسيين قد هدموا خلال الخمس عشر سنة من الاحتلال ما لم يهدمه العرب خلال عشرة قرون، وهو هنا يكلم عن الآثار الرومانية (¬2). وإذا كان العرب لا يهدمون الآثار الرومانية فالأولى عدم هدم الآثار الإسلامية. ونفس الملاحظات تقريبا. نجدها عند بيقوني سنة 1903. فقد تأسف لما حدث لزاوية يحيى بن محجوبة في مدينة قسنطينة. وكان ابن محجوبة من علماء عصره (القرن 11 هـ). وكانت الزاوية تحفة فنية وعلى بابها نقيشة ¬

_ (¬1) جورج مارسيه وويليام مارسيه (المعالم العربية لتلمسان)، 1903، ص 111. (¬2) أشيل فركيه (جولة من قسنطينة إلى بسكرة) في (مجلة الشرق) R. du L'Orient، باريس 1846، ص 144 - 145. وكان فوكيه قد قرأ جولته (بحثه) أمام الجمعية الشرقية في باريس يوم 2 يونيو، 1846.

تمجدها وتؤرخ بناءها، ولكن الفرنسيين لم يصبروا عليها فهدموها سنة 1865 ودخلت في المباني الفرنسية المحاذية لما كان يسمى بالطريق الوطني (ابن مهيدي حاليا). وكان إلى جانب الزاوية جبانة صغيرة أيضا. وقد عاتب بيقوني الهادمين على اللامبالاة نحو المعالم العربية وعدم عنايتهم بكل ما يمكن أن يخدم المعرفة التاريخية في الجزائر. كما أنهم لم يراعوا في نظره. المشاعر الفنية التي تحتويها الكتابات والخطوط والنقائش والزخارف لمختلف العصور. وقال إنه جاء قسنطينة سنة 1878 يبحث فيما أصبحت عليه بعد أربعين سنة من الاحتلال، فلم يتمكن من الوصول إلى أي شيء، لأن الأهالي والأوروبيين جميعا كانوا غير مهتمين. وبعد تفكير وجد بيقوني المقاول الذي هدم عماله مجموعة من المعالم فرخص له بالبحث في أكوام المباني المهدمة. ثم قص كيف وجد النقيشة التي تؤرخ لبناء زاوية ابن محجوبة، في حالة يرثى لها. وفيها آية قرآنية هي {في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال} (¬1). والواقع أن بعض العناية بالآثار الإسلامية بدأت في عهد كامبون ثم انطلقت في عهد جونار. ولكن جهود المنقبين والباحثين عندئذ وجدت الخطيئة قد ارتكبت والمعالم قد هدمت، ولم يبق إلا محاولة إنقاذ ما يمكن إنقاذه. واعترف أحد الباحثين بأن الفرنسيين قد اعتنوا منذ البداية بالآثار الرومانية والبيزنطية وأهملوا الآثار الإسلامية. فالمجلات التي ظهرت منذ منتصف القرن الماضي قد فاضت بالكتابات عن العصور السابقة للإسلام في الجزائر. ومن ثمة كان ظهور كتاب عن قلعة بني حماد في آخر القرن الماضي مثار تنويه عند بعضهم، مضيفا أن الفرنسيين قد انشغلوا بكل ما هو روماني حتى استنفدوا هذا الميدان، وأهملوا الآثار البربرية والعربية والتركية، وهي ¬

_ (¬1) بيقوني E. Bigonet (كتابة عربية من قسنطينة) في المجلة الإفريقية، 1903، ص 305 - 311.

الزوايا والأضرحة في إقليمي قسنطينة ووهران

الآثار الإسلامية. واغتنم المعلق على كتاب بلانشيه عن قلعة يي حماد، الفرصة فنوه بجهود الذين كتبوا عن الآثار الإسلامية مثل فايسات وشيربونو وفيرو، ولكنه اعتبر جهود هؤلاء معزولة وغير منسقة. وقال إن الأمر يحتاج إلى ثقافة خاصة لدراسة الآثار الإسلامية. ولاحظ أن العرب قد انشغلوا بالورق والمخطوطات أكثر من انشغالهم بالأحجار والآثار. ولذلك دعا زملاءه الفرنسيين إلى توجيه اهتمامهم إلى هذا الميدان (¬1). وقد أخبرنا جورج مارسيه سنة 1903 أن حكومة جونار أصبحت مهتمة بالآثار والفنون، وقام هو وأحد أقاربه بدراسة آثار تلمسان العربية، كما عرفنا. وفي سنة 1905 أصدر جونار قرارا يعتبر المعالم التالية في مدينة الجزائر آثارا تاريخية رسميا: ضريح حسن باشا بن علي في الشارع الذي يحمل هذا الاسم، وضريح الأميرة بحديقة مارنقو، وجامع سفير، وجامع سيدي محمد الشريف، كلاهما بشارع كليبر عندئذ، ثم عيون، مثل العين الواقعة بالأميرالية (¬2). وقد شمل القرار أيضا عدة معالم في بعض المدن الأخرى. الزوايا والأضرحة في إقليمي قسنطينة ووهران أ. بالنسبة للإقليم الأول هناك أعمال جرت سيما في بعض المدن مثل قسنطينة وبجاية، أدت إلى اختفاء عدد من الزوايا أو تحويلها عن غرضها. ولكننا هنا أمام مشكل من نوع آخر، ويتمثل في أن الدراسات المتوفرة لا ¬

_ (¬1) إفريقية الفرنسية:. A.F سبتمبر 1897، ص 307. لم يوقع الكاتب: اسمه سوى بحرفي. O.H (ولعله اختصار لاسم أوكتاف هوداس وهو من المستشرقين - انظر فصل الاستشراق) وكتاب قلعة بني حماد ألفه M. P. Blanchet ونلاحظ أصداء ذلك في مجلة (المقتطف) المصرية سنة 1900. فقد جاء في الجزء الرابع، أول ابريل ص 366 أن فرنسا قد خصصت ميزانية ضخمة للآثار اليونانية بينما الجزائر (التي هي جزء من فرنسا) لم تخصص لها سوى ميزانية رمزية. وتساءلت (المقتطف) هل تجردت المسألة العلمية من السياسة؟ ولكن الجواب معروف. (¬2) انظر المجلة الإفريقية. R.A 1906، رقم 251، ص 137.

تعطينا البيانات الكافية عن كل بناية. فعندما نجد في قائمة معالم قسنطينة مثالا (سيدي فلان)، فإننا لا ندري هل هو مسجد أو ضريح أو زاوية، أو هو كل ذلك. ولذلك يصعب الفصل هنا ما دامت المعلومات غير كاملة. والمعلومات غير كاملة من جهة أخرى وهي أنها تذكر البناية ولا تذكر مصيرها عند الكتابة، فلا ندري هل كانت عندئذ ما تزال قائمة. أو اندثرت. ومن ذلك مثالا في مدينة قسنطينة: 1 - سيدي عبد الهادي (جامع أو زاوية). 2 - سيدي عبدالقادر (جامع أو زاوية). 3 - سيدي عبدالرحمن القروي (جامع أو زاوية). 4 - سيدي علي بن مخلوف (جامع ومدرسة) (¬1). ولدينا معالم أخرى منسوبة إلى أصحابها لكن لا نعرف أيضا مصيرها ولا نوعها، ومن ذلك: 5 - سيدي بو عنانة (بوعنان؟). 6 - سيدي بو معزة. 7 - سيدي بومنجل. 8 - سيدي دبي. 9 - سيدي الدرار (معدود في المساجد بناء على مقالة الشريف مقناوة. وسمي عليه أحد الموظفين بعد الاحتلال. ثم أصبح مسكوتا عنه. والغالب أنه اندثر أو هدم). 10 - سيدي البياض. (لاحظ صفة الصنعة في الاسم، ولعله كان من الزنوج). 11 - سيدي الفوال (نفس الملاحظة السابقة بالنسبة للصنعة). 12 - سيدي الهواري (معدود في المساجد المندثرة، حسب الشريف ¬

_ (¬1) انظر عنه معلومات إضافية في فقرة المساجد.

مقناوة. وكان المسجد موجودا زمن الاحتلال وتعين عليه موظفون ثم اندثر أو هدم). 13 - سيدي الخزري. لكن لدينا أسماء معلومة النوع والمصير، ومن ذلك بالنسبة للأضرحة: 14 - ضريح السيدة زهراء بنت موسى بن عيسى المتوفاة سنة 898 هـ، فقد قال عنه شيربونو أنه لم يبق من كتاباته العربية إلا ما هو موجود على حيطان المدرسة الملاصقة لجامع سيدي الأخضر، وقد جيء بهذه الكتابات من جامع سيدي الفريش (؟) الذي هدم سنة 1848 لفتح طريق (¬1). 15 - ضريح الشيخ المدرس حسن بن علي بن ميمون بن القنفذ المتوفى 664. وقد وجد حجر شاهده الرخامي في الجامع المذكور (سيدي الفريش)، لكن أين الضريح؟ وما مصيره؟ (¬2). أما عن الزوايا فنحن نعلم من كتابات سابقة للعهد الفرنسي مثل منشور الهداية ورحلة الورتلاني، أن قسنطينة كانت تضم عددا منها. ومنها زوايا لأكبر العائلات عندئذ مثل زاوية الفكون، وزاوية ابن باديس، وزاوية ابن نعمون، فكيف كان مصير تلك الزوايا أثناء عمليات الهدم المنظم التي تعرضت لها المدينة، خصوصا عنك هدم دار أحمد باي وما حولها وعند مذ الطريق الوطني؟ إن ميرسييه الذي درس هذه الظاهرة سنة 1878 قد ذكر عددا من الزوايا التي (اختفت) أو التي حولت عن غرضها، أو التي سلمت إلى بعض الطرق الصوفية لتمارس فيها نشاطها، وهو نشاط ديني إسلامي، ولكنه ليس هو النشاط الذي نصت عليه أوقاف هذه المباني الدينية. ولعل السلطات ¬

_ (¬1) شيربونو، مرجع سابق، 81. (¬2) ذكر شيربونو عددا من الكتابات وتواريخها التخليدية، لكن ذلك لا يهمنا هنا، ومن ذلك أيضا قبر رضوان خوجة (قائد الدار) الذي بنى له صالح باي زاوية باسمه، وقبور حسن بن باديس، وعبد الكريم الفكون، ويحيى بن محجوبة، وعلي التلمساني، ومحمد إبراهيمي المراكشي الخ ... انظر شيربونو (الكتابات العربية) في (روكاي/ انوير)، 1856 - 1857، ص 131.

الفرنسية بإعطائها بعض الزوايا إلى الطرق الصوفية أرادت أن تضرب عصفورين بحجر واحد، الأول هو الاستيلاء على الأوقاف، والثاني هو تسكيت النقد الموجه إليها ثم استغلال ذلك للدعاية لصالحها على أنها راعية وحامية المسلمين ومتسامحة في الدين. وإليك الآن ما ذكره ميرسييه عن بعض الزوايا: 16 - زاوية ابن جلول، وتسمى أيضا زاوية الزواوي. وقد اختفت دون ذكر السبب لذلك. 17 - زاوية التلمساني، وقد احتلتها فرقة فرنسية نسائية تسمى (أخوات بوسيكور) أو الإغاثة الجيدة. ولعلها كانت تابعة للكنيسة كما يبدو من اسمها. وفي مقالة الشريف مقناوة أنها هدمت. 18 - زاوية نعمون (ابن)، وقد أصبحت مقرا للطريقة التجانية. 19 - زاوية؟ وقد أصبحت مقرا للطريقة العيساوية. 20 - زاوية؟ وقد أصبحت مقرا للطريقة الرحمانية. 21 - زاوية؟ وقد أصبحت مقرا للطريقة الطيبية (¬1). 22 - زاوية يحيى بن محجوبة، وقد هدمت سنة 1865، ودخل مكانها في المنزل رقم 13 الواقع على الطريق الوطني (ابن مهيدي حاليا). وقد وصفها شيربونو سنة 1856 واعتبرها نموذجا للفن المعماري الإسلامي (¬2). 23 - زاوية النجارين، أصبحت مقرا للطريقة الحنصالية، حسب الشريف مقناوة. 24 - زاوية ابن رضوان، أصبحت مقرا للمحكمة الإباضية، بناء على المصدر السابق. ¬

_ (¬1) أرنست ميرسييه (قسنطينة قبل الاحتلال الفرنسي، 1837)، مجلة (روكاي) 1878، ص 43 - 96. والمعروف أن الطريقة الحنصالية كانت قوية ومتمركزة في قسنطينة بالذات، انظر لاحقا. (¬2) عن هذه الزوايا انظر تحقيقنا لكتاب (منشور الهداية) للفكون، وبيقوني (كتابة عربية في قسنطينة) في المجلة الإفريقية، 1903، ص 305. انظر سابقا.

وقد ذكرنا بالنسبة لبجاية عددا من البنايات الدينية التي تهدمت أو حولت، ولم نذكر ما يلي: 1 - زاوية سيدي محمد التواتي التي كانت شهيرة في العهد العثماني - مدرسة وزاوية للضيافة - وقد أصبحت ثكنة عسكرية في عهد الاحتلال. وفيها نزل بيري رايس وخاله الريس كمال آخر القرن 15 م. 2 - زاوية للالا فاطمة، وقد تحولت أيضا إلى سكنى عسكرية. 3 - قبة سيدي محمد امقران، وقد خربت وأهملت خلال السنوات الأولى من الاحتلال. وقال فيرو إنها قد استرجعت سنة 1850 ولم يذكر بيانات أخرى عنها (¬1). وقد كان في مدن الإقليم وقراه عدد كبير من الزوايا والقباب، ولا نعلم أن هناك من تعرض لها بسوء عدا عوامل الإهمال والحرمان من الأوقاف. وكانت لكل طريقة صوفية زاوية، تتفنن في بنائها وهندستها وتبييضها وزخرفتها. ومن هذه الزوايا ما وجد قبل الاحتلال مثل الزاوية التجانية بقمار، وزاون الحاج علي بن عيسى بتماسين. ومنها ما وجد بعد الاحتلال مثل زاوية الهامل وزوايا أولاد جلال وطولقة والخنقة وعميش (الوادي) وتقرت وبسكرة. غير أن بعض الزوايا قد تعرضت الهدم لمشاركة أصحابها في الثورات مثل زاوية الصادق بلحاج في الأوراس، وزاوية صدوق، وزاوية ابن فيالة، وزاوية مولاي الشقفة في نواحي البابور (¬2). وفي كل مدينة أو قرية أيضا عدد من القباب الكبيرة والصغيرة للأولياء والصالحين والعلماء. كان بعضها محاطا بالتجلة والاحترام والرعاية، ثم عفى عليها الزمن، وتصدع بعضها ولم تبال به الأجيال اللاحقة لانشغالها ¬

_ (¬1) شارل فيرو، المجلة الإفريقية، رقم 16، 1859، 299 - 302. (¬2) انظر يحيى بوعزيز (ثورات سكان الزواغة وفرجيوة) في مجلة (الثقافة)، 40، 1977، ص 11 - 21. والحركة الوطنية، ج 1، وكان القادة الفرنسيون أنفسهم هم الذين يأمرون الأهالي بهدم الزوايا نكاية وتشفيا. انظر لاحقا.

بأمور دنياها، رغم الزيارات التي كان البعض يؤديها إلى أهل التصوف والطرقية، ورغم العقائد والخرافات في ضرر ونفع البشر مع البشر. ولا نعلم أيضا أن السلطات الفرنسية قد تعرضت مباشرة إلى هدم أو تحويل هذه القباب عن أهدافها، بالعكس فقد كانت أحيانا تشجع العامة على التمسك بالخرافات والعقائد البعيدة عن الدين الإسلامي ليبتعدوا عن حقيقة الدين وينقادوا إليها. ... ب. أما بالنسبة لإقليم الغرب فالإحصاء يثبت أن هذا الإقليم قد عرف بزواياه منذ القديم، وكانت الطرق الصوفية فيه منتشرة وذات نشاط واسع (¬1). وقد شهدت المنطقة حروبا سياسية/ دينية كبيرة أوائل القرن التاسع عشر. فلا غرابة أن تكثر الزوايا عندئذ. وقد تأثرت هذه الزوايا بالحروب التي جرت بين الفرنسيين والجزائريين أيضا إلى 1847، ثم حروب أولاد سيدي الشيخ وغيرها من الانتفاضات اللاحقة. ولذلك لا نستغرب أن تكثر الزوايا، ولاسيما بعد الستينات عندما تغاضت السلطات الفرنسية عن ذلك وحاولت إخراج المرابطين من مخابئهم لتعرفهم بسيماهم، ولتضرب بهم رجال السيف الذين أخذت تنتزع منهم ما أعطتهم مؤقتا من جاه وسلطان وثروات. هذه المقدمة ضرورية لنعرف أن زوايا تلمسان ووهران ومعسكر ومستغانم ومازونة وغيرها لم تنقص بل ازدادت. وليس لدينا ما يثبت أنها قد تعرضت للهدم والاضمحلال كما حدث في العاصمة مثلي، ولكن هذا لا ينفي الوقوع أصلا، ولا سيما في مدينة مثل وهران. أما زوايا تلمسان العديدة في الأحياء القديمة فلم تبق على نشاطها وعمرانها كما كانت، بل تضررت أيضا، كغيرها، بالعوامل التي ذكرناها، وهي الاستيلاء على الأوقاف والإهمال والتطور الاجتماعي. ¬

_ (¬1) بوليري، المجلة الشرقية والجزائرية، عدد 3 (1853)، 61.

الأوقاف

أما القباب والأضرحة والجبانات فكانت كثيرة. والذي يعبر الطريق من الجزائر إلى وهران يشاهد القباب في كل مكان على جانبي الطريق، القباب البيضاء أو الخضراء للمرابطين والصالحين، وهي قباب ذات حرمة كبيرة، وللناس في أصحابها عقائد مختلفة، وقد اشتهرت بعض المعارك لوقوعها عند قبة أحد الصالحين، مثل معركة سيدي إبراهيم (1846). وقد عد بعضهم تسع قباب وزوايا في ضاحية غريس وحدها من جهة معسكر (¬1)، وهذا لا يعني أن القباب على العموم كانت دائما محل احترام، عند الفرنسيين، فقد هدموا ضريح وزاوية أولاد سيدي الشيخ في البيض بعد ثورتهم سنة 1864. وفقدت زاوية القيطنة قيمتها وأهملت. الأوقاف الوقف أو الحبس نظام إسلامي معروف. وله أهمية اجتماعية واقتصادية وعلمية كبيرة في المجتمع، واستحدثه المسلمون لتوفير المال والسكن وغيرهما من المساعدات للعلماء والطلبة والفقراء والغرباء والأسرى واللاجئين، وصيانة المؤسسات التي أنشئت لهذه الأغراض، كالماء والطرق والمساجد والزوايا والقباب، الخ. وهذا النظام يرمز إلى التكافل الاجتماعي والتضامن بين المسلمين غنيهم وفقيرهم. وكان الوقف هو المصدر الأساسي لنشر التعليم والمحافظة على الدين. وكانت ميزانيته في الواقع تشمل ميزانيات عدة وزارات في الحكومات الحاضرة، ومنها التعليم والشؤون الدينية والشؤون الاجتماعية والشؤون الثقافية والعدل. وقد تناولنا صيغته وأنواعه ومجالاته في جزء آخر من هذا الكتاب. وأنواع الوقف التي كانت موجودة عند الاحتلال على فرعين، أوقاف ¬

_ (¬1) جاء في سجل (طابلو) سنة 1839، ص 265. إن في معسكر اثني عشر قبة (زاوية؟) تسعة داخل المدينة وثلاثة في الضواحي. وقد أكد ابن بكار وجود تسع زوايا في ناحية غريس. انظر كتابه (مجموع النسب).

عامة وأوقاف خاصة (¬1). أما الأوقاف العامة فهي: 1 - أوقاف بيت المال، 2 - أوقاف الطرقات، 3 - أوقاف العيون (المياه)، 4 - أوقاف الأندلس، 5 - أوقاف الأشراف، 6 - أوقاف مكة والمدينة، 7 - اوقاف سبل الخيرات. وأما الأوقاف الخاصة فهي: 1 - أوقاف الشيخ الثعالبي، 2 - أوقاف الجامع الكبير، 3 - أوقاف مختلف المساجد والزوايا والقباب والجبانات، كل منها على حدة، 4 - أوقاف القينعي (¬2). والمقصود بالأوقاف العامة هنا هي ذات الطابع الجماعي والمداخيل المحددة والأشراف على مجموعة من الملحقات والتوابع، ولكن في هذا التعريف يلاحظ بعض القيود والخصوصيات أيضا، فمثلا أوقاف الأشراف كانت خاصة بفئة معينة في المجتمع، وكذلك أوقاف الأندلس، فهي لا تتعدى إلى غيرهم. كما أن أوقاف سبل الخيرات رغم عموميتها فهي خاصة بمباني المذهب الحنفي، وهكذا. فالتعريف بالعمومية غير دقيق أحيانا. وعلينا أن نتذكر ذلك لأننا سنواجه تحليلات قانونية فرنسية حول هذه الأوقاف. ويقصد بالأوقاف الخاصة تلك التي تستعمل فقط لمسجد بعينه أو زاوية أو قبة. وكان لكل مبنى من هذه المباني أوقافه الخاصة به منصوصا عليها في الوقفية منذ إنشائها، ولكل بناية وكيل يسهر على المبنى وأوقافه ¬

_ (¬1) عن أنواع الوقف كما وردت في مذكرة أحمد بوضربة إلى اللجنة الإفريقية سنة 1833، انظر جورج ايفير (مذكرة بوضربة) (المجلة الإفريقية) 1913، ص 240 تعاليق. وهناك دراسة هامة عن أنواع الملكية في الجزائر (عامة وخاصة) ظهرت في مجلة الشرق R. de L'Orient 1844، ص 47 - 55، عن وثائق وزارة الحربية. (¬2) هذا الوقف تأسس سنة 1868، ولكنه خضع أيضا لنفس الشروط والقوانين الفرنسية. انظر لاحقا.

فيعيش منها ويستعمل ريعها في الصيانة ويصرف الفائض على نفسه أو على الفقراء والعلماء الخ، إذا نصت الوقفية على ذلك. فالوكيل هنا مقيد وملتزم بنصوص الوقفية. وقد كان للمباني العمومية وكلاء أو نظار، وجميعهم يعينهم الداي في الجزائر والباي في الأقاليم، وهم مسؤولون لديه، ولهم محاسبون دوريون، تقدم إليهم السجلات والحسابات لمعرفة حالة المداخيل والمصاريف واستعمال حقوق الوقف في مكانها المشروع. ومنذ اللحظات الأولى للاحتلال وقع الغدر بالمادة الأساسية في اتفاق الجزائر في يوليو 1830، وهي المادة التي تنص على احترام الأملاك واحترام الدين الإسلامي والعادات الخ. فقد استولى المحتلون الفرنسيون على ما اسموه بأملاك البايلك أو الدولة الجزائرية، ثم على أملاك أخرى سموها أملاك الأتراك، وبعد أقل من شهرين أصدروا قرارا نص على وضع جميع الأملاك الدينية وبناياتها في يد أملاك الدولة الفرنسية (الدومين). وهكذا دخلت الجزائر في قبضة الأخطبوط الجائع الذي رأى المال في يد السكان جريمة يعاقبون عليها. ولقد كان على الجزائريين أن يحتجوا على هذه الإجراءات التعسفية ومصادرة أملاك آبائهم وأجدادهم وحرمانهم من حقوقهم الشرعية ومن تراثهم الديني، ولكن كانت الكلمة للقوة. واستمرت (التشريعات) الفرنسية تسلب الجزائريين حقوقهم مرحلة بعد مرحلة إلى أن اندمجت مداخيل الأوقاف الإسلامية في ميزانية الدولة الفرنسية وضاع حق الجزائريين في التعليم منها وفي المساعدات الاجتماعية لفقرائهم. كما كان مصير عقاراتها وأراضيها هو التوزيع على المهاجرين الفرنسيين (الكولون). وكان حظ المساجد والزوايا والقباب والجبانات في العاصمة بالذات هو الهدم والتصرف الحر فيها والتعطيل عن الغرض، كما عرفنا. والعجب أن الجزائريين قد نسوا كل ذلك اليوم، نسوه كدولة من واجبها أن تطالب به الدولة الفرنسية التي استولت على ما أسمته بأملاك البايلك سنة 1830، ونسوه كشعب عليه أن يكون ذاكرا لكل حقوقه محافظا. على كل تراثه لأنها حقوق وتراث أجيال وليست لجيل بعينه.

بالنسبة لأملاك الدولة، اعتبر قادة الحملة الفرنسية أن كل ما كان بيد الدولة الجزائرية أصبح ملكا للدولة الفرنسية. ولذلك استولوا على القلاع والقصور والثكنات وما شابهها، وكذلك استولوا على الخزينة العامة والأسلحة والثروات والعتاد والأراضي التابعة للبايلك. وكلما استولوا على مدينة أو منطقة طبقوا علها هذا المبدإ وضعوا أملاك الدولة المقهورة إلى أملاك الدولة القاهرة. وهناك ملكيات فردية أو خاصة استولى عليها الفرنسيون أيضا بمنطق الغزو والجبروت، لأنهم لو حافظوا على معاهدتهم مع الداي حسين لما تعرضت هذه الملكيات لسوء ولبقيت في أيدي أصحابها. يقول السيد أوميرا، إن قائد الحملة (بورمون) لم يجد صعوبة في إسكان الجيش (¬1). فلم يكتف بالاستيلاء على الثكنات وقلعة ال 24 ساعة (اختفت) وقلعة باب عزون (هدمت). وسكن القائد نفسه في بناية جميلة هي المعروفة بقصر الشتاء، وأسكن قادة الجيش في أجمل منازل الحضر، وهي المنازل (الفيلات) التي وضعت أيضا تحت تصرف الإدارة العسكرية والمدنية. وقد اتخذ قرارا بجعل كل الأملاك تحت إدارة الدولة (الدومين)، بإشراف السيد جيراردان، مترجم جيش الحملة. كما تقرر ضم بيت المال (¬2) إلى هذه الإدارة وجعلها تحت التصرف المباشر لجيراردان. وبعد ذلك بقليل صدر القرار بمصادرة جميع أملاك (الأتراك) في الجزائر. وهذه المصادرة على نوعين، الأول يخص الأتراك الجنود غير المتزوجين في الجيش الإنكشاري، والثاني يخص الأتراك المتزوجين من جزائريات ولهم ذرية. وليس هناك مبرر قانوني، حسب اتفاق الداي مع بورمون، لانتزاع الملكية من هؤلاء ولا من أولئك. أما بالنسبة ¬

_ (¬1) أوميرا، (الأملاك الحضرية في مدينة الجزائر)، المجلة الإفريقية، 1898، 168 - 169. (¬2) يجب ألا يفهم من عبارة (بيت المال) الخزينة أو خزانة الدولة. إن بيت المال هنا تعني المصلحة المديرة لأملاك الغائبين والهالكين أو الذين لا عقب لهم، ونحو ذلك. وكانت ذات مال كثير سنذكر نموذجا لمدخولها.

للمتزوجين فقد نشأت أزمة اجتماعية وإنسانية على المصادرة والطرد من البلاد. فإذا كانت المصادرة بحجة أن المالك زكي، فأين حقوق الزوجات والأبناء في الملكية؟ وقد احتج حمدان خوجة ومن معه على هذا الخرق الصارخ للاتفاق وعلى الظلم الفاحش والحرمان الذي طرأ في حق الزوجات والذرية من تجريد الأتراك من أملاكهم ومصادرتها وضمها لأملاك الدولة الفرنسية. إن الفرنسيين لم يكتفوا بالتفريق بين المالك وملكه بل بين الزوج وزوجه وبين الأب وبنيه أيضا (¬1). يذهب الفرنسيون إلى أنه لو لم يستعملوا تلك الطريقة لتأخر إنشاء الملكية الفرنسية في الجزائر سنوات طويلة. فتجريد الأتراك من أملاكهم ومصادرة أملاك مكة والمدينة وغيرها، مثل أملاك الأندلس، قد سهل على الدولة الفرنسية توفير العقارات والمباني لمنحها للأوروبيين المهاجرين للاستيطان والاستقرار. ذلك أن الملكية كانت غير قابلة للتقسيم والبيع، بصفتها جماعية، وكان من بين أصحاب الحقوق فيها أناس غائبون، إلى غير ذلك من العراقيل التي رآها الفرنسيون تحول دون تمتعهم بالسكن السريع. كما أن المضاربات كانت تأخذ طابعا فظيعا حول التملك في العقارات لأن بعضهم وجد نفسه يبيع ما لا يملك والآخر يشتري ما هو غير موجود. لذلك قررت السلطات الفرنسية الاستيلاء بالقوة على الأملاك وبيعها للأوروبيين والتصرف فيها. وكان أول الضحايا لهذه الإجراءات هم الأتراك، كما ذكرنا ثم أملاك الأوقاف الإسلامية، ثم أملاك الحضر أنفسهم. لقد كان الفرنسيون على ما قيل يخشون من ثورة الإنكشارية فحكموا بطردهم، بل اعتبروا حتى الكراغلة خطرا، عليهم في البداية. وعزلوهم من وظائفهم، ولم يكتفوا بذلك بل طردوا كثيرا منهم وصادروا أملاكهم، كما أشرنا، وأظهروا شيئا من ¬

_ (¬1) كان حمدان خوجة معنيا شخصيا إذ كانت إحدى بناته متزوجة من تركي. وحين احتج لدى الحاكم الفرنسي قال له: طلقها منه! فقال له خوجة إن الطلاق لا يكون بالإكراه، ولكن الفرنسي أصر على طرد الزوج التركي. انظر عبد الكريم (حمدان بن عثمان خوجة)، مرجع سابق، ص 225.

التسامح مع الحضر واليهود في البداية أيضا. واستعملوا أسلوب التفريق بين السكان، فكان القرار الأول لطرد الأتراك قد صدر عن كلوزيل، قائد جيش الاحتلال، في سبتمبر 1830، أما القرار الثاني فقد صدر عن خلفه، بيرتزين، في جوان 1831. لقد أصبح الأتراك خارج الجزائر، فمن يسمع احتجاجهم ضد الظلم الذي وقع عليهم؟. وكانت لهم حقوق كغيرهم من المسلمين في أوقاف مكة والمدينة وغيرها ولكن جميعها قد صودرت (¬1) منذ سبتمبر 1830، كما سنرى. والكتاب الفرنسيون يعترفون أن لكل المسلمين الحق في الأوقاف بمن فيهم الأتراك، الذين أصبحوا خارج الجزائر. ولكن الاحتجاجات أسكتت بالردع، فاستعمل كلوزيل العصا الغليظة وكذلك روفيقو، الذي جاء سنة 1832. كما حرش الفرنسيون بعض الجزائريين ضد الأتراك، بينما عاش الفرنسيون المرحلة الأولى يمتصون دم هذا وذاك على السواء، ويستنزفون خيرات الأوقاف العامة والخاصة. وقد حاول العلماء والوكلاء أن يفهموا الفرنسيين أن الأملاك الدينية لا تخص فريقا واحدا من المسلمين. فأملاك مكة والمدية والأندلس والأشراف كانت كلها فردي خدمات عامة لجمع المسلمين مثلها في ذلك مثل المساجد والزوايا وعيون الماء والطرقات، وأن مؤسسات الوقف تقوم بخدمات تعليمية واجتماعية كبيرة، لأن مداخيلها كانت تستعمل لأغراض محددة و. اجبارية مثل المساعدات العامة، والتعليم وأجور العلماء والطلبة والعناية بالمقابر ودفن الموتى، وتوفير الماء والمحافظة على الطرقات (¬2). وقد لخص بعضهم الأوجه الاجتماعية والدينية لخدمات مؤسسات ¬

_ (¬1) يذهب الكتاب الفرنسيون إلى أن كلمة (المصادرة) لم ترد في قرار 1830 وإنما وردت كلمة الضم. أما عبارة المصادرة الصريحة نقد وردت في نظرهم في القرار الصادر سنة 1848. ونحن هنا لا نفرق بين العبارتين ما دام الهدف واحدا وهو الاستيلاء والتحكم في مداخيل ومصاريف أملاك الدولة والأوقاف. (¬2) أوميرا، ص 171.

الوقف العامة على النحو التالي: 1 - ما يذهب ريعه للتخفيف على الفقراء بتوزيع النقود والمواد الغذائية، يوم الخميس وعشية الجمعة. 2 - ما يستعمل ريعه لصيانة المؤسسات الدينية، في مكة والمدينة بالذات، وهو الريع الذي يصل إلى شيخ الإسلام في مكة سنويا. 3 - الريع الذي يستعمل لافتداء الأسرى المسلمين عند النصارى. (وهذا طبعا كان قبل الاحتلال الفرنسي، وأسقطه الفرنسيون بعد الاحتلال). 4 - ما يعود ريعه إلى صيانة المساجد والمباني الدينية على العموم (¬1). 5 - مصارف وأجور القائمين على المساجد وغيرها كالأيمة والعلماء والطلبة والحزابين والوكلاء. إن الأطروحة التي انطلق منها الفرنسيون في مصادرة أملاك الوقف قد ذكرناها، ولكن بعض الكتاب المتأخرين يدورون حول أسباب أخرى تبدو أحيانا بعيدة عن هدف الفرنسيين الأولين. إن الدافع الرئيسي من الاستيلاء على الأوقاف العامة كان يتمثل في نظرنا في الرغبة في الاستحواذ على الأموال لتضخيم ودعم ميزانية الدولة الفرنسية، وهو أمر واضح من مبدإ الاستعمار نفسه، إذ هو الاستثراء على حساب الشعب المستعمر. ويفتخر الفرنسيون بأنهم قد وجدوا في خزينة الدولة الجزائرية من المال ما عوضهم عن حملتهم بل فاض عليه، واعتبروا ذلك من نوادر حملاتهم، بل الحملات جميعا. ولكنهم لم يكتفوا بالخزينة الرسمية، بل مدوا أيديهم وعيونهم للأوقاف العامة أيضا، وهي كما نقول اليوم (مال الشعب). فأضافوا مداخيلها ¬

_ (¬1) أشيل روبير (الدين الإسلامي في مدينة الجزائر)، في (روكاي)، 1918، 237. لاحظ أن السيد روبير قد اعتمد على مذكرة هامة كتبها ش. مانقي Mangay سنة 1836، وهو (مانقي) ضابط في الهندسة العسكرية، وعنوان هذه المذكرة (ملاحظات على الملكية في مدينة الجزائر قبل الاحتلال).

إلى مداخيل أملاك الدولة الفرنسية، وحرموا منها المسلمين أصحاب الحقوق فيها. أما الدافع الثاني في نظرنا في الاستيلاء على الأوقاف العامة، فهو ما أشار إليه البعض أحيانا، وهو الخوف من أن يستعمل المسلمون المال الذي عندهم لاسترداد سيادتهم على بلادهم والتحكم في مصيرها وطرد الفرنسيين منها. فالمال قوام الأعمال، كما يقولون، والفرنسيون الأولون كانت لا تغيب عنهم هذه الفكرة، وقد تجسسوا على المفتي ابن العنابي وحصلوا منه على تصريح بأنه مستعد لجمع جيش وإعلان الجهاد ضد جيش الاحتلال. وكانت للداي حسين مراسلات بالشفرة مع علماء وشيوخ وأعيان الجزائر يعدهم فيه بالرجوع ويحثهم على الصبر ومواصلة العمل على تحرير البلاد. وقد وقعت هذه المراسلات في أيدي المخابرات الفرنسية فعرقلوا المخطط. وكان حمدان خوجة يتراسل بالشفرة أيضا مع عدد من زعماء البلاد، وسافر إلى قسنطينة مرتين للاتصال بالحاج أحمد، إلى غير ذلك من المحاولات التي تجعل الفرنسيين يتوجسون خيفة من عملية مضادة يكون المال الذي في أيدي أملاك الأوقاف وسيلة كبيرة لها. فبادروا بوضع أيديهم على هذه الأملاك منذ أول وهلة، دون مراعاة المعاهدة ولا ذوي الحقوق ولا حرمة الدين. لكن ما يذكره البعض كسبب لمصادرة أملاك الأوقاف لا يخلو أيضا من عبرة وتأمل. إن السيد ديفوكس المعاصر لعمليات المصادرة وردود الفعل، يرى أن وراء ذلك أفكارا معادية للدين عموما جاء بها الفرنسيون المتأثرون بثورتهم سنة 1789، وهي أفكار مضادة لرجال الدين من جهة ومضادة للتعصب الإسلامي من جهة أخرى. وقد أيد ديفوكس هذه الأطروحة، فقال: إن وضع الأوقاف في الجزائر يشبه وضع أملاك رجال الدين في فرنسا قبل الثورة. لذلك كانت الإدارة الفرنسية في الجزائر حريصة على أن لا يكون لرجال الدين دخل خاص، بل يجب أن يكون كل شيء تحت يد الإدارة نفسها، وهي التي تتولى نفسها الصيانة والتسيير مباشرة. ويبدو أن السيد ديفوكس قد نسي أن الأوقاف ليست مالا خاصا لرجال الدين، بل هم أمناء

عليها فقط. ومع ذلك فهو يرفض النقاش حول الاعتراضات التي وردت على مصادرة الأوقاف، وجاء بمبررات لهذه المصادرة لا تخلو من عبرة للجزائريين اليوم. فقد قال عن الشعب الجزائري إنه شعب متعصب غارق في الروتين والتقاليد، بعيد كل البعد عن الأفكار الفرنسية، وهو شعب خصم للمحتلين، ولا يرى في الإصلاحات الفرنسية (؟)، إلا وسيلة للتدخل والإهانة، ونقضا للمعاهدات، والاستغلال. واعترف ديفوكس، بأن الحكومة الفرنسية قد (ضربت ضربة قوية) في الجزائر سنة 1830 حين أنشأت نظاما لإدارة أوقاف المسلمين شبيها بما كان عند الفرنسيين. ثم أيد قرار كلوزيل الذي سنتحدث عنه (07 ديسمبر 1830) (¬1). وهناك أطروحة أخرى جاءت في سجل الإحصاءات (طابلو) لسنة 1839، كما رددها بعض الكتاب منذ ذلك الحين. وهي تقوم على أن الوكلاء كانوا غير أمناء ولا نزهاء، فهم يدخلون فقراء ويخرجون أغنياء، ومعنى ذلك أن منصب الوكيل على الأوقاف عموما هو منصب جالب للمال والثروة، وأن مال الأوقاف كان يذهب إلى جيوب الخواص فيستفيدون منه هم قبل غيرهم من أصحاب الحقوق. ويتهم صاحب هذا الرأي نزاهة الوكلاء ويظهر حرص الإدارة الفرنسية على المصلحة العامة أكثر من حرص الوكلاء عليها. ويذهب إلى أن هذه الإدارة قد أبقت على نظام الوكلاء بعض الوقت فظهر فيهم الفساد والتعفن كما كان الحال في العهد (التركي)، ولكن هذه الأطروحة مردودة، لأن السلطات الفرنسية لم (تجرب) هؤلاء الوكلاء ثم تتخذ قرارها بل إن قرارها قد صدر في سبتمبر 1830، بعد شهرين فقط من الاحتلال، ولو أنها انتظرت عاما أو عامين أو أكثر وحصلت على حسابات غير نزيهة لصدقنا الأطروحة المذكورة. وقد ضرب البعض مثلا على الفساد وسوء التسيير لدى الوكلاء فقال إن أوقاف مكة والمدينة وحدها كانت سنة 1835 توفر ما قدره 90، 000 فرنك (بعد المصادرة)، غير أن الفرنسيين لم ¬

_ (¬1) ديفوكس (البنايات الدينية ...)، مرجع سابق 44 - 45.

القرارات وتنفيذها

يجدوا إلا 63,000 فرنك وزعت على الفقراء، أما الباقي فقد اختفى (¬1). القرارات وتنفيذها وقد حان الوقت لذكر القرار الشهير الذي اتخذه كلوزيل في سبتمبر 1830، ثم أجل تنفيذه إلى 7 ديسمبر 1830 (¬2). وقد أشرنا إلى أن القرار ينص على مصادرة الأملاك الدينية مهما كان نوعها -عامة وخاصة- ووضعها في يد مصلحة أملاك الدولة الفرنسية أو (الدومين). ويشمل ذلك أوقاف مكة والمدينة والمساجد والأندلس وسبل الخيرات وغيرها. وكان يحتوي على ثماني مواد، جاء في الأولى منها: كل المنازل والمتاجر والدكاكين والبساتين والأراضي والمحلات، وأية مؤسسة، مهما كانت، لها ريع، مهما كان عنوانه، موجهة إلى مكة والمدينة، أو المساجد، أو أية جهات محددة، ستكون مستقبلا تحت إدارة الدومين، وهي التي تؤجرها، وهي التي ستحصل منها على المداخيل وتقدم عنها الحساب إلى من يهمه الأمر. ومما جاء في المادة الرابعة من هذا القرار أنه خلال ثلاثة أيام سيضع المفتون والقضاة والعلماء وغيرهم، وهم المقترحون إلى الآن، لتسيير المؤسسات المذكورة، سيضعون لدى إدارة الدومين الأسماء وعقود الملكية والأزقة (جمع زمام) والسجلات والوثائق التي تهم تسييرها، وكذلك قائمة اسمية بالمحلات، وعليهم أن يكتبوا عليها أيضا مبالغ الإيجار السنوي لها ومدة آخر دفع مستحق. وقد تضمنت المادة السابعة منه ما يلي: إن كل شخص يكشف للحكومة عن وجود بناية غير مصرح بها سيكون له الحق في نصف الغرامة ¬

_ (¬1) سجل (طابلو) سنة 1839، 156. (¬2) نص هذا القرار موجود بحذافيره في ديفوكس، 44 - 45 وفي أوميرا، (المكتب الخيري) 194، وغيرهما.

التي ستفرض على المتسترين. وجاء في المادة الخامسة من قرار كلوزيل المذكور أن على مسيري الأملاك الدينية العمومية أن يقدموا كل شهر عرضا أو كشفا إلى مصلحة أملاك الدولة، يتضمن مصاريف الصيانة والخدمات الخاصة بالمساجد وأعمال الإحسان وغيرها من المصاريف التي كانت في العادة تؤخذ كمعونة من مداخيل هذه الأملاك. وهذا لا ينطبق على أوقاف المساجد والزوايا ونحوها. وقد تخلصت مصلحة أملاك الدولة أو بالأحرى السلطات الفرنسية بذلك من مسؤولية التعليم والمدارس الإسلامية ومن شؤون الديانة أو توظيف رجال الدين، ومن المساعدات العامة للفقراء. فقد بقيت هذه الأمور جميعا في نظرها، في مسؤولية الوكلاء على المساجد. وبعد اختفاء الوكلاء تولاها (أي إدارة المساجد ...) المتصرفون المدنيون أو مدراء الداخلية. وهكذا كانت مصلحة أملاك الدولة في السنوات الأولى (إلى 1848) تتولى فقط مصاريف المساعدات العامة المستخرجة من أملاك مكة والمدينة، وهي لا تتضمن سوى مراقبة بسيطة، تقوم بها بمعونة بعض الموظفين المسلمين (الجزائريين) من خارج مدراء أملاك مكة والمدينة. وكان بعض هؤلاء الموظفين المسلمين موظفين أيضا في الإدارة المدنية الفرنسية، مثل الحاج مصطفى بوضربة، الذي تولى سنة 1832 أوقاف مكة والمدينة (¬1). ¬

_ (¬1) أوميرا، (المكتب الخيري)، 194. والحاج مصطفى بوضربة هو عم أحمد بوضربة التاجر والمفاوض المشهور زمن الحملة. وتذكر المصادر الفرنسية أن الحاج مصطفى بوضربة بقي وكيلا لأوقاف مكة والمدينة تحت الإدارة الفرنسية إلى سنة 1836 حين جاء اقتراح من وزير الحربية بتغييره وتعيين حفيز (حفيظ) خوجة بدله. وكان حفيز هذا أيضا موظفا بإدارة الأوقاف، وقد انتقد إدارة زميله وأثبت للفرنسيين عدم دقة حساباته والفوضى التي كانت تتخبط فيها إدارته، واقترح عليهم تخفيض راتب الوكيل إلى 3000 فرنك فقط، وهو نصف الراتب الذي كان يتقاضاه الحاج مصطفى بوضربة. وكان الفرنسيون يضربون الجزائريين بعضهم ببعض في هذا المجال وفي غيره. فوجدوا في حفيز الشخص المناسب لهم. ويبدو أن عزل الحاج مصطفى بوضربة كان له علاقة ابن أخيه، أحمد، الذي انضم للأمير عبد القادر. ومهما كان =

إننا اكتفينا بهذه المواد الأربع من الثمانية، وهي الأساسية في نظرنا، لأن الأولى تحدد أنواع الوقف المصادر، وتصفه، والسابعة تسمى الأشخاص المسؤولين عنه، والثالثة تخبر عن مكافأة الواشين ضد المتسترين، ومن ثمة العقوبة والجزاء، أما الخامسة فتنص على تقديم الحسابات. وهذا هو أسلوب كلوزيل الذي استفتح به فترة الاحتلال، فهو أسلوب التهديد والوعيد ومكافأة الواشين على المتسترين، وغير ذلك من وسائل الضغط والإرهاب المادي والمعنوي. لكن هذا القرار على صرامة لهجته لم ينفذ كله. فأمام الاحتجاجات من الوكلاء وعلماء المساجد، طبق منه ما يتعلق بالمباني العامة (مكة والمدينة ...) وأجل منه ما يتعلق بالمساجد ونحوها مما يسمى بالأملاك الخاصة. ومع ذلك فقد وضعت الإدارة يدها بمقتضاه على كل شيء في الأملاك الدينية سواء كانت خاصة أو عامة. فمن جهة نفذت الإدارة عملية المصادرة ولم يقع بشأنها أي تراجع. ومن جهة أخرى وضعت الوكلاء تحت الرقابة الإدارية الضيقة، وأصبحوا مطالبين بتقديم الحسابات والحصول على الرخص في كل ما له علاقة بالصرف. ولذلك فنحن لا نوافق من يذهب إلى أن القرار قد (بقي حبرا على ورق) (¬1)، بخصوص المساجد، إلا إذا كنا نتوقع أن يتصرف الفرنسيون في المساجد مباشرة منذ الوهلة الأولى. فقد زعم صاحب هذا الرأي أن الحكومة ترددت أمام العراقيل وأمام ضغط السكان والوكلاء الذين لهم مصالح مادية في استمرار الأوقاف خارج أملاك الدولة الفرنسية، كما زعم أن الوكلاء كانوا يتحايلون، ولم تتخذ الإدارة الفرنسية قرارها النهائي بشأن المساجد والزوايا ونحوها إلا سنة 1843 ثم أكدته بقرار ¬

_ = الأمر فإن الحاج مصطفى قد انتهى به الحال في طنجة حيث هاجر وتوفي. انظر أرشيف إكس I. H 1 وقد ضاعت منا أوراق كثيرة كنا جمعناها عن عائلة بوضربة لكتابة بحث منفصل عن أحمد بالخصوص، وذلك في المحفظة التي ضاعت منا سنة 1988. (¬1) هذا رأي ديفوكس، 46.

1848 (¬1). وبناء على ذلك استمرت إدارة أملاك الدولة تشرف مباشرة على أوقاف مكة والمدينة والأندلس وسبل الخيرات وبيت المال وحتى وقف الثعالبي، بينما تركت الوكلاء مؤقتا يؤدون خدمتهم في المساجد والزوايا والقباب والجبانات. ومعنى هذا أنها كانت تشرف على ما كان دخله عاما وسهل الإدارة (وكيل واحد في دور الموظف على كل مؤسسة مما ذكرناه في الأوقاف العامة، فالجملة حوالي خمسة وكلاء فقط) وبذلك تحصلت الإدارة على أموال غزيرة بطريقة سهلة في ظرف قصير. ففي سنة 1838 - 1839 كان دخل الأوقاف العامة ما يلي (لاحظ الزيادات، وهي بفرنكات الوقت، باستثناء أوقاف الثعالبي، ولاحظ أيضا الزيادة الكبيرة في مداخيل أوقاف بيت المال): المؤسسة (¬2) ... 1838 ... 1839 1 - أوقاف مكة والمدينة ... 127، 895، 65 ... 131، 941، 13 2 - أوقاف سبل الخيرات ... 13، 989، 25 ... 14، 368، 41 3 - أوقاف الأندلس ... 4، 093، 54 ... 4، 963,98 4 - أوقاف بيت المال ... 6، 025، 49 ... 26، 197، 38 5 - أوقاف الثعالبي ... 5.572,90 ... 5، 396، 80 المجموع: ... 157، 576,83 ... 182، 867,70 ¬

_ (¬1) نفس المصدر، 47 - 48. وكان القرار الأخير شاملا. وبناء عليه عينت الإدارة ديفوكس نفسه مسؤولا على إحصاء المساجد ونحوها في مدينة الجزائر، وقال إنه لم يواجه أية صعوبة، ونفهم من هذا أن الكتاب الذي أصدره والذي أخذنا منه المعلومات ما هو إلا خلاصة إحصاءات وتقاريره، أثناء أدائه هذه المسؤولية. (¬2) المصدر: السجل (طابلو)، سنة 1839، 156? 157.

والملاحظ هنا أن الإدارة المالية الفرنسية قد تركت لوكلاء المساجد والزوايا الإشراف المؤقت على ما سمي بالأوقاف الخاصة والصغيرة. مثلا وقف مسجد، أو قبة، أو زاوية، أي ذات المردود الضئيل بالنسبة لمردود الأوقاف العامة. وكذلك نلاحظ أن أوقاف مكة والمدينة التي هي ملك مشاع للمسلمين في الجزائر وفي غيرها قد حولت عن غرضها الأصلي، وأن أوقاف بيت المال قد زادت زيادة كبيرة، وأن أوقاف الثعالبي تعتبر من الأوقاف الغنية الخاصة لأنها أوقاف زاوية معينة، ومع ذلك صودرت ووضعت مباشرة من البداية تحت الإدارة المالية لوفرة دخلها. إن الإدارة الفرنسية لم تبق على هذه الأملاك كأمانات، بل تصرفت فيها بالبيع والعطاء والتأجير ونحو ذلك، كما تصرفت فيها بالهدم والتحويل والتعطيل والاحتلال العسكري والمدني. وقد قال تقرير يرجع إلى سنة 1839 إن حوالي نصف المنازل التابعة للأوقاف الدينية قد اختفى بالهدم أو منح للمصالح العامة، مدنية وعسكرية ودينية. ومع ذلك فإن المداخيل والعوائد قد تضاعفت من الصدقات والتبرعات، حتى أنه بين سنة 1834? 1839 ازداد الدخل من 36، 000 ف إلى 72، 000 ف. وذلك دون الأخذ في الاعتبار المساعدات التي خرجت منها للفقراء. ولك أن تسأل: أين حق أصحاب الحقوق في هذه الأموال الطائلة كلها؟ إن التعويض المنصوص عليه لم يقع، فهناك من بيعت حقوقهم في أملاك الوقف أو هدمت المباني أو أعطيت للأوروبيين أو استولت عليها المصالح العسكرية والمدنية، ولكن دون دفع التعويضات لأصحابها. وقد قال أوميرا بهذا الصدد إن تحويل المصالح والتصرف في البنايات الدينية التابعة للأوقاف قد وقع دون تعويض من له الحق فيها. وإن هذا الإجراء التعسفي لا يلغي حق أصحاب الحقوق السابقة في أملاكهم، لأن الأهالي يظلون مالكين بالشروط التي نص عليها القانون (¬1). وقد قلنا إن فقراء مكة والمدينة لم تعد تصلهم حقوقهم أيضا ولا ¬

_ (¬1) أوميرا، (المكتب الخيري الإسلامي)، في المجلة الإفريقية، 1899، 188.

الأتراك الذين طردوا، ولا الجزائريين الذين نفوا من بلادهم على إثر الثورات، الخ. ولا حاجة إلى ذكر فقراء الجزائر عامة. أما بالنسبة للأوقاف الخاصة فقد قلنا إنها بقيت مؤقتا في يد الوكلاء، رغم أنها رسميا وضعت تحت الإدارة المالية الفرنسية. ويقول تقرير سنة 1839 عنها إن هذه الإدارة رأت ألا تسلك الطريقة الصلبة التي سلكتها إدارة الدومين مع الأوقاف. لقد اكتفت مع الأملاك الخاصة بالحصول على المعلومات الضرورية من الوكلاء، وعلى قائمة جرد للأملاك التي اختفت أو غير الكاملة، والقصد من ذلك الوصول إلى: 1 - معرفة الأخطاء التي ارتكبت، 2 - الاحتفاظ بالمبالغ المالية لمستحقيها، 3 - إدخال النظام الفرنسي دون إشعار الوكلاء بذلك ودون إثارة المشاعر الدينية للأهالي. وسيرا على هذا الخط اختارت إدارة المالية وكلاء جددا تثق هي فيهم بدل القدماء المرتبطين بالعهد العثماني وإدارته (وكان الفرنسيون يتهمون هذه الإدارة بالفساد ويتهمون موظفيها بعدم الإخلاص لهم) وجعلت من حق الوكلاء الجدد، هؤلاء الطائعين النزهاء في نظرها، الاحتفاظ بالصناديق المالية لمداخيل الأوقاف تحت أيديهم، ولكنهم لا يستطيعون الصرف منها أو القبض إليها دون تأشيرة مكتب المراقبة الفرنسي الذي أنشئ لهذا الغرض والذي كان يطلب دائما الوثائق المبررة لكل عملية. وفي حالة تعطيل أي مبنى أو بيعه فلا بد من موافقة وزير الحربية نفسه على ذلك (¬1). ومن الناحية النظرية فإن كل الشؤون المتعلقة بالتعليم والعدل والديانة كانت من مشمولات هذا الجهاز (مكتب المراقبة). وقد برر السيد أوميرا أيضا هذا الوضع المؤقت للوكلاء على المساجد وما إليها، مما يسمى بالأوقاف الخاصة، فقال إن مصلحة أملاك الدولة كان من السهل عليها أن تتعامل مع بعض الوكلاء الذين أصبحوا موظفين مأجورين ¬

_ (¬1) السجل (طابلو)، 1839، 157، وكذلك أوميرا، (الملكية الحضرية ...) في المجلة الإفريقية، 1898، 173.

عندها بالنسبة لأوقاف مكة والمدينة وبيت والمال الخ. ولكنه كان من الصعب عندئذ الإشراف على وكلاء يبلغ عددهم بين 150 و 200 وكيل (وهو عدد المباني الدينية في مدينة الجزائر تقريبا). ولا ننسى أن كل مدينة كانت تتمتع بنفس النظام، وقد أخضعها الفرنسيون لنفس الإجراءات أيضا بعد احتلالها. استمر الوضع إذن على هذا النحو إلى 21 غشت 1839. ففي هذا التاريخ حصل تعديل في مفهوم الملكية. إن قانون 1839 قسم أملاك الدولة (الدومين) إلى ثلاثة أصناف: 1 - الدومين الوطني، 2 - والدومين الكولونيالي، 3 - والأملاك المصادرة. وقد أدخل القانون أملاك الوقف في القسم الثاني. كما نص على التعويض للمستحقين في حالة الهدم، أما ما عدا ذلك فقد استمر العمل ساريا بمقتضى قرار 7 ديسمبر 1830 إلى سنة 1848. غير أن هناك قرارا آخر توضيحيا صدر سنة 1843. ففي 23 مارس من هذه السنة أصدر وزير الحربية (¬1) قرارا من ثماني مواد، جاء في الأولى منه أن كل الوصولات والمصاريف الناتجة عن المؤسسات (الدينية) والأوقاف مهما كان نوعها (¬2)، قد أصبحت ملحقة بالميزانية الاستعمارية (الكولونيالية). ونصت المادة الثانية على استمرار مصلحة أملاك الدولة في تسيير المؤسسات الدينية، حسب القرارات السابقة. وجاء في المادة الثالثة أن البنايات المنجرة ¬

_ (¬1) هو المارشال الدوق دالماطي DALMATIE . وكانت إدارة الجزائر تتبعه لأن النظام فيها كان يوصف (بالعسكري). وقد استمر الحال على ذلك إلى سنة 1870، باستثناء تغييرات حدثت سنة 1848 (بالنسبة للفرنسيين) وسنة 1858 - 1860 (بالنسبة للجزائريين) عند تجربة الحكم المدني وإنشاء وزارة الجزائر. (¬2) استعمل الفرنسيون كلمة corporations للأوقاف أو مؤسسات الوقف العامة، كبيت المال ومكة والمدينة الخ. وهي ترجمة غير دقيقة كما لاحظها ديفوكس نفسه، لأنها تعطي مدلول النقابة، والأمر ليس كذلك هنا، ونلاحظ أن الفرنسيين استمدوا هذه الترجمة من تقاليد الثورة الفرنسية أيضا.

عن المؤسسات الوقفية والتي توقفت عن تبعيتها الدينية ستجمع فورا إلى تلك التي دخلت في المادة السابقة، ويكون تسييرها طبقا لنفس الأحكام. وأما البنايات التابعة لمؤسسات ما تزال مخصصة للديانة (الإسلامية) فقد نصت المادة الرابعة على ضمها بالتدرج إلى مصلحة الدومين طبقا لقرارات خاصة، كما ضمت أوقاف بين المال إلى هذه المصلحة أيضا (¬1). وفي سنة 1843 جرى أيضا حادث آخر أدى إلى وضع مصلحة أملاك الدولة يدها على أوقاف الجامع الكبير بالعاصمة أيضا. وقد كان هذا الجامع إلى ذلك الحين مستقلا بوكيله وأوقافه باعتباره مؤسسة خاصة في نظر القانون الفرنسي. وهذا الحادث هو عصيان المفتي المالكي مصطفى الكبابطي أوامر الحاكم العام المارشال بوجو، فما كان من المارشال إلا أن عزل المفتي ونفاه من البلاد. لكن الجديد هو إصدار قرار 4 جوان 1843 الذي يقضي بضم أوقاف الجامع الكبير إلى مصلحة أملاك الدولة. وهو قرار مصادرة تعسفية لا غبار عليه. وكانت هذه الأوقاف عظيمة الشأن منذ تأسيس الزاوية والمدرسة التابعة للجامع في عهد المفتي سعيد قدورة في القرن 11 هـ. ونص قرار بوجو الاستثنائي على أن: (1) كل البنايات التي يرجع دخلها إلى الجامع الكبير وموظفيه، ومهما كان عنوانها، ومهما كان اسمها، تبقى داخلة تحت يد مصلحة أملاك الدولة الاستعمارية (الدومين الكولونيالي). (2) وكل المداخيل والمصاريف الخاصة بهذه المؤسسة الدينية (الجامع الكبير)، مهما كانت طبيعتها، تكون ملحقة بالميزانية الاستعمارية. (3) وكل المصاريف المتعلقة بالموظفين الدينيين وصيانة المساجد وأجور الديانة (الإسلامية)، وكذلك الإغاثات والصدقات التي كانت تقدمها هذه المؤسسة (الجامع الكبير) تتولاها منذ الآن الإدارة. وهي داخلة في الميزانية الداخلية. وهكذا كانت أوقاف الجامع الكبير هي الوحيدة من أوقاف المساجد ¬

_ (¬1) ديفوكس، 47.

والزوايا، التي ضمت إلى مصلحة ما سمي بالدومين الكولونيالي قبل سنة 1848. ففي عهد الجمهورية الثانية المتحمسة للاستعمار والتغلغل في المجتمع الجزائري والسيطرة على مقدراته، صدر قرار خطير آخر يتعلق بضم جمع الأوقاف الخاصة، مهما كانت وأينما كانت في الجزائر، سواء كانت ما تزال قائمة أو محولة أو مندثرة. وبذلك انتزعت المساجد صغيرها وكبيرها، والزوايا سواء كانت وراثية أو غير وراثية، والقباب سواء كانت لولي أو لباشا، والجبانات سواء كانت عامة أو خاصة ... من يد وكلائها (النزهاء والأكفاء) كما قيل عنهم سابقا، ودخلت تحت إدارة أملاك الدولة، فأصبحت هي التي تجمع المداخيل وهي التي تدفع الأجور، وتطعم الفقراء، وتصون المساجد، على الأقل من حيث المبدأ. وصدر هذا القرار من الحاكم العام (شارون) في 3 أكتوبر 1848. وجاءت فيه ثلاث مواد، نذكر منها ما يلي: جاء في المادة الأولى أن البنايات التابعة للمساجد والمرابطين (القباب والأضرحة) والزوايا، وبصفة عامة كل المباني الدينية الإسلامية، التي ما تزال بصفة استثنائية تحت إدارة الوكلاء، قد أصبحت منذ الآن موضوعة تحت إدارة أملاك الدولة، وجاء في المادة الثانية أن على الوكلاء وضع ما بأيديهم من وثائق ومداخيل وأوجه صرف ومصاريف وقوائم أملاك الخ. في يد مصلحة أملاك الدلة، خلال عشرة أيام من إخطارهم رسميا (¬1). ورغم أن ديفوكس قد تحمس لهذا القرار وأخذ، بعد تكليفه رسميا، يحمي المباني الدينية في العاصمة، فإن زميله أوميرا، قد لاحظ الإجحاف في هذا الموقف من أملاك الوقف الخاص، وأكد على أنها أملاك (مصادرة). وهي وإن لم تكن مصادرة صريحة سنة 1830 فإنها لم مجد تشوبها شائبة منذ ¬

_ (¬1) هذا القرار أرخه ديفوكس بالتاريخ المذكور، وأرخه أوميرا ب 3، 6 أكتوبر. وعبارة (بصفة استثنائية) هي التي أطلق عليها سابقا (بصفة مؤقتة). انظر ديفوكس، 47 - 48، وأوميرا، (المكتب الخيري)، 190.

1848. لقد أصبحت إدارة الدومين هي التي تتولى جميع الأملاك الدينية الإسلامية. وقد لاحظ أوميرا أن هناك فارقا وحيدا بين تحصيل المداخيل في السابق وتحصيلها بعد (المصادرة)، وهذا الفارق هو أن التحصيل لم يعد لفائدة ميزانية كولونيالية ولكن لفائدة ميزانية محلية أو بلدية. والغريب أن هذه المصادرة كانت بدون تعويض رغم كثرة المتعلقين بالمعالم الدينية المصادرة، ورغم القوانين الفرنسية نفسها التي نصت على التعويض في حالة استعمال البناء للصالح العام. ولم تكن المعالم مجرد ملك خاص للوكيل ولكنها كانت ملكا مشاعا للمسلمين بمن فيهم ورثة الوكيل أو ورثة المحبس. وقد قيل إن الإدارة الفرنسية حين استولت على هذه المعالم قد تكفلت أيضا بالتعليم والمساعدات الاجتماعية والصيانة والشؤون الدينية الخ. ولكننا سنرى أن التعليم كان قد أهمل تماما في هذه الأثناء، وأن الوكلاء والفقراء قد ازدادوا فقرا على فقر، وأن المساجد والمعالم عموما قد أخذت تنهار من الإهمال وعدم الصيانة. فأين إذن المصاريف التي كانت تأتي من أوقاف المعالم المذكورة؟ لقد لاحظ أوميرا أن المصارف كانت قبل المصادرة دون المداخيل، أي أن الوكلاء قد عاشوا في شيء من النعمة من فائض المصاريف بين 1830 - 1848. ولكن بعض الوكلاء كانوا قد افتقروا أيضا خلال نفس المدة. فبعد أن كان بعضهم في نعمة نسبية، اضطربت أحوالهم مرات عديدة، وكان على الكثير منهم البحث عن وسائل أخرى للعيش. وكان كثير منهم أيضا قد وجد نفسه بدون عمل ولا مورد للعيش بعد هدم البناية الدينية التابعة له، أو بعد دخولها في الطريق العام أو استعمالها للمصالح العسكرية وغيرها. ذلك أن المحسنين لا يقدمون لهم الحسنات والصدقات عندما يصبح الجامع كنيسة أو ثكنة أو مخزنا أو طريقا أو ساحة عمومية. وإذا كان عليهم أن يحصلوا أجور الدكاكين والمنازل ويعيشون منها، فقد وجدوها الآن قد خضعت للتعطيل والتحويل والبيع والهدم أيضا، وقد يؤدي هدم المسجد إلى هدم الدكاكين من

نماذج من أموال الوقف والإحصاءات

حوله، وهي جميعا مورد الرزق للوكيل. وقد ضرب السيد أوميرا المثل بجامع السيدة الذي لم يسقط وحده بل سقطت معه الزاوية التابعة له والمنازل المجاورة. ولاحظ هذا الكاتب أن كثيرا من الوكلاء قد اختفوا بعد قرار 1848 (¬1). إن الاستيلاء على أوقاف المساجد ونحوها، بعد مصادرة الأوقاف العمومية الأخرى، مثل مكة والمدينة، لا يعني فقط ضربة قاضية للمعالم الإسلامية والتعليم والمساعدات الاجتماعية، ولكنه كان أيضا ضربة مؤلمة للمجتمع كله، إذ كان ذلك يعني حرمانه من موارد كان يعيش عليها آلاف المسلمين في الجزائر وخارجها. وسنرى قرار سنة 1857 ينطلق في تبريراته من هذا الوضع الذي أصبح عليه المجتمع الإسلامي في الجزائر بعد أن فقد أملاكه وصنائعه ومنازله وأوقافه لصالح الدولة الفرنسية من جهة، والمستوطنين الأجانب من جهة أخرى. نماذج من أموال الوقف والإحصاءات لكن قبل ذلك سنتحدث عن ثلاث نقاط، الأولى نماذج من مداخيل ومصاريف الأوقاف، والثانية التنظيم الإداري الفرنسي للمساعدات الخيرية قبل 1857، ثم ذكر بعض الإحصاءات. لقد تعرضنا فيما مضى إلى مداخيل بعض الأوقاف العامة، مثل مكة والمدينة وبيت المال وسبل الخيرات، ونشير هنا إلى أن مصاريف الأوقاف قد أصبحت قليلة جدا في العهد الفرنسي لأن البنايات قد تهدمت أو حولت إلى مصالح أخرى، كما لاحظنا. وكذلك الأمر بالنسبة للأوقاف الخاصة قبل ¬

_ (¬1) أوميرا، (المكتب الخيري ...)، 186، 190. رأينا سابقا شكوى وكيل ضريح الشيخ الثعالبي (انظر ابن سديرة، كتاب الرسائل)، 283. وسنرى في فصل آخر شكاوى العلماء والقضاة والوكلاء من حالة الفقر التي أصبحوا عليها. وقد أثر كل ذلك على حالة التعليم أيضا.

1843 و 1848. فقد أدخلت أوقاف زاوية الثعالبي ثم أوقاف الجامع الكبير في صندوق مصلحة أملاك الدولة الفرنسية وأملاك الوكلاء مقيدين (موظفين) ومراقبين، ولا حق لهم في صرف أي مبلغ إلا بموافقة إدارة المالية الفرنسية. وعندما شمل قرار المصادرة الفعلية أوقاف جمع المساجد والزوايا والقباب دخلت كل مداخيل الوقف تحت الإدارة الفرنسية. ولم يعد يرجع منها للتعليم والوكلاء والمساعدات الاجتماعية إلا النزر اليسير. لقد عوملت جميع المعالم نفس المعاملة، فاستحوذ الفرنسيون على أوقاف سيدي بومدين شعيب في تلمسان، وهي الأوقاف التي قيل عنها إنها كانت تبلغ ربع أملاك تلمسان وما حولها، وقيل إن مداخيل هذه الأوقاف كانت عظيمة (¬1). وفي تلمسان أيضا استحوذ الفرنسيون على عدد كبير من المساجد والقباب والزوايا، ومن ثمة على أموال دخلها وأراضيها ومنازلها. وكان في مدينة تلمسان وحدها ثلاثة عشر مسجدا بين كبير وصغير مثل الجامع الكبير وجامع سيدي الحلوى الخ. وقد ذكرنا أنه كان لجامع سيدي بوجمعة وقف يسمى بستان طاحونة الريح، وهو الوقف الذي وزعته الإدارة الفرنسية على الكولون بعد الاستيلاء على أوقافه كلها (¬2). وبالطبع فإن الاستيلاء في تلمسان شمل أيضا الأوقاف العامة كالعيون الجارية والطرقات. ونفس الطريقة طبقت على الأوقاف في قسنطينة، وهي العاصمة الإقليمية الأكثر هواء عندئذ. فقد كان لها أيضا أوقاف عامة وخاصة قبل احتلالها سنة 1837، وكانت أملاك (أوقاف) مكة والمدينة فيها على نوعين، نوع تحت إدارة الناظر ونوع تحت إدارة الوكيل. وكان الناظر هو الذي يجمع دخل هذه الأوقاف ويرسله إلى البقاع المقدسة عبر تونس. أما الجزء الذي تحت إدارة الوكيل فكان يرسل كل ستة أشهر إلى الوكيل العام لأوقاف مكة ¬

_ (¬1) سجل (طابلو)، 1839، 291. لاحظ أن الفرنسيين لم يستولوا على تلمسان نهائيا إلا بعد 1842. (¬2) بروسلار (الكتابات والآثار العربية في تلمسان)، في المجلة الإفريقية، 1860، 258.

والمدينة في الجزائر، وهو الجزء الذي فضل من المداخيل بعد طرح مصروف إدارة الوكيل وما أنفق على الفقراء. ومنذ الاحتلال استولت إدارة أملاك الدولة أيضا على أوقاف الحرمين بنوعيها، ووضعتها في البداية تحت إدارة قائد الدار (بصفته وكيلا) لإدارتها باسمها وصب أموالها في الخزينة العامة للدولة الفرنسية. وكان لقسنطينة أوقاف عامة أخرى مثل العيون والسبالات والطرقات وكان مصيرها هو المصادرة أيضا. أما الأوقاف الخاصة في قسنطينة فقد كانت بيد الناظر. ونعني بذلك أوقاف المساجد والزوايا والقباب. وقد أصبح الناظر مجبرا على إدارتها لصالح إدارة أملاك الدولة، كما هو الحال في الجزائر، على أن يصب مداخيلها في الخزينة العامة التي كانت في قسنطينة تحت مسؤولية قائد الدار كما ذكرنا (¬1). وفي البداية كان لكل بناية وكيل خاص، ثم حدث لها ما حدث في بنايات الجزائر، إذ أدى الحرمان والإهمال إلى اختفاء الوكلاء وتداعي ثم هدم المساجد والزوايا والقباب. ثم جاء قرار 1848 الذي صادر جميع أوقاف البنايات المذكورة، والتي أصبحت تدار مباشرة من قبل الإدارة الفرنسية. وقد برر الفرنسيون استيلاءهم على الأوقاف في قسنطينة بنفس التبريرات التي جاؤوا بها بالنسبة للجزائر. فقالوا إن الوكلاء والنظار قد أساؤوا الإدارة وأفسدوا المال، واختفت على أيديهم مصادر ومداخيل الأوقاف. ولذلك قرر، كما قالوا، المجلس الإداري لمدينة قسنطينة وضع جميع الأوقاف في يد مصلحة أملاك الدولة، وهي التي في نظرهم ستتكفل بالصيانة للمساجد والأملاك العامة. وبدأوا في ذلك بالأوقاف الحضرية (أملاك المدينة). ولكن هذا الإجراء شمل فيما بعد الأملاك (الأوقاف) الريفية أيضا، بعد إجراءات تحديدية دقيقة ومعرفة المسؤولين وإمكاناتهم. وابتدأ العمل في قسنطينة بحصر الأوقاف، فكانت منها (أحباس دار سيدي الشيخ) ¬

_ (¬1) سجل (طابلو)، 1838، 36.

وهم يعنون بها الشيخ الفكون أو عائلة شيخ الإسلام السابقة التي جردت من هذا اللقب منذ 1838. ثم (أحباس الجامع الكبير)، وكانت من قبل تحت إدارة (شيخ البلاد) وهي الأحباس التي نشأت بناء على وثائق أصلية وقعها البايات ووافق عليها حكام الجزائر. وتشمل هذه الأوقاف أراضي عديدة كانت تقع خارج مدينة قسنطينة (¬1). وكان في مدينة قسنطينة حوالي مائة مسجد عند الاحتلال. ولكل منها وكيل وموظفون يعيشون منها، وباختفاء مداخيل الوقف حرم هؤلاء من وسيلة العيش وحرمت البنايات من الصيانة، فأصاب الجميع ما أصابهم من الإهمال، كما ذكرنا. إن أصغر بناية كان لها في الغالب ما يكفيها وما كفي المشرفين عليها. أما المساجد والزوايا الكبيرة، والأوقاف العامة فكان فانها في معظم الأحيان غزيرا حتى أنها كانت تنشئ بنايات فرعية لها من ذلك الفائض، كما حدث لمدرسة الجامع الكبير بالعاصمة. وإذا كنا قد ذكرنا إحصاء يتعلق بمداخيل الأوقاف العامة لسنة 1838 - 1839، فلنذكر هنا أن بناية صغيرة مثل زاوية الولي دادة وحدها كان دخلها سنة 1831 يساوي 403، 5 فرنكات، وهي منجرة لها من مزرعة قرب وادي الحراش، وكان لها أيضا مخزنان في العاصمة، وقطعة أرض أخرى، وإيجار ثلاثة منازل صغيرة، إيجار الطابق التحتي ومحطة قوافل (¬2)، وذلك دون الإشارة إلى (زيارات) المحسنين للزاوية ولا إلى تأجير الإنتاج من إملاكها. كما أن أوقاف مسجد سيدي الجامي (الجامع)، كانت تتمثل في سبع ¬

_ (¬1) سجل (طابلو)، 1840، 353. يقول فايسات (روكاي)، 1867، 258. إن (شيخ البلاد) شخصية دينية معروفة ويعتبر رئيس الديانة في قسنطينة وتعتبر داره ملجأ، وكانت أملاكه الكثيرة معفاة من الضرائب، وهو الذي كان يشرف على أوقاف مكة والمدينة ويحمل لقب أمير الركب. وهذا ينطبق على شيخ الإسلام الذي كان من عائلة الفكون. انظر أيضا تقرير روسو سنة 1838 عن أملاك الوقف في قسنطينة. (¬2) بلاكسلي، (أربعة أشهر في الجزائر)، 1859، 29.

عشرة حانوتا، وخمسة منازل، وغرفة، ورحى، وأرض ريفية (ضيعة) (¬1). لكننا إذا رجعنا إلى أوقاف الجامع الكبير أو جامع خضر باشا أو جامع سيدي بومدين (تلمسان) أو زاوية الثعالبي أو زاوية الأندلس، فإن الأمر سيكون مختلفا تماما من حيث ضخامة المداخيل. إن جميع المداخيل، قد آلت إلى إدارة أملاك الدولة. ولم يعد المسلمون يحصلون منها إلا على القليل في شكل مساعدات (خيرية) أو في شكل رواتب لرجال الدين الذي يشرفون على ما بقي من المساجد والزوايا. ولدينا إحصاء هام ذكره كل من ديون وكوبولاني سنة 1897 عن مداخيل الوقف. ولكن هذا الإحصاء لا يشمل سوى مداخيل عقارات الوقف المصادرة في. إقليم الجزائر فقط بين 1830 - 1891. فهي تبلغ بناء على هذا المصدر، قريبا من خمسة ملايين فرنك بعملة ذلك الوقت: 4، 761، 547 ف. و 44 سنتيم. ومن العقارات في المناطق الصحراوية ما استولت عليه الدولة في الأغواط، وهو عقار واحد، حسب هذا المصدر، وتبلغ قيمته 11، 200 فرنك. ولا شك أن هناك عقارات أخرى مشابهة. وكانت الأوقاف المصادرة منذ 1830، أرضا وعقارا، تتصرف فيها الدولة بالإبقاء عليها تحت يدها أو بإعطائها إلى المهاجرين الأوروبيين. وقد ذكرنا أن ذلك كان يقع بدون تعويض لأصحاب الحقوق الأصليين، كما لاحظ السيد أوميرا، رغم الإقرار بالمبدإ في بعض القرارات. وقد بلغت قيمة أملاك الأوقاف التي استولت عليها الدولة ولم توزعها على الأوروبيين إلى سنة 1891 ما يلي حسب كل أقليم (¬2). ¬

_ (¬1) ديفوكس، 20. انظر عن هذا الجامع قائمة المساجد. (¬2) ديبون وكوبولاني (الطرق الدينية الإسلامية)، الجزائر، 1897، ص 235 هامش 1، 2، وص 238. وواضح أن الحديث هنا عن الأوقاف الخاصة - المساجد والزوايا، الخ ... - أما الأوقاف العامة مثل بيت المال والطرقات والعيون الخ. فلا يعنيها هذا الإحصاء.

1 - في إقليم الغرب (وهران): 1، 574,225 فرنك. 2 - في إقليم الشرق (قسنطينة): 554,078 فرنك. 3 - في إقليم الوسط (الجزائر) 509,702 فرنك. وكان الفرنسيون يعرفون أن الجزائريين لن يسكتوا عن اغتصاب أوقافهم، وأنهم في الحقيقة لم يكونوا هادئين ولا متسامحين في حقوقهم. فقد لاحظ لويس رين سنة 1884 أن عملية الاستيلاء على الأوقاف كانت دائما محل انتقاد شديد من قبل المسلمين وأنه قد صدرت بشأنها منهم شكاوى كثيرة. وكانت هذه المسألة حساسة لدرجة أنه عند احتلال ميزاب (1882) أعلن الحاكم العام، لويس تيرمان، أن أوقاف ومداخيل المساجد الإباضية ستخضع للتشريعات الفرنسية الخاصة بهذا النوع من الأملاك (¬1). وقد اعترف ديبون وكوبولاني أن (الأهالي) قد طعنوا طعنة شديدة في تراث أجدادهم ومقدساتهم بعد اغتصاب الأوقاف. وشمل سخطهم أهل المدن وأهل الريف على السواء. وفي رأيهما أن العطايا والهدايا التي كانت توقف على المساجد ونحوها من المشاريع الاجتماعية والعلمية والدينية قد انقلبت إلى المرابطين الذين أصبح المسلمون يعتقدون أنهم هم المنقذون بعد فشل ثورات الأشراف والأجواد. وكان لميزاب مساجدها وأوقافها الغزيرة وكان التحكم فيها في يد العزابة وكبار الشيوخ. وكان ريعها يتوزع على الفقراء في نظام محكم وذلك في مواسم معينة مثل رمضان والحج أو في الحياة اليومية بالنسبة للعجزة والأيتام وغيرهم. وكان التمر يوزع ثلاث مرات في اليوم، وللكتاتيب (المدارس) نصيبها من مداخيل الوقف، وكذلك التلاميذ المحتاجين. ولكل مسجد وكيل يعينه العزابة. وكان الوقف يشمل النخيل والمنازل. وهو من تبرعات المحسنين في كل مدينة. ويقام حفل سنوي توزع فيه الصدقات على الفقراء تحت إشراف العزابة، وقد يتكرر ذلك خلال العام الواحد. وعلى ¬

_ (¬1) رين، (مرابطون وإخوان)، الجزائر، 9، 1884.

غرار المدن الأخرى فقد كان الضيوف والغرباء يجدون ملجأهم وطعامهم من مداخيل الأوقاف (¬1). وقد ادعى لويس ماسينيون أن الإدارة الفرنسية قد (احترمت) الأوقاف في الجنوب عموما سيما في ميزاب، والغريب أنه ادعى كذلك أن منطقة الهقار ليس فيها مساجد (ومن ثمة ليس هناك أوقاف)، وذهب أيضار إلى أن العادات هناك (في الهقار) غير إسلامية (¬2). وقد عرفنا أن في الهقار أهل علم وفضل، وأهل مساجد وزوايا، وإن الإسلام منغرس هناك، وأن للطرق الصوفية مثل التجانية والقادرية والسنوسية دورها القوي في المنطقة (¬3). وقد كان لزواوة نظام دقيق للأوقاف والمساعدات الخيرية. ففي كل قرية جامع أو أكثر، له مئذنة بيضاء متميزة تظهر عن بعد. ولكل جامع وكيل مستقل عن أمين الجماعة، والجماعة هي التي تنتخب الوكيل، وهو عادة من بين. اغنياء القرية ووجهائها ومحل الثقة فيها، وهو عادة من رجال الدين (المرابطين). ويسمى بعد انتخابه وكيل الجامع. فالجامع إذن تديره الجماعة مباشرة بواسطة الوكيل. ولكل جامع أوقافه الخاصة، وهي متميزة عن أملاك القرية الأخرى. وكانت مهمة الوكيل هي السهر على أموال (مداخيل الوقف) الجامع وحفظ الحسابات. فهو الذي يتلقى المداخيل ويتولى الصرف فيما تقرره الجماعة. ولا يصرف الوكيل أي شيء إلا بحضور الجماعة أو مجلس العقلاء في الخروبة. وأحيانا لا تملك القرية كل الجامع ولكن تملكه خروبة خاصة به، وفي هذه الحالة لا دخل لبقية القرية فيه. ووظيفة الوكيل شرفية فقط وهو لا يتقاضى أي مرتب على عمله. وأوقاف الجامع تنجر من المحسنين أو من التركات التي خصصها أصحاب القرية للجامع. أما الصرف من الأوقاف فله في زواوة مجالات عديدة، ومنها شراء ¬

_ (¬1) دبوز (نهضة) 1/ 220. (¬2) ماسينيون (الحولية)، باريس، 1955، ص 235. (¬3) انظر فصل الطرق الصوفية. وكذلك هنري دوفيرييه (اكتشاف والصحراء)، باريس، 1864.

لوازم الجهاد مثل الذخيرة والأسلحة. ومنها المساعدات للحجاج لأداء فرضهم، وتقديم الصدقات للفقراء والمساكيين، والعناية بالغرباء والمسافرين. وقد ذكرت بعض المصادر أن من بين ما تصرف فيه الأوقاف في زواوة منح الجوائز للشعراء والمغنين الذين يسمون بالفصحاء (الفصاح) (¬1). ولكن الاستيلاء على زواوة، وإلغاء نظام الجماعة، والسيطرة على الموارد العامة سواء كانت وقفا أو غيره، قد أدت إلى بعثرة الحياة الدينية ومنها حياة المساجد وأوقافها ونظام الوكيل وطرق صرف الأموال على الفقراء والعلم والسلاح. كما اعترف كوبولاني وديبون بعدة أمور أخرى هامة في هذا المجال. منها أن بعض الفرنسيين استكثروا على الجزائريين مال الأوقاف، فهو في نظرهم أكثر من حاجتهم ومن حاجة ديانتهم (الإسلام)، ورأوا أنه من (العدالة) أن تصرف مداخيل الأحباس في المشاريع الفرنسية الأخرى لتساهم في أعباء الإصلاحات المشتركة! ثانيا اعترف الكاتبان أن دمج مداخيل الأوقاف في الميزانية العامة قد أدى إلى عدم صرفها فيما خلقت له وفي غير الغرض الذي أسست من أجله، ولم يعد يتحصل موظفو الديانة الإسلامية في الجزائر إلا على رواتب زهيدة، لا من المداخيل التي نص عليها المحبس باعتبارهم وكلاء، بل باعتبارهم موظفين تابعين للدولة الفرنسية، وبذلك فقدوا أيضا مكانتهم الاجتماعية بين الناس. ثالثا ذكرا أن اغتصاب الأوقاف كان يشمل في البداية الأملاك الحضرية، ولكنه منذ القرار المشيخي (سنتوس كونسلت 1863) وضعت مصلحة أملاك الدولة يدها على كل الأوقاف الريفية أيضا، وهي تلك التي ترجع إلى المرابطين والزوايا المحلية القديمة لدرجة أنه يمكن القول إنه لم يعد في مناطق التل والهضاب العليا أوقاف على الاطلاق بل كلها أصبحت ضمن أملاك الدولة (¬2). ¬

_ (¬1) هانوتو ولوتورنو (بلاد القبائل) 1/ 28، 35، 50. (¬2) ديبون وكوبلاني، 235. ذكر الكاتبان أن الفرنسيين فكروا بعد 1870 في إقامة هيئات محلية إقليمية يعطى لها حق الإشراف على الأوقاف، ثم تخلوا عن هذه الفكرة =

المساعدات الخيرية

ما الذي بقي للجزائريين من أوقافهم الكثيرة بكل أنواعها؟ لا شيء تقريبا. لقد ذهب كل ذلك إلى ميزانية الدولة الفرنسية، وأصبحت هذه الدولة تستعمل المداخيل في مصالحها الدنيوية من بيع العقارات للكولون، وتسليم الأراضي لهم وللشركات الفرنسية والأجنبية، ثم استغلالها في المشاريع العامة دون تعويض أصحابها. وهناك ناحية فقط بقي يظهر فيها أثر الوقف وهي رواتب رجال الدين (¬1)، وصيانة ما بقي من المساجد، ثم ما يسمى بالمساعدات الخيرية، وهذه المساعدات قد سارت في مراحل وعرفت تعرجات كثيرة إلى أن كادت هي أيضا تذوب وتنتهي. فلندرس الآن تاريخ هذه المساعدات وكيف انتهى أمرها إلى دهاليز الإدارة، وإلى التحايل القانوني من خلال الإجراءات والقنوات التي نشأت بين 1840 و 1900، وكيف انحصرت طرق الوقف في فرع واحد سماه الفرنسيون (المساعدات) أو الإغاثات. المساعدات الخيرية إن التسمية في حد ذاتها تخرج الوقف عن حقيقته. فالمسلمون لم يكونوا في حاجة إلى (مساعدة) أو نجدة من أيدي الفرنسيين، وإنما في حاجة إلى مداخيل منصوص عليها في الوقفيات التي كانت لدى وكيل كل بناية وكل مؤسسة دينية. ولكن الإدارة الفرنسية أخرجت جزءا ضئيلا من الوقف لتنفقه في المواسم وغيرها على الفقراء والعجزة، وقد أضيفت إليهم أولاد الشوارع والأيتام، وهم لم يكونوا من قبل داخلين في ¬

_ = خوفا من أن تسقط المداخيل في يد أهل الطرق الصوفية و (المتعصبين) فيستعملونها للثورات. كما أشارا إلى أن بعض الأوقاف كانت ما تزال موجودة في الدوائر العسكرية بالجنوب، وهي متروكة لأصحابها الشرعيين. (¬1) انظر فصل السلك الديني والقضائي.

الأوقاف. كما أضيفت أصناف أخرى لا يعترف بها الواقفون. ويعترف أوميرا أن ما يسمى بالمساعدات الخارجة من الوقف قد انحصرت في الجزء الخارج من أوقاف مكة والمدينة فقط. أما باقي الأوقاف فلم نعد نسمع عنه شيئا. كما اعترف أن مصلحة أملاك الدولة لم يكن لها ولا لرجالها الذوق ولا الرغبة في أن تكون هي الوكيلة على توزيع المساعدات. فقد كانت هذه المصلحة مهتمة بمصادرة وضم العقارات الدينية وأملاك البايلك (الدولة الجزائرية) ونحوها، و. اعطائها إلى المصالح العامة أو بيعها إلى الخواص الأوروبيين. ولم تكن هذه المصلحة أيضا مهتمة بتوزيع المساعدات العامة على الفقراء والمساكين (¬1). وفي 7 مارس 1840، صدر قرار يجعل توزيع المساعدات على فقراء المسلمين من اختصاص إدارة الداخلية، فهي التي أصبحت تشرف على ذلك بدل مصلحة أملاك الدولة. ومعلوم أن مصدر هذه المساعدات هو أوقاف مكة والمدينة، أما الباقي فلا حديث عليه. ويقول السيد أوميرا إن صدور هذا القرار كان بردا وسلاما على قلب إدارة أملاك الدولة رغم أنها هي التي كانت تسيطر على كل مداخيل الوقف بأنواعه. ولكن تنظيم هذه المساعدات ظل ينتظر قرارا آخر لحصره في الجهة الحقيقية التي تشرف عليها، تحت رعاية إدارة الداخلية. فكان ذلك هو القرار الذي أصدره الحاكم العام بوجو، في 20 أكتوبر ثم 28 نوفمبر 1843، على إثر ضم أوقاف الجامع الكبير، كما أسلفنا. وبناء على هذا القرار الأخير تأسس مكتب خاص بإشراف ورعاية مدير الداخلية، مهمته توزع الصدقات المنجرة عن صندوق مكة والمدينة على فقراء الدين الإسلامي (نعم هكذا الصيغة) (¬2). وتألف المكتب الذي دعي بالتأسيسي، من سبعة أشخاص، جزائريين وفرنسيين، وحددت لهم رواتبهم، وقد صنفوا كما ¬

_ (¬1) أوميرا، (المكتب الخيري ..)، المجلة الإفريقية، 1899، 194. (¬2) لاحظ أن أوقاف مكة والمدينة فقط هي المعنية، أما الأوقاف الأخرى فمسكوت عنها.

يلي (¬1): 1 - كاتب - مترجم الإدارة، وهو من الملكفين بالمالية ... 1، 500 فرنك سنويا 2 - كاتب فرنسي ... 1، 500 فرنك سنويار 3 - عضو أول (فرنسي) ... 1، 500 فرنك سنويا 4 - عضو ثاني (فرنسي) ... 1، 200 فرنك سنويا 5 - عدل أول (مسلم) ... 1، 200 فرنك سنويا 6 - عدل ثاني (مسلم) ... 1، 200 فرنك سنويا 7 - شاوش (مسلم) ... 600 فرنك سنويا (¬2) ومن حيث الأهمية فإن الأول والثاني والثالث والرابع يعينهم وزير الحرية، أما الباقون فتعينهم الحكومة العامة بالجزائر باقتراح من مدير الداخلية. ومن الواضح أن هذا المكتب المزدوج دينا ولغة وعرقا كان عبارة عن هيئة تعمل تحت إدارة الداخلية والحكومة العامة. ولكنه من الناحية النظرية كان مكلفا أيضا بصرف المعاشات والمساعدات تحت أي عنوان يشاء، إلى فقراء المتعلمين في الجزائر، وإلى أهل مكة والمدينة، وإلى الأندلسيين. وسنرى أنه كان من صلاحياته منح (العطاءات السياسية). ثم إن حملة التغيير التي جاءت بها الجمهورية الثانية أدت إلى إصدار قرار أول ماي 1848، من الحاكم العام، كافينياك، بإنشاء مصلحة جديدة فيما يتعلق بالعلاقات مع الجزائريين، وسميت ب (مصلحة الإدارة المدنية الأهلية). وتعين على رأسها السيد دولابورت، الذي يرد ذكره كثيرا في مراسلات رجال الدين في ذلك الحين. وكان دولابورت هذا خبيرا بالشؤون العربية والإسلامية، وتولى الكتابة والترجمة مدة طويلة في مصلحة أملاك الدولة التي تحدثنا عن علاقتها بالأوقاف، ثم عمل في إدارة الداخلية. وأثناء وجوده في الإدارة الأخيرة كان يشرف منذ 1843، على (مكتب مكة ¬

_ (¬1) نفس المصدر (أوميرا)، المكتب الخيري، 195. (¬2) لاحظ الفرق في الرواتب والأصناف والقيمة بين الفرنسيين والمسلمين.

والمدينة) المكلف بتوزيع الصدقات على فقراء الدين الإسلامي (كذا). وبهذه المسؤولية الجديدة أصبح دولابورت في مستوى مدير الداخلية بالنظر إلى اختصاصاته كمدير للإدارة المدنية الأهلية. ولكن المكان قد تغير، فقد انتقلت مكاتبه إلى بناية كانت تابعة للجامع الكبير، حيث كان (مكتب مكة والمدينة) يعمل منذ 1843 (¬1). ويتألف مكتب الإدارة المدنية الأهلية من رئيس ونائب، ومن لجنة تسمى (اللجنة الخيرية). أما رئيس المكتب فهو دولابورت، وهو الكاتب/ المترجم. وكان رئيسا للمكتب السابق أيضا. وأضيف إليه شارل بروسلار نائبا له، وهو أيضا من المستعربين (¬2). أما (اللجنة الخيرية) فهو الاسم الجديد لمكتب مكة والمدينة او المكتب الأهلي السابق. ولكن الأسماء غير مهمة هنا، وسنرى أن (المكتب الخيري الإسلامي) سيحل محل هذه اللجنة ابتداء من 1857 كما أن (الجمعية الخيرية) ستحل محل (المكتب الخيري ...)، وهكذا. ولكن المحتوى واحد، وهو سيطرة الفرنسيين وتبعية الجزائريين لهم، وهضم حقوق هؤلاء عن طريق المكاتب واللجان والجمعيات المدارة من قبل الفرنسيين، وتذويب مداخيل الأوقاف بطرق ملتوية في مشاريع غير داخلة في شروط المحبس. وهؤلاء هم أعضاء اللجنة الخيرية عند تأسيسها، وجميعهم من الجزائريين: 1 - علي القزادري، 2 - أحمد الشريف، 3 - مصطفى بن أحمد قهواجي، 4 - محمد بن مصطفى الحرار؛ ويظهر من أسمائهم أنهم من رجال الدين والعلم في العاصمة، الذين بقوا خائفين أو موالين للفرنسيين. وهؤلاء ¬

_ (¬1) من بين البنايات التي كانت تابعة للجامع الكبير زاوية كبيرة للغرباء والعلماء، ومدرسة قرآنية. والغالب أن المقصود هنا هو المدرسة، وهي التي رفض المفتي الكبابطي تسليمها من قبل. انظر فصل السلك الديني. (¬2) وهو الذي تولى الإدارة في تلمسان فيما بعد ثم في وهران. وقد كتب عن مساجد تلمسان وكتاباتها الأثرية، انظر فقرة المساجد.

الأعضاء كانوا موجودين أيضا في مكتب مكة والمدينة السابق. ومن ثمة لم تتغير تركيبة المكتب الجديدة في الواقع، كما لم يتغير الأمر بالنسبة للصلاحيات. فقد بقيت اللجنة نظريا مكلفة بتوزيع. الإغاثات على الفقراء والعجزة والموظفين القدماء من الأهالي. وكان يمكنها منح مساعدات إلى الوكلاء الذين تعطلت بناياتهم، وتعيين رواتب رجال الدين الموظفين، وتخصيص الإعانات لفقراء مكة والمدينة. ولم يستمر وجود هذا المكتب طويلا. فبعد سنة واحدة أصبح غير مركزي، وتوزع على ثلاثة مكاتب ولائية أو إقليمية. فأصبح في كل عاصمة إقليم مكتب يقوم بدور المكتب القديم في العاصمة. وكان ذلك في 19 مارس 1849 حين صدر مرسوم يجعل المكتب المذكور ثلاث وحدات، وكل وحدة منها تحت سلطة الوالي. ونذكر هنا بأن تنظيمات الجمهورية الثانية المتحمسة للاستعمار والاندماج والحكم المدني هي التي عينت النظام الولائي وأعطت للمدنيين صلاحيات هامة على حساب العسكريين. ولكن الاسم الجديد لكل وحدة هو (المكتب العربي الولائي)، وكان له رئيس. أما الاختصاصات فقد بقيت هي هي (¬1). وقبل أن نصل إلى مرسوم 1857 الذي أنشأ (المكتب الخيري الإسلامي) نقول إنه قد صدرت عدة تنظيمات أخرى قبل ذلك شملت الأوقاف أيضا. ومن ذلك قانون 16 جوان 1851 حول تأسيس الملكية في الجزائر، فهذا القانون أكد مبدأ مصادرة الأوقاف الذي عمل به منذ سنة 1830. فقد نص البند الرابع من قانون 1851 على أن أملاك الدولة تتكون من الأملاك والحقوق المنقولة والعقارية التي ترجع إلى البايلك (الدولة الجزائرية العثمانية). وهذا واضح من مبدأ الغزو والاحتلال، (وكل ما عداها ¬

_ (¬1) أوميرا، (المكتب الخيري الإسلامي)، المجلة الإفريقية، 1899، 196. يذكر هذا المصدر أيضا أن وقع إعادة تنظيم هذا المكتب سنة 1858 (8 أوت) فرفع من مستوى موظفيه، ولكن اختصاصاتهم لم تتغير.

من الأملاك المضمومة إلى أملاك الدولة بقرارات أو مراسيم سابقة عن هذا القانون). (تأكيد أوميرا) (¬1). وقد استنتج أوميرا أن العبارات الأخيرة البارزة، تعني الأملاك القديمة للأوقاف. ورأى أن هذه الأوقاف التي ضمت سنة 1839 إلى ما سمي (بالدومين الكولونيالي) قد رجعت بمقتضى قانون 1851 إلى الدولة التي أصبحت تمنح حق إعطاء ما تراه مفيدا من هذه الأوقاف (الأملاك) إلى إدارة أملاك الدولة الولائية أو إلى إدارة أملاك الدولة البلدية، أو إلى مؤسسات دينية أو خيرية. ولكن الإدارة الجزائرية لم تنتظر هذا القانون حتى تمنح للبلديات الأملاك العقارية من الأوقاف والتي يرجع أغلبها، كما قال أوميرا، إلى المساجد والزوايا والقباب .. لقد تنازلت الدولة للبلديات عن أملاك الوقف الإسلامية دون تعويض أهلها، رغم قانون 3/ 12/ 1853 الذي نظم التنازلات التي وقعت قبل صدوره. ومن النماذج على التنازلات من الدولة للبلدية، ان بلدية مدينة الجزائر قد حصلت على خمس عشرة بناية حضرية من بينها فندق المدينة الذي بنته الدولة على أرض كانت مسجدا وزاوية (¬2). كما تنازلت الدولة لهذه البلدية على حديقة مرنقو التي كانت جبانة إسلامية، والمساحة الشاسعة التي أنشئت عليها الجبانة الأوروبية سنة 1836، والجبانة الإسرائيلية سنة 1844 (¬3). فهذه وتلك أقيمتا على أراض كانت تابعة للأوقاف الإسلامية. وبالإضافة إلى ذلك تنازلت الدولة للبلدية عن تسعة منازل حصرية (موريسكية)، انتزعت من بين أوقاف مكة والمدينة. ومع كل هذه التنازلات فإن البلديات لم تقدم أي نصيب من المداخيل في إطار التخفيف على فقراء المسلمين، بل كانت تنظر للأمر على أن المساعدات من شأن الدولة وليس من شأن البلدية. ¬

_ (¬1) نفس المصدر، 191. وأكدنا عليها نحن بالحروف البارزة. (¬2) لم يذكر أوميرا اسم هذا الجامع والزاوية، ولكنه قال إنه كان يقع في شارع بروس. (¬3) أوميرا، مرجع سابق (المكتب)، 191. لم يوضح أوميرا على أي وقف إسلامي أقيمت الجباتان الأوروبية والإسرائيلية.

إن العلاقة بين الدولة وإدارة أملاكها (الدومين) لم تتغير بتغير القوانين. فبين 1830 - 1851 كانت إدارة أملاك الدولة هي التي تسير الأوقاف لحساب الدولة. وفي كلا الحالين كانت إدارة (الدومين) تحتفظ عندها بحساب خاص لأوقاف بيت المال والأندلس ومكة والمدينة. ولكن هذا الحساب لم يبق إلا اسما فقط. ومن جهة أخرى استمرت الإدارة المذكورة (الدومين) ترسل تقرم اسنويا إلى وزير الحربية، توضح فيه وضع أملاك الأوقاف التي تديرها، والمداخيل والمصاريف التي قام بها المسيرون خلال السنة المنتهية. وعند التأمل يلاحظ على هذه التقارير التناقص السنوي في المداخيل لأن أملاك الوقف منها ما بيع أو هدم أو استخدم في مصالح أخرى، ومن ثمة انعدم ريعها. وإلى سنة 1844 كان هناك أقسام وموظفون يسهرون على هذه الأملاك، ولكن منذ 1854 لم يبق إلا مكتب واحد. ففي 1844 كانت المصلحة المسماة مصلحة أملاك الوقف الإسلامية تتكون من مكتب للرقابة يشرف عليه فرنسيان برئاسة سوزيد Souzede ونيابة دولسي Doulset . وكان المكتب يضم أيضا أربعة أقسام، حسب مؤسسات الوقف المعروفة، وهي: 1 - مكة والمدينة، 2 - سبل الخيرات، 3 - الأندلس، 4 - بيت المال. وكان المكتب يضم أيضا ثمانية من الجزائريين، لكنهم لم يكونوا وكلاء مستقلين كما كان الحال في الماضي، وإنما كانوا فقط موظفين مأجورين (¬1). وكان دور المكتب هو (تصفية) أملاك الوقف الإسلامية. وهو الدور الذي انتهى سنة 1854 حين لم يبق سوى قسم واحد من الأقسام الأربعة المذكورة، وهو قسم بيت المال الذي كلف بتصفية تركات المسلمين فقط. وهكذا أسدل الستار، بعد ربع قرن من الاحتلال، على أملاك الوقف العامة بطرق متعددة، وانحصرت في تصفية التركات كما انحصرت بالنسبة للأوقاف الأخرى في بعض الإغاثات الخيرية التي تجود بها الإدارة على الفقراء ¬

_ (¬1) أوميرا، (المكتب)، المجلة الإفريقية، 1899، 192.

المكتب الخيري الإسلامي

والمساكين. ثم جاء (المكتب الخيري الإسلامي)، لينظم هذه المساعدات أو الإغاثات. المكتب الخيري الإسلامي لقد قيل إن قانون إنشاء المكتب الخيري جاء لتدارك بعض التعويض الذي حرم منه المسلمون منذ الاحتلال نتيجة استيلاء الدولة على أملاك الوقف ومصادرتها دون أن تدفع أي تعويض عنها. وقد أصبح التعويض الآن (منذ 1857) عبارة عن إغاثات للفقراء، وكأن أملاك الوقف إنما أنشئت فقط لهذا الغرض. إن الإدارة الفرنسية قد حولت أملاك الوقف إلى ثكنات عسكرية وإلى طرقات ومنازل وساحات وكنائس وهدمت الباقي. وكل ذلك قد وقع بدون تعويض للمستحقين من ورثة وغيرهم. ويزعم الفرنسيون أنه منذ 1848 أي بعد مصادرة أملاك الوقف التابعة للمساجد والزوايا والقباب، أصبحت الإدارة الفرنسية هي المسؤولة على الصرف على التعليم والديانة والصدقات التي تنص عليها الوقفيات. هذا من حيث المبدإ، ولكن الواقع كان غير ذلك. فقد أهملت الإدارة التعليم العمومي للمسلمين، وتفرقت مصاريفه على مصالح أخرى (¬1). وأدمجت الإدارة أيضا الموظفين من رجال الدين (الأمة وغيرهم) في ميزانية الدولة أو الولاية، فكانوا يتقاضون أجورا فقط، فأين نصيبهم السابق من الوقف؟ وأين نفقات صيانة المساجد ونحوها المنصوص عليها في الوقفيات؟ أما الصدقات فقد دخلت أيضا في الوعود الضائعة، حتى قال أوميرا إن الإدارة لم تكن دائما وفية لالتزاماتها في هذا الباب (¬2). وتشهد الكتابات أن المداخيل من الوقف أخذت تتقلص بالتدرج نتيجة التخلص من المعالم بالبيع والهدم، والتنازل للمهاجرين الأوروبيين والبلديات، إلى أن انحصرت كل المداخيل في مبلغ ضئيل أصبح يستعمل ¬

_ (¬1) انظر فصول التعليم. (¬2) أوميرا، (المكتب)، المجلة الإفريقية، 1899، 197.

للصدقات على الفقراء والمساكين (¬1). انطلق تقرير المارشال فيان vaillant وزير الحربية من نقطة رئيسية، وهي افتقار الجزائريين نتيجة احتلال ديارهم وأملاكهم الدينية وخراب صنائعهم وتجارتهم. ولتدارك ذلك اقترح إنشاء مكتب خيري يوزع الصدقات على المحرومين من ميزانية هي في الواقع دين الدولة الفرنسية، كما قال، وليس تفضلا منها أو منة عليهم. ولا يقتصر هذا الافتقار على سكان العاصمة بل يشمل جميع المسلمين في الجزائر بدون منازع. وحصر المارشال في تقريره أسباب البؤس الذي شمل العدد الكبير من سكان الجزائر في: 1 - بيع السكان لعقاراتهم أوائل الاحتلال عن طريق المضاربات، بأثمان بخسة، رغم أنها كانت تمثل ثروتهم التي يعيشون منها. 2 - منافسة الصناعات الأوروبية لصنائع السكان المحلية، إذ بالتدرج قضت الأولى على الثانية، لإتقانها وسرعتها وضآلة كلفتها. 3 - استيلاء الدولة الفرنسية منذ 1830، على عقارات الأوقاف، وهي العقارات التي أنشأها المحسنون المسلمون وأعطوها بطريق الوقف، إلى مؤسسات ووكلاء للعناية بالدين والفقراء والتعليم. وبعد ذلك سرد المارشال الأسباب التي أدت بالإدارة الفرنسية إلى مصادرة الأوقاف، فوجدها فيما ذكرناه آنفا وهو: أن طريقة تسيير الوقف تجعل من السهل تهريب ريعه وعوائده بعيدا عن أعين السلطة وأعين الرقباء عموما، ومن جهة أخرى (كان التعصب على أشده) فكان من المخاطرة، في نظر الوزير، أن تترك فرنسا مبالغ مالية ضخمة في أيدي أعدائها مما يمكنهم ¬

_ (¬1) في كراسات الاحتفال المئوية لخص جان ميرانت، وهو من خبراء إدارة الشؤون الأهلية، القوانين والإجراءات التي اتخذتها الإدارة الفرنسية بشأن (المساعدات)، انظر ص 32. وحين وصل إلى مرسوم وزير الحربية الذي سنتحدث عنه قال ميرانت إنه قام على القانون الفرنسي، وإنه ألغى نظام الصدقات وجاء بنظام الإغاثات. انظر لاحقا.

من استعمالها في الحرب ضدها. وقد اعترف المارشال ولكن متأخرا، أن الإدارة باستيلائها على الأوقاف، مهما كانت الأسباب، إنما تحملت هي المسؤولية التي كانت تقوم بها المؤسسات المصادرة، من حفظ المداخيل وصرفها في أوجهها الشرعية. وبناء على ذلك كانت الدولة تقدم للميزانية المحلية أو البلدية، مبلغا من المال ليوزع سنويا كإعانات على قدماء العاملين، وكصدقات وإغاثات لفقراء مدينة الجزائر. إن هذا في الواقع اعتراف من المارشال بأن كل ما بقي من مداخيل الوقف - كل أنواعه - هو المبلغ الذي تجود به الدولة على الفقراء، في شكل إغاثة، رغم أن الوزير كان صريحا عندما قال إن (ما ندفعه هو دين علينا وليس تضحية منا). وهذا هو المبلغ الذي يعينه المارشال 113، 510 فرنك. هذا فقط ما بقي، وهذا فقط ما كانت تقدمه الدولة الفرنسية (كتعويض) للمسلمين عما فقدوه باستيلائها على أملاكهم العقارية والدينية. ومع ذلك فلنتذكر هذا الرقم جيدا، رقم 113، 510 ف. سنويا. فإنه لن يبقى كذلك، بل سينخفض أيضا، رغم ضآلته الأصلية (¬1). إن من نتيجة الاحتلال أنه بعد ربع قرن أصبح معظم سكان الجزائر فقراء بطريقة منظمة ومضمونة العواقب. ففي 1857 كانت 1,985 عائلة مسجلة في قائمة المستحقين للصدقات في مدينة الجزائر وحدها، ولكن الذين كانوا يأخذون الصدقة فعلا لا يتجاوزون 695 عائلة، وبمعدل فرنكين شهريا. وإلى جانب ضآلة المبلغ في حد ذاته فقد كان يمنح نقدا مما جعله يذهب في يومه وربما قبل منحه، إذ قد يكون دينا على صاحبه، فأين إذن مداخيل العقارات والأراضي والبنايات الدينية التي كانت موردا لآلاف الناس، وعشرات الوكلاء، بالإضافة إلى تنشيط العلم وإحياء الدين وصيانة مؤسساته؟ لقد اقترح المارشال على نابليون طريقة أخرى أجدى في نظره وأكثر عدلا ¬

_ (¬1) عن تقرير المارشال فايان، انظر أوميرا، (المكتب الخيري)، المجلة الإفريقية، 1899، 199 - 201.

وأضمن اقتصاديا. وذلك بإنشاء مكتب يسمى (المكتب الخيري الإسلامي) تكون مهمته السهر على توزيع الصدقات على فقراء المسلمين، على أن تكون ميزانيته من المبلغ المذكور وهو 113، 510 ف. الذي كانت الوزارة تسلمه سنويا إلى الميزانية المحلية بالجزائر، فلا يكاد يرى النور ولا يستفيد منه إلا عدد ضئيل. وقد حصر المارشال اختصاصات المكتب فيما يلي: توزيع الإغاثات، وتلقى التبرعات والهبات، وتنظيم استغلالها، وإعانة الوالي (البريفي) على تنفيذ الإجراءات الخاصة بالمساعدات الخيرية للأهالي: وكان الهدف من كل ذلك هو مكافحة التعاسة والبؤس (¬1) الذي تولد عن حرمان المسلمين من عقاراتهم وبناياتهم الدينية وأملاك الوقف، وكساد صنائعهم، الخ. أما أوجه الصرف فقد اقترح لها المارشال مجالات محددة رأى أنها هي التي تضمن الفائدة المثمرة للمنتفعين وليس الفائدة الآنية مثل الحصول على فرنكين في الشهر يذهبان أدراج الرياح بسرعة. وهذه هي أوجه الصرف في نظره: 1 - إنشاء قاعة - ملجأ للأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين الثانية والسابعة. 2 - تخصيص عدد من المنح لتعلم الصنائع الفرنسية. 3 - إحداث ورشة إنتاجية للفتيات المسلمات اللاتي لهن خبرة في أعمال الإبرة. 4 - إحداث مورد (فورنو) اقتصادي يوزع المواد بثمن منخفض على ذوي الحاجة. 5 - إنشاء محطة تمريض للأهالي يتلقون فيها العلاج المؤقت. إن هذا المشروع (الإنساني) في لهجته يجب ألا ينسينا أصل القضية، وهي ¬

_ (¬1) يذكر أن أوائل الخمسينات شهدت مجاعات وتدهورا اقتصاديا إضافيا في الجزائر.

الاستيلاء على أرزاق المسلمين ومواردهم، ودمجها في ميزانية الدولة الفرنسية، وحرمان المستحقين لها منها، وتعويضها بهذا المبلغ الزهيد ليكون مساعدة وصدقة. ومهما كان الأمر فقد وافق نابليون الثالث على تقرير وزيره، وصدر رأيه في شكل مرسوم نص على إنشاء المكتب الخيري وتحديد أعضائه وميزانيته وطرق صرفها. ونلاحظ أن المكتب خاص بمدينة الجزائر، ولكنه قد عمم في غيرها بعد ذلك. وكان يتألف، كما جاء في البند الأول من المرسوم، من: 1 - رئيس فرنسي في وظيفة مستشار الوالي (الريفي). 2 - رئيس مكتب عربي ولائي (وهو أيضا فرنسي). 3 - أربعة أعضاء فرنسيين يتكلمون العربية. 4 - أربعة أعضاء مسلمين (جزائريين) يعرفون الفرنسية. 5 - عدد غير محدود من الأعضاء الخيريين ومن النساء المحسنات. وهؤلاء جميعا لهم حق حضور الجلسات ولهم صوت استشاري، عندما يستدعيهم المكتب. 6 - أمين مال يعينه الوالي في وقت لاحق. وقد نص في المادة الثانية على أن الأعضاء المسلمين والأعضاء المستشارين والنساء المحسنات يعينهم الوالي (¬1) (البريفي). أما المادة الثالثة من المرسوم فقد نصت على أن المكتب يعتبر مؤسسة للمنفعة العامة، ويتمتع بالشخصية المدنية، ويسمح للمكتب بقبول الهبات والتركات التي يتقدم بها الأوروبيون طبقا للقوانين الجارية، أو المسلمون طبقا للشريعة الإسلامية (¬2). وقد عرفنا أن ميزاية المكتب السنوية هي 113,510 ف. وأن المكتب ¬

_ (¬1) نستعمل لفظ (الوالي) فيما يستعمل له اليوم عندنا، أو المحافظ في المشرق، وهو (البريفي) عند الفرنسيين. أما والي الجزائر العام فقد فضلنا أن نطلق عليه (الحاكم العام) للتفريق بين الوظيفتين. (¬2) انظر أوميرا، (المكتب الخيري ..)، المجلة الإفريقية، 1899، 201.

الخيري الذي حل محل مكتب مكة والمدينة، قد أصبح يوزع الميزانية على النحو التالي: 1 - الملجأ 9، 100 فرنك. 2 - الورشة 4، 200 فرنك. 3 - محطة التمريض 9,020. 4 - المورد الاقتصادي 8,200 فرنك. 5 - منح التعليم 5، 400 فرنك. 6 - العاملون السابقون والطلبة (¬1) 17,676 فرنك. 7 - ملجأ الولي دادة 600 فرنك. فجملة ذلك هو: 54، 196 فرنك، ثم يضاف إليه مبلغ 59,314 فرنك خصصت للفقراء، وبذلك نصل إلى المبلغ الأصلي وهو 113، 510 ف. والفقراء المشار إليهم هم الذين كانوا في الماضي في عهدة مكتب مكة والمدينة أو كانوا في عهدة غيره من مؤسسات الأوقاف. وقد لاحظ الوزير (المارشال) وكذلك السيد أوميرا أن المبلغ المذكور كان أقل بكثير مما كانت تأتي به أوقاف مكة والمدينة في السابق (¬2). ولكن المهم كما قال، أوميرا، هو تحديد المبلغ سنويا (ميزانية). والغريب أنه ليس هناك شيء ثابت بالنسبة للمسلمين في هذه الإجراءات الاجتماعية. فهذا المكتب وهذه الميزانية الضئيلة لم يدم حالهما أكثر من سنة، ثم حدث التغيير الذي استمر إلى أوائل القرن. ونستطيع القول إنه هو التغيير الذي أبى على الأصل ولكنه تحايل ¬

_ (¬1) بضم الطاء وتشديدها وتسكين اللام، وتعني في الماضي المتعلمين والحافظين للقرآن الكريم والراغبين في مواصلة التعلم. وقد لاحظ محمد بن صيام في تمريره الآتي أن هذا البند (رقم 6) قد أضافه الوزير (المارشال فايان) للصرف على المساعدات (السياسية). ومما يلاحظ على هذا المشروع أن أموال الوقف أصبحت تستعمل في عهد الاحتلال لأغراض جديدة، مثل الجوسسة وشراء الذمم. (¬2) عرفنا أن مداخيل مكة والمدينة وحدها سنة 1839 كانت 131، 941، 13 فرنك. انظر السجل (طابلو)، سنة 1839، 157.

على ما بقي من مداخيل المسلمين وكاد ينفيها تماما، ولعل ذلك راجع إلى أن الفرنسيين كانوا يتصرفون وحدهم في الميدان، ولم يكن للمسلمين معهم صوت ولا رأي، حتى في الشؤون الخاصة بهم جدا كالأوقاف. فبعد بضعة أشهر من صدور مرسوم 1857 حدث تعديل جذري في هيكله الإدارة الفرنسية في الجزائر، وهو ما يعرف بإنشاء وزارة الجزائر والمستعمرات وإلغاء منصب الحاكم العام، وقد تبع ذلك تعديلات وتغييرات في الأجهزة التابعة، كإدارة الولايات والقيادات العسكرية والمسؤوليات المدنية. ومن ذلك إنشاء مجلس عام على رأس كل ولاية من الولايات الثلاث، وإحلال الميزانية الولائية محل الميزانية المحلية والبلدية السابقتين. أما بالنسبة للمكتب الخيري فلم يتغير لا في اسمه ولا ميزانيته ولا تبعيته للولاية. ولكن الجديد هو أن مرسوم 10 ديسمبر 1858 فرض على الولايات تخصيص مصاريف للمساعدات العامة وخدمات الأهالي (المسلمين) المدنية، على أن تقدم مصلحة أملاك الدولة لصالح الولايات مداخيل الوقف القديم من بيع وشراء وإيجار، باعتبار الولايات هي المتوكلة على الأوقاف، ولا تعتبر المداخيل في هذه الحالة مساعدة للولايات. وبناء على ذلك فإن الولاية أصبحت هي التي تنوب عن الدولة في تخصيص المبلغ المستحق (الميزانية) ومنحه للمكتب الخيري لصرفه في الأوجه المحددة بمرسوم سنة 1857. لكن مرسوم 1858 أدى إلى تناقص ميزانية المكتب بدل زيادتها. وقد تواصل النقص سنة بعد سنة إلى سنة 1869 حين لم تتجاوز الميزانية 23,000 ف. (من 113، 510 ف.) وكان من المفروض أن مصاريف المكتب الخيري لا تنقص إن لم تزد. وقد استمر ذلك الوضع المضطرب إلى 1872 (¬1). وهكذا وقع التلاعب الإداري بأموال ¬

_ (¬1) أوميرا (المكتب الخيري ..)، المجلة الإفريقية، 1900، 60 - 65. لقد فسر والي الجزائر النقص في ميزانية المكتب الخيري بانخفاض المداخيل بسبب عدم بنايات الوقف. وهو عذر أقبح من ذنب. وقد مر بنا أن بعض الأوروبيين، في عهد الجمهورية الثالثة، قد استكثروا على المسلمين ذلك المبلغ الزهيد وطالبوا بمصاريف =

مداخيلها من أوقاف المسلمين، وهي أموال مستحقة لفقرائهم، ولكنها صرفت لصالح الفرنسيين وفي المشاريع الفرنسية العامة، كما حدث منذ الاحتلال. ويرجع أصل التلاعب الإداري إلى سنة 1868 حين تدخل الحاكم العام المارشال ماكماهون وغير من اختصاصات المكتب الخيري ومن تبعيته. فإذا كان مرسوم 1858 قد جعل المكتب الخيري مؤسسة عامة تابعة للدولة الفرنسية، فإن مرسوم 1858 قد جعله مؤسسة ولائية (تابعة للوالي). أما قرار ماكماهون سنة 1868 فقد جعل المكتب الخيري تحت سلطة رئيس البلدية. ورغم الشك في شرعية ذلك القرار، كما لاحظ أوميرا (¬1)، فإنه بقي هو المعتمد بعد ذلك. وها هي الصلاحيات الجديدة والقديمة التي أصبح للمكتب تأديتها، بعد تدخل قرار ماكماهون: 1 - دار العجزة والمرضى الميؤوس منهم، من الجنسين. 2 - منح لتعلم الصنائع الفرنسية موجهة لصالح الأطفال الذكور من فقراء المسلمين. 3 - ورشات (للبنات المسلمات؟). 4 - الملجأ المخصص للأطفال بين الثانية والسابعة. 5 - الإغاثات الموجهة للأهالي. 6 - ملحقة الأيتام والمتروكات المسلمات. وإذا كانت مصاريف الأبواب المنصوص عليها في مرسوم 1857 معروفة ومقدرة، كما سبق، وهي من مداخيل الوقف الإسلامي، فما المداخيل التي يصرف منها على الاختصاصات الجديدة؟ لقد نص قرار ماكماهون على أن تمويل المكتب يأتي من: الإغاثات والحسنات والهبات والتركات والتبرعات، والاشتراكات، والطلبات، والعرضات في المساجد والزوايا، ومن مداخيل الأفراح والملاهي والحفلات التي يقوم بها الأهالي، ¬

_ = مشتركة منه بينهم وبين المسلمين. انظر ديون وكوبولاني. مرجع سابق. (¬1) أوميرا، (المكتب الخيري ..)، المجلة الإفريقية، 1900، 71.

ومن الاجتماعات العامة، ومداخيل المقاهي ذات الموسيقى الأهلية، والاستعراضات الهادفة إلى جلب الجمهور. ومن إعانة الحكومة المستخرجة من الصندوق العام للأقاليم. وقد لاحظ أوميرا أن جميع هذه العناوين لا تشمل المداخيل التي نص عليها مرسوم 1857، وهي مداخيل الوقف المستحقة دينا وليس منة أو تضحية كما قال المارشال فايان. وهكذا فإن قرار ماكماهون، قد زاد من مصاريف المكتب الخيري في الوقت الذي سحب منه المداخيل الأصلية والشرعية المخصصة له. وبالإضافة إلى ذلك حاول ماكماهون أن يغير أيضا من ملامح المكتب. لقد ذكرنا أن ماكماهون أسند المكتب إلى رئيس بلدية الجزائر بدل الوالي، خلافا لمرسوم 1857 (الدولة)، ومرسوم 1858 (الولاية). وقد لاحظ أوميرا أن قرار مكاماهون يعتبر تخليا من الدولة عن صلاحياتها نحو المسلمين، لأنها هي التي صادرت أملاكهم في الأصل وتعهدت بمرسوم 1857، بتعويضهم ولو بالجزء اليسير الباقي من أوقافهم. ثم إنه كان في مدينة الجزائر عدة بلديات، فلماذا تخصيص بلدية هذه المدينة بالذات؟ ثم إن قرار ماكماهون غير شرعي لأنه أدمج المكتب في بلدية الجزائر، وجعله يقدم ميزانيته إلى مجلس البلدية للموافقة المسبقة عليها بينما المجلس لا حق له على المكتب، لأن ذلك يتناقض مع المرسوم المؤسس وهو مرسوم 1857 (¬1)، ومع ذلك بقي قرار ماكماهون، على تناقضه وعدم شرعيته في نظر أوميرا، هو الساري المفعول كما ذكرنا، رغم حدوث تغيير بسيط فيه سنة 1874 لا يمس الجوهر. بالعكس، فإن التعديلات اللاحقة كانت كلها لغير صالح المكتب الخيري الإسلامي، ففي سنة 1872، عند فورة الاستعمار والحكم المدني في الجزائر والنقمة على ثوار سنة 1871، صدرت لائحة من مجلس الولاية العام تطالب الدولة بإلغاء الدين الذي عليها للمسلمين بدل مطالبتها بدفع مستحقاتها منذ 1858، (حين تنازلت للولاية عين دينها ¬

_ (¬1) أوميرا، (المكتب الخيري ..)، المجلة الإفريقية، 1900، 74.

للمسلمين) (¬1). وبهذه اللائحة واجه المكتب الخيري أزمة مالية حادة. رغم وجود مورد جديد، وهو ما سمي (بوقف الشيخ القينعي). لقد تأسس هذا الوقف سنة 1868 (في أعقاب المجاعة الكبرى)، من تركة المرحوم القينعي. وهو وقف بلغ بين 40 و 50 ألف فرنك. وكانت لجنة المكتب الخيري تعتقد أن الدولة الفرنسية المدينة ب 113، 510 ف. للمسلمين، إضافة إلى وقف القينعي ستجعل الميزانية ترتفع وتتحسن ليواجه المكتب الأعداد الكبرى من فقراء المسلمين المسجلين والذين كانوا ينتظرون التسجيل. ولكن ذلك كان وهما فقط من لجنة المكتب (¬2). فمن الناحية الرسمية لم ينضم وقف القينعي إلى إدارة المكتب الخيري إلى سنة 1875. وبدل أن تنمو به ميزانية المكتب أنقصت الإدارة مقداره من المبلغ الذي تعطيه للمكتب، متناسية أن أصل المداخيل إنما هو وقف المسلمين، وليس إعانة لهم أو تفضلا منها عليهم. وربما من أجل ذلك افتخر الجنرال شانزي (الحاكم العام) سنة 1876 بأن ميزانية المكتب الخيري في ولاية العاصمة قد بلغت 390.904,68 + 90.372، 40 وأن عدد المستفيدين منها بلغم 5,663، فكان الفاضل منها 300، 332,28 (¬3). ولكن هذه الأرقام لا تقال على الحقيقة فإما أن تكون الميزانية قد جمعت إليها وقف القيعي أيضا وإما أن يكون عدد المستفيدين ضئيلا جدا بالنسبة لعدد المستحقين للإعانة. ¬

_ (¬1) عرفنا أن قوانين 1839 جعلت أموال الوقف لا تسجل في ميزانية الدولة ولكن في عدة أنواع من الميزانيات، مرة سميت الكولونيالية، ومرة الإقليمية، ومرة المحلية والبلدية. وكان الاسم الأخير هو المستعمل عندما صدر مرسوم 1858 الذي أسس المجالس العامة على مستوى الولايات، كما أسس الميزانية الولائية. وقد لاحظ أوميرا أنه لا يوجد فرق كبير بين الميزانية الخاصة وميزانية الدولة في هذا الصدد ما دام كلاهما تحت إشراف الحاكم العام للجزائر. (¬2) أوميرا، (المكتب الخيري ..)، المجلة الإفريقية، 1900، 68 - 69. (¬3) الجنرال شانزي، (حكومة الجزائر)، 1877، ص 50.

والغريب أن طريقة الدخل والصرف كانت متشابهة أيضا سنة 1879 أثناء حكم ألبير قريفي. ففي هذه السنة كان دخل المكتب الخيري 367.355,76. بينما لم يصرف على المستفيدين سوى 112، 547، 53 ف. فكان الفاضل هنا أيضا 254.808,23 (¬1). وإذا صح هذا فإن البلدية (الفرنسية) التي آل إليها التحكم في ميزانية المكتب الخيري ومراقبتها هي المستفيدة في النهاية، وربما كانت تستعمل الدخل الفائض في مشاريع استعمارية، وهو الأمر الذي أسال لعاب الكولون فطالبوا بتوحيد ميزانية المكتب الخيري الإسلامي مع ميزانية المكتب الخيري الفرنسي (¬2). فقد جرى نقاش حاد سنة 1888 حول ضم المكتب الخيري الإسلامي إلى المكتب الخيري الفرنسي، بدعوى أن للأول مداخيل محددة بينما الثاني ليس له ذلك، وأن في دمجهما فائدة للجميع، كما قال المدعون، وأثناء هذا النقاش كتب عضو المكتب، السيد محمد بن صيام، تقريرا ذكر فيه بأصل الإعانة والدين الذي على الدولة الفرنسية نحو المسلمين. ومما جاء في تقرير ابن صيام، بعد عرض تاريخي لقضية الوقف بين 1830 و 1857، أن غلاء المعيشة وانتشار الفقر ونقص الميزانية جعل المكتب لا يستطيع الصرف على المسجلين عنده من الفقراء فما بالك بالجدد. وبدل الزيادة، نقصت الميزانية عن المبلغ المحدد وهو 113، 510 ف. فقد انخفض إلى 107، 500 فرنك ثم إلى 105,000 ف. ثم إلى 75,000 ف. ثم 65,000 ف. وأخيرا انخفض إلى 60,000 ف. وبهذا المبلغ، ورغم وجود وقف القينعي، فإن المكتب لا يستطيع أن يصرف على ال 1,400 فقير مسجل وعلى أكثر من 2,000 سيسجلهم، وعلى صيانة ¬

_ (¬1) (حكومة قريفي)، ص 105. (¬2) أنشئ بمرسوم سنة 1849 وكان المرسوم قد نص على إنشاء مكتب خيري فرنسي (أوروبي) في كل بلدية. وسبقته إلى ذلك (1848) أعمال جمعية نساء الرحمة وغيرها من الجمعيات. وقد استفاد منه سنة إنشائه وحدها 297 فردا من مجموع 824 فردا مسجلا. وكان المكتب خاصا بالفرنسيين والمهاجرين الأوروبيين. انظر طابلو (السجل) سنة 1846 - 1849، ص 129.

المؤسسات التابعة له. ولذلك طالب ابن صيام بالزيادة في الميزانية حتى ترجع إلى الأصل على الأقل، وهو 113، 510 ف. وقد طالب محمد بن صيام في تقريره بوضع المكتب الخيري تحت وصاية الولاية، كما هو أصل مرسوم 1858. وشرح الدوافع التي جعلته يطالب بذلك، فقال إن البلدية هي في خدمة جميع المواطنين دون فرق في المواطنة ولا في الدين، وهي لا تقدم أية مساعدة للمكتب الخيري الإسلامي، فلماذا تكون هي الوصية عليه؟ ثم إن المكتب كان يتغذى من مداخيل إسلامية وهبات من المسلمين وإعانة (دين) من الحكومة كجزء من التعويض على الوقف الذي استولت عليه، ومن وقف القينعي الذي هو موجه للمسلمين، فما دخل البلدية (وهي فرنسية) في كل هذا؟ وكشف ابن صيام عن نية البلدية التي كان يسيطر عليها الكولون، فقال إن هدفها هو دمج المكتبين الإسلامي والأوروبي، لأن المكتب الأخير ليس له مصادر تمونه، وبذلك يستفيد من مال المسلمين. وما دامت البلدية لا تقدم أية مساعدة للمكتب الإسلامي فليس من حقها أن تتدخل في شؤونه، وطالب بأن يكون وضع المكتب الإسلامي كوضع المكتب الإسرائيلي المستقل بشؤونه. ثم انتهى ابن صيام بنقاط ثلاث، وهي: 1 - المطالبة بوضع المكتب الخيري تحت رعاية الولاية كما كان الحال عند الإنشاء سنة 1857 (بل سنة 1858). 2 - إلغاء ملجأ الأيتام الذي استحدثه قرار ماكماهون والذي كان غير موجود في الاختصاصات الأصلية للمكتب، وتخصيص حصته لتعليم الصنائع الفرنسية للمسلمين. 3 - رجوع الدولة إلى المبلغ المنصوص عليه وهو 113، 510 سنويا، كما جاء أيضا في المرسوم المؤسس سنة 1857. لكن صوت ابن صيام ذهب مع الريح. فقد ظل المكتب تحت وصاية المجلس البلدي لمدينة الجزائر. وظل ملجأ الأيتام تابعا له، وبيت الدولة

تقدم للمكتب المبلغ الذي كان يتضاءل، في شكل (إعانة) وليس في شكل تعويض عن أملاك الوقف المغتصبة كما هو الأصل. وظلت الدولة أيضا تطرح من ذلك المبلغ مقدار وقف القينعي. وقد لاحظ أوميرا بحق أن الإدارة الفرنسية كانت زيد نسيان مرسوم 1857 رغم أنه لم يلغ رسميا، (¬1). ونذكر أن المبلغ المستحق سنويا للمكتب (هو 113، 510 فرنك) كان سيصل بين 1872 و 1896 إلى 2، 837، 750 فرنك، لكنه لم يتجاوز 1، 377، 300. والفارق وهو 1، 460، 450، قد استفادت منه الدولة أيضا خلال ربع قرن، كما فعلت منذ 1830 حين سخرت أموال المسلمين لخدمة مشاريعها الاستعمارية. وإليك الآن الإحصاء بالتفصيل حسب السنوات والمبالغ بالفرنك (¬2): السنة ... المبلغ 1872 - .. 75,800 1873 - .. 75,800 1874 - .. 65,800 1875 - .. 65,800 1876 - .. 65,800 1877 - .. 65,800 1878 - .. 57,000 1879 - .. 50,000 1880 - .. 50,000 1881 - .. 40,500 1882 - .. 40,000 1883 - .. 40,000 1884 - .. 50,000 1885 - .. 50,000 1886 - .. 50,000 1887 - .. 50,000 1888 - .. 40,000 1889 - .. 50,000 1890 - .. 50,000 1891 - .. 50,000 ¬

_ (¬1) أومير، (المكتب الخيري ..)، المجلة الإفريقية، 1900، 77 - 78. (¬2) المصدر: أوميرا، نفس المصدر، ص 70. وهناك مدلول آخر للمساعدات الخيرية يتمثل فيما يسمى صناديق الاحتياط والملاجئ ونحوها. وهذا النوع لا يعنينا هنا، لأن موضوعنا هو الأوقاف ومصيرها باعتبارها مصدرا للدين والعلم والسعادة الاجتماعية. أما النوع الآخر من الأفعال الخيرية فسنعالجه في مكانه. انظر لاحقا.

1892 - .. 50,000 1893 - .. 60,000 1894 - .. 65,000 1895 - .. 60,000 المجموع هو 1,377,300 ... وبين 1903 - 1928 انتشرت المكاتب الخيرية (أو الجمعيات) عبر تواريخ مختلفة في كثير من المدن. ففي ولاية العاصمة شملت هذه المكاتب البليدة وشرشال وبو سعادة والأغواط والمدية ومليانة والشلف (الأصنام). وفي ولاية قسنطينة عرفت المدن الآتية أيضا مكاتب خيرية: بسكرة، وجيجل، وعنابة، وبجاية، وميلة، بالإضافة إلى قسنطينة نفسها. أما في ولاية وهران فالمكاتب أنشئت في معسكر وتلمسان وغيليزان وسيدي بلعباس، إضافة إلى مدينة وهران (¬1). ويقول ميرانت إن المكاتب كانت تتغذى غالبا من المستعمرة، وهو يعني أنها من البلديات، وليست من الدولة مباشرة، وهو قول غير صحيح على إطلاقه. فقد عرفنا أن الميزانية الحقيقية كانت قد رصدت سنة 1857 وأنها معتبرة دينا على الدولة الفرنسية، وأن هذه قد تنازلت عنها إلى البلديات. والميزانية في أساسها كانت من مداخيل أوقاف المسلمين التي اغتصبت. والأرقام التي ذكرها ميرانت تدل على انخفاض كبير في الميزانية المخصصة للمكاتب الخيرية الإسلامية بين 1901 - 1929. ونود أن نذكر بهذا الصدد أنه ابتداء من سنة 1900 أصبح للجزائر ميزانية مستقلة (للكولون) يسهر عليها المجلس المالي الذي أنشئ سنة 1898 والذي يسيطر عليه الفرنسيون تماما. وإليك الجدول الذي ذكره ميرانت، وأرقامه تشمل جميع المصاريف الخيرية وليس مصاريف مكتب الجزائر فقط. وكان ميرانت يريد ¬

_ (¬1) جان ميرانت، (كراسات)، مرجع سابق، ص 34.

أن يلمع عهده (لأنه كان وقتها على رأس الشؤون الأهلية) وجهود فرنسا الاستعمارية، ولا تهمه الدقة: 1901 - .. 140، 000 فرنك 1910 - .. 310، 000 فرنك 1921 - .. 600، 000 فرنك 1929 - .. 1، 500، 000 فرنك وخلال هذه السنوات الثلاثين تقريبا بلغت قيمة المساعدات المقدمة للمستفيدين الجزائريين: 19، 112,300 ف (¬1). وهناك إحصاءات أوردها علي مراد عن المساعدات الخيرية تختلف عما جاء في إحصاء ميرانت. فمراد ذكر أنه خلال السنوات 1912 - 1930 توزعت المساعدات كالتالي، حسب السنوات وعدد المستفيدين (¬2): السنة ... مبلغ المساعدات ... عدد المستفيدين 1912 - .. 255، 975 ... 16، 952 1914 - .. 66، 243 ... 3، 454 1918 - .. 342، 227 ... 14، 346 1920 - .. 491، 228 ... 14، 198 1922 - .. 594، 219 ... 17، 154 1924 - .. 793، 796 ... 21، 755 1926 - .. 990، 416 ... 27، 575 1928 - .. 1، 246، 017 ... 26، 730 1930 - .. 1، 666، 766 ... 21، 266 ¬

_ (¬1) ميرانت، (كراسات)، مرجع سابق، ص 34. (¬2) المصدر: علي مراد، (الإصلاح الإسلامي في الجزائر) ليدن، 1967، ص 72، عن (الإحصاءات العامة للجزائر).

وليس لدينا الآن مصادر أخرى تتحدث عن تطور العلاقات بين المكتب الخيري الإسلامي والسلطات الفرنسية بعد 1900، والذي نعلمه هو أن (الجمعية الخيرية) قد حلت محل المكتب الخيري، وأن بعض الأعيان المسلمين قد تداولوا عليه وعليها مثل الشيخ الطيب العقبي، وأن الجمعية الخيرية كانت تعقد اجتماعات سنوية بالعاصمة، تكون فرصة ليس فقط لتوزيع الصدقات ونحوها، ولكن أيضا فرصة للتضامن الاجتماعي بين الجزائريين. وكانت التبرعات تجمع أثناء الحفل السنوي، وفيه كان يتبارى الخطباء والشعراء في الدعوة إلى الإحسان والبذل. وكان التلاميذ، في عهد المدارس الحرة، يتبارون أيضا على الأناشيد والحث على طلب العلم عن طريق تمثيل الروايات الأدبية والتاريخية. وهكذا نرى نوعا من الرجوع إلى الأصل نتيجة استثمار الوقف لصالح المجتمع والعلم والصالح العام، ولكن (الإعانة) الحكومية ظلت متقشفة، وظلت حقوق المسلمين في التعويض عن أوقافهم مهضومة، وهي لم تنم تحت الإدارة الفرنسية بل نقصت وذابت أو كادت في غير ما أنشئت لأجله. وكان الشيخ أحمد توفيق المدني الذي عاصر نشاط الجمعية الخيرية منذ العشرينات قد كتب عن الوقف والحكومة الفرنسية، وعن وقف الشيخ القينعي. فقال سنة 1931، إن رئيس بلدية الجزائر، ما يزال هو رئيس الجمعية الخيرية، وهو ما نص عليه قرار ماكماهون منذ 1868، وأن أعضاء الجمعية كانوا عشرة، خمسة من المسلمين وخمسة من الفرنسيين، وأن مداخيلها أو ميزانيتها كانت تتمثل في (إعانة) الدولة السنوية، وفي التبرعات والصدقات. وكان رأس مال الجمعية يبلغ 160 ألف فرنك، وهو فيما فهمنا من كلام الشيخ المدني لا يشمل مداخيل وقف القينعي. فإذا كان الأمر كذلك، فإن هناك زيادة ملحوظة بفضل الهبات والتبرعات والصدقات، وليس من المبلغ السنوي المقرر منذ 1857، وهو 113,510 فرنك. ويضيف المدني أن الجمعية الخيرية قررت أن تأخذ إتاوة على مداخيل المسرح والملاهي - كما نص على ذلك قرار ماكماهون - ولكن التنفيذ لم

يقع، ومع هذا المبلغ (160 ألف فرنك)، فإن المدني يقول إن الإعانات للفقراء لا تتجاوز خمسة فرنكات للشهر للعائلة الواحدة. ويبدو أن الجمعية قد استمرت في اختصاصاتها التي رسمت لها (أي المكتب السابق) منذ 1868. فهي كما قال الشيخ المدني تشرف على: 1 - ملجأ للعجزة والمقعدين يضم 42 شخصا. 2 - ملجأ زاوية الولي دادة. 3 - ومنح التلاميذ منحا ليواصلوا بها التعلم في الصنائع الفرنسية. ولكنه لم يذكر النواحي الأخرى التي كانت الجمعية (والمكتب قبلها) تصرف فيها الميزانية. وقد شكا من أن إعانة الحكومة قليلة والتبرعات والصدقات تكاد تكون مفقودة. ومعنى ذلك أن الجمعية كانت بعد قرن من الاحتلال في فقر مدقع. ولكن الشيخ المدني تدارك ذلك وقال إنه لولا وقف المرحوم القينعي الموجه للفقراء والذي كانت تديره الجمعية لكان (دور الجمعية لا قيمة له) ومن الملفت للنظر أن المدني يذكر أن ريع وقف القينعي يصل نحو مائتي ألف فرنك (200,000) سنويا (¬1). وفي سلسلة من المقالات روى الشيخ حمزة بوكوشة عن جمال سفينجة، رئيس دار الصدقة الإسلامية (هكذا تحول الاسم)، نفس المساجلات بين السلطات وأعضاء الجمعية حول دمج الدارين الإسلامية والفرنسية. والأعضاء عندئذ هم: أحمد بن صيام، وعمر الموهوب، وحمدان بن رضوان، وزروق الحلوي، ورينيه فضيل (¬2). لقد رأينا أن مآل الأوقاف الإسلامية مآل مؤلم ومضر بالصالح العام ¬

_ (¬1) أحمد توفيق المدني (كتاب الجزائر)، ط. 2، 7 24 - 248. وقد توفي المرحوم القينعي سنة 1868. والغالب على الظن أن الشيخ المدني كان عضوا في الجمعية الخيرية، وله اطلاع واسع حول الموضوع. ولنذكر أن الجمعية الخيرة قد أنشئت بعد 1907 أي بعد قرار فصل الديانة المسيحية واليهودية عن الدولة الفرنسية، بينما بقيت الشؤون الإسلامية غير مفصولة عن الدولة الفرنسية. وعلى غرار ما فعلت الديانتان الأخريان، تكونت الجمعية الخيرية على أنقاض الكتب الخيري الإسلامي. (¬2) جريدة البصائر، 12 سبتمبر، 1947.

جمعيات الإغاثة الاحتياطية

للمجتمع الجزائري. فبعد أن كانت موردا للتعليم وتنشيط الحياة الدينية والتكافل الاجتماعي وصيانة المساجد، وتكريم العلماء ونحو ذلك، انتهت إلى ثكنات وطرقات وساحات وكنائس ومزارع للكولون، ومنازل للخواص الأجانب والغرباء، وانهدم بعضها منذ اللحظات الأولى قبل التفكير حتى في بقاء فرنسا بالجزائر أو الجلاء عنها. لقد انهدمت معه المساجد والزوايا وعشرات المدارس القرآنية والثانوية، واختفت دروس المساجد التي كانت تضيء أرجاء العاصمة وغيرها من المدن، وهاجر العلماء والقضاة، وافتقر النظار والوكلاء، وصادرت السلطات الفرنسية الأوقاف العامة والخاصة، ووضعت أموالها في يد مصلحة أملاك الدولة التي يفترض أنها أصبحت تنوب عن الوكلاء السابقين في إدارة الأوقاف وإعطاء مداخيلها لمستحقيها، ولكن هذه السلطات ابتلعت المداخيل وذوبتها في ميزانية الدولة بأشكال مختلفة. وعندما لم يبق قائما، من الأوقاف إلا النزر اليسير أسست الإدارة الفرنسية مكتبا سمي بالمكتب الخيري الإسلامي ليشرف على ميزانية سنوية من 113، 510 ف. نص عليها القانون على أنها تعويض للمسلمين على ما فقدوه منذ 1830. ولكن هذا المبلغ السنوي ظل محل تلاعب السلطات الفرنسية حتى وجد بعض الباحثين أن حواليه كان يرجع إلى ميزانية الدولة الفرنسية خلال ربع قرن 1872 - 1896. فما بالك بين 1830 - 1871، ثم منذ 1896! جمعيات الإغاثة الاحتياطية وفي نطاق المساعدات أيضا نشير إلى الجمعيات المعروفة بالاحتياطية. وهي جمعيات نشأت نتيجة الجوائح التي حلت بالفلاحين وأصابتهم في مخازنهم وأرزاقهم. ولا شك أن هذا النظام غير جديد على الجزائريين، فقد كان التعاون يسود بينهم قبل الاحتلال، وكانوا ينجدون بعضهم البعض بالقروض واليد العاملة والهبات. ومن عادة المجتمع التكافل العائلي والقبلي وإيثار الجار عندما تقع الأزمات أو الحروب أو الحوادث. وقد لاحظ

الفرنسيون أنفسهم مدى ذلك التكافل. ويقول هانوتو عن أهل زواوة أن الغني والفقير عندهم سواء في اللباس وغيره، ولا ينظرون باحتقار إلى الفقير، والعيب عندهم هو ألا يعمل المرء إذا كان قادرا على العمل. وهم يقدمون المساعدات إلى بعضهم، حتى إنه لا يوجد بينهم فقير بدون أكل. وفي مدينة دلس أعطى السكان المثل أثناء جائحة 1867 - 1868. فبين أكتوبر 1867 ومايو 1868 ظل حوالي اثني عشر ألف نسمة يأكلون على حساب السكان، وكان الجوع والبؤس قد جاءا بهم من مختلف أنحاء الجزائر وحتى من المغرب الأقصى، وكان أمناء الجماعات هم الذين قد نظموا المساعدات، فتم الأمر بدون حوادث وبكل نظام. كما أن دائرة قلعة الامبراطور (عين الحمام؟) التي كانت تضم 76 ألف ساكن، قد استقبلت ستة آلاف جائع في نفس المناسبة. واشترك في إطعامهم الخواص أيضا، مع العناية والرحمة. ولم تشك العائلات من التكاليف، كما أنها لم تطلب التعويضات من السلطات الفرنسية (¬1). وكانت الحروب الطويلة ضد الاحتلال قد أدت إلى إفقار أهل الريف وتحطيم موارد رزقهم وإفساد مخازن حبوبهم (المطامير) ونفي زعمائهم، إضافة إلى الجوائح والأمراض. وكانت سياسة بوجو التي قامت على تجويع الناس وطردهم من أراضيهم وتحشيدهم في أماكن محددة يسيطر عليها الجيش الفرنسي، قد ضاعفت من آلام السكان، ولا سيما أهل الريف. وإذا كان سكان المدن قد وجدوا بعض العزاء في ميزانية المكتب الخيري الإسلامي الذي تحدثنا عنه، فإن سكان الريف ظلوا يعانون. وقد كشفت جوائح 7 186 وما تلاها من موتى وضحايا على فظاعة النكبة التي حلت بالسكان. لذلك أخذ بعض الحكام العامين، مثل ماكماهون، بعض المبادرات. ولكن لويس تيرمان هو الذي أمر (1884) بإنشاء جمعيات احتياطية في كل بلدية مختلطة (معظم سكانها من الجزائريين) على أن تكون ¬

_ (¬1) هانوتو ولوتورنو، (بلاد القبائل)، 1/ 57 - 58.

مهمتها جمع كميات محددة من حصاد القمح والشعير، ووضعه في مخازن احتياطية لمواجهة السنوات العجاف. ولكن هذه المبادرات كانت في الواقع لفائدة الإدارة التي كانت تريد أن تضمن الاستقرار في البلديات التي فيها بعض الفرنسيين، ذلك أن المناطق التي لا يسكنها إلا الجزائريون لم تنشأ فيها عندئذ هذه الجمعيات، وترك أهلها للإهمال. وأثناء عهد جول كامبون (3 189) أصبح إنشاء الجمعيات مقننا. فهذا الحاكم الذي كان حريصا على مصلحة فرنسا الاستعمارية وفي نفس الوقت كان متنورا وحريصا أيضا على الاعتراف ببعض المهدنات للجزائريين ولو كانت ظاهرية مثل الألقاب والأوسمة - هو الذي وضع قواعد الجمعيات الاحتياطية في الأرياف. وبناء على ذلك أصبح في إمكان الفرد أن ينخرط بحرية سواء كان من الفلاحين أو الخماسة أو العمال الزراعيين، بشرط أن يتعهد بدفع حصة من حصاده في الحبوب سنويا. ولا نظن أن كلمة (حرية) التي جاء بها ميرانت تعني مدلولها الحقيقي (¬1). فقد كان أعوان الإدارة الفرنسية يراقبون الفلاحين ويجبرونهم على الاشتراك، بل ويحصون عدد مواشيهم وأشجارهم وكمية حصادهم. ومهما كان الأمر، فإن الحصة التي كان المشترك يدفعها قد تكون عينا وقد تكون نقودا. وكان مجموع الحصص يمثل رأس مال الجمعية. وتعتبر الجمعيات الاحتياطية جمعيات خيرية من ناحية وجمعيات قرض من ناحية أخرى. فالمحتاجون يلجأون إليها باعتبارهم فقراء أو مصابين أو مرضى. وفي هذه الحالة تقوم الجمعية مقام الأوقاف، أو بالأحرى مقام المكتب الخيري في المدن. وكان يمكن في القديم أن تعوض الأوقاف حاجة الفقير والمعتر، وكذلك كانت الزوايا الريفية تؤدي هذه الوظيفة الاجتماعية. ¬

_ (¬1) ميرانت (كراسات)، 28. انظر تعليق (مجلة العالم الإسلامي)، يناير 1908 عن تقرير كاتب الحكومة العامة في الجزائر، السيد فارنييه varnier حول الجمعيات الاحتياطية. ونلاحظ أنه ذكر أنها أنشئت في البلديات الكاملة (أي ذات الأغلبية الفرنسية). وفيما أوردته المجلة أرقام مفيدة.

ولكن مع نهاية القرن تبخرت الأوقاف وأموال الزوايا - عدا بعضها - فحاول الفرنسيون تعويضها بالجمعيات الاحتياطية اللائكية. ومن جهة أخرى كانت هذه الجمعيات نظريا تقدم القروض والمساعدات العينية إلى الفلاحين والخماسة لتطوير زراعتهم وتنميتها بشراء الآلات وتحسين الإنتاج. وكل المردود كان يذهب إلى الإدارة، بالطبع. ولذلك قلنا إن المشترك يستفيد منها نظريا فقط. وكان قانون هذه الجمعيات قد نص على أن يكون رأس المال راجعا إلى الجمعية وليس إلى الأعضاء. وليس لأحد الحق في طلب تقسيمه. والوظائف في الجمعية كلها كانت مجانية ما عدا وظيفة الخزناجي أو أمين المال، وكذلك الكاتب. وينمو رأس مال الجمعية أيضا من الفائدة التي على المقترض أو المستفيد أن يدفعها وهي 5%. وهنا يدخل التعامل المخالف للشريعة الإسلامية إذ أنه تعامل بالربا. ولعل المشتركين كانوا يجهلون القواعد الشرعية أو كانوا مضطرين إلى الاقتراض، ولذلك قلنا إن الاشتراك نفسه ودفع الحصص قد يكون مفروضا - من السلطات الفرنسي. ومن فوائد هذه الجمعيات إنشاء المباني التي تحمي الإنتاج الزراعي الاحتياطي من الحشرات والرطوبة. وقد ذكر ميرانت (المتفائل جدا بأعمال فرنسا في الجزائر) أن النتائج فاقت كل التوقعات، ربما لأن الإدارة هي التي جنت المردودية في النهاية، وذلك على النحو التالي: في سنة 1886 كان عدد الجمعيات الاحتياطية أربعا وأربعين فقط، وكان رأس مالها 1,698,322 ف. أما في سنة 1926 فقد بلغ العدد 219 جمعية، رأس مالها ارتفع إلى 76، 400,309 ف (¬1). وقد نبه الشيخ أحمد توفيق المدني على نواحي أخرى حول الجمعيات الاحتياطية. من ذلك أنها كانت تتبع البلدية أو الدائرة، وأن الوالي هو المسؤول عنها، وهو الذي يعين رئيسها. ويمكن للجمعية أن تطلب تضامن ¬

_ (¬1) ميرانت، مرجع سابق، ص 29.

جمعية أخرى بشرط ألا يتجاوز المال المقترض عشر رأس المال في الجمعية المقرضة. كما أنه يمكن تأمين المزروعات ضد الحرائق والآفات. والمجلس الإداري للجمعية هو الذي كان يحدد مقدار الحصة السنوية للمشترك، من القمح أو الشعير. ويذكر الشيخ المدني أيضا أن الدولة والولاية والبلدية كانت تقدم أيضا إعانات لصندوق الجمعية الاحتياطية. وأما عدد الجمعيات سنة 1931 فقد كان حوالي 200 جمعية، وهذا أقل مما ذكره ميرانت الذي كتب في نفس الفترة. كما أن المدني قد ذكر أن أعضاء الجمعيات بلغوا نصف مليون وأن رأس مالها بلغ حوالي ثمانين مليون فرنك، وهو رقم يزيد عما ذكره ميرانت أيضا، (¬1). وكل هذه الإجراءات لا تغني بالنسبة للجزائريين، عن دور الأوقاف التي أسسها المجتمع الإسلامي من أجل التكافل والتراحم دون اللجوء إلى الربا أو إلى طلب المساعدة من دولة أجنبية. إن مسلمي الجزائر قد أخذوا يهتمون بقضية الوقف منذ ظهور الوعي الوطني في هذا القرن. فبعد نسيان يكاد يكون كاملا لدى عامة الناس لهذا الموضوع، إلا عند المسؤولين على المكتب ثم الجمعية الخيرية وأشباههم، رجعت الذاكرة لهم، ودخلت المطالبة بالحقوق في هذا المجال أدبيات الحركة الوطنية. ومن الذين اهتموا بالوقف على الخصوص حركة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين التي طالما قدمت بشأنه المطالب والمذكرات. وكان هذا الموضوع قد دخل الاهتمامات العامة أيضا منذ ظهرت قضية فصل الدين عن الدولة، والمطالبة بإعادة ما للمسلمين إليهم من شؤون دينية وأوقاف وقضاء وغير ذلك، كما فعلت فرنسا مع الأديان الأخرى. أما الوقف كبنايات، وعمران، ومؤسسات دينية اجتماعية وتعليمية قد انتهى، فالجريمة ضده قد حصلت وروح القتيل قد أزهقت، وهيهات أن تعود الحياة لمن فقدها! لقد رجعت الحياة إلى جامع كتشاوة وجامع علي بتشين، ¬

_ (¬1) أحمد توفيق المدني، (كتاب الجزائر) ص 248 - 249. ويفهم من الأرقام أن الجمعيات لم تكن (أهلية) بل كانت فرنسية، وأن بعض الأهالي فقط قد انضموا إليها للاستفادة منها تحت الضغط.

ولكن من يعيد الحياة إلى جامع السيدة وجامع خضر باشا وجامع الحاج حسين وزاوية القشاش، والعشرات الأخرى؟ ومن يعيد مؤسسة مكة والمدينة وسبل الخيرات وبيت المال وزاوية الأندلس والأشراف؟ ... إن العالم المتحضر يتحدث عن مؤسسات روكفلر وفورد وبومبيدو للبحث والدراسة والخدمات الاجتماعية وما إليها، ويمكن أن نضيف مؤسسة الصليب الأحمر ومنظمة العفو العام. وقد كان للجزائر مثيلاتها كما تظهر في مؤسسات مكة والمدينة وزاوية القشاش وزاوية الجامع الكبير والأندلس ... حيث كان البحث والعلم والمكتبات ووسائل الاستقبال والإقامة والعلم الإنساني. فأين كل ذلك اليوم؟ إن الناس لا يعرفون من سوءات الاستعمار إلا الاستيلاء على الأراضي، ومطاردة السياسيين واستعباد الشعوب، ولكنهم لا يعرفون أن من جرائم الاستعمار في الجزائر غلق المدارس وحرق الكتب والوثائق، ونفي العلماء وحرمان الطلبة من الدراسة في مساجدهم وزواياهم، وحرمان الفقراء من حقوقهم في الطعام والمبيت في البنايات التي شيدها المحسنون لهم. من أجل ذلك عالجنا موضوع الأوقاف في التاريخ الثقافي لأن العلم والثقافة في المفهوم الإسلامي لا ينفصلان عن المؤسسات الوقفية بكل أنواعها. وفي 1947 نص القانون على فصل شؤون الدين الإسلامي عن الدولة الفرنسية. وعلى تسليم إدارة الأوقاف إلى المسلمين الجزائريين، كما طالبت بذلك جمعية العلماء وغيرها، وخول القانون (المجلسن الجزائري)، وهو الهيئة النيابية المحلية، لوضع الإجراءات العملية التي ينتقل على أساسها الوقف الباقي إلى أيدي المسلمين. ولكن الثورة وقعت سنة 1954 والمجلس لم يتخذ أي إجراء (¬1). وهكذا كان على الجزائريين أن يغيروا أحوالهم عن طريق الثورة وأن يستعيدوا حقوقهم بالقوة كما أخذت منهم بالقوة. ¬

_ (¬1) ماسينيون (الحوليات)، باريس 1955، ص 235.

الفصل الثاني المنشآت والمراكز الثقافية (1)

الفصل الثاني المنشآت والمراكز الثقافية (1)

الصحافة

نعني بالمنشآت والمراكز الثقافية كل ما له علاقة بالإنتاج الثقافي، وذلك يشمل الصحافة والمطابع والمكتبات والمتاحف والمسارح والجمعيات والنوادي. ومعظم هذه المنشآت ترجع إلى فترة الاحتلال الفرنسي. وكان تأسيسها في البداية على يد فرنسيين وللفرنسيين، ثم قلدها الجزائريون وبرعوا فيها. ولذلك فإننا في تناولنا لها سنتحدث عن الأصل الفرنسي للمنشآت ثم ننتقل إلى الحديث عنها وقد تجزأرت أو أصبح للجزائريين فيها دور بارز أيضا. ولكن تركيزنا سيكون على المنشآت الجزائرية لأن الفرنسية منها لا تهمنا إلا باعتبارها أصولا أو مبتكرات، ولأن المنشآت الجزائرية لم تعن بالدراسة من جانب الفرنسيين. ولنبدأ بالصحافة. الصحافة نشأة الصحافة في الجزائر كانت فرنسية بلا نزاع، فلم تعرف الجزائر هذه الظاهرة الإعلامية والثقافية رغم مرور حوالي قرنين على ظهورها في أوربا. ولم تتحدث كتب الرحالة والأخبار عن وصول الصحف الأجنبية إلى الجزائر قبل الاحتلال، رغم أن بعض الجزائريين سبق لهم أن زاروا أوربا قبل 1830 وشاهدوا، وربما قرأوا، الصحف في فرنسا وبريطانيا وغيرهما. ونعتقد أن القنصليات الأجنبية في الجزائر كانت تصلها صحف بلدانها على الأقل. فقنصل أمريكا وفرنسا وبريطانيا وهولندا كانوا بدون شك يتلقون بريدهم من الصحف الوطنية وغيرها. وقد كان عدد من الجزائريين يعملون في هذه القنصليات، ولكننا لم نقرأ أن بعضهم تحدث عن رأيه في هذه الصحف أو حاول تقليدها. وهل كان الداي وحاشيته ومترجموه يطلعون على ما تنشره الصحف حول الجزائر وحكومتها؟ إن ذلك ممكن، ولكننا لم نطلع أيضا على مصدر يؤكد

ذلك. وكم توترت العلاقات بين الجزائر وأمريكا وبينها وبين بريطانيا ثم بينها وبين فرنسا. وكم ثارت من ضجة حول الحروب النابوليونية وحملة فرنسا على مصر وموقف الجزائر من كل ذلك. فهل كان الجزائريون، رسميون وغير رسميين، غير معنيين بما تنشره الصحف الأوروبية والأمريكية حولهم؟ إن كانوا كذلك، فإنهم يومئذ لفي غاية الجهالة والحماقة! ولنتصور أن بلاط الداي حسين كان غير مطلع على ما كانت تنشره الصحف الفرنسية حول الجزائر بين 1827 - 1830، ولا سيما في السنة الأخيرة، ونحن نعلم أن الداي كان يضع في كل نقطة حساسة مخبرا أو أكثر، في ليفورنيا، وجبل طارق، وطنجة، وأزمير، الخ ... من رأينا أن أعيان الجزائريين لم يكونوا يجهلون دور الصحافة في أوروبا وأمريكا. وكانت الصحافة الرسمية قد أنشئت أيضا في مصر واسطانبول قبل الاحتلال الفرنسي للجزائر. ولكنهم لم يقدروا أهميتها ولم ينشئوها في بلادهم. ونحن لم نقرأ عن خلاف وقع حول أهميتها حتى نحكم من ذلك على أن هناك رأيا عاما ضد إنشائها. وربما لم يطرح الموضوع أبدا للنقاش. إن رجلا مثل المفتي ابن العنابي قد دعا إلى تقليد الأوروبيين في جميع مبتدعاتهم ما عدا الأمور الشرعية. ولكنه لم يذكر الصحافة بالاسم، وهي لم تكن من الأمور الشرعية، فهل نفهم من هذا أنه كان يجيز إنشاءها؟ لقد كان مطلعا على ما نشأ في مصر من صحافة وما نشأ أيضا في اسطانبول. ولكنه لم يذكر في كتابه (السعي المحمود) الصحافة من بين المبتدعات رغم أنه تحدث عن أهمية الدعاية والإعلام في الحروب. وهذا أحمد بوضربة المتزوج من فرنسية وممثل الداي في مرسيليا، قد عرف الصحافة الفرنسية ولعله استفاد منها، ولكنه لم يدع إلى إنشاء صحيفة للأهالي إلا بعد الاحتلال بثلاث سنوات. ويخبرنا مصدر فرنسي أن أعيان إقليم قسنطينة قد طالبوا بإنشاء جريدة عربية منذ 1845 (¬1). ¬

_ (¬1) فورتان ديفري F.D'ivery (الجزائر) في مجلة الشرق R. de L'Orient 1845، ص 71. واستغرب ديفري من عدم وجود رجل قادر على الإشراف عليها (من الجزائريين؟). وكان ذلك قبل ظهور (المبشر) بسنتين.

وإذا كانت الأسباب الدينية غير واردة في غياب الصحافة في الجزائر، فهل يعود عدم إنشائها إلى أسباب اجتماعية وسياسية؟ إن أحد الغربيين، وهو بنانتي، يرجع عدم إنشاء المطبعة في الجزائر ونشر الكتب والمطبوعات - ومنها الصحافة- إلى كون الوراقين لا يرغبون فيها لأنها ستسبب كساد بضاعتهم، وهي النساخة. ويذهب إلى أن الحكومة كانت تجاري هذه الرغبة محافظة على التوازن الاجتماعي، ولكن موضوع الصحافة كوسيلة إعلامية ظل غير مطروح عندئذ، سواء في المستوى الرسمي أو الشعبي. ومهما كان الأمر فإن نشأة الصحافة كانت مبادرة فرنسية. وأول محاولة على الأرض الجزائرية كانت يوم 26 يونيو، 1830 عندما سحبت أعداد من صحيفة تدعى (الاسطافيت) بالمعسكر الذي أقامه الجيش الفرنسي في سيدي فرج. وقد تم سحبها في المطبعة العسكرية المحمولة على إحدى السفن، وكانت تسمى المطبعة الإفريقية. وقد صدر من (الاسطافيت) عدة أعداد كانت ترسل إلى فرنسا وتطبع من جديد وتوزع هناك حاملة أخبار نجاح الحملة وسقوط حكومة الداي ودخول الجيش الفرنسي إلى القصبة، ونحو ذلك. ثم انقلب الفرنسيون على نظام شارل العاشر وأحلوا محله نظام الاسترجاع الذي تولاه لويس فيليب، ملك مملكة جويلية. وتوقفت (الاسطافيت)، وحل العلم المثلث محل علم أسرة البوربون، وغادر بورمون قائد الحملة، الجزائر طريدا إلى إسبانيا على باخرة نمساوية لأن السفن الفرنسية رفضت حمله، ولم يودعه حتى الضباط الذين قادهم إلى (النصر) ضد الجزائريين. وجاء مكانه المارشال كلوزيل فاشتغل بالحملات الداخلية والاستعمار في متيجة والمدية والبليدة، وسكت الحديث عن الصحافة. ولم تطبع المطبعة الإفريقية سوى بيانات كلوزيل وأوامره وقراراته بمصادرة أملاك الجزائريين وأوقاف مكة والمدينة. وبقي الأمر كذلك في عهد خلفه الجنرال بيرتزين أيضا. ولكن الوضع تغير في عهد الدوق دوروفيقو، وهو القائد الرابع لما كان يسمى (الممتلكات الفرنسية في أفريقية)، أي الجزائر.

وإذا كان عهد دوروفيقو قد عرف، على قصره، بأنه عهد الفظائع البوليسية ضد الجزائريين، ومذبحة قبيلة العوفية عند وادي الحراش، فإنه عرف أيضا بفضيلة لعلها الوحيدة وهي إنشاء جريدة المرشد الجزائري - المونيتور ألجيريان - في يناير 1832. وكانت (المونيتور) هي الجريدة الرسمية للجزائر، رغم أن الحكومة الفرنسية لم تعلن عن موقفها الرسمي: هل هي (الجزائر) أمانة في يدها إلى أن تسلمها للخليفة العثماني أو المجموعة الأوروبية؟ أو هي مستعمرة كالمستعمرات؟ أو هي من الممتلكات الفرنسية، أي غنيمة مثل كل الغنائم الحربية؟ وباعتبارها صحيفة رسمية، كانت المونيتور تطبع في المطبعة الأفريقية - الحكومية - وتحتوي على الإعلانات والقرارات، وبعض الأخبار الخاصة بحركة النقل بين الجزائر وفرنسا، وتوارد المستوطنين (الكولون) الفرنسيين على الجزائر. نشأت المونيتور في عهد المتصرف المدني البارون بيشون. وكان لهذا البارون رؤية خاصة بمستقبل الجزائر تختلف عن رؤية القائد دو روفيقو، فغادر البارون الجزائر وحل محله في الشؤون المدنية جنتي دي بوسيه، وقد بقي هذا إلى 1834. ولكنه خلال السنتين اللتين بقيهما ترك بصماته في عدة نواح، ومنها الصحافة. شجع دي بوسيه صحيفة المونيتور، وأنشأ لها قسما باللغة العربية المكتوبة بأسلوب ركيك لا يكاد يقرأ. ومع ذلك فالمونيتور من هذه الناحية تعتبر أول صحيفة نشرت قسما بالعربية في الجزائر قبل ظهور المبشر سنة 1847. غير أنه لا يمكن اعتبار المونيتور أول صحيفة بالعربية في الجزائر. ولا ندري من كان يشرف على المونيتور مباشرة قبل مجيء أدريان بيربروجر سنة 1835. والذي يهمنا أن ما كان ينشر فيه بالعربية - وهو قليل - كان من إنشاء جوني فرعون المترجم العسكري ذي الأصول السورية - المصرية، وكان جوني هذا هو الذي عهد إليه بتدريس اللغة العربية للفرنسيين في الجزائر قبل لويس برينيه (¬1). ومهما كان الأمر، فإنه من الأكيد أن الجزائريين قرأوا أخبارا ¬

_ (¬1) انظر عن هذه الظروف فصل الاستشراق، سيما حلقات اللغة العربية.

بالعربية في أول صحيفة فرنسية تطبع في الجزائر سنة 1832، كما أنها كانت أول صحيفة بالفرنسية يمكنهم اقتناؤها وقراءتها، لأن (الأسطافيت) كانت محدودة، ولم توزع إلا بين العسكريين الفرنسيين. وعن طريق المونيتور كان الجزائريون يقرأون، أو يترجم لهم، ما ينشر عن وضع إدارة المالية الفرنسية (الدومين) يدها على أملاكهم وأوقافهم وعن هدم مساجدهم وبيع عظام موتاهم ونحو ذلك. كانت المونيتور تظهر مرة في كل خمسة أيام في بداية أمرها. واستغرق ظهورها فترة طويلة إذ بقيت من 1832 إلى 1858، أي إلى إنشاء وزارة الجزائر والمستعمرات وإلغاء الحكومة العامة من الجزائر. وفي سنة 1862 رجعت الجريدة باسم مختلف قليلا وهو (مونيتور الجزائر)، واستمرت في الصدور طيلة عهد الامبراطورية الثانية. وتوقفت عن الصدور سنة 1871 في بداية عهد الجمهورية الثالثة وسيطرة أنصار الحكم المدني في الجزائر. وبالإضافة إلى القرارات الرسمية والتعليمات الإدارية كانت المونيتور وخليفتها تنشر أيضا- المقالات الإخبارية. ومما نشرته هو الإعلان عن ضرورة تعلم اللغة العربية للفرنسيين (9 يناير 1838)، وتنظيم مسابقات الترجمة، ودروس اللغة العربية في كل من الجزائر وقسنطينة ووهران، وظهور بعض المطبوعات كالمعاجم الخاصة بالعامية والفرنسية الخ، ودعوة الجزائريين لإرسال أبنائهم للمدرسة الفرنسية، وعزل المفتي الكبابطي سنة 1843. ومن الصحف ذات الصلة بالفرنسيين والجزائريين جريدة (الأخبار)، ورغم اسمها العربي، فإنها كانت تصدر بالفرنسية. وقد ظهرت سنة 1839، في عهد المارشال فاليه. وقيل عنها بأنها بدأت صحيفة إعلانية صغيرة، ثم تحولت إلى (جهاز سياسي ضخم في اتجاه حكومي منذ 1843) (¬1). وقد عاشت الأخبار قرنا من الزمن إذ توقفت عن الصدور سنة 1938. وخاضت مع الإدارة الفرنسية والشعب الجزائري كل التقلبات التي عرفتها البلاد منذ ¬

_ (¬1) قوانار (الجزائر)، مرجع سابق، ص 285.

ظهورها. وكانت جريدة الأخبار تتبنى المواقف الرسمية مع بعد سياسي للوضع العام في الجزائر والعالم الإسلامي. وأثناء التنازع الحاد بين العسكريين والمدنيين تبنت الأخبار وجهة نظر العسكريين. وكان يحررها العقيد ريبو والجنرال شابو - لاتور. ومنذ أول القرن العشرين سيطر عليها اسم فيكتور باروكان، صديق المغامرة الشهيرة إيزابيل إيبرهارت. وقد نشر لها في الأخبار مقالاتها عن الإسلام وعن مغامراتها في الصحراء، وجعل الجريدة أسبوعية. كما أنشأت الأخبار في عهد باروكان قسما عربيا سنة 1903 استمر إلى 1914، وعينت عليه الصحفي القدير عمر بن قدور. وسارت بذلك القسم في اتجاه السياسة الفرنسية - الإسلامية التي كان يتبناها شارل جونار، الحاكم العام، ومدرسته، ودومينيك لوسياني، مدير الشؤون الأهلية (الجزائرية) وأعوانه. وفي الوقت الذي اختفت فيه صحف كثيرة ظلت الأخبار مستمرة في الصدور بانتظام، وكانت صحيفة للأخبار والأدب والسياسة والقضايا الاجتماعية والإعلانات. وكان يقرأها الفرنسي والجزائري المتفرنس على حد سواء. وقد وصفها آجرون بأنها جريدة استعمارية عريقة ورجع هو إليها كثيرا (¬1). وقبل أن نتحدث عن جريدة (المبشر) الفرنسية - العربية، دعنا نذكر باختصار بعض الصحف الفرنسية الأخرى التي لا علاقة لها تقريبا بالعرب الجزائريين. لقد ظهرت صحف فرنسية كثيرة، بعضها يؤيد فكرة الجزائر الفرنسية وبعضها ينتصر للعسكريين، وبعضها يدافع عن المدنيين، وهناك صحف تبنت قضايا الاشتراكيين السانسيمونيين، وأخرى كانت مضادة لليهود والسامية؛ وإذا قسمناها حسب العهود فهناك صحف ظهرت في عهد مملكة جويلية (1830 - 1848)، وأخرى في عهد الامبراطورية الثانية (1852 - 1870)، بالإضافة إلى ما ظهر في عهد الجمهورية الثالثة منذ 1871 وهو كثير. أما من الناحية الجغرافية فقد ظهرت صحف فرنسية في شرق البلاد وأخرى في غربها ثم أخرى في وسطها. وكانت بعض الصحف مقروءة في كل الجزائر وأخرى مقروءة محليا فقط، لأن كل مدينة تقريبا كان فيها صحيفة أو أكثر، ¬

_ (¬1) آجرون (الجزائريون المسلمون) 1/ 1260.

حتى أن سور الغزلان وحدها قد تعايشت فيها صحيفتان. منذ 1845 (عهد المارشال بوجو)، ظهرت الصراعات السياسية حول أنصار الاستعمار والجزائر الفرنسية بزعامة بوجو والكنيسة والكولون، وأنصار الحضارة ونقل فوائدها إلى الشعوب المتخلفة والإرتقاء بها إلى مستوى الشعوب الأوروبية، سيما الشعب الفرنسي وكان يقود هذا الاتجاه السانسيمونيون الذين يشملون عددا من أفراد الجيش، وكذلك بعض الرومانتيكيين (¬1). والصحيفة التي كانت تعبر عن الاتجاه الأول هي (الجزائر الفرنسية) وهي صحيفة كانت تصدر بدعم من المارشال بوجو. أما الاتجاه الثاني فكانت تعبر عنه صحيفة (الجزائر) التي كانت تصدر في باريس منذ 1843 وكان يشرف عليها أنصار سانسيمون. وفي وهران ظهرت صحيفة ذات نفوذ واسع وبقيت مدة طويلة، وهي صدى وهران (ليكو دوران) سنة 1843. وكانت تظهر مرتين في الأسبوع، ثم أصبحت يومية، وقد أنشأها أدولف بيرييه الذي كان من المطرودين من فرنسا بصفته جمهوريا معاديا للنظام الملكي القائم عندئذ. وقد أسس بيرييه أيضا مطبعة لهذا الغرض. وفي ناحية وهران ظهرت أيضا صحف مثل (الميساجي دي لويست)، و (جنوب وهران). وفي سنة 1900 اندمجت الصحيفتان وأصبحتا (جمهوري جنوب وهران). وحين أحست الحكومة بقوة جريدة (صدى وهران) حاولت سنة 1850 مقاومة نفوذها بإنشاء صحيفة موازية، وهي بريد وهران (كورييه دوران) بإيعاز من الوالي (البريفي). وفي المنطقة الشرقية ظهرت عدة صحف فرنسية أيضا كانت تمثل عدة اتجاهات ولكنها كانت تتفق على الاستعمار وخدمة مصالح الكولون على حساب الجزائريين. ففي عنابة ظهرت جريدة (السيبوس) منذ 1844. وبعد ذلك بقليل ظهرت في سكيكدة جريدة (الصفصاف). وفي سكيكدة أيضا ظهرت صحيفة أخرى باسم (الزرامة). وبعد استيلاء نابليون على الحكم سنة ¬

_ (¬1) انظر فصل تيارات ومذاهب.

1852 أوقفت (الصفصاف). وفي قسنطينة ظهرت صحيفة المستقل (لانديباندان) ثم صحيفة (الافريقي) سنة 1859، وفيها ظهرت عدة صحف أخرى، مثل (جورنال قسنطينة) التي تحولت سنة 1850 إلى التقدم (البروقري)، و (الديمقراطي البلدي) سنة 1849. وقد اختفت صحيفة (البروقري) بعد انقلاب 1852. وفي الجزائر ظهرت صحف جديدة في مختلف العهود اللاحقة، بالإضافة إلى المونيتور والأخبار والمبشر والجزائر الفرنسية. فقد ظهرت (لو برولو) البحر الأبيض. وهي صحيفة جمهورية ظهرت في عهد مملكة جويلية. وقد غيرت اسمها بعد ذلك إلى صحيفة (الأطلس) التي كانت تعتبر يسارية بالمفهوم الشائع عندئذ. أي كانت ضد سياسة الحكومة وكانت تناصر الحكم المدني وتقف ضد سياسة المملكة العربية التي تبناها نابليون الثالث. ويقول مؤرخو الفرنسيين إنها كانت صحيفة مقروءة جدا، بل الأكثر مقروئية في وقتها. ولا شك أن ذلك راجع إلى تبنيها مصالح الكولون، وهم أغلبية الأجانب. والغريب أن الذي أنشأ (الأطلس) هو السانسيموني الدكتور وارنييه وزميله ري Rey . ولتأثيرها في السياسة المعارضة حكم المارشال بيليسييه (الحاكم العام) بوقفها لأنها نشرت مقالتين عن الحالة النفسية للضباط، ومثل (ري) أمام المجلس العسكري للمحاكمة. وعاد الدكتور وارنييه فأنشأ مع زميله دوفال صحيفة (الجزائر الجديدة) التي كانت تناصر الحكم المدني وتطعن في العرب والمسلمين وتضاد سياسة نابليون الثالث في الجزائر. أما الصحيفة التي كانت تقف في الطرف الآخر لتدافع عن العسكريين والسياسة الرسمية فهي (الأخبار) التي كانت بتحرير كل من الجنرال شابو - لاتور والعقيد ريبو. وقد أشرنا إليها. وفي الوقت الذي كان فيه لكل فريق صحيفة بل صحف، وكلها كانت تتحدث عن مصير الجزائر ومصالحها، كان الجزائريون أنفسهم مسحوقين لا حركة لهم ولا صوت. لقد كان كل شيء يتم بعيدا عنهم رغم أنهم هم أهل البلاد، وكانت هذه الصحف تنشأ بالضرائب التى يدفعونها والتضحيات التى

يقدمونها. ولا قرأ القارئ منهم عندئذ إلا جريدة المبشر الرسمية التي كانت تخدرهم بكلمات معسولة مثل (حنانة فرنسا) عليهم، وتكرمها بمنح وسام الشرف إلى بعض الأعيان المخلصين لفرنسا. كان الرأي العام الفرنسي في الجزائر يعيش كخلية النحل على اتصال دائم بقضاياه ينافح عنها، ويتخذ لذلك الجرائد وسيلة للصراع والإعلام، مع بعضه ومع الحكومة، أما الجزائريون فقد كانوا غائبين عن الساحة الإعلامية إلى أواخر القرن الماضي، عندما بدأت العرائض الجزائرية تشير إلى ما يحاك ضد المواطنين في الصحافة الاستعمارية (¬1). وخلال عهد الامبراطورية وإلى أوائل القرن الحالي ظهرت في الجزائر صحف فرنسية عديدة ذات طابع سياسي ساخر. وهي صحف كانت تتناول القضايا الصغيرة وتفخمها بالكاريكاتور والرسومات، وأصبحت بمرور الزمن تمثل مدرسة في الثقافة الشعبية للكولون ونظرتهم إلى العالم الأهلي من حولهم. وهي ثقافة تميزت بروح التعالي والاحتقار للجزائريين واستعمال العبارات الأكثر فحشا وانحطاطا عند تناول الموضوعات الأهلية. وهذه (الثقافة الشعبة)، من جهة أخرى، هي التي كونت نوعا من التضامن الفئوي بينهم ضد الجزائريين، ولولا ذلك لما استطاع أصحاب الأصول الفرنسية والإسبانية والإيطالية والألمانية والمالطية أن يجدوا بينهم طريقا إلى التعايش في الجزائر. وقد وجدوا أنفسهم أحيانا يقفون حتى ضد يهود الجزائر الذين اندمجوا فيهم عن طريق التجنس سنة 1870. وكانت الصحف الساخرة هي التي لعبت دور التضامن المشار إليه وتكوين الثقافة الشعبية بين الكولون مهما اختلفت أصولهم ولغاتهم ومذاهبهم. ¬

_ (¬1) من مظاهر اليقظة الاغتباط والمشاركة في صحيفة (المنتخب) التي سنتحدث عنها والتي ظهرت سنة 1882، ومقالة أحمد بن بريهمات سنة 1883، حول مرسوم 13 فيفري من نفس السنة، في قنان (نصوص سياسية)، ص 190. وكذلك كتابات المكي بن باديس، 1889 وابنه حميدة، والعرائض المقدمة للجنة مجلس الشيوخ سنة 1892.

من هذه الصحف نذكر المصباح (لانتيرن) التي نشر فيها روبيني أخباره عن شخصية كاقايوس، في روايات ذات لغة شعبية ساخرة، مثل الكرفاش، والكوشون، والكوكو الجزائري. وكان بعضها يحمل اسم (الزواف) و (التامتام). وكان بعضها مضادا لليهود، وآخر مضادا للدين. وكان أغلب هذا النوع من الصحف قد ظهر من أجل المهاترات وإثارة الشغب السياسي أكثر منه للإعلام والأخبار. ومن العناوين الأخرى تدرك ذلك، فقد ظهرت صحف باسم (الثرثار) و (الشيطان) و (غليون الخشب) و (لوتوركو). ومن جهة أخرى استمرت بعض الصحف طويلا في مدن مختلفة مثل البليدة، فقد عرفت هذه المدينة صحيفة باسم (التل) وكذلك صحيفة (البروقري) التي ظهرت في أم السنام أو الأصنام، ودامت 45 سنة. وظهرت سنة 1911 جريدتان في سور الغزلان، وثلاثة في الشلف. ومنذ 1885 ظهرت في مدينة الجزائر صحيفة يومية استمرت طويلا هي (لا ديباش ألجيريان) واستطاعت أن تبقى إلى جانب صحيفة أخرى يومية أيضا هي (ليكو دالجي) التي ظهرت سنة 1912، والتي كان يشرف عليها دورو، نائب الجزائر في مجلس الشيوخ، وهو رجل اشتراكي راديكالي حسب التعبيرات السياسية الفرنسية. ثم تولى هذه الجريدة الآن دي سيرني فجعلها صحيفة مستقلة. وأصبحت في عهده ذات رواج واسع. وفي 1939 ظهرت (الجزائر الجمهورية) اليسارية. وكان الأديب ألبير كامو قد تولى رئاسة تحريرها بعض الوقت قبل أن تكشف عن وجهها الماركسي. وكانت صحيفة ناجحة ومقروءة. ومن جهة أخرى أنشأت لا ديباش المذكورة صحيفة أخرى تابعة لها هي (آخر الأخبار - ديرنيى نوفيل). وكانت في قسنطينة صحيفة باسم (لاديباش) أيضا، وكانت السياسة والمال يقفان وراء عدد من هذه الصحف. كما كانت الايديولوجيات تلعب دورها في دعم بعض الصحف؛ وأثناء الحرب العالمية الثانية عرفت بعض هذه الصحف حملات تطهير نتيجة

صحيفة (المبشر) الرسمية

التغيير في المواقف والولاء. وهكذا أوقفت عدة صحف، مثل لاديباش الجزائرية وآخر الأخبار ويقظة عنابة (روفاي دي بون) و (التام) - الجزائر وتونس والمغرب - الأسبوعية. واحتلت الجزائر الجمهورية والحرية (ليبرتي) وكلتاهما شيوعي، مقرات الجرائد الموقوفة. كما ظهرت في الجزائر صحيفة (لاديباش كوتيديان) برئاسة تحرير جان برون، و (جورنال دالجي) برئاسة تحرير إدمون بروا (¬1) وهناك صحف أخرى لم نذكرها. ورغم المال الذي كان يوفره أصحاب المصالح السياسية والاقتصادية، فإن الصحف الفرنسية في الجزائر كانت تعيش على الإعلانات والأخبار المحلية الصغيرة. وكذلك كانت تنقل أخبار فرنسا وما يجري في مسارحها وملاهيها وفضائحها من أجل جلب القراء. وقد قلنا إن موضوعات الثقافة الشعبية المشتركة بين الكولون وأدب السخرية من الأهالي واتخاذ أبطال خياليين على حساب المواطن الجزائري، كل ذلك جعل الصحف تبقى. وقد قال بعضهم إنها لكي تعيش كانت بعض الصحف تفتعل أي شيء وتقف ضده، لأن الضدية والتحدي والمهاترات كانت هي سبيل النجاح الصحفي في نظرها. صحيفة (المبشر) الرسمية الصحيفة التي نريد أن نتناولها على حدة هي (المبشر)، وهي صحيفة رسمية صدرت سنة 1847 باللغتين العربية والفرنسية، وكانت على العموم موجهة إلى الجزائريين. وكان أحد طلابنا قد تناول هذه الصحيفة بالتفصيل فيما يعلق بنشاتها ومحتواها ودورها والقضايا الجزائرية التي عالجتها ومواقفها (¬2). ونحن لن نذهب إلى كل ذلك هنا، وإنما سنذكر ما يهمنا في ¬

_ (¬1) اعتمدنا في هذه الفقرة بالخصوص على جاكلين بيلي (عندما أصبحت الجزائر فرنسية)، 246 - 247، وكذلك قوانار (الجزائر) مرجع سابق، ص 285 - 286. (¬2) رسالة الباحث إبراهيم الونيسي التي أعدها تحت إشرافي، معهد التاريخ - جامعة الجزائر، 1993. ورغم أن الجريدة استمرت إلى سنة 1927، فإن الونيسي توقف عند سنة 1870.

هذا الفصل، وهو التأريخ لنشأة الصحافة وتأثير ذلك على الرأي العام الجزائري. ظهرت المبشر فى آخر عهد مملكة جويلية، وبالضبط فى 15 سبتمبر 1847 وقد نسبت إلى الملك لويس فيليب الذي تسميه المبشر (سلطان فرنسا). وكان ابنه الدوق دومال، هو الحاكم العام للجزائر عندئذ بعد رحيل المارشال بوجو عنها. ولكن المبشر لم تعش سوى خمسة أشهر في عهد المملكة المذكورة إذ سقطت المملكة في آخر فبراير 1848 على أيدي الجمهوريين، وهرب الملك ورئيس وزرائه، غيزو، إلى بريطانيا. أما المبشر فقد استمرت في الصدور رغم التغيير في النظام، بل استمرت عبر كل النظم والحكام العامين الذين عرفتهم الجزائر إلى 1927، الذكرى المئوية لضرب الحصار الفرنسي على الجزائر، وعشية الاحتفال المئوي بالاحتلال. إنها مشروع فرنسي تمثل في جريدة رسمية دامت ثمانين سنة. وكانت المبشر صورة للتناقضات التي عرفتها الإدارة الفرنسية نحو الجزائريين. وما رأيك في جريدة تولاها البارون ديسلان أول مرة، ومرت بإشراف آرنو ثلاثين سنة، ثم لا بوتيير، ثم جان ميرانت مرتين (¬1)!. وقد شاع بين الكتاب أن الذي أنشأها هو الملك لويس فيليب لترشد الجزائريين (إلى سبيل العلم والحضارة والزراعة والتجارة والصناعة أسوة بسائر الدول الإسلامية، سيما السلطنة العثمانية والخديوية المصرية) (¬2). وهذا كلام طيب لو كان الأمر كذلك، ولكنه كلام مأخوذ فقط من الجريدة نفسها باعتبارها وسيلة للدعاية والتخدير. أين العلم والحضارة ... خلال الثمانين سنة التي عاشتها المبشر في رعاية حكام من أمثال بيليسييه وماكماهون ودي قيدون وشانزي وتيرمان ... وفي ظل أشخاص من أمثال ¬

_ (¬1) دي سلان كان من المستشرقين (انظر عنه فصل الاستشراق ...) وكان جان ميرانت من الضباط الخبراء في الشؤون الجزائرية، وقد تولى إدارتها مدة طويلة أوائل هذا القرن. أما آرنو فقد قيل إنه اسم نكرة مستعار. (¬2) فيليب دي طرازي (تاريخ الصحافة العربية)، 1/ 51.

الدكتور وارنييه والكاردينال لا فيجري والأستاذ غوتييه! إن الفرق شاسع بين رسالة الصحافة في الدولة العثمانية والخديوية المصرية وبين رسالة المبشر في الجزائر. ولنستمع إلى البارون ديسلان وهو يصوغ (مقصود المبشر) على لسان سلطان فرنسا - لويس فيليب: (إعلموا يا مسلمين ... إن المعظم سلطان فرانصة ... اتفق له برأيه وقوع هذا مختصر لفائدتكم وخيركم وتواتر النعمة عليكم ... إنكم بمسكن قلبه كعزيز الرعية عنده. واعلموا أن سلاطين أجناس النصارى مهما أرادوا يعرفون الرعية بالأمور الواقعة، يبعثون لهم رسائل خبرية (جرائد) كما هو معروف عند جميع الدول، كسلطان اسطنبول وصاحب مصر ...) وتذهب المقدمة التي صدرت في العدد الأول إلى أن ملك فرنسا له علاقات وطيدة مع ملوك وسلاطين الإسلام. ولكنه صاحب سطوة وقوة عندهم، ووعدت المبشر بأنها ستنقل إلى الجزائريين أخبار العالم الإسلامي: (سعادة سلطان فرانصة، له معرفة ومحبة بالغة مع سلاطين الإسلام، وهم صاحب اصطنبول، وصاحب العجم (بلاد فارس)، وصاحب الهند، وصاحب مصر، وصاحب الغرب (فاس)، وصاحب تونس ... وبينه وبينهم محبة لأنهم يدركون مكانته وإحسانه وعظيم سطوته وقوته. وستخبركم المبشر بما يجري في هذه البلدان). وبعد أن تحدثت عن الحجاج وما يجدونه من قناصل فرنسا من رعاية، لعظمة فرنسا بين الدول الأخرى وهم تحت حماية هذه (الدولة العظيمة) أضافت المبشر أنها ستعرف الجزائريين أيضا بعلمائهم القدماء، وبعلماء فرنسا الجدد، وستنوه بالكتب التي ألفها هؤلاء وأولئك: (لنا معرفة بالمؤلفين والعلماء من سالف الزمان، وأكثرهم من عندكم، وعلماؤكم الأوائل ألفوا في علم التاريخ والسيرة والأدب والشعر والفلك والفقه والديانة وسائر العلوم. والجريدة ستذكركم بهذه الكتب التي بعضها مفقود الآن عندكم). وأهم من ذلك كله، وهو المقصود بالذات في ظاهر الأمر، أن المبشر ستعرف الجزائريين بواجباتهم نحو فرنسا، وهي السمع والطاعة والابتعاد عن (سائر

الوشايات الشيطانية) التي تسميها الجريدة (الشيطنة- دمرها الله! -) والشيطنة عند المبشر والإدارة الفرنسية عندئذ هي الثورات والفتن المضادة للفرنسيين. ولذلك أوصتهم بعدم الاستماع إلى المشاغبين الذين (يسعون في هلاكهم وجر البلاء إليكم بتخليطهم وكذبهم). ولا ننسى أن المبشر قد صدرت أثناء المرحلة الأخيرة من المقاومة الوطنية بقيادة الأمير عبد القادر. والأوصاف والنعوت المذكورة موجهة بالطبع إلى المقاومة والمقاومين. أما الجوانب الإخبارية فالمبشر لخصتها فيما يلي: إعلام الجزائريين بكل ما هو موجه إليهم من الدولة الفرنسية لكي يعرفوا كيف يسيرون مع الولاة الفرنسيين ويعرف الولاة كيف يتصرفون مع الرعية. وتعريف الجزائريين بالزراعة والإنتاج الحيواني والمعادن والصناعات اليدوية، لأن جميع الصنائع والعلوم لا يدركها الإنسان إلا بمعرفة أنواعها. وكل ما تنتجه الجزائر يباع في الأسواق الفرنسية وما تنتجه فرنسا يباع في الجزائر (بأبخس الأثمان). والهدف من كل ذلك هو أن (نصل الألفة ويجري بدل البيع والشراء (المبادلات) بيننا). وأخيرا فإن المبشر ادعت أنها ستشتمل على فوائد جمة من جميع أنحاء العالم لفائدة الجزائريين (¬1). في أول الأمر كانت المبشر تصدر مرتين في الشهر، وكانت بحجم صغير، وكل صفحة فيها بأربعة أعمدة، واعتبرها فيليب دي طرازي ثالث جريدة عربية في العالم، رغم أنها تصدر - كما قلنا باللغتين - وكانت تحرر أولا بالفرنسية ثم تترجم مادتها إلى العربية. وبقيت تصدر مرتين في الشهر إلى سنة 1861. ومنذئذ بدأت تظهر كل عشرة أيام. ثم منذ 1866 أخذت تظهر كل خميس (¬2). وكانت المبشر قد توقفت بعض الوقت (سبتمبر 1858 ¬

_ (¬1) دي طرازي، مرجع سابق، 1/ 51 - 53. (¬2) استعملت المبشر عبارات (الرسائل الخبرية) و (الورقة الخبرية) قبل أن تستقر على لفظ الجريدة. ولعل سرعة نشرها ترجع إلى زيارة نابليون وإلى سياسته المعروفة (بالمملكة العربية) ففي 1860، ثم (1865 زار الجزائر وشجع الحكام (بيليسييه) وماكماهون خصوصا) على سلوك سياسة منصفة نحو (الرعايا) الجزائريين.

إلى يونيو 1859) بد إنشاء وزارة الجزائر والمستعمرات، لأن إدارة الشؤون الأهلية التي كانت تتولاها قد ألغيت. ولكنها عادت إلى الظهور قبل عودة الحكومة العامة سنة 1860، وربما كان ذلك لملء الفراغ الذي تركته بالنسبة للأهالي وانقطاع الصلة الدعائية بين الإدارة الفرنسية والموظفين الجزائريين عندها، وهم الذين كان عليهم أن يشتركوا في المبشر إجباريا. لقد كانت الجريدة تباع وتقرأ في الأسواق بإشراف أعوان المكاتب العربية. وترمي المبشر إلى التأثير على الجزائريين وإبعادهم عن الثورات وحثهم على الولاء لفرنسا، وتخويفهم من عواقب العصيان، وتمجيد فرنسا وعلومها وقوتها. ولذلك كانت المبشر تتفادى الخوض في المسائل الخلافية بين الفرنسيين كأنواع الاستعمار والخلاف بين المدنيين والعسكريين، وبين الحكام ورجال الكنيسة وسياسة التنصير. ولكن باعتبارها جريدة الإدارة العسكرية فإن المستوطنين كانوا لا يطيقونها. وكانت جريدة (الأخبار) التي أصبحت لسان حال السياسة الرسمية - الاستيطانية في الجزائر، قد رحبت بالمبشر عند صدورها، في عددها الصادر يوم 19 سبتمبر 1847 ونوهت بها وذكرت برنامجها وتمنت لها النجاح. كانت المبشر تطبع في المطبعة الحكومية خلال 1847 - 1864، وهي مطبعة كانت تابعة للحكومة العامة منذ عهد جانتي دي بوسيه. فقد جاء دي بوسيه بمطبعة فرنسية - عربية لطبع المنشورات الرسمية. وتولاها شخص بنفس اللقب وهو رولاند دي بوسيه، صاحب القاموس العربي - الفرنسي والفرنسي - العربي، الذي أصدره سنة 1847. ومع بداية 1864 طبعت المبشر في مطبعة جول برك. ولكننا وجدناها بعد ثلاث سنوات تطبع في مطبعة بويير بالجزائر، ثم وجدناها سنة 1894 تطبع في مطبعة فونتانة. والظاهر أنها قد استقرت مدة طويلة مع مطبعة فونتانة لأن إدارة الشؤون الأهلية قد وقعت عقدا على ذلك مع هذه المطبعة. وعنوان (المبشر) كان داخل دائرة شمسية مشعة. ومن أسفلها نسر وحوله هذه العبارة: (لشروق الشمس يجلى الظلام، ومطالعة الأخبار تنفي

الأوهام). وتحت رجلي النسر عبارة: (الصحيفة السلطانية في الجزائر) مع هلال مفتوح إلى أعلى، يتوسطه رقم الجريدة. ولعل هذا الشعار قد استمر طيلة عهد الامبراطورية، ويظهر أن الشعار فيه تبسيط يتناسب مع نوع القراء، ثم أن اسم الجريدة نفسه يوحي بذلك، فالشمس والنسر والهلال والمبشر والسجع في العبارة المذكورة وكونها صحيفة سلطانية - كل ذلك يتناسب مع عقلية القراء الجزائريين عندئذ. وبعد أن كان الاشتراك محصورا في فئة الموظفين الرسميين: وهم القضاة والقياد والأيمة، الخ ... أصبح أيضا مفتوحا لكل راغب. ولعل الجريدة، شعرت أن الجزائريين قد تفطنوا إلى دعايتها التسكينية، فلم يكونوا يطالعونها حتى بعد أن تأتي إليهم جبرا. وقد أشيع عندئذ أن الجزائريين لا يقدسون الحروف المطبعية كما يقدسون الخطوط اليدوية. ولم يكن سحبها في المرحلة الأولى يتجاوز الألف نسخة، وهو ربما عدد الموظفين الرسميين تقريبا، وكانت ترسل حوالي ثلاثمائة نسخة من كل عدد إلى كل إقليم من الأقاليم الثلاثة، وفي الخمسينات ارتفع العدد المسحوب إلى حوالي 1500 نسخة. وكان المارشال بيليسييه قد جعلها سنة 1861 جريدة تجارية يشتريها كل راغب في قراءتها (¬1). اهتمت المبشر، بالإضافة إلى ما ذكرنا، بأخبار الدول الإسلامية، مثل بلاد فارس والهند والدولة العثمانية ومصر. وكانت تنشر الأخبار عن حروب كوريا والصين، وروسيا القيصرية، والتجارة مع أفريقيا، وأخبار الاختراعات العلمية مثل تربية النحل، وعلم الفلك، والتجارة، والتلغراف، والسينما، والتصوير. ولذلك فإنها كانت من هذه الزاوية مرآة ينظر منها القراء إلى أحوال العصر. وكانت بالتالي مفيدة للجزائريين الذين لم يكونوا يقرأون الفرنسية أو ليسوا على صلة بالمستوطنين الفرنسيين، مثل الموظفين الرسميين في الأرياف والمناطق المعزولة. ولكن أسلوب الجريدة كان ¬

_ (¬1) رسالة الونيسي. وكذلك أعداد اطلعنا عليها ترجع إلى سنوات التسعين.

منفرا، رغم أنها تدعي أنها مبشر. يقول دي طرازي إنها مرت في تحريرها بثلاث مراحل: من 1847 إلى 1884، ومن هذا التاريخ إلى 1905، ثم من هذا التاريخ إلى زمن تحرير كتابه هو، وإذا شئت فقل إلى زمن توقفها سنة 1927. ولكن دي طرازي لم يوضح بأي شيء تميزت كل مرحلة في نظره. فهل هذه المراحل كانت حسب المادة وتوجيهها أو حسب المحررين وأسلوبهم في الجريدة؟ إننا نعرف أن توجهات الجريدة لم تتغير في الأساس، وإنما الذي تغير من مرحلة إلى أخرى هو أسلوب التحرير ومادة الجريدة. فبعد أن كان يشرف عليها مستشرق مثل ديسلان ويصوغ عباراتها بأسلوب الجرائد الشرقية المتأثرة بالعبارات العثمانية، أصبحت في مراحل أخرى وقد تخلصت نوعا ما من ذلك الأسلوب المصطنع وتطورت مع الصحافة العربية في مصر وسورية وتونس. ولذلك قال دي طرازي إنها كانت ركيكة العبارة في البداية ثم تحسنت حتى صارت صحيحة الإنشاء. وخلافا لما ذهب إليه دي طرازي فإن أول من تولى الإشراف على المبشر هو ديسلان وليس آرنو. ونحن نعرف أن هناك قرابة بين المارشال بوجو والمستشرق ديسلان (زوجة ديسلان هي ابنة أخت بوجو)، وهذا هو ما جعل ديسلان يتعين في الجزائر، باعتباره المترجم الأول فيها، مع كفاءته وخبرته التي لم ينكرها حتى خصومه. وقد ذكرنا في ترجمتنا لأحمد البدوي أن بوجو قد وضعه تحت تصرف ديسلان لمعرفة البدوي بأسلوب التحرير الجيد، إذ كان كاتبا عند الأمير وخليفته أحمد الطيب بن سالم مدة طويلة (¬1). وكان البدوي قد ظل يعمل في جريدة المبشر إلى سنة 1886 (¬2). وقد لاحظ الباحث إبراهيم الونيسي أن اسم ديسلان لم يظهر، مع ذلك، على صفحات ¬

_ (¬1) أحمد الطيب بن سالم هو خليفة الأمير علي حمزة (البويرة) الحد كانت قاعدة منطقة زواوة كلها. وقد استسلم أحمد الطيب في ربيع 1847 وسافر إلى الحجاز، ثم التحق بالأمير في دمشق. (¬2) ربما يكون ذلك هو تاريخ تقاعد أحمد البدوي أو وفاته.

المبشر إلا مرة واحدة، وهو في عدد 30 أكتوبر 1847 حين كتب افتتاحية لمقالة عنوانها (الأملية الثانية في خزانة الكتب السلطانية بباريس) (¬1). وكان ديسلان قد انتقل إلى باريس سنة 1863 ليتولى تدريس اللهجة العامية الجزائرية في مدرسة اللغات الشرقية. وحينئذ فإن إشراف آرنو على المبشر قد يكون بدأ على إثر ذلك. ومهما كان الأمر، فإنه بالرغم من وجود الإشراف الفرنسي على الجريدة: إدارة وسياسة وتوجيها وماليا، فإن مادتها الخبرية كانت مشتركة بين الجزائريين والفرنسيين، أما الأسلوب في المرحلة الثانية والثالثة فيمكننا أن نقول إنه كان جزائريا محضا فيما يتعلق بالقسم العربي. كانت المادة الخبرية في القسم الفرنسي تترجم في أغلبها إلى القسم العربي بأسلوب جزائري، متأثرا أيضا بضعف اللغة العربية وعزلتها عن الغذاء والتطور الذي عرفته الصحافة في المشرق وفي تونس. ولكن الجزائريين كانوا يوفرون مادة خبرية أخرى، سواء بتوجيه الفرنسيين أو بدون توجيههم، مثل الرجوع إلى كتب الأدب والأخبار وتاريخ العلم والحوادث والنصوص والطرائف القديمة والحديثة. وبالإضافة إلى اسم أحمد البدوي نجد اسم أبي القاسم الحفناوي (الحفناوي بن الشيخ) الذي لازم آرنو أكثر من أربعين سنة. وكان الحفناوي عالما بالمعنى التقليدي للكلمة، وله أسلوب جيد بمستوى ذلك الوقت. وقد نشر في المبشر مقالات بعضها كان مترجما والبعض الآخر من إنشائه (¬2). ورغم كل عيوب المبشر كجريدة سياسية رسمية للدعاية الفرنسية، فإنها كانت (مدرسة صحفية) لجيلين أو ثلاثة من الجزائريين. تعلموا منها فن الصحافة وجمع المادة الخبرية وتحريرها وتوجيهها وصياغتها واختيارها. كما عرفوا مراحل فن الطبع والنشر، وأنواع الترجمة. ومن جهة أخرى فإن المبشر ¬

_ (¬1) يقصد (بالأملية) القائمة التي تضمنت أسماء المخطوطات والكتب في خزانة المكتبة الملكية (الوطنية اليوم) في فرنسا. انظر رسالة إبراهيم الونيسي. وكان ديسلان هو الذي وضع كاتلوغ المخطوطات العربية في المكتبة الوطنية الفرنسية. (¬2) ترجمنا له في فصل التاريخ، وانظر عنه أيضا فصل السلك الديني والقضائي.

كانت هي النافذة الوحيدة ولفترة طويلة، للترجمة من الفرنسية إلى العربية، ومعظم ذلك كان على يد فئة قليلة من المتعلمين الجزائريين مزدوجي اللغة. ومنهم، بالإضافة إلى البدوي والحفناوي، وعلي بن عمر، وعلي بن سماية، ومحمود وليد الشيخ علي، وقدور باحوم، وعلي ولد الفكاي، ومحمد بن مصطفى خوجة، ومصطفى بن أحمد الشرشالي، ومحمد بوزار، ومحمود كحول، ومحمد بن بلقاسم (¬1). وهناك كتاب آخرون ساهموا بتحريراتهم في المبشر ولكنهم لم يتوظفوا فيها كصحفيين محترفين. ومنهم سليمان بن صيام ومحمد السعيد بن علي الشريف، اللذان نشرا فيها رحلتهما إلى فرنسا، وحسن بن بريهمات الذي نشر في المبشر، أو نشرت له عددا من الخطب والمقالات التأبينية، ومقالات أخرى بمناسبة زيارة نابليون الثالث للجزائر. كما نشر فيها أحمد بن الفقون بعض الأعمال الأدبية المترجمة عن الفرنسية، وتأليفه المسمى (التاريخ المتدارك في أخبار جان دارك) كما نشر فيها مصطفى بن السادات ومحمد الزقاي بعض المقالات. لم تكتف المبشر بنشر المادة الخبرية عن الجهات الرسمية الفرنسية، وأخبار العالم الإسلامي، والمبتكرات العلمية والحضارية، بل كانت تسلسل نشر المؤلفات ذات الطابع المفيد أو تلك التي يتوافق موضوعها مع مشرب الجريدة. ويمكننا أن نتحدث هنا عن (منشورات المبشر) فقد توفر لقرائها ما يعجزون عن قراءته اقتناء بنقودهم. ففي سنة 1868 سلسلت المبشر كتاب (أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك) لخير الدين باشا التونسي الذي طبع قبل ذلك بسنة واحدة، ولعل إعجاب خير الدين باشا بالحضارة الأوربية ¬

_ (¬1) لم نتصل بإنتاج الفكاي، وبوزار، وابن بلقاسم، وباحوم. وقد أتينا بمعلومات عن ابن عمر، وابن سماية. وأما محمد بن مصطفى خوجة فهو المعروف أيضا بالمضربة أو مصطفى الكمال، وكان محمود بن الشيخ علي هو الناسخ والكاتب وابن المفتي علي بن عبد القادر بن الأمين. وقد اشتهر اسم الشرشالي في الصحافة الأخرى أوائل هذا القرن، كما تردد اسمه في موضوع تدوين الفقه الإسلامي وفي البعثة الفرنسية إلى الشريف حسين زعيم الثورة العربية سنة 1916.

والنظم الغربية، ومنها الفرنسية هو الذي جعل المبشر تقبل على نشره في حلقات متواصلة ابتداء من أول أكتوبر 1868. وقبل ذلك نشرت كتابا في الجغرافية للشيخ رفاعة الطهطاوي، ابتداء من 15 يناير 1857، وقد استمرت حلقاته مدة طويلة. وهو كتاب كان يتحدث بالخصوص عن جغرافية فرنسا التي عاش فيها الطهطاوي إماما للبعثة العلمية المصرية. ومن منشوراتها أيضا كتاب (تاريخ دولة العرب في إفريقية) الذي ترجمه أحمد بن الفقون، ابتداء من 26 نوفمبر 1868. وهناك (مروج الذهب) للمسعودي، وسقوط غرناطة، وحكاية غونزالف القرطبي، وقصصا من كليلة ودمنة ومن ألف ليلة وليلة (¬1). وكذلك نشرت بعض الأشعار لأحمد بو طالب قريب الأمير عبد القادر، في مدح نابليون الثالث (¬2). وبين يناير 1880 وأبريل 1881 نشرت المبشر كتاب (عجائب الأسفار ولطائف الأخبار) لأبي راس الناصر المعسكري، ولا ندري إن كانت قد استكملت نشره. ومن جهة أخرى كانت المبشر تعلن عن الكتب المترجمة والموضوعة والقواميس المطبوعة مما جعلها وسيلة للإطلاع على ما تخرجه المطابع سواء في الجزائر أو في غيرها. ومنذ 1848 أعلنت المبشر أن وزير الحربية أمر بترجمة مختصر الشيخ خليل وشروحه حتى يفهم القضاة الفرنسيون الفقه المالكي وأصول الشريعة الإسلامية السائدة في الجزائر. وقد قام الدكتور بيرون بهذه الترجمة، كما ذكرنا في غير هذا المكان ولم تنتظر المبشر صدور الترجمة بل أنها نشرت تعريفا بالشيخ خليل وكتابه في آخر سنة 1861. وأعلنت الجريدة أيضا أن الوزير نفسه أمر بترجمة تاريخ ابن خلدون، سيما ما يتصل منه بالجزائر. وهو العمل الذي قام به ديسلان نفسه، وصدر في عدة أجزاء على نفقة الحكومة الفرنسية. وقد أهدت منه (أي الحكومة) نسخا إلى أعيان الجزائر (¬3). ¬

_ (¬1) للمزيد انظر ترجمة علي بن عمر، وأحمد بن الفقون. (¬2) انظر بحث إبراهيم الونيسي. (¬3) انظر ترجمتنا لمحمد الشاذلي القسنطيني (القاضي الأديب)، ط. 2، 1985. فقد كان =

وبين سنة 1889 و 1896 نجد إعلانات متكررة في المبشر عن كتب صدرت حول الشريعة الإسلامية، والمعاجم، والقصص، ونحو ذلك. مع ذكر أثمان المؤلفات وأحيانا توضيح الغرض منها وأهميتها. من ذلك (الشرع الإسلامي) الذي قالت عنه إنه تقرير قدم إلى رئيس الجمهورية الفرنسية، وهو يتعلق بتنظيم القضاء الإسلامي فيما يظهر. ثم (فهرس خليل) كما رتبه على الحروف المستشرق ادمون فانيان، حسب نسخة باريس وأضافت المبشر أنه كتاب يحتاج إليه الحكام ووكلاء الشرع (القضاة) والمترجمون وكل مشتغل بالشريعة الإسلامية. و (اللسان يكمل الإنسان) من تأليف الضابط لويس رين والمترجم العسكري أحمد بن بريهمات، لتسهيل تعلم اللغة الفرنسية. وقصة علي الزئبق المصري التي استخرجها المترجم آرنو من ألف ليلة وليلة ونقلها إلى الفرنسية (لكي يتمتع بها المطالع). ثم الإعلان عن صدور كتاب صغرى السنوسي في التوحيد الذي ترجمه لوسياني مع شرح السنوسي نفسه، وشرح الباجوري على الصغرى. ومع ذلك فإن المبشر لم تكن جريدة تنشر لكل من تقدم إليها. فالجزائري الذي كان يرغب في كتابة مقالة حرة لا يجد سبيلا لنشرها لا في المبشر ولا في غيرها. وكان على الجزائريين أن ينتظروا طويلا لكي يتاح لهم التعبير عن طريق الصحافة العربية (¬1). غير أن هناك فلتة - إذا صح التعبير - تمثلت في جريدة فرنسية أيضا، ولكنها بالعربية أو مزدوجة، ولم تكن جريدة رسمية وإنما كانت عامة أو مستقلة. ونعني بها جريدة (المنتخب). ¬

_ = محمد الشاذلي من الذين تلقوا نسخة هدية من تاريخ ابن خلدون، رغم أنه لا يعرف الفرنسية أولا يعرف منها إلا الدارج. (¬1) نشر بعضهم في جرائد المشرق (كالجوائب) لأحمد فارس الشدياق، قبل النشر في الجزائر.

جريدة المنتخب

جريدة المنتخب ولكن من الناحية التاريخية نذكر جريدة مجهولة الاسم حتى الآن ظهرت سنة 1877 في قسنطينة. وهي ناطقة بالعربية كملحق لجريدة (البروقري دي ليست) التي كانت تصدر في قسنطينة. ويذكر من اطلع على محتواها أنها كانت بالعربية وأنها هاجمت الشيخ عبد القادر المجاوي على آرائه التي أظهرها في رسالته (إرشاد المتعلمين)، كما هاجمت الثقافة العربية واللغة العربية ودعت إلى إدماج الجزائريين في الثقافة الفرنسية. ونحن لا نتوقع إلا ذلك من جريدة متفرعة عن (البروقري) من جهة وصادرة زمن الجمهورية الثالثة وعلى إثر ثورة 1871 من جهة أخرى. ولكن الشيء الملفت للنظر فيها هو أن بعض الجزائريين قد ظهر على صفحاتها أيضا، ومن هؤلاء من كتب ضد المجاوي أيضا لأنه (أي المجاوي) جعل الجزائريين أقل تقدما من عرب المشرق. وهذا ما لا تتحمله السلطات الفرنسية التي تريد أن تظهر بين الجزائريين على أنها حاملة لواء التقدم والحضارة بينهم والآخذة بيدهم إلى هذا الطريق. فهذا الكاتب وأمثاله إذن إنما هم متفرنسون أو مغفلون. ومع ذلك فإنهم لم يسايروا الجريدة في مهاجمة الثقافة العربية واللغة العربية (¬1). وهذه الجريدة المجهولة غير معروفة المدة أيضا، ويبدو لنا أنها كانت (نشرة) صدرت مؤقتا عن (البروقري) لتؤدي مهمة عاجلة، وهي الإساءة للثقافة العربية ولدعوة المجاوي إلى الإصلاح والتعلم التي ظهرت في رسالته (إرشاد المتعلمين). ونعتقد أنه لم يصدر منها سوى بضعة أعداد ومع ذلك ¬

_ (¬1) الآن كريستلو (المحاكم الإسلامية)، برنستون، 1985، ص 229 - 230 لكن سيرقال Sers - Gal قال في مقالة له نشرها في المجلة الأفريقية. R.A بعنوان (الصحافة الجزائرية) ص 109، إن الملحق لم ير النور، لأن الحاكم العام شانزي لم يرخص به. وقال إن المحاولة قام بها أرثر دي فونفيل Founville سنة 1877.

فإليها يرجع الفضل في لفت الأنظار إلى آراء المجاوي وإلى الموقف من قضية الحضارة. ونفهم من (سيرقال) أن مشروع الجريدة العربية المستقلة إعلاميا قد نجح، ولكن على يد شخص آخر قال عنه إنه كان ضابطا في فرقة الزواف وملحقا بالحكومة العامة، فقد أنشأ هذا الضابط المجهول جريدة (من وحي الحكومة؟) حوالي 1880 وسماها (أستر الشرق L'Astre d'orient) وكان هدفها، كما قيل، هو فتح منبر لجميع عرب البحر الأبيض حاملا إليهم أخبار فرنسا ثم الأخبار العامة من طنجة إلى أصبهان. وعلينا أن نتذكر أن فاتح سنة 1880 عرف اهتمام إيطاليا بتونس وشرق الجزائر واهتمام بريطانيا بمصر، وأن فرنسا كانت منافسة لكلتيهما، ثم أن احتلال تونس حدث سنة 1881 واحتلال مصر سنة 1882، وإن ثورة المهدي في السودان وثورة عرابي باشا قد وقعتا أثناء ذلك. فاهتمام السلطات الفرنسية بمنطقة البحر الأبيض وبالحياة العربية كان من أجل تجميل وتأطير الصورة الفرنسية في الجزائر والشرق. وبناء على سيرقال فإن (أستر الشرق) كانت أسبوعية تصدر كل خميس، وأنها كانت تلجأ إلى التمويه لتستر عربيتها حتى أنها كانت تطوى بطريقة تظهر فيها كأنها صحيفة فرنسية. وعلينا أن نفهم من ذلك أن اللغة العربية كانت محاربة حتى في حروفها. ومهما كان الأمر فقد اعتبرها سيرقال (محاولة مخلصة) لتوضيح رسالة فرنسا للعرب. ويبدو أنها صحيفة قد استغرقت فترة لا بأس بها إذ أنها أفلست سنة 1883 (¬1). ولا ندري ما العلاقة بين هذه الصحيفة والصحيفة التي لم نعرف اسمها ثم صحيفة (المنتخب) التي سنتحدث عنها. ولعل القدر المشترك بين هذه المحاولات جميعا هو أنها ¬

_ (¬1) سيرقال، مرجع سابق، ص 109. جاء هذا المصدر بإحصاء الصحف الفرنسية التي ظهرت بين 1870 - 1896، وهو إحصاء يبين نشاط وظهور الصحف في عهد الجمهورية الثالثة 1871: 30 صحيفة، 3 188: 38، 1886: 50، 1890: 92، 1896: 134.

صدرت في الجهة الشرقية من البلاد وأنها محاولات لنشر الفكر الاستعماري بطريقة غير رسمية، وأما الطريقة الرسمية فهي التي حذقتها وتفننت فيها (المبشر) كما عرفنا. أما جريدة (المنتخب) فأمرها مختلف. فهي جريدة معروفة الاسم والتاريخ والمدة، وكان لها مدير ورسالة، وكان مديرها فرنسيا هو بول ايتيان. وقد ظهرت في قسنطينة بتاريخ 28 إبريل 1882، وانتهت بعدد 40 يوم 12 يناير 1883 (¬1). وكانت رسالتها الظاهرة هي الدفاع عن مصالح الأهالي، وخصوصا الفلاحين، ولكنها كانت تدعو إلى الاندماج في البوتقة الفرنسية. ولذلك أولت اهتماما خاصا بتدوين الفقه الإسلامي لكي يسمح بنيل الحقوق والواجبات السياسية، بما في ذلك المساواة في الضرائب والخدمة العسكرية، والتجاوز عن الشروط - العقبة التي وضعها قانون التجنس سنة 1865، وهي ضرورة التخلي عن الأحوال الشخصية الإسلامية قبل الدخول تحت طائلة القانون الفرنسي. ولذلك وصفت جريدة (المنتخب) الشريعة الإسلامية بأنها شهادة عدم المساواة المدنية للجزائريين، وعليهم أن يتخلصوا من ذلك لا عن طريق التجنس الصريح ولكن عن طريق تدوين الشريعة (والفقه) بما يسمح لهم باكتساب الحقوق المدنية الفرنسية. واعتنت المنتخب أيضا بالقضايا الاقتصادية والجبائية للجزائريين، وبسياسة روسيا والنمسا الثقافية نحو الأقليات، معتبرة ذلك نموذجا صالحا للجزائر أيضا. وفي افتتاحية عددها الأول جاء أنها جريدة أنشأتها (جماعة من مسلمي قسنطينة ومن أعيانها) وأنها لخدمة فرنسا وخدمة الفلاحين. وذهبت إلى أن العرب هم الذين أنشأوها وأنهم موالون لفرنسا ومؤمنون بعظمتها، وقالت إنهم معتدلون في آرائهم ويعتقدون في التقارب بينهم وبين الفرنسيين والتفاهم ¬

_ (¬1) ذكر نفس المصدر (كريستلو) - المحاكم ... ، ص 238، أنها صدرت بتاريخ 23 أبريل وانتهت فى بداية 1883.

معهم. وادعت الجريدة أن لا ضرر من إنشائها بعد أن ذهب الجيش إلى تونس لاحتلالها (1881). وأعادت إلى الأذهان اضطرابات الفلاحين، ولذلك جاءت هي لتوضيح المشاكل الكبيرة التي تشغل بال الصحافة الفرنسية، ولكي ترتاد الطريق لفرنسا. وزعمت أن العرب الذين انضموا إلى الجريدة سينورون فرنسا حول العاصين ويقومون بتبصير إخوانهم بإحسان فرنسا وتمدينها لهم، وإن رسالة التمدين الفرنسية ستعيد الجزائريين إلى سابق عهدهم في الحضارة، ثم دعت إلى القيام بإصلاحات فرنسية نحوهم. ومع ذلك لم تهتم الجريدة بإلغاء المحاكم الإسلامية ولا بمشكلة القضاء الإسلامي، وكانت هذه من القضايا الساخنة عندئذ (¬1). أطلقت المنتخب على نفسها اسم (جورنال)، واعتبرت نفسها لواء خفاقا للمدنية لأن العصر لم يعد عصر الرايات وإنما هو عصر الجرائد. وكانت تصدر أسبوعيا باللغتين، كل يوم أحد. ومن كتابها الجزائريين حميدة بن باديس، وعبد القادر المجاوي، وزين العابدين بو طالب. وهناك كتيب يذكر عددا من الوجوه البارزة المشاركة في تحرير الجريدة. وقد نوه زين العابدين بو طالب (وهو قريب الأمير عبد القادر) بظهور الجريدة في أبيات نشرت في العدد الخامس منها واعتبرها جريدة نافعة للأهالي ومبشرة بالأماني والوصول إلى الحق كما دعا إلى اقتنائها (¬2). لقد كان رد فعل الحكومة ودوائر المستوطنين على المنتخب عنيفا. فقد هاجمها الحاكم العام، لويس تيرمان نفسه في تقريره. وحكمت عليها جريدة (الأخبار) المنحازة إلى الكولون بأنها جزء من (حركة تمردية) وقالت إن وفودا عين المنتخب قد ذهبت إلى البلدان ¬

_ (¬1) كريستلو (المحاكم)، مرجع سابق، ص 238 - 239. (¬2) قنان (نصوص سياسية)، مرجع سابق، ص 182 - 184. عن المنتخب انظر أيضا محمد ناصر (الصحف العربية في الجزائر)، الجزائر، 1980. وكذلك زهير ايحدادن (تاريخ الصحافة الأهلية في الجزائر من أصولها إلى 1930)، الجزائر 1983.

المجلات الفرنسية

المجاورة (¬1). كل هذا والمنتخب لم تزد على أن تبنت السياسة الفرنسية نفسها تقريبا، ويبدو أن الذي أثار حفيظة الدوائر الاستعمارية ضدها هو الخوف من دورها في توعية الجزائريين بحقوقهم وكون بعضهم شارك في تحريرها واستبشر بظهورها كوسيلة للتعبير عن المظالم والتعسفات (¬2). المجلات الفرنسية بالنسبة للمجلات الفرنسية، ظهرت كذلك في الجزائر نماذج عديدة منها، هناك المجلات العلمية والتاريخية المتخصصة، وهناك المجلات الأدبية والمصورة والفنية. وظهرت بعض المجلات في العاصمة وأخرى في قسنطينة أو وهران. وكانت تصدر عن جامعة الجزائر مجلات أيضا مثل (ليبيكا). وقد تناولنا في فصل آخر المجلات التي كانت تصدرها الجمعيات التاريخية والأثرية مثل (روكاي) في قسنطينة و (المجلة الإفريقية) في العاصمة، والنشرة في وهران. فلا نكرر ذلك هنا (¬3). وقد ذكر البعض أنه كان بالجزائر حوالي 10 مجلات في شتى التخصصات، ومنها في غير ما ذكرنا الفلاحة والقانون، والسياحة مثل مجلة (الجزائر هيفيرنال) السياحية التي ظهرت سنة 1905. وفي سنة 1933 ظهرت مجلة (شمال إفريقية المصورة) ثم مجلة (ألجيريا) المصورة أيضا بطريقة فخمة. وكان لويس بيرتراند يصدر مجلة (إفريقية اللاتينية)، وهو من الأدباء الذين قيل عنهم إنهم يمثلون مدرسة الجزائر الأدبية المزيجة من الجزأرة والفرنسة والرومنة والكثلكة، وبعد الحرب العالمية الثانية ظهرت مجلات أخرى في الأدب الفرنسي مثل (فونتين) لماكس فوشيه، و (لارش) لجان عمروش. ¬

_ (¬1) كريستلو (المحاكم)، مرجع سابق، ص 239. (¬2) عن جرائد الدعاية زمن الحرب العالمية الأولى، مثل (فرنسا الإسلامية) و (أخبار الحرب) انظر كتابنا الحركة الوطنية، ت 2. (¬3) انظر فصل الاستشراق.

كما ظهرت (سيمون) و (الشمس) - صولاي (¬1). وفي عام 1896 ظهرت نشرة بالعربية في باريس على يد (جمعية افريقية الفرنسية) أطلق عليها اسم (النصيحة للأجيال)، وكانت ترسل إلى أعيان كل بلدة في الجزائر. وبناء على الأسماء التي كانت ترسل إليها فإنها كانت مهتمة بالجيل المخضرم وليس المتفرنس. لقد كانت توزع مجانا على العدول والقياد والقضاة والمرابطين والتجار والمترجمين ورجال الدين. والظاهر أنها كانت توزع في تونس أيضا وفي بعض مناطق إفريقية الإسلامية، لأنها كانت تهدف، مثل الجمعية التي أنشأها، إلى الدعاية الاستعمارية الفرنسية ونشر التأثير الحضاري الفرنسي عن طريق اللغة العربية (¬2). وأول مجلة باللغة العربية في الجزائر ظهرت سنة 1906 على يد امرأة فرنسية تسمى جوان ديريو J. Desrayaux، التي عرفت باسم جمانة رياض. وهو اسم اقتبسته من المشرق العربي الذي ذهبت إليه مع والدها. أما عنوان مجلتها فهو (الإحياء)، وهو عنوان جذاب يتناسب مع روح العصر المعبر عنها بالنهضة. وتعتبر (الإحياء) مجلة أدبية جامعة، والأدب هنا يطلق بمفهومه العام، لأنها في الواقع قد اهتمت أيضا بالحياة الاجتماعية والمرأة واللغة العربية والتعليم. وقد ظهرت الأحياء في وقت كانت فيه الجزائر ما تزال محرومة من الصحف والمجلات الأهلية. ولا يكاد الجزائريون يتغذون إلا من (المبشر) الرسمية جدا، أو من بعض الجرائد والمجلات السورية والمصرية والتونسية التي لا تكاد تصل إلى الجزائر. ولنتفق على استعمال الاسم العربي لمؤسسة مجلة (الاحياء)، وهو جمانة رياض، لقد كانت جمانة فتاة غريبة غربة معاصرتها المغامرة إيزابيل ¬

_ (¬1) قوانار (الجزائر)، مرجع سابق، ص 287. (¬2) أرشيف إيكس (فرنسا) رقم 81 H 10. وكذلك (افريقية الفرنسية). من الواضح أن هذه المجلة (النصيحة) لم تكن تصدر بالجزائر. ولكن قائمة الأعيان الذين أرسلت إليهم تجعل منها بوقا للدعاية الفرنسية وكأنها صادرة فعلا في الجزائر.

إيبرهارت، ولكن في اتجاه آخر، اهتمت هذه بالجوسسة والشهوات وحياة الصحراء والبداوة ثم بالإسلام والتصوف والسياسة. أما جمانة رياض فقد اهتمت بالأدب واللغة العربية والحركة النسوية في العالم العربي، وكذلك حركة الجامعة الإسلامية. وبينما ترجلت إيبرهارت وعشقت الفروسية وسمت نفسها (أحمد)، تمشرقت (جوان ديريو) وأحبت العرب وسمت نفسها جمانة رياض. كانت جمانة ابنة أستاذ فرنسي في الليسيه بالجزائر. وقبل أن تبلغ العشرين حصلت على دبلوم الدراسات العربية من مدرسة الآداب العليا (كلية الآداب فيما بعد). كما حصلت على (البروفي) الذي تعطيه الحكومة العامة بعنوان بروفي المراسل للجائزة العربية. وبتكليف من الحاكم العام، جونار، ومدير الشؤون الأهلية دومينيك لوسياني، قامت هي ووالدها بمهمة في تونس ومصر سنة 1906، وكانت المهمة في ظاهر الأمر لدراسة أوضاع مدارس البنات في الولدين، وقدما تقريرا حول ذلك إلى الحاكم العام. وفي مصر اهتمت جمانة رياض بحياة المرأة، ونشاط المجلات والصحف العربية التي كانت تشرف عليها كل من لبيبة هاشم في القاهرة وأليسكندرا فيسينو بالإسكندرية. وهناك خطر ببال جمانة إنشاء مجلة مشابهة في الجزائر تكون في خدمة السكان العرب. فأصدرت (الإحياء) في العاصمة انطلاقا من هذه التجربة والرؤية، وذلك في أول محرم سنة 1325 (الموافق 15 فيفري 1906) (¬1). والإحياء تصدر مرتين في الشهر. وكانت مجلة (جريدة) عمومية وتحتوي على مقالات أدبية وموضوعات في القضايا المعاصرة. وقد جاءت في العدد الأول بمقالات من الصحف العربية، وتناولت خط سكة حديد الحجاز، وأحداث إيران والمغرب الأقصى، وأخبار الجمعية الأثرية الجزائرية، بالإضافة إلى الحديث عن الجريدة النسائية العربية ¬

_ (¬1) عنوانها: بالجزائر العاصمة. واشتراكها السنوي 4 فرنكات في الجزائر وتونس وفرنسا. وثمنها 15 سنتيم. وكان العدد الواحد يحتوي على 8 صفحات، أطلق عليها اسم المجلة تجوزا فقط تبعا لمن وضعوها أول مرة ثم لشكلها. أما عدد صفحاتها فيدخلها في الجرائد.

(فتاة الشرق). وأما العدد الثاني فقد جاء فيه حديث عن التربية والتعليم، وعن مسلمي روسيا وطرابلس وإيران. وتبنت مجلة الإحياء رفض الاندماج بين الجزائريين والفرنسيين. ودعت إلى تعليم العرب الجزائريين عن طريق استلهام حضارتهم الخاصة وتعليمهم لغتهم. كما دعت إلى ضرورة إصلاح مناهج التعليم التي أصبحت غير نافعة في نظرها، وإحياء معنويات الجزائريين وأخلاقهم بمساعدة الدين الإسلامي، وذلك بالرجوع إلى أصول هذا الدين وصفائه الأول. ونحن نفهم من ذلك أن صاحبة المجلة متأثرة بمدرسة الشيخ محمد عبده التي كانت لا ترفضها السلطات الفرنسية أيضا. وكان شارل جونار من أكبر المؤيدين لفلسفة تطور الجزائريين داخل حضارتهم بدعم وغطاء من فرنسا. ولا نستبعد أن يكون هو وسياسته وراء إنشاء هذه المجلة. وقد استعانت جمانة رياض ببعض المتعلمين الجزائريين، خريجي المدارس الفرنسية الحكومية، ومنهم الحاج صالح، والعلواني، وكلاهما غير معروف لنا (¬1). ويذهب البعض إلى أن عبد القادر المجاوي وعبد الحليم بن سماية قد ساهما فيها أيضا .. وقد صدر منها 34 عددا قبل أن تتوقف. أما صاحبتها فقد توفيت سنة 1914 (¬2)، وهي في ريعان الشباب مثل معاصرتها إيبرهارت. ومهما كان الأمر فإن المجلة لم تدم أكثر من سنة. ففي 1907 أعلنت مجلة العالم الإسلامي أن الإحياء (الصغيرة والهامة) قد اختفت رغم أن المشتركين فيها بلغوا مائتي مشترك، وهو (رقم محترم) حسب مجلة العالم الإسلامي. غير أن مؤسسيها (هكذا بالجمع) لم يستطيعوا مواجهة متطلبات جريدة ناضجة وقوية (؟) وفضلوا الانسحاب من الميدان مع تعويض المشتركين. ولا ندري ما الجريدة التي عجزت ¬

_ (¬1) مجلة العالم الإسلامي، مارس 1907، ص 78 - 79. لا ندري سبب توقف (الإحياء) فهل كان يرجع إلى السياسة أو المال أو صحة صاحبة المجلة. (¬2) علي مرحوم (نظرة على تاريخ الصحافة العربية الجزائرية) في مجلة (الثقافة) عدد 42 - ديسمبر 1977، ويناير 1978، ص 21 - 40.

الإحياء عن منافستها (¬1). وربما كان المقصود بها جريدة (كوكب افريقية) التي سنتعرض إليها. ومن المجلات المزدوجة التي ظهرت بعد الحرب الثانية (هنا الجزائر)، وكانت تصدر منذ 1952 عن محطة الإذاعة. أما رئيس تحريرها فقد كان الشاعر الرقيق الطاهر البوشوشي. وكانت تحتوي بالإضافة إلى البرامج الإذاعية، بعض المقالات والقصص والأخبار والصور. وقد شارك فيها عدد من الجزائريين بالكتابة مثل مولود الطياب وأحمد بن ذياب وأحمد الأكحل ونور الدين عبد القادر ومحمد الطاهر فضلاء. وكنا قد اطلعنا على مجموعة منها في الجزائر. وهي مجلة موجهة وتساير التطور الفني والمسرحي والأدبي في أوروبا (فرنسا) وتسوق بعض أخبار التمثيل والموسيقى في الجزائر والشرق. وكانت (هنا الجزائر) تهتم أيضا بأدب المشرق الحديث، وإيراد الطرائف والأخبار وفيها بعض الأسماء النكرة مثل ابن السبيل وابن غالب. وكانت ذات إخراج جيد وأوراقها صقيلة. وقد ضم العدد الخامس والخمسين (مايو - يونيو 1957)، هذه العناوين: زعماء الأدب العربي (جرجي زيدان، وأحمد شوقي، ولطفي المنفلوطي، وخليل جبران)، والأدب العربي (مع الجواري في عصورهن)، والأدب الافريقي. وهناك موضوع تحت عنوان (التاريخ)، وهو مترجم، وأجوبة على أسئلة السامعين، والموسيقى لغة فن وعلم، ومن رياض الشعر (مختارات من الشعر تبتدئ من الإمام الشافعي وصفي الدين الحلي وتنتهي بشوقي والعقاد) وقد ضم العدد أيضا قصة، وحديث الكتب والمجلات والبرامج الإذاعية. وفي العدد قسم بالفرنسية أيضا، غير أن القسم العربي أكبر حجما. وفي القسم الفرنسي نجد رسومات محمد ايقربوشن. وحكاية قبائلية، والفن ¬

_ (¬1) مجلة العالم الإسلامي 1907، ص 585. وكان محمد ناصر قد نشر مقالة مسلسلة (ربما في جريدة السلام) عن مجلة الإحياء واطلعنا عليها في حينها، ثم لم نستطع الحصول عليها ونحن في الخارج، فكتبت إليه وهو بعمان، وإلى كتابة هذا لم يصلني منه ما طلبته.

نشأة الصحف الجزائرية

البربري (¬1). (لاحظ أن ما يتعلق بالبربر يكتب بالفرنسية). ويروي محمد الطاهر فضلاء أن المجلة ظهرت في مايو 1952، وتوقفت في يوليو 1960، وأن نور الدين عبد القادر قد خلف البوشوشي في تحريرها بعد أن سافر الأخير إلى فرنسا، وأنه صدر منها 89 عددا. وكانت ميزانيتها تخرج من الحكومة العامة سنويا (¬2). نشأة الصحف الجزائرية هناك صحف أخرى كان ظهورها شبيها بظهور (المنتخب) بالنظر إلى أن مؤسسيها كانوا من الفرنسيين وليسوا من الجزائريين. ولعل ذلك راجع إلى أسباب مادية، أي أن نشر جريدة من أجل الأهالي كان الهدف منه الربح المادي، وقد يكون لأسباب ايديولوجية أو توجيهية كما فعل قوسلان الذي أسس جريدة (النصيحة) - وهي غير (النصيحة للأجيال) التي صدرت بباريس - وقد نعد من ذلك جريدة (المغرب) التي ظهرت سنة 1903 بإشراف مطبعة فونتانة. وهي الجريدة التي فتحت صدرها للكتاب الجزائريين. ويبدو لنا أنها كانت من إنشاء حكومة شارل جونار وإدارة الشؤون الأهلية برئاسة لوسياني، لأن الحكومة العامة هي التي كانت تدفع الثمن لمطبعة فونتانة. ومثل ذلك يقال عن صحف أخرى أصدرتها الحكومة العامة أيضا أو ساعدت عليها لأغراض سياسية ومعنوية، مثل فتح القسم العربي من جريدة (الأخبار)، وإصدار جريدتي (فرنسا الإسلامية) و (أخبار الحرب) لمكافحة الدعاية العثمانية والألمانية خلال الحرب العالمية الأولى، وكانتا بإشراف ¬

_ (¬1) من معلومات راسلني بها محمد الحسن عليلي، يوليو، 1996، ومن كتاب القسم الفرنسي، جورج مارسيه، ومالك واري، ونائلة (؟). وكانت (هنا الجزائر) تطبع في مطبعة تيبو - ليتو في حي باب الواد. وقد أرسل لي أحمد بن السائح عددين منها للاطلاع، كما أرسل إلي رسالة وصلته من محمد الطاهر فضلاء حول المجلة وتاريخها وكتابها واهتماماتها. فله الشكر الجزيل، ابريل، 1997. (¬2) من رسالته إلى أحمد بن السايح في مارس، 1997 التي سأله فيها عدة أسئلة تتعلق بهوية مجلة (هنا الجزائر). وهي رسالة هامة للمعلومات التي احتوت عليها.

جان ميرانت (¬1). وكانت (كوكب افريقية) من إنشاء الحكومة العامة أيضا ولكن رئاسة تحريرها أعطيت للشيخ محمود كحول (¬2). ذلك أن الجزائريين كانوا غير قادرين على إنشاء الجرائد عندئذ من الناحية المادية. كما أنهم لم يكونوا متعودين على فنيات الصحافة اللهم إلا ذلك العدد القليل الذي تعامل مع جريدة المبشر والذي كان معظمه قد تولى وظائف رسمية أخرى، مثل أبي القاسم الحفناوي، ومحمد بن مصطفى خوجة. كما أن إنشاء صحيفة كان يتطلب الدخول في عالم المعاملات مع الإدارة ومع الصحف الأخرى والحسابات والمراسلات ومعرفة القوانين الجارية. وهذا ما لم يكن متيسرا عندئذ للجزائريين، ولذلك تعثرت المحاولات المستقلة الأولى لمن غامر بها، مثل عمر راسم وعمر بن قدور. ونجحت إلى حد ما بعض الصحف الفرنسية الجزائرية مثل (الإسلام) و (الرشيدي) لمعرفة صاحبيها باللغة الفرنسية والأمور الأخرى التي ذكرناها، وكذلك لتبنيهما سياسة تتفق تقريبا مع مشرب الإدارة نفسها. ولذلك يمكن القول إن الجزائريين لم يكونوا غافلين عن أهمية الصحافة ولكنهم كانوا عاجزين عن إنشائها. فهذا الأمير عبد القادر لم ينشئ جريدة لعدم استقراره في عاصمة إلا وقتا يسيرا أو لعدم توفر إمكانات الطباعة والخبراء عنده، ولكنه كان يشترك في الصحافة الفرنسية ويطلع من خلالها على مجريات الأمور، وكان الجاسوس ليون روش يترجم له ما جاء فيها عن حروبه وعن مناقشات الفرنسيين حول القضية الجزائرية. ويقول بيربروجر الذي زار معسكر الأمير أثناء هدنة التافنة، إن الأمير كان مشتركا في عدة صحف فرنسية، ومنها صحيفة (الميثاق الدستوري)، لكي يتعرف منها على النظام السياسي الفرنسي ويحصل على معلومات تكون رصيدا لمناوراته ¬

_ (¬1) كانت فرنسا الإسلامية أسبوعية. وظهرت 1913 سنوات - 1914. انظر آجرون (الجزائريون المسلمون) 2/ 1260. (¬2) انظر لاحقا.

الدبلوماسية (¬1). ورغم أنه كانت للحاج أحمد، باي قسنطينة، عاصمة مستقرة طيلة سبع سنوات أو أكثر فإنه لم يحاول إنشاء جريدة أو مطبعة. وهكذا ظلت الصحافة ميدانا محتكرا للفرنسيين، سواء الحكومة العامة أو الدوائر الاستعمارية المدنية. وعلى ضوء ذلك يمكننا تقسيم مراحل الصحف الجزائرية إلى ثلاث مراحل، بقطع النظر عن اللغة التي كتبت بها: المرحلة الأولى قبل الحرب العالمية الأولى وعلى وجه التقريب من 1890 إلى 1914، والمرحلة الثانية من 1919 إلى 1939، والمرحلة الثالثة من 1940 إلى 1956. ومن يريد أن يواصل دراسة تاريخ الصحافة في الجزائر عليه أن يضيف مرحلة رابعة وهي من الاستقلال (1962) إلى اليوم (¬2). ... لم يظهر من الصحف الجزائرية في آخر القرن الماضي صحف تذكر عدا اثنتين تقريبا. الأولى هي جريدة (الحق) الأسبوعية التي ظهرت في عنابة في 10 يوليو سنة 1893 على يد سليمان بن بنقي وعمر السمار وخليل قايد العيون. وصدرت (الحق) بالفرنسية ثم مزدوجة. وكان هدفها المعلن هو الدفاع عن مصالح العرب الجزائريين ومصالح الفرنسيين الذين استجابوا (للمشاعر الوطنية) دون غيرهم. وبرنامج الجريدة لا يرفض الحكم الفرنسي لأنه (الحكم) يسمح بالحرية الدينية. ويبدو أن الذين أصدروها قد أحسوا بالغبن السياسي من معاملة الصحافة الفرنسية التي كانت ترفض نشر مقالات الجزائريين حتى في ركن (الرأي الحر). وقد أحس منشئوها أن الصحفيين الجزائريين قليلون وأن الذين يستطيعون التعبير البليغ أقل من ذلك. فكان على الجريدة أن تهاجم من يهاجم العرب وأن تدافع عن مصالح هؤلاء. وكان ¬

_ (¬1) أدريان بيربروجر (زيارة إلى معسكر عبد القادر)، طولون 1839، ص 38. (¬2) عن الجرائد والمجلات التي أنشأها المهاجرون في المشرق مثل (المهاجر) و (المنهاج)، انظر فصل المشارق والمغارب.

كتابها يتخذون فيما يبدو أسماء مستعارة مثل زيد بن ذياب (وهو اسم هلالي)، وبابا عصمان، وعبدالله. والمتأمل في لغتها وتعابيرها يجدها تعبر عن رد فعل عنيف جعل بعض الكتاب المعاصرين يقولون إنها كانت جريدة (عربية وطنية) لم تستطع الإدارة السكوت عليها (¬1). ففي إحدى مقالاتها كتبت عن (العدل) وذكرت أنها جريدة للدفاع عن العرب (الجزائريين) وقد انتهى في نظرها الاعتماد فقط على (الأصدقاء) الفرنسيين وحان وقت الدفاع عن النفس. وتساءلت عن: (أين أراضينا وقطعان مواشينا؟) وادعت أنها إذا لم تدافع عن حقوق الجزائريين ضاع منهم كل شيء. واستعمل صاحب المقال عبارات قوية متهما الفرنسيين بأنهم قد (امتصوا دماءنا ثم اتهمونا بالعصيان والوحشية). ومن أقوال الجريدة أن الذي ارتد (المتجنس) لا يؤتمن لأنه خان، وتساءلت: هل يمكن الثقة فيمن خان وطنه؟ وهكذا هاجمت الجريدة المتجنسين ودافعت عن حقوق الجزائريين في وقت كانت فيه حرية التعبير مقيدة، أي أثناء حكم جول كامبون (¬2). وقد استمرت (الحق) حوالي سنة، ولا ندري هل توقفت بنفسها أو أوقفتها الإدارة الفرنسية. وحوالي 1899 ظهرت جريدة (النصيحة) بالعربية. وقد أصدرها السيد قوسلان، لأسباب مادية، حسب تعبير الشيخ أحمد توفيق المدني. ولعل الإدارة كانت وراء إنشائها أيضا، وهي التي كانت أيضا وراء إنشاء جريدة (المغرب) بالعربية سنة 1903 كما ذكرنا. وقد دامت (المغرب) حوالي عشر سنوات، أي مدة حكم شارل جونار في الجزائر واستكتبت نخبة من المثقفين ¬

_ (¬1) دبوز (نهضة) 2/ 7. ذهب دبوز إلى أن (الحق) صدرت سنة 1894، وأنها دامت سنة. (¬2) قنان (نصوص)، ص 265، 261. وقال عبد القادر جغلول إن عمار (عمر) السمار هو اسم مستعار لزيد بن ذيب (ذياب؟)، وكان ذيب قد كتب رواية فرنسية مسلسلة في جريدة (الحق) سنة 1893 بعنوان (يا علي يا أخي). انظر (مظاهر الثقافة الجزائرية) وبحث جغلول عنوانه (تكوين المثقفين العصرين 1880 - 1930)، نشر المركز الثقافي الجزائري، باريس 1986.

الجزائريين المعاصرين (¬1). وفي سنة 1904 أصدر العربي فخار في وهران جريدة (المصباح)، وقد رأى منها آجرون أعدادا ترجع إلى 1904 - 1905. وكان العربي فخار أستاذا في تلمسان، وقد تعاون معه أخوه ابن علي فخار الذي كان أيضا استاذا للشريعة الإسلامية في ليون (فرنسا). وكانت المصباح جريدة أسبوعية مزدوجة اللغة. وكانت تعبر عن اتجاه النخبة الإندماجية، حسب تعبير آجرون، وهي تخدم العرب بفرنسا وتخدم هذه بالعرب. وكان أصحاب هذا الاتجاه عموما يريدون أن يكونوا صلة وصل بين العرب الجزائريين والفرنسيين. ولذلك كانت الجريدة تسعى إلى إيقاظ الجزائريين من سباتهم الطويل. فنادت بالمدارس ونشر الأفكار الفرنسية، وبأن يأخذ الفرنسيون في الاعتبار آراء الجزائريين المتحررين والمتطورين (النخبة الاندماجية) (¬2). أما شعار جريدة المصباح فهو (من أجل فرنسا بالعرب، ومن أجل العرب بفرنسا)، وهو شعار سيتردد عند بعض الصحف الأخرى حتى بين الحربين. وحين انتقلت (الإسلام) من عنابة، إلى العاصمة، أنشأ عبد العزيز طبيبال جريدة أخرى في عنابة بعنوان (اللواء الجزائري) أو الراية. وكان يحررها إبراهيم مرداسي ورجل فرنسي اسمه قوفيون. وكانت (اللواء) أيضا جريدة أسبوعية وباللغة الفرنسية، كما كانت تعبر عن النخبة الاندماجية. وكان إنشاؤها في نوفمبر سنة 1910. ولا ندري كم عاشت (¬3). وفي هذه الأثناء (1903) أنشأت الأخبار قسمها العربي وعهدت به إلى الشيخ عمر بن قدور. ثم أنشأ ابن قدور نفسه جريدة (الفاروق) باسمه أوائل سنة 1913 واستمرت إلى 1915. وهي تعتبر من الصحف الوطنية الناجحة، لأن ¬

_ (¬1) انظر الحركة الوطنية، ط 3، الجزائر، 1990، ت 2، ص 140. بالنسبة (للنصيحة) المذكورة قال عنها علي مرحوم انها ظهرت سنة 1899، وأما الشيخ المدني فأخبر إنها صدرت 1904. ولا ندري الحقيقة لعدم اطلاعنا عليها. (¬2) آجرون (الجزائريون المسلمون) 1/ 1035. قال آجرون إنها عاشت عاما بصعوبة. وكان لها حوالي 700 مشترك. (¬3) نفس المصدر، ص 1036. عن (الإسلام) انظر لاحقا.

صاحبها قد تمرس على فن الصحافة ولأن روحه كانت متقدة، وكان مؤمنا بالقضية العربية الإسلامية بحماس أورثه غضب الإدارة عليه. وبوحي من الإدارة الفرنسية. أيضا صدرت جريدة (كوكب إفريقية) برئاسة تحرير الشيخ محمود كحول، وأحد الفرنسيين اسمه لويس بودي، وكان كحول أحد الأساتذة المتمكنين في اللغة العربية وأحد تلاميذ الشيخ المجاوي عندما كان في قسنطينة. وكان مدير الجريدة هو بير فونتانة أيضا. وكانت (الكوكب) تصدر في العاصمة، ونعتقد أن إدارة الشؤون الأهلية هي التي كانت تمونها. ولكن إشراف كحول عليها ضمن لها تحريرا جيدا ومستوى رفيعا بالقياس إلى ما عرفته الصحافة العربية الأخرى من انحطاط في الأسلوب والفن الصحفي (¬1). وباعتبارها موجهة إلى الجزائريين فإن هذه الجريدة كانت تصدر كل يوم جمعة. وكانت تعلن عن نفسها أنها (صحيفة أسبوعية سياسية، أدبية، علمية، فلاحية، تجارية، صناعية). وقد صدرت في 17 مايو 1907، في أربع صفحات. ووصفها الشيخ المدني بأنها جريدة (راقية ومحررة بأقلام بليغة). وقد استمرت إلى 1914، ويقول آجرون إنها غيرت اسمها إلى (الكوكب الجزائري). وكانت معتدلة ومهتمة بأمور الحضارة الإنسانية. ونوهت مجلة العالم الإسلامي بجريدة كوكب إفريقية فور صدورها. وقالت إن مؤسسيها أعلنوا بدون خلفيات ولا تخف أنهم سيعملون على إعلام الجزائيين (الأهالي) وتحسين أوضاعهم المادية والمعنوية والعمل على تقريب العرقين المتساكنين في شمال افريقية (من أجل الحضارة الإنسانية)، وقالت عنها إنها جريدة تخدم المصلحة العامة للجزائريين وليست جريدة حزب أو شخص. ولكن مجلة العالم الإسلامي لم تقل إن الكوكب جريدة تخدم الإدارة الفرنسية وأهدافها لأنها هي صاحبة التموين والتوجيه لها، ومن ثمة فهناك خلفيات واضحة، وقالت مجلة العالم الإسلامي: إن الجزائريين ¬

_ (¬1) كان مقرها هو 3 شارع بيليسييه، الجزائر. وثمن العدد 20 سنتيما، وهي تنشر الإعلانات.

الذين ليس لهم إلى الآن غير (المبشر) الرسمية، سيرحبون بكوكب إفريقية في الوقت الذي يأسفون فيه على اختفاء مجلة (الإحياء) (الصغيرة والهامة) (¬1). وفي أكتوبر 1909 صدرت جريدة (المسلم) بمدينة دلس، بناء على رأي الشيخ علي مرحوم، أما آجرون فيقول إنها صدرت في قسنطينة، وكانت جريدة أسبوعية ومزدوجة اللغة. ذكرنا أن جريدة الفاروق من الجرائد المناضلة. ويمكننا أن نضيف إليها جرائد عمر راسم. ومنها جريدة (الجزائر) التي كان يحررها ويصورها بالرسومات الساخرة بنفسه. واعتبرها الشيخ المدني من أول الجرائد الشعبية أو الحرة، إذ ظهرت في العاصمة سنة 1908 (27 أكتوبر حسب الشيخ مرحوم). ولكنها لم تعش طويلا - بضعة أعداد، لعجز صاحبها عن تغطية التكاليف. وفي سنة 1913 أصدر عمر راسم، الذي كان يوقع اسمه: أبو منصور الصنهاجي، جريدة (ذو الفقار). ولكن لم يصدر منها سوى ثلاثة أعداد بين غشت 1913 ويونيو 1914. وكان عمر راسم يقظ الذهن مطلعا على أحوال العالم، وأدرك هو وزميله عمر بن قدور منذئذ ما يحاك لفلسطين والقدس والمخططات الصهيونية في الوطن العربي. وقد نبها إلى ذلك مبكرا، لأن المؤشرات قد ظهرت بعد سقوط السلطان عبد الحميد الثاني. وكان عمر راسم هو الذي يحرر ويخطط جريدته ويطبعها على الحجر لأنه لا قبل له، فيما يبدو، بدفع ثمن الطباعة بالحروف المطبعية. وظهرت صحف أخرى بالفرنسية أو مزدوجة وكانت كلها تدعو إلى التقارب بين (العرقين) كما يقولون، كما كانت في أغلب الأحيان هي لسان النخبة الاندماجية عندئذ. ومن هذه الجرائد (الإسلام) التي ظهرت أولا في عنابة سنة 1909، ثم انتقلت إلى العاصمة. فقد كانت جريدة أسبوعية أنشأها شخص قيل إنه كان متجنسا وقليل التعليم، وهو عبد العزيز طبيبال. وكانت ¬

_ (¬1) مجلة العالم الإسلامي، 1907، ص 585. عن كوكب أفريقية انظر أيضا تعريف الخلف 2/ 546. وأحمد توفيق المدني (كتاب الجزائر)، ص 345.

تصدر بالفرنسية، ويقول آجرون عنها إنها كانت (ديموقراطية) وموجهة للرأي العام الجزائري المسلم. أما عن مؤسسها فيقول إنه كان رجلا في خدمة الإ دارة. ثم تحولت (الإسلام) إلى العاصمة من قبل مؤسسها الحقيقي، وهو الصادق دندان. وهو رجل كان كاتبا (خوجة) في إحدى البلديات المختلطة. وكانت الجريدة متأثرة بالصحافة الباريسية، وشارك في تحريرها بعض الكتاب الفرنسيين أيضا، واستمرت بدون انقطاع إلى عشية الحرب العالمية الأولى. وكانت هي لسان حال النخبة الاندماجية. والظاهر أنها قد أصدرت منذ 1913 طبعة عربة أيضا (¬1). وسنذكر أن (الإسلام) قد اندمجت مع (الرشيدي) لتصبحا جريدة (الإقدام) سنة 1919 (¬2). وقد عاش الصادق دندان إلى سنة 1938 حين نعته جريدة (الوفاق) وسمته (عميد الصحافة الإسلامية الجزائرية). والغريب أن مجلة العالم الإسلامي التي اهتمت بكل ما صدر عن الإدارة الفرنسية في الجزائر من جرائد ومجلات مثل الإحياء وكوكب افريقية لم تتعرض فيما نعلم لجريدة الإسلام، بينما نوهت بجريدة الرشيدي بطريقة ملفتة للنظر. كانت (الرشيدي) جريدة تصدر بالفرنسية في مدينة جيجل بين 1911 - 1914، وكانت أسبوعية. وصاحب امتيازها شخص فرنسي يدعى ل. أوبوتي. ولكنها ذكرت أن لها مسؤولا على التحرير بالعربية هو السيد نصيح NASSIH، الذي قد يكون اسما مستعارا، ويفهم من هذا أن لها قسما بالعربية. وهو أمر لم يشر إليه الكتاب. وشعار الجريدة هو (بفرنسا من أجل الأهالي). وكانت تظهر كل يوم جمعة بأربع صفحات. وتتضمن أخبارا محلية، وأخرى عن الحياة الاجتماعية في الجزائر، والوسائل التي يجب اتخاذها لوقف العداء بين الجزائريين والفرنسيين ولذلك قالت عنها مجلة العالم الإسلامي ان هدفها هو خدمة التقارب بين العناصر الأوروبية (الفرنسية) والأهلية. وكانت الرشيدي تؤيد حركة النخبة المتفرنسة الراضية ¬

_ (¬1) آجرون (الجزائريون المسلمون) 2/ 1036، 1260. والوفاق 21 يوليو 1938. وقيل إن محمد عز الدين القلال قد اشترك مع دندان في إنشاء (الإسلام). (¬2) انظر لاحقا.

بالخدمة العسكرية في الجيش الفرنسي بشرط نيل الحقوق السياسية ومنح تعويضات عادلة للمجندين. وقد أعلن السيد نصيح ذلك في مقالة له بالرشيدي - بالعربية؟ -. ومن جهة أخرى امتدحت الرشيدي أعمال شارل جونار ودافعت عن سياسته نحو الأهالي ووقفت ضد من يهاجمونه على أنه محابي للعرب (أرابو فيلي) (¬1). وفي وهران ظهرت جريدة أخرى باسم (الحق) في اكتوبر، سنة 1911، وعاشت مدة قصيرة. ويذكر الشيخ علي مرحوم أن مؤسسها رجل فرنسي أيضا. ويسميه دبوز (تابيه Tapie)، وأنها كانت جريدة أسبوعية وصدر منها 26 عددا (¬2). وقيل إنها أول جريدة تفتح باب التبرعات لضحايا حرب طرابلس 1911 - 1912. ومن المعلوم أن السلطة الفرنسية في الجزائر كانت قد رخصت بذلك إلى الجزائريين، لأسباب سياسية، وكانوا قد بادروا بالتبرع والتطوع في أنحاء القطر دون انتظار الرخصة. وآخر ما نذكر في صحافة المرحلة الأولى جريدة (البريد الجزائري) لمحمد عز الدين القلال التي ظهرت سنة 1913 (28 غشت حسب الشيخ مرحوم). ولا نعرف الآن شيئا. عن لغتها ولا عن مكان صدورها، ولا عن أهدافها. ولعلها لا تخرج عن السياسة التي رسمتها جريدة (الإسلام) التي شارك القلال نفسه في إنشائها، وهي تبني وجهة نظر النخبة المتفرنسة والتقارب الجزائري- الفرنسي. وذكر آجرون جريدة أخرى باسم (الهلال) قال انها كانت أسبوعية، ومزدوجة اللغة، وشعارها (نهضة الإسلام مع فرنسا ومن أجلها وبها)، وكانت تقول إنها جريدة (المطالب الأهلية). ولذلك طالبت بإلغاء المحاكم الرادعة التي ظهرت ¬

_ (¬1) مجلة العالم الإسلامي، يوليو - غشت، 1911، ص 180. لم تذكر متى ظهرت بالضبط وإنما قالت إنها ظهرت (منذ بعض الوقت) وعنوان (الرشيدي) هو شارع لبون - جيجل. وكان الاشتراك فيها 7 فرنكات، وثمن العدد 10 سنتيمات. (¬2) انظر عنها أيضا آجرون (الجزائريون المسلمون ...) 2/ 1260.

سنة 1902، وتطوير الأهالي ليشاركوا في الانتخابات (¬1). ... أما المرحلة الثانية من ظهور وتطور الصحافة الجزائرية فقد بدأت منذ 1919. لقد اختفت كل الصحف التي ذكرنا بسبب الحرب - عدا الصحف الفرنسية الصادرة عن الإدارة أو التي كان يديرها المستوطنون - ورغم قصر التجربة، فإن الجزائريين قد اكتسبوا مهارة في فن الصحافة. وزادتهم الحرب تمرسا واطلاعا على مجريات الأمور السياسية. ولذلك نشأت بعد الحرب صحف ذات طابع نضالي في أغلبه، على أن هذا لم يمنع من ظهور صحف أخرى ظلت على الخط القديم كالدعوة إلى الاندماج والتقارب بين الجزائريين والفرنسيين. كما أن التيار الطرقي (الصوفي) قد دخل أيضا. ميدان الصحافة. وبظهور الأحزاب والجمعيات تبلورت المواقف وأصبح لكل حزب أو جمعية أو تيار جرائده، وظلت لغة الجرائد عربية أو فرنسية، وقل منها المزدوج. كما أن الإدارة استمرت في نشر جرائدها القديمة كالمبشر إلى 1927، أو في دعم جرائد يديرها جزائريون. ويجب أن نذكر أيضا قبل الدخول في التفاصيل، أن مسألة شرعية اللغة العربية في الصحافة ظلت قائمة بين الإدارة وأصحاب هذه الصحف. فالقوانين الفرنسية كانت تعتبر اللغة العربية لغة أجنبية في الجزائر ويطبق عليها قانون الصحافة الأجنبية. ولذلك كانت الصحافة المكتوبة بالعربية تعاني اضطهادا خاصا خلال المرحلة الثانية، سيما تلك التي تبنت قضايا وطنية واضحة. وقد رأينا من الأجدى تصنيف الصحف حسب اتجاهاتها أو بالأحرى اتجاهات من يصدرها سواء كانت حزبية أو غير حزبية، طرقية أو إصلاحية أو مستقلة. ذلك أن هدفنا ليس هو التاريخ لكل صحيفة ولكن معرفة المراحل والاتجاهات التي عرفتها الصحافة في المرحلة الثانية. وأبرز التيارات عندئذ ¬

_ (¬1) آجرون (المسلمون الجزائرويون ...)، 2/ 1260. ويقول آجرون أيضا إنها صدرت في أكتوبر 1906 بالعاصمة ولم يصدر منها سوى اثني عشر عددا.

هي حركة الأمير خالد، وحركة النواب، والمدرسة الإندماجية، وحركة الإصلاح، والتيار الطرقي، ثم حركة حزب النجم وحزب الشعب، والتيار الشيوعي، ثم تأتي الصحافة المعبرة عن ولائها للإدارة الفرنسية أو الإصلاح أو الطرقية أو الوطنية عموما. وابتداء من سنة 1919 ظهرت عدة صحف. منها جريدة (الإقدام) التي كانت تعبر عن حركة الأمير خالد السياسية - الوطنية. وهي جريدة ولدت من توحيد أو دمج جريدتي الإسلام والرشيدي القديمتين. ظهرت الإقدام باللغتين العربية والفرنسية، وكان الأمير خالد هو رئيس تحرير القسم العربي فيها. وكان يكتب فيها المقالات والافتتاحيات. وقد أعلنت عن أنها جريدة أسبوعية علمية سياسية اقتصادية. وظلت تصدر إلى 1923 حين حكمت السلطات الفرنسية بنفي الأمير خالد من الجزائر وألغت الانتخابات التي كان فائزا فيها. ويذهب الشيخ المدني إلى أنها أول جريدة عربية حادة اللهجة مع الفرنسيين معبرة عن مطالب المسلمين الجزائريين. ولكن مبدأ (الإقدام) بعد نفي الأمير خالد، تبناه في الجزائر الصادق دندان وبهلول وقايد حمود وابن باديس، كما تبناه في فرنسا نجم شمال أفريقيا، بل إن النجم قد تبنى شعار الإقدام وهو (الدفاع عن مصالح المسلمين في شمال أفريقية). وفي الاتجاه المقابل أو المعارض للأمير خالد ظهرت جريدة (النصيح) بتحرير بعض خصومه، كما تولى الدكتور بلقاسم بن التهامي تحرير جريدة (التقدم) التي عبرت عن الاتجاه الاندماجي. ثم أصبحت هي لسان حال حركة يمينية كانت تابعة للحزب الفاشيستي الفرنسي. وكان ابن التهامي نفسه قد أصبح عضوا في هذا الحزب. وكانت التقدم مزدوجة اللغة أيضا، وكان فرحات عباس من كتابها في العشرينات. وفي سنة 1920 صدرت جريدة (النجاح) بقسنطينة (¬1). أصدرها في ¬

_ (¬1) يقول الشيخ علي مرحوم إنها صدرت في 13 غشت 1920. ويقول مالك بن نبي، (الطفل) ص 52، إنه برغم طغيان حفلات الزواج وأخبار الوفيات فيها، فإنها كانت =

البداية الشيخ عبد الحفيظ بن الهاشمي ثم انضم إليه الشيخ مامي إسماعيل، خريج جامع الزيتونة. نشأت كجريدة وطنية أسبوعية. ومنذ يناير 1930 أصبحت يومية وجمعت التبرعات لذلك. ويقول مؤرخو الصحافة إنها تحولت بعد 1931 إلى جريدة موالية للإدارة الفرنسية، وأنها غيرت أوقات صدورها فأصبحت تصدر ثلاث مرات في الأسبوع، وأنها استمرت إلى سنة 1956. وكان الشيخ ابن باديس من المساهمين في تحريرها في عهدها الأول، بل إن الشيخ مرحوم يقول إنه (ابن باديس) كان من مؤسسيها، ثم تخلى عنها وأسس جرائده الخاصة، كما سنرى. وتعتبر النجاح من أطول الصحف الجزائرية عمرا، ولعلها أول جريدة عربية تصدر يوميا في الجزائر. وكانت تنافح عن اللغة العربية وقضايا الوطن، وكانت ميدانا لفئة عريضة ظلت من قبل محرومة من أدوات التعبير. وبعد أن كانت جريدة النجاح لا تطبع سوى ألف نسخة أصبحت تطبع سبعة آلاف نسخة، وكانت في حجم جريدة (الطان) الفرنسية (¬1). ويذهب الشيخ المدني إلى أن عمر بن قدور قد أصدر جريدة (الفاروق) من جديد سنة 1924 ولكنها لم تعمر طويلا، أصدرها كمجلة (؟) أسبوعية في العاصمة. ولعل توقفها يرجع إلى أسباب مادية. ولم يذكر الشيخ مرحوم (الفاروق) الجديدة ولكنه ذكر أن ابن قدور قد أصدر جريدة (الصديق) مع محمد بن بكير سنة 1920 (12 غشت)، وكانت (الصديق) أيضا أسبوعية، ولم تعش طويلا (؟) وكان من كتابها محمد العابد العقبي، والمولود الزريبي. وابتداء من فاتح سنة 1923 ظهرت صحيفة (لسان الدين) في العاصمة وكان مصطفى حافظ هو صاحب هذه المبادرة، كما كان هو صاحب المبادرة في تأسيس مدرسة حرة. وكان (لسان الدين) جريدة أسبوعية دينية سياسية، ¬

_ = تمثل تحديا للإدارة الاستعمارية ما دامت تصدر بحروف عربية، لأن هذه الإدارة أقامت سياستها على فرنسة الجزائر. (¬1) أحمد توفيق المدني (تقويم المنصور)، السنة الخامسة، 1348. وفي التقويم توجد صورة مامي إسماعيل وعبد الحفيظ الهاشمي بلباسهما التقليدي. وعن مساهمة ابن باديس في (النجاح) انظر مقالة للمدني أيضا في (الأصالة)، أبريل 1977، ص 58.

ويقول الشيخ المدني إنها أيضا لم تعش طويلا. واستقل ابن باديس بصحافته الإصلاحية ابتداء من سنة 1925. ففي هذه السنة أنشأ جريدة (المنتقد) التي كانت متحررة وداعية للنهضة والوطنية بأسلوب واضح وحماس. وكانت جريدة أسبوعية، وقد تلقاها الشباب وأصحاب الفكر العربي النير بحماس أيضا. ولكن الإدارة لم ترض عن لهجتها فأوقفتها بعد حوالي ثمانية عشر عددا. ثم أصدر ابن باديس بعدها وفي قسنطينة أيضا جريدة (الشهاب)، ثم حولها إلى مجلة. واستمرت الشهاب في الصدور إلى عشية الحرب العالمية الثانية، حين توقفت من تلقاء نفسها حتى تنجلي الحرب وحتى لا تضطر إلى نشر ما لا ترضى عنه تحت قوانين الحرب. وتعتبر الشهاب مجلة وطنية إصلاحية، أيقظت الرقود ونبهت الغافلين ودعت إلى جمع الشمل والوحدة، كما دافعت عن الإسلام واللغة العربية، والعدالة والحرية، وشاركت برأيها في قضايا المغرب العربي والمشرق، ورغم أن صاحبها ترأس جمعية العلماء فإن ما كان ينشره فيها لا يعبر رسميا عن سياسة جمعية العلماء وإنما عن رأي ابن باديس شخصيا. وسنتحدث عن المطبعة التي تولت طبع الشهاب. ومنذ 1933 أصدرت جمعية العلماء صحفها الخاصة. وهي بالطبع صحف إصلاحية تعبر عن اتجاه الجمعية في التعليم العربي والنهضة الإسلامية ومحاربة البدع والطرقية المرتبطة بالإدارة الفرنسية. والصحف التي سنذكرها كانت أسبوعية. وقد صدر بعضها في الجزائر مثل (الشريعة) و (الصراط) و (السنة) و (البصائر) في عهدها الأول، ثم صدرت البصائر في قسنطينة في عهدها الثاني (قبل الحرب العالمية الثانية). أوقفت الإدارة الفرنسية ثلاث صحف لجمعية العلماء (وهي السنة والشريعة والصراط) قبل أن يتوقف اضطهاد الصحف الإصلاحية بعض الوقت. وهكذا عاشت البصائر بين 1935 و 1939 دون توقف. ولكنها توقف تلقائيا سنة 1939، مثل الشهاب، حتى لا تضطرها ظروف الحرب إلى نشر ما لا يتماشى مع مبادئ الجمعية. وقد تولى تحرير صحف الجمعية رجال لهم خبرة فى الميدان الصحفي كالشيخ الطيب

العقبي ثم محمد مبارك الميلي الهلالي، وكان الشيخ محمد خير الدين هو صاحب الامتياز. وهناك صحيفتان إصلاحيتان ظهرتا في العشرينات أيضا. أولهما صحيفة (صدى الصحراء) التي ظهرت أسبوعية في بسكرة (23 نوفمبر، 1925)، حسب الشيخ علي مرحوم، أنشأها الشيخ أحمد بن العابد العقبي، وكان من كتابها الطيب العقبي، والشاعر محمد العيد، ومحمد الأمين العمودي، وتبنت قضايا الإصلاح الديني والاجتماعي، متعاصرة مع جريدتي المنتقد والشهاب، وحاملة فكر الشيخ العقبي الذي جاء به من الحجاز والمتأثر بالوهابية والعروبة. وكان أحمد بن العابد قد تمرس على النشر في جريدة (الصديق) قبل ذلك، ومولعا بالأدب والشعر، وكان خريج الزاوية العثمانية (¬1). كانت (صدى الصحراء) تطبع في قسنطينة بالمطبعة الإسلامية التي أنشأها ابن باديس. وتقول إنها جريدة ملية (وطنية)، إسلامية، علمية أدبية اجتماعية اصلاحية انتقادية. وقد جعلت شعارها (درء المفسدة قبل جلب المصلحة). وفي العدد السابع منها أضافت تحت العنوان الجملة التالية المنسوبة إلى الزعيم المصري مصطفى كامل: (من تسامح في حقوق بلاده ولو مرة واحدة، بقي أبد الدهر مزعزع العقيدة سقيم الوجدان). ومن مقالات العدد الأول واحدة بهذا العنوان (لبيك يا وطني!). وبالإضافة إلى من ذكرنا من كتابها، هناك أبو يعلي الزواوي، وأحمد بن الدراجي العقبي، ومحمد الصالح خبشاشں، وأبو اليقظان، ومحمد اللقاني، ومحمد مبارك الميلي، ومحمد عبابسة الأخضري، والمولود الحافظي، وعسول بن علي، والفرقد، ومحمد بن الحاج عيسى، ومحمد العلمي، ومحمد العزوزي حوحو. وظهر فيها عدد من كتاب تونس مثل صالح سويسي القيرواني، ومصطفى بن شعبان، ومحمد الفائز القيرواني. وكانت تحمل أسماء مختصرة أو رمزية ¬

_ (¬1) توفي مبكرا، سنة 1926. انظر عنه رسالة الباحث أحمد مريوش عن الشيخ الطيب العقبي والحركة الوطنية. ولعله بدأ نشاطه أيضا محررا في جريدة (النجاح). والزاوية العثمانية هي زاوية طولقة الرحمانية زاوية علي بن عمر.

مثل: غضنفر، ومصلح، والقفاري (الصحراوي)، ومشجع، ومفكر، ومتسائل، وابن عدي، والغريب ق. س. الخ ... ومن الشعارات الرئيسية للجريدة عبارة (حب الوطن من الإيمان) (¬1). ودامت (صدى الصحراء) حوالي سنة، ثم تفرق شمل أصحابها لأسباب مختلفة رغم أهميتها، وقد كانت فتحا جديدا للصحافة في بسكرة، مع ذلك. وحاولت جريدة (الإصلاح) أن تخلفها ولكنها لم تستطع أن تواجه العراقيل الصعبة. هذه الجريدة أنشأها الشيخ الطيب العقبي. وهو شخصية جربت الصحافة في جريدة (القبلة) الحجازية التي أنشأها الشريف حسين، ثم في صدى الصحراء وغيرهما. وكان العقبي قد رجع إلى الجزائر سنة 1920 وأخذ يبث العلم والفكر الإصلاحي في نواحي بسكرة، ولكن المال والوسائل الفنية كانت تعوزه. ظهرت (الإصلاح) في بسكرة في سبتمبر 1927. وكانت أسبوعية، ولم يصدر منها سوى بضعة أعداد ثم توقفت. حاول العقبي طبعها بتونس فوجد عراقيل في الطبع والنقل، ويذهب الشيخ المدني إلى أن (الإدارة منعت طبعها بتونس). ثم سعى العقبي إلى إنشاء مطبعة لها في بسكرة ونجح في ذلك. ثم استولت مصالح أخرى على المطبعة أو (أيدي الإهمال والفساد) حسب تعبير الشيخ المدني، وهو تعبير غامض، نفهم منه فقط أن العقبي قد عجز عن طبع جريدته (¬2). كما نعرف من جهة أخرى أن العقبي حاول طبع الجريدة في المطبعة الإسلامية بقسنطينة فلم يحظ بالنجاح أيضا، واتهم العقبي القائمين على هذه المطبعة بعرقلته، ومنهم الشيخ أحمد بو شمال، ولمح إلى الشيخ ابن باديس أيضا. وهكذا توقفت الإصلاح. وزاد انتقال الشيخ العقبي سنة 1929 إلى العاصمة وانشغاله بدروس نادي الترقي والوعظ والإرشاد في الجامع الكبير من ابتعاده عن الصحافة. وبعد عدة أحداث عرفتها حياة العقبي خلال الثلاثينات سواء مع الإدارة ¬

_ (¬1) توجد منها أعداد (13) في المكتبة الوطنية بتونس، رقم 541 - دوريات. (¬2) أحمد توفيق المدني (كتاب الجزائر)، ص 347.

أو مع جمعية العلماء، أعاد إصدار جريدة (الإصلاح) سنة 1940 (¬1). كان ذلك في الوقت الذي توقفت فيه الصحف المستقلة والحرة عن الصدور لأسباب ذكرناها. ورغم أنها كانت مفيدة في محتواها وتناولت موضوعات ذات صلة بالقضية الوطنية كحقوق الجزائريين وفصل الدين الإسلامي عن الإدارة الفرنسية، والإصلاحات السياسية، فإن (الإصلاح) كانت محل شبهة لأنها لا تنشر إلا ما ترضى عنه الرقابة الفرنسية (¬2). ولكن الإدارة الفرنسية نفسها قد مرت بتعديلات وتطورات سيما بعد هزيمة فرنسا أمام الألمان، ونزول الحلفاء في الجزائر، وصدور البيان الجزائري، وتكوين أحباب البيان، وانتفاضة 8 مايو، الخ. وقد استمرت الإصلاح في الصدور إلى حوالي 1948. وكان العقبي من أبرز كتابها. ومن الممكن أن نذكر مجموعة من الصحف كانت توالي حركة الإصلاح والاتجاه الوطني ولكنها ليست تابعة لجمعية العلماء ولا لمدرسة ابن باديس. ومن ذلك جريدة (البرق) التي أنشأها عبد المجيد الرحموني بقسنطينة في مارس 1927. وهي جريدة تتخذ شعارها (خدمة الوطن والمصلحة العامة). وكانت تتبنى الانتقاد السياسي، وتتناول الموضوعات الاجتماعية والاقتصادية. ولذلك لم تتحملها الإدارة الفرنسية وأوقفتها بعد عدد واحد فقط بقرار إداري. وكم للصحف العربية من ضحايا في هذا الميدان. وظهرت في ديسمبر سنة 1931 جريدة (المرصاد) الأسبوعية، لمحمد عبابسة الأخضري، وكان صاحب الامتياز هو محمد الشريف جوكلاري، وهو فرنسي اعتنق الإسلام، ولكن اسم المحرر الحقيقي لها بقي خفيا (¬3)، وكانت الجريدة موالية لجمعية العلماء، كما كانت تؤيد حركة النواب ¬

_ (¬1) عن ذلك انظر كتابنا الحركة الوطنية، ج 3. (¬2) من يقرأ جريدة (الإصلاح) سنوات الحرب العالمية الثانية سيلاحظ فراغات أو بياضات نتيجة تدخل الرقابة. (¬3) سيظهر اسم جوكلاري أيضا مع جريدة (صوت الشعب) وقد نوه به مالك بن نبي في مذكراته.

المسلمين، وكانت تعلن عن نفسها أنها جريدة دينية، مسلية، أخلاقية، فهل كان للإدارة الفرنسية يد في تمويلها؟ ومهما كان الأمر فقد دامت ثلاث سنوات ثم عطلت عن الصدور سنة 1934، لكي تخلفها (الثبات) التي تولاها أيضا محمد عبابسة الأخضري. وكانت أيضا أسبوعية وتصدر بالعاصمة ودامت حوالي سنة، وجعلت نفسها جريدة (سياسية اجتماعية أخلاقية). وتخلى عن تحريرها صاحب القلم الخفي، حسب تعبير علي مرحوم (¬1). وتعتبر الصحف الآتية: الليالي وأبو العجائب والوفاق والجزائر والمغرب العربي والدفاع والحارس من الجرائد المساندة للاتجاه الوطني الإصلاحي. أبو العجائب أنشأها محمد العابد الجلالي صاحب كتاب (تقويم الأخلاق). وهو صاحب فكر سياسي واضح وصاحب قلم مزدوج اللغة، وكان من أساتذة المدرسة الفرنسية - العربية الرسمية في قسنطينة التي درس بها مالك بن نبي. وجريدته التي أنشأها سنة 1935 كانت أسبوعية فكاهية انتقادية وأدبية. وصدرت في وقت انتقالي حرج، وكانت تطبع في مطبعة الشهاب (المطبعة الجزائرية الإسلامية بقسنطينة). ودامت نحو سنة، ولا ندري سبب توقفها. وكانت (الليالي) تساند الإصلاح بقوة ولكنها تميل أيضا إلى أسلوب الأدب والفكاهة وتنتقد الاتجاهات المعارضة للإصلاح. وكان رئيس تحريرها ومنشئها هو الشيخ علي بن سعد القماري، خريج جامع الزيتونة وأحد المعلمين في مدارس الحركة الإصلاحية. صدرت سنة 1936، وهي سنة المؤتمر الإسلامي الجزائري والأحداث المنجرة عنه، مثل اغتيال الشيخ كحول واعتقال العقبي. وقد اعتقل الشيخ علي بن سعد القماري نفسه بعد سنة، ورمي به في سجن الكدية بقسنطينة. وكان ضحية أخرى للاضطهاد ¬

_ (¬1) لم نستطع أن نفهم الإشارة التي أوردها الشيخ علي مرحوم حول صاحب القلم الخفي الذي كان يحرر جريدتي المرصاد والثبات. ولعل بعض المعاصرين يعرفون ذلك، وكذلك وثائق الإدارة الفرنسية. وقد يكون يشير إلى مصالح الاستخبارات الفرنسية والصهيونية.

والتعسف، ولم تدم جريدة الليالي سوى بضعة أشهر. وقبل ذلك ظهرت جريدة (الحارس) التي كان يديرها عبد الرحمن الغريب. وكانت نصف شهرية، وتقول إنها جريدة انتقادية أخلاقية وفكاهية. وكلمة الفكاهة التي ترددت في بعض الصحف كانت وسيلة لتبسيط الأسلوب ولمخاطبة الجمهور العريض وتمرير بعض الأفكار حتى لا تتفطن إليها الإدارة الفرنسية. ظهرت الحارس في غشت 1933، حسب الشيخ مرحوم - ولم يصدر منها سوى أربعة أعداد، لأن العدد الخامس صودر من الإدارة الاستعمارية. ومن أوائل هذا النوع من الصحف جريدة (الجزائر) التي أنشأها محمد السعيد الزاهري سنة 1925. وكانت قد اتخذت شعارها (الجزائر للجزائريين)، ويبدو أنها ساندت عندئذ الاتجاه الذي دعا إليه الأمير خالد والذي خلا ميدانه بنفيه من الجزائر. ولكن الجريدة سرعان ما أوقفتها الإدارة الاستعمارية، ولم يصدر منها سوى عدد أو اثنين. أما جريدة الزاهري الأخرى وهي (الوفاق) فقد كانت أحسن حظا. ظهرت في وهران سنة 1938. وكانت جريدة أسبوعية، ذات طابع سياسي وانتقادي. ورغم أن الزاهري كان محسوبا إلى ذلك الحين على الاتجاه الإصلاحي، فإنه أخذ ينتقد بعض رجال جمعية العلماء، مثل الإبراهيمي والميلي في جريدة (الوفاق). وكانت جمعية العلماء عندئذ تعيش محنة الخصومة مع الدكتور ابن جلول، واعتقال العقبي، وخروجه من المجلس الإداري للجمعية وظهور الحساسيات بينه وبين الشيخ ابن باديس. ويبدو أن (الوفاق) مالت إلى اتجاه جمعية النواب برئاسة ابن جلول أو كانت تنافق. وكان لهذه الجمعية أيضا جريدة بالفرنسية تسمى (لانتانت) وإذا ترجم هذا العنوان إلى العربية كان (الوفاق) (¬1) أو التفاهم، وكانت تصدر أسبوعيا، بقسنطينة بين 1935 - 1939. ¬

_ (¬1) انظر الوفاق عدد 21 يوليو، 1938. وجاء فيها أن الزاهري سيفتح مكتبة عربية في وهران لبيع الكتب. انظر أيضا جريدة (البصائر) عدد 106 (2 أبريل 1938)، وعدد 109 (22 أبريل 1938). وقد أصبح الزاهري من المذبذبين وانحرف عن خط الإصلاح.

أما (المغرب العربي) فهو اسم الجريدة التي أسسها الشيخ حمزة بوكوشة بوهران سنة 1937. وكان امتيازها بيد محمود بلة. وكانت جريدة أسبوعية وتعمل في نطاق الوطنية والإصلاح. ولم يصدر منها سوى بضعة أعداد. فهل توقفت لأسباب مادية أو إدارية؟ والشيخ بوكوشة أديب وشاعر، وكان من الحاضرين لتأسيس جمعية العلماء ومن خريجي جامع الزيتونة، ومن الذين كتبوا في الصحافة قبل وبعد جريدته المذكورة. ويعتبر من الرواد الذين ابتدعوا هذا التعبير (المغرب العربي) والمقصود به المنطقة التي يسميها الفرنسيون حينئذ شمال أفريقية. وكان الشيخ بوكوشة من الأوفياء للشيخ ابن باديس وحركته. وكانت جريدته صورة لفكره، ولكن لم يصدر منها سوى أربعة أعداد فقط (¬1). ومن صحف الإتجاه الإصلاحي أيضا، جريدة لاديفانس بالفرنسية (الدفاع). وهي جريدة أسسها محمد الأمين العمودي سنة 1935، لتنافح عن الحركة الإصلاحية وتعرف بها الأوساط المثقفة بالفرنسية. وقد استمرت إلى سنة 1939. وكان العمودي من المؤسسين لجمعية العلماء سنة 1931 وأول كاتب عام لها، وساهم في أعمالها، ومن ذلك مشاركته في المؤتمر الإسلامي الجزائري وشباب المؤتمر، ونشره لرد ابن باديس على السيد فرحات عباس حين نفى وجود الأمة الجزائرية، ودعوة الشيخ ابن باديس لعقد المؤتمر الإسلامي المذكور. ولكن العمودي لم يظل على ولائه المطلق لابن باديس إذ وجدناه يختار جانب الشيخ العقبي لصالح البرقية الشهيرة، ومنذ 1938 وجدنا العمودي يختفي من ساحة النشاط الإصلاحي والسياسي إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية. ولكن الإدارة الفرنسية لم تكن لترضى عن نشاطه فنفته سنة 1933 إلى آفلو متذرعة بأنه سافر إلى تونس دون رخصة. وكان العمودي ¬

_ (¬1) قبل دراسته في تونس درس الشيخ بوكوشة على الأخوين الطاهر وأحمد العبيدي في الوادي وكذلك على الشيخ إبراهيم بن عامر صاحب كتاب الصروف، كما درس في بسكرة على الشيخ علي بن العقبي بالزاوية القادرية وكان رفيقه عندئذ هو الشاعر محمد العيد، ودام ذلك قرابة سنتين. من حديث معه يوم 22 مارس 1991.

بالإضافة إلى نشاطه الإصلاحي والسياسي، أديبا وشاعرا، ومن خريجي مدرسة قسنطينة الرسمية. أما من حيث المهنة فقد كان عدلا بالمحاكم الإسلامية، وهي من الوظائف القليلة التي بقيت للقضاة المسلمين الجزائريين بعد احتكار القضاء الفرنسي لمختلف القضايا في المحاكم. وكانت جريدة (الدفاع) هي لسان حال الوطنية ذات الطابع الإصلاحي (¬1). وبدرجات متفاوتة كانت البلاغ والإخلاص ولسان الدين (الثانية) تقف في الصف المعارض للإصلاح وجمعية العلماء. صدرت (البلاغ الجزائري) جريدة أسبوعية من مدينة مستغانم ثم انتقلت إلى العاصمة. كانت تحت إشراف الطريقة العليوية (طريقة الشيخ أحمد بن عليوة الدرقاوية الشاذلية). ولأول مرة في الجزائر، على حد علما، تنشئ طريقة صوفية جريدة للدفاع عن قضايا التصوف. ولكن البلاغ لم تكن فقط جريدة طريقة، بل كانت أيضا جريدة إخبارية عامة تناولت مختلف القضايا الجزائرية، وقد وقفت ضد التنصير ودافعت عن اللغة العربية، واهتمت بالحياة العامة، بما فيها السياسة. ويقول الشيخ المدني إن (لها برنامج ديني إسلامي وطني)، ولكنها دافعت أيضا. عن التصوف والطرقية (¬2). صدرت البلاغ سنة 1926 مع عيد الميلاد المسيحي (24 ديسمبر). وكان يشرف عليها محمد محيي الدين حدوني الذي لا نعرف عنه الآن أكثر من هذا. وتعتبرها الحركة الإصلاحية خصمة لها لمدافعتها عن الطرقية، سيما بعد حادث التعرض لحياة ابن باديس سنة 1927. وكانت المهاترات قوية من الجانبين. وقد توفي الشيخ ابن عليوة سنة 1934 (¬3)، ولا ندري متى توقفت ¬

_ (¬1) البرقية تشير إلى تصويت المجلس الإداري لجمعية العلماء سنة 1938 على السكوت أو إرسال برقية ولاء وتأييد إلى فرنسا ضد الفاشيستية. وكانت الأغلبية في المجلس لصالح السكوت، وكان العقبي والعمودي أقلية. وقد عاش العمودي إلى الخمسينات حتى اغتيل في العاصمة على يد غلاة الاستعمار (اليد الحمراء). (¬2) المدني (كتاب الجزائر)، ص 345. (¬3) عن حياة وفكر الشيخ ابن عليوة، انظر فصل الطرق الصوفية.

البلاغ (وقد طال عهدها نسبيا) ولكن المعلوم هو أنها عوضت بجريدة أخرى هي (لسان الدين) وهي غير تلك التي أسسها مصطفى حافظ من قبل (1923). وعند انفصال العلماء الطرقيين عن جمعية العلماء، أنشأوا جريدة باسم (الإخلاص) استمرت فترة أيضا. هذه الجريدة أسستها جمعية علماء السنة المنشقين عن جمعية العلماء. وكانت تعارض الإصلاح وتتهم أصحابه بالتدخل في السياسة ومسايرة الحداثة. وكانت جمعية علماء السنة مدعومة من الإدارة الفرنسية. وقع ذلك سنة 1932، وكان رئيس تحرير الجريدة هو الشيخ المولود الحافظي، أحد علماء الفلك البارزين ومن خريجي الأزهر. ولكن الطموح الشخصي وربما الميول الاجتماعية والضغوط جعلته يتبنى الاتجاه المعارض للإصلاح. وكانت (الإخلاص) أسبوعية، وتصدر بالعاصمة، وقد ظهر أول عدد منها في 14 ديسمبر 1932، ولا ندري كم طال عمرها (¬1). وقد أدت المهاترات بين الجمعيتين، جمعية العلماء وجمعية علماء السنة، إلى إنشاء صحف متنابزة أدت إلى كشف نوايا الجميع وصقل الأقلام أكثر مما أفادت الرأي العام أو خدمت القضية الوطنية. أنشأت جمعية علماء السنة جريدة (المعيار) نصف شهرية سنة 1933، واستمرت حوالي نصف عام وكانت تستعمل العبارات الساقطة ضد جمعية العلماء ورجالها، مما حدا بهذه إلى إنشاء جريدة مضادة وهي (الجحيم)، في مارس من نفس السنة. وكانت أسبوعية وكانت تصدر من قسنطينة وتوزع بالعاصمة. ولم يصدر منها سوى حوالي سبعة أعداد. وقد استعملت هي أيضا عبارات خشنة رغم أنها أعلنت ¬

_ (¬1) أعلنت عن نفسها أنها جريدة (معتدلة تعمل على الاتحاد الفرنسي - الأهلي)، وهو تعبير يعني أنها تخدم الأهداف الإدارية الفرنسية. انظر على مراد (الإصلاح الإسلامي في الجزائر)، 1967. وكان اتجاه علماء السنة مدعوما من اتحاد الزوايا ونحوه، وقد كان الشيخ مصطفى القاسمي، شيخ زاوية الهامل، من النشطين في هذا المجال. انظر فصل الطرق الصوفية.

عن نفسها أنها جريدة (حرة مستقلة تدافع عن الشرف والفضيلة). ولكن شعارها كان (العصا لمن عصى). وهذا النوع من الصحافة كان أقرب إلى الهجاء منه إلى الأخبار والإفادة العامة. ومن الجرائد المضادة للإصلاح أيضا ما أنشأه عبد القادر القاسمي سنة 1938 باسم (الرشاد). وهي جريدة أسبوعية كان يشرف على تحريرها الشيخ محمد العاصمي. وكان هذا الشيخ يملك قلما سيالا وفكرا نيرا ولكنه انحرف بهما إلى خدمة أغراض غير وطنية. ولا ندري دوافعه إلى ذلك. فقد كان من العناصر المثقفة المستنيرة، وشارك بمقالاته في تقويم المنصور وفي تقويم الأخلاق. وكان مثل الشيخ محمد السعيد الزاهري، صاحب موهبة علمية، ولكن كليهما انزلق في متاهات صنفته في المعادين للوطنية والإصلاح. وقد استمرت (الرشاد) تدافع عن الطرق الصوفية وتعمل كلسان حال لإتحاد الزوايا الذي ولد في تلك السنة 1938 على يد أنصار فرنسا من أمثال الشيخين مصطفى القاسمي (زاوية الهامل) من الجزائر، وعبد الحي الكتاني من المغرب الأقصى. ويبدو أن (الرشاد) قد استمرت بعض الوقت. ولعل تمويلها كان من الإدارة الفرنسية لأنها هي التي أشرفت على إنشاء اتحاد الزوايا المذكور. وهناك صحيفة ثالثة باسم (الحق) ظهرت في بسكرة في إبريل 1926 على يد علي بن موسى العقبي. ونحن لا نعرف عنها أكثر من هذا الآن. وقد تكون من الصحف الإصلاحية على غرار صدى الصحراء والإصلاح. وقد تحدث بعض الكتاب عن صحف أخرى غير معروفة كثيرا، ومنها (صوت الشعب) وبناء على مالك بن نبي فإن منشئها هو علي بن أحمد، وهو رجل من تبسة، درس في مدرسة قسنطينة الرسمية سنة 1925. وكان من رفقاء ابن نبي بعد ذلك. ويخبرنا هذا أن علي بن أحمد أنشأ الجريدة في العاصمة سنة 1934 وتعاون عليها مع باعة البقول وصيادي السمك الذين كانوا يمولون الجريدة بينما هو يحررها، ويقول ابن نبى إن الجريدة قد عبرت

عن مرحلة جديدة من الصحافة الوطنية، ولكننا لا نعرف بأية لغة كانت تصدر. ومن جهة أخرى نعلم أنه لم يصدر منها سوى عددين أو ثلاثة، وهو أمر راجع إلى مزاج صاحبها، حسب تعبير ابن نبي. وقد انتقل علي بن أحمد إلى فرنسا واشترك في المناقشات العامة والفلسفية التي كانت تدور بين طلبة المغرب العربي، وتزوج من فرنسية كانت تدير مكتبة صغيرة، وكان ساخطا متبرما بالحياة وكانت بينه وبين ابن نبي بعض القرابة (¬1). غير أن دبوز يذكر (صوت الشعب) بإشراف آخر، وهو محمد الشريف جوكلاري الذي قلنا إنه فرنسي اعتنق الإسلام. وقال إنها كانت تصدر بالفرنسية (¬2). ولا ندري كم عاشت ولا موعد صدورها. فهل هي نفسها صوت الشعب المنسوبة إلى علي بن أحمد؟ إن مالك بن نبي قد تحدث عن جوكلاري ونوه به ولكنه لم ينسب إليه هذه الجريدة. ويذكر ابن نبي أيضا جريدة أخرى صدرت في أم البواقي بعنوان (صدى الحراكتة) وكان عمرها قصيرا أيضا إذ لم يظهر منها سوى عددين. وكان المشرف عليها هو حساني رمضان. وقد علق ابن نبي على عادته حين يذكر النخبة الإندماجية بقوله: إن رمضان هذا كان رجل بر وإحسان، وقد استعان بمثقف (نخبوي) طائش. وكان ذلك ربما هو سبب فشل مشروع الجريدة. ونفهم من حديث ابن نبي عنها أنها ظهرت حوالي 1935 (¬3). ... وللشيخ أبي اليقظان مجموعة من الصحف صدرت الواحدة بعد الأخرى بين 1926 و 1938. وكان هذا الشيخ من زعماء المدرسة الإصلاحية ومن كبار الصحفيين الذين هووا الصحافة ومارسوها، وعانوا في سبيلها أشد المعاناة ماليا وإداريا. وكان من المدافعين الأقوياء عن القضايا ¬

_ (¬1) ابن نبي، المذكرات، ط. دمشق، ص 300. (¬2) دبوز (نهضة) 2/ 12. (¬3) ابن نبي، المذكرات، مرجع سابق، ص 342.

العربية والإسلامية والوطنية، وكان عضوا، في جمعية العلماء عندما تأسست. وقد تبنى أيضا الدفاع عن الوحدة الوطنية والتصالح المذهبي، وهو من أتباع المذهب الأباضي، وكان ينشر عن الحركات الوطنية والعربية في تونس ومصر وسورية وفلسطين وغيرها، ومعجبا بالأبطال الإسلاميين أمثال سليمان الباروني وشكيب إرسلان. ولذلك فإن صحافته كانت صدى لكل هذه الأحداث. بدأ بجريدة وادي ميزاب التي صدرت في العاصمة في أكتوبر 1926. وبعد أربعة أشهر عطلتها الإدارة الفرنسية، والتعطيل معناه في لغة ذلك الوقت أنها كتبت ما لا ترضى عنه الإدارة، وهو عادة ما يخدم القضية الوطنية والقضايا العربية والإسلامية الأخرى. وبعد ذلك أصدر أبو اليقظان جريدة ميزاب سنة 1930، ثم عطلت أيضا من قبل الإدارة، وهكذا ظل يصدر الجريدة بعد أن يغير عنوانها فإذا عطلتها الإدارة أصدر جريدة أخرى، فكان في صراع بين الحق والباطل، مع استماتة في المبادئ، وتضحية في سبيل الوطن والصحافة. وإليك أسماء صحف أبي اليقظان على التوالي بعد التي ذكرناها: المغرب 1930، صدر منها 38 عددا، والنور 1931، صدر منها 78 عددا، والبستان 1933 صدر منها عشرة أعداد، والنبراسں 1933، صدر منها ستة أعداد فقط؛ والأمة 1933، صدر منها 170 عددا؛ والفرقان 1938، صدر منها ستة أعداد فقط (¬1). ثمانية صحف أنشأها أبو اليقظان خلال حوالي اثنتي عشر سنة. وقد أنشأ لها مطبعة في العاصمة، ولا ندري من كافح مثله من أجل رسوخ الصحافة في ذلك العهد، وكدنا نقارنه بعمر بن قدور وعمر ¬

_ (¬1) رجعنا بالنسبة للصحافة العربية إلى الشيخ علي مرحوم (الثقافة) مرجع سابق، عدد 42، وإلى محمد ناصر (الصحف العربية الجزائرية)، وإلى الشيخ أحمد توفيق المدني (كتاب الجزائر)، بالإضافة إلى علي مراد (تكوين الصحافة الإسلامية)، وهو بحث نشره في مجلة معهد الدراسات العربية التي كان يصدرها الآباء البيض في تونس. I.B.L.A . المجلد 27، 1964.

الصحف السياسية والإندماجية

راسم، ولكن خصوبة فكر أبي اليقظان وقدرته على التطور مع الأحداث جعلتنا نعدل عن هذه المقارنة. الصحف السياسية والإندماجية أما الصحف السياسية فتتميز بخاصيتين وهما التنوع واللغة الفرنسية. ونعني بالتنوع الانتماء إلى عدة مشارب وتيارات، فهناك الصحف التي صدرت عن الاندماجيين، أو عن هيئة النواب، أو عن المجموعة الشيوعية، أو حزب النجم/ حزب الشعب. وأما اللغة فإن معظم الصحف التي سنذكرها كانت إما بالفرنسية وحدها وإما مزدوجة، ولكن مع تغلب اللغة الفرنسية عليها. كانت جريدة (التقدم) التي بدأها ابن التهامي تستقطب المثقفين المتسيسين من الاندماجيين المعروفين بالنخبة. وقد ظهر على صفحاتها خلال العشرينات فرحات عباس حيث نشر المقالات التي جمعها فيما بعد في كتاب باسم (الشاب المسلم). وعند ميلاد هيئة النواب اتخذت لنفسها أيضا صحيفة هي لانتانت (الوفاق). وكان مديرها السياسي هو الدكتور ابن جلول ومحررها هو فرحات عباس، وكتب فيها عدد من الاندماجيين. وكانت تضيف إلى نفسها أنها جريدة (التفاهم الفرنسي - الإسلامي). وفي هذه الأثناء أعاد الصادق دندان جريدة (الإقدام) بالفرنسية (¬1). وكانت جريدة أسبوعية للدفاع عن مصالح المسلمين الشمال أفريقيين. ومديرها هو دندان وابن جلول أيضا. واستمرت إلى السنة الثالثة حين وفاة دندان. وفيها رد على ما كتبه حسني لحمق في رسائله. وهذه الجرائد كلها بالفرنسية، ولكن في سنة ¬

_ (¬1) انظر (الوفاق) للزاهري، عدد 21 يوليو 1938، وهو العدد الذي أعلنت فيه عن وفاة الصادق دندان (عميد الصحافة الإسلامية الجزائرية). عن دندان انظر الحديث عن جريدة (الإسلام) سابقا. وحسني لحمق هو الذي نشر (الرسائل الجزائرية) وهاجم فيها العرب والإسلام. انظر على مراد (الإصلاح الإسلامي) مرجع سابق.

1938 صدرت بقسنطينة جريدة بالعربية باسم (الميدان) لتؤيد سياسة الدكتور ابن جلول الاندماجية، وكانت جريدة أسبوعية واستمرت حوالي سنتين. وكان يرأس تحريرها محمد الحسن الوارزقي. ولكن شارل أندري جوليان ذكر أن (الميدان) كانت تصدر سنة 1937، وأشار إلى عددها العاشر من يوليو. وقال إنها كانت تصدر في تبسة باسم اتحادية النواب (¬1). وكان للاندماجيين صحف من نوع آخر، صحف يقودها عادة متجنسون. وكانوا يتبون فيها عادة التقارب مع الفرنسيين والعيش معهم تحت الراية الفرنسية. ومن ذلك (صوت المستضعفين)، وهي لسان حال المعلمين من أصل أهلي، وكانت تصدر بين 1920 - 1939، ويحررها قدماء الخريجين من المدارس الفرنسية، سيما مدرسة ترشيح المعلمين (النورمال) في بوزريعة (¬2). ويذهب أحد المصادر إلى أن الذي أسس هذه الجريدة هو فرحات عباس سنة 1925 وأنها كانت تطالب بالاندماج الكامل في فرنسا (¬3). غير أن مالك بن نبي يذكر أن مؤسس (صوت المستضعفين) هو السيد طاهرات وقد وصفه بالعلماني (¬4). وهناك من ذكر أنها صدرت سنة 1922، وأن الذي أشرف على تحريرها هما الفاسي والزناتي على التوالي. أما الزناتي فقد أنشأ صحيفة باسم (صوت الأهالي) في قسنطينة سنة 1929. وجعل لها عنوانا فرعيا يعبر عن الاتجاه الاندماجي وهو (جريدة الاتحاد الفرنسي/ الإسلامي). وكانت صوت الأهالي جريدة أسبوعية، تدافع عن المنتخبين وتدعو إلى التسامح والتعايش مع الفرنسيين، وتقف ضد التيار العربي الإسلامي، وضد الحركة الإصلاحية. وكان الزناتي نفسه من المتجنسين. وقد ألف كتابا سنة 1938 نشرته له مجلة (افريقية الفرنسية) في ¬

_ (¬1) شارل اندري جوليان (شمال افريقية الزاحفة) ط. 1952، باريس. ص 111 هامش 2. وهذه الجريدة (الميدان) موجودة في قسم الدوريات بتونس. (¬2) تامي كولونا (المعلمون الجزائريون)، مرجع سابق 19، ص 170. (¬3) وثائق شمال افريقية Doc. N. Afric، باريس رقم 265، 8 أبريل 1957. (¬4) ابن نبي (المذكرات)، ط. دمشق، ص 52.

حلقات في ملحقها الخاص بقضايا المستعمرات، وعنوانه (المشكل الجزائري كما يراه أحد الأهالي) (¬1). إن الاتجاه الاندماجي الذي يقوده المطورنون (المتجنسون) كانت له في أغلب الأحيان صحافة مكتوبة بالفرنسية. وبالنسبة للتيار الشيوعي، كانت له صحف فرنسية ومتفرنسة، كما أنشأ بعض النشرات بالعربية لتوصيل أفكاره إلى جمهور المتعلمين الجزائريين. ومن الصحف الفرنسية التي ساندت التيار الشيوعي (الصراع الطبقي) التي كان يشرف عليها فيكتور سبيلمان الفرنسي (¬2). وهو نفسه الذي أصدر (همزة الوصل) - ترى دينبون - بالعاصمة أيضا، وكان لها تأثير قوي بين النخبة الاندماجية. وقد ساهمت في دعم حركة الأمير خالد. ثم أصدر فرع الحزب الشيوعي الفرنسي في الجزائر جريدة باسم الباريا BARIA وأخرى بالعربية تسمى (الراية الحمراء) خلال العشرينات. وفي الثلاثينات صدرت جريدة (الجزائر الجمهورية) التي سبقت الإشارة إليها، وكانت تدعم اليسار ولا تعلن عن شيوعيتها إلى الحرب العالمية الثانية. ولكن يجب القول إن الجزائريين لم ينشئوا جرائد بأنفسهم أو لأنفسهم في هذا المجال، وإنما كانت هذه الجرائد فرنسية اللغة والتمويل والاتجاه. ومنذ ميلاده (1926) كان نجم شمال أفريقية في الغربة (فرنسا). وبعد إعلانه رسميا عن تبنيه فكرة استقلال الجزائر منعته السلطات الفرنسية من النشاط وأعلنت حله (سنة 1929). ولذلك كانت صحفه سرية في أغلب الأحيان. أعاد أولا إصدار جريدة (الاقدام) التي كان يصدرها الأمير خالد. وأصدرها بعنوانين على التوالي (الاقدام البارسي) ثم (الاقدام الشمال أفريقي)، وكلاهما لم يعش طويلا. وكان الاقدام في كلا الحالتين بالفرنسية. ولكنه تبنى مبادئ الأمير خالد في التحرر الوطني واسترجاع الهوية والمساواة ¬

_ (¬1) انظر ملحق افريقية الفرنسية A.F.S، ابتداء من أبريل 1938، وكذلك (فرنسا المتوسطية والأفريقية) رقم 1، 1938، ص 170. قالت صوت الأهالي إنها جريدة (تدافع عن حقوق المسلمين). وظهر عددها الأول في 13 يونيو، 1929 بقسنطينة. (¬2) عن سبيلمان (وكان من أصل الزاسي)، انظر أحمد توفيق المدني (حياة كفاح) ج 2.

مع الفرنسيين. وكانت صحافة الحزب الشيوعي الفرنسي هي التي تتبنى الدفاع عن اهتمامات العمال الجزائريين في المهجر. أما القضية الوطنية فلا يؤمن بها الحزب الشيوعي عندئذ إلا في الإطار العالمي. كما أن النجم لم يكن يتوفر على صحفيين عندئذ لأن معظم من انخرط فيه كانوا من العمال وليسوا من المثقفين. أول جريدة أسسها النجم هي جريدة (الأمة) التي صدرت بالفرنسية في أكتوبر 1930 بفرنسا. وكان أحمد مصالي (مصالي الحاج) هو المدير السياسي لها. وقد أصبحت هي اللواء الذي يجتمع حوله أنصار الحزب الذي حلته السلطات الفرنسية. وجاء ميلادها سنة احتفال الفرنسيين باحتلالهم المئوي للجزائر. وقد ظلت صحافة الحزب فقيرة من حيث التحرير والإعلام للاضطهاد البوليسي ولعدم وجود إطارات مؤمنة بمبادئ الحزب ومتعلمة. ولذلك لا نعرف من كان يحرر المقالات في الأمة خلال الثلاثينات. وقد استمر صدورها، رغم التعثر، إلى 1939. وفي هذه السنة أعلنت المصالح الفرنسية أن جريدة (الأمة) قد منعت من الصدور واحتجزت أوراقها وأغلق مكتبها لأنها نشرت مقالا مست فيه بوحدة التراب الوطني (الفرنسي) - أي تحدثت عن انفصال الجزائر عن فرنسا (¬1) -. وواجهت صحافة حزب الشعب اضطهادا لم تعرفه الصحف الأخرى، رغم أنها كانت تصدر في الغالب بالفرنسية، وذلك لمواقفها الوطنية الصريحة. وقد حاول حزب الشعب إنشاء صحيفة بالعربية لأول مرة سنة 1937. وعهد بها إلى اثنين من أنصاره المعربين، وهما الشاعر مفدي زكريا ومحمد قنانش. وكان اسم مفدي زكريا ما يزال غير معروف كثيرا في أوساط الشعراء، ولكنه كان يكفي لجلب القراء والأنظار. وكان الحزب في حاجة إلى الأفكار وليس للأسماء. ذلك أن معظم الذين كانوا يساهمون في جرائده ونشراته، كانوا يخفون أسماءهم خوفا من الاضطهاد البوليسي، والجريدة العربية الوحيدة التي أنشأها حزب الشعب عندئذ هي (الشعب). وقد صدرت في الجزائر في ¬

_ (¬1) مجلة افريقية الفرنسية، سنة 1939، ص 174.

ثلاثة أو أربعة أعداد فقط، ثم زج بأصحابها في السجن، وأصحابها المذكورون في العدد الثاني هم مصالي الحاج - المدير السياسي، ومفدي زكريا - رئيس التحرير، ومحمد مسطول - أمين المال، وفانفاني - صاحب الامتياز (وهو إيطالي). أما اسم محمد قنانش فغير موجود. وقد صدر العدد الثاني في 15 أكتوبر 1937. وكانت تصدر يوم الجمعة كل أسبوعين. ولكن تجربة جريدة (الشعب) كانت قصيرة، رغم أنها جريدة وطنية تحمل أفكار الحزب الاستقلالية والوحدوية وروح مفدي زكريا المتألقة. وحاول حزب الشعب تجربة الصحافة مرة أخرى على أرض الجزائر سنة 1939، فكان اضطهاد الصحافة في الجزائر أكثر منه في فرنسا، لأن القوانين، رغم وحدة البلاد الفرنسية في الظاهر، غير واحدة، بالنسبة للجزائريين ولغتهم ودينهم، وكل شيء يتعلق بهذه الأمور فهو استثنائي في القانون الفرنسي. أنشأ الحزب إذن صحيفة جديدة باسم (البرلمان الجزائري)، 3 جوان 1939 (¬1). وهي جريدة للدفاع عن حقوق الشعب وتحريره، وجاء فيها بالعربية (جريدة وطنية نصف شهرية تدافع عن حقوق الجزائر العربية). وكانت تصدر بالعاصمة، والمراسلات إليها توجه إلى أحمد بوده، أحد أعضاء الحزب الذي كان من مزدوجي اللغة. ولكن ثقافته كانت بسيطة ولا يملك أكثر من الإخلاص والتفاني في حب الوطن (¬2). وكان اسم الجريدة يعبر عن فكرة جديدة للحزب، وهي إنشاء برلمان في الجزائر ينتخب عن طريق الاقتراع العام - دون تمييز بين الجزائريين والفرنسيين -. وهي فكرة نقيضة تولدت بالخصوص بعد مطالب المؤتمر الإسلامي الجزائري سنة ¬

_ (¬1) كان حزب الشعب عندئذ لا يؤمن بالتمثيل النيابي للجزائريين في البرلمان الفرنسي، كما طالب بذلك من حضر المؤتمر الإسلامي الجزائري سنة 1936، فكان الحزب يؤمن بإنشاء برلمان جزائري، ومن ثمة جاء عنوان الجريدة، ولكن الحزب عدل عن هذا الموقف بعد الحرب العالمية الثانية ورشح أعضاءه لعضوية البرلمان الفرنسي وفاز بعضهم بذلك. (¬2) نسخة منها (العدد الثاني) موجودة عند السيد محمد قنانش.

الصحف منذ 1940

1936، التي دعت إلى تمثيل الجزائر في البرلمان الفرنسي. الصحف منذ 1940 لا نريد الآن أن نتحدث مطولا عن المرحلة الثالثة من تاريخ الصحافة، وهي التي تبدأ بسنة 1940. لقد توقفت كل الصحف الجزائرية (عادت الإصلاح إلى الظهور خلال الحرب، كما ذكرنا، وربما جريدة الأمة لباسعيد عدون، وجرائد: يالله 1939، والدليل 1940 - 1941، والنصر 1943) (¬1). ونقصد (بالجزائرية) تلك التي أنشأها جزائريون لخدمة مصالح المسلمين الجزائريين، ولو كانت تلك المصالح في نظرهم في الاندماج والتقارب مع الفرنسيين. أما الصحافة الفرنسية التي أنشأها فرنسيون ولو كانت للدفاع عن بعض مصالح الجزائريين فلا تهمنا الآن. ويدخل في ذلك جرائد الحزب الشيوعي التي أسسها خلال الحرب العالمية الثانية (¬2). وبناء على ذلك نختصر هنا ذكر اسماء الصحف إلى 1954 لربط موضوعنا. أصدر حزب أحباب البيان والحرية جريدة (المساواة) بالفرنسية سنة 1944، وتوقفت بسبب انتفاضة ثامن مايو 1945. ثم أنشأ فرحات عباس سنة 1948 جريدة (الجمهورية الجزائرية) التي كانت تعبر عن فكره السياسي الجديد، أي الابتعاد عن المناداة بالاندماج. وبعد ذلك بسنة أنشأ جريدة أسبوعية بالعربية باسم (الوطن) وأسندها إلى السيد عبد الرحمن رحماني. ودامت حوالي سنة، وكلتاهما تعبر عن سياسة حزب البيان الذي كان يتزعمه. وبالإضافة إلى جرائده الفرنسية الصادرة خلال الحرب، أنشأ الحزب ¬

_ (¬1) انظر الأرشيف الفرنسي رقم (16) 19 H 15. ويذكر هذا المصدر جريدة أخرى باسم التفاهم أو التفهم. (¬2) انظر فقرة الصحف الفرنسية من هذا الفصل.

الشيوعي حوالي 1946 جريدة (الجزائر الجديدة) بالعربية، وكانت نصف شهرية، وقد استمرت فترة. وبين 1953 - 1954 أصدر حزب الشعب/ حركة الانتصار عدة جرائد، منها ما هو تابع للجنة المركزية وما هو تابع للجنة مصالي. نذكر منها بالفرنسية جريدة (العمل الجزائري) و (الأمة الجزائرية) و (الجزائر الحرة). وعشية الثورة صدرت عن اللجنة الثورية للوحدة والعمل جريدة أو نشرة باسم (الوطني) بالفرنسية - الباتريوت -، ثم نشرة أخرى باسم (صوت المناضل) (¬1). أما بالعربية فقد أصدر الحزب جريدة (صوت الجزائر)، وكانت أسبوعية سياسية، ويشرف عليها مصطفى فروخي (1953)، ثم (صوت الشعب) التي كانت كذلك أسبوعية سياسية 1954. وكانت للحزب صحف بالعربية حرة ومعتدلة تفاديا للاضطهاد البوليسي، مثل جريدة (المغرب العربي) التي أصدرها محمد السعيد الزاهري حوالي سنة 1948 (¬2)، وقد اختفت ثم عادت قبيل اغتيال الزاهري سنة 1956. وكذلك جريدة (المنار) التي رأسها محمود بوزوزو سنة 1951، وكانت أسبوعية، وكان كتابها من مختلف الاتجاهات، لكن أبرزهم هم أنصار حزب الشعب. لم يصدر عن جمعية العلماء سوى صحيفتين بين 1947 - 1956. البصائر سنة 1947 برئاسة الشيخ محمد البشير الإبراهيمي وكان اسمه الرسمي فيها هو طالب بشير. وعلى إثر الثورة وانقطاع الشيخ في المشرق رأسها أحمد توفيق المدني. ثم جريدة (الشاب المسلم) بالفرنسية، وكانت موجهة لأنصار الإصلاح المتعلمين بالفرنسية وكذلك للرأي العام الفرنسي. ¬

_ (¬1) ميشيل كلارك (الجزائر في فوضى)، 1961، ط. 2، ص 89، 114. (¬2) قيل إن الحزب كان يسندها بطريقة غير مباشرة، ويبدو أنها مالت، عند وقوع الخلاف داخل الحزب، إلى صف مصالي. وقد ذهب الزاهري ضحية هذا الخلاف.

وهناك جريدة ثالثة موالية للجمعية صدرت سنة 1949 باسم (الشعلة)، وقد رأسها أحمد رضا حوحو، وتولى امتيازها الصادق حماني، ودامت نحو عامين. وكانت تهاجم الطرقية والاستعمار وأنصار الإدارة الفرنسية. كما هاجمت البدع والجمود في السياسة الداخلية. من كتابها أيضا الشيوخ أحمد حماني، وأحمد بو شمال، وموسى الأحمدي وعبد الرحمن شيبان، وكانت تنشر الشعر الفصيح والملحون. ونشطت صحافة الاتجاه الطرقي الصوفي والديني أيضا. فقد استمرت (الرشاد) سابقة الذكر، وظهرت (الذكرى) في تلمسان معبرة عن اتجاه الزاوية العليوية ومناوئة للبصائر، وكان يحررها علي البوديلمي. أما مديرها فكان يدعى أفندي عبد العزيز (؟) ثم (المرشد) التي كانت تصدر في مستغانم (¬1) ولعلها من جرائد الطريقة العلوية أيضا. وهناك صحف دينية أخرى معظمها كان قصير الأمد مثل جرائد شباب الموحدين الواقعة تحت تأثير أبي بكر جابر، ومنها جريدة (الداعي) 1950، و (اللواء) 1952، أو جرائد دينية أدبية، مثل (القبس) التي ظهرت بعد تعطيل اللواء، وكان مديرها أبو القاسم ديقير، ورئيس تحريرها الشاعر محمد الهادي السنوسي 1952 (¬2). وكذلك الجرائد الآتية: عصا موسى، والدعوة، والمعيار (وهو اسم جديد). وذكرت بعض المصادر أن حمزة بو بكر (من أولاد سيدي الشيخ) أصدر جريدة (مجلة؟) ثقافية بعنوان (السلام) ودامت من سبتمبر 1946 إلى 1948 حين غيرت عنوانها إلى (سلام إفريقيا). وتوقفت في مايو 1950، ولم يذكر المصدر لغة الجريدة ولا اتجاهها (¬3). ¬

_ (¬1) انظر أوراق علي أمقران السحنوني، وعلي مرحوم، مرجع سابق، ووثائق شمال افريقية، مرجع سابق، وابن بكار الهاشمي (مجموع النسب)، ص 175. وعن علي البوديلمي انظر فصل الطرق الصوفية. (¬2) رسالة الباحث أحمد مريوشں عن العقبي. (¬3) أليف هوقاي A. Heggoy (القاموس التاريخي للجزائر) - بالإنكليزية، 1979 (؟) ص 67.

المجلات العربية

المجلات العربية أما المجلات التي ظهرت باللغة العربية فقد كانت قليلة. ولا نريد أن نطيل الحديث عن اختصاصها ما دامت قليلة. ولعل السبب في قلة المجلات عدم توفر المادة والإطار معا. كما أن القادرين على العمل الصحفي كانوا حريصين على إنشاء الجرائد لأنها في نظرهم أسرع إلى توصيل أفكارهم. حتى (الشهاب) التي تعتبر أول مجلة بالعربية (¬1) قد بدأت حياتها كجريدة سنة 1925. وقد استطاع الشيخ ابن باديس أن يديرها باتقان وحكمة حتى صدر منها حوالي اثني عشر مجلدا قبل أن تتوقف سنة 1939. وجمعت الشهاب في مادتها بين الدين والأدب والقصص التاريخي والديني وأخبار المغرب العربي والعالم الإسلامي، وكانت مبوبة ومتنوعة المادة وكانت مجلة حية غير متزمتة، وتدعو إلى النهضة الوطنية والإصلاح الاجتماعي. وكانت كفاءة الشيخ ابن باديس في تفسير القرآن الكريم والحديث الشريف واختيار القصص وسهولة الأسلوب قد أسهمت جميعها في أن تكون الشهاب مدرسة للأدب الرفيع والأخلاق الفاضلة والوطنية الصادقة والدين الصحيح. وقد عاصرتها مجلة صغيرة كان يصدرها طلاب الجزائر في المدارس الحكومية الشرعية الثلاث وفي الجامعة، وهي مجلة (التلميذ) وكانت في شكل مجلة مزدوجة اللغة، وتحتوي على موضوعات تصف حياة الطلبة وآمالهم، ولكنها كانت تقتطف من مجلات المشرق العربي، وأخبار الحياة العربة والإسلامية، وتهتم بحياة الأدب والشعر والطرائف والتراث. ولا ندري الآن كم دامت. ¬

_ (¬1) لم نتحدث هنا عن مجلة (الاحياء) الصغيرة والتي ظهرت سنة 1906 لأننا اعتبرناها مجلة فرنسية رغم أنها بالعربية. وذكر أحمد توفيق المدني أن عمر بن قدور قد أعاد جريدة الفاروق بعد الحرب العالمية الأولى في شكل مجلة، ويؤكد ذلك صالح خرفي. ولكنهما اختلفا في التاريخ، فخرفي يذكر سنة 1920 والمدني يذكر 1924. ونحن لم نطلع على الفاروق - المجلة.

وحوالي 1919 أصدر طلبة المغرب العربي بالجزائر (كانت جمعيتهم تدعى ودادية طلبة شمال أفريقية المسلمين بالجزائر) حولية ظلت تصدر كل سنة باسم (أنوير/ الحولية Annuaire). وفي 1928 صدر العدد العاشر من هذه الحولية وهو العدد الذي علق عليه ف. بروديل في المجلة الإفريقية ونبه زملاءه الأساتذة الفرنسيين إلى ضرورة الإطلاع على ما يكتبه طلبتهم المسلمون في الحولية، لأنه وجد فيها تفكيرا غير منسجم مع ما يأخذه التلاميذ منهم وما تتوقعه فرنسا من أبناء البلاد عشية مرور قرن على احتلال الجزائر (¬1). ويمكن أن نتحدث أيضا- عن نشرات جمعية طلبة شمال افريقية المسلمين التي كان مقرها فرنسا، فقد كانت هذه الجمعية تنتقل كل عام، ابتداء من 1931، إلى إحدى مدن المغرب العربي، وتعقد فيها اجتماعها السنوي، ثم تصدر (نشرة) في شكل مجلة تضم وقائع الاجتماع وبعض الآراء والاقتراحات والقصائد الخ. وقد صدر من هذه النشرة عدة أعداد، ولكنها لم تكن خاصة بالجزائر ولا بأي قطر بعينه، وهي الآن مرجع هام للحركة الفكرية في ذلك العهد. ومن ذلك ما أصدره طلاب الجزائر في تونس سنة 1937 باسم (الثمرة الأولى). وهي نشرة تمثل حصيلة نشاط الطلبة، وكلماتهم التي يلقونها بالمناسبة ومقالات المتعاطفين معهم ومع الجزائ?. لقد صدرت (الثمرة الأولى) عن جمعية الطلبة الجزائريين الزيتونيين التي كان رئيسها عندئذ الشاذلي المكي. وجمعت، بالإضافة إلى مقالات الطلبة أنفسهم، مقالات من ابن باديس، وأبي يعلى الزواوي والأخضر السائحي ورحومة علي، وكذلك محمد المختار بن محمود ومحمد الصادق بسيس من تونس (¬2). وفي سنة ¬

_ (¬1) عدد ديسمبر، 1927 - 1928. وقد صدرت بالجزائر عن الجمعية الجزائرية للطبع والنشر. انظر المجلة الافريقية 1930، ص 428. والظاهر أن ف. بردويل F.Braudel هو نفسه صاحب كتاب (البحر الأبيض المتوسط) الشهير. (¬2) البصائر، 30 أبريل، و 24 ديسمبر 1937.

1948 صدرت (الثمرة الثانية) في تونس أيضا فكانت كسابقتها مليئة بالخواطر والموضوعات الأدبية والاجتماعية التي تعكس حياة الطالب الجزائري المسؤول والمتطلع إلى بناء وطنه. ولا ندري كم صدر من مجلة (الفضيلة) التي ظهرت حوالي 1935 وكان قد أنشأها السيد موسى خداوي في تلمسان؟. كما لم يظهر من مجلة (العبقرية) الشهرية سوى ثلاثة أو أربعة أعداد. وكان قد أصدرها في تلمسان عبد الوهاب بن منصور سنة 1948. وهي مجلة جامعة ولكن يغلب عليها الأدب والتاريخ والثقافة العامة. ومثلها كانت مجلة (أفريقية الشمالية) الشهرية التي أنشأها في العاصمة إسماعيل العربي في نفس السنة (1948). وكانت على صغر حجمها قد اهتمت بالتربية والتاريخ والترجمة عن اللغة الفرنسية وغيرها. ولو طال عمرها واستقر صاحبها لكانت طالعة جيدة في عالم المجلات العربية في الجزائر. غير أنها لم تعمر إلا حوالي ثلاثة أعداد. والمجلة الأخرى التي طال عمرها نسبيا هي (صوت المسجد) التي كان يشرف على تحريرها الشيخ محمد العاصمي، وكان العاصمي في نفس الوقت هو رئيس (الجمعية الودادية لرجال الديانة الإسلامية في القطر الجزائري). فقد ظهرت أيضا سنة 1948 بالعاصمة واستمرت إلى فاتح 1951. وكانت مجلة شهرية أدبية ودينية واجتماعية، وكانت رسالتها جمع كلمة رجال الدين الإسلامي حول الإدارة الفرنسية، ولذلك كانت تصطدم بحركة جمعية العلماء. وقد تولى الشيخ العاصمي نفسه الفتوى والإمامة من قبل الإدارة المذكورة (¬1). وجاء في شعارها الرسمي أنها (لسان حال رجال الديانة ¬

_ (¬1) عن (الفضيلة) و (العبقرية) و (أفريقية الشمالية) و (صوت المسجد) انظر أيضا علي مرحوم، (الثقافة)، مرجع سابق، عدد 42. وقد اطلعنا على أعداد من هذه المجلات، عدا (الفضيلة). انظر أيضا رسالة الباحث أحمد مريوش، وقد جاء فيها أن مجلة (صوت المسجد) قد صدر منها 21 عددا، وتوقفت للعجز المالي، وهو تبرير غير مسلم به.

الإسلامية في القطر الجزائري)، والمقصود بهم من أسميناهم برجال السلك الديني والقضائي، وربما يضاف إليهم رجال الزوايا، وقالت أيضا- إنها مجلة ا (شهرية دينية علمية أدبية اجتماعية تاريخية أخلاقية)، وتتحلى صفحتها الأولى بالآيات القرآنية والأحاديث الدالة على العبادات في المسجد. واطلعنا أيضا على نسخة من مجلة باسم (الحياة)، يبدو أنها كانت تصدر عن الكشافة الإسلامية. والعدد الذي اطلعنا عليه فيه تقرير عن نشاط الكشافة الإسلامية إلى الحاكم العام، تاريخه 1950، وفيه أيضا نشيد لمحمد العيد آل خليفة ونشيد آخر لمحمد الصالح رمضان (¬1). ... ثلاثة من أعيان الصحافة العربية الإسلامية في الجزائر، وهم عمر بن قدور وعمر راسم وأبو اليقظان. وهناك آخرون طبعا وعلى رأسهم ابن باديس، ولكن المذكورين ناضلوا في الميدان الصحفي بوسائلهم إلى أن حفروا اسمهم على تمثال الخلود. ومثل كل مجموعة من الأفراد فهم ليسوا سواء في القيمة، مع ذلك. وقد سبقنا عدد من الباحثين في ترجمة الثلاثة المذكورين، ولذلك سيكون نصيبنا هو إبراز بعض الخصائص والمواقف لكل منهم فقط، مع إضافة ما تمكنا من الإطلاع عليه دون غيرنا أو استنتاج جاء نتيجة ظروف درسناها بالمقارنة والاستنباط (¬2). 1 - عمر بن قدور: ولد بالعاصمة حوالي 1886 أثناء مرحلة جدباء من حياة الجزائر، وهي تمثل حكم لويس تيرمان المحابي للمستوطنين والظالم للجزائريين. ولا ندري ما عمل أسرة ابن قدور وما وضعها الاقتصادي ¬

_ (¬1) عن مجلة (هنا الجزائر) أنظر سابقا- المجلات الفرنسية -. (¬2) درس كل من الأساتذة: صالح خرفي، ومحمد ناصر، حياة عمر بن قدور وعمر راسم. وتوسع محمد ناصر في حياة أبي اليقظان. كما تناول محمد الصالح الجاوي (تونس)، وعلي العريبي (تونس)، وزهير ايحدادن (الجزائر) حياة هؤلاء أو بعضهم. وكذلك أحمد توفيق المدني، سواء في كتاب الجزائر أو في حياة كفاح.

والعلمي، بل وما أصلها. لأن اسم (عمر بن قدور) لا يدل على أصل الأسرة. وبدأ عمر يتردد على المدرسة القرآنية (الكتاب) مثل معظم أبناء الجزائر منذ سن الخامسة أو السادسة. وكانت العاصمة عندئذ مدينة أوروبية، أما العرب فيعيشون في القصبة وما حولها، حي قديم وحي جديد، وأناس قدماء وأناس جدد، هكذا الصورة التي أنشأها الاستعمار في أذهان وأنظار الجزائريين. ولكي يتخلص العربي المسلم من عالمه القديم كان عليه أن يذهب إلى العالم الأوروبي الجديد وأن ينسلخ من محيطه وعائلته لكي يرقى إلى مستوى المستعمر، وإلا فهو باق على جموده وقدمه. وكان الحديث يدور عندئذ عن تغيير في السياسة الفرنسية بعد زيارة لجنة التحقيق الرسمية سنة 1892، تغيير في سياسة التعليم نحو الجزائريين، وتغيير في النظرة إلى المستعمرة (الجزائر) وطريقة حكمها. ويبدو أن ابن قدور قد دخل المدرسة الشرعية الفرنسية بعد الكتاب في أول هذا القرن. وقد حصل عندئذ تعديل في برامج هذه المدرسة حوالي 1895، أي عندما كان عمره حوالي تسع سنوات. فقد أصبح التعليم فيها مزدوج اللغة ومتجها نحو تكوين فئة ملمة بالتراث العربي الإسلامي، وبالثقافة الفرنسية معا، إذ من هذه المدرسة كان يتخرج القضاة والأيمة والمعلمون والصحفيون بالعربية، ولا ندري كم بقي ابن قدور في المدرسة التي أصبحت تدعى الثعالبية فيما بعد، ولكن يبدو من الأكيد أنه قرأ فيها على الشيخ عبدالقادر المجاوي بعد نقله من قسنطينة، وعلى الشيخ عبد الحليم بن سماية الذي سيكتب عن مواقفه ضد فرض الخدمة العسكرية على الجزائريين. ولا ندري متى درس عمر في جامع الزيتونة بتونس ولا متى توجه إلى مصر للدراسة والمشاركة في صحافتها. غير أننا نعلم أنه كتب في جريدة (اللواء) المصرية، وهي جريدة الحزب الوطني، منذ كان عمره حوالي عشرين سنة. كما أخذ يتعامل مبكرا مع جريدة (الحاضرة) التونسية و (الحضارة) العثمانية التي تصدر في أسطانبول. ويذهب بعض الباحثين إلى أنه قد رجع إلى الجزائر سنة 1908، تاريخ الانقلاب العثمانى فكم غاب

عنها؟ ربما ثلاث أو أربع سنوات. ومهما كان الأمر فقد وجد الجزائر تتغير وتدخل عهد النهضة الصحفية والثقافية الذي وصفناه في غير هذا المكان، على يد الحاكم العام شارل جونار. وتشهد آثاره التي ظهرت منذ 1909 (عمره حوالي 23 سنة) (¬1) أن نضجه كان مبكرا وأن موهبته كانت استثنائية، وأنه كان من القلائل الذين رجعوا إلى الجزائر برؤية واضحة عن حالة العالم العربي والإسلامي. وكانت ميوله قومية إسلامية كما يدل موشحه الذي نشره في جريدة (الحاضرة) سنة 1909 والذي عارض به موشح ابن سهل، وتساءل فيه (هل أباد اليأس جيش الأمل؟) وفي نظره أن اليأس لم يقع، لأن الحضارة الإسلامية ما تزال بخير إذا استيقظ أهلها وعلماؤها وعرفوا مكانتهم في التاريخ. ولم يكد يحل بالجزائر حتى وقعت أحداث خطيرة فيها وفي المغرب العربي والعالم الإسلامي. كان التوتر الذي أحدثه الحديث عن فرض التجنيد الإجباري، وكان ابن قدور مؤمنا بالجامعة الإسلامية والروح الوطنية فلم يرضه ذلك وكتب ضده لأن هذا التشريع لو حصل لكان على المسلم الجزائري أن يحارب المسلمين المضادين لفرنسا. كما قامت فرنسا بإبعاد واضطهاد زعماء تونس منذ 1908، وشردت عددا منهم. وقد انتصر لهم ابن قدور، رغم معارضته لبعض أفكارهم المستغربة (مثل علي باش حانبة). وكانت فرنسا تحضر لاحتلال المغرب الأقصى الذي وقع فعلا سنة 1912 وقد وقف ابن قدور ضد ذلك، كما وقف ضد الغزو الإيطالي لليبيا سنة 1911. ومن الأحداث التي هزت أركان العالم الإسلامي عندئذ الإطاحة بالسلطان عبد الحميد الثاني. ولذلك أخذ ابن قدور يبحث في البدائل ويصف الهجمة الاستعمارية على العالم الإسلامي. فانتصر أولا للوطنية باعتبارها وسيلة لجمع شمل أي شعب لمواجهة الأخطار الخارجية، لأن الوطنية في نظره هي القوة الفعالة ¬

_ (¬1) إذا تأكدنا من أن ميلاده كان سنة 1886.

في ترقية الأمم) وبها الأمم تبقى خالدة (لن تبيد أبدا) (¬1). كما دعا إلى الوحدة الإسلامية لأنها طريق الخلاص والقوة. وكذلك دعا إلى النهوض والإصلاح. أما الوسائل إلى ذلك فهي التعارف والتعاون وإنشاء الجمعيات والأحزاب. ولم يدع ابن قدور صراحة إلى الأحزاب عندئذ لأنها فكرة ما تزال غير واردة، ولكنه من الأوائل الذين دعوا إلى الجمعيات والتضامن. ففي سنة 1914 دعا إلى تأسيس (جماعة التعارف الإسلامي) بين مفكري المسلمين في الجزائر وتونس والمغرب الأقصى. ولعله كان أول المبادرين إلى هذه الدعوة بين الأقطار الثلاثة. وكان ريد ربط هذه الجماعة أو الجمعية بمثيلاتها في المشرق الإسلامي. وقد نشر هذه الدعوة في جريدته (الفاروق) 22 يوليو، 1914، وظل يكررها فيها حتى بعد أن توقفت الجريدة ثم أعادها سنة 1920 (¬2). برز عمر بن قدور في الميدان الصحفي في تونس ومصر وأسطانبول، أما في الجزائر فقد بدأ نشاطه بتولي القسم العربي من جريدة (الأخبار) الاستعمارية، إذ لم يكن في استطاعته عندئذ (1903) إنشاء جريدة باسمه، ماديا على الأقل. ثم ما لبث أن تمرس وعرف الجو من حوله فأسس سنة 1913 جريدة (الفاروق) ويبدو أنه كان داعية للتجمعات لأن العمل الفردي محكوم عليه بالفشل، ولذلك دعا أيضا إلى تكوين (جامعة الصحافة الإسلامية) منذ 1911. وقد عاشت الفاروق إلى 1915 حين اضطرت إلى التوقف تحت قوانين الحرب. والمعروف أن الدولة العثمانية دخلت الحرب إلى جانب ألمانيا والنمسا، وكان ابن قدور مع الدولة العثمانية وضد التجنيد الإجباري للجزائريين، ولذلك قادته السلطات الفرنسية راجلا من العاصمة إلى الأغواط ثم إلى عين ماضي حيث بقي منفيا إلى نهاية الحرب. وبعد ¬

_ (¬1) من مقالة له نشرها في جريدة (التقدم) التونسية، بعنوان (التقدم بقوة الوطنية) نقل ذلك محمد الصالح الجابري (من تاريخ التواصل ...) في مجلة (الحياة الثقافية) تونس، عدد خاص 32 (1984)، ص 21. (¬2) صالح خرفي (عمر بن قدور) في مجلة (الحياة الثقافية)، مرجع سابق، ص 41.

الحرب رجع إلى العاصمة سنة 1919، وحاول إعادة الفاروق في شكل مجلة، ولعله غلب على أمره ماديا، فأوقفها وانضم إلى هيئة تحرير جريدة (الصديق) التي كان يحررها محمد بن بكير والمولود الزريبي. تعاون عمر بن قدور مع الصحف التونسية قبل إنشاء الفاروق، كما تعاون معه الصحفيون والكتاب التونسيون بعد إنشائها. كتب كما قلنا في جريدة التقدم التونسية، وجريدة الحاضرة التي كان يديرها علي بوشوشة وكانت تهتم بشؤون الجزائر. أما الذين تعاونوا معه من تونس فعددهم كثير، نذكر منهم معتمده هناك السيد الطيب بن عيسى، وأحمد توفيق المدني، وحسين الجزيري، وصالح السويسي، وإبراهيم بن شعبان، وصالح النجار. ويلمح علال الفاسي إلى أن اعتقال المدني والجزيري في تونس وعمر بن قدور في الجزائر كان متزامنا تقريبا، وأن ذلك يرجع في نظره إلى ما وجدته السلطات الفرنسية من مراسلات بينهم عند تفتيش منازلهم. وعد علال الفاسي عمر بن قدور من (المصلحين السلفيين في الجزائر) (¬1). ولكن بعضهم يذهب إلى أن ابن قدور قد غيرته ظروف الاعتقال منذ 1915، فهل ذلك صحيح؟. يقول صالح خرفي إن ابن قدور قد نفي إلى عين ماضي، وتساءل، بغموض، ما إذا كان معتقله في مقر الطريقة التجانية قد تكفل بترويضه حيث (تروض النفوس الأبية) التي استعصت على الاستعمار (¬2). ويذهب آخرون إلى أن ابن قدور قد تحول إلى التصوف، ودخل في الطريقة التجانية وألف تأليفا حول هذا الموضوع سماه (الإبداء والإعادة في مسلك طريق السعادة) (¬3) دافع فيه عن الطريقة المذكورة التي دخلها على يد المقدم محمد بن التواتي ¬

_ (¬1) علال الفاسي (الحركات الاستقلالية)، معهد البحوث والدراسات العربية، مصر، 1948، ص 48. (¬2) خرفي، مجلة الحياة الثقافية (تونس)، مرجع سابق، ص 41. (¬3) عبد الباقي مفتاح (أضواء) مخطوط. وقد طبع كتاب (الإبداء والإعادة) في الجزائر سنة 1344.

الأغواطي. وقد مر بنا أن معظم شيوخ الجزائر كانوا ينخرطون في الطرق الصوفية لحماية أنفسهم، لأن من لا شيخ له لا حماية له من سوط الإرهاب الاستعماري. ولم يكن انضمام بعضهم لها عن عقيدة راسخة فيها وإنما عن تقية. والله هو علام الغيوب!. توفي عمر بن قدور مبكرا- عن 44 أو 46 سنة فقط (¬1). وكان ذلك في وقت وجدت الجزائر فيه نفسها على يد الأمير خالد وابن باديس وأنصارهما. وكان يمكن لابن قدور أن يلعب دوره ضمن المدرسة الإصلاحية التي دعا إليها من قبل، وأن يؤلف الجماعة التي كان يحلم بها - جماعة التعاون الإسلامي على مستوى مفكري المغرب العربي - ولكن شيئا ما أصاب الرجل. هل هو خيبة الأمال؟ هل خضع لترويض خاص، على حد تعبير صالح خرفي؟ أو هل هناك عوامل أخرى جعلته يخمد بعد نشاط ويعود إلى الحرم الذي عاد إليه محمد العيد أيضا بعد عقدين؟ إن وراء مصير كل واحد قدرا يسيره. ويبدو أن مصير عمر بن قدور في الإصلاح والاهتمام بالنهضة ورفض الصهيونية والاستعمار قد توقف سنة 1915 ليبدأ مصير آخر، وهو ليس بدعا في ذلك. ولنعتبر بمصير الأمير خالد نفسه والطيب العقبي ومصالي الحاج ... والعبرة بما كان يتلجلج في الصدور وليس بما تبوح به الألسنة والأقلام. ونريد أن نضيف هامشا لحياة عمر بن قدور لم نر أحدا قد أشار إليه، وهو أنه، حسب أحمد الأكحل، المعاصر له وزميله في الدراسة ربما كان قد تولى مدرسة (الشبيبة الإسلامية) بالعاصمة، التي تأسست في أول العشرينات، كما عرفنا. وهي مدرسة كونها المحسنون ورضيت عنها الإدارة الفرنسية واعترفت بها وكانت مهمتها هي تعليم اللغة العربية والدين الإسلامي للأطفال الجزائريين. والغريب أن الذي تولاها بعده هو الشاعر محمد العيد المنتمي أيضا للطريقة التجانية. فهل كانت هذه المدرسة توليفة فرنسية - ¬

_ (¬1) توفي سنة 1930 عند محمد الصالح الجابري، و 1932 عند صالح خرفي. مجلة (الحياة الثقافية)، مرجع سابق، ص 16.

تجانية طالما دعا إليها لويس رين وأضرابه من خبراء التصوف والدين في الجزائر لكبح جماح التعلق بالمشرق والحركات الإسلامية هناك، ولكبح جماح التعلق بالتيار الإصلاحي والسلفية في وقت ابن قدور ومحمد العيد؟ إن هذا مجرد تساؤل وليس لنا منه إلا الاستنتاج من التشابكات التاريخية والسياسية والدينية للوجود الاستعماري في الجزائر. ومهما كان الأمر فإن أحمد الأكحل يذهب إلى أن عمر بن قدور قد استقال من مدرسة الشبيبة الإسلامية (وأسس مدرسة قرآنية ذات نظام عصري)، وأن مدير المدرسة هو السيد مصطفى حافظ (¬1). والغريب أن أحمد توفيق المدني الذي كتب (كتاب الجزائر) في هذه السنوات (1929 - 1930) لم يتحدث عن حياة عمر بن قدور بعد الحرب سوى بعبارة موجزة عن إعادته الفاروق الجديدة وعمله في جريدة الصديق وإبعاده إلى الأغواط خلال الحرب (¬2). يكفي عمر بن قدور أنه عرف بالقضية الجزائرية في الصحافة العربية والإسلامية، وأنه وقف ضد الاضطهاد الاستعماري أثناء فورانه، وكتب عن قضايا المغرب العربي والعالم الإسلامي برؤية نهضة شاملة، ودعا إلى الوحدة الإسلامية، والفكرة القومية، والتضامن الوطني في وقت مبكر كان فيه جيله ما يزال جاهلا بها أو داعيا إلى الاندماج مع المحتل. ثم أسس ابن قدور جريدة كانت رائدة في بابها. وقد استحق على أفكاره الوطنية ومواقفه المتحدية الاعتقال والإبعاد وإيقاف جريدته. وظلت روحه الصحفية مشتعلة حتى بعد رجوعه من المنفى، ولعله عاش حالة نفسية مثبطة أقوى مما كان يحتمل أو وجد عراقيل لم يستطع تجاوزها. 2 - عمر راسم: حياة عمر راسم انفرد بها (تقويم الأخلاق) لمحمد العابد الجلالي، الذي ظهر سنة 7 192. ويبدو أن الجلالي كان يعرف عمر راسم شخصيا، ولذلك كتب عنه عن كثب ومعرفة دقيقة، سيما عن صحافته، ¬

_ (¬1) الشهاب الأسبوعية، عدد 29 نوفمبر 1928، ص 11 - 12. التوقيع هو (أ. الأكحل). وقد قرأناه أحمد الأكحل. (¬2) أحمد توفيق المدني (كتاب الجزائر)، مرجع سابق، ص 345.

وتنقلاته، وسجنه وآرائه. ولكن هناك ثغرتان في ترجمة الجلالي لعمر راسم، الأولى أنها ترجمة مبكرة لحياته تقع في منتصف عمره تقريبا، ولذلك فهي لا تغطي الجزء الثاني من هذا العمر. والثغرة الثانية أن هناك جوانب خفية لا يمكن للمعاصر أن يطلع عليها في حياة كل إنسان تقريبا، وذلك هو ما تتكفل به الوثائق والتجارب الأخرى والتي لا تظهر عادة إلا بعد وفاة الشخص وانقضاء فترة من الزمن. والواقع أن الذين ترجموا لعمر راسم بعد ذلك، مثل محمد ناصر ومحمد علي دبوز وأحمد توفيق المدني، لم يضيفوا جديدا عما قدمه عنه زميله الجلالي منذ 1927. فما يزال النصف الثاني من حياته غير معروف إلا ما أضافه عنه الشيخ المدني في المذكرات (حياة كفاح)، وهي إضافة تلحق راسم بعمر بن قدور والأمير خالد وغيرهما من الرجال الذين كانت بدايتهم ونهايتهم مختلفتين. كذلك ما زال الجانب الوثائقي لحياته غير معروف. ولا شملت أن لدى مصالح الأمن الفرنسي معلومات غزوة عنه سما وقد عاش فترة حربين عالميتين، وكان شخصا مرموقا خلال ذلك. وهناك تشابه أيضا في حياة عمر راسم وحياة عمر بن قدور. كلاهما من العاصمة وإن كان ميلاد راسم أكبر بسنتين على ميلاد زميله (ولد عمر راسم سنة 1883 أو 1884) (¬1)، وهو أصيل بجاية حسب النسبة الملصقة باسمه، وحسيب صنهاجة لأنه كان يوقع اسمه أبو منصور الصنهاجي أحيانا، (¬2) ويختلف عن عمر بن قدور في أننا نعرف أيضا نسبة عائلته ونعرف أنه هو عمر راسم بن علي بن سعيد بن محمد. ومنذ وقت مبكر أدخله والده الكتاب ¬

_ (¬1) يذكر الجلالي التاريخ الهجري، وهو 1302. (¬2) يذهب محمد شريفي إلى أن أصول عائلة راسم تركية. وأن اسم (راسم) موجود في تراجم الخطاطين الأتراك، كما ذهب إلى أن والده، علي راسم المتوفى سنة 1917 بالجزائر كان من كبار الرسامين والخطاطين. انظر محمد شريفي (اللوحات الخطية في الفن العربي)، أطروحة دكتوراه، معهد التاريخ، جامعة الجزائر. وإذا كان اسم (راسم) له ما يبرره في التراجم التركية فإن كلمة (الصنهاجي) ما تزال في حاجة إلى دليل.

لحفظ القرآن الكريم، فحفظه وهو ابن سبع سنوات على ما قيل، ويبدو أن والده كان مسموع الكلمة إذ استطاع أن يجد لابنه وظيفة (حزاب)، وهو ابن اثني عشر سنة، وهي وظيفة لم يبق منها الكثير في نهاية القرن الماضي بعد أن انحصرت الوظائف الدينية في عدد من العائلات وهدمت أغلب المساجد أو عطلت. كان راسم إذن حزابا في جامع سفير، وفي هذا الجامع تلقى أيضا، درسا في النحو على الشيخ محمد بن مصطفى خوجة الذي امتدحه عمر راسم واعتبره شاعر العصر والخبير بأحوال المشرق (¬1). وقد دخل عمر راسم مدرسة الجزائر الشرعية الفرنسية (الثعالبية فيما بعد)، ولكنه لم يقض فيها سوى سنة واحدة. نم أخرج منها في ظروف غامضة. ذلك كل ما تلقاه عمر راسم من ثقافة رسمية: القرآن الكريم، ودرس في النحو، وسنة في مدرسة وتعلم مبادئ العلوم العربية والإسلامية وبعض اللغة الفرنسية. ولكنه كان طموحا موهوبا فعزم على تثقيف نفسه، سيما وقد ذاق حلاوة العلوم والآداب والتاريخ والأخبار، وعاصر بداية الصحافة وانتشار مدرسة التجديد الإسلامي وحركة الجامعة الإسلامية. وكان قد تجاوز العشرين عندما زار الشيخ محمد عبده الجزائر سنة 1903. كما عاش الأحداث التي جرت بين اليهود والفرنسيين أواخر القرن عندما كان ماكس ريجس شيخا لبلدية العاصمة. ولعل ذلك هو ما لفت نظره إلى وضع اليهود في الجزائر الذين جنسهم الوزير اليهودي كريميو سنة 1870. وقد كتب عمر راسم مبكرا عن الخطر الصهيوني في العالم العربي، وكان مطلعا على ما تنشره الصحف الفرنسية حول الموضوع. وكان من الطبيعي أن يعارض عمر راسم فرض التجنيد الإجباري على الجزائريين، وأن يقف في ذلك، مثل زميله عمر بن قدور، ضد الفئة الإندماجية التي قبلت بالتجنيد بشرط كسب الحقوق السياسية غير ناظرين إلى مسألة الدين والرابطة الإسلامية والعلاقة مع الخلافة. وكان اهتمامه بالحياة السياسية والثقافية هو الذي دفعه إلى أن يجرب ¬

_ (¬1) انظر الترجمة محمد بن مصطفى خوجة المعروف بالكمال في فصل السلك الديني والقضائي.

الصحافة لأنها وسيلة لنشر الأفكار وتعليم الشعب. بدأ في الكتابة بالجرائد التونسية، مثل (التقدم) و (مرشد الأمة) و (المرشد). واعتبره محمد الصالح الجابري أول الكتاب الجزائريين الذين شاركوا في تحرير الصحف التونسية في أوائل هذا القرن. وترجع مقالته التي بعث بها إلى جريدة التقدم إلى سنة 1907، وهي في الواقع ليست مقالة وإنما كانت رسالة مفتوحة إلى رئيس الحكومة الفرنسية وإلى الحاكم العام بالجزائر (¬1). وواصل راسم نشره في جريدة التقدم حيث هاجم سنة 1908 منح النياشين إلى الجزائريين من يد السلطات الفرنسية مقابل الخدمات والولاء على حساب الشعب والمصلحة الوطنية، كما هاجم مساوئ الحضارة الغربية، وانتقد الفئة المندمجة لأنهم (ولوا وجوههم شطر المتسلط علينا). واتبعوا سياسة الفرنسيين المتغلبين على الوطن (¬2). ولعل عمر راسم قد نشر في (المرشد) وغيره بتونس قبل 1907 أيضا. ومنذ 1908 أنشأ عمر راسم صحيفة باسمه، وهي (الجزائر)، وقد وصفتها مجلة العالم الإسلامي بأنها جريدة بالعربية علمية أدبية وتربوية. وقالت إن (جماعة) قامت بإنشائها لتثقيف وتهذيب الجزائريين، وإنها جريدة دينية بالدرجة الأولى. ومن جهة أخرى قالت إن (الجزائر) تختار من الأخبار كل ما يهم المسلمين الجزائريين أو الذين يزورون الجزائر منهم. وكان الحديث عنها نوعا من الإعلان. لأن الجريدة طلبت من كل ذوي النوايا الحسنة بالمجلات، الإعلان عنها والتبادل معها والتعريف بها (¬3). ورغم ذلك ¬

_ (¬1) نشرها في عدد 26 ديسمبر 1907 من التقدم التونسية. انظر الجابري مجلة (الحياة الثقافية)، تونس، مرجع سابق، ص 21. (¬2) نشرها في عدد 27 فبراير 1908 في نفس الجريدة (التقدم). انظر الجابري، مجلة (الحياة الثقافية)، مرجع سابق، ص 17. (¬3) كان ذلك على إثر تلقي مجلة العالم الإسلامي للعدد التجريبي من (الجزائر). وكانت (الجزائر) تصدر أول و 15 من كل شهر. والمراسلات معها باسم عمر راسم، ومقرها شارع موقادور رقم 2 بالعاصمة، وثمن الاشتراك فيها بفرنسا والمغرب العربي 7 فرنكات. انظر (مجلة العالم الإسلامي)، اكتوبر 1908، ص 341.

فإن (الجزائر) لم تنس إلا ثلاثة أو أربعة أعداد، ويرجع اختفاؤها إلى أسباب مالية حسب الجلالي والمدني. ولماذا ذهب عمر راسم إلى مصر سنة 1912؟ إن هذا التاريخ ملفت للنظر، ذلك أن قانون فرض التجنيد الإجباري قد صدر فيه، وكانت السلطات قد منعت الهجرة إلى المشرق بالقوة على الجزائريين الساخطين، وكان لوسياني، مدير الشؤون الأهلية، قد ذهب أيضا إلى مصر وسورية وتونس، ربما في تاريخ قبل هذا، كما كان يرسل هنا وهناك من يكتب له التقارير عن أوضاع معينة كالمدارس والمحاكم والمرأة. ومهما كان الأمر، فإن (التأويلات) قد أعقبت مهمة عمر راسم في مصر. ولا أحد يستطيع أن يمنع الخيال من أن يحلق. فالبعض قال إن رحلته كانت لغرض سياسي حكومي، وقال آخرون إنها كانت لطلب العلم والاطلاع (¬1). ويرى محمد العابد الجلالي أن عمر راسم قد ذهب إلى مصر للتعرف على أحوال المسلمين لأنه بطبعه كان يهتم بذلك. ولكن من أدراه؟ على أننا لا نعرف كم دامت هذه الزيارة لمصر، وهل تواصلت إلى غيرها أيضا. ولا نعرف أن عمر راسم كتب شيئا عن رحلته المشرقية. كما يذهب الجلالي إلى أن عمر راسم قد تعاون مع عمر بن قدور على إصدار (الفاروق) سنة 1913. ثم قرر أن يصدر جريدة خاصة به سماها (ذو الفقار) أوائل 1914. ولو سافرت جهودهما لكان أفضل للبلاد. ولم يصدر من (ذو الفقار) سوى أربعة أعداد، وقد أجاب أصدقاءه الذين نصحوه بالتخفيف من حدة لهجته بأنه اتقى الشر بجعل الجريدة تحت اسم عالمين أحدهما فرنسي وهو هنري الروشفور، والثاني مسلم وهو الشيخ محمد عبده. وكان عمر راسم حسن الخط ونساخا، فاستدعته جريدة (المبشر) للعمل فيها والاستفادة من خطه، وربما كان للسلطات خطة في القضاء عليه ¬

_ (¬1) في هذه الأثناء (1912) كان الشيخ أبو يعلي الزواوي يعمل في القنصلية الفرنسية بدمشق.

أو تدجينه، كما دجنت عمر بن قدور بعد ذلك. وبدأ راسم العمل في المبشر، ثم لم يتم أن اتهم بالتورط في التعامل مع العدو، وقبض عليه وزج به في السجن يوم 13 غشت 1915، في نفس الفترة التي اعتقل فيها زميله ابن قدور. وكانت الدولة العثمانية عندئذ قد دخلت الحرب ضد فرنسا. ثم حكم عليه بالأشغال الشاقة المؤبدة، نوفمبر 1915 ولم يفرج عنه إلا سنة 1921، بعد مراجعة القضية وتدخل بعض الفرنسيين والجزائريين لصالحه. نحن لا نستغرب أن يحدث ذلك لرجل مثل عمر راسم (وعمر بن قدور)، لأن الحرب فرضت على الجميع الصمت أو العمل (المخلص) مع فرنسا، أو السجن. لم نسمع باعتقال رجال الدين والزوايا الساكتين أو المؤيدين، ولا بصوالح وتامزالي وابن التهامي الاندماجيين، ولكننا سمعنا بسجن ونفي العمرين (راسم وابن قدور). وهذا شرف لهما في ذلك الوقت لأنهما فيما يبدو ناصرا القضية الإسلامية على القضية الفرنسية. ومن سوء حظ عمر راسم أن بريده إلى جريدة. (الشعب) المصرية قد سقط في أيدي المخابرات الإنكليزية. وكان البريد عبارة عن رسالة بتوقيعات عديدة من الجزائريين لنشرها، وهي رسالة تدعو المسلمين إلى الاقتداء بالسلطان العثماني، خليفة المسلمين والتوقف عن مساعدة أعداء المسلمين. وبعد تبادل الوثائق بين الحليفتين (بريطانيا وفرنسا) وجهت هذه (فرنسا) التهمة لعمر راسم على أنه محرر تلك الرسالة. وقد حدث ذلك في الوقت الذي كانت فيه (وصايا) علماء الجزائر ورجال الدين والطرق الصوفية تنعي على تركيا دخول الحرب، وتناصر فرنسا ضدها، وتدعو مسلمي الجزائر إلى الوقوف في صف (أم الوطن) الحنينة على الجزائريين وفاعلة الخير معهم - فرنسا (¬1). ¬

_ (¬1) انظر عن ذلك فصل الطرق الصوفية. ويقول الشيخ المدني (كتاب الجزائر) ص 345، إن عمر راسم قد حوكم عسكريا، بتهمة التفاهم مع العدو. وحكم عليه بالأشغال الشاقة، ثم صدر العفو عنه بعد الحرب.

تراث عمر راسم يتمثل في مجموعة من مقالات نشرها في الصحف التونسية والجزائرية، وفي خطب قيل إنه كان يلقيها بالعربية والفرنسية. وفي مجموعة من التراجم لأعيان علماء الجزائر، ما تزال مخطوطة ولعلها ضاعت. ومن تراثه أيضا بعض اللوحات الفنية القائمة على توظيف الخط العربي الذي كان يجيده. ونحن نعتقد أن رجلا في مثل ثقافته السياسية واطلاعه وطول عمره لا يمكن أن يترك فقط هذا التراث الضئيل الذي يرجع معظمه إلى منتصف عمره. حقيقة أن عهدا من اليأس قد طغى عليه، وأن إهمالا قد أحس به، وقد وصفه أحمد توفيق المدني في المذكرات بعبارات مؤثرة (¬1). ولكننا لا نصدق أن عمر راسم قد توقف تماما عن العطاء الأدبي والفني والقلمي. فأين تراثه الكامل؟. ذكر له محمد العابد الجلالي بعض المقالات منها: (اليقظة الجزائرية) التي نشرها في جريدة (مرشد الأمة) ورد فيها على من كتب في جريدة (المشير) حول الحركة الفكرية في الجزائر. قال هذا الكاتب إن أحوال الجزائر تتحسن، ولكن راسم في رده ذهب إلى غير ذلك، وقال إنها تسوء بل في (أسوإ حال) رغم أن الجزائريين يفرحون بما يحدث في العالم الإسلامي من تغيير، وقال إن (قرننا هذا هو قرن الظلمات). واعتبر ما حدث من جديد في الجزائر إنما هو الفساد الأخلاقي والاجتماعي حتى أرغمنا على (بيع ما نملك بالثمن البخس إلى المغتصبين). وانتقد في مقالته الخطباء (السياسيين؟) والجرائد التي تكذب بالحديث عن سعادة الجزائريين، وإنما هي تدس السم في العسل. وفي نظره أن الجزائري تحت الاستعمار الفرنسي، هو (آخر الآدميين درجة) فقرا وجهاز. وكانت نظرة راسم إلى المستقبل أيضا نظرة سوداء (¬2). ¬

_ (¬1) حياة كفاح، ج 2. مع صورته. (¬2) هذا الرد نشره في جريدة المشير، 21 ربيع الأول، عام 1329 (1911). انظر (تقويم الأخلاق) للجلالي، ص 53.

وجاءت في افتتاحية العدد الثالث من جريدته (ذو الفقار) التي عنونها (بالإسلام والمسلمين) عبارات مفعمة بالثورة على الوضع العام الذي عليه المسلمون الجزائريون وغيرهم. وفي لهجة خطابية ساخنة تساءل كيف يكون المسلم مسلما في بلاد مساجدها خالية من المصلين، بينما شوارعها مملوءة باللصوص والسفلة، بلاد انتشر فيها الربى والسلب والجفاء بين أهلها، وانعدم فيها الإحسان، وكثر فيها تقليد الكافرين (الفرنسيين). ودعا راسم إلى نبذ الكسل والخمول والتوكل على الغير، وإلى التخلق بالفضيلة. وقال إننا إذا لم نعرف الأسباب التي أدت بالأمة العربية إلى القوة والسؤدد، اندثرنا. وفي نظره أن تلك الأسباب لا تخرج عن مكارم الأخلاق وأحاسن الصفات. ثم طلب من الله أن يجري في عروقنا دم السلف (¬1). أما مخطوط (تراجم علماء الجزائر) فلم نطلع عليه، ولكن اطلع عليه غيرنا (¬2)، وعرفنا منه أنه ترجم فيه تراجم مختصرة وغير عميقة لعدد من معاصريه وسلفهم، مثل محمد بن مصطفى خوجة، وحمدان خوجة، ولعله تناول أيضا شيخيه المجاوي وابن سماية. ونظن أنه يقصد (بالجزائر) العاصمة، ومن ثمة لا نتوقع أنه ترجم فيه لآخرين من علماء القطر. ولو اطلعنا عليه لعلمنا إحاطته وطريقته فيه. ولكنه عمل مفيد على كل حال، سيما إذا قورن بتراجم الحفناوي في تعريف الخلف التي تزامنت مع ظهور عمر راسم. وقبل أن يتحقق حلم عمر راسم في استقلال وطنه الذي طالما استنهضه بقلمه وخطابه، انطفأت شمعته بالعاصمة عن 75 سنة، كان ذلك عام 1379 (1959). وقد كانت البلاد في ثورة عارمة ضد المحتل، وكانت تباشير النصر قد أخذت تلوح في الأفق. ¬

_ (¬1) الجلالي، (تقويم الأخلاق)، مرجع سابق، ص 54 - 56 من جريدة ذو الفقار عدد 20 رجب 1332 (14 جوان، 1914). (¬2) اطلع عليه واستفاد منه الشيخ محمد علي دبوز.

3 - أبو اليقظان: بالمقارنة إلى زميليه عمر راسم وعمر بن قدور، كان أبو اليقظان معروفا وله شخصية محددة وآثار متنوعة وخط فكري مستقيم، وقد كدنا لا نترجم له هنا لولا غلبة الصحافة عليه سيما في النصف الأول من عمره. فخلال حوالي اثنتي عشرة سنة كان كو اليقظان يصارع الإدارة من أجل تثبيت حق الصحف العربية في الوجود والبقاء. وعندما يتكلم الناس اليوم عن حقوق الصحفيين وضحايا الصحافة يجب أن يكون أبو اليقظان من أصحاب الحق الأوائل ومن أئمة الضحايا. ولا حاجة إلى التذكير بأن حق الصحافة العربية كان يختلف عن حق الصحافة الفرنسية في الجزائر. وأبو اليقظان متعدد الجوانب، فقد كان من كتاب التراجم ومن الشعراء ومن المناضلين في السياسة ومن الباحثين في الفقه، وفوق ذلك كله فإنه كان من كتاب المقالة الصحفية ومن الذين تركوا أيضا، تأليفا في تاريخ الصحافة التي أنشأها. وسوف لا نهتم هنا إلا بنشأته ونشاطه الصحفي. ولد أبو اليقظان (إبراهيم بن عيسى) سنة 1888 في القرارة إحدى بلدات ميزاب وإحدى دوائر ولاية غرداية حاليا. وقد اشتهرت القرارة بعلمائها ومساهمتها الثقافية. ومن أبرز رجالها الشيخ إبراهيم بيوض الذي أسس معهد الحياة سنة 1925 والذي انتهى إلى ختم تفسير القرآن الكريم. وإذا كانت حياة الشيخ بيوض لا تعنينا هنا فإن حياة أبي اليقظان بدأت في القرارة حيث جفاف الصحراء وروعة الواحات وحيث يسود المذهب الإباضي، وحياة التقشف التي تكاد تصل إلى الزهد والابتعاد عن البذخ والأبهة مع الجد في العمل والقسوة على النفس. وفي القرارة درس أبو اليقظان على الطريقة التقليدية فحفظ القرآن الكريم ومبادئ الدين واللغة العربية، وربما تعلم مبادئ التجارة شأن

أهل ميزاب، وعندما حلت سنة 1912 توجه إلى تونس للدراسة في جامع الزيتونة. ولعله عاصر بعض الوقت هناك نده الشيخ عبد الحميد بن باديس الذي سبقه إلى الزيتونة ببضع سنوات، كما درس أبو اليقظان في المدرسة الخلدونية التي تردد عليها ابن باديس أيضا، وفي سنة 1914 ترأس أبو اليقظان أول بعثة ميزابية زيتونية إلى تونس، وهو تقليد سار عليه الميزابيون عدة عقود بعد ذلك، إذ تتوجه مجموعة من الطلبة إلى تونس طلبا للعلم، وتكون البعثة عادة بإشراف أقدم الطلبة وأكثرهم تجربة ونزاهة وشعورا بالمسؤولية وحرصا على مصلحة الطلبة والبلاد، وربما تأثرت البعثة بالحرب العالمية، ولكنها استأنفت نشاطها العلمي بعد 1920. وفي هذه السنة (1920) كان أبو اليقظان قد تثقف دينيا وصحفيا وسياسيا، وأصبح له رأي في شؤون الحياة. وكانت تونس تتحرك في عدة اتجاهات، ومنها الاتجاه الوطني بزعامة عبد العزيز الثعالبي، وقد سبق للثعالبي أن زار الجزائر آخر القرن الماضي، وشارك أوائل هذا القرن في حركة الشباب التونسي إلى جانب علي باشا حانبه، وكان يشتغل عندئذ بالصحافة. وأما بعد الحرب فقد نشط الثعالبي - بعد نفي الزعيم الأول من زعماء الشباب التونسي - من أجل القضية التونسية، فأسس الحزب الدستوري وسافر إلى مؤتمر فرساي لتقديم القضية التونسية، ونشر مع زملائه كتاب تونس الشهيدة. وكان الحزب الدستوري يضم عددا من الجزائريين أيضا. ومنهم بعض الميزابيين، وكان أبو اليقظان من هؤلاء، وكان الحزب (مدرسة) تعلم فيها أبو اليقظان النشاط السياسي والتوجه الوطني والنضال الصحفي. وقد رجع أبو اليقظان إلى الجزائر سنة 1925 فوجدها تمور بالنشاط الجديد والأفكار الغريبة التي تولدت عن فشل حركة الأمير

خالد، وإعلان ما سمي بالإصلاحات الإدارية والسياسية، وظهور حركة ابن باديس، والصراع بين الشيوعيين والإدارة، ومحاولات الاندماجيين ملء الفراغ الذي نشأ من نفي الأمير خالد، ومن هذا النشاط ظهور صحف جديدة في الساحة. ومنها (المنتقد) لابن باديس و (صدى الصحراء) للعقبي وزملانه، و (التقدم) للاندماجيين، و (الصديق) لابن قدور والزريبي وبكير، ولم تكد تحل سنة 1926 حتى أنشأ أبو اليقظان (وادي ميزاب) التي كانت باكورة جرائده والتي كانت تطبع في تونس وتوزع في الجزائر. ولم تكن الصحافة هي باكورة أبي اليقظان في الإنتاج، فقد سبق له أن نشر بتونس سنة 1923 كتابا بعنوان (إرشاد الحائرين) ويبدو أن هذا الكتاب يتضمن موضوعات اجتماعية ودينية. ونحن لم نجد من تعرض له بالتعريف أو النقد. ولعله هو أول كتاب ألفه، كما سبق لأبي اليقظان أن راسل الأمير خالد عندما كان الأمير في قمة شعبيته سنة 1922. ثم توالت أنشطة أبي اليقظان في الجزائر، فبالإضافة إلى الكتابة في صحفه العديدة، أسس المطبعة العربية سنة 1931، وهي المطبعة التي كانت تطبع الكتب ذات الاتجاه الوطني والإصلاحي، ولا ندري إلى الآن صلتها بالمطبعة التي أسسها محمد بكير صاحب جريدة الصديق، وشارك أبو اليقظان في تأسيس جمعية العلماء سنة 1931 ثم انتخب عضوا في مجلسها الإداري سنة 1934، وبذلك ارتبط نشاطه بالاتجاه الوطني الإصلاحي الداعي إلى النهضة ونحرير الجزائر بالإسلام والعربية. وفي هذا الإطار كان يتراسل مع زعماء الإصلاح والوطنية بالمشرق أمثال الأمير شكيب ارسلان وسليمان الباروني. وفتح صحفه

للاراء المتنوعة التي تعالج هذه الموضوعات، وتبني مبدأ تحرير المغرب العربي، فكان ينشر أخبار الكفاح الوطني في الأقطار المغاربية ونشاط زعمائها. وخص سليمان الباروني بترجمة وافية وموثقة في جزئين ط. 1965. وأصدر ديوان شعر (1931)، وكان شعره صورة لنشاطه وتوجهه الفكري، فهو شعر إخواني وإصلاحي ووصفي واجتماعي. أما دوره الصحفي وعدد صحفه وصراعه مع الإدارة فقد تناوله أكثر من واحد وهو الظاهرة الفريدة التي تميز بها أبو اليقظان، سيما الفترة الممتدة من 1926 إلى 1938. فقد كان يصدر صحيفته تحت عنوان جديد كلما منعته الإدارة من إصدار الجريدة. فكانت الأحداث تكيفه ولكنها لا تكسره، على حد تعبير أحد المعاصرين. ويبدو أن سنة 1938 كانت حداد فاصلا في هذه المعركة. وقد كانت فعلا حدا فاصلا بالنسبة لغيره أيضا، فقد فشل المؤتمر الإسلامي الجزائري (انعقد 1936) في تحقيق أهدافه، وكان على الأحزاب والجمعيات أن تعلن عن مواقفها من الإدارة الفرنسية، معها أو ضدها، بالنسبة للتحالف الدولي. وقد امتنع ابن باديس باسم جمعية العلماء من إرسال برقية تأييد لفرنسا مما أدى إلى استقالة بعض الأعضاء من المجلس الإداري للجمعية، ومنهم الطيب العقبي والأمين العمودي، فهل كان أبو اليقظان من بينهم؟ كما أن سنة 1939 قد جعلت الصحف النزيهة والوطنية تتوقف عن الصدور خشية أن يفرض عليها نشر ما لا ترغب فيه، فهل فضل أبو اليقظان السكوت، وأغلق جرائده أسوة بإبن باديس؟. ومهما كان الأمر فإن أي اليقظان قد توقف عن نشر الصحف وتفرغ للتأليف، ولا ندري متى انتقل نهائيا إلى القرارة، فهل كان ذلك عند الحرب العالمية الثانية، أو بعد ثورة 1954؟ لقد ألف أبو اليقظان

التقاويم

خلال فترة الهدوء والعزلة هذه عدة مؤلفات، بعضها ما يزال مخطوطا، ومنها (سلم الاستقامة) الذي قيل إنه يقع في سبعة أجزاء، وهو في الفقه. وتاريخ صحفه، وتاريخ الأباضية في سوف والجريد، وقد قيل إن كتبه بلغت نحو ستين مؤلفا. ورغم هذا الإنتاج الغزير والمتنوع، فإن أبرز ما ميز حياة أبي اليقظان هو العمل الصحفي الذي أخلص له كل الإخلاص، وبرع فيه كل البراعة، ومن أجل ذلك أدرجناه في هذه الفقرة (¬1). التقاويم وقد فضلنا أن ندخل التقاويم في باب النشرات الحولية. والواقع أنه لم يصدر في الجزائر بالعربية إلا عدد قليل منها أولها هدية الأخوان في موافقة التاريخين وتوقيعات الزمان وفوائد متفرقة لها شأن، تأليف محمد الصالح العنتري، وقد طبعه سنة 1847 طباعة حجرية، ويعتبر أول تقويم عربي في الجزائر حسب علمنا. وكان العنتري يعمل خوجة في المكتب العربي بقسنطينة فطلب منه الضابط الفرنسي المسؤول على ذلك المكتب، واسمه بواسوني، أن يضع تقويما يتضمن التاريخ الهجري والميلادي وأخبار العلم والدين والسياسة والأدب والحوادث الجارية ونحو ذلك، وكان هدف بواسوني إشاعة التأثير الفرنسي بين الجزائريين بذكر الغرائب لهم وكذلك بعض الفوائد الطريفة والعلمية كمدخل لتقريبهم من الفرنسيين، ومن ذلك جلب الأمثلة على التعاون المصري - الفرنسي الذي نتجت عنه فوائد للطرفين، فلماذا لا يقتدي الجزائريون بالمصريين في ذلك. كما جاء في ¬

_ (¬1) أشرنا إلى أن اخرين قد تكفلوا بدراسة اثار أبي اليقظان الصحفية ومجالاته القلمية، وعلى رأسهم صهره محمد ناصر، وكذلك صالح الخرفي، ومحمد علي دبوز، والزبير سيف الإسلام، كما نوه به ابن باديس في (الشهاب) أكتوبر 1931، وأحمد توفيق المدني في (حياة كفاح) 1/ 157.

هذا الكتاب الصغير أمثلة عن تحرر بعض العلماء مثل الشيخ حسن العطار الذي كان شيخا للأزهر، ومع ذلك كان يخالط الفرنسيين متحررا في آرائه. وقد اشتمل (هدية الإخوان) أيضا على أشعار في مدح الفرنسيين نظمها محمد الشاذلي وغيره. ومهما كان غرض بواسوني فإن هذا الكتيب الأول من نوعه قد لصق باسم العنتري (¬1). أما ثاني التقاويم فهو الذي أصدره الشيخ محمود كحول سنة 1911 وقد استمر ثلاث سنوات، وكان مفيدا للغاية ومتنوعا. وكان اسم المستعرب لويس بودي يرافق اسم الشيخ كحول. ونظرا للإتقان العلمي والفني ونظام الطبع ووفرة الصور الخ ... فإننا نعتقد أن إدارة الشؤون الأهلية هي التي كانت وراء هذا التقويم، فهي التي كانت تموله وتمده بالمعلومات والوسائل، ولكن تجربة الشيخ كحول في التعليم وفي المبشر وفي كوكب أفريقية، واطلاعه الواسع على الأدب العربي والتاريخ والدين والفلسفة جعلته يعطي (للتقويم الجزائري) - كما كان يسمى - مكانة مرموقة بين التقاويم. وقد جاء في ديباجة العدد الأول (1911) هذه الشكوى والأمل المعقود على التقويم: (ويعلم الله أننا تحملنا عبء هذا المشروع وعناءه في باكورة أعوامه، ونفوسنا تحدثنا بأنه سيلقي من عموم القراء والمشغوفين بالتهافت على رياض الأدب وحدائقه إقبالا عظيما يشد عضده .... ويؤازره على التدرج في مدارج الحياة ... ويكون ذلك برهانا ساطعا على دبيب الحياة في عروق إخواننا ونموها ... وفي ذلك حجة بالغة على تقديرهم هذا العمل الذي يكون به للجزائرية ذكر عاطر بين إخوته من الأقطار العربية: وما الحياة بأنفاس نرددها ... إن الحياة حياة الفكر والعمل) (¬2) ¬

_ (¬1) عن العنتري انظر رسالة العنتري إلى فيرو في كتابنا (أبحاث وآراء) ج 3. وكذلك كتابنا (القاضي الأديب: الشاذلي القسنطيني) وفصل التاريخ والرحلات. (¬2) مقدمة العدد الأول من (التقويم الجزائري)، سنة 1911. وكلمة (الجزائرية) تعني في ذلك الحين البلاد الجزائرية أو القطر.

وقد اطلعنا على الأعداد الثلاثة من التقويم فكانت تمثل ثروة كبيرة من المعلومات والنصوص القديمة والتراجم والصور والإحصاءات والأخبار والأشعار. أما اختيار الصور وبعض الموضوعات فهو اختيار فرنسي بطبيعة الحال، وكذلك التوجيه العام. ونذكر بأن التقويم قد صدر في عهد إدارة شارل جونار وانتهى بانتهائها (1913). والتقويم الثالث هو (تقويم المنصور) الذي أصدره أحمد توفيق المدني في تونس،، ثم واصل إصداره في الجزائر بعد نفيه إليها سنة 1925. وقد صدر من التقويم في تونس أربعة أجزاء، وصدر منه في الجزائر حوالي ثلاثة أجزاء بدأها بالسنة الخامسة منه (سنة 1929) وكان تقويم المنصور موسوعة للعلوم والجغرافية والآداب والتاريخ والسياسة والحوادث والتراجم (¬1). وقد استكتب له الشيخ المدني عناصر بارزة وأقلاما معروفة عندئذ، فأمدته بمادة غزوة في شتى المعلومات. كما أن إطلاعه الواسع واهتمامه بالتاريخ والسياسة والحوادث الجارية ومعرفته باللغة الفرنسية، ونشاطه الجم، كل ذلك جعله يوفر ثروة طائلة من المعلومات لموسوعته التي كانت تخضع لتبويب حكيم. ومن موضوعات التقويم الصادر بالجزائر: الوجود الفنيقي في أمريكا مع لوحة عليها كتابات منسوبة إلى بحارة فينيقيين. ومن الذين ساهموا فيه عندئذ: محمد العاصمي، ومصطفى بن شعبان والشيخ المدني نفسه. وكان أحمد توفيق المدني شعلة من الحيوية حركت عددا من المشاريع الثقافية والصحفية في الجزائر خلال العشرينات، ومنها إنشاء نادي الترقي سنة 1927. ¬

_ (¬1) لوحة غلاف تقويم المنصور رسمها عمر راسم، وهي إطار من الزخرفة العربية يضم العنوان واسم المؤلف. إضافة إلى أغصان متعانقة. وفي أعلى الإطار هناك النجم والهلال، وفي أسفله عبارة (العزيمة والثبات) وفي الجانب الأيمن من الإطار توقيع عمر راسم بالعربية وعلى يساره باللاتينية.

أما التقويم الرابع فهو (تقويم الأخلاق) الذي أصدره محمد بن العابد الجلالي في فاتح 1927 (1345 هـ)، وقد طبعه في المطبعة الجزائرية الإسلامية بقسنطينة، ويقع في 179 صفحة. وقد جعل شعاره مقولة الخليفة أبي بكر الصديق: (أدن من الموت توهب لك الحياة). حاثا الشباب على الإقدام والنشاط وعدم الخوف من المستعمرين. وكان دافعة في إصدار التقويم هو المساهمة في النهضة المباركة - كما قال - لعله يفي (بحق من حقوق الوطن) عليه. والمعروف أن الشيخ محمد بن العابد كان من رواد الفكر الوطني ودعاة النهوض والحرية. ولذلك كانت مقدمة التقويم ونصوصه كلها تعبر عن هذه الروح الثائرة. كان مخطط الجلالي أن يصدر التقويم سنويا، ويضمنه (أنواعا من الفوائد وفنونا من الأدب) وأولها الأخلاق التي اعتبرها عماد النهضات عند الشعوب. ولذلك أطلق على مشروعه اسم (تقويم الأخلاق)، وعرف التقويم بأنه كتاب سنوي يكون مرآة للوطن، بما فيه من خير وشر، حسب تعبيره، وقال إن من خصائص التقويم أن يضم مباحث في مختلف العلوم والآداب والنظم الإدارية وتاريخ البلاد (وروحها الوطني والأدبي) وفائدته معرفة الإنسان لبلاده ليغار عليها، ويدافع عنها، وإن غرض التقويم هو تنوير البصائر والعقول (لكي ندرك وجودنا في هذه البلاد). واعتبر الجزائري ما يزال شاخصا مندهشا كأن (الطبيعة قد قذفت به قبل الأوان). وقد تعمدنا أخذ بعض الأفكار من تقويم الأخلاق لتدرك أن الشيخ الجلالي كان متحمسا لإنشاء التقويم لا لغرض تجاري أو إشهاري وإنما بدافع وطني، وإسهاما منه في (خدمة العلم وتأييدا لنهضتنا المقدسة) كما قال. وقد بوبه إلى اثني عشر بابار وكلها على قسمين يحملان نفس العنوان وهو (مبحث الأخلاق والآداب الإسلامية). وقبل الوصول إلى هذا التقسيم جاء بعناوين مثل: القضاء الإسلامي في الجزائر، وعلم الميقات، وجغرافية الجزائر، وفي القسم الأول من مبحث الأخلاق والآداب الإسلامية أورد

الأبواب التالية: التراجم (ابن رحال وعمر راسم وابن العربي)، والأدب الجزائري، وجواب الباب العالي عن تقسيم تركيا. وفي القسم الثاني ذكر: حركة العلم، والتعريف بعقبة بن نافع، والمؤلفات، والمؤسسات الجزائرية، وقد لاحظنا أن بعض الموضوعات هي مجرد عناوين كان يريد الحديث عنها فأوعزته المادة، فيما يبدو، كما أن الصفحات في الفهرس لا تتناسب مع الموضوعات. وقد وعد بتوسيع التقويم في السنة الموالية في موضوعات مثل نظام القضاء والمجالس النيابية. وقد بدا لنا أن تقويم الأخلاق مشروع طموح أراد به صاحبه أن يشق طريقا وحده فعسر عليه لأسباب علمية ومادية. وقد قال إن فكرة التقويم بدت له فجأة، ولم تختمر في ذهنه طويلا. وإلا أراد أن يقدم به خدمة لبلاده ولو خالف، كما قال، ما توقعه الشرقيون (عرب المشرق)، وما نصحه به زملاؤه الناصحون. ذلك أن الجلالي كان يرى أن الجزائر لها خصوصية وأن الأقطار العربية الأخرى متفوقة عليها (في جميع شؤون الحياة) وأقر بأنه (لم يحذ حذو التقاويم العربية في تنظيم تقويمنا) (¬1) لأن من رأيه أن يكون تقويم كل بلاد صورة صادقة لحياتها. ورغم هذا الطموح والوعد بإصدار التقويم خلال السنة الموالية واستدراك النقص، ونحو ذلك، فإننا لا نعلم أن الشيخ الجلالي قد أصدر عددا آخر من تقويمه. وقد عاش طويلا بعد ذلك. ولعل الأسباب المادية وعراقيل الطبع قد وقفت ضده ويكيفيه أنه وضع الأساس لفكرة مختلفة عن دور التقاويم، وهي خدمة الوطن وأهله وتربية الأخلاق وغرس الروح الوطنية فيهم. ولم يصدر بعد ذلك فيما نعلم، تقويم آخر سوى مشاهدات محمد الساسي بلحاج محمد السوفي (¬2). وهو عمل قد يدخله البعض ضمن ¬

_ (¬1) انظر مقدمة تقويم الأخلاق، قسنطينة، 1927، ص 4 - 6، وكذلك ص 178. (¬2) صوره لي أخي علي من نسخة متاكلة. وجاء فيها أنه صدر سنة 1927. بينما صور =

الرحلات أو المذكرات. وقد سماه مشاهداتي في الجزائر (العاصمة)، وصدر سنة 1949، وهو عمل صغير الحجم لا يتجاوز العشرين صفحة، وكان قد كتبه ليكون مقالة في إحدى الجرائد التونسية. ذكر المؤلف أن والده من سوف وأمه من الشاوية، وقال إن من عادته تسجيل ما يشاهده حاضرا أو مسافرا. تحدث عن انطباعاته ومشاهداته في الاقتصاد والأخلاق والسياسة والمجتمع، ولكن بدون تعمق. ويبدو أم يقف مع الحركة الإصلاحية والسياسة الوطنية ضد الشعوذة والاستعمار. وقد اعتبر تاريخ 1830 نقطة تحول في (ذهاب عزنا وشرفنا وقوميتنا) واعتبر الداي حسين متهورا وأشاد بالجزائر القديمة. وذكر من الرجال الذين لقيهم في القطار وتحادث معهم في التاريخ والأدب: أبو القاسم البيضاوي، ومن الصحف جريدة (المغرب العربي) التي وصفها بالمصالية - نسبة إلى الحاج أحمد مصالي زعيم حزب الشعب - كما ذكر جريدة (الوطن) التي تصدر عن حزب البيان، (ومجلة إفريقية الشمالية) التي أصدرها إسماعيل العربي - بينما لم يذكر جريدة (البصائر). وأشار إلى جمعية العلماء والجمعية الخيرية وجمعية أهل الزقم (سوف)، بينما لم يذكر نادي الترقي. وقال إن في الجزائر ثلاث مطابع ومكتبة عمومية، وأضاف أن الإذاعة أصبحت في كل مكان. ومن ضمن المشاهدات موضوعات في الفلك وقواعد الصحة والرياضة، وعلم النبات، والتجارة والخياطة والصناعة، بالإضافة إلى حديث عن المكتبات والآثار والتربية. ونشر نفس المؤلف (مشاهداتي في قسنطينة) أيضا حوالي سنة 1955، وضمنه موضوعات شبيهة بالأولى ولكن خاصة بمدينة قسنطينة. وهو في 37 صفحة، ومن موضوعاته المدارس والأدب والأخلاق إضافة إلى الاقتصاد والجمعيات ووصف المدينة وقائمة بأسماء بايات قسنطينة خلال العهد العثماني (¬1). ¬

_ = لي أخرى سعد العمامرة، وهي المطبوعة سنة 1949، ولم نحقق الآن هذا الأمر. (¬1) أرسل إلي نسخة منه سعد العمامرة. وهي كاملة. يناير 1997.

الإذاعة والسينما

الإذاعة والسينما نشأت الإذاعة في الجزائر سنة 1928 (¬1). وكانت تغطي الأقاليم الثلاثة الرئيسية: العاصمة ووهران وقسنطينة. وكانت قوة الإرسال ضعيفة لا تتجاوز ال 500 كلم. وبمناسبة الاحتفال المئوي بالاحتلال عزم الفرنسيون على توسيع شبكة الإرسال وتدعيم قوتها حتى تصل إلى 12، 000 وات، وتصل من ألفين إلى ثلاثة آلاف كلم وكانت تسمى (إذاعة محطة الجزائر). وخطط الفرنسيون أن يجعلوا من الإذاعة وسيلة جديدة لنشر التأثير بين الجزائريين باللغة الفرنسية والعامية العربة. ونادى باحثوهم بضرورة نشر الأفكار الفرنسية بلغة الأهالي. وقد وضعوا لذلك برنامجا يشمل حصصا باللغة الفرنسية والعربية تكون في شكل محاضرات ولقاءات عن الزراعة والتجارة والأسعار في الأسواق والبورصة، وغير ذلك من الموضوعات التي تهم الجزائريين والفرنسيين معا (¬2). ورأى بعض الجزائريين، مثل السيد حشلاف، أن الفرنسيين اتخذوا (قرارا سياسيا) بمحاربة التأثير العربي (المصري/المشرقي) بدعوى تشجيع الإنتاج الجزائري من الأغاني والموسيقى. وينسب السيد حشلاف فضلا كبيرا إلى إذاعة الجزائر في تجديد الأغنية، وقال إن الإذاعة كانت تستهلك أعدادا كبيرة من الأشرطة، وأنه بفضل ذلك القرار السياسي احتفظت الجزائر بموسيقاها (العصرية الحقيقية) رغم التأثيرات التي خضعت لها. والغريب أن حشلاف لم يقل نفس الكلام عن التأثيرات الفرنسية والغربية على الموسيقى والأغنية الجزائرية، وكأن التأثير (الخارجي الأجنبي) الذي يخشى منه على ¬

_ (¬1) من الذين شاركوا في حفل افتتاحها محمد العنقاء، وكان ينافس، رغم شبابه، الشيوخ أمثال وليد سيدي سعيد. (¬2) دهي DH? وجان دينيزيه (الاتصالات البحرية والجوية والبرية في الجزائر) في (كراسات الاحتفال)، ص 38.

الموسيقى الجزائرية هو فقط التأثير المصري (العربي) (¬1). أنشأت إذاعة الجزائر خمس جوقات للعناية بأنواع الفنون الغنائية: (1): الكلاسيكية تحت إشراف محمد فخارجي، وكان يساعده أخوه عبدالرزاق فخارجي. (2): الصحراوية بقيادة أحمد خليفي. (3): العصرية بقيادة مصطفى اسكندراني، تم ظهر فيها عبد الرحمن عزيز. (4): القبائلية بإشراف الشيخ نور الدين. (5): الشعبية بإشراف محمد العنقاء. وكل جوقة كان لها عدد من الفنانين. ونلاحظ أن الإذاعة الفرنسية لم تنشئ أية جوقة للموسيقى الجزائرية أو الوطنية أو العربية، فالتقسيم العرقي والجهوي واضح حتى في هذه الفنون. ومن الأسف أن نفس التقسيم ظل موروثا حتى بعد سنوات من الاستقلال. ومع ذلك لم تتطور إذاعة الجزائر إلا بعد الحرب العالمية الثانية. فقد توسعت وتقوت. وأنشأت فرعا للقبائلية أيضا. وأصبح لها مجلة تسمى (هنا الجزائر) بالفرنسية والعربية. وكان يشرف على القسم العربي الشاعر الطاهر بوشوشي. وكانت الإذاعة تحتكر الانتاج الأدبي وتدفع أجورا مغرية للمساهمين معها، وأفسحت المجال لبعض الكتاب لكي يخاطبوا الجمهور. وأصبحت الإذاعة تنافس الصحافة اليومية، سيما بالعربية، لأن الأمية كانت تجبر معظم الجزائريين على سماع الأخبار والأحاديث منها بدل قراءتها في الصحف (¬2). كما أن الإذاعة فتحت عهدا جديدا للتمثيل. ففي كل أسبوع كانت تقدم مسرحيتين، إحداهما بوليسية، وكلتاهما بالعربية الدارجة. وكانت تقدم الأغاني الفولكلورية (¬3). وذلك ساهمت، مع المسرح، في الدعاية ¬

_ (¬1) حشلاف (مجموعة الموسيقى العربية)، 1993، ص 213، والنص مكتوب سنة 1973. (¬2) سعد الدين بن أبي شنب، مجلة (الأديب)، بيروت، عدد ممتاز، يناير 1954، والمقال نفسه منشور في مجلة (هنا الجزائر)، فبراير 1954. (¬3) سعد الدين بن أبي شنب، (الأدب الشعبي)، في (مدخل إلى الجزائر)، ص 307 - 308.

الاستعمارية من جهة والتعريف بالفنون الشعبية من جهة أخرى، ذلك أن الفرنسيين لم يكونوا يمانعون في الإبقاء على التراث المحلي بشرط أن لا يتطور إلى وسيلة وطنية وأن لا يخضع لتأثيرات غير فرنسية. وفي سنة 1952 انضم عبد الكريم دالي المولود في تلمسان سنة 1914، إلى جوق الإذاعة الذي كان يشرف عليه محمد فخارجي. وكان دالي ماهرا في الموسيقى الغرناطية والحوزي. وكان معاصرا للعربي بن صاري في تلمسان ومن المعجبين به، غير أن المشاركة في مؤتمر القاهرة سنة 1932 سببت القطيعة بينهما حين اختار ابن صاري ابنه للمشاركة فيه وأهمل دالي (¬1). ... ظهرت السينما في آخر القرن الماضي، ووصل نشاط المخرجين الفرنسيين إلى الجزائر. وأخذوا يصورون فيها الأفلام القصيرة والوثائقية ونحوها. وقد اهتموا بالمناظر الطبيعية المثيرة وألعاب الفروسية وحفلات الزواج التقليدية في المدن والأرياف، سيما في بو سعادة وبسكرة. وكانت بعض المناظر تربط بين حياة الجزائريين وحياة الشرق مثل فيلم (علي بابا). كما أن إخراج الأفلام لم يقتصر على الجزائر بل شمل المغرب العربي. ومن يرجع إلى كتاب (الحريم الكولونيالي) لعلولة يدرك اهتمامات المصورين الفرنسيين في بداية هذا القرن (¬2). وبين نهاية الحرب العالمية الأولى وسنة الاستقلال (1962) أنتج الفرنسيون أكثر من 200 فيلم عن الجزائر والمغرب العربي عموما، بما في ذلك الأفلام القصيرة. وهي تمثل ثروة فنية وشعبية عن السكان والأرض وتاريخ الاحتلال وأسلوب المعاملة والتفرقة العنصرية والعبث بالإنسان (الأهلي) وإظهار التفوق الحضاري الفرنسي. وكل هذه ¬

_ (¬1) عن هذه الظروف انظر فقرة الموسيقى. (¬2) علولة (الحريم الكولونيالي)، 197. يحتوي على صور تاريخية بريدية كان الإعلام الفرنسي يوزعها على العالم، ومنها مناظر مؤذية عن المرأة في شتى الأشكال.

الأفلام كانت من إنتاج فرنسي - غربي وليس فيها إنتاج جزائري تقريبا. ولاحظ أحد الكتاب أن هناك خطة مرسومة لمنع الأهالي من دخول هذا الميدان حتى لا يشوهوا الصورة التي أراد الفرنسيون تقديمها عن أنفسهم كسمتعمرين. وقد قيل إن أول فيلم كبير صور في الجزائر هو الذي أخرجه جاك فيدير FEYDER سنة 1921. وكان هذا المخرج قد جاء إلى الجزائر ومعه خمسة وعشرون فنانا، وجلب حوالي ستين من التوارق ومعهم المهاري، بالإضافة إلى عدد آخر جنده فيما بعد. واستغرق تصوير الفيلم (اطلنطيد) ثمانية أشهر، وصرف عليه مليوني فرنك بنقود ذلك الوقت. وأقام فيدير شهرين في تقرت والأوراس وجيجل لتصوير المناظر. وقيل إن الفيلم قد نجح نجاحا منقطع النظير حتى أن عرضه في باريس استمر سنة كاملة. ثم أخذ الفيلم يجول العالم، وقد عرض في أمريكا بعنوان (الأزواج الغائبون) (¬1). والظاهر أن الهدف من الانتاج السينمائي الفرنسي في الجزائر كان هو التركيز على الإثارة والغرابة لجلب المال والمتاجرة. وكان احتكار الإنتاج قد قطع الطريق عن الجزائريين الذين لهم ميول معادية للاستعمار. وقد درس عبد الغني مغربي تاريخ السنما الفرنسية في الجزائر وخرج بنتائج مهمة. فلاحظ أولا أن الجماهير لم تكن قد تأثرت بالسينما، لأن معظم الدور المخصصة لها كانت في المدن الساحلية حيث الجالية الفرنسية. ولاحظ ثانيا أنه منذ 1895 أرسل لوميير مصوريه إلى الجزائر لالتقاط المناظر وتصوير أفلام قصيرة بلغت العشرة، ومنها أفلام: المؤذن، والحمار، والسوق العربية، وساحة الحكومة، وشارع باب عزون. وبعد سنة واحدة افتتح لوميير انتاجه وعروضه في الجزائر. وقد اهتم بعض الجزائريين بهذا الفن ولكن عددهم كان قليله. ومنهم الطاهر حناش الذي عمل في التصوير ¬

_ (¬1) مارتن استيه لطفي M. A. Lautfi (شمال أفريقية في السينما الفرنسية 1895 - 1921) في (وقائع الاجتماع الرابع للجمعية الفرنسية للتاريخ الاستعماري) أبريل 1978، ص 132 - 137.

السينمائي وشارك في تمثيل بعض الأفلام. وعمل مصورا إلى جانب كبار المصورين السينمائيين الفرنسيين. واستطاع الطاهر حناش أن يخرج بنفسه فيلمين وثائقيين بعنوان (قسنطينة) و (غواصو الصحراء). كما لاحظ عبد الغني مغربي أن السينما الفرنسية كانت استعمارية في مواضيعها، وكانت مناظرها سياحية بالدرجة الأولى. وكان وجود الإنسان الجزائري فيها جزءا فقط من الديكور الاستعماري وجلب السخرية من الأهالي. وتدل أفلام المخرج وجورج ميليس على أنه كان يشوه وجه الجزائري بأفلامه، وتدل عناوينها على ذلك. ومنها (المسلم المضحك) و (علي يأكل الخبز بالزيت) و (علي بولحية)، الخ. وقد لخص عبد الغني مغربي المواضيع التي دارت حولها السينما الاستعمارية فكانت هي: 1 - السخرية من المستعمر (بالفتح) مثل الأفلام التي ذكرناها. 2 - الاختلاط الجنسي، ومنها فيلما أرواح مسورة، وأوجه مبرقعة. 3 - الغراميات المثيرة، ومنها الماسة الخضراء، وصراع بين رجلين، والرمال. 4 - رسم المستعمر (بالكسر)، ومنها البلد، والأمير جان، والمغامر، وفي أفق الجنوب. 5 - المرأة المستعمرة، ومنها في ظل الحريم، والشهوة، والمرأة والعندليب. 6 - الصليب في خدمة المستعمر، ومنها نداء الصمت، والطريق المجهول. 7 - السيف في خدمة المستعمر، ومنها الرقيب والمنبوذون، ووسام الشرف، وواحد من اللفيف. 8 - المنحرفون الأوروبيون، ومنها الرمال المتحركة، وريح السموم. وكان من نتائج هذه السينما التأثير على بعض الفئات الاجتماعية، وربما شعر بعض المشردين سياسيا أن الصورة التي رسمها لهم المستعمرون

المطابع

هي صورتهم الحقيقية، وربما كان منها أيضا محاولة البعض أن يعيشوا كالفرنسيين في كل شيء (الاندماج) حتى تزول عنهم الصورة المشوهة. وقد لاحظ مغربي أن هذه الفئة كانت قليلة أو شاذة (¬1). المطابع قلنا إن المطبعة في الجزائر نشأت مع الاحتلال الفرنسي ولم تكن معروفة قبله. وأول مطبعة هي المسماة (الأفريقية) والتي حملت أثناء الحملة على إحدى السفن، وهي التي طبعت عليها الجريدة العسكرية (الاسطافيت) بمرسي سيدي فرج، في شهر يونيو 1830. وقد تحولت تلك المطبعة إلى مطبعة رسمية تابعة لجهاز الإدارة الجديدة، تطبع فيها المراسيم والمنشورات ونحوها. وفي 1832 جاء المتصرف المدني، جنتي دي بوسيه، بمطبعة عربية - فرنسية. وقد طبعت فيها جريدة (المونيتور) الجزائري، والمعاجم الأولى - فرنسية - عربية. والظاهر أن جريدة (المبشر) التي صدرت سنة 1847 كانت تطبع أيضا في المطبعة الرسمية قبل أن تطبع في عدة مطابع أخرى خاصة، ومنها مطبعة فونتانة. ويقول دي بوسيه إن الفرنسيين ركبوا الحروف الأبجدية المغاربية لاستعمالها في الجزائر، وإن الحكومة اقترحت استعمالها في المطبعة الملكية التي كان يشرف عليها أوبيتي OPPETI، منضد مطبعة الحكومة. وأنشئت لجنة برئاسة دي ساسي تضم المستشرقين البارزين في بلاط فرنسا لتصنع برنامجا لمعاجم النحو العربي/ الفرنسي والفرنسي/ العربي. أما المطابع الفرنسية الخاصة فقد كانت كثيرة. وكانت معدة لطبع كل شيء، بما في ذلك الجرائد والكتب والمنشورات والبطاقات والسجلات ¬

_ (¬1) عبد الغني مغربي (الجزائريون في مرآة السينما الاستعمارية)، الجزائر 1982. انظر عبد الحميد بن هدوقة (علاقة الأدب). ضمن كتاب (مظاهر من الثقافة الجزائرية) منشورات المركز الثقافي الجزائري، باريس 1986، ص 162 - 164.

التجارية والإعلانات. ومع إنشاء المطابع توسعت حركة النشر (¬1). وقد أصبح في كل مدينة رئيسية مطبعة فرنسية تجارية. ومن أقدمها مطبعة براشيه وباستيد التي نشرت سنة 1833 كتابا في النحو العربي وكتبا دراسية أخرى. ثم تحول اسمها إلى مطبعة باستيد وجوردان، بعد أن تولاها أدولف جوردان، ذلك الطابع والناشر والكتبي الذي اشتهر اسمه فترة طويلة. وكان مقرها في ساحة الحكومة (الشهداء حاليا)، ثم تحولت إلى مطبعة كاربونيل، وانتقلت إلى ناحية باب الواد - قرب مستشفى مايو القديم. وفي البليدة تأسست مطبعة بروسبير روادو، ولكنها انتقلت سنة 1853 إلى سيدي بلعباس. وحل محلها في البليدة الطابع موجان. وفي 1891 بدأ روادو الطباعة بدل التصفيف Litho، وكان ينشر عدة صحف كتلك التي تطبع في ولاية وهران، مثل صحيفة (جنوب وهران). وقد ظهرت في وهران أيضا مطبعة هاينز منذ 1875 وأصبحت من أشهر المطابع. وفي الجزائر ظهرت مطابع أخرى سنة 1853، مثل بودري بورجي. وفي 1866 مطبعة بودري. وبين 1871 و 1880 ظهرت مطبعة لوميرسييه التي تخصصت في طع الكتب العسكرية. وتكاثرت بعد ذلك المطابع - عهد الجمهورية الثالثة - فكانت مطبعة فونتانة، وأمبير، وغيشين، الخ ... كما ظهرت مطابع تطبع بالعربية مثل القبطان، وسارلين. وهناك مكتبات أصبحت تتولى النشر أيضا، مثل مكتبة باكونيه الذي أنشأ فروعا. من المكتبات التابعة له، وقام بنشر كتب ذات صور دقيقة. كما نشرت مكتبة شارلو كتبا أيضا لأدباء فرنسيين نشأوا في الجزائر أمثال ألبير كامو وروبلس. ومن المكتبات الناشرة (الطابعة) في وهران، روادو المذكورة، وكذلك لوفوك، وفي قسنطينة أرنولية، وفي البليدة موجان. وحسب إحصاء جرى سنة 1957، فإن عدد المطابع الفرنسية في الجزائر بلغ 280 مطبعة كانت تشغل 4500 عامل (¬2). ¬

_ (¬1) في 1938 نشر السيد هيرمان فيوري بيبلوغرافية عن الكتب التي طبعت في مدينة الجزائر فقط خلال العشرين سنة الأولى للاحتلال. (¬2) قوانار (الجزائر)، مرجع سابق، ص 287. وكذلك ج. بيلي (عندما أصبحت =

وإذا عدنا إلى الكتب الصادرة في مختلف المدن الإقليمية فسنلاحظ أن بعضها كان مطبوعا في مطابع محلية صغيرة مثل المطبعة الحجرية التي طبع فيها العنتري هدية الإخوان والفريدة المؤنسة في قسنطينة. وهناك أخرى في عنابة ووهران والعاصمة. كما أن الكثير من الكتب العربية والجرائد التي صدرت عن الحكومة العامة أو بوحي منها كانت تطبع في مطابع فرنسية خاصة بدعم من الحكومة العامة، مثل مطبعة فونتانة ومطبعة جوردان ومطبعة كاربونيل التي نجد اسمها على الكتب التي حققها ابن أبي شنب، وتعريف الخلف للحفناوي، وبستان الأزهار للقلعي، وترجمات لوسياني، وفوربيقي وغيرهم. وكان ظهور المطابع العربية متأخرا ولا يعود إلا إلى أواخر القرن الماضي. ونعني بها تلك المطابع التي أنشأها جزائريون لطبع صحفهم ومنشوراتهم. وكان ذلك يتطلب مالا وعلما وصيانة، وهو ما لم يكن متوفرا للجزائريين قبل الحرب العالمية الأولى. وقد أعجب الجزائريون بالمطابع ورأوا فيها إحدى العجائب، ولا ندري إن كان بعض العمال منهم قد اشتغلوا في إحداها قبل 1900. وكان صحفيو المبشر من الجزائريين يمارسون التصحيح. ويتابعون إخراج الحروف، ولكنهم لم يحاولوا تأسيس مطبعة إلا بعد الحرب الأولى. لقد سجل عن الأمير عبد القادر أنه زار المطبعة الرسمية بعد إطلاق سراحه سنة 1852. وسحبت أمامه الرسالة التي كتبها إلى نابليون. ورأى حركة الآلات وتصفيف الحروف وسمع أصوات الدواليب فسجل إعجابه الكبير بالمطبعة في عبارات وجهها إلى مديرها (سان جورج) قال فيها (وبعد فإننا زرناكم فرأينا من صنعتكم شيئا ما بقي لنا أن نتعجبوا (كذا) من شيء بعده) (¬1). ¬

_ = الجزائر)، مرجع سابق، ص 247. (¬1) مخطوط باريس، عربي، رقم 7123. والرسالة ترجع إلى فاتح محرم 1269 (1852)، ص 93. وكانت زيارة الأمير للمطبعة المذكورة يوم 6 نوفمبر 1852، رفقة ابن علال والبارون بواسونى.

ولكن الكتاب العربي المطبوع كان يتسرب إلى الجزائر من سورية ومصر. فقد كان الفرنسيون يتعاملون مع بعض تجار الكتب من المشرق. ووراء ذلك عوامل دينية وسياسية وتجارية. فالقناصل الفرنسيون كانوا نشطين في المشرق يتعاملون مع أرباب المطابع لتحسين سمعة فرنسا من جهة ولربط علاقات تجارية معهم من جهة أخرى. وكان المستشرقون الفرنسيون في الجزائر وغيرها في حاجة إلى معرفة ما صدر في المشرق. وكانت بعض الدور الناشرة ذات تأثير فرنسي ولا سيما في بيروت. ولذلك قرأنا في أخبار ذلك الوقت أن الحاج إبراهيم سراج كانت له مكتبة في المشرق وأن السلطات الفرنسية قد سمحت له بالمتاجرة معها في الجزائر. ولا ندري ما مقابل ذلك (¬1). كما جاء في المراسلات التي ترجع إلى 1307 هـ أن أحد المهاجرين الجزائريين، وكان من سيدي عقبة واسمه أحمد السنوسي، كان يبيع الكتب في الجزائر، ويبدو أنه كان يتردد عليها. ولعل بيع الكتب كان غطاء فقط لعمل آخر. وكان أحمد السنوسي هذا يتنقل بين مصر والمدينة المنورة حيث كانت له دار هنا وهناك للتجارة، وإن أحد أخوته، وهو علي السنوسي، كانت له تجارة في مصر أيضا وكان يتعامل مع أحد أبناء سوف واسمه عمارة بن مسعود السوفي (¬2). وفي هذا النطاق تأتي أنشطة الإخوة رودوسي الذين كانوا أيضا يتعاملون في الكتب بالمشرق، ومنه إلى الجزائر، ثم من تجارة الكتب إلى إنشاء مطبعة. فأول مطبعة عربية في الجزائر إذن هي مطبعة رودوسي قدور التي أصبحت تعرف فيما بعد باسم المطبعة الثعالبية. كانت بدايتها في آخر القرن ¬

_ (¬1) انظر المبشر، 2 يوليو، 1878. (¬2) من رسائل محمد وعلي السحنوني في الحجاز إلى ابن عمه محمد السعيد في الجزائر. أوراق علي أمقران السحنوني، رسالة منه إلي في 23 فبراير 1981.

الماضي (حوالي 6 189). وكان رودوسي مراد وقدور من سكان جزيرة رودس، ويتاجران في الكتب مع لبنان ومصر وغيرهما. وربطا علاقات مع السلطات الفرنسية في تجارة الكتب من المشرق. وسمح لهما في عهد جول كامبون بالاستقرار في الجزائر والمتاجرة في الكتب، سيما الاستيراد. وبعد استقرارهما أنشأ مطبعة وفتحا مكتبة، وتخصصت المطبعة بالتدرج في الكتب الدينية وكذلك المصحف الشريف. وفتحت فرنسا لهما الطريق إلى افريقية أيضا، فراجت كتب المطبعة الثعالبية في غرب افريقية والمستعمرات الفرنسية الأخرى، كما اشتهرت في تونس والمغرب الأقصى. واختص رودوسي بحروف خاصة يطبع بها المصحف الشريف وغيره، مثل تفسير القرآن للثعالبي، وكشف الرموز لابن حمادوش، والكنز المكنون في الشعر الملحون، وبعض التراجم والأعمال الفقهية. والغالب أن الخطاط لهذه الأعمال هو الشيخ السفطي. وقد ارتبط رودوسي بالمصاهرات العائلية في الجزائر مع العائلات ذات الأصل العثماني، ومنها عائلة ابن أبي شنب، وتوسع نشاطه العلمي. وكان مقره في وسط الحي العربي بالقصبة، في شارع مصطفى ن إسماعيل المتفرع عن شارع لالير سابقاو (أحمد بوزرينة حاليا). وفي غياب المكتبات العربية كانت مكتبة رودوسي محطة للأدباء والعلماء أوائل هذا القرن (¬1). وبعد الحرب العالمية الأولى أنشأ بعض الجزائريين المطابع في العاصمة وقسنطينة ومستغانم ووهران وبسكرة. ولم يكن إنشاؤها بقصد التجارة ونشر الكتب، ولكن لطبع الصحف التي عزموا على إصدارها حتى لا يبقوا عالة على المطابع الفرنسية. ومع ذلك عانت المطابع الجزائرية من الافتقار إلى اليد الخبيرة، ومن الحاجة إلى المال. وقد عرفنا أن بعض الصحف ما كانت لتنجح لولا الدعم الشخصي أو العائلي مثل مطبعة ابن باديس، ومطبعة أبي اليقظان. وقد قلد الجزائريون الفرنسيين أيضا في طبع ¬

_ (¬1) انظر بحث سعد الدين بن أبي شنب (النهضة العربية في الجزائر)، في مجلة كلية الآداب، العدد الأول 1964.

الصحف والكتب في مطابعهم فكانت المطبعة الجزائرية الإسلامية بقسنطينة لا تطبع الشهاب والبصائر فقط ولكن تطبع أيضا الكتب مثل كتاب تاريخ الجزائر للشيخ مبارك الميلي، ورسالة الشرك له، وتقويم الأخلاق لمحمد بن العابد الجلالي، وكذلك الكتب الدينية مثل المنظومة الرحمانية وغيرها. كما طبعت المطبعة العربية في العاصمة صحف الشيخ أبي اليقظان وبعض مؤلفاته، ومؤلفات الشيخ أحمد توفيق المدني مثل كتاب الجزائر، وصقلية، وقرطاجنة الخ. ورغم أهمية مطبعة النجاح في قسنطينة فإننا لا نعلم أنها ساهمت في طبع الكتب، ولعلها فعلت. وكانت مطبعة البلاغ في مستغانم تطبع الجريدة كما تطبع مؤلفات الشيخ أحمد بن عليوة. وهكذا كانت المطبعة وسيلة لطبع الصحف من جهة وتشجيع حركة نشر الكتب من جهة أخرى. ومع ذلك لم تبلغ المطابع الجزائرية عندئذ درجة عالية من التقدم الفني والفني. وقد أتيح لنا رؤية بقايا المطبعة الإسلامية في قسنطينة منذ سنوات، فتعجبنا من وجودها في حجرة ضيقة لا تتسع إلا لثلاثة أو أربعة من العمال، وكانت الآلات بسيطة مع ذلك بالنسبة للمطابع الضخمة التي رأيناها في العاصمة. ونظرا لهاتيك العوامل كلها كان الجزائريون يلتجئون لطبع كتبهم غير المدعومة من الحكومة العامة، في تونس أو مصر، مع ما يكلف ذلك من مشقة مالية وتجارية وفنية. وهذه هي المطابع التي أمكننا التعرف على أسمائها وأصحابها وأماكنها (بالإضافة إلى ما أشرنا إليه): 1 - المطبعة الجزائرية الإسلامية: في قسنطينة، أنشأها الشيخ عبد الحميد بن باديس، وعهد بها إلى الشيخ أحمد بوشمال، أحد أنصاره وأتباعه المخلصين وأحد أعيان قسنطينة الذين ظلوا على ولائهم لجمعية العلماء والفكر الإصلاحي بعد وفاة ابن باديس. طبعت المطبعة الإسلامية صحف ابن باديس وهي المنتقد والشهاب، كما طبعت البصائر في وقت لاحق. وكذلك طبعت جريدة صدى الصحراء التي كانت تصدر في

بسكرة وتوالي حركة ابن باديس. وحاول العقبي أن يطع فيها جريدته (الإصلاح) فلم يفلح. وتعاملت المطبعة الإسلامية مع زبائنها على أساس تجاري أيضا فطبعت الكتب والبطاقات والدعوات ونحوها. 2 - مطبعة النجاح: تأسست أيضا في قسنطينة سنة 1919، وصاحباها هما عبدالحفيظ بن الهاشمي ومامي إسماعيل، وهما أيضا صاحبا جريدة النجاح. ويقول الشيخ المدني عن المطبعة بأنها من أحسن المطابع وأنها. وكانت النجاح تطبع أسبوعيه ثم صارت يومية مما يبرهن على استعداد المطبعة لمثل هذا العمل المكثف. ولا ندري إن كانت قد طبعت كتبا أيضا، أما الأعمال التجارية الأخرى فنعتقد أنها كانت تقوم بها (¬1). 3 - المطبعة العربية: بالعاصمة، يبدو أنها من إنشاء أبو اليقظان (¬2). ولعلها مشروع اشترك فيه التجار الميزابيون وغيرهم. وهم أصحاب مبادرات مفيدة من هذا النوع. وكانت المطبعة العربية هي التي تطبع الصحف التي أنشأها الشيخ أبو اليقظان منذ 1926 (انظر حديثنا عن الصحف)، كما طبعت مجموعة من الكتب. وكانت المطبعة تقع في القصبة (شارع روفيقو سابقا - ذبيح الشريف الآن) وقد بقيت إلى عهد الاستقلال، ثم نقلت إلى وادي ميزاب (غرداية). 4 - مطبعة البلاغ: كانت جريدة (البلاغ الجزائري) تطبع في مستغانم ثم نقلت إلى العاصمة. وكانت المطبعة والجريدة باسم الطريقة العليوية. وكان المشروع في البداية وطنيا ومستنيرا. كما أن هذه المطبعة تعتبر الأولى من نوعها في هذا المجال، إذ كانت الطرق الصوفية قبل ذلك غير مهتمة بالطبع ¬

_ (¬1) رسالة الباحث أحمد مريوش، مخطوطة. والمدني (كتاب الجزائر)، ص 347. (¬2) ذكر دبوز (نهضة) 2/ 271 أن المطبعة العربية قد أنشأها في العاصمة محمد بن بكير والحاج محمد بن مسعود بابا عمي وسليمان بن ناصر حسني، الخ. وكان الغرض منها طبع تراث الجزائر المخطوط ونشر صحيفة عربية. وقال إنها دامت إلى 1923. فهل هي التي أصبحت مطبعة الشيخ أبي اليقظان بعد ذلك؟.

والنشر كوسيلة إعلامية. ولا ندري من كان صاحب الفكرة في هذا المشروع (¬1). 5 - المطبعة العلمية: أسسها الشيخ الطيب العقبي في بسكرة لطباعة جريدته (الإصلاح) بعد أن عجز عن طبعها في تونس وفي قسنطينة، وسماها (العلمية)، وكانت ضعيفة التجهيز مع ذلك، وقد طبع فيها العدد الثاني فقط من الجريدة. ثم تعثر المشروع، وقيل إنه اشتراها بقروض اقترضها من المحسنين والأنصار أمثال عائلة الشيخ خير الدين ومحمد العيد والأمين العمودي. وقد ظهر العدد الثاني في 5 سبتمبر 1929، أي عشية انتقال العقبي إلى العاصمة نهائيا. ويذهب الشيخ المدني إلى أن (أيدي الإهمال والفساد) قد استولت على المطبعة. 6 - مطبعة المغرب العربي: أعلن الشيخ حمزة بوكوشة سنة 1937 عن إنشاء مطبعة عربية بوهران تسمى مطبعة المغرب العربي. وجعل ذلك (بشرى لمحبي اللغة العربية) وجاء في الإعلان أنها تطبع كل أنواع الكتابة باللغتين. ولا ندري ما إذا كانت المطبعة مشروعا تجاريا عاما، أو كانت فقط مطبعة لطبع جريدة المغرب العربي التي كان يرأس تحريرها حمزة بوكوشة بالتعاون مع محمود بلة. كما لا ندري مصير هذه المطبعة (¬2). ولعل جريدة (الوفاق) التي أنشأها محمد السعيد الزاهري في وهران كانت تطبع في هذه المطبعة أيضا. كما اشترت جمعية العلماء (مطبعة البصائر) سنة 1954. وبذلك استغنت عن طباعة جريدتها في المطابع الفرنسية، وتعتبر هذه المطبعة من المشاريع الهامة التي أنجزتها الجمعية. ولكن الحديث عنها ليس هذا ¬

_ (¬1) عن بحث الشيخ ابن عليوة عن مطبعة لطبع كتابه (المنح القدوسية) انظر لنغر الشيخ أحمد العلوي، ص 67 - 69. وكان ذلك حوالي سنة 1908. وربما كان ذلك هو السبب في المبادرة بإنشاء مطبعة. (¬2) جريدة المغرب العربي، العدد 4، 18 يونيو، 1937. كان مقر المطبعة، حسب الإعلان، هو شارع كافينياك، رقم 33، وهران.

الجمعيات والنوادي الثقافية

موقعه (¬1). ولا شك أن مشاريع طباعية أخرى قد ظهرت في الجزائر بعد الحرب المذكورة. وكذلك المكتبات التي تولت شؤون النشر، مثل مكتبة النهضة، ودار الكتب. الجمعيات والنوادي الثقافية الجمعيات والنوادي ظاهرة اجتماعية تدل على النضج والاستجابة لمتطلبات الحياة المدنية الحديثة. والجزائر التي كانت تعيش تحت تعسف قانون الأهالي البغيض (الاندجينا) لا يمكنها أن تتمع بهذا النشاط دون أن يتعرض القائمون عليه للاضطهاد والسجن. ومن جهة أخرى فقد كان الجزائريون محرومين من صفة وحقوق (المواطن) فقد كان القانون الفرنسي يعتبرهم (رعايا) ولا يمكنهم أن ينشدوا الحرية ولا الحقوق المدنية ولا السياسية، ولا حتى الجمعيات والنوادي الثقافية والفنية دون ملاحقة القانون التعسفي. وقد كنا تناولنا دور الجمعيات والنوادي في مناسبات أخرى، باعتبارها ظاهرة اجتماعية تدل على اليقظة والنهضة (¬2). ويهمنا الآن جانب واحد من نشاطها وهو النشاط الثقافي والفني. ويبدو أن أول ما بدأ هذا النشاط كان بمبادرات فرنسية من فرنسيين متعاطفين مع القضايا الجزائرية أو بدفع من الإدارة الأهلية نفسها لأغراض تتماشى مع سياسة العناية بالجزائر الأهلية التي جاء بها شارل جونار بالخصوص، وسانده في ذلك دومينيك لوسياني. ذلك أن معظم الجمعيات والنوادي التي ظهرت لأول مرة كانت خلال العشرية ¬

_ (¬1) انظر كلمة الشيخ الإبراهيمي عن هذه المطبعة في البصائر 3/ 9/ 1954. (¬2) انظر كتابنا (دراسات في الأدب الجزائري الحديث)، ط 3، تونس 1983. وكذلك الحركة الوطنية، ج 2، وتناول غيرنا ذلك في عدة مناسبات، مثل سعد الدين بن أبي شنب، ومحمد علي دبوز، وأحمد توفيق المدني، ومحمد ناصر، وعمار هلال. انظر أيضا رسالة الباحث عبد المجيد بن عدة (مظاهر الإصلاح ...)، ورسالة الباحث أحمد مريوشں (الشيخ الطيب العقبي).

الأولى من هذا القرن. أما قبل ذلك فلم يكن يوجد سوى نوعين من الجمعيات المدعومة من الحكومة العامة أيضا، وهي الجمعيات الخيرية التي تتولى الاشراف على توزيع المساعدات الخيرية والصدقات على الفقراء في المدن، والثانية جمعيات الاحتياط التي تتألف عادة من المزارعين لحماية الفلاحين في السنوات العجاف (¬1). أعطت السلطة الفرنسية إذن الضوء الأخضر لتكوين الجمعيات التعليمية والاجتماعية منذ أول هذا القرن. فظهرت في العاصمة عدة تنظيمات أبرزها الجمعية الرشيدية والجمعية التوفيقية. وقد رأسها في الظاهر بعض الجزائريين المتجنسين بالجنسبة الفرنسية والمتخرجين من المدارس الفرنسية، أمثال د. بلقاسم بن التهامي، ومحمد صوالح، ود. الطيب مرسلي، ومختار الحاج سعيد، والشريف بن حبيلس. فظهور الجمعيات إذن كان في أوساط المثقفين بالفرنسية المعروفين بالاندماجيين. وقد اندفع معهم عدد آخر من المثقفين بالعربية ومن رجال الدين فساندوهم بإلقاء محاضرات في موضوعات محددة، ومنهم: المفتي ابن الموهوب في قسنطينة والمجاوي في العاصمة والقاضي شعيب في تلمسان. والموضوعات التي عالجتها هذه الجمعيات لم تدخل ميدان المسرح والتمثيل ولا الحياة الفنية. وإنما دخلت ميدان التعليم والتوعية وتنشيط ¬

_ (¬1) الجمعيات التعاونية كانت موجودة قبل الاحتلال وظلت موجودة بعده إلى حوالي 1850 حين حلها الفرنسيون خوفا منها. كما أن الباحثين تحدثوا عن جمعيات سرية مثل الجمعية الدينية التي ظهرت في السبعيات وتراسلت مع السلطات العثمانية. انظر عبد الجليل التميمي (بحوث)، تونس 1972. وقد وجدنا ما يدل على أن الأمير مصطفى فاضل - وهو أخو الخليوي اسماعيل والي مصر، كان له دور في الجمعية الدينية التي تراسلت باسم الجزائر مع السلطان العثماني طالبة منه العون ضد فرنسا، وقد ثبت أيضا أن ابنة الأمير المذكور كانت متزوجة من خليل بوحاجب بن سالم بوحاجب العالم والمصلح التونسي الذي تعاون مع خير الدين باشا التونسي في إصلاحاته خلال السبعينات. وعندما زار الشيخ محمد عبده تونس زيارته الأولى سنة 1884 نزل عند خليل بوحاجب وزوجته الأميرة نازلي.

الشباب وحمايته من الانحراف وحثه على العمل. نظمت المحاضرات باللغتين، وعالجت قضايا الفكر المعاصر من تراث وطب واختراعات وأدب وتاريخ. وشارك رواد الاتجاه الاندماجي (النخبة) بقسط وافر في هذا النشاط (¬1). وقد قيل عن الجمعية التوفيقية بأنها (ودية خيرية وتعليم أدبي وعلمي). وكان نادي صالح باي في قسنطينة من صنف هاتين الجمعيتين. أما من الناحية الفنية فلا نعرف إلا وجود (جوقة) أو فرقة كان يقودها الفنان محمد بن علي سفنجة قبل الحرب العالمية الأولى، وقد تحدث عنها وعنه السيد رواني سنة 1904. أما الجمعية (المطربية) التي كونها اليهودي ادمون يافيل، فلا نعرف متى تكونت بالضبط، ولعلها لم تظهر إلا بعد 1919. خلال العشرينات ظهرت عدة جمعيات ونواد أيضا في العاصمة وغيرها. وتوسع ذلك مع نشاط الحركة الإصلاحية وظهور الأحزاب السياسية وجمعية النواب. وقد رافق ذلك نوع من التسامح من الإدارة الفرنسية لإنشاء مثل هذه الخلايا الاجتماعية، ما دامت تحت رقابتها الشديدة. كما أن مبادرات الجزائريين لم تعد تتوقف على مبادرات الفرنسيين في ذلك. ومن أبرز الجمعيات غير الفنية والنوادي بالعاصمة، جمعية الشبيبة الإسلامية ونادي الترقي. وجمعية التربية والتعليم في قسنطينة ونادي السعادة في تلمسان وفي قسنطينة أيضا (تأسس سنة 1926)، ونادي الاتحاد الأدبي الإسلامي في مستغانم. وقد شهدت مدينة قسنطينة وحدها ميلاد حوالي 26 جمعية مدنية قبل الحرب العالمية الثانية. وقل مثل ذلك في غيرها من أنحاء القطر. وكان نادي الترقي قد نظم بين 1927 - 1929 حوالي ثلاثين محاضرة بالعربية وعشرة بالفرنسية. وبلغ أعضاؤه 270 عضوا. وما يلفت النظر هو أن نادي الترقي كان يشجع الحياة الفنية الموجهة لأداء رسالة اجتماعية وذلك عند ¬

_ (¬1) عن أعضاء الجمعية الرشيدية سنة 1910 انظر (مجلة العالم الإسلامي)، مارس 1910، ص 439. انظر كذلك الحركة الوطنية، ج 2.

احتفالاته السنوية. فقد مثل وغنى الممثل الفكاهي رشيد قسنطيني في حفلة أقامها النادي سنة 1929، كما أن جمعية الشبيبة الإسلامية كانت تحيي احتفالا سنويا يقوم به التلاميذ وغيرهم بتمثيل بعض الروايات وإنشاد الشعر والاستماع إلى القطع الموسيقية (¬1). وكذلك كانت تفعل مدرسة التربية والتعليم في قسنطينة ومدارس جمعية العلماء فيما بعد، إذ أصبح التمثيل والإنشاد والموسيقى الشعبية جزءا من وسائل جلب الجمهور وتوجيهه نحو الإصلاح والنهضة. أما الجمعيات ذات الطابع الفني المحض فلم تظهر على يد الجزائريين إلا خلال عقد العشرين وما بعده. فقد تحدث أحمد توفيق المدني سنة 1929 عن وجود جمعية في تلمسان باسم (جوق) الحاج العربي بن صاري. وذكر عدة جمعيات أخرى يبدو أنها ظهرت في العاصمة وهي (الجزائرية) و (الأندلسية) و (الطليعة) التي قال عنها - أي الطليعة - إنها تتبنى الموسيقى العصرية. ومن ذلك جمعية (المطربية) التي لم يذكر تاريخا لظهورها، غير أننا نعرف أن محيي الدين باش تارزي قد تولاها بعد وفاة يافيل، كما مر (¬2). أما سعد الدين بن أبي شنب فقد ذكر جمعية (المهذبة) التي رأسها علي الشريف الطاهر، سنة 1921، وهي جمعية للأدب والتمثيل العربي. وقد مثلت ثلاث مسرحيات بين 1921 - 1924. وقال أيضا إن هناك جمعية أخرى لم تتشكل شرعا وقامت بتحميل رواية (في سبيل الوطن) في ديسمبر 1922، ونجحت نجاحا باهرا ولكن السلطات الفرنسية منعتها من تمثيلها مرة أخرى. ولم يكشف ابن أبي شنب عن اسم ولا مسؤولي هذه الجمعية التمثيلية المجهولة. وبالإضافة إلى ذلك لم تعلن جمعية أخرى عن نفسها أو ¬

_ (¬1) هذه الظاهرة نجدها أيضا في نادي صالح باي، قبل 1914، إذ كان ابن الموهوب ينظم أشعارا للتلاميذ ليغنوها على ألحان السيد بسطانجي. انظر الحركة الوطنية، ج 2. (¬2) المدني (كتاب الجزائر)، مرجع سابق، ص 342. انظر لاحقا، فصل المنشآت الثقافة 2.

لم تتحدث عنها وسائل الإعلام عندئذ وهي الجمعية التي مثلت رواية (المصلح) سنة 1923 في العاصمة أيضا، وكانت الرواية من تأليف أحمد فارس (¬1). ولعلها هي الجمعية المجهولة التي مثلت رواية (في سبيل الوطن). وأخيرا نذكر جمعية (الزاهية) أو فرقتها وهي التي كونها علي سلالي (علالو) حوالي 1929 ودامت إلى سنة 1932. وتثبت بعض الإحصاءات أن قسنطينة وحدها قد عرفت ميلاد عدد من الجمعيات الفنية التي تهتم بالتمثيل والموسيقى والمسرح، حتى بلغت أربع عشرة جمعية بين 1930 - 1935. ثم ظهرت جمعيات أخرى بعد هذا التاريخ، كما اختفت جمعيات كانت قائمة. ومن ذلك جمعية أحباب الفن التي تأسست في مايو، 1933 لإحياء التراث العربي من الآداب والموسيقى والفنون. وكانت برئاسة محمد رحموني وعضوية إبراهيم العموشي وأحمد بوشمال. وكانت على صلة بحركة الإصلاح التي يقودها ابن باديس في المدينة. ولذلك كان نشاطها مرتبطا بنشاط مدرسة التربية والتعليم أيضا، فكانت تحيي السهرات الفنية لجمع التبرعات والمال لأبناء المدرسة، وهي إحدى وسائل ابن باديس في توسيع مشاريعه. ثم تأسست جمعية الشباب الفني في إبريل، 1937، بعد انقسام حدث في جمعية أحباب الفن. فقد تولى الجمعية الجديدة (الشباب الفني) أحمد بوشمال وإبراهيم العموشي. وكان كاتبها العام هو الشيخ عبد الحفيظ الجنان، أحد تلاميذ ابن باديس. وكانت الشباب الفني قد أخلصت في أهدافها للحركة الإصلاحية. وقد وظفت الفن والتمثيل والموسيقى لخدمة النهضة العربية الإسلامية في الجزائر. وضمت أيضا، الأسماء التالية: الشريف حاج سعيد، وعبد السلام بلوصيف، وخليل بلقشي. وكانت جمعية الشباب ¬

_ (¬1) سعد الدين بن أبي شنب، (المسرح العربي الجزائر)، في المجلة الافريقية، 1935، ص 75.

الفني المدعومة من ابن باديس تمثل أيضا في مدن إقليم قسنطينة وتجد نجاحا كبيرا، ومن أبرز حفلاتها تلك التي كانت بكلية الشعب بقسنطينة في مايو 1937. وتلتها سهرة أخرى في ديسمبر من نفس السنة. وقد حضرها مئات الجزائريين (ألف شخص حسب بعض الاحصاءات) وفيها أيضا النساء، كما حضرها بعض الأوروبيين. وكانت الحفلة مسيسة إذ كان من بين الحاضرين أعضاء من حزب الشعب والعلماء والنواب والشيوعيين. وكان للفرقة لباس رسمي موحد، وكانت تقدم التمثيليات والقطع الموسيقية. وفي المناسبة الأولى ألقى ابن باديس نشيده (اشهدي يا سماء) وهو نشيد وطني يبشر بالجزائر الحرة (¬1). وهناك جمعيات أخرى اهتمت أيضا بالفن والتمثيل في قسنطينة، وهي مرافقة لحركة النهضة، كما ذكرنا. ومنها جمعية الهلال التي ظهرت سنة 1932 (12 جوان). أسسها بعض هواة الفن الذين رغبوا في المحافظة عليه، وقد دفعتهم إلى ذلك الغيرة على التراث والخوف من اندثاره. وفي أوائل 1934 تكونت في نفس المدينة جمعية المنوبية، على يد شباب المدينة الهواة للموسيقى والفنون الأخرى. ولعلهم كانوا متأثرين بالحركة الفنية في تونس أيضا. ثم تكونت جمعية الهلال التمثيلي، وهي غير الأولى، سنة 1938 (18 مايو). وكان هدفها تجديد الفن وإحياء اللغة العربية الفصحى عن طريق المسرح. وقد ذكرنا سابقا أن هذه الجمعية قد مثلت سنة 1939 مسرحية عن آفات الخمر والأمية. وتعاونت مع زميلتها الشباب الفني في استقبال أعضاء نادي الشباب بقالمة (¬2). إلى جانب هذه الجمعيات الفنية هناك جمعيات غير فنية في ظاهرها ¬

_ (¬1) جريدة (المغرب العربي)، 18 جوان 1937، عدد 4. ومعلومات مكتوبة قدمتها لنا الباحثة كريمة بنت حسين في مايو، 1990. (¬2) كريمة بنت حسين، مراسلة، مايو 1990، من قسنطينة. وكذلك (الشهاب) ابريل 1939، ص 155.

ولكنها كانت تعبر بالأناشيد ونحوها على دورها في إحياء الشعر العربي الفصيح والتمثيل، ومعظم هذه الجمعيات كانت كشفية أو خيرية. والأمثلة على ذلك توجد في كشافة الرجاء وكشافة الصباح التي توحدت تحت اسم واحد وهو الرجاء. وقد أشار ابن باديس إلى كليهما في قصيدته الشهيرة (شعب الجزائر مسلم). وكان إعداد شبابهما إعدادا عسكريا، مما جعل جريدة (المغرب العربي) تقول عن الفرقتين (ارتفع الستار عنهما في لباسهما الرسمي، وفي شكل حركات الجندية بإعدادهما ونظاماتهما الخصوصية ... فهتفت لهما الأيدي بالتصفيق الحاد، والقلوب بقولها: اللهم حقق الرجاء. وانسحبوا (أي الكشافة) من القاعة، كما ظهروا، بحركات عسكرية تثبت في الأفئدة وترسخ في العقول حتى يتحقق الرجاء، إن شاء الله) (¬1). وفي 1940 (20 يناير) قدمت جمعية الشباب الفني مسرحية (الدكتاتور) أو المستبد، على مسرح قسنطينة. ولا نعرف الآن من ألف هذه المسرحية. ويبدو أن موضوعها كان يتناول استبداد الإدارة الفرنسية في الجزائر بالتلميح، كما يتناول في الظاهر الاستبداد النازي في ألمانيا والعالم. ومن ثمة فالمسرحية كانت من وحي الاستعمار والحرب. وكان ابن باديس قد أوقف مجلة الشهاب، كما أوقفت جمعية العلماء جريدتها البصائر، فلا سبيل لمعرفة المزيد عن هذه المسرحية منهما (¬2). أما جمعية المزهر البوني للتمثيل فقد تأسست سنة 1932. واسمها يدل على أنها وليدة مدينة عنابة، كما ذكرنا آنفا. وكان غرضها هو محاربة الآفات الاجتماعية والنهوض بالمجتمع عن طريق الموسيقى والتمثيل بتشجيع استعمال العربية الفصحى والرقي بها (¬3). ¬

_ (¬1) جريدة المغرب العربي، عدد 4، 18 جوان 1937. وقد كان (شباب المؤتمر الإسلامي) يتكون أيضا على هذا النمط بين 1936 - 1938. (¬2) كريمة بنت حسين، مرجع سابق. (¬3) مجلة (الشهاب) ابريل 1932، ص 242. عن الجمعيات الفنية انظر أيضا فقرة المسرح لاحقا.

لا شك أن هناك جمعيات ونوادي أخرى قامت بدور التمثيل المسرحي والموسيقى والغناء، كما حدث في تلمسان. وكان بعض هذه الجمعيات قد أسس لدفع حركة التعريب، وبعضها قد أسس لتشجيع التمثيل بالدارجة والوصول إلى الجمهور للرقي به فنيا وذوقيا. وهناك من أسس الجمعيات لأغراض اجتماعية في إطار ما تسمح به القوانين الفرنسية ومماشاة للتيار التجديدي أو العصري، بينما تأسست جمعيات ونواد تابعة لجمعية العلماء لخدمة الاتجاه الإصلاحي على العموم. وقد تنافست في ذلك الأحزاب أيضا بعد أن سمحت لها الإدارة بالنشاط، ولا سيما بعد 1946. ونلاحظ أن بعض الجمعيات والنوادي كانت تحمل أسماء اجتماعية وأخرى أسماء فنية. ولكنها جميعا تقريبا، أسماء مستمدة من التراث العربي الإسلامي. ومن هذه الأسماء نجد كلمات: الإسلامي، والديني، والفلاح (بتخفيف اللام)، والسعادة، والرجاء، والاتحاد، والإرشاد والإصلاح والحياة والشباب والأخوة والاستقامة والنهضة والفتح ... أما الجمعيات والنوادي الفنية فتحمل أسماء مثل المزهر، والعندليب، والأوتار، والفن والأدب، والمطربية، الخ (¬1). ويجب ألا يفهم من تركيزنا على بعض المدن أن المدن الأخرى صغيرة أو كبيرة، لم تشهد ميلاد النوادي والجمعيات، ولم تعرف النشاط الفني والكشفي والموسيقي. إن الظاهرة كانت عامة، وكان هناك تنافس كبير. ولكن الإمكانات لم تكن متوفرة للجميع بدرجة واحدة. وقد تعرضنا في كتابنا (دراسات في الأدب الجزائري) إلى بعض التفاصيل. رأينا أن المنشآت الثقافية في الجزائر كانت متباعدة ولا يمكنها أن تخدم أهدافا واحدة. فالفرنسيون أسسوا المكتبات والمتاحف والجمعيات العلمية والمسارح والسينما والصحافة والإذاعة لأنفسهم. كما أنشأوا ¬

_ (¬1) عمار هلال (النوادي الثقافية ...) في (مجلة الدراسات التاريخية) عدد 7 سنة 1993، ص 124 - 140. وكذلك دبوز (نهضة)، ص 229 - 260.

المقاصف والكونسيرفتوار والفرق الموسيقية لخدمة الجالية الفرنسية في الجزائر. وقد رأينا أن المطابع والتمثيل والصحافة وفرق الموسيقى، كلها قد تأخرت عشرات السنين في الظهور بالنسبة للجزائريين. ولذلك بدأت مقلدة في أغلبها لما كان شائعا منها على يد الفرنسيين. والمقلد قلما يتفوق على المقلد. وهذه المنشآت الثقافية الجزائرية واجهت صعوبات جمة سياسية ولغوية وتعليمية وفنية. فالقوانين كانت لا تسمح بحرية التعبير ولا الحركة ولا التجمع. والشعب قد أضرت به الأمية، وارتمى في أحضان الطرقية والخرافة، والذوق الفني والجمالي كان يعاني من البعد عن التراث وإنتاج الحضارة العربية - الإسلامية، وقد رأينا أن الصحافة العربية نفسها قد بدأها الأجانب، وأن الموسيقى كما سنرى، قد سجلها أحد اليهود، وأن المسرح كان يعتمد في أوله على بعض الممثلين الأجانب أيضا، وأن المطابع كانت كلها أجنبية إلى أوائل هذا القرن. ومع ذلك فإن نهاية الحرب الثانية قد عرفت انطلاقة كبيرة في عدة ميادين ثقافية كانت من قبل محتكرة للأجانب. وإذا كانت المكتبات العامة والمتاحف والإذاعة ظلت من احتكار السلطة الفرنسية، فإن الصحافة والمسرح والمطبعة والموسيقى ونحوها قد تحررت وأخذ المبدعون الجزائريون يؤسسون الصحافة والمطابع والفرق الموسيقية والتمثيلية. وساندت حركة الشعر والغناء وانتشار التعليم هذه المنشآت. كما وظفت الأحزاب السياسية والجمعيات هذه الوسائل للنهضة وتوعية الجمهور.

الفصل الثالث المنشآت والمراكز الثقافية (2)

الفصل الثالث المنشآت والمراكز الثقافية (2)

المكتبات

المكتبات من البديهي القول أن الكتب والوثائق كانت من الضحايا الأولى للاحتلال الفرنسي. وهناك أسباب معروفة وهي الحروب الطويلة والمدمرة التي تلت نجاح الحملة الفرنسية وتصاعد المقاومة، ثم التلف المقصود وغير المقصود الذي يصيب الكتب عند الفوضى والهروب والإخفاء ونحو ذلك، ثم الحرائق والتآكل. ومن جهة أخرى هناك أسباب غير معروفة للجميع وهي سرقة الكتب المخطوطة والوثائق العائلية من قبل الفرنسيين بالاعتداء الصارخ أحيانا وبالتحايل أحيانا أخرى، وكذلك بالاتلاف الذي لا يرجع إلى صاحبه. ومن نكبات الدهر أن الذي تسلط على الجزائر هم ضباط المكاتب العربية - العسكرية الذين تمركزوا في كل مدينة وكل دوار. وكانوا يريدون معرفة كل شيء عن العائلات والأفراد، وعن الأنساب والتواريخ، وعن التراجم والتصوف، واللغة والفولفكلور، وغيرها. فكانوا يأخذون ما وقعت عليه أيديهم وعيونهم، قهرا، وقد يطلبون المخطوطات والوثائق ممن يعرفون أنها عنده من الأعيان كرجال الدين والقضاة والقياد. وكان هؤلاء لا يستطيعون رد طلبهم ظانين أنها ستعود إليهم بعد حين، ولكن هذه الآثار قلما تعود. وقد يتطوع البعض من الجزائريين، خوفا أو تملقا، فيقدم ما عنده إلى الضباط المذكورين، ظانا أنها ستعود إليه أيضا، فلا تعود، وقد يرشدهم حتى عن غيره فيقول إن المخطوط كذا موجود عند فلان أو أن العائلة الفلانية تمتلك المخطوطات المطلوبة، فيذهب الضباط ويأخذون حاجتهم، كما قلنا، وقد لا يعيدون ما أخذوا إلى أصحابه. هذا إلى جانب الكشف عن خبايا العائلات والأنساب وما تملك من ثروات، لأن معظم العقود والوثائق كانت

نظرة على مصير المخطوطات والوثائق

تتحدث عن الأملاك والزواج والبيع والشراء والخلافات. وكل ذلك كان يستغله الفرنسيون لصالحهم دون أن ينسبوه حتى إلى من أخذوه منه. فإذا قرأت فيرو وبروسلار وبيليسييه وكاريت وهانوتو ورين وغيرهم فإنك ستجدهم يستعملون الوثائق والمخطوطات الأهلية ولا ينسبونها، وربما كانوا يحرفونها عن وجهتها. بل أن معظمهم كانوا يطعنون في المعلومات التي تضمنتها ويشكون في صحة ما جاء فيها، ويرمون الجزائريين - والعرب والمسلمين جميعا- بالجهل والحماقة والتزييف. وقل مثل ذلك في العديد ممن أصبحوا مترجمين عسكريين، وهم الذين أصبحت كل شؤون الجزائريين بأيديهم لفترة طويلة. وكانوا في الإدارة والجيش والقضاء والطب ... وعندما بدأ المستشرقون أعمالهم جمعوا أيضا ما بقي من الوثائق والمخطوطات وأخذوا يترجمونها، دون أن يذكروا حتى من أين أخذوها إلا القليل منهم. ونشير هنا إلى أعمال أدريان بيربروجر وأوغست شيربونو، ثم زعماء مدرسة الآداب أمثال رينيه باصيه، وفانيان، ثم أمثال ألفريد بيل وموتيلانسكي. لقد كانت الجزائر تتوفر على مخطوطات كثيرة قبل الاحتلال، كما رأينا في الجزء الثاني من هذا الكتاب. وكانت مكتباتها العامة في المساجد وفي الزوايا، أما مكتباتها الخاصة فكانت منتشرة عبر الوطن حيث العائلات العلمية وحيث الأعيان الذين لهم غيرة على الكتب ونسخها. وقد رأينا أن العائلة الواحدة قد تتوفر على بضعة آلاف من المخطوطات النادرة والتي كانت في حالة جيدة. وكان الكتاب يتنقل بالبيع والاستنساخ والاستلاف والهدايا. أما كتب المساجد والزوايا والمدارس فقد كانت موقوفة على العلماء والطلبة والزائرين. نظرة على مصير المخطوطات والوثائق وبعد الاحتلال مباشرة وضع الفرنسيون أيديهم على المساجد والزوايا في العواصم. وصادروا ما فيها وضموا مداخيل أوقافها إلى الإدارة المالية

(الدومين). وكانت المكتبات الملحقة بهذه المنشآت الدينية من ضحايا هذه المصادرة، فاختفت الكتب، رغم أنها كانت أحباسا، وتبادلتها الأيدي دون حساب أو عقاب. أين هي مكتبة الجامع الكبير بالعاصمة التي تحدث عنها الرحالة والباحثون المسلمون؟ وأين مكتبات مساجد تلمسان وقسنطينة ومعسكر والبليدة والمدية وبجاية وعنابة ومازونة الخ؟ وأين الكتب التي حبسها صالح باي على مدرسته في قسنطينة، ومحمد الكبير على مدرسته في معسكر؟ لقد ضاعت وتبعثرت، ولم تعد تذكر في حوليات التاريخ. فعندما أراد ابن أبي شنب أوائل هذا القرن أن يصف ما بقي في الجامع الكبير بالعاصمة لم يذكر منها سوى بضع عشرات (¬1). وماذا نقول عن أثر الحروب على المكتبات؟ كل مقاومة أو ثورة تؤدي إلى دفن العشرات من المخطوطات الثمينة. وهذه الحروب قد قضت على المكتبات الشخصية والعمومية معا. معظم الزعماء الذين شاركوا في المقاومة كانوا من عائلات متعلمة تعتز بماضيها وتراثها. ولكن الابتعاد عن مركز العائلة أو القبيلة، والنفي والاحتشاد بالنسبة لمن أجبروا على الخضوع، قد أدى إلى تلف المكتبات. وعندما أصبح الأمير عبد القادر لاجئا وفقد عواصمه استعمل المدينة الخيمة (الزمالة) وحمل هو وعلماؤه وقواده مكتباتهم معهم. ومنها مكتبة زاوية القيطنة الشهيرة. وكان من بين الذين معه شيوخ علم لا تفارقهم الكتب أمثال محمد الخروبي، ومحمد بن علال، ومحمد البركاني، وابن فريحة، ومصطفى بن التهامي. ولكن حين استولى الفرنسيون على الزمالة في جهة طاقين انتقلت إليهم أيضا تلك المكتبات، ولا ندري إلى الآن مصيرها (¬2). ¬

_ (¬1) المخطوطات الباقية في مكتبة الجامع الكبير، ط. الجزائر. (¬2) في مكتبة شانتييه بفرنسا بعض بقايا مكتبة الأمير عبد القادر، أهداها الدوق دومال D'Aumale إلى بلدية هذه المدينة. وكان دومال هو قائد الجيش الذي استولى على الزمالة. ولكن ما (أهداه) دومال ليس سوى جزء ضئيل من مكتبة الأمير. وابن باقي المكتبات؟.

وقل مثل ذلك في المدن التي استولى عليها الفرنسيون. وقد جرت العادة أن الجزائريين يخرجون من المدينة إذا أحسوا بهجوم العدو، وكانوا يحملون معهم كل غال ونفيس، ومن ذلك كتبهم. ولكنها لم تكن دائما عملية ناجحة. فقد يفاجئهم العدو فلا يحملون إلا ما خف، فيستولي العدو على ما وجده ومنه الكتب، كما حدث في معسكر سنة 1835، وفي تلمسان سنة 1836. ويقول بيربروجر إن الفرنسيين وجدوا عقود أملاك عائلة الأمير، وحين أطلع بيربروجر الأمير على ذلك في مقابلة معه سنة 1837 لم يكد الأمير يصدق القصة (¬1). وأثناء البحث عن الزمالة كان الفرنسيون يستدلون عليها بأوراق الكتب والوثائق التي كانت تذروها الرياح وترمي بها في الأشجار. وكان بيربروجر وغيره صرحاء جدا حين أكدوا، وهم يحسبون أن التاريخ قد طوى تماما ولن يكشف عن أسراره، أن الضباط كانوا يشعلون غلايينهم بأوراق الوثائق في قصبة الجزائر سنة 1830، وأن الجنود كانوا يحسبون كل كتابة عربية قرآنا، فكانوا يحرقون الأوراق وما هي إلا وثائق ثمينة. ومع ذلك يتحدث الفرنسيون طويلا عن حرق العرب المسلمين لمكتبة الاسكندرية وينسون أنفسهم. أما احتلال مدينة قسنطينة واحتلال معسكر وتلمسان وغيرها فكان له نصيب آخر من نهب الكتب. وقد روى بيربروجر شيئا من التفصيل عن ذلك سنعود إليه بعد قليل. والحرب التي جرت في الأرياف أدت أيضا إلى إتلاف المكتبات ولا سيما في الزوايا. وكانت هذه الزوايا تتوفر على مكتبات للطلبة وأهل العلم. وهي الأمكنة التي بقيت للطلبة بعد احتلال المدن واختفاء التعليم ومصادرة المساجد والزوايا بها. فإذا بالحرب تمتد إلى هذه المدارس الخلفية (الزوايا)، وتمتد معها يد النهب والسلب لما تملكه من مخطوطات. وكان ¬

_ (¬1) انظر مقابلة الأمير في معسكره، بالبويرة، لبيربروجر، ديسمبر، سنة 1837. وقد ترجمنا هذه الرحلة (المقابلة) وقدمناها للنشر.

ذلك هو مصير المكتبات في زوايا منطقة الشلف والبابور وزواوة والأوراس والحضنة والونشريس. ثم أدت ثورات أولاد سيدي الشيخ، وشريف ورقلة واحتلال ميزاب، وثورة بوشوشة، وبو عمامة، إلى بعثرة الكتب. وحكى لنا من عاش انتفاضة 8 مايو 1945، كيف مزقت الكتب ورميت للرياح. وأصبح معروفا عند الجميع أن الجزائريين كانوا أيام ثورة التحرير الكبرى، يحفرون لكتبهم الباقية ووثائقهم العائلية في الأرض ويدفنونها، خوفا منها، لأن الفرنسيين إذا وجدوها عندهم سيتهمونهم بالعمل المعادي ويعتبرونها وثائق سياسية، ثم خوفا عليها، لأن العدو إذا وجدها سيحرقها أمام أعينهم، كما حدث عدة مرات. وكان أولئك الجزائريون يظنون أن الحرب لن تطول أو أن الأرض سترحم الكتب، ولكن الثورة قد طالت والأرض لم ترحمها إذ عندما فتحت المطامير التي وضعت فيها وجدت الكتب وقد تلفت من الرطوبة وأصبحت عجينا عند البعض أو ممحاة لا أثر للكتابة عليها. وكثير من الجزائريين نسوا أين دفنوا كتبهم كما أن بعض الذين دفنوها استشهدوا أو ماتوا موتة طبيعية دون أن يعرف الأحياء ما فعل الأموات. إن المهاجرين الجزائريين قد حملوا معهم أيضا. بعض كتبهم الثمينة بعد الاحتلال. فأولئك الذين خرجوا من دي رهم مراغمين أو اختاروا الهجرة على العيش تحت وطأة الأجنبي، كان معهم رصيدهم من المخطوطات القليلة أو الكثيرة. وقد حرمت منها العائلات الباقية والمدارس والتلاميذ. ابتداء من ابن العنابي الذي نفاه المارشال كلوزيل سنة 1830، إلى حمدان خوجة الذي هرب بجلده من إرهاب دورفيقو إلى فرنسا نفسها ثم منها إلى اسطانبول سنة 1836، إلى مصطفى الكبابطي الذي نفاه المارشال بوجو سنة 1843 إلى جزيرة سانت مرغريت غير أن السلطات الفرنسية في مرسيليا سمحت له بالمنفى في مصر، ثم إلى القضاة والعلماء والضباط الذين توجهوا إلى المغرب الأقصى وتونس، ثم الحجاز. كل هؤلاء حملوا معهم ذكرياتهم وأدواتهم من الكتب (¬1). ¬

_ (¬1) انظر أيضا فصل الجزائر في المشارق والمغارب.

وقد هاجرت الكتب أيضا إلى فرنسا نفسها في أوقات مختلفة في حقائب الضباط والمترجمين والمستشرقين والعلماء واللصوص أيضا. ولذلك فإن من يبحث في تاريخ الجزائر في العهد الفرنسي سيجد مصادره مبعثرة في مكتبات العالم، ولا سيما مكتبات المشرق والمغرب والمكتبات الفرنسية العمومية والخصوصية. وإذا كانت المكتبات العمومية معروفة أو يمكن معرفة ما فيها لوجود الفهارس، فإن المكتبات الخاصة لا يمكن معرفتها لأن أصحابها كثيرون وأن تراثهم قد انتقل منهم إلى أحفادهم وأصهارهم أو بيع في المزاد العلني، أو لأنه لا يوجد فهرس للمكتبات الخاصة إلا نادرا (¬1). والواقع أن عملية اتلاف الوثائق بدأت من لحظة الاحتلال. فقد أباح قائد الحملة بورمون، مدينة الجزائر شهرا كاملا لجنوده يعيثون فيها فسادا وسرقة. وقد لاحظت السيدة روجرز بعد حوالي ثلاثين سنة من الاحتلال: أن الجنود كانوا أحرارا في نهب وتدمير وثائق الدولة الجزائرية، وكانوا منها يشعلون غلايينهم. وكان قائدهم (بورمون) مهموما بموت ابنه. ولم يتوقف التخريب عند المدينة بل شمل المنطقة الواقعة بين سيدي فرج (حيث بدأت عملية الإنزال العسكري) والعاصمة. فقطعت الأشجار، وديست الحدائق، وحطمت قنوات المياه. فكان سلوك الجيش، حسب قولها، هو أنه جاء للعدوان والنهب ثم يتراجع (¬2). وأمام ذلك كيف تكون معاملة الجنود للمخطوطات والوثائق؟. وليس هذا رأيا معزولا في وصف ما جرى لحظة الاحتلال فقط. فإلى عقد السبعينات كانت الوثائق العربية محل نهب وإهمال. فقد ذكر (دور Dur) وهو قسيس بروتستنتي في الجزائر، أن مجموعة من الوثائق العربية ¬

_ (¬1) نشر أوغست كور محتوى الوثائق التي كانت بججوزة شارل فيرو. انظر المجلة الأفريقية 1914، ص 91 - 117. كما نجد بعض المكتبات الخاصة قد حولت إلى دار الأرشيف الوطني الفرنسي وهي تحمل أسماء مالكيها الأصليين، انظر مقدمة ألبير ديفوكس لكتابه (المؤسسات الدينية في مدينة الجزائر) 1874. (¬2) السيدة روجرز Rogers (شتاء فى الجزائر)، لندن 1865، ص 37.

هربت من مكاتب الحكومة العامة بين 1870 - 1871 وبيعت كأوراق قديمة في ساحة الحكومة (الشهداء حاليا). وحين رآها القسيس (دور) اشتراها ثم أعطاها إلى فيرو الذي كان مترجما رئيسيا في الجيش. ولا شك أن ما عثر عليه (دور) ليس وحده، وإن ما تبقى عند فيرو ليس هو كل الوثائق. ولكي تعرف أهمية هذه الوثائق التي وقع العبث جا شكر أن أوغست كور قد نشر قائمتها المفصلة فكانت ثروة ثمينة تتعلق بالمراسلات بين الأعيان الجزائريين والفرنسيين. ومنها مراسلات إبراهيم باي المعروف بوشناق وعلاقته بالدوائر والزمالة وخدمتهم جميعا للعدو بين 1835 - 1836 (¬1). وقد عانى الأرشيف الجزائري الذي يرجع إلى العهد العثماني من الإهمال والتلف في العهد الفرنسي ما عانى أيضا. فقد تولاه ألبير ديفوكس الذي لم يكن يعرف التركية، فاستخدم بعض المترجمين الجزائريين واستفاد منه بعض الفائدة فيما يتعلق بالحياة الإدارية والعسكرية والأسطول والارقاء والمداخيل. ثم اشتغل بالأوقاف والحياة الدينية وبعض الآثار كالقلاع. وظلت الوثائق مهملة وعرضة للتلف. وإلى وقت الثورة لم يهتم الفرنسيون بتلك الوثائق مثل ما اهتموا برصيدهم القنصلي والتجاري في الجزائر خلال العهد العثماني. ومع ذلك ظل كتابهم يكيلون الشتم وعبارات التحقير والاستهزاء بكل ما ترك العثمانيون (الترك)، متجاهلين أن تلك الثروة من الوثائق ما هي إلا ثروة جزائرية قبل كل شيء. ومن مئات السجلات والآلاف من الوثائق لم يبق سوى بضع صناديق حملت عشية الاستقلال إلى فرنسا ثم أعيد بعضها، وقيل كلها، إلى الجزائر سنة 1975. وقد بقيت غير مصنفة طيلة العهد الفرنسي، وهي ما تزال كذلك إلى الآن، عدا بعض الجوانب منها، قام بها جان ديني J. Deny ثم بعض المحاولات التي قام بها جزائريون خلال السبعينات. ولم يحمل الفرنسيون معهم عند رحيلهم، وثائق الجزائر العثمانية فقط ¬

_ (¬1) اوغست كور (الاحتلال المغربي لتلمسان) في (المجلة الأفريقية) 1908 ص 66 - 73.

ولكن حملوا معهم كل الوثائق (الإرشيف) الذي جمعوه خلال حكمهم في الجزائر. وهو على ما قيل أطنان من الوثائق، والكثير منها مصنف، ولكن بقي أيضا الكثير غير مصنف ولا مفهرس. وهكذا حرموا الجزائريين إلى الآن من تراثهم الوطني، فالجزائري الذي يريد أن يبحث في حادثة أو شخصية أو ظاهرة اقتصادية أو مدينة من المدن ... عليه أن يحج إلى فرنسا وأن يقطع البحر لعله يحصل على معلومات عن أمر يتعلق ببلاده وجرى في بلاده، وربما قيل له ماذا تريد منه، وقد لا يبيحون له الاطلاع عليه أصلا رغم مرور الأجل الشرعي عليه. ... وفي حديثنا عن المكتبات والمخطوطات سنقسم الموضوع إلى مكتبات فرنسية عمومية، مثل المكتبة التي صارت اليوم وطنية، ومكتبة الجامعة، والمكتبات البلدية وغيرها. أما المكتبات الفرنسية الخاصة فلا نتحدث عنها أكثر مما أشرنا إليه. ومن جهة أخرى سنتحدث عن المكتبات الجزائرية العامة منها والخاصة، ونقصد بالعامة هنا ما بقي أو ما أنشئ من مكتبات الزوايا. أما المكتبات الخاصة عند الجيل الجديد الذي نشأ تحت الاحتلال فسترى أنها كانت موجودة رغم أنها لم تلغ مبلغ المكتبات الخاصة في العهد العثماني. ولنبدأ بأول مكتبة عمومية أسسها الفرنسيون وهي مكتبة الجزائر التي كانت تسمى لفترة طويلة المكتبة - المتحف. من حق الفرنسيين أن ينشئوا مكتبة عمومية لهم في الجزائر بعد الاحتلال، ولكن ليس من حقهم أن ينهبوا ويسلبوا الجزائريين من مخطوطاتهم ليكونوا بها هذه المكتبة. لقد اعتبر الفرنسيون الكتب المحبسة على المدارس والمساجد وكذلك المكتبات الخاصة لدى العائلات الجزائرية غنيمة حرب يأخذونها عن طريق الغلبة والنهب والاختلاس. وكان الضباط والجنود والعلماء والمرافقون لهم كلهم سواء في هذه الفعلة. حرموا المدارس والعلماء من مصادر حياتهم العلمية والفكرية، وحرموا الورثة

الشرعيين من حقوقهم فيما ترك الآباء والأجداد، كان الجنود ينهبون المخطوطات فيعبثون بها أو يبيعونها بأبخس الأثمان، والضباط يأخذونها لأنفسهم أو يسلمونها لعلمائهم في شكل (هدايا)، وكان هؤلاء يجمعونها حيث يسيطر الفرنسيون على أنها غنائم حرب، ثم أخذوا ينقلونها إلى المكتبة الفرنسية في باريس بدعوى تبادلها مع كتب مطبوعة!. روى بيربروجر (¬1) الذي رافق حملة كلوزيل على معسكر وتلمسان سنة 1835 كيف استولى على المخطوطات والوثائق وكيف نقلها إلى الجزائر على ظهور الحيوانات. وقد روى بيربروجر ذلك بشيء من الأسف. والغريب أنه ادعى بالنسبة لمدينة معسكر أن العرب قد مزقوا المخطوطات قبل مغادرتهم المدينة ونشروا أوراقها. وكيف يحدث ذلك منهم وهي ثروتهم الثمينة؟ وقال إنه وأمثاله لم يستطيعوا سوى جمع أربعين مخطوطا كاملة وحملوها إلى العاصمة لتكون نواة المكتبة العمومية. ونوه بيربروجر بالضباط: لامورسيير وكوفيه وابراهيشا على فهمهم لدور المكتبة العمومية، وتوفير المخطوطات العربية لها. غير أنه لام الآخرين الذين وقعت المخطوطات الهامة بأيديهم ولكنهم فضلوا أن يبقوها في ملكهم الشخصي، ومن ثمة حكموا عليها بعدم النفع تقريبا. وهذا اعتراف صريح منه أن هناك فرنسيين اغتصبوا المخطوطات وأبقوها عندهم فحرموا منها مالكيها كما حرموا منها المكتبة العمومية. ومن بين المخطوطات التي (عثروا) عليها في معسكر (سنة 1835): (كريستوماتيا عربية) بخط جميل، ومعجم عربي، ومؤلفات في الفقه الإسلامي تتضمن أحكام البيع والشراء، وشرح عن الأحاديث النبوية (فتح الباري؟)، وغير ذلك من الكتب الدينية. بالإضافة إلى شروح في النحو العربي وتقاييد في التاريخ الطبيعي، وسيرة الرسول (صلى الله عليه وسلم)، ومصحفين. وذكر بيربروجر في شيء من التبجح أنهم عثروا في الفتحات التي تدخل منها ¬

_ (¬1) عن حياته انظر فصل الاستشراق. وقد جاء به كلوزيل كموظف مدني وعهد إليه بالمكتبة والمتحف. فكتب عن الأثار وقام برحلات سرية وعلنية. حملته إلى مختلف مناطق الجزائر وتونس. وكان يعرف قليلا من العربية.

الشمس والضوء للغرف، على زمامات (سجلات) المحاسبة للأمير عبد القادر، وعلى عدد كبير من الوثائق والعقود الخاصة بأملاك الأمير. واعترف بيربروجر أن ظروف الحرب جعلتهم ينقذون جزءا من هذه الثروة من الكتب. فكيف ضاعت؟. لقد حمل جزءا من المخطوطات على ظهر بعير وجزءا، على ظهر حصان. وفي الطريق من معسكر إلى مستغانم سقط البعير من عل إلى هوة سحيقة. وكان على ظهره أربعون مخطوطا، فضاعت كلها معه. أما تلك التي حملت على ظهر الحصان فقد نجت ورجعت مع بيربروجر إلى العاصمة (¬1). وفي تقريره إلى المتصرف المدني عن مهمته في قسنطينة سنة 1837 روى بيربروجر كيف حصل هو وأمثاله على المخطوطات من ديار ومدارس ومساجد وحتى أضرحة هذه المدينة المباحة. وبعد أن تحدث عن المعالم العربية الإسلامية في المدينة والآثار الموجودة في الشرق الجزائري عموما.، قال إن العقيد لامورسيير قد سلمه مخطوطين في الدين وجدهما في ضريح أحد المرابطين. وأكد أن آخرين من أعضاء الجيش قدموا له مخطوطات، وأنه اشترى من جنود فرقة الزواف مخطوطات ثمينة كانوا قد نهبوها من المدينة، منها (تاريخ قسنطينة) منذ أقدم العصور الذي لم يذكر مؤلفه، و (تاريخ الجامع الكبير) (¬2) في نفس المدينة، وأن (ليوتي) المتصرف العسكري عندئذ قد قدم إليه ثلاثة وستين مخطوطا وأعانه على نقلها إلى الجزائر. ومأساة مكتبة القاضي العربي بن عيسى، أخ علي بن عيسى، قائد الحاج أحمد والمدافع عن قسنطينة، كانت مضرب المثل في هذه الظروف. وكانت مكتبة العربي بن عيسى المذكور غنية، وقد جمعها عبر عقود من ¬

_ (¬1) بيربروجر (وصف حملة معسكر)، باريس 1836، ص 76 - 77، 87. (¬2) لا نعرف الآن أي شيء عن هذين المخطوطين. وسيكتب فايسات وشيربونو وفيرو وميرسييه عن قسنطينة دون الكشف عن الكتابين، فيما نعلم. وسيذكر بعضهم، مثل شيربونو كتاب (النبذة المحتاجة في أخبار صنهاجة) الذي استفاد منه، ثم اختفى الكتاب منذئذ.

الزمن باعتبار صاحبها من الشخصيات العلمية في المدية وربما توارثها عن أجداده. وكان الأخوان ابن عيسى (العربي وعلي) من ضحايا الاحتلال. وقد قال قايد فرقة الزواف لبيربروجر المرافق المدني للحملة والذي كان يقوم بدور المتجسس على الأوضاع الداخلية وهدم نفسه على أنه من العلماء وليس من المحاربين، قال له: إن إحدى الدور (دار العربي بن عيسى) كانت تحتوي على كمية من المخطوطات الجميلة. فذهب بيربروجر إليها بينما كانت الراية الخضراء مرفوعة على صومعة الجامع الكبير علامة على الاستسلام، فتأكد أنها دار الأخوين ابن عيسى، ولاحظ أن الكتب المخطوطة كانت مرمية وسط الدار في فوضى، وحتى لا يلصق التهمة مباشرة بالجنود الفرنسيين قال بيربروجر إن المدافعين الجزائريين عن الدار حطموا الصناديق التي كانت بها الكتب لعلهم يجدون فيها أشياء أثمن منها، ولكنه اعترف أن الجنود الفرنسيين قد أكملوا تحطيم الصناديق لنفس الغرض. وكان عليه أن يبحث عن الكتب ويجمعها وهي وسط مواد مضرة بها كالزيت والدقيق والزرابي ... وبعد أن جمع ما استطاع وما شاء من المخطوطات وضعها في غرفة صغيرة في نفس الدار وعين عليها جنديا لحراستها. واعترف أن ما جمعه أو اغتصبه من دار ابن عيسى قد بلغ حوالي مائة مخطوط، قال إنه ذو قيمة كبيرة إما لموضوعه وإما لجماله الخارجي كالتذهيب والتجليد وإما لحسن خطه. وذكر من ذلك كتاب دلائل الخيرات ونسخة من المصحف الشريف كانتا على غاية من الجمال. وكانت بعض المخطوطات في الفقه، وبعضها دفاتر أو أزمة (سجلات) يعود بعضها إلى عهد صالح باي (الذي قال عنه خطأ إنه عاش إلى نهاية القرن العاشر). ومن المخطوطات عدد في الأدب والدين، ومجموعة من الرسائل الصادرة عن الحاج أحمد باي، وعلي بن عيسى، وغيرهم من الأعيان والمسؤولين. ومجموعة أخرى من الرسائل ترجع إلى قائد الدار أو حاكم المدينة، وشخصيات أخرى هامة في قسنطينة. وفي دار أخرى تقع بالقصبة (لم يذكر صاحبها) قال إنه عثر على سجلات تتعلق بأملاك الدولة (البايليك). فأشار بها على المكلف بالإدارة

المالية المدعو بيرنار، فقام بيرنار بجمع السجلات (الزمامات)، ولم يتحدث بيربروجر بعد ذلك على أنه حمل هذه معه إلى الجزائر لأنه لا يعتبرها من المخطوطات وإنما من وثائق الدولة، بل تركها في يد بيرنار ممثل الدومين. ولكن المتجسس بيربروجر عثر، كما قال، على ثلاثة وثلاثين سجلا آخر (لم ينتبه إليها) بيرنار، لأنها كانت مخبأة في كيس من الشعير. وهذه السجلات هي التي جاء بها بيربروجر إلى الجزائر وقدمها إلى المتصرف المدني ليقدمها بدوره إلى من يهمه الأمر، وهو بالطبع إدارة أملاك الدولة (الدومين). ومن ثمة نتبين أن الدار التي لم يذكر بيربروجر صاحبها كانت لأحد المسؤولين الإداريين الكبار في حكومة الحاج أحمد. ويعترف بيربروجر أن الجيش كان ينهب ما يعثر عليه وكان الجنود يجمعون الأشياء الثمينة التي يريدون. أما الكتب فلم تكن في نظرهم ذات أهمية مالية، ولذلك كانوا يجمعونها ويا. تون بها إليه أو إلى قيادتهم دون انتظار المقابل المالي، لأنهم كانوا (يتحصلون على أشياء أخرى)، ولكن بعد أن نفدت الغنائم أصبح (لكل جندي قرآنه)، وأصبح الجنود يبيعون له المخطوطات للحصول منه على الدراهم. (وكل كتاب بالعربية أصبح قرآنا بالنسبة للبائع والمشتري)، وأخذ الجنود يتنافسون على جمع المخطوطات وبيعها إليه، كما قال. وأخبر أن المخطوط الواحد قد وصل إلى خمسين فرنكا لمجرد أن فيه حروفا مذهبة أو بعض الرسومات. واعتبر بيربروجر أنه من حسن حظه أن الهواة في جمع المخطوطات وبيعها لم يهتموا بالكتب الفاخرة التي كان أغلبها دينيا، وهي غير ذات أهمية كبيرة عنده، وغالبا ما كانت الكتب المتواضعة هي ذات الموضوع الهام الذي يبحث عنه. وكانت هذه المخطوطات المتواضعة في مظهرها والثمينة في محتواها تباع بأبخس الأثمان. وبذلك ازدادت قيمة المجموعة التي انتهبها بيربروجر من قسنطينة سواء بالأخذ المباشر أو بالشراء من الجنود المتنافسين على اغتصابها. والغريب أن بيربروجر قد اعترف بأن معظم الكتب التي حملها من

قسنطينة كانت من المؤسسات العامة، وكانت كتبا، موقوفة على الطلبة والعلماء والدارسين في تلك المؤسسات. فهو يقول إن أغلب الكتب التي اشتراها من الجنود قد جاءت من المدارس والزوايا والمساجد. وكان أغلبها مختوما بختم صالح باي في أوائلها على أساس أنها وقف، ومن ذلك وقف الجامع الكبير. ومع ذلك اعتبر بيربروجر نفسه حامل لواء الرسالة الحضارية للجزائريين بينما كان هو وجيشه يجردونهم من مصادر حضارتهم ويرمون بها في غياهب الجهل والأمية باغتصاب مكتباتهم. وقد بلغ ما جمعه بيربروجر بالطريق المذكورة، حوالي ألف مخطوط - يقول إنه حوالي 800 مخطوط - لكننا نعرف أن كل مجموع يضم عددا من المخطوطات الموضوعة مع بعضها داخل سفر واحد. وكان نقل هذه المخطوطات إلى الجزائر مشكلة بالنسبة إليه. فقد وضعها في صناديق وأعدها لتنقل عن طريق عنابة. فخاطب بذلك الجنرال زيقو، رئيس اللجنة العلمية، فوجده مريضا ولم يهتم بالمخطوطات، ثم خاطب رئيس الحملة (المارشال فاليه؟) فأجابه أنه لا يمكن نقل الكتب لأن حياة البشر أولى من حياة العلم. ويخبرنا بيربروجر أنه جمع من قسنطينة وحدها ثلاثة عشر صندوقا لم يصل منها إلى الجزائر سوى ثمانية فقط، وكانت تضم 500 مخطوط. وهكذا ضاع الباقي، ولكنه لم يقل كيف ضاع (¬1). وعلق أحد الفرنسيين على عملية نهب المخطوطات من قسنطينة بقوله: إن احتلال هذه المدينة (1837) قد أدى إلى لجوء أهلها المتحضرين إلى أهل البداوة في الصحراء. وبذلك قاد الاحتلال إلى تحويل أناس متحضرين إلى همج (باربار). فقد حرم الفرنسيون بغيرتهم العلمية (؟) سكان المدينة (قسنطينة) من آخر ما عندهم من مصادر ثقافية، وهي كتبهم التي كانت ثروة حقيقية للسكان جميعا. إن كتابا واحدا يعتبر ملكا مشاعا لكل العائلة ¬

_ (¬1) من تقرير بيربروجر في 30 نوفمبر 1837، الأرشيف الفرنسي، رقم 1733 - 80 F، يحتوي التقرير على سبع صفحات. وفي أعلاه عبارة (وزارة الحربية، مكتبة الجزائر، تقرير أولي عن مهمة أ. بيربروجر، في قسنطينة).

الحضرية. وهكذا فإن ال 800 كتاب (ضاع أكثرها) التي حملت من قسنطينة إلى العاصمة قد أدت إلى الإضرار بحركة التعليم للسكان وحرمان عدد من الآباء في العائلات من المتعة الشريفة وهي إقراء أولادهم كل مساء حسب عادتهم، حين يتحلقون حولهم (¬1). وهذا الحرمان قد استمر في عدة أشكال بعد ذلك في مختلف المدن. وقد استولى شيربونو على مخطوطات ووثائق استلفها من أعيان قسنطينة أثناء إقامته بها، والغالب أنه لم يردها إلى أصحابها. وقد يستعمل شيربونو مكانته ونفوذه كأستاذ حلقة الدراسات العربية ليطمع أولئك الأعيان والعلماء والقياد بتقديم خدمات لهم إذا جاؤوه بالوثائق والمخطوطات التي يطلبها. ومن ذلك كتاب (الدرة الثمينة) لأحمد المبارك العطار الذي طلبه شيربونو من محمد البابوري بواسطة الشيخ محمد بن أحمد العباسي (إمام زاوية سيدي التلمساني) سنة 1270 هـ، وبواسطة القايد أيضا. والكتاب المذكور ضاع خبره منذئذ وإنما أشار إليه شيربونو نفسه في كتابه (تعليم القاري في الخط العربي) (¬2). وفي مكان آخر ذكر شيربونو نفسه أنه استعار نستختين من مخطوط (تكملة الديباج) تأليف أحمد بابا، إحداهما من الشيخ حمودة بن الفكون والثانية من الشيخ مصطفى بن جلول. وقد استفاد شيربونو منهما في ترجمة مقالته عن (الأدب العربي في السودان)، كما التجأ إلى المترجمين الجزائريين أمثال الطاهر بن النقاد في الذي قدم إليه نسخة وشرحا للكتابة الموجودة في الجامع الكبير بتقرت والتي تثبت تاريخ تجديده (¬3). حقيقة أن شيربونو وأمثاله ¬

_ (¬1) (مجموعة وثائق حول حملة واحتلال قسنطينة من قبل الفرنسيين سنة 1837)، باريس 1838، ص 132. (¬2) ط. باريس 1850. ومحمد العباسي هو ابن الشيخ أحمد العباسي قاضي وعالم قسنطينة أثناء حكم الحاج أحمد باي. وكان فايسيت قد أشار إلى اسم محمد البابوري (وليس الباقوري) واستعار منه أيضاد وثائق. (¬3) أنوير Annuaire، الحولية عدد 1854 - 1855، ص 1 - 48، 131.

من المستشرقين قد ألفوا وكتبوا عن المخطوطات واستفادوا منها، ولكنها عادة لا ترجع إلى أصحابها، ويكون مصيرها هو حرمان أهلها وذريتهم منها. وكانت محافظة المكتبة العمومية (انظر لاحقا) تتلقى (الهدايا) من الكتب المخطوطة التي استولى عليها الضباط أثناء الحملات ضد الجزائريين. وذلك قليل من كثير، لأن معظم المخطوطات في الواقع كانت تبقى عند مغتصبيها أو كانت ترسل إلى مكتبات محلية في فرنسا أو إلى بعض المستشرقين المهتمين. ومما أخبرت المكتبة العمومية أنها تلقته في شكل هدية من المحامي شاطرون ما يلي: الجزء الرابع والأخير من كتاب في الفقه المالكي وموضوعه الإجارة. والجزء الثالث والأخير من كتاب عنوانه (إعراب القرآن) لأبي حيان يرجع نسخه إلى سنة 1026 هـ (1617). ثم الجزء الثالث والأخير من كتاب الشفا للقاضي عياض وهو في شمائل الرسولو (¬1). وادعى عدد آخر أنهم (عثروا) على مخطوطات فاستفادوا منها أو نشروها، ومن ثمة حرموا أصحابها منها. ونجد ذلك الإدعاء عند مستشرقين وباحثين أمثال ماسكري وموتلانسكي اللذين اهتما بالمخطوطات الإباضية. فمنذ 1880 ادعى ماسكري أنه حصل على نسخة - بعد هب وجهد كما قال - من تاريخ أبي زكريا في المذهب الأباضي. ونفس الشيء قاله موتيلانسكي عن كتاب في تاريخ زواغة. وفي سنة 1879 قال ت. فرومان Froment إنه (عثر) في المدية سنة 1839 على نسخة من (اللآلئ الفريدة) وهو الجزء الثاني من شرح الشاطبية في القراءات السبع. فما كان منه (فرومان) إلا أن قدمه إلى الجمعية الآسيوية بباريس (¬2). وكان فانيان صريحا عندما ذكر أن فهرس (كاتلوق) مخطوطات مكتبة بوردو بفرنسا كان يضم حوالي عشرين مخطوطا عربيا، معظمها قدمها لها ¬

_ (¬1) انظر المجلة الافريقية ديسمبر 1859، ص 150. (¬2) انظر المجلة الآسيوية. J. A، سلسلة 7، رقم 14، سنة 1879، ص 541. وعن دعوى ماسكري انظر نفس المصدر، رقم 15.

المكتبة العمومية (الوطنية)

الجنرال دوماس الذي حارب في الجزائر وألف عن المرأة والخيول ثم أصبح مرافقا للأمير عبد القادر في سجنه بامبواز. ومنها كتاب (عجائب الأسفار) لأبي راس الناصر الذي شرح فيه قصيدته (نفيسة الجمان في فتح وهران) على يد الباي محمد الكبير. وكذلك المخطوطة الوحيدة من كتاب في تاريخ قسنطينة ألفه أحمد الانبيري (¬1). المكتبة العمومية (الوطنية) أسس الفرنسيون نواة المكتبة العمومية في الجزائر سنة 1835. وينسبون الفضل في ذلك إلى المارشال كلوزيل في عهده الثاني وإلى كاتبه الخاص بيربروجر. وقد أصبح هذا هو المحافظ للمكتبة منذ إنشائها وإلى وفاته سنة 1869. ولكن بعضهم يقول إن مشروع إنشاء مكتبة عامة يرجع إلى المتصرف المدني جنتي دي بوسيه، أي منذ سنة 1832، فهو الذي فكر في ذلك لكي تستقبل المكتبة الجديدة المخطوطات العربية بالدرجة الأولى (¬2). ولكن مشروع دي بوسيه لم ينفذ منه إلا المطبعة وجريدة المونيتور، أما المكتبة فقد ظلت فكرة فقط. ولم تفتح في الواقع أبوابها للقراء إلا سنة 1838 بل إن بعضهم قال سنة 1840. تقول سجلات ذلك الوقت إن الهدف من إنشاء مكتبة عمومية هو استقبال الوثائق والمخطوطات والكتب المطبوعة عن تاريخ الجزائر وتاريخ العلوم ومساعدة السكان (الفرنسيين طبعا) على التعلم والتثقف. وكانت الكتب المطبوعة تصل إلى المكتبة عن طريق الهدايا من وزارة الحرب (التي تتبعها المكتبة عندئذ) ومن وزارات أخرى متل الداخلية والتعليم، وكذلك من ¬

_ (¬1) فانيان E. Fagnan المجلة الافريقية 1896، ص 88 - 89، وفيه أن المؤلف لمخطوط قسنطينة هو علي الأنبيري، وهو في نظرنا خطأ لأن المؤلف يدعى أحمد. وقد عالجنا الموضوع في أبحاث وآراء، ج 1. وألفه حوالي 1262 (1846). (¬2) هنري ماسيه (الدراسات العربية في الجزائر)، 1930. انظر دي بوسيه (المنشآت الفرنسية في الجزائر)، ج 1، ص 478.

الملك نفسه ومن أفراد أسرته، ومن الأصدقاء، وجهات أخرى مختلفة. أما بالنسبة للمخطوطات العربية فقد جاءت حسب مصدرنا من (الحصاد العلمي والأدبي المخبي في المراكز المحتلة حديثا، ولا سيما قسنطينة). ويضيف هذا المصدر أنه بفضل الاحتلال إذن قامت المكتبة (والمتحف) في الجزائر، وأصبحت تملك عددا من مخزون الوثائق والمخطوطات والمطبوعات وتحفا وأشياء قديمة وحديثة تتعلق بالتاريخ السياسي والطبيعي للجزائر (¬1). في أول إحصاء للمكتبة سنة 1841 ثبت أنها كانت تملك حوالي 1، 800 من الكتب المطبوعة معظمها بالفرنسية واللاتينية. وهي من حيث الموضوع في الأدب القديم والحديث. والتاريخ والآثار والفلسفة، والتاريخ الطبيعي والفيزياء والرياضيات والجغرافية. وفيها مجموعة خاصة بمنطقة المغرب العربي (شمال افريقية). وقد أصبح المستوطنون الجدد يجدون فيها ما يشبع نهمهم في المطالعة والمعرفة. وأما قسم المخطوطات فيها فيحتوي على 647 مخطوطا. منها حوالي 400 كان قد جمعها بيربروجر أثناء الحملات على قسنطينة ومعسكر وتلمسان (¬2). ومن ذلك الرقم (647) توجد حوالي 2000 رسالة أو تقييد في مختلف فروع المعرفة الانسانية عند العرب. وهذه المخطوطات مصنفة كالتالي: 1 - القرآن والسنة: حوالي 450 كتابا. نماذج من القرآن الكريم، وحياة الرسول (صلى الله عليه وسلم) والعقائد، والسنة النبوية، وتفاسير القرآن وشروح الحديث، مثل صحيح البخاري، والجامع للسيوطي، وتفسير البيضاوي، وتفسير أبي السعود، وتفسير الخازن، وتفسير الزمخشري، وحاشية شهاب ¬

_ (¬1) السجل (طابلو) السنة 1841، ص 107. (¬2) هكذا، والرقم (400) يختلف عما ذكره بيربروجر في تقريره السابق إلى المتصرف المدني، وعما جاء به أيضا من معسكر وتلمسان، وربما المئات من المخطوطات قد ضاعت أثناء النقل أو أنها أرسلت إلى المكتبة الملكية في فرنسا.

الدين علي البيضاوي، وشرح العقائد النسفية. 2 - في الفقه المالكي والحنفي، حوالي 200 مخطوط، وتتناول كلها آراء الفقهاء في المذهبين. 3 - اللغة العربية وآدابها: حوالي 600 مخطوط أو أكثر، مثل القاموس للفيروز آبادي، والصحاح للجوهري، والألفية، والآجرومية في النحو، مع مؤلفات في البلاغة والمنطق، ومن ذلك أيضا مؤلفات للسيوطي والزمخشري والجرجاني، والأشموني. 4 - الدواوين الشعرية: حوالي 300 مخطوط، وهي في مختلف أغراض الشعر مع شروحها. من بينها ديوان قديم لأحد شعراء خراسان، عنوانه الجوهرة اليتيمة (يتيمة الدهر؟)، ومقامات الحريري، وديوان الحماسة، والمعلقات، ولامية العجم، وكذلك الأناشيد الدينية (المدائح)، ومجموعة من الأشعار الدارجة أو العامية. 5 - في التاريخ والتراجم، حوالي 50 مخطوطا، منها كتاب الجمان للشاطبي (الشطيبي)، ومختصر التاريخ العام (كذا)، وكفاية المحتاج، والأمثال للميداني. 6 - متنوعات في الطب، والفلسفة، والفلك، والجغرافية، والفيزياء، والتوحيد، والسحر، والتنجيم، الخ ... لم يذكر عددها (¬1). وفي تعليق آخر يقول صاحب المقال إن بعض المخطوطات كانت في حالة جيدة، ولكن بعضها قد تضرر بسبب الحرب، مع إمكان معالجتها. واعتبر سقوطها في يد الفرنسيين غنيمة. وألح على أن معظم المخطوطات جاءت من قسنطينة لأن صالح باي كان أوقف الكتب على المدارس والمنشآت الدينية. والغريب أن صاحب المقال يقول إن حصار قسنطينة ثم احتلالها لم يسمح (بإنقاذ) كل الثروة التي تركها صالح باي. فهل اغتصاب ¬

_ (¬1) السجل (طابلو)، سنة 1841، ص 107 - 108.

المخطوطات من أصحابها الشرعيين إنقاذ لها منهم؟ ومن الذي استفاد منها بعد نقلها إلى أيدي الفرنسيين وحرمان الطلبة والدارسين منها؟. ويعترف صاحب المقال بأن بعض المخطوطات التي نقلت إلى الجزائر قد نقلت منها أيضا أو هربت إلى فرنسا تهريبا مما جعلها بعيدة جدار عن تناول الجزائريين. فكانت المخطوطات العربية يقع تبادلها مع المكتبة الملكية عندئذ (الوطنية) في فرنسا في مقابل بعض الكتب الفرنسية المطبوعة التي يحتاجها المستوطنون الجدد. وأعلنوا عندئذ أنه تمت أول عملية تبادل من هذا النوع بين وزارة الحربية والمكتبة الملكية (¬1). ومن الأسف أن المصدر لم يذكر حجم ولا نوع المخطوطات التي وقع تبادلها أو تهريبها إلى فرنسا عندئذ، وما رأيك في هذه السياسة التي تحرم الجزائريين من ثروتهم الفكرية ومن تراث أجدادهم على يد من جاء يزعم أنه يحمل إليهم مصباح الحضارة؟ يبدو أن الفرنسيين قد اعتبروا الجزائر كلها، أرضا وسكانا وثروات، غنيمة حرب. ظلت المكتبة حوالي ثلاث سنوات لا وجود لها إلا نظريا فقط. كان محافظها كما قلنا هو بيربروجر، وكانت تقع في دار عربية اغتصبها الفرنسيون في زنقة (شارع) الشمس. ويقال إن المكتبة قد فتحت أبوابها للجمهور الفرنسي سنة 1838 في باب عزون، في دار عربية أخرى يقول البعض إنها كانت ملكا للحاج عمر صهر الداي حسن، ويقول آخر إنها كانت ملكا للآغا إبراهيم، صهر الداي حسين باشا. والآغا إبراهيم هو قائد الجيش الجزائري أثناء الحملة الفرنسية (¬2). ومهما كان الأمر فإن الدار العربية قد استولى عليها ¬

_ (¬1) نفس المصدر، ص 108. وربما كان ذلك هو سبب وجود العديد من مخطوطات الجزائر القديمة في المكتبة الوطنية بباريس. (¬2) في (السجل) لسنة 1849، ص 179 أن الدار كانت للحاج عمر صهر الداي حسن باشا (حكم سنة 1790). وفي مقالة قافو (P. GAVAULT) في المجلة الأفريقية، 1894، ص 241 أن الدار كانت للآغا إبراهيم صهر الداي حسين باشا. وإذا صح أن تاريخ بناء الدار يرجع إلى سنة 1828 فأنها تكون دار الآغا إبراهيم بدون شك.

الفرنسيون باعتبارها من أملاك الدولة التي هزموها. وكانت الدار ملاصقة لثكنة الانكشارية التي ظلت قائمة إلى حوالي سنة 1872 والتي جعلها الفرنسيون كوليجا ثم ليسيه (¬1). وبعد عشر سنوات وقعت عدة تغييرات للمكتبة، من جهة المكان نقلت سنة 1848 إلى دار عربية (¬2) أخرى أوسع من الأولى، لكثرة الكتب وضيق الدار الأولى بها. والمكان الجديد كار قصرا فخما بني قبل الاحتلال وكلف بناؤه 500 ألف فرنك. وكان مقرا للقنصلية الأمريكية قبل 1830. وأما من حيث التبعية فإن المكتبة لم تبق تابعة لوزارة الحربية بل أصبحت تابعة لوزارة التعليم العمومي، وذلك على أثر ثورة 1848 في فرنسا وقيام النظام الجمهوري الحريص على الاندماج والحكم المدني للفرنسيين في الجزائر. كانت المكتبة تنمو باستمرار بالكتب المخطوطة والمطبوعة. وكانت تفتح للجمهور ثلاث مرات في الأسبوع. وكان المترددون عليها حوالي ثلاثين شخصا في كل فتحة، ربعهم فقط من الجزائريين، والباقي من الفرنسيين. أما الزوار فقد بلغوا 200 شخص في اليوم (لأن المتحف معها أيضا). وكان قسم المطالعة للجزائريين مفصولا عن قسم المطالعة للفرنسيين تبعا لسياسة التمييز والتفريق بين الأجناس التي تميز بها الحكم الفرنسي. وإلى نوفمبر 1846 بلغت الكتب المطبوعة في المكتبة 1، 473 مجلدا. وكانت مصنفة إلى المواد الآتية: الثيولوجيا، والقانون والنظرية الاجتماعية، واللغات، والتاريخ، والجغرافية، والآداب، والطب، والعلوم، والزراعة، وكتب عن الجزائر، والفنون العسكرية. وتحت عنوان (كتب عن الجزائر) نجد 112 كتابا (في أكثر من 15 مجلدا، تحتوي على 89 رسالة أو كتيبا). ¬

_ (¬1) عن الثكنات العسكرية ومصيرها في مدينة الجزائر انظر مقالة ألبير ديفوكس ومقدمة أدريان بيربروجر في المجلة الأفريقية 1857، 132 - 150. وعددها ثماني ثكنات. (¬2) المقصود بكلمة (عربية) هو ما اصطلح عليه الفرنسيون بالموريسكية (الأندلسية) المبنية على الطراز العربي الإسلامي بشكل فخم ومنسجم مع البيئة الطبيعية والروح الدينية والذوق الاجتماعي الفني، وكل دار كانت عبارة عن قصر.

كما تضم المكتبة وثائق وأوراقا، تتعلق بتاريخ ولهجات الجزائر والمغرب العربي، بالعربية والتركية. أما المخطوطات العربية فبلغت سنة 1846 حوالي 687 مخطوطا. ومن ثمة نلاحظ أنها لم تنم كثيرا في هذا الميدان. ونظرا إلى أن كل مخطوط كان يشتمل على عدة عناوين فإنه يمكن القول إن عدد المخطوطات قد بلغ حوالي 1، 100، وكانت المخطوطات مفهرسة ومعروفة العناوين. وقد تبلع بعد الفحص الدقيق إلى 2، 000 مخطوط، كلها داخلة في الرقم الأول وهو 687. وقد صنفوا المخطوطات إلى خمسة أصناف وهي: الثيولوجيا، والفقه، واللغات، والآداب، والعلوم. فكان فيها مما يخصص الدين: 385، وأصول الدين 39، والحديث 60، والتوحيد 43. ورسائل مختلفة 113 (عقائد، أشعار، قصص الخ). وحياة الرسول (صلى الله عليه وسلم) 83. أما في الشريعة (الفقه وأصوله) فمنها أصول الفقه 22، والمذهب المالكي 73 إضافة إلى ثلاثة نماذج من موطأ الإمام مالك، ونماذج من مختصر الشيخ خليل. وتفيدنا هذه المصادر أن شروح المذهب كانت تختلف رواجا من إقليم إلى إقليم، ففي وهران كان الشائع هو شرح إبراهيم الشبرخيتي، وفي قسنطينة شرح الخرشي، وفي الجزائر شرح عبد الباقي. ومن مذاهب الأيمة: أبي حنيفة والشافعي وأحمد بن حنبل 87 مخطوطا. وفي اللغة العربية وآدابها 113 في النحو والمعاجم، ومنها ستة معاجم فارسية وتركية. وفي القراءات 17، وفي البلاغة 17 أيضا، والاستعارة 9، والإنشاء 5، وفي الأدب العربي 58، والعلوم، منها الأخلاق 47، والفيزياء والرياضيات 30، والطب 21. ومن الأخلاق ثماني ترجمات لكتب أرسطو، ومن الفيزياء والرياضيات اقليدس، والدميري (حياة الحيوان)، وبعض الكتب في الزراعة. ومن مخطوطات الطب كتاب ايبوقراط، وقانون ابن سينا، وتذكرة داود الأنطاكي. أما مخطوطات التاريخ والجغرافية والتراجم فمنها 100، بما في ذلك الرحلات. وهناك صنف آخر سمي بقسم الخرائط والخطط (¬1). ¬

_ (¬1) السجل، سنة 1845 - 1846، ص 115 - 118.

ظلت المكتبة في دار الحاج عمر (أو دار الآغا إبراهيم) بعد انتقالها من مبنى الكوليج (الثكنة القديمة). وكانت تظل على البحر ويضرب الماء أساسها من الجانبين. وكانت الدار المذكورة، كما قال بعضهم، تعتبر في حد ذاتها متحفا بعد أن كاد يختفي الطراز العربي الأندلسي الذي عمل فيه الفأس الفرنسي منذ الاحتلال. وأصبحت المكتبة، وهي في الدار الجديدة تضم أربع قاعات الأولى مخصصة للكتب المتعلقة بالتوحيد والفلسفة والخرائط الخ. والقاعة الثانية مخصصة للأرشيف وكتب التاريخ الطبيعي والفلك والرياضيات والفيزياء والطب الخ. والثالثة كانت تضم جناحين للمطالعة أحدهما للأوروبيين والثاني للجزائريين. ويتبع القاعة الأخيرة خلوة أو مكتب زجاجي ضخم وضعت فيه المخطوطات العربية، كما وضعت في الجناح الخاص بالمطالعين الأوروبيين مجموعة الكتب المتعلقة بالجزائر وتاريخها. وأصبحت المكتبة في نهاية 1849 تضم حوالي 5، 500 كتاب مطبوع وخرائط الخ. وكانت كلها مصنفة إلى ثلاثة أصناف: ما يتعلق بالجزائر، وما يتعلق بالعلوم الأخلاقية (التاريخ، الفلسفة، الدين، الخ ...) وما يتعلق بالعلوم الفيزيائية (الرياضيات، الفلك، الخ ...). وبالنسبة للمخطوطات العربية لاحظ أحد الكتاب ملاحظتين هامتين في نظرنا. الأولى هي قوله إن المخطوطات قد أصبحت (أكثر مما تحتاجه البلاد) وأن الأهالي جاعلون منها قضية كبيرة بينما الأوروبيون لا يستفيدون منها لأنهم لا يعرفون اللغة العربية، ولن يستفيدوا منها إلا إذا عرفوا هذه اللغة. هذه الملاحظة تجعلنا نفهم أن الجزائريين كانوا يترددون على المكتبة لمطالعة بعض المخطوطات، وهم يطلبونها بكثرة حتى لفت ذلك أنظار المصالح الفرنسية التي شعرت بالحاجة إلى منع الجزائريين من الإطلاع عليها، وذلك بتهريبها إلى فرنسا. وقد فهمنا ذلك من عبارة أن المخطوطات قد زادت على حاجة البلاد. وكيف تزيد الكتب عن الحاجة إذا لم تكن هناك نية سيئة إما منع الجزائريين منها رغم أنها ملكهم الشرعي، أو إخفاؤها عنهم بإعطائها إلى المستشرقين في فرنسا، لأن الفرنسيين في الجزائر لن يستفيدوا منها حتى يتعلموا اللغة العربية.

أما الملاحظة الثانية للباحث فهي كشفه عن فقر علماء الجزائر الباقين تحت الإحتلال والتجائهم إلى بيع مخطوطاتهم لسد حاجاتهم المعاشية، خصوصا في شهر رمضان الذي يتطلب مصاريف إضافية. وقد استفادت المكتبة من هذا الوضع فاشترت خلال شهر رمضان (1849) مجموعة هامة من المخطوطات، من بينها كما قيل، كتاب قديم في جغرافية المغرب العربي. وقد أضيفت 200 مخطوطة للمكتبة بعد إحصاء 1846. وهي في موضوعات مختلفة، ومن بينها مخطوطات لا يمكن العثور عليها في مكتبات أوروبا (¬1). وفي سنة 1862 أقيم حائط أمام المكتبة في نطاق تنظيم المدينة، ولكن الحائط غطى قاعة المطالعة حتى أصبحت كأنها كهف، حسب تعبير السيد قافو. وقع التفكير في نقل المكتبة من جديد إلى مكان مناسب، وكذلك فصل المتحف عنها. وهكذا نقلت المكتبة إلى قصر الداي مصطفى باشا، وهو قصر يرجع إلى آخر القرن الثامن عشر وأوائل التاسع عشر حين كان هذا الداي على سدة الحكم (توفى 1805). وقد ورثه منه إبنه إبراهيم باشا الذي سعى مع حمدان خوجة في تخليص الجزائر من الإحتلال الفرنسي بين 1832 - 1836، ولكن الأمر انتهى بإبراهيم إلى السجن حيث مات في سجن عنابة بينما نجا زميله خوجة بالهروب إلى اسطانبول. ثم ورث مصطفى بن إبراهيم القصر من والده، غير أن الورثة رهنوا القصر لفقرهم، وعندما عجزوا عن الدفع استولى عليه فيالار vialar عن طريق المحاكم، وهكذا خرج من يد الورثة سنة 1859. وكاد الحزن يمزق (الأمير) مصطفى الذي عبر عن حزنه في قصته (حكاية العشاق) (¬2). وكان قصر الداي مصطفى من أفخم قصور الجزائر، وكان مقرا للحاكم العام الفرنسي والاستقبالات الرسمية مدة طويلة قبل ذلك. ¬

_ (¬1) السجل، سنة 1846 - 1849، ص 196 - 197. (¬2) انظر ذلك والظروف السياسية والأدبية في تحقيقنا لقصة (حكاية العشاق)، ط 2، 1982. انظر قافو (ملاحظات حول مكتبة ومتحف الجزائر)، في المجلة الأفريقية، 38، 1894، ص 248.

ومهما كان الأمر فقد بقيت المكتبة تتبع وزارة التعليم العمومي أو المعارف، كما أصبحت تدعى، إلى سنة 1898، وفي هذا التاريخ أصبحت ميزانية المكتبة تابعة لميزانية الجزائر بعد أن حصل فرنسيو الجزائر على ما سمي بالاستقلال المالي. وكانت المكتبة سنة 1893 تضم حوالي ثلاثين ألف كتاب تعالج موضوعات مختلفة. ولكن معظم كتبها كانت عامة حتى قال أحدهم إنها مكتبة شعبية، فهي لا تحتوي على كتب نادرة أو غريبة. وكان لها فهارس للمطبوعات، كما قام أدمون فانيان بوضع فهرس المخطوطات العربية (وكذلك الفارسية والتركية) التي فيها سنة 1893. وأصبحت تملك لأول مرة منذ إنشائها كاتلوقا لمخطوطاتها. وكان الكاتلوق يضم حوالي ألفي مخطوط، أغلبها بالعربية، وقد اطلعنا عليه عدة مرات ورجعنا إلى بعض عناوينه. وعلق قافو على المخطوطات عندئذ فقال إن منها ما هو تحفة فنية ويعتبر من العينات في الزخرفة والتجليد الممتاز والخط المذهب، وقال بعد أن نسب إلى بيربروجر فضيلة جلب المخطوطات من قسنطينة: إن الجزائر (العاصمة) مدينة أمية من أصلها ولم يكن فيها مخطوطات تقريبا. وهذا غير مستغرب من باحث غير نزيه. فقد كانت العاصمة تتوفر، كغيرها، على مكتبات خاصة غنية مثل مكتبات أحمد بن عمار وابن علي وسعيد قدورة وابن العنابي وابن الأمين وابن الشاهد والكبابطي، وغيرهم. ويعرف السيد قافو أن أغنياء علماء الجزائر قد خرجوا منها ساعة دخول الجيش الفرنسي واستباحتها، وقد حملوا معهم ما قدروا عليه. أما مكتبة الجامع الكبير التي كان يضرب بها المثل فقد صودرت مع أملاكه الوقفية الأخرى، كما أوضحنا في فصل آخر. أما أقسام الكاتلوق الذي وضعه فانيان للمخطوطات فيشمل حوالي خمس عشرة وحدة. منها القرآن الكريم والحديث والفقه (396 عنوانا، والباقي موزع على الفلسفة والسياسة والأمثال، والحساب، والهندسة، والفلك والعلوم، والجغرافية والتاريخ والطب والشعر والنثر المسجوع والقصص وغيرها (¬1). ¬

_ (¬1) قافو (ملاحظات ...) في المجلة الأفريقية، 1894، (مرجع سابق)، ص 241 - 274. حسب هذا المصدر فأن الذين تداولوا على المكتبة هم: بيربروجر إلى =

ولم تنم المكتبة كثيرا بين 1894 و 1912. فالإحصاء الذي قدم في التاريخ الأخير يذكر زيادة ألفي كتاب فقط على الإحصاء الأخير وهو ثلاثون ألفا منها خمسة آلاف خاصة بالمغرب العربي، و 289 فقط من المطبوعات العربية. أما المخطوطات العربية (والفارسية والتركية) فقد بقيت هي هي، حوالي 2075 مجلدا. أما المجلات، وهي فرنسية وأوروبية بدون شك، فقد بلغت 106. ويقول غبريال ايسكير الذي أصبح هو محافظ المكتبة وبقي فيها مدة طويلة، إن 786 مجلدا ومخطوطا دخلت المكتبة بين أكتوبر 1910 ويوليو 1911، بعضها بطريق الشراء وبعضها بطريق الهدية، من الحكومة العامة ومن الوزارات المعنية. ويقول إن المجلات فيها مطلوبة أكثر من الكتب، وأن المكتبة تقدم الكتب للمطالعة في عين المكان، كما تعيرها بطريقة منظمة. ومع ذلك فان ايسكير كان غير راض عن خدمات المكتبة كمؤسسة عمومية، وقال إن المكتبات ذات الخدمات العامة لا توجد إلا في ¬

_ = 1869، ومكارثي إلى 1891، وموبا Maupas منذ 1891، ثم تولاها غبريال ايسكير G. Esquer من 1916 - 1948، وكان مؤرخا. أما الجزائريون الذين علموا في المكتبة العمومية (الوطنية) فلم نعثر سوى على اسمين منهم. الأول هو حسن بن أحمد، المعروف وليد أمين البنائين، فقد أصبح خوجة في المكتبة سنة 1845 وظل على وظيفته إلى وفاته سنة 1867. وقد وجدناه سنة 1858 يضيف إلى ذلك الإمامة في المدرسة السلطانية (الكولييج الامبريالي). وكان والده أحمد مهندسا وبناء خلال العهد العثماني ولذلك سمي أمين البنائين. وكان أحمد صديقا لوالد حسن بن بريهمات. وهذا هو الذي ابنه في جريدة (المبشر) في 21 فبراير 1867. وقد ذكره أيضا بيربروجر (محافظ المكتبة) في مقالة له بالمجلة الأفريقية سنة 1857 ص 138. أما الجزائري الثاني الذي توظف في المكتبة وكان خوجة (كاتبا) بها فقد كان من عائلة حفيز (وهو النطق العثماني لحفيظ) واسمه إسماعيل بن حفيظ. وقد أشار إليه قافو GAVAULT في مقالته سنة 1894 وذكر أنه هو الذي ساعده على ترجمة الخطوط والنقوش التي كانت بقصر الداي مصطفى باشا حيث كانت المكتبة. انظر قافو (ملاحظات على مكتبة ومتحف الجزائر) في المجلة الأفريقية، 1894، ص 266. ولا شك أن هناك جزائريين آخرين استعان بهم الفرنسيون في المكتبة مدى وجودها، ولكنهم كانوا فى درجة ثانوية جدا.

بريطانيا وأمريكا والبلاد الاسكندنافية (¬1). أما المبنى الحديث للمكتبة الوطنية فقد بني سنوات 1954 و 1958، في أعالي العاصمة (شارع فرانز فانون اليوم) وقرب قصر الحكومة. والمبنى في شكل مستطيل يقدر ب 22 مترا من ناحية الواجهة ويحتوي على عشر طوابق و 322 مقعدا للقراء و 36 كلم من الرفوف مستعدة لتحمل أكثر من مليون كتاب. وتضم أيضا قاعة للعرض وأخرى للمحاضرات. وكانت تضم مكتبات خاصة مثل مكتبة غزال مؤرخ بلاد المغرب القديم، وأضيفت لها كتب ومجلات بالعربية مطبوعة في المشرق، وكان فيها عند الاستقلال أكثر من ألف مجلة وجريدة (1، 310) معظمها فرنسي طبعا. وصدر سنة 1956 قانون الإيداع الذي يحتم على كل ناشر في الجزائر أن يودع فيها نسخة من مطبوعاته تسمى الإيداع الشرعي. وفي المكتبة قسم للموسيقى جمعته جمعية الفنون الجميلة ولها غرف (ديسكوتيك) للاستماع، وكذلك لها قسم للإعارة الخارجية ومكتبات فرعية تتغذى منها، حوالي 310 مكتبات (¬2). ورغم تطور المكتبة على النحو الذي ذكرنا من حيث البناء والمحتوى فإنها بقيت جهازا لخدمة المجموعة الفرنسية ورمزا (للاستعمار الثقافي) القائم على التمييز بين الأجناس. وبعد الاستقلال حاول رابح بونار وجلول البدوي وضع فهرس جديد للمخطوطات ولكن المشروع لم ير النور. ثم كانت محاولة عبد الغني أحمد بيوض ومحمود بوعياد (مدير المكتبة سنوات طويلة)، ولكننا لا نعرف ماذا تم فيها (¬3). وهكذا بقي فهرس فانيان (¬4) الذي مضى عليه قرن هو الوحيد عن المخطوطات في المكتبة. وقد بلغ عدد المخطوطات في القسم العربي والفارسي 3000 مخطوط. وفيه مخطوطات ¬

_ (¬1) غبريال إيسكير (المكتبات العمومية في الجزائر) في (الحوليات الجامعية الجزائرية)، مارس 1912، ص 4 - 5. (¬2) قوانار (الجزائر)، 288. (¬3) عبد الكريم العوفي (التعريف بمراكز المخطوطات في الجزائر)، صفحات مرقونة، ص 4. (¬4) سمعنا ونحن نصحح هذا الكتاب. أن فهرس فانيان قد أعيد طبعه.

المكتبة الجامعية

نادرة وغنية يرجع بعضها إلى القرون 12، 13، 14، الميلادية. أما قسم الكتب العربية المطبوعة فيضم 27، 000 مجلدا. ويعتبر قسم الجزائر وقسم المغرب العربي (شمال أفريقيا) أغنى أقسام المكتبة (¬1). المكتبة الجامعية وهناك أنواع أخرى من المكتبات العمومية التي نشأت في العهد الفرنسي. أولها مكتبة جامعة الجزائر، وكذلك المكتبات التابعة للكليات والمعاهد التي نشأت منذ الثلاثينات من هذا القرن. يرجع إنشاء المكتبة الجامعية إلى سنة 1880 حين تأسست أرسى مدارس عليا في الجزائر لتكون هي كليات الآداب والحقوق والعلوم والطب المقبلة، وكانت مدرسة الطب قد ظهرت منذ الخمسينات فكان لها مكتبتها الخاصة ومنشوراتها وأساتذتها. ولكن سنة 1880 شهدت ميلاد المدارس العليا الثلاث إضافة إلى مدرسة الطب لتكون جميعا هي الكليات التي أنبنت عليها جامعة الجزائر ستة 1909. فقد كان للمكتبة الجامعية ميزانيتها الخاصة سواء في قانون إنشاء المدارس سنة 1879 أو في قانون إنشاء الكليات سنة 1909. ومن الطبيعي أن تظهر المكتبة الجامعية صغيرة وأن تنمو بالتدرج. كما كان من الطبيعي أن تنتقل من مكان إلى أخر إلى أن تستقر حيث هي الآن وسط مباني جامعة الجزائر في قلب العاصمة. وكان قد شرع في بناء المكان سنة 1884، ثم انتقلت إليه بعد أربع سنوات (1888). وقد تولى إدارتها مديرون فرنسيون، أولهم بيرسون Pierson الذي لم يبق فيها أكثر من عام، ولكن المدير الذي طال عهده هو لويس باولي Paoli (1925 - 1884) (¬2) . ¬

_ (¬1) كتاب اليوبيل الذهبي لجامعة الجزائر، 1909 - 1959، الجزائر، 1959، ص 223 - 229. (¬2) ولد سنة 1856 ومارس المحاماة في مونبلييه، وعمل في مكتبة هذه المدينة، سيما مكتبة الحقوق وشارك في مسابقة المكتبات الجامعية وفاز بالعمل في مكتبة الجزائر الناشئة، منذ 1884 وهي التي بقي فيها إلى تقاعده سنة 1925، وتوفي سنة 1936 (19 فيفري) =

وكان عدد الموظفين في المكتبة قليلا فلم يكن فيها سنة 1906 سوى اثنين: مكتبي وعامل قاعة، وبين 1909 - 1921 كان فيها مكتبي، وثلاثة عمال قاعة، ثم نما عدد الموظفين فيها نظرا لتوسع الجامعة وإنشاء المعاهد التابعة لها وزيادة عدد طلابها، ابتداء من سنة 1925. فكان عدد موظفيها سنة 1958، ثمانية وعشرين شخصا. أما المدير الذي خلف باولي سنة 1925 فهو لويس جيول Gieules الذي توفي سنة 1927 تم تبادلت عليها الأيدي إلى سنة 1932 حين تولاها مارسل كولبير M. Koelber الذي ظل فيها إلى الخمسينات. ومما كانت تشكو منه المكتبة هو ضيق المكان على الكتب والمطالعين، فقد بنيت القاعة لاستقبال عدد ضئيل من القراء - حوالي أربعين - ولكنها أصبحت سنة 1923 تستقبل 120. فكانت كل التقارير تشير إلى ضيق القاعة ومخازن الكتب واعدام الجهة التي يكن أن تتوسع فيها المكتبة، أما بالنسبة للأساتذة فلم يكن لهم في المكتبة كلها سوى منضدة (طاولة) واحدة بأربعة كراسي وسط قاعة المطالعة العمومية، ولكن منذ 1930 أخذ وضع المكتبة يتحسن من حيث السعة حين تركت بعض الكليات قاعات كانت تحتلها بالمبنى فاستفادت المكتبة منها. كانت المكتبة تضم سنة 1888 أربعين ألف مجلد، منها 17، 900 كتاب عادي ومجلة، و 22، 410 من الاطروحات الجامعية والكتب الأكاديمية، وفي ظرف قصير نسبيا نمت إلى 179، 680 كتاب، وذلك سنة 1910 - 1909 وهي الفترة التي ولدت فيها الجامعة، ومن ذلك المجموع: 54، 877 مجلدا عاديا ومجلة، و 124، 803 من الأطروحات والبحوث الأكاديمية، وخلال عشر سنوات أصبحت المكتبة نجم 233، 394 مجلدا، وفي سنة 1938 - 1939، كان فيها 7 352، 30 مجلدا. أما سنة 1958 - 1957 فقد كان فيها 486، 361 مجلدا، حوالي نصفها (243، 591) من الأطروحات والبحوث الأكاديمية، وكان مجموع ما تملكه سنة 1958 من ¬

_ = وقد نشر بحوثا فى عدة مجلات معظمها متخصصة فى الحقوق والتشريع.

المجلات والدوريات الأجنبية 630 مجلة ودورية. وكان لمكتبة الجامعة نظام خاص بالإعارة الداخلية والإعارة الخارجية، وكانت الإعارة في تزايد مستمر. وقد كان قراؤها أيضا يتزايدون على النحو التالي: 1909 كان عددهم 11، 265، وفي سنة 1929 كانوا 18، 088، وفي سنة 1958 بلغوا 72، 803. هذا مع العلم أن طلاب الجامعة في هذه السنة لا يزيدون عن 5000 طالب، وكانت أوقات المكتبة تساير فتح الجامعة ونظام الدراسة فيها، فإلى سنة 1943 كانت أوقات فتح المكتبة لا تجاوز ست ساعات يوميا، وهي مقسمة على فترتين صباحا ومساء، ولكن منذ ديسمبر 1943 أصبحت المكتبة تفتح من الساعة الثامنة والنصف صباحا إلى السادسة والنصف مساء دون توقف (¬1). والمعروف أن محتويات المكتبة قد تضررت كثيرا بفعل الحريق الذي تعرضت له سنة 1962، حين عمدت (منظمة الجيش السري) الإرهابية إلى إضرام النيران في المكتبة، وفق مخططها الرامي إلى منع الجزائر من الوصول إلى الاستقلال، ولا يعرف بالتدقيق عدد المجلات والدوريات والوثائق التي تلفت تماما أو تلفت جزئيا. (¬2). وبالإضافة إلى المكتبة العامة والجامعية أنشأ أصحاب الكنائس مكتبات في تخصصهم لجلب القراء من أصحاب المذاهب الأخرى بمن فيهم ¬

_ (¬1) اعتمدنا على المعلومات الواردة في كتاب الذكرى الخمسينية (اليوبيل الذهبي) لجامعة الجزائر 1909 - 1959، طبع المطبعة الرسمية لحكومة الجزائر، د. ت. (1959؟) ص 213 - 222. (¬2) قامت عدة جامعات عالمية بعد استقلال الجزائر بتعويض المكتبة الجامعية جزئيا عما فقدته ومن بينها جامعة منيسوتا (أمريكا) التي كنت الطالب الجزائري الوحيد فيها، وقد قام رئيسها عندئذ مرديت ويلسون M. Wilson بتسليمي بيانا بهدية الكتب إلى جامعة الجزائر باسم جامعة منيسوتا وسط أضواء واحتفال بهيج حضره عمداء الكليات وشخصيات علمية وإدارية أخرى، كان ذلك سنة 1962. وكانت منظمة الجيش السري تختصر اسمها هكذا: OAS.

المكتبات العسكرية والبلدية والمدرسية

المسلمون. فكان للكاثوليك الذين يمثلون غالبية الفرنسيين مكتباتهم سواء كانت تابعة للأسقفية المركزية أو تابعة لفروعها ومراكزها، كما كان للبروتستانت مكتباتهم، رغم قلتها. ومن هؤلاء الإنكليز. ونحن لا نريد أن نتتبع هذه المكتبات الكنسية وتطورها، وحسبنا هذه الإشارة إليها. لقد كان المنصرون يتنافسون على تنصير الجزائريين من جهة كما كانوا يتنافسون فيما بينهم على نشر مذاهبهم بين المسيحيين. وكان الإنكليز قد فتحوا مكتبتهم بالعاصمة سنة 1864، وفيها كتب بالإنكليزية موجهة إلى السواح. وكانت الكتب تقدم إلى المكتبة من قبل الجمعيات الدينية وغيرها في بريطانيا. وكانت السيدة روجرز قد جاءت إلى الجزائر في مهمة دينية وجاءت معها بصندوق من الكتب وأهدته إلى المكتبة عن طريق القنصل. وعند افتتاح المكتبة كانت تضم حوالي سبعين كتابا فقط، ولا شك أنها نمت بعد ذلك. وكانت تبع (الجمعية الاستعمارية والقارية) وتديرها لجنة يشرف عليها القنصل ونائبه، وقد أطالت السيدة روجرز في وصف هذه المكتبة في الجزائر (¬1). المكتبات العسكرية والبلدية والمدرسية وأنشأ الفرنسيون كذلك نماذج أخرى من المكتبات لم تكن معروفة في الجزائر، وهي المكتبات العسكرية. ففي كل مكتب عربي وفي المراكز والقطاعات العسكرية مكتبة تضم مؤلفات عن تاريخ الجزائر وطرق معرفة اللغة العربية وبعض المعاجم الفرنسية - العربية، وغيرها، مما يهم الضباط المكلفين بالشؤون الجزائرية معرفته، وكذلك الجنود، داخل معسكراتهم. كما يجدون في وسائل الدراسة الراحة النفسية، ولا سيما في الأماكن النائية. وكان من أهداف إنشاء هذه المكتبات الإبقاء على التأثير الفرنسي في الجيش حتى لا ينقطع عن المنع أو يصح (افريقيا). ومعظم الكتب كانت تتبرع بها ¬

_ (¬1) السيدة روجرز (شتاء في الجزائر)، ص 95 - 96، 141 - 143.

وزارة المعارف العمومية، وبعضها كان يأتي بطريق الشراء أيضا .. وقد وصل عدد المكتبات العسكرية سنة 1846 إلى 26 مكتبة موزعة على الأقاليم الثلاثة (¬1). ولا شك أن هذه الكتب كانت بالفرنسية وهي تخص الجيش وتكوينه، وهي موجهة إلى الفرنسيين فيه. وقد علمنا أن معظم ضباط المكاتب العربية كانوا يجمعون من الأهالي الكتب العربية المخطوطة ويحتفظون بها غالبا، لأنفسهم. وكذلك نشأت المكتبات البلدية، وهي أيضا مع جديد في الجزائر. وكان المكتب العربي (العسكري) هو نواة البلدية (المدنية) في النظام الفرنسي. وقد نشأت البلديات بالتدرج وتوسع عددها بالتدرج أباه سيما في المدن الساحلية والتلية ثم الهضاب العليا ثم الأطلس الصحراوي. وهناك مناطق جنوبية بقيت تحت النفوذ العسكري إلى عشية الثورة الكبرى 1954. ومن ثمة فإن التوسع في المكتبات البلدية لم يكن على درجة واحدة. وأولها طبعا بلديات العواصم مثل قسنطينة والعاصمة وتلمسان ووهران وعنابة ومستغانم، الخ. وكانت للبلديات ميزانية خاصة لشراء الكتب، ولكنها ميزانية ضعيفة، حسب السيد ايسكير. وإليك هذه المقارنة. فبلدية ريكيافيك (إيسلاندا) التي لا تضم سوى خمسة آلاف ساكن كانت تخصص خمسة عشر ألف فرنك للمكتبة، أما بلدية الجزائر التي يقطنها 172 ألف ساكن (سنة 1912) فلا تخصص للمكتبة سوى سبعة آلاف فرنك. ولسنا في حاجة إلى التأكيد على أن المكتبات البلدية في الجزائر إنما أنشئت لخدمة الجالية الفرنسية. وهذه بيانات عن بعض المكتبات البلدية قدمها السيد ايسكير سنة 1912. نشأت مكتبة بلدية وهران سنة 1860، وسكان وهران عندئذ بلغوا 123 ألف ساكن، منهم 104 آلاف فرنسي، وقد بلغ دخلها (البلدية) 470، 2، 721 فرنك، خصص منها 4، 100 فقط للمكتبة التي تملك عشرة آلاف ¬

_ (¬1) السجل، سنة 1846، ص 118.

مجلد، و 12 مجلة ولها أوقات عمل منتظمة (¬1). وهذه بلدية قسنطينة التي بلغ سكانها 65، 173 ساكن، منهم 330، 33 فرنسي، ولا تقدم إلى المكتبة البلدية سوى 2، 800 فرنك. وقد أنشئت المكتبة سنة 1866، وتملك 18، 435 مجلدا، و 19 مجلة. ولها أوقات عمل منتظمة كذلك. وكانت بلدية العاصمة تضم كما سبق 172 ألف ساكن، منهم 133 ألف فرنسي. ويبلغ دخلها 302، 7، 226 فرنك، منها سبعة آلاف فرنك فقط للمكتبة التي أنشئت سنة 1872، وهي تملك 17، 000 مجلد و 32 مجلة. وتقدم الكتب في عين المكان بالإعارة، ولها أوقات عمل منتظمة. وقد نقلت الكتب الثقيلة بعيدة عنها بحوالي أربعة كلم (؟). ثم إن بلدية عنابة كانت تضم 42، 000 ساكن، منهم 29، 000 فرنسي، ودخلها يبلغ، 2، 197، 000 فرنك. وقد أنشئت المكتبة سنة 1886، وهي تحتوي على 14، 000 كتاب و 6 مجلات. أما بلدية تلمسان فكانت تضم 40، 000 ساكن، منهم 13، 500 فرنسي. ودخل البلدية 519، 500 فرنك. وترجع المكتبة إلى حوالي 1852، وكانت تضم 2، 700 (¬2) مجلد. ومن ثمة ترى أن ايسكير كان مهتما، بالكتب البلدية ونسبة الميزانية والسكان الفرنسيين مع إهمال الحديث عن المخطوطات العربية. وبالإضافة إلى ذلك هناك المكتبات المدرسية، سيما مكتبات الليسيات وحتى المتوسطات. ولا نريد أن نطيل في هذا النوع هنا، ولكن ننبه إلى أن ¬

_ (¬1) عن خزانة مكتبة الجمعية الجغرافية والآثار بوهران انظر أيضا المهدي البوعبدلي (دراسة حول إحياء معالم مدينة الجزائر)، وهي عندي بخطه. من أعضاء الجمعية الدكتور جوكو بان ودوميرت، محافظ متحف وهران. ولها مجلة معروفة (BSGO)، وتحتوي الخزانة على حوالي عشرة آلاف مجلد، إضافة إلى المجاميع من المجلات. (¬2) ايسكير، مرجع سابق، ص 4 - 5.

هذا النوع غير جديد في الجزائر، فقد عرفت المنشآت العلمية والمدرسية، كالمدارس والزوايا والمساجد، مكتبات غنية، وإنما الفرنسيون هم الذين حرموا منها أصحابها باستيلائهم على المنشآت والمكتبات أيضا. والمكتبات المدرسية الجديدة كانت فرنسية وبالفرنسية. ولكن بعض الزوايا بقيت محافظة على تراثها، كما أنشأت الزوايا الجديدة مكتبات هامة مثل زاوية الهامل وبعض زوايا الصحراء وزواوة. كما أن مدارس الحركة الإصلاحية ضمت أيضا مكتبات مدرسية معظمها كانت للمعلمين. ونشير أيضا إلى أن بعض الجمعيات كانت قد أنشأت مكتبات ضخمة (¬1). من أقدم المدارس الي أنشأها الفرنسيون هي المدارس العربية - الفرنسية التي أطلقنا عليها أحيانا الشرعية وأحيانا الرسمية، والتي كانت تسميها (المبشر) المدارس الفقهية، فقد افتتحت كما عرفنا سنة 1850 وكانت موجهة لتخرج القضاة والأيمة وتدريس العربية (¬2). ويهمنا هنا أن كل مدرسة (وهي ثلاثة) كانت تحتوي على مكتبة للأساتذة والطلبة. وكذلك بعض المخطوطات التي تهدى إليها أو تقتني أو تنهب أثناء العمليات العسكرية. وهكذا كانت مكتبة الثعالبية في العاصمة والكتانية في قسنطينة ومدرسة تلمسان. وفي أوائل هذا القرن قام المستشرق أوغست كور بوضع فهرس لمخطوطات مدرسة تلمسان، وقد كان أستاذا فيها. وبناء عليه فإن مكتبة المدرسة كانت تضم 110 مخطوطات. وكانت مفهرسة بدون ترتيب ولا نظام، وكان بعضها يرجع إلى الأوقاف، وبعضها أهداه الأهالي، وبعضها أخذ أثناء الحملات العسكرية. ويعترف كور أن تلمسان كانت تتوفر على كثير من المخطوطات النادرة، وأنه لا يمر شهر دون أن يسمع أحد الأساتذة بوجود مخطوط نادر غير معروف. وقد قال أيضا أن فهرسة المخطوطات ¬

_ (¬1) انظر عن هذه الجمعيات فصل الاستشراق ... (¬2) عن هذه المدارس انظر فصل التعليم المزدوج.

كانت فوضى لأن الأسباب الاقتصادية جعلت المشرفين عليها يسفرونها في مجموعات لا علاقة بينها من حيث الموضوعات. قام كور بوضع فهرس بالفرنسية للمخطوطات العربية ضم أسماء المؤلفين. أما عناوين المخطوطات فقد احتفظ بها عربية. وضرب كور أمثلة على ندرة بعض المخطوطات بكتاب (بغية السالك في أشراف الممالك) لمحمد السهيلي (كتبه الساحلي؟) وقال إنه لا توجد منه نسخة أخرى إلا في المتحف البريطاني. وبالإضافة إلى ذلك هناك كتب عن الطرق الصوفية ومنها كتاب لمحمد بن عبد الرحمن الأزهري (بوقبرين) وكتب أخرى في التاريخ والأدب وغيرهما مثل روضة النسرين، ونظم الدر والعقيان، والاكتفاء. وتوقع الفرنسيون أن نشر الفهرس (الكاتلوق) سيجعل الأهالي يتبرعون بمخطوطاتهم إلى مكتبة المدرسة أو على الأقل بنسخ منها. وكانت حكومة شارل جونار قد أقدمت على مشروع يتضمن فهرسة المخطوطات في مختلف المراكز ومنها المدارس الرسمية الثلاث (¬1). وحين أعيد تنظيم التعليم العربي - الإسلامي بدروس المساجد والمدارس في آخر القرن الماضي وأوائل هذا القرن نشأت أيضا إزاء كل حلقة درس مكتبة من نوع المكتبات المدرسية، حيث يراجع الشيخ درسه ويوسع التلاميذ معلوماتهم. وكان التنافس كبيرا على فتح المكتبات المدرسية بالعربية والفرنسية، وكان المفتشون الفرنسيون يلحون على وجود هذه المكتبات ويعتبرون الشيخ الذي لم وفق في إنشاء نواة لها فاشلا في مهمته التعليمية. وهكذا نشأت في عنابة، وسطيف، ووهران، وقسنطينة، وبجاية، وتلمسان الخ ... مكتبات من النوع الذي نتحدث عنه. وإذا لم يتيسر فتح مكتبة جديدة كان المعلم والتلاميذ يلجأون إلى أقرب مكتبة لهم باتفاق مع المفتي والسلطات المحلية. مثله في سنة 1905 لاحظ ألفريد بيل بعد تفتيشه مدرس ندرومة، أن ما ينقص هذه المدينة هو المكتبة التي يجب أن تلحق بالجامع وتكون تحت مسؤولية المدرس. وقال إنه من السهل على بلدية ندرومة أن ¬

_ (¬1) أوغست كور (كاتلوق المخطوطات العربية ...) جوردان، الجزائر، 1907، 72 صفحة مراجعة (مجلة العالم الإسلامي) يناير 1908، ص 217 - 218.

تنشئ مكتبة بالعربية لذلك الغرض سيما مع وجود من يرغب في المطالعة في ذلك الوقت. ولاحظ أنه لا وجود لمكتبة عمومية ولا مدرسية في ندرومة عندئذ. وقد طالب بيل بأن تكون المكتبات العربية مفتوحة للمدرسين والتلاميذ، ولاحظ أن مكتبة تلمسان فقط هي الوحيدة العمومية المفتوحة لهم (¬1). وفي سنة 1906 لاحظ ويليام مارسي الذي فتش مدرسي مليانة أن هناك مكتبة عربية مجاورة لجامع سيدي أحمد بن يوسف، وهي غير موظفة للتلاميذ والمدرس. ولذلك حث المفتي على تسهيل مهمة المدرس في استعمال المكتبة وكذلك التلاميذ (¬2). وجاء في تقرير أحد المفتشين سنة 1907 أن السيد الأخضر بن أحمد العلمي كان محافظا للمكتبة الإسلامية في بجاية وهو المدرس أيضا بالجامع هناك، بل كان يعطي درسه في المكتبة الملحقة بالجامع. وكانت المكتبة مفتوحة في أوقات محددة صباحا ومساءا. وصاحبها (العلمي) كان من خريجي مدرسة قسنطينة الشرعية الفرنسية ومن مواليد 1868 (¬3). وقال عنه سان كابر في تقرير كتبه حوالي (1908) إن الشيخ العلمي كان محبا للكتب، وإنه طلب كتبا إضافية للمكتبة (¬4). ونفس الشيء يقال عن المكتبة الإسلامية في عنابة سنة 1908. فالسيد بلايلي وافق له المفتش سان كالبر على أن يجمع بين وظيفة التدريس والإشراف على المكتبة لأن راتبه كمدرس لا يكفيه. ولاحظ المفتش أن حالته المادية قد تحسنت بعد ذلك (¬5). وقد طلب السيد محمد الميلي بن معنصر، المدرس في ميلة، الكتب ¬

_ (¬1) ألفريد بيل، تقرير سنة 1905، أرشيف إيكس - فرنسا، 47 H 14 . لعله يقصد مكتبة المدرسة الشرعية وليس مكتبة البلدية. (¬2) نفس المصدر. (¬3) ألفريد بيل، تقرير سنة 1905، (مرجع سابق). (¬4) نفس المصدر. (¬5) نفس المصدر.

مكتبات الزوايا

المدرسية من الحكومة العامة للجزائر أسوة بزملائه مدرسي بجاية ووادي الزناتي وعنابة الذين طلبوها وحصلوا عليها. كما طلب بلقاسم خمار مدرس بسكرة الكتب المدرسية أيضا. وكذلك أوصى تقرير ديستان بإرسال كتب (كلاسيكية) إلى مدرس بو سعادة (ابن الحاج)، ممثلة في عشر نسخ من كل من الآجرومية أو القطر (في النحو) ولامية الأفعال (في الصرف)، والدرة البيضاء (في الحساب والفرائض)، والمنتخبات (في القراءة) (¬1). أما الكتب التي يحتاجها المدرس فقال المفتش إنها متوفرة. إن حركة الكتاب كانت نشيطة سواء في المكتبات المدرسية أو البلدية أو العسكرية أو الجامعية أو الوطنية، بل لقد نشأت أيضا مكتبات ولائية، ولو أن الكتب التراثية العربية لم يصبها الأذى الذي ذكرناه بالسرقة والنهب والحروب والاختلاس ونحو ذلك، لكان المجتمع الجزائري قد واصل مسيرته نحو التعلم والتثقف ولخرج من ظلام الأمية الذي فرضه التعسف الاستعماري. مكتبات الزوايا نقصد هنا زوايا الأرياف، لأن زوايا المدن قد عانت من مصادرة أوقافها ومن الهدم ولم يبق لها دور يذكر أثناء الاحتلال (¬2). أما زوايا الريف فقد استمرت خلال أكثر من خمسين سنة وهي مراكز لدعوة الجهاد والتعليم العربي الإسلامي وخزائن الكتب والتراث. ولكن الاحتلال لم يرحم هذه ¬

_ (¬1) نفس المصدر. هذه الكتب وفرتها لجنة الترجمة التي أقامتها الحكومة العامة في آخر القرن الماضي. وعن هذا النوع من التدريس في المساجد أو في الأماكن الملحقة بها انظر فصل التعليم. (¬2) نقصد هنا دور الزوايا التعليمي والاجتماعي. أما الدور الديني والصوفي فقد سمح به الفرنسيون في المدن بعد السيطرة عليها، بل أنهم شجعوا بعض الطرق الصوفية على فتح زوايا لها في المدن أو قدموا لها هم الأماكن الضرورية. فكانت تلمسان وقسنطينة مثلا تضم زوايا للتجانية والعيساوية والقادرية وغيرها خلال هذا القرن. كما كانت العليوية والدرقاوية والطيبية نشيطة في تلمسان، والحنصالية والرحمانية والعمارية نشيطة في قسنطينة.

الزوايا أيضا، فبعضها قد هدم أو أحرق نتيجة الثورات، ونفي رجالها أو هاجروا كما جرى لمعظم زوايا زواوة وأولاد سيدي الشيخ. وكانت الكتب والحياة العلمية هي الضحية لذلك التعسف. ومن الزوايا التي كانت عامرة بالكتب عشية الاحتلال ثم تأثرت بما ذكرناه، زاوية القيطنة، وزاوية شلاطة وزاوية اليلولي. ثم نبتت زوايا جديدة على أنقاض الأولى في عدة أماكن؛ وكان التعليم، وليس التصوف، هو شعارها. واستطاعت أن تجلب الكتب وأن تستعمل النسخ لحفظ التراث. ومن ذلك زاوية ابن أبي داود بتاسلنت (آقبو)، وزاوية الهامل نواحي بوسعادة، وزاوية طولقة نواحي بسكرة، وزاوية قصر البخاري، وزاوية أولاد الأكراد بنواحي تيارت، وزاوية البوعبدلي في أرزيو، وزوايا تمنطيط. فقد كون أصحاب هذه الزوايا مكتباتهم عبر السنين حتى أصبح بعضها مضرب المثل في الثراء العلمي والمحافظة على التراث. وهناك زوايا أخرى عرفت بجمع الكتب أيضا ولكنها غير مفتوحة للدارسين والزائرين إلا القليل مثل زاوية قمار التجانية وزاوية تماسين. ومن جهة أخرى فإن بعض الزوايا القديمة قد انتعشت من جديد وعادت إلى دورها في التعليم وجمع الكتب مثل زاوية شلاطة (ابن علي الشريف). ونود الآن أن نذكر بعض المكتبات في هذه الزوايا وما اشتهرت به من مخطوطات، حسبما توفر لدينا من معلومات. ومن ذلك: أ - مكتبة ابن أبي داود: يقول عنها الشيخ علي امقران السحنوني إنها كانت غنية بالمخطوطات. ولم تكن المكتبة مجموعة في مكان واحد بل كانت في حجرات عديدة، ومنها الحجرة الأزهرية التي كانت تضم خمس خزائن كبيرة من المخطوطات والكتب المطبوعة. وكانت هي الحجرة التي يستقبل فيها الشيخ ضيوفه. ثم حجرة دار الأحباس وتسمى أيضا خزانة الطارمة وفيها خزانتان كبيرتان وخزانتان صغيرتان. وفي المكتبة قسم للكتب المدرسية التي يتداولها الطلبة للقراءة في عين المكان، والاستعارة الخارجية، وكان من حقهم النسخ منها إذا رغبوا. والمطالعة كانت مجانية وكذلك

الإعارة. وبالإضافة إلى ذلك هناك خزانة خاصة بالوثائق والمراسلات الصادرة عن الزاوية والواردة إليها. كما أن في المكتبة مجموعة من المجلات والصحف القديمة. ومن بين ما تضمنته المكتبة كناش ضخم يحتوي على ما يلي من التقاييد والموضوعات: 1 - نظم في مشتركات (؟) السوسي للشيخ السعيد بن عبد الرحمن بن أبي داود، جد الأسرة. 2 - وتعليق على ذلك النظم بقلم حفيد الناظم، أحمد بن أبي القاسم بن السعيد (منه نسختان ناقصتان). 3 - وقطع شعرية لمحمد بن عبد الرحمن الديسي في مدح أسرة ابن أبي داود. 4 - ونظم مثلثات قطرب من صفحتين. 5 - وإجازة في الطريقة (الرحمانية؟) لعلي بن عيسى شيخ زاوية الكاف بتونس إلى محمد بن عبد الله الخالديوي في ثمانية أوراق. 6 - وأرجوزة في علامات الرعد لابن رحال الأندلسي تقع في أحد عشر بيتا. 7 - وأرجوزة لمجهول في كيفية الآذان، تقع في أربعة عشر بيتا. 8 - وسند الشيخ الحسين الورتلاني في العلم، يقع في صفحتين. 9 - وإجازة في الطريقة (الرحمانية؟) للشيخ محمد بن عمارة بن وعلي الشريف الزلاجي إلى الشيخ محمد الطيب بن المرسي. 10 - ورسالة بخط الشيخ عاشور الخنقي ناقصة الأول، وهي جواب له على من سأله عن شرف البوازيد (¬1). ¬

_ (¬1) انظر لاحقا عن حياة وشاعرية عاشور الخنقي.

11 - وقصيدة للشيخ محمد بن راشد المايني سماها (نصرة السني ردا على ذي الوهم البدعي) انتصر فيها للشيخ محمد بن مزيان الحداد. 12 - وقصيدة (زبرة الحداد في الرد على صائم الأعياد) لأحمد بن المجاهد المعسكري في 53 بيتا. 13 - بحث (ظهور التفاضل) لمحمد بن الموفق الجلالي المعسكري حول تقديم الذكر على السمع في القرآن الكريم، في عشر أوراق. 14 - ومنظومة السيف المسلول على منكري سدل الرسول (صلى الله عليه وسلم) للشيخ محمد الخرشي النابتي، في أربع صفحات مرقونة. 15 - (والقصيدة الكفيلة بثمن الفوائد الجليلة) لابن هشام المصري في النحو، وناظمها هوعبد الله بن محمد بن عبد الرحمن الثامري، في ثلاث صفحات. 6 1 - ومقتطفات من نوازل الزجلاوي لمحمد بن الفقيه بن محمد الزجلاوي، من بلاد توات حول نظام الفجارة (الفوقارة) وتوزيع المياه. 17 - والجيش الكمين ... لابن أبي جمعة المغراوي في ثلاث نسخ، واحدة منها أصلية. 18 - بعض القطع الشعرية في مختلف الأغراض والعصور (¬1). وفي المكتبة مجاميع أخرى تضم على هذا النحو تقاييد وأراجيز وإجازات وفوائد أخرى كثيرة. ومن ذلك مجموعات في الأنساب ونحوها، نذكر منها ما يلي: 1 - المنظومة الدندانية للحاج ابن السنوسي الديسي، وقع في حوالي 200 بيتا. 2 - كتاب الاعتبار وتواريخ الأخيار ... لعلي ين محمد بن فرحون. 3 - تقييد في نسب بهلول بن عاصم الذي قدم من المغرب واستوطن زواوة. ¬

_ (¬1) من مراسلة أفادني بها الشيخ علي امقران السحنوني، في 8 غشت 1980.

4 - تقييد في نسب أحمد بن يوسف الملياني. 5 - تقييد في نسب إسماعيل بن محمد والحاج القباشي (الزواوي). 6 - تقييد في ذكر بعض رجال وادي الصومام (وادي ومسعود) ومنطقة زواوة، سيما سيدي يحيى صاحب زاوية بني وغليس. 7 - تقييد في ذكر سيدي يحيى بن عبد الله الشريف الملقب بأخروم. 8 - تقييد في نسب جماعة من مزاية قرب بجاية وأخرى من أزفون. 9 - تقييد في نسب علي بن وارث الديشم (¬1). كما توجد بالمكتبة مخطوطات أخرى ذات أهمية، سواء في تواريخ الجزائر وأهلها، أو في التراث العربي الإسلامي. ومنها كتاب (الأسلوب الغريب في التعلق بالحبيب) لمحمد بن علي الفراوسني (¬2). ويغلب على الظن أنه في التصوف. وفي مراسلة أخرى مع الشيخ علي امقران السحنوفي بتاريخ 14 أكتوبر 1981 ذكر لي مؤلفات أخرى كثيرة كانت توجد في مكتبة ابن أبي داود (وهم أخواله) بآقبو، ومنها معلومات جديدة عن كتاب معالم الاستبصار الذي كان ألفه ابن علي الشريف، وكتاب التفكر والاعتبار لأحمد بن تابت البجائي المتوفى سنة 1152، وبعض مخطوطات الحسين الورتلاني، مثل شوارق الأنوار في تحرير معاني الإذكار الذي شرح فيه وظيفة سيدي يحيى العيدلي، وكتاب شرح به الشيخ الورتلاني عملا في التوحيد، الخ ... ولكن مصير هذه المكتبة كان مخيفا. فقد عرفت النهب والتلف أثناء ثورة التحرير الكبرى، وضاع أغلبها بعد 1957، وخربت الزاوية وحجراتها بعد معركة جرت هناك ضد العدو سنة 1958 (¬3). ¬

_ (¬1) من مراسلة الشيخ علي أمقران السحنوني، بتاريخ 9 فبراير 1980. (¬2) عن حياة الفراوسني انظر الجزء الثاني من هذا الكتاب. (¬3) مراسلة مع الشيخ السحنوني، بتاريخ 18 مايو، 1981، يقول الشيخ السحنوني إن =

2 - مكتبة آل سحنون: ولآل سحنون مكتبة هامة أيضا، وهي تابعة لزاويتهم التي تتفرع إلى أصل في أربعاء بني راثن، وفرع في تاغراست في بني وغليس. وقد بعث لي الشيخ علي امقران السحنوني بقائمة محتويات المكتبة بما في ذلك مجاميعها، وبلغت المجاميع حوالي 35 مجموعا، وكل مجموع يحتوي على مؤلفات وتقاييد موضوعا وحجما بلغت حوالي 110 تأليفا. والمخطوطات بلغت 87 مخطوطا، فالمجموع حوالي 197. ومعظم هذه المخطوطات في الفقه والتصوف والتوحيد، وضمنها أيضا كتب الأدب والفلك والتاريخ واللغة والنحو. ومنها شرح ابن هدية المسمى العلق النفيس، على قصيدة ورسالة ابن خميس. وكذلك كتاب معالم الاستبصار في الفلك من تأليف ابن علي الشريف. وتكاد القائمة لا تحتوي على مؤلفات في التاريخ ولا الدواوين الشعرية. وقد طغت القائمة التي بعث بها إلي الشيخ السحنوني ثماني صفحات كبيرة، مع تفاصيل دقيقة عن تاريخ النسخ، غير أنه لم يذكر فيها بداية ونهاية المخطوط. ولكنه كان يلاحظ ما إذا كان المؤلف مجهولا، وما إذا كان العمل مبتورا (¬1). وفي مراسلة أخرى معه ترجع إلى سنة 1979 أفادنا أن مكتبة زاويتهم تضم أكثر من عشرة آلاف كتاب بين مخطوط ومطبوع. وفيها الكتب التي تصل إلى العشرين جزءا. وكان أكثر من نصف المكتبة في الزاوية الأصلية بأربعاء بني راثن، وبعضها كان في الزاوية الفرعية في تاغراست. وقد ضاع الكثير من الكتب خلال حرب التحرير. ولا ندري هل الضياع شمل كتب الزاويتين أو إحداهما فقط، لأن والده أخبر أن ما ضاع له حوالي أربعة عشر قنطارا في ¬

_ = شيخ الزاوية محمد الطيب بن محمد امزيان قد قتل سنة 1957، وأن ابنه السعيد بن محمد أمزيان قد حاول إعادة جمع ما تفرق من الكتب فلم يجمع أكثر من عشر ما كانت تملكه المكتبة. (¬1) جرت المراسلة يوم 16 أبريل 1980. ولكن القائمة ضاعت منا مع ما ضاع لنا من أوراق ومسودات سنة 1988. بالنسبة لكتاب العلق النفيس لابن هدية فقد استعرناه من المرحوم السحنوني وكتبنا حوله مقاله منشورة في كتابنا أبحاث وأراء، ج 3.

مختلف الفنون. وهل ذلك الضياع شمل المخطوط الذي يكون عادة أكثر قيمة ومن ثمة تكون الزاوية أكثر حرصا على إنقاذه وتهريبه، أو شمل المطبوع والمخطوط معا. وتظهر القوائم أن بعض الكتب قد اشتريت من الجزائر وتونس ومصر، سيما من المكتبة الثعالبية (رودوسي) بالجزائر، ومكتبات العسلي والثميني والأمين بتونس. وكان لزاوية آل سحنون اشتراك في أغلب الصحف والمجلات أيضا في البلدان المذكورة. فكانت تصلها مجلات الرابطة العربية، والرسالة، والثقافة، والفتح، والهداية، والأزهر، بالإضافة إلى الجرائد. أما المخطوطات فكانت الزاوية تقتنيها بالشراء في المزاد العلني الذي كان يجري في تونس بالخصوص حيث العائلات العلمية تبيع أحيانا كتبها لأسباب مختلفة. كما كانت هدايا المخطوطات تصل إلى الزاوية من بعض الأسر العلمية مثل عائلة سيدي علي أو عبدالله في بني مليكش، وكذلك عن طريق الاستنساخ (¬1). وكان للطلبة حق الإطلاع على الكتب والإستفادة من إعارتها داخليا وخارجيا. 3 - مكتبة سيدي خليفة: زاوية الشيخ الحسين بسيدي خليفة ولاية الميلية اليوم، من الزوايا التي اهتمت بالعلم واقتناء الكتب أيضا خلال القرن الماضي. وكانت تضم مخطوطات هامة ومطبوعات. وفيها الكتب ذات المنفعة العامة والمدرسية التي تعتبر مراجع للطلبة والمدرسين لتحضير دروسهم، وفيها المخطوطات الثمينة التي لا يطلع عليها إلا النوادر أو شيخ الزاوية وكبار الزوار. وكانت تضم كتب النحو والفقه بجميع الطبقات والمستويات، ودواوين الشعراء، وتراجم الرجال والتصوف، ومذهب الإمام مالك بالخصوص، والمنطق واللغة والرحلات والأنساب والأخلاق. ومن ذلك فصيح ثعلب، ورحلة العياشي، ونصرة الشرفاء للسباعي، وشذور الذهب لابن هشام، وشرح لامية ابن الوردي، وموطأ الإمام مالك، وديوان محمد بن عبد الرحمن الديسي. وقد زرنا هذه المكتبة منذ سنوات فوجدنا بقاياها في حجرتين على رفوف جيدة ولكن آثار الرطوبة والمطر بادية عليها، بل كانت تهدد بعضها بالتلف. وكان بعض الكتب ما يزال مخطوطا، ولكننا نعرف أنه مطبوع ¬

_ (¬1) مراسلة مع الشيخ السحنوني بتاريخ أبريل 1979، دون تسجيل اليوم.

ومحقق. ووجدنا فيها بعض آثار للشيخ حمدان الونيسي. ولكن لا أثر فيها للمجاميع والكنانيش والتواريخ المحلية. ويبدو أن الأيدي قد عبثت بالمكتبة، وإن بعض نوادرها ضاع أو هربه أصحاب الزاوية عن عيون المستعمرين أثناء حرب التحرير، سيما وأن الزاوية لم ترجع إلى التعليم بعد توقفه. وقد تضررت من الإهمال الأملاك والمباني أيضا، فتضررت المكتبة تبعا لذلك (¬1). وفي دراسة قام بها حديثا عبد الكريم العوفي جاء أن زاوية سيدي خليفة التي أسسها الشيخ الحسين بن القشي في القرن الماضي، كانت تضم حوالي 6000 مخطوط. وروى عن بقية شيوخها، وهو يونس بن عبد اللطيف المولود سنة 1922، أن علماء المغرب كانوا يستعيرون منها المخطوطات ثم لا يرجعونها، وأن أصحاب الزاوية قد اضطروا إلى حرق بعضها (؟) مما أتت عليه الأرضة والفئران والرطوبة لجهلهم بوجود وسائل الصيانة. وذكر العوفي أنه لم يبق في الزاوية اليوم سوى حوالي خمسمائة مخطوط، وتنبأ بأن مآلها الحرق أيضا لأن الرطوبة قد أفسد تها. وكانت فيها نفائس ترجع إلى القرون الأولى من الهجرة وبخطوط مؤلفيها. ولكن العوفي لم يذكر من نماذجها سوى ثلاثة عشر مخطوطا في النحو والسيرة والأدب والتصوف (¬2). والظاهر أن هذه المكتبة لم تتعرض للتلف على أيدي الجيش الاستعماري خلال حرب التحرير. 4 - مكتبة زاوية طولقة: وفي السبعينات زرنا زاوية طولقة أو زاوية علي بن عمر وهو مؤسسها وبه تعرف بين الناس. وقد جمعت مكتبتها كمية كبيرة من الكتب المطبوعة والمخطوطة. واشتهر الشيخ علي بن عمر وأباؤه وأحفاده أنهم شيوخ علم وتصوف وزهد، وأنهم جعلوا الزاوية معهدا علميا للتدريس ونشر الثقافة العربية والعلوم الإسلامية وحفظ القرآن الكريم. وأبرز ¬

_ (¬1) انظر عنها أيضا سعيد بوفلاقة جريدة (الشعب)، 1 - 2 يونيو (جوان)، 1990. وكنا قد شاهدنا على شاشة التلفزيون أيضا تحقيقا حول المكتبة في تاريخ لا نذكره الآن. (¬2) عبد الكريم العوفي (التعريف بمراكز المخطوطات في الجزائر)، مرقون، ص 6 - 8. وكان نفس المؤلف قد أشار إلى مكتبة سيدي خليفة أيضا في عمل نشره في مجلة (المورد) العراقية، 1989، المجلد 18، عدد 3، ص 174.

ما عرفوا به أيضا حبهم للكتب، فجمعوها من مختلف المظان واشتروها بأثمان عالية، وجاءهم بعضها بالهدية وبعضها بالنسخ. وقد لاحظنا أن بعض مكتبة الشيخ الفكون القسنطيني قد انتقل إلى مكتبة زاوية طولقة، وربما كان ذلك بالشراء بعد أن بيعت المكتبة في المزاد. ومخطوطات مكتبة زاوية طولقة متنوعة تشمل التصوف والتوحيد والتفسير والعلوم الدينية عموما، كما تشمل الأدب والتراجم والتاريخ المحلي وغيره. ولا نعلم إن كان للزاوية خزانة للوثائق والمراسلات الخاصة. ويغلب على الظن أنها كانت تملك ذلك. فقد عاش أصحابها ظروفا سياسية صعبة، وتراسلوا مع شيوخ الزوايا ومع السلطات الفرنسية ومع العلماء في تونس والمشرق والصحراء. فلا نظن إلا أنهم يملكون ثروة من المراسلات المنظمة. وعند زيارتنا لها كانت المكتبة تعاني من آثار الفيضان الذي حدث سنة 1969، ولكنها سلمت منه، وإنما كانت موضوعة في أكوام وغير مفهرسة. وتركنا شيخ الزواية عندئذ، عبد القادر العثماني، يعمل على تنظيمها وفهرستها. ولكننا لم نتابع الموضوع بعد ذلك. فكم تملك المكتبة من المؤلفات مخطوطة ومطبوعة؟ وما أهم أجابها؟ وكم فيها من المجاميع؟ وما إحصاؤها العام؟ أما الإطلاع والاستفادة فقد علمنا أن شيوخها لا يعترضون على ذلك، بل يقدمون الخدمات العلمية وحسن الضيافة أيضا. 5 - مكتبة زاوية الهامل: وفي نفس الوقت حاولنا التعرف على مكتبة زاوية الهامل. وبذلنا الوسع فرديا واستعنا بغيرنا لكي نطلع على فهرسها أو ننظر في بعض محتوياتها. ولكننا لم نفلح. وقد ذهبنا إليها عدة مرات، وتحملنا من أجل ذلك المشاق، فكنا نرجع من رحلتنا إليها بكلمة اعتذار طيبة. أما الكتب فبقي بيننا وبينها حجاب (¬1). هذا بالرغم أن غيرنا قد اطلع عليها وأخذ منها إعارة أو سرقة، مثل الشيخ عبد الحي الكتاني، والشيخ رينيه ¬

_ (¬1) ذهبت بنفسي عدة مرات، واستنجدت بصهري المرحوم سي عبد الله بن الحاج بن سالم، من أشراف بوسعادة، والمرحوم عبد القادر بن رعاد، من أعيان بو سعادة أيضا، ولجأت إلى أحد أفراد العائلة القاسمية، ولكن دون جدوى.

باصيه. وقد كتب عنها الأخير وصفاء هو الوحيد الذي اعتمدنا عليه هنا (¬1). وكان باصيه عندئذ مديرا لمدرسة الآداب العليا (كلية الآداب لاحقا) وكان لا يرد له طلب لنفوذه لدى الإدارة الاستعمارية، وقد طلب باصيه من شيخ الزاوية عندئذ، محمد بن بلقاسم، قائمة المخطوطات التي بالزاوية، عن طريق الجنرال ميقريه. واكتفى باصيه بالقائمة التي قدمها إليه الجنرال. ويبدو أن المخطوطات انتقلت إلى المكتبة عن طريق الحج. أما الكتب المطبوعة فكان منها المطبوع في بولاق بمصر، وذلك دليل على ورود الكتب من المشرق بطرق مختلفة غير الطرق التجارية المعروفة للفرنسيين. والمعروف أن أعيان المغرب العربي كانوا يتميزون بإنشاء المكتبات علامة على الأبهة والجاه (¬2). ومهما كان الأمر فإن الشيخ محمد بن بلقاسم، مؤسس الزاوية والمكتبة كان من علماء القرن الماضي. ولم تكن شهرته في التدريس والفصاحة تقل عن شهرته في التصوف والبركة. وعمل معه مدرسان كبيران وشاعران شهيران هما محمد بن عبد الرحمن الديسي وعاشور الخنقي. واجتمعت له (الشيخ) ولهما كتب كثيرة وتأليف، سيما الديسي. وأصبحت مكتبة زاوية الهامل محجة للزوار الراغبين في الإطلاع وأخذ العلم والبركة الصوفية. ولا ندري من أين جمع الشيخ محمد بن بلقاسم مكتبته، ولكن من المؤكد أن رجلا في مثل سمعته كانت تأتيه المخطوطات من تلاميذه ومريديه وعلماء الوقت ¬

_ (¬1) رينيه باصيه (المخطوطات العربية في زاوية الهامل) (في مجلة الجمعية الآسيوية الإيطالية) المجلد 10، 1896 - 1897. وقد حصلنا على نسخة من هذا المقال وهو من ص 43 - 97. وفيه 53 مخطوطة في الفقه والحديث والتفسير والنحو والبلاغة، الخ. وليس من بينها مخطوطات في الفلسفة والتاريخ والفلك ولا الوثائق. (¬2) باصيه، (المخطوطات العربية) في (مجلة الجمعية الآسيوية الإيطالية)، مرجع سابق، ص 334، هامش 10. وكان الجنرال ميقريه Meygret هو قائد وسط البلاد. وقد أرسل قائمة المخطوطات إلى باصيه عن طريق المترجم العسكري في بو سعادة، بريمون. وكان باصيه قد طلب نفس الشيء من زوايا أخرى ونشر عن مكتباتها أيضا. وكان ذلك داخلا في اهتمامات المستشرقين بالمخطوطات الباقية لدى الجزائريين بعد أكثر من نصف قرن من الاحتلال.

وأعيانه، بالإضافة إلى الشراء من الجزائر ومن تونس ومصر، كما لاحظنا، وكذلك الاستفادة من الاستنساخ. ويبدو أن مكتبة الزاوية كانت ضم، بالإضافة إلى الكتب، مجموعة من الوثائق والمراسلات العائلية والسياسية والعلمية، ومجموعة من التحف أيضا كالصور والسيوف والرقاعات وأشجار النسب. ولا ندري ما إذا كانت المكتبة قد استمرت تقتني الكتب على عهد خلفائه أمثال مصطفى القاسمي، الذي طال عهده وشاع أمره خلال الثلاثينات، كخصم للحركة الإصلاحية. والغالب أن شيوخ الزاوية قد استمروا في ذلك، لأن التعليم قد استمر فيها. فهل كان الطلبة يستفيدون من الإعارة والمطالعة من المكتبة؟ وما الحجم العام للمكتبة؟ وما نوع وقيمة المخطوطات؟ وهل للمكتبة فهرس منظم غير الذي ذكره باصيه؟ كل ذلك لا نعرفه الآن. 6 - مكتبة أولاد سيدي الشيخ: كان أولاد سيدي الشيخ أهل زاوية وأهل سلطان. وقد تعرضت زاويهم للهدم من قبل الفرنسيين انتقاما منهم لثورتهم المتكررة ضد التوسع الاستعماري. ونتوقع أن مكتبة الزاوية كانت من ضحايا التخريب والحرب. وليس لدينا وصف شامل لمكتبة الزاوية وإنما وجدنا في بعض المراجع الفرنسية ما يشير إلى أن بعض المخطوطات قد قاومت العدوان، وعوامل الطبيعة. ومن ذلك ما جاء في رحلة الحاج البشير التي أملاها على الضابط الفرنسي ف. فيليب سنة 1867 من أن الخليفة حمزة، أحد أعيان أولاد سيدي الشيخ، قد أمره أن يرافق قافلة من الإبل إلى توات، وفيها حمولة ثلاثة جمال من الكتب. وهذا بالطبع حديث غامض إذ لا يدل على نوع الكتب وقيمتها وهل هي مخطوطة أو مطبوعة. ولا نعرف أين وضعت الكتب في توات. ولعل ذلك كان أثناء تهريبها عن أعين الفرنسيين أو خوفا. من التلف أثناء الثورات، وربما كانت هي أفضل الكتب قيمة وثمنا (¬1). 7 - مكتبة زاوية القنادسة: وهي تقع الآن في ولاية بشار، ويفهم من بعض شيوخها أنها كانت تحتوي على عدد كبير من المخطوطات بلغت ¬

_ (¬1) فيليب (رحلة الحاج البشير) في المجلة الافريقية، 1911، ص 255 وما بعدها.

حوالي ثلاثة آلاف مخطوط سنة 1950. ولكن أغلبها ضاع خلال الثورة الكبرى أو أحرق (¬1). 8 - مكتبات أدرار وتوات: ليس لدينا ما يدل على أن هذه المكتبات تنتمي لزوايا معينة، ولكن ماعرفناه من تاريخ المنطقة وشيوخها يجعلنا نضم هذه المكتبات إلى الزوايا، لأن الغالب أن الزوايا هي التي كانت ترعى المكتبات لاتصالها بالدين والعلم. وقد عرفت توات منذ القديم بأنها سوق رائجة للكتب وأن بعض عائلاتها الدينية قد كونت مكتبات معتبرة. وكانت صلة أهل توات بجامع القرويين وعلماء المغرب وعلماء افريقية وتلمسان قد جعلتهم في مكانة يغبطون عليها، بالإضافة إلى أن علماء توات كانوا يؤلفون الكتب ويستنسخونها من بعضهم أو من علماء آخرين. وفي العهد الأخير ذكر الباحثون أن هناك حوالي اثنتي عشرة مكتبة، منها مكتبة كوسام، ومكتبة بني ثامر، ومكتبة (زاوية) رقان؟، ومكتبة زاوية سيدي حيدة، ومكتبة زاوية اقبلي، ومكتبة أولاد عيسى، ومكتبة اقسطن التي قيل إنها تضم مخطوطات في العقاقير، ومكتبة تنجرين التي قيل إن فيها مخطوطات في الطب والفلك، وغيرها من المكتبات (¬2). 9 - مكتبة الزاوية العبدلية: ورغم أن مكتبة الزاوية البوعبدلية في بطيوة لا نعرفها إلا في عهد الشيخ المهدي البوعبدلي الذي توفي منذ سنتين، فإننا سنتحدث هنا عما نعرفه عنها لأنها ترجع، حسب ظننا إلى عهد والده من جهة، ولأن الشيخ المهدي جمع نوادرها منذ عقد الثلاثينات. وتراسلنا مع الشيخ المهدي في عدة مناسبات، ولنا منه مجموعة من الرسائل بخط يده بعضها في عدة صفحات وبعضها بخطه عندما عجز أو كاد عن الكتابة وأصبحت السطور والحروف عنده مائلة ومضطربة. كما تمكنت من زيارة ¬

_ (¬1) العوفي (التعريف بمراكز المخطوطات ...) بحث مرقوق، رواية عن شيخ الزاوية عبد الرحمن الأعرج. وعن زاوية القنادسة انظر فصل الطرق الصوفية. (¬2) العوفي، (التعريف بمراكز المخطوطات ...) مرجع سابق، وقد اعتمد في ذلك على نص محاضرة كان قد ألقاها مقدم مبروك عن المخطوطات في الخزائن الشعبية من نهاية القرن الماضي إلى بداية هذا القرن، في منطقة توات والقورارة وتيديكلت.

المكتبة في إحدى المناسبات مع بعض الزملاء، زيارة قصيرة خلال الثمانينات. فالمكتبة البوعبدلية إذن سمعت عنها وتراسلت بشأنها مع صاحبها ثم زرتها شخصيا. أثناء زيارتي رأيت عدة خزائن تمتد على حيطان غرفتين واسعتين في شكل قاعتين متصلتين. والخزائن عالية ومليئة بالكتب المخطوطة والمطبوعة. وتظهر من ضمنها مخطوطات غير موضوعة في أماكنها، ومجاميع، وجرائد، ووثافق، وسجلات. لا نستطيع أن نقدر عدد الكتب ولا أن نعرف موادها ولا عدد الوثائق والرسائل. وكل ما نعرف أن الشيخ المهدي، كان مهتما بالتراجم والتاريخ والمناقب والشعر الفصيح والزجل (الملحون) والتصوف والفقه والأدب والأنساب. وهو من العلماء الأفذاذ في الحفظ والنوادر، ومن الذين تخرجوا من جامع الزيتونة. وكان مترددا بين الوظيف الفرنسي والحركة الإصلاحية، وقد خسره الإصلاح رغم ميوله إليه وفاز به الوظيف عند الفرنسيين. فتولى الفتوى في عدة أماكن منها بجاية وأم السنام (الأصنام) حيث جمع واشترى المخطوطات النادرة. وسأترك الآن الشيخ المهدي يتحدث بنفسه عن مكتبته. ففي رسالة منه إلي بتاريخ 14 مايو 1988. (حسب طابع البريد) من بطيوة قال (كنت اتفقت مع بعض الأصدقاء على ترتيب ما أملكه من الوثائق الأصلية وتصويرها، وقد ساعدتني التلفزة الجزائرية بالتقاط صور بعض هذه الوثائق النادرة الراجعة إلى تاريخ بلادنا الثقافي والعقائدي والسياسي، وخطوط بعض مشاهير علمائنا وزعمائنا. وسأطلعكم على بعضها إن شاء الله ...). وفي مراسلة أخرى أقدم من السابقة ترجع إلى 23 مارس سنة 1980، قال: أما تآليف أحمد بن يحيى الونشريسي (وكنت قد سألته عن بعضها) فعندي مجموعة خطية كنت اشتريتها من أسرة مغربية، ولا زلت لم أتصفح ما فيها، إذ كان بلغني أنه يوجد بها (كتاب) الوفيات (سألته عنه) ولم أجدها. وكل ما عثرت عليه من تآليفه (الونشريسي) الهامة إجازته - كما سماها - وفي

الحقيقة تقريضه (كذا) للدرة المكنونة في نوازل مازونة، ترجم فيها (أي الإجازة) للشيخ المازوني، وعرف بالظروف التي انتقل فيها إلى تلمسان حيث أن المازوني لم يعرفه مترجموه إلا بكون توفي بتلمسان ودفن بها). وقبل ذلك بأيام (يوم 2 مارس 1980) أخبرني الشيخ المهدي برسالة أخرى تحدث فيها عن زيارته لمدينة أدرار وحضوره مؤتمرا في برلين ثم عن مكتبته وكثرة ما فيها من كتب ووثائق وما عليه حالها من تشويش وبعترة. قال معتذرا عن التأخر في الكتابة (كنت غائبا بأدرار، حيث دعيت للمساهمة في الأسبوع الثقافي هناك. ومنطقة توات ثرية بالآثار والوثائق النادرة، رغم تعرضها للنهب والإهمال ... وفي هذا الصدد أذهب إلى برلين لحضور مؤتمر المستشرقين، ومحاضرتي (ستكون) (معهد شلاطة ...) (¬1) حتى أنني أقضي بعض المرات، الشهور لأعثر على كتاب أو وثيقة بخزانتي المبعثرة). وفي مراسلة أخرى جرت في 7 يناير، 1981 كتب إلي الشيخ المهدي عن مكتبته قائلا ... (كما أنني كنت جمعت كثيرا) من المخطوطات، فيها الغث والسمين، وكنت آمل أن أرتبها وأحققها قبل نشرها، إلا أن الظروف لم تساعد، خصوصا وأن في كثير من هذه الوثائق ما يلزم الباحثين إعادة النظر في تاريخ الجزائر، خصوصا العهد العثماني، وأنني لا زلت عازما - إن أفسح الله في الأجل - أن أتفرغ لجمع هذه الوثائق على ضوء ما نشر لكم في جريدة الشعب أخيرا) (¬2). وخلافاه لبعض علماء الزوايا الآخرين كان الشيخ المهدي البوعبدلي ¬

_ (¬1) ألقي في المؤتمر المذكور بحثا عن كتاب (طراز الخياطة) في صاحب زاوية شلاطة ابن علي الشريف، والمؤلف هو العربي بن مصباح، انظر عنه الجزء الثاني من هذا الكتاب. (¬2) لا أذكر الآن ما نشر لي عندئذ. وقد عاش الشيخ المهدي بعد ذلك عشر سنوات أخرى داهمه خلالها المرض والعجز. ويبدو أنه لم يوفق إلى ما كان يطمح إليه من تنظيم وترتيب المكتبة. أما التحقيق فقد أخرج منه عملين على الأقل (الثغر الجماني) و (دليل الحيران). ومن نسخته عن (منشور الهداية) حققت أنا هذا الكتاب.

يقدر التأليف ويعمل على النشر والتحقيق ويساعد من يرغب في ذلك. وكان يمدني مراسلة ببعض مخطوطات مكتبته النادرة فآخذ منها وأصور عنها ثم أعيدها سالمة إليه، بالبريد المسجل من الطرفين. ومن ذلك كناش المفتي حميدة العمالي، وكتاب في الأدوية كنا نعتقد أنه لابن حمادوش، وبعض الأعمال المتضمنة سيرة ابن رأس العين، الخ ... 10 - مكتبات زوايا أخرى: ولا شك أن مكتبات أخرى توجد في مختلف الزوايا التي لم نذكرها. ومن ذلك مكتبة زاوية سريانة (الشيخ المولود بوزيد) فقد رأيناها في إحدى المناسبات واجتمعنا بصاحبها رفقة الأخ العربي دحو. وكانت فيها مجموعة من المخطوطات والوثائق التي لا نعرف قيمتها ولا عددها. وقد أشرنا إليها في بعض كتاباتنا عن المنطقة. وكذلك مكتبة زاوية وادي العثمانية، وزاوية خنقة سيدي ناجي، وزوايا عديدة أخرى في الجنوب، مثل زاوية كنته. وكانت وظلت الزوايا الرحمانية على اهتمامها بالتعليم والكتب سواء في الريف الشمالي أو في الواحات الصحراوية. ومن ذلك زاوية سيدي سالم بوادي سوف. وقد اطلعنا في هذه الزاوية على بعض كتبها في إحدى زياراتنا لها على عهد الشيخ مصطفى السالمي. وكان زعيم الرحمانيين بين 1857 - 1870 هو الشيخ محمد أمزيان الحداد صاحب زاوية صدوق. وبعد ثورة 1871 اعتقله الفرنسيون وهدموا الزاوية واستولوا على المكتبة التي يبدو أنها كانت غنية. وقد جاء في بعض الكتابات أن الشيخ سليمان بن داود قد اطلع على بقايا مكتبة الحداد في فرنسا حيث وضعت في بعض مكتباتها العمومية، ونسب إلى الشيخ ابن داود قوله إن مكتبة الشيخ الحداد كانت تضم حوالي ألف مخطوط (¬1). ¬

_ (¬1) يحيى بوعزيز (الأصالة) عدد 46 - 47 (يونيو - يوليو 1977)، ص 114. وقد شكك بوعزيز في حجم المكتبة وهو على حق في ذلك. وذكر أن الشيخ ابن داود روى أنه شاهد مكتبة الحداد تارة ملحقة بمكتبة اللغات الشرقية وتارة بالمكتبة الوطنية الفرنسية. والذي يهمنا الآن هو انتقال مكتبة الشيخ الحداد إلى فرنسا، وذلك يؤكد ما ذهبنا إليه من بداية هذا الفصل.

المكتبات الخاصة

المكتبات الخاصة المكتبات الخاصة أو الفردية كثيرة في الجزائر رغم ما أصاب البلاد من حروب وهجرة ومصادرات. وقد كان أصحابها قد حصلوا عليها بالوراثة أو بالشراء أو بطرق أخرى مختلفة. ومن الملاحظ أن بعض المكتبات الخاصة قد أصبحت ريفية بدل المدن، لأن الدراسات العربية قد تضررت في العهد الفرنسي، ولذلك نجد العديد من المكتبات الخاصة خارج المدن الكبيرة. كما نلاحظ أن البعض ممن كانوا أبناء العائلات العلمية الكبيرة في المدن قد انقطعوا تماما عن تراثهم العائلي واللغوي. فأصبح مايا بعض أبناء عائلة بو طالب والفكون وابن الموهوب لا يعرفون العربية ولا يرتبطون بتراث أجدادهم، بعد أن تعلموا في المدارس الفرنسية وتفرنسوا. كما أن بعضهم قد انتقل من مقر العائلة القديم إلى فرنسا أو إلى مدن أخرى. ومن جهة أخرى نلاحظ أن بعض العائلات التي كانت دينية قد تحولت إلى عائلات حاكمة. وبذلك فقدت في أغلب الأحيان صلتها بالمكتبات والعلم واللغة العربية. ويصدق هذا بالخصوص على بعض المرابطين الذين تولوا مسؤوليات سياسية وإدارية للفرنسيين منذ آخر القرن الماضي. وهذا الصنف من الجزائريين، وكذلك العائلات التي تفرنست، هم الذين أهملوا مكتباتهم القديمة وباعوها ولم يعرفوا قيمتها. وترجع المكتبات الخاصة في العادة إلى أعيان البلاد، مهما كان موقعهم، لأنهم هم القادرون على شرائها وصيانتها، وهم أيضا الذين يتباهون بها. مكتبات وادي ميزاب: من المكتبات الريفية - الصحراوية نذكر عددا، من مكتبات ميزاب. وقبل ذلك نشير إلى أن الصحراء عموما، تحتوي على ثروة كبيرة من المخطوطات وكتب التراث غير مجموعة ولا مفهرسة ولا حتى معلومة بدقة. والصدف فقط هي التي تكشف عنها من وقت لآخر. وقد وعد إبراهيم فخار منذ 1987 أن يدرس مكتبات المنيعة ومتليلي، والأغواط وعين ماضي، وتيهرت وفرندة والبيض، وعين الصفراء وبشار وبني ونيف والقنادسة وكرزاز وتمنطيط وورقلة. ولكنه لم ينشر معلومات حسب علمنا، إلا على

مدن ميزاب التالية: بني يسقن، والعطف، والقرارة. وخرج من ذلك بـ 36 مكتبة، منها 18 في بني يسقن، وعشر في العطف، وثمانية في القرارة. ولا ندري إن كان قد واصل مشروعه. وقد قسم المكتبات في المدن الثلاث المذكورة إلى خاصة وعائلية، وذكر منها مكتبة العزابة، ومنها ما تحول إلى مكتبة عامة في عهد الاستقلال، مثل مكتبة الشيخ محمد بن يوسف أطفيش. ومن خصائص هذه المكتبات عموما أن أصحابها يغارون عليها ويخشون عليها من الزوار، وأن أغلبها بدون فهارس وإنما يسجل أصحابها أسماء الكتب والمؤلفين في سجلات يحفظونها بدون ترتيب ولا تبويب، فقط لمعرفة محتوياتها وعددها. وهذه الخاصيات في الواقع يمكن أن تنطبق على معظم المكتبات الخاصة. كما أن هناك ظاهرة مشتركة أخرى وهي أن البعض من أصحاب المكتبات الخاصة كانوا يقتنون الكتب للمطالعة والاستفادة، والبعض كانوا يقتنونها من أجل البركة والثروة - وهي ثروة ورأس مال عند الحاجة - والبعض كانوا يجلبونها للتباهي والفخفخة. بالنسبة لمكتبة اطفيش: تعتبر من أكبر المكتبات في المنطقة، وهي في بني يسقن. ونحن نعلم أن الشيخ كان يجمع الكتب العلم والتعليم وللمصادر التي يرجع إليها في تأليفه الكتب. وكان له تلاميذ وأتباع في الجزائر وغيرها يبعثون إليه بالكتب وينسخونها له، وكان له نساخ شهير في غرداية يغدق عليه لينسخ له. وقيل إن الشيخ قد زوج بعض نسائه من أجل مكتبات آبائهن. وإذا نظرنا إلى قائمة مؤلفات الشيخ علمنا أن مصادره كثيرة، رغم أنه كان يقطن وسط الصحراء في وقت ليس فيه تصوير ولا أشرطة ولا آلات مساعدة. وبعد وفاته سنة 1914 بقيت المكتبة عند ورثته. ويبدو أنها لم تعان من التلف والضياع الكثير بعده. ويقول إبراهيم فخار إنها تحولت منذ 1966 إلى مكتبة عامة مفتوحة للباحثين والقراءة في أوقات محددة في الأسبوع. ولا ندري إن كان لها مال لتنميتها بعد وفاة الشيخ أو ظلت في حجمها الأول فقط. وقد أصبح لها فهرس عام وبطاقات، ولها خزانة خاصة بالرسائل والوثائق. وتتبع في نظامها النظام الدولي فلها بطاقات للمؤلفين وأخرى للكتب وثالثة

للموضوعات، الخ. وكان الشيخ اطفيش ولوعا بكتب الأدب والتاريخ والدين. ولذلك أصبحت مكتبته غنية بهذه الموضوعات، ولا سيما كتب المذهب الإباضي وسير أيمته وتراجم رجاله (¬1). وفي الدراسة التي كتبها المستشرق يوسف شاخت عن مكتبة الشيخ أطفيش تفاصيل هامة عن محتواها وأقسامها. فهي عنده مكتبة تضم معظم مؤلفات الشيخ أطفيش، مخطوطة ومطبوعة، بالإضافة إلى عدد من الكتب النادرة في مختلف المذاهب، ومنها المذهب الإباضي، والأدب العربي، وجملة ما فيها حوالي 1، 550 كتابا. وقد تحدث شاخت عن محافظ المكتبة عندئذ (1956) وهو محمد بن يوسف أطفيش، حفيد أحد إخوة القطب. وكذلك تحدث شاخت عن مكتبة الغناي الملحقة بالأولى. وللغناي قرابة مع الشيخ أطفيش، وقدر شاخت محتويات مكتبة الغناي بـ 275 مجلدا. وبناء عليه فإن المحافظ المذكور قد وضع فهرسا مفيدا للمكتبتين يصلح في نظره أن يكون نموذجاد لمكتبات الأوقاف الأخرى. وقد سلمه المحافظ نسخة من فهرس المكتبة حول الكتب الإباضية. ثم جردها شاخت من كتب الفلسفة والأدب والدين والشعر، كما حذف منها ما أورده بروكلمان في كتابه، ثم بوبها على تسعة أبواب هي: التفسير والقراءات، والحديث والسيرة، وأصول الفقه، وكتب الفقه (وهو القسم الكبير)، والمسائل الفرعية في الفقه، والعقيدة والفلسفة، والردود، والدعاية، والأخلاق، ثم التاريخ (¬2). ¬

_ (¬1) عن مكتبات ميزاب انظر أيضا دبوز (نهضة ...) 1/ 307. ويوسف شاخت (مكتبات ومخطوطات إباضية) في العدد الخاص من (المجلة الأفريقية)، 1956، ص 375 - 398. وتضم القائمة 151 عنوانا. ولعل فخار قد استفاد من دراسة شاخت. وذكر دبوز امرأتين تزوجهما القطب من أجل مكتبة أبويهما، وهما ابنة عمر نتموسني، وابنة محمد آزبار. (¬2) يوسف شاخت (مكتبات ومخطوطات إباضية) في (المجلة الأفريقية) عدد خاص، ص 375 - 398، والقائمة تضم 151 عنوانا، وذكر دبوز أنه زار مكتبة القطب سنة 1964 فوجد الكثير منها قد ضاع (وسطا عليه لصوص العلم وتلاميذة الشيخ) دبوز (نهضة ...)، 1/ 307.

وبالإضافة إلى مكتبتي القطب ويحيى الغناي الموقوفتين، توجد في بني يسقن مكتبات أخرى ذكرها شاخت، وهي مكتبة الشيخ صالح بن عمر اليسجاني، ومكتبة الشيخ عبد العزيز الثميني، ومكتبة الشيخ سعيد بن يوسف، ومجموعة الشيخ إبراهيم بن بكير. أما في المدن الميزابية الأخرى فقد أشار شاخت إلى مكتبات مليكة مثل مكتبة الشيخ يحيى بن صالح قاضي البلدة، ومكتبة المعز أحمد بن يوسف، ومكتبة الشيخ الحاج أحمد بن صالح. وفي العطف توجد مكتبة الشيخ عمر بن حمو، ومجموعة الشيخ داود بن يوسف. وفي القرارة توجد مكتبة الشيخ بلحاج، أما في بريان فقد أشار إلى مكتبة الشيخ الطرابلسي التي أكد أنها كانت موقوفة، ومجموعة عبد الرحمن الباكيللي (¬1). وبالنسبة لمكتبة الشيخ الثميني فقد ذكر فخار اثنتين، مكتبة عبد العزيز الثميني ومكتبة محمد الثميني. وكان الأخير قد نفت السلطات الفرنسية سنة 1935 إلى تونس فاستقر بها وأسس بها مكتبة الاستقامة قرب جامع الزيتونة، وكانت هذه المكتبة مثالا في الثراء والدقة والخدمات. وقد عرفناها أيام الطلب بتونس. وعن طريق مكتبة الاستقامة كانت تصل الكتب إلى الجزائر أيضا وإلى وادي ميزاب بالذات. ومحمد الثميني هو حفيد عبد العزيز الثميني صاحب المؤلفات الرائدة في الحركة الفكرية الإباضية أوائل القرن التاسع عشر. وظل محمد الثميني على وفائه للإصلاح والعلم والوطنية وهو في تونس. وبعد وفاته حول أبناؤه مكتبة والدهم إلى بني يسقن حيث أصل العائلة. ولا نعرف ما إذا كانت مفتوحة أو غير مفتوحة للزوار والباحثين والقراء، وما إذا كانت منظمة ومفهرسة أو مهملة. ويغلب على الظن أنها مرعية سيما ونحن نعلم أن أبناء الشيخ من المتعلمين البارزين في هذا الجيل، وقد عاصرنا البعض منهم. ومن أغنى المكتبات أيضا مكتبة الشيخ إبراهيم أطفيش المعروف بأبي إسحاق، وهو من عائلة الشيخ القطب. وكانت السلطات الفرنسية قد نفت ¬

_ (¬1) شاخت (مكتبات ومخطوطات ...)، مرجع سابق، ص 375 - 376.

الشيخ إبراهيم إلى تونس فأقام بها مدة وربط علاقات مع زعمائها وعلمائها، ثم هاجر إلى المشرق وتوظف في مصر وشارك في الحركة الوطنية والإسلامية عموما خلال الثلاثينات والأربعينات. الخ. كما أصدر مجلة (المنهاج) بالتعاون مع الشيخ سليمان الباروني باشا وغيره. وكان متوظفا في دار الكتب المصرية. وفيها عرفناه منتصف الخمسينات ونحن طلبة هناك وقدم لنا خدمات في البحث مشكورة. كما تعرفنا على بعض أبنائه في مصر. ويقول إبراهيم فخار إن إبراهيم أطفيش قد ساهم أيضا في المفاوضات التي جرت لحل قضية الخلاف بين السعودية وعمان حول واحة البوريمي. وكان له اهتمام بالفقه والتراث الإباضي. وقد توفي بالقاهرة. أما المكتبة فقد بقيت في يد أولاده في حي المطرية بالقاهرة حيث كان يسكن. وقال فخار إن البعض حاول نقلها إلى الجزائر، ولكن الورثة أبوا ذلك. وقد اطلع عليها فخار واعتبرها من أعظم المكتبات الجزائرية بالخارج، وأخبر أن فيها أمهات الكتب، ونحن لا نشك في ذلك لأن رجلا في مكانة الشيخ إبراهيم أطفيش لا يمكن إلا أن تكون له مكتبة ضخمة ومتنوعة جامعة بين التراث والمؤلفات الحديثة، وبين المخطوطات والمطبوعات، وبين الكتب والمجلات والجرائد. ولكن ما يلفت النظر هو احتواء المكتبة أيضا على ملفات حول الحركة الوطنية? كما يقول فخار - في ليبيا وتونس والجزائر والمغرب أيضا. وقد عاصر أطفيش وعرف وشارك مع زعماء هذه البلدان من أمثال الباروني، وابن باديس، والخطابي، والثعالبي، وعلال الفاسي، وأبي اليقظان. ومن جملة ما هو بالمكتبة مؤلفات الشيخ إبراهيم نفسه، وبعضها ما يزال في شكل مسودات (¬1). ¬

_ (¬1) إبراهيم فخار، المكتبات الخاصة بالصحراء الجزائرية، في (دفاتر التاريخ المغربية) جامعة وهران، عدد 1، ديسمبر 1987، ص 26 - 31. من بين مكتبات بني يسقن ذكر فخار مكتبة الشيوخ، صالح بن عمر، وإبراهيم بن بكير، ومحمد بابانو، والسعيد بن يوسف، وصالح بالزملال، ومحمد الشقفة، وعبد الله بوكامل، وإبراهيم امتياز، وصالح ابليدي، وعبد الرحمن بن عمر، ومحمد بن يوسف أطفيش =

وفي العطف مجموعة من المكتبات أيضا، منها مكتبات الشيوخ: يوسف العطفاوي، وسليمان بن داود، والحاج سعيد العطفاوي، ومحمد كعباش، ومحمد القرادي. وتعتبر الأولى من أقدم المكتبات في ميزاب، حسب قول إبراهيم فخار. وهي تحتوي على مخطوطات نادرة .. ولكنها غير مرتبة. ولا نعرف ما إذا كانت خاصة بالورثة أو كانت تحت يد العزاية للاستفادة منها. كما لم يفصل فخار الحديث عن مكتبة الشيخ القرادي. وإنما قال إنها مكتبة هامة نظرا لعلاقات صاحبها، ويقصد بذلك ربما، أن الشيخ القرادي كان معروفا على المستوى الوطني والإسلامي وأنه لعب دورا في الحركة الوطنية وله معارف في البلاد العربية، ولا سيما تونس. وعن مكتبة الشيخ كعباش ذكر فخار أنها من النوع الخاص، وإن صاحبها كان يحسن اختيار الكتب، وأنه كان قد درس في الزيتونة وصاحب علماءها، ولكن هذه المعلومات لا تساعدنا على معرفة قيمة المكتبة وأنواع كتبها. ولكن إبراهيم فخار قدم معلومات هامة عن المكتبتين الباقيتين في العطف. فقال عن مكتبة الشيخ سليمان بن داود إنها خاصة، وإن صاحبها كان من زعماء النهضة الإصلاحية وإنه من شيوخ العزابة. واحتوت مكتبته على مخطوطات هامة، ووثائق ورسائل، وملفات عن الحركة الوطنية خلال الثلاثينات، بالإضافة إلى ملفات عن وادي ميزاب وحياة العزابة، وملف آخر عن حياة ابن داود خلال حرب التحرير وتجارته ومراسلاته عندما كان بالعاصمة. وهذا الملف بخط يده. أما مكتبة الحاج سعيد العطفاوي فقد كان صاحبها مولعا بالترحل والتنقل ولا سيما بين ميزاب وتونس ومصر وعمان وليبيا والحجاز. وكان ينفق ماله في الكتب ويأتي بها معه عقب كل رحلة. وللحاج سعيد مصاهرات في ليبيا وجربة. وتنوعت كتبه وتعددت مشاربها، ومنها المذهب الاباضي ورجاله (¬1). ¬

_ = (الحفيد)، ومحمد بن إبراهيم أطفيش. وعن حياة الشيخ محمد بن يوسف أطفيش (القطب) انظر أيضا فصل السلك الديني والقضائي. (¬1) فخار، مرجع سابق، ص 41 - 44.

وفي القرارة عدد من المكتبات الخاصة، منها مكتبة الشيخ إبراهيم بيوض (وهي أكبرها) ثم مكتبات الشيوخ: الناصر المرموري، وأبو اليقظان، وصالح باجو، وغيرهم. ومكانة الشيخ بيوض العلمية معروفة وهي غير داخلة ضمن هذا الكتاب، ولكن مكتبته الخاصة التي جمعها عبر عقود عديدة تذكرنا بمكتبة الشيخ المهدي البوعبدلي. وقد قال فخار عن مكتبة الشيخ بيوض إنها كانت تحتوي على حوالي عشر خزائن مصنفة حسب الموضوعات، وعلى العديد من الرسائل والوثائق والملفات، ومحاضر الجلسات. وهذه كانت تقع في صناديق خاصة وحقائب ذات قيمة ثمينة. والأكيد أن دور الشيخ بيوض في الخمسينات والستينات سيجعل من وثائقه ذات أهمية كبيرة للدارسين. ولا ندري الآن ما وضع هذه المكتبة بالنسبة للقراء والباحثين. أما مكتبة الشيخ الناصر المرموري فلها قسم خاص بالمخطوطات النادرة التي جمعها من رحلاته في جربة وجبل نفوسة ومصر وعمان. ومن ضمنها، كما يقول فخار، مخطوطة ابن سلام التي حققها المستشرق الألماني، شنارتز. وقد عرف الشيخ حمدي إبراهيم بن عيسى المعروف لأبي اليقظان بأنه صاحب الصحف الكثيرة التي كان يصدرها رغم اضطهاد الإدارة الفرنسية لها وله. ولكنه كان أيضا صاحب تآليف جمة، وكان جماعة للمخطوطات والرسائل والدوريات والصحف، وباحثا في التاريخ والتراجم. ويذهب إبراهيم فخار إلى أن وثائق الشيخ أبي اليقظان قد أعدمت أثناء عملية مداهمة لمقر المطبعة العربية، وهي مطبعة أبي اليقظان، أثناء ثورة التحرير (¬1). وقد أصيب الشيخ أثناء ذلك بالشلل وبقي كذلك إلى وفاته. ولكن الذي وصف الشيخ أبا اليقظان واستفاد من مكتبته ووثائقه هو محمد ناصر، وهو صهره. وفي مكتبة أبي اليقظان مجموعات الجرائد، والدوريات، وفيها رسائل ¬

_ (¬1) فخار، مرجع سابق، ص 41 - 44.

كثيرة، وتآليف غير تامة في موضوعات شتى (¬1). مكتبة عائلة الفكون: وأقدم المكتبات العائلية الخاصة هي مكتبة الشيخ الفكون، شيخ الإسلام بقسنطينة. فقد كانت تحتوي على آلاف المخطوطات، بعضها كان لا يقدر بثمن من حيث القيمة الجمالية أو من حيث الموضوع. كما كانت تضم كتابات على الرق الجيد، والقطاع الكبير، وبعض التحف. وقد وصفها البارون ديسلان، أوائل الأربعينات من القرن الماضي حين أوفده وزير المعارف الفرنسي في مهمة إلى قسنطينة لتقديم تقرير عن المكتبات، ومنها مكتبة الفكون ومكتبة باشں تارزي. ولكن عائلة الفكون قد عرفت حظوظا جديدة في العهد الفرنسي وانقلب بها الدهر، فكانت رغم ماضيها، من أوائل المتعاونين مع العدو الذي انتصر في قسنطينة سنة 1837، والذي سرعان ما كشر عن أنيابه لها وأسقطها من حسابه، بعد أن (قضى منها اللبانة)، كما يقول القدماء. فأزال الفرنسيون لقب مشيخة الإسلام عنها، وأخذوا مواردها وأوقافها ومصادرها المالية، وإعفاءاتها من الضرائب ونحوها، وعزلوا حمودة الفكون وطاردوه واتهموه بشتى الاتهامات ونفوه. ومن نكبات الدهر بهذه العائلة أن أحد أبنائها وهو أحمد الفكون، سبق غيره بالتجنس بالجنسية الفرنسية 1866، (انظر ترجمته). وكانت المكتبة من ضحايا هذه التقلبات كلها، وهي ثروة وطنية قبل أن تكون عائلية. فقد نهبت واعتدي عليها، وبيعت في المزاد بميزان البطاطا، كما نقول اليوم. يقول أحد الباحثين الأجانب إنه بينما كان حمودة الفكون يحتج أمام المحكمة في قسنطينة بأن ناحية كدية عاتي كانت ملكا للعائلة لأن فيها جبانة ومقابر أفراد العائلة، وأن أجداده وآباءه كانوا هم القيمين الروحيين على المدينة - قام المقرضون الأروبيون (الفرنسيون) بحجز مجموعة المكتبة التي كانت تقدر بأربعة آلاف مخطوطة ثمينة، ثم باعوها في المزاد بأثمان بخسة (¬2). ¬

_ (¬1) محمد ناصر (أبو اليقظان)، الجزائر، ط، 2، 1984. انظر حديثنا عن أبي اليقظان في الفصل السابق، فقرة الصحافة. (¬2) آلان كريستلو (المحاكم الإسلامية) برنستون، 1985، ص 105. عن هذه المكتبة غداة الاحتلال انظر الجزء الأول من هذا الكتاب.

وفي 1892 كتب المستشرق فانيان كلمة مؤثرة عن ضياع ما بقي من مكتبة شيخ الإسلام الفكون. وروى كيف تفرقت وضاعت نهائيا. وهو بالطبع لا يهمه أن تضيع لأنها انتقلت في أغلبها إلى أيدي المستشرقين والمترجمين الفرنسيين، ولكنه كعالم أحس بالصدمة عندما سمع بالإهانة التي لحقت بالمخطوطات. قال فنيان إن أحد الدائنين قد باع المكتبة منذ أسابيع وهي في أسوأ الأحوال، ودون أن يعلن حتى عن بيعها بالمزاد ليقع التنافس بين المشترين، وإنما باعها ذلك الدائن (بطريقة وزن الورق القديم) ... وهكذا فإن كيسا مليئا بالكتب الثمينة قد بيع بثلاثين فرنكا، وأما الباقي فقد بيع لأول قادم (¬1). وذكر فانيان أن البارون ديسلان قد قدر محتويات مكتبة الفكون بأربعة آلاف مخطوط في تقريره الرسمي. ولما رآها فانيان نفسه سنة 1886، ثم سنة 1889 قدر ما بقي منها حوالي ألفين فقط، من بينها عدد كبير من المجلدات الفاخرة والقديمة. ولكننا نعلم أن نصفها قد ضاع قبل ذلك الحين. وقد وجد أثناء زيارته 425 مجلدا منها محتجزا. (لعل بعض الدائنين حجزوا ذلك)، واطلع أيضا على هذا العدد وتفحصه (سنة 1886)، وكان فيه عدد من المجلدات الهامة والنادرة جدا. وحاول فانيان عندئذ أن (ينقذها)، كما قال، أو ينقذ بعضها ولكنه لم يستطع أن يفعل شيئا، اللهم إلا قطعة من كتاب (المقتبس) الذي قام المستشرق كوديرا CODERA بنسخ نسخة منه بإشارة منه (فانيان) (¬2). ولا ندري إن كان حقيقة أو خيالا أن يقول الشيخ محمود كحول سنة 1913 عن محمد بن الحسن الفكون إن أسرته كانت ولوعة بجمع المخطوطات ¬

_ (¬1) لعل انتقال بعض كتب مكتبة الفكون إلى مكتبة زاوية طولقة (انظر سابقا) قد وقع خلال هذا البيع. (¬2) ادمون فانيان (مجموعة مخطوطات سي حمودة)، (المجلة الافريقية) 1892، ص 165.

وإن خزانتهم في العهد الأخير (؟) كانت تشتمل على عدة آلآف من الأسفار الثمينة والنادرة في فنون شتى، وفيها ما يعد من الآثار المخطوطة في القرون الأولى، وأنها جمعت غالب الكتب التي كانت على ملك الشيخ مرتضى الزبيدي شارح القاموس ومحمد بيرم الخامس ... إلى أن قال كحول: ولصاحب الترجمة (أي محمد بن الحسن الفكون) شغف عظيم بجمع الكتب أيضا (¬1). ولعله كان على الشيخ كحول أن يقول ما قاله فانيان عن مكتبة الفكون، بل كان هو أولى من فانيان فى التحسر على ما آلت إليه المكتبة الى كان معاصرا لنهايتها، لو كان له قلب. لا نستطيع أن ندعي بأن كل المكتبات القديمة، العائلية أو الخاصة قد وقع لها ما وقع لمكتبة الفكون. فنحن لا ندري ما حدث لمكتبة باشر تارزي في قسنطينة، ولا لمكتبة ابن العنابي في الجزائر، ولا مكتبة محمد بن سعد في تلمسان، وغيرهم كثير. وسوف لا نبحث في ذلك طويلا، وإنما نكتفي بالقول بأن هذا النوع من المكتبات لم يخف، وأن هناك عائلات أخرى ظهرت على الساحة وكانت تملك المخطوطات بدرجة متفاوتة، كما أنها لم تستفد منها استفادة من كانوا قبلها لضعف الدراسات العربية وغلبة الفرنسية في التعامل والتعبير، وقلة المجالات لاستعمال المخطوطات العربية أيضا، ومنها ما كان يعتبر تراثا مخطوطا. وقد كثر التباهي بالكتب في هذا العهد أكثر من الاستفادة منها في التدريس والتأليف، وكان بعضهم يزين بها دار الضياف وقاعة الجلوس، سيما المطبوعة والمجلدة بأناقة. أما المخطوطات والوثائق والتحف فقد كانت تحجب عن الأنظار وتبعد عن الزوار حتى لا تطمع نفوسهم فيها أو تمتد أيديهم إليها. مكتبة الأمير عبد القادر: رغم انشغال الأمير بالحرب وعدم الاستقرار في عاصمة، فإنه كان يعرف قيمة الكتب التي احتوت عليها زاوية القيطنة والتي تعلم منها قبل الاحتلال. وكان والده محيي الدين أولا ثم أخوه محمد ¬

_ (¬1) محمود كحول (التقويم الجزائري)، سنة 1913، ص 176.

السعيد ثانيا هو القيم على شؤون الزاوية بما فيها المكتبة. ثم كانت الحرب التي انتهت بواقعة الزمالة التي أدت إلى ضياع المكتبة وتفرقها في أيدي الفرنسيين، ومنهم دومال، ولامورسيير، ودوماس، ويذكر ابنه محمد باشا أن الكتب كانت قليلة في البلاد وكانت ضرورية للعلم والتعلم، فاجتهد الأمير في جمعها من كل جهة وكان يجازي كل من يحضر إليه مخطوطا أثناء جعله مدينة معسكر هي العاصمة. وأصدر الأوامر في ضرورة حفظ الكتب الموجودة بأيدي الطلبة، وخطط لإقامة مكتبة في تاكدامت عندما جعلها هي العاصمة البديلة، وأخذ يجمع لها الكتب اللازمة. غير أن كل ذلك تفرق في واقعة الزمالة كما ذكرنا (¬1). وفي سجن امبواز ثم في بروسة ودمشق جمع الأمير مكتبة جديدة، وكانت هي مصدر غذائه الروحي بعد أن فقد مجده العسكري والسياسي. وكانت مكتبته في قصر دمر حيث أقام طويلا إلى وفاته، ممثلا في الثروة والتنوع. ولا شك أنها قد جمعت الكتب المخطوطة إلى المطبوعة، وكذلك وثائق العائلة والرسائل ونحوها. وكان ابنه محمد قد استفاد من هذه المكتبة في كتابة سيرة والده وتاريخ الجزائر. ويبدو أن مكتبة الأمير ضاعت أيضا بين أيدي الورثة من جهة وأثناء غارة الأتراك على القوميين العرب سنة 1916 من جهة أخرى. فقد قيل إنهم بعثروا هذه المكتبة أثناء البحث عن ابنه عمر الذي اتهموه بالتآمر ضدهم ثم شنقوه (¬2). مكتبة الشيخ طاهر الجزائري: أصبح الشيخ طاهر بن صالح السمعوني الجزائري أحد أعيان الفكر والأدب والقومية في بلاد الشام في آخر القرن الماضي وأوائل هذا القرن. ومكانه هو فصل المشارق والمغارب، وإنما نذكر هنا أن مكتبته النفيسة قد تبعثرت أيضا نتيجة الحرب العالمية الأولى وانضمامه هو إلى حزب اللامركزية المعادي لسياسة جمعية الاتحاد والترقي التركية. وقد هاجر إلى مصر خوفا من جور جمال باشا والي دمشق الذي ¬

_ (¬1) (تحفة الزائر)، 1/ 202. (¬2) الخالدي (المهجرون ...)، ص 399. مخطوط. انظر أيضا دراستنا عن مخطوطة تحفة الزائر الضائعة في أبحاث وآراء، ج 2.

اضهد القوميين العرب وشنق منهم مجموعة على رأسها عمر بن الأمير عبد القادر وسليم السمعوني ابن أخ الشيخ طاهر نفسه. وذكر صديقه محب الدين الخطيب أن الشيخ طاهر اضطر إلى بيع مكتبته النفيسة في القاهرة إلى المكتبات العمومية ولو بنصف ثمنها لكي تبقى في بلاد إسلامية ولا تنتقل إلى بلاد أجنبية، فباع منها إلى مكتبة دار الكتب ثم المكتبة التيمورية ثم الزكية الخ. وذلك أن بيعها للأفراد (ومنهم الأجانب أو عملاؤهم) سينقلها إلى الخارج. وجاء في مرجع آخر أن جزءا من مكتبته سلمه إلى صديقه الخطيب الذي تركه بدوره لابنه قصي (ابن الخطيب) (¬1). ... وسنكتفي الآن بذكر بعض المكتبات الخاصة التي شاهدناها أو تعاملنا مع أصحابها أو اطلعنا على وصف لها. أما ما يردده البعض أحيانا من أن لفلان مكتبة ومخطوطات فلا يخلو من مبالغة. ولو سلكنا طريق السماع فقط لكان كل عالم وكل زاوية وكل مثقف له مكتبة جديرة بالحديث عنها هنا. ولكن لا يشك أحد في قيمة مكتبة ابن أبي شنب مثلا. كما أن اهتمامنا منصب على المكتبات التي تحتوي على مخطوطات عربية تراثية ووثائق ومراسلات وليس مجرد مكتبات تحتوي على بعض الكتب المطبوعة أو المدرسية. وعلى هذا يمكننا ذكر مجموعة من المكتبات الخاصة، ولا سيما تلك التي عانت من الضياع والتلف: 1 - مكتبة محمد بن الحاج حمو: وهو من مليانة، وكان في دولة الأمير متوليا تمويل الجيش. وعند انهيار هذه الدولة فز محمد بن الحاج بنفسه وأهله واعتصم بشعاب جبال بني مناصر. وظل متخفيا هناك، وكان ¬

_ (¬1) محب الدين الخطيب (الحديقة)، ج 4، 1348 هـ، ط 2، ص 180. وكذلك الخالدي، مرجع سابق. ومن المكتبات التي تبعثرت نتيجة الغارة التركية على القوميين العرب مكتبة سليم السمعونى بعد شنقه.

الفرنسيون يهاجمون الفارين سنة 1842، فضاعت مكتبته وأوراقه ودفاتره (¬1). 2 - مكتبة محمد الطاهر المحفوظي المعسكري: وقد تولى القضاء في غريس ووهران وتلمسان، وكان من علماء الوقت خلال الاحتلال، ثم أصبحت أسرته تعرف بأسرة (الخطيب) بعد تغيير الحالة المدنية. ويقول عنه الشيخ المهدي البوعبدلي: لقد جمع خزانة كتب معظمها نقله بيده (¬2) (أي نسخة). وقد ترجمنا له باختصار في مكان آخر. 3 - مكتبة أبي حامد المشرفي: وكان قد هاجر إلى المغرب الأقصى، وزار الجزائر بعد انتهاء المقاومة، وأدى فريضة الحج، وعاش وتوفي بالمغرب. وسنترجم له في فصل التاريخ والرحلات. ويقول عنه الشيخ البوعبدلي إنه عندما هاجر باسرته إلى المغرب حمل معه خزانة كتب أنقذها من الضياع (¬3)، وقد اطلعنا على بعض مخطوطاته في خزائن المغرب. 4 - مكتبة خليفة بن حسن القماري: وهو من علماء قمار قبل الاحتلال ويعرف بنظمه لمختصر الشيخ خليل في الفقه المالكي. ومكتبته آلت إلى ابنه، ثم إلى ورثة آخرين من العائلة، وظلت تنتقل في الأيدي إلى أن استقرت عند المرحوم الصادق قطايم، أحد أحفاده. وقد توفي هذا أوائل الثمانينات في عهدنا. وقبل وفاته أطلعنا على بقايا المكتبة الموضوعة في صناديق وحقائب. وهي مخطوطات أغلبها في التراث الفقهي والنحوي وما إليه، كما تشتمل على بعض المنظومات والتقاييد التي تركها الشيخ خليفة وبعض مراسلاته مع علماء الوقت. وبقية المكتبة اليوم عند أبناء السيد قطايم (¬4). ¬

_ (¬1) انظر مقالة حسن بن بريهمات في تأبينه، المبشر 31 ديسمبر 1868. وقد ترجمنا لكليهما في غير هذا. (¬2) المهدي البوعبدلي، مقدمة كتاب (دليل الحيران)، الجزائر، 1978، ص 49، هامش 46. عن المحفوظي انظر كريستلو (المحاكم)، وكذلك ترجمتنا له، ومخطوط محمد الشاذلي. (¬3) رسالة من الشيخ المهدي البوعيدلي، بتاريخ 14 مارس 1985. (¬4) انظر كتابنا تجارب في الأدب والرحلة.

5 - كثيرا ما ذكر لي الشيخ البوعبدلي في مراسلاته معي مكتبة المفتي حميدة العمالي. وقد كان العمالي من رجال الدين الذين توارثوا العلم والكتب في العاصمة، وكان من علماء القرن الماضي الذين لهم بعض التحارير والتقاييد. وجاء في إحدى رسائل البوعبدلي عبارة غامضة يفهم منها أن مكتبة الشيخ العمالي - خزانته، كما يقول - قد آلت إلى مفتي وهران في آخر القرن الماضي، وهو علي بن عبد الرحمن الذي كان تلميذا للعمالي. يقول البوعبدلي إن الخزانة قد ختم بها المطاف بوهران سنة 1324 (¬1). وكان البوعبدلي يملك بعض الآثار من مكتبة الشيخ العمالي، كما سبقت الإشارة. وكذلك كان يملك كناشا هاما- فيه رسائل ومساجلات لمحمد بن رأس العين وسعيد بن الشباح وغيرهما. (فكناشں ابن رأس العين ورسائله التي كان يحررها - بعضها لباشوات الجزائر - في مختلف المواضيع، رائعة تجعل صاحبها في مصاف كتاب ذلك العهد (العهد العثماني) بالمشرق والمغرب) (¬2). 6 - مكتبة شعيب بن علي: وهو قاضي تلمسان الذي بقي حوالي أربعين سنة في منصبه، وكون مكتبة فخمة وراسل وألف (¬3). وكان والد الشيخ البوعبدلي من تلاميذ القاضي شعيب. وكان يستعير من شيخه مخطوطات يشترط عليه إرجاعها في مدة محددة. وكان القاضي شعيب يستشهد ببيتي ابن القنفذ حول إعارة الكتب حتى يحث المستعير على العناية بها وإعادتها أو يتخلص من الإعارة تماما، وهما قوله: بالله يا مستعير الكتب دعني ... فإن إعارة الكتب عار فمحبوبي من الدنيا كتابي ... وهل أبصرت محبوبا يعار ¬

_ (¬1) تاريخ المراسلة 10 أكتوبر 1979 (والتاريخ الهجري المذكور في المراسلة هو 1224، وقد صححناه، لأن العمالي وابن عبد الرحمن قد عاشا في النصف الثاني من القرن 14 الهجري). (¬2) رسالة من الشيخ المهدي البوعبدلي، 2 مارس 1980. (¬3) ترجمنا له في غير هذا المكان، انظر فصل السلك الديني والقضائي.

وكان القاضي شعيب يقول لوالد الشيخ البوعبدلي: (ولما كنت أعز علي منها - الكتب - فإلي أرسلته إليكم) (¬1). وقد ورث أبو بكر عبد السلام بن شعيب مكتبة والده، ولا ندري الآن مصيرها. 7 - مكتبة مصطفى الأغواطي: وهو مصطفى بن موسى خريج المدرسة الثعالبية الشرعية. وكان قد أقام سنوات طويلة، كما يقول الوعبدلي، في موريطانيا، ودرس هناك في إحدى الثانويات، وكان من تلاميذه أول رئيس لموريطانيا، وهو مختار ولد دادة. وقد جمع مصطفى الأغواطي (خزانة مخطوطات كلها درر). ودعا الشيخ المهدي لزيارتها في منزله. وكان قد رجع (الأغواطي) إلى الجزائر بعد الاستقلال (¬2). 8 - مكتبة أحمد الأكحل: وكان قد تخرج أيضا من المدرسة الثعالبية الشرعية، وهو من أسرة عريقة، وكان يقرض الشعر ويتعاطى الأدب. وله بعض المؤلفات سنعرض إليها. وقد نشر في بعض الصحف خلال الثلاثينات كما نشر في مجلة (هنا الجزائر) في الخمسينات. وبعد الاستقلال توظف في وزارة الشؤون الدينية. ويقول الشيخ البوعبدلي عنه: (لا شك أنه كان يملك بعض نوادر المخطوطات إذ والده كان أمين الدلالين). وكان يملك نسخة من تاريخ ابن المفتي (القرن 18 م) وفيها أن أحمد بن عمار من الواردين على العاصمة من مستغانم بينما تذهب نسخة أخرى إلى أنه ورد إليها من تلمسان (¬3). 9 - مكتبة المولود الحافظي: وكانت داره في بني حافظ. وكان من العلماء البارزين خلال هذا القرن. وله ثقافة واسعة، سيما في الفلك. وتولى ¬

_ (¬1) كتب إلي الشيخ المهدي البوعبدلي هذا الاستشهاد بمناسبة إرساله كناش العمالي إلي، في مراسلة 2 مارس 1980. (¬2) يقول البوعبدلي في مراسلة بتاريخ 7 ينار 1981 إن مصطفى الأغواطي قد يكون متقاعدا عندئذ ومقيما في العاصمة أو في الأغواط. (¬3) مراسلة البوعبدلي 10 أكتوبر 1979.

رئاسة جمعية علماء السنة. وعاش إلى سنة 1948 وكان عندئذ مديرا للمعهد الكتاني. أصبحت داره خلال حرب التحرير مركزاه عسكريا فرنسيا. ويقول الشيخ علي أمقران السحنوني: (وكانت كتبه وآثاره مدفونة في فناء الدار، ثم اكتشف هذا الكنز) أحد الضباط الفرنسيين (فأخذه كله) وضاع. ثم يقول: ولعل بعضه موجود الآن في سطيف وبوقاعة (¬1). 10 - مكتبة ابن شعلان: كانت أسرة ابن شعلان، حسب الشيخ علي أمقران، من الأسر العلمية في بجاية. وقيل إنها تتوفر على (مكتبة عظيمة)، ومن ذخائرها كما قيل، (النبذة المحتاجة في أخبار صنهاجة)، ويغلب على الظن أن المكتبة ما تزال موجودة إلى الآن (¬2). ولكن هذه المعلومات سماعية، وكثيرا ما يبالغ الرواة. 11 - مكتبة بودريوة: ونعني به الحاج بهلول الهاشمي بودريوة الشرقاوي البجائي. وقد أخبرني الشيخ علي أمقران أن أخاه محمد الصالح قد قام بوضع قوائم بمحتويات المكتبة المذكورة، وانتهى منها في 30 نوفمبر، 1977، فبلغت المجاميع وحدها ثلاثة عشر مجموعا، وفي كل مجموع عدد من الكتب والأوراق والرسائل من مختلف الفنون كالنحو والقراءات، والدين والتوحيد، الخ. ومن بينها شوارق الأنوار للحسين الورتلاني في التصوف والمناقب، ومجموع في الأخبار والأنساب والتواريخ من 148 صفحة (¬3). 12 - مكتبة ابن سماية: وهو الشيخ عبدالحليم الذي اشتهر أوائل هذا القرن بالعاصمة، وكان هو ووالده من المدرسين والأعيان. وصفه المترجمون له بأنه كان جماعا للكتب القديمة والحديثة والمخطوطة والمطبوعة. وكان يشتريها أو يستنسخها على الطريقة القديمة، وذكر الشيخ ¬

_ (¬1) علي أمقران، مراسلة بتاريخ 17 مارس، 1980: انظر فصل السلك الديني والقضائى. (¬2) نفس المصدر، بتاريخ 9 مارس 1980، سبق أن قلنا إن (النبذة) كانت في حوزة المستشرق شيربونو، ثم اختفت. (¬3) علي أمقران السحنونى، مراسلة بتاريخ 8 غشت 1980.

دبوز أنه كان لابن سماية (خزانة تحتوي آلاف الكتب النفيسة) ولكن أكثرها قد ضاع حين جاء بعض علماء المغرب (لعله يقصد الكتاني) واستعاروها منه وهربوها إلى باريس (¬1)!. 13 - مكتبة خمار: وهو أحد شيوخ العلم في بسكرة أوائل هذا القرن. وفي وصف المعاصرين له ذكروا أنه كان ولوعا بجمع الكتب الخاصة به، وكانت مكتبته متنوعة وهامة وأنه كان محبا للكتب. وكان تلاميذه يستفيدون منها (¬2). 14 - مكتبات أخرى: لا نشك في أن هناك علماء وغير علماء لهم مكتبات خاصة صغيرة أو كبيرة، ذات قيمة ضئيلة أو عظيمة. ولكن لا سبيل إلى استقصائها كلها. وحسب معلوماتنا السماعية أو الظنية، فإن ممن كانوا يملكون مكتبات معتبرة وفيها بعض المخطوطات هم الشيوخ، عبد الكريم التواتي بتمنطيط، والبشير الرابحي الذي تولى الفتوى في عدة بلدان، وابن الحاج موسى بالعاصمة، وعبد المجيد بن حبة في المغير، ومحمد التواتي في بسكرة، والأمير في باتنة، وأحمد بن حسن الشرقي والحاج العربي بن شنوف نواحي وهران، ومحمد الهاشمي بن بكار في معسكر، والطاهر العبيدي وأخوه أحمد العبيدي في تقرت والوادي، وأحمد خراز، ومصطفى السالمي بالوادي، وأحمد بن أبي الضياف، بتاغزوت، وأحمد بن عبد الباقي، والطاهر التليلي بقمار، وابن الموهوب ونعيم النعيمي في قسنطينة، ومحمد البشير الإبراهيمي الذي جمع مكتبة هامة أثناء إقامته في القاهرة. ثم مكتبات بعض المهاجرين إلى المشرق والمغرب من أسرة الأمير عبد القادر وأسرة المشرفي. ... ¬

_ (¬1) دبوز (نهضة)، 1/ 122. (¬2) انظر عنه فصل التعليم.

النساخة والنساخون

ولعله لا يكفي أن نقول إن مصير المكتبات الخاصة والعامة كان التلف والحرق والإهمال خلال العهد الفرنسي. يقول ليبيشو، مدير التعليم في الجزائر خلال الستينات من القرن الماضي، إن المخطوطات كانت متوفرة في مختلف المدارس (والزوايا) التي كانت بدورها منتشرة في المدن والأرياف. وكانت المخطوطات هي قاعدة الدراسة وفهم الدين. غير أن هذه المخطوطات قد أتلفت في أغلبها نتيجة الحملات العسكرية وتفريق الطلبة والعلماء (¬1). وكان على ليبيشو أن يضيف أيضا، أن المخطوطات قد انتزعت من أصحابها عن طريق الإفقار والتحايل ومصادرة المؤسسات العلمية والدينية، والهجرة، والاغتصاب. فالحروب لم تكن إلا إحدى العوامل في تلف المخطوطات واختفاء كثير من المكتبات. وأثناء الثورات وحالات الطوارئ التي كانت تعلن خلال الحربين العالميتين، كان شك الفرنسيين يحوم أيضا حول كل كتاب بالعربية سواء كان مخطوطة أو مطبوعا. وإذا لم يفهموه، وقلما يفهمونه، كانوا يمزقونه أو يحرفونه، مع إيذاء صاحبه واتهامه بإخفاء المناشير السرية والوثائق المحرضة. وقد حدث ذلك خلال ثورات 1871، 1945، 1954. ويقول الشيخ المهدي البوعبدلي إن الحكومة الفرنسية في الجزائر قد مزقت خزائن الكتب وأتلفتها أثناء الحرب العالمية الأولى لأنها كانت متشددة، حسب تعبيره (¬2). النساخة والنساخون الحاج علي بن القيم: كان هذا الشيخ نساخا وجماعا للكتب أيضا رغم ترحاله الكثير. وقبل أن نتحدث عنه ناسخا نقول إنه جمع مكتبته من النسخ ¬

_ (¬1) عبد الحميد زوزو، أطروحة الدكتوراه، مخطوطة، ص 6 72، هامش 1 نقلا عن الأرشيف 229 AOM - H . (¬2) من رسالة منه بتاريخ 10 أكتوبر 1979. والشيخ المهدي من خبراء هذا العهد ومن المولعين بالمخطوطات. ولذلك فإن حكمه له قيمة خاصة.

ومن الهدايا، ولا نظن أنه كان يشتري الكتب نظرا لفقره. والحاج علي بن القيم من مواليد قمار في أول القرن الثالث عشر الهجري. وتوفي حوالي 1908. وهو الحاج علي بن محمد بن مبارك المعروف بالقيم (بكسر القاف ومدها). وما تزال به بقايا مكتبة يبدو أنها كانت هامة، وهي عند ورثته في قمار. وقد ضاع جلها وتآكل الباقي المحفوظ في صناديق وحقائب. وقد تفضل بعض الورثة فتركوني اطلع وأعمل في المكتبة إلى أن قضيت منها حاجتي سنة 1983. وكان الشيخ علي حاذقا في فن النسخ الذي كان يكتسب منه، فينسخ الكتب ويبيعها، وكان بعض الأعيان يطلبون منه نسخ كتاب معين فيفعل ويأخذ على ذلك أجره، وهكذا. وأثناء تنقلاته كان بعض الأعيان يهدونه الكتب المطبوعة ذات الأجزاء أحيانا. ولعلهم كانوا يهدونه مخطوطات أيضا. وكان بعضهم يحبس عليه الكتب تحبيسا. وقد وجدنا نماذج من ذلك. ففي سنة 1324 (1907) حبس عليه الحاج الأخضر بن محمد بن الطيب، باشاغا الأرباع، كتاب (المدونة) المطبوع، في أربعة أجزاء. كما حبس عليه السيد النوي بن القندوز كتاب شرح عبد الباقي الزرقاني على مختصر الشيخ خليل. وحبس عليه السيد مسعود بن الحاج النوي جميع أجزاء حاشية الدسوقي على الدردير، في أربعة أجزاء مطبوعة أيضا، وتاريخ التحبيس هو 13 شوال 1326. ومن آثار المكتبة شرح بهرام على مختصر خليل، وهو شرح يعود إلى سنة 797 هـ وأما نسخه فيعود إلى حوالي قرن بعد ذلك (890)، ونسخة من الدرة النحوية لابن يعلي الفاسي، وهي من نسخ محمد المهزيل (المزيلي؟) بن عبد الرحمن بن عبد الله بن أحمد الدائج بن علي الغريسي عام 1140 (¬1). وشرح الجرومية للراعي الأندلسي منسوخ بالجزائر عام 1140. ¬

_ (¬1) في نسب وأخبار محمد المهزيل (المزيلي؟) إضافات منها أنه غريسي المنشأ (قرب مدينة معسكر) القاطن بالقشاشية (أي المدرسة القشاشية التي كانت بالعاصمة خلال العهد العثماني والتي هدمها الفرنسيون هي والجامع الذي يحمل نفس الاسم، جامع (القشاش). ويضيف أنه جزائري الإقليم - نسبة إلى مدينة الجزائر. وأسرة الدائج =

وفي المكتبة أيضا بعض المراسلات، منها رسالة مرسلة إليه من بسكرة فيها بعض أسماء علماء الوقت مثل الشيخ أحمد بن دغمان (سنة 1295 هـ). ومن أعمال الشيخ علي نفسه وجدنا في المكتبة رجزا في التوسل في أبيات، وعدة خطب في موضوع الأعياد بقلم ابنه محمد البرقي. ولا ندري هل هي من وضع الأب أو الابن. ويغلب على الظن أنها للابن، لأن محمد البرقي قد تولى الإمامة بأحد المساجد بقمار قبل هجرته إلى الحجاز. كما توجد في المكتبة مجموعة من الخطب لا ندري أصحابها. ولعلها كانت في ملك ابنه (محمد البرقي). ووجدنا تعليقا يبدو أنه للحاج علي نفسه، وهو تعليق على منظومة في الطب لأحمد بن صالح (المتوفى سنة 1103) مضيفا إلى النسخة التي نسخها بيده تعريفات لأسماء الأعشاب في حوالي أربع صفحات (¬1). أما الكتب التي نسخها الحاج علي وكانت لها آثار في بقايا المكتبة، فهي كتاب في الفقه نسخه سنة 1291 في قمار. ونسخة من منظومة الطب المذكورة التي يبدو أنه نسخها لمن طلبها منه، ونسخة من كتاب (الترح في منظومة ابن فرح)، سنة 1322، وكتاب الهيئة لعبد الرحمن الفاسي 1302. ولكن الكتب التي نسخها الشيخ تذهب عادة إلى أصحابها، ولا يبقى له منها إلا بعض التواريخ والآثار الدالة عليها فقط. ولا نستطيع أن نبني بسهولة حياة هذا الشيخ الجوالة الذي مهر في علم النسخ إلى أخريات أيامه رغم وجود المطابع، ولكنا نقول إن مهارته قد تكون راجعة إلى جمال خطه واتقانه. أما حياته فما تزال مجهولة عندنا. والظاهر أنه تعلم في قمار وتونس (نفطة؟)، وقد أدى فريضة الحج كما يدل اللقب الديني المضاف إلى اسمه، ولكننا نعرف عن بعض الأماكن التي أقام فيها أو ¬

_ = معروفة في معسكر أوائل هذا القرن، وكان أحدها متوليا للتدريس في جامع معسكر. (¬1) لا نعرف من هو أحمد بن صالح المذكور، وقد وجدنا تاريخ 1103 ونحسب أنه تاريخ وفاته، دون التأكد من ذلك.

تردد عليها وبعض تواريخ ذلك. وكان أمثاله من علماء المنطقة يذهبون إلى المدن الشمالية والتل للهروب من شظف العيش والحرارة الصيفية، وفي الغالب كانوا يرجعون إلى مسقط رأسهم مع بداية موسم الخريف. ويبدو أن الشيخ علي كان يفعل ذلك. وزادت مهنته من حبه للتجوال بين المكتبات والزوايا وأهل العلم، ولو طلب من أحد أن يكتب عن الجزائر العلمية في مدار هذا القرن لكان هذا الشيخ من الفرسان لمعرفته بأمور كثيرة تتعلق بالتعليم والدين والمكتبات. ولكنه كان منشغلا بأشياء أخرى عن التآليف. وحسبما وجدناه مسجلا في أوراقه المحفوظة، وعلى بعض نسخ المكتبة فإن الشيخ قد زار البلدان والمناطق الآفة في أوقات مختلفة: العاصمة 1302، ولعله زارها أكثر من مرة ولكن ذلك هو ما وجدناه مسجلا. ونفس الشيء يقال عن بعض الأماكن التي سنذكرها، وهي سوق أهراس التي كان بها في ذي القعدة سنة 1299، حسب نسخة بخطه جاء فيها: (حين غربتي عن أهلي، وذلك لامتحان الزمان واحتياجي إلى الله). وهذا تعبير قد يكون فيه تلميح إلى غربة اضطرارية لأسباب سياسية أو اقتصادية، لأن ذلك معنى الابتلاء الذي أشار إليه وحاجته إلى معونة الله. وكثيرا ما وجدناه يقصد الأوراس ولا سيما بلدة زوينة ومنعة، وكذلك بسكرة، إضافة إلى نفطة بتونس. وكان ربما من أتباع الطريقة القادرية، لأنه ذكر عدة مرات زاويتين ترجعان إلى هذه الطريقة وهما زاوية ابن عباس بالأوراسں (منعة)، وهي قادرية بالتأكيد، وزاوية سيدي الحسين، بنفطة، ولعلها هي زاوية الشيخ الحسين بن إبراهيم، وهي أيضا قادرية، وكان الحسين أخا للشيخ الهاشمي صاحب زاوية عميش. وقد يكون الحاج علي من المنتمين لعدة زوايا أو طرق صوفية، لأن مهنته تقتضيه ذلك، وكذلك التغطية السياسية كانت ضرورية بالانتماء إلى عدة طرق في نفس الوقت (¬1). ... ¬

_ (¬1) من الذين ترجموا للحاج علي بن القيم، الشيخ محمد الطاهر التليلي في مخطوط له، وتوجد بعض أخباره أيضا فى كتاب (أضواء) لعبد الباقي مفتاح (مخطوط).

أطلنا عن قصد في الحديث عن الحاج علي بن القيم لأنه من أبرز النساخ المعروفين في عهد الاحتلال. ونقول المعروفين لأن هناك من لا نعرفهم، وربما يتفوقون عليه. ولكن النساخة عانت في هذا العهد نتيجة ظهور الطباعة وتقدمها. ولم يسبق اللجوء إلى النسخ إلا عند انعدام المطبوع، أو الاحتفاظ بنسخة خطية تكريما للخط الجميل عند المحافظين على هذا الفن، سيما في المصاحف التي يتفنن النساخ في إخراجها وتذهيبها وزخرفتها. وقد كان بعض الناس يكرهون، وربما يحرمون، المصاحف المطبوعة بحرف المطبعة ويفضلون عليها خطوط اليد. ونلاحظ أن النساخة بقيت شائعة في الأرياف عموما حيث الزوايا والحياة الدينية والعلمية التي لم تتأثر بالغزو الثقافي الأجنبي. وكان بالعاصمة سوق شهير للوراقين قضى عليه الفرنسيون منذ الأيام الأولى للاحتلال. كما قضوا على مختلف الصنائع المحلية، ثم عادوا يتأسفون عليها بعد أن صوح نبتها وانقرض جيلها. وحين تذكروا ذلك في آخر القرن الماضي أخذوا يلاحظون الفرق الموجود في صناعات المغرب وتونس، وحاولوا الاستعانة بها لإنشاء وتطوير الصناعات التقليدية في الجزائر على أساس أنها قريبة الصلة بها وبالأندلس (¬1). وفي زواوة وبجاية اشتهر محمد الطاهر بن محمد السعيد بن إسماعيل الزواوي الوغليسي بفن النساخة. وكان قد عاش حتى أدرك الاستقلال (1873 - 1969). ومن خطه عدة نسخ من كتاب علي بن فرحون في الأنساب. وكتاب ابن أبي جمرة في الحديث، وشوارق الأنوار للورتلاني، وغيرها (¬2). ويذكر الشيخ المهدي البوعبدلي أن الشيخ البشير محمودي البرجي (خطاط شهير). وأنه ورث خزانة كتب أسلافه، وكان كلما اطلع على وثيقة ¬

_ (¬1) راجع كراسات الاحتلال، بحث أوغسطين بيرك. (¬2) مراسلة من على أمقران السحنونى، بتاريخ 14 أكتوبر 1981.

هامة في هذه المكتبة أطلع عليها البوعبدلي. ولأريحته استغله بعض الناس فبذر مكتبته إذ كانوا يستعيرون منه الكتاب ثم لا يرجعونه إليه. ولم يذكر البوعبدلي هل كان الشيخ البرجي ينسخ الكتب لنفسه أو لغيره أيضا (¬1). وفي العاصمة اشتهر علي بن الحاج موسى وعمر راسم وعمر بن سماية بالخط والزخرفة الفنية. ولا ندري إن كان عمر راسم قد نسخ الكتب، فلعله كان خطاطا فقط يجود الكتابة ويتمتع بجمالها أو يفعل ذلك لأغراض فنية علمية كالرسومات واللوحات. وكانت جريدة المبشر قد استجلبته ليعمل فيها خطاطا ورساما. أما عمر بن سماية فقد عثرنا له على لوحات فنية - دينية وزخرفة بالمنمنمات مع خطوط جيدة، ولكننا لا نعلم أنه كان نساخا للكتب. أما ابن الحاج موسى فقد كان مؤلفا وناسخا. وهو ما يعنينا هنا، إذ كان يجمع الكتب، وينسخها بنفسه فكون بذلك مكتبة لنفسه (¬2). وكان الشيخ محمد أرزقي بن محمد السعيد المهداوي أمغار قد اشتهر بالنساخة أيضا. وكان حيا سنة 1295. وكانت عائلته من عرش بني عباس بوادي بو مسعود (الصومام) أصلا ثم استطونت الجزائر. وذكر له علي أمقران عدة منسوخات في الكتب المدرسية القديمة مثل شرح خالد الأزهري على مقدمة الأجرومية ومجموعة من كتب الدين والتصوف مثل الاستغاثات والأدعية (¬3). ويذهب علي أمقران إلى أن كل أبناء ابن أبي داود خطاطون ونساخون. وقد تركوا آثارا بذلك، وأن أكثر من نصف مكتبة هذه العائلة مخطوط. وكان جده (محمد السعيد السحنوني المتوفى سنة 1914) شديد الولع بالنساخة أيضا، ولا سيما نسخ المصحف الشريف والكتب المتداولة عند الطلبة، وكان له خط واضح مقروء بسهولة. وكان الجد المذكور غير مهتم بالتأليف، ¬

_ (¬1) البوعبدلي مقدمة (دليل الحيران)، ط. الجزائر 1978. (¬2) عبد الحي الكتاني (فهرس الفهارس) 2/ 288. (¬3) رسالة منه إلي 16 أبريل 1980.

ولذلك كرس اهتمامه للنسخ (¬1). ومن الشائع قديما أنه قلما يجتمع حب التأليف أو موهبته مع حب النسخ وموهبته، لأن المؤلف يشتغل بالتفكير أكثر من الخط عكس النساخ الذي يهتم بجماليات الخط أكثر من صيد الأفكار. وبعض المؤلفين لا تكاد تقرأ لهم خطا لسرعتهم في الكتابة وانشغال الذهن وحركة القلم والأصابع حتى أنهم كانوا ينسون بعض الكلمات في أقلامهم دون أن يخطوها بأيديهم على الورق، وهم يظنون أنهم كتبوها. وفي قسنطينة اشتهر محمد الصالح العنتري بحسن الخط. وهو من عائلة كانت، فيما يبدو، تشتغل بالخطاطة والنساخة، إذ وجدنا مجموعا بخط أحمد بن محمد العنتري (ربما هو والد محمد الصالح) ويرجع إلى سنة 1223 (1808) ويتضمن خلاصات لكتب وأخبارا ومختارات في السياسة والخطابة والرسائل، منها كتاب سلوك المسالك في تدبير الممالك لابن أبي الربيع، ومجموعة من القصائد في المراثي لأدباء تونس (¬2). وكان أحمد العنتري كاتبا موظفا عند الحاج أحمد، باي قسنطينة، وقيل إنه تخلص منه في ظروف غامضة متهما إياه بأخذ الرشوة من الفرنسيين. أما إبنه (محمد الصالح) فقد ارتفع مقامه عند رئيس المكتب العربي البارون بواسوني وأصبح من كتاب المكتب العربي لحسن خطه. وقد اطلعنا له على بعض الرسائل وعلى تقييده المسمى مجاعات قسنطينة بخطه، فكان خطه على درجة جيدة من الدقة والفن. ولكننا لا نعلم أنه نسخ الكتب أو اشتغل بالوراقة (¬3). وأثناء تصفحنا لبعض المجاميع في مكتبة أحمد بن السائح في بسكرة بتاريخ 21 سبتمبر 1983، عثرنا على عدة أعمال تذكر الناسخين، وأغلبهم كانوا من قمار أصلا وكانوا يقيمون أو يترددون على بسكرة. منهم: أحمد بن ¬

_ (¬1) علي أمقران السحنوني، تاريخ 23 فيفري، وأخرى في 18 مايو، 1981. وله معي مراسلة أخرى أبريل 1979 (دون ذكر اليوم). (¬2) المجموع رقم 5093 في المكتبة الوطنية - تونس، يرجع المخطوط إلى المكتبة الأحمدية بالجامع الأعظم (الزيتونة) وعليه تحبيس رسمي. (¬3) انظر رسالة له إلى فيرو نشرناها في كتابنا (أبحاث وآراء) ج 3.

سالم الباي، بتاريخ 1307 (1889)، وعلي بن مبارك بن سالم الباي، ومحمد بن قدور بن علي بن فرحات الذي له منسوخات ترجع إلى سنة 1295 (1878)، وعلي بن الحاج صالح بن فرحات بن بلقاسم الذي نسخ للحاج محمد بن عمار بن أحمد بن عبدالله، سنة 1301. أما أحمد بن عمارة بن سعيد العمري فقد نسخ سنة 1306 كتاب وصف طيبة (المدية المنورة)، وكان الشيخ أحمد العمري (من أولاد عمر) إماما في جامع الشريعة بقمار. وفي مكتبة الشيخ الحاج علي بن القيم بقمار أيضا وجدنا نسخة من الشاطبية المعروفة بحرز الأماني في القراءات من نسخ أحمد بن محمد بن بلقاسم السوفي نسبا التماسيني دارا (سنة 1298) كما وجدنا عملا منسوخا آخر في القراءات لمحمد بن أحمد بن عبد الله بن دغمان سنة 1297. وقد عرفت عائلة ابن صارمشق في تلمسان بجودة الخط والنسخ والرسم والهندسة. وكلها فنون متصلة ببعضها. وأثرت هذه العائلة بفنها على المنطقة فوجدنا آثار ابن صارمشق في معسكر وغيرها، وكان أحد أفرادها يقيم بالجزائر سنة 1859 (¬1). ونعرف من مراسلة جرت بين إيميل ماسكري، عميد مدرسة الآداب وأحد التجار الميزابيين في قصر البخاري سنة 1881. أنه كان في غرداية نساخ ماهر (لعله هو الذي كان ينسخ الكتب أيضا للشيخ أطفيش)، ومنها ما نسخه لماسكري وأوصله إليه عن طريق التاجر المذكور (¬2). وحين ذكرت ترجمة الشيخ محمود بن الشيخ علي بن الأمين ذكر معها ¬

_ (¬1) عن ذلك انظر ليكليرك عن جامع العين البيضاء بمعسكر في المجلة الأفريقية، 1859، ص 42 - 46. واسم هذا الشخص هو حمو بن سارمشق المولود بتلمسان والمقيم عندئذ بالجزائر. وفي تلك الأثناء أصدرت عليه السلطات حكما قضائيا لا ندري محتواه، حسبما جاء في (الأخبار) أكتوبر 1859. (¬2) ابن سديرة (كتاب الرسائل)، ص 216. منها كتاب تبيين أفعال العباد وكتاب أحكام الديوان.

أنه كان (نساخا عجيبا) للكتب. وقد عرفنا في مكان آخر أن هذا الشيخ هو الذي استعمل قلمه في (المبشر) وتولى التدريس بالجامع الكبير بالعاصمة وكان إماما في الليسيه (الثانوية)، وأنه توفي في 17 فبراير 1897. وذكر أبو القاسم الحفناوي أن والده كان له (خط جميل لا نظير له في الجزائر)، وكان قد تعلمه في نفطة عندما كان تلميذا، للمدني بن عزوز في الزاوية الرحماية - العزوزوية. ونفهم من كتابة الحفناوي أن والده اعتمد في معيشته على الزراعة ونسخ الكتب. وكانت وفاته سنة 1893 (¬1). وكان الحاج الباهي العنابي من أبرز النساخين والخطاطين أيضا. وكان يوقع منسوخاته بعبارة (خديم الطلبة) أي العلماء والمتعلمين. ويغلب على الظن أن إقامته كانت في قسنطينة وليس في عنابة. ومن منسوخاته (نتيجة الاجتهاد) لأحمد الغزال (وكفاية المحتاج) لأحمد بابا، كلاهما نسخة لمحمد العربي بن عيسى، ناظر الأوقاف بقسنطينة عندئذ، وقاضيها زمن الحاج أحمد باي. جاء في نهاية النسخة أنه كتب لسيده (الجهبذ النقاد العالم العلامة ذي السداد، مأوى الفقراء، مولانا أبي عبد الله محمد العربي ناظر النظراء، ببلد قسنطينة ذات الهواء، فما أسعده من بلد احتوى على عالم الوراء) وقد فرغ من النسخ في ربيع الثاني، سنة 1248 هـ. وكانت مكتبة محمد العربي بن عيسى، كما سبق، هي إحدى المكتبات الخاصة التي عاث فيها الجنود الفرنسيون عبثا وفسادا، ثم حمل منها بيربروجر ما استطاع إلى العاصمة (¬2) وعرف الشيخ أبو يعلى الزواوي بنسخ الكتب أيضا وكذلك بجودة الخط. ونعرف أنه نسخ في شبابه للمستشرق لوسياني كتاب (أعز ما يطلب) لابن تومرت، ورأينا خطه في بعض مراسلاته. واطلعنا على بعض الأوراق ¬

_ (¬1) تعريف الخلف، 2/ 187. (¬2) وجدنا خط الناسخ الحاج الباهي العنابي على مجموع رقم 1738 بالمكتبة الوطنية - الجزائر. والتاريخ هو 1248 (حوالي 1832). وعن الحاج الباهي انظر أيضا فصل النثر.

المتاحف

التي تحدث هو فيها عن الخط وأنواعه. وسنتناولها في الحديث عن فن الخط. ومن أعماله البارزة نسخه للمصحف الشريف. وأبو يعلي هو الذي انتقد بعض معاصريه الذين عاشوا بمهنة الخطاطة والنساخة للكتب بالحروف العربية حتى استغنوا واشتروا المنازل ونحوها، ومع ذلك علموا أولادهم اللغة الفرنسية ولم يدخلوهم الكتاتيب القرآنية ولا الزوايا. وهو يقول عنهم إنهم عاشوا بالعربية وحادوا عنها بأولادهم. وكان يشير بذلك إلى بعض الأيمة والحزابين الذين خدموا العربية ونسخوا القرآن الكريم وغيره وعملوا في المطابع، ثم فضلوا الفرنسية عليها لأولادهم (¬1). وهناك من اشتهر بنسخ المصحف الشريف فقط، مثل البشير بوكوشة والد الشيخ حمزة بوكوشة. فقد ذكر أن له خمسة وستين نسخة من المصحف. وهو من أهل وادي سوف، وتوفي سنة 1933 (¬2). المتاحف المتاحف العمومية جديدة في الجزائر، وهي من إنشاءات الفرنسيين. ولم يعرفها الجزائريون إلا في أشكال أخرى خاصة. فقد كانوا يحتفظون بالتحف الثمينة في منازلهم، وقد يخصصون لها جناحا أو جانبا من المنزل. وكانت الأشياء المتحفية تعلق في المنازل للزينة والتباهي. فكم من حوش كان يضم أسلحة فاخرة ومرصعة بالفضة وغيرها. وكانت أسنان الفيل وجلود الحيوانات، والرياش والقطع المعدنية ونحوها، تعتبر من أدوات التجميل في بيوت الأغنياء. وكذلك جهاز الفرس من سرج وعلاقة وخميسة ولجام مما يعتني به النبلاء ويدفعون من أجله الأثمان العالية. وكذلك ما يتمنطق به الفارس وما يلبسه في الحروب كالحزام والسلاح والحذاء والدرع والخوذة، إن هذه التحف كانت تحفظ وتتوارث في كل بيت، وهي جزء هام من التركة عند الوفاة، وكذلك الكتب المخطوطة، كما ذكرنا. ¬

_ (¬1) جريدة (الإصلاح) عدد 58، 12 غشت، 1947 تحت عنوان (كتاب مفتوح). (¬2) حديث مع المرحوم حمزة بوكوشة في 22 مارس، 1991 بالعاصمة.

أما الفرنسيون فقد أنشأوا المتحف العمومي على غرار المكتبة العمومية وبموازاتها. وبدأوا ذلك في العاصمة منذ 1835 ثم تو سعوا فيه كلما احتلوا الأجزاء الأخرى من الوطن. وهكذا أنشأوا المتاحف في شرشال وقسنطينة وسكيكدة وتبسة وتلمسان ووهران. ثم عممت المتاحف فأصبح في كل مدينة وبلدية متحف. وبذلك أصبحت عندنا المتاحف البلدية والوطنية، والمتاحف المتخصصة في الآثار القديمة والمتخصصة في الآثار الأهلية، ومتاحف الفنون، ونحو ذلك. وكانت عناية الفرنسيين منذ اللحظة الأولى للاحتلال متجهة نحو الآثار الرومانية من جهة والآثار الكنسية من جهة أخرى. ولذلك اهتموا بجمع كل ما هو روماني وكنسي. وانصبت حفرياتهم على هذا الجانب، وكانوا يعرفون اللاتينية مما ساعدهم على دراسة ما يعثرون عليه وتصنيفه وتحديد تواريخه. وقد بقيت من الآثار الرومانية الظاهرة والخفية أشياء كثيرة لم تؤثر فيها سوى عوامل الزمن، أما الجزائريون فقد حافظوا عليها ولم يرتكبوا ضدها ما ارتكبه الفرنسيون نحو الآثار الإسلامية، رغم أن الجزائريين لم يكونوا يعرفون اللغة اللاتينية ولا ينتمون إلى الجنس الروماني ولا إلى الكنيسة. أنشأ الفرنسيون أول متحف متلازما ومتزامنا مع المكتبة سنة 1835 في عهد المارشال كلوزيل. وكان صاحب المشروع هو أدريان بيربروجر الذي كان محافظا للمتحف والمكتبة معا. وظل المتحف ملازما للمكتبة طيلة عقود. ولم ينفصلا إلا سنة 1897. فكان ينتقل معها إلى مكان أوسع من السابق كلما ضاق المكان الأول بهما. وكان المتحف يحتل دائما أحد الطوابق في نفس البناية. وقد قلنا إن افتتاح المكتبة والمتحف لم يحدث فعلا إلا سنة 1835 أو 1840، حسب بعض الروايات. وفي سنة 1841 كان المتحف يضم حوالي 400 قطعة أو مادة تنتمي إلى مختلف الفئات من التاريخ الطبيعي. وكانت المواد تختار من بين المحنطات والحيتان والطيور التي تنتجها الجزائر. كما يضم المتحف مختلف النماذج من النباتات والمعادن التي تستخرج من البلاد، ومجموعة أخرى من الحشرات والأصداف.

ومن جهة أخرى أصبح المتحف يحتوي على مجموعة من المسكوكات التي ترجع إلى الميداليات الرومانية وإلى ملوك فرنسا وكذلك المسكوكات القديمة الأخرى من كل نوع، وهي التي عثر عليها بعد إجراء الحفريات إلى ذلك الحين (¬1). وبعد سنوات (1845) ضاق المكان بالتحف والمعروضات المتحفية، ففصلت عنه الأشياء التي ترجع إلى إنتاج الجزائريين (الأهالي) كالتحف الفنية والغريبة ووضعت في قاعات خاصة في ساحة الجنينة بينما ظل المتحف في ثكنة الإنكشارية هو والمكتبة. وقد أصبح المتحف منقسما إلى عدة فروع: 1 - فرع التاريخ الطبيعي: وكان يضم بالإضافة إلى عدد من الحشرات والتحضيرات الزراعية (بلغت 45 عينة) 17 عينة محنطة، و 285 من الطيور، و 146 من الحيتان. 2 - فرع المعادن: وضعت المعادن في خزائن خاصة، وقد بلغت سنة 1845 أكثر من 1، 200 نموذجا من المعادن المجلوبة من مختلف أنحاء الجزائر. 3 - فرع الآثار: وكان عدد المحتويات ما يزال قليلا فيه، فهناك نماذج من أسنان الفيل وتجسيد الحيتان الخ. 4 - فرع الكتابات والنقوش: والكتابات هنا لاتينية، وكانت بعدد كبير، ولكن ليست بذات أهمية، حسب المصدر الذي أخذنا منه. وكان هذا الفرع يضم أيضا 25 قطعة من المنحوتات المرمرية والتماثيل التي جلبت من رسقونيا وقطعة من تمثال ضخم جيء بها من قالمة، وتمثال وجد في الأبيار، الخ. كما يضم هذا الفرع كتابات عربية قالوا إنها ذات أهمية بالغة بالنسبة لتاريخ البلاد، وكانت بعدد كبير. وفي هذا الفرع أجزاء من شواهد قديمة (شواهد القبور) ولكن بدون تواريخ. وفيها شواهد مكسرة أو غير مقرؤة. وفي نفس السنة (1845) عثر على شاهد قبر حسن آغا قائد الدفاع عن ¬

_ (¬1) السجل، سنة 1841، ص 108.

الجزائر ضد شارلكان سنة 1541. وقد أضيف إلى المجموعة. 5 - فرع الميداليات والنقود: وقيل إن عددها كان كبيرا، ولكن فحصها لم يكشف عن أهمية خاصة لها حتى إلى سنة 1845. وترجع إلى عهد الامبراطورية الرومانية. أما مجموعة النقود العربية فما تزال قليلة عندئذ. ولكنها كانت تحتوي على بعض النقود المغربية القديمة. وبعضها من الذهب، أو الفضة أو النحاس، وهي ترجع إلى العهد الفاطمي. كما أن بعض النقود ضربت في مختلف المدن، وتعتبر من الأهلية. ومن هذا الفرع أيضا نقود أجنبية وأفريقية وأوربية، كانت تستعمل في الجزائر، ونقود أخرى كانت تستعملها الشركة الفرنسية للتبادل مع الجزائريين في مدينة القالة قبل الاحتلال، وهذه العملة تسمى (شكوطي؟). بالإضافة إلى هذه الفروع، ضم المتحف نماذج من السيوف الأندلسية التي ترجع إلى القرن 15، وبعض الدروع التي كان بيربروجر قد اغتصبها من مالكيها من قسنطينة سنة 1837 مع المخطوطات التي أشرنا إليها. وهناك المصابيح، وكذلك بعض الجرار الخزفية المصنوعة في شرشال أو في تونس. وظل المتحف في الجزائر يتحسن حاله وتثرى محتوياته إلى أن بلغ النضج والاستقلال عن المكتبة. ففي سنة 1838 انتقل إلى دار الحاج عمر التي أشرنا إليها في حديثنا عن المكتبة العمومية. وكان المتحف يقع في الطابق الأرضي من البناية. واحتل في هذا الطابق ثلاث قاعات أو غرف (أما الرابعة فكانت مخصصة لحلقة اللغة العربية). وكل قاعة كانت متخصصة في جانب من الجوانب، مثلا القاعة الثانية للآثار الرومانية، والثالثة لمجموعة الحيوانات. أما المجال الذي يقع بين الطابقين فقد وضعت فيه مواد متحفية مثل الأسلحة والآلات والأثاث العربي (¬1). ¬

_ (¬1) السجل، سنة 1845 - 1846، ص 119 - 120. انظر السيدة روجرز (شتاء في الجزائر)، لندن، 1865، ص 334. عبرت هذه السيدة الإنكليزية عن إعجابها بمحتويات المتحف، وقالت إن الفرنسيين قد جلبوا إليه تماثيل نبتون وفينوس =

وقد تخصصت المتاحف بعد ذلك، فأصبح كل متحف تقريبا يضم أشياء معينة أو عصورا معينة. وفي عهد كامبون نشأ المتحف الوطني في حي مصطفى باشا سنة 1897، وانفصل عن المكتبة، وتوسع وزيدت فيه أقسام شملت الآثار الإسلامية والبربرية ومصنوعات من القماش والخشب والجلود والزرابي والأسلحة والمطروزات والأثاث، وكذلك المجوهرات. وقد توسع المتحف أيضا في عهد جونار (سنة 1903 وسنة 1909)، وكان يقع في حديقة عمومية. وأصبح المشرف عليه هو المؤرخ والأثري ستيفان قزال S. Gsell، فطوره وأضاف إليه، وحصل له على ميزانية خاصة وقارة (بلغت سنة 1908 عشرة آلاف فرنك سنويا) (¬1). وكان متحف شرشال له أهمية خاصة بالنسبة لهذا العهد. ذلك أن الفرنسيين اعتبروا أنفسهم ورثة الرومان وأن كنيستهم هي وارثة الكنيسة الكاثوليكية (الأفريقية)، فعملوا جهدهم على (اكتشاف) هذه الآثار وربط حاضرهم بماضيهم الذي قطعته، كما قال جان بوجولا، عدة قرون من (التوحش الإسلامي). وكانت شرشال ما تزال تحتوي على آثار رومانية ظاهرة. ولكنها كانت تابعة لدولة الأمير عبد القادر إلى آخر الثلاثينات تقريبا. ومنذ احتلال المدينة سارع الفرنسيون بوضع أيديهم على مسجدها وجعلوه مأوى لما يعثرون عليه من التحف وما تجود به حفرياتهم الأثرية. ولذلك تضخم هذا المتحف (الجامع) بسرعة، حتى أصبح كما قيل من أكبر المتاحف في الجزائر خلال عشر سنوات. وبعد أن ازدادت الآثار به ضاق الجامع بها، فوضعت في دار أخرى واسعة تنازلت عليها السلطات، وربما كانت الدار راجعة إلى أحد الأغنياء الجزائريين الذين عارضوا الاستعمار فاستولت السلطات الفرنسية عليها. وكان أول محافظ لمتحف شرشال هو ¬

_ = وبوخوس من شرشال. انظر أيضا (السجل)، سنة 1846 - 1849، ص 197. (¬1) جول كامبون (حكومة الجزائر)، الجزائر 1918، ص 404.

السيد (توماس) ثم (بيكي)، وقد قاما بجمع وتضيف ما يحتوي عليه المتحف من كتابات وتماثيل وميداليات الخ. وأصبحت هذه الأشياء مصنفة إلى فرعين: الفرع الأول يضم 19 قطعة كانت محفوظة بعناية وتعتبر مهمة للغاية من الناحية الفنية والأثرية والتاريخية للجزائر. والفرع الثاني تحفظ فيه الأشياء الأقل أهمية. وتحدثت الوثائق عن أن متحف شرشال سنة 1849 أصبح يضم أجنحة متخصصة كالتماثيل، والبرونزيات، والقبور، والرصاص، والنقوش، والزخارف المعمارية، والرخامات، والخزفيات الخ (¬1). ذكرنا أن متحف شرشال بدأ في جامع المدينة، وكان ذلك سنة 1840، وتحت إشراف الجيش والموظفين الفرنسيين. ويبدو أن الجامع قد سقط أو هدم سنة 6 184 فظل المتحف يتنقل إلى أن استقر سنة 1856 حين منحه الحاكم العام المارشال راندون، مكانا مناسبا وعين عليه محافظا. وقد عرف المتحف الإهمال سنة 1869، ثم أعادت إليه إدارة الجمهورية الثالثة نشاطه ووفرت إليه الإمكانات، فتضاعفت الأشياء المجلوبة إليه، وقام عدد من الباحثين بالعناية به والكتابة عنه مثل لوتيلري، وشميتي، وويل، وهذا الأخير هو الذي أشرف على المتحف مدة طويلة وكتب أطروحته عنه ووضع له فهرسا (كاتلوقا). ويقول الباحث كانيا إن المتاحف كثيرة في الجزائر ولكن متحف شرشال يفوقها جميعا في النوعية والتحف الفنية. ولا غرابة في ذلك لأن الفرنسيين اعتبروا شرشال (القيصرية) امتدادا للعهد الروماني. وفي عهد الحاكم العام كامبون (1892 - 1897) أعطيت أهمية خاصة للمتاحف وعينت ميزانية للصيانة والتوسيع وجلب المزيد من التحف والتماثيل، كما أعيد تصنيف الأشياء القديمة في المتحف. وفي سنة 1900 كان المحافظ له هو (غيور). ونذكر أن السيد قوكلر قام أيضا بوضع فهرس (كاتلوق) لمتحف شرشال. كما قام ستيفان قزال بوضع (الدليل الأثري لضواحي الجزائر) (¬2). ¬

_ (¬1) السجل، سنة 1846 - 1849، ص 197 - 199. فيه تفاصيل عن المعروضات عندئذ. انظر كذلك نفس المصدر، سنة 1845 - 1846، ص 120. (¬2) ر. كانيا (متحف شرشال) فى (المجلة الأفريقية)، 1900، ص 230 - 231. وكانيا =

وبناء على وصف فيكتور ويل للكاتلوق الذي قام به قوكلر GAUCKLER لمتحف شرشال فإنه يحتوي على قسمين رئيسيين: الأول هو النص والثاني هو مجموعة (ألبوم) من اللوحات. أما ويل V. WAILLE فقد اهتم بالنص فقط. وكان قوكلر ما يزال شابا عندما وضع الفهرس، ومع ذلك امتدح ويل عمله وقال إنه مكتوب برشاقة وفيه آراء جادة. وكان قوكلر قد أصدر أيضا فهرسا لمتحف قسنطينة. وكان عندئذ يعمل في مصلحة الآثار التابعة للحكومة التونسية (¬1). وسرعان ما تكون متحف آخر في سكيكدة التي سماها الفرنسيون فيليبفيل على اسم ملكهم عندئذ (لويس فيليب). وقد ظلوا يستعملون الاسم حتى بعد الإطاحة بهذا الملك سنة 1848. فمنذ 1845 بدأت المحاولة في إنشاء متحف بهذه المدينة الجديدة. وبدأوا يجمعون له القطع الأثرية التي عثروا عليها أو اغتصبوها. وقيل إن بعض هذه القطع لها أهمية بالغة. ولكنهم استمروا في الحفريات في المدينة وما حولها بحثا عن الآثار الرومانية بالدرجة الأولى. وكان الرومان يسمون مكان سكيكدة (روسيكادة) (¬2). ومع تطور الزمن أصبح لسكيكدة متحفها الغني ومسرحها الروماني الذي كان محافظه سنة 1906 هو الأديب المعروف بعنصريته (لويس بيرتراند) والذي طالما تغني بالجزائر اللاتينية - الرومانية، التي (اشتراها) الفرنسيون بالقوة، وهو أيضا صاحب مدرسة الأدب الفرنسي في الجزائر (¬3). ¬

_ = كان عضوا بالمعهد الفرنسي ومفتشا عاما للمتاحف العلمية والأثرية في الجزائر. وفي المصدر المذكور يوجد وصف للمتحف كتبه ويرجسكي محافظ متحف مصطفى باشا (متحف العاصمة)، ص 232 - 260، انظر كذلك 1 - 171. (¬1) ويل (كاتلوق متحف شرشال) في (المجلة الأفريقية)، 1895، ص 173 - 198. (¬2) السجل، سنة 1846 - 1849، ص 197 - 199. (¬3) عن ذلك انظر مجلة (روكاي)، سنة 1906، ص 71. وكان بيرتراند هو مؤسس مجلة (افريقية اللاتينية). وكان يقول فيها إن الفرنسيين بالجزائر إنما هم في بلادهم وليسوا دخلاء عليها. انظر أيضا شارل تيار (الجزائر في الأدب الفرنسي). وكان فرحات عباس ممن ردوا عليه سياسيا.

وكذلك أقام الفرنسيون متحفاه معتبرا في قسنطينة. وكان أيضا في شكل مكتبة ومتحف. واهتموا منذ 1837 بالآثار في هذه المدينة العريقة. فقد أرسل وزير المعارف عندئذ، السيد بيربروجر إلى قسنطينة في مهمة علمية، كما يسمونها. فوضع له هذا تقريرا مختصرا ووعد بتقرير مفصل، وجاء في المختصر ضرورة الاهتمام بالمعالم الأثرية الأدبية العربية التي ستؤدي الحروب إلى وضعها بين يدي الوزير، وضرورة إثراء متحف الجزائر بكل ما له صلة بالعلوم الطبيعية وبقايا الفنون العتيقة، كما أبدى إليه ملاحظات عن آثار إقليم قسنطينة التي كان بيربروجر سجلها قبل احتلال المدينة (سجلها في سبتمبر 1837) وأضاف إليها ما سجله عن آثار المدينة بعد احتلالها. تأسس متحف قسنطينة على إثر الاحتلال (1837). وتولاه عدد من الفرنسيين، منهم أرقيل، وبرودوم، وهنقلي الذي كان مسؤولا عنه سنة 1903. وفي مجلة (روكاي) مقالات حول المتحف ومحتوياته وتطوراته، سيما سنة 1876 - 1877، وكذلك 1879 - 1880. وآخر ما نشر هنقلي قائمة طويلة ومفصلة عن محتويات المتحف. والغريب أنه قال إن بعض المحتويات قد فقدت من المتحف واعتبرها قد سرقت، مثل بعض الفخاريات والقناديل الرومانية، وعددها خمسة عشر قطعة، والميداليات القديمة وعددها 39 قطعة، و 16 قطعة فضية قيمتها التجارية تقدر بـ 400 فرنك. أما الكاتلوق الذي وضعه هنقلي للمتحف فيتألف من عدة أقسام أو فروع: 1 - فرع المسكوكات: وفيه الميداليات القنصلية، وميداليات الامبراطورية وامبراطورية الشرق. وكلها تتعلق بعهود رومانية. وكذلك نقود افريقية (المغرب العربي) القديمة، والنقود الاغريقية، والميداليات الحديثة. ولكن لا شيء حول المسكوكات الفينيقية ولا القرطاجنية ولا العربية - الإسلامية.

2 - فرع الأشياء القديمة والغريبة: مثل الزجاجيات والقناديل الرومانية والفينيقية، والمنحوتات والفخاريات والفسيفساء، والأشياء المعدنية والأشياء العاجية والخشبية، وبقايا العظام، وكذلك الفخاريات والفسيفساء العربية. وهناك محتويات مختلفة ترجع إلى عهود حديثة. 3 - فرع الفنون الجميلة: ومن ذلك مختلف الصور، والرسومات، والمنحوتات والمدموغبات Estampes. ومن ين ذلك صور تمثل احتلال قسنطينة من قبل الفرنسيين ومناظر الصيد، وصور الحياة العربية في عمومها في أقليم قسنطينة. والحق أن الكاتلوق الذي وضعه هنقلي يعتبر من الأعمال الهامة. وقد شمل العهود والدول وجاء خصوصا جهد نوميديا، وعهد قرطاج، وعهد موريطانيا. كما لاحظ أن بالمتحف مجموعة من النقود العربية التي ما تزال غير مصنفة. وهناك حوالي 16 من سلسلة نقود فولاذية منصهرة بأشكال مختلفة، وهي من نقود الداي حسين باشا، آخر الدايات. وهي نقود فولاذية ذات ست عشرة زاوية. ومنذ 1903 انتقل المتحف إلى مقر بلدية قسنطينة (¬1). وفي تبسة كذلك متحف هام تغلبت عليه الآثار الرومانية. وفي الكاتلوق الذي وضعه عنه سابتييه نجد محتويات هامة فصلها المحافظ في حوالي سبعين صفحة. فقد قسمه إلى اختصاصات منها الفخاريات، والفسيفساء، والتماثيل المرمرية أو الحجرية، أو القرمودية، ونماذج من الحمإ (الطين) المشوي ذي الأشكال، والمسلات، والأثريات، والكتابات، والزجاجيات، وأشياء برونزية، ومعادن مختلفة، وقطع من الفخار والحجارة (¬2). ¬

_ (¬1) انظر مجلة (روكاي)، سنة 1904، من ص 1 إلى ص 397، مجلد 38، انظر كذلك مجلد 18، ص 20. (¬2) مجلة (روكاي) 1906، ص 1 - 70.

المسرح

وكما فعلوا في شرشال، أسس الفرنسيون متحف تلمسان في جامع سيدي بلحسن أيضا. (انظر عنه فصل المعالم). المسرح المسرح ليس جديدا كل الجدة على الجزائريين. كان عندهم نوع من المسرح يسمى الكركوز ولكن الفرنسيين ألغوه سنة 1841 بدل أن يطوروه ويهذبوه إن كان صحيحا ما ادعوه عنه من الخشونة والوقاحة. وسنحاول هنا عرض نشأة المسرح الفرنسي في الجزائر وتطوره، ثم نعرض إلى ميلاد المسرح الجزائري أو ظهوره من جديد. قيل عن الفرنسيين إن المسرح يسير معهم حيثما ذهبوا، فهم يحبون المسرح بمختلف أنواعه، ويعتبرونه لازمة من لازمات حياتهم الاجتماعية. والتمثيل عندهم لا يقتصر على المدنيين بل كان العسكريون يمثلون أيضا، ولا يقتصر الأمر على الرجال وقد مثل بعضهم دور النساء. في كل مدينة احتلها الفرنسيون نصبوا خشبات المسرح ومثلوا عليها بأسلوبهم وبطريقتهم حتى يبكي الباكي ويفرح المحزون ويتحرك الساكن. وكان الجنود أنفسهم يمثلون ويمرحون، ويؤدون دور النساء في المسرحية بدون خجل ولا وجل. كانت الحركة الرومانتيكية على أشدها في فرنسا (وأوروبا) سنة 1830، ثم حلت الواقعية وغيرها من المدارس الأدبية والفنية. وكان المسرح الفرنسي في الجزائر يساير هذه المدارس ويتأثر بها، ولكن الموضوع كان هو الجزائر في أغلب الأحيان. الجزائر بقصصها وتاريخها، برجالها ونسائها، بطعمها المحلي وألوانها، ولذلك كانت المسرحيات الأولى تحمل أسماء معروفة أو مخترعة من الواقع الاجتماعي، مثل العربي، والبدوي، والبربري والميزابي، واليهودي، وسالم التومي، وبابا عروج، وخالد، والكاهنة، ثم القبيلة والواحة، وتوات، والصحراء. ثم أسماء نسائية تاريخية مثل زفيرة وسوفونيزبة، وعائشة، واليهودية، بالإضافة إلى أسماء محمد وقدور وابن

عيسى. وكذلك موضوعات من ألف ليلة وليلة (¬1). إن الكتاب الفرنسيين عندئذ كانوا يستوحون من التاريخ المحلي ومن الحوادث ما يؤثرون به على مشاهدي مسرحياتهم، كما كانوا مولعين بكل ما هو غريب ومثير وبعيد عن البيئة الفرنسية التي اعتادت على أنماط معينة من الشخصيات والحوادث. وكانت المسرحيات تعرض في فرنسا وفي الجزائر. وقد أوحت الجزائر بما لا يقل عن 43 مسرحية بين 1830 - 1925. وهو عدد قليل وكان حوالي ثلثي هذه المسرحيات محل قبل 1880. ولكنها جميعا. كانت، حسب بعض النقاد، مسرحيات ضعيفة وضحلة. وكانت من مختلف الأنواع، فيها نوع الدراما والميلودرامة، والكوميديا، والفودفيل Vaudville . ومن بينها مسرحية (عبد القادر في باريس) التي عرضت في باريس أيضا سنة 1842 عندما كان الأمير ما يزال في صولجانه. وقد قدم المسرحية ميرسان وفونتين، وقيل عنها من باب السخرية إنها مسرحية (أكثر رشاقة من أسد وأكثر لطفا من جمل). ومثلت على مسرح المنوعات بباريس. ومن جهته قدم موقيرو سنة 1830 مسرحية (أسير الداي) في باريس أيضا. وكانت للدعاية السياسية والدينية. ولذلك جعل الجمهور يبكي من المصير الذي كان ينتظر الأسرى النصارى على يد جلادي الداي في الجزائر (¬2). وتنتهي المسرحية بقتل الأسير وابنته أمام الجمهور. وفي الجزائر مثلت سنة 1849 مسرحية عروج بربروس على خشبة المسرح الكبير، وكان صاحب المسرحية هو جوبيان الذي استوحى القصة من واقعة تاريخية وحولها لتتناسب مع الدعاية السياسية والدينية التي تناسب ذوق الجمهور عندئذ ¬

_ (¬1) شارل تيار (الجزائر في الأدب الفرنسي)، الجزائر 1925، ص 518. وسنتحدث هنا عن المسرح كمؤسسة ثقافية ثم سنذكر المسرحيات العربية في فصل النثر الأدبي باعتبارها إنتاجا إبداعيا. أما المسرحيات الفرنسية فلن نذكرها إلا عرضا مع حديثنا عن المسرح نفسه. (¬2) تذكر ما فعلته المسرحيات الرومانتيكية المعاصرة في أهل باريس، وما قيل فهي مسرحية (هرنانى) تأليف فيكتور هوجو.

وتتماشى مع العاطفة الرومانتيكية السائدة. فقد جعل الكاتب زفيرة، وهي امرأة سالم التومي، تكره عروج وتحب الفارس المالطي المسيحي، كما جعلها تطعن عروج بخنجر لأنه قتل زوجها التومي، ثم تتناول السم قبل أن يصل عشيقها المالطي متأخرا، ولما وصل بعد فوات الأوان طعن نفسه بالخنجر وهو يصرخ: (عليك لعنة الله يا عروج!) (¬1). وهكذا كان في المسرحية أربعة قتلى ليشبع المشاهدون المتعطشون للدم والعنف من الانتقام ثم يغرقوا في الدموع. المسرح الذي أنشأه الفرنسيون كان يحمل اسم (المسرح البلدي) عادة. وقد أنشأوا ذلك في كل مدينة تقريبا. فكان للعاصمة مسرحها البلدي منذ 1853. وقد اشتهرت حفلاته قبل 1870، وكان عادة مكتظا بالحضور، ومثلت عليه سارة بيرنار سنة 1889 وغيرها من مشاهير الممثلين والممثلات، ويتحدث البعض عن وجود المسرح الكبير (او الامبريالي) سنة 1860، وكانت تعرض فيه قطع الأوبرا وحفلات الباليه أربع مرات في الأسبوع. وكان يقع في الساحة الكبيرة قرب باب عزون (الجنينة اليوم؟) (¬2). وهكذا كانت التمثيليات والأوبرا وكذلك الباليه تعرض في العاصمة للجمهور الفرنسي الذي يجد التسلية والمتعة وأيضا التعبئة المعنوية. ويبدو أن الجزائريين كانوا يذهبون إلى المسرح أيضا ولكن بعدد ضئيل، سيما في العقود الأولى. وكان بعض الفرنسيين يدعون أعيانا من الجزائريين للتأثير عليهم أو لمعرفة رد فعلهم أزاء بعض المناظر. ويحدثنا القس بلاكسلي أنه حضر حوالي سنة 1858 حفلة تمثيلية في المسرح. وقد جيء بشاب عربي في العشرينات من عمره لتذويقه الحضارة الفرنسية، وكان معه دليل فرنسي. ودارت المسرحية حول سيدة فرنسية تزوجت محبوبها بطريقة فردية دون الرجوع إلى أهلها، وأنجبت ولدا، ثم ¬

_ (¬1) جاكلين بيلي (عندما أصبحت الجزائر ...) مرجع سابق، ص 263. (¬2) وينقرون كوك (الاحتلال والاستعمار في شمال افريقية)، لندن 1860، ص 13.

تخاصمت مع هذا الزوج، فتزوجت رجلا إنكليزيا، وجرى بينها وبين زوجها الأول حوار طويل. وقد فهم الشاب العربي أن الحوار سينتهي بقتلها، ولكنها لم تقتل. فخرج العربي غاضبا مما حدث، وكان متعجبا من هذه العلاقات الزوجية المنحلة. ولاحظ بلاكسلي أن هذا الموضوع (الزواج والطلاق وحرية الجنس) هو الموضوع الفرنسي المفضل. وقد انتقد مستوى التمثيل المسرحي وقال إنه سيء لغاية وإن اختيار أنواع المسرحيات كان أسوأ منه. وقد وجد هو نوعا من التسلية في الغناء بمسرح الأوبرا حيث كان العرض طيبا، والثمن زهيدا. وكان الغناء بأصوات نسائية. وكان المسرح من ملاهي الطبقة العليا، كما قال، ولكنه لم يذكر لنا اسم المسرح (¬1). ومنذ العشرينات من هذا القرن تطور المسرح، ولم يعد مقصورا على المسارح البلدية وإنما تنوع ونشأت حفلات (القالا GALA) المحببة للعسكريين والشباب، ومثلت كريسنتي (من اليهود) في وهران والعاصمة. كما وظفت مسارح الرومان القديمة، وظهرت فرقة تسمى فرقة (جولة المدن الذهبية) وقدمت المسرحيات الكلاسيكية، ثم توقفت مع الحرب العالمية الثانية. ويقول مؤرخو الفرنسيين إن المسرح الجزائري (الفرنسي) الحقيقي بدأ بعد 1949 وهم يقيسون ذلك بنجاح الفرق الفرنسية الجزائرية في باريس وغيرها من المدن الفرنسية. كما ظهرت مسارح محلية متنوعة في الأحياء الشعبية بالعاصمة على الخصوص. من ذلك مسارح مايو Mayoux ومقهى ومسرح الجوهرة، والمسرح الإيطالي في شارع القناصل، والمسرح الإسباني في باب الواد، ثم المقهى المغنية (من نوع الغناء والتمثيل) التي كونها هيلور في حي مصطفى باشا (¬2). ¬

_ (¬1) بلاكسلي (أربعة أشهر في الجزائر) لندن 1859، ص 36. وصف بلاكسلي أيضا ناديا خاصا بالموظفين المدنيين والضباط السامين فيه مكتبة، وغرف للعب الورق والبليار، وكانت فيه المجلات الفرنسية، وهم يقضون فيه أوقاتهم من الصباح إلى المساء. (¬2) قوانار (الجزائر)، مرجع سابق، ص 279 - 280.

لقد كانت المسرحيات مرتبطة بالزمن الذي مثلت فيه، أما الأحداث التي عالجتها فكانت أحداثا آنية للدعاية والتسلية. ولذلك فليس من الضروري البحث فيها عن صدق العاطفة وصدق التعبير، لأن تأثيرها مؤقت، ولو فصلت عن زمانها لما بقي فيها أثر، ولا سيما ذلك النوع المعروف بالفودفيل. وقد ضرب شارل تيار أمثلة عديدة على ذلك، منها ذلك الضابط الفرنسي (فريدريك) الذي أحب ابنة مستوطن (كولون) وأراد طلب يدها من أبيها، ولكنه لم يعرف كيف يبوح لها بحبه، إلى أن جاء أحدهم صدفة وروى للأب بطولة فريدريك وكيف أنقذ مزرعة مستوطن من هجوم البدو العرب عليها وكيف قتل عشرين وأسر مجموعة أخرى منهم. ولما جاء الضابط بنفسه إلى الأب بادره هذا بإعطائه ابنته (أرنستين) دون أن يطلبها منه (¬1). وهناك مسرحيات كوميدية وأخرى درامية عديدة سنضرب أمثلة عليها بعد قليل. ولكن نلاحظ فقط أن الموضوعات والعناوين هي التي كانت جزائرية، أما الصدق والوفاء للنص والحدث التاريخي فالمسرحيات بعيدة عنه. ومن الكوميديات نجد (هدايا الداي) لسيون، وزهرة تلمسان لقونيه، وهذه المسرحية تعتبر من نوع مسرحيات الصالونات. وهناك مسرحية منديس دكوستا التي جرت في مكتب بولينياك، وقد اعتبرت مسرحية سياسية كوميدية (¬2). وبالإضافة إلى درامة عروج وزفيرة التي أشرنا إليها، تأتي مسرحية الكاهنة. فقد ظهرت على أنها ملكة يهودية جمعت قبائل البربر والجيش الإفريقي واللاتيني ضد العرب المسلمين. ولكن الكاهنة أحبت خالد العربي، واتهم كسيلة خالدا، ودافعت هي عن خالد، ثم جرى حوار آخر بين خالد وكسيلة والكاهنة انتهى بنبؤة من الكاهنة، كما توعد كسيلة خالدا. وعندما حان الموعد الحاسم أنقذ خالد الكاهنة، ولكن هذه ابتلعت سما. ¬

_ (¬1) تيار (الجزائر في الأدب ...)، مرجع سابق، ص 494. (¬2) نفس المصدر، ص 499.

نوع الفودفيل

ومن المسرحيات الدرامية أيضا مسرحية (الجزائر) لديكور، وهي تقع في فصلين وستة مشاهد (لوحات) وخاتمة. وهذه المسرحيات هي التي افتتح بها المسرح الإمبريالي في 29 سبتمبر 1853. وكثير هي المسرحيات والقصص المستوحاة من الاحتلال والتي مثلت على المسارح في الجزائر وغيرها (¬1). وقبل أن نعرض نماذج من أنواع المسرحيات نقول إن النقاد اعتبروها من النوع الذي غلبت عليه الكمية على الكيفية، فقد كان الغرض منها هو كثرة الإنتاج وليس رفع المستوى والوصول إلى أهداف نبيلة. ومن تلك المسرحيات: نوع الفودفيل 1 - قصة حرب مدينة الجزائر، تأليف كوينار، سنة 1831. 2 - عبد القادر في باريس، تأليف دوميرسان وفونتين، سنة 1840. 3 - أسير عبد القادر، تأليف جوهو، سنة 1840. 4 - ليقريزيت Les Grisettes في أفريقية، تأليف كارموش، سنة 1842. 5 - زواج سيزاري أو الزوج الذي لا بد منه، تأليف ألبير ريون، سنة 1867، الخ. نوع الكوميديا 1 - داي الجزائر عند السيد بولينياك (¬2)، تأليف منديس داكوستا، سنة 1830. 2 - القايد، تأليف سوناج، سنة 1849 (من نوع الأوبرا). 3 - الإفريقي، تأليف أدمون، سنة 1860 (الأفريقي = الجزائري). 4 - الحب الإفريقي، تأليف ليقوييه، سنة 1877 (أوبرا كوميدية). 5 - زهرة تلمسان، تأليف لوقونييه، سنة 1877. 6 - عين بني مناد، تأليف ديهير فيلي، سنة 1878، الخ. ¬

_ (¬1) نفس المصدر، ص 511. (¬2) هو رئيس حكومة فرنسا الذي نظم الحملة ضد الجزائر.

نوع الميلودرامة

من نوع الميلودرامة 1 - الفرنسيون في الجزائر، تأليف دومانيان، سنة 1804 (كذا). 2 - أسرى الجزائر، تأليف بيرنو، سنة 1817 (كذا). 3 - عروج بربروس، تأليف جوبيان، سنة 1849. 4 - الموريسكية، تأليف هيقلمان، سنة 1858. 5 - عمر، تأليف بوبلوس، سنة 1877، الخ. من نوع الدرامة 1 - الكاهنة، تأليف شوازني، بدون تاريخ. 2 - اليهودية القسنطينية، تأليف توتييه، وبارفيه، سنة 1846. 3 - الجزائر: درامة تاريخية، تأليف ديكور، سنة 1853 (¬1)، الخ. إن الذي يرجع إلى الأدب الفرنسي المنتج في الجزائر سيلاحظ مدى أثرها فيه، بطبيعتها وسكانها وحوادثها وزخمها، ولا سيما منذ فاتح القرن. وقد ظهرت كتابات نقدية تصنف هذا الأدب وتجعله مدرسة في حد ذاتها بين الأدب الفرنسي والأدب الإفريقي. وقد ألحقوا بهذه المدرسة ما أنتجه الجزائريون باللغة الفرنسية لأنه فعلا إنتاج هجين من زيجة أخرى غير أصلية. المسرح الجزائري يكاد كل الذين كتبوا عن المسرح الجزائري يتفقون على أن تاريخ ميلاده هو مرحلة العشرينات من هذا القرن. فرغم مكوث الفرنسيين حوالي قرن في الجزائر فإن الجزائريين لم يقلدوهم في هذا الميدان منذ أول عهدهم. ولعلهم قدروا أن المسرح كان نوعا من الفن الخليع سيما وقد عرفنا أن ¬

_ (¬1) تيار، مرجع سابق، ص 494. وهناك نماذج أخرى من كل نوع ضربنا عنها. وننبه إلى أنه ذكر من نوع الدراما مسرحية (إزلة الجزائر)، تأليف الصديق بن الوطا سنة 1913، ولكننا أجلنا الحديث عنها إلى الحديث عن المسرح العربي.

موضوعاته الفرنسية كانت عبارة عن قصص ماجنة من الزواج والطلاق والغراميات المصطنعة، أو موضوعات تتخذ الجزائريين مضغة للسخرية والاستهزاء وتشويه تاريخهم وحياتهم. ولا شك أن بعض الجزائريين قد عرفوا المسرح الفرنسي ودخلوه وقرأوا بعض المسرحيات سواء في المدارس الفرنسية أو في المكتبات. وقد عرفنا أن الفرنسيين كانوا يأخذون بعض الجزائريين معهم إلى المسرح ليلاحظوا ردود أفعالهم أو ليؤثروا عليهم أو كمدعوين رسميين. ونعرف أيضا أن محمد الشاذلي قد زار مسرح المنوعات بترتيبات فرنسية عندما زار باريس حوالي 1849. وكذلك فعل الأمير عبدالقادر بعد إطلاق سراحه سنة 1852. ونعتقد أن أعيان الجزائريين الذين كان الفرنسيون يأخذونهم في زيارات رسمية إلى باريس كانوا أيضا يزورون ويحضرون حفلات المسرح الفرنسي، وكذلك الطلبة. وفي ترجمة الداي حسين باشا قيل إنه حضر المسرح الفرنسي أيضا سنة 1833 عندما زار باريس (¬1). وهكذا، فالمسرح ليس غريبا إذن عن الجزائريين كما قلنا، ولكن إنشاءه باللغة العربية أو العامية لم يبدأ إلا بعد الحرب العالمية الأولى حسب مختلف المصادر. ومن الغريب أننا نقرأ في بعض المصادر أن بعض الجمعيات الأدبية والفرق المسرحية التونسية قد زارت الجزائر قبل الحرب العالمية الأولى، وأنها مثلت وغنت. ومنها (جوق الأدب التونسى)، وقد مثلت روايات (عطيل) و (العباسة) و (صلاح الدين الأيوبي). وأن الجزائريين قد حضروا مثل هذه التمثيليات، وكانت بالعربية الفصحى، وقد أحرزت نجاحا لفت انتباه الفرنسيين (¬2). كما نقرأ عن زيارة الجوق المصري للرقص والتمثيل ¬

_ (¬1) عن محمد الشاذلي انظر كتابنا (القاضي الأديب)، وعن الأمير انظر ترجمتنا لكتاب تشرشل (حياة الأمير عبد القادر)، أما عن الداي حسين باشا فانظر ترجمتنا لحياته في (أبحاث وآراء) ج 3. (¬2) انظر بحثنا عن القومية العربية في (منطلقات فكرية)، وكذلك مدارس الثقافة العربية في (أفكار جامحة).

والغناء للجزائر وإقامته بعض الحفلات بها، ويقال إنه نجح في ذلك نجاحا خاصا (¬1). ومع ذلك لا نجد من تحدث عن محاولات جزائرية في هذا الصدد قبل 1914. ونحن نعتقد أن المحاولات قد وقعت، ولكن التاريخ لها أو الجهل بها هو الذي جعلنا نقلد رأي القائلين إن المسرح لم يبدأ إلا بعد 1919. ماذا كانت تفعل الجمعيات والنوادي التي ظهرت خلال العشرية الأولى من هذا القرن إذا لم تقدم بعض المسرحيات؟ حقيقة أنها كانت تقدم دروسا ومحاضرات وتوجيهات من كل نوع. ولكن المسرح قد يكون أحد مبتكراتها أيضا. ولنرجع إلى جرائد الأخبار والمغرب وكوكب افريقية فإننا قد نعثر على شيء من ذلك. المسرح التقليدي الذي عرفه الجزائريون هو مسرح الكركوز، كما سبق. وقد يسميه البعض المسرح الصيني أو خيال الظل. وكانت له أساليبه في تقديم الموضوعات إلى الجمهور. ويبدو أنه تخشن ليتأقلم مع الجو الجديد بعد الاحتلال. فقد هاجرت العائلات الغنية وجلا الفنانون عن العاصمة، وكذلك جلا عنها حماة الأخلاق والآداب العامة. وبذلك يكون قد نزل مستواه الأدبي والأخلاقي، وأصبح وسيلة للتكسب من السواح والجنود الفرنسيين. وقد وصف بأنه مسرح ساخر ومثير للخجل حتى أن الوقحاء أنفسهم لا يشاهدونه دون أن تحمر وجوههم، حسب تعبير أحد الكتاب (¬2). وكان نشاط هذا المسرح أكثر ما يكون في شهر رمضان حين تمتد السهرات وتسمح القواعد الاجتماعية بطول المكث خارج البيوت. وبدل أن يصلحه الفرنسيون (إذا صح ما ادعوه) حكموا بإلغائه تماما حوالي سنة 1841. وسلطوا العقاب الصارم على من يمارسه. ولعلهم رأوا فيه وسيلة للدعاية السياسية ضدهم أو كان منافسا خطيرا لمسرحهم. ولا سيما أن بعض الكتاب قالوا إن شخصية الكركوز (قرقوش) كانت تمثل شخصية البطل الشعبي عند الحضر، وكان يتميز بارتفاع قامته، فهو من العمالقة، وكذلك كان يتميز ¬

_ (¬1) انظر جريدة (كوكب افريقية)، سنة 1909، العدد؟. (¬2) أوولف جوان (رحلة في أفريقية)، بروكسيل، 1850، ص 60.

بالنكت العملية والبهلوانيات. وهو ممثل بارع، وفي نفس الوقت بارع في الضرب وتوجيه اللكمات لغيره خلال المسرحية. وكانت الحبكة في مسرحية الكركوز تقدم بالعربية وبالفرنسية. وقد أوصى أحد الكتاب بحذف المناظر المثيرة من المسرحيات التي تفسد في نظره أخلاق الجيل الجديد المواظب على حضورها (¬1). ومهما كان الأمر فإن الشعب لم يبق بدون حفلات وأفراح جماعية. فبالإضافة إلى حفلات المقاهي ومهرجانات رمضان كانت أيضا حفلات المزوار، وهي حفلات تؤدي فيها بعض النساء الرقص والغناء. وما نظنه إلا رقصا خليعا لإرضاء السواح والجنود، ومع ذلك أبقاه الفرنسيون رغم أنهم ألغوا وظيفة (المزوار) الذي كان في عهد الدايات مسؤولا على البغايا. وكذلك كانت حفلات الأعياد، ونعني عيد الأضحى بالذات. وتروي بعض الكتب أن زنوج العاصمة كانوا يجتمعون بين عشرة إلى خمسين شخصا ويؤدون رقصا جماعيا وهم في فرح وغبطة خلال معظم اليوم، ويتجولون في الشوارع على أنغام الموسيقى ويقفون أمام بيوت رؤسائهم، ثم يجتمعون في باب الواد، وبيد كل منهم قرقابو (قطعتان حديديتان) وطبل، ثم تضرب الموسيقى ويقع التلاعب بالعصى (¬2). ومن المؤكد أن المدن الأخرى لها تقاليدها المسرحية المشابهة أيضا، ولها نظام حفلاتها ومواسمها وممثلوها. وقد روى لنا إسماعيل بوضربة سنة 1858 أنه شاهد بورقلة حفلة مثيرة بمناسبة يوم عاشوراء، وهي حفلة جرى فيها التنكر إذ لبس الممثلون فيها جلود الأسود والثيران والجمال، وحتى جريد النخل. ثم حملوا المشاعل وساروا إلى وسط المدينة وهم يرقصون ويغنون، وعندما وصلوا إلى الساحة أشعلوا النار ورقصوا حولها على أنغام الطبل المدمدمة. وهذه الحفلة اشترك ¬

_ (¬1) فرنسيس بولسكي (العلم المثلث)، لندن، 1854، ص 37. انظر مقالة رشيد بن شنب (الكراكوز، تعليق على أصل المسرح الشعبي في شمال أفريقية) في (مجلة أفريقية الأدبية) رقم 21، سبتمبر/ أكتوبر 1942. (¬2) انظر فقرة الموسيقى.

فيها العامة والأعيان. وقد سماها بوضربة نوعا من المهرجان السنوي. واعتبرها من بقايا الوثنية لأنها في نظره غير معروفة عند العرب الأصلاء. ومن تمثيليات الحفلة أن شيخا متقدما في السن كان أدى فريضة الحج، وله زوجة شابة تصغره كثيرا، ثم يدور الحوار والمداورات، وتنتهي التمثيلية بانتزاع البطل البهلوان الزوجة الشابة من يد زوجها العجوز. وهذا النوع من الحفلات التنكرية التي يبدو أنها غليظة وتخفي الغضب الاجتماعي، بقيت إلى 1874، فقد أقيمت حينئذ حفلة تمثيلية للوفد الفرنسي الرسمي بورقلة، أشرف عليها قايد ورقلة عندئذ (ابن إدريس)، ولكنها كانت أقل خشونة وأحسن نهاية من سابقتها إذ مثلت فيها مطاردة الأسد ووصول القافلة السلامة وعمليات نشاط رجال المخزن (¬1). ولا شك أن هذا النوع من الحفلات كان شائعا في القطر كله ولكن بدرجات متفاوتة في التنوع والرقي. وعندما تحدثنا عن إبراهام دانينوس، قلنا إنه نشر (نزهة المشتاق وغصة العشاق) سنة 1848. ولا ندري إن كانت قد مثلت أم لا. وفيها أدوار نسوية أيضا. وتدور أحداثها في العراق، وتمثل قصة حب خيالية يبدو أنها مستوحاة من ألف ليلة وليلة. ومن شخصياتها نعمة ونعمان. وكان دانينوسں متأثرا بالبيئة الجزائرية التي ولد فيها، ولعله كان من أصل يوناني، وقد انضم إلى الفرنسيين بعد الاحتلال وأصبح من المترجمين المقربين إليهم. ولكن عمله يظل محاولة جديرة بالدراسة وإمعان النظر في تاريخ المسرح والمسرحيات (¬2). وتكاد (نزهة المشتاق) تزامن مع (حكاية العشاق في الحب والاشتياق) لمصطفى بن إبراهيم باشا، الذي ألفها سنة 1849، ولكنها لم تنشر، وظلت محفوظة وبنسخة واحدة، حسب علمنا، إلى أن نشرناها سنة 1977. وكانت ¬

_ (¬1) ف. فيليب (مراحل صحراوية)، الجزائر 1874، ص 77 - 79. نقل هذا المصدر أيضا عن رحلة بوضربة إلى غات سنة 1858. (¬2) عن دانينوس انظر فصل الترجمة، وكذلك عمر مهدي (المسرح البدائي) في جريدة (السلام)، 9 يناير 1992.

إمكانية النشر متوفرة لدانينوس لأنه كان على صلة بالترجمة والمطابع الفرنسية، بينما مصطفى المعروف بالأمير مصطفى، لم يتح له ذلك، فظلت حكايته مخطوطة، رغم أنها تحتوي على عناصر تمثيلية هامة، وشخصياتها معظمها خيالية أيضا، أما بيئتها فجزائرية وفيها الألوان المحلية من أطعمة وملابس وأثاث وعبارات، وكذلك الجو السياسي لأن صاحبها حرم من والده ومن أملاكه على يد الفرنسيين. والغالب أنها لم تمثل أيضا (¬1). ومنذ آخر القرن الماضي ظهر من يمثل حياة الطلبة ومغامراتهم على المسرح بطريقة قد تكون تقليدا لأسلوب المسرح الفرنسي. فقد كتب القاضي محمد بن علي بن الطاهر الجباري شعرا ساخرا تحدث فيه عن مغامرات طالبين عربيين في القرية الزنجية بوهران. وذكر السيد ديلفان أن الجباري قام بتمثيل ذلك على المسرح بنفسه، دون أن يصف لنا الكيفية ولا المكان الذي جرى فيه الحدث الفني. ونعرف أن الشعر كان بالدارجة القريبة من الفصحى. وكان القاضي الجباري من جهة سعيدة ومن قبيلة الجبارة، ولكنه كتب شعره باسم مستعار وهو (محمد قبيح الفعل) (¬2). وحول نفس الموضوع كتب الجباري باسمه الحقيقي مقامات عديدة جعلها في شكل مجالس، وبطلها هو الطالب سي الحبيب بن عيسى الذي قضى ثلاثين سنة من عمره في التعلم ومع ذلك بقي جاهز. لاحظ أحمد توفيق المدني، وهو يكتب حوالي 1930 إهمال الجزائريين للتمثيل، وقال إن الجزائر قد تأتي بعد الجزيرة العربية في هذا المجال. وفي نظره أن المسرح العربي لم ينشأ فيها إلى ذلك الحين. وأن لها ¬

_ (¬1) انظر تحقيقنا لحكاية العشاق، ط 2، 1982. (¬2) ديلفان (المقامات العوالية) في (المجلة الآسيوية) 1913، ص 292 هامش 2. الاسم المستعار كما ذكره ديلفان هو محمد Le mauvais sujet (المواطن أو الرعية السيء). وقد نشر شعر الجباري بالعربية وبالفرنسية، سنة 1887 بوهران وباريس، تحت عنوان (قصة مغامرات طالبين عريين في القرية الزنجية بوهران). أما المقامات وحياة الجباري فسنعرض إليهما في فصل الأدب.

لم يشعروا بالحاجة إليه. ولكنه قال أيضا ان بعض الأجواق أو الفرق قد تألفت بالعاصمة ولكنها سرعان ما اختفت بعد تمثيل مسرحية أو اثنتين. وقد أقر أن جوق مدينة الجزائر كان يمثل بعض المسرحيات خلال شهور رمضان من كل سنة، وهي روايات بالعامية ومستخرجة من ألف ليلة وليلة أو مقتبسة من مسرحيات فرنسية. وفي نظره أن هذا النوع من التمثيليات لقى رواجا حسنا. ولكنه لم يعطنا نماذج له. ومن رأيه أيضا أن الشعب مستعد لدعم المسرح العربي (يقصد بالفصحى) وأن الوقت قد حان لجمع الشمل وإنشاء المسرح العربي الذي ستكون له رسالة خاصة، وهي الارتقاء بالأخلاق والآداب والذوق الاجتماعي وتعليم العربية. ولم يذكر المدني سوى مدينة الجزائر عندما دعا إلى الارتفاع بالعامية إلى مستوى الفصحى لقلة من يفهم هذه بين العمال والمتعلمين بالفرنسية فقط. فقد دعا المدني إلى إيجاد عربية وسيطة في البداية بين العامية والفصحى. وأرجع انعدام المسرح في مدن تفهم العربية مثل قسنطينة وتلمسان وبسكرة إلى أسباب مادية في أغلب الظن (¬1). والحق أن مؤرخي المسرح الحديث في الجزائر يرجعونه إلى أوائل العشرينات من هذا القرن. وكلهم يلحون على أنه (ظاهرة جديدة) وكان ذلك بعد زيارة فرقة مصرية سنة 1921 على رأسها جورج أبيض. وقد مثلت هذه الفرقة مسرحيتين الأولى ثارات العرب والثانية صلاح الدين الأيوبي (سبق تمثيلها في الجزائر سنة 1913 من قبل فرقة تونسية، انظر سابقا). والمسرحيتان من تأليف جورج حداد. ويذهب النقاد إلى أن الفرقة المصرية فشلت في الوصول إلى الجمهور، وهم يرجعون سبب ذلك إلى استعمالها اللغة الفصحى التي لم يفهمها جمهور العاصمة عندئذ. وهذه الحجة تذكرنا بما يقال هذه السنوات عن التلفزة الجزائرية عندما تعرض حصصا بالفصحى. وهي حجة استعملها أنصار الفرنكفونية، لأنهم لا ينتقدون التلفزة نفسها إذا عرضت حصصا ¬

_ (¬1) أحمد توفيق المدني (كتاب الجزائر)، 1931، ص 342 - 343.

بالفرنسية (الفصحى) التي لا يفهمها الجمهور حقيقة. ويبدأ تاريخ المسرح الحديث في نظرهم منذ 1926 حين وظف علي سلالي (علالو) ورشيد قسنطيني اللهجة العامية لأداء تمثيليات تاريخية ونقدية (¬1). لقد استعمل الجزائريون أيضا الفصحى وكان لها جمهورها ولم يفشل الممثلون، والفرق هو أن العامية كانت أكثر نجاحا، ولذلك صيغت وعرضت أغلب المسرحيات بالعامية. واستعمال العامية في المسرح لم يكن ظاهرة جزائرية فقط بل كانت العامية مستعملة أيضا في مصر وغيرها، ولذلك دعا الشيخ المدني إلى تهذيب العامية والصعود بها نحو الفصحى لأن العامية نفسها درجات في السمو والانحطاط. كان رشيد قسنطيني موهوبا في فن الكوميديا، ولد في العاصمة سنة 1887 وتوفي بها سنة 1944. عاش هذه الفترة المزدحمة بالتطورات وقضى فترة طفولته في عهد كامبون وشبابه في عهد النهضة الأولى فامتلأ بالآمال وخطط أن يكون منتجا مسرحيا ومغنيا ومضحكا للشعب وأيضا مؤثرا عليه. قليل من أعماله لها مدلول سياسي مباشر أو غير مباشر، وإنما هناك مشاعر حية ومشتركة بين الفنان والمواطن، بين اللغة والتفكير والهوية والواقع. وثقافته ثقافة عصامية شأنه شأن معاصره علي سلالي أو علالو. وعندما ظهرت الإذاعة كان رشيد من الممثلين فيها أيضا، ومن الأسف أن عامية رشيد قد أضرت باللهجة الجزائرية المشتركة نظرا لما فيها من الغنة ومن تعويج الفم والهبوط في التعبير أحيانا. وقد تأثر بذلك جيل أو أكثر فظنوا أن الفن والتعبير الساخر إنما هو في تحريك عضلات الفم ومضغ الكلام، رغم دور رشيد القسنطيني الاجتماعي (¬2). ¬

_ (¬1) عن رشيد القسنطيني انظر رشيد بن شنب (رشيد القسنطيني)، 1887 - 1944 أبو المسرح في الجزائر في (الوثائق الجزائرية) رقم 16، 15 أبريل 1947. (¬2) جاء في تقويم المنصور الذي وضعه الشيخ أحمد توفيق المدني سنة 1348 (1929) أن رشيد القسنطيني قد حضر الحفل السنوي الذي أقامه نادي الترقي في تلك السنة، وألقى في الحفل أناشيد في انتقاد العادات المضرة. ولا ندري إن كان رشيد قد أدرك محمد سفنجة وفرقته وتأثر به.

أما علالو فقد نسب إليه معظم النقاد ومؤرخي المسرح كتابة وتمثيل أول مسرحية سنة 1926. وكان عمره إذاك حوالي 24 سنة (ولد 1902). وقد دخل المدرسة الابتدائية الفرنسية الأهلية، ولكنه اضطر إلى مغادرتها لوفاة والده وعمره ثلاث عشرة سنة فقط. وأجبره اليتم على العمل في إحدى الصيدليات. وكان يقضي أوقات فراغه في الغناء والتمثيل لتدريب صوته وجسمه على أداء هذه المهمة، كما كان مولعا بالموسيقى العربية القديمة. ولم يكد يبلغ العشرين سنة حتى وجدناه مشاركا في الحفلات التي كانت تنشطها جمعية (المطربية)، وهي جمعية أنشأها إدمون يافيل، أحد يهود الجزائر الذين اهتموا بالموسيقى الأندلسية وكتبوها. وكان علالو يشارك في الحفلات التي كانت تقام في باب الواد وغيره، خلال شهر رمضان. ولا شك أن جمهور هذه الحفلات لم يكن كله من العرب بل كان فيه ربما شباب المستوطنين الإسبان في الأصل، وغيرهم. ولذلك نتوقع أن تكون اللغة المستعملة نوعا من التعابير المشتركة (لغة فرنكة). وقد ساعد علالو تحكمه في عضلات وجهه وحواجبه فكان يلعب دور الساخر المثير للضحك. وكان له إحساس خاص بالشعر والتنغيم، ولذلك كان ينظم الشعر العامي على النبرات الموسيقية الشعرية. وبين 1926 و 1931 ألف علالو حوالي سبع مسرحيات، وتجول في القطر ضمن فرقة مسرحية هاوية، شاركه فيها إبراهيم دحمون، وجلول باشجراح، وعزيز الأكحل، ومحيي الدين باشتارزي. ويبدو أنهم جميعا كانوا يمثلون تيارا تأثر بأحداث النهضة العربية الإسلامية. وكان معتزا بالتراث. ولذلك كانت المسرحيات المستمدة أيضا، من هذا التراث رغم أنها كتبت بالعامية، ومنها ما هو مستمد من التراث الأندلسي مثل حلاق قرطبة، وما هو مستمد من التراث العربي في المشرق مثل عنتر الحشائشي والخليفة والصياد، وأبو الحسن. ومنها ما كان يعالج الواقع الاجتماعي مثل زواج بوعقلين. وأول مسرحيات علالو كانت (جحا) وهي مسرحية تراثية ولكن فيها إسقاطات على الوقائع أيضا. ورغم هذا الطموح الكبير واستعمال الدارجة للتقرب من المواطن

العادي فإن علالو قد فشل في مجهوده، وأفلس ماديا، وخشي على نفسه ضياع وظيفته في الترامينو، وزاره المرض الذي اجتمع عليه مع الفاقة. وقد اعترته حالة نفسية سنة 1932 جعلته يمزق مسرحياته، ويعدل تماما عن المسرح ومغامراته. فهل يرجع فشله إلى عدم استعداد الشعب لمثل هذا الفن، كما لاحظ الشيخ المدني؟ أو يرجع إلى المسألة اللغوية واستعمال العامية التي تحط من قيمة العمل المسرحي فنيا؟ أو إلى كون الموضوعات غير ذات أهمية اجتماعية وسياسية؟ لا ندري. ورغم أنه عاش بعد ذلك طويلا، فإنه لم يرجع إلى المسرح البتة، كما فهمنا من سيرة حياته. كان علالو إذن من الأوائل، ولعله الأول، الذي هوى المسرح العربي في الجزائر وقدم له مسرحيات وغنى فيه ووظف الشعر والثقافة التراثية، وأنشأ فرقة تسمى (الزاهية) وتجول بها في أنحاء البلاد، واستعمل الرجال والنساء للأداء الجماعي الجيد، وأخضع اللغة للعامة، ومع ذلك كان حظه الفشل المادي على الأقل، والأزمة النفسية، وكان على غيره أن يبدأ من حيث انتهى وأن يعترف له بفضل السبق (¬1). في الوقت الذي كان فيه علالو ما يزال يكتب للمسرح ويؤلف له في العاصمة، ظهرت في قسنطينة وفي عنابة وفي تلمسان بعض الفرق التي كانت تمثل وتحرز نجاحا. فقد ظهرت في قسنطينة فرقة تسمى (ناصر الدن ديني) ومثلت رواية طارق بن زياد، وسنعلق عليها. كما ظهرت بعنابة فرقة (المزهر البوني). ويقول الشيخ المدني عن الفرقتين إنهما مثلتا بعض المسرحيات العربية نالت إعجاب المشاهدين. وكان الأمر كذلك بالنسبة لنادي السعادة في ¬

_ (¬1) رشيد بن أبي شنب (علالو وأصل المسرح الجزائري) في (مجلة الغرب الإسلامي والبحر الأبيض)، 1977، ص 29? 35. وكذلك عبد القادر جغلول (عناصر ثقافية)، ص 123 - 126. وقال جغلول إن المسرحية الثامنة كانت باسم (عاشور وأخوه)، وكان سيمثلها سنة 1945، ولكنها انتظرت إلى 1976، وقد مثلت بعنوان جديد وهو (المهر) وقدمها إلى التلفزة فهي نسخة معدلة. ولكن هذه المرحلة لا تعنينا هنا.

تلمسان الذي مثلت فيه مسرحية (فتح الأندلس) (¬1). وقد أكد جوزيف ديبارمي أيضا نجاح التجربة في قسنطينة مع مسرحية طارق بن زياد، فهو يقول انه بالرغم من أنه لم يحضرها إلا عدد قليل من المشاهدين فإن الجميع صفقوا لها بدافع الاعتزاز الوطني والقومي وكذلك بدافع الغيرة اللغوية. ذلك أن المسرحية كانت باللغة العربية، وقد مثلتها فرقة ناصر الدين ديني، وهي كما قال ديبارمي، تذكر المشاهدين بانتصار العرب على أوروبا (¬2). وقد أفاد ديبارمي بأن المسرح، رغم أنه ذو طابع غير أخلاقي، كما قال، فإن الجزائريين استعملوه للدفاع عن اللغة العربية الفصحى والدعوة إلى استعمالها، وقد اعتبروه من المستحدثات الأوروبية، ومع ذلك رآه المتنورون وسيلة صالحة وناجحة لنشر الأفكار الوطنية. ورغم أن ديبارمي لم يذكر صراحة أن مسرحية طارق بن زياد كانت باللغة الفصحى، فإن كلامه يدل على ذلك. ومن جهة أخرى ذكر أن مسرحية أخرى قد عرضت باللغة الدارجة تحت عنوان (حفرة في الأرض)، ووصفها بأنها كوميديا مثلتها جمعية (المطربية) لمدينة الجزائر وأنها مسرحية مأخوذة أو مقلدة لأحد الأفلام الفرنسية. وكان تمثيلها خلال شهر رمضان المعظم سنة 1931 ميلادية. ولاحظ ديبارمي أنه بدلا من تقديمها كلها بالدارجة فإن الممثلين قد حشوها، كما قال، بألفاظ من اللغة الأم (الفصحى) فأثروها وطوعوها وجعلوها في الدرجة الأدبية. كما لاحظ أنهم أدخلوا فيها كلمات فرنسية. ومن جهة أخرى طمأن ديبارمي قومه الفرنسيين بأنه لا خوف من ذلك على الفرنسية لأنها لغة سيادة (امبريالية) ولغة استعمالية نفعية لا تنازعها اليوم أية لغة أخرى في الجزائر، فهي تتحكم في السياسة والإدارة والتجارة ¬

_ (¬1) المدني (كتاب الجزائر) مرجع سابق، 343. ولعل مسرحية (فتح الأندلس) هي نفسها مسرحية (طارق بن زياد). (¬2) ديبارمي (رد الفعل اللغوي) في (مجلة الجمعية الجغرافية للجزائر)، SGAAN، 1931، ص 23. وناصر الدين ديني هو إيتيان ديني الذي اعتنق الإسلام وكرس حياته لفن الرسم، وتوفي سنة 1930 ودفن فى بوسعادة. انظر فصل الفنون.

والصناعة، بل أن أنصار عدوتها، وهي اللغة العربية الفصحى، لا يستغنون عن اللغة الفرنسية، وقد اعترفوا بذلك بأنفسهم، فقبل الحرب (العالمية الأولى) كانوا لا يريدون لغة الحكومة ولكنهم اليوم أصبحوا يتواصون بها (¬1). ويبدو أن التمثيل باللغة الفصحى، قد حظي بإقبال كبير، ابتداء من الثلاثينات، نتيجة تقدم الحركة الوطنية والاعتزاز باللغة، ولكثرة المدارس العربية التي أنشأتها جمعية العلماء والتشجيع عليها. وقد كانت هذه المدارس نفسها تمثل مسرحيات باللغة الفصحى في المناسبات الدينية والتاريخية والاجتماعية. ومعظم مؤلفيها كانوا من المعلمين، أما الممثلون فهم تلاميذ المدارس. وسنذكر نماذج من هذه المسرحيات ومناسباتها. ويقول سعد الدين بن أبي شنب سنة 1954 أنه بالرغم من أن التمثيل باللغة الدارجة هو الغالب، فإن التمثيل باللغة الفصحى قد حظي بمنزلة عالية. وضرب على ذلك مثلا بتمثيل رواية (حنبعل) التي كتبها أحمد توفيق المدني، فقد أحرزت حسب تعبيره على نجاح باهر عندما مثلت بالفصحى، وكذلك رواية (المولد) لعبد الرحمن الجيلالي التي مثلت وأذيغت بالفصحى أيضا (¬2). وبين 1937 و 1939 مثلت على الأقل خمس عشرة مسرحية بين مدرسية وغيرها، وكانت تعالج في معظمها موضوعات دينية وتاريخية واجتماعية. بعضها معروفة المؤلف وبعضها مجهولة المؤلف. من ذلك مسرحية (بلال) لمحمد العيد، و (الدجالون) لمحمد النجار، و (عباقرة العرب) و (البعثة التعليمية) لمحمد بن العابد الجلالي، و (سحار بالرغم منه) لمحيي الدين باشں تارزي. وهناك جمعيات تمثيلية من الهواة والمحترفين مثل جمعية الشباب الفني لقسنطينة، وجمعية محبي الفن لنفس المدينة، وجمعية كشافة الرجاء بباتنة. وبعض المسرحيات مثلها تلاميذ قيل إنهم تتلمذوا على الممثل المصري الشهير يوسف وهبي، مثل المجموعة التي مثلت مسرحية (عاقبة ¬

_ (¬1) ديبارمي (رد الفعل اللغوي)، مرجع سابق، ص 30. (¬2) سعد الدين بن أبى شنب، مجلة (الأديب) عدد ممتاز، يناير 1954.

الجهل) وهي من وضع بعض المعلمين، سنة 1937. والمسرحيات التي مثلت في قسنطينة مثلت على المسرح البلدي تارة ومسرح كلية الشعب تارة أخرى. وفي الأخيرة مثلت مسرحية (البعثة التعليمية) لمحمد بن العابد الجلالي (1937) وعلى إثر ذلك ألقى ابن باديس خطبة ثم أنشد نشيده الحماسي (اشهدي يا سماء). كما أنشئت عدة فرق تمثيلية أخرى بالإضافة إلى ما ذكرنا. من ذلك جمعية (الوتر الجزائري) وهي جمعية فنية لتمثيل الروايات (على اختلاف أنواعها، عصرية وتاريخية)، كما تعمل على إحياء الموسيقى العربية (¬1). وكانت جمعية المزهر البوني قد مثلت سنة 1932 مسرحيتين على المسرح البلدي في قسنطينة، وهما (التوبة) و (الكيف). وكلتاهما من تأليف رئيس الجمعية، وهو السيد المحامي الجندي (أو الجنيدي؟). وكلاهما من نوع العمل الاجتماعي، كمحاربة الخمر والميسر والكيف وغيرها من الرذائل التي أشاعها الفرنسيون قصد دفع الشباب إلى التهلكة وتحطيم طموحاته. وكذلك قالت (الشهاب) وهي تقدم ما قام به المزهر البوني، إن الغاية من التمثيل هي (التأثير على الجمهور حتى يبكي للمأساة، ويضحك للفوز والنجاة). وقالت إن المزهر كان ينشط بالموسيقى فقط، ولكنه أضاف إلى ذلك التمثيل لخدمة اللغة العربية وجلب الشباب إليها (¬2). وهذا ما استنتجه الخبير الفرنسي جوزيف ديبارمي في مقالته (رد الفعل اللغوي) سنة 1931. ¬

_ (¬1) عن ذلك انظر جريدة (البصائر) أعداد 62، 91، 92، 96، 104، 107، 116، الخ. أما باش تارزي فقد مثل مسرحيته المذكورة بمناسبة انعقاد المؤتمر الكشفي، يوليو، 1939. وسنرجع إلى إنتاج المسرحيات في فصل الأدب: وعن المسرح الجزائري عموما انظر أيضا سعد الدين بن أبي شنب (المسرح العربي الجزائري) في المجلة الأفريقية، 1935، ورشيد بن أبي شنب كتاب المسرحية (العرب) في مجلة الغرب الإسلامي 1974، ولاندو (دراسات عن المسرح والسينما العربية)، باريس 1965، وأرليت روث (المسرح الجزائري بالعامية)، باريس 1967 الخ. (¬2) مجلة الشهاب، أبريل 1932، ص 242.

ومن جهته قام كشافة نادي الشبان المسلمين بقالمة بزيارة لقسنطينة، واحتفل بهم فيها زملاؤهم (الشباب الفني) و (الهلال التمثيلي). وفي الاحتفال عزفت الموسيقى من الشباب الفني، كما مثل الهلال تمثيلية لا ندري عنوانها ولكننا نعرف أن موضوعها اجتماعي، وهو محاربة الخمر والدعوة إلى التعليم. كما شارك فتيان الكشافة بنشيدهم. وقد أنشد الجميع نشيد مصطفى صادق الرافعي: (للعلا إن العلا واجبات المسلم) (¬1). ومن الجرائد الفرنسية التي اهتمت بالكتابة عن المسرح العربي جريدة (الجزائر الجمهورية) ذات الميول الشيوعية. وكان الأديب محمد ديب من كتابها. وقد قيل إنه نشر فيها عدة مقالات عن مسرح الهواة سنة 1950، وعن العروض المسرحية باللغة العربية. والجريدة المذكورة هي التي أعلنت سنة 1951 عن جائزة مالية خصصت لأحسن إنتاج مسرحي باللغة العربية الفصحى أو بالدارجة بشرط أن يكون كتابها جزائريين، والجائزة كانت ستوزع على أحسن عشر مسرحيات. والجهة التي خصصت الجائزة هي جمعية المسرح الجزائري وجمعية الفن والثقافة. وليس لدينا الآن ما يبرهن على أن المسرحيات قد كتبت وأن لجنة التحكيم المؤلفة من أربعة أدباء قد اجتمعت ووزعت الجائزة (¬2). ونحن إنما نذكر هذا لكي نؤكد على أن المسرح ظل يتطور وظل دوره في الثقافة يبرز ويعترف به، وأن اللغة لم تعد مشكلة فيه، ¬

_ (¬1) الشهاب، أبريل 1939، ص 155 - 156. صاحب الكلمة هو أ. ب (أحمد بوشمال؟). وعن دور الإذاعة في تقديم المسرحيات والمساهمة في التمثيل انظر فقرة (الإذاعة). (¬2) جريدة (الجزائر الجمهورية)، 24 مارس 1951. ولجنة التحكيم تتألف من: أحمد توفيق المدني، وعبد الرحمن الجيلالي، والبودالي سفير، وابن حسين بوقطاية. وقيمة الجوائز 214، 000 ف. وكان مصطفى كاتب هو رئيس جمعية الفن والثقافة. انظر جان ديجو (بيبلوغرافية) ص 22. وعن مشاركة محمد ديب انظر الجزائر الجمهورية بين يونيو 12 وديسمبر 1950، ثم من يناير إلى ديسمبر 1951، حسب ديجو، مرجع سابق. وفي هذا المصدر معلومات هامة عن المسرح بأقلام: البودالي سفير، ومحمد فرحات، وحليمة خالدي، ومصطفى كاتب، وباش تارزي ومحمد الرازي، ورشيد بن أبى شنب، وغيرهم.

الموسيقى

فقد تقبل الجميع فيما يبدو استعمال اللغة العربية سواء كانت فصيحة أو دارجة. الموسيقى الموسيقى الجزائرية أصيلة ومتنوعة. وترجع أصالتها إلى كونها مستوحاة من التراث المشترك الذي انتجته العبقرية الشعبية. وتمتد جذور هذا التراث إلى عهود قديمة قدم الإنسان الجزائري على أرضه. وهي أيضا موسيقى متنوعة لاختلاف مناطقها أو بيئاتها من جهة وللتأثيرات الخارجية من جهة أخرى. وكان اتساع الرقعة الجغرافية للجزائر وصعوبة المواصلات وتنوع الخارطة المناخية، قد جعل الموسيقى متنوعة النغمات والأداء والأسماء. وقد كتب بعض القدماء عن هذه الموسيقى وربطوا بينها وبين الشعر، وبينها وبين الرقص والحركات الجسمانية والتأثيرات النفسية، ولكنهم لم يسجلوها أو يكتبوها حسب قواعد ثابتة وموروثة وإنما اعتمدوا في ذلك على الذاكرة وحدها. ولذلك قام الأجانب بكتابة قواعد هذه الموسيقى. فوجدنا في العهد العثماني عددا منهم يسجلون نماذج من النوطات، مثل الدكتور شو الإنكليزي. وبعد الاحتلال الفرنسي لم يقع الاهتمام بالموسيقى الجزائرية كما وقع الاهتمام مثلا باللهجات والمخطوطات والمعالم الأثرية. ولا نكاد نجد دراسات وصفية عميقة لتطور هذه الموسيقى وعلاقتها بحياة الناس اليومية. وكانت الموسيقى شائعة في الحياة العسكرية أيضا. فقد كانت لفرق الجيش موسيقاها المميزة في الحل والترحال. ومعظم قادة الثورات ضد الاحتلال اتخذوا الفرق الموسيقية التي تسبق تقدمهم أو تعبر عن انتصارهم. وكان للأمير عبد القادر فرقة خاصة لعزف النوبة، وتسمى موسيقى السلطان (الأمير). وكان الموسيقيون يتقدمون تحت ظلال الأعلام أو الرايات الملونة، وهم يعزفون موسيقاهم التقليدية بآلات خاصة، ولهم رئيس معروف. ويذكر

ليون روش الذي عاش في معسكر الأمير وسار معه في الحملات أن الفرقة كانت تعزف ألحانا تركية (ربما يعني تقليدية متوارثة) وكذلك الألحان الأندلسية، ولاحظ أن الرايات كانت ترفع أمام وطاق (خيمة) الأمير، كما كانت تتبعه حيثما سار. وهذه الرايات كانت بالألوان الخضراء والصفراء والحمراء، وكانت مطرزة بالذهب والحرير على قماش من الساتان. والمطروز عبارة عن آيات من القرآن الكريم، وفي أعلى الرايات توجد الأهلة والكور الفضية. كما لاحظ روش أن الخيل كانت تتأثر بالموسيقى أيضا فتتوقف عن الاكل وترفع رؤوسها وتظهر الابتهاج بحركات الغدو والرواح والصهيل، وهي تتحرك بسيقانها كأنها تريد أن ترقص (¬1). نشير إلى أن عددا من الدارسين قد اهتموا بها وألفوا فيها، وكان ذلك بعد إهمال لها بحجة عدم فهمها وجفائها وابتعادها عن الذوق الفرنسي. ومن الذين سبقوا إلى ذلك دانيال سالفادور الذي قد يكون من أصل إسباني، ولكنه نشر بحثه بالفرنسية سنة 1862، بعد أن قضى حوالي عشر سنوات وهو يمارس الموسيقى مع الفرق الجزائرية (¬2). ثم يأتي دور إدمون يافيل اليهودي الذي نشر سنة 1901 سجله عن هذه الموسيقى، وقد كان له فضل كبير في المحافظة عليها، رغم ما ارتكبه من أخطاء (¬3). ومن الدارسين لها أيضا السيد رواني Rouanet سنة 1905 إذ نشر بحثا. بعنوان (الموسيقى العربية)، وقد وصفها وآلاتها وتطورها وأنواعها، ولا سيما موسيقى الحضر أو الأندلسية. وقد استعان في بحثه برجلين خبيرين في الموضوع، وهما يافيل المذكور ومحمد سفنجة. ويقول عن يافيل إنه كان يغار على الموسيقى العربية ويدفع عنها من ماله وغذائه، وله حماس شديد لها لإنقاذ ¬

_ (¬1) ليون روش (اثنتان وثلاثون سنة في الإسلام)، ج 1، باريس 1884، ص 170 - 171. (¬2) دانيال سالفادور (الموسيقى العربية) في المجلة الأفريقية، سلسلة مقالات وفصول، 1862. (¬3) إدمون يافيل (سجل الموسيقى العربية والأندلسية)، الجزائر، 1901.

آلاتها وفنوها. وأما سفنجة فقد قال عنه إنه (المعلم) العارف بهذا الفن وأنه تعلم منه وحده ألف نغم (ميلودي) وكلمات. كما أخذ عنه السيد رواني مجموعة من الآراء حول الموسيقى العربية. وسنرجع إلى الحديث عن هذه الدراسات. وفي سنة 1913 قام المستشرق المجري بدراسة موسيقى نواحي بسكرة (بما فيها القنطرة وسيدي عقبة وطولقة). واسمه بيلا بارتوك. وقد نشرها أولا بالمجرية سنة 1917 ثم بالألمانية سنة 1920، واستخرج حوالي 65 نغما (ميلودي). ثم قام ليو - لويس باربيس بترجمة النص الألماني إلى الفرنسية، ونشره في (حوليات معهد الدراسات الشرقية سنة 1961) بالجزائر. وكان السيد بارتوك يعرف لغات عديدة منها ما ذكرناه (وقد درس في فرنسا سنة 1905) ومنها أيضا الأسبانية والإنكليزية. وكان مهتما بالفولكلور لدى مختلف الشعوب. وكان عمره عندما زار الجزائر وقام بمهمته المذكورة 32 سنة. وفي سنة 1932 قدم بارتوك ثلاث صفحات هامة للمؤتمر الموسيقي العربي الذي انعقد بالقاهرة. وسنعود إلى دراسته أيضا. وفي سنة 1931 قدم الشيخ أحمد توفيق المدني وصفا مختصرا لوضع الموسيقى وآلاتها وأناسها وجمعياتها وأنواعها. وفي نفس السنة قام السيد لوسيان داروي DARROUY بنشر بحث عن (الموسيقى الإسلامية في شمال افريقية)، وكان للموسيقى الجزائرية فيه نصيب. وكان قد نشر الدراسة في مجلة الجمعية الجغرافية للجزائر، واهتم بالخصوص بموسيقى العاصمة وتلمسان. وسنرجع إلى مقاله. ومن أبرز ما قام به الكتاب العرب والمسلمون في الحديث عن الموسيقى التي نحن بصددها، الجهد الكبير الذي بذله محمود قطاط التونسي في وصف مختلف آلاتها وفنونها ومناطقها وتطورها. وتعتبر دراسته شاملة ومفيدة. وتبدو على صاحبها روح الإحاطة والخبرة بالموضوع والاهتمام به، وقد رأينا منها الجزء الذي نشره في مجلة (الحياة الثقافية) التونسية سنة 1984. ومن المبكرين فى دراسة الموسيقى الجزائرية شعيب بن على، قاضى

تلمسان، الذي ألف كتابا في الموضوع، وكذلك أبو علي بن محمد الغوثي، وكلاهما من تلمسان، وكان وقت تأليفهما متقاربا. كما نشر محمد القاضي كتابا حول الشعر الملحون، وأخيرا نشر جلول يلس والحفناوي أمقران كتابهما في التراث الغنائي. وفي مجلة (آمال) عدد خاص عن الشعر الشعبي، وقام عبد الحميد حاجيات بتحقيق (الجواهر الحسان) الذي جمعه محمد بن مرابط. ولا شك أن لمحمد سفنجة وسفير البودالي وغيرهما أعمالا حول الموسيقى أيضا. وسنعرض لما كتبه جزائريون آخرون أمثال محمد زروقي وطالبي في الموضوع. وقد يكون عمر راسم الذي حضر مؤتمر القاهرة المذكور (1932) قدم عملا عندئذ سواء أثناء المؤتمر أو بعده (¬1). ... إن الربط بين الموسيقى والشعر والغناء والرقص ضروري. والذي يؤرخ لهذه الأنشطة الإنسانية يلاحظ أنها مثل روح الشعب الذي ينتجها، تقدما وتخلفا، قوة وضعفا. وقد تدهور الشعر الغنائي منذ الاحتلال وكادت تختفي الموشحات. ولبس الناس لباس الحزن، كما عبر محمد بن الشاهد، وهو شاعر مجيد، وانفضت مجالس الطرب واللهو، واشتغل الناس بالحروب ثم الهجرة، وتفرقت العائلات وتشتت الأحباب، ثم تقوقع الباقي على أنفسهم وهم أقرب إلى القنوط منهم إلى الأمل والرجاء. ولذلك فإن ظاهرة الشعر الملحون - الأزجال - قد كثرت خلال هذا العهد على حساب الموشحات والشعر الغنائي الرقيق باللغة الفصحى، وذلك راجع بدون شك إلى إهمال الثقافة العربية وانقطاع الجزائري عن ماضيه وتراثه الشعبي. وماذا بقي بعد ذلك؟ بقي شعر الغزل بالعامية والشعر الديني، والتوسلات الصوفية، والفروسية، وظلت المرأة تترنم بالغناء لابنها أو ابنتها بأشعار تبدعها بعاطفتها الجياشة. كما استمر شعر الحزن والموت أو الرثاء. ولكن الشعر العامي (الملحون) خلال هذه الفترة ضعف أيضا لضعف الثروة اللغوية عند الشاعر أو ¬

_ (¬1) عن هذه الأعمال انظر فصل الفنون.

الشاعرة، وضعف الثقافة الأدبية التي تهذب العاطفة وتساعد على توليد الأفكار وتقدم بدائل جديدة من لغة التراث. كما أن اللغة الفرنسية قد دخلت في الشعر الشعبي أيضا، فصرنا إذا قرأنا زجلا نجد فيه ألفاظا فرنسية تكثر أو تقل حسب الزمن الذي قيلت فيه وقرب صاحبها أو بعده من المراكز الفرنسية وتأثره بأهلها. كما أن الرقص والغناء قد تأثرا بالعهد الجديد. فالحفلات والمناسبات قليلة، وكادت تنحصر في الاجتماعيات والدينيات. كان الغناء الديني مجالا واسعا لتطوير الأصوات وتطويعها سواء بالشعر القديم الفصيح أو الملحون. فانحصر أو كاد في الغناء الصوفي الذي يستعمل التوسل بالأولياء، واستقبال المشائخ، وشاع نوع من المدائح الدينية الغزلية - إذا صح التعبير - وهي تلك الأشعار التي يتخيل أصحابها الرسول شخصا محبوبا فينعتونه بأنواع من الألفاظ لا يستعملها إلا المحبون والعشاق. وهي أشعار تتناسب مع الأداء الصوتي الرخيم. أما الحفلات الإجتماعية فالرقص فيها للنساء، كما سنعرف. أما الرجال فلهم رقصات تسمى رقصات البارود والفروسية. وكل هذه التعابير (الغناء والرقص والشعر والموسيقى) قد اختلفت من منطقة إلى أخرى. ومن الصعب دراستها على أنها تمثل وحدة تعبيرية متميزة، ولكن لها مع ذلك قدر مشترك، وهو تلك الروح الشعبية العميقة التي أنتجتها عبقرية البيئة والإنسان. في المدن، ولا سيما في العاصمة، كانت الحفلات تقام في المقاهي وفي خلوات خاصة طالما وصفها السواح والرحالة. وبعد الاحتلال استمرت هذه الأماكن في أداء مهمتها ولكن في شيء من الإنحلال الأخلاقي الذي يرضي الرغبات الجنسية ويجلب الشباب الأوروبي الغريب عن البلاد، وخصوصا العسكريين. وقد جيء بالنساء والولدان وآلات الطرب وأدخلت آلات جديدة للعزف وإحياء الليالي العابثة. والأوروبيون الذين حضروا مثل هذه الحفلات اعتبروها فنا جزائريا غريبا يستحق الوصف على أنه من بقايا ألف ليلة وليلة وحياة الشرق الغارق في التخلف والكسل، واعتبرها آخرون منهم فنا منحطا لا يليق بالأخلاق الكريمة، وهو خال من كل إبداع وسمو، وحكموا من خلال هذا الفن، استحقاق الشعب للاستعمار وفرض حضارة جديدة عليه. ولا

ننسى أن الهجرة قد أفرغت المدن من عناصرها البشرية الراقية فنا وعلما وثروة. ولا يسعنا هنا ذكر نماذج كثيرة من أحكام الأوروبيين الأولين على ما وجدوه في الجزائر وما عاشوه من فنون شعبية وهي الموسيقى والغناء والرقص. وسنكتفي ببعض الأمثلة. فحين حل الحاكم العام الجديد، الكونت ديرلون، بالجزائر سنة 1834، أقام له الحضر، كما قيل، حفلة موسيقية في دار البلدية، كما أقام له الفرنسيون حفلة مثلها. وقد خصصت قاعتان في الدار، واحدة لكل نوع من أنواع الموسيقى، فالاختلاط كان محرما منذ أول لقاء بين المستعمر والمستعمر. فقد جعلت القاعة السفلى للرقص والموسيقى الفرنسية والقاعة العليا للموسيقى العربية. ووصف الواصفون خلال ذلك الذوق الراقي في التحضير والملابس الفاخرة وألوان الموسيقى، وكيف كانت الجلسة العربية من مظاهر الحياة الشرقية، وقد قلد فيها الفرنسيون العرب حتى في لباسهم وعمائهم وتدخينهم حتى ظنوا أنهم، كما قيل عنهم، في القاهرة أو في اسطانبول. وكانت القهوة تقدم في فناجين صغيرة على صحون صغيرة مفضضة حتى لا تؤذي الأصابع، وزخرفت القاعة وحيطانها بالأسلحة من جميع الأنواع وكانت الأسلحة أيضا محلاة بالفضة والأحجار الكريمة، وعرضت خلال ذلك المطروزات الزاهية. وقد حضر عشر نساء لأداء الرقص على الطريقة الحضرية. ثم بدأت الحفلة والرقص الفرنسي. ودامت الحفلتان إلى الصباح. أما الموسيقى العربية فلم تعجب الواصف للحفلة. فقد وصفها بأنها مملة بالمقارنة إلى الموسيقى الأوروبية. وآلاتها عندئذ هي الدف (الطبل) والرباب. وقال الواصف الفرنسي إن النقر على الدفوف والغناء العربي غير المفهوم يحرج الآذان، وهذا من حكم الشعور بالتفوق طبعا، ولو كان الواصف من الطرف الآخر لوصف الموسيقى الفرنسية بأنها نشاز في نشاز. ولذلك قيل عن الموسيقى العربية والغناء العربي بأنهما لا يخضعان للإيقاعات الإيطالية والفرنسية التي تنسجم مع المعاني. ثم حكم الواصف في الأخير أن لكل بلد موسيقاه وغناءه (¬1). ¬

_ (¬1) انظر لاحقا رأي دانيال سالفادور في حكم الأوروبيين على الموسيقى العربية.

وأثناء الحفلتين وقع ما لم يكن ليقع لولا قانون التطور الاجتماعي. ففي الوقت الذي كان فيه جزائريون آخرون يقاومون العدو في متيجة وعنابة وبجاية ووهران وسهول تلمسان ومعسكر، كان بعضهم يتبادلون الأنخاب مع الفرنسيين على أنغام الموسيقى، وقد اختلط الرجال بالنساء حسب وصف الواصفين، وصفت الأزهار، ودخن الجميع النرجيلة أو الغليون الطويل على أرائك فاخرة، وهم جالسون الجلسة العربية التقليدية، وكان النادلون من الخدم (العبيد) يناولونهم القهوة الساخنة. وحوالي منتصف الليل قدمت لهم المأكولات الجزائرية والمشروبات الفرنسية، ومن ضمنها لحوم الطير والفواكه الطازجة، ومن ضمنها أيضا ما أحل الله وما حرم (¬1). هذا عن المستوى الرسمي، أما على المستوى الشعبي فقد وصف الواصفون حفلات المقاهي والخلوات الليلية بما يتناسب أيضا. فقد عد بولسكي أكثر من ستين مقهى في العاصمة كانت تقوم بهذا الدور، وكلها كانت تقع في الجزء الأعلى من المدينة (القصبة). وكانت الحفلات ليلية، والطريقة هي جلوس الفرقة الموسيقية قرب مطبخ المقهى حيث يتناول العازفون القهوة المنشطة، كما كانت تقدم القهوة والغلايين للزبائن. وقد وصف لنا الواصف نوعين من الموسيقى صاخبة وهادئة. وتحدث عن فنان مجهول ظل ستين سنة وهو رفيق قيثارته بينما تحطمت آماله بالاحتلال فأضاف الحزن إلى نغمة القيثارة وكتم آلامه لأن الفرنسيين لا يسمحون له أن يصرح أو يلمح بالتعبير عن ذكريات أجداده وأمجاده (¬2). يقول بولسكي، إن الآلات الموسيقية تكاد تنحصر في الربابة ذات الثلاثة أوتار، إضافة إلى آلات النفخ الأخرى مثل الجواق والقيثار والطار ¬

_ (¬1) أرسين يرتاي (وصف حفلة رقص أقامها كبار أعيان الحضر لمدينة الجزائر بمناسبة وصول ... ديرلون ...) في (الجزائر الفرنسية)، باريس 1856، ج 1، ص 426 - 431. (¬2) انظر لاحقا، ولعله هو الحاج إبراهيم الذي سيأتي ذكره.

الذي هو نوع غريب، في نظره، من الطبول التي تضرب عادة في الشوارع. أما آلات الصنج النحاسية، التي تصم الآذان في الاحتفالات بالأعياد وليالي رمضان فهي ممنوعة في المقاهي. إن الناس في المقهى يريدون الهدوء، وينتظرون الموسيقى التي تساعدهم على الأحلام اللذيذة والخيالات البعيدة، وتعينهم على السكينة والتأمل المناسب لطبائعهم. ولا يريدون الصخب والضجيج المرافق للحرب والفروسية لأنهما حسب قوله، يذكرانهم بماضيهم. ومن المقاهي كلها مدح بولسكي المقهى القريب من جامع كتشاوة (الكنيسة الكاثوليكية) لشهرتها ونكهة قهوتها ورقي مجتمعها وعزف جوقها الموسيقى الذي أعطاه، كما قال، علامة (جيدة جدا). وكان رئيس الفرقة في هذه المقهى شيخا من أهل الحضر، وكان يعزف على الرباب بطريقة أصيلة ملفتة للنظر، وكان يحرك رأسه تبعا للمعاني والآلام التي يحملها، وكان يعبر بملامح الوجه عما يعتمل في دمه من حريق ووجد، كل ذلك كان مرفوقا بإشارات حزينة ورتيبة تعتبر في عين المتفرج وأذنه تسلية مثيرة. كان هذا الشيخ هو أحد الموسيقيين للداي حسين باشا. وقد ظل طيلة ستين سنة من حياته يغني ويعزف في مثل هذه الحفلات. وليت بولسكي أعطانا اسم هذا الفنان المجهول الذي غاب في التاريخ دون أن نعرف اسمه، حاملا معه هموم وطن عزيز استباحه العدو وشعب كريم أذله. كان هذا الشيخ الفنان محل تقدير العائلات التي غنى لها في الأفراح والأتراح. فطالما أفرحهم بمعزوفاته وصوته أثناء أحزانهم وأوجاعهم، فعند الميلاد والزواج كانت ألحانه ترقص الراقصين وتوجه خطواتهم، وعند الجنائز كانت أوتاره تئن بالنغمات الرتيبة التي تتناسب مع مشاعر الأسى كما تتناسب مع مشاعر الفرح. فمن هو يا ترى هذا الفنان؟. وهناك مقاهي أخرى أو مقاصف في الحقيقة، للرقص والغناء واللهو والعبث، وقد ذكر لنا منها بولسكي ثلاثة: مقهى شارع الديوان. وكان يملكه أحد أثرياء الحضر، وهو من عائلة إبراهيم شاوش الذي كان، كما قالوا، جلاد الداي حسين باشا والذي كان رجل سلطة وقوة. وكان الحضر يحترمون صاحب هذا

المقهى الذي لا نعرف من اسمه سوى أنه شاوش. وفي هذا المقهى كانت الفتيات يرقصن أيضا على أنغام الموسيقى، كما كن يغنين مع مطربين آخرين. ولا ندري هل كان ذلك الاختلاط قديما أو جديدا حدث مع الاحتلال. ومهما كان الأمر فإن هذه الحياة الليلية كانت لها قوانينها الخاصة حتى في العهد العثماني. وهناك مقهى آخر كان يملكه أحد اليونانيين، وكان صاحبه يستجلب الزبائن إليه بشتى أنواع الإغراءات، حتى المنحطة منها. ويقول بولسكي إن أسوأ الأهالي كانوا يخالطون أسوأ الأوروبيين. وقد سبقه إلى ذلك ابن خلدون حين قال إن المغلوب مولع بتقليد الغالب. ولعله لا يعرف مثلنا الذي يقول إن الطيور على أشكالها تقع. ولا يهم بعد ذلك دين ولا وطن. فالغرائز واحدة والحيوانات تظل هي هي ولو نقلت من قارة إلى أخرى. ويفيدنا بولسكي أن أحد الرسامين الفرنسيين رسم صورة لهذا المجتمع المتسفل أو الخليط السافل، كما سماه، فجاء بصورة فظيعة عن الحياة في الجزائر عندئذ. وإنما هي البداية فقط، فنحن ما نزال في أول العهد الاستعماري. ومع ذلك يعتب الفرنسيون على الجزائريين الذين لم يرسلوا أولادهم إلى مدارسهم التي تحمل أنوار الحضارة!. ويبدو أن المقاهي الأخرى كانت (متخصصة). فكل مقهى كان مختصا بتقديم حفلة أو موسيقى متميزة لزبائنه. فهناك تنافس على جلب الزبائن والتنفيس عن أحزانهم ودغدغة عواطفهم، وجمع المال من حرامه وحلاله. كما كانت للزنوج موسيقاهم التي يزفون فيها آلاتها يوم العيد. وكانوا يجوبون الشوارع ويضربون الدفوف بطريقة تصدع الآذان، حسب سواح ذلك الوقت، وهم لا يتصرفون إلا إذا قدم إليهم المارة قطعة أو أكثر من النقود (¬1). والمعروف أن حفلات المقاهي كانت تنشط خلال شهر رمضان حين يطول السهر، ويباح الخروج حتى للنساء أحيانا ويكثر اللعب والأكل واللهو ليلا. وكان بعضهم يسمي ذلك النشاط مهرجانات رمضان. ¬

_ (¬1) بولسكي (العلم المثلث)، لندن، 1854، ص 32 - 33، 37.

وهناك محترفون وهواة لهذا النوع من الفن. فإذا غاب المحترفون ظهر الهواة ليملأوا الفراغ. كانت لهم آلات عديدة للعزف. منها الرباب ذو الوترين. وكان العازف يمسك بها على طولها، ويعزف آخر على آلة مثل الماندولين، والآخر يضرب على الدف (البندير)، وآخر يضرب بقطعتين من المعدن على بعضها ضربا صاخبا، وهو يزينها باسم (كاستانييت). وإلى جانب هؤلاء العازفين والضاربين هناك آخرون يأتون بالأصوات والحركات مما يؤلف جوقة (أوركسترا) متناغمة. ولكن الناقدين الأروبيين التي يحسونها خدشا في الآذان. فهم ينظرون إلى ذلك العزف كله على أنه جملة واحدة تتكرر، وهم يسمونه نوعا من (التريمولو) الذي يتبعه نوع آخر من الانتقال أو (الفورت أو بيانو Forte au Piano) ويعتبرون هذه الموسيقى كسولة ومنومة. وهي من حيث التأثير تجعل السامع يصر أسنانه، حسب تعبير أحدهم (¬1). وبعض الحفلات الموسيقية كانت نسائية محض، وتستغرق أحيانا طول الليل. وتذكر إحدى السائحات الأوروبيات أنها حضرت سنة 1911 بالعاصمة حفلة أقامتها الحاجة خميسة على أثر رجوعها من الحج. وكانت الحاجة تسكن القصبة. وكانت الدار العربية ذات عرصات مرمرية، وحضرت الفرقة الموسيقية النسائية وحضر حوالي ثلاثين امرأة، وهن مثقلات بالجواهر والزهور، ورقصن وتناولن العشاء والحلويات والشاي. واستمرت الحفلة إلى مطلع الفجر (¬2). ولم تذكر هذه السائحة الإنكليزية التي حضرت مع صاحبتها الفرنسية، اسم الفرقة ولا صاحبتها. ولعل هذا النوع من الحفلات هو الذي ورثته مريم فكاي وفضيلة وغيرهما. هذا عن الموسيقى عند الذين لم يتذوقوها أول الأمر من الأوروبيين، أما الرقص فقد قلنا إنه كان خاصا بالنساء عادة، فكن يمارسنه في حفلات المزوار. والنسوة اللائي يمارسن الرقص لسن من الحرائر ولا من بنات ¬

_ (¬1) أوولف جوان (رحلة في أفريقية)، بروكسيل، 1850، ص 60. وهنا وهناك. (¬2) دفيرو بامبر Devereux PEMBER: (مظاهر الجزائر)، لندن 1912، ص 10 - 12.

الأصول والعائلات المحترمة. وقد كثر البغايا مع الاختلال وتطورت الخلاعة والمجون وأصبحت علنية متحدية بعد أن كانت محتشمة ومختفية. وقد وصفت السيدة بيلي العاصمة خلال الستيان من القرن الماضي، فقالت إنها كانت تعج بالمقاهي الموسيقية والمغنية والراقصة. فقد راجت سوق هذا الفن الخليع، وظهرت العاهرات من كل لون والخليط من كل جنس، وانتشر رقص هز البطن لإغراء الشباب والسواح الذين يرون في ذلك نمط حياة العرب والشرق. وكثرت أماكن البغاء. ووقف عندها العسكريون والمدنيون، وانتصب بعض هذه الأماكن قرب إحدى الزوايا فاضطر زوارها إلى هجرها (¬1). وقالت السيدة بيلي إن الرجال الفرنسيين لهم نوعان من الحياة، حياة في فرنسا بطقوس معينة وحياة في الجزائر طليقة وعابثة، ولعلها نسيت أن تقول عن الجزائريين أيضا نفس الشيء. وقد اشتهر شارع قطع الرجل الواقع بالقصبة بالنشاط المشبوه حيث اليهوديات وبعض الزنوج والشواذ من كل صنف (¬2). وكان بعض الفرنسيين أو من يسميهم أشيل روبير بالمشبوهين، قد صدروا رقص هز البطن إلى الخارج أيضا تشويها لصورة الجزائر وصورة الإنسان العربي. وألصقوا ببعض النساء النائليات هذا النوع من الرقص. وكان الغرض من تصدير الرقص المتاجرة به وجلب الزبائن، كما حدث في معرض باريس الدولي سنة 1889. وقد قال عنه روبير إنه بعيد كل البعد عن الفن الأخلاقي والجمالي، واعتبره رقصا منفرا لبعده عن الأخلاق والجمال (¬3). ولكن المدن الجزائرية لم تصب كلها بهذا العفن، فقد بقيت في أغلبها محافظة على أصالتها طيلة العهد الاستعماري رغم المغريات والمؤثرات الكثيرة التي كانت تدفع إلى التغيير والانسلاخ عن الأصول الفنية والأخلاقية. وسنتحدث عن أنواع ¬

_ (¬1) انظر عن ذلك فصل المعالم الإسلامية. (¬2) جاكلين بيلي (عندما أصبحت الجزائر فرنسية)، مرجع سابق، ص 77 - 80. شارع قطع الرجل كان منعزلا حيث لا حركة فيه ولا مرور لرجل أو قدم، ولكن ذلك تغير بعد الاحتلال. انظر عنه فصل المعالم الإسلامية. (¬3) أشيل روبير (الأعياد الدينية والعادات الإسلامية) في مجلة (روكاي)، 1925، ص 51.

الموسيقى التي ظلت تقام في تلمسان والعاصمة وقسنطينة وعنابة والبليدة، وموسيقى الحفلات العامة، والدينية، والعروبي في العاصمة والحوزي في تلمسان والمالوف في قسنطينة، ومشاركة النساء بالأغاني، وأنغام الحب والحرب. إن الأوربيين الذين كتبوا عن الموسيقى العربية أو لاحظوها واستمعوا إليها لم تعجبهم واستغربوا من انعدام الشعور بالهرمونيا عند العرب المسلمين في الجزائر. وهذه السيدة بروس التي عاشت في الجزائر خلال الأربعينات من القرن الماضي، أي بعد ربع قرن فقط من الاحتلال، لاحظت أن الآلات الموسيقية الأوروبية كانت متوفرة لدى الجزائريين. وكانوا يستعملون آلة الرباب ذات الوترين. وقالت إن الموسيقيين العرب يعزفون أيضا على الماندولين الإيطالية، ولكن بدون ذوق ولا منهج، كما كانوا ينفخون آلة الجواق (القصبة) ذات الثقب الثمانية. أما عن الهرمونيا فقد قالت إنه ليس لدى المسلمين شعور بجمالها الذي لا يفهمه، حسب رأيها، إلا القليل منهم. وقد أوردت شاهدا على ذلك، ولكنه قد لا يكون حجة لها. فقد قالت إنها سألت أحد المستمعين الحضر، وكان حاضرا لحفلة أوروبية باسم (ويليام تيل) أحيتها فرقة عسكرية - سألته عن رأيه في الحفلة والموسيقى، فاجابها أنه لا يفهم لماذا كل هذه الآلات التي تفسد بعضها البعض. وقد اندهشت من جوابه الذي دل في نظرها، على عدم تذوقه للهرومونيا وتناغم الأصوات الموسيقية وتداخلها وأدائها جميعا أداء مؤثرا واحدا متكاملا، وهو الانفعال بالجمال والتسامي في المشاعر. وقالت إنها كادت ترد عليه بمثل رده وتقول له: (إن موسيقاه العربية البغيضة أكثر ملاءمة لأذنيه) (¬1) وهكذا كان يختلف الذوق ويتصارع الفعل الحضاري بين الطرفين. ... ولعل الرجل الذي حكم على الموسيقى العربية بعد دراسة هو دنيال سالفادور، فهذا الفنان كان رأيه في الموسيقى العربية مثل رأي الأوروبيين ¬

_ (¬1) السيدة بروس (إقامة فى الجزائر)، 1852، ص 281.

الآخرين قبل أن يدرسها ويندمج مع عازفيها ويتذوقها وتعود أذنه عليها. وقد روى علاقته بها في عبارات دالة. فقال إنه سكن العاصمة منذ 1853، وكان في أوقات فراغه يعزف الموسيقى العربية، ولكنه لم يفهمها في البداية، فأخذ يخالط أهلها وعاش معهم وعزف على آلا تهم، وبحث عندهم عن النغمة والنبرة والآلات والإيقاعات. وظهر له أنها موسيقى تحتوي على نوطة وقواعد متينة، ولكنها كانت تبدو له ولأمثاله نوعا من الضجيج والصخب. ثم كرس حياته لها فدرسها عن كثب ودرس الأشعار الغنائية وأنواع الرقص المرافقة لها. ولاحظ أن الأوروبيين لا يتذوقون هذه الموسيقى ولا يحسون بجمالها، لأنهم لم يتعو دوا على سماعها. ثم أخذ سلفادور يسجل ملاحظاته على الموسيقى العربية عموما. والجزائرية خصوصا، بعد أن تجول في البلاد، وزار تونس والإسكندرية والأندلس، وجمع الأغاني الشعبية حتى بلغ ما جمعه 400 أغنية. ومن رأيه أن العرب قد استعاروا الموسيقى من الإغريق بواسطة آلتي القصبة والجواق (الناي). وقال إن الموسيقى العربية المعاصرة هي نفسها الموسيقى التي كانت شائعة منذ القرن الثالث عشر الميلادي (عصر الحروب الصليبية) وزعم أن الأوروبين أنفسهم لا يعرفون شيئا تقريبا عن الموسيقى السابقة لذلك العهد. وحكم سالفادور أن الموسيقى العربية موسيقى سماعية محفوظة في الذاكرة فقط وهي غير مسجلة. وأن العرب لم يحتفظوا بنظريات موسيقية سالفة. والذاكرة وحدها لا تكفي في هذا المجال بل لا بد من التدوين، لأن كثيرا من الإيقاعات السابقة قد ضاعت ونسيها الناس. وروى سالفادور بعض آراء الدكتور بيرون في المرأة العربية والموسيقى (¬1). ومن رأي سالفادور أن الأوروبيين الذين كتبوا عن الموسيقى العربية كانوا غالبا يجهلونها. وأنهم ¬

_ (¬1) الدكتور بيرون (المرأة العربية منذ الإسلام). وكان بيرون قد اشتغل في مصر سنوات طبيبا وأستاذا في مدرسة الطب التي أسسها الفرنسيون في مصر، ثم عينه نابليون الثالث مديرا للمدرسة السلطانية (الامبريالية) في الجزائر التي أنشأها سنة 1857. وكان سالفادور معاصرا لبيرون أثناء كتابة بحثه عن الموسيقى العربية. عن بيرون انظر فصل الاستشراق، وكذلك فصل التعليم المزدوج.

اعتمدوا في ذلك على مصادر قليلة. فوقعوا في الخطأ. وبناء على رأي سالفادور فإن الموسيقى العربية متميزة، وهي تقوم على قواعد وأصول معينة تماما مثل ما هو الحال بالنسبة للموسيقى الأوروبية. وتحتوي على أربعة عشر طبعا أو إيقاعا. والإيقاعات أو الطبوع تقوم في نظره على النغمة ونصف النغمة مثل الموسيقى الأوروبية، لكن العرب ليس لهم أولا تتميز عندهم نغمة الثلث وكذلك ربع النغمة. والإيقاعات الأساسية عندهم هي: العراقي والمزموم والذيل والجيركة. وهناك أربعة ثانوية وهي: اللسين (؟) والسيكة والماية ورصد الذيل. ولاحظ أن العرب لا يكادون يعرفون منها سوى اثني عشر إيقاعا، ولذلك لم يتوصل هو إلى معرفة الإيقاعين الباقيين. وقد قام بدراسة الأربعة الأساسية بالتفصيل. فقال إن نغمة المزموم ترقص عليها نساء قسنطينة، وهي نغمة بطيئة، وتعبر عن أغاني الحب. ونغمة الذيل تمثل رقصة الحرب والفخر. كما درس سالفادور النغمات الثانوية. أما النغمات (الإيقاعات) الأخرى فهي: رمل الماية، والصباح، والزيدان، والغصين (¬1)؟. والحفلة العربية في نظره تقوم على (النوبة) و (البشراف). والنوبة هي القطعة الموسيقية الكاملة في الحفلة. وقد أطال في وصفها، ولاحظ أنها تبدأ بطيئة ثم تأخذ في تصاعد الألحان إلى أن تنتهي. أما البشراف فهو نوع من التمهيد للنوبة لكي يتغير الإيقاع (¬2). من دراسة سالفادور للموسيقى العربية نفهم أن للعرب حبا جارفا للموسيقى، فهم كما قال يتزاحمون على سماعها ولو كان العازف لها من اليهود. ومن هذه الملاحظة انطلق سالفادور إلى القول بأن أشهر المغنين في الحفلات هو اليهودي يوسف عيني المعروف باسم بالخراية. ونحن نفهم من ¬

_ (¬1) دانيال سالفادور (الموسيقى العربية) فى (المجلة الافريقية) 1862، ص 195 - 200. مثل سلفادور لنغمة المزموم. بأغنية (البيرو يامليح) التي تغنى في بوسعادة. و (البيرو) هو المكتب الفرنسي. ومثل لنغمة الذيل بأغنية عن بوجو وأخرى عن راندون التي تغني في زواوة. كلاهما كان حاكما للجزائر. (¬2) نفس المصدر، ص 111 - 112.

ذلك أن المجال كان فارغا من الفنانين العرب لأسباب منها ربما انقراض الجيل الباقي من العهد العثماني، واهتزاز قيم المجتمع الحضري بعد جيل (كتب هو سنة 1862) من الاحتلال والاستعمار. ولو كان هناك تواصل لما خلا الجو ليوسف عيني ليكون أشهر المغنين في الحفلات الحضرية. والغريب أن الفرنسيين قد التجأوا إلى هذا اليهودي ليغني أمام نابليون الثالث وزوجته عندما زارا الجزائر سنة 1860 و (ليمثل) أهل الحضر وأغانيهم الشعبية وليكون (رئيسا للموسيقيين الأهالي) حسب تعبير سالفادور (¬1). أما عن الآلات الموسيقية فقد ذكر سالفادور أنها واحدة عند العرب والإغريق، وعند يهود الأندلس وعند الإسبان. ومنها القصبة، والجواق (أربع ثقب) ومزمار داود، والطار والدف، ثم الغيطة، والطبل والدربوكة والكمنجة، والرباب والقيثارة (الكويترة). ولاحظ أن الفرقة العربية كانت تعزف جماعيا ومن ثمة فلها أداء منسجم أو هرموني (¬2). ويبدو أن سالفادور قد استمر في دراسة الموسيقى العربية. فقد قيل إنه قام سنة 1879 بفصل الأجزاء المتأثرة بالموسيقى الإغريقية وأبقي على ما هو متصل بالنوبة الشائعة في المدن مثل العاصمة وقسنطينة وتلمسان (¬3). وذكر السيد سالفادور أسماء آلات لم نجدها إلا عند السيد نجيب ماضي، مثل الصبا، والحسيني. وهناك بعض الأسماء لم نهتد إلى أصلها وربما يرجع ذلك إلى سوء النطق والتهجية. ويستعمل ماضي العلامات للنوطات. وجاء بأسماء أخرى متناثرة فيما يبدو بالعثمانية والفارسية، مثل الديوان، والسيكاه (السيكة) والجيهاركاه (الجيركة). ومن الآلات الوترية ¬

_ (¬1) سالفادور، مرجع سابق، ص 106. (¬2) نفس المصدر، ص 284 - 288. (¬3) قوانار (الجزائر) مرجع سابق، ص 280. يجب أن نذكر أيضا أن الفرنسيين أنشاوا جمعية الفنون الجميلة في الجزائر منذ 1851، ولكن عنايتها بالفن (الأهلي) لم تكن داخلة في برنامجها إلا عرضا. كما أنشأوا الكونسرفتوار في وقت لاحق. ولا شك أن بعض العناية قد وجهت إلى موسيقى المدن مثل تلمسان، سيما بين الحربين.

موسيقى البادية

ذكر ما يلي: العود وله سبعة أوتار مزدوجة، والقيثارة ولها خمسة أوتار، والكمنجة الأوروبية ولها أربعة أوتار، والكمنجة العربية ولها وتران فقط، والطنبور وله ثمانية أوتار واعتبره من أسهل الآلات وأكملها. ثم القانون وهو ذو أبراج، ولكل برج فيه ثلاثة أوتار مركبة فيكون مجموع ما فيه من أوتار أربعة وعشرين وترا. أما الآلات النافخة فذكر منها نجيب الماضي: الناي والمزمار والأرغن والكرفت والسرناي والجناح، وكلها ذات ثقب إلا الأخير (¬1). موسيقى البادية وقد وصفت موسيقى البادية وأغانيها ورقصاتها في عدة مناسبات. فللبادية أيضا أعراسها وفروسيتها وحروبها وأحزانها ولها أشعارها وخيالاتها، ولها نساؤها ورقصاتهن المتميزة حسب المناطق. ونقصد بالبادية هنا ما عدا المدن، فالجبال والسهول والصحارى كلها بادية في هذا المعنى. وقد نسبت الحركات والرقصات والموسيقى إلى مناطقها أحيانا حتى شاع لفظ العبداوي (أولاد عبدي بالأوراس)، والنائلي، والسعداوي (بو سعادة)، والقبائلي، والقصراوي (قصر البخاري)، الخ. وفي البادية كانت المرأة أكثر تحررا في الظهور ولكن باحتشام. فهي التي تقوم بدور المنشط للحفلات بالزغاريد والرقص، ويكفي حضورهن ليأتي الرجال بالعجائب في الفروسية أثناء السباق، ودقة إطلاق البارود وسرعته، وتكون الحفلات في البادية أيضا فرصة للتعارف والتلميح بالخطبة بين الشبان والشابات، وإنشاد أشعار الغزل والفروسية، والجري في السباق مع خفة ومهارة. ومنذ 1859 وصف أحد الكتاب الأجانب مقاهي بسكرة بأنها مقاصف للموسيقى والرقص النسائي. وقال إن المغنين كانوا في حضور دائم. ثم وصف النساء بأنهن كن مثقلات بالجواهر والملابس المزركشة، وكن يعتبرن ¬

_ (¬1) نجيب ماضي (الموسيقى العربية) في مجلة (المقتطف)، فبراير 1895، ص 115 - 112.

ذلك أقصى أنواع الزينة، كما كان الوشم يعلو خدودهن (¬1). والمرأة العربية ترقص وحدها، وقد تترافق مع زميلة لها أو أكثر. ويظل وجهها مغطى بحرير شفاف يظهر ملامح الوجه للمتأمل. ورقص المرأة لا يكون إلا في الحفلات التي تقام للمناسبة كالزواج والختانة وغيرهما حيث لا يحضر الرجال. وهي مناسبات قليلة ولا تدوم إلا لحظات. وهناك أمداح خاصة تقيمها النساء للنساء في غياب الرجال، وتدوم عدة ساعات وترقص النسوة فيها طويت على أنغام الدف والطبل وبعض الآلات الأخرى. أما أثناء الحفلات العمومية المكشوفة والتي يمكن أن يحضرها الرجال عن بعد، فإن النساء يرقصن فيها، ولكن بعد أن تتقدم فتيات صغيرات إلى الميدان مغطاة الوجوه ومحتشمات، ويبدأن الرقص بالمناديل الحريرية في حركات بطيئة، وعندما تنشط الموسيقى وتسرع الحركات تبدأ النسوة في الدخول إلى الحلبة والرقص، ثم تتشجع أخريات فيتقدمن أيضا للرقص، وشيئا فشيئا تزدحم الحلبة وتصخب الموسيقى وتسرع حركة الرقص على أصوات الغيطة والقصبة وزغاريد المشجعات وطلقات البارود المتقطعة. وكلما انسحبت بعض النسوة من الحلبة تقدمت أخريات إليها وهكذا، إلى أن ينتهي الحفل. وأحيانا، يتقدم أحد الرجال ويطلق البارود عند رأس راقصة تعبيرا عن الحب والإعجاب، كما تدل الطلقة النارية الدقيقة على المهارة في التسديد والفروسية. وقد لاحظ أحد الكتاب، وهو أشيل روبير، الذي لم يعجبه الرقص العربي، أن الفن الكوريغرافيكي غير متطور عند العرب. وحكم بأن رقصاتهم لا تشبه في شيء رقصات الأوروبيين. فليس عند العربي نوع الفالس ولا البولكا. لأن المرأة لا ترقص مع الرجل، ولا وجود لحفلة رقص أو (بال) على الطريقة الأوروبية. ولا ترقص المرأة أمام العموم. والرجال لا يأتون الحفلات إلا كمتفرجين عن بعد، وليس في هذه الحفلات كراسي، وإنما الجميع يجلسون مباشرة على الأرض أو فوق أفرشة وبسط. والرقص في نظر ¬

_ (¬1) ديتسون (الهلال والفرنسيون الصليبيون)، نيويورك 1859، ص 341.

روبير متشابه ولا يختلف إلا في نمط الحركات. وقال إن هذا الرقص لم يثر انتباهه رغم أنه حضره عدة مرات، لأن حركاته غير منسقة وغير منسجمة. ثم إن الموسيقى صاخبة وغير متلائمة مع الفن الكوريغرافي. وقد وصف رقصة السعداوي حيث امرأتان ترقصان بخفة ورشاقة ملوحة كل منهما بمنديلين من الحرير، وتتقدمان بخطى وحركات خفيفة إلى الأمام ثم تتراجعان إلى الخيمة وسط زغاريد النساء الأخريات. وقال إن بعض النسوة يمارسن أيضا. رقصة السيف. ولاحظ أن الراقصات يؤتى بهن من عالم غريب في مثل هذه المناسبات العامة. وأثناء حفلات الزفاف لا تشترك العروسة في الرقص (¬1). وليس كل الأوروبيين لهم نفس هذا الرأي حول الموسيقى والرقص الجزائري. فقد رأى السيد بودلي أن الموسيقى تبدو حادة على الأذن غير المتعودة، ثم تصبح جميلة ومقبولة ومجحببة. والآلات لا تكاد تخرج في البادية عن الغيطة والدف والرباب والقصبة ... وتتميز موسيقى الجنوب بالقصبة الطويلة والغناء المرافق بأشعار الحب والفروسية. وتصبح الموسيقى في هذه الحالة تصويرية للحكاية. وكما أن هذه الأشعار لا تكاد تخرج عن الغراميات والدين، فكذلك الغناء فإنه إما غرامي وإما مدائح وتوسلات دينية. وهناك رقص في غرداية حيث فرقة من الرجال تقف في صفين وتبدأ في حركات محددة، ثم تتقارب الصفوف ثم تنفصل لكي يرقص كل صف وحده، وهكذا. وقد عرفنا أن الرجال قلما يرقصون، ولكن هذا الكاتب يخبرنا أن بعضهم كان يرقص في المقاهي بالمدن فرادى أو رجلين معا، وأحيانا حتى مع المرأة. وأكد الكاتب أن هناك فرقا موسيقية متنقلة من الرجال والنساء خلال العشرينات من هذا القرن. ولعله يشير إلى التطور الذي حدث بإنشاء المسرح الذي تحدثنا عنه، مثل فرقة الزاهية لعلالو والمطربية ليافيل. كما أن هناك الرقص الزنجي الذي له فرق أيضا، من النساء والرجال، ولا شك أن ذلك موجود في الجنوب بالخصوص. وحركات اليدين عند الراقصات النائليات تمثل عند الكاتب أجنحة النسر، كما أن ¬

_ (¬1) روبير (روكاي)، مرجع سابق، ص 60.

آراء في الموسيقى التراثية

حركات الرجلين عندهن فيها رشاقة ملحوظة. والرقص النسوي غير خاص بالنائليات طبعا (¬1). آراء في الموسيقى التراثية أ - رأي محمد سفنجة ورواني: في 1905 قام السيد رواني بدراسة للموسيقى العربية في الجزائر واستعان في ذلك بالسيد محمد بن علي سفنجة رئيس الموسيقيين الجزائريين عندئذ (باش قياثري). وكانت الدراسة لاحقة لنشر إدمون يافيل تسجيلاته عن الموسيقى الجزائرية سنة 1901، كما ذكرنا. وقد شجع الحاكم العام شارل جونار، الاهتمام بهذه الموسيقى وارتبط ذلك التشجيع بعدة جوانب من الحياة الثقافية الأخرى. وقد لاحظ رواني أن هذا الاهتمام قد أدى إلى إنقاذ هذا الفن الموسيقي الذي يحتقره الفرنسيون ويقارنون بينه وبين الموسيقى الفرنسية ثم يخلصون إلى تخلفه وانحطاطه ويهملونه، وقد أصيب بعدة نكبات خصوصا منذ عهد الجمهورية الثالثة إذ شمل الإهمال والاحتقار كل حياة الجزائريين بما فيها الموسيقى الأهلية. ويذهب رواني إلى أن الموسيقى العربية ما تزال قائمة منذ عهد الخلفاء الراشدين. وزعم أن سجلات الموسيقيين كثيرة وجاء بشهادة (المعلم) سفنجة على وجود ألف نغم مما يعرفه هو وحده. ونحن لم نتصل مباشرة بسجلات المعلم سفنجة ولذلك سنأخذ آراءه مما رواه هو لرواني. يقول سفنجة إن هناك أولاد النوبات المتألفة من مقدمة وافتتاح وإنشاد بطيء جدار ثم إنشاد أسرع منه، يأتي متتابعا بطريقة محددة، ومنتظمة. وكل الموسيقى تكتب على وتيرة واحدة. وتفسير ذلك أن الموسيقى تتألف من أجزاء متميزة ومحددة بدقة. فهناك المستكبر الصنعة وهو نوع من التمهيد يعدل العازف خلاله آلاته ويجربها. ثم هناك التوشية أو ¬

_ (¬1) بودلي R.V.C. Bodley (الموسيقى العربية والرقص)، في (الجزائر من الداخل)، لندن 1927، ص 94 - 100.

الافتتاح الموسي، ثم المصدرات أو الكرسي، ثم يأتي البطاحي مسبوقا أيضا بالكرسي في حركة سريعة، ثم الدرج، ثم انصرافات، وهي سريعة، ثم يأتي المخلص وهو أسرع من السابق، وهكذا فإن كل نوبة تتألف من 20 إلى 25 نغمة منه. والنوبات هي المفضلة دائما عند الموسيقيين. ويطلق عليها الموسيقيون المحترفون اسم (الموسيقى الغرناطية أو الأندلسية)، وتسمى أيضا الموسيقى القرطبية والإشبيلية، وهي تمثل الذكريات القديمة والمجيدة للعرب والمسلمين وروح حضارة ازدهرت وشعت على أوروبا وغيرها. إنها عند البعض هي الموسيقى الكلاسيكية، وهي موسيقى الصنعة Sana'a . والعرب، كما يقول رواني، يعتبرونها هي فن الأوبرا عند الأوروبيين. وتختلف النغمات في النوبات، حسب الوقت والمزاج، وبذلك يتشكل الصوت أو النغم. وكل حفلة موسيقية عربية تختلف نوباتها عادة بحسب الوقت. مثلا إذا وقعت الحفلة بعد الظهر فإن نوباتها تكون كما يلي: من الساعة الواحدة إلى الثانية: نوبة سيكا من الرابعة إلى السادسة: نوبة رمل من السادسة إلى الثامنة: نوبة رمل مايه من الثامنة إلى منتصف الليل: نوبة مجنبة وغريب تحسين من الواحدة إلى الثانية صباحا: نوبة رصد ومسمون (مسموع؟) من الثانية إلى الثالثة: نوبة عربي من الثالثة إلى منتصف النهار: نوبة ماية، ذيل، رصد ذيل ومن جهة أخرى، فإن هذه النوبات تتماشى مع الشعر الذي يغني أيضا من حيث المعاني، فمثلا نوبة مايه تتغنى بالشعر الغنائي الذي يمجد الطبيعة، وهكذا (¬1). ¬

_ (¬1) رواني J. ROUANET (الموسيقى العربية) في (مجلة الجمعية الجغرافية للجزائر SGAAN 1905، ص 304 - 333 للمقال كله. انظر مثلا ص 8 32 - 329.

كما تحدث المعلم سفنجة لرواني عن النقلبات، تلك الأغاني الأقل كلاسيكية والتي يقدرها الناس كثيرا. وهي مسبوقة بمقدمات يظهر فيها المغني والمطرب العازف على الآلة قدرته وتحكمه في النغم. وقد حدثه أيضا عن الموسيقى المسماة (العربي) أي موسيقى المدن الكبيرة، وعن موسيقى الحوزي وهي موسيقى المدن الأقل أهمية. ثم حدثه عن القصائد وعن القدريات ثم عن الزنداني. والقدريات والزنداني يتضمنان أغاني شعبية مخصصة للنساء وليس هناك مطرب حسب رواني، يرغب في أداء هذين النوعين (القدريات والزنداني)، ولكنهما مع ذلك معروفان لكل الناس في الجزائر، ولهما قيمة كبيرة في التوثيق والتقاليد الشعبية. وكنموذج لهذه الأغاني العربية الشعبية فإن المسمعات كن ينشدن (يا مولات العين الكحلا)، وهي زنداني تونسي يقصد به كل امرأة لها عينان سوداوان جميلتان. وإضافة إلى ذلك هناك الأغاني الدينية. وهي عادة تقوم على تمجيد القرآن الكريم وسيرة الرسول (صلى الله عليه وسلم). وكذلك الختمات والأدعية والتوسلات، والإسراء والمعراج ونحو ذلك. فكل هذا كان يغني بالنوبة الغرناطية في الاحتفالات الدينية (¬1). أما الآلات الموسيقية المستعملة إلى فاتح هذا القرن فيذكر منها المعلم سفنجة لرواني مجموعة بأسمائها. ومن بين هذه الآلات ساذج قديمة جدا ترجع، كما قال، إلى العصور الإسلامية الزاهرة، وقد حافظ عليها معلمون موسيقيون بارزون. وهذه هي أسهاؤها وبعض صفاتها: 1 - الكويترة (القيثارة)؟ وهي بنت اللوث Luth القديم، فهي من الآثار الباقية. 2 - العود الفارابي، أيضا من الآلات القديمة، ومنها الأثر الإغريقي. 3 - الرباب الجزائري الذي يختلف عن الرباب الفارسي، وهذا هو ¬

_ (¬1) نفس المصدر، ص 322 - 330.

الجد للرباب الجزائري، وله وتران بدائيان. وجسم الرباب من خشب الأرز. 4 - الكمنجة، وهي آلة عصرية حلت محل الكمنجة العربية - الفارسية في الجزائر، منذ حوالي قرنين (حوالي ثلاثة قرون الآن). وهي تشبه الرباب. Violin 5 - القانون، وهو آلة من الآثار العبرية والآشورية. وهناك أيضا آلة القانون المصري. 6 - الطار، أو الطبل أو الدف، وهي آلات متشابهة ولكنها مختلفة في إيقاعاتها. 7 - الدربوكة، ولها علاقة بالرقص، وهي ترجع إلى عهود مصر القديمة. 8 - الجواق أو الناي Flute، وآلة القنبري أو القيتارة الصغيرة، ثم الغيطة المستوردة إلى الجزائر من بلاد الترك (¬1). ويأتي بعد ذلك الحديث عن الغناء والمغنين والمغنيات. وقد كان المعلم سفنجة باشں قياثري في الجوقة (الفرقة) النسائية، وهو الذي استخرج أغنية كانت شهيرة عنوانها (القد الذي صباني)، من ديوان قديم، وهي من نوع السيكة. وإن دل ذلك على شيء فإنما يدل على الراية القديمة بين الأغنية العربية والأندلسية، ولذلك فإن ما بقي منها محفوظا كون مرجعا للمؤلفين يرجعون فيه إلى ماضي الموسيقى العربية المجيد، وهم لا يتأثرون بأي نوع من أنواع الموسيقى بل يستعيرون من تراثهم المذكور، وهكذا كان يفعل الأهالي، كما يقول رواني الذي لاحظ أن السيكة قد طرأ عليها تغيير منذ حوالي ثلاثين سنة (أي منذ حوالي 1875)، وذلك بإدخال النغمة الطويلة عليها. ولعله روى ذلك عن سفنجة أيضا. كما ذكر أن ميزان القصيدة في تلمسان هو: 3 أوقات، يتلوها 3 أوقات، ثم وقتان. ¬

_ (¬1) رواني (الموسيقى العربية)، مرجع سابق، ص 331.

وأورد رواني قائمة من أسماء المغنين عندئذ، وكان أغلبهم من المسلمين، ولكن كان من بينهم أسماء أجنبية يبدو أن أصحابها من يهود الجزائر (¬1). ويقول رواني إن هؤلاء المغنين كانوا يعتبرون آخر الممثلين للموسيقى العربية في الجزائر، وإنهم ورثة هذا الفن عن معلميهم الذين عاصروا الاحتلال الفرنسي. ولم يذكر لنا رواني ذلك الفنان المجهول الذي قضى ستين سنة من عمره يئن على آلة القيثارة ويطرب جمهوره الحزين في أحدى المقاهي بالقصبة. ولعله هو المسمى الحاج إبراهيم. وقد كان للحاج إبراهيم ابن يدعى الوليد، وكان أيضا من المغنين. ثم أورد أسماء أخرى مثل ابن سلام، ومنامش، وابن القبطان. وكان ابن القبطان من عائلة معروفة تعلم القرآن الكريم للأطفال (¬2). وكثيرا ما كانت الصلة وطيدة بين تجويد القرآن والغناء. واعتبر رواني محمد بن علي سفنجة أشهر المغنين الكلاسيكيين (الأندلسيين) في الجزائر عند كتابة مقاله، ثم ذكر موزينو وتواس الضارب على آلتي الرباب والكمنجة. وكان تواس مغنيا أيضا وسجل صوته على آلة الفونوغراف. ثم لاهو سرور، وهو مغني ولاعب على الكويترة أيضا. أما العازف على القانون فكان قدور بن وليد الطيب الذي يعد من الأفذاذ في هذا الفن في وقته، ثم محمد بن علي الشريف الضارب على الطار. ومنهم أيضا، علي ماضي (مهدي؟). وهناك فريق من المغنيات أيضا، ويعرفن بالمسمعات، وكانت العائلات تبحث عنهن لإحياء الحفلات خلال المناسبات الاجتماعية كالزواج والختان وعودة الحجيج. ومنهن: يمينة بنت الحاج أحمد مهدي. وقد اعتبرها رواني أولى المغنيات والضاربات على الآلة. ثم فاطمة بنت محمد التي كانت تعزف أصعب الأنغام على الدربوكة. وهناك أختان مغنيتان، وهما زهور وتماني بنتا حامد، وكلتاهما كانت تضرب على الطار. ¬

_ (¬1) أخذ يهود الجزائر الجنسية الفرنسية منذ أكتوبر 1870. وسبقت الإشارة إلى المغني يوسف عيني، وهو من اليهود. (¬2) عن ذلك انظر فصل التعليم المزدوج.

ولكن رواني أنذر بأن هؤلاء المشاهير في الطرب والموسيقى ليس لهم تلاميذ يأخذون عنهم، وأن مصير الموسيقى العربية بعدهم يتهدده الإندماج في موسيقى الغير والإنقراض تحت شعار التقدم. وإذا كان لهم هم سند أخذوا عنه قواعد الموسيقى والغناء فليس لهؤلاء سند يستمر في غيرهم. ودق ناقوس الخطر قاتلا إن الموسيقى الأندلسية (الغرناطية) ستختفي مع هؤلاء، وستنسى بعدهم الغراميات الكلاسيكية الجميلة. وقال إن هناك بعض النساء وبعض الهواة ولكنهم ليسوا من الدرجة التي تحافظ على هذا التراث الرائع. فهذه نكبة، على حد تعبيره، وقد تفطن لها الحاكم شارل جونار (¬1). ولكنه لم يذكر لنا ماذا فعل لتفادي وقوع النكبة، ولعل إنشاء جمعية (المطربية) وظهور رشيد القسنطيني وعلالو بعد الحرب العالمية الأولى يأتي في هذا السياق. إن رواني قد نظر إلى الموسيقى العربية عندئذ نظرة تراثية. وقد نبه جمهوره إلى ذلك. فقال إنها موسيقى غير متطورة أو تعبر عن فن متطور في حد ذاته ويتماشى مع العصر، فهي فقط عمل أثري مهم (وإنتاج شعب يعيش في البداوة)، فهي في نظره ظاهرة تاريخية ويجب أن ينظر إليها هكذا (¬2). ب - رأي بارتوك: وها هو المستشرق المجري بارتوك يدرس أنواعا أخرى من النغمات الموسيقية. ويركز على إنتاج الآلات الصحراوية، أو إذا شئت الموسيقى البدوية. فقد حل بالجزائر سنة 1913 وذهب إلى منطقة بسكرة فدرس فيها نماذج من الموسيقى الأوراسية والميزابية والورقلية والزنجية وغيرها. وقسم أنواع النغم إلى ثلاثة، وهي الغناء أو الأشعار الغنائية الغزلية، والقصيدة المختصة عادة بمدح المرابطين والتوسل بهم، وإذا شئت الأغاني الدينية. أما الثالث فهو الغناء المرافق للرقص بالآلات. وهذه الآلات فيها ما عرفناه في المدن، وفيها ما ليس في المدن. فهناك الآلات التي تنفخ مثل الجواق والقصبة والغيطة، ثم الآلات الوترية Cordes، مثل ¬

_ (¬1) رواني، مرجع سابق، ص 327. (¬2) نفس المصدر، ص 332.

القنبري، وهناك آلات النقر مثل الدربوكة والدف (البندير) والطبل. وصف بارتوك أيضا أنواع الغناء والموسيقى، فوجد فروقا بين الغناء الجريدي (تونس) ويسميه غناء النظام الذي يسميه العامة (اللظام)، والغناء الغزلي وغناء (الدرز)، وهو أيضا من أغاني الحب المكشوف (¬1). ولاحظ وجود المدائح التي قيلت في رجال التصوف ومنهم شيخ الزاوية التجانية في تماسين وشيخ زاوية طولقة، وكذلك الرقص الصوفي عند الحضرة والزردات وغيرها، ومنها المدائح التي قيلت في الشيخ مصطفى بن عزوز البرجي (نفطة). كما تحدث بارتوك عن أنواع الرقص والغناء عند شاوية الأوراس، وموسيقى الأعراس، ورقص هز البطن، ونوبة سيدي عبد القادر (القادرية) في بسكرة، وكذلك الرقص الشائع في ورقلة وفي تقرت، والرقص عند الزنوج، وعند بني ميزاب، ورقصات الفروسية، ومنه أيضا الرقص القبائلي في بعض النواحي، وأخيرا تحدث عن النوبة التركية (¬2). وقد وصل عدد النغمات عند بارتوك إلى 65 نغمة. ج - رأي داروي: وهناك دراسة للموسيقى العربية في الجزائر قام بها السيد لوسيان جان داروي سنة 1931، وهي جزء من دراسة شاملة عن الموسيقى الإسلامية في شمال أفريقية عندئذ. وتعتبر هذه الدراسة في الواقع تكملة ومواصلة لما قام به رواني في بداية القرن. وقد لخص السيد داروي ما وصلت إليه الموسيقى الجزائرية على يد الجيل الجديد الذي حذر السيد رواني ¬

_ (¬1) ذكر بارتوك (الدرز) وهو غناء معروف في المنطقة، ولكن المترجم الفرنسي باربيس خطأه وقال إنه (الدرج) المعروف في الموسيقى الأندلسية. والغالب على الظن أن باروك غير مخطئ لأنه ذهب إلى المنطقة وحدثه الناس عن (الدرز) وليس الدرج. وكلمة (الدرز) هي الشائعة في وادي سوف أيضا. (¬2) بيلا بارتوك (الموسيقى العربية في بسكرة ونواحيها) في (حوليات معهد الدراسات الشرقية)، الجزائر، سنة 1960 - 1961، ص 301 - 336. ترجمة ليو - لويس باربيس. وعبارة المدائح المتعلقة بالشيخ محمد العيد التماسيني وعلي بن عمر الطولقي يهم منها أيضا أنها أذكار وأدعية لهما أو مدائح وتوسلات بهما. فالعبارة غامضة. عن الرجلين (محمد العيد وعلي بن عمر)، انظر فصلي التصوف.

من أنه جيل غير متعلم على أساتذة وليس له سند قديم، بل كاد يقول إن الموسيقى الجزائرية ستضيع على يد هذا الجيل الجديد. ومع ذلك فإن ما ذكره أحمد توفيق المدني (أيضا سنة 1931) (¬1) وما ذكره السيد داروي يدل على أن جيلا جديدا ظهر بعد ربع قرن وحافظ على الموسيقى العربية وواصل مسيرتها وأدخل عليها بعض التجديد. كما واصلت مراكز الموسيقى في العاصمة وتلمسان وقسنطينة رسالتها في عدة فرق وجمعيات موسيقية وفنية، واستمر أهل البادية والأرياف في استعمال آلاتهم وأصواتهم في المناسبات العديدة. ويلخص السيد داروي رأيه في أن انتشار التعليم قد ساعد على الاهتمام بالفن والموسيقى والشعر، وهو رأي فيه كثير من الصواب. كما أنه أبدى نفس التخوف الذي أبداه زميله رواني، وهو تعرض الموسيقى إلى التبسيط والتأثر بالموسيقى الأوروبية وعزفها من قبل أناس غير مؤهلين، بل إنه قال إن التقنيات الموسيقية قد أخذت في التراجع منذ نصف قرن. بدأ السيد داروي دراسته بالتأكيد على أن للجزائر موسيقاها الخاصة، وأن عربها ما يزالون يحتفظون بها ويشجعون عليها باستمرار. وكان معهد الموسيقى (كونسرفتوار) يحتفظ بقسم خاص للموسيقى العربية يشرف عليه السيد ادمون يافيل. وبعد وفاته تولاه السيد محيي الدين باش تارزي. وكان يافيل محبا للموسيقى العربية، وقد عمل على نشرها والمحافظة عليها وأنشأ من أجلها فرقة (المطربية)، كما ذكرنا. وهذه الموسيقى في نظر داروي، أنواع منها الديني والاجتماعي. فهي موجودة في صوت الأذان وفي المدائح النبوية والقصائد الصوفية. ولكن الحياة الدينية في نظر السيد داروي، خالية من البذخ والصخب. ولا تنشد الأناشيد الدينية سوى لتمجيد الدين وفي الأماكن الطاهرة. ويقول السيد داروي إن محيي الدين باش تارزي قد استعمل صوت الأذان بدون العبارات المعتادة حتى يحافظ على حرمة الطقوس الدينية. أما الموسيقى الاجتماعية ¬

_ (¬1) سنعرض لرأيه في الموسيقى في جزء آخر.

فهي موجودة في حفلات الزواج ومواكب الأعراس في الشوارع حيث الغيطة الصاخبة ودقات الطبول، ورغم تجدد عادات الزواج فإن المواكب الاحتفالية والموسيقى بقيت محافظة على التقاليد القديمة. وتتمتع العاصمة بمجموعة موسيقية غنية ومسجلة بالنوطة. وأشهر أنواعها هي النوبة الغرناطية. وهي، كما سبقت الإشارة (¬1)، نغمات موسيقية متواصلة سواء كانت صوتية (فوكال) أو آلية، أو كانت صوتية وآلية معا. وتكون متماشية ومنسجمة مع نغمة واحدة ولكن بإيقاعات ورموز مختلفة. فهي من هذه الناحية، حسب رأي داروي، تشبه الموسيقى الفرنسية المسماة (السويت) الكلاسيكية. وهناك القصيدة التي هي شكوى ذات طابع ديني تقريبا. وهي شعر فصيح أو ملحون (زجل). والقصيدة مستمدة من البعد والفضاء الذي يستعمله المداح أو القوال، وهو شخص مغامر كان يتجول من مكان إلى آخر عبر البلاد. فالقصيدة إذن من إنشاداته (¬2). وبالإضافة إلى القصيدة ذات الطابع الديني، نجد الزنداني. وهو إيقاع مستمد من حادثة صغيرة أو من لقطة سريعة تعبيرا عن الأنماط الاجتماعية في الحياة الشعبية. فهو في نظر الكاتب، يمثل موسيقى ماسحي الأحذية والخدم والحمالين ونحوهم. وللإحتفالات مناسبات عامة وخاصة تكون فيها الموسيقى جولات. ففرسان القبيلة تسبقهم دائما الفرق الموسيقية بالغيظة والبندير مع إنشاد القصائد، تعبيرا عن الفرح والفخر. كما أن الضيفة الكبيرة التي تقام للشخصيات القيادية ترافقها أيضا الموسيقى أو المداح الذي ينشد القصائد، ¬

_ (¬1) انظر تعريف النوبة في رأي دانيال سالفادور، سابقا. (¬2) الواقع أن المداح لم يكن يستعمل القصيدة الدينية فقط، بل كان يستعمل بالخصوص القصيدة - القصة المستمدة من السيرة ومن بطولات الأمجاد الإسلامية. وكان يمجد الماضي ويبكي الحاضر لاستنهاض الهمم، ولذلك منعه الفرنسيون بعد أن تفطنوا لخطورته. غير أن الفرنسيين كانوا يعتبرون ذلك الاتجاه في الغناء دينيا.

ولا تغيب الغيطة عن مثل هذا الحدث أيضا حيث تنشد القصائد أو الزنداني. واستعمال الآلات يختلف من مناسبة إلى أخرى. ففي الاحتفالات العامة لا تناسب إلا الآلات الهوائية أو النافخة كالغيطة والجواق (الناي) وآلات النقر بكل أنواعها مثل الطبل والدف والطار والقلال والبندير الخ. أما الآلات الوترية فتناسب المنازل والمقاهي والجلسات الخاصة حيث يجلس الناس المهذبون، وهي تتناسب مع المجموعات الصوتية أو موسيقى الجوق. وكانت الآلات الوترية شائعة فيما يسمى بموسيقى الحضر التي كانت تعزف بالخصوص في المقهى - الجوقة. ولكن الناس المحترمين لم يكونوا يجلسون في هذه المقاهي لأن المغنيات فيها كن عادة من البغايا، وقد تحدث فيها الفضائح والضجيج والعراك. وبعد عقود من الاحتلال قيل إن السلطات الفرنسية منعت المقهى/ الجوقة الذي تحدث عنه بولسكي وغيره، ولكن بقي المقهى في ذاته حيث استمر الغناء. ويقول السيد داروي إن موسيقى المقاهي الحضرية كانت في عمومها جميلة جدا، والجمهور يستمع إليها في شوق وصمت، وكان يتمتع بها في عمق وتأمل. أما الموسيقى العائلية فقال عنها إنها في حاجة إلى تجديد كبير. ويقصد بالموسيقى العائلية تلك المتصلة بالولادة وبالختان، والزواج، وأخذ البرنوس، وحناء العروس، قبل أخذها إلى بيت زوجها. ولم يقل داروي لماذا تحتاج هذه الموسيقى بالذات إلى التجديد، وهي كما قلنا محافظة على التقاليد. ألا يخرجها هذا التجديد عن أصالتها؟. أما عن الآلات الأخرى غير الهوائية والوترية المذكورة، فقد ذكر السيد داروي آلة الكويترة التي كان العازف عليها يستعمل ريشة النسر. وهي نوع من القيثارة ذات الأوتار الثمانية. وقد عرفنا أنها كانت شائعة في تلمسان. وهناك آلات أخرى كان يستعملها العازفون أيضا، وهي الكمنجة والرباب ذو الوترين. وإذا خرجنا من العاصمة فإننا نجد تلمسان التي تعد مركزا هاما للموسيقى العربية المسماة بالأندلسية. ولكن السيد داروي يذهب إلى أن

الشائع فيها هو موسيقى (الصنعة) التي يذهب آخرون إلى أنها من أنماط موسيقى العاصمة (¬1). ومهما كان الأمر فإن الأغاني المسماة بالصنعة ذات اتصال وثيق بموسيقى غرناطة وقرطبة، وهي ذات تأثير كبير. إن تلمسان التي كانت عاصمة ثقافية عربية منذ قرون قد حافظت على الفن الأندلسي ولها استعداد خاص لتذوقه وإنتاجه. وقد ازدهر فيها الشعر والغناء أيضا. وكانت مؤهلة ربما أكثر من غيرها لتمثيل هذا اللون من الموسيقى العربية. وفي المناطق الجبلية مثل زواوة لون آخر من الموسيقى يتناسب مع عزلتها وجفاء الحياة فيها وبساطتها، شأن سكان الجبال والمناطق المعزولة في كل مكان. والموسيقى في هذه المناطق كانت غير مصقولة وأهلها يجهلون الآلة الوترية التي لا يستعملها إلا أهل المدن. ويستعمل الزواويون الغيطة والبندير والجواق الخشن. وذكر السيد داروي أن النساء هناك قد احتفظن بالموسيقى والأنغام وهن يعملن في الحقول. وكذلك الراعي وهو مستند على جذع شجرة وأمامه شويهاته، وهو يمسك بالجواق ليعبر به عن حبه وخيالاته وأحزانه. كل ذلك كان من صنع يده فهو الذي أحضر القصب وبرى الجواق وصقله ليكون صالحا للتنغيم. ولم يتوسع داروي في بقية المدن والمناطق ليصف ما بينها من اتفاق واختلاف في الموسيقى (¬2). كما ألف الفنان ريمون ليريس مجموعة خاصة بالموسيقى العربية التقليدية وأغانيها في قسنطينة، ودرس التأثيرات التي طرأت عليها، واهتم بدراسة موسيقى الأوراس ميدانيا، ونجد الاهتمام بالموسيقى العربية أيضا عند فرنسيين آخرين أمثال ديرمنغام وسان سانس. SAENS (¬3) ¬

_ (¬1) يرى السيد محمود قطاط أن الموسيقى الشائعة في تلمسان هي الغرناطية. انظر لاحقا. (¬2) لوسيان جان داروي L.J. DARROUY (الموسيقى الإسلامية في شمال افرفية) في (مجلة الجمعية الجغرافية) l 931 SGAAN، ص 34 - 50. (¬3) قوانار، (الجزائر)، ص 280 - 281. لم نطلع حتى الآن عن دراسة ديمنغام ولا =

د - رأي قطاط: أما الذي تناول الموسيقى بتوسع وعمق فهو السيد محمود قطاط. ورغم أن دراسته تعتبر متأخرة عن الفترة التي نعالجها فإن وصف تطور الموسيقى واستعمالاتها وألوانها لم يتغير كثيرا. وكان السيد قطاط قد درس الموسيقى الجزائرية في عدة مناسبات وأجرى حولها بحوثا ميدانية والتقى بشخصياتها الباقية سنة 1973، ثم سنة 1978، وقد نشر بحثا عنها سنة 1984، وهو الذي رجعنا إليه في المعلومات التالية (¬1). ونحن نعتبره من البحوث الجامعة والعميقة التي ربما لم يسبق بها. وقد استفاد قطاط من تجارب من سبقه، ومن الأحاديث التي أجراها مع الرعيل الباقي من الموسيقيين الذين تغلب عليهم الذاكرة والممارسة أكثر من التسجيل والكتابة. ومنذ البداية عرف السيد قطاط الموسيقى الجزائرية بأنها من أسرة الموسيقى الواحدة في المغرب العربي، وأن هذه الموسيقى معتمدة على المقامات أو الطبوع ذات التوصيل الشفوي والتي تتبع النظام السباعي أو الخماسي أو المزج بينها. ونخرج من دراسته بأن هناك عدة أنواع من الموسيقى وليس نوعا واحدا، وهي الكلاسيكية (الأندلسية)، والشعبية والبربرية. وقد فصل في بعض الأنواع وأوجز في بعضها، وجاء بنماذج من النوبات الأندلسية ومراكز الموسيقى الشعبية، ولكنه اختصر الحديث عن الموسيقى البربرية والبدوية. 1 - بالنسبة للموسيقى الأندلسية التي يسميها الكلاسيكية، فهي موسيقى حضرية تمثل ما توصل إليه المجتمع المدني - العمراني، حسب لغة ابن خلدون، من رقي في الذوق الفني الموسيقى. وبذلك فهي غير مختصة بالجزائر أو تونس أو المغرب أو ليبيا، بل هي تراث حضاري مشترك يتميز ¬

_ = سان سانس، وكان الأول من رجال الدين الفرنسيين، واهتم بدراسة الإسلام الحديث. (¬1) محمود قطاط (التراث الموسيقي الجزائري) في مجلة (الحياة الثقافية)، تونس، عدد 32، 1984، ص 141 - 167.

برصيد النوبات. وقد عزف قطاط النوبة بأنها حصة أو تأليف موسيقى متكامل يأتي من مجموعة من القوالب الصوتية والآلية التي تعتمد في اللحن على وحدة الطبع أو المقام. فنوبة الماية مثلا تعني النوبة الملحنة في طبع الماية. ولكي تتم النوبة فإنها ترتبط بإيقاعات وحركات تتعاقب حسب قواعد محكمة (¬1). وهذا الرصيد الموسيقي تختلف تسميته من بلد إلى آخر، بل ومن مدينة إلى أخرى. ويرى السيد قطاط أن تسميته بالأندلسي تسمية خاطئة. لأن أهل قسنطينة وتونس وليبيا يسمونه المألوف، وفي الجزائر العاصمة وما جاورها يسمونه الصنعة، وفي منطقة تلمسان يسمونه الغرناطي. أما في المغرب الأقصى فيسمونه الآلة أو الطرب. وأصل كل ذلك هو الموسيقى الحضرية القديمة - الكلاسيكية -. وقد انتشرت عبارة (الأندلسي) في العهد الاستعماري فقط، وربما بدأت مع تسجيلات إدمون يافيل سنة 1901 (¬2). ثم شاعت العبارة (الأندلسية) في الجزائر وفي المغرب العربي عموما. وقد لخص السيد قطاط الجولة التاريخية للفن الموسيقي العربي منذ تأسيس تلمسان سنة 59 هـ وازدهارها على يد أبي حمو الثاني وصلتها بالغرب الأقصى وتطور الحياة الحضارية في تيهرت والقلعة وبجاية وقسنطينة والصلة الفنية بتونس. ثم تمركز الإنتاج الفني والفنانين في الجزائر العاصمة منذ القرن 16. وقد أصبح تراث العاصمة من الموسيقى إذن مزيجا من تجارب المدن الأخرى. ولكن مع ذلك احتفظت تلمسان بأصالتها كما احتفظت قسنطينة بطابعها الذي أضيف إليه التأثير البدوي في المالوف (النوبات) (¬3). 2 - الموسيقى الشعبية: وقد قسمها السيد قطاط إلى ثلاثة أقسام، حسب المنتجين لها ودرجة التطور في المدن والأرياف والبوادي. وقد اختار أن يجعل الموسيقى البربرية قسما ثانيا، وهي في نظرنا داخلة في القسمين ¬

_ (¬1) انظر تعريف سالفادور وداروي للنوبة، سابقا. (¬2) رأينا أن السيد رواني أيضا قد نبه إلى أن استعمال كلمة (الأندلسية) للموسيقى العربية القديمة هو استعمال متأخر. (¬3) سنتحدث عن النوبات، كما توصل إليها قطاط، بعد قليل.

الموسيقى الشعبية الحضرية: وهذه تولدت من تمازج الموسيقى العربية القديمة والموسيقى الشعبية وهي بربرية وبدوية عربية. وقد تركزت الموسيقى الحضرية في المدن الرئيسية: العاصمة وقسظينة وتلمسان. فأما في العاصمة فمنها نوع العربي/ العروبي. وهو غالبا أداء يقوم به الرجال، ويتألف من بيت شعر له غصنان أو ثلاثة أغصان وينتهي بإنشاد منفرد وإيقاع حر. ثم نوع القادرية، وهي صنعة غناء تؤديه النساء المسمعات أو المحترفات للغناء (المسامع). ثم قادرية زنداني، وهو نوع من الغناء الأكثر إغراقا في الشعبية، وتتألف أغانيه من كلمات بسيطة ومؤثرة. وهناك نوع رابع من الغناء وهو الشعبي المولد حديثا وهو مزج من الآلات القديمة والحديثة المستعملة في أمريكا اللاتينية. وكلماته حرة وساذجة ولحنه سهل. وهذا النوع من الشعبي متأثر بتداخل التأثير الأجنبي مع القوالب المحلية. وقد حدث ذلك رغم تحذير رواني سنة 1905 وداروي سنة 1931 من أن الموسيقى العربية سيعتريها المسخ والتغير إذا لم يتداركها أهلها. وفي قسنطينة بقي الزنداني، وهو نوع من المألوف المتأثر بالحياة الشعبية، كما قلنا، وتأثيرات أخرى مختلفة يعرفها أصحاب هذا الفن. وألحان الزنداني مرقصة، وكانت تستعمل في الحفلات النسائية. وهناك نوع آخر من الموسيقى الشعبية يسمى المهزوز، وهو يستعمل مع الزنداني أيضا في كامل منطقة قسنطينة، كما يستعمل فيها العروبي أيضا. والمهزوز يعتبر شديد الإيقاع لأنه عاطفي، وأساسه هو الموسيقى العربية القديمة (الكلاسيكية) ولكنه تأثر بالأنواع الشعبية. أما في تلمسان فهناك الغناء المعروف بالحوزي، وهو مثل العربي/ العروبي الشائع في العاصمة. ويعتبر فرعا عن الأندلسية/ الكلاسيكية أيضا مع التبسيط في اللغة. وكان يستعمل القصيدة الغنائية الملحونة ذات القافية

الواحدة، وموضوعاته غرامية وغيرها. وقد ذكرنا أن (القصيدة) كانت من إنشاء المداحين المتجولين في الماضي ولها، كما يقول قطاط، أغصان تفصل بينها لوازم تنشدها المجموعة الصوتية. وهناك (الأغنية) التي تتناول موضوعات هجائية أو فكاهية باللهجة العامية. بالإضافة إلى (البواقل) التي كانت ترتجلها الفتيات في الماضي، وهي أكثر حيوية من غناء الحوزي. 3 - الموسيقى البربرية: وقد درس منها السيد قطاط موسيقى وغناء زواوة (القبائل). ولاحظ عليها، كما لاحظ داروي، سمة الحزن والكآبة، ومع ذلك فلها مناسبات تكون فيها موسيقى مفرحة، كالأغاني الجماعية. وفي زواوة كل أنواع الأغاني المعبرة عن الحياة الاجتماعية والدينية، والفرح والحزن، والعمل، وكانت مرفوقة بالرقص الفردي أو الجماعي، والنسوي أو الرجالي. مثلا (اصبغرر) كان نوعا من الغناء يؤدى في الأعراس، و (امتداح) كان من الغناء الملحمي ينشده الشاعر بالبندير ويقدمه في شكل مواعظ، ثم (آشويق) الذي يشبه الآي آي البدوي والاستخبار العربي القديم (الكلاسيكي) والفلامنكو الإسباني. فهو غناء العزلة والتأمل والحزن. ومن ذلك (أحيحة) ويمثل أغاني العمل والنشاط في الحقول وطحن الحبوب، وتنشده النساء بالنقر على بعض الآلات مع الزغاريد والتصفيق، وهو من الموسيقى المرحة، وعد السيد قطاط أيضا نوعين آخرين هما (زاورار) وهو إنشاد يؤدى في الهواء الطلق عند جني الزيتون، و (آرني) الخاص بالألحان الراقصة وينشده شعراء قصائد الفرح والحزن. ولم يذكر السيد قطاط ما إذا كان هذا الغناء الزواوي يتميز عن أغاني البربر في المناطق الأخرى، أو هو مشترك بينها. ونكاد نفهم أنه يقصد أنه خاص بزواوة لأنه ذكر بمد ذلك استطرادا لا تفصيلا، غناء الأوراس وميزاب ووهران وبعض المناطق الصحراوية، وضرب على ذلك مثلا بغناء (الإهليل) و (تقربت)، و (أقال). ذلك أن عبارة (الموسيقى البربرية) أوسع من الموسيقى الزواوية.

4 - الموسيقى البدوية: ولم يفصل السيد قطاط القول في هذا النوع من الموسيقى رغم أهميته، ولم يذكر منه سوى نوع الآي آي، والقوال؛ كما أنه لم يتوسع في الحديث عن نوعين آخرين من الموسيقى، وهما: 5 - الموسيقى الدينية، 6 - الموسيقى العصرية. ويبدو أن السيد قطاط اكتفى بدراسة الموسيقى الأندلسية/ الكلاسيكية وهي التي سماها الدارسون الفرنسيون الموسيقى العربية أو الموسيقى الإسلامية. ولا ندري لماذا رفض السيد قطاط تسمية هذه الموسيقى بالأندلسية وفضل عليها تعبير الموسيقى الكلاسيكية، بينما هذه كلمة أجنبية ولها مدلولها الخاص عند أهلها. والأجانب أنفسهم استعملوا الموسيقى العربية/ الإسلامية، وهو استعمال حضاري صحيح، وكذلك الأندلسية، رغم حدودها الجغرافية الضيقة، ولعل استعمال عبارة الموسيقى العربية أو التراثية سيحل الإشكال. وسنتناول الآن دراسة قطاط لأنواع النوبة، وهي اثنتا عشرة كنا ذكرناها في موضع آخر (¬1)، وهي، حسب السيد قطاط: - الذيل، والمجنبة، والرمل، ورمل الماية، والغريب، والزيدان، والسيكة، والرصد، والمزموم، ورصد الذيل، والماية. ويضاف إليها المقطوعات المنفردة المسماة: الاستخبارات، والبشارف، والتوشية، والمصدرات. وكذلك يضاف إليها الانصرافات في أنواع الموال وغريبة الحسين، والجيركة، والعراق. وفي قسنطينة رصيد من النوبات في عدد من البراول في إيقاعات الحسين والزيدان والسيكة، ويضاف إلى هذا الرصيد عدد من النقلابات (وهو أيضا نوع من النوبات) ضمن الطبوع الآتية: الموال والعراق والزيدان والسيكة والجيركة والمزموم ورمل الماية. وقد اعتبرها قطاط من النوبات الحديثة. وللنوبة فى الجزائر أجزاء عديدة، منها: ¬

_ (¬1) انظر رأي دنيال سالفادور، سابقا.

1 - الدائرة ويعرفها السيد قطاط بأنها افتتاحية صوتية حرة الإيقاع تؤديها مجموعة لتدريب الصوت على الأداء الجيد بترديد ياللن ... لن ... كان. 2 - استخبار الصنعة في العاصمة أو المسالية في تلمسان، وكلاهما يعني افتتاحا آليا بإيقاع حر أيضا. وخلاله يتمكن العازف من التحكم في آلته والنفوذ إلى مشاعر المستمع لأخذه معه بالنوبة. 3 - التوشية وهي فاصل موسيقي آلي يتألف من مقاطع مستخرجة من أجزاء النوبة، يضبطها إيقاع البشراف أو القصيد وتبدأ بسرعة متوسطة ثم تسير بتسارع، وتنتهي ببطء شديد. 4 - المصدرات وهي مقدمة آلية قصيرة ذات إيقاع خفيف (وتسمى الكرسي)، يقوم بها صاحب صوت قوي بكل وقار وهيبة. 5 - البطاحيات، وهي المجموعة الغنائية الثانية في حركة أقل وقارا، وتأتي بعد الكرسي أو المقدمة. 6 - الأدراج، وهي المجموعة الغنائية الثالثة، وتؤدي أيضا بعد الكرسي، وحركتها أسرع قليلا مما سبقها. 7 - توشية الإنصراف وهي فاصل موسيقى آلي يأتي في وسط النوبة. 8 - الإنصرافات وهي المجموعة الغنائية الرابعة أو هي الأولى بالنسبة للقسم الثاني من النوبة، وتأتي بعد الكرسي، كما تقدم، وحركتها خفيفة وسريعة، وتضبط على إيقاع التوشية. 9 - المخلص، وهو آخر قطعة في مجموعة الإنصرافات وهو يؤدى دون الكرسي، وإيقاعه ثلاثي، وتكون حركته شديدة السرعة ثم تتباطأ بالتدرج. 10 - توشية الكمال وهي قطعة آلية تختم بها النوبة. ويقول السيد قطاط إن هذه التوشية لم تبق إلا في تلمسان، وتسمى هناك بنوبة الحسين. وأجزاء نوبة النقلابات (ج. نقلاب) تتألف، حسب السيد قطاط، من:

الشنبر أو البشراف وهو استفتاح آلي، والاستخبار أو المستخبر وهو استفتاح صوتي. والكرسي أو الميزان وهو مقدمة آلية قصيرة. ثم النقلابات وهي أغنية واحدة أو مجموعة من الأغاني. ومن خصائص النوبة في الجزائر استعمال الشعر الفصيح الموشح والشعر الملحون أو الزجل. ولكل شعر مطالع وأغصان ولوازم، الخ. كما تتميز النوبة بالغناء المنفرد، وتغيير سرعة الحركة الإيقاعية إذ تتسارع بالتدرج، والاستهلال بمقدمة آلية أو كرسي قبل كل مجموعة غنائية. وكانت الجوقة (الفرقة) قديما، تتألف من سبعة أشخاص يتوزعون الآلات من اليمين إلى اليسار، على أن شيخ الجوقة هو الذي يقوم بالإنشاد ويعزف على الرباب. والآلات التي ذكرها السيد قطاط أشرنا إليها في مناسبات أخرى، ولكننا نذكر هنا بعضها أيضا لوجود أسماء أجنبية تقابلها، سيما بعد أن لاحظنا تطور الموسيقى ودخول التأثير الأجنبي عليها. فهذه الآلات هي: العود العربي الشائع في قسنطينة، والكويترة المستعملة في العاصمة وتلمسان، والكمنجة الكبيرة أو (آلتو)، والقانون، والفحل (الجواق) عند البعض، ثم السنيترة (المندلين)، والماندول، والبانجو، والبيانو. ولاحظ السيد قطاط أن بعض الآلات الكهربائية قد دخلت في الاستعمال أيضا. وفي رأيه أن هذا سيحدث ضررا. بالموسيقى العربية (¬1). فكان خوفه على الموسيقى كخوف رواني وغيره من عواقب التأثير الأجنبي على الموسيقى التقليدية: الأندلسية أو التراثية. ... يمكننا القول إن الموسيقى العربية الجزائرية قد عانت من الإهمال والاحتقار والتعالي، كغيرها من الفنون وعناصر التراث الأخرى طيلة سبعين ¬

_ (¬1) اعتمدنا، كما ذكرنا، في المصطلحات الموسيقية والتصنيفات على بحث السيد محمود قطاط، مرجع سابق. وكذلك على بحث السيد نجيب ماضي (الموسيقى العربية) في مجلة (المقتطف)، فبراير 1895، ص 115 - 122.

سنة تقريبا (¬1). وفي أوائل هذا القرن وقع الإلتفات إلى الجزائر الفولكلورية بتشجيع من شارل جونار الذي حكم الجزائر أكثر من عشر سنوات. وساهم إدمون يافيل بتسجيل هذه الموسيقى وإنشاء فرقة (جوق) لإنشادها والمحافظة عليها. وساعده على ذلك مجموعة من الفنانين الجزائريين المهمشين وعلى رأسهم محمد بن علي سفنجة. وبعد الحرب الأولى انطلقت التجارب والأنشطة على يد جيل جديد كان يساير حركة النهضة السياسية والثقافية. فكان رشيد القسنطيني الذي استعمل الغناء والمونولوج الساخر للطعن في البدع والخرافات والدعوة إلى اليقظة. واستعمل علالو أيضا المسرحية كوسيلة للتعبير والتوعية الشعبية. وتولى محيي الدين باشں تارزي جمعية (المطربية) التي كان أسسها يافيل، ووظفها باشں تارزي في خدمة الغناء والموسيقى والتمثيل، وهو الذي طال عهده ومهر في فن المسرح، وأصبح كما يقول قوانار، مؤلفا ومغنيا وممثلا وموسيقيا ومنشطا. فكان باش تارزي بحق موهبة فريدة من نوعها. وقد طوع اللغة الدارجة للتعبير المسرحي. وتعاصر فترة مع رشيد القسنطيني الذي كان يقتبس من موليير وغيره، وقد ألف (أي رشيد) حوالي خمس عشرة ملهاة أو كوميديا، ومائة أغنية بالعربية الدارجة. وقد جلب الكثير من الجمهور الإسلامي. وتعتبر كوميديا (ابن عمي الاسطانبولي) من أشهر أعماله. وكان الموسيقار محمد ايقربوشن هو الضارب على البيانو، وقد أصبح من الموسيقيين العالميين (¬2). إننا لا نستطيع أن نفصل فنون المسرح والغناء والموسيقى والرقص عن بعضها دون أن نضر بها أو نتعسف معها. فهي فنون متصلة أشد الاتصال، ¬

_ (¬1) باستثناء دراسة دانيال سالفادور. وقد أشار هو نفسه إلى أن آخرين درسوا الموسيقى ولم يفهموها، وعرفنا أن بقايا الفنانين كانوا متوفرين إلى حوالي 1860، ثم احتل اليهود، فيما يبدو، مكان الصدارة فظهر يوسف عيني ثم يافيل. وكاد أثر محمد بن علي سفنجة يختفي لولا الإشارات إليه في دراسة رواني، وربما إشارات غيره أيضا. (¬2) انظر عنه فصل الفنون.

ونشأت عندنا على ذلك الاتصال، وإن جوقة المقهى في المدن هي التي تحولت إلى فرق عصرية وإلى أوركسترا وأوبريت. والجيل الذي ظهر بين الحربين هو الذي فرض المسرح، رغم الصعوبات، وحافظ على الموسيقى والغناء والفولكلور باعتبارها فنونا تتصل بالهوية الوطنية. فالأشعار الدينية والمناسبات الاجتماعية المشتركة، واللغة العربية الدارجة القريبة من الفصحى، والأمثال والحكم، كل ذلك كان وأصبح هو التراث المشترك بين كل الجزائريين. وعندما كانت جمعية العلماء تعمل على إحياء التراث وبعث التاريخ وتعليم اللغة العربية الفصحى وتصفية الإسلام من الشوائب، وفي الوقت الذي كان فيه حزب الشعب يعمل على افتكاك الهوية الوطنية سياسيا من مخلب الاستعمار واستعادة الحرية المغتصبة، في هذا الوقت كان الموسيقيون والممثلون والمغنون يعملون، من جهتهم، على تحقيق نفس الهدف ولكن بوسائلهم الخاصة. وقد عاصرهم عدد من الفنانين الموهوبين سنعرض لهم في فصل الفنون.

الفصل الرابع الجزائر في المغارب والمشارق

الفصل الرابع الجزائر في المغارب والمشارق

يذهب بعض علماء الفرنسيين إلى أن الجزائر كانت شرقية فحاولت فرنسا فصلها عن الشرق وإلحاقها بالغرب، وأن كل تاريخ الجزائر خلال العهد الاستعماري هو صراع بين الجاذبيتين: جاذبية الشرق الأصيلة وجاذبية الغرب الدخيلة. وكانت وسيلة تغريب الجزائر (فرنستها) هي الاندماج بكل نواحيه: الثقافية والإدارية والاجتماعية والذهنية. كتب عن ذلك عدد منهم وهم: إيميل غوتييه وأوغسطين بيرنار وأوغسطين بيرك. ومن هؤلاء من اعترف بفشل الاندماج ومن ظل يحاوله ويدعو إليه، خوفا من (ضياع الجزائر الفرنسية). وكون الجزائر جزءا من كل هو الحضارة الإسلامية - العربية منذ القرن السابع الميلادي، لا يعني أبدا أنها لا تملك ذاتية خاصة تولدت عبر مراحل تاريخية طويلة، واصطبغت بصبغة ثقافية محلية متأثرة بالأرض والإنسان والعوامل المناخية والحضارات العتيقة. ولقد كون المغرب العربي عدة ممالك متحدة تارة ومنفصلة تارة أخرى، فترك ذلك أيضا بصماته على المنطقة كلها. وكان العهد العثماني أطول العهود التي برزت فيها الجزائر بذاتيتها الجغرافية والسياسية، وهي الذاتية التي حاول الفرنسيون تفتيتها بشتى الوسائل بدعوى أنه كان في الجزائر (شعوب) أو ذاتيات عديدة وأن هذه الشعوب كانت (محتلة) من قبل العثمانيين. ونحن نعتبر أن فشل الفرنسيين في تحقيق الاندماج دليل على قوة الذاتية أو الهوية الجزائرية التي تكونت مع الزمن وعلى قوة الحضارة الإسلامية - العربية التي تجذرت عبر القرون. ولقد أغلق الفرنسيون حدود الجزائر نحو الشرق منذ الاحتلال. فحولوا التجارة إلى فرنسا ومنعوا الحج إلا بصفة استثنائية وانتقائية، ومنعوا الزوار من الشرق وتبادل العلماء والكتب والدراسة. وراقبوا الطرق الصوفية التي لها

الهجرة نحو المغارب والمشارق

مراسلات وعلاقات مع الطرق الصوفية في المشرق والمغرب كالقادرية والسنوسية والطيبية، وحاربوا ما أسموه دعاية الجامعة الإسلامية، ووقفوا في وجه المهاجرين إلى المشرق، سيما في فترات معينة متل 1875، 1895، 1911. وبنوا مدارس إسلامية على طريقتهم لإخراج القضاة والمعلمين حتى لا يضطر الجزائريون إلى الخروج إلى الأزهر والزيتونة أو يضطر الفرنسيون إلى توظيف مسلمين (أجانب) عن مدرستهم. ولكن الحدود التي أقامها الفرنسيون أو أغلقوها لم تمنع، مع ذلك، من هجرة الجزائريين إلى المغرب والمشرق، ولا من تعلمهم في بعض الجامعات الإسلامية والعربية، ولا من تأثرهم بالأفكار التي كانت تروج داعية المسلمين عامة إلى النهضة والتخلص من الاستعمار. وفي هذا الفصل سنعرض باختصار لحركة الهجرة الجزائرية نحو بلدان المغرب العربي والمشرق العربي والإسلامي. وسنتعرف على أدوار المهاجرين في الحركة الفكرية في البلدان التي نزلوها دون أن نتوسع في الحياة السياسية والاقتصادية لأن هذا خارج عن نطاق الكتاب. وسنتعرض أيضا إلى الزيارات والمراسلات المتبادلة وإلى تأثير الأفكار الشرقية (الإسلامية والعربية) في الجزائر، ودراسة الطلبة الجزائريين بالمشرق في مختلف المراحل، وكذلك نظرة علماء المشرق إلى العلماء الجزائريين. الهجرة نحو المغارب والمشارق غداة الاحتلال خرجت أعداد كبيرة من الجزائريين متجهة نحو البلدان المجاورة مثل تونس والمغرب (¬1). وكانت الهجرة في البداية من مدينة الجزائر ثم تلتها المدن الأخرى. وكانت الهجرة تشمل عادة أعيان البلاد وأغنياءها وعلماءها. وفي المراحل التالية للاستعمار شملت الهجرة القرى الريفية أيضا والمناطق النائية، كما شملت غير الأعيان. وكل هذه الأنماط من الهجرة كانت اضطرارية، فبعضهم هاجروا هروبا من حكم (النصارى) ¬

_ (¬1) انظر فقرة الهجرة وحكمها في فصل مذاهب وتيارات.

الفرنسيين. وبعضهم فعل ذلك طلبا للعيش في كنف الإسلام والحرية الدينية. وجل المهاجرين بعد 1850 فعلوا ذلك لأنهم فقدوا أراضيهم التي استولى عليها الكولون بمساندة الإدارة الاستعمارية. كما هاجر آخرون بعد فشل الانتفاضات وتعرضهم للعقوبات الصارمة ووضعهم تحت طائلة (قانون الأهالي) البغيض. فالقول بأن الهجرة نحو المشرق كانت لأسباب (سيكولوجية) فيه ابتعاد عن الحقيقة أو بالأحرى لا يذكر كل الحقيقة (¬1). لأن الابتعاد بالدين أو الهروب من العيش تحت حكم الفرنسيين لم يكن هو السبب الوحيد في الهجرة، كما يهم من عبارة (سيكولوجية)، بل هناك أسباب اقتصادية وسياسية وراء ذلك. بقى أن نذكر أن بعض أعيان الجزائريين قد أجبرتهم السلطات الفرنسية نفسها على الهجرة مثل المفتي ابن العنابي والمفتي ابن الكبابطي (¬2) وقدور بن رويلة. وكان بعضهم قد تعرضوا للنفي فتحولوا إلى المشرق مثل عبد العزيز الحداد ومحمد وعلي السحنوني. بالإضافة إلى الأسباب الدينية (مصادرة الأوقاف وهدم المساجد والزوايا وتدجين رجال الدين الباقين) والأسباب الاجتماعية والاقتصادية (اغتصاب الأراضي وتدهور الصناعات المحلية، وقانون الأهالي، وتغيير الحالة المدنية والعقوبات بعد الثورات)، هناك عوامل أخرى شجعت على حركة الهجرة نحو المشرق العربي والإسلامي وكذلك نحو تونس والمغرب. من ذلك أن بعض الحضر (أهل المدن) كانوا من أصول مشرقية فلما سقط الحكم العثماني فضلوا الرجوع إلى بلدان أجدادهم طلبا للأمان. ومن ذلك أن الجزائريين الذين سبقوا بالهجرة أخذوا يحثون إخوانهم، سيما من الأعيان، على اللحاق بهم في الشام أو في اسطانول أو في الحجاز، وكانوا يزينون لهم الإقامة هناك ويذكرونهم بمساوئ الحكم الاستعماري. ومن جهة ¬

_ (¬1) ج. ج. راجي Rager (المسلمون الجزائريون ...) في (مجلة البحر الأبيض) عدد 2، م 8، 1950، ص 169. (¬2) عن هذين العالمين انظر دراستنا عنهما: (رائد التجديد الإسلامي) ط. 2، بيروت 1989، وكذلك أبحاث وآراء، ج 2.

أخرى فإن للشرق سحره وجاذبيته في أذهان الجزائريين. فكل دارس لتاريخ الإسلام والحضارة العربية يتذكر الرنين الذي يحدثه في قلبه اسم مكة والمدينة، واسم بغداد ودمشق، والقاهرة والأزهر، وأسطانبول والقدس. كما كان لدعوة الجامعة الإسلامية التي ظهرت على يد جمال الدين الأفغاني ثم تبانها السلطان عبد الحميد الثاني، تأثيرها الخاص على الجزائريين. وكانت بعض الطرق الصوفية، كالسنوسية، قد جعلت من سياستها دعوة الجزائريين إلى الهجرة إلى أرض الإسلام (¬1). أما تونس والمغرب وليبيا فقد كانت بوابات الأمان بالنسبة للجزائريين المضطهدين، من عهد الأمير عبد القادر إلى عهد ابن باديس. ولكن احتلال الفرنسيين لتونس فالمغرب ثم سورية قد غير من أوضاع الجزائريين في هذه البلدان أيضا (¬2). تذكر المصادر الفرنسية تواريخ مختلفة للهجرة نحو المشرق. فهذا أوغسطين بيرك يذكر السنوات التالية كمعالم بارزة في تاريخ الهجرة، وهي: 1830، 1832، 1854، 1860، 1870، 1875، 1888، 1898، 1910، 1911. وهناك تواريخ أخرى ألح عليها كل من آجرون وباردان، وهي: 1837، 1849، 1864. ويذكر باردان أن حركة الهجرة تكثفت بين 1847 - 1854، ثم سنة 1896، ونعرف أن سنة 1911 قد شهدت هجرة غير عادية نتيجة فرض التجنيد الإجباري. ومن ذلك نتبين أن الهجرة لم تنقطع بين 1830 - 1914 نحو المشرق، وكذلك تونس والمغرب، ولكن الفرق في الكثافة وفي موقف السلطات الفرنسية من التغاضي عنها أو منعها. والمناطق التي شهدت حركة الهجرة تختلف أنباء. في المرحلة الأولى ¬

_ (¬1) بيير باردان (الجزائريون والتونسيون في الدولة العثمانة)، فرنسا (؟) 1979 أفكار عامة. انظر كذلك فصل الطرق الصوفية من كتابنا هذا. (¬2) تذكر السيدة ديفرو بامبر PEMBER في (مظاهر الجزائر) لندن 1912، ص 143 أن من أسباب الهجرة المراباة اليهودية وحرص الكولون على شراء الأرض التي يضطر أهلها إلى بيعها، ويجب أن نضيف ذلك إلى حرص السلطات نفسها أيضا .. انظر لاحقا.

كانت الهجرة من المدينة، كما ذكرنا، ابتداء من العاصمة، ثم تلاحقت المدن الأخرى: البليدة، المدية، قسنطينة، وهران، بجاية، تلمسان، الخ. وفي سنة 1847 هاجر الشيخ المهدي السكلاوي من مدينة دلس إلى المشرق مع عدد من أعيان زواوة، ووجه من هناك نداءه إلى أعيان هذه المنطقة طالبا منهم الهجرة فاستجاب له عدد منهم، وكان الشيخ السكلاوي هو زعيم الطريقة الرحمانية ذات النفوذ الواسع (¬1). ثم شهدت زواوة حركات هجرة متوالية، سيما 1849، 1857، 1871، ثم في نهاية القرن. وقد هاجرت من هناك جماعات مع خليفة الأمير، أحمد الطيب بن سالم، والحاج عمر زعيم زاوية سيدي محمد بن عبد الرحمن بآيت إسماعيل. وتوالت الهجرة إلى المغرب تتم المشرق من الجهات الغربية أشاء المقاومة، عائلات بأكملها وأعيان العلماء والقضاة هاجروا من معسكر وتلمسان ووهران ومازونة ومستغانم وتنس إلى المغرب الأقصى. وقد استقرت منهم عائلات هناك أمثال المشرفي، وسقط، والأعرج، وابن سعد، والمجاوي، وبوطالب. وسكن بعضهم وجدة وفاس وطنجة. وبعد هزيمة الأمير عبدالقادر تكاثر المهاجرون إلى المغرب ثم المشرق، والتحق العديد منهم بالشام، والقليل فقط اتجهوا نحو اسطانبول والحجاز. وعندما حل الأمير بالمشرق إثر إطلاق سراحه سنة 1852، ازدادت حركة الهجرة أيضا من النواحي الغربية. ولم يكن الأمير وحده وإما كان معه رفقاؤه وأصهاره، فكانت المراسلات والاتصالات تشجع على الهجرة من الجزائر. وشهدت النواحي الشرقية أيضا، تفاوتا في حركة الهجرة. وكان أبرزها هجرة أعيان عنابة وبجاية على إثر الاحتلال 1832، ثم من قسنطينة بعد 1837. واتجهت الهجرة نحو تونس، ومنها إلى المشرق. ولكن بعض المهاجرين قد استقروا في تونس. أما الهجرة الكبيرة من نواحي سطيف وقسنطينة فكانت عقب ثورة 1871. وقصد بعض أهل الجنوب ليبيا وجنوب ¬

_ (¬1) انظر لاحقا.

تونس في اتجاه المشرق. وكانت أكبر هجرة شهدتها النواحي الشرقية (سطيف، أم البواقي، العين البيضاء، قسنطينة، الخ) هي التي وقعت في آخر القرن الماضي. ثم سنة 1910. أما نواحي بسكرة وسوف فشهدت موجة من الهجرة سنة 1895 نحو المشرق، (ومنها عائلة الشيخ العقبي) ثم خلال الثلاثينات من هذا القرن. كان بعض المهاجرين يحملون جواز سفر من السلطات الفرنسية على أساس الذهاب إلى الحج في أغلب الأحيان. ولكن عدم منح الجواز لا يمنع المهاجرين من الخروج بطرق أخرى. غير أن السلطات الفرنسية كانت تدخل وتمنع الحج والهجرة معا. أما منع الحج (وهو ذرية للهجرة) فقد تحدثنا عنه في غير هذا (¬1). وأما منع الهجرة فقد ثبت تدخل الحكام الفرنسيين فيها عدة مرات. مثلا تدخل الحاكم العام شانزي سنة 1875 ومنع الهجرة. وكان القناصل الفرنسيون أنفسهم في الشام وغيره يطالبون بمنع الهجرة لأنها تضر بسمعة فرنسا في المشرق. وفي 1895 تدخل الحاكم العام جول كامبون ومنع الهجرة أيضا. وكان قد استصدر فتوى من علماء المشرق لا تشجع على الهجرة من الجزائر باسم الخوف على الدين (¬2). وبعد الهجرة الجماعية سنتي 1910، 1911 منع الحاكم العام شارل جونار الهجرة أيضا، وأغلق الحدود الجزائرية (¬3). لا تذكر المصادر الفرنسية تفاصيل بالأرقام عن عدد المهاجرين من كل مدينة أو ناحية في الجزائر، سيما قبل 1870. وما تذكره هذه المصادر هو عادة أرقام يسجلها القناصل عن الواصلين الذين سجلوا أنفسهم. وهي أرقام غير دقيقة، لأنها أحيانا. غير صحيحة أصلا. تقول بعض الوثائق إنه قد وصل ¬

_ (¬1) انظر فصل السلك الديني والقضائي. (¬2) انظر ذلك في فصل مذاهب وتيارات - الهجرة. انظر أيضا ديبون وكوبولاني (الطرق الدينية الإسلامية)، الجزائر 1897، ص 37. (¬3) منذ 1906 بدأت الهجرة نحو فرنسا، وهي هجرة العمال، وضاعفت مع الحرب العالمية (1914 - 1918). وليست هذه الهجرة من شأننا الآن.

رقم كذا من المهاجرين وأغلبهم من ناحية كذا. ثم أن بعض المهاجرين قدموا من الجزائر وآخرين أقاموا في المغرب أو تونس فترة ثم بدا لهم أن يتوجهوا إلى المشرق، ولا سيما بعد احتلال تونس. كما أن الأرقام القنصلية غير دقيقة من ناحية أخرى، لأنها تذكر من لهم جوازات سفر رسمية فقط. كما أن تقارير القناصل الفرنسية متضاربة حول جاذبية الهجرة. فهي تارة تذكر دعاية أبناء الأمير عبدالقادر الذين تعثمنوا (أخذوا الجنسية العثمانية)، وتارة تذكر تأثير الجامعة الإسلامية. ومن جهة أخرى شكر أن الأراضي التي تمنح للمهاجرين كانت غير صالحة وأن بعضهم كانوا يرغبون في الرجوع، بينما تقول في تقارير أخرى إن المهاجرين كانوا يكتبون لإخوانهم ثم يحثونهم على الهجرة ويصفون لهم الحياة السعيدة التي هم فيها. ومن ذلك ذكرها للحاج الطاهر بن أحمد بن عبد الله، وهو من الأعيان، فقد كان يرسل الرسائل إلى معارفه في أم البواقي ويشجعهم على الهجرة واعدا إياهم بأنهم سيجدون عند الدولة العثمانية استقبالا، حسنا (¬1). وفي آخر القرن (1898) كانت حالة الهجرة تدل على تذمر وسخط الجزائريين، ومع ذلك حاول الفرنسيون إعطاءها طابعا آخر. وهو أنها من تأثيرات الجامعة الإسلامية والطريقة الرحمانية. فقد عبر كامبون قبل ذلك بأن تصوير الحياة في سورية على أنها رغدة هو الذين قاد المهاجرين إلى التوجه هناك، وأن العاطفة الدينية كانت تشجع على الهجرة. وروى أن إحدى المراسلات جاء فيها (تعالوا والتحقوا بنا في بلاد يحكمها سلطان الإسلام وفي بلاد مسلمة ... تعالوا واقضوا بقية حياتكم في بلاد غنية بالخيرات والصلوات والاحترام، وقد وعد الله المهاجرين مكانا أفضل في الآخرة). وأضاف كامبون أن بعض الذين هاجروا إلى سورية من زواوة رجعوا إلى دواويرهم الأصلية ليناشدوا إخوانهم في الدين الالتحاق بهم في تلك الأرض المباركة، وقال إن الطريقة الرحمانية تشارك في هذه الحملة ¬

_ (¬1) باردان (المهاجرون ...)، مرجع سابق، ص 128. وشخصية الحاج الطاهر غير معروفة لنا الآن.

الدعائية (¬1). ويبدو أن كامبون قد تناسى البؤس الذي كان يعانيه الجزائريون والاحتقار وتعسف قانون الأهالي. من الناحية الجغرافية اتجهت الهجرة من الشرق الجزائري نحو تونس، ومن غربه نحو المغرب الأقصى، ومن وسطه وجنوبه في اتجاهات مختلفة. وبعد 1847 أخذت الهجرة تتجه نحو بلاد الشام: سورية، وفلسطين، ثم بيروت. أما الحجاز واسطانبول ومصر فقد كانت الهجرة إليها أقل من سورية وفلسطين (والمغرب وتونس). ومعظم الذين هاجروا إلى مصر كانوا إما من الأوائل الذين طردتهم سلطات الاحتلال وإما من بقايا الحجاج الذين فضلوا البقاء هناك أثناء عودتهم. أما الحجاز فقد قصده الجزائريون للحج أولا، ثم قصده بعضهم بعد استقرارهم في سورية وفلسطين. وكانت اسطانبول مقصدا لبعض المهاجرين الأولين مثل حمدان خوجة وأبنائه أو من المهاجرين الذين استقروا في سورية وفلسطين مثل بعض أبناء الأمير عبدالقادر وإخوته وأحفاده. وكان بعض الحكام الفرنسيين يرخصون بالهجرة من الجزائر أحيانا لأسباب مختلفة، من ذلك الكثافة السكانية وفقر السكان بعد انتزاع أراضيهم. ويقول باردان إن الحاكم العام كان لا يمانع في هجرة بعض العائلات من زواوة، حيث القرى المعزولة وكثرة السكان. كما كان الحاكم العام يشترط على رؤساء العائلات الذين يطلبون الرخصة أن يكون لديهم المال اللازم للسفر (¬2). وفي سنة 1895 رخصت السلطات الفرنسية لحوالي مائة شخص بالهجرة من سيدي عقبة إلى مكة والمدينة. وحوالي 1912 رخصت لحوالي 21 شخصا من عين مليلة بالهجرة إلى سورية بعد دفع عربون من المال (لإعادتهم إلى الجزائر) مما جعلهم يكتبون شكوى للبرلمان الفرنسي عن ذلك. وقبيل بداية الحرب (1914) طلبت عائلات من بسكرة وقسنطينة الهجرة إلى مكة والمدينة. ويذهب الفرنسيون إلى أن الحجاز قد أصبح مركزا ¬

_ (¬1) نفس المصدر، ص 132. وعن الرحمانية انظر فصل الطرق الصوفية. (¬2) باردان (المهاجرون ...)، مرجع سابق، ص 131.

لدعاية الجامعة الإسلامية وأن اندلاع الحرب قد جعلهم يضعون حدا لحركة الهجرة نحو الشرق (¬1). وهكذا نرى أن الرخصة بالهجرة وعدمها كانت تخضع لأسباب سياسية واقتصادية تمليها على الفرنسيين الرغبة في المحافظة على مصالحهم في الجزائر وسمعتهم في الخارج. ومن ذلك ما ذكره العقيد روبان أن عائلات من أعيان زواوة كانت تستعد للهجرة سنة 1849 ولكن السلطات الفرنسية ثبطتها أو فلنقل منعتها. وكان زعماء زواوة يتلقون الرسائل التي تحثهم على الهجرة نحو سورية تارة ونحو مكة تارة أخرى، وأخذوا يستعدون لذلك. ومنهم بلقاسم أوقاسي حاكم ناحية عمراوة. فقد جاء إلى العاصمة وأخبر الفرنسيين أن أحمد الطيب بن سالم والشيخ المهدي السكلاوي كتبا إليه يحثانه هو وغيره على الهجرة إلى المشرق. وذكر أوقاسي أن عائلته أخذت تبيع أملاكها، وأنه سيهاجر مع بعض الأعيان الذين منهم سي محمد بوشارب، وابن كانون القائد السابق لناحية يسر، وسي الحاج عمر شيخ زاوية سيدي محمد بن عبد الرحمن، وبوزيد الآغا السابق لعسكر الأمير عبد القادر، وكذلك وليد الشيخ اعراب اليراثني (من بني راثن) وسي الطيب وأحمد بو سبسي كلاهما من بني واقنون. وجملتهم نحو 300 شخص كلهم طلبوا التوجه إلى مكة (¬2). ومن قصص الهجرة أن السلطات كانت ترخص بها للبعض للاستفادة من الأرض التي كان يتركها المهاجرون. وتروي هذه السلطات أن ناصر بن شهرة وعمر بن حميدوش (¬3) كانا سنة 1860 يعيشان داخل الحدود التونسية ¬

_ (¬1) باردان، (المهاجرون ...)، مرجع سابق، ص 165. بعد شكوى واحتجاج الجزائريين للبرلمان الفرنسي أصدر إجراءات تحد من حق الحاكم العام في معاقبة الحجاج غير المرخص لهم. عن هذه الظروف انظر كريستلو، مقالة مرقونة عن البعثة الفرنسية إلى الشريف حسين 1916. (¬2) روبان (مذكرة تاريخية عن القبائل الكبرى)، المجلة الأفريقية، 1904، ص 130. (¬3) ابن شهرة كان من قادة الأرباع (الأغواط)، وهو الفارس والمقاوم الشهير، وابن حميدوش كان من ناحية سباو (زواوة).

ومن هناك كانا يدعوان السكان إلى الهجرة نحو المشرق. وحين تقدم الناس جماعيا للهجرة بناحية سور الغزلان رفضت السلطات أغلب المطالب وقبلت فقط طلب قبيلة أولاد خالد التي كانت تقطن على ضفة واد البردى. وذهبت القبيلة فعلا إلى سورية جماعيا وتخلت عن 2600 هكتار من الأرض. وتقول المصادر الفرنسية إن السلطات عوضت بهذه الأرض قبيلة (عريب) التي كانت مخزنية قبل الاحتلال والتي استولت الإدارة الفرنسية على أراضيها لاستعمارها (أي أعطتها للكولون). وقد شعر الفرنسيون أن الهجرة الجماعية تدل على تذمر سياسي وعدم الثقة في المستقبل تحت إدارتهم. ولذلك رفضت المطالب المذكورة. وتتهم بعض المراجع المرابين اليهود الذين استغلوا سوء المحصول الزراعي للسكان وأخذوا يربحون منهم أموالا طائلة عن طريق القروض (¬1). سبق أن أشرنا إلى رأي لوشاتلييه في الحدود الجزائرية المغلقة سنة 1907. فهو يرى أن منع الهجرة ومنع الحج وعدم استفادة فرنسا من حوالي خمسين ألف جزائري يعيشون في العالم الإسلامي، كلها من علامات الضغط، وأنها سياسة لن تمنع الجزائريين من تنفس الهواء الخارجي كما لم يمنع الباستيل فرنسا من تحطيمه وتنفس هواء الحرية (¬2). ولكن هذه السياسة لم تعمر طويلا فقد هاجر الجزائريون مع ذلك هجرات جماعية أصابت الفرنسيين بالذعر. ونقصد بالخصوص هجرة الشرق الجزائري حوالي 1909 - 1910، وهجرة تلمسان سنة 1911. وبالنسبة للهجرة الأولى نذكر أن البلديات والنواحي المتأثرة هي أم البواقي، ومرسط، ومسكيانة وشملت طلبات الرخصة بلديات قسنطينة وباتنة وبجاية وفج مزالة وسطيف. وكانت بلدية عين تاغروت هي الأكثر كثافة في الطلبات. وكانت الصحف المشرقية ¬

_ (¬1) بورجاد (ملاحظات ... الاحتلال الفرنسي لسور الغزلان) 1845 - 1887، المجلة الإفريقية 1889، ص 291. انظر أيضا السيدة ديفرو بامبر، (مظاهر ...)، مرجع سابق، ص 143. وقد عاشت هذه السيدة ظروف هجرة 1911 الشهيرة. (¬2) لوشاتلييه (مجلة العالم الإسلامي). R.M.M، (1907)، ص 512.

مثل (المفيد) و (المقتبيس) تكتب عن وصول الأعداد الكبيرة من المهاجرين الجزائريين إلى ميناء بيروت. وقد وصفهم بعض القناصل الفرنسيين (بالمتمر دين). وكان العدد يتراوح بين العشرين والثلاثين يوميا. وقالت بعض الجرائد الدمشقية في غشت 1910 إن العدد وصل إلى 1200 في الشهور الأخيرة (¬1). أما هجرة تلمسان سنة 1911 فقد كتب عنها الكثير، ولا نريد أن نتوسع هنا فيها، ولكن نلاحظ أنها كانت هجرة سرية وجماعية. فقد اتجه المهاجرون بأعداد كبيرة إلى المغرب الأقصى ومنه ركبوا إلى سورية (¬2). وقد شملت الهجرة غير تلمسان أيضا من النواحي الغربية. كما لحقت بهم موجة جديدة من نواحي قسنطينة ومن زواوة. وفي أكتوبر 1913 وصل ثمانون شخصا إلى الاسكندرية في طريقهم إلى بيروت. وقدرت السلطات الفرنسية أن حوالي 700 عائلة غادرت الجزائر بين 1910 - 1912، أي بين 3 و 4 آلاف شخص. قلنا إن لوشاتلييه قدر عدد الجزائريين في المشرق العربي - الإسلامي بين 40 و 50 ألف نسمة، سنة 1907. ولكن الأرقام المذكورة عنهم في بلاد الشام تختلف من عهد إلى آخر. وتكاد المصادر الإحصائية تنحصر في وثائق القنصليات الفرنسية فقط. ذلك إننا لا نملك الآن إحصائيات الدولة العثمانية ولا غيرها. وتفيد الإحصاءات الفرنسية أنه كان في دمشق وحدها سنة 1883 (سنة وفاة الأمير عبد القادر) حوالي 4000 جزائري. وفي إحصاء يرجع إلى سنة 1910 قدرت القنصلية الفرنسية عدد المهاجرين بولاية دمشق بحوالي عشرة آلاف مهاجر. وقدرهم الأمير عمر (¬3) ¬

_ (¬1) باردان (المهاجرون ...) مرجع سابق، ص 164. لوحظ أن حركة الهجرة لم تشمل عنابة وسكيكدة وقالمة. (¬2) عن هجرة تلمسان انظر الحركة الوطنية ج 2، وآجرون (الجزائريون ...) 2/ 1085، و (هجرة تلمسان) وهو عمل من وضع الحكومة العامة بالجزائر سنة 1914، وفي المصدر الأخير تقارير وخطب ورسائل ومقالات الخ. (¬3) سنتحدث بعد قليل عن أعيان المهاجرين وأوضاعهم فى العالم العربي الإسلامي.

إلى الحجاز

(حوالي نفس العهد) بـ 17، 500. ولكننا نعرف أن المهاجرين لا يسجلون جميعا أنفسهم، وأن هناك مهاجرين لا تعلم عنهم القنصليات الفرنسية شيئا. ... إلى الحجاز: لم تكن الهجرة إلى مكة والمدينة نشيطة كالهجرة إلى الشام. كان الحجاز منطقة فقيرة لا يقصدها المسلمون إلا لأغراض دينية، كالحج والعمرة والمجاورة والتعلق بالحياة الروحية مع تحمل كل المعاناة المادية وحتى السياسية أحيانا، وكذلك أخطار الطريق. كان الحجاز يعيش على ما تجود به أيدي الحجاج كل عام. ونحن نعلم أن الجزائر كانت تخصص أوقافا تسمى أوقاف مكة والمدينة، وكانت أوقافا كبيرة بمداخيلها، وهي التي استولى عليها الفرنسيون فور الاحتلال، فحرموا منها فقراء الجزائر كما حرموا منها فقراء مكة والمدينة. والغريب أن الفرنسيين وضعوا مداخيل أوقاف مكة والمدينة في خزانة الدولة الفرنسية وراحوا يتصرفون فيها كما لو كانت أملاكا مصادرة من أية جهة أخرى. ومع ذلك هاجر الجزائريون إلى الحجاز بأعداد قليلة منذ الاحتلال، سواء أخذوا إليه الطريق المباشر من الجزائر - تونس، الإسكندرية، أو مرورا ببلاد الشام. ولا نعلم الكثير عن إحصاءات الجزائريين في مكة والمدينة كما نعلم عنهم في الشام واسطانبول مثلا، وربما يرجع ذلك إلى صعوبة اتصال الأجانب بهم بعد أن حلوا في المدينتين الشريفتين اللتين يمنع على الأجانب دخولهما (¬1). وقد كان لفرنسا قنصل في جدة، كما كان لها قناصل في دمشق ¬

_ (¬1) لا شك أن فرنسا قد استعملت بعض العملاء المسلمين لكتابة التقارير عن وضع المهاجرين في مكة والمدينة. وتذكر المصادر أن الحاج حمدي بلقاسم، وكان عميلا إداريا جزائريا في مكة، قد كتب سنة 1935 تقريرا عن حالة المغاربة في المدينة المنورة إلى السلطات الفرنسية. انظر بحث الآن كريستلو عن البعثة الفرنسية إلى الشريف حسين سنة 1916، مخطوط، نقلا عن الأرشيف الفرنسي 15 - 289 - . AGGT, A

وبيروت وإسطانبول. ولكننا لم نطلع على تقارير القنصل الفرنسي بجدة خلال القرن الماضي. ومن أوائل من كتب عن الحجاز من الفرنسيين، بعد أن دخله متنكرا باسم عربي ولباس إسلامي، هو ليون روش الذي سمى نفسه عمر (¬1). وقد تحدث عن بعض الجزائريين هناك (1842)، ومنهم محمد بن علي السنوسي مؤسس الطريقة السنوسية. ثم توالت التقارير والكتابات الفرنسية. في آخر القرن الماضي تحدثت الأرقام عن وجود ألف جزائري مهاجر في الحجاز. ونحن نعتقد أن هذا عدد تقريبي فقط لصعوبة ضبط الإحصاءات عندئذ. وقد ذكر هذا الرقم بمناسبة هجرة مجموعة من العائلات (حوالي مائة) من سيدي عقبة بنواحي بسكرة. ومنها عائلة الشيخ الطيب العقبي. ولا شك أن الهجرة نحو الحجاز قد ازدادت في السنوات التالية، سيما بعد قوة الدعاية للجامعة الإسلامية من جهة وفرض التجنيد الإجباري من جهة أخرى. ورغم ظروف الحرب العالمية ووجود الدولة العثمانية وفرنسا في معسكرين متحاربين فإن ذلك لم يمنع الجزائريين من التوجه نحو الحجاز، ولا سيما بعد هزيمة العثمانيين وقيام الشريف حسين بثورته التي أيدتها فرنسا. فمنذ 1916 لم يعد الفرنسيون يخشون تأثير (دعاية) الجامعة الإسلامية والخلافة على الجزائريين. وقد أرسلت فرنسا وفدا إلى الحجاز استمر سنتين 1916 - 1917، وكان على رأسه من الجزائريين قدور بن غبريط والعقيد قاضي (الشريف بلعربي). وشارك فيها مصطفى الشرشالي. وكان المشرف الرئيسي على الوفد هو العقيد الفرنسي إدوارد بريمون (¬2). ¬

_ (¬1) ليون روش (32 سنة في الإسلام) عن ليون روش انظر يوسف مناصرية (مهمة ليون روش في الجزائر والمغرب)، الجزائر 1990. انظر بحثنا (فرنسيان في الحجاز) في مجلة (المنهل) السعودية، غشت، 1996. وفيه عن متنكرين فرنسيين أخرين دخلوا الحجاز. (¬2) عن البعثة الفرنسية سنة 1916 إلى الحجاز انظر روبين بيديل R. Bedwell (بعثة بريمون) في كتاب (دراسات عربية وإسلامية) المقدم إلى المستشرق سارجان. R. B Sergant، لندن 1983، ص 182 - 195. =

ونحن وإن كنا لا نعرف الأرقام عن الجزائريين العاديين في الحجاز، وهم أولئك الذين هاجروا إلى أرض الله، أرض الكعبة الشريفة والرسول العظيم، فإننا نعرف على الأقل بعض المشاهير من العلماء ورجال التصوف والضباط والثوار الهاربين من المنافي الفرنسية. ومنهم الشيخ السنوسي المذكور، وقدور بن رويلة كاتب الأمير عبد القادر. وكان ابن رويلة من الأوائل الذين دعوا الجزائريين إلى الهجرة عندما كانت المقاومة على أشدها ضد الفرنسيين (1). ومنهم خليفة الأمير في حمزة (البويرة) أحمد الطيب بن سالم. وحل بالحجاز الشيخ عزيز (عبد العزيز) الحداد، وهو ابن زعيم ثورة 1871 الرحمانية. فقد فر إلى الحجاز من كاليدونيا الجديدة. واختار الحجاز أيضا محمد وعلي السحنوني الذي أبعدته فرنسا إلى كايان ثم سمح له بالإقامة في مكة والمدينة، وكان السحنوني قد شارك في ثورة 1871 أيضا ومن مقدمي الرحمانية. وكان يعرف في المدينة (بشيخ العرب)، وبعد وفاته دفن بالبقيع (¬2). ومن جريدة (القبلة) التي صدرت بالحجاز سنة 1916 نعرف أخبارا عن حلول الجزائريين بتلك الأماكن أيضا. ونحن نذكر هذه الجريدة لأن الشيخ العقبي كان أيضا. من المتعاملين معها، أما مديرها منذ إنشائها فهو زميله محب الدين الخطيب، وكانت القبلة تكتب أنها جريدة (دينية، سياسية، ¬

_ = وكذلك دراسة كريستلو (الأبعاد الجزائرية للسياسة الفرنسية الشرق أوسطية)، دراسة أطلعنا عليها مخطوطة حين أرسل إلينا مؤلفها مشكورا نسخة منها. (1) خاطبه الأمير عبد القادر بأبيات منها: (أخي نلت الذي قد كنت تطلبه ... وفزت دوني بما ترجو وترغبه) وذلك عندما حل ابن رويلة الحجاز الذي كان يطلبه - حسب تعبير الأمير - انظر ابن بكار الهاشمي (كتاب مجموع النسب)، ص 41. (¬2) رسالة من الشيخ علي أمقران السحنوني، أبريل 1979، وقد جاء فيها أن منفاه تارة كايان وتارة كاليدونيا الجديدة. وكان محمد وعلي من رفقاء أحمد بومزراق المقراني أثناء انسحابهما إلى وادي سوف قبل القبض عليهما مع آخرين في الرويسات قرب ورقلة.

اجتماعية) تهتم بمصالح العرب والمسلمين القومية والمحلية. وكانت لها مصالح وفية (تلغرافية) في القاهرة حيث تأتيها الأخبار الرسمية. أما طباعتها فقد كانت في المطبعة الأميرية بمكة. والملاحظ أنها كانت تنقل عن جريدة (المستقبل) التي كانت تصدر في فرنسا. وكان علي الغاياتي المصري يكتب في (المستقبل) عن جماعة تركيا الفتاة (جون ترك) مثلا فتنقل عنه (القبلة). ويهمنا من أخبار القبلة أنها كانت تشير إلى الجزائريين الذين حلوا بالحجاز فرارا من الأتراك والألمان، وهي بذلك تشير إلى هجرة الجنود أو فرارهم إلى الحجاز، وذلك في عددها 46. أما في العدد 52 فإن القبلة نشرت خبرا، آخر يتعلق بجزائريين رافقوا ملك الحجاز (الشريف حسين) عند زيارته لإحدى الثكنات. وهؤلاء الجزائريون كانوا من الضباط، وربما كان المقصود بهم العقيد قاضي سابق الذكر وزملاءه (¬1). ولعل الخبر الذي ساقه لويس ماسينيون يفسر ما ذكرته مجلة العالم الإسلامي عن وجود ضباط جزائريين رفقة الشريف حسين في إحدى الثكنات. فقد جاء في نفس المجلة سنة 1919 أن أحد الضباط، واسمه رحو، قد قتل أثناء حمايته لإنسحاب الشريف عبد الله (؟) في الحرب التي جرت في الخرمة قرب الطائف بين خالد بن لؤي وغيره من الوهابيين وفرق الحجاز. والغريب أن ماسينيون يقول إن الفرنسيين فقدوا في الحرب المذكورة (فرنسيا جيدا ومسما جيدا)، وهو يعني بذلك النقيب رحو الذي ربما كان في خدمة الأمير عبد الله بن الشريف حسين (¬2). ¬

_ (¬1) مجلة العالم الإسلامي. R.M.M، عدد 34، 1916، ص 320 - 328. وقد حللت أعدادا من جريدة القبلة. (¬2) ماسينيون، (عن مصادر الوهاية ...) في مجلة العالم الإسلامي. R.M.M عدد 36، 1919، ص 320 هامش 1. من الذين هاجروا أيضا إلى الحجاز واستقروا فيه قدور بن سليمان أحد شيوخ التصوف، وكان قد أخذ الطريقة الشاذلية والتجانية قبل هجرته. ولا نعرف تاريخ ذلك، ولكنه قد يكون هاجر في آخر القرن الماضي (حوالي 1889). وكان كثيرا ما يراسل أهل بلدته مستغانم، وفي تاريخ 321 (1903) كان ما يزال بالمشرق.

إلى المغرب

من مشاهير الجزائريين بالحجاز حمدان الونيسي، ومحمد البشير الإبراهيمي، وأحمد رضا حوحو، وعمار بن الأزعر. وقد استوطن الأول والأخير الحجاز وهاجرا هجرة دائمة، أما الثاني والثالث فقد رجعا إلى الجزائر بعد إقامة دامت سنوات وحملا معهما أفكارا جديدة. ولا نتكلم الآن عن (الزيارات) إلى مكة والمدينة، سواء من المشهورين كابن باديس أو المغمورين الذين تطول قائمتهم. ... إلى المغرب: واستقبل المغرب الأقصى أعدادا كثيرة من المهاجرين الجزائريين، سواء أولئك الذين وردوا عليه بنية الإقامة أو الذين اتخذوا منه منطقة عبور كما حدث أوائل هذا القرن. ومن الجزائريين من هاجر إلى المغرب ثم عاد منه بعد تغير الأحوال في الجزائر، لأسباب مادية أو عائلية. والهجرة إلى المغرب أخذت تضاعف مع الاحتلال، سيما من النواحي الغربة، فهناك أفراد وحتى عائلات وقبائل بأسرها لجأت إلى المغرب. وفي آخر العهد كان مع الأمير (سنة 1847) عدد من القبائل داخل الحدود المغربية. وكان الجزائريون يجدون في المغرب ما يجده الأخ من أخيه. وقلما حدثت أمور تعكر جو الأخوة. وإذا ما وقع ذلك فإنه يكون لسبب سياسي عابر أو تنافس شخصي سرعان ما يزول. وقد عطف المغاربة على الجزائريين في محنتهم من جهتين، الأولى كونهم إخوانا يعانون من البؤس والاحتلال الأجنبي، والثانية كونهم مجاهدين في حاجة إلى الإيواء والسلاح وكل أشكال المساعدة. هل نذكر الوفود التي ترددت على البلدين؟ أو أعيان تلمسان ومعسكر ومستغانم ووهران وهم يرحلون إلى داخل الحدود الآمنة؟ وهل نذكر قبائل أولاد سيدي الشيخ وحميان وفليتة وبني عامر وغيرهم وهم في سوادهم الكبير يقصدون حماية الجار ونجدة الأخوان وغوث السلطان؟ إننا لن ندخل في تفاصيل ذلك، لأن هناك دراسات مطولة ومفصلة تناولت هجرة وأوضاع

الجزائريين في المغرب في مختلف المراحل. ولكننا نذكر أن معظم هذه الهجرة كانت بين 1830 - 1848، 1912. وفي أوائل الاحتلال هاجر بعض الأعيان من العاصمة أيضا أمثال مصطفى بو ضربة وابن أخيه أحمد الذي اشتهر بدوره في المفاوضات عند الحملة الفرنسية. ومنهم القاضي عبد العزيز الذي استقال من وظيفه (1834) احتجاجا. على تدخل السلطات العسكرية الفرنسية في المحكمة الإسلامية (¬1). ورغم كثرة اللجوء إلى المغرب فإن عدد المهاجرين المستقرين فيه لم يكن كبيرا. فهل ذلك راجع إلى أنهم كانوا يتخذونه للعبور فقط؟ أو راجع إلى أن اللاجئين (المهاجرين) قد رجعوا إلى الجزائر بد استقرار الوضع؟ إن الغالب عندنا هو الاحتمال الثاني، لأن القبائل المهاجرة قلما كانت تطيل الإقامة في المغرب، أما الأفراد فكانوا يفعلون، ولا سيما إذا كانوا من ذوي العلم والثقافة والتجارة وغيرها من المهن الحرة. وإلى الحرب العالمية الأولى كان مجموع من كان بالمغرب من المهاجرين لم يتجاوز الثلاثين ألفا. وفي بعض المصادر التي ترجع إلى 1907 (قبل الحماية الفرنسية) فإن عدد المهاجرين الجزائريين بالمغرب بلغ العشرين ألفا، منهم خمسة آلاف في فاس، وهو عدد قليل بالقياس مثلا إلى تونس والشام، وبالنظر إلى كثرة المترددين على المغرب. ويذكر مصدر آخر يرجع إلى سنة 1908 أن عدد الجالية الجزائرية بوجدة كان فقط ألفا وخمسمائة (¬2). يذكر بلير أن معظم المهاجرين في المغرب جاؤوا من معسكر، سيما الحشم والمشارف، ثم تلمسان ومستغانم والجزائر ووهران والبليدة ¬

_ (¬1) انظر ذلك في فصل السلك الديني والقضائي. (¬2) دراسة ميشو بيلير M. BELLAIRE التي سماها (مسلمو الجزائر في المغرب) كما نشرها في (الأرشيف المغربي) المجلد 11، وقد نشرت منها (مجلة العالم الإسلامي) فصلا تحت عنوان (المسلمون الجزائريون في المغرب وسورية)، عدد 1907، ص 499 - 506. وكذلك دراسة أو تقرير موجان Maugin في (ملحق أفريقية الفرنسية)، سبتمبر 1908، ص 989 - 194.

ومليانة. ومنهم أعراش وقبائل هامة كأولاد سيدي الشيخ الشراقة والغرابة، والحميان وفليتة وجو عامر وأولاد عدة. بالإضافة إلى ذلك هناك عائلات وأسماء بارزة، منها عائلة المقري التلمسانية الشهيرة، ومحمد المقري (بضم الميم وسكون القاف) الذي أرسله السلطان مفاوضا باسمه في طنجة والجزيرة. وتوجد أسماء أخرى من عائلة أحمد بن يوسف الملياني، وعائلة شاوش بالعاصمة، والقنقاجي (القندقجي؟) بالبليدة، وعائلة أولاد التازي، الخ. وهذا كله قبل الحماية الفرنسية على الغرب. أما الضابط موجان الذي درس الجزائريين في وجدة بالخصوص، فقد ذكرهم على خمس مراحل: 1 - قبل الاحتلال. 2 - غداة الإحتلال ويقصد بهم أولئك الذين حاربوا مع الأمير عبد القادر وربطوا مصيرهم بمصيره. 3 - بعد الإحتلال، أي بعد 1842 واستيلاء الفرنسيين على عواصم ومدن الأمير ثم على زمالته. 4 - الذين هربوا إلى المغرب للنجاة والأمان وأسباب أخرى. وهم الذين يسميهم موجان قتلة ولصوصا (!). 5 - الذين جاؤوا إلى الغرب ليس تصد الهجرة ولكن عابرين للتجارة وحل قضايا العائلات كالإرث. ومن بين هؤلاء المهاجرين عائلات شهيرة من المدن المعروفة مثل تلمسان وندرومة ومعسكر، وذكر منهم عائلة المشرفي، والمورالي. وأما المرابطون فمنهم أولاد عبد القادر. وقد جاء بعضهم من شلالة. وكان للجزائريين في وجدة نظام خاص بحياتهم، فكانوا يحتكمون إلى (الشيوخ) أو الكبار الذين كانوا يمثلونهم لدى السلطات المغربية (المخزن). ثم أصبح لهؤلاء الجزائريين (جماعة) يرأسها سي محمد المورالي ويساعده خمسة من الأعيان (سنة 1908). وبين المهاجرين تجار وطلبة ورجال دين.

إلى تونس

وقبل نصب الحماية على المغرب - ابتداء من فاتح القرن تقريبا - كانت فرنسا ترسل (عيونا) من الجزائريين إلى المغرب يقومون بدراسة عينات اجتماعية ولغوية وتجارية ونحو ذلك مما تحتاجه الإدارة الاستعمارية التي كانت تخطط لاحتلال المغرب والانقضاض عليه. ودعا بعضهم صراحة مثل اسماعيل حامد، إلى احتلال المغرب من قبل فرنسا. وقد تعرضنا إلى هؤلاء الجزائريين في فصل آخر. ومنذ انتصاب الحماية دخل الجزائريون، عن طريق التبعية لفرنسا، في الحياة المدنية المغربية، في الإدارة والتعليم والقضاء والترجمة والجيش ونحو ذلك. ولعل بعضهم كان جاهلا إلى الحد الذي أضر بإخوانه المغاربة لإرضاء سادته الفرنسيين (¬1). ومن العهد الأخير برزت أسماء كان أصحابها أصلا من الجزائر مثل محمد المعمري الذي لازم قصر السلطان طيلة عقود. وكان دبلوماسيا ومترجما وأديبا. ولا بد من الإشارة إلى الهجرة إلى المغرب من أجل العلم، ونعني بذلك الطلبة الذين قصدوا جامعة القرويين وغيرها لتلقي العلم على مشائخها والاكتراع من مكتباتها الغنية. ومن أبرز العلماء الذين أنجبتهم المغرب للجزائر هو عبد القادر المجاوي الذي يعتبره البعض شيخ الجماعة. وظلت القرويين تستقبل الطلبة الجزائريين أفرادا وجماعات طيلة العهد الاستعماري، ومع فتح مجال التعليم في آخر القرن الماضي اتجه الطلبة الجزائريون بأعداد أكبر إلى المغرب ولا سيما أولئك الذين باشروا تعليمهم في الزوايا. ... إلى تونس: كانت تونس مقصد المهاجرين الجزائريين، مستوطنين وعابرين، وهي ¬

_ (¬1) عند احتلال الجزائر استعان الفرنسيون بتراجمة من المشرق، من العرب المسيحيين، ولكنهم استعانوا في احتلال تونس والمغرب وسورية وحتى في أفريقية، بالجزائريين المسلمين. ولا نقصد (الاستعانة) العسكرية فقط، وذلك من وساوس وخطط الاستعمار!.

بوابة الشرق لهم. وإذا كانت الهجرة نحو المغرب معظمها من النواحي الغربية فإن الهجرة نحو تونس كانت في معظمها من النواحي الشرقية، بما في ذلك قسنطينة وبجاية ووادي سوف، وعنابة وخنشلة والخنقة وسطيف وبسكرة وتبسة والحضنة، إضافة إلى المدن الأخرى القريبة من الحدود مثل سوق أهراس والقالة. وكذلك قصد تونس أهل ميزاب للعلم والتجارة، وقصد أهل الوسط وأهل الصحراء في المناطق الأخرى تونس أيضا للإقامة بها أو مرورا منها إلى الحج والعمرة والهجرة إلى المشرق. ولا يتسع المقام لوصف استقبال تونس للجزائريين الذين قصدوها أيام المحن وبعد فشل الثورات، فقد توجهت أفواجهم إليها بعد احتلال قسنطينة، وقلب الفرنسيين على الأمير في بسكرة والأوراس، وبعد ثورة 1857 في زواوة، وقصدها المقرانيون وأنصارهم سنة 1872 كما هرب إليها زعماء ثورة ورقلة والأغواط، وأنصار بوشوشة في متليلي وتوات. من أبرز علماء الجزائر ومجاهديها الذين هاجروا إلى تونس أو مروا بها نذكر: قدور بن رويلة من العاصمة، ومحمد بن الحاج من سيدي عقبة، وكلاهما كان من قادة الأمير وحلفائه. ومصطفى بن عزوز الذي هاجر من برج طولقة بعد احتلال بسكرة، وأسس زاوية نفطة الشهيرة - وهي زاوية رحمانية. ومن أكبر الوجوه التي ظهرت في هذه الأسرة (ابن عزوز) نذكر المكي بن عزوز الذي تعلم في تونس وأصبح من علماء الزيتونة وكان من أعلام عصره. ثم الشيخ محمد الخضر حسين الذي وصل إلى مشيخة الأزهر. وقد أخرجت زاوية نفطة علماء أفذاذأ منهم الشيخ عاشور الخنقي والشيخ العربي التبسي والشيخ عبد القادر الياجوري ومحمد بن عبد السلام. كما حل بتونس ناصر بن شهرة، الفارس المغوار الذي شارك في مختلف الثورات من سنة 10 إلى سنة 1875. وهناك عائلات أخرى نفتها السلطات الفرنسية أو اختارت الهجرة إلى تونس مثل عائلة المدني وبوشوشة (وهو غير الثائر المعروف) والسنوسي والثعالبي والقلاتي واللقاني (¬1). ¬

_ (¬1) هاجر الكثير من زواوة إلى تونس، لذلك نجد بينهم أسماء مثل الدلسي والجنادي.

ووجد الجزائريون في جامع الزيتونة موردا عذبا في الوقت الذي ضاقت فيه بلادهم عن معلم حضاري مثله. وكانت السلطات الفرنسية تتوجس من الذين درسوا في الزيتونة، وكانت لا تفسح المجال لتوظيفهم، لأنهم لم يتخرجوا من المدارس الفرنسية الرسمية، وكانت تعتبرهم من المتمردين عليها. ولا ندري إلى أي مدى كان الطلبة الجزائريون يقصدون الزيتونة قبل احتلال تونس سنة 1881. والظاهر أن دراستهم فيه كانت محدودة قبل 1900. ويعتبر ابن باديس الذي توجه إلى تونس سنة 1908 من أوائل من فتح هذا العهد الجديد مع جامع الزيتونة. ويكفي تونس أنها أخرجت هذا الرجل الفذ. ولقد توالى الطلبة الجزائريون على تونس في العقود التالية (¬1). وتكفي الإشارة إلى البعثات الميزابية التي قادها الشيخ أبو اليقظان وإبراهيم بيوض، ثم بعثات ابن باديس وجمعية العلماء وحتى بعض الزوايا والأحزاب السياسية منذ الحرب العالمية الأولى. ومن إنتاج الزيتونة أيضا الشاعران: محمد العيد ومفدي زكريا والمؤرخ مبارك الميلي الهلالي. وقد توظف الجزائريون في تونس حتى قبل الحماية الفرنسية، وأصبح بعضهم معلما خاصا لأبناء الوزراء، مثل الشيخ الطاهر الجنادي الذي كان قبل هجرته شيخا في زاوية سيدي عبد الرحمن اليلولي. ثم تولى الجنادي وظائف أخرى، وتوفي بتونس. وكان محمد بلعربي أحد الأطباء الجزائريين الذين توظفوا في تونس أيضا، وتوظف آخرون في الصحافة، وبعضهم في التدريس بالزيتونة مثل الشيخ محمد اللقاني، ومحمد بن عبد السلام، وسلطاني. ودخل بعضهم الحياة السياسية أمثال صالح بن يحيى وإبراهيم أطفيش وأحمد توفيق المدني وحسن القلاتي. وذكر علال الفاسي من الجزائريين في تونس مجموعة تولت مناصب ¬

_ (¬1) للتوسع انظر دراسة محمد الصالح الجاري (الطلبة الجزائريون في تونس)، ومحمد علي دبوز (أعلام الاصلاح) و (نهضة الجزائر) ... عن البعثات العلمية الميزابية بالخصوص.

قيادية في الحركة الوطنية التونسية من جهة وكذلك في الحركة الإسلامية السلفية، منهم محمد السنوسي محرر (الرائد التونسي) الذي اعتبره الناس (زعيم أول حركة وطنية) بعد الحماية، وكان السنوسي من علماء الزيتونة. ومنهم المكي بن عزوز الذي تزعم حركة سلفية، وكان أيضا من علماء الزيتونة، ويقول الفاسي ان الفضل يرجع إلى المكي بن عزوز في تكوين عبد العزيز الثعالبي زعيم الحزب الدستوري. وبعد هجرة ابن عزوز إلى المشرق اجتمع تلاميذه المتنورون وأسسوا جريدة (المستقبل التونسي) بالفرنسية، و (حبيب الأمة)، و (سبيل الرشاد) بالعربية. كانت من إنشاءات الثعالبي. وكان الثعالبي قد زار الجزائر سنة 1895 كما سنذكر. ومنهم علي بوشوشة الذي أسس جريدة (الحاضرة) التي أصبحت لسان حال كتلة قوية من المثقفين والمدرسين من الزيتونة والصادقية وعملت على ربط الحركة في تونس بتيار الجامعة الإسلامية (¬1)، وكان عمر بن قدور وعمر راسم من الذين يكتبون فيها. أما من حيث الإحصاءات فلا نملك الآن إلا إحصاء يرجع إلى سنة 1936 وآخر إلى سنة 1950، ويذكر الأول أن عدد المهاجرين الجزائريين في تونس بلغ واحدا وأربعين ألفا. كما يذكر الإحصاء الثاني 50 ألفا (¬2). وكانت جالية أهل سوف من أكبر الجاليات الجزائرية بتونس وربما هي أكبرها. وكانت لبني ميزاب جالية مهمة أيضا، وكذلك الحال بالنسبة لأهل توات، بالإضافة إلى جالية أهل زواوة وسطيف الذين شكلوا في الغالب جيل المهاجرين بعد ثورة 1871. وكان يطلق عليهم (المقرانيون)، ولا يعني ذلك أنهم جميعا من أسرة المقراني، وإنما يعني أنهم أنصاره الذين هاجروا بعد فشل ثورته. وكان الأمير عبد القادر كثيرا ما تدخل لصالح هؤلاء (المقرانيين) لدى رجال الدولة التونسية لتسهيل إقامتهم في تونس. ... ¬

_ (¬1) علال الفاسي (الحركات الاستقلالية)، ط 1، 1948، ص 41 - 45. (¬2) (فرنسا المتوسطية والافريقية) ج 1، 1938، ص 33، وكذلك راجي (المسلمون الجزائريون) فى مجلة البحر الأبيض، مرجع سابق، ص 169.

إلى ليبيا

إلى ليبيا: والهجرة إلى ليبيا (طرابلس) كانت أيضا شائعة، ولكن الطريق لم يكن كالطريق إلى تونس أو المغرب. فالذهاب إلى ليبيا كان يتم إما عبر تونس وإما عبر وادي سوف والجنوب الشرقي. والطريق الأخير كان يتطلب معرفة مسالك القوافل، ويتميز بالمغامرة ولا يقدر عليه عادة إلا الأصحاء، والمتعودون على جو الصحراء. وكان دخول ليبيا يعتبر منعة اللاجئين الجزائريين. والواقع أن التعاون بين الجزائريين والليبيين ضد الاحتلال قد بدأ مبكرا. وان تعاون حسونة دغيز مع حمدان خوجة واللاجئين الجزائريين في فرنسا معروف الآن بعد نشر كتاب (المرآة) وبعد دراسة عبد الجليل التميمي (¬1). وتذكر المصادر الفرنسية أن خلافا حدث بين طرابلس وفرنسا بمناسبة حفل عيد شارل العاشر ملك فرنسا. فاشترط قنصل فرنسا، واسمه روسو، عزل وزير الخارجية حسونة دغيز باعتباره المتسبب الرئيسي للإهانة (؟) التي لحقت بفرنسا، كما اشترط على الباي نفيه (أي دغيز) من طرابلس. وتفاديا للإهانة الشخصية قدم دغيز استقالته من الخارجية بنفسه. وتراجع القنصل روسو عن اشتراط النفي لعدة اعتبارات، منها تدخل عثمان ابن باشا طرابلس، وتدخل قنصل اسبانيا (هيرادور). لقد كان إبنا باشا طرابلس متزوجين من أختي دغيز. وكان والد دغيز ذا حظوة كبيرة باعتباره من الأعيان والأشراف. وذلك هو ما دفع بقنصل إسبانيا إلى إقناع زميله الفرنسي أن يتنازل عن شرط النفي، رغم أن روسو كان يعرف أن حسونة دغيز كان (يكره الفرنسيين كرها شديدا) (¬2). كان ذلك سنة 1826 أي عشية الخلاف بين الجزائر وفرنسا الذي انفجر ¬

_ (¬1) التميمي، (بحوث ووثائق مغربية)، تونس 1972. وعن حسونة دغيز انظر أيضا رحلة مردخاي نوح، 1819. وكذلك علي مصطفى المصراتي (مؤرخو ليبيا)، و (حفل وطني في طرابلس) 1826، في المجلة الافريقية 1892، ص 244. (¬2) رسالة القنصل الاسباني بتاريخ 23 نوفمبر 1826، ورسالة القنصل الفرنسي بتاريخ 24 نوفمبر 1826. انظر (حفل وطني)، مرجع سابق.

في سنة 1827. وعلى اثر الحملة وجدنا التعاون على أشده بين حسونة دغيز والجالية الجزائرية في أوروبا، ولا ندري ما التعاون الذي وجده الجزائريون في طرابلس نفسها أيضا. فقد كان الداي حسين يراسل باشا طرابلس منذ الأزمة مع فرنسا، وكانت عائلة الكرمانلي هي الحاكمة في طرابلس. ومهما كان الأمر فقد أعان دغيز صديقه حمدان خوجة على ترجمة كتاب (المرآة) الذي ظهر فيه (كره الفرنسيين) من الرجلين معا، وقد جاءت فيه عبارة أصبحت معروفة، وهي (اللهم ظلم الترك ولا عدل الفرنسيس). وقد لاحظ قنصل فرنسا في طرابلس خلال الخمسينات، وهو بيليسييه دي رينو، أن كتاب المرآة (بالعربية؟) كان متوفرا بكثرة في ليبيا مما يدل على أن حسونة دغيز قد يكون روجه هناك مع أبناء حمدان خوجة. وقد ظهر (كره الفرنسيين) في عدة حوادث رواها القنصل بيليسييه، وكانت قد جرت له مع أحد أبناء حمدان خوجة (وهو حسن) الذي أصبح متوليا وظيفة دفتر دار طرابلس في عهد عزت باشا، أي أثناء ثورة محمد بن عبدالله في الجزائر (1850 - 1860)، والمعروف أن محمد بن عبدالله هذا قد اتصل بعزت باشا ومحمد بن علي السنوسي قبل أن يدخل الجزائر ويعلن الثورة على الفرنسيين من ورقلة. وفي الخمسينات أيضا كان هناك تعاون جزائري - ليبي من نوع آخر وهو بداية (التدخل) السنوسي في الجزائر لإثارة السكان ضد الفرنسيين بالدعوة إلى الجهاد وحتى إلى الهجرة. ومن تاريخ السنوسية نعرف أن هناك أشخاصا بارزين من جهات التوارق وسوف وبسكرة أصبحوا من أعيان الحركة السنوسية بعد 1850. ومن جهتها كانت فرنسا تحاول التوغل في ليبيا بحمايتها لبعض العائلات النافرة من حكم طرابلس العثماني (¬1) مثل عائلة ابن عبد الجليل ¬

_ (¬1) في 1835 أعادت الدولة العثمانية تنظيم حكمها في طرابلس حتى لا يقع هناك ما وقع في الجزائر، فألغت حكم الكرمنليين، وألحقت طرابلس بالباب العالي وذلك بتعيين باشا على طرابلس من قبل السلطان. وحاولت نفس الشيء مع تونس فلم تنجح لمعارضة فرنسا.

إلى مصر

الفزانية التي حاربت ضد العثمانيين (¬1). ويغلب على الظن أن الجزائريين الذين استقروا في ليبيا كمهاجرين كانوا قلة، فقد كانت ليبيا بالنسبة إليهم منطقة أمن وعبور يقصدها التجار والحجاج والمغامرون، بالإضافة إلى المجاهدين الذين انضموا إلى الطريقة السنوسية من جهة، وإلى حرب الجهاد ضد الطليان من جهة أخرى. والقسم الأخير جاء من الجزائر ومن المشرق أيضا. فقد انضم متطوعون جزائريون من مصر والشام إلى المقاومة الليبية. وكان من بينهم الأمير علي بن الأمير عبد القادر وبعض أبنائه. ومنذ هذه الظروف وقع التعارف والتواصل بين الأمير علي المذكور وبين سليمان الباروني باشا النفوسي. ولا بد أن نذكر أيضا لجوء بعض بني ميزاب إلى ليبيا. وقد كانت تربطهم ببعض أهل جبل نفوسة علاقات مذهبية. وحوالي 1910 قصد الشيخ أحمد بن عليوة، صاحب الطريقة المعروفة، وبعض إخوته وأولاد عمه ليبيا للهجرة إليها والإقامة فيها. ... إلى مصر: ومنذ الاحتلال استقبلت مصر أيضا، أعدادا من الجزائريين. لقد كانوا ياتونها منفيين أو مهاجرين أو حجاجا، وفضلوا الإقامة فيها بعد أداء فرضهم. كما ورد عليها أعداد من الطلبة، فرادى بعض الوقت، ثم تكاثروا منذ الحرب العالمية الأولى، إضافة إلى بعض رجال السياسة المغضوب عليهم. كما نزلها زائرون ومعجبون بعلومها وصحافتها وآدابها. وكانت الاسكندرية بالذات تستقطب أعدادا من الجزائريين. ومنهم من تزوج هناك. أما في القاهرة فمعظم الجزائريين كانوا يقيمون بحي الأزهر الشريف أو رواق ¬

_ (¬1) انظر تعريفنا بكتاب (ري الغليل) - تاريخ ملوك فزان - لابن عبد الجليل. وكذلك تاريخ تيمور (مصر) رقم 1472. وفي مجلة الشرق الفرنسية R de L'orient، سنة 1844 سلسلة من المقالات عن عائلة ابن عبد الجليل، بقلم سوتيل.

المغاربة. ومنذ القديم كان الجزائريون يعجبون إعجابا خاصا بمصر ويعتبرونها كعبة العلم والحضارة لأنهم كانوا يعرفونها أكثر مما كانوا يعرفون العراق وسورية، لوقوع مصر في طريق الحج. من رجال السياسة الجزائريين الأوائل الذين هاجروا أو نفوا من بلادهم إلى مصر نعرف الباي حسن بن موسى - باي وهران، الذي كان طاعنا في السن زمن الاحتلال، وقد حمله الفرنسيون أوائل 1831 إلى الإسكندرية. وحوالي نفس الوقت حملوا إليها أيضا باي التيطرى مصطفى بو مزراق. أما الداي حسين فقد هاجر إلى مصر ونزل الاسكندرية بعد أن فشلت خططه في الرجوع إلى الجزائر وضاقت به ليفورنيا (إيطاليا)، وربما فعل ذلك لأسباب مادية أيضا. وهكذا رأينا ثلاثة من (حكام) الجزائر السابقين قد نزلوا مصر، ومع كل منهم (حاشيته) التي قد لا تقل عن الخمسين. وكان مع الداي حسين صهره وقائد جيشه الآغا إبراهيم، الذي عجز عن مقاومة الجيش الفرنسي في اسطاويلي (¬1). أما العلماء فقد حلوا بمصر مهاجرين أو منفيين ثم طلبة ودارسين. كان رائدهم محمد بن العنابي الذي نفاه كلوزيل 1830، بدعوى أنه كان (يتآمر) لاستعادة الحكم الإسلامي إلى الجزائر، أي كان ينظم المقاومة ضد الفرنسيين. وقد وظف ابن العنابي بالاسكندرية وأصبح مفتي الأحناف بها، وطال عمره إلى 1853. وقد لحق به زميله في الفتوى بالجزائر وهو الشيخ مصطفى الكبابطي الذي نفاه المارشال بوجو سنة 1843 لمعارضته إدخال اللغة الفرنسية في المدارس القرآنية. وكان الكبابطي عندئذ مفتيا على المذهب المالكي. ولا نعرف أنه توظف في مصر، ولكنه أصبح من المدرسين في أحد مساجد الاسكندرية ربما لتدبير رزقه. وكان لابن العنابي وللكبابطي زملاء وتلاميذ في مصر نذكر منهم الفقيه إبراهيم السقا، والشاعر ¬

_ (¬1) هناك أسماء أخرى من الحكام والقادة السابقين في الجزائر قد استوطنوا الاسكندرية بعد الاحتلال.

محمد عاقل، وعبد الحميد بك صاحب التاريخ المعروف باسمه (¬1) والذي ترجم فيه للشيخين. واستقبلت مصر من الطلبة - العلماء محمد بن علي السنوسي، ومحمد بن عبدالله الزقاي، والحاج محمد بن الرقيق، والحاج علي بن البشير، ومحمد الصالح بن مهنة، وعثمان الراشدي، والمولود الزريبي، وغيرهم. وخلال الحرب العالمية الأولى كان بمصر مجموعة من الطلبة، بلغوا حسب إحصاء يرجع إلى سنة 1916، تسعة وعشرين طالبا، وكانوا من مختلف أنحاء الجزائر (¬2). ومن هؤلاء محمد الرزقي الشرفاوي من بلدية عزازقة، وكان الشيخ أبو يعلى الزواوي قد لقيه في مصر ووصف حياته. ومنهم المولود بن الصديق الحافظي الذي أصبح من كبار علماء الفلك وعضوا في جمعية العلماء قبل انفصاله عنها ورئاسته لجمعية علماء السنة المعارضة. وقيل إن الحاج علي بن البشير قد بقي في الأزهر ثمانية عشر عاما. وبعد رجوعه إلى الجزائر أسس مدرسة بسيق وانتصب للتدريس أيضا في جامعها الكبير. وكذلك قضى الحاج محمد بن الرقيق الغريسي سنوات بالأزهر وجاور فيه، وعندما رجع إلى الجزائر تولى التدريس في جامع معسكر. وأما عثمان الراشدي فقد قاد ثورة بني شقران سنة 1915 وحكم عليه الفرنسيون بالإعدام هو وأبناؤه وبعض أقاربه (¬3). وقد أصبح ابن مهنة ¬

_ (¬1) قدمنا دراسة عن هذا التاريخ في إحدى دورات مجمع اللغة العربية بالقاهرة - 1992، وهو منشور في مجلة المجمع. (¬2) وثيقة كتبها العقيد قاضي الشريف بلعربي، الذي أرسلته فرنسا في مهمة إلى مصر والتعرف على وضع الطلبة هناك. وهي بتاريخ 1916. وقدم تقريره إلى المصالح العسكرية الفرنسية. سلمني الوثيقة (النسخة) الاستاذ عمار هلال مشكورا، وهو الذي بحث في موضوع الطلبة الجزائريين في المشرق 1870 - 1918، رسالة دكتوراه الحلقة الثالثة - فرنسا 1983. والعقيد قاضي هو الذي أرسلته فرنسا أيضا ضمن بعثتها إلى الشريف حسين بالحجاز 1916. انظر سابقا. (¬3) المهدي البوعبدلي (علاقات الجامع الأزهر بالجزائر) في ملتقى الفكر الإسلامي السابع، تيزي وزو 1973، ح، ص 43.

والزريبي من المؤلفين والمدرسين. وثار كل منهما على البدع والخرافات في وقت كانت فيه الصولة للإدارة الفرنسية والطرق الصوفية، وسنعود إلى حياة الرجلين الأخيرين في مكان آخر (¬1). وفي سنة 1920 توجه الشيخ العربي التبسي إلى مصر للدراسة في الأزهر حيث بقي حوالي سبع سنوات. وبعد رجوعه أصبح من أقطاب العلم والتدريس في تبسة وسبق، ثم أحد قادة جمعية العلماء والنائب الأول لرئيسها. وقد كانت الإجازات هي إحدى الدلائل على تلقي العلم والتتلمذ على المشائخ لا سيما إذا كانت الإجازات عن حضور ومواظبة واهتمام. ومن الذين أخذوا العلم بالإجازة من بعض شيوخ الأزهر نذكر الشيخ عبد الحميد بن باديس الذي أجازه شيخه محمد بخيت أثناء حجته. وفي سنة 1938 حل بمصر أحد تلاميذ ابن باديس، وهو الشيخ الفضيل الورتلاني، الذي أصبح من رجال الدين والسياسة في مصر حيث كان من المعجبين بالشيخ حسن البنا زعيم الإخوان المسلمين وفي نفس الوقت كان عضوا في جمعية العلماء. والواقع أن مصر كانت مفتوحة لغير رجال الدين أيضا، مثل الصحفيين والتراجمة. ومن هؤلاء المثقفين الذين زاروا مصر في أوائل هذا القرن عمر راسم. وكان راسم مزدوج اللغة، وله غيرة على التراث العربي والإسلامي وارتباط فكري بالجامعة الإسلامية واطلاع على الفكر الغربي، ولا سيما الحركة الصهيونية والاشتراكية. ولا نعرف ان المجاوي قد زار مصر أو حج، رغم أن أحد كتبه المبكرة قد طبع في مصر سنة 1877 وقرظه أحد العلماء السوريين. ولعل هناك علماء آخرين قد ترددوا على مصر في غير الدراسة في الأزهر أو التجارة. وقد هاجر إليها الشيخ إبراهيم أطفيش، وبعد استقراره بها أسس (سنة 1925) مجلة (المنهاج) الشهرية التي أصبحت لسان حال ¬

_ (¬1) جاء في قائمة العقيد قاضي اسم لأحد طلاب سوف عندئذ وهو غير واضح فيها. وبعد البحث والسؤال تبين أنه هو الحاج ستو العربي المعروف كروي. ولد 1877 وتوفي بمصر سنة 1954. وكان قد هاجر إليها 1910.

الجزائريين في مصر، واستمرت إلى سنة 1928. كما تعاون الشيخ اطفيش مع سليمان الباروني على طبع عدد من المؤلفات ذات الصلة بماضي الجزائر (¬1). ولم تخل مصر من استقبال السياسيين الجزائريين أيضا في عهود لاحقة. كان الأمير عبد القادر دائما، شخصية سياسية رغم تخليه عن ممارسة السياسة. فقد زار مصر على الأقل مرتين، الأولى أثناء رجوعه من الحج والمجاورة سنة 1864، والثانية عند افتتاح قناة السويس سنة 1869. وفي كلتا الزيارتين كان محط الأنظار والإكبار، رغم أن ديليسبس وبعض الفرنسيين حاولوا استغلال وجوده لصالحهم مما أثار غيرة خديوي مصر عندئذ، وكانت بين الأمير والشيخ محمد عبده مودة ومراسلات. وقد حدثت ثورة عرابي باشا والاحتلال الإنكليزي لمصر أثناء مرض الأمير الذي توفي به، فلم نعرف موقفه من الأحداث التي جرت بين 1882 - 1883 (تاريخ وفاته). وقد طبع ابنه محمد باشا (ابن الأمير) كتابه (تحفة الزائر) بالاسكندرية سنة 1903، وهي السنة التي زار فيها الشيخ محمد عبده الجزائر، كما سنرى. وبعد الحرب العالمية الأولى زار الأمير خالد مصر لحضور مؤتمر الخلافة سنة 1924، ولكن مكائد القنصلية الفرنسية جعلت إقامته غير مرغوب فيها، وحكمت عليه محكمتها (القنصلية) بالخروج. ومنذ هذه الفترة أصبحت مصر التي استقلت استقلالا منقوصا سنة 1919 - 1922، محطة رئيسية للسياسيين الجزائريين. وبعد الأمير خالد، وجدنا الأمير مختار الذي لعب دورا بارزا في جمع كلمة الجزائريين بالمشرق ولا سيما في مصر. وهو من أحفاد الأمير عبد القادر. وكان محل تقدير واعتبار لشخصه ولمكانة أسرته. وكان الشرق يعيش على السمعة ويعطي أهمية كبيرة لأبناء البيوتات الشهيرة. وقد جاء في أحد المراجع أن الأمير ¬

_ (¬1) دبوز (نهضة) 2/ 11. كان الباروني قد أسس جريدة (الأسد الإسلامي) سنة 1908 بالقاهرة. وكانت سياسية أسبوعية. انظر عنه أيضا بحثنا (أضواء على حياة سليمان الباروني)، في مجلة الثقافة، 1995.

مختار كان من المؤسسين لعدة تنظيمات لصالح الجزائر والمغرب العربي، منها (جمعية الجالية الجزائرية)، و (لجنة الدفاع عن الجزائر)، ثم (جبهة الدفاع عن افريقية الشمالية) وكانت الأخيرة قد تأسست في 18 فبراير، سنة 1944 (¬1). وكان الشيخ طاهر السمعوني قد جمع بين الفكر والسياسة، وسنتحدث عن آثاره في بلاد الشام، وإنما نقول هنا إنه جاء إلى مصر خوفا من فتك الأتراك به بعد أن ثبت لديهم تعامله مع أعدائهم ونظرا لإيمانه بالقومية العربية وانضمامه إلى حزب اللامركزية الذي كان يطالب بدور بارز للعرب ضمن الدولة العثمانية. وقد حكم جمال باشا والي سورية بقتل سليم السمعوني (وهو ابن أخ الشيخ طاهر) لدوره في حركة القومية العربية. وفي مصر أيضا التقى الشيخ طاهر بالشيخ أبي يعلى الزواوي الذي حل بمصر بعد الشام، والذي ربما كان على صلة بالقنصلية الفرنسية فيها لأنه (أي الزواوي) كان يعمل بالقنصلية الفرنسية في دمشق إلى حوالي 1915. وقد ساهم الزواوي في الصحف والمجلات هناك وفي سورية. ومن أبرز النشطين السياسيين الجزائريين الذين زاروا مصر نذكر علي الحمامي صاحب رواية (ادريس) النضالية، وقد نشرها بالفرنسية في القاهرة. كما التحق الشاذلي المكي بمصر إثر حوادث 8 مايو 1945 ثم أصبح ممثلا لحزب الشعب فيها. وبعد تكوين جمعية الشبان المسلمين والجامعة العربية وتأسيس مكتب المغرب العربي في مصر، نشطت الحركة السياسية التي كان ¬

_ (¬1) الفضيل الورتلاني، (الجزائر الثائرة) بيروت 1956، ص 284. حسب هذا المرجع فإن الرئيس لجبهة الدفاع هو الشيخ محمد الخضر حسين، ونائبه هو الأمير مختار. انظر ما كتبته عن الأمير مختار السيدة مي زيادة في كتاب سلمي الحفار الكزبري (مي زيادة وأعلام عصرها)، بيروت 1982، ص 483. وقد جاء في رسالة منها سنة 1939 (16 مارس) إلى الأمير مختار وزوجته (ألا بورك فيكما، يا سليلي البطل العظيم (الأمير عبد القادر) وبورك في الدم الشريف الذي يجري في عروق الأسرة الجزائرية المبجلة!).

إلى اسطانبول

هدفها تحرير المغرب من الاستعمار الفرنسي، وتضافرت الجهود بانضمام زعماء آخرين من الجزائر، وكذلك من تونس والمغرب الأقصى (¬1). ... إلى اسطانبول: نقصد باسطانبول عاصمة الدولة العثمانية عندئذ، وكذلك المدن الرئيسية، التابعة لهذه الدولة والتي لا تدخل ضمن المدن العربية التي ذكرناها. وهكذا فإن بروسة وأزمير وأناضوليا عموما (آسيا الصغرى) كلها داخلة في هذا المجال. والهجرة الرئيسية إلى الأماكن المذكورة وقعت إثر الاحتلال، فقد طرد الفرنسيون آلاف الجنود العزاب الأتراك (الانكشارية) من الجزائر وأركبوهم السفن التي حملتهم إلى سواحل أناضوليا. وقد سخر إيميل غوتييه من بلاده حين تصرفت ذلك التصرف ودفعت، كما قال، إلى الجنود (الأتراك) بعض المال الذي يكفيهم في الطريق، وبذلك تكون فرنسا قد (اشترت) الجزائر منهم، حسب تعبيره (¬2). وكانت تلك هي المرحلة الأولى للطرد، ثم جاءت المرحلة الثانية عندما زعم الفرنسيون (شهر غشت، 1830)، أن هناك محاولة من بقايا الانكشارية المتزوجين من جزائريات لاستعادة الحكم العثماني. وهكذا جرت عملية الطرد الثانية بطريقة وحشية بعيدة عن كل معاملة حضارية إذ فرق الفرنسيون أثناءها بين الزوج وزوجه وبين الأب وأبنائه. ولكن هذا النوع من التهجير لا يهمنا كثيرا هنا. إنما يهمنا أولئك الذين هاجروا أو أجبروا على الهجرة من الجزائريين ¬

_ (¬1) انظر كتابنا (الحركة الوطنية) ج 3. (¬2) إيميل فيليكس غوتييه من غلاة الاستعماريين ومن الحاقدين على العرب والمسلمين. وهو صاحب كتاب (العصور المظلمة) التي يعني بها العهد الإسلامي للمغرب العربي. ورأيه المذكور يعبر عن احتقاره للجزائريين، فهم في نظره لا وطن لهم، وبلادهم إنما كانت في المزاد يشتريها الغالب من المغلوب.

أنفسهم لأسباب سياسية أو اقتصادية أو دينية. ورغم وجود عدد معتبر من الكراغلة (أحفاد الأتراك) فإننا لا نعرف أنهم هاجروا بأعداد كبيرة نحو اسطانبول أو نحو مدن أخرى من الدولة العثمانية. فقد كانوا يمثلون عنصرا من الفئة التي أطلق عليها الفرنسيون اسم (الحضر) أو سكان المدن. ولم تكن تخلو مدينة هامة من هؤلاء. نعم هناك هجرة أفراد منهم لأسباب سياسية مثل حمدان خوجة. وقد أجبر الفرنسيون بعض الكراغلة على الهجرة أيضا، في فترات متباعدة. كما أن وضعهم في تلمسان وفي المدية وفي واد الزيتون الخ. لم يكن مريحا في عهد الأمير عبد القادر. ولعل بعضهم قد اختاروا الهجرة على البقاء عندئذ. والمهاجرون إلى اسطانبول قلما كانوا يذهبون إليها مباشرة. فقد كانوا غالبا يتوجهون إلى الحج أو إلى سورية أو الاسكندرية، ثم منها إلى العاصمة العثمانة. ونحن نعلم أن بعض أعيان المهاجرين في سورية قد انتقلوا إلى اسطانبول، أو كانوا يترددون هنا وهناك. وكانت تونس معبراو آخر قبل احتلالها من فرنسا، إلى الأراضي العثمانية. ولاحظ أن قضية اللغة كانت تلعب دورا رئيسيا في الموضوع، إذ يظهر أن الجزائريين الذين يعرفون اللغة العثمانية كانوا قليلين. ولذلك كانوا يتوجهون إلى البلاد العربية الواقعة بالفعل تحت الدولة العثمانية مثل سورية والحجاز. ومن جهة أخرى فإن مراكز الاستقطاب الديني والعلمي كانت في غير اسطانبول مثل الأزهر والحرمين الشريفين والقدس الشرف. إن الأراضي التي كانت توزع على الجزائريين معظمها كانت في سورية (بما في ذلك فلسطين ولبنان) وقليل منها فقط كان بأناضوليا. وهكذا يبدو أن اسطانبول لم تكن سوى العاصمة السياسية بالنسبة للجزائريين. وقد كان معظم المهاجرين غير مهتمين بالسياسة لأنهم كانوا من الناس العاديين الفارين بدينهم إلى أرض الإسلام والعرب. أما السياسيون فقد كانوا يحلون باسطانول فيقضون منها حاجاتهم كالاستقبال الرسمي أو البحث عن عمل مناسب أو الاتصال بشخصيات هامة، ثم يغادرونها إلى حيث يستقرون، وقلما يتخذونها دارا للإقامة. حدث ذلك

مثلا مع حمدان خوجة، ومع الأمير عبد القادر وحاشيته. بعد إطلاق سراحهم من قبل الفرنسيين. فقد نزل الأمير باسطانبول، وبعد الاستقبالات الرسمية والمراسيم غادرها إلى بروسة. وكان معه بعض الجزائريين. واغتنم فرصة الزلزال الذي حدث في بروسة سنة 1855 وطلب الانتقال إلى سورية. ومن أشهر من ارتبطت أسماؤهم باسطانبول أيضا الأمراء علي ومحيي الدين ومحمد، وكلهم أبناء الأمير عبد القادر، وكلهم تقلدوا فيها مناصب سياسية وعسكرية ولكن إقامتهم جميعا كانت في سورية. كذلك حلت باسطانبول شخصيات من أصول جزائرية من أجل تجنيد التأييد العثماني لقضية الجزائر والمغرب العربي عموما. ومن هؤلاء شخصيتان تحدث عنهما الوثائق خلال السبعينات على أنهما ممثلان للجمعية الخيرية الإسلامية بالجزائر. ولا نعرف الآن أكثر من اسم واحد منهما ويدعى محمود. ومن تلك الشخصيات الشيخ المكي بن عزوز الذي ذاع صيته كعالم وشاعر وسياسي ومتصوف، ثم قريبه محمد الخضر حسين. وكلاهما كان قد زار الجزائر وتعرف على أحوالها تحت الاستعمار. وكانت والدة الشيخ المكي بن عزوز من بنات الشيخ الديسي (والد أبي القاسم الحفناوي صاحب تعريف الخلف). وكان الشيخ المكي يتردد على دار أخواله وعلى زاوية الهامل (نواحي بو سعادة). ويقال إن وفدا يتألف من الأمير محيي الدين بن الأمير عبد القادر، ومحمد ظافر المدني وعبد الرحمن الجزولي قد استقبله في ميناء أزمير. كما يقال عن ابن عزوز إنه قد تتخلى عن الطرقية منذ التحق بالمشرق، وأصبح من دعاة السلفية (¬1). وقد روى الشيخ أحمد بن مصطفى بن عليوة، مؤسس الطريقة العليوية - الشاذلية، أنه زار اسطانبول سنة 1909 - 1910. وكانت عندئذ تمر بمرحلة الانقلاب الذي أطاح بالسلطان عبد الحميد وجاء بسلطان خائر ¬

_ (¬1) عنه انظر لاحقا. وله ترجمة وافية في كتاب محمد محفوظ (تراجم المؤلفين التونسيين)، دار الغرب الإسلامي، ج 3، وكذلك (الشهاب)، ديسمبر 1930، وتعريف الخلف 2/ 192.

كان لعبة في يد جمعية الاتحاد والترقي التي كانت بدورها لعبة في يد الحركة الصهيونية والجمعية الماسونية. وكانت اسطانبول عندئذ تعيش في فوضى، ولذلك لم يرتح فيها ابن عليوة ولم يجد فيها ما كان يتوقعه كعاصمة للخلافة الإسلامية. وكان ابن عليوة من أهل الطرق الذين لهم ارتباطات مع الدولة العثمانية، مثل الشاذلية والمدنية. ولا شك أنه تلقى أمواجا من الدعاية للجامعة الإسلامية وهو ما يزال في الجزائر. وربما كان ذلك وراء قراره بالهجرة، فقد باع أملاكه وعزم على الهجرة، وحل بتونس ثم طرابلس. وكانت هذه ما تزال تحت الحكم العثماني، وكانت الطريقة المدنية نشيطة فيها. وقد روى أنه لقى في طرابلس من عرض عليه الإقامة في إحدى الزوايا. وكان محمد ظافر المدني من المقربين للسلطان العثماني، وربما كانت دوافع ابن عليوة أن يزور هذا الشيخ الذي يرتبط به في الطريقة (الدرقاوية - المدنية - الشاذلية). ركب ابن عليوة البحر وحده من طرابلس إلى الآستانة (اسطانبول)، وحين وصل إليها أحس بالغربة لاختلاف اللغة أولا ثم لظروف الانقلاب ثانيا. وقد تعرف فيها فجأة على أحد فقهاء الجزائر (لم يسمه) فحياه بالعربية وآنسه واستعان به ابن عليوة على حوائجه. وسجل ابن عليوة بعض الملاحظات والمشاهدات في هذه الزيارة. فحكم بانحراف الشباب التركي (تركيا الفتاة) وتأسف على سقوط السلطان عبد الحميد، وتفطن لدسائس الأجانب، فرجع إلى الجزائر متحسرا، ورأى أن (جمود) الجزائريين على عقيدتهم خير من (الإباحية) التي وصلها الأتراك في عهد مصطفى كمال (أتاتورك) (¬1). ومهما كان الأمر فإن زيارة ابن عليوة لاسطانبول كانت له درسا في السياسة والتصوف. فبدلا من أن يبقى في الشرق مهاجرا كما كان ينوي ¬

_ (¬1) مارتن لانغز (الشيخ أحمد العلوي)، بيروت 1973، ص 75. رغم أنه زار اسطانبول في التاريخ الذي ذكرناه غير أنه سجل حديثه عنها في عهد أتاتورك، أي بعد الحرب العالمية الأولى. أما السلطان عبد الحميد فقد خلع في 28 أبريل سنة 1909 وعوض بأخيه محمد الخامس.

الروابط الروحية - الصوفية

رجع إلى الجزائر، ودلا من أن يتبنى آراء سلفية وإصلاحية رأى أن ما عليه الشعب الجزائري من التشبث بالعقائد والعوائد خير من (النهوض والوطنية والإصلاح) التي كان يرددها جماعة تركيا الفتاة (¬1). وخلال الحرب العالمية الأولى فر بعض الجنود الجزائريين من الجيشي الفرنسي إلى المعسكر الألماني والعثماني. ومن ألمانيا نقلوا إلى الأراضي العثمانية حيث واصل بعضهم تدريبه، ثم التحقوا بمناطق معينة كالمغرب وليبيا حيث كان العثمانيون والألمان يخططون لإثارة القلاقل ضد الحلفاء وفرنسا بالخصوص. والمهم هنا هو أن بعض الجنود بقوا في اسطانبول وكان بعضهم قد كتب نشرات دعائية ضد الفرنسيين ودعا إخوانه من الجنود إلى الفرار. ومهما كان الأمر فإننا لا نعلم كم كان عدد المهاجرين الجزائريين في اسطانبول والمدن العثمانية التي ذكرناها. ويبدو أن العلاقات الجزائرية العثمانية لم تبق قوية بعد الاعتراف بالاحتلال الفرنسي سنة 1847. ورغم بعض التحرك في فترة الانتفاضات أو الحروب الدولية مثل 1850، 1854، 1871، 1914 فإن الدولة العثمانية لم تظهر اهتماما جديا بقضية الجزائر منذ الاحتلال، ولا سيما منذ هزيمة الحاج أحمد باي قسنطينة 1837. وهذا لا يعني أن الجزائريين لم يكونوا متعلقين بالخلافة والجامعة الإسلامية. فنحن سنرى أن ما يسميه الفرنسيون بالعاطفة التركية (وهي في الحقيقة الرابطة الروحية مع الخلافة) كانت موجودة وقوية إلى نهاية الحرب العالمية الأولى، أي ما دامت الخلافة قائمة (ألغيت سنة 1924). ... الروابط الروحية - الصوفية الرابطة الروحية - الصوفية قديمة بين الجزائر والمغارب والمشارق. فهي ترجع إلى قرون قبل الاحتلال الفرنسي. وليس غرضنا تتبعها جميعا. بعد ¬

_ (¬1) انظر فصل التاريخ والرحلات.

الاحتلال. وسنكتفي بلمحات وشواهد على الروابط القائمة رغم محاولة الفرنسيين عزل الجزائر ومراقبة اتصالاتها مع الخارج. من بين الطرق الكثيرة العاملة في الجزائر خلال الاحتلال ما كان أصله في بغداد أو المغرب أو مصر أو ليبيا أو الحجاز. وكانت الزيارات والصلات متبادلة، لأن الأصول والاهتمامات واحدة. ومن الطرق التي نشأت في المغرب وأصبح لها فروع في الجزائر نذكر الطيبية والعيساوية والحنصالية والدرقاوية، ومن الطرق التي ظهرت في المغرب وتونس ثم انتقلت إلى المشرق نجد الشاذلية. أما الطريقة الشهيرة التي نشأت في بغداد وكان لها فروع ومقدمون في الجزائر فهي القادرية. وكانت الطريقة المدنية قد ظهرت في ليبيا ومنها انتقلت إلى الجزائر، رغم أن للمدنية تيارات في الحجاز واسطانبول، كما أن لها أصولا درقاوية. ومن تونس دخلت الطريقة الشابية والبوعلية والسلامية إلى الجزائرر. والطريقة الرحمانية وإن كانت تظهر جزائرية فإن أصلها يرجع إلى الخلوتية بمصر. وتبقى التجانية التي تبدو جزائرية الظهور أيضا، ولكن صاحبها قد دخل مختلف الطرق من قبل، وبعد أن أظهر طريقته في الجزائر رحل بها، لأسباب مختلفة، إلى المغرب الأقصى، ومن هناك ذاعت وانتشرت ثم عادت إلى الجزائر. وآخر الطرق المهمة هي السنوسية التي دخلت الجزائر من ليبيا بعد أن انتقلت إليها من الحجاز (¬1). نحن هنا لا نبحث في الطرق الصوفية في حد ذاتها ولكن في العلاقات الناشئة بسببها بين الجزائريين وغيرهم في المغرب والمشرق. وإذا كان الفرنسيون قد توصلوا حتى إلى تدجين بعض الطرق المغربية وجعلها في خدمتهم مثل الطيبية، فإنهم اكتفوا بالنسبة للقادرية مثلا بالسيطرة على فروعها في الجزائر ومراقبة نشاط من يأتي باسمها من المشرق. وكذلك فعلوا مع السنوسية التي صوروها في أحيان كثيرة على أنها مصدر خطر عليهم. وكان الفرنسيون أيضا ينظرون إلى هذه الطرق (الأجنبية) على أنها جمعيات سرية ¬

_ (¬1) انظر فصل الطرق الصوفية.

تعمل مع السلطنة العثمانية على تحطيم الوجود الفرنسي في الجزائر وتونس وغيرهما. وقد ربطوا بينها وبين حركة الجامعة الإسلامية، فالطرق الصوفية من وجهة نظرهم كانت معادية لهم وعميلة للجامعة الإسلامية. هول لويس رين سنة 1884 إن الدول الأوروبية قضت نحو خمسين عاما (¬1) وهي تحاول جر الشرق القديم إلى الحضارة الحديثة. ولكن النتائج كانت غير معتبرة. ثم إن ما حصل من تقدم (؟) قد أدى إلى تحرك رؤساء الدين الإسلامي في العمق لمعارضة اتجاهات التقدم والإصلاح. وقد حاول هؤلاء الرؤساء (يقصد رؤساء الطرق الصوفية والمرابطين) إثارة المشاعر الدينية لمكافحة ما يرونه خطرا. كما حاولوا توحيد الروابط الروحية بين الأمة الإسلامية. وإذا كانت مقاومتهم في البداية محتشمة وغير منظمة فانها سرعان ما أصبحت في غاية التنظيم والتطور وشملت جميع البلدان الإسلامية، وقد توصلت اليوم إلى إنشاء جامعة إسلامية أصبحت خطرا يتهدد جميع الشعوب الأوربية التي لها مصالح في كل من أفريقية وآسيا. وهذه الجامعة الإسلامية تتمثل قوتها ووسيلة تحريكها وتنفيذها في الجمعيات السرية أو الطرق الصوفية التي تمارس تأثيرا، عظيما على الجماهير (¬2). لقد كان (رين) يقيس الحاضر بالغائب، كما يقولون، وكان هو نفسه معاديا للدين في حد ذاته، حسبما قيل عنه. إنه كان يقيس حالة الجزائر في الثمانينات من القرن الماضي بحالة فرنسا خلال ثورتها وبالضبط فانه كان يقارن (الجمعيات السرية) الفرنسية بالطرق الصوفية الجزائرية. فقد كان الثوار الفرنسيون يرون الخطر كل الخطر في (الكليرجي) وتنظيماتهم الخاصة التي كانت تشكل في نظر الثوار خطرا على الاتجاه العلماني للثورة الفرنسية. أما عن معاداة الدين من حيث هو فان فرنسا خلال الثمانينات من القرن الماضي كانت تمر بمرحلة التخلص من سيطرة الحزب الكاثوليكي وانتصار مبادئ ¬

_ (¬1) أي منذ احتلال فرنسا للجزائر. (¬2) لويس رين (مرابطون وأخوان)، الجزائر 1884، ص 5 - 6 من المقدمة.

الجمهورية الثالثة التي ألغت على حرية العقيدة والضمير، أي الحرية الدينية، وبداية الحملة في فصل الدين عن الدولة. وكان رين وبعض الكتاب من أنصار هذا الاتجاه. ولكن رين لم يكن يكتب كتابا نظريا محضا يبدي فيه رأيه نحو الدين والدولة والتقدم والتخلف والشرق والغرب، بل كان ضابطا مسؤولا، في الشؤون الجزائرية، وكان يريد السيطرة على الطرق الصوفية التي كان يرى فيها خطرا على الوجود الفرنسي لصلتها بالجامعة الإسلامية عدوة الشعوب الغربية في نظره. حقيقة أن الطرق الصوفية كانت نشيطة عندئذ ولكن علاقتها بالجامعة الإسلامية مبالغ فيها. لم يذكر رين اسم جمال الدين الأفغاني زعيم الجامعة الإسلامية الذي تعاونت المخابرات الفرنسية والإنكليزية على إبعاده من مصر والهند وتركه (يسبح) فقط في أوروبا حيث يراقبون كل تحركاته وأقواله. وقد قاده ذلك إلى الإرتماء في أحضان السلطان عبد الحميد الثاني الذي لم يكن أرحم به من الساسة الإنكليز والفرنسيين بعد أن أضيف لهم ساسة الحركة الصهيونية. ولكن من الأكيد أن حركة الجامعة الإسلامية كانت تتجاوب إلى حد كبير مع رجال من أمثال بو عمامة الجزائري وعرابي المصري والمهدي السوداني. وكان الثلاثة متعاصرين ومعاصرين لنشاط جمعية العروة الوثقى التي لها خيوط سرية، ولكن ليس بالدقة والضخامة التي يريد لويس رين تقديمها بها. أما الحركة الصوفية فقد كان لها وسائل اتصالاتها. هناك طريق الحج رغم القيود عليه. وهناك الرسائل المرموزة والشخصيات المتنكرة. وكان المهاجرون لا يقطع سيلهم، وسنعرف أن من بين من خاض الحرب ضد الفرنسيين رجال كانوا يمثلون بعض الطرق الصوفية التي ذكرناها - مبعوثين! - مثل محمد بن عبد الله (بو معزة) من الطريقة الطيبية، وموسى الدرقاوي الذي جاء من مصر ودخل في الطريقة المدنية (الدرقاوية) وحارب الفرنسيين مدة طويلة حتى قتل في الزعاطشة سنة 1849. وفي سنة 1845 وردت على الجزائر شخصية غريبة، ما يزال الغموض يكتنفها، ونعني بذلك الشيخ محمد

الصالح الرضوي البخاري (من بخارى)، ولعله كان يمثل إحدى الطرق المشرقية إذ قيل عنه إنه جاء يزور شيخه الفاسي (؟) في المغرب. وأثناء زيارته الجزائر أجاز بعض علمائها. ولم نعرف أن المهاجرين الجزائريين قد رفعوا شعارا صوفيا عند هجرتهم. كانت الدعوة إلى الهجرة عامة، كما رأينا، وليس هناك طريقة معينة أرادت حمل الجزائريين على الهجرة باسم التصوف. غير أن الوثائق الفرنسية تخبرنا أن الشيخ المهدي السكلاوي الذي هاجر من دلس، قد دعا سنة 1847 أهل زواوة. الى الهجرة إلى سورية. وكان الشيخ المهدي رحمانيا، وقد أصبح متأكدا عنده أن الفرنسيين سيهاجمون زواوة، فدعا أهلها إلى الهجرة إلى بلاد الشام. وقد استجاب له عدد كبير وهاجروا ليبتعدوا عن (حكم الكفار). وتطلق المصادر الفرنسية على الشيخ المهدي لقب (المتعصب الديني). ولا ندري هل دعوة الشيخ المهدي كانت مرتبطة بهزيمة الأمير عبد القادر واستسلام خليفته الشيخ أحمد الطيب بن سالم في البويرة. وقد كان ابن سالم أيضا رحمانيا. وهو الذي طلب من الفرنسيين السماح له بالهجرة إلى المشرق. فإذا صح هذا فإن هناك دعوة رحمانية إلى الهجرة قبل مهاجمة الفرنسيين منطقة زواوة. فهي هجرة وقائية، إذا صح التعبير. وفي حركة شبيهة بهذه نسب الفرنسيون إلى الطريقة الرحمانية أنها كانت وراء الهجرة من زواوة إلى الشرق أيضا. من ذلك ما حدث سنة 1857 على يد الحاج عمر شيخ زاوية آيت إسماعيل، ثم سنة 1864 حين هاجرت 200 عائلة زواوية، وأدت المراسلات والزيارات إلى هجرات أخرى من هناك، وكلها كانت بدافع من الرحمانية، حسب هذه المصادر. ونجد ديبون وكوبولاني يخلطان أيضا بين حركة الجامعة الإسلامية والطرق الصوفية. فقد قالا ان الطريقة الرفاعية والطريقة المدنية كانتا تحثان الجزائريين على الهجرة نحو المشرق (¬1). ¬

_ (¬1) ديبون وكوبولاني (الطرق الدينية الإسلامية)، الجزائر 1897، ص 260.

ويخبرنا رين أن ممثل الشيخ السنوسي في الحجاز حاول تجنيد الشيخ عبد العزيز (عزيز) الحداد في الطريقة السنوسية، بعد أن هرب الشيخ عبد العزيز الحداد من كاليدونيا الجديدة إلى مكة والمدينة. وحاول رين أن يدس على الشيخ عبد العزيز بأنه زعم للقنصل الفرنسي في جدة أنه رفض عرض ممثل الشيخ السنوسي لأنه كان أقل منه أهمية ولأن الرحمانية أهم من السنوسية. وكان ممثل السنوسي قد عرض على الشيخ عبد العزيز التوجه إلى جغبوب، مقر الزاوية السنوسية والعمل على نشر الدين وتعاليمه. فكيف يفضل عبد العزيز الذهاب إلى فرنسا الهارب منها على العيش في الحجاز أو جغبوب؟ وإذا صحت هذه الرواية عن عبد العزيز فإنها لا تعدو في نظرنا التعمية من قبله على الفرنسيين. والغريب أن القنصل الفرنسي زعم أن عبد العزيز قد نصح فرنسا بعدم السماح للحجاج بأداء الحج عندئذ لأن أصداء ثورة المهدي السوداني قد انتشرت في الحجاز أيضا، وستنتشر عدواها في الحجاج الجزائريين إذا جاؤوا (¬1). إن الذي يهم من هذه الرواية هو الصلة بين الطريقة السنوسية ممثلة في زاويتها بمكة والطريقة الرحمانية التي كان عبد العزيز الحداد يعتقد أنه يمثلها في المشرق. وقد اتخذ عبد العزيز ختما رسميا بذلك. وكان يعطي الأوراد الرحمانية. ولكننا لا نعرف عنه أنه افتتح زاوية لأتباعه في الحجاز، ولا سيما أولئك الذين كانوا يأتون من الجزائر. كما لم نسمع عنه أنه ذهب إلى (إخوانه) الذين سبقوه في بلاد الشام. ويمثله الفرنسيون عندئذ على أنه كان فقط حريصا على الحصول على عفو فرنسا عنه. ومن عادة الفرنسيين أنهم يسودون وجه عدوهم حتى لا يتركون له شرفا قائما ولا سيرة طيبة. ¬

_ (¬1) رين (مرابطون)، مرجع سابق، ص 476? 477. يقول رين عن عبد العزيز الحداد إنه كان يتحدث الفرنسية برشاقة وأن أحد قناصل فرنسا بجدة كان يعرفه في الجزائر، وأن ابنه (ابن عبد العزيز) كان يدرس في الليسيه الفرنسي بالجزائر. انظر فصل الطرق الصوفية.

أما السنوسية فدورها في الجزائر معروف. وقد تعرضنا له أكثر من مرة. ويكفي أنها تدخلت في ثورة الشريف محمد بن عبد الله في الخمسينات من القرن الماضي، وثورة بوعمامة، ولعلها ساعدت على تسريب الأمير محيي الدين بن الأمير عبد القادر 1870 - 1871، وكان لها دور - حسب المصادر الفرنسية - في مختلف حوادث الصحراء بين 1880 - 1919. وقد عدها ديبون وكوبولاني من الطرق الأجنبية التي كانت ترسل مبعوثين ليتجولوا في الصحراء ويتجهوا إلى بو عمامة. وقالا إن السلطات الفرنسية قد ألقت القبض على أحد هؤلاء المبعوثين، في سكيكدة سنة 1895، وهو سيدي ابن علي. وكان هؤلاء متخفين بدعوى زيارة الزوايا الجزائرية. وكان سيدي ابن علي هذا من عيساوية مكناس، وكان أصلا زنجيا من السودان، وادعى أنه جاء كمفتش للزاوية العيساوية بالجزائر، ولكن السلطات الفرنسية قبضت عليه لشكها فيه أنه مبعوث من السنوسية. وقد منعت هذه السلطات كل دفع مالي باسم الزيارة الصوفية وغيرها من العطايا ذات الطابع الديني. وكانت قد وضعت يدها على كمية من المال عند أحد هؤلاء المتجولين المتخفين، حسب دعوى ديبون وكوبولاني (¬1). وكثيرة هي الحوادث المماثلة. وكانت للقادرية أيضا اتصالاتها بين الجزائر وبغداد وبيروت. وكان وارث بركة الشيخ محيي الدين (والد الأمير عبد القادر) هو ابنه محمد السعيد، وقد ظل محمد السعيد هو الحامل لبركة والده في دمشق أيضا بعد الهجرة (¬2). ثم حملها عنه ابنه محمد المرتضى الذي انتقل إلى بيروت وأصبح ¬

_ (¬1) ديبون وكوبولاني، مرجع سابق، ص 254. (¬2) جاء في (تحفة الزائر) 1/ 186 أن محمد بن عبد الله البغدادي جاء إلى الجزائر من بغداد وأكرمه محيي الدين والد الأمير وحارب معه الفرنسيين، وذهب إلى المغرب ثم رجع إلى الجزائر بعد معاهدة التافنة (1837)، وانضم إلى الثائر ابن عودة المختاري (جنوب المدية) وحاربهما الأمير في أولاد نائل وأولاد مختار والزناخرة، ثم أوكل الأمير الأمر إلى خليفته محمد بن علال فهزمهما، وعفا الأمير عن البغدادي فتوجه إلى المغرب من جديد. وهناك شخص آخر ربما يكون من القادرية ذكره الكتاني =

له دالة على أتباع القادرية في الجزائر. وتذكر المصادر الفرنسية أن محمد المرتضى قد اتصل بحوالة بريدية قدرها 1، 440 فرنكا من الجزائر سنة 1895. وهذه النقود قد أرسلها إليه مقدموه الذين من بينهم قائد وقاض. وقد استغرب الفرنسيون من أن القائد والقاضي كانا من (المتنورين)، ومع ذلك فإنهما، لأسباب سياسية أو شخصية أصبحا (عبدين) للشيخ محمد المرتضى باعتباره حاملا للبركة القادرية. ومن جهة أخرى، فإننا نعرف الصلة الموجودة بين القادرية الأم في بغداد والقادرية الفروع في الجزائر رغم محاصرة الفرنسيين لهذه الفروع وجعلها تعيش محليا فقط. وكانت السلطات الفرنسية تلقي القبض من وقت لآخر على أشخاص يزعمون أنهم مبعوثون من بغداد لجمع المال (الزيارات) لشيخ الطريقة الأكبر. ففي السنة المذكورة (1895) قالت هذه السلطات إن شخصا يدعى سي محمد بن منشاوي، الجيلاني الطريقة، قد جاء إلى الجزائر من بغداد لرسم وكيل الزاوية الأم. وذكرت شخصا آخر يسمى سي الحاج ابن الدرويش الذي جاء إلى الجزائر من مكة. وإذا صحت هذه الروايات الفرنسية فإن هؤلاء المبعوثين لم يكونوا جميعا من جباة المال للزاوية الأم حقيقة، وإنما كانوا دعاة لأفكار سياسية ومبشرين بالدعوة الإسلامية تحت غطاء التصوف. والواقع أن حركة الأشخاص لم تتوقف بين الجزائر والمشرق أثناء حياة الأمير عبد القادر. ونحن نجد في بعض المراجع أسماء لعدد من العلماء والقضاة كانوا يترددون بين دمشق والجزائر خلال الستينات والسبعينات من القرن الماضي، وهم أشخاص لهم صلة قرابة بالأمير، مثل عائلة بو طالب وعائلة ابن المختار، وعائلة المجاوي. ويذهب السيد الآن كريستلو إلى أن الأمير كان يبقى بواسطة هؤلاء، على الصلة بالجزائر ويعرف من خلالهم ¬

_ = (فهرس الفهارس) 2/ 288، وهو علي بن ظاهر الوتري المدني، فقد زار الجزائر سنة 1297 هـ. وأجاز بعض علمائها ومنهم علي بن الحاج موسى قيم ضريح الشيخ الثعالبي.

تطور الأوضاع فيها. وبذلك كان يستطيع أن يتملص من الحدث الذي لا يريد أن يتدخل فيه. ومهما كان الأمر فإن تدخل الأمير بواسطة أقربائه العاملين في مجال القضاء والتعليم بالجزائر كان محسوبا عند البعض على الطريقة القادرية. أما الطريقة الرفاعية فليس لها نفوذ واسع في الجزائر. وكان شيخها الظاهر هو أبو الهدى الصيادي مستشار السلطان عبد الحميد الثاني. وكان الصيادي قد وقف ضد طموحات السيد جمال الدين الأفغاني لتحقيق الوحدة (الجامعة) الإسلامية بواسطة السلطان. وكانت بين الصيادي وبعض الجزائريين مراسلات، نذكر منهم الشيخ عاشور الخنقي الذي طالما دافع عن الأشراف دفاعا مستميتا، سيما في كتابه (منار الإشراف) (¬1). ويعتبر الفرنسيون أن الشريف عون حاكم مكة المكرمة كان من صنائع أبي الهدى الصيادي، ومن ثمة تأثير الشريف عون في الحجاج الجزائريين وغيرهم. وبذلك تكون الرفاعية قد امتدت إلى الجزائر ولكن بنفوذ يبدو ضعيفا. وكانت الرفاعية تخدم فكرة الجامعة الإسلامية كما تبناها السلطان عبد الحميد وليس على طريقة السيد الأفغاني. وكذلك كان للطريقة المدنية بعض النفوذ في الجزائر. وكانت المدنية قوية في الحجاز وليبيا واسطانبول. وكان شيخها القوي عندئذ (آخر القرن الماضي) هو محمد ظافر المدني الذي استقر باسطانبول. وهو الذي يعتبره الفرنسيون الموجه الحقيقي للجامعة الإسلامية في المغرب العربي. وكان للطريقة المدنية أتباع في الجزائر، كما عرفنا، منذ الشيخ موسى الدرقاوي. وكان الشيخ ظافر منافسا للشيخ السنوسي في المنطقة، لأن الأخير كان يعتبر متمردا على العثمانيين بينما الشيخ ظافر كان ضمن المؤسسة الرسمية من العلماء والصوفية في الدولة. ومهما كان الأمر فإن هذه الطرق المشرقية كانت لها صلات، ولو ضعيفة، مع الجزائر، في مجال التصوف والسياسة والحضارة. ويذهب الفرنسيون إلى أن من بين الوسائل التي يوصل بها ¬

_ (¬1) انظر ترجمة الشيخ عاشور الخنقي في فصل الشعر.

الجامعة الإسلامية

الأهالي حق الزيارة لشيوخهم خارج الجزائر هي توسيط التجار اليهود، واستعمال الحجاج، والحوالات البريدية. وهي ادعاءات تعوزها الأدلة في الوقت الحاضر. الجامعة الإسلامية أشرنا في عدة مناسبات إلى حركة الجامعة الإسلامية وعلاقتها بالجزائر. وهذه الحركة تعني الروابط الحضارية والدينية والسياسية بين المسلمين وإنعاشها بعد الهمود والتخلف والتفكك الذي أصاب العالم الإسلامي عدة قرون. بدأت في محاولات وغارات الغرب على الشرق في العصر الحديث أثناء حملة نابليون على مصر وسورية. ولم تدم هذه الحملة سوى بضع سنوات ولكن آثارها بقيت، ولا سيما فكرة اليقظة ومحاولة التجديد واللحاق بالأمم الغربية في السلاح والجيوش. وكانت الهند المسلمة قد وقعت أيضا، فريسة لبريطانيا، كما وقعت أندونيسيا فريسة لهولندا، وكانت إيران وأفغانستان تواجه الضغوط البريطانية والروسية. ورغم أن الدولة العثمانية أخذت تجدد نفسها فإن قوى الضغط الداخلي كانت هي المتغلبة. وفي هذه الأثناء بالذات وقعت الحملة الفرنسية ضد الجزائر. وبعد هذه الحملة استغاث الجزائريون بالقوى الإسلامية واستنجدوا بسلاطين المسلمين ولكنهم لم يحصلوا على القوة أو النجدة المطلوبة للضعف والتفكك والتخلف الذي أصاب العالم الإسلامي كما ذكرنا. وبحكم الجوار كان أول المتأثرين بالحملة الفرنسية ضد الجزائر هم أهل المغرب العربي. فتدخل سلطان المغرب (عبد الرحمن بن هشام) بعض الوقت لأسباب مختلفة، وأنجد المستغيثين، ولكنه واجه ضغوطا كبيرة من فرنسا، فكان عليه أن يتراجع بل أن يتحالف في آخر المطاف مع الفرنسيين ضد الأمير عبد القادر. وكان مسلمو المغرب قد آووا مسلمي الجزائر وساعدوهم بالمال والسلاح، ولكن السياسة الرسمية تغلبت على العواطف الأخوية والدينية. وكانت تونس الشعبية قد وقفت نفس الموقف فآوت الجزائريين وخدمت

القضية الإسلامية، ولكن الباي (حسين ثم أحمد) كان تحت ضغط فرنسا أيضا، فكان الباي يقدم المعونة إلى الفرنسيين بدل تقديمها للشعب الجزائري. فقد منع وصول النجدات العثمانية عن طريق تونس إلى الجزائريين، سيما إلى الحاج أحمد، باي قسنطينة. وأصبح قنصل فرنسا في تونس يتصرف بدون قيود، كما لو كان في بلاده. ومن جهة أخرى اتفق باي تونس وكلوزيل، قائد الجيش الفرنسي في الجزائر، على (شراء) إقليمي وهران وقسنطينة بدفع تونس أتاوة للحكومة الفرنسية. وكان موقف باشا طرابلس مع المقاومة منذ البداية ولكن لا سبيل له إلى إنجادها إلا عن طريق تونس. كما أن السلطات العثمانية قضت بتغيير الحكم في ليبيا (1835) وألحقت الإيالة بالباب العالي مباشرة، ولعلها كانت تهدف إلى جعل ليبيا ركيزة قوية لحماية تونس من الوقوع في قبضة الفرنسيين من جهة ودعم المقاومة الجزائرية من جهة أخرى. وقد جرت عدة محاولات في هذا الشأن ولكنها باءت بالفشل، لضعف الدولة العثمانية نفسها وحربها مع محمد علي والي مصر، وكثرة مشاكلها في البلقان والبحر الأسود. ومنذ انسحاب محمد علي والي مصر، من مشروع الحملة ضد الجزائر توجه اهتمامه نحو المشرق - نحو الحجاز وسورية بدل المغرب العربي. وكان محمد علي قادرا على التأثير في السياسة الفرنسية ونجدة الجزائريين، ولكنه في نفس الوقت كان طموحا لتحقيق مآرب أخرى على أنقاض الدولة العثمانية المتداعية. كما أن الفرنسيين كانوا يمنونه ويوجهونه نحو قواعد الدولة العثمانية وليس نحو أطرافها، كالجزائر. وكلما حاولت هذه الدولة التدخل لنجدة الجزائر وجدت جيش محمد علي عند إحدى مدنها وقلاعها. يضاف إلى ذلك المعارضة الدينية والعسكرية للإصلاحات في اسطانبول، وثورات البلقان، ومحاصرة فرنسا مضايق صقلية، وبذلك بح صوت الجزائريين في طلب النجدة الإسلامية، وكان عليهم أن يعتمدوا على أنفسهم في مواجهة الغزو الفرنسي.

هذه هي المرحلة الأولى من مراحل ظهور حركة الجامعة الإسلامية في نظرنا. أما المرحلة الثانية فقد أخذت في الظهور في السبعينات من القرن الماضي على 80 جمعية العروة الوثقى السرية وجريدتها العلنية، وبقيادة السيد جمال الدين الأفغاني. ولا نريد أن نطيل في كيفية ظهورها وتطوراتها والعراقيل التي واجهتها في الهند ومصر وفارس واسطانبول وكابول. ولكن نقول إن الجزائر في تلك الأثناء كانت واقعة تحت كلكل الاستعمار الفرنسي، وأنها كانت تتململ وتثور، كما حدث سنة 1871 - 1881، ولم تكن أبدا منعزلة عما يجري في المشرق من أحداث حتى قبل بدء المرحلة الثانية للجامعة الإسلامية. فقد كانت حرب القرم فرصة لتجديد الصلات والعلاقات بين الجزائريين والمشرق، وبينهم وين العثمانيين. والتقى خلالها الجنود الجزائريون ببعض آبائهم وأجدادهم الذين هاجروا إلى المشرق وتطوع بعضهم للدفاع عن الدولة العثمانية. كانت حرب القرم فرصة لاستعادة الذكريات لقربها من عهد الاحتلال (ربع قرن فقط). ولا شك أن آباء المتطوعين قد حدثوهم عن الجزائر قبل الفرنسيين، والعلاقات السابقة بين المسلمين. وقد قام وفد جزائري بزيارة فرنسا لإهداء نابليون الثالث راية مطرزة بالذهب وتقديم كمية من المال، ونحو ذلك من الرموز. وكان الوفد يتألف من رجال الدين والتجار والأعيان (¬1). وكان أهل مدينة الجزائر وراء هذه اللفتة الحضارية، وكانت الرسالة التي حملها الوفد إلى نابليون تضم 300 توقيع من رجال الدين والعلماء والأعيان من القطر كله. وقد بقي الجنود الجزائريون في المشرق نحو عشرين شهرا، وكان عددهم حوالي 2200 جندي. وكانت الصحف الفرنسية الصادرة بالجزائر تنشر أخبار حرب القرم. ¬

_ (¬1) انظر تفصيل ذلك في كتابنا (الحركة الوطنية)، ج 1. وصل الوفد إلى باريس في 16 أبريل 1854.

كما كانت تنوه بدور الجزائريين فيها، وتبرز العلاقات بين الدولة العثمانية وفرنسا. ومن جهته كتب الشاعر الشعبي محمد بن اسماعيل، وهو من العاصمة، قصيدة طويلة، أشاد فيها بالدولة العثمانية والجامعة الإسلامية القديمة، والخلافة والمشاعر الدينية والروابط مع المشرق والتاريخ المشترك (¬1). إن حرب القرم جاءت لتذكر الجزائريين بالعلاقات بينهم وبين الدولة العثمانية (الخلافة). ونحن لا نستبعد أن يكون استعجال الفرنسيين في استعادة الفرقة الجزائرية وراء الخوف من ازدياد التأثير على الجزائريين في المشرق سواء من المهاجرين السابقين أو من العثمانيين أنفسهم (¬2). ومع الحرب السبعينية وجدنا حركة محيي الدين بن الأمير عبد القادر الذي حاول تثوير الجزائر من جهة تبسة وسوف. وقد جمع الأنصار من الغاضبين الجزائريين في تونس وليبيا، وراسل أعيان الطرق الصوفية وأعيان الأجواد والعلماء داعيا إياهم للجهاد، منذ خريف 1870. وكان من نصرائه ناصر بن شهرة. ويبدو لنا أن الأمير محيي الدين كان يحمل دعم الخلافة العثمانية، وربما موافقة أبيه غير العلنية (¬3). إن محاولة محيي الدين والمقرانيين لا يجب أن ينظر إليها على أنها محاولة فردية أو معزولة بعضها عن بعض من جهة ولا أنها منفصلة عن دعم الدولة العثمانية وتأييد الأمير عبد القادر، سيما بعد القبض على نابليون الثالث، من جهة أخرى. كذلك نريد أن نربط بين حركة الأمير محيي الدين وظهور (الجمعية الخيرية الإسلامية) في الجزائر سنة 1871. وهي الجمعية التي بقيت غير معروفة إلا قليلا. وكانت العريضة الأولى التي وجهتها إلى الباب العالي ¬

_ (¬1) انظر عنها فصل الشعر، وكان قد نشرها وعلق عليها محمد بن أبي شنب. (¬2) تذهب الروايات الفرنسية إلى أن سبب استعادة الفرقة بسرعة هو عدم فعاليتها، رغم أن صحافة الوقت أكثرت من الإشادة بشجاعة الجزائريين في الحرب، بما في ذلك إطراء جنرالات الإنكليز لهم. ولسنا ندري كيف يحسن الجزائريون الحرب في كل المعارك إلا في حرب القرم. (¬3) عن تدخل محيي الدين في أحداث الجزائر انظر لاحقا.

مؤرخة في 25 سبتمبر 1871. والعريضة كانت تذكر بالمساعدة الموعودة، وكون أعضائها قد حملوا السلاح للدفاع عن الدين، وأن الذي وعدهم بالمال والسلاح هو مصطفى فاضل، أحد إخوة الخديوي إسماعيل، باشا مصر. وهناك عريضة أخرى أرسلتها الجمعية الخيرية إلى الباب العالي أيضا بتاريخ 28 مارس 1872. وهي في طلب النجدة وتوسيط إحدى الدول الأجنبية لاستعادة الجزائر إلى حظيرة الدولة العثماية. كما أشارت العريضة الثانية إلى أحداث الصحراء وهزيمة الفرنسيين فيها، وهي إشارة إلى الحرب التي تزعمها الفارس بوشوشة وجماعة المدقانة من الشعانبة وغيرهم (¬1)، وللجمعية مراسلات أخرى ليس هنا محل تفصيلها. ومنذ الثمانينات بدا للفرنسيين أن هناك جهودا منسقة من حركة الجامعة الإسلامية مع الطرق الصوفية في الجزائر. وقد أشرنا إلى كتابات لويس رين الذي تصور أن الطرق الصوفية أصبحت عبارة عن (جمعيات سرية). تعمل على تحطيم الوجود الفرنسي بالتعاون مع أعداء فرنسا في الخارج. وفي نفس الفترة (13 نوفمبر 1884) ألقى الضابط الفرنسي ني NEY محاضرة في اجتماع الضباط، جاء فيها أن هناك مطبعة كبيرة في اسطانبول تطبع جريدة رائجة جدا في أفريقية وآسيا، يبلغ سحبها مائة ألف نسخة، وأن لها تأثيرا عظيما. وقال إن للجريدة مراسلين في تمبكتو، وسمرقند، ومصر، والحجاز، والهند، الخ. وأن صاحب تحريرها صحفي سوري (¬2). أما المرحلة الثالثة لحركة الجامعة الإسلامية فهي تلك التي تولاها الباب العالي بنفسه وأخرجها من يد السيد الأفغاني. وذلك منذ آخر ¬

_ (¬1) عن نشاط الجمعية الخيرية الإسلامية انظر عبد الجليل التميمي (بحوث ووثائق مغربية) 1972، ص 109 - 129. (¬2) لم يذكر اسمه ولا اسم الجريدة، ولكنه يعني بدون شك جريدة (الجوائب) لأحمد فارس الشدياق، انظر لويس فينيون (فرنسا في شمال افريقية)، باريس، 1887، ص 205 هامش 1. وكان بعض الجزائريين يراسلونها.

الثمانينات. ويؤرخ الفرنسيون تبني السلطان عبد الحميد سياسة الجامعة الإسلامية باحتلال بلادهم لتونس (1881). وقد كتب بعدئذ السيد غبريال شرمس كتابا بعنوان (مستقبل تركيا) حلل فيه سياسة الدولة العثمانية. وذكر فيه أن فرنسا أيضا (دولة إسلامية) بما لها من رعايا مسلمين، وكانت فرنسا تؤيد وحدة الدولة العثمانية من جهة أوروبا، ولكنها لا تؤيد قوتها ولا نفوذها من جهة شمال أفريقية. وكان لاحتلال تونس وسياسة الدولة العثمانية الإسلامية، ردود فعل في الجزائر والسودان ومصر أيضا. ففي الجزائر حدثت ثورة بوعمامة (1881) وكانت لها في الحقيقة ظروف محلية ودولية. وبوعمامة من زعماء أولاد سيدي الشيخ ومن رجال الطرق الصوفية. وقد كان لثورته عواقب على الوضع بالمغرب الأقصى، ولها أصداء في السودان ومصر، حسب المصادر الفرنسية. كما أن نشاط بوعمامة قد تعزز بدعم الطريقة السنوسية له. وأثناء ثورته حل الجنود العثمانيون في طرابلس (وهي عثمانية) ووقعت ثورة في سفاقص واحتلت القيروان. وقد انتشر الحماس في القاهرة عند سماع الناس بثورة بوعمامة، وربما بالغوا في أهميتها، حسب تعبير فينيون. كما حدثت ثورة عرابي بمصر ووقعت معركة التل الكبير وضربت الإسكندرية بعد هيجان شعبي. ولكن القضاء على ثورة عرابي لم يخلص الإنكليز من الخطر، فقد كان عليهم أن يواجهوا ثورة المهدي السوداني. وقد تساءل فينيون سنة 1887 عما إذا كان يمكن للملاحظ أن يربط بين هذه الثورات المتعاصرة، فيكون عرابي إنتاجا مباشرا لبوعمامة، والمهدي خليفة لعرابي؟ ثم إن حركة الجامعة الإسلامية كانت متصلة الأطراف، ذلك أن ما كان يحدث عندئذ (الثمانينات) فى السودان الغربي قد يكون له، في نظر فينيون، تأثير أيضا على أهل المغرب العربي (¬1). وقد وظفت حركة الجامعة الإسلامية في مرحلتها الأخيرة العديد من رجالات الجزائر وتونس، سواء من الأصول المهاجرة أو من الزعماء الذين ¬

_ (¬1) فينيون، مرجع سابق، ص 209? 210.

اختاروا المشرق بعد احتلال تونس. جندت الدولة العثمانية بعض أبناء الأمير عبد القادر بد وفاته سنة 1883. وعلى رأسهم الأمير محيي الدين الذي أصبح له شأن في الجيش العثماني، كما أرسله السلطان في مهمات أخرى نحو المغرب الأقصى. ومنهم الأمير محمد الذي أصبح المتكلم باسم العائلة في المشرق، وهو مؤلف كتاب (تحفة الزائر) الذي أهداه إلى السلطان عبد الحميد الثاني في عبارات فخمة ومطولة (¬1). ولكن بعض أبناء الأمير اختاروا الجانب الفرنسي، ومنهم الأمير عمر والأمير الهاشمي. وإذا كان الأخير قد اكتفى بالاستقرار في الجزائر بأولاده (ومنهم الأمير خالد) لعجزه، فإن الأمير عمر ظل يوالي السياسة الفرنسية في المشرق إلى أن قتل سنة 1916 على يد العثمانيين في سورية. إن الصراع عندئذ كان على أشده بين أنصار الباب العالي وأنصار فرنسا، أو إذا شئت بين العاطفة الإسلامية - العثمانية والعاطفة الموالية للفرنسيين. وقد ساعدت هجرة محمد بيرم الخامس ومحمد الخضر حسين والمكي بن عزوز وصالح الشريف وإسماعيل الصفائحي والثعالبي والأخوين باشر حانبه (علي ومحمد) - وكلهم من تونس - على بلورة السياسة الإسلامية نحو شمال افريقية. ويجب أن نلاحظ أن هؤلاء جميعا لم يكونوا يعملون في إطار الوطنية الضيقة التي نعرفها اليوم في أقطار شمال افريقية، بل كانوا يعملون في إطار الجامعة الإسلامية، على توحيد الجهود لتحرير المغرب العربي من الاستعمار الفرنسي. وكانت جهودهم متضافرة مع المهاجرين السابقين وأحفادهم. ومنذ احتلال المغرب الأقصى دخل موضوع تحريره أيضا ضمن مطالبهم. وكانت لهم صحفهم مثل (الإعلام) لبيرم في القاهرة، و (المهاجر) لمحمد شطا والأمير علي في دمشق. كما أن جرائد (المقتبس) و (المؤيد) وكذلك (المنار) و (المفيد) و (الأسد الإسلامي) و (المنهاج) كانت تغطي أخبارهم. ¬

_ (¬1) انظر دراستنا (العثور على النسخة المخطوطة من كتاب (تحفة الزائر)) في كتابنا أبحاث وآراء، ج 2.

بعض أعيان الجزائر في المشرق والمغرب

بعض أعيان الجزائر في المشرق والمغرب نذكر في هذه الفقرة بعض أعيان الجزائريين عموما ثم نركز على الأمير عبد القادر وعائلته في المشرق. ونظل دائما في إطار النشاط الثقافي والعلمي أكثر من النشاط السياسي أو العسكري. وحديثنا عن هؤلاء لن يكتسي بطابع الترجمة الذاتية أو السيرة، وإنما نكتفي بإبراز الملامح التي جعلت من الشخص إنسانا متميزا في وقته. 1 - محمد المهدي السكلاوي: سبق الحديث عنه في الهجرة التي أفتى بضرورتها، وقاد هو نفسه مجموعة من أتباعه إلى بلاد الشام. ولد بدلس حوالي 1200 وتوفي بدمشق سنة 1278 ودفن بسفح جل قاسيون. وقد رافقته عائلته في هجرته سنة 1263 (1847) وفيها ولده محمد الصالح. وحصل من الدولة العثمانية على الأرض لنفسه وللمهاجرين الذين معه. وكان من أنصار أحمد الطيب بن سالم خليفة الأمير عبد القادر في زواوة. وللسكلاوي تأثير في الحركة الدينية في الشام إذ تولى مشيخة الطريقة الخضرية، وكانت له أوراد يلقنها المريدين، ومنهم بعض حكام دمشق وعلمائها. وكانت له سمعة واسعة في الشام والجزائر. ومن تلاميذه الشيخ محمد المبارك (¬1). 2 - محمد الطيب المبارك: ولد أيضا في دلس سنة 1255 (1839) وتوفي بدمشق سنة 1313 (1896). وهو مدفون بالمزة. هاجر سنة 1263 مع والده، تحت تأثير حركة الهجرة التي دعا إليها الشيخ السكلاوي، وقد تعلم على والده وعلى الشيخ السكلاوي الذي هو جده لأمه. ثم ازداد علما بعد دراسته على الأمير عبد القادر وغيره. وحصل على الإجازة منهم، كما أجازه محمد الفاسي بالورد الشاذلي. وعاش محمد الطيب المبارك من عمل يده، إذ كان مجلدا للكتب في دمشق، كما علم بزاوية الخضر التي أسسها جده الشيخ السكلاوي. ¬

_ (¬1) انظر البيطار (حلية البشر)، والخالدي (المهجرين الجزائريين).

ولمحمد الطيب المبارك فضل علمي هام. فقد أرسله الأمير عبد القادر مع الشيخ محمد الطنطاوي إلى قونية لمقابلة نسخة من كتاب (الفتوحات المكية) لابن عربي، عندما كان الأمير يحضر لكتابة (المواقف). وكان الناس يعتقدون في محمد الطيب عقائد صوفية ويزورون قبره بعد وفاته. وكان والده محمد المبارك قد توفي عام 1269، ولذلك كفله جده لأمه الشيخ السكلاوي. وكان محمد الطيب أيضا شاعرا، وأديبا. كما كان شاذلي الطريقة (¬1). 3 - محمد المبارك بن محمد المبارك: ولد محمد المبارك لوالده في لبنان (بيروت) سنة 1263 (1848) بعيد الهجرة. وعاش إلى سنة 1330 (1912). ومن شيوخه والده والمهدي السكلاوي ومحمد الطنطاوي. وبد أن نال نصيبا من العلم انتصب للتدريس في زاوية الخضر المذكورة سابقا. كما درس في حوران، ثم أسس مدرسة النهضة العلمية عام 1324؛ وله باع في نشر المعرفة، وتآليف سنذكرها في مكانها. كما تولى إدارة أزمير (¬2). 4 - صالح السمعوني: من بي سمعون قرب بجاية. ولد في قبيلته دون أن نعرف تاريخ ذلك، ثم هاجر إلى الشام في إحدى الموجات. وكان عارفا بالرياضيات والفلك وعلوم أخرى مشابهة، وأقرأ الفلك لأبناء دمشق حتى عرف به وتخرج عليه فيه بعض العلماء. تولى فتوى المالكية بدمشق، وخلال ثلاثة أشهر من كل سنة كان يجلس لإقراء البخاري. وتوفي في دمشق سنة 1281 (1864) (¬3). وقد غطت عليه سمعة إبنه الشيخ طاهر. ¬

_ (¬1) ترجم له الخالدي، مرجع سابق، وكذلك أعلام دمشق، وحلية البشر، انظر أيضا محمد مطيع الحافظ ونزار أباظة (علماء دمشق وأعيانها)، دمشق 1991. ج 2/ 540. فقد ترجم هذا المصدر لمحمد المبارك الأب وذكر أبناءه، ومنهم محمد الطيب ومحمد المنور الذي هاجر إلى اليمن وبقي بها، وله أولاد وأحفاد فيها. (¬2) نفس المصدر، وهناك مصادر عديدة أخرى مذكورة في الخالدي. (¬3) منتخبات تواريخ دمشق، 2/ 664.

5 - طاهر السمعوني: وهو ابن الشيخ صالح، ولد له في دمشق، سنة 1268 (1851)، وعاش الشيخ طاهر حتى سنة 1919 (1338)، ولم يتزوج. وأصبح من أعلام الشرق في القرن الماضي وأوائل هذا القرن. كون مدرسة فكرية وتلاميذ ظلوا أوفياء له، وتولى وظائف معظمها علمية وتعليمية. وألف كتبا عديدة في العربية والفلسفة والأدب والدين. ودخل حزب اللامركزية المؤيد للدولة العثمانية ولكنه معارض لسياسة الترك التي عادت العرب وقضت على الدولة. هاجر إلى مصر هاربا من ظلم الأتراك، وقد عرفه وكتب عنه أبو يعلى الزواوي، واستكتبه تاريخ الزواوة، فطلب منه الشيخ طاهر الكتابة عن لغة أهل زواوة ونحوها. وقد زار الشيخ طاهر الجزائر آخر القرن الماضي دون أن ندري الغرض الذي حمله على ذلك ولا المدة التي قضاها، والتقى أثناء زيارته بالشيخ محمد السعيد بن زكري المدرس والمفتي بالعاصمة. والشيخ طاهر من أولاد سيدي الحاج حساين دفين بني وغليس. والشائع لدى المعاصرين أن الشيخ طاهر دخل في الماسونية على يد سيدة بريطانة كانت من (خبراء) الشرق في العراق. وعلى إثر تحرير دمشق من الأتراك وإقامة الحكومة العربية بها على يد فيصل بن الشريف حسين سنة 1919 رجع الشيخ طاهر إلى دمشق، ولكنه سرعان ما توفي بها في نفس السنة. وكانت فرنسا عندئذ تحاول الاستيلاء على دمشق باسم الانتداب المعروف. ومن أبرز تلاميذ الشيخ طاهر نذكر محمد كرد علي الذي تولى الوزارة في العهد الفرنسي بسورية وترأس المجمع العلمي العربي (¬1). 6 - سليم السمعوني: وهو ابن أخ الشيخ طاهر الجزائري. ولد بدمشق ¬

_ (¬1) الأعلام الشرقية، 2/ 114. والباني (تنوير البصائر)، والأعلام للزركلي، 2 ومنتخبات ... دمشق 2، ومجلة المجمع العلمي 8، الهلال 27، والمقتطف 56، الخ. وعدنان الخطيب (الشيخ طاهر الجزائري). عن زيارته للجزائر انظر مراسلة من علي أمقران 9/ 4/ 1979. ودراستنا عن الشيخ أبي يعلي الزواوي في أبحاث وأراء، 2.

سنة 1296 (1879). وكان عمه من شيوخه وهو الذي أشرف على تربيته وأدخله المدرسة الحربية في اسطانبول بعد تكوينه العام، وكان سليم يحسن العربة والتركية والفارسية والفرنسية والإنكليزية. وخرج في الهندسة. وأصبح من عقداء الجيش العثماني وشارك في حروب البلقان، وحرب اليمن. وتولى قيادة الجيش. وقد شارك في تكوين الجمعيات العربية الداعية إلى استقلال العرب عن الأتراك، وكان معارضا للسياسة الطورانية التي تولاها قادة الاتحاد والترقي في الدولة العثمانية بعد انقلاب 1909. وفي 1916 قام جمال باشا حاكم سورية بإعدامه، مع آخرين في بيروت. وكان إعدامهم يوم 6 أيار (مايو) الذي يسمى في سورية يوم الشهداء. وكان سليم شاعرا أيضا وهو مؤلف النشيد العربي ضد الأتراك. وكان عالما بالرياضيات والمنطق (¬1). كما كان له اهتمام بالصحافة إذ كان يحرر في جريدة (المفيد) التي كانت تصدر ببيروت وكانت تعارض الإتجاه الطوراني. 7 - أحمد الطيب بن سالم: هاجر بعد إلقاء السلاح سنة 1847، ورافقه إلى الشام 442 من أتباعه وعائلته صغارا وكبارا، أطفالا ونساء، وجرى استسلامه في سور الغزلان يوم 27 فبراير 1847، أي عشرة أشهر قبل هزيمة الأمير عيد القادر. هاجر معه الشيخ محمد المبارك. حملتهم باخرة فرنسية. وبعد وصوله إلى بلاد الشام التف حوله الجزائريون وكونوا خلية أو جالية هامة. وكان أحمد الطيب بن سالم من رجال الطريقة الرحمانية، ومن المقربين للأمير. وبقي ثماني سنوات، هو رئيس هذه الجالية بدون منازع إلى أن وصل الأمير سنة 1855. وظلت العائلات الأتباع تصل إلى بلاد الشام بتشجيعات السكلاوي وغيره، من جهة بوسعادة، وكانت هذه الناحية تتبع خلافة الشيخ ابن سالم، وكان ممثله فيها هو (سيدي عامر) (¬2) وقد أدى ابن ¬

_ (¬1) الأعلام للزركلي، 3/ 12، أعلام دمشق، شهداء أيار، يقظة العرب لجورج انطونيوس، الخالدي مخطوط. معجم المؤلفين، وبالخصوص زكي محمد مجاهد (الأعلام الشرقة) 2/ 29. (¬2) باردان (الجزائريون والتونسيون)، مرجع سابق، ص 6 - 7. حاول الفرنسيون أن =

سالم فريضة الحج. وشجع الجزائريين على الإقامة في جهة الجليل (فلسطين). وأثناء حرب القرم ظهر اسمه من جديد. وقد اطلعنا له على بعض الرسائل الموجهة إلى أقاربه في الجزائر. ويبدو أن التأثير الديني كان للشيخ السكلاوي. ولا ندري متى توفى الخليفة أحمد الطيب بن سالم. 8 - الحاج علي بوطالب: كان من أبناء عمومة الأمير عبد القادر. وقد أنجبت عائلة جو طالب عددا من القضاة الذين توظف بعضهم في شرق البلاد. وكان جد الحاج علي هو سيدي بو طالب أخو محيي الدين والد الأمير. ولد الحاج علي في مدينة معسكر حوالي سنة 1825. وفي سنة 1843 (عام الزمالة) هاجر مع والده والفقيه ابن عبد الله سقط إلى فاس، ثم حلوا بطنجة. وبقي هناك مدة إلى أن أطلق سراح الأمير وحل بدمشق، فالتحق به وظل معه إلى سنة 1877. وفي هذه السنة رجع إلى الجزائر فأحس الفرنسيون خطره واتهموه بإثارة الشغب فنفوه، فحل بطنجة من جديد سنة 1878. وتقول المصادر الفرنسية إنه طلب معونة من البعثة الفرنسية في طنجة فوقع (سوء تفاهم) معه أدى إلى لجوئه إلى البعثة الألمانية. وقد استقبله الدبلوماسي الألماني، ويبر WEBER، وهو الوزير المفوض في طنجة، وكان ويبر يعرف الحاج علي منذ كان في بيروت، فكانت بينهما معرفة شخصية وظل معه على علاقات ودية. وتذهب المصادر الفرنسية إلى أن الحاج علي وطالب أصبح صديقا مخلصا لألمانيا. وفي 1879 رافق الحاج علي الرحالة الألماني الدكتور لانز LENZ إلى تمبكتو وحصل على وسام النسر الأحمر. كما قدم خدمة إلى السفير الألماني في المغرب سنة 1905، الكونت توتنباخ حين رافقه إلى فاس. وكانت هذه السنة هي التي عرفت الأزمة المغربية الدولية. وفي السنة الموالية قدم الحاج علي خدماته إلى أحد الخواص الألمان في المغرب، وهو أحد الأخوة مانيسمان MANESSMEN المختصين في البحث عن المعادن. ¬

_ = يدسوا بين الأمير وابن سالم في دمشق بعد أن عجزوا عن الدس بينهما في الجزائر. وكان ابن سالم خليفة محترما لدى الأمير، كما كان الخليفة يقدر أميره حق قدره.

ثم عاش الحاج علي بقية أيامه في هدوء بطنجة مبتعدا، كما قال المصدر الفرنسي، عن كل المؤامرات والهرج. ولا ننسى أن الفرنسيين قد عينوا سنة 1906 الأمير عبد المالك (ابن الأمير عبدالقادر) رئيسا للشرطة الشريفية في طنجة. وبين الحاج علي وعبد المالك قرابة عائلية واضحة. وسنجد عبد المالك يثور ضد فرنسا ابتداء من سنة 1915 بدعم من ألمانيا والدولة العثمانية، ولكن ذلك حدث بعد وفاة الحاج علي سنة 1909 في طنجة (¬1). 9 - محمد المصطفى ابن التهامي: ولد أيضا، في معسكر سنة 1205، وتعلم في وهران. وهو ابن عمة الأمير. وكان صهرا له. وقف مع الأمير في كل مراحل حياته. فعينه كاتبا لسره ورئيسا لديوان الإنشاء، وخليفة على مدينة معسكر. وهو الذي عينه ليفاوض محمد الصغير التجاني أثناء حصار عين ماضي واستطاع إقناعه بقبول الصلح. وقد شاطر الأمير سجنه في امبواز وإقامته في بروسة ثم دمشق. وكان هو المدرس لأولاد الأمير في السجن. وفي دمشق تولى ابن التهامي التدريس في الجامع الأموي والفتوى المالكية، وكان يحضر مجالس الأمير، ويناظر علماء الشام، وكان متضلعا في العربية والأدب والفقه؛ وقد اطلعنا له على أشعار ومراسلات مع محمد الشاذلي القسنطيني أثناء إقامتهما في أمبواز. وله قصائد في التوسل لإطلاق سراحهم من السجن، وأخرى في الأدب الصرف. ونحن ننوي نشر مجموعة أشعاره ذات يوم. وقد توفي ابن التهامي فهي دمشق سنة 1283 (1866). وكان له تلاميذ من الشام نذكر منهم الشاعر عبد السلام الشطي (¬2). ¬

_ (¬1) لويس ماسينيون (الحاج علي بوطالب) في مجلة العالم الإسلامي. R.M.M فبراير، 1910، ص 266. انظر أيضا كريستلو (المحاكم)، ص 180. وعن الأمير عبد المالك، انظر الحركة الوطنية، ج 2، وأبحاث وآراء ج 1. وربما يكون الحاج علي بوطالب هو الذي وسطته فرنسا لدى بوعمامة. (¬2) علماء دمشق وأعيانها، مرجع سابق، 2/ 649. وذكر هذا المصدر أنه دفن في مقبرة الدحداح بدمشق. وقال إن الأمير عندئذ كان في الحجاز، وهو خطأ لأن الأمير قد انتهى من حجه سنة 1864.

10 - محمد الخروبي القلعي: وتاريخ ميلاده غير معروف. وكان من أخلص الناس للأمير الذي ولاه عدة وظائف منها الكتابة له والسفارة والولاية. فقد عينه خليفة على سطيف، وأرسله إلى (سلطان) تقرت، سنة 1838، وكانت عائلة الخروبي ضمن الزمالة فأسر الفرنسيون ابنته وتزوج بها كما قيل أحد ضباطهم، كما أسروا الخروبي نفسه. ثم أطلقوا سراحه، فاختار الإقامة في دمشق، وحين أطلق سراح الأمير وحل ببروسة التحق به محمد الخروبي وبقي معه إلى أن رجع معه إلى دمشق. وفي هذه المدينة اشتغل الخروبي بالعلم وإفادة الناس به، وكان كثير الحفظ طليق اللسان. وكان عبد الرزاق البيطار يعرفه شخصيا فذكر أنه كان يزوره رفقة والده كما كان الخروبي يزورهم. وكانت بينهم مذكرات علمية. وقد وصفوه أيضا بالجرأة والمهابة. وأدركته الوفاة سنة 1279 (1862) (¬1) فكان الخروبي من المهاجرين الذين نفعوا بعلمهم وسيرتهم. 11 - محمد بن يلس بن شاويش: ولد في تلمسان سنة 1847 (1264). وبقي في الجزائر إلى هجرته منها سنة 1911 عند التحضير لفرض التجنيد على المواطنين. تعلم الدن والتصوف والعربية، ومن شيوخه في الطريقة الدرقاوية (الشاذلية) محمد البوزيدي. وحياته بالجزائر غير معروفة لدينا. فالذين ترجموا له أغلبهم من دمشق، وهم الذين عرفوه شاعرا وشيخا للزاوية العمادية هناك. وكانت هجرته مع عائلته وأصحابه، عبر طنجة ومرسيليا. ومنذ وصوله اشتغل بالتدريس وتلقين الأوراد الصوفية، ونشر ديوانا من الشعر، وتتلمذ عليه بعض أعيان دمشق، وأعطته السلطات العثمانية الزاوية المذكورة لينتفع بها وينفع منها. ومن الذين رافقوه في هجرته وخلفوه على الزاوية بعد وفاته سنة 1927، تلميذه محمد بن عبد الرحمن الهاشمي. ¬

_ (¬1) (حلية البشر) 3/ 1303، و (علماء دمشق وأعيانها) 2/ 610. وقد دفن بمقبرة الدحداح بدمشق. ورأينا أثناء دراستنا عن محمد الشاذلي أن الخروبي كان ضمن وفد جزائري زار فرنسا بتدبير رسمي. ولا ندري انطباعه عن هذه الزيارة التي حدثت أثناء وجود الأمير في السجن. كما لا ندري مصير ابنته الأسيرة.

وكان لمحمد بن يلس صوت ذاع في ميدان التصوف. ولا ندري مدى تداخله في الأمور السياسية بعد أن تعرضت دمشق في عهده إلى هزات عنيفة خلال الحرب الأولى ثم الانتداب الفرنسي (¬1). 12 - محمد بن عبد الرحمن الهاشمي: وهو من مواليد سبدو قرب تلمسان سنة 1881 (1298). وقد هاجر مع شيخه ابن يلس إلى دمشق، ودرس على شيوخ في الجزائر والشام، ولعله قد درس في المغرب الأقصى أيضا. ومن شيوخه في الشام بدر الدين الحسني وأمين سويد. وقد ورث بركة شيخه ابن يلس في الزاوية العمادية بدمشق، وظهرت له عدة مؤلفات في العقائد والتصوف. منها معراج التشوف الذي ظهر سنة 1937 بدمشق. ولم يكن الهاشمي على علاقة طيبة مع السلطات العثمانية التي قيل إنها نفته مدة سنتين إلى أضنة. وأدى فريضة الحج. ولعله لم يكن على علاقة طيبة مع السلطات الفرنسية الجديدة أيضا، (¬2). 13 - عبد الرحمن أبو حجر: في رسالة منه إلى الشيخ محمد مبارك الميلي قال إنه كان يقيم في جدة. وانه مدرس وخطيب في جامع عكاش، مقيما على محاربة البدع والخرافات مدة ثلاثين سنة، وكان قد أقام في السودان الغربي (السنيغال ومالي؟) والسودان المصري وفي صعيد مصر وأسفلها. فعل ذلك حسب قوله، باللسان والقلم والنثر والشعر. وقال إن حكومة الإنكليز في السودان قد أحرقت كتبه (¬3). ... في هذا الباب يدخل أيضا المهاجرون الذين ذكرنا أسماءهم في عدة ¬

_ (¬1) الخالدي مخطوط، نقلا عن الفرفور أعلام دمشق في القرن 14 هـ. (¬2) الخالدي مخطوط، نقلا عن أعلام دمشق مرجع سابق، وتاريخ علماء دمشق، ومعجم المؤلفين. (¬3) هذه الرسالة منشورة في البصائر 31 مارس 1939. وليس لدينا معلومات أخرى عن هذا الرجل الرحالة.

عائلة الأمير في المشرق الإخوة والأبناء

مناسبات بل تناولنا حياتهم في فصول أخرى، أمثال حمدان الونيسي والشيخ الطيب العقبي والشيخ الإبراهيمي في الحجاز، والشيوخ محمد بن سعد والقاضي عبد العزيز وعبد الله المجاوي في الغرب، وحمدان خوجة والمكي بن عزوز ... في إساطانبول. وابن العنابي والكبابطي في مصر، والشيخ محمد المنور في اليمن. والطيب بن المختار وجماعة أخرى من المثقفين في بلاد الشام. ومحفوظ الدلسي ومحمد اللقاني وابن عبد السلام في تونس. وجميع هؤلاء قد أثروا الحياة الثقافية والدينية في البلد الذي استقبلهم، كما أثروا بذلك المجال الثقافي لبلادهم الأصلية التي حرمت منهم. وما دامت عائلة الأمير تدخل ضمن هؤلاء الأعيان، فأننا سنخصص لها بضع صفحات وحدها لأهميتها من جهة ولأن بعض الذين هاجروا قد دخلوا تحت لوائها الديني والثقافي وحتى السياسي. عائلة الأمير في المشرق الإخوة والأبناء لا تعنينا الآن حياة الأمير عبد القادر في الجزائر، ولكن تعنينا حياته خارجها، ولا سيما في المشرق بعد إطلاق سراحه من سجون فرنسا التي ظل فيها من بداية 1848 إلى نهاية 1852. والواقع أن عائلة الأمير كانت موضع حديث الصحافة الفرنسية والتقارير الرسمية حتى قبل هزيمته. فمنذ 1846 كتبت صحيفة (الجزائر) التي كانت تصدر في باريس وصفا لحياة عائلة الأمير، أمه وزوجته وإخوته وأطفاله. ثم نقلت (مجلة الشرق) تلك المقالة التي رجعنا إليها. وقد حاول الفرنسيون التشكيك في إخلاص زوجته، لاله خيرة ابنة عمه سيدي علي بوطالب، وفي أخلاق عضده القوى محمد بن علال، خليفة مليانة. وبناء على هذه المعلومات أيضا فإن الأمير كان يحب والدته لاله زهرة، حبا جما، وكان يرعاها ويزورها. ويذكرون أنها مرضت ذات مرة فى

مليانة وهو بعيد عنها، ولما سمع بذلك توجه إليها بسرعة فقطع خمسة عشر كلم في ظرف قياسي. وكانت أخته لاله خديجة ملازمة لأمها لا تفارقها. وكان الأمير يكتب إلى أمه بيده، أما إلى غيرها فكان يترك لكتابه يكتبون بدله. ولاله زهرة يقول عنها الفرنسيون إنها المرأة المعظمة التي بعثتها العناية الإلهية لتساعد على إرساء قواعد الجنسية العربية. وكانت امرأة من أهل الريف، وهي الوحيدة التي لبست الجوارب والقفازات الصوفية البيضاء التي أرسلها إليها الطبيب الفرنسي في معسكر أثناء الهدنة (1837 - 1838). فقد أرسلت تطلب علاجا من البرد الذي أصابها. وحين وصلتها الجوراب والقفازات من الطبيب لبستها بدون تحفظ، وليس غيرها كان يستطيع أن يفعل ذلك بين نساء الريف المرتبطات بالتقاليد والمحافظات، في نظر الفرنسيين. كان الأمير قد تزوج من ابنة عمه المذكورة قبل مبايعته بالسلطنة. ومنذ المبايعة أعلن لزوجته أنه سينشغل عنها ببلاده، ومصالح شعبه (¬1). وكانت تربطه بها علاقات عائلية قوية، فلم يطلقها. وكانت تمر أسابيع وشهور دون أن يراها. وكان له منها ولد يسمى محي الدين، توفي سنة 1837. ثم وقع ما أبعدها عنه بعض الوقت. ذلك أن كلوزيل قد هاجم مدينة معسكر في آخر 1835 فخرج منها أهلها، وكان الأمير غائبا. وقد أحرق كلوزيل المدينة. وتفرق عن الأمير أقرب الناس إليه، بمن فيهم زوجته وعمه بو طالب. وكان أبناء عمه المذكور معارضين له ولا سيما سمية عبد القادر بوطالب الذي كان ينتمى إلى الطريقة الدرقاوية. وقد غاب الأمير فى حصار عين ماضي حوالى عشرة أشهر (¬2). وعندما حلت عائلة الأمير في سجن (بو) بفرنسا، سنة 1850، زارته عائلات أوروبية وتحدثوا إلى زوجته وأمه. وشاهدوا أطفاله وحياته ¬

_ (¬1) انظر ما ذكره تشرشل عن الموضوع، وأيضا. انظر بيليسييه دي رينو (الحوليات). (¬2) (مجلة الشرق)، باريس 1846، ص 345 - 346، والمقال موقع بحرف (X) فقط.

الخاصة. وسجلوا انطباعهم الذي يكشف لنا نمطا من المعيشة العربية في بلاد السجن والغربة. فوالدة الأمير كانت في حدود السبعين سنة، وكانت تعيش في غرفة خاصة بها. ونفهم من الانطباعات أنه كان للأمير عدد من النساء الزنجيات أيضا. ومع ذلك فان مكانة زوجه لاله خيرة كانت مكانة خاصة بينهن. يقول الواصف انه كانت للأمير ثلاث وصيفات في غرفة واحدة، جالسات على المطرح. وكان أطفالهن جالسين على إحدى الزرابي، ورؤوسهم قصيرة الشعر، عدا واحدا منهم كان شعره مجعدا. أما البنات فشعورهن مسرحة ولكنها مربوطة بأشرطة. وكل الأطفال كانوا يلبسون اللباس الوطني في بساطة ظاهرة. أما النساء فثيابهن بيضاء طويلة ومضاعفة. وكان غطاء شعورهن من الحرير، وهو غطاء الرأس الذي يلففنه حول الرقبة أيضا. وكن يلبسن سلاسل، وعقودا، ذهبية وفضية في أحجام ضخمة، ويتزين بالخواتم الفضية والذهبية، وبالأطواق في الرقاب وبالأقراط في الأذان. وكانت أذرعهن وأرجلهن موشمات، وهن جميلات ومستسلمات للمصير الذي كن فيه. ويقول صاحب الوصف إن القصر الذي كن فيه كان مزينا بالزرابي والمرايا والأزهار، ولكن ذلك كله كان لا يلفت انتباههن ولا يريحهن من ألم الشوق والحنين إلى الوطن والحرية. وفي هذا القصر غرفة خاصة بلاله خيرة، زوجة الأمير ابنة عمه بوطالب. وبناء على الوصف فإن لاله خيرة كانت جالسة على أريكة تنظر إلى أطفالها الذين كانوا يجلسون عند قدميها على زربية. وكانت في حدود الأربعين سنة، وكان جمالها واضحا، للعيان، لكن خيريتها كانت أوضح. وكان لباسها الأبيض أرقى من لباس النساء الأخريات. وكان لها بنتان، كما أن أصغر الأطفال كان يتصاعد على ركبتيها. وكان عدد من كان في القصر (السجن) مع الأمير حوالي مائة شخص، من بينهم 32 رجلا، 32 إمرأة، 32 طفلا (¬1). والسيدة بروس كانت تسمى ¬

_ (¬1) السيدة بروس (إقامة في الجزائر)، لندن 1852، ص 315 - 316. كانت هذه السيدة =

الأمير عبد القادر (نابليون العرب). وتقول ان اسمه كان على كل لسان، وهو عند الناس عظيم، وهم لا ينفكون عن تذكره. ويبدو أن عدد من كانوا مع الأمير كان أكبر من ذلك. فهناك آخرون كانوا يعيشون قريبا منه، وليس معه في داخل القصر - السجن. فصاحب (تحفة الزائر) يتحدث عن 150 شخصا من أتباع الأمير كانوا على الباخرة. وكان لهؤلاء السجناء حياتهم الخاصة. فهم يقضون وقتهم في الصلاة والتدريس والتعلم والقراءة. وكان بعضهم يعاني من القلق والحنين إلى الحرية والجهاد والعمل في الحقول. وكان السيد قرة محمد هو مؤذن قصر أمبواز بعد انتقالهم إليه. ويقول صاحب تحفة الزائر إنه كان جهوري الصوت يسمع صوته عن بعد رغم علو جدران السجن (القصر) حتى أن مطران مدينة بوردو كان يخطب في الكنيسة حاثا مستمعيه على المواظبة على الدين كما يفعل المسلمون (¬1). وقد توفي عدد من أتباع الأمير ونساءهه وأطفاله أثناء سجنهم في امبواز. فقد كانت الأمراض تفتك بهم، مع الغربة وضيق الحال. مات له ابنان وبنت. كما توفيت اثنتان من الوصيفات الثلاث (إحداهن أم ولد مولدة، والثانية سودانية، حسب تعبير صاحب تحفة الزائر). وجملة من مات هناك عشرون شخصا. وقد دفنوا جميعا في مدفن خصصته لهم السلطات الفرنسية، وكان ¬

_ = فرنسية ومتزوجة من طبيب فرنسي وتوفي عنها. هاجرت إلى عنابة، فمات أخوها هناك. وعاشت في الوحدة والفقر. وتجولت في عنابة وقسنطينة وقالمة والجزائر ووهران. وكتبت رحلتها وتعزت بالأهالي والاستعمار، وراسلت أصدقاءها في أوروبا، ومنهم مترجم (مترجمة؟) الكتاب إلى الإنكليزية. عرفت السيدة بروس شكوى الأهالي وأحزانهم ولعناتهم ضد الاستعمار، وكانت تعرف حياة باريس فقالت متنبئة بأن آثار فرنسا ستختفي من الجزائر وأن سيطرتها ستذوب كما يذوب الثلج تحت حرارة الشمس اللافحة. انظر المقدمة. وزيارة قصر (بو) كانت سنة 1849 - 1850. (¬1) الأمير محمد باشا (تحفة الزائر) 1903، 2/ 17. وكان المؤلف عندئذ طفلا، وهو أحد الأطفال الذين وصفتهم السيدة بروس.

يقع في طرف البستان من داخل حرم القصر، وقد أحيطت هذه المقبرة الصغيرة بسياج من حديد (¬1). بعد إطلاق سراحه في آخر سنة 1852 والاحتفال به في باريس، شاهد الأمير وعلق على عدة أمور، مما يعبر عن رأيه في العالم من حوله. ومن أوائل ذلك أنه زار المتحف الحربي (الانفاليد) فشاهد فيه رايته التي طالما خفقت في سماء الجزائر، رآها سجينة في إحدى غرف المتحف، فتأثر تأثرا عميقا. وكانت هذه الراية البيضاء اللون كبيرة الحجم تتوسطها يد مفتوحة الأصابع الخمسة (¬2). وشاهد أيضا السكة الحديدية فسماها (طريق النار) وهو ترجمة حرفية للتسمية الفرنسية (¬3) وزار المكتبة الوطنية، والمطبعة الرسمية. وسجل إعجابه بطباعة الكتب، وقد طبعت أمامه ورقة عليها اسمه وهو واقف، للتأثير عليه. ورووا عنه أنه قال بالدارجة (بريز (باريس) كلها عجب، وأعجب ما فيها بيت الكتب، لله در عقول (؟)، انتخبوا خير منتخب، والسلام على كبير بيت الكتاب) (¬4). ولعل هذا الكلام كان منظوما فنثر، أو مسجوعا، ذلك أن كثرة الباءات توحي بأن الأمير كان يزن كلامه ويجمله. ولعل الكلمة الأخيرة (الكتاب) هي في الأصل (الكتب) كالتي وردت قبلها. وبعد الزيارة أرسل الأمير رسالة إلى محافظ المطبعة الرسمية، واسمه (سان جورج)، شكره فيها على حسن استقباله وصنيعه. وجاء فيها (وبعد، ¬

_ (¬1) نفس المصدر 2/ 36. يقول هذا المؤلف إنه زار المقبرة سنة 1866 (1283)، وإنها ما تزال قائمة إلى زمن التأليف، وهو سنة 1897. (¬2) تشرشل (حياة الأمير عبد القادر)، ص 62، 270. ويقول مصدر فرنسي يرجع إلى سنة 1841 ان راية الأمير كانت زرقاء مع يد حمراء في وسطها انظر (رحلة منوار) نشرها مارسيل ايمريت، المجلة الأفريقية، 1955، عدد 442، ص 133. وذكر صاحب (تحفة الزائر) 1/ 201 أن الراية بيضاء أعلاها وأسلفها أخضر وأوسطها يد مبسوطة مطرزة بالذهب. (¬3) المجلة الشرقية الجزائرية، م 1، 1852، ص 515. (¬4) مخطوط 7123 عربي، المكتبة الوطنية، باريس، ص 93. وتاريخ زيارة المطبعة هو 6 نوفمبر 1852، رفقة بواسوني وابن علال.

فإننا زرناكم فرأينا من صنعتكم شيئا ما بقي لنا أن نتعجوا (كذا) من شيء يده، ورأينا من ظرافتكم وحسن أخلاقكم ما أحببناكم به من قبل تقدم مخالطة معكم، فأنتم أهل للمدح، والسلام). وتبدو عبارات التكلفت وثقل الجملة واضحة في هذه الرسالة القصيرة. والظاهر أنها ليست من إنشاء الأمير. وهي بتاريخ فاتح محرم سنة 1269 (1852). ولكن الرسالة السياسية التي نسبت إلى الأمير في هذه الأثناء هي الجديرة بالتوقف. فقد قيل إنه كتب تعهدا لنابليون بأن لا يدخل الجزائر بعد ذلك، وأن لا يحمل السلاح من جديد، وأنه عبر عن شكره لنابليون على إطلاق سراحه، بينما الملك لويس فيليب وعده بالحرية ولم يفعل. وأقسم الأمير إيمانا مغلظة على ذلك باعتباره مسلما، ملتزما وشريفا. كما عبر عن إعجابه بقوة فرنسا التي لا يقهرها إلا الله، قائلا إنه اتبع إرادة الله في حمل السلاح كما اتبعها في إلقائه. وقد سارعت السلطات الفرنسية إلى استغلال هذه الرسالة لتوظيفها في الجزائر لتثبيط عزائم المقاومين، فطبعت نسخا منها بالعربية والبربرية بحروف عربية، وروجتها على أوسع نطاق وطبعتها في جريدة المبشر، ثم أعادت نشرها بعد ثلاث عشرة سنة عند اندلاع ثورة أولاد سيدي الشيخ (1865). وكانت ھذه السلطات تذكر الجزائريين دائما بأن الأمير قد أصبح من (أصدقاء فرنسا) بعد أن حاربها طويلا. وهكذا فإن الرسالة (إذا صحت نسبتها كاملة إليه) التي كتبها الأمير اعترافا، بجميل نابليون الثالث في إطلاق سراحه، وذلك طبعا من المروءة والأخلاق الفاضلة، أصبحت وثيقة سياسية استعملتها السلطات الفرنسية لإطفاء نار الفتنة، حسب تعبيرهم، أي القضاء على المقاومة ضد الاستعمار. ولو عرف الأمير أن كلامه سيوظف على ذلك النحو لكان أكثر حذرا، وربما توقف عن كتابة تلك الرسالة التي أصبحت سلاحا في يد العدو. وفي غمرة الفرح بالحرية الفردية يبدو أن الأمير قد نسي قول المتنبي:

إذا أنت أكرمت الكريم ملكته ... وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا وإليك نص هذه الرسالة (¬1)، كما ورد في الوثائق الفرنسية: بعد الحمدلة والدعاء بالنصر لنابليون الثالث، قال الأمير مخاطبا له (إنه جاء إلى حضرتكم العلية بالله، يستكثر بخيركم، ويتمتع بالنظر إليكم. فإنك والله، أحب إليه من كل محبوب، وفعلتم معه الفعل الذي هو فوق قدره وما يستأهله (¬2)، ولكن فعلكم على قدر همتكم وعلو مقامكم وكمال شرفكم. ولست، أعزكم الله، ممن يمدح بالباطل أو يخدع بالكذب، وأنكم أمنتم فيه وما صدقتم من شك في أمانته (¬3)، وسرحتموه، وفعلتم من غير وعد، وغيركم وعد وما فعل (¬4)، وهو أعطاكم عهد الله وميثاقه وعهود جميع الأنبياء والمرسلين، أنه لا يخالف أمانتكم فيه (¬5)، ولا يخرج عن عهدكم، ولا ينسى فضلكم، ولا يرجع إلى قطر الجزائر أبدا، لأنه حين أوقفه الله تعالى وقف وضرب البارود على قدر ما قدر، وحين أراد الله جلوسه جلس ورضى بقضاء الله، وسملت في الملك وجئتكم (¬6)، وديني وشرفي يأمرانني بالوفاء بالعهد وعدم الغدر، وأنا شريف لا نرضى أن ينسبني الناس إلى الغدر. وكيف يكون ذلك وقد رأيت من إحسانكم وفضلكم ما نعجز عن شكره. الإحسان إلى الأحرار سلسلة في رقابهم تقودهم إلى محبة المحسن. وقد شاهدت من ¬

_ (¬1) الرسالة بتاريخ منتصف محرم 1269 (1852). مخطوط المكتبة الوطنية - باريس، رقم 7123 عربي، ص 96 - 97. (¬2) تعبير عن التواضع، وقد كان شائعا بين أهل العلم والأدب عندئذ، ولعله ما يزال. (¬3) إشارة إلى من كان يقول بعدم تسريح الأمير خشية من عودته إلى حرب الفرنسيين. (¬4) تلميح بالسلطات الفرنسية السابقة لنابليون التي وعدت الأمير بتركه حرا يختار منفاه. ومنهم لامورسيير الذي وعد الأمير بذلك، ولما صار وزير الحرب (1848) رفض إطلاق سراحه. (¬5) هذا هو القيد الذي وضعه الأمير حول عنقه، ومع ذلك خاطبه البعض بعد سقوط نابليون باعتبار التعهد كان شخصيا وليس للدولة الفرنسية. ولعل ذلك هو سر الموقف سنة 1870 حين جاء ابنه محيي الدين لتثوير الجزائر. (¬6) لاحظ تغيير الضمائر، من الغائب إلى المتكلم المفرد.

فخامة ملككم، وقوة عساكركم وكثرة أموالكم ورجالكم، وعدالة أحاكمكم، ونصيحة عمالكم، واستقامة أموركم كلها ما نقطع ولا نشك فيه أنه لا يغلبكم ولا يردكم عن مرادكم إلا الله تعالى ...) (¬1) وأخيرا طلب الأمير من نابليون أن (ينظمه في سلك المحبين له). ليس في الرسالة سوى التعهد لنابليون بحفظ العهد والاعتراف بالفضل على تسريحه إياه وعدم الرجوع إلى الجزائر. ولكن الإعلام الرسمي الفرنسي، وعلى لسان جريدة (المبشر)، ذهب يردد أن الأمير تعهد بعدم حمل السلاح مرة أخرى ضد فرنسا. وهو أمر غير وارد في نص الرسالة. كل ما فيها بهذا المعنى هو ترك الأمور في يد الله الذي أمره بالجهاد فجاهد ثم أمره بالتوقف فتوقف، حسب تعبيره. والمسألة كلها قضاء وقدر، وما دام الأمر كذلك، فإن نفس الوضع قد يتجدد بعد حين، وكانت المبشر تكرر أن الأمير لن يرفع السلاح في وجه فرنسا، وأنه قسم على ذلك، وأنه سيبقى وفيا لفرنسا. وكل ذلك غير وارد كما تلاحظ من النص، ولعل الترجمة أساءت إلى النص العربي، لأن الجريدة زعمت أنه لم تصلها سوى النسخة الفرنسية، فأخرت نشرها حتى تصلها النسخة العربية. ولكنها سارعت إلى القول إن الجميع - الخاص والعام - يريدون معرفة ذلك التعهد ليتعظ من يحاول الفتنة ضد فرنسا مستعملين اسم الأمير. إن الجريدة الناطقة باسم السلطات الفرنسية في الجزائر كانت تريد أن تستغل هي رسالة الأمير ضد الثوار، سيما وأن ثورة الشريف بو بغلة كانت جارية في زواوة، وكذلك ثورة محمد بن عبد الله في الصحراء (¬2). ¬

_ (¬1) في هذه العبارة الأخيرة معاني كثيرة ليس هنا محل ذكرها. فالأمير قد ترك مستقبل الجزائر في يد الله قاهر الظالمين وكاسر شوكة الغزاة بعد أن عجز هو عن ذلك. (¬2) نشرت رسالة الشكر المذكورة في المبشر بتاريخ 30 نوفمبر 1853. وأعيد نشرها في 12 يوليو 1865، بمناسبة زيارة الأمير لفرنسا ووقوع ثورة أولاد سيدي الشيخ. انظر بحث إبراهيم الونيسي. وكانت المبشر تسمي الرسالة (تعهدا)، وقد ذكرنا أنها طبعت في عدة نسخ، وعلى بعضها توقيع الأمير، كما قيل، ثم وزعت في الجزائر على أوسع نطاق.

ثم انتقل الأمير إلى المشرق حيث كان يرغب منذ الهزيمة سنة 1847 لولا خيانة العهد من جانب الفرنسيين. وقد نزل اسطانبول (الآستانة) وجرى له حفل بحضور السلطات العثمانية، وكانت السفارة الفرنسية هناك تظهر الاحتفاء به أيضا. وبعد أيام استقر في بروسة بعائلته وأقاربه. ولكنه لم يلبث أن شعر بالعزلة، فلا هو في الحجاز ولا هو في سورية أو في مصر. إنه كان في مدينة بعيدة عن الأجواء العربية والكتب والصحف والعائلات الشريفة والمهاجرين الذين سبقوه إلى المشرق. ولم تتح الفرصة لطلب الانتقال إلا سنة 1855. فقد كانت حرب القرم جارية وكانت العلاقات بين الدولة العثمانية وفرنسا ودية إلى حد ما. وحدث في نفس السنة زلزال في بروسة. فطلب الأمير السماح له بالانتقال إلى دمشق والاستقرار فيها. ولا ندري هل وسط في ذلك نابليون الثالث أو وجه الطلب مباشرة إلى السلطات العثمانية. انتقل الأمير إلى دمشق عبر بيروت. وقد مر بزعماء الدروز وقراهم واحتفوا به هناك أيما احتفاء. وكان الأمير قد زار دمشق برفقة والده قبيل الاحتلال الفرنسي للجزائر. وهل كان اختياره لدمشق بالذات بإغراء من المهاجرين الجزائريين الذين سبقوه إلى هناك؟ ولماذا لم يقصد الاستقرار في بغداد حيث ضريح شيخه عبد القادر الجيلاني الذي زار قبره أيضا مع والده قبل الاحتلال وحمل إليه المال ونال منه البركة؟ الغالب أن المهاجرين هم الذين أغروه بالإقامة في دمشق (¬1). في دمشق وجد الأمير جوا كجو الجزائر، وطبيعة كطبيعة معسكر. وشعبا. عربيا، مسلما، عطوفا ومعجبا بجهاده وشرفه وقوميته، فاحتضنه، والتحم الأمير مع أهل الشام حتى أصبح واحدا منهم. وتفرغ للعلم والتدريس والتصوف. وفتح داره للزائزين والمحتاجين والعلماء. وأصبح مهوى الأفئدة ومطمح الأنفس. وبعد أربع سنوات تقريبا كادت تقع فتنة في الشام بسبب ¬

_ (¬1) كان قد اشترط على الفرنسيين عند مفاوضته معهم في ديسمبر 1847، أن يتركوه يختار الإقامة فى عكا أو الحجاز أو الإسكندرية.

التدخلات الأجنبية التي كانت تلعب بمصائر الشعوب من أجل مصالحها الخاصة. وقد وظف الأمير سمعته وماله ورجاله من المهاجرين لحماية الضعفاء. وكان أغلب جنوده في هذه القضية من أهل زواوة الأوفياء، والشجعان، وكان موقف الأمير يستجيب أيضا. لمصلحة القنصلية الفرنسية في دمشق فساندته. وخرج الأمير والجزائريون من هذه القضية متوجين بنصرة الحق وحماية وحدة الشعب السوري وشكر العالم المسيحي. وإذا كان موقف الأمير عندئذ قد أثار استغراب بعض المسلمين في دمشق - لأنه حمى المسيحيين - فانه قد أثار استغراب ودهشة المسلمين الجزائريين أيضا. فقد اعتبروه موقفا متحالفا مع الفرنسيين والمسيحيين. يقول فرنسي كان بالجزائر عندئذ ان الفرنسيين حاولوا، بدون جدوى، شرح ما قام به الأمير في دمشق والأسباب السياسية التي قادته إلى ذلك للزعماء الأهالي، ولكنهم لم يكادوا يصدقون. فقد كانوا لا يرون إلا شيئا واحدا وهو أن الأمير قد اتحد (تحالف) مع المسيحيين، وظلوا مندهشين. ولم تختف دهشتهم بالتدرج، إلا عندما قام نابليون الثالث بزيارة الجزائر، وهو الذي كانوا يعتبرونه (سلطان الفرنسيين) (¬1). إن النياشين والأوسمة التي غطت صدر الأمير قد وصلت إليه بعد حادثة سنة 1860. وكانت الأوسمة من مختلف ملوك وأمراء أوروبا وأمريكا، وهي نوع من (جائزة نوبل) للسلام بمفهوم وواقع عصرنا، مهما كانت الخلفيات التي وراءها. وفي تقديرنا أن الأمير قام بواجبه الشرعي والإسلامي والإنساني كرجل شهم وشريف ومجاهد، دون حسابات أخرى. وله مواقف سابقة في الجزائر تشهد على أريحيته وتسامحه، رغم أن بعضهم قد يفسر ذلك على أنه سذاجة سياسية أو على الأقل سياسة لم يوافق عليها ميكيافيلي. ومن الذين وشحوا صدر الأمير: السلطان عبد المجيد الذي أرسل إليه الوسام ¬

_ (¬1) بورجاد (ملاحظات .. على الاحتلال الفرنسي لسور الغزلان)، المجلة الإفريقية، 1889، ص 293 - 294.

(المجيدي) من الدرجة الأولى. وقالت (مجلة الشرق) الفرنسية الساخرة من كل ما هو إسلامي وعثماني، إن السلطان قد فعل ذلك حتى لا يبقى متخلفا عن امبراطور فرنسا أو ملك سردينيا، ولعلها نسيت أن تذكر ملكة بريطاني وقيصر روسيا وملك بروسيا ورئيس أمريكا أيضا .. وقد ذكرت نفس المجلة أن أسقف باريس و (أصدقاء) الأمير في امبواز (حيث كان سجينا) أرسلوا إليه أيضا رسائل عديدة. كما أن شاعرا فرنسيا قد أرسل إليه قصيدة تشيد ببطولته (¬1). وعلى إثر ذلك نشرت صحيفة (ديلي نيوز) الإنكليزية اقتراحا بإعطاء حكومة سورية إلى الأمير عبد القادر بدون تردد لأن في ذلك حلا، في نظرها، لقضية الشرق (¬2) (المسألة الشرقية؟). وسرعان ما راجت الفكرة ووجدت أنصارا في العالم ولا سيما في فرنسا. وأصبح اسم الأمير عبد القادر مرتبطا بإقامة مملكة عربية في سورية يكون هو على رأسها بدعم من الدول الكبرى. وجاء الوسطاء، والرسائل، وأرسلت فرنسا مندوبين عنها لدى الأمير ليجسوا النبض، ولعلها أثارت الموضوع مع حلفائها في أوروبا، ولكن الأمير كان غير آبه بهذا الشرف الكبير، بل الفخ الخطير. وكان ملتزما بما وعد به، وهو أن الله الذي دعاه إلى الجهاد سنة 1832 قد أمره بوضع سلاحه سنة 1847. وأنه لم يأمره باستئناف الجهاد والحكم. وهناك عدد من زعماء الشرق وكتابه حثوا الأمير على قبول الإمارة أيضا، سواء من تلقاء أنفسهم أو ربما بتحريض من بعض الجهات. من هؤلاء محمد الأمين العاملي، ويوسف كرم، وأديب إسحاق (¬3) ومنح الصلح. وكلهم كانوا مؤمنين بالاتحاد العربي على يد الأمير. وكانت السلطات ¬

_ (¬1) مجلة الشرق، سلسلة جديدة، سنة 1860، ص 292. لقد أطلق اسم الأمير على إحدى البلديات بعد ذلك في أميركا، واسمها اليوم (القادر) وهي تقع بولاية أيوا. (¬2) نفس المصدر. (¬3) سهيل الخالدي (المهجرون الجزائريون ...) مخطوط، ص 185، وعن مراسلات يوسف كرم مع الأمير حول موضوع الإمارة انظر منح الصلح (سطور من الرسالة) بيروت 1966، ص 104 وما بعدها. وعن زيارة يوسف كرم للجزائر، انظر لاحقا.

العثمانية بالطبع غير مرتاحة لهذه المساعي العربية والدولية، لأنها مساعي تهدم وحدة الدولة وتفرق بين العرب والترك. وقد فهم الأمير عبد القادر هذه اللعبة الخطرة فتفاداها بحكمة، وحافظ على وحدة الدولة الإسلامية، ولم يقع في فخ بعض الدول الكبرى التي كانت تريد أن تجعل منه مطية لتكسيرها، كما فعلت بعد حوالي ستين سنة مع الشريف حسين. ولو رضي الأمير بمخططاتها لكان مصيره ربما هو نفس مصير الشريف حسين، من يدري؟ ومهما كان الأمر فإن الأمير لم يكن من المغامرين ولا من المتعجلين. والأسماء العربية التي ذكرناها كانت قليلا من كثير. فالمعجبون به والمراسلون له والمادحون والمستغيثون به أكثر من أن نحصيهم هنا. وفي كتاب (تحفة الزائر) و (حلية البشر) نماذج منهم. من أصدقاء الأمير في دمشق محمد الطنطاوي، وسليم الحمزاوي، وعبد السلام الشطي. وكان الشطي شاعرا، وعالما، ويبدو أنه كان طموحا وهجاء أيضا، فهجا شيخه الطنطاوي، ولكن الأمير أرسل إلى الشطي وأهانه في داره بحضور جماعة من العلماء حتى ساءت حال الشيخ الشطي المعنوية والجسمية، ثم أرسل إليه الأمير يستسمحه. أما محمد الطنطاوي فأرسله الأمير إلى قونية لمقابلة نسخة (المواقف) بفتوحات ابن عربي. أما سليم الحمزاوي - الأخ الأكبر لمحمود الحمزاوي مفتي دمشق عندئذ - فهو شخصية مستقلة فيما يبدو، وكان ولوعا بالسلاح والرماية، وكان يكسب رزقه من عرق جبينه كما ذكر المترجمون له. وكان يخرج مع الأمير في جولات ورحلات. ومنها ذهابهما معا إلى الحج والمجاورة في جملة من العلماء والأشراف. وعندما مروا بقناة السويس جاءتهم دعوة من الخديوي إسماعيل لحضور إحدى حفلات أولاده التي دامت سبعة أيام. وقد احتفى الخديوي بالأمير عبد القادر ورفاقه احتفاء باهرا. وأخذت لهم خلال ذلك صور تذكارية. ثم واصلوا الطريق إلى مكة (¬1) .. ¬

_ (¬1) منتخبات تاريخ دمشق 2/ 673، 2/ 729. في هذا المصدر ترجمة طويلة للأمير، =

وكانت بين الأمير ورجالات الشرق معرفة ومراسلات. ومنهم أحمد فارس الشدياق، أحد البلغاء العارفين باللغة العربية والفرنسية والتركية. وكان صحفيا لامعا، عاش في المشرق وفي فرنسا. وألف مع أحد الفرنسيين (وهو غوستاف دوقا) كتابا في نحو اللغة الفرنسية موجها إلى المتعلمين العرب سماه (سند الراوي في النحو الفرنساوي). وكان الشدياق رئيسا لتحرير جريدة (الجوائب) التي كانت تصدر باسطانبول والتي يعتبرها الغرب معادية له وناطقة باسم الخلافة العثمانية والجامعة الإسلامية. ولا شك أنها كانت تصل إلى الأمير عبد القادر وإخوته وأبنائه. ومنها كانوا يعرفون وجهة نظر السياسة الرسمية للدولة العثمانية. وكان الشدياق شاعرا قويا أيضا فنظم قصيدة في مدح الأمير، أولها: ما دام شخصك غائبا عن ناظري ... ليس السرور بخاطر في خاطري (¬1) وتبادل الأمير المراسلات مع خير الدين باشا التونسي. فحين أصدر هذا كتابه (أقوم المسالك) سنة 1867 بادر بإرسال نسخة منه، مع خطاب، إلى الأمير عبد القادر في دمشق. وقد رد عليه الأمير برسالة شكر وتهنئة بصدور الكتاب مع عبارات الإعجاب بما جاء فيه من أفكار ودفاع عن الإسلام: (فلله درك ودر ما به ألمعت، وما قربت من فنون المعارف ولا بعدت، ثم أنك حميت ضمار الشرع المحمدي وعضدته، وقطعت عنه ضرر الملحدين وخضدته، وذلك بما قررتموه من أن الشريعة المطهرة لائقة بكل زمان، صالحة للحكم بها في كل أوان). ومدح الأمير كتاب (أقوم المسالك) خاصة بعبارات فخمة وأدبية، ولكنها واضحة في التعبير عن الإعجاب، ويبدو أن الأمير كان يوافق على ما جاء في الكتاب من الدعوة إلى نهضة المسلمين أيضا: (وقد اطلعنا على أقوم المسالك، فرأينا فيه ما بهر العقول، ¬

_ = فيها معلومات جديدة. 2/ 740 - 742. (¬1) قصيدة في ثلاث صفحات في كناش رقم 16511، تونس، ورقة 163 - 164. وقد تكون منشورة في مكان آخر. انظر أيضا (تحفة الزائر).

وأدى الأفكار إلى الذهول، من قضايا المعقول والمنقول، فاتفقت القلوب على تفضيله، واختلفت الألسنة في تمثيله. أما نحن فقد تركنا التشبيه، وقلنا ما له في فنه مثيل ولا شبيه ... فاتخذته مرتع ناظري، ومنتعش خاطري ... ولا يخفى أنه لا بد لكل عصر من رجال، يقومون بأعبائه، ويهيمون في أودية أنبيائه ...) (¬1). عرف الأمير عبد القادر (جمعية العروة الوثقى) وهي جمعية سياسية سرية، من مقاصدها، كما قال رشيد رضا، خدمة وتحقيق الجامعة الإسلامية. وكانت لها جريدة بنفس الإسم. وكان الأمير عبد القادر (ومن اختار من أنجاله ورجاله) من أعضائها. ونحن لا نجد هذا النص في كتاب (تاريخ الأستاذ الإمام) لتأييد القول بعضوية الأمير وبعض أولاده وأنصاره فيها (¬2). ترى كيف حدث ذلك، ومن هم الأولاد والرجال الآخرون الذين كانوا فيها؟. ومهما كان الأمر فإننا لا نعلم ما إذا كان جمال الدين الأفغاني قد التقى أو تراسل مع الأمير، ولم نجد إلى الآن إشارة إلى ذلك. أما الزعيم الثاني لجمعية العروة الوثقى وهو الشيخ محمد عبده، فربما التقى به الأمير في سورية يوم جاءها منفيا، بعد ثورة عرابي باشا سنة 1882. وكان ذلك قبل سنة فقط من وفاة الأمير. وهناك مراسلات بينهما (¬3). وفي كتابات محمد رشيد رضا ما يدل على إعجاب الشيخ محمد عبده بشخصية الأمير ودوره في الحياة المعاصرة عندئذ. فقد روى رشيد رضا أن الشيخ عبده كان يذكر له ¬

_ (¬1) تحفة الزائر، مرجع سابق، 2/ 196. وهناك مراسلات أخرى بين الأمير وخير الدين، وبين الأمير ووزراء تونس. وقد كتبا بحثا عن هذه المراسلات، انظرها في كتابنا أبحاث وآراء ج 4. (¬2) محمد رشيد رضا (تاريخ الأستاذ الإمام)، 1/ 283. (¬3) في رسالة كتبها محمد عبده من بيروت إلى جمال الدين الأفغاني مؤرخة في 14 مارس 1883، أن الأمير قد أرسل إبنيه محمد ومحيي الدين لزيارته. وكان ذلك قبل وفاة الأمير بشهرين فقط. انظر محمد عمارة (الأعمال الكاملة) للشيخ محمد عبده.

رجالا من أصحاب المزايا الكبيرة الذين إذا ماتوا لا يخلفهم أحد مثلهم في العالم الإسلامي (المصاب بالعقم)، أما عند الأمم الأخرى فإن الرجل العظيم سرعان ما يخلفه رجل عظيم مثله، وهكذا تتواصل العظمة من أولئك العظماء بخلاف الأمة الإسلامية. وفي نظر الشيخ عبده أن الأمير عبد القادر من أولئك العظماء الذين لم يخلفهم غيرهم. ثم ذكر آخرين في مصر والشام (¬1). وعند وفاة الأمير عبد القادر أرسل الشيخ عبده رسائل التعزية فيه إلى إبنيه محمد ومحيي الدين. في طريقه إلى الحج، يناير 1863، زار الأمير مصر أو بتعبير آخر توقف فيها. جاء على متن الباخرة الفرنسية (سيناء) ونزل في الاسكندرية ثم قصد طنطنا فالقاهرة. وكان نزوله بترتيب من المهندس الفرنسي فرديناند دي ليسيبس F. De Lesseps الذي قيل إنه كان (صديقا) للأمير والذي حاول استغلال علاقته به لتنفيذ مشاريعه في السويس وقابس. ونحن لهم أن ذلك ليس (صداقة) من النوع المعروف ولكنه استغلال لجاه الأمير لتحقيق أغراض سياسية واقتصادية لفرنسا. ولذلك كانت حكومة الخديوي إسماعيل غير مرتاحة من زيارة الأمير لمصر لا لأنها ضده شخصيا ولكن لاستغلال دي ليسيبس لها في أغراضه المذكورة، دون أن يدري الأمير ذلك في أغلب الظن. فقد قيل إنه نزل مصر عندئذ على نفقة شركة قناة السويس. ووفروا له منزلا وأرضا تسمى أرض (أو بلح) وهي واقعة في بئر أبي بلح عند القناة. ووافق الخديوي على إقامة الأمير على الأرض المذكورة، ومن جهته قام الأمير بإعلام الحجاج بأهمية قناة السويس للمسلمين. وبعد أداء الحج والمجاورة رجع الأمير إلى دمشق عبر مصر أيضا بدعوة من شركة القناة. وكان قد ركب الباخرة الفرنسية (لوريو) إلى الحجاز. ويبدو أنه رجع إلى مصر على نفس الباخرة. وكانت زيارته الثانية لمصر في ¬

_ (¬1) نفس المصدر، 1/ 939. انظر أصول وصيغة يمين جمعية العروة الوثقى في هذا المصدر، 284 - 288.

شهر يوليو 1664. وفي هذه الأثناء أقام له محفل الشرق الماسوني حفلا، وهو الحفل الذي فهم منه البعض أن الأمير قبل بالعضوية في الجمعية الماسونية التي تحدثنا عنها في غير هذا (¬1). وكانت جريدة (ملتقى البحرين) الفرنسية التي تصدرها شركة القناة هي التي كتبت وغطت هذه الزيارات. وقد أقام الأمير عدة أيام في أحد القصور بالقاهرة. ولا نعرف من الوثائق الفرنسية من هم الأعيان الذين زاروا الأمير عندئذ (¬2)، ولا الأماكن التي زارها، سواء كانت علمية أو دينية. وما نظنه إلا وقد زار الجامع الأزهر. ثم رجع الأمير إلى دمشق، وبعد بضعة أشهر رجع إلى مصر (في يناير 1865) وزار الأرض التي أعطتها أو عينتها الشركة له (أرض بئر أبي بلح)، ولعله كان في طريقه لزيارة فرنسا. ولكن حكومة الخديوي فوجئت بحضوره هناك، ويبدو أن الأمير لم يكن واعيا للحساسية التي أثارتها زيارته هذه، حتى بعد دخل القناصل الأجانب لدى حكومة الخديوي وزوال العاصفة، كما يقول شارل رو. وحين تفطن لذلك سنة 1866 تخلى تماما عن موضوع الأرض والإقامة في مصر، وفضل رضى مصر على رضى فرنسا، وابتعد حتى لا يكون لعبة في يد (صديقه) دي ليسيبسں وشركة القناة. وقد سافر الأمير بعد ذلك إلى فرنسا سنة 1865، ربما من الإسكندرية، على متن باخرة فرنسية، وما دام لا يستطيع دخول الجزائر، فإن بعض أعيان الجزائر وبعض أقاربه فيها قد زاروه في مرسيليا. وكانت ثورة أولاد سيدي الشيخ عندئذ على أشدها في الجزائر. وكانت حكومة المارشال بيليسييه قد عجزت عن القضاء عليها، ثم جاءت حكومة المارشال ماكماهون بادية الاستعداد لمواجهة الثورة. فأعادت نشر رسالة الأمير إلى نابليون سنة 1852 على صفحات جريدة المبشر، مستغلة ما فيها من الوعد بالوفاء وشكر ¬

_ (¬1) عن الأمير والماسونية، انظر فصل (مذاهب وتيارات). (¬2) انظر شارل رو Roux (مجلة البحر الأبيض المتوسط) عدد 6 (1955) وما بعده. وقال إنه اعتمد في معلوماته على جريدة الشركة المذكورة، وعلى أرشيف قنصلية فرنسا في الاسكندرية، ومراسلات الأمير مع دي ليسيس.

الامبراطور على إطلاق سراحه، لعل ذلك يؤثر في ثوار أولاد سيدي الشيخ فيلقون السلاح. كما أن نابليون نفسه قد زار الجزائر زيارة ثانية في نفس السنة (1865) وأصدر بعدها مرسومه المشيخي الشهير (مرسوم التجنس المفتوح للراغبين الجزائريين بشرط التخلي عن الأحوال الشخصية الإسلامية). ولا ندري ما تعاليق الأمير عندئذ على الأوضاع في الجزائر، ومن الأكيد أن الشخصيات التي جاءته من النواحي الغربية قد حدثته عن الثورة الجارية هناك ومعارضة الأعيان لتمليك الأراضي للأفراد بدل القبائل والأعراش. وكان الجواسيس الفرنسيون يحصون على الأمير أنفاسه ويفسرون كل كلمة تخرج من فمه بعدة وجوه (¬1). ومهما كان الأمر فإن الأمير قد زار خلال ذلك (1865) المعرض العالمي، كما زار نفس المعرض سنة 1867 إلى جانب الملوك والشخصيات الكبيرة. ومن الذين حضروا هذا المعرض الاسكندر الثاني قيصر روسيا، والخديوي إسماعيل باشا مصر. فهل التقى الأمير والخديوي هذه المرة وصفيا الجو بينهما؟ يبدو ذلك. فقد رجع الأمير إلى مصر لحضور افتتاح قناة السويس سنة 1869. وهو الافتتاح الذي حضرته أياد شخصيات عالمية، بينها (يوجيني) زوجة الامبراطور الفرنسي التي قيل انها كانت شديدة الإعجاب بالأمير. ولا ندري الآن كم أقام الأمير في مصر هذه المرة، ولكن (الوحشة) أو الجفاء قد زال بينه وبين الخديوي إسماعيل. وهذه الزيارة لم تسلم أيضا. من استغلال الفرنسيين لها. فقد كانت الجزائر تجتاز ببطء أزمة ¬

_ (¬1) من التواريخ الهامة في هذه الفترة: 1860 تدخل الأمير في حوادث الشام، وزيارة نابليون للجزائر، 1863 توجه الأمير إلى الحجاز لأداء الحج، وصدور قانون الأرض في الجزائر، وهو القانون الذي أدى إلى نزع الأرض من الأعراش والقبائل، وصدور رسالة نابليون إلى حاكم الجزائر قائلا فيها إنه سلطان العرب والفرنسيين، 1864 ثورة أولاد سيدي الشيخ وعودة الأمير من الحج؛ 1865 زيارة الأمير لمصر ثم فرنسا، ونشر رسالته في الجزائر، ثم زيارة نابليون الثانية للجزائر وصدور قانون التجنس، الخ. ويذهب كريستلو إلى أن الأمير لم يكن غريبا عن ثورة أولاد سيدي الشيخ وأنه ربما خطط لها أثناء مجاورته في الحرم الشريف، 1863 - 1864، مع الحجاج الجزائريين.

الجوائح الخطيرة التي عرفتها والتي قضت على أكثر من تلاثمائة ألف نسمة، كما أن ثورة أولاد سيدي الشيخ ما تزال مستمرة، وقد حكمت السلطات الفرنسية هناك على أن الشاب أحمد التجاني شيخ زاوية عين ماضي، كان متورطا فيها فاعتقلته في العاصمة ثم أرسلته إلى فرنسا - نوع من المنفى - ولحق به بعد ذلك أخوه البشير. فما تعليق الأمير على كل ذلك؟ إن صحيفة (النيل) التي كانت تصدر بالاسكندرية قد نشرت خبرا عن الأمير وهو أنه سيسافر بعد حفل الافتتاح إلى فرنسا ليطلب من الامبراطور زيادة معاشه ومعاش أولاده. وقد اغتنمت ذلك جريدة (المبشر) ونشرت الخبر لتبرهن للجزائريين على أن الأمير ما يزال (صديقا) لفرنسا ومعتمدا عليها (¬1). وكما استغل الفرنسيون اسم الأمير في قناة السويس ومع الحجاج، كذلك استغلوه في مشروع قناة قابس أو ما سمي بالبحر الداخلي بين الجزائر وتونس. وكان دي ليسيبس هو الذي وراء ذلك أيضا، ولكن صاحب المشروع هذه المرة هو الفرنسي رودير. فهذا هو الذي قام بوضع دراسة لشطوط تونس والجزائر. فكانت تزكية الأمير مفيدة جدا، كما قيل، في إنجاز رودير لدراسته بشكل سعيد. وتمثلت تزكية الأمير (أو فتواه) في بيان أصدره وعززه بنصوص قرآنية وأحاديث شريفة، بطلب من دي ليسيبس، ليقنع الأعيان والرؤساء العرب في المنطقة المذكورة بالمشروع. وعنوان بيان الأمير هو (إلى كل القبائل العربية الساكنة في الجزائر ولا سيما علماؤهم وشيوخهم ورؤساء دينهم وعساكرهم) (¬2). وهو بيان مؤرخ في 23 ربيع الأول (الانور) سنة 1300 (1883). وجاء فيه أن الشركة الفرنسية كانت تعمل على فتح قناة قابس مثل ما فتحت قناة السويس المفيدة. كما طلب البيان منهم تسهيل مهمة ¬

_ (¬1) شارل رو، مرجع سابق، وكذلك (المبشر) 9/ 12/ 1869. ولكن من غير المعروف أن الأمير قد سافر من جديد إلى فرنسا. فقد زارها سنة 1867 والتقى بزوجة الأمبراطور سنة 1869، ثم إن الامبراطور نفسه قد اعتقل سنة 1870. (¬2) شارل رو، مرجع سابق، عدد 11، 1956، ص 130 - 131.

الشركة لفائدة بلادهم (¬1). ولكن قناة قابس ظلت مشروعا على الورق فقط. إن الذين يحكمون على ظواهر الأمور رأوا أن الأمير لم يدخل في السياسة منذ غادر الجزائر، آخر سنة 1847. ورأوا أنه ظل على عهده بعدم الرجوع إليها أو حتى محاولة ذلك. وقد رأينا أنه رفض التداخل في السياسة العربية أيضا، أو بالأحرى رفض أن يكون مطية في يد الفرنسيين وغيرهم ضد الدولة العثمانية. وعدل عن الإقامة في مصر في أرض (أبو بلح) التي قدمتها له شركة قناة السويس حتى لا يغضب الخديوي إسماعيل وحكومة مصر. ومنذ سقوط نابليون لم يزر الأمير فرنسا، على ما نعرف، وقد عاش أكثر من عشر سنوات بعد ذلك، لأن زيارته لها كانت زيارة شخصية لنابليون وليست، في نظره، سياسية (¬2). وحين تنصل من دخول ابنه محيي الدين إلى الجزائر سنة 1870 - 1871، وهو الموقف الذي ما يزال غامضا عند كثير من المؤرخين، لم يفعل ذلك فيما يبدو إرضاء لأية جهة وإنما فعله مناورة فقط، لأنه لا سبيل إلى غيرها عندئذ، ولأنه كان يعرف أن فرص النجاح غير متوفرة. وقد رأيناه يتدخل لدى وزراء تونس من أجل المقرانيين وأنصارهم الذين فروا إلى تونس بعد ثورة 1871. كما رأيناه يتدخل لإطلاق سراح بطل القوقاز شامل الداغستاني لدى قيصر روسيا. فهل صحيح أن الأمير قد تخلى عن السياسة ولم يعد يفكر في الجزائر وشعبها بعد هزيمته وسجنه؟ إنه من العبث أن يعتقد المرء ذلك. فالأمير الذي قضى سبع عشرة سنة حاملا السلاح من أجل دينه وشعبه وقضيته لا يمكن أن ينسى كل ذلك لمجرد أنه أصبح خارج الحدود أو أنه وعد نابليون بعدم دخول الجزائر. وقد رأينا أنه لم يتعهد بعدم رفع السلاح، كما زعمت الدعاية الفرنسية، ولم تخرج من فمه أو قلمه عبارة أنه (صديق فرنسا) وإنما هي ¬

_ (¬1) كتب دي ليسيبس كتابا سماه (ذكريات أربعين سنة) زعم فيه أنه كان صديقا للأمير طيلة 35 سنة (1848 - 1883). (¬2) كما لا نعرف أن الأمير زار مصر بعد 1869، والمعروف أن الأفغاني كان في مصر خلال معظم السبعينات.

الكتابات الإعلامية التي كان الفرنسيون في حاجة إليها للتأثير بها على الجزائريين الذين ظلوا متعلقين به. وآخر كتاب وظف عبارة (صديق فرنسا) هو كتاب الجنرال بول أزان الذي يسمونه (مؤرخ) الجيش الفرنسي. وتذهب البحوث الحديثة إلى أن الأمير كان في المنفى وقلبه وعواطفه في الجزائر، وكان له أتباع وعيون يواصلونه بالأخبار والزيارات. وكان عدد من أقاربه قد تولوا السلك القضائي بتدخل منه شخصيا (¬1). ومن هؤلاء حوالي ستة عشر قاضيا من عائلة عمه أبي طالب وحدها. ومنهم أيضا ابن عمه الطيب بن المختار. ولهؤلاء ارتباطات ومصاهرات مع عبد القادر المجاوي. وكانوا يترددون على الشام وبعضهم يتزوجون من هناك بنات عمومتهم، حفيدات محيي الدين والد الأمير عبد القادر. واختار بعضهم الإقامة في الشام بعد ولاية القضاء في الجزائر. وكانت المراسلات لا تنفك بين الأمير وهؤلاء، وقد ذهب بعضهم لاستقباله في مرسيليا، كما ذكرنا. وكان السلك القضائي أخطر وسيلة سياسية بقيت في يد المسلمين بعد انهيار الدولة الجزائرية والمقاومة. ومما يلفت النظر أن الفرنسيين قد (نفوا) عائلة أبي طالب وأقارب الأمير إلى اقليم قسنطينة، فتولى معظمهم القضاء في هذا الإقليم. ونحن نعلم أن هذا الاقليم هو الذي كان مسرح ثورة 1870 - 1871، وهو الإقليم الذي دخل منه الأمير محيي الدين في خريف سنة 1870 ليشعل فتيل الثورة. فهل يستطيع باحث نفي العلاقة بين الأمير محيي الدين وبعض القضاة من أبناء عمومته؟. ¬

_ (¬1) من الذين درسوا موضوع القضاء الإسلامي وعلاقته بالسياسة الاستعمارية الفرنسية في الجزائر، الآن كريستلو (المحاكم الإسلامية) مرجع سابق. وقد تناول قضاة عائلة بوطالب وعلاقتهم مع الأمير بالمشرق، كما رأى أن الأمير كان يتدخل في شأنهم وشأن غيرهم، وأنه كان (متأججا بالمؤامرات) ولكنه كان يعرف كيف يبرأ منها في الوقت المناسب، ويعترف السيد كريستلو بأنه لا توجد أدلة على تورط الأمير المباشر في السياسة. انظر صفحة 216 من كتابه. ومما يذكر أن الأمير قد اتهم بالتخطيط لثورة أولاد سيدي الشيخ (1864) عندما كان في الحجاز، ولكن هذا يظل مجرد احتمال.

وقد لخص أحد الباحثين (كريستلو) علاقة الأمير بالجزائر في هذه النقاط: التدخل فيها عن طريق تثبيت أفراد عائلته في الوظائف القضائية وغيرها، واستقبال المهاجرين منهم أو العائدين منهم إلى الجزائر، ووجود مبعوثين دائمين بين الجزائر ودمشق. وكان واحدا منهم على الأقل يتوقف بانتظام في قسنطينة عند الشيخ عبد القادر المجاوي. وهذا الرجل هو مصطفى بن درويش الذي كان صلة الوصل بين فاس والجزائر ودمشق. ويقول هذا الباحث إنه بالرغم من عدم البرهان على تدخل الأمير المباشر في السياسة، فإنه كان شعلة متأججة بالمؤامرات في الجزائر، وهي المؤامرات التي كان يتبرأ منها مستقبلا. وفي رأينا أن تبرأه من عمل ابنه محيي الدين سنة 1870 ومن الكتابة باسمه إلى أعيان وشيوخ الجزائر، كان داخلا في هذا السياق (¬1). والمؤرخ يجب عليه أن يأخذ في الاعتبار الفترة التي عاشها الأمير ... فإلى وفاته سنة 1883 كانت الجزائر لم تبدأ بعد المرحلة السياسية ولا نضال الأعيان في المدن. لقد عاشت فترة الثورات المستمرة التي لا يمكن حصرها هنا والتي كانت آخرها في عهده هي ثورة بوعمامة (1881). وعاش الأمير كذلك إلى أن رأى انتصاب الجمهورية الثالثة في فرنسا واستيلاء الغلاة الاستعماريين على السلطة فيها وفي الجزائر، وعاش عواقب ثورة 1871 وتجنيس اليهود وبلوغ الاستعمار أوجه في بداية عهد لويس تيرمان وتغيير الحالة المدنية، وسن قانون الأهالي. وهكذا دخلت الجزائر في القفص الضيق الذي لم تبدأ في الخروج منه إلا حوالي 1900. أما في المشرق فالأمير عاش أوضاعا مشابهة، فقد احتلت تونس ومصر وفشلت ثورة عرابي ¬

_ (¬1) حاول الفرنسيون الضغط على الأمير بعد مغامرة ابنه - استعملوا قناصلهم في تونس وطرابلس ودمشق الخ. وبعد ذلك نسبت إليه رسالة كتبها إلى (حكومة بوردو) يتبرأ فيها من استغلال ختمه واسمه ضد فرنسا. وقامت وسائل الإعلام الفرنسية، عندئذ، بترويج هذه الرسالة. ومن ذلك ترجمة بلقاسم بن سديرة لها ووضعها ضمن (كتاب الرسائل) ص 129. وقد تناول عدد من الباحثين هذا الموضوع نذكر منهم يحيى بوعزيز وعبد الجليل التميمى.

والمهدي، ولجأ خير الدين التونسي إلى اسطانبول، وطرد الأفغاني من مصر، ونفي محمد عبده إلى بيروت، وقبل السلطان عبد الحميد الثاني مؤقتا بالدستور والبرلمان. وكانت إيران تهتز بالمؤامرات رغم حكم ناصرالدين شاه الاستبدادي. إنها مرحلة من أكبر مراحل التاريخ العربي والإسلامي سلبية. ولعل تظاهر الأمير بالإغراق في التصوف لم يكن إلا جزءا من الخطة التي رسمها لنفسه لمواجهة الضغوط عليه، فبالإضافة إلى أنه عدل عن التوجه إلى فرنسا والزيارات الأخرى، حتى إلى الحجاز، نجده قد اعتكف على الزهد والصلاة وقراءة كتب التصوف بل وممارسته والتأليف فيه. وفي الجزء المخصص للانتاج من هذا الكتاب ستتناول مؤلفاته في التصوف وغيره. وقبل أن نتحدث عن إخوته وأبنائه نذكر أن الفرنسيين قد أثاروا موضوع نقل رفات الأمير سنة 1938، ونقل رفات حفيده، الأمير خالد، إلى الجزائر (معسكر). ولعل الحكومة الفرنسية قد أثارت هذا الموضوع لتجنيد الرأي العام الجزائري من حولها عندما كانت تبحث عن الأنصار أمام خطر الحرب العالمية. ولكن الجزائريين فهموا أهداف الخطة وأظهروا اللامبالاة والسخرية إزاء ذلك. واستغربت (البصائر) عندئذ من كون الحكومة الفرنسية، التي حكمت بالنفي على الأمير عبد القادر وحفيده، أصبحت تفكر في إرجاع رفاتهما. وقد أوحت الجهات الفرنسية إلى بعض الصحف المشرقية بأن تكتب أن الجزائريين هم الذين كانوا يلحون على إعادة رفات الأميرين (الجد والحفيد)، وأنهم أخذوا في جمع المال لذلك الغرض. ومما كتبته البصائر في هذا الشأن (ولعل المكتوب من قلم الشيخ المبارك الميلي نفسه، وقد كان رئيس التحرير عندئذ) أن (الأراضي الإسلامية كلها وطنا عاما للمسلمين أحيائهم وأمواتهم، فلا وجه لنقل رفات مسلم من بلد إلى بلد إلا لغرض مقبول). ومن رأى الكاتب - دون أن يتقيد بالنقل لذاته - أن (يكون ضريح الأمير وحفيده بين من يعرف فضلهما ويحسن الاستمداد من حياتهما لحياة الإسلام والعروبة) (¬1). ¬

_ (¬1) البصائر، 9 ديسمبر، 1938.

أبناء الأمير عبد القادر

وفي ذلك درس عظيم لمن كان يريد استعمال ورقة الأمير عبد القادر عندئذ ودرس عظيم آخر لمن نقلوا رفاته سنة 1966) (¬1). أبناء الأمير عبد القادر. ترك الأمير عبد القادر عشرة أبناء، دون البنات. وكانوا، كما رأينا، من أمهات مختلفات. وقد ذكرت بعض المصادر أن ابنه البكر، محيي الدين، قد توفي سنة 1837. ومن العشرة الذين عاشوا بعده من اشتهر في التأليف أو في السياسة، أو في الشؤون العسكرية، ولكن منهم من لا نعرف عنه إلا القليل مثل عبد الله وعبد الرزاق وأحمد. أما من حيث التبعية الدولية فإن موت الأمير عبد القادر قد جعل أبناءه ينقسمون قسمين على الأقل: قسم انحاز إلى الدولة العثمانية، وقسم انحاز إلى الدولة الفرنسية. ومن الصعب عليهم عندئذ أن لا يختاروا هذه أو تلك وأن يقفوا موقف الحياد الممكن كما فعل الأمير نفسه، خصوصا بعد 1870. والمعروف أن الذين ارتبطوا بالدولة العثمانية هم محمد ومحيي الدين وعلي. وقد عرف عن عمر وأحمد وعبد الرزاق أنهم بقوا على علاقتهم بفرنسا. أما الهاشمي فقد سمحت له السلطات الفرنسية في الجزائر بالرجوع والإقامة في بوسعادة مع أبنائه. ولعلهم سمحوا له بالرجوع لأنه كان فاقد البصر. أما عبد المالك فقد انضم أولا إلى الفرنسيين، ثم حاربهم. ولا ندري الآن انتماء عبد الله. والأبناء الذين والوا الدولة العثمانية اشتهروا في العالم الإسلامي أكثر من بقية إخوتهم. فقد كان الأمير محمد، باعتباره أكبر الأخوة، هو المتحدث باسمهم ورئيس العائلة. وهو الذي كتب سيرة والده وضمنها تاريخ الجزائر إلى 1852، أي إلى تسريح الأمير من السجن الفرنسي. وسندرس كتابه في ¬

_ (¬1) بمناسبة الذكرى المئوية لوفاة الأمير نشرت بيبلوغرافية بما ألف حوله، وهناك مؤلفات عديدة لم تشملها البيلوغرافية، وبلغات كثيرة. ونشير إلى أن مؤلفي سورية قد أوردوا عنه فى تراجم العلماء والأعيان أخبارا هامة تكمل (تحفة الزائر).

فصل التاريخ، وله مؤلفات أخرى سندرسها في مكانها. وكان محمد مواليا للسلطان عبد الحميد وسياسة الجامعة الإسلامية. وقد عرف الشيخ محمد عبده، ولعله عرف أيضا السيد جمال الدين الأفغاني، لأن الأمير محمد كان ينتقل أيضا إلى اسطانبول حيث كان الأفغاني يقيم في سنواته الأخيرة. وقد انتهى الأمير محمد من تأليف (تحفة الزائر) في نفس العام الذي توفي فيه الأفغاني (1897)، وأهداه إلى السلطان عبد الحميد. ووصل الأمير محمد إلى رتبة (جنرال) في الجيش العثماني، كما حصل على لقب الباشا. وقد ذكرت بعض المصادر سنة 1907 أنه كان يقيم في اسطانبول، وليس له أولاد (¬1). والمعروف أنه توفي سنة 1913. واشتهر الأمير علي بعدة مواقف وأحداث. منها نيابته عن سورية في مجلس المبعوثان (البرلمان) العثماني. وقيل عنه سنة 1907 إنه هو الرئيس الفعلي للعائلة رغم وجود أخيه الأمير محمد رئيسا نظريا لها، ربما لكبر سنه. وكان الأمير علي يملك أراضي شاسعة وأملاكا في حوران. وكان له عدد من الأولاد، ومن جهة أخرى كان قد زار الجزائر وفرنسا أثناء تحسن العلاقات بين الدولتين العثمانية والفرنسية. كما أن الفرنسيين حاولوا جره والاستفادة من نفوذه في المشرق. ولكنه لم يمل إليهم، وقد أظهروا له الاحتفاء والكرم في 1912، وجعلوه يزور موطن الآباء والأجداد سرأ. ومن أبرز مواقف الأمير علي حربه في الجيش الإسلامي (العثماني) ضد الإيطاليين في ليبيا سنة 1911 - 1912، إلى جانب عدد من الضباط العثمانيين، منهم أنور باشا ونوري بيك، ومصطفى كمال (أتاتورك، مستقبلا) وأيضا إلى جانب الأمير شكيب ارسلان وغيره من أعيان المسلمين والعرب. ولم يأت الأمير علي ¬

_ (¬1) (المسلمون الجزائريون في المغرب وسورية) في مجلة العالم الإسلامي، 1907 ص 507 - 508. انظر أيضا دراستنا لكتاب (تحفة الزائر) في كتاب أبحاث وآراء، ج 2. وذكرت المجلة أن الأميرين أحمد وعمر كانا يتقاضيان من فرنسا سنويا اثنى عشر ألف فرنك فرنسي. وكذلك الأمير خالد بن الهاشمي الذي كان في الجيش الفر نسى (1907).

وحده بل رافقه ابنه عبد القادر الذي كان أيضا ضابطا. ومحاربا شجاعا. أما الموقف الثالث الذي جعل الأمير علي يبرز فهو الدور الذي لعبه أثناء الحرب العالمية الأولى كواسطة ومتكلم رسمي باسم أخيه الأمير عبد المالك الذي أعلن الثورة على الفرنسيين في المغرب الأقصى (¬1). وكان الأمير علي يتنقل خلال ذلك بين اسطانبول وبرلين ودمشق. وكان في نفس الوقت يدعم ماديا. جريدة (المهاجر) الناطقة باسم المهاجرين. وهي الجريدة التي كان ابنه الأمير سعيد أحد محرريها. أما رئيس تحريرها فكان محمد شطا الأغواطي، أحد المهاجرين المعادين للفرنسيين. هذه هي سيرة الأمير علي باختصار، ولكن صورته لا تكتمل إلا ببعض التفاصيل. من ذلك أنه تولى حاكما على القنيطرة سنة 1896، وكان متزوجا من شقيقة (عزت باشا العابد) أحد أعيان سورية والكاتب الثاني للسلطان عبد الحميد. وهذا الجاه هو الذي فتح له الطريق ربما إلى البرلمان أيضا. وقد انضم الأمير علي إلى جماعة تركيا الفتاة، وإلى جمعية الاتحاد والترقي. وكان رئيسا لفرع دمشق. وعند اندلاع حرب طرابلس (1911) كان عمره 48 سنة. وقد نزل درنة ثم بنغازي (بني غازي) ثم طرابلس. وكان يحمل فكرة عظيمة فيما يبدو، وهي طموح والده، والانتقام له، إذ قال في دمشق وهو يستعد للتوجه إلى ليبيا: إن والدي قاوم الفرنسيين ربع قرن وأنا سأقاوم الإيطاليين في ليبيا مدى الحياة، كما كان مقتنعا بدفاعه عن أرض العروبة والإسلام. وعندما حل بليبيا استقبله الناس بحفاوة خاصة. ولم تخل الاحتفالات من الجو الديني والصوفي أيضا. فحين أراد التوجه إلى مصراته أقيم له احتفال ضخم من قبل الطريقة القادرية هناك جرى فيه نقر الدفوف والحركات الصوفية. وقد دخل الأمير علي ضريح المرابط سيدي عبد الهادي، وصلى هناك العصر ثم خطب في الناس كما خطب فيهم ابنه عبد القادر من بعده (¬2). ¬

_ (¬1) عن ذلك انظر دراستنا عن الأمير عبد المالك في أبحاث وآراء، ج 1، وج 3. (¬2) جورج ريمون (من داخل معسكرات الجهاد في ليبيا) ترجمة محمد عبد الكريم =

وقد اهتمت الصحف الفرنسية بنشاط الأمير علي وأقاربه عندئذ. فقد دخل تونس بعد توقيع الصلح مع إيطاليا، والتقى فيها بابن أخيه، الأمير خالد بن الهاشمي، الذي كان ضابطا، في الجيش الفرنسي. كما التقى ببعض أقاربه من عائلة بوطالب. واهتمت الصحافة بهؤلاء الأعيان وحضورهم رواية (كرمين) التي مثلت على خشبة مسرح تونس. وبالطبع كانت العيون تتبعهم حتى لا يقع اتصال بينهم وبين الجزائريين إلا مع من ترضى عنه السلطات الفرنسية. والغريب أن الكتاب الذي تحدث عن سيرة الأمير علي عندئذ قال إنه طلب من هذه السلطات السماح له بزيارة قبور أجداده وأرضهم فأذنت له. فدخل الجزائر سرا وخرج منها سرا بعد يومين. غير أن الزيارة لم تكن (سر) إلا على المغفلين، فقد قلده الفرنسيون وسام جوقة الشرف، وصوروه بلباسه الرسمي المهيب، وصدرت الصورة في (التقويم الجزائري) الرسمي، ولعلها صدرت في غيره أيضا. فالصحافة اليومية ليس معها سر، سيما إذا كان الأمر يتعلق برجل معروف مثل الأمير علي. وإنما الأقرب إلى العقول أن يكون الفرنسيون قد اشترطوا عليه عدم الاتصال بالناس والخطابة فيهم (¬1). لم يتوجه الأمير على بعد ذلك إلى فرنسا، كما كان يرغب الفرنسيون، ولكنه رجع إلى سورية، وربما أحس بأن الفرنسيين كانوا يبنون على زيارته سياسة لا ترضى عنها الدولة العثمانية أو أنهم أساؤوا إليه أثناء زيارته للجزائر. وبعد رجوعه وصلته برقيتان إحداهما من أخيه والأخرى من ابن أخيه. الأولى من الأمير عبد المالك (سلطان مراكش) حسبما جاء في النص، ¬

_ = الوافي، مكتبة الفرجاني، طرابلس 1972، ص 209 - 219 مع صور. وجورج ريمون فرنسي جاء يغطي الحرب ضد الإيطاليين ومعه ترجمان جزائري قال ان الأمير علي كان يعرف عائلته في الجزائر، وقد أهداه عقالا سوريا. عن الأمير علي انظر أيضا. مجلة (الليستراسيون) عدد 3612، ص 437. (¬1) (تاريخ حياة طيب الذكر)، دمشق 1918، ص 66 - 68. و (التقويم الجزائري) للشيخ محمود كحول، سنة 1912، وترجمته وصورته في التقويم المذكور، سنة 1913، ص 184.

رغم أننا ما نزال في سنة 1912، سنة احتلال فرنسا للمغرب. والبرقية كانت مكتوبة من طنجة في 3 أبل 1912. وقد جاء فيها: (أهنئكم على المساعي التي بذلتموها في سبيل الاتحاد الإسلامي). ويفهم من ذلك أن الأمير علي ربما كان مكلفا، بمهمة تتعلق بالجامعة الإسلامية. أما برقية الأمير خالد بن الهاشمي (ابن أخيه) فمكتوبة من الجزائر في 31 مارس 1912، وفيها: (نصر الله المجاهدين، فقد كان بلاؤكم حسنا، جعل الله على أيديكم كل نفع للإسلام) (¬1). ورغم أن الأمير علي كان محسوبا على العثمانيين، كما رأينا، فإنه واجه سنة 1916 الاتهام بعدائهم وهو اتهام له عواقب وخيمة. ولذلك وضعوه في أحد سجون أناضوليا في نفس السنة التي أعدم فيها جمال باشا، والي الشام، مجموعة من الزعماء العرب، ومن ضمنهم أخوه الأمير عمر، وجزائريون آخرون مثل سليم السمعوني. ويقول أحد الدارسين ان الأمير علي قد حافظ على خيط من الصلة مع الفرنسيين. ولم ينجح الأمير علي في إنقاذ أخيه من المشنقة سنة 1916 ولا إنقاذ ابنه هو عبد القادر، سنة 1917 الذي اتهم لورنس بتدبير قتله عندما دخلت جيوش فيصل سورية (¬2)، ولم يلبث الأمير علي نفسه أن توفي، سنة 1918. أما الأمير عمر فقد ولد في سنة 1871 بدمشق، وعاش فيها، وخالف اتجاه إخوته الكبار مثل محمد ومحيي الدين، ومال، كما قلنا إلى الفرنسيين، أي بقي على صلة القنصلية هناك، بل أصبح المتكلم باسم المهاجرين الجزائريين الذين بقوا على صلة ببلادهم في كل ما يتعلق بهم مع الفرنسيين. وكان يسافر بين ¬

_ (¬1) (تاريخ حياة طيب الذكر)، مرجع سابق، ص 74. (¬2) دراسة الآن كريستلو (مخطوطة) عن البعثة الفرنسية إلى الشريف حسين 1916، بإشراف إدوارد بريمون. وأوضح هذا المصدر علاقة الأمير علي بعزت باشا العابد وابنه محمد علي العابد الذي كان سفيرا للدولة العثمانية في واشنطن، ثم أصبح من الأعيان السوريين الذين تولوا الوظائف السامية في عهد الانتداب الفرنسي، وكانت له ثروة مالية يديرها من باريس. أما أبوه عزت باشا فقد توفى فى مصر سنة 1924.

دمشق وباريس. ولا نعلم أنه قد دخل الجزائر. وما دام أمره كذلك فإننا نتوقع أن يكون في الصف المعادي للعثمانيين، ولذلك قيل عنه انه انضم إلى الجمعيات العربية السرية، وتعرضت أسرته للإبعاد إلى أناضوليا. وفي إحدى زياراته لفرنسا حصل على وسام من رئيس جمهوريتها. وإذا كان نشاطه ذلك مغفورا في عهد السلم، فانه سيكون خطرا عليه وقت الحرب. ذلك أن السلطات العثمانية في دمشق قد قبضت عليه وأعدمته ضمن من أعدمت من القادة العرب الذين اتهمتهم بموالاة أعدائها الفرنسيين، في 6 مايو 1916 (¬1). كانت علاقة الأمير الهاشمي بوالي دمشق العثماني تؤدي أحيانا إلى توترات بين السلطات العثمانية والقنصلية الفرنسية. ويبدو أن عاهة العمي، والإدلال بالجاه الفرنسي أو فلنقل عدم التفاهم مع الأتراك، هو الذي جعل الأمير الهاشمي كثير القلق ولا يحسن تقديم قضيته أمام الوالي. وقضيته عادة هي شكاوى المهاجرين أو شكواه هو حول الأرض والمصالح المادية. وفي إحدى المرات غادر الهاشمي دمشق غاضبا وتوجه إلى بيروت، ولكن القنصل الفرنسي أقنعه بالرجوع. واشترط الهاشمي أن يرجع معه القنصل ففعل، مما أثار استغراب ودهشة الجالية الجزائرية. ولاحظ عليه الفرنسيون أنه كان يبالغ في طلب النقود والمعيشة الفاخرة. واقترح القنصل نقله إلى منطقة أخرى. وكانت مصر إحدى البلدان الممكنة، غير أن الهاشمي طلب الإقامة في الجزائر، فوافقت على ذلك الحكومة الفرنسية، وغادر دمشق خلال اكتوبر 1892 متجها بعائلته إلى بيروت (¬2) ثم الجزائر. ¬

_ (¬1) الخالدي (المهجرون ...) مرجع سابق، مخطوط، ص 430. ذكر الخالدي عددا من المراجع تتحدث عن الأمير عمر على أنه من شهداء القضية العربية. والغريب أن بعض هذه المصادر يتهم أسعد الشقيري وشكيب أرسلان بالمساعدة على الكشف عنه. عن وسام الأمير عمر من فرنسا وزيارته لها انظر (التقويم الجزائري) للشيخ محمود كحول، 1913. وكذلك (مجلة العالم الإسلامي) مرجع سابق 1907، ص 507. وباردان (الجزائريون والتونسيون)، مرجع سابق، ص 140. (¬2) باردان، مرجع سابق، ص 70، 134.

عرفنا أن الأمير الهاشمي كان على صلة بالفرنسيين منذ وفاة والده، الأمير عبد القادر. ونحن نجد بعض المراجع تقول ان الحكومة الفرنسية قد وافقت على منح إبنيه منحة دراسية في ثانوية لويس لوقران سنة 1888. وكلاهما رافقه إلى الجزائر، ولعلهما سبقاه إلى الدراسة بفرنسا. وكان الأمير الهاشمي يهنئ بعض أعيان الفرنسيين بالعام الجديد، كما فعل آخر سنة 1890 مع لويس تيرمان الحاكم العام للجزائر، فقد هنأه منذ منتصف ديسمبر من هذه السنة بالعام الجديد. وتدخل الهاشمي في شأن أقارب العائلة بالجزائر أيضا، إذ كتب رسالة في 18 نوفمبر 1890 إلى الحاكم العام نفسه يطلب فيها تقديم العون لأرملة ابن عمه آمنة بنت الميلود بوطالب، التي توفي عنها زوجها مصطفى بن عبد القادر، وهو في القضاء بمستغانم (¬1). ومنذ أن حل الأمير الهاشمي بالجزائر استقر في بوسعادة، بعائلته، كما ذكرنا، وواصل ابنه الأمير خالد التعلم في مؤسسات فرنسا العسكرية. وتخرج ضابطا في الخيالة (صبائحية). أما إبنه الآخر مصطفى فلا نعلم إلى أي درجة وصل ولا مصيره، ويبدو أنه لم يواصل التعليم، وقد يكون توفي مبكرا. وأما الأمير الهاشمي نفسه فيبدو أنه توفي أوائل هذا القرن، أي قبل سنة 1907 على كل حال. ولعل الهاشمي كان من أبناء الأمير عبد القادر المهجنين، أي أن أمه كانت وصيفة أو أم ولد، إذ تصفه بعض الوثائق بأنه كان أسمر البشرة أجعد الشعر (¬2). من أبناء الأمير عبد القادر الذين تركوا إسما قويا في التاريخ نذكر الأمير ¬

_ (¬1) ابن سديرة (كتاب الرسائل)، مرجع سابق، ص 230 - 231. وقد ذكر كريستلو، ص 281 أن مصطفى بوطالب قد عمل في القضاء بين 1858 - 1883 وهي سنة عزله منه، وربما توفي حوالي 1890 بعد أن رجع إلى القضاء، كما تشير رسالة الأمير الهاشمي. (¬2) السيدة بروس (إقامة في الجزائر)، مرجع سابق، ص 315. لعله هو الذي عناه الواصف حين وصف أطفال الأمير في سجن امبواز (فرنسا) وكانوا يلعبون على زربية بالقرب من أمهاتهم.

محيي الدين، وهو الذي سماه الأمير على والده وعلي ابنه المتوفي (سنة 1837 حسب بعض الروايات). ولد محيي الدين في القيطنة سنة 1259 (1843) (¬1). وبعد أربع سنوات هزم والده وحمل إلى سجون فرنسا، فكان الطفل محيي الدين يتبع أباه وأمه. وقد كان عمره حوالي تسع سنوات عند إطلاق سراح والده في آخر سنة 1852. وفي امبواز علمه والده القرآن الكريم، رفقة أخيه محمد وبعض أبناء المرافقين للأمير في السجن. وكانت حياته في الطفولة والمراهقة تشبه حياة أخيه محمد أيضا، إذ قضى محيي الدين بضع سنوات في بروسة مع أسرته قبل أن تنتقل إلى دمشق. فكان عمره حوالي اثني عشر سنة عندما انتهى بهم المطاف إلى الشام. وثمة انتظمت حياته العلمية. فدرس على جزائريين وسوريين. ومن الجزائريين والده ومصطفى بن التهامي، ومن السوريين محمد عبد الله المغربي الخالدي، ومحمد الطنطاوي، ومحمد الجوخدار. وتعلم العربية والتركية، وربما تعلم بعض الفرنسية. وازدادت علومه بالإطلاع الواسع على الكتب والأسفار. فكان يزور أوروبا واسطانبول أيضا. وتكونت لديه ملكة شعرية قوية، وأحب الأدب، واهتم بالفروسية والتاريخ. وقرأ سيرة الأبطال المسلمين، ومنهم والده، فتاقت نفسه إلى المجد ورسم اسمه في لوحة الشرف التاريخية. كان عمره سنة 1870 هو عمر والده سنة 1830 تقريبا. لقد كان في السابعة والعشرين عندما اختفى من دمشق وسار نحو المغرب العربي متخفيا في زي تاجر، عبر مصر ومالطة وتونس، ثم دخل الجزائر من الجهة الشرقية، ناحية تبسة، يرافقه بعض الأوفياء. وكان ذلك في خريف سنة 1870 (ربما منتصف أكتوبر؟) ولم تكن ثورة المقراني ولا الشيخ الحداد قد بدأت بعد. كان هناك تذمر وعصيان ناجية سوق أهراس، وهناك الشيخ الكبلوتي زعيم الحنانشة المغاوير. وأخذت الرسائل والبرقيات العربية (كلمة السر) تتردد في ¬

_ (¬1) هكذا وجدنا في المراجع. ويحتاج الأمر إلى دقة. لأن سنة 1843 كانت فيها الحرب عوانا بين الأمير والفرنسيين، وقد استولوا قبلها على تلمسان ومعسكر، ثم استولوا على الزمالة المتنقلة. فكيف يولد محيي الدين في القيطنة؟.

أوساط الأهالي الذين ملوا التعسف الاستعماري وتجريد الأعيان والأعراش من أراضيهم بدعوى الملكية الفردية. وتحدثت قرى زواوة والهضاب العليا عن وجود ختم الأمير عبد القادر على الرسائل الواصلة إلى الأعيان وشيوخ الطرق الصوفية، كما تحدثت بأن الخليفة العثماني قادم لنجدة الجزائريين. وكانت فرنسا عندئذ محتلة وباريس تحت براثن خيول بيسمارك، فضلت الحكومة الفرنسية الهروب إلى بوردو بدل البقاء في باريس. إنها إذن الفرصة المنتظرة لكي يضرب المظلوم ضربته. وفي هذا الجو اندلعت الثورة سنة 1871، باسم المقراني في البداية. لكن هل تلقى المقراني رسالة من محيي الدين باسم الأمير عبد القادر؟ إن دعاية الوقت قالت إن المقراني وعد بأن الخليفة العثماني سيدعم الثورة وكذلك (السلطان) عبد القادر. وأن وجود محيي الدين داخل حدود الجزائر عندئذ قد نفخ روحا قوية للثورة والأمل في التحرر. فإلى أي حد كان محيي الدين محركا أو منشطا للثورة؟ ذلك ما لا نستطيع أن نجازف به الآن. ولكن استجابة الطريقة الرحمانية التي طالما نسقت المواقف في المقاومة مع الأمير عبد القادر منذ الثلاثينات، تدل على استمرار ذلك التنسيق. فقد نادى الشيخ محمد امزيان الحداد، بضغط من ابنه عبد العزيز (عزز) بالجهاد. فهل كان الشيخ عبد العزيز على صلة بمحيي الدين أو ببعض رسائله على الأقل؟. لكن هذه المغامرة لم يقدر لها النجاح. فقد جرت ضغوط على الأمير عبد القادر ليعلن رأيه. ولعله قد أعطى موافقة ضمنية لابنه بعد سقوط نابليون الثالث وتغيير النظام في فرنسا بل وهزيمتها. فذلك كله يحرره من الالتزام الذي قيل إنه وعد به نابليون، رغم أنه شخصيا لم يدخل الجزائر، ولكن الذي دخلها هو ابنه. ويبدو أن هذا الابن قد جاء بنية البقاء فترة طويلة بل بدون التفكير في العودة إلى الشام، وإنما جاء ليفتح طريق الدخول إلى والده الذي قارب الستين سنة. ويقول البعض إن الأمير قد غضب على ابنه لأنه يعتقد أن ما قام به كان

مجازفة وتهلكة للشعب (¬1). ومع ذلك فلم يرجع الأمير محيي الدين إلى سورية إلا في يوليو 1871، وكانت الثورة في الجزائر عندئذ قد ضعفت، وقتل الحاج محمد المقراني، وسجن الشيخ الحداد، واستسلم الشيخ عبد العزيز وأخوه محمد. ولم يبق في الميدان إلا أحمد المقراني بومزراق الذي أخذ في الانسحاب بأتباعه نحو الجنوب الشرقي (¬2). رجع الأمير محيي الدين إلى الشرق واستقر في صيدا، ليتفادى إحراج والده مع القنصلية الفرنسية. وقد ذكر منح الصلح أنه هو الذي أشار عليه بالإقامة عند بعض الأقارب في صيدا بعض الوقت، ونحن نستبعد ما قيل إن الأمير عبد القادر قد (طرد) زوجة ابنه وأبناءها، لأن ذلك ليس من أخلاقيات الأمير ولا من أخلاقيات المسلمين. كما نستبعد ما ذكره باردان من أن الأمير محيي الدين كتب رسالة من صيدا إلى القنصل الفرنسي روستان يعترف له أنه ذهب إلى الجزائر ليس بقصد الإساءة إلى فرنسا، وأن هناك أسبابا مالية (؟) هي التي جعلته يغادر دمشق (¬3). ونحن لم نطلع على هذه الرسالة ولا على قرار الأمير بطرد عائلة ابنه، فالتحفظ أمام هذه الإدعاءات أسلم في الوقت الراهن. طالما كان الأمير عبد القادر على قيد الحياة، كان محيي الدين في ظل والده يتبع سياسته ويطيعه. وأثناء حياة والده حصل على أوسمة من السلطان عبد العزيز العثماني، ومن نابليون الثالث، وغيرهما. وكان مهتما بالحياة ¬

_ (¬1) الخالدي (المهجرون ...) مرجع سابق، ص 234. وعادل الصلح ... (سطور من الرسالة)، بيروت، 1966، ص 23. وكان الصلح ينقل عن والده المعاصر للأمير عبد القادر. عن دور محيي الدين في ثورة 1870 انظر كتابنا (الحركة الوطنية)، ج 1. (¬2) يبدو أن الفرنسيين كتموا أخبار وجود الأمير محيي الدين في الجزائر عن قصد، وظل خبره مغيبا حتى بعد انتهاء الثورة. (¬3) باردان (الجزائريون والتونسيون)، مرجع سابق، ص 28 - 29. ذكرنا سابقا أن الأمير علي رفض التوجه إلى فرنسا سنة 1912.

العسكرية والأدب والأسفار، بالإضافة إلى إعالة أسرته. وبعد وفاة والده فضل هو وأخوه محمد وعلي الولاء لآل عثمان كما ذكرنا. مع بقائهم على حب الجزائر والقضية العربية والجامعة الإسلامية. وقد شجعته السلطات العثمانية على ذلك أيضا. فمنحه السلطان عبد الحميد أوسمة وعينه جنرالا على فيلق شرفي، ومساعدا للسلطان. وقد كلفه السلطان سنة 1888 (بعثمنة) الجزائريين في سورية، أي إدخالهم تحت الرعاية العثمانية بدل الرعاية الفرنسية. فجاء محيي الدين إلى بيروت رفقة أخيه محمد، ثم توجها إلى دمشق، وأخذ محيي الدين يوزع الألقاب والمرتبات على إخوته وعلى الجزائريين لذلك الغرض. وكان ممثلو السلطان في بيروت قد استقبلوا الأمير محيي الدين استقبالا. رسميا باعتباره مبعوث السلطان. فاحتجت السفارة الفرنسية في اسطانبول على ذلك النشاط، وطالبت بإرجاع محيي الدين وإنهاء مهمته .. وأخذت القنصلية الفرنسية في دمشق، من جهتها، تحرك أخوته ضده وضد سياسة العثمنة، ومنهم الأمير الهاشمي الذي سبق الحديث عنه (¬1)، كما أن آخرين وجدوا في ذلك فرصة لمضاعفة طلباتهم من القنصلية الفرنسية. ومهما كان الأمر فإن السفارة الفرنسية في اسطانبول لاحظت أن المهاجرين الجزائريين مالوا إلى الدولة العثمانية وأن ذلك يعني نجاح سياسة الجامعة الإسلامية (¬2). ولا ندري إلى أي حد استغل الأمير محيي الدين تنافس العثمانيين والفرنسيين على ولائه. فتدخله في الجزائر 1870 - 1871، وشخصيته، وأدبه قد جعلته كلها محط النظر من هؤلاء وأولئك. وتذكر بعض المصادر أن السلطات الفرنسية عرضت عليه بعد وفاة أبيه نفس الراتب الذي كانت تعطيه له، على أن يظل تحت رعايتها، فأبى الأمير محيي الدين ذلك. وقبل الراتب ¬

_ (¬1) في هذه الأثناء (1888) أعلنت فرنسا أنها منحت ابنين للأمير الهاشمي منحة دراسية في ثانوية لويس لوقران. انظر سابقا. (¬2) باردان (الجزائريون ...)، مرجع سابق، ص 60 - 61. انظر أيضا، الخالدي (المهجرون ...) ص 556.

الشهري الذي عرضه عليه السلطان عبد الحميد. وقد كلفه السلطان نفسه بعدة مهمات في المشرق والمغرب. من ذلك أن العلاقات بين الدولة العثمانية والدولة العلوية (المغرب) قد أخذت في التحسن أثناء عهد الحسن الأول الذي كان يحاول التخلص من ضغط الدول الأوروبية عليه. وذهب سفير مغربي إلى اسطانبول. وأرادت الدولة العثمانية الكشف عن حسن نيتها في التعامل مع المغرب فرشحت الأمير محيي الدين لهذه المهمة. وقد عينته سفيرا لها في مراكش. لكن فرنسا وقفت ضد ذلك، لأنها كانت ضد سياسة الجامعة الإسلامية وضد تعيين الأمير محيي الدين بالذات الذي حاول الثورة ضدها. ثم أنها كانت تعمل على احتلال المغرب حين تسمح الظروف الدولية بذلك (¬1). حين وقعت الحرب العثمانية - الإيطالية على ليبيا سنة 1911 كان الأمير محيي الدين يدب نحو السبعين سنة، ولذلك لم نسمع عنه شيئا عندئذ وإنما سمعنا بدور أخيه علي. وقد عاش الأمير محيي الدين حتى قارب التسعين إذ أدركته الوفاة في دمشق سنة 1336 - 1918. ودفن في مقبرة الشيخ محيي الدين بن العربي إلى جوار والده. ولا شك أنه لم يكن سعيدا عندئذ فقد سمع بانتصارات الحلفاء ضد الدولة التي أيدها، وسمع بثورة الشريف حسين، ورأى فكرة الجامعة الإسلامية التي عمل لها تنهار على أيدي جمعية الاتحاد والترقي والحركة الطورانية والحركة الصهيونية، واشتداد العداوة بين العرب والترك. وفاز أعداء الطرفين. ولا شك أيضا أنه عاش إلى وفاة أخيه محمد سنة 1913، وشنق أخيه عمر سنة 1916، ونفي أخيه علي من دمشق. فهل بقي الأمير محيي الدين بعد ذلك على ولائه لآل عثمان؟ لا نظن ذلك. لقد تغيرت نفوس كثيرة بعد سقوط السلطان عبد الحميد، وظهور حركة التتريك، وقيام الحكم العربي في سورية. لقد ترك الأمير محيي الدين أبناء بعده، منهم عبد القوي الذي سماه على أحد جدوده. وخصص الشيخ عبد الرزاق البيطار ترجمة واسعة للأمير ¬

_ (¬1) علال الفاسى (الحركات الاستقلالية)، طنجة، 1948، ص 88.

إخوة الأمير عبد القادر

محيي الدين، وكان صديقا له، كما تناوله شكيب أرسلان في بعض كتاباته (¬1). ومن أبناء الأمير عبد القادر الذين لعبوا دورا هاما في أوائل هذا القرن الأمير عبد المالك. وقد ضاع جهده في تاريخ المغرب السياسي لأنه عاش في فترة مضطربة، فترة الاحتلال والحماية والحرب العالمية وحرب الريف، فكانت جهود الأمير عبد المالك في تحرير المغرب من الفرنسيين غير معتبرة من الدارسين المتأخرين. كما أن الجزائريين ما يزالون يجهلون حركته، ولم يهتم به المشارقة كما اهتموا بإخوته الذين كانوا في رعاية الدولة العثمانية أو الدولة الفرنسية، لمواقفهم إزاء القضية العربية والجامعة الإسلامية، كما عرفنا. ونحن لا نبعد صفة (المغامرة) عما قام به الأمير عبد الملك في المغرب، ولكنه كان مؤمنا في وقته أنه كان يعيد دور أبيه ودور أخيه محيي الدين في الجزائر. ولعل المغاربة سينصفونه بعد تصفية الزبد من الغثاء. ونحن نحيل على ما كتبناه عنه في غير هذا (¬2). ... إخوة الأمير عبد القادر: إلى جانب الأبناء هناك أخوة الأمير، وهم على الأقل أربعة ممن عرفنا أسماءهم وأفعالهم. وهم جميعا أبناء الشيخ محيي الدين من زوجته لاله زهرة، وهم: محمد السعيد، ومصطفي وأحمد والحسين. وقد ذكرت ¬

_ (¬1) عبد الرزاق البيطار (حلية البشر) 3/ 1428، وكذلك الأعلام الشرقية 1/ 40، وحاضر العالم الإسلامي. عن أدبه انظر (حلية البشر) وله شعر غزو في الفخر والنضال. وكذلك الأميرة نية الجزائري (الجذور الخضراء)، دمشق، 1993، ولنفس المؤلف (أصحاب الميمنة)، دمشق، 1997. (¬2) انظر كتابنا أبحاث وآراء ج 1، 3. والأميرة بديعة الجزائري (الجذور الخضراء) دمشق، 1993. وعن القليل الذي نعرفه عن الأمير عبد الله بن الأمير عبد القادر، انظر (رحلة منسوبة إلى الأمير عبد القادر) في العدد الخاص من مجلة الثقافة، 1983 (ذكرى وفاة الأمير).

مصادر فرنسية أن للشيخ محي الدين إبنا آخر اسمه أبو بكر من أم ولد زنجية. وفي سنة 1846 عندما كانت الحرب على أشدها بين الأمير والفرنسيين نشرت (مجلة الشرق) الفرنسية شعرا، للأمير يتشوق فيه إلى إخوته، وقد سمى منهم ثلاثة فقط بأسمائهم: محمد السعيد ومصطفى والحسين. ولم يسم أحمد الذي ربما سماه الفرنسيون أبا بكر، لأن المصادر الأخرى لا تذكر أبا بكر هذا. وفي قصيدة الأمير تنويه بإخوته، وقد وصف كلا منهم بوصف يعبر عن مكانته في نفسه. فأخوه الأكبر محمد السعيد المتميز بالوقار والعلم وخليفة والده في الطريقة القادرية، سماه الأمير (روح وجودي). وأخوه مصطفى الأصغر منه، ولاه عدة مناصب، وقد سماه (ذراعي الأيمن). وأطلق على الحسين اسم (ربيع حياتي). أما الرابع الذي لا نعرف اسمه من القصيدة، والغالب أنه أحمد، فقد سماه الأمير (مم عيني) أو سواد عيني. وقد ذهب خيال المعلقين الفرنسيين عندئذ على القصيدة إلى أن في ذلك إشارة إلى سواد بشرة هذا الأخ وإلى كونه من زنجية وليس من لاله زهرة ذات الجمال والفضل (¬1). ولكن عبارة (سواد العين) عند العرب تعني العزيز والغالي ولا تعني سواد البشرة. 1 - محمد السعيد: أما من حيث الأدوار فإن بعض أخوة الأمير كانوا معه في سياسته وبعضهم كانوا قد سببوا له بعض الحرج، ولم تكن رؤيتهم متحدة في معالجة المواقف السياسية. فمحمد السعيد كان يتصرف كمرابط، وهو الذي ورث بركة والده الصوفية. وكان مقيما في زاوية القيطنة أثناء المرحلة الأولى من المقاومة. ولا شك أنه ساعد أخاه بتجنيد أتباع الطريقة إلى جانبه. وكان الأمير يحترمه ويستشيره في المسائل الصعبة، كما ¬

_ (¬1) (مجلة الشرق)، سنة 1846، ص 345 - 346. وبالرجوع إلى شعر الأمير وجدنا القطعة التي يتحدث فيها عن اخوته والتي مطلعها (يا سواد العين يا روح الجسد ...). وقد جاء فيها ذكر ثلاثة منهم وهم: السعيد ومصطفى وأحمد. ويقول تقديم القطعة إنه قالها عندما أخذهم الفرنسيون إلى المنفى. ويبقى الأمر في حاجة إلى مقارنة النصين العربي والفرنسي. انظر الأميرة بديعة (أصحاب الميمنة)، ص 573.

هي التقاليد العربية إذ يحل الأخ الأكبر محل الأب. وقد تقف على والده الشيخ محيي الدين وعلماء زاوية القيطنة قبل الاحتلال. وكان يميل بطبعه إلى التصوف، ولكنه جاهد مع أخيه وحضر وقائع عديدة معه. ثم سجنه الفرنسيون في عنابة حيث بقي سنوات، قبل السماح له بالهجرة إلى دمشق التي استقر فيها، وأصبح من المدرسين بها، كما جلس محمد السعيد لإعطاء ورد الطريقة القادرية، وقد توفي سنة 1278، ودفن بجبل قاسيون. وترك ولدين هما محمد المرتضى وعبد الباقي. كما ترك بعض المؤلفات (¬1). أحد أبناء محمد السعيد أصبح هو الوارث لبركة والده وجده في الطريقة القادرية أيضا، وهو محمد المرتضى. وكان هذا من مواليد القيطنة سنة 1245 - 1829. وعاش طفولته ومراهقته في الحرب والمقاومة، في معسكر والزمالة والدائرة، لا يستقر له قرار مع فتيان الجزائر عندئذ. وخلال ذلك تلقى العلم وحفظ القرآن على والده وغيره. وكان محمد المرتضى من الشباب المجندين في آخر عهد المقاومة. وحضر مع عمه الأمير عبد القادر عدة معارك. ونشأ على حب الوطن والغيرة على الدين وكره العدو. وحين انتقلت العائلة إلى دمشق كان قد قارب العشرين سنة. فاستكمل تعلمه على الجزائريين والسوريين. ومن شيوخه عمه الأمير نفسه، ومصطفى بن التهامي، وسليم العطار. ورغم المغريات بالوظائف فإنه ظل كوالده وجده ميالا إلى العلم والتصوف. وكلفه عمه الأمير، بالسفر إلى اسطانبول في مهمة سنة 1273 لا ندري ما هي الآن. وفي سنة 1281 حج مع الأمير، وهو الحج الذي أخذهم إلى مصر والحجاز ولا ندري هل جاور مثله فلم يرجع إلا بعد مدة أو رجع بعد الحج مباشرة. ومهما كان الأمر فإن محمد المرتضى قد زار بغداد أيضا ربما للتبرك بضريح الشيخ عبد القادر الجيلاني. ثم استقر ببيروت منذ حوالي ¬

_ (¬1) منتخبات تاريخ دمشق، 2/ 696. يقول هذا المصدر أن لدى بنات الشيخ محمد السعيد برنسا ممزقا بالرصاص من أيام الجهاد في الجزائر.

1294 - وكان من تلاميذه فيها محمد رشيد الدنا، منشئ جريدة بيروت سنة 1886، وتقول مصادره إن محمد المرتضى قد رفض منصب القضاء في أزمير، واكتفى بتدريس تعاليم الصوفية في مساجد دمشق ثم بيروت، والاعتكاف في بيته، الذي كان يقع في حي باب السريجة. ونفهم من سيرته أنه كان من رجال الدين المحتمين بالسلطة العثمانية، ولذلك رتب له السلطان عبد الحميد راتبا شهريا يعيش منه. من موقعه في بيروت ودمشق كان الشيخ محمد المرتضى على صلة بالجزائر أيضا. فقد عرفنا حين درسنا الطرق الصوفية أن الفرنسيين اكتشفوا المراسلات بينه وبين بعض أعيان الجزائر بمن فيهم بعض القضاة الرسميين. وكان أتباع القادرية في الجزائر يبعثون إليه (الزيارات) بالبريد أو مع التجار والحجاج. وكان الفرنسيون يعتقدون أن هذه العلاقة إنما هي سياسية تعمل على نشر فكرة الجامعة الإسلامية تحت غطاء التصوف. ولذلك لم يكونوا مرتاحين لدور الشيخ محمد المرتضى الذي يعرفون أصله وعواطفه ضدهم. توفي الشيخ محمد المرتضى في بيروت سنة 1316 (سنة 1319 عند البعض) 1902. وترك شعرا في مدح الرسول، وكانت له مجالس وعظية وأدبية. وقد رثاه عدد من الشعراء منهم أبو الحسن الكستي، ومصطفى نجا مفتي بيروت، وخصه أبو النصر يحيى السلاوي مدح في كتابه (صحيح القياس) (¬1). ويرجع ذلك إلى علمه وزهده وإلى علاقته بأسرة محيي الدين التي أنجبت الأمير عبد القادر. أما الابن الثاني للشيخ محمد السعيد، وهو عبد الباقي فكان قد ولد في عنابة بالجزائر سنة 1267 (1850) عندما كان والده سجينا بها. ثم تثقف في المشرق. وعاش في سورية وتولى فتوى المالكية بدمشق. وتوفي سنة 1335 (1916) (¬2). ¬

_ (¬1) منتخبات تواريخ دمشق، 2/ 793، 795 والخالدي (المهجرون ...) ص 381. (¬2) الخالدي، مرجع سابق، والفرفور (أعلام دمشق).

2 - مصطفى: تولى مصطفى عدة مناصب لأخيه أشاء المقاومة. فولاه الأمير على المدية، ولكنه لم ينجح في إدارتها فعين بدله محمد بن عيسى البركاني. ثم عينه بعض الوقت على الحضنة فلم كن أكثر توفيقا. كما أرسله رفقة البركاني في مهمة تنصيب وعزل في عدة جهات، مثل الزيبان. ويذهب الفرنسيون إلى أن مصطفى كان أقل إخوته حذرا، وكان طموحا ومندفعا، وكان ربما يغار من أخيه، ولذلك كان يسبب له إحراجات مع رجال دولته. والظاهر أن مصطفى كان شابا نشيطا وغير منضبط. وكانت قوة أخيه تغريه بالتحكم والاندفاع، وكان يفكر أحيانا حتى في التحالف مع خصوم الأمير، حسب رواية الفرنسيين. وكان كثير النقد لأعمال أخيه. ويبدو أن ذلك (الطيش) قد أورثه الكسوف بعد هزيمة الأمير. إذ لا نكاد نجد لمصطفى ذكرا في الأحداث التي جرت بعد ذلك في المغرب أو في المشرق. فما كان مصيره بعد 1847؟ لا ندري سوى أن له إبنا سماه محيي الدين وأن محيي الدين هذا قد تزوج زينبا ابنة عمه الأمير عبد القادر، وأن هذا الزواج قد نتج عنه الأمير عز الدين، أحد زعماء وشهداء الثورة السورية ضد الفرنسيين. ولد عز الدين في دمشق أوائل هذا القرن (حوالي 1900). وقد تعلم في بيروت ونشأ على حب العروبة والإسلام. وكان عمره حوالي عشرين سنة عندما احتلت فرنسا سورية باسم الانتداب الدولي. وقاومها السوريون أشد المقاومة، وكان يوم ميسلون، ثم ثورة 1925. فانضم الأمير عز الدين إلى الثورة واعتقله الفرنسيون، ولكنه التحق بها وحمل السلاح ضد الجيش الغازي متبعا نهج جده مصطفى والأمير عبد القادر. وأثناء دفاعه عن حرم دمشق قتل في الغوطة سنة 1927. وهو يعتبر من قواد الثورة. وله شعر غزير (¬1). وهكذا اختلطت دماء الجزائريين بدماء السوريين في عدة مواقع. ¬

_ (¬1) الخالدي (المهجرون ...)، ص 243. انظر أيضا قصيدة محمود رمزي في (الحديقة) لمحب الدين الخطيب، ج 8، ص 54. وتوجد صورته وترجمته أيضا في الأميرة بديعة (أصحاب الميمنة).

3 - الحسين: لا نعرف متى ولد. وكان أصغر إخوة الأمير حسب الجرائد الفرنسية الصادرة سنة 1845. وكان أكثرهم وسامة واستقامة، وكان يمتاز بالفروسية والشجاعة. وقد سماه الأمير (ربيع حياتي) وكان يرشحه لخلافته بعد وفاة ابنه سنة 1837، حسب خيال الفرنسيين، وقد عاش الحسين أحداث المقاومة. ثم هاجر إلى دمشق واستقر بها. وتذكر المصادر المشرقية أن له ابنا إسمه نور الدين، ولد له في الجزائر، ربما أثناء التيه الذي أصاب المقاومة بعد القبض على الزمالة. وقد جاء نور الدين هذا مهاجرا مع والده إلى دمشق فتعلم بها على بعض علماء المهاجرين والسوريين. وهذه المصادر في الواقع تأخذ عن بعضها البعض، ولا تقدم لنا الجديد. فهي تقول إن نور الدين قد تولى عدة وظائف إدارية وعلمية في سورية والعراق، مثل القضاء والأوقاف، قبل أن يتولى نقابة الأشراف على عموم الدولة العثمانية ويستقر في اسطانبول. وقد عمل على توحيد كلمة الأشراف والتفافهم حول الخلافة والدعاء لها. وتوفي نور الدين هذا سنة 1333 (1914) (¬1). ومن أبناء نور الدين الأمير مختار المعروف بالمختار الجزائري. ويهمنا هنا أن الأمير مختار من سلالة الحسين بن محيي الدين، وأنه لعب دورا في نصرة القضية الجزائرية والمغرب العربي، حين ترأس شرفيا جمعية الجالية الجزائرية، واللجنة العليا للدفاع عن الجزائر، ثم جبهة الدفاع عن أفريقية الشمالية (¬2). وفي ذلك دليل على أن الجزائريين في المشرق لم ينقطعوا عن ¬

_ (¬1) لكن المعروف أن نقيب الإشراف على مستوى الدولة العثمانية هو أبو الهدى الصيادي. (¬2) منتخبات تواريخ دمشق، 2/ 799، والأعلام الشرقية، 3/ 84، والخالدي (المهجرون)، ص 375. وعن علاقة الأمير مختار بالنشاط السياسي لصالح الجزائر والمغرب العربي انظر الفضيل الورتلاني (الجزائر الثائرة)، بيروت 1956، ص 284، وعما كتبته عنه مي زيادة انظر سلمى الحفار الكزبري (مي زيادة وأعلام عصرها)، بيروت، 1982، ص 483.

الدفاع عن وطنهم وأنهم كانوا يرثون ذلك جيلا بعد جيل. 4 - أحمد: أما الأخ الرابع للأمير فهو أحمد بن محيي الدين الذي ولد سنة 1249 (1833). وقد توفي والده وهو دون الفطام. فكفله أخوه محمد السعيد وأسرته. وتربى على يد إخوته وأعمامه. ومنهم الأمير عبد القادر ومحمد المرتضى بن محمد السعيد. وعاش فترة الطفولة والمراهقة على وقائع الحرب والمقاومة. وهناك اختلاف في مصيره بعد 1847 فبعضهم يقول إنه ذهب مع عمه إلى سجون فرنسا حيث بقي إلى أن أطلق سراح الأمير سنة 1852 فتوجه معه إلى بروسة ثم دمشق، وهناك من قال إن أحمد هذا بقي مع أعمامه الآخرين الذين احتجزتهم السلطات الفرنسية في عنابة، وبقوا مسجونين هناك إلى أن سمح لهم بالهجرة إلى الشام سنة 1273 (1856). ولا ندري أي الروايتين نرجح الآن. ومهما كان الأمر فإن أحمد قد حل بدمشق، وفيها ازداد علما على يد جماعة من المهاجرين والسوريين. كما أخذ الطريقة القادرية. رغم أن عمره سنة 1846 كان حوالي ثلاث عشرة سنة، فإن جريدة (الجزائر) ومجلة الشرق اللتين نشرتا الخبر عن أخوة الأمير، لم تذكر اسم أحمد هذا، كما لاحظنا. واعتبرت الحسين هو أصغر أبناء محيي الدين بينما رأينا أن أصغرهم هو أحمد. ويقال إن أحمد قد ولع بفن التصوف، رغم تمكنه من علوم أدبية وتاريخية شتى، وقد جلس للتدريس في داره ثم في جامع العناية الذي كان يقع في باب السريجة بدمشق. وكان أحمد يعتبر من العلماء الزهاد، ومهتما بالحديث الشريف. ويقصده الناس لحل مشاكلهم. ولأحمد بعض التآليف، من أبرزها تاريخ حرب أخيه الأمير عبد القادر، وهو يحتوي على (حقائق لا توجد في تحفة الزائر) (¬1). وطبع له كتاب في التصوف بعنوان (نثر الدر) سنة 1924، أي بعد وفاته التي كانت سنة 1320 ¬

_ (¬1) الأعلام الشرقية، 2/ 172. المعلومات حول وفاته مضطربة. وفي ترجمته تكرار. انظر الفرفور (أعلام دمشق)، ص 26.

زوار من المشرق والمغرب

(1902). وقد نتناول بعض مؤلفاته في الجزء الخاص فذلك (¬1). ومما يلفت النظر أن المصادر لا تذكر سوى ابنه الوحيد وهو بدر الدين الحسني الذي طبع كتاب والده (نثر الدر). ... زوار من المشرق والمغرب ما سنذكره عن زيارات المشارقة والمغاربة منذ وقت مبكر يدل على أن الجزائر لم تكن معزولة عن العالم العربي والإسلامي. فمنذ 1830 تطالعنا أسماء من الزوار المعروفين تاريخيا، أو الذين لا نعرف إلا أسماءهم، وأحيانا، لا نعرف حتى أسماءهم. وكانت زيارات هؤلاء معروفة الهدف أحيانا مثل نشر التصوف والعلم، والتوقف في الطريق، وزيارة بعض الصالحين، والاطلاع على أحوال المسلمين، ولكن أهداف بعض الزوار ظلت غامضة فلا يعلنون هم عنها صراحة، ولا الفرنسيون يعلنون عن رأيهم فيهم، بغير الشك والارتياب. وقد كان الفرنسيون يلجأون إلى طرق مختلفة لاستقبال أو رفض الزائرين. فقد يستغلون الزيارة لصالحهم كما فعلوا مع أحمد المصطفى بن طوير الجنة الموريطاني، وقد لا نعرف موقفهم تماما من الزائر كما هو الحال مع الشيخ محمد صالح الرضوي. وهناك زوار يبدو أن الفرنسيين قد شجعوهم على الحضور للجزائر متوقعين منهم الثناء والمدح ولكن النتيجة كانت غير ذلك، كما فعلوا مع محمد بيرم الخامس والشيخ محمد عبده. بالإضافة إلى أن هناك من طرده الفرنسيون بعد اعتقاله. وسوف يكون من المستحيل الإحاطة بجميع الزائرين وكتابة نبذة عن حياة وهدف كل منهم والعلاقات التي أقامها في الجزائر مع مثقفي البلاد ومع ¬

_ (¬1) تعريف الخلف، 2/ 98، والخالدي (المهجرون)، ص 375، ومنتخبات تواريخ دمشق 2/ 704.

الفرنسيين. ذلك أن المدة التي نعالجها دامت أكثر من قرن. وقد تعددت خلالها الزيارات، وكان بعضها قد رافقته ضجة وحديث طويل. ولذلك سنكتفي بنماذج فقط، وأحيانا بالأسماء فقط محيلين على بعض المراجع الأخرى لمن أراد المزيد من المعرفة. ولعل أحمد المصطفى بن طوير الجنة هو أول من دخل الجزائر غداة الاحتلال قادما من الحج وعابرا إلى الغرب ثم ودان (موريطانيا). وكان ذلك سنة 1832. وأثناء ذهابه إلى الحج مرورا بالمغرب كان سيعبر الجزائر ولكنه علم باحتلالها وأن الطريق منها محفوفة بالخطر فركب من طنجة، ولكنه أثناء الرجوع حل بتونس ودخل منها إلى الجزائر، واحتفت به السلطات الفرنسية باعتباره من الشخصيات الدينية والسياسية لعلها تحصل منه على معلومات وتقيم علاقات معه من جهة إقامته، وكذلك من جهة المغرب الأقصى. فاستقبلوه في الجزائر استقبالا خاصا، وأظهروا له الإكرام والاهتمام وأركبوه سفينة لهم إلى جبل طارق. وظلوا يتابعون أخباره حتى بعد وصوله إلى المغرب ثم إلى مقر إقامته. وقد سجل ابن طوير الجنة بعض الملاحظات على الجزائر والفرنسيين في رحلته التي نشرت بالإنكليزية فقط حتى الآن، وهي بعنوان (رحلة المنى والمنة) (¬1). وبعد حوالي سنة حل بالجزائر الحاج موسى الدرقاوي. ولم يكن هذا من رجال الرحلة والملاحظة ولكن من رجال الجهاد والتصوف. قيل أنه مصري جاء إلى ليبيا وأخذ ورد الطريقة المدنية - الدرقاوية، ثم سار إلى المغرب الأقصى حيث مقر الطريقة الدرقاوية، ومن هناك علم بحركة الجهاد في الجزائر ضد الاحتلال، فدخلها واتصل برجال الجهاد الأولين أمثال محمد بن عيسى البركاني، والحاج سيدي السعدي، والحاج محيي الدين بن مبارك، وقد عقدوا جميعا مؤتمرا في متيجة سنة 1833 ونسقوا حركة الجهاد فيما بينهم. ورغم أنه درقاوي (أي ليس من طلاب الحرب والسلطة الدنيوية) ¬

_ (¬1) انظر حديثنا عن هذه الرحلة في كتابنا (تجارب في الأدب والرحلة)، الجزائر 1982.

فإن الحاج موسى خالف نصيحة زعيم الدرقاوية عندئذ، محمد العربي بن عطية، وخاض المعارك ضد الفرنسيين، واختلف مع الأمير عبد القادر مما أدى إلى تحاربهما حول المدية. ثم انسحب الحاج موسى نحو الجنوب - الأغواط والجلفة - وكون هناك فرعا لطريقته، وتزوج وأنجب أولادا، هم الذين خلفوه. بعد أن حارب جهة الظهرة وأولاد جلال، قتل مع الشيخ بوزيان في معركة الزعاطشة سنة 1849 (¬1). وخلال الأربعينات زار الجزائر محمد صالح الرضوي. وهو من أعيان التصوف بالمشرق في وقته. ولا ندري لماذا سهل له الفرنسيون هذه الزيارة رغم أنها جاءت في وقت حرج إذ كانت المقاومة ما تزال على أشدها في عهد الأمير، وكان الحاكم العام هو المارشال بوجو. وقد سمح الفرنسيون للرضوي بالاختلاط بعلماء الوقت في الجزائر وإجازتهم. ثم ذهب منها إلى المغرب، ولعله رجع إلى المشرق عن طريق الجزائر أيضا. وسنعرض لزيارة الرضوي عند الحديث عن الإجازات. أما زيارة يوسف كرم فهي أوضح من سابقتها. كان يوسف كرم من أعيان لبنان المسيحيين. وكان يتقد غيرة على (الجنس العربي) كما يسميه. وقد حدثت الزيارة للجزائر على إثر أحداث الشام التي تدخل الأمير عبد القادر لإطفائها. وكانت بين يوسف كرم والأمير مراسلات، وكان كرم يحث الأمير على قبول إمارة بلاد الشام إما تحت المظلة العثمانية أو بدونها أي بإعلان الاستقلال عنها. ويهمنا من ذلك كله أن يوسف كرم ثار ضد حاكم جبل لبنان من قبل السلطان، وهو داود باشا، وبعد حوالي سبع سنوات من الفتنة اتفق العثمانيون والفرنسيون على السماح ليوسف كرم بالخروج من البلاد والترخيص العثماني له في ذلك، على أن يذهب للإقامة في الجزائر. وفي 31 يناير 1867 ركب يوسف كرم من بيروت دارعة فرنسية وتوجهت به غربا (؟). ولعل يوسف كرم قد حل بالجزائر ثم غادرها إلى أوروبا حيث ¬

_ (¬1) عن الدرقاوي انظر الحركة الوطنية، ج 1.

يجد النشاط السياسي والإعلامي الذي كان يبحث عنه. (¬1) وكانت زيارة الشيخ محمد بيرم الخامس التونسي للجزائر سنة 1878. وقد سبق له زيارتها أكثر من مرة، ولكنه لم يتعمق في أجوائها ويعرف على رجالها إلا خلال السنة المذكورة. وكان الشيخ بيرم يعرف أوروبا. وله تفكيره الخاص في التقدم الأوروبي والنهضة الإسلامية، وكان من علماء جامع الزيتونة والعارفين بالفرنسية. وكذلك كانت له نظرة مقارنة بين تونس التي كانت ما تزال عثمانية والجزائر التي تأثرت بالتغييرات الفرنسية. ويكفي أن عائلته قد تولت الشؤون الدينية عقودا مختلفة، ومنها عمه بيرم الراعي الذي كان مفتيا وعالما زيتونيا، وهو الذي خلفه بيرم الخامس، في العلم والثروة والجاه، وكان بيرم الخامس صديقا لخير الدين باشا صاحب (أقوم المسالك) والداعي إلى الإصلاح. وتولى بيرم في تونس وظائف عديدة. وفي فرنسا عالج من مرضه العصبي، وزار معرض باريس الدولي، كما زار لندن. وفي الجزائر (أثناء رجوعه) زار عنابة وقسنطينة والعاصمة، وتعرف على بعض رجال الدين والقضاء، ذكر بعضهم في رحلته (صفوة الاعتبار). ومن هؤلاء أحمد بوقدورة، وعلي بن الحاج موسى، وعلي بن الحفاف، وقدور الشريف، والشرق الصفصافي، والسعيد بن شتاح. وكان محمد بيرم من الناقدين للحكم الفرنسي، سيما نظام القضاء والتعليم، وله نظرات دقيقة في المجتمع الجزائري. ولذلك لم تكن أحكامه لترضي الفرنسيون (¬2). ¬

_ (¬1) عادل الصلح (سطور من الرسالة)، ص 105 هامش. لم نجد حتى الآن مصدرا يتحدث عن إقامة يوسف كرم في الجزائر مدة طويلة أو قصيرة. والمعروف أنه توفي بالقرب من نابولي الإيطالية، سنة 1889. وقصة كرم هذه تذكرنا بقصة ميشيل عون في عصرنا. (¬2) انظر صفوة الاعتبار، ج 4. وكذلك هنري بيريز (رحلتان) في (المؤتمر الأول لاتحادية الجمعيات العلمية ...) 1935، ص 263 - 264. وبعد احتلال تونس 1881 هاجر بيرم إلى المشرق، واستقر بالقاهرة وأصدر جريدة (الإعلام) التي كانت تكتب عن تونس والجزائر وتعارض الاستعمار الفرنسي. وقد توفي بالقاهرة، سنة 1889.

وخلال التسعينات من القرن الماضي زار الجزائر ثم استقر بها الأخوان قدور وأحمد رودوسي. وكانا من جزيرة رودس التي كانت تحت الدولة العثمانية. وكانا مهتمين ببيع الكتب في العالم العربي. ويبدو أن اتفاقا بينهما وبين السلطة الفرنسية أدى إلى استقرارهما بالعاصمة وإنشاء مكتبة للبيع ومطبعة لطبع الكتب العربية. ولا شك أن هناك خلفيات قد تكون سياسية لهذه الصفقة، ولكنها كانت مفيدة للجزائر على كل حال إذ أصبحت مطبعة رودوسي أول مطبعة عربية في الجزائر يملكها مسلم من أصول قد تكون تركية أو جزائرية (¬1). ويجب أن نلاحظ أن الفرنسيين كانوا يتعاملون بشأن الكتب العربية مع المسيحيين اللبنانيين عادة. وربما تواصل ذلك حتى بعد الاتفاق مع رودوسي. وهناك شخصيات من أصول جزائرية مولدا أو نسبا زارت الجزائر بعد أن خرجت منها لظروف الحرب أو نحوها. وأسباب الرجوع أو الزيارة عديدة، منها تفقد الأهل والأقارب، وزيارة الصالحين، والحصول على نصيب من التركات، وحب الاطلاع والمعرفة. ومن أبرز هؤلاء أبو حامد المشرفي، من مشارف معسكر، صاحب التأليف العديدة. فقد جاء من المغرب الأقصى أثناء حجه. وكتب عن أحوال الجزائر كما رآها سنة 1849 ثم سنة 1877، ومن رأيه أن حالتها (الفرنسية) تدل على أن التقدم فيها كان مستمرا، وأن رجال الدين منتظمون ومحترمون، وأن المدارس متوفرة والدين مرعي. وقد كان المشرفي من الذين سخطوا على الأمير عبد القادر لتأثير حاشيته عليه، أي لأسباب قبلية عائلية، وعبر عن ذلك في كتابه (طرس الأخبار) الذي سندرسه (¬2). ¬

_ (¬1) نلاحظ أن اسم (قدور) لم يكن شائعا في المشرق، وربما كانت أسرة رودوسي من العثمانيين الذين أخرجهم الفرنسيون قهرا سنة 1820. وكانوا قد حلوا بأزمير وجزيرة رودس وغيرهما. (¬2) حياة المشرفي وكتبه في كتابنا أبحاث وآراء ج 2. وكذلك فصل التاريخ انظر أيضا بيرو (رحلتان)، مرجع سابق.

وتردد على الجزائر أفراد من عائلة مصطفى بن عزوز الرحمانية التي استقرت بنقطة (تونس) منذ حوالي 1844. ومنهم الشيخ محمد الخضر حسين الذي زار الشرق الجزائري والعاصمة حوالي 1905، وكتب (رحلة جزائرية) ذكر فيها بعض الأعيان الذين لقيهم ووصف الحالة الاجتماعية عموما، وسجل ملاحظات دقيقة، وكانت زيارته في نفس السنة التي انعقد فيها مؤتمر المستشرقين الرابع عشر بالعاصمة. وقد ذكرنا محمد الخضر حسين في عدة مناسبات أخرى، ولكننا لاحظ أنه كان عندئذ من علماء جامع الزيتونة وهو المنشئ لجريدة (السعادة العظمى). وقد نشر رحلته المذكورة فيها، ولعل ذلك مما شجع بعض الطلبة الجزائريين على الالتحاق بالزيتونة. والشخصية الثانية من نفس العائلة هو المكى بن عزوز. فقد كان أيضا من مواليد نفطة ومن علماء تونس، ومن أصول جزائرية، وكان ميالا إلى الزهد والعلم. فتردد على الجزائر قبل وبعد رحيله إلى المشرق. وكانت للشيخ المكي مصاهرة مع أهل الديس (قرب بوسعادة). وقد اتخذ هذه المصاهرة وسيلة لتكثير الزيارات ونشر أفكاره التي كان يأتي بها من المشرق. وترك الشيخ أبناء، منهم الشيخ الكامل الذي أكثر هو أيضا من الزيارات والتنقل بين الجزائر والمشرق إلى أن استقر ناحية العين البيضاء ثم سوق أهراس. وكان الفرنسيون يتتبعون حركات الشيخ المكي وابنه الكامل، وكذلك حركة ابن خليفة المدني (من نفس العائلة) المتوفى في مكناس. وكانت الزيارات تؤدي إلى إجازة علماء الجزائر، سيما من الرضوي والمكي بن عزوز وابن خليفة (¬1) وعلي بن ظافر المدني الذي زار أيضا الجزائر سنة 1297 هـ (1879) وأجاز بعض علمائها كابن الحاج موسى. ومن تونس جاء أيضا الشيخ عبد العزيز التعالبي سنة 1895. وكانت ¬

_ (¬1) الكتاني (فهرس الفهارس)، 2/ 788 وهنا وهناك. وقد توفي الشيخ المكي بن عزوز في اسطانبول ودفن بها. ترجمة الشيخ المكي في محمد محفوظ (تراجم المؤلفين التونسيين)، دار الغرب الإسلامي.

أسرته من أصول جزائرية. ويبدو أنه جاء بنية العمل، ولكنه اكتشف أن البلاد قد تغلب عليها الطابع الفرنسي في المدن ولم تعد هي المكان الذي كان يرجو العمل فيه، فلم يطل بها الإقامة (¬1). وفي سنة 1911 زار الجزائر أحد الرحالة التونسيين واسمه محمد الشافعي النفطي، واتصل بالشيخ شعيب الجليلي قاضي تلمسان، وقدم بين يديه قصيدة ورسالة، وعرف نفسه بأنه (كثير الترحال). ولا ندري ما صلة الشيخ الشافعي عندئذ بزاوية نفطة وأحداث ليبيا، ولا كم دامت رحلته أو جولته في الجزائر (¬2). ويبدو أن السلطات الفرنسية كانت حذرة منه، فقد ذكر الشيخ الطاهر بن عبد السلام سنة 1923 أن محمد الشافعي كان عندئذ في عنابة وكانت السلطات الفرنسية تطارده، وأنهم سجنوه، تم حجروا عليه البقاء في عنابة، ثم منعوه من الخروج من تونس (¬3). وهناك رحالة مغاربة حلوا بالجزائر وسجلوا انطباعاتهم عنها، وقد جاء آخرون لدواعي دينية وسياسية أيضا. وتتحدث مصادر المغرب عن محمد التاودي السقاط (سقط؟) حوالي منتصف القرن الماضي. وكان قد جاء الجزائر في سفارة ضمن وفد رسمي، وتحدث في جزء من رحلته التي سماها (خرق العوائد) عن الجزائر. ولا ندري الآن العلاقة بين التاودي السقاط وابن عبد الله سقط الذي كان مع الأمير عبد القادر، وأرسله في مهمة إلى المغرب بعد 1843، فلم يرجع (¬4). ¬

_ (¬1) يوسف مناصرية (الحزب الدستوري التونسي)، دار الغرب الإسلامي، بيروت 1989. (¬2) مخطوط الخزانة العامة - الرباط، ك 48. واسمه الكامل هو محمد الشافعي بن محمد بن علي الشريفي النفطي. ومن شعره الذي قدمه إلى القاضي شعيب قوله: حبي لأهل العلم قد أحياني ... ثملت به روحي مدى أحياني شوقي لهم بجوانحي متوقد ... لوصالهم حادي الهوى غتاني (¬3) الهادي السنوسي، شعراء الجزائر 2/ 56. (¬4) محمد المنوني، مجلة كلية الآداب، جامعة محمد الخامس، عدد 13. وكان محمد =

كما كتب أحمد بن العربي بن حسون الوزاني (الرحلة الوزانية) أثناء حجه سنة 1269. فقد حل بالجزائر أثناء رجوعه من الحج ونزل أيضا وهران. وكان معه غيره من العلماء. ولكننا لا ندري الآن انطباع الحاج أحمد الوزاني ولا من لقيه من الجزائريين (¬1). وبالإضافة إلى ابن طوير الجنة تردد على الجزائر عدد من العلماء الموريطانيين. وقد ذكر الشيخ البوعبدلي أن المفتي محمد باي عمر كان يرحب بهم في الجزائر أثناء حجهم وكان ينزلهم في محله في الذهاب والإياب. وممن كان يساعده في ذلك الشيخ بوعلام ولد رويس. وقال البوعبدلي أيضا انه يظن أن بعض أعضاء الوفد الموريطاني قد حاول طبع رحلة لبعض أقاربه وأهدى منها نسخة إلى الشيخ بابا عمر، وكان البوعبدلي ممن يجتمع بهم أيضا عند المفتي المذكور، وكان بينهم أدباء وعلماء، والكثير منهم كان يدون رحلته إلى الحج. وطالما اشترك البوعبدلي ومحمود زوزو في تسجيل مساجلات المريطانيين بإملائهم عليهما (¬2). وفي 1897 (1316) زار الجزائر حاج مغربي آخر يسمي الحسن بن محمد الغسال. جاء من طنجة وعبر إلى الاسكندرية ثم إلى مكة والمدينة. كما زار بيروت ومرسيليا، ثم رجع إلى بلاده عبر الجزائر عن طريق البر. وفي عاصمة الجزائر زار بعض المعالم مثل ضريح الشيخ عبد الرحمن الثعالبي، ولم يتحدث عن أية شخصية حية، شأن الرحالين المغاربة القدماء، وإلا اكتفى بذكر اسم السيد محمد دادي الذي قال ان أصله من فاس. وفهم من بعض المصادر الأخرى أن دادي هذا كان من كبار التجار بشارع لالير ¬

_ = التاودي السقاط حيا سنة 1871 - 1288. وعن ابن عبد الله سقط، انظر سابقا. (¬1) الرحلة توجد في الخزانة العامة بالرباط، ك 1012، قطعة منها هي الثانية ضمن مجموع. وكان أحمد الوزاني حيا سنة 1864. (¬2) المهدي البوعبدلي، رسالة منه بتاريخ 7 يناير 1981.

(أحمد بوزرينة حاليا). وقام دادي سنة 1905 برحلة طويلة حملته إلى فرنسا ومصر وسورية وتركيا ومكة والمدينة. وكان هو الذي كلفته السلطات الفرنسية بلقاء محمد الجباس، مبعوث سلطان المغرب سنة 1903 إلى الجزائر. وإذا كان الحاج الحسن الغسال لم يذكر العلماء في الجزائر فانه ذكر بعض الجزائريين الذين رآهم واجتمع بهم في بيروت مثل محمد المرتضى ومحمد باشا مؤلف (تحفة الزائر)، ومحمد بن أبي طالب، وكلهم من عائلة الأمير عبد القادر (¬1). زيارات رجال الدين والتصوف من المغرب وتونس وغيرهما أكثر من أن تحصى، كان بعضها برخصة من الفرنسيين أنفسهم، مثل زيارة مشائخ الطيبيبة ابتداء من زعيمها شريف وزان في آخر القرن الماضي. وفي سنة 1357 زار الجزائر محمد المحجوب الذي يبدو أنه من أهل الطرقية، إذ حضر مركز مجمع الزوايا، وكان له رأي في المعتدلين والمتطرفين (المصلحين). وجاء الجزائر أيضا الشيخ شعيب الدكالي، والتقى بعلماء الناحية الغربية كالمفتي عبد القادر بن الصديق. وقد دارت بينهم مناقشات حول عقائد الناس في الشيخ عبد القادر الجيلاني والمولى ادريس والمبالغة في ذلك (¬2). ومن أبرز الزوار المغاربة للجزائر خلال العشرينات والثلاثينات عبد الحي الكتاني المتزعم للطرقية الموالية عندئذ لفرنسا في المغرب الأقصى، رغم علمه الغزير وتآليفه المفيدة، كما حل بالجزائر الشيخ الفاضل بن عاشور لحضور بعض المؤتمرات الصوفية التي كانت تجمعها ¬

_ (¬1) مجلة العالم الإسلامي، يناير 1908، ص 1 - 20 (عن الرحلة الغسالية)، وقد ذكرنا أن محمد المرتضى توفي في بيروت سنة 1902. وعن هذه الرحلة انظر أيضا محمد المنوني، مجلة كلية الآداب، جامعة محمد الخامس، رقم 13. وعنوانها هو (التنبيه المعرب). أما المؤلف فهو الحسن بن الطيب المعروف بابن عشرين. وعن حلول الوفد المغربي سنة 1903 انظر ترجمة محمد بن مصطفى خوجة، وكذلك مجلة (المنار) 3 مارس 1904. (¬2) ابن بكار (مجموع النسب)، ص 213 - 214.

السلطات الفرنسية لتجنيد الرأي العام في المغرب العربي لصالحها. ومن ليبيا جاءت إلى الجزائر شخصيات كانت عادة غاضبة على السلطات العثمانية. منهم سيف النصر، وهو من عائلة أولاد ابن عبد الجليل، وسيف النصر هو صاحب كتاب (ري الغليل) الذي وصف في جزء منه صحراء الجزائر الشرقية وقسنطينة والمنطقة الواقعة بين ذلك والشلف (¬1). أما غومة المحمودي فقد استقر بوادي سوف بعد ثورته على العثمانيين أيضا، وتوفي سنة 1858. وما تزال ذكريات الناس عنه في وادي سوف. وقد سمى ابنه المولود سنة 1857 باسم (سوف). وهو الابن الذي لعب دورا بارزا في الحرب ضد إيطاليا منذ 1911، وأصبح من قادة الحركة الوطنية الليبية. وظل سوف على موقفه ضد الايطاليين بعد أن هاجر إلى مصر حيث توفي سنة 1930 (1349). كما أن زيارة سليمان الباروني للجزائر ودراسته في بني ميزاب على الشيخ محمد بن يوسف أطفيش وكتابته عن مشاهداته فيها، يدل على تأثره بطبيعتها، وبتتلمذه على شيخه القطب وارتباطه المذهبي بأهلها. وهناك رجال آخرون مثل علي يحيى معمر الباحث الشهير، ولكنه جاء في مرحلة متأخرة عن موضوعنا، وكان من تلامذة معهد الحياة والشيخ إبراهيم بيوض (¬2). أما مصر فقد جاء منها شخصيات عديدة، دينية وقانونية، وأدبية وفنية. كالشيخ محمد عبده، ومحمد فريد، وسلطان محمد، وصديق أحمد، وعبد العزيز جاويش، وجورج أبيض، وأحمد شوقي، ويوسف وهبي، وفاطمة رشدي، الخ. ولكل واحد منهم دوره وأثره. وإذا كان أحمد شوقي رغم ¬

_ (¬1) عن كتاب ري الغليل، انظر أبحاث وآراء، ج 4. وعلي المصراتي (مؤرخو ليبيا). (¬2) عن أطفيش والباروني انظر (حياة سليمان الباروني) لإبراهيم أبي اليقظان، جزآن. وعن علي يحيى معمر انظر دبوز (أعلام الإصلاح). انظر دراستنا عن الشيخ الباروني في مجلة الثقافة، 1995.

مكانته الأدبية، غير مهم لأنه مز بالجزائر مر السحاب (¬1)، فإن دور محمد عبده ومحمد فريد وجاويش كان ذا قيمة كبيرة. وقبل أن نذكر دور الشيخ محمد عبده نقول كلمة مختصرة عن الباقين. وكان محمد فريد هو خليفة مصطفى كامل في رئاسة الحزب الوطني المصري، وقد زار الجزائر عدة مرات. أولها سنة 1901، وكانت سنة حرجة في تاريخ البلاد، إذ كانت الإدارة الفرنسية تحاول تجربة التمثيل النيابي المحلي (الوفود المالية)، ومحاربة سياسة الجامعة الإسلامية. وكان محمد فريد من خريجي الجامعات الفرنسية وعارفا بأحوال أوروبا، بما فيها الأندلس. ولما نزل وهران لاحظ (فرنسة) الجزائر ومضايقة السلطات الفرنسية له، ثم استقبله مدير الشؤون الأهلية، دومينيك لوسياني، وهو من المستعربين المعروفين، كما استقبله شعيب بن عبد الله الجليلي قاضي تلمسان، والمستشرق موليراس، وبعض الضباط. وحين انتقل إلى مدينة الجزائر وجد صعوبات أخرى تمثلت في عرقلة مراسلاته. وقد انتقد محمد فريد الإدارة الفرنسية على كبت الأهالي، فهم غير أحرار في السفر ولا يغادرون بلادهم إلا برخصة، وحرية الصحافة وحرية الاجتماع مفقودة عندهم (يشير بذلك إلى قانون الأهالي البغيض). والتعليم موجه لفرنستهم وإحلال الفرنسية محل العربية، وتحسر الزعيم المصري على نجاح سياسة الاندماج الفرنسية إلى حد كبير حين رأى لباس المسلمين متأثرا بلباس الأوروبيين، والزواج من الفرنسيات منتشرا، وتربية أولاد المسلمين في أوساط مسيحية، وعلم أن ابنة أحد الأعيان المتأثرين بالفرنسة قد تزوجت في الكنيسة. ولاحظ محمد فريد أن الحياة العربية والاسلامية تختفي في الجزائر، فمن المدن لم تبق إلا تلمسان متميزة بطابعها العربي، وليس في وهران كلها سوى مسجد واحد، ورغم أن ¬

_ (¬1) انتقد الشيخ عبد الحميد بن باديس مقولة شوقي ان الجزائريين يستعملون الفرنسية لأن ماسحي الأحذية في مدينة الجزائر لا يعرفون العربية. وأما الشيخ الإبراهيمي فقد كان من المعجبين كثيرا بشوقي وشعره. انظر أثار الشيخ الإبراهيمي، ج 5.

الجزائر كانت سيدة البحر الأبيض فانها أصبحت لا تضم سوى أربعة مساجد للخطبة، بينما كان فيها سنة 1830 أربعة عشر مسجدا. كبيرا وحوالي مائة آخرين (¬1). وقد عاود محمد فريد زيارة الجزائر سنة 1902، ثم سنة 1905 وحضر في السنة الأخيرة مؤتمر المستشرقين الرابع عشر. وفي المؤتمر المذكور قدم الشيخ عبد العزيز جاويش رأيه في معاملة الفرنسيين للجزائريين. وكان رأيا صريحا أسخط الفرنسيين. كما قدم الشيخ سلطان محمد مداخلة عن المرأة المسلمة. وكان هذا الشيخ قد تحول إلى هذا الموضوع بعد أن رأى ما جعله يترك موضوعه الأصلي. فتناول حقوق وواجبات المرأة المسلمة في القرآن والسنة. وقدم صورة عن المرأة في الجاهلية، والفروق بين المرأة المتعملة والجاهلة وأثر ذلك على صحة الأبناء وسعادة الزوج والبيت. وذكر نماذج من النساء القارئات والكاتبات والحافظات للشعر. وجاء بأخبار المرأة في مصر وعدد المدارس المخصصة لهن، ومنها واحدة لترشيح المعلمات، ثم وزع على المؤتمرين كلمة كتبتها فتاة مصرية مسلمة عن (تعلم الفتاة). وكانت كلمة الشيخ سلطان محمد بالعربية الفصحى (¬2). ويبدو أن مشاركة الوفد المصري، ولا سيما كلمة الشيخ سلطان محمد، قد تركت أثرا بعيدا في أوساط المتعلمين الجزائريين. ومن جهة أخرى كان الرحالة صديق أحمد، وهو شاعر أزهري، يتردد على الجزائر وتونس. وقد نشر بعض القصائد في صحيفة (الفاروق) التي أصدرها عمر بن قدور (¬3). ¬

_ (¬1) مجلة العالم الإسلامي، مارس 1908، ص 658 - 659. وعن المساجد انظر فصل المعالم الإسلامية. (¬2) محمد بن أبي شنب، (مؤتمر المستشرقين) 14، في المجلة الافريقية 1905، ص 318، وكذلك ماري بوجيجا (عبر الجزائر) في مجلة الجمعية الجغرافية للجزائر وشمال افريقية l 9 l 9 SGAAN، ص 74. (¬3) صالح خرفي (عمر بن قدور رائد الصحافة ...) مجلة الحياة الثقافية (تونس) عدد خاص 32، 1984، ص 39 - 52. نشر عمر بن قدور قصيدة لصديق أحمد في =

وخلال العشرينات حلت بالجزائر عدة فرق مصرية للتمثيل، إحداها كانت بقيادة جورج أبيض، وقد مثلت عدة مسرحيات بالعربية الفصحى، تعرضنا إليها عند الحديث عن المسرح. ورغم العراقيل التي عرقلت نجاح الفرقة فقد تركت أثرا بعيدا على تطور المسرح. ثم زارت الجزائر فرقة السيدة فاطمة رشدي، وكانت موضع احتفاء المثقفين وعشاق الفن التمثيلي في العاصمة وقسنطينة. وكتبت عنها الصحف المعاصرة. وكانت زيارتها سنة 1934 أي بعد الاحتفال المئوي بالاحتلال، فكان الربط بين الجزائر والمشرق في ميدان الفن والتراث، ضربة للتأثير الثقافي الفرنسي. وفي أوائل الخمسينات حلت بالجزائر فرقة مصرية أخرى بقيادة الممثل يوسف وهبي فوجدت اللغة العربية في الجزائر أكثر انتشارا، فتجاوب معها الجمهور ثقافيا. وسياسيا .. واستقبل زعماء الجزائر يوسف وهبي كما تستقبل الوفود الرسمية. وقد استقبل نادي الترقي بالعاصمة شاعرا تونسيا شهيرا هو محمد الشاذلي خزندار وأقام له الأدباء حفلا مناسبا. كما استقبلوا من تونس أيضا الأديبين مصطفى بن شعبان والناصر الصدام، وقد ألقوا محاضرات وشاركوا في ندوات شعرية مع أدباء جزائريين. وبذلك استمر التواصل الأدبي والعلمي بين أقطار المغرب العربي. وخلال العشرينات زار الجزائر الشيخ أحمد سكيرج الفاسي الذي عرف بدفاعه عن الطريقة التجانية. وكانت محاضرة عن الحالة الاجتماعية بفاس (¬1). وقلقت الصحافة الفرنسية عندئذ من زيارة صحفي عراقي لم تذكره بالاسم، ولكنه أصبح معروفا باسم يونس بحري. فقد كانت الصحافة الفرنسية تذكره فقط باسم (السائح العراقي) ولعله كان هو يوقع مقالاته كذلك. ومهما كان الأمر فإن يونس بحري كتب مقالات في جريدة عراقية، ¬

_ = جريدة الفاروق عدد 9، 25 أبريل 1913 بعنوان (صوت المشرق في المغرب). (¬1) أحمد توفيق المدني (تقويم المنصور)، السنة الخامسة، 1348 هـ/ 1929. وكان سكيرج يردد على تلمسان أيضا. انظر فصل السلك الديني.

زيارة الشيخ محمد عبده

لعلها هي جريدة (العرب) التي كان تولى تحريرها. وزار الجزائر سنة 1928. وكان هذا (السائح العراقي) قد انتقد الاحتلال الفرنسي على محو الآثار العربية من الجزائر (¬1). وقد اختلط اسم يونس بحري باسم محمد تقي الدين الهلالي المغربي الأصل المشرقي الإقامة. فقد ذكر الهلالي بنفسه في مراسلة مع البصائر سنة 1936 أنه زار الجزائر منذ ستة عشرة سنة (1920؟)، فوجد ما أحزنه على حال العربية، ولكن الأمور قد تبدلت تماما (من الوجهة الدينية والثقافية وحتى الأخلاقية)، وقال لو أن أحدهم أخبره أن الحالة ستتغير بعد عشر سنوات أو حتى خمسين سنة إلى ما آلت إليه الآن (1936) لبادر إلى تكذيبه. فقد أصبح للجزائر صحافتها الراقية، وهي تشهد نهضة أدبية تضاهي نهضة البلدان الإسلامية الراقية (¬2) وكان الهلالي قد استقر في العراق. ... زيارة الشيخ محمد عبده من الزيارات التي تركت أثرا ما يزال يثير الجدل في قيمته وأهميته، زيارة الشيخ محمد عبده، شيخ الأزهر والمجدد الشهير. كان الشيخ عبده قد ازداد معرفة بالجزائر منذ الثمانينات (¬3)، حين حل ببيروت ودمشق وربط الصلة مع الأمير عبد القادر، وعرف إبنيه محمد ومحيي الدين والجالية ¬

_ (¬1) أخبر بذلك يونس بحري نفسه، انظر البصائر 5 مايو 1939. وقال أنه زار الجزائر سنة 1928، انظر البصائر 16 جوان 1939. (¬2) البصائر 24 يوليو، 1936 من مقالة بعنوان تعليقات، قال فيها إن زيارته للجزائر كانت سنة 1339 (1920). وما يزال الأمر مختلطا عندنا حول من هو (السائح العراقي) هل هو الهلالي أو يونس بحري. (¬3) زار الشيخ عبده تونس لأول مرة سنة 1885، ولعله عرف منها شيئا عن أحوال الجزائر.

الجزائرية هناك. ولعل الشيخ عبده قد تحادث مع الأمير أو مع أبنائه عن أحوال الشرق والجامعة الإسلامية وجمعية العروة الوثقى التي قيل إن الأمير كان عضوا فيها. وتدل المراسلات بينهما على وجود علاقة خاصة، ويذكر الشيخ رشيد رضا الذي أرخ لحياة الشيخ محمد عبده أن هذا قد كتب عددا من الرسائل إلى الأمير، وأن مخاطباته له قد كثرت فكانت طورا في رسائل الإصلاح وطورا في رسائل الوداد. وجاء في أحد هذه المخاطبات ما يدل على تكرار المراسلة بينهما بعد اللقاء، وعلى التقدير الكبير الذي يحمله الشيخ عبده للأمير، كما يدل على وجود (أسرار) بينهما يرمز إليها الشيخ رمزا، كقوله (ورجائي ألا يزايل فكرك ما تفارقنا عليه وسبق الكلام فيه مرارا ... وأن يرد لي من سيادتك ما يبشرني بسلامة حالك، ومجمل الحاصل من سعيك) (¬1). وعلى اثر وفاة الأمير كتب الشيخ عبده معزيا ولديه محمد ومحيي الدين بعبارات مؤثرة، كقوله (وليس من كلمة أجمع لكلماته ولا قول أوفى بفضائله سوى أنه منتهى وصف الواصفين وغاية مدح المادحين) (¬2). ثم تردد الشيخ عبده على تونس فزارها مرتين في الثمانينات. وكانت فرنسا عندئذ حديثة عهد باحتلالها. وكان فيها بعض الجزائريين، في جامع الزيتونة وفي الإدارة وفي الصحافة، فليس غريبا أن يلتقي الشيخ عبده بعدد منهم عندئذ، وأن يعرف منهم القليل أو الكثير من أحوال الجزائر التي كانت وقتها تحت إدارة لويس تيرمان. ولا نظنه إلا قد سمع عن السياسة الفرنسية فيها وعن أحوال التعليم والقضاء والأوقاف والمساجد والحج فأراد أن يقف بنفسه على جليات الأخبار. فالمبادرة بالزيارة فيما يبدو كانت من عنده، رغم أن البعض ربما يذهب إلى أن المبادرة قد تكون فرنسية، الهدف منها جذب الشيخ عبده، الذي عاش في فرنسا فترة إبعاده، عن الفلك البريطاني. ومن يدري فقد تكون لبريطانيا أيضا مصلحة في زيارة الشيخ عبده لمستعمرة ¬

_ (¬1) محمد رشيد رضا، تاريخ الأستاذ الإمام، 2/. (¬2) نفس المصدر، ونص الرسالة موجود فيه.

فرنسية غير عادية، كالجزائر. ذلك أن علاقة هذا الشيخ بالورد كرومر حاكم مصر أصبحت ودية، ولم يكن الاتفاق الودي (1904) بين فرنسا وبريطانيا قد وقع بعد. غير أن صاحب المنار الشيخ محمد رشيد رضا استعمل عبارة غامضة حين نسب المبادرة إلى الشيخ عبده نفسه إذ قال ان هدفه كان الإطلاع بنفسه على أحوال المسلمين وتتبع آثار الإسلام. ومنذ إبريل 1903 كتبت المنار مقالة بعنوان (فرنسا والجزائر) كأنها تمهيد لزيارة الشيخ عبده. وقد جاء فيها بعض (النصائح) للدولة الفرنسية (العظيمة) بأن (تعامل مسلمي مستعمراتها بالحسنى لتملك قلوبهم وتأمن غائلتهم). وفرقت المنار بين معاملة الحكومة الفرنسية وإدارتها في الجزائر، وقالت معتذرة ان فرنسا لم تكن مرتاحة للمعاملة القاسية التي تعامل بها مسلمي الجزائر، ولكنها ترى أنها هي الطريقة الضرورية (؟) إلى أن يأتي ما هو خير منها. وأشارت المنار إلى زيارة رئيس الجمهورية الفرنسية للجزائر (1903) ووعده الأهالي بأن زيارته ستتلوها معاملة أفضل لهم (¬1). وكانت المنار معتدلة جدا، في معالجة العلاقة بين الجزائر وفرنسا. كان الشيخ عبده قد زار أوروبا عدة مرات، خصوصا سويسرا وبريطانيا وفرنسا. وكان في أوروبا خلال صيف 1903، فزار الفيلسوف الإنكليزي هربرت سبنسر في العاشر من شهر غشت، وتحادثا عن حالة الشرق والغرب. ومن بريطانيا حل بفرنسا وقضى في باريس حوالي أسبوعين، ولعله اتصل بالسلطات الفرنسية لتسهيل زيارته للجزائر أو جرى الاتصال به لترتيب هذه الزيارة، إذ لا بد من رخصة خاصة لدخول الجزائر، وهذه الرخصة لا تمنح إلا لمن تعهد بعدم إثارة الشغب والخوض في المسائل الحساسة والسياسية. ومما يدل على (ترتيب) الفرنسيين لهذه الزيارة أن الشيخ عبده قد وجد الشيخ أيا القاسم الحفناوي في انتظاره بمرسيليا لمرافقته إلى الجزائر، دون إعلام مسبق. وكان الحفناوي عندئذ محررا في جريدة المبشر التي تصدر عن ¬

_ (¬1) مجلة (المنار) 4 أبريل 1903، ص 79 - 80. انظر لاحقا.

الحكومة العامة. وعند وصول الباخرة في 27 غشت إلى الجزائر فارقه الشيخ الحفناوي الذي انتهت مهمته، ثم تولاه آخرون كانوا يعدون عليه أنفاسه ويتبعون خطواته ونظراته، فيكتبون عنه وعن زواره التقارير للفرنسيين. وقد تحدث محمد رشيد رضا عن ظروف زيارة الشيخ عبده فقال انه أخبرهم بنيته في السفر بعد أوروبا إلى تونس والجزائر (¬1)، كما كان ينوي زيارة المغرب الأقصى بعد ذلك، وكان هدفه المعلن هو الوقوف على أحوال المسلمين في منطقة المغرب العربي والاطلاع على آثار الإسلام هناك. وقد كتم الشيخ رشيد رضا خبر هذا السفر (لئلا يبادر الأشرار إلى بث الدسائس لمنع فرنسة إياه من دخول البلاد ...) ومع ذلك فإن الخبر قد تسرب و (بادر أولئك الأشرار إلى ما كان ينتظر منهم) فكتبوا رسالتين إلى الحكومة العامة في الجزائر سعاية بالشيخ عبده، واحدة من القاهرة والأخرى من الأسكندرية، وكلتاهما تحريض الحاكم العام لفرنسي (وهو شارل جونار) بالشيخ عبده وتقول ان الهدف من سفره إلى الجزائر هو (تحريض المسلمين على الثورة والخروج على الحكومة ونبذ طاعتها، وأنه قادر على ذلك). وفي نظر الشيخ رشيد رضا أن الحكومة الفرنسية لم تكن (خرقاء) فلم تصغ إلى سعاية الساعين وإنما استقبلت الشيخ عبده (بالحفاوة والإجلال لأنها لا تجهل مكانته الدينية والعلمية. وقد سر بهذه المعاملة له مسلمو الجزائر، ورأوا ذلك دليلا على حسن قصد حكومتهم وحسن سياستها). ورغم هذا الاطراء للحكومة الفرنسية على حسن معاملتها للشيخ عبده فإن الشيخ رشيد رضا استدرك قائلا انهم بثوا (حوله من الجواسيس السريين في كل مكان، وهو لم يكن يجهل هذا ولا كان يخشى منه). ونفهم من كلام رشيد رضا أن الشيخ عبده، كان ينوي زيارة تونس أيضا. وقد ذكر الشنوفي (انظر سابقا) أن الشيخ عبده زار تونس بعد الجزائر مباشرة وأنه جاءها بالقطار ومنها سافر إلى لندن عن طريق صقلية. أما المغرب فلم زرها أبدا. فهل كان لمرضه دخل ¬

_ (¬1) ومن ثمة نفهم حذر رشيد رضا في كتابته بالعدد 4 أويل 1903، انظر سابقا.

في ذلك؟ أو أن السلطات الفرنسية التي كانت تحتل أيضا تونس وتمهد لاحتلال المغرب هي التي جعلته يلغي زيارته للمغرب (¬1). ولكن الشيخ عبده قد حقق هدفه في رأي رشيد رضا، من زيارة الجزائر وهو (إرشاد المسلمين) إلى حقيقة دينهم والطريقة المثلى لإحيائه وإحياء لغته، مع البعد عن السياسة. فقد اجتمع الشيخ عبده، كما ذكرنا، بعدد من العلماء والمعجبين بالحركة الإصلاحية التي يمثلها. وذكر منهم رشيد رضا اثنين وهما محمد بن الخوجة وعبد الحليم بن سماية. وكانا من المعجبين بالمنار، وقد طلبا من الشيخ عبده مع غيرهما، أن يوصي صاحب المنار بأن لا يتعرض في مجلته بسوء للدولة الفرنسية حتى لا تمنع المجلة من دخول الجزائر، وهي في نظرهم (مدد الحياة لنا فإذا انقطع انقطعت الحياة عنا). وهذا الكلام قد يكون موعزا به من السلطات الفرنسية لأنها هي المستفيدة من سكوت (المنار) عن فظائعها في الجزائر. وعن طريق المنار كان في الجزائر وتونس (حزب عبدوي) دون أن يكون الشيخ عبده نفسه عالما بذلك، وقد أكده أحد كتاب جريدة (لوطان) الفرنسية. هذا عن الهدف المعلن من جانب الشيخين عبده ورضا من الزيارة. ولكن ما رأي الفرنسيين في ذلك؟ لماذا سمحوا له بزيارة الجزائر والالتقاء بعلمائها وإلقاء درس عام أو محاضرة كما نقول اليوم؟ رغم أننا لم نقرأ بعد ¬

_ (¬1) قال آجرون ان الشيخ عبده كان يخطط لزيارة المغرب سنة 1905، ولكن المرض أودى به، وكان اللورد كرومر قد أخبر بول كامبون بالداء الخبيث الذي كان يعاني منه الشيخ عبده والذي توفى به في 27 يوليو 1905. انظر آجرون 2/ 917. وبول كامبون هو المقيم العام الفرنسي عندئذ في تونس، وهو أخ جول كامبون الذي سبق له أن حكم الجزائر. وعن علاقة الشيخ عبده بالمغرب نذكر أن الوزير محمد الجباس (الغباس) الذي رأس وفد المغرب وحضر إلى الجزائر سنة 1903 لم يتمكن من لقاء الشيخ محمد عبده فيها. ويبدو أن الوزير غادر ورجع إلى بلاده، فسمع، وهو في مدينة وجدة، بوجود الشيخ عبده بالجزائر، فدخلها لعله يصادفه فوجده قد غادرها إلى تونس. ولكن الذي التقى بالشيخ في الجزائر فعلا هو نجل الوزير الجباس، انظر مجلة (المنار) عدد 3 مارس 1904، ص 927.

عن ذلك في الوثائق الفرنسية فانه يبدو لنا أن الحكومة الفرنسية كانت على الأقل تريد تحقيق أمرين من زيارة الشيخ عبده للجزائر، الأول دولي والثاني محلي. أما الكسب الدولي فهو أنها كانت تخشى حركة الجامعة الإسلامية بقيادة السلطان عبد الحميد. وقد فتح علماؤها ملف هذه الحركة وأخذوا يدرسونه ورقة ورقة ويكتبون عنه التقارير والمؤلفات، ويضعون أمام الحكومة الفرنسية عدة بدائل. كما أن فرنسا كانت تريد الاستفادة من اسم ونفوذ الشيخ عبده في العالم الإسلامي على حساب بريطانيا. أما الكسب المحلي فإن الاتجاه الجديد للسياسة الفرنسية في الجزائر والذي ظهر منذ التسعينات من القرن الماضي هو تحقيق الاندماج عن طريق توسيع التعليم الفرنسي وتكوين نخبة مرتبطة بالثقافة الفرنسية لتحل محل الطرق الصوفية و (الإسلام الجزائري) الذي عبر عنه أدمون دوتيه بأنه إسلام الدروشة والسحر وتوريث البركات. وكان ترويج المنار أولا ثم ترويج أفكار الشيخ عبده ثانيا وحضوره الشخصي، كل ذلك يخدم الاتجاه الفرنسي الجديد ضد الزوايا والمرابطين. ولعله من الملفت للنظر أن الشيخ علي بن عبد الرحمن مفتي وهران وأحد أعضاء الطريقة التجانية لم يحضر درس الشيخ عبده وأعلن أنه كان مريضا. وكثيرا ما كان لوسياني (الذي على يديه رتبت زيارة الشيخ عبده) (ينصح) (أي يأمر) هذا الموظف أو ذاك بكيت وكيت حتى يجعله يتفادى الإحراج. وقد فعل ذلك مع الشيخ محمد السعيد بن زكري يوم مناقشة فرض التجنيد على الجزائريين، فقد نصحه لوسياني بالسفر. ولا نستبعد أن يكون مرض الشيخ ابن عبد الرحمن بإيعاز من لوسياني أيضا (¬1). ¬

_ (¬1) يذهب آجرون، 2/ 916 - 917 إلى أن محمد بن أبي شنب ومحمد السعيد بن زكري ومحمد بن الخوجة (الكمال) ربما لم يلتقوا بالشيخ عبده، بينما قال رشيد بن شنب ان والده قد سجل في زمامه بعض أخبار الشيخ عبده. فهل حضر شخصيا أو استقاها ممن حضروا؟. كما ذهب آجرون إلى أن الأمير خالد قد دعي ولم يحضر. ونحن نستغرب عدم حضور شخص مثل محمد بن الخوجة. ولعل آجرون غير متأكد من معلوماته.

ومهما كان الأمر فان الشيخ رشيد رضا لخص الأفكار التي بها الشيخ عبده في الجزائريين فيما يلي: الحرص على تحصيل العلوم الدينية والدنيوية، والحث على العمل وعمران البلاد، كما نصحهم بمسالمة الحكومة (الفرنسية) وترك الاشتغال بالسياسة لكي تساعدهم هذه الحكومة على تحقيق الغرضين السابقين وهما تحصيل العلوم وتوفير شروط الكسب والعمران. وقد شرح الشيخ رشيد رضا معنى ترك الاشتغال بالسياسة بأنه لا يعني عدم مخاطبة الحكومة في المظالم التي تضر بهم كالقوانين الجائرة والمعاملات التعسفية. وكأني به يريد أن يقول ان السياسة هي التحزب والمضادة للحكومة والتآمر ضدها وعصيان أوامرها والثورة عليها. وقد كتب الكتاب وفسر المفسرون هذا الرأي دون طائل. ونظن أن المسألة عند الشيخ عبده كانت مسألة أولوية: هل الأولى للمسلمين أن يتسيسوا ويعملوا على التغيير بطرق مباشرة كالعصيان والثورة، أو الأولى لهم أن يدرسوا ويكونوا وينافسوا الفرنسيين في العلوم الدنيوية ما دام هؤلاء قد سمحوا بها؟ ولعل جوهر الموضوع هو ما العمل إذا كانت العلوم المسموح بها لا تكفي أو لا تحقق المطمح السياسي بل تعارضه أحيانا؟ وقد أجاب الشيخ رشيد رضا صراحة على ذلك في قوله: فإذا لم تكشف الحكومة ظلامتهم، بعد الالتجاء إليها في كشفها، فانهم يكونون معذورين في سخطهم عليها وتربصهم بها الدوائر كالعصيان. ويبدو لنا أن الشيخ رشيد رضا قد توقع أكثر مما كان ممكنا من حكومة فرنسا عندئذ. ولكن سياسة شارل جونا على ما فيها من ظلم وتعسف، قد أغرت الجزائريين والمسلمين عامة، وفيهم رشيد رضا والشيخ عبده نفسه، ان هناك سياسة جديدة لفرنسا في الجزائر. يقول رشيد رضا ان فرنسا كانت (تبحث دائما عن طريقة يطمئن بها أهل الجزائر لحكومتهم وتطمئن هي لرضاهم عنها). وهذا قول فيه تفاؤل كبير أو فلنقل مجاملة مكشوفة. لأن فرنسا كانت لا تسأل عن رضى الجزائريين ولا تأخذهم في الاعتبار، وكانت سياستها نحوهم تقوم على القمع والإرهاب في كل قانون الأهالي المعروف. ولعل مجيء الحاكم العام جونار هو الذي جعل الأهالي والشيخ عبده وتلميذه الوفي رشيد رضا

يأملون الأمل الحسن في السياسة الفرنسية نحو الجزائريين (¬1). في باب عزون تعرف الشيخ عبده على شيخ جزائري كان يتاجر في محل للدخان اسمه محمد بن عمر بن سماية (¬2)، وهو ابن أخ الشيخ عبد الحليم بن سماية الذي كان من المعجبين بالمنار، وبأفكار الشيخ عبده عن طريق السماع. وقد عرفه التاجر على عمه المذكور فارتبطت بينهما صلة العلم والإعجاب. وربما كانت هذه المعرفة أيضا مرنة من قبل السلطات الفرنسية. إذ لا يمكن أن تكون عفوية إلى الحد الذي يذكره بعض الباحثين. ومهما كان الأمر فان الشيخ عبد الحليم كان يسكن ضاحية الحامة (بلكور) عند جامع صغير بناه أحد التجار اسمه مصطفى الأكحل، قرب سكناه. وكان السيد الأكحل من أصحاب الثروة والجاه ومن المتعلمين، وكانت داره مفتوحة للجزائريين المثقفين والأجانب. وكان الشيخ عبده، لا يكاد يغادر دار السيد الأكحل إلا قليلا (¬3). وقد تهاطل عليه الزوار من مختلف الفئات المتعلمة والمتسيسة، معظمهم من الموظفين لدى الإدارة. وقد قسمهم رشيد بن أبي شنب إلى ثلاثة أصناف، صنف المحافظين وصنف العصريين وصنف المتفرنسين. كما ذكر نماذج من كل صنف (¬4). وكان عمر راسم والإخوان ¬

_ (¬1) انظر مجلة المنار، أعداد 7 و 22 أكتوبر، و 22 سبتمبر، 1903. (¬2) عن عمر بن سماية انظر فصل الفنون. (¬3) كان الشيخ عبده قد زار قسنطينة زيارة خاطفة ثم رجع إلى الجزائر. ولم يكتب أحد حتى الآن، حسب علمنا، عن زيارته لقسنطينة، ونظن أن أحد مستقبليه هناك قد يكون الشيخ المولود بن الموهوب وحمدان الونيسي. وكان ابن الموهوب من المعجبين بالشيخ عبده. انظر خطبة توليه الفتوى سنة 1908، في كتابنا أبحاث وآراء، ج 2. (¬4) عد من الصف الأول ابن زكري والمجاوي وابن سماية، وبوقندورة وابن زاكور وابن الحاج موسى. وعد من الصنف الثاني مصطفى الكمال (محمد بن الخوجة) ومحمود كحول ومصطفى الشرشالي وعبد الرزاق الأشرف ومحمد بن ابي شنب، ومن الصنف الثالث ابن التهامي وابن بريهمات (أحمد) ووضربة (أحمد؟) - وهم متجنسون بالجنسية الفرنسية - ثم حمو أبو علام وحمدان بوركايب - من الأعيان.

رودوسي من الذين حضروا مجالس الشيخ عبده. كانت تعاليم الشيخ عبده تقوم على أن الدين الإسلامي دين علم وعمل وتسامح. وأن كثيرا من الخرافات والبدع قد علقت به، وأنه حاول إصلاح الأزهر ونظام القضاء في مصر، ونحى باللائمة على تخلف تعليم الزوايا وعلى بعض الطرق التي تعلم التصوف الكاذب. وقال ان الدين الإسلامي غير منغلق، بل هو دين مفتوح ومتحرك نحو المستقبل، وأخبر الحاضرين أن الإسلام قادر على التأقلم مع الحياة العصرية، وعلى المسلمين أن يأخذوا من الغرب ما لا يناهض دينهم، وأن ينافسوا الأوروبيين ساقا بساق وذراعا بذراع. وكان يتفادى الموضوعات السياسية ولا يجيب عنها إذا ما سئل، ولعل ذلك كان باتفاق مسبق مع الفرنسيين، ولكنه استنكر الاندماج (التجنس؟)، كما صوره له أحمد بن بريهمات والنخبة المستغربة، حتى لا يتخلى المسلم عن أحواله الشخصية. واعتبر البعض أن هذا الموقف جعله يتدخل في السياسة. قام الشيخ عبده بتفسير سورة (والعصر) في جامع السيد الأكحل بالحامة. كان عدد الحاضرين حوالي 200 شخص، من مختلف أنحاء القطر. ودام الدرس حوالي ساعتين، وكان الحاضرون من مختلف فئات المتعلمين. وحضر بالصدفة أيضا وفد مغربي رسمي كان يزور الجزائر. وكان الشيخ عبده قد فسر هذه السورة من قبل وهو في الأزهر. وجاء الآن فحث على الصبر والصلاة والتعلق بالله وفعل الصالحات وتطبيق الشرع والالتزام بالأخلاق الفاضلة والتمسك بالإيمان الصحيح. وقد فهم البعض أن اختياره لهذه السورة يدل على التزامه بعدم التدخل في السياسة لأن السورة تحث على الاستسلام لله والصبر في سبيله، ولا تدعو إلى الجهاد أو الانتفاضة. لقد كان الشيخ يقارب بين الدين والعلم والتقليد والتجديد ويحث على الأخلاق والتعلم والصلاح. هذه هي رسالة الشيخ محمد عبده سنة 1903. وقد أخذ المعجبون به

يبثونها من صحفهم وخطبهم الجمعية وأحاديثهم ورسائلهم. فقرأ مصطفى الكمال (ابن الخوجة) على الملإ تفسيره لسورة والعصر، وهو التفسير الذي نشرته (المنار) في صورته النهائية بعد رجوع الشيخ إلى مصر ومراجعة النص. وظل تأثير الشيخ عبده بعد وفاته أيضا. وقد تبنت بعض الجرائد الجزائرية كالفاروق وذو الفقار، أفكار الشيخ، وكانتا تنشران أخباره الدينية، مما يفهم منه أنهما ضد الطرق الصوفية والوضع الديني الرسمي في الجزائر والخرافات، فأوقفتهما الإدارة الفرنسية، وكان ذلك عشية الحرب العالمية التي أدت إلى اختفاء القادة والجرائد إلى 1919 (¬1). من الذين ارتبطوا بالشيخ محمد عبده محمد بن الخوجة (الكمال)، وعبد الحليم بن سماية، والمولود بن الموهوب، وعمر بن قدور، وعمر راسم. وكان ابن الخوجة من المعجبين بالشيخ عبده عن طريق المنار، قبل زيارته للجزائر. ولذلك استغربنا من قول آجرون ان ابن الخوجة لم يكن من بين الذين حضروا درس الشيخ عبده. وإذا صح ذلك فقد يكون لأسباب قاهرة كالمرض أو الخوف من السلطات الفرنسية. وقد عرفنا أن ابن الخوجة قد كرر إلقاء تفسير (والعصر) على منبر خطابته في جامع صفر بعد نشر التفسير في كتيب خاص. وكذلك قرظ ابن الخوجة هذا التفسير ونشر تقريظه في المنار (¬2). وفي نفس العدد من المجلة تقريظ طويل نظمه الشيخ عبد الحليم بن سماية في الشيخ عبده عندما كان في الجزائر. ولم نطلع على هذا ¬

_ (¬1) رجعنا في الفقرات السابقة إلى دراسة رشيد بن أبي شنب (زيارة الشيخ عبده للجزائر 1903) في مجلة الدراسات الإسلامية Studia Islamica، عدد 53، 1981 ص 121 - 135، انظر أيضا فرحات عباس (تشريح حرب)، ص 203 - 205، وكذلك محمد رشيد رضا (تاريخ الأستاذ الإمام) 1/ 787، 871 - 873. وفي ج 1/ 787 جاء أن الشيخ عبده كتب بنفسه في تفسير جزء عم أنه فصل تفسير سورة (والعصر) في الجزائر ونشر ذلك منفصلا عن المختصر الذي تضمنه تفسير جزء عم. (¬2) قال رشيد رضا انه نشر التقريظ في المنار المجلد 7 ص 917. وقد وعد بنشره في ذيل تاريخ الأستاذ الإمام، ولكنا لم نعثر عليه. 1/ 872. ولا نعرف ما إذا كان التقريظ شعرا أو نثرا.

الشعر في الذيل، كما وعد الشيخ رشيد رضا. وتواصلت المراسلة بين الشيخ عبده وابن سماية بعد الزيارة أضا. فمن جزيرة صقلية كتب الشيخ عبده إلى تلميذه ابن سماية رسالة تعتبر من رسائل البيان بين الإخوان. فقد مدحه بالفضل والعلم والأدب والأخلاق، وتنبأ له بأنه سيكون إمام قومه في الهداية إلى سبيل الرشاد. وحثه على الاستعداد لهذه المهمة (بالاستمرار في مزاولة كلام البلغاء من أهل اللسان العربي) ومواصلة ما بدأ به من اللغة الفرنسية، ودراسة أخلاق الناس، والتعمق في تاريخ الأمة الإسلامية، والتطور الديني وعلل ذلك وأسبابه. وأوصاه بالاستعانة وبإخوانه ابن الخوجة ومفتي الحنفية (بوقندورة)، وحذره من (النظر في سياسة الحكومة أو غيرها من الحكومات ومن الكلام في ذلك. فان هذا الموضوع كبير الخطر قريب الضرر). وفي نظر الشيخ عبده أن الناس محتاجون إلى العلم والإخلاص في العمل. وكانت هذه الرسالة درسا آخر له ولغيره في موقف العلماء من الحكام. إذ أن الشيخ عبده أصبح الآن خارج الجزائر، وكان بإمكانه أن يكتب ما لم يكن يستطيع قوله وهو فيها. ولكنه ظل متمسكا بمبدئه، وهو أن الناس في حاجة إلى أن (يعيشوا في سلام وراحة مع من يجاورهم (الفرنسيين؟) من الأمم الأخرى، ولا يتعلقوا من الوهم بحبال تنقطع في أيديهم متى جذبوها، فيسقطوا ... فيما لا منجاة منه) (¬1). ونكاد نجزم أن الشيخ عبده هنا يعني ¬

_ (¬1) تاريخ الأستاذ الإمام، 2/ 617 - 618، والرسالة مكتوبة في بليرم 30 جمادي الآخرة سنة 1321. ويفهم من تقديم هذه الرسالة أن رشيد رضا متأكد أن الشيخ عبده قد زار الجزائر وتونس وأنه كان في صقلية عائدا إلى مصر. عن زيارتي الشيخ عبده لتونس انظر المنصف الشنوفي (زيارتا الشيخ محمد عبده لتونس) في الكراسات التونسية، 12 (1968)، ص 57 - 97، بالفرنسية. وبناء على هذه الدراسة فان الشيخ عبده قد زار تونس بعد الجزائر، وأنه ذهب إليها بالقطار، وظل فيها إلى 24 سبتمبر 1903. ومن تونس ذهب الشيخ إلى لندن عبر مالطة ونابلي، ولا تذكر المصادر من كان معه من المرافقين.

المعارضة السياسية للحكومة الفرنسية في الجزائر وغيرها من الحكومات الاستعمارية. ويرى أن ذلك مدعاة للسقوط قبل نيل المرغوب. وعلى إثر وفاة الشيخ محمد عبده بادر بعض الجزائريين برثائه، فكتب الشيخ محمد بن القائد علي، الإمام بالجامع الجديد بالعاصمة، قصيدة نوه فيها بالشيخ ووصف مصيبة المسلمين بفقده، وذكر مؤلفاته، ومنها تفسيره، ورسالة التوحيد، ودوره في الإصلاح وزيارته للجزائر. ونفهم أن القصيدة كانت طويلة لأن الشيخ رشيد رضا اختصرها في كتابه. ولها بداية مؤثرة. وسنعرض إليها في فصل الشعر. ومن التعازي النثرية ما أرسل به أحدهم من الجزائر، مكتفيا باختصار اسمه في حرفين (ع. ز.). وقد نشر هذه التعزية رشيد رضا مختصرة. وفيها تحدث كاتبها عن مكانة الشيخ عبده وزيارته للجزائر والدرس الذي ألقاه ومسامراته (وخاطبنا بخطاب أشهى من طعم الضرب، بأفصح كلام العرب، ... وكشف لنا عن دقائق المسائل. والناس حوله بين مصغ وسائل). وطالب المعزي بنشر آثار الشيخ عبده لتعميم فائدتها. ويبدو أن الشيخ محمد عبده قد كتب مذكرات عن زيارته للجزائر وتونس وغيرهما. ولكن هذه المذكرات قد ضاعت أو لم تكمل. فقد أخبر الشيخ رشيد رضا أنه علم منه أنه كتب مذكرات بشأن البلدين المذكورين وأنه يريد إيداعهما في فصول يتناول فيها الإصلاح بالأسلوب القصصي (المفرغ في قالب الفكاهة). ولكن الشيخ عبده، توفي قبل أن ينشر ذلك، ثم أن أوراقه الباقية ليس فيها تلك المذكرات (¬1). ومن يدري فقد تكون وقعت في أيدي الحريصين عليها دون أن يخرجوها للناس. وقد كانت ضاعت منا مذكرات (يوميات) عن بلدان كثيرة زرناها وأشخاص قابلناهم وحوادث عشناها، ولم يظهر عنها خبر إلى الآن بعد مرور تسع سنوات على فقدها. وأين مذكرات الشيخ محمد عبده من مذكراتنا؟. ¬

_ (¬1) تاريخ الأستاذ الإمام، 2/ 504.

مراسلات وأحداث

ومهما كان الأمر، فان زيارة الشيخ محمد عبده على قصرها (حوالي عشرة أيام) قد تركت أثرها الواسع خطرا لمكانة الشيخ وللإعلام الذي رافقها، ولعدد الحضور للدرس والمسامرات، وتغطية مجلة المنار لها ونشر تفسير سورة والعصر وبعض كتب الشيخ الأخرى، ثم وفاته المفاجئة. وقد عرفنا أنه زار أيضا قسنطينة وهاجم فيها الطرق المبتدعة والجهل، وهي الزيارة التي لم يكتب عنها أحد حتى الآن فيما نعلم. ولا نظن أنه قد زار تلمسان ولكن يجب ألا تعطى لهذه الزيارة أهمية أكثر مما تحتمل. فالظروف كانت حرجة، والجواسيس كانوا في كل مكان، والاتصالات بالشيخ كانت محفوفة بالمكاره، فقد كانت زيارته تعتبر فخا منصوبا للبعض وامتحانا لآخرين. ويمكننا القول ان مدرسة الشيخ عبده ورشيد رضا قد أثمرت تمرتها على يد الحركة الإصلاحية بين الحربين، وبالذات على يد جمعية العلماء المسلمين الجزائريين. ومن أبرز دعاتها الشيوخ: ابن باديس والعقبي والإبراهيمي. ... مراسلات وأحداث تحدثنا حتى الآن عن المراسلات التي دارت بين الشيخ محمد عبده والأمير عبد القادر، وبين الشيخ عبده وابن سماية وبعض العلماء المعاصرين الآخرين في الجزائر. والواقع أن هذه المراسلات كانت كثيرة بعضها نعرف عنه شيئا وبعضها لا نعرف شيئاعنه الآن، وما يزال في بطون الكتب والمذكرات الشخصية. وفي فصل الإجازات سنتناول ما دار في ذلك الموضوع بين علماء الجزائر وعلماء المشارق والمغارب أيضا. كما أننا نوهنا بما بعث به حسن بن بريهمات إلى خير الدين باشا التونسي إثر صدور كتابه (أقوم المسالك) والشعر الذي نظمه ابن بريهمات في ذلك (¬1). وهناك مراسلة جرت بين أبى القاسم البوجليلى وسليم البشري مفتى ¬

_ (¬1) انظر فصل السلك الديني والقضائي.

المالكية في مصر سنة 1278. وكانت المراسلة في شكل استفتاء حول جواز أو عدم جواز بناء جامع جمعة ثان في المدينة الواحدة إذا ضاق الجامع الوحيد فيها بالمصلين. وكانت مسألة خلافية بين الشيخ البوجليلي وأهل بلدة بوجليل، وكان هو يرى جواز بناء المسجد الثاني. وبعد المراسلة وافقه الشيخ البشري على ذلك (¬1). وما ذكرناه ما هو إلا تأكيد لفتوى الشيخ البوجليلي. وهذه الظاهرة كانت شائعة بين العلماء، فإذا احتاروا في مسألة أو أرادوا تأكيد أو تصحيح آرائهم من الناحية الشرعية، لجأوا إلى مراسلة العلماء المشاهير أو المؤسسات الإسلامية الكبرى. وكان أهل تلمسان يلجأون إلى علماء القرويين، وأهل قسنطينة يلجأون إلى علماء الزيتونة، بل أن القضاة في وادي سوف كانوا يبعثون إلى علماء الجريد وتونس العاصمة للاستعانة بآرائهم في أحكامهم إذا كانت مما يستوجب ذلك، كمراسلتهم إبراهيم الرياحي وعثمان بن المكي (¬2). وقد راسل بعض علماء الجزائر أعيان المشرق أيضا في شؤون أدبية ودنيوية. ومن ذلك ما نشره محمود بن الشيخ علي، الإمام بالمدرسة الفرنسية الرسمية، سنة 1869 في جريدة (الجوائب) ومراسلة صاحبها أحمد فارس الشدياق. والمقالة كانت في شأن موضوع سياسي يعلق بالإدارة الفرنسية والانتخابات البلدية في الجزائر على عهد الحاكم العام المارشال ماكماهون. وقد قارن الكاتب فيها بين الانتخابات في أوروبا، وهي طريقة قديمة عندهم ¬

_ (¬1) عمار طالبي (البوجليلي) في الملتقى 15 للفكر الإسلامي (الجزائر)، بحث مرقون. (¬2) بعض أخبار ذلك عند الشيخ محمد الطاهر التليلي في قمار. وتجدر الإشارة إلى استفتاءات الأمير عبد القادر لعلماء القرويين والأزهر في مواضيع عنت له أثناء المقاومة كفرض ضريبة حربية خاصة، وحكم المسلم الهارب للفرنسيين أو المحتمي بهم، ومسألة الهجرة من البلاد. انظر ذلك في (تحفة الزائر) وفي (أجوبة التسولي). انظر (أجوبة التسولي عن مسائل الأمير عبد القادر في الجهاد) تحقيق ودراسة عبد اللطيف أحمد الشيخ محمد صالح، دار الغرب الإسلامي، 1966.

فينظره ذات نفع كبير (مع ما يسري لسكان الوطن من التطبع، والتأسي بقواعد الأورباويين الفائزين عمن سواهم في طريق الإحسان). وكان هذا الرأي الذي نشر في جريدة والانتخابات عند المسلمين وهي جديدة يقلدون فيها الأوروبيين فقط، وهي عثمانية رسمية تصدر باسطانبول له أكثر من دلالة (¬1). وكان أحمد فارس الشدياق معروفا لدى المتعلمين الجزائريين سواء الذين ظلوا في الجزائر أو الذين تنقلوا بينها وبين بلاد الشام مثل عائلة أبي طالب أو عائلة الأمير عبد القادر. فقد كان الشدياق زار فرنسا وأوروبا، ولعله زار الجزائر أيضا.، وكان معروفا، في أوساط المهاجرين الجزائريين في المشرق. وكانت جريدة الجوائب تكتب أحيانا عن الجزائر. كما أن الشدياق كان معروفا لديهم بتأليفه كتابه في اللغة الفرنسية اشترك فيه مع (دوقا) المستشرق الفرنسي سنة 1854. وكان الكتاب موجها (لاستعمال أهل الجزائر). ومن بين تآليف الشدياق التي عرفت في الجزائر أيضا (سر الليال في القلب والإبدال) وهو الكتاب الذي مدحه عليه أبو طالب الغريسي بقصيدة رقيقة أثبتها الشدياق في (كنز الرغائب)، وسنذكر بعضها في فصل الشعر. وطالعها: سنا (سر الليال) أضاء ليلا ... فأنساني مسامرتي لليلى (¬2) وكان آل طالب (بوطالب) من عائلة الأمير عبد القادر كما أشرنا، وقد تولى عدد منهم القضاء خلال القرن الماضي في إقليم قسنطينة، وكانوا هم صلة الوصل القوية بين الجزائر والمشرق، والمغرب أيضا. وكان الشيخ عاشور الخنقي صاحب شاعرية قوية وموهبة في اللغة والأدب، ولكنه جاء في عهد ظلام دامس من الثقافة والتعليم، وكان تكوينه الأساسي في الزوايا، ولا سيما زاوية نفطة العزوزية - الرحمانية. ولكن الشيخ الخنقي وظف موهبته الشعرية في أغراض كانت موضع نقاش وجدل بل ¬

_ (¬1) جريدة (المبشر) 21 يناير 1869. (¬2) تعريف الخلف، 2/ 93.

وخصومة بينه وبين بعض معاصريه، وعلى رأس هؤلاء الشيخ محمد الصالح بن مهنة ومحمد بن عبد الرحمن الديسي. وكان منطلق التخاصم بينهم هو الموقف من (عصاة الأشراف) هل هم ناجون من العقوبة الإلهية؟ ثم عمت الخصومة مسألة الشرف، وكانت مسألة حساسة عندئذ، صادفت هوى في نفس الإدارة الفرنسية التي ضاقت بالأشراف الثائرين ضدها أو الذين كونوا لأنفسهم سمعة خاصة وامتيازات لدى المواطنين، فكانت الإدارة تريد تكسير هذا الحاجز بينها وبين المواطن البسيط لاستغلاله على أوسع نطاق وإخراجه من تأثير طبقة الأشراف الساخطين علها. نحن هنا لا تعنينا أبعاد المسألة السياسية والاجتماعية، وإنما تعنينا ناحية واحدة منها وهي تنويه الشيخ عاشور بالشيخ أبي الهدى الصيادي نقيب الأشراف في الدولة العثمانية والمستشار السياسي والديني للسلطان عبد الحميد الثاني. وقد كان الصيادي من أعداء السيد جمال الدين الأفغاني، وهو الذي حجم حركته السياسية المناهضة للحكام، وجعل السلطان يتبنى حركة الأفغاني لصالح الخلافة العثمانية. وكان الصيادي قد نشر كتابا بعنوان (ضوء الشمس) (¬1)، فأخذ الشيخ عاشور الخنقي ينوه بالكتاب وبالشيخ الصيادي باعتباره نقيبا للأشراف. وكان الخنقي يغتنم الفرصة ليهجو معاصره ابن مهنة على تقليله من أهمية الشرف وقوله ان الأشراف مثل كل الناس يحاسبون على أعمالهم في الخير والشر. وفي القصيدة الطويلة (733 بيتا) التي سماها الخنقي (حسن الأمل في فضل الشرف المجرد عن العمل)، جاء قوله: لله در (أبي الهدى) فيما زبر ... بكتاب (ضوء الشمس) في الخمس الكبر شيخ الشريعة والطريقة والحجا ... صدر النقابة في بني الزهرا الخير وقد مدح الشيخ الخنقي السلطان عبد الحميد الثاني أيضا، واعتبره قد ¬

_ (¬1) طبع الكتاب مرتين، وهو في جزئين، وموضوعه السيرة النبوية والتصوف والشرف. وقد قرظه عدد من علماء الوقت ليس منهم الشاعر الخنقي.

اشتمل على فضل السير والخصائل الحميدة، كما مدح آل عثمان جميعا واعتبرهم من الأشراف، ومدح عاصمتهم (الآستانة) الغراء. وقارن بين البوازيد وآل عثمان واعتبرهم جميعا من عترة واحدة، من آل البيت. ولعل هذا الموقف (السياسي) هو الذي جعل السلطات الفرنسية لا تغفر للشيخ عاشور جرأته، فزجت به في السجن، ولم يخرج منه إلا بتوسلات وتدخلات. وقد كتب البعض عن ولاء الجزائريين لآل عثمان، ولكن موقف الشيخ عاشور مهم ومن الفرنسيين ما يزال غير مدروس. وسنتعرض في فصل الشعر لشيء من هذا الشعر السياسي، ويكفي أن نذكر هنا قول الشيخ عاشور في السلطان عبد الحميد: مولى الورى (عبد الحميد) حميد ما ... شملته سلطنة البرايا من سير من آل عثمان الذي جمع الخلا ... فة في الورى فيما تجاهر واستتر (¬1) ولا ندري إن كان الشيخ عاشور قد أرسل قصيدته الكبرى هذه إلى أبي الهدى الصيادي أو أنه تلقى من هذا مراسلة. والغالب أن العلاقة كانت موجودة بينهما، وقد نظم قصيدته المذكورة قبل وفاة السيد جمال الدين الأفغاني بسنتين. لم تنقطع الاتصالات بين الجزائريين وشيوخهم وزملائهم أيضا. فابن باديس الذي درس على الشيخ محمد الخضر حسين بالزيتونة وفي داره بتونس لا نظنه إلا وقد لقيه في المشرق بعد أن هاجر إليه الشيخ الخضر وحج إليه الشيخ ابن باديس (¬2). وفي هذا المجال تدخل زيارة ابن باديس لتونس للقاء الشيخ عبد العزيز ¬

_ (¬1) عاشور الخنقي (منار الإشراف)، ط. الجزائر، 1914، ص 59 وهنا وهناك. وترجع القصيدة إلى سنة 1895. (¬2) انظر الشهاب، عدد غشت 1930، ص 407 هامش علق فيه ابن باديس على مجلة (نور الإسلام) التي أصدرها الشيخ الخضر حسين في مصر، ورغم أنه ذكر المواد التي درسها عليه في تونس، فإنه لم يقل انه لقيه بالمشرق أثناء حجته.

الثعالبي بعد خمسة عشر عاما من النفي. وربما كانت بين ابن باديس والثعالبي مراسلات سابقة حول وضع المغرب العربي بعد الحرب الأولى. فقد كان الثعالبي مهتما بحركة ابن باديس التي ظهرت في شكل هيئة علمية لإرساء النهضة العربية الإسلامية في الجزائر قبل الانطلاقة السياسية. ولذلك أثارت الصحافة الفرنسية ضجة حول زيارة ابن باديس لتونس سنة 1937، واتفاق الزعيمين، حسب هذه الصحافة، على توحيد حركات المغرب العربي (¬1). وقد تعرضنا في دراستنا عن الأمير شكيب ارسلان إلى المراسلات التي دارت بينه وبين أعيان العلماء الجزائريين بين الحربين. وذكرنا منهم أحمد توفيق المدني، وعبد الحميد بن باديس، والطيب العقبي، وأبا يعلي الزواوي، وإبراهيم أبا اليقظان. وكان شكيب أرسلان يراسل هؤلاء ويراسل أيضا الحاج أحمد مصالي زعيم حزب النجم (ثم الشعب). وهذه المراسلات تشكل فصلا خاصا في العلاقات السياسية والعلمية بين الجزائريين والمشارقة (¬2). ومن أبرز زعماء المشرق الذين اهتموا بالجزائر وتراسلوا مع أعيانها محب الدين الخطيب، وهو من الشخصيات التي ما تزال في حاجة إلى دراسة معمقة من هذا الجانب. وقد عثر بعض الباحثين في أوراقه على (مجموعة كبيرة) من الرسائل التي دارت بينه وبين بعض الجزائريين دون ذكر أسمائهم. ويغلب على الظن أن من بينهم رجالا كالعقي وابن باديس والإبراهيمي والزاهري. وكان العقبي يعرفه منذ كان بالمدينة بل ربما تعامل معه في جريدة (القبلة) الحجازية سنوات 1916 - 1920. وكان الزواوي قد طبع أحد كتبه في مطبعة محب الدين الخطيب، وكانت مجلة (الفتح) التي يشرف عليها الخطيب تصل إلى بعض القراء في الجزائر. ومن الذين وجدت أسماؤهم في أوراق الخطيب الشاعر مفدي زكريا الذي راسله سنة 1937 عندما كان عضوا ¬

_ (¬1) البصائر 16 يوليو 1937، وكذلك 13 غشت 1937. انظر الحركة الوطنية ج 3. (¬2) نشرنا البحث في الكتاب التذكاري (أوراق في الأدب والتاريخ) الذي يحمل اسم الدكتور نقولا زيادة، لندن 1990. انظر أيضا كتابنا أبحاث وآراء ج 4.

في حزب الشعب، والشاذلي المكي بعد أن أصبح ممثلا لحزب الشعب (حركة الانتصار) في مصر، سنة 1946. وقد وجد الباحثون في أوراق محب الدين الخطيب قصاصات من الجرائد في موضوعات تهم الجزائر كالاحتفال المئوي الفرنسي باحتلالها، ومنع فرنسا للحج في مراسلة من بسكرة كتبها محمد الشريف جوكلاري (وهو فرنسي اعتنق الإسلام)، وغرداية في نظر الأجانب، وقطعة من جريدة المغرب للشيخ أبي اليقظان، ونداء من الأمير شكيب أرسلان إلى الإباضية والمالكية في الجزائر، وبيان من مدير الشؤون الأهلية، جان ميرانت، حول جمعية العلماء وتعليق محب الدين الخطيب على البيان، وبيان صادر عن المجلس الإداري لجمعية العلماء، موجها إلى الأمة بتاريخ 22 يناير 1934، وبلاغ من مصالي الحاج إلى الأمة في 12 نوفمبر (؟ 19)، ورسالة من اللجنة العليا لنجم شمال أفريقية بتاريخ 25 رمضان 1350 تطلب من محب الدين الخطيب أن يدافع عن سياسة الحزب الوطنية وأن يقف ضد سياسة الاندماج وتذويب الهوية الجزائرية، وهي مراسلة مفدي زكريا المذكورة. ومع هذه المراسلة صورة لزعيم الحزب أحمد مصالي. ومن الأوراق أيضا دعوة موجهة إلى محب الدين الخطيب لحضور اجتماع (اللجنة العليا للدفاع عن الجزائر) بدار جمعية الشباب المسلمين بتاريخ 23 مارس 1944. وقد وجد الباحثون نسخة من خطاب يبدو أن محب الدين الخطيب كان قد ألقاه بالمناسبة، وكانت نسخة الخطاب ملصقة بالدعوة. أما المذكرة التي تحمل إمضاء الشاذلي المكي فكانت موجهة منه إلى الجامعة العربية وأمينها العام عبد الرحمن عزام (20 أكتوبر 1946) (¬1). ¬

_ (¬1) سهيلة الريماوي (أوراق محب الدين الخطيب) ضمن أبحاث كتاب التقدير والعرفان المقدم إلى المرحوم أحمد عزت عبد الكريم، القاهرة 1976، ص 123. ويجب أن نذكر هنا أن من بين الأوراق عددا خاصا بالجزائر من مجلة (الإخوان المسلمون) بتاريخ أول يوليو 1944.

جمعيات وجرائد

وما دمنا نتحدث عن المراسلات فلنذكر أن العقبي والإبراهيمي والزواوي وأضرابهم قد ارتبطوا بعلاقات مع أعداد من أصحاب الجرائد والمدارس والتأليف في المشرق، سواء في الحجاز أو في الشام أو مصر. ومنذ 1938 انتقل الشيخ الفضيل الورتلاني إلى مصر وارتبط بحركة الإخوان المسلمين التي ربما كان قد انتظم فيها وهو في فرنسا. ونشط أيضا ضمن جالية المغرب العربي في مصر وأسسوا جميعا عدة تنظيمات هدفها خدمة قضية بلدانهم وتحريرها، مثل جبهة الدفاع عن شمال افريقية، سنة 1944. ومنذ نشأة الجامعة العربية نشط الجزائريون هناك وحاولوا كسب تأييد الجامعة المادي والمعنوي لنصرة بلادهم. وكان لإنشاء الجامعة العربية صداه القوي في الجزائر، فقد رفع معنويات الحركات المضادة للاستعمار. وكان للشيخ الورتلاني دور بارز أيضا في ثورة اليمن سنة 1947 - 1948. وليس هذا محل تفصيله (¬1). ... جمعيات وجرائد من الصعب الإحاطة بالجمعيات والجرائد التي ظهرت واهتمت بالحديث عن الجزائر أو كان مؤسسوها من المهاجرين أنفسهم. وكانت في مجموعها تعكس على كل حال، الروابط المتينة بين الجزائر والمشرق. وكانت الجمعيات في المغرب العربي منذ البداية مهتمة بالقضايا المشتركة، وقلما نظرت إلى نفسها على أنها تمثل وحدة قطرية منفصلة. منذ حوالي 1910 أسس الشيخان صالح الشريف وإسماعيل الصفايحي (جمعية الأخوة الجزائرية - التونسية) في اسطانبول. وكان لها فرع في دمشق ¬

_ (¬1) انظر كتابه (الجزائر الثائرة) بيروت 1956. وكذلك أحمد الشامي (رياح التغيير في اليمن)، وبعض مقالات الإبراهيمي في البصائر حول الورتلاني. انظر أيضا كتابنا (دراسات في الأدب الجزائري)، ط 3.

ينشط بين المهاجرين الذين كان أغلبهم من الجزائر، ولها فروع أخرى في بلاد الشام والحجاز ولا سيما فرع المدينة المنورة. وخلال نفس الفترة ظهر في مصر تنظيم آخر يسمى (الاتحاد المغربي)، وكان صاحب الفكرة فيه هو الشيخ علي يوسف صاحب جريدة (المؤيد) التي كانت تتبع سياسة الجامعة الإسلامية. وكان الشيخ علي يوسف قد منعته فرنسا من زيارة الجزائر، حسب بعض الروايات، ولكن آخرين قالوا انه تحادث مع شارل جونار (حاكم الجزائر) حول قانون الأهالي وانتقده أمامه وطالب بإلغائه، كما سنرى. ومهما كان الأمر فان مقر (الاتحاد المغربي) كان في الإسكندرية، وكان يرأسه محمد شرعي باشا الذي ربما يكون من أصول مهاجرة. وفي سنة 1913 أنشأ الشيخ المكي بن عزوز في المدينة المنورة (جمعية الشرفاء)، وكانت تعمل على خدمة مبادئ الجامعة الإسلامية. ويتهمها الفرنسيون بأنها كانت تعمل على إثارة جنوب الجزائر ضدهم. ويهمنا من هذه الجمعية أنها كانت تضم مجموعة من الجزائريين والتونسيين والمراكشيين. وقد عقدت اجتماعا. لها في القاهرة. ومن الجزائريين الذين حضروا هذا الاجتماع السيد الأخضر (؟) الذي قيل انه كان قايدا سابقا لتلمسان، والسيد محمد بن زاوي جلول، وهو من قسنطينة (¬1). لكن فعالية هذه الجمعية، غير واضحة الآن. وربما وجدت محاربة قوية من القنصليات الفرنسية في المشرق العربي. ¬

_ (¬1) باردان (الجزائريون والتونسيون) 1979، ص 230 - 232. ولنتذكر أن الشيخين حمدان الونيسي والبشير الإبراهيمي كانا بالمدينة المنورة عندئذ. كما أن الشيخ العقبي كان مهاجرا فيها منذ صغره. وكان ابن باديس قد زار المدينة ورجع منها إلى الجزائر في هذه السنة (1913). فهل كان الشيخ المكي بن عزوز على صلة بجميع هؤلاء؟ وهل شملت جمعيته بعضهم؟ وكان الشيخ أحمد الزواوي من أعيان المذهب الشافعي ومن المهاجرين أصلا. وليس لدينا الآن معلومات عن العضوين الأخضر ومحمد بن زاوي.

وأثناء الحرب العالمية الأولى والثانية ظهرت عدة جمعيات ولجان في المشرق وأوروبا، مؤلفة من الجزائريين والتونسيين والمراكشيين، يساندهم بعض المشارقة. وكانت الجمعيات تهدف إلى جمع الشمل وتوحيد العمل من أجل تحرير المغرب العربي. ومن أشهرها لجنة سورية وفلسطين في سويسرا برئاسة الأمير شكيب إرسلان، والجمعيات العربية بإسطانول ودمشق، ولجنة تحرير المغرب العربي التي أنشأها علي باش حانبة سنة 1916 بإسطانبول (¬1). أما الجرائد والمجلات التي عالجت أو اهتمت بشؤون الجزائر فكانت متعددة. ومن الممكن أن نقسمها إلى ما أنشأه المهاجرون أنفسهم وما كان من إنشاء غيرهم. وعند المقارنة سنجد أن ما أنشأه الجزائريين لا يتجاوز جريدة ومجلة. والجريدة الوحيدة هي (المهاجر) التي ظهرت في دمشق يناير 1912. وكان رئيس تحريرها محمد بن التهامي شطه وهو مهاجر أصله من الأغواط، حسب معلوماتنا. ولكن ممول الجريدة هو الأمير علي بن الأمير عبد القادر. وكان من كتابها ابنه الأمير سعيد. ورغم ظهور الصحافة في المشرق عقودا قبل ذلك وظهور أهميتها الإعلامية والسياسية فاننا لا نعرف أن الجزائريين، وفيهم أبناء الأمير عبد القادر وعدد من المهاجرين المتنورين، قد أنشأوا جريدة قبل ذلك التاريخ. ولا ندري إن كان لظروف التجنيد الإجباري في الجزائر، وتوتر العلاقات بين الدولة العثمانية وفرنسا، يد في إنشاء جريدة المهاجر، ولكن من الأكيد أنها أصبحت أداة فعالة للسياسة المعادية لفرنسا في المشرق. وتتهم وزارة الخارجية الفرنسية الجريدة بأنها كانت ممولة أيضا من السلطات المحلية (العربية والعثمانية؟) وأنها كانت تهاجم السياسة الفرنسية في الجزائر، وقد تشددت في ذلك أكثر من السابق عشية الحرب العالمية. ويذهب باردان إلى أن الأمير سعيد كان يوقع المقالات المكتوبة له لضعف ثقافته (¬2). ونحن نفهم أن السلطات الفرنسية قد منعت هذه الجريدة ¬

_ (¬1) عن الجمعيات والنوادي في الجزائر انظر فصل المنشآت الثقافية. وهناك لجان ظهرت خلال الحرب العالمية الثانية في القاهرة وغيرها، وقد أشرنا إلى بعضها. (¬2) ذهب سهيل الخالدي إلى أن عائلة شطة قد تكون انقرضت من دمشق وأن ثلاثة منها =

من التداول في الجزائر، ولكن ربما كانت تهرب إليها مع الحجاج والزوار والبريد. واهتمت الجريدة أيضا بأحوال ليبيا وتونس والمغرب، ولا ندري كم دامت، ولعلها قد استمرت إلى حوالي 1916. أما المجلة الوحيدة فهي (المنهاج) التي أسسها الشيخ إبراهيم أطفيش في مصر سنة 1924. وقد اهتمت بالقضايا الإسلامية عامة وقضايا المغرب العربي ولا سيما ناحية ميزاب. وكان الشيخ أطفيش من المهاجرين بعد أن درس في تونس. وله آراء متنورة في الإصلاح الإسلامي، وكان قد مثل الجزائر في عدة مناسبات عربية، منها مؤتمر القدس الذي انعقد سنة 1931، وسندرس بعض تآليفه. ومن الجرائد التي اهتمت بالجزائر جريدة (الجوائب) العثمانية، وكانت تنشر أخبارها كالثورات والمحاكمات والهجرة، مثل ثورة 1871 وثورة 1881. وقد رأينا أن بعض الجزائريين ساهموا في هذه الجريدة وكانوا على صلة بصاحبها أحمد فارس الشدياق. وهناك جرائد ظهرت في مصر أيضا، ووجدت في حرية الصحافة مجالا واسعا، فعبرت عن قضية الجزائر دون تردد، ومن ذلك جرائد العصر الجديد، والمؤيد والحق. بالنسبة للأولى نعلم من بعض المصادر أن أحد الجزائريين كان يكتب فيها باسم إبراهيم خالد ويهاجم السياسة الفرنسية في الجزائر، ولعله اسم مستعار، لأننا لا نعرف حتى الآن شخصية تاريخية بهذا الاسم. وكان الشيخ علي يوسف من المثقفين العرب والمسلمين القلائل الذين اهتموا بشؤون الجزائر والمغرب العربي. ومع أنه لم يكن يهاجم ¬

_ = استشهدوا في صفوف الثورة السورية، انظر الخالدي (المهجرون) مخطوط، ص 394. وقال عن الجريدة انها كانت يومية سياسية، أدبية، علمية، تجارية، فكاهية، تخدم الدولة العثمانية والإسلام. ومعنى هذا أنها كانت تدافع عن السياسة الإسلامية للدولة العثمانية. انظر أيضا باردان (الجزائريون والتونسيون)، مرجع سابق، ص 230، ومذكرات الأمير سعيد الجزائري دار اليقظة، دمشق، 1968، وأيضا صالح خرفي (الجزائر والأصالة الثورية).

السياسة الفرنسية مباشرة، فان جريدته طالما تعرضت للمنع من دخول الجزائر لأنها كانت تنتقد الأوضاع والقوانين الجائرة. وتدعو إلى الإصلاح واليقظة بطريقة سياسية أكثر حدة من مجلة المنار لرشيد رضا. وكلتاهما كانت مقروءة ومطلوبة من الجزائريين. وبالإضافة إلى ذلك كانت جريدة (الحق) التي أنشأها الشيخ عبد العزيز جاويش التونسي الأصل، مهتمة بالدفاع عن قضايا المغرب العربي. ومن الجرائد أيضا (الإعلام) التي أسسها في مصر محمد بيرم الخامس، وقد كان الشيخ بيرم من الذين زاروا الجزائر عدة مرات، وكتب عن أحوالها في رحلته المعروفة وانتقد السياسة الفرنسية. وبعد هجرته إلى المشرق انتقد أيضا سياسة فرنسا في تونس ووالى السياسة العثمانة. وقد ذكر الشيخ أبو يعلي الزواوي في مرحلة أخرى أنه كان ينشر مقالاته في جريدة (البرهان)، التي كان يصدرها الشيخ عبد القادر المغربي. وربما استقطبت هذه الجريدة كتابا آخرين من المهاجرين، مثل الشيخ طاهر الجزائري. وكنا قد ذكرنا جريدة (المقتبس) وجريدة (المفيد)، وكلتاهما صدرت في بلاد الشام واهتمت بشؤون الجزائر وتونس. وفي حاضر العالم الإسلامي لشكيب أرسلان أن الشيخ عبد العزيز جاويش قد أصدر خلال الحرب العالمية مجلة بعنوان (العالم الإسلامي) وكانت تصدر في ألمانيا. وكان من شركائه فيها عبد الملك بن حمزة. وممن كتب في هذه المجلة الحاج عبد الله الجزائري (وهو اسم مستعار بدون شك) الذي كان يسكن برلين. وفي إحدى مقالاته هاجم الحاج عبد الله الآباء البيض الذين كونهم الكارديال لافيجري وألبسهم لباسا شبيها بلباس المسلمين، وكانوا يدخلون في كل ناد ويتصلون بالعائلات. وكانت الحكومة الفرنسية تتغاضى عن نشاط الآباء البيض وتساعدهم. وقال شكيب أرسلان أن الحاج عبد الله (من خيرة رجال العلم والأدب المتمكنين من اللغة الفرنسوية). ومن رأي الحاج عبد الله أن الآباء البيض عملوا على تفتيت الناشئة والعائلات الإسلامية وخلخلة العقائد بتشجيع من الحكومة الفرنسية التى تزعم أنها غير

دينية (علمانية)، ومع ذلك كانت تعفي الآباء البيض من بعض العقوبات، وتميزهم عن غيرهم ترغيبا لهم، وقد انتهى الأمر في نظره، إلى أن أصبح الأب ينكر ولده والأخ يهجر أخاه، من فتنة الآباء البيض (¬1). ولكن مجلة (العالم الإسلامي) ما تزال مجهولة لدينا. ولا بد من الإشارة إلى جريدة (الحضارة) التي كانت تصدر باسطانبول. وقد تعرض إليها عدد من الكتاب لاهتمامها أيضا بشؤون الجزائر (¬2). وكانت قد نشرت مقالات لعمر بن قدور حول التجنيد الإجباري أوائل هذا القرن. ولعل عمر راسم كان أيضا يكتب فيها. ولكن الجريدة التي أظهرت كثيرا من الاهتمام بتطورات الجزائر هي جريدة (الحاضرة) التي كان يصدرها في تونس علي بوشوشة. وكانت جريدة مهتمة بالقضايا العربية والإسلامية. وقد عاشت أكثر من عشرين سنة (1888 - 1911). وكان صاحبها علي بوشوشة من أصول جزائرية كما أشرنا، هاجر جده واستقر في بنزرت، فرارا من الاحتلال الفرنسي. وكان بوشوشة من ذوي الثقافة المزدوجة، وترجم بعض الأعمال من الفرنسية إلى العربية، مثل أطروحة الحكيم محمد بلعربي عن الطب العربي في الجزائر (¬3). وكانت الحاضرة تنقل عن الصحف الفرنسية حول الجزائر، ولا سيما تلك التي تطالب بمعاملة الأهالي معاملة إنسانية. وكانت بينها وبين جريدة (المؤيد) المصرية اتصالات، فعن الحاضرة نقلت المؤيد مسألة التجنس. وأوردت جريدة الأخبار التي كانت تصدر في الجزائر أن صاحب المؤيد الشيخ علي يوسف كان له حديث مع الحاكم العام جونار سنة 1902، حول قانون الأهالي، وعزا الكاتب وهو علي زكي، التحويرات التي حدثت في ¬

_ (¬1) شكيب إرسلان (حاضر العالم الإسلامي) 2/ 358 - 359. (¬2) تناول ذلك صالح خرفي في بعض أعماله، ولا سيما كتابته عن عمر بن قدور. (¬3) انظر فصل العلوم. وقد عاش علي بوشوشة بين 1859 - 1917. وكانت بنزرت قد استقبلت عائلة جزائرية أخرى هي عائلة الدلسي.

القانون المذكور إلى تدخل صاحب المؤيد (¬1). وقد اهتمت (الحاضرة) بقضية الهجرة من الجزائر واعتبرت البقاء نوعا من المقاومة، وقضية التجنيد الإجباري، وقضية المنفيين إلى الجزر النائية مثل أحمد بومزراق المقراني وأبنائه، وقضية الثقافة العربية التي عملت فرنسا على طمسها، وقضية الأوقاف الإسلامية التي استولت عليها فرنسا وحولتها إلى أملاكها، وقضية التعليم العربي الذي ازدهر قبل الاحتلال، فذوي واختفى بعده، ومسألة حيرة الشبان بين التعليم الفرنسي فقط والتعليم الديني فقط. وقد دعت الجريدة إلى المحافظة على التقاليد العلمية العربية في الجزائر مع نشر العلوم العصرية. واشتملت الحاضرة أيضا على أخبار الأدباء والكتاب الجزائريين الذين وجدوا فيها مجالا لنشر أدبهم وشعرهم. ومن هؤلاء محمود كحول الذي نشر فيها بعض القطع الشعرية (¬2). كما نشر فيها عمر بن قدور بعض شعره. وعلي فخار الذي اعتبرته الحاضرة (من أعيان الجزائر وعلمائهم المتبصرين في المصالح العامة). أي المطلعين على أحوال العالم. واهتمت الحاضرة كذلك بالمؤلفات العربية الصادرة عن الجزائريين. مثل كتاب (إقامة البراهين العظام) الذي ألفه الشيخ محمد بن الخوجة (الكمال) (¬3). وهناك مجلات وجرائد ظهرت في أوروبا اهتمت بأحوال الجزائر والمغرب العربي. وسوف لن نطيل في الحديث عنها هنا لأنها خارجة عن موضوع الجزائر في المشارق والمغارب الذي أردناه، ونكتفي هنا بالتنويه ¬

_ (¬1) جريدة الأخبار (القسم العربي) عدد 12 فبراير 1905. ولا ندري ما (التحويرات) التي يشير إليها السيد علي زكي في قانون الأهالي. ومن هذا الخبر نستفيد أن الشيخ علي يوسف قد زار الجزائر أيضا، رغم أن بعض المراجع قد أشار إلى أن الفرنسيين قد منعوه من ذلك. (¬2) عن كحول انظر فصل السلك الديني والقضائي. (¬3) علي العريبي (أصداء جزائرية في جريدة الحاضرة) في مجلة (الحياة الثقافية - تونس، عدد خاص، رقم 32، 1984، ص 70 - 72.

بأسماء بعضها لمن أراد الاطلاع والمتابعة. من ذلك (مجلة المغرب) التي صدرت في جنيف سنة 1916 - 1919 بإدارة محمد باش حانبة. وقد صدر منها 18 عددا، واهتم بها بعض باحثي تونس (¬1). و (منبر الشرق) التي كان يرأسها علي الغاياتي، وهو شاعر وأديب مصري انتقل إلى جنيف منذ 1910 بعد أن كان مهددا بالمحاكمة على شعر له كتب مقدمته محمد فريد ولم يرض عنه الإنكليز ولا الخديوي. صدر أول عدد منها في 5 فبراير 1922 وظلت تصدر إلى 1937. وقد اهتمت بالقضايا العربية والإسلامية. أما المجلة الثالثة فهي (الأمة العربية) للأمير شكيب ارسلان والتي ظهرت بين 1930 - 1938، وكانت تصدر بالفرنسية في جنيف. وكانت لها شهرة خاصة ومشتركون في الجزائر (¬2). ويبدو أن جريدة (النذير) كانت مهتمة أيضا بأخبار الجزائر. وكانت تصدر في مصر خلال الثلاثينات (؟). وقد أشار إلى ذلك الشيخ الفضيل الورتلاني، ومن كتابها الأمير مختار الجزائري أحد حفداء الأمير عبد القادر. وقد سبق لنا ذكر مجلتي (الفتح) و (الإخوان المسلمون). ولا بد من ذكر مجلة (الرسالة) لأحمد حسن الزيات. فقد ساهم فيها عدد من الجزائريين مثل محمد السعيد الزاهري ومحمد زروقي، وكانت من المجلات المهتمة بأحوال العالم الإسلامي، خلافا للثقافة والمقتطف (¬3) أو الأهرام والهلال. ¬

_ (¬1) مثل بشير التليلي. وقد توفي محمد باش حانبة في برلين سنة 1920 (27 ديسمبر)، وأما أخوه علي فقد توفي قبله بسنتين في اسطانبول 31 أكتوبر 1918. انظر عن جريدة المغرب أيضا فلوري A. Fleury (الحركة القومية العربية في جنيف) في مجلة (العلاقات الدولية) عدد 19 (1979)، ص 333 - 334. وقد تزوج علي الغاياتي من امرأة سويسرية وحصل على مساعدات من جهات عديدة. (¬2) فلوري، مرجع سابق، وكذلك بحثنا عن شكيب أرسلان وقضية الجزائر، مرجع سابق، وكان بعض علماء الجزائر يجمعون لها التبرعات، كما اشترك فيها بعض الأعيان. (¬3) نشر الزاهري أيضا في مجلة المقتطف، مثل مقالته عن الشيخ محمد بن أبي شنب.

مشاركات ورواسب

مشاركات ورواسب كان معظم الجزائريين ينتظرون الخلاص من المشرق: من الدولة العثمانية عندما كانت قوية ثم من مصر بعد أن سمعوا بنهضتها وشاهدوا ذلك فيها أثناء حجهم وزيارتهم (¬1). ومن الناحية الروحية كانوا دائما ملتفتين نحو الحجاز مهبط الإسلام. ولكن الحجاز عندئذ لا يقدم أية مساعدة سياسية أو مادية. وقد كانت الدولة العلوية (المغرب) مصدر قوة وإلهام لبعض الجزائريين قبل أن تغلب على أمرها ويحتل الفرنسيون أراضيها أيضا. إن أحداث المشرق والمغرب كانت تصل إلى المتعلمين الجزائريين بشتى الطرق رغم الحواجز التي وضعتها السلطات الفرنسية. فمن جهة كانت جريدة (المبشر) الرسمية نفسها تذكر أحداثا، تراها هامة وتلونها بلونها الرسمي، فقد كانت تغطي أخبار الدولة العثمانية والفارسية والأفغانية والمصرية والهندية والمغربية. ومن حرب القرم إلى حروب البلقان، ومن ثورة عرابي باشا إلى حرب طرابلس، ومن إصلاحات السلطان عبد المجيد والدستور العثماني إلى جمعية الاتحاد والترقي، ثم من أحداث الشام (1860) إلى فتح قناة السويس، ومن الثورة العربية إلى إلغاء الخلافة الإسلامية ... كل ذلك تحدثت عنه المبشر في قليل أو كثير. فكان الشرق حاضرا في أذهان الجزائريين، وكانوا يتخذون نحوه المواقف والصور. ومن جهة أخرى كان حديث الصحف المحلية الفرنسية عن الإسلام يثير الجزائريين. ذلك أن كتابات الصحفيين أمثال سيرفييه صاحب جريدة (لاديباش) بقسنطينة عن الخطر الإسلامي، كانت لا تمر بدون تعليق ¬

_ (¬1) لم تكن السياسة الدولية واضحة عندهم. فمصر كانت تحت النفوذ الأجنبي أيضا، سيما الفرنسي والإنكليزي، ثم احتلها الإنكليز سنة 1882. ومع ذلك كانت صورة مصر عند الجزائريين صورة الدولة الكبيرة التي سيأتي الخلاص على يدها أو على الأقل المساعدة الحاسمة.

عندهم، وكذلك كتابات المستشرقين الفرنسيين ورجال الكنيسة. وفي العهد الأخير (بين الحربين) اهتم جوزيف ديبارمي بتحليل نفسية (الإنسان الأهلي) وردود أفعاله نحو الإدارة الفرنسية ونحو الروابط الروحية واللغوية والتاريخية مع المشرق. وقد نشر ذلك في عدة مجلات وجرائد كانت لا تغيب عن الجزائريين، سيما بعد انتشار التعليم. ومن جهة أخرى كانت الصلة بين فرنسا وبعض السوريين قوية، فكانت الصحف الفرنسية تنقل أخبار هؤلاء ونشاطهم الأدبي والعلمي سيما بعد حكم إبراهيم باشا لسورية ونهضة الأدب العربي على يد جماعة من اليسوعيين والمبشرين هناك. كما أن الحركة العربية المضادة للعثمانيين نبعت من هذه المنطقة. وظهرت عائلتا اليازجي والبستاني وغيرهما. ومن الأسماء المعادية للعثمانين والمنادية بالقومية العربية يوسف كرم ونجيب عزوري. كما ظهرت المدارس الخاصة المرتبطة بالدول الغربية كفرنسا وأمريكا وروسيا، وكان لكل من هذه الدول تأثيره الثقافي والسياسي في المنطقة. ويجب أن نذكر أنه كان لفرنسا مشروع أخذت تعد له العدة ثم عدلت عنه، وهو توطين المارونيين في الجزائر بعد فتنة الشام سنة 1860 (¬1). والصورة التي قدمها الإعلام الفرنسي منذ الاحتلال عن مصر تقوم على أن هناك صداقة حميمة بين حكام مصر والفرنسيين. فهناك العلماء الفرنسيون يقدمون خبرتهم للمصريين، والبعثات العلمية المصرية المرسلة إلى فرنسا. بالإضافة إلى أن العلاقات الثقافية بين مصر وفرنسا كانت تقوم دائما، على أنها في أحسن مثال. فالترجمة والتمثيل والموسيقى والصحافة وما إلى ذلك تجد صداها في الإعلام الفرنسي بغزارة. وكان الفرنسيون يتتبعون نشاط المصريين المتخرجين من بلادهم مثل الطهطاوي وطه حسين ومحمد فريد، وينوهون بآثارهم وما هم مدينون به لفرنسا. وقد نالت كتب الشيخ حسن العطار (وهو ¬

_ (¬1) انظر بحث جورج إيفير في المجلة الأفريقية عن ذلك.

لم يتخرج من فرنسا) وتخليص الأبريز للطهطاوي حظا كبيرا من التنويه (¬1). كما نوهت الصحف الفرنسية بزيارة إبراهيم باشا لفرنسا. وكان هدف هذه الصحف هو توظيف العلاقات المصرية - الفرنسية في خدمة العلاقات الجزائرية - الفرنسية. ومن ذلك زيارة الفرقة الموسيقية المصرية للمغرب سنة 1905. وكان ذلك حدثا صغيرا لو كانت الأمور عادية. ولكن فرنسا ربطت بين هذا الحادث الصغير وسياستها في المغرب والجزائر، وشكلت صحيفة (الأخبار) شبه الرسمية والناطقة باسم الكولون في الجزائر، ذلك الخبر بشكل يبعث على السخرية. فقد ذكرت أن السلطان المغربي المولى عبد العزيز، قد استقدم الفرقة المصرية لتهدئة الخواطر وتبادل الهموم بين الشعبين المصري والمراكشي وأن هذا السلطان كلف وكيله في مصر ليبعث إليه فرقة مصرية أخرى من الموسيقيين والراقصين والراقصات ليزيل ما علق بخاطره من الهموم على إثر زيارة الامبراطور الألماني ويليام الثاني لطنجة. وقد مرت الفرقة المصرية من تونس إلى المغرب (عبر الجزائر؟) برئاسة الفنان موسى بركات (¬2). ومنذ 1869 نشرت (المبشر) مقالة مطولة عن نشأة (الجمعية العلمية السورية) وبرنامجها. وكانت هذه الجمعية قد تأسست بزعامة بطرس البستاني (¬3). ولعلها كانت مدعومة من بعض الدول والهيئات الدولية، بينما كانت فرنسا تطرد السوريين من الجزائر إذا ظهر لها أنهم يثيرون الشغب ¬

_ (¬1) مثلا أنظر محمد الصالح العنتري (هدية الإخوان)، ط. قسنطينة 184. وكذلك المجلة الآسيوية. J. A رقم 10 سلسلة 4، السنة 7 184، ص 259 - 262. (¬2) الفرقة الأولى وصلت المغرب أبريل 1904 بعد اتفاق فرنسا وبريطانيا المعروف على إطلاق يد كل منهما فى المغرب ومصر. وكانت أيضا برئاسة موسى بركات. انظر (الأخبار) عدد 15 أكتوبر 1905. وعدد الفرقة الثانية ثمانية، رجالا ونساء. (¬3) المبشر 15 أبريل 1869.

ضدها. فقد ذكر لويس رين أن سلطات بلاده قد طردت أحد السوريين سنة 1881 لأنه جاء إلى الجامع الكبير بالعاصمة (الجزائر) وأخذ يروج لرأي الشيخ محيي الدين يحيى بن شرف الشافعي في وجوب الهجرة من بلد يتسلط عليه الكفار (¬1). ... ومن جهة أخرى كان الجزائريون يشعرون بالحرمان والكبت الثقافي، سيما أولئك الذين يعيشون على التراث العربي الإسلامي والذين اكتشفوا ذلك التراث بعد اليقظة التي بدأت أوائل هذا القرن. كان تلفتههم إلى المشرق تلفت العطشان إلى المنهل العذب. وكانوا يتتبعون أخبار الأدب والثقافة، وتطور الأفكار، ودور الأزهر الشريف، والمعارك بين التجديد والتقليد، أما السياسة الشرقية فكانت لا تهمهم إلا قليلا لأن الدول الكبرى هي التي كانت تحركها، ابتداء من ثورة الشريف حسين والانتدابات، ووعد بلفور وإنشاء الجامعة العربية، والانقلابات. ورغم عقلانيتهم فان الجزائريين كانوا يغارون على الإسلام والعربية، ويشككون أحيانا حتى فيمن كان مخلصا لدعوته في التجديد والتغيير. وفي هذا الإطار هاجم محمد السعيد الزاهري طه حسين على (شعوبيته) فقد قرأ في جريدة بيروتية اسمها (النداء) أن طه حسين كتب في إحدى الجرائد المصرية أن المصريين خضعوا لبغي وعدوان شعوب متعددة من بينها الفرس واليونان والعرب والفرنسيون والإنكليز. ويبدو أن هذا الخلط في (الشعوب المعتدية) على المصريين قد أدى إلى غضب الشباب العربي في سورية والعراق حتى طالبوا حرق كتب طه حسين، بينما قامت عناصر فرعونية تدافع عنه. وقد دخل الزاهري إلى الميدان أيضا وانتقد طه حسين على شعوبيته، وجعل عنوان مقالته (الدكتور طه حسين شعوبي ماكر). وحكم بأنه كان ضد الإسلام والعروبة وأنه يعرف كيف يتستر عن شعوبيته. ¬

_ (¬1) لويس رين (مرابطون وإخوان)، الجزائر 1884، ص 500. ومن هو ابن شرف هذا؟.

واستعرض الزاهري بعض آراء طه حسين من كتبه ليدلل على رأيه فيه (¬1). وكذلك انتقد بعض الجزائريين المجمع اللغوي المصري على اختياره حسن حسني عبد الوهاب (من تونس) ليكون عضوا نائبا عن المغرب العربي. وفي نظرهم أن عبد الوهاب كان موظفا عند فرنسا في المهدية، وأنه كان تحت تأثيرها ومن ثمة فاختياره في المجمع إنما كان بإيعاز فرنسي (¬2). وكان ابن باديس أيضا، من بين الذين انتقدوا هذا التعيين (¬3). وليس ذلك منهم إلا غيرة على اللغة العربية والإسلام، لأنهم يعرفون نفوذ فرنسا أكثر ربما مما يعرفه الشرقيون الذين ينظرون إلى الموضوع عادة نظرة غير مسيسة. وكان الجزائريون يعتبون على الشرقيين قلة اهتمامهم بقضايا المغرب العربي وانشغالهم بشؤونهم الخاصة ولو كانت تافهة، ويأخذون عليهم عقدتهم من الغرب واهتمامهم بشؤونه والأخذ عنه مهما كانت البضاعة التي يقدمها لهم. وفي كلمة تتميز بالحرارة كتب الشيخ فرحات بن الدراجي (عتابا إلى الشرقيين) سنة 1937 تعرض فيها لوشائج القربى بين المغرب والمشرق والصلات التاريخية والروحية، ومع ذلك فأنه لا يجد إلا الإهمال لشؤون المغرب من المشارقة. واستثنى من هذا العتاب مجلة الفتح والرابطة العربية وجريدة الشباب. واتخذ ابن الدراجي مثالا على ذلك الإهمال واللامبالاة أن جمعية العلماء المسلمين وزعت نسخا من كتابها المعنون (السجل) على بعض الأعيان والمجلات، وطلبت من أصحابها كتابة تنويه بدور الجمعية في النهضة العربية والإسلامية، ولكنها لم تجد ما كانت تنتظره. كما أن نهضة ¬

_ (¬1) محمد السعيد الزاهري، جريدة (الصراط) عدد 4 - 9 أكتوبر 1933. مقالة طويلة في صفحتين من الجريدة. (¬2) البصائر، عدد 53، 29 يناير 1937. وعنوان المقال هو (المجمع اللغوي المصري يعتدي على الأدب والأدباء). (¬3) جريدة البصائر، 1939. وبالخصوص حول تصريح أدلى به حسن حسني عبد الوهاب إلى محطة إذاعية فرنسية.

الجزائر بدأت منذ عقدين دون أن تغطيها في نظره، الصحف والمجلات المشرقية. وانتقد أيضا الكلمة (الهزيلة) التي كتبتها جريدة (السياسة) الأسبوعية المصرية. وكانت (الرسالة) محل نقد خاص عنده، لأنها تتخذ شعارها جمع أبناء البلاد العربية على وحدة الثقافة، ومع ذلك لم تكتب تقريظا للسجل المذكور رغم أن الجمعية قد أهدتها نسخة خاصة منه. ثم وجه الدراجي انتقاده إلى الزيات، صاحب الرسالة، على اهتمامه (براقصات أوروبا) وبالتوافه، ولكنه اعترف بأنه كتب عن الجزائر في إحدى افتتاحياتها العبارة التالية (وفي الجزائر رؤوس تدور من خدر السياسة، وقلوب تذوب من حرارة الظلم)، وانتقد الدراجي الشرقيين عموما على جهلهم بالأسماء الشخصية وأسماء المدن الجزائرية، فهم ينطقون وهران (أوران)، وقسنطينة (قسطنطين) بينما يتهالكون على كل ما هو أوروبي ولو كان مخلة بتقاليدنا مثل الروايات البوليسية (¬1). ويدخل في هذا النطاق نقد الشيخ ابن باديس للشاعر أحمد شوقي الذي حكم، عند زيارته القصيرة للجزائر، على جهل وبؤس الجزائريين من خلال أطفالهم ماسحي الأحذية. وكان الشيخ أبو يعلي الزواوي الذي عاش طويلا في الشام ومصر كثير العتاب للمشارقة أيضا على قلة اهتمامهم بأحوال المغرب العربي، ولا نستثني من ذلك الشيخ الإبراهيمي الذي عاش في المشرق مرحلتين هامتين من حياته، وكانت له فيه صداقات وعلاقات. وقد نالت مع ذلك، قضية تأبين الشاعرين شوقي وحافظ حصة من الاهتمام في الجزائر، وتتبع الجزائريون مبايعة شوقي بإمارة الشعر، وتأبينه بعد وفاته وزميله حافظ إبراهيم، بحنين كبير وحرص على المشاركة والحضور. ومع أن ظروفهم لم تسمح لهم بالمشاركة البدنية فقد اجتمعوا ¬

_ (¬1) فرحات بن الدراجي (كلمة عتاب إلى إخواننا الشرقيين) في البصائر عدد 3 ديسمبر 1937. مقالة طويلة على ثلاث صفحات، وعدد الرسالة المشار إليه هو رقم 42.

على بكاء الشاعرين الكبيرين. كما نظم شعراؤهم في ذلك القصائد الحارة (¬1). وحتى لا يتكرر الغياب كتب (الشاب) الشاذلي المكي من تونس يقترح مشاركة الجزائر في تأبين مصطفى صادق الرافعي الذي كانت لجنة خاصة تحضر له في مصر، واقترح بعض الأسماء (¬2). ... إننا نوهنا في هذا الفصل بشخصيات عديدة، ولكن مكانة خاصة يجب أن يحظى بها الشيخ صالح الشريف التونسي. فهذا الرجل كان طيلة خمسة عشر عاما. تقريبا شعلة متقدة ضد الاستعمار الفرنسي وصوتا مدويا لصالح قضية الجزائر وتونس. ومن واجب الجزائريين اليوم أن يحتفوا به وبإخوانه باش حانبه (علي ومحمد) ومحمد السنوسي، والمكي بن عزوز والخضر حسين والثعالبي وعلي بوشوشة، وإسماعيل الصفائحي وأضرابهم. فانهم لم يكونوا ينظرون إلى قضية المغرب العربي مجزأة كما هي اليوم بل كانت في نظرهم قضية واحدة. ومنذ كان شيخا في جامع الزيتونة كان صالح الشريف مهتما بالسياسة التونسية والجزائرية. وهو من الذين ساهموا في تكوين جيل من المناهضين للاستعمار. وكان من آل البيت، ومن بيت قديم في تونس. وهاجر منها إلى المشرق حوالي 1906، حين بدأ الاضطهاد السافر للحركة الوطنية هناك، ثم لحقه الأخوان باش جانبه والصفائحي والخضر حسين. ونشط صالح الشريف بالذات في اسطانبول ودمشق، وكان على صلة بأعيان المهاجرين من أبناء الأمير عبد القادر وغيرهم. وقيل انه أقنع بعض الجزائريين بعدم الرجوع إلى الجزائر وأنه عارض الفكرة الإصلاحية المعتدلة التي دعا إليها رشيد رضا (عدم الاهتمام بالسياسة) على مذهب الشيخ محمد عبده. وعزا بعضهم محاولة اغتيال رشيد رضا سنة 1909 في ¬

_ (¬1) انظر كتابنا (شاعر الجزائر محمد العيد)، والخرفي الشعر الجزائري الحديث. (¬2) البصائر 16 يوليو 1937، وقد أمنت الجريدة على هذا الاقتراح.

دمشق إلى اعتراضات صالح الشريف عليه. وبعد تولي جمعية الاتحاد والترقي السلطة في الدولة العثمانية وجدت في صالح الشرف زعيما نشيطا، فأرسلته في عدة مهمات إلى دمشق وغيرها، ثم حدثت حرب طرابلس فذهب مع أنور باي (بيك)، وارتبط به وأصبح مستشاره في شؤون المغرب العربي. وكان صالح الشريف هو الذي ألقى سنة 1910 خطابا ثم صلى بالناس عند ضريح خير الدين بربروس بإسطانبول بحضور أعيان وأمراء متل محمد باشا بن الأمير عبد القادر (¬1). وخلال الحرب العالمية انتقل صالح الشريف إلى سويسرا، وظل يعمل لتحرير تونس والجزائر والمغرب. ولعله اشترك في مؤتمر القوميات الذي انعقد بلوزان سنة 1916 إلى جانب محمد باشں حانبه ومحمد فريد وعلي الغاياتي وآخرين. ذلك أنه أصدر في هذه السنة كتيبا بعنوان (آلام الشعوب المضطهدة، تونس والجزائر) بالألمانية، وقد اشترك معه في وضعه زميله إسماعيل الصفائحي، كما صدر نفس الكتيب بالفرنسية سنة 1917 (¬2). وفي هذه الأثناء صدر لهما أيضا كتيب آخر بعنوان (شمال افريقية ...). وعند نهاية الحرب أدركت صالح الشريف الوفاة (1919). ولا ندري إن كان من المساهمين في إنشاء مجلة المغرب وفي الدعوة إلى تطبيق مبدإ تقرير المصير على الشعوب المستعمرة. والغالب أنه فعل ذلك. لقد كان صالح الشريف، كما تدل خطواته، من مدرسة جمال الدين الأفغاني. يرى السياسة في العمل من أجل إسقاط النظام الاستعماري، وكان يؤمن بتحريك ¬

_ (¬1) تعرف على صالح الشريف وعلى زميله الصفائحي، أحد البولنديين باسم سيف الدين ثادي غازويت الذي قل انه اعتنق الإسلام وزار الجزائر وتونس، وكتب عن صالح الشريف في (النشرة البولونية) عدد 15، 1907. وقد رافقه غازويت إلى اسطانبول أيضا. انظر باردان، (الجزائريون والتونسيون)، مرجع سابق، ص 190 - 193. (¬2) المكتبة الوطنية - باريس رقم 2283 LK 8 8. وهو في 32 صفحة. وقد ترجم إلى العربية.

الجماهير وتجنيد القادة لقيادتها. وقد أدركه الموت دون أن يرى الضوء الذي عمل على أن يعم بلاده والمنطقة كلها، ولكن تلاميذه صاروا على دربه وجنوا ثمرات جهوده (¬1). وهكذا فانه بالرغم من العزلة التي فرضت على الجزائر منذ 1830 فانها كانت تتصل بالمشرق والمغرب من عدة طرق، كما كان المشارقة والمغاربة يتصلون بها ويهتمون بقضيتها ولا سيما منذ أوائل هذا القرن. ومع وسائل الإعلام والاتصال ونشأة الحركات الوطنية هنا وهناك، وتواصل رجال الدين والسياسة، والبعثات الطلابية حدث تطور كبير في هذه العلاقات، ثم تدعمت وتوسعت منذ إنشاء الجامعة العربية وظهور حركة الإخوان المسلمين، ونكبة فلسطين التي أصبحت رمزا لاهتمام العالم العربي والإسلامي. وقد عادت الجزائر إلى أصالتها العربية الإسلامية وزال عن أهلها الشعور بالحرمان والكبت، كما صحح المشارقة نظرتهم عنها فلم تعد هي تلك الفردوس المفقود الذي يشبه الأندلس، ولكنها الفردوس الموعود والعائد الذي بشرت به انتفاضات وإرهاصات قرن وربع، ثم ثورة 1954. انتهى الجزء الخامس ويليه الجزء السادس ¬

_ (¬1) من مصادره، بالإضافة إلى ما ذكرنا، الأعلام الشرقية، 2/ 113، وشجرة النور لمحمد مخلوف. وربما كان الثعالبي من أنصاره. ولا ندري متى تخلى صالح الشريف عن جمعية الاتحاد والترقي التي خيبت آمال الزعماء العرب والمسلمين. وعن محمد باش حانبه أنظر علال الفاسي (الحركات الاستقلالية)، ط 1، 1948، ص 41 - 45، سيما عن دوره في وحدة المغرب العربي. وعن مؤتمر القوميات 1916 انظر فلوري (الحركة القومية العربية في جنيف) في (العلاقات الدولية) رقم 19، خريف 1979، ص 332.

المحتوى

المحتوى

_ الفصل الأول: المعالم الإسلامية والأوقاف ........... 5 مقدمة .............................................. 7 مساجد العاصمة .................................... 10 آراء وتعاليق حول مصير مساجد العاصمة ........... 71 بعض المساجد في أقليم العاصمة .................... 77 مساجد أقليم قسنطينة ................................ 79 مساجد أقليم وهران ................................... 100 الزوايا في أقليم الوسط ............................... 110 الأضرحة في أقليم الوسط ............................ 126 تعاليق حول الآثار الإسلامية ......................... 138 الزوايا والأضرحة في أقليمي قسنطينة ووهران .......... 146 الأوقاف .............................................. 152 القرارات وتنفيذها ...................................... 161 نماذج من أموال الوقف والإحصاءات .................. 171 المساعدات الخيرية ................................... 179 المكتب الخيري الإسلامي ............................. 186 جمعيات الإغاثة الإحتياطية ........................... 203 الفصل الثاني: المنشآت والمراكز الثقافية (1) .......... 209 الصحافة ............................................. 211 صحفة المبشر الرسمية ............................... 221

_ جريدة المنتخب ...................................... 232 المجلات الفرنسية .................................... 236 نشأة الصحف الجزائرية ............................... 241 الصحف السياسية والإندماجية ......................... 265 الصحف منذ 1940 .................................. 270 المجلات العربية ...................................... 273 عمر بن قدور ......................................... 276 عمر راسم ............................................. 282 أبو اليقظان ........................................... 290 التقاويم ............................................... 294 الإذاعة والسينما ....................................... 300 المطابع ............................................... 305 الجمعيات والنوادي الثقافية ............................. 313 الفصل الثالث: المنشآت والمراكز الثقافية (2) .......... 323 المكتبات ............................................. 325 نظرة على مصير المخطوطات والوثائق ................ 326 المكتبة العمومية (الوطنية) ............................ 340 المكتبة الجامعية ...................................... 351 المكتبات العسكرية والبلدية والمدرسية .................. 354 مكتبات الزوايا ........................................ 360 المكتبات الخاصة ..................................... 375 النساخة والنساخون .................................... 392 المسرح ............................................... 410 المسرح الجزائري ...................................... 416 الموسيقى ............................................. 430 (رأي دانيال سالفادور) ................................. 442 موسيقى البادية ........................................ 445

_ آراء في الموسيقى التراثية ............................. 448 محمد سفنجة - رواني - بارتوك - داروي - قطاط - آخرون الفصل الرابع: الجزائر في المغارب والمشارق .......... 469 الهجرة نحو المغارب والمشارق ........................ 472 - إلى الحجاز ....................................... 482 - إلى المغرب ....................................... 486 - إلى تونس ........................................ 489 - إلى ليبيا .......................................... 493 - إلى مصر ........................................ 495 - إلى إسطانبول .................................... 501 الروابط الروحية الصوفية ............................ 505 الجامعة الإسلامية ................................... 514 بعض أعيان الجزائر في المشرق والمغرب ............ 521 عائلة الأمير في المشرق: الأخوة والأبناء ............. 529 الأمير عبد القادر ................................... 529 أبناء الأمير ........................................ 551 إخوة الأمير ........................................ 563 زوار من المشرق والمغرب .......................... 570 زيارة الشيخ محمد عبده ............................. 583 مراسلات وأحداث .................................. 595 جمعيات وجرائد .................................... 602 مشاركات ورواسب ................................. 610

دار الغرب الإسلامي بيروت - لبنان لصاحبها: الحبيب اللمسي شارع الصوراتي (المعماري) - الحمراء، بناية الأسود تلفو ن: Tel: 009611 - 35033 l / خليوي: 638535 - 009613: Cellulair فاكس: 742587 - 009611: Fax / ص. ب. 5787 - 113 بيروت، لبنان DAR AL-GHARB AL-ISLAMI B. P.: 113 - 5787 Beyrouth, LIBAN الرقم: 1998/ 11/2000/ 337 التنضيد: كومبيوتايب - بيروت الطباعة: دار صادر، ص. ب. 10 - بيروت

HISTOIRE CULTURELLE DE L' ALGERIE PAR Professeur Aboul Kacem Saadallah Universite d'Alger Tome 5 1954 - 1830 DAR AL- GHARB AL-ISLAMI

الجزء السادس

الدكتور أبو القاسم سعد الله تاريخ الجزائر الثقافي الجزء السادس (1830 - 1954) دار الغرب الإسلامي

1998 دار الغرب الطبعة الأولى دار الغرب الإسلامي ص. ب. 5787 - 113 بيروت جميع الحقوق محفوظة. لا يسمح بإعادة إصدار الكتاب أو تخزينه فى نطاق إستعادة المعلومات أو نقله بأي شكل كان أو بواسطة وسائل إلكترونية أو كهروستاتية، أو أشرطة ممغنطة، أو وسائل ميكانيكية، أو الاستنساخ الفوتوغرافي، أو التسجيل وغيره دون إذن خطي من الناشر.

تاريخ الجزائر الثقافي

الفصل الأول الاستشراق والهيئات العلمية والتنصير

الفصل الأول الاستشراق والهيئات العلمية والتنصير

بسم الله الرحمن الرحيم يهتم هذا الفصل بعناصر هامة في المسيرة الثقافية للجزائر. أولها الاستشراق الذي هو أحد مظاهر الغزو الثقافي الفرنسي. وسنتتبع خطوات الاستشراق الفرنسي من 1830 لنعرف المراحل التي مر بها والنشاط الذي قام به رجاله وعلاقته بالإدارة الاستعمارية وبالدراسات العربية والاسلامية عموما. وقد عمل مع المستشرقين فريق من الجزائريين سنذكر بعضهم أيضا. وكانت (مدرسة الجزائر) عنصرا أساسيا في هذه المسيرة الثقافية. وعبارة (مدرسة الجزائر) أطلقت عند البعض على تأثير الجزائر في الأدب الفرنسي وتلوينه بلون بيئتها ونكهتها. ولكننا هنا نستعمل عبارة (مدرسة الجزائر) للدلالة على الانطلاقة الفكرية للاستشراق الفرنسي والدراسات العلمية والبحث العلمي الناتج عن مراجعة تجربة التعليم وأثر حرب السبعين في الحياة الفرنسية، وقد بدأت هذه المدرسة في الظهور منذ آخر السبعينات عند إنشاء مدرسة الآداب العليا 1879 وهي التي أصبحت كلية الآداب سنة 1909. فهي مدرسة فكرية أثرت في الأدب والفن واللغة والتاريخ والعلاقات بين الجزائريين والفرنسيين، وفوق ذلك كله أطلقت الاستشراق الفرنسي من عقاله فانطلق دعم الجهود الاستعمارية في الجزائر وتونس والمغرب الأقصى وإفريقيا بل وفي الوطن العربي. وكان انعقاد مؤتمر المستشرقين الدولي الرابع عشر بالجزائر سنة 1905 أحد المظاهر البارزة لتلك الانطلاقة. ومن عناصر هذا الفصل نشاط الكنيسة ودورها منذ 1830، وتكوين أسقفية الجزائر سنة 1838، وجهود ديبوش وبافي ولافيجري في إحياء الكنيسة الكاثوليكية التى مضى على وفاتها إثنا عشر قرنا. فكان الاعتداء على

المساجد بهدم معظمها وتحويل بعضها إلى كنائس، وإلى اسطبلات، وإلى مراقد للجنود. ثم إعادة بقايا القديس أوغسطين في احتفال ضخم حضره عشرات القساوسة من فرنسا، ومشاركة الجيش في ذلك والصلوات والاستعراضات والزيارات المرافقة، ثم إحياء أسماء أخرى مثل جيرونيمو (¬1) وسان سيبريان، وإنشاء فرق سميت فرق الآباء والأخوات البيض، وانتشارهم في أقاصي الجبال والصحارى يحملون الصليب إلى سكانها ملفوفا في قوارير الأدوية ولفائف الكتب والأغذية والملابس. وهم في كل ذلك تحت حماية ورعاية الدولة الفرنسية وجيشها وقوانينها الاستثنائية القاسية ضد الجزائريين. كما سنتناول في هذا الفصل اللجان والجمعيات العلمية. فقد تشكلت منذ آخر الثلاثينات من القرن الماضي لجان علمية رسمية لدراسة أوضاع الجزائر في مختلف مظاهرها. وتعيين فيها عدد من الخبراء، ومنهم العارفون باللغات والاجتماعيات والتاريخ. وقد ظهرت مجلدات وإحصاءات ذات قيمة كبيرة، وكانت مساعدة على ظهور الدراسات الاستشراقية في وقت لاحق. كما كانت أعمال لجنة 18 لسنة 1892، وكراسات لجنة الاحتفال المئوي سنة 1930 مصدرا هاما لمعرفة الجزائر من الوجهة الفرنسية. ويلحق بهذا العنصر أيضا تلك الجمعيات المتخصصة في التاريخ والآثار والجغرافية ونحوها والتي انطلقت من الخمسينات في القرن الماضي. ومن أوائلها جمعية قسنطينة الأثرية وجمعية الجزائر التاريخية. وكلتاهما أسس مجلة ظلت مصدرا لا غنى عنه للباحثين حتى بعد اختفائهما. ¬

_ (¬1) شخص تحدث عنه هايدو، وزعم أنه شهيد الكنيسة. وجد جسمه مبنيا في حائط قلعة الـ 24 ساعة عند هدمها. وحملت عظامه إلى جامع كتشاوة (الكاتيدرالية) من قبل أسقفية الجزائر، وأعلن أنه قديس. وقد أيد بيربروجر (وهو أثري) ذلك الادعاء. ويقول مارسيل ايمريت ان السكان يشكون في قدسيته، كما أن المؤرخين المعاصرين وقفوا ضد نظرية بيربروجر انظر: ايمريت (تنصير مسلمي الجزائر) في (المجلة التاريخية) 1960، ص 65 - هامش 5.

الاستشراق ومراحله

الاستشراق ومراحله ليس غرضنا هنا التأريخ للاستشراق الفرنسي، وإنما يهمنا علاقة هذا الاستشراق باحتلال الجزائر، وهو ما ظهر جليا منذ سنة 1830 (¬1)، وهذا لا يعني أنه لم يكن للمستشرقين الفرنسيين اهتمام سابق بالجزائر، إننا إذا عدنا إلى كتابات ديفونتين وبيسونيل وفانتوردي بارادي سنجد النواة لذلك الاهتمام. وعند تأزم الوضع بين الجزائر وفرنسا سنة 1827 وبداية التفكير في الحملة ضد حكومة الداي، ترجم الفرنسيون أعمال زملائهم الأروبيين والأمريكيين عن الجزائر أيضا، مثل مؤلفات الدكتور شو والقنصل شيلر، والأديب باننتي. ولعبت مدرسة اللغات الشرقية عندئذ دورا مهما. وكان زعيم هذه المدرسة بل زعيم الاستشراق الفرنسي في ذلك الوقت هو سيلفستر دي ساسي De sacy الذي اعتبره بعضهم هو (أبو الاستشراق) و (منشئ علم الاستشراق في أوروبا). فقد بقي دي ساسي نصف قرن في خدمة الاستشراق، وتخرج على يديه تلاميذ من أنحاء فرنسا وأوروبا. وكان اهتمامه بالشرق قديما وحديثا. ولد دي ساسي سنة 1757، وتعلم العربية والسريانية والكلدانية والعبرية منذ صغره. وقد عين مدرسا في مدرسة اللغات الشرقية الحية، وأصبح سنة 1824 مديرا لها. وعمل سنوات طويلة في وزارة الخارجية بدون أجر (1806، 1811 في عهد نابليون). وكان يترجم نشرات الجيش وبيانات نابليون بهدف إثارة المسلمين ضد روسيا الأرثوذكسية وكان وزيرا الخارجية والحربية يستشيرانه في كل ما يتعلق بالشرق. ومن جهة أخرى ترأس دي ساسي الجمعية الأسيوية منذ تأسيسها سنة 1822. وقد ظل مكانه شاغرا إلى أن ملأه أرنست رينان الذي كاد يغطي عليه، سيما في ميدان الفيلولوجيا، إضافة إلى السمعة العلمية. ¬

_ (¬1) قيل إن نشأة الاستشراق عموما ترجع إلى أوائل القرن الرابع عشر 1312، عندما انعقد مجلس كنسي في فيينا للنظر في إنشاء حلقات (كراسي) اللغات العربية والعبرية والاغريقية والسريانية في باريس واكسفورد وغيرها.

ودي ساسي لم يزر الجزائر، ولكن (البيان) الذي وزعه الفرنسيون بالعربية عشية الحملة على الأعيان في الجزائر كان من إنشائه أو تحت إشرافه (¬1). وبعد الاحتلال شجع دي ساسي إنشاء الدراسات العربية في الجزائر بإشراف تلاميذه، وعلى رأسهم لويس برينييه الذي سنتحدث عنه. وكان يبدي اهتمامه بهذه الدراسات ويشجع عليها حتى أنه أبدى ملاحظات على قاموس ت. رولان دي بوسي. الذي سماه (القاموس الصغير العربي - الفرنسي والفرنسي - العربي) سنة 1836. وكان رولان دي بوسي مديرا للمطبعة الحكومية في الجزائر عدة سنوات، وقد أرسل نسخة من قاموسه إلى دي ساسي وطلب منه رأيه فيه. فكتب إليه هذا رسالة ونقدا يتعلق بكيفية النطق لبعض الحروف في العامية الجزائرية مقارنة مع النطق العامي في المشرق. كما سأل في رسالته عن نسخة سمع بها أنها كاملة من تاريخ ابن خلدون عند عائلة روسو، وسمع بعد ذلك أن هذه العائلة قدمت النسخة إلى المكتبة الفرنسية، وقد طلب دي ساسي التأكد من هذا الخبر (¬2). وقد توفي دي ساسي سنة 1838، بعد أن كان قد أشار بتلميذه برينييه ليكون رئيسا لحلقة (كرسي) اللغة العربية في الجزائر. ضمن الحملة الفرنسية جاء عدد من المترجمين والكتاب والفنانين المهتمين بحياة الشرق والرومانتيكيين المغامرين. وعلى أثر نجاح الحملة واحتلال مدينة الجزائر انطلق كل فريق في مجال عمله. وقد احتاجت الإدارة الجديدة إلى المترجمين بالخصوص، لأنهم هم الواسطة بينها وبين السكان (¬3). كما وظفت المترجمين من يهود الجزائر الذين كانوا عادة يقومون ¬

_ (¬1) عن البيان انظر دراستنا عنه في أبحاث وآراء، ج 1. (¬2) حوليات معهد الدراسات الشرقية، الجزائر، المجلد 3، سنة 1937، ص 1 - 5. مع صورة دي ساسي على المعدن. انظر أيضا عبد الرحمن بدوي (دائرة معارف المستشرقين). (¬3) سنذكر نماذج من المترجمين (المشارقة)، أي ذوي الأصول المصرية والسورية، وكذلك بعض اليونانيين والدنماركيين وغيرهم من الجنسيات، إضافة إلى المترجمين الفرنسيين.

بالترجمة بين المسؤولين الجزائريين والأجانب في الماضي. وبدأت آلية الإدارة تتحرك في كل اتجاه وقع احتلاله. واحتيج إلى فريق آخر من التراجمة والخبراء فالتحقوا من فرنسا مدعومين من مدرسة اللغات الشرقية، وكلما تحرك الجيش في اتجاه كان معه الخبراء والمترجمون. ونشأت بلدية مدينة الجزائر، ثم توالت نواة الإدارة في وهران وقسنطينة وعنابة الخ .. وتكون (المكتب العربي) العسكري في المدن والقرى. وأصبح الذين يتولونه من المستعربين العسكريين، ومعهم مترجمون أيضا. وأخذ اهتمام المكاتب العربية بالسكان يزداد للتعرف على عاداتهم ولهجاتهم وتراثهم وأنسابهم وطرق معاشهم. وحصلوا من أجل ذلك على وثائق ومخطوطات نادرة. ثم شرعوا في حركة جمع وترجمة وتأليف اعتبرت هي الأولى من نوعها في مسيرة الاستشراق في الجزائر. وقد واكبتهم في الحياة المدنية حركة أخرى موازية ومكملة. وتمثل ذلك في جمع المخطوطات وإنشاء المكتبة العامة بالجزائر على يد أدريان بيربروجر وهو أيضا من علماء الآثار. وقد أجرى هو وغيره، مثل كوفي، حفريات عديدة، معظمها عن آثار الكنيسة وبقايا الرومان. وسنذكر دور بيربروجر في موضع آخر. كما قام الفنانون برسم رسومات في الجزائر، منطلقين من رغبتهم في معرفة حياة الشرق التي قرأوا عنها في ألف ليلة وليلة (¬1). كما أن جوني فرعون ثم برينييه انطلقا في تدريس اللغة العربية، الفصحى والعامية، للفرنسيين لكي يكون في استطاعتهم الاتصال المباشر مع السكان. وهذا هو ما أطلق عليه فيما بعد إسم (كرسي اللغة العربية). وهكذا انطلقت الإدارة العسكرية (المكاتب العربية) والإدارة المدنية (بخبرائها وفنانيها ومترجميها) في معرفة حياة الجزائر العربية الاسلامية، أو معرفة الشرق من خلالها، كما كانت تصوره الدراسات الاستشراقية إلى ذلك ¬

_ (¬1) انظر فصل المنشآت الثقافية وفصل الفنون، وقد تحدثنا في الفصل الأخير عن أثر الجزائر والشرق فى الفن الفرنسي.

الحين. فالجزائر المتميزة عن الشرق أو الجزائر (الفرنسية) لم تظهر بعد في التصورات الفرنسية. ولذلك يمكننا القول إن انطلاقة الاستشراق الفرنسي كانت عامة في هذه المرحلة. ولعل الميزة الوحيدة لها كونها تستعمل العامية الجزائرية كأداة اتصال وليس الفصحى أو اللهجات العربية المشرقية. ومما يدل على عدم وجود لهجة جزائرية في مدرسة اللغات الشرقية قبل الاحتلال أن (البيان) الذي أشرنا إليه قد كتب بعربية مطعمة بعامية المشرق وليس بعامية المغرب، وهو كما قلنا من صياغة دي ساسي. وقبل أن نستعرض تطور الدراسات الاستشراقية نود أن نذكر المراحل التي مرت بها، وهي ثلاثة على الأقل. المرحلة الأولى من الاحتلال إلى إنشاء المدارس العليا سنة 1879، والثانية من هذا التاريخ إلى الاحتفال المئوي بالاحتلال، سنة 1930، والمرحلة الثالثة منذ هذا التاريخ إلى الاستقلال، سنة 1962. وتهمنا هنا المرحلتان الأوليان بالخصوص. وقد تميزت المرحلة الأولى بجهاز ترجمة قوي على يد العسكريين في معظم الأحيان، وهناك مترجمون إداريون وآخرون قضائيون أيضا (¬1). وقد نتج عن أعمال هؤلاء وأولئك أكداس من النصوص والعرائض والوثائق، واشتغل المترجمون/ المستشرقون في اللجان العلمية والجمعيات المتخصصة. ونشروا أبحاثهم في شكلها العام والبسيط للتعريف بالشعب المحتل في مختلف عصوره ومظاهره. وكانت حلقات (كراسي) اللغة العربية، وعددها ستة، تسند هذه الفرق العاملة في الميدان. كما أن أساتذة الكراسي كانوا هم الرواد لحركة الاستشراق في هذه المرحلة. فقد كانوا هم أيضا يعلمون اللغة، ويشرفون على امتحانات الترجمة، ويترجمون النصوص، ويعرفون بالمدن والآثار والمخطوطات والسير، وفيهم من أصدر القواميس. وأثناء هذه المرحلة زار الجزائر عدد من الأدباء والمفكرين والفنانين الفرنسيين المهتمين بحياة الشرق، وكانت زياراتهم بدعم وتشجيع ¬

_ (¬1) عن الترجمة انظر فصلا آخر.

من الحكومة الفرنسية نفسها. كما ظهرت أعمال اللجان العلمية التي تشرف عليها الحكومة، والمدارس الرسمية ذات الطابع الشرقي أو العربي الفرنسي، مثل المدارس الشرعية الثلاث وكوليج الجزائر ثم قسنطينة. وخلال هذه المرحلة بدأ اهتمام المستشرقين الفرنسيين في مدرسة اللغات الشرقية وفي الكوليج دي فرانس بالعربية الجزائرية، مثل أعمال الأب بارجيس وبيهان (¬1). ومن الواضح أن الاستشراق هنا كان مرتبطا منذ البداية بإدارة الاحتلال، وقد ازدادت هذه الرابطة وثوقا وبلورة أثناء المرحلة الثانية 1879 - 1930. فأثناء هذه المرحلة وقعت مراجعة شاملة في فرنسا لتجربة التعليم العالي وأدخل نظام (السيمنار) الالماني، وأعيد تنظيم السوربون. لأن نقدا لاذعا ظهر عندئذ لتجربة التعليم باعتبارها هي السبب في هزيمة فرنسا سنة 1870. كما ظهرت مدرسة دورخايم 1858 - 1917 في علم الاجتماع والاستشراق. وأنشئ كرسي للغة العامية الجزائرية في باريس ثم آخر للبربرية. وظهرت مدرسة الآداب التي تحولت إلى كلية الآداب سنة 1909 عند إنشاء جامعة الجزائر وانعقد في الجزائر المؤتمر الدولي الرابع عشر للمستشرقين تحت إشراف رينيه باصيه عميد مدرسة الآداب وعميد الاستشراق الفرنسي في الجزائر عندئذ. وفي سنة 1906 انطلق الاهتمام بالمغرب الأقصى، وظهرت (مجلة العالم الاسلامي) برئاسة ألفريد لوشاتلييه، الذي سبق له العمل في الجزائر كرئيس للمكتب العربي (العسكري) في ورقلة، كما أعيد تنظيم الكوليج دي فرانس وأنشئت فيه عدة كراسي للمجتمعات المستعمرة. وكان الاستشراق الفرنسي في الجزائر هو المغذي لذلك حتى أن معظم الأساتذة الذين تولوا ¬

_ (¬1) نشر بارجيس عدة أعمال عن تلمسان، وقد زار الجزائر. أما بيهان فقد أصدر سنة (1851) قاموسا بعنوان (عناصر اللغة الجزائرية) وجهه لخدمة السواح، واعتمد فيه كما قال، على أسلوب التعليم في المشرق وليس الأسلوب الفرنسي. نشرت القاموس مطبعة الحكومة - باريس، 1851، 183 صفحة.

حلقات اللغة العربية

هذه الكراسي كانوا من مدرسة الجزائر. وإذا كان بعض المستشرقين في فرنسا نفسها لهم نظرة واسعة للمجتمعات الاسلامية، فإن المستشرقين في الجزائر كانوا مرتبطين، كما ذكرنا، بالإدارة الاستعمارية ارتباطا سياسيا، وكانوا مدعومين من قبل لجنة (إفريقيا الفرنسية) التي كان مقرها باريس، ومن قبل زعماء الكولون أمثال يوجين إيتيان ومن الجامعات الفرنسية، ومن اللوبي الاستعماري عموما (¬1). أما المرحلة الثالثة والتي لا تهمنا كثيرا هنا، فقد تميزت بالتوسع في إنشاء المعاهد المتخصصة كمعهد الدراسات الشرقية، ومعهد الدراسات الصحراوية، ثم معهد الدراسات العربية. وتحويل المدارس الشرعية الثلاث إلى ثانويات مزدوجة. وبقاء الصلة الوطيدة بين الاستشراق والسلطة الاستعمارية مع انفتاح في الأفق كالتعامل مع النخبة الجديدة التي ظهرت في القيادات السياسية في المستعمرات. ويبدو أن الاستشراق الفرنسي قد عرف هزة عنيفة مع الحرب العالمية الثانية، وثورة الجزائر، والحرب الباردة. ومن أبرز المستشرقين في هذه المرحلة هنري بيريز، وليفي بروفنصال، وكانتينو، وروبير برونشفيك. حلقات اللغة العربية عرفت الجزائر ستة دروس للعربية، سميت بالكراسي أو الحلقات. وكانت موجهة إلى الفرنسيين، مدنيين وعسكريين، لتعليمهم اللغة العربية الفصحى والعامية. وهذه الحلقات (الكراسي) بدأت في ديسمبر 1832 وانتهت بدمجها في مدرسة الآداب والمدارس الشرعية الثلاث سنة 1879. وكان ذلك كله عبر ما أسميناه بالمرحلة الأولى لنشاط الاستشراق. ¬

_ (¬1) ادمون بورك الثالث E. Burke III (الأزمة الأولى للاستشراق: 1890 - 1914) في كتاب (معرفة المغرب (العربي)) إشراف جان كلود فاتان، باريس 1984، ص 223.

1 - الحلقة الأولى: بدأت في العاصمة على يد جوني فرعون (¬1)، وهو سوري/ مصري الأصل، وبرينييه، وكومباريل، وريشبي، وهوداس، على التوالي. 2 - حلقة قسنطينة: وتولاها فينيار، وشيربونو، وريشبي، ومارتن، وموتيلانسكي، وكور، على التوالي. 3 - حلقة وهران: وتولاها هادمان، وكومباريل، وهوداس، وماشويل، وديلفان، وموليراس، وبيل. 4 - حلقة كوليج الجزائر: (متوسطة) وتولاها قورقوس 1846. 5 - حلقة الكوليج الامبريالي بالعاصمة: وقد تولاها الدكتور بيرون، 1857. 6 - حلقة مدرسة الآداب، وقد تولاها هوداس، 1863. تأسست حلقة اللغة العربية في مدينة الجزائر بعد مضي ثلاث سنوات ونصف على الاحتلال. فقد حل بالجزائر خلال شهر مايو، (1832) المتصرف المدني، جنتي دي بوسي، وكان ذلك في عهد الحاكم العام الدوق دي روفيقو، الذي عرف عهده بالارهاب والتعسف، وهو الذي أقام حكم البوليس في الجزائر ووقعت في عهده مذبحة العوفية قرب وادي الحراش. وكان الاحتلال ما يزال يتأرجح ولم يستول الفرنسيون إلا على مدينة الجزائر ووهران وعنابة. ولذلك كان لقب دي روفيقو هو (قائد الممتلكات الفرنسية في إفريقيا). هذا هو الجانب العسكري للموضوع. أما الجانب المدني فقد تولاه دي بوسي الذي حمل معه مشروعا، من عدة عناصر: ¬

_ (¬1) سنذكر نبذة عن حياة معظم هؤلاء الأساتذة. وقد درسنا الدور التعليمي لهذه الحلقات في فصل التعليم الفرنسي والمزدوج. ونقتصر هنا على دور المستشرقين فيها وأبرز عناصرهم.

1 - دعم جريدة (المونيتور) لنشر أخبار الحكومة والقرارات الرسمية. والواقع أن هذه الجريدة قد أسسها دي روفيقو يناير 1832، قبل وصول دي بوسي. 2 - إنشاء مكتبة عمومية من المخطوطات العربية التي استولى عليها قواد الجيش أو جمعها المرافقون للحملات العسكرية. وهذه النقطة ستتحقق على يد كلوزيل وبيربروجر بعد قليل 1835. 3 - تأسيس مطبعة عربية - فرنسية حكومية لطبع المنشورات الرسمية. 4 - فتح ثلاث حلقات، إثنتان بالفرنسية للجزائريين واليهود، وثالثة بالعربية للفرنسيين. وهذه هي التي تعنينا الآن. ولكي يفتح دي بوسي الحلقة الأخيرة طلب من وزارة التعليم العمومي موافاته بأستاذ ماهر فعينت له يوسف يعقوب، وكان من مواليد القاهرة لأب أرميني وأم سورية. وكان عندئذ يتولى كرسي اللغة العربية في كوليج لويس لوقران بباريس. ولا ندري إن كان للمستشرق دي ساسي يد في هذا التعيين. إنما مجيء يعقوب إلى الجزائر لم يتحقق لأنه توفي قبل التحاقه بها. وكان يعقوب طاعنا في السن، ومن المصريين الذين رافقوا الحملة الفرنسية على مصر بعد فشلها سنة 1801. فماذا يفعل دي بوسي؟ لقد لجأ إلى جوني فرعون، وهو مصري أيضا. من أب سوري الأصل، إسمه الياس فرعون. وكان الياس مترجما، في الجيش الفرنسي أثناء الحملة على مصر. وجدها أخذ إبنه معه إلى فرنسا، حيث تعلم (الابن) في مدرسة اللغات الشرقية، ومن أساتذته فيها دي ساسي. وقد مارس التدريس والاشراف على بعثة الضباط المصريين في فرنسا، وكان في طولون عند تحرك الحملة ضد الجزائر فانضم إليها، وأصبح مترجما وكاتبا لقائدها، دي بورمون. ثم سمي مترجما عسكريا سنة 1831، وكان عمره عندئذ 28 سنة فقط. وأصبح مترجما من الدرجة الأولى سنة 1839، وكان يعمل في الحكومة العامة بالجزائر بعد إنشائها. وقبل أن يكلفه دي بوسي

بدرس اللغة العربية قد نشر أول كتاب في النحو العربي تنشره المطبعة الرسمية، يوليو، 1832، وهو باللهجة العامية الجزائرية التي لا ندري كيف تعلمها في ذلك الظرف القصير. وقد أحرز الكتاب على نجاح لدى المهتمين. والتف حول جوني فرعون الضباط الفرنسيون الأوائل الذين سيشرفون على المكاتب العربية والإدارة الفرنسية في الجزائر، أمثال: لامورسيير، وبيليسييه دي رينو، ودوماس، وماري. هذه الخبرة والسمعة جعلت دي بوسي يتبنى درس فرعون بالعربية في ديسمبر 1832. وهو الدرس الموجه للفرنسيين، كما قلنا. وهكذا يكون تعليم العربية للأوروبيين في الجزائر قد بدأ على يد مصري - سوري - فرنسي، وهو جوني فرعون. ولم يكن غرض الفرنسيين تعليم الفصحى ولا المحافظة على العربية المكتوبة أو تثقيف أهلها، وإنما كان التعرف على الجزائريين بوسيلة الاتصال الوحيدة بهم وهي العربية الدارجة، ثم العمل على نشر الفرنسية بينهم بالمؤثرات الأخرى غير التعليم. وقد عبرت عن ذلك صراحة رسالة الدوق دي روفيقو إلى وزير الحربية الفرنسي. فقد جاء فيها: إن الجزائر لن تكون حقا فرنسية إلا إذا أصبحت فيها اللغة الفرنسية هي اللغة السائدة (¬1)، وأصبحت الفنون والعلوم التي عرفتها فرنسا وشرفت بها، معروفة في الجزائر أيضا، وقضي على الجهل والتعصب اللذين كبلا العقل العربي فلم يظهر كل مواهبه. إن الهدف الأسمى من كل المحاولات التي تقوم بها الإدارة في التعليم هو (إحلال الفرنسية محل العربية، باعتبار اللغة الفرنسية هي لغة السلطة ولغة الإدارة. ومن ثمة فستنتشر اللغة الفرنسية ¬

_ (¬1) يتبين من ذلك خطأ من اعتقد أن الفرنسيين كانوا (مترددين) بين الاحتفاظ بالجزائر والتخلي عنها إلى سنة (1834). ذلك أن تصرفات وتصريحات كلوزيل 1830 - 1831 والدوق دي روفيقو 1832 - 1833 لا تترك مجالا للشك و (التردد) حول عزم الفرنسيين على (فرنسة) الجزائر منذ الوهلة الأولى. أما لجنة التحقيق التي أصدرت قرارها سنة 1834 بالاحتفاظ بالجزائر، فلم تزد على تأكيد حقيقة موجودة.

بسرعة بين الأهالي، لا سيما إذا جاء الجيل الجديد أفواجا للتعلم في مدارسنا) (¬1). إن الخطة قد رسمها دو روفيقو لجوني فرعون ولكل من جاء بعده. فقد أصبح فرعون، بالإضافة إلى دروسه، هو رئيس مكتب الدوق المذكور وتحت حمايته. وقد نشر عدة أعمال لغوية وتاريخية وتشريعية عن الجزائر والجزائريين. وتوفي صغير السن في فرنسا، سنة 1848 (¬2). كان جوني فرعون يقوم بدرسين أحدهما عام والآخر خاص، وكان الأول مجانيا والثاني بأجر. وكانت الدروس أيام الثلاثاء والخميس والسبت، لمدة ساعة واحدة في كل درس عام. وكان ذلك في بناية وفرتها له الإدارة، ولكن التزاحم على درسه جعله يغير المكان عدة مرات بحثا عن مكان يتسع للزبائن. ولكن هذا الدرس توقف فترة طويلة، ذلك أن لجة التحقيق الرسمية التي عينتها الحكومة الفرنسية قد وصلت في سبتمبر 1833، وكان جوني فرعون هو الكاتب والمترجم لها، ودام نقلها في البلاد عدة أسابيع، فلم يستأنف فرعون درسه إلا في ديسمبر 1833. ولكن الفرنسيين لم يؤسسوا حلقة للغة العربية في الجزائر، رغم محاولات جوني فرعون، إلا على يد لويس جاك برينييه سنة 1837. وكان دي ساسي هو الذي أشار به على وزارة التعليم العمومي. وافتتح برينييه أول درس له في الجزائر خلال يناير من العام المذكور. وسمي درسه الدرس العام للعربية، وكان يعتبر في الوثائق الفرنسية من التعليم العالي. وقد طال عهد برينييه وشارك في مختلف النشاط الاستشراقي مع زميله بيربروجر وغيره، إلى ¬

_ (¬1) فيرو (المترجمون العسكريون)، مرجع سابق، ص 229. (¬2) نفس المصدر، ص 232، وكذلك اوغست كور (ملاحظات على كراسي اللغة العربية)، صں 24. انظر دراستنا (المستشرقون الفرنسيون وتعليم اللغة العربية في الجزائر)، في (مجلة مجمع اللغة العربية)، القاهرة، عدد 64. وكذلك هنري ماسيه (الدراسات العربية في الجزائر)، ص 4. وقد ولد جوني فرعون بالقاهرة سنة 1803، فيكون عمره عند وفاته، 43 سنة.

وفاته 1869. فهو بحق مؤسس مدرسة الاستشراق الفرنسي المهني في الجزائر، وقد تخرج على يديه عشرات المترجمين والباحثين، وأوصل العربية الدارجة إلى الكثير من الفرنسيين الأوائل مما جعلهم يتصلون بالجزائريين بأقرب طريق، كما نشر برينييه عدة معاجم وخطوط ونصوص. ولد برينييه في مونتارجيس بفرنسا سنة 1814، وعمل في الطباعة، ونشأ على حب اللغات الشرقية، ثم جاء إلى باريس لدراستها على أكبر شيوخها في مدرسة اللغات الشرقية، أمثال سيلفيستر دي ساسي، وكاترمير، وجوبير، وغارسان، ودي طاسي، وبيرسوفال، الخ. وكان يحذق العربية والتركية والفارسية. وعندما تولى كرسي العربية في الجزائر لم يجد كتبا يعتمد عليها فأوصى تلاميذه باقتناء كتب أساتذته. وقد نشرت جريدة (المونيتور) أول درس ألقاه برينييه في الجزائر. وجاءت فيه عدة نقاط تستحق التوقف لأنها تعبر عن برنامجه الذي دام حوالي أربعين سنة. فكان درسه غير خاص بالدارجة الجزائرية بل شاملا للعاميات العربية في مختلف بيئاتها. وهناك ضرورة لدراسة العربية دراسة جادة لأن الهدف هو ربط الصلة مع الأهالي لكي يتعودوا على اعتبار الفرنسيين غير غزاة ولكن حماة لمصالحهم، كما قال، وإنما هم ناشرون للمدنية بينهم، همهم دراسة آدابهم للوصول إلى منابع أفكارهم وعاداتهم. وقال إن العربية هي لغة الأهالي، مستعملة في العلاقات العائلية والتجارية، وهي لغة غنية ورشيقة، وأن للفصحى مؤلفات في القواعد، أما العامية فلا. وفي مقالة نشرها في (المجلة الآسيوية) لسان حال الاستشراق الفرنسي، سنة 1838، قال برينييه إنه من الضروري أن يقضي الدارس سنة كاملة في تعلم اللغة العربية المكتوبة (الفصحى) قبل دراسة العامية (¬1). ومعظم حصص برينييه كانت كالتالي: ثلاث حصص أسبوعية للتدريب ¬

_ (¬1) من الذين دعوا إلى تعلم العربية الفصحى المستشرق هوداس الذي أصبح المفتش العام للمدارس الشرعية الثلاث. وقد توفي 1916.

على الفصحى والعامية، وحصة خاصة بالنحو والإملاء والأسلوب، وحصة خاصة بشرح نصوص أدبية عربية، وبعض النصوص العلمية. ثم حصة لترجمة الرسائل والنصوص الرسمية والكتابات المتداولة. وبعد مضي فترة عليه في الجزائر بدأ يصدر المؤلفات التي تخدم تلاميذه، ومنها النحو والإنشاء وشرح النصوص، والمجموعات المختارة. وربما سنتناول مؤلفاته في مكان آخر. كما شارك برينييه في الترجمة، والإشراف على امتحانات المترجمين سنوات طويلة (¬1). وبعد حوالي عشر سنوات على إنشاء كرسي العربية في مدينة الجزائر وترسيخ قدم الاستشراق الفرنسي بها، وبعد بداية التفكير في إنشاء معهد عربي - فرنسي ومراجعة المنظومة التعليمية، افتتحت ثلاث حلقات أخرى في اللغة العربية في كل من العاصمة وقسنطينة ووهران، أي سنة 1846. كانت هذه السنة تمثل بداية التراجع للمقاومة الوطنية التي كان يتولاها الأمير عبد القادر، وكانت تمثل من جهة أخرى القمة في سمعة المارشال بوجو، الحاكم العام، الذي استصدر أمرا ملكيا 1845 بجعل العربية إجبارية في كل توظيف ابتداء من يناير 1847. فمن هذه الزاوية يجب النظر إلى إنشاء الحلقات الجديدة للغة العربية وإلى توسيع قاعدة الترجمة والبحث في مجال الاستشراق. وكان درس برينييه يجلب عددا كثيرا أو قليلا حسب موجات المهاجرين الأوروبيين واهتماماتهم. فقد لوحظ أن عدد الحاضرين للدرس أخذ ينخفض بالتدرج حتى وصل إلى 21 طالبا في الدارجة وعشرة في الفصحى. وكانت الهجرات الأوروبية قبل 1844 تضم أناسا غير متعلمين بصفة عامة، ولكن ابتداء من هذا التاريخ، وطمعا في الوعود التي أعطيت بعد محاصرة المقاومة والقضاء على زمالة الأمير 1843، جاء عدد من المهاجرين المتعلمين آملين في البقاء. ¬

_ (¬1) توفي في جوان (يونيو) 1869 وشيعت جنازته في الجزائر يوم 24 منه، انظر المبشر، أول يوليو، 1869. وفي هذا العدد النص الكامل لتأبين شيربونو له.

ولذلك ارتفع عدد الحضور في الحلقة سنة 1845 إلى عشرين فردا. وكانت هذه السنة أيضا سنة المرسوم الملكي المشار إليه. وقد طلبت السلطة (على لسان المفتش آر طو) من برينييه أن يحضر مسابقة للحلقة العربية العامية المخطط إنشاؤه في كوليج الجزائر، وهذا الكوليج كان في مستوى مدرسة متوسطة تضم أبناء الجالية الفرنسية. وقد نجح فيها (مارس 1846 السيد قورقوس (¬1)، وهو الذي تولى الحلقة المذكورة. وفي شهر مايو، جرت مسابقة أخرى لملء حلقة مماثلة لحلقة برينييه (تعليم عال) في قسنطينة، فنجح فيها فينيار Vignard ولكنه لم يسبق في الوظيف الجديد إلا بضعة أشهر فقط. كان فينيار مترجما عسكريا، ولم يكن من المستشرقين بالمعنى المهني للكلمة. وقد سمى فينيار من جديد مترجما أساسيا ملحقا بديوان القائد العام لإقليم قسنطينة. ولذلك خلفه في حلقة اللغة العربية في قسنطينة مستشرق متخرج من مدرسة اللغات الشرقية بباريس، وهو شيربونو، وذلك في 21 ديسمبر 1845. كان شيربونو يعلم القراءة والكتابة ويعرض قواعد النحو العربي طبقا للدراسات الفرنسية الكلاسيكية. وكذلك يعرض حياة المؤلفين، مفضلا أولئك الذين يقترب أسلوبهم من الحياة اليومية. وأما الحصص فقد كانت شبيهة بحصص زميله برينييه، وقد ربط شيربونو علاقات مع الأسر المثقفة في قسنطينة والعائلات العلمية والصوفية، أمثال أحمد العطار والمكي البوطالبي ومصطفى بن جلول، واستطاع أن ينشر بينهم اللغة الفرنسية أيضا، ذلك أن من مهمة أستاذ حلقة اللغة العربية الموجهة للفرنسيين، أن ينشر الفرنسية أيضا بين المتعلمين الجزائريين. ولد شيربونو سنة 1813 في فرنسا، وقد تخرج، كما ذكرنا، من مدرسة اللغات الشرقية الحية. ونشر عدة مقالات في المجلة الآسيوية، وكان عضوا مؤسسا لجمعية الآثار بقسنطينة سنة 1853، وظل كاتبا لها سنوات طويلة. ولم تقتصر جهوده على التعليم، بل كان يبحث وينشر. وسنتناول ¬

_ (¬1) انظر عنه لاحقا.

مؤلفاته بعد قليل. فقد اهتم بتاريخ الجزائر العربة الاسلامية من مختلف الوجوه، ولا سيما الآثار والتاريخ والتراجم واللغة. وفي 1863 انتقل إلى العاصمة مديرا للكوليج الامبريالي خلفا لبيرون. وفي 1871 أصبح مديرا لجريدة (المبشر)، وعند إعادة تنظيم المدارس الشرعية - الفرنسية الثلاث كلف شيربونو بتفتيشها ابتداء من سنة 1876، وكانت هذه المدارس تسمى خطأ (المدارس الاسلامية للتعليم العالي) ذلك أن مستواها في الواقع ليس سوى تعليم متوسط. ثم عاد شيربونو إلى مدرسة اللغات الشرقية سنة 1879 ليحل محل البارون دوسلان في تدريس اللغة العربية المغربية، كما كانت تسمى. وقد استمر على علاقة بالجزائر يراسل مجلاتها ويشارك في عضوية جمعياتها، إلى وفاته في ديسمبر 1882 وهو في باريس (¬1). وقد استمرت حلقة اللغة العربية في قسنطينة على يد آخرين (ريشبي، ومارتن). وفي عهد الأخير منهما أصبحت الحلقة جزءا من مدرسة قسنطينة الشرعية - الفرنسية بعد تنظيم المدارس الثلاث. وقد تداول على مدرسة قسنطينة عدد من المستشرقين البارزين أمثال موتيلانسكي، وكور، ودورنون، وسان كالبر. أما حلقة وهران فقد افتتحت أيضا في 22 ديسمبر 1846. وعين عليها هادمار الذي لم يكن من المستشرقين المحترفين، وإنما كان مترجما في إدارة المالية، وكان هادمار يقوم بثلاثة دروس أسبوعيا، بمعدل ساعة واحدة لكل درس. وقد تركت له حرية التصرف حسب الامكانات والحضور. فلم يوضع له برنامج محدد. وكان ذلك شأن زملائه أيضا في الجزائر وقسنطينة. ولذلك كان الحضور عادة مكثفا في البداية وضعيفا في نهاية السنة. كما أن شخصية الأستاذ كانت تلعب دورا رئيسيا في جلب الجمهور أو تنفيره، وكذلك فصول السنة. ولا ندري ما إذا استطاع هادمار أن يقدم أيضا درسا بالفرنسية ¬

_ (¬1) انظر عنه هنري ماسيه (الدراسات العربية في الجزائر)، مرجع سابق، وكذلك ايرنست ميرسييه في (روكاي)، 1882، ص 413 - 418.

للجزائريين كما فعل زميله شيربونو في قسنطينة. لكن المؤكد أن لغة التدريس هي العربية الدارجة، وكانت قلة الحاضرين تعزى عادة إلى صعوبة اللغة العربية - الدارجة - وليس إلى ضعف الأستاذ أو عدم رغبة الفرنسيين في التلقي والاستفادة (¬1). وقد بقي هادمار على رأس حلقة وهران حوالي عشر سنوات، ثم خلفه زميلاه كومبريل فهوداس، ثم ماشويل. لكن في عهد هوداس وقع دمج الحلقة المذكورة في مدرسة تلمسان الشرعية الفرنسية، بعد إعادة النظر في محتوى وتوجيه المدارس الثلاث. وقد لعب هوداس دورا هاما في حياة الاستشراق الفرنسي بالجزائر. ولد سنة 1840 في (لواري)، ودرس في مدرسة اللغات الشرقية. فهو من المستشرقين بالمهنة. جاء الجزائر سنة 1863 في قمة ما سمي بعهد المملكة العربية، وقد بقي إلى سنة 1884. ثم تولى كرسي اللغة العربية في الكوليج الامبريالي سنة 1863، كما عمل أستاذا في ليسيه الجزائر الذي افتتح سنة 1860. ثم تولى حلقة اللغة العربية بوهران سنة 1869 وقد بقي هناك إلى سنة 1877 عند إعادة تنظيم المدارس الثلاث، وفي هذه السنة تولى حلقة الجزائر، ولكنه لم يبق فيها إلا قليلا إذ عين على رأس مدرسة الآداب العليا عند إنشائها سنة 1880، وهو الذي افتتح فيها درس اللغة والأدب العربي. وبعد وفاة شيربونو حل هوداس محله في مدرسة اللغات الشرقية الحية بباريس. وظل هوداس يزور الجزائر ويهتم بحياة الاستشراق فيها، ومن ذلك مرافقته للوزير كومبس سنة 1896. ولعله حضر أيضا المؤتمر الدولي للمستشرقين سنة 1905. منذ أن حل بالجزائر كان هوداس ينشر نصوصا عربية موجهة لتلاميذه، ¬

_ (¬1) المرسوم الملكي يجعل العربية ضرورة في التوظيف ابتداء من يناير 1847، لم ينفذ لعدة أسباب، منها أن بوجو تخلى عن منصبه كحاكم عام، ومنها أن لويس فيليب نفسه قد أطيح به في فبراير 1848. وقد عزا (كور) عدم تطبيق المرسوم الملكي الخاص باللغة العربية إلى كون الشبان الموظفين لا يبذلون جهدا واضحا لدراسة لغة تبدو صعبة وجافة فى البداية. انظر كور ص 43.

وكان وهو في وهران مهتما أيضا بإخراج الكتب الموجهة للتعليم المدرسي، ولكنه قام بعمل مضن رفقة زميله (مارتيل) الذي كان من مدرسة الحقوق، وهو ترجمة (تحفة الحكام) لابن عاصم. وقد اشتغل فيها هوداس قرابة العشر سنوات. وبعد رجوعه إلى باريس، كان يبحث وينشر أعمالا ليست بالضرورة حول الجزائر، ففيها ما هو حول الأدب العربي عموما والسودان ومنطقة المغرب العربي، بل إنه ترجم نصوصا من صحيح البخاري. ومما انتقده عليه زملاؤه المستشرقون أنه كان يتعجل النشر لأعماله ولا يدقق كثيرا (¬1). قلنا إن هوداس تولى حلقة اللغة العربية الجديدة في المعهد السلطاني (الكوليج الامبريالي) بالجزائر سنة 1863. وكان ذلك على إثر مسابقة جرت في 10 يوليو من نفس العام. وفاز فيها هوداس. وإلى ذلك الحين كان مدير المعهد هو نقولا بيرون الذي تولى الإدارة منذ 1857. وكانت الحكومة الفرنسية تفكر، كما ذكرنا، في إنشاء كوليج عربي - فرنسي في باريس سنة 1846، يستقبل أبناء الجزائر، ويكون بوتقة تنصهر فيها عناصرهم مع العناصر الفرنسية قبل أن يعودوا مؤهلين إلى الجزائر لنشر الأفكار الفرنسية. وكان الفرنسيون قد فعلوا شيئا من ذلك مع أبناء مصر في عهد محمد علي باشا. وكانت هذه الفكرة تتماشى مع سياسة بوجو في الجزائر. وقد اقترح لإدارة هذا الكوليج الدكتور بيرون الذي سبق له العمل في مصر، والذي صادف وجوده في باريس سنة 1846. وقد قبل بيرون بالمسؤولية الجديدة، وترك مدرسة الطب المصرية، ولكن مشروع الكوليج ظل يتعثر إلى أن استقال بوجو وانهزم الأمير ووقعت الثورة الفرنسية 1848، وأخذت السلطات الفرنسية الجديدة تهتم بالجزائر من جانب آخر، وهو الادماج في فرنسا، فاشتغل بيرون بترجمة مختصر الشيخ خليل في الفقه المالكي ضمن أعمال لجنة (اكتشاف الجزائر العلمي). وكان على بيرون أن يرجع إلى مصر سنة 1853 كطبيب. ¬

_ (¬1) عنه انظر هنري ماسيه (الدراسات العربية ..) وعن مرافقته للوزير كومبس انظر فصل التعليم الفرنسي والمزدوج.

لكن فكرة الكوليج العربي/ الفرنسي رجعت سنة 1557 على أن يكون في الجزائر وليس في باريس. وكان المارشال راندون هو الحاكم العام عندئذ. وقد احتل الفرنسيون آخر معاقل المقاومة وهي جرجرة والجنوب. ونادي راندون على بيرون ليكون المدير للكوليج فقبل. وكان معاونه هو شارل فيرو، وهو المترجم العسكري الشهير في وقته. وقضى معه أربع سنوات. ولا ندري إن كان بيرون قد أدخل اللغة العربية في الكوليج، ولعل الذي كان يتولى تدريس العامية الجزائرية هو فيرو، لأن الطلبة كانوا مختلطين (عرب وفرنسيون). ومنذ 1864 سمي بيرون مفتشا للمدارس الشرعية الثلاث، ولكنه وجد التنقل من أجل ذلك في الأقاليم الثلاثة عسيرا عليه لكبر سنه. فتقاعد سنة 1872. وتوفي في ضواحي باريس سنة 1876. لقد كان بيرون من المستشرقين البارزين. ولد 1798. وبعد أن أكمل دراسته الاجتماعية مارس التدريس في ثانوية لويس لوقران، واضطره حال أسرته إلى التخلي عن ذلك، واهتم بالطب وتأثر بالحركة السان سيمونية، وأصبح طبيبا، وحضر دروس بيرسوفال في مدرسة اللغة الشرقية، فحذق العربية والفارسية والتركية والجاوية، وقد دعاه كلوت بيه (الفرنسي)، مؤسس مدرسة الطب في مصر، للعمل معه هناك فذهب إلى مصر، وواصل فيها دراسة اللغات العربية. وحاضر في الفيزياء والكيمياء والعلوم الباطنية (الكلينيك الداخلي)، ونشر عدة رسائل بالعربية عن المواد المذكورة. وترجم عدة أعمال، وظل كذلك إلى أن عرضت عليه إدارة الكوليج العربي - الفرنسي في باريس كما ذكرنا. وأثناء وجوده بالجزائر نوه به حسن بن بريهمات كثيرا، ولعله قد تأثر به (¬1). والمعروف أن المعهد السلطاني في الجزائر قد أغلقته حكومة ¬

_ (¬1) ماسيه (الدراسات العربية ..)، مرجع سابق. انظر أيضا ترجمة حسن بن بريهمات. وعن دور المعهد السلطاني (الكوليج) في التعليم، انظر فصل التعليم الفرنسي والمزدوج.

مدرسة الآداب

الجمهورية الثالثة انتقاما من منشئه نابليون الثالث، صاحب فكرة المملكة العربية في الجزائر، التي لم تهضمها الجمهورية ولا المستوطنون. وقد ضم طلابه إلى ليسيه الجزائر، كما ضم فرعه في قسنطينة إلى التعليم الثانوي في نفس المدينة. أما آخر حلقات اللغة العربية فهي حلقة مدرسة الآداب العليا التي أنشئت سنة 1880، وهي المدرسة التي سيلعب فيها كل من هوداس، وماسكري، ورينيه باصيه، دورا هاما. وهي المعنية بتعبيرنا (مدرسة الجزائر) الاستشراقية التي كانت تقدم للإدارة الاستعمارية كل التسهيلات العلمية في مختلف المجالات. مدرسة الآداب مدرسة الجزائر هنا هي مدرسة الآداب العليا (كلية فيما بعد) وهي أيضا مدرسة الاستشراق الفرنسي في الجزائر، بعد انطلاقته الجديدة التي أشرنا إليها في بداية الفصل. افتتحت، إلى جانب مدرسة العلوم والحقوق والطب، سنة 1880 (¬1). وتعاونت المدارس الأربع على دفع الاستشراق في خدمة الإدارة الاستعمارية، كل في مجال اختصاصه، وأبرزها في موضوعنا هي مدرسة الآداب. ولكن مدرسة الحقوق أيضا قدمت خدمة كبيرة للإدارة والاستشراق بالوقوف على النصوص الفقهية والتشريعات الاسلامية، وكان أساتذتها يتعاونون مع زملائهم الآخرين في الترجمة والنشر، وكانوا يخدمون بالخصوص جانب القضاء الفرنسي الذي استولى بالتدرج على صلاحيات القضاء الاسلامي، ومن أشهرهم زيس ومارسيل موران. وقد ظهر في مدرسة الطب مستشرقون اهتموا أيضا بالتراجم والنصوص العربية أمثال غبريال كولان. ونفس الشيء يقال عن مدرسة العلوم. ¬

_ (¬1) مدرسة الطب قديمة تعود إلى 1857. انظر فصل التعليم الفرنسي والمزدوج، وكذلك فصل العلوم.

أول من تولى كرسي اللغة العربية في مدرسة الآداب هو هوداس، وقد ساعده فيه عالم جزائري عميق المعلومات استفاد منه الاستشراق الفرنسي إلى أقصى الحدود ولم يستفد منه وطنه، وهو بلقاسم بن سديرة (¬1). وفي نفس السنة 1880 حل بالجزائر أستاذ يافع ولكنه طموح، وهو رينيه باصيه، خريج مدرسة اللغات الشرقية الحية، فعهد إليه بتدريس الأدب العربي. وتوطدت العلاقات بين هوداس وباصيه وتوحدت نظرتهما في خدمة الإدارة والاستشراق. وكانت تونس قد احتلت سنة 1881. فبادر الاثنان برحلة إليها سميت (بعثة علمية) فاطلعا فيها على المخطوطات وأحوال التعليم والحياة الفكرية. ولكن هوداس غادر الجزائر سنة 1882 ليتولى كرسي العربية في مدرسة اللغات الشرقية بباريس، على إثر وفاة شيربونو. وتولى باصيه مكان هوداس في الجزائر. وارتبطت علاقات قوية بين باصيه وابن سديرة، الذي كان، لولا الميز الاستعماري، أولى منه بالكرسي. ولكن باصيه جعل من ابن سديرة ومن زميله عمر (سعيد) بوليفة (¬2)، أداتين لإنجاز مشروعه الاستشراقي العريض. قلنا إن باصيه قد خلف زميله هوداس في تدريس اللغة العربية، وحل إدمون فانيان محل باصيه في تدريس الأدب العربي. وبقي الرجلان، باصيه وفانيان، حوالي أربعين سنة في خدمة الاستشراق، وبينما اندمجت الدراسات العربية على هذا النحو في العاصمة، إضافة إلى المدرسة الشرعية - الفرنسية التي يتولاها أيضا مستشرقون آخرون، نجد مدرسة قسنطينة التي كانت تسمى الكتانية عندئذ، يتولاها المستشرق مارتن إلى أن مات سنة 1889. وقد خلفه عليها مستشرق بارز آخر هو موتيلانسكي، الذي ربط إسمه بعملين على الأقل: ترجمة الفقه الإباضي وخدمة البعثات الاستكشافية الفرنسية نحو الصحراء. وقد ظل موتيلانسكي على رأس مدرسة قسنطينة إلى وفاته سنة ¬

_ (¬1) ترجمنا لابن سديرة في فصل آخر. (¬2) ترجمنا له في فصل آخر.

1906. أما مدرسة تلمسان فقد عاشت هي أيضا عهد الاندماج والاستشراق النشيط منذ 1879 فقد تولاها أولا ماشويل سنوات قليلة، ولكنه نقل سنة 1881 إلى تونس ليتولى شؤون التعليم فيها، ومن ثمة نرى هذه العلاقة الوطيدة بين الإدارة وأساتذة الدراسات العربية. وقد خلفه على مدرسة تلمسان ديلفان. وعندما انتقل هذا إلى مدرسة الجزائر (الثعالبية) (¬1) خلفه موليراس في تلمسان. ثم تداول على مدرسة تلمسان عدد آخر من المستشرقين أبرزهم ألفريد بيل الذي طال عهده فيها وكان تلميذا لباصيه. وهكذا تجاوبت أصداء الاستشراق من غرب البلاد إلى شرقها. وسنتحدث عن إنتاج المستشرقين بعد قليل. كان طبيعيا أن تكون العاصمة هي القلب النابض لحركة الاستشراق، لعدة أسباب، منها وجود المدارس العليا الأربع فيها، ثم الجامعة، ووجود مدرسة خامسة (المدرسة الشرعية) يشرف عليها أيضا المستشرقون رغم أنها مخصصة لتخريج القضاة والمدرسين. وبالتدرج تحولت هذه المدرسة من مدرسة شرعية إسلامية عربية اللغة إلى مدرسة استشراقية أيضا، سيما بعد 1895 عندما تغيرت برامجها. وليس هناك بين هذه المدارس تنافس، كما قد تتخيل بل تكامل مطلق. وقد أضيف إلى مدرسة الجزائر (الثعالبية) قسم عال ابتداء من سنة 1895، مما جعلها تخدم المصالح الاستعمارية أكثر من ذي قبل، ورغم وجود نخبة عربية اللسان والهوى أمثال المجاوي وابن سماية وابن زكرى، فإن إطار الاستشراق كان طاغيا على الثعالبية. ومن الأسباب أيضا قرب هذه النواة النشيطة للاستشراق من موقع القرار، فالحكومة العامة، ¬

_ (¬1) لم يطلق هذا الاسم عليها إلا سنة 1904 عند تدشين المدرسة الجديدة في عهد الحاكم العام جونار، وكانت بالقرب من ضريح الشيخ عبد الرحمن الثعالبي. ونحن نطلق مدرسة الآداب على المدرسة الفرنسية التي تحولت إلى كلية والمتصلة بالتعليم الجامعي الفرنسي، والمدرسة الثعالبية وأحيانا مدرسة الجزائر فقط على تلك المتخصصة في الدراسات العربية والاسلامية. وهي إحدى المدارس الثلاث الشرعية - الفرنسية. فيجب عدم الخلط بين هذه الأسماء.

وإدارة الشؤون الأهلية، والمجالس النيابية المختلفة، والمكتبة العامة، والجامعية كلها كانت في العاصمة. لا يمكن أن نفهم بحق نشاط وفعاليات الاستشراق الفرنسي خلال هذه الفترة 1880 - 1924 إلا بإعطاء نبذة عن حياة رينيه باصيه. ذلك أن اسمه وحده يذكر المرء بأعمال مدرسة ثم كلية الآداب خلال أربعين سنة في خدمة الاستشراق الفرنسي في الجزائر وتسخيره لخدمة الإدارة الاستعمارية بكل حرص. وقد أثر باصيه تأثيرا كبيرا على جيلين على الأقل من تلاميذه الفرنسيين والجزائريين الذين سنذكر بعضهم. وانتصب أولا لتدريس العربية ثم البربرية، وجند جندا من المخلصين له ووظفهم للتدريس والبحث والتأليف والنشر، وكانت الحكومة العامة والدوائر (الكولونيالية) تسانده بالمال للقيام بأبحاثه الخاصة وأبحاث تلاميذه وبعثاتهم ورحلاتهم. وتوجته سنة 1905 برئاسة مؤتمر المستشرقين الدولي الرابع عشر في الجزائر. وظل على مجده إلى وفاته سنة 1924. ولد باصيه سنة 1855 في فرنسا. وأظهر منذ أولياته اهتماما باللغات الشرقية، ولا سيما العربية. وقد اشتغل حوالي سبع سنوات في مدرسة اللغات الشرقية بباريس ومدرسة الآداب العليا قبل أن يأتي إلى الجزائر سنة 1880 كان عمره عندئذ 44 سنة، في أوج عطائه وطموحه. ومنذ وصوله تولى تدريس الأدب العربي القديم (الجاهلي) ونشر كتابا في ذلك. ثم تولى تدريس اللغة العربية بعد سفر هوداس إلى فرنسا، كما أشرنا. ويقال عنه إنه ظل وفيا في منهج التدريس لتجربته في المدرسة العليا فرنسا، ومن حيث التوجه كان مستشرقا محترفا، أما سياسيا فقد كان مقتنعا بخدمة العلم لسياسة الإدارة الاستعمارية. وفي سنة 1885 أصبح من الأساتذة المرسمين، ثم تولى منذ 1894 إدارة المدرسة العليا في الجزائر على إثر وفاة إميل ماسكري الذي سنترجم له. ويعد تحول المدرسة إلى كلية سنة 1909 أصبح باصيه عميدا لها إلى وفاته. فإذا ذكرت مدرسة الآداب أو كلية الآداب خلال هذا العهد الطويل فكأنما ذكر إسم رينيه باصيه.

بلغت مجموع أعمال باصيه في (الميلانج) الذي يحمل إسمه، حوالي أربعين صفحة، بين كتاب وبحث ومقالة ومراجعة. وقد صنفت إلى أبواب، لأنها وإن كانت كلها في مجال الاستشراق، فقد تنوعت إلى أعمال لغوية، وأدبية وقصصية وتاريخية، ودينية، وفولكلورية. كان باصيه قد درس في مدرسة اللغات الشرقية، العربية والتركية والفارسية والحبشية، ثم أضاف البربرية بعد وصوله الجزائر، وبناء على التقارير التي نشرها فقد كان يعرف الهوسة (الحوصة) أيضا (لغة شمال نيجيريا) ويقول أحد تلاميذه، وهو ألفريد بيل، إنه تعلم اللغات الافريقية بعد حلوله بالجزائر وقد نشر أكثر من 25 عملا حول الدراسات البربرية. وبدأ ذلك منذ سنة 1883. واعتمد باصيه كثيرا على تعاون تلاميذه في الجهود الضخمة التي بذلها والمنشورات العديدة التي نشرها، وكان ابن سديرة من علماء اللغة العربية والبربرية، فاستفاد منه، كما استفاد من تلميذه بوليفة في البربرية أيضا. وقد أحدث باصيه كرسي البربرية في كلية الآداب وتولى تدريسها. وتخرج على يديه مستشرقون أمثال بيل وديستان وديبارمي. كما أن إبنه (هنري باصيه) قد ورث عنه سيرته وتتلمذ عليه في الاستشراق والبربرية أيضا. وقد صادف وجود باصيه على هذا النشاط والاندفاع في الجزائر مخططات فرنسا لاحتلال المغرب الأقصى. ولذلك سخر جهوده وجهود تلاميذه لمساعدة هذه المخططات. وبعد احتلال المغرب تواصلت هذه الجهود أيضا. فقد قام بوليفة وبيل وإسماعيل حامد ونهليل وغيرهم بزيارات وبعثات إلى المغرب، وكتب كل منهم عن موضوع كلفه به، دراسات لغوية، وآثار، وتشريع، ونحو ذلك. كما ظهرت المساهمات في (الأرشيف المراكشي) الذي ظهرت منه عدة أجزاء، وهو عمل جماعي ضخم، اشتمل على تراجم ونوازل وأنساب وإدارة ونحوها. وظهرت أيضا في (مجلة العالم الإسلامي) التي كان يصدرها المعهد العالي للدراسات المغربية (المراكشية)، ووصل تلاميذ باصيه إلى موريطانيا وإلى السينغال ووسط إفريقيا مبعوثين من قبل الحكومة الفرنسية، ومن هؤلاء أسماء بعض الجزائريين، معلمين

ومترجمين. ومن تلاميذه الذين أرسلوا أيضا في مهمة إلى المغرب الأقصى محمد بن أبي شنب، كما كان ابن شنب هو العضد الأيمن لباصيه في الدراسات العربية والمخطوطات والعادات واللغة (وكان ابن أبي شنب عارفا أيضا بعدة لغات)، وهو الذي عينه باصيه مساعدا له في مدرسة ثم كلية الآداب. والغالب أن يكون محمد صوالح من تلاميذه أيضا. ويقول تلميذه بيل لقد استفادت إدارة احتلال المغرب من إدارة الجزائر - الاختصاصيون، والتقنيون، والمسائل الأهلية لإدارة ودراسة المغرب، وقد جندت لذلك مجموعة من تلاميذ باصيه، منهم ديستان، وعمر (سعيد) بوليفة، وبيارني، ولاوست، وهنري باصيه، وأندري باصيه (¬1). كان باصيه يتجول في الجزائر بحثا عن المكتبات والمخطوطات. وهي عدة المستشرقين. وقد ترك وصفا لفهارس المكتبات في بعض الزوايا والمناطق، وقدم وصفا لبعضها في مؤتمرات المستشرقين. كما تحدث في هذه المؤتمرات عن الدراسات البربرية والافريقية عبر عدة سنوات. وسنشير إلى ذلك. وهذه العلاقة بين باصيه وحكومة الجزائر والمستشرقين العالميين هي التي سهلت سنة 1905 انعقاد المؤتمر الدولي الرابع عشر للمستشرقين في الجزائر. وقد صادف انعقاده مرور ربع قرن على تأسيس مدرسة الآداب في الجزائر. وهي ذكرى لها أكثر من معنى بالنسبة للاستشراق الفرنسي. لأن إنشاء (مدرسة الجزائر) كان تعبيرا عن انطلاقته الكبرى. وكان باصيه، رغم وجود غيره، الأداة الفاعلة في ذلك، فقد كانت له سمعة جيدة المدى خلال الـ 45 سنة التي قضاها في الجزائر. وقد حضر بعض المؤتمرات الاستشراقية قبل ذلك، منها مؤتمر كوبنهاغن. وجمع مؤتمر الجزائر حوالي 500 شخص تحت رئاسة باصيه. وصدرت عنه عدة مجلدات في مختلف الفروع المعرفية، بعضها في شكل ¬

_ (¬1) عن حياة باصيه انظر (الميلانج) الموضوع باسمه. وكذلك ألفريد بيل (افريقية الفرنسية)، 1924، ص 13 - 14. وكذلك هنري ماصيه (الدراسات العربية في الجزائر)، 1930.

وثائق ومذكرات. ونظمت للمؤتمرين حفلات موسيقية ومسرحيات وجولات عبر الأقاليم الجزائرية للتعرف على الآثار الرومانية والاسلامية، ومن ذلك مدينتا تلمسان وقسنطينة. ومن الشخصيات التي حضرت من كان يمثل الحكومات ومنها من كان مدعوا شخصيا (¬1). ويعد المؤتمر المذكور نجاحا كبيرا لباصيه وللاستشراق الفرنسي على العموم. يقول أحد هؤلاء المستشرقين: (إن الاستشراق هو بالطبع الحقل الرئيسي للدراسات في مدرستنا (مدرسة الآداب) ومن داخل الاستشراق تأتي اللغة العربية والمسائل الاسلامية (¬2). وأضاف أن أول عمل يبدأ به المرء في دراسة أدب أو حضارة ما هو تصنيف ووصف المصادر. ويدخل في ذلك دراسة المكتبات والمخطوطات، وقد قام باصيه بفهرسة مجموعات من المخطوطات (الكاتلوغات) في الجزائر وفي المغرب الأقصى. كما قام ادمون فانيان بذلك أيضا. وعندما أنجز هذا العمل جاء دور النشر وترجمة المصادر وتاريخ المغرب العربي منذ الفتح الاسلامي. وقد سارع الباحثون المستشرقون بالترجمة إلى الفرنسية لمختلف المصادر العربية لتعريف الرأي العام العلمي بها، ولا سيما علماء الاستشراق والإدارة الفرنسية ومن يهمهم أمر الاستفادة منها. ومن الذين ساهموا في عملية الجمع والترجمة هذه نذكر: هوداس، وفانيان، وبيل، وباصيه، وماسكري، وموتيلانسكي، وكولان، وميرسييه، وجورج مارسيه وأخوه ويليام، وديستان، وجولي، وديلفان، وموليراس، وقوتييه، ودوتيه، وديبارمي، وزيس. ومن ¬

_ (¬1) أصدرت المجلة الافريقية عددا خاصا 1905 بأعمال المؤتمر. كما جاء فيه نبذة مفصلة عن كل مدرسة من المدارس العليا الأربع. وعن الدراسات العلمية - الاستشراقية في الجزائر، والجمعيات العلمية. وهو جهد كبير جدير بالرجوع إليه لولا مسحة التعالي والاستعمار التي فيه. (¬2) (عن العمل العلمي لمدرسة الآداب بالجزائر)، في (المجلة الافريقية)، 1905، ص 440.

الجزائريين: ابن أبي شنب، وابن سديرة، وبوليفة. كل هذا كان خلال الربع قرن الذي عاشته مدرسة الآداب (¬1). وقد واصل تلاميذ باصيه بعد ذلك هذه المهمة في كلية الآداب وفي المدارس الشرعية الثلاث. وكانت هناك قائمة جدية من الأسماء. وكان هذا العهد هو عهد إشعاع الاستشراق الفرنسي من الجزائر. فقد دخل مدرسة اللغات الشرقية بباريس عدد من الأساتذة الذين كانوا في الجزائر خلال سنوات طويلة. ودخلها أولاد البارون ديسلان الذي تولى تدريس العربية العامية، وهو لم يكن مستشرقا محترفا، ولكن أعماله تشهد له بالمكانة البارزة، مثل ترجمة تاريخ ابن خلدون وإشرافه على جريدة (المبشر)، وقد حل محله شيربونو ثم هوداس. وكلاهما قضى في الجزائر بين الثلاثين والعشرين سنة. وقيل إن تدريس هوداس للعامية الجزائرية في مدرسة اللغات الشرقية جعلت المدرسة تهتم أيضا بلهجات الشرق العربي حتى أصبحت موضوعا هاما في مخطط الاستشراق الفرنسي. كما أنشئ بالمدرسة المذكورة (الشرقية) كرسي اللغة البررية لأول مرة سنة 1913. وكان ذلك غداة احتلال المغرب الأقصى. وأول من تولى هذا الكرسي ديستان (¬2). ومعنى هذا أن مدرسة اللغات الشرقية بباريس كانت تمر بتنظيم جديد في مدار القرن على ضوء الأنشطة التي مرت بها مدرسة الجزائر. فقد كان التركيز في (مدرسة اللغات الشرقية) منذ عهد دي ساسي على دراسة العربية الفصحى، واستمر ذلك على يد ديرنبورغ الذي توفي سنة 1908. وكان حلول هوداس بها قد غير من هذا التركيز ولفت النظر إلى العامية، ثم البربرية. ومن ناحية أخرى تأثر الاستشراق بالنظرية الاجتماعية التي جاء بها ¬

_ (¬1) نفس المصدر، ص (440 - 443). وكان زيس أستاذا في الشريعة الاسلامية. وكان مؤمنا بالاندماج، ويراسل علماء الوقت مثل شعيب بن علي، ويرى أن رجال الدين الموظفين لا تأثير لهم على العامة. انظر آجرون (الجزائريون ...)، 1/ 313. (¬2) يذهب البعض إلى أن أول من تولى كرسي البربرية في مدرسة اللغات الشرقية هو اندري باصيه (وهو ابن رينيه باصيه؟).

دورخايم. وظهر ادمون دوتيه من المتأثرين بذلك في مدرسة الجزائر، وظهرت أسماء في الكوليج دي فرانس كانت معروفة في الجزائر أيضا - أمثال لوشاتلييه الذي تولى كرسي (المجتمع الاسلامي) وأوغسطين بيرنار الذي تولى كرسي (الجغرافية الاقتصادية والتاريخية)، كما استحدث كرسي للتاريخ وآخر للغة (¬1). ان مدرسة الآداب بالجزائر قد أثرت على الدراسات الاستشراقية الفرنسية عموما: في مدرسة اللغات الشرقية وفي السوربون، وفي الكوليج دي فرانس، وفي مجلة العالم الاسلامي، ثم في الدراسات الاستعمارية الخاصة بالمغرب الأقصى وتونس والمشرق العربي والاسلامي. وسيتطور هذا المفهوم بعد إنشاء مجلة (هيسبريس)، ومعهد الدراسات العليا في المغرب، ومعهد قرطاج في تونس، والمعهد الفرنسي في دمشق، بالإضافة إلى المعهد الفرنسي في مصر الذي يرجع إلى عهد قديم. ومن زملاء باصيه في مدرسة الآداب بالجزائر ادمون فانيان. فهو الذي تولى تدريس الأدب العربي منذ 1883. وقد ولد في ليباج سنة 1846. وهو من ايرلاندا وجاء الجزائر كمترجم، ولم يتكون في مدرسة استشراقية. ولكنه درس العربية والفارسية والتركية، وهي اللغات الأساسية للمستشرقين عندئذ. وقضى سنوات طويلة في مدرسة الآداب. فقد عاش إلى 1931. وتميزت أعماله، بالإضافة إلى التدريس، بالترجمة في الموضوعات التاريخية والفقهية والأدبية. كما وضع كاتلوغ مخطوطات الجزائر، وأضاف إضافات على المعاجم العربية. ولذلك قال بعضهم إن فانيان قد واصل مهمة ديسلان في الجزائر (¬2). ... ¬

_ (¬1) ادمون بورك الثالث، مرجع سابق، ص 217. (¬2) انظر المجلة الافريقية R.A . 1931 .

أول مدير لمدرسة الآداب بالجزائر هو إيميل E. Masquery ماسكري. وهو من العلماء الأدباء الذين تركوا بصماتهم على الأدب الفرنسي أيضا إلى جانب الاستشراق. ولم يكن مستشرقا محترفا. فقد ولد في روان (فرنسا) سنة 1843، وبعد تخرجه كان عليه أن يعلم في أحد الليسيات، فرماه حظه، كما قال في أحد كتبه (¬1)، في الجزائر سنة 1872. التحق بليسيه الجزائر، ولكنه كان كثير الحركة فأخذ يزور مختلف المناطق في المناسبات. كما كانت الحكومة تكلفه بمهمات محددة. وقد حذق العربية ودرس التصوف على يد الشيخ علي ابن سماية الذي كان أستاذا في مدرسة الجزائر ومحررا في جريدة المبشر. زار زواوة والأوراس، وميزاب. بالنسبة للأولى زارها أول مرة سنة 1873 بعد الثورة الشهيرة (ثورة المقراني والحداد)، ثم أخذ يتردد عليها، ولكنه كلف من الحكومة سنة 1882 بمهمة خاصة هناك فتجول ورأى آثار الكنيسة ونشاط جنود الكاردينال لافيجري. وأوصى بتأسيس مدارس ابتدائية في بني يني وتيزي راشد وميرا وجمعة الصهاريج. كما كلفته الحكومة أيضا بمهمة في الأوراس فتجول في مختلف أجزائه سنوات 1875 - 1878، ثم كتب عن آثار المنطقة ولهجتها وتاريخها ووصف حياة أهلها في كتابات ما تزال ذات قيمة. وغداة احتلال فرنسا لميزاب تجول هناك أيضا وربط علاقة مع الشيخ محمد بن يوسف اطفيش، العالم الشهير. وطلب منه ماسكري أن يكتب تاريخا موجزا عن ميزاب فكتب له الشيخ اطفيش (الرسالة الشافية) (¬2). ودرس ماسكري هناك الحياة الدينية والعادات والتشريعات. ويبدو أن ماسكري قد ارتبط أيضا ببعض التجار الميزابين في قصر البخاري وكذلك ببعض النساخ في غرداية. وإذا كان الناسخ مكلفا بنسخ الكتب لماسكري فإن تاجر قصر البخاري كان أيضا عينا للفرنسيين - عن طريق ماسكري - فيما يتعلق بأحوال الصحراء وتحركات الثوار والأشخاص. ¬

_ (¬1) كتاب (ذكريات ورؤى افريقية)، ط. 2، 1914 بالجزائر. (¬2) انظر ترجمة الشيخ اطفيش في السلك الديني والقضائي.

وقد نشر ابن سديرة رسالة ترجع إلى سنة 1881 موجهة من هذا التاجر إلى ماسكري. وجاء فيها أنه دائما في خدمة الدولة (الفرنسية) وأنه صاحب المتصرف الإداري هناك، ويفتخر بصحبته لماسكري. ومما جاء في الرسالة أخبار عن الشعانبة على أنهم سيثورون (ينافقوا) في أكتوبر 1881، ولعله كان يشير بذلك إلى ثورة بوعمامة. لكن الرسالة تذكر شخصا إسمه أحمد، هرب من بريان بعد أن قبض عليه المخزن. ويطلب من ماسكري أن يعلمه عن هدف المحلة (الفرقة العسكرية) المتوجهة نحو الصحراء ودوافعها. ونعرف من الرسالة أن هذا التاجر المراسل الذي يتولى الوساطة في مركز حساس مثل قصر البخاري، كان يملك دكانا كبيرا، هو وإخوته الأربعة. وهو تاجر في القماش وغيره (¬1). ويبدو أن ماسكري كان من الممهدين لاحتلال ميزاب بعد زيارتها. ذلك أن مترجميه يقولون إنه قام سنة 1882 (عهد لويس تيرمان) بزيارة هذه المنطقة تمهيدا لاحتلالها. وجاء منها بمؤلفات، وترجم بعضها. ويقولون عنه إنه خدم الجزائر (الفرنسية) بكل قواه، في تعليمه وفي كتاباته. وقد بين أن الثقافة الحقيقية لها دور تلعبه في خدمة الدولة المستعمرة، وهو دور عظيم في بلاد مثل الجزائر عندئذ. ويقول أوغسطين بيرنار الذي توسع في ترجمة ماسكري: إنه بعد أن ملكت فرنسا الجزائر بالسيف والمحراث (وهو تعبير استعمله بوجو)، يجب أن يأتي الامتلاك الآخر، الامتلاك بالقلم والكلمة، وهو دور ماسكري ودور المجلة الإفريقية، والدور الذي (لا يمكن أن ننسحب منه دون أن نكون قد تخلينا عن واجباتنا) وأضاف بيرنار بأن دور ماسكري في ذلك لا يقل عن دور الضباط والإداريين المخلصين لفرنسا. وقد كان بيرنار صادقا في ذلك، ويصدق وصفه أيضا على كل مستشرق فرنسي. هذا هو ماسكري الفرنسي الذي عمل ما في وسعه ليمتلك الجزائر لفرنسا، لا بالسيف ولا بالمحراث، ولكن بالقلم والكلمة. وفي كتابه ¬

_ (¬1) بلقاسم بن سديرة (كتاب الرسائل)، ص 216.

(ذكريات ورؤى إفريقية) وصف أدبي عميق وانطباعات شخصية معجونة بالتاريخ لمختلف أحداث الجزائر وشخصياتها وما كانت تقوم به السلطات الفرنسية - عسكرية ومدنية للاحتلال والسيطرة - وهو وصف عن تماس الحضارتين وتثاقف الأفراد وتلاقي المشاعر وردود الأفعال. ويمكن أن تقارن كتاباته الانطباعية هذه بكتابات فرومنتان (سنة في الصحراء) و (سنة في الساحل)، وكتابات ألبير كامو في وقت لاحق. والعمل الرسمي الآخر الذي تولاه ماسكري في الجزائر هو التعليم وإدارة مدرسة الآداب عند إنشائها سنة 1880. فبعد إنشاء المدارس العليا، عين ماسكري أستاذا للتاريخ والآثار القديمة في شمال إفريقيا، ثم عرض عليه بول بير P. Bert إدارتها فقبل ذلك وبقي مديرا لها إلى وفاته المبكرة سنة 1894. وكان ينشر في المجلات الفرنسية، وهو الذي أنشأ نشرة سماها (المراسل الإفريقي)، ورأس تحريرها وساهم فيها بأبحاث أثرية ولغوية. وكانت تصدر عن مدرسة الآداب، وقد بلغت (المراسل) شهرة عظيمة. وظلت تصدر بعد وفاته. ونشر فيها رينيه باصيه بعض أعماله، بل كانت صوت الاستشراق بحق في اندفاعته أواخر القرن الماضي. وقد اهتم ماسكري بلهجات ميزاب والأوراس وزواوة والطوارق. وسافر مع بعثة من الطوارق إلى باريس سنة 1887. ودرس تاريخ الأولياء والصالحين، وهو صاحب المقولة الشهيرة: (إن كل تاريخ شمال إفريقيا هو تاريخ ديني). وكانت أطروحته للدكتوراه عن تشكل المدن عند السكان الحضريين في الجزائر، وهو يعني بهم هنا سكان الأوراس وسكان القبائل (زواوة) وسكان ميزاب. وهو يقول إن البداوة ليست مسألة عرق، وإنما هي مسألة ترجع إلى المناخ والتربية. وكان ماسكري من المعجبين بكتابات فرومنتان ثم بكل الرحالة الفرنسيين الذين وصفوا الصحراء والطبيعة الجزائرية (¬1). ¬

_ (¬1) أوغسطين بيرنار (يميل ماسكري)، في المجلة الافريقية، 1894، ص 350 - 373. وقد نشرت هذه الكلمة في مقدمة كتاب ماسكري (ذكريات ورؤى افريقية)، ط. 2 الجزائر، 1914. (نشرت ط. 1 في باريس 1894).

بالإضافة إلى مركز العاصمة ظهر في المناطق الأخرى علماء ومترجمون فرنسيون وجدوا أنفسهم بإنتاجهم في عمق حركة الاستشراق التي تنطلق من العاصمة. ومن هؤلاء غوستاف موتيلانسكي، الذي تمركز نشاطه في قسنطينة. فهو من المترجمين البارزين في بداية حياته. ثم أصبح من المستشرقين لبحوثه في المذاهب واللهجات، وكان من المستكشفين للصحراء، إذ قام بعدة جولات وبعثات. ثم إنه من مواليد الجزائر في بيئة عربية محافظة وإسلامية عريقة. ولد موتيلانسكي في مدينة معسكر سنة 1854، وبعد أن شب درس في ليسيه الجزائر ثم مارس فيها التدريس بعد ذلك. ثم دخل امتحان الترجمة في النطاق العسكري. فهو ليس من المستشرقين المحترفين. وبهذه الصفة اشتغل في عدة أماكن من الجزائر شرقا ووسطا وغربا وجنوبا، بل عمل في تونس أيضا. وعند احتلال ميزاب أرسل إليها ليكون المترجم العسكري هناك، وقد بقي خمس سنوات سمحت له بدراسة العادات والتقاليد والتعرف على العلماء والمكتبات، وكان يعرف العربية الفصحى والدارجة. وأضاف إلى ذلك دراسة البربرية في ميزاب ولهجاتها الأخرى في الصحراء، وبحيث في المذهب الإباضي وجمع وثائقه، وفي تاريخ المنطقة وعلاقاتها بإفريقيا. وقد نشر بحوثا عديدة في هذا الميدان أدخله إلى الاستشراق من بابه الواسع. وفي سنة 1887 عين موتيلانسكي مديرا لمدرسة قسنطينة الشرعية - الفرنسية (الكتابة). وكان من شيوخها الجزائريين عندئذ عبد القادر المجاوي ثم تلميذه ابن الموهوب ومحمود الشاذلي. وكان رئيس كرسي (حلقة) اللغة العربية بها هو مارتان الذي توفي سنة 1889 فخلفه فيه موتيلانسكي وأصبح يجمع بينه وبين الإدارة. وهو الكرسي الذي عرفنا أنه كان موجها لعموم الفرنسيين وليس للجزائريين. وأثناء وجوده في ميزاب وفي قسنطينة ربط موتيلانسكي علاقات مع رجال الدين والعلم في الناحية الشرقية والصحراء. فهو ليس موظفا عاديا يكتفي بالحضور اليومي ثم يعود إلى بيته

لينام أو يقتل الوقت، ولكنه كان صاحب مهمة سياسية وعلمية. وممن تعرف عليهم وربط معهم علاقات، الشيخ محمد بن يوسف اطفيش في ميزاب والشيخ محمد العروسي، شيخ الزاوية التجانية في قمار، والشيخ الهاشمي، زعيم القادرية في عميش (الوادي). وكان للحكومة الفرنسية مخططات في الصحراء تريد الوصول إلى أقاصيها، وربط شمال إفريقيا بغربها وبالسودان. ولا بد قبل ذلك من معرفة المسالك والقبائل والواحات والآبار واللهجات والسكان. وكان موتيلانسكي خير مؤهل لهذه المهمة. ذهب أولا إلى وادي سوف سنة 1903 واتصل بصديقه الشيخ محمد العروسي الذي وفر له شروط الالتقاء بأهل غدامس بالوادي. وراسل الشيخ العروسي بشأنه مقدمي التجانية في منطقة الطوارق والهقار وغدامس. والتقى موتيلانسكي في الوادي بأشخاص من غدامس وتحدث معهم عن رحلة إلى بلادهم وتعرف على لهجتهم. ثم قدم تقريرا لحكومته عن زيارته لسوف ولهجة غدامس (¬1). وبعد سنة واحدة 1904 ذهب موتيلانسكي بنفسه إلى غدامس وكتب رحلته في شكل تقرير إلى حكومته وإلى عالم الاستشراق، فهو قد درس في غدامس اللهجة والسكان والتجارة والتاريخ، الخ. كان موتيلانسكي في أوج عطائه في فاتح القرن. وبالإضافة إلى ما ذكرنا شارك في مؤتمر المستشرقين بالجزائر. وقام ببعثة أخرى في الصحراء - في الهقار - سنة 1905. ولكنه رجع منها منهوك القوى مصابا بمرض التيفوس الذي لم ينج منه، فتوفي في مارس 1907 في مدينة قسنطينة. وكان عمره آنذاك 53 سنة. وقد أقيم له حفل تأبين حضره زملاؤه الفرنسيون في الجمعية الأثرية لقسنطينة وفي المدرسة. كما حضره مفتش الأكاديمية وشيخ البلدية. ولكن الملفت للنظر أن من بين الحاضرين ¬

_ (¬1) عن رحلته إلى سوف انظر المجلة الآسيوية، 1903، السلسلة العاشرة، المجلد 2، ص 157 - 162. وقد ترجمنا ذلك إلى العربية ونشرته مجلة الثقافة، 1994.

والمتكلمين أيضا الشيخين بوشريط، مفتي المذهب المالكي، وابن الموهوب المدرس بالمدرسة (الكتانية) (¬1). وهكذا كان موتيلانسكي مخلصا لقضية بلاده وللحركة الاستشراقية. وكان كزملائه يربط بين هذه الحركة والإدارة الاستعمارية، ويرى أن نجاح إحداهما يتوقف على نجاح الأخرى. ولو طال به العمر لتوسع ربما أكثر من غيره في البحوت الصحراوية والإفريقية. وقد استحق من الفرنسيين إطلاق إسمه على أحد أبراج الصحراء (¬2). وهناك مستشرق آخر لم يعش طويلا بعد موتيلانسكي ومات في نفس المدينة (قسنطينة) سنة 1913، ونعني به الاسكندر جولي. وكان يعد ببحوث أكثر تنوعا من زميله، ولم يكن مثله من المترجمين العسكريين، ولكن من طينة أخرى. فقد ولد جولي بفرنسا سنة 1870، ودرس في ليسيه هنري الرابع. وكان أبوه متخرجا من مدرسة ترشيح المعلمين في اختصاص الكيمياء، فنشأ جولي على حب العلوم. ولأسباب صحية جاء إلى الجزائر واستقر بها. وقام بأعمال عديدة لا تؤهله للاستشراق، مثل الأشغال العامة والرسم. ولكنه ما لبث أن تعلم اللغة العربية واهتم بالدراسات الإسلامية، سيما أهل التصوف. وأصبح أستاذا في مدرسة الجزائر الشرعية - الفرنسية (الثعالبية). بعد إعادة تنظيمها وإحداث القسم العالي بها، سنة 1896، ثم انتقل سنة 1901 إلى مدرسة قسنطينة ليعمل إلى جانب موتيلانسكي. وعند وفاة هذا تولى جولي كرسي (حلقة) اللغة العربية للفرنسيين. ¬

_ (¬1) نشرت مجلة (روكاي) 1907، ص 6 - 14، الخطب التي ألقيت في هذه المناسبة عدا خطبتي بوشريط وابن الموهوب لأنهما، كما قالت، ألقيتا بالعربية! والمعروف ان ابن الموهوب تولى الفتوى سنة (1908) (مكان وشريط؟). (¬2) عن حياة موتيلانسكي انظر المصدر السابق (روكاي)، ص 1 - 6، إذ فيه نبذة طويلة عن حياته وأعماله. وكذلك رينيه باصيه (تقرير عن دراسات البربرية والهوسة) في المجلة الافريقية، 1908، ص 259. وترجمة حياته بقلم ارمون ميسبلي في SGAAN 1907، ص 119 - 121. وهنري ماصيه (الدراسات العربية ..).

أعمال المستشرقين

ورغم اشتغاله بالتعليم فإنه لم يكن يتخذ منه حرفة. كان جولي مولعا بالتجوال وحب الاطلاع ومعرفة المجهول. والفرنسيون يسمون ذلك عندئذ حب الاستكشاف. وقد قضى جولي معظم وقته في التجوال بين المحيط غربا وطرابلس شرقا. واشتغل في توات ورافق بعثة فلامان سنة 1899، 1900، وكان عضوا في اللجنة العلمية الفرنسية لدراسة أحوال المغرب الأقصى عشية احتلاله. وتعاون مع مصالح الخرائط الجيولوجية، كما شارك في رسم الخريطة الأثرية (الأطلس) للجزائر سنوات 1899 - 1900. وكان ينشر ملاحظاته في وقائع المؤتمرات العلمية التي يقدم إليها نتائج بحوثه. وقال عنه أحد زملائه بأنه يعتبر جغرافيا، وجيولوجيا، ونباتيا، ولغويا، واجتماعيا وأثريا. ورغم صغر سنه فقد عين سنة 1904 عضوا مراسلا للمعهد الفرنسي. وكان عضوا في عدة جمعيات علمية. وكانت الحكومة الفرنسية قد كلفته بمهمة سنة 1903 لدراسة الطرق الصوفية في منطقة التيطري. وقد نشر بعد ذلك دراسات عن الحركة الصوفية ورجالها، وعن الشعر البدوي سنعرض إليها (¬1). أعمال المستشرقين قام المستشرقون بأعمال كثيرة في الجزائر خلال المرحلتين المذكورتين: 1830 - 1880، و 1880 - 1930. ومن الصعب الحديث عن كل أعمالهم هنا، بل إن غرض هذا الفصل ليس الحديث عن كل أعمالهم ولكن تصنيفها وذكر نماذج منها فقط. ومن البديهي أن يهتم المستشرقون الفرنسيون بالشعب المستعمر دينا ولغة وعادات وآثارا وتاريخا. كما أنه من البديهي أن يتطور هذا الاهتمام حسب حاجة الإدارة الاستعمار وحاجة الدولة الفرنسية نفسها في العالم. فالمستشرقون كانوا (جنودا في الميدان) ولكن بلباس مدني، بل إن بعضهم بدأ حياته في الترجمة في المجالات العسكرية. وهل يمكن حصر أعمال المستشرقين الفرنسيين هنا؟ لقد قام السيد هنري ماصيه بذلك في بحثه (الدراسات العربية في الجزائر)، فكانت ¬

_ (¬1) انظر عنه شارل سان كالبر، مجلة (روكاي)، 1913، ص 815 - 817.

المجالات عديدة. والواقع أنهم لم يتركوا جانبا يهم الاستشراق إلا طرقوه. ويبدو لنا أن أكثر المجالات المطروقة عندهم هي ترجمة النصوص الاسلامية، ودراسة العربية ولهجاتها والبربرية ولهجاتها، وتاريخ الجزائر والمغرب العربي عموما، والفولكلور. وقد اهتموا بالإسلام كدين وعقيدة وتعاليم، وكتصوف ومرابطين وممارسات طقوسية. وحظيت عندهم الآثار الاسلامية بنصيب غير قليل. واتصل عندهم التاريخ بالأنساب القبلية والجغرافيا السكانية. وكان اهتمامهم بالمصادر قد جعلهم يجمعون مخطوطات كثيرة ومكتبة عمومية. ولسوء الحظ فإن كثيرا من المخطوطات والوثائق قد أخذوها معهم بطريقة شخصية وضاعت معهم. وكانوا يستكتبون العلماء والقضاة ويستنسخون المخطوطات ثم يستولون عليها ويستفيدون منها، وأحيانا لا ترى النور بالمرة. خلال الرحلة الأولى ركز المستشرقون على معرفة السكان والاتصال بهم عن طريق معرفة العامية. فظهرت من أجل ذلك عدة قواميس على يد جوني فرعون ودي بوسي ووينييه وماشويل. من ذلك كتاب فرعون المسمى النحو الابتدائي للعربية الدارجة، الموجه للفرنسيين، ثم بسطه ونشره تحت عنوان (موجز النحو العربي البسيط). وفي 1835 نشر دو لابورت مبادئ الأمثال العربية في الجزائر، ثم قصص لقمان. وكان دو لا بورت رئيسا للمكتب العربي ولم يكن مستشرقا. ثم نشر برينييه (الموجز) الذي حدد فيه خصائص اللهجة الجزائرية العربية وأعطى فيه تفاصيل عن حياة السكان (¬1). ثم كتابه (الدروس العملية والنظرية للغة العربية) وهو كتاب ظل فترة طويلة مقررا في المدارس حتى بعد وفاة صاحبه (¬2). واعتبر الكتاب مرحلة هامة في البحث اللغوي بالجزائر. ¬

_ (¬1) عنوانه الكامل موجز اللغة العربية الدارجة في مدينة الجزائر وفي الإيالة الجزائرية سنة 1838. (¬2) ط. 1 1845، ط. 2 1855، ط. 3 1915. وهو الذي عنوانه بالعربية هكذا: (مفتاح كنوز النحو والأدب لفتح علوم العرب). بتارخ 1271 هـ. ومعه لوحة فنية جميلة من الزخرفة العربية.

وقد ترجم برينييه مقدمة ابن آجروم في النحو وعلق عليها تعاليق مفيدة. ومن مؤلفاته أيضا المختارات العربية الابتدائية - (أنطولوجيا) (¬1)، وكتاب (المكاتبات/ الكريستوماتية - العربية) (¬2)، وله مؤلفات بعناوين متأثرة بالطريقة العربية المسجعة، مثل: (تجريب القلم في خط العرب والعجم) و (تحفة الطلباء وبهجة الأدباء)، و (مفتاح النحو والأدب لفتح كنوز علوم العرب)، وأخيرا (مجموع المكاتيب في العربية والمعاني الغرائب). وقد عرفنا أن برينييه قد بقي سيد الاستشراق الفرنسي في الجزائر أكثر من ثلاثين سنة. وتخرج على يده معظم ضباط المكاتب العربية ومترجمي الإدارة والقضاء. وهو كمعلم لم يقم بالدراسات الاسلامية ولا بترجمة النصوص إلا ما يتصل منها بمهنة التعليم. بالنسبة للأنطولوجيا لاحظ برينييه أن خط الكتابة في الجزائر له خصائصه الأساسية، ولكن لا يلاحظها المرء بسهولة بل بعد دراسة وممارسة. وقال إن الخط العربي في المشرق امتاز بالتدفق والسهولة، أما أهل الجزائر فلا يتفننون فيه، بل يكتبون بنسب غير متجانسة وبطريقة غير صحيحة، ويتصرف فيه كل شخص على هواه دون اتباع قواعد. ومع ذلك فإن لفن الكتابة في الجزائر خصائصه، كما ذكر. وقد احتوى هذا الكتاب على بعض الأمثال السهلة، والحكايات والقصص التاريخية، ولاحظ أن العربية غنية بأشكال الكلمات والمترادفات. وإنها بعيدة عن أن توفر الطاقة الذهنية الضرورية للتطور، تلك الطاقة التي تملكها في نظره، اللغات الأوروبية فقط، ولا سيما الفرنسية (¬3). وكان برينييه يكتب اسمه بالعربية هكذا (ابريني) ويلقب نفسه (بالشيخ النحوي المدرس). أما درسه فيسميه (حلقة ¬

_ (¬1) ط. الجزائر وباريس 1852. ولعل هذا هو الذي اسمه (تجريب القلم في خط العرب والعجم). (¬2) ط. 2، باريس 1857. وهو الذي عنوانه بالعربية: جامع المكاتيب في العربية والمعاني الغرائب. والمكاتيب هنا هي الرسائل. (¬3) انظر المقدمة ص 5.

الجزائر). ومن رأيه أن اللغة العربية ليست وسيلة اتصال بالجزائريين فقط بل بالعالم الاسلامي والإفريقي أيضا. وهي التي ستجعل الأوروبيين يربطون علاقات بالشعوب الاسلامية، وهي علاقات لا تكفي فيها الكتب حسب نظرته. وقد ظهرت عدة كتب تعليمية أخرى خلال هذه المرحلة، كانت كلها تبحث عن أفضل الطرق لتوصيل العامية الجزائرية للأوروبيين. وكان علماء ألمانا والانكليز قد سبقوا إلى وضع مناهج جديدة في تعليم اللغة، وقد تأثر بهم السيد ماشويل الذي كان متوليا كرسي اللغة العربية في وهران. فنشر ماشويل كتابا في قواعد اللغة العامية وبناه على المنهج الالماني والانكليزي الجديد ووجهه للشباب، قائلا بصراحة إنه استفاد من أعمال روبيرتسون، وأوطو، واولندروف أكثر مما استفاد من منهج زملائه الفرنسيين، أمثال برييه وشيربونو (¬1). وقد عالج ماشويل أيضا موضوع اللغة والاستعمار، وحاول إقناع قومه بضرورة تعلم العربية (تنازلا) منهم لتعلم لغة المنهزم، من أجل المصلحة الاستعمارية فقط، وإلا فإن اللغة الفرنسية هي لغة السيادة ولغة المنتصر. وكان في ذلك يرد على من يقول: إن الواجب على (الأهالي) أن يتعلموا اللغة الفرنسية وليس العكس. وقال إن الوقت لم يحن بعد أن يأتي الأهالي أفواجا إلى الفرنسيين، ولذلك فإن على هؤلاء أن يعطوهم مبادئهم وأفكارهم بتعلم العامية والتقرب منهم. وكان ماشويل قبل التحاقه بوهران، أستاذا في ليسيه الجزائر للعربية الدارجة، وكان يطبق نظريته التعليمية على طلابه في الليسيه أولا. وقد ذكرنا أنه بعد وهران عين لإدارة التعليم في تونس. كذلك نشر شيربونو أعمالا في اللغة معظمها حول دروسه العملية لطلابه. وكادت لا تخرج عن تمارين النحو والصرف، وقواعد تعلم الدارجة الموجه إلى الأوروبيين. وله عمل حول تصريف الأفعال في الدارجة وأصول وشكل اللهجة العربية الجزائرية وهي كلها تدخل في دراسة علم اللهجات. ¬

_ (¬1) مقدمة ط. 2 من كتابه المطبوع في الجزائر سنة 1875 ثم طبع طبعات أخرى أيضا.

كما اهتم بالخطوط والكتابات. ولشيربونو. قاموسان: عربي - فرنسي وفرنسي - عربي. واهتم شيربونو كذلك بالنصوص التطبيقية. فنشر سنة 1847 كتابا بعنوان (حكايات المسلمين)، وجاء فيها بالفرنسية انها حكايات إسلامية (من التراث): نص عربي أو دروس العربية الابتدائية، ويعقبها قاموس تحليلي، وهو مرتب حسب حروف المعجم العربي. وقد اهدى (حكايات المسلمين) إلى أستاذيه: رينو وبيرسوفال اعترافا بجميلهما، وكلاهما من أعيان الاستشراق في فرنسا. وأخذ شيربونو النصوص من التراث العربي مثل ابن القوطية والحريري، وهي نصوص كان قد نشرها رينو ودي ساسي (¬1). ثم نشر شيربونو كتابا آخر سماه: تعليم القارئ في الخط العربي. وبالفرنسية أضاف إليه: تمارين للقراءة في المخطوطات العربية. ووصف نفسه على أنه أستاذ اللغة العربية في قسنطينة. والكتاب في ثلاثة أقسام، الأول عبارة عن نصوص رسمية كالأوامر والمنشورات، والثاني في فن الرسائل المكتوبة باللغة العامية، والثالث في القصص والحكايات المكتوبة باللغة العامية أيضا. ونلاحظ أن الذي خط الكتاب ونصوصه هو قورقوس، وهو الذي جعل لها العناوين. والخطوط كانت تقليدا استشراقيا لأنواع الخط الشائعة عندئذ في كتابة الرسائل والتأليف والنسخ (¬2). وفي ميدان التاريخ والآثار ظهر في المرحلة الأولى ادريان بيربروجر وألبير دوفوكس. وكان الأول يعرف قليلا من العربية، فاهتم منذ البداية بالآثار الرومانية. أما الاسلامية فلم يكتب عنها إلا قليلا. ولكنه ساهم في مجموعة (اكتشاف الجزائر العلمي) التي كونتها الحكومة الفرنسية ونشر ¬

_ (¬1) ط. باريس والجزائر، 1847. النص من ص 1 - 25. والقاموس من ص 29 - 149. (¬2) ط. باريس، 1850، 80 صفحة. وعن قورقوس انظر سابقا.

ضمن أعمالها ترجمة لرحلة العياشي ورحلة الدرعي في جنوب الجزائر. ومن أبرز كتاباته الأثرية (الجزائر التاريخية والمصورة والتذكارية). وكان بيربروجر قد قام بعدة مهام لصالح الحكومة الفرنسية في جنوب البلاد قبل احتلاله، من ذلك الرحلة التي أخذته إلى تونس ومنها عبر الجريد إلى سوف وتقرت سنة 1852. وأبرز أعماله في هذا الميدان جمعه المخطوطات من تلمسان وقسنطينة وغيرهما، وتأسيس نواة المكتبة الوطنية في عهد كولزيل 1835. وكان بيربروجر أيضا، مديرا لجريدة (المونيتور)، ومؤسسا للجمعية التاريخية الجزائرية، ورئيسا لتحرير المجلة الافريقية. ومع هذه الجهود فمن الصعب تسميته بالمستشرق المحترف. وقد مات في سنة واحدة مع زميله برينييه، أي سنة 1869، وليس بينهما سوى أحد عشر يوما فقط (¬1). أما ديفوكس، فكان يعرف العربية بدرجة أفضل من زميله، ولم يهتم بالتعليم أو الاستشراق المباشر، ولكنه اهتم بالوثائق الادارية والدينية والوقفية. ومن خلال ذلك نشر أعمالا هامة عن المؤسسات أو البنايات الدينية في مدينة الجزائر، سيما أملاك الوقف والمساجد والزوايا والقباب. وقد ترك لنا وصفا. حيا للبنايات الدينية التي تهدم معظمها في مدينة الجزائر وضواحيها. وكان يساعده في عمله خلية من الجزائريين الذين يعرفون التركية أيضا فينقلون له من هذه اللغة إلى العربية وهو يترجم ذلك إلى الفرنسية. ولذلك نملك الآن وثائق مترجمة إلى الفرنسية عن العربية تعلق بالجهاد البحري ومالية الدولة الجزائرية السابقة، ورؤساء البحر وحياة الجنود، وبعض المعالم الأثرية. وكان ديفوكس موظفا بمصلحة الدومين (أملاك الدولة). وكثيرا ما مس الحياة الدينية أيضا ولكن كمترجم لا كمنظر (¬2). ¬

_ (¬1) انظر عنه المجلة الافريقية، ط، 1869، وكذلك نفس المصدر 1894، ص 241. وله رحلة إلى معسكر الأمير في ونوغة شتاء 1837 - 1838. وقد ترجمناها وقدمناها للنشر. (¬2) انظر عنه فصل المعالم الإسلامية وقد رجعنا إلى بعض أعماله في فصل المعالم الإسلامية وغيره.

وشيربونو نفسه تناول التاريخ بوفرة في هذه المرحلة. وقد قام بعمل في قسنطينة شبيه بما قام به معاصره ديفوكس في الجزائر. فكتب عن الزوايا والمدارس والمساجد والأضرحة ليس في المدينة فحسب بل في عدة بلدان من الإقليم أيضا، مثل تقرت وبسكرة. وقال زملاؤه المستشرقون إن أفضل ما نشر شيربونو هو الأعمال التاريخية. فقد نشر وترجم وثائق تتعلق بمؤسس الدولة الفاطمية (عبيد الله المهدي)، وبحثا عن الأغالبة، وآخر عن بني جلاب سلاطين تقرت، ونشر كتاب الفارسية لابن القنفذ، وهو عن الدولة الحفصية، ومقالة عن الأدب العربي في السودان. إضافة إلى أعماله البيبلوغرافية والتراجم والجغرافية. وقد نشر أعماله في بعض المجلات أيضا مثل المجلة الآسيوية والمجلة الافريقية وروكاي التي كان من مؤسسيها (¬1). ورغم أننا سنترجم لديسلان في مكان آخر، فإننا نذكر له في ميدان التاريخ والمخطوطات عدة أعمال تعلق بالجزائر. ومن ذلك ترجمته لمقدمة وتاريخ ابن خلدون التي طبعت على نفقة الدولة الفرنسية خلال الخمسينات. وهي الترجمة التي رحب بها المستشرقون وأدخلته عالمهم بعد أن جاء الجزائر كمترجم عسكري فقط. وقام عدد من المترجمين العسكريين والمدنيين بنشر عدة أعمال مثل العقيد كاريت الذي بحث في الطرق التي سلكتها القبائل العربية، وروسو عن الحوليات، وبواسوني عن الدولة الحفصية (الفارسية) لابن القنفذ، وبارجيس عن مدينة تلمسان ودولة بني زيان، ودوقا ووقان عن أشراف غريس. ووقع الاهتمام بالتاريخ المحلي والجهوي، فكتب ويلسون ايسترهازي عن إقليم وهران في عهد البايات، وفايسات عن إقليم قسنطينة ¬

_ (¬1) عن مجموع أعماله انظر مجلة (روكاي)، 1882، ص 413 - 418. وكذلك ماصيه (الدراسات العربية ..). وعن حياته أنظر سابقا.

في نفس العهد، وسيروكا عن الزيان. وفي المجال الديني ظهرت دراسات عن الجهاد. واهتم بروسلار والعقيد دونوفو بالطرق الصوفية فنشر الأول عن تلمسان وحياتها الدينية وآثارها. والثاني عن دور الطرق الصوفية والمرابطين في التاريخ والثورات. وكانت دراسة هانوتو ولوتورنو عن زواوة قد تضمنت فصولا عن الحياة الدينية فيها، سيما الزوايا والمرابطون والقضاء الاسلامي. وترجم الدكتور بيرون مختصر الشيخ خليل في الفقه المالكي، وكان المنتصر كتابا أساسيا في الجزائر. وكرس المترجمون في هذه الفترة جهودهم على الدراسات الاجتماعية والإثنية (السلالية) والطوبوغرافية للمدن والمناطق، فكتب جوني فرعون وإسماعيل (توماس) اوربان عن التيطري، وكتب كاريت ووارنييه عن قسنطينة ونواحيها، وأصدر شارل فيرو دراسات مونوغرافية عن عدة مدن في الشرق الجزائري منها بجاية وجيجل وعنابة وتبسة (¬1). كما اهتم آخرون بالمرأة ومسألة تعدد الزوجات،. وقضية الرق في الاسلام، والتعصب الديني. أما في الميدان اللغوي فالتركيز كان على التأليف المدرسي الموجه للأوروبيين الذين كانوا يتعلمون اللغة العربية أو الدارجة. كما صدرت عدة قواميس في هذا النطاق، وقد ذكرنا بعضها (¬2). كما بدأ الاهتمام باللهجات البربرية في الأوراس وجرجرة وميزاب والهقار. وقد أصدر هانوتو معجمه عن لهجة جرجرة (زواوة)، وذكر دوفيرييه نماذج من لهجة الهقار وغيره من المناطق الصحراوية. وأورد نماذج من الخطوط والكتابات (¬3). ¬

_ (¬1) انظر بحث ماصيه (الدراسات العربية)، مرجع سابق. (¬2) انظر سابقا. (¬3) انظر كتابه (اكتشاف الصحراء)، باريس، 1864.

إن أعمال المستشرقين خلال المرحلة الأولى قد شملت تقريبا مختلف الميادين، ولكنها كانت تتميز بميزتين، الأولى كونها استكشافية لمعرفة المجتمع الجزائري ومصادره ولهجاته وعقائده وعلاقاته وتاريخه. والثانية قلة المستشرقين المحترفين والاعتماد على المستشرقين المترجمين. وكان معظم هؤلاء من العسكريين الذين يؤدون مهمات عسكرية وإدارية أكثر مما كانوا يؤلفون ويبحثون. وقد يكون هذا راجعا أيضا إلى عدم وجود المؤسسات الفرنسية العلمية في الجزائر. فالمدارس كانت ابتدائية أو متوسطة (كوليجات) فقط، ولم تظهر أول ثانوية إلا خلال الستينات من القرن الماضي. وكانت مدرسة الطب قد فتحت سنة 1857 فقط، ولم يكن لها عندئذ إمكانات الانطلاق أيضا. كما أن الجهود الفرنسية كانت منصبة على الاحتلال العسكري ومواجهة المقاومة والثورات من جهة، وتثبيت الاستيطان المدني وإحداث مراكز الهجرة الأوروبية من جهة أخرى. فالاهتمام بالبحث العلمي، والاستشراق جزء منه، كان ما يزال في مرحلته الأولى، كما قلنا. ومن الجهود الجماعية العلمية خلال المرحلة الأولى مشروع اكتشاف الجزائر الذي أشرنا إليه والذي بدأ منذ 1839. فقد تكونت له لجنة برئاسة العقيد دي سان فانسان. وضمت اللجنة عددا من المستشرقين والمترجمين والعلماء الآخرين الذين ليس لهم علاقة بالاستشراق والترجمة، وفيها العسكريون والمدنيون. وكانت الدولة قد خصصت للمشروع ميزانية لجمع المادة والتنقلات ونشر النتائج. وقد صدر من هذا المشروع عدة مجلدات. ومن الذين شاركوا في اللجنة من المستشرقين والمترجمين: بيربروجر، وكاريت، وبيليسييه دي رينو، ووارنييه، واونفنتان. وقد ذكرنا بعض المؤلفات التي صدرت من المشروع، وهي ذات صلة بالاستشراق، مثل رحلة العياشي والدرعي (¬1). وكانت العناية بالقضاء وتنفيذه على الجزائريين قد أدت بالإدارة ¬

_ (¬1) سنتحدث عن لجنة اكتشاف الجزائر لاحقا.

الفرنسية إلى القيام بعدة دراسات في التعليم والشريعة الاسلامية والعادات والأعراف واللغة. وقد بدأت هذه الجهود خلال الأربعينات 1845 واستمرت إلى حوالي 1850. ومنذئذ صدرت عدة تقارير ودراسات عن وضع التعليم الاسلامي، والقضاء الاسلامي، والمساجد، ووضع الأئمة، ونحو ذلك. وكان وراء هذه المشاريع ضباط ومدنيون عملوا في الجزائر منهم الجنرال بيدو، وبارو، ودو نوفو، وإسماعيل عربان (اوربان). وخلال الستينات شهدت الجزائر معركة ساخنة بين أنصار ما سمي بالمملكة العربية وخصومها، وهي فكرة كانت مبنية على ما فهم من مشروع نابليون الثالث من أنه يريد جعل الجزائر بالنسبة لفرنسا كوضع مصر بالنسبة للدولة العثمانية، وأنه يريد أن ينصب الأمير عبد القادر نائبا عنه في الجزائر. وأشيع أن وضع الجزائر سيكون أيضا كوضع المجر بالنسبة للدولة النمساوية. وقد أيد هذه الفكرة بعض المتحمسين لها، ومنهم المترجم توماس (إسماعيل) عربان (¬1). أما خصم فكرة المملكة العربية وخصم العرق العربي على العموم فهو المستعرب الدكتور وارنييه الذي صب جام حقده على العرب والاسلام لأنهما يقفان حجر عثرة في وجه مخطط الاندماج المذكور. وكانت هذه المعركة الساخنة خلال الستينات من القرن الماضي قد مهدت الطريق للسبعينات، أي بعد سقوط نابليون الثالث وظهور الجمهورية الثالثة. وأخذت حركة الاستشراق الفرنسي دورة جديدة منذ عشرية السبعينات في فرنسا وفي الجزائر معا. بقي علينا أن نقول إن اعتبار الجزائر جزء من المشرق الذي تتحدث عنه ألف ليلة وليلة قد ظل سائدا خلال فترة طويلة بعد الاحتلال. وقد ظهر ذلك في أعمال الفنانين الفرنسيين الذين حلوا بالجزائر بصفة فردية أو على نفقة الحكومة الفرنسية. فقد اهتموا في لوحاتهم بالجزائر (الشرقية) - القصبة وأسرارها، والبازارات وبخوراتها، وألوانها الزاهية، والمرأة وسحرها ¬

_ (¬1) تناولناه في فصل مذاهب وتيارات.

وفنونها، والإنسان العربي في بداوته (المتوحشة)، والطبيعة الخلابة، والاسلام ومساجده ومناراته. وسوف نتعرض إلى هذا الجانب في فصل الفنون. في الدوريات والمجلات التي ظهرت خلال هذا العهد أيضا بدأ الاهتمام بالجزائر الشرقية. (فالمحلة الآسيوية) فتحت صدرها للدراسات القادمة من الجزائر: شيربونو، فانسان. و (مجلة الشرق والجزائر والمستعمرات) جمعت بين حياة الشرق والجزائر في عدة مقالات ومذكرات وأخبار. وكذلك فعلت (المجلة الشرقية والجزائرية) التي كانت تضم معلومات عن الجزائر ومصر وتركيا. ومن الذين ظهروا على صفحاتها الدكتور بيرون وليكليرك. ثم كانت (المجلة الافريقية) ومجلة (روكاي) ميدانا فسيحا ركض فيه المستشرقون والمترجمون على السواء. وتطول بنا القائمة لو أننا حاولنا ذكر هؤلاء وأعمالهم (¬1). ... أما خلال المرحلة الثانية (ابتداء من 1880) فقد أنتجت مدرسة الاستشراق أعمالا ضخمة في نفس الموضوعات تقريبا، ولكن في شكل أكثر تنظيما. وتخطيطا. كذلك شهدت المرحلة ظهور المستشرقين المحترفين الذين تخرجوا في العادة من مدرسة اللغات الشرقية بباريس أو تكونوا في مدرسة الآداب بالجزائر. وهذا لا يعني ضعف دور المترجمين، وإنما أصبح دور هؤلاء مكملا فقط لدور زملائهم. كما ظهر إلى جانب المستشرقين مجموعة من الجزائريين الذين تكونوا في المدرسة الشرعية - الفرنسية أو في الليسيه ¬

_ (¬1) عن ذلك انظر الدراسة المنهجية المفصلة التي نشرها ماصيه في المجلة الافريقية، 1931، بعنوان (الدراسات العربية في الجزائر) .. وكذلك بحثنا عن مدارس الثقافة العربية في الجزائر، في كتابنا (أفكار جامحة)، الجزائر، 1988. أما (مجلة الشرق) فقد أصدرتها الجمعية الشرقية الفرنسية، سنة 1841، ثم أصبحت تسمى (مجلة الشرق والجزائر والمستعمرات). انظر لاحقا.

الفرنسي أو في مدرسة الآداب، وقد أصبح هؤلاء الجزائريون معاونين ومتعاونين مع المستشرقين يخدمونهم في مختلف التخصصات والمناسبات. وسيكون من الصعب تصنيف المادة التي درسها المستشرقون خلال هذه المرحلة، لكثرتها وتنوعها وطول مرحلتها. وحسبنا ذكر بعض النماذج داخل كل صنف من أصناف الدراسة. لقد ظهر خلال هذه المرحلة الاهتمام بما سمي (بالاسلام الجزائري)، أي الممارسات الدينية والشعائر الاسلامية، كما أصبحت عليه بعد سبعين سنة من الاحتلال. وهي ممارسات بعيدة كل البعد عن روح الاسلام وتعاليمه. فهي تعني التخلف العقلي والتزمت وضيق الأفق والشعوذة، وهي السحر والدجل والتخريف، وهي الزردات والوعدات والذبائح عند قبور الأولياء والصالحين، وهي عقائد النفع والضر في مشائخ الطرق الصوفية، وفي الأحجار والأشجار والآثار. هذا هو الاسلام الجزائري في نظر الفرنسيين ومستشرقيهم، إنه الاسلام الذي يموت لكي يترك الطريق لمرور حركة التنصير والاندماج والرسالة الحضارية الفرنسية. وقد غطى ذلك ألفريد بيل خريخ مدرسة الآداب بالجزائر ومدير مدرسة تلمسان الشرعية - الفرنسية وتوجه بكتابه: الفرق الاسلامية في شمال افريقية. وكان قد سبقه إلى ذلك لويس رين في كتابه مرابطون وإخوان 1884، وديبون وكوبولاني 1897 في كتابيهما (الطرق الدينية الاسلامية). ودرس ادمون دوتيه الحياة الدينية في الجزائر أوائل هذا القرن في كتابه (الاسلام الجزائري). ودرس زميله هنري قارو كذلك الحركة الاسلامية في مدار القرن. كما أصدر ايرنست ميرسييه كتابه عن المرأة والشريعة. ونشر الاسكندر جولي عدة دراسات عن (الأولياء وأساطير الاسلام) في المجلة الافريقية ومجلة العالم الاسلامي. وكان مهتما بالدراويش الذين يسميهم أولياء طبقا لعقائد العامة (¬1). كما أصدر دراسة مفصلة عن الطريقة الشاذلية ¬

_ (¬1) انظر المجلة الافريقية 1913، ص 7 - 26. ومنهم سيدي نائل، وسيدي عيسى الأغواطي وسيدي يحيى مولى الهدبة، وسيدي محمد بن الحمريش، وسيدي ابن عالية، وسيدي =

في منطقة التيطري وجنوب مدينة الجزائر، كانت الحكومة الفرنسية قد كلفته بها. وفي نطاق المذاهب نشر زيس zeys مجلدين عن الفقه الأباضي، ونشر موتيلانسكي مدونة ابن غانم في الفقه الأباضي أيضا. وكانت نسخة المدونة في ملك الضابط ريلييه Relillet كما نشر غير ذلك عن هذا المذهب، ومنه كتاب سير الأئمة لابن الصغير. وكان دومينيك لوسياني وراء عدد من الأنشطة التي قام بها المستشرقون ومدرسة الآداب، لأنه كان مديرا للشؤون الأهلية ومستشارا للحكومة العامة أكثر من عشرين سنة من الفترة التي نغطيها. ورغم نشاطه الإداري فإنه قام بترجمة أعمال تتصل بالعقائد والفقه، منها عقيدة السنوسي في التوحيد، والرحبية في الفرائض. وقد أصبحتا من الكتب المدرسية المتداولة في المدارس العربية - الفرنسية الرسمية. كما ترجم فانيان أبواب الجهاد والطلاق والزواج من مختصر خليل، والأحكام السلطانية للماوردي، ورسالة القيرواني في الفقه، وكتاب الخراج لأبي يوسف. أما أبرز نشاط لغوي قام به المستشرقون فهو الذي قام به رينيه باصيه وتلاميذه في هذه الفترة. ويكفي الإحالة على أعمال باصيه في (الميلانج) الذي يحمل اسمه لتعرف كم كتب عن اللغتين العربية والبربرية وآدابهما. وهذه الفترة هي التي عرفت انطلاقة كبيرة لدراسة اللهجات العربية والبربرية. لأنه كان عصر الاهتمام باللهجات عامة في المغرب العربي وافريقية. وفي هذا النطاق قدم باصيه بحثين في مناسبتين مختلفتين عن الدراسات البربرية والهوسة، وكلاهما لمؤتمر المستشرقين، الأول في هامبورغ (المانيا)، سنة 1902، وعنوان البحث هو (الدراسات البربرية والهوسة 1897 - 1902 وهو منشور في باريس 1902، والبحث الثاني قدمه لمؤتمر كوبنهاغن الذي انعقد سنة 1908، وعنوان البحث هو العنوان الأول عدا التاريخ فهو من 1902 إلى ¬

_ = محمد مولى الكاف الأخضر الذي منه بنو عايس بجرجرة وبنو محمد بام دوكال، الخ.

1908. وهما بحثان طويلان وأغلبهما عن الدراسات البربرية التي تمت في مدرسة الآداب بالجزائر وفي غيرها من المدارس الجزائرية على يد المستشرقين الفرنسيين. وقد استعان باصيه وماسكري منذ أول وهلة بالجزائريين الذين يعرفون البربرية. فوظفا منهم في مدرسة الآداب اثنين ليكونا إلى جانبهما، وهما بلقاسم بن سديرة والهاشمي بن الونيس، ورغم أن ابن سديرة كان يعرف البربرية فقد وظفاه للعربية الدارجة بينما وظفا ابن الونيس للهجات البربرية. وكان ابن الونيس يشتغل معاونا في محكمة الجزائر. ولا نعرف له تأليفا في البربرية. أما الذي وضع قاموسا لتعليمها فهو ابن سديرة. ولكن ابن سديرة توفي سنة 1901. ومنذ حوالي هذا التاريخ ظهر اسم عمر (سعيد) بوليفة ليكون المعاون الرئيسي لباصيه في اللهجات البربرية، وخاصة القبائلية. وقد ظهر اسمه في عالم النشر سنة 1904 حين أصدر مجموعة شعرية قبائلية. كما أرسلته الحكومة الفرنسية في مهمة خاصة إلى المغرب الأقصى عندئذ إذ نشر بعض أعماله عن زيارته للمغرب سنة 1905. وكان بوليفة عندئذ معيدا في مدرسة الآداب مكلفا بتدريس القبائلية (¬1). ويهمنا أن نعرف أيضا أن مدرسة الآداب قد وظفت ابن أبي شنب في اللغة العربية. وعلى يده ويد غيره من هؤلاء الجزائريين تخرج أمثال ديستان وبيل وديبارمي. وكان باصيه هو الرأس المدبر بالتنسيق مع الإدارة الاستعمارية، وخصوصا لوسياني الذي كان يوظف مواهبه الادارية وسلطته الردعية لتنفيذ مخططات فرنسا والاستشراق. ولوسياني هو الذي نشر في آخر القرن الماضي كتاب (الحوض) مع ترجمة فرنسية، وهو كتاب بالبربرية المكتوبة بالحروف العربية، وموضوعه هو الفقه بأبوابه المعروفة. وهو من تأليف محمد بن علي بن إبراهيم السوسي، من أهل القرن 18 م (¬2). ¬

_ (¬1) سنترجم لكل من ابن سديرة وبوليفة في فصل اللغة. (¬2) نشره لوسياني في المجلة الافريقية سة 1896 - 1897 في أعداد مختلفة. وقد نشرنا عنه تعريفا في كتابا (أبحاث وآراء) ج 4.

وانتشر الاهتمام بالدراسات البربرية على يد آخرين. فقد نشر موتيلانسكي عن لهجة ميزاب وغدامس. وعرف بكتاب مخطوط بالبربرية عن لهجة قبيلة زواغة. وكتب ايميل ماسكري قاموسا فرنسيا- تارقيا، وبحوثا عن لهجات ميزاب والشاوية والزواوية. وقام هويغ بنشر قاموس فرنسي - شاوي، وفرنسي - قبائلي. ومن جهته بحث غوستاف ميرسييه في أسماء الأماكن (توبونيم) البربرية بالأوراس، وواصل دراسة أسماء النباتات في الشاوية (¬1). وفي هذا العهد أيضا كان الراهب شارل دوفوكو، صديق المارشال ليوتي وباصيه، يدرس شؤون المغرب والصحراء إلى الهقار، ويؤلف قاموسا عن اللهجة البربرية في المناطق المختلفة من الصحراء، سيما منطقة الطوارق أو التوارق. ومدرسة الآداب بالجزائر هي التي وجهت جهودها إلى المغرب الأقصى عشية احتلاله لدراسة لهجاته وتاريخه، وكانت لجنة افريقية الفرنسية في باريس التي يشترك فيها أبرز علماء الاستعماريات والضباط والحكام السابقون، توجه عنايتها لإنشاء معهد الدراسات المغربية، وهي فكرة المارشال ليوتي، كما أنشئ معهد الدراسات البربرية في المغرب الأقصى أيضا. وقد عينت السلطات الفرنسية محمد نهليل لتدريس البربرية بالمعهد الأخير. وكان نهليل قد اشتغل مترجما في المكاتب العربية بمنطقة بشار وغيرها قبل ذلك. وهو جزائري من زواوة (¬2). وفي نطاق الدراسات البربرية أيضا شهد هذا العهد إنشاء كرسي (حلقة) البربرية في مدرسة الآداب، وتوسع ذلك ليشمل المدرسة الشرعية أيضا فكان في هذه المدرسة قسم خاص بالبربرية. وكذلك في مدرسة ترشيح المعلمين (النورمال)، فأصبح المتخرج يحمل في شهادته ملاحظة تقول إنه من قسم اللغة العربية أو من قسم اللغة البربرية مع التركيز على القبائلية. وكلا القسمين لا يهتم إلا باللهجات والعاميات المنطوقة، ولكن المستشرقين وضعوا للعاميات ¬

_ (¬1) عن ذلك انظر باصيه، المجلة الافريقية، 1903، ص 258. (¬2) ادمون بورك (أزمة الاستشراق ...)، مرجع سابق، ص 224.

قواعد وكتبا وتمارين. وأخذ هذا التقسيم اللغوي يتوسع ليشمل التقسيم العرقي والسياسي، فكان في المجلس النيابي المعروف (بالوفود المالية) أيضا قسمان، قسم عربي وقسم قبائلي، بينما القسم الفرنسي في المجلس نفسه كان واحدا رغم اختلاف الفرنسيين بين مسيحيين ويهود، ومن هو من أصل فرنسي ومن هو متجنس من أصل مالطي أو إسباني أو إيطالي، ومن ثمة قلنا ان الاستشراق كان يخدم الادارة الاستعمارية، وكانت هذه تخدم الاستشراق أيضا. أما اللغة العربية فعاميتها قد تكفل بها هوداس منذ البداية 1880 ثم أخذ مكانه باصيه، كما سبق. وظلت العربية تدرس من خلال لهجاتها أيضا. وظهر الاهتمام بهذه اللهجات بشكل ملفت للنظر. فقد درسوا لهجة كل مدينة وكل جهة تقريبا، تلمسان، ندرومة، بسكرة، جيجل، والعاصمة، الخ. فكانت عبارة (لوبارلي أراب) أي الدارجة أو العامية، على كل قلم استشراقي عندئذ. وقد اتبعهم في ذلك بعض الجزائريين غفلة منهم ربما، فأخذوا يقدمون المادة لهؤلاء المستشرقين، ومنهم ابن أبي شنب وأبو بكر عبد السلام بن القاضي شعيب التلمساني، وابن علي فخار التلمساني أيضا، ومحمد صوالح، الخ. كما قام هؤلاء الجزائريون بتأليف قواميس عربية - فرنسية عن لهجة قبيلتهم أو جهتهم. ويقصدون هنا العربية الدارجة. ولعلهم كانوا ينظرون إلى الموضوع نظرة جارية أيضا لأن هذه القواميس المدرسية كانت من وسائل توفير المال، لأن النشر الأدبي أو البحوث العلمية المستقلة لا توفر ذلك. وكانت هذه المؤلفات بالإضافة إلى العامية تكتب أيضا من اليسار إلى اليمين. ومهما كان الأمر فإن أولئك المثقفين الجزائريين عندئذ لم يتفطنوا ربما إلى مخططات الاستشراق السياسية والحضارية فساروا في ركابه. وقد أضاف ابن أبي شنب عملا مهما في حد ذاته، لو لم يكن في نطاق هذه المدرسة الاستعمارية، وهو دراسة بقايا اللغتين الفارسية والتركية في مدينة الجزائر (¬1). وفي هذا النطاق نذكر أيضا دراسات ونصوص ¬

_ (¬1) كثر الحديث عندئذ عن تجديد المناهج لتعليم العربية، وشارك في ذلك بعض يهود الجزائر الفرنسيين، لأن دراسة العامية أصبحت أيضا تجارة رابحة، وهكذا أصدر =

جولي عن الشعر الشعبي في عدد من المناطق الصحراوية (¬1). أما الأدب العربي فلم يكن يدرس في الجزائر إلا نادرا، على يد بعض شيوخ المدارس الشرعية - الفرنسية أمثال ابن الموهوب في قسنطينة وعبد الحليم بن سماية في العاصمة والغوثي بن علي في تلمسان. أما مدرسة الآداب (كلية الآداب) فأول من ولى بها كرسي الأدب العربي هو باصيه، ثم فانيان، كما أشرنا. وقد ظل فانيان إلى وفاته سنة 1931 أستاذا للأدب العربي. وقد عرفنا أنه كان مهتما بالتاريخ الاسلامي والمخطوطات أكثر من اهتمامه بالأدب الصرف. ومن المستشرقين (الأدباء) أوغست كور الذي كتب أطروحته عن شعر ابن زيدون. ولكن كور لم يدخل مدرسة الآداب وإنما كان أستاذا للغة العربية في مدرسة تلمسان ثم قسنطينة، أي المدارس الشرعية وليس الجامعة. وكان وجود ابن أبي شنب في مدرسة الآداب ضمانة قوية لدعم الأدب العربي، ولكنه كان، كما نعرف، أستاذا إحتياطيا فقط، شأن الجزائريين الآخرين، وكان تلاميذه هم المستشرقين، وقلما دخل الجزائريون هذه المدرسة (الكلية). ومن جهة أخرى فإن اهتمام ابن أبي شنب كان بالمخطوطات واللغة والتحقيق أكثر منه بالأدب الصرف أيضا. فهو بحق أقرب إلى أن يكون باحثا استشراقيا من أن يكون أديبا عربيا. وبالإضافة إلى ذلك ظهرت في المرحلة الثانية للاستشراق دراسات عن المدن والمجتمع (الأهلي) في عهوده المختلفة. فكتب ماسكري أطروحته عن السكان الحضريين في الأوراس وجرجرة وميزاب وطريقة تشكل المدن في هذه المناطق. ونشر موتيلانسكي دراسة عن مدينة القرارة، وملاحظات عن سوف وغدامس. وقام جولي بدراسة اجتماعية عن منطقة التيطري. وظهرت مونوغرافات أو كتب متخصصة عن مختلف السكان والمدن على يد مترجمين وإداريين يطول ذكرها هنا. ذلك أن كل متصرف إداري كان يجمع ¬

_ = ديدنشانت وكوهين سولال (كلاهما من وهران) كتابا سنة 1897 سمياه (الكلمات المستعملة في اللغة العربية الدارجة). (¬1) انظر فصل الشعر.

التقارير والاحصاءات والملاحظات والانطباعات أثناء عهده في الخدمة، فإذا تقاعد نشر كتابا عن المنطقة أو البلدة التي عمل فيها. وكان هؤلاء غالبا متأثرين بجو الاستشراق والنظريات الاجتماعية والانثروبولوجية الجديدة. أما التاريخ والجغرافيا والآثار وما يتصل بها فقد برز فيها عدد من المستشرقين أيضا. ولعل أكثرهم قيمة واعتدالا هو جورج مارسيه. وكانت جهوده في ميدان الآثار الاسلامية تشهد على ما قلناه سيما كتابه عن الآثار العربية في تلمسان، والآثار الاسلامية في العصور الوسطى. وله بحوث حول بعض المساجد والقصور ذات أهمية علمية (¬1) خاصة. وقد نشر فانيان أعمالا تاريخية عديدة منها القليل المتصل بالجزائر والآخر عن المغرب الاسلامي والأندلس والمشرق العربي. من ذلك تاريخ الموحدين للمراكشي، وتاريخ الدولتين للزركشي، وحوليات المغرب والأندلس لابن الأثير، وتاريخ افريقية والأندلس لابن عذاري، وفي هذه الأثناء ظهر أيضا كتاب أوغسطين بيرنار عن البداوة. واهتم المستشرقون بالمخطوطات العربية والبربرية فحققوا منها البعض وكلفوا الجزائريين بتحقيق الآخر، كما اشتركوا في الترجمة والتحقيق معا أحيانا. ومن رجع إلى تأليف هنري ماصيه (الدراسات العربية في الجزائر) سيدرك كثرة ما نشر من المخطوطات في شكل كتب ووثائق. ولعل أبرز من فعل ذلك رينيه باصيه وتلميذه ابن أبي شنب. ونحن نحيل على دراسة ماصيه المذكورة، وما نشر بعد ذلك على يد كور وغوستاف ميرسييه، وما نشر أيضا في (الحوليات الشرقية) التي كان يصدرها معهد الدراسات الشرقية التابع لجامعة الجزائر. وننبه إلى أن بعض المخطوطات قد اشترك في تحقيقها جزائري ومستشرق مثل (روضة النسرين) في تاريخ بني مرين التي حققها جورج مارسيه والغوثي بو علي (¬2)، وهنري جاهير ونور الدين عبد القادر في ¬

_ (¬1) الجهود الفنية التي ظهرت في مشروع فيلا عبد اللطيف منذ فاتح هذا القرن سنتعرض إليها في فصل الفنون. (¬2) باريس، 1917. وحول نفس الموضوع (تاريخ بني مرين) نشر ليفي بروفنصال في =

نشر (روضة السلوان) للفجيجي (¬1). وقد كان محمود كحول قد نشر قصيدة الصيد (روضة السلوان) في التقويم الجزائري الذي كان يشرف عليه، سنة 1911، صں 71 - 94 (¬2). وكان نور الدين عبد القادر قد اشترك مع غبريال كولان في تسليط الضوء على أعمال عبد الرزاق بن حمادوش. وكان ليكليرك قد اهتم بابن حمادوش وترجم بعض أعماله إلى الفرنسية (¬3). وقد نشر شيربونو وثائق ونصوصا من كتاب (النبذة المحتاجة في أخبار ملوك صنهاجة)، وهو من تأليف محمد ابن حماد الصنهاجي، من أهل القرن الخامس الهجري، نشر ذلك في (المجلة الآسيوية). ولكن الكتاب قد ضاع فيما يبدو، وقد يكون شيربونو حصل على النسخة الوحيدة فأخذ منها ولم يرجعها لأصحابها. ذلك أن الباحثين لم يعثروا حتى الآن على نسخة كاملة من (النبذة) المذكورة. وعندما درس عثمان الكعاك العهد الحمادي اعتمد على ما نشره شيربونو. ويذكر الكعاك أيضا أن السيد أماري قد نقل من النبذة في المكتبة الصقلية (¬4). وكانت رحلة الورتلاني قد أثارت اهتمام المستشرقين أيضا. وقد نشرها بالعربية محمد بن أبي شنب، ولكن ذلك لم يلب حاجة المستشرقين. كانت إحدى النسخ المخطوطة في حوزة المولود بن الموهوب، وثلاث نسخ أخرى عند جان ميرانت سنة 1899. وكان ميرانت يسعى إلى ترجمتها (وهو ¬

_ = المجلة الآسيوية، 4، 1923، نفس الكتاب مع تعاليق إضافية معتمدا على مخطوطتين جديدتين، كما نشر بروفنصال أيضا كتاب ابن مرزوق (المسند الصحيح) في تاريخ بني مرين في مجلة هيسبريس، 5، 1925، وظهر في شكل منفصل في 32 صفحة، باريس، 1925. وأيضا شارك ابن أبي شنب في ذلك بنشر كتاب مجهول المؤلف في تاريخ بني مرين عنوانه (الذخيرة السنية)، الجزائر، 1921. (¬1) الجزائر، 1959. النص 28 والترجمة 69 + 16. (¬2) انظر المجلة الافريقية، 1959، مراجعة علي مراد، ص 409 - 410. (¬3) انظر تحقيقنا لرحلة ابن حمادوش، وكذلك دراستنا عنه بعنوان (الطبيب الرحالة). (¬4) شيربونو، المجلة الآسيوية، 22، 1852، ص 510 - 570. والكعاك (بلاغة العرب)، تونس، دون تاريخ، ص 18 - 28.

مترجم عسكري كان يعمل في إدارة الشؤون الأهلية)، ولعل كثرة أشغاله وضخامة حجم الرحلة قد أخراه على إنجاز مشروعه. ولذلك قام زميله موتيلانسكي أستاذ العربية ومدير مدرسة قسنطينة الشرعية بترجمة الجزء الخاص بالرحلة من طرابلس إلى القاهرة (¬1). ثم وجدنا محمد الحاج صادق، في عهد متأخر، يقوم بترجمة خاصة للرحلة الورتلانية. وفي سنة 1911 نشر ألفريد بيل بالتعاون مع الغوثي بوعلي (كان المدرس الرئيسي في جامع تلمسان الأعظم) القسم الأول من الجزء الثاني من كتاب (بغية الرواد) ليحيى بن خلدون، وهو في تاريخ بني عبد الواد. وهو عمل يشتمل على النص العربي والترجمة. وكان الجزء الأول قد نشر حوالي 1903. واعتمد المحققان على عدة مخطوطات. والقسم الثاني المذكور يشمل عهد أبي حمو موسى الثاني إلى حوالي أربع سنوات فقط قبل اغتيال المؤلف يحيى بن خلدون الذي كان كاتبا للسلطان أبي حمو. وهكذا كان التعاون وثيقا بين الجزائريين والمستشرقين ولكن الفائدة كانت لصالح هؤلاء دائما (¬2). أما الأعمال الجماعية للاستشراق فقد ظهرت في عدة حالات. نذكر منها الجمعيات العلمية التي أنشئت منذ أواخر القرن. وكانت جمعيات الجزائر والمغرب العربي عموما تتجاوب مع مثيلاتها في فرنسا. وكانت الجمعيات العلمية في الجزائر وتونس والمغرب تعقد اجتماعات دورية في إحدى المدن الرئيسية بمنطقة المغرب العربي. ويصدر عن ذلك مجموعة الأعمال والبحوث التي تقدم في كل اجتماع، وهو مجهود يدل على البرمجة والتخطيط حيث يتوزع المشاركون - وليس جميعهم من المستشرقين - موضوعات تدخل في أغلبها في نطاق العلوم الاجتماعية. وهناك مناسبة أخرى أظهرت فيها مدرسة الآداب قوتها وهي انعقاد مؤتمر المستشرقين 14 ¬

_ (¬1) انظر المجلة الجغرافية الجزائرية SGAAN 1899 - 1900، ص 136 - 140. (¬2) راجعته (مجلة العالم الاسلامي) مارس 1912، 252، وابن أبي شنب في (المجلة الافريقية)، 1914، ص 150? 152.

سنة 1905، الذي صدرت عنه مجموعة وقائع وبحوث أيضا في عدة مجلدات، وحضره حوالي 500 مشارك معظمهم من فرنسا وأوروبا. أما المناسبة الأخيرة فهي الاحتفال المئوي بالاحتلال سنة 1930. وقد تألفت له (لجنة علمية)، منذ 1927. وكانت مكلفة بكتابة بحوث وإعداد نشرات وإقامة معارض، الخ. لتعريف العلماء الزائرين إنجازات فرنسا في الجزائر. ولعبت في هذه المناسبة كلية الآداب الدور الرئيسي. وظهر الارتباط الدقيق بينها وبين إدارة الاستعمار من جديد، أو بالأحرى بين هذه الإدارة والاستشراق. يقول هنري ماصيه، المستشرق الذي نشر عمله من وحي الاحتفال المئوي أيضا، عن جهوده وجهود زملائه، ما يلي: إن المجالات التي عالجها المستشرقون (يسميهم المستعربين) في الجزائر خلال رحلتهم هي: المعاجم، واللسانيات، والخطوط (الكتابات)، والتاريخ الديني، وتحقيق وترجمة النصوص الأدبية والتاريخية والجغرافية والفقهية والعلمية، ثم الدراسات الأثنوغرافية والفلكلورية، وأخيرا، الكتب المدرسية. أما ما يزال ينتظرهم فهو في نظره تدريس تاريخ الأدب (العربي؟) وذلك بالخروج من العموميات بعد أن يملك الطلبة مجموعة عربية من المؤلفين والتراجم ثم ترجمات كثيرة من النصوص التاريخية المتعلقة بالجزائر، ولكن بقيت أعمال أخرى تتعلق بالتاريخ والفقه في المغرب العربي عامة، وهي مجموعة الأحاديث الدينية لمالك بن أنس (¬1) ومسلم، بالإضافة إلى نصوص إباضية. كما أن بعض النصوص الجغرافية المتعلقة بالجزائر ما تزال غير مترجمة. ومن جهة البحث اللغوي والاثنوغرافي فما يزال هناك مجال واسع أمام الباحثين نظرا لتطور المجتمع الأهلي السريع. والواجب، في نظره إجراء تحقيقات عميقة ومنهجية في مختلف المناطق عن عادات وتقاليد ولهجات السكان. ودعا إلى ضرورة إنشاء (معجم العربية الجزائرية). ¬

_ (¬1) كذا، ولعله يقصد موطأ الامام مالك، وصحيح مسلم.

حياة بعض المستشرقين والمستعربين

ولكن نظرا، لضخامة هذه المهمة وعدم اعتمادها على مؤلف واحد وتعدد اختصاصاتها فلا بد من إنشاء مجموعة عمل لوضع أطلس لغوي شبيه بالأطلس الأثري الذي وضعه ستيفان قزال (¬1). حياة بعض المستشرقين والمستعربين اجتمع لدينا بالإضافة إلى من ذكرنا، عدد من تراجم مختصرة لبعض المستشرقين والمستعربين الفرنسيين الذين اشتغلوا بالدراسات الاسلامية والعربية والترجمة. نذكر منهم: 1 - البارون بواسوني: ولد في باريس في 19 يونيو (جوان) 1811. وبعد أن درس في فرنسا أصبح ضابطا في المدفعية، وتولى في قسنطينة إدارة الشؤون الأهلية (المكتب العربي)، وبدأ حياته العلمية سنة 1884. ويقول عنه لويس رين إنه أول فرنسي لفت الانتباه إلى ملامح وخصائص البربر. ونشر بواسوني في المجلة الأثرية (روكاي) بقسنطينة حروف الهجاء التي كان الطوارق يستعملونها. وفي سنة 1884 نشر بواسوني النص العربي لبعض أشعار الأمير عبد القادر، وكذلك التنظيمات العسكرية المسماة (وشاح الكتائب) التي أعدها قدور بن رويلة، كاتب الأمير. ثم نشر الفارسية في مبادئ الدولة الحفصية لابن القنفذ، وكذلك تحفة العروس لعمر الجزائري. كان بواسوني من أصول ارستقراطية عارفا باللغة العربية، وقد رشحته حكومته لمرافقة الأمير بعد هزيمته في ديسمبر 1847. وعينه في هذه المهمة الدوق دومال الذي كان متوليا (حاكما عاما) للجزائر عند الهزيمة. رافق بواسوني الأمير في فرنسا وفي المشرق. بقي معه في حصن (لامالق) ثم في سجن (بو) تم قصر امبواز. كان لا مورسيير الذي وعد الأمير بالأمان في الجزائر آخر ديسمبر 1847، قد أصبح بد ثورة فبراير 1848 في فرنسا ¬

_ (¬1) ستيفان قزال، تخصص في تاريخ المغرب القديم، ونشر عدة مجلدات في ذلك شملت حضارة البربر. وكان معاصرا لحركة الاستشراق. وقد توفي سنة 1932.

وزيرا للحربية، فتنكر للأمير وضيق عليه الخناق ولم يطلق سراحه ليتوجه إلى المشرق، كما وعده. وكان من المفروض أن يخفف البارون بواسوني أهوال الغربة على الأمير وأن يشرح له الأسباب السياسية التي جعلت حكومة فرنسا تسجنه بدل أن تطلق سراحه. وظل إطلاق سراح الأمير ينتظر إلى أكتوبر 1852 حين تولى نابليون الحكم بنفسه، وعندئذ توجه بواسوني مع الأمير إلى اسطنبول. شارك بواسوني كذلك في الجمعية الأثرية بقسنطينة ومجلتها. وشجع مجموعة من المثقفين الجزائريين الذين مالوا للفرنسيين، على تأليف كتب ومذكرات حول قسنطينة، ومنهم محمد الصالح العنتري الذي كتب (الفريدة المؤنسة) و (هدية الاخوان)، بدافع منه. وكان بواسوني يراسل محمد الشاذلي الذي تولى القضاء ثم إدارة المدرسة الفرنسية - الشرعية. ودامت المراسلات بينهما طويلا حتى بعد انتقال بواسوني من قسنطينة. وكان الشاذلي قد زار قصر امبواز وبقي مع الأمير فترة لتسليته. ولعل جلب الشاذلي إلى هناك كان بإيعاز من بواسوني نفسه لأنه كان يعرفه في قسنطينة. وقد شارك بواسوني أيضا في تأسيس الجمعية التاريخية بالجزائر. وترأسها بعض الوقت. وبعد انتقاله إلى فرنسا ظل يزور الجزائر كل شتاء ليشارك في اجتماعات الجمعية التاريخية. أما الوظائف الإدارية الأخرى فقد كان بواسوني هو النائب الأول لرئيس المجلس العام (المجلس الولائي) لولاية الجزائر عند إنشاء هذا المجلس سنة 1858. وكان الأعضاء عندئذ تعينهم الحكومة وليسوا منتخبين. وكان بواسوني يسكن في فيلا أنيقة بضاحية الأبيار تسمى (لاطوس). وقد أدركه الموت على 91 سنة في 22 فبراير، 1902. فبواسوني كان من أوائل (المستشرقين) العسكريين (¬1). ¬

_ (¬1) لويس رين، المجلة الافريقية، 1902، ص 133 - 136. وكان رين معاصرا له وضابطا مثله، وقد توفي بعده بقليل، انظر أيضا كتابنا (القاضي الأديب)، ط. 2، 1985.

2 - ارنست ميرسييه: ولد في لا روشيل (فرنسا) سنة 1840. وكان أبوه (ستانيسلاس) طبيبا. وصيدليا. جاء مبكرا إلى الجزائر كطبيب عسكري. وشارك في الحملات ضد الجزائريين مع بوجو، وفي 1854 غادر الجيش واستقر كطبيب في سور الغزلان. وهناك حصل على أرض واستقر قرب عائلة. أما إبنه ارنست، فكان عمره عندئذ 13 سنة. ترك الدراسة في لاروشيل وعاش مخالطا للجزائريين فتعلم منهم العربية ودرسها. وفي 1865 نجح في مسابقة المترجم العسكري، وسمى مترجما في سبدو حيث كانت ثورة أولاد سيدي الشيخ تصل إلى هناك من الجنوب الغربي، وازدادت معرفته للعربية فتقدم لمسابقة المترجم القضائي. ثم أصبح مترجما لقاضي الصلح في محكمة الحروش، ثم في تنس. وعند وقوع ثورة 1871 كان ارنست في تنس. وقد تطوع وأصبح قائدا للميليشيا المحلية ضد الثوار هناك. وفي نوفمبر 1871 سمي مترجما محلفا في قسنطينة حيث كان الثوار يحاكمون بالجملة. وكان والده قد استقر في قسنطينة بصفته صيدليا. وكذلك استقر ارنست وكون عائلة. ودخل ميدان السياسة فتولى منصب رئيس البلدية في قسنطينة مرتين، وعضوا في المجلس الولائي العام. C.G . كان ارنست ميرسييه مغرما بالدراسة أيضا. ومنذ 1867 أصبح عضوا في الجمعية الأثرية لقسنطينة، وساهم في تحرير مجلتها (روكاي)، وقدم إليها دراسة عن الطريقة القادرية، وأخرى عن ثورة ابن غانية، وتاريخ معارف القدماء الجغرافية عن افريقية الشمالية. وتولى نيابة رياسة الجمعية المذكورة ثم رئيسا لها سنة 1892. درس ميرسييه التاريخ والأدب العربي واللغة والدول التي تداولت على افريقية الشمالية. وقد نشر مجموعة من البحوث منها تاريخ شمال إفريقية، سنة 1891 في ثلاثة أجزاء. وهو العمل الذي نال عليه الميدالية الذهبية من جمعية الدراسات التاريخية بباريس، كما نشر بحوثا عن الكاهنة وكسيلة، وعن فرنسا والصحراء، والملكية فى بلاد المغرب العربي طبقا لمذهب الإمام

مالك، واحتلال قسنطينة. ومن مؤلفاته وضع المرأة المسلمة في إفريقية الشمالية، وأوضاع السكان الجزائريين (الأهالي) تحت الاحتلال الروماني والوندالي والبيزنطي. ثم الملكية العقارية الاسلامية في الجزائر، وغيرها من البحوث. وله دراسة عن المقرانيين وثورة 1871، وأخرى عن فن الترجمة الكتابية والشفوية. وقد توفي سنة 1907 في مدينة قسنطينة (¬1). إن ارنست ميرسييه يعتبر مثالا للعسكري - المدني الفرنسي، والمستوطن الحاقد على كل ما هو عربي ومسلم. وتشهد كتابته عن الفتح الاسلامي وعن المقرانيين على ما نقول. ومع ذلك فإنه من المساهمين البارزين في الترجمة والتأليف والبحث إلى جانب الوظائف الادارية والسياسية التي تولاها (¬2). 3 - فايسيت: لا يذكر مترجموه تاريخ ميلاده. ويبدو انه ولد في فرنسا، وجاء إلى الجزائر مبكرا. واشتغل في الحياة المدنية، فتعلم العربية، وكان معلما ثم مديرا لمدرسة عربية - فرنسية في قسنطينة، ذلك النوع من المدارس الذي كان يهدف إلى بث الثقافة الفرنسية عن طريق العربية الدارجة. ولم يترك فايسيت التعليم والادارة تأخد كل وقته فانتقل من التعليم إلى الترجمة كمحلف، ربما لأسباب مادية، ولكنه بقي دائما في قسنطينة إلى تقاعده. وقد توفي سنة 1900 في (اسباليون؟) حيث كان متقاعدا مدة طويلة. أهلته معرفته للعربية ومكثه الطويل في قسنطينة للاطلاع على الوثائق الأهلية وتاريخ الناحية. كان عضوا في الجمعية الأثرية لقسنطينة منذ 1862. وقد ساهم في مجلتها ببعض بحوثه. ومما نشره: تاريخ قسنطينة في العهد ¬

_ (¬1) ج. ماقيلون (روكاي)، 1908، ص 15 - 19. كان ماقيلون نائبا لرئيس الجمعية الأثرية لقسنطينة. (¬2) أثناء فترة العرائض في قسنطينة كان ميرسيه هو رئيس البلدية. وكان يمثل رأي الكولون في مسائل القضاء الاسلامي، والتجنس، والتلاعب بصفوف النخبة الاندماجية. انظر الحركة الوطنية ج 1.

العثماني، وهو تاريخ سياسي، من 1517 - 1837، اعتمد فيه على كتاب العنتري، وابن العطار وابن الفكون وغيرهم. كما نشر ملاحظات على قلعة بني عباس ومدافعها ولكن فايسيت كان يترجم أكثر مما كان ينشئ، رغم استغلاله للوثائق المحلية، كما ذكرنا (¬1). 4 - شارل قابو: لا يمكن عده في المستشرقين، غير أنه من المترجمين المستعربين الذين كانوا على صلة بالجزائر وزعمائها. ولد في فرنسا سنة 1831. ولا ندري أين أو كيف تعلم العربية، لأن شارل فيرو يقول عنه إنه عين مترجما ملحقا بقصر امبواز حيث كان الأمير وأسرته مسجونين أي 1848 - 1852. وعند إطلاق سراح الأمير وتوجهه إلى المشرق كلف قابو بمرافقته أيضا، لأن مهمة بواسوني قد انتهت في اسطنبول. وفي يوليو سنة 1865 زار الأمير عبد القادر فرنسا فوضع قابو تحت تصرفه كمترجم. وقد رافق أيضا ابن الأمير (وهو محمد صاحب تحفة الزائر) إلى دمشق في السنة الموالية، حسب خبير فيرو. ومنذ هذا التاريخ 1866 أصبح قابو ملحقا بوزارة الحربية في باريس مكلفا بمصالح الجزائر. ويبدو أن قابو كان يجمع إلى الترجمة وظيفة الدبلوماسية والمخبر أيضا. فقد كلفته وزارة الحربية مرتين أخريين بمرافقة زعيمين جزائريين أحدهما، وهو شريف ورقلة (محمد بن عبد الله أو إبراهيم بن فارس). وكان هذا الثائر سجينا لدى الدولة الفرنسية بعد إلقاء القبض عليه حوالي 1861. وكان قد حمل إلى سجن عنابة (قلعة بيربينيان). أما الآخر فهو الشاب أحمد التجاني شيخ زاوية عين ماضي الذي رأت فرنسا نقله مع أخيه البشير إلى بوردو أثناء ثورة 1870 - 1871. والمعروف أن أحمد التجاني قد تزوج عندئذ من أوريلي بيكار، بنت أحد رجال الدرك الفرنسيين. ولا ندري ما دور قابو في موضوع الزواج ما دام هو المرافق والشاهد والممثل لوزارة الحربية. ومن الأكيد أن هذه الوزارة لو لم يكن لها يد في هذا الزواج لما ¬

_ (¬1) انظر (روكاي)، 1901، ص 289 - 290.

انبرم. والظاهر أن قابو كان حيا سنة 1876 عندما ألف فيرو كتابه (¬1). 5 - هنري دوفيرييه: ولد في فرنسا، وتعلم فيها. وجاء والده إلى الجزائر، وكان من الكولون ومن أصدقاء الدكتور وارنييه. بدأ هنري رحلته الشهيرة من قسنطينة حاملا توصيات دقيقة من الجنرال (ديفو) قائد القطاع العسكري بها، وذلك في شهر مايو 1859 واتجه نحو ميزاب. وكان الشريف محمد بن عبد الله (شريف ورقلة) ما يزال نشطا في جهة عين صالح. ودامت رحلة دوفيرييه ثلاث سنوات، وقد رجع إلى الجزائر مريضا، فعالجه الدكتور وارنييه صديق والده. كانت الرحلة تغطي المنطقة بين المنيعة غربا. وزويلة شرقا وبسكرة شمالا وغات جنوبا. وكان يعرف عن غات من رحلة إسماعيل بوضربة إليها سنة 1858، بل كان عرفه شخصيا، ويقول انه استفاد من رحلته. كان دوفيرييه يحمل أيضا رسائل للتعريف به وحمايته وتقديمه للمقدمين التجانيين وغيرهم، من عدد من الجزائريين، منهم: الخليفة حمزة من كبار عائلة سيدي الشيخ، وكان حمزة يحكم الجنوب الغربي باسم فرنسا. كما كان دوفيرييه يحمل رسالة من الشيخ محمد العيد بن الحاج علي، شيخ زاوية تماسين التجانية ووارث بركتها، وذلك بتدخل من الجنرال ديفو لدى الشيخ محمد العيد، وزكاه كذلك مقدم التجانية في قبيلة ايفوغاس بشمال الهقار، وهو المرابط عثمان بن الحاج البكري، وكذلك الأمير الحاج محمد ايخنوخن رئيس طوارق الأزجر، والمرابط البكاي ابن عم شيخ تمبوكتو وهو من الطريقة القادرية، كما زكاه سليمان العزابي مدير الفشاطو (؟) بجبل طرابلس. وكان دوفيرييه قد وجد أيضا مساعدة كبيرة من السيد أحمد بن زرمة السوفي (من سوف) الذي قال عنه أنه رافقه خلال الجزء الصعب من رحلته ووصفه بالاخلاص والذكاء والحيوية، وقد اعترف له ولغيره بالجميل. وكان ¬

_ (¬1) شارل فيرو (مترجمو جيش افريقية)، الجزائر 1876، ص 334 - 335. عن أحمد التجاني انظر فصل الطرق الصوفية. ولا نعرف أن قابو قد ترك عملا مكتوبا شأن المستعربين.

دوفيرييه متحفظا جدا من السنوسيين الذين رأى فيهم الخطر الكبير على فرنسا في المنطقة. وقد حصل كتابه الذي جمع فوائد جمة عن المنطقة المذكورة، على الميدالية الذهبية الكبيرة من الجمعية الجغرافية الفرنسية في باريس سنة 1864 (¬1). ورغم اقتراب دوفيرييه من الاستشراق بمعرفته العربية والبربرية، وتقديمه نبذة عن حياة المرابطين المعاصرين الذين اختلط بهم أو سمع عنهم في المنطقة، فإنه لا يعتبر مستشرقا بالمعنى الدقيق للكلمة لأنه لم يدرس ولم يتخرج من مدرسة استشراقية. ولكن أعماله ظلت مرجعا للمستشرقين اللاحقين المهتمين بالقبائل الصحراوية والحياة اللغوية والدينية هناك. وقد تعامل دوفيريه مع أشهر الطرق الصوفية في وقته التجانية والقادرية والشيخية والطيبية. 6 - لويس رين: ولد في باريس في 28 مارس 1838. وكان من عائلة علمية اهتمت بالحياة الأكاديمية مثل عمه وآخيه ... أما هو فقد درس في سان سير، مدرسة الفرسان، وجاء الجزائر سنة 1864 بمناسبة ثورة أولاد سيدي الشيخ. ولكنه دخل في سبتمبر من العام نفسه في مصلحة الشؤون العربية حيث قضى فترته وخدمته العسكرية كلها تقريبا. وفي سنة 1880 أصبح هو رئيس المصلحة المركزية للشؤون الأهلية. ولكن بعد خمس سنوات ألغيت هذه المصلحة، أي في عهد الحاكم العام لويس تيرمان، وبعد ذلك تقاعد رين وأصبح مستشارا لدى الحكومة العامة. ولا شك أن عمله منذ 1864 في المصالح الأهلية قد جعله يتعرف على مشاكل الجزائريين الدقيقة لأن كل الوثائق والمراسلات كانت تمر بيده، كما جعلته يتعرف على أنماط الناس وتفكيرهم. تولى رين رئاسة الجمعية التاريخية سبع سنوات، وظل يشارك في ¬

_ (¬1) انظر رحلة دوفيرييه (اكتشاف الصحراء)، ط. باريس، 1864. المقدمة. وعن علاقته بالطرق الصوفية في المنطقة انظر فصل الطرق الصوفية.

أعمالها ثم رئيسها الشرفي إلى وفاته سنة 1905. وخلال أدائه لوظيفته الحساسة - الشؤون الأهلية - ألف رين عدة كتب ذات طابع إحصائي وإجمالي، ولكنها مفيدة. وقد كتبها بروح الأب الخبير الحريص في نظره على مصلحة الأهالي. وكان من موقعه يتلقى التقارير والرسائل، كما كان يراسل من يشاء من أعيان الأهالي ويطلب منهم المعلومات لكتبه، ولا ندري كيف تعلم العربية والبربرية، لأنه كان يعرفهما، وتتركز أعماله على اللغة والعادات والدين والتقاليد. وأشهر مؤلفاته: تاريخ انتفاضة 1871، ودراسة الطرق الصوفية الذي سماه (مرابطون واخوان)، وله كذلك أبحاث نشرها في المجلة الافريقية في البداية، منها: مملكة الجزائر تحت آخر الدايات، والممالك البربرية الأولى وحرب يوغرطة، وبحث في الدراسات اللغوية والاثنولوجية عن البربر. وأخبر زميله لاكروا أن رين كرس سنواته الأخيرة لكتابة موسوعة كبيرة عن تاريخ الجزائر تضم أحد عشر مجلدا، ولكننا لا نعرف ماذا أكمل منه، لأن الكتاب الأخير لم ير النور، على ما نعرف (¬1). غير أن آجرون رجع إليه في بعض مؤلفاته، وهو، بناء عليه، ما يزال مخطوطا. 7 - ادريان ديلبيش: ولد في بوفاريك سنة 1848، فهو ابن مستوطن فرنسي استقر في قلب سهل متيجة الغني، ولكن ادريان تعلم العربية في مدرسة تلمسان الشرعية - الفرنسية عندما كان مديرها هو بيلار. أصبح أدريان مترجما عسكريا مثل كثير من الشبان الفرنسيين الذين وجدوا في هذه المهنة وسيلة للعيش والاستعمار أيضا. ومثل معظم المترجمين عندئذ فإن همه ليس العربية المكتوبة ولكن الدارجة المنطوقة فقط. وقد جاء إلى العاصمة ليزداد علما بالعربية على لويس برينييه، ودخل المسابقة ونجح في مهنة الترجمة العسكرية. وكان ملازما للجنرال سيريز سنة 1871 أثناء ثورة الرحمانيين ¬

_ (¬1) ن. لاكروا، المجلة الافريقية، 1905، ص 130 - 132. توفي رين في 6 مارس، 1905 بمدينة الجزائر. وكان قد حصل على رتبة عقيد في الجيش. انظر ما كتبه أجرون عن هذا الكتاب.

والمقرانيين. وقيل انه هو الذي حرر الانذار الفرنسي قبل الهجوم على فج أولاد عزيز، وهو الانذار الموجه للثوار. كما رافق أدريان الفرقة التي كانت تحمل المؤونة عبر بوسعادة والتي كانت بقيادة العقيد تروميلي. وبعد القضاء على الثورة تفرغ أدريان ديلبيش للدراسة واستقال من الترجمة العسكرية ودخل الترجمة القضائية. وبهذه الصفة اشتغل في عدة محاكم فرنسية، منها محكمة تيزي وزو وبلعباس ومينيرفيل (الثنية) والبليدة. وأثناء ذلك حصل من مدرسة الآداب في الجزائر على دبلوم اللغة العربية. والدراسة الأخيرة هي التي قربته إلى صف المستشرقين. فقد نشر بحوثا حول ثورة الطريقة الدرقاوية 1800 - 1813 كما وردت في كتاب مسلم بن محمد، ونشر تاريخ الأمير عبد القادر الذي كتبه ابن عمه الحسين بن علي بن أبي طالب، وهو ترجمة جزئية للأمير، كما نشر بحثا عن زاوية سيدي علي بن موسى، وآخر عن إجازة مقدم للطريقة الرحمانية، وخلاصة لكتاب البستان لابن مريم. كما توجه ديلبيش لدراسة الفقه الاسلامي، وقال مؤبنه إنه قد عهد إلى أحد أصدقائه بإخراج ما تقدم في تحريره منه. وكان ديلبيش من أعضاء الجمعية التاريخية. وهكذا يظهر أنه قد تحول من العمل العسكري إلى القضاء ثم إلى الدراسات الاستشراقية والاهتمام بترجمة النصوص العربية والتعريف بالتراث الاسلامي والطرق الصوفية والفقه. ولكن أعماله، مثل أعمال معظم المستشرقين، تبقى خفيفة ولا تساهم في تعميق المعرفة إلا قليلا. وقد أدركه الموت في سن مبكر، إذ كان في السادسة والأربعين عندما توفي سنة 1894 (¬1). ولعله لو عاش وظل على طريقه لأخرج أعمالا أخرى ذات أهمية. 8 - البارون ديسلان: ولد في بيلفاست (ايرلندة) في 12 غشت 1801. وجاء إلى باريس سنة 1830 حين كان الأجانب يريدون معرفة الاستشراق ¬

_ (¬1) ا. ف. (فانيان؟) في المجلة الافريقية، 1894، ص 374. الأعمال التي ذكرناها له كلها منشورة فى هذه المجلة.

الفرنسي ونيل السمعة منه. وأصبح من تلاميذ دي ساسي، ومن أحسن تلاميذه. ومنذ 1837 بدأ ينشر الآثار العربية، فنشر ديوان امرئ القيس ومنتخبات من كتاب الأغاني. وبالتعاون مع المستشرق (رينو) نشر جغرافية أبي الفداء على نفقة الجمعية الآسيوية، وبدأ ديسلان في نشر كتاب وفيات ابن خلكان، وكتاب النوري عن أفريقية والمغرب، وكذلك وصف أفريقية لابن حوقل، ورحلة ابن بطوطة. وهذا كله يظهر اهتمامه المبكر بالتاريخ والأدب العربي. وبعد أن حصل ديسلان على الجنسية الفرنسية كلفته الحكومة مهمة في الجزائر سنة 1843 - 1845، فقام بأدائها، وأرسل إلى وزير المعارف العمومية تقريرا عن مجموعة المخطوطات ذات الأهمية في المكتبات الخاصة بالجزائر، مثل مكتبة حمودة الفكون بقسنطينة، ومكتبة باشتارزي في هذه المدينة أيضا. وقد وصف استقبال الأهالي بأنه كان وديا (¬1). وإثر هذه المهمة الناجحة في نظر رؤسائه سمي ديسلان مترجما رئيسيا للجيش الفرنسي بالجزائر، في أول سبتمر 1846، أي في أوج عهد بوجو. كأن ديسلان، مثل معظم المستشرقين عندئذ يعرف العربية والتركية. وقد درس اللغة الأخيرة في اسطنبول أثناء بعثة لدراسة المخطوطات أيضا دامت سنة. وتولى تدريس اللغة التركية في مدرسة اللغات الشرقية بباريس محل المستشرق جوبير سنة 1848، لكن حكومة الجمهورية الجديدة عزلته وعينت بدله دوبو. ولكن بوجو وأخته عملا على تصحيح وضعه لدى وزارة المعارف، وقد صحح الوضع فعلا سنة 1849 عندما أعيد ديسلان إلى الجزائر مترجما رئيسيا في الحكومة العامة (¬2). وبذلك أصبح هو الذي يصوغ نصوص البلاغات الرسمية والمراسلات العربية للحكومة في الجزائر مع الأهالي، وأصبح أسلوبه منهجا لمن جاء بعده. وخلال إقامته في ¬

_ (¬1) مما يذكر أن حمودة الفكون كان مغضوبا عليه من الفرنسيين عندئذ 1843 - 1845 وقد بيعت مكتبة الفكون في المزاد. انظر فصل المنشآت الثقافية. (¬2) أصبح ديسلان صهرا للمارشال بوجو، فكان ديسلان متزوجا من ابنة أخت بوجو.

الجزائر ترجم تاريخ ومقدمة ابن خلدون، وهو العمل الذي جلب إليه تنويه زعماء مدرسة الاستشراق الفرنسي، مثل رينان. وفي سنة 1863 أعطيت لديسلان رخصة لتدريس العامية الجزائرية في مدرسة اللغات الشرقية بباريس. وهو الوظيف الذي أصبح رسميا منذ 1871 حين عين ديسلان أستاذا للعربية العامية بالمدرسة المذكورة مكان بيرسوفال. ومنذ هذا التاريخ أيضا تفرغ ديسلان لدراسة مؤرخي الحروب الصليبية والدراسات الشرقية، وتخلى عن تدريس العامية الجزائرية التي اعتبرها بعض المستشرقين (مثل موهل) قد جنت على موهبة ديسلان في الانتاج والتأليف من الفصحى. والمعروف أن ديسلان قد أصدر كاتلوق المخطوطات العربية الموجودة في المكتبة الوطنية الفرنسية. ومات في 4 غشت، 1878 (¬1). ومما يذكر أن ديسلان كان أيضا هو المشرف على جريدة (المبشر) التي كانت تصدرها الحكومة العامة والموجهة بنسختها العربية إلى القراء الجزائريين، وكان أسلوبه فيها واضحا ومتميزا. وقد عمل معه فيها عدد من الجزائريين نذكر منهم أحمد البدوي (¬2) 9 - دومينيك لوسياني: يمكن أن نعتبره رجلا إداريا إذ أنه ظل أكثر من عشرين سنة وهو يسير الشؤون الأهلية عن قرب. فهو الذي تولى تفتيش البلديات ونشط الإدارة المدنية على حساب الإدارة العسكرية منذ 1890. وأثناء ثورة عين التركي كان لوسياني هو الذي أمر بإقامة المحاكم الزجرية وقمع الثورة بلا رحمة. ومع ذلك يصفه مترجمه بول مارتي بأنه كان يعمل على تقريب الأهالي من الفرنسيين. وقد عمل لوسياني مع ثلاثة من الحكام العامين هم ريفوال وجونار ولوتو. وكان لوسياني قد زار عدة بلدان إسلامية لدراسة أحوالها الإدارية، في ظاهر الأمر، ومنها مصر وتونس والمغرب وسورية، وكان يريد أن يستفيد منها في إدارة شؤون الأهالي بالجزائر. وقد ¬

_ (¬1) هنري ماصيه (الدراسات العربية في الجزائر)، 1931. (¬2) انظر ترجمتنا له في فصل آخر، وحديثنا عن المبشر في فصل المنشآت الثقافية - فقرة الصحافة.

عمل أثناء وجوده على رأس هذه الإدارة على تنظيم الحالة المدنية الجديدة التي فرضها الفرنسيون على الجزائريين قصد تغيير هويتهم وأنسابهم استعدادا لدمجهم، وعلى تطوير ما يسمى بجمعيات الاحتياط الأهلية والتي تفرض على الجزائريين من فلاحين وغيرهم الدخول في جمعيات تعاونية تقدم إليهم المساعدات عند الحاجة لحدوث الجوائح. والأمر الثالث الذي حصل أثناء عهده هو تنشيط حركة التعليم الفرنسي في الجزائر، ابتداء من عهد كامبون، وفي هذا النطاق تدخل إعادة تنظيم المدارس الثلاث الشرعية خلال السنوات الأخيرة من القرن الماضي. وكان لوسياني يعتبر خريجي هذه المدارس ضروريين للتعليم في إفريقية العربية وفي المشرق والمغرب أيضا إذا احتاجتهم فرنسا. وقيل إنه اهتم أيضا بالمدارس المهنية الأهلية كورشات الطرز والزرابي والحدادة لفائدة المستوطنين، وكذلك العناية بالمكاتب الخيرية الاسلامية، سيما في عهد فصل الديانة المسيحية واليهودية عن الدولة، وكان لوسياني يعد لمشروعين لم يكتب لهما النجاح في عهده. وهما ترقيم الأملاك العقارية وتدوين الفقه الاسلامي. أما عمله الاستشراقي فيقوم على تشجيعه ومساهمته في لجنة ترجمة الكتب العربية التي ذكرناها 1894. وقد سهر على نشر مجموعة من الأعمال في شكل ترجمات سواء من العربية أو من البربرية المكتوبة بالحروف العربية. وقد ذكرنا له ترجمة كتاب السلم المرونق في المنطق والدرة البيضاء في الفرائض، وكلتاهما لعبد الرحمن الأخضري كما ترجم الرحبية في الميراث، وهي لعبد الله الشنشوري، والعقيدة الصغرى (أم البراهين) لمحمد بن يوسف السنوسي، والجوهرة لإبراهيم اللقاني، وموطأ المهدي ابن تومرت. وترجم من البربرية كتاب (الحوض) في الفقه، ومجموعة من أشعار إسماعيل ازيكيو حول ثورة 1871 (¬1). وتقتصر أعمال لوسياني على الترجمة مع قليل من ¬

_ (¬1) بول مارتي في (مجلة العالم الاسلامي)، 1920، ص 1 - 9 مع صورة كبيرة للوسياني راجع فانيان كتابي الرحبية والعقيدة السنوسية في المجلة الافريقية، =

الإضافات. وقد جعلته الإدارة لا يركز على الدراسات والبحوث، رغم أنه كان عنصرا فاعلا في تنشيط حركة الاستشراق، سيما أوائل هذا القرن. وفي عهده أيضا انعقد مؤتمر المستشرقين الرابع عشر 1905، وزار الشيخ محمد عبده الجزائر 1903، وغير ذلك من الأحداث الهامة التي كان له يد فيها. 10 - لوشاتلييه: ألفريد لوشاتلييه من أعيان المستشرقين في مطلع هذا القرن. وكانت له رؤيته المستقلة، واعتداده بنفسه، وكان ماضيه عسكريا، إذ تخرج من مدرسة سان سير. ثم تحول إلى الدراسات المدنية والاستشراق ودراسة التصوف. ولد في باريس سنة 1855، ودخل الحياة العسكرية، فشارك في المكاتب العربية بالجزائر، ومنها المكتب العربي في ورقلة. وعمل في مناطق أخرى عديدة بين 1878 - 1886، منها بوسعادة، وبوغار، وغرداية. وباعتباره من خبراء المناطق الصحراوية أخذه العقيد فلاترز في أول بعثة له، وشارك في الأركان العامة بالعاصمة. وأثناء عمله في الصحراء قام بأول سبر (صونداج) للبحث عن المياه. ودرس تفاصيل الحياة في الصحراء، وكتب دراسة متميزة عن الصعاليك فيها، وهم (المدقانات) الذين ظهروا بين الستينات والثمانينات في القرن الماضي على إثر ثورات أولاد سيدي الشيخ وبوشوشة وابن عبد الله. وفي سنة 1886 رجع لوشاتلييه إلى فرنسا مفضلا حرية العمل لترويج الفكر الاستعماري، فخرج من الجيش وأخذ يكتب المقالات والكتب لدعم أفكاره. ونشر في المجلات والجرائد، وأخذ يبدي اهتماما بالمسائل الاسلامية العامة وليس الجزائرية فقط، فألف في ذلك كتابين: الطرق الصوفية الاسلامية في الحجاز، والاسلام في القرن 19. وفي نظره أن الاسلام قد ¬

_ = 1897، ص 120، وكلاهما كان مقررا على التلاميذ. انظر اوغست كور في مجلة (روكاي)، 1922، ص 322 - 324، وهي مراجعة لكتاب السلم المرونق في ترجمته الفرنسية للوسيانى.

استيقظ بقوة (حركة الجامعة الاسلامية) من المغرب الأقصى وإلى افغانستان، وأن هناك فرقا بين الاسلام الآسيوي والاسلام الافريقي، الأول متأثر بالاستعمار الانكليزي والروسي، والثاني متأثر بالاستعمار الفرنسي والاسباني. كما أن الاسلام في آسيا يتطور في مناطق عاشت فيها حضارات عديدة، أما في إفريقية فالإسلام، في نظره، يتطور في بلاد بدون حضارة، ولذلك فهو هنا بدون حدود (¬1). ولكن ذلك ليس هو كل عمل لوشاتلييه. فقد أصبح أستاذا في (الكوليج دي فرانس) محتكرا حلقة جديدة في الدراسات الاسلامية سماها المجتمعات الاسلامية. وهو في ذلك متأثر بأنواع الدراسات الاجتماعية الجديدة في فرنسا وألمانيا، دورخايم وماكس فيبر، وارنست رينان. ثم أسس لوشاتلييه (البعثة المغربية) عند الاهتمام الفرنسي المركز على احتلال المغرب. ونشرت البعثة موسوعتها المعروفة باسم (الأرشيف المغربي) التي ضربت قياسا في السرعة والعمل الجماعي، بحيث ظهر منها 33 مجلدا. في ظرف 35 سنة. وكانت البعثة في أول أمرها بطنجة ثم انتقلت إلى الرباط. كما أسس لوشاتلييه (مجلة العالم الاسلامي) التي ضربت المثل أيضا في السرعة والعمل الجماعي، فأصدرت ما بين 1906 - 1925 اثنين وستين 62 مجلدا. وظهر على صفحاتها المستشرق لويس ماسينيون وآخرون. وقد قال عنها لوشاتلييه إنها مجلة غير استشراقية وغير استعمارية، ولكنها مجلة تعرف بالاسلام كما هو يتطور في الواقع وتبرز الحقائق الاجتماعية التي ترصدها في الساحة الاسلامية. وكانت بين لوشاتلييه والمارشال ليوطي بعض الحساسيات في استراتيجية العمل. فرغم أن كليهما يرجع إلى مدرسة الجزائر العسكرية، فإن ليوطي كان يحبذ طريقة بوجو الأبوية وتطبيقها في المغرب، بينما كان لوشاتلييه يريد اتباع أسلوب جديد مستوحى من تطور الاسلام والمسلمين. ¬

_ (¬1) بيرونى (الكتاب الذهبى)، ج 2، الجزائر 1930، ص 385 - 386.

وعلى ذلك أسس ليوطي (الأرشيف البربري) لمنافسة الأرشيف المغربي، وأسس أيضا معهد الدراسات البربرية بدل البعثة المغربية، ولكن الحكومة الفرنسية تدخلت ونسقت بين جهودهما فتكاملت، وتعاونا على بسط النفوذ الفرنسي في المغرب وفي العالم الاسلامي (¬1). 11 - شارل فيرو: لم يكن فيرو مستشرقا بالمصطلح المعروف، ولكنه خدم ميدان الاستشراق بالترجمة ونشر النصوص وتوليه رئاسة الجمعية التاريخية. فكان من المستعربين القلائل الذين اتصلوا بالمجتمع الجزائري ودرسوا تراثه، ولكنهم وجهوا نتائج أبحاثهم إلى خدمة الاستعمار الفرنسي إلى أقصى الحدود. لقد كان فيرو من العسكريين الذين استعملوا القلم أكثر من البندقية والفكر أكثر من الحرب، فكانت نتائج عمله أخطر على الشعب الجزائري من نتائج زملائه العسكريين. اسمه لوران شارل فيرو، ولد في نيس في الخامس من فبراير 1829، وقد جاء الجزائر صغير السن، وتوظف وهو لم يتجاوز السادسة عشر (!)، وعندما بلغ التاسعة عشر كان كاتبا في العاصمة بالإدارة المدنية (الحكومة العامة) ومترجما بها، ثم أصبح مترجما احتياطيا عسكريا من الطبقة الثانية، وميدان الترجمة هو الذي قضى فيه كل حياته تقريبا. ولا ندري أين تعلم العربية، وربما كان ذلك على يد لويس برينييه الذي كان رئيسا لحلقة اللغة العربية في العاصمة. وقضى فيرو عشرين سنة من حياته وهو يشارك في الحملات العسكرية باتجاه قسنطينة (إقليم الشرق). وشارك في الحملة ضد محمد الأمجد (بوبغلة) بنواحي بجاية سنة 1852، وكذلك في الحملات ضد البابور وبجاية وذراع الأربعاء وبرباشة. وأثناء الحملة الأخيرة كان قد اندس ليلا في كوكبة من خيالة جزائريين، كان هدفها خطف مبعوث بوبغلة الذي كان يبث الدعاية لإثارة ¬

_ (¬1) انظر ادمون بورك (الأزمة الأولى للاستشراق) في (معرفة المغرب)، مرجع سابق، ص 223.

الأهالي، كقوله إن الجيش الفرنسي قد توجه إلى المشرق 1854 بهدف عزل السلطان العثماني (¬1). وفي ضوء خبرته بالشؤون الأهلية أبقاه القادة العسكريون لإقليم قسنطينة إلى جانبهم، ثم أصبح منذ الحكم المدني 1871 ملحقا بالحاكم العام الأميرال ديقيدون في العاصمة، وقد أبقاه الجنرال شانزي 1873 - 1878 أيضا في نفس المنصب. وأثناء سنواته الطويلة في إقليم قسنطينة جمع فيرو وثائق كثيرة حول تاريخ الإقليم ومدنه وأهله وآثاره. ونشر عنه في مجلتي (روكاي) التي كانت تصدر بقسنطينة، و (هيبون) التي كانت تصدر بعناية. وبعد انتقاله إلى العاصمة ساهم في الجمعية التارخية التي كانت تصدر المجلة الافريقية، وقد تولى رئاستها بين 1876 - 1879. وخلال ذلك كلفته الحكومة الفرنسية بمسؤوليات دبلوماسية في طرابلس وتونس، كما كلفته بمرافقة السفير الفرنسي المبعوث سنة 1877 إلى سلطان المغرب. وكانت مهمته تتلخص في محاربة النفوذ الانكليزي والايطالي في طرابلس وتونس. وكان الانكليز والايطاليون يريدون الحلول محل الفرنسيين هناك. وأثناء وجوده في طرابلس كتب حوليات هامة. وكان فيرو في طرابلس عندما وقع احتلال فرنسا لتونس واحتلال الانكليز لمصر، وحدثت ثورة بوعمامة بالجزائر وثورة عرابي باشا في مصر، وثورة المهدي في السودان. وفي 1884 فير عينته حكومته وزيرا مفوضا في طنجة، وبعد سنة رافق سفارة مغربية إلى فرنسا، وهي السفارة التي رجعت إلى المغرب عبر الجزائر 1885. وقد توفي فيرو في طنجة في ديسمبر 1888 (¬2). أما مؤلفات فيرو فهي كثيرة، وكلها تقريبا قائمة على الترجمة من ¬

_ (¬1) كانت فرنسا عندئذ تشترك في حرب القرم ضد روسيا التي كانت في حرب مع الدولة العثمانية. وقد شاركت فرقة جزائرية تحت العلم الفرنسي في هذه الحرب لنصرة الدولة العثمانية، واستغلتها فرنسا لصالحها في الجزائر. انظر الحركة الوطنية ج 1. (¬2) بيزان L. Paysant (المجلة الإفريقية)، 1911، ص 5 - 15. عندما تولى ديقرامون سنة 1879 رئاسة الجمعية التاريخية بقي رئيسا فيرو شرفيا لها.

الوثائق الأهلية وتوظيفها لصالح الإدارة. وكان يستعمل الرواية الشفوية كثيرا، ويلجأ إلى أعيان وشيوخ العلم والحكم للأخذ عنهم أنساب الأعراش والقبائل وأسماء العائلات وسير الأبطال والغزوات، بما في ذلك الأساطير والخرافات. ومن منشوراته وصف مدن الشرق الجزائري مثل بجاية وجيجل وتبسة وعنابة. وذلك في شكل مونوغرافات (مؤلفات خاصة). ومنها مؤلفه عن قصر الحاج أحمد الذي تحدث عنه حديث الحاقد الموتور وليس حديث الباحث المحايد. وربط فيرو علاقات مع أعيان الجزائر وعلمائها وشيوخها. ونحن نجد ذلك في الوثائق التي كانت بحوزته (¬1)، وفي الاشارات إلى اسمه في المراسلات. وفي رسالة من محمد الصالح العنتري إلى فيرو تذكيره (بالصداقة) القديمة وطلب التدخل لا يجاد وظيف لابنه (العنتري) (¬2). وفي رسالة أخرى كتبها أحد البجائيين أنه كتب عملا في تاريخ بجاية وقدمه إلى فيرو أيام كان مع الجنرال بوثوت (؟) في قسنطينة، وهكذا. ونحن نفهم أن فيرو كان يستغل طمع العلماء والشيوخ في الوظيفة وسوء أحوالهم المادية فيطلب منهم الكتابة عن العائلات والمدن والأنساب، ثم يترجم ذلك وينسبه لنفسه. ذلك أن البجائي مثل العنتري كان يطلب أيضا. تعيينه في وظيف قضائي نظرا لخدماته السابقة (¬3). فأنت ترى أن فيرو وظف علمه وفكره وعلاقاته لخدمة الإدارة الاستعمارية، وقدم خدمات جليلة للاستشراق الفرنسي، رغم أنه لم يكن هو من المستشرقين من حيث التكوين. فميدان عمله كان الترجمة والدبلوماسية (¬4). ¬

_ (¬1) نشر أوغست كور جدولا مفصلا عن وثائق فيرو فبلغت أعدادا هائلة، ومعظمها ذات قيمة كبيرة. انظر كور (المجلة الافريقية)، 1914. (¬2) أرشيف ايكس 16 Mi 31. وقد نشرنا الرسالة في كتابنا أبحاث وآراء، ج 3. (¬3) بلقاسم بن سديرة (كتاب الرسائل)، ص 125. (¬4) كان له ابن خدم أيضا في الجيش وأصبح عقيدا، وكان من قواد مركز تاوريرت. انظر=

اللجان العلمية

اللجان العلمية من النشاط العلمي - الثقافي الذي تميز به العهد الفرنسي الأبحاث التي قامت بها مختلف اللجان والجمعيات. وكان هذا النشاط قد بدأ منذ أوائل الاحتلال واستمر إلى آخر عهده. وإذا كان في العهد الاستعماري ما يحمد عليه فهو البحث المستمر في مختلف المجالات، في شكل جماعي، مما ساعد على إخراج موسوعات ذات قيمة تاريخية لا تفنى بسهولة. وتشمل هذه الأعمال الجماعية مشروع (اكتشاف الجزائر العلمي) ومشروع الاحتفال المئوي بالاحتلال، وبحوث جامعة الجزائر بمختلف مدارسها وكلياتها ومعاهدها، ولجنة دراسة الأوضاع الاسلامية، ولجنة ترجمة الكتب العربية إلى الفرنسية، وكذلك لجان التحقيق في أوضاع الجزائر مثل لجنة 1833 - 1834، ولجنة 1891 - 1892. ونذكر كذلك أعمال الجمعيات التاريخية والعلمية التي أصدرت بدورها مجلات دامت عدة عقود، كالجمعية الأثرية (قسنطينة)، والجمعية التاريخية (الجزائر) والجمعية الجغرافية (وهران) (¬1) الخ. ولا بد من التنويه بمنشورات (المستكشفين) عبر الصحراء والمناطق النائية التي ظهر فيها العلم والدين والسياسة متلازمين. وقد قام المستشرق اللامع في وقته، رينيه باصيه، بكتابة تقرير سنة 1920 عرض فيه ما سماه (نشاط فرنسا العلمي في الجزائر وشمال أفريقيا) وتحدث فيه عما قامت به كلية الآداب بالخصوص من أعمال ومنشورات في خدمة العلوم واللغات والآداب (¬2) ¬

_ = (المجلة الافريقية) 1914، ص 91 - 93. ومن أبرز مؤلفات فيرو كتابه (مترجمو الجيش الإفريقي) أي الجيش الفرنسي في الجزائر -. (¬1) عن الجمعيات العلمية والمجلات انظر (منهج الفرنسيين) في كتابة تاريخ الجزائر في كتابنا أبحاث وآراء. ج 1. (¬2) رينيه باصيه (تقرير عن نشاط فرنسا العلمي في الجزائر وشمال افريقية)، مرجع سابق.

لجنة الاكتشاف العلمي للجزائر

لجنة الاكتشاف العلمي للجزائر: ولنبدأ من البداية. فقد تأسست في 14 غشت 1837 لجنة علمية سميت (لجنة اكتشاف الجزائر العلمي)، وكانت على غرار لجنة دراسة مصر وسورية، وكان فيها مختلف المتخصصين، وأغلبهم كان من العسكريين. وكانت الخطة هي أن يذهب هؤلاء العلماء إلى الجزائر في مدة محددة ويكتبوا حصيلة بحوثهم، على أن تنشر هذه البحوث على نفقة الدولة الفرنسية إذا دعمتها اللجنة. وقد وقعت الاتصالات مع إدارة الجزائر لتسهيل مهمة اللجنة والتنسيق بين أعضائها والسلطات المحلية، لا سيما وأن الاحتلال ما يزال في أوله وما تزال المقاومة تمنع الأعضاء من التوغل في البلاد ومعرفة كل أجزائها. وكان على أكاديمية العلوم وأكاديمية الآداب والفنون أن تحددا طبيعة العمل وأهدافه، وأن تعد بيانات مفصلة وواضحة لإنجازه. واهتمت وزارة الحربية باختيار الأشخاص لأن عدد الراغبين في المشاركة من الأكاديميين والباحثين كان كثيرا. كما أن تعييناتهم الرسمية ورواتبهم المالية استغرق وقتا أيضا (¬1). وقد صدر قراران وزاريان لتعيين أعضاء اللجنة العلمية، أحدهما في 19 غشت والثاني في 20 نوفمبر سنة 1839. في القرار الأول كان الأعضاء 21 وفي القرار الثاني وصلوا إلى 24. ولكن العدد لم يبق ثابتا فقد استقال البعض ومات آخرون بعد التعيين، ولذلك بقيت اللجنة تعمل بمعدل 20 شخصا. وبالاضافة إلى هؤلاء الأعضاء الذين سموا بالأصليين، هناك أعضاء سموا احتياطيين. وقد اشترط في هؤلاء ألا يتجاوز عددهم ربع عدد الأعضاء الأصليين. ثم التحق أعضاء آخرون باللجنة، أحدهم طبيب، والآخر رسام، والثالث خاص بالتاريخ الطبيعي. وكانت اللجنة كلها (بكل أعضائها) تعمل تحت إشراف مسؤول مكلف بالمشروع وبتوجيهه. ¬

_ (¬1) السجل (طابلو)، سنة 1938، ص 113 - 114.

وإليك بعض التفاصيل عن هؤلاء الأعضاء: 8 منهم اختارتهم وزارة الحربية (وكانت الجزائر تتبعها) عن طريق أكاديمية العلوم. و 5 اختارتهم أكاديمية الآداب والفنون، وواحد من وزارة التعليم. ولكن أربعة أعضاء من الأصليين قدموا استقالتهم. وتوفي عضو خامس في الجزائر بعد أن باشر عمله. كما وقعت ترقية بعض الاحتياطيين إلى أصليين. وإليك أسماء بعض الأعضاء مع تخصصاتهم التي اختيروا على أساسها: 1 - ادريان بيربروجر، وكان محافظا لمكتبة الجزائر العامة، باعتباره أثريا. 2 - كاريت، كان ضابطا في الجيش، باعتباره في الجغرافية القديمة. 3 - العقيد دي نوفو، ضابط في الجيش، باعتباره في الجغرافية الطبيعية. 4 - اونفنتان، خريج مدرسة الصنائع (بوليتكنيك)، باعتباره اثنوغرافيا. 5 - قويون، طبيب جراح في الجيش، باعتباره طبيبا وفيزيولوجيا. 6 - بيليسييه دي رينو، وهو ضابط في الجيش، باعتباره في التاريخ الحديث والنظم والعادات. 7 - وارنييه، طبيب جراح، كان عضوا احتياطيا مكلفا بالاحصاءات والبحث في السكان (¬1). 8 - بوفيه، كان مكلفا بالزراعة. ولكنه توفي في الجزائر قبل انتهاء مهمته. أما رئيس اللجنة فكان من الجيش أيضا، وهو العقيد بوري دي سان فانسان، وكان عضوا في المعهد (الفرنسي). وكان بوري أحد الأعضاء ¬

_ (¬1) كان الدكتور وارنييه قنصلا لبلاده لدى الأمير في معسكر قبل استئناف الحرب. ويبدو أنه جمع مادة حول موضوع السكان استعمله لا في مشروع اللجنة التي نحن بصددها، ولكن في هجومه الكاسح على مشروع المملكة العربية، وقد حاول التفرقة ما أمكنه بين السكان. انظر عنه فصل مذاهب وتيارات.

السبعة العسكريين من السبعة عشر عضوا أصليا. وقد شملت اللجنة التخصصات التالية: 1 - المناظر الطبيعية Paysages. 2 - الآثار. 3 - الجغرافية. 4 - الرسم. 5 - الزيولوجيا/ علم الحيوان. 6 - النباتات. 7 - الاثنوغرافيا/ السلا لات. 8 - الفيزيولوجيا/ علم وظائف الأعضاء والطب. 9 - الانتومولوجيا. 10 - الملابس واللوحات. 11 - التاريخ والنظم. 12 - المعادن والتعدين. 13 - الهندسة المعمارية. 14 - الجيولوجيا/ طبقات الأرض. 15 - التاريخ الطبيعي. 16 - الفيزياء وعلم المناخ. 17 - الاحصاء والبحث في السكان. 18 - الصحة وأمراض السكان. 19 - إنتاج الأنماط الانسانية (الرسومات الخ.). وقد حلت اللجنة بأعضائها في الجزائر في خريف 1839، ولكن عملها لم يبدأ إلا في ربيع سنة 1840، لأن المطر الخريفي والشتائي حال دون الشروع فورا في العمل (¬1). والمعروف أن آخر سنة 1839 شهدت استئناف ¬

_ (¬1) السجل (طابلو) سنة 1841 ص 109 - 110.

الحرب بين الأمير عبد القادر والجيش الفرنسي بقيادة المارشال فاليه بعد خرق الفرنسيين لشروط معاهدة التافنة. ولا شك أن استئناف الحرب قد أثر على بداية أعمال اللجنة كما أثر على حرية حركتها حتى في المناطق المحتلة من قبل. أعطيت اللجنة مهلة عامين ونصف لإنجاز أعمالها، ولذلك كان عليها أن تقدم نتائجها للنشر سنة 1842. ولنذكر الآن مجالات نشاطها في تصنيفات شمولية على هذا النحو، لأن أبحاثها، مهما تعددت، كانت لا تخرج عن ثلاثة أقسام: 1 - العلوم الفيزيائية: وهي تضم الفيزياء في حد ذاتها، وتتبعها الجيولوجيا وعلوم النبات والزراعة والطب والفيزيولوجيا، والزيولوجيا. وقد تولى هذا القسم عدد من المختصين كانوا يجمعون الملاحظات والمعلومات ويبحثونها ويعدون نتائجهم للنشر. 2 - العلوم التاريخية: وهو قسم واسع، ويضم أيضا مجموعة من الباحثين. ويشمل التاريخ والآثار والجغرافية والاثنوغرافية. وسنذكر ما كتبه معظم أعضاء هذا القسم بد قليل. 3 - الفنون الجميلة: وتضمن هذا القسم الهندسة المعمارية والرسم. ومن أبرز أعضائه رافوازيية الذي قام بزيارة لعدة مدن منها: سكيكدة وميلة وقسنطينة وجميلة وسطيف ووهران ومستغانم والجزائر. وسجل مختلف الآثار الرومانية فقط، لأن اللجنة لم تكن مهتمة بالآثار الاسلامية. وقام رافوازييه برسومات للآثار القديمة التي من بينها المسارح وأماكن الاستعراضات (السيركات)، ومبان ترجع إلى أزمنة مختلفة، كما رسم مساجد ومنازل عربية (موريسكية)، مع تفاصيل عن زخرفتها، وقد أنجز عمله سنة 1841، وقدمه للجنة. وقام موريلي وباكوري وديلامار برسم المناظر الطبيعية في شرق الجزائر لكي يعطوا فكرة محددة عن السحنات (الفيزيونوميا) العامة. وقد سجل موريلي بالذات مجموعة من التحف ومظاهر

الحياة الداخلية للسكان مثل الأسلحة والملابس والماعون والآلات والأثاث والحلي. ثم رسم ديلامار أكثر من مائة منظر لكتابات النصب القديمة، سيما في سطيف. كما خص هذه المدينة بمذكرة عن تاريخها القديم. وكذلك زار مستغانم ومعسكر ووهران وأرزيو وتاقدامت، واهتم هناك أيضا برسم المناظر الطبيعية والآثار الكتابية. وقام كل من باكوي ولونقا بعدة رسومات أيضا. فالأول رسم مدينتي وهران وقسنطينة وغيرهما من مدن الساحل التي وقعت تحت الاحتلال. أما لونقا فقد اهتم برسم أشكال الأجناس البشرية التي تقطن الجزائر، ومظاهر حياتها الخاصة (¬1). ونفصل الآن الحديث عن بعض ما كتبه الباحثون في ميدان التاريخ والمواد المتصلة به كالآثار والجغرافية: 1 - ترجم بيليسييه دي رينو تاريخ القيرواني عن المغرب الاسلامي من القديم إلى عهد الموحدين، كما كتب مذكرات تاريخية عن الحملات الأوروبية ضد ساحل شمال أفريقيا وتحدث عن المنشآت التي كانت على هذا الساحل، سيما الفرنسية، ووصف جغرافية الجزائر في القديم وفي العهد الاسلامي، وحياة الكنيسة المسيحية القديمة (الافريقية) وسبب اختفاء المسيحية، ووجود الخرافات والأساطير الشائعة لدى السكان، وعن الرق، وعن عناصر السكان، والنظم والعادات عندهم. 2 - ودرس كاريت إقليم قسنطينة واهتم بالآثار هناك، واستفاد من حملات الجيش الفرنسي في المنطقة ليجمع هو ملاحظاته. ووضع خريطة للطرق الرومانية القديمة، وكذلك بعض المدن والمراكز العسكرية. وقد كتب ملاحظاته في الجزائر، وكان قد اهتم أيضا بالتقسيم الجغرافي والاقليمي الذي وضعه الرومان لأفريقيا الشمالية أو بلاد البربر في القديم. ¬

_ (¬1) السجل (طابلو)، سنة 1841، ص 116.

3 - وكان بيربروجر أثريا بالمهنة فزار شرشال المسماة في القديم جوليا القيصرية، وهي إحدى المدن الأربع الكبيرة في العهد الروماني. وقد سجل ملاحظاته، ورسم الكتابات القديمة هناك ونسخ بعضها، ولا سيما الخطوط المنقوشة على الرخام والأحجار القديمة باعتبارها وثائق هامة عن كتابات ونقوش شواهد القبور (الابقرافية). ثم تجول بيبروجر في الساحل الجزائري أيضا وزار روسيكاده، ودرس تاريخ تجارة المرجان حيث كانت مدينة القالة مركزا هاما لهذه التجارة. 4 - وتولى اونفنتان ميدان الاثنوغرافية كما ذكرنا. وتجول معظم الوقت في أقليم قسنطينة، تم تجول في غرب الجزائر. وكان مكلفا بتصنيف السلالات البشرية التي تقطن الجزائر، طبقا لاختلاف اللسان والوضع الجغرافي والتاريخي والاستعمالات الزراعية، ومرافق السكن، ودرجة التأثير المعنوي الذي يمارسه السكان على بعضهم البعض. كما قام اونفنتان بدرس الدين والتقاليد والعادات وقوانين الجزائريين. وكان عليه أيضا أن يدرس ما إذا كانت هناك نظم واتجاهات تحول بين السكان والأخذ من الثقافة الفرنسية، أو (التقدم) الذي تدعو إليه فرنسا. وفي نفس الوقت كان اونفنتان مكلفا بدراسة الدين والعادات والتقاليد والقوانين لدى المستوطنين الأروبيين في الجزائر في علاقتهم مع الاستعمار. وكان ذلك يتماشى مع اعتناقه مذهب سان سيمون. 5 - وركز الدكتور وارنييه على سكان إقليم قسنطينة. وكان عمله يختلف عن عمل زميله اونفنتان، إذ اهتم هو بدراسة السكان من الوجهة السياسية والادارية. فدرس هجرة السكان الداخلية وأصولهم، وما بقي من تاريخهم وتقاليدهم إلى ذلك الحين، وكذلك درس العلاقات بين المدن المسكونة ومدينة قسنطينة من حيث التبعية والتأثر. واهتم بكيفية التسيير الإداري الممكن في بسكرة والمسيلة والمدن الأخرى التي كانت تحاذي الصحراء والتى كانت مستقلة إداريا. ومن مجالاته أيضا تعميق المعرفة حول

الشاوية وماذا يمكن للإدارة الفرنسية أن تفعله إزاء السكان في كل جزء من الأجزاء المذكورة (¬1). وبالرجوع إلى بعض أعمال هؤلاء الأعضاء رأينا ما قام به كاريت وبيليسييه وبيربروجر، في مجالات أخرى أيضا. فقد نشر كاريت دراسة للطرق المسلوكة من قبل العرب في المناطق الجنوبية من الجزائر وإيالة تونس من أجل إنشاء شبكة جغرافية لهذين البلدين 1854. وقد وصف كاريت هنا بأنه ضابط في سلاح الهندسة، وعضو وكاتب للجنة العلمية لمدينة الجزائر. وبدأ كتابه بمدخل عن أقسام المعرفة الجغرافية، وقسم هذه إلى جغرافية رياضية وجغرافية نقدية الخ. وهو الجزء الأول من السلسلة المطبوعة بأمر من الحكومة وموافقة اللجنة الأكاديمية، والكتاب يندرج ضمن سلسلة العلوم التاريخية والجغرافية (¬2). ولنفس المؤلف جزء آخر في السلسلة بعنوان (أبحاث حول أصل القبائل الرئيسية وهجراتها في أفريقيا الشمالية، وخصوصا في الجزائر (1853)، ولكاريت أيضا جزآن في نفس السلسلة أحدهما بعنوان (دراسات حول بلاد القبائل)، والآخر بعنوان (دراسة شاملة للجغرافية والسكان والانتاج الفلاحي والصناعي ... واللغة) مع خريطة. صدرا سنة 1848. وقد وجدنا لبيليسييه دي رينو في نفس السلسلة أيضا عمله المسمى (مذكرات تاريخية وجغرافية عن الجزائر) وهو عن الدول والشعوب الأوروبية التي احتلت الجزائر كليا أو جزئيا، مبتدئا بإسبانيا، ثم فرنسا وبريطانيا وجنوة 1844. أما بيربروجر فقد وجدنا له عملا إضافيا في نفس السلسلة (العلوم التاريخية والجغرافيا) وقد تناول فيه بالترجمة والتعريف رحلتي العياشي والدرعي بجنوب الجزائر والدول البربرية. وكان بيربروجر لا يعرف من ¬

_ (¬1) السجل (طابلو)، سنة 1841، ص 115 - 116. (¬2) باريس، 1844، 324 صفحة + خريطة.

العربية إلا القليل ومع ذلك أقدم على العمل المذكور، ولا ندري كيف انتهى إلى ذلك. ولكن الملاحظ أنه استعان بمعلومات قدمها إليه أحمد بن مصطفى بومزراق، ابن باي التيطري سابقا. وأيضا لا ندري لماذا أحمد بومزراق بالذات، وهو ليس عالما ولا مترجما ولا رحالة. وقد أضاف بيربروجر إلى عمله أيضا رحلة من تازة إلى تونس قام بها فرنسي يدعى (فابر). ويذكر رينيه باصيه في تقريره عن العمل العلمي الفرنسي من بين منشورات اللجنة العلمية التي نحن بصددها، ترجمة مختصر الشيخ خليل للدكتور بيرون، وكذلك كتاب وصف المغرب لرينو. وعد أيضا من بينها رحلة دوفيرييه في الصحراء المسماة (طوارق الشمال). وقد نوه باصيه أيضا. بترجمة البارون ديسلان لتاريخ ومقدمة ابن خلدون، وهي من المشاريع التي أعلنتها حكومة الملك لويس فيليب وتبنتها، كما قال، حكومة نابليون الثالث. ونوه باصيه أيضا بكتاب الثروات المعدنية للجزائر الذي ألفه فونيل ضمن أعمال اللجنة. ونلاحظ ان هذه الأعمال كانت تقوم حتى الآن على جهود العسكريين بالدرجة الأولى، وتعتمد الترجمة أكثر من التأليف. وكان ذلك ضروريا في مرحلة كالتي نتحدث عنها، إذ لا بد من معرفة النصوص لينطلق التأليف، وكذلك لا بد من تقدم الدراسات في المعاهد والجامعات على أيدي المدنيين المختصين. كما نلاحظ أن بعض الأعمال كانت مليئة بالحقد على العرب والمسلمين، مثل تآليف كاريت التي تكاد تخلو من الروح العلمية. وللدلالة على سيطرة العسكريين على اللجنة أن رئيسها (دي سان فانسان) هو نفسه قائد للأركان. وقد ربط غوستاف ميرسييه بين الاحتلال العسكري للجزائر والاحتلال العلمي (فقال: ان البحث العلمي سار جنبا إلى جنب مع الاحتلال (العسكري))، وان (الاحتلال العلمي قد سار إلى جنب تلقيح الأرض) (¬1). ¬

_ (¬1) غوستاف ميرسييه (مدخل إلى الجزائر)، 1956، ص 326.

لجنة الاحتفال المئوي بالاحتلال

لجنة الاحتفال المئوي بالاحتلال: إذا كان مشروع لجنة الاكتشاف العلمي للجزائر قد جرى تنفيذه على يد العسكريين غالبا وكان في ظروف سياسية وعسكرية لا تسمح لأعضاء اللجنة بالمسح الشامل لبحوثهم، فإن لجنة الاحتفال بمرور مائة سنة على الاحتلال قد أتيح لها ظرف أكثر مناسبة للبحث والدراسة. ذلك أن أساتذة جامعة الجزائر هذه المرة هم الذين تولوا التأليف والبحث، كما أن الظرف مختلف تماما عن أربعينيات القرن الماضي. كان الاحتلال في العشرينات من هذا القرن في أوج سطوته (والسلام الفرنسي) يسود الجزائر. وقد سارت البحوث العلمية خلال قرن نحو التوسع والتعمق مما ساعد لجنة الاحتفال على التصدي لمشروعها بخطى ثابتة واستكمال ما لم ينجز من مشروع لجنة الاكتشاف العلمي ومواصلة نفس المشروع برؤية جديدة ووسائل حديثة (¬1). منذ 1925 نصب الحاكم العام عندئذ، موريس فيوليت، لجنة النشر للاحتفال المئوي برئاسة رئيس جامعة الجزائر، شارل تيار، صاحب كتاب (الجزائر في الأدب الفرنسي). وقد حدد لهذه اللجنة عمل هام وواسع يتضمن أيضا إنشاء الإذاعة الجزائرية وإقامة النصب التذكارية، وإنشاء قاعة للفنون الجميلة، وهي التي أصبحت فيما بعد تدعى قاعة بيير بورد (ابن خلدون حاليا)، وإنشاء المدارس والورشات الخاصة بالفنون التقليدية .. وأخيرا. نشر الأعمال والبحوث. وكان إنجاز هذه المهمة يتم بطريقتين، الأولى تعميم المعرفة على الرأي العام الفرنسي حول الجزائر، والثانية وضع المعرفة أمام جمهور محدد من الباحثين والكتاب والعلماء حول الجزائر أيضا. ونلاحظ أن جمهور الشعب الجزائري العربي المسلم كان غائبا في مشروع هذه اللجنة كما كان غائبا في مشروع لجنة الاكتشاف العلمي. ومهما كان الأمر فإن مهمة (لجنة النشر) كانت مركزة على خدمة ذلك الجمهور (الفرنسي والأجنبي) المحدود من العلماء والباحثين. ¬

_ (¬1) عن جامعة الجزائر انظر فصل التعليم الفرنسي والمزدوج.

الجمعيات المتخصصة

وقد دعي أساتذة جامعة الجزائر للمشاركة في لجنة النشر، ضمن لجنة التحضير للاحتفال المئوي. وخلال عشر سنوات نشرت لجنة النشر حوالي 50 كتابا يعالج كل منها موضوعا متخصصا - كالمالية والتشريع والاقتصاد السياسي، والعلوم، والاستعمار، والآثار، والتاريخ، والفنون. ومن الأساتذة من قام بعمل منفرد، ومنهم من اشترك مع غيره في عمل جماعي، مثل كتاب (التاريخ ومؤرخو الجزائر) الذي ضم بحوثا في مختلف العصور التاريخية للجزائر بأقلام متخصصة من أساتذة الجامعة. وقد كتب مقدمته ستيفان قزال. ومن الكتب المتخصصة التي صدرت أيضا عن لجنة النشر نذكر (¬1): 1 - اللباس الجزائري، لجورج مارسيه. 2 - ايكونوغرافية الجزائر، لغبريال ايسكير. 3 - تطور الاستعمار خلال قرن، لايميل فيليكس قوتييه. 4 - تطور الجزائر، لاسبيسن. 5 - الشرق والرسم الفرنسي خلال القرن 19، لاليزار. الجمعيات المتخصصة أما الجمعيات العلمية فقد تعددت وقدمت خدمات كبيرة للبحث رغم انتمائها للإدارة الاستعمارية وأهدافها المصادرة للتطور الطبيعي للشعب الجزائري. كانت الجمعيات ضيقة الأفق منطلقة من وجهة نظر عنصرية أحيانا - سيما خلال القرن الماضي - إذ كانت تقوم على البحوث العرقية والانثروبولوجية والنظريات التي تدعو إلى التفوق الحضاري الفرنسي والانسان الأبيض على العموم. وكانت الجمعيات أيضا في البداية تحت تأثير ¬

_ (¬1) غوستاف ميرسييه، مرجع سابق، ص 331 - 334. وبهذه المناسبة نشط المستشرقون أيضا وانجز هنري ماصيه بحثه عن (الدراسات العربية في الجزائر) الذي صدر سنة 1931، وهو العمل الذي فصل فيه جهود المستشرقين في مختلف الميادين، ووضع علامات لطريقهم في المستقل.

وإشراف العسكريين الذين كانوا في الميدان، وكانوا هم الذين يمدونها بالملاحظات ويكتبون في مجلاتها. ومن جهة أخرى اهتمت الجمعيات بالآثار الرومانية والمسيحية وأهملت تقريبا ما عداها سيما الحضارة العربية الاسلامية وآثارها. ومع ذلك فنحن نؤكد أن ما نشرته هذه الجمعيات في مجلاتها يعتبر ثروة كبيرة للبحث والمعرفة بصفة عامة. ونحن نجد بعض الجزائريين الأعضاء في الجمعيات المذكورة كانوا يقدمون نتائج بحوثهم أيضا إلى العلماء الفرنسيين خدمة للاستعمار. وقبل أن تظهر هذه الجمعيات ظهرت في فرنسا جمعيات خصصت اهتماما كبيرا للاحتلال الفرنسي في الجزائر، ومن ذلك الجمعية الآسيوية والجمعية الشرقية والجمعية الجغرافية. فكل جمعية من هذه الجمعيات أصدرت مجلة وفتحت أعمدتها لكتاب فرنسيين حلوا بالجزائر أو جعلوا همهم الربط بين ما يجري فيها وما يجري في العالم الاسلامي على العموم. وكانت حركة الاستشراق الفرنسي يومئذ آخذة في النمو. فصادف احتلال الجزائر اهتماما خاصا بشؤون الشرق والإسلام. لقد سبق القول إن الجمعية الآسيوية قد تأسست في باريس سنة 1822، وان رئيسها كان دي ساسي المتوفي سنة 1838 (¬1). وقد شارك في المجلة الآسيوية عدد غير قليل من المستشرقين الفرنسيين الذين استقروا بالجزائر، منهم بنجامين فانسان، وشيربونو. أما الجمعية الشرقية فقد تأسست في باريس سنة 1841، وأصدرت (مجلة الشرق). وجاء في قانونها الأساسي انها تنسق بين أعضاء (المعهد) الفرنسي والقناصل والرحالة، وأنها تهتم بكل ما يهم حاضر ومستقبل بلدان الشرق. وتقول الفقرة القانونية صراحة (يجب أن نبذل جهدنا للهيمنة عليها (أي بلدان الشرق) لصالح الحضارة - وكذلك الجزائر -. هذه الأرض الافريقية الواسعة التي كانت من قبل متوحشة (باربار Barbare) ومتمردة. وها هي اليوم تفتخر بقوانيننا وفنوننا وعاداتنا وصناعتنا، ¬

_ (¬1) انظر سابقا.

وهي تحث الخطى نحو التقدم) (!). وقد اعتمدت وزارة الداخلية الفرنسية الجمعية الشرقية التي يبدو أنها جددت سنة 1856. وبالفعل فإن الذي يرجع إلى (مجلة الشرق) يجد هذا الاهتمام بالجزائر ممثلا في المقالات والأخبار والتعاليق والمشاريع. ولا غرابة بعد ذلك أن تصبح المجلة تسمى (مجلة الشرق والجزائر) فترة من الزمن. وربما أضافت إلى ذلك كلمة (والمستعمرات) أيضا (¬1). وأما الجمعية الجغرافية فقد تأسست أيضا في باريس. واهتمت مبكرا بالجزائر والمغرب العربي والاستكشافات. وهي التي نشر فيها الباحث دافيزاك ترجمة لرحلة الاغواطي في وصف بعض المناطق الصحراوية الممتدة من الأغواط إلى تمبكتو ومن شنقيط إلى جربة، مع تعاليق وإضافات (¬2). وهكذا فإن نشأة الجمعيات العلمية الفرنسية قد تصادف مع احتلال الجزائر، وساعد هذا الاحتلال انطلاقة الكشوفات والاهتمامات بالمشرق والعالم من جهة والتركيز على الجزائر باعتبارها مركزا للتوسع والتجارب من جهة أخرى. فاحتلال الجزائر لم يكن فاتحة عهد الامبراطورية الفرنسية الجديدة، فقط، كما هو الشائع إلى الآن، ولكنه كان يمثل انطلاقة الاستشراق والهيمنة على الشرق والاهتمام بتراثه ودراسته. وقد أعطت الجزائر المفتاح لذلك. أقدم الجمعيات في الظهور هي الجمعية الأثرية في قسنطينة (¬3). فقد تأسست في ديسمبر 1852. ومن مؤسسيها العقيد كروللي والمستشرق ¬

_ (¬1) انظر مجلة الشرق، 1856. اعتمدت جمعية الشرق رسميا في 15 مايو، 1856. ولكن ذلك يظهر أنه تجديد فقط لأن مجلة الشرق قديمة ترجع إلى 1841 - 1842 كما سبق. وكان من كتابها في الجزائر المستشرق فورتان Fortin وغيره. (¬2) انظر ترجمتنا لها في كتابنا (أبحاث وآراء) ج 2. (¬3) هذا إذا استثنينا الجمعيات الماسونية والجمعيات السرية التي ظهرت منذ أول الاحتلال، ولا سيما منذ 1848. انظر فصل مذاهب وتيارات.

شيربونو، الذي كان أستاذا لحلقة اللغة العربة في المدية، وبروسلار الذي كان رئيسا للمكتب العربي، وفينيار. ومنذ 1853 أخذت الجمعية تنشر مجلة باسم الحولية (أنوير)، ثم غيرت إسمها بعد عشر سنوات 1864 إلى مجموعة (روكاي) للبحوث والمذكرات، الخ. وكان اهتمامها متزايدا ومركزا على الآثار الرومائة، ولكن منذ الستينات ظهر من أعضائها وعلى صفحات مجلتها عدد من الكتاب المهتمين بالعهود الاسلامية أيضا، من أمثال فايسات الذي اهتم بالعهد العثماني في قسنطينة، وارنست ميرسييه الذي كتب عن المرأة والتشريع والملكية عند المسلمين وتاريخ المنطقة في العصر الاسلامي، وفيلو الذي اهتم بعادات الجزائريين. ومن مشاهير كتابها أيضا العقيد شارل فيرو. وكانت الجمعية مؤلفة من عسكريين ومدنيين، كما لاحظنا، فيهم الجنرالات والعقداء في الجيش، وفيهم المعلمون والأطباء ورجال الكنيسة وعلماء اليهود. وكان الذي يجمعهم هو حب البحث والسيطرة، وعند إنشاء الجمعية كانت الجزائر ما تزال تعيش العهد الذي سمي بعهد (التهدئة) فالبحوث كانت تجري على عجل وعلى خوف من المقاومة الجزائرية، ولكن منذ الستينات أصبحت البحوث تجري في الميدان مع الاطمئنان على مصير الجزائر (الفرنسية). أجرى أحد الباحثين حديثا دراسة تقييمية ونقدية لمجلة جمعية الآثار القسنطينية بين 1853 و 1876. وقد خرج منها بالنتائج الهامة التالية. إن كتابها كانوا ينظرون إلى مدينة قسنطينة نظرة نصفية، نصف حي يسكنه الفرنسيون ونصف ميت يعتبر متحفا يتردد عليه السواح والكتاب (¬1). وقد ¬

_ (¬1) يمكننا أن نعمم ذلك على جميع المدن وجميع السكان الجزائريين. إن النظرية النصفية (أو النصف الحي والنصف الميت) هي التي كان يعالج بها الكتاب الفرنسيون موضوعاتهم. فالنصف الميت من كل موضوع هم السكان الجزائريون ومدنهم وأحياؤهم وتجمعاتهم وآثارهم، الخ. انظر أيضا بحث ايمانويل سيفان E. Sivan الثقافة الشعبية الاستعمارية بالجزائر في كتابنا (أبحاث وآراء) ج 4.

ركزت المجلة كما ذكرنا على الآثار الرومانية وفرنسا الرومانية أيضا والتي كانت تسير على خطى الرومان. ولكن المجلة اهتمت أيضا، ولأسباب سياسية، بالآثار البونيقية، أما الآثار الاسلامية فقد تجاهلتها ونظرت إليها نظرة احتقار، مثل تناولها لقصر أحمد باي وقصر صالح باي والقنطرة. واشتملت المجلة على قسم هام ركز على دراسة مدينة قسنطينة بالذات في خرائبها وآثارها ومبانيها التي درسها الكتاب من وجهة نظر تؤكد السيطرة الفرنسية وتخدم المصالح الاستعمارية، كما عالجت موضوع نظرة المسلمين للآثار الاسلامية والرومانية بطريقة تشجع على عملية الاحياء أو البعث الروماني. من كتابها نجد كما أشرنا، شيربونو، فقد نشر 31 مقالة ضمن عشرين عددا، أي أنه كان يكتب في العدد الواحد أكثر من مقالة. أما فيرو فقد نشر فيها 19 مقالة. ومن بين الموضوعات المنشورة فيها خلال العشرين سنة المذكورة نجد 80? منها تتعلق بالآثار الرومانية، وبعضها فقط كان عن موضوعات بربرية - ليبية وبونيقية. وقد لاحظ هذا الباحث أن من بين ال (808) مقالات المنشورة خلال نفس الفترة نجد (15?) تتعلق بالتاريخ والاثنوغرافية، وأن ثلاثة أرباع منها تقوم على المواد العربية والتركية. وقد نشطت البحوث الميدانية منذ قانون الأرض 1863 الذي اهتم بالدواوير وأملاك الأهالي، وأصبحت البحوث ميدانية، كما قلنا، وكانت تهدف إلى إعطاء صورة على أن العربي لم يتغير منذ الفتح الاسلامي. وكان الكتاب يستعملون الجزء للكل بالنسبة للأهالي، فإذا رأوا شخصا غش فإن كل الأهالي غشاشون، وكانوا يعتبرون جميع المتعلمين (الطلبة) جهلة وغير مفيدين، أو لهم أحكام مسبقة متوارثة عن عدم احترام الآثار القديمة، وقد ركز الكتاب أيضا على جشع المسلمين، وكون الاسلام يمنع العلم ويلعنه، وينسبون الكسل الطبيعي للأهالي. أما المجلة في حد ذاتها، فقد اعتبرها الباحث أول مجلة علمية في

المغرب العربي كله. وقد أصبحت القضايا التي أثارتها موجودة في مختلف الكتب والنشرات والصحف ودليل السواح والمقالات. وذلك كله قد ساعد على الهيمنة الاستعمارية في الجزائر ثم في المغرب العربي كله. وكان كتابها رغم اختلافهم في التكوين والمهنة، يلتقون حول إنجاح الاحتلال ودراسة التحول الاجتماعي. وكانوا يريدون التغلب على الخلافات بين المدنيين والعسكريين للإبقاء على القدر المشترك من الاتفاق للوصول إلى إنجاح الهيمنة الاستعمارية (¬1). وقول غوستاف ميرسييه، حفيد ارنست، إن الجمعية الأثرية لقسنطينة قد دامت 104 سنوات، ونشرت 100 مجلد ضخم من مجلتها، وشارك فيها عدد كبير من الباحثين والكتاب، عسكريين ومدنيين، منهم غزال، مريبو، إضافة إلى من ذكرنا (¬2). ورأي مالركي في مجلة هذه الجمعية الذي توصل إليه بعد دراسة إضافية، يصدق أيضا على (المجلة الافريقية) وعلى المجلات العلمية الأخرى التي صدرت أثناء الاحتلال، وهي جمعيات هدفها منذ تكوينها، كان خدمة الإدارة الاستعمارية. فهناك رابط أساسي ومقدس بين أعمال المستشرقين وأعمال العلماء الآخرين والإدارة والكنيسة، كلهم كانوا متضافرين على إحكام السيطرة على الجزائر وأهلها. فالجمعية التاريخية الجزائرية ولدت يوم 7 إبريل 1856 في العاصمة، بمبادرة من الحاكم العام المارشال راندون الذي أصبح الرئيس الشرفي للجمعية، كما أصبح من التقاليد أن كل حاكم عام للجزائر هو بالقوة الرئيس الشرفي للجمعية. أما الرئيس الفعلي الأول للجمعية فهو ادريان بيربروجر الذي تولى عدة وظائف في الإدارة المدنية الاستعمارية منذ 1835، كاتبا خاصا للمارشال كلوزيل، ومحافظا لمكتبة ومتحف الجزائر، وعضوا في ¬

_ (¬1) جيمس مالركي (البنية الدرامية لاكتشاف علمي في الجزائر المستعمرة) في كتاب (معرفة المغرب/ العربي)، ص 137 - 160. ويبدو أن هذا البحث جزء من أطروحة مالركي عن الجزائر. (¬2) ميرسييه (مدخل)، مرجع سابق، ص 327.

اللجنة العلمية. وقد جاء في قانونها أن الهدف من إنشائها هو (دراسة كل المعلومات المتصلة بتارخ إفريقية ولا سيما المعلومات التي تهم الجزائر، من العهد اللوبي (الليبي) إلى نهاية العهد التركي). ومن أعضاء الجمعية لويس برينييه أستاذ حلقة اللغة العربية بالعاصمة، والبارون ديسلان. وكان الأول مستشرقا والثاني مترجما عسكريا ومشرفا على جريدة المبشر. وقد انضم إليها فيما بعد عدد آخر من المترجمين العسكريين والمدنيين منهم الجغرافي مكارثي والعقيد دي نوفو الذي تولى مكتب الشؤون العربية في الإدارة العامة، والمتصرف المدني رولان دي بوسيه، والعقيد هانوتو، الذي كتب عن زواوة، وبارجيس الذي كتب عن تاريخ تلمسان، والجنرال دوماس الذي تولى الشؤون العربية في عهد بوجو، وهو مؤلف كتابي: المرأة العربية، وخيول الصحراء كما عرفنا. وقد نشرت الجمعية التاريخية مجلة (المجلة الافريقية) (¬1) الشهيرة التي اهتمت بنشر المخطوطات المحلية والعربية والوثائق الأصلية، وسلطت الضوء على تاريخ الجزائر في مختلف عصوره، ولكن بدرجات متفاوتة في الاهتمام. وتعتبر مجلداتها، كما يقول غوستاف ميرسييه، مكتبة تاريخية في حد ذاتها. كانت المجلة توزع مجانا على الأعضاء العاملين والمراسلين. ظهر عددها الأول في أكتوبر 1856، ثم أخذت تظهر كل شهرين ثم أصبحت مجلة فصلية تصدر كل ثلاثة أشهر منذ 1888. ومن تاريخها أنها توقفت فترة الحرب العالمية الأولى 1914 - 1918 ثم رجعت برقم (294) سنة 1918. وتميزت عهودها بميزات رؤساء الجمعية وميولهم وكذلك ميول كتاب الجمعية. وقد تولاها بيربروجر إلى وفاته سنة 1869، ثم تولاها بعده آخرون مثل دي قرامون، ولويس رين، وماسكري، وأرنو، وويل، وبيزان. ¬

_ (¬1) كانت كلمة (افريقية) تعني الجزائر عندئذ، ومن ثمة المطبعة الافريقية واللجنة الافريقية والجيش الافريقي ... الخ.

وقد طبع بعض الرؤساء والكتاب المجلة بطابع اهتمامهم فجعلها دي قرامون ميدانا لدراسة تاريخ الجزائر لاهتمامه هو بهذا الموضوع، وكان الكاتب العام فانيان، أستاذا لكرسي الأدب العربي في مدرسة الآداب فجعل المجلة تهتم بالترجمة عن الأدب العربي والتاريخ العربي. وساهم ويل وغزال في قسم الدراسات الأثرية. وفي عهد بيزان تولى الكتابة في الجمعية كل من ادمون دوتيه وجورج ايفير على التوالي، ومع ذلك فإن الدراسات العربية والتاريخية في المجلة الافريقية لم تضعف، ولكنها تركت مكانا بارزا للآثار أيضا. وكان دوتيه من المتأثرين بالنظرية الدورخايمية في علم الاجتماع، وهو من الكتاب الذين اهتموا بالعادات والدين والمرأة في الجزائر. أما جورج ايفير فقد كان أستاذا متخصصا في التاريخ الاستعماري للجزائر. وكانت المجلة قبل دوتيه تنشر كتبا كاملة في شكل فصول، وبحوثا مطولة بصفة مجزأة، ولكن دوتيه قرر مع زملائه أن تتخصص المجلة في الدراسات والمقالات، أما البحوث المطولة في شكل كتب فتنشر دفعة واحدة منفصلة تحت عنوان بحوث (مذكرات) الجمعية التاريخية. كما أصبحت المجلة تهتم بالنشاط العلمي (من أقدم العصور إلى يومنا هذا) أي لا تتوقف عند نهاية العهد التركي (¬1). وقد توالت الجمعيات العلمية ومجلاتها فتأسست في عنابة سنة 1863 جمعية للبحث العلمي، أخذت فيما بعد إسم اكاديمية هيبون. وكان أول رئيس لها هو المحامي اوليفييه. ثم تولاها سنة 1871 الضابط قنطيس ثم العقيد بابيه ثم مالتيرن. وقد أصدرت مجلة باسم نشرة أكاديمية هيبون. وكانت مهتمة بالشرق الجزائري على العموم. ويظهر عليها أيضا الطابع الأثري والديني. ومن كتابها ليكليرك الذي كتب فيها عن أحمد التيفاشي، وبلوشي الذي تناول علم الخرائط عند المسلمين، وبابيه الذي نشر عن مساجد عنابة. ¬

_ (¬1) جان بفيا J. Bevia المجلة الافريقية، مقدمة المجلد الخاص بالفهارس لسنوات 1921 - 1882، الجزائر، 1924.

وفي 1878 كون الضابط البحري تروتاباس الجمعية الجغرافية لاقليم وهران. وقد اهتمت بالخصوص بالجنوب والغرب الجزائري والمغرب الأقصى الذي أخذت الاهتمامات الفرنسية تلتفت إليه. كما اهتمت بقضايا الصحراء. ونشرت عددا من المخطوطات مترجمة إلى الفرنسية، وكذلك بحوثا مطولة في شكل مونوغرافات. ونشطت الدوائر الاستعمارية في المنطقة إذ وجدت في الجمعية والمجلة التي كانت تسمى (نشرة)، مجالا للتعبير عن نفسها بالكتابات والبحوث. وفي 1881 غيرت الجمعية اسمها جزئيا فأصبح هو (الجمعية الجغرافية والأثرية لاقليم وهران). وأسست متحفا أصبح يدعى المتحف الأثري والفني لمدينة وهران. ومن المساهمين فيها المستشرقون رينيه باصيه، وتلميذه ألفريد بيل، وموليراس. وكما قامت جمعية وهران بمبادرة أحد العسكريين كذلك كانت الجمعية الجغرافية لمدينة الجزائر. إذ يرجع الفضل في إنشائها سنة 1896 إلى العقيد بولينياك. وقد أنشأت هي أيضا مجلة ضمت بحوثا مختلفة المستوى، واهتمت بالصحراء وافريقيا وبالجزائر. وكتب فيها العسكريون بالدرجة الأولى عدة مونوغرافات عن تجاربهم في البلديات والبعثات العلمية. وكان من كتابها بعض المدنيين أيضا أمثال جوزيف ديبارمي الذي اختص بالانثروبولوجيا في منطقة متيجة وتطور الحركة الوطنية والنفسية الجزائرية من خلال النصوص الشعبية والفولكلور. وهناك جمعيات علمية أخرى أقل شهرة، وقد أصدرت أيضا مجلات تضم بحوث أعضائها. ونذكر منها هنا، الجمعية الأثرية والسياحية لسوق اهراس، والجمعية الأثرية لمنطقة سطيف، وجمعية أصدقاء تلمسان القديمة بقيادة المستشرق ألفريد بيل. وفي 1909 ظهرت في العاصمة جمعية التاريخ الطبيعي للقطر الجزائري، وكانت لها نشرة شهرية، ثم الجمعية الفرنسية للفيزياء - فرع الجزائر العاصمة (¬1). ¬

_ (¬1) غوستاف ميرسييه (مدخل)، مرجع سابق، ص 388 - 331. وهناك بحث موسع =

وبعد تكاثر الجمعيات وتوزع جهود الباحثين من خلالها، ظهرت فكرة جديدة لجمع الشمل والتعاون وتبادل الخبرات، وذلك بإنشاء اتحادية لهذه الجمعيات، سميت (فيدرالية الجمعيات العلمية لشمال افريقية). وواضح أن هذا العنوان لا يقتصر على الجمعيات العلمية في الجزائر، ولكن يضم الجمعيات العلمية الفرنسية على مستوى تونس والمغرب الأقصى أيضا. فالتنسيق بين الجمعيات المذكورة كان ضروريا لخدمة أهداف الاستعمار القريبة والبعيدة في منطقة المغرب العربي كلها. وكان جورج هاردي هو صاحب المبادرة لإنشاء الفيدرالية التي بدأت نشاطها الجماعي سنة 1935 بالجزائر، ثم عقدت دوراتها الأخرى سنويا في كل من تلمسان وتونس والرباط وقسنطينة. وبحلول الحرب العالمية الثانية توقف هذا النشاط. وكان يصدر عقب كل اجتماع سنوي مجلد أو مجلدات تضم البحوث التي عالجها الأعضاء، وكانت بحوثا دسمة في معظمها وفي مختلف التخصصات التي تهم المنطقة من الوجهة الفرنسية. ونريد أن نشير أيضا إلى (لجنة ترجمة الكتب العربية) التي أسسها الحاكم العام جول كامبون سنة 1894. وكان الغرض منها هو إعداد ونقل الكتب العربية إلى اللغة الفرنسية، ولا سيما تلك الكتب المدرسية أو ذات الطابع التعليمي الذي تقرر استعماله في المدارس الشرعية - الفرنسية الثلاث بعد إعادة تنظيمها وفي دروس المساجد المراقبة من إدارة الشؤون الأهلية، وفي مدرسة الآداب وغيرها. وكان المشرف على اللجنة هو بيرسفيل، كاتب عام الحكومة العامة، وكانت اللجنة تتألف من أساتذة فرنسيين في اللغة العربية من مدرسة الآداب ومدراء المدارس الثلاث، ومن مترجمين عسكريين تابعين للحكومة العامة. وتقرر أن تترجم مجموعة من الكلاسيكيات العربية في الفلسفة والنحو والتاريخ والفقه. ومنها كتاب ابن مسكويه، وحي ابن يقظان، ¬

_ = عن الجمعيات الخمس الرئيسية بقلم الضابط جوق Jugue في المجلة الافريقية، 1905، ص 463 - 485. انظر أيضا بحثنا (منهج الفرنسيين في كتابة تاريخ الجزائر فى كتابنا أبحاث وآراء .. ط. 3 ج 1. وماصيه (الدراسات العربية فى الجزائر).

وسجل سيبيس تلميذ سقراط (ترجمه عن العربية ر. باصيه)، وتاريخ المغرب لابن عذارى، وعقيدة السنوسي، وكتاب ابن تومرت، (أعز ما يطلب؟)، والخزرجية في العروض، وتاريخ بني عبد الواد ليحيى بن خلدون، والمعجم الفرنسي - التارقي لموتيلانسكي، وغير ذلك. وكان تحقيق ونشر بعض المؤلفات من قبل محمد بن أبي شنب، وكتابة معجم التراجم (تعريف الخلف) لأبي القاسم الحفناوي، ونصوص بوليفة، داخل ضمن هذا المشروع. ولا ندري الآن إن كان بعض الجزائريين من ضمن أعضاء هذه اللجنة. وقد ترجم أيضا المترجم العسكري بالحكومة العامة، باقار، عملا لمؤلف مجهول عن مورفولوجيا الفعل في اللغة العربية - النص العربي والنص الفرنسي في 42 صفحة -، كما ترجم سيكار، وهو أيضا من العاملين في الحكومة العامة، رجزا في النحو لحسن العطار المصري، سماه بحثا في النحو العربي (34 صفحة) (¬1). وكان دومينيك لوسياني من المشاركين في الترجمة من جهة ومن المنشطين للمشروع من جهة أخرى. ويجب علينا أن نعتبر البحوث التي صدرت عن مؤتمر المستشرقين الرابع عشر (الجزائر 1905) ضمن هذه الأعمال العلمية الجماعية أيضا. فقد انتهى المؤتمر بإصدار وقائع ودراسات هامة تخص الجزائر ومنطقة المغرب العربي. ومنها بحث لابن أبي شنب عن سند صحيح البخاري في الجزائر، وإجازة عبد القادر الفاسي لبعض الجزائريين. وقد شارك عبد الحليم بن سماية والمختار الحاج سعيد وغيرهما من الجزائريين في أعمال المؤتمر أيضا. وكانت أعمال الجمعية الآسيوية في باريس والجمعية الجغرافية ¬

_ (¬1) انظر تقرير رينيه باصيه عن العمل العلمي الفرنسي في (الميلانج) في المجلة الآسيوية، 1920، مجلد 15، ص 92. وكذلك المجلة الافريقية، 1898، ص 376.

المعاهد الجامعية

الفرنسية ومدرسة اللغات الشرقية بباريس أيضا تساعد على نشر الآثار المتعلقة بالجزائر والمغرب العربي. وتطول القائمة لو تعرضنا إلى ذلك، ثم إن هذه الجمعيات والمؤسسات تقع خارج الجزائر. ومما نشر فيها تاريخ البكري وترجمات لنصوص عن أبي القاسم الزياني وأحمد بابا التنبكتي، ورحلة ابن بطوطة. المعاهد الجامعية وساهمت جامعة الجزائر أيضا، من زاوية أخرى، في هذه الأعمال العلمية الجماعية. فبالاضافة إلى دورها في لجنة الاحتفال المئوي الذي ذكرناه، وإلى دورها في التعليم العالي، قام أساتذتها ببحوث تخدم الإدارة الاستعمارية في الجزائر والمغرب العربي وافريقيا، بل وفي المشرق العربي والاسلامي أيضا. كانت جامعة الجزائر التي ترجع نواتها إلى إنشاء المدارس العليا سنة 1880، قد ظهرت إلى الوجود سنة 1909. وتطورت بسرعة حتى أصبح الفرنسيون يسمونها (السوربون الافريقية) وكانوا يعتبرونها الجامعة الفرنسية الثالثة لارتفاع مستواها التعليمي. وقد عرفنا أن من أساتذتها في العلوم الاجتماعية ماسكري، وباصيه، وموران، وفانيان. ويقول عنها غوستاف ميرسييه إن جامعة الجزائر قد قامت بدور مشع لتفيد فرنسا الأم. فالهدف من إنشاء المعاهد المتخصصة ومراكز البحث لم يكن لفائدة الجزائريين بل لفائدة فرنسا بالطبع. ومعظم المعاهد التي تفرعت عن الجامعة تأسست خلال عقد الثلاثينات من هذا القرن. وكان الهدف من إنشائها هو أولا الخروج عن دوائر الكليات الضيقة التي كانت تهتم بالتعليم أكثر من البحث، ثم خدمة مشاريع الدولة الفرنسية برؤية أوسع وأشمل للمناطق التي أشرنا إليها، وفي مختلف التخصصات التي تحتاجها، وبطريقة أكثر مرونة. وليس من غرضنا ذكر جميع هذه المعاهد، وإنما نكتفي بذكر المعهد الصحراوي والمعهد الشرقي والإشارة إلى غيرهما.

ظهر معهد البحوث الصحراوية عندما اهتمت السلطات بدراسة الصحراء ظاهريا وباطنيا. وكان رئيسه هو السيد مير. واشترك في الدراسات فيه أطباء ومستشرقون وضباط ومستكشفون وعلماء في الجيولوجيا وغيرهم، كل في مجال تخصصه. وكانوا يصدرون أعمالهم في مجموعات، كما كان المعهد يصدر أعماله المعمقة في مجلدات منفصلة. ومنها بيبلوغرافية واسعة عن الصحراء. ومن المساهمين في المعهد ويليام مارسيه، وديبوا، وليشيه، وكابوري، وريقاس. أما معهد الدراسات الشرقية فقد تأسس تحت إشراف جورج مارسيه الذي عمل طويلا في التعليم والتأليف في ميادين الفنون والآثار الاسلامية. وأعضاء المعهد كانوا من المستشرقين الفرنسيين المعروفين والعاملين في كلية الآداب، ومجال هذا المعهد هو العالم العربي والاسلامي الذي ينتمي إليه المغرب العربي تاريخيا ولغويا وإثنيا أو عرقيا، حسب المصطلحات الفرنسية، منذ آلاف السنين. وأنشأ المعهد (حوليات) ظهر منها عدة مجلدات. وإلى جانبها نشر أعمالا منفصلة عن المشرق العربي والاسلام في أندونيسيا، والأدب العربي المعاصر، والحياة اليومية في تونس، واللهجات العامية أو المكتوبة في الأندلس. وكذلك نشر أعمالا عن لهجة الدروز، وعن التصوف الاسلامي، وتأسيس مدينة فاس. وظهرت أسماء المستشرقين من أمثال بوسكيه، وهنري بيريز، وليفي بروفنصال، وألفريد بيل، ومارياس كنار، وكانتينو، وروبير برونشفيك، وأندري باصيه، وليون غوتييه. وهناك معاهد ومراكز بحث أخرى كانت متصلة بالجامعة أيضا ولكنها كانت متحررة في نشاطها العلمي. نذكر منها معهد الدراسات القانونية، والمعهد الحضري، ومعهد الجيولوجيا التطبيقية، وجمعية العلوم الفيزيائية والكيميائية، يضاف إلى ذلك جمعية البحوث البترولية، ثم مكتب البحوث المنجمية. أما معهد باستور فقد كان مستقلا عن الجامعة، وكان يقوم بخدمات فى ميدان الصحة والوقاية من الأمراض.

البعثات العلمية ومشاركة المثقفين الجزائريين فيها

وكان تحت الإشرف المباشر للحكومة (¬1). البعثات العلمية ومشاركة المثقفين الجزائريين فيها بالنسبة للبعثات العلمية، قام عبر حوالي خمسين سنة، عدة رجال فرنسيين بأدلاء جزائريين، باكتشاف الصحراء، ومنها إلى افريقيا. ومن ذلك بعثة إسماعيل وضربة ودوفيرييه وفلاترز وموتيلانسكي وأطانو. وكان علماء الفرنسيين، مدنيين وعسكريين، مسلحين بالعلم واللغة وحب المعرفة والاخلاص لوطنهم، وكذلك حب السيطرة والاستعمار. وكانوا يستعملون نفوذهم المادي والمعنوي والسياسي، عن طريق إدارتهم، لتسخير الجزائريين ليكونوا لهم أدلاء ومساعدين لتحقيق أغراضهم. وقد اعترف دوفيرييه بالفضل للشيخ محمد العيد شيخ زاوية تماسين التجانية وكذلك للشيخ عثمان التارقي، واعترف أطانو سنة 1894 بالفضل للشيخ محمد العروسي شيخ ومقدم زاوية قمار التجانية في إنجاح مهمته في الهقار، وقال إنه لا يحتاج إلى برهان عن إخلاص الشيخ العروسي لفرنسا. وكان الشيخ العروسي قد استضاف (الميعاد التارقي)، وكان عبد النبي حفيد الشيخ عثمان ومقدم التجانية في الأزجر وقبيلة ايفوغاس الكبير، هو الذي قاد الميعاد التارقي نحو الجزائر سنة 1892 وهو الذي سهل مهمة أطانو يد ذلك (¬2). وقد أشاد موتيلانسكي أيضا بدور الشيخ العروسي في تسهيل مهمته في سوف وفي الهقار وغدامس، بين 1903 - 1905. وفعل الشيخ العروسي نفس الشيء مع الضابط فورو سنة 1898. كما كانت القادرية تنافس التجانية في ذلك التقرب من فرنسا. ولكن الفضل العلمي يظل لهذه البعثات التي كانت تدرس الطرق والقبائل والآبار واللهجات والتربة والعادات والتقاليد. ولم يكن الغرض كما ذكرنا، هو دراستها لذاتها، ولكن للاستفادة منها في التقدم نحو ¬

_ (¬1) غوستاف ميرسييه (مدخل)، مرجع سابق، ص 336. (¬2) افريقية الفرنسية، فبراير، 1894، ومارس 1894.

افريقية والسيطرة على الصحراء وثرواتها. والبعثات العلمية لم تكن نحو الصحراء وافريقية فقط، ولكن أيضا نحو تونس والمغرب والسينيغال ومصر. وقد أشرنا إلى ذهاب رينيه باصيه وغيره إلى السنيغال وتونس لدراسة المخطوطات واللهجات بهما، ولا شك أن ذلك كان مجرد غطاء، لأن هناك أهدافا أخرى للبعثة كالاتصال بالعلماء ومعرفة العادات والتقاليد والتجار والنفوذ الفرنسي. وأرسل الفرنسيون بعثات سرية وعلنية إلى المغرب الأقصى قبل احتلاله وبعده. وبين المبعوثين بعض الجزائريين أمثال إسماعيل حامد وابن أبي شنب وسعيد (عمر) بوليفة ومحمد نهليل وقدور بن غبريط ومحمد معمري. كما ذهبت بعثة أخرى إلى مصر لدراسة أوضاع التعليم الاسلامي والمرأة والمحاكم الاسلامية (¬1). وعلى ذكر الاستعانة بالجزائريين نذكر أن بعض الجمعيات كانت تقبل في عضويتها جزائريين هم في الواقع من نوع المستغربين عادة، وإن كنا قد وجدنا آخرين ليسوا كذلك، أمثال عبد الحليم بن سماية. ولكننا لا نجد أمثال عبد القادر المجاوي فيها رغم علمه وسمعته لأنه لم يكن يتكلم الفرنسية. وقد ذكر غوستاف ميرسييه أسماء عدد من الجزائريين الذين ساهموا في أعمال الجمعيات العلمية الفرنسية. وقال إن لهم (ثقافة فرنسية - إسلامية وروحا في البحث جعلتهم أمثلة ممتازة). ومن الأسماء التي ذكرها: محمد بن أبي شنب وابنه سعد الدين، وبلقاسم بن سديرة، ومحمد صوالح، وسليمان رحماني، ومحمد الأخضر، والعربي المسعودي، وأبو بكر عبد السلام بن شعيب، وعبد الحميد حميدو، ومحمد الحاج صادق، وعبد السلام مزيان، (وغيرهم كثير)، كما قال. ولم يهمل ذكر محمد راسم صاحب المنمنمات (وعددا من الفنانين والرسامين) (¬2). ¬

_ (¬1) انظر بحثنا عن دور المترجمين الجزائريين في البعثات الفرنسية نحو افريقية المنشور في مجلة الثقافة، 1996. (¬2) غوستاف ميرسييه (مدخل)، مرجع سابق، ص 331. لم يكن المجاوي يتكلم =

بعض هذه الأسماء لا نعرف مساهمتها الآن مثل محمد الأخضر، والعربي المسعودي. ولكن السيد ميرسييه أهمل ذكر بعض الذين ساهموا فعلا في ميدان الدراسات الفرنسية، أمثال عبد الرزاق الأشرف، ونور الدين عبد القادر، واحمد بن مجقان، وحفيظ بومدين ومحمد بن يوسف كسوس والمولى القاضي، وعمر قندوز، وعلي الشريف الزهار، وابن يحيى علي بن أحمد، وأحمد بن بريهمات وعبد الحليم بن سماية (¬1). فهؤلاء جميعا ذكروا في عضوية الجمعية الجغرافية لمدينة الجزائر وشمال افريقية التي تأسست سنة 1896 وقد سبق ذكرها. أما إسماعيل بوضربة الذي ذهب في رحلة إلى غات، فقد كان عضوا في الجمعية التاريخية التي كانت تنشر المجلة الافريقية. وكذلك محمد صوالح الذي وجدنا اسمه في أعضاء هذه الجمعية ابتداء من سنة 1900 (المجلة الافريقية، ص 96). وكان عندئذ ما يزال أستاذا في مدرسة ترشيح المعلمين (النورمال). ولعل محمد بن رحال كان عضوا في جمعية جغرافية وهران. ورغم وجود هذه الأسماء الجزائرية في الجمعيات العلمية الفرنسية فإن مساهمتها الفردية كانت قليلة. فإذا استثنينا عائلة ابن شنب وأبو بكر عبد السلام والحاج صادق ومحمد صوالح وأسماء أخرى قليلة، فإن الانتاج الذي يحمل توقيع صاحبه من هؤلاء لا يكاد يذكر. ولكن مساهمة الجزائريين كانت بالتعاون والمشاركة مع الأعضاء البارزين من الفرنسيين في الجمعيات المذكورة. وهذه التبعية هنا أو هناك لم تسمح للجزائري أن يطور شخصيته العلمية المستقلة وأفكاره بطريقة حرة، وأن يكتشف هويته الحقيقية وسط ¬

_ = الفرنسية، وقد وجدنا أن عبد الرزاق الأشرف هو الذي كان يترجم عنه في إحدى جلسات تدوين الفقه. (¬1) مجلة الجمعية الجغرافية للجزائر 1886 ص 51، وفي عدد 7 سنة 1902 أسماء ممن ذكرنا. وزيف كسوس بأنه خوجة بلدية الطاهير (كاتب)، ووصف حفيظ بومدين بأنه صيدلي في مستشفى مصطفى. وعائلة (حفيظ - حفيز) من العائلات القديمة في الجزائر العاصمة. للمزيد عن دور الجزائريين انظر فصل الترجمة والمترجمين.

الكنيسة والتنصير

ركام الشك الذي أحاطته به المدرسة الفرنسية. الكنيسة والتنصير لا نريد أن ندرس مختلف أنشطة الكنيسة منذ الاحتلال، فذلك موضوع واسع يخرجنا عما نحن فيه. إنما نريد أن نسلط الضوء على بعض الأنشطة التي تحدد العلاقة بين الكنيسة والإدارة الاستعمارية وكذلك على أدوار بعض رجال الدين الذين تولوا أمر الكنيسة وكانت لهم مخططات خاصة، ومدى علاقة ذلك بالاسلام واللغة العربية والثقافة الوطنية على وجه العموم. الأطروحة السائدة بين الكتاب الفرنسيين تقوم على أن هناك خلافا بين نوايا وأهداف رجال الدين ورجال الدنيا الفرنسيين في الجزائر، فالعسكريون كانوا لا يريدون إطلاق العنان لرجال الدين ينفذون مخططاتهم بين المسلمين. والحكومة الفرنسية من جهتها تعلن على لسان وسائلها ورجالها أن الهدف من إنشاء الكنيسة وتعيين رجال الدين إنما هو خدمة المستوطنين الأوروبيين وليس التبشير واستعادة المسيحية القديمة وإثارة مشاعر المسلمين. ويقول أولئك الكتاب إن الجنرالات الفرنسيين كانوا غير متدينين، وأنهم كانوا يخشون، كمسؤولين، أن يؤدي نشاط رجال الدين المباشر إلى ثورة المسلمين وعدم الاستقرار. ومن جهة أخرى تذهب الأطروحة المذكورة إلى أن المستوطنين أنواع، وأغلبهم غير متدينين أيضا، لأن منهم الجاهل والصعلوك الذي لم يكن يهتم بالأخلاق والمعنويات ولكن بالمادة والكسب، ومنهم السياسيون الذين هجرتهم الدولة إلى الجزائر في أزمنة مختلفة، وهؤلاء كانوا لائكيين وغير مهتمين بالدين، بالإضافة إلى أن هناك رجال إعلام ومترجمين ينتمون إلى الاشتراكية المثالية والسانسيمونية. وفي نظر أولئك الكتاب أن الجمهورية الثالثة قد فتحت النار، كما يقولون، على الكنيسة وعلى (الجزويت) بالخصوص، وقلمت أظافرهم، ثم جاء الاعلان عن فصل الدين عن الدولة مع فاتح هذا القرن، فأرغم رجال

الكنيسة على التوارى وتقليص نشاطهم. ومعنى هذا أن السلطة الحاكمة كانت (غير دينية) أو لائكية، وإن التسامح وحرية العقيدة كان هو شعار الحكم الفرنسي في الجزائر. ترى هل هذا صحيح؟ إذا عدنا إلى مراجعة مسيرة الاحتلال سنجد أن السلطة الزمنية والسلطة الدينية (الروحية) كانت غير محددة لدى الحكام الفرنسيين في الجزائر ولدى رجال الدولة في فرنسا الذين لهم علاقة بالشؤون الجزائرية، منذ تقرير العقيد كليرمون تونير الذي قدمه إلى شارل العاشر لإقناعه بالموافقة على الحملة ضد الجزائر، كان الدافع الديني قويا في أذهان الفرنسيين. فقد وعده بأن الحملة ستحقق انتصار الكنيسة الكاثوليكية على الاسلام واستعادة المسيحية إلى إفريقية (الجزائر) كما كانت قبل الاسلام. ومن يتأمل في العبارات الواردة في التقرير المذكور، وفي غيره، يدرك أن الروح التي كانت تقود رجال الدولة الفرنسية عندئذ تكاد لا تختلف عن الروح التي كانت تقود ايزابيلا وفيرديناند في الأندلس ثلاثة قرون قبل ذلك. وبالرجوع إلى أدبيات الحملة نفسها بعد نجاحها نلاحظ السلوك الديني لدى الجنرالات وعلى رأسهم بورمون وكلوزيل ثم من جاء بعدهم، بمن فيهم بوجو وراندون. فإقامة القداس الأول على يد القس شارل زكار الداعية المعروف والملازم لبورمون، وتولية العسكريين الشؤون الدينية إلى حين مجيء دوبوش سنة 1838، وإقامة القداسات بعد معارك (النصر) الشكر الله على رضاه وتوفيقه ضد (الكفار) المسلمين، وإحاطة القساوسة بالأبهة وإدخالهم إلى مراكز نشاطهم مرفوقين بالفرق العسكرية، كما حدث للأب سوشي في قسنطينة، كل ذلك يدل على أن ممثلي الدولة الفرنسية في الجزائر لم يكونوا لائكيين، كما يريد البعض أن يفهمونا في عصر الليبرالية واللائكية. وأوضح من ذلك موقف ممثلي السلطة الفرنسية من الدين الاسلامي نفسه في الجزائر. فهم، وليس رجال الكنيسة، الذين داسوا على اتفاق 5 يوليو،

1830 الذي ينص على احترام الدين الاسلامي ومعابده، ثم هم، وليس رجال الكنيسة، الذين هدموا المساجد وجعلوها مستشفيات واسطبلات ومخازن، وتحت سلطتهم تحول بعضها إلى كنائس، وهم الذين صادروا الأوقاف، وقطعوا عن الكتاتيب القرآنية مواردها. والقائمة طويلة. ومنذ 1838 تعاونوا مع دوبوش وخلفائه على تحطيم الحياة الاسلامية، كالقضاء والتعليم العربي، والمساعدة على انتشار الخمر وأماكن الفساد الأخلاقي (¬1)، وجلب الجزويت الذين منعوهم من العمل بفرنسا. والقائمة هنا طويلة أيضا. والفرق الذي يبدو للعيان هو أن رجال الدين كانوا يريدون المواجهة وتحدي المسلمين مباشرة متغطين بالجيش والسلطة. أما المسؤولون المدنيون والعسكريون فيريدون عدم المواجهة واتخاذ أسلوب التوغل الهادئ والتسرب البطيء، للوصول إلى نفس الهدف. يقول بعض الكتاب إن الجزائريين أنفسهم شهدوا على عدم تدين الفرنسيين. فقد كانوا يظنونهم (أهل كتاب) واتباع عيسى بن مريم - عليه السلام - عن حقيقة. وينسبون إلى الأمير عبد القادر قوله: إن هؤلاء الفرنسيين ليس لهم دين. وذلك بعد أن وجدهم على غير ما كان يعتقد فيهم. ويقولون إن الجنرالات وبعض الكولون الأولين كانوا متأثرين بأفكار فولتير المتنورة وبعيدين عن روح الدين. وقد ذكرنا أن حركة التنوير والحركة الرومانتيكية، والليبرالية المادية، والفكر الجمهوري والنظرية الاشتراكية المثالية والماسونية، كلها كان لها تأثير في الفرنسيين عبر المراحل المختلفة. وهذا صحيح إلى حد كبير بالنسبة لبعض الحكام وأصحاب الجرائد والجمعيات. ولكن عندما تأتي المصلحة الفرنسية فالكل يصبح واحدا، ولا يهم بد ذلك أن تكون المصلحة من جهة رجال الدين أو ¬

_ (¬1) كتب بلاكسلي (وهو قسيس) أوائل الخمسينات من القرن الماضي، إن الفساد قد انتشر بعد الاحتلال بدرجة مريعة. وذكر أن الأطفال غير الشرعيين بين 1831 - 1836 كانوا لا يقلون عن 244 في الألف، بينما كانوا في فرنسا كلها 72 في الألف. انظر (أربعة أشهر في الجزائر)، لندن 1859، ص 44.

نشأة الأسقفية

من رجال الدنيا، من القسيس أو من الجنرال. نشأة الأسقفية وإلى سنة 1838 كان العسكريون هم الذين يقومون بالشؤون الدينية أيضا. وكان نشاطهم ما يزال منحصرا في تربية المهاجرين الجدد إلى الجزائر وهدايتهم روحيا. ونذكر أنه من الناحية الإدارية لم يعلن الفرنسيون أن الجزائر من (ممتلكات) فرنسا إلا سنة 1834. ومع ذلك فإنهم منذ 1830 قام العسكريون منهم بما ذكرنا حول الأوقاف والمساجد والزوايا والجبانات، وهدموا وغيروا ما شاؤوا. وكانت الحكومة الفرنسية تفاوض الفاتيكان على فتح أسقفية لها في الجزائر. وقد أدت المفاوضات إلى تعيين السيد أنطوان دوبوش أسقفا في الجزائر سنة 1838. ووجد دوبوش قبله سبعة قساوسة، منهم أربعة في العاصمة، وإثنان في عنابة وواحد في وهران. وفي نهاية السنوات التي بقيها في الجزائر 1839 - 1846 ترك دوبوش منجزات كبيرة لا يمكن إنجازها لولا المساعدات التي كانت تأتيه من هنا ومن هناك، ومنها مساعدات الحكام في الجزائر، ممثلي الدولة الفرنسية. ومن تلك الانجازات: بناء 60 كنيسة ومعبدا، و 16 مؤسسة دينية (وبعض هذه المباني كانت مساجد) و 91 قسيسا، و 140 إطارا من النساء والرجال في الشؤون الدينية، وملجأ للايتام، وحلقة درس (سيمينار). كان أصل ديبوش من مدية بوردو. وبعد حلوله بالجزائر (العاصمة) سكن في أحد القصور التابعة لبايات قسنطينة، وهو قصر الأميرة عزيزة، وبالطبع فإن الحكومة الفرنسية هي التي أعطته إياه لأنها هي التي استحوذت على جميع أملاك البايلك القديم. وفي ظرف قصير استطاع دوبوش أن يقيم مشروعا لاستعادة الكنيسة الافريقية القديمة وأن يقنع الجنرالات، ولا سيما بوجو الذي رأى فيه وسيلة لضرب المقاومة الاسلامية. فتعاونا، كل في مجاله، وبلغ الأمر بديبوش ان كان يفاوض الأمير عبد القادر على الأسرى الفرنسيين، حتى ظن بعض العسكريين أنه تجاوز حدوده، وتحدث بعضهم

بإحضاره أمام المجلس العسكري. وهو الذي أرسل القسيس سوشيه، خليفة عنه إلى قسنطينة، وكان هذا مثل سيده يتحدى المشاعر الاسلامية ويدعو إلى النصرانية جهارا. وكان سوشيه قد أرسله دوبوش أيضا إلى الأمير عبد القادر في معسكر يتجسس عليه ويبادله، ظاهريا، بعض الأسرى المسلمين بأسرى فرنسيين (¬1). وقد وصف بلاكسلي بعض مظاهر النشاط الديني الفرنسي في الجزائر فقال: انه كان للأسقفية قصر (فيلا) بناحية سانت اوجين (بلكين حاليا). ويعتبر من نوادر القصور التي سلمت من التخريب. وكان القصر فيما مضى مقرا للقنصلية الفرنسية في عهد الدايات. ثم أصبح مقرا للحلقة الدراسية (السيمينار) التي أنشأتها الأسقفية ومنزلا ريفيا للأسقف. وذكر بلاكسلي أن دوبوش قد وجد سنة 1839 قسيسين يقومان بشؤون الدين المسيحي في أحد المساجد الذي حولته السلطات إلى كنيسة. كما وجد بعض النسوة (الراهبات) اللائي كرسن حياتهن لخدمة الأيتام والتحريض. ومن جهة أخرى وجد دوبوش معبدا في وهران وآخر في عنابة. غير أنه وجد الفرنسيين الذين حلوا بالجزائر وقد انتشرت بينهم المفاسد وانحطت أخلاقهم. ولكن دوبوش انطلق في مشروعه فأنجز في ظرف سبع سنوات 47 كنيسة ومعبدا و 40 ملجأ. ووظف 39 راهبا، وجلب عددا من (أخوات الرحمة). وأنشأ ملجأ (الترابيست) في اسطاولي. وصرف المال الكثير على مشاريعه حتى بلغت ديونه 20، 000 جنيه استرليني. وشهد بلاكسلي أن رجال الكنيسة، وعلى رأسهم دوبوش، قد أدوا خدمة كبيرة لفرنسا في الجزائر عن طريق التأثير على السكان معنويا بالعلاج والأعمال الخيرية وإعطاء المثال في النظافة والنظام وحسن المعاملة. ومن ذلك مستشفى وهران، وملجأ ابن عكنون المسمى (بروملت) وملجأ بوفاريك، وكلاهما من عمل اليسوعيين. ¬

_ (¬1) انظر سوشيه (لقاء مع الأمير عبد القادر) سنة 1841 وهو منشور في (مجلة الشرق) 1843، ص 77 - 90.

ومما يلفت النظر قول بلاكسلي إنه إلى سنة 1854 بنت الدولة الفرنسية في الجزائر ثلاثة مساجد فقط (بعد أن هدمت العشرات منها)، بينما شيدت على حسابها الخاص 37 كنيسة كاثوليكية ومعبدين بروتيستانيين. وقد كانت الأسقفية تكلف الدولة أموالا طائلة، منها 25، 000 ف سنويا للأسقف فقط، وقد أصبحت أموال الأوقاف الاسلامية تصرف على رجال الكنيسة بعد مصادرة الأوقاف. وكان عدد الموظفين (رهبان وراهبات) يفوق المائة. وكانت أجورهم تفوق 37، 100 ف. سنويا (¬1). وفي عهد المارشال فاليه 1837 - 1841 حصلت الأسقفية على جامع البليدة، فحولته إلى كنيسة كاثوليكية، وقد حضر دوبوش نفسه حفلة رفع الصليب على أعلى الجامع. ومما يلفت النظر إن الصليب الذي وقع صهره في البليدة كان ثقيلا وضخما حتى ناء به ستة من العرب (المسلمين) كان عليهم أن يحملوه من المصهر إلى الجامع. ثم قام الجنود الفرنسيون برفع الصليب وتثبيته في أعلى الجامع وأضاؤوه بشعلة حملها العرب أيضا. ودوبوش هو الذي وضع أيضا الحجر الأساسي لدير الأخوة المعروف (بلا تراب) قرب سيدي فرج واسطاويلي حيث وقعت أول معركة بين الجزائريين والفرنسيين. ومن سياسة النظام الفرنسي أن الديانة الكاثوليكية والبروتيستانتية واليهودية كانت تحت وزارة الأديان، أما الدين الإسلامي فقد كان تحت وزارة الحرب. ويذكر أحد المعاصرين أن مهمة الأسقفية كانت هي استرجاع الكنائس القديمة في مناطق الجزائر، والبحث والتنقيب عن الغابر منها وتعيين القساوية على المكتشف منها. ولاحظ هذا المعاصر أن القساوسة أصبحوا بعد ثورة 1948 أكثر عبودية (تبعية) للدولة. ومن رأى الفرنسيين أن الدين الإسلامي سينتهي في الجزائر إما بالاحتلال وإما بالتلاشي (¬2). وكان دوبوش يتلقى الأموال من الجمعيات الخيرية في فرنسا وفي ¬

_ (¬1) بلاكسلي (أربعة أشهر في الجزائر)، مرجع سابق، ص 48. (¬2) توماس ديرابي Deraby (انطباعات إقامة)، لندن 1851، ص 333 - 343.

غيرها، ويبذر المال على مشروعه الضخم حتى أفلس في النهاية، ودخل السجن، ثم تحملت الدولة - وهذا بيت القصيد - ديونه. وأكبر تظاهرة قام بها من أجل مشروعه هي استعادة بقايا القديس اوغسطين في 30 اكتوبر 1842 (أثناء حكم المارشال بوجو). إن هناك أوصافا عديدة لهذا الحادث من طرف المعاصرين. وصفه بوجولا والسيدة بروس وغيرهما. وقد وصفت السيدة بروس التظاهرة فقالت: إن عملية نقل بقايا أوغسطين كانت تشبه استعادة رفات نابلوين من سانتا هيلينا إلى فرنسا. نقلت البقايا من بافيا إلى طولون ثم من هذه إلى عنابة (بونة) على يد القساوسة والجماهير، وذلك في حفل ديني ضخم تعبيرا على استمرارية الكنيسة المسيحية. ولم يدخر الأسقف دوبوش المال لإنجاح المشروع. بدأ التجمع الكبير في (لابروفانس) بفرنسا، وهناك خطب فيهم بطريق باريس المدعو (سومور). وحضرت إثنا عشرة سفينة لنقل الأساقفة الستة وضيوفهم إلى الجزائر. وعلى متن السفينة الأولى كان الأسقف دوبوش بكل سراويله وملابسه الدينية الفضفاضة، وكان على متنها أيضا بقايا اوغسطين التي كانت مغطاة بالكريستال والفضة، فكانت تحدث الدهشة بلمعانها في الشمس الجزائرية. وإلى جانب دوبوش كان يقف أساقفة فرنسا الستة بملابسهم الدينية الرسمية (¬1). ثم تعاقبت السفن التي كان عليها القساوسة من كل الدرجات بمسوحهم التقليدية. وهناك سفينة كانت محملة فقط بالراهبات، وأخرى محملة بفرقة البر والإحسان Hospitalier . وعند الوصول إلى مرسى عنابة تعالت الأناشيد والأغاني الدينية من كل سفينة. واعتقدوا أن الطبيعة كانت تردد معهم تلك الأصوات وذكريات (الكنيسة الافريقية) التي طالما رقدت تحت الرمال الخضراء، حسب تعبير بعضهم. وعلى الرصيف نصب قوس النصر الذي كتبت عليه العبارات التالية: (لقد رجعت هيبونة يا اوغسطين!) ثم وضعت البقايا المحمولة على منصة خاصة في ميدان السلاح. وتقدم دوبوش وألقى القداس أمام الجماهير، واستعرض حياة ¬

_ (¬1) هم أساقفة: مرسيليا، وبوردو، وشالون، ودينيو، وفلانس، ونيفير.

اوغسطين ومنفى بقاياه، ورجوعها المنتصر (تحت حماية العلم الفرنسي) - حسب تعبيره. وفي اليوم التالي سارت الظاهرة إلى بونة بالطريق الروماني القديم. وعند وصولهم إلى الجسر القديم وجدوا قوس نصر آخر في انتظارهم. وهناك كانت السلطات المدنية والعسكرية لعنابة في انتظار الأسقف دوبوش وضيوفه. وقد ألقى نشيد (توديم)، وارتفعت الأصوات بشكل متحد مع نغمات الموسيقى العسكرية التي كانت تتقدم الموكب. وسار هذا الموكب إلى حيث ضريح مرتفع في شكل منصة. وهنا كشفت بقايا أوغسطين. ومن جديد ألقى دوبوش القداس بطريقة رسمية فيها البلاغة والشعر قائلا: ها هي شعوب كل الأمم: الفرنسية والكورسيكية والسردينية والاسبانية والايطالية والمالطية .. كلهم ركعوا لله في تواضع وخشوع، ورفعوا الدعاء إلى الله بمختلف لغاتهم. وتنادت قرطاج من تونس، ومياه البحر، وأصداء الهضاب. ثم ارتفعت دمدمات المدافع من القصبة متقطعة حسب تقدم التظاهرة وعلى خطى الموكب. كما كانت الموسيقى العسكرية تشارك بأنغام مناسبة أثناء تدشين تمثال لأوغسطين الذي وضع على رخامة بيضاء، كان التمثال من البرونز، وكان وضعه يجعله ملتفتا نحو فرنسا اعترافا بفضلها وحمايتها (¬1). لقد جرى كل ذلك في تحد سافر لمشاعر المسلمين. كان الحفل الذي جمع عشرين ألفا في طولون، وآلاف الحاضرين والفضوليين في الجزائر، قد جرى تحت حماية العلم الفرنسي والجيش ومباركة المارشال بوجو نفسه. وكانت السلطات المدنية والعسكرية الفرنسية مشاركة في التظاهرة بالمال والسفن والضيافة والرعاية المعنوية. ومع ذلك قول البعض إن الأسقف دوبوش، ورجال الدين عموما، كانوا يعملون بدون موافقة العسكريين وممثلي الدولة الفرنسية! لقد جاء بوجو بالسيد جان بوجولا واعتبره (مؤرخ) ¬

_ (¬1) السيدة بروس (إقامة في الجزائر)، مرجع سابق، ص 106 - 108، نقلا عن وصف الأسقف سيمور للحفل المذكور، باختصار.

عهده في الجزائر فكتب بوجولا يصف عهد بوجو وانتصار الكنيسة، وقد طعن في الاسلام والمسلمين حتى فاض كاسه (¬1). وفي سنة 1845 قام الأسقف دوبوش بتدشين كنيسة بتلمسان، بعد استيلاء الفرنسيين عليها. وقد حضر معه الأب بارجيس الذي جاء خصيصا من باريس والذي نوه بجهود الأسقف لإعادته الكنيسة الافريقية بعد ستة قرون من انقطاع حلقتها على يد المسلمين، كما قال. والأب بارجيس لا يتورع في هذه المناسبة عن أن يسمى أرض الاسلام في تلمسان (الأرض الكافرة)، ويسمى الرسول (صلى الله عليه وسلم) (بالنبي المزيف). ففي ابريل 1845 افتتح الأسقف دوبوش تلك الكنيسة الكاثوليكية (وأصلها جامع) في حديقة المشور، وعين عليها أحد القساوسة (¬2). ولكن بعد بضعة أسابيع حدثت ثورة عارمة في منطقة الظهرة كلها، وشملت تلمسان .. فهرب القس الذي كان هناك. كانت الثورة قد اشتركت فيها مختلف الطرق الصوفية، واشتهر خلالها محمد بن عبد الله المدعو بومعزة. ورجع الأمير عبد القادر الذي كان قدالتجأ إلى المغرب الأقصى وركب موجة الثورة، وضرب العدو ضربة قوية في سيدي بلعباس، ثم حدثت معركة سيدي إبراهيم الشهيرة. وفسد مشروع الكنيسة في تلمسان، مؤقتا على الأقل. ومن جهة أخرى وجد القس سوشيه في قسنطينة مقاومة شديدة لمشروعه. إن هدم المساجد أو تحويلها عن غرضها ومصادرة الأوقاف الدينية وغير ذلك من الاجراءات التي تسيء إلى الاسلام والمسلمين، كانت تجري بالتراضي بين رجال الدنيا والدين الفرنسيين، رغم ما قيل من أن العسكريين والمدنيين كانوا غير متدينين. ومنذ وصل دوبوش وهو يعمل على دعم الكنيسة وافتكاك المبادرة واستعادة دورها الذي كان لها في نظره منذ أيام الرومان. وقد ذكرنا أنه كان يفاوض الأمير على إطلاق سراح الأسرى فوق ¬

_ (¬1) في كتابه الذي سماه (دراسات افريقية) وهو في أجزاء. وافريقية هنا تعني الجزائر. (¬2) عن جامع المشور انظر فصل المعالم الاسلامية.

الأسقف بافي

رؤوس العسكريين، فاوض بنفسه في بوفاريك ممثلي الأمير، ثم أرسل إليه القس سوشيه إلى معسكر. واستطاع أن يتبادل معه بعض الأسرى. وقد سخط عليه بعض العسكريين لتفاوضه (مع العدو) وكادوا يعقدون له مجلسا حربيا، لولا تدخل بوجو الذي كان يحميه (¬1). وفي نهاية عهده أفلس دوبوش لأن سياسة التبذير والمغامرة التي سلكها جعلته يتهرب من الدائنين له إلى أن استقال، وسجن، ثم هرب إلى إيطاليا ثم إسبانيا، كما ذكرنا. فقد أكثر من المنشآت باسم الكنيسة. ومن ذلك ملجأ الأيتام في ابن عكنون. إذ جمع فيه الأطفال المنبوذين، وجند النساء للقيام بهم، واشترى له قطيعا من الماعز للحليب، ثم دخل في صفقة عقارية، مما أدى إلى إفلاسه. وثارت ضجة للفضيحة. ونحن هنا لا يهمنا كل ذلك، ولكن يهمنا فقط أن الدولة الفرنسية بزعامة نابليون عندئذ سنة 1852 قد تدخلت وتكفلت هي بدفع الديون المترتبة على الأسقف باعتباره كان يعمل لمشاريع تخدم مصالح الدولة الفرنسية. وكان أسقف مدينة بوردو هو الذي أقنع نابليون بذلك. الأسقف بافي: أما الأسقف الثاني، وهو لويس بافي L. Pavy، فقد كان عهده أكثر اضطرابا وثورة على الدين الاسلامي. جاء الجزائر متحمسا للاستمرار في مشروع سلفه، وهو استعادة نشاط الكنيسة الكاثوليكية كما كان قبل الاسلام، واعتبار الحلقة الاسلامية مرحلة عابرة، فكان لا بد، في نظره، من تكسيرها. وقد طال عهد بافي من 1846 إلى 1866. وعرفت الجزائر خلال ذلك حياة متقلبة أيضا: تغييرات إدارية، وثورات شعبية، واستيطان الأروبيين، ومواقف من التعليم والدين الاسلامي والقضاء، وحركة هجرة جزائرية نحو المشرق، وجوائح مهولة. ومن الصعب علينا التذكير بكل ذلك هنا، ولكن نحيل إلى كتابنا الحركة الوطنية والفصول الأخرى من هذا الجزء للربط بين ما حدث ¬

_ (¬1) انظر بيلي (عندما أصبحت الجزائر فرنسية)، مرجع سابق، ص 288.

وما كان يقوم به الأسقف بافي. ورغم جهود هذا الأسقف في الدعاية للكنيسة بين المسلمين وتنصيرهم عن طريق الصدقات والمداواة والورشات ونشر اللغة الفرنسية، فإنه فشل في النهاية. كان بافي عميد الكلية الكاثوليكية بليون قبل توليه أسقفية الجزائر، وقد وجد أن دوبوش مهد له الطريق بإنشاء الكنائس وتكوين الرهبان وحلقات الدراسة والملاجئ. كما مهد له الطريق باستعادة بقايا أوغسطين، ولذلك كان على بافي أن يواصل فقط مشروع سلفه. ومن أجل ذلك سعى إلى الحصول على رضى العسكريين، وإلى تجنيدهم إلى جانبه وتفادى المواجهة معهم. ويقال عنه إنه كان خطيبا ماهرا، وله قدرة على اكتساب المستمعين إليه. وفي عهده تدعمت الكنيسة في قسنطينة، حيث استمر سوشيه في مهمته، وتحول جامع سوق الغزل فيها إلى كنيسة (¬1). وفي تلمسان رجعت 1846 الكنيسة (الجامع) بعد الثورة، في طراز موريسكي، وعليه ناقوس، ولكن الأب بارجيس تمنى لو كان للكنيسة مؤذن يؤذن فيها أيضا للصلاة يوم الأحد كما يؤذن المسلمون لصلواتهم. وكانت زيارات وكتابات بارجيس تساعد بافي على ترسيخ فكرة استعادة الكنيسة الكاثوليكية إلى سالف عهدها. ولذلك قام بارجيس بتأليف كتاب صغير سنة (1848) عن (الكنيسة الافريقية) ووجهه إلى آلاف الفرنسيين، كما قال، الذين يتوجهون إلى الجزائر ليحملوا إليها حضارة فرنسا ونور المسيحية، وليذكرهم بماضي الكنيسة الذي دفنه (التعصب الاسلامي) والذي قطعت سلسلة حلقاته، حسب دعواه، بسيف أتباع النبي (محمدا ص) المزيف قطعا فادحا. وكان بارجيس، مثل بافي، يقول بأن للمسيحيين الجدد رسالة يؤدونها، وهي أن الله قد عهد إليهم باستعادة هذه الحلقة المكسورة وازدهار المسيحية من جديد في الجزائر. وقد نوه بارجيس، مثل بافي أيضا، برجال الدين القدماء أمثال: تيرتوليان، واوغسطين، وسيريان، وأوبتات، ¬

_ (¬1) انظر فصل المعالم الاسلامية.

وأرنوب، الخ (¬1). ورغم تقدم العمل الكنسي فإن بارجيس، مثل بافي أيضا، كان يخشى على مصيره، فقد انتقد موقف الداعين إلى التسامح، وقال ان الفرنسيين إذا بقوا على هذا المنوال الذي دام ثماني عشرة سنة 1830 - 1848 فإن المسيحيين في الجزائر سيختفون ويعتنقون دين النبي (محمد) المزيف، في نظره. كما انتقد القساوسة المائة الذين كانوا بالجزائر ولم يتسربوا إلى نفوس أهل البلاد لعدم معرفتهم اللغة (¬2). وخلاصة أعمال الأسقف بافي أنه أكمل مشروع الحلقات الدراسية في القبة وسانت أوجين (بلكين) بالعاصمة. وفي 1850 افتتح على حصن سانتا كروز بوهران، معبدا جديدا سماه معبد (سيدة الخلاص)، وفي 1854 وضع الحجر الأساسي لكنيسة السيدة الافريقية بالعاصمة في أعلى نقطة من جبل بوزريعة المطل على البحر. ووسع من كاتيدرالية سان فيليب (جامع كتشاوة) التي دفن فيها سلفه دوبوش سنة 1864. وأحضر مجموعة من المعلمين المعروفين باسم (أخوة المدارس المسيحية) وفتح بهم التعليم الديني ووسع منه ابتداء من 1854 (عهد المارشال راندون)، كما أحضر، باتفاق مع الحكومة، عددا من الجزويت (اليسوعيين). وبهؤلاء وأولئك فتح بعض المدارس والملاجئ في زواوة وفي غيرها باسم الأعمال الخيرية. ومما يذكر له أيضا أنه هيأ لإنشاء أسقفية في كل من وهران وقسنطينة، كما جعل أسقفية الجزائر في مستوى أسقفية فرنسا (¬3). ويذهب الكتاب إلى أن بافي وسع من التعليم باللغة الفرنسية وإنشاء ¬

_ (¬1) بارجيس Barges (موجز تاريخي عن الكنيسة الافريقية ... خصوصا في تلمسان)، باريس، 1848. المقدمة، ثم ص 38 - 42. كان بارجيس أستاذا للغتين العبرية والكلدانية بكلية اللاهوت بباريس، وكان عضوا في الجمعية الآسيوية لسان حال المستشرقين. وقد زار تلمسان عدة مرات، وخصها ببعض التأليف عن تاريخها وملوكها. (¬2) نفس المصدر، ص 45. (¬3) قوانار (الجزائر)، مرجع سابق، ص 298.

المكتبات الشعبية. وقد وقعت محاولات التنصير على عهده في عدة أماكن منها: ميسرغين وعين الحمام والأغواط والقبة. وكانت المدارس التي أنشأها بافي تعلم تقنيات الفلاحة أيضا، وكان الهدف من تعليم الفلاحة للجزائريين هو مساعدة المستوطنين الفرنسيين على استخدام اليد العاملة بأجور ضعيفة. ومن مشاهير (الآباء) اليسوعيين الذين جندهم بافي نذكر كروزا في زواوة، وكليمانت في ميسرغين. ويذكر أحد المصادر أن بافي قد ترك 1800 تلميذ يتعلمون في المدارس الدينية، عندما غادر الجزائر. وهذا لا يعني بالضرورة تعليم الأطفال المسلمين وحدهم (¬1). عندما فشل بافي في تنصير المسلمين في المدن اتجه نحو المناطق النائية والمعزولة. وطلب من الحكومة إرسال رجال الجزويت إليه (¬2). ويبدو أن الحكومة لم تشجعه على ذلك في أول الأمر، فاعتمد على وسائله الخاصة. وفي سنة 1853 أخذ بافي نفسه يهاجم الاسلام ونبي الاسلام. فقال عن القرآن الكريم إنه عاجز عن تلبية حاجات الانسان، واتهم الرسول (صلى الله عليه وسلم) بالكذب والاختلاق، وبتقليد المسيح - عليه السلام - وتحريف الانجيل. ويقول مارسيل ايمريت إن الحكومة خشيت من عواقب الصراع بين العرب والكولون فطلبت من بافي أن يكون معتدلا في هجومه على الاسلام. ثم اعترف بافي بفشله في حملته هذه أيضا. ولذلك ركز نشاطه على المراكز الاستيطانية الجديدة، وكان عددها 42 مركزا. وقد طلبت منه الحكومة محاربة الأفكار الاشتراكية بين الكولون والعمال الذين جاؤوا من باريس حاملين تلك الأفكار. فأخذ بافي يقول: إن هناك ما هو أسوأ من الدين الاسلامي، وهو وجود أناس بدون إله. وقد التجاء بافي إلى نفس الوسيلة التي لجأ إليها لافيجري في وقت لاحق، وهي كسب المستوطنين (الكولون) إلى جانبه ضد العسكريين الذين ¬

_ (¬1) نفس المصدر، وكذلك بيلي (عندما أصبحت الجزائر)، ص 283. (¬2) كانت القوانين الفرنسية تمنع الجزويت من النشاط في فرنسا نفسها.

كان يعتقد أنهم يقفون في طريق تنصير المسلمين. وحانت الساعة بإعلان نابليون عن مشروع المملكة العربية في رسالته إلى المارشال بيليسييه، الحاكم العام، سنة 1860. وكان المستوطنون ومؤيدوهم قد قاموا بحملة مسعورة ضد هذا المشروع، فقد رأوا فيه مخططا لرجوع الأمير عبد القادر والاستقلال الذاتي للجزائر تحت الحماية الفرنسية، كما رأوا فيه فشل مخطط الاندماج الذي كانوا يسعون إليه. فأرسلوا الوفود إلى فرنسا، وكتبوا الكتب والعرائض والرسائل والمقالات في الصحف. كل ذلك في غياب الأصوات الجزائرية. وعرض بافي على الكولون أن يكون هو المتكلم باسمهم. وكتب منشورا إلى القساوسة التابعين له جاء فيه أن رسالة فرنسا في الجزائر رسالة حضارية مقدسة، وإن قضية الكولون قضية عادلة. وأخذ بافي يركز على تكوين الموظفين للكنيسة وعلى أعمال الجمعيات الخيرية، أمام فشل الجزويت (اليسوعيين) الذين أرسلهم إلى زواوة (¬1). وفي نهاية عهده سعى بافي إلى الحصول على فتح أسقفيتي وهران وقسنطينة. وقيل إن المارشال بيليسييه لم يؤيده في ذلك، لأن ثورة أولاد سيدي الشيخ كانت قائمة في الجهة الغربية منذ 1864. كما كانت الجزائر تعيش مضاعفات مرسوم 1863 الخاص بالأرض وانتزاعها من يد الأعراش وتمليكها للأفراد. لكن وفاة بيليسييه في السنة نفسها 1864 جعلت بافي يغتنم فرصة زيارة نابليون الثانية للجزائر سنة 1865 ويثير معه موضوع الأسقفية في وهران وقسنطينة. وكان البابا قد منح موافقته قبل ذلك. فوافق نابليون كذلك على طلب بافي يرفع مستوى الأسقفية، وحدثت أزمة دبلوماسية بين فرنسا والفاتيكان حول طلب بافي وموافقة البابا قبل موافقة الحكومة الفرنسية. ولكن موت بافي المفاجئ أنهى الأزمة. وترشح لمنصبه بعض القساوسة، منهم كلود بافي، أخو السابق، ولكنه أحرز على أقلية من الأصوات، وحصل قاستلتي على الأغلبية، لكن ظلت المنازعات بينهما، إلى ¬

_ (¬1) مارسيل ايمريت (تنصير المسلمين في الجزائر) في (المجلة التاريخية) 1960، ص 66. حين مات بافي سنة 1866، دفن في كنيسة السيدة الافريقية.

لافيجري

أن اقترح المارشال ماكماهون، الحاكم العام للجزائر، اسم شارل لافيجري، سنة 1867. لافيجري: كان لافيجري عندئذ هو قس مدينة نانسي بفرنسا (ولد في بايون 1825). وقد عرفه ماكماهون عندما كان قائدا عسكريا لهذه المنطقة، وربط معه علاقات ودية. ووافق وزير الحربية على اقتراح ماكماهون دون تفكير في العواقب، أما وزير الأديان ونابليون نفسه فقد أبديا تحفظهما على إسم لافيجري. كان هذا أستاذا للتاريخ الديني بالكلية الدينية بباريس. وقد شارك في توزيع المساعدات على النصارى أثناء أحداث سورية 1860، وعمل على توسيع النشاط الكاثوليكي في المشرق حتى قيل إن الحكومة الفرنسية عجزت عن الحد من نشاطه الديني هناك، وقد كون مع غيره سلسلة من المدارس تسمى (مدارس الشرق)، وظل على صلة بها حتى بعد أن أصبح أسقفا للجزائر. وصل لافيجري إلى الجزائر أثناء المجاعة المشهورة التي حلت بها. ووجد أسقفية الجزائر (الارشفيشي) تضم 83 فرعا (برواس) فيها 104 من دعاة التنصير. وهم ليسوا كهنة من حيث العنوان. وكانوا يخضعون خضوعا تاما لإرادة لافيجري، وكان بعضهم مطرودا من فرعه بفرنسا، وفيهم من كان يكثر من شرب الخمر (¬1). وتساءل لافيجري منذ البداية (كيف تظل فرنسا في الجزائر أربعين سنة دون أن تنجح في تنصير المسلمين! ومنذ البداية أيضا شعر ماكماهون بالحرج مع لا فيجري. فقد أخذ هذا يتدخل في شؤون الإدارة والعلاقات مع المسلمين، كما أن زوجة ماكماهون كانت هي المتولية للإشراف على الأعمال الخيرية، فأراد لافيجري الاستيلاء على ما بيدها فرفضت فهددها بالطرد من الكنيسة. وإلى جانب نتائج الجوائح التي كانت تعرفها البلاد، كانت الدعاية الفرنسية تعمل بطريق جريدة المبشر وغيرها، ¬

_ (¬1) ايمريت، مرجع سابق، ص 70.

على جلب الأطفال العرب للمدارس الفرنسية - العربية، مطمئنة الأهالي بأنه لا خوف على أولادهم من التنصير وله لا وجود لرسم الصليب في الأقسام (الفصول) الدراسية ولا ذكر للانجيل فيها، الخ. كما دخل لافيجري (الذي استغرب من سياسة الإدارة) في خصام مع رئيس بلدية الجزائر الذي اعتبره لائكيا (علمانيا). أما علاقة لافيجري برجاله في المناطق البعيدة، فقد كانت على غير ما يرام أيضا. كان اليسوعي كروزا في زواوة منذ عهد بافي، حيث بقي خمس سنوات دون أن يحقق الهدف، رغم المصاريف الكثيرة. وحل محله يسوعي آخر اسمه، فانسان، ففشل أيضا. ولكن كروزا حصل على دعم لافيجري فعاد إلى مقره القديم بنفس الروح والحماس. وحذر الضابط هانوتو، الذي كان رئيس المكتب العربي بذراع الميزان، بأنه من الجنون الادعاء بأن أهل زواوة غير مسلمين عن حقيقة، كما كتب ابن علي الشريف إلى السلطات الفرنسية ضد النشاط التنصيري في المنطقة (¬1). وقد أرسل لافيجري بعثة من الجزويت إلى زواوة لفتح مدرسة وتقديم المساعدات الغذائية والطبية، فاستقبلهم الأهالي هناك بالاحتجاج (¬2)، كما تعين الأب كالو على كنيسة وهران، والأب لاسكاز على كنيسة قسنطينة. ولكن علاقة لافيجري بكل منهما لم تكن على ما يرام. فقد توفي كالو سنة 1875 متهما من قبل لافيجري ¬

_ (¬1) مما جاء في رسالة ابن علي الشريف، باشاغا شلاطة حيث الزاوية الشهيرة: (لقد قرأت رسالة الأسقف (لافيجري) التي عبر فيها عن نيته في إحلال الانجيل محل القرآن لتمدين العرب. إن هذه الرسالة قد أساءت للمسلمين كثيرا. إنني رجل دين، وإن كل المسلمين من جيلي يشاطرونني نفس الشعور. إننا نفضل أن نرى أبناءنا أمواتا على أن نراهم قد تحولوا إلى النصرانية. إنه لا توجد مساومة على هذه النقطة. لقد وعدتمونا وعدا صريحا باحترام حرية الضمير (العقيدة)، فإذا تخليتم عن كلمتكم فلن يبقى لنا التزام معكم. (من كتاب سكالي مرسلي) (شمال افريقيا). 1984، ص 164. وكان ابن علي الشريف يعرف الفرنسية ومن أوائل من تولي وظيفا إداريا للفرنسيين، رغم أنه كان من رجال الزوايا والمرابطين. (¬2) ايمريت، مرجع سابق، ص 71، 73 - 74.

بالغش في الحسابات المصرفية، وأما لاسكاز فقد أعلن لافيجري سنة 1872 أنه أصبح مجنونا، وحصل منه على رسالة استقالة. انطلق شارل لافيجري في مشروعه التنصيري - الاستعماري الضخم تسانده البابوية والجمعيات التي يسمونها الخيرية، وكذلك السلطات التي كانت تتغاضى عنه وتحميه وتقدم إليه المساعدات المادية والمعنوية، ولا سيما بعد حرب 1870. فقد أنشأ لافيجري (مؤسسة القديس اوغسطين لبعث الدين المسيحي). وكان الهدف منها نشر النصرانية بين المسلمين. وقد جاءه تأييد من البابا على ذلك، فنشر لافيجري رسالة بحروف بارزة ووزعها على الفروع في الولايات الجزائرية الثلاث. اعتقد لافيجري العقيدة التي بدأت تظهر خلال الستينات على يد الدكتور وارنييه وجماعته، وهي أن زواوة خير هدف للتنصير، لأن أهلها في نظره، كانوا رقيقي الدين ومن السهل حينئذ أن يتخلوا عن الاسلام ويعتنقوا النصرانية. وادعى لافيجري أنه اتصل برسائل من (جماعات) هناك يطالبون فيها بإنشاء المدارس الدينية في ناحيتهم (¬1). وكان هؤلاء، كما قال ايمريت، إنما يطالبون بمدارس فرنسية للتعليم العام، وكانوا مستعدين لدفع نفقاتها. لكن لافيجري أنشأ في قرية (الواضية) مدرسة دينية. وطلب لها المعلمين والموظفين من مؤسسة مدارس الشرق Oevres des Ecoles D'orient التي شارك في تأسيسها قبل تعيينه في الجزائر. وبناء على ذلك رجع الأب كروزا إلى نشاطه في زواوة، واستقر في برج نابليون. وقام في يونيو (جوان) 1868 بتوزيع المواد الغذائية والملابس والأدوية على الأهالي هناك، وظن أنه استولى بذلك على قلوب الناس وحاز ثقتهم. فأخذ يحدثهم في شؤون الدين المسيحي، لكنهم كانوا، كما يقول ايمريت، يأخذون منه ويضحكون عليه وعلى سذاجته. ولما أحس ببعض الرضى منهم رأى أن قبيلة بني فرح مستعدة لاعتناق النصرانية، فطلب منها أن ¬

_ (¬1) الجماعة مصطلح محلي يعني كبار القرية أو الأعيان الذين يقومون مقام المجلس البلدي.

تسمح له بالاقامة فيها فقبلت. وظن أن باب التنصير قد انفتح له. فجاء معه برئيسه، لورنسو، رئيس جماعة الجزويت، وجلسا معا في جماعة من الناس. فإذا بالدخان يتصاعد بالقرب من السجادة التي يجلسان عليها. فغادرا المكان على الفور، واشتكيا إلى رئيس المكتب العربي في الناحية، وهو الضابط مارتن، فقام هذا بمعاقبة أربعة ممن حضروا حتى يظهر لبني فرح سطوة الفرنسيين وقوتهم، وأدخلهم السجن، ثم طلب من كروزا أن يعفو هو عنهم حتى تكون له المزية عليهم وعلى القبيلة كلها. وتم ذلك فعلا. لكن كروزا لم يصدق فشله. وظل يكرر أن أقلية فقط من بني فرح هي التي تفسد مشروعه، وهي أقلية مستبدة في نظره كانت تمنع القبيلة كلها من اعتناق النصرانية. فجمع له الضابط مارتن أهل القبيلة عن طريق الأمين (أمين الجماعة) وطلب منهم أن يقولوا رأيهم بصراحة في الموضوع، وسألهم: هل ترغبون في اعتناق الكاثوليكية؟ وهل ترضون أن يقيم الأب كروزا بينكم؟ نعم أو لا؟ عندئذ ساد الصمت الرهيب جميع الحاضرين واندهشوا من هذا السؤال. ثم سالت دموعهم مدرارا وانخفضت أصواتهم، فلم يحر أحد منهم الجواب. وبعد برهة أجابوا بصوت واحد وأكيد: إذا كنا أحرارا في التصرف حسب ما تمليه علينا مشاعرنا، فإننا لن نتخلى أبدا عن ديننا ولن نعتنق دينكم أبدا، بل إننا نفضل الموت على تغيير ديننا! وأمام هذا الموقف الرافض بصراحة لمحاولات التنصير، ابتعد كروزا عن بني فرح، وأخذ يحاول في مناطق أخرى محاولات مشابهة، عند بني بودره (بوذراع؟)، وبني يني. غير أن هؤلاء كتبوا إلى الحكومة الفرنسية يقولون إنه إذا استمرت الدعاية الدينية لجماعة الجزويت التي يقودها كروزا، فإنهم لا يضمنون الأمن في المنطقة (¬1). ونحن نعلم أن زواوة كانت قد عرفت ثورة 1871 العارمة ¬

_ (¬1) ايمريت، (تنصير ..) مرجع سابق، ص 72 - 73. وأمين الجماعة هو محل ثقة الناس لكبر سنة وحكمته وتدينه. وقد برهنت زواوة (القبائل) في مختلف المناسبات على رفضها للتنصير وتمسكها بالاسلام رغم المغريات والأقاويل التي لفقها عنها الاستعماريون.

وسحقت المحاولات التنصيرية، وخيبت أحلام لافيجري. وفي زواوة أيضا جرت أحداث أخرى ضد التنصير. منها الهيجان الذي وقع سنة 1868 في بني منقلات ضد نشاط الجزويت. وفي 1870 جرى اختطاف بنتين من بني بادين من قبل هؤلاء الجزويت. وقد ثار الناس ضد هذه العملية المخزية. فقد أخبر العقيد هانوتو أن الاختطاف قد وقع على يد أخوات المذهب المسيحي، وأن البنتين حملتا، رغم معارضة عائلتيهما، إلى مركز الأيتام بالعاصمة. ولدهشة الجميع سمع المسلمون، وهم يعضون أناملهم من الغيظ، إن البنتين قد احتفل بتعميدهما في رومة في نفس السنة (¬1). وهذه الحادثة تذكرنا بما وقع للمرأة عائشة بنت محمد سنة 1834 إذ هربها رجال الدين والعقيد دي رونو أيضا إلى مرسيليا، بعد تعميدها، رغم احتجاج عائلتها وزوجها والقضاة المسلمين. وكانت السلطات الفرنسية على ما يبدو متورطة في كلتا الحالتين. اغتنم لافيجري فرصة المجاعة القاتلة التي حلت بالجزائر في الستينات وأطلق العنان لليسوعيين لنشر النصرانية بين الأطفال. فقد أخذ يجمع الأيتام الذين تركهم أولياؤهم، في ملاجئ بسانت أوجين والأبيار وابن عكنون. وكتب رسائل إلى أوروبا لتقرأ في الكنائس (فرنسا، بلجيكا، اسبانيا، بريطانيا، الخ). فأرسل إليه البابا حوالي (5000) فرنك. وجمع قساوسة لافيجري المال أيضا عندما جابوا المدن الجزائرية. وأنشأ لجانا لجمع التبرعات والتصرف فيها. وقيل إن هذه اللجان قد صرفت مبلغ 300 ألف فرنك. وقد ضم ملجأ ابن عكنون وحده 1753 طفلا بين الثامنة والعاشرة من السنين. وكان يسهر عليهم حوالي خمسين شخصا. وأرسل إليه الجيش بعض الجنود ليساعدوه في التنظيف، وأرسلوا إليه أيضا الخيام والأغطية. ولكن ¬

_ (¬1) نفس المصدر ص 84. يقول ايمريت إن زواوة لم تكن متأثرة بالمجاعة سنة 1867 - 1868، ولذلك فإنه يرى أن من أسباب الثورة 1871 تلك المحاولات التنصيرية الفاشلة والتي أدت إلى التهاب المشاعر الدينية. وهو يضيف أن الإسلام بالعكس قد تقدم خطوات أخرى إلى الأمام في زواوة.

الأطفال كانوا يموتون بكثرة بمعدل عشرة أو خمسة عشر نتيجة الأوبئة المنتشرة. وفتح في الملاجئ بعض الورشات ليعلم البنات الخياطة والتدبير المنزلي واللغة الفرنسية، أما الأولاد فكانوا يتعلمون الأعمال اليدوية. وقد أرسل حوالي 300 منهم إلى مرسيليا أيضا. ثم حدث الخلاف على مصير الأطفال الأيتام. كان مخطط لافيجري هو تنصيرهم وإبقاءهم عنده أو تحت إشراف كنيسته وإقامة قرى خاصة بهم تسمى (القرى العربية/ المسيحية) على غرار ما عاشه هو في المشرق. وفي هذه القرى تتكون أسر جديدة من جيل هو من صنع لافيجري، حيث يقع تزويج البنات والبنين، وتتكون نواة لجالية يسوعية جزائرية تحت المظلة الفرنسية على غرار ما وقع في لبنان. لكن المسؤولين السياسيين كانوا ينظرون إلى أن ما قام به لافيجري أثناء المجاعة إنما يدخل في باب الخدمات الخيرية والأعمال الانسانية. وكان أقارب أولئك الأيتام يطالبون بعودتهم إلى قبائلهم وذويهم. ولكن لافيجري كان يتحدى الجميع وينفذ مشروعه. وجرت مراسلات لا نطيل بذكرها بين الحاكم العام (ماكماهون) ولافيجري من جهة والسلطات الفرنسية من جهة أخرى. فكتب ماكماهون رسالة إلى مجلس الدولة أعلمه فيها أن لافيجري أصبح يهدد مصالح فرنسا لأن الجزائريين ستثيرهم دعايته الدينية، وإن ادعاءه بأنه هو الذي أنقذ الناس من المجاعة غير صحيح لأن المكاتب العربية والإدارة الصحية والجنود قد ساهموا في ذلك أيضا (¬1). وقال ماكماهون إننا في الجزائر في حاجة إلى رجل حكيم وليس إلى رجل متنبي. ومن جهته كتب لافيجري رسالة يقول فيها إن العرب لم تعد لديهم القوة للثورة. واتهم لافيجري إدارة ماكماهون بأنها تخفي الحقيقة عن نابليون. ويبدو أن رد نابليون كان في صالح ماكماهون إذ قال للافيجري: عليك بتربية ووعظ الأوروبيين، أما العرب ¬

_ (¬1) المعروف أن الجزائريين كانوا يساعدون بعضهم البعض كمواطنين وكقادة. انظر حياة الباشاغا المقراني، وأسباب ثورة 1871.

فاتركهم للحاكم العام يعودهم على الهيمنة الفرنسية (¬1). ولكن هذا الجواب لم يكون حاسما، إذ سرعان ما جاء الضوء الأخضر من نابليون إلى لافيجري أيضا. أما رد لافيجري على الجزائريين المطالبين بأبنائهم وأقاربهم فكان ردا عنيفا. فقد قال إنه يريد تنصير كل افريقية. ثم أخذ يهاجم، كسلفه، بافي، الاسلام، معتبرا إياه المسؤول الأول على البؤس الذي كان يعانيه الشعب الجزائري ماديا ومعنويا. وقد أرسل رسالة إلى مدير مدارس الشرق، قال فيها يجب تخليص هذا الشعب، ويجب التوقف على إبقائه في قرآنه كما كان الحال في الماضي، وهو ما يزال معمولا به إلى اليوم في مملكة عربية مزعومة (¬2). وقال لافيجري يجب على فرنسا أن تترك الحرية للمنصرين ليدمجوا الشعب الجزائري في حياة الفرنسيين أو أن تطرد هذا الشعب نحو الصحراء بعيدا عن العالم المتحضر. ولم تكن هذه الرسالة من لافيجري رسالة عادية، بل إن الصحف المحلية قد نشرتها، وتعرف الجزائريون على الجواب منها فيما يتعلق بهم وبأبنائهم. وقد حدثت بعد ذلك مبادلات كلامية بين ماكماهون ولافيجري حول أثر هذه الرسالة على السكان المسلمين (¬3). قلنا إن تدخل نابليون بين ماكماهون ولافيجري لم يكن حاسما. ذلك أن الأخير لم تثنه رسالة نابليون التي قال له فيها عليك بترك العرب للحاكم العام والعناية فقط بالأوروبيين ووعظهم. فقد ذهب لافيجري شخصيا إلى باريس وقابل الامبراطور، وترك هذا لافيجري يفهم أنه ليس ضد مشاريعه في الجزائر، وإن ذلك يعني تأييد نابليون له. ونفس الموقف أبداه منه وزير الحربية المارشال نيل. ونحن هنا أمام غموض ما مثله غموض، فالكتاب ¬

_ (¬1) ايمريت (تنصير ..)، مرجع سابق، ص 77. أيضا بيلي (عندما أصبحت ..) مرجع سابق، ص 289. (¬2) إشارة إلى مشروع نابليون الثالث الذي تحدثنا عنه. (¬3) ايمريت، (تنصير ..) مرجع سابق، ص 75. ولعل رسالة ابن علي الشريف السابقة كانت من وحي سياسة لافيجري هذه.

يقولون إن نابليون لم يكن راضيا على أعمال لافيجري منذ البداية ولا حتى على تسميته، ومع ذلك لم يردعه عندما جاءه شاكيا، وكان الوزير (نيل) كذلك غامضا معه، كما قيل، فهو في الظاهر يؤيده وفي الخفاء كان ضده. فأي سياسة هذه؟ ومهما كان الأمر فإن لافيجري قد رجع إلى الجزائر بتأييد الامبراطور والوزير والحاشية. وأيضا أيده خمسون على الأقل من قساوسة فرنسا. ثم ذهب إلى البابا فنال بركاته وتأييده أيضا، وكذلك بركات رئيس مؤسسة مدارس الشرق. وهكذا رجع لافيجري مدعوما قريبا من الجميع. ولماذا لا؟ فأخذ منذ 1869 ينشئ المؤسسات الجديدة لبعث ونشر المسيحية في افريقية والصحراء. من ذلك مؤسسة (الآباء والأخوات البيض). وتبدو التسمية في حد ذاتها، كما تلاحظ، عنصرية، ولا تليق بدور رجل الدين الانساني بقطع النظر عن الألوان البشرية. وحتى ماكماهون تراجع عن موقفه نحوه وأخذ يقدم له المال والرعاية للأيتام وغيرهم. وبلغت مساعداته حوالي 45 ألف فرنك، دون النقود التي قدمت إلى مشاريع الأيام وغيرهم من الخواص المكلفين بجمع الأطفال والعناية بهم. ومن ذلك 6000 فرنك لجمعية الأخوات (سان فانسان دي بول) اليسوعية (¬1). وهكذا ساندت سلطات باريس والجزائر مشروع لافيجري لبعث الكنيسة الافريقية، ذلك المشروع الذي بدأه دوبوش منذ 1838. ولكن حكم ماكماهون انتهى من الجزائر سنة 1870 وسقطت الامبراطورية، وخلا الجو للافيجري مع صعود المدنيين الذين وقف إلى جانبهم عند صمودهم ضد سياسة نابليون في الجزائر. لم يكن الكولون من المؤمنين بالدين عن حقيقة، ولكنهم تحالفوا مع الكنيسة، برئاسة لافيجري، ضد سياسة المملكة العربية (المزعومة) كما قال هذا عنها، وضد المكاتب ¬

_ (¬1) نفس المصدر، ص 30. يقول ايمريت لقد التقت مشاعر ماكماهون، ذلك الرجل الكاثوليكي الجيد، مع حماس لافيجري فأيده.

العربية التي كان يتولاها العسكريون. وكان الكولون ينادون بالاندماج، كما ذكرنا. وكانت صحفهم، مثل (الأخبار) و (صدى وهران) تهاجم العسكريين وتحبذ دعوة لافيجري لنشر المسيحية باعتبارها وسيلة لدمج الجزائريين إذ لا يمكن دمج هؤلاء وهم على إسلامهم. وكان الكولون يظنون أن لافيجري سيعطيهم الأطفال العرب ليعملوا عندهم بأثمان بخسة، على أن يقوم القساوسة بتدريبهم على الطاعة والاستسلام للكولون. وهكذا نشأ التحالف بين الكنيسة والكولون. فقد هاجم النائب تومسون، ممثل الكولون، القرآن الكريم في جريدة (الأخبار) وأعلن أن المسيحية مفضلة على تعاليم الاسلام غير الاخلاقية بل الوحشية. وخرج الصحفي ديفيرنوا يهاجم المتعلمين (الطلبة) الجزائريين متهما إياهم بالجهل والتعصب. وطالب الكولولون بمنع تعليم القرآن في الزوايا لأنه يقف دون مخطط الاندماج. وهاجموا أيضا نابليون لأنه في نظرهم قد ترك المسلمين بسياسته العربية يتعلمون اللغة العربية ويهتمون بالأعياد الاسلامية، وذهب وفد منهم يحمل العرائض إلى باريس ضد المكاتب العربية. وكان لافيجري بالطبع يؤيد مطالبهم باسم الكنيسة، لأنه كان يعتقد أن أفضل طريقة لفرنسة الجزائريين هي تنصيرهم. لكن لكل تحالف نهاية. ونهاية هذا التحالف كانت عندما أعلن لافيجري أنه سيحتفظ بالأطفال الأيتام العرب ويكونهم تكوينا مسيحيا. فقد اشترى أرضا واسعة في سهل الشلف منذ 1868 بين مليانة وأم السنام (الأصنام). وأقام عليها مستوطنتين عربيتين أطلق على إحداهما إسم (سان سيبريان) وعلى الأخرى اسم (سان مونيك). وفي 2 يوليو، 1872 احتفل لافيجري بأول زواج بين الشباب الذي كونه وعمده أو غطسه، كما يقول القدماء. وكان لافيجري يحتفظ بالأسماء القديمة لهؤلاء الشباب، ويضيف إليهم أسماء جديدة، وذلك أصبح فرنسوا بن عيسى متزوجا من بنيامين حليمة، وجان الشريف متزوجا من كارولين زهرة. وحضر الحفل الأول 300 مدعو من المتفرجين من أجل الدعاية وإشاعة الاندماج والمسخ. وكان المتزوجون الجدد يجمعون بين اللباس الأروبي واللباس العربي، بوضع

البرنوس الأبيض على البدلة الأوروبية، ووضع الشاشية على الرأس. وفي السنة الموالية عقد لافيجري على خمسة أزواج آخرين، وهكذا. وكل زوجين كان يعطيهما مفتاح البيت عن طريق القرعة، وكان هناك حوالي 250 مسكنا. ورغم تعرض المشروع للخطر نتيجة قلة المساعدات، فإن البرلمان الفرنسي قد صوت لصالح 75 الف فرنك سنة 1876 مساعدة لمشاريع لافيجري (¬1). ولم يكن الوضع في القريتين مشجعا. فرغم وجود عقد ينص على التحلي بالأخلاق الفاضلة والعمل الجدي وعدم انتزاع الملكية، فإن أحداثا وقعت خلال أربعين سنة أدت إلى زعزعة التجربة، بعد وفاة لافيجري. فقد طردت ثلاث عائلات من أجل السلوك المشين للزوجة، وأربع عائلات أخرى لجريمة القتل، وكذلك حدثت منازعات أخرى لا نهاية لها. وجملة العائلات التي أصبحت تعتبر مالكة حقيقة هي 58 عائلة فقط. وكانت النتائج غير مشجعة أيضا. فإثنان من أولئك الضحايا أصبحوا من دعاة التنصير، واثنان حصلا على الدكتوراه في الطب بجامعة ليل. ودخل بعضهم سلك التعليم. ولكن الكنيسة الافريقية لم تبعث فيها الحياة والاسلام لم يتراجع بين السكان. حقيقة أن جماعة لافيجري قد انتقلت إلى مناطق أخرى مثل زواوة التي عاد وركز عليها رجال الادارة من جهة ورجال الدين من جهة أخرى لإخراجها من ربقة الاسلام والعربية. ففي سنة 1872 أعلن الآباء البيض تعهداتهم أمام لافيجري. ثم ذهبوا إلى تاغمونت عزوز. ومنع عليهم الحديث عن الدين مطلقا إلى السكان، وكان مشروعهم هذه المرة يختلف عن مشروع كروزا. فالطريقة هذه المرة هي التغلغل التدريجي في الجماهير الريفية بزواوة عن طريق المدارس والمستوصفات والورشات والتمهين لإقامة مراكز للارساليات التنصيرية (¬2). ومن بين المهام المكلفين بها محاولة تمييز السكان ¬

_ (¬1) بيلي (عندما أصبحت الجزائر ..) مرجع سابق، ص 294. وايمريت (تنصير ..) مرجع سابق، ص 83. ويقول ايمريت إن مستوطنتي سان سيريان وسانت مونيك كانتا موجودتين سنة 1960. (¬2) بيلي (عندما أصبحت الجزائر ..)، ص 296.

هناك عن بقية المواطنين كالتركيز على الأصول العرقية والتشابه بينهم وبين الفرنسيين والرومان، واقترابهم العملي والسياسي من الفرنسيين، الخ. وهم يسمون ذلك التخفيف من حدة التعصب. ولكن في سنوات الثمانينات أصبح في إمكان كبار الزوار من الساسة والعلماء أن يتجولوا في زواوة، مثل جول فيري وديبورجوا، وماسكري. وفتحت المدارس الفرنسية الأولى الإجبارية هناك قبل فتحها في جهات أخرى من القطر، كما ذكرنا في فصل التعليم. وجرى سنة 1888 حفل تغطيس بعض الشبان الذين أصبحوا (مطورنين) بين السكان، ولكن حياتهم أصبحت لا تطاق، فكان عليهم أن يخرجوا من زواوة بل من الجزائر كلها، وقد رجع بعضهم إلى الاسلام. وكان رجال لافيجري ينسقون هناك مع نسائه (الأخوات). وقد سمحوا للمرأة الزواوية بالمحافظة على لباسها حتى لا تقتلع من جذورها، وحتى تظل على صلة واختلاط مع السكان، وحتى لا تتعرض للاهانة. وقد علم لافيجري رجاله أن يعرفوا كف يسكتون أمام الاسلام (¬1) كما يتخاذل الجبان أمام الشجاع. ومثل هذا النشاط في الشمال - الشلف وزواوة .. - شهدته أيضا بعض مناطق الجنوب، فمنذ 1854 كان الجنوب في حالة من الثورة والاضطراب، دون أن نتحدث عن عقد الخمسينات الذي عرف أيضا، ثورة شريف ورقلة (إبراهيم بن فارس) وناصر بن شهرة، وقد انتهت هذه الثورات جميعا. بالفشل واحتلال أجزاء كثيرة من الجنوب والتوغل الاستعماري نحو غرب افريقية والسودان، تحت غطاء الاكتشافات والبعثات العلمية والرحلات والتعاون مع بعض الطرق الصوفية. ونحن لا يهمنا ذلك هنا، ولكن انتصاب رجال الكنيسة الكاثوليكية ونسائها في مناطق عديدة من الجنوب مثل غرداية والأغواط وبسكرة وورقلة وتمنراست. لقد قيل عن شارل لافيجري إنه كان يؤمن بفتح الصحراء في وجه ¬

_ (¬1) بيلي، نفس المصدر.

فرنسا، وكان مقتنعا بضرورة ضم السودان إلى فرنسا لأنه منطقة غنية ومكملة للجزائر في نظره. ورأى لافيجري أن أكبر عائق في وجه فرنسا هناك هو الاسلام. ولذلك ألف الارساليات التنصيرية التي كان هدفها نشر المسيحية وتسهيل مهمة فرنسا في الاستيلاء على المناطق الصحراوية الشاسعة. وهنا بدأت تظهر له فكرة إنشاء جمعية الآباء البيض للصحراء، وبذلك سبق جنود المسيح جنود الحكومة الفرنسية، كما يقول الجنرال مينييه (¬1). تأسست مركزية لهؤلاء الآباء في ورقلة منذ 1873، وبقيت هناك إلى 1881 عند ثورة بوعمامة. ولم ترجع إليها إلا بعد 1891. وكان لهذه المركزية أربعة من الآباء (القساوسة)، وكانت تملك دارا للأيتام ومدرسة يتردد عليها سبعون تلميذا وعدد من الكبار، وكان لها أيضا مصحة وورشة للنسيج، وأخرى آلية للتريكو، وثالثة للنجارة، ومنشأة للاسمنت. وقد تطورت المركزية مع الأيام فأصبح لها ندوات أسبوعية سينمائية للتعليم والتوجيه والترفيه. وكان الآباء يملكون في الناحية النخيل والبساتين، وقد حفروا بوسائلهم بئرا ارتوازية تمد منطقة ورقلة بالماء الصالح للشرب. وأخذوا يتوسعون فحصلوا على امتياز في بامنديل لغراسة النخيل وحفر الآبار (¬2). وكانت الحكومة تحميهم وتمدهم بالمساعدات، وهم يفتحون لها الطريق ويقدمون لها المعلومات الضرورية عن القوافل والثورات والزوار وغير ذلك من التحركات في المنطقة. أما الأخوات البيض فقد أنشأن في ورقلة أيضا مشاريع لجلب النساء والتغلغل في المجتمع الصحراوي. وكانت لهن مدرسة - ورشة تأوي 200 تلميذة لنسج الزرابي من الصوف والوبر. وكانت لهذه الزرابي سمعة تجارية رائجة حتى خارج حدود الجزائر. وكانت الورشة النسوية تصنع أيضا المخدات والبرانيس وغيرها. وفي وقت متأخر فتحن مدرسة - ورشة للنساء المتزوجات، ومصحة. وفي 1931 كان رئيس المركز الكاثوليكي في ورقلة هو الأب روبان. وكان النموذج الموجود في ورقلة هو نفسه الموجود في ¬

_ (¬1) الجنرال مينييه (كراسات الاحتفال المئوي: تهدئة الصحراء)، ص 13. (¬2) دانيللي (في الصحراء) في (مجلة الجمعية الجغرافية) SGAAN 1931، ص 176.

غيرها من المناطق: مصحة ومدرسة وورشة ومصنوعات محلية وتوزيع أغذية وملابس باسم الأعمال الخيرية. ووراء ذلك يجري التجسس على الناس والتعرف على أنماط تفكيرهم وعقائدهم وعلاقاتهم للاستحواذ عليهم، وتمهيد الطريق للاستحواذ. وكل ذلك كان تحت شعار الدعوة إلى المسيحية وإخراج السكان من التخلف وربطهم بالثقافة الفرنسية. ويقول العقيد دي بورث دانيللي عن دور الآباء والأخوات البيض في الجنوب إنه يشبه دور الجامعة اليسوعية في بيروت (¬1). وكما قاوم أهل زواوة إرساليات لافيجري، في شخص كروزا وغيره، قاوم أهل الصحراء الآباء والأخوات اليسوعيين. ويعزو الجنرال مينييه هذه المقاومة في الجنوب إلى (المرابطين)، وبإمكاننا أن نقول إن المرابطين، والمواطنين معهم، هم الذين قاوموا أيضا في زواوة وغيرها. ويسمى الجنرال مينييه الثوار الذين قتلوا الآباء البيض أمثال بولمييه ومينوري وبوشار، في حاسي ايفيل، (نهابين) وقطاع طرق مدفوعين بتعاليم المرابطين. كما اغتيل الأب ريشار والأب كيرمابون. ومن جهة أخرى قتل ثوار الناحية ضباط البعثات منذ الثمانينات مثل العقيد فلاترز. ويقول نفس الجنرال المعجب كثيرا بدور لافيجري ورجاله ونسائه في الصحراء: إن الذين ورثوا لافيجري قد استفادوا من أخطاء الماضي واهتموا بموضوعات تهم الناحية مثل التعليم الزراعي والمهني، ومكافحة بيع الرقيق، والقيام بأعمال البر. ولذلك حصل الآباء والأخوات البيض، حسب قوله، على تقدير الادارة الاستعمارية (¬2). وقد ارتكز العمل الكنسي في غرداية أيضا حيث نشأت مدرسة للطرز يشرف عليها الآباء البيض ومدرسة للنسيج تشرف عليها الأخوات البيض. ¬

_ (¬1) نفس المصدر، ص 177. (¬2) الجنرال مينييه (كراسات ...)، مرجع سابق، ص 14.

وقد كانت السلطات الفرنسية تتغاضى عن أعمال الجزويت في الجزائر حتى بعد منعهم من العمل بفرنسا. فقد رأينا نشاطهم خلال المجاعة أي أثناء عهد الامبراطورية. وبعد سقوط هذه وظهور الفكر الليبرالي ومضادة الكليرجية في فرنسا خلال الثمانينات وما بعدها، بقي للجزويت مدارسهم ونشاطهم، كما لاحظنا. وكانوا أولا تحت حماية الكاردينال لافيجري ثم خلفائه: دوسير، وأوري، وكومبس، ويقول السيد قوانار: إن هؤلاء شهدوا الموجة التي أدت إلى غلق مدارسهم وحلقات دروسهم وبيع أراضيهم في عنابة وقسنطينة وبسكرة منذ 1903. (بعد فصل الدين عن الدولة). ولكن منذ 1917 استرجعت الكنيسة الكاثوليكية أنفاسها وسطوتها على يد الأسقف بيكمال، وبعده بولون ثم لينو (أي من 1917 إلى 1853) (¬1). وقد علق الشيخ محمد بيرم الخامس على موقف الحكومة الفرنسية من الجزويت فقال إنهم كانوا طليقي الأيدي أيام المجاعة فجمعوا الأطفال العرب ونصروهم، وحين كبروا فر بعضهم إلى ذويهم. ولما منعت الدولة الجزويت من التعليم في فرنسا سنة 1881 عممت ذلك في الجزائر، ونفتهم من كل ممالكها (مستعمراتها؟)، غير أنها سمحت لهم بالعمل في الممالك الاسلامية، وكانت تحميهم ضد أي اعتداء في هذه الممالك مع أنها لا تحميهم في فرنسا ولا في الممالك الأوروية (¬2). ويفهم من هذا أن الجزائر ليست من المناطق التي تحمي فيها فرنسا الجزويت، وهو غير صحيح، لأن السلطات الفرنسية ظلت تحمي الجزويت إلى بداية هذا القرن، ثم منذ 1917. ومن هذه الناحية كانت الجزائر تعتبر (مملكة إسلامية) على الأقل بالنسبة للتعامل مع الجزويت. مات لافيجري بالجزائر في 26 نوفمبر 1892 عن 67 سنة. وحضر جنازته الحاكم العام جول كامبون الذي أشاد بخصاله ودوره. وقد نعته ¬

_ (¬1) قوانار (الجزائر)، مرجع سابق، ص 305. (¬2) محمد بيرم (صفوة الاعتبار)، مرجع سابق، 4/ 20.

شارل دي فوكو

الصحف والدوائر الدينية والاستعمارية لأنها خسرت به بطلا من أبطالها. وقالت عنه (افريقية الفرنسية) إنه قاد نوعا من الحملة الصليبية داخل افريقية عندما أسس جماعة (الأخوة المسلحون في الصحراء). كما نوهت بمشروعه الناجح في نظرها وبالآباء والأخوات البيض، لأنهم هم الذين حملوا تعليماته الدينية، ومبادئ الحضار الفرنسية إلى المناطق الأكثر بعدا في القارة الإفريقية (¬1). وقد عرفنا أنهم انطلقوا من الجزائر التي جعلوها حقل تجارب في إحياء الكنيسة القديمة ومهاجمة الإسلام. شارل دي فوكو: لم يبلغ شارل دي فوكو درجة شارل لافيجري في المنصب الديني الرسمي، ولكنه بلغ درجته في الشهرة والخدمات التي أداها للكنيسة من جهة والإدارة الاستعمارية من جهة أخرى. وحياة دي فوكو صورة للمغامر الرومانتيكي والجاسوس المخلص والفرنسي المضحي بالغالي والرخيص في سبيل بلاده. عاش حياة شبيهة في جزء منها بحياة لافيجري، سيما ما يتصل بالاخلاص للكنيسة وعلاقته بالشرق وبالاسلام. ولكنه كان يختلف عنه في المغامرة وتعلم اللغات والتنقل هنا وهناك والجمع بين الخدمة العسكرية والدينية. أما هدفهما فيكاد يكون واحدا، وهو خدمة المسيحية ونشر التأثير الفرنسي في منطقة المغرب العربي وافريقية السودانية. ولد دي فوكو في ستراسبورغ 15 سبتمبر 1858. وبعد النشأة دخل الجيش الفرنسي (الافريقي)، ووصل إلى رتبة ملازم أول. وعمل في أنحاء الجزائر: تلمسان وعنابة وسطيف، الخ. وكان قد تخزج من مدرسة سان سير. واشتهر عنه أنه رجل (فضائح)، فقد كان يعيش مع سيدة مدة طويلة حتى لامه عقيده كثيرا. واختار الخروج من الجيش ثم رجع إليه عند ثورة بوعمامة، ثم خرج منه ثانية. ودرس اللغة العربية. وتعرف على مسالك الصحراء وسكانها منذ وقت مبكر من حياته. كما اهتم بالمغرب الأقصى ¬

_ (¬1) افريقيا الفرنسية، ديسمبر، 1892، ص 15.

عندما كانت فرنسا تبث عيونها وخبراءها فيه للتعرف على دواخله والتمهيد لاحتلاله. بدأ رحلته إلى المغرب الأقصى في يونيو 1883 متنكرا في زي يهودي من يهود المغرب حتى لا يتعرف المغاربة على هويته. وقد عين له زميله الجغرافي مكارثي، يهوديا من يهود الجزائر، إسمه مردوشين، ليرافقه ويغطيه. وانطلقا معا من وهران، وسجل دي فوكو ملاحظاته الفلكية ويومياته، وكان يتجول في الأسواق على رجليه أو على حمار. وبعد ذلك أصدر كتابه (معرفة المغرب). وبعد رجوعه إلى الجزائر تجول في الصحراء من جديد، فزار الأغواط وغرداية وواحات ميزاب الأخرى والقليعة (المنيعة) وورقلة وتقرت. وقد تخلى عن الجيش نهائيا. ثم أرسلوه في مهمة إلى سوريا. ودخل في جمعية الطرابست في أرمينية، وعزم على زيارة بيت المقدس سنة 1888. وفي 1890 دخل في جمعية أخرى لآسيا الصغرى. وطاف بالاسكندرون عندما كانت تابعة لسوريا. ومعنى هذا أنه كان داخلا في النشاط الديني - الماسوني في المشرق والمغرب، وأنه كان يفعل ذلك أثناء حياة الكاردينال لافيجري. ولعل الثقة كانت وثيقة بين الطرفين. وفي 1897 وجدناه في رومة، ثم غادرها إلى سوريا من جديد. وزار الناصرة أيضا تحت غطاء الجمعيات الدينية. ثم عاد إلى الجزائر ونسق نشاطه مع رجال لافيجري - الآباء البيض - وأخذ في تعلم اللهجة التارقية وأصدر معجما عنها. وكان يتجول في الصحراء مستكشفا وليس كرجل دين. وكما كان دي فوكو معروفا للسفارات والقنصليات الفرنسية في المشرق والمغرب الأقصى كان أيضا معروفا للمكاتب العربية والمراكز العسكرية الفرنسية في الصحراء الجزائرية. وكان يجلب إليه الأهالي عن طريق المداواة والصدقات ومعرفة لغتهم. وكان دي فوكو صديقا لكل من المارشال ليوتي والجنرال لابرين. كان هذا الجنرال (لابرين) قد وصل إلى تمبكتو. وكان يدرك مدى معرفة دي فوكو لعادات الصحراويين ولهجة الطوارق وقدرته على كسب النفوذ لفرنسا والتجسس لحسابها. لذلك طلب الجنرال من (الأب) دي فوكو

أن يقبل بالاقامة الدائمة في الهقار ليكون هو الصلة بين السلطات الفرنسية والأحداث هناك. وقول عنه الجنرال مينييه إن كان (دائما فرنسيا عظيما وجنديا متميزا، بالرحمة الإنسانية). كما كان داعية ناجحا. وأضاف مينييه عن غيرته الفرنسية بأن مراسلاته تكشف عن ذلك لأنه كان دائما يلح على نشر النفوذ الفرنسي في منطقة الهقار وخدمة مصلحة بلاده ومراقبة الحركات الدينية والسياسية في المنطقة كنشاط السنوسيين. كان دي فوكو في تمنراست على اتصال دائم ومباشر مع أعيان وأشراف الهقار ولا سيما زعيمهم موسى آل امسطان، وكذلك مع الحراثين والأتباع. وكلما مر ضابط فرنسي من هناك أقام له دي فوكو حفلة تارقية يحضرها النساء ويكون فيها الغناء والطرب، ويستقبل هو ذلك الضابط بأذرع مفتوحة. وقد كتب عدة مؤلفات عن مجتمع الهقار ولغته، وكان يوقعها بتوقيع أحد زملائه تواضعا منه (¬1). يتهم الفرنسيون عملاء العمثانيين والالمان بقتل دي فوكو. فقد كان على الفرنسيين أن يخفضوا من وجودهم العسكري في الجزائر أثناء الحرب العالمية الأولى. وكانت لهم حامية ببرج موتيلانسكي القريب من تامنراست (50 كلم عنها) فلم يبق إلا نصفها، وهم يروون أن كوكبة من الفرسان تتألف من حوالي عشرين شخصا، (يسمونهم فلاقة) جاؤوا بحثا عن (المرابط الرومي). وفي الكوكبة شخص اسمه المدني، يقولون عنه إنه من الحراثين. وفي هذه الظروف قتل دي فوكو برصاصة من حارسه، سنة 1916 (¬2). ويشاع ¬

_ (¬1) الجنرال مينييه (كراسات)، مرجع سابق، ص 34 - 36. ذكر هذا الجنرال أنه لقي دي فوكو سنة 1913 فقال له خذ خمسين مهريا واذهب إلى جنوب المغرب واقبض على المسمى عابدين وافتد منه السود والبيض الواقعين بين الهقار والنيجر. وكان عابدين يعتبر في نظر دي فوكو، نهابا قاطع طريق مدة خمسة عشر عاما. ولذلك قال دي فوكو للجنرال إذا قبضت عليه فاقتله! ص 34. وقد أوصى الجنرال مينييه بإقامة تمثال للجنرال لابرين ودي فوكو وصديقه موسى آغ امسطان. والمهاري نوع من الابل السريعة لقطع المسافات البعيدة. (¬2) ج. كنال (شهداء الصحراء: شارل دي فوكو)، في (مجلة الجمعية الجغرافية) =

أن قاتله كان من أتباع السنوسيين، والواقع أن الذي لا يخبر عنه الفرنسيون هو أن دي فوكو قد اكتشف الناس حقيقته في المنطقة، فهو يتخذ الدين والاحسان والعلم مطية للوصول إلى أهداف سياسية استعمارية. وقد كان الجنرال مينييه صادقا في وصف دوره، فهو رجل فرنسا، ورجل الكنيسة. ولم يكن مثل الآباء البيض الآخرين يعمل في الظاهر والباطن، ولكنه كان يعمل في الباطن فقط، متخذا الغموض والتمويه أسلوبا مع الجهلة والعامة وأشباههم. من حق فرنسا أن تقيم تمثالا لدي فوكو كما أقامت تمثالا للافيجري. ولكن ليس من حقها أن تقدمه للناس على أنه قديس يعمل لخير الانسانية. لقد عمل مع صديقه المارشال ليوتي في عين الصفراء، وسبقه إلى المغرب ليتجسس عليه ويرسم خريطته التي استفاد منها ليوتي عند احتلال المغرب، ولبس هناك لباس اليهود للوصول إلى هدفه. ومهد دي فوكو للسياسة البربرية الفرنسية، وتمزيق السكان بإعلانه أن البربر أقرب إلى الفرنسيين من العرب، وأنهم مستعدون في نظره لتقبل الروح اللاتينية التي انتموا إليها في العصور الغابرة، وأنهم إذا دخلوا المسيحية فسيتبعهم العرب مكرهين لا محالة. وقد سار المارشال ليوتي في المغرب والآباء البيض في الجزائر على خط دي فوكو. وظهر ذلك في السياسة الفرنسية أثناء الاحتفال بالاحتلال في الجزائر، وفي الظهير البربري في المغرب، وفي المؤتمر الافخارستي (¬1) في تونس 1930 وفي الجزائر 1939. ¬

_ = 1932، المقالة كلها من ص 325 - 341. و (الحرائين) كلمة تعني قدماء العبيد أو الفئة الاجتماعية التي دون الاشراف. (¬1) انظر جريدة (الشريعة) لسان حال جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، 31 يوليو، 1933، عدد 3. وفي 16 مايو 1930 ظهر الظهير (المرسوم) البربري. وكان هدفه فصل البربر عن العرب والمساس بالشريعة الاسلامية تحكيم الأعراف والعادات في البربر. وقد اتبعت فرنسا سياسة مماثلة في سورية خلال نفس الفترة، لتمزيق سكان سوريا. أما خلال المؤتمر الافخاريستي فقد لبس أثناءه الشبان المسيحيون الزي الصليبي وجابوا شوارع تونس. وقد انعقد في 6 مايو 1930.

النشاط التنصيري منذ 1930

النشاط التنصيري منذ 1930: فبعد الاحتفال المئوى بالاحتلال 1930، والاحتفال بمرور قرن على احتلال قسنطينة سنة 1937، انعقد في الجزائر احتفال آخر بمناسبة مرور قرن على إنشاء الأسقفية الكاثوليكية في الجزائر، سنة 1938. وقد اختيرت المناسبة لعقد المؤتمر الافخارستي سنة 1939. وهو المؤتمر الذي حضره أسقف باريس (فيردييه) ممثلا للبابا، كما حضره أسقف الجزائر الذي كان من قدماء المتعاونين مع لافيجري. وأعلنت الجرائد أيضا حضور مسيحيين ومسلمين ويهود، وأخبرت أنهم جميعا أكدوا إيمانهم وإخلاصهم لفرنسا والدولة الفرنسية. وفي هذه المناسبة أوضح أسقف باريس أهمية المؤتمر فقال إنها ترجع إلى ثلاثة أسباب: 1 - ان الكاثوليك في الجزائر سيظهرون ان (شمالنا) الافريقي هو امتداد بسيط لفرنسا، وإن فرنسا في الجزائر إنما هي في بلادها لأن الجزائر، حسب الأسقف، مثل بوردو وبيزنسون. 2 - إن انعقاد المؤتمر يتوافق مع مرور قرن على إنشاء أسقفية الجزائر. 3 - إن انعقاده بالجزائر يعتبر اعترافا بالجميل لأولئك الذين ساهموا في الاحتلال سنة 1830 وضحوا بحياتهم سواء كانوا عسكريين أو مدنيين. ثم أعلن عن احتفالات واستقبالات رافقت عقد هذا المؤتمر، منها ذلك الذي كان في مقر الآباء البيض بالسيدة الافريقية، وبلديات مدينتي الجزائر وسانت اوجين (بلكين)، والحكومة العامة، وكذلك تكريم مفتي الجزائر وحبر اليهود للمؤتمرين (¬1). وتبين المصاريف التى كانت الدولة تنفقها على الكنيسة ورجالها مدى الدعم الذي تحصل عليه والانسجام والتوافق بين الطرفين، سواء قبل قانون ¬

_ (¬1) افريقيا الفرنسية، مايو، 1939. لا ندري من هو المفتي عندئذ، ويبدو أنه هو حمدان حمود. وقد كان بالجزائر مفتيان حنفي ومالكي.

فصل الدين عن الدولة أو بعده. ففي سنة 1884 (عهد لافيجري) كان عدد النصارى في الجزائر 317، 500 نسمة وعدد المسلمين 2، 842، 497 نسمة، حسب الاحصاء الرسمي. ولكن عند توزيع المصاريف من ميزانية الدولة فإن النصارى حصلوا على 1، 003، 200 فرنك بينما حصل المسلمون على 216، 340 فرنك فقط (¬1). وبعد 1905 أي بعد فصل الدين عن الدولة، كان عدد النصارى 623، 000 نسمة والمسلمون 4، 500، 000 نسمة، وكان النصارى قد حصلوا على نفقات قدرها 884، 000 فرنك بينما حصل المسلمون على 337، 000 فرنك فقط، رغم فارق عدد السكان (¬2). وهذا الدعم المادي من الإدارة والحكومة ومن الجمعيات هو الذي جعل الكنيسة تزدهر وتنشط ذلك النشاط الذي جعلها تتوغل في الجبال والصحارى وتدخل البيوت والخيام، وتتحدى المشاعر والعقائد، وتقوم بدور الواعظ الديني، والمستكشف الجغرافي، والطبيب، وفاعل الخير، والمعلم، والجاسوس، الخ. وحوالي مدار القرن وصلت الكنائس في الجزائر إلى ثلاث كاتيدراليات، ومائتي كنيسة ومعبد، وحلقتي درس (¬3)، بالإضافة إلى عدد من الملاجئ ونحوها. بينما كانت المساجد تهدم والزوايا والمدارس الاسلامية تندثر. حقيقة إن الإدارة في الجزائر كانت تتفادى المجاهرة بدعم حركة التنصير، ولكن كل مشاريعها تقريبا كانت تصب في نفس الاتجاه الذي تسعى إليه الكنيسة، وهو نشر التأثير الفرنسي واستعادة الرومنة والمسيحية، وتحقيق اندماج الجزائريين في البوتقة الفرنسية عن طريق اللغة والثقافة والقضاء والإدارة والجيش ونحوها. فالهدف إذن واحد ولكن الوسائل والممثلين مختلفون. كانت (المبشر) وهي الجريدة الرسمية للادارة الفرنسية والي من ¬

_ (¬1) لويس رين (مرابطون وإخوان)، مرجع سابق، ص 13. (¬2) أحمد توفيق المدني (كتاب الجزائر)، مرجع سابق، ص 348. (¬3) قوانار (الجزائر)، مرجع سابق، ص 305.

خلالها تخاطب الجزائريين، تتفادى الحديث عن الكنيسة ونشاطها والتنصير الجاري في مختلف أجزاء البلاد خلال عهد دوبوشں وبافي ولافيجري. وكانت لا تتحدث، إذا لزم الأمر، إلا عن العلاج والملاجئ وأعمال الاحسان. مثلا في أوج المجاعة سنة 1868 قالت إن مطران الجزائر (تقصد لافيجري) قد أحدث عدة ملاجئ للأيتام في ابن سحنون (ابن عكنون)، والقبة والحراش وزغارة. وإن الملجأ الأول قد ضم ألف غلام عربي، وإن ملجأ القبة كان خاصا بالبنات (¬1). ومن الملاحظ أن الجريدة قد ذكرت ذلك سنة 1869 أي بعد عام من قيام لافيجري بتجربته وبعد انهاء الأزمة، وكذلك قالت عنه انه تكفل بجميع المصاريف على تلك الملاجئ، مما يوحي للناس بأن الدولة الفرنسية لا دخل لها في موضوع الكنيسة ونشاط المطران الخيري. لقد عارض الجزائريون حركة التبشير منذ البداية ورأوا فيها خطرا على هويتهم ودينهم. تحصنوا أولاد في بيوتهم فلم يرسلوا بأولادهم إلى مدارس الإدارة الفرنسية خوفا عليهم من التنصير والفرنسة المتلازمين. واحتجوا على تحويل المساجد إلى كنائس. وحين انتقل العمل الديني الفرنسي من المدن إلى الأرياف رأينا ردود فعل المناطق المعنية مثل زواوة والشلف والأغواط وورقلة. وكانت ثورة 1864 ثم 1871 ترجعان جزئيا إلى توغل حركة التنصير وتحديها لمشاعر المسلمين. فقد لجأت هذه الحركة إلى استخدام وسائل الإغراء مستغلة حاجة السكان إلى العلاج والمساعدت الخيرية والتعليم، فنصبت الورشات والمصحات وبعض المدارس التي كانت مفيدة للأهالي. ولكنها كانت أفخاخا لاصطياد الضحايا الذين كانوا قلة من الناس. وكان رجال الكنيسة أنفسهم قد اعترفوا أن الناس كانوا يأخذون منهم دون أن يقعوا في حبائلهم. وكان للمرابطين ورجال الزوايا دور في رفض التنصير وابعاد اتباعهم، فكان المتصلون منهم بالسلطة الفرنسية يحتجون لديها وينذرونها بسوء العواقب، مثل ما فعل ابن علي الشريف. وأما غير المتصلين ¬

_ (¬1) المبشر 16 ديسمبر 1869 - والحديث عن سنة 1868. يقول الباحث إبراهيم الونيسي إن المبشر لم تتحدث عن التنصير إلا في منتصف سنة 1868. انظر رسالته.

بالسلطة فكانوا يقاومون بوسائلهم الخاصة بتنبيه الغافلين ووعظ الناس عن طريق المقدمين والاخوان. وقد وصلت المقاومة إلى العنف ضد القساوسة والتخلص من بعضهم جسديا في الصحراء، مثل مقتل دي فوكو. وحين ظهرت جمعية العلماء المسلمين الجزائريين قاومت التنصير وهاجمته بقوة، وسخرت صحفها ودروس المساجد إلى كشف مخططاته. وكان كتابها يتصدون أيضا للمنحرفين الذين وقعوا ضحية التجنس. فوقفوا ضد لحمق، وبيلاح، وسعدي اواكيلي، والزناتي وغيرهم. وهاجمت جريدة (الشريعة) ما قام به الآباء البيض سنة 1933 حين استعرضوا المتنصرين الجزائريين بلباسهم المحلي وسط العاصمة، ومعظمهم كانوا من أطفال العائلات الفقيرة. واعتبرت الجريدة ذلك إهانة لمشاعر المسلمين وتحديا لها. كما هاجمت ما كانت تكتبه وسائل إعلام الكنيسة من التفريق بين المسلمين الجزائريين وادعاء (مجلة المغرب الكاثوليكي) من أن البربر قريبون من الانجيل وأنهم لذلك يقتربون من أخلاق الفرنسيين (¬1). ¬

_ (¬1) جريدة الشريعة، 24 يوليو، 1933 مقالة لمحمد سعيد الزاهري تحت عنوان (ألف وسبعمائة مسلم يرتدون عن دينهم الحنيف)، وكان استعراض المتنصرين قد حصل يوم 23 مايو، 1933.

الفصل الثاني الترجمة وظهور النخبة الاندماجية

الفصل الثاني الترجمة وظهور النخبة الاندماجية

نتناول في هذا الفصل الترجمة سواء كانت من العربية إلى الفرنسية أو العكس. وقد كان للترجمة دور فعال في حياة الجزائر الثقافية منذ الاحتلال. وكان لها فرقة كبيرة موزعة بين المترجمين القضائيين والعسكريين والإداريين. وظهرت الترجمة في ميدان الصحافة والأدب والعلوم الأخرى. وسنذكر نماذج من المترجمين. وكان لجريدة المبشر أهمية خاصة في تنشيط الترجمة من الفرنسية إلى العربية قبل ظهور الصحافة المستقلة التي أصبحت تترجم عن مختلف المصادر الفرنسية. ومن جهة أخرى نتناول في هذا الفصل ظهور النخبة الاندماجية. فقد سعى الفرنسيون منذ أول وهلة إلى سحر بعض الجزائريين بحضارتهم ولغتهم. وعملوا على تكوين فئة قابلة للاندماج والذوبان في فرنسا ومنقطعة عن ماضيها وتراثها اللغوي والديني. وهذه الفئة هي التي أصبحت تعرف (بالنخبة) الاندماجية. وهي فئة قليلة تعلمت، في أغلب الأحيان، في المدارس الفرنسية الخاصة (بالأهالي)، وكانت غالبا من أبناء الموظفين لدى الإدارة الفرنسية، وقد مسخت هذه الفئة مسخا وتجنس أكثرها بالجنسية الفرنسية أو (طورنت) كما يطلق عليها شعبيا. كما تزوج بعض أفرادها من فرنسيات، وأصبحوا منقطعين عن المجتمع الجزائري. وكان أوائل هذه الفئة قد خطفهم الفرنسيون خطفا واعتبروهم رهائن، ثم أخذوهم من الجزائر إلى فرنسا وأدخلوا بعضهم إلى مدرسة خاصة في باريس. وبعد غسل أمخاخهم أدخلوهم في الجيش وفي فرق الترجمة وفي الإدارة. وهكذا أصبحوا هم نواة النخبة الاندماجية. ثم تلاحق العدد فكان أولاد الموظفين في الإدارة، ثم جاء الجيل الثاني والثالث حتى أصبح العدد معتبرا وأصبح للنخبة صوت في الحياة السياسية منذ أوائل هذا القرن. وقد كان للمدارس الشرعية - الفرنسية الثلاث

مترجمو الحملة وغداتها

أيضا دور في تكوين هذه النخبة، ولكن بعض خريجيها سيكونون في صف الهوية الوطنية لأنهم كانوا على صلة بالقضاء الإسلامي والاتصال الدائم بالمواطنين. ومما يذكر أن النخبة كانت أيضا نتاج مدرسة الآداب (كلية) والجامعة في عمومها، ونتاج التعليم الكنسي أو التنصيري. وسيضم الفصل أيضا مجموعة من الأفراد المنتمين للنخبة، وستلاحظ أن حماسهم للاندماج كان متفاوتا، وأن بعض أعيانهم كانوا أحيانا في صف الانتماء الوطني - مثل محمد بن رحال والحكيم ابن العربي وابن علي فخار. كما ستلاحظ أن أمثال المجاوي وابن السادات والزقاي ومحمود بن الشيخ علي وابن الحاج حمو لم يكونوا من النخبة الاندماجية ولكنهم استعملوا من قبل الإدارة لنفس الغرض أحيانا، ومع ذلك كان هؤلاء ومن سار على دربهم مثل حميدة بن باديس وابن سماية (الابن) ومحمد بن مصطفى خوجة وعمر بن قدور، هم الحصن الذي وقف ضد تيار الاندماج قبل ظهور الحركة الإصلاحية والتيار الاستقلالي بين الحربين. مترجمو الحملة وغداتها كانت الترجمة وسيلة أساسية للفرنسيين في الجزائر، ونعني بذلك الترجمة من العربية إلى الفرنسية، وهذا يتضمن نقل الوثائق المكتوبة، من رسائل وعقود ملكية وكراء وأوقاف وعرائض، ثم الكتب والمصادر المكتوبة عموما. كما يتضمن الترجمة الشفوية في الاتصال اليومي في المكاتب العربية والأسواق والمحاكم والمعسكرات. فالترجمة هنا تعني النقل الكتابي والشفوي من العربية المكتوبة (الفصحى أو غيرها) والدارجة الشفوية فقط. ومنذ بدأ المستشرقون نشاطهم جمعوا بين العامية والفصحى، ولكن أغلب دروسهم ومؤلفاتهم كانت عن العامية ونقلها إلى الفرنسية. ومنذ آخر القرن الماضي جاءت العناية من قبلهم باللهجات العربية واللهجات البربرية، سيما عشية احتلال المغرب الأقصى والتوغل في الصحراء. ولم تكن العربية الفصحى مترجمة إلا من الكتب التراثية لأنها ذات أهمية خاصة للمستشرقين

والإدارة الفرنسية. وكانت هذه العملية قد راجت بالخصوص بعد إنشاء المدارس العليا، ومنها مدرسة الآداب. أول من فتح عهد الترجمة هم رجال الحملة الفرنسية (¬1)، ولقد استعان قادتها بعدد من التراجمة الذين كانوا في فرنسا عندئذ، سواء كانوا فرنسيين، وهم قلة، أو كانوا من عرب المشرق ويهوده الذين ارتبطوا بالفرنسيين بعد حملتهم على مصر. فقد وفرت مدرسة اللغات الشرقية الفرنسية عددا من المترجمين الذين كانوا في الحملة الفرنسية على مصر. وأورد شارل فيرو وغيره أسماء بعض الذين جندهم الجيش الفرنسي لحسابه ليشاركوا في حملة الجزائر وما بعدها، ومنهم: 1 - جورج غروي: وهو من مواليد دمشق، وكان يتكلم العربية بطلاقة. ولا ندري متى ارتبط بالفرنسيين ولا كيف. ونحن نعرف أنه كان يعمل أمينا لمالية باشا (والي) دمشق. عرض غروي خدماته على بورمون، قائد الحملة، ورافقه إلى الجزائر. وعندما وصلت السفن إلى سيدي فرج، نزل إلى البر وأخذ يوزع البيان الذي أعده الفرنسيون بالعربية ووجهوه للجزائريين، وكان غروي يطلب من الجزائريين التفاوض مع الفرنسيين. ويقول فيرو إن غروي كان بذلك يغامر بحياته. وتذهب بعض الروايات إلى أنه اعتقل وقيد إلى الداي بالقصبة. وتقول أخرى إنه ذهب إليه مبعوثا من قبل قائد الحملة. ومهما كان الأمر، فإن غروي حاول إقناع الداي بالتفاوض وأظهر له قوة الحملة، وطلب منه الاستسلام، وقيل إن الداي قتله، وهو أمر مستغرب لأن المبعوثين عادة لا يقتلون، ولعله قتل في الطريق. 2 - جان شارل زكار: ولد أيضا في سورية سنة 1789. وانتقل إلى ¬

_ (¬1) لا نتكلم هنا عن الترجمة الرسمية في عهد الدايات ولا حتى في عهد الأمير عبد القادر حين كان اليهود في أغلب الأحوال هم المترجمين عن اللغات الأوروبية. وقد كان بعض الجزائريين يعرفون الفرنسية والإيطالية والأسبانية ولكننا لا نعرف أنهم تولوا الترجمة رسميا فى العهد المشار إليه.

فرنسا دون أن ندري متى ولا كيف. وأصبح قسا في كنيسة القديس نقولا في مرسيليا. وقد قام بترجمة البيان الفرنسي المذكور إلى العربية بالتعاون مع المستشرق البارز سيلفستر دي ساسي وبيانشي. ويقول بيروني إن زكار كان المحرر الرئيسي للبيان. ودون أن يتخلى عن مهمة التبشير، كما يقول فيرو، سمي مترجما للحملة. وبعد الاحتلال لم يرجع زكار إلى مرسيليا بل بقي ملحقا بشخص الحكام الفرنسيين الذين تعاقبوا على الجزائر منذ بورمون إلى بوجو (وعددهم سبعة). ويعتبر زكار أول المبشرين في الجزائر في هذا العهد. وبعد إنشاء الأسقفية الفرنسية 1838 وضع زكار تحت تصرفها سنة 1845. ولا شك أنه بهذه الصفة كان له دور في هدم المساجد الأولى، مثل جامع السيدة، والبنايات الدينية الأخرى، واختيار جامع كتشاوة ليكون الكاتيدرالية الكاثوليكية. والمعروف أن زكار هو أول من ألقى القداس الديني بعد نجاح الحملة أمام الضباط الفرنسيين برئاسة بورمون في أول يوم أحد لهم بالجزائر. وكان الفرنسيون قد أرسلوه ثلاث مرات إلى الأمير عبد القادر، وسقطت عدة أحصنة تحته. ومن أعمال زكار أيضا أنه ظل ثلاث سنوات يلقي درسا بالعربية في الجزائر (¬1) على الفرنسيين. وتوفي سنة 1852، وهو في حالة فقر مدقع. 3 - أبراهام دنينوس: كان من مواليد الجزائر سنة 1797. ولعله من نسل إغريقي أو يوناني. وقد تجنس بالجنسية الفرنسية قبل الاحتلال، وأصبح يشغل وظيفة مترجم في محكمة التجارة في باريس، وسبق أن كتب معجما بالعربية والفرنسية، وزعه المسؤولون على ضباط الجيش في الجزائر. ولمعرفته بالبلاد سمي (المترجم الدليل) للحملة سنة 1830. ويقول فيرو إن الفرنسيين قد استفادوا منه معلومات عن الجزائر أثناء نزول الحملة بسيدي فرج، وهو الذي قاد السفن عند النزول. وقد بقي دنينوس في الجزائر بعد نجاح الحملة، فكان هو المترجم للجنة الإفريقية التي جاءت للتحقيق في خريف 1833. وعندما سافر المولود بن عراش إلى فرنسا سنة 1838 ليطلب ¬

_ (¬1) شارل فيرو، (مترجمو جيش افريقية) الجزائر، 1876.

تدخل الملك الفرنسي في قضية الخلاف بين الأمير عبد القادر والمارشال فاليه (الحاكم العام) حول تفسير بعض بنود معاهدة التافنة من أقليم قسنطينة، سافر معه دنينوس. ويبدو أنه بقي بالجزائر إلى وفاته بها سنة 1872 (¬1). 4 - ليون إياس (أو عياش AYAS): الذي كان من مواليد دمشق أيضا، وشارك في الحملة من مرسيليا. ومنذ معركة اسطاويلي كان يخرج للجزائريين طالبا منهم التفاوض مع الفرنسيين. ويقول بيروني إنه كان أسعد حظا من زميله غروي الذي قتل، وقد تعلم ليون العربية من التجار واليهود وغيرهم. وجرح أثناء عدة معارك. وتوفي سنة 1846 بطلقة من الرصاص أثناء معركة ضد بومعزة (محمد بن عبد الله). 5 - جوني فرعون: سبق الحديث عنه في فصل الاستشراق. وكان أيضا ملحقا ومترجما لقادة الاحتلال (ومنهم دو روفيقو)، ومن مترجمي اللجنة الافريقية. وهو الذي افتتح دروس اللغة العربية (العامية) للفرنسيين، ونشر أول كتاب تعليمي في المطبعة الحكومية الجديدة (¬2). وهناك فلورين فرعون المولود سنة 1829 وقد تولى أيضا الترجمة وله تآليف عن الجزائر. واستقال سنة 1857. 6 - شوصبوا: من المترجمين الذين التحقوا بالفرنسيين سنة 1837، وإسمه الكامل فريدريك نقولا شوصبوا، وهو من الدنمارك. وكان أبوه قنصلا لبلاده في طنجة. وقد ولد فريدريك في هذه المدينة وتربى فيها. وتعلم فيها العربية والفرنسية. وكان والده عالما نباتيا وطبيعيا أيضا. وبعد انضمامه للفرنسيين في الجزائر أصبح من المترجمين لمختلف الجنرالات. ويبدو أنه ¬

_ (¬1) نفس المصدر، ص 190. وفي 1848 طبع ابراهام دنينوس بالجزائر مسرحية بعنوان (نزهة المشتاق). اعتبرها بعض النقاد مسرحية رائدة في الأدب العربي. وسنعرض إليها في جزء آخر. (¬2) انظر فصل الاستشراق.

بدأ عمله كعضو في فرقة اللفيف الأجنبي التي كونها الفرنسيون سنة 1834 لتضم، في معظم الأحيان، المغضوب عليهم والمحكوم عليهم بالإعدام أو الهاربين من العدالة من الأوروبيين. وقد تحصل على الجنسية الفرنسية، ورافق مختلف الحملات الفرنسية ضد الجزائريين، باعتباره مترجما. وعمل في الحكومة العامة (الإدارة) أكثر من خمسة وعشرين سنة. وتقاعد سنة 1872، وعند وفاته سنة 1876، أبنه شارل فيرو، كبير المترجمين العسكريين عندئذ. وحضر جنازته الحاكم العام، شانزي. ومما يذكر بشأن شوصبوا أن لاموريسيير اختاره لمرافقة الأمير عبد القادر بعد هزيمته سنة 1847. وقد أمره أن لا يفارقه ولا يتركه يغيب عن عينيه حتى يركب البحر إلى فرنسا. كما نعرف أن شوصبوا قد حل في الحكومة العامة (الإدارة) محل ليون روش، سنة 1848. وكان روش قد أصبح قنصلا (وزيرا) لبلاده في طنجة بعد قيامه بدوره المحكم ضد الأمير. وبالإضافة إلى دوره في الترجمة العامة قام شوصبوا بالترجمة الخاصة حين أصبح كاتبا مترجما للجنة العلمية (لجنة الاكتشاف العلمي للجزائر) سنة 1839، وقد بقي في هذا المنصب فترة طويلة. وكان تأثيره واضحا لمعرفته أحوال البلاد الاجتماعية والثقافية. وفي 1856 أنشأ مع معاصريه المستشرقين: بيربروجر وبرينيه، الجمعية التاريخية الجزائرية التي أصدرت المجلة الأفريقية. ويبدو أنه كان مكرسا حياته لخدمة المصلحة الفرنسية العامة، ولم يجمع مالا ولا بنين. إذ يقول عنه فيرو: إنه عاش فقيرا ومات فقيرا لا يملك حتى القبر الذي دفن فيه (¬1). ولا نعرف أن له أعمالا مكتوبة هامة في ميدان البحث والدراسة. 7 - مترجمون آخرون: وبالإضافة إلى هؤلاء نذكر مجموعة أخرى من المترجمين باختصار: منهم روزيتي، وهو ابن قنصل توسكانيا في مصر. ولد بالقاهرة وأصبح مملوكا في عهد نابليون، ثم مترجما في الجزائر بين 1830 - ¬

_ (¬1) فيرو، مرجع سابق - ص 464 - 468.

1863. وأنجب إبنين أصبحا مثله من المترجمين، أحدهما قتل في معركة إيزلي (إيسلي) ضد الجيش المغربي 1844، والآخر قتل أثناء معركة الزعاطشة 1849. ومنهم دبوسي الذي ولد أيضا بالقاهرة وكان من المماليك، وأثناء عمله مترجما في الجزائر جرح عدة مرات، ومات سنة 1840. وأما يعقوب حبيبي فقد كان مملوكا قديما. ولعله من مواليد مصر، وأصبح من المترجمين الرئيسين في جيش الحملة، ثم رجع إلى فرنسا بعدها. وهناك أيضا داود حبيبي (ولعله أخ الأول)، وقد قام بنفس الدور. ونذكر منهم لويس دي براسفيتش الذي ولد في راقوس حوالي 1772، وكان مترجما للجيش الفرنسي في مصر، وقيل إنه رافق الحملة ضد الجزائر، وفاوض الداي وتعرض للخطر، ومات في 19 يوليو 1830 ودفن في باب الواد. ولا ندري إن كان قد مات مقتولا. وهناك عدد ممن كانوا يعرفون العربية ولهم علاقة بالمشرق، ثم تولوا الترجمة وأمورا إدارية أخرى بعد نجاح الحملة، ومنهم جيراردان، وريمبير Raimbert ودوبينيوس. فهؤلاء الفرنسيون الثلاثة تعلموا اللغة العربية، وأرسلتهم حكومتهم إلى تونس لتأمين حياد حكومتي المغرب وتونس عند الهجوم على الجزائر، وتوفير التموين، والتأثير على السكان، وكذلك التأثير على الوضع في قسنطينة من تونس، وفي وهران، والعمل على فصل قضية الجزائر (حكومة الداي) عن بقية أجزاء البلاد والجيران. وكان جيراردان يعرف الجزائر جيدا حسب الذين ترجموا له، ولذلك عينه قائد الحملة مديرا للدومين (مصلحة أملاك الدولة) حيث بقي في المنصب إلى 1833. وبعد ذلك عين مديرا للبريد بمدينة الاسكندرية (مصر). وأما دوبينيوس فقد كانت حكومته قد أرسلته في عدة مهمات إلى الشرق الأدنى، وكتب عدة مذكرات عن الجزائر وقدمها إلى بورمون. وبعد نجاح الحملة سماه هذا قائدا للشرطة في العاصمة. وقد أساء دوره وسلطته، وظن أنه يحسن التصرف. وكتب عن تجربته في الجزائر بعد أن رجع إلى بلاده سنة 1832. وكان من المتهمين بالاختلاس من خزينة الدولة الجزائرية. وأما الثالث ريمبير فقد تعين على

إدارة المركز التجاري الفرنسي بالقالة (¬1). وهو مركز كان لفرنسا فيه امتياز تجاري قبل الاحتلال. وكان استرجاع الجزائر له من أسباب التوتر بين الدولتين. ومن المترجمين أيضا ديلابورت الذي تولى في الجزائر عدة وظائف رئيسية بصفته مستعربا. ولد سنة 1777، ودرس في مدرسة اللغات الشرقية، واتبع حملة نابليون على مصر، وعمل في سلك القنصليات، ومنها قنصليتا طرابلس وطنجة قبل أن يحل بالجزائر سنة 1832. وفيها أصبح مديرا للشؤون الأهلية التي منها الإشراف على رجال الدين والأوقاف. وقد وجدنا اسمه في عدد من مراسلات السلك الديني. وكان مترجما رئيسيا، وهو الذي نظم فرقة المترجمين في المرحلة الأولى. ودرس كذلك اللغة البربرية. وبعد رجوعه إلى فرنسا سنة 1841 درس أيضا القبطية. وقد مات سنة 1861 وترك ثلاثة أبناء اتبعوا سيرته في الترجمة وتعلم اللغات الشرقية (¬2). وظهر مترجمون آخرون بعضهم رافقوا الحملة وبعضهم جاء إلى الجزائر بعدها. فمن المشارقة في الأصل نذكر: براهمشة، وهو من سورية ومن رجال الدين (قس) مثل شارل زكار. وقد استعمله الفرنسيون في الترجمة وفي المفاوضات السياسية. وعبد الله دزبون الذي كان رئيسا لفرقة المماليك (وهي عندئذ نوع من اللفيف الأجنبي - المشرقي). وقد عينه الفرنسيون سنة 1837 قنصلا لدى الأمير عبد القادر في معسكر. وتوماس أوربان (إسماعيل عربان بعد إسلامه)، الذي عاش في مصر ثم حل بالجزائر، وتولى الترجمة والكتابة منذ 1837. وقد تناولناه في مكان آخر (¬3). وعبد المالك، وهو من مصر، ودخل في خدمة الفرنسيين منذ مارس 1830 (أثناء الاستعداد للحملة على الجزائر)، وكان أيضا من المماليك. وأصبح ¬

_ (¬1) عن هؤلاء الموظفين الثلاثة انظر Peyronnet (الكتاب الذهبي) المجلد الثاني، الجزائر 1930، ص 15. (¬2) بيروني، (الكتاب الذهبي) مرجع سابق، ص 17. تولى ديلابورت أيضا القنصلية الفرنسية في موقادور. (¬3) انظر عنه فصل مذاهب وتيارات وكتاب الحركة الوطنية، ج 1. (مخطوط).

دليلا ومترجما في الحملة، وأظهر شجاعة ضد الجزائريين استحق عليها وساما سنة 1833، ومات في عنابة سنة 1845. وسالم، وهو سوري، دخل أيضا في خدمة الفرنسيين منذ مارس 1830 (¬1). وكان مثل عبد المالك من المماليك. وسبق له العمل في الترجمة الفورية. وأصبح مترجما ودليلا في الحملة سنة 1830. ثم دخل فرقة تسمى بالدرك الحضري، وأصبح ضابطا في الصبائحية. وشبيه به سليمان الذي كان أيضا سوريا. والتحق بالفرنسيين في مارس 1830، وكان أيضا من الممالك، وتدرج في العمل على نفس خطى زميله سالم. أما غبريال زكار فقد ولد بالاسكندرية سنة 1810، ورافق عمه (أو خاله) القس شارل زكار إلى الجزائر. وأصبح مترجما سنة 1830، وقد أرسله الفرنسيون إلى مدينة معسكر بتلك الصفة (مترجما،). وفي أكتوبر 1837 قتله رئيس مكتبه الذي قيل إنه أصبح مجنونا (¬2). ولا نعرف الآن هوية طابوني، ولكننا نعرف أنه تولى الترجمة في بجاية مع سلمون دي موزيس سنة 1832. وقد قتل في 4 غشت سنة 1836 كما قتل رئيسه في نفس الوقت من قبل المقاومين. ويبدو أن المترجم كوهين كان من يهود الجزائر (وقد يكون من غيرها). والملاحظ أنه أصبح سنة 1833 مترجما ملحقا بالجنرال براي Barail في مستغانم. وقد قتل بدوره تحت أسوار هذه المدينة سنة 1833 (3 غشت). ولا بد من ذكر اثنين آخرين كان لهما دور في الترجمة والحرب، وهما يوسف وعبد العال. أما يوسف فهو اللقيط الذي ادعى للفرنسيين أنه ابن غير شرعي لنابليون الأول، فأدخلوه الجيش ورقوه حتى وصل إلى رتبة جنرال، وعينه كلوزيل (بايا) على قسنطينة ليزعج به الحاج أحمد. وقد خاض اللقيط يوسف حروبا طاحنة ضد الجزائريين خلال النصف الأول من القرن الماضي. ¬

_ (¬1) وذلك يدل على أن الفرنسيين قد (جندوا) مجموعة من التراجمة استعدادا للحملة، سواء كانوا من المشرق أو من أوروبا. (¬2) بيروني، مرجع سابق، ص 870.

وتناولنا ذلك في مكان آخر (¬1). وأما عبد العال فقد وصل أيضا إلى رتبة جنرال، ولكنه بدأ حياته مترجما وهو في سن الخامسة عشر. وقيل إنه ابن لعبد العال آغا، وأنه ولد بمرسيليا سنة 1815، ولا ندري الآن أصوله. وشارك في الحملة ضد الجزائر باعتباره مترجما عسكريا (؟)، وفي 1831 سمي مترجما من الطبقة الثالثة. وتطوع سنة 1837 في فرقة الصبائحية وأصبح سنة 1840 ضابطا (أهليا) ثم في 1844 أصبح ضابطا فرنسيا. ومنذئذ أخذ يترقى إلى أن وصل إلى رتبة جنرال (¬2). ومن تونس نجد أحمد بن محمد، فقد ولد بها سنة 1820، وعمل فارسا في الجيش منذ 1849، ثم مترجما منذ 1853. والتحق بمصلحة الشؤون الأهلية التي كلف فيها بمهمات متنوعة، ومنها الاهتمام باللغة والمسائل الزواوية. وقد عمل في سطيف 1878 (¬3). وفي سنة 1880 نشر كراسة عن أسباب عدم الأمن في الجزائر ووسائل استبابه، وهي في 16 صفحة. وقبله جاء أحمد الانبيري من تونس أيضا. وهو من أصل يوناني أو ألباني. وعمل في الترجمة وألف كتابا في تاريخ قسنطينة، تناولناه في غير هذا الكتاب (¬4). أما من لبنان فقد ذكرت المراجع الفرنسية جان الشدياق، المولود سنة 1821، ولعله من عائلة أحمد فارس الشدياق الذي اعتنق الإسلام وأصبح من أعيان الشعراء والمؤلفين والصحافيين في الدولة العثمانية خلال القرن الماضي. أصبح جان من المترجمين في الجيش الفرنسي، وحصل على ¬

_ (¬1) انظر عنه الحركة الوطنية، ج 1. (¬2) بيروني، مرجع سابق، ص 337. (¬3) نفس المصدر، ص 226. ومن مواليد تونس ذكر بيروني شخصا أخر هو أمير عثمان الذي ولد سنة 1893 وكان سنة 1930 يعمل في بسكرة، ص 890. (¬4) ألف كتاب (علاج السفينة) وقد درسناه في مجلة كلية الآداب، ثم نشرنا ذلك في الجزء الأول من (أبحاث واراء) ج 1. وكان الانبيري خطاطا أيضا، وله بعض اللوحات في ذلك.

وسام منه سنة 1861. وقام بمهمات عديدة لصالحه، وقد تقاعد سنة 1867. وهكذا ترى أن الحملة قد جلبت إليها المترجمين من مختلف الأصول والأجناس والكفاءات. وكانت فرصة للمغامرين المدنيين والعسكريين. وكل ذلك يبرهن على أن الشعب الجزائري قد عانى من هؤلاء (المترجمين) الذين كان أغلبهم، سيما في البداية، غير مؤهلين، كما شهدت على ذلك دراسة فيرو، وملاحظات برينييه. لقد كانت الجزائر بالنسبة إليهم حقلا من التجارب والمغامرات. وهناك مترجمون آخرون لا ندري إن كانوا قد رافقوا الحملة من أولها أو التحقوا بها، ومنهم بنجامين فانسان الذي كان من رجال القانون، وكان قد عين قاضيا في أكتوبر 1830، ثم أصبح أول رئيس لمحكمة الاستئناف في الجزائر. وهو خرج مدرسة اللغات الشرقية. أما أوسيد دي صال، فقد كان طبيبا وتخرج أيضا من مدرسة اللغات الشرقية، وتولى تدريس اللغة العربية في مرسيليا. وكلاهما (فانسان (¬1) ودي صال) تولى الترجمة. وهناك مجموعة من اليهود استعان بهم الفرنسيون أيضا، مثل أسرة أبوقية (وهم ثلاثة بهذا الاسم) ويوسف عمار، وصمويل بن باروخ. والملاحظ أن معظم المترجمين الأولين كانوا من مواليد بلدان مختلفة، سورية ومصر وتونس وطنجة، ومالطة وفرنسا. أما من المترجمين الجزائريين فالذي تفاوض مع الفرنسيين لمعرفته لغتهم هو أحمد بوضربة. وكان بوضربة قد عاش في فرنسا وتاجر في مرسيليا، وكان من المعجبين بالفرنسيين وثقافتهم ولغتهم، وكان متزوجا من فرنسية. وقيل إنه كان يمثل تجارة الداي في مرسيليا. وقد حضر معه حسن بن حمدان خوجة الذي كان يعرف الفرنسية، ربما بحكم التجارة أيضا. ولكن الجزائريين ¬

_ (¬1) فانسان هو الذي ترجم ونشر قصيدة محمد بن الشاهد في رثاء الجزائر عند احتلالها. انظر دراستنا عن ذلك في كتاب (تجارب في الأدب والرحلة)، ط. الجزائر 1982.

تنظيم فرقة المترجمين

لم يكونوا مترجمين بالمعنى الدقيق للكلمة، إنما كانوا مفاوضين لمعرفتهم اللغة الفرنسية والعربية. وكان تأثير بوضربة على سير المفاوضات واضحا، ثم إنه بسبب هذا الماضي عينه الفرنسيون على رأس بلدية الجزائر قبل أن يسخطوا عليه، كما فعلوا مع غيره في مواقع ومدن أخرى. إذن لعبت الترجمة دورا مهما في هذه المرحلة الأولى بين الجزائريين والفرنسيين. وكانت القواميس توزع على ضباط الجيش لمعرفة مبادئ العامية، مثل معجم دنينوس المذكور، ومعجم المستشرق جان جوزيف مارسيل إلى (المعجم الفرنسي - العربي للهجات العامية الافريقية في الجزائر وتونس ومراكش ومصر) (¬1) بالإضافة إلى تأليف جوني فرعون في اللغة العربية بمدينة الجزائر. تنظيم فرقة المترجمين وبعد نجاح الحملة رجع بعض المترجمين إلى فرنسا، ولكن الآخرين التحقوا بمختلف المصالح، كما رأيا في حالة زكار وفرعون ودنينوس. وظلت الترجمة غير دقيقة وغير منظمة، فكل من يعرف قليلا من العربية والفرنسية يعد نفسه مترجما. وكانت الإدارة الجديدة في حاجة إلى هذا الجهاز لكي تتصل بالشعب وتربط علاقات مع قادة وتدرس أوضاع المحاكم والأسواق والأملاك وغيرها. وقد ظهر أن كثيرا من حالات الغش وسوء التفاهم كانت بسبب سوء الترجمة عمدا أو عجزا. وأحس القادة الفرنسيون أن نجاحهم في الجزائر يتوقف على حسن الترجمة ووجود مترجمين أكفاء. فاتهموا المترجمين الضعفاء بأنهم شلوا التأثير الفرنسي بين السكان وعرقلوا المخططات بسبب جهلهم في حين أن على المسؤول الفرنسي، مهما كان، الاعتماد على جهاز المترجمين. ويقول شارل فيرو معتذار ومبينا الحاجة التي ¬

_ (¬1) ط. باريس 1837.

كانت تدعو إلى تنظيم هذا الجهاز (مهما كانت عبقرية المسؤول (الفرنسي) في بلد أجنبي، فإن عليه أن يعتمد على كاتبه (سكرتيره) المترجم الذي يمتاز بالذكاء والموهبة والتجربة والشعور القومي). وقد نعت برينيه المترجمين بأنهم كانوا سيئي السمعة ولا يشرفون المهنة إلا نادرا. ولكن هذا النقد كان موجها عادة إلى من سموا بالمترجمين (الاحتياطيين)، وهم غير الفرنسيين. ويقول فيرو إنه أثناء الاستعداد للحملة في طولون اعتمد الفرنسيون على أي شخص يعرف قليلا من العربية والفرنسية. وبعد ذلك اعتمد الفرنسيون أيضا على الأهالي الذين يعرفون قليلا من الفرنسية. ولعله يعني بذلك اليهود خاصة، لأنهم هم الذين كانوا يعرفون من الفرنسية ما يكفيهم للتجارة، أما الجزائريون المسلمون فمعرفتهم للفرنسية قليلة. ومهما كان الأمر فإن اسم (المترجم) أصبح، كما يقول فيرو، إسما مرفوضا من الرأي العام الذي لم يعد يعرف الفرق بين المترجم الرسمي، وبين المترجم الاحتياطي. ومن ثمة جاءت الدعوة إلى ضرورة تصنيف المترجمين حسب سلم ودراسة بعد مسابقات محددة ليترتب على ذلك نظام شامل لمرتبات المترجمين وترقيتهم وتقاعدهم (¬1). ابتدأ الفرنسيون بتنظيم جهاز القضاء بعد نجاح الحملة. فالقضاء كان الميدان الأكثر إلحاحا عليهم من غيره لاتصاله بالأملاك والجنايات ونحوها. ولذلك كلفوا جوني فرعون بوضع تقرير عن المصطلحات القضائية في الجزائر والفروق بينها وبين مصطلحات القضاء في فرنسا. كان ذلك سنة 1834. وقد بين فرعون في تقريره الاستعمالات العربية في هذا الميدان وكيفية تحرير الأحكام في المحاكم، وترجمتها. وبعد ذلك صدر مرسوم ينص أولا على تنظيم القضاء، كما ينص على إنشاء فرقة من المترجمين المحلفين ليكونوا في خدمة المحاكم بصفتهم موظفين ملحقين بها. وقد أنشئت هذه الفرقة في فبراير 1835، وهي الفرقة التي كان لها دور بارز في ¬

_ (¬1) فيرو، مرجع سابق، ص 86 - 106.

الترجمة في المحاكم، سلبا وإيجابا، ولا سيما بعد أن استولى القضاء الفرنسي على القضاء الإسلامي، وتولت المحاكم الفرنسية جميع صلاحيات المحاكم الشرعية الاسلامية بالتدرج ابتداء من الخمسينات. وكان المترجمون يؤثرون في الأحكام الصادرة عن القضاة لأن بأيديهم أداة التعبير بين المتخاصمين. وقد أعطانا محمد بيرم الخامس صورة عن ذلك (¬1). ونحن لا يهمنا هنا الجانب السياسي أو الديني من فرقة المترجمين القضائيين، ولكن يهمنا منها الجانب اللغوي والمعرفي. فقد كان هؤلاء مطلعين، في أغلب الأحوال، على الشؤون الثقافية والتاريخية للمواطنين، وكانوا يعرفون المصطلحات الواردة في اللغة القضائية، كما يعرفها اليوم المحامون والموثقون، بالإضافة إلى معرفتهم للمصطلحات الفرنسية. وقد قام بعضهم بترجمة النصوص أيضا، ودخلوا بذلك ميدان الاستشراق أو الاستعراب. وكانوا يخضعون في قبولهم وترقيتهم وتقاعدهم إلى تنظيم دقيق في العموم. وكانت المسابقات هي الطريق إلى ذلك. أما المترجمون العسكريون فأول تنظيم جرى لهم كان سنة 1842 (عهد بوجو) ففي هذا التاريخ تبين المسؤولون الخلل الذي أصاب هذه الفرقة التي كان ينتمي إليها كل من هب ودب. وكان النظام كله عسكريا، كما نعرف. وتألفت لجنة للاستماع إلى شكاوي المترجمين العاملين. ويقول فيرو إن اللجنة انتهت إلى (تطهير) الفرقة من العناصر غير الكفأة. وكذلك تحددت طريقة إجراء المسابقة لاختيار الأكفاء. ووضعت اللجنة برنامجا للامتحان ومشروعا كاملا للترقية. ولم ينفذ المشروع دفعة واحدة، بل على مراحل. كانت اللجنة برئاسة العقيد (يوجين دوماس)، وكان الكاتب للجنة هو لويس برينيه المستشرق المعروف (ورئيس حلقة اللغة العربية) ومن أعضائها أدريان بيربروجر وليون روش. وظلت اللجنة تواصل السهر على تنفيذ مشروعها خلال سنوات، فصدر في 1845 قرار وزاري يوافق على عملها، ثم عدل ¬

_ (¬1) انظر فقرة القضاء من فصل السلك الديني والقضائي.

المترجمون الجزائريون

بقرارات أخرى صادرة سنة 1848، 1854، ثم 1862. وكانت اللغة العربية قد جعلت ضرورية للتوظيف منذ 1838 بقرار من الحاكم العام (فاليه)، ويعني بذلك الموظفين الفرنسيين. ثم جعلت العربية إجبارية أيضا ابتداء من فاتح 1847. وكان معظم المترشحين في المسابقات هم تلاميذ برينيه. ولذلك كان برينيه من المساهمين في تكوين فرقتي المترجمين سواء في القضاء أو الجيش. وكان يساهم في ذلك رغم أن القرار الوزاري كان متأخرا (¬1). ومنذ الأربعينات تولى أساتذة آخرون حلقتي اللغة العربية في وهران وقسنطينة، وساهموا أيضا في تكوين المترجمين وغيرهم، بالإضافة إلى برينيه. وقد درسنا ذلك من قبل في (حلقات اللغة العربية). ويبدو أن قانون الدخول إلى فرقة المترجمين العسكريين بالذات كان صارما ودقيقا جدا. ذلك أن شخصا مثل رينيه الذي قضى وقتا طويلا في تدريس العربية وفي تكوين جيل من المترجمين لم يسمح له سنة 1855 أن يشارك في امتحان الترشح لهذه الفرقة. فقد طلب ذلك في رسالته إلى لجنة الامتحان، ولكنها لم تسمح له، لأنه لم يكن حاصلا على الرتبة المؤهلة للمشاركة وذلك ما جعله يبقى في درجة ثانوية بالنسبة لتلاميذه الذين كان يتمنى أن يكون فقط واحدا مثلهم. ومع ذلك استمر في دروسه وتأليفه إلى وفاته (¬2). المترجمون الجزائريون وهناك فرقة ثالثة في ميدان الترجمة تسمى فرقة المترجمين الاحتياطيين. وهي الفرقة المخصصة عادة للجزائريين الذين تعلموا الفرنسية. ¬

_ (¬1) فيرو، مرجع سابق، ص 84 وكور، مرجع سابق، ص 37. وكان المرسوم الملكي سنة 1845 يجبر الموظفين الفرنسيين المدنيين على معرفة العربية، أما العسكريون فيحكمهم في ذلك قرار خاص. (¬2) تعرضنا إلى حياته في فصل الاستشراق، وفي التعليم عند الحديث عن حلقات اللغة العربية. وقد ترجم له أيضا فيرو، ص 371 - 381، رغم أنه لم يكن من العسكريين.

وكان الفرنسيون يميزون بين الجزائري المسلم وغيره. فهم لا يسمحون للجزائريين بتولي نفس الوظائف التي للفرنسيين، سواء في الجيش أو في الإدارة أو في التعليم أو في القضاء. والفرقة الاحتياطية هي التي يسمح فيها للجزائريين بالدخول. وكان بعض الجزائريين الذين دخلوا ميدان الترجمة من المتجنسين أيضا. وقد ذكر فيرو عددا منهم. والتحق آخرون بميدان الترجمة بعد تأليف كتابه (أي فيرو). والتجنس بالجنسية الفرنسية لم يجعل هؤلاء الجزائريين مع ذلك على قدم المساواة مع الفرنسيين. وقد ذكر فيرو ثلاثة من المتجنسين (¬1)، وهم: أحمد بن الفكون، وموسى الشرقي، وفرج نقاش. ومن بين هؤلاء واحد فقط معروف العائلة والنسب وهو ابن الفكون. أما الآخران فلا ندري أصلهما العائلي. وأما ابن الفكون فسنتحدث عنه في فقرة أخرى ضمن الذين ترجموا من الفرنسية إلى العربية. وأما فرج نقاش فقد قال عنه فيرو إنه من مواليد قسنطينة سنة 1822 وأصبح مترجما عسكريا منذ 1843، وعمل في فرقة الصبائحية، ثم تقاعد سنة 1873. ووصفه فيرو بأنه كان فارسا مغوارا، وجرح في الحرب وحصل على وسام. وذلك يدل على أنه حارب مع الفرنسيين ضد المقاومة. وأما موسى الشرقي فقد ولد بالجزائر سنة 1820، وحصل على الجنسية الفرنسية سنة 1860، أي قبل صدور القانون المشيخي الخاص بذلك سنة 1865. وأصبح مترجما مند 1846، وكان ما يزال حيا عند نشر فيرو لكتابه (سنة 1876) (¬2). ومن جهة أخرى هناك مترجمون ذكرهم فيرو ولم يتحدث عن تجنسهم بالجنسية الفرنسية، وهم إسماعيل بن مهدي البجائي وحسن بن محمد الجزائري (مدينة الجزائر)، والطاهر بن النقاد القسنطيني. فقد وصف إسماعيل بن المهدي بأنه مترجم عسكري احتياطي سنة 1870، ولكنه استقال من ذلك بعد أربع سنوات، وكان سنة 1876 مترجما قضائيا. ونحن نفهم أنه ¬

_ (¬1) فيرو، مرجع سابق، ص 299. (¬2) نفس المصدر، ص 364.

خرج من فرقة الترجمة العسكرية إلى فرقة المترجمين القضائيين (¬1). ووصف فيرو السيد حسن بن محمد بأنه من مواليد 1810، ونفهم من حديث فيرو عنه أنه توظف في الترجمة العسكرية كاحتياطي، وأصبح سنة 1840 من الطبقة الثالثة فيها، ثم أصبح سنة 1876 من المتقاعدين. وكان فيرو قد اختصر عنه الحديث كعادته بالنسبة للجزائريين. أما الطاهر بن النقاد فقد كان من المترجمين من الفرنسية إلى العربية، ولذلك سنذكره في الفقرة الخاصة بذلك. وتحضرنا أسماء أخرى من المترجمين الجزائريين الذين خدموا في الجيش الفرنسي وغيره من المصالح. وكان الفرنسيون إما أرغموهم على تعلم الفرنسية وهم صغار، مثل أحمد بن رويلة وعلي الشريف (الزهار)، اطري وآخرين. وسنذكر ابن رويلة وعلي الشريف أثناء حديثنا عن أخذ الأطفال إلى فرنسا كرهائن ومحاولة تكوين فئة متميزة منهم وزرعها في الأوساط الجزائرية والاستفادة من خبراتها. وكان علي بن محمد من المترجمين العسكريين، ولد بالجزائر سنة 1818. واعتبره فيرو من أوائل المترجمين الجزائريين، إذ أنه سمى مترجما احتياطيا في 26 مايو، 1839. واعتبره في مكان آخر من الأوائل الذين تعلموا الفرنسية. جرح علي بن محمد (ونحن لا نعرف أصل عائلته) في معركة بوادي العلايق (الحجوط) بين الفرنسيين والجزائريين خلال ديسمبر 1839. وعاش إلى 1868، وتوفي، كما يقول فيرو، بضربة شمس في غشت من نفس العام أثناء سباق جرى في الضاية DAYA (؟) (¬2) . ومنهم أحمد خاطري الذي يبدو أنه خدم الفرنسيين خدمة مخلصة كمترجم وكجندي. ولد خاطري في بجاية سنة 1825، وتعلم بها. ثم أصبح ¬

_ (¬1) لا نعرف الآن العلاقة بين اسماعيل بن المهدي هذا وابن مهدي الذي ظهر أول القرن وتزعم القسم القبائلي في مجلس الوفود المالية. (¬2) فيرو، مرجع سابق، ص 310.

موظفا. في المكتب العربي (العسكري) فيها كدليل وفارس، ابتداء من 1847. ثم مترجما في اللغة البربرية سنة 1853. ثم استقال من هذه الوظيفة سنة 1868. وبعدها دخل الحياة المدنية، وأثناء وظيفه في بجاية كان دليلا لبوجو عندما هاجم وادي الساحل سنة 1847، ولعب دورا ضد ثورة بوبغلة فوقف ضد هجومه على بجاية 1851 وعلى البابور 1853، وجرجرة 1854. وقال عنه فيرو إنه كان فارسا أكثر منه مترجما، ووصفه بأنه قدم خدمة كبيرة للفرنسيين نظرا لمعرفته بالمنطقة، وقد جرح هو وحصانه في عدة معارك، وكان حاضرا أيضا لثورة جرت بالمنطقة سنة 1865. وقد تحصل، جزاء خدماته، على الصليب من يدي نابليون الثالث في جوان من هذه السنة ببجاية. وعند هجوم الرحمانيين على بجاية بقيادة عبد العزيز الحداد، سنة 1871، ركب أحمد خاطري جواده من جديد ووقف ضد هذا الهجوم (¬1). ولنذكر أيضا عددا آخر من المترجمين الذين نشأوا في عهد الاحتلال وتعلموا الفرنسية في المدارس الأولى التي أنشأها الفرنسيون. وكان بعض هؤلاء قد ساهموا في الحياة الثقافية مثل ابن سديرة وحسن بن بريهمات، واكتفى بعضهم بمستوى بسيط يكفيهم للخدمة في الجيش الفرنسي والترجمة له أو في المحاكم والمكاتب العربية. ومن الصنف الأخير نذكر إبراهيم بن حسن بن بريهمات، الذي ولد في العاصمة سنة 1848 ودرس بها في مدرسة الجزائر الرسمية (الشرعية) أو في المعهد السلطاني، وأصبح من المترجمين. وتولى مهمات عديدة للفرنسيين ثم ترك الشؤون الأهلية سنة 1875، ولكنه سقط عن حصانه في 14 مايو من نفس العام فمات (¬2). ومنهم عمر بن عبد الله الذي لا نعرف عنه الكثير سوى أنه ولد ببسكرة في تاريخ نجهله، ثم دخل الخدمة (؟) في سنة 1865، ولم يسجل له من ذكروه أي دور خاص (¬3). ¬

_ (¬1) نفس المصدر، ص 321، انظر أيضا بيروني، مرجع سابق، ص 228. (¬2) انظر عنه وعن أسرته فصل السلك الديني. (¬3) انظر بيرونى، مرجم سابق. الغالب أن الخدمة المشار إليها هى العسكرية.

وكذلك التومي بن أحمد، وهو من بني سليمان (قرب العاصمة)، ولد بالجزائر، سنة 1830، وأصبح من العسكريين سنة 1850، وتولى القيادة في الجلفة سنة 1863، ثم في سور الغزلان سنة 1876. وقد غادر الخدمة سنة بعد ذلك. ومن نواحي قسنطينة ظهر عدد من هؤلاء المترجمين. منهم محمد (أو أحمد؟) بن حسين. ولد بعنابة دون تاريخ معروف، ودخل الخدمة العسكرية والشؤون الأهلية (المكتب العربي؟) في مايو 1872. وقد عمل في سور الغزلان وبسكرة ثم وادي سوف 1890 - 1897. وأثناء ذلك كلفه الفرنسيون بالقيام بمهمة خاصة في الصحراء (سنة 1893)، ولا ندري ما هي، ولكن من المعروف أن تلك الفترة شهدت نشاطا فرنسيا كبيرا في الجنوب. وقيل إن محمد بن حسين قد غادر الخدمة سنة 1898 (¬1). وكذلك بكير خوجة الذي يظهر من اسمه أنه من بقايا العائلات العثمانية. ولد في قسنطينة سنة 1856، وعين مترجما. سنة 1879، وقد ظل في الخدمة إلى سنة 1913 حين تقاعد عشية الحرب العالمية. وقد نشر سنة 1908 قاموسا عربيا. - فرنسيا (¬2). وكان ميدان خدماته واسعا، إذ أنه شمل المسيلة وسطيف وبني منصور وبسكرة وبوسعادة وقسنطينة وورقلة والأغواط، والعاصمة، بالإضافة إلى تونس (¬3). أما عبد الكريم بن أحمد الفكون (لعله ابن أحمد الفكون الذي سنتحدث عنه) فقد ولد في باتنة سنة 1864، وعمل في الترجمة منذ 1882، وشمل نشاطه في ذلك باتنة وتقرت وسعيدة والعين الصفراء وتكوت وورقلة وعين صالح، كما عمل في تونس. وتوفي سنة 1921. ومن أبرز الذين دخلوا مبكرا في الخدمة العسكرية الفرنسية محمد بن داود. كان أصله من عرب الدوائر والزمالة القاطنين سهول وهران. وانضموا للفرنسيين منذ 1835 باتفاق الكرمة. وكان ابن داود (الأب) قد جاء العاصمة ¬

_ (¬1) بيروني، مرجع سابق، ص 456. (¬2) انظر لاحقا. (¬3) بيروني، مرجع سابق، ص 524.

وعرض خدماته على كلوزليل. وقدم وثيقة عن الكيفية المثلى لحكم الأهالي في نظره. وكان رجلا متعلما وطموحا. استخدمه الفرنسيون في مصلحة الشؤون الأهلية في وهران، ثم عينوه آغا على الدوائر. أما ابنه فقد دخل المعهد الامبريالي (المدرسة السلطانية) المخصص لأبناء الموظفين العرب. فتعلم تعليما مزدوجا. ثم أرسل إلى مدرسة سان سير العسكرية (فرنسا). ثم تدرج في الوظيف العسكري حتى وصل إلى رتبة (عقيد)، وظل الوحيد في هذه الرتبة إلى عهد طويل. وقد تجنس بالجنسية الفرنسية بتاريخ 26 أكتوبر 1858 عندما كان سنه 21 سنة (ولد سنة 1837) (¬1). وشارك في حملات الجيش الفرنسي في أفريقية وأوروبا. وكانت له ثروة كبيرة، وعندما تقاعد من الجيش تفرغ لخدمة أملاكه الزراعية. يقول عنه زميله إسماعيل حامد الذي عرفه عن كثب إنه كان الرجل المثال الكامل (للمسلم الفرنسي) وإن تاريخ حياته عبرة للمسلمين والأورويين. وكان لبس اللباس الوطني واللباس العسكري الفرنسي. وقد توفي ابن داود سنة 1912. ولا نعرف أن له عملا مكتوبا أو مترجما ولا كونه عمل في سلك الترجمة العسكرية. ولكن اسم ابن داود (لعله من أسرته) ظهر بعد الحرب الأولى عندما اشترك مع أحمد لعيمش في ترجمة معاني القرآن الكريم إلى الفرنسية. وقد تناولنا ذلك في مكانه من الجزء السابع (¬2). والجزائريون الذين خدموا في الجيش الفرنسي كمترجمين يصعب حصرهم. وقد وجدنا منهم عددا آخر جندوا في آخر القرن الماضي وأوائل هذا القرن لخدمة البعثات الفرنسية إلى مناطق أخرى كالمغرب وافريقية. ومن الذين وظفهم الفرنسيون في المغرب قدور بن غبريط، ومحمد نهليل ومحمد المعمري. والمعروف أن الخدمة في الجيش الفرنسي كانت طوعية بين ¬

_ (¬1) ولعل أباه قد سبقه إلى ذلك. (¬2) عن حياة ابن داود انظر اسماعيل حامد (مجلة العالم الإسلامي)، يونيو 1912، ص 315 - 318 مع صورته باللباس العسكري. وكان قد مات له أحد الأبناء في معركة بجنوب وهران سنة 1910.

الجزائريين إلى 1912 حين أصبحت إلزامية. فهذا السيد أحمد بن مجقان (مجقم؟) (¬1) قد ساهم كمترجم في حملة عسكرية فرنسية ضد أعالي نهر البانو (نيجيريا اليوم) سنة 1892 - 1893. وسعى جهده للحصول على معاهدة للفرنسيين من أمير يولا المسلم (YOLA). ورغم انسحاب الحملة الفرنسية بعد اتفاق بين الحكومتين الفرنسية والبريطانية، سنة 1893. فإن ابن مجقان بقي هناك إلى أكتوبر 1895 مع فرقة صغيرة من الرماة السينيغاليين، وربط ابن مجقان علاقات وطيدة مع علماء المسلمين بالمنطقة، رغم أن الناس هناك كانوا يعتبرونه من النصارى الفرنسيين ربما لأفعاله ولبياض بشرته، حتى بعد أن حلف لهم على المصحف عشر مرات بأنه مسلم. وكان قد بدأ حياته مترجما في الجيش الفرنسي. وحين جرى ترشيحه لعضوية جمعية جغرافية الجزائر وشمال افريقيا عند تأسيسها سنة 1896، وصفه المرشحون له في تزكيتهم، بأنه كان مترجما في بعثة ميزون (Mizon) الفرنسية. وظل خلال سنتين (1893 - 1895) رئيسا لمركز يولا على نهر البنوي، وهو أحد فروع النيجر. وقد نال ابن مجقان وسام جوقة الشرف على خدماته في هذه البعثة. كما التحق ببعثة الكونغو كمترجم. وحظي بالعضوية في الجمعية المذكورة التي كان رئيسها الشرفي هو الحاكم العام جول كامبون (¬2). وقد تمنت الجمعية أن تحصل منه على مراسلات من أفريقية. أما ديبون وكوبولاني فقد ذكرا أن أحمد بن مجقان أصله من تيزي وزو، وأنه عندئذ كان في الكونغو، وذكرا أنه قدم لهما مخطوطا عربيا (¬3). ويذكر مصدر آخر أن ابن مجقان كان قد توفي في حدود ¬

_ (¬1) وجدنا هذا الاسم باللاتينية يقرأ: مجقم، ومجقان، ومشكان، الخ. ولا ندري ضبطه الآن. انظر عنه تفاصيل أخرى في المقالة التي كتبناها عن المثقفين الجزائريين في افريقية. مجلة الثقافة، 1996. (¬2) انظر العدد الأول من مجلة الجمعية الجغرافية الجزائرية SGAAN، 1896، ص 13، وتم قبوله عضوا في جلسة 11 جوان، 1896. (¬3) ديبون وكوبولاني (الطرق الدينية)، مرجع سابق، ص 116، هامش 1.

1900 بالجزائر بعد معاناة من أمراض المناطق الاستوائية، ولكن هذا المصدر لم يحدد بالضبط تاريخ وفاته، إنما ساق خبرا يفهم منه ذلك، وهو أن الإنكليز قد أخبروا أن أحمد بن مجقان قد قتل سنة 1900 بعد صدام مع قوات رابح في باجيرمي (التشاد). ويشكك المصدر في أن الإنكليز قد يكونون أذاعوا ذلك عنه استنادا إلى خبر خاطئ أو يتعلق الأمر بمترجم جزائري آخر. ومهما كان الأمر فإن أعمال ابن مجقان كانت في ميدان الترجمة الشفوية والعمليات العسكرية لصالح الفرنسيين. وليس لدينا ما يدل على أنه كتب مذكرات أو رحلة، رغم أن المجلة المذكورة تمنت أن يراسلها من أفريقية. ويظهر أنه كان متعلما حاذقا وشجاعا ومخلصا لقضية أخرى غير قضية بلاده. وقد وظف كل طاقته لها. ويذكر السيد كريستلو، الذي عرف المنطقة التي عمل فيها ابن مجقان في افريقية، أن أهل يولا ما يزالون إلى اليوم يذكرون باندهاش قصة ابن مجقان بينهم (¬1). ومن المترجمين العسكريين السيد رجم، الذي لا نعرف سوى أنه كان من قسنطينة، من عائلة شهيرة بها، وأنه كان حائزا على الباكلوريا في الآداب والعلوم، وكان يحسن العربية والفرنسية، وكان مترجما للضابط الفرنسي، جنتيل Gentil، في باجيرمي نواحي تشاد. وقد اتهم رجم بالتدخل في الشؤون السياسية المحلية، كما يقول كريستلو. ويبدو أنه رجع إلى نشاط الطريقة السنوسية، إذ زار زاويتها في بئر علالي مع الضابط المذكور فقبض عليه وسجن، ولا ندري الآن مصيره بعد ذلك (¬2). وقد أثار أحد هؤلاء المترجمين ضجة في آخر القرن الماضي، وهو ¬

_ (¬1) الآن كريستلو، (المحاكم ...)، مرجع سابق، ص 249 - 250. انظر عنه أيضا بحثنا المذكور - مثقفون جزائريون في افريقية. (¬2) كريستلو (المحاكم ...) مرجع سابق، ص 250 نقلا عن دفتر الجنرال ريبيل Reibell باريس 1931، ص 337.

مسعود الجباري. فهو مثل أحمد بن مجقان، من خريجي مدرسة ترشيح المعلمين (النورمال). وكان يمتاز بالذكاء وازدواجية اللغة والطموح. ولد بنواحي عنابة، وبعد حصوله على الشهادة وظفه الفرنسيون في فرقة الخيالة وأصبح من المترجمين بعد ذلك في الترجمة العسكرية. ثم تولى الترجمة في ميدان القضاء منذ 1887. وتجنس أيضا وشارك في أعمال الترجمة بتونس بعد احتلالها. وكان ظهوره قد صادف اهتمام الفرنسيين بالصحراء وعبورها إلى افريقية حيث السودان القديم. ولمؤهلاته جندته الجمعية الجغرافية الفرنسية في باريس للقيام بمهمة بأفريقية سنة 1892. فتوجه إلى هناك متنكرا في زي خطاط الرمل وكاتب الحروز (الأحجبة). وقد تجول الجباري في افريقية وبقي هناك حوالي سنتين بين لاقوس وأعالي النيجر. وادعى أنه جمع معلومات حيوية للجمعية وطالبها بدفع تكاليف أدلائه الأفريقيين ولكنها رفضت ذلك. وقيل إنه مرض وحاول الانتحار، وقضى أسابيع في أحد المستشفيات يتداوى من جروحه قبل رجوعه إلى تونس (مايو 1894). وفي التقرير الذي كتبه ادعى للفرنسيين أنه أسس جمعية دينية سرية تمتد اثارها من السينيغال إلى أثيوبيا، وأنه عثر على قبر المستكشف كرمبل، وتعرف على أربعة أوروبيين مسجونين عند التوارق من بينهم فلاترز. وألقى الجباري محاضرة في معهد قرطاج (تونس) أعلن فيها هذه الأخبار المثيرة. فصدقه البعض وكذبه آخرون. وبعد أن ذهب إلى الجزائر توجه منها إلى باريس. وفي باريس ألقى محاضرات أمام آلاف المهتمين عن بعثته المثيرة وعن مشاهداته فأثار العجب. وعينت الجهات الفرنسية بعثة أخرى لكي تتحقق من معلوماته سيما فيما يخص فلاترز. وكان الجباري صاحب قلم ولسان فصيحين. فأثر على الجمهور الباريسي بمنطقه. وكتب مقالات في بعض الجرائد وقدم أحاديث إلى أخرى، وذلك في خريف 1895. وقد تبنت آراءه صحيفة (لوجور). واهتزت الحكومة العامة في الجزائر فأمر جول كامبون بفتح ملف للتحقيق في مسألة فلاترز. وأجرى الجباري مقالمة مع صحيفة (لو جورنال) وبعث برسالة

إلى صحيفة (الأخبار)، ثم ألف كتابا صغيرا سماه (الناجون من بعثة فلاترز)، ونشره في تونس سنة 1895. ونحن لا ندري إن كان الجباري قد كتب أو ترجم أعمالا أخرى، أو ترك مذكرات وتقاييد سواء عن افريية أو عن حياته الخاصة. ولكنه كان على كل حال من فئة النخبة المتجنسة التي تعاطت الترجمة والعسكرية، ومع ذلك لا نعرف آراءه في الاندماج والحضور الفرنسي في بلاده (¬1). وهناك مترجمون آخرون ساهموا في هذه البعثات الفرنسية نحو افريقية في آخر القرن الماضي. منهم الفقيه عبدالقادر بن الحاج البوسعادي، والطبيب محمد بن السعيد مقبل، والإداري ميلود بن عبد السلام، والمغامر قدور بن العربي (المملوك). وقد تناولنا هؤلاء بشيء من التفصيل في بحثنا الخاص بهم (¬2). ولنشر أيضا إلى السيد العلمي عليش الذي استعان به الصحفي الفرنسي، جورج ريمون، أثناء حرب طرابلس 1911 - 1912، فقد اصطحب معه هذا المترجم الجزائري لأن ريمون كان لا يعرف العربية ولا التركية. ولا ندري الآن هل كان عليش من العسكريين العاملين في الجيش الفرنسي أيضا أو أنه كان مجرد مترجم حر أو عارف بالعربية والفرنسية (¬3). بعد أن استتب الأمر للفرنسيين ونظموا فرق المترجمين في مختلف ¬

_ (¬1) انظر عنه دراسة كانيا - فورستر (دور العملاء والمترجمين الجزائريين) في مجلة (بيدونة)، 40، 1994، ص 24 - 25. وكذلك كريستلو، مجلة المغرب (مغرب ريفيو)، 10، 1985، 4 - 6. و (افريقية الفرنسية) A.F، يونيو، 1898، ص 189. ونفس المصدر، يوليو 1898، ص 223. (¬2) وهو (المثقفون الجزائريون وأفريقية). انظر سابقا. (¬3) انظر كتاب (من داخل معسكرات الجهاد في ليبيا) ترجمة محمد عبد الكريم وافي، مكتبة الفرجاني، طرابلس، 1972، وكان جورج ريمون قد ألف كتابا عن حرب طرابلس، سنة 1913 ونشره في باريس.

الميادين، ظهر عدد من المترجمين في الإدارة والجيش (المكاتب العربية بالخصوص)، والاستشراق، والقضاء. وقد ساهمت المدارس الشرعية الثلاث ومدرسة الآداب (الكلية) أيضا في تكوين جيش من المترجمين. وتنافس بعض المترجمين في إصدار الكتب والنصوص في مختلف التخصصات. وكان أفضلهم أولئك الذين عملوا في التعليم والإدارة (سيما الأهلية) والجيش. أما القضاء فكان حظ المترجمين للنصوص فيه ضعيفا نسبيا. وكثير من رؤساء المكاتب العربية والبلديات الكاملة أو المختلطة قد ألفوا أعمالا تنم عن معرفتهم للعربية الفصحى والاستفادة من نصوصها وليس مجرد معرفة الدارجة. أما المستشرقون فقد كانوا بالطبع أبرع من غيرهم في ترجمة النصوص والاستفادة من المصادر. وقد وظفوا مواهبهم في ترجمة النصوص من اللهجات العامية والبربرية أيضا وما كانوا يسمونه بالفولكلور. ونحن لو عدنا إلى المجلة الأفريقية أو مجلة الجمعية الجغرافية وغيرهما لعثرنا على أسماء كثيرة في ميدان الترجمة الكتابية. ومعظم أصحابها من الفرنسيين واليهود الذين تجنسوا بالجنسية الفرنسية .. ولعل من بين هؤلاء (اليهود) موريس بن حزيرة، الذي يوصف بأنه ضابط مترجم. فقد قام سنة 1905 بدراسة مطولة عن منطقة الطوارق - الهقار -. وكان الجنرال (لابرين) قد كلفه بدراسة المنطقة. وقد تعلم لهجة التماشق (ويسميها التماهق) وكان يعرف العربية (¬1). كانت الترجمة في البداية عند الفرنسيين وسيلة فهم واتصال مع الجزائريين، ثم أصبحت وسيلة تسلط وإنتاج. يقول فيرو إن الفرنسيين قد فهموا مدى أهمية اللغة العربية وأنها واسعة الانتشار بين الأهالي. ورغم عدم مبالاة الفرنسيين باللغات الأجنبية فقد اضطروا إلى دراسة العربية الدارجة، كما أن البعض قد درس المكتوبة أيضا. ويضيف: ها نحن نرى (سنة 1876) ¬

_ (¬1) انظر دراسته عن الهقار في مجلة الجمعية الجغرافية الجزائرية SGAAN (1906) قسم 1، ص 260 - 288، قسم 2، ص 308 - 386.

لغة محمد (صلى الله عليه وسلم) تدرس في ليسيه الجزائر وفي الكوليجات (المتوسطات) البلدية، وفي المدارس الشرعية - الفرنسية الثلاث. وفي نفس الوقت أصدر بعض الأساتذة الفرنسيين معاجم وكتبا في النحو ومجموعة من المؤلفات التعليمية. لقد كان القداس الأول في الجزائر قد ألقاه المترجم العسكري القس شارل زكار، ثم جاء مترجم آخر ليفتتح أول درس بالعربية للفرنسيين، ثم توارد على الجزائر برينية وشيربونو، وكلاهما من مدرسة اللغات الشرقية بباريس، وفي الخمسينات جاء الدكتور بيرون ليتولى إدارة المعهد (الكوليج) العربي - الفرنسي، ثم توالى المترجمون في مختلف المجالات بعد ذلك (¬1). هكذا صور شارل فيرو مسيرة حركة الترجمة في الجزائر، وهي الحركة التي بدأها شذاذ من كل جنس ودين، وطورها مستشرقون عسكريون، كرسوا حياتهم لخدمة السلطة الاستعمارية ووظفوا لذلك عددا من الجزائريين. فاستفادت اللغة الفرنسية ولم تستفد اللغة العربة أي شيء، بل كانت تموت بالتدرج كما خطط لها أنصار الترجمة من العربية إلى الفرنسية فقط. لقد كانت العربية هي الخاسرة لهذه الأسباب: 1 - سيطرة اللغة الفرنسية في الإدارة والقضاء والصحافة والجيش ثم الشارع، سيما في المدن الرئيسية. 2 - تدريس اللهجات العربية للفرنسيين والأوروبيين وحتى للجزائريين في المدارس. 3 - تدريس بعض اللهجات البربرية منذ أواخر القرن الماضي، ثم تسييس تعلمها وجعلها منافسة للعامية والفصحى. 4 - مهاجمة الإسلام والقرآن من قبل رجال الكنيسة والتقاء آراء هؤلاء مع آراء المستشرقين في كثير من الوجوه. 5 - اعتبار اللغة الفرنسية هي اللغة الرسمية الوحيدة واللغة العربية لغة أجنبية. ¬

_ (¬1) فيرو، مرجع سابق، ص 19 - 20.

تعاون الجزائريين والفرنسيين في مجال الترجمة

6 - معاملة اللغة العربية معاملة اللغات القديمة الميتة، واعتبار العربية الجديدة التي ظهرت مع حركة الإحياء في المشرق لغة أجنبية. تعاون الجزائريين والفرنسيين في مجال الترجمة والجزائريون الذين ساهموا في الترجمة على أصناف، منهم من قام بالترجمة الشفوية فقط ومنهم من قام بالترجمة الكتابية، ومنهم من عاون الفرنسيين دون أن يظهر له جهد باسمه. أما الذين قاموا بالترجمة الشفوية فقد ذكرنا نماذج منهم وهم الذين قلنا إنهم كانوا يسمون بالمترجمين الاحتياطيين، وكانوا على ثلاث طبقات، يبدأون بالثالثة وينتهون بالأولى إذا ترقوا في السلم الوظيفي في الترجمة، ثم يتقاعدون. وفي كثير من الأحيان كانوا يتقاعدون قبل الأوان، ويغيرون مهنتهم في الترجمة إلى مهنة أخرى، وكان مجال نشاطهم محدودا. فلا يخرجون عن الترجمة في الجيش، أي أثناء الحملات العسكرية، فيصبحون أداة للتهدئة ومخاطبة الأهالي بأوامر وتعليمات الفرنسيين. فهم من جهة فرسان وجنود ومن جهة أخرى مترجمون. وقد دخل بعض المترجمين الميدان القضائي أيضا، سيما بعد أن كثرت المحاكم الفرنسية وتقلصت المحاكم الإسلامية، وأصبح الجزائريون يتقاضون أمام قضاة الصلح الفرنسيين. ففي هذه الأحوال تقوى جهاز المترجمين من الجزائريين. واحتاجت السلطة إلى من ينقل الشهادات والأحكام إلى أصحابها وإلى القضاة. ... وهناك علاقات نشأت بين الجزائريين والفرنسيين، ضباطا وعلماء، للتعاون من أجل نقل المعرفة المنشودة. هذا التعاون كان يفترض فيه أن يظهر وأن يأخذ كل طرف نصيبه من التنويه. ولكن الفرنسيين جعلوا من الجزائريين أشخاصا ثانويين جدا. وقلما يذكرونهم في كتاباتهم. وإذا ذكروهم فبإشارة خفيفة لا تنويها بهم ولكن إظهارا للبراعة والروح العلمية في الموضوع الذي

يقدمونه. ولديا أمثلة كثيرة على مساهمة الجزائريين مع الفرنسيين في المجالات العلمية، كتقديم الوثائق، أو التعاون على ترجمتها، والاشتراك في القواميس الفرنسية العربية، وتقديم معلومات عن قبيلة أو شخصية علمية قديمة. وليس بوسعنا أن نذكر كل ما نعرف عن هذا الموضوع، وحسبنا هنا ذكر نماذج فقط في شكل قائمة مع الإشارة إلى مجال التعاون: 1 - أحمد بن مصطفى بومزراق مع أدريان بيربروجر على ترجمة رحلتي العياشي والدرعي (انظر ذلك في اللجان العلمية). 2 - محمد ولد السعيد: ترجم مع زيس zeys أعمالا فقهية وقضائية سنة 1886. وكان زيس من المتخصصين في الشريعة الإسلامية. 3 - عبد العزيز الزناقي: قدم قصة بالدارجة التلمسانية ليفهم منها غودفري - ديمونبين الفروق اللغوية، فترجمها هذا ونشرها مع تعاليق في المجلة الآسيوية سنة 1909، الجزء الرابع. 4 - عبد الرزاق الأشرف: عاون الاسكندر جولي على جمع نماذج من الأدب الشعبي، سيما الشعر البدوي، أثناء دراسة جولي للهجات العربية في شمال افريقية، جمع له الأشرف ذلك من نواحي قسنطينة ونقاوس وباتنة سنة 1903، وفي مناسبات أخرى. كما ساعده على التعليق على الشعر. 5 - الغوثي بو علي: تعاون مع ألفريد بيل في عدة مجالات. منها نشر بغية الرواد ليحيى بن خلدون. 6 - سيدي محمد بن مصطفى: ترجم لألبير ديفوكس الوثائق المكتوبة باللغة التركية إلى العربية، وقام ديفوكس بنقلها إلى اللغة الفرنسية. 7 - أحمد بن بريهمات: تعاون مع لويس رين على إخراج كتاب في تعلم الفرنسية موجه إلى المتعلمين الجزائريين، وهو كتاب عربي - فرنسي، سنة 1882، 143 ص لكل نص. 8 - محمد صوالح: ساهم مع فلوري في إخراج كتاب تعليمي - مدرسي.

9 - أبو بكر عبد السلام بن شعيب: ساهم مع بول ور في إصدار كتاب فرنسي - عربي، وهران 1913. 10 - الغوئي بو علي أيضا: تعاون مع جورج مارسيه على إصدار النص العربي والترجمة الفرنسية لكتاب (روضة النسرين) في تاريخ بني مرين، باريس 1917. 11 - محمد الموسوم (شيخ الشاذلية بقصر البخاري): قدم معلومات هامة عن الطرق الصوفية عامة والطريقة الشاذلية خاصة إلى لويس رين عند تأليفه كتابه (مرابطون وإخوان). 12 - أبو القاسم الحفناوي: قام بجهد كبير في تقديم المعلومات التاريخية والدينية لديبون وكوبولاني أثناء تأليف كتابهما عن الطرق الصوفية. 13 - المولى آيت عمر: قدم معلومات عن زواوة إلى هانوتو ولوترنو أثناء تأليف كتابهما الضخم (ثلاثة أجزاء) عن زواوة (القبائل). 14 - أحمد بن داود: كتب مذكرة إلى دومنيك لوسياني بطلب من هذا، عن حياة عبد الرحمن الأخضري، عندما عزم لوسياني على ترجمة كتاب (السلم) وغيره للأخضري، إلى الفرنسية. 15 - محمد بن يوسف أطفيش: بطلب من إيميل ماسكري ألف (الرسالة الشافية) في تاريخ وتراجم بني ميزاب ليستفيد منها هو وغيره، مثل موتيلانسكي، الذي اهتم بالمذهب الإباضي وتاريخ المنطقة. 16 - إبراهيم بن عامر (العوامر): ألف كتابه الصروف في تاريخ سوف بطلب من أحد الفرنسيين لم يذكره بالاسم، ولعله أحد ضباط المكتب العربي بالوادي. ونشير أيضا إلى أن كثيرا من التآليف التي قام بها الجزائريون كانت بطلب من رجال السلطة الفرنسية المحلية أو من شخصيات عسكرية أو علمية. ويحضرنا الآن:

17 - محمد الصالح العنتري: ألف الفريدة المؤنسة في تاريخ قسنطينة بطلب من الضابط بواسونيه. ولهذا الكتاب أسماء أخرى. 18 - أحمد بن المبارك: ألف أيضا كتابا في تاريخ قسنطينة قد يكون بطلب من شيربونو الذي عاصره وكان صديقا له، وشيربونو من المستشرقين، كما عرفنا. 19 - أبو القاسم الحفناوي: ألف كتابه تعريف الخلف، بطلب من السلطات الفرنسية، وقد يكون لوسياني هو الذي رأى ذلك لأنه هو الذي كان متوليا إدارة الشؤون الجزائرية (الأهلية) في الحكومة العامة أوائل هذا القرن. 20 - عمر (سعيد) بوليفة: وجهه رينيه باصيه إلى الاهتمام بتاريخ زواوة واللهجات البربرية في الجزائر والمغرب الأقصى. وقد نشر أعمالا عن ذلك أشاد بها باصيه نفسه. 21 - محمد بن أبي شنب: وجهه رينيه باصيه أيضا إلى الاهتمام بالأدب العربي واللغة العربية وتحقيق النصوص والمخطوطات (¬1). 22 - محمد بن علي الجباري: كتب المقامات العوالية في الأدب الشعبي، واستفاد منها ديلفان وترجمها ونشرها مع النص. ويمكننا أن نواصل البحث لنجد أن الفرنسيين كانوا وراء عدد من التأليف التي سنعالجها في جزء آخر من هذه الموسوعة الثقافية، كما أنهم استفادوا منها ومن معلومات أخرى من غير المؤلفين دون أن يفصحوا عنها. وكانوا يكتفون أحيانا بلعن الجزائريين واتهام العقل العربي بالقصور، وبعثرة المعلومات، بل ينحون باللائمة على الجزائريين لأنهم لم يعطوهم ما يملكون ¬

_ (¬1) في بحثه المعنون (أسطورة بنت الخص) شكر باصيه تلميذه محمد بن أبي شنب على مده بالوثائق المتعلقة بهذه القصة التاريخية الأدبية. انظر المجلة الأفريقية، 1905، ص 18، هامش 1، وكذلك ص 34. وكان ابن أبي شنب أستاذا أيضا لعدد من المستشرقين.

من مخطوطات وما عندهم من معلومات أخرى، كما فعل فايسات، رغم أنه حصل بطرقه الخاصة على ما يريد. إن الترجمة هنا تظهر أحيانا وتختفي أحيانا أخرى. فإذا كانت شفوية لمجرد توصيل المعلومات بين طرفين فإن أثرها غير موجود، ولا يذكر إلا صاحبها ووظيفه فيها. وأحيانا تظهر ولكن في شكل غير مباشر كمنح المعلومات والوثائق التي يستعملها الفرنسيون ويستفيدون منها في مختلف أنشطتهم. ويبنون عليها بحوثهم. ولكنها تظهر واضحة (أي الترجمة) في النصوص المتعاون عليها أو المطلوبة، كأعمال الغوثي بو علي مع كل من بيل ومارسيه، والجباري مع ديلفان، والزناقي مع غ. ديموتبين. وهي تظهر أيضا في مختلف المعاجم الفرنسية - العربية التي تعاون فيها الجزائريون والفرنسيون. ويبقى حديثنا دائما عن الترجمة من العربية إلى الفرنسية وليس التعريب. ولا شك أن هذا النوع من الترجمة لا تستفيد منه إلا اللغة والثقافة الفرنسية وكذلك السياسة والهيمنة الفرنسية. وبذلك أصبح المتعلمون الجزائريون في خدمة اللغة والثقافة الفرنسية على حساب لغتهم وثقافتهم. وسنتحدث عن التعريب أو النقل من الفرنسية إلى العربية في فقرة أخرى. لقد قدم المتعلمون الجزائريون خدمة كبيرة للغة والثقافة الفرنسية. ومن الصعب تصنيف المادة التي ساهم بها الجزائريون في ذلك. ولكن يمكننا حصرها في أربعة أصناف وهي: اللغة والتعليم (القواميس، واللهجات)، والفقه، والأدب، والتاريخ، والاجتماعيات. أ - في المجال اللغوي والتعليمي: نجد مجموعة من القواميس المشتركة أو الفردية التي أصدرها الجزائريون منذ العشرية الأخيرة من القرن الماضي. وظهر ذلك نتيجة عدة عوامل هامة، الأول شيوع التعليم الفرنسي بين الجزائريين منذ الثمانينات. والثاني إعادة تنظيم المدارس الشرعية الثلاث التى كان يدرس بها الجزائريون منذ 1879 واتخاذها تعليما مزدوجا طغت فيه

الفرنسية على العربية، بعد أن كانت اللغة العربية هي المسيطرة على التعليم فيها منذ إنشائها سنة 1850. والعامل الثالث في ظهور الأعمال المتصلة باللغة هو إنشاء مدرسة الآداب العليا (وهي فرنسية) والاهتمام بدراسة اللهجات العربية والبربرية. فبعد أن كان هذا الميدان محتكرا، من قبل المستشرقين والعسكريين منذ جوني فرعون وبرينيه، توسع وأصبح يشمل المتعلمين الجزائريين أيضا. ويمكننا أن نضيف إلى ذلك العامل التجاري، فقد توسعت حركة التعليم بالعامية في المؤسسات التعليمية، وازداد الاهتمام باللهجات منذ توسع الاستشراق واحتلال المغرب، وأصبح السوق مفتوحا للتنافس في هذا المجال، وكان الأساتذة والتلاميذ يختارون الأفضل من ذلك. ولنؤكد على أن العامية كانت هي موضوع الدراسة، ولذلك فإن المعاجم أيضا كانت بالعامية، أو العاميات، سواء كانت العربية أو البربرية، غير أن اللغة الفرنسية كانت واحدة في كل ذلك. وهي المرجع الأساسي، وكل هذه المعاجم إنما ألغت لخدمتها ونشرها. وهي معاجم تقرأ من اليسار إلى اليمين طبعا. ومن هذه المعاجم: 1 - اللسان يكمل الإنسان، وقد وضعه أحمد بن بريهمات مع الضابط المختص في الشؤون الجزائرية، لويس رين. وفي الإعلان عنه قيل إن الكتاب وضع لتسهيل تعلم اللغة الفرنسية، كتابة ونطقا. وقد أعلنت عنه جريدة المبشر، فاتح سنة 1895. وهو في 186 صفحة (¬1). 2 - قاموس عربي - فرنسي، وآخر فرنسي - عربي، تأليف بلقاسم بن سديرة. ولأهمية أعماله ودوره سنترجم له في مكان آخر. 3 - المعجم الفرنسي - الشلحي والمازيغي، باريس 1907 وضعه (سعيد؟) الصدقاوي. أما الكتب التعليمية أو المدرسية فمنها عدة نماذج. فبالإضافة إلى كتب ¬

_ (¬1) المبشر، عدد 4 يناير، 1895.

ابن سديرة وبوليفة التي سنتحدث عنها، هناك: 1 - تعليم اللغة العربية الدارجة والفصيحة، طبقا للطريقة المباشرة، الجزائر 1906، 1913، جزآن. تأليف السيد عبد الرحمن (؟) (¬1). 2 - كتاب في الطريقة المباشرة لتعليم العربية الدارجة، الجزائر، 1904، 248 ص. من تأليف فتاح. وقد سبق له نشر كتاب آخر سنة 1897 بعنوان دروس القراءة والإلقاء في العربية الدارجة. 3 - دروس في القراءة الفرنسية موجهة إلى المتعلمين الجزائريين، الجزائر، 1882، 143 صفحة، لكل نص من النصين العربي والفرنسي. وهو غير القاموس المذكور أعلاه. 4 - طريقة عملية لتعليم العربية الفصحى، الجزائر، بدون تاريخ، تأليف محمد صوالح. ولكنه كتب أخرى حول نفس الموضوع، ومنها ما هو بالتعاون مع فلوري، كما ذكرنا. 5 - مجموع موضوعات للعربية الدارجة، مستغانم 1899، تأليف علاوة بن يحيى في 119 صفحة. 6 - محادثة عربية/ فرنسية، قسنطينة 1863، 182 صفحة. تأليف الطاهر بن النقاد، وتلك هي السنة التي توفي فيها المؤلف أيضا. ويعتبر من الأوائل الذين ألفوا في هذا المجال. 7 - محاورات (محادثات) فرنسية - عربية تهم الجزائر والمغرب وتونس. وهران 1913، 132 صفحة. تأليف أبي بكر عبد السلام بن شعيب، وبول بور، مفتش المالية بوهران (¬2). وهو موجه إلى من يجهل العربية من الفرنسيين ويرغب في معرفتها بسرعة للسفر إلى البلدان المذكورة. ¬

_ (¬1) هكذا ورد اسمه في هنري ماصيه (الدراسات العربية في الجزائر)، ولا ندري بقية الاسم الآن. (¬2) راجعته مجلة العالم الإسلامي، سبتمبر 1913، ص 349.

والنصوص مرتبة بطريقة اللغة الفرنسية. 8 - دروس في العربية الدارجة في الجزائر ومراكش، ليون 1913، 439 ص. وضعه الدكتور ابن علي فخار (¬1). وكان المؤلف عندئذ أستاذا في القانون والشريعة الإسلامية في الغرفة التجارية بليون (فرنسا). وقد قال عنه المراجع إنه كتاب يهم الحاضر (أي الجزائر والمغرب بعد احتلاله سنة 1912) كما يهم تعليم العربية للفرنسيين. وقد امتدحه المراجع إذ لا يقدم، كما قال، مادة لغوية فحسب بل يعتبر موسوعة عن المنطقة التي درسها: وهو في ثلاثة أقسام: قسم لغوي يتعلق بالقواعد النحوية والنطق الخ. وقسم يتحدث عن الحياة اليومية وموضوعاتها، وقسم عن الحكايات المغاربية والكتابات وبقايا التركية في لهجة تلمسان. 9 - الألفاظ التركية والفارسية الباقية في لغة أهل الجزائر، من وضع محمد بن أبي شنب 1922، جزء من رسالة الدكتوراه. 10 - قاموس فرنسي - عربي من وضع بكير خوجة وعمار بن حسين، سنة 1908. ب - في المجال الفقهي: هناك عدة أعمال تتعلق بالمذاهب والقضاء الإسلامي أو الشريعة. وليس من السهل أن نذكر كل ما جاء في هذا الموضوع الذي بدأ الاهتمام به منذ أول الاحتلال. وكان الجزائريون في المرحلة الأولى يقدمون الفتاوى ويصدرون الأحكام في المجالس الفقهية أو المحاكم. أما التأليف الموجه لإفادة الفرنسيين وإدارتهم فقد ظهر في ناحيتين، الأولى ترجمة النصوص الصادرة عن الإدارة إلى العربية، كما رأينا في اللجنة التي رأسها حسن بن م يهمات في أوائل الستين من القرن الماضي. ولكن هذا ليس مقصودنا هنا. أما الأعمال التي ساهم الجزائريون في ترجمتها إلى الفرنسية أو التعريف بها لدى العلماء والضباط الفرنسيين فنذكر منها: 1 - مجموع الأحكام القضائية، نص وترجمة. الجزائر 1886، 185 ¬

_ (¬1) راجعه ل. بوفا في مجلة العالم الإسلامي، مارس 1913، ص 329? 330.

حة + 75 صفحة. وهي من عمل محمد ولد السعيد والقاضي الفرنسي زيسں. 2 - كتاب لاستعمال المترجمين القضائيين في أفريقية الشمالية، الجزائر، 1917. وضعه أحمد حسين، والمؤلف غير معروف لدينا الآن. 3 - الصوم عند المسلمين طبقا لرسالة ابن أبي زيد القيرواني. نشره محمد صوالح (؟) في المجلة الأفريية، 1906، ص 313 - 402. 4 - استعمالات القانون العرفي في نواحي تلمسان، تلمسان 1906، 116 ص، تأليف أبو بكر عبد السلام بن شعيب. 5 - روح وفلسفة الشريعة الإسلامية، تلمسان 1904، لنفس المؤلف السابق. 6 - المنهج السوي في الفقه الفرنسي، الجزائر 1908، 46 صفحة، تأليف عمر بن بريهمات. وكان عمر مدرسا، بمدرسة الجزائر (الثعالبية) للشريعة الإسلامية والقانون الفرنسي. (وهو كتيب بالعربية والفرنسية). والمؤلف أحد أبناء حسن بن بريهمات .. 7 - بداية المجتهد لابن رشد، ترجم منه أحمد لعيمش أبواب الزواج والطلاق فقط. لأن ذلك هو الميدان الذي تركه القضاء الفرنسي للقضاء الإسلامي. الجزائر، 1926، 306 صفحات .. 8 - القرآن الكريم. وقد ترجمه أحمد لعيمش والضابط المتقاعد - المترجم ابن داود، وظهرت الترجمة في وهران وباريس بدون تاريخ خلال العشرينات (1930؟) (¬1). ج - في المجال الأدبي: ترجم الفرنسيون الكثير من النصوص الأدبية العربية سواء الجزائرية أو من التراث العربي عموما، مثل ألف ليلة وليلة، ¬

_ (¬1) لا شك أن هناك مؤلفات أخرى في المجال الفقهي لم نحط بها، وسنعرض لهذه المؤلفات.

والمستطرف، وكليلة ودمنة، والأغاني، الخ. وهذه الترجمة لا تهمنا هنا. كما أن جريدة المبشر وهي الوسيلة الوحيدة مدة طويلة للقراء، كانت تهتم بالنصوص العربية، وقد نقلت قصصا أندلسية ونشرت بعض المؤلفات الأخرى في حلقات مثل كتاب أقوم المسالك لخير الدين التونسي. وهذا النوع من الترجمة لا يهمنا هنا أيضا. إنما الذي يهمنا حقا هو مساهمة الجزائريين بترجمة بعض النصوص العربية إلى الفرنسية ونشرها في القسم الفرنسي للجريدة المذكورة. فهل حدث ذلك؟ إن أعمالا كان يقوم بها حسن بن بريهمات وأحمد البدوي وأحمد بن الفكون والطاهر بن النقاد كانت تنتقل أخبارها في القسم العربي من الجريدة، ولكننا لا نعلم إذا كان قسمها الفرنسي ينقل ذلك إلى قرائه أيضا. ومنذ إنشاء مدرسة الآداب العليا وتنظيم المدارس الشرعية الثلاث أخذت الترجمة من العربية الأدبية إلى الفرنسية تزداد وتتوسع. ومن أبرز المساهمين في هذا المجال ابن سديرة وابن أبي شنب ومحمد صوالح وإسماعيل حامد. وسيكون من الصعب الإحاطة بأعمال هؤلاء. ولذلك نكتفي بهذا التنويه العام مع ذكر النماذج التالية: 1 - حياة أبي دلامة (رسالة دكتوراه) 1922، لابن أبي شنب. وله أيضا في الأدب الشعبي قصيدة محمد بن إسماعيل في حرب القرم، وقد نشرها في المجلة الأفريقية، ومجموع في أمثال العوام بالجزائر، نشرها في باريس، 1905 - 1907، وآثار ابن مسايب والتريكي. 2 - حياة إبراهيم بن سهل، تأليف محمد صوالح، 1914، 200 صفحة. وله أيضا شعر في رثاء الأندلس، في نفس العام، 144 صفحة. 3 - ترجمة السمرقندية في البلاغة، لعبد الرزاق الأشرف، 1905، 37 صفحة. 4 - العروض عند العرب، باريس 1907، 406 صفحات، لابن إبراهيم (؟)، وكذلك الدوائر العروضية أو علم العروض، باريس 1902 له

أيضا. وهو في 44 صفحة. ولكن اسم إبراهيم غير كامل، ولا ندري الآن هويته بالضبط. 5 - حكايات وتقاليد وأشعار فقيق، للهاشمي بن محمد، نشرتها نشرة جمعية وهران، 1907 ص 243 - 278. وفي وقت لاحق، أي بعد الحرب العالمية الثانية ظهرت أسماء جديدة تترجم الأدب الفصيح والشعبي إلى الفرنسية أيضا. ومنهم محمد زروقي الذي ساهم في مجلة البحر الأبيض ابتداء من 1949، فتناول موضوعات مختلفة كحياة جحا، والشعر، والضحك. كما ظهر اسم بشير مسيخ الذي ترجم قصة لمحمود تيمور، وقصيدة الصيد التي نشرها نورالدين عبد القادر. د - في المجال التاريخي: ترجم الجزائريون عددا من النصوص التاريخية والجغرافية والتراجم. ولكن الهدف منها هو خدمة اللغة الفرنسية فقط. ومن ذلك: 1 - رحلة أبي سالم العياشي. نشر القسم الأول منها أحمد بن بريهمات، وهو من المترجمين العسكريين. وهذا هو الجزء الذي يغطي الرحلة من درعة إلى ورقلة ونشره في نشرة جمعية وهران (¬1). وفي 1899 وجدنا عبدالرزاق الأشرف يراجع عملا لأحمد بن بريهمات في نفس الموضوع أيضا. ولا ندري هل هو نفسه (¬2). 2 - السودان في القرن 16 م، ترجمة محمد ين رحال. وقد قام بترجمة النص من كتاب نزهة الحادي للأفراني، ونشره في نشرة جمعية وهران 1887، ص 320 - 331. وكان ذلك أثناء اهتمام الفرنسيين بالصحراء. وكان ابن رحال صديقا لنائب الكولون والوزير، يوجين إيتيان المكلف بالمستعمرات. ¬

_ (¬1) نشرة الجمعية الجغرافية لمنطقة. وهران رقم 7، 1880، ص 330 - 334. (¬2) انظر المجلة الافريقية، 1899، ص 295 - 296. عن أحمد بن بريهمات انظر لاحقا.

3 - نور الألباب، تأليف الشيخ عثمان بن دان فوديو. وقد ترجمه إسماعيل حامد. ونشر ذلك في المجلة الأفريقية، على حلقتين 1897 - 1898. كما نشر إسماعيل حامد أعمالا أخرى تتصل بالتاريخ، وترجم منها نصوصا عديدة في بحوثه عن غرب أفريقية والسودان وموريطانيا. انظر ترجمتنا له. ولإسماعيل حامد منشورات أيضا بعنوان (حوليات موريطانية - سينيغالية) ومن ضمنها كتاب الأنساب، وسيرة ناصر الدين للديماني، وشيم الزوايا لمحمد السعيد اليدالي. 4 - هناك كتب أخرى في التاريخ وضعها جزائريون بالاشتراك مع الفرنسيين أو نشروا نصوصها من مخطوطات قديمة. وقد ذكرنا من قبل بغية الرواد ليحيى بن خلدون وروضة النسرين لابن الأحمر، ونضيف هنا رحلة الرؤساء العرب إلى فرنسا، وهو نص قصير وضعه محمد الفكون (¬1). 5 - قام محمد الحاج صادق بترجمة الجزء الخاص بالمغرب العربي، من رحلة الورتلاني، ونشر ذلك في المجلة الأفريقية، واستفاد منه المستشرقون الفرنسيون (¬2). هـ - في الاجتماعيات: كثيرة هي الأعمال التي تتعلق بالحياة الاجتماعية كالتعليم والمرأة، وعادات الصوم والأعياد والأفراح، والألعاب والأحزان، وعودة الحجاج، وما إلى ذلك. وكان الجزائريون يكتبون للفرنسيين عن ذلك بلغتهم ليعرفوهم بأهلهم وعاداتهم: إما دفاعا عن النفس أو دعوة للتغيير. ومن ذلك ما نشره ابن أبي شنب من نصوص حول التعليم عند المسلمين (¬3)، وقصيدة محمد بن إسماعيل في حرب القرم، وما نشره ¬

_ (¬1) وترجمه إلى الفرنسية السيد قورليو، 1902، في 28 صفحة. (¬2) والواقع أن الحاج صادق كان متمكنا من اللغتين، ورغم ذلك لا نعرف أنه ترجم من الفرنسية إلى العربية خلال مرحلتنا. وقد نشر عدة أعمال مفيدة مثل التعريف بأثار ابن عمار. (¬3) المجلة الافريقية، 1897، ص 268 - 285. وكذلك نفس المصدر، 1901، ص 102.

الترجمة إلى العربية

محمد صوالح عن قصيدة مصطفى الثابتي في مشاركة الجزائريين في الحرب العالمية، وكلتا القصيدتين من الأدب الشعبي. يضاف إلى ذلك ترجمة بعض الأشعار والأغاني الزواوية من قبل عمر بوليفة في موضوعات مختلفة (¬1). ... الترجمة إلى العربية لم تكن الترجمة من الفرنسية إلى العربية هدفا للفرنسيين. ولذلك عملوا كل ما في وسعهم على تعلم العربية الدارجة ثم الفصيحة، والترجمة منها إلى الفرنسية. فنقل التراث الشفوي والمكتوب على يد التراجمة العسكريين والعموميين في البداية وعلى يد المستشرقين في مرحلة لاحقة كان هو الهدف. ذلك أن اللغة الفرنسية كانت هي المقصودة بالإثراء والانتشار، لأنها لغة الإدارة الجديدة والمحاكم والسيادة، كما قالوا. ولكن هذا لا يعني أن الفرنسيين لم يوصلوا بعض معارفهم ومقاصدهم بلغتهم إلى الجزائريين أحيانا. ونقول (البعض) و (أحيانا)، لأن ما ترجم من الفرنسية إلى العربية وما حرص عليه الفرنسيون حتى يصل إلى الجزائريين هو نوع معين من المعارف، أي القرارات الرسمية، والإجراءات الصحية، والنصائح المتعلقة بالفلاحة وتربية الحيوانات، والأخبار الدعائية المضادة لإشاعات محلية أو واردة من المشرق، والترغيب في تعلم اللغة الفرنسية وعلومها. وإذا تاملنا في نوعية هذه الأخبار فإنا نجدها كلها تخدم المصالح الاستعمارية وتذيع فكرة التبعية والتعلق بفرنسا وثقافتها. بدأت الترجمة إلى العربية في البيان الذي وزعه الفرنسيون على الجزائريين عشية الحملة والذي تعاون عليه بعض المستشرقين، منهم دي ¬

_ (¬1) انظر الجزء الثامن، فصل الشعر.

ساسي والقس السوري شارل زكار. وربما كان البيان هو أول ما قرأ الجزائريون بحروف المطبعة. ولم يكن في الجزائر صحافة قبل الاحتلال. ولذلك بدأت أول جريدة رسمية وهي (المونيتور الجزائري) (¬1) في نشر إعلانات وأوامر رسمية صادرة عن إدارة الاحتلال بحروف عربية (ولا نقول بلغة عربية) لا يكاد معناها يفهمه أحد. وكانت قرارات الحكام العامين تصدر كلها بالفرنسية، ثم يترجم منها في السنوات الأولى ما يهم المسلمين مباشرة كمصادرة الأوقاف والأمر بطرد الأعيان ونحو ذلك. وكان قرار بوجو بطرد المفتي مصطفى الكبابطي قد ترجم إلى العربية وعلق على جدار الجامع الكبير بالعاصمة. كما علق الفرنسيون على الجدران نسخا، من فتوى علماء المسلمين التي حصل عليها ليون روش سنة 1842. كل ذلك كان قبل صدور جريدة المبشر سنة 1847. ونحن وإن كنا درسنا هذه الجريدة في فصل المنشآت الثقافية فإننا نقول هنا انها الجريدة الوحيدة التي أصبحت مدرسة في توصيل المعلومات للجزائريين لأنها صدرت باللغتين العربية والفرنسية. وكانت النسخة العربية عادة مترجمة عن النسخة الفرنسية، ولكن تظهر في النسخة العربية أحيانا مقالات موضوعة أو ترجمات من أعمال فرنسية أخرى غير الواردة في القسم الفرنسي. تولى إدارة المبشر عدد من المترجمين العسكريين والمستشرقين الفرنسيين. وكان جميعهم يحسن العربية الدارجة والفصيحة، ولذلك كانوا يسهرون على القسم العربي كما يسهرون على القسم الفرنسي. وكان القسم العربي يضم أيضا مجموعة من الجزائريين المزدوجي اللغة أو الذين يحسنون الترجمة إلى العربية، بالإضافة إلى وجود عناصر كانت تكتب أحيانا مقالات بالعربية مباشرة بإيعاز من السلطة الفرنسية، مثل زيارة نابليون الثالث للجزائر، وترغيب الجزائريين في التعلم بالفرنسية، ¬

_ (¬1) ظهرت في ينام 1832، أثناء إدارة الدوق دو روفيقو. كانت بالفرنسية، ثم بدأت تنشر صفحة بالعربية المكسرة جدا. انظر فقرة الصحافة.

وإزالة المخاوف المتصلة بمرسوم الملكية الفردية للأرض سنة 1863، الخ. كانت المبشر تخاطب المتعلمين والأعيان، ولا تخاطب العامة لأنها غير قارئة. وكانت في البداية ترسل إلى القضاة والموظفين عامة مجانا، ثم فرضت الإدارة الاشتراك فيها على جميع المتوظفين عندها. فالقضاة والقياد والأغوات والمعلمون ورجال الديانة كانت تأتيهم بدون استئذان. وكانت تؤثر فيهم ليس فقط بالمقالات المترجمة عن الفرنسية، كما سنرى، ولكن باختيار النصوص من الأدب العربي أو من الكتب المؤلفة حديثا كالرحلات والآراء حول الحضارة الأوروبية والأديان. فإذا تحدثت عن العلم في عصر المأمون في بغداد أو في عهد عبد الرحمن الناصر بالأندلس، فإنما كانت تتحدث عن ترغيب الجزائريين في تعلمه الآن من اللغة الفرنسية لأن العقل العربي قد تخلف وتخلفت معه اللغة. وإذا أشادت الجريدة بحمد علي باشا وبابنه إبراهيم باشا فلأنهما ربطا علاقات علمية (وسياسية) مع فرنسا، وإذا نقلت عن رفاعة الطهطاوي وخير الدين التونسي فإنما ذلك لأن الاثنين كانا من المعجبين بالتقدم الفرنسي والنظام الدستوري والعلوم في أوروبا (¬1). من أبرز الأسماء الجزائرية التي ظهرت في المبشر: علي بن عمر، وعلي بن سماية، وأحمد البدوي، والحفناوي بن الشيخ (أبو القاسم الحفناوي)، ومحمد بن مصطفى (خوجة)، ومصطفى بن عبد الرحمن الشرشالي، ومحمود وليد الشيخ علي، وقدور بن باحوم، وعلي ولد الفكاي، ومحمد بوزار، ومحمد بن بلقاسم (¬2). بعض هؤلاء له أثر معروف فيها من ترجمة وغيرها، مثل أحمد البدوي، وعلي بن عمر. وبعضهم عمل فيها طويلا ولكن لا ندري هل كان عمله هو التصحيح والترجمة أيضا دون ¬

_ (¬1) نشرت المبشر (أقوم المسالك) لخير الدين باشا التونسي في حلقات ابتداء من أول أكتوبر 1868، أي على إثر صدوره. (¬2) فيليب دي طرازي (الصحافة العربية)، ج 1/ 51.

وضع اسمه، مثل الحفناوي بن الشيخ الذي عمل طويلا مع شيخه الفرنسي آرنو، وكان الحفناوي متمكنا في اللغة العربية وفي الفرنسية أيضا. وكان علي بن سماية أديبا وأستاذا ماهرا ولكن اسمه لا يظهر كثيرا في الجريدة، ومثله محمد بن مصطفى خوجة صاحب عدة مؤلفات بالعربية (¬1). ونريد الآن أن نترجم لبعض الذين ساهموا في المبشر في ميدان الترجمة العربية. ونخص بالذكر أحمد البدوي، وعلي بن عمر وأحمد الفكون. 1 - أحمد البدوي: هناك قدر مشترك بين هذا الرجل (أحمد البدوي أو البداوي) وبين قدور بن رويلة وأحمد الشريف الزهار والحاج محمد الملياني، من جهة، وعمر بن قدور وعمر راسم من جهة أخرى. لا نستطيع أن نحدد الآن هذا القدر المشترك بين هؤلاء الرجال الذين عاشوا ظروفا مأساوية كاد ينساهم فيها الزمان والإنسان. ومع ذلك تركوا بصماتهم على تاريخ بلادهم، كل في مجاله. أحمد البدوي كان فتى عند احتلال الأعداء لوطنه. ولد في مدينة الجزائر أوائل القرن الماضي (قد يكون 1810 - 1815) وحضر دروس كبار علماء الوقت أمثال محمد بن الشاهد ومصطفى الكبابطي وعلي المانجلاتي وحمودة المقايسي. وكان الجامع الكبير ومدرسته ومدرسة القشاش هي مصابيح الظلام عندئذ. فتلقي معلومات قوية في الأدب والفقه والإنشاء، بالإضافة إلى القرآن الكريم. وعند الاحتلال خرجت أفواج الجزائريين من المدينة وتفرقوا في المدن المجاورة لاجئين عند الأقارب ظنا منهم أن العدو سيغادر المدينة. ولكنه لم يغادرها، وسقطت الحكومة المركزية وتداعت بقية أطراف الدولة وانقطعت السبل بمن كان خارج المدينة، واستحوذ العدو على أملاك الغائبين وصادرها ¬

_ (¬1) نحن نرجح أن يكون محمد بن مصطفى هو نفسه المسمى أحيانا مصطفى خوجة، وأحيانا مصطفى الكمال، والمضربة، الخ. كما نرجح أن يكون محمود وليد الشيخ علي هو ابن المفتي علي بن عبد القادر بن الأمين. انظر عنه التاريخ الثقافي، ج 2.

تحت عنوان (الثقاف). ويقول فيرو في ترجمته المنتصرة لأحمد البدوي إنه وجد نفسه محاصرا في مليانة من قبل قوات الأمير، وليس له سبيل للرجوع إلى مدينة الجزائر، ونحن نرجح أن خروجه إلى هناك كان مع أهله على غرار ما فعلت عائلات جزائرية أخرى مثل علي بن الحفاف، وأحمد الشريف الزهار، وقدور بن رويلة. ومهما كان الأمر فإن أحمد البدوي قد دخل في خدمة الأمير وأصبح أحد كتابه المعروفين، لأن البدوي تميز منذ صغره بحسن الإنشاء والتحرير وقوة الحفظ وجودة الخط. وكان الأمير كما يقول فيرو، يترك البدوي لخلفائه إذا خرج هو في إحدى الغزوات. ولذلك عمل أحمد البدوي كاتبا لكل من محمد بن عيسى البركاني، ومحمد بن علال، وأحمد الطيب بن سالم، ومحمد البوحميدي والمولود بن عراش. ثم طلبه أحمد بن سالم شخصيا من الأمير، فأصبح من كتابه المقربين فترة طويلة. وجميع المذكورين كانوا خلفاء للأمير في مختلف الولايات التي أنشأها، عدا ابن عراش الذي كان وزيره للخارجية. هل بقي أحمد البدوي مع أحمد بن سالم إلى نهاية مقاومته في ربيع 1847؟ يفهم من ترجمة فيرو له أن البدوي رجع إلى مدينة الجزائر قبل هذا التاريخ، فهل (هرب من عنده؟) لا دليل على ذلك. وإذا لم يهرب فلماذا يغادره إذن والمقاومة مستمرة؟ إن فيرو لا يذكر سوى شيء واحد وهو أن أحمد بن سالم قد مني بهزيمة فتركه أحمد البدوي بعدها ورجع إلى الجزائر، والتحق بالحملات الفرنسية. ويقول فيرو إن البدوي قد حضر حملة الفرنسيين ضد قبيلة فليسة، ثم حضر معركة ايسلي 1844 التي كانت بين المغاربة والفرنسيين. وهذه كانت قبل نهاية مقاومة أحمد بن سالم طبعا. أما الحملات الفرنسية الأخرى التي حضرها أحمد البدوي، حسب فيرو، فهي حملة المارشال بوجو نواحي بجاية 1845، وحملة المارشال راندون في البابور 1853، ثم في جرجرة 1854 - 1857. ونحن نفهم أن أحمد البدوي لم كن عسكريا لا أثناء غزوات الأمير ولا أثناء الحملات الفرنسية، إنما كان خوجة أو كاتبا للتقارير والرسائل والمحاضر، في كلتا الحالتين.

في اليوم الذي رجع فيه البدوي إلى الجزائر استدعاه العقيد (دوماس)، مدير إدارة الشؤون العربية في حكومة بيجو وقدمه إلى هذا الحاكم. وكان المترجم الرئيسي عندئذ في الإدارة المذكورة هو ليون روش. ولعله كان قد عرف أحمد البدوي من قبل. فأعطاه المارشال بوجو إلى رومش فأخذ يستصحبه معه كلما خرج في حملة مع الجيش، وكان ثالثهما هو المترجم الآخر شوصبوا الذي قلنا إنه كان دنماركي الأصل، وأخذ الجنسية الفرنسية (¬1). وكانت جريدة المبشر تابعة أيضا إلى إدارة الشؤون الأهلية. وكان البارون دي سلان المشرف على هذه الجريدة عندئذ، في حاجة إلى محررين بالعربية، فألحق به أحمد البدوي. ومنذئذ خرج البدوي من الحياة العسكرية إلى الحياة المدنية، ولا ندري متى كان ذلك بالضبط، ولكن يبدو أنه كان في نهاية الخمسينات. فقد وجدنا أحمد البدوي معينا ضمن اللجنة التي عهد إليها بترجمة الأحكام والنصوص القضائية، مع حسن برجمات وحميدة العمالي سنة 1859. وفي 20 يناير 1860 عينه المدعي العام عضوا في لجنة إعادة تنظيم القضاء الإسلامي (¬2). هناك إذن مجالان أصبح أحمد البدوي يعمل فيهما مع النخبة القضائية والصحفية في الجزائر. والترجمة من الفرنسية إلى العربية كانت مقتصرة تقريبا على هذه النخبة. وقد ظهرت عندئذ كتابات في القضاء بالعربية مجهولة المؤلف والمترجم. ونحن نرجح أن يكون بعضها على الأقل من أثر أو تأثير أحمد البدوي. أما الصحافة، وهي موضوعنا الآن، فإن أحمد البدوي قد ساهم فيها بمقالات موضوعة وأخرى مترجمة. ويقول السيد فيرو إن البدوي بحكم مهنته كان مطلعا على أسرار الإدارة، وأنه كان ذا موهبة خاصة في التحرير وأن له فكرا حيا. وقد عرفه فيرو عن كثب بعد أن أصبح هو (فيرو) كبير المترجمين أو باش مترجم، بالإدارة الفرنسية في الجزائر. وقد أخبرنا ¬

_ (¬1) انظر عنه سابقا. (¬2) رسالة بخط برينييه ضمن وثائق شارل فيرو، كما صنفها ونشرها أوغست كور، المجلة الافريقية، 1914، ص 108.

محمد الصالح العنتري، صديق فيرو أيضا، أن البدوي كان كاتبا عند فيرو سنة 1876 (¬1). ومدح فيرو أحمد البدوي بكونه قد أعطى لجريدة المبشر دفعا قويا بقدرته على التحرير، وبمقالاته الجذابة وبمهارته في عدم المساس بالمشاعر الدينية والعرقية للناس الذين يكتب لهم (؟) وقال إنه جلب الجزائريين إلى هذه الجريدة التي أنشئت (لنقل الحضارة الفرنسية إلى الأهالي). وقد أوصى له بالتعويض الشرفي على خدماته، لاستحقاقه ذلك منذ أمد بعيد، حسب قوله (¬2). ونحن لا ندري كيف انتهت حياة أحمد البدوي، هل كوفئ فعلا على خدماته؟ وهل انتهى نهاية مأساوية شأن أمثاله الذين ذكرنا بعضهم، عمر بن قدور وعمر راسم؟ إننا لا ندري الآن أين قرأنا أن أحمد البدوي كان من المتحمسين لثورة (كومون) باريس 1870، وأنه أراد أن يكون للجزائر أيضا ثورتها أو (كومونها). لم تكن المبشر تنشر أسماء الكتاب والمترجمين إلا نادرا. ولذلك كانت معظم ترجمات أحمد البدوي مغفلة الاسم. ولا ندري متى بدأ في النشر فيها بالضبط، ولا الفرق بين المترجم والموضوع الذي ساهم به. ولم يساعدنا فيرو فيذكر التاريخ الحقيقي لالتحاق أحمد البدوي بجريدة المبشر. ذلك أن أول مقالة نشرها باسمه فيها كانت في 2 مايو 1865 أثناء زيارة نابليون الثالث للجزائر، وهي مقالة موضوعة ومزوقة إلى حد ما، متأثرة بالأسلوب العربي القديم، ولكنها حية بتحريك العبارات والألفاظ فيها. والمقالة في مدح نابليون ومرتبطة بالمناسبة. وقد ظل يكتب في الجريدة ويترجم من الفرنسية إلى العربية من 1865 إلى 1876 حين أخبرنا فيرو أنه ما يزال يعمل بالجريدة. ومن مترجماته قصة غرامية تاريخية ألفها أحد الفرنسيين ¬

_ (¬1) رسالة العنتري إلى فيرو، من قسنطينة. وقد نشرناها في كتابنا (أبحاث وآراء) ج 3، فارجع إليه. (¬2) فيرو (مترجمو الجيش الإفريقي)، مرجع سابق، ص 399 - 400. وقد صدر هذا الكتاب سنة 1876، أي أن أحمد البدوي كان ما يزال إلى هذا العهد في مهنة الصحافة والكتابة.

ونشرت في القسم الفرنسي من الجريدة على حلقات. وعنوانها (حكاية غونزالف القرطبي). وقد نشرت هذه القصة في أكثر من عشر حلقات ابتداء من 1867. ويبدو أنه قد شاركه في ترجمتها أيضا زميله علي بن عمر الذي سيأتي الحديث عنه، ذلك أن اسميهما واردان في الترجمة ولكن في حلقات مختلفة (¬1). هل هو الذي اختار ترجمة القصة؟ وما الهدف منها؟ إن موضوعها يتعلق بالأندلس وليس فرنسا. وهو موضوع تاريخي لأن اسم قرطبة وسليمى (بطلة القصة) واسم فاس وحياة الأندلس عندها طعم خاص وذكرى وشجون لكل عربي/ ومسلم في الجزائر. ولكن البطل (غونزالف) الأسباني- المسيحي زعيم الاسترداد هو القوي وسليمى تمثل الأندلس المنهارة التي يقع غونزالف في حبها. من الجانب الفرنسي هناك تشابه بين قوة فرنسا بجنرالاتها والجزائر، وهي سليمى الجديدة. وفي كلتا الحالتين نجد الغرب المسيحي هو المنتصر والعربي المسلم هو المنهزم. ألا يصلح هذا أن يكون إطارا تاريخيا شيقا في أذهان القائمين على جريدة المبشر؟. إننا نعتقد أن الاختيار كان لإدارة التي نشرت النص الفرنسي أيضا. ومع ذلك فلا نرفض أن يكون اختيار الترجمة من قبل البدوي نفسه لأن القصة، مع ذلك، فيها عبرة للمعتبرين، وفيها لذة في القراءة ومتعة من التاريخ. ولو رجع المرء إلى مختلف أعداد المبشر واستطاع معرفة ما ترجم أحمد البدوي فيها ولو كان غفلا من الاسم، وصنف ما ترجمه، لاستطاع أن يخرج من ذلك بصورة واضحة عن مساهمته في هذا الميدان. إن رجلا في ثقافة أحمد البدوي العربية ومعرفته الفرنسية بالقدر الذي يستطيع به نقل معارفها إلى العربية هو الذي كانت الجزائر في حاجة إليه عندئذ. رجل مزدوج اللغة، ولكن في فائدة لغته لا لغة عدوه، رجل ينقل للجزائريين آداب ¬

_ (¬1) رسالة الباحث إبراهيم الونيسي حول جريدة المبشر. وقد نقل إلي مشكورا طرفا من القصة ومقالة البدوي عن نابليون، بتاريخ 27 نوفمبر 1988. الحلقة الأولى من الحكاية نشرت في عدد 7 نوفمبر 1867 من المبشر.

وعلوم الفرنسيين لكي يتغذوا منها وينتعشوا وينطلقوا كأجدادهم في مجال الإبداع والمنافسة الحضارية. ولكن أين ذلك في عهد حكم أصحابه، منذ أول وهلة، بأن يفرنسوا الجزائر ويربطوها بعجلة الاندماج الحضاري، أي الذوبان والإمحاء؟. 2 - علي بن عمر: إذا كنا نعرف شيئا عن حياة أحمد البدوي الأولى وثقافته، فإننا لا نعرف شيئا عن حياة علي بن عمر حتى كدنا نقول عنه إنه شخص رمزي أو اسم مستعار. كيف أصبح صحفيا؟ وكيف تعلم العربية والفرنسية؟ وما زمان ومكان مولده؟ إن هناك اسماء كثيرة تبدأ بعلي. وهناك ابن علي، وابن الشيخ علي، ولكن ليس هناك علي بن عمر على حد علمنا (¬1). فإذا كان فإنه يكون من الجيل الأول الذي نشأ في العهد الاستعماري. ظهر اسمه في المبشر أواخر الستينات، وكانت الموضوعات التي عالجها ذات طابع علمي في أغلبها. فله مقالة مترجمة بعنوان الشمس الثابتة، برهن فيها على ثبوت الشمس وحركية الأرض مدعما ذلك برسم توضيحي. ولا شك أن ذلك كان اهتماما أوروبيا أكثر منه إسلاميا. وقد انتقد في مقاله ما كان يشاع من أن الأرض هي محور النجوم والكواكب الأخرى كالشمس وأن كل الأجرام تدور حول الأرض وهي ثابتة. وفي مقالة أخرى له كرر نفس المعلومات بأسلوب آخر وبين حركات النجوم وتقدير المسافات بينها وبين الشمس (¬2). وكان المسلمون قد برعوا في علم الفلك وتعديل الكواكب أو تحريكها، كما يقول ابن حمادوش. ومن الواضح أن ابن عمر كان يترجم عن نصوص فرنسية وأن المادة كلها من إعداد إدارة الجريدة وتحت إشرافها. ومما ترجمه علي بن عمر مقالة بعنوان (تاريخ الافريقية فيما يتعلق ¬

_ (¬1) هناك علي بن عمر، صاحب زاوية طولقة، وهو من المتصوفين ولا علاقة له بالجريدة. (¬2) المبشر، 23 ديسمبر 1869 و 31 من نفس الشهر والسنة.

بالنباتات) (¬1) وهو تعريب لبحث طويل كتبه فريدريك لاكروا بعنوان (أفريقية القديمة: الإنتاج النباتي) ونشره في المجلة الجزائرية. وكان هدف المبشر من تعريب هذا البحث إفادة المزارعين الجزائريين بما كان في بلادهم وما حولها من إنتاج نباتي وما يمكن أن يقوموا به هم في العهد الجديد. فالأرض خصبة والفرنسيون يريدون الحصول منها على أكبر قدر من الإنتاج المتنوع. وفي الميدان الأدبي نجد علي بن عمر يترجم مقالات خفيفة وحكايات للتسلية والعبرة. من ذلك مشاركته في ترجمة حكاية غونزالف القرطبي مع أحمد البدوي. وقد أشرنا إلى ذلك. وقد نشر حكايات أخرى بالعربية والفرنسية مثل حكاية الأعرابي الذي فقد حصانه (¬2). وكان اسمه (ابن عمر) يظهر أيضا في القسم الفرنسي. وله سلسلة من المقالات بعنوان (مخالطة الباباوات مع عرب أفريقية في الأجيال المتوسطة) ومن الأكيد أن ذلك كان من اختيار الجريدة لأن الموضوع هو التاريخ الديني. والمقصود (بالمخالطة) هو العلاقات. وله ترجمات أخرى في التجارة ونحوها. تاريخ ظهور اسمه في الجريدة يرجع إلى سنة 1867. ولا ندري كم استمر بعد 1869 أو بداية 1870. فقد تغيرت أحوال الجزائر بعد ظهور الجمهورية الثالثة. هذا إذا كان اسم علي بن عمر اسما تاريخيا (¬3). وبذلك تكون مساهمته في الترجمة مساهمة كبيرة سيما في الميدان العلمي. 3 - أحمد الفكون: الشخص الحقيقي الذي ترجم عن الفرنسية وأفاد العربية في تلك الأثناء، ابتداء من الستينات من القرن الماضي، هو أحمد الفكون (ابن الفقون). فعائلته قسنطينية معروفة. ولها تاريخ حافل في خدمة الإسلام واللغة العربية. وقد قتل أحد أجداده العلماء في جامع الزيتونة بتونس من قبل جيش شارلكان. وكانت في عائلته مشيخة الإسلام وإمارة ركب الحاج ¬

_ (¬1) نفس المصدر، 11 فبراير 1869. وبحث إبراهيم الونيسي. (¬2) نفس المصدر، 25 فبراير 1869. (¬3) لاحظ أن فيرو لم يذكره في المترجمين العسكريين. ولم نعرف من ترجم له.

إلى مكة المكرمة إلى الاحتلال الفرنسي. وإظهارا للتناقض الصارخ كان أحمد الفكون من أوائل من منحتهم فرنسا جنسيتها بعد إنشائها، سنة 1866. ولد أحمد الفكون في قسنطينة في 12 فبراير 1829. وكان عمره ثماني سنوات عند احتلال مدينته المروع الذي تهدمت فيه الدور وطارت فيه الرؤوس وسقطت خلاله العشرات في مهاوي وادي الرمال. وكان جده محمد الفكون، شيخا للإسلام في البلاد وحامي حمى المدينة، وكان طاعنا في السن حتى حمل على كرسي لمقابلة المارشال فاليه عند كدية عاتي. وجلبا للسكان وتسكينا للخواطر واتباعا للسياسة الماهرة، عين فاليه حمودة الفكون بن شيخ الإسلام، شيخا للمدينة. وكان طبعا تعيينا مؤقتا حتى يسيطر الفرنسيون على مقاليد البلاد وتهدأ الخواطر، كما قلنا. فمن هو الطفل أحمد الفكون؟ هل هو ابن حمودة؟ أو هو فقط من العائلة؟. تعلم أحمد على مشائخ المدينة على الطريقة القديمة، وكان أمثاله في سنه يحفظون القرآن ويعرفون مبادئ العلوم والدين. ثم يتحلقون حول دروس المساجد ويطالعون الكتب، وقد يسافرون إلى الزوايا البعيدة أو يذهبون إلى جامع الزيتونة لاستكمال الدراسة. ونحن لا نعرف كيف أكمل أحمد هذه الدورة التعليمية ولا كيف تعلم اللغة الفرنسية. والغالب على الظن أن أهله قد أدخلوه إلى المدرسة العربية - الفرنسية التي أنشئت منذ 1850. ولعله حضر دروس المستشرق شيربونو في الفرنسية، ومهما كان الأمر فإن لغته العربية كانت أقوى من الفرنسية، وتدل على ذلك ترجماته. ومن حيث الوظيفة نعرف أن أحمد الفكون أصبح مترجما عسكريا، وهي وظيفة يدخلها أصحابها بمسابقة ويتدرجون فيها بين ثلاث طبقات. ولكن يبقون، كمسلمين، مترجمين احتياطيين فقط. ولا ندري ما الذي حمل أحمد الفكون على طلب الجنسية الفرنسية سنة 1866، هل يرجع ذلك إلى عدم تقديره لخطورة التخلي عن الأحوال الشخصية الإسلامية والدخول تحت طائلة القانون الفرنسي؟ أو يرجع إلى عوامل أخرى نجهلها كالزواج المختلط أو الخلاف العائلي؟.

لقد نشرت جريدة المبشر في آخر سنة 1866 خبرا تزفه إلى قرائها وهو (تطبيقا) لما ورد في الفصل 1، 2، 3، 4 من قانون 13 جويليه 1865، دخل في الحرم والحقوق الجارية على الفرنسيين السيد: أحمد بن اللفقون (كذا) ترجمان عسكري، ولد في قسنطينة في 12 فيفري، 1829، ويقطن في هذا الوقت في باتنة) (¬1). ونحن نقول تزف إليهم الخبر لأنه من النادر جدا أن طلب الجزائريون التجنس بالجنسية الفرنسية. ونعرف من مصدر آخر أن أحمد الفكون قد أصبح ترجمانا عسكريا منذ سنة 1850. نشر أحمد الفكون ترجمات في الأدب والتاريخ. وموضوعها هو الأدب العربي والتاريخ الإسلامي، وجغرافيتها هي الأندلس والمشرق وأفريقية. ولكنه عالج أيضا الترجمة حول تاريخ فرنسا. أول ما نشر كان عن الأندلس. وهو تعريب قصة محمد السراج الأندلسي بعنوان طويل وهو (الجوهر الوهاج المنقوش في غرائب ابن السراج الأطلسي). وهي قصة في ثماني حلقات نشرها في جريدة المبشر (¬2). والقصة تذكر العرب والمسلمين بمجدهم الخالد وبطردهم الدموي. وتجعلهم يعتبرون من الاحتلال الفرنسي أيضا. ثم نشر الفكون قصة تاريخية عن جان دارك الفرنسية. ويظهر أنه كان مولعا بالتاريخ وأحداثه وملامحه وعبره. فمن الأندلس إلى فرنسا. ومن حرب الهزيمة إلى حرب الانتصار. وهنا أيضا هزيمة، ولكنها ترمز إلى النصر الآتي، لأن جان دارك كانت رمزا لا حقيقة. (التاريخ المتدارك في أخبار جان دارك) ذلك هو عنوان القصة الجديدة التي نشرها الفكون في عدة ¬

_ (¬1) المبشر، 27 ديمسير 1866. وقانون 13 يوليو (جويليه)، 1865 هو المعروف بالمرسوم المشيخي (سنتوس كونسلت) الذي فتح للجزائريين باب التجنس بالجنسية الفرنسية بشرط التخلي عن الأحوال الشخصية الإسلامية من زواج وطلاق وتركات، ودفن ... وهو ما رفضه الجزائريون، ورضوا بحالة الرعية التي تحفظ لهم دينهم وهويتهم رغم حرمانهم من الحقوق. (¬2) ابتداء من العدد 22 ابريل 1864.

حلقات. وكان قد انتهى من ترجمتها سنة قبل ذلك، إذ جاء في آخرها بعد نشرها هذه العبارة (تمت الحكاية على يد مترجمها من الفرانسوية إلى العربية أحمد بن الفقون، الترجمان بالجيش الإفريقي بتاريخ 20 مارس 1866. وقد بدأ الفصل أو الحلقة الأولى بدون مقدمات: (لما توفي أحد ملوك فرنسة، وهو السلطان شارل السادس، خلف الملك غارقا في بحر الألم الناحس) الخ ... وانتقل بسرعة إلى الحديث عن جان دارك في أسلوب أدبي خيالي وتاريخي (¬1). أما بالنسبة للتاريخ العربي فقد نشر أحمد الفكون ترجمة لدراسة كتبها أحد الفرنسيين وهو ليون قاليبير GALIBERT بعنوان (الحكم العربي في أفريقية). وقد ظهرت ترجمة الفكون هكذا: الخبر عن دولة العرب في أفريقية. وذلك في عدة حلقات أيضا، ابتداء من 26 نوفمبر 1868. وكانت النسخة الفرنسية من الجريدة تنشر أيضا النص الفرنسي. والفترة التي تغطيها الدراسة هي من ظهور الإسلام إلى سقوط الأندلس (622 - 1490 م) (¬2). ولم نقارن نحن النصين لنعرف ما إذا كان الفكون يلخص الترجمة أو يورد النص كاملا. كما لا نستطيع أن نتصور أنه قد يترجم شيئا لا ترضى عنه الجريدة. والذي يعنينا في الواقع هو نقل المعرفة إلى القارئ بالعربية في الصحيفة الوحيدة عندئذ. ولو أنصف الدهر لكان دور الفكون مثل دور رفاعة الطهطاوي في إثراء الثقافة العربية. والمعلومات التي أوردها الفكون موجودة في بطون الكتب المخطوطة وبعضها كان يطبع في المشرق أيضا، ولكن قارئ الجريدة يحتاج إلى مادة منقولة إليه حيث كان وبأسلوب بسيط. وهذا ما فعله أحمد الفكون، وكان اختيار العناوين في حد ذاته فنا من الفنون، ويدل اختياره للعناوين على تغلب الذوق العربي عليه. انظر مثلا إلى القصة ¬

_ (¬1) البمشر ابتداء من 2 مايو 1867. وقد نشرت الحلقات بعد ذلك في كتيب على حدة. (¬2) رأينا أعداد 7 و 14 يناير 1869 من المبشر وكان النص ما يزال متواصلا فيها.

الأندلسية التي بدأها بعبارة (الجوهر الوهاج) وهو عنوان جذاب وعربي الرنين. وكذلك الخبر عن دولة العرب في أفريقية، كل كلمة فيه لها حساسية خاصة. ورغم ثقل اسم جان دارك على الأذن العربية فإن الفكون قدم له بالسجعة العربية (التاريخ المتدارك) ثم أكمل الاسم فأصبح موزونا معه ومقبولا. ما مصير أحمد الفكون؟ وماذا ترجم أيضا في المبشر غير ما ذكرنا؟ لا ندري بالضبط فنحن لم نتتبع كل أعماله ولا كل حياته. وجدير بالباحثين الآخرين أن يفعلوا ذلك بدلنا. ويذكر بيروني أن الفكون تقاعد سنة 1881. ولا ندري لماذا اختصر فيرو الحديث عنه سنة 1876 وقد مضى عليه 26 سنة مترجما عسكريا. وقد اكتفى بقوله عنه إنه ترجم ونشر بالعربية أعمالا عديدة من الأدب الفرنسي. وذكر أيضا أنه تجنس بالجنسية الفرنسية (¬1). وفي سنة 1882 وجدنا الفكون يساهم في جريدة جديدة ظهرت بالعربية ويترجم لها، وهي جريدة (المنتخب) التي أسسها أحد الفرنسيين، وهو بول ايتيان، ولكنها لم تكن رسمية كجريدة المبشر. ومن المساهمين معه فيها حميدة بن باديس (ابن المكي، وجد عبد الحميد)، وكانت (المنتخب) متزعمة لحركة المساواة بين الجزائريين والفرنسيين أو بعبارة أخرى تساند السياسة الإسلامية التي كان يتزعمها حميدة بن باديس إلى 1887 والذي أصبح المتكلم الرسمي باسم المسلمين في المجلس العمومي (C.G) أو مجلس الولاية. ويقول أحد الباحثين إن الأعضاء الآخرين في المجلس كانوا يوافقون ابن باديس آليا. وكان ابن باديس يعارض التجنس بشدة، فهل كان أحمد الفكون من أعضاء المجلس أيضا؟ أليس هو من المتجنسين؟ يفهم من هذا المصدر أن الفكون كان عضوا في المجلس أيضا، ولكن أي تناقض سيكون بينه وبين حميدة بن باديس إذا تمسك الفكون بالجنسية الفرنسية (¬2). ¬

_ (¬1) فيرو، مرجع سابق، ص 341. وأيضا بيروني، مرجع سابق، ص 200. وقد تحدث بيروني عن (النياشين) التي الها أحمد الفكون وعن تنقلاته في مختلف المدن أثناء الخدمة. ومنها قسنطينة وعنابة وباتنة ويبدو أنه لم يكن متفرغا للمبشر. (¬2) انظر كريستلو، المحاكم، مرجع سابق، ص 237 - 238.

4 - وأما الطاهر بن النقاد فحياته ما تزال مجهولة. وكان من مواليد قسنطينة أيضا، وتعلم على أيدي علمائها الباقين بعد الاحتلال. وتولى بعض الوظائف للفرنسيين فيها، ثم انتقل إلى عدة مدن مجاورة، ومنها العين البيضاء. وقد توفي في بوسعادة سنة 1863. ويهمنا منه الآن أنه ترجم إلى العربية مجموعة من القصص (المحادثات). وكان من أوائل المساهمين في حركة الترجمة. ولكننا لا ندري كيف ولا أين تعلم الفرنسية. ولعله كان من المقربين لدى الضابط بواسوني والمستشرق شيربونو، وكلاهما عمل في قسنطنية واقترب من بعض عائلاتها. ... هذا عن أوليات الترجمة من الفرنسية إلى العربية. وقد يكون مفيدا أن يتتبع الباحث تطور ذلك في العهود اللاحقة، سيما بعد أن أصبحت الازدواجية بارزة في خريجي المدارس الشرعية الثلاث وفي بعض خريجي مدرسة (كلية) الآداب. كما أن جريدة المبشر التي استمرت إلى سنة 1927 قد تطورت مع إدارة جديدة ومحررين جدد، أصحاب أقلام عربية وثقافة فرنسية من أمثال علي بن سماية والحفناوي بن الشيخ ومحمد بن مصطفى خوجة ومحمود كحول. وعند ظهور الصحف الوطنية بالعربية أو الصحف العربية المدعومة من قبل الإدارة الفرنسية أمثال جريدة (المغرب) و (كوكب افريقية)، فإن الترجمة أصبحت ضرورية. وأول لغة كان يجري النقل عنها هي الفرنسية. ولكن ليس من غرضنا هنا تتبع تاريخ الترجمة العربية وتصنيف مادتها وأصحابها، في كل المراحل. ولنذكر أن أحدهم، ويدعى طيبال (Tibal) قد ترجم سنة 1880 قصة (بارب بلو أو اللحية الزرقاء). من تأليف بيرولت الفرنسي إلى العربية. وكان طيبال أستاذا للغة العربية. وقد أعلنت جريدة (الأخبار) التي كانت تصدر بالفرنسية أن الترجمة كانت أمينة وحرفية، وأنها ستساعد التلاميذ في المدارس على تعلم العربية. ولاحظت أن القصة تذكر بعهد الطفولة. فمن هو

طيبال هذا؟ والمهم عندنا الآن هو النقل من الأدب الفرنسي إلى اللغة العربية (¬1). وبعد عشر سنوات نشر مجدوب بن قلفاط ترجمة لقصص اختارها من الأدب الفرنسي، وجعل لها عنوانا هو (اختيار حكايات)، وقد ترجمها إلى العربية الدارجة. ونشرها في قسنطينة (¬2). ويظهر أن الهدف منها تعليمي - تجاري وليس ثقافيا - ما دامت الدارجة هي أداة التوصيل. إن الترجمة من الفرنسية إلى العربية تحتاج إلى ثقافة واسعة باللغتين، ولا سيما اللغة العربية المنقول إليها. كما تحتاج إلى غيرة وطنية وإلى هدف محدد وهو خدمة اللغة المنقول إليها وأهلها. وذلك لا يكون بجهود فردية فقط، بل لا بد من دعم جماعي أو حكومي. وهو ما لم يتأت في الجزائر. فالجهود كلها كانت منصبة على النقل إلى الفرنسية وليس العربية، والثقافة العربية كانت وسيلة لخدمة الجهاز الفرنسي كله، وكانت الغيرة الوطنية غائبة عند معظم الذين تلقوا تعليما مزدوجا في العهد الفرنسي. وقد رأينا أن أفضل من آمن بالنقل إلى العربية عن الفرنسية قد تجنس وتخلى عن دينه وقومه. كما أن الجهود الجماعية والحكومية لخدمة الترجمة العربية كانت منعدمة. وحتى في العهود المتأخرة من الاحتلال ظل الأمر كما كان. فالصحافة الوطنية كانت تكافح بنفسها في التوصل إلى الترجمات الضرورية، ولم تهتم بالترجمة الأدبية والعلمية والتاريخية. وكانت تكتفي بالمادة الخيرية. وقلما مد قصة أو خبرا علميا فيها مترجما بانتظام ودراسة عن المعارف الفرنسية. لكن مجلة كالشهاب أو جريدة كالنجاح كانت من وقت لآخر تترجم عن الفرنسية مواد غير سياسية أو خبرية. أما الأخبار العلمية العالمية فتشترك فيها الصحف كالبصائر والبلاغ. والعهد الذي ظهرت فيه مجلة افريقية الشمالية ¬

_ (¬1) الأخبار، عدد 17 فبراو و 19 مارس، 1880. وعنوان القصة أو conte هو Barbe bleue واسم المؤلف Perrault . (¬2) سنة 1890، 175 صفحة. انظر نبذة عن حياته لاحقا.

الاتجاه الاندماجي - الاستغرابي

لإسماعيل العربي (¬1)، ومجلة (هنا الجزائر) التابعة للإذاعة الفرنسية عهد لا يعنينا هنا (¬2). وبالنسبة للأدب فإن أحمد رضا حوحو يعتبر من رواد حركة الترجمة من الفرنسية إلى العربية، فقد تعلم العربية والفرنسية في الجزائر ثم سافر إلى الحجاز سنة 1935، واستكمل هناك ثقافته العربية، ولكنه برصيده في اللغة الفرنسية استطاع أن يطرق باب الترجمة عن أدباء فرنسا، أمثال فيكتور هوغو، وبودلير، وفولتير، وناصر الدين دينه، وغيرهم (¬3). الاتجاه الاندماجي - الاستغرابي أعلن الفرنسيون منذ البداية، على لسان قادتهم أن هدفهم هو (تمدين) الجزائريين (المتوحشين) أو نصف المتمدنين، وأن لهم رسالة حضارية يؤدونها، وهي تتمثل في إحلال النظم الفرنسية محل النظم الإسلامية القائمة، وجعل اللغة الفرنسية هي لغة السيادة. ومن ثمة كان هدفهم هو الوصول إلى نقطة الاندماج حين يصبح المجتمع الجزائري مجتمعا متفرنسا لغة ودينا ونظما. وقد تضافرت الجهود لتحقيق هذا الهدف، فالعسكريون كانوا يحطمون المقاومة حيثما وجدت وفي جميع أشكالها. والمدنيون كانوا يحطمون النظم والمؤسسات القائمة من أوقاف وتعليم وقضاء وحتى المعالم كالمساجد والزوايا والجبانات، ومن جهتهم كان رجال الدين يسترجعون الكنيسة (الكاثوليكية) التي كانت قبل الإسلام، ويعملون على أن يتخلى ¬

_ (¬1) ظهرت سنة 1948، ومن الترجمات التي ظهرت فيها لإسماعيل العربي: أنغام العود والمزهر (شعر) لفيكتور هوغو، وأنشودة الريح الغربية (شعر) لشيلي، وصفحات من التاريخ الدبلوماسي، الخ. (¬2) من الذين ترجموا إلى العربية أيضا في هذا العهد: المولود الطياب والطاهر البوشوشي. انظر حديثنا عن المجلات في فصل المنشآت الثقافية. (¬3) انظر كتاب صالح خرفي (أحمد رضا حوحو في الحجاز)، دار الغرب الإسلامي، بيروت 1991. وقد كتبنا عنه مراجعة نشرت في مجلة (المنهل) السعودية.

الناس عن دين محمد المزيف، كما يقول الأب بارجيس والأسقف بافي، وكان رجال الاستشراق والاستغراب يتعاونون على تحطيم اللغة العربية بإهمالها وإحياء العاميات واللهجات المحلية وتدريس كل ذلك باللغة الفرنسية وتربية الجزائريين المتصلين بهم على هذه الفكرة. وقد تحدثنا حتى الآن عن الموقف من التعليم ومن المعالم الإسلامية وموقف الاستشراق من اللغة العربية واللهجات في فصول أخرى. أما الموقف من المقاومة فقد تناولناه في كتابنا الحركة الوطنية. ونريد الآن أن ندرس ظاهرة أخرى في هذا المخطط الاندماجي الفرنسي، وهي إنشاء نواة تكون هي الوسيلة إلى ذلك، ومن الممكن تسميتها بنواة الاستغراب والاندماج والتفرنس (¬1). ونحن نعتبر ذلك من الفرنسيين أمراء طبيعيا. فكل أمة تحتل أمة أخرى ترت فرض سيطرتها بإلغاء النظم التي سبقتها وتعويضها بنظمها الخاصة، ومحاولة جعل الأمة المحتلة في مستوى الأمة الغازية، أو سحقها. وقد تكون هذه العملية بالجبر والقهر وقد تكون باللين واتخاذ القدوة دون تعسف. ومن الأمم من تلجأ إلى القهر ومعاملة المحتلين معاملة العبيد أو الأندجين. وقد اتبع الفرنسيون الطريقة الأخيرة. فإلى جانب القهر العسكري الغاشم استعمل الفرنسيون أسلوب التبشيع لكل ما هو قائم قبلهم، وقد استفظعوا السلوك الديني واللغوي والأخلاقي والاجتماعي للجزائريين بالكلام والكتابة والمعاملة. واتبعوا طريقة الاحتقار والإهانة. وبالغوا في الاعتداء على الأملاك ومصادرة الأراضي، وهكذا جعلوا من أنفسهم مستبدين طغاة، فأصبح الجزائري المغلوب معهم يتمنى إزالة ملكهم وانقراض دولتهم. وكان هذا هو رأي السكان حتى الذين أجبرهم الفرنسيون أو أجبرتهم الظروف المعاشية على العمل في إطار إدارة الاحتلال. ¬

_ (¬1) انظر مقالتنا عن (الاستيطان والاندماج في الجزائر) في مجلة (الندوة) الأردنية، عدد 2، المجلد 8، مايو، 1997.

وفي مقابل ذلك عمل الفرنسيون على إنشاء نواة تكون هي الوسيلة للفتنة الاجتماعية واللغوية، على أن تتولى هي المناداة بالاندماج والاستغراب في الوقت المناسب. وكانت المقاومة العنيفة والمعاملة الجماعية السيئة قد أخرت ظهور هذه النواة. فنحن لم نسمع بأصوات جزائرية تصرح بتقليد الفرنسيين إلا في الستينات من القرن الماضي، أي بعد جيل من الاحتلال (¬1). وكانت هذه الأصوات خافتة في البداية. وكانت على لسان بعض الشيوخ الذين لم يدرسوا في المدارس الفرنسية أو الذين درسوا فيها ولكن حظهم من الثقافة العربية الإسلامية كان أقوى، وكانوا ما يزالون متحصنين. ولا ندري هل كان أولئك النفر القليل الذين ظهرت دعوتهم على صفحات جريدة المبشر الرسمية، هل كانوا يكتبون عن عقيدة وإيمان أو كانوا يكتبون مأجورين. والواقع أن أصوات هؤلاء كانت لا تخرج عن الدعوة إلى (العلم) وإلى تعلم الفرنسية باعتبارها لغة هذا العلم الجديد، والدعوة إلى تعلم التكنولوجيا الغربية (الفرنسية). وهذه الدعوة ليست جديدة في حد ذاتها، فقد دعا إليها بعض العلماء المسلمين حتى قبل الاحتلال الفرنسي، أمثال محمد بن العنابي في (السعي المحمود) (¬2). ولم يكن عالم متنور مثل حمدان خوجة يعارض التعلم بالفرنسية ولا تعلم العلوم الحديثة من الأوروبيين. ولكن الذي عارضه، وعارضه الجزائريون معه هو الاحتلال والاعتداء على حرمات المساجد والبيوت والمكتبات والأراضي، وهو القهر والتسلط ثم تسمية كل ذلك رسالة حضارية فرنسية. ¬

_ (¬1) من الذين انبهروا بالفرنسيين أول مرة أحمد بوضربة سنة 1830، وقد كان معاشرا للفرنسيين في مرسيليا قبل الاحتلال. ولكنه سرعان ما خاب أمله بعد أن تبين خطأه من حسن الظن بهم، رغم مؤهلاته كمتعلم بالفرنسية، ليلعب دور الوسيط. وقد انضم إلى الأمير عبد القادر، ثم مات هو وعمه مصطفى في المنفى (طنجة). انظر عنه الحركة الوطنية ج 1. وكنا قد جمعنا عنه ملفا لنخصه بدراسة، ولكن الملف ضاع في أوراقنا سنة 1988 ضمن المحفظة المعروفة. (¬2) انظر كتابنا (رائد التجديد الإسلامي) ط. 2.

الزيارات المنظمة لباريس وفكرة المعهد العربي

قلنا إن القادة الفرنسيين الأوائل قد نفوا وعزلوا عنهم حتى أخلص الجزائريين إليهم، أولئك الذين انبهروا بهم وظنوا بهم خيرا، أمثال حمدان خوجة وأحمد بوضربة. ثم نفوا غيرهم أو سرحوهم إلى فرنسا للتأثير عليهم هناك والتخلص منهم في الجزائر، أمثال مصطفى بن عمر وحمدان بوركايب ومصطفى كريم. ولكن بعد الاستقرار النسبي أخذوا يسفرون الأعيان من الجزائريين الموالين لهم ليزوروا فرنسا فترة معينة كالشهر، ثم يعيدونهم إلى الجزائر وإلى وظائفهم وعائلاتهم ليتحدثوا بالنعمة التي تمرغوا فيها والعجائب التي شاهدوها. ويستتبع ذلك بدون شك الأثر النفسي في أشخاصهم. وقد بدأت هذه العمليات الدورة منذ عهد كلوزيل الثاني، أي 1836. واستمرت وتضاعفت في عهود لاحقة حين أصبحت المناسبات الرسمية هي الدافعة إلى ذلك مثل أعياد جلوس الحكام، ومعارض باريس، والمناسبات القومية. وكان الإعلام الفرنسي يسمي هذه الزيارات المنظمة التعرف على (الكرم والسخاء) الفرنسي، الذي ينافس الكرم العربي الزيارات المنظمة لباريس وفكرة المعهد العربي وتحدثنا المصادر الفرنسية عن زيارة وفد من الأعيان ومن الأطفال أيضا، إلى باريس سنة 1838. وقد استقبل الأعيان استقبالا يليق بالكرم الفرنسي المتناسب مع الكرم العربي، حسب تعبيرهم. ومن الأعيان المشار إليهم أناس ربطوا مصيرهم بالسلطات المحتلة دون وعي تاريخي ولا يقظة دينية، ومنهم (الجنرال) مصطفى بن إسماعيل زعيم الدوائر والزمالة الذي كان قد رفض مبايعة الأمير عبد القادر وحارب في صفوف الفرنسيين ضده. وهو شيخ كبير السن وفارس مغوار قضى عمره في خدمة الحكم العثماني (المخزن). وقد ولاه الفرنسيون على تلمسان بعض الوقت قبل رجوعها إلى الأمير بمقتضى معاهدة التافنة. ومن زملائه في هذا (الميعاد) الحاتمي الفرنسي مصطفى بن المقلش، وهو أيضا من أصحاب النفوذ في العهد العثماني وانضم إلى الفرنسيين. وقد رافقهما إلى فرنسا عدد آخر.

والمعروف أن الأمير عبد القادر أرسل، سنة 1838 وزير خارجيته المولود بن عراش إلى فرنسا لمقابلة الملك لويس فيليب، أثناء هدنة التافنة، وذهب معه وفد من حكومة الأمير (¬1). وتقول المصادر الفرنسية (عندما يسمع الأهالي الحكايات والقصص العجيبة عن مشاهدات الأعيان في فرنسا فإن غيرهم من العرب سيطلبون الزيارة كذلك للاطلاع على هذا البلد الذي انتصر جيشه وحضارته عليهم) (¬2). ومن جهة أخرى طلبت السلطات الفرنسية أن يرسل المخلصون لها من الجزائريين أبناءهم أيضا إلى فرنسا لإحداث العدوى الحضارية ومشاهدة عجائبها. وقد فعل بعضهم. وكان لهؤلاء المخلصين ثقة كاملة في فرنسا على أولادهم، وهم يعرفون (ذكاءنا وقوتنا). أما الأثر الذي ستحدثه الزيارات على عقول الأطفال الجزائريين، أبناء المخلصين لفرنسا، فالمصدر يقول إنه سيكون لقصصهم تأثير على الآخرين الذين لم يزوروا، وسيطلبون بدورهم الزيارة، وهكذا تسرى العدوى ويصبح الحج إلى فرنسا بدل مكة، وتتغير العقليات ويحدث التقارب في طريق الاندماج المنشود. ويقول نفس المصدر في هذا المعنى، بذلك ستتكون (أدوات حضارتنا، ويتحقق الكرم للآباء، والتعليم للأبناء) (¬3). وفي هذه الأثناء كثر الحديث أيضا عن إنشاء كوليج (معهد) عربي - فرنسي بباريس. وتكون مهمته استقبال الأعيان، وتعليم أبناء المخلصين لفرنسا، وإبراز الكرم الفرنسي في مختلف المجالات، حتى يصبح المعهد مشتلة فكرية للتأثير الفرنسي في الجزائر. واقترحوا أيضا أن تنشأ في المعهد ¬

_ (¬1) وقد أشاعت وسائل الإعلام وبعض التقارير أن ابن عراش كان قد أصبح (متسامحا) مع الفرنسيين خلافا لبعض أعوان الأمير الآخرين أمثال الخليفة ابن علال والبركاني. انظر رحلة بيربروجر إلى معسكر الأمير شتاء 1837 - 1838، وقد ترجماها. (¬2) السجل (طابلو) سنة 1838، ص 117. (¬3) نفس المصدر.

مدرسة للترجمة بالعربية الدارجة لأبناء الفرنسيين، وبذلك يحدث الاختلاط بين الأطفال أولا في فرنسا ثم بين الكبار في الجزائر. أما الأطفال الجزائريون فيأتون ويدرسون (دراسة خاصة) ويكونون تحت مراقبة شديدة، ثم يرجعون إلى أهلهم تحت المراقبة نفسها. وصدر المرسوم الملكي بإنشاء المعهد في مايو 1839. ونص على عدة أمور، منها أن مدرسة الترجمة تكون هي البوتقة التي يتخرج منها كل العاملين الفرنسيين في الإدارة بالجزائر. ومنها المحافظة على المشاعر الدينية للأطفال المسلمين عندما يحلون بالمعهد المذكور، على أن يكون المعلم المحايد هو الوسيلة، والتأثير الفرنسي هو الهدف (¬1). ومع هذه الضجة، فإن الكوليج العربي - الفرنسي لم يفتح، والكرم الفرنسي لم يحصل. وبقي الحال كما كان: وفود من الأعيان تتردد على فرنسا في زيارات دورية تنظمها السلطات الفرنسية في الجزائر بالاتفاق مع الحكومة في باريس. أحيانا تكون الوفود ممثلة وجامعة لمختلف أنحاء الجزائر. فكأنها وفد برلماني أو تمثيلي في شكل ما. وأحيانا تكون الوفود جهوية. ونجد في هذه الوفود أحيانا العسكريين فقط أو رجال السيف والبارود الذين يتقلدون وظائف فرنسية، وأحيانا وفودا مختلفة فيها بعض المدنيين أيضا من كبار العائلات في المدن، وبعض الكتاب أو الخوجات والقضاة. وكان عهد بوجو (1841 - 1847) من أنشط العهود في هذا الميدان. فبينما كان سيفه ومحراثه يعملان بلا هوادة في رقاب وأرض الجزائريين على يد الجنود والمستوطنين، كانت إدارته ترسل هذه الوفود لتتلقى الحضارة وتطلع على الذكاء والقوة والعلم الفرنسي ... ثم تعود منبهرة مندهشة، مبشرة بما لا عين رأت ولا أذن سمعت، كما يريد الفرنسيون، بل كانوا يريدون منها أن تصبح طابورا خامسا لصالح الإدارة الاستعمارية. ومع ذلك فإن القليل فقط من الجزائريين هم الذين سجلوا انطباعاتهم ¬

_ (¬1) السجل (طابلو)، ص 115 - 116. وقيل إن وزير الحربية فكر في فتح قسم خاص بكوليج الجزائر (تعليم متوسط) يتلقى فيه أطفال المسلمين تعليما خاصا بهم مخالفا للتعليم الذي يتلقاه أبناء الأوروبيين. انظر فصل التعليم الفرنسي المزدوج.

وتركوها مكتوبة. ولكن الفرنسيين كانوا ينتظرون الدعاية الشفوية (أو التلغراف العربي) كما يسمونه، فالكلمة المنطوقة تذهب من فم إلى فم ومن أذن إلى أذن. ولا حاجة إلى القلم والقرطاس في ذلك الوقت، سيما بعد أن انتشرت الأمية. فأهل المدن يحدثون من يساكنهم، وأهل الريف يحدثون جيرانهم، وهكذا يعم الجمع كنت فرنسا والسلام الفرنسي. ولكن هل ذلك هو ما وقع فعلا؟ إن كان بعض أصحاب الوفود قد حدثوا مواطنيهم بما شاهدوا فإن الأثر كان منعدما في الريف على الأقل حيث ظلت المقاومة مستمرة إلى عقد الثمانينات. وهذا لا يعني أن الفرنسيين لم يكسبوا أنصارا ولم ينجحوا في تكوين الخلية الاستغرابية - الاندماجية. فقد رجع محمد الشاذلي، وهو من المتعلمين البسطاء في علمهم ومن القضاة أيضا، رجع وهو معجب بباريس ونهرها ومسرحها وبرلمانها ونسائها حتى كاد يتزوج هناك من مجهولة الحسب والنسب، كما يقول أحد التقارير الفرنسية عنه. وهذا الإعجاب أورثه منصبا دائما، وهو إدارة مدرسة قسنطينة من إنشائها سنة 1850 إلى وفاته 1877 (¬1). وهناك أمثال الشاذلي أيضا ممن سجلوا انطباعاتهم في (رحلات) ترجمها الفرنسيون في الحال، لأنها كانت تحقق الهدف المطلوب، وتبعث التأثير في القلوب، من ذلك رحلة محمد ولد القاضي التي يكفي عنوانها عن محتواها (الرحلة القاضية في مدح فرنسا وتبشير البادية). ورحلة سليمان بن صيام، ورحلة محمد السعيد بن علي الشريف. والثلاثة كانوا من الأعيان، وبعضهم كان من رجال الدين والزوايا أيضا، مثل ابن علي الشريف صاحب زاوية شلاطة. وكان ابن صيام من أعيان مليانة، متوليا أيضا للفرنسيين، ونفس الشيء يقال عن ولد قاضي الذي كان متوليا لهم على فرندة. ولكي تتحقق الفائدة الأفضل أقدمت جريدة المبشر على نشر (الرحلات) أيضا ليقرأها القاصي والداني. وكان أصحاب الرحلات، على ¬

_ (¬1) انظر دراستنا عنه (القاضي الأديب)، ط 2.

أسر الأطفال وحملهم إلى فرنسا

تفاوت بينهم، قد أعجبوا بالتقدم الفرنسي وجاؤوا ليدعوا قومهم إلى الاحتفاء بالفرنسيين والخضوع لهم سياسيا وعسكريا. رغم أن بعضهم، مثل ولد قاضي، قد شكا من وضع قومه وطالب بإصلاح أحوالهم. ولا يخامرنا الشك في حسن نوايا أصحاب الرحلات، ولكن لا يخامرنا الشك أيضا في سوء نوايا الفرنسيين من وراء هذه الرحلات والزيارات المنظمة. فهم إنما جاؤوا للاستحواذ على كل شيء ولم يأتوا لبث الحضارة. ولكن جهل أصحاب الرحلات بمخططات الفرنسيين بل جهلهم بأنفسهم قد جعلهم أبواقا فارغة في فم العدو ينفخ فيها للتأثير بهم على المواطنين (¬1). وقد استمر هذا الأسلوب في التعامل مع الأعيان في هذا القرن أيضا، ولكنه اتخذ ألوانا جديدة تتلاءم مع روح العصر كالدعوة لافتتاح جامع باريس في العشرينات. أسر الأطفال وحملهم إلى فرنسا حين لم يتحقق مشروع الكوليج العربي الفرنسي في وقته لجأ المارشال بوجو ومستشاره ليون روش إلى طريقة أخرى لحمل الأطفال الجزائريين إلى فرنسا وإبقائهم هناك فترة من الوقت يتعلمون ويتأثرون ثم يتركونهم يرجعون إلى بلادهم وأهلهم. وسوف لا نتحدث عن تفاصيل هذه المدرسة المجهولة التي أصبحت تستقبل الأطفال الجزائريين لترويضهم على حب فرنسا. ويكفي أن نذكر ما قام به بوجو وأعوانه سنة 1843 على إثر الاستيلاء على زمالة الأمير عبد القادر. كانت الزمالة عبارة عن مدينة متنقلة تضم آلاف الأشخاص وتضم أيضا المؤونة والخزانة والذخيرة. وكان فيها نساء كبار العائلات وأطفالهم، بمن في ذلك نساء وأطفال خلفاء الأمير عبد القادر، مثل ابن علال والبركاني والبوحميدي وابن التهامي، ونساء كتابه وقضاته. والذي يهمنا هنا ¬

_ (¬1) نشرت الرحلات أولا في المبشر، وفي بعض المجلات المعاصرة. وفي الفترة الأخيرة نشرت الرحلات الثلاث معا في بيروت، بعناية خالد زيادة. انظر عنها فصل التاريخ والرحلات. نشرت الرحلات أولا في المبشر، وفي بعض المجلات المعاصرة. وفي الفترة الأخيرة نشرت الرحلات الثلاث معا في بيروت، بعناية خالد زيادة. انظر عنها فصل التاريخ والرحلات.

هو أن الفرنسيين أخذوا بعض الأطفال الذين بلغوا العاشرة وحملوهم إلى باريس بعد أن فصلوهم عن ذويهم. فمن جهة اعتبروهم رهائن لديهم يساومون بهم عند الحاجة، ومن جهة أخرى أدخلوهم إلى مدرسة مجهولة وضعوا عليها شخصا يسمى ديمواينكور للإشراف والمراقبة. وكان هذا الشخص يعمل بالتنسيق بين وزير الحربية والحاكم العام المارشال بوجو. وقد وقع في أيدينا تقرير منه كتبه سنة 1845 عن (رهائنه) من الفتيان الجزائريين. فكان حسب قوله يتعهدهم ويلاحظ حركاتهم وسكناتهم، وكان درس التأثير الفرنسي عليهم في فرنسا وتأثيرهم على عائلاتهم حين يعودون. ومن هؤلاء فتيان من عائلات معروفة في مدينة الجزائر وفي القليعة ومليانة. نذكر منهم أحمد بن قدور بن رويلة، كاتب الأمير ومحرر (وشاح الكتائب) وهو من العاصمة. ويتصل ابن رويلة عن طريق المصاهرة بعائلة ابن الحفاف وغيرها. فقد كان قدور بن رويلة متزوجا من أخت علي بن الحفاف الذي التحق أيضا بدولة الأمير. فالفتى أحمد إذن كان مشدود الأواصر بعائلات علمية ومتصلة بالمقاومة .. ومنهم علي الشريف بن الحاج أحمد الشريف الزهار، نقيب الأشراف. وهي عائلة متصاهرة أيضا مع عائلة ابن علي مبارك بالقليعة. ومن أسماء (التلاميذ) الذين وجدناهم أيضا في تمرير ديمواينكور: محيي الدين بن علال، ومالك بن محمد، وقائد المدني، وأحمد بن أمين السكة، وعمر ولد بونطيرو، والشريف بن أحمد ير سالم. ويغلب على الظن أن الأخير هو ابن خليفة الأمير على زواوة، وهو أحمد الطيب بن سالم. ونلاحظ أن بعض هؤلاء كان مثل محيي الدين بن علال متزوجا وله أولاد. وقد أخذه الفرنسيون أولا إلى سجن سانت مارغريت، ثم سرحوه بإذن خاص، كما يقول ديمواينكور وأقام شهورا في بيت هذا في باريس، ثم سمحوا له بالرجوع إلى زوجه وأولاده. وقد رأينا له رسائل إلى الفرنسيين يطلب في إحداها الأذن بالرجوع إلى الجزائر، وفي أخرى السماح له بالسفر إلى مصر مع أهله. ولكن ديمواينكور يخبر عنه في تقرير لاحق أنه كان يقيم

في نواحي بوفاريك وأنه عندما سمع به في الجزائر عند عائلة علي الشريف الزهار ركب فرسه وجاء لتحيته واستعاد ذكريات باريس معه (¬1). 1 - علي الشريف الزهار: يقول عنه شارل فيرو إنه بعد تعهده (؟) من الحكومة الفرنسية في باريس بعد الزمالة، رجع إلى الجزائر وسمى مترجما عسكريا احتياطيا من الطبقة الثانية 1850 ثم من الطبقة الأولى 1852. وفي سنة 1854 دخل على الشريف الزهار كتيبة الفرسان (الصبائحية) وأحرز على وسام فارس جوقة الشرف سنة 1863، ثم تقاعد برتبة كابتان. وفي سنة 1876 كان علي الشريف مستشارا عاما (. C.G) في مجلس ولاية الجزائر. ويقول عنه فيرو إنه من مواليد الجزائر سنة 1829، وأنه ابن للحاج أحمد الشريف الزهار كاتب سيدي مبارك خليفة الأمير علي مليانة، وكان صهرا له (¬2) وقد عاش علي الشريف إلى عشية الحرب العالمية الأولى، وسنجد اسمه يتكرر في مناسبات أخرى. 2 - أحمد بن قدور بن رويلة: كانت نهايته مأساوية. مأساوية حقا. فبعد اختطافه من قبل الفرنسيين سنة 1843 وحمله إلى فرنسا رهينة وعمره لا يتجاوز ثلاث عشرة سنة (ولد سنة 1830)، أدخلوه إلى كوليج سان لويس بباريس. ولكنه قبل ذلك أقام في المدرسة المجهولة التي يشرف عليها ديمواينكور والخاصة، كما يقولون، بالأطفال العرب. وقد وجدنا عددا من الرسائل لهذا الفتى الصغير الذي لا ذنب له سوى وجوده مع عائلته بالزمالة، تطلب تسريحه والرجوع إلى أهله. وفي إحداها يقول أنه يكاد يجن، وله رسالة أخرى إلى والده قدور بن رويلة. وكان يتدخل لدى السلطات الفرنسية في فرنسا أيضا لاستعادة أملاكهم في الجزائر وأملاك خاله ابن الحفاف. وبعد أن قضى سنوات في فرنسا رجع إلى الجزائر وأصبح مترجما عسكريا ¬

_ (¬1) هذه الأسماء وردت في تقرير ديواينكور، ارشيف إيكس رقم 1571 - F 80. (¬2) فيرو، (مترجمو الجيش)، مرجع سابق، ص 309 - 310. انظر أيضا حياة علي بن الحفاف (المفتي) في فصل السلك الديني والقضائي. وقد تحدثنا فيه أيضا عن أحمد الزهار وأفراد آخرين من هذه العائلة.

احتياطيا. وهذه هي غاية العلم الذي كانت تدعو إليه فرنسا ويطبل له المتحمسون لحضارتها عندئذ. دخل أحمد سنة 1850 مسابقة المترجمين وترقى من الطبقة الثانية إلى الأولى سنة 1852 مثل زميله في عملية الخطف علي الشريف الزهار. وكذلك دخل مثله كتيبة الفرسان وتطوع عسكريا، كما يقول فيرو. وفي سنة 1864 كان أحمد بن رويلة مساعدا ملحقا بالمكتب العربي في قصر البخاري (بوغار). والتاريخ المذكور يذكرنا بثورة أولاد سيدي الشيخ واتخاذ المواقف بشأنها. وقد امتدت الثورة إلى تلك النواحي. وكان دور المكتب العربي هو منع تسربها إلى المناطق الآهلة بالسكان والقضاء على قادتها. وأبى الفرنسيون إلا أن ينهوا حياة أحمد بن رويلة نهاية يعرفها كثير من الجزائريين الذين خالطوهم، فهذا الشاب الذي يقول عنه العقيد تروميلي إنه كان (متعلما ومتحضرا) لم يكن يروق، حسب الرواية الفرنسية، للآغا النعيمي بن جديد المتولى للفرنسيين أيضا نواحي قصر البخاري. وأثناء خروج أحمد بن رويلة لتسقط الأخبار عن الثورة في جهة طاقين على رأس كوكبة من الفرسان الجزائريين ومعهم فرنسيان، فاجأته جماعة على رأسها أبو بكر أخ النعيمي، الذي كان ابن رويلة قد طرده من المكتب العربي ذات مرة. فقتل ابن رويلة وجماعته عن آخرهم سنة 1864 في نفس المكان الذي كان قد أسر فيه منذ 12 سنة، وهو طاقين (¬1). فأين الحقيقة من هذه المقتلة التي ذهبت ضحيتها مجموعة من شباب الجزائر؟. إن أحمد بن رويلة تبكيه أسرته وبلاده التي فقدته في الحقيقة منذ 1843 (¬2). وكان يمكنه أن يكون كأبيه وخاله وأصهاره، من الشبان المثقفين المتنورين الذين يعملون لخير بلادهم. ولكنه راح ضحية الاختطاف أولا ¬

_ (¬1) فيرو، مرجع سابق، ص 307 - 309، عن تروميلي. وبيروني، مرجع سابق، ص 870. وفي هذا المرجع أنه أحمد بن كويلة. وأنه بدأ الترجمة سنة 1847، أي عندما كان عمره حوالي 17 سنة. (¬2) لم ير والده منذ فارقه. وقد أدرك الموت والده في بيروت أوائل الخمسينات.

والمؤامرة ثانيا. فأي علم أخذه في فرنسا في المدرسة المجهولة أو في مدرسة سان لويس؟ وماذا أفادت منه بلاده عندما أصبح مترجما عسكريا احتياطيا أو فارسا متطوعا تحت العلم الفرنسي؟ إن الفرنسيين كانوا يريدون تكوين (عملاء) لا علماء. وقد ظل زميل ابن رويلة، وهو علي الشريف الزهار إلى أن بلغ من الكبر عتيا، فماذا استفاد وأفاد؟ لقد أصبح مستشارا عاما بدون أية سلطة ولا تأثير في قومه، وأحرز على أوسمة غطت صدره، بينما كان وسام شابة الأشراف التي تتولاها عائلته منذ قرون يكفيه، وكان به ربما أكثر تأثيرا على قومه من الأوسمة الأخرى مجتمعة. ولكن أن العقل؟. لقد رجع التلاميذ الآخرون، بعد حين، من فرنسا إلى ذويهم في الجزائر. وكان الفرنسيون يراقبون تأثرهم وتأثيرهم: كيف يجلسون: على الكراسي أو على الحشايا، وكيف يأكلون: بالملاعق أو بالأيدي، وكيف يتكلمون: بالعربية أو بالفرنسية، وماذا يلبسون: الملابس الفرنسية أو الملابس العربية. وهل تأثر بهم أصحابهم وذووهم أو بقوا في عزلة عنهم. وما إلى ذلك من ألوان الدراسة الاجتماعية والنفسية. ودون اللجوء إلى خطف الأولاد واتخاذ الرهائن كانت المدن الجزائرية تتأثر بالحياة الفرنسية بالقوة أو بالاختيار، فالقوانين والإجراءات، والتغييرات في أسماء الشوارع، وترقيم البيوت، وفتح الساحات، وإنشاء الأحياء الجديدة، والعملة والمعاملات. ثم هناك الملابس والبضائع الأخرى، والمشروبات والمأكولات والمصنوعات وطراز البناء. كل ذلك أخذ الجزائريون يقلدونه بالتدرج. وهو ليس من العلوم ولا من التقنيات التي يحتاج المرء إلى تعلمها ولا يحتاج إلى الرسالة الفرنسية الحضارية لاتقانها. ومع ذلك ففي هذا الجو كانت تتكون نواة الاستغراب والاندماج. ولم تكن خاصة بالمدن بل كانت في الأرياف أيضا.

دعاة التعلم باللغة الفرنسية الأوائل

دعاة التعلم باللغة الفرنسية الأوائل خلال الستينات ظهرت على صفحات المبشر كتابات بتوقيع رجال العلم الجزائريين يدعون قومهم للتعلم باللغة الفرنسية وتحصيل العلوم الفرنسية. لم يكن هؤلاء من خريجي السوربون ولا من مدرسة سان سير ولا حتى الكوليج الامبريالي. كان بعضهم إماما للصلاة، وبعضهم مدرسا في المدرسة الشرعية - الفرنسية، قبل أن تدخلها اللغة الفرنسية. وبعضهم كان من المرابطين الذين تولوا وظائف إدارية مثل ابن علي الشريف الذي دعا إلى ذلك في رحلته إلى فرنسا سنة 1852 (¬1). ومع ذلك أخذوا على عاتقهم دعوة مواطنيهم إلى التعلم باللغة الفرنسية على صفحات الجريدة الرسمية الوحيدة. لم يكن الجزائريون ضد العلم من حيث هو، كما عرفنا، ولكنهم كانوا يريدون حرية التعليم بلغتهم والمحافظة على دينهم وأخلاقهم وتراثهم. ومن جهة أخرى كانت المدارس المفتوحة لا تكفى حتى لأبناء المخلصين لفرنسا. ففي القطر الجزائري كله خلال الخمسينات والستينات لا توجد إلا 42 مدرسة ابتدائية، وكانت تسمى عربية - فرنسية. إذن فالدعوة إلى التعلم في مثل هذه المدارس هي دعوة مجانية يوم بها شيوخ أمثال مصطفى بن السادات، ومحمود بن الشيخ علي، ومحمد بن عبد الله الزقاي، يضاف إليهم حسن بن بريهمات الذي كان يعرف الفرنسية ولكن ثقافته العربية كانت تطغى عليه، كما عرفنا. وسليتحق عبد القادر المجاوي بالركب في آخر السبعينات أيضا. ¬

_ (¬1) يعتبر من المبكرين في هذه الدعوة، وربما سبقه إلى ذلك أحمد بوضربة، رغم أننا لا نملك له نصا الآن في ذلك. أما ابن علي الشريف (زاوية شلاطة) فقد تعلم الفرنسية بسرعة خلال الأربعينات، وحصل على الوظيف المذكور (باشاغا)، ودعى إلى باريس ضمن وفد من الأعيان، ثم كتب رحلته ونشرها سنة 1852. وفي نظره أن الجزائري يحتاج الفرنسية في الحاضر والمستقبل (الحال والمآل). وقال إنه لا خوف على الأطفال. ولكنه وقف معارضا بشدة لسياسة لافيجري الدينية بعد ذلك.

من كتاب هذا العهد إذن شيوخ اعتقدوا أنهم يدعون إلى العلم - كما تدعو إليه المبشر - ولكنهم كانوا يجهلون ما وراء ذلك. وقد كتب أحدهم يحبذ إدخال ملكية الأرض فرديا طبقا لمرسوم 1863 ولم يدر أن في ذلك انتزاعا للأراضي من أصحابها عن طريق التحايل القانوني وتمليكها للكولون، وتحطيما لقواعد المجتمع. لا نستطيع أن نتهم أولئك المشائخ بأنهم كانوا (عملاء) للإدارة الاستعمارية، ولكن فقط نتهمهم بالجهل بخلفيات السياسة الاستعمارية وأبعادها. ألم يؤيد مشائخ: أمثالهم الحكومة العامة سنة 1933 حين أصدرت منشور ميشيل بغلق المدارس الاصلاحية؟ ألم يدعم مشائخ وآخرون فرنسا سنة 1914 ضد الدولة العثمانية؟ ألم يصفوا وفد المؤتمر الاسلامي سنة 1936 بأنه كان يتدخل في السياسة ويتحدث عن الوطنية (الممنوعة؟) إن السلطات الفرنسية كانت تجد أمثال هؤلاء المشائخ في كل وقت يختمون على قراراتها ويصدرون لها الفتوى المناسبة. ومع ذلك فلا نستطيع أن نسمي هؤلاء جميعا بأنصار الاستغراب والاندماج، لأن هؤلاء الدعاة كانوا من الجهلة بالسياسة، أما الأنصار الحقيقيون للاندماج فهم طائفة أخرى. - مصطفى بن السادات: ابتداء من سنة 1864 بدأ يظهر اسم مصطفى بن السادات على صفحات جريدة المبشر. وهو إسم لا نعرف عن صاحبه أي شيء غدا ما كتبه بنفسه، وبعض الوظائف التي تولاها، أو تردد اسمه في بعض الوثائق الرسمية. إننا نعرف عنه أنه كان بالمدرسة الشرعية - الفرنسية (الكتانية) التي أسسها الفرنسيون في قسنطينة (¬1)، وكانت المدرسة بإدارة محمد الشاذلي، وكانت كتابة ابن السادات في المبشر تحث الجزائريين على تعلم العلم عموما والعلم الفرنسي خصوصا وباللغة الفرنسية بالذات. وكان يطلب منهم ألا يخافوا ولا يترددوا في إرسال أولادهم إلى المدارس الفرنسية ¬

_ (¬1) المدرسة الكتانية تأسست في عهد صالح باي في آخر القرن الثامن عشر. وقد تحدثنا عنها في غير هذا. وقد أبقى عليها الفرنسيون وجعلوها مقرا للمدرسة الشرعية سنة 1850.

القليلة التي نشأت بالبلاد. كان ذلك في الوقت الذي كانت فيه السلطات الفرنسية تقول إن (التعصب) ومعاداة الفرنسيين والخوف من تنصير الأطفال هى التى وقفت حائلا دون الإقبال على المدارس الفرنسية. بينما كان الجزائريون يطالبون بمدارس يشرفون عليها بأنفسهم. ففي 22 فبراير 1864 نشرت المبشر مقالة لمصطفى بن السادات تحت عنوان (نصيحة وإرشاد لمن عطل عن مسابقة الأقلام وإهدار المداد) في المعنى الذي سقناه. وهو يبدو فيها أديبا وعالما من علماء الوقت، وكان أكثر معارف وأفضل قلما من محمد الشاذلي المعروف بأشعاره الضعيفة. ولعل ابن السادات كان من إخراج المستشرق شيربونو الذي كان يبث اللغة الفرنسية والتأثير الفرنسي في بعض المسلمين كما كان يلم اللغة العربية للفرنسيين. وقد حث ابن السادات في المقالة المذكورة على التعلم ونهض ضد الأمية ودعا إلى الكتابة والتدوين. وهو كلام لا يعارضه فيه مواطنوه. وعشية فتح فرع الكوليج الامبريالي (المدرسة السلطانية) في قسنطينة، كتب ابن السادات مقالة جيدة في محتواها ومبناها، ولكن دوافعها تظل محل شك. عنوان المقالة الجديدة هو (النصيحة الدرية في تأديب الذرية)، وهي بقلم عربي سليم، وقد احتوت على آداب جمة. ووصف المدرسة الجديدة، وهي غير المدرسة الشرعية، معنويا وظاهريا، ومدى ما سيكون لها من تأثير مفيد على السكان في قسنطينة (المرعية)، وذكر أن البرنامج قد اشتمل على مواد عربية وأخرى فرنسية، وأنه سيكون للمدرسة إمام ومصلى ومصحة، وهو ما كانت سلطات نابليون حريصة عليه ظاهريا لترغيب الجزائريين وإزالة تخوفاتهم على أبنائهم. ومحتوى المقالة عموما كأنه صادر عن مصلحة الشؤون الأهلية، ففيه نفس التعابير والمعاني وأحيانا نفس الألفاظ. فالمدرسة مؤسسة هامة، والعلم مطلوب ومرغوب دنيا وأخرى. والدولة الفرنسية حريصة على تعليم الأهالي علومها وتمدينهم بلغتها، وهكذا. ويقول ابن السادات إن اللغة الفرنسية أصبحت ضرورية لكسب العلوم والوظائف. وأخبر قومه أن واحدا وثلاثين جزائريا (أي بعد عشر سنوات) قد تخرجوا من

المدرسة السلطانية (الكوليج) الأم بالعاصمة، وأصبح من بينهم المهندس والترجمان والضابط والأستاذ والقايد. وحذرهم من أن اللغة الفرنسية ستكون هي جواز السفر الوحيد إلى الوظائف، وأن الذي لا يعرفها لا مكان له في تولي الوظائف. إن اللغة الفرنسية في نظره هي (التي عليها المدار، ولصاحبها يحصل العز، والعاري منها يبقى في خمول الإدبار، ومن حصلها واستغنى عن التلبس بالتولية (الوظيف)، فهي له نعم التحلية، يتنزه في مراتع آدابها) (¬1). ومعنى هذا أن الذي يعرف الفرنسية سيكون دائما في المكانة اللائقة سواء دخل الوظيف أو لم يدخله. والغريب أن ابن السادات لم يقل شيئا عن لغة قومه ووضعها أمام هذه الدعوة إلى التحول. ولولا وجود الاسم تاريخيا لقلنا إن ابن السادات قد يكون اسما مستعارا لأحد كتاب المبشر، كما قلنا عن معاصره علي بن عمر. ولابن السادات مقالة أخرى بعد هذه يتحدث فيها عن الدخول المدرسي سنة 1867، ويصف المدرسة من جديد ومديرها السيد (أوبلان) (¬2). وكانت المدرسة السلطانية - فرع قسنطينة - قد افتتحت أوائل 1867، وكانت ناجحة فعلا حسب التقارير. ولكن الأميرال ديقيدون، الحاكم العام، ألغى الفرع والأصل لأنه كان لا يريد هو، ولا المستوطنون، أن يتعلم الجزائريون عموما، سيما التعليم المزدوج الذي جاءت به المدرسة السلطانية، لأن هذه المدرسة كانت عندهم رمزا لما كانوا يسمونه عهد المملكة العربية. قلنا إن مصطفى بن السادات شخصية تاريخية وليس اسما مستعارا. ¬

_ (¬1) المبشر 27 ديسمبر 1866. والمقالة (تتمة) لجزء منشور في عدد سابق لم نطلع عليه. فليراجع من يرغب أولها في العدد الذي قبل هذا. (¬2) نفس المصدر، أول يناير، 1867. تولاها أوبلان Aublain في التاريخ المذكور إلى إلغائها سنة 1870، وكان أوبلان عقيدا في الجيش، وقد عمل في المكتب السياسي والشؤون الأهلية، وزار المغرب. ولد في باريس سنة 1828. انظر عنه أيضا بيروني، مرجع سابق، ص 334.

ودليلنا أننا وجدنا في الأرشيف الفرنسي اسمه سنة 1896 بين قائمة أعيان قسنطينة. ولكن الوثيقة اكتفت بوصفه بأنه من الملاك. ولم تتحدث عن علمه ولا عن تأليفه ولا حتى عن تقاعده (¬1). ويبدو أنه كتب ما كتب في المبشر عندما كان عمره حوالي 35. ومن ثمة فهو من الجيل الأول للاحتلال، ويبدو كذلك أنه تأثر به أكثر من غيره. فكانت دعوته عندئذ (في الستينات) تشبه دعوات أنصار التفرنس اليوم مع نفس الحجج تقريبا. وقد ذكره أيضا عبد الحي الكتاني باسمه: مصطفى بن أحمد بن سادات، وقال إنه أخذ العلم عن الشيخ المكي البوطالبي بقسنطينة (¬2). محمود بن الشيخ علي: هناك شيخ آخر ظهر اسمه في الستينات أيضا على صفحات المبشر من جهة وفي الحياة الدينية والعلمية من جهة أخرى، ونعني به الشيخ محمود بن الشيخ علي الجزائري، كما ظهر في المبشر، أو محمود بن علي بن الأمين، كما ترجم له أبو القاسم الحفناوي في تعريف الخلف. وهذا شيخ لا غبار على أصله وفصله. فهو ابن المفتي علي بن عبد القادر بن الأمين، وكان (الأب) شيخ جيل كامل من علماء الجزائر عشية الاحتلال (¬3). وقد جاء ابنه كأبيه علما ولكنه ليس كأبيه عملا. فلم يصل إلى رتبة الفتوى رغم أنه من علماء الوقت، وكان ولوعا بالكتابة والنسخ وله مكتبة غنية. فهو إذن من رجال الدين الذين رضوا بأن يأكلوا الخبز بعلمهم مع الفرنسيين. وكانت الوظيفة المعروفة له هي الإمامة في المدارس التي أسسها الفرنسيون، أولا في المدرسة السلطانية (الكوليج) بالجزائر. والمعروف أن هذه المدرسة تأسست سنة 1857. فهل تولى الإمامة هناك عندئذ أو في وقت لاحق؟ وهذه الوظيفة لم يذكرها له الحفناوي، وإنما ذكر له الإمامة في الليسيه الفرنسي. ونحن نعرف أيضا أن المدرسة السلطانية قد ألغيت سنة ¬

_ (¬1) ارشيف إيكس (فرنسا) رقم 81 H 10 . (¬2) عبد الحي الكتابي (فهرس الفهارس) 1/ 239. ويبدو أن الكتاني قد عرفه أو راسله إذ يقول إن ابن السادات كانت له كراسة أحمد زروق البوني يرويها بالإجازة. (¬3) انظر كتابنا تاريخ الجزائر الثقافي، ج 1، 2. وكذلك دراستنا عن ابن العنابي.

1871 وحول تلاميذها وإمامها إلى الليسيه. وبالإضافة إلى الإمامة تولى الشيخ محمود التدريس في الجامع الكبير أيضا. ويبدو أن ذلك كان في التسعينات فقط حين شيخ لبعض رجال الدين بإعطاء درس في التوحيد وآخر في الفقه للعامة. وقد توفي الشيخ في 17 فبراير 1897 (¬1). وله كما قلنا ولع بالنساخة، كما له تعليق في الطب سنتناوله في جزء آخر. ومن ذلك نفهم أن الشيخ محمود بن الأمين كان من أعيان مدينة الجزائر، وكان من رجال الدين والعلم. فإذا كتب يدعو إلى فكرة ما فإن كلمته ستكون مسموعة عند من يعرفون قيمة أسرته، على الأقل. هذا هو الدافع في نظرنا الذي جعل الفرنسيين يلجأون إلى هذا الإمام الموظف عندهم ليستخرجوا منه رأيا في تأييد دعوتهم بأن يترك الجزانريون (تعصبهم) ويقبلوا على تعلم الفرنسية وعلى العلوم التي تعرضها عليهم فرنسا. فقد كتب الشيخ محمود مقالة مطولة استغرقت صفحة كاملة وعمودا من المبشر وكتبت بحرف رقيق، وعنوانها (نصيحة عمومية لأهل الحضر والبادية). وفاتحتها عبارة عن خطبة من خطب الجمعة، ولعله كان يخطب بذلك أيضا وبنفس الأفكار في المساجد أو في المدرسة السلطانية. وقال إن دافعه إلى كتابتها هو ما رآه من بخل الناس بأنفسهم عن التعلم ولجوئهم إلى الكسل، فجاء ليوقظهم من سباتهم وينبههم إلى ضرورة التعلم وإلى فضل العلم وشرفه وذم الجهل وغوائله، لكي يرقوا إلى أعلى الدرجات الإنسانية. وبعد أن عرف العلم في اللغة والقرآن الكريم والحديث الشريف والآثار والشعر، وهو يورد النصوص والأشعار المؤيدة لذلك، مما يدل على اتساع معارفه في الأدب والتراث والتاريخ، رجع بعد ذلك إلى مقصوده وأخبر أن العلم صالح للدنيا والآخرة وهو مطلوب شرعا. أما عن اللغة والعلوم الفرنسية فقد تجول فيها الشيخ محمود جولة ¬

_ (¬1) الحفناوي، تعريف الخلف، 2/ 474. عن دوره في النساخة انظر فصل المنشآت الثقافية.

كبيرة، ودعا قومه بكل صراحة إلى ضرورة الأخذ بها لأن اللغة العربية لا تتسع في نظره لكل المصطلحات كما كانت في الماضي. واعتبر الفرنسيين متفوقين ليس فقط على الجزائريين ولكن على الأجناس الأخرى أيضا. ونبه الجزائريين إلى أن المصريين استفادوا من اللغة والعلوم الفرنسية بقيادة حاكمهم محمد علي باشا. وأما كون الجزائر ليس لها حاكم مثل محمد علي باشا فهذا لا يهم الشيخ محمود (¬1). وقال إنه من الحماقة والبلادة عدم تعلم الفرنسية وعلومها. فهو يقول: (صارت اللغة الفرانسوية وكتابتها في هذه الأعصر وسيلة لا غنى عنها في العلوم على اختلافها وسائر الصنائع وفنونها، خصوصا الطب والهندسة والحساب والتنجيم والجغرافية والطبيعيات والرياضيات، وما يتفرع عنها). ثم مدح أهل فرنسا على داعتهم في هذه العلوم والصنائع، وقال إنه لا يمكن الوصول إلى ما ذكره إلا باللغة الفرنسية وكتابتها (لعدم وجود اللفظ العربي لمسمياتها). ونلاحظ أنه يلح على (كتابتها) لأن المقصود ليس مجرد التعلم الشفوي لها، أو الحديث بها. وفي نظره أن العلم قد ازدهر عند العرب في العصور السالفة ونشطت حركة الترجمة، ولكن حان الوقت الذي انتقلت فيه العلوم إلى فرنسا (وبلغت أوجها بمدينة باريس، ولا يوجد من حكماء الإفرنج من يضاهي حكماءها). وإذا كان الأبعدون يذهبون إلى فرنسا لطلب العلم فيها (كيف نحن المقيمون معهم (أي الفرنسيين) والمحتاجون لمخالطتهم ... حيث أننا تحت حمايتهم، ولا نفقه لسانهم؟ فهذا هو غاية الحماقة وشدة البلادة) إن فرنسا (لحنانتها) على الجزائريين قد فتحت المدارس لتعليم لغتها والكتابة بها في كل ولاية، وأنشأت كذلك مراكز لتعليم الصنائع. فالواجب على أولياء التلاميذ عدم ترك أولادهم نهبا للإهمال والضياع، لأن إرسالهم إلى المدارس الفرنسية وتعلم العلوم بها سيضمن لهم حياة سعيدة. ومما قاله إن عندنا ¬

_ (¬1) كان الشيخ محمود يسمى الاحتلال (حماية)، ويقول إن فرنسا تحن على الجزائريين. ويسمي سياستها (حنانة) وإحسانا. وهي تعابير استعملها غيره أيضا وتدل على تأثير مدرسة المبشر في هذه الفئة.

علوما دون أن نستفيد منها، وهي عند الفرنسيين قد بلغت حظا كبيرا، ويعني بذلك علم الزراعة والنباتات وسبك المعادن والكيمياء ... و (فن ترجمة الكتب العلمية، وهو من الفنون الصعبة، لأنه يحتاج إلى معرفة اصطلاحات أصول العلوم المراد ترجمتها) (¬1). ونلاحظ على كتابة الشيخ محمود عدم استعمال السجع، وبساطة الأسلوب، ووضوح الأفكار، وغزارة المعارف، وقوة الحجة. غير أن شواهده كثيرة وطويلة. ولعله كان يسعى إلى إقناع المترددين أو الخائفين على مصير أولادهم إذا دخلوا المدارس الفرنسية. ولكن الشيخ لم يتفطن إلى خلفيات هذه الحملة التي تنظمها المبشر ومن ورائها إدارة الشؤون الأهلية والمكاتب العربية التي كانت تصور فرنسا بلادا متحضرة من جهة وحاملة لواء الحضارة والتمدين من جهة أخرى. وكان ذلك يحدث أيام انتزاع الأراضي من الجزائريين عن طريق المرسوم المشيخي وإغراق البلاد بالمستوطنين الفرنسيين الذين كانوا يأتون من كل الأنحاء الأوروبية، كما كان يحدث أيام ثورة أولاد سيدي الشيخ التي كان فيها الجيش الفرنسي (الإفريقي) يرتكب الفظائع بقيادة اللقيط يوسف وأمثاله. وصدر سنة 1865 قانون يعتبر الجزائريين (رعايا) لا مواطنين فرنسيين إلا إذا تخلوا عن الاحتكام إلى الشريعة الإسلامية. هذه الخلفيات لم كن يعرفها الشيخ محمود، ولكن الشعب كان يعرفها جيدا ويعيشها يوميا. ولذلك كان لا يؤمن بالبهرجة ولا بالحملة التي تصور فرنسا (حانة) وذات قلب رحيم على الجزائريين المساكين. وقد وظفت السلطات الفرنسية الشيخ محمود أيضا في مناسبة أخرى ليحبذ إجراء الانتخابات في الجزائر على عهد الحاكم العام المارشال ماكماهون. إن كلمة رجال الدين في مثل هذه الأمور (لجديدة) على ¬

_ (¬1) المبشر، 25 يوليو، 1867. قارن دعوته هذه بما جاء في كتيب المجاوي (إرشاد المتعلمين) المنشور سنة 1877.

الجزائريين كانت تزكي مشاريع الفرنسيين. فالشيخ محمود وإن لم يكن مفتيا فهو من عائلة تولت الفتوى. ولم يكتب الشيخ محمود رأيه في الانتخاب كوسيلة من وسائل العمران والتحضر في جريدة المبشر بالأصالة وإنما نشرها في جريدة مشرقية ذات صيت ذائع، وهي (الجوائب) التي كان يديرها أحمد فارس الشدياق من اسطانبول. وقد نقلتها المبشر عن الجوائب (¬1). وإذا علمنا أن السلطات الفرنسية في الجزائر كانت على علم بكل صغيرة وكبيرة تصدر عن الجزائريين، وأن الشيخ محمود كان موظفا (إماما) في المدرسة السلطانية، علمنا أن مقالته في جريدة (الجوائب) قد مرت قبل كل شيء بإدارة الشؤون الأهلية، وأن نشرها في الجريدة المذكورة كان له هدف في السياسة الفرنسية في المشرق أيام أزمة جبل لبنان وتدخل فرنسا في الشؤون العثمانية. ولكن أين للشيخ محمود معرفة كل ذلك (¬2)؟. والانتخابات المشار إليها تتعلق بانتخابات أعضاء من الجزائريين إلى المجالس البلدية بدل التعيين. وهو مبدأ له مكانته في النظم السياسية الحرة، ولم يكن الجزائريون أحرارا ولا كانت النظم الخاضعين لها كذلك. وقد أصدر ماكماهون ذلك في فترة كانت الجزائر تعالي فيها من الجوائح المزمنة التي ضربت منذ 1867، كما كانت تعاني من إطلاق ماكماهون نفسه اليد للكاردينال لافيجري، زعيم الكنيسة الكاثوليكية في الجزائر، الذي أنشأ الملاجئ لجمع الأيتام وتنصيرهم في خضم الجوائح المشار إليها. وهل كان الشيخ محمود على علم بكل ذلك؟ لقد قال عن قانون الانتخابات أنه ذو ¬

_ (¬1) المبشر 21 يناير 1869. ولم يكن يغيب عن السلطات الفرنسية أن الشيخ محمود أرسل مقالته إلى جريدة (الجوائب) العثمانية. ولا ندري لماذا أخرت نشرها إلى ما بعد ظهورها في المشرق؟. (¬2) وظفت السلطات الفرنسية أيضا الشيخ محمد بن عبدالله الزقاي، خريج الأزهر، وشيخ مدرسة تلمسان، في عدة وظائف تتصل بالقضاء، ومن هذه الوظائف كتابة مقالة في مدح المرسوم المشيخي 1863 حول تحويل ملكية الأرض من جماعية قبلية إلى فردية. وشرح القانون الذي سماه (التحديد) أي تحديد الأراضي. وعنوان مقالته: (تنبيه أكيد لمن عساه يغفل عن فائدة التحديد). المبشر، 28 نوفمبر، 1867.

فائدة من الناحية العمرانية والاجتماعية والخيرية (؟)، وقد سبق به الأوروبيون، وأن المسلمين سيستفيدون منه تقليد الأوروبيين فيه. ومن هذه العبارة نفهم أن المقصود الأول من كلامه هم (المسلمون) عامة وليس الجزائريين فقط. (تأملت ما احتوى عليه (القانون)، وجدته في غاية التحكيم والنفع العميم، وبأن منه طريق التمدن والعمران، والتعاون على البر والإحسان، وسد ذريعة الجور والعدوان، مع ما يسري لسكان الوطن من التطبع والتأسي بقواعد الأوروباويين الفائزين عمن سواهم في طريق الإحسان). ومقالة الشيخ محمود طويلة الذيل، وهي تسير على هذا المنوال في تحبيذ التجربة الأوروبية في الانتخابات وطلب الاقتداء بها من المسلمين. ولعل ذلك هو مقصوده من عبارتي (التطبع) و (التأسي)، فالأولى يقصد بها التمرن والتعود، والثانية يقصد بها الاقتداء والاحتذاء. ولذلك ختم مقالته بقوله: (هذا الذي اتضح لي على وجه العموم، من ضابط هذا القانون المنظوم، ولا يمكن الإحاطة بذكر سر جميعه، لكن القصد إذاعة طيب نشره). يظهر الشيخ محمود إذن من المنبهرين بالرسالة الفرنسية في الجزائر. ولا ندري إن كان لوظيفته دخل في ذلك. وقامت دعوته على عدة عناصر، وهي: ضرورة تعلم الجزائريين اللغة الفرنسية وعلوم الفرنسيين والاقتداء بهم في نظمهم السياسية كالانتخابات. ومن ثمة فإن ترك الأطفال مهملين دون تعلم اللسان الفرنسي يعتبر في نظره حماقة وبلادة. وهو في هذه الدعوى يلتقي مع معاصره مصطفى بن السادات، وكذلك حسن بن بريهمات ومحمد بن الحاج حمو وأضرابهم. محمد بن الحاج حمو وحسن بن بريهمات: كان الشيخ محمد بن الحاج حمو أيضا يدعو الجزائريين إلى ما دعاهم إليه الشيخ محمود بن علي، وكانا متعاصرين، ولكن الشيخ حمو أكبر منه سنا، وقد تولى الفتوى والقضاء للفرنسيين بعد أن خدم في دولة الأمير (¬1). والحاج حمو لم يكتب ذلك في ¬

_ (¬1) انظر ترجمته في فصل السلك الديني والقضائي.

جريدة أو كتاب، وإنما طبقه على ابنه عبد الحق. فقد أدخله المدرسة السلطانية حيث بقي ثلاث سنوات ونيفا ثم أخرج منها لكبر سنه. ومع ذلك فقد حصل منها على ما يجعله مرتبطا بالفرنسيين. ويخبرنا حسن بن بريهمات أن الشيخ حمو كان يدعو الجزائريين إلى تقليد الفرنسيين في علومهم، وينعى على المغالين (المتعصبين) ضدهم (¬1). أما حسن بن بريهمات فكان يعرف الفرنسية. وقد تولى إدارة المدرسة الشرعية، فإذا دعا إلى تعلم اللغة والعلوم الفرنسية فلا يعتبر ذلك منه خروجا عن المنطق. فمنذ أوائل الستينات، وهو يدعو تلاميذه إلى الأخذ من الفرنسيين علومهم ولغتهم. وكان ينوه بما وصل إليه العرب والمسلمون في الماضي من مجد علمي باذخ (كانوا يهاجرون في طلب العلم من بخاري ومصر وفارس والأندلس حتى حصلوا من العلوم ما به فازوا على أقرانهم). وكان ابن بريهمات ينوه في كل مناسبة بنابليون الثالث، وبالدكتور بيرون مدير المدرسة السلطانية (الكوليج) بالجزائر، على تشجيع التعليم للجزائريين. وطبق حسن بن بريهمات ذلك على نفسه حين أرسل أولاده الثلاثة إلى المدارس الفرنسية أو المزدوجة (¬2). ... انتهى عقد الستينات إذن بدعوة المتعلمين من الجيل الأول في العهد الفرنسي إلى الأخذ بلوم الفرنسيين وتعلم لغتهم وإلى تقليدهم في الحياة العامة والانتخابات وما إلى ذلك. وكان هذا الجيل مع ذلك ما يزال محصنا إلى حد كبير لصلته بآبائه ومحيطه، ولثقافته التراثية القوية، رغم تأثره بآثار ودعاية الاحتلال. كما أن المحيط الفرنسي كان مشجعا على إعلان ذلك ¬

_ (¬1) انظر كلمة التأبين الطويلة التي ألقاها حسن بن بريهمات إثر وفاة الشيخ حمو في المبشر، 31 ديسمبر 1868. (¬2) المبشر 12 يوليو، 1861. عن حياة حسن بن بريهمات وأولاده انظر فصل السلك الديني والقضائي.

الرأي، فسياسة نابليون الثالث، رغم قوانينها التعسفية في الأرض والتجنس والتغطية على الكنيسة، وما إلى ذلك، فإنها فتحت باب التعليم المزدوج ولم تصادم مشاعر المسلمين مباشرة، وكان نابليون يعلن رسميا على الأقل أنه حاكم العرب والفرنسيين. وقد أمر المارشاليين الحاكمين: بيليسييه ثم ماكماهون، باتباع هذه السياسة، رغم تناقضها مع الواقع. لكن سياسة القمع الثقافي والعجرفة التي سلكها الحكام العامون في عهد الجمهورية الثالثة، سيما ديقيدون، وشانزي، وتيرمان، نحو الجزائريين جعلت صوت الجيل الأول يكاد يخفت ويتلاشى. ولم يظهر صوت الجيل الثاني من دعاة تقليد الفرنسيين وتعلم علومهم إلا أواخر القرن. ذلك أن السياسة المذكورة قد جعلت الجزائريين يتقوقعون على أنفسهم ويحسون أنهم مستهدفون بالانقراض والذوبان في غيرهم، فتمسكوا بما عندهم وطالبوا باحترام عاداتهم وتقاليدهم ولغتهم ودينهم. وذلك في سلسلة من العرائض ابتداء من الثمانينات. عبد القادر المجاوي وجيله: وقبل أن نذكر ذلك نشير إلى الكتيب الذي أصدره الشيخ عبد القادر المجاوي سنة 1877 وسماه (إرشاد المتعلمين). وهو كتيب طبع في مصر ولم يدخل الجزائر منه إلا نسخ قليلة، ولا نظن أنه حظي بعد ذلك بتوزيع يشبه توزيع جريدة المبشر. وكان بإمكان المجاوي أن ينشر أفكاره في هذه الجريدة لو أراد. ولكنه فضل أن يدعو إلى العلم والأخذ بأسباب الحضارة بطريقة محايدة وغير مرتبطة بالتمدن الفرنسي، كما فعل زملاؤه السابقون، فقد استوحى التراث الإسلامي. وكان يعرف أسباب نهوض وسقوط الأمم، وتقدم العلوم في الأمة الإسلامية في عصورها الذهبية، فدعا قومه إلى النهضة العامة متأثرا، ربما بالنهضة العربية - الإسلامية في المشرق على يد الأفغاني وخير الدين التونسي. ثم إن المجاوي كان قد عاش في المغرب الأقصى وتلقى علومه هناك، فكان تازه الأول تأثرا إسلاميا عربيا لا فرنسيا. وقد جاء إلى قسنطينة مدرسا حرا، ثم أصبح أستاذا في مدرستها الشرعية - الفرنسية. وكانت أفكاره في الكتيب

المذكور تلقى على تلاميذه أيضا، وقد كان من بينهم من كان يتجسس على أقواله وأفعاله. ولم يسلم مع دعوته للنهضة والتقدم، من هجوم الصحافة الاستعمارية على أفكاره لأنها ليست كأفكار الشيخ محمود ولا مصطفى بن السادات نابعة من المحيط الفرنسي، وصدى لما تنشره المبشر وإدارة الشؤون الأهلية والمكاتب العربية. نحن مع المجاوي في السبعينات أمام دعوة للتعلم والنهوض، على الطريقة العربية الإسلامية وليس على الطريقة الفرنسية. دعا إلى تعلم اللغات وليس اللغة الفرنسية، كما فعل زملاؤه، ودعا إلى تقليد الغربيين في العلوم الجديدة وليس في كل شيء. لم يكن المجاوي منبهرا كبعض زملائه ولا مسلوب الفكر، بل كان معتزا بماضيه وحضارته. ولم يكن حسب علمنا قد زار فرنسا، كما أنه لم يكن يتكلم الفرنسية. ولكنه رأى أن من سنن الله والتاريخ والحياة التداول على العلم والحكم والقوة. فدعا قومه إلى أن يعرفوا مكانتهم بين الشعوب. ومن ثمة جاءه النقد الشديد من غلاة المستعمرين بعد اطلاعهم على كتيبه، حتى اعتبروه أجنبيا عن الجزائر (¬1). ... قيل عن لويس تيرمان، الحاكم العام للجزائر خلال عشر سنوات تقريبا، إنه هو صاحب المقولة الشهيرة: أن أعداء فرنسا ليس هم العرب ساكني الخيام، بل هم الذين علمناهم لغتنا ورفعناهم إلى درجتنا. وكان تيرمان حاكما خلال عقد الثمانينات. فمن هم الجزائريون الذين علمهم الفرنسيون عندئذ لغتهم ورفعوهم إلى درجتهم؟ لو كان الأمر يتعلق بعقود لاحقة لوجدنا مبررا لما قاله بالنسبة للأمير خالد وأحمد مصالي والأمين العمودي مثار. ولكن من هم المتعلمون أعداء فرنسا خلال الثمانينات؟ لا ¬

_ (¬1) انظر دراستنا (مدارس الثقافة العربية في الجزائر) في كتابنا (أفكار جامحة)، 1988. وكذلك دراسة آلان كريستلو عن المجاوي في مجلة (الثقافة)، 1978. انظر دراستنا (مدارس الثقافة العربية في الجزائر) في كتابنا (أفكار جامحة)، 1988. وكذلك دراسة آلان كريستلو عن المجاوي في مجلة (الثقافة)، 1978.

شك أنه يعني بعض أصحاب العرائض الذين رفضوا التعسف نحو القضاء الإسلامي واللغة العربية وسياسة التجهيل التي كانت تتبعها حكومة الجمهورية الثالثة، ونحو الحالة المدنية التي أنشأها تيرمان نفسه، وقانون الأهالي البغيض. إن سادة الجمهورية الثالثة قد حسبوا أن الطريق قد أصبح ممهدا أمامهم ليفعلوا بالجزائريين ما يشاؤون فإذا بأمثال حميدة بن باديس وبوشناق، ومحمد بن رحال والطبيب ابن العربي وأضرابهم يكتبون المقالات المضادة للإجراءات المذكورة ويدبجون العرائض الموقعة من مختلف الفئات دفاعا عن المحرومين من (العرب ساكي الخيام) كما يقول تيرمان، وكذلك ساكني المدن. إن جيل الثمانينات والتسعينات لم يتجاوز في دعوته إلى التقدمية الخطوط الحمراء. كان جيلي ما يزال مرتبطا بالماضي وبالأرض ومعتزا بلغته ودينه، رغم ابتعاده عنهما بالتدرج. تقول عريضة ترجع إلى سنة 1891، وهي ترد على من يقول إن الجزائريين هم الذين لا يرسلون أولادهم إلى المدارس وأنهم متعصبون: أننا لا نستحي من القول بأن الدافع للبعض منا عدم إرسال أولادهم إلى المدارس الفرنسية هو تأكدهم من عدم تدريس اللغة العربية بها وخوفهم على إفساد عقولهم وأخلاقهم فيها، ونسيانهم لماضيهم وأصولهم ودينهم. ولا يرجع ذلك، كما تقول العريضة إلى التعصب الديني لأن (شعائرنا هي الكبرى والرائعة لكل جنس يروم تغطيتها). وقالوا إنهم على استعداد لإرسال أولادهم إلى المدارس إذا تحققوا أنها تدرس لهم بالعربية (¬1). وقد ظلت الخطوط الحمراء قائمة أمام المتعلمين خلال التسعينات أيضا. كانوا في الغالب مزدوجي التعليم ولكن ثقافتهم العربية الإسلامية تجذبهم إلى اتخاذ مواقف ضد الاندماج. كانوا ما يزالون محافظين على ¬

_ (¬1) العريضة المسماة (مقالة غريق) ط. قسنطينة. انظرها في قنان أيضا (نصوص سياسية) صو، 230 - 246.

نماذج من المثقفين والاندماجيين

أصالتهم ومعتزين بهويتهم رغم حالة الرعية والبؤس التي كانوا عليها. ومن هذا الجيل برز محمد بن رحال ومحمد بن العربي، وحميدة بن باديس، وكانت دروس المجاوي وأمثاله تكون جيلا آخر سيقف بالمرصاد ضد موجة التفرنس التي انطلقت مع فاتح القرن. وسيكون أصحاب هذه الموجة هم بلقاسم بن التهامي، وعلي بوضربة، وإسماعيل حامد، والطيب مرسلي. وكان هؤلاء يسمون بالنخبة (elite)، وهو اسم خادع، فهو من التعابير الموروثة عن العهد الاستعماري مثل التقدم المقصود به الاندماج، ومثل التعاون المقصود به الاستعمار الجديد. كما أن تعبير (النخبة) يعني أن غيرهم غير نخبة، ومن ثمة يكون غيرهم متخلفا ومنغلقا على نفسه. نماذج من المثقفين والاندماجيين محمد بن رحال: يعتبر محمد بن رحال من أبرز عناصر هذا الجيل الذي أراد الفرنسيون أن يجعلوا منه وسيطا بينهم وبين الجزائريين، فجمع بين الثقافتين وبين اللغتين، وتوظف عندهم، ولكنه لم يتخل عن أصوله وتراثه الوطني والديني. فرغم الجاه العائلي والمكانة الاجتماعية كان ابن رحال صوت الجزائر العميقة وصوت التاريخ، ولم ينسه الوظيف والاعتبار المعنوي لدى الفرنسيين الدفاع عن الثقافة واللغة العربية والحضارة الإسلامية. ولم يكن في ذلك وحيد زمانه وإنما كان أكثر معاصريه تعبيرا عما يجيش في صدور المواطنين من تطلعات. كان يمكن أن يذوب في الثقافة الفرنسية وينبهر بالنظم والمخترعات الفرنسية، ولكن حصانته العربية الإسلامية وارتباطه بالجذور جعلته يدعو إلى التطور وليس إلى الاندماج ويواجه الفرنسيين في مختلف المناسبات بمطالب هي من صميم الانعتاق للشعب. حياة محمد بن رحال ذات جوانب عديدة. فهو رجل علم ودين، وهو قايد ونائب مالي (برلماني)، وهو مؤلف وباحث وأديب، ثم إنه رجل مدافع

عن العربية والإسلام في وقت اعتقد فيه الفرنسيون أن أمثاله لن يدافع إلا عن الفرنسية والاندماج. كما كان ابن رحال صاحب زاوية. ولا نريد أن نعالج كل ذلك هنا، لأن كل جانب من حياته له مكانه في هذا الكتاب، وإنما نكتفي في هذه الفقرة بموقفه من الحضارتين العربية والفرنسية. فقد ولد بمدينة ندرومة سنة 1270 هـ 16 مايو، 1857. وكان أبوه حمزة بن رحال من رجال القضاء للأمير، وكان أيضا أديبا ومن أتباع الطرق الصوفية يقول البعض إنها الدرقاوية ويقول آخر إنها القادرية (¬1). وعندما دالت دولة الأمير أبقاه الفرنسيون على وظيف القضاء، ثم ولوه وظيفة الآغا، وزادوه بسطة في الأرض والمال خلال الخمسينات. ولكن مرسوم 1863 غير الأوضاع وجعل الأرض تنتزع من أصحابها باسم الملكية الفردية. فتأثر الشيخ حمزة وترك الأمر في سنة 1878 لإبنه وخليفته محمد الذي لم زد لقبه على لقب القايد بدل الآغا، إضعافا لمكانة العائلة، ولكن محمد ضاقت نفسه بهذا المنصب الفارغ من المحتوى فاستقال منه سنة 1886 وتفرغ بعده للحياة السياسية والدينية والعلمية. عنى الشيخ حمزة بابنه محمد فرباه تربية قديمة وجديدة وحصنه من الذوبان رغم المغريات. فعلمه في المدرسة القرآنية بالزاوية، وفي المدرسة العربية - الفرنسية الابتدائية، ثم أرسله إلى الجزائر حيث المدرسة السلطانية (الكوليج) التي كانت تستقبل أبناء الموظفين الجزائريين لتجعل منهم وسطاء، كما قلنا، وكانت مدرسة مزدوجة اللغة. وقد صادف وجوده فيها سقوط نظام نابليون وقيام الجمهورن الفرنسية التي ألغت المدرسة وألحقت طلابها بالليسيه. ولذلك أكمل محمد دراسته في هذه الثانوية (الليسيه)، وبعد تخرجه منها سنة 1874 رجع إلى ندرومة ليساعد أباه في وظيفه، فكان خليفته إلى أن تخلى له الوالد عن المنصب، كما ذكرنا. ¬

_ (¬1) درقاوية عند عبد القادر جغلول في (عناصر ثقافية)، الجزائر 1980، ص 51 - 52. وقادرية في جريدة (المساء) 14 يوليو، 1992، مقالة مغفلة الكاتب.

ومنذ الثمانينات انطلق قلم وفكر محمد بن رحال في خدمة القضية الجزائرية والفكر العربي - الإسلامي. نشر عن التعليم العمومي في البلاد العربية، وعن السودان في القرن السادس عشر، كل ذلك عندما كان في الثلاثين من عمره. وقيل انه كان عندئذ صديقا ليوجين ايتيان، نائب الكولون والمسؤول على شؤون المستعمرات في الحكومة الفرنسية. وكان ابن رحال يكتب بالفرنسية. ولكنه منذ التسعينات دخل المسرح السياسي والعلمي بقوة. وكانت المناسبة هي مجيء لجنة التحقيق برئاسة جول فيري إلى الجزائر سنة 1892. وقد عاش ابن رحال عهد لويس تيرمان، ونشأة قانون الأهالي (الاندجينا) البغيض، وتجريد القضاة المسلمين من صلاحياتهم، وتغيير الحالة المدنية، فرفع عقيرته أمام اللجنة المذكورة، وجرد قلمه للدفاع عن حقوق الجزائريين في التعليم باللغة العربية، وفي التمثيل البرلماني، والمحافظة على تطبيق الشريعة الإسلامية، ومن أجل ذلك سافر مع زميله محمد بن العربي إلى فرنسا لتبليغ صوت الجزائريين إلى السلطات الفرنسية. وظهر ابن رحال سنة 1897 أمام. مؤتمر المستشرقين مدافعا عن الإسلام وقدرته على التطور. ونشر سنة 1901 مقالة بالفرنسية عن (مستقبل الإسلام) في مجلة ذائعة اسمها (المسائل الدبلوماسية والاستعمارية) (¬1). وقد برز أيضا سنة 1912 أثناء فرض التجنيد الإجباري فعارضه وتوجه إلى فرنسا على رأس وفد مطالبا بإلغائه، كما طالب بإلغاء الاندجينا سنة 1921. ما نلاحظه أن محمد بن رحال كان جسرا لمرحلة صعبة (¬2). تلك المرحلة التي ظن الفرنسيون فيها أن الجزائر قد أصابها العياء والقنوط من كل مقاومة، ثم المرحلة الأخرى التي ظهرت فيها الحركة الوطنية بزعامة الأمير ¬

_ (¬1) Les Quest. Dip. et col . رقم 12، 1901. (¬2) اعتبره شارل روبير آجرون (عميد الشبان الجزائريين)، انظر (حركة الشبان الجزائريين) في (ميلانج جوليان) في دراسات مغربية، ص 240. ونحن لا نستطيع أن نضع ابن رحال مع ابن التهامي في صف واحد. فكل منهما ينتمي إلى مدرسة فكرية مختلفة، رغم معرفتها الفرنسية.

خالد، وكادت خطة الفرنسيين تنجح عندما ظهرت فئة (المطورنين) التي رضيت بالتجنس والزواج المختلط وعضوية الماسونية، واعتبرت أن الجزائري الحقيقي هو الذي عرف حق فرنسا عليه وانفصل عن جذوره الخاوية، كما يقولون، وتعلق بالأغصان اليانعة التي تمثلها الحضارة الفرنسية. هذه هي الملاحظة الأولى على نشاط محمد بن رحال، أما الملاحظة الثانية فهي أن جهوده، رغم قيمتها وقوتها كانت فردية، فهو يكتب ويسافر ويتكلم بصوته وحده تقريبا. فكأنه أديب رومانتيكي متطرف، رغم أنه كان يمثل إلى حد كبير روح الشعب وتطلعاته، كما قلنا. شارك في الجمعيات والنوادي ولكنه لم يؤسسها. ونصح وساهم في تحرير الجرائد ولكنه لم يرأس تحريرها. وحين ظهرت حركة الأمير خالد كان ابن رحال يدب إلى السبعين إذ توفي سنة 1928 عن 71 سنة (¬1). الحكيم محمد بن العربي: وكانت مواقف الحكيم محمد بن العربي شبيهة بمواقف ابن رحال فيما نحن بصدده. فهو أيضا من الذين أيدوا ليكونوا وسطاء، من الجيل الثاني الذي نشأ في العهد الفرنسي وتلقى ثقافة مزدوجة وتحصن بالدين وتعلم الطب في الجزائر وباريس. ومع ذلك كان صوت الشعب المضطهد في مناسبات عديدة. ولد في شرشال سنة 1850 وتلقى فيها مبادئ القراءة والكتابة والدين والقرآن. ثم انتقل إلى العاصمة ودخل المدرسة العربية - الفرنسية ثم مدرسة الطب، ونال شهادة الدكتوراه من باريس. وعرف إلى جانب الفرنسية اللغة اليونانية واللاتينية. وكان من أصدقائه في باريس الأديب فيكتور هوغو. وبعد رجوعه إلى الجزائر اشتغل طبيبا بعيدا عن العاصمة، ثم دعاه أهلها إلى العمل بها فرضيت السلطات وحولته. ولكن عمله لم يكن هو الطب فقط، بل دخل الحياة السياسية المحدودة عندئذ، وهي النيابة في البلدية. ¬

_ (¬1) نوه الشيخ البشير الإبراهيمي بدور محمد بن رحال في المحاضرات التي كتبها عن الجزائر وألقاها على طلاب معهد البحوث والدراسات العربية - القاهرة 1955. انظر (آثار الشيخ الإبراهيمى) ج 5 (مخطوط).

ونحب أن نسجل عنه بعض المواقف. الأول أنه زار الأندلس سنة 1883 موطن أجداده، إذ كانت أسرته أندلسية الأصل، فتوقف بقرطبة وأشبيلية وغرناطة. وتأمل الآثار واستعاد الذكريات. وكان إعجابه بحضارة الأندلس أكثر من إعجابه بالحضارة الفرنسية التي خالطها في باريس. فلم يسلبه ما عاشه هنا ما تركه الجدود من ذكريات وجذور. والموقف الثاني أنه تولى النيابة في المجلس البلدي في مدينة الجزائر منذ 1888، أي في عمق عهد تيرمان. وأثناء ذلك وقعت محاولة هدم الجامعين الباقين، وهما الجامع الكبير والجامع الجديد، وبناء فندقين مكانهما. وكان الحكيم محمد بن العربي، كما قيل، وراء إفشال مشروع (دوردون) الذي وافق عليه الحاكم العام تيرمان (¬1). أما الموقف الثالث له فهو مطالبة لجنة جول فيري 1891 بإلغاء قانون الأهالي واحترام القضاء الإسلامي، والتعليم بالعربية. وقد سافر مع زميله محمد بن رحال إلى فرنسا لهذا الغرض أيضا. من الصعب أن نلم بكل جوانب حياة الحكيم ابن العربي هنا. وسنعالج موضوع أطروحته في الطب في فصل العلوم. ولابن العربي أخ في الطب أيضا يدعى قدور، كان يعمل في البلاط التونسي. كما كان له أخ يعمل مترجما عسكريا احتياطيا. فهو إذن من عائلة اختارت أن تدرس الفرنسية ولكن بقاعدة عربية وانتماء حضاري متحمس. وكان ابن العربي ما يزال حيا سنة 1927 ولكن في أرذل العمر (¬2). ... مع مطلع القرن العشرين ظهرت فئة من الاندماجيين المسلوبين، ولم يكونوا جميعهم سواء في تطرفهم أو جهلهم وتنكرهم لماضيهم. ففيهم ¬

_ (¬1) عن هذه القصة أنظر فصل المعالم الإسلامية. (¬2) انظر عنه محمد بن العابد الجلالي، (تقويم الأخلاق)، الجزائر 1927، ص 58 - 61.

المتحمسون مثل ابن التهامي وعمر بوضربة وأحمد بوضربة، وابن حمودة. وفيهم المنادون بالاندماج التدريجي مثل إسماعيل حامد والطبيب مرسلي. وفيهم الخاملون الذين كانوا يأكلون الخبز وينتمون فقط إلى هذه الفئة. وفي وقت لاحق ظهر اندماجيون غلاة أيضا، أمثال الزناتي وابن الحاج، ومعتدلون، أمثال فرحات عباس (في المرحلة الأولى) وابن جلول ... وكان محمد صوالح وتامزالي من فئة الاندماجيين الماسونيين، ولنقل كلمات عن بعض هؤلاء. عائلة بوضربة (إسماعيل، أحمد، عمر، علي): كان إسماعيل بوضربة من هؤلاء الشباب الذين اتصلوا بالثقافة الفرنسية مبكرا، وإن كان هو يختلف عن زملائه من عدة وجوه. فهو ابن أحمد بوضربة الذي فاوض الفرنسيين سنة 1830 باسم الداي حسين، وهو أيضا ابن المرأة الفرنسية التي كان أحمد متزوجا بها في مرسيليا. وكان إسماعيل من مواليد مرسيليا سنة 1823. ووجدنا في وثائق أبيه أن هذا كان يسعى في آخر الثلاثينات لإدخال ابنه إلى المدارس الفرنسية في باريس (لويس لوقران؟) والحصول له على منحة. والغالب أنه نجح في ذلك. ومهما كان الأمر فقد درس إسماعيل في فرنسا وأصبح مترجما مؤقتا سنة 1853، ورئيسيا سنة 1872. وقضى جزءا كبيرا من حياته في الأغواط مع بعض الضباط الفرنسيين، ومنهم دي باراي الذي وصفه (بالجوهرة). ولثقة الفرنسيين فيه كلفوه بعدة مهمات في مراكش وغات وغدامس ومناطق أخرى من الصحراء. وخاض مع الفرنسيين عدة معارك في الجنوب وجرح جرحا غائرا في إحداها وقتل حصانه تحته. ورافق الضابط بولينياك إلى غدامس ونزل ورقلة. وأصبح إسماعيل بوضربة عضوا في الجمعية التاريخية بالجزائر (كان يشرف عليها بيربروجر)، وعضوا في الجمعية الجغرافية بباريس (¬1). وعندما توفي بالعاصمة (16 نوفمبر 1875) كتب على قبره أنه يمثل حلقة وصل في ¬

_ (¬1) انظر ما كتبناه عنه سابقا.

مزج الأعراق (¬1). والمقصود أنه من سلالة عربية وفرنسية. ولا ندري إن كان إسماعيل قد تزوج من فرنسية أيضا وما إذا كان قد تجنس والغالب أنه فعل. وقد كان فعلا يمثل الاتجاه الاندماجي بحكم ميلاده وأعماله وكتاباته. وكان اعتراف الفرنسيين بخدماته دون الجهود التي بذلها من أجلهم. وقد بقيت عائلة بوضربة تمثل نفس الاتجاه بعد ذلك. ففي أوائل هذا القرن وجدنا بعض أسمائها في قائمة المتجنسين والعاملين على الاندماج والفرنسة. ومنهم المحامي أحمد بوضربة الحفيد فقد كان سنة 1904 محاميا في محكمة الاستئناف بالعاصمة. وألقى في 12 مارس 1904 محاضرة في (جمعية الدراسات السياسية والاجتماعية)، قال فيها إن الشريعة الإسلامية ما هي إلا أسطورة لا يفهمها المسلمون وهم لا يطبقون تعاليم القرآن. وكان بذلك يرد على من يقول إن قوانين الاندماج ستمس المشاعر الدينية للمسلمين. وفي نظره أن الخوف من ذلك لا يمثل عقبة في وجه الاندماج القانوني. وكان أحمد بوضربة هذا من المتجنسين. ويذهب آجرون إلى أن عبد الرزاق الأشرف قد عارض بوضربة ودافع عن الشريعة الإسلامية، وقد زعم بوضربة أن الشريعة مستوردة. كما ذهب آجرون إلى أن بوضربة كان ابنا لمتجنس، وأنه كان عضوا معروفا في الجمعية الماسونية. وهناك فرد آخر من عائلة بوضربة، وهو عمر، كان أيضا متجنسا، حسب رواية آجرون، وكان من التجار (¬2). وفي سنة 1912 كان الوفد الذي توجه إلى فرنسا باسم الاندماجيين يضم واحدا من عائلة بوضربة أيضا (ولعله عمر). وإذا صدقنا الروايات الفرنسية فإن لجنة فيري سنة 1892 قد تلقت اقتراحا من أحمد بوضربة بن حسن يطالب بتجنيس المسلمين بالتدرج مع ¬

_ (¬1) بيروني، مرجع سابق، ج 2، ص 375. وعائلة بوضربة من أصل أندلسي. (¬2) آجرون (الجزائريون المسلمون) 2/ 699، هامش 6، وكذلك ص 1032 هامش 3، وص 1040، 1049. وكانت (جمعية الدراسات السياسية والاجتماعية) برئاسة أوميرا، عميد الصحفيين ومستشار الحكومة، بينما رئيسها الفعلي هو قاستو، وبوضربة هو كاتبها العام. انظر المجلة الافريقية، 8 190، ص 143.

المحافظة على الأحوال الشخصية. وفي مقابل ذلك يخدم أهل المدن في الجيش الفرنسي. أما الوظيفة العمومية فتبقى مقصورة على المتجنسين فقط من المسلمين (¬1). ونلاحظ أن الجزء الأول من الاقتراح يكاد يكون هو نفسه الذي تبناه موريس فيوليت بين الحربين واحتضنه ابن جلول وفرحات عباس. ويبدو أن اقتراح بوضربة كان متقدما وتبني المؤتمر الإسلامي له كان متأخرا. وقد بالغ عمر بوضربة فاستنكر سنة 1911 وجود السلك الديني الإسلامي (الهيئة الدينية)، وقال إن الإدارة الفرنسية تشغله لصالحها لكي تسيطر به على الأهالي. ولعله كان على حق في ذلك. ويبدو أنه كان متحرراه (ولائكيا) أو علمانيا جدا، إذ كانت تلك الظروف تشهد فصل الدين عن الدولة. ولا غرابة في اعتناقه هذا المذهب بالنسبة للإسلام أيضا فقد كان، كما أشرنا ماسونيا أيضا، ومتجنسا. أما من حيث المهنة فقد كان تاجرا. ومهما كان الأمر فقد احتج عليه علماء السلك الديني لأنه نادى بتحرير الأهالي من نفوذهم، لأنهم، في نظره، يعوقون التطور (¬2). ولا ندري الآن ما إذا كان يعني رجال الدين مطلقا، بمن فيهم شيوخ الزوايا، أو كان يقصد هيئة الموظفين كالأيمة والحزابين. ذلك أن الهيئة الأخيرة قد فقدت في الواقع كل نفوذ لها على العامة. أما رجال التصوف فما يزال لهم تأثير كبير. وكان علي بوضربة أحد هذه الأسرة التي ارتبطت بالاندماج. وقد عاش فترة قصيرة من عمره، ولكنه مع ذلك حصل على درجة الدكتوراه في الطب، فكان من النوادر في ذلك بين الجزائريين. وهو ابن محمد بوضربة أخو إسماعيل سابق الذكر، وكان محمد متوليا للفرنسيين خزينة الأوقاف قبل ¬

_ (¬1) نفس المصدر، ص 1116. نقلا عن دفتر جول فيري رئيس اللجنة. ولنلاحظ أن المؤتمر الإسلامي قد تبنى المساواة مع بقاء الأحوال الشخصية وليس التجنس، كما جاء في اقتراح بوضربة. (¬2) آجرون (الجزائريون المسلمون)، 2/ 1046.

إلغائها (¬1). وقد تزوج علي بوضربة أيضا من فرنسية مثل جده، وكانت بدورها تمارس مهنة القابلة - الطييبة في العاصمة. وتولى أيضا النيابة في بلدية الجزائر سنوات طويلة على أساس أنه يدافع فيها عن حقوق الأهالي. وقد قال عنه رئيس البلدية الفرنسي (التيراك) أن علي بوضربة كان الأكثر ارتباطا بالنظم الفرنسية والتطور الحضاري. ونعاه زميله إسماعيل حامد سنة 1907، ولما يتجاوز الثالثة والأربعين (¬2). الحكيم الطيب مرسلي: وهو أيضا طبيب جزائري من وهران، أبوه كان ضابطا في فرسان الصبايحية في الجيش الفرنسي. وكان أولاد هؤلاء الفرسان مبجلين في دخول المدارس الفرنسية، ومنها مدرسة الطب. ويقال إن الطبيب مرسلي هو أول طبيب مسلم تخرج منها. وقد انتقل للعمل في قسنطينة واستوطنها بدون أن نعرف التواريخ المضبوطة عن حياته. وقد شارك الأعيان في قسنطينة نشاطهم وعرائضهم، فوجدناه يوقع مثلا عريضة 1891 التي قدمت للجنة جول فيري. وتزوج هذا الطبيب من فرنسية، وأخذ الجنسية الفرنسية أيضا بمقتضى مرسوم 1865 الذي كان يشترط للحصول عليها التخلي عن الأحوال الشخصية الإسلامية. ومع ذلك تنعته الوثائق الفرنسية (بالحاج الدكتور) لأنه أدى فريضة الحج. وقد كلفته السلطات الفرنسية بمهمة في جدة سنة 1885، تتعلق بانتشار وباء الكوليرا، ونال على مهمته ميدالية فضية. ألف الطبيب مرسلي كتابا سماه (المسألة الأهلية) (¬3). طرح فيه كل ما ¬

_ (¬1) كذا وجدنا إسماعيل حامد يقرر في مقاله عن علي بوضربة، ولكننا نعرف أن مصطفى بوضربة، عم أحمد بوضربة، هو الذي كان معاصرا للاحتلال، وتولى خزناجيا على مداخيل الأوقاف، إلى أن عزله الفرنسيون حوالي 1835، وتوفي مصطفى، على ما نعلم، في المغرب، مثل ابن أخيه أحمد. والملفت للنظر حقا هو أن عائلة بوضربة قد ارتبطت بالإدارة الفرنسية منذ الاحتلال. (¬2) إسماعيل حامد (مجلة العالم الإسلامي)، نوفمبر/ ديسمبر 1907، ص 495 - 496. وكانت الوفاة في 25 اكتوبر 1907. (¬3) قسنطينة، 1894.

يهم الجزائريين عندئذ من تمثيل برلماني وحقوق وضرائب وقوانين استثنائية (الاندجينا). وعند تأسيس نادي صالح باي أصبح من وجوهه إلى جانب ابن الموهوب والفرنسي (أريب). وبعد إعادة تنظيم المدارس الشرعية الثلاث عين مرسلي لإعطاء درس في الصحة العامة لتلاميذ مدرسة قسنطينة. وكان له احترام بين الأهالي رغم أنهم يعتبرونه (مطورني) أو متجنسا، وهو في نظرهم خارج عن الدين الإسلامي. ومن جهته كان يتقرب للأهالي ظاهريا ولكنه في حياته الخاصة، حسب زميله إسماعيل حامد، كان يعيش عيشة فرنسية. وفي سنة 1907 ألقى مرسلي كلمة في حفل توزيع الجوائز في مدرسة جول فيري الأهلية بقسنطينة، وهي مدرسة ابتدائية. وقد ألح فيها على مبدأ الاندماج والمشاعر المشتركة التي رسخها، كما قال، الدم المشترك بين الفرنسيين والجزائريين، وهو يقصد الدماء التي سالت منهم في المعارك التي خاضوها من أجل فرنسا مثل حرب القرم والحرب السبعينية وإيطاليا والمكسيك، وخاطب التلاميذ بأن يكونوا أفضل من آبائهم في وضع اليد في اليد (التعاون) مع الفرنسيين للسير قدما إلى مستقبل واحد، وقال: (علينا أن نكون فرنسيين بالمشاعر والقلوب، نحن الذين تربينا على نفس المقاعد كالفرنسيين الصغار). وقد هنأه الحاضرون على خطابه الناجح في نظرهم، وقالت مجلة العالم الإسلامي أنه من الشخصيات الأهلية الأكثر تعاطفا مع العالم الأوروبي، وكذلك مع العالم الإسلامي. وكان الطيب مرسلي ما يزال إلى سنة 1907 يمارس أيضا الطب في المستشفى المدني بقسنطينة (¬1). وقد عاصر جيلا من القضاة والعلماء في قسنطينة يبدو أنهم قد أثروا على مواقفه، فالمحيط الخارجي له دوره في توجيه الإنسان. فقد كانت قسنطينة على عهده تعيش على أفكار المجاوي وتلاميذه، وحميدة بن باديس، وحمدان الونيسي ¬

_ (¬1) إسماعيل حامد في (مجلة العالم الإسلامي) نوفمبر - ديسمبر 1907، ص 494 - 495، نقلا عن جريدة (الجمهوري القسنطيني)، عدد 18 أكتوبر 1907. انظر أيضا آلان كريستلو (المحاكم ...)، مرجع سابق، ص 239.

وصالح بن مهنة، وهو ما سماه مالك بن نبي عهد (الإصلاح المحلي). إسماعيل حامد: نملك عن إسماعيل بن أحمد حامد معلومات طيبة، ولكنها غير كافية، وهي مستخرجة من كتاباته في الأغلب؛ ولكننا لا نملك عنه حتى الآن ترجمة وافية. ولد بالعاصمة في 4 غشت 1857، ودرس بها العربية والفرنسية، ولكننا لا ندري مدرسته وشيوخه. وبناء على كتاباته فإنه كان متمكنا من اللغتين، ولا سيما الفرنسية التي كتب بها كتبا ومقالات تاريخية وأدبية. وقد أصبح من المترجمين البارزين في الجيش الفرنسي إذ تصفه المصادر بأنه كان المترجم الرئيسي في قيادة الأركان العامة، وكان هو نفسه من الضباط. ولعله قد تخرج من المدرسة السلطانية (الكوليج) وأكمل في الليسيه على غرار ما فعل محمد بن رحال. فهو وإياه متعاصران ومتشابهان في الثقافة والظهور، وإن كان كل منهما له مراجعه العائلية وانتماءاته وعقيدته في التراث الإسلامي والحضارة الأوروبية. ظهرت كتابات إسماعيل حامد منذ التسعينات. كان يكتب في المجلة الأفريقية ثم مجلة العالم الإسلامي، وفي غيرهما. وقد أصدر كتابه (مسلمو شمال أفريقية) سنة 1906 وأيد فيه تيار الاستغراب والتفرنس وشايع فيه السياسة الفرنسية الجديدة التي تبناها جول كامبون وشارل جونار. وقام بمهمات للسلطات الفرنسية في المغرب الأقصى وأفريقية، عندما كانت السياسة الفرنسية تعمل على التدخل في هذين الاتجاهين. كانت رحلته إلى المغرب سنة 1900 حيث قضى خمسة أشهر وكتب انطباعاته ونشرها في المجلة الأفريقية. ولكن تقاريره السرية لم تظهر عندئذ. وكان حامد من الجزائريين الرواد للاستشراق الفرنسي في المغرب وكذلك للإدارة أمثال محمد بن أبي شنب وعمر (سعيد) بوليفة ومحمد نهليل. كما كان أحمد مجقان وابن حمودة والجنيد أحمد مكي في أفريقية الغربية والوسطى. ويعتبر إسماعيل حامد رائدا فى الكتابة عن السودان الغربى وأفريقية الغربية الإسلامية والتعريف بمصادرها .. ولكن دوره في ذلك ما يزال مجهولا عند المعاصرين.

وبالنسبة لأفريقية العربية - الإسلامية نشر إسماعيل حامد مجموعة من الدراسات وعرف بالعديد من المخطوطات. وكانت أعماله تتسم بالعمق والاستيعاب كاستخدام المصادر والتعاليق والمقارنات مما يدل على ثقافته الواسعة ومنهجيته. وقد ترجم الكثير من النصوص إلى الفرنسية. فهو من هذه الناحية (مستشرق جزائري). أفاد حامد المستشرقين الفرنسيين واللغة الفرنسية بأعماله، ولكنه أيضا أفاد التراث العربي الإسلامي بالتعريف به وإلقاء الضوء عليه. من ذلك ترجمة كتاب (نور الألباب) في الفقه والتصوف والأحكام، للشيخ عثمان بن محمد بن عثمان المعروف بابن فوديو. وهو من بلاد الهوسة (بلاد الحوس كما كتبها). والكتاب يتحدث أيضا عن حالة الجهل والخرافة التي أصابت المسلمين في هذه المنطقة، وقد دعا إلى الخروج منها أو من عهد البلوى، كما يسميه ابن فوديو. وكان ابن فوديو سلطانا على تلك البلاد، ومن المصلحين المسلمين. وقد نشر حامد النص العربي والفرنسي (¬1). وفي نطاق الأدب العربي والحضارة الإسلامية في أفريقية والصحراء نشر إسماعيل حامد عدة أبحاث نذكر منها: (الأدب العربي الصحراوي) سنة 1910. وبعد جولة عامة في التاريخ تحدث عن كتاب مخطوط في التصوف والتاريخ والتراجم عنوانه (كتاب الطرائف والتلائد في كرامات الشيخين الوالدة والوالد) من تأليف محمد بن المختار بن أحمد بن أبي بكر الكنتي، المتوفى 1826. والكنتي هذا من الأزواد. ويقع المخطوط في 371 ورقة. وللكنتي أيضا كتب أخرى مثل (الشموس الأحمدية) و (هداية الطالب) وقد عرضهما إسماعيل حامد، سيما كتاب (الطرائف) الذي حلله في مقالتين طويلتين (¬2). وفي بحثه (الحضارة العربية في أفريقية الوسطى) أورد واسماعيل حامد ¬

_ (¬1) المجلة الافريقية، 1898، رقم 227، 228، المجلد 42، ص 58 - 81. (¬2) مجلة العالم الإسلامي، اكتوبر 1910، ص 194 - 213، ونوفمبر 1910، ص 380 - 405.

معلومات هامة تتعلق بالتجارة القديمة وجوانب التعامل الحضاري، وطرق انتشار الإسلام واللغة العربية في هذه المناطق، وهي النيل، وليبيا، والجزائر، والمغرب الأقصى. ومن مصادره في هذه الدراسة رحلة عمر التونسي وكتاب تاريخ السودان، وأشعار دينية عديدة، وتراجم، ومخطوطات مختلفة، مثل كتاب (الطرائف) سابق الذكر (¬1). كان إسماعيل حامد مهتما بالخصوص بموريطانيا والسينيغال. فقد نشر بحثا بعنوان (ناصر الدين) - وهو أحد الأولياء - ووعد بنشر الكتاب الذي يفصل ذلك بنفس العنوان عن (موريطانيا السينيغالية) - كما قال. وأورد في هذا البحث معلومات أخرى عن التجارة والموارد الطبيعية في الصحراء الغربية عندئذ (¬2). كما تحدث عن (كتاب الأنساب). ولإسماعيل حامد أيضا بحث مهم سماه (المدن الصحراوية) ومنها تمبكتو وشنقيط وولاته، وعابير (¬3)، الخ. وقد اعتمد في بحثه هذا على كتب ومصادر سودانية مثل مؤلفات أحمد بابا وتاريخ السودان. وقد يكون إسماعيل حامد أول العرب والمسلمين الذين كتبوا دراسة مطولة وموثقة عن الكنتيين وزاويتهم وصلحائهم وتجارتهم وعلاقاتهم. وهم، حسب الدراسة، من أحفاد الصحابي عقبة بن نافع، وقد أورد القصص حول التطورات التاريخية للمنطقة والعائلة الكنتية. وجاء بمؤلفات عربية وأوروبية، وذكر تاريخ أحمد البكاي المرابط الشهير صاحب الزاوية القادرية، وشجرة العائلة ¬

_ (¬1) نفس المصدر، أبريل 1911، ص 1 - 35. (¬2) مجلة العالم الإسلامي، نوفمبر 1909، ص 421. الواقع أن حامد نشر (حوليات موريطانيا السينيغالية) وهي تضم سيرة الشيخ ناصر الدين بقلم الديماني، وكذلك كتاب (الأنساب) له، و (شيم الزوايا) لمحمد السعيد اليدالي. وقد سبق في ذلك رينيه باصيه الذي أعاد نشر هذه الأعمال في كتابه (مهمة سينيغالية) سنة 1913، بعد أن أرسل إليه تلميذه في السينيغال، السيد ديستان، مخطوطة الحوليات. وبرر باصيه إعادة النشر بأن فهرس إسماعيل حامد فيه أخطاء (؟). (¬3) نفس المصدر، يونيو (جوان) 1912، ص 260 - 279.

النسبية (¬1). والمعروف أن المنطقة كانت قد دخلت أيضا في الصراع السياسي بين الفرنسيين والإنكليز، ولعب في ذلك أحمد البكاي القادري والحاج عمر التجاني أدوارا في ذلك الصراع. وبذلك يتضح دور إسماعيل حامد في دراسة النشاط الإسلامي بأفريقية، وفي التوغل الفرنسي هناك، وفي خدمة الرؤية الاستشراقية المعاصرة. ونحن نجده من المساهمين البارزين في مجلة العالم الإسلامي منذ إنشائها كما يدل على ذلك فهرسها لسنوات 1906 - 1911. فقد غطى فيها موضوعات عديدة بعضها طويل، كما ذكرنا، وبعضها قصير، مثل تتبعه للصحافة المصرية، والمؤتمرات الإسلامية، وحياة المسلمين في المشرق والمغرب، والتجارة الأهلية، والطرق الصوفية، والتعليم العربي في مصر، والفتاوى التي كانت تصدر في مجلة (المنار)، والطريق بين حلب وبغداد، وعلم الكلام عند الحنابلة، والرحلات الإسلامية، بالإضافة إلى نبذ عن حياة زملائه في الجزائر مثل بلقاسم بن التهامي عندما عين مديرا لعيادة طبية، والطيب مرسلي عندما خطب في التلاميذ بقسنطينة حول الاندماج، وعلي بوضربة (¬2) عند وفاته. في يناير سنة 1899 ذهب إسماعيل حامد إلى المغرب الأقصى في مهمة خاصة من السلطات الفرنسية. ويبدو أنه لم يتوغل فيه كثيرا، وإنما أقام في وجدة يتنصت الأخبار ويجمع المعلومات. ولا ندري نوعية المعلومات التي كان مكلفا بجمعها، ولكن ما نشره بعد قضاء خمسة أشهر هناك لا يخرج عن الموضوعات التي تهم كل زام فضولي لبلد غني بالحياة والنشاط والتناقضات. فمقالته أو رحلته تضمنت وصف العادات والتقاليد، واللهجة، والأسواق، والإدارة، ونفوذ السلطان، والموسيقى، والجالية الجزائرية بوجدة. وقال إنه كان سيقضي هناك بين ثلاثين وأربعين يوما ولكن (ظروفا) جعلته يمدد إقامته إلى خمسة أشهر دون أن يفصح عن هذه الظروف. وقد ¬

_ (¬1) نفس المصدر، 1911، ص 302 - 318. (¬2) مجلة العالم الإسلامي، الفهرس العام لسنوات 1906 - 1911، ص 44.

يكون ذلك بأمر من السلطات الفرنسية نفسها للحاجة إليه هناك. وقد يكون ذهب إلى وجدة من وهران. وأخبر أن إدارة وجدة سنوات 1844 - 1859 كانت تحت الإدارة الفرنسية. وخلاصة رأي إسماعيل حامد أن على فرنسا أن تحتل المغرب الأقصى (¬1). وقد اشتملت رحلته أو مقالته الطويلة على خريطة. وأظهر أنه عالم بفن الموسيقى أيضا إذ جاء بثلاث صفحات من النوطة الموسيقية المغربية، وخصص لها بعض الصفحات من الرحلة وأخبر أن كل الناس هناك يحبون الموسيقى. ولعل دراسة وضع الجالية الجزائرية في وجدة كان جزءا من مهمة إسماعيل حامد أيضا، فقد قال إنك تجد فيها كل أنواع الجزائريين: الهاربين من كايان، والمنفيين، واللاجئين من كل صنف، والفارين من الخدمة العسكرية، وقال إنهم جميعا يخفون حياة لا أحد هناك يسألهم عنها. ومن بينهم امرأة حاجة كانت تعرف الفرنسية، وجاءت، بعد سنوات من التجوال، تبحث عن (كافر)، حسب تعبيره، فر من بيت الزوجية في قسنطينة، إلى وجدة حاملا ما سرقه منها من ملابس فاخرة وحلى ثمينة. فهل هذا يعني أن هذه الحاجة كانت متزوجة من فرنسي وسرقها ثم هرب عنها؟ إن إسماعيل حامد قد ترك ذلك لفطنة القارئ، ولعله قد أفصح عنه في تقريره السري (¬2). وفي رحلته المغربية قارن إسماعيل حامد بين الجزائريين وأهل المغرب الأقصى في التوجه إلى الحج، وهو الموضوع الذي سيعالجه أيضا في كتابه عن مسلمي شمال أفريقية. قال إن الجزائريين لم يعودوا يتوجهون إلى المشرق ولا إلى السودان، وحتى في أداء فريضة الحج، فهم يتناقصون. ويرجع ذلك إلى الاحتلال الفرنسي. بينما يذهب أهل المغرب الأقصى إلى المشرق بكرة للحج وغيره (¬3). وهو لم يفصح عن ذلك في رحلته إلى وجدة، ولكنه في كتابه المذكور أرجعه إلى اليقظة العقلية وضعف الحماس ¬

_ (¬1) المجلة الافريقية، 1900، ص 97 - 134. (¬2) نفس المصدر، ص 123 - 124. (¬3) نفس المصدر، ص 104.

الديني عند الجزائريين. وهو هنا يعمم ولا يخصص، ولكن حديثه يفهم منه أنه كان يقصد المستغربين أمثاله ودعاة الاندماج الذين لم يعد يهمهم أمر المشرق، إنهم أصبحوا يتوجهون إلى فرنسا. والغريب أنه لم يذكر، وهو عليم بذلك، محاولات السلطات الفرنسية منع الحج على الجزائريين متعللة لذلك بشتى العلل (¬1). لا نعرف إن كان إسماعيل حامد من المتجنسين وما إذا كان متزوجا من فرنسية كغيره من المستغربين عندئذ. ولكن دعوته إلى الاندماج الحضاري كانت واضحة، فرغم اطلاعه على أحوال العالم الإسلامي، وهو استثناء لأن معظم المستغربين كانوا منقطعين فكريا عن العالم العربي والإسلامي، بل حتى عن مواطنيهم في الجزائر، قلنا رغم ذلك، فقد كان يدعو إلى تذويب المجتمع الجزائري في الحضارة الفرنسية. ولعل ذلك هو ما جعل باحثا مستشرقا أمريكيا، وهو لوثروب، يعتبره من (المصلحين) المسلمين في الجزائر. وقد نسب إليه المقولة التالية: (لا تقاس حضارة أمة بما في كتبها الدينية من السطور والعبارات، بل بما تقوم به تلك الأمة من الأعمال) (¬2) وهو قول في غاية الحكمة والمنطق. وأضاف إليه مقولة أخرى وهي: (كان للاتجاه الغربي مبلغ كبير من التأثير في جمهور ليس بالقليل من مسلمي الجزائر الذي وإن كانوا ما برحوا مسلمين في الظاهر، فهم يجهلون حد ما وصلت إليه روحهم الدينية من التلاشي) (¬3). لفت إسماعيل حامد إليه الأنظار منذ صدور كتابه (مسلمو شمال أفريقية)، لأنه دعا فيه إلى أن تلعب (النخبة) دورا رئيسيا في الحياة السياسية، وأبرز التطورات التي حدثت في الجزائر أثناء الاحتلال الفرنسي، ومنها تخلي الجزائريين تدريجيا عن تقاليدهم وأفكارهم القديمة كالتعصب الديني، في نظره، وتطلعهم إلى التعلم وتقليد الفرنسيين، وابتعادهم عن الشرق والحياة ¬

_ (¬1) عن ذلك انظر فصل السلك الديني والقضائي. (¬2) الأمير شكيب ارسلان (حاضر العالم الإسلامي) 1/ 269. (¬3) نفس المصدر 1/ 273.

القديمة. لم يدرس إسماعيل حامد الأسباب ولكنه وصف الواقع. ولم يدع إلى النهضة العربية الإسلامية بثورة عن الذات والرجوع إلى الأصول والاستفادة من حضارة الغرب، وإنما دعا إلى الانطلاق من الحاضر، أي مما وصل إليه التأثير الفرنسي المتزايد في المجتمع الجزائري، مطبقا للمخططات الفرنسية نفسها. ذلك أن هذه المخططات كانت تهدف منذ 1830 إلى الوصول إلى هذه النتيجة، وهي أن يتنكر الجزائري نفسه لماضيه وأن يستلب من هويته ويذوب في هوية أجنبية عنه دون شعور منه بذاته. ورغم معاصرة إسماعيل حامد لمدرسة الشيخ محمد عبده وزيارته للجزائر 1903، وتأثيره في أمثال محمد بن مصطفى خوجة وعمر راسم وعبد الحليم بن سماية، فإنه (أي حامد) كان يبدو بعيدا عن التأز بهذه المدرسة الاصلاحية (الشرقية). وكل ما كان يعنيه هو وصف ما آل إليه المجتمع الجزائري، في نظره، من التأثير الفرنسي واستعداده للدخول في (الحرم والاحترام) الفرنسي، حسب تعبير جريدة المبشر. استقبل كتاب إسماعيل حامد بآراء مختلطة من الفرنسيين، ولكن معظمها تحبذ استنتاجه، سيما من أولئك الذين يؤمنون بدور النخبة المستغربة في دمج المجتمع الأهلي في البوتقة الفرنسية. راجعت الكتاب مجلة (أفريقية الفرنسية) فتساءلت: هل المسلمون الجزائريون يمكن تمهيرهم (من المهارة)؟ وهل هم قابلون للاندماج؟ وهل سيقتربون منا ذات يوم؟ ثم قالت: إن هذه الأسئلة هي التي شغلت الرأي العام كثيرا هذه الأيام، فاعتقد المستوطنون (الكولون) العارفون منذ أمد طويل بعقلية الإنسان (الأهلي) أن هذا الإنسان لا يمكن تصحيحه وليس له قابلية في الاندماج والتقدم، لأنه متعصب ومعارض لكل تقدم. وهذا الحكم ما يزال شائعا اليوم. ولكن إسماعيل حامد، حسب (أفريقية الفرنسية)، وهو أهلي أصلا ومثقف بالفرنسية ومترجم ... يقول إن هذه الفكرة متعجلة ومؤسفة. فقد قال إنه أصبح في الجزائريين من يكتب بالفرنسية مثل محمد بن رحال والطيب مرسلي، وأن من الجزائريين من أصبح محاميا وصحفيا ومترجما، وعسكريا،

وأستاذا. وكلهم من (النخبة). كما ضرب أمثلة أخرى على الاستعداد للذوبان، وذلك بالزواج المختلط الذي بدأه، كما قال: رجال الدين أمثال شريف وزان وأحمد التجاني وأبو بكر (من أولاد سيدي الشيخ). وهذا في نظره ما يؤكد وجود فئة مستعدة لتقليد أوروبا، وهو يسميها الفئة (المتروبنة). وقد ادعى أيضا أن أول من انضم للفرنسيين هم رجال الدين (¬1). أطروحة إسماعيل حامد في الاندماج والاستعداد له أبرزها مقدم الكتاب، وهو المستشرق العسكري لوشاتلييه (¬2)، ومراجعة ليون غوتييه. قارن غوتيه بين كتاب إسماعيل حامد وكتاب برونيل. قال برونيل إن الجزائري غير قابل للاندماج مستشهدا بما حدث في قضية عين التركي (مرغريت) سنة 1902. فقد قال إن المسلمين ثاروا عندئذ لانتزاع الأرض من المستوطنين الفرنسيين. وأنهم كانوا ضد الاستبداد الإداري، حسب ما جاء في الدفاع أثناء المحاكمة. وادعى برونيل أن المسلمين متعصبون دينيا، وأن لهم عقيدة راسخة في مولى الساعة أو المهدي المنتظر. أما إسماعيل حامد فقد بنى رأيه، حسب غوتييه، على أن الاندماج في المراكز الأوروبية حقيقة واقعة، وأنه (حامد) ينتمي إلى هذه المراكز. وأرجع أحداث عين التركي إلى الطموحات الشخصية للبعض، أو غضبهم، وليس إلى التعصب الديني الذي يقول به الفرنسيون دائما، ومنهم برونيل. وقال حامد إن الدين الإسلامي أكثر الأديان تسامحا وأن المسلمين أكثر الشعوب تسامحا لذلك. والغريب أن حامد قد حبذ قانون الأرض سنة 1863 الذي سلب الجزائريين ما بقي لهم من أرض باسم الملكية الفردية، واعتبره كرما وتكرما من الفرنسيين، كما نوه ¬

_ (¬1) مراجعة (افريقية الفرنسية). A. F الملحق، شهر غشت 1906، ص 267 - 268. وقد صدر الكتاب في باريس 1906، 316 صفحة .. والإشارة التاريخية إلى رجال الدين يقصد بها قبول الحاج محيي الدين، مرابط القليعة لوظيف (الآغا) في عهد بيرتزين سنة 1831. (¬2) أستاذ كرسي المجتمعات الإسلامية في كوليج دي فرانس، ومدير مجلة العالم الإسلامي. انظر عنه فصل الاستشراق.

بفائدة الاستيطان الفرنسي لما فيه من فوائد تعليمية للجزائريين، فهو في نظره ضرورة للازدهار الاجتماعي (¬1). كان اطلاع وثقافة وتأثير إسماعيل حامد يمكن أن تنضم إلى أنشطة محمد بن رحال، ومحمد بن أبي شنب، وعبد القادر المجاوي، وابن علي فخار، وابن الموهوب، وأن تتكون منهم نواة لحركة إسلامية متجددة تدعو إلى التعليم والنهضة في وقت مبكر. فهم فئة تملك الرؤية، والقلم واللسان. ولكن الجهود كانت مشتتة والرؤية ليست واحدة. فقد كانت دعوة إسماعيل حامد إلى تكريس الواقع لا إلى تغييره، وإلى توجيه الاهتمام بالروابط الفرنسية لا بالروابط العربية الإسلامية (¬2). وكان الاهتمام الذي حظي به كتابه يرجع إلى دعوته إلى التقارب الجزائري - الفرنسي والاندماج، وهو ما لم يحظ به مثلا فكر ابن رحال ولا فكر المجاوي وابن سماية ممن كانوا يعتبرون أصحاب العمائم القديمة، رغم ثقافتهم العصرية ورؤيتهم المستقبلية. ابن علي فخار: لم يدع ابن علي فخار إلى نخبة الأفراد فقط ولكن إلى نخبة المدن أيضا. انطلق من أن الجزائريين ليسوا سواء في المدن والأرياف. ومن الغلط في نظره، أن يسوى الفرنسيون في حكمهم على المسلمين بمسطرة واحدة. ابن علي فخار من أصل أندلسي (الفخارين) ومن مدينة تلمسان. درس في مدرسة تلمسان الفرنسية بالشرعية، ثم أكمل دراسته في مدرسة الآداب العليا بالجزائر. فدرس على رينيه باصيه وفانيان. ومنذ 1901 ذهب إلى فرنسا حيث كان يعلم اللغة العربية الدارجة في الغرفة التجارية ¬

_ (¬1) مراجعة في (المجلة الجغرافية الجزائرية) SGAAN ,1906، ص 210 - 214. وقد ألقى ليون غوتييه محاضرة يوم 10 مايو، 1906، حول الكتابين. (¬2) يقول بيروني (الكتاب الذهبي) 1/ 506 إن إسماعيل حامد قد أصبح مترجما عسكريا سنة 1877، وترقى في هذه الوظيفة أثناء خدمته في مدينة معسكر وآفلو والعين الصفراء ووهران وباريس. وكان حامد في وهران سنوات 1895 - 1904، وفي باريس 1905 - 1912. وتقاعد سنة 1913. وكان ما يزال حيا سنة 1930 (سنة نشر الكتاب الذهبي).

بمدينة ليون. وفي هذه المدينة درس القانون وتخصص في الشريعة الإسلامية، وحصل سنة 1908 على الدكتوراه في موضوع رئيسي هو (الربا في الشرسة الإسلامية وعواقبه العملية)، أما الموضوع الثانوي فهو (القراض). وتقول المصادر الفرنسية إنه أول دكتور جزائري (مسلم) يحصل على الدكتوراه في القانون، وهي في الواقع دكتوراه من قسم العلوم الاقتصادية والسياسية عندئذ، ولكنه ناقشها في كلية الحقوق بجامعة ليون. وقد راجعت أطروحته مجلة العالم الإسلامي ونوهت بعمله (¬1). كان ابن علي فخار من كتاب هذه المجلة أيضا مثل زميله إسماعيل حامد وأبي بكر عبد السلام. ومن موقعه في ليون كان يكتب عن الشريعة الإسلامية وعن مدينة تلمسان ولهجتها، وقد عرفنا أنه كتب أيضا كتابا مدرسيا عن لهجة تلمسان والمغرب. لم يعين ابن علي فخار أستاذا في الكلية التي تخرج منها، بل عينوه مشاركا في (الحلقة القضائية المصرية) التي كان يشرف عليها الأستاذ لامبير، ابتداء من نوفمبر 1908. وكانت الحلقة تابعة لكلية الحقوق، بجامعة ليون. ويشاركه في ذلك طالب مصري، اسمه عزيز مرحوم، كان ما يزال بقسم الليسانس. وأثناء وجوده بليون اهتم ابن علي فخار أيضا بموضوع تدوين الفقه الإسلامي الذي كان يجري الحديث عنه في الجزائر. وكان يتردد على تلمسان. ولا ندري إن كانت أسرته قد بقيت فيها أو كان متزوجة من فرنسية. كتب ابن علي فخار سنة 1909 مقالة عن تلمسان كشف فيها عن وجهة نظره الاجتماعية، وهي وجهة محدودة إذا نظرنا إلى ثقافته العالية، وإلى تكوينه الاجتماعي وأصوله ودراسته للشريعة الإسلامية. يقول في هذه الدراسة إن المسلمين يقولون أن الاحتلال قد أضاعهم، ويقول الفرنسيون إن المسلمين استفادوا منه. وهو بالطبع يضم صوته إلى القائلين بالرأي الأخير. ¬

_ (¬1) مجلة العالم الإسلامي، يناير - فبراير 1909، ص 186 - 188. وكذلك نفس المصدر، 1911، ص 582 - 583. وتوجد صورته بالبرنس ونبذة عن حياته في نفس المصدر، يونيو 1908، ص 361 - 363.

ولكنه يقول إن معاملة الفرنسيين للأهالي على نفس الوتيرة والحكم عليهم بالجملة خطأ فادح. ودعا إلى ضرورة التفريق بين معاملة أهل المدن وغيرهم، سيما المدن ذات الحضارة والعراقة مثل تلمسان. وفي نظره أن على الفرنسيين أن يعاملوا أهل المدن معاملة خاصة تضمن لهم الأمن والاستقرار. ذلك أنه عن طريق هذه المدن سيقع التأثير على بقية السكان ويقع التأثير الحضاري الفرنسي ويشيع الرخاء، وبذلك تتفادى فرنسا مستقبلا مجهولا. قد تكون فيه المغامرة. ولا ندري إن كان ابن علي فخار متأثرا، أيضا بنظرية دورخايم السائدة عندئذ، ولكنه أعطى أهمية للمجتمع المدني حيث التقاليد والإطارات الخاضعة للشروط الاقتصادية، وهي شروط تجعلها مجتمعات ثابتة على الأرض، ولا نتاج إلا إلى الأمن والضمانات البشرية، وإذا تحقق هذا فإن أهل هذه المدن سيتقربون من الأوروبيين (الفرنسيين) لتبادل المصالح والمنافع. وفي رأيه أن معاملة سكان المدن على قدم المساواة يتماشى مع طبيعة الأشياء نفسها، أما مساواة خمسة ملايين مسلم جزائري في المعاملات السياسية والأحكام فإنه يدل على جهل الخلاف العميق الذي يفرق بينهم (¬1). هذه هي أطروحة ابن علي فخار، فهي تقوم على أن أهل المدن أقرب إلى التعايش مع الفرنسيين والاختلاط معهم والاندماج الاجتماعي والاقتصادي فيهم من مجتمع الريف المتخلف وغير المستقر، بينما أمثال إسماعيل حامد وابن التهامي يدعون إلى نخبة الثقافة الفرنسية المتميزة عن غيرها من المتعلمين، بل من الجزائريين بشكل عام. ونحن لا نستطيع إلا أن نصف ابن علي فخار في دعاة الاندماج لأنه لا يقول بالهوية الجزائرية المتميزة عن الهوية الفرنسية. ¬

_ (¬1) ابن علي فخار (تلمسان) في (مجلة العالم الإسلامي) يوليو - غشت، 1909، ص 433 - 445.

والغريب أن جريدة (الحاضرة) التونسية قد نشرت لابن علي فخار بعض الأراء في مقالات من بينها رأيه في معارضة فصل الدين عن الدولة الذي كانت فرنسا قد أخذت على تطبيقه على المسيحية واليهودية في الجزائر سنة 1907 بعد أن أخذت تطبقه في فرنسا سنة 1905. وتقول بعض المصادر إن ابن علي فخار انتقد تطبيق ذلك الفصل في المستعمرات. والمعروف أن قانون الفصل لم يطبق على الإسلام، دين الجزائريين. فهل يعني ابن فخار فصل (الدين) من حيث هو؟ وقد وصفته الجريدة بأنه من أعيان (النخبة؟) الجزائر ومن المتبصرين بالمصالح العامة (¬1). أحمد بن قدور عطشي: إذا توفي أحد الجزائريين فإن المؤبنين الفرنسيين له يكتفون بذكر ولائه لفرنسا وانتمائه الحضاري لهم أو تاريخ وفاته، وكذلك المدرسة الفرنسية التي تخرج منها، والوظيف الأخير الذي كان يشغله. وقلما يذكرون نبذة وافية عن حياته وآرائه ومساهمته. وكثير من الجزائريين ماتوا مجهولين تماما، رغم علمهم ومكانتهم. والسعيد منهم من أعلنت وفاته على صفحة الوفيات بجريدة المبشر أو جريدة الأخبار. ومن هؤلاء المحظوظين - بعد وفاتهم - أحمد بن قدور عطشي، الذي أبنته المجلة الأفريقية بضعة سطور سنة 1898. اسم (عطشي) يدل على أنه من أهل الحضر، رغم أن التأبين لا يشير إلى ذلك. وقد كان أحد الدايات يلقب بعطشى. وكان أحمد من مواليد 1853، أي من الجيل الأول الذي نشأ في العهد الاستعماري. وقد يكون تردد على المدرسة العربية - الفرنسية الابتدائية، ثم درس في الليسيه. ونحن نعلم أنه درس بعد ذلك في مدرسة الصنائع (البوليتكنيك) بفرنسا. وكان من الجزائريين النوادر الذين دخلوها. ثم درس الحقوق ونال إجازتها (الليسانس) في باريس أيضا. ويبدو أنه فضل الإقامة في فرنسا، إذ عمل في المكتبة ¬

_ (¬1) علي العريبي (أصداء جزائرية في جريدة الحاضرة)، في مجلة (الحياة الثقافية)، تونس، عدد 32، 1984.

الوطنية الفرنسية بعض الوقت بصفته ملحقا، لأن الجزائري لا يوظف على قدم المساواة مع الفرنسيين .. وقد رجع أحمد عطشى إلى الجزائر في وقت نجهله، ليكون قريبا من أهله، حسب تعبير المجلة. وفي الجزائر تولى الكتابة لدى الرئيس الأول لمحكمة الاستئناف الفرنسية بالعاصمة، ولعله هو القاضي زيس (؟). ثم نقل إلى مكاتب الحكومة العامة حيث اشتغل محررا، وهو تعبير لا نعرف معناه بالضبط، فهل هو التحرير الصحفي في جريدة المبشر التابعة للحكومة، أو التحرير عموما مثل كتابة التقارير ونحوها، وهي مهنة كان يقوم بها الخوجات وكتاب الإنشاء. يصفه مؤبنه، وهو فيما نظن السيد لوسياني (¬1) الذي كان هو أيضا يعمل بالحكومة العامة، بأنه واسع الثقافة، كثير التواضع. ولذلك حظي بعطف الجميع. وعند وفاته عن 45 سنة حضر جنازته بعض الفرنسيين أيضا، كما ابنه بكلمات كل من المفتي الحنفي أحمد بوقندورة، وعبد الرزاق الأشرف، الأستاذ بمدرسة الجزائر الشرعية - الفرنسية (¬2). كان أحمد عطشى عضوا، في الجمعية التاريخية. ولا ندري مؤهلاته في ذلك. ويبدو أنه كان مهتما، بالفنون الجميلة والفلسفة أيضا. ولكن حياة الضنك الاستعماري لم تسمح له بتطوير مواهبه في الاتجاه الصحيح. منذ 1880 ألقى محاضرة بالفرنسية عن الفيلسوف والفنان الإيرلندي (ستيرن). وقد علقت جريدة (الأخبار) الصادرة بالفرنسية عن المحاضرة تعليقا معجبا بهذا الشاب (27 سنة عندئذ) الأهلي الذي ملك ناصية اللغة الفرنسية وعالج موضوعا دقيقا وخاطب جمهورا فرنسيا متخصصا وحذق تقديم حياة وأفكار ستيرن فأبرز منه الملامح الهزلية Humoristeque وأظهره فيلسوفا مليئا بالمرح Bonhomie . وقد نشرت الصحف المحلية أيضا منوهة بالمحاضرة، بل حتى جريدة (التايمس) البريطانية (¬3) فعلت ذلك. وفي عدد لاحق أخبرت ¬

_ (¬1) الحروف التي وقع بها التأبين هي. J. D. L . وقد قرأناها جان دومينيك لوسيافي. (¬2) المجلة الافريقية، 1898، ص 390، عدد 231. (¬3) عدد 24 مارس 1880. قالت الجريدة إن أحمد بن قدور (عطشي) كان عربيا وتخرج =

جريدة (الأخبار) أن أحمد عطشى، وهي تسميه أحمد بن قدور فقط، سيحاضر في يوم 9 أبريل من نفس العام، عن الفنون القديمة وعلاقتها بفنون العصور الوسطى والانتاجات الهوموريستيكية، وأنه سيختم بنظرة عن مكانة الفنون الجميلة في الحياة الحديثة (¬1). إن هذا الشاب الواعد المبكر هو الذي توفي بعد حوالي عشرين سنة. فماذا ألف وحاضر وسجل بعد محاضرتيه عن ستيرن والفنون القديمة؟ لا نعلم الآن شيئا. فهو أيضا من الجيل الأول الذي تعلم بالفرنسية واندمج في ثقافتها. ولا نعلم الآن أنه دعا قومه إلى الاندماج، رغم أن حماسه للعلوم الأوروبية والفنون يبرهن على تأثره الكبير. لكن جيله، وإن تأثر فإنه لم يدع إلى الذوبان، أولا لأن فيه بقية حصانة، وثانيا، لأن جيل المستغربين المسلوبين (النخبة) كان ما يزال يتشكل عند وفاته. وتكاد النفس تحدثنا بأن شخصا يتوظف في مكاتب الحكومة العامة ويطلع على أسرارها وينوه به دومينيك لوسياني، لا يمكن إلا أن يكون متجنسا بالجنسية الفرنسية. فهل كان ذلك هو ما فعله أحمد بن قدور عطشى؟. ابن حمودة: من قرأ خطبة السيد ابن حمودة في الغزل بفرنسا والهيام بحبها والوله بإنجازاتها في الجزائر يغفر لكل أفراد هذه الفئة المبهورة لأنهم لم يتغنوا بها كمثل غنائه ويتحمسوا لها كمثل تحمسه، رغم أنهم قد يكونون ¬

_ = من الجامعة (كذا)، وأنه ألقى المحاضرة في العاصمة. وخصصت للمحاضرة سطرين فقط ضمن أخبار فرنسا. وكانت المحاضرة عن حياة وأدب ستيرن وموسوعته الأدبية المعروفة باسم (تريسترام شاندوي/ المهذب). انظر Dict. of LITERARY BIOGRAPHIES المجلد 39، ص 471 - 499، ط. ديترويت (ميشيغان)، 1985، وكان ستيرن L. sterne (1768 - 1713) من أدباء إيرلنده وقصاصيها. (¬1) كانت المحاضرة، حسب جريدة (الأخبار) يوم 20 مارس 1880. ولكن الأخبار لم تكتب عنها إلا يوم 5 - 6 أبريل معتذرة لقرائها عن التأخير في الخبر. أما محاضرة الفنون القديمة فأعلنت عنها يوم 9 أبريل، ولم نقرأ تعليقها عليها لأن العدد لم يكن متوفرا عندنا. انظر أيضا عن أحمد عطشى فصل الفنون.

أشد منه حبا لها وهياما بها، غير أنهم صمتوا وتكلم هو، وجمجموا وأفصح هو. لا نعرف الإسم الأول الآن لابن حمودة هذا. فقد وجدنا اسمه مختصرا في (الخطبة) التي بعث بها من السينيغال إلى مجلة العالم الإسلامي. قال فيها إنه تخرج من مدرسة الجزائر الشرعية - الفرنسية. وقال إنه عاش فترة في شرشال وتوظف فيها زمانا، قبل أن يناديه المنادي للتعليم في مدرسة سان لويس بداكار (¬1). وقد عدد ابن حمودة إنجازات فرنسا في الجزائر، ويمكن تلخيصها فيما يلي: 1 - كان ملوك تلمسان والجزائر وقسنطينة ووهران - كما قال - على رأس قبائل يغزون بعضهم البعض وينشرون الدمار والموت. فجاء الفرنسيون وأحدثوا التحول التاريخي، ويا له من تحول! (وعلامة الاستغراب له). 2 - كان الفرد الجزائري يعيش بدون فرديته وبدون رحمة، فغير الفرنسيون ذلك ونشروا الرحمة وشعر الفرد بذاته. 3 - طلع الفجر على الجزائر بتاريخ 1865 الذي فتح للجزائريين باب التجنس والتقدم، ومنذئذ أخذتهم فرنسا في أحضانها. فلماذا لا يكونون معترفين لها بالجميل؟. 4 - بفضل فرنسا ازداد عدد السكان بصورة مذهلة، لأنها أوقفت المذابح القديمة والأمراض المعدية، ونشرت السلم في ربوع البلاد، وشجعت الفلاحة وقمعت الجرائم. 5 - قامت فرنسا بفتح المدارس الابتدائية للجزائريين إضافة إلى المدارس الثلاث في العاصمة وتلمسان وقسنطينة، واهتمت بالفنون الأهلية، ¬

_ (¬1) نكاية في المسلمين أطلق الفرنسيون اسم (سان لويس) على المدرسة الإسلامية الوحيدة عندئذ في السينيغال المسلم، وهي على غرار المدارس الشرعية الفرنسية الثلاث في الجزائر. وكانت تدرس الفقه والتوحيد واللغة العربية. وهي على الطراز الإسلامي، كما أظهرتها الصورة التى نشرتها مجلة العالم الإسلامي عنها.

وذلك تمشيا مع حضارتها وتقاليدها الإنسانية. 6 - ألمع الأسماء في تاريخ الجزائر (؟) هي أسماء الدوق أورليان، وبوجو، وماكماهون، وشانزي، وجونار. إنها (أسماء مجيدة) - كما قال. 7 - فتحت فرنسا أيضا صفوف جيشها للجزائريين وجاءت بفرق من المعلمين، وشجعت المهن الحرة والمجالس النيابية للجزائريين. ومن أجل ذلك أصبح الفرنسيون في نظر ابن حمودة، حماة للجزائريين وأصدقاء لهم، بالإضافة إلى أنهم هم المنتصرون والأسياد. إنهم في الجزائر (من أجل مصالحنا). إن كل شيء قد تغير في الجزائر بفضل الجهود الفرنسية. حتى القضاة المسلمون سيتغيرون تبعا للقضاة الفرنسيين. وها هي الآن تتكون (نخبة) خضعت للتأثير الفرنسي وهي تفيض بحب فرنسا وتسبح بحمدها. وقد ختم ابن حمودة خطبته العصماء بهذا الهتاف الذي لم يسمعه الفرنسيون ولم يبالوا به، ولكن سمعه التاريخ ووعاه، وهو الدعاء لفرنسا بطول العمر، وبالمجد والعظمة (¬1)!). ويجب ألا ندهش من هذا، لأن ما كانت تخفي صدورهم أكبر. وهذا الذوبان الذي يبديه ابن حمودة المتخرج من المدرسة الشرعية - الفرنسية أثناء سيطرة المستشرقين عليها، ما هو إلا ظاهرة طبيعية لإنجازات المخطط الفرنسي منذ البداية. ولعل حالة ابن حمودة، وهي غير شاذة، تبرر موقف أغلبية الجزائريين الذين فهموا منذ البداية أيضا أن المدرسة الفرنسية ستخرج أولادهم على هذا النحو من الانسلاخ. وقد تبين أن الخطة ليست هي التعليم في حد ذاته، أو تعليم العلوم باللغة الفرنسية كما فهمها البسطاء والجهلة من أمثال مصطفى بن السادات ومحمود بن الشيخ علي، وحتى حسن بن بريهمات، ولكن تذويب الإنسان الجزائري ومحو شخصيته حتى يصبح كالسكران يقول ما لا يفعل ويفعل ما لا يقول. ¬

_ (¬1) مجلة العالم الإسلامي، ديسمبر 1910، ص 632 - 634.

أحمد بن بريهمات: وهو أحد أبناء حسن بن بريهمات الذي لعب دورا في الحياة العامة خلال القرن الماضي كمثقف مزدوج ومن أهل الحضر. وكان أحمد أحد ثلاثة أبناء له (والآخران هما إبراهيم وعمر). ويذكر أبو القاسم الحفناوي أن الدكتور زروق كان أيضا أحد أبناء حسن، والصواب أنه حفيده، وأن زروق هو ابن أحمد. ولا ندري متى ولد أحمد هذا، والغالب أنه ولد بالعاصمة وتعلم بها ودخل المدرسة السلطانية (الكوليج الامبريالي) قبل إلغائها سنة 1871. وتخرج مترجما عسكريا، مثل أخيه إبراهيم، ولكنه ساهم في الترجمة المكتوبة أيضا. فوجدناه قد ترجم إلى الفرنسية رحلة العياشي من درعة إلى ورقلة سنة 1880. ولعل ذلك كان خلاصة للرحلة فقط (¬1). كما اشترك أحمد مع لويس رين في نشر كتاب في تعليم اللغة الفرنسية بعنوان (اللسان يكمل الإنسان)، وقد سبق الحديث عنه. وأما آجرون فقد ذكر أن أحمد هو ابن محمد بريهمات، وقال إن كليهما كان من (المعارضين). ومما ذكره آجرون أن محمد كان مساعدا في المحكمة (الاستئناف؟) ثم عزل منها، وأنه ظل على معارضته (؟)، طيلة عهد الحاكم العام لويس تيرمان. وقال إن محمدا قد ربط علاقات في عهد الحاكم العام لافيريير (1897 - 1900) مع كميل صابتييه وباروكان مدير جريدة الأخبار. ويخبرنا أيضا أن أحمد كان كوالده من المعارضين أيضا (¬2). ويبدو لنا أن آجرون قد خلط في الموضوع وأن أحمد هو ابن حسن كما ذكرنا، وأنه كان، ¬

_ (¬1) نشر ذلك في نشرة الجمعية الجغرافية لوهران (. B.S.G.O) رقم 7 (1880).، ص 330 - 334. وقد وجدنا في المجلة الافريقية سنة 1899، ص 295 - 296 مراجعة للترجمة بقلم عبدالرزاق الأشرف. ولعل نشر بريهمات لترجمته في نشرة وهران يدل على أنه كان عندئذ يعمل في تلك الجهة. كما يدل على اهتمام الفرنسيين بالمغرب الأقصى. انظر سابقا. (¬2) آجرون (الجزائريون المسلمون) 2/ 1032 هامش 3. ومن المعارضين أيضا. حسب رأي آجرون، حمدان بوركايب الذي كان موظفا بولاية العاصمة. واستعمال كلمة (معارضة) هنا غير واضحة، فالنخبة الاندماجية إنما كانت تطالب بالحقوق.

كما سنرى، مؤيدا للسياسة العلمانية في التعليم وأنه كان مواليا للسياسة الفرنسية (الإنسانية) وكان من المتجنسين أيضا. وكان نشاط أحمد قد برز في الثمانينات (عهد تيرمان). وقد ساعدته ثقافته المزدوجة على الاطلاع على تراث العرب وحضارة الفرنسيين. وربما كان مشاركا أيضا في إحدى الجمعيات الماسونية. ونحن نستشف ذلك من كلمته التي ألقاها? دون غيره - في باريس سنة 1882. فقد استدعته جمعية تسمى (الجمعية الفرنسية لحماية أهالي المستعمرات) ليشارك في أعمالها. وكان من مؤسسي هذه الجمعية الكاتب لوروى بوليو. وفي كلمته نوه أحمد بن بريهمات بالجمعية التي قال عنها إنها اتخذت من محبة الإنسانية شعارا لها عوض محبة الإنجيل والقرآن والصليب والهلال (¬1). وأعلن أن هدف فرنسا من (فتحها) (احتلالها) للجزائر لم يكن سوى بث الحضارة و (رفع حالة التمدن المنخفضة النازلة بالبلاد). ولكنه ذكر الفرنسيين بأن أكثرية سكان الجزائر هم من (عقب العرب الذين كانوا بالأندلس) وأنهم حازوا (قصب السبق في العلوم الفاخرة)، كما نوه بخلفاء قرطبة وغرناطة، وقال إن سكان الجزائر من الشعب الذي أنجب ابن سينا وابن رشد. وإن من كان نسله كذلك يقبل (إحسان التمدن الجديد). وهكذا أقام أحمد نوعا من المفاخرة مع مستمعيه الفرنسيين، فهو قبل أن يعترف بالحاجة إلى التمدن الجديد يطلب مهم الاعتراف بأن وقومه ذوو تمدن قديم وعريق. وفي نطاق هذا التمدن الجديد طالب أحمد بإجبارية التعليم ومجانيته بالنسبة للجزائرين أيضا، وهو ما كان الفرنسيون يطبقونه على أنفسهم ويستثنون منه الأهالي. ومن ثوريات أحمد أنه اعتبر الحديث عن حالة الجزائر المؤسفة رصاصا وأن السكوت عنها ذهب. فقد كان يشعر بمرارة، فلا هو قادر على السكوت المذهب ولا على الكلام المرصص. وأشار إلى أن ¬

_ (¬1) وهذه اللغة تشبه لغة الماسونيين.

دعوته للحديث إلى أعضاء الجمعية قد شفاه من (جراحاته الغزيرة). وقد وعد بأنه عند رجوعه إلى بلاده سيحدث قومه عما رأى في فرنسا من مشاعر وحضارة (¬1). وبعد حوالي سنة نشر أحمد بن بريهمات كراسة بالفرنسية عن مرسوم 13 فبراير 1883 حول التعليم والمسلمين الأهالي. ورأى أن المسلمين قد انقسموا حول ذلك المرسوم الذي ينص على فتح مجال التعليم الفرنسي. وكانت نقطة الانقسام هي قبول أو رفض هذا التعليم، وتمسك كل طرف برأيه. ولم يصلوا إلى حل وسط ولم يقترحوا إجراءات عملية. ورأى ابن بريهمات أن المصلحة ستضع إذا بقي الوضع كذلك، وكان الكولون يؤيدون الرافضين للتعليم للأهالي ويزعمون أن هؤلاء غير قابلين للتعلم، وأن الميزانية لا تسمح بذلك، وكان بعضهم يقول إن لدى الجزائريين عددا كبيرا من المدارس القرآنية وهي تكفيهم (¬2). أما ابن بريهمات فقد عالج الموضوع بطريقته. فرجع أولا إلى مفاخرة الفرنسيين بتقدم التعليم عشية الاحتلال وكون التعليم كان مقدسا عند المسلمين. فذكر أنه كان في الجامع الكبير وحده اثنتا عشرة مادة تدرس قبل سنة 1830 وأن التعليم لم يكن متأخرا. وفي سنة 1857 طالبت التقارير الرسمية بفتح المدارس في الريف والمعاهد في المدن، وأن هذا التعليم قد أعطى نتائج قبل 1871. ولكن ديقيدون ألغى تلك المدارس والمعاهد بجرة قلم (¬3). ورفض أحمد المقولة الشائعة عندئذ وهي أن عرب الريف يرفضون التعليم. وأرجع ذلك إلى استحالة إرسال أبنائهم إلى المدارس لبعدها ¬

_ (¬1) نشرت كلمته جريدة (المنتخب) في عددها الرابع، وألقى الكلمة في 14 مايو 1882 بباريس. انظر قنان، (نصوص) ص 188. (¬2) انظر فصل التعليم المزدوج. (¬3) ذلك هو العهد الذي نشأ فيه والده وتولى فيه إدارة المدرسة الشرعية. ونفهم من هذه المقارنة بين عهد الامبراطورية وعهد الجمهورية أن أحمد كان يحبذ عهد نابليون الثالث الذي نشر التعليم المزدوج.

بحوالي عشر كلم عن منازلهم. فالمدارس كانت قريبة من المراكز الأوروبية ولكنها بعيدة عن مزارع وقرى أهل الريف الجزائريين. فكان على الطفل الذي عمره بين 7 و 12 سنة أن يقطع يوميا بين 16 و 20 كلم للذهاب إلى المدرسة والرجوع منها. ومن رأى أحمد بن بريهمات أن التقاليد الإسلامية لا تمانع في إدخال إصلاحات على نظام التعليم بالنسبة للجنسين. ولذلك نادى بإلزام العرب تعلم العربية والفرنسية في نفس الوقت. ونبه إلى الخسارة الكبيرة التي ستصيب التراث المكتوب بالعربية إذا حذفت العربية من المدارس، وأن النكبة ستلحق بكل الناس. ولذلك طالب بإرسال البنين والبنات إلى المدارس الفرنسية/ العربية الجديدة، واستنكر موقف الناصحين بمقاطعة المدارس باسم الدين. وأشاد (بروح الإنصاف) التي يتحلى بها في نظره لويس تيرمان، وذلك منه ربما مجاملة فقط. ثم اقترح إجراءات عملية رآها كفيلة بإزالة الشكوك والمخاوف عند بعض المسلمين، سيما نحو بناتهم. ورأى أن تعليم المرأة سيترتب عليه قلة النساء في بيوت الفساد، وقلة الرجال أمام المحاكم، وأن التعليم عموما سيؤدي إلى الصداقة مع الفرنسيين. وقد أيد بقوة التعليم الإجباري والمجاني للجنسين لأنه وسيلة (بعثنا ونهضتنا) (¬1). وهذا الحماس نحو النهضة والبعث منذ أوائل الثمانينات هو الذي جعل أحمد بن بريهمات من رواد الفئة الاندماجية رغم اعتداله. وقد كانت أصوله العائلية وغيرته على التراث العربي الإسلامي وإشاراته المتكررة إلى الأندلس، والمفاخرة بأمجاد الماضي تجعل منه صوتا من الأصوات المحافظة أيضا. ولكننا لا ندري إن كان قد ظل على موقفه هذا. فوصف آجرون له بأنه كان من المعارضين نفهم منه أنه كان معارضا لسياسة التجهيل الفرنسية وسياسة التخوف الأهلية. ومع ذلك فإن أحمد كان غير متحمس سنة 1903 لدعوة الشيخ محمد عبده أثناء زيارته للجزائر، بتحرير العقل لدى المسلمين ¬

_ (¬1) كتب ذلك بتاريخ 7 أكتوبر 1883. انظر قنان، (نصوص) ص 190 - 193.

وخوض معركة التعليم وتنقية الإسلام من شوائب التخلف. فقد كان أحمد، حسب بعض الكتاب، ضد دعاة الاندماج مع الفرنسيين، وكان من المتجنسين أيضا (¬1). وهو رأي غريب في ظل ما عرفناه عن صاحبه. ومن جهة أخرى ترك أحمد بن بريهمات إبنا سار على منواله في الظاهر، على الأقل في الازدواج الثقافي، وهو زروق الذي أصبح من أطباء العاصمة في أول هذا القرن. وكان يكتب مقالات في جريدة كوكب أفريقية حول صحة العائلات الجزائرية (¬2). مجذوب بن قلفاط: وتكاد سيرة أحمد بن بريهمات تنطبق على سيرة مجدوب بن قلفاط ما عدا أن هذا من نواحي قسنطينة والآخر من العاصمة. كلاهما اشتغل بالترجمة أيضا ونشر ابن قلفاط ترجمة بالعربية الدارجة من حكايات فرنسية. وقد تعرضنا إلى ذلك (¬3). وخاض ابن قلفاط أيضا في مسألة التعليم الأهلي والاندماج الحضاري. ونشر كراسة في نفس الموضوع حوالي 1883. وقد هاجم فيها المتعصبين الذين لا يؤمنون بإرسال أولادهم إلى المدارس الفرنسية خوفا عليهم من الأثر الفرنسي الديني. ودعا بصراحة إلى أن تقوم الحكومة (بافتكاك) الأبناء من أهلهم وإجبارهم على التعلم في مدرستها لأن هؤلاء الأهل لا يعرفون منافع الحضارة الفرنسية. ومن رأيه أن التعلم سيجعل العربي إنسانا مستنيرا ومتخلقا، كما أنه سيجعله (فرنسيا) صالحا، وعلى هذا التعلم أن يكون عميقا لكي يغير الأفكار جذريا، وليس مجرد تعلم للقراءة والكتابة. ولا يكون ذلك إلا بدراسة التاريخ والجغرافية. ونفهم أن ابن قلفاط كان أيضا من أنصار التعليم اللائكي (العلماني) من قوله بتعلم (الأخلاق المتحررة من الأفكار الدينية الضيقة والمتحيزة) بل إننا نفهم ¬

_ (¬1) انظر مقالة رشيد بن شنب عن زيارة الشيخ عبده للجزائر في مجلة ستوديا إسلاميكا (الدراسات الإسلامية)، مجلد 53 (1981)، ص 132. (¬2) انظر مجلة العالم الإسلامي، أبريل 1909، ص 444، وكذلك رسالة الباحث عبد المجيد بن عدة (جامعة الجزائر). (¬3) قسنطينة 1890، 175 صفحة، انظر ما سبق.

أنه كان من المتجنسين، وذلك لأنه يميز بين (معلمينا) (الفرنسيين؟) و (مؤدبيهم) (الأهالي). ومهما كان الأمر فإنه دعا إلى أن يكون المعلمون من المسلمين لكي يزول خوف الأهالي على أطفالهم من التنصير إذا كان المعلمون فرنسيين. وقد كشف ابن قلفاط على أن هناك أسبابا أخرى وراء عدم إرسال الأهالي أطفالهم إلى المدارس الفرنسية. فهو يذكر أن منها الخوف من انقاد الجيران، سيما في الأرياف، وشعور كل مسلم بضرورة حفظ القرآن الكريم. ومن رأيه أن إجبارية التعليم ستزيل التحفظ الأول، وأن إنشاء مدارس بنصف الوقت (صباحا للزاوية الأهلية ومساء للمدرسة الفرنسية) سيحل التحفظ الثاني. ورغم دعوته إلى التعليم الحر فإنه رأى عدم التعجل بإلغاء تعليم الزوايا، ورأى أن ذلك لا يكون إلا إذا أصبح في كل مدرسة فرنسية إمام ملحق بها يتولى التعليم الديني (¬1). ولعل لابن قلفاط آراء أخرى في الحضارة والحياة لم نطلع عليها. ولكن ما عرفناه منه يجعله من الفئة الاندماجية، أمثال أحمد بن بريهمات. ... قلنا إن ظاهرة ابن حمودة غير شاذة، ولكن العجب أنها لم تأت ممن تعلم فقط بالفرنسية بل جاءت من مزدوج اللغة، وكان أمثاله هم الذين يعينهم الفرنسيون قضاة ومدرسيين ليحكموا بين الناس ويعلموهم شؤون دينهم الإسلامي. وماذا نقول في الأستاذ الجزائري الذي يتغنى بالراية الفرنسية المثلثة التي يسميها (البيرق) ويقول مخاطبا، لها (بك أيها البيرق يعرف حب الوطن ...) أن هذا الكلام قاله محمد بن العربي التلمساني، وليس ابن حمودة. وقد ثنى عليه أيضا مصطفى الجزائري (؟) الذي يصف الجنود الفرنسيين (بالأبطال الأسود). إن هذين الشخصين كلاهما كتب ما كتب من ¬

_ (¬1) قنان، (نصوص)، ص 194 - 196. والكراسة في 12 صفحة بالفرنسية، وتاريخها حوالي 1883.

طنجة حيث كان مدرسا في المدرسة العربية - الفرنسية هناك. وكلاهما كان يتغنى بالجيش والراية الفرنسية سنة 1916 (¬1). إن المرء عندما يقرأ مثل هذا الكلام ويطلع على مواقف أصحابه يدرك لماذا اعترف أوغسطين يرك أن فرنسا كانت تضع في مدارسها ومساجدها جواسيس ومخبرين، وليس أيمة ومدرسين. إن الأمثلة كثيرة على ميلاد الفئة الاندماجية المستغربة والمتفرنسة. بدأت الدعوة محايدة تدعو إلى العلم دون معرفة الخلفيات، وبدت معجبة ومبهورة بالتقدم الفرنسي دون أن تعرف المسخ الذي حدث لها ولا أن تحدد موقفها من التاريخ والمستقبل، ثم ازداد الانبهار والاختلاط وكثر العدد وتجاوبت الأصداء، فجاهرت الفئة بأنها تمثل شريحة اجتماعية مستعدة للاندماج دون انتظار للحاق الآخرين. وكان عليها منذ العشرية الأولى لهذا القرن أن تفرض وجودها أمام تحدي النخبة الحقيقية المتعلمة والمؤمنة بالتقدم مع التمسك بالثوابت والأصول أيضا. وبعد تسييس الصراع وتحزيبه بين الحربين لبست الفئة الاندماجية المستغربة لباسين: أحدهما سكوني اندماجي، يضم المتجنسين منهم خاصة، وثانيهما حركي اندماجي أيضا ولكن غير متجنس. ولعل خير من يمثل الأول هو ربيع الزناتي، وخير من يمثل الثاني هو الدكتور محمد الصالح بن جلول (¬2). وإذا كان الدكتور ابن جلول معروفا لمن درس قليلا من تاريخ الحركة الوطنية خلال العشرينات والثلاثينات، فإن الزناتي غير معروف إلا لعدد قليل من الناس اليوم. ... ربيع الزناتي: عرف اسم الزناتي كمعلم وصحفي خلال عقدين من الزمن على الأقل. وعاصر أبرز أحداث الجزائر كين الحربين: حركة الأمير خالد، وميلاد النجم، وميلاد هيئة النواب، والاحتفال المئوي، وميلاد ¬

_ (¬1) مجلة العالم الإسلامي، 1916، ص 67، 352. (¬2) انظر كتابنا الحركة الوطنية، ج 3.

جمعية العلماء، وظهور الحركة الشيوعية، وانعقاد المؤتمر الإسلامي، وفتوى ابن باديس ضد التجنس. كما عاصر عن كثب تطور الفرد الجزائري في المدارس الفرنسية - الأهلية بعد انتشار حركة التعليم، سواء على يد الإدارة الفرنسية أو على يد الحركة الاصلاحية. فقد كان هناك إنسان جزائري بصدد الميلاد، وهو (الزناتي) كمعلم ومثقف، كان يدرك ذلك ويلاحظه. وقد أصدر مذكراته أثناء حياته، وهى تعبر عن تجربته الطويلة فى الميدان. كما تعلم من الصحافة الشيء الكثير، لأنها مدرسة في حد ذاتها. ولكن الزناتي كان من المؤمنين المفرطين بالاندماج والمأخوذين بالتأثير الفرنسي حتى لم يعد يرى الجزائر في غير الإطار الفرنسي. ولعل ذلك راجع إلى كونه من المتعلمين بالفرنسية الموجهة وإلى كونه أيضا من المتجنسين. ولد الزناتي في عين الحمام (فور ناسيونال) في تاريخ لا نعرفه الآن. وتلقى تعليمه الابتدائي في مسقط رأسه. ونحن نعلم من تاريخ التعليم أن منطقته كانت مستهدفة منذ السبعينات للتأثير الفرنسي الديني والدنيوي أكثر من غيرها من المناطق. ولا ندري الآن هل درس الزناتي في المدرسة الأهلية - الفرنسية أو في مدرسة الاباء البيض هناك. والغالب على الظن أد درس بعد ذلك في مدرسة ترشيح المعلمين في بوزريعة في القسم الخاص بالمعلمين الأهالي. ثم مارس التعليم منذ أوائل القرن. ولا نعلم الآن ما إذا كان الزناتى قد جند للخدمة العسكرية أيضا خلال الحرب العالمية الأولى. وبالإضافة إلى التعليم تولى أيضا إدارة مدرسة ابتدائية - أهلية. ثم تقاعد منها سنة 1938. في سنة 1929 (عشية الاحتفال المئوي) أنشأ الزناتي جريدة اسبوعية في قسنطينة، بعنوان (الصوت الأهلي)، وأضاف إليها عنوانا فرعيا يفسر مقصودها وفلسفتها وهو (جريدة الاتحاد الفرنسي - الإسلامي). والمقصود بالاتحاد هنا هو ما جرى على الألسنة باسم (الاندماج). أما كلمة الإسلامي فتعني المسلمين الجزائريين في مقابل الفرنسيين الأوروبيين. اسم الجريدة (الصوت الأهلي) اسم في حد ذاته معبر على روح الفترة. فالأهالي كانوا

مسحوقين وفي حاجة إلى من يسمع صوتهم للسلطات الفرنسية وللعالم، وإلى من يفهمهم حقوقهم الضائعة المسلوبة، ويدافع عنها ضد غاصبيها. ولكن هل الزناتي وفئته المستغربة كانوا مؤهلين للقيام بهذا الدور؟ يبدو أن الأمر ليس كذلك. فقد كان الزناتي يدافع عن حقوق فئته، ويدعو إلى الاندماج (الاتحاد) المنشود، ويهاجم خصوم فئته. تقول عنه (أفريقية الفرنسية): إن الزناتي قد شارك في الحياة السياسية في ولاية قسنطينة بل في الجزائر كلها. ودعا إلى الاندماج وأعلن أنه بطل المنتخبين (بالفتح) الذين يسايرون هذا المنهج. وقد انسحب منهم يوم أن حاول بعضهم الانحراف عن البرنامج المسطر للاندماج (¬1). كما أن الزناتي جعل افتتاحية العدد الأول من جريدته بعنوان (يجب أن تصبح الجزائر فرنسية). كان الزناتي إذن يجمع السياسة إلى الصحافة. وكان يخوض المعارك الحزبية والفكرية ضد خصومه. واستمر على ذلك بعد تقاعده. وتقول (افريقية الفرنسية) إن الأفكار العزيزة على نفسه والتي ظل يدافع عنها هي (الاتحاد الفرنسي - الإسلامي) من خلال جريدته. وأخبرتنا أنه لم يستطع أن يظل بعيدا عن السياسة، لأن معرفته العميقة بالمشاكل الجزائرية وثقافته الفرنسية (ذات اللغة العملية) وصلته بالتعليم الذي نور ذهنه وأدخله إلى أعماق النفس المحلية، قد جعلته يعالج الموضوع باستقلال، هادفا إلى تحقيق الاتحاد الفرنسي - الإسلامي الذي كرس له كل حياته. وفي سنة 1938 نشرت (أفرقية الفرنسية) سلسلة مقالات هي فصول كتاب الزناتي المسمى (المشكل الجزائري كما يراه أحد الأهالي). واعتبرت الكتاب وثيقة تاريخية وشهادة، لأنه تعرض فيه إلى التاريخ، وسياسة ¬

_ (¬1) لعل المقصود بذلك ابن جلول وفرحات عباس، لأن كل واحد منهما كون حزبا سنة 1937. انظر الحركة الوطنية. ج 3. ويضاف إلى ربيع الزناتي مجموعة أخرى من الاندماجيين وهم: بلحاج الذي كان أستاذا للشريعة في مدرسة الجزائر، وقد لعب دورا بارزا في المؤتمر الاسلامي، سنة 1936، ثم ايبازيزن بلقاسم، وسعيد الفاسي، وزنتور، والدكتور ابن التهامي، والحاج حمو عبد القادر (عبد القادر فكري).

الاحتلال، وطريقة التعاون بين الجزائريين والفرنسيين، والنخبة والعراقيل التي تقف في وجه فرنسة الجماهير الأهلية. كما تعرض الكتاب للحركة الدينية والتعليم، والقضية اليهودية، وكذلك الاصلاحات الإدارية التي تمت أو التي كان يتصورها. ومع ذلك قالت (أفريقية الفرنسية) إنه كتاب، رغم نشره فيها مسلسلا ورغم الإشادة به، ليس كتابا فوق النقد، لأن صاحبه، في نظرها (أهلي جزائري، وفرنسي من أقليم فرنسي، ومواطن فرنسي)، وهي تعني بـ (مواطن) أنه متجنس. وانتقده الكاتب بأنه من خلال تلك الصفات كان الزناتي غير ملم بكل جهود فرنسا في الاستعمار (الاستيطان) الذي لا يقدره الزناتي حق قدره (¬1). سعيد الفاسي: أصبح الفاسي من أبرز كتاب النخبة الاندماجية بين الحربين. فقد كان معلما مدة طويلة وصحفيا وعماليا نشيطا ومؤلفا. وكل ذلك جعل منه متكلما قويا باسم هذه الفئة، رغم وصفها هي بالمستضعفة أو المسكينة. كان الفاسي من شباب زواوة وقد تخرج، مثل الزناتي، من المدرسة الفرنسية المبكرة هناك. ونقول عنه هنا ما قلناه عن زميله، وهو أننا لا ندري هل هو خريج المدارس الكنسية (الآباء البيض) أو العلمانية. ومهما كان الأمر فقد سار على نفس الدرب، فدخل مدرسة ترشيح المعلمين (النورمال) في بوزريعة. ثم أصبح من المعلمين. وقد نشر مذكراته كمعلم أهلي خلال العشرينات. ويبدو أن الفاسي وزملاءه كانوا يشعرون بالحرج من جهة مجتمعهم والاستخذاء إزاء الفرنسيين، لذلك نعتوا أنفسهم (بالمستضعفين). وكان الفاسي متحمسا للاندماج الذي كان يراه الخلاص الوحيد من حالة الاستضعاف رغم أنه كان متجنسا (¬2). وكان الفاسي متضايقا من معاملة نقابة المعلمين الفرنسيين لأمثاله. ¬

_ (¬1) أفريقية الفرنسية. A.F.S (الملحق)، ابتداء من شهر إبريل 1938. انظر أيضا فرنسا البحر الأبيض وأفريقية. FRANCE MID. ET AF، رقم 1، 1938، ص 170. (¬2) فيتز جيرالد، (المعلومون الجزائريون) في وقائع الملتقى الثاني للجمعية التاريخية الاستعمارية الفرنسية، ميلواكي (ويسكنسن)، ابريل 1976، ص 158? 159.

فقرر انشاء جمعية أو نقابة للمعلمين الأهالي خلال 1921، وصادف ذلك ظهور حركة الأمير خالد وظهور بعض الصحف الأهلية مثل الإقدام والنجاح. وقيل إن الشرطة قد عاكست هذه الجمعية وحاولت إعاقتها عن العمل، وعارضتها السلطات الرسمية. وبعد سنة اقترح الفاسي على الأعضاء إنشاء صحيفة تعبر عن آرائهم وموقفهم مما يجري حولهم ومن مستقبلهم، فكان أول عدد من مجلة (صوت المستضعفين) في مايو 1922. وقد قدر لها أن تستمر ثماني عشرة سنة، وكانت قد بدأت شهرية ثم تحولت إلى نصف شهرية. ويقول هذا المصدر إن الفاسي قد أنشأها وحده، ولكن مالك بن نبي يقول إن الذي أنشأها هو طاهرات الذي كان من (أمناء الروح العلمانية)، حسب تعبيره (¬1). وخلال العشرينات كانت الأطروحة الوحيدة الرئيسية التي تعالجها المجلة هي الاندماج. فقد كانت تدعو الجزائريين (الأهالي) إلى اليقظة والتعلم وتطوير أنفسهم، وتدعو الأوربيين (الفرنسيين) إلى القيام بواجباتهم نحو الأهالي، وذلك بأن يرفعوهم إلى مستواهم. وتساءلت افتتاحية المجلة: هل ذلك حلم؟ وأجابت بأنه غير حلم، بل يجب أن يكون واقعا. وقالت المجلة إنه إذا تحقق ذلك فسيكون الجزائريون (امتدادا) لفرنسا عبر البحر الأبيض، وطالبت أن يكون الاندماج كاملا، قائلة إنه إذا بقيت بعض الجماعات متمسكة بدينها (غير متجنسة) وعاداتها فمن الممكن أن تصبح أيضا فرنسية، تعمل على تشكيل شعب فرنسي محض على هذه الأرض الجزائرية، وليس فقط إنشاء حضارة لاتينية، كما دعا إليها الكاتب لويس بيرتراند. وكان هدف (صوت المستضعفين) إذن هو التقارب والاندماج ومزج الأجناس في الجزائر من خلال التعليم والتفاهم والزواج المختلط لإنتاج جيل راق من الجنسين: الجزائري والفرنسي. ¬

_ (¬1) مالك بن نبي (الطفل)، ط. دمشق، دار الفكر، 19، ص 52.

ولو سئل الفرنسيون الأولون (كلوزيل وبوجو ...) ماذا كنتم تطمحون إليه من وراء إرسال الجزائريين إلى فرنسا وما هي رسالتكم في الجزائر بعد ذلك لما زادوا كثيرا عما عبرت عنه (صوت المستضعفين) بعد حوالي قرن. فقد بلغت الدعوة إلى الاندماج أوجها خلال الثلاثينات مع مشروع فيوليت، ثم أخذت تنهار أمام الوعي الوطني وفتوى ابن باديس ضد التجنس وانتشار التعليم. ويذهب مالك بن نبي إلى أن النخبة الاندماجية قد امتازوا عن سواهم بفضل ثراتهم أو اتصال آبائهم بالإدارة، مما سهل عليهم دخول الثانويات. وقد أخذ معظم خريجي المدارس الشرعية الثلاث ينقضون عن النخبة الاندماجية لصلة خريجي هذه المدارس بالقضاء الإسلامي من جهة، ولانتمائهم الديني الذي (يأخذ بهم في قليل أو كثير) (¬1). محمد صوالح: المعلومات التي نملكها حتى الآن عن محمد صوالح قليلة. ويبدو أنه كان من خريجي المدارس الشرعية الفرنسية (أو الليسيه) ومن المتحمسين للاندماج، ولكننا لا نعرف ما إذا كان قد تجنس. وكتاباته تدل على أنه كان أقرب إلى الاستشراق منه إلى مؤلف مسلم. وربما كان من مواليد مستغانم. وكان على اطلاع بأحوال (المجتمع الأهلي) حسب التعبير الفرنسي عندئذ، فكانت كتاباته كلها تقريبا تصب في تعريف الفرنسيين بخواص وخصائص هذا المجتمع من تقاليد ودين وعقائد وتاريخ فولكلور. وأول إشارة وجدناها عنه وهو معلم في مدرسة ترشيح المعلمين (النورمال) سنة 1907 حين كتب مقالة في المجلة الافريقية عن الصوم عند المالكية مستخرجا ذلك من رسالة ابن أبي زيد القيرواني. وكان عمله في الأساس ترجمة للجزء الخاص بالصوم من الرسالة، ثم ملاحظات وتعاليق حول شهر رمضان في الجزائر استقاها من تلاميذه. ومن رأيه أن رمضان في ¬

_ (¬1) مالك بن نبي (الطفل)، ص 153. ولنشر إلى أن للفاسي بعض المؤلفات التي تاولناها في جزء آخر. يبدو مالك بن بني لينا مع خريجي المدارس العربية - الفرنسية لأنه منهم. ولعله كان يقيس الأمر على نفسه.

الجزائر يجدد المشاعر الدينية التي يبدو أنها تنام خلال بقية الشهور بحكم اتصال المسلمين بالأوروبيين، وشيوع الشك بينهم (؟) (¬1). أما الإشارة الأخرى التي وجدناها عن صوالح والتي لا علاقة لها بالتعليم فهي عضويته في الجمعية التاريخية التي كانت تصدر المجلة الافريقية. ففي سنة 1900 استقبلته الجمعية عضوا فيها. وكان عندئذ معلما في مدرسة ترشيح المعلمين (¬2). ومن العادة ألا تقبل هذه الجمعية في صفوفها إلا المخلصين للقضية الفرنسية. ولم تكن تبحث عن الكفاءات في حد ذاتها. وفي 1915 كان صوالح في بوردو بفرنسا. والظاهر أنه كان من المجندين في الحرب، وكان برتبة رقيب، وكان يعمل في مصلحة الترجمة وربما كان ملحقا بالجنود الجزائريين لرفع الروح المعنوية فيهم والتأثير عليهم حتى لا ينضموا إلى الألمان والعثمانيين. وأثناء ذلك التقى بالجندي والشاعر الشعبي مصطفى الثابتي وسجل له قصيدة شعبية حول مشاركته في الحرب والتعبير عن مشاعر الجنود عندما انتقلوا من بيئة ريفية جزائرية إلى بيئة غريبة عنهم. وقد ترجم صوالح ذلك الشعر ونشره سنة 1919 (¬3). وبعد نضج المعارف وتبدل الأحوال السياسية بين الحربين وجدنا محمد صوالح في الليسيه الفرنسي استاذا مبرزا ودكتورا في الآداب. كما تولى التدريس في مدرسة التجارة والمعهد الفلاحي. ولا ندري لماذا لم يسمح له عندئذ بالتدريس في كلية الآداب إذا كان قد تخرج منها. ومهما كان الأمر فإنه غداة الاحتفال المئوي نشر صوالح كتابه الذي ربما اشتهر به أكثر من غيره وهو (المجتمع الأهلي في شمال افريقية)، وكان احتلال الأقطار الثلاثة للغرب العربي قد جعل صوالح يقدم عمله جامعا في تاريخ وحياة هذه الأقطار. وكان الكتاب في الواقع موجها لطلابه في الثانوية (الليسيه)، وهو ¬

_ (¬1) المجلة الافريقية 1907، ثم علقت عليه مجلة العالم الإسلامي 1907، ص 623. (¬2) المجلة الافريقية، 1900، ص 96. (¬3) المجلة الافريقية، 1919، انظر أيضا فصل الشعر.

باللغة الفرنسية (¬1). ولم نطلع لصوالح على كتابة بالعربية رغم أنه عاش في مرحلة رجعت فيها الروح للثقافة العربية بعد ظهور الحركة الاصلاحية وصدور الصحف ذات الاتجاهات المختلفة. وكتابه المذكور يذكرنا بكتاب إسماعيل حامد (مسلمو شمال افريقية)، ولكن شتان بين الرجلين والكتابين في التكوين والفهم. ويبدو لنا أن حامد كان أكثر أصالة في آرائه وأبعد رؤية من زميله، رغم أن كليهما من نفس المدرسة تقريبا. ... لقد تبين أن الترجمة لعبت دورا حيويا في دعم الاحتلال، وأن الجانب الأكبر منها كان يتمثل في نقل التراث العربي الإسلامي (بما فيه التراث الشفوي) إلى الفرنسية. أما الترجمة إلى العربية فقد كانت ضعيفة جدا حجما وأسلوبا. وكانت إعلامية أكثر منها تثقيفية، وقام بها في الغالب جزائريون كان لهم رصيد من التراث أو درسوا دراسة مزدوجة، فلم يفيدوا اللغة العربية، وإنما كانت أعمالهم موجهة إلى المعلمين في معظم الأحيان. وتبين أيضا أن الجزائريين ساهموا في عملية الاندماج الحضاري الذي كان الفرنسيون قد خططوا له، وشاركوا في البعثات الفرنسية نحو افريقية، وقدموا خدمات جليلة للمستشرقين والعسكريين. ولكن دورهم ظل مغمورا. وقد كشف بعض الباحثين المتأخرين مثل الآن كريستلو وكانيا فورستر عن هذا الدور وأنصفوهم. ونعتقد أن ميدان الترجمة ما يزال في حاجة إلى دراسة شاملة. وفي دراستنا لمشاركة الجزائريين في الجمعيات الفرنسية بالجزائر وجدنا أسماء منهم في الجمعية التاريخية مثل اسماعيل بوضربة وأحمد عطشى ومحمد صوالح. والجمعية الجغرافية مثل أحمد بن مجقان وعبد الرزاق الأشرف. وفي العشرينات (عشية الاحتفال المئوي) نشرت مجلة (روكاي) التي كانت تصدر بقسنطينة أسماء لإثنين وعشرين جزائريا باعتبارهم ¬

_ (¬1) مطبعة كاربونيل، الجزائر، 1934.

أعضاء في جمعيتها. وأقدمهم عضوية فيها ترجع إلى سنة 1921 فقط (بعد سبعين سنة من صدور المجلة) وهو مولود بن باديس الذي كان محاميا. وقد اشتملت القائمة على ذكر عدد من المهن مثل المحاماة والطب والصيدلة والتجارة والقيادة والنيابة والتملك بالأرض والترجمة، ومراقبة البريد والقضاء والطب في الحرب. ومن المترجمين نجد علي خوجة عباس، وخليل بن خليل. وليس بين الجزائريين أحد في الرئاسة الشرفية ولا المكتب ولا أعضاء الشرف، وإنما نجد واحدا فقط في لجنة المخطوطات وهو ابن الفكون (¬1). وهؤلاء جميعا كان يعتبرهم الفرنسيون من البرجوازية الأهلية أو الانتلجنسيا. وفي منتصف الخمسينات من هذا القرن نشر غوستاف ميرسييه فصلا في كتاب طبع تحت إشراف الحكومة العامة، اعترف فيه بجهود بعض العلماء المسلمين (الجزائريين) في الجمعيات الفرنسية. وذكر أسماء أحد عشر منهم، ثم قال إن هناك (غيرهم كثير)، واعترف بأن لهم ا (ثقافة فرنسية/ إسلامية وروحا للبحث جعلت منهم أمثلة ممتازة). وإذا كانت أسماء مثل محمد بن أبي شنب وسعد الدين بن أبي شنب (ابنه) وبلقاسم بن سديرة، ومحمد الحاج الصادق، وأبي بكر عبد السلام، ومحمد صوالح معروفة، فإننا لا نعرف الآن الجهود (العلمية) التي قدمها سليمان رحماني، ومحمد الأخضر، والعربي المسعودي وعبد الحميد حميد، وعبد السلام مزيان (وجميعهم مذكورون في القائمة). ومن جهة أخرى نوه ميرسييه بأعمال بعض الرسامين والفنانين، ومنهم محمد راسم صاحب المنمنات (¬2). وهذا اعتراف متأخر جدا من الفرنسيين بجهود الجزائريين في البحث والفن. فقد جاء عندما كانت الثورة على أشدها. لقد توقع لورى بوليو سنة 1886 أن يشهد فاتح القرن العشرين بين ¬

_ (¬1) انظر مجلة (روكاي)، قسنطينة، 1930. ولعله هو ابن أو حفيد أحمد الفكون الذي تحدثنا عنه في هذا الفصل والذي قلنا إنه كان متجنسا. انظر أيضا عنه المكتبات. (¬2) غوستاف ميرسييه (اكتشاف الجزائر العلمي) في كتاب (مدخل إلى الجزائر) نشر الحكومة العامة، 1957، ص 331.

العشرين والثلاثين ألفا من الجزائريين الذين تلقوا تعليما فرنسيا متطورا (¬1). ولكن ذلك كان رأيا متفائلا منه. ففي سنة 1914 كان العدد دون ذلك بكثير. وإليك الإحصاء الذي جاء في بعض المؤلفات الفرنسية في السنة المذكورة: - المعلمون: 240 (يضاف إليهم 16 معلما في المدارس الشرعية الثلاث). - الاحتياطيون الطبيون: 65. - المحامون والأطباء: 25 (وهو عدد ضعيف جدا إذا عرفنا أن الدراسات العليا بدأت منذ 1880). - المفتون والأئمة والمدرسون: 170 (وهم رجال السلك الديني الرسمي). - القضاة والموثقون: 150 (بعد أن استولى القضاة الفرنسيون على اختصاصات القضاة المسلمين). - وظائف قضائية أخرى: 100 (وهم الباش عدول، والعدول، والوكلاء، والخوجات) (¬2). وفي إحصاء آخر متأخر قليلا نجد بعض المئات - حسب تعبير علي مراد - من الصحفيين والمحامين والأطباء والمعلمين وحملة دبلوم المدارس الشرعية الرسمية. وأما الطلبة والمشتغلون بالتعليم فكان عددهم بين 1920 - 1921 كما يلي (¬3): - الطلبة: 47. - المترشحون للتعليم (النورماليون): 51. - المعلمون: 451. ¬

_ (¬1) بوليو (الجزائر)، ص 290. ومن أجل ذلك نادى بمنح هذه الفئة الحقوق الفرنسية ما داموا قد (خدموا وطننا وتلقوا تعليمنا ويتكلمون لغتنا) حسب تعبيره (¬2) كولونا (المعلمون)، مرجع سابق، ص 92، هامش 2، نقلا عن آجرون. (¬3) علي مراد (الإصلاح الإسلامي)، ص 48 عن سجل الإحصاءات العامة الرسمية.

ومن الواضح أن مصطلح النخبة الاندماجية لا يشمل كل من درس في المدارس الفرنسية فما بالك من درس في المدرسة الشرعية الرسمية (المزدوجة). وقد أشار مالك بن نبي وعلي مراد وغيرهما إلى بعض الأمثلة التي كان فيها المتخرجون تقليديين، ومضادين للاندماج، ومنهم من بحث عن البديل الفكري في الجامعة الإسلامية والتيار القومي العربي، ومن ثمة الحركة الإصلاحية والتوجه السياسي الوطني. ويذكر علي مراد أن عددا كبيرا من المعلمين بقوا محافظين على ملابسهم التقليدية إلى آخر 1939 تحديا للمظاهر الفرنسية المفروضة. ولعل هذا الوصف يصدق أكثر على خريجي المدارس الشرعية الرسمية. ونحن نجد أمثلة على ذلك في مذكرات ابن نبي وهو أحد الخريجين من هذه المدارس (¬1). ... ومنذ الحرب الثانية انجحرت حركة الاستغراب وانكشف أمرها، وكان عليها أن تغير جلدها أو تموت، والعوامل التي أدت إلى انجحارها هي انقسامها على نفسها وخروج فرحات عباس وأنصاره الذين تحولوا من الاندماج الكلي إلى نوع من الاندماج السياسي، سيما منذ 1943. وكان ظهور (حزب الشعب) قد كشف عن المنحرفين وضم إلى صفوفه عددا من المتعلمين بالفرنسية مما أصبح يعني أن الفرنسة لا تعني الاندماج دائما، بل تخدم أيضا الفكر الوطني السياسي عند البعض. ولكن الذي قصم ظهر حركة الاستغراب هو الحركة الاصلاحية التي كشفت عن هوية المجتمع الجزائري ودافعت عنها وصقلتها، وقدمتها في الصحافة والخطب والأناشيد والكتب فاهتدى بها من اهتدى وبقي الضالون قلة متوارية لا تجروء على المواجهة إلا في حالة غفلة شعبية، كما حدث بعد الاستقلال. ولكن هل يعني هذا أن حركة الاندماج قد انتهت؟ إن الثورة قد أدت ¬

_ (¬1) علي مراد (الإصلاح الإسلامي)، ص 49. ومالك بن نبي (المذكرات: الطفل) مرجع سابق، ص 52، 129.

إلى صهر الشعب الجزائري وإخراجه في بوتقة جديدة. هذه حقيقة لا ينكرها إلا المكابرون. ولكن بعض العناصر منه ظلت مرتبطة بولاءات عديدة كالأصول العائلية العميلة، والزواج المختلط، والثقافة الفرنسية غير الواعية، والمصالح العاجلة. وهذه العناصر لها امتداداتها وأدواتها ونفوذها. ولذلك فهي تؤثر وتفرض نفسها وحلولها رغم تغير مفهوم الاندماج اليوم. ويرى البعض أن حزب الشعب نفسه قد دخله اندماجيون كثيرون، وهم الذين انحرفوا بالثورة عن مسارها سيما منذ مؤتمر الصومام، 1956 حين رفعوا شعار العلمانية وعدم التناقض بين الوطنية والفرنكفونية والاقتراب من الشيوعية. ونحو ذلك من الشعارات البعيدة عن الأصالة والهوية العربية الإسلامية للشعب الجزائري.

الفصل الثالث مذاهب وتيارات

الفصل الثالث مذاهب وتيارات

بينما كان الجيش الفرنسي يقوم بدوره في حرب الجزائريين وتشريدهم، وبينما كان المستوطنون (الكولون) يغتصبون أرضهم وديارهم، كان المفكرون الفرنسيون يحاربون الجزائريين أيضا، ولكن بسلاح الأفكار المدمر، وقد تعرض هؤلاء المفكرون بالضرب والطعن في كل المقومات الذاتية للجزائري: شخصه وتاريخه ولغته ودينه وأخلاقه، الخ. وأمام ضعف الدفاع الفكري الجزائري طيلة قرن تقريبا (¬1)، كانت ضربات المفكرين الفرنسيين صائبة إلى حد كبير، وكادت تنفذ إلى العظم والمخ. وفي هذا الفصل سنذكر بعض الأفكار أو المدارس الفكرية الفرنسية التي سددت سهامها إلى الجزائريين لتدمر هويتهم وتطعن في تاريخهم وإسلامهم، وأصولهم العربية والبربرية، ثم لتبني من ذلك مجدا، خياليا للفكر الفرنسي (والمهمة الحضارة الفرنسية)؛ وليس غرض هذا الفصل الاستيعاب والإحاطة لأن كل فكرة أو قضية سنتعرض إليها تستحق في الواقع فصلا بذاتها أو كتابا، كاملا، وإنما غرضنا التنبيه - تنبيه الشباب المثقف خاصة - إلى ما كان يخطط أعداء بلاده بالأمس لكي يسحقوا ذاتية وطنه ويمحوا ذاكرة شعبه، ولكي يقدر الشباب الدور العظيم الذي قام به أجداده لمقاومة هذا الغزو الماحق ويعرف أنهم كانوا أهلا للعزة والحياة. ومن ضمن الأفكار التي سنعرض إليها ما شاع في المجتمع الجزائري المختلط (مع الفرنسيين) عن الرومانتيكية، والسانسيمونية، والصهيونية، ¬

_ (¬1) لم يبدأ الجزائريون في الدفاع عن أنفسهم فكريا إلا في آخر القرن الماضي ثم نضج دفاعهم واشتد في عهد الحركة الإصلاحية. وكانت محاولات حمدان خوجة قد قبرت في مهدها مع بداية الاحتلال.

(نعمة) الاحتلال؟

والماسونية، وغيرها. وقد كان لها جميعا صداها القوي أو الضعيف بين بعض السياسيين الجزائريين والكتاب، ولا سيما النخبة الاندماجية. وهدفنا من ذلك هو بيان أن المجتمع الجزائري لم يكن بمعزل عن الحياة المعاصرة، رغم القيود التي كان يرسف فيها، مثل قوانين الاندجينا. لقد تعرضت شعوب كثيرة إلى الغزو الفكري والاضطهاد بشتى الوسائل في القديم والحديث. وكان منها شعوب تتمتع بحصانة ذاتية فقاومت حتى انتصرت، ومنها شعوب كانت فاقدة للحصانة الذاتية فذابت في غيرها واندثرت. والشعب الجزائري تعرض، في غفلة من الزمن وأمام تخاذل حكامه الذين تركوه نهب الأقدار في براثن العدو (¬1)، إلى محاولة جادة وحثيثة للإذابة والإزالة، ولكنه قاوم حتى انتصر. ولذلك فإن الأفكار المدمرة التي سلطت عليه منذ اللحظات الأولى للاحتلال لم تنل منه في النهاية. (نعمة) الاحتلال؟ معظم الفرنسيين، ومعهم بعض الأوروبيين، اعتقدوا أن احتلال الجزائر كان نعمة وبركة على أهلها، بينما اختلفت وجهة نظر الجزائريين أنفسهم حول الموضوع: فهل كان الاحتلال نعمة أو نقمة؟ سوف لا نستوعب الجواب على هذا الموضوع، ولكننا نذكر بعض الآراء من هنا ومن هناك ثم نتركها مفتوحة للنقاش. جاء الفرنسيون إلى الجزائر بمجموعة من النقد التي كانت متراكمة عندهم منذ العصور الوسطى حول العرب والمسلمين والشرق والشرقيين، وحول الأمم المتحضرة والأمم المتبدية. وكانت عقائد الحروب الصليبية ما تزال حية في أذهانهم وفي كتبهم وفي معاملاتهم مع أهل جنوب البحر الأبيض المتوسط. وكان وجود المسلمين في جنوب فرنسا منذ الفتح ¬

_ (¬1) استسلم حسين باشا وحكومته وتخلت الدولة العثمانية عن حماية الشعب الجزائري الداخل تحت خلافتها وعهدتها.

الإسلامي للأندلس، قد ترك آثاره في الأقاصيص التي تروى عن شارل مارتل وعبد الرحمن الغافقي، وفي حكايات شارلمان وهارون الرشيد. كما أن الوجود العثماني في أوروبا الشرقية وفي الجزائر جعل ذكرياته غير مسرة للفرنسيين رغم أن ملوكهم (مثل فرانسوا الأول) كانوا متحالفين أحيانا مع سلاطين آل عثمان. وكان التقدم التقني والتجاري للفرنسيين قد أدى إلى التقدم في ميادين أخرى كالآداب والفنون والفلسفة، والتوسع البحري مما أدى إلى نمو الحس القومي. وكانت الثورة الفرنسية قد حررت الفرنسيين من عقد أوروبية عديدة، ولكنهم ظلوا يحملون عقدا متراكمة نحو الشرق والعرب والمسلمين. وما حملة نابليون الفاشلة على مصر وتخطيطه لاحتلال الجزائر ومعركة نافرينو إلا علامات فقط على هذه العقد وعودة فرنسا إلى ممارسة الحروب الصليبية بطريقة جديدة. وكان احتلال الجزائر، بعد فشل حملة مصر وهزيمة واترلو وتحجيم الخريطة الفرنسية في مؤتمر فيينا، قد أطلق الكبت الفرنسي من عقاله. وهكذا كانت تصرفات الجيش والمدنيين الفرنسيين تصرفات تدل على شذوذ غريب في العلاقات الإنسانية. فالمسألة هنا ليست مجرد احتلال أرض واستعباد شعب، ولكنها مسألة انتقام من الماضي كله: من فشل الحروب الصليبية، وهزيمة واترلو، وهزيمة الحملة على مصر، والهزائم الفرنسية القديمة أمام الجزائر، ثم الانتقام من احتلال العرب والمسلمين لأجزاء من فرنسا في القرون الوسطى. لقد كان الفرنسيون سنة 1830 لا يحملون أحقادهم فقط ضد الجزائريين، كعرب ومسلمين، ولكن أحقاد رجال الكنيسة والملوك والقادة والرعاع الذين تحطمت أحلامهم في السيطرة على الشرق وعلى العالم الإسلامي أثناء قوته. ومن جهة أخرى اعتقد الفرنسيون أنهم في الجزائر أصبحوا خلفاء الرومان وأحفاد القياصرة. ورغم عدم تدين الفرنسيين الظاهري فإنهم كانوا يعتبرون أنفسهم ورثة القساوسة والرهبان الذين كانوا على رأس الكنيسة (الكاثوليكية) في بلاد البربر. وقد رأينا أن تصرفاتهم وتصريحاتهم الأولى

كانت كلها تصب في هذا التيار، أي استعادة مجد الكنيسة ومجد رومة. فكل قائد فرنسي في البداية كان يعتبر نفسه شيبيو الإفريقي، وكل قسيس كان يعتبر نفسه القديس أوغسطين أو سيبريان. وقد عاملوا الجزائريين كما عامل الرومان البربر في القديم، ولكن أحقاد الفرنسيين المتراكمة ضد العرب والمسلمين تجمعت هذه المرة ضد الجزائري باعتباره من البربر المتعربين والمسلمين، أي أنه أضاف إلى العنصر البشري (المتخلف) كما كان في العهد الروماني عنصرا جديدا للسخط عليه، وهو اعتناقه للإسلام وتبنيه لغة القرآن. إن كل تاريخ الاحتلال الفرنسي في الجزائر هو في الواقع تاريخ لمحاولات القضاء على هذه (الهوية الجديدة) التي أصبحت تميز الإنسان الجزائري العربي المسلم (البربري سابقا). فكل قوانين التجنيس، وإجراءات الدمج في الكيان الفرنسي، والانتقاص من الحضارة العربية الإسلامية إنما كانت تذهب هذا المذهب وتعمل على تجريد الجزائري من هويته الجديدة. وزاد من انطلاق الكبت الفرنسي سهولة نجاح حملتهم ضد الجزائر وسقوط حكومتها بدون حرب تقريبا، ورضى حاكمها بالسلامة الشخصية، واغترار بعض أعيانها بوعود القائد الفرنسي. فرغم الضعف الذي كانت تعانيه حكومة الجزائر عندئذ - اقتصاديا وعسكريا- فإنها كانت تبدو مستعدة لمواجهة الحملة الفرنسية وإفشالها بالأسلوب الذي تعاملت به مع الحملات الأوروبية والأمريكية، وآخرها كانت حملة 1816. ولكن اتضح بعد نزول الحملة الفرنسية في سيدي فرج غربا، بدل نزولها في البرج البحري شرقا، أن الاستعدادت كانت غير كافية وأن الخطة الدفاعية كانت فاشلة، وأن العاصمة أصبحت في حاجة إلى معجزة لإنقاذها. فالعدو الذي اجتاز البحر بسفن جرارة ونزل أرض عدوه بدون مقاومة، تصبح إعادته إلى البحر مسألة مستحيلة تقريبا. ثم إن نزول العدو بالطريقة المذكورة كشف عن ضعف جديد أيضا في المقاومة الجزائرية، وهو زعزعة الثقة بين الحاكم والمحكوم. إن المسألة لم تعد مسألة جهاد يدوم أياما ويتناوب عليه الجيش والفلاحون والمتطوعة لدفع العدو خارج تراب الوطن، ولكنها أصبحت مسألة الشعور

بالولاء الوطني نفسه والثقة في الحاكم، بل مسألة وجود شعب ودولة بالمعنى العصري للكلمة. لقد كان للجزائر حكام وشعب ونظم قائمة وإدارة مركزية وأخرى إقليمية، ولكنها كانت تفتقر إلى التماسك الصلب والإحساس بالتلاحم بين السلطة والمواطن دفاعا عن الوطن الواحد. وهذه هي نقطة الضعف التي أدت إلى تلاشي المقاومة الأولى والتي وجد فيها العدو ثغرة للدخول منها إلى العاصمة واحتلالها. أما المقاومة التى تولدت بعد ذلك فلا تهمنا الآن. والأحكام الأولى التي صدرت عن الفرنسيين (المنتصرين) تبرهن على روح الانتقام التي أشرنا إليها وعلى الشعور بالتفوق والتعالي. فكتب كتابهم عن هذا التفوق وتجسم ذلك في قوانيهم وأحكامهم على أنهم أعلى درجة في التطور الاجتماعي والحضاري من الجزائريين (الأهالي) - الأندجين -، وأنهم هم فقط المتحضرون، أما الجزائريون فأجلاف. وإن أخلاقهم مهذبة وأخلاق الجزائريين غليظة، وأن حكامهم ديموقراطيون وحكام الأهالي طغاة ومستبدون، وإن لهم ذوقا رفيعا وللأهالي ذوقا منحطا، فلم يعجبهم لا دين الأهالي ولا لغتهم ولا موسيقاهم ولا معاملاتهم ولا منازلهم ولا نساءهم ولا أشكالهم. ومع ذلك اعتقدوا أن دراسة مجتمع الجزائريين وحضارتهم ستفيدهم في دراسة المجتمعات البدائية، كما اعتقدوا أن تلك الدراسة ستقدم إليهم صورة حية عن ماضيهم وأن دراسة المجتمعات المتدهورة يمكن أن تقدم درسا في التنمية المستقبلية وتكون إنذارا صارخا للفرنسيين يتعظون به (¬1). وبالإضافة إلى التعالي والغطرسة وروح الانتقام، قام الاحتلال الفرنسي على عدة ركائز يحفظها الذين اطلعوا على أول صفحة من تاريخه في الجزائر. فالجيش قد وصل في عهد بوجو إلى ثمانين ألف جندي نظامي، ثم أضيفت إليه فرق مساعدة مؤلفة من المتطوعة الجزائريين [مرتزقة في أول ¬

_ (¬1) آن تومسون (بلاد البربر وعصر التنوير)، ليدن، بريل Brill، 1987، ص 94.

أمرهم] واللفيف الأجنبي الذي تأسس أيضا في عهد الاحتلال المبكر، (حوالي 1834) وكان مقره الرسمي في الجزائر طيلة قرن وزيادة، ثم الرماة والقناصة والخيالة، وغير هؤلاء. وكان الجيش الفرنسي متسلحا بأسلحة متطورة ومتفوقة: أين منها بنادق الجزائريين وسهامهم وسيوفهم! كما كان الجيش الفرنسي حديث عهد بالحروب في القارة الأوروبية وله دربة على فنون الحرب العادية والاستثنائية. ورغم أن هناك إدارة جزائرية ذات تقاليد قديمة وسجلات بالوثائق والمراسلات والسلالم الرسمية، فإن الفرنسيين لم يثقوا فيها وفككوها ونفوا بعض من كان فيها وعزلوا الآخرين. ثم ارتجلوا إدارة من عندهم قامت على ولاء بعض الجزائريين المدنيين الذين لا خبرة لهم (لأنهم كانوا خارج السلطة) ورئاسة إطارات فرنسية لا تعرف شيئا عن قوانين وتقاليد البلاد. وبدأ التخبط والتناقض في التسيير. وأنشئ على إثر ذلك الجهاز العسكري المعروف (بالمكتب العربي) الذي أخذ بالتدرج يدير المدن والمناطق المحتلة كبلديات عسكرية مزدوجة (فرنسية - جزائرية). ثم أنشئ لهذه المكاتب العربية المتفرقة مكتب مركزي في العاصمة تابعا لجهاز الحاكم العام. وفي الأربعينات تبني (بوجو) النظام الإداري الذي وضعه الأمير عبد القادر لدولته، سواء في توزيع المسؤوليات من الشيخ إلى الخليفة (أي من العرش إلى الإقليم) أو في إجراء الأحكام القضائية (¬1). فكل منطقة تغلب عليها الفرنسيون كانوا يعينون عليها حاكما جزائريا (أهليا) يحكم باسمهم ثم يحكمون هم من ورائه، ويدعمونه بالبرنس والتنصيب الرسمي والمال وبعض العسكر الخ. وكان بعض هؤلاء الحكام الجزائريين قد قبلوا الوظائف الفرنسية طمعا في الجاه، وبعضهم لم يقبلوها إلا بعد فشل المقاومة أو تحت الضغط، وقد حكم بهم الفرنسيون فترة - ما داموا في حاجة إليهم - ثم لفظوهم بالتدرج ابتداء من الستينات (عهد المملكة العربية)، فلم تأت ¬

_ (¬1) مجلة الشرق، 1845.

تأت السبعينات حتى كاد الفرنسيون يستغنون عنهم تماما بتوظيف جيل آخر من غير الأكفاء الذين لا مؤهل لهم سوى الولاء لفرنسا وتقبيل اليد المتفضلة عليهم بالنعمة - إذا كانت نعمة! ومن الوسائل التي حكم بها الفرنسيون وجود عدد كبير من المستوطنين (الكولون) الذين تقاطروا على الجزائر عبر العقود المختلفة، آخرها كان عقد السبعينات، بعد حرب 1870. فقد أعلن الجيش الفرنسي منذ أول وهلة عن قناعته بالاستعمار، ثم ساندته حكومة باريس ومختلف الوزارات المتعاقبة سواء في عهد مملكة يوليو، أو الجمهورية الثانية أو الامبراطورية الثانية أو الجمهورية الثالثة. وكلهم أعلنوا عن إغراءات مفرطة لتحويل أنظار المهاجرين الفرنسيين والأوروبيين من الاتجاه إلى أمريكا إلى الاتجاه نحو الجزائر، بلاد الشمس والبحر، كما يسميها ألبير كامو، وهي البلاد القريبة من أوروبا بحيث لا يحتاج المهاجر إلى قطع البحار، والتعرض للأخطار، وهي بلاد الفرص الذهبية حيث الأرض الخصبة بالمجان والمساعدات المالية وحماية الجيش لهم من (اعتداءات العرب). لقد أصبح المستوطنون الذين جاؤوا من كل فج والذين كان نصفهم تقريبا فرنسيا أصلا ونصفهم أوروبيا متفرنسا - هم العمود الفقري في إدارة الاحتلال وفي اقتصاد الجزائر وتجارتها وتعميرها لصالحهم. كما أصبحوا هم أداة الحضارة أو إنجاز ما سمي بالمهمة الحضارية الفرنسية. وكان لهم نواب ابتداء من عهد الجمهورية الثانية، في الجزائر وفي فرنسا، ولهم صحافة ومسارح وكنائس، ولهم نمط عيشهم الخامس، فقد نقلوا معهم النموذج الفرنسي - الأوروبي إلى الجزائر، وأصبحت كل مدينة تعيش بوجهين وجه عربي مسلم يعبر في نظر الفرنسيين عن القدم والخمول والتخلف، ووجه فرنسي - أوروبي يعبر عن الجدة والنشاط والحياة، أو حي ميت وحي حي (¬1). فالتفوق الفرنسي يظهر في العمران وتخطيط المدينة قبل أن يظهر في اللغة والجيش والنظام الاقتصادي ¬

_ (¬1) انظر ما كتبه جيمس مالركي عن قسنطينة في مجلة (روكاي) في كتاب (معرفة المغرب العربي)، إشراف كلود فاتان 1984.

أو في الدم الآري، كما يحلو لبعضهم أن يقول. وهناك وسائل أخرى عديدة للهيمنة الاستعمارية في الجزائر. فالاحتلال استتب بالتدرج وأخذ يبحث عن وسائل الدوام. ومنها إبعاد العرب والمسلمين عن ديارهم وأراضيهم والرمي بهم في مجاهل الصحراء، أو في شواهق الجبال الجرداء، ثم أخذ الفرنسيون يتحدون الجزائريين بأنهم غير محتلين وإنما هم في بلادهم، بلاد أجدادهم الرومان القدماء، وكانوا يواجهون الجزائريين بهذه المقولة المتكررة: إننا نحن أصحاب السيادة، والسيادة يجب أن تكون كاملة، في اللغة والسياسة والاقتصاد والمنازل والمطاعم والحكم الخ. وعندما رفض الجزائريون هذا المنطق أصدر الفرنسيون لهم قوانين (الأندجينا)، أو قانون الأهالي الخاص بأنواع العقوبات الصارمة على مجموعة من الجنايات (الجرائم؟)، بما في ذلك العقوبة الجماعية. وواضح أن التسمية نفسها آتية من (الأندجينا) التي تترجم إلى أهلي، وهي ترجمة متسامحة، لأن غرض الفرنسيين من تسمية الجزائريين (بالأندجين) هو الحط الشنيع من قيمتهم، فهم دون الرعية (¬1) ودون المواطنين. فمعنى الأندجين هو (الساكن الأصلي المتخلف) ومعنى (الأندجينا) حينئذ هو مجموعة القوانين والإجراءات التعسفية الاستثنائية الموجهة ضد السكان الأصليين المتخلفين (¬2). وكان هذا (الكود) يضم 41 مخالفة أو جناية لا تطبق إلا على الجزائريين. وكانت هذه الإجراءات مطبقة عشوائيا عليهم منذ الاحتلال، ولكن ابتداء من 1881 صدرت في شكل إجراءات استثنائية. ثم كانت المدرسة من أهم وسائل الهيمنة الاستعمارية. وقد تحدثنا عن ¬

_ (¬1) كلمة (الرعية) في الحضارة الإسلامية لها معنى شريف، فهي تستعمل فقط في مقابلة الراعي أو المسؤول، فالرعية تعني المواطن. (¬2) أول القوانين الخاصة بذلك صدرت في 28 جوان 1881 ثم استمر المشرع الفرنسي يضيف إليها حتى وصلت إلى 41 جناية، كما ذكرنا، وقد استمر العمل بها إلى ما بعد 1930 في أشكال أخرى.

ذلك في فصل التعليم، وعرفنا أن الفرنسيين اتخذوا منها أداة لدمج الجزائريين في البوتقة الفرنسية. وكانوا قد بدأوا ذلك منذ الشهور الأولى للاحتلال، ولكن الجزائريين كانوا لهم بالمرصاد، فقاطعوا في البداية المدرسة الفرنسية، وتمسكوا بمدرستهم. فرد عليهم الفرنسيون بقطع جميع الموارد على المدرسة العربية - الإسلامية ومصادرة أوقافها وتشريد معلميها وهدم مؤسساتها. ولم يكن غرض الفرنسيين هو (نشر التعليم) كما قد يتخيل البسطاء، وإنما إنشاء مراكز تدريبية على الأفكار الفرنسية والعادات والمدخل إلى اللغة الفرنسية، أي إحداث زعزعة في الذهنية الجزائرية، وفصل الأطفال عن ذويهم عقليا، وتكوين جيل لخدمة المصالح الفرنسية، عن طريق التثاقف. ثم لعبت المدرسة الفرنسية دورا، غير نزيه لا يليق بالعلم والحضارة، وهو إعطاء بعض الجزائريين كميات من العلم وحرمان الآخرين منه، وكان ذلك من باب التفريق بين المواطنين وإشعار البعض منهم بأنهم أكثر تفوقا على جيرانهم وأنهم أصبحوا يشبهون الفرنسيين نشاطا وأصولا، ومعيشة. ولكن عندما وصل هؤلاء المتعلمون الجزائريون إلى درجة المطالبة بحقوقهم أجابهم الفرنسيون بأنهم (أندجين) كالآخرين. وقد نجحت المدرسة الفرنسية، مع ذلك، في تكوين أقلية اندماجية (نخبة) أصبحت بالتدرج مفصولة عن المجتمع، ودون أن تصعد إلى مصاف الفرنسيين في المعاملة. ويتصل بهذه الوسيلة الخطيرة وسيلة أخرى لا تقل خطورة في التحكم في مصير الجزائريين والسيطرة الاستعمارية على مقاليدهم، ونعني بها الهيمنة على الشؤون الإسلامية. ذلك أن الفرنسيين قد وضعوا أيديهم على كل المعالم والمؤسسات الإسلامية من مساجد وزوايا ومكتبات وأوقاف وحج، بل حتى رؤية هلال رمضان والإعلان عن عيد الأضحى. ثم أنشأوا إدارة سموها (إدارة الشؤون الأهلية)، أصبحت هي التي تختار الأيمة والمدرسين وقراء القرآن على الموتى، وهي التي توظف وترتب الرتب وتكافئ وتعزل رجال الدين. وهي التي ترفع وتخفض رجال الطرق الصوفية بالسماح لهم (بالزيارات) أو منعها عنهم. وهي التي تفتح أو تغلق الزوايا. كما أن هذه

الإدارة ومن يمثلها في المقاطعات البعيدة كانت هي التي تمنح رخصة التعليم (الحر) أو ترفضها، أي رخصة فتح المدارس القرآنية. وكانت أيضا هي التي تشرف على شؤون الحج. فمن شاءت حججته ومن شاءت حرمته. كما كان التحكم في القضاء من أبرز وسائل الهيمنة الاستعمارية. والحقيقة أن التدخل في القضاء الإسلامي بدأ منذ الاحتلال، ثم جرت عدة تدخلات أخرى سنوات الأربعينات والستينات أدت إلى تقليص دور القضاة المسلمين وإعطاء صلاحياتهم للقضاة الفرنسيين، أو إذا شئت إحلال الأحكام والقوانين الفرنسية محل الشريعة الإسلامية في بلاد إسلامية تعهدت فرنسا على لسان ممثلها سنة 1830 باحترام دين أهل البلاد وتقاليدهم. ولم تحل سنة 1886 حتى رمى الفرنسيون بكل مواثيقهم وعهودهم في الهواء وأعلنوا تجريد القضاة المسلمين من كل صلاحياتهم تقريبا، فأنشأوا نظام المحلفين (الجوري)، وهو نظام لا تعرفه الشريعة الإسلامية، وجعلوا المحلفين من الفرنسيين فقط، في كل القضايا الجنائية. ولم يبق للقضاة المسلمين إلا تسجيل شؤون الزواج والطلاق والتركات. وفي 1890 ألغيت المحاكم الإسلامية ولم يبق منها سوى 61 من مجموع 184 محكمة. كل ذلك تطبيقا لمبدإ السيادة الفرنسية، فقد قال الحاكم العام (ديقيدون) ذات مرة بأن على القاضي المسلم أن يتوارى أمام القاضي الفرنسي لأن هذا هو الذي يمثل الاحتلال والسيادة. وفي سنة 1882 سن الفرنسيون سنة غير حميدة للجزائريين عندما فرضوا عليهم تغيير الحالة المدنية التي كانوا عليها وتطبيق نظام الحالة المدنية الفرنسي عليهم فرضا. فكل (أندجين) كان عليه أن يحمل بطاقة تعريف وأن يختار لقبا عائليا، وأن يصرح جبرا بالزواج والطلاق. وكان الهدف، كما صرح بذلك المشرعون لهذا النظام الجديد أنفسهم، هو فصل الجزائريين عن إطار قوميتهم وانتمائهم الحضاري الذي عاشوا داخله منذ قرون. فالعرش (القبيلة) انقسم إلى عائلات، وكل عائلة أصبح لها لقب خاص بها بقطع النظر عن كونها تشترك أو لا تشترك مع مجموع عائلات العرش في الانتماء للجد

الواحد (أولاد فلان، بنو فلان). وكانت هذه الخطوة، التي جاءت بعد مرسوم 1863 الخاص بنزع الملكية العرشية وتمليكها للأفراد من العرش نفسه، من أخطر الخطوات التي اتخذت لمحق الهوية الجزائرية ودمج أهلها في البوتقة الفرنسية. وقد أعلن كاميل صاباتييه أمام لجنة 18 (1891) أن الهدف من إنشاء الحالة المدنية هو تحضير الأهالي للاندماج. أما الضرائب والقوانين المالية فقد استعملها الاحتلال كوسيلة غير رحيمة للسيطرة والقبضة الحديدية. إن احتلال أية قرية أو مدينة كان يعقبه فرض ضرائب حربية وضرائب استسلام. لقد فهم الفرنسيون أن الطاعة أو الخضوع يستلزم دفع الضرائب أو الجزية بكميات لا تتناسب مع القدرة على الدفع. وإذا عجز البعض عن الدفع أجبر الفرنسيون باقي المواطنين على الدفع الجماعي. اسأل عن البليدة والقليعة والمدية وتلمسان ومليانة وقسنطينة، اسأل أي عرش أو قبيلة، اسأل ثوار الأوراس والظهرة وجرجرة والصحراء، عن معاناتهم وبكائهم أمام جباة الإدارة الجديدة وهم ينتقمون منهم دون مراعاة لأي حال أو مآل. وكان العاجز عن الدفع يحمل إلى السجن وبذلك يحرم أولاده وأهله من خدمته. فتتشرد الأسر وتترمل النساء ويتيتم الأطفال. وهناك أيضا ضريبة شاذة تسمى (الضريبة العربية)، لا يدفعها إلا العربي (الجزائري) بالإضافة إلى زكاة العشر. وفي 1873 زيد على ذلك ما سمي بالسانتيم الإضافي لخدمة الممتلكات الأهلية، وبعد ذلك بسنة زيذ 1% من الضرائب، وبعدها بسنة ضوعفت مدفوعات الأهالي الضرائبية. وبالإضافة إلى دفعهم الضرائب المباشرة كالفرنسيين، كانوا (الأهالي) يدفعون ضرائب أخرى غير مباشرة بلغت 46% من مجموع الضرائب كلها. ومع ذلك فهناك قوانين تمنع الأعراش من الرعي في الغابات، وتحمل الجزائريين مسؤولية حرائق الغابات وتعاقبهم بالعقوبة الجماعية عليها. ومن ذلك قانون 1881 (¬1). ¬

_ (¬1) كولونا، (المعلمون)، مرجع سابق، ص 24 - 25.

رأي باصيه، ود. وارنييه، وطوكفيل ...

هذه إذن عينات من وسائل الهيمنة الاستعمارية الفرنسية على الجزائر. ونحن لم نتحدث عن أخذ الرهائن والنفي إلى جزر المحيطات، ولا على سياسة (فرق تسد) أو استعمال الصفوف (الأحزاب) بعضها ضد بعض، ولا تسليط وسائل الإعلام الكثيرة لتحقير الجزائري وإهانته، ولا التمييز العنصري في الاعتبار العام وفي المدرسة والمستشفى والمطعم والوظيفة. حقا إن هناك أفرادا، فرنسيين كانوا قد ارتبطوا بالجزائريين ارتباطا إنسانيا، من الإنسان العادي إلى الأديب والأستاذ والفنان والطالب إلخ. ولكن هذه مجرد حالات لا تمثل قاعدة التعامل الحقيقي واليومي، أو الرسمي والشعبي. ومع ذلك يقف جزائريون جهلة بكل المعطيات التاريخية وكل المعاناة التي خضع لها آباؤهم وأجدادهم ليقولوا إنهم كانوا في ضنك فأصبحوا تحت الفرنسيين في بحبوحة من العيش، اتباعا للدعاية الاستعمارية نفسها التي انطلت عليهم بعد أن ران على قلوبهم غشاء كثيف. فقد وجدنا منهم، بعد جيلين من الاستعمار، من يشكر فرنسا على تعليمهم بعد أن كانوا في جهل، وعلى تنظيمهم بعد أن كانوا في فوضى، وعلى إعطائهم وطنا، بعد أن كانوا بدون وطن. اقرأ كتاب أبي بكر بو طالب، ومقالة ابن حمودة، ورسائل حسني لحمق، وتصريحات فرحات عباس الأولى، ومقالات الزناتي وزملائه (المستضعفين) (¬1). وهناك غيرهم ممن لم يكتبوا مقالات أو كتبا ولكنهم كانوا يعلنون ذلك بأفواههم في المحافل والمناسبات ويمجدون أعمال فرنسا في الجزائر، سيما بعض كبار الأعيان. رأي باصيه، ود. وارنييه، وطوكفيل ... أما الجانب الفرنسي فقد أكثر من المن على الجزائريين وذكر التفضل بالنعم والبركات. معظم الفرنسيين كانوا معجبين بما قدمته بلادهم للجزائر. ¬

_ (¬1) وهم الذين أنشأوا مجلة بهذا المعنى سموها (صوت المستضعفين)، انظر فصل المنشآت الثقافية.

وقد تجند علماؤهم، والمستشرقون بالخصوص، للإشادة بما قدم الجنود والقساوسة والقادة الإداريون والباحثون والفنانون في هذا المجال. ونذكر بهذا الصدد بحث الأستاذ رينيه باصيه، كبير المستشرقين ومدير مدرسة الآداب في الجزائر حوالي أربعين سنة (¬1). كما نذكر ببحث هنري بيريس الذي كان مديرا، لمعهد الدراسات الشرقية في كلية الآداب عشية ثورة 1954 (¬2). وها هو الدكتور وارنييه لم ينتظر طويلا، إذ كتب منذ 1865 ملخصا. عما قدمته بلاده للجزائريين من مبرات وخيرات - في نظره - ولا ندري لو كتب وارنييه بعد ثورة 1871 وما تلاها من عقوبات، ماذا كان سيكتب أيضا. ومع ذلك فنحن نعلم أنه حضر الثورة المذكورة واشترك في تسليط العقاب على أصحابها. قال الدكتور وارنييه سنة 1865 منوها بفضل فرنسا على الجزائريين: لقد أعطتهم الجنسية الفرنسية دون مطالبتهم بقوانينها. وهو يشير بذلك إلى المرسوم الذي صدر في نفس السنة (1865) والذي جعل من الجزائريين رعايا فرنسيين في الخارج ولكنهم في الداخل - داخل الجزائر - كانوا مجرد (أندجين)، كما عرفنا. وكان على الدكتور وارنييه أن يقول إن فرنسا فرضت عليهم حالة الرقيق وأنهم لم يطالبوا بالجنسية الفرنسية وإنما فعلت فرنسا ذلك مضطرة حتى تحمي مصالحها في المشرق، لأن المهاجرين كانوا يطالبون بالجنسية العثمانية بعد خروجهم من الجزائر. وأخبر الدكتور وارنييه، الذي عاش في الجزائر طويلا وأصبح من أقطاب الاستعمار والعنصرية، كما سنرى، أن فرنسا قد احترمت دين الجزائريين (الإسلام) رغم أنه لا يتلاءم مع نظمها. والرد على هذا الرأي موجود عند الفرنسيين أنفسهم، فأي احترام للدين الإسلامي إذا كانت ¬

_ (¬1) رينيه باصية (نشاط فرنسا العلمي في الجزائر وشمال إفريقية) في المجلة الآسيوية، 1920، المجلد 15. (¬2) هنري بيريس، (عمل فرنسا في الجزائر في نظر رحالتين مسلمين)، (المشرفي ومحمد بيرم)، في وقائع مؤتمر العلماء، الجزائر، 1935.

فرنسا نفسها هي التي صادرت أوقافه وهدمت مساجده وزواياه وبعثرت حتى عظام موتاه على مرأى ومسمع من السكان؟ وأي احترام للإسلام إذا كانت شريعته لا تطبق في القضاء، ولغته لا تدرس في المدارس، وقرآنه لا يتلى إلا على الأموات، وأيمته ومفتوه يعينهم أمثال لوسياني أو ميرانت؟ ولنستمع إلى بقية (المكرمات) الفرنسية، كما يذكرها الدكتور وارنييه، دون الرد عليها، لأنها جميعا مخالفة لما حدث تاريخيا. قال: إن عدل فرنسا أرحم معهم (الجزائريين) من عدل غيرها رغم كثرة تحدياتهم لها - يقصد الثورات الخ - وأن فرنسا قد أعطتهم التعليم أكثر من حاجتهم إليه (؟)، وأنها فتحت أمامهم الوظائف المدنية (في الجزائر، لأنهم لا يتوظفون في فرنسا رغم أنهم فرنسيون)، كما فتحت أمامهم الرتب العسكرية في الجيش الفرنسي. وأضاف أن فرنسا جعلتهم ملاكين للأراضي التي كانت ملكا للدولة (وهو يقصد أرض الأعراش الجماعية، وهو يعتقد أن الأرض ما دامت عرشية فهي للدولة!). ثم ذكر وارنييه أن بلاده قد أبقت الكولون تحت نظام استثنائي - يعني الحكم العسكري كالجزائريين - احتراما لمؤسسات الأهالي السياسية والإدارية. وأخيرا ذكر وارنييه أن بلاده كانت تصرف حوالي 21 فرنكا للمحافظة على الأمن بين قبائل الجزائريين بينما لا تجني منهم في شكل ضرائب إلا حوالي ثلث ذلك المبلغ (¬1). كان أليكسيس دي طوكفيل من المنادين بالاستعمار أيضا ولكن كان له تفسيره الخاص وحتى نقده. فقد زار الجزائر على الأقل مرتين، سنة 1841 وسنة 1846، ولكن اهتمامه بها يرجع إلى سنة 1833، وكتب عنها التقارير والمذكرات وشارك في إحدى اللجان البرلمانية التي درست أحوالها. وكان له مشروع إقامة (دمينيون) بالجزائر، لكنه لم ينجح فيه. وقد أيد الاستعمار وتوزيع الأراضي ومواصلة الحرب في الجزائر، بل أيد حملات بوجو ¬

_ (¬1) الدكتور وارنييه (الجزائر أمام الامبراطور)، 1865، المقدمة.

العسكرية ومجزرة غار الظهرة الشهيرة (سنة 1845)، والقضاء على مقاومة الأمير عبد القادر، وذلك تحت غطاء نشر الحضارة الأوروبية والمسيحية وتحرير العبيد والتوسع الفرنسي القومي باسم الفكر الليبرالي، ولكنه نادى بالأخذ بيد الجزائريين (البدائيين) لا ليكونوا فرنسيين ولكن ليكونوا كالفرنسيين. وبينما نجد دي طوكفيل يقول إن فرنسا قد التزمت للجزائريين بعدة التزامات وعليها أن تحافظ على عهدها. نجده تارة أخرى يقول إن فرنسا قد ارتكبت في وقت السلم ضدهم ما لم ترتكبه في وقت الحرب. في المرة الأولى قال إنها التزمت بعدم المساس بدينهم، وأنها كافأت من حاربها منهم بتوظيفه ومنحه الأوسمة والضيافة، وأنها منحت لهم الأرض الخصبة التي كانت للدولة بدل منحها للأوروبيين، وحملتهم إلى الحج على سفنها وعلى حسابها. أما في المرة الثانية فقد قال إن المدن الجزائرية قد غزتها الإدارة أكثر مما غزاها الجيش، وأن عددا من الأملاك الخاصة قد خربت ونهبت أثناء السلم، وأن كثيرا من الوثائق التمليكية قد طلبتها الإدارة من أصحابها للتأكد من التملك ولكنها لم ترجعها إليهم أبدا. وأعلن أن الأراضي الخصبة التي كان يملكها الجزائريون حول العاصمة قد انتزعت منهم وأعطيت إلى الكولون الذين لا يريدون أو لا يستطيعون زراعتها بأنفسهم فسلموها بدورهم إلى أصحابها الأصليين ليعملوا كأجراء على أرض هي في الواقع ملك لأجدادهم. وأخبر أن هناك قبائل لم تحارب الفرنسيين ومع ذلك انتزعت منها أراضيها الخصبة وأجبرت على الخروج من منطقتها، وأن الفرنسيين قبلوا بشروط لم ينجزوها ووعدوا بتعويضات لم يحققوها، وحكم بأن ذلك قد أدى إلى أن يعاني (الشرف) الفرنسي قبل أن تعاني مصالح الأهالي. وفي نظر دي طوكفيل أن المجتمع الجزائري كان نصف متحضر، وأن له حضارة متخلفة وغير متقنة، والدليل على ذلك أنه كان يتمتع بمؤسسات كثيرة، خيرية وتعليمية، كان هدفها سد الحاجات الاجتماعية وخدمة التعليم

العمومي، ولكن الفرنسيين، كما قال، وضعوا أيديهم على مداخيل هذه المؤسسات في كل مكان، ووجهوا جزءا منها لخدمة أغراض أخرى غير اغراضها التي أنشئت من أجلها. وقال إن الفرنسيين قد خفضوا عدد المؤسسات الخيرية الإسلامية (وهو يعني الأوقاف) وأهملوا المدارس، وأغلقوا الحلقات الدراسية، وقال بهذا الصدد قولته الشهيرة، إننا بدل أن نضيء هذه الشموع (الدروس والمدارس) أطفأناها، وبذلك توقف تخريج رجال العلم والدين والشريعة، وهذا يعني، في رأيه، أن الفرنسيين قد جعلوا المجتمع الإسلامية أكثر بؤسا وأكثر تخلفا وجهلا ووحشية مما كان عليه قبل الاحتلال. وحكم دي طوكفيل بأن الإدارة الأهلية (الفرنسية) كانت أقل تمدنا من الإدارة السابقة (التركية؟) في التعامل مع الجزائريين. ورأى دي طوكفيل أن هناك تناقضا بين النظرية والتطبيق في معاملة الأهالي. فالفرنسيون يقولون إن هؤلاء الأهالي غير قادرين على تقبل الإصلاح والتقدم، ولكن بدلا من الأخذ بأيديهم وتنويرهم وقع تجريدهم من الضوء الذي كانوا يملكونه، وبدلا، من إبقائهم على الأرض التي كانوا يملكونها حكموا عليهم بالخروج منها، وكان عليهم أيضا أن يستسلموا للفرنسيين، وليس هناك سوى وسيلة وحيدة في التعامل معهم لحصول الاستسلام، ألا وهي القوة. وفي رأيه أن هناك حلا وسطا، يجمع بين النظرية والتطبيق، وهو تمكينهم من الارتقاء إلى درجة الحضارة - حضارتهم وليس الحضارة الفرنسية. فهم كشعب نصف متحضر، في نظره، لا ينتظرون سوى العدل، العدل الحقيقي والصلب، ولا ينتظرون سوى حكومة توجههم إلى مصالحهم وليس إلى المصالح الفرنسية، وقال إنه ليس على الفرنسيين أن يفرضوا عليهم حضارتهم ولكن عليهم أن يقودوهم إلى حضارتهم الخاصة، فمن رأى طوكفيل أن التملك الخاص وإقامة الصناعات والتوطن في المدن الخ. أمور غير ممنوعة في الدين الإسلامي بل تتماشى معه. ثم إن الإسلام، في رأيه، لا يقف ضد الحضارة ولا يعادي العلم. وكان على الفرنسيين أن يقنعوا الجزائريين بفوائد العلوم، ولا يجبروهم على الدخول في المدارس

رأي لافيجري ولويس فينيون وآخرين

الفرنسية، وإنما يجعلونهم يحيون مدارسهم (¬1). لم تكن كتابات طوكفيل تروق لبعض الفرنسيين، ولذلك أهملوها وقلما أشاروا إليها ولم تجمع كتاباته عن الجزائر إلا سنة 1968، رغم أنه كان يقف مع الاستعمار، كما رأينا، والقضاء على المقاومة الوطنية، وكان يعتبر الجزائريين أدنى حضارة من الفرنسيين، وعلى هؤلاء أن ينقذوهم من وهدتهم ويخرجوهم من التخلف بالعدل والرحمة والتعليم. وهذه كانت هي عقيدة الليبراليين الأوروبيين عموما. وكذلك كانت عقيدة السان سيمونيين. وهذا الصوت، رغم ما فيه من ادعاء وتبجح، كان موجودا على ألسنة كتاب آخرين طيلة العهد الاستعماري، فقد كان في كتابات توماس (إسماعيل) أوربان، وكتابات الدكتور فيتال، ومواقف البان روزي وإلى حد ما في صوت مارسيل ايمريت ... كما ظهر في سياسة بعض الحكام العامين أمثال شارل جونار وموريس فيوليت. ولكن ذلك الصوت كان ضائعا في القفار، لأن الصوت المسموع حقا في الإدارة الفرنسية في الجزائر وفي البرلمان الفرنسي هو صوت بوجولا، والدكتور وارنييه، ويوجين ايتيان، وتومسون، ومايير، ومورينو، أو كتاب من أمثال لويس بيتراند، وإيميل غوتييه، وحكام عامين كثيرين كانوا تحت رحمة الضغط السياسي والإعلامي للكولون و (اللوبي) الكولونيالي في الجزائر وباريس. رأي لافيجري ولويس فينيون وآخرين وبعد خمسين سنة من الاحتلال (1881) كتب الكاردينال لافيجري تقريرا سريا عن الوضع في الجزائر أظهر فيه أن فرنسا كانت تخسر أكثر مما تربح وأن حالة من الهيجان كانت منتشرة ولا ينتظر الأهالي سوى حرب ¬

_ (¬1) دي طوكفيل (عن المستعمرة في الجزائر) .. مختارات من كتابات دي طوكفيل عن الجزائر، تقديم ت. تودوروف T. Todorov، ط. باريس 1988 (الأولى 1968) ص 164 - 172.

أوروبية ليثوروا من جديد رغم قربهم من ثورة 1871 (¬1). وقد أدان لافيجري النظام المتبع في الجزائر، ولكنه لم يطالب بالانسحاب وإنما بإحكام القبضة والاستعداد الدائم للخطر، ولذلك أوصى بتأخير احتلال تونس وتأجيل نصب الحماية عليها إلى ما بعد الحرب الأوروبية المتخيلة والوشيكة في نظره. ومن رأي لافيجري أن فرنسا قد أنجزت الكثير في الجزائر، طرقات، وموانئ وقرى ومدن، ومزارع واستثمارات، ولكن النتائج لا تتناسب مع التكاليف، ذلك أن المصاريف كانت تفوق في نظره العائدات بعشرة ملايين فرنك بحساب وقته، ووجد أيضا أن عدد الجنود الفرنسيين الذين ماتوا في الحروب أو في المستشفيات بسبب الظروف المناخية كان يفوق عدد الكولون الموجودين في وقته. ومن رأيه أن هذه حقيقة معروفة للجميع ولكنهم يتحرجون من ذكرها لأنها تمثل إدانة للنظام المتبع حتى ذلك الحين. وهو كرجل دين وسياسة رأى أن هؤلاء الكولون (الفرنسيين بالذات، لأنه كان يتحدث عن الأوروبيين الذين تجنسوا بالفرنسية) قد أضاعوا خصالهم الحميدة كالأمانة وحب الأرض الوطنية، ما عدا بعض الاستثناء. وهناك في رأيه من كان يحرض هؤلاء الفرنسيين حتى على الانفصال عن فرنسا، كما حدث سنة 1870 عندما دعا مجلس بلدية الجزائر المغامر الإيطالي (غاريبالدي) ليرأس الجزائر ويفصلها عن فرنسا. أما عن الجزائريين في نظر لافيجري فقد كانوا (في هيجان مخيف للغاية) ولا سيما الزواويون الذين سخطوا من انتزاع أراضيهم ومنحها للكولون، كما أن الصحافة الاستعمارية كانت تتحداهم وتقول لهم إن المزيد من الأراضي سيؤخذ منهم قريبا. وانتقد سياسة الجمهورية الثالثة المتسرعة في إحلال متصرفين مدنيين لا خبرة لهم محل المتصرفين العسكريين. وكان عليها أن تتريث وأن تحافظ على السياسة القديمة (العسكرية) فترة أخرى. وفي نظر لافيجري، كما في نظر معظم الفرنسيين، أن الجزائريين لا يخضعون ¬

_ (¬1) عن حياة ونشاط الكاردينال لافيجري، انظر فصل الاستشراق ... والتنصير. عن حياة ونشاط الكاردينال لافيجري، انظر فصل الاستشراق ... والتنصير.

إلا للقوة وأن المكاتب العربية العسكرية هي التي كانت تخيفهم رغم أنهم لا يحبونها، لأنها كانت تملك السلاح والفرق العسكرية التي تحت تصرفها. أما المتصرفون المدنيون فلا يملكون شيئا يهابه العرب. وضرب مثلا على ذلك بأن أحد قضاة الصلح الفرنسيين وجد نفسه على رأس دائرة عين الحمام (فور ناسيونال). ولم يكن هذا القاضي غير المجرب وحده في ذلك. فقد سارعت الإدارة الجديدة إلى تعيين متصرفين مدنيين على رأس بلديات مختلطة، وأعطت لهذه البلديات حوالي 80 ألف هكتار من الأرض. وما يزيد عن 50 ألف ساكن. وأصبح هؤلاء الإداريون الجدد يعوضون نقص الكفاءة وعدم معرفة اللغة المحلية باللجوء إلى العنف والجور في الأحكام. وقد جعل هذا التصرف الأهالي يحسون بالنهب من كل جانب وبتراخي قبضة الحكم، ولذلك فهم على استعداد للقيام بثورة أخرى، وإنما هم فقط ينتظرون الفرصة المواتية، وكانوا يرددون فيما بينهم بأن الفرنسيين على أبواب حرب أوروبية، وأن مبعوثين يأتون إليهم من تونس والمغرب الأقصى ويترددون عليهم منذ سنوات، ولذلك أصبح الأهالي يعلنون صراحة بدون خوف بأنهم سيرمون الفرنسيين في البحر. وهم متأكدون أن الأسلحة والبارود وجميع المساعدات مضمونة لهم من الخارج. وضرب على ذلك مثلا بالتوتر الذي كان يسود الجزائر وما تعرضت له حملة (فلاترز) في الجنوب (¬1). وقال إن هناك حالة ذهنية منذرة بالخطر. ولكن الانتفاضة العامة لن تحدث إلا إذا وقعت حرب أوروبية، وحينئذ ستكون الانتفاضة من أقصى البلاد إلى أقصاها. وقال لافيجري: (تذكروا كلامي هذا جيدا). لقد كان يرى الخطر داهما، وأن فقدان الجزائر يعني أكثر من عشر هزائم لفرنسا في نظره، ولذلك أوصى بأن تبقى بها القوات البالغة خمسين ألف جندي. وهو باعتباره رجل دين كان حريصا على القول بأن القرآن لن يتسامح هذه المرة مع الكفار، وأن العصبية ¬

_ (¬1) عن حملة فلاترز انظر الحركة الوطنية، ج 1 القسم المخطوط. عن حملة فلاترز انظر الحركة الوطنية، ج 1 القسم المخطوط.

الإسلامية ستتولد وتعم المنطقة من بني صاف إلى طرابلس (¬1). والسيد لويس فينيون كان أستاذا متخصصا في تاريخ الاستعمار ومؤلفا معروفا في وقته، رأى أن الاحتلال، رغم ظلمه وقسوته، قد أتى بفوائد جمة للجزائريين. وذكر من بين ذلك أربع فوائد في نظره، وهي نشر السلم بين الأعراش والقبائل التي كانت في حالة حرب وغزو أثناء العهد العثماني. ولم ير في المستوطنين الفرنسيين علامة سلبية بل هم في نظره قد أفادوا الجزائريين بتوفير العمل لهم وشراء إنتاجهم، ومن ثمة الزيادة في ثروة الجزائريين. ومن جهة أخرى فإن المزارعين الفرنسيين كانوا يعطون المثل لهم في استعمال الوسائل الزراعية الحديثة وكذلك المزروعات الجديدة. وقد فتح المهندسون الفرنسيون مجالات أخرى استفاد منها الأهالي أيضا، مثل مد الطرقات والسكة الحديدية، واستخراج المياه الجوفية في الصحراء، كما في وادي ريغ حيث تضاعفت غراسة النخيل (¬2)، ولم ير فينيون سوى القسوة والجور كمآخذ على الاحتلال، بينما لم يهتم بما ترتب على هذا الاحتلال من نتائج ثقافية وسياسية واجتماعية مدمرة. واهتم بما قدمه الكولون باعتبارهم، في نظره، معلمين للفلاحين الجزائريين الذين فقدوا أرضهم وأصبحوا عمالا عليها للكولون أنفسهم ولفائدة الكولون أيضا. وقد انتقد فينيون سياسة بلاده نحو تمثيل الجزائريين في المجالس المحلية وغيرها. فقد كانوا في رأيه غير ممثلين ولا منتخبين في المجالس العامة (مجالس الولايات الثلاث) ولا في مجلس الحكومة، ولا في البرلمان ¬

_ (¬1) علي المحجوبي (تنصيب الحماية الفرنسية على تونس)، ط. تونس، 1984، ص 159 - 162. وهو تقرير كتبه لافيجري في 24 أبريل 1881، إلى الأب شارتمان. وهو أصلا عن الحماية على تونس وضرورة كرها إلى ما بعد الحرب المتوقعة. وقد عثر عليه السيد المحجوبي في وثائق وزارة الخارجية الفرنسية. وصوره لي الأخ يوسف مناصرية مشكورا. ويتبين من المعلومات والتوقعات التي في التقرير أن لافيجري لم يكن رجل كنيسة فقط ولكنه كان رجل سياسة وجوسسة أيضا. (¬2) لويس فينيون (فرنسا في شمال إفريقية)، 1887، باريس، ص 241 - 242.

الفرنسي. ومن ثمة كان صوتهم غائبا، بينما كان للكولون ممثلون منتخبون في كل المجالس المذكورة وكذلك في البلديات. ولكنه نصح بلاده باتباع سياسة ميكيافيللية في الجزائر إزاء (الصفوف) أو (الأحزاب) المتنازعة كالطرق الصوفية والزعامات الأهلية والأعراش وغيرها، لأن ذلك من حنكة السياسة التي على الدول أن تتبعها للمحافظة على رايتها وسيادتها (¬1)، وفي نفس الوقت نصح باتباع سياسة (الإحسان) نحو الأهالي، ولخص معنى الاحسان فيما يلي: تعليمهم الفلاحة وحفر الآبار لاستخراج المياه الجوفية لهم (لاحظ أن فوائد المياه ستعود بالضرورة على الفرنسيين أيضا)، وتعليمهم اللغة الفرنسية التي كان يجب أن تفرض عليهم فرضا منذ لحظة الاحتلال الأولى، كما فعل الألمان في الألزاس، حسب تعبيره، وتطبيق مبدإ فتح المدارس وإجبارية التعليم عليهم في البلديات الكاملة (ذات الأغلبية الفرنسية)، واتباع (العدل الفرنسي) نحوهم لأن العربي يحب العدل والماء، كما قال، وفتح مجال الخدمة العسكري أمامهم لأن ذلك سيجعلهم يحتكون بالمجتمع الفرنسي وحضارته وسيساعد أيضا على تسريب الأفكار الفرنسية والتأثير المعنوي فيهم، ثم إن منحهم حق انتخاب ممثلين عنهم يدخل في تقاليد المجتمع السياسي الفرنسي (¬2). ويمكننا أن نلخص أفكار لويس فينيون في الموضوع فنجدها لا تخرج عن حث بلاده على تطبيق مبدإ الاندماج على الجزائريين والإسراع في ذلك لأنه قد تأخر خمسين سنة عن موعده. وكل هذه (الوصايا) لا حرج عن مشروع الاندماج الذي كان يدعو إليه أمثاله من دعاة المهمة الحضارية الفرنسية، والذي كان يعارضه الكولون وبعض العسكريين ورجال الكنيسة لأسباب مختلفة. وكان الحاكم العام شارل جونار قد أعلن سنة 1908، أن سياسته في ¬

_ (¬1) انظر ذلك في فصل الطرق الصوفية أيضا. (¬2) فينيون، مرجع سابق، ص 266.

الجزائر تقوم على اللباقة والخيرية والصرامة. وقد عرف عنه أنه كحاكم فرنسي، سلك سياسة أهلية جديدة تقوم على تطوير الجزائر كما هي، ولكن داخل القالب والسيادة الفرنسية (¬1). ولم تسلم سياسته أيضا من الميكيافيللية التي تحدث عنها لويس فينيون، فقد لجأ جونار إلى عدة إجراءات لتمزيق وحدة الجزائريين اللغوية والعرقية، وسار في ركب الكولون والمستشرقين الذين كانوا يقدمون إليه النصائح ويضغطون عليه أيضا. وقد علق لوشاتلييه على سياسة جونار عندئذ ورآها سياسة لا تنفع فرنسا. ذلك أن كل حاكم عام كان يبدأ بمجرد تعيينه (بالتمسح) للكولون، محاولا كسب ودهم وتأييدهم، بينما كانت مصلحة فرنسا العليا، تقتضي الموازنة بين الفرنسيين (الكولون) والجزائريين، حسب تعبير لوشاتلييه. ومن رأيه أنه لم يكن للجزائريين أي صوت يعبر عن رغابتهم. ولذلك على فرنسا أن تتبع نحوهم سياسة نشطة في التقدم الاقتصادي والاجتماعي، مع اتباع العدل حيث لا تحل الرحمة والخيرية محل الحق ولا الصرامة محل التفاهم. وكان لوشاتلييه قد تخصص في علم الاجتماع الإسلامي، وقام بتدريسه في الكوليج دي فرانس، وألف أعمالا عن الطرق الصوفية وأشرف على (مجلة العالم الإسلامي). ومن موقعه هذا رأى أن سياسة اللباقة والخيرية والصرامة التي أعلن عنها جونار كانت لا تكفي في الجزائر (الفرنسية) لكسب ثقة الجزائر (الإسلامية) (¬2). وقد لخص شارل تيار تطور الرأي العام الفرنسي نحو الجزائريين كما ظهر في مختلف الكتابات، وكان هذا الرأي يتراوح بين - 1 - إبعاد الأهالي أو القضاء عليهم تماما كما فعل الأوروبيون في أمريكا مع الهنود الحمر، أو - 2 - إدماجهم بالقوة أو بالتدرج عن طريق القوانين واللغة في النظام والمجتمع الفرنسي، أو - 3? إهمالهم وعدم الالتفات إليهم. ولم يكن ¬

_ (¬1) انظر رأي دي طوكفيل، سابقا. (¬2) الفريد لوشاتلييه (التوقيع هو A.L.C) في مجلة العالم الإسلامي، مارس 1908، ص 609 - 611.

الفرنسيون قد قرروا اتباع أي من هذه (السياسات) بوضوح. وقال السيد تيار الذي تتبع مختلف الكتابات الفرنسية عن الجزائر خلال حوالي قرن من الزمن: أن سياسة فرنسا نحو الأهالي لم تدخل حيز الاهتمام النشيط إلا منذ سنوات قصيرة. فقد استحوذ السكان الفرنسيون بين 1830 و 1890 على كل شيء وشغلتهم مختلف الانشغالات. فكانت المصاريف من أجل حاجتهم هم فقط. ولكن تحت ضغط البرلمان المستمر عليهم (؟) وبعد مقاومة صامتة، اتجهوا (الكولون) إلى العمل بدون حماس، وأحيانا مع بعض التشاؤم، ثم أخذوا يبدون اهتماما متناميا. وها هي النتيجة أنهم يسيرون في الاتجاه الذي اختارته الحكومة الفرنسية والذى أدى خلال جيلين أو ثلاثة إلى تحول عدد كبير من الأهالي اجتماعيا وسياسيا ومعنويا (¬1). وبعد قرن من الاحتلال أعلن إيميل غوتييه المعروف بأفكاره ونظرياته الاستعمارية المتطرفة والأستاذ في التاريخ والجغرافية والمؤثر على جيله، أن افتراض استقلال الجزائر عن فرنسا لا يمكن تصوره. وهو لا يقصد استقلال العرب والمسلمين فقط ولكن استقلال كل سكان الجزائر عندئذ، بمن فيهم الفرنسيون. وقد بنى نظريته هذه على أن تاريخ الجزائر يشهد منذ ألفي سنة على تبعيتها لدولة خارجية لأن سوق اقتصادها مرتبط بهذه الدولة الأجنبية، ذلك أن اقتصادها قائم على الزراعة وليس لها مستهلك في العهد الفرنسي مثلا غير السوق الفرنسي. وقد عمم غوتييه نظريته لتشمل كل شمال إفريقية أيضا. فهذه المنطقة مرتبطة اقتصاديا بدولة أجنبية حيث الأسواق مفتوحة لها. ثم أن قرب الجزائر من مرسيليا دليل على هذه الرابطة القوية في نظره بين الطرفين. ولذلك لا يمكن حتى أن يتصور المرء افتراض استقلال الجزائر عن فرنسا (¬2). أن الاندماج أو التكامل الاقتصادي بين الطرفين في نظره قضية حتمية. ¬

_ (¬1) شارل تيار (الجزائر في الأدب الفرنسي)، الجزائر، 1925، ص 160. (¬2) غوتييه (كراسات الاحتفال المئوي)، ج، ص 12.

وفي حديث عن التاريخ والفن القديم لوح أوغسطين بيرك سنة 1937 بغصن الزيتون الفرنسي واعتبر أن (بلاد البربر) قد هاجرت طويلا في عالم الشرق ثم رجعت إلى حضن الفرنسة وريثة الرومنة، وهو حضن الصداقة الفرنسية الدافئ. وقد وضع عناوين لكتابه على هذا النحو: بلاد البربر تحت وصاية الشرق (وهو العهد الإسلامي الأول)، وبلاد البربر تتحرر من الشرق (عهد بني هلال والمرابطين والموحدين)، .. ثم الجزائر التركية (المفروض أن يقول: عهد الرجوع إلى الشرق)، ولكن المهم هو أن بيرك يسمي الاحتلال الفرنسي: مائة عام من الصداقة الفرنسية!. وفي خطاب (ميلودرامي) يوجهه لصديقه الخيالي (محند) الذي يسميه (صديقي العربي - البربري) قال بيرك: وجدتك راعيا وعاملا تحت السلام الروماني، ومهيمنا أثناء الممالك البربرية، ومستعدا للهلاليين والمرابطين والموحدين والزيانيين والأتراك، ورأيتك أثناء هذه الرحلة قليل الأفراح كثير الدموع متألما من الاستعباد (!)، ورأيتك على طول هذه العصور مكبلا لخدمة الأرض والمناخ والتاريخ. ثم يصل أوغسطين بيرك إلى نقطة الهدف عنده عندما يقول إلى صديقه (محند) إنه رآه في الجزائر الفرنسية سنة 1937: مرفوع الجبين متوقد النظرات عريض الصدر بأنفاس جديدة، وأنت قادم علي بثقة راسخة بنتها مائة سنة من الصداقة الفرنسية المشتركة (¬1). ترى كيف قامت هذه (الصداقة) (الاحتلال)؟ إن بيرك لا يكتب من الخيال، إنه قد عاش ربع قرن في إدارة الشؤون الأهلية، وهو يعرف ما حدث وماذا يقول. ومع ذلك نجده يحول الليل إلى نهار ويغرق في الميتافيزيقيا والتجريدات. فقد عدد لصديقه الخيالي (محند) كم تغير الحال من ذلك الماضي الحزين فى نظره عندما كانت الجزائر تحت وصاية الشرق، وعندما ¬

_ (¬1) أوغسطين بيرك (الجزائر بلاد الفن والتاريخ)، 1937، ص 261. وهو كتاب نشر بإشراف الحكومة العامة بالجزائر. أوغسطين بيرك (الجزائر بلاد الفن والتاريخ)، 1937، ص 261. وهو كتاب نشر بإشراف الحكومة العامة بالجزائر.

كان أجداد بيرك ينظرون إلى محند على أنه عربي من الحجاز بانين بذلك من الجزائر شرقا خياليا. لقد تغير الحال وأدرك الفرنسيون خطأهم وصححوا موقفهم، وهو أن الجزائر فرنسية وغير شرقية وأن محند ليس عربيا من الحجاز. وإنما هو فلاح جيد من بقايا الاحتلال الروماني، وهو أيضا فلاح جيد لخدمة الاقتصاد الفرنسي، لأن أكبر عبقرية إداري فرنسي في الجزائر كان، في نظر بيرك، فلاحا، وهو المارشال بوجو، فهو الذي سن سياسة البندقية والمحراث. وما رفيق (محند) إلا فلاح الكولون الذي يعجب به بيرك أشد الإعجاب لأنه هو أيضا من الكولون. وقد ذكر بيرك كيف تغير الحال على محند، وحصر ذلك في الاقتصاد الفرنسي وفي التشريعات. وجاء على ذكر التواريخ الهامة التي حاولت التشريعات خلالها أن تقتلع جذور المجتمع الجزائري. وفي نظره أن تشريع 1863 قد أسس الأسرة على أنقاض القبيلة، والفرد على أنقاض العرش، ولكن بيرك لم يذكر أن الأرض التي كانت للقبيلة والعرش وتحولت إلى الأسرة والفرد قد انتزعت منهم أيضا وأعطيت للغرباء، أولئك الكولون الذين يقول بيرك عنهم إنهم رفقاء محند في عهد الصداقة الفرنسية. أما تشريع 1882 الذي أنشأ الحالة المدنية واللقب العائلي، فقد نظر إليه بيرك على أنه قد جاء بسيكولوجية (الأنا) والفردية بدل الارتباط بأصول غير واضحة (!) وهل اتضحت للفرد (الأنا) شخصيته عندما اختار لقبا عائليا خاصا به وانقطعت صلته بماضيه وبعائلته الواحدة؟ ورأى بيرك أن قانون الأرض الصادر سنة 1897 قد أنشأ طبقة من الفلاحين الجدد - طبقة وسطى أو نوعا من البرجوازية الريفية الصغيرة، منغرسة في الأرض، ولا تطلب من فرنسا إلا حمايتها وأمنها. ثم امتدح بيرك تشريعات أخرى رآها تحقق لصديقه (محند) السعادة والديموقراطية والتعاون الحقيقي، ومن ذلك إلغاء الضريبة العربية سنة 1918، والتنقيص من الامتيازات المشروطة عند الاقتراع العام، ووضع أطر الديموقراطية في إصلاحات 1919، بل إن الخدمة العسكرية الإجبارية رآها بيرك قد حطمت علاقات الدوار، وأحلت محلها صداقة الخدمة (مع

الفرنسيين) والانفتاح على آمال مشتركة (¬1). إن رومانتيكية أوغسطين بيرك كانت بدون حدود وهو يخاطب صديقه الخيالي (محند). فبعد أن قلب حقائق عديدة كتسمية الاحتلال صداقة، والحالة المدنية سيكولوجية فردية، واغتصاب الأرض تخلصا من العرش والقبيلة، والخدمة العسكرية انفتاحا ... بعد ذلك كله، ذهب يدعو محند - ذلك الآغا الفارس الوارث الألقاب مجيدة، وذلك المرابط العصري من أمثال الشيخ ابن عليوة، وذلك الفنان العبقري أمثال راسم - إلى إزالة ما بقي عنده من تردد نحو الفرنسيين. (عليك أن تربط مصيرك بمصيرنا، وأن تساهم في المشروع الذي وضعه الحاكم العام (¬2) الحريص على مصلحتك .. إن مصيرنا مشترك منذ عهد الغولوا Gaulois، ومنذ صرخ الفارس الفرنسي وهو يغرز خنجره على مدخل باب عزون، إننا سنعود!. هذا إذن هو المصير الذي كان بيرك يحاول أن يأخذ بيد صديقه محند إليه منذ بدأ عهد الاحتلال، العهد الذي تحررت فيه الجزائر من وصاية الشرق ودخلت، بفضل فرنسا وصرخة فارسها المجهول، تحت وصاية الغرب وبالخصوص تحت مظلة سكان بلاد الغال (الغولوا) (¬3)، حيث تفقد الجزائر هويتها وتندمج اندماجا كليا في شعب آخر فرض نفسه عليها بمختلف الوسائل، حتى الميكيافيللية، كما قال لويس فينيون. ونفس النغمة رددها عالم فرنسي آخر لا يقل أهمية عن بيرك، وهو لويس ماسينيون، صاحب الأنشطة الاستشراقية المعروفة. ففي 1947 أعلن ماسينيون أن الحل لمشكل الجزائر هو الاندماج في ظل الإخلاص والعدالة ¬

_ (¬1) بيرك، مرجع سابق، ص 262. رغم أن كتاب بيرك كان عن الفن الجزائري، فإنه تحدث فيه عن المعالم الإسلامية في مختلف العهود كالمساجد، ولكنه لم يذكر ولو مسجدا واحدا يرجع إلى العهد الفرنسي. بينما ركز في هذا العهد على الزرابي والطرز ... وهي فنون استعملها الفرنسيون للتجارة لا للفن والعبادة. (¬2) عندئذ (1937) كان الحاكم العام هو لوبو Le Beau . (¬3) بيرك، مرجع سابق، ص 265. والغولوا، هم سكان فرنسا القديمة.

عند التطبيق، وعبر عن إعجابه بقانون الجزائر الذي صدر في تلك السنة والذي كان يهدف إلى تكريس الاندماج، وهو يعني طبعا فقدان الجزائر لهويتها. ولماذا الاندماج في نظر ماسينيون؟ إن كثرة أعداد الكولون منع من حدوث الانفصال بين الجزائر وفرنسا، وهو مطلب بعض الوطنيين المسلمين، حسب تعبيره، ثم إن الدماء الجزائرية والفرنسية قد امتزجت في المعارك خلال حروب فرنسا الثلاث (1870، 1914، 1939). ومن جهة أخرى رأى ماسينيون أن القطيعة قد وقعت بين إطارات الماضي (جيل النخب الأهلية) التي كانت موجودة سنة 1830 وبين إطارات الحاضر التي تكونت في العهد الفرنسي (¬1). ولذلك أصبحت الأرض ممهدة للاندماج في الحياة والمجتمع الفرنسي (¬2). والغريب أن ماسينيون الذي قضى قرابة أربعين سنة عندئذ في خدمة الاستشراق ينتهي إلى هذا الحل. فهل كانت رؤيته قصيرة إلى هذا الحد؟ لعله كان يكتفي بقراءة الصحف الاستعمارية ونصوص التشريعات الفرنسية، ولم يختلط أو يقرأ الصحف الوطنية ولا آمال الجماهير والشباب الصاعد الذي كان يطمح إلى الحرية والاستقلال بقطع النظر عن كثرة الكولون وغياب إطارات 1830. وهو يعلم أيضا أن قانون 1947 لم يطبق وبقي حبرا على ورق في معظم أجزائه. ولا ندري كيف يتحدث ماسينيون عن الاندماج بعد أحداث 1945 وآثار الحرب العالمية الثانية التي منها ميلاد الجامعة العربية ومنظمة الأمم المتحدة والحرب الباردة وظهور حركات التحرر من الاستعمار في آسيا وإفريقيا. ... أما عن رأي الجزائريين في الاحتلال الفرنسي فهو موجود في الكتابات والعرائض والصحف والرسائل والخطب والأعمال التي قاموا بها أفرادا وجماعات وأحزابا منذ 1830. وكانت الثورات تعبيرا آخر على هذا ¬

_ (¬1) انظر عن ذلك بحثنا (آخر الأعيان أو نهاية الأرستقراطية العربية في الجزائر). وقد صدر في مجلة (المنارة) التي تصدر عن جامعة آل البيت - الأردن. (¬2) لويس ماسينيون، حولية العالم الإسلامى Annuaire، 1955، باريس، 233.

الاحتلال، وكذلك الحركات المنظمة في أحزاب وجمعيات خلال القرن الحالي. فمطالبها مدروسة ومفصلة في مختلف الدراسات ومنها بعض كتبنا. وكان آخر رفض لأكذوبة الصداقة الفرنسية التي تغنى بها أوغسطين بيرك وأمثاله هو ثورة نوفمبر 1954. إن من يرجع إلى كتابات حمدان خوجة وخطب الأمير عبد القادر وأوامر أحمد باي وإعلانات الجهاد في الثورات العديدة، وعرائض أعيان المدن، وكتابات رجال الإصلاح، وصحف الأحزاب الوطنية، سيجدها معبرة أصدق تعبير عن رأي (الأهالي) في الاحتلال الفرنسي لبلادهم. ولكن بعض الجزائريين ضربوا أيضا على وتر الاندماج، سيما من الفئة التي سماها الفرنسيون أنفسهم تارة بالنخبة وتارة بالمتطورة، ولكن حجم هذه الفئة كان ضئيلا، ومعظمهم كانوا من المتجنسين بالجنسية الفرنسية أو ممن تزوجوا من فرنسيات. ولا نكاد نجد كاتبا تكون في مدرسة عربية/ إسلامية، ثم نادى بالاندماج. أما الباحثون الفرنسيون فقد نسبوا إلى جزائريين مجهولين قولهم إن الاحتلال كان قضاء وقدرا. وطالما ذكر علماء اللغة وعلم الإنسان (الأنثروبولوجيا) أنهم عثروا في أقوال بعض الدراويش والأولياء ما يدل على أن الجزائر سيحتلها بنو الأصفر، أحفاد الروم، لظلم حكامها وجورهم وخروجهم عن جادة الدين الإسلامي ورضاهم بالفساد. وقد أعجب الفرنسيون بهذه الأقاويل والتنبؤات وراحوا يروجونها في كتاباتهم، لأنها كانت تخدم مصالحهم ومخططاتهم. وقد نسبوا أقوالا من ذلك إلى الحاج عيسى دفين الأغواط، وإلى الشيخ أحمد بن يوسف دفين مليانة، وغيرهما. ومنها ما ذكره السيد ليون رينييه من أن أحد المرابطين فى الأوراس، اسمه سي محمد بوقرانة، شيخ بلدة زانة، قد وجده وسط بعض الآثار وهو يسجل الكتابات والنقوش، فسأله المرابط: هل تفهم هذه الكتابات؟ فأجابه رينييه بأنه يفهمها ويكتبها أيضا، وأن حروفها هي حروف اللغة الفرنسية، فالتفت الشيخ بوقرانة إلى من معه من العرب قائلا: انظروا، أن الروم (الفرنسيين) هم أبناء الرومان، وهم عندما احتلوا هذه البلاد فإنما أخذوا

خيرات آبائهم (¬1). وكم يحلو للفرنسيين أن يكرروا هذه الأقاويل على أنفسهم وعلى الجزائريين لأنها في نظرهم، تبرر احتلالهم في الذهنية الشعبية. ومن الذين برعوا في قراءة النصوص (الأهلية) واستخراج الروح الشعبية منها، جوزيف ديبارمى. ويبدو أنه كان أذكى من بعض أساتذته ومعاصريه المستشرقين الآخرين. وكان ديبارمي، بحكم معرفته للعربية وتعليمه في مدارس الجزائر مدة طويلة وعيشته في بيئة قريبة من البيئة العربية، قد تحصل على نصوص تعتبر سرية أو مهملة، واستطاع بحكم ثقافته النفسية والاجتماعية أن يستخرج منها حتى نوايا أصحابها الحقيقية أو المتخيلة، وأن يفك معمياتها ورموزها. وقد كتب الكثير في هذا المجال. ولا نريد الآن سوى ذكر نموذج واحد مما كتب. حصل ديبارمي سنة 1908 على نصين كانا لفلاحين يعيشان في منطقة البليدة. ثم أعطى النصين لمتعلم من حضر المدينة المذكورة، لم يذكر اسمه، ولكن من أوصافه له نعلم أنه كان غير متعصب ضد الفرنسيين، حسب رأي ديارمي، وكان ثلاثتهم لا يعرفون الفرنسية، وإنما يروون أخبارهم عن المرابطين. وقد توسع الرجل الحضري في النصين وأضاف إليهما فأصبح رأيه رأيا ثالثا في الموضوع (¬2). وكان النصان في شكل (مجالس) يحكى خلالها الراوي قصصا وأخبارا حقيقية أو خيالية أو مزيجا، من الحقيقة والخيال. وترجم ديبارمي من هذه المجالس نصوصا بحذافيرها وساق المعنى الباقي بلغته. وبناء على هذه المجالس التي (اكتشفها) ديبارمي فإن من نتائج الاحتلال الفرنسي أن المجتمع الجزائري قد تغيرت طبيعته وتأثر الفرد ¬

_ (¬1) انظر المجلة الشرقية والجزائرية، ج 2، 1853، ص 154، (من رحلة ليون رينييه في أعتاب الأوراس). (¬2) الفلاحان هما: الشيخ محمد بن إبراهيم خوجة، ورابح بن قويدر. وأما الثالث فاكتفي ديبارمي بقوله عنه إنه متعلم ومن الكراغلة.

بمؤثرات جديدة. فالمسلم أصبح لا يخرج من داره إلا وهو ذليل، وأصبح محجبا كالمرأة، ذلك أن الشارع فيه حضارة أخرى مغايرة، حضارة الفرنسيين (الروم). وقد أهين المسلمون بالهزيمة على يد الكفار. وأن الأتراك، رغم استبدادهم، أخف وطأة من الفرنسيين (وهو رأي عبر عنه حمدان خوجة سنة 1833 حين قال: اللهم ظلم الترك ولا عدل الفرنسيس). وأن القضاة الذين يوظفهم الفرنسيون لا ثقة فيهم، لأنهم لا يخدمون إلا أنفسهم أو أسيادهم. وكذلك لا ثقة في العلماء ولا في الحكام الذين يعينهم الفرنسيون، لأن المسلم الحقيقي لا يقبل أن يعمل عند الكفار. إن هؤلاء الكفار يغرقون الأهالي ببضائعهم، ومنها الملابس والسكر والشمع غير الطاهر والذي يقدمونه للمرابطين. إن الفرنسيين يتجسسون على الجزائريين لمعرفة أسرارهم وذلك بالصلاة معهم والذهاب إلى الحج للاطلاع على خفايا المسلمين. إنهم يظهرون وديعين في البداية ثم يكشرون عن أنيابهم ويصبحون غلاظا وقساة في النهاية. وهم يمنعون الجزائريين من تعلم الدين والقرآن في المدارس، بينما يعلمون اللغة الفرنسية لأبناء الجزائريين بهدف إخراجهم عن دينهم. وبعد أن ينتهي التلميذ من المدرسة تطلبه الثكنة. لكن نير النصراني (الفرنسي) سيتحطم ذات يوم (¬1)!. وهناك 86 مجلسا تحدث عنها ديبارمي. وكل مجلس له حكاية خاصة. وقد حضر المجلس الأخير رجال الصوفية، الأغواث والأقطاب والأوتاد ونوابهم، في الجزائر. وحضر معهم غوت مرسيليا - سيدي المرسلي - الذي ذكر الحاضرين بخيرات فرنسا وكرمها، كما حضر رئيس الديوان. وبعد التداول في مصير الجزائر اتفق أعيان الصوفية، حسب راوي المجالس، على تفويض الأمر إلى الله. فهو الحكيم العليم والمقدر كم سيبقى الفرنسيون في الجزائر ومتى سيخرجون منها. ¬

_ (¬1) جوزيف ديبارمي (عمل فرنسا كما يراه الأهالي) في المجلة الجغرافية للجزائر وشمال إفريقية، SGAAN، 1909، القسم الأول، ص 167، والثاني ص 417.

(فرق تسد)

وواضح أن نهاية رأى الأهالي في الحكم الفرنسي ترجع إلى القضاء والقدر أيضا. والفرنسيون يعرفون ذلك ويبنون عليه تمديد بقائهم بالخرافة والعلم والتسلط. إنهم يعرفون مشاعر المسلمين ومدى الهوة التي تفصلهم عنهم، ولذلك كانوا يعملون على تأجيل قرار زعماء الصوفية وتحويله إلى قرار قدري ليس في أيديهم ولكن في يد سلطة أعلى منهم. ويبدو لنا أن فهم ديبارمي للنفسية الأهلية أصدق وأعمق ربما من فهم ألفريد بيل وأوغسطين بيرك ولويس ماسينيون وأضرابهم ممن كانوا مهتمين فقط بالشرائح الاجتماعية القريبة منهم كالاندماجيين والبرجوازية والإقطاعيين. وديبارمي كان يعرف أن المداح الشعبي ومجالس الصوفية إنما هي رموز على مدلولات خفية، وأن الحقيقة كانت وراء ذلك. وأن هناك أسلوبا حكيما في التقية والتورية، سواء باستعمال ألقاب الصوفية أو استعمال الفوارس والأبطال في التاريخ القديم (¬1). لم يكن الفرنسيون يحضرون فئة معينة لتولي الحكم في الجزائر بدلهم ذات يوم. كانوا يعتقدون أنهم خالدون وأن الجزائري سيظل خديمهم إلى الأبد. وإنما كانوا يستعملون الحيل والتسويف والقمع والتقسيم للإبقاء على قبضتهم. وبذلك ساهموا في توحيد الجزائريين، على عكس مقصودهم، لأن الفلاح والعامل والمثقف والسياسي ورجل الدين كلهم تيقنوا أن الفرنسيين كانوا يعاملونهم على حد سواء وهو حرمانهم من الهوية الوطنية ومن حق التمتع بالحرية. (فرق تسد) استعمل الفرنسيون سلاح تقسيم الجزائريين بكل مهارة. وتطور استعمال هذا السلاح عندهم مع الزمن. فكان لكل ظرف وكل عهد سلاحه ¬

_ (¬1) عالج ديبارمي هذه الرموز وأناشيد المداح (القوال) في عدة أعمال نشرها. كما اهتم بالحركة الوطنية والإصلاحية بالخصوص.

البتار، وقد استمروا على ذلك خلال ثورة 1954 أيضا. والذين عاشوا هذه الثورة من الجزائريين يدركون أن ما فعله الجيش الفرنسي معهم وأجهزة المخابرات والمصالح الخاصة كان نسخة مكررة مما استعمله الفرنسيون ضد آبائهم وأجدادهم منذ 1830. اعتمد الفرنسيون في البداية على مخلفات الحروب الصليبية في المشرق وفي الأندلس. ومنها اعتبار سكان شمال إفريقية مسلمين متعصبين وشرقيين معادين للأوروبيين، وأن الإسلام هنا عدو للمسيحية هناك. كما اعتمدوا على تراث مكتوب شحنه رجال الدين والأسرى والرحالة والجواسيس والقناصل بمواطف العداء لأهل شمال إفريقية ووصفهم بأوصاف التخلف والتعصب والوحشية. وقد ترجم الفرنسيون واطلعوا قبل الحملة على مؤلفات الدكتور شو، وويليام شيلر، وبوتان، ودي طاسي والأب دان، وديفونتين، وريبندر، وبنانتي وغيرهم. ولذلك كانت ردود أفعال الفرنسيين الأولى تتماشى مع الأحكام التي أصدرها هؤلاء المؤلفون ضد السكان وحكامهم. ومعظم هذه المؤلفات كانت تصب جام غضبها على الحكام (الأتراك) باعتبارهم حكاما غرباء ومستبدين، يحكمون لمجرد الشهوة في جمع المال والثروات، ومن أجل ذلك كانوا يقومون بالقرصنة ويفرضون الجزية على الدول الأوروبية، ويأسرون الأسرى ويبيعونهم في سوق النخاسة من أجل الثروة وليس من أجل أي هدف آخر. وفي نظر هؤلاء المؤلفين كذلك أن المحكومين (الأهالي) كانوا يبغضون الأتراك وأنهم إذا وجدوا مساعدة خارجية فسينضمون إليها لتحريرهم من ربقة الذل والهوان والاستغلال الذي كانوا يتعرضون له على يد الأتراك الظلمة المستبدين. ثم إن هؤلاء الأتراك ما هم إلا أقلية (أوليغاركية) وفيهم المرتدون عن المسيحية والمغامرون والجنود الذين قدموا من أناضوليا وسواحل شرق البحر الأبيض وجزره بحثا عن الغنائم والشهوات والثروات. وليس لهؤلاء الحكام ولاء حقيقي للسلطان العثماني الذي أصبح قلقا منهم لتمردهم عليه.

وكان البيان الذي أصدره الفرنسيون للجزائريين عشية الحملة يسير في هذا الخط (¬1). وكانوا معتمدين على أن الحضر، وهم البرجوازية المتسيسة والراغبة في الحكم قياسا على المجتمعات الأوروبية، سيتعاونون معهم لفك قيود الحكم (التركي) وتولي السلطة بدلهم. وقد نجحت هذه الخطة مع سكان العاصمة إلى 5 يوليو 1830، ساعة احتلال القصبة واستيلاء الجيش الفرنسي على الحصون والقلاع. ذلك أن أعيان الحضر هم الذين ضغطوا على الداي ليفاوض بشروط ولينقذ المدينة من الدمار. ولم يكن الباشا ولا الأعيان عندئذ يفكرون في مصير الأجزاء الأخرى من الوطن. ويبدو أن الحضر كانوا يعتقدون أن الفرنسيين سيبرون بوعدهم ويجلون عن الجزائر بعد عزل الداي وتنصيب (أمير) آخر مكانه. ولم نعرف أن الداي قد شاور قادة الأقاليم وشيوخ الأوطان وأعيان البلاد في مصير الجزائر قبل أو بعد استسلامه للفرنسيين، أو أنه تنازل لأحدهم ليحكم بعده، أو فكر في الانتقال إلى عاصمة إقليمية أخرى ليقود المقاومة. فقد كان كل انشغاله وانشغال زعماء الحضر عندئذ هو إنقاذ العاصمة من التدمير بأخذ الفرنسيين لها عنوة. وبدأ عيث وعبث الفرنسيين بالعاصمة وأهلها حتى قبل أن يخرج منها الداي. وأخذ الحضر يشاهدون من الفرنسيين ما لم يكونوا يتوقعون أبدا: اغتصاب المنازل، وانتهاك المساجد، ونهب التحف، وسلب المال، مع الشتائم والإهانات. وكان أول رد فعل لذلك هو خروج الآلاف من العاصمة إلى الأماكن القريبة أو الذهاب عند الأقارب في المناطق المجاورة، انتظارا لإنجلاء الموقف. ورأى بعض أعيان الحضر أن أخف الضررين هو التعاون مع العدو في تسيير المدينة، فشاركوا في أول لجنة بلدية وبعض المصالح الأخرى الثانوية، معتمدين على شروط الاتفاق الذي وقع بين الداي وقائد الحملة ومحتجين به على الفرنسيين. وحين رأى هؤلاء شكوك الحضر بهم أخذوا يميلون إلى التعامل مع اليهود ضدهم، وكان اليهود من سكان العاصمة ¬

_ (¬1) نشرنا هذا البيان وقدمنا له وعلقنا عليه في كتابنا أبحاث وآراء، ج 1.

يعرفون جيدا، أحوالها السياسية والتجارية والمالية، وقد ارتموا في أحضان الفرنسيين من أول وهلة رغم أنهم كانوا منذ الطرد من الأندلس مع المسلمين، يتمتعون بمكانتهم الاجتماعية والاقتصادية في المجتمع الجزائري. وهكذا انطلقت سياسة تفريق الصفوف: الحضر ضد الترك، ثم الحضر العرب ضد الحضر الكراغلة، ثم اليهود ضد الحضر بأنواعهم. هذا في المدن كالجزائر وتلمسان ومستغانم وقسنطينة والبليدة والمدية. وسنرى أن الحضر كانوا لا يمثلون في خطر الفرنسيين أي وزن بعد التوسع في الاحتلال. وسيعتمد الفرنسيون على نوع آخر في تفريق الصفوف عندما تخرج جيوشهم إلى البادية أو الأرياف بجبالها وسهولها وصحاريها، لأن معظم سكان الجزائر كانوا خارج المدن. عندما ظهرت القيادات المقاومة للغزو الفرنسي داخل البلاد استعمل الفرنسيون أيضا قادة ضعفاء النفس، طامعين في السلطة وأمدوهم بالسلاح والعتاد والرجال، وضربوا، كما يقولون، الصفوف ببعضها. فقد اعتمدوا في أول الأمر على قادة من أصول تركية أو سبق لهم الحكم في الأقاليم، مثل إبراهيم بوشناق في مستغانم، ومصطفى المقلش في تلمسان، وإبراهيم الكريتلي في عنابة. الأولان ضد الأمير عبد القادر، والأخير ضد الحاج أحمد. وفي الصفوف العربية ضربوا القادة ببعضهم أيضا سواء في شرق البلاد أو غربها. ففي الشرق شجعوا فرحات بن سعيد من عائلة وعكاز ضد شيخ العرب ابن قانة الذي كان صهرا للحاج أحمد. وفي الغرب فصلوا مصطفى بن إسماعيل ومحمد المزاري ثم سيدي العربي عن الأمير عبد القادر، وبنوا حبة من قبة على الخلاف الذي وقع بين الأمير ومحمد الصغير شيخ التجانية في عين ماضي، حتى جعلوا خلافهما متوارثا في الطريقة بين التجانية والقادرية مدة قرن. كما ضخموا الخلاف بين الأمير والحاج أحمد. ودخلوا زواوة

ووسعوا الخلاف بين العائلات الحاكمة هناك، عائلة أورابح ضد عائلة أوقاسي، وهذه ضد عائلة سيدي الجودي، وهذه ضد عائلة ابن زعموم الخ. واستمر الضرب على هذا الوتر طيلة عقود: ضرب العرب بالعرب والبربر بالبربر، دون تمييز. وكان بعض العرب والبربر من الغفلة والجهل بحيث مدوا رقابهم للذبح وأيديهم للقيد، دون تفكير في العواقب ودون إدراك للأهداف السياسية للفرنسيين. وإذا صدقنا الروايات الفرنسية فإن القادة الأهالي قد صفوا بعضهم ببعض، وكانت مهمة الفرنسيين هي فقط توفير السلاح. ولم تسلم الطرق الصوفية من سلاح التقسيم أيضا. فحين رأى الفرنسيون أن الخطر يكمن في هذه الطرق بعد القضاء على المقاومة المنظمة، استعملوا نفس السلاح ضد الطرق أيضا. فقدموا بعض قادة الطرق الصوفية للوظائف الزمنية، كما فعلوا مع أولاد سيدي الشيخ في البيض، وعائلة ابن علي الشريف في أقبو، وعائلة ابن حسين في الخنقة، وعائلة الصحراوي بتيارت، الخ. وقسموا الطريقة الرحمانية إلى فروع موالية معظمها في الجنوب، وفروع معارضة معظمها في الشمال، وضربوا القادرية والرحمانية بالطريقة التجانية التي كانوا ينوهون بولائها وخدماتها. ورغم أنهم ظلوا يعتبرون الدرقاوية معارضة ومبتعدة عن الوظائف الزمنية، عدا القضاء والتعليم، فإنهم وجدوا في الطريقة العليوية (وهي درقاوية) طريقة (عصرية) قريبة من الإدارة الفرنسية وحاولوا أن يضربوا بها الحركة الإصلاحية، كما استعملوا بعض فروع الرحمانية ضد هذه الحركة مثل زاوية الهامل. ولم تسلم الناحية المذهبية من سلاح التفريق أيضا. فقد حاول الفرنسيون أولا التفريق بين علماء المذهب المالكي والمذهب الحنفي. ولما عجزوا عن ذلك، لجأوا إلى التفريق بين أهل المذهب المالكي والإباضي. فنصبوا الحماية على ميزاب وتركوا لأهلها عاداتهم وأعرافهم، واعفوهم من الخدمة العسكرية، وراعوهم في الضرائب. وما التوترات التي نقرأ عنها في المدن بين التجار أحيانا إنما كانت بفعل سياسة التفريق هذه.

ومنذ أوائل الأربعينات من القرن الماضي أخذ الفرنسيون (يكتشفون) سلاحا آخر، وهو أن في الجزائر عنصرا بربريا ليس ككل البربر. وبنوا على ذلك نظريات وأجروا بحوثا انتهت في نظرهم إلى أن هذا العنصر من الجنس الآري، أو الهند أوروبي، وأنه لا علاقة له بالجنس السامي. وبعد أن كانوا يعاملون كل السكان على أنهم عرب مسلمون وشرقيون، بدأوا يعاملونهم معاملة مختلفة، فبعضهم عرب وبعضهم بربر، والبربر بعضهم من الجنس الآري وبعضهم من الجنس الحامي. وأخذوا يضعون لهؤلاء وأولئك خصائص وميزات تجعل البعض أقرب إلى المسيحية وإلى الفرنسيين في العرق والسلوك والنظام الاجتماعي من السكان الآخرين. وقد تجاهل الفرنسيون روايات النسابة البربر والعرب والنظريات التاريخية التي ترجع إلى قرون خلت، وتجاهلوا الروايات الشفوية التي يرويها البربر أنفسهم عن أنسابهم (¬1)، رغم أنهم (أي الفرنسيين) قد ترجموا معظم المصادر العربية والإسلامية التي تعالج هذا الموضوع، ومنها تاريخ ابن خلدون، وتاريخ ابن الأثير، وابن عبد الحكم، وابن حزم، والمسعودي وأضرابهم. وبعد حوالي قرن من البحث (العلمي) على يد عقداء في الجيش الفرنسي، من أمثال كاريت، ورين، وهانوتو، ودوماس، الخ. ومستوطنين حاقدين من أمثال الدكتور وارنييه، وباتييه، وقوتييه، وأندري سيرفييه، وأندري باصيه - قلنا بعد ذلك اعترف الفرنسيون بأنهم كانوا يزيفون التاريخ وأنهم إنما فعلوا ذلك من أجل السياسة والبقاء في الجزائر، أما الجزائريون ¬

_ (¬1) من كتب النسابة البربر، حسب رواية أبي القاسم الزياني الذي ترجم الفرنسيون بعض أعماله وهو (الترجمان المعرب): - تاريخ سليمان بن إسحاق المطماطي، - تاريخ هاني بن يصدور القوصي، تاريخ كهلان بن أبي لؤي الأوربي، وقد استعمل ابن خلدون هذه التواريخ التي تعالج أيام البربر وأنسابهم في الجاهلية والإسلام. انظر مولاي بلحميسي (الجزائر من خلال رحلات ...) الجزائر، 1978، ص 160 - 161. وكذلك رينييه باصيه (النسابة البربر) في (الأرشيف البربري)، المجلد الأول، ص 1? 13.

فهم في الواقع سواء وأن الإسلام قد وحد بينهم في حضارة عميقة لا يبغون عنها حولا، وأن لغة القرآن كان يطالب بها البربري والعربي على حد سواء، وأن الجزائريين بهذه الصفة مشتركون في العداء للفرنسيين (¬1). ولن نفهم هذه النقطة إلا بالرجوع إلى بعض آراء هؤلاء الكتاب. فقد عاش البربر والعرب في ظل الإسلام والوحدة والأخوة منذ الفتح. ولم يذكر المؤرخون أي توتر بينهم كان سببه التمايز العرقي أو الاختلاف اللغوي أو المذهبي. حقيقة أن هناك ثورات اشتركوا فيها لنصرة مذهب أو حاكم، ولكنهم كانوا إذا غضبوا غضبوا لأسباب سياسية أو اقتصادية في أغلب الأحيان. وقد خاضوا معا معارك الجهاد ضد الغزاة الأجانب، كما عاملهم العثمانيون طيلة ثلاثة قرون معاملة واحدة، سواء كانوا مخازنية أو رعية. فتكونت بينهم وحدة لا انفصام لها، وتاريخ وآمال مشتركة، ووحد بينهم الإسلام عقيدة ولغة وجمعتهم خريطة الجزائر بتربتها السهلية والجبلية والصحراوية على صعيد واحد. ولكن بعض كتاب الفرنسيين لم يرقهم ذلك. فراحوا يبحثون عن الفروق في المقابر والمتاحف والحوادث التاريخية وفي لون البشرة وتباين اللهجات والأعراف ونظام الحياة اليومية. وكانوا يدخلون البربري والعربي في المخبر الفرنسي ويأخذون عينات من دم هذا وذاك، ومن جمجمة هذا وذاك ومن جلد هذا وذاك، ثم يحللونها بمهارتهم (العلمية) باستعمال تقنيات الأنثربولوجيا، واللسانيات، والأنساب، والسلالات، ثم يعلنون النتيجة الباهرة، في نظرهم، وهي أن هناك أكثر من شعب يسكن الجزائر، وأن هناك اختلافا بين عناصر هذه (الشعوب)، وأن الإسلام بينهم ليس على درجة واحدة من التمكن والرسوخ، وأن اللغة العربية قوية هنا وضعيفة هناك، بل منعدمة في بعض الجهات. وأن هناك العرب والمعربين وغير المعربين بتاتا، ¬

_ (¬1) شارل روبير آجرون (الجزائريون المسلمون وفرنسا) 2/ 879، وكذلك فيكتور ترنقه (دراسة اجتماعية حول المجتمع الإسلامي في شمال إفريقية)، الجزائر 1913. راجعته (مجلة العالم الإسلامي)، سبتمبر 1913، ص 348.

وهم الممتنعون في الجبال. وأن البربر هم هؤلاء المتحصنون في الجبال والمتكلمون بلهجاتهم الخاصة، وأن المعربين منهم إنما هم بربر أيضا، ومن ثمة فجملة البربر في الجزائر أكثر من جملة العرب فيها، وأثبت المخبر الاستعماري الفرنسي أن هؤلاء العرب هم المحافظون على بداوتهم، وهم الذين يسكنون السهول ويمارسون الرعي والترحال، وقل منهم المزارعون وسكان البيوت المبنية. وفي العرب طبقات وارستقراطية محافظة ونظام أبوي تقليدي، والولاء عندهم للعرش والجماعة. وهم محتلون للبلاد جاؤوا، في نظر الفرنسيين، من الحجاز، ومنهم الأجواد والأذواد والأشراف والمرابطون، ومنهم المخازنية والرعية، ولهم الموالي والعبيد، وهم كسلاء، ويمارسون تعدد الزوجات، كما أنهم محافظون على الدين الذي جاؤوا به. وهم في غزوات مستمرة ضد بعضهم البعض كما كانوا منذ قرون. ومن جهة أخرى أثبت المخبر الاستعماري الفرنسي أن البربر هم السكان الأصليون وأنهم تعاونوا مع الرومان وكانوا على المسيحية. وأن لهم بشرة بيضاء وعيونا زرقاء وشعورا شقراء تدل على أن أصلهم نوردي - جرماني، وأن لهم لغة شفوية ذات أصول هندوأوروبية، وهي ذات لهجات. وهم سكان الجبال التي امتنعوا فيها عن مختلف الغزاة، ولهم نظام خاص يشبه النظام الأوروبي، فهم حينئذ ديمقراطيون بطبعهم، ولهم جماعات وأمناء، وهم يحسنون الزراعة وسكنى البيوت الطينية، وهم نشطون ويحبون العمل والمنافسة، ولا يرفضون التقدم والتمدن الذي جاء به الفرنسيون، وهم في نظر هؤلاء مسلمون، ولكن إسلامهم خفيف بدليل أنهم يفضلون العمل بالعرف على العمل بقواعد الإسلام. والبربر ليسوا قبيلة واحدة أو جنسا واحدا. فمنهم سكان الصحراء وسكان الجبال، وهم موجودون في جبال الظهرة والأوراس وجرجرة وميزاب والهقار. وهم كالعرب يغزون بعضهم بعضا أيضا. ولو اعتمد هؤلاء الفرنسيون على روايات وأخبار المؤرخين وناقشوها وقبلوا منها ورفضوا بعضها لقلنا إن ما توصلوا إليه جدير بالنظر والدراسة.

ولكنهم كانوا يعتمدون على نزوات شخصية ومصالح استعمارية آنية. كانوا يصدقون أرنست رينان ويكذبون ابن خلدون، ويستوحون نظرية دورخايم ويرفضون نظريات ابن حزم وابن عبد الحكم ونسابة العرب والبربر. ومن هو العقيد كاريت حتى يفتح باب مدرسة كاملة في شتم الشعب الجزائري وتفريق عناصره منذ 1841؟ لقد بدأ عمله عضوا في (اللجنة العلمية) التي تأسست سنة 1839 (لاكتشاف الجزائر). وكان من نتائج نشاطه كتابه الذي سماه (بحوث في أصول القبائل الرئيسية في شمال إفريقية ولا سيما الجزائر) وقد طبع هذا الكتاب بموافقة اللجنة العلمية نفسها وبأمر من الحكومة الفرنسية (¬1). ثم توالت الكتب التي ركزت بالخصوص على زواوة (القبائل). فألف كاريت نفسه (دراسات حول منطقة القبائل)، وبيربروجر عن (العهود العسكرية لمنطقة القبائل)، والبارون أوكابيتان (القبائل والاستعمار في الجزائر)، ودوماس وفابار (منطقة القبائل الكبرى)، وهانوتو ولوتورنو (منطقة القبائل والعادات - الأعراف - القبائلية) وأصدر الدكتور وارنييه كتابه (الجزائر أمام الامبراطور) (¬2)، ودوماس كتابه الآخر (القبائل العربية) أيضا، وهنري فورنيل (دراسة عن الاحتلال العربي لإفريقية). وهناك العديد من هذه الكتب، ومنها كتاب بقي (حضارة شمال إفريقية)، وإيميل قوتييه (العصور الغامضة لشمال إفريقية)، ومن أواخرها كتاب الضابط بيروني (سلالات وعوائد إفريقية الشمالية). وفي الوثيقة الطويلة (ستة فصول) التي وزعتها مصالح المارشال بوجو على المكاتب العربية العسكرية التي كانت تحكم الجزائر، بدأت تظهر ملامح التعامل مع الأهالي. فمصالح بوجو تعرف رؤساء المكاتب العربية بالعناصر المكونة للسكان وبطريقة التعامل معهم على أساس عرقي، والاستفادة من (الصفوف) بينهم في مواجهة المقاومة. وصدرت هذه الوثيقة سنة 1845، ¬

_ (¬1) المطبعة الإمبريالية، باريس، 1853. (¬2) له أيضا كتابان آخران: (الجزائر أمام مجلس الشيوخ)، و (الجزائر أمام الرأي العام) كلاهما صدر سنة 1863. أما (الجزائر أمام الامبراطور) فقد أصدره سنة 1865.

قبل هزيمة ديسمبر 1847 بسنتين. وكان بوجو عندئذ في أوج طغيانه، بعد أن افتك من الأمير عبد القادر المدية ومليانة وتلمسان ومعسكر وتاقدامت، واستولى على الزمالة. وواجه الفرنسيون في نفس السنة (1845) ثورة الظهرة الشهيرة التي شاركت فيها مختلف الطرق الصوفية وحد ثت على إثرها معركة سيدي إبراهيم. فماذا قالت الوثيقة عن الجزائريين؟ إنها تحدثت عن نوعين فقط من (السلالات): العرب والقبائل، وهو تصنيف قد يكون حدث لأول مرة، حسب علمنا. أما العرب فهم على صنفين: صنف يسكن السهول بين الساحل وجبال الأطلس، ونوع يسكن الهضاب العليا. الأولون مستقرون، والأخيرون رحالة. وعرفت الوثيقة (العرب) بأنهم أهل البادية - الريف، ولا تعني سكان المدن (الحضر) لقلة عدد هؤلاء واختلاطهم بالسكان الآخرين (؟). ثم ذكرت الوثيقة، التي يغلب على الظن أن محررها هو يوجين دوماس رئيس المكتب العربي المركزي في عهد بوجو، الأوصاف التي كان يتميز بها المجتمع العربي وطبقاته كالارستقراطية ونظام الأبوة وأهمية الشرف، مضيفة شيئا لم نذكره وهو اعتماد هذا المجتمع على وحدة الدوار، ووجود مجلس في كل دوار يسيره الكبار أو الأعيان. وأما أهل القبائل فقالت عنهم الوثيقة بأنهم هم سكان الجبال، وعرفتهم بأنهم خليط ممن قاوموا الغزاة عبر العصور. واعترفت الوثيقة بصعوبة الحكم عليهم عندئذ لعدم المعرفة الكاملة بهم. كما نسبت لهم نفس الأوصاف التي ذكرناها عن البربر، ولكنها أضافت أنهم أقل حبا للرحلة والتنقل من العرب، وأن الذي كان يوحدهم هو التعصب ضد الكفار، وأن لهم نظاما يتمثل في العرش والقبيلة والجماعة والأمين (¬1). ¬

_ (¬1) نشرت (مجلة الشرق)، باريس 1845 خلاصة الوثيقة التي قالت إن بوجو قد وقعها ووزعها على رؤساء المكاتب العربية العسكرية ليحكموا بمقتضاها. انظر صفحات 347 - 361. ولا ننسى أن بعض المناطق الهامة ما تزال غير محتلة عندئذ.

وفي هذه الأثناء (1844) أرسلت الحكومة الفرنسية المهندس هنري فورنيل في مهمة للجزائر. ورغم أن مهمته كانت هي البحث عن المناجم وكيفية استخراج المياه الجوفية، فإن فورنيل أبى إلا أن يكتب عن تجربته في الجزائر التي زارها شرقا وغربا وشمالا وجنوبا، رغم الوضع غير المستقر. ثم ألف كتابه عن احتلال العرب لإفريقية الذي يسميه المسلمون (الفتح الإسلامي)، وانتهى فيه إلى أن العرب قد فشلوا في مهمتهم (¬1). وهذه الأطروحة كانت تتماشى مع أطروحة السياسيين والعسكريين الفرنسيين الذين يعتبرون أنفسهم الوحيدين من الأجانب، بعد الرومان، الذين نجحوا في احتلال الجزائر. أما العرب والأتراك، مثلا، فكلهم كانوا من الفاشلين. وهو رأي كان يؤيده أيضا رجال الكنيسة الذين كانوا يريدون إلغاء الاثني عشر قرنا من الإسلام، والرجوع بالجزائر إلى عهد الكنيسة الإفريقية - الرومانية. والمهم عند الفرنسيين عندئذ هو إيجاد عداوة محلية يوظفونها داخل صفوف أعدائهم وليس البحث (العلمي) السلالي أو اللغوي في حد ذاته. فالتوصيات التي كانت تصدر من الكتاب مبنية على أن القبائل هم أقرب من العرب في التحالف مع الفرنسيين. وبذلك يمكن للفرنسيين أن يكسروا الحلقة التي تطوق عنقهم. وفي البحث عن العداوات داخل الصفوف الأهلية التي تكفل بها في الواقع كل مكتب عربي عسكري، جاء السيد فورتان ديفري F. d'IVRY بخلط عجيب في التسميات والخريطة الجغرافية عند حديثه عن سكان الجزائر، رغم أنه قد زارها وكتب عنها أثناء إدارة بوجو. فهو تارة كان يسمى الشاوية قبائل، وتارة يسميهم عربا يتحدثون اللغة العربية وتمتد رقعتهم في نظره إلى عنابة وقالمة والعين البيضاء، ويذهب تارة أخرى إلى أن عرب الصحراء كانوا ضد عرب التل، وأن هناك فروقا بين سكان شرق البلاد ووسطها وغربها. وكان يسمى الشاوية عرب الشرق. ويقول إنك كلما ازددت ¬

_ (¬1) نقل ذلك عنه لويس رين في (بحث في الدراسات اللغوية والأثنولوجية عن الأصول البربرية) في المجلة الإفريقية، 1889، ص 97. وعن رحلة فورنيل إلى الجزائر انظر (مجلة الشرق)، باريس 1845، ص 164 - 167.

اتجاها نحو الغرب، وجدت (القبائل) أكر عنادا وصلابة وقدرة على الحرب، ويعني بالغرب الأرض الممتدة من شرشال إلى المحيط. وتأثر رأى ديفري بالنسبة لعرب الصحراء والسهول الخصبة بوثيقة بوجو، إذ قال إنها لا تحول دونهم سوى الجبال المانعة كالأوراس والظهرة وجرجرة والونشريس حيث كان يسكن القبائل (البربر؟)، الذين لهم نظام اجتماعي وحدود طبيعية متميزة. وقد كرر ديفري نفس الأوصاف التي جاءت في وثيقة بوجو حول خصائص كل (جنس)، مضيفا، أن الاستبداد السياسي الذي فرضه الإسلام (!) قاومته هذه الجبال الصلبة. وقال ديفري إن هناك عداوة زمنية متبادلة بين السكان لم تعرف فرنسا كيف تستفيد منها سياسيا. ولا شك أنه ظن أنه كان يقدم بذلك نصيحة غالية لبلاده (¬1). ويكاد رأي ديفري يكون هو الرأي الذي انتهى إليه العقيد كاريت أيضا، وهما متعاصران. ففي رأي كاريت أن السكان القبائل هم المنحدرون من السكان الإفريقيين القدماء، وربما من الوندال (النورديك) أيضا، أو من المسيحيين الأولين. ونظرا لهذا الأصل غير المؤكد لغويا، أو عرقيا، أو دينيا، ولنظمهم الديموقراطية، فإنهم في نظره هم الحلفاء الطبيعيون للفرنسيين (¬2). وقد بينت حوادث الخمسينات والسبعينات من القرن الماضي وغيرها أن العقيد كاريت كان يبني أوهامه على الرمال وأن الأسطورة التي كان ينسجها حول هذا التحالف غير الطبيعي كانت أضغاث أحلام. ذلك أن الفرنسيين قد واصلوا منذ 1860 مناقشاتهم في الصحف عما يفعلون بالقبائل (البربر)، هل يبعدونهم تماما عن أراضيهم أو يبقونهم ويفرنسونهم (¬3). وسوف تستمر هذه المناقشات إلى فترة ما بين الحربين العالميتين، ولكنها لم تسفر على طائل، وعلينا الآن أن نعرف ماذا حدث بالضبط. ¬

_ (¬1) فورتان ديفري (الجزائر) في مجلة الشرق، 1845، ص 62 - 64. (¬2) نقلت ذلك آن تومسون (بلاد البربر ...) مرجع سابق، ص 87. (¬3) كوك، ج. (الاحتلال والاستعمار في شمال إفريقية)، ص 23، مرجع سابق.

معاداة العرب

معاداة العرب ارتبط اسم العرب في أذهان الأوروبيين بالإسلام. فإذا ذكر الإسلام ذكر معه العرب بالضرورة. وكان الفرنسيون هم ممثلي أوروبا في الجزائر منذ الاحتلال. فما يصدر عنهم ضد الإسلام ينصرف أيضا ضد العرب. وقد تكفلت الكنيسة الكاثوليكية بالهجوم على الدين الإسلامي ونبيه محمد في صوت لويس بافي، ولافيجري وأغلب القساوسة الذين معهما. كما تكفل معظم المستشرقين الفرنسيين بمهاجمة الإسلام وحضارته ولغته وتاريخه، وتولى ذلك ألفريد بيل وويليام مارسيه، دون ذكر رينان وماسينيون، الخ. أما العرب كجنس أو عرق فقد ناصبهم العداء، في الجزائر على الأقل، الدكتور وارنييه ومدرسته التي سنأتي عليها. والغريب أن وارنييه لم يتحرك في هذا الاتجاه إلا عندما تهددت مصالح الكولون، وهو منهم، خلال الستينات عندما أشيع أن هناك مشروعا لإنشاء مملكة عربية في الجزائر يتولاها الأمير عبد القادر نيابة عن الامبراطور نابليون، كما كانت المجر مملكة تابعة للنمسا ومصر الخديوية تابعة للدولة العثمانية. وقد نفهم من هذا أن هجوم الدكتور وارنييه على العرب إنما هو هجوم ظرفي وقائم على مصلحة ضيقة. فقد عايش وارنييه العرب طويلا قبل ذلك ومثل فرنسا لدى الأمير كقنصل في معسكر أيام صلح التافنة، وعاش حياته بعد ذلك في وهران وغيرها، وشارك في مؤلفات اللجنة العلمية، دون أن يكتب عن العرب بنفس الحدة التي كتب بها عنهم وهو يؤلف كتابه (الجزائر أمام الامبراطور) سنة 1865. ولنعرض أولاد حياة د. وارنييه بشيء من التفصيل. فقد حل بالجزائر سنة 1832 وبقي بها إلى ما بعد قيام الجمهورية الثالثة. ولعب أدوارا في السياسة والاقتصاد والقيادة، رغم أنه كان بالمهنة طبيبا، وجراحا عسكريا. وكان من أتباع حركة سان سيمون أيضا. وبعد معاهدة التافنة (1837) عينته فرنسا قنصلا لها فى معسكر. وعند إنشاء اللجنة العلمية (39 18) عين عضوا

فيها وبحث في موضوع المجتمع الجزائري في قسنطينة. وتولى إدارة الشؤون المدنية بإقليم وهران، وكان عضوا في مجلس الحكومة العامة بالجزائر، وهو أعلى سلطة تمثل الدولة الفرنسية وتساعد الحاكم العام في مهمته. وكان بدين الجسم وله صفة التسلط. وقد أسس سنة 1850 جريدة (الأطلس)، وكانت آراؤه متعارضة تماما مع آراء إسماعيل (توماس) أوربان حول الموقف الفرنسي من الجزائريين، رغم أنهما كانا ينتميان إلى مدرسة سان سيمون، وكذلك متضاربة مع آراء لاكروا، بل أصبح وارنييه خصما لهما. ولكن وارنييه ارتبط بصداقة شارل دو فيرييه الذي كان يسمي نفسه (شاعر الله) والمؤمن أيضا بفكر سان سيمون. وكان شارل دوفيرييه هو والد هنري دوفيرييه، صاحب الرحلة الصحراوية الشهيرة، وهو (هنري) الذي عالجه د. وارنييه وأنقذ حياته. كما ارتبط وارنييه بالمحامي لوسيه الذي طردته حكومة الجمهورية الثانية سنة 1848 من فرنسا إلى الجزائر، وتولى مسؤوليات في قسنطينة، منها اللجنة الفلاحية والكتابة في جريدة (المستقبل) التي اشتراها بعد ذلك، وأصبح هو المتكلم (أي لوسيه) باسم الكولون في قسنطينة، وكان معارضا بشدة، مثل د. وارنييه، لسياسة المكاتب العربية العسكرية. لقد كان وارنييه يؤيد سياسة الاحتلال الكامل للجزائر، ومن أجل ذلك نصب نفسه خصما للعسكريين من جهة ولسياسة المملكة العربية التي أعلن عنها نابليون من جهة أخرى. وأصبح وارنييه هو زعيم المعادين للعرب، وهم الذين أطلق عليهم اسم (الأرابوفوب) و (الأرابوفاج) - arabophages -. وقد نشط هؤلاء بإصدار الكتيبات وبالحملات الصحفية ضد العرب وضد مشروع المملكة العربية، خلال فترة الستينات (¬1). رجع د. وارنييه إلى إحصاءات زميله العقيد كاريت فوجده يقول إن عدد العرب الخلص في الجزائر قليل وأن من يسمون بالعرب إنما هم بربر قد تعربوا. وبناء على رأي كاريت فإن عدد العرب في القرن 16 كان حوالي 9% ¬

_ (¬1) بيلي (عندما أصبحت الجزائر ...) مرجع سابق، ص 128.

من عدد السكان، وهم حوالي مليون عند تأليف كتابه (القرن 19). أما وارنييه فقد صحح الأرقام وقال إن عدد العرب أقل من ذلك في نظره، فهم لا يتجاوزون نصف المليون، أما باقي السكان فهم بربر قد تعربوا أو بربر غير متعربين. وأورد وارنييه نص رسالة من صديق (للمؤرخ) هنري مارتن بعث بها إلى رئيس تحرير جريدة (الرأي الوطني) ووصف فيها العرب بأنهم نوماد (بدو) محتلون لم يستطع الزمن أن يعطي الشرعية لاحتلالهم لأنهم، في نظره، لم يؤسسوا شيئا ولم يخصبوا شيئا. والعرب في نظر مارتن، لهم نظام شيوعي (مشترك/ قبلي) وارستقراطي في نفس الوقت، وهو نظام عدو (!) ليس له ما يستحق عند الفرنسيين من الاحترام. ولذلك يجب تحطيمه، لأنه نظام يمنع من استرجاع الحضارة الإفريقية (؟). وقال مارتن إن هذا النظام هو فقط من مخلفات العدوان الوحشي (البرباري) (¬1). وانطلق د. وارنييه في حملته المعادية للعرب. فحكم أولا بخطإ النظرية الفرنسية السائدة عند الاحتلال، وهي أن الكلمة (العرب) مرادفة لكلمة (المسلمين). وبخطإ النظرية القائلة بأن العرب هم الذين فتحوا الأندلس وأن المجد الأندلسي مجد عربي. ورأى أن التراث العربي في الفلسفة والأدب والعلوم لا ينسب إلى العرب وحدهم. وطعن فيمن ينتسبون إلى الأشراف والمرابطين. وطالب حكومته بوقف (التعريب)، لأن في الجزائر شعبين وليس شعبا واحدا، وكذلك طالب بالاعتراف بثلاث لغات فيها وهي: البربرية للبربر الخلص، والجزائرية للبربر المتعربين، والعربية الدارجة للعرب. أما اللغة الفصحى فلا كلام عليها، وقال إن كلمة (القبائل) تطلق في الدارجة على كل البربر، لأن القبائل فرقة هامة منهم. والمقياس عنده، وعند من اقتنع بنظريته، في معرفة من هو العربي ومن هو البربري، هو مدى الإيمان بالحضارة الأوروبية والتقرب من الفرنسيين. فالبربر هم المتفتحون على هذه الحضارة وهم الحلفاء الطبيعيون للفرنسيين، والعرب هم المتزمتون ¬

_ (¬1) د. وارنييه (الجزائر أمام الامبراطور)، ص 9 - 14.

والمتعصبون والمبتعدون عن حضارة الفرنسيين. وهاجم وارنييه العرب أيضا في جانب آخر. قال إن التاريخ يصور العرب على أنهم حملوا القرآن في يد والسيف في اليد الأخرى وأنهم بعد أن قتلوا ونهبوا ومروا كالسيل المخرب عبر شمال إفريقية وإسبانيا، جاء الأمراء البربر ورمموا الخرائب لأنهم إنما قبلوا بالإسلام لوضعه حدا للطائفية المسيحية فقط. وواصل د. وارنييه هجومه على العرب بقوله إنهم كانوا عامل اضطراب في شمال إفريقية. ولم يقدموا أي مساهمة تذكر للأتراك عندما اتخذوهم احتياطيين (¬1). واستعار د. وارنييه من العقيد كاريت أيضا عبارته في وصف بني هلال بأنهم خلفوا الحرائق والرماد، وخربوا المنازل وقلعوا الأشجار. وقوله أيضا إن ما تركته السياسة العربة قائا قد اقتلعته العبقرية العربية، وأن مرورهم قد ترك المدن خرابا، والخضرة يبابا، وأنهم نشروا الشقاء والوحشية - البربارية) (¬2). وهذا في الواقع كلام غير جدول ولم يأت به كاريت ولا وارنيه وإنما ذكرته المصادر العربية نفسها. وقد استفاد منه الرجلان لتزويج نظريتهما العنصرية في شتم العرب والتمكين للسياسة الفرنسية في الجزائر، ولإشباع حقدهما على الإسلام وعلى حملة رسالته الأولى، كما أشرنا. وعلى فرض صحة المنسوب إلى بني هلال، وهو محل نظر وجدل، فليس كل العرب بني هلال. وقد استمرت هذه الأطروحة بعد كاريت ووارنييه أيضا. فروج لها كتاب عسكريون تولوا مسؤوليات إدارية في مختلف أنحاء البلاد. وقد ذكرنا منهم أوكابان، وهانوتو، ثم جاء مدنيون وضربوا على نفس الوتر أيضا. ومنهم بوجيجا، وقوتييه، وماسكري. وانخدع بكلامهم بعض الجزائريين الذين تتلمذوا على أفكارهم، وأصبحوا يتحدثون عن الفوضى أو الخراب الذي كان قبل الفرنسيين، ثم عن الأمن والعمران الذي حصل بعدهم، وما ¬

_ (¬1) لعله يحصد قبائل المخزن. (¬2) أخذه وارنييه من كتاب كاريت، مرجع سابق، ص 412 - 413.

ومعاداة البربر

درى هؤلاء الجزائريون أهم كانوا يلعنون أنفسهم وآباءهم وأجدادهم في سكرة من سكرات الإغواء الفرنسي. ومعاداة البربر يعتبر المدح الذي كاله العقيد كاريت ود. وارنييه وغيرهما للبربر سبة لهم وحطا من قدرهم. ذلك أن البربر يعتبرون المس بدينهم إهانة كبرى لهم. كما أن اعتبارهم حلفاء للفرنسيين هو هدية مسمومة إلى البربر. وقد ردوها على أصاحبها أكثر من مرة. والبربر بدون شك قوم يفتخرون بماضيهم ولغتهم وتقاليدهم، وهم أيضا قوم فخورون بدورهم العظيم في فتح الأندلس (12 ألف جندي على الأقل)، وفي حمل الإسلام إلى وسط فرنسا نفسها وإلى جنوب إيطاليا، وإلى إفريقية، وفخورون أيضا بتأسيس القاهرة والأزهر الشريف، وإقامة الممالك الكبرى قبل أن تتكون في فرنسا مملكة أو كيان سياسي. ولكنهم لا ينفون أنهم فعلوا ذلك كمسلمين عقيدة ولغة، وأن إنتاجهم الحضاري المكتوب قد اختلط بإنتاج العرب حتى لم يعد أحد يستطيع معرفة الفرق (¬1). ومع ذلك فإننا - وللتاريخ - نذكر ما كان كتاب فرنسا يخططون للجزائريين، وكيف كانوا يضعون شباكهم لصيد البلهاء. وأي فضيلة لهؤلاء الكتاب إذا كانوا دائما يكتبون عن خطط تسمح لفرنسا بتفريق الجزائريين وإحكام قبضتها عليهم واستعبادهم؟ ذلك أن المدح للبربر والقدح في العرب، وأحيانا العكس، لا يقصدون من ورائه خدمة العلم والحقيقة، وإنما خدمة الإدارة الاستعمارية وتمكين الحضارة الفرنسية على حساب حضارة ¬

_ (¬1) ليس من غرض هذا البحث الرجوع إلى أصول العرب والبربر والمؤلفات العربية والبربرية القديمة التي تجاهلها الفرنسيون عموما وتمسكوا (برأيهم) الخاص القائم على النظريات العرقية والسلالية (الأنيربولوجية والأثنية) التي برزت خلال القرن التاسع عشر، والقائم على معاداة السامية أيضا.

البربر والعرب معا. ولم نسمع، رغم الضجة الكبرى، بتخلي فرنسا عن جزء من أرض الجزائر لهذا الفريق أو ذاك لأنه في نظر كتابها كان أقرب إليها من غيره وأصدق في تحالفه معها من بقية المواطنين، بل إن فرنسا كانت تعاملهم على حد سواء. فهم (رعايا) فرنسيون أولا وهم (أندجين) ثانيا. وعند انتزاع الأراضي وتوزيعها على الكولون لا يسأل الجزائري هل أنت من السكان المستقرين أو من السكان الرحل، وعواقب الثورات كانت واحدة على الجميع. والغريب أن د. وارنيه الذي طالما امتدح البربر على هدوئهم بعد سنة 1857، وعلى قربهم من الحضارة الفرنسية بحكم اتصالهم القديم بالرومان (؟) الخ. هو الذي نصب لهم المحاكم والمشانق بعد ثورة 1871 واغتصب أراضيهم وفرض عليهم الغرامات الثقيلة (¬1). ولعله قد راجع بعد ذلك نظرياته في الكتاب الذي كتبه تحت وطأة الحملة المسعورة ضد نابليون وحاشيته. وبناء على وارنييه فإن البربر هم قدماء المسيحيين وقدماء الكولون للرومان، وهم الذين ما يزالون متعلقين بالممارسات والتنظيمات الرومانية. إنهم هم الشعب الإفريقي الساكن في المنطقة الممتدة من ليبيا وتونس والجزائر إلى المغرب، وتمتد مواقعهم إلى توات والتوارق وساحل السنغال، فهم عنده كل الجنس الأبيض القاطن وسط إفريقية. وقدر عددهم بعشرة ملايين على الأقل. وقال إن الجبليين منهم قد حافظوا على تقاليدهم الرومانية في نظره وعلى أصولهم، عدا الدين. أما سكان السهول منهم فقد تعرضوا للغزوات العربية مما أفقدهم روحهم المعنوية، حسب دعواه. وزعم د. وارنييه من جهة أخرى، أن البربر كانوا مسيحيين وأنهم اعتنقوا الإسلام على مضض، وقد ظلت عقيدتهم فيه ضعيفة جدا. اختار بعضهم المذهبية حيثما ظهرت. وادعى أن البعض منهم يأكلون لحم الخنزير مع العمال الأوروبيين فى المزارع الفرنسية، رغم أن القرآن قد حرم ذلك. ¬

_ (¬1) أصبح وارنييه من المسؤولين البارزين في الجزائر بعد قيام الجمهورية الثالثة. وبتلك الصفة أصدر قررات صارمة لمعاقبة ثوار سنة 1871. انظر ذلك فى محله. أصبح وارنييه من المسؤولين البارزين في الجزائر بعد قيام الجمهورية الثالثة. وبتلك الصفة أصدر قررات صارمة لمعاقبة ثوار سنة 1871. انظر ذلك فى محله.

كما زعم أن القرآن عندهم ليس قانونا ولا دستورا سياسيا وإنما هو كتاب دين فقط. وهم في القضايا المدنية والسياسية يحتكمون إلى العرف (القانون الذي جاء اسمه من (الكانون canon) عند الرومان، وعند المسيحيين. وهذا العرف (الكانون) مثله مثل الكنيسة البدائية، إنما تشرعه جماعة المؤمنين. وذهب وارنييه في مزاعمه إلى أبعد من ذلك حين قال إن أغلب البربر كانوا يحملون الصليب في شكل وشم على الجباه والوجنات. وقال إنهم أكثر تسامحا من غيرهم في الشؤون الدينية. والدليل على ذلك عنده وجود كنيسة مسيحية في جزيرة جربة. فالحضارة البربرية تتبع في نظره، الحضارة الرومانية والمسيحية مثلها في ذلك مثل حضارة أوروبا الغربية، عدا الدين الإسلامي الذي جاء به العرب. وهكذا فإن التنظيم البلدي - نظام الجماعة - موجود عند البربر والعرب معا، ولكنه عند البربر أقرب إلى التنظيم الأوروبي. إن القبيلة عند البربر عبارة عن بلدية داخل ولاية (¬1). وفي ميادين الخدمة العسكرية، البرية والبحرية، لاحظ د. وارنييه ملاحظات عديدة على الجندي البربري من عهد القرطاجيين والرومان إلى عهد الاحتلال الفرنسي. ووجد أن الجندي البربري أكثر مهارة وقدرة على الحملات البعيدة من غيره. ذلك أن جيش حنبعل الذي غزا أوروبا - مدينة رومة - كان من البربر فقط، وأن أسطول قرطاج كان منهم، كما أن الرومان ساهموا في استمالة المؤهلات العسكرية، البرية والبحرية، للبربر. وكان الفرسان العرب الذين عبروا المضيق (مضيق جبل طارق) سيتخلون عن مشروع الفتح لولا دعمهم بجيش عرمرم من المشاة البربر. كما أن الأسطول الجزائري أثناء العهد العثماني قد صنع من الخشب المجلوب من زواوة وبأيدي العمال البربر، وكان على هذا الأسطول عمال (بحارة) من البربر. وكانت بعض البلدان، مثل تونس، تعتمد على مشاة زواوة (الزواف). لقد كان البربر دائما، عسكرا جيدا وبحارة مهرة. وكانت في الجزائر أثناء كتابة ¬

_ (¬1) د. وارنييه (الجزائر أمام الامبراطور)، مرجع سابق، ص 12، 21، 53.

وارنييه لكتابه، فرقتان واحدة من الفرسان العرب والثانية من الرماة (التوركو) من البربر. وقال وارنييه إن الأولى مجندة من الخيام الأرستقراطية العربية، والثانية من الجماعات الديموقراطية البربرية. وقد نجحت فرقة (التوركو) في حرب القرم وفي إيطاليا وفي السينيغال والهند الصينية والمكسيك. وكلما كانت المسافة أبعد في المغامرة والحرب كلما وجد الفرنسيون الإرادة والاستعداد للسير وراء العلم الفرنسي من الفرقة الأخيرة (التوركو). أما فرقة الفرسان العرب فقد أرسلتها فرنسا إلى حرب القرم شرفيا فقط ثم أعادتها بسرعة، ثم استدعيت إلى باريس 1864 وعوملت معاملة محترمة جدا، ثم وقع التراجع عن ذلك في المرة الثانية. ومن رأي وارنييه أن الجندي البربري جندي كامل، أما الجندي العربي فهو واسطة بين الدركي والحرس الوطني، لأن من طبيعته أيضا عدم الابتعاد عن نسائه وقبيلته وماشيته. ولذلك سمح بأن تجند فرنسا الفرسان أيضا من البربر لأنهم قادرون على الحرب في كل الظروف. وتجنيد البحارة منهم أيضا لأنهم عرفوا البحر من قديم، أما العربي فلا يعرفي البحر (!)، وهو ضد الحضارة الفرنسية ومتباعد عن الفرنسيين (¬1). والقياس عند الفرنسيين هو مدى الاستعداد لقبول التقدم والتفتح على الحضارة الفرنسية. فالأمير عبد القادر اعتبره وارنييه بربري الأصل، بناء على هذا المقياس. وروى د. وارنييه أنه سمع الأمير يقول عند بناء مدينة تاقدامت، إنه كان يعيد بناءها لأن أحد أجداده (يعني عبد الرحمن بن رستم) قد حكم في تيهرت (¬2)، وكان الأمير يعرف أن أجداده من البربر. ولذلك عرف كيف يجند البربر تحت لوائه. وذهب وارنييه، تمشيا مع مبدئه في الربط بين المسيحية والرومنة والفرنسة، إلى أن أجداد الأمير كانوا أيضا مسيحيين قبل الإسلام، وفسر تدخله في أزمة بلاد ¬

_ (¬1) د. وارنييه، مرجع سابق، ص 38، 40 - 41. (¬2) إذا صح أن الأمير صرح بذلك، فإنه يعني أجداده المسلمين، ذلك أن ابن رستم لم يكن عربيا ولا بربريا وإنما كان أميرا مسلما. فانظر إلى أي حد كان د. وارنييه يحاول أن يقنع البلهاء.

الشام سنة 1860 بأنه يتماشى مع تقاليد أجداده (!). وأكد لويس رين نظرية د. وارنييه بعد حوالي ربع قرن. ويبدو أن رين قد تبنى النظرية المعادية للسامية. فقد ذهب إلى أن البربر من الجنس الهند أوروبي، وأن طارق بن زياد النفزاوي النفطي قد يكون من أصل فارسي، وأن الساميين، ومنهم العرب، لم يستطيعوا تنظيم أنفسهم عسكريا ولا سياسيا. وعد منهم الخلفاء الراشدين والنبي داود - عليه السلام -. وقد اعتمد رين في ذلك على بحوث أرنست رينان، سيما بحثه المعنون (تاريخ اللغات السامية). وكذلك اعتمد على دراسة هنري فورنيل التي سبق ذكرها والتي حكم فيها بفشل الاحتلال العربي (كذا) لإفريقية، وزعم رين أيضا أن البربر لم يعتنقوا الإسلام بحرارة وظلوا يتمردون عنه مع الفرق الخارجية والحركات الانفصالية، أثناء العهد الذي يسميه أوغسطين بيرك بعهد وصاية الشرق، ويسميه غوتييه بالعصور الغامضة. وذهب رين أيضا إلى أن اللغة البربرية لغة هند أوروبية، تبعا لنظرية رينان، وقال إن البربر قوم آريون، وإن الإسلام في آسيا انتشر على يد غير الساميين مثل الفرس والترك وهم طورانيون، أما الإسلام في إفريقية وأوروبا فقد انتشر على يد البربر (الآريين). وقارن رين بين الغولوا (سكان بلاد الغال) وبين البربر، فقال إن الغولوا قد استوعبوا كل الذين أرادوا احتلالهم، رغم أن الفرنج (وهو اسم لقبيلة بلجيكية، كما قال، حتى لا يقول ألمانية)، فرضوا اسمهم على فرنسا، ولم يقل شيئا عن المسيحية التي فرضت عليهم أيضا، وقال بأن البربر أيضا قد استوعبوا ورفضوا كل اندماج في غيرهم، رغم أنهم تقبلوا الإسلام ولغة القرآن وسيادته بل قبلوا حتى اسم العرب، ولكن الجماهير منهم ظلت بربرية. وختم رين دراسته بقوله إنه كلما درس تاريخ ولغة البربر اقتنع بحقيقة وهي أن البربر هم في الحقيقة جنس آري، وأن لغتهم لغة هند أوروبية (¬1) ¬

_ (¬1) لويس رين (بحث في الدراسات اللغوية والأثنولوجية عن الأصول البربرية)، كتاب =

وقد استمرت هذه النظرية سارية إلى العشرينات من هذا القرن. فقد رجع السيد ريمون بيروني، وهو من الضباط مثل لويس رين، إلى نظرية فورنيل وأرنست ميرسييه وفيكتور بيقي وغيرهم، حول البربر وموقفهم من الحضارة الرومانية والعربية والفرنسية. وقال بيروني إن الفرنسيين قد ظلوا على خطئهم في معاملة السكان بطريقة واحدة إلى مدار هذا القرن، وكان عليهم أن يميزوا بين السكان ويستفيدوا من الفروق. وقد أصبحت الإدارة الفرنسية تشعر بهذه الفروق منذ حوالي 1890 وأخذت توظفها سياسيا. وعندما احتل الفرنسيون المغرب الأقصى ظهرت المسألة البربرية بشكل أكثر وضوحا، وأعطى الفرنسيون دفعا جديدا للدراسات البربرية، وتحول الفرنسيون أيضا في تونس والجزائر وغيرهما وأخذوا يبرزون الفروق بين عناصر السكان. ولكن المسألة لم تكن مفهومة عند الرأي العام الفرنسي في فرنسا نفسها حتى نشر فيكتور بيكي كتابه عن (حضارة شمال إفريقيا) الذي قال فيه إننا كنا دائما نسمي المنطقة عربية بينما هي مسكونة بالعنصر البربري، وهو العنصر القريب من العناصر الأخرى في البحر الأبيض، وأرز أيضا العلاقة الوطيدة بين الرومان والبربر في نظره. ومن رأي فورنيل أن الإسلام قد حرر البربر فأصبحوا أسياد أنفسهم. ولذلك حكم بفشل العرب في الاحتلال لأنه نظر إليهم كما نظر إلى كل الدول الغازية. أما أرنست ميرسييه فقد قال إن الفتح العربي كان عملا عسكريا فقط (؟) وأنه لم يعمر طويلا، وأنه ترك البربر أحرارا في حكم أنفسهم. لكنه قال إن الغارة الهلالية كانت ظاهرة اجتماعية نتج عنها تعريب المنطقة والقضاء في نظره، على الجنسية البربرية. وقد ظهر كتاب ميرسييه وكتاب فورنيل سنة 1875. أما بيروني Peyronnet فيرى أن التعريب لم يقض على الجنسية البربرية (¬1). ومنذ حوالي 1898 تقريبا انحصر التمييز الذي كان بين كل البربر ¬

_ = نشره فصولا في المجلة الإفريقية، آخره سنة 1889، ص 97 - 121. تولى رين أيضا رئاسة الجمعية التاريخية، وقد توفى سنة 1905. (¬1) ريمون بيروني (مدخل عام للدراسات الشمال إفريقية)، في المجلة الجغرافية للجزائر =

التآمر على زواوة

وكل العرب في الفروق بين العرب والقبائل، واختفى أو كاد الحديث عن البربر الآخرين. التآمر على زواوة بعد أن كان اهتمام الدارسين الفرنسيين وأصحاب نظرية الفروق بين السكان منصبا على البربر والعرب، أصبح بالتدرج منصبا، ولا سيما منذ العشرية الأخيرة من القرن الماضي على سكان زواوة وحدهم. وهذا الاهتمام اتخذ ألوانا عديدة: فمن حيث التعليم بدأ الفرنسيون في تأسيس المدارس الأهلية في بعض البلديات الزواوية وإجبارية التعليم فيها خلافا لما فعلوه في المناطق الأخرى. ومن حيث النشاط الديني - الكنسي، شجعت السلطات الفرنسية الآباء البيض على غرس مدارسهم وعياداتهم وملاجئهم في زواوة قبل غرس كنائسهم، نظرا للمقاومة الشديدة التي أبداها الزواويون ضد النشاط التنصيري. ومن حيث اللغة أنشأ الفرنسيون كرسيا للغة البربرية في مدرسة اللغات الشرقية بباريس، كما أنشأوا فرعا للغة القبائلية فقط في مدرسة الجزائر. ومن جهة أخرى كان النظام القضائي يختلف في زواوة عنه في المناطق الأخرى، فقد أصبح الاحتكام في زواوة للعرف والقانون الفرنسي، وليس للشريعة الإسلامية. ورغم مطالبة الزواويين بتطبيق الشريعة على غرار ما كان جاريا في المناطق الأخرى، فإن السلطات الفرنسية رفضت الاستجابة لهم، كما فرضت على قضاة المنطقة تحرير أحكامهم باللغة الفرنسية فقط خلافا للقضاة في المناطق الأخرى حيث كانوا يحررون الأحكام بالعربية. وبالنسبة للتمثيل النيابي فقد أسس الفرنسيون (قسما قبائليا) في مجلس الوفود المالية، وذلك بإصرار من ¬

_ = وشمال إفريقية S.G.A.A.N، 1921، ص 129 - 174. وأيضا بحث آخر له عن (سلالات وعادات إفريقية الشمالية)، في نفس المصدر، 1924، ص 383 - 393. وقد رجع الشيخ محمد مبارك الميلي الهلالي إلى كتابات بيروني، في كتابه (تاريخ الجزائر في القديم والحديث). انظر عنه فصل التاريخ والتراجم والرحلات.

كاميل صاباتييه، صاحب مشروع فصل (القبائل) في المعاملة عن بقية السكان. كما ميز الفرنسيون بعض القبائل بعدم دفع قسط من الضرائب المطلوبة على كل الأهالي. وكان ذلك كله يشكل محاولة لما سمي بالسياسة القبائلية - الفرنسية. والواقع أنه منذ 1896 كتب الباحث المشهور في وقته بول لوروى بوليو قائلا: لو كان كل سكان الجزائر من غير الأوروبيين زواويين (قبائل) لأمكننا القول بأن المسألة الجزائرية ستحل بسهولة. وفي نظره أن القبائل لا يختلفون عن الأوروبيين إلا في مسألة الدين. والدين في نظره لا يؤثر في حياتهم الاجتماعية والاقتصادية، ومن ثمة فإن شروط الإنتاج والتطور هي هي عند الزواويين وعند الفرنسيين. (ثم ذكر نفس الظواهر والمميزات التي نسبها وارنييه ومدرسته للبربر عموما) (¬1). وقد ذكرنا من قبل آراء كاميل صاباتييه، فلا نرجع إليها هنا. وأما أندري سيرفييه فقد تحمس لموضوع فصل سكان زواوة أوائل هذا القرن أيضا. وكان صحفيا في جريدة (لاديباش) بقسنطينة، متكلما باسم الكولون، كما كان لائكي العقيدة وماسونيا. وقد رحب سيرفييه بالهجرة الزواوية نحو فرنسا بدلا من الشام. وطالب بتشجيعها وإعطائها الأولوية (لتحطيم الكتلة الإسلامية الجزائرية) حسب تعبيره، كما طالب بربط الصلات بين سكان زواوة وسكان فرنسا. وقال سرفييه بكل صراحة: (علينا أن نقسم المعسكر الأهلي أو الكتلة الأهلية كلما أمكننا ذلك، من أجل عزل العناصر السكانية بعضها عن بعض) (¬2). ومن جهة أخرى دعا سيرفييه إلى ضرورة تنشيط الآباء البيض في منطقة زواوة. وعنده أن البربر مؤهلون لاعتناق المسيحية، بدليل أنهم حافظوا على تركة مسيحية ولاتينية من ماضيهم (؟). ولما كان سيرفييه من الماسونيين، فقد آمن بالفلسفة المسيحية التي اعتبرها هي الدين الجيد للزواوة، (بل هي ¬

_ (¬1) بول بوليو (عن الاستعمار)، 1902، ط 5 ص 460. (¬2) آجرون (الجزائريون المسلمون وفرنسا)، ج 2/ 887 نقلا عن جريدة (لاديباش) 30 يناير 1914. وكان سكان زواوة منذ الاحتلال يتجهون في هجرتهم إلى بلاد الشام.

الدين الأكثر جودة إذا تمكن من تحطيم وحدة المسلمين الجزائريين) (¬1). وقد ذكرنا أن فيكتور ترانقة، وهو من مواليد الجزائر، قد أكد حقيقة كان يعترف بها كل الفرنسيين غير أنهم لم يكونوا متفقين على أهميتها، وهي وحدة الدين بين السكان. الذين كانوا يقللون من العامل الديني ويركزون على العامل الاجتماعي والاقتصادي كانوا يقيسون وضع الجزائر على وضع فرنسا. ففي البلد الأخير أصبح الدين صورة فقط ونجح فيه الفصل بين الزمني والروحي. كما أنهم لم يفهموا عمق المشاعر الدينية عند الإنسان الجزائري حيثما كان. أما ترانقة فإنه كان يؤمن بوجود بعض الفوارق بين السكان الجزائريين إذا وجد أن هناك رابطة معنوية قوية بينهم تتمثل في الإسلام، وهو ما كان يشكل في نظره الروح العربية - البربرية المقاومة. وقد لاحظ أن النخبة أو الفئة المثقفة التي تعبر عن الرابطة المذكورة كانت منقسمة في وقته (سنة 1913) إلى تيارين أحدهما كان يتبع حركة الشيخ محمد عبده، ويسميه التيار العصري، والآخر كان يتبع حركة الشيخ ماء العينين ويسميه التيار المتخلف. ومن رأي السيد ترانقة أن المذهب المالكي مذهب متزمت وهو مذهب سيحول دون الاندماج الذي تنشده فرنسا في الجزائر (¬2). وقد رفض الزواويون (القبائل) هذه المعاملات الخاصة بهم، ولكن الإدارة كانت في كل مرة تجد مبررا للإبقاء عليها. فقد كافح وفد القسم ¬

_ (¬1) نفس المصدر، نقلا عن كتاب سيرفييه (الإسلام وسيكولوجية المسلم). (¬2) مراجعة (مجلة العالم الإسلامي)، سبتمبر 1913، ص 348، وقد صدر كتاب ترانقة (دراسة اجتماعية في المجتمع الإسلامي بشمال إفريقية)، سنة 1913، بالجزائر. ويكاد ترانقة يتفق مع زميله هنري بارليت في قوله إن الدين الإسلامي قد وحد بين العرب والبربر. وإن الإسلام يمنع من الاندماج. غير أن بارليت يقول بإمكانية جلب البربر إلى الأوروبيين، لأنهم في نظره مستعدون للانفصال والتمرد عن تعاليم محمد. انظر بارليت (مونوغرافيا ناحية تيهرت) فى (مجلة جغرافية الجزائر وشمال إفريقية)، 1912 ص، 339 - 340.

القبائلي في مجلس الوفود المالية ضد الاحتكام للعرف، بدعوى أنه قديم وغير صالح للتقدم المنشود، ونادى الوفد بإلغاء توصيات كتاب هانوتو ولوقررو اللذين جعلا العرف البربري كأنه قرآن، وطالب الوفد بتطبيق الأحكام الشرعية المطبقة على كل سكان الجزائر. ولكن الإدارة رفضت طلب الوفد وحافظت على العرف البربري القديم، بل إن دومينيك لوسياني نفسه (وهو مدير الشؤون الأهلية عندئذ) كان لا يطيق العرف البربري، ويعتبره، كما صرح بذلك، من الخرافات وبقايا التوحش، ولكنه ولأسباب سياسية، كما يقول آجرون، كان يبقي على العرف (¬1). وتمشيا مع هذه السياسة قام شارل جونار (الحاكم العام) بإلغاء تسمية المكاتب العربية في زواوة سنة 1904، وسماها مكاتب الشؤون الأهلية. وكان الهدف هو مكافحة التعريب في المنطقة. وأخذ الإداريون الفرنسيون يشيعون أن الزواوة يرفضون القياد العرب أو من كانوا من أصول عربية، وهو موقف لم يصدر عن الزواوة أنفسهم، وإنما كان الحكام الفرنسيون يبررون به الأحداث والتصرفات التي وقعت في المنطقة وحتى في غيرها. فقد قالوا عن حريق جرى في جرجرة سنة 1904 إنه حدث نتيجة غضب السكان من فرض قياد وشيوخ من أصول عربية، رغم أنفهم (¬2). وقد ذكرنا أن ممثلي الزواوة طالبوا بالثقافة العربية وذلك بإنشاء مدرسة في بجاية على غرار المدرسة الشرعية - الفرنسية في كل من تلمسان وقسنطينة والعاصمة. ولكن الفرنسيين لم يستجيبوا لهذا الطلب أيضا. كما رفض القضاة المسلمون في الزواوة تسجيل أحكامهم باللغة الفرنسية، وظلوا يحررون بالعربية أسوة بالقضاة في الجزائر كلها إلى أن تدخلت الإدارة وفرضت حلولا فوقية أخرى (¬3). ¬

_ (¬1) آجرون، مرجع سابق، ج 2/ 879. (¬2) نفس المصدر، ويقول آجرون إن نفس المبرر ذكروه مع ثورة 1871، وحتى في الأوراس سنة 1879. (¬3) المقصود هنا الأحكام في الأحوال الشخصية. أما الأحكام الأخرى فقد احتكرها القضاة الفرنسيون. انظر فصل السلك الديني والقضائي.

وبعد ظهور الحركة الإصلاحية ونشر التعليم العربي الإسلامي، قاومت الإدارة دخول الإصلاح إلى زواوة بمختلف الوسائل. ولكن الزواويين احتضنوا الإصلاح بعقيدة راسخة حتى نافست المدارس الإسلامية - العربية عندهم مدارس الآباء البيض والمدارس الحكومية الرسمية. ودخل علماء الزواوة المجلس الإداري لجمعية العلماء. ودافعوا عن العربية والإسلام بكل حمية. وعندما كثر الحديث في صحف الإصلاح وجمعية العلماء عن القومية العربية ظهر في الصحف الفرنسية الحديث عن القومية البربرية (والوطن القبائلي). ففي سنة 1935 أخذت هذه الصحف تكتب عن مدرسة جزائرية معارضة للحركة الوهابية (ويعنون بها حركة الإصلاح). وقالوا إن الشاعر محند بن محند كان فيما يبدو يحلم (بوطن) قبائلي، وإن الحركة البربرية كانت تريد فصل الإسلام عن العروبة، وإن بعضهم كان يتحدث عن حزب قبائلي (¬1). وكان سي عمر بوليفة قد أصدر سنة 1925 كتابا، عنوانه (جرجرة عبر التاريخ) وأضاف إليه العنوان الفرعي: من أقدم العصور إلى 1830، وعبارات تنظيم زواوة واستقلالها. ورغم أنه كان يتحدث عن عهد سابق للاحتلال فإن عبارة (استقلال) زواوة كانت لا ترضي الفرنسيين الذين كانوا يتحدثون عن قابلية أهل زواوة (القبائل) للاندماج في الحضارة الفرنسية والمجتمع الفرنسي، وكانوا يقولون عنهم إنهم أقرب من العرب والبربر الآخرين إلى المقاييس الفرنسية في التقدم. وأثناء ذلك كتب الشيخ محمد السعيد الزواوي (أبو يعلى) كتابه (تاريخ الزواوة) ونشره في دمشق (سنة 1924) بعد أن حدد خطوطه العريضة في مشروعه سنة 1912 (¬2). ¬

_ (¬1) انظر (إفريقية الفرنسية)، يونيو (جوان)، 1935، ص 354. عن محند بن محند (محند أو محند) انظر مقالة رينيه باصييه، (أدب البربر، ص 420. (¬2) انظر دراستنا عنه في (أبحاث وآراء) ج 2. وقد تناولنا آراء الشيخ أبي يعلى في مكان آخر.

أما حسني لحمق فقد أصدر كتابه (رسائل جزائرية) سنة 1931، وهي السنة التي توفي فيها عمر بوليفة. ويزعهم ديبارمي أن بوليفة ولحمق وكذلك إسماعيل حامد كلهم كانوا يبعدون البربر عن الإسلام ويضعونهم داخل إطار الحضارة الفرنسية. ونسب ديبارمي إلى لحمق قوله إنه يشعر بالقرب من سانت أوغسطين أكثر من قرب من عقبة بن نافع. وقد تأسف لحمق على أن الإسلام قد فرض فرضا على الجزائر. وذهب ديبارمي إلى أن جمعية العلماء قامت بالرد على هذا (المرتد) في نظرها، وقد اعتبره كاتبها العام، الأمين العمودي، من نتاج مدرسة الجزويت (اليسوعيين). وروى ديبارمي أن ابن باديس قد أثار تصفيقا واستحسانا حين قال: (إن ما جمعته يد الله لا تفرقه يد الشيطان)، مشيرا إلى الرابطة الدينية القوية بين الجزائريين سواء خطبوا بالعربية أو بالقبائلية (وكان الشيخ يحيى حمودي، عضو جمعية العلماء قد ألقى كلمة بالقبائلية)، كما قال ابن باديس إن أبناء يعرب وأبناء مازيغ قد جمعهما الإسلام منذ قرون وإن وحدتهم قد عجنت بالدم عبر التاريخ المشترك. وكان الفرنسيون قد نشروا، كما رأينا، نظرياتهم التي لا تقوم على بحث ولا تاريخ وإنما على مصلحة وغرض والتي مفادها أن البربر - والقبائل خصوصا - من الجرمان تارة، ومن السلتيين تارة، ومن الإغريق تارة، ومن الهندأوروبيين أخرى. ومن الذين ساروا في التشكيك في أصل البربر جوزيف ديبارمي، وهو ملاحظ معاصر ومحلل لمجريات الأمور. وكان من تلاميذ رينيه باصييه. وقد شكك ديبارمي في النظرية الشائعة منذ قرون، وهي أن البربر من بني كنعان، أي في وحدة أصولهم مع العرب، كما شكك في وحدة الدين لأن الحركة الإصلاحية في نظره كانت تدعو إلى (دين) الوهابية، وفي وحدة اللغة لأن العربية الفصحى في نظره أيضا، لا يفهمها الجميع، أما الدارجة فقال إنها مليئة باللهجات البربرية. واستشهد على ذلك بتجربة المسرح. وجاء ديبارمي بالأعراف المختلفة مثل (كانون) أو عرف القبائل الذي قال عنه إنه غير سنى (!). والخلاصة عند ديبارمي أن شمال إفريقية سنة

1938 كان يقف بين القومية العربية وبين المذهب الغربي، فالنزاع في نظره بينهما لا أكثر (¬1). وهكذا استمر الفرنسيون في الاهتمام الظاهري بالزواوة دون الاستجابة لمطالبهم. ورغم أن وفد القبائل في مجلس الوفود المالية قد طالب بإلغاء العرف وتطبيق الشريعة الإسلامية، كما ذكرنا، فإن مارسيل موران (أستاذ الشريعة الإسلامية والعرف البربري بكلية الحقوق) ذهب إلى حد التصريح بأن القبائل كانوا يرفضون الشريعة القرآنية تماما (¬2). ولذلك أعلن عن التنازع بين الشريعتين أيضا! والغريب أن موران هذا هو الذي عهدت إليه إدارة الشؤون الأهلية بتدوين الفقه الإسلامي أوائل هذا القرن. وبينما كان الزواوين يطالبون ككل الجزائريين باللغة العربية في المدرسة وفي القضاء، كان بعض الكتاب الفرنسيين والإدارة يرفضون ذلك قائلين إن لغة بربرية - ويسميها ديبارمي البوربري Beurbri - هي التي تمثل اللهجة الجزائرية، وهي لغة غير العربية وغير البربرية أيضا .. أما سيرفييه فيقول إن هذه الدارجة الجزائرية هي خليط من الفينيقية، ولم يحملها معه أي فاتح مسلم. وأما الإدارة فقد أجابت الوفد القبائلي المطالب بتدريس العربية بمقالة ويليام مارسيه، وهي أن (تعليم العربية الدارجة أو الفصحى في منطقة القبائل سيكون ضرره أكثر من نفعه) (¬3). وقد وقف كل من كومبس وجان مير ضد نشر العربية في زواوة (¬4). وقد تصدى علماء زواوة والمناضلون السياسيون لهذه المخططات الميكيافيللية وأفشلوها. ولم وتجد الفرنسيين نفعا، لا النظريات (العلمية) ¬

_ (¬1) جوزيف ديبارمي، إفريقية الفرنسية - الملحق، AFS، 1938، ص 194? 199. عن حسني لحمق انظر أيضا مالك بن بني (المذكرات). وكان يعرفه في باريس. وعن رأي ابن نبي في عمار نارون وأمثاله انظر (المذكرات)، ص 227. (¬2) آجرون الجزائريون ... ج 2/ 887. (¬3) نفس المصدر، ص 883. (¬4) كان كومبس وزيرا للتعليم وجان مير مديرا للتعليم (الأكاديمية) فى الجزائر.

الدعوة إلى تعلم الفرنسية .. وإلى التعلم عموما

المزيفة، ولا التحقيقات السياسية السرية التي قام بها أمثال دوتيه وقوتييه (¬1)، ولا تحفظات لوسياني ولا تشكيكات ديبارمي. فقد كان الجزائريون يحسون إحساسا واحدا بالنسبة لمختلف القضايا المتعلقة بمستقبل بلادهم (¬2). وصدق ابن باديس في قوله: إن ما جمعته يد الله لا تفرقة يد الشيطان!. الدعوة إلى تعلم الفرنسية .. وإلى التعلم عموما عارض الجزائريون فرض اللغة الفرنسية على أبنائهم في مدارسهم في العقود الأولى ولم يعارضوها كلغة لمن أراد تعلمها في المدارس الفرنسية. وقد عالجنا ذلك في فصول التعليم. ونريد الآن أن نشير إلى بعض دعاة التعليم بالفرنسية من علماء الجزائر بعد حوالي جيل من الاحتلال. وقد انتشرت هذه الدعوة عن طريق الجرائد وكتابات العلماء منذ الثمانينات من القرن الماضي. كانت اللغة الفرنسية معروفة عند بعض الجزائريين، وفيهم من كان يتكلمها، ومن سافر إلى بلادها، ومن تزوج من قومها. ومن الشواهد على ذلك أن أحمد بوضربة كان متزوجا من فرنسية، وكان يتكلم اللغة الفرنسية ويقطن مرسيليا، وقد ولد له ولده إسماعيل في هذه المدينة قبل الاحتلال. وبعد الاحتلال سعى بوضربة إلى إدخال ولده إلى المدارس الفرنسية في فرنسا نفسها. وكان بوضربة من المفاوضين على معاهدة الاحتلال سنة 1830 باسم الداي حسين باشا، مع قائد الحملة بورمون. كما أن حمدان خوجة كان يفهم الفرنسية والإنكليزية، وقد سافر طويلا في أوروبا قبل الاحتلال. وتجول في فرنسا بالذات. وكان ابنه حسن، يعرف الفرنسية أيضا، ولا ندري كيف ¬

_ (¬1) انظر نفس المصدر، ص 884. (¬2) عن الوضع اللغوي، انظر فصل اللغة والنثر الأدبي، وعن رأي المؤرخين الجزائريين في نظرية الأصول، انظر فصل التاريخ.

تعلمها، وربما من ممارسة التجارة مع والده ومن الأسفار معه. ومهما كان الأمر فقد كان حسن بن حمدان خوجة أيضا عضوا في وفد المفاوضين مع الفرنسيين سنة 1830. وهناك غير هؤلاء (¬1). ولكن معرفة الجزائريين للفرنسية لم تكن كمعرفة اليهود لها، فهؤلاء كانوا يقومون بالترجمة بين الجزائريين والفرنسيين، قبل إنشاء فرق الترجمة الرسمية. كما كانوا يترجمون بين الفرنسيين والأمير عبد القادر. ومن ثمة كانت لديهم مفاتيح الأمور السياسية والاقتصادية للطرفين (¬2). وظهرت في فرق الترجمة الفرنسية بعض الأسماء الجزائرية المبكرة التي تعرضنا إليها في غير هذا المكان. وهي عادة أسماء فريق من الشبان الذين كانوا بين العاشرة والخامسة عشر عند الاحتلال، أو الذين قبض عليهم الفرنسيون في زمالة الأمير سنة 1843. ومهما كان الأمر، فإن هناك جزائريين أصبحوا يعرفون الفرنسية ويترجمون منها إلى العربية والعكس منذ الأربعينات من القرن الماضي. وقد استقطبت بعضهم جريدة (المبشر) التي كانت تبحث عن محررين يحسنون العربية وشيئا من الفرنسية. ثم تخرج بعضهم من المدرسة السلطانية (الكوليج) المزدوجة التي تأسست خلال الخمسينات والستينات في العاصمة ثم قسنطينة. وكان المتوقع أن يكون هؤلاء مثلا يحتذى به في العلم والسلوك للمواطنين المتشككين في قيم المدرسة الفرنسية. غير أنه يظهر أن هؤلاء التراجمة والصحفيين لم يكونوا يقنعون الرأي العام الجزائري، لضعف علمهم أو لعدم تدينهم أو لصلتهم بالفرنسيين. ولذلك لجأت السلطات الفرنسية إلى فئة أخرى من الجزائريين لا علاقة ¬

_ (¬1) انظر فصل الترجمة. وهناك من الجزائريين من كان يعرف لغات أخرى كالإسبانية. (¬2) كان اليهود يحتكرون التجارة بين الجزائر وأوروبا، وكان مركزهم في أوروبا هو ليفورنيا (إيطاليا) التي كانت تنافس مرسيليا في التجارة مع بلاد المغرب. وكان الدايات والبايات وغيرهم من المسؤولين يحصلون على أرباح من هذه التجارة بالاشتراك مع اليهود فيها.

لها بالمدرسة الفرنسية، لكي تدعو الأهالي إلى تعلم اللغة الفرنسية والكف عن مقاطعة مدارسها، وبيان فوائدها العلمية والاقتصادية، وتربط ذلك بكرم فرنسا نحوها والبرهنة على العلاقة بين العلوم العربية والعلوم الفرنسية. وهذه الفئة هم رجال الدين والعلم الموالون للسلطات أو الموظفون في إدارتها. وكان هؤلاء عادة من عائلات قديمة معروفة ومؤثرة. وكانوا أيضا من العائلات الحضرية البعيدة عن الطرق الصوفية وعن أهل البادية أو الأرياف، لأن رجال التصوف كانوا عادة ضد التعلم بالفرنسية، كما كانوا معروفين للسكان، ولو فعلوا ذلك لفقدوا نفوذهم. وابتداء من عقد الستينات ظهرت في جريدة (المبشر) مقالات يظهر أن الإدارة الفرنسية نفسها قد أوعزت بها إلى أصحابها. ومن هؤلاء الشيخ مصطفى بن السادات القسنطيني. وكان هذا الشيخ هو أحد مدرسي مدرسة قسنطينة الشرعية التي كان يديرها محمد الشاذلي (¬1). والعالم الآخر الذي حث الجزائريين على التعلم بالفرنسية خلال الستينات أيضا، هو محمود بن الشيخ علي بن عبد القادر. وكان محمود يختصر اسمه هكذا (محمود بن الشيخ علي) (¬2). وكان موظفا بسيطا عند الفرنسيين (¬3). ولم يكن حسب علمنا من كتاب (المبشر) الدائمين. ولعل الذي استكتبه هو أحمد البدوي، أحد المحررين البارزين في الجريدة. وعنوان مقالته (نصيحة عمومية لأهل الحضر والبادية). وهناك من دعا إلى تعلم العلوم الفرنسية بالقدوة وليس بالكتابة والإعلان. ومن هؤلاء حسن بن بريهمات الذي درس في المدرسة الشرعية ¬

_ (¬1) عن حياة ابن السادات انظر فصل الترجمة. (¬2) ألف الشيخ علي الأب رسالة في البلاغة والأدب سماها (أما بعد)، وكنا قد تناولناها في الجزء الثاني، ثم علمنا أن أحد الأساتذة المصريين قام بتحقيقها ونشرها وقد اطلعنا عليها. (¬3) مقالته فى (المبشر) 25 يوليو، 1867. انظر عنه أيضا فصل الترجمة.

الفرنسية عندما كانت غير مفرنسة (¬1). والشيخ محمد بن الحاج حمو الذي أعطى المثل أيضا بإدخال ولده إلى المدرسة الفرنسية (¬2). وقد أعجب كل من سليمان بن صيام وابن علي الشريف بما شاهدا في فرنسا من صنائع وعلوم، وتحدثا عن ذلك في رحلتيهما اللتين نشراهما بين 1852 و 1853. ونادى ابن علي الشريف بتعلم الفرنسية (وقد تعلمها هو أثناء شبابه) لأنها ضرورية للجزائريين في (الحال والمآل) (¬3). وفي نهاية السبعينات كتب الشيخ عبد القادر المجاوي رسالته (إرشاد المتعلمين)، وقد دعا فيها أيضا إلى تحصيل العلم الأوربي - الفرنسي، على أنه علم إنساني مشاع ما دام غير ديني. ولا ندري إن كان قد خصص اللغة الفرنسية بمزية في هذا الشأن، ولكن الرسالة في حد ذاتها كانت انطلاقة عامة، وهو لم ينشرها فصولا في جريدة، وإنما طبعها في كتيب نشره في مصر، فوصل إلى الجزائر، وأثار جدلا جول ما ورد فيه من أفكار. ولا شك أن المجاوي الذي كان عندئذ مدرسا في مدرسة قسنطينة الشرعية/ الفرنسية، كان يبث أفكاره في تلاميذه أيضا، وقد تخرج عليه عدد كبير سواء أثناء تدريسه في قسنطينة أو بعد انتقاله إلى العاصمة عند مدار القرن. وكأن المجاوي قد ألف إرشاده (للمتعلمين) ردا على من كان يقول إن المؤلفين العرب والمسلمين لم يكتبوا عن كيفية وطرق تعليم الصبيان (¬4). ومن نتائج أفكار المجاوي وأمثاله في قسنطينة حررت عريضة جماعية هناك سنة 1891 دعا أصحابها من الأعيان إلى الاعتزاز بأبنائهم الذين ¬

_ (¬1) انظر عن حسن بن بريهمات فصل السلك الديني والقضائي وفصل الترجمة، والمبشر 12 يوليو، 1861. (¬2) تأبين الشيخ حمو في المبشر، 31 ديسمبر 1868. انظر عنه فصل الترجمة. (¬3) انظر فصل التاريخ والرحلات. وقد نشرت الرحلتان في جريدة (المبشر) الرسمية. (¬4) عن المجاوي انظر فصل الترجمة وفصل السلك الديني.

تخرجوا من المدارس الفرنسية، فهم ليسوا ضد العلم وليسوا ضد اللغة الفرنسية وإنما كانوا يطالبون باحترام اللغة العربية ونشر التعليم بها. وقالوا إن تجربة إجبارية التعليم قصيرة المدى، وإن أبناءهم كانوا يذهبون إلى المدارس الفرنسية (خلال الستينات) بدون عقدة، وهم يعتزون أيضا بأن لديهم قابلية للتعلم وكسب المعارف الفرنسية، خلافا لما كان يشيعه أعداؤهم من أنهم يعارضون التعلم وليس لهم قابلية في ذلك. ومن الملفت للنظر حقا، أن جماعة قسنطينة نبهت الفرنسيين إلى (أننا كنا معلمي أوروبا)، ولكن الزمن دار دورته. وهذا لا يمنع من المطالبة بإنشاء المدارس بالعربية لأن ذلك سيكون أفضل لأبنائهم، ولأن ذلك أحفظ للغتهم وأصولهم ودينهم. ونحن نفهم من هذا أن أعيان قسنطينة لم يكونوا ضد اللغة الفرنسية ولكن مع التعلم باللغة العربية أيضا، وهم يخافون على أبنائهم ليس من اللغة في حد ذاتها ولكن من برامجها وأفكار أهلها (¬1). وفي الوقت الذي انطلقت فيه الدعوة للتعلم، ولا سيما بالعربية، نشر محمد بن أبي شنب بحثين مترجمين عما ألفه المسلمون حول تعلم الأطفال. النص الأول غير منسوب ولكنه لمؤلف من المغرب الأقصى يرجع إلى القرن 18. وربما يكون هذا العمل هو أول ما نشر ابن شنب في المجلة الإفريقية. وقد نشر النص العربي مع الترجمة الفرنسية ومقدمة تحدث فيها عن التربية عند المسلمين، وقال إن الإسلام ليس عدوا للتعليم كما يدعي البعض، وهو بذلك يرد على من كان يقول بذلك من الباحثين الفرنسيين والصحفيين والكولون. ويفهم من نشر النص عندئذ أن ابن شنب كان يحث الجزائريين على التعلم طبقا لتعاليم الإسلام، ذلك أن الإسلام، كما قال ابن شنب، يوجب على الإنسان أن يتعلم، ولكن هذا التعلم له هدف ¬

_ (¬1) عريضة مقالة غريق أو (شكاية)، قسنطينة، 1891، وهي على لسان أعيان بعض البلديات. انظر قنان (نصوص سياسية)، 230. عريضة مقالة غريق أو (شكاية)، قسنطينة، 1891، وهي على لسان أعيان بعض البلديات. انظر قنان (نصوص سياسية)، 230.

وهو معرفة الدين والعلوم العملية، وذهب إلى أن الدين عند العرب هو الذي أنشأ المدارس، لأن المدارس ولدت مع الرغبة في معرفة وفهم القرآن الكريم. وقد كتب علماء المسلمين عن تعليم الأطفال ولكن ما كتبوه عن ذلك قليل. وهكذا فإن نشر النص المذكور وترجمته إنما هو لإزالة فكرة مسبقة ومتحيزة يزعم أصحابها أن المسلمين ينفرون من تعليم أطفالهم من الجنسين (¬1). وبعد سنوات قليلة نشر ابن أبي شنب نفسه نصا لأبي حامد الغزالي هذه المرة، عن تعليم الأطفال أيضا. وكان النص العربي قد نشر بتونس سنة 1314، فرغب ابن شنب في ترجمته إلى الفرنسية ليطلع عليه من يرمي المسلمين بإهمال تعليم أطفالهم وليبين أن علماء المسلمين قد اهتموا بموضوع التربية والتعليم. وفي نفس الوقت ساهم ابن شنب في الحث على التعليم الذي بدأه الفرنسيون في آخر القرن الماضي، دون أن يعلن هو رأيه مع اللغة العربية أو الفرنسية، ولذلك قال إنه قد ترجم النص ونشره في هذا الوقت الذي (أصبح فيه الحديث عن تعليم الأهالي على كل لسان (¬2). وقد سارت النخبة المزدوجة والمتعلمة بالعربية فقط على هذا المنوال في الدعوة إلى التعلم. وكان هدفها أن يتعلم أطفال المسلمين بلغتهم العربية. ولكنهم أمام الواقع اكتفوا بالدعوة إلى التعلم دون ذكر اللغة، تاركين ذلك للاجتهاد والمطالبة الملحة أثناء ذلك باحترام لغة الدين والعلم وهي العربية. ونفهم ذلك من الحملة من أجل التعليم في المساجد وغيرها التي شارك فيها في العاصمة، أمثال عبد الحليم بن سماية ومحمد بن مصطفى خوجة والمجاوي، وفي قسنطينة حمدان الونيسي ومحمد الصالح بن ¬

_ (¬1) محمد بن أبي شنب عن (التربية عند المسلمين) في المجلة الإفرقية، 1897، ص 267 - 268. (¬2) ابن شنب (التربية ...) مرجع سابق، سنة 1901، ص 102.

مهنة والمولود بن الموهوب، وفي تلمسان شعيب بن علي وبوعلي الغوثي ومحمد بن عبد الرحمن. وفي بعض الزوايا شارك فيها أمثال أبي القاسم البوجليلي ومحمد بن بلقاسم الهاملي ومحمد بن عبد الرحمن الديسي وعاشور الخنقي. وفي ميزاب أمثال محمد بن يوسف أطفيش. إن هؤلاء كانوا يدرسون بالعربية وكانوا يدعون إلى التعلم. وكانوا روادا لحركة الإصلاح التي ظهرت وأينعت على يد الشيخ عبد الحميد بن باديس. وقد استمر رجال الإصلاح على ذلك النهج. فدعوا إلى التعلم بصفة عامة. ولكنهم كرسوا جهودهم لخدمة اللغة العربية على أساس أن التعليم بالفرنسية قد تولته الإدارة نفسها. وحدثت منافسة شديدة بين الطرفين أفادت الجزائر كلها في النهاية. فقد كان كل طرف يريد أن يظفر بالتلاميذ ويعلمهم أكثر من صاحبه وبطريقة أفضل من غيره، مع التنافس أيضا في الأهداف الوطنية والسياسية لكل طرف. وقد وصل التنافس إلى الحد الذي أصبح فيه التلميذ يقرأ أربع عشرة ساعة خلال الـ 24 ساعة في كلتا المدرستين (العربية والفرنسية). والملفت للنظر أنه بينما كانت جمعية العلماء تعلم بالعربية فقط وتطالب بحرية التعليم بها وبترسيمها كانت لا تمانع في أن يتعلم أبناء الجزائر باللغة الفرنسية أيضا، بل كانت تعتبرها من العلوم (الآلية) التي يحتاجها المواطن في حياته. ولذلك رأينا رجال الجمعية أنفسهم يرسلون أبناءهم إلى المدارس الفرنسية، وهكذا فلم تأت الحرب العالمية الثانية حتى كانت (الازدواجية الجديدة) هي طابع التعليم العام. ونقول الجديدة لأن الازدواجية القديمة كانت مقتصرة على المدارس الفرنسية التي كانت تعلم اللغتين ولكن بالمنهج الفرنسي مثل المدارس الشرعية الرسمية الثلاث. أما الازدواجية الجديدة فقد كانت تجمع بين التعليم العربي أو الحر في المدارس الإصلاحية بمنهج عربي إسلامي قوي وبين التعليم الفرنسي أو الرسمي في المدارس الأهلية ذات المنهج الفرنسي الاستعماري المعروف.

وهناك فئة أخرى من الجزائريين لم تكن مقتنعة بالتعليم العربي لأنها كانت تجهله أو لا ترى له من فائدة عملية، ولا تربط بينه وبين الوطنية. وكانت تطالب بالتعليم الفرنسي، ونعني بها الفئة الاندماجية التي بدأت تتحرك منذ آخر القرن الماضي. وأصل هذه الفئة يرجع إلى أبناء الموظفين الجزائريين الذين فضلتهم فرنسا على غيرهم عند فتح المدارس خلال الستينات والسبعينات من القرن الماضي. لقد كانوا أصحاب امتيازات مادية وتعليمية باعتبار آبائهم قد خدموا الإدارة الفرنسية في الجيش أو في وظائف القياد والأغوات وغيرها. وكان الفرنسيون يعتبرونهم محظوظين، لأنهم تمتعوا بنعمة التعلم والمنح، ثم توظفوا في الوظائف العسكرية والمدنية المفتوحة (للأندجين) أو الأهالي. وكان تعليم هؤلاء بسيطا في أغلبه. والقليل منهم فقط وصلوا إلى درجة عليا في التعلم. وكان التجنس شائعا في أوساط هؤلاء عادة. وحتى بعد تحركهم لم يكن يجمعهم رابط واحد سوى في أوائل هذا القرن عندما طرح موضوع التمثيل النيابي ثم فرض التجنيد. إن هذه الفئة التي انقطعت عن ماضيها مدة جيلين تقريبا واندمجت في الوسط الفرنسي وابتعدت عن المجتمع الجزائري الذي كان يسوده الجهل والتخلف، هي التي كانت لا ترى التعليم إلا باللغة الفرنسية. وقد انضم إليهم بين الحربين المتخرجون على يد الآباء البيض وبعض المتخرجين من (القسم الأهلي) في مدرسة النورمال ببوزريعة، ومنهم أصحاب مجلة (صوت المستضعفين) التي ظهرت حوالي 1929. ولكن الفئة الاندماجية كانت أقلية، وسرعان ما فقدت تأثيرها بعد انتشار التعليم في الأوساط المحرومة وظهور الوعي الوطني والإصلاحي على يد جمعية العلماء وحزب الشعب. وهكذا بقي الرواج لفكرة الازدواجية الجديدة، مع المطالبة الملحة بترسيم العربية على قدم المساواة مع الفرنسية.

وفي سنة 1947 قسم الشيخ أبو يعلى الزواوي أصناف المتعلمين الجزائريين إلى الفئات التالية: 1 - قسم يحسن الفرنسية كما ينبغي، فهم دكاترة ومحامون ومترجمون ... فهم يجهلون العربية تمام الجهل، ويجهلون أحكام الإسلام وقواعده، فهم مسلمون بالاسم فقط. و (الحمد لله، إنهم قليلون). 2 - قسم متعلم تعلما بسيطا قليلا، صاروا صالحين للجندية، وتعاطوا الأشغال العمومية، فهؤلاء يؤلفون الأكثرية، وأكثرهم فقراء، فلا هم مسلمون بتعاليم الإسلام وإجراء أحكامه عليهم ... حرموا تماما من التعاليم العربية الإسلامية، أميون ... إلا أنهم عرب مسلمون مظلومون مغلوبون مقهورون ينتظرون الفرج، ويدعون الله بواسطة الأولياء الصلحاء الأموات لا الأحياء، وأحوالهم وأعمالهم وجميع تصرفاتهم مما يحزن أهل العلم والمعرفة ... وأبناء هذا القسم أخذتهم الحكومة الاستعمارية فعلمتهم اللغة الفرنسية حتى أصبحوا فرنسيين ... وإذا أتموا الجندية (الخدمة العسكرية المفروضة) ... انتقلوا إلى الاستخدام عند المستعمرين. ومنذ الحرب (العالمية) الأولى إلى هذه (العالمية الثانية) صاروا يتوجهون إلى فرنسا ويتركون البقية الباقية من أراضيهم بورا بلا خدمة ... فصار هذا القسم من المعذبين المهلكين، ومع الجهل المطبق والعقائد الفاسدة والتصرفات السفهية التي تستلزم التحجير، فيالله! وقال الشيخ أبو يعلى إن عدد هذا القسم يمثل الأغلبية الساحقة، 90% من الجزائريين. 3 - قسم من الأعيان والأغنياء، فهم بما لديهم فرحون متمتعون في قصورهم وضياعهم، وعنايتهم بالراحة وحسن اللباس ورغد العيش. وليس هناك مقارنة بين ما يفعله وينتجه هؤلاء الأعيان الأغنياء وبين أمثالهم من الأعيان الأغنياء الفرنسيين (الفرنجة، حسب تعبيره). 4 - أما القسم الأخير فهو قسم العلماء وطلبة العلم، وأكثرهم فقراء،

وضع المرأة

وهم قليلون .. بل قليلهم كثير، وواحد منهم كألف .. (¬1). وضع المرأة أخذ الحديث عن المرأة في المجتمع الجزائري حيزا كبيرا، في المناقشات والكتابات أثناء العهد الفرنسي (¬2). كان الجهل بالتقاليد الاجتماعية والتعاليم الإسلامية قد أدى إلى تفسيرات عديدة لوضعها. منهم من تأسف على حالها ومنهم من وصف شقاءها. ومعظم الكتابات ترجع ما آل إليه أمر المرأة إلى تعاليم الإسلام للطعن فيها. والمرأة في نظرهم قدرية غارقة في الخرافات، ومستسلمة راضية بحكم القضاء عليها. وهي ضحية التخلف والأمية، وهي لعبة الرجل الذي كان يشتريها يقوده كما يشتري البهائم والبضائع، وهي في نظرهم ضحية الدين الإسلامي القاسي الذي جعل الرجل قواما على المرأة وأباح تعدد الزوجات وجعل الطلاق بيد الرجل وحده وفرض الحجاب والعفاف. والمرأة العربية المسلمة عندهم نمط واحد في المدينة والريف، إنها آلة نسل وخادمة بيت وحاضنة أطفال وجالبة حطب وماء. وهي محرومة من كل النعم في الحياة الدنيا، فلا أفراح ولا مراقص ولا ملتقيات اجتماعية. إن شباب المرأة يذوي بسرعة ويداهمها الهرم وهي في الأربعين من عمرها فتترهل وتموت قبل الأوان. إن المجتمع الجزائري مجتمع رجالي ليس فيه دور للنساء. وانطلاقا من هذه الصورة عن المرأة جاءت المحاولات لإنقاذها. بدأت المحاولات بقناعة أنه لا يمكن تغيير أي مجتمع إلا بتغيير حال المرأة فيه، والدخول إلى عقلها وعاطفتها وذوقها. ولا يكفي وصف الرجال الأوروبيين لوضع المرأة العربية المسلمة بل لا بد من إرسال النساء الأوروبيات إليها ¬

_ (¬1) أبو يعلى الزواوي (جماعة المسلمين)، 1947، ص 51 - 55. (¬2) انظر فصل السلك الديني والقضائي وفصول التعليم من هذا الكتاب، وكذلك الحركة الوطية، ج 1.

والاطلاع على أحوالها ومعرفة رغائبها وسط تفكيرها، ومحاولة إخراجها من وضعها المتردي. وفي النساء الأوروبيات من حملت القلم لوصف تلك الحال، وفيهن من حملن الصليب ليعطي بركاته للمرأة المسلمة، ومنهن من فتحت ورشة لاستقبال البنات المسلمات بعد إقناع أمهاتهن بأن لا خوف عليهن من الأذى ولا من التنصير ولا من التبرج. وبدأت عملية التعرف والاتصال، ومحاولات تكسير الحواجز بين (المتقدمات) السافرات المتحررات القادمات من أوروبا وبين المتخلفات القابعات المغلوبات على أمرهن في الجزائر. سوف لا نذكر هنا فضيحة عائشة بنت محمد وتهريبها وتنصيرها سنة 1834 وبداية الاعتداء الفرنسي على حرمات الدين والقضاء والمجتمع. فذلك فصل آخر (¬1). وسوف لا نذكر كذلك ورشات السيدة لوسي (الليكس) والسيدة ابن عابن، وسيدات كثيرات في العاصمة وفي زواوة وميزاب وبسكرة ووهران وغيرها حيث دروس الطرز والنسيج التي تحولت إلى دروس في الترقية الاجتماعية والدمج الحضاري، ومثلت بداية التوتر داخل الأسرة الجزائرية بين الأم والبنت، والبنت والأب، والجار والجار، وكم من فضيحة وقعت ولكن قبرت في وقتها، وكم من ضحايا لعمليات الإنقاذ هذه. فالمرأة الجزائرية لم تتول قيادة (تحريرها) بنفسها وإنما الأخريات هن اللائي رمين بحبال النجاة إليها. ولذلك بقيت تابعة لا متبوعة وفاقدة لروح المبادرة فيما يتعلق بمصيرها. كان الأخريات يتحدثن عنها وهي غائبة، ويخططن لها وهي فاقدة للوعي. ومن السيدة لوسي إلى السيدة ماري بوجيجا حوالي قرن، ولكن وضع المرأة الجزائرية هي هو هو تقريبا، رغم فرص التعلم منذ أوائل هذا القرن. فكيف سارت الأمور؟ بالإضافة إلى كتابات الرجال عن المرأة ¬

_ (¬1) عن المرأة الجزائرية في عهد الاحتلال انظر مغنية الأزرق (بلاغة الصمت: مشكلة المرأة الجزائرية)، نيويورك، 1994.

الجزائرية، كتبت عنها السيدة بروس، والسيدة روجرز، وغيرهما. وتركز وصف هؤلاء على المرأة الحضرية. ثم اتسعت الاهتمامات وانفتح الريف والبادية أمام الرحالة والإداريين والكتاب، فوصفوا المرأة في جبال زواوة والهضاب العليا وفي الصحراء. وظهرت عدة عناوين مثل (المرأة العربية) لدوماس، و (المرأة البربرية) لرين، وبحوث أخرى عديدة تتناول ظاهرة خاصة فقط كالحجاب أو العمل. ولا شك أن الاحتلال قد أدى إلى زيادة الانغلاق الاجتماعي بالنسبة للمرأة في المدن. لأن الفرنسيين أعطوا المثل السيء في الاعتداء على الحرمات وعدم مراعاة الأعراف والتقاليد التي وعدوا باحترامها في اتفاق 1830، سيما حول المرأة. وقد ذكر حمدان خوجة نمو نموذجا عن ذلك وقع أثناء حفلة زواج ابنه. فقد دعا بعض الفرنسيين لحضور الزفاف مع نسائهم بشرط عدم دخول الرجال إلى محل النساء، فإذا بالضيوف الفرنسيين يدخلون، مع ذلك، على النساء، فوقعت الفوضى والفضيحة. إن أحداثا مثل هذه كانت لا تشجع على الاختلاط بين الفرنسيين والجزائريين في المدن. رغم الظروف الجديدة فقد استمرت العائلات في المدن على إقراء بناتها القرآن في الكتاب، ولكن بندرة. ويقول جون موريل إنه كان من النادر عند زيارته للجزائر أن تجد المعلمات الخصوصيات للبنات، كما كان الحال في الماضي. ووصف المرأة عندئذ بأنها جاهلة (¬1). وتؤكد السيدة بروس سنة 1849 أنه كان لا يسمح للبنات بالخروج إلى الكتاب لحفظ القرآن، وأن الكتاب (المسيد) كان خاصا بالبنين (¬2). ومعظم الذين وصفوا الكتاب عندئذ وصفوه على أنه للبنين وغير مختلط. إن هذا الصنف من البنات هن اللاتي ذهبت إليهن السيدة الليكس (لوسي) منذ عهد بوجو لإخراجهن إلى ورشة الطرز والخياطة بدل كتاب القرآن. ثم أخذت نساء أخريات في جلبهن إلى أماكن الرحمة وإلى الجمعيات الخيرية والتوليد، بالتدرج والاستدراج. فهل كانت المرأة فعلا جاهلة تماما؟ إذا كان العلم بالشهادات والتقدم ¬

_ (¬1) جون موريل (الجزائر)، لندن، 1858، ص 386. (¬2) السيدة بروس (إقامة في الجزائر)، لندن، 1852، ص 278.

بالدرجات في المدرسة من سنة إلى أخرى، فهذا ما لم يحصل إلا في المدارس الأهلية الفرنسية منذ حوالي 1920 فقط، وقد تناولنا ذلك في غير هذا المكان. ونفهم من بعض القصص هنا وهناك أن التعلم لم يكن محرما ولا مفقودا في بعض العائلات والمناطق، ولكنه كان تعلما استماعيا في معظمه، وكان يقوم على الحفظ والذاكرة على عادة العرب القدماء، وقلما وجدنا المرأة التي تكتب أو تؤلف أو تعبر عن علمها بقلمها. ولا شك أن النسوة كن يستمعن إلى الدروس ويستوعبن المواعظ والأحكام الشرعية شفويا، ثم ينشرن ذلك بين النساء الأخريات، وهكذا. وقد روي عن الشيخ محمد بن يوسف أطفيش أنه كان يعظ النساء في دروس مخصصة، وكان يعلمهن شفويا تعاليم الإسلام وأحكام شريعته. وممن نبغت على يدي السيدة عائشة بنت ناصر التي أصبحت متعلمة كما أصبحت بدورها واعظة للأخريات، وكانت تفصل في القضايا بين المتخاصمين (¬1). وكان ابن باديس ورجال جمعية العلماء قد اتبعوا منهج الوعظ والإرشاد وتعليم المرأة أيضا بالطريقة الشفوية، ثم فتحوا المدارس أيضا لتعليم البنات بالطريقة الحديثة. ويذكر بعض الكتاب أن المرأة في زواوة قلما تعلم لأن التعلم في الزوايا والمدارس القرآنية كان مقصورا على البنين، ومن النادر أن تجد غير ذلك (¬2). ومن هذا النادر ما حكاه الشيخ علي أمقران عن السيدة ذهبية بنت محمد بن يحيى، أحد شيوخ زاوية اليلولي. فقد كانت ذهبية متعلمة وكانت لا تكف عن المطالعة في كتب أبيها أثناء هرمها (¬3). وكانت السيدة زهراء بنت العربي بن أبي داود معروفة بالصلاح والحكمة حتى أنهم كانوا يشاورونها في أمور الدين والدنيا، وهي من شواعر اللغة القبائلية (¬4). وذكر ¬

_ (¬1) محمد علي دبوز، (نهضة الجزائر)، 1/ 347. (¬2) هانوتو ولوتورنو (منطقة القبائل)، ط. 2، ص 106. (¬3) علي امقران، مراسلة خاصة، إبريل 1979. (¬4) نفس المصدر، من أوراق له، 18 مايو، 1981.

الشيخ عاشور الخنقي أن زوجته، وهي باية (بية) بنت أحمد حسان، كانت قارئة للقرآن (وعالمة بعدة علوم على غاية الاتقان والإحسان)، وكانت قد أخذت الطريقة الرحمانية على الشيخ محمد بن بلقاسم الهاملي وأدخلت عند أهل الشيخ وعند ابنته زينب التي تولت بعد أبيها القيادة الروحية للزاوية (¬1). وكانت زينب هذه من النساء اللواتي حظين بدراسات وأوصاف قلما حظيت بها امرأة معاصرة في الجزائر. فأبوها هو شيخ زاوية الهامل. وكانت زينب الابنة الوحيدة والوريثة له. وقد ولدت في حدود الخمسينات من القرن الماضي. ورباها أبوها وعلمها لكي تساعده في الزاوية وتخلفه بعد وفاته. وكانت متعلمة إلى أن أصبحت قادرة على الاستفادة من مخطوطات المكتبة. وكانت هي الحافظة لسجلات أملاك الزاوية. وقد بلغت مداخيلها حوالي مليونين ونصف من الفرنكات أوائل هذا القرن، كما بلغت الأراضي المزروعة التابعة للزاوية 900 هكتار في بوسعادة وحدها. وكانت الزاوية في عهد أبيها محل الزيارات والضيفان والطلبة، وقيل إن عدد هؤلاء (الطلبة) كان يتراوح بين 700 و 800 في السنة. وحين تغلبت زينب على ابن عمها في إرث بركة الزاوية تلقت أيضا زيارات عديدة، منها زيارة الفنان الفرنسي (قيومي)، والمغامرة الأديبة إيزابيل إيبرهارد، والرحالة بامبر. وكانت زينب، حسب وصف مشاهديها منقطعة للعبادة. وشهدت الزاوية في عهد والدها وعهدها هي أحداثا هامة وكانت لها مواقف، منها احتضانها (أي الزاوية) لأسرة المقراني بعد 1871، وموقفها من ثورات الجنوب، وتدريس الشيخين محمد بن عبد الرحمن الديسي وعاشور الخنقي فيها، وزيارات ناصر الدين ديني، الرسام المعروف، لها. وكانت زينب معاصرة لكل ذلك وواقفة على سير الزاوية في أحرج الظروف (¬2). ¬

_ (¬1) عاشور الخنقي، (منار الإشراف)، ط. 1914، ص 25. وقال إن زوجته هذه قد توفيت سنة 1305 بالزاوية. (¬2) أنيت كوباك A. Kobak، (إيزابيل)، نيويورك، 1989، ص 191. وكلنسي - سميث =

وكان للنساء أدوار في الحياة السياسية والعسكرية أيضا. وقد برزت أثناء حياة الأمير عبد القادر امرأتان: أمه لاله زهرة (الزهراء) وزوجته لاله خيرة. وكانت أمه ذات مكانة خاصة في قومه حتى كان يدعى أحيانا، سيما عند البيعة، بابن السيدة الزهرة. وكان الأمير كثيرا ما يشاورها ويتبع نصائحها. وبعد معاهدة التافنة ظهر على الأمير بعض الراحة وتلقي الهدايا، فذكرته أمه بما يجب للرجل البسيط، رجل الدين والتقشف، فكان لا يلبس إلا الصوف البيضاء دون زخرفة. ولما كان في تاكدامت سمع بأمه مريضة، وهي في مليانة، فبادر إلى زيارتها قاطعا على ظهر الحصان 160 كلم في خمس عشرة ساعة. وكانت أمه وزوجه في الزمالة سنة 1843 فهربهما مولود بن عراش بحراسة أربعين فارسا حتى لا تقعان في قبضة الفرنسيين. ولما وصل الجيش الفرنسي إلى موقع الزمالة دارت معركة حامية حول الخيمة التي كانت تضم السيدتين ودافع عنها فريق من الجيش النظامي حتى قتل دونها، لتمكين السيدتين من الهروب الذي لم يعلم به الفرنسيون. ثم إن لاله زهرة هي التي استقبلت الأسرى الفرنسيين سنة 1845 بعد معركة سيدي إبراهيم. وقيل إنها هي التي نصحت ابنها الأمير سنة 1847 بتوقيف الحرب بعد مقتل البوحميدي في المغرب وفقدان الأمل في الهروب إلى الصحراء، ومحاصرة الفرنسيين لهم. وقد عانت لاله زهرة أيضا من السجن عند الفرنسيين بفرنسا حوالي خمس سنوات. وكذلك لاله خيرة وأطفالها (¬1). ¬

_ = (ثائر وقديس)، 1994، ص 244. وهنا وهناك. وهناك من يرى أن تولي زينب شؤون الزاوية قد أضعفها. والمعروف أن الفرنسيين بواسطة كروشار، رئيس المكتب العربي في بوسعادة، قد عارضوا توليها خوفا من أن تقع الزاوية تحت تأثير المعارضين للاحتلال. وكان الفرنسيون يفضلون تولية ابن عمها. ولكن زينب عارضت ذلك ورفضت الرسالة (الوصية) التي تظاهر بها الفرنسيون من أبيها على أساس أنه كتبها في حالة مرض وشيخوخة. وبقيت هي المتولية إلى وفاتها سنة 1904 (حوالي سبع سنوات). وقد وصفتها كلنسي - سميث بأنها (البنت العصامية). (¬1) لويس رين (المرأة البربرية) في (المجلة الجغرافية للجزائر وشمال إفريقية) SGAAN، 1905، ص 472، انظر أيضا السيدة بروس (إقامة في الجزائر)، مرجع سابق، =

وأثناء ثورة الزعاطشة (1849) لبست النساء لباس الأعراس والأعياد، وتخلين عن لباس الحزن والحداد، وعبرن عن فرحتهن بمن سقطوا مجاهدين من عائلاتهن. وقد دام ذلك خلال فترة الحصار الضيق الذي نصبه الفرنسيون على الواحة (¬1). فالمرأة كانت حاضرة في المقاومة بأفعالها ورموزها. إن هناك نساء كثيرات في حياة الجزائر وزعمائها خلال الاحتلال. فمن أولاد سيدي الشيخ، ومن زواوة، ومن الأوراس ومن معسكر والشلف، ثم من الصحراء. لقد كانت المرأة حاضرة في المدن والأرياف. ولم تكن تنتظر النجدة من الأخوات البيض حاملات الصليب، ولا أفكار سان سيمون، لتحريرها وإنقاذها. لقد نفتها فرنسا وحدها أو مع الرجال إلى كايان وكاليدونيا، وعانت في المحتشدات التي أقامها بوجو وسانطارنو وبيليسييه. وغنت للحرية التي كانت تحوم فوق رأسها، وبكت زوجها وأبناءها يوم وصلها خبر استشهادهم في المعارك. فهذه فاطمة نسومر التي قاومت حتى ألقي عليها القبض وتوفيت في سجنها بمرض السل، وهذه زوج بوشوشة التي حال الفرنسيون بينها وبينه عندما هربوها إلى أهلها في البيض ثم قتلوه هو رميا بالرصاص في سجن قسنطينة. وهذه عيشوش التي كانت تدبر شؤون الحكم في تقرت، وتلك زينب التي كانت تدير زاوية الهامل أثناء حياة أبيها وبعده. وحين توفي الخليفة حمزة، زعيم أولاد سيدي الشيخ، عند الفرنسيين، اتهم هؤلاء إحدى زوجاته بتسميمه لأنها لم تغفر له استسلامه المطلق للفرنسيين. كما اتهموا الطليعة بنت رابح بوضع السم لزوجها القايد جلول بن حمزة لإخلاصه لفرنسا، أما رقية بنت الحرمة فقد قيل عنها إنها ¬

_ = ص 315 - 316. وفي المرجع الأخير وصف لنساء وأطفال الأمير في سجن (بو) بفرنسا، وعن نساء الأمير انظر فصل في المشارق والمغارب. (¬1) كلنسى - سميث (ثائر وقديس)، 1994، ص 345، هامش 1.

ربت ابنها سليمان بن حمزة على كره الفرنسيين وغذته بالطموح والكبرياء (¬1). بل هناك حتى النساء المتمردات على العادات والتقاليد الاجتماعية والإسلامية. فهذه حليمة بنت محمد بن يوسف الزياني قد اشتهرت في وهران ونواحيها بالخروج عن التقاليد. فكانت تخرج سافرة وتفلح الأرض لأسرتها، وكانت تركب الخيل وتشارك في الفروسية التي تنتظم من وقت إلى آخر، كما كانت تستقبل الوفود التي تزور زوجها الذي كان يتولى وظيفة إدارية للفرنسيين، وتحضر الحفلات التي يقيمها المسؤولون الفرنسيون لأعيان الموظفين الجزائريين. واشتهرت بلقب (القايدة حليمة). وقد قيل إنها ذهبت إلى الحج قبل وفاتها واستبدلت لقب القايدة بلقب الحاجة. وتوفيت خلال الحرب العالمية الثانية (¬2). وكم من قصص تروى عن النساء الجزائريات خلال هذا العهد. ففي المدن كن لا يخرجن إلا إلى الحمام حيث يلتقين ببعضهن ويتخذن ذلك ذريعة للاطلاع على الأحوال، والاستماع إلى الأخبار من كل نوع، وذريعة لتفريج الكرب والترويح عن النفس. وكثير من الحمامات كانت تتحول إلى مغنى ومرقص ومعرض للزينات والجواهر، وأسواق للبيع والشراء. والمناسبة الأخرى التي كانت المرأة تخرج فيها في المدينة هي شهر رمضان حين يطول الليل ويخرج الرجال والأطفال، ويكسو الظلام الشوارع فلا يعرف المارة إلا أن الملفوف بالحائك هو امرأة أو حرمة. وغالبا ما كانت النساء تخرج في رمضان ومعهن أطفالهن. كما كن يخرجن يوم العيد لزيارة المقابر والجيران والأقارب. وفي يوم العيد كن يتخذن الزينة ويلبس الجليد من الثياب والأحذية الملونة والمطرزة بالذهب والفضة. وفي عيد الأضحى كن يتخذن الدفوف ويرقصن ويغنين. ولكن الفرنسيات لا يعجبهن كل ذلك، إنهن يردن المرأة المسلمة أن تفعل ما يفعلنه، وإلا فهي متخلفة ومسكينة. ولم تعجبهن ¬

_ (¬1) لويس رين (حدودنا الصحراوية) في المجلة الإفريقية، 1866، ص 189. (¬2) المهدي البوعبدلي (دليل الحيران)، المقدمة، والكتاب من تأليف محمد بن يوسف الزياني.

موسيقاها ولا زغاريدها، وقد بلغت الوقاحة بإحداهن أن شبهت الزغاريد بنباح الكلاب (¬1). وقد سال حبر كثير عن تعدد الزوجات وحقوق الزوجة الواحدة، واعتبر الفرنسيون أنفسهم من المنقذين هنا أيضا. وربط معظم الذين تناولوا هذا الموضوع بين الجانب الاقتصادي والشريعة الإسلامية والقوانين الفرنسية. وبنهاية القرن الماضي سجلوا أن تعدد الزوجات بين المسلمين كان يقل في المناطق المدنية حيث انتشر الفرنسيون، وأن التعدد كان ما يزال شائعا فقط لدى بعض العائلات الغنية، وإنه ظاهرة تختفي بالتدرج. ونادى بعضهم بتوفير الحاجات المادية للرجل وعندئذ سوف لا يتزوج إلا واحدة. ولاحظوا أن التعدد لا يكاد يذكر في زواوة وفي بعض المناطق الفقيرة الأخرى، لأن الطبقات الفقيرة عامة لا تعرف تعدد الزوجات. ذلك أن التعدد لا يرجع إلى الشهوة الجنسية ولكن إلى دوافع اقتصادية وإلى الفخفخة وحب الظهور وكثرة الأولاد. وأخبر الضابط شارل ريشار الذي قضى مدة طويلة وهو رئيس لمكتب عربي عسكري، وكان عارفا بأحوال الأهالي في نواحي الشلف: إن تعدد الزوجات راجع إلى أسباب مادية، فالمرأة كانت تقوم بالطحن والعجن، والطبخ، وكانت تقوم بترتيب البيت وتزيينه، وكانت تنسج الحائك والبرنس، وتعد الحلوى، وتخيط الملابس وتصنع قماش الخيام، ومن ثمة كانت تشارك في البناء المنزلي. فالمرأة على هذا المنوال كانت توفر للرجل: الغذاء والكساء والسكن (¬2). ¬

_ (¬1) السيدة بروس، مرجع سابق، ص 284. (¬2) شارل ريشار (تحرير المرأة العربية)، نقلا عن بول بوليو (عن الاستعمار) ط. 5، 1902، ص 464. ويذكر لويس ماسينيون في وقت لاحق أن السدس فقط من رؤوساء العائلات كان لهم أكثر من زوجة سنة 1891 (أي 149,000 من مجموع 950، 000) أما في سنة 1911 فقد انخفض ذلك العدد إلى 59، 527 فقط. وفي 1915 انخفض إلى 2,830 وهكذا. انظر (الحولية)، باريس 1955، ص 235. وعن تعدد الزوجات من وجهة نظر إسلامية انظر ما كتبه الشيخ أبو يعلى الزواوي في (الشهاب) عدد مايو 1931.

ورأى بول بوليو عدم المبالغة في دور المرأة الاقتصادي، رغم أنه يعترف بأن عليها يتوقف نظام المنزل وأملاكه وحسن سير المداخيل والتوفير. وإن العمل المنزلي هو مجال الزوجة الوحيدة والكفأة. وقال إن المسألة ليست في كثرة القوانين والإجراءات، ولكن في فهم عقائد المسلمين وتقاليدهم. ويكفي في نظره أن تعدد الزوجات يجعل التواصل غير ممكن بين الأوروبيين والجزائريين، وله عواقب وخيمة. وقد دلت الإحصاءات على أنه قد انحصر في بعض العائلات الغنية، كما ذكرنا. وحكم التاريخ يقتضي إذن إعطاء العربي ما قدمه له المرأة من مادة: وهي الغذاء والكساء والخياطة والبناء، الخ. وإذا توفر له ذلك فإن التعدد سيختفي من تلقاء نفسه. ومن جهته نصح جول دوفال بمنع الموظفين الجزائريين في الإدارة الفرنسية من تعدد الزوجات، وبعدم حضور الفرنسيين حفلات الزواج الثاني إذا دعاهم الأهالي إليها، وبمقاطعتهم لزيارة أي بيت فيه أكثر من زوجة، كما طالب بامتناع الفرنسيات من الدخول على بيت فيه حريم (أكثر من زوجة). ثم رجع بوليو إلى الحديث عن بعض العراقيل التي وضعها القانون الفرنسي لمنع تعدد الزوجات، ومنها، في نظره، الإرث المتساوي بين الرجل والمرأة، والزواج المؤبد حسب القانون (الفرنسي)، وكذلك إنشاء الحالة المدنية التي رأى فيها بوليو وسيلة لإخراج الجزائريين من (نصف حضارتهم) (¬1). ونحن لا نفهم من هذه الملاحظات والنصائح دفاعا عن المرأة المسلمة أو غيرة على حقوقها الإنسانية، ولكن دعوة لإدماج الجزائريين في المجتمع الفرنسي، والتخلص من العراقيل التي تحول دون ذلك. أما تعدد الزوجات في الشريعة فله شروطه المنصوص عليها، وليس مجرد شهوة أو حاجة اقتصادية أو قضية ثروة وتباه. ومن العراقيل التي وضعها القانون الفرنسي أن الزوجة المسلمة المتوفى ¬

_ (¬1) بول بوليو (عن الاستعمار)، مرجع سابق، ص 466.

عنها زوجها لا حق لها في النفقة من زوجها أو من الدولة إلا إذا كان الزواج قد عقد طبقا للقانون الفرنسي، أي إذا كان الزوج قد تخلى عن أحواله الشخصية الإسلامية. فقد طالبت امرأة محمد بوكنية الذي توفي في معركة ضد العدو (؟) - حسب تعبير جريدة (المبشر) - بالنفقة من السلطات الفرنسية، ولكن هذه السلطات أجابتها بأنه لا حق لها في ذلك لأن زواجها منه كان طبقا للشريعة الإسلامية (¬1). وقد كثرت شكاوى النساء الجزائريات خلال الاحتلال الذي زعم قادته أنهم كانوا يرثون لحالهن ومآلهن. والأمثلة على ذلك كثيرة. فهذه زوجة مصطفى، خوجة الخيل على عهد الداي حسين باشا. لقد نفاها الفرنسيون مع زوجها وأطفالها الثلاثة عشر، واستولوا على أرزاقهم وأراضيهم. وعاشوا فترة في الإسكندرية، ثم توفي الزوج وبقيت هي مع العيال. ثم تذكرت الأرملة أن لهم أملاكا في الجزائر فطلبت السماح لها بالعودة والإقامة، فسمح الفرنسيون لها بالرجوع، وقد تجاوزت الستين سنة، ولكن أملاكها لم ترجع إليها، ولم يدفعوا لها الكراء على ما فات من السنين، فكتبت رسالة شكوى إلى زوجة نابليون تستغيث بها وتطلب منها التدخل لجبر الحالة وتخصيص شهرية لكي تستعين بها على حياتها، والنظر إليها (بعين الشفقة والرحمة بحق من أعطاكم هذه الحرمة وأولاكم النعمة .. ولا يخفاكم حال أولاد الدار الكبيرة إذا سقط حالهم وصعبت معيشتهم) (¬2). وأسوأ ما كانت تتعرض إليه المرأة هو النفي عن أهلها وموطنها. وقد ذكرنا أن الجزائريات عانين كالرجال، من المنفى البعيد، ولا سيما في عهد بوجو. والغريب أن إحداهن قد وطنت نفسها على الإقامة في المنفى الذي هو (كايان) الفرنسية، وكتبت إلى الجزائريات أمثالها ترغبهن في القدوم إلى هذا المنفى البعيد والتزوج بالمسلمين الجزائريين الذين حكم عليهم الاستعمار ¬

_ (¬1) جريدة المبشر 16 ديسمبر 1869. وقالت الجريدة إن هذا القانون صادر في 28 أكتوبر 1866. وكان قانون التجنس قد صدر سنة 1865. (¬2) بلقاسم بن سديرة (كتاب الرسائل)، ص 304، والرسالة بتاريخ 18 سبتمبر 1860.

بالعيش بعيدا عن وطنهم. كما ذكرت لهن أسماء هؤلاء الجزائريين (¬1) الذين قد يكونون من ضحايا قمع ثورة 1871. ولكن الحياة في الجزائر ظلت تسير، مع ذلك، فهناك الخريجات من ورشات ابن عابن، ومن بعض الورشات التي فتحت في العاصمة ووهران وقسنطينة، وأهم المدن التابعة لها، سواء تلك الورشات الخاصة أو الكنسية أو التابعة للحكومة. ومن الصنف الأخير سبعة مراكز في إقليم قسنطينة بين 1895 و 1910، وكانت تضم حوالي 539 تلميذة. وسبعة مراكز في إقليم وهران بين 1906 - 1910، وكانت تضم حوالي 674 تلميذة. أو في إقليم العاصمة بين 1903 - 1909 حيث ستة مراكز، وكانت تضم حوالي 526 تلميذة. وقد اختصت هذه المراكز بأنواع معينة من الزرابي الإيرانية والتركية والمغربية والتونسية، بالإضافة إلى الأنواع المحلية مثل زرابي جبل عمور والقلعة والطرز العربي والبربري، إلخ. وكان الهدف من هذه الورشات ليس تثقيف البنت المسلمة وإخراجها من ظلمات الجهل، كما يزعمون، ولكن جعلها وسيلة إنتاج تجارية لتبادل المنسوجات والمطروزات التقليدية مع أوروبا وعرضها في المعارض على أنها إنتاجات (فرنسية). ومن جهة أخرى كان الهدف هو دمج المرأة الجزائرية في الحياة الأوروبية، وخاصة الاقتصادية، وإخراجها من بيتها بشتى الوسائل. كما أن التجربة كانت تتماشى مع رغبة شارل جونار في استعادة وجه الجزائر العربي الإسلامي أو البربري التقليدي، حتى يحصل التناقض بين المجتمع المتخلف والمجتمع المتحضر وتكثر العقد ومركبات النقص. ويذهب من درس هذه الظاهرة عندئذ إلى أن البنات سرعان ما كن ينسين ما تعلمنه لأنه لا توجد إمكانات المواصلة. ثم إن المستفيدات لا يتجاوز عددهن 1739 تلميذة من بين حوالي خمسمائة ألف تلميذة في سن التعليم (¬2). ¬

_ (¬1) المبشر عدد 22 مايو، 1880. (¬2) إسماعيل حامد (المسلمات في شمال إفريقية) في (مجلة العالم الإسلامي)، جوان 1913، ص 293 - 295. ومن رأي إسماعيل حامد أن أنانية الرجل هي فقط التي =

إن أصوات الباكين على المرأة كثيرة، ولكن ما صنع الفرنسيون طيلة أكثر من قرن نحو المرأة البائسة في نظرهم؟ فحالات الولادة العسيرة لم تكن غالبا محل اعتبار عندهم. وكل شيء كان متروكا للطبيعة تقريبا. وكان البعض مثل السيدة بكيرو، قد نبه منذ السبعينات إلى بؤس الحالة عند الولادة. وكانت جهود الفرنسيين منصبة على تدليل الكولون وصرف الميزانية التي تجمع من الضرائب العربية ومن الغرامات الثقيلة المفروضة على الأهالي لصالح الكولون وحدهم. وعشية مغادرته الجزائر أعلن الحاكم العام جول كامبون بأنه شاور بعض أعيان الجزائر لأخذ رأيهم في تخصيص قوابل أوروبيات (فرنسيات) لمساعدة المرأة على الولادة، وأن بعضهم قد وافقه على ذلك. وأعلن أنه قد خصص (بعثات نسائية) لمنطقة الأوراس والقنطرة وسيدي عيسى لهذا الغرض. وهذا لا يعني أن بعض المدن والمناطق الأخرى لم تتوفر لها هذه (البعثات) (¬1). إن هناك عدة دراسات قد ظهرت عن المرأة الجزائرية منذ آخر القرن الماضي. ولن نتناول المؤلفات والبحوث التي عالجها الجزائريون هنا، وسنعود إليها عند دراسة الإنتاج في جزء آخر. وحسبنا أن نقول الآن إن التحديات الفرنسية قد أدت بالجزائريين إلى كتابة (ردود) عنها دفاعا عن المرأة المسلمة وعن موقف الشريعة منها، وتوضيحا لموقف الدين والمجتمع، وتبيانا للوجوه الشرعية في الصداق وتعدد الزوجات والبرقع، ونحو ذلك مما كان موضع جدل. وكان بعض الفرنسيين يثيرون ذلك لكي يطعنوا في التقاليد وفي الشرسة ويحكموا على أن الأعراف المنحرفة هي نفسها التعاليم الدينية. ومن الكتب الفرنسية تأليف أرنست ميرسييه (حالة المرأة المسلمة في ¬

_ = خطت من منزلة المرأة. انظر كريستلو (المترجمون) في مجلة (المغرب ريفيو) 10، 1985، ص 105. (¬1) (إفريقية الفرنسية. A.F)، فبراير 1897، ص 40.

الشمال الإفريقي) الذي ظهر سنة 1895. وقد أخذ منه وناقشه إسماعيل حامد في بحثه عن المرأة. وبعد كتاب ميرسييه بسنة واحدة ظهر كتاب صغير ومفيد ألفه محمد بن مصطفى خوجة وترجمة إلى الفرنسية السيد آرنو. وعنوانه (الاكتراث بحقوق الإناث). وقد راجعته الصحف الفرنسية واستحسنته على أنه صادر من رجل مسلم متفتح وملتزم في نفس الوقت بالدين الإسلامي. وقد تحدث فيه عن وضع المرأة في العائلة، وحقوقها وواجباتها، ولم ينف أو يستنكر تعدد الزوجات واستند في ذلك إلى القرآن والسنة. وأثبت المؤلف حسب المراجعين للكتاب، عدم تعصبه الديني، ودعا إلى التعلم (¬1). كما أن عبد الحليم بن سماية ألف كتابا تعرض فيه إلى وضع المرأة في الأحوال الشخصية، مثل تعدد الزوجات والطلاق والإرث والحجاب (¬2). وبعد زيارة الشيخ محمد عبده (1903) وانعقاد مؤتمر المستشرقين (1905) ظهرت عدة مقالات ومؤلفات أيضا تتناول موضوع المرأة الجزائرية. كان الشيخ سلطان محمد الذي مثل مصر في المؤتمر قد ألقى فيه بحثا عن المرأة في الإسلام وفي مصر. وقارن بين المرأة في الجاهلية والإسلام، وموقف القرآن والسنة، والمرأة المتعلمة والجاهلة، وذكر أن مصر بنت المدارس للفتيات، واستشهد بالمتعلمات من نساء الرسول (صلى الله عليه وسلم) وشهيرات النساء العربيات. ويبدو أنه كان لكلمته صدى واسع في الأوساط المحبذة لتعلم المرأة في الجزائر (¬3). وعقب ذلك ظهر كتاب آخر لمحمد بن مصطفى خوجة سماه (اللباب في أحكام الزينة واللباس والاحتجاب)، وتولت ¬

_ (¬1) راجعته جريدة (المونيتور ألجيريان)، ونقلت ذلك جريدة (المبشر) 21 مارس 1896. سنرجع إلى هذا الكتاب في جزء آخر. (¬2) انظر بحثه الذي قدمه إلى مؤتمرالمستشرقين بالجزائر سنة 1905 في المجلة الإفريقية، 1905. وعنوان كتابه هو (العلاقة بين الدين والفلسفة). (¬3) مؤتمر المستشرقين في (المجلة الإفريقية)، 1905، ص 318، تقديم محمد بن أبي شنب.

نشره الحكومة العامة. ولم يخرج المؤلف عن نفس الخط في كتابه الأول من حيث الموقف الديني من المرأة، ولكنه عالج أيضا موضوعات متصلة بها مثل التزين بالجواهر والملابس الحريرية، والحجاب الذي كان من موضوعات الساعة في المشرق. وقد ظهر الشيخ محمد بن مصطفى خوجة محافظا في نظر المراجعين الفرنسيين لكتابه، لأنه كان يتماشى مع قواعد الشريعة الإسلامية (¬1). وفي نفس السنة (1907) وما بعدها نشر محمد بن أبي شنب مقالة عنوانها ملفت للنظر وهو (الحياة المدنية الإسلامية في مدينة الجزائر - حالة المرأة بناء على القرآن والسنة). وفي مقدمة دراسته ذكر أنه لن يكتب دراسة عميقة عن حالة المرأة المسلمة في مدينة الجزائر وأنه لم يأت ليناهض الأحكام المسبقة التي يستنكرها الشرع الإسلامي، ولكنه جاء فقط ليكتب حياة المرأة من ميلادها وزواجها إلى وفاتها. ولذلك خصص قسطا من مقالاته الثلاث لكل طور. وقد اطلعنا على هذه الدراسة فوجدناها وصفية وشرعية، ولكنها لا تعرض الآراء الاجتماعية ولا تصارعها. والمعروف أن ابن شنب يعتبر من المحافظين رغم معرفته الفرنسية جيدا والحياة الفرنسية بصفة عامة (¬2). ولم يذهب ابن شنب في ذلك مذهب الإندماجيين أمثال إسماعيل حامد الذي دافع عن المرأة المسلمة أيضا بناء على الشريعة ولكنه ركز (أي حامد) على أن وجود الاندماجيين (النخبة) والزواج المختلط وتعليم المرأة المسلمة هي شروط الاندماج الحقيقي، لأن دمج الأعراق أو السلالات غير ممكن في نظره (¬3). وتطور الاهتمام بالمرأة بعد الحرب العالمية الأولى أيضا بتطور الأفكار، فقد انتشر التعليم بين الجنسين، واهتمت الحركة الإصلاحية بالمرأة ¬

_ (¬1) انظر (مجلة العالم الإسلامي)، يناير 1908، ص 216 - 217. ظهر الكتاب سنة 1907. (¬2) نشرها في المجلة الأهلية R. Indigene 1907، 1908، 1909، ونشكر محمد العربي معريش الذي صور هذه المقالات وأرسلها من الجزائر. (¬3) إسماعيل حامد، (المسلمات)، مرجع سابق، ص 292 - 293.

باعتبارها ظلت مهملة وباعتبارها عضواه أساسيا في إصلاح المجتمع. وكانت دروس ابن باديس العامة منذ البداية موزعة بين الرجال والنساء، وقد أعطى هو المثل والقدوة في ذلك. وفي مجلة (الشهاب) التي أنشأها ابن باديس، باب خاص بالحديث عن المرأة في الشريعة والتاريخ الإسلامي، مع ربط ذلك بالواقع في الجزائر. ثم أصبحت لا تكاد تصدر جريدة إصلاحية دون الحديث عن المرأة ومكانتها الاجتماعية والدينية. ومن الذين خصوا المرأة بتأليف أيضا أبو يعلى الزواوي الذي كتب (مرآة المرأة المسلمة). وهذا من الكتب التي لم نطلع عليها، غير أن أبا يعلى أشار إليه في كتابه (الإسلام الصحيح) الذي يعتبر من الكتب المبكرة، والذي نشره في دمشق (؟) سنة 1924. وفي الكتاب الأخير عبر أبو يعلى (السعيد بن محمد الشريف الزواوي) عن رأيه في عمل المرأة وتعلمها ورؤية الخاطب لها، وخلص إلى القول إنه (لا يليق أن تكون المرأة عضوا أشل في الهيئة الاجتماعية الإسلامية) (¬1). وقد أورد الشيخ سعيد الزاهري سنة 1347 هـ قصة حول المرأة، بعضها خيالي وبعضها حقيقي، ونشرها في مجلة مشرقية هي (الحديقة) وربما نشرها أيضا في كتابه (الإسلام في حاجة إلى دعاية وتبشير). ذكر الزاهري قصة رد فيها ردا غير مباشر على مستشرقة فرنسية - ربما كان يقصد ماري بوجيجا - التي قال عنها إنها كتبت كتابا عن تحرير المرأة المسلمة وذهبت تقرأه على النساء المسلمات في بيوتهن. وعالجت فيه مسألة الحجاب. وذكر الزاهري أن المرأة المسلمة ردت عليها بما يقنع أن الحجاب رمز العفاف والأنوثة، وأن المرأة الحضرية (ساكنة المدينة) راضية بخدمة المنزل والأولاد وشؤون الزوج، وأما المرأة البدوية (الريفية) فهي التي تخرج سافرة، وأنها فاقدة للأنوثة تقريبا (؟). وثم تبين للمرأة المسلمة أن المستشرقة الفرنسية غير متزوجة، ومن ثمة فهي غير كاملة الأنوثة في نظرها. وبعد أن انهزمت المستشرقة - حسب رواية الزاهري - راحت تتخلص من كتابها ومالت إلى ¬

_ (¬1) أبو يعلى الزواوي (الإسلام الصحيح)، دمشق، حوالي 1924، ص 26. أبو يعلى الزواوي (الإسلام الصحيح)، دمشق، حوالي 1924، ص 26.

الإسلام، وشرعت تفكر في تأليف كتاب عن الحجاب (¬1). وقد لاحظنا أن الاهتمام كان بالمرأة الجزائرية المسلمة عموما. ولكن بعض الفرنسيين والفرنسيات ركزوا، ولأسباب أشرنا إلى بعضها، على المرأة الزواوية (القبائلية). فقد نظر بعضهم إليها على أنها محرومة نتيجة تطبيق العرف عليها، وبعضهم رآها ذات قابلية أكثر للاندماج الذي كان ينشده الفرنسيون. ولذلك كثرت الكتابات عن المرأة الزواوية سيما خلال العشرينات. كانت رائدة هذه الكتابات هي ماري بوجيجا، وهي زوجة إيمانويل بوجيجا الذي قضى معظم حياته متوليا للإدارة البلدية في زواوة، وكلاهما (الزوج والزوجة) ترك مؤلفات موجهة وملغومة عن تجربتهما هناك. والسيدة بوجيجا قد اشتهرت بكتابها الذي سمته (أخواتنا المسلمات) والذي شنت فيه الغارة على التقاليد البائدة، في نظرها، تلك التقاليد التي تركت (أختها) المسلمة في الحضيض بينما هي وأمثالها في القمة. وركزت بوجيجا على الجانب الاجتماعي في دراستها للمرأة الجزائرية، واستشهدت بالمحاولات (التقدمية) في مصر التي نادت بتحرير المرأة والخروج من ركام التقاليد. وكانت بوجيجا تنشط في الصحافة والنوادي، وكانت أعمالها تجد صدى وتشجيعا من إدارة الشؤون الأهلية بقيادة جان ميرانت. وكانت تلقي المحاضرات، فتنشرها الصحف والمجلات، وتقوم بالزيارات القريبة والبعيدة، وتراسل داخل الجزائر وخارجها (¬2). وكانت على اطلاع واسع بتاريخ المرأة العربية والإسلامية، ولا سيما حالة المرأة في زواوة. وقد أعجبت بوجيجا بكلمة الشيخ سلطان محمد المصري التي ألقاها في مؤتمر المستشرقين بالجزائر سنة 1905 فراحت تستشهد بها. ¬

_ (¬1) محمد سعيد الزاهري (الإسلام في حاجة إلى دعاية وتبشير) في مجلة (الحديقة) لمحب الدين الخطيب، ج 8، ص 190 - 206. ومن الجزائريين الذين عالجوا مسألة المرأة أيضا مالك بن نبي في كتابه (شروط النهضة) الذي صدر في الأربعينات. (¬2) بدأت الحركة النسائية في مصر خلال العشرينات على يد هدى شعراوي وزيزي نبراوي وغيرهما.

ولكن الجديد الذي تبنته ماري بوجيجا وسعت إلى إنجاحه هو عقد مؤتمر نساء البحر الأبيض المتوسط في قسنطينة، سنة 1932. ويهمنا حضور المؤتمر وتوصياته. أما الحضور فقد قيل إن 31 امرأة جاءت المؤتمر من أنحاء أوروبا. كما ألقيت في المؤتمر رسالة باسم السيدة الصغير الحسن، وهي زوجة قائد سيقوس. كما حضرها بعض الرجال الذين منهم: عبد القادر فكري وأحمد الأرقش. وألقيت في المؤتمر عدة تقارير عن وضع المرأة المسلمة (لأن المرأة الأوروبية ربما لا تحتاج إلى ذلك رغم أن عنوان المؤتمر يشملها) وعبر فيها أصحابها عن مأساتها في نظرهم، واقترحوا الحلول للخروج من ذلك الوضع. وشمل الحديث تاريخ المرأة المسلمة ومكانتها في القرآن ومسألة تعدد الزوجات، ووجهة نظر المرأة القبائلية خاصة. وقد عبرت السيدة الصغير الحسن على أن المرأة في الريف وغيره بدأت تفكر كالفرنسية (!) أما التوصية الأخيرة فكانت عن اللغة الفرنسية التي قيل عنها إنها هي التي ستوحد الشعبين (كذا) المختلفين في الأصل، ولذلك طالب المؤتمرون بضرورة تعليم اللغة الفرنسية للمرأة المسلمة (¬1). وبذلك انكشف المخطط الذي كانت تعمل داخله السيدة بوجيجا لإنقاذ المرأة المسلمة بالتعاون مع إدارة الشؤون الأهلية بزعامة ميرانت. وفي سياق شبيه بسياق ماري بوجيجا التي قدمت نفسها على أنها (أخت) للمسلمات، كتبت إحدى المنصرات (المبشرات) وهي الراهبة روش، ووصفت المرأة الجزائرية بأنها ترسف في أغلال التقاليد، ومنها ضيق المنزل (أو السجن) وغلظة الرجل. وتأسفت على أنه لم يكن للمرأة تنظيم ¬

_ (¬1) محاضرة السيدة ماري بوجيجا في مؤتمر قسنطينة، منشورة في المجلة الجغرافية للجزائر وشمال إفريقية SGAAN، 1932 . وكانت قد ألقتها في مقر جمعية المجلة في 7 جوان 1932. أما المؤتمر نفسه فقد انعقد أيام 29 - 31 مارس 1932. والمراد (بالشعبين) الجزائري والفرنسي. عن عبد القادر فكري (وهو اسم مستعار)، انظر فقرة الأدب بالفرنسية.

ولا قيادة. ولكنها قالت إن الفتيات يذهبن إلى المدارس سافرات وهن يلبسن اللباس الأوروبي. وللكاتبة صداقة مع بعض النساء المسلمات. وقالت إن بعضهن لا يدركن عواقب ثورتهن على التقاليد. وهي كمنصرة كانت متفائلة لأنها لاحظت أن بعض النسوة يؤمن بالمسيحية سرا في بيوتهن وأن بعضهن قد وجدن أزواجا مسيحيين. وتنبأت أنه سيأتي يوم تصبح فيه المرأة المسلمة مؤمنة بالمسيح (¬1). ولعل الراهبة روش لا تعرف أن كل المسلمين يؤمنون بالمسيح - عليه السلام - ولكن ليس كإيمانها هي به. فالخط الذي كانت تسير فيه روش كان يشبه الخط الذي تسير فيه بوجيجا. هذه كانت تدعو إلى اللغة الفرنسية والحضارة الأوروبية (وهي مسيحية الأصل)، والأخرى كانت تدعو إلى المسيحية أو على الأقل تحكم على الآخرين من خلالها. ومن الملاحظ أن روش أوردت أيضا كتابات بعض المتجنسين الجزائريين حول المرأة المسلمة. ومنها ما كتبه ربيع الزناتي في (لافوا أند جين) عن تخلف المرأة المسلمة وتناقض التقاليد والواقع عندها. ثم مقالة المنور قلال في جريدة الكولون المعروفة وهي (لاديباش ألجيريان)، وهي مقالة حول موقف الشباب الإندماجي من الزواج بالمرأة المسلمة (الجاهلة). وبناء على السيد قلال، فإن هذا الشباب (المثقف) سيبحث له عن امرأة تناسبه ولا يرضى لنفسه بشريكة حياة متخلفة عنه. والأمر كذلك عنده بالنسبة للجندي الجزائري الذي خدم في الجيش الفرنسي وشاهد وعاش مظاهر الحضارة الأوربية، فهو أيضا سيبحث له عن امرأة (مناسبة). ويبدو أن الموجة خلال الثلاثينات كانت تندفع في هذا التيار. فقد كتب آخرون حول هذا الموضوع، ومن ذلك مقالة ابن حوراء في الجريدة نفسها (لاديباش) عن الإصلاح الإسلامي وتحرير الفرد (¬2). وكانت جرائد جمعية العلماء وجرائد الإصلاح ¬

_ (¬1) ميليسانت روش M.H. Roche في مجلة (العالم الإسلامي) - بالإنكليزية - ج 23، 1933، ص 290. (¬2) نفس المصدر.

الهجرة أو البقاء

عموما تخوض في هذه الموضوعات محبذة أو ناقدة، كما رأينا في كتابات محمد سعيد الزاهري. ولكن المرأة الجزائرية الحقيقية كانت كالمرجانة الصافية تنتظر الخلاص على أيدي الحركة الوطنية وليس على أيدي الليكس وابن عابن وبوجيجا وروش. وقد جاءها الخلاص يوم أن خرج المرجان من أصدافه طاهرا طهورا مع فجر ثورة نوفمبر. وعندئذ كشفت المرأة الجزائرية عن هويتها ففاجأت كل الباكين عليها بكاء التماسيح. الهجرة أو البقاء سال حبر كثير حول وجوب الهجرة من الجزائر أو عدمه بعد تغلب الفرنسيين (الكفار) على المسلمين فيها. وقد انقسم أهل العلم والرأي في ذلك ثلاثة أقسام على الأقل: من يقول بوجوب الهجرة مطلقا لعدم وجود الحكومة الإسلامية، ومن يقول بعدم الهجرة ما دام الفرنسيون قد سمحوا بإقامة الشعائر الإسلامية، ومن يفصل ويقول إن الهجرة واجبة على المستطيع سواء منع الفرنسيون إقامة الشعائر أو سمحوا بها، ولكن بعد تصفية الديون وترتيب حياة العائلات وبيع العقار، أي أن النية في الهجرة والإقامة مؤقتة فقط. والواقع أن الهجرة الجماعية من المدن التي احتلها الفرنسيون أول مرة، كالعاصمة ووهران وتلمسان ومعسكر وعناية وبجاية، لم ينتظر أصحابها فتوى العلماء ولا حكم الشريعة. لقد حمل القادرون أولادهم وأرزاقهم التي خفت وارتحلوا برا وبحرا، وشرقا وغربا، كما يقول محمد بن الشاهد. وقد هاموا على وجوههم حتى لا تحكمهم قوانين الفرنسيين ولا يخضعون لأحكامهم. وقد نقص عدد سكان العاصمة وحدها بحوالي الثلثين، وفيهم أصحاب الثروة والحرف والعلم. ويقول اس الشاهد (¬1) الذي ¬

_ (¬1) تولي الفتوى في آخر العهد العثماني. وله شعر غزير وقوي. ومن شعره قصيدته في رثاء الجزائر بعد احتلالها. وقد تداولها الكتاب ونشرها بول فانسان بعد ترجمتها، =

عجز عن الارتحال، وأصيب بالعمى وكبر السن، وكان من الشعراء البارزين وأصحاب الفتوى: أن (الحل الكثير من ذوي الأموال سافر من هذه البلدة (الجزائر) براء وبحرا، شرقا وغربا، كما هو مشاهد محسوس لكل أحد). أما الباقون فاختلفت أسباب عدم هجرتهم. وقد فرغت مدن كاملة من سكانها مثل وهران وبجاية وعنابة عند الاحتلال، ومع ذلك زعم الفرنسيون فيما بعد أن الجزائر كانت بدون سكان مدن. إن العلماء الذين أفتوا بالهجرة من البلاد التي تغلب عليها الفرنسيون استندوا إلى آيات وأحاديث ووقائع تاريخية، كهجرة الرسول (صلى الله عليه وسلم) وأصحابه، وهجرة أهل الأندلس، والتجارة في بلاد غير المسلمين (دار الحرب). وهناك حجج لهم يستندون إليها. ونود أن نذكر أن المقصود بالهجرة عندما طرحت خلال الثلاثينات من القرن الماضي، هو الخروج من المنطقة التي تغلب عليها الفرنسيون إلى منطقة أخرى ما تزال تحت الحكم الإسلامي، كالمناطق الواقعة تحت حكم الأمير عبد القادر. وقد جعل الأمير حماية المسلمين من الأحكام الصارمة في كل معاملاته مع المسلمين ومع الفرنسيين، وطبق الأحكام الإسلامية وقوانين الحرب على رعاياه من جهة وعلى المسلمين الواقعين تحت حكم الفرنسيين من جهة أخرى. وكان على هؤلاء المسلمين في نظره أن يخرجوا من ربقة الفرنسية لكين يكون هو الحامي الوحيد لهم. وكان هدفه أيضا هو عزل الفرنسيين وقطع المسلمين التعامل معه إلا بتعليماته، إضعافا لهم وإكراههم على الخروج من الجزائر أو إقامة العلاقات معه والاعتراف به هو كسلطة إسلامية وحيدة في البلاد. والجدل الذي نشأ حول الهجرة بين بعض العلماء عندئذ إنما مصدره هذه الفكرة، وهي تجمع المسلمين تحت راية الأمير ورفض الحكم الفرنسي وتوحيد الصف، وليس المقصود به مغادرة القطر الجزائري إلى بلدان أمامية ¬

_ = في المجلة الآسيوية. انظر دراستنا عنها في كتابا (تجارب في الأدب والرحلة)، 1982، وكذلك فصل الشعر. وقد توفى ابن الشاهد حوالى 1252 (1837).

أخرى. والمعروف أن عددا، من أعيان وعلماء الجزائر قد (هاجروا) إلى حكم الأمير من مختلف أنحاء الجزائر، ولاسيما من العاصمة. ومن هؤلاء قدور بن رويلة وصهره علي بن الحفاف. ومن العلماء الذين بقوا في الجزائر عندئذ المفتي مصطفى بن الكبابطي ومحمد بن الشاهد. ويبدو أن الجدل الذي دار بين هؤلاء كان قبيل معاهدة التافنة (1837). ولعل كاتب الأمير، ابن رويلة، هو الذي فجر الموضوع بدعوى العلماء للهجرة واحتجاجه بفتوى أحمد الونشريسي في كتاب المعيار، والمعروفة بعنوانها (أسنى المتاجر). والغالب على الظن أن ابن رويلة لم يكتب ما كتب إلا بموافقة الأمير. وقد تولى المفتي الكبابطي الرد عليه وتبرير عدم الهجرة بكون الفرنسيين لم يمنعوا المسلمين من العبادة وكون العامة في حاجة إلى العلماء ليعلموهم مبادئ الدين. دارت عدة مراسلات في هذا الشأن بين الطرفين، ووصلت أحيانا، إلى حد الاتهامات الشخصية بدل الاحتجاج الديني. وتدل المراسلات على معرفة سابقة بين المفتي الكبابطي وابن رويلة. وهذا ليس غريبا. لأن الكبابطي كان قاضيا ثم مفتيا منذ الاحتلال، وكان معروفا لابن روميلة قبل التحاقه (ابن رويلة) بخدمة الأمير. ومن ذلك التنابز أن المفتي عاتب ابن رويلة على استعماله عبارة (المعظم الأمجد) في مخاطبة رؤساء الفرنسيين. وقد رد ابن رويلة على ذلك بأنه فعلا كان يكتب ذلك قبل أربع سنوات، وكان يكتب ما كتب باسم الأمير، إلى أن نهاه الأمير عن استعمال عبارات مثل هذه في مراسلات، (فتاب) ولم يرجع إليها، وتحداه أن يجد عنده عبارة أخرى غير (إلى عظيم الجنرالات ..) منذ ذلك الحين (¬1). وقد رد ابن رويلة بعد ذلك على لائميه ردا حاسما بذكره عشرة نقاط كل واحدة منها تدل على خضوع العلماء، أمثال الكبابطي، للفرنسيين مما كان يؤدي في نظره إلى الكفر، ومنها توديع جيوشهم عند خروجهم لمحاربة المسلمين، واستقبالها بعد ¬

_ (¬1) يفهم من كلام ابن رويلة أن المحرض على هذا (القول الشنيع) ضده هو مصطفى بن المرابط صهر المفتي ابن الكبابطي.

رجوعها ظافرة، والتهنئة بمواليدهم، وحضور حفلاتهم، وتقديم البلغة الصفراء لهم عند دخولهم المساجد .. أما عن الهجرة فقد قال ابن رويلة مخاطبا المفتي الكبابطي: لعلكم ظننتم أن الله لا يعبد إذا خرجتم من الجزائر وأن شريعته لا تطبق (¬1). ورغم تمسك الكبابطي بعدم الهجرة فإنه قد وجد نفسه مجبرا عليها سنة 1843، أي بعد حوالي سبع سنوات من دفاعه القوي على البقاء ما دام الفرنسيون قد سمحوا بالعبادة. ويبدو أنه كان مقتنعا بالبقاء والمقاومة بمختلف الوسائل، وكان يعرف ما حصل لأهل الأندلس، وهو منهم، الذين لم يهاجروا. وأثناء مقاومته لتدخلات الفرنسيين في الشؤون الدينية واستيلائهم على الأحباس وإدخالهم اللغة الفرنسية في الكتاتيب القرآنية، اصطدم مع إدارة المارشال بوجو، فحكم عليه بالنفي إلى جزيرة سان مرغريت (فرنسا)، ثم سمح له بالإقامة في مصر، حيت توفي بالا، سكندرية (¬2). من عجائب الزمن أن ابن رويلة أيضا. قد مات في المنفى، وأن ابنه الذي خطفه الفرنسيون، قد قتل في ثورة أولاد سيدي الشيخ (سنة 1864). وقد انتصر علي بن الحفاف لصهره ابن رويلة أثناء هذه الخصومة. ونحن نعرف أن ابن الحفاف هذا قد رجع إلى الجزائر وأعيدت إليه بعض أملاكه ووظفه الفرنسيون على أساس أنه من أعيان العلماء، بناء على فكرة وهي أن من جاءهم طائعا من الجزائريين سيخلص في خدمته فهو أفضل من غيره، رغم أنهم أقروا بعداوته لهم. والغريب أيضا أن ابن الحفاف الذي تولى القضاء والفتوى وحج بيت الله، قد ظل يحلم بالهجرة من الجزائر ولم تطب نفسه للإقامة بها تحت الفرنسيين حتى بعد أن طال مكثه في الوظيفة. وقد صارح بذلك الشيخ محمد بيرم الخامس عند زيارته الجزائر ¬

_ (¬1) انظر النص في قنان (نصوص سياسية)، ص 119 - 121 عن مخطوط المكتبة الوطنية، رقم 2083. (¬2) انظر دراستنا عنه في كتابنا (أبحاث وآراء)، ج 2.

حوالي 1878، فنصحه بيروم بالبقاء خدمة للدين والعامة، وقد توفي في الجزائر سنة 1307 هـ (¬1). أما محمد بن الشاهد فقد فصل القول في قضية الهجرة، وكان يرد على صاحب رسالة غير مذكور، ولكننا نرجح أنه هو قدور بن رويلة أيضا. وخلاصة رأي ابن الشاهد أن الهجرة المطلقة إنما هي واجبة على من لم يتمكن من إقامة شعائر دينه وكان قادرا على الهجرة، أما العاجز عنها بدنيا أو ماليا فلا تجب عليه. وأورد أدلة عديدة، منها أقوال بعض المفسرين، وحكم الفقهاء بكراهية التجارة في دار الحرب دون التحريم، وذكر هجرة الصحابة إلى الحبشة، وهي دار حرب عندئذ، لتمكنهم من العبادة فيها. وذكر أن علماء الأزهر الشريف لم يهاجروا عندما استولى الفرنسيون (الكفار) أنفسهم على مصر سنة 1798. ولو هاجر العلماء وهم أطباء الأديان، لبقى العامة بدون مرشدين. واعترف ابن الشاهد بأن كل الظروف كانت تجبر على الهجرة، ولكن وقتها لم يحن بعد بالنسبة للبعض. فالفرنسيون قد هدموا المساجد وبعثروا المقابر واستولوا على الأحباس. ولكنه صرح بأن المساجد ليست هي الدين، وأن العبادة ممكنة في أي مكان مناسب. ثم إن البقاء مع الكفار لا يعني الرضى بحكمهم وإنما العجز هو الذي فرض ذلك. وقال قولته الشهيرة: (كيف يتصور في أذهانكم أننا نرضى بالكفر ونحب معاشرة أهله، وقد غلت أسعارنا، وتقطعت صنائعنا، وانهدمت حوانيتنا، وتعسرت مكاسبنا، وحفرت مقابرنا، ونبشت ضرائح أوليائنا، وما حصلت هذه الأشياء إلا بسبب دخوله؟ وأي عز لنا في هذه الأشياء حتى نرضى بها؟ والله الذي لا إله إلا هو: نحن إذا أصبحنا لا نريد أن يمسي معنا، وإذا أمسينا لا نرد أن يصبح معنا). إن الناس فئات. والطلبة (العلماء) الذين ذكرهم صاحب الرسالة، ليس لهم مال يهاجرون به. لأن موردهم الأساسي هو الأحباس. وقل من له دار أو ¬

_ (¬1) انظر عن ابن الحفاف فصل السلك الديني والقضائي.

حانوت، ولا يعدو دخلهم بضع دينارات لا تكفي لعيشهم، فما بالك بالهجرة. وعامة الناس حكمهم حكم الطلبة أيضا، فهم فقراء أو عاجزون. وأما من له مال وبقي إلى الآن فأسباب بقائه مختلفة، فإما كان له عقار يريد بيعه ولم يتيسر له ذلك، وإما له ديون يريد تحصيلها قبل الهجرة، وإما له عائلات كبيرة ينتظر الوقت لتنظيم أمورها. ثم إن هجرة الرسول (صلى الله عليه وسلم) لم تحدث دفعة واحدة. ويفهم من هذا الكلام أن ابن الشاهد وأمثاله الباقين تحت حكم الفرنسيين أنهم جميعا كانوا على أهبة الهجرة، ولكنها مسألة وقت فقط، فهو يقول: (الناس قاطبة على نية الارتحال والخروج. كل يتربص وينتظر الوقت ... هذا حاصل مكثنا في هذه البلدة) (¬1)، ورغم هذه النية، فإن ابن الشاهد قد أدركه الموت قبل تحقيقها. ومن العائلات التي هاجرت بعد ذلك إلى بلاد الشام عائلة مصطفى بن المرابط المذكورة. وفي رسالته المعنونة (حسام الدين لقطع شبه المرتدين) أجاب الأمير عبد القادر إجابة صريحة بوجوب الهجرة من البلد الذي غلب عليه الفرنسيون. ويقصد الهجرة أو الخروج إلى المناطق التي كانت تحت سلطته. وقد كتب الرسالة المذكورة سنة 1843، والغالب على الظن أنها كانت قبل الاستيلاء على الزمالة في نفس السنة. وقد عزز رأيه أيضا بآراء المفسرين وبالأحاديث وأقوال المغيلي وابن الحاج والونشريسي. ورد الأمير اعتذارات المعتذرين بعدم الهجرة مهما كانت الأسباب، بما في ذلك الخوف علن العائلة والرزق، والخوف من الجوع. واعتبر الأمير أن مال المسلم المقيم مع الكفار مال مباح لأنه ليس ماله. ورد على العلماء الجهلة في نظره القائلين (بمهادنة) العدو، لأن المهادنة في الحقيقة مخصوصة بالإمام أو نائبه وليس لعامة الناس، لأن أحكام العدو سارية على المسلمين، فكيف يهادنونه (¬2)؟ ¬

_ (¬1) رسالة ابن الشاهد في قنان (نصوص)، ص 136 - 141. وقد عالج محمد بن عبد الكريم موضوع الهجرة في كتاب نشره بعنوان (حكم الهجرة)، وجاء فيه بآراء ونصوص العلماء المذكورين (ابن الشاهد، ابن رويلة، الكبابطي، ابن الحفاف). (¬2) ذكر ذلك محمد بن الأمير عبد القادر في (تحفة الزائر)، ط. 1903، ج 1، ص 441. =

ويذكر مترجمو الأمير أنه فكر في حمل جميع المسلمين في الجزائر على الهجرة نحو البقاع المقدسة (¬1). رغم أن كثيرا من العلماء ورجال الدين قد اختاروا الهجرة نحو المشرق، سيما بعد هزيمة الأمير عبد القادر، ثم في عهود متوالية، فإن هناك من كان منهم ضد الهجرة مهما كانت الأسباب. ومن هؤلاء بعض المتصوفة وعلماء الأرياف. ومنهم من هاجر ثم رجع زائرا أو مقيما وتولى الوظائف للفرنسيين أنفسهم. وقد ذكرنا ذلك في تراجم بعضهم. ويذكر أحد الكتاب أن الحاج البشير بن حواء الغريسي (معسكر) أحد تلاميذ الشيخ عدة بن غلام الله، قد استشاره بعض أقاربه في الهجرة إلى الشام فثبطهم ورغبهم في البقاء، وأورد لهم حكاية محتواها أنه إذا كان الملك في الشام وابنته في معسكر وهجم العدو على ابنته فهل الأفضل لسكان معسكر الدفاع عن ابنة الملك وتخليصها من العدو أو الهرب بأنفسهم إلى بلاد الملك (يقصد بالملك الرسول، والبنت هي الشريعة الإسلامية) (¬2). ويرى أحد المتصوفة، وهو الشيخ الحبيب بن سيدي موسى العامري - من بني عامر - أن الهجرة الصورية (البدنية) قد انقطعت ولم تعد واجبة، أما الهجرة الروحية فهي باقية بقاء الدنيا. وكان الشيخ الحبيب من رجال التصريف، كما قيل، وحبذ الخروج إلى سبخة وهران عند هجرة قبيلته الشهيرة، بني عامر، إلى المغرب الأقصى. ولما رجعت القبيلة بعد هزيمة الأمير عبد القادر رجع هو أيضا واجتمع الشمل. وقد توفي الشيخ الحبيب سنة 1287 هـ (¬3). ويبدو أن الأمير عبد القادر قد غير موقفه بعد هزيمته وسجنه وإقامته في ¬

_ = انظر أيضا قنان (نصوص)، ص 142. والمقصود بالإمام هو الحاكم أو السلطان. (¬1) شارل هنري تشرشل (حياة الأمير عبد القادر)، ط. 2، 1982، ترجمتنا له. (¬2) الهاشمي بن بكار (مجموع النسب)، ص 136. (¬3) جاء ذلك فى مخطوط ك 48، الخزانة العامة الرباط.

المهاجر. فلا نعلم أنه شجع على الهجرة بعد 1847. بالعكس فقد وجدنا بعض أفراد عائلته كالطيب بن المختار، وآل طالب، قد رجعوا إلى الجزائر بعد أن هاجروا منها. وكان رجوع بعضهم بنصيحة منه. ونسب إليه أنه نصح، وهو بالشام، أحد الأصدقاء الذي سأله عن الهجرة بأن (لا تسمع لقول من يقول: اذهب إلى القدس تقدسك، فاعلم أن الرجال تقدس البقاع، وليست البقاع تقدس الرجال) (¬1). وعندما كان كتاب الأمير يدعون المسلمين، ولا سيما العلماء والطلبة، إلى الهجرة من المناطق التي استولى عليها الفرنسيون، كان ليون روش، الذي كان يتجسس على الأمير، يتابع المراسلات ويطلع على ردود الأفعال. وعند استئناف الحرب مع الفرنسيين (1839) وجد ليون روش الفرصة للهروب من حاشية الأمير إلى الماريشال بوجو. وقد كشف له في تقاريره عن عورات المسلمين ولا سيما مخططات الأمير وأسراره. ومن ذلك أن المسلمين كانوا يعتبرون الأرض الواقعة تحت الإدارة الفرنسية دار حرب يجب الخروج منها. وكان ذلك هو أساس حركة الجهاد عندهم. ولمقاومة هذه الحركة صاغ الفرنسيون (فتوى) وحملها ليون روش نفسه إلى علماء المسلمين ليفتوا الجزائريين بناء عليها، ومفادها أن الجزائر لا تعتبر دار حرب ولا تستوجب الجهاد ما دام المسلمون قد بذلوا الجهد في الدفاع عنها وعن الإسلام ثم عجزوا عن طرد الكافر، ثم إن هذا الكافر نفسه قد ترك لهم حرية ممارسة شعائرهم الدينية. فعليهم إذن أن يرضوا بحكم النصارى وأن يمارسوا الإسلام، طبقا لأحكام الشريعة نفسها. هذه (الفتوى) الغريبة حررها بعض الموالين لفرنسا من شيوخ التصوف، ومنهم، كما جاء في (مجلة العالم الإسلامي) الشيخ محمد التجاني، ومقدم الزاوية الطيبية، ثم أعدت السلطات الفرنسية بعثة فيها هؤلاء الشيوخ أو نوابهم، ورافقوا سنة 1841، ليون روش الذي غير اسمه ليصبح ¬

_ (¬1) ابن بكار، مرجع سابق، ص 136.

(الحاج عمر) وتوجهوا أولا إلى القيروان فوافق عليها مفتي الجامع الكبير هناك، ثم القاهرة، حيث وافق عليها بعض شيوخ الأزهر الشرف، ثم مكة المكرمة حيث وافق عليها مجلس العلماء، الذي انعقد في الطائف تحت رعاية شريف مكة. وقد وافق هؤلاء العلماء، كما جاء في كتاب ليون روش، على أن الجهاد لم يعد واجبا على مسلمي الجزائر، لأنه من باب إلقاء بالنفس إلى التهلكة (¬1). ونعلم أن السلطات الفرنسية قد روجت لهذه الفتوى في الجزائر كسلاح ضد المقاومة وحركة الجهاد، فقد وزعت نسخا منها على الموظفين ورجال الدين وعلقتها على جدران المساجد، ونشرتها في الصحف، ولعلها جعلتها تقرأ في الخطب المنبرية أيضا، ومع ذلك لا نعلم إلى أي حد كان ليون روش صادقا، في روايته وأخذه موافقة علماء المسلمين على نص فتواه. فنحن نعلم أيضا أن الأمير عبد القادر كتب رسالته (حسام الدين) في هذه الأثناء، وكأننا به كان يرد بها على مثل هذه الفتوى المشبوهة (¬2). ولم تكن هذه هي المحاولة الدينية الوحيدة التي حارب بها الفرنسيون هجرة الجزائريين. ففي سنة 1893 حاول الحاكم العام جول كامبون صياغة فتوى أخرى شبيهة بالأولى لكي يمنع بها هجرة الجزائريين المتكاثرة ويهدئ بها المناطق التي كانت فرنسا تعتزم احتلالها في الصحراء، والتمهيد لاحتلال المغرب الأقصى. وكان الإنكليز قد استصدروا فتوى من علماء مكة تذهب إلى أن الهند بلاد إسلامية رغم احتلالها من قبلهم. فلماذا لا يفعل كامبون مثلهم؟ لقد صاغ كامبون فتواه على النحو التالي: إن الجزائر رغم احتلال ¬

_ (¬1) مجلة العالم الإسلامي،. R.M.M، فيفري/ مارس، 1912، ص 32. انظر كذلك كتاب روش (32 سنة في الإسلام). ويقول ديبون وكوبولاني (الطرق الدينية الإسلامية)، الجزائر 1897، ص 37، إن ليون روش قدم بهذه الفتوى أكبر خدمة لنشر الهيمنة الفرنسية على الجزائر. (¬2) رجع ليون روش من رحلته أو مغامرته سنة 1842، وكتب الأمير رسالته (حسام الدين) سنة 1843.

الفرنسيين لها، تبقى بلادا إسلامية. كما أن كل بلاد إسلامية يحتلها الكفار تبقى بلادا إسلامية إذا سمحوا لأهلها بإقامة شعائرهم، وليس على هؤلاء المسلمين إذن واجب الجهاد، لأن بلادهم، والحالة هذه، لم تعد دار حرب، إذا كانوا عاجزين على تحقيق الانتصار. وتتكون فتوى كامبون من مقدمة وثلاثة أسئلة. أما المقدمة فهي: إذا كان الكفار (الفرنسيون) قد احتلوا أرضا إسلامية، ولكنهم لم يضعوا أية عراقيل لممارسة المسلمين ديانتهم - بل هم يشجعونهم على القيام بشعائرهم الدينية، ويعينون القاضي منهم لينفذ أحكام الشريعة، ويخصصون لهذا القاضي راتبا شهريا، فهل يجب على المسلمين: 1) أن يهاجروا أو لا؟ 2) هل يدخلون في حرب ضد الكفار لينتزعوا منهم السلطة، ولو كانوا غير متأكدين من أنهم يملكون القوة لتحقيق الانتصار عليهم؟ 3) هل المكان المحتل من قبل الكفار يعتبر أرضا إسلامية أو أرض حرب؟ وتزعم المصالح الفرنسية أن المفتين بالمذاهب الثلاثة في مكة المكرمة: الشافعي والحنفي والمالكي قد أجابوا بما يرضي الفرنسيين، وهو أن الأرض المذكورة (الجزائر) لم تعد دار حرب. وأن الجهاد أصبح غير واجب على أهلها ما داموا غير قادرين على تحقيق الانتصار على عدوهم وما دام العدو نفسه قد ترك لهم حرية العبادة. وقد علق ديبون وكوبولاني على الفتوى بأنها ذات قيمة كبيرة لأنها سمحت لفرنسا باستعمال الجزرة والعصا، كما أن النص المطاط قد أعطى لفرنسا حججا يمكنها استعمالها لصالحها (¬1). ونحن لا ندري كيف اطلع علماء مكة على الفتوى؟ هل وجد جول كامبون شخصية أخرى كشخصية الجاسوس ليون روش؟ أو استعمل بعض الحجاج الجزائريين فقاموا له بالمهمة؟ (¬2). ¬

_ (¬1) ديبون وكوبولاني، مرجع سابق، صں 37. (¬2) سنذكر أن شخصية غريبة أخرى، وهو كورتيلمون، قد استعمله كامبون في مهمة إلى =

أما القول بأن الفرنسيين قد سمحوا للجزائريين بالحرية الدينية ففيه تمويه كبير. والذي يطلع على ما فعلوه في المساجد والأضرحة والزوايا، ومع الاحباس ورجال العلم والدين، ومع الطرق الصوفية، وتشجيع الخرافات ومنع تفسير القرآن، وتحريم أبواب من الفقه على المدرسين (¬1) ... يعرف أن تلك الحرية غير موجودة. كما أن الحج كان ممنوعا في كثير من المواسم، وأن الأعياد الدينية كانت غير رسمية وغير شرعية، عدا عيدي الفطر والأضحى، ولكن أي عيد؟ أما القضاة المسلمون فقد انتزع القضاة الفرنسيون صلاحياتهم ما عدا الأحوال الشخصية. ومنذ هذه الفترة (حوالي 1893) ظلت حدود الجزائر مغلقة في وجه الهجرة نحو الشرق. لقد ارتاع الفرنسيون من كثرة المهاجرين من إقليم قسنطينة عندئذ. فاستصدروا الفتوى المذكورة وأغلقوا الحدود ومنعوا الحج إلا استثناء، خوفا فيما يبدو من حركة الجامعة الإسلامية ودعاية السلطان عبد الحميد في أوساط المهاجرين. ونحن وإن كنا سنعرض للهجرة نحو المشرق في فصل آخر (¬2)، فإننا نذكر أن فكرة الهجرة ظلت حية عند الجزائريين رغم كل القيود والفتاوى. ولذلك كتب ألفريد لوشاتلييه سنة 1907 مستنكرا سياسة بلاده هذه قائلا إن هناك (سياسة سرية) تقوم على التوازن السياسي للجزائر الأهلية بإبقاء حدودها مغلقة مع العالم الخارجي. وحذر من أن الشعوب تحتاج إلى الهواء وأن فرنسا قد خرجت من الباستيل. وكان من رأى لوشاتلييه أن على فرنسا أن تستعمل المهاجرين الجزائريين (وعددهم حوالي خمسين ألفا، كما قال) في المغرب وسورية لصالحها (¬3). وكأن هذا الكاتب كان يتنبأ، لأن سنة 1910 و 1911 قد شهدت هجرات ¬

_ = الحجاز خلال هذه الظروف. وقد استعان كورتيلمون بأحد الحجاج الجزائريين. (¬1) انظر فصل السلك الديني والقضائي. (¬2) انظر فصل المشارق والمغارب. (¬3) مجلة العالم الإسلامي، 1907، ص 512، اسم لوشاتلييه مشار إليه فقط بالحروف:. A.L.C.

جماعية من الجزائر. وقد أعطى أوغسطين بيرك تواريخ بارزة للهجرة إلى الشرق. وكانت الأسباب ترجع في نظره إلى الغيرة والخوف على الدين، والغضب من القضاء على الصناعات المحلية وطغيان الصناعات الأوروبية، والخوف من فرض التجنيد، الخ (¬1). أما الهجرة إلى فرنسا فتاريخها يرجع إلى أوائل القرن العشرين فقط، وكان منطلقها في البداية هو زواوة، وأسبابها، كما يقول الفرنسيون ديموغرافية، واقتصادية، بخلاف الهجرة نحو المشرق فأسبابها، كما عرفنا، كانت سيكولوجية واقتصادية ودينية. ففي آخر القرن الماضي زاد عدد السكان الجزائريين كما زاد عدد المهاجرين إلى المدن من الأرياف، فوجدوا نقصا في المواد الصناعية والاقتصادية والاجتماعية لاستقبالهم. فقصد بعضهم جنوب فرنسا، ثم رجعوا إلى الجزائر يقصون مشاهداتهم على الآخرين، فأخذ العدد يتكاثر كل سنة بين 1906 و 1914 حتى كانت الحرب العالمية فجندت فرنسا كثيرا من العمال ونقلتهم إلى الجبهة الأوروبية. وهكذا، فمن حوالي خمسة آلاف عامل مهاجر سنة 1912 إلى أكثر من 78 ألف عامل مهاجر سنة 1918 (¬2). ولكن مسألة الهجرة إلى فرنسا لا تهمنا هنا رغم عواقبها السياسية والاقتصادية والثقافية. ومنذ أوائل هذا القرن أصبح بعض الجزائريين يهاجرون من أجل العلم ثم العودة في غالب الأحيان. لقد لاحظ محمد بيرم خلال السبعينات أن طلب العلم كان أحد أسباب الهجرة التي لا يعود أصحابها بعدها إلى الجزائر. أما المهاجرون في طلب العلم منذ القرن العشرين فكانوا غالبا ¬

_ (¬1) أوغسطين بيرك مجلة (هيسبريس)، 1948، ج 35، ص 16. ولا يذكر الفرنسيون إلا قليلا قوانين انتزاع الأراضي الباقية من الجزائريين منذ 1871 وهجرة الألزاسيين إلى الجزائر، وكلها ساهمت في حالة الفقر. (¬2) جان قانياج (شؤون شمال إفريقية)، 1930 - 1956، باريس، 1972. وكذلك ج. ج. راجي Ragie (المسلمون الجزائريون) في (مجلة البحر الأبيض)، عدد 2، سنة 1950، وصفحات المقال كله 169 - 190.

الاندماج، التجنس، النخبة

يغيبون مؤقتا ثم يعودون بعلمهم. وأما العمال الذين كانوا يذهبون إلى فرنسا فقد كانوا في البداية يترددون على الجزائر، ثم أصبحوا يطيلون الإقامة ويستقرون في فرنسا. ومهما كان الأمر فإن الهجرة لم تعد تثير الجدل القديم بين العلماء حول وجوبها أو عدمه، وأصبحت هجرة في أغلبها من أجل العلم والعمل والحرية السياسية (¬1). الاندماج، التجنس، النخبة كثر الحديث عن الاندماج أثناء الاحتلال حتى كادت الكلمة تفقد مدلولها بل غاب معناها عن الأذهان أحيانا. فما هو الاندماج وهل تطور معناه؟ ترددت الكلمة كثيرا خلال القرن 19 في الصحف والنشرات والخطب الفرنسية. وكان المقصود بها عندئذ تطبيق النظم الفرنسية على فرنسي الجزائر من إدارة وتعليم وقوانين وانتخابات، وما إلى ذلك، بحيث يشعر الفرنسي في الجزائر كأنه في فرنسا نفسها. وبمعنى آخر دمج الفرنسيين (والمتجنسين الأوروبيين بالجنسية الفرنسية) في مجتمعهم الفرنسي بكل ما عليه وكل ما فيه. ولذلك بادرت الجمهورية الثانية (1848) إلى ربط المصالح الإدارية في الجزائر بمثيلاتها في فرنسا بالنسبة للفرنسيين فقط، فإدارة الداخلية في الجزائر أصبحت تابعة لوزارة الداخلية في فرنسا، وإدارة التعليم تابعة لوزارة التعليم، وهكذا. أما بالنسبة للجزائريين فقد بقي الأمر على ما هو عليه، فكانت تحكمهم إدارة عسكرية تابعة مباشرة لوزارة الحربية بفرنسا. وكان مصدر التوتر الذي حدث بين المدنيين والعسكريين الفرنسيين، هو أن الحكم الفرنسي كان عسكريا منذ الاحتلال. فالحكم كان في يد الحاكم العسكري وكان يساعده حكام الأقاليم، وهم عسكريون، وتحتهم المكاتب العربية وهى عسكرية. وتبعا لذلك كانت المحاكم عسكرية ومدنية، ¬

_ (¬1) عن دور المهاجرين فى المشرق وعلاقاتهم بالجزائر انظر فصل المشارق والمغارب. عن دور المهاجرين فى المشرق وعلاقاتهم بالجزائر انظر فصل المشارق والمغارب.

والضرائب تجبى بطريقة عسكرية، والقوانين كلها تنفذ تحت إشراف الحاكم العام. وكانت الجزائر في حالة حرب مستمرة. وقد أحس المدنيون الفرنسيون (الكولون) أنهم بذلك كانوا يعاملون معاملة (الأندجين) أو الأهالي، فأخذوا يطالبون بتطبيق القوانين المدنية عليهم وخضوعهم لما يخضع له مواطنوهم الفرنسيون في بلادهم، وفصلهم في المعاملة عن الأهالي. ويعتبر موقف الجمهورية الثانية المذكور تنازلا كبيرا لهم، وهو الأول من نوعه. وبعد عشر سنوات (1858) وقع تنازل آخر أو تجربة أخرى حين جرب نابليون طريقة الحكم المباشر للجزائر فألغي منصب الحاكم العام وأنشأ وزارة مدنية في حكومته، وأنشأ في الجزائر مجالس الولايات، ولكن التجربة لم تدم سوى سنتين ثم أعاد منصب الحاكم العام العسكري وأبقى على مجالس الولايات. ولكن الكولون ظلوا في صراع مع الجنرالات، وازداد الصراع حدة حين كثر الحديث عن مشروع المملكة العربية أو إعطاء الجزائريين (ذاتية عربية) رشح لها نظريا الأمير عبد القادر. وقد انتهى الصراع لصالح المدنيين على إثر سقوط نابليون وتغيير النظام إلى جمهوري. فمنذ 1870 حصل (الاندماج) الكلي بين الجزائر وفرنسا بالنسبة للكولون، فقد أصبحت مصالحهم مرتبطة مباشرة بالوزارات المعنية في بلادهم، وأصبح لهم نوابهم في البرلمان كمواطنيهم، وخضعوا لكل ما خضع له هؤلاء من قوانين. فكانت عملية الاندماج كاملة، وقد أطلق عليها أحيانا، (خلال الثمانيات) اسم (الإلحاق) ثم كللت عملية الاندماج هذه سنة 1898 بإنشاء الحكم الذاتي المالي. أما الجزائريون فقد اختلف وضعهم، ففي المناطق المدنية حيث الفرنسيون والنظام البلدي، خضعوا لقانون الأندجينا، وفي المناطق المسماة مختلطة أو عسكرية، كان الحكم في يد المكاتب العربية كالسابق. وفي هذه الأثناء - بعد السبعينات - بدأ الحديث عن (إدماج) الجزائريين في المجتمع الفرنسي: هل هو ممكن؟ وبأية وسائل؟ بعضهم ظهر له أن الجزائريين لا يمكن دمجهم لاختلاف العادات والتقاليد وللأصول والدين

وكونهم، عند البعض، غير قابلين للتعلم والتقدم والتمدن. وظهرت عندئذ نظريات تقول إن الجزائريين ليسوا سواء في ذلك، فمنهم من هو قريب من الفرنسيين وله قابلية الاندماج معهم، مثل الزواوة. وقد عاشت هذه النظرية بعض الوقت، ثم بدأت تختفي على أساس أن الدين الإسلامي قد وحد بين الجزائريين، وهو يجعلهم غير قابلين للاندماج، مهما كان أصلهم (¬1). وكان الرأي الآخر يقول بإمكان دمج الجزائريين بطرق عديدة، ولكن ببطء، وذلك عن طريق المدرسة الفرنسية، وتغيير الحالة المدنية، وإلغاء النظام القبلي، والتنصير إذا اقتضى الأمر، والزواج المختلط، والتجنس، والخدمة العسكرية، والهجرة إلى فرنسا، وغير ذلك من الطرق. ولكن المؤمنين بالرأي الأخير (إمكانية الإدماج) يرون أنه لا يمكن دمج كل الجزائريين بالمراسيم كما حدث في تجنيس اليهود سنة 1870، ولا بإعطاء الجزائريين حق الانتخاب العام والتمثيل النيابي، بل لا بد من المرور بفئة قليلة وبالتدرج وهي فئة النخبة المتخرجة من المدرسة الفرنسية والقريبة في تفكيرها ونمط عيشها من الفرنسيين. وهناك رأي ثالث كان يقول بضرورة إبعاد الجزائريين جميعا عن المناطق التي يسكنها الفرنسيون وحصرهم في مناطق معينة في اتجاه الصحراء وفي نوع من المعسكرات أو المحتشدات أو المراكز السكنية حيث يظلون على نمط عيشهم القديم، على هامش الحضارة. ويمكن القول إن الحديث عن إمكانية (الاندماج) الخاص بالجزائريين قد ظهر منذ 1891 على إثر زيارة لجنة التحقيق بقيادة جول فيري. فقد لاحظ وجود عناصر جزائرية بدأت تطالب بالحقوق وتؤمن بالتقارب مع الفرنسيين والاندماج في مجتمعهم. وهذه العناصر هي ما اصطلح على تسميته بالنسبة، ونحن نسميهم هنا (بالاندماجيين). وبينما كان أعيان المدن عندئذ يطالبون باحترام العادات والتقاليد الجزائرية، واسترجاع الأحكام للقضاة المسلمين، وتعليم اللغة العربية، وغير ذلك من المطالب التي كانت تهدف إلى الإبقاء ¬

_ (¬1) عن هذه الآراء انظر الفقرات السابقة.

على الهوية الوطنية موازاة مع الهوية الفرنسية، كان الاندماجيون يكتبون عن إمكانات الاندماج مع الفرنسيين ويبحثون عن طرق التقارب بين الفرنسيين والجزائريين على أساس المستقبل الواحد والوطن الواحد. نجد ذلك في كتابات أحمد بن بريهمات والطيب مرسلي ولويس خوجة، خلال التسعينات (¬1)، ثم توسعت الدائرة وظهر فيها أمثال إسماعيل حامد، وأحمد بوضربة (الحفيد) وبلقاسم بن التهامي، والشريف بن حبيلس، وطالب عبد السلام وعباس بن حمانة (¬2). ثم جيل كامل من النخبة المتفرنسة. إن الاندماج هنا ليس هو بالطبع الاندماج الذي كان يتحدث عنه الكولون خلال القرن الماضي. إن ذلك النوع من الاندماج قد تحقق لهم كما أرادوا وأصبحت الجزائر (فرنسية) على مقاسهم. ولكن الذي لم يتحقق رغم إلحاح المنادين به، هو إدماج النخبة الاندماجية وبواسطتها، كما كانت تظن، كل المجتمع الجزائري بعد أن يصل، كما وصلت، إلى درجة النخبوية. وكانت قمة التعلق بهذا الاندماج هو مشروع فيوليت سنة 1936، وهو المشروع الذي أدى فشله إلى خيبة أمل الاندماجيين وفشلهم أيضا. فقد رجع بعده بعضهم (إلى الشعب) مثل فرحات عباس ومن شايعه، وظل بعضهم متعلقا بالأوهام مثل ربيع الزناتي وابن جلول. ودخل بعضهم في الأحزاب ¬

_ (¬1) هناك أفراد تجنسوا قبل ذلك، ومنهم أحمد بن الفكون (انظر عنه فصل الترجمة)، ومرسلي وبوضربة وربما بلقاسم بن سديرة (ومن هذه العائلة وجدنا اسمي شارل ولويس بن سديرة). أما معارضو التجنس في القرن الماضي فيمثلهم المكي بن باديس وابنه حميدة وصالح بن بوشناق وسعيد بن الشتاح. عن ذلك انظر فصل السلك الديني وفصول التعليم. وكذلك كريستلو (المحاكم)، ص 243. ومنذ 1900 كتب أبو بكر عبد السلام بن شعيب (وهو من المزدوجين) أن الاندماج مضر بالأغلبية من المسلمين. ودعا إلى (التقارب) وليس الاندماج، في بحث قدمه للمؤتمر الأول للسيكولوجية الكولونيالية، باريس 1900، انظر أيضا قنان (نصوص)، 269. (¬2) اعتبرنا عباس بن حمانة من الاندماجيين لأنه رضي بالتجنيد الاجباري وذهب ضمن الوفد الاندماجى إلى باريس سنة 1912.

الفرنسية ليندمجوا من خلالها، كالحزب الاشتراكي والحزب الشيوعي، بل إن بعضهم دخل في الحزب الفاشيستي. وقد وقفت جمعية العلماء ضد هذا النوع من الاندماج، وكان لموقفها صدى واسع وعواقب كبيرة لصالح الحركة الوطنية. فعندما نفى فرحات عباس وجود أمة جزائرية أجابه ابن باديس بعبارات زعزعت من كانوا يعتقدون أن هذه الأمة قد اندثرت فعلا، وبنوا على ذلك أوهام الاندماج في أمة أخرى. (ثم إن هذه الأمة الجزائرية الإسلامية [كما قال] ليست هي فرنسا ولا يمكن أن تكون فرنسا، ولا تريد أن تصير فرنسا، ولا تستطيع أن تصير فرنسا ولو أرادت، بل هي أمة بعيدة عن فرنسا كل البعد، في لغتها وفي أخلاقها وفي عنصرها وفي دينها، وهي لا تريد أن تندمج) (¬1). ثم عرضت مجلة (الشهاب) بالتفصيل العوامل التي تجعل دمج الجزائر في فرنسا من المستحيل عمليا. وفي عدد لاحق نشر الشهاب قوله إنه (معتز بخطته، ثابت على مبادئه، وهو يتشرف بأن يكون ممثلا للقومية الإسلامية الجزائرية .. التي لن تفنى ولن تزول .. هي حركة أمة تريد أن تحفظ لنفسها وتصون ذكرى أسلافها وتحتفظ بمميزاتها وتراثها العتيق) (¬2). وفي نفس الاتجاه كتب الشيخ أبو يعلى الزواوي في جريدة البصائر يستنكر الفرنسة والتنصير والتجنس. ورأى أن استعمال الأيتام والصبيان لنشر الفرنسية والتنصير بينهم وتحضيرهم للتجنس سيجعلهم (منبوذين) فلا هم نصارى ¬

_ (¬1) العبارة نشرت في الشهاب، إبريل 1936 تحت عنوان (كلمة صريحة) ردا على فرحات عباس دون ذكره بالاسم. وقد اختلفت الآراء حول صاحب الكلمة. وكان المعتقد (وهي غير موقعة) أن صاحبها هو الشيخ عبد الحميد بن باديس إلى أن نشر الشيخ أحمد توفيق المدني الجزء الثاني من مذكراته وفيه الكلمة الصريحة على أنها له. وكان الشيخ المدني يحرر في الشهاب بعض الأبواب. وجاء في كتاب محمود قاسم عن ابن باديس (الزعيم الروحي لحرب التحرير الجزائري) ص 156، أن ابن باديس تحدث عن نفسه بأنه هو الذي كتب الكلمة. وما تزال المسألة بين أخذ ورد. ومهما كان الأمر فقد هاجم الفرنسيون عندئذ ابن باديس من أجلها عدة مرات، ولم ينكرها أو يعدل منها، ولم يتبنها أحد غيره عندئذ. (¬2) البصائر، عدد 19، نوفمبر 1937.

ولا هم مسلمون. واعتبر الحكومة الاستعمارية حكومة (مبيدة ومهلكة)، لأن (العرب الأهالي مجردون من كل سلاح مادي وأدبي، ومنعوا من خصائص الإنسانية من الاجتماع والنطق والكتابة، ولا حرية لهم في ذلك) (¬1). إن الفكر الاندماجي لم يمت عند بعض الجزائريين فقد بقي حتى بعد الاستقلال ولكنه اتخذ غطاء آخر كالتمسك باللغة الفرنسية وعملية التثاقف المستمرة عن طريق الزيارات ووسائل الإعلام والزواج والبحث العلمي. ... وهناك علاقة بين التجنس والاندماج. وقد كان الجزائريون قبل 1865 محتلين تعترف لهم الدولة المحتلة بدينهم وعاداتهم، لكنها لم تكن تعترف لهم بجنسية ولا يتمتعون عندها بحق المواطنة. وفي 1865 صدر مرسوم ينص على أن الجزائريين رعايا فرنسيون يدينون بالإسلام، ولكن ليس لهم حقوق في المواطنة الفرنسية. ومن ثمة لا يتمتعون بالحقوق المدنية كحرية الاجتماع والصحافة والتعبير، ولا بالحقوق السياسية كالانتخاب والترشح للوظائف السامية. ذلك أن المواطنة الفرنسية في نظر الفرنسيين غير متلائمة مع الشريعة الإسلامية، والمسلم الذي تحكمه الشريعة لا حق له في المواطنة سواء كان مثقفا أو جاهلا، غنيا أو فقيرا. ولكن يمكنه أن يصبح مواطنا فرنسيا إذا ما تخلى طواعية عن أحكام الشريعة الإسلامية ودخل تحت طائلة القانون الفرنسي، ولا سيما في أحكام الأحوال الشخصية كالزواج والطلاق والإرث والوصايا. ورغم ما يبدو في هذا المرسوم من إغراء بالتمتع بالحريات المدنية والسياسية والمواطنة، فإن الجزائريين فضلوا البقاء على حالة الرعية تحت أحكام الشريعة الإسلامية مع الحرمان من تلك الحقوق ومع تعسفات قانون الأهالي التي لا وصف لها، لأن التخلي عن الأحوال الشخصية الإسلامية كان يعني الخروج عن الدين، وهو الردة والكفر عند المسلمين، وهو (التجنس) في مصطلح ذلك الوقت. وإذا كان التجنس قد رفضه المسلمون عموما فقد كان غير محبب عند ¬

_ (¬1) البصائر، عدد 31، 1367 هـ، وقد نشر ذلك أيضا في كتابه (جماعة المسلمين) ص 58.

الكولون أيضا. ذلك أنه يعني عندهم منافسة (الأهالي) لهم في حقوقهم الكثيرة، ويعني ذلك أيضا أن ثلاثة ملايين من الأهالي (سنة 1865) سيطغون على حوالي خمسمائة ألف من الأوروبيين (نصفهم من الفرنسيين) وبذلك سترجع الجزائر إلى الأهالي بحكم الأغلبية والمواطنة. فكانت معارضة الكولون شديدة للتجنس الفردي للمسلمين، وكانت أشد من ذلك بالنسبة لتجنسهم الجماعي. وكانت هذه من القضايا التي التقي فيها رفض الجزائريين ورفض الكولون، ولكن لدوافع مختلفة. غير أن التجنس الفردي، قد حدث. وكانت له شروط ضيقة لا تسمح لكل راغب أن يحصل عليه. وأهم الشروط هي الولاء المطلق لفرنسا وخدمتها والتثقف بلغتها، وحيازة الملكية، وحسن السيرة والسلوك في نظر الفرنسيين. وبناء على ذلك لم يتقدم أو بالأحرى لم يحصل على المواطنة الفرنسية إلا عدد ضئيل جدا بين 1865 و 1914 (¬1). وإلى جانب الشروط القانونية، ومعارضة الكولون، هناك معارضة الرأي العام الجزائري للتجنس أيضا. فقد كان الرأي العام يسمى المتجنس (المطورني) أو المرتد عن دينه، وكان المتجنسون منبوذين في المجتمع المسلم، سيما وأن الذين تجنسوا كانوا من صف معين في الغالب، وهم أولئك الذين خدموا في الجيش الفرنسي، أو عملوا في مصالح الترجمة في الإدارة أو الجيش أو المحاكم، أو من الذين تخرجوا من مدارس الآباء البيض. وبعد ضغط الرأي العام ضد التجنس وظهور حركة الأمير خالد التي بنت مطالبها على نيل الحقوق السياسية (المواطنة) دون التخلي عن الأحوال الشخصية الإسلامية، تراجع التجنس أيضا، وأصبح الذين يرغبون فيه يشترطون عدم مطالبتهم بالتخلي عن الشريعة أسوة باليهود الذين حصلوا على التجنس ¬

_ (¬1) حسب إحصاء سنة 1876 كان عدد المتجنسين سبعة عشر فردا فقط. وبين 1865 - 1874 بلغ عدد المتجنسين 458 فردا. انظر (حكومة ألبير قريفي)، ص 36، وكذلك (حكومة الجزائر العامة) في عهد الجنرال شانزي، الجزائر 1877، ص 9 - 14.

بالجنسية الفرنسية أو المواطنة دون شروط. ومن جهة أخرى كان الكولون، كما ذكرنا، يخشون من التجنس الجماعي للمسلمين لأنه يحرمهم (الكولون) من امتيازاتهم كأقلية محظوظة، ولذلك استمروا في معارضتهم الشديدة له. وكان لهم دور في إفشال مشروع فيوليت الذي قام على إعطاء المواطنة الفرنسية للنخبة فقط دون مطالبتهم بالتخلي عن الشريعة الإسلامية. وخلال الثلاثينات وقف زعماء جمعية العلماء ضد التجنس مطلقا سواء للنخبة فقط أو لكل الجزائريين. وقد اشترك في ذلك الشيوخ: ابن باديس والإبراهيمي والعقبى والميلي والتبسي وغيرهم. وهاجموا أيضا، محاولات التأثير على علماء تونس ليفتوا بإباحة التجنس، مثل الشيخ الطاهر بن عاشور الذي قيل إنه مال إلى ذلك، وقد اشترك في الهجوم عليه ابن باديس والإبراهيمي والعقبى. وظهرت ردود ضد التجنس من علماء الزيتونة وعلماء القرويين. وقد أفتى هؤلاء جميعا بأن المتجنس مرتد عن دينه، وأن حكم المرتد هو الكفر، ومن ثمة لا يمكن للمتجنس أن يرث أو يدفن في مقابر المسلمين ولا أن يتزوج على طريقتهم، وإن ذلك يسري على أولاده، وإذا أراد التوبة فعليه أن يخرج من البلاد التي دخل في قوانينها وأن يعلن توبته صراحة. وبالطبع لم ترض هذه الفتوى التي اشتهر بها ابن باديس (سنة 1938) الفرنسيين ولا الراغبين في التجنس. فقد ثارت ثورتهم ضد ابن باديس وضد جمعية العلماء، واعتبروا المسألة سياسية. وأطلقوا العنان لصحفهم ضد الفتوى وصاحبها. وكان ابن باديس فيما يبدو يقصد ذلك، أي أنه كان يعلن عن موقف سياسي/ ديني يحفظ للجزائر هويتها. وقد صدرت تلك الفتوى في وقت كانت فيه فرنسا تجمع شتاتها وتجند أتباعها لمواجهة الموقف الدولي المنذر بالحرب. ولذلك اتهمت حتى جمعية العلماء بأنها كان تعمل لحساب الفاشيست والدول الخارجية (¬1). ¬

_ (¬1) انظر البصائر، 19 نوفمبر 1937. انظر البصائر، 19 نوفمبر 1937.

وقد سلطت فرنسا مختلف الوسائل ضد الجمعية ورجالها الذين أفتوا ضد التجنس والاندماج. وحركت ضدها بعض المتجنسين أيضا. وقام الحاكم العام (لوبو) سنة 1937 بعزل إمام جامع دلس، لأنه رفض الصلاة على أحد المتجنسين، (واسمه أوسعدة)، فجاء رئيس جمعية المتجنسين في الجزائر، ويدعى سعدى أوأكلى، ليؤيد الحاكم العام في ذلك، ويعلن أن أمثال هذا الإمام كان يؤمن بوطنية بعيدة عن الجزائر، وهي الحركة الإسلامية، وأعلن أواكلي أن أوسعدة كان شاوشا في بلدية دلس وأنه قد خدم فرنسا بإخلاص (¬1). وكتب السيد مهندس يستنكر أعمال (جمعية العلماء التخريبية) وقال إنها انقسمت بين المتطرفين المتعصبين بقيادة ابن باديس والواقعيين العقلاء بقيادة العقبى (انظر مسألة البرقية)، وأن ابن باديس وأنصاره لم يحركوا ساكنا أمام الخطر الذي كان يهدد الحضارة العالمية (يعني الوقوف ضد هتلر وموسوليني) وأنهم ظلوا متمسكين بفكرة الجهاد الذي يعني في الجزائر الحرب الأهلية (¬2). وبعد سنة، بل عشية الحرب (يونيو 1939) كتبت نفس المجلة بأن جمعية العلماء والحركة المصالية هما العدوان الحقيقيان لفرنسا في شمال إفريقية. لقد أكدت كتابات ابن باديس أن الجزائر لن تكون فرنسا وأن المتجنسين خارجون عن الدين. وهاهم (أنصار ابن باديس) ينادون يوميا بالثأر للإسلام (¬3). ومهما كان الأمر فإن قانون التجنيس المشروط بالتخلي عن الشريعة الإسلامية قد ألغى سنة 1947، وجاء في القانون الجديد أن الجزائري مواطن فرنسي مع المحافظة على الحالة المدنية الإسلامية، وأصبح الجزائري منذ 1947 يدعى (فرنسي مسلم) بدل (رعية فرنسي). ولا شك أن ذلك يعتبر ¬

_ (¬1) إفريقية الفرنسية. AF، ديسمبر 1937. انظر أيضا ما كتبناه عن الاندماجيين في فصل آخر. (¬2) إفريقية الفرنسية، نوفمبر 1938. واضح أن السيد مهندس كان يستفز الإدارة لاتهام العلماء بالخيانة والفتنة. (¬3) نفس المصدر، جوان 1939.

هزيمة لأنصار الاندماج عن طريق التجنس وانتصارا لأنصار الهوية الوطنية والمحافظة على الذاتية الإسلامية، كما يسميها ابن باديس. ومع ذلك فإن الإحصاءات تدل على (تقدم) التجنس بل ومضاعفة عدد المتجنسين بين الحربين. وإليك ما نشره علي مراد في الموضوع بين 1920 - 1938 (¬1): السنة ... عدد المتنجنسين 1920 ... 17 1930 ... 152 1922 ... 56 1932 ... 127 1924 ... 29 1934 ... 155 1926 ... 67 1936 ... 142 1928 ... 38 1938 ... 190 ... أما الزواج المختلط فقد كان موجودا، كما عرفنا، ولكنه كان محدودا، فقد وجد بين الجزائريين والفرنسيات حتى قبل الاحتلال، كما رأينا في حالة أحمد بوضربة. وبعد الاحتلال بدأ يشيع بين الذين وظفهم الفرنسيون من الحضر، مثل مصطفى بن عمر وحمدان بوركايب. ثم أخذ يشيع بين بعض القادة الدينيين مثل زواج أحمد التجاني من أوريلي بيكار، وزواج الآغا ¬

_ (¬1) المصدر: علي مراد (الإصلاح الإسلامي)، ص 405 عن إحصاءات الحكومة العامة بالجزائر، سنوات 1920 - 1938. ويقول علي مراد إن ربيع الزناتي كان بطل الدعوة إلى الاندماج منذ 1929، وإنه اعتبر الاحتفال المئوي بالاحتلال (1930) هو عيد 14 يوليو (الفرنسي) بالنسبة للجزائريين، لأنه رمز للتحرر ونيل الحقوق والحرية من الاستبداد. ونرى أن العدد الاجمالي للمتجنسين كان ضئيلا بالنظر إلى حجم السكان.

حمزة بن بو بكر من أولاد سيدي الشيخ من فيري FERET ابنة قائد مشاة فرنسي. وزواج عبد القادر بن داود (زعيم الدوائر) من تيريز ماس (¬1). وبالطبع هناك فئة الاندماجيين الذين تزوجوا في أغلبهم من فرنسيات أمثال ابن التهامي، وبوضربة (الحفيد) ومرسلي. وقد ذكرنا ذلك في محله. ومنذ الحرب العالمية الأولى شاع الزواج المختلط أيضا بين الطلبة الدارسين في فرنسا والفرنسيات والعمال العاملين هناك، ومنهم فرحات عباس ومصالي الحاج وابن نبي وسعدان. وفي نفس الوقت تزوج الفرنسيون بعض المسلمات، ومنهم من أسلم من أجل الزواج منهن، ولكن بعضهم تزوج مسلمات دون أن يتخلى عن دينه. ومن الصف الأول توماس (إسماعيل) عربان الذي تزوج امرأة مسلمة من قسنطينة، وكان قد اعتنق الإسلام في مصر. وقد قيل إن العقيدين: بيليسيه، ودي نوفو، قد تزوجا من مسلمتين. وتدل الإحصاءات المتأخرة على أن الزواج بين المدنيين الفرنسيين والمسلمات كان شائعا أيضا. وإليك بعض الإحصاءات: 1) بين المسلمين والفرنسيات هناك 483 حالة خلال سنوات 1930 - 1953، موزعة هكذا: عنابة 96 حالة، قسنطينة 83 حالة ما بين 1932 - 1953؛ ووهران 75 حالة خلال سنوات 1939 - 1953، والعاصمة 229 حالة خلال نفس المدة. 2) بالنسبة لزواج المسلمات بالفرنسيين هناك مجموع 250 حالة منها 28 في عنابة خلال 1930 - 1953، و 30 حالة في قسنطينة خلال 1932 - 1953، و 39 في وهران خلال 1939 - 1953، و 53 حالة في العاصمة خلال نفس الفترة. ¬

_ (¬1) عن زواج حمزة بن بكر انظر هنري قارو (الحركة الإسلامية) في (مجلة الجزائر وشمال إفريقية) 1906، ص 174. وعن زواج عبد القادر بن داود انظر نفس المصدر، سنة 1907 مقالة لبوسكي عنه. انظر (التقويم الجزائري) للشيخ كحول سنة 1912 عن زواج إبراهيم بن عبد الجليل شيخ زاوية دلول الطيبية، فقد تزوج فرنسية وهي ابنة مدير الضرائب، أثناء سياحة إبراهيم فى فرنسا.

الجزائر في الكتابات الفرنسية

3) أما في فرنسا فهناك حوالي 400 حالة زواج مختلط و 5000 معاشرة حرة (خليلات) بين المسلمين والفرنسيات. وبناء على صاحب الإحصاء فإن من بين (عراقيل) الزواج المختلط وجود التعصب الديني، ويسميه الكاتب العنصرية الدينية. كما أبدى ملاحظة أخرى وهي أن أطفال الزواج المختلط يتمتعون بذكاء أكبر وبصحة أجود من غيرهم (¬1). هناك علاقة وطيدة بين التجنس والمدرسة الفرنسية، وبين الزواج المختلط والتجنس، وبين هذه جميعا والاندماج، ونعني بذلك الاندماج كما أصبح معروفا عند الفئة المعروفة بالنخبة. أما الاندماج الذي سعى إليه الكولون فقد فازوا به كما ذكرنا، وهو الذي جعل (الجزائر الفرنسية) تعيش عندهم إلى سنة 1962. الجزائر في الكتابات الفرنسية الفرنسيون لم يكتشفوا الجزائر سنة 1830، فقد كتبوا عنها قبل ذلك في عدة مناسبات. وكانت بينها وبينهم معاهدات، وتبادل أسرى، وجوسسة، وتقارير قناصل، ورحلات. ولكن معظمها كانت علاقات من جانب واحد. فالفرنسيون هم الذين كانوا يكتبون (عدا المعاهدات)، أما الجزائريون فلا يكادون يتركون أثرا لأسراهم ولا لرحلاتهم، وليس لهم قناصل في فرنسا، وقلما تطلق فرنسا أسراهم ليقصوا ما حدث لهم. فالكتابات الجزائرية عن فرنسا تكاد تكون معدومة قبل 1830 بينما كتابات الفرنسيين عن الجزائر متوفرة. وهي كتابات تمثل عنها صورة غامضة ومشوهة، فهي مستوحاة من معاداة الغرب للشرق والتعصب الديني والتفوق المادي. ومنذ الحملة انفسح المجال أمام الكتاب والفنانين والمؤرخين ¬

_ (¬1) الدكتور مارشان في (مدخل إلى الجزائر)، ص 164. وذكر آجرون (الجزائريون ..) 1/ 183 هامش 6، أنه لا يوجد رسميا سوى 48 حالة عقدتها الكنيسة في الزواج المختلط بين 1830 - 1870، ولكنه لم يوضح أي نوع من الزواج.

الفرنسيين ليكتبوا عن الجزائر، ولكن من وجهة نظر الغالب عن المغلوب، والمنتقم عن خصمه. وقد انكشف السر الجزائري الذي كان يحير الفرنسيين (والأوروبيين عامة) بعد سقوط الدولة وانتهاك البيوت وفتح الخزائن والاطلاع على العادات والتقاليد، ونمط العيش، والأسواق والطرقات، والمعاملات بشتى أنواعها. فنحن هنا لا نتوقع ولا نتحدث عن الموضوعية، ولكن عن الجزائر كموضوع للكتابة والإثارة والبحث. ومن المكابرة أن نقول إن الجزائريين كانوا في حالة يقظة وتقدم، فالحقيقة أن المفاجأة كانت متبادلة بين الفرنسيين والجزائريين، فلم يكن هؤلاء يتوقعون أن يحتل الفرنسيون بلادهم وأن يكشفوا عوراتهم ويعرفوا أسرار حياتهم، كما أن الفرنسيين فوجئوا بانتصارهم السهل على جيش الداي حسين وانفتاح أبواب القصبة في وجوههم، ووضع الخزينة بين أيديهم، وانسحاب الحراس من القلاع، وهروب السكان من بيوتهم. ومن حق الفرنسيين أن يتحدثوا عندئذ عن نشوة الانتصار وانكشاف الأسرار. ولنقل منذ البداية أيضا بأن احتلال الجزائر تصادف مع عنفوان الحركة الرومانتيكية في أوروبا وفرنسا. تلك الحركة التي بنت للناس عالما من الخيال وجعلتهم يعيشون بعيدا عن الواقع القاسي الذي ولد مع الآلة والمصانع ورأس المال، وظلت الحركة مؤثرة إلى نهاية الامبراطورية بل كل القرن التاسع عشر. فأصبح هناك رومانتيكيون في كل المجالات في السياسة والاقتصاد والمشاريع والفنون والآداب. فقد أصبح الإنسان يعيش أو يموت من أجل حجر أو أثر بعيد. لقد أصبح ينشد عوالم غريبة عن طريق الأحلام. وكثير من المثقفين الفرنسيين الذين جاؤوا إلى الجزائر كانوا من هذا الصنف، بل حتى بعض قادة الجيش ورواد الإستيطان (¬1). وقد وصف نابليون الثالث بأنه رجل رومانتيكي. وليس من مهمة هذا الكتاب البحث في جميع الكتابات الفرنسية ومدى ¬

_ (¬1) بيلي (عندما أصبحت الجزائر)، مرجع سابق، ص 268 - 267.

صدقها وحجمها وأثر الجزائر فيها، فذلك له مجال آخر. وغرضنا هنا هو تسليط الضوء ولفت النظر إلى أنواع الكتابات الفرنسية ذات الطابع الثقافي العام ومدى علاقتها بالواقع الجزائري. وقد عالج الفرنسيون أنفسهم هذا الموضوع بتوسع، وفي مختلف التخصصات: من الفن إلى الإدارة، ومن الشعر إلى التاريخ، ومن العلوم إلى التجارة. ونذكر هنا أن المدارس الفكرية التي ظهرت في فرنسا وأوروبا والتي كان لها صدى في الجزائر كثيرة، وقد أثر كل منها في مجموعة من الكتاب والفنانين، ولكنها قلما أثرت على الجزائريين إلا منذ أوائل هذا القرن. فقد كانت النظريات الاجتماعية والأنثربولوجية والأثنولوجية والدينية تجد صداها في الجزائر عند كتاب مرحلة اليقظة مثل ابن رحال، وابن الخوجة وابن سماية وابن بريهمات وعمر راسم. يقول شارل تيار الذي عالج موضوع الجزائر في الكتابات الفرنسية، إن كتب الانطباعات كانت أول ما ظهر عن الجزائر. ويعني بذلك الكتب التي تتناول السكان وأنماط حياتهم وملابسهم وعاداتهم وأخلاقهم، والأحياء السكنية، وتناقضات الطبيعة في نظر الكتاب، وفتنة السماء والبحر، واختلاف المناظر (الإفريقية) عن المناظر الأوروبية. وقد راجت بعد ذلك الكتب التي تشرح للسواح طريقة الحياة في الجزائر والطقس ووسائل النقل والإقامة، وهي المعروفة بكتب (الدليل)، فلا أحد يزور الجزائر من الفرنسيين (والأوروبيين) دون أن يحمل في يده (دليلا) يرشده، وقد زار الجزائر بعض كبار الكتاب والأدباء أمثال فرومنتان، وت. غوتتيه، وقونكور، وفلوبير، ودودييه، وفيديو، وبول بورد، وموباسان، وجان لوران، وغيرهم. وبعضهم اتخذ الجزائر مقاما دائما، وبعضهم زارها لسحرها الشرقي ثم عاد مبهورا، وبعضهم جاء على نفقة الحكومة الفرنسية ليكتب بعد ذلك عن مشاهداته ويرغب الناس في الهجرة إليها، مثل الإسكندر دوما، وفيديو، والفنان فيرني، وبعضهم جاء الجزائر للفضول الأدبي والفني، سيما في فترة الحركة الرومانتيكية، أو للعلاج الصحي والنفسي، وأخيرا نذكر أن بعضهم قد جاءها

منفيا مثل المعارضين للجمهورية الثانية. جاء يوجين فرومنتان الجزائر سنة 1848. وزار الساحل والصحراء (¬1). وذهب خصوصا إلى بسكرة والأغواط. وأعجب بمضيق القنطرة حيث توقف معجبا بالشمس وليمتع نظره بالطبيعة الخلابة، وكان النسيم العليل يروح عنه ضوء الشمس. وألف بعد ذلك كتابه الشهير (صيف في الصحراء). وقد استعار منه أحد ناشري الأدلة وطبع صفحة جميلة مليئة بالضوء من كتابه في وصف واحة القنطرة. وكان وصفه للصحراء عامة، سيما بسكرة والأغواط من آيات الأدب الفرنسي في ذلك العهد. ومن الكتاب أيضا لويس بيرتراند ذلك الرجل المتحمس جدا للاستعمار والمسيحية والرومنة، والذي يعتبره الفرنسيون مؤسسا لمدرسة الجزائر الأدبية (الفرنسية)، لقد كتب أيضا صفحات أدبية مشرقة عن واحة القنطرة في كتابه (بستان الموت)، وكذلك خلدها الأديب الشهير أندري جيد في زيارته لها ولبسكرة. ويقول الدارسون إن ذلك كان بفضل وصف فرومنتان للقنطرة وصفحة الدليل المطبوعة عنها (¬2). وقد أثرت الجزائر كثيرا في فرومنتان حتى أنه بعد أن رجع إلى الجزائر (العاصمة) وسكن قصرا بناحية مصطفى باشا (أول مايو اليوم) صاح قائلا إنه (مغمور بالألوان). وقد كتب أيضا وصفا شيقا للقصبة. ولم يكن في ذلك وحده، فقد سحرت الجزائر بجمالها الطبيعي كثيرا من الكتاب، بالظلال والألوان والهواء والشمس واختلاف المناظر. ومن أبرز الكتاب الذين تغنوا بهذا السحر ألبير كامو صاحب رواية (الغريب) وغيرها من الروايات والأعمال الأدبية والفلسفية. أما إيميل ماسكري فقد استوطن الجزائر منذ السبعينات وزار مختلف مناطقها وتولى عدة وظائف فيها، ومنها مدير مدرسة الآداب، قبل أن تتحول ¬

_ (¬1) له كتابان مشهوران في الأدب الفرنسي، وهما (صيف في الصحراء) ط. 2، باريس، 1874، و (سنة في الساحل)، 1858. (¬2) شارل تيار (الجزائر في الأدب الفرنسي)، ص 325، وكلمة (أدب) هنا تشمل أيضا غير الأدب كالتاريخ والرحلات الخ.

إلى كلية. وقد زار أيضا الصحراء وجبل الأوراس، وزواوة، وعرف الحياة البدوية والعادات التي لا تكاد تظهر إلا لمن دقق النظر وأكثر المعاشرة: الحفلات، والثارات، والأساطير، والألغاز، والأمثال، ونحو ذلك. وهو من الأوائل الذين كتبوا عن قبائل البربر في الأوراس ولباسهم ولهجاتهم وبقايا الآثار والتاريخ هناك. كما اهتم بالحياة الداخلية لسكان زواوة. وكان ينشر مقالاته في (المجلة الإفريقية) وفي (المراسل الإفريقي) وفي مجلة المناقشات (الديبا). ومن أبرز كتبه (ذكريات ورؤى إفريقية) الذي يعتبر من المؤلفات الأدبية الكلاسيكية اليوم في الأدب الفرنسي، وهم يقارنونه بفرومنتان (¬1). وقد كتب ماسكرى أيضا، عن الأغواط والقصبة والجلفة وعين ماضي وسوف والصحراء عموما. ومن الموضوعات التي شغلت هؤلاء الكتاب، المرأة والعادات. فقد تحدثوا عن وضع المرأة الاجتماعي، وخلقتها ولباسها وأعمالها وأوقات فراغها، واهتموا بما أسموه بالحياة الريفية من فروسية ومرابطية وصفوف (عداوات). وألف يوجين دوماس كتابا. كاملا عن (المرأة العربية) وآخر عن (الخيول العربية)، وقد جمع وثائقهما أثناء شغله لوظيفة رئيس المكتب العربي المركزي أو إدارة الشؤون الأهلية، في عهد بوجو. كما وصفوا عادات البربر في الجبال، وأشغال المرأة ومنظرها والأعراف السائدة والتطور الاجتماعي، وسجلوا انطباعهم عن الإنسان الحضري والبدوي. وكانوا في البداية معجبين بالإنسان البدوي (المتوحش)، والبربري (الخشن)، لأنهما في نظرهم قابلان للحضارة، وهما النموذجان اللذان يبحث عنهما علماء السلالات وأدباء الرومانتيكية، ثم تحول ذلك الإعجاب وأصبح النظر إليهما على أنهما نموذجان أهليان (أندجين) غير قابلين للتمدن وعدوين للفرنسيين بحكم التعصب الديني. واهتم الكتاب كذلك بالقهوة العربية والملابس والبازارات، ¬

_ (¬1) أوغسطين بيرنار، المجلة الإفريقية، 1894، ص 350. وقد طبع (ذكريات ورؤى إفريقية) مرة أولى 1892، وثانية 1914، وتوجد كلمة بيرنار فى ط. 2 من الكتاب أيضا.

والأعياد الإسلامية والمواسم، مثل شهر رمضان، والدين الإسلامي، وزيارات القبور عند المسلمين وحياة الزوايا. ووصل الأمر بهم أن كانوا يقلدون حياة الحضر في اللباس وتدخين الغليون الطويل والشيشة التركية، والاسترخاء على الأرائك. من الشعراء المعاصرين للحملة الفرنسية نذكر فيكتور هوقو، ولامارتين، وفينيه، وقد ظلوا صامتين عن أعمال الجيش في الجزائر والاستعمار، لأن فظايع الحملة كانت غير معروفة كثيرا للرأي العام الفرنسي. فقد كانت مشروعا ملكيا (شارل العاشر وحاشيته)، وقد عارضها الليبراليون في البداية، ثم انطلقوا في تأييدها بعد قيام مملكة جويلية بزعامة لويس فيليب ونجاح الحملة والتأكد من عدم التدخل الخارجي. ويقول بعض الكتاب إن الحركة الرومانتيكية تركت كل واحد غارقا في التأمل سابحا في الخيال. والحملة لم تكن مشروعا قوميا عند الفرنسيين، فلم يستقبل الجميع خبر الانتصار على الداي حسين بنفس الحماس، بل كانت هناك فترة تردد وتساؤل. ثم اندفع الأدباء جميعا في حملة عاطفية تشبه الحملة العسكرية. ويعني ذلك تأييدا للحكومة والجيش والاستعمار في الجزائر. وقد رجعوا إلى الماضي وتذكروا الحملات الفاشلة التي قام بها لويس 14 وشارلكان والإنكليز ضد الجزائر. وتذكروا الحروب الصليبية، ورجعوا إلى الكاثوليكية القديمة (الإفريقية)، وكانت وسائل الإعلام تنشر الوقائع والانتصارات على الجزائريين (العرب المسلمين)، وعلى الأتراك القراصنة الذين استرقوا الأسرى المسيحيين ووضعوا القساوسة في فوهات المدافع وأطلقوها. وأعيد طبع الكتب القديمة، وترجمت أخرى عن لغات أوروبية، وتحركت الغرائز والانتقام، وتجند الرأي العام مع الحكومة والجيش، وتلاشى صوت المعارضين للحملة والاستعمار. وكان الشعر الفرنسي، مثل كتب الوصف والانطباع (¬1)، قد سجل أيضا ¬

_ (¬1) غبريال ايسكير (الشعر والحملة ضد الجزائر) فى المجلة الإفريقية، 1918.

حياة الشرق، وسجل بطولات الأبطال، ضد العرب وضد الهلال. وتابع الشعراء سير الحملات والمعارك في مختلف المواقع: سيدي إبراهيم، ايسلى، حياة الأمير عبد القادر، حياة العرب، القصبة، والمناظر الطبيعية، وسجن الأمير في أمبواز. وقد أخبر ايسكير أن أول شعر فرنسي كان يوم 11 يوليو 1830، أي ستة أيام بعد احتلال العاصمة. ثم أصبح هناك شعراء فرنسيون من مواليد الجزائر، ولهم دواوين ونقاد اهتموا بهم. أما الرواية والقصة وما يشبههما فقد سجل الدارسون حوالي 200 رواية وقصة نشرت في الجرائد والمجلات إلى سنة 1925. وفي رأي هؤلاء الدارسين أن ذلك يشكل فقراء كبيرا، ولا يعتبرونه في مستوى الحدث الذي دام قرابة القرن. وفي نظر بعض النقاد أن الجزائر كانت ميدانا فسيحا للروائيين ولكنهم لم يستغلوه، فلم تظهر لهم أعمال خالدة عبر التاريخ، وإنما كانت أعمالهم تسجيلات لبعض الأحداث العابرة والعواطف الساخنة في وقتها، كما لاحظنا في المسرحيات التي عالجت موضوعات ترجع إلى العهد العثماني أو عهد الأمير عبد القادر. وكان بالإمكان إنتاج روايات تاريخية، وأخرى شعبية، ورومانتيكية، ونفسية. غير أن الإنتاج الذي أحصوه لا يدل على هذا التنوع والثراء ولا على حسن الاختيار للموضوعات. أما الموضوعات نفسها فيذكر الدارسون أن الكتاب قد رجعوا إلى الشخصيات التاريخية مثل سانت أوغسطين، وإلى الكنيسة الإفريقية، كما استوحوا موضوعات من العهد العثماني (¬1). ومن الإنتاج الروائي ما كتبه (هوق لورو) بعنوان (رجل الساعة)، وهو يعني به الباشاغا الحاج محمد المقراني، وموضوع الرواية هو ثورة 1871، وشخصياتها كانت من وحي الوقت، وهي رواية تسخر من رجال الدين الجزائريين ومن الثوار، فقد خطفت بنت فرنسية هي ابنة شيخ البلدية، خطفها أحد المقدمين (مرابط)، وكان له تعليم مزدوج عربي/ فرنسي، وكان خلاص ¬

_ (¬1) تيار (الجزائر ..) مرجع سابق، ص 519.

البنت على يد فحام فرنسي وكاهن. وأما إطار الرواية فكله جزائري، لأن المؤلف نفسه كان من الكولون، وقد استغل حياة الريف، فالرواية لها نكهة الحياة الاجتماعية المحلية، وكانت الفرقة الفرنسية العسكرية نازلة في أيشريضن في 24 جوان 1871، وهناك لوحة عن استشهاد المقراني، ولوحة أخرى عن انعقاد مؤتمر للثوار، وغيرها. وعندما قدمتها المجلة الإفريقية قالت إنها رواية تجمع بين الحقائق التاريخية بأسلوب وتوليف أدبي مما جعلها رواية تاريخية وأدبية معا (¬1). كما كان للحملة الفرنسية مؤرخوها. حقيقة أن بعض الكتاب أخذ يكتب عن الجزائر منذ أقدم العصور في شكل لوحات معتمة. وكان الرأي العام لا يسأل عن الحقائق بقدر ما يهتم بالعجائب والأقاصيص. ويعتبر بيليسييه دي رينو أول من اهتم وأرخ ودقق في سير الحملة وما بعدها. ويعتبر كتابه (الحوليات الجزائرية) عند الدارسين محاولة (موضوعية) لتاريخ العشرين سنة الأولى من الاحتلال. وقد تمكن بيليسييه من الوثائق بحكم معاصرته للأحداث وتوليه المكتب العربي وقربه من مصدر القرار، وكذلك ساعده حسه التاريخي، وكان ضابطا في قيادة الأركان للجيش، وعضوا في اللجنة العلمية، كما تولى قنصلية بلاده في تونس وطرابلس. وقد عاش في الجزائر اثني عشر سنة (1830 - 1842)، ويقال إنه عامل في كتابته ضباط الحملة لا على أنهم أبطال ولكن على أنهم بشر يخطئون ويصيبون. وكان له أيضا أحكام على الجزائريين الذين اتصلوا أو عملوا مع الفرنسيين، وله بعض المواقف المشبوهة في حادثة تنصير المرأة عائشة بنت محمد سنة 1834، وإهانة المحكمة الإسلامية. ويعتبر من السان سيمونيين، وقد قيل إنه تزوج من جزائرية (¬2). وفي نفس الفترة ألف كميل روسيه تاريخا عن الجزائر. ويسمونه في ¬

_ (¬1) المجلة الإفريقية، 1897، ص 119. (¬2) ظهر كتابه (الحوليات)، ط. 1، 1854. انظر الحركة الوطنية، ج 1.

زمنه مؤرخ الجزائر. ويقول نقاده إنه أخذ أفكاره عن غيره وهي أفكار جاهزة، بل أخذ نصوصا كاملة، وإنه أخفى مراجعة المطبوعة فلم يشر إليها. وكان روسيه قد بدأ بنشر كتابه في مجلة (العالمين). ثم ألف ألفريد نيتمون تاريخ احتلال الجزائر، ثم (طابلو) عن الاحتلال أيضا، إلى 1848، اختصر فيه الكتاب الأول تقريبا. كما أخذ بعضهم جوائز على التأريخ للجزائر والحملة. ومنهم أيضا ثورو- دانجون الذي أرخ لمملكة جويلية، ثم توالت كتب (التاريخ) الفرنسية في عهد نابليون الثالث. وتولى العسكريون في أول الأمر مسؤولية الكتابة، ثم جاء المدنيون مع تأسيس نواة الجامعة في الثمانينات. ومن أبرزهم في القرن العشرين: ايسكير، وايمريت، وايفير، وأزان (وهو عسكري)، وغزال، وجوليان، إضافة إلى من أرخ للجزائر في مختلف العصور (¬1). أما ما يسمى (بالتاريخ الشعبي) فهو غزير، وكان مطلوبا للرأي العام الفرنسي الذي كان يتطلع إلى المعرفة، فألفت له كتب عن بوجو والأمير وأخرى عن المعارك والتهدئة، وبعضها عن الطرق الصوفية، وأخرى عن القبائل العربية والبربرية، والحضارات القديمة، وعن الإسلام، ثم عن الاستعمار وأنصاره من كلوزيل إلى بوجو، إلى ليوتي (¬2). أما الشعب الجزائري فقد كان غائبا في الكتابات الفرنسية، فهو موضوع ولكنه غير مخاطب بأي خطاب، فكان الحديث عنه وليس له. كنا تحدثنا عن إيزابيل ايبرهارد في مناسبات أخرى مثل الطرق الصوفية، وذلك لعلاقتها بالقادرية أوائل هذا القرن. وكان مجيئها إلى الجزائر يغطيه غبار كثيف، هل هو للجوسسة لصالح ألمانية كما أشارت الأجهزة الفرنسية؟ هل هو لمعرفة قتلة الماركيز دي موريس Morres؟ هل هو للشهوة الجنسية والمغامرة؟ ¬

_ (¬1) خلاصة ذلك في (التارخ ومؤرخو الجزائر) الذي نشر بمناسبة الذكرى المئوية للاحتلال 1930، واشترك فيه مجموعة من الكتاب، وكذلك عدد الذكرى المئوية من (المجلة الإفريقية) سنة 1956. (¬2) تيار (الجزائر ..) مرجع سابق، ص 302 وما بعدها.

لكننا نذكرها هنا باعتبارها من الأديبات غير الفرنسيات اللائي كتبن بالفرنسية وتأثرن بالجزائر والإسلام غاية التأثر أول هذا القرن. وقد نشرت كتابا عن الإسلام ومقالات في جريدة الأخبار وغيرها، وكانت حياتها، رغم جوانبها الغريبة، مأساة مما جعلها موضوعا للأدب والأدباء والمهتمين بالصحراء والمخاطرة وبالطرق الصوفية ومؤامراتها. وكان الفرنسيون وراءها خطوة بخطوة حيثما حلت، وسواء لبست لباس الفتيان أو لباس الفتيات، وسواء كانت عاقلة أو مجنونة، في الصحراء أو في المدن (¬1). ولدت إيزابيل في جنيف (سويسرا) من أصول ألمانية وروسية، سنة 1878. وسكنت باريس، وحملت جواز سفر روسيا صادرا من موسكو. وكانت قضية دي موريس طاغية على أخبار فرنسا (¬2)، واعتقد البعض أن المعادين للسامية كانوا وراء السكوت عن قتلته. فأبدت إيزابيل استعدادها لمساعدة أنصار موريس في البحث عنه. وكانت تعرف العربية، وأعلنت أنها صحفية، ونزلت في تونس، ولبست الحائك البدوي ثم ارتدت لباس الفتيان، وامتطت الحصان، وظهرت كأنها فارس عربي شاب. وتثبت بعض الوثائق الفرنسية أنها جاءت من العاصمة إلى بسكرة ثم منها إلى تقرت، ونزلت فندق الواحات سنة 1899، وكان عمرها عندئذ اثنين وعشرين سنة. ومن هناك ذهبت إلى وادي سوف في قمة الصيف والحر، 31 يوليو من نفس العام، (وفي وثيقة أخرى في 31 يوليو 1900). وفي رسالة لها إلى (لاديباشں ألجيريان) بتاريخ 29 يناير 1901 نشرت في 4 جوان (يونيو) من نفس السنة، أنها اعتنقت الإسلام، وزارت الوادي لأول مرة في صيف 1899، وكانت عندئذ تجوب الصحراء جنوب شرقي ¬

_ (¬1) ذكر مالك بن نبي أنه أعجب بكتابها (في ظل الإسلام الدافئ) - وقد ترجم هذا الكتاب إلى الإنكليزية أيضا - وظهرت يوميات إيزابيل في كتاب قدمت له سيدة عربية الأصل، وأفضل ترجمة لها حتى الآن هي كتاب (حياة إيزابيل) لأنيت كوباك A. Kobak، نيويورك، 1989. (¬2) عن قصة دي موريس انظر فصل الطرق الصوفية (القادرية).

قسنطينة واحتفظت بذكرياتها، ثم حلت بالوادي مرة أخرى سنة 1900 بنية الاستقرار فيه، وقد سمته بلاد الكثبان الرملية والنخيل الظليل. ودخلت عندئذ في الطريقة القادرية، وتظاهرت بالإسلام، لأن تصرفاتها الاخلاقية لا علاقة لها بالإسلام. وكان شيخ القادرية عندئذ هو الهاشمي بن إبراهيم الذي كانت له زاوية في تقرت وأخرى في عميش، وهو من مواليد توزر بتونس حيث كان والده إبراهيم شيخا للقادرية هناك (¬1). وكان للشيخ الهاشمي إخوة موزعين بين ورقلة وسوف وتقرت (بالإضافة إلى الزاوية الأم في توزر). وقد أنشأوا زوايا قادرية، كل على حسب قدره ونشاطه وتسهيل السلطات الفرنسية له. وترددت إيزابيل على الزوايا الثلاث في وادي سوف ونالت رضى شيوخها، وحامت الشبهات الفرنسية حول علاقتها الخاصة بالشيخ الهاشمي. وفي 27 يناير 1901 كان هذا الشيخ متوجها في ميعاد إلى نفطة لزيارة ضريح والده، فنزل بلدة البهيمة (عبد الكريم حساني اليوم) وكانت إيزابيل في رفقته، وكان عليها أن تعود بعد البهيمة إلى الوادي مع خادمها. وبينما كانت تقرأ برقية لأحد التجار، تقدم منها شخص يدعى عبد الله بن محمد بن الأخضر وضربها بسيف على أم رأسها (¬2)، ولكن الضربة لم تكن قاتلة، وشاع أن المعتدي كان من أتباع التجانية المنافسة للقادرية - كما كان يريد الفرنسيون. وقد عولجت إيزابيل في المستشفى العسكري بالوادي حوالي شهر، ونقل المعتدي إلى قسنطينة وحوكم أمام المجلس الحربي المنصوب دائما للجزائريين، وحضرت إيزابيل المحكمة، كما حضرها الشيخ الهاشمي. ولكن المعتدي لم يعترف بمن حرضه على محاولة القتل، أو هكذا أرادت السلطات الفرنسية حتى تترك الحكم في يدها. وفي الوادي وجدت إيزابيل ايبرهارد رئيس الملحقية الضابط كوفي ¬

_ (¬1) انظر تفاصيل ذلك في فصل التصوف (القادرية). (¬2) مما خفف من وقع الضربة وجود أغطية كثيفة على الرأس (كان الفصل شتاء).

الذي وصفته بـ (المثقف). وقالت إن بالوادي عندئذ بناءات رئيسية فرنسية هي: المكتب العربي، والثكنة، والبريد، والمدرسة، والديوانة. وأخبرت أن أهل الوادي كلهم من العرب، وأن عليهم قائدين واحد على الأعشاش وواحد على المصاعبة. أما البنايات الإسلامية فهي المحكمة ومساجد العزازلة، وأولاد خليفة، والمصاعبة الغرابة، وسيدي سالم، وأولاد أحمد، وزاوية سيدي عبد القادر. وأن للوادي سوقا كبيرة مغطاة يأتيها بالإضافة إلى أهل المنطقة قبائل الشعانبة، والطوارق، بل حتى من السودان (¬1). أما الضابط كوفي فقد ترك إيزابيل تغامر ما شاءت لها المغامرة، وكان فقط يتتبع أخبارها من جواسيسه، ولم ير فيما جاءت به شيئا يشكل خطرا على الوجود الفرنسي. ولكن حين جاءته التعليمات بإخراجها من سوف مع عشيقها والتفريق بينهما، لم يسعه إلا السمع والطاعة. وانتقل العاشق الذي كان من فرسان الصبايحية، إلى باتنة، وانتقلت هي إلى تنس وغيرها. وبعد مغامرات أخرى في فرنسا ثم الجزائر، وزيارات لبوسعادة، والعين الصفراء، كانت نهايتها هي الغرق المفاجئ في مياه الوادي الذي يمر بالعين الصفراء في صيف سنة 1904. كتبت إيزابيل كثيرا من الرسائل والمقالات. وصادقت فيكتور باروكان مدير جريدة (الأخبار) الفرنسية الذي نشر أخبارها وأعجب بها. وذكرت في كتاباتها أنها كانت تجتمع بالمتعلمين (الطلبة) والمرابطين في الجزائر، وأنها خرجت إلى الصيد مع إخوان القادرية بالوادي، وأنها كانت صديقة لزينب بنت الشيخ محمد بن بلقاسم شيخ زاوية الهامل الرحمانية. وقد نشرت كتابها عن الإسلام مسلسلا في جريدة (الأخبار). وكل أحكامها ومغامراتها وعلاقاتها ما تزال محل شك ودراسات قابلة للطعن. غير أن قلمها وأدبها لا غبار عليهما، وأثر الجزائر فيها لا يختلف فيه اثنان، سيما الأجواء الدينية والاجتماعية في الواحات، وظاهرة الاضطهاد تحت النير الفرنسي (¬2). ¬

_ (¬1) يؤكد ذلك موتيلانسكي الذي زار سوف في نفس السنة (1903). انظر ترجمتنا لزيارته لسوف، وقد نشرت في مجلة (الثقافة)، 1994. (¬2) انظر جريدة (الأخبار) الفرنسية أعداد 5 فبراير، و 11 و 18 و 25 جوان 1905. =

اليهودية والصهيونية

اليهودية والصهيونية مسألة اليهود الجزائريين تناولها كتاب كثيرون، ومنهم ايزنباخ وشوراقي ومارتن وكوهين. وكان اليهود يقطنون مختلف المدن الجزائرية، ومنها العاصمة، حيث تساكنوا وتعايشوا مع الجزائريين المسلمين في السراء والضراء منذ قرون، وتكونت بينهم رابطة خاصة من التضامن بعد الطرد الإسباني للمسلمين واليهود على حد سواء. وأصبح اليهود متميزين بأحيائهم الشعبية ومدارسهم وبيعهم (جمع بيعة) ومهنهم التي كانت لا تخرج عن المتاجرة في الحلي من الذهب والفضة، وكذلك خياطة الأقمشة. كما كانوا يتاجرون في العملة بالقروض وتصريف الأموال التي نسميها اليوم نظام البنوك. وفي العهد العثماني الأخير برز اليهود في ناحيتين على مستوى السلطة، الأولى هي الترجمة بين أرباب الدولة والقناصل الأجانب (وكذلك بين التجار المسلمين وغيرهم)، والثانية هي احتكار التجارة الخارجية للجزائر وإقامة شركات ودور تجارية في ليفورنيا ومحطات في الجزائر ومرسيليا. ويعني ذلك دخولهم في تجارة ومشاركة واسعة مع أرباب السلطة أنفسهم، كالدايات والوزراء والبايات. وقد صعدت عائلة بكري وعائلة بوشناق في آخر القرن 18 نتيجة هذه العلاقة، وانتهت بالتدرج إلى سوء التفاهم بين فرنسا والجزائر وإلى تأزم الموقف ثم الحملة فالاحتلال (¬1). ¬

_ = إضافة إلى المراجع الأخرى التي أشرنا إليها في فصل الطرق الصوفية. وانظر أيضا نيكو كيلسترا N. Kielstra (تدهور التنظيم القبلي لوادي سوف) في (مجلة الغرب الإسلامي والبحر الأبيض)، رقم 45، سنة 1987، ص 21 - 22. وقد نشرت مجلة (الثقافة) الجزائرية دراسة عن إيزابيل لمحمد الصالح دمبري وترجمة حنفي بن عيسى خلال السبعينات. (¬1) عن الدين الذي ترتب على فرنسا للجزائر من جراء التجارة مع اليهود وأسباب الحملة الفرنسية، انظر كتابنا (محاضرات في تاريخ الجزائر الحديث - بداية الاحتلال) ط. 3. وكذلك بحث محمد العربي معريش عن اليهود أثناء العهد العثماني، وهو البحث الذي أعده كجزء من تحضير الماجستير تحت إشرافي. وفي سنة 1993 قدم =

تاريخيا، كانت معاملة اليهود عموما معاملة حسنة من قبل السكان ومن أرباب الدولة. حقيقة أن المشاعر الدينية وتقوقع اليهود، كأقلية، واستغلالهم الاقتصادي للسكان مثل التعامل بالربا، كان يؤدي أحيانا إلى نظرة احتقار نحوهم. فالمسلم كان يشعر بالتفوق الديني على اليهودي انطلاقا. من حكم القرآن نفسه الذي يصف اليهود بأنهم عصوا الله بعد أن مكن لهم في الأرض. ولكن العلاقات الاجتماعية كانت في الحدود الشرعية وما يقتضيه تبادل المنافع. وكان الأطفال المسلمون أحيانا يعتدون بالكلام وأحيانا حتى بالإيذاء البدني على الأطفال اليهود، وفي بعض الأحيان حتى على الكبار منهم. ولكن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كان أيضا شائعا، وقلما يتسامح المسلم في إيذاء جاره أو يجاوز حدود الأدب والشريعة إلا إذا كان مسلما سفيها. أما معاملة أرباب السلطة لليهود فكانت غير مستقرة. كانت المنافع متبادلة بينهم كما قلنا، وكان اليهود يتدخلون عن طريق الهدايا والرشاوى في الأمور السياسية الداخلية أيضا، كتبديل البايات وعزل الوزراء ومهاداة النساء للتأثير بهن على قرارات الدولة. وفي مقابل ذلك كان اليهود يحصلون على امتيازات ضخمة في التجارة الخارجية، كما قلنا، ثم التجارة الداخلية، حيث أصبحوا يتحكمون في الطرقات والأسواق ويشترون البضائع من أهل الريف والبادية بأثمان بخسة، ثم يتصرفون فيها فينالون منها أرباحا طائلة وهي ما تزال في داخل البلاد. وكان اليهود هم خبراء المسالك وأنواع البضائع المتداولة في الجزائر وإفريقية مع أوروبا. وكانت مبالغة اليهود في الثراء على حساب السكان، وسيطرتهم وشحهم في مقاسمة الأموال مع السلطة التي تحميهم، قد أدت إلى ضربهم أحيانا بقسوة كما حدث زمن الداي مصطفى باشا (ت. 1805). وكان ضربهم هذا وسيلة لتهدئة الغضب الشعبي وشراء ¬

_ = لي شخص نسيت اسمه، دراسة مطولة ذات فصول عن تاريخ اليهود في الجزائر منذ أقدم العصور لأعطيه رأيي فيه، وقد فعلت. وأعتقد أن اسم المؤلف عندي بالجزائر ضمن أوراقي. وكانت الدراسة مشوشة وتخفي وراءها نوايا وأهدافا باطنية.

سكوت الانكشارية التي كانت تهدد بالثورة. ومن جهة أخرى فقد ثبت للسلطات الجزائرية أن اليهود كانوا يعملون لحساب دول أوروبية أيضا مثل فرنسا، ذلك أن (تاليراند) وزير الخارجية، كان يحمي مصالح اليهود في أوروبا لأغراض سياسية واقتصادية لمصالح فرنسا. ولعل ما يكشف عن توغل اليهود في شؤون الجزائر هو رقابتهم لأنواع العملة الداخلة إلى خزانة الدولة، فقد كانوا في العهد العثماني هم الذين يزنونها ويفحصونها ويحكمون بزيفها أو أصالتها، سواء كانت ذهبية أو فضية. ومن ثمة كانوا على علم بكميتها وقيمتها في الصعود والهبوط، حسب الأسواق الدولية. وقد ظلوا يتمتعون بهذه الثقة حتى عندما كانت تحدث الأزمة بينهم وبين بعض الدايات. وكان الذي رشحهم إلى هذه المهنة الدقيقة جدا، هو خبرتهم بالعملات من جهة، وكونهم في نظر السلطة لا يشكلون خطرا من جهة أخرى، إذ هم كأقلية لا يهددون بثورة أو طموح في حكم. ولكنهم كانوا غالبا محل رقابة شديدة. ومع ذلك فمن قال إنهم كانوا في منتهى النزاهة والأمانة والخبرة؟ والمعروف أن الأمير عبد القادر كان يستعمل عددا من أعيان اليهود في مختلف شؤونه، ومنها الترجمة، والنيابة عنه في التفاوض مع الفرنسيين والجوسسة والتجارة، وغيرها. وتوجد عدة مراجع تحدث عن ذلك. ورغم هذه (الحظوة) التي كان اليهود يحظون بها في الجزائر على المستوى الرسمي وحتى الشعبي، فإنهم بادروا إلى الترحيب بالفرنسيين وسارعوا إلى التعامل مع رجال السلطة الجديدة، مظهرين الاستعداد لكشف أسرار المسلمين والفرح بزوال حكم الترك، حسب التعبير الشائع عندئذ، رغم أن قضية ديون اليهود مع فرنسا هي التي كانت السبب المباشر في الاحتلال، كما أشرنا. كما أظهر اليهود التشفي بالمسلمين على إثر الانتقامات التي ارتكبها الفرنسيون ضدهم كاغتصاب المنازل والقصور، والاعتداء على المساجد والمقابر، ونفي الأعيان من البلاد. وقد ظهر اليهود في هذه الأثناء على أنهم هم الخبراء (الوسطاء) بين المسلمين والفرنسيين، فكانوا هم التراجمة والتجار والأدلاء. وقد عاملهم الفرنسيون على قدر استعدادهم أيضا،

فأظهروا لهم العطف ومكنوهم من المعاملة وقربوهم إليهم في كل ما أحدثوه، ورفعوا عنهم الضيم، وشاوروهم في الأمور، وأصبح منهم أعضاء في كل مجلس وكل لجنة وكل محكمة كعنصر لا غنى عنه في المجتمع. ويجب القول هنا إن اليهود لم يكونوا على رأي واحد في هذا التصرف، ولكننا نتكلم هنا على سير الأحداث العامة. كما يجب القول إن الفرنسيين لم يكونوا أيضا مخلصين في معاملتهم لليهود، ولكنهم كانوا في أشد الحاجة إلى جهة وسيطة وهي الجهة التي كانت في نظرهم (مضطهدة) في العهد التركي، واعتقدوا أنها ستخلص لهم وتمحضهم النصيحة. كان عدد اليهود قليلا ولكنهم كانوا نشطين وفعالين، ففي مدينة الجزائر كان عددهم حوالي أربعة آلاف، عند الاحتلال. وقد بلغ أكثر من ستة آلاف (6,655) سنة 1838. وخلال العشرية الأولى للاحتلال كان عددهم غير متوازن في المدن، لا سيما تلك التي جرت فيها المعارك وانسحب منها المسلمون كعادتهم. فبينما ذكر أن عدد اليهود في وهران عند الاحتلال كان ضئيلا (حوالي ألف) وجدنا العدد قد ارتفع بعد استقرارها في يد الفرنسيين إلى أكثر من ثلاثة آلاف (3، 364) سنة 1830. وفي عنابة كان عدد اليهود في هذه السنة 421 فقط، بينما لم يكن في مستغانم وبجاية يهود على نفس العهد (¬1). كما كان اليهود في العهد العثماني يتمتعون بنظامهم الديني والاجتماعي. وكانوا يتحدثون العربية الدارجة، ولهم مدارسهم الخاصة التي تعلم العبرية، وكانت لهم محاكمهم وربيوهم، ولباسهم وتقاليدهم ومواسمهم الدينية المعترف بها كأهل كتاب. ويقول أحد المعاصرين إن اليهود سنة 1830 كانوا (عربفون) أي يتحدثون العربية، ويظهر عليهم الطابع ¬

_ (¬1) السجل (طابلو) سنة 1839، ص 55. بينما تذكر إحصاءات عشية الثورة الجزائرية 1954، أن عدد اليهود في الجزائر قد أصبح 120,000، وكلهم كانوا يتمتعون بالجنسية الفرنسية. انظر لويس ماسينيون (الحولية) سنة 1954، باريس، 1955، ص 230.

البربري القوي، وكانت لهم الميول الحضرية، ويظهر ذلك في حفلاتهم ومناسباتهم، وفي رقصهم وموسيقاهم. وكانوا مختلفين جدا عن يهود الأشكينازي الذين يعيشون في أوروبا الوسطى. فيهود الجزائر كانوا يقدسون بعض الشخصيات (الأولياء) الذين هاجروا من الأندلس في القرن 14، ويذهب الزوار منهم إلى قبور هؤلاء الأولياء ويوقدون عندهم الشموع ويعطون الصدقات. وكانت لهم مقبرة في باب الواد. وكان لهم في تلمسان ولي يدعى (راب إفرائيم انكاوة) توفي سنة 1392 م. ولهم زعماء في العاصمة، مثل سيمون بن دوران (¬1). ولكن الفرنسيين أخذوا يميزون اليهود عن المسلمين كما ذكرنا. يقول حمدان خوجة إن الفرنسيين قد عاملوا اليهود معاملة حسنة خلافا للمسلمين، فأعفوهم من سوء المعاملة التي خضع لها المسلمون في أملاكهم ومساجدهم. وأصبح اليهود، كما يقول خوجة، يتجاسرون على المسلمين، سيما أهل الريف (البدو)، ولم يعاقبهم الجيش الفرنسي على ذلك التجاسر، مع أنه قد ترتبت عليهم غيرة وأنفة، أي محاسدة ومباغضة من الجانبين. فاليهود (لم يحفر لهم قبر، ولم يهدم لهم ملك (¬2)، ولم تؤخذ لهم شنوغة (بيعة) بل شنوغاتهم اليوم أزيد من جوامعنا الباقية بأيدينا، والشنوغات وإن كانت داخلة في الشروط (اتفاق 1830) إلا أنها ضمنا ومساجدنا صارحة (كذا)) (¬3). وحمدان خوجة الذي كان من بين من حث على الاستسلام (المشروط) يحتج بأن المساجد التي نصت عليها الشروط قد هدمها الفرنسيون وأهانوها، بينما بيع اليهود التي لم تنص عليها الشروط قد أبقاها الفرنسيون واحترموها وزادوا منها. ومن هذه المراعاة الفرنسية الموقف من المدارس. لقد كان اليهود في ¬

_ (¬1) بيير قوانار (الجزائر)، ص 297. (¬2) في الأصل (ولم يهدم له ملك). (¬3) مذكرة حمدان خوجة إلى رئيس الوزراء الفرنسي، سنة 1833، انظر قنان (نصوص)، ص 58.

البداية متحفظين كالمسلمين من إرسال أولادهم إلى المدارس الفرنسية. إذ كان هدف الفرنسيين هو نشر اللغة الفرنسية بين أطفال المسلمين واليهود. ويقول جان ميرانت إن الفرنسيين لم يتمكنوا من جمع التلاميذ عند معلم واحد مسلم أو يهودي للعداء الذي كان بينهم، (وهو عداء ربما كان في ذهن الفرنسيين فقط). لذلك لجأ الفرنسيون إلى ما أسموه بالمدارس الخاصة، أي مدرسة فرنسية للمسلمين ومدرسة مثلها لليهود. ونظرا للتقارب الجديد بين الفرنسيين واليهود، فإن أول مدرسة فرنسية كانت لأبناء اليهود في العاصمة أحدثت سنة 1832، بينما لم تحدث المدرسة الفرنسية الموجهة للمسلمين (الحضر) سوى سنة 1836. وفي هذه السنة استحدث الفرنسيون مدرسة لبنات اليهود أيضا. ثم في سنة 1855 استحدثوا لهم معهدين (متوسطتين) فرنسيين في العاصمة. أما في وهران فأول مدرسة فرنسية لليهود (البنين) كانت سنة 1833، وفي عنابة سنة 1837 (¬1). وصدر سنة 1845 مرسوم ملكي فرنسي ينظم الديانة اليهودية في الجزائر. كما نظم المرسوم طريقة إنشاء وتسيير المدارس. وتكفلت الإدارة الفرنسية بمنح الأماكن للملاجئ اليهودية وإنشاء المدارس للجنسين منهم. وكانت هذه المدارس تعتمد على المعونات من الجمعيات الدينية وعلى ما يدفعه الأطفال أنفسهم، ثم المساعدات الحكومية. وقد وضعت هذه المنشآت تحت رقابة الإدارة الفرنسية، ولكنها كانت تستشير الجمعيات الدينية لليهود، وهي السلطات الروحية (الكونسيستوار) فيما يتعلق بتعيين أو عزل المعلمين وإجراءات الانضباط، وكذلك ما يتعلق بمواد الدراسة ولجان المدارس. وكان التعليم في المدارس اليهودية يشمل الدروس الدينية واللغة الفرنسية، كما تكفل الربيون بمراقبة المدارس والمعلمين. وفي مدارس البنين كان المعلمون اليهود يتكفلون بالمواد الدينية، أما المعلمون الفرنسيون فيتكفلون بتعليم القراءة والكتابة والحساب باللغة الفرنسية. وأما مدارس ¬

_ (¬1) جان ميرانت (كراسات الاحتفال المئوي)، 1930، ص 76.

البنات اليهوديات فكانت تديرها نساء يهوديات. وهذا النوع من المدارس الفرنسية - اليهودية الذي كان يشبه المدارس الفرنسية الشرعية الموجهة للمسلمين بعد التسعينات، كان غير متطور في نظر الفرنسيين. فالبنات بدأن سنة 1836 بعشرين تلميذة ووصلن بعد ذلك إلى 80، ولكن لم يسجل سنة 1843 سوى ست عشرة بنتا. كما أن البنين من اليهود لم يكونوا يواظبون أكثر من سنتين، كما جاء في تقرير رسمي سنة 1843. فقد لوحظ أنهم بمجرد تعلمهم القراءة والكتابة والحساب (المواد الفرنسية) يغادرون المدرسة. ووصل الأمر إلى أن طالب أحد المعلمين بإغلاق مدرسة وهران سنة 1865 لأن التلاميذ لا ينصفون المدرسة ولا يقدمون عنها صورة صحيحة. ولاحظ الفرنسيون أن ذلك راجع إلى كون التلاميذ يفضلون المدارس الفرنسية، وهم (أي الفرنسيين) يسمون ذلك مدارس التعليم المشترك (موتويل). فقد كان عدد التلاميذ اليهود في هذه المدارس أكثر من عدد تلاميذ المدارس المسماة الخاصة باليهود، سواء في ذلك البنون والبنات. وحسب بعض الإحصاءات فقد كانت مؤسسات التعليم العمومي الفرنسية سنة 1838، تضم 145 طفلا و 85 طفلة من اليهود. وحوالي نفس العدد كان في المدارس اليهودية أو الخاصة، بنين وبناتا. وكان إحصاء 1863 قد أثبت وجود 2,973 تلميذا، يهوديا في التعليم العمومي الفرنسي، منهم 597 تلميذة (¬1). وكان اليهود، رغم المعاملة الخاصة، يعتبرون (أهالي) أو أندجين، في نظر القانون الفرنسي، مثلهم في ذلك مثل المسلمين. وكانت القوانين الرسمية لا تمنحهم حق المواطنة الفرنسية لأنهم (أهالي) فهم أيضا رعايا فرنسيون. ومرسوم 1865 الخاص بالجنسية الفرنسية أو التجنس بشروط، منها التخلي عن الأحوال الشخصية، غير خاص بالمسلمين بل كان يشمل الأهالي جميعا، بمن فيهم اليهود. ولم يمض على صدور هذا المرسوم ¬

_ (¬1) ميرانت، مرجع سابق.

خمس سنوات حتى صدر قرار أدولف كريميو بتجنيس يهود الجزائر دفعة واحدة. وكان كريميو يهوديا ووزيرا للداخلية في حكومة بوردو سنة 1870، وطالما طالب سابقا، وهو خارج الحكومة، بتجنيس اليهود، وكذلك بادر كوزير إلى إنقاذ أهل دينه، في نظره، بمنحهم الجنسية والمواطنة الفرنسية التي تعطيهم كامل الحقوق السياسية والمدنية. وبينما كانت المستعمرات، ومنها الجزائر، تعاني من ويلات الاستعمار الذي انطلق منذئذ في قمع الشعوب بقسوة ونجا يهود الجزائر (الأندجين) سابقا من ذلك القمع، بل وارتفعوا إلى حالة المواطنة وأصبحوا فئة محظوظة وسط الأهالي الآخرين، بل أصبحوا في نظر بقية السكان (مستعمرين) كالفرنسيين تماما، وأصبحوا حكاما مطاعين، بيدهم الحل والعقد، والأمر والنهي، والسياسة والاقتصاد. والمثل يقول: ويحك من الضعيف إذا عز! لم يرحب كل اليهود بقرار كريميو بالتجنس الجماعي الذي لم يستشاروا فيه. ولكن أغلبيتهم رضيت به، ورأته وسيلة للسلطة والملك ورفع الرأس والتحرر والخروج من المعاملة الخاصة. وربما لم يفكر هؤلاء عندئذ في الحركة الصهيونية ولا نشأة إسرائيل ولا في ظهور هتلر ولا ثورة الجزائر. ذلك أن الغيب لا يعلمه إلا الله، ولا يتكهن به إلا قليل من العباقرة، ولكن سنن الطبيعة كانت تقتضي أن دوام الحال من المحال وأن العاقل من فكر في البعيد لا في القريب. وحتى اليهود الذين تحفظوا أول مرة من قرار كريميو رضوا به بعد ذلك ورأوه فرصة ذهبية يجب اغتنامها. وهكذا أصبح الفرنسيون في الجزائر واليهود متساوين في الحقوق والواجبات أمام القانون، وبقي المسلمون وحدهم في الدرك الأسفل، رعايا فرنسيين، محرومين محتقرين مستغلين أبشع استغلال، تحكم عليهم محاكم الصلح الجائرة طبقا لقانون الأندجينا وتسلط عليهم سياط المتصرفين الإداريين في البلديات المختلطة. واستقبل الرأي العام الفرنسي في الجزائر قرار كريميو بمشاعر مختلطة. بعضهم قبله كأمر واقع، وبعضهم نظر إليه على أنه ضربة لمصالحهم الاقتصادية والسياسية. حقيقة أن يهود الجزائر لن يشكلوا خطرا سياسيا على

التوازن بين الأوروبيين، ولكنهم سيلعبون ورقتهم كحزب مرجح في الانتخابات في مختلف المستويات، وبذلك يصبحون قوة كبيرة ضاغطة. وكان دور اليهود الاقتصادي في الجزائر وارتباطاتهم بيهود فرنسا وأوروبا عموما قد جعلهم خطرين في هذا الميدان بالنسبة لفرنسي الجزائر. وقد أثبتوا من قبل معرفتهم بالبلاد وبأسواقها وعاداتها ولغتها. ولذلك وقع التململ الشديد ضدهم في الأوساط الفرنسية. ويقول شارل أندري جوليان إن الضغط كان شديدا على حكومة بوردو لإلغاء قرار كريميو حتى أن تيير Thier (رئيس الجمهورية) كان سيتراجع عنه. ولكن حاجته إلى دعم الثري اليهودي، ألفونس دي روتشيلد، صاحب البنوك والأموال، لكي يقدم قرضا تدفعه فرنسا لتحريرها من ألمانيا نتيجة حرب السبعين، هي التي جعلته يتمسك بقرار كريميو. وكان الكثير من فرنسيي الجزائر مستعدين لرؤية اليهود (الإسرائيليين) يتعاطون التجارة والحرف، ولكنهم كانوا ينظرون إليهم بعين السخط بالنسبة للمهن الحرة وبعين التقزز والامتعاض بخصوص التعليم، لأنهم كانوا يعتبرون اليهود سلالة دنيا. أما المجال السياسي، فهو، كما يقول جوليان، مرفوض لليهود نظرا لتأثير المنشآت الدينية (الكونسيستوار) عندهم على الجماهير (¬1). وقد حاول البعض أن يربط بين تجنيس اليهود الجماعي وثورة 1871 ورأوا أن من أسبابها اشمئزاز المسلمين من حكم اليهود، وشعورهم بالنقص مما قلب الأوضاع السياسية التي كانت سائدة. وقد يكون لقرار كريميو دور في الثورة ولكن بوجه آخر، وهو أنه كان يدل على ضعف فرنسا الذي ظهر في الهزيمة نفسها، فالقرار ماهو إلا متابعة للهزيمة العسكرية الفرنسية وسقوط نابليون واحتلال باريس، وتغيير الحكم في الجزائر إلى حكم مدني وتمكين اليهود من رقاب المسلمين. أما الشعور العام لدى المسلمين فهو احتقارهم لليهود لأنهم قد غيروا دينهم (وطورنوا)، ¬

_ (¬1) شارل أندري جوليان (إفريقية الشمالية تسير)، ص 29 - 30.

حسب التعبير العشبي. فالمسلمون لم يحسدوا اليهود على نعمتهم بل رثوا لحالهم، وتأكد لديهم (حرص اليهود على الدنيا) ولو على حساب دينهم (¬1). ويمكننا القول إن المسلمين قد ازدادوا قناعة، في ضوء ما وقع لليهود خلال عقدي الثمانيات والتسعينات مع الكولون، بأنهم كانوا على حق عندما رفضوا عرض نابليون التجنس بشروط، وازدادوا اعتزازا وتمسكا بدينهم الذي كان يمثل (هويتهم). وسرعان ما بدأ التوتر بين الفرنسيين الأوروبيين واليهود الأهالي عند إجراء أول انتخابات في الجزائر. وظهرت (معاداة السامية) مكشوفة، كلما حدثت معركة انتخابية. ويقول جوليان إن (درومون) الذي ألف كتابا، بعنوان (فرنسا اليهودية) والذي نسب فيه كل المساوئ التي حدثت في فرنسا إلى أعمال اليهود، هو الذي فاز فوزا ساحقا بمدينة الجزائر في انتخابات سنة 1897. وقد ظهرت معاداة السامية على أشدها عندما أصبح رئيس الحزب المعادي لليهود، وهو ماكس ريجس، رئيسا لبلدية الجزائر. كان ريجس لا يتجاوز الخامسة والعشرين من عمره عندئذ، ويقولون إنه كان من المتجنسين حديثا بالجنسية الفرنسية ومن أصل إيطالي. وفاز معه معاونه أيضا، على نفس البرنامج الذي يتلخص في ضرورة تركيع اليهود والقضاء عليهم. وكان هذا الحزب يطالب بإلغاء قرار كريميو، ودخل مع اليهود في معارك جرت في مدينة الجزائر وفي غيرها، وحاول جر المسلمين إلى هذه اللعبة ولكنه فشل ليقظتهم لعواقبها. وكادت (فرنسا الجزائرية) تدخل في حرب أهلية عمياء لولا السياسة التي اتبعها والدك روسو، رئيس الحكومة الفرنسية، والحاكم العام لافيريير. فقد ألغى هذا الحاكم الانتخابات البلدية واتبع سياسة الصرامة والتدخل الإداري. ولم تفشل الحركة المعادية للسامية، رغم أنها لم تنل مطلوبها، إذ بقيت إلى الحرب ¬

_ (¬1) قارن ذلك بما نشره يحيى بوعزيز في مجلة (الثقافة) عن موقف المسلمين من تجنيس اليهود، وقد نشر وثيقتين لأعيان قسنطينة، إحداهما تنفي تأثرهم بالقرار والأخرى تثبت تأثرهم به، لأن القرار جعل اليهود هم فرنسا بحملهم السلاح، أي هم السلطة.

العالمية الثانية توالي ضغطها حتى حكم لها نظام فيشي، أي بإلغاء قرار كريميو، سنة 1941. قلنا إن معاداة اليهود لم تنقطع بعزل ماكس ريجس وإنما تحولت إلى نوع من التهدئة والتوافق. وقد ظهرت صحف عديدة تتحدث عن معاداة السامية واليهود خلال العشرية الأولى من هذا القرن (¬1). ويقول أحد الكتاب إن الاضطهاد قد نشط العقيدة الدينية عند يهود أوروبا، ولذلك بدأت حركة ريجس في الجزائر شاذة عن القاعدة، لأنها ليست، في نظر هذا الكاتب، حركة مضطهدة دينيا. وكذلك كان إجراء حكومة فيشي ضد اليهود، فهو إنما جاء نتيجة لمعاداة السامية. وكانت الضجة التي فجرتها حادثة (دريفوس) في فرنسا ما تزال تهز المجتمع عندما قامت حركة ريجس في الجزائر. ولذلك حاول رئيس الحكومة الفرنسية (والدك روسو) أن يطفئ النار قبل استشرائها. ويذهب جوليان إلى أن المشاعر المعادية لليهود ظلت كالنار في الرماد بين الفرنسيين إلى أن ظهر هتلر، وكره الفرنسيون الجبهة الشعبية، لأن رئيسها (ليون بلوم) يهودي، وهي الكراهية التي أدت إلى أن يدخل حزبان (الحزب الاجتماعي والحزب الشعبي) في دعاية قوية لتجنيد الأوروبيين وحتى العرب في صفوفه بالجزائر. وقد تزعم (دوريو) المناداة بإلغاء قرار كريميو أيضا. سنة 1938 وأصبح ذلك هو كلمة السر في الموضوع. وقد تحقق ذلك في عهد فيشي، كما قلنا (¬2). كان يهود الجزائر من الفرع المعروف بالصفرديين. وقد حافظوا على تقاليدهم الاجتماعية والدينية في وجه الحضارة الأوروبية. وظلوا على نظامهم الأبوي، فالأب هو رئيس العائلة وهو الذي يتصدر المائدة ويقرأ الدعاء بالشكر والحمد، وهو يصلي الصلوات اليومية ويذهب إلى البيعة كل سبت، ويحتفل بالمواسم الدينية. وليس ضروريا أن يكون الأب ¬

_ (¬1) انظر بحث إيمانويل سيفان (الاستعمار والثقافة الشعبية في الجزائر) في كتابي أبحاث وآراء، ج 4. (¬2) جوليان، مرجع سابق، وكذلك قوانار (الجزائر) مرجع سابق، ص 298.

عالما دينيا. وقد ألف بعض علماء اليهود إرشادات لتربية وتوجيه الجيل الجديد مثل (مواعظ هلاخيك) التي ألفها داود كوهين سكالي سنة 1861 وهو من مواليد وهران. وقد راجت مواعظه بين يهود شمال وافريقية. وفي سنة 1865 نشر الأخوان حاييم ويعقوب كوهين سلال (هقادة دي بيسه) بالحروف العبرية. وكان على الأولاد اليهود أن يحفظوا (التوراة) كما يحفظ المسلمون القرآن الكريم، وهم يستعملون مع الأطفال طريقة الضرب أحيانا. وبعد حفظ التوراة كان الأولاد يحفظون التلمود. وكانت المرأة عندهم لا تتعلم مثل الرجل، ولكنها كانت حرة في دخول البيعة. وقد طبق عليهم الفرنسيون النظام الذي سنه نابليون الأول (1808) ليهود فرنسا. فأنشأت لهم فرنسا هيئة (الكونسيستوار)، وهي هيئة مركزية مقرها الجزائر، ولها فرعان أحدهما في وهران والآخر في قسنطينة. وإلى جانب ذلك عينت عليهم فرنسا ربيين غير جزائريين بناء على اقتراح تقدم به يهود باريس (؟) فالربي يجب ألا يكون من أهل البلاد، فكان الربيون (ومنهم فيل weil، وقوقنهايم، وشارلفيل، وايزنباخ) كانوا لا يصلون بهم بالطريقة المعهودة عندهم، وكان تكوينهم مختلفا عنهم، ولذلك كان يهود الجزائر يصدمون من بعض تصرفات ربييهم، كالصراخ وبعض الممارسات الغريبة الصادرة عنهم. وقد بنى اليهود لأنفسهم، كما بنت لهم فرنسا، البيع (المعابد) حتى بلغت 112 في الجملة، ووصلت المعابد الكبيرة إلى خمسة، وكان أكبرها هو معبد وهران. ونشطت حول هذه البيع الجمعيات الرياضية والثقافية وكذلك التعاضديات والكشافة. وكان هناك أيضا (الاتحاد الإسرائيلي العالمي) الذي أنشئ في آخر القرن الماضي. وكان اليهود قد عرفوا أيضا الاتجاه المحافظ والاتجاد الليبرالي في تفكيرهم. وتراوحوا بين التعليم الديني والتعليم اللائكي الذي فرضته فرنسا منذ الثمانينات من القرن الماضي. وقد ثبت لليهود أن تلاميذهم لا يرغبون في المدارس الدينية التي كانت تنافسها مدارس الحكومة، فخسروا تلاميذهم كما خسر الاتحاد الإسرائيلي المذكور تلاميذه لصالح التعليم اللائكي، ولم يعد التلاميذ

المراهقون يهتمون بالتوراة والتلمود (¬1). وليس لدينا دراسة شاملة ودقيقة عن تجنيد الحركة الصهيونية ليهود الجزائر. فلا نعلم متى بدأ تغلغلها بينهم، ولا متى بدأت نشاطها ولا مدى نجاحها أو فشلها. وهناك مسألتان نذكرهما هنا، الأولى هي صلة الماسونية بالصهيونية. والثانية وجود نشاط صهيوني بارز خلال الثلاثينات في الجزائر. أما المسألة الأولى فلا نطيل فيها لأنها أصبحت معروفة ومدروسة، وإنما نريد أن نذكر أن الماسونية قديمة في الجزائر قدم الاحتلال، إن لم تكن قد سبقته. ذلك أن بعض قادة الجيش الفرنسي وبعض السياسيين الذين نفتهم الحكومة الفرنسية كانوا أعضاء في الماسونية. وقد تأسست محافل وفروع ورموز لهذه الجمعية (أو التنظيم) السرية منذ أوائل الاحتلال، وتطورت وتشعبت كلما تطورت المدن وتمركز السكان وظهرت الصحف والنوادي والجمعيات، وانتشر التعليم. أما المسألة الثانية فنقول عنها إن الحركة الصهيونية التي تشكلت رسميا في آخر القرن الماضي، قد تسربت إلى الجزائر عن طريق أجهزة الإعلام وتكوين العملاء في مختلف المدن والنوادي، وربما لم تجد الطريق ممهدة كما في فرنسا وأوروبا، ولكنها مع ذلك استطاعت أن تبني جسورا بينها وبين اليهود في الجزائر كما فعلت مع اليهود في فرنسا. ولا نعرف الآن ما موقف السلطة الفرنسية المحلية منها، لأن السياسة الفرنسية عادة تختلف في الأرض الفرنسية عنها في المستعمرات. ويقول السيد قوانار: إن الحركة الصهيونية هي التي نشطت اليهودية إذ حققت لليهود اعتزازهم بذاتهم، وزادتهم حرب الجزائر، حسب تعبيره، حماسا، وهي الحرب التي أدت إلى هجرتهم الجماعية. وهو يقول إن مدرسة الربيين كانت مفتوحة في بوزريعة قبل الهجرة اليهودية من الجزائر. والواقع أن (حرب الجزائر) لم تؤد إلى هجرة اليهود ¬

_ (¬1) قوانار (الجزائر)، مرجع سابق، ص 297 - 298، في هذا المصدر بعض الإحصاء ات عن تناقص التلاميذ في الاتحاد الإسرائيلي بين 1900 و 1958.

وإنما الذي أدى إلى هجرتهم هو قبولهم بالتجنس الفرنسي سنة 1870 فعاملهم الجزائريون معاملة الفرنسيين (¬1). والمقصود (بالهجرة) هنا الهجرة إلى فرنسا وليس إلى فلسطين. ولكن الحركة الصهيونية أدت إلى هجرة الكثير من اليهود الجزائريين إلى فلسطين منذ 1848، وهذه الهجرة لم يتحدث عنها (قوانار) (¬2). فقد فرغت القرى والمدن الصغيرة من الجاليات اليهودية على إثر قيام دولة إسرائيل. ويعرف رجال الحركة الوطنية بعض أعيان الحركة الصهيونية في الجزائر، سواء الظاهرين منهم أو المتخفين تحت أسماء النوادي الماسونية وغيرها. وكانوا منزرعين في مختلف أنحاء البلاد. ومن أبرزهم في الثلاثينات، حسب بعض المعاصرين، الدكتور لوفراني والجنرال ويس. وكان الدكتور لوفراني بالذات ملازما لنادي الترقي في العاصمة حيث الفكر الإصلاحي والتيار العربي المعادي للصهيونية ولاستيطان اليهود في فلسطين. ومن أبرز المنشطين لهذا التيار كان الشيخ الطيب العقبي، مدرس النادي المذكور وخطيبه. وكان الشيخ العقبي معروفا بمواقفه المدافعة عن حق العرب والمسلمين في فلسطين ومن المتصلين الدائمين بالمشرق العربي وقضاياه. وقد نشطت الحركة العربية المعادية لدعوى اليهود والصهيونية في العودة إلى فلسطين منذ مؤتمر القدس 1931، وقامت المظاهرات والثورات في فلسطين وعلى رأسها: عز الدين القسام وعبد القادر الحسيني، وحدثت معركة القسطل وغيرها. ومن جهة أخرى حدثت في قسنطينة فتنة بين المسلمين واليهود في غشت 1934. وقد فسرها البعض تفسيرا قوميا ودينيا، أي بين قوميتين ودينين. وكانت أحداث فلسطين والنشاط الصهيوني يجد صداه في الصحف الإصلاحية والوطنية عامة. وقد عزا بعضهم اتهام العقبي بالتحريض على قتل الشيخ كحول بأنه من آثار هذه اللعبة السياسية، وأن ¬

_ (¬1) مع ذلك حاولت الثورة أن تفصلهم عن بقية الفرنسيين وأن تعاملهم معاملة خاصة على أساس أصولهم. انظر مقررات مؤتمر الصومام 1956. (¬2) قوانار (الجزائر)، مرجع سابق، ص 298.

العقبي كان ضحية، إذ الهدف هو إسكات صوته المضاد للصهيونية. والغريب أن الذي قام يدافع عنه بعد اعتقاله هو الدكتور لوفراني نفسه. وقد أخبرني المرحوم الشيخ المهدي البوعبدلي في إحدى رسائله أن نادي الترقي ظل (يسيره) الدكتور لوفراني (عدة سنوات). وهو الذي كان في ذلك العهد رئيسا لفرع الجزائر للحركة الصهيونية. أما المشرف العام على نشاط هذه الحركة في شمال إفريقية فهو الجنرال ويس الذي كان قائد الطيران أثناء حوادث 8 مايو 1945. وأضاف الشيخ البوعبدلي أن المرحوم الشاذلي المكي قد أكد له ذلك بمصر، وأن (مأساة) وقعت له هو (المكي) شخصيا بنادي الترقي مع لوفراني. ونحن نعتقد أن هذا الكلام فيه غموض ويحتاج إلى دقة: فما معنى أن (يسير) لوفراني نادي الترقي، وكانت للنادي لجنته ومسيروه المسلمون؟ وما (المأساة) التي تعرض لها الشاذلي المكي في النادي؟ وهل صحيح أن الجنرال ويس هو قائد الطيران الفرنسي سنة 1945؟ وقد أحالني الشيخ البوعبدلي على المرحوم الشيخ حمزة بوكوشة الذي قال عنه إنه (أكثر المعاصرين اطلاعا) على بعض الخبايا، ومنها قضية تسيير النادي (¬1). وقد أكد لي الشيخ البوعبدلي ذلك مرة أخرى في بطيوة بداره (زاوية العائلة) في 23 يونيو، 1988 إذ قال إن الشيخ العقبي كان (محاصرا) من الدكتور لوفراني اليهودي الذي كان ملازما لنادي الترقي، وكان رئيسا للحركة الصهيونية في الجزائر. ومن المحتمل القول إنه لو بقي اليهود على أهليتهم (أندجين) ولم يتجنسوا سنة 1870 لوجدت الحركة الصهيونية ربما صعوبة في التسرب إليهم. ذلك أن تمتعهم بكل حقوق المواطن الفرنسي قد منحهم حق الانتماء إلى مختلف الحركات وإصدار الصحف والتعبير الحر والتجمع. وقد شعر الجزائريون بحكم اتصالهم المبكر بالفرنسيين والرأي العام الأوروبي بالخطر الصهيوني، ولكن وسائلهم كانت محدودة، وكان قانون (الأندجينا) سيفا ¬

_ (¬1) من رسالة الشيخ البوعبدلي في 17 أكتوبر سنة 1985.

مسلولا على رؤوسهم، ووسائل الاتصال مع المشرق محدودة. ومع ذلك نبه بعض الجزائريين منذ 1914 إلى خطورة الحركة الصهيونية، على مستقبل العرب والمسلمين. فقد نشرت مجلة (المنار) التي كان يصدرها الشيخ رشيد رضا من مصر، خبرا خيرت فيه العرب والمسلمين بين الاتفاق مع الصهيونيين أو مقاومتهم بكل الوسائل، بما فيها حرب العصابات. وجعلت العنوان هو (المسألة الصهيونية). فعلقت جريدة (ذو الفقار) التي كان يصدرها عمر راسم، على ذلك بقولها إن على زعماء العرب والمسلمين مقاومة الصهيونية. ومن رأي عمر راسم أن (اتفاق زعماء العرب ... مع زعماء اليهود مستحيل، لأنه اعتراف بزعامة اليهود ورضا بمشاركة هؤلاء الأجانب في بلاد اشترتها آباؤهم (أي العرب والمسلمين) بدمائهم الطاهرة. فلا يحق لغير العرب ... أن يملك تلك الأرض ولا غير راية الإسلام أن تخفق عليها ما دام في عرق العرب دم وفي أجسام المسلمين روح). وتحدث مقال (ذو الفقار) عن انقسام الدولة العثمانية (وقد تسربت إليها الحركة الصهيونية، كما أصبح معروفاه الآن)، كما تحدث عن نشاط اليهود في فلسطين وعن دعم أوروبا لهم، وهو لا يقصد كل أوروبا بالطبع. وتنبأ عمر راسم بأن بقاء القيادة التركية التي باعت طرابلس (مثل جاويد وحقي وكاسو) سيوقع الدولة العثمانية نفسها لا محالة (في مخالب اليهود يوما ما) (¬1). ولم تكن صيحة عمر راسم هي الوحيدة الصادرة من الجزائر، ولكنها كانت هي الصيحة المبكرة والواضحة. وفي كتابات ابن باديس والإبراهيمي والمدني والعقبى وأضرابهم صيحات وإنذارات أخرى في أوقات لاحقة. ولكن ذلك كان لا يجدي أمام الدعم السياسي الإنكليزي والدعم المالي ¬

_ (¬1) العدد 4 من جريدة (ذو الفقار)، 28 يونيو 1914، عن قنان (نصوص)، ص 295. انظر أيضا ترجمتنا لبحث (الحركة الصهيونية وجماعة تركيا الفتاة) في كتابنا (في الجدل الثقافي)، ط. دار المعارف، تونس، 1993.

الماسونية

والإعلامي الأوروبي (¬1)، وأمام الضعف والانقسام العربي والتخلف العلمي وقلة الوعي بالمستقبل عند المسلمين. وماذا يجدي تسجيل المواقف والكتابات والآراء والحال في هذه السنة (1994) يكاد يكون هو الحال سنة 1914 عند العرب وعند المسلمين على السواء. وقد وقعوا جميعا (في مخالف اليهود) كما تنبأ عمر راسم؟. الماسونية قد يبدو غريبا عليك أن تعرف أن بعض الجزائريين دخلوا الماسونية قبل الاحتلال الفرنسي وأن البعض قد ادعى أن هناك (ماسونية عربية) في الجزائر قبل الاحتلال أيضا. ولكن دعنا قبل كل شيء نتحدث عن مبادئ الماسونية، وعن محفل الشرق الفرنسي الذي كان له دور في نشر الماسونية في الجزائر. والواقع أن الماسونية كانت لها محافلها في عواصم أوروبا، مثل لندن ودبلن وروما وباريس. وكانت محافلها (ورشاتها) سرية. وبالنسبة لفرنسا فقد قيل إن نابليون الأول لم يلغ الورشات أو يحل المحافل الماسونية، ولكنه جعل عليها رقابة مشددة. وكان يهدف إلى الاستفادة منها في مشاريعه في التوسع والهيمنة ومراقبة نشاط الكنيسة الكاثوليكية. ومن أعظم المحافل الأوروبية (محفل الشرق) الذي نشط في مصر والجزائر. وكان شعاره هو شعار الثورة الفرنسية. وهو الحرية والأخوة والمساواة، مع تمجيد المسيحية والتقدم والتسامح. وقد نص البند الأول من قانونه الأساسي على أن الماسونية مؤسسة خيرية وفلسفية وتقدمية، تقوم على وجود الله وخلود الروح، وتعمل على ممارسة العمل الخيري ودراسة الأخلاق والعلوم ¬

_ (¬1) سيما بعد صدور التصريح الفرنسي (كامبون وبيشون)، والتصريح الإنكليزي (وعد بلفور) بدعم مطالب الحركة الصهيونية، ومنها إقامة وطن قومي لليهود. انظر مقالنا التصريحات الفرنسية المؤيدة للصهاينة سنة 1917. أرسلناه للنشر.

والفنون، وممارسة الفضائل. وجاء في بند آخر أن على الأعضاء الالتزام بالأخلاق الكريمة والعقلنة من أجل السعادة البشرية. ونص أحد البنود أيضا على أن الوصول إلى ذلك يستلزم احترام الضمير الفردي وتوظيف الدعاية السلمية من أجل إضاءة الروح والانسجام القلبي. ويدعى أحد البنود أيضا أن الماسونية لا تحاسب العضو فيها على قناعته حول الأديان بل إنها تمنع في اجتماعاتها النقاش في المسائل الدينية منعا باتا. وسنرى أن هذا الموقف غير صحيح دائما. كما يدعي أن الماسونية لا تسمح بمناقشة المسائل السياسية في اجتماعاتها، ولا تتدخل مباشرة في تطبيق النظريات السياسية وأشكال الحكومات المختلفة وتأثيرها على الأوضاع القائمة. والماسونية تطلب، حسب بعض بنودها، من المنتمين إليها احترام القوانين السائدة في البلدان التي يقطنونها. كما تلزم الماسونية أيضا أعضاءها بالعمل، كل حسب طاقته، لأنها تعتبر العمل من واجبات القوانين الإنسانية. والمطلوب من كل عضو ماسوني أن يقدم لغيره المساعدة في مختلف المناسبات. هذه مبادئ وتعاليم عامة للماسونية، وهي تبدو إنسانية، ومن ثمة فهي لا تختلف كثيرا في المعاملات عن تعاليم الأديان. وتبدو الماسونية في هذا الشكل مغرية للفئات المؤمنة بالحرية والأخلاق والإنسانية وحرية الضمير الفردي والتسامي في الفضائل والعمل من أجل السعادة العظمى في هذه الدار. ورأينا أن الماسونية تقطع كل عرق للخلافات المفرقة بين الأعضاء كالنقاش الديني والسياسي. وهذا أيضا وجه آخر من أوجه الانسجام والأخوة. غير أن الماسونية النظرية غير الماسونية العملية. ذلك أنها من الناحية العملية كانت لا تختلف عن بعض النظريات والمذاهب الأخرى كالرومانتيكية والمثالية (السانسيمونية) والحركة الإنسية وحتى الليبرالية. فقد كان أعضاؤها يؤمنون بالاستعمار ويزكونه وينتصرون إليه، وما رأيك في أن المارشال بوجو كان عضوا شرفيا في الماسونية. وأن الاستعماري الكبير البارون دي فيالار كان عضوا بارزا فيها. وهناك الكثير من الأعضاء كانوا في الإدارة الاستعمارية والبلديات والتجارة والجيش، بل إن معظم المؤسسين لفرع الجزائر

الماسوني، كما سنرى، كانوا من الضباط البارزين في الجيش الفرنسي، ثم تغلب الأعضاء البرجوازيون في المحفل على عدد العسكريين. ومن جهة أخرى كانت الماسونية نسخة وفية من بعض الأديان ومن المسيحية وتعاليمها الفاضلة، كما قيل. وقد خاطب عضو بارز في (محفل بيليزير) الذي سنتحدث عنه، زملاءه قائلا: (إن الماسونية ليست سوى التطبيق الفعلي لتعاليم المسيح (عليه السلام) الفاضلة: (إن كلكم أخوة والله هو خالقكم). وقد علق السيد ياكونو بأن الماسونية كانت تريد أن تكون مدرسة للأخلاق في الأساس، ولكنها أخلاق دينية، وبالضبط هي الأخلاق المسيحية (¬1). ويبدو لنا أن الماسونية، وإن كانت في ظاهرها مسيحية فإنها مؤسسة على تعاليم أخرى ومنها اليهودية، ولكنها كانت مغلفة في المسيحية لأنها كانت هي الدين المقبول في أوروبا عندئذ. ومنذ توطنت الماسونية في الجزائر عملت، كغيرها من المؤسسات الاستعمارية، على محو الحضارة العربية الإسلامية وتذويب القيم الشعبية في الحضارة الأوروبية (الفرنسية)، وأقامت دعوتها، كغيرها أيضا من التيارات الواردة، على أن الجزائريين كانوا برابرة متوحشين، وأن أمامها هي مسؤولية عظيمة، وهي دمج المنهزمين (الجزائريين) في المنتصرين. وقد اعتبر الماسونيون أن الحملة الفرنسية نفسها بركة وسعادة، وأنها قد نزلت على الأرض البربرية باسم الحضارة والتقدم والتسامح (¬2). ¬

_ (¬1) ياكونو (بدايات الماسونية في الجزائر) بحث موثق ومصور منشور في المجلة الإفريقية، 1959، ص 289 - 291، 293. انظر أيضا نفسه (الجزائر منذ 1830) في المجلة الإفريقية، 1956، ص 179، وهامش 129. ورغم هذه البداية (الدينية) فإن النصوص الصادرة عن محافل الجزائر تدل على أن الماسونية كانت (دينا) بذاتها، وأنها كانت تعادي الأديان عموما وتعتبرها سببا في التطاحن والعداءات والحروب. انظر يوسف مناصرية (بعض محافل الشرق الجزائري) في (مجلة الدراسات التاريخية) عدد 6، 1882، ص 161 - 165. (¬2) ياكونو (بدايات الماسونية) مرجع سابق، ص 63.

وهناك من ادعى أن أول اجتماع ماسوني عقد في الجزائر كان في سيدي فرج سنة 1830، وأن الذين حضروه من الجيش كانوا أعضاء في الحركة الماسونية. ومنهم الجراح الرسمي للجيش والمتصرف (دينييه) الذي قيل إنه دخل الماسونية سنة 1810. لكن السيد ياكونو يشك في عقد هذا الاجتماع الماسوني المبكر لأن الوثائق المعاصرة مثل جريدة (الاسطافيت) التي كانت الجريدة الأولى التي طبعت في سيدي فرج، لم تذكر شيئا عنه. وأول نشاط ماسوني لا غبار عليه كان في دالي إبراهيم (ضاحية بالعصمة)، وقد قام به محفل سيرنوس الكورسيكي سنة 1831 - 1832، وهو محفل قديم كان الكورسيكيون قد أسسوه في جزيتهم في العشرينات من القرن الماضي. وكان مؤسسو محفل الجزائر الفرعي من العسكريين الكورسيكيين، وقد وسعوا نشاطهم ليشمل غير دالي إبراهيم أيضا. ثم غادرت فرقتهم العسكرية الجزائر سنة 1836 ولكن آثارها الماسونية بقيت بعدها. أما المحفل الذي دام مدة طويلة وكان (جزائري) المنشأ فهو محفل بيليزير، وهو الفرع الرئيسي لمحفل الشرق الفرنسي، ففي 16 فبراير 1832 اجتمع أربعة عشر من الأعضاء الماسونيين في الجزائر وكانوا ينتمون إلى مختلف المحافل الفرنسية، اجتمعوا لإنشاء ورشة ماسونية، وانتخبوا (أخاهم) دانليون ليكون الرئيس الشرفي المحترم مدى الحياة (حسب تقاليدهم) وكان دانليون رجلا عسكريا برتبة جنرال. واختاروا أيضا اسما للورشة أو المحفل الجديد، وهو (بيليزير) ذلك الجنرال البيزنطي الذي نسبوا إليه كل الفضائل، كما قال ياكونو، وهو ما أثار استغراب البعض. أما الرجل الذي رأس المحفل عمليا، فهو (شيفرو chevrau)، وكان جراحا في الجيش. وعندما توفي دفنوه في ضاحية بئر مراد رايس. بدأ هذا المحفل (بيليزير) إذن بالعسكريين، لكن كان فيه بعض التجار أيضا. وطلبوا الترخيص من محفل الشرق بإنشاء الفرع والقيام بالنشاط، فأذن

لهم وبارك عملهم، وعقدوا من أجل ذلك اجتماعا عاما في 22 مايو 1833 في العاصمة، حضره أكثر من 46 عضوا منهم عشرون عسكريا والباقون ينتمون إلى التجارة والمهن الحرة والوظائف. وكان نائب الرئيس هو الطبيب جيراردان. وليس من بين أعضائه جزائريون، بمن فيهم اليهود. وسرعان ما توسع نشاط محفل بيليزير، فبعد سنة واحدة وصل عدد أعضائه إلى 73 عضوا وكان فيهم من هو خارج العاصمة وضواحيها كوهران. ولكن شيفرو مات سنة 1834 فانتخبوا خليفته المسمى جاك ديسكو (أو ديكو) الذي دام في رئاسة المحفل إلى 1870 حين مات (¬1). قام هذا المحفل بنشاط في صالح الاستعمار، رغم المبادئ والتعاليم المذكورة في بنود قانونه. فقد عمل على جزأرة نفسه باعتباره محفلا يعيش على الأرض الجزائرية، وكان وضعه يذكرنا بفرع الحزب الشيوعي الفرنسي في الجزائر خلال العشرينات والثلاثينات من حيث التبعية لغيره. وقد اعتبر المحفل الجنود الفرنسيين الذين سقطوا أمام أسوار قسنطينة في الحملتين (1836، 1837) جنودا سقطوا من أجل الشرف ومن أجل سعادة فرنسا. واستمع الأعضاء إلى دعوة زميلهم (أخيهم، حسب مصطلحاتهم) للاعتراف بجميل أولئك الجنود (الشجعان). وعند تأسيس المستعمرات الفلاحية أبدى المحفل ارتياحه وتأييده معتبرا ذلك عملا خيريا من حكومة الجمهورية الثانية (كان ذلك سنة 1848 - 1849) لصالح الجزائر (الفرنسية). وفي نظر الماسونيين ليس هناك تناقض بين الدفاع عن الاستعمار والدفاع عن الأهالي. فقد كانوا ينظرون إلى الجزائريين، كما أشرنا، على أنهم (برابرة) لم يذوقوا في حياتهم طعم الحرية ولم يمارسوا الانفتاح على الفلسفة، بل كانوا يعيشون في حالة جهل وعبودية. وقد أخبرهم شيفرو قبل وفاته أن الأرض الجزائرية بقيت في نظره خلال مدة طويلة في ظلام كثيف، (وهو رأي رجال الكنيسة أيضا) ولكنها تحتوي على عناصر ثمينة قابلة للتلقيح، وقد (جئتم أنتم ¬

_ (¬1) ياكونو (بدايات الماسونية) مرجع سابق، ص 84 - 85، 87.

لإخصابها)! وقد طلب منهم العمل من أجل توجيه الأهالي نحو محفل الشرق الماسوني حتى يقع تمدينهم، لأن مهمة المحفل هي جلب سكان الجزائر (البرابرة) والمتعصبين إلى الحضارة وإدماجهم فيها. وكذلك دعا أحدهم، وهو لوازي Lowazy منذ 1833، إلى العمل على دمج المنتصرين والمنهزمين (¬1) (الفرنسيين والجزائريين) في بوتقة واحدة. فكيف، مع هذا الأسلوب في المعاملة، سيدخل الجزائريون في المحفل الماسوني؟ يقول ياكونو إن الماسونيين لاحظوا أن العرب كانوا يبتعدون عنهم، كما لاحظوا أنهم كانوا يخشون بعضهم بعضا. ويبدو أن الماسونيين لم يفهموا نفسية الجزائريين، بمن فيهم المثقفون والتجار الذين حاربهم الفرنسيون بلا هوادة. إن هؤلاء هم الذين وقفوا في وجه الغزو الحضاري الذي يبشر به الماسونيون علنا، والذي يسمونه اندماجا وقضاء على حضارة المنهزمين. ولكي يسهل الماسونيون على الجزائريين الدخول في محفل (بيليزير) اقترح أحدهم (سنة 1839) أن يتاح للعرب الدخول في المحفل إذا وجد منهم من يعرف إلى جانب العربية والبربرية لغة أوروبية واحدة، وهي الفرنسية، أو الإنكليزية، أو الألمانية أو الإسبانية أو الإيطالية، وكانت له، مع ذلك، مؤهلات أخلاقية، وطلب صاحب هذا الاقتراح إعفاء العرب من الالتزامات الأخرى كدفع الاشتراك أثناء المراحل الأولى من دخول المحفل، على أن يصبحوا مثل بقية الأعضاء في وقت لاحق. لكن اقتراحه لم يتحقق، لأن الحرب اندلعت من جديد بين الجزائريين والفرنسيين (نوفمبر 1839)، وتبخرت الأوهام. وقد لاحظ ياكونو أن الماسونيين كانوا يتوجهون إلى الخاصة من الجزائريين وليس إلى العامة. وفي سنة 1846 تقدم عضو آخر، وهو العقيد طاردو Tardo، بمشروع جديد لتسهيل إدخال الجزائريين في الماسونية. ويقوم اقتراحه على أن لا يطلب من المترشح الأهلي للعضوية سوى معرفة اللغتين العربية والفرنسية. ¬

_ (¬1) ياكونو (بداية الماسونية)، مرجع سابق، ص 296 - 297.

فإذا أصبح عددهم كبيرا يكونون محفلأ خاصا بهم ولكن تحت إشراف محفل بيليزير. لكن وفاة هذا العقيد دفنت الاقتراح معه (¬1). وها نحن في أوائل الاحتلال مع الماسونية كما نحن بين الحربين مع الشيوعية تقريبا بالنسبة لوضع الجزائريين (¬2). ولم تتحدث المصادر عن وجود جزائريين في محفل بيليزير سوى سنة 1848 أي في عهد الجمهورية الثانية، وبعد هزيمة الأمير عبد القادر. ففي جلسة 22 نوفمبر من هذه السنة حضر خمسة من الزوار وفيهم جزائري واحد من بجاية (لم يذكروا اسمه). وبين 1848 - 1850، استقبلت محافل فرنسا الماسونية عددا من الأعضاء المسلمين غير الجزائريين، وقد اعتبر ذلك فشلا لمحفل بيليزير (¬3)، لأن ما سمي (بالماسونية الإفريقية) لم تحقق هدفها، وربما بقي الحال كذلك حتى خلال القرن العشرين. ولعل ارتباط الماسونية بالاستعمار ومناهضة الحضارة الإسلامية له هو السبب في هذا الفشل. وهناك من ادعى أن جزائريين قد دخلوا الماسونية قبل الاحتلال الفرنسي. وهم يشيرون إلى تجار (زاروا) بعض محافل فرنسا سنة 1785، 1786، كما وقع في محفل الشرق بمدية نانت. وقد قيل إن المدعو محمد ¬

_ (¬1) انظر مشروع طاردو في ياكونو (بدايات الماسونية)، مرجع سابق، ص 299 - 300. (¬2) لم تكن فرنسا هي وحدها مصدر التحرك الماسوني، فقد كانت الماسونية نشيطة أيضا في إيطاليا وانكلترا. وفي سنة 1841 تأسس في تونس (محفل أطفال قرطاجنة)، ثم تتابع تكوين المحافل الماسونية بتونس، وكلها كانت إيطالية المصدر. وفي سنة 1877 تأسس محفل آخر في تونس باسم قرطاجنة القديمة كان تابعا للمحفل الانكليزي عن طريق فرعه المالطي. وبعد احتلال تونس أسس الفرنسيون (سنة 1885) محفل قرطاجنة الجديدة. وهكذا ترى أن المحافل الماسونية كانت تابعة للدول الاستعمارية والنشاط التنصيري. انظر مناصرية، مرجع سابق. (¬3) ذكر أن من بين المسلمين الذين قبلوا في محافل فرنسا عضوا من مسقط وآخر من جزيرة زنجبار (إباضيون؟).

شلبي الجزائري قد قبل في ذلك المحفل وأن توقيعه موجود على المحضر، ولكنهم لم يسمحوا له بالدخول معهم لاختلاف الدين (¬1). وفي 1787 ذكروا أن المدعو إبراهيم قلنقو التركي والمدعو إبراهيم بكير الجزائري قد قبلا أيضا في محفل الشرق بفرنسا. وقيل إنهم قد جمعوا لهما النقود للعيش في فرنسا والعودة إلى بلادهما، وكانت لديهما أيضا شهادات الانتماء إلى محفل لندن ودبلن. وقد جاء ياكونو بصور لتوقيعات هذين الرجلين اللذين لا نعرف لهما هوية واللذين قيل فيهما أثناء جمع التبرعات لهما: لعل وقتا سيأتي فيه الماسونيون الفرنسيون إلى الجزائر فيجدون المقابل منهما هناك. ويوحي كلام ياكونو أن هناك تخطيطا مسبقا لدخول الماسونية الجزائر حتى قبل الاحتلال بنصف قرن، وذلك عن طريق التبرعات المالية لأعضاء كانوا يمارسون التجارة وفي نفس الوقت كان يعوزهم المال اللازم للإقامة والسفر. فهل هناك قدرية لازمة (جدلية) بين المال (الديون) والاستعمار؟ ويقترح ياكونو أن هناك جزائريين آخرين قد يكونون انضموا أيضا إلى محافل إيطاليا ولندن ولكن بأعداد ضئيلة، كما هو الحال في فرنسا أيضا، ثم إن القائمة منحصرة في بعض التجار. ولا شك أن أعيانا من يهود الجزائر قد دخلوا (الماسونية الإفريقية) في إيطاليا ولندن، وعلى رأسهم ابن دوران، ولا ندري، ما إذا كان ذلك قبل سنة 1830 أو بعدها. ومهما كان الأمر فإن الدلائل تدل على أن عدد الذين دخلوا الماسونية قبل الاحتلال كان قليلا جدا. (¬2). ورغم ما لاحظناه عن مسألة الانتماء إلى الماسونية قبل الاحتلال، فإن مجلة (الماسونية الإفريقية) التي ظهرت سنة 1849 قد ذكرت أن الماسونية قد انتشرت في الجزائر قبل ذلك، معتبرة بعض الطرق الصوفية (تسميها الجمعيات السرية) شكلا من أشكال الماسونية، وأن (الإخوان) في هذه الطرق هم أعضاء في (الماسونية العربية). واستدلوا على ذلك بأن الماسونية ¬

_ (¬1) وإذا صح هذا فإنه لا يصح أن يقال إن الماسونية فوق أو تحت الأديان، أو أن لها دينا خاصا بها. وربما يقال إن سبب منعه من الحضور هو المحافظة على أسرار التنظيم. (¬2) ياكونو، مرجع سابق، ص 58 وهنا وهناك.

هي دين كل العصور وكل البلدان. وفي عدد لاحق من المجلة نفسها ذكروا أن بعض عبارات الماسونية العربية (الطرق الصوفية) تتفق مع مصطلحات الماسونية الأوروبية أيضا. والغريب أن الكاتب وجد التشابه اللفظي بين كلمة (الورد) عند الصوفية وكلمة (أوردر) الفرنسية والإنكليزية، وقال إنهما تستعملان في نفس المعنى، وهو ما يتلقاه المريد في الجمعيات السرية (الصوفية) وفي الماسونية، وكذلك كلمة (إخوان) في الصوفية وكلمة (كوان Cowan) في الإنكليزية التي قيل إنها تعني كلمة (الأخ) التي تعطي للعضو الأجنبي في الماسونية، وربما كان ياكونو صادقا، عندما اعتبر ذلك التمحل من الخيالات التي يرفضها التاريخ (¬1). ويبدو أن الماسونيين بعد أن رأوا فشلهم في جلب الجزائريين رجعوا إلى اعتبار الطرق الصوفية ماسونية عربية ودليلا على انتشار الماسونية واعتبارها دين كل العصور وكل البلدان، في زعمهم. ومهما كان الأمر، فقد عاش محفل بيليزو العهد الاستعماري وفي ظل الإدارة الفرنسية، مؤيدا لها ومباركا أعمالها، وداعيا للاندماج بين الفرنسيين والجزائريين والقضاء على الروح العربية والإسلامية. وأصبح المحفل في أغلبه من البرجوازية، وكان أعضاؤه من سكان المدن طبعا. وقد دخله بعض اليهود الجزائريين أمثال طاما ايلي، واليزار، وكلاهما كان في الهيئة الدينية الإسرائيلية (كونسيستوار)، كما دخل المحفل بعض رجال الدين الفرنسيين مثل الأسقف دوبوش، رغم أن المحفل الماسوني على العموم مضاد للكنيسة في نظر البعض. وقد سيطر بعض رجال الماسونية على النواحي الاقتصادية والمالية واستغلال الأرض (الاستعمار) في الجزائر مثل دي فيالار، كما كان من بينهم السياسيون والكتاب والشعراء. ولكن دراسة ياكونو التي تنتهي سنة 1850، لا تحدثنا عن دخول مسلمين جزائريين في محفل بيليزير، ولا في المحفل المنشق عنه والمسمى (التجديد الإفريقي) الذي أنشئ حوالي سنة ¬

_ (¬1) ياكونو (بدايات الماسونية)، ص 57. إن استعمال عبارة (الجمعيات السرية) في وصف الطرق الصوفية شاع في الكتابات الفرنسية عن هذه الطرق حتى عند غير الماسونيين الظاهرين.

1841. وكان سبب الانشقاق هو الخلاف بين الأعضاء في المسائل الدينية واستعمال الغموض والسرية واللجوء إلى الخطب المرتجلة. لكن هذا المحفل المنشق لم يعمر سوى حوالي عشر سنوات (¬1). والواقع أن ما يهمنا من الماسونية هو انتشارها في الجزائر ودخول بعض الجزائريين فيها. كما يهمنا نشاطها وتأثيراتها على الحياة السياسية والفكرية. يقول أحد الكتاب الفرنسيين إن كل الحكام العامين الذين تداولوا على حكم الجزائر باسم فرنسا كانوا ماسونيين عدا واحدا هو المارشال ماكماهون. وقد لاحظنا أن بداية الماسونية كانت في قادة الحملة الفرنسية أنفسهم. فقائد الأسطول الأميرال دينييه كان ماسونيا. ولا ندري ميول دي بورمون الآن. أما الضباط الذين أرسوا قواعد الإدارة والسلطة الفرنسية في الجزائر فقد كانوا بدورهم ماسونيين صراحة، ومنهم بيليسييه دي رينو الذي ترأس مكتب الشؤون العربية في الجزائر وكتب تاريخ الحملة والإدارة الفرنسية الأولى في كتابه المعروف باسم (الحوليات الجزائرية). وكان دارماندي ماسونيا أيضا، وهو الذي كان يعرف الشرق ويحذق الفارسية وكان قنصلا لبلاده في جدة، ثم كان من أوائل الضباط الذين احتلوا عنابة 1832. وعلى رأس الضباط الأولين الذين آمنوا بالماسونية الجنرال دي ميشيل الذي حكم وهران في أول الاحتلال والذي اتربط اسمه بـ (معاهدة دي ميشيل) التي وقعها مع الأمير عبد القادر سنة 1834. ثم المارشال بوجو الذي وقع مع الأمير معاهدة التافنة سنة 1837، وتولى حكم الجزائر وأعلن الحرب الشاملة ضد المقاومة إلى استقالته في أوائل صيف 1847، قبل هزيمة الأمير ببضعة شهور فقط، فقد كان أيضا ماسونيا. وهناك ضباط وشخصيات إدارية وسياسية أخرى ارتبط اسمها بالماسونية. ومن هؤلاء اللقيط يوسف الذي أصبح جنرالا في الجيش الفرنسي. وكان قد هرب من تونس وادعى للفرنسيين أنه ابن غير شرعي ¬

_ (¬1) نفس المصدر، ص 273 هامش 83، وكذلك ص 306.

لنابليون الأول. ودوره في الحرب المبيدة ضد المقاومة مبسوط في غير هذا المكان (¬1). ومنهم عبد الله دزبون المملوكي الذي أرسلته فرنسا في مهمات إلى ناحية معسكر. وكان الجاسوس ليون روش ماسونيا، أيضا، وقد بدأ حياته في خدمة الجيش الفرنسي وأرسلته المخابرات العسكرية لكي يتجسس على الأمير عدة سنوات، فادعى أنه اعتنق الإسلام وغير اسمه إلى (عمر) وتزوج من مسلمة وألف كتابا، سجل فيه مغامراته في القيروان ومصر والحجاز للحصول على فتوى من علماء المسلمين ضد حركة الجهاد في الجزائر. كما تولى الشؤون القنصلية لبلاده في عدة بلدان مجاورة كالمغرب وتونس، بل وفي اليابان. وانتشرت الماسونية بين أعيان الكولون أيضا. فكان نوابهم مثل تومسون، وايتيان، وتريل، وكذلك فيورموز الذي برز أثناء أحداث 1870 - 1871 في الجزائر، وربما الدكتور وارنييه، كلهم كانوا من رجال الماسونية. وكان شارل ليتو الذي تولى حكومة الجزائر بين 1913 - 1918 من أبرز أعضائها. وقد عمل جهده على إزالة الإسلام واللغة العربية من الجزائر. وهو أصلا من الكولون، مثل خلفه بعد سنوات بيير بورد. ولا نستبعد أن يكون شارل جونار من أعيانها أيضا. ومن أبرز الصحفيين الفرنسيين دعاة الماسونية والمعارضين للإسلام نذكر أندري سيرفييه محرر جريدة (لاديباش القسنطينية)، فقد كان على رأس محفل في قسنطينة يسمى (سيرتا)، وهو محفل ماسوني كان يعمل على تجنيد (المتطوعين) الجزائريين للمحفل والدخول في الماسونية، وهو الذي أطلق اسم (الشبان الأتراك) على الاندماجيين الجزائريين (النخبة)، كما ألف كتابا هاجم فيه الإسلام بشدة تحت عنوان (خطر المستقبل ...) (¬2) ولا ندري من الذين جندهم سيرفييه ¬

_ (¬1) انظر الحركة الوطنية، ج 1. (¬2) صدر في قسنطينة، سنة 1914. وعنوانه الكامل (خطر المستقبل: القومية الإسلامية في مصر وتونس والجزائر). وعن محفل (سيرتا) ومحافل الشرق الجزائري، انظر دراسة مناصرية، مرجع سابق، عن دعوة سيرفيه لتقسيم الجزائريين، انظر سابقا.

لمحفله، ولكننا لا نستبعد أن يكون من بينهم بعض المتجنسين وحتى بعض رجال الدين. من الناحية التاريخية يذكر الكتاب الفرنسيون عهدين طويلين لانتشار الحركة الماسونية في الجزائر ونشاطها السري والعلني وموقفها من الإسلام والمسلمين. العهد الأول من 1830 إلى 1870، والثاني منذ 1871. وخلال العهد الأول (وهو يشمل بالنسبة للفرنسيين ثلاثة أنظمة: ملكية وجمهورية وامبراطورية) فإن زعماء الماسونية اكتفوا بتعميق عقائدهم ومبادئهم في جمعيات سرية كانت متناسبة مع قناعاتهم الذاتية، وهي تقوم على أن الماسونية هي (دين الأديان) في نظرهم، فلا دن يعلو عليها (¬1). وقد تعرضنا إلى ذلك. أما خلال العهد الثاني (منذ 1871) أو عهد الجمهورية الثالثة الذي دشن اللائكية (العلمانية) في التعليم وشهد فصل الدين عن الدولة في الحكم وجاء بقانون الأندجينا للجزائريين، فإن زعمان وأعضاء الماسونية قد استعملوها لأهداف أخرى كالصهيونية، ومعاداة العرب والمسلمين، ولكنها أصبحت على العموم حركة معادية للدين مهما كان، رغم أن زعماءها وأعضاءها احتفظوا بمثاليتهم الفلسفية والمسيحية والإنسانية في دعواهم. ففي مؤتمر تيزي وزو سنة 1903 أعلن الماسونيون ضرورة فصل الأطفال عن تعليم القرآن وإبعادهم عن الزوايا والتربية الدينية (الإسلامية). ومن الملاحظ أن يهود الجزائر قد دخلوا الماسونية في أعداد كبيرة بعد تجنسهم سنة 1870. وكان الماسونيون يعقدون المؤتمرات العلنية والسرية. فبين 1905 و 1938 عقدوا حوالي اثني عشر مؤتمرا بعضها كان خاصا بناحية في الجزائر وبعضها كان يشمل المغرب العربي (شمال إفريقية) بل إن بعضها كان يشمل المستعمرات الفرنسية. وكانت بعض المؤتمرات تتناول قضايا ¬

_ (¬1) آجرون (حركة الشبان الجزائريين) في (ميلانج جوليان) المسمى دراسات مغربية، ص 240. وسنتحدت عن ابن رحال فى الفقرة اللاحقة.

معينة مثل الاشتراكية وحقوق الإنسان ومسألة الأديان ومعاداة السامية واللائكية وحقوق المرأة. وكان بعضها متعلقا بقضايا اليهود، مثل حادثة دريفوس (فرنسا)، وحادثة غشت 1934 (قسنطينة) وقرار كريميو، الخ. مما يدل على العلاقة الوطيدة بين الماسونية والصهيونية. وكانت محافل الشرق الجزائري تعقد اجتماعات سرية، ربما لنشاط اليهود فيها، وقد قامت حكومة فيشي بحل الجمعيات السرية، ومنها الماسونية، في غشت 1940. وطلبت من كل عضو يعمل في الإدارة أن يعلن عن انتمائه. وكانت العقوبات تتضمن السجن والغرامة المالية والفصل. وكانت حكومة فيشي قد ألغت أيضا قرار كريميو بضغط من ألمانيا. ولكن الحلفاء ولجنة فرنسا الحرة أعادت هذا القرار، بضغط من أمريكا ويهودها، كما أعادت الشرعية للجمعيات السرية ومنها الماسونية، بعد الحرب. وكان لكل محفل رمزه. والرموز هي نجمة داود، والخنجر، والسيف، وهيكل سليمان، والمثلث المتساوي الأضلاع، والسنبلة، والنجمة الخماسية، والعين، والهلال، واليدان المتصافحتان، والشمس المشرقة على رأس الإنسان، وراحة اليد، وغيرها من الرموز، مثل حرف v المنصوب والمقلوب. كما أن أسماء المحافل ترجع إلى آثار أو معالم قديمة وشخصيات، مثل سيرتا وقرطاجنة وهيبون ونوميديا والأوراس والساحل، وكذلك بيليزير وجان جوريس وأطفال مارس (¬1). وكان لمحفل (بيليزير) نفوذ ونشاط علني في العاصمة. وله أتباع من الفرنسيين وحتى من بعض الجزائريين المتجنسين مثل الطبيب بلقاسم بن التهامي، والمحامي عمر بوضربة. ولا ندري إن كان محمد صوالح وتامزالي من أعضائه أيضا، ويقول آجرون عنهما إنهما كانا غير مرتبطين بالدين الإسلامي بصراحة. ويقول عن ابن التهامي وبوضربة إنهما لائكيان جدا (¬2). ¬

_ (¬1) مناصرية، مرجع سابق، ص 159. (¬2) إذا كان الأمر كذلك، فقد كان هناك عدد من الجزائريين يمكن وصفهم باللائكيين جدا.

وقد عرفنا أن محفل بيليزير قديم النشأة. أما في قسنطينة فالمحفل الرئيسي اختاروا له اسم (سان فانسان دي بول)، وهو اسم يحمل دلالة خاصة عند الفرنسيين وعند رجال الدين. ونلاحظ أنه بالرغم من القول إن الماسونية أصبحت معادية للدين فإن اتخاذها اسم هذا (القديس المشبوه) يدل على الخلط في المبادئ والأهداف. وقد ذكرنا أن هناك محفلا آخر باسم (سيرتا) كان سيرفييه من أعضائه. وتذكر المصادر أن معظم الجزائريين الذين دخلوا الماسونية كانوا من المنطقة الشرقية، ولا سيما مدينة عنابة، وبلغ عددهم الإجمالي 37 فردا. ولا ندري الآن منهم أحدا، ولكن في الإمكان التكهن ببعضهم إذا طبقنا الآية الكريمة التي تقول {سيماهم في وجوههم} وفي تصريحاتهم وكتاباتهم. ولكننا لن نرجم أحدا بالغيب. وفي الغرب الجزائري كان محفل (الاتحاد الإفريقي) الذي كان مقره مدينة وهران. ولا شك أن هناك محافل أخرى قد ظهرت هناك. وليس لدينا فكرة عن عدد الذين دخلوا في الماسونية من الجزائريين في الناحية الغربية. وقد كان فرع تلمسان نشيطا، وفيها عائلات حضرية ودينية وتعليمية لا نستبعد أن بعضها قد دخل الماسونية عن وعي أو عن غير وعي. وكانت مدرسة تلمسان الشرعية - الرسمية إحدى البؤر للحركة الماسونية، ولا سيما في عهد ألفريد بيل. كانت سياسة زعماء الماسونية في الجزائر هي تبني الاندماج، كما ذكرنا، وذلك هو دورهم في التأثير على الإدارة العليا. فقد كان لهم نفوذ قوي في مجلس الحكومة والبرلمان والصحافة. وكانت تأثيراتهم تذهب في هذا الاتجاه، وهو إزالة الإسلام (Deislamisation) من الجزائر، وقد برزوا بالخصوص أثناء حكم شارل ليتو (¬1). وكان (الشبان الجزائريون) يسيرون في هذا الخط أيضا، ولذلك سميناهم بالاندماجيين. ويقول آجرون إن (عميد) ¬

_ (¬1) انظر بيير قوانار (الجزائر) باريس، 1984، ص 309 - 310.

الشبان الجزائريين هو محمد بن رحال (¬1)، ولكن اندماجية ابن رحال كانت تختلف عن الاندماجية التي دعا إليها أمثال محمد صوالح وإسماعيل حامد وأحمد بن بريهمات وتامزالي وابن التهامي، بل كانت تشبه الدعوة إلى (المساواة) التي دعا إليها الأمير خالد فيما بعد. وكان منهم في نظر آجرون، عباس بن حمانة الذي وصفه بالبرجوازي الليبرالي المؤيد للتجنيد الإجباري. ولكن عباس بن حمانة كان قد أسس مدرسة قرآنية عصرية سنة 1913 لتدريس اللغة العربية والعلوم الإسلامية، ومن ثمة فقد كان ضد الاندماج بمفهوم (الشبان الجزائريين) وكان في ذلك يلتقي مع محمد بن رحال في بعض النواحي (¬2). وربما ستكشف الوثائق عن تقديرات خاطئة لدور رواد الاندماج الجزائريين. والمعروف أن الأمير عبد القادر قد ارتبط اسمه في بعض الكتابات باسم الحركة الماسونية، وكذلك اسم الشيخ طاهر الجزائري. ولكن بعضهم ينفي انتماء الأمير إلى الماسونية. وقد دار جدل في الموضوع بين ياكونو ومحفوظ قداش ومحمد الشريف ساحلي حول ذلك. ويبدو أن الجدل سيستمر لأن الوثائق القاطعة غير متوفرة. وهناك فقط تخمينات واستنتاجات. فالماسونية كانت متوارية، وكانت تقدم نفسها على أنها (دين الأديان) وأنها دين الحرية والتسامح، وأنها تدعو إلى الأخوة الإنسانية. وقد انجذب إليها عدد من أعيان المفكرين في الغرب والشرق. وكانت تصطاد هؤلاء الأعيان وأصحاب النفوذ والأذكياء في كل جيل وتمنحهم (بركتها) كما تفعل بض الطرق الصوفية عندنا. والماسونية تنظيم أو جمعية سرية لها طقوسها ومراحل للتدرج فيها، وليست زاوية خيرية مفتوحة للغرباء والسابلة. وقد انخدع بشعاراتها البراقة ¬

_ (¬1) آجرون (حركة الشبان الجزائريين) في (ميلانج جوليان) ص 240. وسنتحدث عن ابن رحال في الفقرة اللاحقة. (¬2) عن حركة (لشبان الجزائريين) والماسونية، انظر آجرون (ميلانج جوليان)، مرجع سابق، ص 228 - 243. وعن عباس بن حمانة انظر فصوله التعليم. وكذلك مالك بن نبي (المذكرات).

في الحرية والإنسانية والتسامح والأخوة عدد من أعيان الشرق، نذكر منهم جمال الدين الأفغاني وخيرالدين التونسي، ومدحت باشا، وربما الشيخ محمد عبده والشيخ رشيد رضا. وليس كل من دخلها عن حسن نية قبل أوائل هذا القرن كان متهما في دينه أو مدخولا في وطنيته، لأننا رأينا أن الماسونية قد غيرت جلدها عدة مرات، ورفعت عدة شعارات، وأصبحت تسير صراحة في ركاب الاستعمار والصهيونية، وتقف ضد الأديان وتخدم مصالح وأهدافا غير إنسانية وبعيدة عن شعاراتها البراقة المعلنة. لذلك يمكننا القول إن اسم الأمير قد استعمل منذ حوالي 1864 بطريقة مغلفة لتجنيد الأعضاء في الماسونية. فالغرب كان واعيا والشرق كان غافلا. وقد حصل الأمير على أوسمة وبراءات ورسائل الشكر من قادة الدول المسيحية على إثر تدخله الإسلامي والإنساني في حوادث الشام سنة 1860، وقد فسروا ذلك التدخل على أنه كان بدافع التسامح الديني مما يتماشى مع شعارات الماسونية نفسها. فاغتنم قادة الماسونية فرصة عودة الأمير من الحج ومروره بمصر سنة 1864 ودعوه إلى محفل الإسكندرية، كما قيل، وسلموا إليه براءة، وربما سلموه أيضا إثباتا بعضوية شرفية - من يدري؟ - في ذلك المحفل. ولكن هل كانت هذه العضوية كاملة بكل تبعاتها؟ أو هي مجرد تشريف واحتفاء وشكر له على فعله الإنساني؟ أو هي خدعة وقع الأمير في فخها، ثم انتبه فلم يعد للموضوع بقية حياته، إذ لا نجد أية إشارة إليه بعد ذلك؟ إن ذلك سيظل محل تساؤلات وتخمينات، ولا نملك له الجواب الشافي الآن. ومن الملفت للنظر أن ابن الأمير في (تحفة الزائر) لم يشر إلى مسألة الماسونية، واكتفى بقوله إن والده قد مر في عودته من الحج بمصر وزار أرض بوبلح التي أهدتها إليه شركة السويس وأقام أياما في ضيافة الشركة بمنطقة السويس، أما الإسكندرية فقد قال إنه بقي فيها حوالي خمسة أيام ثم ركب منها إلى بيروت. وقد أورد ابن الأمير الرسائل والأشعار التي قيلت في

والده بعد رجوعه من الحج وليس منها، على حد علمنا، ما تعرض إلى مسألة الماسونية (¬1). وبينما سكت صاحب (التحفة) تماما عن هذه المسألة نجده قد ذكر أن الجمعية الماسونية الفرنسية قد كتبت إليه رسالة شكر ومدح على تدخله لإطفاء فتنة الشام ونوهت بانتصاره للتمدن والإنسانية، واعتبرته (العربي الوحيد) الجدير بهذا الاسم، واعترفت أن أوروبا قد أخذت الكثير عن (الجنس العربي) الذي هو اليوم نائم، وتنبأت بأن العرب سيستيقظون. وقالت إنها إذ تبعث إليه بالرسالة فإنما تعتبرها إشارة رمزية فقط لأنها في الحقيقة لا تساوي شيئا إزاء خصاله (¬2). وليس هناك أيضا إشارة إلى محفل الشرق ولا اسم الاسكندرية ولا تاريخ 1864. ولا نظن أن موضوع الماسونية قد بقي (سرا) عند الأمير، فقد ترك الأمير أوراقه جميعا لابنه. وكان هنري تشرشل قد ذكر الموضوع أثناء حياة الأمير نفسه - انتهى من كتابه سنة 1867 - . إن سكوت صاحب التحفة عنه وسكوت المادحين للأمير يدل على أن انتماء الأمير للماسونية قد يكون فقط من الإشاعات، مثل ترشيح الأمير للإمارة العربية (¬3). أما الشيخ طاهر الجزائري الذي أصبح علما يشار إليه في العلوم العربية والإسلامية، وكان من قادة الرأي والفكر في بلاد الشام وفي مصر والعراق، ¬

_ (¬1) (تحفة الجزائر)، 2/ 145. (¬2) تاريخ هذه الرسالة من باريس 2 أكتوبر 1860. أي قبل حجه وتوقفه بالإسكندرية بأربع سنوات. وقد جاء في (تحفة الزائر) أيضا اسم (الجمعية الأمريكية الشرقية) التي أرسلت إلى الأمير نسخة من الكتاب الذي ألفته سنة 1861 بعنوان (تاريخ العالم) مع تعيينه عضوا شرفيا فيها، (التحفة) 2/ 112. كما أن (جمعية أبناء الوطن) بلندن قدمت إلى الأمير رسالة تنويه أثناء زيارته لبريطانيا، نفس المصدر، 2/ 160. (¬3) لم نجد أية إشارة أيضا إلى مسألة الأمير والماسونية في كتاب عادل الصلح (سطور من الرسالة) الذي عنى فيه بعلاقة الأمير بالحركة الاستقلالية العربية، بيروت، 1966.

الإسلام ووحدة الأديان

فقد كان عضوا في حزب اللامركزية الذي عارض الحركة الطورانية التي جاءت مع لجنة الاتحاد والترقي في تركيا. وكان الشيخ طاهر من أنصار القومية العربية. وكانت علاقته بالسيدة بيل الانكليزية المتنفذة في أحوال العالم العربي قد أدت به كما قيل، إلى الدخول في الماسونية بعد اقتناعه بشعاراتها الإنسانية الظاهرية (¬1). وقد يكون من بين الجزائريين الآخرين، في المشرق والمغرب، من دخل في الماسوبة. وربما ستكشف الأيام عن أسماء بعضهم. الإسلام ووحدة الأديان شارك الفرنسيون ببحوث كثيرة عن الإسلام منذ احتلالهم للجزائر. وظهرت دراسات لهم فردية وجماعية. وتحدثوا فيها عن مختلف الموضوعات التي تمس تاريخ الإسلام وعقيدته وسيرة رجاله وموقفه من التمدن ومن النصرانية. كما تناولوا موضوعات خاصة منه كالجهاد والملكية والسلم والهجرة والمرأة والحكم. وقد حاولوا فهم الإسلام ليفسروه تفسيرا يليق بمصالحهم. ووصل بهم الأمر أن أصبحوا يلقون عليه عبارات لا تليق ومثل الإسلام الجزائري، والإسلام الأسود (يقصدون الإسلام في إفريقية) وما إلى ذلك. واختص المستشرقون منهم بجوانب فيه كالتصوف، والفقه والتاريخ، الخ. وبين مرحلة وأخرى كانت الحكومة الفرنسية توجه الخبراء لدراسة ظاهرة معينة وتسليط الأضواء عليها محليا ودوليا لتستفيد من ذلك تفادي الأخطاء والتوجه الصحيح في التعامل مع العالم الإسلامي. ومن ذلك مثلا دراسة أنشطة الطرق الصوفية خلال الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي. ودراسة أوضاع الإسلام والمسلمين في فاتح هذا القرن. وقد كنا ¬

_ (¬1) انظر كتاب عدنان الخطيب (الشيخ طاهر الجزائري). معهد البحوث والدراسات العربية، القاهرة، 1971.

تناولنا الدراسة الأولى في حديثنا عن الطرق الصوفية، ونريد الآن أن نكتب قليلا عن النقطة الثانية. لقد كان المقصود منها هو البحث في مستقبل الإسلام وموقف فرنسا خلال القرن العشرين. وقامت بنشر التحقيق الواسع مجلة (المسائل الدبلوماسية) سنة 1901 تحت إشراف ادمون فازي Fazy . وقد شارك في التحقيق علماء وباحثون من أوروبا وحتى بعض الآسيويين مثل وزير إيران في رومة، وهو ماكوم خان، وكذلك مستشار السلطان عبد الحميد الثاني، وهو موزدروس باي. وقد اشترك فيه من الجزائر محمد بن رحال. وبالإضافة إلى خبراء فرنسا اشترك في التحقيق المستشرق الإنكليزي براوني، والمجري غولد زيهر، وآخر من هولندا. وأعطيت التوجيهات لدراسة حالة الإسلام والمسلمين وقوة المسلمين وضعفهم وانتشارهم في العالم، وكيف سيكون عليه حالهم خلال القرن العشرين. ولم يهمل الدارسون علاقة الإسلام بالغرب، والوجود الإسلامي في إفريقية. أما من الفرنسيين فقد شارك رينيه باصيه، وادمون دوتيه، وويليام مارسيه، وغيرهم (¬1). ونريد أن نتعرض لرأي باصيه وابن رحال فقط، الأول لأنه كان يمثل قمة الاستشراق الفرنسي، وكان مطلعا من خلال تلاميذه الجزائريين وزملائه وتلاميذه الفرنسيين في المغرب العربي والسينيغال والمشرق، على أحوال العالم الإسلامي. والثاني باعتباره من أوائل المثقفين الجزائريين الذين كتبوا عن الإسلام في مواجهة الغرب وتعاملوا مع رجال الفكر والإدارة الفرنسيين وخرجوا من الصراع المحلي - الإسلام الجزائري - إلى الصراع العالمي بين الحضارات. ¬

_ (¬1) العنوان هو (تحقيق حول مستقبل الإسلام). وقد نشر في مجلة (المسائل الدبلوماسية). Q.D في الشهور التالية: يوليو، غشت، أكتوبر، نوفمبر 1901. وكان العلماء الفرنسيون المذكورون كتبوا عن الإسلام في شتى أنشطته. وقد أصبح دوتيه (وهو من علماء الاجتماع المتأثرين بنظرية دورخايم، ومن مستشاري الحكومة العامة خلال الحرب العالمية، في الشؤون الإسلامية، وهو صاحب كتاب (الإسلام الجزائري).

ومن رأي باصيه أن بلاده بقيت تجهل الإسلام والمسلمين منذ الحملة على مصر ثم الحملة على الجزائر. وعليها أن تفرق في معاملتها بين الإسلام في المغرب العربي (شمال إفريقية) والإسلام في إفريقية والسودان. ففي المغرب العربي حيث يسود الإسلام لا يمكن حصول التنصير التطوعي. ولذلك لجأت الإرساليات الكاثوليكية وغيرها إلى الوسائل الخيرية فى التنصير واستعمال المدرسة التي قال إنها (محايدة). ونصح بالربط بين الاحتلال والمصالح المادية للمسلمين، وبعدم مدح الإسلام أمام الأهالي لأنهم سيزدادون تعصبا إذ سيقولون إن (الكفار) مدحوه، كما نصح بالإبقاء على نظام الديانة الإسلامية تحت رقابة الإدارة، لأن هيئة رجال الدين متعاونة مع الإدارة، وهي (الهيئة) وسيلة لتسريب التعليم الرسمي في المجتمع الأهلي. ورأى ضرورة الإبقاء على المدارس الرسمية الثلاث بشرط توجيه تعليمها توجيها أوروبيا. وأوصى بالتعامل الحذر مع الطرق الصوفية، وكذلك الحذر من دعاية الجامعة الإسلامية القادمة من الشرق، ومراقبة طريق الحج لأنه وسيلة لتوريد الأفكار. وفي نظر باصيه أن الأمر يختلف مع اسلام في إفريقية، لأن الوثنية منتشرة فيها. ويجب عدم الاطمئنان إلى الوثنيين المتنصرين أيضا لأنهم قد يتغيرون (¬1). فأنت ترى أن باصيه كان حذرا جدا في تعامله مع الإسلام والمسلمين، وأنه نصح بلاده بأن تكون كذلك حذرة سواء تعلق الأمر بالإسلام في المغرب العربي، ومع كل الفصائل، أو في إفريقية ولو مع الوثنيين المتنصرين. أما محمد بن رحال فقد تحدث عن الإسلام في مناسبتين قريبتين من بعضهما، الأولى عند انعقاد مؤتمر المستشرقين في باريس سنة 1897، والثانية عند مشاركته في التحقيق المذكور سنة 1901. وفي المناسبة الأولى تحدث إلى العلماء الفرنسيين وغيرهم عن الإسلام في الجزائر، ووصف المسلمين بالتخلف التقني والتعليمي، ولكنه انتقد فرنسا والغرب على فساد ¬

_ (¬1) باصيه، مرجع سابق، أول أكتوبر، 1901، ص 388 - 389.

الأخلاق وانتشار الخمر والزنى والمراباة، وقد تساءل ما إذا كان المسيحي سيلجأ في النهاية إلى الإسلام كآخر ملجإ له. وقد لام ابن رحال الذين كانوا يرمون الإسلام وأهله بشتى أنواع التهم، ومدح الذين فهموه وعرفوا رسالته، وتمنى أن يدعو علماء الغرب إلى تغيير المفاهيم حول الإسلام والدخول في حوار مع العالم الإسلامي. وقرر ابن رحال شيئا كان موجودا وهو أن الجزائر هي مفتاح إفريقية، وأشار إلى الرابطة التي كانت بين فرنسا والإسلام في القارة السوداء. ولكنه حذر من عواقب الاحتلال وتفقير الأهالي، وحذر المؤتمرين بصراحة متناهية، فقال إن جماهير المسلمين ستتحدى إذا رأوا تسلط الأجانب مهما كان جهدهم عظيما، وأن القرن العشرين سيحل مشاكله إما بالطرق السلمية وإما بمواجهة النكبات، ومن النكبات في رأيه بقاء المسيحية على عدائها للإسلام، ومن رأيه أن العالم الإسلامي سيدخل عهد التمدن سواء بواسطة فرنسا أو بدونها (¬1). وقد انطلق ابن رحال في بحثه حول مستقبل الإسلام من بحثه الذي ألقاه في مؤتمر المستشرقين، وكان يكرر في الثاني ما ذكره في الأول. ونظر في بحثه سنة 1901 إلى الإسلام الواحد أو الشامل في مختلف الأصقاع. وذهب إلى أن الإسلام يتبع نبض الحضارة العالمية في كل شيء ما عدا العقيدة والأخلاق والأسرة. ونوه بالمسلمين القدماء الذين خدموا الحضارة وقدموها صائغة إلى أوروبا، وأنه بإمكان المسلمين أن يأخذوا مكانهم من جديد إذا سمحت لهم الظروف. وقال إن المسلم يملك طاقة جبارة للمقاومة وهي التي تمده بالقدرة على الانتظار دون المدافعة ودون الموت. واعترف ابن رحال أن دول العالم الإسلامي متخلفة ومنقسمة على ¬

_ (¬1) كريستلو (المحاكم)، ص 247. وهنا وهناك. وسبق لابن رحال أن نشر نصا من كتاب نزهة الحادي للأفراني عن إفريقية ونشره في مجلة الجمعية الجغرافية لوهران، 1887. وعن حياة ابن رحال انظر فصل الترجمة: وقد كتب عنه آجرون بحثا في كتاب (الأفارقة) الذي كان يشرف عليه جوليان، ج 8، باريس 1977، والبحث بعنوان: (محمد بن رحال ضمير قلق في جزائر متحولة) وقد نوه به بعض الجزائريين أمثال الشيخ الإبراهيمي في الجزء الخامس من آثاره.

نفسها، ولكن التعليم حسب رأيه، سيجعلها تستعيد مكانها في العالم، كما أن عداوة المسيحية لها ستجعلها تتوحد. ولذلك قال إن مصلحة الغرب المتحضر هي في الارتباط بالإسلام وفي تقديم المساعدات له، ويمكن التفاهم بين الطرفين في نظر ابن رحال، بعمل مزدوج وهو: معرفة العالم المسيحي للإسلام ومعرفة العالم الإسلامي للحضارة الغربية. وطالب بنبذ الأحكام المسبقة وبمد الأيدي الغربية نحو المسلمين الحقيقيين (النخبة؟) ذوي الاستعداد للتفهم والتضحية. وكرر مقولته بأن على فرنسا أن تساعد إفريقية لأنها إذا لم تساعدها فإنها ستتقدم بدون فرنسا، وقال إن إفريقية مسكونة بالبربر والزنوج، أما العرب فعددهم قليل، وأن البربري متمسك بدينه وأرضه وتقاليده، وأنه في ذلك مثل العربي البدوي. ووصف الزنوج بأنهم بدائيون ويمثلون لوحة عذراء يمكن الكتابة عليها دون خوف من محو أي شيء فيها، وهم يمثلون أيضا أرضا خصبة للإسلام (¬1). ونعني بوحدة الأديان الدعوة التي ظهرت في الجزائر بين الحربين تقريبا لتبشر بالعناصر المشتركة في الأديان الثلاثة، وهي الإسلام والمسيحية واليهودية. ولا ندري دوافع هذه الدعوة بالضبط هل هي بديلة للحركة الوطنية التي ظهرت في هذه الأثناء لتضعفها؟ وهل هي جزء من فلسفة الاندماج الحضاري الذي كانت (النخبة) تدعو إليه، وكذلك بعض القادة الفرنسيين أمثال موريس فيوليت، وهو الاندماج الذي كانت تسعى إليه الماسونية أيضا؟ وهل هي دعوة ظهرت مع ظهور الحركة الصهيونية في المشرق، تمهيدا لقبول اليهودية والوطن القومي في فلسطين؟ وأخيرا لعل وحدة الأديان فكرة بديلة لحركة التنصير التي فشلت فشلا ذريعا بعد الجهد الذي بذله آباء لافيجري وأخوات. والحديث عن وحدة الأديان غير جديد في الجزائر. فقد نسبوا إلى ¬

_ (¬1) محمد بن رحال (مستقبل الإسلام) في (المسائل الدبلوماسية)، أول نوفمبر، 1901، ص 538 - 550. كنا تناولنا ابن رحال في عدة أماكن أخرى، مثل التعليم، انظره.

الأمير عبد القادر قوله (وهو قول مشكوك فيه): لو أن المسلمين والمسيحيين استمعوا إلي لأنهيت الخلاف بينهم، ولأصبحوا إخوة في الظاهر والباطن. وقالوا إن الأمير كان يعيش مسلما ومتصوفا. وفسروا تدخله في حوادث الشام على أنه من قناعته في التسامح الديني لأنه وهو مسلم ومجاهد، تدخل لإنقاذ آلاف المسيحيين. وكان الأمير قد عبر في الجزائر للأسقف دوبوش عن احترامه للدين، وعن عقيدته في أن الدين واحد، وأنه عندما أصبح متصوفا كان يبحث عن الوحدة الداخلية أو الباطنية. وبناء على ذلك فالأمير كان غير متعصب في نظرهم (¬1). ونسب هنري دوفيرييه إلى الحاج عثمان بن الحاج البكري، أحد مقدمي التجانية في الطوارق، أثناء زيارته لفرنسا سنة 1862، أنه أعلن للفرنسيين عندئذ: أن كل دين يمكن أن يقال عنه أنه أفضل من غيره. ونحن المسلمين نقول: إن القرآن قد أكمل الإنجيل والتوراة. ولكن لا أحد ينكر أن الله اختص المسيحيين بمؤهلات بدنية وأخلاقية عظيمة (¬2). وفي سنة 1905 قدم عبد الحليم بن سماية بحثا إلى مؤتمر المستشرقين بالجزائر قال فيه إن الإسلام يتلخص في الثلاثية المعروفة، وهي الحرية والإخاء والمساواة (شعار الماسونية والثورة الفرنسية). كما أنه نوه بما في الإسلام من الالتزام بالصدق والإخلاص والمروءة والعدل والتواضع واحترام الجار، وغيرها من الفضائل. وظاهرة عدم التعصب عند المسلمين قد لاحظها الكتاب الفرنسيون في ¬

_ (¬1) لويس فينيون (فرنسا في شمال إفريقية)، ص 250 هامش 1. ونسب إلى الأمير قوله في رسالة بعثها إلى الجمعية الآسيوية/ الفرنسية أن كل الأنبياء من آدم إلى محمد متفقون على وحدة الله وعبادته، ولهم رسالة واحدة، إنما الذي اختلفت عبر العصور هي التفاصيل، وإنما الأديان الثلاثة (الإسلام والمسيحية واليهودية) دين واحد في الأساس. ولعل الأمير إنما يشير إلى الملة الإبراهيمية. انظر أيضا كتاب (المواقف) للأمير. وقد عالجناه في مكان آخر. (¬2) هنري دوفيرييه (اكتشاف الصحراء)، باريس، 1864، ص 333. انظر أيضا فصل الطرق الصوفية.

غير ما مرة، رغم أنهم استعملوا وصف (المتعمب) لكل ثائر ضدهم. وكلمة (فانتيك) التي تعني المتعصب كانوا يرمون بها الثائرين والسياسيين أكثر مما كانوا يرمون بها رجال الدين أو المواطنين العاديين. وقد اندهش الفرنسيون من استسلام الجزائريين للأمر الواقع عندما أخذ الفرنسيون فؤوسهم ومعاولهم وأسقطوا جامع السيدة بالعاصمة، وكانوا يرددون همسا، كلمة (مكتوب). وكذلك كان رد فعل الجزائريين عندما حول الفرنسيون جامع كتشاوة إلى كنيسة. وقالوا إن القسيس (سوشي) قد قدم إليه الأهالي الكرسي والزربية عندما حول جامع سوق الغزل إلى كنيسة في قسنطينة. كل هذه وغيرها دليل في نظر هؤلاء الكتاب على (تسامح) الجزائريين. وهو في الواقع خضوع للقوة والجبروت فقط وليس تسامحا ورضى بالاغتصاب والقهر. وفي هذه الحالة يصبح المتعصبون هم الفرنسيين. فهم الذين اعتدوا على حرمات المساجد رغم تعهدهم الرسمي باحترام الدين الإسلامي. وقد نصبوا كنيستهم في قلب أحد المساجد بالعاصمة. ونادوا باستعادة الكنيسة الإفريقية القديمة. وأخذوا ينصرون السكان بكل قواهم وإمكاناتهم. وكانوا يتعرضون بالأذى والشتم للإسلام ولنبيه وقرآنه. رغم أنهم كانوا يقولون إنهم متحضرون بينما الجزائريون غارقون في البداوة وفي حاجة إلى جهود لإدخالهم في الحضارة. والغريب أن أحد كتابهم يقول: إن الآباء النصرانيين والقساوسة كانوا لا يتدخلون في شؤون المسلمين إلا عن طريق أفعال الخير (؟) وتمتين الصداقة مع الأيمة والمفتين. أما محاولة فصل البربر ومباركة تزوج رجال الدين المسلمين بفرنسيات، كما فعل لافيجري مع أوريلي التجاني، فذلك في نظر هذا الكاتب من أفعال الخير. وقد وجدنا جزائريين اعتنقوا المسيحية بينما لا نكاد نجد من اعتنق الإسلام من الفرنسيين. فهل هذا راجع أيضا إلى التسامح الإسلامي أو إلى أفعال الخير التي كان يقوم بها رجال وأخوات الكاردينال لافيجري؟ من الجزائريين الذين اعتنقوا المسيحية أفراد نشأوا أيتاما نتيجة المجاعة التي حدثت في آخر الستينات من القرن الماضي. وقد تعرضنا إلى ذلك في فصل

آخر (¬1). ومنهم أفراد أصبحوا معلمين بعد تخرجهم من مدارس الآباء البيض أو من مدرسة النورمال. وتذكر المصادر الفرنسية منهم: ولد عودية، وجوزيف زنتار، وأوغسطين إيبازيزن. واعتبر بعض الفرنسيين وجود هؤلاء علامة على نجاح التنصير في البربر. وقد تزوج أولئك النفر من فرنسيات. ووصلوا، كما يقولون، إلى درجات عليا في السلم الإداري والمهن الحرة. وأصدر أحدهم، وهو جوزيف زنتار، مجلة سماها (المطورني)، كما أصدر الأب جيو كوبيتي نشرة سماها (الاتحاد الكاثوليكي - الأهلي)، وأعلن إيبازيزن أنه اختار لنفسه اسم أوغسطين المسيحي لأنه يجعله يرجع إلى دين أجداده! وهاجم بعضهم الإسلام كما فعل حسني لحمق (¬2). أما الفرنسيون الذين اعتنقوا الإسلام فلا نكاد نجد لهم ذكرا، رغم الدعوة إلى التسامح ووحدة الأديان والتسامي الحضاري. ويبدو أن قانون تقليد المغلوب للغالب قد انطبق حتى على الأديان في الجزائر. فالإسلام الذي اعتنقه ملايين البشر في أوروبا وآسيا وإفريقيا لم يعتنقه إلا فرنسي ونصف طيلة قرن وربع من الحكم الفرنسي للجزائر. أما الفرنسي الذي قيل إنه اعتنقه فهو إيتيان دينيه الذي سمى نفسه ناصر الدين. وقد أدى فريضة الحج في آخر حياته، وألف كتابا عن حياة الرسول (صلى الله عليه وسلم) بالمشاركة مع أحد الجزائريين وهو سليمان بن إبراهيم، بناء على المصادر الإسلامية وليس على مصادر المستشرقين المغرضة (¬3). ولكن لوحات إيتيان دينيه الفنية عن الحياة في الصحراء، وعن المرأة بالذات، لا تدل على تقيده بالقواعد الإسلامية. ولا ندري هل تقمص دينيه شخصية شارل دي فوكو أو كان مخلصا في دينيه. ¬

_ (¬1) انظر فصل الاستشراق. (¬2) ذكر مالك بن نبي في المذكرات نماذج من الجزائريين الذين تجندوا لخدمة المصالح الفرنسية بدخولهم المسيحية وخدمة أغراض إنسانية، وذكر منهم عمار نارون. (¬3) إذا صدقنا بعض الباحثين المتأخرين فإن دينيه قد اعتنق الإسلام مبكرا، أي في حياة الشيخ محمد بن بلقاسم الهاملي (ت. 1897). فهو الذي خطط لختانه سرا في مستشفى مصطفى باشا بالعاصمة. انظر كلنسى - سميث (ثائر وقديس).

فذلك سر لا يعلمه إلا الله الذي {يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور} (¬1). ومهما كان الأمر فإن دينيه قد توفي في فرنسا، ودفن في بوسعادة سنة 1930. وحضر تأبينه أعيان المسلمين، ومنهم الطيبب العقبي وأحمد توفيق المدني. ويعتقد فيه الناس عقائد مختلفة. وأما نصف الفرنسي الذي اعتنق الإسلام فهو توماس أوربان الذي تسمى (إسماعيل عربان). وكان من أتباع مذهب سان سيمون. وقد ذهب إلى مصر قبل الجزائر، واطلع على حياة الشرق واعتنق هناك الإسلام. ثم جاء إلى الجزائر وأصبح من المترجمين البارزين في الإدارة الفرنسية، وارتقى حتى أصبح مترجم الامبراطور نابليون الثالث. وألف عدة كتب ومقالات ودافع عن الجزائريين ضد الاستغلال الفاحش، ولكنه لم يعارض الاستعمار كوسيلة حضارية. وكان عربان هجينا من أب فرنسي وأم أهلية من كايان حيث ولد. وفي الجزائر تزوج عربان من امرأة مسلمة من قسنطينة. وعاش معها طويلا وأنجب منها بنتا. وقد مرضت زوجته وهي عنده ثم توفيت. ثم ظهر له الزواج من امرأة فرنسية فاشترطت عليه الرجوع إلى المسيحية فرجع وتزوجها في مراحل حياته الأخيرة. ولذلك قلنا إنه كان نصف مسلم. ولكن أمثال ليون روش في الإسلام كانوا موجودين. فقد ادعى روش للأمير والجزائريين أنه اعتنق الإسلام، كما ذكرنا، فانخدعوا فيه. واعتبروه منهم لتسامحهم الطبيعي الساذج. ويذكر ادريان بيربروجر أنه عندما قابل الأمير في نهاية سنة 1837 في برج حمزة طلب منه إعادة الشاب الهارب إليه (يقصد ليون روش) لأن والده حزين عليه، فرفض الأمير بصلابة أن يسلم مسلما هرب إليه وهو يقول (لا إله إلا الله)، لأن ذلك مخالف للشريعة الإسلامية (¬2). ولم يبق روش بعد ذلك سوى سنة ونصف أخرى، ثم هرب من عند الأمير، ورجع إلى قومه بعد أن أدى دوره باتقان. وثمة جنود فرنسيون اعتنقوا الإسلام لينتقموا من بعض كبارهم، كما حدث للجندي ¬

_ (¬1) الآية 19 من سورة غافر. (¬2) بيربروجر (رحلة إلى معسكر الأمير)، ط. 1839. وقد ترجمناها إلى العربية.

الذي فر إلى الحجوط، وتمكن من قتل غريمه، ثم قبض عليه الفرنسيون وأعدموه. وأمثال هذه الأحداث موجودة، وكذلك النطق بالشهادة من الفرنسيين المقبوض عليهم لينجوا من القتل، ونحو ذلك. وهذا النوع لا يدخل في اعتناق الإسلام عن طواعية وقناعة. وقد قيل إن محمد الشريف جوكلاري الذي ظهر اسمه في الصحف (مثلا المرصاد؟) في الثلاثينات، كان فرنسيا رضي بالإسلام واختار اسم محمد الشريف (¬1). أما الأوروبيون (الفرنسيون) الذين تأثروا بالإسلام وروحانيته دون أن يعتنقوه فكانوا نادرين، وقد عبروا عن آراء فلسفية أو ميتافيزيقية جديرة بالدراسة. ونحن لا نتحدث إلا عن فرنسي الجزائر أو من كان لهم أثر عليهم مثل المستشرق ماسينيون. وقد اعتنى بعض الدارسين بالزوايا والحياة الصوفية في الجزائر، مثل لويس رين والاسكندر جولي وألفريد بيل، دون أن يتأثروا بها أو ينجذبوا إليها، بل على العكس كانوا خصوما لها، أو كانوا ضد الدين من حيث هو مثل لويس رين. ولكن شخصا مثل شوون Schuon قد دخل في الزاوية العليوية بمستغانم، وألف كتابا سماه (الوحدة السامية للأديان). وكان ذلك على عهد الشيخ أحمد بن المصطفى بن عليوة مؤسس الزاوية. كما ألف شوون عدة كتب أخرى في التصوف، وهو من تلاميذ رينيه غينون R. Guenon الذي ألف كتابا في أجزاء عن التقارب بين التقاليد الدينية على المستوى الميتافيزيقي، وأحدث بذلك تيارا جديدا في ميدان الفكر الديني. وقد سلطت وسائل الإعلام الفرنسية وكذلك الإعلام الديني الكنسي، الأضواء على شخصية الشيخ ابن عليوة خلال العشرينات وبداية الثلاثينات. وخصه بعضهم بالدراسة ووصفه بأوصاف غير عادية مثل المرابط المجدد. كما نسبوا إليه القول بالتثليث - أي وحدة الأديان الثلاثة. ويبدو أن ذلك جاء بالضبط في وقت ظهور الدعوة لوحدة الأديان التي نحن بصددها. وقد سافر الشيخ ابن عليوة بحرا إلى فرنسا لحضور حفل افتتاح جامع باريس ورافقه في ¬

_ (¬1) ذكر ذلك مالك بن نبي في (المذكرات)، ونوه به.

الرحلة القس جيوكوبيتي. ودار بينهما نقاش حول العقائد في الأديان الثلاثة. وكان هذا القس مستعربا وداعية دينيا. وقد انتقده البعض بأنه اكتفى في حواره مع الشيخ ابن عليوة بالجوانب الجافة من العقائد. وأن نقاشهما لم يتحول إلى حوار ودي وتعاطف ديني (¬1). وكان بعض الفرنسيين يعالجون ابن عليوة ويناقشونه في المسائل الصوفية، وربما كانوا يؤثرون عليه لأغراض خاصة. ويذكرون ملاقاة أخرى (ودية) نشأت بين الأستاذ هنري جاهبيي Jahbier والشيخ نور الدين عبد القادر. وكان جاهبيي مستعربا ورئيسا لجمعية القديس لوقا الطبية. ويبدو أن صداقته للشيخ عبد القادر قد أنتجت ثمارها. فقد فاجأ (جاهبي) الرأي العام الفرنسي بحديث عما في القرآن الكريم من أخبار عن السيدة مريم وعيسى (عليه السلام). وكذلك اشترك الاثنان في إصدار قصيدة ابن سينا في الطب (¬2). ويدخل الزواج المختلط في هذا التقارب الودي بين الأديان أيضا. فزواج امرأة فرنسية مسيحية من شيخ الطريقة التجانية فسره أصحاب هذه الدعوى لصالحهم. ذلك ان زواج أوريلي بيكار من الشاب أحمد التجاني سنة 1872 في بوردو، قد عارضه الرسميون وباركته الكنيسة وعلى رأسها لافيجري. وقد قيل عندئذ ان أوريلي قد تعهدت بتطوير الطريقة وازدهارها وتنظيمها دون اعتناق الإسلام فيما يبدو، ويقول قوانار إنها ماتت وهي مطلوبة من الطريقة ومن القس بي Py، داعية إفريقية، وهي حاملة معها أسرارها إلى قبرها (¬3). ¬

_ (¬1) قوانار (الجزائر) مرجع سابق، ص 313. عن ابن عليوة انظر أيضا فصل الطرق الصوفية وبحث أوغسطين بيرك عنه. وكتاب لانق (الشيخ أحمد العلوي)، ط. بيروت، 1971، وهو مترجم عن الإنكليزية. وكان لانق من أتباعه. (¬2) منشورات كلية الآداب، 1956. (¬3) قوانار، مرجع سابق، 313. وحياة أوريلي كتبتها مارث باسين M. Bassinne بعنوان (أوريلي التجاني: أميرة الرمال) باريس 1925. وكذلك فريسون روش (جبل عمور)، باريس، 1975. ولعل الإشارة إلى (أسرارها) أنها ماتت دون أن تعلن إسلامها.

ومن المسلمين الذين تأثروا بالإسلام أرنست بيشاري، حفيد أرنست رينان الشهير. وقد وصف في كتابه (رحلة السنتوريون) الأثر الذي تركه عنده الهدوء والوحدة في الصحراء، كما وصف درجة الإيمان عند المسلمين عندما قال له أحدهم (أنتم لكم الدنيا ونحن لنا الآخرة). وقد تأثر بيشاري كثيرا بهذا الجو. ويذكر بعض الفرنسيين أن شارل دي فوكو قد بقي سنة كاملة في زاوية الأبيض سيدي الشيخ وتأثر بالأجواء الصوفية وروحانية الإسلام. ومع ذلك حارب هذا الراهب - الجندي (شارل دي فوكو) بوعمامة، وساعد صديقه المارشال ليوتي على احتلال المغرب الأقصى. كما أنه استدرج أهل الطوارق لاعتناق المسيحية. وزعم لويس ماسينيون أن الإسلام يتماشى مع (التيار الجديد) الذي أحدثه كتاب رينيه قينون - وهو (التقارب بين الأديان) - فركز ماسينيون أيضا على ذلك واهتم بالتصوف الإسلامي أو بنوع خاص منه وهو المغرق في الغموض والحلول مثل تصوف أبي منصور الحلاج، ونشر ديوان (الطواسين) الذي قيل إن ماسينيون قد فتح به للمسيحية المغلفة مغلقات العالم الروحاني الآخر. ودعا ماسينيون أيضا، إلى التقارب بين الأديان، وكون تلاميذ يؤمنون بهذا التيار، ومنهم ديرمنغام الذي تولى إدارة مكتبة قصر الحكومة في الجزائر، وأصدر عدة أعمال حول التصوف المسيحي، كما درس خصائص التصوف الإسلامي في المغرب العربي متماشيا في ذلك مع نفس المنظور، وهو التقارب بين الأديان وانفتاح بعضها على بعض. أما الإسلام واليهودية، فقد ذكرنا سابقا أنهما تعايشا منذ قرون دون أن يضطهد أحدهما الآخر. فالإسلام يعترف بوجود الأديان، أديان أهل الكتاب، ويحفظ لها ولأهلها الكرامة والممارسة الحرة لشعائرها. وما وقع أحيانا بين المسلمين واليهود إنما حدث في عهد الاحتلال لأن الإدارة نفسها ساعدت على خلق التوتر بين السكان عامة. ومن جهة أخرى فإن ما حدث لم يكن بين الأديان وإنما بين السكان لأسباب اجتماعية واقتصادية وليست دينية فيما

يبدو. ولم تظهر فكرة معاداة السامية إلا في العهد الاستعماري، وبين الفرنسيين والأوروبيين. وكانت غير معروفة في المصطلحات الجزائرية. ولكن الحركة الصهيونية سيست العلاقة بين المسلمين واليهود، فأصبح اليهودي ليس هو مجرد الإنسان الذي يدين باليهودية، وإنما هو ذلك الذي يعمل على انتزاع أرض فلسطين وإقامة وطن قومي غريب فيها. والغريب أن أحداث قسنطينة سنة 1934 قد فسرها بعض الكتاب الفرنسيين على أنها من صنع جمعية العلماء ضد الصهيونية (¬1)، بينما هي في أغلب التقديرات كانت رد فعل المسلمين على الاعتداء على حرمة أحد مساجدهم من جهة واستفزاز الجالية اليهودية (وهي فرنسية) التي أطلق أفرادها النار على المسلمين المتجمهرين. وتتهم صحف جمعية العلماء وتصريحات رجالها السلطة المحلية نفسها بخلق التوتر لضرب أهداف معينة في التيار الوطني، كما حدث سنة 1936 عندما ضربت حركة المؤتمر الإسلامي وجمعية العلماء باعتقال الشيخ العقبي. وفي السنة التي توفي فيها الشيخ ابن عليوة (1934) انعقد في لندن (مؤتمر الأديان الثلاثة)، ولا ندري من حضره من الجزائريين. وبعده بحوالي عشر سنوات (1946) ظهرت جمعية مماثلة في باريس، بل هي فرع عن المؤتمر المذكور الذي سمي بمؤتمر المؤمنين. وفي 1959 ظهرت في بوفاريك بالجزائر (جمعية توحيد الأديان الثلاثة) التي تدعو إلى احترام هذه الأديان وإلى الأخوة بين أهلها (¬2). إن التقارب بين الأديان فكرة قديمة عند الفلاسفة المسلمين، وكان ¬

_ (¬1) اعتمدنا على كتاب قوانار (الجزائر) مرجع سابق، ص 313 - 314، ومقالة أوغسطين بيرك عن الشيخ ابن عليوة (مرابط عصري) في المجلة الإفريقية، ومقالة ديرمنغام عن الإسلام في (مدخل إلى الجزائر)، و (حولية) ماسينيون عن العالم الإسلامى. (¬2) الهاشمي التجاني (الإصلاح وجمعية القيم) في مجلة (الموافقات)، عدد 2، 1993 ص 179.

المثالية والاشتراكية

الحكام المسلمون في مختلف عهودهم غالبا متسامحين، ما عدا النادر الذي لا يقاس عليه، مع الأديان والطوائف الأخرى. ولكن ضعف المسلمين وارتباط هذه الطوائف بالدول الكبرى الغازية، ثم وقوع العالم الإسلامي نفسه لقمة في فم تلك الدول، قد جعل الحديث عن التقارب والتسامح كحديث الطرشان. فالتسامح مثل العفو والصفح، لا يكون إلا عند المقدرة. أما المغلوب على أمره فتسامحه إنما هو زيادة في إضاعة حقوقه التي استولى عليها الغالب، وهو دليل أيضا على بلادته. المثالية والاشتراكية ظهرت السانسيمونية أوائل القرن الماضي في فرنسا وفي غيرها من البلدان الأوروبية، على يد سان سيمون. لقد جاءت لتساهم في حل المشاكل الاجتماعية والاقتصادية التي طرأت على المجتمع الأوروبي من جراء الاختلال في التوازن الطبقي واختلال العدل الاجتماعي في توزيع الثروات. وكان هناك خوف كبير لدى المفكرين من أن ذلك الاختلال سيؤدي إلى البغضاء والثورة. لذلك ظهر السانسيمونيون بأفكارهم المثالية، وبشروا بمجتمع يسوده العدل والنظام والانسجام، عن طريق التشارك والعمل الجماعي الذي يؤدي بدوره إلى التشارك في الثروة والربح عن طريق حماية الدولة. فتدخل الدولة ضروري عندهم لضمان بقاء وسير الوحدات الإنتاجية الجماعية وتوفير الوسائل المنتجة. وقد أسسوا أجهزة للإعلام والإشهار، وأخرى لاستقطاب العمال وتوفير الأرض التي تقوم عليها الوحدات الإنتاجية، وأخذوا يجربون أفكارهم في الميدان دون أن يصطدموا بالواقع، بعيدا عن الغوغائية. وبينما كان السانسيمونيون يبحثون عن الميادين لإقامة تجاربهم النموذجية في التشارك المنتج، وقع احتلال الجزائر. وبعد السنوات الأربع الأولى التي كان الحديث خلالها يدور حول البقاء فيها أو الجلاء عنها،

تغلبت كفة البقاء، ومن ثمة تولدت فكرة استعمارها (تعميرها) باعتبارها نموذجا من الأرض الصالحة لإقامة التجارب النموذجية التي يدعون إليها (¬1). وكان عدد من قادة الجيش الفرنسي من المنتمين إلى الحركة السانسيمونية، كما كان عدد من المدنيين والصحفيين والنواب. وكانت الجزائر تمثل في نظرهم (المجتمع البدائي) الذي يمكن إجراء التجارب الناجحة عليه. لقد جربوا حظهم في مصر في البعثة التي قادها أونفتان Enfentain سنة 1833. ولكنهم فشلوا، فالجزائر إذن تمثل منتهى طموحهم لوجود الجيش والإدارة ووسائل الإعلام الأوروبية من جهة، والمجتمع الأهلي المؤهل لإجراء التجارب عليه من جهة أخرى. وفوق ذلك كله كانت ملكية الأرض في الجزائر من الأساس جماعية (شيوعية)، فهي ملك للقبيلة والعرش والجماعة وليست للفرد. وفيها أيضا نظام إقطاعي - ارستقراطي صالح لتطبيق التجربة. وهكذا دخل السانسيمونيون ميدان النشاط في الجزائر وعلى جميع المستويات. وكان أونفنتان هو أب هذا النشاط، وهم حقا يسمونه (الأب). وقد أثروا بالخصوص أثناء سنوات 1850 - 1870، فهم الذين كانوا وراء المشاريع الاقتصادية الكبرى في الجزائر. وقد تأثر بهم نابليون الثالث الذي كان أيضا سانسيمونيا مثلهم، وكان مشتركا في جريدتهم المسماة (الورشة). ومن كتابهم في الجزائر توماس أوربان والدكتور وارنييه، رغم الاختلاف الكبير بهما .. جاء أونفنتان إلى الجزائر سنة 1843، وبعد ذلك أصدر كتابا بعنوان (استعمار الجزائر). وقد وضع فيه خطة لتطبيق المشروع السانسيموني، واعتبره البعض كتابا جيدا وضع فيه المؤلف أسس نظام جديد للاستعمار في الجزائر. لقد جاء الكتاب على أثر تجربة المارشال بوجو فيما سمي ¬

_ (¬1) نشير بذلك إلى ما يسميه المؤرخون الفرنسيون (فترة التردد) وهي عندهم من 1830? 1834، وخلالها كانت الحكومة الفرنسية لم تقرر سياستها نحو الجزائر، ولكن توصيات اللجنة الإفريقية كانت صريحة في ضرورة المحافظة على الجزائر واستعمارها.

بالاستعمار العسكري الجماعي، أي إقامة مستوطنات من الجنود وليس من المدنيين. وقد صدر كتاب أونفنتان في نفس الوقت (1843) فأقام نظرية الاستعمار الجماعي بأسلوب جديد. درس أونفنتان نظام الأملاك العقارية عند الجزائريين وقارنها بمثيلاتها في فرنسا، واستخلص الفروق. وبدا له أن الجزائر صالحة لتطبيق مبدإ إقامة التجمعات المجهولة لحل المشكل السياسي لتنظيم العمل، لأن مبدإ التجمع الصناعي ما هو، في نظره، إلا العنصر الخلاق بالنسبة لعلاقات الملكية. وقد نادى أونفنتان بضرورة تدخل الدولة بقوة في تشكيل الملكية في الجزائر. فالجيش الفرنسي يقوم فيها بأعمال الهدم، ومن ثمة يمكن للدولة أن تقوم بتنظيم البناء والعمل المنتج بواسطة الصناعة. ورأى أونفنتان أن استعمال الجيش في الأشغال العمومية هو استعمال انتقالي فقط لأن الدولة هي التي ستنشئ أجهزتها الخاصة بالأشغال العامة، وهي أجهزة دائمة. ومن المبادئ التي توصل إليها أونفنتان أنه لا يمكن نقل نظام الملكية الفرنسي بحذافيره إلى الجزائر لاختلاف النظامين. ولكنه آمن بضرورة تولي الدولة في الجزائر شؤون الإدارة والحكم وتوجيه العمل. كما أنه لا يمكن، في نظره، الإبقاء على النظام الأهلي في الملكية بدون مساس، ولا توريد النظام الفرنسي للأروبيين في الجزائر. ومن ثمة قال بضرورة إحداث نظام جديد يقوم على مصادرة أملاك الأهالي من الأراضي، مع تعويضهم (؟)، مقترحا أن يكون النظام الجديد شبيها بنظام القبيلة العربية أكثر مما هو شبيه بنظام القرية الفرنسية. فقد لاحظ أن (الدوار) الأهلي يمثل النموذج التقريبي في إدارة الأملاك والحياة الاجتماعية التي يسعى إليها السانسيمونيون. ولذلك اقترح أن يكون المركز الجديد قائم الذات إداريا، على أن يضم العناصر الأساسية: من الشيخ إلى القاضي إلى الماء والسوق ... ويسمى أونفنتان ذلك بالقرية الحقيقية أو المثالية التي تعمل في تشارك والتي تختفي فيها آثار الفردية. وكان أونفنتان قد عينته الحكومة منذ 1839 في (اللجنة العلمية) التي

كانت مهمتها دراسة أوضاع الجزائر (واكتشافها) من جميع النواحي (¬1). وكان المطلوب من الأعضاء تقديم تقرير عن الجانب الذي اختاره كل منهم بعد أن يكون قد أقام فيها وعاين أوضاعها. وقد قبل أونفنتان المشاركة في اللجنة، وذهب إلى الجزائر وأطال الإقامة فيها أكثر من غيره حيث مكث سنتين. ويقال عنه إنه كان يعتقد أنه بإطالة الإقامة وتقديم عمل شامل ومفصل عن مشروعه سيغري الحكومة بتعيينه في منصب عام يحقق من خلاله مشاريعه الاشتراكية أو التشاركية. وكانت حصيلة إقامته الطويلة في الجزائر ونشاطه (العلمي) فيها هو كتاب سابق الذكر (استعمار الجزائر). ورغم رجوعه إلى فرنسا فإن تلاميذه قد واصلوا مهمته في الجزائر. وكان له منهم الكثير. وكانوا ينشرون الكتيبات والمقالات في الصحف حول استعمار الجزائر، ومنهم فورنيل، وتوماس أوربان، وماصول، وبراكس، ولاشيفر ... وكان بعضهم من العسكريين (مثل بيقو Bigot ومرنقو، ولامورسيير، ولوفران، ولاباسيه، وريشار الخ). أو من العاملين في المشاريع الكبرى (مثل المهندس بوريل الذي بنى المول (المرسى) القديم عند العاصمة، والجيولوجي هنري فورنيل سابق الذكر، والأخوة طالابو في ميدان الأشغال العامة والمناجم) أو من رجال المالية (مثل إيميل روبير مؤسس بنك الجزائر الفلاحي سنة 1861)، أو المكتشفين (مثل العقيد كاريت ودوفيريه). فهؤلاء وغيرهم هم تلاميذ أونفنتان في الجزائر. بالإضافة إلى عدد من الفنانين والأطباء والتجار وتلاميذ مدرسة الصنائع/ البوليتكنيك). وفي بعض الأحيان أصبح السانسيمونيون يسيطرون على الإدارة في الجزائر أيضا. فقد كان ثلاثة ولاة منهم في وقت واحد (د. وارنييه في وهران، والعقيد كاريت في قسنطينة، والصحفي لاكروا في الجزائر)، وكان ذلك في نهاية الأربعينات. إن حاشية الامبراطور نفسه كانت منهم. فالجنرال فلوري كان ¬

_ (¬1) عن هذه اللجنة انظر فصل الاستشراق.

إسماعيل عربان

سانسيمونيا، وكذلك البارون جيروم دفيد الذي عاش تسع سنوات في الجزائر ضابطا في المكاتب العربية. ومن آثاره (بحوث حول الملكية عند العرب)، وكان البارون دفيد ضد عملية تحشيد أو حشر (الكانتونمان) القبائل العربية، وكان يقول مثل عربان: إن (الجزائر للجزائريين) (¬1). إضافة إلى إسماعيل عربان (توماس أوربان) الذي اقترب من نابليون منذ زيارته الأولى للجزائر 1860. وقد أعجب الامبراطور بأفكاره المنشورة في الكتب والصحف. والغريب أن السانسيمونيين قد ساندوا مرسوم الأرض لسنة 1863 الذي اعترف بالملكية القبلية (الجماعية) للجزائريين، وفي نفس الوقت كان يهدف إلى إنشاء الملكية الفردية وانتزاع الأرض في النهاية من أهلها عن طريق حرية الشراء وإعطائها للكولون. فالسانسيمونيون إذن كانوا من هذه الناحية هم المحرضين على الاستعمار وكانوا هم الأدوات لتنفيذه. وقد نسب إليهم مارسيل إيمريت في كتاب عن السانسيمونية، المشاريع الاقتصادية الكبرى، واكتشاف الصحراء، وركز على دور إسماعيل عربان ولاباسيه، وكان الأخير متأثرا بأفكار فورييه (¬2). وتمثل حياة إسماعيل عربان نموذجا لهذا التذبذب الخطير في نظرية هذه المدرسة التشاركية - المثالية (الاستعمارية؟). إسماعيل عربان: من الشخصيات التي تركت بصماتها على تاريخ الاستعمار في الجزائر، إسماعيل عربان (توماس أوربان). وهو فرنسي من مواليد كايان، أبوه فرنسي من تجار مرسيليا، وأمه من كايان، وكانت هي أيضا مهجنة من والدين مختلطين. وكان ميلاده غير الشرعي قد ظل ينغص على إسماعيل عربان كل حياته، حسب الدراسة التي خصه بها شارل روبير آجرون. وباعتباره رجلا ملونا، كان عربان ¬

_ (¬1) جاكلين بيلي (عندما أصبحت الجزائر ..) ص 75 - 77، 118 - 120. وتعبير (الجزائر للجزائريين) استعمله عربان عنوانا لأحد كتبه الذي نشره تحت اسم مستعار، وهو جورج فوازان. (¬2) ايكزافييه ياكانو (الجزائر منذ 1830) في العدد الخاص من المجلة الإفريقية، 1956، ص 178.

دخيلا على المجتمع الفرنسي المؤمن ببياض البشرة والتفوق العرقي والحضاري. أما عدم الشرعية في الميلاد فلعلها لم تكن على درجة كبيرة من الأهمية في ذلك المجتمع الذي هزته الثورة وقضت فيه على مقاييس النبل والأصالة. وقد درس إسماعيل في أحد ليسيات فرنسا، ولم يرجع إلى كايان إلا مرة واحدة بعد إنهاء الدراسة الثانوية. ومنذ العشرين من عمره اعتنق إسماعيل مبدأ السانسيمونية وتأثر بالحركة الرومانتيكية التي كانت تسيطر على الرأي العام الفرنسي. وفي سنة 1833 رافق أونفنتان إلى مصر لإقامة التجارب التشاركية التي يؤمن بها السانسيمونيون في المجتمعات المتخلفة. وقد تعرف على بعض الأصدقاء في مصر التي كان النفوذ الفرنسي فيها قويا أيام حكم محمد علي. واكتشف الإسلام هناك واعتنقه. وكان يؤمن ربما بأن السانسيمونية ستحقق له الربط بين الغرب والشرق، وأنها ستؤدي إلى التوفيق بين المسيحية والإسلام. ولما فشلت مهمة أونتان في مصر رجع (الجماعة) كل إلى ميدانه، فتوجه أصدقاء عربان إلى الجزائر ليحققوا فيها عن طريق الجيش الفرنسي ما عجزوا عن تحقيقه في مصر، لأن الجيش كان أداة هدم، وهم سيكونون أدوات بناء، في نظر (أبيهم) أونفنتان. أما عربان فقد بقي رجلا بسيطا (محقورا)، ومجرد مترجم عسكري بسيط. وتولى الكتابة لعدد من الجنرالات الذين وعدوه بالترقيات والمناصب العليا، ولكنهم لم يوفوا. وكان صاحب قلم سيال وأفكار واضحة، شارك بها في الصحف والتحقيقات التي أجراها، في الواحات والتيطري وقسنطينة. فكان الجنرالات وغيرهم (دوماس، الدوق دومال، بيدو) يوقعون على ما يكتبه عربان وينسبونه لأنفسهم. كان إسماعيل عربان ربما هو أقرب الفرنسيين إلى المجتمع الجزائري. فهو بحكم اعتناقه لإسلام ومعرفته اللغة العربية، قد جعل نفسه واحدا من هذا المجتمع يحس بإحساسه ويفهم تقاليده، وهو من جهة أخرى سانسيموني، يؤمن بترقية المجتمع الأهلي وإخراجه من التخلف مع المحافظة على بعض قيمه في وجه الغزو الذي يتعرض له. وفي سنة 1840 تزوج عربان من امرأة عربية من قسنطينة اسمها (جرمونة) وعاش معها فترة طويلة في

الجزائر العاصمة وأنجب منها بنتا سماها (باية). وكان زواجه على يد القاضي المسلم، وعاش حياته مسلم العقيدة عربي المظهر واللسان. وكان محل تقدير الجزائريين، كما كان رؤساؤه الفرنسيون يحترمونه ويحتاجونه، ولكن بعضهم كانوا يسيئون إليه ويحتقرونه لاعتناقه الإسلام ولزواجه من عربية، ولون بشرته وميلاده غير الشرعي. ويبدو أنه ظل على إسلامه إلى أن أراد الزواج من امرأة فرنسية فكان عليه أن يعود إلى المسيحية ويتزوجها، وكان عمره إذاك خمسة وخمسين سنة. وقيل إنه أدخل ابنته في المسيحية أيضا (¬1). شارك إسماعيل عربان في مختلف أوجه الحياة بالجزائر وفي فرنسا. وبالإضافة إلى الكتابات والترجمة. فإنه منذ 1841 عينوه مديرا للشؤون الجزائرية في باريس، ثم اشترك سنوات 1842 - 1845 في الحملات القامعة للمقاومة، ثم كلفوه بالشؤون العربية بوزارة الحربية سنة 1845. ورغم ظهوره كليبرالي أثناء ثورة 1848 الفرنسية، فإن بعض رؤسائه عاقه عن الترقي وتحقيق طموحه. وفي سنة 1858 عينوه في وظيف بسيط - رئيس مكتب - بوزارة الجزائر عند إنشائها في باريس لأول مرة، ثم أصبح مستشارا ومقررا في مجلس الدولة سنة 1860 وذلك هو أعلى منصب وصل إليه. وقد رافق الامبراطور في هذه السنة إلى الجزائر كمترجم. وكان هو صاحب الأفكار التي وردت في رسالة نابليون إلى الحاكم العام بيليسييه حول حكم الجزائر والعلاقة مع العرب، ثم رسالة نابليون إلى الحاكم العام ماكماهون بعد ذلك. ومن ثمة كان كل من يكره سياسة نابليون في الجزائر يصب جام غضبه على إسماعيل عربان، لأنهم لا يستطيعون مهاجمة الامبراطور مباشرة. ومن الذين هاجموا عربان بشدة د. وارنييه وكذلك بيليسييه وماكماهون، ولكنه كان لا يهاجم خصومه لأنه كان، كما يقول آخرون، معقدا من ميلاده ولونه، فكان يشعر بالوحدة وخيبة الأمل في طموحاته الشرعية. وقد توقع عربان ثورة ¬

_ (¬1) آجرون (الجزائر الجزائرية من نابليون الثالث إلى ديغول)، باريس، 1982، ص 21.

العرب عند تغيير النظام سنة 1870 وخشي أن يتهمه خصومه بالتورط فيها فغادر الجزائر سنة 1871، وكان يمني نفسه بالرجوع إليها، وكان يتابع أخبارها عن طريق أصدقائه، ومنهم فيتال وديشتال، وقد برهنت الثورة المذكورة (ثورة 1871 وثورة 1881) على صدق تنبؤاته، وقد توفي في فرنسا وهو حزين، سنة 1884. ويقول إيميل ماسكري ان عربان قد توفي في الوقت الذي أخذ فيه الفرنسيون يستيقظون على أخطائهم في الجزائر ويرجعون إلى آرائه في السياسة التي كانت على فرنسا أن تعمل بها تجاه الأهالي. فما هي أهم أفكار إسماعيل عربان؟ لقد حضر عربان وأصدقاؤه (السانسيمونيون) لمرسوم 1863 حول اعتراف الدولة بملكية الأرض الجماعية للقبائل العربية. وقد عارض الكولون ذلك وانضموا إلى المعارضة السياسية العامة للامبراطور نابليون (التي كان يمثلها الليبراليون والجمهوريون)، كما عارض بيليسييه ثم ماكماهون ذلك المرسوم. وأمام ذلك عاود نابليون الزيارة للجزائر (1865) وبقي بها مدة أطول من السابقة (حوالي خمسة أسابيع) واستمع إلى عربان وعلق على صدره وساما، ولما رجع نابليون إلى فرنسا أرسل رسالته الشهيرة بعنوان (سياسة فرنسا في الجزائر) وكانت تتألف من ثمانية وثمانين (88) صفحة. ومن جهة أخرى سعى عربان إلى إطلاع نابليون على أثر المجاعة على الجزائريين لأن الحاكم العام ماكماهون حاول إخفاء ذلك الأثر، وهي المجاعة التي ذهب ضحيتها في بضعة أشهر (إبريل 1867 - إلى نهاية 1868) ثلاثمائة ألف نسمة على الأقل. أما المعارضة فقد حملت مسؤولية المجاعة لسياسة المملكة العربية التي اتبعها نابليون. وأعلنت (لجنة لوهون سنة 1868) التي جاءت لتحقق في أسباب المجاعة أن مسؤوليتها ترجع إلى الشيوعية العربية (أي الملكية الجماعية)، وطالبت بضرورة العمل بالملكية الفردية وتوسيع الاستعمار. ومن جهة أخرى عارض عربان النظام المدني لأنه في نظره سيجعل من الكولون هم السادة والأهالي هم العبيد. وقد أيده في ذلك الجنرال هانوتو

وغيره من رجال المكاتب العربية. وكان يرى أن الفلاح الحقيقي هو الجزائري الذي يعرف قيمة الأرض وأن الأوروبي عليه أن يهتم بالصناعة ليحدث التوازن الحضاري بين الطرفين. ودعا إلى تعليم عربي - فرنسي يتناسب مع عقلية الجزائريين ويستجيب للحاجة المهنية، كما رأى أن على الأوروبيين أن يتعلموا عن الحضارة العربية. ودخل عربان الكفاح السياسي سنة 1868 بكتابه (الجزائر للجزائريين) الذي وقعه باسم جورج فوازان. وقد حذر فيه من سياسة ما سمي بالاستعمار الصغير، وهي التي تقوم على انتزاع الأرض من الجزائريين وتمليكها للكولون عن طريق حق الدولة في الأرض وتجميع الأهالي في (محتشدات). ومن رأى عربان أن الدين الإسلامي دين متسامح جدا، وأن المسيحية هي التي جعلته دينا، مناضلا من أجل البقاء. ورأى أن ما كان يسميه بعض الفرنسيين بالتعصب الإسلامي عند العرب ما هو إلا شكل من أشكال الوطنية (¬1) Patriotisme . ورفض عربان فكرة إدماج الأهالي في الحضارة الفرنسية، بل إنه كان يؤمن بفشل دمج الأعراق في بعضها، وكذلك دمج العادات والمذاهب الدينية. وكان يرى أن ما يمكن أن يأخذه العرب من الفرنسيين هو التنظيم الإداري الملائم للتطور الصناعي والتجاري الذي يفتقرون إليه. بالإضافة إلى تنظيم العدالة والتعليم العمومي، وإقامة بعض المؤسسات الخيرية. وبذلك يكون عربان قد دعا إلي تمهيد التقارب في المصالح المشتركة بين الجزائريين والفرنسيين. وكان قد تعاون مع أونفنتان نفسه في كتابه (استعمار الجزائر) الذي سبق ذكره، كان أونفنتان قد دعا إلى إقامة حكم فرنسي مباشر للقبائل العربية عن طريق العسكريين. وفي 1847 كتب عربان عن حكومة القبائل العربية وعن المسلمين والمسيحيين، ودعا إلى إبقاء السلطة في يد الرؤساء العرب التقليديين ولكن تحت رقابة المكاتب العربية - العسكرية. ¬

_ (¬1) آجرون (الجزائر الجزائرية ...)، ص 20.

وقال عربان على لسان الجزائري مخاطبا للفرنسيين: (إنكم تريدون مني أن أكون شبيها بكم، وتجعلونني أتنكر لذاتي بتنكري لآبائي. إنني لن أتبعكم في ذلك. لأنني أريد فقط أن أشابهكم كتابع وفي نفس الوقت أريد أن أبقى وفيا لذاتي). لذلك طالب عربان بأن تعمل فرنسا على تمدين الأهالي وذلك بحمايتهم والاحتفاظ لهم بأراضيهم مع تنمية غريزة الملكية الفردية عندهم. ووعد بأن الجزائري سيتطور وأنه سيأتي اليوم الذي يقبل فيه بالأفكار العلمانية والفردية. ومن أقواله في ذلك أنه لا يوجد ما يمنع من التفاهم بين الأهالي والفرنسيين، غير أنه ليس من حق أي شخص ان يقول إن قانوني السياسي وتنظيمي الاجتماعي وتقاليدي تمثل آخر تعبير للتقدم من أجل الإنسانية. ووقف ضد ما سمي (بالجزائر الافريقية) التي كان يحلم بها الكولون إذ كانوا يريدون إجبار الأهالي على ترك أرضهم للمهاجرين الفرنسيين والأوروبيين. ولكن آراء عربان وكتاباته وجدت معارضة شديدة من الكولون ومن الحكام العامين في ذلك الوقت (1860 - 1870)، وحتى من بعض زملائه السانسيمونيين وغيرهم من الكتاب والساسة. فهذا وارنييه كان يهاجمه بطريقة غير مباشرة وكان يصفه بالمرتد والملون، وبأنه يريد فرض أفكاره الضيقة رغم أنه شخص من الدرجة الثانية، ومن رأي وارنييه أن عدم اللجوء إلى الحشر والحشد للقبائل العربية سيؤدي إلى تكريس البربارية وتقلص الحضارة المسيحية وطرد الفرنسيين من البلاد، ونادى وارنييه بضرورة الاندماج الكلي للمؤسسات الجزائرية في المؤسسات المماثلة لها في فرنسا، كما دعا إلى ضرورة القضاء على الشريعة الإسلامية ونظام القضاء الإسلامي (المحاكم) وفرض التجنس بالقوة على العرب وفرنسة الأرض الأهلية لتصبح الجزائر مثل كورسيكا. وطالب بيليسييه (الحاكم العام) بإبعاد عربان من الجزائر وإعطائه وظيفة قنصل في بلد ما. ورأى بول بير P. Bert (إجبار هذا الشعب (الأهالي) على التفتت والتحلل الذاتي، وقال آخر يجب وضع الإنسان الأهلي بين اختيارين لا ثالث لهما: الاندماج أو الفناء. ولكن بعض الفرنسيين

اللاحقين تبينوا ريادة آراء عربان وتبين لهم صوابها ولكن بعد فوات الوقت، مثل ماسكري والمارشال ليوتي، والبان روزي، ولوروا بوليو. وفيكتور باروكان. وهناك آخرون ظلوا بالطبع مضادين لآرائه إلى آخر رمق (¬1). ومنذ 1848 كتب فريدريك أنجلز عن الجزائر وهزيمة الأمير عبد القادر وعن سجنه في فرنسا. وكان إنجلز يراسل جريدة (النجم الشمالي - N. Star) الإنكليزية من باريس (¬2). وقد حبذ القضاء على مقاومة الأمير لأن ذلك سيفسح المجال في نظره لتمدين الشعب الجزائري (البرباري). وكان ذلك في عام صدور البيان الشيوعي المشهور، وثورة 1848 الفرنسية والأوروبية، التي قامت بها التيارات اليسارية، كالاشتراكية والرومانتيكية والليبرالية في المجتمع الغربي. وبعد حوالي عشر سنوات تبين إنجلز أن الفرنسيين لم يأتوا إلى الجزائر للتمدين وإنما للتخريب والتسلط. ووصف الفرنسيين بالغزاة الذين قاموا بحرب بربارية. وكتب مقالة بعد ثورة زواوة سنة 1857 وما تلاها من حرق المداشر (القرى) وتشريد السكان، في عهد المارشال راندون. وقد حكم أنجلز على الاستعمار الفرنسي بالفشل الذريع، رغم الإعلانات المتفائلة بنجاحه، ورغم ما تقوله الصحافة الفرنسية في الموضوع. وكان الرأي العام الفرنسي عندئذ مأخوذا بحادثة الضابط (دوانو) رئيس المكتب العربي في تلمسان والفضيحة التي انجرت عن محاكمته والفساد المستشري في الإدارة الفرنسية في الجزائر. وقد رأى بعض الكتاب الفرنسيين المتأخرين. أن موقف إنجلز كان معادي لهم، ولكنهم يذكرونه للأمانة والموضوعية (¬3). ¬

_ (¬1) اعتمدنا في هذه الفقرة على دراسة آجرون (الجزائر الجزائرية ...) مرجع سابق، ص 18 - 36. وبيلي، مرجع سابق، ص 120. والسجل (طابلو) سنة 1843 - 1844. وقد احتوى المرجع الأخير بحث عربان عن إقليم التيطري. (¬2) انظر ترجمتنا لمقالته عن الأمير في كتابنا أبحاث وآراء، ج 1. (¬3) بوسكي، ج. د. (ماركس وإنجلز) في مجلة الدراسات الإسلامية Studia Islamica، 30، 1969. ص 129. وقد نشر أنجلز مقالته في الأنسكلوبيدية الأمريكية الجديدة =

وقبل وفاته بحوالي سنة زار كارل ماركس الجزائر زيارة قصيرة. ولم تكن الزيارة للاطلاع على آثار الاستعمار أو إذا شئت آثار التمدين الفرنسي فيها، وإنما جاء للعلاج من مرضه ووحدته، بعد وفاة زوجه وابنته. ولذلك خاب ظن كل من كان يرغب في حكم ماركس على الاستعمار عن كثب. فقد كانت الجزائر نموذجا لتكالب رأس المال والاستغلال والاستيطان في ذلك الوقت، وكان الشعب الأهلي مسحوقا لا حراك له ولا صوت. ومنذ وضع ماركس قدمه في مدينة الجزائر في 20 فبراير 1882 لم يغادرها وظل حبيس جدرانها، وزادته رداءة الطقس انحباسا في مكانه. ونزل في فندق الشرق ثم تحول منه إلى فندق فيكتوريا العائلي (بنسيون). وكان قد جاء من مرسيليا على ظهر باخرة اسمها (سعيد). ووجد بريده عند صديق له يدعى فيرمي Ferme، وكان فيرمي ممن شملهم النفي من فرنسا باعتباره من المعارضة، وقد أصبح قاضيا في إحدى المحاكم المدنية بالجزائر. وهو الذي قدم لماركس تفاصيل عن الاستعمار الفرنسي. يقول عنها بوسكي إنها تفاصيل غير باهرة. ولم نعرف عن هذه التفاصيل السوداء من مقالة بوسكي إلا القليل جدا. فقد كتب عنها كارل ماركس إلى أنجلز، وأخبره أن الشرطة الفرنسية كانت تعذب الجزائريين لتحصل منهم على ما ترغب فيه من المعلومات. وكانت العدالة تغمض عينيها على أنها لا تعرف. وإذا ارتكب العرب بعض الجرائم في الدماء وعوقبوا عليها بالإعدام، فإن ذلك لا يكفي لإشباع حقد الكولون بل إنهم كانوا يشترطون ملاحقة آخرين يصل عددهم إلى حوالي ستة على الأقل من العرب الأبرياء، فيعاقبونهم بدورهم. حقيقة أن محاكم الاستئناف كانت تعارض ذلك، حسب رواية ماركس، ولكن القضاة في المناطق النائية خاضعون لضغوط قوية جدا. ومع ذلك حكم ماركس بأن الإنكليز والهولنديين قد فاقوا الفرنسيين فى الجبروت والقسوة الدموية. ¬

_ =. 1857، N.A. Encyclopedia

وعالج ماركس صحته في الجزائر حيث بقي عند الدكتور ستيفان إلى الثاني من شهر مايو 1882. ولكن الطقس كان رديئا معظم الرحلة. وعندما رجع إلى مرسيليا وجد الأمطار أيضا تتهاطل وكذلك كان الحال في نيس. ونعرف من أخباره أنه كان يكره اللغات السامية. ولذلك لم يتعلم العربية عندما عزم على تعلم اللغات الشرقية وأخذ بدلها اللغة الفارسية، ولكن حروفها العربية عقدته فاكتفى بلعنها (¬1). ولا ندري كيف يؤمن كارل ماركس بالعنصرية في اللغات ويعمل على أن يكون فكره غير عنصري على المستوى العالمي، وهو الذي قيل عنه إنه من أصل يهودي - سامي! ومهما كان الأمر فإن الذين درسوا رحلة ماركس إلى الجزائر أخبرونا أنه اكتفى بالحديث عن المناظر الطبيعية الجميلة، ولم يتعرض إلى حياة الجزائريين، وعلاقتهم بالأوروبيين ومستوى ما وصلت إليه (الرسالة التمدينية) الفرنسية هناك. ويبدو أنه رجع من الجزائر كما جاءها جاهلا عنها كل شيء عدا المناظر الخلابة وما حدثه به القاضي فيرمي عن قانون الأهالي ووحشية الأحكام القضائية وتعذيب الجزائريين على أيدي الشرطة وشهوة الانتقام عند الكولون (¬2). وفي هذه الأثناء كان صوت الاشتراكيين الفرنسيين يمثله جان جوريس. ¬

_ (¬1) بوسكي، (ماركس وأنجلز)، مرجع سابق، ص 128 - 130. وقد اطلعنا على مقالة أنجلز في (الموسوعة الأمريكية الجديدة) فإذا بها شديدة اللهجة ضد وحشية الاستعمار الفرنسي في معاملة السكان، وقد حكم أنجلز بفشل سياسة الاستعمار العسكري والمدني، وسخر من وسائل الحضارة الفرنسية. انظر صفحات 351 - 343. (¬2) لا شك أن ماركس كان قد اطلع على ما كتبه أنجلز سنة 1857 في الموسوعة الأمريكية الجديدة، حول القضاء والاستعمار وفشل المهمة الحضارية الفرنسية، ووحشية الغزوات التي كان يشنها الجيش الفرنسي - مائة ألف جندي عندئذ - وقد سمى ماركس الجزائر (المدرسة الحربية للجنرالات الفرنسيين) حيث يتدربون ويتربون على هذه الأعمال الشنيعة.

وليس من غرضنا تتبع حياته وإنجازاته، وإنما الإشارة إلى أنه كان من أوائل المنادين بمنح التمثيل النيابي للجزائريين في البرلمان الفرنسي لكي يسمعوا صوتهم ويعرف النواب حقيقة ما يجري في الجزائر. ولم يكن جوريس وحده في ذلك ولا كان هو الأول. فقد كان هناك تيار اشتراكي كامل مثله هو وغيره (¬1). ولكن الاشتراكيين الفرنسيين تخلوا عن رسالتهم وساندوا الحرب العالمية وأيدوا استغلال الشعوب والاستعمار، وهم في أوروبا غيرهم في الجزائر والمستعمرات، وفي المبادئ غيرهم في التطبيق. فكانوا وبالا على الشعب الجزائري، ولا سيما منذ انفصالهم عن الشيوعيين غداة الحرب العالمية الأولى. وقد كان منهم موريس فيوليت، صاحب المشروع الاندماجي الخطير بين الحربين، ثم منهم قي موليه ولاكوست وميتران، زعماء حرب إبادة الجزائر (الذين آلوا على أنفسهم أن يحتفظوا بالجزائر الفرنسية) إلى الأبد. ولم يختلف عنهم زملاؤهم الشيوعيون كثيرا إلا في التفاصيل. فرغم أن هؤلاء تشجعوا بالثورة الروسية ومبادئ تقرير المصير، وتغيير وجه العالم بين الحربين، فإنهم ظلوا بصفة عامة مع الامبراطورية الفرنسية وضد استقلال الجزائر. وساهموا في إبقاء الجزائر ممزقة بالمفهوم الفرنسي - شعوبا وقبائل لتنافروا - وظلوا ينفون وجود (الأمة الجزائرية)، لأن ما عانته الجزائر من دعوات جهوية وصيحات باسم (الثقافات) المحلية إنما هو من نسيج هذه المدرسة الاستعمارية التي لم يتخل عنها الشيوعيون. وقد حاول هؤلاء دمج الجزائريين في التيار الشيوعي العالمي لا أن يعترفوا بحقهم في الحرية والاستقلال كشعب واحد له هوية خاصة، ورغم تعديل مواقفهم ومواقعهم بعد الحرب العالمية الثانية فإنهم ظلوا بعيدين عن المفهوم الوطني وانتماء الشعب الجزائري للحضارة العربية الإسلامية. ومع ذلك يجب القول إن المدرسة الشيوعية عموما قد أخرجت عناصر جزائرية معادية للاستعمار، ¬

_ (¬1) انظر عن ذلك بحث آجرون عن جان جوريس. وكان البان روزي من الذين اهتموا بقضية الجزائر ومعرفة آراء الأهالي.

وساهمت في تنوير الرأي العام وتجنيد الشباب ضد الاستغلال والامبريالية (¬1). وقد أعجب عدد من الجزائريين بالفكر الاشتراكي كما أعجب بعضهم بالفكر الشيوعي. وإذا كان أنصار الفكر الثاني قد ظهروا في شخص وكتابات عمار أوزقان وبشير الحاج علي وغيرهما، فإننا لا نكاد نجد من رسخ الفكر الاشتراكي بمعناه الكلاسيكي. حقيقة أن هناك معجبين بفكرة المشاركة في الملكية ومحاربة الإفراط الطبقي، ولكن هذا لا يكاد يخرج عن موقف المعجبين بالعدالة الإسلامية وسماحة الإسلام. وكانت الاشتراكية الكلاسيكية ما تزال تعيش في النظريات، ولم يكن الجزائريون في أوائل هذا القرن يذكرون أن مدرسة أونفنتان هي التي شجعت على الاستعمار والحكم العسكري البغيض وإرساء قواعد التمدين الفرنسي. ومن هؤلاء المعجبين المبكرين نجد عمر راسم. فقد كتب معبرا عن ذلك في جريدته (ذو الفقار) سنة 1914. ولعله كان يتابع أفكار جان جوريس من الصحافة الفرنسية. وقد جعل عنوان مقالته (صيحة اجتماعية) مما يبرهن على أن نظرته للاشتراكية إنما كانت نظرة عدالة اجتماعية لإنصاف المحرومين من الظالمين، كما كان حال الجزائريين. وفي نظر عمر راسم أن الاشتراكية قد أصبحت تهز العالم الأوروبي. فهي التي ترتعد منها أجسام أصحاب الثروة الطائلة هناك. ولا ندري لماذا خص أوروبا بالثراء بينما الكولون في الجزائر يشربون عرق مواطنيه وقد استثروا على حسابهم. فهل كان راسم فقط يتفادى المواجهة والرقابة حتى يمرر (صيحته) إلى هؤلاء المواطنين؟ وقد اعتبر راسم الاشتراكية حركة المستقبل للشعوب المتمدنة. وأين التمدن من الجزائر؟ ويقول إن الاشتراكية ¬

_ (¬1) لقد كتب الكثير عن موقف الشيوعيين من الحركة الوطنية، كما كتبوا هم عن أنفسهم. انظر كتابنا الحركة الوطنية، ج 2، 3. ومن الذين كتبوا في الموضوع جاك جوركي، وعمار أوزقان ومحمد حربي، وآجرون وجوليان وستورا، وإيمانويل سيفان وهنري اليغ ...

هي لغز التمدن، ومعجزة الأمم حين تصل إلى درجة عالية من الحضارة. وهو لغز عجز عن حله الفلاسفة وعلماء الاقتصاد السياسي. واعتبرها كذلك (حركة مباركة) كما اعتبر ألمانيا هي (مبعث الاشتراك) ومنها انطلقت إلى سائر الأمم (الأوروبية) حيث استفادت منها الطبقات العاملة، كما انتشرت في المدن الصناعية الآهلة بالعمال الذين اتخذوا من الاشتراكية مذهبا لهم في الحياة. وهو يسميها أحيانا، (مذهب الاشتراك) الذي أنصف الفقراء والمحتاجين والعمال وحتى (عقلاء الأمم الأحرار)، لا سيما أولئك الذين كانوا يعملون على المساواة بين الناس. وربما يفهم البعض أن الاشتراكية كانت معادية للدين، فبادر عمر راسم إلى حديث شريف نسبه للرسول (صلى الله عليه وسلم)، وهو حديث يذكر بالمساواة أمام الله وبأن التفاضل عنده إنما هو بالعمل الصالح والنافع للناس وليس بالمال والثروة، ونصه (لا فضل لعجمي على عربي ولا عربي على عجمي إلا بالتقوى) (¬1). وقد تبنى عدد من الجزائريين المذهب الاشتراكي والمذهب الشيوعي. واعتقد بعضهم أن هناك فرقا بين الشيوعية والاشتراكية. وظهرت أول منظمة سياسية (النجم) داخل الحزب الشيوعي الفرنسي. وكان زعيمها هو الحاج علي عبد القادر. ورغم أن مصالي لم يكن شيوعيا فإن عددا من أعضاء حزبه كانوا (اشتراكيين) بالمعنى الذي يقربهم من الشيوعية. وتبنى حزب الشعب المذهب الاشتراكي صراحة بينما كان يناصب الشيوعية العداء، وهو موقف لم يكن واضحا منذ البداية. وظهر زعماء شيوعيون من أمثال علي بوقرط والعربي البوهالي وعمار أوزقان. ومن الكتاب أمثال البشير حاج علي وكاتب ياسين. وكان لجريدة (هيومانيتي) الفرنسية و (الصراع الطبقي) ¬

_ (¬1) العدد الأول من جريدة (ذو الفقار)، 1914، نقلا عن قنان (نصوص)، مرجع سابق، مس 294. انظر مقالة عدالته ركيبي عن عمر راسم في (المجاهد الثقافي)، وعبد القادر جغلول (تكوين المثقفين) في (مظاهر الثقافة الجزائرية)، المركز الثقافي الجزائري، باريس، 1986 ص 81، نقلا عن زهير احدادان من جريدة (ذو الفقار) العدد 2، 26 أكتوبر 1913. قارن تاريخ الجريدة بما جاء في قنان، المرجع السابق.

و (الجزائر الجمهورية) تأثير على شريحة من النشطين الجزائريين قبل الثورة. وكان الضغط الاستعماري قد جعل عددا من العناصر (الوطنية) في حزب الشعب تنحاز أكثر فأكثر إلى المعسكر الاشتراكي الشيوعي. وقد ظهر ذلك جليا في برنامج طرابلس 1962 وفي ميثاق الجزائر 1964، وفيما تلا ذلك من أوراق نظرية وممارسات عملية. انتهى الجزء السادس ويليه الجزء السابع

المحتوى

_ الفصل الأول: الاستشراق والهيئات العلمية والتنصير ................ 5 مقدمة ............................................................. 7 الاستشراق ومراحله ................................................ 14 حلقات اللغة العربية .............................................. 14 مدرسة الآداب .................................................. 26 أعمال المستشرقين ............................................. 41 حياة بعض المستشرقين والمستعربين ........................... 62 اللجان العلمية: ............................................... 79 - لجنة الاكتشاف العلمي للجزائر ............................. 80 ? لجنة الاحتفال المئوي بالاحتلال .......................... 88 الجمعيات المتخصصة ..................................... 89 المعاهد الجامعية ........................................... 100 البعثات العلمية ومشاركة المثقفين الجزائريين فيها ............. 102 الكنيسة والتنصير .......................................... 105 نشأة الأسقفية .............................................. 108 - دوبوش ................................................ 108 - بافي ................................................... 114 - لافيجري ................................................. 119 - دي فوكو ............................................... 133 - النشاط التنصيري منذ 1930 .............................. 137

_ الفصل الثاني: الترجمة وظهور النخبة الإندماجية .................. 141 مترجمو الحملة وغداتها ........................................... 144 تنظيم فرقة المترجمين ........................................... 154 المترجمون الجزائريون ........................................... 157 تعاون الجزائريين والفرنسيين في مجال الترجمة ................... 169 الترجمة إلى العربية ............................................ 181 الاتجاه الإندماجي - الاستغرابي ................................ 197 الزيارات المنظمة لباريس وفكرة المعهد العربي ................... 200 أسر الأطفال وحملهم إلى فرنسا ................................ 204 دعاة التعليم باللغة الفرنسية الأوائل ............................ 209 نماذج من المثقفين الإندماجيين ................................ 223 ابن رحال - ابن العربي - بوضر بة - مرسلي - حامد - فخار - عطشي - ابن حمودة - بريهمات - ابن قلفاط - الزناتي - الفاسي -صوالح ... الفصل الثالث: مذاهب وتيارات ................................ 267 (نعمة) الاحتلال .............................................. 270 رأي باصيه، ود. وارنييه، وطوكفيل ............................ 280 رأي لافيجري، ولويس فينيون، وآخرين ......................... 285 (فرق تسد) ................................................... 399 معاداة العرب ................................................ 311 ومعاداة البربر ............................................... 315 التآمر على زواوة ........................................... 321 الدعوة إلى تعلم اللغة الفرنسية والتعليم عموما ................ 328 وضع المرأة ................................................ 337 الهجرة أو البقاء ............................................ 356 الإندماج، التجنس، النخبة ................................. 368

_ الجزائر في الكتابات الفرنسية .......................... 379 اليهودية والصهيونية ................................ 391 الماسونية ........................................... 407 الإسلام ووحدة الأديان ............................... 424 المثالية والاشتراكية ................................ 437

دار الغرب الإسلامي بيروت - لبنان لصاحبها: الجيب اللمسي شارع الصوراتي (المعماري) - الحمراء، بناية الأسود تلفون: 350331 - 009611: Tel / خلوي: 638535 - 009613: Cellulair فاكس: 742587 - 009611: Fax / ص. ب. 5787 - 113 يروت، لبنان DAR AL - GHARB AL - ISLAMI B.P.: 113 - 5787 Beyrouth, LIBAN الرقم: 337/ 2000/ 11/ 1998 التنضيد: كومبيوتايب - بيروت الطباعة: دار صادر، ص. ب , 10 - بيروت

HISTOIRE CULTURELLE DE L' ALGERIE PAR Professeur Aboul Kacem Saadallah Université d'Alger Tome 6 1954 - 1830 DAR AL-GHARB AL-ISLAIMI

الجزء السابع

الدكتور أبو القاسم سعد الله تاريخ الجزائر الثقافي الجزء السابع (1830 - 1954) دار الغرب الإسلامي

1998 دار الغرب الإسلامي الطبعة الأولى دار الغرب الإسلامي ص. ب. 5787 - 113 بيروت جميع الحقوق محفوظة. لا يسمح بإعادة إصدار الكتاب أو تخزينه فى نطاق إستعادة المعلومات أو نقله بأي شكل كان أو بواسطة وسائل إلكترونية أو كهروستانة، أو أشرطة ممغنطة، أو وسائل ميكانكية، أو الاستنساخ الفوتوغرافي، أو التسجيل وغيره دون إذن خطي من الناشر.

تاريخ الجزائر الثقافي

الفصل الأول العلوم الدينية

الفصل الأول العلوم الدينية

تمهيد

تمهيد نخصص هذا الفصل لعلوم التفسير والحديث والفقه، وكذلك الأثبات أو الأسانيد، والإجازات سواء كانت علمية أو صوفية، وستلاحظ أن التأليف في تفسير القرآن الكريم كان قليلا، وكذلك في الحديث الشريف. وتبعا لذلك ضعفت دراسة الفقه والتأليف فيه أيضا. ولسنا في حاجة، ربما، إلى القول إن ضعف التأليف في هذه المواد يرجع إلى ضعف الدراسات القرآنية والشرعية عموما، وهي تابعة إلى ضعف الثقافة العربية والإسلامية. وأنت إذا رجعت إلى فصول التعليم والثقافة ستكتشف أن ما خططه الفرنسيون منذ الاحتلال كان يرمي إلى قتل هذه الدراسات العربية والإسلامية وما ينجر عنها من تأليف وإنتاج وبحث. وقد تحقق هدفهم في ذلك إلى حد بعيد بالنسبة للتأليف في علوم التفسير والحديث والفقه والعلوم الدينية عموما. يحتاج التأليف في علوم القرآن إلى ثقافة واسعة معاصرة وتراثية، وفهم عميق لأسرار اللغة وأسرار الإعجاز القرآني، وكذلك إلى ثقافة تاريخية كبيرة، وكل ذلك لا تقوم به إلا المؤسسات العريقة والتقاليد العلمية الراسخة. وقد لاحظنا أن التأليف في العلوم القرآنية كان ضعيفا حتى في العهد العثماني وأرجعنا ذلك إلى أسباب ذكرناها، منها غياب جامعة إسلامية ذات تقاليد راسخة في الثقافة العربية، كالأزهر والزيتونة والقرويين، ومنها هجرة العلماء الأعلام إلى البلدان الإسلامية بحثا عن العلم والسمعة والرزق. وقد استمر الوضع كذلك في العهد الفرنسي مع التدخل المباشر والمقصود من أجل فرض الجهل وطمس اللغة العربية وثقافتها وإحلال اللغة الفرنسية وثقافتها محلها. كما أن روح الجمود قد ازدادت انقباضا وانكماشا أمام الهجمة الفكرية الاستعمارية، فكان الهروب إلى الزوايا والتصوف من جهة،

وكان النسيان والاندماج في ثقافة المحتل من جهة أخرى. حقيقة أن القرنسيين قد أسسوا ثلاث مدارس شرعية لتدريس العلوم الدينية، بما فيها الفقه، منذ 1850، وقد أسندوا إدارة كل منها إلى شيخ من شيوخ العلم المتوسطين. ثم وضعوها منذ السبعينات تحت إدارة مستشرقين وفرنسوا برامجها. وذكرنا أن سمة هذه المدارس كان تخريج الأيمة والقضاة للإدارة الفرنسية. وكان القاضي يتلقى معارف دينية وثقافة شرعية ومبادئ لغوية. وقد بلغ بعضهم درجة طيبة من العلم جعلته يشارك بالرأي والكتابة أحيانا في الحياة العامة. فكان منهم أعضاء في اللجان الرسمية، والمجالس الفقهية، وإصلاح القضاء، والترجمة وتدوين الفقه الإسلامي. وكان منهم بعض المدرسين اللامعين في الفقه وعلم الكلام. ولكن التفسير والحديث وعلومهما لم تكن من بين مواد الدراسة ولا من موضوعات الدروس العامة. ويتبع ذلك إبعاد القراءات وعلم التجويد والترتيل، وشروح الحديث. لكن هناك مواد أخرى استمرت كما كانت قبل الاحتلال لأنها لا تتصل بالرأي وإصدار الأحكام، ولكنها تعبير عن التواصل بين العلماء، ونعني بذلك تداول الأثبات والإجازات. وقد عرفنا من العهد العثماني أن هذا النوع من الانتاج كان في أغلبه علامة على ضعف الثقافة وليس على قوتها. كان تسجيل الثبت أو الفهرس أو البرنامج- حسب المناطق - يقصد به المدون إثبات ما تلقاه من علوم وتسجيل أسماء الذين تلقاها منهم، والكتب التي درسها بها. وهو عمل جيد في حد ذاته، ولكنه أصبح تجارة وإشهارا عند بعض العلماء المتأخرين. فهم يرون أن تدوين أسماء شيوخهم والكتب الدراسية غاية في نفسها. وسنرى أن بعض الأثبات والأسانيد كانت تتعلق بعلم الحديث بالذات وانتقاله بالرواية والتواتر إلى الجيل الحاضر. أما الإجازات فقد أصبحت سلعة بائرة، متداولة بين علماء العصر ومقدمي الطرق الصوفية، وهي تعني جمع شهادات من هنا وهناك، دون مراعاة الشروط الضرورية كالحضور الشخصي والتحصيل والتأهل. فكان الذي يمنح الإجازة كالذي يتلقاها منه، كلاهما يقصد المباهاة وتكثير الأتباع وترويج السمعة دون

التفسير والدراسات القرآنية

علم حقيقي. وكانت الإجازات مستعملة بين العلماء فأصبحت مستعملة أيضا بين المتصوفة. التفسير والدراسات القرآنية قلنا إن التأليف في التفسير خلال العهد الفرنسي كان قليلا، ولكن التفسير الشفوي كان متوفرا. وسنحاول أن نقول كلمة عن التفسير الشفوي قبل الحديث عن التفسير المكتوب. إلى عهد محمد بن يوسف أطفيش (حوالي الثمانينات من القرن الماضي)، كان التفسير مقصورا، على الدروس المسجدية أو في الزوايا أو في الخطب الجمعية والأعياد. فالعالم كان يختار آية من القرآن الكريم، عادة مما تسمح به الإدارة الاستعمارية، ويناسب موضوع الدرس أو الخطبة، ثم يأخذ في بيانها ومعانيها، حسب طاقته اللغوية والثقافية وحسب إدراكه لمحتوى المعاني. ونحن نقرأ في كتب السير والتراجم أن فلانا قد اشتهر بالتفسير. فيجب ألا نفهم من ذلك أنه ألف فيه أو وضع كراسا أو منهجا فيه، وإما المقصود أنه اشتهر بين المواطنين والمعاصرين بأنه يتناول في دروسه وخطبه الآيات القرآنية وليس الأحاديث أو الموضوعات الأخرى، وأنه كان صاحب صيت في ذلك، لأن علم التفسير لا يتعاطاه كل مدرس ولا كل خطيب. ولنبدأ بالأمير عبد القادر، فهو لم يترك لنا تفسيرا مكتوبا، مهما صغر (¬1)، ولكنه كان يلقي دروس التفسير أثناء راحته وأمام جنوده، وكان يختار آيات الجهاد والصبر ووصف المعارك وحياة الرسول (صلى الله عليه وسلم)، ويستخلص منها العبر والمواعظ. وكان بيانه وحماسه يساعدانه على بلوغ قلوب المستمعين. وقد استمر على ذلك في سجن امبواز بفرنسا، ثم في بلاد الشام. ولكننا لا نعرف أنه قد ترك تفسيرا مكتوبا، كما ذكرنا. وفي قسنطينة ¬

_ (¬1) تناول آيات وفسرها بالكتابة في كتابه (المواقف). انظر فصل العلوم الاجتماعية. وقيل إن للأمير تفسير (إذا الشمس كورت). انظر لاحقا.

اشتهر الشيخ أحمد العباسي بدروس التفسير قبل احتلال قسنطينة، وكان من قضاة الحاج أحمد وعلماء الوقت. وكذلك محمد ابن العنابي، صاحب (السعي المحمود) قبل نفيه من الجزائر سنة 1830. وقد استمر على ذلك بعد نفيه إلى مصر أيضا. وتشهد مؤلفاته في غير التفسير أنه كان قادرا على وضع تفسير جامع لأن استشهاداته بالقرآن كثيرة وثقافته الدينية عميقة، وقد كان جده أحد الذين تركوا تفسيرا مكتوبا خلال العهد العثماني، هؤلاء هم بعض المخضرمين من علماء الجزائر الذين درسوا التفسير ولم يؤلفوا فيه. ثم ظهر جيل نما في عهد الاحتلال أو رجع من هجرته إلى الوطن في هذا العهد. ومع ذلك لا نجده قد مارس التأليف في التفسير وإنما اقتصر على سعة المعرفة في كتب التفسير والتدريس في بعض آيات القرآن الكريم، ولا ندري إن كان عدم التأليف فيه يرجع إلى ضعف ثقافة هذا الجيل فقط، كما ذكرنا، أو إلى القيود التي كانت الإدارة تضعها على تناول الموضوعات المستمدة من القرآن وتفسيرها بما يناسب مع روح العصر وحاجة الناس. ومن الذين تحدثت الوثائق عن اهتمامهم وقدرتهم على تعاطي التفسير الشفوي: حميدة العمالي، مفتي المذهب المالكي بالعاصمة خلال الستينات، وعبد القادر المجاوي، وحمدان الونيسي. ومحمد الصالح بن مهنة وعبد الحليم بن سماية وشعيب الجليلي ومحمد بن عبد الرحمن الديسي، بالإضافة إلى بعض شيوخ العلم والتصوف (الأحرار) أمثال بلقاسم الهاملي وبلقاسم البوجليلي ومصطفى بن عزوز البرجي (النفطي). ومنذ 1920 اتسعت قائمة العلماء الأحرار، ورجع عدد من العلماء المهاجرين، وتضخم حجم الجمهور المثقف بالعربية وازداد الحماس للإصلاح والتغيير. وعرف الناس ما أطلق عليه اسم الدروس الحرة في المساجد الحرة، فكان (العلماء) ينطلقون عادة من آية قرآنية على منبر من المنابر أو في حفل ديني أو تعليمي، ومنها يحللون الأفكار وينقدون الأوضاع ويدعون إلى التغيير. كان هذا دأب دروس عدد من رجال الاصلاح الذين غطوا بنشاطهم في هذا المجال على نشاط رجال الدين الرسميين والمتصوفة

التقليديين. ولكن دروسهم لم تكتب ولم تنشر. ولا وضعوا منهاجا لتفسير كل القرآن أو جزء منه على نحو معين (وسنتكلم على من حاول ذلك منهم بعد قليل). إن ما نريد الإلحاح عليه هنا هو أن تفسير القرآن شفويا كان حجر الزاوية والمنطلق لمعظم دروس العلماء الأحرار خلال هذه الفترة. وكما كان الجيل الذي قبلهم يتفادى التفسير المنظم ويكتفي بدروس الفقه خوفا أو عجزا، كان هذا الجيل من العلماء الأحرار أكثر جرأة متخذين من تفسير القرآن غطاء دينيا لإبعاد أنظار السلطات الفرنسية عنهم. كما أنهم كانوا ربما أوسع ثقافة من زملائهم السابقين، فكانت جرأتهم لا تتمثل فقط في الدعوة إلى الاصلاح ومهاجمة الخصوم ولكن في اعتزازهم الثقافي وتمكنهم من التراث واتقان اللغة التي حرم منها زملاؤهم. غير أن التفسير لم يكن مقبولا عند كل العلماء، فبعض هؤلاء كانوا يفضلون دروس الفقه والتوحيد على دروس التفسير. ذلك أن كتب الفقه والتوحيد تضع لهم منهاجا لا يخرجون عنه. والحكومة الفرنسية قد سمحت لهم بذلك لتعليم العامة قواعد العبادات وصفات الله. أما تفسير الآيات من القرآن الكريم فهو يحتاج إلى رخصة رسمية، وعلى المدرس أن يختار الآيات التي تناسب المقام، وأن يتقيد بالمرخص فيه في الرأي والاستنتاج. ثم إن التفسير ليس مؤطرا كالفقه والتوحيد، بل يحتاج إلى (اجتهاد) المدرس إلى حد كبير، وذلك لم يكن متوفرا لفئة العلماء الرسميين إلا ما ندر منهم. ولذلك نقرأ في (رسالة الشرك) لمبارك الميلي أخبارا غريبة عن موقف بعض الكتاب والمدرسين من التفسير. فقد قال الميلي إن بعض العلماء والمتصوفة قد عارضوا دروس التفسير بدعوى أن صوابه خطأ وأن خطأه كفر. ونادى بعضهم بالاكتفاء بما ألف الأوائل من تفاسير، وكانوا يخافون من (الاجتهاد) في هذا المجال. ومما يذكر أن بعضهم قد كتب في جريدة (النجاح) ان الرجوع إلى الكتاب والسنة ضلال مبين وخسارة كبيرة!. وعارضت بعض الزوايا دروس التفسير في المساجد، وهي الدروس التي كان

يقوم بها العلماء الأحرار. وأثناء إلقاء ابن باديس درسا في التفسير بجامع سيدي عقبة قام له أحد المدرسين وأحدث ضجة وأعلن أنه لا فائدة من التفسير، والأولى منه درس في مختصر الشيخ خليل بن إسحاق في الفقه (¬1). ولكن هذا الرأي لم يكن هو الأساس دائما، فقد وجدنا بعض العلماء الرسميين والمتصوفة قد فسروا آيات من القرآن الكريم بطريقتهم وحسب فهمهم. ولا شك أن ظهور الحركة الإصلاحية ونمو التيار الوطني السياسي، قد شجعا هؤلاء على الخوض في التفسير أيضا. كما أن الحكومة الفرنسية قد تغاضت عن ذلك حتى تترك للمناقشة طريقها، لأن نشاط علماء الاصلاح قد أظهر عجز علماء الإدارة ورجال التصوف عن مواكبة الركب السياسي والثقافي. يذكر بعض مؤرخي الثقافة أن محمد معنصر الميلي بدأ تدريس التفسير سنة 1918 في الجامع الكبير بميلة، مبتدئا من سورة الفاتحة والبقرة. وكان له جمهور كيف. وكان هو من مزدوجي اللغة، ولكن ثقافته العربية كانت أقوى فيما يبدو، وقد درس في مسقط رأسه ثم قسنطينة، وتوظف رسميا، ثم ترك ذلك الوظيف واشتغل بالتدريس الحر، مكرسا جهده لتفسير القرآن الكريم. وقد قيل إنه كان ينزع إلى استخراج المعاني الجديدة من الآيات التي يفسرها، ويتعمد ذكر الأمراض الاجتماعية. ولكننا لا نعرف عنه ذلك إلا من خلال وصف تلاميذه وبعض معاصريه، أما الحقيقة فاننا لا نعرف طريقته ولا أسلوبه في التفسير، ولا أين انتهى فيه (¬2). جمهور هذا النوع من المفسرين كان من العامة في أغلب الأحيان. إنه جمهور التجار والفلاحين، وبعض المتعلمين والطلبة، ولذلك كان عليم أن يتبسطوا في اللغة والمعاني، وأن يتناولوا موضوعات ذات صلة بهذا الجمهور مثل العقائد المزيفة والأمراض الاجتماعية والمعاملات. ولا ظن أنهم كانوا ¬

_ (¬1) مبارك الميلي (رسالة الشرك)، ط. 2، 1966، ص 36 - 37. (¬2) انظر عنه فصل التعليم العربي - الإسلامي. وكذلك محمد علي دبوز (أعلام الإصلاح) 3/ 63.

يلقون بالعربية الفصيحة ولكن بالعربية المتفاصحة. ولو كان تفسيرا للقرآن بالفصيح وبالأسلوب العالي ربما لم يتابعهم فيه إلا القليل. ولكننا كباحثين عن الدليل لا نستطيع أن نحكم على قيمة هذا الجهد، لأن النص المكتوب يعوزنا. حقيقة أن هذا الجيل من المفسرين الشفويين قد أدى دوره وبلغ رسالته عن طريق الكلمة الناطقة، وكون شبابا وبعث شعبا كاملا بوسائله البيانية غير القلم، ولكن تجربته ستظل محدودة في الزمن، لأنها توقف بتوقف اللسان عن البيان. كان الشيخ العربي التبسي من هؤلاء المفسرين أيضا. بدأ ذلك بعد رجوعه من دراسته في الأزهر الشريف. كانت دروسه في الجامع الكبير بتسبة. وقيل إنه بدأ التفسير للعامة ولمن حضره من الخاصة، من السور القصار وتنقل منها إلى البقرة. وكانت ثقافته الدينية الواسعة تؤهله لهذه المهمة، فقد كان مطلعا على التفاسير وعارفا بأحوال العصر ومقتنعا بدور العالم في هذا المجال. فكان يتخذ من التفسير وسيلة للدعوة إلى التقدم والنهوض، لأن القرآن في أساسه يدعو إلى ذلك. وكان يعتمد منهجا معينا، يقوم على شرح الألفاظ واستخراج المعاني وتطبيقها على الواقع. ولذلك كانت الدعوة إلى الاتحاد والتقدم واليقظة هي الغاية، وكذلك الدعوة إلى نبذ البدع، والعمل بما جاء به القرآن. إن التبسي لم يستمر في مكان واحد، فقد تنقل من تبسة إلى غيرها من مدن الغرب ثم قسنطينة ثم العاصمة. ولكنه لم ينفك عن إلقاء دروس التفسير ومواصلة ما بدأه إلى أن ختمه في آخر سنة 1956. وكان ذلك قبل استشهاده ببضعة أشهر فقط. وقيل إن تدريسه للتفسير دام اثنين وعشرين سنة (¬1). وخلافا لبعض معاصريه كان الشيخ العربي التبسي يكتب أيضا في البصائر وغيرها. وكان يتناول في دروسه الوعظية وفي خطبه الدينية آيات من ¬

_ (¬1) دبوز (أعلام) 2/ 44. جمع أحمد الشرفي الرفاعي بعض آثار الشيخ العربي التبسي. وسماها (مقالات في الدعوة إلى النهضة الإسلامية في الجزائر) قسنطينة، دار البعث، 1981. ولا ندري إن كان منها دروس في التفسير.

القرآن الكريم، ولا ندري الآن ما إذا كان من بين ما نشر ما يدل على طريقته في تناول التفسير. وأحمد سحنون كان كذلك يجمع بين الدرس الشفوي في التفسير والمقال الصحفي الذي يستخرج فيه معاني بعض الآيات. وقد استمر على ذلك فترة طويلة، وكان ينشر إنتاجه على صفحات البصائر في باب دائم وخاص، ولكن هذا النوع لا يدخل أيضا في ما نحن فيه. إن الشيخ سحنون لم يسلك منهاجا في التفسير سار عليه خلال جزء أو أجزاء من القرآن الكريم، لنعرف منه، شفويا أو كتابيا، ما كان يرمي إليه وما أوجه مخالفته أو موافقته للمفسرين السابقين. وقد استمر الشيخ سحنون على طريقته المذكورة إلى ما بعد الاستقلال. واستطاع أن يؤثر في جيل من الشباب المتعلم - بعد الاستقلال - بأسلوبه الهادئ والأدبي والمستمد من القرآن الكريم (¬1). أما التفسير المكتوب فلم يصلنا منه بالرؤية أو بالرواية، إلا عدد ضئيل، كما ذكرنا، وقد بقى بعضه مخطوطا بينما أصبح بعضه مطبوعا متداولا. وسنذكر هنا المؤلفات سواء كانت لمقيمين أو لمهاجرين. وسنتبع في ذلك ترتيبا زمنيا: 1 - تحفة الأحباب في تفسير قوله تعالى: {ثم أورثنا الكتاب}. وهو لعلي بن محمد الميلي الجمالي. قيل إنه من ميلة، واستوطن مصر، وبها توفي. وربما جاء مصر حاجا فأقام، أو جاءها متعلما أو مهاجرا. وله عدة مؤلفات أخرى سنذكرها في مكانها. ومن الواضح أن هذا التأليف لا يخص إلا أية واحدة. فنحن لسنا أمام كتاب في تفسير القرآن كله أو حتى جزء منه. ولم نطلع على هذا التألف ولم نر من وصفه (¬2). ¬

_ (¬1) نشرت له في السنوات الأخيرة عدة مؤلفات، منها بعض مقالاته السابقة في البصائر. وهل منها بعض تفسيره أيضا؟. (¬2) معجم أعلام الجزائر، ص 121. توفي علي بن محمد الميلي بمصر سنة 1248 (1833).

2 - تفسير {إذا الشمس كورت} للأمير عبد القادر، ولا ندري هل هو تفسير للسورة أو للآية (¬1). 3 - التيسير في التفسير، ط. مسقط، سنة 1325، وهو في سبعة أجزاء. 4 - داعي الأمل ليوم العمل، ط. مسقط، في أربعة أجزاء. وهو من سورة الرحمن إلى سورة الناس. وقيل إن المؤلف كان ينوي مواصلة هذا التفسير إلى أن يصل التأليف إلى 32 جزءا، ولكن توفي قبل إتمامه. 5 - هميان الزاد ليوم المعاد. مطبوع في زنجبار، سنة 1888، وهو في أربعة عشر جزءا، وشمل تفسير القرآن كله. هذه المؤلفات أو التفاسير الأخيرة الثلاثة هي للشيخ محمد بن يوسف أطفيثس المعروف بالقطب (¬2). وقد كان في زمنه من أبرز العلماء العاملين بعلمهم. تكون في فترة (الحماية) الفرنسية على ميزاب (1853 - 1882) ثم أخذ ينشر علمه ويطبع تأليفه في الجزائر وغيرها، ومنها مؤلفاته في تفسير القرآن الكريم. وقد كان الوحيد عندئذ الذي ألف في هذا العلم على ما نعرف. وكانت له من الإمكانات الأدبية واللغوية والمواهب العقلية ما أهله لخوض هذا البحر. فقد كان ولوعا بالأدب واللغة والتاريخ والبلاغة والحديث، وله اطلاع واسع على الحضارات ومساهمات الشعوب. وكان بالطبع طموحا وذكيا ويملك زمام القيادة الروحية والفكرية في ميزاب. كما كان من العلماء المستقلين عن الإدارة الفرنسية، أي أنه لم يكن موظفا يتقاضى أجره من هذه الإدارة التي كانت تسيطر على الشؤون الدينية وغيرها مما يتعلق بالجزائريين. وقد كانت له علاقات مع بعض علماء الفرنسيين الذين كانوا يستميلونه للحصول منه على معلومات في تاريخ المنطقة. فلم يكن الشيخ أطفيش معزولا في صومعة عن العالم من حوله، بل كان فعالا متحركا مشاركا. وقد سافر وارتحل، وراسل الأعيان عدة مرات. ¬

_ (¬1) الخالدي (المهجرون الجزائريون)، قال إنه في مكتبة الأسد بدمشق، برقم 11470. (¬2) ترجمنا له في فصل السلك الديني القضائي.

أما تفسيره للقرآن فهو، كما لاحظنا، على عدة مستويات. والظاهر أنه لم ينطلق من مخطط واضح منذ البداية: هل يكتب تفسيرا ميسرا أو تفسيرا مطولا. فكان تفسيره المختصر (هميان الزاد) الذي ألفه وهو في العقد الثالث من عمره و (التيسير). ثم بدا له أن يضع تفسيرا مطولا وجامعا يكون عمدة التفاسير، فكان (داعي الأمل) الذي لم يتمه لسوء الحظ. ومن مميزات تفاسير الشيخ أطفيش أنها مطبوعة، وهو ما لم يتيسر لبعض علماء الجزائر الآخرين الذين ربما كتبوا ولم يطبعوا كتبهم. اطلعنا من تفسير القطب على أجزاء من تيسير التفسير، فوجدناه طويلا في مخططه، لأنه انتهى في السادس منه إلى سورة (النحل) من قوله تعالى: {وقال الله لا تتخذوا الهين اثنين إنما هو إله واحد} ولا ندري هل أتمه، والظاهر أنه لم يفعل لأن بطاقات مكتبته في بني يزقن لا تذكر ذلك. أما الأجزاء التي ظهرت منه (من واحد إلى السادس) فقد طبعت بسلطنة عمان سنة 1325 (¬1). وجاء في خطبة هذا التفسير، وهي مختصرة، إنه كان قد ألف في التفسير وهو في الخامسة والعشرين من عمره، كتابا سماه (هميان الزاد إلى دار المعاد). والظاهر أنه أحس بأن (هميان الزاد) كان دون ما كان يريد بعد أن تقدمت به السن، فأراد أن يضع تفسيرا جديدا يصب فيه أفكاره بعد أن نضج سنا وفكرا. كما أن تفسيره الآخر الذي سماه (داعي الأمل ليوم العمل) فقد كان متوسعا على من يريد الاختصار فخشي أن يتكاسل القراء عنه لتفاصيله. وأمام كل ذلك عزم على وضع تفسير جديد وهو الذي سماه (التيسير)، وتمنى على الله أن يجعله مما يغتبط به ولا يمله القارئ، كما تمنى عليه أن يوفقه لإكماله. ونبه إلى أنه وضعه على حرف نافع واتبع فيه مصحف عثمان (¬2). ¬

_ (¬1) أما الطبعة الثانية فقد ظهرت بمطبعة عيسى البابي الحلبي - القاهرة 1981. (¬2) من خطبة تيسير التفسير، ج 1، ص 7. وكذلك رسالة من الشيخ محمد شريفي 14 أبريل، 1995.

يقع الجزآن اللذان اطلعنا عليهما في حوالي ألف صفحة (498 و 511). واستغرق الأول سورة البقرة، وابتدأ الثاني من سورة آل عمران. وبداية الأول تفسير البسملة والتبرك بها في كل مباح وما هو للعبادة. وقال إن البسملة لا تكتب في أول دواوين الشعر إلا إذا كان موعظة أو علما، أو فيما هو غير ممنوع شرعا، ثم فسر سورة الفاتحة. وهكذا، وقد اهتم فيه بتفسير اللغة والمعاني والنحو، واستشهد بالحديث وبالشعر أحيانا .. ولكن باختصار، ولم يذكر مصادره، وإنما هي تبدو غزيرة من الإحالات عليها، وأول الجزء الثاني هو تفسير سورة آل عمران، وآخره هو قوله تعالى من سورة النساء: {فللذكر مثل حظ الأنثيين، يبن الله لكم أن تضلوا، والله بكل شيء عليم} ويبدو أن المطبوع لا يساير المخطوط، لأن نسخة مكتبة بني يزقن تختلف في بدايتها عن ذلك. سبق أن أول تفسير للشيخ أطفيش هو (هميان الزاد). وقد طبع سنة 1888 في زنجبار في أربعة عشر جزءا. وكان الشيخ عندئذ في أوج قوته الفكرية شبابه. ولا ندري مدى رواج هذا التفسير عندئذ. غير أن الطباعة في حد ذاتها قد ساهمت في التعريف به وبصاحبه. وكان نشره عشية ميلاد ابن باديس، وفي وقت كادت تتوقف فيه عجلة التاريخ الثقافي في الجزائر، ويكفي أن تعرف أنه هو وقت لويس تيرمان، الذي كان حاكما للجزائر، وكان من أظلم العهود في مجال التعليم على الخصوص، وكانت ميزاب، حيث الشيخ أطفيش، قد احتلت خلال هذا العهد أيضا. ويفهم من إشارات وجدناها في بطاقات مكتبة القطب أن أجزاء من هميان الزاد تحمل تاريخ شهر رمضان سنة 1271 وهي بخط المؤلف. وجاء في إحدى المراسلات أن الشيخ أطفيش قد انتهى منه في شهور سنة 1306 (¬1)، وهو بعيد مما ذكرنا من بطاقات المكتبة. ولم نطلع على الطبعة الجديدة من (هميان الزاد) التي يقول الشيخ شريفي إنه اتصل منها بالجزء الخامس وآخره سورة المائدة، وأنه أعيد ¬

_ (¬1) محمد شريفي رسالة 14 أبريل، 1995.

طبعه سنة 1406? 1986. ويذهب أحد الباحثين المعاصرين إلى أن الشيخ أقد تأسف على انتشار- الهميان - لما تضمنه من أخبار وآراء ظهر له عدم صحتها وبعدها عن الموضوعية، مع تقدم السن، وتمنى لو أمكنه جمع نسخ الكتاب لإتلافها) (¬1). أما تفسير الشيخ أطفيش الآخر، وهو (داعي الأمل)، فهو تفسير جزئي، بدأه بسورة (الرحمن) ولم يتمه أيضا. وقد وصل فيه إلى سورة (المزمل) عند قوله تعالى: {ورتل القرآن ترتيلا}. وأوله هو قول الشيخ: (قد علمت أن ترتيب السور والآي توقيف في الدرس والمصاحف ولو خالف ترتيب النزول. فهذه السورة (تأتي) بعد سورة {اقتربت الساعة}. أما آخر الكتاب أو الموجود منه فهو قوله: (وليس بالكثير، وذلك أمر بترتيل القرآن في الليل وغيره، وليست الآية في قيام الليل). أما حجم هذا الكتاب فلا ندري بالضبط. ففي رسالة الشيخ شريفي أن عدد أوراقه 322، وفي بحث السيد بوتردين أنه يقع في جزئين كبيرين، ولا نعرف إن كان (داعي الأمل) قد طبع حتى الآن. مما اطلعنا عليه من تفسير الشيخ أطفيش نفهم أن صاحبه مهتم بتقريب المعاني القرآنية إلى أذهان قرائه في عصره وبأسلوبه المباشر والوعظي. ويبدو أن تفسيره يمثل خلاصات دروس كان يلقيها أو يمليها على تلاميذه، وربما على جمهور المساجد أيضا. ولذلك جاء تفسيره خاليا من الاستنباط العقلي الهادف إلى مطابقة القرآن لروح الزمان أو العصر الذي كان يؤلف فيه الشيخ، وهي الطريقة التي حاول أن يسلكها الشيوخ محمد عبده ورشيد ورضا وعبد الحميد بن باديس. ذلك أن هؤلاء جميعا قد عاصروا تحديات الاستعمار والمستشرقين والعلمانيين المسلمين الذين أخذوا يقولون أن القرآن لم يعد ¬

_ (¬1) نفس المصدر. عن رسالة الماجستير التي كتبها الباحث يحيى صالح بوتردين بعنوان (محمد بن يوسف أطفيش)، وقدمها إلى جامعة عين شمس (القاهرة) سنة 1989/ 1410.

صالحا للعصر الحاضر أو أنه هو سبب تخلف المسلمين، وأنه سبب العداء بينهم وبين غيرهم. ولعل عيشة الشيخ أطفيش بعيدا عن المراكز الحضرية والصراعات الفكرية قد جعلت تفسيره كأنه يرجع إلى عصور خالية من حيث روحه وأهدافه. وقد نقول إن إقدامه على التفسير كان بدافع الخدمة الدينية والأدبية أكثر مما هو بدافع الخدمة العقلية والسياسية. فإذا كان هدفه هو ذلك فقد نجح نجاحا كبيرا. على أننا يجب ألا ننسى ما ذكرناه من أن زمن الإقدام على التفسير كان أثناء عهد تيرمان وما بعده، وفي ذلك تحد كبير للمخطط الاستعماري نحو الثقافة العربية - الإسلامية. وربما أقيم للشيخ أطفيش حفل عند ختمه تفسير القرآن. فنحن لا نجد فيما لدينا من وثائق أن ذلك قد حصل. ولكن العادة قد جرت منذ القديم أن ختم القرآن درسا أو تأليفا يستحق صاحبه التكريم والتعظيم. وقد نال الشيخ حظوة كبيرة بتآليفه العديدة ودروسه ودوره الديني والاجتماعي. أما مناسبة ختم القرآن، إن كانت، فنحن نجهلها الآن. لقد ظل تفسير الشيخ أطفيش هو الوحيد في الميدان، ولا نعرف أن عالما آخر، مستقلا أو موظفا، قد ألف في التفسير بعده إلى ظهور الشيخ عبد الحميد بن باديس، وقد بدأ ابن باديس دروسه في التفسير منذ سنة 1929، وكان يلقيها وينشرها تباعا في مجلته (الشهاب) تحت عنوان (مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير وحديث البشير النذير)، وفي 1939 ختم الشيخ ابن باديس القرآن الكريم، وأقيم له حفل يليق بمقامه العلمي وبإنجازه الكبير. وكان الاعتقاد عندئذ أن ختم القرآن هو عمل ديني قبل كل شيء. أما الجانب العلمي والأدبي فهو غائب أو ثانوي. وقد شارك المشاركون عندئذ في مدح الشيخ والإشادة بما قدمه للجزائر عموما وما قدمه للإسلام. وكان الشيخ الإبراهيمي هو الذي أشرف على الحفل الذي تبارى فيه الخطباء والشعراء، ولا نعرف أن عالما آخر ختم القرآن واحتفل به بمثل هذا الاحتفال في الجزائر. على أنه جرى مثل هذا الاحتفال بعد عدة عقود في ميزاب عندما

ختم الشيخ إبراهيم بيوض تفسير القرآن أيضا (¬1). ظهر تفسير ابن باديس في عدة طبعات وأشكال، منها ما طبعته الشهاب، كما ذكرنا، ومنه ما جمعه وأصدره الشيخ محمد الصالح رمضان وتوفيق محمد شاهين بعد الاستقلال (1964) (¬2). ثم ما أصدرته وزارة الشؤون الدينية في الثمانينات. وهو من حيث الحجم لا يمثل عملا ضخما موسعا، في حجم أحد تفاسير الشيخ أطفيش. ولكنه من حيث القيمة يظهر عظيما، ويرجع ذلك إلى اهتمام ابن باديس بالربط بين معاني القرآن والحياة المعاصرة. ويمكن أن نسمي ذلك توليد المعاني من القرآن لكي تناسب دعوته إلى النهضة والأخذ بأسباب الحياة. فتفسيره ليس لفظيا قائما على بيان اللغة والدين والأدبيات القرآنية، ولا على ما ورد في القرآن من آثار وأخبار ومواعظ، وإنما هو تفسير لهداية المسلمين المعاصرين إلى ما في القرآن من حث على العمل والنهوض والاستعداد للتقدم والحياة المثلى في الدنيا والآخرة. 5 - يذهب علي مراد الذي خص تفسير ابن باديس - بدراسة نقدية، أن هذا التفسير كان قد نشره ابن باديس في شكل مقالات في (الشهاب) خلال عشر سنوات، وكان توجهه فيه سلفيا، سار فيه على طريقة الشيخ محمد عبده وتلميذه رشيد رضا، وكان ابن باديس يهتم بإظهار الأصالة الإسلامية. وقد تميز تفسير ابن باديس بخصائص: منها أنه تجاوز فيه تقاليد الإسلام في بلدان المغرب العربي، تلك التقاليد القائمة على الطقوسية والحياة الشرعية والأحكام الفقهية بأسلوب جاف، وهو ما نجده عند الشيخ محمد بن يوسف أطفيش من المتأخرين. أما ابن باديس فكان يبحث، كما يقول علي مراد، عن حلول إسلامية للمجتمع الاسلامي أمام الغزو الغربي. وتشمل هذه الحلول الميادين السياسية والاجتماعية والثقافية، ولذلك فإن تفسير ابن ¬

_ (¬1) لن نتناول تفسير الشيخ بيوض هنا لأنه خارج المرحلة التي حددناها. (¬2) نشر دار الكتاب الجزائري (دون تاريخ)، الجزء الأول، 496 ص.

باديس يدخل في نطاق مسألة الأفكار وصراعها مع الحياة المعاصرة في الجزائر. لم يسر ابن باديس في تفسيره على الطريقة التقليدية، أي كان تفسيرا منتظما شاملا، ولكنه اقتصر فيه على أجزاء متفرقة، فهو تفسير جزئي. ولكنه اتخذ من القرآن وسيلة لتوضيح الأفكار المعاصرة من أجل بناء مجتمع إسلامي في نطاق المدنية الإسلامية المتلائمة مع روح العصر والوفية لروح الإسلام نفسه. وإذا نظرنا إلى حجم تفسير ابن باديس فإننا نجده يمثل أكبر قدر من كتاباته الفكرية. وقد ظهر فيه ابن باديس باحثا ناقدا موازنا وليس صحفيا يكتب بسرعة ليرد على رأي أو ليعالج مسألة آنية. ان ابن باديس قد ظهر فيه معلما رزينا ومستنطبا حكيما، خائضا في مسائل العقائد الإسلامية والأفكار المعاصرة، وهكذا يصبح تفسير ابن باديس مصدرا أساسيا للفكر الإصلاحي في الجزائر ولما سماه بعضهم بمدرسة (الشهاب)، وربما مصدرا أساسيا للفكر الاصلاحي الحديث عموما. ولذلك يحتفظ هذا التفسير بقيمته الخاصة رغم ما قد يوجه إليه من نقد أحيانا. إن ابن باديس يظل في تفسيره متمسكا بالمذهب المالكي ومتحذرا في معالجة مسائل العقائد، فهو محافظ في نظر بعض المعاصرين ومن جاء بعدهم. ورأى علي مراد أن ابن باديس لم يخرج على التيار الفكري العام، كما خرج بعض العلماء المسلمين مثل مصطفى عبد الرازق المصري الذي عالج مسألة (الإسلام وأصول الحكم) سنة 1925. ولا مثل الطاهر الحداد التونسي الذي ألف كتابه المعروف (امرأتنا في الشريعة والمجتمع) سنة 1930. وربما كان لابن باديس هدف آخر من التفسير، وهو عند علي مراد، أن يظهر للمواطنين الجزائريين أن العلم الإسلامي غير مقصور على دراسة المنطق والفقه والنحو والأسلوب، وقد يكون أراد أيضا أن يفسر القرآن في الجزائر ليبين أن هذا الموضوع غير مقتصر على المشارقة، وأن بإمكان المغاربة أن يتفوقوا في هذا الباب. ولعله كان بإمكانه أن يفسر القرآن بطريقة الشيخ أطفيش أو البيضاوي أو الثعالبى. ولكنه اختار طريقة الشيخ عبده.

وهو معالجة الأفكار الأساسية في ضوء حاجات ومصالح العصر. وقد قلنا إن تأثر أيضا بتفسير رشيد رضا، وإنه، كما لاحظ علي مراد، اعتبر نفسه مسخرا من القدر لمواصلة رسالة رشيد رضا بعد وفاته سنة 1935 (¬1). وقد سبقت الإشارة إلى أن الذي تولى جمع المقالات الأساسية لتفسير ابن باديس كما ظهرت في مجلة الشهاب، هو الشيخ محمد الصالح رمضان وزميله المصري توفيق محمد شاهين في منتصف الستينات. ويذهب علي مراد أن كتاب الشيخين المذكورين قد تصرف في المقالات الباديسية بالتقدم والتأخير والحذف. كما وقع التصرف في وضع العناوين. وقال أيضا إن الكتاب لم يتضمن تحلية ونقدا وإنما اكتفى بالجمع، وأن فيه أخطاء إملائية ولغوية (¬2). ومهما كان الأمر، فإن تفسير ابن باديس، رغم أنه جزئ وأنه ظهر في شكل مقالات افتتاحية لمجلة الشهاب، قد تضمن منهجا لدراسة القرآن وفهمه وتقديمه للجمهور الإسلامي، متعلما وغير متعلم، وربما لو عاش ابن باديس طويلا لتفرغ لكتابة تفسير آخر شامل للقرآن كله، وبأسلوبه المذكور، لأن الوفاة قد أدركته وهو في أوج العطاء الفكري، على أنه يكفيه أنه قد وضع العلامات في الطريق. 6 - وقد نسبت بعض الكتب إلى الشيخ أحمد بن عليوة تفسيرا لبعض ¬

_ (¬1) علي مراد (ابن باديس مفسرا للقرآن)، ط. موتون، لاهاي، 1971، المقدمة. وقد درس علي مراد تفسير ابن باديس، كما ظهر في مجلة (الشهاب) 1929 - 1939. وقسم عمله إلى ثلاثة أبواب: الباب الثاني منها وعنوانه تفسير القرآن في الشهاب، وفيه عدة فصول، منها فصل عن منهج ابن باديس في التفسير. أما الباب الثالث فعنوانه: الموضوعات الرئيسية لتفسير ابن باديس، وفيه عدة فصول شملت الموضوعات الدينية، والأخلاقية والاجتماعية والسياسية والثقافية. (¬2) علي مراد، مرجع سابق، ص 250. والغريب انه قال أنه اطلع على هذا الكتاب عندما كان هو يوشك على الانتهاء من تأليفه الذي صدر، كما ذكرنا، سنة 1971.

الآيات والسور، فقد ذكر الباحث الإنكليزي (مارتن لانغز) الذي أصبح من أتباع الشيخ ابن عليوة، أن هذا فسر آيات من سورة (البقر) ووصل إلى الآية الأربعين منها. وقال (لانغز) إن هذا التفسير لم يطبع وأن مخطوطته الوحيدة موجودة في زاوية مستغانم العليوية. كما ذكر لانغز أن ابن عليوة قد فسر سورة (والعصر) تفسيرا فيه تصوف، ومن ذلك أنه فسر معنى (الخسر) بأنه (إشارة إلى حالة الإنسان البدنية على الأرض بالقياس إلى حالته الروحية الصرف في السماء بعد خلقه، ولكن قبل تصويره). وهناك إشارة ثالثة إلى اهتمام ابن عليوة بالتفسير إذ نسب إليه لانغز أيضا كتابا بعنوان (لباب العلم في سورة النجم) كتبه سنة 1915 (¬1). وبقطع النظر عن روح التصوف التي تشيع في مؤلفات وآراء الشيخ أحمد بن عليوة، فإن ما نسبه له مارتن لانغز ليس تفسيرا بالمعنى الدقيق للكلمة، سواء بمنهج القدماء أو بمنهج المحدثين. وإنما هو فهم وتدريس وبيان لمعاني بعض الآيات من هذه السورة أو تلك. ولو اطلعنا على المخطوط الذي أشار إليه لانغز لعرفنا منه طريقة ابن عليوة في تناول بعض آيات سورة البقرة. وربما كان قد كتب مقدمة لهذا المخطوط يذكر فيها دوافعه وأهدافه ومنهجه من التفسير. 7 - وهناك شيخ آخر قيل إنه ختم تفسير القرآن الكريم بالجامع الأعظم بتلمسان. ولا ندري متى كان ذلك بالضبط. ومهما كان الأمر فان هذا الشيخ هو علي البوديلمي بن محمد، وهو من الذين جمعوا بين العلم والتصوف. فقد درس على ابن باديس في قسنطينة، ثم توجه إلى جامع الزيتونة بتونس، ثم إلى القرويين بالمغرب، وتحصل على شهادات في العلوم الإسلامية وفي الحديث بالخصوص، وكان هذا الشيخ رحماني الطريقة، ثم مال إلى العليوية (الشاذلية). وتوظف عند الإدارة الفرنسية إذ ولته وظيفة مدرس بجامع تلمسان، بعد مسابقة جرت في وهران سنة 1942. وكان مفتي وهران عندئذ ¬

_ (¬1) مارتن لانغز (الشيخ أحمد العلوي)، بيروت، 1973، ص 222.

هو الشيخ حسن بو الحبال (¬1). جمع الشيخ علي البوديلمي إلى نشاطه المذكور نشاطه في الصحافة أيضا. فقد كان من جهة مدرسا، كما تقتضي وظيفته الرسمية، ولكنه أسس أيضا زوايا تقوم بنشر التعليم العربي، إما قناعة منه وإما منافسة لمدارس جمعية العلماء، وكذلك كان مديرا لمدرسة سيدي بومدين. ونشر البوديلمي صحيفة بعنوان (الذكرى) في تلمسان لا ندري كم دامت. وأثناء هذا النشاط، وربما أثناء إلقائه دروس الوعظ والإرشاد في الجامع الأعظم ختم الشيخ تفسير القرآن، حسبما ترجم له عبد الغني خطاب ونقل ذلك عنه الشيخ الهاشمي بكار. وقيل إن حفلا كبيرا أقيم بهذه المناسبة ألقيت فيه الخطب والقصائد. وربما يوجد في الصحف المعاصرة وصف لهذا الحفل، ووصف لمنهج التفسير الذي سار عليه الشيخ. ومهما كان الأمر فان هذا الختم كان شفويا وليس كتابيا، أي أنه نتيجة دروس كان الشيخ يلقيها مدة طويلة، إذ قيل ان وجوده في المهنة قد دام أكثر من ربع قرن (¬2). ولا ندري هل تأثر الشيخ البوديلمي في تفسيره بشيخه ابن باديس وبعض شيوخ الزيتونة والقرويين، أو تأثر بشيخه ابن عليوة وبعض شيوخ الزوايا الآخرين. وربما يكون في صحيفة (الذكرى) أو غيرها بعض نماذج من تفسيره. وفي (المرآة الجلية) بعض التفاصيل عن حياة البوديلمي نذكر منها أن والده كان من أتباع الرحمانية ومن تلاميذ عبد القادر المجاوي في العلم، وقرأ في بجاية على السعيد الحريزي (الاحريزي)، واختلف إلى زوايا ومعاهد ¬

_ (¬1) انظر عنه محمد الهادي السنوسي (شعراء الجزائر) فهو فيه أحد الشعراء خلال العشرينات. (¬2) الهاشمي بكار (مجموع النسب)، ص 174 - 176. انظر أيضا الجيلاني بن عبد الحكم وكتابه (المرآة الجلية)، المطبعة الخلدونية، تلمسان، 1953. إذ ترجم فيه للشيخ البوديلمي ص 351 - 357. ونشر الشيخ الهاشمي كتابه حوالي 1961، وعندما يقول: (إلى الآن) لا ندري هل يشير إلى التاريخ المذكور أو إلى تواريخ أخرى سابقة.

زواوة، منها معهد اليلولي ومعهد أحمد بن يحيى، وسافر (أي الوالد) إلى المشرق وتجول فيه، وتوفي سنة 1943 عن 96 سنة. كما أن والدة علي البوديلمي كانت من أصول صوفية إذ ترجع إلى سيدي علي الطيار بقرب برج بوعريريج. وكان والده مدرسا في زاويتهم بالمسيلة قرابة أربعين سنة، وكان له معاونون من العلماء والمرشدين. أما علي البوديلمي نفسه فقد درس في زاوية أبيه بالمسيلة، ثم رحل إلى زاوية الهامل فقسنطينة حيث درس على ابن باديس والحبيباتني والطاهر زقوطة ويحيى الدراجي وغيرهم. ثم قصد تونس فدرس على مشائخ الزيتونة أمثال معاوية التميمي وأبي الحسن النجار، والطاهر بن عاشور. كما زار المغرب وأخذ علم الحديث هناك، وحصل على إجازات من شيوخه سواء في قسنطينة أو تونس أو في المغرب. وبعد رجوعه إلى زاويتهم بالمسيلة تولى التدريس بها ثم في غيرها مثل زاوية بوجملين، والجعافرة بزواوة، ثم اتجه غربا نحو غيليزان ثم مستغانم حيث درس وتتلمذ على الشيخ ابن عليوة الذي كان شاذليا - درقاويا. ولم يتفاهم مع خلفاء هذا الشيخ بعد وفاته سنة 1934، ولذلك أسس البوديلمي زاوية خاصة به في تلمسان، وجعلها للتدريس والتصوف، كما فتح زوايا أخرى في غير تلمسان ومنها واحدة في وهران. وكان فتح الزوايا لا يتم إلا بموافقة السلطات الفرنسية طبعا! وقد كان الشيخ البوديلمي موظفا رسميا عندها منذ 1942، كما ذكرنا. ولعل اهتمامه بالتصوف وقبوله الوظيف الرسمي هما اللذان حالا دونه ودون الانضمام إلى جمعية العلماء وبرنامجها الإصلاحي والتعليمي. ولنا أن نتصور أن الشيخ البوديلمي كان، رغم علمه، من خصوم جمعية العلماء. وقد كان نشاطه في تلمسان في الوقت الذي كان فيه الشيخ الإبراهيمي هناك ممثلا للجمعية (¬1). ولا نحسب أنهما كانا على وفاق، رغم أنهما من جهة واحدة. ¬

_ (¬1) اعتقل الإبراهيمي سنة 1940 في الوقت الذي توفى ابن باديس. ونفى الإبراهيمي إلى آفلو حيث بقي إلى 1943 (سنة توظيف البوديلمي رسميا). انظر دراستنا عن الإبراهيمي في تلمسان في كتابنا أبحاث وآراء، ج 3.

كان البوديلمي يلقي دروسه في التفسير والحديث بالجامع الأعظم بتلمسان. ويهمنا الآن تفسيره للقرآن في دروسه. ولا نعرف أن تفسيره كان مكتوبا. وكان يخلط الدرس ربما بآرائه في التصوف، وكانت تعقد احتفالات سنوية يحضرها تلاميذه وأنصاره وأشباهه من العلماء. وقد عبر عنها صاحب (المرآة الجلية) بأنها نوع من سوق عكاظ حيث ففي الشعر والخطب. ومما يدل على الخلط بين العلم والتصوف أن ابن عبد الحكم يقول إن الاحتفال يشبه ما كان يقيمه ابن عليوة أثناء حياته. وقد نوه أحد رحالة المغرب، وهو الشيخ الوارزقي بدروس البوديلمي في الجامع الأعظم في الأخلاق والدين، وأخبر أن الناس كانوا يحترمونه ويلتفون حوله لتقبيل رأسه ويده. ولا شك أن هذا أيضا من تقاليد المتصوفين (¬1). وللبوديلمي عدد من المؤلفات لم نطلع عليها، وليس منها عنوان في تفسير القرآن الكريم، وقد ذكرها له صاحب (المرآة الجلية) (¬2). أما المفتي الحنفي محمد العاصمي فقد كان يلخص تفسيره لبعض الآيات في مجلة (صوت المسجد)، ولعله كان يلقي دروسا في الجامع ¬

_ (¬1) ابن عبد الحكم (المرآة الجلية)، ص 351 - 357. عن مقالة نشرت في جريدة (النجاح) 8 ديسمبر 1951. وذكر ابن عبد الحكم بعض القصائد التي قيلت في إحدى هذه المناسبات العكاظية. (¬2) (المرآة الجلية). لا ندري هل هذه المؤلفات مطبوعة أو مخطوطة ولا محتوياتها. ويبدو أنها من نوع الوعظ والإرشاد والردود. وهي: 1 - إماطة اللثام. 2 - رفع التلبيس عن وساوس إبليس. 3 - حاجة البشرية إلى الدين. 4 - الرسالة الديلمية في صيانة العائلة الإسلامية. 5 - كشف الغيم في قضية عيسى بن مريم. 6 - رماح علاء السنة المحمدية. (وربما كان هذا انتصارا لجمعية علماء السنة التي نافست جمعية العلماء برئاسة ابن باديس بعض الوقت 1932 - 1934). 7 - ديوان في المديح والأذكار.

الجديد، حيث مقر المفتي الحنفي. وكان العاصمي من العلماء الأدباء، وقد تناولناه في مناسبة أخرى عندما كان يكتب المقالات الصحفية ويستنهض الهمم في العشرينات والثلاثينات. ويبدو أنه لم يبق على ذلك التيار الفكري بعد أن أصبح من الموظفين الرسميين. ومهما كان الأمر، فقد لاحظنا أنه كان يعرض لبعض الآيات ويفسرها تفسيرا ملخصا موجزا بعبارات بسيطة كأنها موجهة للعامة وللمبتدئين، ومعظمها في معاني دينية وأخلاقية. ونعترف بأننا لم نطلع على كل ما لخصه من التفسير في المجلة المذكورة. ولا ندري متى تولى الفتوى وأخذ في التدريس في علم التفسير، ولكن المجلة ظهرت في خريف 1948 لتعبر على حال (رجال الديانة الإسلامية) الموظفين لدى الإدارة الفرنسية. واستمرت بضع سنوات. وقد وصلتنا أعداد من (صوت المسجد) من سنة 1949 - 1951، فوجدنا افتتاحياتها تحمل هذا العنوان الطويل: (عرض وتلخيص واستنتاج من تفسير الذكر الحكيم) بقلم محمد العاصمي. وطريقة ذلك أنه يذكر آية ثم يعرض معناها ويلخصه ويستنتج منه باختصار، وليس في (الاستنتاج)، بمعنى الاستنباط، ما يذكر هنا. فالمساحة لكل ذلك عبارة عن صفحة. وقلما يسقط معنى الآية على الأوضاع الحاضرة، ورغم بساطة الأسلوب فإن المعنى يظل بعيدا عن الواقع. ومهما كان الأمر فان ما كتبه العاصمي في هذا الصدد لا يخرج عن مهنة الوعظ والإرشاد التي كان يقوم بها في حدود ما تسمح به الظروف الإدارية. وقد أفادنا بعض الشيوخ (¬1) أن العلماء الآتية أسماؤهم قد مارسوا التفسير في دروسهم أيضا - دون التأليف - وهم: 1 - محمد المولود بن الموهوب، أحد علماء قسنطينة في أول هذا القرن (توفي 1939). 2 - الهاشمي بن الحاج اليعلاوي. ¬

_ (¬1) محمد الحسن عليلي، رسالة في شهر مايو، 1995.

3 - الفضيل إسكندر، أحد علماء المدية. ورغم إمكانات العقبي والإبراهيمي العلمية فاننا لا نعرف أنهما وضعا مشروعا لتفسير القرآن الكريم. كان كل منهما منهمكا في تكوين الجيل والتلاميذ ومحاربة خصوم الإصلاح والتمهيد للنهضة الوطنية. وكان الإبراهيمي بالخصوص قد تولى قيادة جمعية العلماء في مرحلة صعبة، منذ 1940، وعاش خلال ذلك عدم الاستقرار الجسماني والنفساني: الاعتقال، وأحداث مايو 1945، والسهر على معهد ابن باديس والمدارس الابتدائية، وإدارة البصائر، ومواجهة الهجمة الاستعمارية المتمثلة في قانون الجزائر (سنة 1947)، ولعبة الأحزاب وتزوير الانتخابات، ثم حان وقت خروجه إلى المشرق وقيام الثورة. ونظن أنه لو استقر ووطن نفسه على كتابة تفسير للقرآن لكان بإمكانه ذلك. على أنه مثل عدد من زملائه كان يتناول تفسير الآيات في الدروس الشفوية وفي المقالات المكتوبة. وكان ربما أقدرهم على تشقيق المعاني وتوليد الأفكار والتطبيق على الحاضر، بطريقة لا تختلف كثيرا عن منهج ابن باديس ورشيد رضا. 8 - من بين الكتب التي جمعت بين التفسير والدراسة للقرآن الكريم كتاب (الظاهرة القرآنية) لمالك بن نبي. صدر هذا الكتاب بالفرنسية في الجزائر سنة 6 194. وربما كان هو أول كتاب للمؤلف - بعد رواية لبيك (¬1) - وقد تناول فيه القرآن الكريم وإعجازه، وعلامات النبوة، ودرس فيه أيضا علاقة الدين بالنفس الإنسانية والغريزة، ونبه فيه الشباب الإسلامي، لا سيما المتعلم في البلدان الغربية، إلى تفادي الأخطاء التي يقع فيها المستشرقون أو دسائسهم أحيانا. ويعتبر كتاب (الظاهرة القرآنية) جديدا في بابه، كما لاحظ ¬

_ (¬1) تذكر بعض المصادر أن (لبيك) قد صدرت سنة 1947 بالجزائر، وأنها بالعربية. وأنها تمثل التفكير الاجتماعي للمؤلف. انظر أسماء رشدي (الإسلام في التاريخ والمجتمع)، الباكستان، معهد البحوث الإسلامية بإسلام آباد، 1988. وهذا الكتاب ترجمة إنكليزية (من الفرنسية) لكتاب مالك بن نبي (وجهة العالم الإسلامي). انظر المدخل.

على ذلك الشيخ محمود شاكر الذي قدمه. ترجم الظاهرة القرآنية إلى العربية عبد الصبور شاهين وطبعه في مصر سنة 1961. وكتب ابن نبي للترجمة مدخلا جديدا، قال فيه إنه أعاد تأليف الكتاب من أصوله بعد أن (أحرقت في ظروف خاصة). ونحن لا ندري ما (الأصول) التي أحرقت، هل يقصد بذلك الطبعة الفرنسية، أو يقصد مسودات الكتاب قبل ظهور الطبعة الفرنسية؟ ومهما كان الأمر فإن ابن نبي قد رأى أن الكتاب غير كاف لتوضيح رأيه في علاج ما أسماه مشكلة الظاهرة القرآنية. وقد أخبرنا وهو يكتب المدخل للطبعة العربية بعد نزوحه إلى مصر سنة 1956، أنه جمع ما بقي عنده من قصاصات مكتوبة وتسجيلات الذاكرة، وبذلك (أنقذنا ... جوهر الموضوع، وهو الاهتمام بتحقيق منهج تحليلي في دراسة الظاهرة القرآنية) (¬1). وفي المقدمة التي كتبها عبد العزيز الخالدي لكتاب (شروط النهضة) قال عن (الظاهرة القرآنية) إن ابن نبي قد (حشد فيه مشاكل وجاء فيه بطريقة جديدة في تفسير القرآن للمرة الأولى). وبناء على الخالدي فإن ابن نبي قد تأثر في الظاهرة القرآنية) بمشهد شباب الإسلام الذين استهوتهم المناقشة الخطيرة بين العلم والدين: فاستنتج من ذلك نتانج (أراد تبليغها للضمائر الأخرى) (¬2). ومن الواضح أن الظاهرة القرآنية في طبعته العربية قد تطور وأضيف إليه وابتعد كثيرا عن الطبعة الفرنسية. وذلك بعد الإضافات والتنقيحات وإعادة الترتيب. فنحن إذن في الطبعة العربية الثالثة أمام كتاب جديد تقريبا. وقد نوه به وبطريقة مؤلفه عدد من الباحثين في أساليب وتفسير القرآن، ومنهم الشيخ ¬

_ (¬1) ابن نبي (الظاهرة القرآنية) ترجمة عبد الصبور شاهين، ط 3، 1968. وقد جاء في الهامش أن المدخل سبق نشره في (رسالة مستقلة). ولا ندري كيف حدث ذلك. (¬2) ابن نبي (شروط النهضة)، ط. دمشق، 1986، ص 7.

محمود شاكر. وأخبرنا هذا أنه كان قد وقع في ما وقع فيه مالك بن نبي من القلق، وأنه فكر في نفس المنهج، ولكن ابن نبي استطاع أن يعبر عن قلقه وأن يصدر كتابه بمنهج جديد، بينما بقي شاكر في حيرته إلى أن اطلع على هذا الكتاب. يقول شاكر إنه بعد قراءته للظاهرة القرآنية وجد نفسه (يسير في دروب قد طال عهدي بها). وفي نظره أن ابن نبي لم يؤلف الكتاب (إلا بعد أن سقط في مثل الفتن التي سقطت فيها من قبل، ثم أقال الله عثرته بالهداية، فكان طريقه إلى المذهب الصحيح هو ما ضمنه كتابه من بعض دلائل إثبات إعجاز القرآن وأنه كتاب منزل). وفي نظر الشيخ شاكر أن المنهج الذي سلكه ابن نبي يستمد أصوله من تأمل عميق في طبيعة النفس البشرية وفي غريزة التدين عند الانسان وفي تاريخ المذاهب والعقائد التي توصف بالتناقض أحيانا. ومن جهة أخرى استمد منهج ابن نبي أصوله من الفحص الدائم في تاريخ النبوة وخصائصها وفي سيرة الرسول (صلى الله عليه وسلم)، ثم في القرآن الكريم على أنه كلام الله وليس من كلام البشر. إن معركة الدين والعلم، والعقل والشك، وصراع الثقافات والأفكار ليست جديدة، فقد جربها علماء الإسلام منذ عهود غابرة. وقد شهد عصر ابن نبي حرب الثقافات. وإذا كانت حروب الاستعمار بطريق الغزو والغلبة قد انتهت أو خفت، فإن حرب الثقافات أو ما يسميه ابن نبي (صراع الأفكار) ما يزال على أشده. (وهو أخطر المعركتين وأبعدهما أثرا، على تقويض الحياة الإسلامية والعقل الإسلامي. كما استنتج الشيخ شاكر. ويتجه الاهتمام بدور التكوين في الجامعات الأجنبية وتأثير الدراسات ووسائل الإعلام الغربية وأعمال المستشرقين على شباب العالم الإسلامي، وإخراج نماذج منهم جنودا لهم في هذا الميدان، يعملون عن علم أو جهل على تعتيم الحياة الإسلامية والعقل الإسلامي. ومن ذلك إدخال المستشرقين الشك في الأصول القديمة التي قامت عليها أدلة إعجاز القرآن وتدمير الوسائل الصحيحة للتوصل إلى ذلك. فهل نفهم من هذا أن كتاب الظاهرة القرآنية هو إثبات إعجاز القرآن

والدفاع عن ظاهرة النبوة والرد على المستشرقين ومن سار في ركابهم، مثل طه حسين، حين شككوا في الشعر الجاهلي؟ إن الظاهرة القرآنية يتعرض لهذه القضية بوضوح. وهو يذكر مارجليوث وطه حسين بالإسم، ويقول الشيخ شاكر إن ابن نبي قد خرج من هذه القضية الأدبية - التاريخية إلى قضية تفسير القرآن نفسه. وقارن الأسلوب القرآني بأسلوب الأدب الجاهلي، وأوضح تفوق كلام الله (القرآن) في ذلك. ولو طبق المنهج الذي جاء به مرجليوث لانهار الدليل على تفوق القرآن وإعجازه. لكن من رأى شاكر أن هذه المسألة (المقارنة) خارجة عن إعجاز القرآن. ذلك أن غاية علم التفسير إنما هي (بيان معاني ألفاظ (القرآن) مفردة، وجملة مجتمعة، ودلالة هذه الألفاظ والجمل على المباني، سواء في ذلك آيات الخبر والقصص، وآيات الأدب، وآيات الأحكام، وسائر ما اشتملت عليه معاني القرآن. وهو أمر عن إعجاز القرآن بمعزل). وإذن ما هو إعجاز القرآن وكيف نتوصل إليه؟ يقول الشيخ شاكر: أما الأمر المرتبط بالشعر الجاهلي، أو بقضايا الشعر جميعا، والمتصل بأساليب الجاهلية وغير الجاهلية وأساليب العربية وغير العربية، ومقارنتها بأسلوب القرآن، فهو علم إعجاز القرآن ثم علم البلاغة (¬1). عالج مالك بن نبي في (الظاهرة القرآنية) عدة قضايا، منها، كما قلنا، دلائل النبوة، وعلم التفسير، ومسألة إعجاز القرآن، ومقارنة النصوص القرآنية ببعض نصوص الكتب المقدسة الأخرى. ورد ابن نبي على بعض آراء المستشرقين في مسألة الأصول النفسية والأدبية للتراث العربي قبل الإسلام وصلته بالقرآن وإعجازه. واعتمد على بعض النظريات الحديثة وثقافته العلمية الواسعة وعلى بعض المذاهب النفسية والأدبية التي ظهرت منذ الحرب العالمية الأولى، من أجل إثبات نظريته في إعجاز القرآن ودلائل النبوة. وإذا نظرنا إلى كتاب (الظاهرة القرآنية) على أنه أول تأليف له ضمن سلسلة من ¬

_ (¬1) (الظاهرة القرآنية)، مدخل محمود محمد شاكر، ط 3، 1968، ص 8 - 10، وهنا وهناك.

المؤلفات اللاحقة، علمنا الأساس الذي انطلق منه ابن نبي في اتجاهه الفكري، وهو تنوير الشباب الإسلامي وربط الحاضر بعهد النهضة الإسلامية الأولى، وبث روح الأمل والانطلاق نحو نهضة إسلامية جديدة (¬1). ... وهناك إنتاج آخر متصل بالقرآن قام به بعض الجزائريين، ونعتقد أن هنا مجال الحديث عنه. ونقصد بذلك ترجمة القرآن وبعض الدراسات المستمدة منه. أما الترجمة فقد قام بها جزائريان وهما: أحمد لعيمش ومحمد بن داود. الأول كان قاضيا ومتخصصا في الفقه والدين والتوثيق، والثاني كان ضابطا، في الجيش الفرنسي مدة حياته. وقد ظهرت الترجمة الفرنسية سنة 1933، كما نفهم من تعليق المعلقين عليها (¬2). وكانت الترجمة إلى الفرنسية محتكرة في الماضي للعلماء الفرنسيين. ويبدو من تعليق السيد كنار أنه إذا كانت ترجمات المستشرقين تفتقر إلى الدقة أحيانا وإلى عدم الإلمام بكل الجوانب التاريخية واللغوية، فان الترجمة الجزائرية لم تخل أيضا من المآخذ. ومن ذلك ترجمة الآية {لإيلاف قريش، إيلافهم رحلة الشتاء والصيف} بالتعود على الهجرة، بينما هي، حسب رأي كنار، تعني القافلة التجارية. وانتقد المترجمين على جهلهما معنى (إيلاف) التي تعني عنده عهد الأمان والرخصة التي كانت قريش تحصل عليها من ملوك الفرس والروم لكي يتاجروا دون إزعاج من الدولتين المتحاربتين. وكلمة إيلاف قد شرحها المسعودي في المروج وفسرها بالأمان وكذلك الطبري. كما انتقد كنار ترجمة لعيمش وابن داود على افتقارها للتعاليق والتوضيحات لأن القرآن لا يفهم وحده بنصه فقط، سيما عند القارئ العادي. كما انتقد كثرة الأخطاء ¬

_ (¬1) من يتأمل في مذكراته جيدا يدرك أن ابن نبي كان خلال عقدين (1925 - 1947) يحضر نفسه لهذا الدور. (¬2) ماريس كنار في (المجلة الإفريقية)، 1933، عدد 74، ص 366 - 368.

اللغوية والتعبيرية. ولكن كنار أشاد بالترجمة من جهة أخرى وهي أنها تعبر عن إخلاص المترجمين وحماسهما، وأنها جاءت من مسلمين وليس من مستشرقين (¬1). 9 - في سنة 1954 صدر إعلان عن قرب صدور كتاب بعنوان (مقاصد القرآن) للشيخ محمد الصالح الصديق (¬2). وقد صدر منه جزء في آخر هذه السنة. وكان صاحبه يخطط لوضع أجزاء لما اختاره من موضوعات في مقاصد القرآن، ولكن أحداث الثورة والوضع المادي له جعله يجمد المشروع إلى سنة 1982 حين أعاد طبع الأول وأضاف إليه جزءا ثانيا (¬3). قال عنه أحد المراجعين للكتاب انه (تفسير توجيهي) لبعض آيات القرآن الكريم. وقد شملت الموضوعات قضايا دينية وفكرية واجتماعية. ونحن إذ نتحدث عن الطبعة الثانية نلاحظ أنها تضمنت ثمانية أبواب وفي كل باب فصول، وفي كل فصل تفسير آية معينة. وتضمن التفسير العناية بالتوضيح اللفظي والشرح المعنوي، أي المعنى الإجمالي للآية وإسناد ذلك بالبراهين من الحديث والآيات وآراء بعض العلماء. وفي ذكر عناوين الأبواب بيان لمحتوى الكتاب فهي: التوحيد، والعقائد والدين، والتشريع، والعبادات، والقصص، وإعجاز القرآن، وأصول المثل الأعلى، والنظم الاجتماعية. وبعض الأبواب قد شملت أكثر من عشرين فصلا، ولكن بعضها لا يضم سوى فصل واحد مثل فصل إعجاز القرآن. وهذا التناول داخل في الدراسات القرآنية أكثر مما هو في تفسير القرآن. ولكنا ذكرناه هنا لأن مؤلفه ركز كثيرا على إيراد الآيات وشرحها شرحا يدعم المقصد الذي يرمي إليه. والشيخ الصديق أديب وفقيه وله فكر ¬

_ (¬1) ظهرت الترجمة في وهران وباريس، دون تاريخ. (¬2) ط. بالمطبعة العربية بالجزائر (1954 أو 1956؟). راجعه الشيخ حمزة بوكوشة (؟) في البصائر، 23 مارس 1956. (¬3) ط. 2، مطبعة البعث، قسنطينة، 1403/ 1982، 563 ص. رسالة من الشيخ علي أمقران السحنوني (بخط الشيخ محمد الحسن عليلي) مارس 1995.

نير، فانسجم عنده فهم القرآن مع أفكار العصر، ولا ندري مدى تأثره بأسلوب ابن باديس ورشيد رضا في تناول موضوعات كتابه، ولكنه درس على بعض شيوخ الزيتونة المتنورين. وهكذا فان تناوله للآيات القرآنية ليس تناولا تقليديا جامدا، وإنما هو تناول يسير في نظرنا في تيار الاصلاح الذي نادى به ابن باديس. 10 - وآخر ما نشير إليه هو الكتيب الذي أصدره محبوب محمد بن بلقاسم سنة 1956 تحت عنوان (تمرد القرآن على العصور). وهو ليس في موضوع التفسير نفسه ولكنه محاولة لفهم القرآن فهما أدبيا خاصا. ويبدو أن المؤلف كان من الشباب الثائر المتحمس الذي تظهره الصورة حاسر الرأس وبلباسه الأروبي. وجاء في (المقصد) أن القرآن الكريم تطرق إلى جميع المواضيع التي تتصل بالحياة البشرية، ثم رأى أن القرآن ليس خاصا بجيل دون آخر، ولا بزمن محدود وأنه كتاب مليء بالأسرار التي يكتشفها كل جيل حسب إمكاناته. ورأى في (المقدمة) أن تفسير القرآن حق مشاع بشرط ألا يتنافى تأويله مع القواعد اللغوية. وقام المؤلف الشاب ضد الذل احتكروا تفسير القرآن!، ورأى أن القرآن ليس كتاب عبادة ودين فقط، ولكنه كتاب أدب وتاريخ وقانون، الخ. ومن الموضوعات التي طرقها المؤلف في فهمه وتأويله للقرآن هذه العناوين: القرآن والاختراع، القرآن والمأساة، القرآن والمنكوبون في الحب، القرآن والمذنبون، والدبلوماسية في القرآن. وقد ضاق المؤلف، فيما يبدو، باحتكار فهم القرآن للفقهاء فقط، فرأى أن يسجل رأيه بحرية ويحاول فهم القرآن فهما مباشرا بنفسه. ولكنه لا يذكر مراجع ولا يحيل على تفاسير أخرى (¬1). ¬

_ (¬1) الجزائر، المطبعة العربية، 1956، 32 صفحة. ذكر سهيل الخالدي (المهجرون ...) أن هناك تفسيرا للقرآن الكريم، مخطوط في المكتبة الظاهرية (الأسد) ونسبه للبهلول عمر بن محمد المحجوب. وهو تحت رقم 7122. انظر الخالدي، ص 414. ولا نعرف عن المؤلف ولا عصره الآن شيئا. وربما ألف الشيخ طاهر الجزائري وغيره في التفسير أيضا.

القراءات ورسم القرآن

القراءات ورسم القرآن وعلم القراءات ذو صلة وطيدة بالقرآن وفهمه ودراسته. وقد عرفه بعضهم بأنه علم يبحث في الكيفية التي تنطبق بها كلمات القرآن الكريم، وطريقة أدائها اتفاقا واختلافا، مع نسبة كل وجه من القراءة إلى ناقله (¬1). وهو علم قديم لدى الجزائريين برع فيه بعضهم، وتكونت لهم فيه مدارس خاصة، ولا سيما في زواوة. وقد تحدثنا عن ذلك في الجزء الثاني، ولهم فيه أسانيد موثقة يتوارثونها. ومن ذلك أسانيد أبي القاسم البوجليلي التي سجلها في كتابه التبصرة. ولعلم القراءات مراجع أساسية كانت متداولة مثل حرز الأماني للشاطبي، وسراج القارئ للناصح، وغيث النفع للنوري. وقد درس الشيخ المهدي البوعبدلي أسانيد البوجليلي في القراءات وقدم ذلك في دراسة هامة إلى ملتقى الفكر الإسلامي الخامس عشر. وكنا قد ترجمنا للبوجليلي في غير هذا المكان (¬2). فهو من علماء القرن الماضي المتنورين ثقافيا وصوفيا وسياسيا. وكان الوريث الطبيعي في قيادة الطريقة الرحمانية بعد الشيخ الحداد، لولا ما حدث في آخر لحظة - كما يقال - من منح البركة إلى الشيخ ابن الحملاوي، لأسباب ما تزال مجهولة. وللبوجليلي عدة تآليف في النحو والقراءات والفقه. وقد روى عن شيخه الحداد أن النحو فرض عين، وأنه ضروري لتعاطي التفسير وفهم القرآن، والنحو كذلك ضروري للقراءات والتجويد وإدراك معاني المقروء. وكتاب التبصرة في القراءات بالروايات العشر، مقسم إلى مقدمة وتضم خمس فوائد، منها إسناد قراءته، وتواريخ وفاة بعض شيوخه، ومنها ذكر فضائل القرآن الكريم، وتسمية الرواة وترتيب القراء. ثم شمل الكتاب أنواع القراءات وسرد الآيات والسور. وقد بدأه بقوله: وبعد، فهذه تبصرة لما ¬

_ (¬1) محمد سالم محيسن (الإرشادات الجلية في القراءات السبع من طريق الشاطبية)، الإسكندرية، 1985، ص 5. (¬2) انظر ذلك في فصل السلك الديني والقضائي، وكذلك فصل التصوف.

قرأناه في روايات العشر عن أساتذتنا المشائخ الأعلام. وقال إنه بدأ القراءة عن والده صغيرا، ثم انتقل إلى زاوية عبد الرحمن اليلولي عام 1261 وقرأ على الشيخ العربي الإخداشي برواية قالون، وعلى معمر الطاهر الجنادي، ومحمد بن علي بن مالك برواية قالون وغيره. وقد مكث الشيخ البوجليلي في الزاوية المذكورة سنوات طويلة - نحو ثلاثين سنة -. وكان الجنادي قد أخذ عن محمد بن يحيى اليراثني. وذكر من شيوخه كذلك الشيخ محمد الحداد الذي أخذ عنه المنطق من السلم، والاستعارات من السمرقندية، وكذلك الفقه والنحو، والبلاغة على الجوهر المكون للأخضري (المعاني والبيان) (¬1). وسند البوجليلي في القراءات يمكن اختصاره فيما يلي: فمن شيوخه محمد بن يحيى اليراثني المذكور، عن محمد بن بسعي، عن عبد الله بن خراط. ومن شيوخه العربي الأخداشي المذكور، وقد أخذ عن صالح بأولاد أعمر وازقان. ومن شيوخه كذلك محمد بن علي بن مالك، وهذا عن أحمد بن بدير الشملالي، عن ابن تغريت، عن الحسين بن قري اليعلوي، عن محمد بن عنتر البتروني، عن عبد الرحمن اليلولي، عن امحمد السعد الدلسي، عن عبد الرحمن الفاسي، عن عبد الواحد بن عاشر شارح كتاب (مورد الظمآن في علم رسم القرآن). وكان لكل من محمد بن بسعى ومحمد بن عنتر تقاييد في علم القراءات (¬2). وقد توفي البوجليلي سنة 1895. ومن علماء القراءات علي بن عبد الرحمن الحفاف، مفتي المالكية في ¬

_ (¬1) توفي الشيخ الحداد بالسجن في قسنطينة سنة 1872 (1290). وله عدد كبير من المقدمين، بلغ حسب البوجليلي ورواية البوعبدلي 600 مقدم، منهم من كان في جنوب المغرب - السوس الأقصى. (¬2) المهدي البوعبدلي، الملتقى 15 للفكر الإسلامي، الجزائر (محاضرة عن اهتمام علماء الجزائر بعلم القراءات). وكذلك عمار الطالبي في نفس الملتقى عن (الشيخ محمد بن أبي القاسم البوجليلي). انظر كذلك بحثا مرقونا لعلي أمقران السحنوني عن الشيخ البوجليلي. وقد استفاد منه الطالبي.

وقته، والمتوفى سنة 1307 (1890). فهو والبوجليلي متعاصران وربما لم تكن هناك صلة بينهما، لأن أحدهما من العلماء المستقلين والآخر من العلماء الموظفين ولكن مشربهما واحد. فقد كان ابن الحفاف من الذين ضاقوا ذرعا بالاحتلال، وانضم للأمير عبد القادر، ثم عاد إلى العاصمة وإلى عائلته بعد فشل المقاومة ووظفه الفرنسيون قصدا لأنه كان ضدهم. وظل يتدرج في الوظيف إلى تعيينه مفتيا، كما ذكرنا. وقد أدى فريضة الحج سنة 1280 والتقى ببعض شيوخ المشرق، منهم الشيخ أحمد دحلان، في الحرمين، وتناقش معه في مسألة قراءة البسملة في الصلاة. وقد أوحى ذلك النقاش إلى ابن الحفاف برسالة في هذا المعنى وسنعرض إليها. وكان ابن الحفاف متبرما بالبقاء في الجزائر ويهم بالهجرة لولا أن الشيخ بيرم الخامس نصحه سنة 1878 بالبقاء والصبر لهداية عامة الناس والمشاركة ولو بأضعف الإيمان في خدمة الدين. وقد تعرضنا إلى أطوار حياة ابن الحفاف في غير هذا المكان (¬1). ألف علي بن الحفاف رسالة باسم (الدقائق المفصلة في تحرير آية البسملة)، وهي نتيجة حديثه مع الشيخ دحلان مفتي الشافعية بمكة المكرمة. وكان تاريخ تأليف الرسالة هو 1286 هد. ويقول الشيخ المهدي البوعبدلي ان ابن الحفاف قد ذيل رسالته برد على رسالة كتبها في نفس الموضوع الشيخ محمد عليش شيخ المذهب المالكي بالأزهر أيد فيها نظرية الشيخ دحلان. وقال ابن الحفاف انه اتصل برد الشيخ عليش ولم يقبله. (وذيلت الدقائق المفصلة ... بما ورد علي من بعض فضلاء مصر، وهو العلامة الشيخ محمد عليش الذي استدل بكلام الشيخ (محمد) الأمير المنقول من تأليفه (ضوء الشموع على شرح المجموع). أما التأليف الخاص بعلم القراءات فهو (منة المتعال في تكميل ¬

_ (¬1) انظر فصل التصوف (الرحمانية) في الجزء 3، ولابن الحفاف كلام في الهجرة إذا تغلب العدو على المسلمين وما جرى بينه وبين محمد بن الشاهد. انظره في فصل مذاهب وتيارات، وكذلك فصل السلك الديني.

الاستدلال) في القراءات السبع. ألفه علي بن الحفاف في آخر عمره، وقد أتمه رغم ضخامة حجمه، وأصبح الكتاب متداولا بين أيدي الطلاب والقراء عموما. ولكننا لا نعرف أنه طبع. ولعل هذا التأليف جاء نتيجة تدريسه علم القراءات والتجويد في الجامع الكبير. ونحن نعرف أنه بدأ حياته حزابا هناك، وكانت لأسرته تقاليد موروثة في هذه الوظائف. ونفهم من المقدمة دوافعه إلى هذا التأليف والمراجع التي استقى منها. يقول: (الحمد لله الذي شرفنا بتلاوة كتابه، وتفضل علينا بخدمته وفهم خطابه ... وبعد ... لما كان النفع (أي الغيث النافع) للشيخ سيدي علي النوري خاليا من الاستدلال بكلام الإمام أبي القاسم الشاطبي، وكان (إنشاد الشريد) للشيخ سيدي محمد بن غازي مقتصرا على خوالي القصيد، أردت أن أجعل تأليفا مشتملا على تمام الاستدلال بما في المحل من زيادة ما يسره الله، قاصدا وجه الله لنفع الإخوان، معترفا بأني لست من فرسان الميدان، مرتكبا طريقة سيدي علي النوري، مشيرا باللام للإمالة، وبالصاد للإدغام الصغير، وبالكاف للكبير، وسميته منة المتعال ...). وأشار في نهاية العمل إلى أنه قد انتهى منه (¬1). وقد نظم الشيخ أطفيش (محمد بن يوسف) أيضا أرجوزة في القراءات والتجويد طبعت على الحجر. ولم نطلع عليها ولا على وصف لها. ولأحمد بن عبد الله دغمان القماري المتوفى سنة 1309 (1891) رسالة في الموضوع سماها (الإجابة بحسم خلاف أساؤوا السؤى في الكتابة). وكان الشيخ دغمان من قضاة وقراء الوقت. وله أشعار وفتاوى، وقد درس في الزيتونة، وتوظف في عدة أماكن كالوادي وقمار والكاف (تونس) (¬2). ¬

_ (¬1) البوعبدلي، مرجع سابق، وقد جاء في نهاية المخطوط (تم كتاب منة المتعال ... في القراءات السبع على يد كاتبه ومؤلفه ... علي بن عبد الرحمن بن محمد بن محمد بن أحمد المدعو ابن الحفاف الجزائري أصلا ومنشأ). بتاريخ 8 جمادي الأولى سنة 1289، وهو في 467 صفحة. انظر أيضا البغدادي (هدية العارفين) 1/ 778 (وإيضاح المكنون) 2/ 567 (وتعريف الخلف) 2/ 260. (¬2) عبد الباقي مفتاح (أضواء) مخطوط.

الحديث الشريف

وهناك أرجوزة طويلة في رسم القرآن أيضا وطريقة التجويد والقراءة من نظم الشيخ أحمد بن رابح. وهو من نواحي ندرومة. والنظم ما يزال مخطوطا، حسب علمنا ولا نعرف له عنوانا (¬1). ومن تآليف إدريس بن محفوظ الدلسي في القراءات والتجويد والرسم نذكر: (الدرر الحسان في الرسم والتعليم وتلاوة القرآن)، وكذلك (إتحاف الإخوان في القرآن). وفي نظرنا أن هناك آخرين تناولوا علم القراءات تأليفا ونظما خلال العهد المدروس، ولكن لم تصل إلينا بعد أخبارهم. فهو علم ليس بالصعوبة التي عليها تفسير القرآن الكريم مثلا (¬2). الحديث الشريف بالقياس إلى العناية ببعض العلوم الأخرى وإلى شهرة كتب الحديث عندهم في الماضي، فان علماء الجزائر لم يتركوا عملا مهما في علم الحديث خلال العهد الفرنسي. كانت الصحاح الستة موضوع عناية أجدادهم، ولا سيما الصحيحان البخاري ومسلم. وقد علق أحدهم ذات يوم بأن صحيح البخاري كان لدى الجزائريين أكثر شهرة من القرآن الكريم، وقد اشتهر بعض المحدثين والحفاظ في العهد السابق للاحتلال. غير أن هذا العلم تضاءلت معارفه منذ 1830، وقل رواته والمؤلفون فيه حتى كدنا لا نجد فيه مؤلفا واحدا له قيمة خلال أكثر من مائة سنة. لماذا هذه الظاهرة؟ هل ذلك يرجع ¬

_ (¬1) هدية العارفين 1/ 193. (¬2) في أوراق علي أمقران السحنوني أن مسعود جموع المغربي (؟) له (شرح على تفصيل الدرر في القراءات العشر) لابن غازي. وهو في مكتبة أبي دريوة ببجاية. ولا نعرف الآن هوية الشارح ولا عصره. والنسخة بتاريخ 1320 هـ. من مراسلة مع علي أمقران في 16 أبريل 1980 وكذلك 8 غشت 1980. ومن المتأخرين الذين نظموا في رسم القرآن الشيخ محمد الطاهر التليلي القماري.

إلى أن علم الحديث يقوم على الرواية والدراية والحفظ بينما ذهب كل ذلك تقريبا مع اضمحلال المدارس والتعليم وهجرة الأكفاء من العلماء؟ أو هناك سر آخر، قد يكون هو طغيان التصوف على حياة الناس؟. ولقد عثرنا في التراجم على بعض الإشارات إلى وجود شروح في الحديث النبوي، وبعض المؤلفات أو التقاييد حول صحيح البخاري وصحيح مسلم. ولكنها إشارات خاطفة وعناوين مجردة لا تدل على الجهد الذي يستحقه عمل في هذا المجال. وهكذا وجدنا إشارات في ترجمة أحمد العباسي، ومحمد بن يوسف أطفيش، ومحمد بن علي السنوسي، وأضرابهم. ويبدو لنا أن العناية بالحديث قد انقطعت أو كادت منذ الشيخ أبوراس الناصر، ولم تستأنف إلا على يد الشيخ عبد الحميد بن باديس. وظلت مع ذلك مبالغة بعض الرحالة تؤكد أن علماء الجزائر مشهورون برواية الحديث .. وإقامة المولد النبوي مثل ما كان في القدم (¬1). وكان هذا الوصف قد صدر سنة 1877. وكثيرا ما أطلق عبد الحي الكتاني وأمثاله من المهتمين بالأسانيد والإجازات أن فلانا كان (محدثا) وأنه يروى عن سلسلة طويلة. وعلى ذكر هذه السلاسل نقول إن رجال التصوف قد اعتنوا بالرواية أيضا في هذا المجال، وكان لكل منهم سلسلته النسبية (الشرف) والطرقية. وربما اختلط على بعض المستعجلين أمر رواية الحديث وتصحيحها وإسنادها بأمر رواية الأنساب الصوفية ووارثي بركاتها. ولحاجة ما كان هناك تنافس بين رجال الحديث ورجال التصوف. ومن كبار المحدثين عبد الله سقاط وهو حفيد عبد القادر المشرفي. وذكره الطيب بن المختار في (القول الأعم) ووصفه بـ (إمام الحديث). ثم أضاف أنه كان عالما بالعربية والتاريخ، وأنه تولى القضاء في العهد العثماني وفي عهد الأمير عبد القادر. وكان سقاط (ينطق أيضا سقط) قد أوفده الأمير إلى سلطان المغرب ونجح في وفادته، ولما وقعت كارثة الزمالة (1843) ¬

_ (¬1) أبو حامد المشرفي (ذخيرة الأواخر والأول)، مخطوط، جزء 2، ص 20.

هاجر بعائلته وعائلة الأمير إلى المغرب، وتوفي في الطريق بين فاس ومكناس. ورغم أننا لا نعرف لعبد الله سقاط المشرفي أي تأليف في الحديث، فإن علماء الأسانيد ذكروه من رجالها المعدودين (¬1). وكان سقاط المشرفي قد حظى بجاه عظيم لدى السلطان عبد الرحمن بن هشام، وهذا السلطان هو الذي أعفى المشارف (الأشراف) كلهم من دفع الضرائب. أما عبد الحي الكتاني فقد أطنب في وصف سقاط. وهو عنده زين العابدين عبد القادر عرف بن عبد الله بن مصطفى بن محمد بن عبد القادر بن عبد الله المشرفي. وقال عنه انه (مسند المغرب الأوسط في وسط القرن المنصرم) (أي القرن 13). وقد حصل سقاط على عدة إجازات من المشرق والمغرب. ولكن الكتاني يقول ان قومه قد ضيعوه لأنهم لا يحفظون له الآن من شيوخه سوى أبي رأس الناصر. وممن ترجم لسقاط أيضا أبو حامد المشرفي في كتابه ياقوتة النسب. فقد قال عنه انه كان حافظا حجة في السيرة النبوية وكان يحفظ البخاري متنا وإسنادا، وكذلك كان يفعل مع صحيح مسلم. وأكد المشرفي ما قلناه من أن سقاط كان أيضا من علماء التاريخ والأنساب والمذهب المالكي. وقد كان سقاط قد أدى فريضة الحج ولقى شيوخا أخذوا عنه وأخذ عنهم. وله فهرسة (ثبت) تشهد بذلك. وقد ذكر الكتاني أن لديه عددا من إجازات العلماء لسقاط، ومنهم علي بن محمد الميلي، الذي أشرنا إليه، ومرتضى الزبيدي، وعددا من شيوخ مصر والحجاز. وله أيضا شيوخ جزائريون أجازوه، منهم محمد الطاهر بن عبد القادر المشرفي، وعبد القادر بن محمد السنوسي المعروف بابن زرفة، وعلي بن الأمين. وقد أكد الكتاني ما قلناه عن سقاط من كونه وفد على سلطان المغرب، ثم ¬

_ (¬1) الطيب بن المختار (القول الأعم) ضمن كتاب مجموع النسب للهاشمي بن بكار، ص 334. انظر أيضا (المسلمون الجزائريون في المغرب وسورية) في مجلة العالم الإسلامي، 1907، ص 501.

حل بالمغرب بعد 1843، وكان السلطان يحضر مجلسه في صحيح البخاري. وقد مدح السلطان بقصيدة نوه فيها بمدينة فاس فاستحق عليها مكافأة، ومنها: إن المليحة فاس لا يقاس بها ... إيوان كسرى ولا صرح لذي سرج وقد عاش بعد ذلك أكثر من عشر سنوات، ومنح الإجازة لعدد من علماء المغرب ذكرهم عبد الحي الكتاني. وربما كان قربه من السلطان مثار حسد أيضا. وربما لعبت السياسة لعبتها جد هزيمة الأمير وتغير سياسة السلطان نحو بطل المقاومة. فقد ذكر الكتاني أن سقاط كان في طريقه إلى مكناس فأدركه الموت، قيل مسموما وقيل مخنوقا، سنة (1270) (1854). وقد دفن بعد ذلك في ضريح الشيخ محمد بن عيسى في مكناس، وابن عيسى هو مؤسس الطريقة العيساوية الشهيرة. ونحن نعرف أن سقاط لم يكن الأول في هذا الموت المشبوه، فقد سبقه إليه محمد البوحميدي الولهاصي مبعوث الأمير إلى السلطان أيضا في نوفمبر 1847 في آخر محاولة للأمير لإصلاح العلاقات مع السلطان، ولكن البوحميدي لم يرجع وكان مصيره الموت وهو في ريعان الفتوة والاستعداد لمواصلة المقاومة. ويروى الكتاني عن سقاط بطرق منها: علي بن ظاهر المدني الوتري عن شيوخ المغرب الذين أجازهم سقاط مثل أحمد الأزدي وعلي الشدادي. ويروى عنه إجازة عن أحمد بن البشير المختار التلمساني عن شيخه حسن بن محمد الشريقي. كما أن الكتاني يروى سماعا عن سقاط من قبل الطيب بن المختار عن الشيخين المذكورين: المختار والشريقي. وقد اطلع محمد المنوني على مجموع إجازات الشيخ بن عبد الله سقاط. وهي تضم خمس عشرة إجازة من أعلام الجزائر والمشرق. ولا ندري إن كان الكتاني قد حصل على هذه الإجازات، وربما تكون هي التي يشير إليها بالفهرسة (¬1). ¬

_ (¬1) عبد الحي الكتاني (فهرس الفهارس) 2/ 577 - 579. وأبو حامد المشرفي (ياقوتة النسب (الوهاجة) مخطوط. ومحمد المنوني (المصادر العربية لتاريخ المغرب) =

والوصف الذي أطلق على سقاط في إمامة الحديث قد أطلق على غيره أيضا، ولكن الأدلة تعوزنا. ولذلك سنكتفي بذكر العناوين التي عثرنا عليها. 1 - بغية السول في الاجتهاد والعمل بحديث الرسول: لمحمد بن علي السنوسي، مؤسس الطريقة السنوسية. وهو من تلاميذ أبي راس الناصر في الحديث، وقد قال عنه انه ناهز التسعين سنة. وكان السنوسي، رغم عنايته بالتصوف، قد التزم بالعمل بالحديث، واعتمد في دعوته على نوع من السلفية المعتدلة. وقد خالف في ذلك الكثير من رجال الطرق. 2 - إيقاظ الوسنان في العمل بالحديث والقرآن: وقد قيل انه طبع بالجزائر. وهو دليل آخر على أن السنوسي كان له اجتهاده الخاص في الاهتمام بعلم الحديث والعمل به. وهو ما جعل طريقته أقرب إلى المعاصرة من جهة وإلى الدعوة السلفية من جهة أخرى. 3 - تقاييد على صحيح مسلم: وضعها أحمد بن سعيد العباسي، قاضي أحمد باي، والمتوفى في قسنطينة سنة 1836 هـ غير أنه لم يتم عمله. ولا يدل العنوان على مشروع كتاب وإنما على تعاليق وبعض الآراء حول أحد الصحيحين الشهيرين. وقد كان العباسي من علماء اللغة والأدب والبلاغة أيضا. وكان يجمع إلى ذلك علوم المنطق والكلام والتاريخ (¬1). 4 - شرح على صحيح البخاري: بدأه الحاج الداودي التلمساني المتوفى سنة 1854. وقد نشأ في تلمسان ثم ساح في الأرض، فذهب إلى فاس والقاهرة والحجاز، ثم رجع إلى تلمسان. ويبدو أن ذلك كان في عهد ¬

_ = 2/ 45. وذكر المنوني أن الإجازة الأولى وأول الثانية مفقودان من المجموع. وأن نسخة من المجموع توجد بخزانة محمد إبراهيم الكتاني، ومنها صورة على الشريط بالخزانة العامة - الرباط. أنظر أيضا ما قلناه عن بن عبد الله سقط في الجزء الثاني من التاريخ الثقافي فقرة الأثبات. (¬1) تعريف الخلف 2/ 59، انظر لاحقا.

المقاومة حيث هاجر العديد من المتعلمين. وقد تولى بعد رجوعه القضاء وتوفي بتلمسان. وكان الحاج الداودي قد اعتنى بحياة الرسول (صلى الله عليه وسلم) فشرح قصيدتي البوصيري البردة والهمزية أيضا. كما أنه وضع حاشية على شرح السعد في البلاغة. ويدل ذلك على اهتمامه بالحديث والأدب (¬1). 5 - شرح صحيح البخاري لعلي الونيسي. وقد توفي هذا عن 92 سنة. وقيل ان الشرح قد وصل إلى إثني عشر جزءا. ولكننا لا ندري طريقته في ذلك. ولا دوافعه، ولا في أي شيء اختلف شرحه عن شروح البخاري الأخرى. على أن جهده يدل على تمكنه من ثقافة أدبية ودينية عميقة. وللونيسي مؤلفات أخرى (¬2)، منها ختمات كثيرة في كتب الحديث مثل الصحيحين والموطأ والشفا. 6 - وفاء الضمانة في أداء الأمانة، لمحمد بن يوسف أطفيش، وهو كتاب في جزئين ومطبوع. ولأطفيش مؤلفات أخرى في الحديث أيضا منها (جامع الشمل) وهو في جزء واحد، و (ترتيب الترتيب) في جزء أيضا. ولا ندري إن كانا مطبوعين. وجاء في خطبة (وفاء الضمانة) (¬3) قول مؤلفه: (وبعد، فهذا كتاب في أحاديث ترويها الصحابة - رضي الله عنهم - مما له سند عند العلماء، ووصلنا من لدنهم، وسميته ... يشتمل على مقدمة وأربعين حدين من كل فن، وقد تتم بالموقوف الذي كالمتصل المألوف). وقد خص المقدمة بفصلين، أولهما طويل، وهو في أنواع الحديث الصحيح، وعرفه بأنه هو الذي اتصل سنده بنقل العدل الضابط عن مثله، وسلم من شذوذ العلة (¬4). وليس للفصل الثاني ¬

_ (¬1) نفس المصدر، ص 113. (¬2) تعريف الخلف 2/ 186. انظر أيضا الزياني (الترجمات الكبرى) تحقيق عبد الكريم الفيلالي، الرباط، 1967. (¬3) اطلعنا منه على جزئين، ط. عمان 1982. وربما كانت هذه هي ط 2. لأن الكتاب سبق نشره. أما (جامع الشمل) و (ترتيب الترتيب) فلم نطلع عليهما. (¬4) (وفاء الضمانة)، ج 1/ 7.

عنوان خاص وهو قصير. وبعد المقدمة أخذ المؤلف في ذكر أربعين حديثا لكل فن أو موضوع، وهكذا جاء بأربعين حديثا في توحيد الله، ثم أربعين أخرى في الطهارة والنجاسة، وسار على هذا النسق، في الفقه، وفي المعاملات، وفي العبادات، وليس هناك تبويب لهذه الموضوعات، والالتزام الوحيد هو ذكر أربعين حديثا لكل موضوع مع تدخل قليل لشرح أو ربط حديث بآخر أو بحادثة ما، فدور المؤلف في معظم الأحيان هو جمع المادة وترتيها. ورغم أن أنواع الحديث ودرجاته معروفة ومؤلف فيها، فإن الفصل الأول من المقدمة يعتبر على غاية من الأهمية لتدخل المؤلف وبيان أنواع الحديث بطريقته وأسلوبه. وطريقة أطفيش في تفسير الأحاديث في (وفاء الضمانة) تشبه طريقته في تفسير القرآن في (تيسير التفسير). فهو في كلا الحالتين لا يتدخل لإعطاء رأيه في المسائل المعاصرة، وربط الحديث أو الآية بواقع المسلمين. 7 - غنية القاري في ثلاثيات البخاري: كتاب مذكور في ترجمة الشيخ عبد الحفيظ الخنقي، تلميذ محمد بن عزوز في الطريقة الرحمانية. وكان من علماء الوقت عندما وقع الاحتلال سنة 1830. وقد ذكرنا هذا الشيخ في عدة مناسبات (¬1). 8 - اعتنى الأمير عبد القادر كثيرا بعلم الحديث بعد نفيه إلى بلاد الشام. ويذكر ابنه في (التحفة) أن والده كان يدرب الكتب التالية: الإتقان في علوم القرآن للوسيطي، وكتاب الإبريز في مناقب سيدي عبد العزيز لأحمد المبارك، وذلك في المدرسة الجقمقية، ثم كتاب الشفا للقاضي عياض والعقائد النسفية وصحيح مسلم، في المشهد الحسيني والمشهد السفرجلاني من جامع سيدي يحيى، وذكر صاحب (التحفة) أن الأمير كان قد اعتكف سنين في جامع سيدي يحيى في شهر رمضان، وذلك قبل حجة الثاني سنة 1864، أما بعد حجه فقد كان يدرس في منزل الضيوف من داره. وهذا يدل ¬

_ (¬1) معجم أعلام الجزائر، ص 80.

على عناية الأمير بكتب الحديث. وكان الأمير معتنيا أيضا بصحيح البخاري، وكان تدريسه له في المدرسة الأشرفية المعروفة بدار الحديث النووية بسورية. وكان يدرس الحديث رواية بحضور جمع من العلماء بعد صلاة الظهر إلى صلاة العصر. وقد ختم البخاري وأقيم لذلك حفل ضخم وزعت فيه الإجازات العلمية، وأنشدت فيه القصائد (¬1). ولا ندري إن كان الأمير قد ترك تأليفا كاملا في علم الحديث. ويجب أن نذكر أيضا أن بعض الجزائريين قام بترجمة (البيقونية) في علم الحديث إلى الفرنسية، ونشر ذلك سنة 1908. وتقع الترجمة في 24 صفحة. أما الذي قام بذلك فهو أبو بكر عبد السلام ابن شعيب، وهو أحد خريجي المدارس الرسمية الثلاث وابن قاضي تلمسان شعيب بن علي. ومن المعروف أن ابن باديس قد نشر حلقات في (الشهاب) بعنوان دائم يشرح فيه الحديث الشريف، وهو (مجالس التذكير) الذي سبق ذكره. وطريقة ابن باديس في شرح الحديث تشبه طريقته في تفسير القرآن، فهو يتناول الحديث ليستنتج منه نتائج وعبرا حول الحاضر والظروف السياسية والثقافية التي يعيشها العالم الإسلامي والجزائر. وإلى الآن لم تفسر طريقته ولم تجمع نصوص شرحه للأحاديث كما فعل الباحثون مع تفسيره للقرآن (¬2). وهناك غير ابن باديس في هذا المجال. فقد كان بعض العلماء، أحرارا ورسميين، يتولون تفسير الأحاديث النبوية بطريقة الوعظ والإرشاد سواء في شكل دروس في المساجد أو الاجتماعات أو مناسبات رمضان أو في شكل تحارير يكتبونها لبعض الصحف والمجلات. ومن هؤلاء الشيخ أبو يعلى الزواوي والطيب العقبي وأحمد سحنون ومحمد العاصمي في هذا القرن. ¬

_ (¬1) (تحفة الزائر)، ط 1، 2/ 78، 81 - 82. (¬2) انظر مجلة (الشهاب)، وكذلك (آثار الإمام ابن باديس)، ط. وزارة الشؤون الدينية - الجزائر.

وربما فعل ذلك سلفهم أمثال العمالي وابن الموهوب وابن سماية ومحمد بن مصطفى خوجة. ومما يذكر أن محمد العاصمي كان ينشر في مجلة (صوت المسجد) الرسمية مقالة رئيسية بعنوان (عرض وتلخيص واستنتاج من شرح الحديث الشريف) (¬1). أما أحمد سحنون فقد كان له ركن بجريدة (البصائر) عنوانه (منبر الوعظ والإرشاد) (¬2). فدراسة وتدريس الحديث الشريف لم تكن منظمة ولا مبوبة وإنما كانت تأتي في شكل مختارات من الأفكار للمناسبات، ثم أن تقديم النصوص يقوم على قدرة الدارسين في الاستنباط والفهم، وهم في ذلك درجات متباعدة أحيانا. تأليف في الحديث والوعظ، وضعه محمد وعلي السحنوني. وقيل إن هذا التقييد كان موجودا إلى سنة 1958. أما مؤلفه فهو من أهل القرن الماضي ومن شيوخ الطريقة الرحمانية ومجاهدي ثورة 1871. وقد نفي إلى إحدى المستعمرات الفرنسية، ولكنه فر منها إلى الحجاز حيث قضى بقية حياته (¬3). وبالنسبة لرواية الحديث ذكر أن محمد بن أبي شنب قدم دراسة سنة 1905 إلى مؤتمر المستشرقين بالجزائر. وقد تناول فيها كيف انتقل صحيح البخاري إلى الجزائريين وكيف ظلوا على روايته وسنده عبر العقود (¬4). ومن هذه الدراسة نعلم تاريخ إسناد الحديث في الجزائر. وقد كان للإسناد رجاله، ومنهم أحمد بن عمار، وتلاميذه هم الذين عاصروا الاحتلال. وقد انتقل بعضهم إلى مصر مثل ابن العنابي والكبابطي، وبقي آخرون أمثال مصطفى الحرار وعبد الرحمن بن الحفاف، والد المفتي علي بن الحفاف الذي سبق ذكره في القراءات. ¬

_ (¬1) صوت المسجد، أعداد من سنيتي 1949، 1950. (¬2) جريدة البصائر، السلسلة الثانية. (¬3) من مراسلات علي أمقران السحنوني. (¬4) انظر المجلة الإفريقية، 1905، عدد خاص بمؤتمر المستشرقين.

الأثبات

ذكر عبد الحي الكتاني أن أحمد بن محمد بوقندورة الذي كان من علماء العصر وتولى الفتوى الحنفية وأصبح من المعمرين النساك، كان يروى الحديث عن علي بن الحفاف عن أبيه عن جده عن أحمد بن عمار. وقد أخذ الكتاني عن بوقندورة هذا، ورغم أن لدينا ملاحظات ذكرناها في مكانها عن هذا الشيخ (بوقندورة) فان ذلك لا ينقص من علمه في هذا المجال (¬1). الأثبات الثبت أو الفهرس هو سجل الشيوخ الذين درس عليهم الطالب، ويتضمن عادة أسماء شيوخهم أيضا، وهكذا؛ كما يتضمن أسماء الكتب التي درسوها وأخذها عنهم الطالب. وذلك هو ما يعرف بالسند والأسانيد. وتكون الأسانيد في العلوم، وقد تكون في الطريق الصوفي. ولكن المنهج واحد، وهو حفظ العلم والدين والشرف والنسب من الضياع. وهو الطريقة المثلى في تواتر الأجيال والرواة، ودقة الحديث والرواية. وإذا انقطعت الأسانيد اختلت المعرفة ودخل الزيف. هكذا كانوا يعتقدون، ولذلك كان أغلب أهل العلم والدين يحافظون على سجلاتهم أو فهارسهم التي نسميها هنا أثباتا. وهي تتضمن اسماء الكتب المدرسية واسماء الشيوخ ووفياتهم وأماكنهم وغير ذلك من المعلومات (¬2) إنها نوع من الشهادات التي يحصل عليها الطلاب اليوم. مضافا إليها الدقة والتوثيق، في الأصل على الأقل. ولكن هذه الشهادات قد دخلها أيضا الزيف والرياء على مر العصور. وأصبحت بالتدرج تجمع للمباهاة والشهرة، عندما كانت الدفاتر والفهارس ¬

_ (¬1) الكتاني (فهرس الفهارس) 1/ 122. عن بوقندورة انظر فصل السلك الديني والقضائي. (¬2) كنا أعددنا بحثا مطولا عن مناهج البحث عند المسلمين كلفتنا به جامعة آل البيت (الأردن) ضمن تكوين طلاب الدراسات العليا، وقد تضمن البحث فقرة عن الأثبات أو البرامج، وذلك سنة 1997.

تنسخ في لحظات، والمجالسة للعلم قد لا تدوم أكثر من ساعات، بل انها تحولت إلى مراسلات وسماعات. فكان ذلك من أسباب ضعف هذه الوسيلة التي كانت من أنبل الوسائل في تبادل المعرفة وتوثيقها. ولا شك أن ذلك راجع في أساسه إلى ضعف مستوى العلم بصفة عامة، واختفاء فحوله الغيورين عليه وعلى سمعتهم، وإلى ضعف الضمائر والركون إلى المجاملات وطلب السمعة (¬1). وليست مهمتنا هنا نقد الطريقة ولكن وصفها. ولذلك فإننا سنواصل حديثنا عن الأثبات بذكر نماذج منها. 1 - ثبت العباسي: وهو أحمد بن سعيد العباسي، عالم قسنطينة الذي سبقت إليه الإشارة. وثبته هذا يجمع أسانيده في الكتب الصحاح الستة. وقد جمعه له تلميذه الشيخ عبد الحميد الصائغ الحركاتي. ويرويه الكتاني من عدة طرق (¬2). ولكننا نعرف أنه كان للشيخ العباسي ولد اسمه محمد، تولى الوظائف الدينية والتعليمية في العهد الفرنسي، وكان للمستشرق شيربونو، فلماذا لا يكون ثبت العباسي عند ولده؟. 2 - ثبت التواتي البجائي: وهو البشير التواتي البجائي الذي استوطن تونس. وكان عالما بالقراءات التي أخذها في تونس وفي مراكش، كما يقول الكتاني. غير أن هذا العلم كان شائعا وراسخا في الجزائر أيضا، سيما بلاد زواوة. وللشيخ التواتي ثبت اشتمل على أسانيده في القراءات. ولم نطلع عليه لنعرف إن كان منهم بعض الشيوخ الجزائريين. وقد توفي الشيخ التواتي سنة 1311 وفي هذا العهد كان من أبرز شيوخ القراءات، كما عرفنا، هو الشيخ علي بن الحفاف، وأبو القاسم البوجليلي. ولعل اسم (التواتي) يرجع إلى العالم الصالح محمد التواتي دفين بجاية الشهير وصاحب الزاوية بها والذي كان يعيش في أول القرن 16 ميلادي. ومهما كان الأمر فان الكتاني يروى ثبت ¬

_ (¬1) للتوسع في هذا الموضوع انظر الجزء الثاني، فقرة (الأثبات). (¬2) الكتاني (فهرس الفهارس)، 2/ 832.

التواتي في القراءات عن الشيخ محمد المكي بن عزوز الذي يرويه عن صاحبه (¬1). 3 - ثبت ابن السادات: وهو مصطفى بن أحمد بن السادات القسنطيني. وكان هذا يروى عن الشيخ محمد المكي البوطالبي الذي تولى التدريس في المدرسة الكتانية بقسنطينة، وكذلك تولى القضاء، وقد عاصر الاحتلال واختلط بالفرنسيين. وتوفى سنة 1281. ومصطفى بن السادات كان في آخر عمره عندما روى عنه الكتاني كراسة الإجازة التي تركها أحمد زروق البوني. فكان ابن السادات ناضجا في الستينات من القرن الماضي حين كتب سنة 1867 في جريدة المبشر يحث على التعلم ودخول المدرسة الفرنسية بقسنطينة. وقد ذكرناه في مكانه. ولا ندري كيف انتقلت كراسة البوني إلى البوطالبي، لأن الكتاني لم يكمل السلسلة. كما أننا نتساءل ماذا روى الكتاني عن مصطفى بن السادات في ثبته، لأننا إلى الآن نجهل شيوخ ابن السادات (¬2). 4 - ثبت السنوسي: وهو محمد بن علي السنوسي. وقد ترجمنا له في فصل التصوف. وللسنوسي عدة أثبات في الواقع، بعضها مطول وبعضها مختصر. وربما كان أشهرها الثبت المسمى (السلسبيل المعين في السلاسل الأربعين). ويقول الكتاني إنه لخص فيه رسالة العجيمي في الطرق الأربعين وان السنوسي وصل سلاسله (أسانيده) بها من طريقه وزاد عليها بعض أسانيد مشائخه. ويقع هذا الثبت في نحو ست كراريس. وقد رآه الكتاني في كل من زاوية بقيرات من ضواحي مستغانم وفي المكتبة العامة بطنجة. وهو يرويه عن محمد بن محمد سر الختم الميرغني الإسكندري، عن غيره (؟) إلى المؤلف (¬3). وقد اطلعت منه على نسخة مخطوطة في دار الكتب المصرية في باب التصوف، فوجدناه ذكر فيه عددا من الطرق الصوفية وحث المريدين ¬

_ (¬1) نفس المصدر، 1/ 231. (¬2) نفس المصدر، ص 239. وفصل مذاهب وتيارات عن حياة ابن السادات ونشاطه الصحفي. وقد وجدنا اسمه ضمن أعيان قسنطينة في التسعينات أيضا. (¬3) الكتاني (فهرس الفهارس) 2/ 1059.

على الأخذ بعدد كبير منها (¬1). ويغلب على الظن أن (السلسبيل) هو نفسه الذي وصفه (لويس رين) في كتابه (مرابطون وإخوان) إذ ترجمه الفرنسيون واستفادوا منه لمعرفة مخططات وأفكار السنوسي والطريقة السنوسية عموما. وقال رين: ان السنوسي ذكر في هذا الثبت شيوخه ورحلته وأسانيده. أما الرحلة فقد ذكرها في المقدمة، والمقصود بها رحلته من الجزائر إلى المشرق على إثر الاحتلال الفرنسي. ويصف رين الفهرس أو الثبت بأنه صغير الحجم، وهو لا يتناسب مع وصف الكتاني بأنه يبلغ ست كراسات. وذكر رين أن الثبت قد احتوى على 150 كتابا بأسانيدها وكلها متصلة بعلوم الشريعة أو علم الظاهر. ولكن الكتاب يضم أيضا مجموعة من أسماء الطرق الصوفية التي أخذها أو تأثر بها والتي تمثل علوم الحقيقة أو الباطن. وروى السنوسي في هذا الكتاب (الثبت) أنه تنقل من مكان إلى آخر لطلب العلم وملاقاة الشيوخ المشاهير. وقد رأى منهم من كان يطمح إلى الوصول إلى ملك الملوك في التصوف، وبعضهم كان يكتفي بنيل الإجازة. ومن الأماكن التي ذكرها وهو راحل: الأعراض والجريد، وطرابلس الغرب، وسلاوة تونس وبرقة ومصر، وكذلك عدد من الأماكن النائية في الصحارى للوصول إلى الشيوخ الذين يريد، وقد ارتبط ببعضهم بصداقة متينة وتواصوا على العمل المشترك (¬2). 5 - المنهل الروي للسنوسي أيضا: وعنوانه الكامل هو (المنهل الروي الرائق في أسانيد العلوم وأصول الطرائق). وقد قيل انه ثبت أو فهرس مختصر تحدث فيه السنوسي عن عدد من شيوخه (¬3). ¬

_ (¬1) دار الكتب المصرية، تصوف، رقم 2567 وعلى الشريط رقم 14590، ومنه نسخة في مكتبة الإسكندرية، ج 3803. (¬2) رين (مرابطون وإخوان)، الجزائر، 1884، ص 485 - 486، هامش 1 - 2. (¬3) ط. القاهرة، 1954 في 107 صفحات. ط. 2 بيروت ضمن مجموع 1968. ومنه مخطوطة في الخزانة العامة - الرباط، ك 1243. ومنه أيضا نسخة مخطوطة في دار الكتب المصرية، تصوف، 3033 ج.

6 - الشموس الشارقة للسنوسي أيضا: وعنوانه هو (الشموس الشارقة في أسانيد بعض شيوخنا المغاربة والمشارقة): وهو في مجلدين. وواضح أنه كتاب مطول في مرويات الشيخ السنوسي. ولم نعرف أنه طبع، وكان الكتاني قد حصل على وصف للكتاب من حفيد المؤلف، أحمد الشريف السنوسي، وقد أخبره أنه ما يزال في مبيضته. 7 - البدور السافرة في عوالي الأسانيد الفاخرة للسنوسي أيضا. وهو ملخص لكتابه السابق (الشموس الشارقة). وذكر الكتاني أن البدور اشتمل على ذكر من لقيهم السنوسي من الشيوخ وأجازوه. وقد رتب الكتاب على مقدمة وثلاثة أبواب. فالمقدمة تضمنت حياته من النشأة إلى البلوغ. وشمل الباب الأول ذكر بعض الشيوخ، وفيه سبعة فصول. أما الباب الثاني فقد تحدث فيه عن العلوم الشرعية التي تحصل عليها. وأما الثالث فقد ضمنه ما وصل إليه من طريق الإجازة العامة، وفيه فصلان وتكملة. وانتهى الكتاب بخاتمة. وقد حصل الكتاني على نحو الكراستين من البدور السافرة (¬1). 8 - الكواكب الدرية في أوائل الكتب الأثرية للسنوسي أيضا: وهو من المؤلفات الإسنادية الهامة، وقد اشتمل على عدة أبواب اختص كل باب منه بـ (أوائل) ما فيه وأشهره. مثلا أوائل بعض كتب الأيمة العشرة، موطأ الإمام مالك، ومسانيد الأيمة الثلاثة والكتب الستة في الحديث. وهذا هو الباب الأول منه. وضم الباب الثاني أوائل بعض مشاهير السنن، وهي عشرة. ثم الباب الثالث في أوائل بعض مشاهير المسانيد وهي عشرة. وهكذا إلى الاثنى عشر بابا. وقد جعل الخاتمة في أربعين طريقة من الطرق الصوفية. وقال الكتاني ان هذا (ترتيب عجيب وأسلوب غريب بين كتب الأوائل والأثبات) (¬2). 9 - التحفة في أوائل الكتب الشريفة للسنوسي أيضا: ويرويه الكتاني ¬

_ (¬1) الكتاني (فهرس) 1/ 246 - 247. وإيضاح المكنون 2/ 1097. (¬2) نفس المصدر 1/ 104.

عن الشيخ عاشور الخنقي، صاحب كتاب منار الإشراف. وكان الخنقي قد أخذه عن شيخه في زاوية نفطة محمد المدني بن عزوز عن المؤلف السنوسي (¬1). وللسنوسي فهارس أخرى ذكرها الكتاني وذكر أنه يرويها عنه بطرق مختلفة. منها سوابغ الأيد في مرويات أبي زيد، والمسلسلات العشرة المنتخبة من فهرس أبي سالم العياشي. وكل ذلك يدل على أن السنوسي لم يكن فقط مؤسس زاوية وطريقة وباعث فكرة هزت مدة طويلة أركان الغرب في افريقية، ولكنه كان مؤلفا كثير التآليف، وعالما غزير العلم، راويا لكتب الحديث وأمهات الطرق الصوفية والأسانيد الموصلة إلى العلوم سواء كانت ظاهرية أو باطنية. وربما لا نجد من يشبهه في هذا المنهج سوى شيخه أبي راس الناصر. رغم أن أبا راس كان مكرسا حياته للتدريس والتأليف ولم يؤسس طريقة صوفية. والمعروف أن الشيخ السنوسي قد توفى سنة 1859. 10 - الكوكب الثابت في أسانيد الشيخ أبي طالب: (محمد بن علي المازوني - أبو طالب)، تأليف عبد القادر بن المختار الخطابي. وربما يكون هذا المؤلف من العائلة السنوسية أيضا لأنها تنتسب - كما يقولون- إلى الخليفة عمر بن الخطاب. والشيخ عبد القادر هذا نجهل حياته الأولى، ولا نعرف الآن سوى أنه هاجر إلى مصر وتوفى بها سنة 1916 (1336). وقيل ان ثبته يقع في مجلد وسط. ولم يذكر الكتاني أنه اطلع عليه أو حصل منه على نسخة كعادته (¬2). 11 - ثبت الحرار: وهو مصطفى بن الحاج محمد الحرار. كتب الثبت باسم صهره حسن بن إبراهيم المعروف بريهمات. وهو ثبت سجل فيه مروياته عن شيوخه الجزائريين وكذلك الشيخ محمد الصالح الرضوي البخاري عندما زار الجزائر سنة 1261. وقد روى الكتاني هذا الثبت من عدة طرق، منها ¬

_ (¬1) نفس المصدر. (¬2) الكتاني (فهرس) 1/ 382.

الإجازات

طريق علي بن الحاج موسى مكاتبة عنه. وقد توفي الشيخ الحرار سنة 1272. وبناء على هذا الثبت فإن مشائخ الحرار الجزائريين هم: علي المانجلاتي، ومحمد بن إبراهيم بن موسى، ومصطفى الكبابطي، وعلي بن الأمين، وأحمد بن الكاهية، ومحمد واعزيز، وحمودة المقايسي. أما من غير الجزائريين فقد ذكر منهم محمد الصالح الرضوي. وكل هؤلاء أجازوه. وقد روى الحرار في إجازته لابن بريهمات تفاصيل عن دراسته وعن إجازة الرضوى له، وعن زيارة هذا للجزائر وإجازته لعدد من شيوخها. والحرار نسبة لصناعة الحرير وقد كانت في عائلته أمانة الحرارين. وقد رأى الكتاني إجازة الرضوي للحرار بخطه، وهي إجازة عامة أي في كل الكتب والعلوم (¬1). والإجازة منشورة في تعريف الخلف في بضع صفحات (121 - 125) والغالب أن ذلك هو ما يعنيه الكتاني بالثبت. 12 - ثبت المكي بن عزوز: ويسمى (عمدة الأثبات). وله مؤلفات أخرى في الأسانيد والأثبات، ومنها الثبت الجامع. الإجازات الإجازة هي شهادة يمنحها شيخ لتلميذه وتكون عادة بطلب منه وتسمى في المصطلح استدعاء. وقد يكون الاستدعاء شعرا أو نثرا أو هما معا. والشيخ قد يكون عالما وقد يكون مرابطا. أما التلميذ فقد استعملناه بالمعنى العام لأن الآخذ قد يكون ندا للمانح، وإنما جرت العادة أن (يتبادل) الأنداد من العلماء والمرابطين الإجازات أيضا. ولكن الغالب هو أن الشيخ يجيز تلميذه بعد القراءة عليه وحضور درسه أو دروسه مدة طويلة أو قليلة، وقد يدوم ذلك جلسة واحدة وقد يصل إلى عدة سنوات. كما أن شيوخ التصوف ¬

_ (¬1) انظر (تعريف الخلف) 2/ 121 - 125. وبعض هؤلاء الشيوخ ذكرهم عبد الحميد بك في تاريخه عند ترجمة محمد ابن العنابي وغيره. وذكر الكتاني أن الحرار توفي سنة 1273. انظر (فهرس) 1/ 341.

يجيزون تلاميذهم الذين سيصبحون (مقدمين) عنهم بعد الملازمة والاطمئنان إلى جدارتهم في تمثيل الطريقة. هذا من الناحية النظرية التقليدية. ولكن من الناحية العملية، فان هذه الشروط قد اختلت في معظمها. فقد أصبحت الإجازة تمنح بدون شروط الحضور والملازمة والجدارة، بل كانت تمنح بالمراسلة والسماع. وقد تحدثنا عن ذلك في الجزء الثاني. وكذلك ضعفت عارضة العلماء واكتفى الطلبة بالأسماء والأوراق دون العلم نفسه. واستكثروا السفر وتحمل المشاق في سبيله. كما أن العلماء والمتصوفة أصبحوا يبحثون عن السمعة وتكثير السواد، وقل منهم من يلتزمون بالشروط العلمية والأخلاقية المطلوبة في تلاميذهم. والإجازات التي نريد تناولها كثيرة ومتنوعة. منها ما تبادله الجزائريون فيما بينهم، ومنها طبعا الإجازات العلمية والإجازات الصوفية. كما أن هناك الإجازات التي منحها جزائريون لغيرهم والتي منحها غيرهم لهم. وكثير من نصوص الاجازات تعوزنا، وهي وإن توفرت لا تدل على باع طويل في هذا العلم وإنما هي في أغلبها كلمات قصيرة وعبارات متكررة. وقد اختفى منها الأسلوب القديم الذي ظهر عند بعض المجيزين عندما كانوا يجتهدون ويتفردون في تنميق إجازتهم حتى تصبح قطعة أدبية راقية، بالإضافة إلى فائدتها العلمية والتاريخية. ولسنا في حاجة إلى التأكيد على أن ضعف الأساليب يرجع إلى ضعف التعليم والثقافة، كما أن كرة الإجازات يدل على ابتذالها. وقد يستغرب المرء كيف نتحدث عن الإجازات العلمية والصوفية والحال أن إطارات العلم قد انقرضت أو كادت وأن المؤسسات التي تخرج العلماء قد هدمت أو غيرت. والواقع أن ذلك أمر ملفت للنظر حقا. ولعل ضعف الثقافة ومحاربة اللغة العربية هو الذي جعل من بقي في الحياة العلمية والصوفية ينشدون الدعم من غيرهم عن طريق الإجازات. فقد كان

الجزائريون يجرون وراء ذلك من بعضهم أولا، ومن غيرهم ثانيا، عن طريق المراسلة في أغلب الأحيان، لأن السفر كان محدودا ومراقبا. وإذا زار بعض المشارقة الجزائر، مثل الشيخ الرضوى (¬1) والشيخ ظاهر المدني الوتري، أو شيوخ كانوا أصلا من الجزائر وعاشوا بالخارج ثم جاؤوا للزيارة، مثل الطيب بن المختار وأبي حامد المشرفي والمكي بن عزوز، التف حولهم العلماء والمتصوفة واستدعوهم للإجازة، كما سنرى. أما الجزائريون الذين خرجوا إلى المعاهد والمدن الإسلامية فقد حظوا بالإجازات سواء بقوا في الخارج أو رجعوا إلى وطنهم. وسنذكر منهم البعض أيضا. ولنبدأ بإجازات الجزائريين لبعضهم: 1 - إجازة مصطفى الحرار: وهي إجازة لصهره حسن بن بريهمات سنة 1272. وهي مطلقة وقد خضعت لشروط الإجازة ومنها الحضور والمواظبة على الدروس والتلقي. وجاء فيها: (قد لزم دروسنا سنين، فحمل عنا من العلوم العقلية والنقلية ما فاق فيه كثيرا من معاصريه ... ولما كان الإسناد حبل الشريعة الممدود، وبابه لطالبيه غير مسدود، إذ هو من خصائص هذه الأمة، ولم تزل الإجازة عادة الأجلة من الأيمة، أوصلته بما أوصلني به مشائخي، وأجزته بما أجازوني به في سائر العلوم العقلية والنقلية، وأذنته أن يروى عني جمع مروياتي ومسموعاتي على اختلاف أنواعها وتباين أجناسها، إجازة مطلقة عامة، بشرطها المعروف، وسننها المألوف، حسبما تلقيت ذلك). ثم ذكر مشائخه الذين تلقى عنهم العلم، وهم الذين أتينا على ذكرهم سابقا (انظر الأثبات). كما خص إجازته التي تلقاها من الشيخ الرضوي ببعض التفصيل. والمعروف أن حسن بن بريهمات قد أصبح من أعيان علماء الجزائر في القرن الماضي. وقد تحدثنا عنه في غير هذا. وكان له أولاد ¬

_ (¬1) جاء الجزائر سنة 1261، وما زلنا في ريب من أمره، لماذا جاء حقيقة، وكيف سمح له الفرنسيون بطول الزيارة والاتصال؟ أما ظاهر المدني فقد زار الجزائر سنة 1297 زيارة سريعة. ولا ندري هدفه أيضا. انظر عن الرضوي كتابنا الحركة الوطنية، ج 1.

وأحفاد قلدوا سيرته دون أن يصلوا إلى درجته. 2 - إجازة مصطفى بن عزوز: لعاشور الخنقي سنة 1285. وكان ابن عزوز هو مؤسس زاوية نفطة بعد هجرته من الجزائر إثر الاحتلال الفرنسي. وكان من شيوخ الزاوية جزائريون وتونسيون، منهم محمد المدني بن عزوز ابن عم مصطفى المذكور، وإبراهيم بن صمادح النفطي، وبعد أن درس الخنقي في الزاوية أكثر من عشر سنوات أجازه شيخه مصطفى في العلوم التي تلقاها والتي قال انها بلغت قرابة عشرين علما (؟). ومما طلبه منه شيخه أن يكف عن التعلم ويبدأ في التعليم، وأن لا يقبل الوظيف (وهي وصية عامة لكل تلاميذه) (حتى لا يتلوث علمي بما يقتضيه هذا الوقت السخيف، ولا سيما أنتم وطلبة الغرب (الجزائر)، فإياكم وطلب الوظيف على البعد والقرب. وأستحفظكم دينكم وأمانتكم وخواتم عملكم وهذا الكلام). تلك هي وصية الشيخ مصطفى بن عزوز لتلاميذه، ومنهم عاشور الحنقي. وهي تذكرنا أيضا بوصية حمدان الونيسي لتلميذه عبد الحميد بن باديس. وكان مصطفى بن عزوز قد أخذ العلوم عن عدة مشائخ منهم محمد الأمير صاحب الثبت الشهير وأحد شيوخ الأزهر في وقته، وإبراهيم الباجوري المصري، ومحمد بن علي السنوسي مؤسس الطريقة السنوسية. وهو بدوره أجاز بالعلوم التي تلقاها عنهم وأسانيدهم وأثباتهم، الشيخ عاشور الخنقي. وكان الخنقي ممن روى عنهم الكتاني، كما ذكرنا. أما الطريقة الخلوتية فقد تلقاها الشيخ عاشور عن مصطفى بن عزوز عن شيخه عبد الحفيظ بن محمد (الخنقي؟). ثم تلقى عاشور الخنقي عن الشيخ محمد الحداد الصدوقي أثناء سجنه في قسنطينة وقبيل وفاته سنة 1873 (¬1). ¬

_ (¬1) عاشور الخنقي (منار الإشراف)،. الجزائر، 1914، ص 1 - 38 من الخاتمة. يفهم من كلام الكتاني (فهرس) 2/ 550 أن الذي أجاز عاشور الخنقي هو محمد المدني بن عزوز وليس مصطفى بن عزوز. والمشهور أن الشيخ الحداد توفي سنة 1872.

3 - إجازة الخنقي للزموري: وهو عبد القادر بن داود الزموري. أجازه شعرا في أبيات وردت في قصيدة عاشور الخنقي صغرى الصغرى، وقد أنشأها سنة 1328. وجاء في آخرها: ومن أجل بني الأشراف آونة ... من آل داود في زمورة الوزر الأروع الشيخ عبد القادر ابن فتى ... داود أفضل ما أهدى لها القدر العالم العامل النور المضيء لها ... وجه الصواب إذا ما ضلت الفكر لله درك عبد القادر اتصلت ... بنا قصيدتك التسي لها بهر إلى الإجازة في نشر العلوم دعت ... لاكن على الرمز والمفهوم يعتبر لقد أجزتك في نشر العلوم كما ... أجازنا مطلقا أشياخنا النشر على شريعة تقوى الله والدعوا ... ت للمشائخ حتى يكمل العمر (¬1) وأوضح أن الزموري قد استدعى أو استجاز الشيخ الخنقي بقصيدة فأجازه. وكان ذلك حوالي 1909. 4 - إجازة القاضي شعيب لعبد الحليم بن سماية. وقد جاء فيها أن ابن سماية اشتغل بسند رواية العلم ودرايته، وأنه طلب الإجازة فيه من مختلف العلماء فأجازوه، ومنهم القاضي شعيب. وكان هذا من وجوه تلمسان في أول هذا القرن، وقد ترجمنا له في غير هذا المكان. أما ابن سماية فهو من أعيان علماء العاصمة ومن أساتذة مدرسة الجزائر (الثعالبية) وكان من النشطين الذين عارضوا التجنيد الإجباري سنة 1912. وقد أجازه القاضي شعيب (بكل ما تصح له روايته أو تنسب إليه درايته من مقروء ومسموع ومؤلف وموضوع ومفرق ومجموع). وكان ابن سماية قد ذهب بنفسه إلى تلمسان لطلب الإجازة وزيارة الشيخ. وقد شملت الإجازة أيضا حديث الرحمن (الراحمون يرحمهم الرحمن ... ارحموا من في الأرض يرحمكم مين في السماء). وذكر الشيخ شعيب أنه يرويه عن عبد الكبير الكتاني ¬

_ (¬1) عاشور الخنقي (منار الإشراف)، ص 129.

الفاسي (¬1). والإجازة تقع في ورقة ونصف، وكانت عام 1329. 5 - إجازة الزقاي: وغيره لمحمد بن أبي سيف البحيري. والزقاي هو محمد بن عبد الله الذي عاش في منتصف القرن الماضي، وتلقى العلم في الأزهر الشريف بمصر ثم رجع إلى الجزائر وتولى عدة وظائف منها إدارة مدرسة تلمسان الرسمية وعضوية المجلس الفقهي والكتابة الصحفية أحيانا. وقد أجاز غير واحد من معاصريه. أما البحيري فهو حسب ما جاء في تعريف الخلف: محمد بن علي بن أبي يوسف البحيري الصابري أصلا العبادي دارا (¬2). ونفهم من تعريف الخلف أن البحيري أصبح أيضا من مدرسي مدرسة تلمسان الرسمية، ربما في عهد إدارة الزقاي لها. وأن البحيري بلغ من العلم شأوا أهله للإفتاء أيضا. ومن شيوخه والده الذي حفظ القرآن على يديه في وهران، كما درس عليه علوم اللغة العربية. ومن وهران انتقل إلى زاويتهم بالعين الكبيرة من جبل اترار بولهاصة، وكانت الزاوية على اسم عمه، وهو أبو العباس أحمد بن أبي سيف. ومن هناك توجه للدراسة على أحمد بن هني بمازونة وحصل منه على إجازة أيضا. ثم درس بمعسكر على أعيان المشارف. وبعد أن نال قسطا من التعلم عاد إلى زاويتهم وتولى بها التدريس، ولا ندري تاريخ ذلك، كما لا ندري متى حج وجاور. فقد قيل انه حج أربع مرات وجاور أربع سنوات. وكانت له في ذلك فرصة للدراسة أيضا على مشائخ الحرمين، ومنهم سراج الدين المدني ومحمد بن علي السنوسي. ونفهم من دراسته على السنوسي أن ذلك كان قبل مغادرة السنوسي الحجاز إلى مصر وليبيا. وكان السنوسي قد توفي بليبيا سنة 1859. ومهما كان الأمر فانا نفهم أن البحيري قد أصبح من تلاميذ السنوسي في العلم والطريقة. فقد أجازه فيهما. فمتى رجع إلى الجزائر وشارك في التدريس بمدرسة تلمسان الرسمية؟ ذلك ما لا نعرفه حتى الآن. والغالب أن يكون ذلك خلال الستينات. وهو الزمن الذي كان فيه محمد ¬

_ (¬1) مخطوط الخزانة العامة - الرباط، ك 48. (¬2) تعريف الخلف 2/ 344.

الزقاي أيضار مديرا للمدرسة المذكورة. 6 - إجازة السنوسي: لمحمد المدني بن عزوز. والمقصود بالسنوسي محمد بن علي الذي سبقت إليه الإشارة في هذا الفصل. وكان في إقامته بالحجاز وقبل انتقاله إلى ليبيا وزاوية جغبوب، يجيز الجزائريين الواردين للحج والعمرة والهجرة. ومنهم من ذكرناه. ومحمد المدني هو ابن عم مصطفى بن عزوز مؤسس زاوى نفطة، ومن شيوخ الشاعر الخنقي الشهير. وهو المدني بن أحمد بن إبراهيم بن عزوز البرجي، كما ذكر الكتاني، نسبة إلى برج طولقة ولاية بسكرة الآن. وكانت الإجازة لمحمد المدني عامة. 7 - إجازات علماء الجزائر: للمكي بن عزوز. وهو محمد المكي بن مصطفى بن عزوز البرجي. ولد حوالي 1270 في نفطة بعد هجرة والده إليها من برج بن عزوز على أثر الاحتلال الفرنسي لنواحي بسكرة، وقد تناولناه في عدة مناسبات. ويقول الكتاني عنه انه رغم كونه شيخ طريقة كان (من المطلعين على الأفكار العصرية ... وهذا نادرة النوادر في زماننا هذا الذي كثر فيه الإفراط والتفريط) (¬1). أما الإجازات التي حصل عليها من علماء الجزائر فنذكر هذه الأسماء، كما أوردها الكتاني، وهي من ضمن ثمانين شيخا أجازوه في العالم الإسلامي، وكان الكتاني قد تبادل معه الإجازة وحصل منه على معلومات لو جمعت لجاءت في مجلد، كما قال. وهو يروى عنه كل مؤلفاته. وإليك أسماء الجزائريين الذين أجازوه: علي بن الحاج موسى، ومحمد بن بلقاسم الهاملي، وقد أخذ عنه الطريقة الرحمانية أيضا، ومحمد بن الأمير عبد القادر، ¬

_ (¬1) الكتاني (فهرس) 2/ 856 - 861. وقد ذكرناه باختصار في فصل الجزائر في المغارب والمشارق، سيما دوره في السياسة العربية. وقد توفي باسطانبول سنة 1934 وكتب عنه بعض الجزائريين في الشهاب وغيره. كان المكي بن عزوز رحماني الطريقة، ولكننا لا نعرف أنه كان (شيخ طريقة) كما قال الكتاني.

صاحب كتاب تحفة الزائر، ومحمد المكي بن الصديق الخنقي، ومصطفى بن عزوز، وهو والده، وعلي بن عثمان شيخ زاوية طولقة الرحمانية، والمفتي علي بن الحفاف صاحب التأليف الهام في علم القراءات، وعلي بن الرحمن خوجة، وهو جده لأمه (¬1). وابن أبي القاسم الديسي (من الديس قرب بوسعادة) وربما يكون من عائلة صاحب كتاب تعريف الخلف، ومحمد بن القزادري، ومحمد العربي بن محمد التارزي بن عزوز، وعمر بن مصطفى بويراز نزيل تونس وهو من عائلة أحمد توفيق المدني، وأبو راس المازوني حفيد أبي راس الناصر (ويقول الكتاني ان الاستدعاء للإجازة قد حصل ولكنه لا يدري إن كان نالها منه) (¬2). 8 - إجازتا ابن عزوز والونيسي: لابن طعيوج. والمقصود محمد المكي بن عزوز سابق الذكر، وحمدان الونيسي أحد علماء قسنطينة وشيخ ابن باديس. وقد تحدثنا عن الونيسي في غير هذا. وأما بلقاسم طعيوج فهو أحد علماء ومتصوفة زواوة، وتوفي سنة 1932. وقد تناولناه في فصل آخر. ولا نملك الآن نصي الإجازة، وإنما حصلنا على خبر وجودهما بالمراسلة (¬3). 9 - إجازة المنور بن البشير إلى بلهاشمي بن بكار. وكان الشيخ المنور عمدة معهد سيق العلمي حيث درس ابن بكار حوالي عشر سنوات ولازم شيخه فيه. وبعد الإجازة استمر ابن بكار في المعهد المذكور مدرسا، ونائبا عن شيخه في الصلاة خمس سنوات. وهذه الإجازة عامة في العلوم ¬

_ (¬1) هو علي بن عبد الرحمن خوجة بن سماية والد الشيخ عبد الحليم بن سماية المشهور. وكان علي بن سماية من موظفي جريدة المبشر، وقد تحدث عنه إيميل ماسكري في كتابه (رؤى وذكريات إفريقية). وكان معلمه في اللغة العربية والدين الإسلامي، بدروس خاصة. وكلمة خوجة تدل على المهنة (الكتابة)، كما قد تدل على أن أصل عائلة ابن سماية عثماني/ تركي. (¬2) الكتاني (فهرس) 2/ 856 - 861. (¬3) مراسلة علي أمقران السحنوني، أبريل، 1979.

التي تلقاها مثل الفقه والنحو والبلاغة. وقد ساق ابن بكار صيغة الإجازة في كتابه. ومما جاء فيها: (أما بعد، فإن أحلى ما يتحلى به الإنسان، وأعلا ما يتجلى به أهل العرفان، الجد والاجتهاد في مسالك العلوم، والأخذ بالأعناق لنيل المنطوق والمفهوم، سيما الأحكام الإلهية والعلوم الشرعية ... ولذلك هاجر الأوائل عن الأهل والوطن، وهجروا لذيذ التمتع عارجين أصعب سنن). وتحدثت الإجازة عن بلهاشمي بن بكار وفطنته العلمية وهجرته في سبيل التحصيل. وكونه لازم شيخه ما ينيف عن الأربع سنوات، وتلقيه العلوم التي تلقاها الشيخ نفسه عن أشياخه، واستعداده للرجوع إلى وطنه (معسكر؟) لنشر العلم بين قومه. وكونه طلب الإجازة من شيخه فأجازه (بكل مروياتي وما صح من مسموعاتي) (¬1). 10 - إجازة الإحريزي: (الحريزي) لليجري. والإحريزي هو الشيخ السعيد بن عبد الله الإحريزي السطوري. ولا نعرف عنه الآن إلا القليل وهو أنه كان عند الإجازة في جامع سيدي الصوفي ببجاية. وربما كان إماما، وذلك سنة 1334 ومن شيوخه في المعقول والمنقول نذكر الحسن الأخليفي، ومحمد بن جمعة القلي، ويحيى بن حمود الورتلاني، ومحمد الطاهر بن المختار المايني. وهي إجازة عامة إلى الشيخ السعيد بن علي اليجري (في جميع ما صحت لي درايته وثبتت لي روايته، من منقول ومعقول، كما أجازني بذلك أشياخي الفحول) وبداية الإجازة هكذا، (وبعد، فقد التمس مني من حسن بي ظنه، واعتقد أن قربنا جنة، الأخ في الله والمحب من أجله، الداعي إلى الله بقوله وفعله ...). وكان الشيخ السعيد اليجري من علماء الوقت، وتوفي سنة 1951 (¬2). ¬

_ (¬1) الإجازة بتاريخ 22 شعبان عام 1339 (أول مايو 1921)، انظر ابن بكار (مجموع النسب) نص الإجازة ص 178 - 179. (¬2) نسخة من الإجازة قدمها إلينا محمد عليلي بن الشيخ السعيد اليجري. وهي بخط جميل، بتاريخ 22 يونيو 1991. ومما يذكر أن الشيخ السعيد الاحريزي (الحريزي) =

11 - إجازات الجيلالي: ونقصد بها الإجازات التي حصل عليها الشيخ عبد الرحمن الجيلالي من شيوخه الآتية أسماؤهم: المولود الزريبي، وعبد الحليم بن سماية والحفناوي بن الشيخ. ونحن إلى الآن لم نطلع على نصوص الإجازات التي قيل انها في صحيح البخاري. وقد تكون عامة، ذلك أن المشائخ الثلاثة ممن كانوا يجمعون بين عدة علوم عقلية ونقلية، ولهم باع طويل في فن الإنشاء والأدب، أما الشيخ الجيلالي فهو صاحب تاريخ الجزائر العام. وقد تناولناه في فصل التاريخ (¬1). 12 - إجازات بعض علماء الجزائر: وتونس والمغرب للشيخ علي البوديلمي. فقد ذكر مترجما الجيلاني بن عبد الحكم في (المرآة الجلية) أن هذا الشيخ قد أجيز من شيوخه في البلدان المذكورة. وذكر منهم مجموعة من كل بلد، ومنهم ابن باديس في قسنطينة ومعاوية التميمي في تونس وعبد الحي الكتاني في المغرب. وجاء في (المرآة الجلية) أن نصوص الإجازات متوفرة عند صاحبها. ويغلب على الظن أن بعضها على الأقل مكتوب بأسلوب رفيع، وأنها علمية وليست صوفية. على أن الشيخ علي البوديلمي كان أيضا من أهل الطرق الصوفية، فلعله أخذ من شيوخها إجازات، سيما الرحمانية والدرقاوية (العليوية) (¬2). ... هذا عن الإجازات في مجال العلوم، أما الإجازات الصوفية، فهي كثيرة بين الجزائريين. ومن الصعب الإحاطة بها. وسنحاول هنا الإلمام بنماذج من الإجازات المكتوبة والممنوحة من كبار الشيوخ لتلاميذهم. وكذلك إلى زملائهم ومعاصريهم الذين يلتمسون منهم الإجارة. ونقصد ¬

_ = كان أحد شيوخ علي البوديلمي الذي أصبح من مدرسي جامع تلمسان منذ 1943. نظر عنه فقرة التفسير. (¬1) من بحث لأحد طلابنا في الماجستير، وهو الصادق دحاش 1993. (¬2) انظر كتاب (المرآة الجلية)، ص 351 - 357.

بالصوفية هنا ما كان موضوعه في التصوف كالأذكار والمصافحة وبعض العبارات المنسوبة. ومعنى ذلك أن الذي يكتب هذا النوع من الإجازات قد لا يكون هو نفسه مرابطا أو شيخ طريقة، بل قد يكون من العلماء الموظفين في القضاء والسلك الديني والعاملين في التدريس والتأليف. كما حدث مثلا بين المفتي بن الحفاف والقاضي شعيب، وهكذا. 1 - إجازة الشيخ الحداد: للبوجليلي. فقد أجاز محمد الحداد شيخ زاوية صدوق الرحمانية تلميذه ومقدمه محمد بن أبي القاسم البوجليلي العباسي، وجمعت الإجازة علم الفقه وبركة الطريقة (كل ما فتح الله به عليه على أيدينا، من فقه وطريقة رحمانية، بل وجميع ما يؤذن فيه شرعا في حياتي، واستخلفته في ذلك بعد مماتي. فمن أخذ عنه في ذلك كان كمن أخذ عني، ومن خالفه فقد خالفني). وكان الشيخ الحداد قد وقع الإجازة هكذا: (ورقمه ببنانه الفانية الفقير إلى المالك الجواد، محمد امزيان ابن الحداد، رحم الله ضعفه). وقد أرسلت الإجازة إلى البوجليلي من سجن قسنطينة حيث كان الشيخ الحداد يقضي آخر أيامه، مع الشيخ الطاهر اليتورغي (¬1). 2 - إجازة محمد بن علي بن مالك إلى البوجليلي أيضا: وكان ابن مالك من أساتذة زاوية عبد الرحمن اليلولي حيث درس البوجليلي. والإجازة شملت علم القراءات والتصوف. وهي قصيرة، ولا يذكر فيها ابن مالك عمن أخذ ذلك وإلا هي شهادة على ما أخذه منه البوجليلي أثناء الدراسة: (أما بعد، فأنا أعلم الواقف على كتابنا هذا من الأمة العاملين بالسنة والكتاب، بأني قد أجزت تلميذنا ... في جميع ما أخذه عني من القراءات نحوا، وتجويدا، فهما وأداء، وما أخذه عني عهدا ووردا صحيحا، لوقوع حقيقته ¬

_ (¬1) من مقالة لعلي أمقران السحنوني عن البوجليلي. وقد وجد علي أمقران نص الإجازة في مكتبة ابن أبي داود. وكان لويس رين قد رأى أنه من الحكمة أن يعين الشيخ الحداد خليفة عنه ابن الحملاوي وليس البوجليلي. فإذا صحت هذه الإجازة فانها تجعل البوجليلي هو الخليفة من بعده.

على شريعة كاملة وأحكام نافذة. ومن أخذ عنه الورد كأنه أخذ عني، بل هو أفضل مني، وإنما أسعفته بذلك لحسن ظنه. بتاريخ 1275 (1859) (¬1). 3 - إجازة عامة لعلي بن عثمان الطولقي: نذكر نموذجا للإجازة التي كان الشيخ علي بن عثمان صاحب زاوية طولقة في القرن الماضي يعطيها لمقدميه ولمن يسألها من تلاميذه الذين يثق في ولائهم للطريقة الرحمانية. وكانت زاوية طولقة في عهدي علي بن عمر وعلي بن عثمان من أكبر المراكز العلمية والصوفية في الجنوب، وكانت تتبعها إلى حين زاوية نفطة وزاوية سيدي سالم بالوادي. والإجازة تحدد أذكار الطريقة وأوقاتها، وتحث على العمل بها وعلى الطاعة والحضرة للاتباع، وعلى الصبر والتسليم والمؤاخاة والتعاون، مع التبشير بأن داخل الطريقة سيفوز حسبما ورد في الحديث النبوي. ونحن لا نحكم على ذلك هنا، فقد ذكرنا ما فيه الكفاية حول هذا الموضوع في كتابنا الحركة الوطنية وكذلك في فصل التصوف حيث بينا علاقات الزوايا بالسياسة الفرنسية عندئذ. بدأت الإجازة بهذا الأسلوب: (من خديم شيخه علي بن عثمان بن علي بن عمر الطولقي إلى كافة أحبابنا وإخواننا الواقفين على جوابنا هذا ... أما بعد، فإني أذنت وأجزت إجازة تامة شاملة الحامل المنور الصالح العامل الحاذق الأديب العارف بربه، ولدنا قلبا لا صلبا، سيدي ... أن يعطي أوراد طريقتنا الخلوتية (الرحمانية) المتصل سندها إلى خير البرية، (صلى الله عليه وسلم). وصفة التلقين هي أن يمسك إبهام يمين الطالب وتول له: غمض عينيك واسمع إلهي وتبعني). وبعد أن ذكر في عدة سطور طريقة التلقين وما يقوله الملقن وما يردده التابع، وعدد المرات، ختم الشيخ إجازته بقوله: (ومن أخذ عنه كأنما أخذ عني. وعليكم بطاعته، ومداومة الحضرة، صباحا، ومساء مجتمعين ليحصل المدد النبوي، وعليكم بمؤخاة (في الأصل: مخاوات) بعضكم ¬

_ (¬1) من مقالة لعلي أمقران السحنوني.

بعضا، وعليكم أيضا بالصبر والتسليم لخلق الله، وتعاونوا على البر والتقوى، وجدوا واجتهدوا في ذكركم لتدخلوا في حزب الطريقة المنورة، فإن من دخلها دخل في حزب وضمانة المصطفى (صلى الله عليه وسلم)، ومن دخلها كمن دخل سفينة نوح، وكمن دخل مقام إبراهيم ...) بتاريخ 28 جمادي الثانية 1302 (¬1). 4 - إجازة القاضي شعيب: إلى محمد بن عبد الرحمن الديسي. وكلاهما من العلماء ولكن الإجازة كانت في موضوع صوفي وهو أوراد الطريقة الشاذلية. وكان الديسي قد طلب الإجازة من زميله. وكانت بينهما صلة علمية دلت عليها المراسلات المستمرة بينهما وشرح الديسي للعقيدة التي وضعها القاضي شعيب، وهو الشرح الذي سنتعرض إليه في علم الكلام. وكلاهما له عدد معتبر من التآليف معظمها في غير التصوف. وفي الإجازة ذكر القاضي شعيب مصادره أو أسانيده في الطريقة الشاذلية. أخذها أولاد عن شيخه مولاي الحبيب بن موسى بن هنان (¬2) الخالدي، وهذا أخذها عن الحاج أحمد بن عبد المؤمن الغماري، عن شيخه مولاي العربي الدرقاوي. وبعد موت الشيخ الخالدي سنة 1297 أخذ عن وارث سره وبركته الحاج عبد الله بن عدة بن الشويرف - المشرفي - المتوفى سنة 1298. كما ورد عليه خطاب من قدور بن سليمان المستغانمي تضمن الإذن له مطلقا في الطريقة الشاذلية. وكان قدور بن سليمان هذا قد تتلمذ على الشيخ محمد الموسوم صاحب زاوية قصر البخاري الشاذلية، وأخذ هذا عن شيخه عدة بن غلام الله، وهذا عن شيخه سيدي العربي بن عطية الونشريسي، دفين تونس، وهذا عن شيخه مولاي العربي الدرقاوي، مؤسس الطريقة الدرقاوية. ¬

_ (¬1) ديبون وكوبولاني (الطرق الدينية الإسلامية) الجزائر، 1897، ص 401. (¬2) ذكر القاضي شعيب في كناشه أن الشيخ الحبيب بن موسى الخالدي المذكور من آل سيدي خالد دفين شرقي وادي مكرة (مقرة) من أرض بني عامر، كان من أهل التصريف (الكرامات) عندما هاجر بنو عامر إلى المغرب هاجر هو إلى سبخة وهران ثم رجم عندما رجعوا. وكان يرى أن الهجرة الصورية قد انقطعت.

تاريخ الإجازة هو: 18 جمادي الثانية 1321 (11 سبتمبر 1903) (¬1). ونلاحظ أن الخطاب الذي يشير إليه القاضي شعيب بالنسبة لقدور بن سليمان قد جاءه من الحجاز حيث ارتحل ابن سليمان إلى هناك مهاجرا (¬2). ومما جاء في إجازة القاضي شعيب للديسي (وبعد، فانه ... ورد علي كتاب كريم من أخ عظيم ولي صميم، فضله مشهور، وسعيه مشكور، يلتمس مني الإجازة في الأوراد الشاذلية العلية ... ألا وهو الإنسان الكامل ... الشيخ سيدي الحاج محمد بن عبد الرحمن الديسي ... فأسعفته حينا بمرامه ... وأجزت له أن يأخذ عني تلكم الأوراد، وأن يأخذ فيها أيضا لمن أراد من الوراد) وبعد هذا ذكر سنده الذي أشرنا إليه. 5 - إجازة القاضي شعيب للشيخ الهاشمي بن مولاي أحمد. وهي تتعلق بالحديث المسلسل بالأولية. وقد التمس منه المجيز ذلك له ولأولاده وأحفاده. ولا ندري الآن من هو المجاز، ولعله مين أسرة ابين بكار المعسكرية. وهي بتاريخ 1333 (¬3). 6 - إجازة ابن الحفاف: للقاضي شعيب، وكلاهما سبق ذكره. وهي في موضوع الاسم الأعظم (آية الكرسي) وفي المصافحة. وفي الإجازة تفاصيل ذكر الاسم الأعظم، وقراءة سورة الإخلاص في ليلة الجمعة أو الاثنين وعدد المرات وأوقات القراءة (¬4). وتاريخها 1304. ويذكر ابن الحفاف أنه أخذ سند المصافحة عن الشيخ محمد الصالح الرضوي عندما زار الجزائر سنة 1261. 7 - إجازة من محمد بن عبد الرحمن الديسي إلى القاضي شعيب. وهي ¬

_ (¬1) الخزانة العامة - الرباط، مخطوط ك 48. (¬2) عن ذلك انظر فصل التصوف. وكذلك سابقا. (¬3) الخزانة العامة - الرباط، ك 48. (¬4) الخزانة العامة - الرباط، ك 48. والإجازة كتبت بصيغة المتكلم سنة 1304، ثم نقلها أبو بكر مصطفى ولد يعلي سنة 1347 (1928).

شعرية وتقع في ثمانية عشر بيتا (¬1). وهناك إجازات صوفية أخرى لا تكاد تحصى. ... وبالإضافة إلى ذلك نتعرض إلى الإجازات التي تبادلها الجزائريون مع علماء المشرق والمغرب. وهي كثيرة أيضا، ولكن أكثرها من علماء المشرق والمغرب إلى الجزائريين. ولعل ذلك راجع إلى كثرة المهاجرين منهم في سبيل العلم الذي لم يجدوه في وطنهم. أما المشارقة والمغاربة فقلما جاؤوا إلى الجزائر لتحصيل العلم. وإنما حلوا بها زائرين أو عابرين. ومن الجزائريين الذين منحوا الإجازات لعلماء المشرق والمغرب نذكر محمد بن العناني، وأبو حامد المشرفي، والأمير عبد القادر، وابنه محمد، والشيخ طاهر الجزائري، والمكي بن عزوز، ومحمد بن علي السنوسي، والقاضي شعيب ومحمد بن عبد الرحمن الديسي. ويبدو أن هذا النوع من التبادل قد خف منذ الحرب العالمية الأولى. وكان ذلك راجعا ربما إلى انتشار التعليم الحديث القائم على تلقي العلوم في المدارس ونيل الإجازات في شكل شهادات رسمية من قبل مؤسسة وليس من قبل فرد. كما أن التصوف قد خفت حدته بانتشار التعليم والوعي السياسي والدعوة إلى الإصلاح ومقاومة الاستعمار. وأصبح الذي يريد أن يجيز أحدا ما عليه إلا أن ينوه به في كتاب أو صحيفة، كما أصبح طلب العلم بالدراسة النظامية والانخراط في البرامج التي توصل المراحل النهائية من كل علم. وهكذا توارى، ولا نقول اختفى، اللجوء إلى طلب الإجازات التقليدية. وأبرز علمائنا منذ 1920 لا نعرف لهم إجازات كالتي كانت في الماضي اللهم إلا إذا حصلوا عليها قبل التاريخ المذكور. غير أننا سنرى أن الظاهرة لم تختف ¬

_ (¬1) نصها عند علي أمقران السحنوني. وقد ذكر أن للشيخ محمد أمزيان بن الحداد إجازة إلى محمد الحفناوي بن أبي القاسم بن إبراهيم الغول، أحد أقارب صاحب تعريف الخلف.

تماما، خصوصا عند العلماء التقليديين، ورجال التصوف والمرابطين. 1 - أول ما يلفت النظر هو كثرة الذين أجازهم محمد صالح الرضوي من علماء الجزائر، فقد بلغوا قرابة العشرين، ويذكر الكتاني عن المكي بن عزوز صاحب (عمدة الأثبات) أن الرضوي قد أعطى وكالة لأحد هؤلاء العلماء، وهو عبد الرحمن بن الأمين (¬1)، لينوب عنه في منح الإجازة لمن أراد بعده. فكتب ابن الأمين أسانيد الشيخ على أوراق بيضاء ووضع ختمه عليها وجعلها جاهزة للإجازة. وفي ذلك ابتذال للإجازة نفسها وهوان للعلم. ومع ذلك فاننا نلاحظ أن بعض الذين حظوا بإجازة الرضوي كانوا قد أثبتوا وجودهم العلمي كالحرار وابن الحفاف وعلي بن سماية والعمالي وابن الحاج موسى. والغريب أن إجازة الرضوي كانت في علم الحديث وروايته، وكذلك في التصوف. ونقل الكتاني عن ابن عزوز قوله: (ما يتعجب منه أن المترجم (الرضوي) مع جولاته شرقا وغربا ما وجد مجازا منه في غير الجزائر إلا قليلا). ولذلك بقي اسم الرضوي متواترا بين علماء الجزائر حتى جعله ابن أبي شنب من الجسور التي عبر بها صحيح البخاري إلى الجزائر. وقال الكتاني انه قد حصل بجولان الرضوي في تونس والجزائر والمغرب (روجان لعلم الحديث ورواته، فانه نشر أسانيده وبث علومه. ولا يزال ذكره بالجزائر إلى الآن غضا طريا كأنه خرج منها البارحة) (¬2). وقد أجاز الرضوي أيضا بعض علماء المغرب وتونس. وإجازات الرضوي للجزائريين في العهد الفرنسي تذكرنا بإجازات مرتضى الزبيدي لهم في العهد العثماني، رغم اختلاف المكان، فالزبيدي أجازهم من مصر والرضوي أجازهم في بلادهم نفسها. ¬

_ (¬1) لعله أحد أبناء المفتي الشهير علي بن عبد القادر بن الأمين الذي توفي قبل الاحتلال بقليل. انظر عنه التاريخ الثقافي، جزء 2. (¬2) الكتاني (فهرس) 1/ 432. انظر عن الرضوي فصل المشارق والمغارب أيضا.

2 - إجازة الشيخ بخيت المطيعي: لعبد الحميد بن باديس، وكان ابن باديس قد أدى فريضة الحج سنة 1913، ولعله كان يفكر في الهجرة، تقليدا لشيخه الونيسي، وكانت أسرة ابن باديس قد فكرت في الهجرة في آخر القرن الماضي، أو كان ابن باديس متفاديا للتجنيد الإجباري الذي فرضه الفرنسيون سنة 1912. وفي طريقه لقي بعض المشائخ في مصر ومنهم الشيخ محمد بخيت الذي منحه الإجازة، ربما بطلب منه، كما جرت العادة، ولكننا لا نملك الآن صورة للإجازة ولا لطلبها (¬1). 3 - إجازة الطاهر بن عاشور: لمحمد العيد. والطاهر بن عاشور من عمداء الزيتونة وكان معروفا بعلمه ومؤلفاته وفتاويه. أما محمد العيد فهو الشاعر الذي سجل شعره أطوار النهضة الإسلامية في الجزائر، وكان من تلاميذ الزيتونة بعض الوقت. ولكن الإجازة لم تأت أيام الطلب، وإنما جاءت سنة 1372 عندما كان محمد العيد مدرسا في عين مليلة. والإجازة تتعلق بكتب الحديث وكتب الأدب والشريعة الإسلامية (¬2). ومن الواضح أن محمد العيد هو الذي يكون قد طلب الإجازة، ولكننا لا نملك صيغة ذلك. وربما ضمن طلبه قصيدة لا نعرفها. فالجائزة لا تأتي هدية ولكن باستدعاء كما ذكرنا. 4 - إجازات الكتاني للجزائريين: ذكر عبد الحي الكتاني في (فهرس الفهارس) عددا من علماء الجزائر الذين أجازهم وأجازوه. ومنهم القاضي شعيب، وعلي بن الحاج موسى. وما يلفت النظر هو أن إجازة الكتاني للقاضي شعيب جرى حولها نقاش بينهما سيما حول (دلائل الخيرات). وكان الكتاني قد أرسل إلى القاضي بعض الأعمال للفائدة وفي بعضها أسانيد ¬

_ (¬1) الحركة الوطنية 2/ 391، ط. 4، بيروت 1990. ومقالة حمزة بوكوشة (مع ابن باديس): في مجلة (المعرفة)، أبريل 1964. (¬2) محمد بن سمينة (محمد العيد)، ط. الجزائر، 1987، ص 155 - 158. والشيخ بخيت هو الذي أجاز أيضا المولود الزريبي، انظر ترجمته.

والده، وسمى بعضها (منية القاصد في بعض أسانيد الأستاذ الوالد)، وهو فهرس، كما قال: (ألفه باسم صديقنا العالم الصالح الناسك المعمر، قاضي تلمسان الشيخ شعيب الجليلي) وهو في نحو كراسين، والعمل الثاني الذي أرسله إليه هو (المباحث الحسان المرفوعة إلى قاضي تلمسان). وهو في كراسة. ويقول الكتاني عن عمله الأخير انه (مباحث إسنادية انتقادية تتعلق بإجازات قاضي تلمسان - شعيب الجليلي - ... من شيوخه). وعبارة (الانتقادية) تدل على أن الكتاني أراد تصحيح ما جاء في بعض مراسلات وإجازات القاضي شعيب. وقد تسبب ذلك في إحراج القاضي حتى تفادى المراسلة الطويلة معه، كما اعترف ببعض ما وقع فيه وصححه، يقول القاضي شعيب عن طلب الكتاني منه الإجازة أن العظم قد وهن منه واشتعل الرأس شيبا (وجمدت القريحة وخمدت الفكرة، والذهن فاتر من مطالعة النوازل وتصفح الدفاتر ... مع زيادة شغل البال ... بهذا البلد الصادق عليه وعلى أهله قول القائل: كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا ... أنيس ولم يسمر بمكة سامر وقول الآخر: لم يبق صاف ولا مصاف ... ولا أمين ولا ثمين) وطلب من الكتاني أن يأخذ الإجازة التي بعثها (القاضي شعيب) إلى بعض علماء المغرب وأن ينسخ، بعد ذلك، إجازتنا (وضم ذلك إلى ما يصلكم)، أي أنه اختصر الطريق فكتب إليه قليلا وأحاله على ما كتب للآخرين. وكان القاضي شعيب قد كتب في إحدى مراسلاته مع الكتاني أنه أخذ (دلائل الخيرات) إجازة من الشيخ علي بن عبد الرحمن مفتي وهران، فناقشه الكتاني ذلك في (المباحث الحسان) وأكد له أنه إنما أخذ دلائل الخيرات إجازة منه (أي الكتاني). فأجاب القاضي بأن ذلك صحيح، وأنه بعد إجازة

الكتاني له فيه أخذه أيضا من قاضي وهران عندئذ الشيخ أحمد بن حسن الشريقي المختاري (¬1). وتبادل الكتاني أيضا الإجازة مع علي بن الحاج موسى. وكان هذا من الجيل الذي عاصر الاحتلال في عنفوانه، وتولى أبوه أحمد بعض الوظائف الدينية، كما توظف ابنه في القضاء وغيره بعض الوقت، ثم تفرغ للتصوف والعبادة والتأليف، وكانت وظيفته قيما على ضريح الشيخ عبد الرحمن الثعالبي داخلة في الوظائف الرسمية أيضا لأن أجرها يأتي من إدارة الشؤون الأهلية، التي يشرف عليها الفرنسيون، وإنما هي أقل عرضة للاختلاط بهم وأقل مسؤولية في الدنيا. وقد وصفه الزوار والرحالة بالعلم والورع، مثل محمد بيرم الخامس. وقد ترجم له الكتاني باختصار، ولا توجد إلى الآن ترجمة وافية عنه. وأورد الكتاني سلسلة نسبه في حوالي تسعة جدود، وكانت عائلتهم من جبل بوزقزوك (يكتبها الكتاني بوزكزة)، أي جبل بني زقزوك قرب جبل العمال من سلسلة الجبال الواقعة حول العاصمة. وكانت لهم زاوية في جبل بوزقزوك. وهذه المعلومات وجدها الكتاني بخط علي بن الحاج موسى نفسه متحدثا عن أصله وعائلته (¬2). ولد علي بن الحاج موسى في العاصمة، سنة 1244 أثناء حصار الفرنسيين لمرسى الجزائر وقبيل الاحتلال. وأخذ بها العلم عن والده ثم عن الشيخ مصطفى بن الحرار وطبقته، ومنهم ربما الكبابطي والمانجلاتي، وواعزيز الخ. وفي 1261 أجازه محمد الصالح الرضوي وكان سنه عندئذ سبعة عشر عاما فقط (!) ثم أجازه أبو حامد المشرفي سنة 1294 (1878)، وكذلك علي بن ظاهر الوتري المدني سنة ¬

_ (¬1) الكتاني (فهرس) 2/ 590. انظر أيضا الخزانة العامة - الرباط، مخطوط ك 48. (¬2) جدوده، كما جاؤوا في الكتاني ونقله هو عن المترجم نفسه هم: علي بن أحمد بن الحاج موسى، ابن عبد العزيز بن أحمد زروق، ابن الحسين بن محمد الكبير المعروف بشائب الذراع، بن عبد العزيز بن محمد، بن عبد الرحمن، بن مقبل البوز كزاوي. وقد عرف بجده الأول: الحاج موسى.

1297. كما سبقت إلى ذلك الإشارة. وتلقى كذلك إجازات أخرى من بعض علماء المغرب منهم محمد بن جعفر الكتاني عن طريق المكاتبة من فاس، سنة 1301، وأبو محمد التاودي بن المهدي ابن الطالب ابن سودة سنة 1303. وقد استمع هذا من ابن الحاج موسى لحديث المسلسل بالفاتحة. ومن جهة أخرى حصل ابن الحاج موسى على إجازة من المكي بن عزوز، ومن ابن خليفة المدني الذي توفي في المغرب سنة 1306. ويذهب الكتاني إلى أن الرجلين الأخيرين قد تراسلا مع ابن الحاج موسى وتبادلا معه الإجازات. (كلاهما تدبج معه وكنا لبعضها عدة إجازات). وكان ابن الحاج موسى قد دخل في عدة طرق صوفية أيضا، ومنها القادرية والشاذلية. أخذ ذلك عن جماعة، كما يقول الكتاني، من الجزائريين والحجازيين والشاميين. ولم يذكر له الكتاني عنايته بترجمة حياة أحمد بن يوسف الملياني، دفين مليانة، وصاحب المواقف السياسية أوائل الفتح العثماني للجزائر، وكان شاذليا. ومن تآليفه (ابن الحاج موسى) في ذلك كتاب (ربح التجارة) الذي سنعرض إليه في التصرف. وذكر الكتاني أن ابن الحاج موسى كان بصدد إعداد فهرس بمروياته. ولم يذكر أنه أتم عمله. كما ذكر أن له مجموعة من الإجازات قد آلت إليه، أي إلى الكتاني. وقد أخبره بذلك سنة 1322. ويبدو أنهما لم يتقيا وإنما دار ما دار بينهما بالمراسلة. وقد توفي ابن الحاج موسى عام 1330 (1913) (¬1). 5 - إجازة أخرى للكتاني: إلى محمد ين عبد الرحمن الديسي. والواقع أن الإجازة قد جرت بينهما مبادلة. وكان الديسي من رعيل الفحول من العلماء، لازم بحكم عاهة فقد البصر زاوية الهامل تلميذا وأستاذا. ويبدو أنه خرج مرة واحدة للحج، لأن الكتاني ينعته بالحاج. وبلغت تأليفه خمسة وعشرين مؤلفا، ومعظمها رسائل صغيرة في العلوم التي كان يدرسها وفي ¬

_ (¬1) الكتاني (فهرس) 2/ 788 - 789. انظر أيضا محمد بيرم (صفوة الاعتبار) 4/ عنه انظر أيضا فصل المكتبات.

الأدب. وبعضها شروح، وهو في ملازمته التدريس رغم طول المدة يشبه معاصره عبد القادر المجاوي، فقد تفرغ كل منهما له، وأخرجا التلاميذ المشهود لهم. ولا نعرف أنهما تلاقيا أو تراسلا، مع ذلك. وكان الديسي من علماء القراءات والتجويد أيضا. وكانت له حافظة نادرة. وقد عرفنا أنه لم يكن على علاقة جيدة مع الشاعر عاشور الخنقي الذي انتصر للأشراف ولو كانوا عصاة. وكان الشيخ محمد بن أبي القاسم الهاملي يكرمهما معا. وقد تحدثنا على ذلك في محله. ودامت مدة إقامة الديسي بالزاوية حوالي أربعين سنة، إذ دخلها في أوائل الثمانينات، وتوفي سنة 1922. ولم نطلع إلى الآن على إجازته للكتاني ولا إجازة هذا له (¬1). ويذكر صاحب تعريف الخلف أنه قد بعث له يسأله عدة أسئلة عن المرأة وعن علماء الجنوب وغيرها. وهي الأسئلة التي طلب الإجابة عليها السيد (آرنو) الفرنسي مدير جريدة المبشر في وقته. فالتجأ صاحب التعريف إلى شيخه الديني (¬2). 6 - اجازة المكي بن عزوز: للشيخ الطاهر العبيدي. أما المكي بن عزوز فقد سبق الحديث عنه، وأما العبيدي (¬3) فهو أحد علماء سوف الذين تولوا التدريس في الجامع الكبير بتقرت طيلة حياته تقريبا. تخرج على يد عبد الرحمن العمودي ومحمد العربي موسى في الوادي وأكمل تعليمه في تونس (الزيتونة؟) وتبادل المراسلات مع علماء الوقت وقرظا بعضهم أعماله مثل محمد بن عبدالرحمن الديسي وابن باديس. وله منظومات عديدة في فنون شتى معظمها في الفقه. وكان أخوه أحمد العبيدي في الوادي يقاربه علما ووظيفة. ¬

_ (¬1) عن الديسي انظر عمر بن قينة (الديسي)، الجزائر، 1976. وزكي محمد مجاهد (الأعلام الشرقية) 3/ 130، (وتعريف الخلف) 2/ 407، ودبوز (نهضة) 1/ 79 - 80. (¬2) تعريف الخلف 2/ 417. (¬3) انظر عنه كتابنا (تجارب في الأدب والرحلة) فصل (مراسلة غريبة بين ابن باديس وأحد علماء سوف).

7 - إجازة عمر بن الطالب بن سودة إلى علي بن عبد الرحمن بن محمد بن والي، مفتي وهران. وهي إجازة عامة (¬1). وابن سودة أحد علماء المغرب وأعيانه. وعلي بن عبد الرحمن كان من علماء الدين والطريقة. وقد ترجمنا له بما توفر لنا من معلومات في فصل التصوف. وكانت بينه وبين علماء المنطقة، مثل الشيخ القاضي شعيب، مراسلات. وكان في نفس الوقت مقدما للطريقة التجانية متوليا للفتوى عدة سنوات في آخر القرن الماضي. وهو غير معروف بالتأليف. ولا ندري إن كان قد أجاز هو أيضا. ابن سودة، أو كانت الإجازة من جانب واحد، وربما كان ابن عبد الرحمن من خريجي مدرسة تلمسان الرسمية. 8 - إجازة بعض علماء المغرب: لأحمد بن السنوسي بن خليل الغريسي. وكان هذا الشيخ قد انتقل إلى فاس للدراسة العادية وجرى له امتحان على يد لجنة مؤلفة من شيوخ القرويين وهم: محمد كنون، وأحمد البناني، وأحمد القادري والهادي السقلي وشيخ آخر اسمه الطيب (بن كيران؟). وكان كاتب اللجنة هو أحمد بن إدريس، وشمل الامتحان العلوم العربية والشرعية مثل مختصر خليل ورسالة الوضع والأصول، والنحو والمنطق والبيان ثم الحساب والفلك. وبعد الامتحان منحوه الإجازة وأذنوا له في التدريس. ولا شك أن هذا كان بداية التغيير الذي أشرنا إليه، فهو قد حصل على إجازة جماعية - إذا صح التعبير - ونال شهادة من مؤسسة. وربما كان في صيغة الإجازة بعض البقايا التقليدية (¬2). وكان ذلك سنة 1896. 9 - إجازة في التصوف والطريقة المدنية (الشاذلية) من محمد أحمد بن عبد الله السفاقصي إلى سيدي يحيى بن أحمد، مقدم أولاد نائل. ¬

_ (¬1) الكتاني (فهرس) 1/ 342. (¬2) ابن سديرة (كتاب الرسائل)، ص 202. جاء التاريخ في هذا المصدر هكذا: 26 رجب 1896، أي الجمع بين الشهر الهجري والعام الميلادي. وليس لدينا مصدر آخر الآن لتصحيح ذلك.

الفقه والأصول

الفقه والأصول المؤلفات الفقهية قليلة أيضا خلال هذا العهد (¬1). وربما يرجع ذلك إلى عدم حرية الفقهاء في تناول الموضوعات الفقهية حسب الشريعة الإسلامية. فقد كانت بعض أبواب الفقه محرمة في التدريس والخطب والفتوى. ذلك أن الإدارة كانت تخشى أن يستعملها العلماء في دفع الناس إلى المعارضة والثورة أو (التعصب) كما كان الفرنسيون يطلقون على المعارضة. وربما يرجع ذلك أيضا إلى ضعف الثقافة الدينية، فقد كان المصدر الوحيد لتخريج القضاة والفقهاء هي المدارس الثلاث التي أسستها الإدارة سنة 1850، وهي مدارس لا يتجاوز مستواها في أغلب الأحيان الدراسة الثانوية في مصطلحنا اليوم، ربما مستوى المتوسطات. حقيقة أن بعض الفقهاء قد تخرجوا من الزوايا المحلية ولكنهم كانوا بعيدين عن المجال العلمي والوظيفي، وربما كانوا هم أيضا يكررون ما كتب القدماء فقط. أما الذين تخرجوا من بعض المعاهد الإسلامية ورجعوا إلى الوطن فقد استوعبتهم الإدارة وجعلتهم يندمجون في بوتقتها في أغلب الأحيان، أمثال الزقاي والمجاوي وابن مهنة وعاشور الخنقي. ولم يبدأ تحرر الفقهاء على الأغلب إلا منذ ظهور الحركة الإصلاحية، وهي حركة ركزت على التعليم العربي وتجديد الدين ومحاربة الآفات الاجتماعية ولم تهتم بالتأليف. والمذاهب الفقهية الرائجة خلال العهد الذي ندرسه هي: المالكي والحنفي والإباضي. أما المالكي فهو مذهب الغالبية العظمى من السكان، وكان له مصادره في الكتاب والسنة وموطأ الإمام مالك ومدونة ابن القاسم ومختصر الشيخ خليل بن إسحاق، وبتقادم الزمن أصبح مختصر خليل هو العمدة في الأحكام والدروس والفتاوى. وقد اعتمدته الإدارة الفرنسية أيضا في تعاملها مع الجزائريين. فكان المختصر مقررا في المدارس الرسمية وفي المحاكم. وتسابق المستشرقون إلى ترجمته والتعريف به. ومن الذين ترجموه ¬

_ (¬1) انظر المؤلفات المتعلقة بالفرائض والميراث في فصل العلوم والرياضيات، الخ.

مبكرا الدكتور بيرون (¬1). فكانت المحاكم الشرعية مهما كان مكانها في الوطن وكذلك المحاكم الفرنسية التي تنظر في الأحكام بين المسلمين أو بين هؤلاء وغيرهم تعتمد على المختصر في أصله أو في ترجمته. ومنذ الاحتلال أخذ عدد الأحناف يتضاءل لأن معظمهم كانوا من العثمانيين أو من نسلهم. ولكن السلطة الفرنسية قد استمرت في تعيين المفتين على المذهب الحنفي في بعض المدن الرئيسية كالعاصمة وقسنطينة والمدية، إلى أن اختفى وظيف المذهب من غير العاصمة. وكذلك أضعفت هذه السلطة عن قصد من سمعة ومكانة المفتي والقاضي الحنفيين (¬2). وكان المفتي الحنفي (محمد بن محمود بن العنابي) أول من نفته السلطات الفرنسية بعد الاحتلال مباشرة (1830). وكان للحنفية كذلك مصادرهم في الفتوى والقضاء، ومن ذلك فقه الإمام أبي حنيفة وكتاب الدر المختار. ولكن عدم الحرية وضعف المستوى واحتكار المحاكم الفرنسية لإصدار الأحكام كان يمس جميع الفقهاء المسلمين مهما كان مذهبهم. وقد تعامل الفرنسيون في المذهب الإباضي على مراحل، وأول اتصال لهم مع أصحاب هذا المذهب كان في العاصمة ولكن في شكل نقابة كانت تمثل بني ميزاب فيها. فاعترفوا بها كتنظيم اجتماعي - اقتصادي أكثر منه ديني. وكان أمين النقابة مسؤولا عن كل ما يصدر عن المنخرطين في تنظيمه دينيا واجتماعيا واقتصاديا وأمنيا. وهو بذلك يضمن لهم ممارسة حرية العبادة وحرية التجارة والتنقل بين ميزاب والعاصمة. ومنذ احتلال الصحراء في أوائل الخمسينات عوملت ميزاب معاملة خاصة حين أعطيت نظام الحماية الفرنسية مع الاحتفاظ بأمورها الداخلية من شعائر وعزابة وتعليم وتجارة وقضاء. ولكن في سنة 1882 شمل الاحتلال المباشر ميزاب أيضا ورفع عنها نظام الحماية، وسمح لأهلها بممارسة شعائرهم حسب مذهبهم، وكان من ¬

_ (¬1) انظر لاحقا. (¬2) انظر من رسائل علماء الجزائر في القرن الماضي، في أبحاث وآراء، ج 3.

أبرز رجال العلم عندئذ في المنطقة هو الشيخ أطفيش الذي كان المرجع لأهل ميزاب في الشؤون الدينية. وقد وضع الشيخ أطفيش مجموعة من الكتب في المذهب الإباضي منها شرح كتاب النيل وشفاء الغليل للثميني. وباتفاق معه ومع السلطات الفرنسية بواسطة المستشرق إيميل ماسكري، أصبح شرح كتاب النيل هو المرجع الرئيسي في المذهب الإباضي، وهو الكتاب المعتمد في المحاكم. هذه نظرة عامة عن أحوال الفقه والمذاهب والتآليف في هذا الموضوع، ولنذكر الآن ما تعرفنا عليه من مؤلفات في الكتب الفقهية، على اختلاف المذاهب. وقد شملت هذه التأليف المسائل الفقهية من ربا وقراض، ورؤية هلال رمضان، وصوم وحج، كما شملت الفتاوى والنوازل. 1 - النوازل التي عرضت للأمير عبد القادر أثناء المقاومة واستفتى فيها علماء المغرب ومصر وغيرهم. مثل حكم الدين في المعونة (ضريبة) الحربية، وفي الهجرة من الجزائر بعد تغلب الفرنسيين عليها، وفي المسلمين المخالفين الذين تعاملوا مع الفرنسيين ورفضواعلنا أو خفية الحكم الإسلامي (حكم الأمير). وهذه النوازل مفصلة في كتاب تحفة الزائر وفي أجوبة الشيخ التسولي المغربي والشيخ عليش وحسن العدوى المصريين عليها (¬1). 2 - الجدل الذي دار حول حكم الهجرة من الجزائر بعد الاحتلال، ولا سيما ما كتبه في الموضوع العلماء الآتية أسماؤهم: مصطفى الكبابطي، ومحمد بن الشاهد، وقدور بن رويلة، وعلي بن الحفاف. وقد وردت عن ذلك أخبار في تحفة الزائر، كما نشر منها محمد بن عبد الكريم نماذج في كتابه (حكم الهجرة) (¬2). ¬

_ (¬1) انظر (تحفة الزائر)، ط. 1، 1903، ص 206 - 216. وأجوبة الشيخ التسولي، وهي طويلة، قد طبعت على حدة دار الغرب الإسلامي، بيروت 1996، وأجوبة الشيخ عليش تحمل عنوان (فتح العلي السالك على مذهب الإمام مالك). (¬2) محمد بن عبد الكريم (حكم الهجرة من خلال ثلاث رسائل جزائرية)، الجزائر 1981.

3 - الفتاوى التي جاءت لتعارض القائلين بالهجرة والتي شجع عليها الفرنسيون. وهي صادرة من الجزائر، ربما بصياغة فرنسية وموافقة بعض رجال الدين الجزائريين. واشتهرت من ذلك الفتوى التي حمل نصها الجاسوس الفرنسي، ليون روش، سنة 1842 إلى علماء القيروان والأزهر ومكة المكرمة، وكان متنكرا في زي مسلم واسم عربي، ومرفوقا بصحبة من علماء الجزائر المجندين من الإدارة الفرنسية لهذا الغرض. ثم الفتوى الأخرى والتي كانت تشبه الأولى، سنة 1895 حين نشطت الهجرة على يد حركة الجامعة الإسلامية وحين أرادت فرنسا أن توسع نفوذها نحو الصحراء وافريقية الوسطى والغربية. ونحن لا نطيل في هذه الأمور لأننا درسناها في مكان آخر (¬1). 4 - نوازل الجزلاوي (الزجلاوي؟)، وهو محمد بن الفقيه بن محمد بن أحمد الزجلاوي التواتي - من توات -، وهي نوازل تدور حول نظام الفقارة وتوزع المياه وسقي الحرث في المنطقة (¬2). 5 - إمداد الفتاح، لحمدان خوجة، وهو ترجمة لكتاب نور الإيضاح للشيخ حسن بن علي الشرنبلالي، في الفقه الحنفي. وهو كتاب ضخم يقع في 588 صفحة، وفيه مقدمة بالعربية كتبها حمدان خوجة، حوالي 1255 (1839) أي بعد هجرته إلى اسطانبول بحوالي ثلاث سنوات. ونفهم من ذلك أن خوجة قد ترجم الكتاب من العربية إلى التركية وأنه بذلك قد ملأ وقت فراغه بعد هجرته. وعرف من سيرته أنه قد عين مترجما بدار الطباعة باسطانبول، وكان بذلك يفيد العلم والصحافة (¬3). ¬

_ (¬1) تحدثنا عن ذلك في كتابنا الحركة الوطنية، ج 1. انظر أيضا بحثنا (فرنسيان في الحجاز) في مجلة (المنهل) السعودية، عدد أغسطس 1996. (¬2) مقتطفات من رسالة بعث بها مولاي عبد الله بن مولاي أحمد من عين صالح إلى السعيد بن أبي داود، وهذا هو خال علي أمقران السحنوني الذي تفضل بالمراسلة حولها في 8 غشت 1980. وعن نظام الفقارة (الفجارة) في توات انظر كتاب فرج محمود فرج (إقليم توات). (¬3) محمد بن عبد الكريم (حمدان بن عثمان خوجة)، دار الثقافة، بيروت 1972، =

6 - رسالة في معنى الدين والفقه، تأليف محمد بن مصطفى خوجة (الكمال)، أشار إليها صاحب معجم أعلام الجزائر، والشيخ الكمال من المدرسين في أوائل هذا القرن. وقد ذكرنا بعض آثاره وترجمنا له في مواضع أخرى من هذا الكتاب. 7 - ذبائح أهل الكتاب، للشيخ أبي يعلى الزواوي، وهو من الفقهاء والمفتين. وجاء في كتابه (الخطب) أن كتاب (الذبائح) (تحت الطبع) ولم نقرأ هذا الكتاب مطبوعا، ولعله رسالة صغيرة لم تطبع. وقد تعرضنا للزواوي في عدة مناسبات. 8 - رسالة فقهية في سبع صفحات فقط تتعلق بالدعاء على إثر الصلاة الجماعية ورفع اليدين ومسح الوجه، ألفها الشيخ طعيوج قائلا أن ذلك بدعة مستحسنة، إضافة إلى بدع أخرى ذكرها. وقد اعتاد الشيخ طعيوج على ختم تدريس مختصر الشيخ خليل في الفقه أيضا كل سنة في احتفال يقام لهذا الغرض (¬1). 9 - هلال رمضان وطريقته الشرعية والفلكية للشيخ الرزقي الشرفاوي. وهي رسالة نشرها بعد وفاته الشيخ محمد الصالح الصديق. وللشيخ الشرفاوي رسالة أخرى حول الزواج بالربيبة. ولكن هذه الرسالة قد ضاعت (¬2). ¬

_ = ص 135. وقد ترك خوجة كناشا أيضا جمع فيه أثار قراءته في المكتبة الوطنية بباريس بين 1833 - 1836، ومن ذلك نقول من كتب أحمد المقري: نفح الطيب وأزهار الرياض، وكتاب التنوير لابن عطاء الله، وبعض كتب الغزالي، وشرح بانت سعاد، وطبقات الشافعية للسبكي، وتاريخ الذهبي وتاريخ اليافعي، ومجموعة من الفتاوى لغيره. وشكر ابن عبد الكريم أن الكناش (المجموع) قد انتقل إلى علي رضا خوجة (وهو ابنه). ومنه إلى المكتبة الوطنية بالجزائر، رقم 2161. انظر محمد بن عبد الكريم (المرجع السابق)، ص 136 - 137. (¬1) من مقالة علي أمقران السحنوني في جريدة (العقيدة) العدد 82، 26 فبراير 1992 (؟) عن الشيخ طعيوج المتوفى سنة 1932. (¬2) محمد الصالح الصديق إلى علي أمقران السحنوني ومن هذا إلي، 6 نوفمبر 1994. =

10 - نور الأثمد في سنة وضع اليد على اليد: رسالة وضعها أحمد بن عليوة، صاحب الطريقة العلوية، أثبت فيها أن الإمام مالك، أسوة بالمذاهب الأخرى، قد قال بوجوب وضع المصلي يده على صدره في الصلاة. 11 - شرح مختصر الشيخ خليل في الفقه المالكي، وضعه المكي بن الصديق عندما كان مدرسا وخطيبا بجامع سيدي مبارك بن ناجي بالخنقة، أوائل هذا القرن (؟). 12 - فتاوى الشيخ حميدة العمالي ومحاورات فقهية له أيضا، بلغت حسب رواية الشيخ الحفناوي بن الشيخ أكثر من 300 مسألة. جرت بينه وبين الشيخ علي مبارك، أحد أمان القليعة، وكان العمالي مفتيا على المذهب المالكي في العاصمة خلال الستينات. 13 - رسالة في أحكام مياه البادية للعمالي نفسه. 14 - تأليف في القضاء للعمالي أيضا. وقد قال عنه صاحب تعريف الخلف: لقد تتبع فيه فصول القضاء وأنواعه وحلية القاضي وشروط القضاء. وكان العمالي من الذين شاركوا في ترجمة قانون القضاء الذي وضعته الإدارة الفرنسية سنة 1859 مع حسن بن بريهمات ومحمد بن مصطفى، وأحمد البدوي، وابن الحاج أحمد (¬1). 15 - أحكام الخنثى، تأليف وضعه محمد بن علي الونيسي المولود سنة 1233. وقيل انه توفي مبكرا عن 27 سنة (¬2). 16 - أنباء المدرسين وأهل الفتوى من القضاة والمفتين، مؤلفه ¬

_ = وكان الصديق قد نشر عن الشرفاوي مقالة في مجلة الثقافة. وقيل ان للشرفاوي بعض المؤلفات الأخرى ولكنها ضائعة، مثل بغية الطلاب في علم الآداب، وإرشاد الطلاب إلى ما في الآيات من الإعراب، وتاريخ علماء زواوة. (¬1) تعريف الخلف 2/ 152. وكذلك بحث إبراهيم الونيسي عن (المبشر). (¬2) تعريف الخلف 2/ 493. وقد ذكر له تآليف أخرى في الأدب والتوحيد.

مجهول، وهو ضمن مجموع في الفقه، يوجد في مكتبة الشيخ ابن دريوة في بجاية (¬1). 17 - منظومة في الفقه المالكي وشرح عليها ثم حاشية على الشرح، وضع كل ذلك صالح السمعوني، والد الشيخ طاهر الجزائري. وكان صالح من المهاجرين الأوائل إلى بلاد الشام. 18 - رسالة في اختلاف المذاهب، للشيخ صالح السمعوني المذكور (¬2). 19 - تقييدات على جمع الجوامع للسبكي في أصول الفقه، وضعها محمد المازري بن محمد الغول الديسي، المتوفى سنة 1871 (1286) (¬3). 20 - حاشية على شرح إبراهيم الشبرخيتي على مختصر خليل، كتبها عمار الغربي المعروف بأبي راشد القسنطيني المتوفى سنة 1835. وكان ممن تولوا الفتوى في قسنطينة قبل احتلالها. وعائلة الغربي قديمة تحدث عنها عبدالكريم الفكون في (منشور الهداية) (¬4). 21 - الربا في الشريعة الإسلامية وعواقبه العملية، تأليف ابن علي فخار. وهي أطروحة الدكتوراه في العلوم السياسية والاقتصادية. كان قد ناقشها في كلية الحقوق بجامعة ليون سنة 1908. ودار محتواها على كون الربا من الجاهلية وأبطله الإسلام. وأن الإسلام حرر التجارة وأجاز القرض بدون فائدة، وعرف ابن علي فخار الربا المنهي عنه في القرآن بأنه هو الذي يشترط فيه الدائن على المدين تعويضه بضعف الدين أو حتى بثلاثة أضعافه. كما نص القرآن على ضرورة الكتابة عند التعاقد على الدين. ¬

_ (¬1) من مراسلة علي أمقران السحنوني، 8 غشت 1980. (¬2) معجم أعلام الجزائر، ص 79 وفيه مصادر أخرى عنه. (¬3) تعريف الخلف 2/ 538. (¬4) تعريف الخلف 2/ 286. انظر (منشور الهداية) من تحقيقنا، دار الغرب الإسلامي، بيروت 1987.

22 - القراض في الشريعة الإسلامية، وهو البحث الثاني الذي قدمه نفس المؤلف، ابن علي فخار، لنيل الدكتوراه في القانون، وقد توصل المؤلف إلى نتائج شبيهة بالنتائج التي توصل إليها في الربا، وخلاصة الفكرة هنا أن القراض بالفائدة جائز ولا يتنافى مع الشريعة. وكان المنع قد جاء من إرادة القضاء على مرض اجتماعي وهو الربا، حسب قوله. ولاحظ أنه لم يقع التفريق الحقيقي بين الاستعمال والإساءة، وقال ان استعمال القراض كان موجودا في الإسلام وان الغربيين قد استعاروه من المسلمين، وهو شكل من أشكال السلفة بالفائدة، بينما المذاهب (الفقهية؟) تفرق بين السلفة والقراض تفريقا شاسعا. كان ابن علي فخار من أول الجزائريين المحدثين الذين تخصصوا في هذا الموضوع وتوسعوا فيه. وقد تأثر بفتاوى الشيخ محمد عبده المعاصرة والتي كانت معروفة عن طريق مجلة المنار. وكان موضوع الربا والقرض بالفائدة من الموضوعات التي شغلت الرأي العام الإسلامي، وحتى الغربي، عندئذ. ولابن على فخار مساهمات أخرى فى حركة التنوير ذكرناها فى مكانها (¬1). 23 - اهتزاز الأطواد والربى من مسألة تحليل الربا، تأليف عبد الحليم بن سماية، أحد أساتذة مدرسة الجزائر الرسمية (الثعالبية). وهي رسالة صغيرة في موضوع الربا، كما يظهر من العنوان. ولابن سماية آراء في السياسة والدين والأدب تعرضنا إليها عند حديثنا عن مساهمته (¬2). 24 - انحسام الريق في حلق من أنكر الجمعة في بلدة سيق، رسالة كتبها الحاج المنور بن البشير المتوفى سنة 1344. رد فيها على من أنكر عليه إحداث صلاة الجمعة في بلدة سيق. وقد قرظ الرسالة معاصره أبو عبد الله ¬

_ (¬1) مراجعة (مجلة العالم الإسلامي) 1909 (يناير - فبراير)، ص 186 - 188. وكذلك سنة 1911، ص 582 - 582. انظر عنه فصلي الترجمة والاستشراق. (¬2) ط. الجزائر، رودوسي 1329، في 28 صفحة. انظر عنه فصل التعليم.

البوعبدلي، نزيل بلدة بطيوة عندئذ، وذلك في أبيات، وذهب الحاج المنور أيضا إلى وجوب الزكاة في الخرطال على أن نوع من العلس، ووافقه بعض علماء الوقت على ذلك (¬1). وكان قد رد في ذلك على الشيخ الطيب المهاجي نزيل وهران والمدرس بها حين أصدر فتوى في جريدة (النجاح) قال فيها بعدم وجوب الزكاة في الأوراق البنكية. 25 - مسألة وجوب الزكاة في أوراق المصارف (البنوك): فبالإضافة إلى رأي المهاجي والحاج المنور، أدلى الشيخ محمد الصالح القسنطيني (؟) برأي في شكل فتوى على لسان الجرائد قال فيها بعدم وجوب الزكاة في هذه الأوراق التي يجري بها التعامل. فجاءته ردود عديدة تقول بالزكاة فيها. بعض الردود كانت شعرا وبعضها نثرا. من ذلك نظم لأحمد مفتاح بن عبد الباقي أحد المشتغلين بالقضاء في قمار، وهي في عشرة أبيات. كما رد عليه الطاهر العبيدي السوفي نزيل مدينة تقرت، وقال أيضا بوجوب الزكاة في الأوراق (الدراهم) الصادرة عن البنوك، واستدل العبيدي بآراء بعض العلماء المعاصرين أمثال: محمد الخضر حسين والطاهر بن عاشور والمكي بن عزوز (¬2). 26 - المجلى في مشروعية الخروج إلى المصلى، تأليف حسن بن أبي الحبال اليدري، قاضي بجاية في وقته. وكان من رجال الدين ومن الشعراء أيضا. وتوجد ترجمته في (شعراء الجزائر) وله بعض التأليف الأخرى (¬3). 27 - منظومة في ستر العورة، للطاهر العبيدي، مدرس جامع تقرت وأحد علماء سوف البارزين في وقته. وهي الرسالة التي نالت تقريظ ابن ¬

_ (¬1) ابن بكار (مجموع النسب)، ص 57. (¬2) ابن بكار (مجموع النسب)، ص 58 - 61. والقسنطيني قد يكون هو محمد الصالح بن مهنة. (¬3) عن حسن بولحبال انظر (شعراء الجزائر) ج 2، ص 19 ومراسلة علي أمقران في 8 غشت 1980.

باديس والديسي. وللعبيدي مسائل عديدة في الفقه أيضا كلها رجزية. منها: أ - في الحيض والنفاس وأحكامهما. ب - في التيمم. ج - في حكم المرأة المعتدة عنوانها (السلاح والعدة في مهمات أحكام المعتدة). د - مناسك الحج والعمرة. هـ - رسالة عن الشيخ الدردير. وكان الشيخ الطاهر العبيدي يتمتع بقدرة كبيرة على قرض الشعر ونظم المسائل الفقهية في أراجيز سهلة. 28 - رفع الإشكال والمرا في حكم غراس العنب وبيعه لمن يعصره خمرا، تأليف الهاشمي بن بكار مفتي معسكر في وقته. وكان بعضهم قد سأله عن حكم ذلك فجمع أقوال الفقهاء على المذاهب الأربعة، كما قال. وخلاصة ذلك أن في المذهب المالكي ثلاثة أقوال: المنع وهو قول الأكثرية. والإباحة وهو قول مالك وشيخه ربيعة. والثالث الكراهة. أما خارج المذهب المالكي فخلاصته قولان: المنع وهو قول أحمد بن حنبل، والكراهة وهو قول الشافعي وأبي حنيفة وكذلك مالك. وتوسع المؤلف في الأقوال المذكورة وانتهى هو بدوره إلى الجواز- الإباحة. والمبرر هو تفادي افتقار المسلم حتى يمطر إلى بيع أرضه ويصبح بعد ذلك عاملا مبخوس الأجر هو وزوجته عند النصارى (¬1). 29 - رسالة حول الحج. ألفها القاضي شعيب الجليلي، قاضي تلمسان، سنة 1883 بطلب من الوكيل الفرنسي العام. وقد سماها (قرير المقام وتيسير المرام، إلى حفظ حال الحجاج من سفرة وأيتام). ويبدو أن ذلك الطلب قد جاء عندما كانت السلطات الفرنسية تقيد الحجاج في عهد ¬

_ (¬1) ابن بكار، ص 181 - 184.

الحاكم العام لويس ترمان، الذي منع الحج وسلط قانون (الاندجينا) الاستثنائي، وشرع في تغيير الحالة المدنية. ولا ندري بأي رأي أفتى القاضي شعيب عندئذ (¬1). ولعله ساير السلطة الفرنسية. 30 - العرف في منطقة تلمسان، ألفه أبو بكر عبد السلام بن القاضي شعيب المذكور قبله. تناول فيه ما اعترفت به الشريعة من القوانين (الأعراف) الجارية. وهي غير مكتوبة ولا عقود لها، مثل اشتراك الفلاح والمزارع والخماس. واشتراك مالك بستان مع مزارع، ومالك الأرض مع بحار (من البحيرة)، وكذلك المغارسة، والشركة في النحل، وفي الرعي، وحفظ المطامير. وهذا النوع كثير في المنطقة. وإلى جانب ذلك توجد الشركة في الحمامات والمقاهي والأفران وفي الطواحين والصناعات، وكلها عن طريق العرف الذي تؤيده الشريعة. وفي الكتاب فصول أخرى تناول فيها المؤلف الأعراف في المواليد والختانة والأعراس والوفيات (¬2). 31 - شرح كتاب النيل، لمحمد بن يوسف أطفيش. وهو في الفقه الأباضي. ويذهب محمد علي دبوز إلى أن الشيخ أطفيش قد ألف هذا الشرح عندما سمع بأن الفرنسيين عازمون على إنشاء مجلة الأحكام الإسلامية وتدوين الفقه الإسلامي. ويبدو أن تأليف هذا الشرح كان سابقا بمدة طويلة عن مجلة الأحكام وإنشاء اللجنة الخاصة بها. لأن الشيخ قد انتهى منه في حدود 1883. ومنذ 1886 أصبح شرح كتاب النيل معتمدا رسميا في المحاكم كمرجع في الفقه الإباضي. ثم انه لا يمكن لعمل ضخم كهذا أن يؤلف في وقت قصير كالذي يشير إليه دبوز، بقوله لكي يكون (مرجعا لهذه اللجنة التي ستحرر مجلة الأحكام) (¬3). ¬

_ (¬1) الخزانة العامة - الرباط، ك 48. (¬2) مجلة العالم الإسلامي، اكتوبر 1908، ص 373 - 374. وتاريخ نشر كتاب أبي بكر عبد السلام هو 1906، بتلمسان 116 صفحة. (¬3) دبوز (نهضة) 1/ 317 - 318.

ومهما كان الأمر، فان الشيخ أطفيش وضع عصارة فكره في هذا الكتاب، وقد عرض فيه المذاهب الأخرى أيضا وقارنها ببعضها. وكان الشيخ حريصا على أن يستفيد أهل العصر منه، لأن الأصل الذي وضعه الشيخ عبد العزيز الثميني، كان موجزا ولم يستفد منه إلا العلماء والمختصون. وتأكد الشيخ أطفيش أيضا أنه لا وجود لكتاب موسع وشامل وواضح في المذهب الاباضي مقارنة بالمذاهب الأخرى بالدليل. ولذلك أصبح شرح النيل مرجعا في المحاكم الأباضية من جهة وفي محاكم الاستئناف الفرنسية من جهة أخرى. وقد ذكرنا أن لماسكري دورا في ذلك. وقد جاء الشرح في حوالي إثني عشر جزءا من الحجم الكبير (¬1). وقد اطلعنا على الطبعة الثانية (1972) من شرح كتاب النيل وشفاء الغليل. وهي في اثني عشر جزءا. وقد لفت نظرنا أنه لا يحتوي على خطبة للمؤلف (الشارح) وإنما دخل الموضوع مباشرة بالتمهيد الذي كتبه المؤلف الأصلي وهو الشيخ الثميني. مبتدئا بالطهارة. أما الذي قدم الطبعة الثانية فهو السيد علي علي منصور، رئيس المحكمة العليا بليبيا عندئذ، وقد نوه منصور بشرح أطفيش واعتبر أسلوبه من السهل الممتنع، وأن المؤلف من المتفقهين في الدين. وأخبر أن لجنة موسوعة الفقه الإسلامي التي كان مركزها القاهرة قد اعتمدت المذاهب الثمانية، ومنها المذهب الإباضي، لتبويب الفقه الإسلامي. وكان عمدة هذا المذهب هو شرح كتاب النيل لأطفيش لأنه من أجل الكتب تأصيلا وشريعا. وقد لاحظنا أن الشيخ أطفيش يشرح المتن بطريقة القدماء فيورد عبارة المتن ثم يشرحها شرحا مختصرا أو مطولا، حسب المناسبة وما عنده حولها من آراء. وقلما يذكر الواقعة بوقتها ويربط بينها وبين أحداث العصر. والمعروف أنه ألف شرحه في فترة كانت الجزائر كلها تحت الاحتلال المباشر ¬

_ (¬1) طبع منه 7 أجزاء في مصر في المطبعة البارونية أوائل هذا القرن. ثم طبعت الأجزاء الباقية منه في مصر أيضا سنة 1343.

في القضاء والأحكام

وأن ميزاب كانت محتلة بطريق الحماية الفرنسية (1852 - 1882). وكان الشيخ عندئذ في أوج عطائه الفكري. ومن ميزات الشرح عنده أنه يستعمل النحو لتوضيح معاني العبارات (¬1). 32 - للشيخ أطفيش مؤلفات أخرى في الفقه الإباضي نورد عناوينها فيما يلي، كما وردت في كتاب النهضة لدبوز: 1 - شامل الأصل والفرع. ويشمل العبادات (الطهارة والصلاة وأسرارهما) ألفه في آخر عمره، وهو مطبوع. 2 - الذهب الخالص، وهو مطبوع أيضا، وفي مجلد واحد. 3 - جامع الوضع والحاشية، مطبوع، وفي مجلد. 4 - حي على الفلاح، وهو غير مطبوع، وفي جزئين أو ثلاثة (الشك من دبوز). 5 - لفظ أبي موسى (؟)، وهو مطبوع. 6 - شرح الدعائم للمبتدئين والمتوسطين. لا ندري إن كان مطبوعا. 7 - أساس الطاعات، للمبتدئين. وهو أيضا في العبادات والطهارات. ولا ندري إن كان قد طبع (¬2). 8 - شرح مختصر العدل والإنصاف، للشماخي، وهو كتاب كان يدرس في الثانويات في مادة الأصول. في القضاء والأحكام منذ بدأ الفرنسيون يتدخلون في شؤون العدالة الإسلامية ويوجهونها ¬

_ (¬1) شرح كتاب النيل وشفاء الغليل. ط 2، 1972/ 1392، دار الفتح، بيروت، ج 1، ص 5 - 6. (¬2) نفس المصدر. وقد ساهم في نشر كتبه أعيان الإباضية في زنجبار ومصر. وكذلك تلميذه سليمان الباروني الذي أسس مطبعة في مصر أول هذا القرن. كما ساهم ابن أخيه (إبراهيم أطفيش) في نشر كتبه والتعريف به في المشرق.

وجهة تخدم مصالحهم وتحد من نشاطها في المجتمع، أخذت بعض الكتابات تظهر حول الشريعة وأحاكمها، تارة في شكل ترجمات نجهل مؤلفيها، وهو غالبا موظف أو أكثر من الإدارة نفسها، وتارة مؤلفات بالعربية أو بالفرنسية تصب في نفس الاتجاه. وكانت هذه المؤلفات عادة بأقلام جزائرية يريد أصحابها أن يثبتوا صلاحية الشريعة الإسلامية للمجتمع المسلم. وكان هؤلاء عادة يحاولون التوفيق بين القانون الفرنسي والشريعة، ويدافعون عن القضاء الإسلامي، لأن الزمن أثبت لهم أن الفرنسيين كانوا يخططون لإلغائه إلا في الأحوال الشخصية. ومعظم هذه الكتابات بدأت تظهر خلال الثمانينات في شكل رسائل صغيرة، توضع عادة بالعربية ثم تترجم إلى الفرنسية ليطلع عليها المسؤولون الفرنسيون من مستشرقين وقضاة وإداريين. 1 - في الخمسينات من القرن الماضي جرى الاهتمام بالقضاء وأنشأ الفرنسيون مجلسا قضائيا أعلى وأعطوه صلاحيات ثم انتزعوها منه بعد حوالي ثلاث سنوات فقط إذ وقع التراجع. وظهرت المجالس الإقليمية التي لعبت فيها بقايا القضاة والعلماء والمرابطون والأشراف دورا بارزا. وكل ذلك لا يهمنا هنا (¬1). ولكن يهمنا أن السلطة الفرنسية كانت حريصة على توفير النصوص، ولذلك عهدت إلى أربعة من العلماء بترجمة قانون سنة 1859 حول الأحكام وتنظيم القضاء الإسلامي لخدمة المصالح الفرنسية. وقام بالترجمة من الفرنسية إلى العربية أو فلنقل بالصياغة طبقا لأحكام الشريعة (لأن الشيوخ الذين سنذكرهم لا يعرفون الفرنسية، كما نتوقع) وهم: حميدة العمالي، وأحمد البدوي، وابن الحاج أحمد، ومحمد بن مصطفى. وقد نشرت عملهم جريدة (المبشر) (¬2). ولكن يغلب على الظن أنه ظهر أيضا في شكل رسالة أو كتيب صغير ووزع على المعنيين بالأمر. ¬

_ (¬1) انظر عن ذلك فصل السلك الديني والقضائي. (¬2) المبشر 15 جوان 1860.

2 - بيان القوانين الردعية المطبقة على اللصوص في الأرياف (البادية) الجزائرية. وهو كتيب ألفه بالعربية المكي بن باديس ثم ترجم إلى الفرنسية، ونشر سنة 1875. وكان ذلك في غمرة التعسف الذي جرى بعد ثورة 1871 وبداية قوانين الاندجينا الظالمة، وقيل إن ابن باديس حاول من وراء هذا التدخل (وقد كان قاضيا ونائبا) أن يوائم بين القانون الجنائي الفرنسي وبين القصاص في الشريعة الإسلامية (¬1). 3 - رسالة عن وضع القضاء والقضاة، وضعها المكي بن باديس، سابق الذكر، سنة 1889. وقد ألفها بالعربية ثم ترجمت إلى الفرنسية ونشرت في أعداد محدودة (500 نسخة). ومحتوى الرسالة هو الدفاع عن القضاء الإسلامي والدعوة إلى استرجاع صلاحياته للقضاة المسلمين. وهو الحق الذي اغتصبه منهم (قضاة الصلح) الفرنسيون. وجاء المكي بن باديس بمبررات منها أن لقضاة الصلح أعباءهم الخاصة فكيف تضاف إليهم خصومات المسلمين. وقال إن القضاء الفرنسي طويل الإجراءات ومتعدد الجلسات ويحتاج إلى المحامين وهو باهظ الثمن بينما القضاء الإسلامي عكس ذلك. ومن ذلك أيضا أن القاضي المسلم لم يعد له حق الحكم في التركات إذا كانت من العقارات. وقد دافع ابن باديس عن حق القاضي المسلم في أن يحكم طبقا للشريعة وعن حق المواطن في أن يختار القاضي والشريعة التي يحتكم إليها (¬2). 4 - مجموع النصوص الفقهية والوثائق. وهو عمل نشره بالعربية محمد طيار (¬3). 5 - مجموع القوانين القضائية، وضعها ولد سيدي سعيد محمد والسيد ¬

_ (¬1) كريستلو (المحاكم)، ص 222. (¬2) قنان (نصوص سياسية)، ص 206 - 209. نشرت الرسالة في قسنطينة، 1889، وهي في حوالي 11 صفحة. (¬3) نفس المصدر. طبع الجزائر د. ت.

زيس الفرنسي، سنة 1886. ولا نعرف الآن شيئا عن ولد سيدي سعيد محمد. ولعله كان من أعوان المحاكم الفرنسية ومن خريجي إحدى المدارس الرسمية الثلاث. أما زيس فقد كان هو رئيس محكمة الاستئناف بالعاصمة. وكان من المعربين البارزين وعلى صلة بأعيان المسلمين، قادرا حتى على نظم الشعر بالعربية (¬1). فهو حينئذ متمرس على الأحكام الإسلامية بالإضافة إلى القوانين الفرنسية، وكان من أعوانه المسلمين أيضا أحمد بوقندورة المفتي الحنفي بالعاصمة. ولا ندري الآن ما دور ولد سيدي سعيد محمد في المجموع. 6 - مشروع محمد بن الحاج حمو ومحمد بن رحال لإصلاح القضاء الإسلامي. وهو المشروع الذي تقدما به إلى لجنة جول فيري سنة 1892. وكان ذلك أثناء ما سمي بالحملة ضد القضاة المسلمين من قبل الكولون (¬2). وقد نشط أعيان المسلمين، ولا سيما ابن رحال خلال هذه الفترة (التسعينات) وطالبوا بتغييرات كثيرة في القضاء والتعليم والنيابة. وكان محمد بن رحال من أبرز الكتاب في هذا الاتجاه بالعربية والفرنسية. 7 - القضاء المدني الإسلامي لأحمد بوضربة (الحفيد). وكان بوضربة من المحامين في مطلع هذا القرن، ومن المختصين في القانون الفرنسي والشريعة الإسلامية. وهو حفيد أحمد بوضربة المعاصر للاحتلال. وكان من الاندماجيين والواصلين عند الفرنسيين، وعضوا في جمعية الدراسات السياسية والاجتماعية التي كان يشرف عليها أوميرا. وله عدة كتابات في الموضوع (القانون المدني - الإسلامي). وكان أيضا عضوا في الماسونية ومن المتجنسين فهو يقف معارضا لتطبيق الدين في المجتمع ويقف في صف اللائكية - العلمانية (¬3). ¬

_ (¬1) مخطوط الخزانة العامة - الرباط، ك 48. (¬2) كريستلو، مرجع سابق، ص 222. (¬3) انظر مقالته (القضاء المدني الإسلامي) في نشرة جمعية الدراسات السياسية والاجتماعية، 1904، ص 4 - 12، بالفرنسية. وانظر عنه أجرون (الجزائريون المسلمون) 2/ 699.

8? النهج السوي في الفقه الفرنسوي، ترجمة وتقديم عمر بن حسن بن بريهمات. وكما هو واضح من هذه العلاقة فإن المترجم هو ابن حسن بريهمات الذي ملا الدنيا دويا خلال الستينات والسبعينات، وكان من أعيان العاصمة والبليدة وعضوا بارزا في المجالس الفقهية، ومديرا لمدرسة الجزائر الرسمية. وقد درس أولاده في هذه المدرسة أو في المدرسة السلطانية (المعهد الامبريالي) فتخرجوا مزدوجي اللغة والثقافة، ومنهم ابنه عمر هذا. وقد ترجمنا للأب (حسن) وأولاده في غير هذا المكان. أما الكتاب الذي نحن بصدده فقد ظهر سنة 1908. وبدأه صاحبه بمقدمة قصيرة أوضح فيها مكانة علم الفقه بين العلوم، وهو هنا يعني القانون. (أما بعد، فمما لا مرية فيه أن علم الفقه من أجل العلوم، وحسبه فخرا أنه حاسم لمثيرات اللجاج من الخصوم. به يؤمن على الأموال وتعصم الدماء، وبه يتوصل إلى إقامة قسطاس العدل ولا يحام حول الحمى ... وحيث كان بهذه المثابة القعساء ... تصدى لضم شتيته جهابذة أعلام ... وهذا وأننا عربناه من عجمته، وبينا ما تضمنته جل كلماته فجاء على ما يرام). وفي نظر عمر بن بريهمات أن الفقه وضعي وسماوي، أو هو القانون والشريعة. وبرر ترجمته لهذا العمل بالحاجة إلى القوانين الوضعية ومعرفة القوانين المدنية والسياسية التي حلت بين الجزائريين منذ الاحتلال، (ومع هذا فإن هذا الشعب (الفرنسي) الذي احتل أقليمنا واحترم شرعنا العزيز، وعوائدنا، لأن شرعنا وديننا ممتزجان (أي الدين والدنيا)، وتمدننا وشرعنا لا بد أن يكون موافقا للدين ومقام التمدن، كما احترم عند اليهود ما كانوا عليه قبل الاستيلاء (الاحتلال) إلى سنة 1870، وقع أمر دولي (حكومي) أقامهم مقام أبناء الجنس (الفرنسي) في الحقوق السياسية واللوازم الحربية). وفي الكتاب أربعة فصول وخاتمة، وتضمن الفصل الأول مسائل هي: أصول الفقه، والإنسان والجنسية والحالة الشرعية في الإنسان، والعائلة،

والقرابة. واحتوى الفصل الثاني على الإرث والزواج (النكاح) وأركانه. وكان الفصل الثالث فيما ينشأ عن الزواج، وأخيرا فصل في الطلاق ثم خاتمة. فالفقه الفرنسي هنا يقصد به القانون المدني الفرنسي الذي يقابله الأحوال الشخصية والمدنية عند المسلمين (¬1). ولنضف أن المترجم كان مدرسا للفقهين الإسلامي والفرنسي بمدرسة الجزائر الرسمية، وكان من الشعراء أيضا (¬2). 9 - المحاكم، كتاب مقرر على القضاة والعدول وأضرابهم، وضعه علي حسن. وقد دعمت نشره الحكومة العامة بالجزائر. وطبع عدة طبعات أولها سنة 1923 وثالثتها سنة 1934. ويدل ذلك على كونه من مقررات المحاكم (¬3). 10 - العدالة الإسلامية، رسالة وضعها الشريف بن حبيلس. وقد كان قاضيا خلال فترة طويلة، ويشير هذا العنوان إلى أنه يهم ودادية (جمعية) المحاكم وحماية الأطفال بالجزائر (¬4). وابن حبيلس هو الذي كتب سنة 1914 كتابا عن تيارات التغيير والإصلاح، وجعل عنوانه (الجزائر كما يراها أحد الأهالي) (¬5). 11 - منظومة من ألفي بيت (2000) في أحكام الفتوى، نظمها أحمد الطيب بن محمد الصالح الزواوي المتوفى سنة 1251 (1835) وقد سماها (مفتاح الأحكام) وسمى شرحه عليها (بتذكرة الحكام). وله أرجوزة أخرى سماها (نصرة الإخوان في احتجاج الفقهاء بالبرهان) (¬6). ¬

_ (¬1) عمر بن بريهمات (كتاب النهج السوي)، الجزائر 1908، 1325، في 40 صفحة. (¬2) انظر عنه ترجمة والده. وكذلك فصل الاستشراق. وكريستلو (المحاكم). (¬3) الجزائر 1923، 1934، ط 1 في 120 صفحة. (¬4) نشر قسنطينة 1924 في 31 صفحة. وهو بالفرنسية. (¬5) انظر عنه الحركة الوطنية، ج 2. (¬6) تعريف الخلف 2/ 533. و (الأعلام) 1/ 138.

12 - جواب الأمير عبد القادر لبعض من استفتاه في مسائل شرعية تتعلق بالمخالفين أو الرافضين للمقاومة. وهو جواب معلل وموثق. ويدل على تمكن الأمير، وهو في الثلاثين من عمره، من الأحكام الشرعية واطلاعه الواسع. وهو يسمى أولئك المخالفين (بالمتنصرة). ويقول ابنه في تحفة الزائر راويا عن والده، ان الأمير كتب جوابه وهو بعيد منقطع في بعض الثغور وليس له مواد الكتابة، وذلك في ذي الحجة سنة 1258 (حوالي 1843) (¬1). 13 - حكمة مشروعية الزكاة في الإسلام، وضعه محمد البشير الإبراهيمي، وقد بدأه أيام إقامته في دمشق، حوالي 1916 - 1920، ثم أتمه بعد ذلك على فترات. ومن موضوعاته مصادر المال في الإسلام وغيرها من مصادر الثروة (¬2). ومن الأكيد أن هذا الكتاب لم يطبع، ولم يذكر الإبراهيمي أنه قد ضاع منه. ولنا أن نقول حينئذ انه ما يزال في أوراقه الشخصية. 14 - فتاوى متناثرة للشيخ الإبراهيمي. ولا ندري موضوعاتها وحجمها (¬3). والمعروف أن الإبراهيمي كان يصدر فتاوى خلال مسؤوليته في جمعية العلماء وحتى قبل ذلك، حين كان ممثلها في تلمسان. ولكن هذه الفتاوى ما تزال متفرقة، وربما عند تلاميذه وأنصاره، وربما في أوراقه الخاصة. ولم نتتبع (آثاره) لنعرف ما إذا كانت قد تضمنت بعض فتاويه. 15 - النثر الرائق (في الوثائق)، لإدريس بن محفوظ الدلسي. ويبدو أن هذا كتاب في طريقة كتابة الوثائق الشرعية على الوجه الذي يقتضيه السياق الأدبي والشرعي معا وي لعبارات التقنية الأساسية. ولا نعرف أن هذا الأثر مطبوع. ¬

_ (¬1) تحفة الزائر، 1/ 268 - 276. (¬2) الإبراهيمي (في قلب المعركة)، دار الأمة، الجزائر، 1993، ص 231. (¬3) نفس المصدر.

الردود والاعتراضات

16 - مجموع البجائي في المسائل العرفية، جمعه للقاضي الفرنسي سوطيرة آخر القرن الماضي. ولا نعرف الاسم الحقيقي للبجائي، وقد قيل انه كان عارفا بالعربية والقبائلية والقوانين العرفية لزواوة، كما كان يعرف بعض الفرنسية. وقد اشتكى من أن كل خدماته لم تساعده في الحصول على ما كان يطمح إليه (¬1). وكان سوطيرة من أعيان المشرعين الفرنسيين ورؤساء المحاكم في الجزائر المعارضين للشريعة الإسلامية. 17 - بداية المجتهد لابن رشد، ترجمة أحمد لعيمش. وقد اكتفى منه بترجمة مسائل الزواج والطلاق، لأن ذلك هو الميدان الذي سمح به القضاء الفرنسي للقضاء الإسلامي. وكان يعبر عن ذلك بالأحوال الشخصية. وصدرت الترجمة الفرنسية سنة 1926، في 306 صفحات. ويغلب على الظن أن الهدف كان توفير مادة الفقه والأحكام الشرعية للمحاكم الفرنسية وأيضا للمستفيدين في المحاكم الإسلامية. 18 - كتاب لاستعمال المترجمين القضائيين في أفريقية الشمالية، وضعه أحمد حسين، ونشره سنة 1917، ربما بدعم من الحكومة العامة. الردود والاعتراضات نقصد بالردود ما كان يجري بين العلماء من نقاش حول مسألة فقهية أو دينية وينتصر فيها ثالث لهذا أو ذاك (¬2). وأحيانا تتوسع المسألة فتشمل أكثر من واحد وتصبح مسألة عامة يسيل حولها حبر كثير وينقسم من حولها الناس. وقد استغرق هذا النوع من الردود، وحتى المهاترات والسباب أحيانا، كل عهد الاحتلال. ولعله بدأ بالخلاف حول الهجرة وانتهى بالخلاف حول دور العلماء في السياسة وقضية البدع والإغراق في الخرافات. ¬

_ (¬1) ابن سديرة (كتاب الرسائل)، ط 1888، ص 125 - 126. (¬2) عن الردود المتعلقة بالتصوف انظر فصل التصوف.

ونحن لا نطمح أن نغطي كل المسائل التي دار حولها النقاش والردود. وقد تحدثنا عن بعض ذلك في مكانه من الفصول الأخرى. إنما نريد أن نأتي على ذكر المؤلفات التي عالجت هذه الردود: 1 - منذ أول الاحتلال وجدنا علي بن محمد الميلي المعروف بالجمالي، نزيل مصر، يشن الحملات على بعض خصوم المذهب المالكي والأشعري. كما اعترض على ما جاء عن الشيخ أحمد التجاني. وهكذا نسبت إليه كتب التراجم العناوين الآتية: أ - الحسام السمهري في تكذيب ما نسب إلى الإمام الأشعري. ب - الصمصام الفاتك في الرد على القادح في مذهب الإمام مالك. ج - الصوارم والأسنة (في الاعتراض على أحمد التجاني). وقد عرفنا أن الميلي قد استوطن مصر وتوفي بها سنة 1833 (1248) (¬1). ولا نجد في كتبه أي أثر للاحتلال الفرنسي لبلاده. واستعمال كلمات مثل الصوارم والحسام والصمصام يدل على أن الرجل كان يعتقد أنه في معركة حامية. 2 - دار حول مسألة الهجرة من الجزائر بعد احتلالها نقاش طويل وأحيانا كان حادا بين العلماء. واشترك فيه أكثر من واحد ... وكان الذين قالوا بالهجرة هم أنصار المقاومة والجهاد، وقاسوا الأمر على ما وقع في العهد النبوي، وعلى رأي محيي الدين بن عربي أثناء الحكم الصليبي للقدس. وكان من أنصار هذا الموقف العلماء الذين انضموا للأمير عبد القادر، ومنهم قدور بن رويلة وعلي بن الحفاف. أما الذين رأوا ضرورة البقاء في الوطن رغم الاحتلال فهم الذين قاسوا القضية على ما حدث في الأندلس، واستشهدوا بكلام الونشريسي في فتواه الشهيرة (أسنى المتاجر)، ونذكر منهم المفتى مصطفى الكبابطى والمفتي محمد بن الشاهد. وكان من ¬

_ (¬1) معجم أعلام الجزائر، ص 121.

نتيجة هذا النقاش الذي تناولناه في مناسبات سابقة، مجموعة من الآراء والكتابات جمعها محمد بن عبد الكريم في كتاب نشره بعنوان: حكم الهجرة (¬1). ومما يذكر بهذا الصدد أن الأمر انتهى بابن رويلة بالهجرة الاختيارية إلى تونس فالحجاز والشام، وبالهجرة الإجبارية للكبابطي إذ نفاه الفرنسيون. أما ابن الشاهد فقد توفي بالجزائر عاجزا وأعمى ومحروما، وهاجر المهدي السكلاوي وتوفي في دمشق. وأما ابن الحفاف فقد ظل يفكر في الهجرة مدى حياته، وأدى فريضة الحج، ولكنه رجع وتوفي في الجزائر. ولا نتكلم الآن عن المهاجرين الآخرين أو المنفيين، ومنهم الأمير. وقد أيد مؤلف (تحفة الزائر) مسألة الهجرة واستند إلى أحاديث الرسول (صلى الله عليه وسلم) وبعض الآيات، وإلى رأي محيي الدين بن عربي الذي أفتى بعدم زيارة بيت المقدس ما دامت بيد الصليبيين (¬2). أما المشرفي فقد قال في كتابه (طرس الأخبار) بعدم تكفير من لم يهاجر (¬3). 3 - المقراض الحاد، كتاب للأمير عبد القادر في الرد على من زعم أن الغدر وعدم الوفاء غير مستقبح ولا منهي عنه في الإسلام. وقع التأليف أثناء سجن الأمير بأمبواز (فرنسا) في آخر الأربعينات من القرن الماضي. وقد شغل الأمير نفسه بالبحث في هذه المسألة، وأثبت في المقدمة والأبواب الثلاثة التي عقدها أن الإسلام بريء مما ينسب إليه، وأنه دين الفضائل والأخلاق. وقد مهد لكتابه بأن بعضهم قد ألح عليه في الرد، فاعتذر لانزعاجه من وضعه كأسير ولكن السائل أعاد الإلحاح، فاستجاب له. وذلك عندما تولى لويس ¬

_ (¬1) الجزائر 1981. وهو كتاب يحتوي على ثلاث رسائل ومناقشات بعض العلماء. انظر أيضا الجزء الأول من التاريخ الثقافي. وفي كتاب قنان (نصوص سياسية) أخبار أخرى عن الموضوع. (¬2) تحفة الزائر 1/ 216. (¬3) (طرس الأخبار) ومن فصوله فصل بعنوان (فيمن عاير أخاه بالتنصر، ويقال فاهجر معي إني مهاجر وإن بقيت فأنت كافر).

نابليون رئاسة الجمهورية الفرنسية (1848). ولا ندري ما العلاقة بين هذا الحدث وتأليف الكتاب. غير أننا قد نفهم أن الذي طلب منه الجواب كان أيضا مسيحيا، وأن الأمير قصد بجوابه الدفاع عن الإسلام من جهة وتسلية نفسه من جهة أخرى. يقول الأمير في خطبة الكتاب: لا أما بعد، فإني في أيام إقامتنا في امبواز عند الدولة الفرنساوية الفخيمة تكلم أحد رؤساء الدين المسيحي في الإسلام وقال إن الغدر وعدم الوفاء فيه غير قبيح ولا منهى عنه. فسمعه بعض من له محبة ورغبة في إظهار الحق، فجاء إلي وألح في الطلب على أن أضع في هذا الأمر رسالة تتضمن بيان ما في شرع الإسلام مما يكذب قوله ونبذ سخفه. فاعتذرت إليه بالحال التي نحن فيها، ثم أعاد الطلب وشدد فيه، وذلك حين انضمت رئاسة الجمهورية إلى ... نابليون ... فأجبته الخ) (¬1). والمتأمل في هذه الخطبة يحكم بأنها قد تكون كتبت من خارج فرنسا، وبعد تأليف الكتاب. وقد أقام الأمير كتابه على مقدمة في الكلام عن العقل، ثم ثلاثة أبواب هي: الأول: في إثبات الألوهية وفيه ثلاثة فصول: أولها في خلق الأرض وما ينتج منها، والثاني في النظر في السماوات وما فيها، والثالث في النظر في خلق الإنسان المقصود بالإيجاد. والباب الثاني في إثبات النبوة مع الرسالة. واشتمل على فصلين: الأول في إثبات الرسالة على الإطلاق، والفصل الثاني في إثبات شرع الدين الإسلامي خصوصا. أما الباب الثالث فهو في موضوع الرسالة وبيان ما ورد في الشرع من وجوب الوفاء والأمر به، ونبذ الغدر والنهي عنه، وما يتعلق بذلك كالصدق والكذب. ويفهم من هذا الترتيب أن الباب الثالث هو المقصود من التأليف. ¬

_ (¬1) تحفة الزائر، ط 1، 2/ 27.

ولكن الأمير أقام حجته على أساس العقل، كما أن ترتيبه لمواد الكتاب كان منطقيا عقليا، (لأن إثبات الألوهية مرتب على وجود العقل، وإثبات النبوة والرسالة مرتب على إثبات الألوهية، وبيان ما يحمد وما يذم من الأقوال والأفعال والصفات مرتب على إثبات النبوة والرسالة (¬1). وقد اقتصر محمد بن الأمير على تفاصيل الباب الثالث لأنه المقصود بالذات، وهو في الأخلاق وما ورد في القرآن في مكارمها. ثم أخلاق العرب كأمة تعتز بالشرف والشجاعة ومجموعة من الفضائل تميزها عن سائر الأمم. 4 - حسام الدين لقطع شبه المرتدين، ألفه الأمير عبد القادر أيضا. 5 - المشرفي الحمزاوي لقطع فؤاد الخبزاوي، تأليف أبي حامد العربي المشرفي. وهي رسالة في الرد على أحد المعاصرين (قد يكون محمد الخبزاوي (¬2) وهو من جهة سيدي بلعباس من قبيلة الهزج، وقد عمل في المحاكم بمعكسر من السبعينات إلى التسعينات من القرن الماضي، وأصبح عضوا في المجلس الأعلى للفقه الإسلامي). ويبدو أن الخبزاوي قد عاب على المشرفي مقطوعات شعرية صدرت منه، ولكننا لا نعرف موضوعها ومصدر الخلاف حولها. 6 - عجيب الذاهب والجائي في فضيحة الغالي اللجائي، للمشرفي أيضا. وقد رد فيه على المذكور لأنه كان، كما قيل، يتنطع على الأمير عبد القادر، فهل كان ذلك أثناء كفاح الأمير أو بعد سجنه وليه؟ وكان المشرفي في (طرس الأخبار) يتهم الأمير بأنه قد اتخذ بطانة سوء ... ¬

_ (¬1) تحفة الزائر، ط 1، 2/ 28. انظر أيضا طه الحاجري (جوانب من الحياة العقلية)، ص 52 - 53. وقد طبع كتاب (المقراض الحال) بغير تحقيق ولا تقديم تاريخي، باسم محرره: محمد بن عبد الله الخالدي المغربي، دار مكتبة الحياة، بيروت، د ت (1995؟). (¬2) عنه انظر الان كريستلو (المحاكم)، ص 277. وأيضا فصل السلك الديني والقضائي.

7 - الدر المكون في الرد على العلامة جنون، للمشرفي أيضا. وقد انتصر فيه لأصحاب الطرق (الصوفية؟)، ورد فيه على المخالفين ردا شنيعا، حسب رواية ابن سودة، صاحب كتاب (دليل مؤرخ المغرب). 8 - الحسام المشرفي للمهاجر المقتفي، وهو أيضا للمشرفي، ولا نعرف الآن المقصود بالرد والمردود عليه. 9 - الحسام المشرفي لقطع لسان الساب الجعرفي الناطق بخرافات الجعسوس سيء الظن الكنسوس، من تأليف المشرفي أيضا. وقد ذكرنا عنوانه الطويل لنحس بقيمة الرد والألفاظ المستعملة. وهو في الرد على محمد اكنسوس صاحب كتاب (الجيش العرمرم). وتدخل الطرق الصوفية في الموضوع، إذ الرد على التجانيين والانتصار للقادريين والأشراف. ولا شك أن ذلك كان بإيعاز من الأيادي الخفية. ورغم ذلك فالكتاب له قيمة من جهة أخرى إذ يحتوي على أخبار هامة عن تاريخ الجزائر وثورة الدرقاوة. 10 - تقييد في ذم أهل فاس، للمشرفي كذلك (¬1). فأنت ترى أن المشرفي كان من زعماء هذه الحركة التي اتخذت الاعتراضات والمجادلات سبيلا لها. ولو كان في عصر الصحافة في المغرب لملأ ربما أعمدتها بالدفاع والهجوم، والنقد والتجريح. ولكن ما الهدف؟. 11 - وشارك بعض أفراد من عائلة بو طالب (وهي قريبة من عائلة الأمير عبد القادر) في الردود أيضا. وكان كثير من هذه العائلة قد تولوا القضاء، سيما في الناحية الشرقية من الوطن. وكانوا على صلة قوية بالثقافة العربية كثر من غيرهم ربما لمحافظتهم على التقاليد، ولتمسكهم بالشرف، ولهجرة بعضهم إلى المشرق ورجوعهم بعد ذلك إلى الجزائر. فشاركوا في (المنازعات) الثقافية التي كانت في معظمها تدور حول الدين وشعائره. وتدل ¬

_ (¬1) انظر دراستنا لمؤلفات المشرفي في مجلة (الثقافة) 1983 عدد خاص. أما كتابه (طرس الأخبار) فهو بالرغم ما فيه من ردود، فإننا ذكرناه في فصل التاريخ والرحلات، فانظره هناك. وله مؤلفات أخرى تذكر في مكانها من الفصول.

العناوين على حدة الطبع وقوة الكلمات المستعملة ضد الخصوم. من ذلك رد أحمد المجاهد الغريسي - وهو من عائلة بو طالب - على خصمه (الذي لا نعرفه الآن) في مسألة الصيام أيام العيد. وقد سمى الأرجوزة التي نظمها للمناسبة: (زبرة الحداد لدق عنق صائم الأعياد) (¬1). وكان أحمد المجاهد قاضيا. 12 - وكتب أحمد المجاهد نفسه رسالة سماها (الإنصاف في رد اعتراضات السفساف ونصر ابن الحفاف) وسبب كتابة هذه الرسالة يرجع إلى خلاف وقع بين علي بن الحفاف مفتي المالكية وأحد علماء المشارف، وهو محمد المصطفى المشرفي. فقد ألف المشرفي رسالة سماها (الإشراف في الرد على الحمار الهفهاف) وطبعها سنة 1863، ويبدو أنه كان قاسيا على خصمه فيها (¬2). وأصل المسألة خلاف حول ثبوت هلال رمضان. وقد تبادلا الرأي واشتد الخلاف بينهما. ويدو أن المشرفي قد أساء الأدب مع ابن الحفاف. ورغم أننا لا ندري ماذا كتب ابن الحفاف في الموضوع فإن تلميذه أحمد المجاهد قد تولى الدفاع عنه بعبارات ساخرة وأحيانا جارحة ضد المشرفي، رغم أنهما من بلدة واحدة. وبعد أن كتب أحمد المجاهد رسالة الإنصاف (¬3)، رد عليه المشرفي برسالة سماها (السهام الصائبة في رد الدعاوى الكاذبة) ولكن أحمد المجاهد لم يستسلم وكتب رسالة أخرى في الرد عليه سماها (الحسام في تكسير السهام). قلنا إن أحمد المجاهد كان تلميذا لابن الحفاف. وكان قاضيا في عدة ¬

_ (¬1) تقع في 53 بيتا. ولا ندري إن كانت قد طبعت. مراسلة علي أمقران 8 غشت، 1980. (¬2) ط. حجرية، الجزائر 1883 (؟). يذهب البوعبدلي إلى أنه هو أبو حامد العربي المشرفي، من رسالة أرسلها إلي من بطيوة في 14 مارس 1984. وذلك بعيد في نظرنا. وقد برر ذلك أن المشرفي (أبو حامد) كان يتردد على الجزائر، ومع ذلك فإننا لا نعرف من هو محمد المصطفى المشرفي المقصود. انظر تعريف الخلف 2/. (¬3) ط. الجزائر، سنة 18.

أماكن منها سطيف والأربعاء (قرب العاصمة)، وأثناء وجوده قرب العاصمة كان يتردد على مجلس ابن الحفاف. وبقي أحمد المجاهد ثلاثين سنة في القضاء، وكان صهرا أيضا للمجاوي الذي كان عندئذ مدرسا في قسنطينة. وأدركته الوفاة في سطيف في نفس السنة التي توفي فيها ابن الحفاف في العاصمة، وهي سنة 1307 (1890) (¬1). وإذا غضضنا النظر عن الجانب السلبي من هذه الردود بين الرجلين فإننا نظن أن هناك جانبا إيجابية فيها وهو الكشف عن بعض النواحي الثقافية والعادات الاجتماعية. وربما صدق الشيخ البوعبدلي عندما سمى ذلك كله (معركة فكرية). 13 - ومن هذه الردود منظومة النابتي حول السدل في الصلاة. كان محمد الخرشي النابتي (أولاد نابت قرب سطيف) من قرية تلمان ببني ورتلان، وكان من الذين درسوا في الأزهر الشريف، ولا ندري إن كان قد تولى القضاء أو الوظائف الدينية الأخرى. غير أننا نعرف أنه نظم منظومة تقع في أربع صفحات، وسماها (السيف المسلول في الرد الوجيع على منكرى سدل الرسول) (¬2). وموضوعها بين من عنوانها. ولكننا لا نعرف إن كان النابتي يرد على شخص بعينه أو على رأي عام شاع بين أهل الوقت. وقد شارك أحمد بن عليوة فيما بعد بتأليف حول مسألة السدل أيضا (انظر فقرة الفقه). 14 - وفي أول الحرب العالمية الأولى أفتى مفتى اسطانبول (شيخ الإسلام) بتكفير المسلمين الذين يحاربون في صفوف أعداء الدولة العثمانية. وكان ذلك يعني أيضا الجزائريين الذين جندتهم فرنسا للحرب ضد الدولة العثمانية. وقد واجهت السلطة الفرنسية دعاية إسلامية مضادة وكان عليها أن تعد وسائلها وأن تعلن حربا دعائية من عندها للرد على أعدائها. فجندت أولا (رجال الدين) الرسميين الموظفين في المساجد وغيرها، ثم رجال الطرق ¬

_ (¬1) كريستلو (المحاكم)، ص 213 - 281. (¬2) مراسلة، علي أمقران السحنوني، 8 غشت، 1980.

الصوفية الموالين، وجعلهم يعلنون عن ولائهم (وينصحون) مسلمي الجزائر بعدم اتباع الدولة العثمانية لأنها انحرفت عن جادة الإسلام بارتمائها في أحضان ألمانيا وتضحيتها بمصالح المسلمين. وقد تعرضنا إلى ذلك في محله. أما ما نريد أن نتعرض له الآن فهو تجنيد بعض العلماء الجزائريين للرد على فتوى شيخ الإسلام بأسطانبول. ولنتذكر أنه لم يكن للجزائر شيخ للإسلام في العهد الفرنسي، وليس هناك (مفتي الديار)، وإنما هناك مفتون محليون لا فرق بينهم وبين الأيمة العاديين تقريبا. ومعنى ذلك أن السلطة الفرنسية في الجزائر لم تجد شخصية دينية في وزن شيخ الإسلام بأسطانبول. لذلك لجأت إلى شيخين من شيوخ العلم والدين، أحدهما معروف وهو بومزراق (الونوغي) المقراني، وهو ابن أحمد بومزراق المقراني، الذي خلف أخاه محمد المقراني في ثورة 1871. وقد أصبح بومزراق المقراني معروفا بالونوغي فقط، وكان متوليا للقضاء في ناحية الشلف. أما الثاني فهو عبد الرحمن قطرانجي. وهو غير معروف بعلمه عندئذ ولا بمؤلفاته، ويبدو أنه من رجال الدين بالعاصمة ومن الأصول العثمانية. في أول الحرب عينت السلطات الفرنسية الشيخين المذكورين: الونوغي وقطرانجي إمامين للجيش، أو بعبارة أخرى للمجندين الجزائريين في الجيش الفرنسي. فانتقلا إلى أوروبا، واستقرا في فرنسا. فهل كان عملهما هناك دينيا فقط؟ الغالب أن الأمر أكثر من ذلك. لقد كان دورهما هو ما نسميه اليوم بالحرب النفسية أو التوجيه المعنوي. وذلك لا يكون إلا إذا كانا مقتنعين غاية الاقتناع بمهمتهما الحساسة. الرسالة التي صدرت عن مفتي اسطانبول عنوانها (المسلمون في الجيش الفرنسي)، حوالي 1915. وهو تاريخ دخول الدولة العثمانية الحرب إلى جانب ألمانيا والنمسا. أما الرسالة (الكتيب) التي حررها الونوغي وقطرانجي فعنوانها (القول الناصح في مجادلة المائن الكاشح) (¬1). والمجادلة هنا وإن كانت فى ظاهرها دينية، فانها فى ¬

_ (¬1) ط. حوالى 1915. اطلعنا عليه فى الجزائر خلال السبعينات.

مسألة تدوين الفقه الإسلامي

الحقيقة مجادلة سياسية، انها تهدف إلى التعرض لدعاية الدولة العثمانية الموجهة للمسلمين، وإثبات أن هذه الدولة بانضمامها للحرب مع ألمانيا قد تخلت عن واجباتها نحو المسلمين. مسألة تدوين الفقه الإسلامي كتب ألفريد لوشاتلييه سنة 1910 حول (الإسلام الجزائري) هذه العبارات: في مدة ثمانين سنة اصطنعنا (يقصد الفرنسيين) إسلاما فذا في العالم، إسلام بدون أوقاف، وله مساجد إدارية، وأيمة تغربلهم الإدارة أحسن غربلة، وقضاة موظفون وحج لا يكون إلا برخصة. ثم ها نحن نصوغ الآن أحكاما موحدة لقيطة من نتاج الفقه الإسلامي والقانون الفرنسي. إن نصف الحملات والجيوش التي دامت بين أربعين وخمسين سنة ترجع إلى اضطهاد المؤسسات الإسلامية (¬1). وقد تحدثنا عن هذه المسألة في مكانها من فصل السلك الديني والقضائي. ونريد هنا فقط أن نتعرض إلى الانتاج الذي ظهر نتيجة الاهتمام بتدوين الفقه الإسلامي. إن الاهتمام بهذا الموضوع كان شائعا في الدولة العثمانية ومصر وتونس. وقد ظهرت محاولات هناك لتوحيد المصطلحات في المعاملات، ولا سيما أمام ضعف رجال الدين وفقدان مركزية دينية مرجعية. وكان الفقه في الجزائر قائما، كما ذكرنا، على مذهب الإمام مالك ومشروحا بمختصر خليل وغيره، وبدت الدعوة منذ آخر القرن الماضي إلى تدوين الشريعة، دعوة بريئة في ظاهرها، المقصود من ذلك هو توحيد المعاملات بين القضاة. ونحن نذكر أن أول محاولة كان قد قام بها ابن العنابي بطلب من محمد علي باشا والي مصر، قبل منتصف القرن الماضي، وذلك في كتاب سماه: صيانة الرياسة في القضاء والسياسة. فأمام تلاعب المتخاصمين واضطراب الأحكام الصادرة من المحاكم لجأ محمد علي إلى ¬

_ (¬1) مجلة العالم الإسلامي، سبتمبر 1910 ص 79.

مشروع ابن العنابي في توحيد الأحكام الصادرة عن المحاكم، طبقا للمذاهب الأربعة (¬1). أما الفرنسيون فقد كان غرضهم أمرا آخر. كانوا يريدون إخضاع المعاملات الإسلامية للقانون الفرنسي وحصر الشريعة في مسائل الزواج والطلاق، لأن التركات قد تدخل فيها القانون الفرنسي أيضا. وهكذا فبعد نصف قرن (منذ 1850) من تجريد القضاء الإسلامي من اختصاصاته، عين الفرنسيون لجنة لتدوين الفقه في مجلة يصدرونها بعنوان (مجلة الأحكام الإسلامية). وكان ذلك في عهد دومينيك لوسياني الذي كان على رأس إدارة الشؤون الأهلية. تعين مارسيل موران، أستاذ الشريعة الإسلامية في كلية الحقوق على رأس اللجنة، وكانت تضم عناصر من الجزائريين والفرنسيين. ورغم دور لوسياني وموران فإن (مجلة الأحكام) صدرت بإسم عالمين جزائريين هما: مصطفى بن أحمد الشرشالي وعبد الرزاق بن محمد الأشرف. وظهرت المجلة سنة 1907 واستمرت في الظهور على الأقل إلى سنة 1913. وعنوانها الكامل هو (مجلة الأحكام السارية الجزائرية) ولها بالفرنسية عنوان معناه (مجموعة القوانين الدينية الجزائرية). وصدر منها مجلدات بين 1907 - 1912 بالإسمين المذكورين، لكن عدد سنة 1913 لم يظهر فيه سوى اسم الشرشالي. فهل توفي الأشرف عندئذ أو تجند للحرب أو تخلى؟ إن الأمر غير واضح (¬2). ورغم جهد موران وضغوطاته ومساعي لوسياني وحنكته فإن مشروع تدوين الفقه الإسلامي في الجزائر لم يثمر لوجود معارضة واضحة. وكانت المعارضة من الجزائريين تقوم على الشك في نية الفرنسيين المكشوفة، وهي ¬

_ (¬1) انظر كتابنا (رائد التجديد الإسلامي: محمد بن العنابي). (¬2) ط. فونتانة، الجزائر، في أربعة مجلدات، سنة 1913 فيه 108 صفحات. المكتبة الوطنية - باريس، رقم 19239 F 8. أما بشأن الأشرف فقد ورد في التقويم الجزائري للشيخ كحول أنه تعين سنة 1912 قاضيا حنفيا بالعاصمة. انظر التقويم سنة 1912.

جهود أخرى في الفقه لبعض الجزائريين والمستشرقين

أن العملية كلها جاءت لإتمام اندماج الشريعة الإسلامية في القانون الفرنسي، وفتح أبواب التجنس والزواج المختلط، وما يترتب على ذلك من عواقب تؤدي إلى ذوبان الجزائريين في غيرهم. فالتدوين كان ممكنا في تونس ومصر وغيرهما حيث الشريعة سيدة نفسها تقريبا. ولكنه استحال أمام بلاد يسودها القانون الفرنسي باسم الاحتلال ويزعم محتلوها أن لها إسلاما خاصا بها يمكن التعايش بينه وبين القانون المذكور. وقد حاول موريس فيوليت خلال العشرينات، عندما كان حاكما عاما، إحياء المشروع عشية الاحتفال المئوي بالاحتلال، ولكنه فشل أيضا، ومنذئذ دفن المشروع (¬1). من الذين كتبوا في الموضوع وأيدوا التدوين: أبو بكر عبد السلام الجليلي فقد كتب بحثا نشره في مجلة العالم الإسلامي سنة 1909 أيد فيه أعمال لجنة تدوين الفقه، وبسط القول في المذاهب الأربعة وأصول الفقه، وعارض الذين وقفوا ضد التدوين الذي رآه خطوة (تجديدية). ورأى أن التدوين إذا تحقق سيكون مفيدا للقضاة وغيرهم من رجال الدين. ولم يذكر ما إذا كان مفيدا أيضا في الحالات الاجتماعية التي أشرنا إليها. وكان المتجنسون (المطورنون) من المؤيدين للمشروع، كما سبق. وقد أكدنا على أن كاتب البحث هو ابن القاضي شعيب الشهير والذي كان حيا عندئذ، فهل هذا الرأي هو رأي والده أيضا؟ لنا أن نفترض ذلك (¬2). جهود أخرى في الفقه لبعض الجزائريين والمستشرقين في مجال الفقه أيضا قام بعض الجزائريين بترجمة نصوص فقهية والتعريف ببعض كتب الفقه الأساسية ورجال الفقه من أصحاب التراث. ¬

_ (¬1) أحمد توفيق المدني (كتاب الجزائر)، ص 319. اللجنة التي عينها فيوليت شملت الشرشالي (توفي سنة 1930؟)، وأحمد لعيمش، ومحمد بلحاج، وعبد الرحمن الصديق، ومحمود كحول والحفناوي بن الشيخ، وابن الموهوب. (¬2) أبو بكر شعيب، مجلة العالم الإسلامي، يوليو - غشت، 1909، ص 446 - 456.

وشاركهم في ذلك بعض المستشرقين الذين كانوا يعملون مباشرة مع الإدارة، وكذلك أساتذة التعليم القانوني المتخصصين في الشريعة الإسلامية، بالإضافة إلى بعض القضاة الفرنسيين. كل هؤلاء انتجوا أعمالا تخدم الفقه من جهة وتخدم الإدارة بالطبع لأن المحاكم والمدارس والجهات المدنية والعسكرية تحتاج إلى معرفة مصادر التشريع الإسلامي وأصول الفقه وفروعه. وهكذا أخرجت المطابع منذ منتصف القرن الماضي عددا من المؤلفات أو المنشورات التي تلخص أو تعرف بكتب الفقه. ومن أوائل من ترجم مختصر الشيخ خليل في الفقه المالكي الدكتور بيرون، وهو طبيب فرنسي اعتنق المذهب السان سيموني الاشتراكي، وعمل سنوات في مصر في المدارس الطبية (مديرا لها) التي أنشأها محمد علي باشا. وقد كتب بيرون عن الطب النبوي والطب العربي، وعن الأدب الجاهلي وغيره، ثم استدعته بلاده سنة 1857 لإدارة المدرسة السلطانية (المعهد الامبريالي) التي أسست عندئذ للدراسة العربية والمزدوجة. وتشهد ترجمته لمختصر خليل على معرفته للعربية وعلى اطلاعه على كتب التراث، ومنه الفقه، والترجمة موجهة، كما هو متوقع، إلى الإدارة الفرنسية، عسكرية ومدنية، وليس إلى الجزائريين. وقد تعين بيرون سنة 1864 لتفتيش المدارس الرسمية الثلاث التي كان الفقه من موادها الأساسية (¬1). وفي النصف الثاني من القرن الماضي عاش بالجزائر مستشرق فرنسي آخر، وهو هوداس، اهتم كثيرا بالتراث الإسلامي وترجم منه. وقد بدأ حياته بالجزائر معلما في الثانوية الرئيسية منذ 1863، أستاذا للغة العربية. وتعاون مع زميله مارتيل الذي كان أستاذا بمدرسة الحقوق، على ترجمة كتاب (تحفة الحكام) لابن عاصم في الفقه. وقيل إن مدة الترجمة قد دامت قرابة عشر سنوات (¬2). ¬

_ (¬1) عن حياته انظر فصلي التعليم والاستشراق. (¬2) هنري ماصيه (الدراسات العربية في الجزائر) 1930. ولد هوداس في لواري، سنة 1840 وتوفي سنة 1916، عن زيارة الوزير كومبس انظر فصل التعليم. وعن حياته انظر فصل الاستشراق.

وكان ادمون فانيان أستاذا أيضا في مدرسة الآداب قبل أن تتحول إلى كلية. ويشهد له فهرس المخطوطات الذي وضعه عن المكتبة الوطنية بالجزائر على مدى معرفته بالمناهج واطلاعه على التراث العربي الإسلامي. ويهمنا هنا ترجمته وجهوده في ميدان الفقه والشريعة. فقد ذكر مترجموه أنه نشر جزءا من مختصر سيدي خليل وهو باب الجهاد (وقد كان ممنوعا في الخطب والتدريس على علماء المسلمين) وباب الزواج والطلاق. ونشر كذلك كتاب الخراج لأبي يوسف يعقوب. كما أن فانيان نشر رسالة ابن أبي زيد القيرواني المشهورة في الفقه. وهي تعتبر الثانية بعد مختصر خليل في الشهرة بين طلبة العلم، وربما تكون الأولى بالنسبة للمبتدئين منهم (¬1). وبعد حياة مغامرة في لاروشيل والجزائر استقر أرنست ميرسييه في قسنطينة. ويهمنا من أعماله هنا نشر التراث، ولا سيما الفقه. ومن أعماله في مجال الفقه ما نشره عن الأملاك في بلاد المغرب طبقا للمذهب المالكي، ومن كتبه حالة المرأة المسلمة في شمال افريقية، والملكية العقارية الإسلامية في الجزائر (¬2). أما موتيلانسكي فقد اهتم بالمذهب الإباضي على الخصوص. ثم اللهجات البربرية في الصحراء والجنوب، سيما غدامس والهقار وميزاب. وقد أخذ ينشر منذ 1886 عن القرارة وعن المذهب الإباضي، ومن أبرز أعماله في المجال الذي نحن بصدده، نشره لمدونة ابن غانم في المذهب الإباضي، وقد قال عنه زميله رينيه باصيه إنه قدم عنها الصورة الوحيدة الباقية من المخطوط (يعني كتاب المدونة)، أما الصورة الأخرى لها فقد اختفت، حسب قوله، وبعد ذلك نشر موتيلانسكي (المخطوط البربري لزواغة) في ¬

_ (¬1) ماصيه (الدراسات). انظر المجلة الافريقية، سنة 1931. وكان قد ولد سنة 1846 في ليياج. وتوفي سنة 1931. (¬2) انظر كلمة التأبين التي كتبها ج. فاغبلون في مجلة (روكاي)، 1908، ص 15 - 19. وكذلك فصل الاستشراق.

باريس 1906، أي سنة قبل وفاته، وكان ينوي تقديم طبعة كاملة منه. ولذلك دعا باصيه العارفين باللهجة البربرية والفقه الإباضي إلى استكمال مشروع موتيلانسكي (¬1). ومما يذكر أن موتيلانسكي قد تعرف جيدا على الشيخ محمد بن يوسف أطفيش الذي كان عندئذ ذائع الصيت وغزير الانتاج. وقد أصدر أطفيش سنة 1886 شرح كتاب النيل، كما سبق. واهتم دومينيك لوسياني، رغم أنه إداري أكثر منه عالما بالاستشراق، بالدراسات الفقهية والتراث العربي الإسلامي. فنشر سنة 1896 (الرحبية) في الفرائص في نصها العربي والترجمة الفرنسية. وكانت الرحبية مقررة في المدارس الرسمية وحتى الزوايا. وقد قال فانيان الذي راجعها في المجلة الأفريقية، أن معرفة الرحبية واجبة وكذلك ترجمتها. وكان نشرها على يد لجنة للترجمة والنشر ألفتها الحكومة العامة بالجزائر، وربما عاونه أبو يعلي الزواوي في شبابه، ومحمد السعيد بن زكري. ولا ندري إن كان قد نشر أيضا. كتاب (أعز ما يطلب) لابن تومرت. وقد قلنا انه ساهم في تحضير مشروع تدوين الفقه الإسلامي مع زميله موران أستاذ الشريعة في كلية الحقوق، ولكنه فشل فيه. ومن نشاطه أيضا نشره (كتاب الحوض) في الفقه وهو بالبربرية، وقد استحضر نسخه من عدة جهات. وترجمه إلى الفرنسية مع النص الأصلي (¬2). وكذلك قام عدد من الجزائريين المتصلين باللغة الفرنسية بالتعريف بكتب التراث الفقهي أو ترجمتها تمشيا مع هذا التيار أو ذلك، إما للنفع المادي إذا كانت من الكتب المقررة في المدارس وإما النفع المعنوي استجابة ¬

_ (¬1) ترجمته في مجلة الجمعية الجغرافية للجزائر وشمال إفريقية، كتبها أرمون ميسبلي، 1907، ص 119 - 121. انظر أيضا ر. باضيه (تقرير عن الدراسات البربرية والهوسة، في المجلة الإفريقية، 1908، ص 259. انظر كذلك فصل الاستشراق. (¬2) عن حياته ونشاطه الآخر انظر بول مارتي (مجلة العالم الإسلامي) 1920، ص 1 - 9. مع صورته. وقد نشر كتاب (الحوض) مسلسلا في المجلة الافريقية. وقمنا نحن بالتعريف بهذا الكتاب في كتابنا أبحاث وآراء ج 4.

لشروط الترقيات والسمعة والاندماج في بوتقة المثقفين الفرنسيين. ولكن الملاحظ أن الجزائريين الذين كتبوا في هذا السياق قليلون. إننا نجد لهم أعمالا هامة حول المعاجم واللهجات والتاريخ المحلي والفولكلور ونحو ذلك، أما الدراسات الفقهية فرغم شيوعها فإنها قليلة لديهم. نوه عدد من الكتاب بما قام به أحمد لعيمش. وقد كان محاميا ومتصلا اتصالا وثيقا بالفقه الإسلامي والقانون الفرنسي. وكان مدرسا في مدرسة تلمسان الرسمية، وعضوا في عدة لجان تهتم بموضوع الشريعة. قام أحمد لعيمش بترجمة جزء من بداية المجتهد، لابن رشد. واكتفى من الترجمة ببابي الزواج والطلاق (¬1). والمعروف أن المحاكم الإسلامية لم يبق لها منذ آخر القرن الماضي ما تنظر فيه من المسائل الفقهية في المعاملات، سوى الأحوال الشخصية. ويشبه ذلك ما كتبه أحدهم (مجهول؟) حول الصوم عند المسلمين طبقا لما جاء في رسالة ابن أبي زيد القيرواني (¬2). وهكذا كان الاهتمام بالعبادات في هذا المجال أكثر من المعاملات. وفي هذا الصدد ساهم محمد قندوز بمحاضرة في الجمعية الجغرافية، ثم نشرها في مجلتها بعنوان (انطباعات صائم)، وهي عن رمضان وتقاليده الدينية والاجتماعية وآدابه العامة أثناء أيامه ولياليه (¬3). ¬

_ (¬1) بداية المجتهد ترجمة أحمد لعيمش، الجزائر 1926، 306 صفحات. انظر سابقا (الإنتاج الفقهي). (¬2) المجلة الافريقية 1906، ص 393 - 402. ولعل محمد صوالح هو صاحب هذا العمل. (¬3) محمد قندوز في (مجلة الجمعية الجغرافية) SGAAN، 10 مايو، 1927، ص 523 - 534.

الفصل الثاني العلوم الاجتماعية

الفصل الثاني العلوم الاجتماعية

يشمل هذا الفصل علوما اجتماعية ودراسات شتى. منها التصوف الذي قيل انه ازدهر خلال العهد الفرنسي ازدهارا لم تشهده البلاد من قبل، سيما منذ السبعينات من القرن الماضي. وقد تناولنا الطرق الصوفية العاملة خلال هذه الفترة وأطوارها وعلاقاتها وتعاليمها في غير هذا الجزء. وكان علينا أن ننتظر إنتاجا غزيرا في التصوف نتيجة ازدهار الطرق، ولكن الحصيلة، كما سنرى، قليلة وضعيفة. فظهر أن التصوف كان ممارسة بطريق الذكر والحضرة ومنح الإجازات وادعاء الكرامات أكثر منه تصوفا نظريا قائما على التفكر في الكون وخالقه والإنسان ومصيره ودوره في الحياة، وسندرج ضمن فقرة الصوفي الكتابات الاصلاحية الداعية إلى نبذ البدع والخرافات والردود على المبتدعة وأدعياء التصوف، والكشف عن العلاقة بين بعض الطرق الصوفية والاستعمار (¬1). ولم تكن الطرق الصوفية على حد سواء في الإنتاج والتأليف. وربما كان الذين ألفوا حول كل طريقة علامة على علاقة تلك الطريقة بالعلم والثقافة. مثلا من بين الطرق التي ظلت على صلة بالتعليم عموما هي الرحمانية. فوجدت من بين أنصارها ممن وضع التعاريف برجالها وكتب الإجازات وألف حول انتشارها وتعاليمها. وفي الدرجة الثانية تأتي الشاذلية وفروعها كالدرقاوية، ثم القادرية والتجانية والسنوسية على الترتيب تقريبا (¬2). وهناك مؤلفات لم نستطع تصنيفها حسب الطرق الصوفية لأن أصحابها وضعوها حول نظريات التصوف عموما، أو لأننا لم نطلع على محتواها ولم نهتد للانتماء الصوفي لصاحبها. ¬

_ (¬1) انظر فصل التصوف. وكذلك الإجازات في فصل العلوم الدينية. (¬2) ألفت أعمال عديدة في مدح السنوسية وقدحها، خلال نموها وتهديدها للتوسع الغربي، ولا نعني هنا إلا ما ألفه الجزائريون حولها.

ومن المواد التي سيشملها هذا الفصل علم الكلام. وقد كنا ننتظر أن نعثر على عدد من المؤلفات الهامة في هذا العلم. ولكن خاب ظننا، فما وجدناه قليل جدا، ثم ان مستواه ضعيف لا يرقى إلى أي تنظير أو فكر عميق، باستثناء ما ألفه الأمير عبد القادر وعبد القادر المجاوي، ربما. ومعظم المؤلفات في هذا المجال عبارة عن منظومات مكررة لمعارف سابقة، وبطريقة تقليدية، أو شروح بنفس الطريقة أيضا. ولم يخرج المؤلفون في هذا العهد عن عقائد السنوسي المعروفة بأم البراهين، وهي التي سادت معاهد العلم في العالم الإسلامي خلال القرون الخمسة الماضية من المحيط الأطلسى إلى الشرق الأقصى، وترجمت إلى أكثر من لغة (¬1). ولم نكد نعثر على مؤلفات في المنطق خلال هذا العهد. وقد ظل علماؤنا عالة على (السلم المرونق) لعبد الرحمن الأخضري وشروحه، وهو من المؤلفات التي ترجع إلى القرن العاشر الهجري (16 م). وقد سهل الفرنسيون أنفسهم تداوله بترجمته ونشره مع النص الأصلي أوائل هذا القرن. ولا نجد أثرا للرجوع إلى المؤلفات العربية والإسلامية في المنطق مثل كتابات ابن رشد وترجمات أرسطو. رغم انتشار الثقافة الفرنسية أيضا، بين فئة من المتعلمين. وهناك علوم اجتماعية أخرى غير التي تعرضنا إليها في الفصول المعروفة كالتاريخ والأدب ونحوها. وهكذا سيضم هذا الفصل المؤلفات القليلة التي تتعرض لجوانب معينة في الثقافة الإسلامية والنظم السياسية والإصلاح الاجتماعي. ومن ذلك المؤلفات السياسية والنظريات الاجتماعية كالتربية والتعليم ودراسة أحوال المرأة المسلمة من الوجهة الدينية والاجتماعية. والدفاع عن الإسلام ضد الهجمات الاستعمارية والتنصيرية، ¬

_ (¬1) ترجمت إلى الفرنسية، كما سنرى، ولكن ترجمت أيضا إلى اللغة الماليزية (الملاوية). انظر انطوان كاباتو Cabatou في (المجلة الآسيوية) 1904، ص 115? 145.

المؤلفات الصوفية

واتهام المسلمين بالتعصب وممارسة تعدد الزوجات والرق ومعارضة التقدم، ومسألة التجنس والاندماج في المجتمع الفرنسي. وإضافة إلى ذلك، هناك مؤلفات قليلة وضعها أصحابها حول مسائل عسكرية وصناعية واقتصادية وإدارية ونحوها. ومن الواضح أننا لا نتعرض هنا للمؤلفات الفرنسية عن الطرق الصوفية وإنما نكتفي بالمؤلفات الجزائرية. لقد تعرضنا إلى ما كتبه الفرنسيون عن هذا الموضوع في الدراسة النظرية التي وضعناها في الفصل المخصص لذلك. وقد لاحظنا هناك أن من المصادر التي اعتمد عليها أمثال لويس رين في كتابه (مرابطون وإخوان) الرسائل والتقاييد التي كان يبعث بها إليه، وبطلب منه، أعيان المتعلمين وشيوخ الزوايا أنفسهم. وفي معظم الأحيان كانت مهمة رين هي الترجمة والتصنيف والصياغة فقط. أما المادة فمعظمها قد توفر له مما ذكرنا وكذلك اعتمادا على تقارير المكاتب العربية المنتشرة عبر القطر والتي كانت مهمتها تشمل كتابة الملاحظات على نشاط الطرق الصوفية وتواريخها ورجالها وأنسابهم. المؤلفات الصوفية 1 - القادرية: وهي من أقدم الطرق في الجزائر. وكانت لها مراكز وزوايا وشيوخ في أماكن عديدة قبل الاحتلال. وكان ارتباط هذه الطريقة بحركة المقاومة منذ 1830 قد جعلها تصعد إلى الصدارة في الأحداث. وقد مثلها عندئذ الشيخ محيي الدين بن مصطفى والد الأمير عبد القادر، ثم تولى الأمير نفسه المسؤولية الوطنية والسياسية وأسس الدولة الجديدة وتجاوز نشاطه المسألة الصوفية أو بالأحرى تجاوز الطريقة القادرية. وأصبح رمزا وطنيا. ولكن أخاه الأكبر محمد السعيد هو الذي ورث عن والده بركة الطريقة، وهي العادة الجارية، واستمر على ذلك حتى بعد فشل المقاومة والهجرة إلى الشام. وقد خلف محمد المرتضى والده محمد السعيد في تمثيل

الطريقة في لبنان. ولكن القادرية في الجزائر قد استمرت في فروع جديدة. حقيقة أنه لم يكن لها مركز رئيسي أو شيخ وحيد، لأن ولاء مقدميها كان دائما مربوطا بمركزها في بغداد. ومن الفروع القادرية التي نشطت في العهد الفرنسي فرع واد رهيو، وفرع منعة (الأوراس)، وفرع سوف (عميش)، وفرع كنته، وفرع ورقلة. وكانت زاوية ابن علي الشريف في آقبو قادرية أيضا. وقد كانت القادرية ممثلة في معظم المدن الرئيسية. ولم يظهر دورها السياسي من جديد إلا فيما كان من الشيخ الهاشمي وابنه عبد العزيز في سوف. أما ما عدا ذلك فقد كانت الزوايا القادرية قد دجنت، مثل غيرها، في أغلب الحالات. ولعل للشيخ محيي الدين بعض التقاييد التي لا نعرفها في الطريقة وأصولها وتعاليمها، أو في التصوف عامة (¬1). والرجل الذي تساوت سمعته في الحرب والتصوف هو الأمير عبد القادر. ويعنينا هنا مؤلفاته في التصوف. ونحن نعلم أنه قد أضاف إلى القادرية التي تلقاها عن والده في الجزائر، الشاذلية والمولوية والنقشبندية التي تلقاها في المشرق بعد الهجرة. ومن شيوخه محمد الفاسي بمكة أثناء أداء فريضة الحج للمرة الثانية سنة 1863. ونتيجة ذلك كتب قصيدته الصوفية الشهيرة (يا مسعود) (¬2). ومن أشهر مؤلفات الأمير كتاب (المواقف) الذي يقع في ثلاثة مجلدات، وكان الأمير قد استغرق في التصوف منذ حجه، وقد اختلى في غار حراء أثناء مجاورته. وفي دمشق كانت له خلوة يتعبد فيها. وفي آخر سنواته ازداد تعمقا في هذا الباب، وكان يطالع أمهات كتب التصوف ومنها الفتوحات المكية وفصوص الحكم ¬

_ (¬1) كان الشيخ محيي الدين من أبرز علماء وقته، وقد حج مع ابنه (الأمير) عبد القادر قبل الاحتلال. وكان شيخ علم في زاوية القيطنة. ثم قاد المقاومة ضد احتلال وهران، وأرسل الوفود لسلطان المغرب للدخول تحت طاعته لحمايتهم من الفرنسيين. ولكن دور ابنه عبد القادر في الحرب والتأليف قد غطى عليه. وإلى الآن لا وجد له ترجمة وافية. (¬2) كل ما يتعلق بالشعر الصوفي والتوسلات، انظر عنه فصل الشعر.

لابن العربي، الذي يعده شيخه الأكبر. ويبدو أنه قد تأثر به كثيرا في (المواقف) إذ بناها على نظريات شيخه، حسب العارفين بهذا الفن (¬1). وكان الأمير قد أرسل إلى قونية عالمين ثقتين لتصحيح الفتوحات المكية على النسخة الموجودة بخط مؤلفها ابن عربي. ويقول عمار الطالبي: (لا تخفى تبعيته (أي الأمير) لمحيي الدين بن عربي، وأنه من الذين أدركوا وفهموا الفهم الصحيح كتابه (فصوص الحكم) و (الفتوحات المكية). وهو يذكره كثيرا، ويشير إلى نصوص من مؤلفاته، ولكن ينفي هذا أن له أذواقا خاصة وفهوما ذاتية في هذا المجال) (¬2). وكتاب (المواقف) يضم 372 موقفا، وقد طبع مرتين أولاها كانت في عهد ابنه محمد، أي سنة 1911 (¬3). وقد قدم الأمير كتابه بعبارات صوفية مغرقة ووشح ذلك بمقامة أدبية - خيالة عن معشوقة تشبه معشوقة ابن الفارض. وكل موقف من مواقفه تقريبا يبدأ بآية ذات معنى توحيدي أو صوفي، ثم يأخذ في شرح الآية شرحا صوفيا يغلب عليه الفكر الباطني الذي يعبر عنه بالأسرار والغيبة عن الشهود. وطالما عرض الأمير بأهل الرسوم وعلماء الظاهر الذين لا يدركون أسرار الوجود ولا الحقيقة الإلهية. وهو يستشهد لتفسيره آية الموقف الذي اختاره بآيات وأحاديث تزيد الصورة الصوفية التي يرسمها لمعانا وعمقا. وقد أورد عددا من المرايا التي حدثت له، وجاء بأخبار و (مواقف) حدثت له، يقظة أو مناما منذ كان بالجزائر، ولا سيما منذ حج ثانية. يقول الأمير في المقدمة: (هذه نفثات روحية، وإلقاءات سبوحية، بعلوم وهبية، وأسرار غيبية، من وراء طور العقول، وظواهر النقول، خارجة عن أنواع الاكتساب، والنظر في كتاب، قيدتها لإخواننا ¬

_ (¬1) حدثني بذلك الأستاذ عمار الطالبي، وهو من المتخصصين في الفلسفة الإسلامية. (¬2) عمار الطالبي من رسالة خاصة بتاريخ 8 رمضان 1415/ 7 فبراير، 1995. وقد بعث بها إلي: من الدوحة عاصمة قطر. (¬3) اعتمدنا على ط. 2، دار اليقظة العربية، دمشق، 1966. بعناية حفيده الأمير محمد سعيد بن الأمير علي بن الأمير عبد القادر.

الذين يؤمنون بآياتنا، إذا لم يصلوا إلى اقتطاف أثمارها، تركوها في زوايا أماكنها، إلى أن يبلغوا أشدهم، ويستخرجوا كنزهم، وما قيدتها لمن يقول هذا إفك قديم وأساطير الأولين) (¬1). ومن الواضح أن كتب المواقف (لإخوانه) الصوفية أو الذين لهم استعدادات صوفية، مؤمنين بمبادئ أهل الباطن ذوي اللقاءات السبوحية والعلوم الوهبية والأسرار الغيبية. أما من يكذب بذلك ويعتبره من الأساطير فالمؤلف غير مهتم بهم، بل يعتبرهم من الجاهلين الذين يكتفي بقوله لهم سلاما، كما ورد في الآية. آمن الأمير بوحدة الوجود تبعا لشيخه ابن عربي. وهو يتمنى أن يكون إيمانه كإيمان العجائز. ونفهم من المعلومات التي تضمنها كتاب المواقف أن فكر الأمير قد طور كثيرا عما كان عليه. فمن الاهتمام بالسياسة والشؤون العسكرية والفقه والحديث والتفسير إلى الاهتمام بعلوم القوم. فمتى حدث هذا التحول ولماذا؟ أما زمنه فهو وسط الستينات وبالضبط عند حجته الثانية ومجاورته بالحرمين وأخذه الطريقة النقشبندية على شيخه محمد الفاسي. ونحن نعلم أنه كان قد تربى على والده في القيطنة وتخرج من تراث الأسرة والطريقة القادرية، ومن تراث الحضارة الإسلامية المتمثل في المخطوطات الفلسفية والصوفية والأدبية والتاريخية المخزونة في مكتبة والده. وقد شغلته المقاومة الوطنية سبعة عشر عاما، ثم سنوات السجن بفرنسا حوالي خمس سنوات، وسنوات بروسة حوالي ثلاث سنوات. ثم حدثت أزمة الشام سنة 1860، فبرز فيها الأمير كمدافع عن الحق وحقوق الإنسان والتسامح. ولفت إليه الأنظار من جديد، فبعد أن كان معروفا، ببطولاته العسكرية واستماتته في الدفاع عن وطنه ودينه ضد دولة أجنبية معتدية، أصبح منذ 1860 معروفا بموقفه الإنساني في حماية من ليسوا على دينه ولا في وطنه الصغير. وحظي من أجل ذلك بالأوسمة والهدايا ورسائل الشكر من عظماء الدول ورموزها. ¬

_ (¬1) (المواقف) المجلد الأول، ص 9.

وتردد اسمه ليكون ملكا على العرب وحتى بلاد اليونان وغيرها. وظهر المحبذون له والمتحفظون منه. وبدأت الضغوطات من مختلف الدول المستفيدة والخائفة. فإذا بالأمير يتوجه إلى الحج تاركا كل الإشاعات والمناورات وراءه. وقضى في الحرم الآمن حوالي سنتين بعيدا عن الأنظار السياسية والضغوطات الدبلوماسية. فهل كان الإغراق في التصوف ابتداء من هذه الرحلة مقصودا من الأمير لكي يبتعد عن المسرح السياسي؟ وهل كان موقفه من التصوف عندئذ جوابا لطالبي يده في تولي المناصب وتبني وجهات النظر الضاغطة عليه؟ حقيقة أن الأمير كان يطمح إلى أداء هذه الزيارة، بل الإقامة، في الحجاز منذ ترجل عن صهوة جواده في ديسمبر 1847 واضعا بذلك النهاية لسنوات طويلة من المقاومة، ولكن السلطات الفرنسية حملته إلى سجونها بدل الشرق. فكان لسان حال الأمير سنة 1864 قول الشاعر محمد العيد الذي حدث له في التصوف ما حدث للأمير تقريبا: وجنحت للحرم الذي فارقته ... زمنا جنوح الطير للأوكار إننا نرجح أن (عودة) الأمير إلى التصوف بتلك الصفة التي تدعو للدهشة كانت هروبا من محاولات استعماله في أدوار لم ير الفرصة سانحة للقيام بها، وقد كانت له همة قعساء ومروءة شماء أيضا. فرأى أن خير ما يبتعد به هو اللجوء إلى الفتوحات المكية وفصوص الحكم لابن عربي، وغيرهما من كتب الحقيقة الصوفية. ورغم أنه ظل يعيش مشاكل الظاهر بالنسبة لأسرته وضيوفه ومن يلوذ به، فإنه انسحب إلى الباطن أو ما يسميه بالسبوحات الوهبية والغيبيات بالنسبة لحياته الخاصة. وقد أصبح كثير الغيبة عن الوجود الحسي. وكثيرا ما وجدناه في (المواقف) يردد عبارة معينة، وهي أنه كان في حالة مشاهدة فصعق فكلمه الله وقال له: إنني أنا الله لا إله إلا أنا. وكان يحصل له، كما أخبر، بعد الرجوع إلى الحس، فرح وبشارة.

وجاء في (الموقف) الأول قوله: (إن الله قد عودني أنه مهما أراد أن يأمرني أو ينهاني أو يبشرني أو يحذرني أو يعلمني علما ... إلا ويأخذني مني مع بقاء الرسم، ثم يلقي إلي ما أراد بإشارة آية كريمة من القرآن، ثم يردني إلي فأرجع بالآية قرير العين ملآن اليدين، ثم يلهمني ما أراد بالآية). ثم يقول: (وأتلقى الآية من غير حرف ولا صوت ولا جهة، وقد تلقيت، والمنة لله تعالى، نحو النصف من القرآن بهذه الطريقة. وأرجو من كرم الله تعالى أن لا أموت، حتى أستظهر القرآن كله، فأنا بفضل الله محفوظ الوارد في المصادر والموارد، ليس للشيطان علي سلطان ...) (¬1). وهذا يعني أنه كان يتلقى القرآن وحيا وإلهاما أثناء غياب روحه وبقاء رسمه في لحظات معينة. ولا ندري إن كان قد حقق الله رجاءه فحفظ القرآن كله بطريق الوحي والإلهام، كما تمنى. والآن التي بدأ بها (الموقف) الأول هي قوله تعالى: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة}. أعلن الأمير أنه يرحم من خالف قوله، وقرر ألا يجادل هذا الصنف من الناس (من علماء الرسم، القانعين من العلم بالاسم)، وغيرهم. وهو يعذرهم لأنه جاءهم بأمر مخالف لما تلقوه من مشائخهم المتقدمين، وما سمعوه من آبائهم الأولين، فالأمر عظيم والخطب جسيم، والعقل عقال، والتقليد وبال، فلا عاصم إلا من رحم ربي) (¬2). وهو يعترف أن طريقة فهم التوحيد التي آمن بها مختلفة عما اعتاده الناس الذين يتلقون العلم من المتكلمين والحكماء المعلمين، ولكنها طريقة أخرى مختلفة وهي (طريقة توحيد الكتب المنزلة، وسنة الرسل المرسلة، وهي التي كانت عليها بواطن الخلفاء الراشدين، والصحابة والتابعين والسادات العارفين). وعلى إثر ذلك جاء بالمقامة الصوفية التي أشرنا إليها والتي استوحاها من مسامرة لأهل الظرف ومن نادى العارفين فدار بينهم حديث ذو شجون، إلى أن تكلم عريف الجماعة فحدثهم بحديث هو أغرب من حديث عنقاء مغرب، وقد أسميناها ¬

_ (¬1) (المواقف) 1/ 26، 161، 162. (¬2) (المواقف) 1/ 10.

نحن (المعشوقة) (¬1) استلهاما مما جاء فيها. من ألوان تخريجات الأمير فهمه لما روى عن الإمام الغزالي (ليس في الإمكان أبدع مما كان). وقد دار نقاش بين المتأخرين حول المقصود من هذه المقولة. وخاض فيها حمدان خوجة في كتابه (حكمة العارف). ولكن الأمير تناولها من وجهة نظر صوفية فقال إن فيها إشارة إلى معنى الآية: {ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى}. فالآية تشير، حسب رأي الأمير، إلى (سر القدر المتحكم في المخلوقات الذي هو العلة. فقد أخبر الله (أنه أعطى كل شيء من العالم المخلوق في مرتبة وجوده الخارجي خلقه، أي استعداده الكلي الذاتي الغير مجهول ولا مخلوق الذي هو عليه في مرتبة ثبوته وعدمه. فإن كل ممكن له استعداد خاص، لا يشبه استعداد ممكن استعداد ممكن آخر. وبالاستعداد كانت الحجة البالغة لله - تعالى - على من أشقاه وابتلاه وأفقره ونحو هذا. فإن استعداده طالب لذلك. ولو أعطاه غيره على سبيل الفرض لرده، وما قبله لاستعداده ضده) (¬2). ومما يذكر أن الناشر للمواقف اعتمد على عدة نسخ. منها نسخة الأمير بخط يده. وقوبلت على نسخة جمال الدين القاسمي التي كانت بدار الكتب الظاهرية، ثم نسخة عبد الرزاق البيطار (وهو صديق الأمير وتلميذه) وكانت على هذه النسخة تعاليق بخط الأمير نفسه. ولكن عبارة (منقحة) التي وردت في طبعة دمشق، محيرة، لأن التنقيح لا يصح إلا على يد المؤلف نفسه. أما تصحيح الأخطاء ومقابلة النسخ والنصوص فهو ما يقوم عليه التحقيق للآثار القديمة. وقد استفدنا أيضا من المواقف أنها احتوت على مجموعة شعرية للأمير قد لا تكون مضمومة إلى الديوان، والغريب أن بعض شعره قد وقع فيه التصحيف لدرجة مهولة. وسنذكر ذلك في مكانه (¬3). كما أن نثر الأمير في المواقف يختلف عن نثره في مؤلفاته الأخرى، كذكرى العاقل، ورسائله. ¬

_ (¬1) نفس المصدر، ص 10 - 11 انظرها في فصل الأدب. (¬2) (المواقف) 3/ 1361. (¬3) انظر فصل الشعر.

أ - والذين ترجموا لمحمد السعيد، أخو الأمير، ذكروا له أيضا بعض المؤلفات، منها شرحه الذي وضعه على رسالة في علم الوضع، وقد طبعت (انظر بعد). وقيل إن له رسائل كثيرة، لعل منها ما كان في الطريقة القادرية. فقد كان له مريدون في المشرق والمغرب، ولا بد أنه كان بمنح الإجازات ويلقن الأوراد. وكان له أولاد متزوجون من بنات أخيه الأمير، ومنهم محمد المرتضى الذي خلفه في الطريقة. ولكننا لا نعرف أن محمد المرتضى قد ترك بعض التأليف في التصوف أيضا. وكان محمد السعيد من علماء الوقت، وقد لازم أخاه الأمير إلى آخر لحظة في كفاحه. كما أن محمد المرتضى تتلمذ على أبيه وعمه معا. وكان يقرض الشعر في شبابه. ب - أما الأخ الآخر للأمير، وهو أحمد بن محيي الدين، فقد ترك مؤلفين على الأقل في التصوف. وقد طبع أحدهما ولده بدر الدين. والتأليف الأول في بيان أن العلم نقطة وعنوانه الكامل (نثر الدر وبسطه في بيان كون العلم نقطة) (¬1). وقيل إن هذا العنوان مبني على مقولة الإمام علي أن العلم نقطة كرها الجهلاء. أما التأليف الثاني فهو رسالة بعنوان (الجنى المستطاب)، وهي شرح لأبيات أولها: فأنت في مستنقع الماء رجله. ولأحمد هذا تأليف آخر في التاريخ تناول فيه المقاومة التي قادها أخوه عبد القادر وتاريخ حياته ومن ثمة تاريخ الجزائر إلى حوالي 1847 (¬2). ج - وليس لدينا الآن مؤلفات أخرى من المنتسبين إلى الطريقة القادرية. فشيوخ عميش ومنعة ووادي رهيو وغيرها غير معروفين بمؤلفاتهم. وقد اشتهر أحمد البكاي بنواحي كنته بالعلم. فهل ترك مؤلفات لم تصل إلينا (¬3)؟ كما اشتهر ابن علي الشريف دون أن نعرف له تأليفا في التصوف، ¬

_ (¬1) ط. بيروت 1924 (1324). (¬2) انظر عن ذلك فصل التاريخ. وكانت السلطات الفرنسية قد نفت أحمد إلى عنابة حيث بقي خمس سنوات، قبل أن تسمح له بالهجرة إلى الشام والانضمام إلى أخيه. انظر تعريف الخلف 2/ 92، والأعلام 1/ 229، 240. (¬3) انظر عنه كتابات إسماعيل حامد، ورسالة عبد القادر زبادية. ونشير إلى التأليف الذي =

ويبدو أنه كان مهتما بالسياسة. 2 - وكان المصدر الأساسي للطريقة التجانية هو كتاب (الكناش) الذي ينسب إلى الشيخ أحمد التجاني نفسه. وربما أضيفت كتابات وملاحظات أخرى إلى هذا الكتاب الذي لم يطبع حتى الآن، حسب علمنا، وإنما عرف به أحد العلماء الفرنسيين ولخصه. وقد كان للتجانية فرعان رئيسيان في الجزائر، عين ماضي وتماسين، وكانتا تتبادلان النفوذ طيلة القرن الماضي وأوائل هذا القرن. وفي بعض الوقت لعبت قمار دور الفرع الثالث، سيما في عهد الشيخ محمد العروسي (ت. 1925). ومن أبرز شيوخ الطريقة، خلال الاحتلال الحاج علي بتماسين وابنه محمد العيد وحفيده العروسي المذكور. ولكننا لا نعرف أن الاثنين الأولين قد تركا تآليف، فشهرتهما قامت على احتضانهما للطريقة ونفوذهما الشخصي أكثر من العلم والتأليف، أما محمد العروسي فقد ترك بعض المؤلفات، منها (المخدرة) التي لم نطلع عليها ولكن هناك من أخذ منها، مثل إبراهيم بن عامر - العوامر -. ويبدو أن (المخدرة) كتاب جامع أيضا، وهو غير مطبوع أيضا، حسب علمنا. وهو كتاب يشبه التقييد فيه أخبار وحوادث وليس كتابا في التصوف فقط على أغلب الظن. أما عين ماضي فمن أشهر شيوخها محمد الصغير (ت. 1853) الذي سمي أيضا محمد الحبيب، فيما بعد. وهو، فيمازعموا، والد أحمد التجاني زوج الفرنسية أوريلي بيكار، والبشير الذي تزوج أيضا، هذه الأرملة بعد وفاة أخيه المذكور. ورغم شهرتهم جميعا في وقتهم واعتقاد أنصارهم فيهم، فإنهم لم يتركوا تآليف تذكر، حسب علمنا. وكان أحمد والبشير قليلي التعلم، حسب المصادر الفرنسية، وعاشا حياة مضطربة (¬1). ولكن الأتباع تناولوا الطريقة التجانية ببعض التأليف، ومنهم: ¬

_ = ترجمه أرنست ميرسيه والذي يرجع إلى سنة 1853. وهو في حياة عبد القادر الجيلاني، ومجهول المؤلف. ورغم ميول ميرسيه المعادية فإن ترجمته مفيدة. انظر مجلة (روكاي) 1869، ص 409 - 451. (¬1) انظر فصل الطرق الصوفية.

أ - أحمد بن عاشور السمغوني (من بوسمغون؟) وقد قيل انه من أتباع وأصحاب أحمد التجاني (بن محمد الصغير). والتأليف لا نعرف عنوانه بالضبط، ولكنه في حياة الطريقة التجانية والأحوال العامة، أي أنه كتاب جامع في شكل كاش. وروى عبد الباقي مفتاح أن فيه أخبارا عن العلاقة بين الأمير عبد القادر ومحمد الصغير التجاني والمعونة التي قدمها هذا لصالح الجهاد والمقاومة (¬1). ويبدو أنه عمل صوفي وربما تاريخي هام أيضا. ب - ولمحمد بن المشري كتاب في شكل كناش أيضا، تناول فيه حياة الشيخ أحمد التجاني، مؤسس الطريقة وتطورها بعده. ويبدو من الخبر المحدود الذي عندنا أنه كتاب جامع إذ عنوانه هو (الجامع لما افترق من درر العلوم الفائضة من بحار القطب المكتوم). والقطب المكتوم هو الشيخ التجاني نفسه. والعبارة توحي بشيء من المهدوية (¬2) والإمامة المنتظرة. أما المؤلف (ابن المشرى) فلا ندري من هو ولعله من عائلة الريان الذي رعى الزاوية وتولى للفرنسيين إدارة عين ماضي. ج - وفي سنة 1923 نشر الصحفي الشهير عمر بن قدور كتابا في الإشادة بالطريقة التجانية عنوانه (سائق السعادة والدليل إلى أقوم سبيل). والمعروف أن ابن قدور قد نفي خلال الحرب العالمية الأولى إلى عين ماضي والأغواط، وعانى من السلطات الفرنسية الأمرين لمواقفه الصريحة المعادية للتجنيد الإجباري، ولتدخل الغرب، ومنه فرنسا، في شؤون العالم الإسلامي، وعارض النشاط الصهيوني في فلسطين والحرب الإيطالية ضد ليبيا. وكل هذه المواقف جلبت عليه نقمة تلك السلطات فنفته شر نفي. ولم تكن مواقفه الصوفية معروفة قبل نفيه، فقد كان من دعاة الإصلاح والتجديد ¬

_ (¬1) عبد الباقي مفتاح (أضواء). ومخطوط السمغوني في زاوية عين ماضي، ويقع في 146 ورقة. (¬2) أشار إليه الهواري التواتي في بحثه عن أشراف غريس. وقال ان الطالب الحسني قد قدمه إليه. انظر بحثه في (أرابيكا) عدد 39، 1992، ص 17.

والنهضة الوطنية والإسلامية. فهل اكتشف قيمة الطريقة التجانية خلال نفيه فاحتمى بها، وقد كانت ذات نفوذ ودالة على السلطات الفرنسية؟ أو كان على صلة بها قبل نفيه؟ إننا لا ندري ذلك. أما كتابه المذكور فقد كان يعبر عن تحول كبير في حياته وفكره (¬1). ولم نطلع على الكتاب. 3 - وقد ألفت كتب كثيرة عن الطريقة السنوسية، من رجالها ومؤسسيها وكذلك من غيرهم. والمعروف أن محمد بن علي السنوسي الخطابي هو نفسه من مواليد الجزائر ومن أهلها. وقد ترك مؤلفات عديدة، بعضها مطبوع، في أصول الطريقة التي أنشأها في مكة نم جغبوب بليبيا. وقد ذكرنا ذلك في عدة مناسبات، منها أثناء الحديث عن الدور السياسي والديني للطريقة وأيضا أثناء ذكر الأسانيد والأثبات. ولا نريد الآن الرجوع إلى ذلك. وقد تعرض عبد الحي الكتاني وغيره إلى مجموعة من تلك المؤلفات. كما أن الفرنسيين رجعوا إليها وترجموا بعضها. وكان مدار السنوسية على الكتاب والسنة، كما ذكرنا. وكان للسنوسية فرع واحد معروف في الجزائر، وهو بناحية مستغانم، والذي كانت تشرف عليه عائلة تكوك. وقد ذكرنا ذلك الفرع وما عانى أصحابه من اضطهاد ونفي وسجن على يد السلطات الفرنسية. أما المؤلفات فقد كان هذا الفرع معتمدا على ما كتبه الشيخ السنوسي نفسه وما يصلهم من إجازات ونحوها من الزاوية الأم. ولا نعرف كتابا قد ألفه واحد من عائلة تكوك في هذا الموضوع. وقد تحدث الكتاني عن كتاب (الأنوار القدسية في مقدمة الطريقة السنوسية) الذي ألفه أحمد الشريف حفيد محمد بن علي السنوسي. وكان ¬

_ (¬1) نشر الكتاب في الجزار، 1923، وهو رسالة في 16 صفحة (؟). انظر أيضا المكتبة الوطنية - باريس، رقم 82353 K 8. ومن آخر ما ألف حول التجانية كتاب (أضواء) لعبد الباقي مفتاح، وهو من أهل العلم والتصوف بقمار. وقد جمع فيه مصادر الطريقة وحياة الشيخ التجاني ورجال الطريقة من بعده.

المؤلف رحالة وعارفا بأحوال الشرق الإسلامي، عاش في مكة أيضا واسطانبول وغيرهما. ومن المفهوم أن الكتاب يتناول أصول الطريقة ورجالها وأسانيدها، ولا سيما في كتب الحديث والتصوف. ويبدو أن الكتاني لم يتعرف على المؤلف وإنما عرفه من خلال ابن عمه الشيخ أحمد بن تكوك (¬1). وألف محمد بن عيسى السعيدي القاسمي كتابا في الطريقة السنوسية أيضا سماه (المواهب الجليلة في التعريف بإمام الطريقة السنوسية)، وقد ذكرناه في المناقب (¬2). ومهما كان الأمر فإن هذه الطرية لم تحظ بتأليف كثيرة في الجزائر. ولعل ذلك يرجع إلى أنها كانت معادية للاحتلال والتوسع الفرنسي، فلم يخصها كتاب الطرق الصوفية بتأليف خشية المتابعة. ومن جهة أخرى نعلم أن الفرنسيين قد سلطوا بعض الطرق على بعضها لتحييد واحتواء المعارضة لهم. وتذكر مؤلفات الفرنسيين أنهم أوعزوا إلى الطريقتين الطيبية والتجانية بذلك الدور، ولا سيما في الجنوب، وتفيد أخبار الفرنسيين أن زعماء السنوسية قد وصلوا إلى نفطة من تونس، ودعموا ثورات الجنوب، وبالأخص ثورة محمد بن عبد الله في ورقلة في الخمسينات وثورة محيي الدين بن الأمير عبد القادر في ناحية تبسة وسوف في مدار السبعينات. وقد كانوا على علاقة وطيدة مع الزوايا الرحمانية في الجنوب ولا سيما زاوية نفطة (تونس) التي كان يشرف عليها المهاجرون، وذلك قبل احتلال تونس. فهل هناك مؤلفات لم نطلع عليها؟ ربما. 4 - حظيت الرحمانية بأكبر نصيب من التأليف. ويرجع ذلك في نظرنا إلى استمرار الصلة بين هذه الطريقة والتعليم. ذلك أن معظم الزوايا ¬

_ (¬1) كان ذلك سنة 1338 بفاس، وطبع (الأنوار القدسية) في اسطانبول، دون تاريخ، وهو في 117 صفحة. انظر الكتاني (الفهرس) 1/ 207. (¬2) انظر فصل التاريخ.

الرحمانية، سواء في الشمال أو في الجنوب، كانت مراكز لنشر التعليم العربي والدين الإسلامي، وكانت غالبا مراكز أيضا للثورات. ولكن الطريقة الرحمانية تلقت ضربات موجعة منذ احتلال زواوة، ثم منذ ثورة 1871 واحتلال تونس الذي أضعف دور زاوية نفطة (العزوزية). وسنتتع الآن عناوين المؤلفات التي تركها الزعماء الرحمانيون أو أتباعهم. 1 - حزب الفلاح ومصباح الأرواح، تأليف عبد الحفيظ الخنقي الونجلي. وهذا العمل عبارة عن رسالة في الطريقة الخلوتية التي أخذها بدوره عن محمد بن عزوز عن عبد الرحمن باش تارزي عن محمد بن عبد الرحمن الأزهري عن الحفناوي الخلوتي. أول الرسالة هو: باسم الله العظيم الأعظم الذي لا إله إلا هو الرحمن الرحيم ... اللهم نور قلوبنا ... الخ (¬1). وعبد الحفيظ المذكور كان صوفيا. ومناضلا سياسيا أيضا. وقد عاصر ثورة الزعاطشة واحتلال بسكرة. وجاهد بسيفه، وكان، رغم علمه وكبر سنه، من المحاربين الأشداء. وقد قيل انه قتل الضابط سان جيرمان قبل أن يستشهد هو، أثناء معركة وادي براز قرب بلدة سيدي عقبة سنة 1849، لكن المراجع المتأخرة تذكر أنه نجا من الموت، وأنه هاجر إلى نفطة على إثر ثورة الزعاطشة، وتوفي بنفطة سنة 1850. وهو رأي لا نرجحه. وترك عبد الحفيظ مجموعة أخرى من الرسائل (الكتيبات) في التصوف وما يتصل به، وهي حوالي سبعة نذكرها بعناوينها فقط: أ - التعريف بالإنسان الكامل. ب - الحكم الحفيظية، وهي الرسالة التي شرحها المكي بن الصديق الذي كان مدرسا ومفتيا بجامع سيدي المبارك (¬2). وقد ألفها ¬

_ (¬1) ضمن كناش رقم 2076 المكتبة الوطنية - تونس، بضعة أوراق. (¬2) ع. بن سعيد، جريدة الشعب 8 مايو، 1989. وجامع سيدي المبارك في بلدة الخنقة.

الشيخ عبد الحفيظ سنة 1257. ج - الجواهر المكنونة في العلوم المصونة. د - غنية المريد، ولعل هذه الرسالة هي التي توجد منها ورقات في تونس تبدأ هكذا: (وهي هنا بدون عنوان): قال شيخ التربية وإمام الأولياء وطريق الأصفياء، الواصل الموصل، والكامل المكمل، سيدي عبد الحفيظ بن محمد: يا أخي إن أردت أن تنظر روحك في براز؟ في الأرواح، فكن روحا بلا روح، ولا تكن روحا حتى تشاهد روحك بين الأرواح. وهي تنتهي بأبيات في التصوف مكتوبة بالعامية. ألفها سنة 1256 (¬1). هـ - سر التفكر في أهل التذكر. و- غاية البداية في حكم النهاية (¬2). وللشيخ عبد الحفيظ أبناء وأحفاد استقروا في زاوية خيران (قرب خنشلة) وتامغزة وتونس. وقد تأقلموا مع الأوضاع السياسية والدينية التي سادت الجزائر وتونس، وكانوا على علاقة بزاوية نفطة العزوزية. 2 - رسالة الكامل بن المكي بن عزوز. نقل منها صاحب تعريف الخلف في ترجمة محمد بن عزوز، وعائلة ابن عزوز توزعت بين الجزائر وتونس والمشرق. ومن أشهر رجالها المكي بن عزوز. ورغم شهرة مصطفى والمدني في التدريس فإنهما لم يتركا مؤلفا في التصوف على ما نعلم، وأبرز من ألف منهم في العلوم المختلفة هو المكي بن عزوز. وقد ترك ابنه الكامل بعض الآثار، كما ذكرنا (¬3). 3 - فاكهة الحلقوم في نبذة قليلة من أحوال القوم، ألفه علي بن عمر الطولقي. وعند بعض المترجمين أن الكتاب من عمل الحسين بن علي بن ¬

_ (¬1) المكتبة الوطنية - تونس، مخطوط رقم 20221. (¬2) معجم أعلام الجزائر، ص 80، وتعريف الخلف. (¬3) تعريف الخلف 2/ 485.

عمر الطولقي (¬1). وهناك فرق بين الرجلين. وتذهب بعض المصادر إلى أن الحسين ألف (رسالة لطيفة في الطريقة ضمنها فوائد نفيسة). ثم اختار سكنى تونس (ربما بعد الاحتلال الفرنسي لها). وتوفي بها سنة 1309. وقد رثاه المكي بن عزوز بأبيات بدأها بقوله: ما ثم موعظة لكل مشاهد ... مثل المنية، وهي أرصد راصد ويفهم من الذين ترجموا له أيضا. أن له رسالة أخرى لا ندري موضوعها، ولعلها في التصوف، وعنوانها (دقائق النكت). وقد تكون في شكل كناش أو مذكرات. وسواء كانت (فاكهة الحلقوم) له أو لغيره فهي من مصادر الطريقة الرحمانية (¬2). 4 - النبذة المنيفة في منهج الحقيقة، تأليف علي بن عثمان بن علي بن عمر الطولقي المتوفى سنة 1898 (1316). وقد عاصر المؤلف فترة حرجة من تاريخ البلاد، اشتد فيها طغيان الاحتلال مما ألجأ عددا من شيوخ الرحمانية إلى الثورة أو إلى الحياد والاعتكاف على التعليم وممارسة الزهد. ويبدو أن علي بن عثمان قد اختار الطريق الثاني في الوقت الذي اختار فيه الشيخ الحداد الطريق الأول (¬3). 5 - حكمة المغانم في البلوى في جميع الغنائم، تأليف إبراهيم بن الصادق بن الحاج، صاحب ثورة 1859 بالأوراس. وقد كان محمد الصادق بن الحاج من تلاميذ محمد بن عزوز أيضا، اعتقله الفرنسيون على ¬

_ (¬1) تنسب أيضا في بعض المصادر إلى علي بن عثمان الذي ولى زاوية طولقة سنة 1842 وطالت مدته فيها، وتوفي سنة 1898. (¬2) مجلة الزهراء 4، ص 478. وإيضاح المكون 2/ 153، ومعجم أعلام الجزائر، ص 69. وكناش الطواحني، المكتبة الوطنية - تونس، رقم 18763، ملخصا من (الرائد التونسي). والخزانة العامة - الرباط، ج 1، ص 516. انظر أيضا محمد محفوظ تراجم المؤلفين التونسيين 3/ 286. وفيه أن الحسين بن علي الطولقي كان نزيل تونس وأنه عاش بين 1830 - 1891. (¬3) معجم أعلام الجزائر، ص 117.

الكبر وأودعوه سجن الحراش إلى أن مات فيه. كما سجنوا معه أولاده وأبرز أنصاره، ومنهم إبراهيم، المؤلف المذكور. ورغم أن الكتاب تناول أيضا الجوانب الفقهية والفرائض فإننا نتصور أن الجانب الصوفي قد تغلب عليه، فقد ترجم فيه لنفسه، وتعرض لحياة والده وكراماته وعلامات الصلاح عنده. وروى عن عدة أعلام في هذا المجال. وبناء على دراسة أحد المختصين بالمنطقة، فإن كتاب (حكمة المغانم) يقع في 159 ورقة. فهو إذن كتاب ضخم، ولكنا إلى الآن لا نعرف قيمته، لأن الدراسات حتى الآن منصبة على النشاط السياسي والديني للرحمانيين في الأوراس وليس على نشاطهم الفكرى (¬1). 6 - كتاب المبشرات: ومؤلفه مجهول، ولكنه من أهل الأوراس، وقد يكون من تأليف أحد شيوخ زاوية الصادق بن الحاج. وقد ذكر بعض الدارسين أن هذا الكتاب، هو رسالة صغيرة كما فهمنا، يحتوي على وصايا لأنصار الطريقة حول أفضل الفصول لزيارة الزاوية (الربيع والخريف) وفيه الحث على الزيارة وفوائدها، لأن فيها لقاء مع الشيخ. كما أن في الكتاب بيانا لكيفية الدخول في طاعة الشيخ، أي نوع من المبايعة، وكيفية التلقين وتلقي الأوراد الصوفية (¬2). 7 - المنح الربانية في بيان المنظومة الرحمانية: تأليف مصطفى باش تارزي. والمنظومة أصلا لوالده عبد الرحمن أحد تلاميذ الشيخ الأزهري في الطريقة الخلوتية (الرحمانية). وقد توفي مصطفى المذكور سنة 1870 (1287 هـ) حسبما جاء في تعريف الخلف. واشتهرت المنظومة وشرحها بين طلبة العلم والتصوف. ويبدو أنها نالت رضى بعض العلماء خلال هذا القرن، مثل عبد الحميد بن باديس، الذي قدم لطبعتها في المطبعة الإسلامية الجزائرية. بدأ مصطفى شرح المنظومة بقوله: (نحمد من وهب من نوره ¬

_ (¬1) عبد القادر زبادية، دراسة عن زاوية تيبير ماسين، صفحات مرقونة. (¬2) انظر ملاحق أطروحة عبد الحميد زوزو حول الأوراس، ص 7 - 10.

القدسي، وأبرز من إشراق الضياء الحسي ... وبعد فلما لم ينفعني التعلل بلعل وعسى، عن اقتراح بعض الإخوان في كل صباح ومساء، أن أكتب فوائد لايقة، بطالعة المنظومة الرحمانية التي وضعها الشيخ الوالد ... في الآداب الشرعية المتعلقة بالطريقة الخلوتية، تحفظها من الضياع وتخرجها إلى حيز الانتفاع)، واعتذر الشارح على أنه ليس من أهل التأليف. وكونه قد تقادم العهد بينه وبين زمن تعاطي العلم عن والده. وأن إقدامه على الشرح إنما كان استجابة لدعوة بعض الراغبين في تقييد وبيان ما في المنظومة من الفوائد. ومن فوائد هذا الشرح أنه ذكر تاريخ السند الذي أخذ به والده عن الشيخ الأزهري عن الشيوخ الآخرين، إلى أن وصل إلى مصطفى البكري الشامي الحنفي الخلوتي. فالأزهري أخذ إذن عن محمد بن سالم الحفناوي عن مصطفى البكري الشامي (¬1). ومن الملاحظ أن عائلة باش تارزي بقسنطينة قد جمعت بين التصوف والسياسة أيضا خلال الاحتلال. فبالإضافة إلى شغلها في ميدان الطريقة تولى بعض أفرادها الوظائف الإدارية والسياسية. وفي التقويم الجزائري 1912، أخبار عن متأخري رجالها (¬2). ونجد بعض اسمائهم في قائمة العرائض التي تقدم بها الأعيان إلى السلطات الفرنسية حول المظالم في آخر القرن الماضي. وهذا الاندماج في الحياة المدنية قد أضعف دور العائلة ربما في الحياة الروحية في الأطراف، إذ أن الزويا الفرعية التي أخذ مؤسسوها عن الشيخ عبد الرحمن باش تارزي قد استقلت بتشجيع من السلطات الفرنسية وباندماج العائلة التارزية نفسها في حياة المدينة، كما ذكرنا. 8 - تأليف في أطوار الطريقة الرحمانية: ألفه محمد أمزيان الحداد، ¬

_ (¬1) المكتبة الوطنية - تونس، رقم 3719. من نسخ صالح بن محمد الماجردي السهيلي في رمضان عام 1274. وقد ذكرنا أنها طبعت. وكذلك تعريف الخلف 2/ 197. (¬2) انظر التقويم الجزائري، للشيخ كحول، سنة 1912.

شيخ زاوية صدوق في وقته. وقد ذكره المهدي البوعبدلي، وقال أن الحداد وصف في كتابه حالة البلاد بعدما أذن له شيخه المهدي السكلاوي اليراتني في رياسة الطريقة. وكان السكلاوي قد هاجر إلى بلاد الشام حوالي 1846 (1262) (¬1). وقد عرفنا أن للشيخ الحداد بعض المؤلفات والإجازات. والغريب أن البحث قد جرى عن كتابات ابنه عبد العزيز الحداد فلم يعثر الباحثون له على أثر حتى الآن، رغم تعلمه ومكانه. 9 - نصرة السني ردا على ذي الوهم البدعي: نظم وضعه محمد بن راشد المايني - قرب بوقاعة (سطيف). وقد انتصر المايني في نظمه للشيخ محمد أمزيان الحداد في واقعة له مع أحد المشائخ، رمز له بالبدعي أو المبتدع. وقد تضمن أيضا رسالة من الشيخ الحداد للناظم. وتدور المنظومة حول الصوم وعيد الفطر (¬2). 10 - رسالة في تلقين الأوراد الصوفية: ألفها السعيد بن الطاهر بن محمد البهلولي. وهي في الرد على العوام القائلين بوجوب تلقين الذكر لكافة الناس، وقال مؤلفها بتأثيم الذاكر الذي ليس له ملقن. كما تعرض فيها لبينان شروط الشيخ المربي (الملقن) وإلى حكم اللحن في الأذكار، وحكم ما حملوا عليه من إنشاد الأشعار وكذلك حكم القبض في الصلاة المفروضة، الخ. وهي رسالة مطبوعة (¬3). 11 - النصيحة العزوزية: منظومة الشيخ الطاهر العبيدي. أرخ فيها ¬

_ (¬1) المهدي البوعبدلي، محاضرة في الملتقى 15 للفكر الإسلامي. وقد أكدت رسالة محمد الشريف بن الشيخ 4 نوفمبر 1994 وجود (كتيب مخطوط) عن الطريقة الرحمانية للشيخ الحداد. وقد وصلتني الرسالة بواسطة علي أمقران وابن الشيخ المذكور، ومحمد الصالح الصديق وموسى الأحمدي، حسب رسالة من الصديق إلى علي أمقران، 6 نوفمبر 1994. (¬2) أشار إلى ذلك علي أمقران في مراسلته 8 غشت، 1980. وفيها أن المنظومة بلغت 161 بيتا (و 11 ورقة). (¬3) نفس المصدر، طبع رودوسي، الجزائر 1926، في 38 صفحة.

وأشاد بالطريقة الرحمانية وكذلك بفرعها (نفطة)، وعدد رجالها، ومدحها بأنها رحمة للناس وجامعة بين مختلف الطرق الصوفية، وأن أصلها طريقة الجنيد. وهاجم العبيدي الذي قد يكون درس في زاوية نفطة العزوزية، أولئك الذين درسوا قليلا من العلم في المشرق ثم رجعوا ممتلئين كبرا، مدعين الاجتهاد والعلم، وهم لا يحملون السبحة ولا الكتب وإنما يحملون المجلات الشرقية والجرائد. ولعله كان يعرض بذلك بمعاصره مولود الزريبي الذي رجع من مصر مملوءا حماسا وداعية إصلاح، رغم صغر سنه. وبدأ العبيدي منظومته بقوله إن ترد عزة، وفضل مزية ... فتلق الطريق (عزوزية) وتلقن أورادها وتبرك ... بحماها ففي الرجال بقية كم توالت لأهلها رحمات ... فهي حقا والله (رحمانية) وبعد أن ذكر أصولها وكونها ترجع إلى أهل الطرق جميعا مثل الشاذلي والطيب والجيلي والتجاني، قال العبيدي: كلهم قد روى الطريق إلى النور ... (الجنيد) طريقه مرضية إن أهل الطريق أعلام علم ... سلكوا بالمناهج الشرعية (¬1) وعنوان (النصيحة) يكمل معناها إذ هو (في نصرة الأولياء والصوفية). وقد كان العبيدي من أعيان العلماء في وقته ومن أعذب الشعراء نظما، ولكنه لازم التدريس في جامع تقرت، ولم يخض، فيما نعلم، في ميدان الإصلاح، وسنرى أن للعبيدي نصيحة أخرى للشباب لا تختلف كثيرا عن دعوة المصلحين. 12 - الفيوضات الربانية والتدرجات الإنسانية في نشر الطريقة الخلوتية، ألفه علي بن محمد المغازي الزواوي، وهو من أتباع الطريقة الخلوتية - الرحمانية. ولا نعرف الآن عصر الزواوي سوى أنه قد توفي سنة ¬

_ (¬1) النصيحة العزوزية، ط. مصر 1954.

1884 (1301)، وأن عمله قد يكون مطبوعا بمصر في هذه السنة (¬1). 13 - القصيدة الاسمائية التي نظمها محمد بن أبي القاسم الهاملي، شيخ زاوية الهامل المتوفى سنة 1315 (1897). وهي في في أسماء الله الحسنى وخواصها. وقد قام تلميذه ونصيره محمد بن عبد الرحمن الديسي بشرح (القصيدة)، وسماه (فوز الغانم في شرح ورد سيدي بلقاسم)، وقد طبع الشرح في تونس 1310. وبهامشه تعاليق لمحمد بن محمد بن أبي القاسم الهاملي، وهو ابن أخ الناظم. ويقع الشرح في 110 صفحات (¬2). 14 - الإفادة في خوارق العادة، ألفه إدريس بن محفوظ الشريف الدلسي. وهو تأليف في كرامات الأولياء التي يبدو أن الشيخ يؤمن بها رغم مكانته العلمية والسياسية. وقد ألف الدلسي عددا آخر من رسائل التصوف منها: أ - بزوغ الشمس. ب - المسائل المفيدة في فضل الأولياء عند الله. ج - إجلاء المرآة لإظهار الضلالات، وهو وإن كان في الرد على رجل من الوهابية (؟)، فإنه يبدو أنه قد مال فيه إلى التصوف. د - التهاني والفتاوى في ما صح لدى العلماء من أمر الشيخ العلاوي. وهو يعني به الشيخ أحمد المصطفى بن عليوة، صاحب زاوية مستغانم عندئذ، وقد انتصر له (¬3). وإدريس الدلسي من العائلات الجزائرية المهاجرة إلى تونس بعد الاحتلال. وربما هاجر والده محفوظ من دلس زمن هجرة المهدي السكلاوي منها. وكان إدريس قد ولد في تونس حوالي 1866 ونشأ ودرس فيها. وألف في عدد من الفنون. ومنها سيرة العائلة، وذلك في كتاب سماه الحدائق ¬

_ (¬1) معجم أعلام الجزائر، ص 121. (¬2) علي أمقران، 8 غشت، 1980، ومحمد علي دبوز (نهضة) 1/ 71. (¬3) طبع هذا الكتاب في تونس، 1924.

الزاهرة الغصوة في ذكر آبائي إلى النبي الكريم ... إلى عدنان. وقد توفي الدلسي سنة 1934 بتونس. وكان يقطن بنزرت (¬1). وكانت له مواقف من الاحتلال الفرنسي لتونس، ومن التجنس جعلته في صف الوطنيين التونسيين. 15 - شرح دعوة السباسب في غاية الحكماء وبلوغ المنى: وضعه محمد السعيد السحنوني. ويبدو أن الموضوع هو الأدعية وما إليها من مظاهر التصوف. غير أننا ما زلنا نجهل موضوعه بالضبط كما أن عنوانه غامض (¬2). ولدى العائلة السحنونية الخبر اليقين. ... ولنذكر الآن بعض المؤلفات التي ترجع إلى الطرق الأخرى، مثل الشاذلية والدرقاوية والعليوية. والمعروف أن الشاذلية هي الأصل لهاتين الطريقتين وغيرهما، كالمدنية. 1 - قصائد وغوثيات عدة بن غلام الله. بعضها فصيح والآخر ملحون. وقيل إن له أحزابا صوفية عديدة، وقد أثبت له ابن بكار قصيدة استغاثية في آخر كتابه. وعدة بن غلام الله كان شيخا لبعض شيوخ الشاذلية في القرن الماضي منهم محمد الموسوم (الميسوم) صاحب زاوية قصر البخاري الذي سنذكره بعد حين. وقد تلقى عن شيخه العربي بن عطية المتوفى في تونس مهاجرا، وتوفى عدة بن غلام الله سنة 1283 (¬3). 2 - التحفة المختارة في ثواب الزيارة: تأليف محمد الموسوم (الميسوم)، أشهر شيوخ الشاذلية في القرن الماضي، والمتوفى سنة 1883. وقد تناولنا حياته في غير هذا، ونكتفي هنا بذكر مؤلفاته في التصوف. وهي ¬

_ (¬1) انظر حياته في محمد محفوظ (تراجم التونسيين)، 3/ 182. (¬2) مراسلة علي أمقران السحنوني، 16 أم يل 1980. (¬3) ابن بكار مجموع النسب، ص 155. انظر عنه القضاة لأن عدة بن غلام الله كان قاضيا للأمير. وانظر عنه أيضا الطرق الصوفية.

في الحقيقة رسائل صغيرة وكثيرة. وقد ذكرها ابنه أحمد المختار لصاحب تعريف الخلف فسجلها هذا في كتابه، ومنها: أ - الأنوار المضيئة في الصلاة على خير البرية. ب - الرسالة في اسم الجلالة. ج - كشف الغمة في الصلاة على خير الأمة. د? تفريج الهموم في الصلاة على النبي كل يوم. هـ - العقد الثمين في الصلاة على النبي يوم الاثنين. و- حزب الأنوار الجامع لسائر الأدعية والأذكار. ز- ترجمان الأشواق في رؤية سيد الخلق على الإطلاق. قال عنه الحفناوي انه في 28 ورقة بالربعي. ح - الدرر البوعبدلية في الصلاة على خير البرية. ط - عصا موسى في الرد على من أنكر وأسا (ولسنا ندري إن كان هذا أيضا في التصوف. لأن الإنكار هنا غير معروف). ي - المكيال الأوفى في الصلاة على المصطفى. وربما كان بعض هذه المؤلفات قصائد وتوسلات (¬1). وله تآليف أخرى في التوحيد والرحلة والولد، ونحوها. وسنذكرها في محلها. وقد تلقى الشيخ الموسوم العلم عن الحاج الشفيع والتصوف عن الشيخ عدة بن غلام الله. وتتميز مؤلفات الموسوم أنها كلها تقريبا في الصلوات على الرسول (صلى الله عليه وسلم)، فهي أدعية ونصائح. ورغم هذا الحرص على (رؤية سيد الخلق على الإطلاق) فإننا لا ندري أنه قد أدى فريضة الحج. ومن تلاميذه في التصوف علي بن الحفاف مفتي مدينة الجزائر (¬2). ¬

_ (¬1) ذكر له نفس المصدر قصيدة استغاثية ص 159. على أنها أعظم قصائده، وقال ان له قصائد أخرى عند اجتماع الفقراء (الصوفية). (¬2) تعريف الخلف 2/ 516. والشيخ الموسوم من أولاد عبد العزيز الحاج نواحي مليانة، ونشأ في غريب قبل انتقاله إلى قصر البخاري. انظر عنه فصل التصوف.

3 - شرح ياقوتة الصفا في حقائق المصطفى: تأليف قدور بن محمد بن سليمان، المتوفى سنة 1904. وهو من علماء ومتصوفة مستغانم، نشأ بها وأخذ بها العلم والتصوف. ومن شيوخه في الناحية أيضا محمد الموسوم في الطريقة الشاذلية. كما أنه أخذ الطريقة التجانية عن أحمد التجاني (شيخ عين ماضي). وكانت لقدور بن محمد زاوية بمستغانم. وقد وجدنا في مخطوط بالمغرب أن قدور بن سليمان كان قد هاجر إلى الحجاز، ومن هناك كان يراسل علماء الجزائر، ومنهم القاضي شعيب الجليلي (¬1). ولكن صاحب تعريف الخلف قد تلقى معلوماته عنه من الشيخ عبد القادر بن قارا مصطفى، مفتي مستغانم سنة 1906. وقد نفهم من ذلك أن الشيخ قدور بن محمد رجع إلى الجزائر من الحجاز، وتوفي بمستغانم، كما جاء في تعريف الخلف. ومهما كان الأمر فإن للشيخ قدور كرامات نسبها إليه من ترجموا له، وهي قائمة على ما ذكره بنفسه في كتابه (المرائي). ورؤية الرسول مناما، وحتى يقظة، قد أذاعها بعض المتصوفة قديما. وقد نسب قدور إلى الرسول (صلى الله عليه وسلم) أقوالا قالها له أثناء هذه المرائي. ومما جاء في هذه المرائي أيضا ذكره لأحمد التجاني، صاحب الكناش، أي مؤسس الطريقة. وأخبر قدور أنه رأى التجاني مناما، والشيخ محمد الموسوم مناما قبل رؤيته حسيا. ومنهم أيضا صاحب زاوية الهامل محمد بن أبي القاسم. وهناك آخرون. وقد أحيا قدور هذه العادة لدى المتصوفة وهي تسجيل المنامات أو المرائي كما فعل محمد الفراوسني وغيره في العهد العثماني. ووجدنا له نصا من المنامات، وهو في شكل رسالة موجهة إلى أحد العلماء، يبدو أنه هو نفسه علي بن عبد الرحمن، مفتي وهران، أخبره فيها عن البيعة وعن رؤية الشيخ الموسوم مناما. وقد نصب له منبر بحضرة قدسية وحضرت جموع من أهل الله. وقد كان علي بن ¬

_ (¬1) الخزانة العامة - الرباط. ك 48.

عبد الرحمن من مقدمي التجانية رغم أنه كان على رأس الفتوى بوهران مدة طويلة (¬1). ومن مؤلفات قدور في التصوف أيضا (درر الفيض اللدني فيما يتعلق بالكسب العياني والسني). 4 - فتح الفتاح القدير بشرح حزب الفلاح والحزب الكبير، تأليف محمد الصالح بن محمد بن مهنة. وهو شرح على الحزب الكبير لشيخ الطريقة العيساوية، محمد بن عيسى، دفين مكناس (المغرب). والحزب يبدأ هكذا: لي سادة من عزهم ... أقدامهم فوق الجباه إن لم أكن منهم فلي ... في ذكرهم عز وجاه وقد اعترف ابن مهنة أن الذي بدأ الشرح هو علي بن الغول، لكن الوفاة أدركته قبل إتمامه، فتصدى ابن مهنة للموضوع. ومع ذلك فإننا نفهم أن ابن مهنة لم يبدأ من حيث انتهى الشيخ المذكور وإنما اعتمد شرحا خاصا به. وافتتح عمله بشرح حزب الفلاح الذي أخذه محمد بن عيسى عن شيخه الجزولي صاحب دلائل الخيرات. ولم يترجم ابن مهنه لا لابن عيسى ولا ابن الغول. وجاء بفضائل البسملة والصلاة على الرسول والتوكل على الله، وفضل التكبير والتسبيح. وبعد حوالي عشرين ورقة انتهى من شرح حزب الفلاح، ثم أخذ في شرح الحزب الكبير، ويبدأ بسبحان الدائم لا يزول، وفيه حديث عن الفقر الصوفي وعن التواضع والحب الإلهي والوصول إلى الله، والإيمان بالله، وميزة العقل. اعتمد ابن مهنة في شرحه على بيان الألفاظ، والنقل عن كتب التفسير والحديث والتصوف. وجاء ببعض أخبار الخلفاء الأربعة، وأضاف إليهم الحسن بن علي. وتحدث عن الشفاعة والولاية. وقال إنه زار قبر ياقوت ¬

_ (¬1) مخطوط المغرب، ك 48. وأيضا تعريف الخلف 2/ 330. ومعجم أعلام الجزائر، ص 133.

الحبشي دفين الإسكندرية، وكان الحبشي من تلاميذ أحمد المرسي تلميذ أبي الحسن الشاذلي. وكذلك زار قبر عبد الله بن أبي جمرة بمصر، وقبر أحمد البدوي بطنطا الذي قال إنه قد زاره مرارا وتبرك به. والحزبان المذكوران، كما فهمنا، لمحمد بن سليمان الجزولي الذي جعل ترجمة حياته خاتمة تأليفه (¬1). وكان ابن مهنة قد نشر بعض المؤلفات، كتعليقه على رحلة الورتلاني. وقد أثار زوبعة حين تعرض لموضوع الأشراف، فتصدى له خصوم، منهم الشاعر عاشور الخنقي ودخل معه في شجار، كما دخل في عراك مع غير عاشور. فقد ظهر كتاب (ضوء الشمس) لأبي الهدى الصيادي وفيه مدح الأشراف. فألف ابن مهنة كتابا في الرد عليه سماه (تنبيه المغترين في الرد على إخوان الشياطين). وأثار رده ضجة في أوساط الأشراف ورجال التصوف وأنصارهم في الجزائر وخارجها، فكتب المهدي بن محمد العمراني الوزاني كتابا عنوانه (السيف المسلول) في الرد على ابن مهنة، ولكن هذا لم يسكت بل كتب عملا آخر سماه (الفتح الرباني). وقد تعرضنا إلى حياة ابن مهنة وما ناله من العنت والضيق من جراء آرائه، ووصل الأمر أن اتهمته الإدارة الفرنسية بالمس بسيادتها. ونذكر هنا أن لابن مهنة كتبا أخرى حول هذه الموضوعات مثل (إظهار الحق) الذي لم نطلع عليه حتى نعرف بالضبط مقصوده منه ويبدو أنه أيضا في التصوف (¬2). 5 - معراج التشوف إلى حقائق التصوف: ألفه محمد بن أحمد الهاشمي بوجمعة. وهو من المهاجرين إلى دمشق. ولد بسبدو (قرب تلمسان)، وكانت هجرته مع شيخه محمد بن يلس، أثناء الرعب الذي أصاب تلمسان، وكل الجزائر، من فرض التجنيد على الشباب. وابن يلس هو شيخه في الطريقة الدرقاوية. كما أخذ عن غيره. وعاش محمد الهاشمي في دمشق ¬

_ (¬1) المكتبة الوطنية - تونس رقم 3631 ضمن مجموع. وفيه 111 ورقة، وهو من نسخ المكي بن علي بن أحمد الفكون، 19 ذي الحجة، 1314. وهناك اضطراب إذ ينسب الحزبان تارة لمحمد بن عيسى وتارة للجزولي. (¬2) انظر فصل الشعر، وحياة عاشور الخنقي. وكذلك فقرة الخطابة من فصل اللغة والنثر.

على التدريس والتصوف. كما تعرض فيها للا ضطهاد في آخر العهد العثماني وكذلك أثناء الانتداب الفرنسي. وبالإضافة إلى معراج التشوف، له مؤلفات أخرى في نفس الموضوع، طبع منها (شرح شطرنج العارفين) للشيخ محيي الدين بن عربي. وله مؤلفات في علم الكلام، ومذكرات. وقد زفي سنة 1961 (¬1). 6 - شرح منظومة أبي مهدي عيسى بن موسى التوجيني. وقام بهذا الشرح محمد السليماني الغريسي الفاسي المعروف بابن الأعرج. والشارح يرجع نسبه إلى محمد الأعرج السليماني صاحب الزاوية المعروفة باسمهم في غريس. وقد عثر ابن كار على هذا الشرح في خزانة أحد الأعيان، وهو أحمد بن حسن الشرقي، فطبعه ضمن كتابه (¬2). 7 - نسمات رياح الجنة في فضائل أهل البيت وأولياء الله وأذكار الكتاب والسنة، ألفه مع حاشية، الهاشمي بن بكار وطبعه ضمن كتابه (مجموع النسب). وقد علل لذلك بقوله انه نظم سنة 1379 أبياتا في حب الله ورسوله وفضائل أهل البيت، وفضائل أولياء الله، وفضائل الأذكار الواردة في الكتاب والسنة، وكذلك في ذكر سنده في علم الشريعة وفي الطريقة وفي النسب الشريف (فجاءت نصيحة دينية وأحكاما شرعية ومآثر وتوسلات) ثم جعل على المنظومة حاشية توضح معانيها باقتراح من زميله أحمد البدوي مفتي سيدي بلعباس وملقن أوراد الطريقة التجانية، وقرأ عليه المنظومة بقصد التبرك به واعتبر أسلاف أحمد البدوي من التجانيين أساتذة له وأولياء نعمته. وأما الحاشية فقد سماها ابن بكار (رياض النزهة على نسمات رياح الجنة) (¬3). ¬

_ (¬1) الخالدي (المهجرون)، ذكر هذا المصدر مراجع عديدة تناولت حياة محمد بن الهاشمي، كما ذكر عناوين مؤلفاته. (¬2) ابن بكار (مجموع النسب)، تلمسان 1961. (¬3) نفس المصدر (مجموع النسب)، ص 19.

ولا علاقة لابن بكار بالشعر وإن حاول نظمه بعد أن تجاوز الستين، كما قال. ونقله تلفيق من الكلام غير الموزون. ولكن روحه كانت صادقة فسجل في نظمه من (كتب الأفاضل، أهل الإيمان الكامل، مذاهب السنيين). وذكر منهم الرازي والشعراني والنبهاني والسنوسي (الظاهر أنه يقصد محمد بن يوسف دفين تلمسان) والإسكندري والفاسي واللقاني والخازن، الخ. ومن فوائد هذا الشرح (وكذلك النظم) أن صاحبه ذكر فيه معلومات تاريخية عن حياته ونسبه وأخبار الناحية وحياة الأمير عبد القادر وبعض المعاصرين، وجاء بتقاريظ وتفاصيل، وبعض الآراء حول موقف رجال التصوف والطرق من الحركة الإصلاحية. فقال عن نفسه إنه ظل مفتيا في معسكر حوالي عشرين سنة، وإنه شريف النسب، وخصص حوالي عشر صفحات (35 - 53) لترجمة حياة الأمير وغطى الشرح حوالي 200 صفحة من كتابه. 8 - كتاب رؤية المصطفى ووصيته: تأليف محمد بن محمد الشريف، ولا نعرف من هو المؤلف الآن (¬1). 9 - منهل الظمآن في كرامات ابن أبي زيان. وهو لمؤلف مجهول، ويتعلق بأبي زيان، مؤسس زاوية القنادسة. ولا ندري الآن عصر التأليف. وهو مخطوط خاص ذكره هواري التواتي في بحثه بمجلة (أرابيكا) (¬2). 10 - مخطوطات في التصوف للقاضي محمد بن الطيب، وليس لتأليفه (أو تآليفه) عنوان. ذكر ذلك الإسكندر جولي عند حديثه عن نشاط الشاذلية وآثار الشيخ محمد الموسوم في ناحية المدية وقصر البخاري وغريب والبرواقية. وذكر أن هذه المخطوطات كانت شهيرة جدا عند الأهالي بالناحية. أما حياة سي محمد بن الطيب فقد لخصها في عبارات غامضة، فهو ¬

_ (¬1) المكتبة الوطنية - الجزائر، رقم 2196 - F 16 . (¬2) رقم 39 سنة 1992، ص 19، هامش 58.

من بني عباس، وقد فهمنا أنه من الناحية الوهرانية، إذ كان قد درس في مدرسة مازونة، وحل بالمدية، وانخرط في الطريقة الشاذلية، التي كان محمد الموسوم شيخها، وذلك بنصيحة من زميله قاضي المدية علي بوحلي (بوحله). وقد عاش محمد بن الطيب في المدية أو في البرواقية فترة ثم تولى القضاء في المدية (¬1). أما مخوطوطاته فلم تصل إلى أيدينا. 11 - تآليف أحمد بن مصطفى المعروف ابن عليوة المستغانمي. وهو من أعيان المتصوفة في هذا القرن. أسس زاوية في مستغانم حوالي 1919. وألف مجموعة من الكتب. وأنشأ مطبعة وجريدة. وذاع صيت ابن عليوة خلال العشرينات ومنتصف الثلاثينات، ودخل طريقته المسلمون وبعض النصارى. وتجاوز تأثيره الجزائر. وقد طبع عددا من كتبه في تونس. وبلغت مؤلفاته حوالي أربعة عشر تأليفا، معظمها رسائل. ويختلف المعاصرون في أصالة آراء ابن عليوة وفي قدرته على النظم والتأليف. ولكنهم لا يختلفون في مكانته وتأثيره. وبالإضافة إلى التصوف الذي تلقاه عن شيوخه الدرقاويين نجد له آراء ومؤلفات هي أقرب إلى الفلسفة منها إلى التصوف المعتاد المقصور على الذكر والأوراد. ومن ذلك الكتاب المنسوب إليه بعنوان الأبحاث العلوية في الفلسفة الإسلامية (¬2). وفي دراسة أوغسطين بيرك عنه آراء فلسفية نسبت إليه تجعله في مصاف أعلام الفلسفة المعاصرة (¬3). بينما اتهمه البعض بأنه كان حلوليا، أي أن مذهبه الصوفي يقوم على مذهب الحلول. ومن كتبه أيضا (القول المعروف في الرد على من أنكر التصوف)، المطبوع سنة 1920. وقد قام عبدالحي الكتاني بتقريظ هذه الرسالة وحاول ¬

_ (¬1) الإسكندر جولي (دراسة عن الشاذلية) في (المجلة الافريقية) 1907، ص 21. (¬2) معجم أعلام الجزائر، ولم يذكر له صاحب (الاعلام الشرقية) كتاب مفتاح الشهود، بينما ذكر له مجموعة أخرى، 3/ 93. (¬3) أوغسطين بيرك (مرابط عصري) في (المجلة الافريقية) 1936.

أن (يثبت للتصوف مرجعا دينيا في الإسلام). وكان الكتاني من المتداخلين في السياسة والتصوف والدين خلال فترة طويلة في المغرب (والمغرب العربي عموما). وكان يحضر مؤتمرات الزوايا التي تشرف عليها السلطات الفرنسية، ظاهرا وباطنا. كما أن بعض الأوروبيين المندسين حاولوا استعمال ابن عليوة في أغراض قد لا يكون هو واعيا بأبعادها. كدعوته لحضور افتتاح مسجد باريس، وحديثه اللاهوتي مع القس جياكوبتي، وانتماء عدد من الأوربيين إلى طريقته. وتشهد بعض الكتابات الإنكليزية (كتاب مارتن لنغز وحتى كتابة أوغسطين بيرك) أن ابن عليوة كان ربما مستعملا. ومن الذين ساهموا في الرد على مذهب ابن عليوة، الشيخ عثمان بن المكي التونسي، وكان أحد مدرسي جامع الزيتونة، في كتاب سماه (المرآة لإظهار الضلالات) (¬1). 1 - المنح القدوسية في شرح المرشد المعين بطريق الصوفية: وهو شرح على المرشد المعين في العقائد لابن عاشر، وقد استعمل ابن عليوة التحليل الصوفي في دراسته لبراهين ابن عاشر على وجود الله ولوازم ذلك. ألف المنح في عهد شيخه البوزيدي ولكنه أعاد النظر فيها قبل طبعها. 2 - الأنموذج الفريد المشير لخالص التوحيد. وقد تناول فيه رمزية حروف الهجاء، أ، ب. وذهب إلى أنه كلما ذكر النقطة فهو يعني بها غيب الذات المقدسة المسماة وحدة الشهود. وكلما ذكر الألف فإنما يعني بها واحد الوجود المعبر عنه بالذات المستحقة للربوبية. وهكذا بقية الحروف، فكل حرف يرمز إلى قيمة معينة. وقد استعمل الطهارة والصلاة والوضوء استعمالا رمزيا أيضا. وكان قد انتهى من تأليف الأنموذج سنة 1910 ونشره بعد ذلك. 3 - مفتاح الشهود في مظاهر الوجود: وهو كتاب صغير في علم الكون والفلك. وقد اعتمد فيه على ما وراء الطبيعة بطريقة (عصرية) حسب ادعاء لنغز. وكان ابن عليوة يحيل فيه على عدة مراجع منها: القرآن الكريم، ¬

_ (¬1) محمد البهلي النيال (الحقيقة التاريخية ...) ص 341 - 342. عن ابن عليوة انظر فصل التصوف.

وروح البيان للبرسوي، ومؤلفات الغزالي. ويقع مفتاح الشهود في 220 صفحة. ولعله لم ينشر. 4 - المواد الغيثية الناشئة عن الحكم الغوثية: وهو تأليف علق فيه على مأثورات وحكم أبي مدين الغوث دفين تلمسان. ألفه حوالي 1910، أي بعد وفاة شيخه البوزيدي بقليل، ولم يطبع جزء منه إلا سنة 1942، أي بعد وفاة ابن عليوة بثماني سنوات. 5 - القول المقبول فيما تتوصل إليه العقول، كتبه سنة 1913، وتعرض فيه لمعاني الإسلام والإيمان والإحسان. 6 - دوحة الأسرار في معنى الصلاة على النبي المختار، رسالة ألفها سنة 1917. 7 - مبادئ التأييد في بعض ما يحتاج إليه المريد. وهو تبسيط للمبادئ التي يسير عليها تابع الطريقة العليوية، أتم جزءه الأول سنة 1926، وهو خاص بأصول الدين والطهارة. ولم يكمل بقية الكتاب. 8 - القول المعتمد في مشروعية الذكر بالاسم المفرد، ألفه حوالي 1927. 9 - رسالة الناصر معروف في الذب عن محب التصوف، 1927 (¬1). 12 - رسالة النصر لثبوت الطرق المحمدية، من وضع أبي القاسم طعيوج، قيل انه انتهى منها سنة 1347/ 1928. وهي تقع في 15 صفحة. وقد دافع عن الطرق الصوفية ومشروعيتها، وذلك في وقت تدهور فيه الاهتمام بالتصوف بعد انتشار الحركة التعليمية على الصعيد الرسمي والشعبي، وبعد أن أثرت الحرب العالمية الأولى في التيارات السياسية. 13 - السيف المسلول الرباني في ضرب عنق من ابتدع في الطريق ¬

_ (¬1) هذه المعلومات عن مؤلفات ابن عليوة أخذناها في أغلبها من كتاب مارتن لغز (الشيخ أحمد العلوي)، ترجمة موافي، ط. بيروت 1973.

الرحماني: وهو أيضا لطعيوج السابق، وموضوع الكتاب في التحصن والمنعة وحرمة الولائم والدف والزغريت مع الأذكار. وواضح أن الكتاب يدعو إلى نبذ بعض الممارسات التي (ابتدعها) بعض المتصوفة وأتباعهم عند اجتماعهم للذكر. ويقول من اطلع عليه انه كتاب متداول بين أتباع الرحمانية، وأنه يشمل الحديث عن التقوى والاستقامة وأحوال التربية الصوفية، وطريقة أخذ العهد، والذكر على الجنائز وأصل الإجازة. كما يتناول تحريم الدخان واستعمال الآلات الموسيقية والرقص في اجتماع الذكر (¬1). ومما جاء في مقدمة (السيف المسلول) أن صاحبه ألفه أثناء حالة تذمر، وقصد به النصح العام وإفادة الأجيال. ومن ذلك قوله: (أما بعد، فان الدهر أبو العجائب ويبوع الغرائب، وفي المثل: الأيام حبلى لا درى متى تلد). وقال انه ألفه ليشغل نفسه بشيء ينفع الناس ابتعادا عن البطالة، وإفادة جاهل أو تنبيه غافل، واستمطار علم جديد، عند الاشتغال بالتقييد، ثم تعليل النفس ببعض الأنس، وتخليد المحفوظ وتفصيله، ولا سيما مثلي ممن ترامت به الأقطار، وتباعدت عن الأوطان والأوطار. ومن ذلك أيضا تنبيه من قد يرتكب معصية، والنصح العام للعامة، ورجاء الدخول في حديث: إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاثة ...) (¬2). ... وهناك مؤلفات أخرى في التصوف لا ندري انتماءات أصحابها ¬

_ (¬1) علي أمقران السحنوني، مراسلة ذكر فيها أنه نشر عن طعيوج مقالة في جريدة (العقيدة) عدد 82 في 26 فبراير 1992. وفي مراسلة في 16 إبريل 1980. ذكر أن منه نسختين إحداهما في مكتبة الشيخ ابن القريني بدوار معاوية، ناحية العلمة، وأخرى بمكتبة المؤلف بسفلات، برأس العيون (وادي الزناتي). انظر الإجازات أيضا. (¬2) علي أمقران السحنوني. مراسلة منه تتعلق بمقالة في جريدة (العقيدة) عن طعيوج. انظر لاحقا.

الطرقية. ونحن نذكرها باختصار: 1 - إرشاد أهل الهمم العلية فيما يطلب منهم من الأدعية الدينية: تأليف عبد الله بن غانم الدراجي. وهو من علماء الحضنة (المسيلة؟ أو أولاد دراج نواحي بريكة؟). وقد توفي في حدود 1296 (1879). ويبدو أنه هاجر إلى الحجاز بعد أن ولد وتربى ودرس في الجزائر وتونس. وفي الحجاز انتصب للتدريس بالمدينة المنورة. وكتاب (الإرشاد) يقع في سبعة أجزاء حسب المترجمين له. كما ذكروا له كتابا آخر عنوانه (اتحاف المريدين) (¬1). 2 - غوثية مصطفى بن التهامي. وهي منظومة طويلة نظمها في سجن امبواز عندما ضاق بهم الحال وطالت الغربة (¬2). 3 - تأليف في علم القوم لمحمد بن أحمد المعروف بوتشنت. وهو من جبل ندات بناحية ثنية الأحد (الحد). وقد نشأ هناك، ودرس على علماء مازونة عن طريق الشيخ الحاج الزراق (؟). وله تأليف آخر في الصلاة على الرسول (صلى الله عليه وسلم) قيل انه قد مزجه بالشمائل النبوية. وقد توفي بوتشنت عام 1326. وله شهرة دينية في الناحية (¬3). 4 - نصيحة الإخوان: تأليف عبد القادر المجاوي، وهو شرح لقصيدة نظمها محمد المنزلي في التصوف. والظاهر أن المنزلي كان من أعيان الطريقة القادرية. وقد رأيا له إجازات لمقدمين جزائريين في هذه الطريقة. ولم يكن المجاوي معروفا بممارسة التصوف بل كان من العلماء المدرسين الذين ألفوا في عدة علوم منها المنطق والفلك والنحو. والقصيدة المذكورة وشرحها في آداب المريدين. ونحن نفهم من ذلك أن المجاوي قد يكون له هوى في القادرية، وقد عرفنا أنه كان من أصهار عائلة الأمير عبد القادر. وقد طبع ¬

_ (¬1) تعريف الخلف 2/ 234، ومعجم أعلام الجزائر، ص 101. (¬2) ابن بكار، ص 54. يقول هذا المصدر ان نسخة من الغوثية كانت بخزانة رئيس الزاوية الطيبية (في معسكر؟) وهو ابن عم لابن التهامي. انظر فصل الشعر أيضا. (¬3) تعريف الخلف 2/ 352.

شرحه بتونس، ربما من أنصار القادرية بها (¬1). 5 - السيف الرباني في عنق المعترض على الغوث الجيلاني: تأليف المكي بن عزوز. وقد ذكرنا المكي بن عزوز في عدة مناسبات، أما كتابه المذكور فقد طبعه في تونس أيضا وضمه مجموعة من التقاريظ شملت ثلث الكتاب تقريبا. وواضح من العنوان أن الكتاب في الرد على المنتقدين لطريقة الشيخ عبد القادر الجيلاني (¬2). 6 - ربح التجارة في آداب الزيارة: تأليف علي بن الحاج موسى، أحد علماء الجزائر في النصف الثاني من القرن الماضي وقيم ضريح الشيخ عبد الرحمن الثعالبي. واشتمل الكتاب على مقدمة في علم الأولياء، والمقصد الأول ما حكم زيارتهم، والمقصد الثاني في شروط الزيارة وآدابها. والمقصد الثالث في حكم التوسل بهم، ثم خاتمة في أصول الشيخ أحمد بن يوسف الملياني. وذكر أن دافعه إلى تأليف الكتاب يرجع إلى إنكار البعض زيارة الصالحين. والمؤلف كان قد خدم الشيخ الملياني عندما كان قيما على ضريحه، وقد ألف الكتاب أثناء زيارة لهذا الضريح، سنة 1273 هـ. وبدأه بهذه العبارة الدالة على مقصده، وهي قوله: (أما بعد، فيا لسعادة من تمسك بأولياء الله في كل حال، وتشبث بأذيالهم في الإدبار والإقبال). وللتذكير نقول ان المرحلة التي ألف فيها الكتاب كانت فعلا مرحلة (الانغماس) في عقيدة الولاية في الصالحين، وقد تناولنا ذلك في فصلي التصوف (¬3). ولا ¬

_ (¬1) تونس، 1313. انظر تعريف الخلف 2/ 449، ومعجم أعلام الجزائر، ص 95. (¬2) طع الكتاب في تونس، سنة 1310، وهو في 186 صفحة، منها قرابة 70 صفحة في التقاريظ. مراسلة من علي السحنوني، 14 أكتوبر 1981. (¬3) مراسلة من الشيخ محمد الحسن عليلي، يناير 1996. وجاء في المراسلة أن نسخة من الكتاب في المكتبة الوطنية، بالجزائر، رقم 928، وأن عدد أوراق المخطوط 62، وأن النسخة بخط الشيخ محمود بن الشيخ علي (وقد تناولناه في النساخة، فصل المؤسسات الثقافية) سنة 1278 هـ. وعن حياة الشيخ علي بن الحاج موسى، انظر فصل السلك الديني والقضائي.

في علم الكلام والمنطق

شك أن علي بن الحاج موسى قد استفاد من كتاب (الأنس) لأحمد زروق، في ترجمة أحمد بن يوسف الملياني وأصول الطريقة الزروقية، كما استفاد من كتاب بستان الأزهار للقلعي (¬1). 7 - الإرشاد في تجديد العهود والأوراد: تأليف عبد الله بن محمد علي حشلاف (قاضي الجلفة). ولهذا القاضي عدة مؤلفات تدور حول التصوف، ومنها أيضا (القول الفصل في جواز زيارة الأولياء الكمل) وهو مطبوع (¬2). وقد جاء هذا التأليف في وقت اشتد فيه الخلاف بين أهل الطرق وأنصار الإصلاح، بين دعاة الزيارات والزردات والحضرات عند أضرحة الأولياء، وذبح الذبائح عندهم ونحو ذلك من الممارسات، وبين دعاة الكف عن هذه الأمور على أساس أنها بدع لم تكن في الدين وأنها خرافات وعقائد مضرة بالدين والعبادة، وأنها تخدم الاستعمار والتخلف. وللقاضي حشلاف مؤلفات أخرى ذكرناها في بابها لأنها تتعلق بالمناقب والسيرة النبوية وبالأدب. في علم الكلام والمنطق ألف ونظم عدد من العلماء والمتصوفة أعمالا في علم الكلام أو التوحيد. واشتهر من بينهم في ذلك الأمير عبد القادر ومحمد بن يوسف أطفيش ومحمد بن عبد الرحمن الديسي. وكان عنوان هذا العلم عادة هو العقائد. وقد اشتهرت عقيدة السنوسي المعروفة بأم البراهين، كما أسلفنا، فظلت منتشرة بين المتأخرين، وقد أشبعوها شروحا وحواشي، كما ترجمها دومينيك لوسياني إلى الفرنسية فأصبحت متداولة أيضا بين مزدوجي اللغة وحتى من لا يعرف العربية من الجزائريين. وإلى جانب أم البراهين، كان المرشد المعين على الضروري من علوم ¬

_ (¬1) ديبون وكوبولاني (الطرق الدينية الإسلامية)، الجزائر 1897، ص 458، هامش 2. (¬2) ط. 1344 (الجزائر؟)، 1926. انظر مفتاح (أضواء) مخطوط.

الدين لعبد الواحد بن عاشر وكتاب الإرشاد لإمام الحرمين المعروف بعبد الملك الجويني عمدة الطلبة في علم الكلام (¬1). كما أن آخرين قد ألفوا في العقائد بنظرتهم المعاصرة واختاروا لذلك عناوين جديدة، كما فعل قاضي تلمسان شعيب بن علي الجليلي، والهاشمي بن بكار وعبد القادر المجاوي. ومع ذلك فإن التكرار والتقليد ظلا السمة الغالبة على هذه التآليف والمنظومات. ولم تدخل العقائد حيزا جديدا في الفكر والعلوم الاجتماعية إلا على يد ابن باديس وأنصاره وتلاميذه من العلماء الذين مزجوا بين العلوم الدينية والدنيوية وفسروا العقائد الإسلامية في ضوء العلم الحديث. ومن تلاميذ هذه المدرسة مالك بن نبي الذي تعمق في الفلسفة والدين والعلم. ولكننا الآن سنكتفي باستعراض المؤلفات والمنظومات التي تعرفنا عليها أو سمعنا بها لهذا الجيل من العلماء. 1 - شرح على أم البراهين: تأليف أحمد الطيب بن محمد الصالح العيسوي الزواوي. واسم الشرح (تكملة الفوائد في تحرير العقائد). وواضح أنه تعليق وتفسير لعقيدة السنوسي. وهي التي كانت متداولة بين طلبة العلم. وكان والد المؤلف من تلاميذ محمد بن عبد الرحمن الأزهري، مؤسس الطريقة الرحمانية. وقد تخرج هو من جامع الزيتونة وانتصب للتدريس في زاوية الأزهري (آيت إسماعيل)، وألف بعض الكتب، حسب المترجمين له. وتوفي - محمد الصالح- في آيت إسماعيل ودفن بزاوية الأزهري، سنة 1242 (¬2). وأخذ ولده أحمد الطيب الإجازة عنه. ولا نعرف أن أحمد قد درس ¬

_ (¬1) طبع المرشد المعين عدة طبعات، منها طبعة تونس 1946، وقد كان مقررا على طلبة جامع الزيتونة. وهو كما يقول، في عقيدة الأشعري وفقه الإمام مالك، أما في التصوف فهو يتبع طريقة الجنيد. أما (الإرشاد) فقد ترجمه إلى الفرنسية لوسياني. وطبع سنة 1938 بباريس، إضافة إلى طبعاته العربية. (¬2) تعريف الخلف 2/ 522.

خارج الجزائر. وقد ألف عدة كتب منها ما ذكرنا في التوحيد، وكذلك منظومة في نفس الموضوع سماها الدرة المكنونة: هذا وإنني لما نظمتها ... بدرة مكنونة سميتها ويبدو أن أحمد الطيب كان من النظامين، لأن له منظومات أخرى في مختلف العلوم. وقد عاصر بداية الاحتلال. ولكنه توفي قبل أن يحتل الفرنسيون زواوة التي تقع فيها زاوية الأزهري (¬1). 2 - تعليقات على حاشية عبد القادر بن خدة في علم الكلام: وضعها الأمير عبد القادر. وابن خدة هو جده. وكان الأمير مولعا بتدريس أم البراهين للسنوسي أيضا. وله ميول للفلسفة والمنطق منذ نعومة أظفاره، وكان أثناء المقاومة ورغم ضيق الوقت، يستغل أوقات الفراغ وأداء الفرائض فينتصب للتدريس في علم الكلام. ومن ذلك أنه أنشأ أثناء إقامته بالمدية بعد معاهدة التافنة (1837)، درسا جامعا يحضره الأعيان من العامة ومن الجيش. وختم أثناء ذلك أم البراهين، واحتفل بالمناسبة ترغيبا للناس في معرفة دينهم وإقناعهم أن الحاكم ليس فقط رجل السيف وجمع الضرائب، ولكنه أيضا عالم ومدرس ومتكلم. ذكر محمد بن الأمير في (التحفة) أن يوم ختم أم البراهين كان (يوما مشهودا) حضره العلماء من القطر الجزائري وقدموا له المدائح، ومنهم قدور بن رويلة الذي أنشد في هذه المناسبة قصيدة طويلة: أغيوث السماء سحت بروض ... أم نسيم الصبا زكت بربوع (¬2) ولم نطلع على التعاليق المكتوبة التي وضعها الأمير على حاشية جده المذكور، وربما تكون هامة نظرا لتعلق الأمير نفسه هذا العلم. 3 - بدور الأفهام أو شموس الأحلام على عقائد ابن عاشر الحبر ¬

_ (¬1) توفي سنة 1836 (1251). انظر الأعلام 1/ 138، ومعجم أعلام الجزائر، ص 24، وتعريف الخلف 2/ 522؟. (¬2) محمد بن الأمير (تحفة الزائر) 1/ 191. وكذلك الهاشمي بن بكار (مجموع النسب)، ص 39.

الهمام: تأليف المولود بن محمد الزريبي البسكري. نشره في تونس في حدود 1334 (1913) وكان قد درس بالأزهر ورجع إلى وطنه وأصبح مدرسا متطوعا (حرا) في قرية الحجاج بالأوراس. وقد عرض الكتاب على علماء الجزائر وتونس فأجازوه ولذلك قدمه للطبع. وهو كما يدل العنوان، يشرح نظم عبد الواحد بن عاشر في العقائد، وفي رأي الزريبي أن النظم لم يحظ بشرح جيد، ولذلك قام هو بهذه المهمة. قال في المقدمة: (أما بعد ... لما كان من أجل ما يرخى العنان إليه، ومن أعظم ما تناخ الرحال إليه، علم الكلام الذي رق عرفه وراق، وعم وجوبه سائر الأقطار والآفاق، وكانت عقائد (المرشد المعين) غير مشروحة شرحا يشفي الغليل، ويبسط القاعدة ويقيم الدليل ... نسجت عليه فرائد، وغزلت له فوائد، وبسطت اليد الطولى في الرد على بدع أهل هذا الزمان بأدلة قطعية وحجج عقلية ونقلية، وسميته بدور الأفهام ...). وقد تميز الكتاب بأسلوب سهل وعبارة واضحة غير مسجعة. واغتنم المؤلف الفرصة وعالج فيه موضوع البدع ورد على المبتدعين. ونقل من السنوسي في العقائد والأخضري وإمام الحرمين وغيرهم. وأشاد بشيخه في مصر محمد بخيت المطيعي. وهو الذي كان قد أجاز ابن باديس أيضا. وإجازة العلماء للكتاب واهتمام الطلبة وتدل على تقديرهم لصاحبه الذي قيل انه توفي شابا دون الثلاثين، وهو أمر يحتاج إلى دليل (¬1). وقد ترجمنا له في غير هذا. 4 - شرح عقائد السنوسي الصغرى: ألفه محمد الموسوم (الميسوم). شيخ الشاذلية في زاوية قصر البخاري، وقد قال صاحب تعريف الخلف عن هذا الشرح انه طالعه فوجده (عجبا عجابا). ولا ندري المقصود بهذا التعبير. لا ولعل محمد الموسوم قد مزج في شرحه بين العقائد والتصوف، فأجاد (¬2). ¬

_ (¬1) الزريبي (بدور الأفهام) ط. تونس 1334. انظر ترجمة الزريبي في كتاب (شعراء الجزائر) للهادي السنوسي. وقد كتبنا عن الزريبي دراسة وأرسلناها إلى مجلة مجمع اللغة العربية/ القاهرة. (¬2) تعريف الخلف 2/ 516.

5 - منظومة في التوحيد للحبيب بن المصطفى، نزيل وجدة (المغرب). وقد ذكره الطيب بن المختار في كتابه القول الأعم. ومطلع هذه المنظومة هو: الحمد لله الغني عن العبيد ... ثم صلاته على خير شهيد وبعد فالقصد بذا النظام ... بث العقائد إلى الأنام (¬1) أما حياة الناظم فهي مجهولة لدينا. ولعله كان من المهاجرين إلى المغرب. وقد يكون أصلا من جهة معسكر. 6 - مجموع الفوائد في جمع عقائد الإيمان والإسلام لمن يريد، وضعه محمد الطاهر بن محمد المنصوري، من بني وغليس. ولا ندري حجم التأليف ومنهجه بالضبط لأن المراسلة لم وضح لنا ذلك (¬2). والظاهر أنه رسالة صغيرة. 7 - شرح عقيدة العزابة، تأليف محمد بن يوسف أطفيش، المتوفى 1913. والعقيدة أصلا لابن جميع. كما ألف أطفيش حاشية على الموجز الذي وضعه أبو عمار عبد الكافي في التوحيد أيضا. وبدأ أطفيش شرحا لمعالم الدين لعبد العزيز الثميني ولكنه توفي قبل الانتهاء منه. وقيل إن (معالم الدين) يعتبر أعظم كتاب في علم الكلام وضعه الثميني. كما قيل إن ثقافة أطفيش الأدبية واللغوية والدينية جعلته لا يكتفي بالشرح المجرد، وإنما يغوص في المعاني وينتقد بعض الأفكار ويضيف إلى الأثر الذي يشرحه إضافات هامة من محفوظاته وأسلوب وتأملاته (¬3). 8 - شرح الكلمات الشافية في شرح العقيدة الشعبية الجليلة الكافية: وضعه محمد بن عبد الرحمن الديسي على عقيدة (منظومة) قاضي تلمسان ¬

_ (¬1) ابن بكار (مجموع النسب)، ص 139. (¬2) علي أمقران السحنوني، 8 غشت، 1980. ضمن مجموع في مكتبة الشيخ ابن دريوة (بجاية). (¬3) دبوز (نهضة) 1/ 315.

شعيب بن علي الجليلي التي سماها (الرجز الكفيل بذكر عقائد أهل الدليل). وقد نوه أحمد سكيرج المغربي بالعقيدة وبشرح الديسي عليها. وقرظها قدور بن محمد بن سليمان وغيره، وبذل الديسي جهدا كبيرا- في الشرح، وتبادل الإجازات مع القاضي شعيب نفسه، وراج الشرح بعد طبعه، وربما لم يحصل لعمل آخر شهرة مماثلة في نفس الموضوع سوى تأليف المجاوي الذي سنذكره، أو عقيدة السنوسي نفسها (¬1). وقد تناولنا حياة الرجلين الديسي والجليلي، في غير هذا. 9 - الموجز المفيد في شرح درة عقد الجيد، وهو شرح في العقائد للديسي سابق الذكر. (والدرة) هي منظومة وضعها الديسي في التوحيد ثم وضع عليها شرحا سماه الموجز المفيد. ورغم إمكانات ابن عبد الرحمن الديسي اللغوية والفقهية فإن تأليفه يبدو أنه كان موجها لتلاميذ الزوايا. ولا نعرف أنه طبع. ومهما كان الأمر فإن تعدد شروحه في التوحيد يدل على تعلقه بهذا العلم الذي كادت تغطي عليه عندئذ علوم أخرى وتيارات إلحادية أو متحررة ناشئة مع العصر الجديد (¬2). 10 - القواعد الكلامية: تأليف عبد القادر المجاوي. ولعله آخر ما صدر له قبل وفاته، على ما نعلم، فقد طبع سنة 1911، وكانت وفاته بعد ذلك بسنتين، وكان عند تأليفه وطبعه يشغل منصبين رسميين: إمامة جامع سيدي رمضان والتدريس في المدرسة الثعالبية حيث كان يدرس لطلبة القسم العالي. ولعل هذا الانتاج كان موجها إلى الطلاب. ولذلك جاء في المقدمة: (وبعد، فقد مست الحاجة إلى تأليف رسالة في علم التوحيد تكون سهلة المأخذ، قليلة الكلفة، يستعذب موردها القاصر والكليل، ويقتبس من مشكاتها المتحير في تصحيح عقيدته بالدليل ... كي يستغنى بها التلميذ عن ¬

_ (¬1) مخطوط الخزانة العامة - الرباط، ك 48. ومما يذكر أن القاضي شعيب الجليلي أرسل مع بعض تلاميذه حوالي 75 نسخة من شرح الديسي، إلى جريدة (الحاضرة)، بتونس (هدية مني للمتعلمين مثلي من أبناء القطر). (¬2) تعريف الخلف 2/ 407، 417.

كبار الدواوين، ويتخرج من ربقة التقليد إلى ساحة اليقين ... سميتها (القواعد الكلامية) ونسقتها على مقدمة وعشرة فصول وخاتمة). ومن الملاحظ أن المجاوي قال فيها إنه جعلها ملائمة لروح العصر، ومساعدة لملكات التلاميذ في هذا الزمان. كل ذلك يؤكد ما ذهبنا إليه من أنه قد يكون ألفها لتكون عونا لتلاميذه بأسلوب دقيق وواضح. في المقدمة عرف علم الكلام وموضوعه ومن وضعه وفائدته وحكم المشرع فيه، ثم اسم هذا العلم ومسائله. وذكر أيضا بعض المباحث مثل سر التوحيد، والإيمان والإسلام، والنطق بالشهادتين، وتاريخ علم الكلام، ومرتبة العقل في إدراك الحقائق. وأما الفصول فجعل أولها في الحكم العقلي وأقسامه، والثاني في بيان التوحيد بالاستدلال. وداخل كل فصل مجموعة من المباحث والمطالب الفرعية. وقد جعل الخاتمة مطالب، وداخل كل مطلب مسائل كالخلاف بين الأشاعرة والماتريدية. ومن هذه المطالب أيضا أقاويل الفلاسفة المخالفة للشرع، وكذلك عقيدة أهل السنة، ثم المعجزات. ومن الذين قرظوا هذا الكتاب نثرا الشيخ محمود كحول. وهو أحد تلاميذ المجاوي عندما كان في قسنطينة (¬1). 11 - تحفة الأخيار في الجبر والاختيار: تأليف عبد القادر المجاوي أيضا. ولا ندري إن كان قد طبع أم لا. 12 - منظومة في التوحيد، للمجاوي أيضا: قيل إن تلميذه المولود بن الموهوب قام بوضع شرح عليها. ولا ندري هل هذه المنظومة قد طبعت أم لا. وما إذا كانت هي أساس كتابه السابق (القواعد الكلامية) أو هي غيره. كما أن شرح ابن الموهوب عليها غير معروف لدينا. وفي أي شيء يختلف عن القواعد الكلامية والكلمات الشافية للديسي (¬2). وكان ابن الموهوب من ¬

_ (¬1) المجاوي (القواعد الكلامية)، ط. الجزائر، 1911، 157 صفحة. وكحول المعروف ابن دالي هو الذي تولى الفتوى خلال الثلاثينات، وكان ضحية اغتيال سنة 1936. (¬2) دبوز (نهضة) 1/ 134، ومعجم أعلام الجزائر، ص 197.

أعيان علماء وقته في الإصلاح والأدب والإفتاء. وقد تعرضنا لحياته في مكانها. 13 - منظومة العوامر في العقائد، وهي رجز قصير نظم به إبراهيم بن محمد الساسي العوامر (بن عامر) عقيدة الست والستين (كذا) التي وضعها محمد العربي بن مصباح بن سيدي سالم الأعرج، شيخ الزاوية السالمية (الرحمانية) في وادي سوف. وصاحب العقيدة هو الذي طلب من العوامر نظمها وقد بدأ الرجز بقوله في أبيات متوسطة: يجب لله علل الوجود ... والقدم والبقاء والتوحيد وخلقه للخلق والقيام ... بالنفس والبصر والكلام (¬1). 14 - الكلام في علم الكلام، لأبي يعلى الزواوي. وقد أشار إليه بنفسه في مجموع مؤلفاته. ولا ندري هل قدمه للطبع أم لا. وقد كان الزواوي من علماء الدين والدنيا، ومن أهل الفتوى والرأي. وله إسهامات تدل على مدى تعمقه في علم الكلام. وقد ترجمنا حياته في غير هذا. ولو اطلعنا على هذا الكتاب لربما اكتشفنا منه جوانب أخرى من حياته. 15 - مفتاح الجنة في شرح عقيدة أهل السنة: تأليف محمد بن أحمد الهاشمي التلمساني أصلا الدمشقي هجرة. وقد ألفه وهو في دمشق بعد أن امتد به العمر، وشارك في العلم والتصوف على الطريقة الشاذلية - الدرقاوية. بدأ الهاشمي تأليفه بقوله: (أما بعد ... هذا شرح لطيف لرسالتي في التوحيد الموسومة بعقيدة أهل السنة، يصحح مبانيها ويوضح معانيها ... ووضعته للعوام والمبتدئين في علم التوحيد. وسميته مفتاح الجنة ...) وواضح من هذا أن (المفتاح) هو شرح وبيان لما غمض في (العقيدة) وكلاهما له. وقد أضاف الهاشمي خاتمة إلى كتابه جعل عنوانها (الأسرار البادية في الأسباب العادية). وهكذا فالكتاب الذي نصفه يضم في الواقع ثلاثة أقسام، الأول ¬

_ (¬1) المكتبة الوطنية - تونس، ضمن مجموع، رقم 2744. وقد انتهى من الرجز في 1322.

الشرح (المفتاح) والثاني (العقيدة) التي هي متن ذلك الشرح، ثم (الأسرار). وفي النسخة التي تصفحناها لا وجود للخاتمة التي ذكرها. وفي آخر الكتاب ملاحظات على أن المؤلف من تلاميذ محمد بن يلبس التلمساني، وكونه يستمد العطف من بعض أعيان دمشق، منهم بدرالدين الحسني. (بحر الشريعة وشمس الحقيقة). وقد وضع الهاشمي في آخر كل قسم نظما ليسهل حفظها (أي الرسالة) بعبارات واضحة وأبحاث باهرة) وقد جاء في بعض كتب التراجم أن المؤلف توفي بدمشق سنة 1959 (¬1). 16 - الحدائق الندية في الدروس التوحيدية، لمحمد الهاشمي المذكور قبل هذا. ولعل هذا الكتاب غير مطبوع (¬2). ويظهر من مجموع أعماله أنه كان مهتما بعلم الكلام، بالإضافة إلى اهتمامه بالتصوف. وتأليفه في التوحيد موجه، مثل غيره، إلى العامة والطلبة المبتدئين في أغلب الأحيان، ولم يقصد إلى وضع نظريات أو مناقشة مسائل تجريدية. ... أما في المنطق فالتآليف قليلة بل نادرة، والغريب أن مادة المنطق مع ذلك، كانت تدرس في بعض الزوايا وفي بعض المدارس الرسمية. كما أن بعض المؤلفات قد ترجمت إلى الفرنسية مثل (السلم المرونق) كما سبقت الإشارة. وإليك ما وجدناه في هذا المجال: 1 - إتقان الصنع في شرح رسالة الوضع، ألفه محمد السعيد بن محيي الدين (وهو أخو الأمير عبد القادر) وهو كتاب في المنطق والحكمة. يبدو أنه شرح به الرسالة العضدية (عضد الدين الإيجي) وعلم الوضع في الاصطلاح: هيئة عارضة للشيء بسبب نسبتين، نسبة أجزاء بعضها إلى بعض، ونسبة ¬

_ (¬1) يبدو أن الكتاب قد طبع بعد وفاة مؤلفه. ط. مطبعة الترقي بدمشق، 1960 (1379) 263 صفحة. أما عقيدة أهل السنة فقد نشرها في دمشق، 1929. وعن بدر الدين الحسني انظر فصل المشارق والمغارب. (¬2) معجم أعلام الجزائر، ص 44.

دراسات حول الإسلام والإصلاح

إجزائه إلى الأمور الخارجية عنه. وهو يشمل المنطق والحكمة والتصوف مثل المقولات العشر (¬1). 2 - ميزان الحق في المنطق: تأليف سليم السمعوني، وهو ابن أخ الشيخ طاهر الجزائري. وكان سليم هذا شاعرا قوميا وجنديا مناضلا ومثقفا عصريا، انضم للقضية العربية، وكان ضحية طغيان جمال باشا حاكم دمشق خلال الحرب الأولى. وقد طبع كتابه على إثر الحرب (¬2). 3 - شرح الجمل المجرادية: وضعه عبد القادر المجاوي، وقد سبق إلى شرحه عدد من العلماء، منهم عبد الكريم الفكون. ولكن المجاوي كان يتمتع بقدرة لم تكن لمعاصريه في فهم كتاب (الجمل) وتقديمه إلى طلابه على أكمل وجه. كان كتابا متداولا إذن، ولكنه غير متوفر للجميع، كما أن أسلوبه وأسلوب شراحه القدماء يجعل الرجوع إليه والاستفادة منه أمرا صعبا. وقد عرفنا أن المجاوي المتمرس على التدريس طول حياته كان أولى بوضع شرح على هذا الكتاب وإثراء المكتبة به. 4 - رسالة في المنطق: تأليف محمد بن أبي شنب. لم تنشر إلا سنة 1928 قيل وفاته بسنة واحدة. وكان ابن أبي شنب من أعيان العلماء في أول هذا القرن، ألف وحقق مجموعة من المؤلفات، فلا غرابة أن يكون عمله في المنطق من آخر ما صدر له. دراسات حول الإسلام والإصلاح أدت صلات المسلمين بالعالم الأوروبي، سواء عن طريق الاستعمار أو التأثير التجاري ونحوه، إلى ظهور دراسات تناولت أوضاع المسلمين من وجهة نظر جديدة إلى حد كبير. كما أن النهضة الإسلامية والعربية المتمثلة ¬

_ (¬1) إفادة من الشيخ محمد الطاهر التليلي، مراسلة في ديسمبر 1994. و (اتقان الصنع) مطبوع في بيروت، دون تاريخ. (¬2) ط. دمشق 1920. انظر عن سليم السمعوني فصل المشارق والمغارب.

في حركة الجامعة الإسلامية من جهة والقومية العربية (العروبة) من جهة أخرى، قد أدت بدورها إلى بلورة الفكر العربي الإسلامي وإعادة النظر في التراث والبحث عن بدائل. وهكذا بدأ الكتاب والقادة المتنورون ينشرون أفكارهم على المتعلمين من قومهم. وفي ضوء ذلك لا بد من التنويه بكتاب (أقوم المسالك) لخير الدين التونسي الذي ظهر في حدود 1867 وكان له أثر بارز في الجزائر، سيما بعد أن نشرته جريدة (المبشر) مسلسلا (¬1). وقد نوه به الأمير عبد القادر وحسن بن بريهمات (¬2)، وألف عبد القادر المجاوي رسالة (إرشاد المتعلمين) (¬3) بعد ذلك بعشر سنوات. ومن نتيجة هذا الزخم ظهرت أبحاث وكتب ورسائل عالجت موضوع الإسلام وقابليته للتقدم والنهضة ومسايرة العصر، وموضوع الإصلاح الاجتماعي والديني كالدعوة إلى تجديد دور الزوايا ومناهج التعليم الإسلامية، وتدريس اللغات، وتقليد الغربيين، ونبذ الخرافات والبدع الضارة، ونحو ذلك. كما ظهر مجتهدون استمدوا حججهم العقلية من التراث نفسه. وانطلقوا في سبيل النهضة. ونذكر من هؤلاء عبد الحميد بن باديس ومالك بن نبي وعبد الرحمن بن الحفاف. وقد كان على هؤلاء أن يوائموا بين تعاليم الدين وحاجات العمر، وأن يواجهوا مشكل التخلف بمختلف مظاهره. وإليك الآن بعض العناوين التي تمكنا من الحصول عليها. وإذا تيسر لنا فإننا سنذكر أيضا بعض المعلومات عنها: 1 - حكمة العارف بوجع ينفع: لحمدان بن عثمان خوجة. وهي رسالة ما تزال مخطوطة حسب علمنا، ألفها في اسطانبول، وتناول فيها مسألة ¬

_ (¬1) ابتداء من 1868. (¬2) انظر دراستنا، (صدى دعوة خير الدين باشا التونسي في الجزائر) في الجزء الرابع من (أبحاث وآراء) دار الغرب الإسلامي، ط. يروت 1996. (¬3) ظهر سنة 1877 في مصر. انظر لاحقا.

(ليس في الإمكان أبدع مما كان) المنسوبة لأبي حامد الغزالي. ويذهب خوجة إلى تأييد هذه المقولة. وقد ناقش ذلك مناقشة مستفيضة. وحمدان خوجة كان من أعيان مدينة الجزائر عند الاحتلال، ومن التجار والمثقفين أيضا. ومن أسرة متنفذة دينا ودنيا. وحاول جهده في الحصول على إجلاء الفرنسيين عن الجزائر، وحين عجز هاجر إلى اسطانبول حيث توفي حوالي 1845. وله عدة مؤلفات منها (المرآة) الذي ضاع أصله العربي وبقيت طبعته الفرنسية، وكتاب (اتحاف المنصفين) الذي طبعه بالتركية باسم (سنى الاتحاف) وظل أصله العربي مخطوطا إلى أن نشره محمد بن عبد الكريم (¬1). 2 - ذكرى العاقل وتنبيه الغافل: ألفه الأمير عبد القادر عندما كان في بروسة، أوائل الخمسينات من القرن الماضي. وقد تناول فيه قضايا العلم والفلسفة والدين والحكمة والكتابة. وكان كتابا أقرب إلى الفلسفة الإسلامية منه إلى الدين والشريعة. وقد ترجم الكتاب إلى الفرنسية أحد المستشرقين الفرنسيين - وهو غوستاف دوقا - سنة 1858. ويبدو أنه كان لنشاط هؤلاء المستشرقين ورجال الكنيسة وربما رجال الماسونية، أثر في تحرير هذا الكتاب. فبعد أن أطلق نابليون الثالث سراح الأمير من السجن، تلألأ اسم الأمير في عالم السياسة والفكر، وأثبت علماء الفرنسيين هذا الاسم (في ديوان العلماء من كل أمة وملة من أهل القرون الماضية)، كما يقول ابنه محمد في تحفة الزائر. وقد كتبوا إليه بذلك. وكان رد الأمير على هذا التفضل أن كتب لهم رسالة ذكرى العاقل، وقسمها إلى مقدمة وثلاثة أبواب، وفي داخل الأبواب فصول. وقد جعل المقدمة في الحث على النظر والتأمل، ونبذ التقليد وذمه. وهذا من آثار التعمق في فهم الإسلام من جهة وربما من أثر التحدي الأروبي من جهة ¬

_ (¬1) عندنا شريط من كتاب (حكمة العارف) عن نسخة أسطانبول. أما المرآة فقد ترجم عن الفرنسية إلى العربية. وأما اتحاف المنصفين، فقد نشر بالجزائر سنة 1968. انظر دراسة ان عبد الكريم عن (حمدان خوجة)، دار الثقافة، بيروت 1972، ص 129.

أخرى. وكان الباب الأول في فضل العلم والعلماء، وتعريف العقل وفضل المدركات العقلية على المدركات الحسية. وأنهى الباب بخاتمة في بيان العلوم المحمودة والعلوم المذمومة. وخصص الباب الثاني لفضل العلم الشرعي. ومن نقاطه إثبات النبوة ومعرفة النبي، وفي المكذبين بالأنبياء والمرسلين. أما الباب الأخير فقد تناول فيه الكتابة وتعددها عند الأمم الأخرى وفي واضعي الكتابة، وفي الحروف العربية، ومن نقاطه حاجة الناس إلى التصنيف والتدوين (¬1). 3 - ذكرى ذوي الفضل في مطابقة أركان الإسلام للعقل: ألفه محمد بن عبد القادر (ابن الأمير). وقد سار فيه على منوال كتاب والده السابق. واطلعنا على نسخة منه مطبوعة (¬2). وعاش محمد النصف الثاني من القرن الماضي، وهو فترة متوترة بين حضارة الشرق والغرب التي أشرنا إليها، وتفاعل معها في بعض كتبه الأخرى، كما سنرى، وكان يسير على هدى أبيه في مجموع آرائه. وهذا الكتاب يقع في حوالي مائة صفحة (99 صفحة). وقد رتبه على مقدمة وسبعة عقود (وليس فصولا) وتتمة وخاتمة. وقد جعل المقدمة في أسرار وضع الشريعة في العالم. وافتتحها بنص طويل من محيي الدين بن عربي الذي تأثر به الأمير عبد القادر، أخذه من كتاب الفتوحات المكية، وهو نص يتعلق بأمل الأديان الذي قال ابن عربي انه واحد، ولكن الشرائع مختلفة، كما نقل محمد عن والده في (ذكرى العاقل) من كون أصل الدين واحدا والتفاصيل مختلفة، وكون الدين واحدا والأنبياء متعددين مثل مجموعة من الرجال أبوهم واحد وأمهاتهم شتى. وإن تكذيب بعضهم أو جميعهم أو تصديق البعض فقط قصور. ورد محمد على المستشرق (هانوتو) لسوء فهمه مقالة الأمير عبد القادر المترجمة، وهي أن أصحاب الأديان الثلاثة إخوة ¬

_ (¬1) تحفة الزائر 2/ 63، وطه الحاجري (جوانب)، ص 48. (¬2) ط. مصر 1327.

يشبهون ثلاثة إخوة من ثلاث أمهات. وأرجع محمد مقالة أبيه تلك إلى سوء ترجمة غوستاف دوقا لنص والده، لأن الأمير إنما أقام مقالته على قول الرسول:» الأنبياء أولاد علات: أبوهم واحد وأمهاتهم شتى «. وتتبع محمد بعد ذلك موجبات إرسال الرسل وظهور النبؤات وأسرارها، متخذا حججه من القرآن، وأشار إلى ما جاء في التوراة والإنجيل عن الأنبياء وأولاد نوح عليه السلام: سام وحام ويافث. وقد استغرقت المقدمة عدة صفحات (2 - 16). أما العقود (أو الفصول) فكانت سبعة، وهي تدور حول عدة موضوعات دينية وأخلاقية واجتماعية. أولها: في أسرار بعث الرسل من أهل القرى المتوسطة في الأرض، وفي جنسهم ولسانهم، ثم في سر الشهادة بأن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله. وتأتي بعد ذلك عقود في الطهارة والصلاة والزكاة والصوم والحج. وتناول في تتمة الكتاب ما أجمع عليه الأيمة الأربعة في الأركان الإسلامية، وما اتفقوا عليه من العبادات ولكنه خارج عن الأركان كصلاة العيدين وتكبيرة الإحرام. أما الخاتمة فهي في مكارم الأخلاق، ومنها وصايا الرسول (صلى الله عليه وسلم) للإمام علي وكذلك لأبي هريرة. ورغم أن محمد قد أكثر من النقول فإنه حاول أن يتناول الموضوع بطريقة عقلية، وأن يبرهن بطريقة عقلية كذلك. وقد استند في ذلك أيضا. على الفطرة. والخلاصة أن (ذكرى ذوي الفضل) ينطبق عليه ما حاول المؤلف إثباته وهو (مطابقة أركان الإسلام للعقل). وكان نفي ذلك أو إثباته موضوعا شائعا عندئذ طرحه المستشرقون وأجبروا المسلمين على الخوض فيه من جديد منذ عصر المعتزلة (¬1). 4 - أنوار اليقين بل السيف المتين (؟) في قطع ألسنة من نقص الأيمة المجتهدين. لقدور بن محمد بن سليمان. وكان هذا من أعيان الصوفية في آخر القرن الماضي. وألف عدة رسائل في هذا الميدان. وهاجر إلى الحجاز. ¬

_ (¬1) انتهى منه سنة 1325، وطبعه في القاهرة، سنة 1327 في مطبعة السعادة.

ولا نعرف ما إذا كان (الأيمة المجتهدون) هنا هم رجال التصوف أو رجال العلم الظاهري (¬1). وقد وضعنا عنوان هذا الكتاب هنا على أساس أن المؤلف يعني أيمة العلم وربما يكون من كتب التصوف. 5 - حول تدوين علوم الإسلام: مداخلة قدمها القاضي شعيب بن علي الجليلي سنة 1307 (1889) أثناء مؤتمر المستشرقين الذي انعقد بالسويد (استكهولم). وقد وصفه من رآه بأنه تأليف جيد أملاه من حفظه في المؤتمر المذكور. ولم نستطع أن نتوصل إلى نسخة من هذا الأثر (¬2). 6 - إقامة البراهين العظام على نفي التعصب الديني عن الإسلام: تأليف محمد بن مصطفى الكمال (خوجة) سنة 1901. وكان هذا الكتاب، كما يدل عنوانه، من وحي الوقت. فقد كثر التهجم على الإسلام والمسلمين، واتهام الإسلام بكونه السبب في تخلف المسلمين وتعصبهم، ولولاه لانساقوا في تيار الحضارة والتقدم، في نظر هؤلاء الخصوم، ولم يكن الكمال هو أول من عالج هذا الموضوع، وإنما كان من الذين شاركوا فيه بحماس وحجة. وكان الكمال متداخلا مع الفرنسيين، يصحح في جريدة المبشر ويدرس في المساجد الرسمية، وكان شاعرا، وكذلك كان تلميذا وفيا للشيخ محمد عبده وأفكاره الإصلاحية. وفي هذا النطاق ألف (إقامة البراهين). وقد ترجم بعضهم الكتاب في الحال إلى الفرنسية بما مفهومه (التسامح الديني في الإسلام) ونشر مسلسلا في مجلة فرنسية عن الإسلام (¬3)، وتلقت القنصليات الفرنسية في العالم الإسلامي نسخا، من الكتاب لتوزيعها من أجل الدعاية. وراجعت الكتاب بعض الصحف والمجلات التي تهتم بالموضوع. وذكر أجرون أن الكمال اعتبر الشيخ عبده أستاذه (وعالم علماء الدنيا) وأنه سار على منواله في الدعوة ¬

_ (¬1) تعريف الخلف 2/ 330. (¬2) مخطوطة ك 48 في الخزانة العامة - الرباط. (¬3) هي مجلة الإسلام R. de L'Islam 1902 .

إلى التسامح فيما لا يتعارض مع الدين. وملأ الكتاب بالشواهد على كون الإسلام ليس دين تعصب. وقد اعتبر الكمال، مثل الشيخ عبده، الجهاد الحقيقي هو الذي يكون ضد الجهل والفساد، وذهب أجرون أيضا إلى أن الكمال دعا مثل شيخه إلى نوع من المساواة بين الجنسين. وكان ذلك هو الموضوع المفضل عندئذ بين العصريين الذين يحتفلون بالروح الليبرالية للقرآن (¬1). وقد توفي محمد الكمال في الخمسين من عمره، وكان غزير العلم متفتح العقل. وقد نشر أعمالا أخرى في هذا المجال سنعرض إليها. ومن ذلك رسالة السيوطي (الرد على من أخلد إلى الأرض وجهل أن الاجتهاد في كل عصر فرض). ولعلها طبعت بعد وفاته (¬2). وموضوعها يتماشى، كما يدل العنوان، مع قناعته الفكرية. 7 - أوضح الدلائل في إصلاح الزوايا ببلاد القبائل: تأليف محمد السعيد بن زكرى. وهذا التأليف يدخل في نقد الأوضاع الاجتماعية والتعليمية عندئذ. فقد كانت بلاد الزواوة كثيرة الزوايا، وكانت تقاوم التدخل الفرنسي في شؤونها، وترتب عن ذلك نوع من التقوقع والجمود في برامجها وعقليات شيوخها. وكان ابن زكري من تلاميذ هذه الزوايا حيث قضى سنوات طويلة يتعلم القرآن فقط. وقد انتقد طريقة التعليم الإسلامي التي سادت إلى ذلك الحين ورآها غير مجدية، ودعا إلى التجديد في برامج الزوايا. وقد ذكر بالخصوص زاوية سيدي منصور، وتحدث عن شيوخها، ومنهم محمد الطاهر الجنادي والشيخ البوجليلي. وقد رتب الكتاب على مقدمة وأربعة فصول وخاتمة، وفحوى الرسالة كلها هو التقريب بين الزواويين والفرنسيين بعد أن حدث بينهم ما حدث أثناء ثورة 1871، مما هو من وساوس الشيطان، حسب تعبيره. والشيخ بن ذكرى كان داعية وفاق بين (الفريقين) وقد وضحهما بقوله (وسكان الوطن القبائلي) ¬

_ (¬1) أجرون (الجزائريون المسلمون) 2/ 915 وكذلك هامش 1، 2. (¬2) يذكر دبوز (نهضة) 1/ 128 أنها قد طبعت، ولكن دون ذكر السنة.

ورجال الجمهورية الفرنسية. وكان سيسمي رسالته (إرشاد الفريقين إلى ما به إصلاح ذات البين). ويكاد الإنسان يرى أن الشيخ ابن زكري كان موعزا له بكتابة كتابه في وقت كان فيه الفرنسيون يخشون من حدوث ثورة أخرى إذا قامت حرب أوروبية. وقد جاء بالآية التي تقول: {عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة}. وقال إن الجزائر قد تداولت عليها الدول، وأحدثها هي الدولة الفرنسية، وإذن فلا فائدة من الثورة. ولعل أهم الفصول هو الثالث الذي تحدث فيه عن عمارة الزوايا في نظره (¬1). 8 - روح وفلسفة الشريعة الإسلامية: ألفه أبو بكر عبد السلام بن شعيب، وكان كوالده قاضيا ومدرسا بتلمسان. كان من هذه الفئة التي تأثرت بالثقافة الفرنسية والمحافظة مع ذلك على روابطها مع التراث العربي الإسلامي. وقد شارك أبو بكر في عدة مؤتمرات، وألقى عدة بحوث وكتب بعض المقالات حول الموضوع أعلاه، ومنه تدوين الفقه الإسلامي ومسألة العرف بتلمسان. ولكن طموحه، فيما يبدو، كان أكثر من إمكاناته الفكرية. فرغم جهوده لم يؤلف عملي ذا قيمة. ولكن أثره يرجع إلى سمعة والده، وسمعة شيخه وزميله المستشرق ألفريد بيل، وازدواجية لغته وثقافته في فترة ظهور ما أطلق عليه اسم النخبة. ولذلك نميل إلى تعليق الان كريستلو عندما قال عن رسالة (روح وفلسفة الشريعة) إنها تذكر الإنسان بعنوان كتاب مونتسكيو (روح القوانين)، ولكن شتان بين المؤلفين (¬2). 9 - علاقة الدين بالفلسفة، بحث لعبد الحليم بن سماية، قدمه سنة 1905 إلى مؤتمر المستشرقين 14 بالجزائر. وكان عبد الحليم معروفا، في الساحة الفكرية منذ آخر القرن الماضي، ربما بشهرة والده علي بن سماية، وقد كان فنانا ومدرسا ومصححا في المبشر. كما أنه اكتسب شهرة بنزول الشيخ عبده في داره سنة 1903 مدة الزيارة التي دامت عشرة أيام. ويفهم من ¬

_ (¬1) طبع أوضح الدلائل بالجزائر، 1903. (¬2) ظهرت رسالة أبي بكر، في تلمسان سنة 1904 بالفرنسية. انظر كريستلو (المحاكم الإسلامية)، ص 205.

تعاليق المعاصرين أن عبد الحليم كان له مخطوط تحت العنوان أعلاه، ورأى أن يقدم منه فصلا في المؤتمر، ثم يكون ذلك فرصة لطبع الكتاب على نفقة الحكومة التي كانت تشجع المطبوعات التي تخدم غرضها، ولكن خاب ظن عبد الحليم فقد قيل إن الحكومة لم تكن راضية عما جاء في الكتاب من أفكار (¬1). ومهما كان الأمر، فإن الكتاب بقي في المهملات، حسب علمنا. وحتى الفصل الذي قرأه منه لم ينشر أيضا. ولولا تلخيص نقاطه من قبل ابن أبي شنب لما عرفنا محتواه. قدم ابن أبي شنب موضوعات مؤتمر المستشرقين بملخصات أساسية، ومنها بحث زميله ابن سماية. وبناء على ابن أبي شنب ان محتوى الكتاب هو: العلم نوعان علم الأبدان وعلم الروح (العقل Esprit) وما يميز الإنسان عن الحيوان، وثبات الحق رغم من يريد طمسه، والتجريدي تحكمه نفس قواعد الثابت، وللفنون علاقة متينة بالعقيدة، وأهمية التوكل على الله، والحكمة (الفلسفة؟) وتطبيقها على العقائد، والفلسفة ترهن على وجود الخالق. ثم الفرق بين العقل والشعور وعدم دقة الأخير، ووسائل معرفة المجرد، وتاريخ الأنبياء يؤكده التواتر، وتعدد الزوجات، والحجاب عند المرأة المسلمة، وعن الطلاق، وعن الرق، وعن الميراث. وأعلن ابن سماية للمؤتمرين أنه لا غرض له من تأليف الكتاب سوى البحث عما يسعد الإنسان، ومعرفة أصله وملامحه. وفي مكان آخر ذكر ابن أبي شنب أن ابن سماية قرأ بحثه عن الإسلام كحقيقة مجردة لا تختص بشعب من الشعوب، وذكر ابن سماية خلال ذلك حقيقة المسلم في نصوص أوردها من القرآن والحديث، ومن ملامح الإنسان المسلم عنده: الصدق والإخلاص والمروءة والتواضع والعدل واحترام الجار. وختم ان سماية بحثه بقوله إن ¬

_ (¬1) روى ذلك دبوز عن عمر راسم في الرسالة التي تركها مخطوطة بعنوان (تراجم علماء الجزائر). انظر دبوز (نهضة) 1/ 106 - 127.

الإسلام يمكن تلخيصه في الثلاثية المعروفة عندئذ: الحرية والمساواة والأخوة (¬1). ومن سوء الحظ أن هذا الكتاب لم يطبع في عهد جونار، ولا نعرف أنه طبع بعد ذلك، رغم أن مؤلفه عاش طويلا بعد تقديمه وشارك في الحياة السياسية والثقافية بجهود معتبرة (¬2). 10 - مستقبل الإسلام: لمحمد بن رحال. ليس هذا كتابا ولكنه مشروع كتاب، إنه بحث في حالة المسلمين والإسلام أمام هجمة الغرب والمسيحية. ألقى ابن رحال هذا البحث في مؤتمر المستشرقين في باريس، سنة 1897. ثم نشره في مجلة متخصصة في العلاقات الدبلوماسية (¬3) وصف ابن رحال حالة النهضة الإسلامية أمام مدفع الحضارة الغربية، كما قال. وأخبر سامعيه وقراءه أن جهل المسلمين جعلهم يردون بقوة وامتعاض ورفض لكل ما جاء من الغرب ولو كان في صالحهم. ودعا أوروبا إلى أن تتدارك الوضع. وتنبأ بأن المسلمين سينهضون لا محالة سواء برضى أوروبا أو عدم رضاها. إن بحث ابن رحال يسير في تيار حركة الجامعة الإسلامية عندئذ. ومن الصدف أن إلقاءه كان في سنة وفاة جمال الدين الافغاني. وكانت دعوة الشيخ محمد عبده قد امتدت إلى تونس والجزائر، وكذلك امتدت آثار السلطان عبد الحميد الثاني في المنطقة، وتجند علماء الفرنسيين لدراسة هذه الظاهرة الإسلامية. لقد تعرضنا إلى حياة محمد بن رحال في مناسبة أخرى. والواقع أنه كان هنا شديد اللهجة وصريحا أمام الأوروبيين. كان يعرف المناورات منذ ¬

_ (¬1) ابن أبي شنب (تقديم أعمال المؤتمر باللغات الإسلامية) في المجلة الافريقية، 1905، ص 323 - 324، 327. (¬2) من ذلك دوره في رفض التجنيد الإجباري، سنة 1911 - 1912، انظر ترجمتنا له. (¬3) مجلة المسائل الدبلوماسية والاستعمارية Q.D.C عدد 12، 1901. انظر عن بحث ابن رحال أيضا فصل (مذاهب وتيارات).

كان والده قاضيا للأمير عبد القادر ثم آغا في نواحي ندرومة. وقد تعلم محمد في المدارس الفرنسية ولكنه لم ينفصل عن المدرسة العربية والطرق الصوفية فظل وفيا لتراث العائلة والإسلام. كان يكتب ويحاضر بالعربية والفرنسية، ومطلعا على أوضاع المسلمين ماضيا وحاضرا، بخلاف الاندماجيين المعاصرين له. ومن أوائل ما نشر محمد ترجمة لموضوع عن السودان الغربي في القرن السادس عشر الميلادي نقلا عن كتاب (نزهة الحادي) للأفراني (¬1). وتابع ابن رحال حالة التعليم في البلاد العربية، وطالب منذ 1887 بنشر اللغة العربية في الجزائر. ودافع عن حقوق الجزائريين أمام لجنة جول فيري سنة 1892. وقد ظل على مواقفه المتحدية إلى العشرينات من هذا القرن. ولذلك قلنا إن بحثه وإن لم يكن كتابا فهو مشروع يشبه ما عرفناه عن كتاب ابن سماية. 11 - الدعاية إلى سبيل المؤمنين: تأليف إبراهيم أطفيش. وهو ابن أخ محمد بن يوسف أطفيش الشهير. هاجر إبراهيم إلى تونس تم مصر، وشارك في الحياة السياسية والدينية والفكرية حيثما حل. وأسس الصحافة. وكان صديقا للزعيم الليبي سليمان الباروني. وعاصر أحداثا كبيرة مرت بالعالمين العربي والإسلامي، وشارك في بعضها مثل المؤتمر الإسلامي بالقدس الشريف. وفي سنة 1923 (1342) نشر كتابه (الدعاية) في مصر حيث كان نزيلا. وهو كتاب في قضايا الوقت التي يتعرض لها العالم الإسلامي، إضافة إلى فوائد العلوم الآتية: التاريخ والجغرافية والفلك والإنشاء (الأدب) والصحافة والصحة، واللغات الأجنبية، وترجم فيه لعلماء أمثال الثميني وأطفيش، وابن مسكويه. وعالج فيه موضوع التقليد والتجديد. وقد أهدي كتابه إلى روح عمه المذكور، معتبرا إياه من المجتهدين. وحمل إبراهيم على ¬

_ (¬1) في نشرة الجمعية الجغرافية لمنطقة وهران، 7/ 1887. انظر عنه عبد القادر جغلول (عناصر ثقافية) ص 51. وكذلك كريستلو (المحاكم)، ص 245. وفي الجزء الخامس من آثار الشيخ محمد البشير الإبراهيمي إلى تأثير محمد بن رحال وأشاد به. انظره.

الأدعياء والمفسدين ومن يتذرعون بالدين ويخفون غايات شخصية، ولهم صلات (بالسلطة الاستبدادية). وذكر الأحزاب الإصلاحية التي ظهرت ومن عارضها من الخاملين. وقال ان (وطننا أصيب منذ أمد ببعض الحائرين، فجروا عليه الغباوة والجهالة. ولكن أشخاصا، تصدوا لذلك ونادوا بالنهضة والعلم وخدمة الدين). يتلخص الكتاب في كونه دعوة إلى الإصلاح وإلى الدين الصحيح في نظره. وإلى العمل من أجل ذلك، والمحافظة على ثوابت الدين. وإحياء ما اندرس من المبادئ ورفض الاستكانة والجمود والدعوة إلى مجاراة العاملين من الأمم. وقال إن الفلسفة جيدة في حد ذاتها وانها هي التأمل في آيات الله ولا تعني، كما يفهم البعض، سوء العقيدة في الدين والإلحاد فيه. واعتبر الفلسفة أقساما: الإلهية وهي العبادات، والسياسية وهي تدبير الأحكام، والمدنية، وهي الأعمال التي يؤديها الإنسان من تجارة وصناعة، ثم أخلاقية وهي النفس وتهذيها. ودعا إبراهيم أطفيش إلى أن يتعلم المفتون والفقهاء شتى العلوم بما فيها الهندسة والكيمياء، لأن كثيرا من المستحضرات تأتي من أوروبا، فإذا أفتوا كانوا على بينة. وفي نظره أن الغربيين أهل جد واجتهاد وعلى المسلمين ألا يقفوا أمامهم مكتوفي الأيدي (¬1). 12 - الإسلام في حاجة إلى دعاية وتبشير، تأليف محمد السعيد الزاهري (¬2). وقد بدأ الزاهري حياته الفكرية بالشعر والمقالة. وكان من أبرز ¬

_ (¬1) إبراهيم أطفيش (الدعاية إلى سبيل المؤمنين)، القاهرة، المطبعة السلفية 1923، 176 صفحة. وقد تعرض أطفيش إلى رسالة وزعها بعضهم وتضمنت أفكارا غريبة مثل ذم العلوم الفلسفية والعصرية، وذم الأسلوب العصري في التعليم، ومدح الخمول والاستكانة والحكم على رجال النهضة بالضلال، ونحو ذلك من الدعاوى. انظر ص 4 - 12 من ديباجة الكتاب. عن حياة إبراهيم أطفيش انظر محمد ناصر في جريدة (السلام)، الحلقة الأولى 31 يناير 1991. وأيضا كتاب الجزائر لأحمد توفيق المدني، ص 94. (¬2) بعض هذا الكتاب قد نشر في مجلة (الحديقة) المصرية لمحب الدين الخطيرب. =

الكتاب والشعراء خلال العشرينات والثلاثينات ومن أكثرهم غيرة على الوطن والدين، قبل أن تتقلب به ظروف الحياة. ومن بحوثه في الإصلاح والنهضة ومن وحي التبشير (التنصير) الذي كان يقوم به الآباء البيض في الجزائر، كتب الكتاب الذي نحن بصدده. ومحور الكتاب هو التصدي للتبشير الذي كان يمثله في الجزائر جمعية الآباء البيض والأخوات البيضاوات. وقد كشف الزاهري عن وسائل المبشرين والمبشرات، ودعا المسلمين إلى القيام بدور فعال لنشر الإسلام وحماية الشباب، ولا سيما الفتيات. والأمثلة التي ذكرها كانت من واقع الحياة، ولذلك كانت تبدو كأنها قصص اجتماعية (¬1). 13 - روح السعادة وسر الشهادة في الحسنى وزيادة: تأليف أحمد بن يحيى الأكحل. وهذا المؤلف كان من الشعراء والكتاب الشباب عند ظهور كتابه، ومن تلاميذ جيل من العلماء على رأسهم المجاوي وابن سماية وكحول. وينتمي أحمد الأكحل حسب الشائع، إلى الأشراف، وكان معتزا بذلك في حينه فكان يذكر عبارة (الحسني) اسمه. وكان معتزا بشيوخه فجعلهم يقرظون كتابه. والكتاب صغير ولكن أفكاره كبيرة. فهو يتناول الدعوة إلى النهضة الإسلامية والعربية بتبني العلوم العصرية والرقي طبقا لتعاليم الإسلام. وفيه دعوة حارة إلى الجزائريين ليستيقظوا مع تمسكهم بالإسلام. ومن محتوى الخمس والعشرين صفحة التي تضمنها: أساس المدنية الحقة، والإسلام والرقي (عبارة حلت محل عبارة التقدم التي طالما رددها الفرنسيون قبل ذلك)، وتقدم الإسلام بالعلم، والثبات والأعمال، والتعليم القويم، والحكمة الدينية (¬2). ¬

_ = وربما كان نشره في كتاب على يديها، وكنا نملكه، أما مؤلفه الزاهري فقد اغتيل سنة 1956 بهدف غامض. فهل هو ضحية العروبة أو ضحية المصالية؟. (¬1) انظر مجلة (الحديقة) المجلد 8، ص 192 - 206. وكان الزاهري قد كتب ذلك في تلمسان سنة 1347. (¬2) الجزائر 1925 (1343). ممن قرظه بالشعر والنثر هذه الأسماء: الحفناوي بن الشيخ المدرس بالجامع الأعظم ومؤلف (تعريف الخلف)، وعبد الحليم بن سماية المدرس =

14 - تمهيد لدراسة الإسلام: تأليف عبد الرحمن بن الحفاف، ظهر الكتاب خلال العشرينات، ودرس فيه المؤلف حياة الرسوله وتطور المدنية الإسلامية، ورد على بعض الشبهات التي كان بعض الغربيين يثيرونها. ونوه به المعاصرون، فقال أحمد توفيق المدني ان الكتاب ظهر في وقت انتشر فيه الزيغ والإلحاد بين الشباب، وتناول فيه المؤلف (مختلف المواضيع الإسلامية التي طالما اتخذها أعداء الإسلام وسائل للطعن فيه ... ثم بسط القول في المدنية الإسلامية بما يشفي الغليل، وساق شهادات المنصفين من مؤرخي الإفرنج). وقال المدني إن كتاب ابن الحفاف إذا قرأه المسلم المتشكك يزول شكه، وإذا قرأه الشاب الذي لم يطلع على الحقائق يتحصن به ويزداد إيمانا (¬1). ومن المفهوم أن الكتاب ليس دينيا بالمعنى الضيق، وإنما هو في الحضارة الإسلامية وتاريخها ورجالها وكيف وصلت إلى أوروبا، ومآلها. والمؤلف من أسرة ابن الحفاف الشهيرة في الجزائر. ولعل والده أو جده هو علي بن الحفاف المفتي، المتوفى سنة 1890 (1307). ومؤلف أحد الكتب في القراءات، وكان على هذا من كتاب الأمير عبد القادر. ولا نعرف الأن الكثير عن حياة مؤلف (تمهيد لدراسة الإسلام). ويفهم من اللغة التي كتب بها أنه من تلاميذ المدارس الفرنسية، وربما كان قد درس في ثانوية الجزائر وكلية الآداب على مجموعة من المستشرقين، وحين شب ونضج أراد أن يصحح ما سمع منهم عن الإسلام وحضارته. وكان له في تراث عائلته وبلاده ما يحصنه ضد الاندماج، كما تحصن محمد بن رحال قبله، وقد وصف محمد بن العابد الجلالي مؤلف (التمهيد) بأنه (العالم البحاثة المطلع) وأنه عالج في كتابه تأثير الحضارة الإسلامية على العالم مستشهدا بآراء العلماء ¬

_ = بالمدرسة الرسمية (الثعالبية)، وهو شيخ المؤلف، ومحمود كحول الإمام بالجامع الأعظم. ومحمد مصطفى بن المكي بن عزوز، ومحمد بن عبد الرحمن العلمي، ومصطفى فخار، مفتي المدية. عن أحمد الأكحل انظر أيضا كتاب (شعراء الجزائر)، للسنوسي، و (المرآة الجلية) لابن عبد الحكم مجلة (هنا الجزائر). (¬1) أحمد توفيق المدني (تقويم المنصور) السنة 5، 1348، ص 315.

والفلاسفة من كل أمة. ونوه بالكتاب لخلوه من الخرافات والأساطير، ولكونه اكتفى بالضروري ولا سيما بالنسبة لمن لا يعرف إلا الفرنسية (¬1). 15 - منابع الحضارة العالمية: تأليف عبد الرحمن الحفاف أيضا. وقد ظهر هذا التأليف بعد الأول بأكثر من ربع قرن. ومنه نفهم أن المؤلف من المتخصصين في الفلسفة وأنه اهتم بدراسة الحضارات العالمية، وبقي يبحث في بقاياها في الحضارات القديمة. وأن من أساتذته الفرنسيين ليون غوتييه أستاذ اللغة والفلسفة في كلية الآداب الجزائر، وكان غوتييه قد اهتم بآثار ابن رشد وابن طفيل وابن سينا وغيرهم من الفلاسفة المسلمين. وقد خطط ابن الحفاف ليكون كتابه في جزئين. ولكننا لا نعلم إلا الجزء الأول منه الذي صدر سنة 1955. وقد تحدث فيه عن بابل والفنيقيين ومكانة المغرب العربي (شمال افريقية). واختار شعار كتابه مقولة بكون. R Bacon: العلم هو الغاية وهو المصير الأعلى لأحوال الإنسانية. وأهدى كتابه إلى روح غوستاف لوبون مؤلف كتاب (حضارات الشرق القديم)، وكتاب (الحضارة العربية) ثم (حضارة الهند). وتضمن كتاب (المنابع) مدخلا خصصه لتاريخ الحضارات القديمة، مصرية وصينية وغيرهما. ثم تخلص إلى الحضارة العربية مفندا أنها حضارة بدون أصول منطلقة فقط مع الإسلام، وقال ابن الحفاف إن الحضارة العربية ممتدة في اللغة العربية قبل الإسلام وفي اللغات الكلدانية والسريانية والسومرية. وأعلن ابن الحفاف منذ هذا المدخل، أنه باحث عن آثار الحكماء والفلاسفة خدمة للعلم والإنسانية. ومن رأيه أن المكان أو الموقع هو الذي نتج اللغة دون اعتبار لأصل سكانها، واستنتج من ذلك أن مجال اللغة العربية مجال واسع وغير منحصر في الجزيرة العربية كما زعمه البعض. وتضمن كتاب (المنابع) الفصول الآتية: ¬

_ (¬1) محمد بن العابد الجلالي (تقويم الأخلاق)، 1927، ص 175 - 176. ويقع (تمهيد في دراسة الإسلام) في 150 صفحة.

1 - التاريخ التقريبي لتأسيس بابل. 2 - عن الزراعة في بابل. 3 - عن الصناعة فيها. 4 - عن فن العمارة. هذا عن القسم الأول من الكتاب. أما القسم الثاني فهو عن تاريخ فينيقيا، وفيه أيضا فصول: 1 - تاريخ فينيقيا. 2 - فن العمارة. 3 - في الصناعة. 4 - في الملاحة البحرية. 5 - البوصلة الحرية. 6 - اكتشاف فنيقيا لأمريكا. 7 - تأسيس المدن والمراكز الفنيقية. وأما القسم الثالث من الكتاب فقد خصصه لأصل الزواوة (القبائل)، وفيه أيضا فصول: الأول: في تاريخهم. الثاني: في جغرافية الشمال الإفريقي. الثالث: في اللغة. والرابع: في الدين. وخلاصة رأيه تتمثل في إثبات أصالة الحضارات الشرقية - السامية. وقد قال إن الزواوة فنيقيون - ساميون (¬1). ¬

_ (¬1) عبد الرحمن بن الحفاف (منابع الحضارة العالمية)، الجزائر 1955، 115 صفحة بالفرنسية. وعن كتابه (تاريخ الأبجدية) انظر فصل اللغة والأدب.

منذ أوائل هذا القرن ظهرت مؤلفات حول الإصلاح والإسلام الصحيح وإنكار البدع والخرافات. وكان ذلك استجابة لداعي النهضة الإسلامية، والدعوة السلفية. وقد شارك في هذه الحركة عدد من العلماء والكتاب، منهم الرسميون الذين كانوا موظفين في الإدارة الفرنسية، أمثال المجاوي وابن الموهوب والعوامر، ومنهم الأحرار أو المتقربون من الأحرار، أمثال مبارك الميلي وابن باديس وأبو يعلى الزواوي والمولود الزريبي. فلنتتبع الآن بعض هذه الآثار: 16 - اللمع في نظم البدع (¬1): لعبد القادر المجاوي. والمجاوي بدأت دعوته الإصلاحية تظهر منذ 1877. حين أصدر رسالته (إرشاد المتعلمين). وهو في اللمع يواصل ذلك التيار في شرحه لقصيدة نظمها تلميذه ابن الموهوب وسماها (المنصفة). ونفس القصيدة قد شطرها إبراهيم بن عامر (العوامر) السوفي ونشر التشطير في جريدة الفاروق، وسمى التشطير (مطالع السعود) (¬2). ومن ذلك يظهر أن ابن الموهوب هو الذي انطلق في دعوته الإصلاحية بصوت قوي منذ مطلع هذا القرن، ووجد من يدعمه في دعوته سواء في العاصمة أو حتى في الواحات البعيدة مثل وادي سوف. 17 - بدور الأفهام للمولود الزريبي: تحدثنا عنه في العقائد. ولا نرجع إليه هنا إلا لنقول انه احتوى أيضا على آراء في الإصلاح الإسلامي وتجربة المؤلف في الجزائر - في مسقط رأسه بزريبة الوادي، وفي الأوراس، وباتنة، ثم في العاصمة. وكان قد تأثر غالبا بالحركة الإصلاحية في المشرق، وبما كان يشاهده في الجزائر من تناقضات حيث الأوربيون يعملون نشطين ومسيطرين بينما المسلمون خاملون كسلاء ومغلوبون على أمرهم. فقال إن أصل الطرق، مثل طريقة الجنيد صحيح ولكن الخلفاء هم الذين حرفوها. ¬

_ (¬1) الجزائر، 1902. (¬2) جريدة الفاروق عدد 50، 1914. وعنوان التشطير (مطالع السعود في تشطير أدبية الشيخ المولود).

وقال عن الرقص الصوفي وعن الوجد انه جائز في حق بعض الشيوخ الأوائل ولكن لا يجوز تقليدهم من أناس هم في منتهى قواهم العقلية. (وبهذا اغتر أناس فزعموا أن الرقص والصراخ والتصفيق حيث اشتهر من بعض الصوفية فهو جائز لتلامذتهم) (¬1). واستنكر بعض الممارسات الأخرى لإثبات المحاصة في الأرض العروشية. وكان الزريبي يخطط لوضع رسالة ضد البدع. (كان أملي أن أضع رسالة تتكفل بذلك - البدع -، والله يسعفنا في الأقوال والأفعال). وكان ينوي كذلك إيراد أفكاره الإصلاحية في (قالب هذا الشرح الشريف) ثم عدل عن ذلك، وظل متمسكا بوضع رسالة خاصة. لكننا لا نعلم أنها قد صدرت عنه، رغم أنه وضع انموذجا لها في شكل مقدمة وتمهيد. ولعله تعرض إلى ذلك في شرحه على قدسية الأخضري (¬2). 18 - الإسلام الصحيح: لأبي يعلى الزواوي. وهو كتيب طبعه في مطبعة المنار في مصر سنة 1335 بعد رجوعه إلى الجزائر، وجعله في شكل سؤال وجواب. وقال إن بعضهم قد سأله أن يضع مثل هذا الكتيب في (الإسلام الصحيح على قواعده الأصلية، المتفق عليها لا المختلف فيها، من غير التزام ما لا يلزم، مما أحدثه بعض القوم، ومن غير اعتماد مذهب دون مذهب، إذ المذاهب كلها محدثة، وبالأخص الأربعة المرضية). والإسلام الصحيح إذن مجموعة من آراء الزواوي في علم الكلام والنبوة وأخبار الرسول (صلى الله عليه وسلم)، والقرآن، والإجماع، وأركان الإسلام وغير ذلك من شؤون الحياة وعلاقتها بالإسلام في عصر المؤلف. والزواوي يعلن عن موقفه صراحة في الحجاب والتصوف والأخلاق (¬3). وكان الزواوي قد تولى الخطابة والإمامة في جامع سيدي رمضان ¬

_ (¬1) انظر عن ذلك أيضا كتاب الشيخ أبي القاسم طعيوج في فقرة التصوف. (¬2) الزريبي (بدور الأفهام)، ص 16، 25، 30، 173 - 177. انظر أيضا (شعراء الجزائر) فقد ذكر له السنوسي شرحا على قدسية الأخضري وغيرها. وقد كتبنا عنه بحثا. (¬3) راجع الكتاب عبد القادر المغربي - صديق الزواوي، وعضو المجمع العلمي بدمشق - في مجلة المجمع المذكور.

بالعاصمة بعد رجوعه من إقامته الطويلة في سورية ومصر. والظاهر أن ثمن طبع الكتاب قد ساهم فيه أحد أثرياء العاصمة وهو محمد (مماد) المانصالي الذي يوجد اسمه في أول الكتاب. وقد ألف الزواوي كتبا صغيرة الحجم تذهب كلها هذا المذهب، وتساند الإصلاح وتدعو إلى تطهير الدين الإسلامي من الشوائب والبدع. منها: 19 - جماعة المسلمين: وكانت إقامة الزواوي بالجزائر قد طالت وتعرف على مشاكلها وضم ذلك إلى رصيده، في أحوال العالم الإسلامي. وفي نظره أن (جماعة المسلمين) هي الوحيدة الباقية للإسلام بعد إلغاء الخلافة وفقدان شروط القضاء. ونفهم من تقديمه لهذا الكتاب أنه كتب عملا موسعا في هذا الموضوع، ثم اختصره. ولذلك فإننا لا نملك إلا المطبوع منه، وهو في حجم صغير أيضا (¬1). وربما تكون بعض الكتب التي سنشير إليها ما هي في الواقع إلا فصول وأبحاث في هذا الصدد، نعني مما كتبه حول جماعة المسلمين المطول. هاجم الزواوي في كتابه هذا دولة الموحدين لعقيدتها في المهدوية (فكرة الإيمان بالمهدي المنتظر التي بثها ابن تومرت). وذكر الزواوي أن عبارة (الحمد لله وحده) التي نبدأ بها الآن كتاباتنا موروثة عن الموحدين. وقد شبه رسالته في جماعة المسلمين برسالة ابن أبي زيد القيرواني في الفقه، ورسالة التوحيد للشيخ محمد عبده، ورسالة القشيري في التصوف. والواقع أن الزواوي كثيرا ما يخرج عن الموضوع إلى نقد السلطة الفرنسية وتسلطها على شؤون الإسلام في الجزائر وإهمالها لأمور التعليم العربي والدين والقضاء والحسبة. وفيه آراء شخصية هامة حول أوضاع الجزائريين في مختلف العهود، ومحاولات فرنسا التفريقية داخل الجزائر. ومن ذلك أن الفرنسيين أقاموا (المكاتب العربية) لكي تكون هي البلديات التي يحكم الفرنسيون من خلالها الشعب الجزائري، ثم ألغوها - بعد 1870 - وأحلوا ¬

_ (¬1) ط. الإرادة (تونس)، 1948 (1367)، 75 صفحة. وعليه تقريظ للعقبي.

محلها المدارس الفرنسية في نواحي زواوة لأنها إلزامية. وذكر أن الناس قد هاجروا إلى العاصمة وهم لا يعرفون سوى الفرنسية، وقد حاول هو تقريعهم ولكن بدون جدوى. وأخبرنا أن أهل زواوة قد نادوا بتعلم العربية والخضوع للقضاء الإسلامي ومنافسة المدارس الفرنسية وتوريث الإناث، ونحو ذلك خلافا لما كانت تريده منهم السلطات الفرنسية. أعجب الزواوي بعمله في جماعة المسلمين، رغم اختصاره، وقال إنه: (لم أسبق إليه، وأنا أبو عذره، وأنا لم أقف على أن أحدا من الإخوان الكرام الكاتبين في العالم العربي الإسلامي كافة أو في وطننا الجزائر خاصة طرقه أو كتب فيه). وقد دعا الزواوي إلى إقامة هذه الجماعة الإسلامية لكي تقوم بما قامت به القلة من الصحابة الذين اجتمعوا بعد وفاة الرسول، وأكد أن الموقف يقتضي منهم ذلك. وقد كشف الطيب العقبي في تقريظه لجماعة المسلمين أنه اطلع على الأصل المطول الذي لخص منه الزواوي رسالته. وخلاصة رأي الزواوي: أن تختار كل جماعة إسلامية في كل حي أو قرية إماما تتوفر فيه شروط الإمامة، وهي كونه ذكرا مسلما عاقلا بالغا. عارفا بما لا تصح الصلاة إلا به. وبذلك يؤلفون وحدات قيادية، ما دام الإمام العام (الخليفة) غير متوفر. ولكن الزواوي لم يقل ماذا يفعل أيمة المسلمين إذا تناقضت أحكامهم مع أحكام السلطة القائمة، وهي ليست منهم. ورفع الزواوي شعاره (لا حياة لأمة مات لسانها). داعيا إلى ضرورة تعلم اللغة العربية والقرآن مستدلا بقول الإمام الشافعي في وجوب تعلمها لأنها مما يتوصل به إلى واجب، والقاعدة أن ما يتوصل به إلى واجب فهو واجب. 20 - فصول في الإصلاح: للزواوي أيضا. جاء في كتابه (الخطب) أن له عدة مؤلفات منها (فصول في الإصلاح). كما ذكره في (تاريخ الزواوة) المطبوع في دمشق سنة 1924. ومن ذلك ندرك أن فصوله قديمة، وربما كتبها عندما كان في المشرق. وجاء في صفحة 65 من تاريخ الزواوة قوله عن الإصلاح: اكتفي هنا بما حررته في كتابي الإصلاح حين كلامي على زوايا الجزائر عموما وعلى زوايا الزواوة خصوصا. وفي هذا الكلام أورد الزواوي

آراء في الإصلاح حقا، ومنها تقليد أوروبا في الأمور التي ليست من جوهر الدين. واستشهد في ذلك بآراء جاء بها زميله عبدالقادر المغربي عن الإصلاح الإسلامي (¬1). وللزواوي مؤلفات أخرى لم نطلع عليها ولم نعرف عنها سوى ما ذكره هو في (الخطب) من كونها من (تآليفه) ومن ذلك: 21 - الخلافة قرشية. ونفهم منه أنه على رأي عبد الرحمن الكواكبي (ومعظم الأيمة الأولين) في جعل الخلافة الإسلامية عربية وفي قريش. وعلى المرء أن يرجع إلى المخطوط نفسه ليعرف بالضبط حقيقة رأيه ومستنداته. ولا نظن أن هذا الكتاب قد طبع إلى الآن. 22 - رسالة الشرك ومظاهره: لمبارك الميلي الهلالي. وهي كتاب في أصول الإصلاح الاجتماعي والعقائدي. وتعتبر مصدرا أساسيا لمعرفة الاهتمام الذي بنت عليه جمعية العلماء حركتها الإصلاحية، والذي قامت عليه الدعوة الإصلاحية في المشرق أيضا منذ ابن تيمية والشوكاني ثم محمد عبده. يقول الشيخ العربي التبسي الذي أجاز (رسالة الشرك) باسم المجلس الإداري لجمعية العلماء: إن ما اشتملت عليه رسالة الشرك ومظاهره ... هو عين السنة، وإن هذه الرسالة تعد من الكتب المؤلفة في نشر وردع البدع. ولذلك قرر المجلس الإداري بالإجماع (أحقية ما اشتملت عليه هذه الرسالة العلمية المفيدة، ويوافق المجلس مؤلفها على ما فيها ويدعو المسلمين إلى دراستها والعمل بها فيها، فإنه العمل بالدين) (¬2). وبالإضافة إلى ذلك قرظ الشاعر محمد العيد رسالة الشرك بقصيدة معبرة مطلعها: ¬

_ (¬1) تاريخ الزواوة، ص 62 - 86. وكان المغربي قد نشر آراءه في جريدة (المؤيد) المصرية عدد 24 ذي الحجة، 1327. ويسميه الزواوي (محبنا). (¬2) رسالة الشرك ومظاهره، ط. 2، بيروت 1966 (مكتبة النهضة الجزائرية)، ص 6. ظهرت ط. 1. سنة 1937.

شراع الالة الدين للأتباع ... ودعا إليه الخلق بالإقناع (¬1) اعتمد الميلي على مصادر عديدة ذكر بعضها في بداية الكتاب حين قال انه اطلع على عدد من المصادر أثناء الطبع، بعد أن كان قد نشر كتابه فصولا في البصائر. وذهب إلى أنه لم يطلع من قبل على كتاب مؤلف على النسق الذي ألف به هو كتابه والغرض الذي وضعه من أجله. وبعد الانتهاء من الكتابة أهدي إليه كتاب (صيانة الإنسان) فوجد فيه نبذة منقولة عن (تطهير الاعتقاد من أدران الإلحاد) تأليف محمد بن إسماعيل الصنعاني، وفي هذا الكتاب بعض من كتاب (الدر النضيد في إخلاص كلمة التوحيد) لمحمد بن علي الشوكاني. فوجد الميلي الكتابين الأخيرين في موضوع رسالة الشرك، وقال انه لم يكن قد اطلع عليهما قبل تحرير مقالاته ونشرها في البصائر. والمعروف أن الميلي رجع إلى المقالات وهذبها ونقحها قبل الإقدام على طبعها في كتاب. كما أنه اتصل قبل طبع رسالته بكتاب (فتح المجيد بشرح كتاب التوحيد) هدية بعث بها إليه السيد محمد نصيف من جدة. والكتاب الأخير ألفه الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وقد استفاد منه الميلي فوائد قال انه ألحقها بمكانها من رسالته (¬2). وفي آخر رسالة الشرك بالمراجع والمصادر، وهي مقسمة إلى كتب اللغة وآدابها، وكتب الحديث ورجاله. وعدد هذه القائمة 28 مرجعا. ومن التفاسير نجد: تفسير الثعالبي، وتفسير المنار، وفتح القدير للشوكاني، وكذلك تفاسير الرازي والقرطبي والزمخشري والسيوطي. أما الحديث فنجد موطأ الإمام مالك وبعض شروحه. تناول الميلي في كتابه موضوعات عديدة كلها تدور حول حاجة الشعب والعصر إلى الإصلاح، وضرورة العمل بالكتاب والسنة والابتعاد عن البدع ¬

_ (¬1) وقد وصفه الميلي بشاعر الجزائر الفتاة و (حسان) الدعوة الإصلاحية وكميت الفرقة الناجية، انظر رسالة الشرك، ص 9 - 10. (¬2) رسالة الشرك، ص 15.

والخرافات الدخيلة في نظره على الدين الإسلامي. وهكذا أقام دعوته على التوحيد الذي ابتعد عنه المسلمون رغم أن الإسلام قام على أساسه، وعلى اجتناب الشرك كاستعمال الوسائط والعقائد الضارة التي نهى الإسلام عنها. والميلي كان يؤمن بالتجديد الإسلامي ودور العلماء في بعث العمل بالقرآن والسنة النبوية. وهو يؤمن بالحديث الذي رواه البخاري: (إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها). ويتلخص محتوى رسالة الشرك في عدة عناوين نجدها مفصلة في داخل الرسالة أكثر مما هي مفصلة في صفحة المحتوى. فهناك عدة عناوين تدور كلها حول الشرك: بيانه، ومظاهره في القرآن، والأحاديث، والشرك لدى القدماء، وأنواع العبادات والتصرفات والكرامات والولايات، وما يتعلق بعلم الغيب والكهانة والسحر وما إليها. وكذلك أنواع البدع والتصوف وألقاب المتصوفة كالقطب والبدل، ثم الخرقة والشيخ والميثاق، وغيرها. وقد نبه إلى طريقة سلب الأموال من عند الناس والزيارات، وبعض الممارسات المؤثرة سلبا على العامة كالزردات. وختم الرسالة بالحديث عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو شعار المصلحين في مختلف العصور، ولا سيما في عصر الميلي، وقد نوه الميلي بقصيدة الشيخ الطيب العقبي التي نشرها في جريدة (المنتقد) تحت عنوان (إلى الدين الخالص) واعتبرها بيانا واضحا لما يدعو إليه وحربا على (حكومة القطب) أو رجال التصوف المنحرفين، وهم من سماهم جماعة (ديوان الصالحين). وكانت صحيفة (المنتقد) هي التي شنت منذ 1924 هذه الحرب ضد المذكورين. وقد نشر فيها الميلي نفسه مقالة تحت عنوان (العقل الجزائري في خطر) وذلك في العدد السادس من الجريدة. ويبدو أن الدوائر الاستعمارية قد استاءت من المقالة (¬1). أما قصيدة العقبي المذكورة فقد نشرها في العدد الثامن من الجريدة واعتبرها الميلي (أول معول مؤثر في هيكل المقدسات ¬

_ (¬1) رسالة الشرك، ص 284.

الطرقية). ولا يعلم مبلغ ما تحمله هذه القصيدة من الجرأة، ومبلغ ما حدث عنها من انفعال الطرقية، إلا من عرف العصر الذي نشرت فيه وحالته في الجمود، (والتقديس لكل خرافة في الوجود). وقد أوردها الميلي كاملة في كتابه، كما ذكرنا. ومطلعها: ماتت السنة في هذي البلاد ... قبر العلم وساد الجهل ساد (¬1) انتقد الميلي الطرق الصوفية على تفننهم في وضع الإسناد لكي يربطوا طرقهم الصوفية بكبار الزهاد، ولو كان فيها الضلال، ورأى أن الشيخ أحمد بن سالم التجاني قد (اختصر الإسناد وادعى أنه تلقى طريقته من خاتم الأنبياء من غير واسطة لا ويذكر أتباع التجانية أن (يوم النظرة) عندهم هو اليوم الذي (وقف فيه الشيخ التجاني بعد أن جمع أحبابه على ربوة قرب عين ماضي ووضع على رأسه قطعة ذهبية لكي يرى من بعيد، ونادى في الجموع بضمان الجنة لمن رآه سبعة أجيال) (¬2). أما الحنصالية فقد أباح لهم شيخهم الملاهي وتمتيع أنفسهم بما تشتهي (¬3). وقد أورد أمثلة مما روى أو شاع عن بعض أهل التصوف في وقته، مثل الطيب بن الحملاوي والحسين القشي والعربي بن حافظ. وهكذا فإن رسالة الشرك تعتبر دراسة لوصف حالة الإصلاح والمصلحين وحالة المرابطة والمرابطين في مرحلة معينة من تاريخ التخلف الفكري في الجزائر وفي العالم الإسلامي. وكان المؤلف يمثل صوت جمعية العلماء الإصلاحية، وكان قد تولى إدارة جريدتها وشارك في تحرير جرائدها الأخرى وفي التعليم بمدارسها، وكذلك شارك في كتابة التاريخ الوطني والدفاع عن هوية الجزائر العربية - الإسلامية ضد المسخ الذي خططت له ¬

_ (¬1) نفس المصدر، ص 284 - 288، انظر أيضا محمد الهادي السنوسي (شعراء الجزائر في العصر الحاضر). ترجمة الشيخ الطيب العقبي. (¬2) رسالة الشرك، ص 267، 277. (¬3) نفس المصدر، ص 280.

حول المرأة

الإدارة الفرنسية. فكان الميلي بأعماله جملة، وبرسالة الشرك خاصة يخوض معركة دعائية ضد خصوم الجمعية المذكورة وضد الطرقية التي اعتبرها من أسباب التخلف، وكذلك ضد الإدارة الاستعمارية. ولذلك لا نستغرب أن تكون رسالة الشرك هي الكتاب الإيديولوجي لتيار الإصلاح، كما لا نستغرب أن يتبناها المجلس الإداري لجمعية العلماء رسميا. 23 - شعب الإيمان: كتاب وضعه محمد البشير الإبراهيمي، وهو في موضوع الأخلاق والفضائل الإسلامية، وهو غير مطبوع، ولم نطلع عليه مخطوطا (¬1). 24 - بغية الطلاب في علم الآداب: تأليف الرزقي الشرفاوي. ولم نطلع عليه ولا على وصف له. وهو بعنوانه يدل على أنه في الآداب العامة، ومنها الأخلاق (¬2). وينتمي الشرفاوي إلى الاتجاه الإصلاحي. ... حول المرأة شغلت قضية المرأة المسلمة حيزا كبيرا لدى المؤلفين أيضا. كان ذلك انطلاقا من الأحكام التي أصدرها الفرنسيون على بعض الممارسات والتقاليد الإسلامية، مثل تعليم المرأة وتعدد الزوجات والحجاب. وظهرت كتب فرنسية عديدة في هذا المجال بعضها كان متحيزا لقناعات دينية أو عرقية، وبعضها كان مبنيا على جهل بأسرار المجتمع الإسلامي والتعاليم الدينية. وكل ذلك قد أثار ردود فعل لدى المسلمين، فانبرى بعض كتابهم لتوضيح الغامض وبيان الأوجه الشرعية والاجتماعية. من أوائل الكتب الفرنسية التي اهتمت بالمرأة المسلمة كتاب يوجين دوماس (المرأة العربية) الذي ألفه خلال الأربعينات من القرن الماضي، ¬

_ (¬1) الإبراهيمي (في قلب المعركة)، 1993، ص 231. (¬2) يعتبر كتابا ضائعا، حسب رسالة من محمد الصالح الصديق إلى علي أمقران السحنوني. وقد وصلتني في نوفمبر 1994.

ولكنه لم ينشر إلا بعد وفاته (1912). وقد اعتمد دوماس على أجوبة عديدة لعلماء وأعيان المسلمين، منهم الأمير عبد القادر، كما سنرى. ثم ظهر كتاب أرنست ميرسييه (المرأة المسلمة في الشمال الإفريقي) سنة 1895. وقد ناقشه عدد من الكتاب المسلمين، منهم محمد بن مصطفى الكمال وإسماعيل حامد. ثم توالت الكتابات الفرنسية عن الموضوع، بل وتخصصت بعض المؤلفات الفرنسيات فيه، مثل السيدة بوجيجا (¬1). كما أن نساء مثل لوس، وابن عابن اهتمت بالمرأة من وجوه أخرى كالتعليم والحياة الاجتماعية. ولكن هذا ليس هو موضوع هذه الفقرة. إننا هنا نعالج ما كتبه الجزائريون عن موضوع المرأة سواء كان بمبادرة ذاتية أو كان رد فعل عن كتابات أوروبية. ولعل من أوائل الكتابات ما أجاب به الأمير عبد القادر سائله الجنرال دوماس، أثناء وجوده في الأسر بفرنسا. وإليك بعض مادة هذا الموضوع: 1 - تضمنت الأسئلة والأجوبة حوالي 25 صفحة من (تحفة الزائر). وجملة الأسئلة عشرون وكذلك الأجوبة. وقد بين فيها الأمير وجهة نظر العرب والمسلمين في زمنه في المرأة المسلمة، طبقا لتعاليم الشرع الإسلام?. وكان ذلك بعد أن كثر الاختلاط بين الفرنسيين والمسلمين من جهة وظهرت الأفكار المسبقة وسوء الظن بالشريعة والمرأة من جهة أخرى. وتبين للفرنسيين تخلف المرأة المسلمة، في نظرهم، كما فهموا أن الرجل لا يرى خطيبته، وأن المهر الذي يدفعه عبارة عن ثمن، مثل شراء بضاعة، واعتقدوا أن المرأة لا تدخل المساجد، وأنها لا تتعلم، وكونها مهملة ومهانة، ونحو ذلك من الفهوم الخاطئة. وهذه هي العناصر الواردة في أسئلة دوماس: مسألة تعدد الزوجات، وإهانة المرأة بالضرب، كون الخطيب لا يرى خطيبته ولا يحصل تعارف ¬

_ (¬1) انظر فصل المذاهب والتيارات.

مسبق بينهما، مسألة الصداق، اهتمام بنات الاكابر فقط بالتبرج، زواج الرجل العجوز بالبنت الصغيرة، لا ينظر الرجل إلى المرأة إلا من جهة الجمال فقط أما الأصل فالاهتمام به قليل، نظرة الرجل لزوجته على أنها خادمة فقط، التستر والتلحف نتيجة الغيرة الزائدة عند المسلمين، تزويج البنات قبل البلوغ، كثرة الطلاق عند المسلمين، المرأة ترث أقل من الرجل، عدم التعلم جعل المرأة غير مهذبة وجاهلة، وعدم دخول المرأة للمسجد لأداء الصلاة، عدم منع النساء من الحج، القول بأن المرأة لا تدخل الجنة، عند الموت لا يخرج الناس في جنازة المرأة مثل الرجل، يتزوج المسلم المرأة التي كانت مومسا وتابت دون أن يرى ذلك نقيصة، الطلاق بدون سبب للمرأة التي لا يربحون عليها، لا تهتم المرأة بالحرب عند بني جنسها ولا يهمها الدفاع عنهم (¬1). والواقع أن أسئلة دوماس توحي بأنه كان لا يجهل بعض الأجوبة، ولكنه كان يثير الأمير لكي يعطي رأيه بصراحة ويفصل القول و (يكشف) عن وجهة نظره الخاصة في الموضوع. فدوماس عاش في الجزائر طويلا وجمع معلومات غزيرة، واطلع على كتب ووثائق، وخالط غير الأمير من العارفين، وباشر وظائف إدارية تتعلق بالعرب والمسلمين. ولذلك فإن أسئلته لا تصدر عن جهل وإنما عن محاولة التعمق في المعرفة والحصول على آراء أخرى عن طريق الاستفزاز والإثارة. ويبدو أن الأمير قد انساق وراء ذلك، وأعطاه أجوبة مفصلة ومعللة بالعقل والنقل، وقد بالغ أحيانا في التفاصيل. ولا يهمنا رأي الأمير الآن في المرأة من كونه محافظا أو متحررا. وإنما تهمنا الإجابة في حد ذاتها، وهي معتمدة على الشريعة والواقع وعلى فهم الأمير الشخصي. وكان الأمير من وجوه القوم، ومن رجال الدين والدنيا. 2 - ولعل أجوبة الأمير المذكورة هي التي أوحت إلى ابنه محمد ¬

_ (¬1) الأسئلة والأجوبة مفصلة في (تحفة الزائر) 2/ 161 - 185. أيضا الحاجري (جوانب)، ص 50.

بالكتابة في الموضوع أيضا بعد أجوبة والده بحوالي خمسين سنة. وقد قال الأمير محمد وهو يتحدث عن أجوبة أبيه: (وقد قصدنا بذكرها إزالة الإشكالات التي لم تزل أفكار الإفرنج المتحاملة على دين الإسلام تخوض وتوجه الاعتراضات على المسلمين في تعاطيها) (¬1). ومن مؤلفاته في موضوع المرأة (كشف النقاب عن أسرار الاحتجاب)، وهو تأليف يعالج قضية أخذت حظا من الاهتمام والأدبيات في المشرق وفي المغرب في آخر القرن الماضي عند المسلمين. كما أن الأمير محمد قد ألف كتابا آخر خصصه لتعدد الزوجات والطلاق، وسماه (الفاروق والترياق في تعدد الزوجات والطلاق) (¬2) وقد نشرهما بمصر، حيث نشر أيضا كتابه (تحفة الزائر) وسنرجع إلى الكتابين. 3? الإكتراث بحقوق الإناث: كتاب ألفه محمد بن مصطفى الكامل سنة 1895. وقد بادر الفرنسيون إلى ترجمته إلى الفرنسية والتنويه به وإرساله إلى القنصليات لترويجه، وتعليق الصحف عليه وعلى صاحبه ومترجمه. والمترجم ليس رجلا عاديا فهو آرنو (اسم مستعار) الذي ظل ربع قرن في جريدة المبشر الرسمية رئيسا لتحريرها. وقد جمع من حوله أعيان العلماء المسلمين مثل أبي القاسم الحفناوي بن الشيخ وعلي بن سماية ومحمد بن مصطفى. وقد بادرت جريدة (المونيتور) إلى كتابة تعليق نقلته عنها بحذافيره جريدة المبشر، ومفاده أن المؤلف (محمد بن مصطفى) رجل متمسك بالدين الإسلامي، ومحرر بجريدة المبشر. ولا يخلو فكره من تقدم، وكتابه (شاهد له بعلو أنظاره وحرية أفكاره وسعة معارفه). وقد تحدث الكمال عن حالة المرأة المسلمة في العائلة، وعن حقوقها وواجباتها، والآداب التي تجب مراعاتها على المسلمين وعلى من يرغب في معرفة ما عليه الأمة العربية من الأحوال المعنوية. وقد انتصر المؤلف لمبدأ ¬

_ (¬1) (تحفة الزائر) 2/ 185. (¬2) نشره بمصر، سنة 1327.

تعدد الزوجات ودافعوا عنه بدلائل مسلم بها، وذكر ما يجب على الزوجين نحو بعضهما. وبنى أفكاره على ما جاء في القرآن والسنة. وقد نصح بعدم الطلاق إلا عند الضرورة القصوى. والمؤلف، حسب الجرائد الفرنسية، قد مدح العلم وأثبت أنه غير متعصب دينيا، لأنه ذكر أن العلم واجب على الرجل والمرأة (¬1). ويجب ألا ننسى أن موضوع المرأة كان متداولا أيضا في تونس والمشرق، فقد ظهر في هذه الأثناء كتاب تحرير المرأة قاسم أمين. وقد ذكرنا أن ميرسييه قد نشر كتابه عن المرأة المسلمة في سنة 1895. وربما كان كتاب محمد بن مصطفى من بين ردود الفعل عنه، وإن كان الموضوع متداولا عند الكتاب الأوروبيين قبل ذلك أيضا (¬2). 4 - كتاب (العلاقة بين الدين والفلسفة) الذي ألفه عبد الحليم بن سماية والذي أشرنا إليه سابقا، ففيه فصول عن تعدد الزوجات والطلاق والحجاب والميراث (¬3). وقد قدم الكتاب إلى مؤتمر المستشرقين 14 في الجزائر، سنة 1905. 5 - (الحياة المدنية الإسلامية في مدينة الجزائر ووضع المرأة طبقا للقرآن والسنة وأعمال المرأة المسلمة)، وهو بحث نشره محمد بن أبي شنب سنوات 1907 - 1909. ويبدو أنه كان من وحي الظروف التي أشرنا إليها، وكذلك من وحي البحث الذي ألقاه العالم المصري، سلطان محمد، في مؤتمر المستشرقين 14 في الجزائر سنة 1905، حول المرأة في الشريعة. ¬

_ (¬1) (المبشر) 21 مارس، 1896، عن جريدة (المونيتور ألجيريان)، 12 مارس 1896. وربما تكون الحكومة الفرنسية في الجزائر هي التي نشرت كتاب (الاكتراث) كما ستفعل مع كتاب (اللباب) لنفس المؤلف. (¬2) انظر مثلا ما كتبه بوليو (P. L. Beaulieu) عن تعدد الزوجات في كتابه (عن الاستعمار)، 1902، ط. 5، ص 464. كما كتب شارل ريشار عن (تحرير المرأة العربية) وتناول موضوع تعدد الزوجات. (¬3) انظر سابقا.

وقد عالج ابن أبي شنب أيضا نفس القضايا (المدنية) التي تخص المرأة من زواج وطلاق وميراث وتقاليد وحياة اجتماعية وتعليم وأخلاق وأعمال (¬1). ولا نعرف أن هذا البحث قد نشر في شكل رسالة أو كتاب صغير. 6 - اللباب في أحكام الزينة واللباس والاحتجاب: ألفه محمد بن مصطفى سنة 7 190، وسارعت الحكومة العامة بنشره على حسابها، وهو ما لم تفعله مع كتاب ابن سماية السابق. ولا ندري إن كان المؤلف ما يزال عندئذ عاملا في تحرير جريدة المبشر أو خرج مها إلى التدريس في أحد المساجد بالعاصمة. ونحن نعلم أنه قد عزل من المبشر لأسباب مجهولة، ولكنه وظف في التدريس. أما كتابه (اللباب) فقد دار على عدة محاور. ففي الفصل الأول منه عرض لقواعد وأصول الزينة، وقد عرفها (الزينة) بأنها كل ما يجمل الجسم سواء كانت لباسا أو غيره، وهو يؤيد ذلك بشواهد لا تتناقض في نظره مع تعاليم الإسلام. وقد أورد أن الرسول قد لبس ثيابا قيمته ألف درهم حسب البعض، و 400 دينار حسب آخرين. وذكر أنه قد أعطى سبع عشرة ناقة مقابل ثوب من حرير. وهناك علماء وفقهاء بحثوا عن اللباس الثمين للتجمل وتطهير الجسم ماديا ومعنويا. وكذلك نص على الطيب وتنظيف الأسنان، وجاء بالحديث المؤكد لذلك. وقد سمح بصبغ الشعر واللحية مع إمكانية تطويلها. وذكر أن المرأة لا يجوز لها الإلحاء. ويجب أن يستر اللباس العورة وأن يقي من الحر والقر، ويكون من الصوف أو القطن أو الكتان، حسب السنة النبوية. أما النعال فتكون سوداء، حسب النعال المرسلة من الحبشة إلى الرسول (صلى الله عليه وسلم). ومن التفاصيل أن اللون الأسود هو شعار الحزن، ولكن العباسيين جعلوه شعارا لهم. أما اللون الأحمر فهو شعار ولباس الرؤساء الجزائريين. ويجب ألا يقلد أحد الجنسين الآخر في اللباس. وليس من الضروري أن تصل السراويل إلى الأقدام، حسب رأيه. ولباس الحرير ممنوع على الرجال جائز للنساء. ¬

_ (¬1) المجلة الأهلية (ريفو أندجين R. Indigene 1907 - (1908، 1909، وكانت تصدر بمدينة الجزائر.

أما الزخرفة فقد ناقشها المؤلف، بناء على التقاليد وفي ضوء ما جاء به الأوربيون منها أيضا. وذكر أن المذاهب الأربعة متفقة على منع الزخرفة Decoration لأنها أجنبية عن الإسلام. وقد منع الإسلام الأكل والشرب في أواني الذهب والفضة، ومنع المؤلف أيضا لباس القبعة الأوروبية (البرنيطة). وفي الكتاب فصل آخر عن أنواع اللباس. وذكر أنه ليس للشعوب الإسلامية لباس متحد. ولام المؤلف من لبس اللباس الأوروبي لأنه تجديد. ولكنه أباح لكل مسلم أن يختار ما يلائمه من اللباس بشرط تطابقه مع مواصفات اللباس الإسلامي. والفصل الذي أطال فيه المؤلف هو الحجاب. وقد أورد الآراء العديدة في ذلك، ثم انتهى بالخلاصة التالية: أن المرأة التي لها مكانة في المجتمع والتي تتقلد مسؤولية عليها أن تحتجب، لأن غير المحتجبة لا تلفت نظر الرجل. والشريعة حكمت بأن تظهر المرأة عارية الوجه أمام القاضي لأسباب. وقد عرفنا أن محمد بن مصطفى كان من تلاميذ الشيخ عبده، وتعاطى الشعر، وألف عدة رسائل في موضوعات اجتماعية ودينية (¬1). 7 - (مسلمات شمال افريقية): لأسماعيل حامد. اهتم هذا الكتاب بعدة مواضيع اجتماعية، ومنها المرأة المسلمة. وقد أشار إلى أن اهتمام الكتاب الفرنسيين كان منصبا إلى زمنه على الرجال فقط وإهمال المرأة. وقد اختلط عليهم الأمر في ذلك بين العرق والدين، وحياة الرجل متغيرة بينما حياة المرأة جامدة في نظر أولئك الكتاب ناسبين ذلك إلى القرآن. وفي نظر اسماعيل حامد أن هناك معطيات تاريخية أدت إلى ذلك التصور الخاطئ. فالانحطاط والجهل قد أوصلا المجتمع إلى الفوضى والاستبداد، بل إلى خلل في الأمخاخ. وكان تعلم المرأة حتى في المدن الكبرى يعتبر غير مفيد ¬

_ (¬1) راجع الكتاب. L. B في (مجلة العالم الأسلامي)، يناير 1908، ص 216 - 217. وقد نشر الكتاب في مطبعة فونتانة، الجزائر، 1907 (1325) ويقع في 102 صفحة.

ومتنافيا مع التعاليم الإسلامية. وقد بينت التجربة والزمن خطأ ذلك. وها هي ثمانون سنة قد مرت على الاحتلال (كان يكتب سنة 1913) فأثبتت خطأ من يزعم أنه لا يمكن التقارب بين المسلمين والفرنسيين في نظره. إذ يرى أن (سياسة التشارك وسياسة التعليم) - خلافا لسياسة الإبعاد والاندماج - قد أثمرت في تونس والجزائر، وقريبا ستستفيد المغرب منها أيضا. وتحدث إسماعيل حامد عن الطبقة الجديدة التي ستقود المجتمع إلى السعادة، إنها الفئة الهجينة التي ستتولد من الزواج المختلط. وهو الزواج الذي سيكون بين مسلمين متفرنسين وفرنسيات، وبين فرنسيين ومسلمات متفرنسات. وقد ألح حامد على التعلم للمرأة، لأن الجاهلة لا يقربها المسلم ولا الفرنسي. واستبعد أن يكون الاندماج الكلي ناجحا، والأقرب عنده هو الاندماج المحدود عن طريق الزواج المختلط. فعن طريق هذه الطبقة ستتم سياسة التشارك والتعليم التي تبدو الشكل الأكثر ملاءمة لكل تطور كولونيالي. ان الاندماج الكامل للأعراق (المسلمون والفرنسيون) غير ممكن، ولن يتم الاندماج إلا جزئيا عن طريق فئة محكوم عليها أن تقود وأن تكون هي المثل لغيرها (¬1). وقبل أن يصل إلى هذه النتيجة درس حامد مكانة المرأة عند العرب ومسألة الشرف، والهجرة، والحروب. ثم مكانة المرأة في الحضارة وفي الأدب، وقضية ذكائها، وخدماتها في الدولة. وتعرض لحالة التخلف والانحطاط الذي عرفه المجتمع الإسلامي. واعتبر جهل المرأة أحد عوامل الانحطاط. كما أن سوء تفسير الشريعة كان عاملا آخر. ويضاف إلى ذلك الجهل عند الرجل أيضا. وعاتب الفرنسيين على عدم تناولهم المرأة في أوائل الاحتلال إذ تركوا موضوعها خامدا. وذكر أن قلة النساء الفرنسيات في الجزائر في أول الأمر أدت إلى زواج الفرنسيين بالأجنبيات، ومنهن بعض ¬

_ (¬1) إسماعيل حامد (مسلمات شمال افريقية) في (مجلة العالم الإسلامي) يونيو، 1913 ص 292 - 293.

المسلمات. كما أن رجالا مسلمين من مختلف الطبقات تزوجوا بنساء فرنسيات أوروبيات. وقد أنتج الزواج المختلط عناصر أصبحت نشطة واندماجية. وتحدث المؤلف عن عناصر البحر الأبيض وامتزاج أعراقها. ونبه إلى أن الأوروبيين لا يتزوجون جاهلات وفقيرات، وكذلك المتفرنسون من الجزائريين. فعلى المرأة المسلمة إذن أن تتعلم وتصبح مفيدة (¬1). ورد إسماعيل حامد على الأوروبيين الذين يعتبرون تزويج المرأة المسلمة ودفع الصداق لها عبارة عن عملية تجارية. وفي رأيه أن التزويج المبكر للبنات يجعل عهدتهن للأب الذي يأخذ نصيبا من الصداق لوقت الحاجة، أي في حالة وفاة الزوج أو حالة الترمل. ورد على فكرة الأوروبيين حول الزنا وعقوبته في الإسلام، وأوضح أسباب الطلاق وقواعده، وأعاد مسائل الطلاق إلى الجهل بقواعد التشريع الإسلامي. ثم أن هناك قواعد للتراجع عن الطلاق. كما تحدث عن الحيض والحضانة والميراث وتعدد الزوجات. ومن رأيه أن تعدد الزوجات أخذ يختفي، فقد أصبح منعدما أو قليلا في المدن وما زال شائعا في الريف فقط، وهو ما لم يدركه الأوروبيون، وتعدد الزوجات يرجع أساسا إلى عدة أمور منها الطقس والعرق والدين، وقد أجازه القرآن ولكنه لم يأمر به، ولأهل الريف، والبدو منهم بالخصوص، حاجات اجتماعية واقتصادية لتعدد الزوجات، من ذلك خوف الفتنة، والموت، والوحدة. وقد أثبت الإحصاء الذي أجرى قريبا من تاريخ الكتابة أن 9% من الزواج المتعدد كان في المناطق المحتلة والتي استوطنها أوروبيون، أما في المناطق التي لم يستوطنها الأوروبيون، مثل الصحراء، فالتعدد كان 50 على مائة. ومن الملفت للنظر أن المناطق التي كثر فيها التعدد لم تقع فيها الشكاوى لدى المحاكم أو الإدارة. فليس هناك آثار للغيرة والتنافس بين الأطفال أو النساء، كما أثبت كتاب ميرسييه المذكور. ومن جهة أخرى فإن ¬

_ (¬1) نفس المصدر.

الزوجة الوحيدة تعتبر أعلى قيمة من الزوجات الأخريات المتعددات. وفي المناطق التي يكثر فيها الخدم - كالصحراء وفي افريقية - لا توجد إلا زوجة واحدة. إن تعدد الزوجات إذن ليس قائما على الشهوة، كما يذهب الأوربيون. وفكرة (الحريم) التي طالما رددها الأوروبيون إنما هي ضد الدين لأن الذين يمارسونها هم الأمراء الآسيويون. أما مفهوم (الحريم) في الإسلام فهو كل ما هو ذو حرمة، مثل الزوجة والأم والأخوات وبنات العم. كما أن البرقع (الحجاب) مستورد من الشرق. وليس خاصا بالمسلمين، بل هو موجود لدى الأوروبيات من الكاثوليك. ولا يوجد إلا في المدن حيث الرجال أقل تحفظا وحيث الزحام. أما في الأرياف فالمرأة غير محجبة إلا نادرا عند المتدينين وذوي الحرمات من العائلات (¬1). 8 - مرآة المرأة المسلمة: تأليف أبو يعلى الزواوي. وقد ذكر أنه يقع في حدود 200 صفحة، عندما أشار إليه في بعض كتبه. ولكننا لا ندري إن كان الكتاب قد نشر فعلا. وقد جعله فصولا. ومن رأيه في المرأة ما جاء في كتابه (الإسلام الصحيح) أنه من الخطإ القول بأن لا تعمل المرأة وأن لا يراها الخاطب. كما نادى الزواوي بضرورة تربية المرأة وتعليمها، وقال: (لا يليق أن تكون المرأة عضوا أشل في الهيئة الاجتماعية الإسلامية) (¬2). وعالج الزواوي أيضا موضوع تعدد الزوجات بشيء من الإسهاب في موضوع منشور في البلاغ والشهاب. ولا شك أنه قد عالج نفس الموضوع في كتابه (مرآة المرأة المسلمة) الذي لم نطلع عليه. وقد نوه ببحثه عن تعدد الزوجات بعض الشيوخ المعاصرين، منهم الأمير شكيب أرسلان. وخلاصة رأي الزواوي أن تشريع التعدد وهو قوله تعالى: {أنكحوا ما طاب لكم} قائم على ملة إبراهيم الخليل. ومن جهة أخرى فالرجل في الإسلام هو الذي يقوم بشؤون المرأة من نفقة وكسوة وسكن وحماية. ثم إن النساء أكثر من الرجال ¬

_ (¬1) حامد (مسلمات ...) مرجع سابق، ص 282 - 289. وقد عالج المؤلف أيضا موضوع المرأة في كتابه (مسلمو شمال أفريقية) الصادر سنة 1906. (¬2) الزواوي (الإسلام الصحيح)، ص 26.

عددا، نظرا للوفيات في الرجال بالحروب والأعمال الشاقة والخمر وأمراض السل. والزواج بأكثر من واحدة ليس واجبا، كما أن الزواج بالواحدة ليس واجبا إذا لم تتوفر النفقة. أما حكمة التعدد فهي تفادي الزنا. ومن جهة أخرى ذكر الزواوي أن مدة صلاحية المرأة النسل أقل من مدة الرجل. ومن حكمة الزواج حفظ الدين والنسل وحفظ المال (وقد أبيح أيضا التسري بالأمة). ومن المرغبات في تعدد الزوجات أن العقم أكثر عند النساء من الرجال، في دعواه، وإن إصابات النساء أكثر من الرجال. وذكر منها الحيض والنفاس والإجهاض. وقد ذكر أن تعدد الزوجات موجود في غالب الأمم أيضا، كما جاء في تأليف محمد فريد وجدي (¬1). 9 - رسالة كشف النقاب عن أسرار الاحتجاب: ألفها محمد بن الأمير عبد القادر، ودخل بها موضوع المرأة والحجاب الذي تناولته الصحف والكتب عندئذ (أوائل هذا القرن). وقد رتب الرسالة على مقدمة ومطلبين وخاتمة. فكانت المقدمة في بيان احتجاب النساء في سالف الأمم - ابتداء من قوم ثمود وإبراهيم الخليل. وبين الفرق بين بعض الألفاظ المستعملة، مثل البرقع وهو خاص بوجه المرأة، أما القناع فهو للرجل. والنقاب للنساء أيضا ولكنه يكون بستر عين وكشف الأخرى. والجلباب في رأيه هو ما يرخى على الجبين لستر الشعر، أما الخمار فثوب تغطي به المرأة رأسها وتسدله من خلفها. والخمار غير مختصر بالمسلمات، فقد كانت النساء اليونانيات يستعملنه إذا خرجن. من رأي محمد بن عبد القادر أن الحجاب (اليس خاصا بالمسلمين، وإنما هو عادة قديمة معروفة في أغلب الأمم، ثم تلاشت طوعا جريا على سنة التقدم والرقي). وقد أخذ محمد هذا القول من (لاروس) وعلق عليه بأن ذلك يكون في نظر من يستحسن عدم الحجاب اليوم، أما (الحقيقة ... لا ¬

_ (¬1) الزواوي (سر تعدد الزوجات في الإسلام) في (الشهاب)، مايو 1931 (محرم 1350).

يتم التقدم والترقي إلا بصيانة الشرف والمحافظة على المروءة). ومن ثمة ندرك أن محمد ضد الرأي القائل بأن الحجاب كان في الأمم القديمة وانتهى أمره، إذ يقول: (ولا شك أن نزع الحجاب نقص كبير) (¬1). وأما المطالب (أو الفصول) فأولها ينص على أن (احتجاب النساء من الأمور الممدوحة عقلا وشرعا). وجاء بالآيات التي تؤيد الستر والاحتجاب. وثاني المطالب فيما يجب على المرأة ستره من أعضائها وزينتها وما يجوز لها إبداؤه. وعرف الزينة بأنها الأصباغ كالكحل للعين والخضاب في الحاجب والحمرة في الخد والحناء في الكف والرجل. كما ذكر القرط في الأذن والخاتم في الإصبع والسوار في المعصم، والقلادة في العنق، والخلخال في الساق. ومن رأيه جواز إظهار وجه المرأة ويديها بالزينة التي فيهما. أما المطلب الثالث ففي مقدار ما يعتبر عورة لدى المرأة الحرة المسلمة. ومن أهم ما جاء في الخاتمة هو حديث المؤلف عن أسرار الاحتجاب، كما تحدث عن الغناء والغيرة والخصيان، وأثر الغناء على النساء والعكس، ومن رأيه أن (منشأ احتجاب المرأة (هو) الغيرة عليهن). والمؤلف مضاد للاختلاط بين النساء والرجال، وحتى الحج ورد فيه ما يفيد ضرورة حج الرجل مع أهله أو مع محرم. ولكي يؤيد رأيه ويقنع معاصريه من المسلمين الذين قد تكون أثرت فيهم الدعوة إلى فرع الحجاب، ذكر محمد بعض أقوال علماء الفرنسيين والإنكليز في المراقص والملاهي عندهم وما أصاب المرأة فيها من الإهانة والابتذال والفساد (¬2). 10 - رسالة الفاروق والترياق في تعدد الزوجات والطلاق: لنفس المؤلف (محمد بن الأمير). وقد رأى من الحكمة أن الله أباح تعدد الزوجات واستعمال السراري (لمن لا تكفيه زوجة واحدة لقوة بنيته وكثرة شبقه كي لا يرتكب فعل الزنى المحرم). كما أنه من الحكمة إباحة الطلاق وحل عقدة ¬

_ (¬1) محمد بن الأمير (رسالة كشف النقاب)، ط. القاهرة، 132. ضمن مجموع. (¬2) رسالة كشف النقاب، ص 133 - 137.

النكاح لمن حصلت بينه وبين زوجته نفرة ولم يجدا علاجا لها حتى لا يكون أحد الزوجين مكرها على الصبر، وقد أنكر البعض نفع ندد الزوجات وإباحة الطلاق وذلك لحصول الضرر منهما، فكان غرض المؤلف الرد على صاحب هذا الرأي. قسم هذه الرسالة إلى مقدمة وبحثين (فصلين) وتتمة وخاتمة. وكانت المقدمة في حكمة التعدد وشرط العدل بين الزوجات، وإذا خاف المقدم على الزواج بأكثر من واحدة من عدم العدل فلا يجوز له التعدد، وحتى ما ملكت اليد مشروط بالإحصان. والبحث الأول ذكر فيه الحكمة من تعدد الزوجات، وبين أثر التزوج من حصول السكون والأولاد. ومن مبيحات التعدد العقم. وكان القدماء يعددون، كما في الإنجيل والكتب القديمة، وكذلك كان الإغريق والرومان. واستبشع ما يحصل من الزنى وظهور اللقطاء، وكذلك ما يترتب على عدم التعدد من وجود النساء بدون أزواج في حالات الحرب، لو حصل الشرط بعدم التعدد. وقد ذكر موجبات العدل والمساواة بين النساء والزوجات وحقوق المرأة المسلمة والكتابية مع إباحة أن تبقى هذه على عقيدتها، لكن الكتابية لا تحصن المسلم أما هو فيحصنها. ومن شروط الكتابية أن تكون حرة وأن يأمن الزوج على أولاده منها في أمور دينهم. وفسر معنى (قوام) للرجال وأوضح أن الرجل فاعل والمرأة منفعلة حسب الطبيعة. وميزات المرأة وامتيازاتها، ولها إثبات الولد من زوجها، وشهادتها تقوم مقام رجلين في حيض العدة. وقال بالرأي الذي يذهب إلى جواز إمامة المرأة، لكنه قال إن ولايتها القضاء مختلف فيها. أما البحث الثاني فهو خاص بالطلاق وأسراره. وخص التتمة بما اتفق عليه الأيمة من أمور كالظهار والإيلاء. وجعل الخاتمة في الحب وكون حب الرجل للمرأة أعظم من حب المرأة له، ثم في وصايا الأمهات لبناتهن عند الزواج (¬1). ¬

_ (¬1) رسالة الفاروق والترياق، ط القاهرة 1327. وكان قد انتهى منه تأليفا عام 1322.

موضوعات أخرى مختلفة

ويظهر مما سبق أن الرسالتين تعبران على رأي رجل محافظ، كما نقول بلغة اليوم، فهو قد أراد أن يساهم في موضوع المرأة، ولكن بجلب الآيات والأحاديث والآراء القديمة والحكمة العقلية على ضرورة الاحتجاب عند المرأة وعلى الحكمة من مشروعية تعدد الزوجات بشرطه، وكذلك الحكمة من إباحة الطلاق عندما يتنافر الزوجان وتنعدم وسائل العيش معا. موضوعات أخرى مختلفة تحت هذه الفقرة نتحدث عن مجموعة من المعارف التي لا يمكن تصنيفها لقلتها. فمنها ما يدخل في الإدارة والنظام العسكري، وما يدخل في السياسة العامة والاستعمار، وما هو في التربية والتعليم والأخلاق، ونحو ذلك. وقد فضلنا الحديث عن التقاويم في الصحافة من فصل المنشآت الثقافية. والغريب أن الجزائريين لم يؤلفوا في المواد الاجتماعية العامة إلا قليلا. وقد رجعنا إلى الكتب المؤلفة بالفرنسية أيضا. فوجدناها ربما أقل، على الرغم مما كان يقال إن الفرنسيين قد أخرجوا فئة (نخبة) مثقفة بالفرنسية. ومهما كان الأمر فإننا سنورد ما توصلنا إليه. ولعله قد فاتنا البعض منه: 1 - مذكرة ابن داود في حكومة فرنسا بالجزائر. وهو عبد القادر بن داود، من الدوائر المخازنية في ناحية وهران. تولى عدة وظائف هامة، منها آغا تيارت، وخاض الحروب إلى جانب الفرنسيين منذ عهد الأمير عبد القادر، وضد أولاد سيدي الشيخ 1864، وتزوج من فرنسية في آخر عمره، وتوفي سنة 1869. أثناء سفارة له عن قومه إلى كلوزيل بالعاصمة طلب منه هذا إبداء رأيه كتابة في سياسة الفرنسيين والحكومة المتوقعة منهم. فكتب المذكرة التي نحن بصددها. وقد اشتهر من نفس العائلة العقيد ابن داود الذي توفي سنة 1913. واكتسب شهرة سلبية بين الجزائريين لأنه رغم تجنسه

وحصوله على رتبة عقيد في الجيش الفرنسي، فإنه ظل منظورا إليه على أنه (أهلي) فيقال في المثل عن ذلك: (العربي عربي وإن كان العقيد ابن داود). والمذكرة عثر عليها بوسكي ونشرها سنة 1907، وهي بعنوان (رأي عبد القادر بن داود عن الفرنسيين وحكومتهم) ويقول بوسكي إنها (رسالة خطية)، كانت في أرشيف الحكومة العامة بالجزائر. والرسالة أو المذكرة قد وضحت دور الإدارة العثمانية في الجزائر، واقترحت العلاج بعد انتقادها للإدارة الفرنسية. فقال إن الفرنسيين لم يأتوا بالحرية التي وعدوا بها. وإنما كان عهدهم عهد فوضى، واهتموا إنشاء نظام خاص بهم وليس بإدارة العرب، وجمعوا أموالا كثيرة بدون فائدة للسكان، ووعدوا بتحقيق التحرر من العثمانيين، ولكنهم لم يفعلوا. ومن رأيه أن العرب يريدون حكومة قوية وعادلة. ودافع عن العرب بكونهم غير متعصبين كما كان الفرنسيون يزعمون عن كل من يعارض استعمارهم. ومن نصائحه للفرنسيين أن يستخدموا العثمانيين (الأتراك) لأنهم الوحيدون الذين كانوا يعرفون الإدارة في الجزائر، وهم على نفس الدين الذي عليه الأهالي. كما أنهم سيقدمون المعونة للفرنسيين (¬1). 6 - جواب المستشارين الأهالي عن تقرير (تريل) حول الحرائق، وضعه أربعة من أعيان قسنطينة سنة 1881. وهم المكي بن باديس وأحمد بن سليمان، ومحمد بن الحاج علي، والأخضر بن مراد. وهو جواب مفصل حاول الأعيان أن يتفادوا به تسليط القوانين الاستثنائية (الاندجينا) التي أخذ الفرنسيون يسنونها لسحق الجزائريين (¬2). 7 - أخبار مختصرة على قواعد التصرفات العمومية في أقليم الجزائر، مؤلفه مجهول. وهو عن الإدارة الجزائرية وكيفية تطبيق الإجراءات الفرنسية. ¬

_ (¬1) بوسكي، (عن عبد القادر بن داود) في (المجلة الجغرافية للجزائر وشمال افريقية) 1907 SGAAN. (¬2) قسنطينة 1881. انظر سابقا.

ولعل الإدارة نفسها هي التي وضعت هذا الأثر، وقد تكون الترجمة قام بها بعض الجزائريين. ولذلك لا نتوقف عنده طويلا (¬1). 8 - إرشاد المتعلمين، لعبد القادر المجاوي، وهو رسالة صغيرة صدرت سنة 1877، بالقاهرة. وقد أثارت ضجة عند ظهورها واتهم صاحبها من الفرنسيين وبعض الجزائريين بأنه يسيء إليهم. وربما تكون الرسالة قد طبعت بإيعاز ودعم من الأمير عبد القادر وأولاده، إذ بينهم مصاهرة مع المؤلف. والمهم أن المجاوي دعا إلى اليقظة وتعلم العلوم على اختلاف أنواعها وكذلك اللغات والملاءمة بين الدين والعلم، وكون الدين ينسجم مع العقل. وبعد العاصفة، هدأت الأمور عندما حبذ (آرنو) الرجل الغامض رئيس تحرير المبشر، آراء المجاوي، فاعتبر ذلك دعما من الإدارة لهذه الآراء. وكان المجاوي عندئذ في أولى مراحله في التعليم بقسنطينة. وقد قرظ الرسالة كاتبان أحدهما من الشام وهو حامد سليمان، وكان عندئذ يقيم في مصر، والآخر مصري وهو وهبي أفندي معلم اللغة الفرنسية عندئذ. يقول المجاوي في أول رسالته: (أقول بعد البسملة ... أن من أشرف ما تميز به الإنسان على سائر الحيوان النطق، ولا نطق إلا بالعلم، كما لا علم بدون معلم. ولقد ساءني ما رأيت في هذا الزمان من فتور المعلمين والمتعلمين حتى أن أهل قطرنا ... قد تراكم عليهم الجهل). أما عن ترتيب الرسالة نفسها فيقول انه جعلها على مقدمة وأربعة فصول وخاتمة. أما المقدمة ففي فضل العلم والتعلم. وأما الفصول: الأول في علوم اللسان، والثاني في علوم الأديان، والثالث في علوم الأبدان، والرابع في المعاش. وخصص الخاتمة لأمثال وحكم وآداب عامة. وقد أشاد باللغة العربية في الفصل الأول، وهو ما لم يكن يسر الفرنسيين على كل حال. كما أن الإشارة إلى شيوع الجهل بين السكان فيها دعوة إلى اليقظة من جهة وإدانة للإدارة الاستعمارية من جهة أخرى. ¬

_ (¬1) الجزائر، 1862.

وفي آخر الرسالة يكشف المجاوي عن علاقته ببعض علماء المشرق وشعرائه. فبالإضافة إلى التقريظين المذكورين، قال عن إبراهيم سراج المدني أنه صديقه وأخوه، وأنه قد تعرف عليه، دون أن نعرف أين وقع ذلك. وأورد له رسالة قال (إنني استمليتها منه ورويتها عنه)، ومدحه بعدة أوصاف، ثم ذكر له قصائد في مدح أمير مكة، وخديوي مصر، وخير الدين التونسي (¬1). 9 - كتاب في الأخلاق للمولود الزريبي: ذكر محمد الهادي السنوسي في ترجمته للمولود الزريبي أن هذا كان قد شرع في تأليف كتاب في الأخلاق وأنه قد نشر منه فصولا في جريدة (الصديق) التي كان الزريبي يشرف عليها. ولا ندري أين وصل في تأليفه، ومن الأكيد أن الكتاب لم يظهر إلى الوجود (¬2). وربما كانت روح الإصلاح الديني والاجتماعي هي الطاغية على هذا الكتاب، لأن نشاط الزريبي كان حول ذلك. وقد مات مبكرا، كما عرفنا. 10 - أسلوب الحكيم في التعليم، تأليف أبو يعلي الزواوي. وقد ذكره في بعض كتبه، ولم نطلع عليه، والغالب أنه غير مطبوع. وقد يكون رسالة صغيرة، مثل أغلب تآليف الزواوي. وكذلك ينسب إليه كتاب آخر في هذا المجال بعنوان (الغني والفقير). ونقول في هذا ما قلناه في سابقه، من عدم النشر وصغر الحجم. وإذا كان موضوع الأول واضحا أنه يعالج طريقة التعليم - في الزوايا؟ - فالظاهر من الثاني أنه في الحياة الاجتماعية وموقف الدين من الفقر والغنى. وربما كان ذلك من الموضوعات التي عالجها أثناء توليه الخطابة بجامع سيدي رمضان بالعاصمة. 11 - رسالة القحط: تأليف محمد الصالح العنتري. وقد نشرها رابح ¬

_ (¬1) الرسالة في عشرين صفحة. ثم من 15 إلى 20 نقول. المطبعة الوهبية، القاهرة، 1294. عن هذه الرسالة وحياة المجاوي من وجهة نظر أجنبية انظر دراسة ألان كريستلو في مجلة (الثقافة). عدد 49، 1978، ص 55 - 64. (¬2) محمد الهادي السنوسي (شعراء الجزائر).

بونار بعنوان (مجاعات قسنطينة). والعنتري كان متعلما شابا. وخطاطا عندما احتلت قسنطينة، فتوظف بالإدارة الفرنسية الجديدة كاتبا. ومن خلال عمله اطلع على وثائق كثيرة في التجارة والاقتصاد وغيرها من المعاملات. ثم عاش إلى أن وقعت: أحداث هامة، سيما مجاعات (نكبات) 1867 - 1869. وقد أرخ لذلك، وإذا شئت سجل ذلك من أوراقه وذكرياته في رسالته الصغيرة التي نحن بصددها. ويبدو أنه كان يريد جمع معلومات غزيرة ونشرها في كتاب كبير. وقال إن المجاعة الكبيرة وقعت سنة 1867، وشملت مدينة قسنطينة نفسها، كما حلت بالأقليم كله. وروى عن الناس الكبار بأنهم لم يعرفوا مثلها، وأن الفقراء والضعفاء هم الذين عانوا منها أكثر من غيرهم. إنها مجاعة سوداء. فقد حل الجراد، فاضطر الناس إلى أكل الأعشاب وما لا يحل أكله، بما في ذلك القطط والفئران. وافتقر الأغنياء نتيجة المجاعة حتى فرغت مخازنهم. وارتفعت الأسعار فوق الوصف والطاقة. ثم حل الجفاف فأتى على الزرع والضرع. ولم يتوفر العلف إذ نفد ما كان مخزونا من القرط والتين. كما حلت أمراض أخرى وأوبئة بالمجتمع أدت إلى هلاك الآلاف منه. أما النجدة فقد جاءت، في رأي العنتري، من حكام فرنسا. وقد أشاد بهم وبأفعال فرنسا (الخيرية) التي لولاها لحل بالجزائر أكثر مما حل بتونس عندئذ (¬1). ولم يدرك العنتري أن الكولون لم يصبهم ما أصاب الجزائريين لأنهم كانوا يتمتعون برصيد من الأرض الخصبة والمخزون الاحتياطي، وأنهم لم يأكلوا بعضهم بعضا كما فعل بعض الجزائريين. وكذلك لم يدرك أن الجزائريين كانوا في الماضي يحتاطون فيخزنون حبوبهم وعلف دوابهم في المطامير لوقت الحاجة. ولكن ذلك كله ذهب مع استعمار الأرض بعد اغتصابها وتهميش أصحابها. ومع ذلك فالعنتري مشكور أنه ترك وثيقته ليعرف الخلف منها ما ارتكب الأجانب في بلادهم وما أكملته الطبيعة وهم شاهدون. ¬

_ (¬1) مجاعات قسنطينة، تحقيق رابح بونار، الجزائر 1974. انظر أيضا عبد الحميد زوزو (نصوص)، ص 98.

12 - النور الوقاد في تعزية الأولاد: ألفه محمد الموسوم (الميسوم) شيخ الشاذلية في قصر البخاري. وقد سبق الحديث عن المؤلف. والكتاب يبدو أنه بقي مخطوطا، وألفه بعد وفاة أحد أبنائه سنة 1297. ويقع، حسب تعريف الخلف، في خمس كراسات. وكان أحمد المختار بن الشيخ الموسوم هو الذي أعطى المعلومات إلى صاحب تعريف الخلف. ولعل في العنوان بعض الخلل أو الخطأ (¬1). 13 - عقود الجواهر في حلول الوفد المغربي بالجزائر: ألفه محمد بن مصطفى بمناسبة زيارة وفد رسمي من السلطنة المغربية للجزائر بدعوة وتنظيم من السلطات الفرنسية. وكان ذلك في إطار التحضير لاحتلال المغرب ونشر النفوذ الفرنسي فيه. وكان الوفد برئاسة محمد الجباص، مبعوث السلطان. والرسالة - الكتاب تصف حسن الاستقبال الذي حظي به الوفد من قبل أعيان الجزائر طيلة إقامته التي دامت حوالي شهرين (¬2). وصادفت الزيارة حلول الشيخ محمد عبده بالجزائر أيضا، فحضر بعض أعضاء الوفد محاضراته. 14 - مجموع مشتمل على قوانين مفيدة وتنظيمات سديدة، إشراف وتقديم محمد بن مصطفى. وهو عمل قام بإعداده وترتيبه تحت إشراف الحكومة العامة بالجزائر، بمناسبة زيارة الوفد المغربي الذي سبقت إليه الإشارة. وكانت الزيارة في عهد الحاكم العام ريفوال، سنة 1901. وقد وصف محمد الجباص رئيس الوفد بأنه (صاحب الذوق السليم والعقل الرصين ... مشغوفا بحب المعارف والتفنن، والتقدم العصري والتمدن). ويفهم من المقدمة أن الجباص هو الذي طلب من الحاكم العام الإطلاع على القوانين الجاري بها العمل في الجزائر وكذلك التراتيب الإدارية المدنية ¬

_ (¬1) تعريف الخلف 2/ 516. (¬2) ط. الجزائر 1902، 25 صفحة. انظر محمد المنوني (المصادر العربية لتاريخ المغرب) 2/ 247.

والعسكرية، فأجابه الحاكم العام إلى طلبه وأمر له بترجمة النصوص المطلوبة، كما شمل ذلك بعض التنظيمات التونسية. وهذا العمل هو الذي أشرف محمد بن مصطفى على مراجعته والإضافة إليه، وقد جعله على قسمين: مدني وعسكري. وأحال على (أقوم المسالك) لخير الدين التونسي ومؤلفات رفاعة الطهطاوي وعلي مبارك (وما أشبهها من الكتب النفيسة). وهذا يدل على أن محمد بن مصطفى كان ما يزال عندئذ محررا في جريدة المبشر وتابعا لإدارة الشؤون الأهلية التي كان يشرف عليها دومينيك لوسياني. كما يدل على إعجابه بالمؤلفين المذكورين (خير الدين والطهطاوي ومبارك) لصلتهم بالحضارة الغربية واقتناعهم (بالتقدم العصري والتمدن) (¬1)، الذي امتدح به محمد الجباص. وقد لا يكون محمد بن مصطفى واعيا بما كان الفرنسيون يخططون للمغرب من خطط لاحتلاله، ولكن زميله إسماعيل حامد كان واعيا لذلك كل الوعي. 15 - السعي المحمود في نظام الجنود: تأليف محمد بن محمود ابن العنابي. وهذا الكتاب ألفه صاحبه عشية الاحتلال، ولكنه قد عاصر الاحتلال، وحكم عليه الفرنسيون بالنفي في الأسابيع الأولى، فعاش في مصر حوالي عشرين سنة أخرى مفتيا ومؤلفا. وكان المفروض أن ندرس هذا الكتاب في الجزء الثاني من هذه الموسوعة. ثم بدا لنا أن نفرده بدراسة خاصة تضمن حياة مؤلفه أيضا. وهو ما قمنا به فى كتابنا (رائد التجديد الإسلامى: ابن العنابى). وقد حللنا هناك فصول (السعي المحمود) ومنهج المؤلف فيه. ودوافعه وأهدافه. كما قام محمد بن عبد الكريم بتحقيق نصه. ولذلك لن نطيل ¬

_ (¬1) طبعت التنظيمات المذكورة (مجموع مشتمل ...) بالجزائر 1902 (1320). انظر ص 3، 14 عن رأي الكمال في الجباص وخير الدين. وكذلك المنوني (المصادر) 2/ 248.

الحديث عنه هنا (¬1). ومهما كان الأمر فإن السعي المحمود يتناول الأساليب والقواعد العسكرية طبقا للشريعة الإسلامية ومستجدات الحضارة الأوروبية وموقف المسلمين منها. 16 - وشاح الكتائب وزينة الجيش المحمدي الغالب: كتبه قدور بن رويلة بإملاء وإشراف الأمير عبد القادر. والوشاح هو التنظيمات العسكرية التي وضعها الأمير لجيشه، في الترقية والتصنيف، والتوسيم، والواجبات والحقوق، والألبسة والعلامات وما إلى ذلك. وهو أول نظام عسكري يضعه الجزائريون لنواة جيشهم الجديد الذي كان يسمى الجيش المحمدي. وتشيع الروح والتقاليد الإسلامية في هذا النظام سواء في الآيات أو الآثار التي تضمنتها التنظيمات. وقد كان الجيش الجزائري قبل ذلك تحكمه قوانين الانكشارية الذين كانوا في معظمهم أجانب ومغامرين، ولا تحكمهم تنظيمات وإجراءات ثابتة وإنما تحكمهم النزوات والمصالح. دور قدور بن رويلة كبير في الوشاح: وهو الصياغة والتبويب. أما الأفكار فقد تكون لجماعة تحت إشراف الأمير نفسه. وكان ابن رويلة من المثقفين الوطنيين الذين هربوا إلى دولة الأمير بعد الاحتلال، واستقروا في مليانة تحت إدارة ابن علي مبارك. ثم أصبح المادح والكاتب للأمير إلى أن وقع في الأسر. أما وشاح الكتائب فقد ترجمه الفرنسيون عدة مرات، ومن ذلك ترجمة (مجلة الشرق) له سنة 1844. وقد رة المترجم على من كان يقول إنه لم يكن لدولة الأمير نظام عسكري تسير عليه وتنظيمات يخضع لها القادة والجنود، بأن وشاح الكتائب خير دليل على وجود سلام دقيق. وقد نشرته المجلة المذكورة على حلقتين. وفي آخر النص أن الكاتب هو قدور بن ¬

_ (¬1) ظهرت ط. الأولى من دراستنا عن ابن العنابي وكتابه بعنوان (المفتي الجزائري - المصري: ابن العنابي) الجزائر 1978. وفي ط. 2 ظهر بعنوان (رائد التجديد الإسلامي)، بيروت، 1990. انظر محمد بن عبد الكريم (السعي المحمود)، الجزائر 1982 ..

محمد بن رويلة الجزائري (من مدينة الجزائر) الذي هرب بعد استيلاء (أهل الصليب) على الجزائر ولجأ إلى مليانة لخدمة الحاج عبد القادر الذي هو من قبيلة غريس - الحشم. وقد تضمنت الترجمة أيضا فصلا عن تربية الأمير وفروسيته (¬1). 17 - خيول الصحراء أو الخيول العربية: ألفه يوجين دوماس. ولكنه تضمن آراء الأمير عبد القادر في صفات الخيل وتربيتها ومعاملة العرب لها ومكانتها وما ورد فيها في التراث ونحو ذلك. فقد اعتمد دوماس على الأمير- وربما على غيره أيضا - كثيرا في هذا الباب. ولذلك نعتبر الأمير مساهما في تأليف هذا الكتاب الذي أحرز على سمعة كبيرة في الأوساط الأوروبية والأمريكية بعد ترجمته إلى الإنكليزية أيضا. وقد تضمن الكتاب أيضا ترجمة لقصيدة الأمير في الحضارة والبداوة (¬2). 18 - عقد الأجياد في الصافنات الجياد: تأليف محمد بن الأمير عبد القادر. وهو في أوصاف الخيل وأنواعها وآدابها. وهذا هو الكتاب المطول الذي ضمنه المؤلف رصيدا وافرا من كتب التراث حول الخيل دلت على تمكنه في الأدب والتاريخ والمنوعات الثقافية. وقد طبعه أول مرة في حياة والده (1290) في بيروت. ثم طبع ثانية ضمن منشورات المكتب الإسلامي على نفقة أحد أمراء الخليج وأضيفت إليه مقدمة ورسالة أخرى في الخيل ليست لمحمد بن الأمير. ولكن (عقد الأجياد) يبلغ 376 صفحة في هذه الطبعة. وقد اطلعنا عليه. وهو أقرب إلى أن يكون كتاب أدب وإمتاع منه ¬

_ (¬1) مجلة الشرق، سنة 1844، الحلقة الأولى ص 225 - 234، والثانية ص 341 - 355. وتوقيع المترجم بالحروف الأولى فقط. A.H . وقد قام محمد بن عبد الكريم بتحقيق ونشر (وشاح الكتائب)، الجزائر، 1968. عن ابن رويلة انظر (تحفة الزائر) 2/ 64. ط. 1، وقد أشرنا إلى حياته في عدة مناسبات. وتوفي في بيروت، 1855 (1272). (¬2) يوجين دوماس (خيول الصحراء)، ترجم إلى الإنكليزية، عن قصيدة الأمير انظر ص 515 - 517.

كتاب حرب وفروسية (¬1). 19 - نخبة عقد الأجياد في الصافنات الجياد: تأليف محمد بن الأمير عبد القادر أيضا. وهو كتاب مختصر عن الأول. وقد طبع أيضا مرتين على الأقل، الأولى في حياة الأمير سنة 1293، والثانية سنة 1326 (¬2). والكتابان في موضوع واحد وهو الخيل العربية. وأصولها والآداب المتصلة بها ودورها في حياة المجتمع. وربما كان محمد متأثرا أيضا بآثار والده في الفروسية والحرب وفي الأدب وإجاباته الفرنسيين عن طبائع الخيل. وهل نستطيع أن نغامر فنقول إنه كان للأمير دور في إخراج (عقد الأجياد؟). 20 - ورقات في رواج السكة بالزيادة، تأليف أبي حامد المشرفي. والظاهر أن هذا التأليف يتناول مسألة الفوائد على النقود، أي فيما يسمى عند الفقهاء بالربا. وكانت هذه القضية قد كثر حولها الجدل عند دخول رأس المال الأجنبي إلى المغرب والعامل نع المسلمين في الأموال. وها هو المشرفي يدلي برأيه في الموضوع الذي هو فقهي واقتصادي معا (¬3). 21 - الرسالة في أهل البصبور الحثالة، لنفس المؤلف (المشرفي). وكان هذا التأليف نتيجة الضغوط على المغرب في آخر القرن الماضي لقبول الحماية الأجنبية على من أراد من أبنائه الدخول في عهدة هذه الدولة أو تلك، والحصول على جواز السفر، ونحو ذلك من الإجراءات الجديدة على المجتمع المغربي. أما المشرفي فقد عرفنا أنه من نزلاء المغرب بعد أن ولد ونشأ في الجزائر. وقد ترك مؤلفات كثيرة تناولناها في غير هذا. وحظي عند ¬

_ (¬1) عقد الأجياد، ط. 2، دمشق 1963. (¬2) نخبة عقد الأجياد، ط 1، 410 صفحات، ط 2، 304 صفحات. كلتا الطبعتين في بيروت. (¬3) انظر دراستنا لمؤلفات المشرفي في أبحاث وآراء ج 3.

سلاطين المغرب بمكانة كبيرة، سيما السلطان الحسن الأول. وكان مع ذلك دائم الشكوى (¬1). 22 - المعلومات الحسان في مصنوعات تلمسان: تأليف القاضي شعيب الجليلي. وكان المؤلف من علماء الدين ومن الأدباء والمولعين بالموسيقى، وممن لهم باع في التصوف أيضا. وربما كان أبعد الناس عن (المصنوعات)، ومع ذلك فقد استجاب لطلب من الحاكم العام بالجزائر وألف عن مصنوعات تلمسان، وهو تأليف يدخل في الفنون الشعبية والصناعات التقليدية، والحرف. وربما كان ذلك بمناسبة انعقاد أحد المعارض الدولية في باريس، إذ سرعان ما ترجم التأليف إلى الفرنسية وطبع. ولا ندري إن كان أصله العربي قد طبع معه أيضا. ونعتقد أنه كتاب مفيد في بابه إذ كتبه أحد أبناء تلمسان العارفين بمكانتها في التاريخ والتقاليد والفن (¬2). 23 - قواعد التجارة العصرية: تأليف عبد الحق بن وطاف القسنطيني. وعنوان الكتاب غير دقيق لأننا استخرجناه فقط مما كتب محمد المنوني عن الكتاب. وقد ظهرت طبعته الأولى بفاس، سنة 1911. وكان ذلك عشية الاحتلال الفرنسي للمغرب. فهدف الكتاب إذن هو خدمة التجار الجزائريين (الكولون؟) والمغاربة، وإطلاعهم على الأساليب والمعاملات التجارية الجديدة. وكان بعض زملاء ابن وطاف قد نشروا المعاجم الدارجة أيضا بهدف تسهيل التجارة والاتصال، وذهب آخرون إلى المغرب بقصد دراسة اللهجات والطرق الصوفية والمخطوطات والجاليات، وأيضا الجوسسة. ومهما كان الأمر، فإن مؤلف الكتاب وضعه على مقدمة وثلاثة أقسام. الأول في القانون التجاري الفرنسي، وهو بيت القصيد، لأن المعاملات كانت ¬

_ (¬1) انظر دراستنا لحياة المشرفي في المصدر السابق. (¬2) ط. بباريس، 1900. انظر مخطوط ك 48، الخزانة العامة بالرباط. أما القاضي شعيب فقد ترجمنا له في فصل السلك الديني.

لا تتم إلا به. والثاني في مسك الدفاتر والحسابات. والثالث في المراسلات التجارية. وقد عايش ابن وطاف طويلا بعد نشر كتابه، مما يدل على أنه كان في مقتبل عمره سنة 1911. وربما كان من خريجي إحدى المدارس الرسمية الثلاث بالجزائر (¬1). 24 - مطالع الأنوار في حكم الاحتكار: تأليف إدريس بن محفوظ الدلسي، وقد كان من المهاجرين إلى تونس، ولا نعلم عن التأليف سوى أنه في المعاملات في المال مع غير المسلمين. ولعله يشبه كتاب المشرفي سابق الذكر (ورقات في رواج السكة بالزيادة). ولا ندري إن كان التأليف مطبوعا. 25 - تبيان الإجمال في مقاصد الاحتلال: لنفس المؤلف (الدلسي). وهو الاحتلال الفرنسي لتونس، مع بيان فساد السياسة الفرنسية. وقد جعله على مقدمة وخمسة فصول وخاتمة. 26 - تحرير البيان في الرفق بالحيوان: تأليف الدلسي سابق الذكر. نشره ابنه بعد وفاته. وهو رسالة صغيرة. وموضوعه يدل عليه عنوانه (¬2). 27 - رسالة في الأوبئة والجوائح: تأليف القاضي المسيسني الصدوقي. وهو من مواليد 1241 بنواحي صدوق. ودرس في الزوايا بالمنطقة وتفقه في الفرائض ثم تولى التدريس في الزوايا ومنها زاوية سيدي موسى ببني وغليس التي بقي بها حوالي أربعة عشر عاما. وبعدها تفرغ للتدريس في بيته في سيدي عيش. وكان ماهرا في فهم وتدريس مختصر الشيخ خليل في الفقه. ونعرف أنه ولد عشية الاحتلال الفرنسي وأن نموه ونشاطه صادف توسع وسيطرة هذا الاحتلال لا سيما في منطقة زواوة حيث الطريقة الرحمانية كانت متصدية للاحتلال مدة طويلة. وقد ورثت زاوية ¬

_ (¬1) ط. الكتاب في فاس سنة 1911، في 351 صفحة، عدا التقاريظ. انظر المنوني (المصادر العربية) 2/ 249. وقد توفي ابن وطاف بفاس سنة 1957. (¬2) عن الدلسي انظر محمد محفوظ (تراجم المؤلفين التونسيين). وتحرير البيان، نشره الحبيب الدلسي، سنة 1951، في 56 صفحة.

صدوق البركة من زاوية آيت إسماعيل على عهد الشيخ الحداد الصدوقي خلال الستينات من القرن الماضي. ومن جهة أخرى نذكر أن عائلة المسيسني كانت مستوطنة في العاصمة أيضا في آخر العهد العثماني، وقد وجدنا لها بعض العناصر المتنفذة في السلك الديني (¬1). ويذهب بعض الباحثين إلى أن القاضي المسيسني قد عاصر الجوائح التي حلت بالجزائر خلال الستينات (1867 - 1868) وترتبت عليها وفيات كثيرة، ومنها الجراد والجفاف والوباء. وربما ألف المسيسني كتابا في الموضوع وصف فيه أثر الجوائح على الشعب الذي كان يموت بالآلاف في الطرقات والمداشر. فقد عثر بعض أحفاده على أوراق قد تكون من كتاب ألفه، وتحدث فيها عن غلاء الأسعار والأمراض والجوع نتيجة الجوائح التي ذكرناها. كما وصف محاولة الناس طرد الجراد، ونكبة الجفاف وأداء صلوات الاستسقاء، وحمل المتصدقين للطعام إلى المساجد والأضرحة لعل المطر ينزل. كما وصف ما حل بالمواشي من الهزال حتى أصبحت تباع بأبخس الأثمان. وفي سنة 1868 (1264) فقد البذر، وحل الغبار في الأسواق فانتشر الوباء. وقد ذكر المسيسني المراسي التي كانت بها الحبوب وأسعارها. ومن نتائج هذه الجوائح بيع الناس أطفالهم وتعرض النساء للزنا للحصول على القوت، وما حل بالناس من الوفيات إذ بلغ العدد في ولاية العاصمة عندئذ 240 ألف ميت، بناء عليه. وقد نوه الشيخ بدور الزوايا عندئذ مثل زاوية صدوق (¬2). وتوفي المسيسني بمسقط رأسه، سنة 1305. وهو كما ترى معاصر لمحمد الصالح بن العنتري مؤلف (رسالة القحط) التي تناول فيها أيضا موضوع الجوائح، ولكن العنتري أكبر منه سنا. 28 - صيانة الرياسة في القضاء والسياسة: تأليف محمد بن محمود بن العنابي. ألفه في مصر في عهد محمد علي باشا. وأراد به توحيد الأحكام ¬

_ (¬1) انظر كتابنا (تاريخ الجزائر الثقافي). (¬2) انظر محمد الصالح الصديق (شخصيات ومواقف)، الجزائر، 1992. كما راسلني به محمد الحسن عليلى (؟). والشيخ المسيسنى من شيوخ محمد سعيد بن ز كري.

طبقا للمذاهب الأربعة في مسائل التجارة والعقارات وما إليها قطعا لتلاعب المتقاضين وتسهيلا على القضاة وخدمة لسياسة الدولة وقوانينها. وتعتبر محاولة رائدة بالنسبة للمؤلف والوالي محمد علي. وقد درسا الكتاب في كتابنا (رائد التجديد الإسلامي) بعد أن حصلنا منه على نسخة نسخها لنا بخطه السيد فرج محمود فرج المصري، وأصل المخطوط في مكتبة الإسكندرية حيث كان ابن العنابي مفتيا (¬1). ... عرفنا أن الكتابات الجزائرية بالفرنسية لم تظهر إلا ابتداء من الثمانينات. وكان ظهورها قد تمثل في العرائض والمقالات الصحافية وبعض المحاضرات. وقلما ظهرت كتب ذات قيمة تعالج موضوعا بعينه. وقد تحدثنا عن ظهور أعمال في اللغة والتاريخ والفولكلور. أما الكتب السياسية والبحوث ذات الرأي في أوضاع الجزائريين ومستقبلهم، فقد ظهرت في معظمها بعد الحرب الأولى، وكان أصحابها عادة من الاندماجيين، وكانت تتصدرهم طائفة قليلة من المعلمين مثل الزناتي وصوالح والفاسي، والسياسيين مثل الأمير خالد وفرحات عباس. ومن كتب الرأي أيضا ما ألفه إسماعيل حامد والشريف بن حبيلس قبل الحرب الأولى، ولكن حجم هذه الكتابات ظل ضئيلا إذا نظرنا إلى مدة الاستعمار الفرنسي. أما بعد الحرب العالمية الثانية فقد أنتج عدد من الاندماجيين والسياسيين كتيبات ذات طابع اجتماعي وسياسي تمس القضية الجزائرية ومستقبل البلاد. وهي على العموم كانت كتيبات لا تعكس ما عليه المجتمع من توتر وتطلع إلى الحرية ولا المستوى الفكري الذي عليه المثقفون بالفرنسية. ولا بد أن نستثني من ذلك الانتاج الأدبي بالفرنسية، كما سبقت الإشارة (¬2)، وكذلك مؤلفات مالك بن نبي. وها نحن نذكر نماذج من الكتابات الاجتماعية والسياسية وما قاربها ¬

_ (¬1) انظر (رائد التجديد الإسلامي)، ط. 2، بيروت 1992. (¬2) انظر فصل اللغة والنثر الأدبي.

مما ألفه الاندماجيون منذ مطلع هذا القرن. 29 - المسلمون الفرنسيون في شمال افريقية: تأليف إسماعيل حامد. وقد اشتغل مترجما عسكريا لدى قيادة الأركان الفرنسية. ومن المؤمنين بدور النخبة المتفرنسة. وكان من دعاة قابلية الجزائريين للاندماج والتعلم والتقارب مع الفرنسيين، أثناء موجة قادها الكولون وأنصارهم بعكس ذلك. فقد كان هؤلاء يقولون إن الجزائريين غير قابلين للتعلم والاندماج لأنهم متعصبون ومعارضون للتقدم. وكان كتاب (المسلمون الفرنسيون) يحاول تكذيب هذه الأطروحة. فالجزائريون تزوجوا بفرنسيات، وتجنس منهم البعض، وأظهر من درسوا في المدارس الفرنسية تسامحهم الديني والسياسي، ولم يعد الجزائريون متعصبين حتى أن الممارسات الدينية أصبحت عندهم، في دعواه، ضعيفة، وقل عدد الحجاج، وأول من تعامل مع الفرنسيين هم رجال الدين الخ. وقد ذكر أسماء عدد من الكتاب بالفرنسية مثل الطيب مرسلي ومحمد بن رحال. وهناك في نظره صحافيون ومحامون ومترجمون وعسكريون وأساتذة. وكلهم من الاندماجيين (النخبة) الذين برهنوا على ولائهم للفرنسيين واستعدادهم للتعامل معهم لو وجدوا إلى ذلك سبيلا. وقد كتب إسماعيل حامد أبحاثا أخرى تسير في نفس الخط (¬1). وكان يقول: إنه لا يوجد دين أكثر تسامحا من الإسلام ولا شعب أكثر تسامحا من المسلمين. وكان ألفريد لوشاتلييه، أستاذ علم الاجتماع الإسلامي في الكوليج دي فرانس، هو الذي قدم كتاب حامد المذكور. وقد وجدنا الأمير شكيب أرسلان في العشرينات يستشهد منه ببعض الآراء، عندما كان يعلق على كتاب لوثروب (حاضرالعالم الإسلامي) (¬2). ¬

_ (¬1) إسماعيل حامد (المسلمون الفرنسيون في شمال افريقية)، ط. باريس، 1906، 316 صفحة. مراجعة أفريقية الفرنسية. A.F غشت 1906، الملحق، ص 267? 268. عن نفس الموضوع انظر أيضا ليون غوتييه في محاضرة له يوم 10 مايو، 1906، والمجلة الجغرافية للجزائر وشمال افريقية SGAAN,1906، 210 - 214. انظر ترجمتنا لإسماعيل حامد. (¬2) انظر دراستنا عن شكيب أرسلان والحركة الوطنية في الكتاب التذكاري المهدى إلى نقولا زيادة باسم (أوراق في التاريخ والأدب).

30 - الجزائر الفرنسية كما يراها أهلي: تأليف الشريف بن حبيلس، وهو مجموعة آراء وملاحظات جمعها المؤلف ونشرها سنة 1914. وقد جاء الكتاب على لسان الاندماجيين الذين منهم حامد وابن التهامي وبوضربة ومرسلي. وفي الكتاب أصداء هذه الفئة التي تبنت التجنيد الإجباري إذا كان يحقق المطالب السياسية والمساواة بين الجزائريين والفرنسيين. والمؤلف واحد منهم. وقد رجعنا إلى هذا الكتاب بكثرة عند تحريرنا للحركة الوطنية، ج 2. 31 - المجتمع الأهلي في أفريقية الشمالية: تأليف محمد صوالح. منذ تم احتلال الأجزاء الثلاثة لبلدان المغرب العربي اليوم، انطلق بعض الكتاب يضربون على نفس الوتيرة ويؤكدون على الاستعداد للاندماج والمشاركة أمام تعنت الفرنسيين ورفضهم الاعتراف بالمساواة بينهم وبين الجزائريين - وكل سكان المنطقة -. وعبارات (المجتمع الأهلي) و (شمال افريقية) هي نفسها من مبتكرات الاستعمار الفرنسي. وقد كانوا من قبل يسمون الجزائر (إفريقية). أما المؤلف فقد كان من الاندماجيين أيضا، وتدرج في سلك التعليم حتى حصل على الدكتوراه، وشارك في الحرب الأولى، وألف أعمالا حول المجتمع من وجهة نظر استشراقية أو كانت تخدم الاستشراق الفرنسي، كالحديث عن عادات الناس في رمضان، وعن الشعر الشعبي، واللهجات. وكان كتابه الذي نحن بصدده من أواخر ما صدر له، وقد توسع فيه لكي يشمل الجزائر وتونس والمغرب وحتى الصحراء، ونشره سنة 1934. والظاهر أنه أعده لكي يكون كتابا مدرسيا. فقد قال عنه متن راجعه أنه هدف من ورائه إلى تحقيق رغبة مدير التربية الفرنسي في الجزائر - وهو جورج هاردي - الذي حث على ضرورة وضع المجتمع الأهلي بين أيدي تلاميذ المدارس. ولذلك جاء كتاب صوالح مقسما على النحو التالي: الجزء الأول في أصناف المجتمع، والتجمعات والملامح والأساطير والأمثال. والجزء

الثاني في نمط الحياة العامة والعادات والتقاليد والنظم والحكايات. والجزء الثالث في الاتجاه نحو المستقبل والعمل المنتظر من فرنسا وتطور المجتمع الأهلي. وتضمن كل فصل مجموعة من الصور. واعتبر المراجعون هذا الكتاب مجموعة من النصوص الموجهة لتلاميذ المدارس الفرنسية (¬1). وأساس الكتاب هو ما يمكن أن نسميه علم الاجتماع المغاربي، ولكن بانطلاقة ورؤية فرنسية. 32 - الشاب الجزائري: ألفه فرحات عباس. وهو مجموعة مقالات كان قد نشرها باسم مستعار خلال العشرينات في جريدة (التقدم) التي أنشأها بلقاسم بن التهامي، زعيم الاندماجيين عندئذ وخصم الأمير خالد في الانتخابات المحلية. و (الجزائري) في عنوان الكتاب تشمل الشباب المسلم والفرنسي. وكان صدور الكتاب أثناء الاحتفال بمائة عام على الاحتلال قد جعل له صدى خاصا، وفيه يعكس فرحات عباس وجهة نظره كشاب يطمح إلى أن يلعب دورا في الحياة السياسية ويكون لسان الفئة الاندماجية. ولكن السنوات غيرت رأيه وتطور من الرجل الاندماجي إلى الزعيم الاستقلالي (¬2). 33 - رسائل جزائرية: كتبها حسني لحمق. وهي رسائل سياسية، أدبية. عبر فيها المؤلف عن نقده للإسلام والعروبة وعن قناعته برومنة وفرنسة الجزائر وأهلها. وقد أثار كتابه ردود فعل من جانب الحركة الإصلاحية والوطنية إذ اعتبر لحمق مرتدا ومنحرفا عن خط المجتمع الجزائري. وكان في الواقع ضحية أخرى من ضحايا المدرسة التنصيرية والاستشراقية التي وسوست عقول أمثاله من الجزائريين (¬3). وكان فرحات عباس منهم عندما ¬

_ (¬1) محمد صوالح (المجتمع الأهلي ...) ط. الجزائر 1934، ومراجعة لوسيان بيسيير في المجلة الجغرافية للجزائر وشمال افريقية 1934، ص 87 - 89. (¬2) الشاب الجزائري، ط. 1، 1930. وله ط. 2 بعد الاستقلال، تضمنت إضافات. (¬3) حسني لحمق (رسائل جزائرية) 1930، عن هذا المؤلف انظر أيضا مذكرات مالك بن نبي، وقد عاصره في فرنسا.

ظهور مالك بن بني

نفى وجود أمة جزائرية ووطن. 34 - الجزائر تحت الرعاية الفرنسية ضد الاقطاعية الجزائرية، تأليف سعيد الفاسي، سنة 1936. ظهور مالك بن بني يمثل مالك بن نبي مدرسة فكرية مستقلة بين المدارس الفكرية التي عرفتها الجزائر منذ الحرب العالمية الأولى. فلا هو من تيار المدرسة الاستعمارية التي نشأ فيها أمثاله وأخذوا علمها ولغتها، أي أولئك النخبة الاندماجية أو النخبة الإسلامية التي رضيت بالوظيف بعد التخرج واكتفت بما تطعمها به الإدارة الفرنسية. ولا هو من تيار المدرسة السياسية التي أنشأها الأمير خالد ثم نجم الشمال الإفريقي ثم حزب الشعب، إذ كان ابن نبي كثير النقد لهذه المدرسة ولا سيما أثناء زعامة مصالي الحاج لها. ولم يكن ابن نبي من التيار السياسي الآخر الذي بناه الدكتور ابن جلول وفرحات عباس لأن هؤلاء كانوا في نظره فوقانيين ومنحرفين، ومن ثمة كان أيضا كثير النقد لهم. ورغم أنه كان يحس بالطبيعة أنه من تلاميذ مدرسة ابن باديس فإنه كان أيضا بعيدا عنهم لضيق مجالهم وتخليهم عن دورهم الأساسي في نظره ثم لسذاجتهم. وهكذا كان ابن نبي كثير النقد للمدرسة الإصلاحية أيضا، ولم يسلم من نقده لا ابن باديس ولا العقبي ولا التبسي. ولذلك قلنا إنه كان مستقل الفكر ويمثل مدرسة على حدة. ينتمي ابن نبي إلى بيئة مزدوجة. ففي قسنطينة حيث ولد سنة 1905، كان يجد حياة المدينة العربية الإسلامية من جهة والمدينة الأوروبية من جهة أخرى. وفي تبسة حيث أصول والدته وحيث درس المرحلة الابتدائية، وجد ألفي سنة من تاريخ الجزائر ممثلة في بقايا الآثار الرومانية وفي الزوايا الصوفية. وفي تبسة أيضا نفس الازدواجية التي لقسنطينة حيث الحضارة والبداوة. ويمثل البداوة قبائل النمامشة وأولاد سيدي يحيى وأولاد سيدي

عبيد. بينما المعالم الأوروبية تتمثل في مدرسة السيدة بيل والبلدية المختلطة ومسجلات الأغاني العصرية. وفي هذه الازدواجية الضاربة في العمق كان المجتمع الجزائري يشهد تحولات كثيرة، فعائلات قسنطينة الغنية كانت (تتصعلك) - حسب تعبير ابن نبي نفسه - وتترك مكانها لعناصر جديدة لا تتورع عن شرب الخمر وممارسة القمار والتخلي عن الملابس المطرزة والطرابيش. إنها عائلات أخذت تفقد أصالتها وتقبل على تقليد الأوروبيين. أما الفقراء فقد كانوا يزدادون فقرا لانتزاع أراضيهم وإعطائها إلى الكولون ولتطبيق قوانين الأندجينا في الغابات والرعي وفقدان التوازن بين المدينة والريف. أما في تبسة فالتحول كان يظهر في أيام الأسواق وجلسات المقاهي وزيارات المسؤولين من جهة، كما يظهر في المظالم التي تجري خارج أسوار المدينة الصغيرة وحيث تبدأ حياة الريف الحقيقية. وزيادة في هذا التناقض والازدواجية كانت جدتا امن نبي ترويان له في صغره ما حل بهم أثناء هجوم الاستعمار الفرنسي على قسنطينة وعلى تبسة وما أصاب العائلات والبنات من هلع وخوف ومن سلب ونهب ومن تشريد وضياع، فكانت الصورة التي تكونت عند ابن نبي وهو في طفولته أن الجزائر مغتصبة وأن الذي اغتصبها هو الفكر الآخر. وأن قومه كانت تنقصهم معرفة وفهم أنفسهم أولاد ثم معرفة وفهم ذلك الفكر الآخر نفسه. بعد التعلم الابتدائي في تبسة في المدرسة الفرنسية الوحيدة، وفي الكتاب القرآني الذي لم يتجاوز فيه سورة (سبح لله) رجع ابن نبي إلى قسنطينة ليواصل تعلمه في المدرسة الفرنسية الوحيدة أيضا والمفتوحة بقيود لأبناء الجزائريين (الأهالي) الذين يرغبون في التوظف لدى الإدارة الفرنسية في مجالات القضاء أو التعليم أو الترجمة. وهذه المدرسة كانت تستقبل حتى إلى أوائل هذا القرن أبناء الموظفين في تلك الاختصاصات وأبناء القياد وقدماء المحاربين. ويخبرنا ابن نبي بأن والده كان موظفا في البلدية المختلطة في تبسة وكان صديقا للحاكم الفرنسي (المتصرف الإداري). ومن أجل ذلك حصل

على مقعد في مدرسة قسنطينة الرسمية. ولم يكن ابن نبي دون المستوى، فقد كان ذكيا شديد الملاحظة وكثير الطموح. ولكن هذه الميزات لم تكن بالضرورة من المرشحات للدراسة عندئذ، سيما الدراسة الداخلية. ومن المفهوم أنه بقي في تبسة طيلة الحرب العالمية الأولى، لأنه لم يبدأ الدراسة في قسنطينة إلا سنة 1921. كان عمره عندئذ خمسة عشر عاما، وآثار الحرب قد تركت بصماتها السياسية والفكرية المعروفة، غير أن قسنطينة كانت عند دخوله المدرسة تعرف نشاطا جديدا كغيرها من سائر المدن. ظهرت فيها جريدة (النجاح) وحركة ابن باديس التعليمية، وكانت تصلها جرائد تونس بالعربية. وكانت مقاهيها وساحاتها تضج بالحديث عن السياسة والفن والزعامات وحركة الأمير خالد ومسألة الخلافة الإسلامية. ولم يلبث ابن باديس أن أنشأ في قسنطينة جريدة المنتقد ثم الشهاب، ثم صدى تدخلات محمد بن رحال (الخارقة) مطالبا بتعليم اللغة العربية، وقيادة الشيخ الثعالبي في تونس. قضى ابن نبي أربع سنوات (1921 - 1925) في مدرسة قسنطينة التي كانت تحت إدارة دورنون، ذلك المستشرق الفرنسي الخبير بشؤون الأهالي. وكان دورنون يقوم بالتدريس أيضا، وكان يفتش جميع (دروس) المدرسين المسلمين في المساجد في ولاية قسنطينة ويقدم بشأنهم التقارير لإدارة التعليم في الجزائر. ويقول عنه ابن نبي إنه كان استعماريا حقودا، وإنه كان يفضل الطلبة (الأهالي) الخاملين، ويتوجس من الأذكياء ويعدهم في صف (الشبان الأتراك) الذين كان يطاردهم، ويتهمهم بالشيوعية تارة وبمعاداة فرنسا تارة أخرى. وقد تعرض ابن نبي على يديه إلى عدة مضايقات. وكان يساعده على أداء مهمته الاستعمارية أحد (لشواش) الجزائريين الخبثاء. ومن شيوخ المدرسة تلاميذ عبد القادر المجاوي، وعلى رأسهم ابن الموهوب الذي أثر في ابن نبي واعترف بفضله، وكان ابن الموهوب في هذه المرحلة من زعماء الإصلاح، ومنهم أيضا محمد بن العابد الجلالي صاحب (تقويم الأخلاق) الذي لم ينجذب ابن نبي إلى دروسه رغم أنه كان يدرسهم الفقه والأخلاق.

ولكن الشيخ عبد المجيد قد أثر فيه أيضا لإخلاصه ولأنه اكتشف أنه كان يعادي الاستعمار ويبحث أفكارا متنورة. تحدث ابن نبي في عدة مناسبات عن آثار رجلين في الحياة العامة بكل من قسنطينة وتبسة أوائل القرن. الرجل الأول هو محمد الصالح بن مهنة الذي كان مدرسا في أحد مساجد قسنطينة منذ الثمانينات من القرن الماضي، وكان ميالا إلى الإصلاح الذي ربما اعتنقه في المشرق عند دراسته بالأزهر، ولكنه كان مصلحا معتدلا، ظهر ذلك في كتبه التي تجمع بين الحديث عن التصوف وعن تحرير العقل. وقد أثار زوبعة في آخر القرن الماضي عندما تعرض لمسألة الأشراف وقال إنهم يحاسبون عن أعمالهم مثل كل الناس وأنهم غير معصومين. وقد تحدث ابن نبي عن صدى دعوة ابن مهنة في قسنطينة أثناء طفولته وربما بقي ذلك إلى تخرجه من المدرسة سنة 1925. أما الرجل الثاني فهو عباس بن حمانة الذي ترك بصماته على الحياة السياسية والاصلاحية في تبسة أوائل هذا القرن. وكان عباس من المتنورين ومن الرجال المتسيسين الذين لهم صوت في مسألة التجنيد الإجباري سنة 1912. وقد شارك في الوفد الذي توجه إلى فرنسا مطالبا بحقوق الجزائريين. ومن سوء حظه أنه كان في مدينة صغيرة هي تبسة. فكان مستهدفا من الإدارة والكولون هناك لأنه معروف ووحيد تقريبا. ثم إنه أسس مدرسة عربية عصرية كانت الأولى من نوعها في القطر كله وجلب إليها الأساتذة من تونس. ولكن الحاكم الفرنسي هناك وأعوانه لم يغفروا له هذا النشاط فكادوا له وقتل في ظرف غامض. ولكن أثره ظل حيا وقصته ظلت تروى عبرة للسياسيين والمصلحين معا. وطالما ردد ابن نبي هذه الحادثة في كتاباته. بين 1925 - 1930، لم يستقر ابن نبي على عمل معين، فقد كانت رأسه مفعمة بالأفكار وقلبه مليئا بالأحلام، مثل كل الشبان الأذكياء ذوي الهمم القعساء، ولكنه كان مثل المتنبي يرى (الليالي من خصومه). زار مدينة

الجزائر كما زار فرنسا زيارات قصيرة زادت من قناعاته بخطر الاستعمار والتمييز العنصري. وعمل فترة في تبسة ثم في آفلو بالجنوب الغربي من الجزائر. وكل هذه الأعمال كشفت له عن حقائق مذهلة: جبروت الاستعمار وذلة الأهالي، وتناقض الشخصيات الموظفة ونفاقها: فالقاضي كان سكيرا، ورجل الطريقة الصوفية كان دجالا، والناس يغيرون جلودهم كل يوم، فهذا يتحول من مفسد إلى مصلح، وذلك عربيد ولكن قلبه نقي كالثلج، وهذا يتظاهر بما ليس فيه فهو وطني من جهة ومخبر للإدارة الاستعمارية من جهة أخرى. وهناك التنافس الحقير بين رجال الدين الرسميين ورجال الدين الأحرار ورجال التصوف. ولا تسأل عن نفاق الزعماء السياسيين سواء كانوا من مدرسة الاندماج أو من مدرسة الاستقلال. ولكن ابن نبي وجد عزاءه في صفاء النفس لدى المواطنين العاديين وبساطة عيشهم وبقائهم على الفطرة في حديثهم وكرمهم وسلوكهم. إنه المواطن نفسه في ريف تبسة وفي ريف آفلو. ذلك الإنسان الذي رغم ما أصابه من ظلم وتعسف من الإدارة الفرنسية ما يزال محتفظا برصيده الأخلاقي والتراثي والإنساني. ومع الاحتفال الفرنسي بالذكرى المائوية للاحتلال (1930) غادر ابن نبي الجزائر إلى فرنسا ليدرس. وقد ترك أهله ووطنه واغترب معتقدا أن فرنسا بلد ثورة 1789، كما كان يعتقد فرحات عباس وأمثاله. فإذا كل ذلك كان حكايات في الكتب المدرسية والخيال، أما الواقع فقد كان يعامله كأهلي من (المستعمرة) الجزائر. كشفت له عن ذلك الامتحانات والمسابقات التي كان يشارك فيها والنشاط الذي كان يقوم به في الجمعيات والنوادي. ولكن شخصيته كانت تتكون من كل هذه المكونات. درس في النهاية بمدرسة اللاسلكي. وتزوج من فرنسية اعتنقت الإسلام وتسمت باسم (خديجة). وشارك في أنشطة طلبة شمال افريقية. واكتشف العالم الآخر من خلال شخصية المستشرق ماسينيون الذي وظفته دولته ليكون عينها على أبناء المستعمرات وعلى القضايا العربية والإسلامية، ومن خلال أولئك الانشقاقيين الجزائريين الذين باعوا أنفسهم

(حسب تعبيره) للشيطان، فتنصر منهم من تنصر انتهازية منهم من أجل منصب أو جاه، مثل حنوز، واعتنق منهم من اعتنق مذهب (البربرية) ومعاداة الإسلام مثل حسني لحمق وعمار نارون. واكتشف ابن نبي عالما آخر من خلال منتدى الوحدة المسيحية الذي اشترك فيه وأكل مع أصحابه وشاركهم في نشاطهم. وفي نفس الوقت كان على صلة بالطلبة المغاربة والمشارقة، وهم زعماء المستقبل في المنطقة سياسيا وفكريا. فهناك أحمد بن ميلاد والهادي نويرة وصالح بن يوسف والحبيب ثامر من تونس ومحمد الفاسي وأحمد بلا فريج من المغرب، ومن رفقائه الجزائريين الذين أثروا عليه حمودة بن الساعي الذي بفضله اهتم ابن نبي بدراسة الفلسفة والتاريخ وعلم الاجتماع. أما من المشارقة فقد عرف ابن نبي، فريد زين الدين وعبد اللطيف دراز. كما عرف الأمير شكيب أرسلان وأشاد بنشاطه. وفي هذا الجو كان ابن نبي يتفاعل. كان يعتبر نفسه (ممثلا) لجمعية العلماء والتيار الإصلاحي رغم أن الجمعية لم تعينه ممثلا عنها وأرسلت بدلا عنه رجالها من نوع الفضيل الورثلاني والسعيد صالحي. وصعق ابن نبي عندما شاركت جمعية العلماء في المؤتمر الإسلامي (1936)، وجاء وفد منها إلى فرنسا مع ابن جلول وفرحات عباس وابن الحاج. وذهب ابن نبي لزيارة وفد العلماء، وفيهم ابن باديس والعقبي والإبراهيمي، وسألهم باستغراب ماذا يفعلون هناك. وهم في نظره قد وقعوا في فخ السياسة الاستعمارية، وكان الأولى بهم البقاء في أماكنهم وبث رسالتهم في الشعب. كما انتقد ابن نبي نقدا لاذعا مصالي الحاج وتحدث عنه بسخرية مرة، ووصفه (بالزعيم)، لأن مصالي كان مهتما بالزعامة أكثر من اهتمامه بالحق الشرعي للشعب. وتطلع ابن نبي خلال الثلاثينات إلى الهجرة إلى المشرق، فحاول السعودية ومصر، ولكن جهوده باءت بالفشل، واعتقد أن (أيادي خفية)، بالإضافة إلى الجهل والتبعية، كانت وراء عدم حصوله على التأشيرة. ومن الممكن القول بأن شخصية ابن نبي تكونت خلال العشرينات

والثلاثينات، تكونت في الجزائر في المدرسة الاستعمارية بتبسة وقسنطينة، وفي المدرسة الشعبية بأرياف آفلو وتبسة، وفي حارات قسنطينة والجزائر العربية. ثم تكونت في فرنسا من خلال مدرسة اللاسلكي والمشاركة في الأنشطة الطلابية والسياسية. وفي نفس الوقت جرت أبرز الأحداث التي تركت بصماتها على تفكيره خلال العقدين المذكورين: آثار الحرب الأولى، وسقوط الخلافة، والأزمة الاقتصادية الدولية، وظهور الفاشية والنازية، وميلاد الجبهة الشعبية، والمؤتمر الإسلامي الجزائري، وأخيرا الحرب العالمية الثانية. لم يقطع ابن نبي خلال الثلاثينات عن زيارة الجزائر، فقد كان يتردد عليها خلال الصيف. وفي إحدى الزيارات علم بوفاة والدته. ولكنه منذ 1939، غادر الجزائر إلى فرنسا، ويبدو أنه لم يرجع إليها إلا بعد نهاية الحرب. ولا ندري تفاصيل حياته بين 1939 - 1946. ولكن من المؤكد أنه أقبل على البحث والتعمق في الكتب الإسلامية، وهو الجهد الذي ظهر أثره في كتابيه الظاهرة القرآنية وشروط النهضة. قرأ ابن نبي كثيرا من الكتب. كان يبالغ في المطالعة في الكتب الأدبية والتاريخية والفكرية. وسواء كانت الكتب عن الإسلام وحضارته أو عن الفكر البشري عموما، فالرجل كان يلتهم الأفكار ويحتفظ بها لوقت الحاجة. وفي مذكراته نعلم أنه تأثر منذ صغره بمجموعة من المؤلفات. ومنها رسالة التوحيد للشيخ عبده، والإفلاس المعنوي للسياسة الغربية في الشرق، لأحمد رضا، وفي ظل الإسلام لايبر هاردت. ومنها كتب فرنسية وأوروبية وأمريكية عديدة، أمثال لوتي، وفارير، ولامرتين، وشاتوبريان من الفرنسيين، وجون ديوي الأمريكي، ولا شك أنه قرأ أيضا فرويد وماكس ويبر وريان وداروين. وقد ذكر أنه تأثر بطاغور الهندي، ولعله درس أيضا آثار محمد إقبال. ولكنه عب من التراث العربي الإسلامي كثيرا، وقد ظهر ذلك من مصادر كتبه الأولى. وفي نفس الوقت كان يقرأ جريدة الحزب الشيوعي الفرنسي (الإنسانية)، والكفاح الاجتماعي، والجرائد العربية سواء تلك التي تصدر من تونس أو من الجزائر، وكذلك جريدة (الأمة العربية) لشكيب أرسلان. وكما

تشبع ابن نبي بالفكر الإصلاحي تشبع أيضا بالفكر القومي فآمن بالوحدة العربية وحارب الانشقاق، وكان يحضر جلسات في مقهى يستمع إلى الطلبة يلقون قصائدهم في تمجيد العرب. وتغلب على كتبه مسحة الأسلوب الأدبي والتحليل العلمي معا. ويقول ابن نبي عن نفسه إنه كان وطنيا، ولكنه لم يكن منتميا إلى هيئة أو حزب. وهكذا احتفظ باستقلاله الفكري وحرية النقد. ولكن استقلاليته وحريته لم ترضيا كل الناس، وربما جلبتا له المتاعب. إن تمرده الظاهري على اللباس التقليدي (وهو في تبسة وقسنطينة) ومغامرة الأولى في فرنسا، وزواجه من فرنسية، وانضمامه إلى منتدى الوحدة المسيحية، واختلاطه بشباب من الفرنسيين واليهود، وأخذه من الأفكار دون تمييز، وقراءته الإنجيل وغيره منذ وقت مبكر، وعيشه في بيئة فرنسية، أحيانا في الريف وأحيانا بالمدن، وصداقته لأشخاص هويتهم غير معروفة مثل جو كلاري (محمد الشريف) الفرنسي الذي قيل إنه اعتنق الإسلام، واختيار ابن نبي العيش في فرنسا أيام تبدل الأيدي عليها (1940 - 1945)، كل ذلك يجعل دارسي ابن نبي يتوقفون ويتساءلون قبل أن يصدروا أحكامهم. وعندما حل ابن نبي بالقاهرة سنة 1956 حصل على حق اللجوء والإقامة. وأخذ يتفاعل مع أنشطة المؤتمر الإسلامي الذي كان يشرف عليه عندئذ أنور السادات. كما أن مصلحة الاستعلامات المصرية كانت تنشر كتبه. وكان ابن نبي عندئذ يعيش في حالة رعب خاص إذ كان يتصور، وهو في منزله بالمعادي (ضاحية بالقاهرة) أنه (مراقب) ليلا ونهارا. من المخابرات الأجنبية، ولا ندري إن كان ذلك حقيقة أو كان مجرد وسواس. ولكن حسبنا من هذه الفترة الإشارة إلى استقلاليته حتى في الوقت الذي اندمج كل الجزائريين الوطنيين في بوقتة واحدة وهي (جبهة التحرير) لمواجهة الخطر الذي يتهدد وجود بلادهم. ويعنينا هنا من كتبه تلك التي صدرت له قبل 1954. وهي لبيك والظاهرة القرآنية وشروط النهضة. ويمكن أن نضيف رابعا، وهو في مهب

المعركة، الذي قيل إنه جمع فيه مقالاته بين 1946 - 1954 في جريدة الجمهورية الجزائرية والشاب المسلم. وقد تعرضنا إلى كتبه في مكانها من الفصول. ويكننا أن نقول هنا فقط إن مصادر الظاهرة القرآنية تشير إلى عمق أفكاره الإسلامية وكثرة قراءته واستعداده لمعالجة موضوع هام كالإعجاز القرآني والنبوة والتوحيد بأسلوب تحليلي جديد على القارئ العربي المتعود عندئذ على سرد الحوادث وقلة النقد والأحكام المستعجلة والعامة. ومن أبرز ما جاء به ابن نبي في هذا الكتاب هو استخدامه التحليل النفسي في الموروث الديني. أما شروط النهضة فقد بناه على تجاربه في قراءة التاريخ الإسلامي عموما وتاريخ المغرب العربي خصوصا. فقد تعرض فيه إلى مراحل التاريخ الزاهرة والباهتة، ثم ركز فيه أحكامه على التيار الوطني وما فيه من تفريعات، وله بالطبع أحكامه الخاصة عندئذ في المدرسة الإصلاحية ومدرستي حزب الشعب وحزب البيان. وقد رأينا مقالاته التي نشرها في جريدة الشاب المسلم فكانت تعكس تفكيره التقدمي والوطني الذي يسير في اتجاه جمعية العلماء، وهي التي كانت تصدر هذه الجريدة بالفرنسية لتقديم الفكر الإسلامي (السلفي) إلى الشباب المتعلم في المدارس الفرنسية. إن لابن نبي نظرية خاصة به في مسيرة الحضارة الإنسانية، وقد خصها بعض الباحثين بدراسات شاملة ومقارنة مع نظريات أخرى قديمة ومعاصرة، مثل نظرية ابن خلدون ونظرية توينبي ونظرية شبنقلر. وابن نبي يؤمن بأن الخضارة تمر بدائرة وتعبرها عبورا جديا دائما، وكل حضارة تحافظ على نفسها باستجابة محددة من المتشابهات المتعاقبة وهذه المتشابهات تتألف من عناصر ثلاثة هي الإنسان والتراب والوقت. وكل مجتمع يمر حضاريا بمراحل ثلاثة هي قوة الدفع، وهي بالنسبة للحضارة الإسلامية عصر النبوة (فترة الحكم بالقرآن) والخلفاء الراشدين إلى معركة صفين. وشهدت المرحلة الثانية ازدهار الثقافة الإسلامية والحضارة، وهذه المرحلة قد استمرت، في نظره، إلى سقوط دولة الموحدين في المغرب العربي (القرن السابع الهجري)

وتتمثل المرحلة الأخيرة في الجمود والانحطاط الذي أصاب الحضارة الإسلامية. وكان الهم الذي شغل ابن نبي هو البحث عن سبيل للخروج من هذا الانحطاط والجمود واستعادة دورة التاريخ الحضاري في جدليته الخالدة والبحث عن نقطة الانطلاق الجديدة. فدرس ابن نبي ظاهرة التخلف وقابلية الاستعمار، وحاول إيجاد سبيل للتغيير الذاتي بناء على الآية الكريمة: {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم}. ولعل ذلك يعني في نظره التخلص قبل كل شيء من (القابلية) للاستعمار والتخلف، ومواجهة ما يسميه بصراع الأفكار في العالم (¬1). ¬

_ (¬1) بالإضافة إلى معرفتنا الشخصية لمالك بن نبي، اعتمدنا في هذه الدراسة على مؤلفاته، ولا سيما مذكراته، والمدخل الذي كتبته السيدة أسماء رشدي للترجمة الإنكليزية لكتاب ابن نبي (وجهة العالم الإسلامي)، الباكستان، 1988. ومقالاته في جريدة (الشاب المسلم)، وجريدة (البصائر) عدد 9 سبتمبر 1938، وبحث محمد العربي معريش (ابن نبي والحركة الوطنية) بإشرافنا، وأطروحة السيدة فوزية بريون عن نظرية الحضارة عند ابن نبي وتوينبي (جامعة ميشيقان)، وكتاب أسعد السحمراتي (مالك بن نبي مفكرا إصلاحيا)، ومقدمة محمود شاكر للظاهرة القرآنية، ط. 3، 1968، وغيرها.

الفصل الثالث العلوم التجريبية

الفصل الثالث العلوم التجريبية

خصصنا هذا الفصل للطب وللعلوم بالمفهوم العام لها. فنتناول فيه ما أنتج الجزائريون في الطب والرياضيات والطبيعيات والفلك، وسنترجم لبعض الرواد منهم، وسنتحدث عن الطب الشعبي وعن جهود الفرنسيين في نشر نفوذهم عن طريق العلوم والعلاج الطبي، بما في ذلك رجال الدين منهم. وقد نصف نشأة مدرسة الطب وأوائل الجزائريين الذين دخلوها. ومدرسة العلوم وتطورها وأبرز المتخرجين من المدرستين. لقد لاحظنا في الجزء الثاني من هذه الموسوعة الثقافية أن علم الطب قد تخلف كثيرا، وأن الاكتفاء بالتداوي بالأعشاب واللجوء إلى ما سمي بالطب النبوي وكتابة الآيات القرآنية والحروز (الأحجبة) وما إليها، كان هو الشائع عند عامة الناس. ولاحظنا أن بعض المسؤولين من باشوات وبايات كان لهم بعض الأطباء من الأجانب يحتجزونهم بعد عمليات الأسر (أثناء الجهاد البحري) ويستفيدون من معارفهم الطبية. ومعنى ذلك أنهم لم يكونوا ضد الطب الأوروبي من حيث هو، وأنهم لم يكونوا خرافيين على كل حال (¬1). أما عامة الناس فقد كانت تلجأ إلى (الحكماء) المحليين أو العارفين بخصائص الأعشاب والعقاقير. ولكن أغلب العامة كانت تلجأ إلى الدراويش والسحرة الذين كانوا يعالجون بالتمائم والرقي والعزائم ونحوها. هذه الظاهرة لم تتغير فجأة بعد الاحتلال. فقد مضت عقود قبل أن يقتنع الناس بالتداوي لدى الأطباء الأوروبيين. ولكن القناعة بأن هؤلاء لا ¬

_ (¬1) كان لحسين باشا (الداي) طبيب خاص من أصل أسباني، وآخر من أصل ألماني، وكان لباي قسنطينة الحاج أحمد أيضا أطباؤه، منهم إيطالي قيل إنه عالجه عدة سنوات ثم كتب وصفا لحياته وملامحه. انظر جنتي دي بوسيه (عن المؤسسة الفرنسية في الجزائر)، باريس 1835، ج 1، ص 524.

الطب والتقاليد

يملكون أسرار المهنة الطبية وقوة العلاج كانت موجودة منذ بداية الاحتلال، سواء عند الخاصة أو عند العامة. وإذا عدنا إلى وصف أدريان بيربروجر لتهافت الناس على الطبيب الفرنسي الذي كان ضمن الوفد الذي زار معسكر الأمير في الونوغة سنة 1837، ندرك تمكن تلك القناعة حتى عند قادة المقاومة، أمثال الحاج سيدي السعدي. ولكن علينا الآن أن نتتبع تطور العقلية الجزائرية في ميدان الطب والعلوم والرياضيات أثناء فترة الاحتلال. الطب والتقاليد ومنذ البداية أحدث الفرنسيون ثورة في عالم الطب والعلاج. فرغم أن الدلائل تدل على وجود بقايا الطب القديم عند الجزائريين فإن الرأي العام كان يميل إلى أن الطب قد انتقل إلى الأوروبيين، كما لاحظ ذلك ابن العنابي في كتابه (السعي المحمود). والثورة التي أحدثها الفرنسيون تتمثل في عدة مظاهر. فهم قد نقلوا أطباءهم ووسائلهم إلى المراكز التي احتلوها من البلاد، وفتحوا المستشفيات العسكرية والمدنية والعيادات، وحاولوا التعرف على أمراض البلاد ووسائل علاجها بالطرق التقليدية، وأصدروا النصائح الطبية للأهالي وحثوهم على المداواة عندهم، وكانت مدرسة الطب من أول ما افتتحوا من المدارس العليا، وكان في كل مكتب عربي تقريبا طبيب ملازم. ولكن ردود الفعل عند الأهالي كانت مختلفة كما سترى. وتبين للفرنسيين منذ البداية أن البلاد كانت صحية بهوائها وقلة أمراضها ومناعة سكانها. فقد ذكر السيد جنتي دي بوسيه الذي حل بالجزائر حوالي 1832 أنه سأل أوروبيين قطنوا الجزائر سنوات طويلة قبل الاحتلال فأجابوا جميعا بأنها بصفة عامة بلاد صحية وأنه باستثناء الأراضي القريبة من المستنقعات فإن الحمى الخطيرة غير معروفة تقريبا، وأن الطاعون ليس معديا، وله لم يتنقل أبدا عن طريق البر. وذكر من هؤلاء الأوروبيين: سولتز

قنصل السويد في الجزائر، وقارنيه Garnet الذي تولى القضاء مدة طويلة، ومارتن الذي كان موثقا بالعاصمة. وثلاثتهم عاشوا في الجزائر أكثر من أربعين عاما. كما ذكر دي بوسيه أسماء أخرى أجابت نفس الإجابة، وهم: ابن زعموم الذي قال عنه إنه كان مسؤول قنصلية توسكانيا في الجزائر منذ أكثر من عشرين سنة، والتاجر بونيفال الذي كان مهتما بمسألة الطاعون والصحة، ثم ذكر الجراح العسكري الدكتور قيون Guyon الذي قام بأبحاث دقيقة حول الأمراض المعدية (¬1). وقد شملت الثورة الفرنسية في مجال الطب نشر الإحصاءات وإجراء التجارب، وترجمة الآثار الطبية الجزائرية والعربية عامة، وإصدار النشرات والبحوث وتبادل الخبرات، وغير ذلك. والذي يرجع إلى المجلدات التي صدرت بعنوان (المنشآت الفرنسية في الجزائر) سيجد فيها إحصاءات كثيرة مفيدة للغاية عن أحوال الصحة والأمراض والمستوصفات والمتداوين فيها. وهو تقليد لم تكن تعرفه الجزائر من قبل. حقيقة أن هذه الإحصاءات كانت تنصب في أغلبها على الأوروبيين، ولكن المرء سيجد فيها بيانات هامة عن الوضع الصحي في مختلف المناطق وعن الأهالي أيضا. وقد أصدر الفرنسيون منذ فاتح يناير 1856 مجلة طبية باسم (الغازيت الطبية الجزائرية) ودامت أربعين سنة، وغطت الأخبار الطبية وبحوث العلماء والترجمات (¬2). وفي هذه المجلة ترجم الدكتور بيرون رسالة في (الطب النبوي). كما ظهرت فيها ترجمة كتاب (الرحمة في الطب والحكمة) للسيوطي. وذكر لوسيان ليكليرك أن هذا الكتاب كان منتشرا بكثرة في الجزائر حتى أن بعضهم كان يضيف إليه (¬3). كما أفادنا ليكليرك أن الفرنسيين ¬

_ (¬1) جنتي دي بوسيه (عن المؤسسة الفرنسية في الجزائر)، مرجع سابق، ص 154 - 155. (¬2) ظهرت في أول يناير 1856 واستمرت إلى 30 ديسمبر 1895. وكانت نصف شهرية. (¬3) لوسيان ليكليرك (تاريخ الطب العربي) ج 2، باريس 1876، ص 300 - 301. وعن بيرون انظر فصل الاستشراق.

وجدوا عدة كتب مخطوطة في الطب في الجزائر، لا سيما في قسنطينة مثل (تحفة الأريب عندما لا يحضر الطبيب) لمحمد الجيلاني، كما وجدوا رسالة في الطب لمحمد العياشي (أبو عبد الله). وقال إن كتاب داود الأنطاكي في الطب (التذكرة؟) كان كثير الانتشار في البلاد. وكان ليكليرك نفسه هو مكتشف آثار ابن حمادوش في الطب (¬1). إلى سنة 1908 تقريبا كان الجزائريون مبتعدين عن الفرنسيين في مجال الطب ولا يقصدون حكماءهم للعلاج لأن فكرة العداء والخوف كانت هي المسيطرة. إن الثقة كانت مفقودة بين الطرفين. وهذا رغم قناعة الكثير من الجزائريين بمعرفة الفرنسيين لأسرار العلوم الطبية. لقد كان عامة الجزائريين يعرفون أن الفرنسيين قد ربطوا بين عناصر ثلاثة: الاستعمار والدين والطب (¬2)، ولم يكن من السهل عند الجزائريين الفصل بين الطب وغيره من ظواهر الاستعمار، رغم أن الفرنسيين كانوا يعزون موقف الجزائريين من أطبائهم إلى التعصب. وفي هذه السنة (1908) ألقى الدكتور ديركل محاضرة عن موقف العرب (الجزائريين) من الطب الفرنسي. فقال إنهم في نظره، يمرون على الحضارة الفرنسية (الطب منها) دون الالتفات إليها، فهم كالأشباح في العصور الوسطى. ونسب إلى الجزائريين الاعتماد على القدرية لأن كل شيء عندهم (مكتوب). وجاء الدكتور المذكور بنصوص قرآنية تؤكد كلامه في ظاهر الأمر. وأخبرنا أن الجزائريين ما يزالون يتعالجون بالأدوية المعروفة ¬

_ (¬1) نفس المصدر، ص 317. من بين ما وجده منتشرا في الجزائر أيضا. كتاب (ذهاب الكسوف) في الطب، وهو من تأليف عبد الله بن عزوز المراكشي. انظر عنه الجزء الثاني من التاريخ الثقافي. وعن دور ليكليرك في التعريف بابن حمادوش انظر كتابنا (الطبيب الرحالة)، الجزائر 1982. (¬2) انظر كتاب يافون تورين (المواجهات الثقافية)، 1971. وتشير بعض التقارير والآراء الفرنسية إلى أن الجزائريين كانوا يقصدونهم للعلاج منذ وقت مبكر، انظر لاحقا.

لديهم منذ قرون، مثل الحشائش والمشروبات وأنواع الثمار. وقد يطلب المريض منهم نصيحة حكيم تقليدي فيقترح عليه أكل شيء أو أخذ حمام، أو نحو ذلك. وليس هناك تلقائية عندهم لطلب الدواء من الحكيم الأوروبي. ولكن الدكتور ديركل أقر بأن الجزائريين قد أخذوا يغيرون من وضعهم ويقبلون بالتدرج على الطب الأوروبي. ولذلك نصح أن يتعلم الأطباء الفرنسيون لغة الأهالي لكسب ثقتهم (وقد فعل رجال الدين? المبشرون - ذلك)، ولاحظ أن الترجمة بين الحكيم والمريض لا تؤدي المقصود. وقد ربط ديركل بين صحة الشعب وحضارته إذ أن التأثير على الصحة يعني بالضرورة التأثير الحضاري عليه. والغريب أن ديركل لم ينصح بنشر الطب بين الشباب الجزائري لكي يعالج الجزائريون بعضهم بعضا. فاحتكار الطب كان من الظواهر الاستعمارية أيضا. وقد أقر ديركل أن هناك تقاليد اجتماعية، مثل دخول البيوت، لا بد من مراعاتها (¬1). وقبل أن نتحدث عن العلاج نذكر أنواع الأمراض التي كانت شائعة. وقد حاول الفرنسيون دراسة المجتمع الجزائري وحصر هذه الأمراض سواء من اختلاطهم بالشعب أو برجوعهم إلى النصوص المكتوبة مثل مؤلفات ابن حمادوش (القرن 18 م). ومن الأمراض التي كانت شائعة: الجدري الذي كان يشوه الوجوه ويتسبب في وفيات كثيرة، كما كان يتسبب في عاهات كالعمى والصمم. وكان ينتشر بطريقة العدوى. وكانت لهذا المرض أوقات ينتشر فيها أكثر من غيرها. ومنها الكوليرا، وكانت تظهر من وقت إلى آخر أيضا. وقد ادعى الفرنسيون أنها انتقلت إلى فرنسا من إيران، ثم من فرنسا إلى الجزائر، سنوات 1849 - 1851. ففي السنة الأولى انتشر المرض في الولايات الثلاث وتسبب في وفيات كثيرة (782 من 1042 إصابة). وكثيرا ما ربط الفرنسيون بعض الأمراض بالحج، ولذلك كانوا يجدون سببا في منعه تماما تفاديا للعدوى. وقد ادعوا أن مرض الكوليرا سنة 1850 قد انتشر من ¬

_ (¬1) ديركل (محاضرة عن الطب الفرنسي وموقف العرب منه)، انظر مجلة الجمعية الجزائرية 1908) SGAAN)، ص 22 - 32.

تونس وتسرب إلى المناطق الشرقية من الجزائر حتى تعطلت أسواق كثيرة خوفا من زيادة انتشاره. ففي بجاية ونواحيها أصيب بالكوليرا حوالي 3000 شخص. وفي سيدي عقبة جاء الوباء من تونس عن طريق وادي سوف فأصيب به حوالي 385 شخص في سيدي عقبة وحدها. كما عانت منه بسكرة، ولكننا لا نعرف عدد الإصابات. وفي سنة 1865 انتشر الجدري في الجزائر، ثم امتد إلى عدة نواح، منها زواوة. وخوفا من أن يستفحل أمره أمرت السلطات الفرنسية بتعلم طريقة علاجه عن طريق التلقيح، بينما كانت من قبل تدعى أن (الأهالي) غير قادرين على استيعاب علوم الطب والاستفادة منها. كما نشرت عن طريق جريدة (المبشر) الرسمية النصائح الطبية في تفادي مثل هذه الأمراض الخطرة وطريقة العلاج منها والحث على الاتصال بالأطباء الأوروبيين والتردد على المستشفيات (¬1). وكانت نكبة 1867 (وباء ومجاعة ...) مدعاة للحديث عن الأمراض وزيادة الحاجة إلى العلاج، وظهر منها عدم استعداد الإدارة الفرنسية لمواجهة الأخطار المحدقة بالصحة العامة. فقد انتشرت الكوليرا بعنف نتيجة سوء الأحوال الاقتصادية (المجاعة نتيجة الجراد والجفاف، وبعض الزلازل). ولم تصب الكوليرا الأوربيين لحسن وضعهم الاقتصادي واتخاذهم أسباب الوقاية (¬2). بالإضافة إلى مرضي الجدري والكوليرا، ظهرت الأمراض الجلدية، والإسهال، والحمى، وفقر الدم، ومرض المفاصل (الروماتيزم)، وأمراض الكبد والطحال، والمسالك البولية، والضعف الجنسي. ونضيف إلى ذلك أمراض العيون سيما في بعض المناطق الصحراوية، والتيفوس، والجنون، والحمق. أما أمراض النساء فمنها الإجهاض (الإسقاط)، ولاحظ بعض ¬

_ (¬1) بحث إبراهيم الونيسي عن دور جريدة (المبشر) - رسالة ماجستير. (¬2) انظر الجزء الأول من الحركة الوطنية (عن الجوائح ونتائجها).

الدارسين أن المصابين ببعض الأمراض المذكورة لا يعيشون طويلا لأن المرض سرعان ما يقضي عليهم. ولا بد من الإشارة إلى أمراض أخرى كالصفير (بتضعيف الفاء)، والربو، والأورام، والهيستيريا، والصرع، والعقم، ولدغة الحشرات السامة كالعقارب والثعابين، ثم الكلب؛ وقد لاحظ الأطباء ندرة مرض الزهري بين الجزائريين، وكان من الأمراض التي أدخلها الفرنسيون معهم. وعقيدة الشعب في الطب والعلاج مع ذلك كانت قوية. ولكن الجهل جعلهم يتجهون إلى الاستعمالات التقليدية واللجوء إلى حكمائهم ومرابطيهم. كما أن احتكار الطب والعلاج من قبل الفرنسيين جعل الجزائريين لا يقصدون المستشفيات الفرنسية. وقد قيل إن الوزير الفرنسي المسؤول على الجزائر أمر سنة 1849 بأن يوجه الأطباء الفرنسيون أنفسهم إلى بيوت الأهالي للعلاج دون مقابل. وكانت الوزارة تعتقد أن ذلك يساعد على التقارب مع الجزائريين ودمجهم في المجتمع الفرنسي. كما أن السلطات أنشأت دورا خاصة بالأيتام والعجزة ونشرت بينهم فكرة العلاج. ففي 1849 كان حوالي 600 طفل يتيم في هذه البيوت. وقد ازداد العدد كثيرا بعد جوائح 1867. وشاركت الكنيسة بمؤسساتها الطبية في جلب الناس إلى النصرانية. ولارتباط الطب والعلاج بالسلطة الإدارية التي تجعل من العلاج وسيلة لنشر الحضارة وبالكنيسة التي تجعل من العلاج وسيلة للتنصير - كان الجزائريون يتوجسون خيفة من الاختلاط بالفرنسيين سواء في مجال العلاج أو في مجال التعليم. ولكن ذلك لا يعني المقاطعة المطلقة، كما رأينا. إن السلطات الفرنسية جعلت أيضا من العلاج الصحي وسيلة للمقارنة بين تأخر المسلمين وتقدم الفرنسيين، وبين بؤس العهد العثماني وسعادة العهد الفرنسي. وأمام تحفظ الجزائريين من تقديم أنفسهم لمعالجة الفرنسيين، لجأ هؤلاء إلى مختلف المغريات. من ذلك الإعلان على أن التلقيح طريقة يستعملها أمراء المسلمين مثل باشا مصر وسلطان اسطانبول، وكذلك

العلماء. كما أعلن الفرنسيون عن مجانية العلاج، وأمروا أطباءهم بالتوجه مباشرة إلى بيوت الجزائريين، كما ذكرنا (¬1). كما أنشأ الفرنسيون مدرسة للطب سنة 1857 بمدينة الجزائر وسمحوا لبعض أبناء الجزائر بدخولها. وسنتحدث عن هذه المدرسة بعد قليل. درس الفرنسيون الأحوال الصحية والتقاليد الطبية في الجزائر منذ الاحتلال. وتخصص بعضهم في ذلك باعتبارهم جزءا من المكاتب العربية التي سماها بعضهم (همزة الوصل) بينهم وبين الجزائريين. ومن هؤلاء الطبيب ايميل لويس بيرتيراند الذي نشر كتابا هاما سنة 1855، بعد تجاربه حوالي عشر سنوات في الميدان، وسنعرض إليه، كما ظهرت مؤلفات أخرى تراثية أو خاصة بجهة من الجهات (¬2). فنشر الدكتور رينو Raynaud كتابا عنوانه (شهر في الأوراس)، وآخر تحت عنوان (الأمراض الزهرية والجلدية لبربر الأوراس). وكذلك كتب الدكتور باريس Paris (فتح Trepanon الجمجمة عند أهل الأوراس). ومن جهته كتب الدكتور شالان Challan عملا عن (النظافة الصحية عند قبائل قلعة نابليون)، وألف الدكتور ريشار كتابا بعنوان (أسرار الشعب العربي). أما الدكتور ليكليرك فقد كتب عملا بعنوان (مهمة طبية في بلاد القبائل)، ولكن معظم أعماله الأخرى كرسها للتراث الطبي العربي، فنشر عن تاريخ الطب عند العرب جزئين، وترجم عدة أعمال أخرى. ومنها ترجمة ما تركه عبد الرزاق بن حمادوش. فقد كتب ليكليرك مقالة عنوانها (ملاحظات حول طبيب جزائري من القرن الثامن عشر وبعض التعميمات عن الطب والصيدلة الأهلية) (¬3). وجاء فيها بمقدمة عن الطب في بجاية وغيرها من مخطوط كتاب الغبريني (عنوان الدراية). وذكر أن كتاب ابن البيطار والأنطاكي وابن حمادوش كانت منتشرة، وأنه عرف عن وجود نسخة من ¬

_ (¬1) القرار أصدره الحاكم العام راندون سنة 1852. (¬2) انظر عنه لاحقا. (¬3) مجلة الغازيت الطبية الجزائرية السنة 5، 1860، ص 78 - 83.

كتاب ابن حمادوش في العقاقير والأعشاب (وهي النسخة التي جاء بها بيربروجر إلى المكتبة العمومية الجديدة. واستخرج حياة ابن حمادوش من إشارات وردت في كتابه، وذكر ما توافق فيه مع ابن سينا والأنطاكي وما اختلف عنهما، والتجارب التي قلد فيها النصارى، وجاء بنماذج من مواد كتاب ابن حمادوش مثل البن، والدارسيني، والزئبق، والكنكينا. ثم ذكر قائمة بالأعشاب والعقاقير والأسواق المتوفرة فيها وباعتها من الجزائريين في وقته. والباعة هم بنو ميزاب والعرب الرحل (البدو) والزواوة (القبائل)، واليهود. وكانوا جميعا يبيعون بضاعتهم في العاصمة وغيرها. وأهمهم، حسب رأي ليكليرك، هم الميزابيون، فقد وصفهم بالتحضر وقال إنهم يملكون دكاكين ذات أدراج ورفوف، عليها اسماء الأعشاب والعقاقير. واليهود أقل اهتماما بالأدوية، ولكن اهتمامهم كان منصبا على العقاقير المستعملة في الصناعات. وأما العرب الرحل (البدو والعشابة) فقد كانوا يبيعون الأعشاب والأدوية في الأسواق، وكانوا يضعونها في أكياس أو في صرائر (ج. صرة) أو في قراطيس. ويرى المرء باعة الأدوية في كل الأسواق، حسب قوله. وكان الزواوة يملكون مستودعات حيث يأتي التجار الجوالة ويأخذون منها حاجتهم. وقد رأى ليكليرك نوع هذه المستودعات في تاقموت وحدادن قرب قلعة نابليون، وسمع بوجود مثلها في قرية علي بن حرزون، قبيلة بودرار. وكان للفرنسيين زيارات سنوية لهذه المستودعات،. وقد منعوا بعض الأدوية مثل (الكنثريد) ونصح ليكليرك باتخاذ إجراءات لمعرفة ما يجري عند الأهالي في هذا المجال. وقال إنهم حذرون من استعمال السموم. ذكر ليكليرك قائمة من الأدوية التي يجدها الإنسان في الدكاكين الأهلية بصفة عامة، وعند الجوالة أو الرحالة بصفة أقل. وفي هذه القائمة نجد: الأفيون، وحبة حلاوة، وجوزة الطيب، ولسان العصفور، والزعفران، والجاوي (واستغرب ليكليرك كيف أن كتاب ابن حمادوش لم يحتو على

الجاوي) الذي قال إنه يستهلك بكثرة في الجزائر. ومن الأعشاب التي قال عنها إنها طرقة وتباع في سوق شارو (عمار القامة حاليا) بالعاصمة: السدابة Sedab والفجلة، وفي القائمة التي ذكرها هناك 120 اسما للأعشاب الجافة وحوالي 60 اسماه من النباتات الطرية (¬1). وقد قام محمد بلعربي بإعداد أطروحته عن (الطب العربي في الجزائر) وناقشها سنة 1884. ثم في آخر القرن (1896) ناقش الدكتور أرموند ريشاردو A. Richardot أطروحته وعنوانها (الممارسات الطبية لأهالي الجزائر). ويمكننا مواصلة ذكر نماذج أخرى صدرت بعد فاتح القرن، ولكن تجب الإشارة إلى أن اهتمام الفرنسيين بالطب الشعبي كان في الخمسين سنة الأولى للاحتلال أثناء حرصهم على معرفة الجزائريين، أما منذ فان القرن فقد ساد الطب الحديث ودخل بعض الجزائريين المجالات الطبية والصيدلية، وانحصر الطب الشعبي في السحر والخرافات في الأرياف خاصة، كما ستلاحظ. ... ولنقل كلمة عن كتاب بيرتيراند الذي يعتبر ربما أوفى كتاب عن (الطب والنظافة الصحية عند العرب) في منتصف القرن الماضي. وقد قال المؤلف إنه عمل في مختلف المكاتب العربية بين 1848 - 1853 وكلف بإنشاء الملجأ الطبي الإسلامي في العاصمة. وبذلك تمكن من جمع المعلومات والمصطلحات وأسرار الطب الشعبي، وتعلم العربية الدارجة. وفي المقدمة قال إن الجزائر من المستعمرات الجديدة ولا يمكن لفرنسا أن ¬

_ (¬1) نفس المصدر، ص 81 - 82. انظر أيضا في نفس المصدر ما ذكره الدكتور بايلن BAELEN عن حالة الطب والصحة في سوف وتقرت وغيرهما عبر رحلة قام بها في سطيف وبوسعادة والديس وبسكرة. انظر القازيت أعداد 25 مايو، 22 مايو، 20 مايو، 1856.

تتوغل فيها وتتسرب إلى دواخلها إلا بدراسة حاجة الأهالي ومعرفة اتجاهاتهم ومزاجهم بهدف الإصلاح، دون المساس بهم بطريقة مؤلمة، واعتبر الجزائر حقلا مفتوحا على مصراعيه للتجارب. ومن رأيه أن أعمالا هامة ألفت حول الجغرافية والتاريخ والتجارة والتشريع والزراعة والعدل. وبقي أن يعرف الفرنسيون الأحوال الاجتماعية للأهالي، وهو دور المكاتب العربية، في رأيه (¬1). واقترح أن يخاطب الفرنسيون، بالنسبة للطب والصحة، بما جاء به القرآن نفسه، ومعناه أن (من أحيا نفسا واحدة فكأنما أحيا الناس جميعا). ونصح الأطباء أن يدخلوا إلى قلوب الأهالي عن طريق هذا النص القرآني. والظاهر أن بيرتيراند كان متفائلا، فالمكاتب العربية وأطباؤها لم يكونوا للعلاج فقط ولكنهم كانوا رموز قمع وإرهاب، ومهما كانت نية الطبيب فهو داخل ضمن هذا الرمز المخيف (¬2). ومن جهة أخرى أشار بيرتيراند إلى أن من عادة الجزائري عدم الذهاب إلى المستشفى وأنه يفضل العلاج في بيته. وليس للجزائريين في الماضي مستشفيات عامة أو مشتركة. وكانوا يلحقون ملاجئ بالمساجد، ينزل بها المرضى والعجزة. ولكن كانت لديهم مؤسسات خيرية (الوقف) لرعاية هذه الأماكن وحماية الدين. ونوه بأن الأمير عبد القادر قد جدد في هذا المجال عندما نصت قوانين الجيش في (وشاح الكتائب) على وجود الأطباء ¬

_ (¬1) كان نشاطه وكتاباته في العهد المعروف بالحكم العسكري، أي من 1830 إلى 1870. وكانت المكاتب العربية (العسكرية) هي أساس هذا الحكم. (¬2) بيرتيراند (الطب والنظافة الصحية لدى العرب) Medecine et hygiene chez les Arabes، باريس 1855، ص 9 - 13. ولهذا الكتاب عنوان فرعي طويل يصف محتواه وهو: دراسات عن ممارسة الطب والجراحة لدى مسلمي الجزائر ومعرفتهم لوظائف الأعضاء (أناتومي) والتاريخ الطبيعي، والصيدلة، والطب الشرعي، وحالتهم المناخية والبيئية وممارساتهم في ميدان الصحة العامة والخاصة وأمراضهم وعلاجاتهم واستعمالاتهم. وكل ذلك مسبوق بنظرة عن الحالة العامة للطب في الدول الإسلامية الرئيسية، وقد أهداه المؤلف إلى الجنرال دوماس، مستشار الدولة ومدير شؤون الجزائر في وزارة الحربية (انظر لاحقا).

والجراحين وتوفير جميع الوسائل للمحافظة على الصحة وتوفير العلاج والراحة للجنود. وجاء في ذلك النص أيضا ما على الطبيب أن يكون عليه من الانشراح أمام المريض والاحترام وطيب المعاملة، كما أن إجراءات الأمير خصصت للأطباء الأجور اللازمة والغذاء. ولم تكن هذه الإجراءات خاصة بالجيش بل شملت الشعب الذي حارب معه. ولاحظ الطبيب بيرتيراند أن الطب قد تخلف عند الجزائريين بعد الأمير عبد القادر، ومع ذلك فإنهم ظلوا يحترمون الطبيب احترامهم لعلمائهم. وحين درس بيرتيراند تطور نظرة الجزائريين في الطب والعلاج، وجد أنهم فقدوا الكتب الطبية التي كانت لهم، وعوضوا ذلك بالأحجبة والحروز، وبقيت لديهم فقط أوراق مكتوبة في فوضى وتحتوي على نصائح علاجية، وهي تخلط بين الأدعية والطب. وللأهالي أسماء أعلام يعتبرونهم (أطباء)، مثل سيدي علي بن سليمان، وسيدي عبد الله بن باطو، وسيدي عبد الله بن العاصي، الخ. ويوجد عندهم الأحاديث النبوية التي يرجعون إليها في التطبب، وكتاب الهارونية الذي يضم نصائح وتعاليم علاجية، وكتاب داود المصري. وقد اعترف بيرتيراند أنه كان للجزائريين كتب في الطب، ولكن الاحتلال أدى إلى نهبها، فقد كان باي قسنطينة (صالح باي) قد أوقف عدة كتب في الطب على الزوايا، مثل التذكرة لداود الأنطاكي وكتاب (؟) أحمد زروق الفاسي. ولكنها اختفت بعد احتلال المدينة (¬1). ومن الكتب التي ما زالت شائعة عندهم في وقته كتاب البولي الذي يصف الحروف وحساب ايقش، وكان كثير الرواج. وشاع عند العرب الإيمان بالخرافة وعقيدة المرابط، ورسخ عندهم وجود الجن في المرضى، وهو سبب معاناة المريض. وليس هناك سبيل إلى العلاج منه غير الحجاب الذي يحميه، وكلما حدث مرض أسرع صاحبه إلى المرابط (الطبيب) ليحميه منه بكتاب حجاب أو حرز. وشاعت أيضا. عندهم ¬

_ (¬1) انظر فصل المنشآت الثقافية، فقرة المكتبات.

عبارة التوكل، فكل الأمور (مكتوبة) ومعزوة إلى إرادة الله، ولذلك كانوا لا ينفكون في رأيه يكررون عبارة (إن شاء الله). ومع ذلك قال بيرتيراند إن العرب (الجزائريين) قد اهتموا كثيرا بالحيوانات، ولا سيما الخيول والإبل لأن حياتهم متوقفة عليها ومتصلة بها، ونوه بكتاب دوماس (خيول الصحراء) الذي كتبه وجمع معلوماته أثناء وجوده في الجزائر، من العلماء والأعيان. وكدليل على احترام العرب للأطباء وثقتهم فيهم ذكر بيرتيراند أن الجزائريين الذين اعتقلهم الفرنسيون ونفوهم إلى أماكن بعيدة مثل (سان مرغريت) قد قصوا على مواطنيهم، بعد إطلاق سراحهم، تجاربهم مع الأطباء الفرنسيين، ومن ذلك أنهم جاؤوا لزيارة هؤلاء الأطباء بعد تسريحهم اعترافا لهم بالجميل على علاجهم. وبنى بيرتيراند على ذلك فكرته القائلة إن الأهالي يرحبون - خلافا لما كان شائعا - بالأطباء الفرنسيين، لمصلحتهم البدنية، وحث على أن يدخل الطب الفرنسي أيضا مجال المهمة الحضارية التي تزعم فرنسا أنها جاءت بها. وها هم الجزائريون يدخلون الجيش الفرنسي، وها هم رؤساؤهم يعملون في الإدارة والقضاء، فلماذا لا يكون التأثير عن طريقهم، ففي نظره يجب الربط بين الطب والسياسة والنفوذ الفرنسي. إن على الأطباء الفرنسيين أن يلعبوا هذا الدور، عن طريق (التأثير المعنوي) لفائدة تمدين العرب ونشر النفوذ الفرنسي. ومن الأمثلة التي ذكرها بيرتيراند على (وحشية) الممارسات الطبية، طريقة الولادة، ونادى بالتخلص من هذه الممارسات وحث الأطباء الفرنسيين على دراسة تأثير تعدد الزوجات وتعاليم القرآن على الأهالي، سيما على المرأة (¬1). ... ¬

_ (¬1) بيرتيراند، مرجع سابق، ص 48، 67، 549، وهنا وهناك. ولهذا الطبيب كتابات أخرى حول الموضوع، منها: الكوليرا في الجزائر 1849، 1850، 1851. وأعمال الجمعية الطبية للجزائر 1853، وأمراض العيون في الجزائر وعلاجها عند العرب، =

أشرنا إلى تأليف ريشاردو سنة 1896، وهو عمل صغير الحجم تناول فيه أشهر الأمراض في الجزائر على عهده، وقد لخصها في ثلاثة، وهي: حمى المستنقعات، والزهري (السيفليس) والجدري. وكان حمدان خوجة في أول الاحتلال قد ألح على وجود بعض هذه الأمراض، مثل حمى المستنقعات لتنفير الفرنسيين من الاحتفاظ بالجزائر. ولكن الزهري والجدري جاءا مع الفرنسيين. وهناك أمراض أخرى جاءت معهم أيضا، ومن رأي الدكتور ريشاردو أن هناك أمراضا شائعة في الريف وأخرى في المدن، وأن لكل بيئة أطباءها الشعبين. واشتهرت في الريف أسماء مثل (بوموس)، وهو (الطبيب) المداوي بالوسائل المعروفة الحجامة والختان والكي. أما (بو عجب) فهو (الطبيب) الذي يستعمل الخرافات ويلجأ إلى السحر ونحوه كالأحجبة وخط الرمل. وهذان الطبيبان متنافسان على الفوز بالمريض وإظهار الشفاء. وكلاهما جاهل ولكن فيه فطانة. وكان أطباء المدن أيضا يلجأون إلى الخرافة، وهم طبعا غير الأطباء الفرنسيين. وقد ذكر ريشاردو مجموعة من الأمراض الأخرى وعلاجها الشائع عند الأهالي وكيف يمكن للطب الحديث أن يعالجها. ولذلك أوصى في آخر كتابه بتوسيع التسهيلات الطبية للأهالي في البلديات، لأنه لاحظ أن المستفيدين من الطب هم الأوروبيون فقط. وطالب بجعل (الكينا) تحت تصرف الأهالي ضد حمى المستنقعات، ونصح بوضع بيان بالعربية لطريقة استعمال هذا الدواء، وكذلك نصح بنفس التسهيلات حول مرض الزهري، بإنشاء محطات علاجية لدى (الأطباء الاستعماريين). - هكذا التعبير الأصلي? لكي يوزعوا الجرعات اللازمة على المصابين من الأهالي. أما عن الجدري فقد نصح بالتلقيح ضده إجباريا. وأكد أن الأهالي ¬

_ = 1854، وملاحظات على البيئة بناحية ثنية الحد، ثم حول إنشاء المستشفيات العربية. وهناك غيرها. انظر مقالته لاحقا. وذكر بيرتيراند أن الجزائريين في وقته كانوا يعالجون بالأعشاب الآتية: الجنجلان والحرمل والسنوج، والزيت وجوزة الطيب الخ ..

لن يعارضوا ذلك لأنهم يرون في الأطباء الفرنسيين (محررين) لهم. وهم خاضعون تماما لعلاجهم. وهذا يؤكد ما ذهب إليه الدكتور بيرتيراند من أن الجزائريين يكون احتراما خاصا للأطباء والحكماء عموما. وامتدح ريشاردو إنشاء بعض المستشفيات في المناطق العربية، وهي مراكز خاصة بالأهالي. ونصح بأن تسند إدارة هذه المراكز إلى الأطباء الداخليين أو إلى الآباء البيض (المنصرين) في بعض المناطق. وأوصى باحترام العادات والتقاليد. كذلك نوه ببعثة الحاكم العام الطبية إلى الأوراس للاطلاع على تقاليد التوليد، وكانت البعثة تقودها السيدة شيلييه، ولاحظ أنها قد استقبلت استقبالا حسنا وأن الأهالي قدموا لها المعلومات حول الولادة. وليست بعثة الأوراس هي الوحيدة، فقد بعث الحاكم العام عندئذ (جول كامبون) بعثات مشابهة إلى مناطق أخرى. وفي نظر ريشاردو أن هذه الطريقة ستجعل فرنسا تؤدي مهمة كبيرة لدى الأهالي، وهي الخدمة الصحية، والصحة هي أغلى ما يملك الإنسان (¬1). ولا شك أن الأطباء الجزائريين الذين تخرجوا بالشهادات العليا، رغم قلتهم، قد كتبوا أطروحاتهم حول مواضيع اختاروها وتناولوا فيها الأمراض وعلاجاتها في ضوء الطب الشعبي والحديث. ولكننا الآن لم نطلع على هذه الأطروحات. وربما غيرنا سيفعل ذلك غير بعيد (¬2). ... وعقيدة الطب عند الجزائريين كانت دينية واجتماعية. فالدين كان يحث ¬

_ (¬1) الدكتور ريشاردو (الممارسات الطبية لأهالي الجزائر)، تولوز، 1896. ويجب التنويه هنا بالنشرات الطبية التي كان يصدرها الفرنسيون مثل (الجزائر الطبية)، ومثل (النشرة الطبية للجزائر). ولكننا لا ندري مدى مساهمة الأطباء الجزائريين في هذه الدوريات. (¬2) مثلا أطروحة ابن التهامي في أمراض العيون (؟) وأطروحات مرسلي، وبريهمات، وموسى. من الرعيل الأول. وقد اطلعنا نحن على أطروحة ابن العربي.

على معرفة الطب والوقاية من الأمراض، ويحث على العلاج وحفظ الصحة - صحة الأبدان -. أما من الناحية الاجتماعية فالممارسات للطب والعلاج لم تتوقف أو تضعف. وكانت على نوعين على الأقل، نوع (علمي) قائم على التجربة والملاحظة واستخدام الوسائل المادية بطريق عقلية، ولكن الجهل والتخلف والاستعمار منعت من تطوير الممارسات لكي تصبح علمية بمعنى الكلمة، اللهم إلا في فترة متأخرة. أما النوع الثاني من الممارسات فقد كان (خرافيا) قائما على السحر والشعوذة، وبعيدا كل البعد عن الدين والعلم، وقد أشرنا إلى ذلك. في عهد الأمير عبد القادر وجدنا القيادة الوطنية كانت تهتم بالطب حسب الامكانات المتوفرة، ولم تكن تمارس الشعوذة ولا كانت ضد التداوي الخالي من الدعاية والتمويه. يقول محمد بن الأمير عبد القادر في (التحفة) إن والده قد أحدث ما كان معروفا عن ملوك المغرب، وهو إنشاء المستشفيات (البيمارستانات) لمرضى جنوده في مختلف المقاطعات. وقد عين الأمير في كل مستشفى (بيمارستان) أربعة أطباء، يرجع أمرهم إلى طبيبه الخاص، وهو أبو عبد الله (محمد) الزروالي. وقيل عن محمد الزروالي إنه كان ماهرا في علم الطب وكان مشهودا له بذلك. ولم يكن الزروالي بالطبع على نمط الأوربيين في علمه أو متخرخا من مدرستهم. فنحن لا نعلم حتى أين تمهر في هذه الصنعة، ولعله إنما وصل إلى ذلك عن طريق الوراثة والتجربة. يقول صاحب (التحفة) عنه إنه كان (عالما بخواص الأعشاب على اختلاف صنوفها، وكان يخرج الرصاص من داخل العضو المصاب بوضع عشب على مدخله فيخرج بعد بضع ساعات من موضعه بسهولة دون ألم) (¬1). وقد أكد ذلك الفرنسيون الذين زاروا معسكرات الأمير. فكتب توستان دي منوار (سنة 1841) أن في جيش الأمير طبيبين بلقب باش جراج (كبير ¬

_ (¬1) تحفة الزائر، 1/ 203، ط 1. انظر ما قاله الدكتور بيرتيرات عن الموضوع سابقا. وقد نوه بما جاء في (وشاح الكتائب) من تعليمات حول الصحة والطب في عهد الأمير.

الجراحين). وكان الجراحون عادة من المرابطين، حسب قوله، أي أنهم كانوا من العلماء ورجال الدين. ولكن دي منوار ذهب، لأسباب معروفة، إلى أن العرب يثقون في الأطباء الفرنسيين أكثر من الأطباء الأهالي. ونفهم من كلام دي منوار أن الجزائريين لم يكونوا أبدا ضد الطب المتقدم، كما كانت تدعى السلطات الفرنسية. وقد زاد منوار ذلك تأكيدا بقوله إن كلمة (طبيب) عندهم كلمة سحرية، وهي وسيلة للدخول إلى نفوسهم وإلى معرفة دواخلهم، ونصح بأن ممارسة الطب من قبل أناس (فرنسيين) متعلمين وغير مرتبطين بمصالح ولهم ضمائر حية، ستكون ربما إحدى الوسانل الأكثر نجاعة لتسريب الحضارة الفرنسية بين الجزائريين. وزعم أن الفرنسيين استطاعوا أن يخففوا من تأثير العديد من الأمراض عنهم (¬1). ونفس هذه الملاحظات تقريبا أبداها أدريان بيربروجر الذي زار معسكر الأمير، على رأس وفد هام، سنة 1837. فقد تحدث عن احترام العرب للأطباء وسحرية كلمة طبيب بينهم أيضا، وكذلك كلمة حكيم. وقد وصف كيف تجمهر حولهم الجنود عندما علموا أن طبيبا. كان ضمن الوفد، وأن كل من له شكوى من مرض تقدم من الطبيب الفرنسي المرافق، بما في ذلك بعض قادة الجيش (¬2). ولكن بيربروجر لم يحدثنا - كما فعل زميله دي منوار - عن أطباء الأمير ولا كبير أطبائه محمد الزروالي. ومهما كان الأمر فإن الشهادتين تثبتان أن الجزائريين لم يكونوا مقاطعين للأطباء الفرنسيين. وربما كانت المقاطعة مقتصرة على العامة الذين كانوا يخشون على أنفسهم من المزج بين الدين والطب، أو لأسباب لغوية وحواجز حضارية أخرى. وهناك ممارسات تبدو في غاية العقلنة، رغم التقاليد، كان يمارسها الخبراء في كل قبيلة وقرية. وهي ممارسات قائمة على الطب الشعبي. وهو ¬

_ (¬1) توستان دي منوار، مذكرات، نشرها مارسال ايمريت (المجلة الإفريقية)، 1955، عدد 442، ص 141 - 146. (¬2) زيارة إلى معسكر الأمير في ونوغة، سنة 1837 - 1838، باريس؛ وقد ترجمنا هذا العمل إلى العربية.

مزيج من الطب الديني والعلمي والوراثي. وقد تحدث الأوروبيون عن بعض هؤلاء الأطباء الشعبيين. فالضابط ريشارد قد سجل قائمة بأسمائهم. وهم كما قال آخر، ليسوا من خريجي المدارس، بل كانوا لا يعرفون حتى الكتابة والقراءة، ولعلهم كانوا يعتقدون أنها غير مفيدة لهم، ولا يقوم هؤلاء (الأطباء) بأي بحث في الموضوعات الطبية. وإنما كانوا يتعلمون بالوراثة والملاحظة والتجربة، ولهم ذكاء فطري، وقد لاحظ أحد الفرنسيين أن أعلام الطب (الإسلامي) أمثال الرازي وابن سينا وابن رشد، غير معروفين حتى للمتعلمين من الجزائريين سنة 1870. وهذه الحالة في الواقع، حجة على الفرنسيين أنفسهم. واستغرب ذلك الفرنسي من أن كتب الأطباء العرب التي سيطرت على المدارس الأوروبية إلى منتصف القرن السادس عشر أصبحت مجهولة عند أحفادهم (¬1). وهو تعليق يذكرنا بتعليق الدكتور شو عن الجزائريين في القرن الثامن عشر. ومن الأطباء الشعبيين من حذق عملية ثقب الجمجمة، ومن يعرفون كيف ينزعون الأسنان بحذق ويمارسون الحجامة، ويقومون بختان أحفادهم وأبناء العشيرة، ولهم طرقهم الخاصة وآلاتهم التي تجبر الأعضاء المكسورة. وقد وصف الدكتور بيرتوراند Bertherand ذلك في تأليفه السابق، فقال: (إن لعرب الجزائر اليوم عددا أكبر من الأطباء، أو بالأحرى عدد أمن الأفراد الذين يمارسون فن العلاج الطبي، ويمكن تقسيم هؤلاء إلى قسمين، حسب درجة تعلمهم: أولئك الذين يمارسون فن العلاج الطبي، ويمكن تقسيم هؤلاء إلى قسمين، حسب درجة تعلمهم: أولئك الذين يمارسون الطب التقليدي (الأطباء)، وأولئك الذين يجمعون إلى معرفة الطب معرفة أخرى واسعة في العلم والدراسة. ولهم أيضا قدرة على الكتابة عن الأدوية، وهؤلاء هم (الحكماء) أو الأطباء العلماء. وهناك صنف ثالث في نظره، وهم المداوون أو الأطباء الذين يسهرون على عملية جراحية داخلية. وصفة (المداوي) هنا ¬

_ (¬1) الضابط فيون VILLONT (دراسات جزائرية) في مجلة (روكاي) 1870، ص 478.

تعني الطبيب الذي يأتي بالدواء الذي يستعمله بنفسه والذي يصفه للمريض. وهناك أيضا اسم (الجراح) وهو القادر على إجراء عمليات جراحية واستعمال العلاج المناسب للبرء. وفي الصحراء قال الدكتور بيرتيراند إن هناك (الخبير) الذي يعني الدليل ومرشد القوافل، ولكنه يعني أيضا عند أهل الصحراء العارف بأمور الصحة الواجبة لكل منطقة والأدوية اللازمة لأمراضها، مثل عضة الثعبان ولدغة العقرب والكسور (¬1). أما عند الحضر فقد أخبرنا الضابط فيون بأنهم لا يعرفون الطب وأنواع العلاج لانتشار الجهل بينهم، وشيوع الخرافة. وتكاد الجراحة عندهم تنحصر في ممارسة الحجامة والختان وخلع الأسنان. وأما في الريف فالأطباء هم كبار الأعراش، وهم حكماؤها الذين مارسوا مهنتهم مدة طويلة حتى أصبحت لديهم خبرة واسعة، وهم يتلقون هذه المعرفة إما بالوراثة والتقاليد، وإما بطريق الرحلة إلى تونس والمغرب وغيرهما، أو قراءة جداول للطب السحري والشعوذة، وأحيانا كانوا يعتمدون على الطب النبوي الذي كانوا يخلطونه بالخرافات. والجراحة أكثر شيوعا عند أطباء الريف منها لدى أطباء الحضر. وأطباء الريف يأتون إلى الأسواق وينصبون خيمة خاصة بهم لاستقبال المرضى (¬2). وفي 1911 وصف السيد سيكار Sicard بعض الممارسات الطبية التي تجمع بين الطب والخرافة، وهو يقول إنها كانت شائعة في بلدة تقيطونت. وكان سيكار متصرفا إداريا للبلديات المختلطة. فقد لاحظ أن سكان هذه البلدة كانوا يترددون على الأطباء الشعبيين والأطباء الأوربيين أيضا. ومن المعالجات عند الأطباء الشعبيين أن الحمى مثلا كانوا يتخلصون منها عن طريق كتابة ألفاظ كروم وفيروم وحمانة على ثلاثة أنوية (جمع نواة) ثم تحرق ويشم المريض دخانها. وقد يكتب لهم الطبيب الشعبي آية قرآنية على ورقة ¬

_ (¬1) الضابط فيون عن الدكتور بيرتيراند، ص 474 - 475. (¬2) نفس المصدر، ص 476 - 478.

كلخة ثم يعلقها المريض في رقبته، وقد يلجأون إلى حرق أوراق بعض الأشجار أو كتابة أسماء الجن. ويعالجون مرض الصفير بجرح أعلى الرأس ووضع غبرة (بودرة) الشاص المحروق على مكان الجرح. ومن علاج أمراض المعدة كتابة آية قرآنية في كوب من الماء ثم يشرب المريض ماء الكوب. ويعالجون ضيقة الصدر (الربو) بمشروب الخنجلان وسنكنجبير، والكي، واستعمال الأعشاب كمشروبات وكضمائد. وكانت المهارة في العلاج لا تتوقف عند معالجة أمراض الإنسان بل تشمل معالجة أنواع الحيوانات. والذين يقومون بالعلاج، حسب سيكار، هم المرابطون والطلبة (وهو هنا يعني المتعلمين عموما) (¬1). اهتم الفرنسيون بترجمة آثار المسلمين في الطب، فكانت أعداد مجلة الغازيت الطبية تحتوي على مجموعة من هذه الآثار، فقد ترجم بيرون كتاب الطب المعروف (بالناصري) الذي ألفه أبو بكر بن بدر للسلطان الناصر بن قلاوون، وهو، كما فهمنا، في الطب البيطري، وترجم الدكتور بيرون (Perron) أيضا كتاب الطب النبوي من تأليف جلال الدين داود (أبو سليمان) وقدم له بمقدمة طويلة ونشر ذلك على حلقات في (الغازيت) (¬2). كما ظهرت ترجمة لكتاب الرحمة في الطب والحكمة لجلال الدين السيوطي، ونسبت الترجمة لفرعون (ولعله لبيرون نفسه). وقد كتب المقدمة الدكتور بيرتراند وقال فيها إن المسلمين لم يكونوا متخلفين في الطب كما كان يظن الفرنسيون (¬3). وفي أحد أعداد الغازيت نشر الدكتور بيرتراند مقالة أعلن فيها، بعد أن جرب العمل سنوات طويلة، في المستشفيات الأهلية، أن ¬

_ (¬1) سيكار (ممارسات طبية: خرافات وأساطير ... في بلدة تقيطونت) في المجلة الأفريقية 1911، ص 42 - 47. (¬2) ابتداء من 20 يوليو 1856، ص 102. انظر (الغازيت الطبية الجزائرية) السنة الأولى 1856. (¬3) أول حلقة من هذه الترجمة ظهرت في (الغازيت الطبية الجزائرية)، 25 يناير، GAZETTE MED. de L'ALGERIE 1856.

ممارسات طبية في الأوراس

العرب المسلمين لهم أسنان بيضاء وصحية، وأنهم يستعملون للتنظيف والمحافظة على اللثة نباتات معينة، ذكر منها نماذج (¬1). وقد اهتم الدكتور بيرتراند أيضا باستعمال المخدرات عند الناس وانتشار الفساد الذي جاء مع الفرنسيين بعد أن كانت البلاد (الجزائر) محافظة على قواعد الصحة والأخلاق. فقد تعرض لآثار الحشيش والكيف والتكروري. وكان الحشيش أكثرها انتشارا حسب قوله. كما تحدث عن انتشار الدعارة وعن كون الإسلام قد أباح تعدد الزوجات والتسري. فبعد أن كان عدد النساء المسجلات رسميا، 175 سنة 1833 ازداد سنة 1838 حتى وصل إلى 375 امرأة، بينهن 94 أوروبية. أما سنة 1856 فقد بلغ عدد البغايا 508 منهن 319 أوروبية (¬2). وهو الأمر الذي ترتب عليه انتشار مرض الزهري. ممارسات طبية في الأوراس ومنذ 1913 وخلال سنوات الحرب العالمية الأولى عاش أحد العلماء الإنكليز في الجزائر ووصف زيارته لجبال الأوراس وممارسة حكمائه فن الطب العربي التقليدي إلى ذلك العهد. وقد سمى كتابه (بين أهل الجبال في الجزائر) (¬3). وفي فصل عنوانه (فن العلاج) في الأوراس قال المؤلف إنه شاهد فن الجراحة والطب هناك فعزم على كتابة كتاب يصف التجربة الفريدة التي شاهدها. ولا ندري إن كان قد فعل ذلك، ولكنه ترك على كل حال فصلا من كتابه المذكور اقتصر فيه على وصف تجارب أطباء الأوراس، وهي التجارب التي يمارسونها في الأكواخ والمنازل. وقد تنقل الباحث بينها ¬

_ (¬1) انظر الغازيت الطبية، عدد 20 نوفمبر 1857، ص 172 - 174. (¬2) الغازيت الطبية، عدد 23 سبتمبر 1857، 140. (¬3) هيلتون- سيمسون M.W. HILTON - SIMPSON، ط. لندن، 1922. والفصل الخاص بالطب يقع بين ص 179 - 198. وقد سبقت الإشارة إلى بعض المؤلفات الفرنسية عن ممارسة الطب لدى أهل الأوراس.

وجمع المعلومات عنها بنفسه. وبناء عليه فإنه، رغم انشار فن السحر والشعوذة، في المنطقة، فإن هناك أيضا علم الطب والجراحة الحقيقي الذي يقوم به بعض الأطباء على أساس مدروس وموروث. وقال سيمسون إن الناس قد يتخيلون أن الأوراسيين يمارسون السحر والطلاسم والحروز عند المرض والعطب، ولكنهم سيكتشفون أن فنون الطب التي كانت موجودة في العصور الوسطى (العصر الذهبي عند العرب والمسلمين) ما تزال موجودة في قرى الأوراس وفي خيام الصحراء القريبة منه. وقد كان الفرنسيون قد علموا بهذه الأنواع من العلاج منذ أمد طويل، إذ أن كل شخص في الأوراس يحمل أثرا للجراحة يدل على أنه قد خضع لهذه المعالجة. وأصدر الفرنسيون قانونا يجعل من يتسبب في موت من يعالجه بهذه الطريقة مسؤولا على حياته ويخضع للعقاب. وذلك هو سبب السرية المتناهية، والتخفي عند ممارسة العمليات الجراحية المذكورة، تفاديا للعقوبة إذا حصلت الوفاة، وابتعادا عن طلب المؤهلات من الفرنسيين في المداواة. وقد أصبح أولئك الأطباء المحليون يكرهون الفرنسيين بل ويعتقدون أنهم لا يعرفون مهنة العلاج. ومن جهة أخرى فهم يخشون بوار صنعتهم لأن المواطن إذا علم أن الفرنسيين فتحوا عيادات قريبة فإنه قد يذهب إليها ويتركهم. فكان الجراح الشاوي (الأوراسي) إذن يلجأ إلى إخفاء طريقته في العلاج، ويستنقص الطريقة الفرنسية في ذلك ويتهمهم بالجهل إلا في حالات لا يفعلها المسلم مثل بتر الفخذ والأعضاء. ولذلك فإن السائح أو المسافر العادي لا يمكنه، في دعوى السيد سيمسون، أن يطلع على الأعمال الجراحية في منطقة الشاوية ولا يمكنه التعرف على وسائلهم وآلاتهم التي لا توجد قبل 1914 حتى في المتاحف. ويبدو أن في هذا الادعاء شيئا من المبالغة لتبرير ما سينشره سيمسون بالصور والوصف للعمليات الجراحية في الأوراس. ومهما كان الأمر فقد بدأ مساعيه للاطلاع والتعرف على طريقتهم في ذلك. وقد تنكر في زي جوال لا يعرف من الطب إلا قليلا. وقام هو ومن معه بإعداد لوازم الاسعافات وحمل

بعض الأدوية غير الخطرة، وكانوا يقدمون منها إلى السكان الذين التفوا حولهم وجاؤوا إليهم من بعيد. وشملت إسعافاته المريض والمعطوب وحتى الأصحاء. وتفادى العمليات الجراحية ومداواة الصمم وماء العينين ونحوها. وقص سيمسون كيف حصل على المعلومات (السرية) حول الجراحة والجراحين في الأوراس، وهي العملية التي اشتهرت في أوروبا وبلغت انكلترا. ولكنه هو وفريقه لم يحصلوا على طائل لأن السكان كانوا متمسكين بالسرية وكانوا يكتفون بالقول، إذا سئلوا، إن كل مريض أو مصاب يذهب إلى الطبيب الفرنسي. ثم غير سيمسون ورفاقه الطريقة فسألوا ما إذا كان في المنطقة من يحتاج إلى آلة المبضع الإنكليزية، وأخرج واحدة منها كانت في جيبه. وهنا قال كبير الحاضرين: دعنا نسأله (يعني الجراح) إنه حاضر معنا. فوقف رجل تبين أنه هو الذي كان يقوم بالجراحة. ووعده سيمسون بأنه لن يعطي اسمه للسلطات الفرنسية، وطلب منه سيمسون ورفاقه أن يقبل ببعض الهدايا الطبية التي كازا يحملونها معهم، وأن يطلعهم على طريقته في الجراحة والأدوات التي يستعملها. وكان ذلك في ربيع سنة 1913 (¬1). وحصلوا منه فعلا على مختلف الأدوات المستعملة. وعرفوا منه أيضا طريقة التطبب والعلاج بالأعشاب. وفي جولات لاحقة في المنطقة حصلوا من (أطباء) آخرين على عدد آخر من الآلات الطبية حتى بلغ ما جمعوه 150 قطعة، وقد وضعوا حوالي 60 قطعة منها في متحف بيت - ريفرز Pitt - Rivers في أكسفورد. وقد أخبرنا سيمسون أن هؤلاء الأطباء كانوا يتدربون فترة طويلة قبل بدء العمليات الجراحية. وكان أجدادهم قد تعلموا هذه الصنعة وعلموها لأولادهم. فهي ميراث عائلي منذ العصور الوسطى. وهذه الصنعة كانت تمارس: ايضا في مناطق أخرى بالجزائر. والآلات المذكورة متنوعة، منها الحديدية والخشبية. ¬

_ (¬1) تحدث سيمسون أيضا عن زيارات أخرى للأوراس سنوات 1914 - 1920 لنفس الغرض.

والآلات الحديدية صنعها الحدادون بالمنطقة. والجراحون لا يستعملون المخدر عند العمليات، وهم يعتمدون على قدرة تحتل المريض وصبره. وللجراح مساعدون يسعفونه. وقد وصف سيمسون بعض النتائج وقال إنها معتبرة. واستنتج السيد سيمسون عدة نتائج بعد دراسته المستفيضة. من ذلك أن الكتب العربية التي يشار إليها ويرجع إليها أهل الطب والجراحة والصيدلة تشير إلى أن المهنة التي وصفها ترجع إلى عصر الفتح الإسلامي. ومن جهة أخرى قال إن الحجاج كانوا يقضون وقتا بعد أداء الفريضة، في دراسة الطب في تونس أو القاهرة، ثم يحملون معهم الكتب ويرجعون إلى بلادهم. وإن المعرفة الطبية إذن ترجع إلى حوالي القرن الثالث عشر الميلادي. وتناقل ذلك الأبناء والأحفاد عن الأجداد شفويا ويوارثوه إلى الحرب العالمية الأولى. وقد ظل قلب الأوراس يحتفظ بذلك التراث من الطب العربي، لأن العائلات القديمة أدخلت هذا النوع من الطب ومارسته هناك. وهم لا ينظرون إليها على أنها عائلات من المرابطين، كما أن الناس لا ينظرون إلى هذه العائلات نظرتهم إلى من يلجأ إلى الطرق الشيطانية والشعوذة وكتاب الحروز الذين كانوا موجودين أيضا في المنطقة. إن العائلات التي تمارس الطب في الأوراس كان ينظر إليها نظرة خاصة، شبيهة بنظرة أهل أوروبا إلى ممارسة أطبائهم منذ سبعة قرون. وهذا لا ينفي وجود بعض الصفات السحرية عن هذه الممارسات، واستشهد سيمسون بقول بعض هؤلاء الأطباء، إن البومة لها عين يقظة وأخرى نائمة. لقد قضى سيمسون حوالي أربعة فصول شتوية في الأوراس ليجمع نماذج من الفن (الأهلي) لمتحف (بيت - ريفرز) المذكور. وقد صور في كتابه أدوات جراحية وأعشاب وعمليات جراحية أجريت خلال حضوره. وتعتبر الصور التي التقطها جيدة بمقياس ذلك الوقت. ومن جهة أخرى أثبت أن عملية قد جرت في الجمجمة على أحد المرضى وأنه عندما رجع إلى الأوراس في السنة التالية وجد الرجل الذي كان مريضا في صحة جيدة.

وبالإضافة إلى وصفة المذكور قام سيمسون بدراسة الاثنوغرافية وأحوال السكان سواء منهم الأوراسيون أو بدو الصحراء القريبة. وربط خلال ذلك علاقات صداقة مع بعض الأطباء المحليين الذين كانوا يعملون في سرية تامة، وقد نشر بعض التفاصيل عن ممارساتهم. وأثبت أن طريقة العلاج قد انتقلت منذ العصور الوسطى من العلماء العرب والمسلمين إلى هؤلاء الأطباء الذين ورثوها بدورهم عن آبائهم في عائلات تسكن الأوراس وتمارس الأعمال الطبية والجراحية، طبقا لتقاليد الطب العربي، وهي عائلات حافظت بشدة على أسرار مهنتها ثمانين سنة بعد الاحتلال. ولاحظ سيمسون أن بعض جراحي الشاوية كانوا يملكون كتب العلماء القدماء، ولكنهم غير قادرين في وقته على الاستفادة منها وقراءتها لانقطاع التعليم عنهم. وخلال رحلاته في الأوراس كشف سيمسون أن الأطباء هناك كانوا يقضون وقتا طويلا في البحث عن النباتات المفقودة، وقد صورهم وهم يأخذون الأعشاب ويزنون المقادير، ثم وهم يمارسون فنهم على المرضى والجرحى. وكان أعظم ما قاموا به هو عملية ثقب الجمجمة Trepanation التي يجرونها بصفة خارقة للعادة. وقد سبق للسيدين (مالبو) و (فيرنو) أن وصفاها أيضا في (الانثروبولوجي) التي ظهرت سنة 7 189. واشتهر نجاح الأطباء الأوراسيين في المنطقة كلها، إذ كانوا يستبدلون القطعة المكسورة من العظم بقطعة من عظم كلب أو شاة مذبوحة حديثا. كما وصف سيمسون أيضا وبدقة كبيرة العمليات الي أجريت على العيون وأجزاء أخرى من الجسم الإنساني. ويبدو أن الآلات التي استعملت بالأوراس هي أكثر قدما من آلات هيبقراط (بقراط) (¬1). والذين راجعوا كتاب سيمسون شهدوا له بالدقة ووضوح الصور. كما شهدوا على قدم ونجاح عمليات الأطباء الأوراسيين. فقد قال أوبري إن وجود الأهالي أثناء العمليات الجراحية وكذلك آثار الجراح المعالجة تدل ¬

_ (¬1) أوبري AUPRY في المجلة الجغرافية للجزائر، SGAAN ,1922، ص 734 - 735.

الطب السحري والخرافي

على نجاح العمليات. غير أن المؤلف (سيمسون) لم يستطع أن يحصل على إحصاء دقيق لعدد العمليات الناجحة. وتبين من الكتاب أيضا المعرفة الجيدة للأوراسي بالأعشاب وأنواعها وفوائدها. ويدعى الطبيب الأوراسي أن كل النباتات لها فوائد ومنافع طبية، ولكن الناس لا يعرفون كل خصائصها. وهذا الطبيب كان يجمع بنفسه الأعشاب التي يحتاجها ويعالج بها. كما كان يتردد على صيدليات الأوروبيين من وقت إلى آخر في باتنة وبسكرة، ولكنه لا يستفيد منها إلا القليل، وذكر سيمسون أنواع الأمراض التي كان يعالجها أطباء الأوراس. وفي النهاية نعرف أن سيمسون نشر ملاحظاته عن الطب (العلمي) في الأوراس بينما أجل نشر ملاحظاته عن الطب (السحري) أو الخرافي. وهذا في حد ذاته فصل هام من مسيرة الطب في الجزائر. ولا نعرف أن سيمسون قد نشر الجزء الآخر من كتابه. الطب السحري والخرافي لقد كتب الكثير عن الطب الشعبي - الخرافي في الجزائر، من كتاب مسلمين وفرنسيين. ونعني به تلك الممارسات التي ارتبطت بالعقائد القديمة في الأشياء والأشخاص على أساس المضرة أو النفع. فمع انتشار الجهل بين العامة وابتعاد الخاصة عن التعلم واستعمال العقل، وجدنا المجتمع قد اعتقد في وسائل أخرى للتداوي ليست هي دينية ولا علمية. أصبح الشفاء والسقم والنفع والضر يأتي من قبل شجرة أو ضريح ولي أو ماء معين أو كتابة على حرز (حجاب) أو نحو ذلك. وقد شاعت خطوط الرمل وكتابة الحروز وقراءة البخوت واستطلاع الغيب، والكشف الصوفي، كما شاعت أنواع النشترة والعزائم والتمائم التي لها أصول ربما مفيدة، ولكنها تحولت إلى ممارسات استغلالية واستسلام بليد لسلطة روحية ونفسية طاغية. وقد روى الشيخ مبارك الميلي نماذج من ذلك في كتابه (رسالة الشرك ومظاهره)، وهو الكتاب الذي أصدره خلال الثلاثينات من هذا القرن. فقال عن صفة العزيمة إن القارئ يقرأ على من يظن أن به مسا من الجن سورة الجن من القرآن الكريم في غالب

الأحيان، وتكون بيده فتيلة قد أحرق رأسها ويكوي بها أنف المصاب. وقد يدخن له ببخور، وقد يكتب له شيئا مما هو مدون في كتاب (شمس المعارف) للبوني. أما النساء فلا تسأل عن لجوئهن إلى تنزيل القمر في القصعة حتى كان القمر خبزة، وكم تستعمل النساء السحر وحل الأزواج وربطهم، وكم يصدر عنهن من وصايا سحرية ومن رقى ومن أوصاف أدوية لبناتهن وصاحباتهن (¬1). ووصف الميلي أيضا النشرة (بضم وتضعيف النون) وقال إنها من أنواع التطبب ولها حكم الرقية والتميمة حسب قوله. وعرفها بأنها تعويذة يعالج بها المريض والمجنون، وهو يعلقها تميمة أو يمحوها ويشرب ماءها أو يدهن بها. فالنشرة هنا كأنها هي تفريق المرض عن المريض، حسب تعريف الميلي. وتعني النشرة أيضا السحر وإبعاد السحر عن المسحور. وترتبط النشرة بالجن غالبا حتى أن اسم الله لا يذكر على الذبيحة إرضاء للجن (¬2). ونسب الميلي هذه التصرفات إلى بعض المشائخ، ومنهم شيخه الذي تعلم عليه القرآن. وأشهر منه الشيخ العبيدي الذي كان يتصرف في الجنون فيخرجه من فلانة ويسجنه في زجاجة، وقد يدعي إحراق بعض الجن وتوبيخ آخرين (¬3). وهكذا. أما الطيب العقبي فقد سخر من مثال هذه الممارسات في قصيدته (إلى الدين الخالص) عندما أعلن عن عجز هؤلاء (الأطباء الروحيين) عن إزالة الحشرات فما بالك بجلب البرء ودفع الضرر: لست أدعوهم، كما قلتم، وقد ... عجزوا عن طرد بق أو قراد وقد انتشر الطب السحري رغم ظهور بعض الأطباء الجزائريين الذين تخرجوا من الجامعات الفرنسية. ويبدو أن الإغراق في الطب السحري قد جاء مع الإغراق في التصوف منذ أواخر القرن الماضي. وكذلك مع الإغراق ¬

_ (¬1) الميلي (رسالة الشرك)، ط. 2، 1966، ص 153 - 159. (¬2) نفس المصدر، ص 237 - 238. (¬3) نفس المصدر، ص 153. وقصيدة العقبي المذكورة منشورة في (شعراء الجزائر) 1/ وفي رسالة الشرك للميلي.

في الجهل. فقد انقطعت العامة عن الهداية الدينية والعلوم العملية وتدهورت أوضاعها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية. وتعلق الناس في التداوي والعقائد بالشيوخ والأشباح والجن والأرواح والممارسات الشيطانية. وارتبط ذلك كله بظهور موجة من البدع والخرافات الغريبة عن الدين والعلم والعقل. وكان ذلك يلذ للسلطات الفرنسية، فكلما غرق الناس في البدع والخرافات والسحر والتعلق بالشيوخ كلما هدأت الأوضاع واستقرت البلاد في نظرها. وكان علماء الاجتماع الفرنسيين ينشرون فكرة جديدة أوائل هذا القرن، وهي أن المجتمع الجزائري سيتحلل من الداخل بنفسه وينتهي أجله عما قريب (¬1). وظاهرة اللجوء إلى الممارسات السحرية والطب الخرافي لم تكن خاصة بجهة من الجهات. وقد رأينا من النماذج التي ساقها الميلي ما كان يحدث في بعض الجهات الشرقية. وفي سنة 1907 كتب أبو بكر عبد السلام بن شعيب دراسة عن (المرابطين المداوين) في الناحية الغربية، سيما تلمسان وضواحيها. وقد بين أن كل ولي عند العامة قادر على علاج مرضى أو أكثر. فالحمى والصداع لهما (أطباؤهما) من الدراويش. وأكد الكاتب أن المسلمين في وقته كانا يفضلون الذهاب إلى المرابطين بدل الأطباء الفرنسيين، (ولكن لماذا الفرنسيون فقط؟) ووصف هؤلاء المسلمين بأنهم جهلة. ولكنه قال إن هذه الممارسات في نظره غير خاصة بالمسلمين. فالعقيدة في الدراويش منتشرة أيضا لدى الكاثوليك. وحاول الكاتب أن يربط بين الإسلام وهذه الممارسات، فقال إن الإسلام لا يمانع في المداواة عند المرابطين بشرط عدم الشرك. ولكن من أين له بذلك؟ وأية مداوداة؟. والأمراض الشعبية في نظر أبي بكر على نوعين: بدنية ومعنوية (روحية). فالبدنية هي التي يمكن تفسير أسبابها وطبيعتها مثل الحمى وأمراض العين والصداع. أما الأمراض المعنوية أو الخفية فهي التي لا يمكن تعليلها كالصرع والهستيريا، والعامة تعتقد أنها من فعل الجن، ولذلك ينصح ¬

_ (¬1) انظر كتابات دوتيه عن (الإسلام الجزائري)، والإسكندر جولي عن الطرق الصوفية.

الناصحون بالتوجه إلى المرابطين لعلاجها. وقد ذكر الكاتب بعض هؤلاء المرابطين والأماكن الخاصة بطلب العلاج. ففي تلمسان قبة بناحية الوريط تسمى (قبة سيدي محمد بن يعقوب)، ويشاع أن هذا الولي كان يبرئ من أمراض العين، ووجد على القبر شجرة زيتون من أكل من حبوبها شفي من عينيه. أما المرابط سيدي بوراس، حول تلمسان أيضا، فقد شاع عنه العلاج من الصداع. وتذهب الأسطورة إلى أن على المريض أن يطبخ رأس كبش في بيته ثم يحمله معه ويأكله في قبة الشيخ المذكور ويترك العظام حيث أكل. وفي قبة سيدي القيسي يتداوى المرضى من الحمى. وهذه القبة توجد على مقربة من ضريح سيدي ابن مدين الغوث. والمطلوب من المريض أن يذهب إليها ثلاثة أيام متوالية، لكن قبل شروق الشمس أو بعد غروبها، وعليه أيضا أن يحرك الأوراق المتساقطة على قبة الشيخ. وهناك أولياء آخرون يمتاز كل منهم بمداواة مرض من الأمراض، فقد اختصر سيدي الأنجاصي مثلا بمداواة المغص عند الأطفال، وسيدي الداودي بن ناصر في (أغادير) بالمداواة من العقم (¬1). وفي الصحراء وغيرها عقائد مشابهة في المداواة، عن طريق السحر وما يشبهه. فلو ذهبت إلى بلاد سوف أو ميزاب أو توات، أو تنقلت في نواحي العاصمة وزواوة لوجدت عشرات القصص والأسماء وطرق العلاج الشعبي المبني على الخرافات شبيهة بما وصف الميلي وأبو بكر. والغريب أن بعض ذلك مرده في الأساس إلى الطب النبوي ولكن بعد تحريفه عن أصله. ولا سبيل إلى استقصاء النماذج من كل جهة، لأن الأمراض تكاد تكون واحدة، وطرق العلاج الخرافي متشابهة. ¬

_ (¬1) أبو بكر عبد السلام بن شعيب (المرابطون المداوون) في (المجلة الإفريقية)، 1907 ص 250? 255. يجب التنبيه إلى أن كلمة (مرابطين) هنا مستعملة في معنى شعبي عام. وأصلها - كما عرفنا في فصول أخرى - أن المرابط يعني العالم المجاهد وليس الدرويش والخرافي. ولكن مع الزمن أصبح كل خرافي (مرابطا)، وهو من الاستعمالات الفرنسية للتنفير من المجاهدين والعلماء والأشراف الذين تولوا المقاومة.

بعض المؤلفات في الطب والصحة

وقبل أن نذكر المؤلفات التي تحدثت عن الأمراض وعلاجها، نكرر القول إن السلطات الفرنسية كانت تستمرئ هذا الإغراق في الخرافات، وكانت بصفة عامة تمنع من يدعو المسلمين إلى العلم واليقظة والخروج من التخلف. وما الحركة الاصلاحية التي ظهرت بعد الحرب العالمية الأولى إلا حركة تمرد على ذلك الوضع. ولكن الأصوات المنادية بتعلم الطب الحديث والخروج من ربقة الجهل قد بدأت مع كتيب المجاوي الذي ظهر سنة 1877 ومحاولات أخرى على يد ابن مهنة وابن الموهوب ومحمد بن مصطفى. ومنذ 1884 تخرج محمد بن العربي (بلعربي) والطيب مرسلي وبوضربة وبريهمات، وأخذوا ينشرون الطب الحديث بين المواطنين. ولكن الانتقال من مرحلة الخرافة إلى مرحلة العقل والوعي قد أخذ زمنا طويلا حقا. إن السلطات الفرنسية بدل أن تفتح المجال أمام التعلم وترخص للمصلحين بالدعوة إلى العقل واليقظة كانت تدعو هي، بوسائلها الخاصة، كجريدة المبشر وبعض الكتيبات الموعز بها، إلى العلاج عند الأطباء الفرنسيين ودخول المستشفيات الكنسية، وهو ما جعل الناس ينفرون من الطب ويلجأون إلى الخرافة، ويفضلون المرابطين والعلاج الروحي على الأطباء المستعمرين والعلاج الديني. فإذا ما أوعزت تلك السلطات إلى من يؤلف في الطب الحديث ويخاطب العامة فإنما يكون ذلك لمصلحة الفرنسيين أنفسهم مثل فوائد الخير الصحي للحجاج والمسافرين عموما، ومثل مداواة الأمراض المعدية والتخلص منها، أما الأمراض التي لا تضر إلا بالجزائريين فقد تركت للشعوذة والسحر، كما ذكرنا. بعض المؤلفات في الطب والصحة والصحف التي كانت تصدر عن الإدارة، مثل المبشر والمغرب وكوكب افريقية، كانت تنشر المقالات والتوجيهات عن فوائد الصحة وطرق العلاج والتخلص من الأوبئة، للإنسان والحيوان. وكان بعض أطباء الجيش الفرنسي

وأطباء المكاتب العربية يؤلفون كتبا ذات فائدة عظيمة عن تجاربهم مع الجزائريين في ميدان الطب والعلاج. ومنذ أواخر القرن ظهرت كتيبات على يد بعض العلماء الجزائريين المتصلين بالإدارة أو العاملين في جريدة المبشر، مثل الحفناوي بن الشيخ ومحمد بن مصطفى. ولكننا سنبدأ بأول أثر عن فوائد الحجر الصحي. 1 - إتحاف المنصفين والأدباء في الاحتراز من الوباء: وهو من تأليف حمدان بن عثمان خوجة حوالي 1837 (1252). وقد رد فيه على المتزمتين الذين لا يقبلون بالتغيير وعلى المتوكلين الذين يتركون كل الأمور إلى مشيئة الله فلا يتخذون حذرا ولا يقدمون الأسباب لتفادي الأوبئة والطواعين. وثقافة خوجة المعاصرة تجعله خير من يكتب عن الموضوع. فقد عاش في الجزائر وتجول في المشرق وفي أوروبا قبل وبعد الاحتلال الفرنسي لبلاده. وكتب هذا الكتاب بعد هجرته إلى اسطانبول. وندد حمدان خوجة بالمسلمين القاعدين الذين كانوا يعتقدون أن طرق الوقاية إنما هي من مبتكرات الفرنجة (النصارى)، ولذلك فهي غير واجبة على المسلمين في زعمهم. ولا شك أنه كان يقصد بذلك علماء الوقت الذين رفضوا الإصلاح. ونحن هنا نجد خوجة ساخطا على علماء المسلمين بشأن الطرق الصحية كما ثار زميله ابن العنابي بهم في شأن الطرق العسكرية (¬1). ذكر حمدان خوجة أنه شهد نزول الوباء بالجزائر حوالي عشرين مرة أثناء حياته، وفي كل مرة كان الوباء يصيب المئات وربما الآلاف ويشوه وجوه الناس ووجه البلاد. فاضمحل نتيجة ذلك، العلم وأقفرت المعالم وانقرض العسكر، (لا يراد الممرض على المصح) لأن مبدأ الحريق شرارة. ولو اتبع الناس التعاليم الدينية والعقلية لما أصابهم الوباء. ولفت خوجة أنظار قومه (وكأني به يخاطب علماء المشرق وسياسييه) إلى أن الغربيين ¬

_ (¬1) كتب ابن العنابي (السعي المحمود في نظام الجنود)، وقد درسناه في كتابا (رائد التجديد الإسلامي ...)، ط 2. وحققه محمد بن عبد الكريم، 1982.

(الإفرنج)، قد اتخذوا طرق الوقاية وتحرزوا غاية التحرز فلم يعانوا من إصابات الوباء، وظهر خوجة كأنه يتكلم على لسان ابن خلدون، حين قال إن الغربيين قد توارثوا الصنائع المهمة، وزاد آخرهم فيها على أولهم، وطالت أعمارهم، وتوفرت عساكرهم ومتاجرهم (اللتان عليهما المعول) بينما ضعف حال المسلمين. وبعد هذه المقارنة الواضحة قال خوجة إن الغربيين قد استغنوا عن قتال المسلمين بقلة حزمهم، وبذلك أصبح المسلمون يخربون بيوتهم بأيديهم، لأنهم جعلوا من الضعف قوة ومن السراب قوتا. وأفكار خوجة هنا تدل على له كان داعية تغيير في مختلف الميادين التي ضعف فيها حال المسلمين. ويجب أن نتذكر أن خوجة كان يكتب بعد حروب الصرب واستقلال اليونان وغيرها من الأحداث التي أضعفت الدولة العثمانية، وكشفت عن ضعف المسلمين، واكتسب منها الإفرنج قوة. ولما كان خطابه في الحقيقة للخاصة (العلماء ومشائخ الإسلام، كما يسميهم) وليس للعامة، فإنه تمنى أن يقرأوا كتابه بعين الإنصاف، وأن يكتبوا عنه إذا أخطأ. وكتاب (إتحاف المنصفين) يضم مقدمة وثلاثة أبواب. فالمقدمة حول مسائل عامة كدفع الأذى والتسبب والعلل. وقضية تقدم الإفرنج في العلوم الرياضية والطبيعية. وجعل خوجة المقارنة تظهر كأن المسلمين تأخروا لأنهم متمسكون بدينهم ومتخلون عن دنياهم، وإن أهل الغرب تقدموا لأنهم تخلوا عن دينهم واعتنوا بأمور دنياهم. وهو طبعا لا يريد ذلك. ثم ذكر حقيقة الاحتراز من الوباء بطريق (الكرنتينة) وخاطب في ذلك الراعي والرعية (الحاكم والمحكوم) وطالب بتطبيق هذه الطريقة بتوفير الصحة وضمان المعاش وقوة الدولة. أما أبواب الكتاب الرئيسية فهي: 1 - الأدلة النقلية والعقلية على جواز الفرار من الوباء. 2 - جواز الاحتراز من الوباء شرعا. 3 - بيان تطبيق (الكرنتينة)، وفيه ناقش خوجة ما إذا كان ذلك يتعارض

مع الدين الإسلامي، ثم بين كيف طبق الغربيون ذلك. وبعد الخاتمة دعا المسلمين إلى المبادرة بتطبيق الاحتراز، عند مداخل عاصمة الدولة (اسطانبول) والاستعانة بتجارب الغربيين في هذا الميدان. كما رد على من زعم أنه لا يجوز الاستفادة من الأجانب (¬1). ورغم أهمية الكتاب فإنه غير مدروس وغير معروف، وربما يرجع ذلك إلى عنوانه غير المباشر أو إلى الموضوعات العديدة التي احتواها. وكانت نسخة منه عند محمد بن أبي شنب فسلمها إلى جورج ايفير الذي نشر دراسة مستفيضة عن حمدان خوجة ومذكرته سنة 1913. وقد استحق ابن شنب ثناء ايفير لأنه ترجم له ما يتعلق بالحجر الصحي، والإهداء إلى السلطان، وبعض التفاصيل عن حياة المؤلف نفسه (¬2). وجاء في ترجمة حمدان خوجة التي كتبها عمر راسم أن نسخة من كتاب الاتحاف كانت موجودة (بالعربية والتركية) عند عمر خوجة الجد، القاطن ببئر مراد رايس، وربما كانت بخط خوجة نفسه (¬3). 2 - وفي سنة 1896 كتب ونشر محمد بن مصطفى أيضا كتيبا عن الطب والحجر الصحي (الكرنتينة) وعلاقة ذلك بالشريعة الإسلامية. وكان محمد بن مصطفى إذاك عاملا في جريدة المبشر، وكان واسع الاطلاع على التراث والحياة المعاصرة. وربما كلفه الفرنسيون بوضع مثل هذا التأليف، وقد تكفلت الإدارة بنشره وترويجه. ولا شك أن لهذا الكتاب علاقة بالحج والسفر إلى الخارج. وكان ذلك في عهد الحاكم العام، جول كامبون، ¬

_ (¬1) ترجم خوجة (إتحاف المنصفين) بنفسه إلى التركية ونشره بعنوان (سنى الإتحاف). وكان قد أهدى كتابه إلى السلطان محمود الثاني. وقد حققه محمد بن عبد الكريم ونشره سنة 1968. انظر محمد بن عبد الكريم (حمدان بن عثمان خوجة الجزائري ومذكراته)، بيروت، 1972، ص 129 - 135. فقد حلل فيه عناصر هذا الكتاب (أي إتحاف المنصفين). (¬2) جورج ايفير (مذكرة حمدان خوجة) في (المجلة الإفريقية) 1913، ص 122 هامش 1. (¬3) محمد علي دبوز (نهضة الجزائر) 1/ 133.

صاحب الفتوى التي طلب من العلماء المسلمين في الحجاز الموافقة عليها، والتي كان يقصد من ورائها الحد من هجرة الجزائريين نحو الشرق والتحكم في الحجاج (¬1). وبعد صدور الكتيب المذكور نشرت (المبشر) حوله كلمة جاء فيها أن المؤلف مدرس في جامع سفير بالعاصمة لكي تبرر علاجه لموضوع ديني - علمي? سياسي. وقالت إنه استدل على آرائه في عدم منافاة الشريعة الإسلامية للحجر الصحي بآيات قرآنية وأحاديث نبوية وأقوال فقهية. ومن ثمة يفهم الناس أن حفظ الصحة الذي الذي استعمله الفرنسيون ليس ضد الدين الإسلامي، وكذلك إلزام الناس بالحجر الصحي لمنع انتشار الأوبئة. (وامتدحت المبشر الكتيب على أنه ذو قدر عظيم في كافة البلدان الإسلامية، تبعا لقدر المؤلف الذي هو (فقيه جزائري). ونفهم من ذلك أن الفرنسيين كانوا يوزعون الكتيب في بلدان الشرق وأفريقيا أيضا. وقد ترجموه إلى الفرنسية ونشروا الأصل والترجمة في كتيب واحد، وأشادت (صحف شتى) في فرنسا بهذا العمل. إن العلاقة واضحة في هذا التأليف بين الدعاية والعلم. كما نشرت عن مجلة (أفريقية الفرنسية) تعليقا جاء فيه أن الكتيب يقع في أربعين صفحة، وأن المؤلف تحدث فيه عن الأدوية في الشريعة الإسلامية، ومكانة الطبيب (الحكيم) في الشريعة أيضا، وجاء على ذكر بعض الأعشاب المفيدة الموصى بها دينيا، كما جاء بنصوص من القرآن الكريم والحديث النبوي. والملاحظ أن المؤلف أشار أيضا إلى ما جاء في كتاب (إتحاف المنصفين) لحمدان خوجة حول الحجر الصحي، وذكر أن على المسلمين أن ينشدوا الطب عند غير المسلمين (أي الفرنسيين)، ونفهم من المجلة الفرنسية أن مفتي المالكية ابن زاكور، قد قدم الكتيب ومدح مؤلفه، ¬

_ (¬1) عن هذه الفتوى انظر فصل الطرق الصوفية، والجزائر في المشارق والمغارب، وفقرة الهجرة في فصل مذاهب وتيارات. انظر عنهما أيضا بحثنا (فرنسيان في الحجاز) في مجلة (المنهل) السعودية، أغسطس (غشت)، 1996.

وأن أحمد بوقدورة (المفتي الحنفي) وعلي ابن الحاج موسى (قيم ضريح الشيخ الثعالبي) وابن زكري أستاذ الشريعة بالمدرسة الرسمية كلهم قد قرظوا الكتيب (¬1). 3 - الخبر المنتشر في حفظ صحة البشر: وهو ترجمة لكتاب الدكتور دركل في تدبير الصحة. وقد طبع هذا الكتاب سنة 1908، وترجمه وأعده الحفناوي بن الشيخ صاحب كتاب تعريف الخلف، ونشرته كذلك الإدارة الفرنسية. وكان الحفناوي محررا أيضا في جريدة المبشر الرسمية. وسنة 1908 تذكرنا بعهد (شارل جونار) الذي أخذ فيه الانفتاح على العالم العربي والإسلامي يشق طريقه. ونحن نلاحظ هنا أيضا استعمال رجال الدين الجزائريين للترويج للمصالح الفرنسية من خلال نشر أعمال تبدو بريئة لعلاقتها بحفظ الصحة على العموم. 4 - القول الصحيح في منافع التلقيح: ألفه أيضا الحفناوي بن الشيخ، ونشرته الإدارة الفرنسية في الجزائر، بدون تاريخ. وواضح من عنوانه أنه يتعلق بالتلقيح ضد بعض الأمراض المعدية وترغيب الجزائريين في ذلك، دون حرج ديني أو صحي (¬2). 5 - تدبير صحة الأبدان في السفر وزيارة البلدان: وهو من تأليف المدني بن الشيخ الديسي (أخو الحفناوي بن الشيخ صاحب تعريف الخلف). وهذا الكتاب قد جمع فوائد عديدة طبية وعلمية وتاريخية. ويبدو أن صلة المدني الديسي بالإدارة لم تكن على نفس المستوى الذي كانت عليه مع أخيه، ومع ذلك فالإدارة هي التي نشرت الكتاب أيضا سنة 1913، لكونه يستجيب للمواصفات التي تحتاجها منه. ¬

_ (¬1) مجلة افريقية الفرنسية. A.F، جوان/ يونيو 1896، ص 184. (¬2) في هذه الأثناء (سنة 1907) ألقى الدكتور بلقاسم بن التهامي محاضرة في الجمعية الرشيدية بالعاصمة، عنوانها (مرض السل). ورغم أنها كانت بالفرنسية وبعيدة عن الرأي العام الشعبي، فإن التيار عندئذ كان يسير نحو فوائد التلقيح من بعض الأمراض المعدية كالسل. انظر كتابنا الحركة الوطنية، 2/ 146، ط 4.

كان المدني هذا قد ولد في الديس (نواحي بوسعادة) سنة 1284. وتلقى العلم على شيوخ الناحية، ومنهم محمد بن عبد الرحمن، عالم زاوية الهامل، وأخذ (الطب والحكمة) عن والده، وعن دحمان بن الفضيل الديسي. ثم اتجه المدني إلى الزوايا بحثا عن العلم، فنزل زاوية ابن أبي داود بزواوة، ثم زاوية علي بن عمر بطولقة، ثم زاوية مصطفى بن عزوز بنفطة. ويهمنا أيضا وصف الشيخ محمود كحول للمدني في (التقويم الجزائري) بكونه يميل إلى (التقدم العصري) ومحبا للاطلاع. وأخبر كحول أيضا أن المدني قد حضر درس الشيخ محمد عبده في تفسير سورة والعصر بالعاصمة حين زارها سنة 1903. ومن جهة أخرى فإن المدني قد تأثر علميا بالشيخ المكي بن عزوز، وأنه أخذ الطريقة الرحمانية على الشيخ محمد بن أبي القاسم الهاملي. إن هذا الجمع بين الدنيا والدين، وبين العلم والتصوف، هو الذي رشح كتاب المدني بن الشيخ للنشر من قبل مطبعة فونتانة التي كانت تحت نظر الإدارة الفرنسية (¬1). أما محتوى الكتاب فهو مجموعة من المعارف في الصحة والفلك والطب والمستحدثات التقنية ومضار بعض المأكولات والممارسات. وقد قالت عنه جريدة (كوكب افريقية) إن المؤلف جعل له مقدمة في الأسباب التي دفعته للتأليف، ثم تناول فيه الفصول الأربعة وما يختص به كل واحد منها وما يستعمل فيه. ثم تحدث عن السفر وفوائده، وجاء بمناظرة بين البادية والحاضرة، نثرا وشعرا، وما قيل في كل منهما. وتناول الكتاب أيضا علم الطب والتشريح والحواس الخمس كالفلك ونحوه، وحذر المؤلف من الدجاجلة المعاصرين. ولا شك أن ذلك يعني التحذير من اللجوء إلى الشعوذة والسحر والتداوي عند (المرابطين) بالوسائل الشيطانية التي ذكرنا بعضها. كما تحدث المدني عن أمرين آخرين هامين، الأول (المستحدثات العصرية) مثل السكة الحديدية والفوتوغراف، والثاني معاهد العلم التي زارها ¬

_ (¬1) الشيخ كحول (التقويم الجزائري)، سنة 1913، ص 173 - 174.

في الجزائر والأعيان الذين اجتمع معهم خلال زياراته. ويبدو أن هذا الفصل مفيد لمن يريد الاطلاع على حال الزوايا ورجال العلم عندئذ. وفي الأخير تحدث المدني بن الشيخ عن تدير الصحة المنزلية وعن أمراض بعض المطاعم، ومضا الفلفل، كما تحدث عن أصحاب خط الرمل (¬1). فأنت ترى أن الكتاب ليس كله في الطب وحفظ الصحة، ولكنه كتاب عام فيه فوائد مختلفة، وهو بذلك يجعل المؤلف في الخط الذي تريده الإدارة للجزائريين. 6 - أقوال المطاعين في الطعن والطواعين: لأبي حامد المشرفي. المتوفى بالمغرب سنة 1896. والمشرفي يعني (بالطواعين) الأوبئة. وقد جمع فيه آراء وحوادث ونقولا هامة. وكنا قد أخذنا منه بطاقات سنة 1973 أثناء زيارتنا للمغرب، ثم ضاعت منا سنة 1988 ولم نستطع تعويضها إلى الآن. 7 - تحفة المحب في أصل الطب: تأليف محمد بن يوسف أطفيش، المتوفى سنة 1913. وقد طبع بمصر في عهد المؤلف، ربما على يد تلميذه سليمان الباروني الذي أنشأ المطبعة البارونية هناك. ولا نستطيع أن نصف الكتاب لعدم اطلاعنا عليه. وقد ذكره أبو اليقظان في ترجمة الباروني باختصار (¬2). ووجدنا في مصدر آخر أن الكتاب يتناول (الطب المأثور)، فهل هو ما نعنيه بالطب العربي أو الشعبي المبني على استعمال النباتات والعقاقير والمستوحى أيضا من الطب النبوي؟. 8 - الطب العربي في ولاية الجزائر: أطروحة محمد بن العربي (بلعربي) التي نال بها شهادة الدكتوراه من فرنسا سنة 1884. وهي أول أطروحة في بابها، وصاحبها أول جزائري يحصل على الدكتوراه في الطب في العهد الفرنسي. وقد ترجم السيد علي بوشوشة (أصله من الجزائر) هذه الأطروحة إلى العربية ونشرها يونس سنة 1891. وقد اطلعنا على الترجمة ¬

_ (¬1) جريدة (كوكب افريقية)، 19 ديسمبر 1913. (¬2) أبو اليقظان (سليمان الباروني)، 1/ 46.

العربية أوائل الثمانينات لكي نعطي فيها رأينا في إعادة طبعها واغتنمنا الفرصة وأخذنا منها فوائد جمة لكتابنا هذا، ثم أعدناها إلى صاحبها، ولكنها لم تطبع، وضاع منا ما أخذناه منها، سنة 1988 سوى قائمة من رجال العلم والثقافة كانوا (حوالي سنة 1884) يتفاعلون في حياة الجزائر، وجاء ذكرهم في الأطروحة، وكذلك أسماء أعلام من الفرنسيين، مثل الشاعر فيكتور هيغو والقاضي زيس. وفي 1988 نشرت جريدة جزائرية دراسة لأحد الأطباء عن حياة وأطروحة الحكيم ابن العربي (¬1) فأخذنا منها المعلومات التالية: بدأ ابن العربي أطروحة بحديث شريف مفاده إذا سألتم الله فاسألوه المغفرة والصحة، فليس هناك أثمن من الصحة. وفي مدخل الأطروحة خاطب فرنسا: هل من العدل أن ترفض للشعوب التي تستعمرها الاستفادة من المعارف النافعة، وتنكر عليهم حق استخدام قواهم العقلية، وتعاملهم معاملة البرابرة والسلالات الدنيا؟ وهو في ذلك يشير إلى ما كان يتردد على لسان الحاكم العام لويس تيرمان والكولون من أن عدم تعليم الأهالي أفضل لفرنسا، أو ليس هناك مال لتعليمهم. وقد اختار موضوع أطروحته الأبحاث السابقة في ميدان الطب والصيدلة عند العرب الجزائريين، وهي في نفس الوقت أبحاث مفيدة للفرنسيين أنفسهم وتخصصهم في الطب، فهي مصدر ثمين لهم. ثم قسم الأطروحة إلى ثلاثة فصول، فجعل الفصل الأول في تاريخ الطب العربي في المغرب والمشرق. فتناول أشهر الأطباء الذين ترجمت مؤلفاتهم إلى الفرنسية، مثل عبد الرزاق بن حمادوش، ومنها كتاباه: كشف الرموز في الأعشاب والعقاقير، وتعديل المزاج بسبب قوانين العلاج (¬2). ¬

_ (¬1) هي جريدة (أحداث الجزائر) عدد 8 - 9، سبتمبر 1988، والدراسة للدكتور إسماعيل بولبينة مع صورة لابن العربي بلباسه التقليدي الوطني وصورة لغلاف أطروحته. وأثناء وجودنا بأمريكا حصلنا على نسخة من الأطروحة نفسها واستفدنا منها. (¬2) عن ابن حمادوش انظر دراستنا (الطبيب الرحال) وكذلك تحقيقنا لرحلته (لسان =

وفي الفصل الثاني تناول ابن العربي الطب الحديث أو المعاصر عند العرب الجزائريين، فوصف الإصابات والعلاجات الطبية، وجاء من ذلك بأمثلة: فحب العرق علاجه بالبخار في الحمام وعصير الرمان والحنا وعصير الطماطم. كما جاء على حبة بسكرة التي تصيب الجلد، وعلاجها يكون برغوة الصابون الأخضر والتردد على المياه المعدنية. ثم الإصابة بعرق المدينة الذي يضرب أطراف الجسم، ثم الداء المعروف بداء الفيل وعلاجه. وفي هذا الفصل أيضا تحدث عن علم الجراحة عند العرب، وذكر أنهم كانوا يرفضون تقديم أجسامهم لعمليات جراحية (دموية) كبيرة وأنهم كانوا يفضلون الموت المؤكد والعاجل على البقاء بضع سنوات أخرى على حساب تبديد الجسم. ووصف عمليات الختان والحجامة ومعالجة الكسور بالجبيرة (¬1). وخصص ابن العربي الفصل الثالث من أطروحته للنظافة، مقدما على ذلك سبع وصفات لتركيب الكحل، وتسع وصفات للحنا، كما وصف فوائد الاستحمام، ودافع عن التلقيح ضد الجدري الذي قال إنه وجد منذ القديم في بلاد المغرب. كما وقف ابن العربي ضد ادعاء الفرنسيين بأن الجزائريين لهم أمراض عديدة كالزهري. وقال إن الإحصاءات تثبت أن هذا المرض قدم إلى الجزائر مع الأوروبيين (وقد أشرنا إلى ذلك)، وهو ليس خاصا بالجزائريين. وتناول ابن العربي التطبب بالأعشاب ومختلف النباتات لأنها مفيدة، ثم إنها أدوية تستخرج من البلاد نفسها فلها عندئذ جانب اقتصادي هام، فهي صناعة محلية. ومن النباتات التي ذكرها: الخروب، والرمان، والعناب، وبونافع، وكرموس (التين) النصارى، والنخيل الذي عزا له وحده (النخيل) إنني عشر وصفة علاجية، من الإسهال إلى الضعف الجنسي. ونلاحظ أن ابن العربي لم يهتم إلا بالطب المقبول شرعا، وعقلا، ¬

_ = المقال). وكلاهما طبع بالجزائر. وقد ترجم لوسيان ليكليرك لابن حمادوش، كما ترجم كتابه كشف الرموز. (¬1) انظر ما قلناه سابقا من أن أهل الحضر لا يعرفون الجراحة. وكذلك ممارسة الطب العربي في الأوراس، حسب رواية سيمسون.

أما الطب السحري والخرافي كالتعاويذ والأحجبة فلم يهتم بها. أما الفصل الرابع والأخير فقد خصصه للطب الشرعي. فتناول فيه مدة الحمل، وشكل المولود (الراقد) من الوجهة الفقهية والقانونية. وكان هذا الموضوع يثير جدلا كبيرا بين الفقهاء وأهل القانون. وتناول كذلك قضية المرأة الغائب عنها زوجها. ففي بعض الجهات كان عليها أن تنتظر أربع سنوات، وفي بعضها سبع سنوات أو عشرة. وكان هذا الموضوع يتصل بشرف العائلات، وكذلك يتصل بالطب والشرعية، ومسألة الأبوة، وشرعية الولادات، والميراث. وقد ذكر ابن العربي أيضا بعض الأمراض والعلاجات الأخرى مثل الرمد وأمراض العيون بأنواع من العلاجات، إذا لم يشف المريض خلال ثمانية أيام. وذكر أيضا عملية ثقب (فتح) الرأس التي كانت شائعة في الأوراس والآلات التي كانت تستعمل في ذلك (¬1). ولعل ذلك هو ما شجع بعض الأوروبيين، ومنهم الإنكليز، على التعرف على هذه الطريقة، ولو بالحيلة، كما فعل سيمسون وفريقه سنة 1913. 9 - رسالة في الطاعون عنوانها: (الدر المصون في تدبير الوباء والطاعون) ألفها محمد بن رجب وقدم لها ثم توسع فيها محمود بن علي بن الأمين، المعروف بابن الشيخ علي. وقد تحدثنا عن هذه الرسالة في الجزء الثاني، كما أشرنا إلى عمل ابن الشيخ علي فيها. وقد تمكنا من معرفة معلومات هامة حول المؤلف الثاني (ابن الشيخ علي) والرسالة. فهو ابن علي بن عبد القادر بن الأمين، أحد أعيان الجزائر في أوائل القرن الثالث عشر (19 م)، وكانت وفاته قبل الاحتلال. وكان من خريجي الأزهر (¬2). أما ابنه محمود فقد عاصر الاحتلال وتأقلم معه، وتولى الوظائف الدينية، وكان يشتغل بالنساخة والخطاطة، فكان، كما قال صاحب (تعريف الخلف) (كتوبا عجيبا وله مشاركة في الفنون وأفكار غريبة). وكان محمود قد تولى أيضا ¬

_ (¬1) انظر دراسة سيمسون، سابقا، وفي آخر هذه الفقرة سنترجم لابن العربي. (¬2) هو صاحب رسالة (أما بعد) التي درسناها في الجزء الثاني. وقد طبعت أخيرا، في مصر. وقد تولى ابن الأمين الفتوى عدة مرات، وهو شيخ ابن العنابي.

التدريس في الجامع الأعظم (بالعاصمة)، والإمامة في الثانوية الفرنسية الوحيدة في وقته. وكتب بعض المقالات في جريدة (المبشر) الرسمية ودعا الأهالي إلى تعلم الفرنسية (¬1) وكانت وفاته سنة 1897. أما عمل محمود ابن الشيخ علي في (الدر المصون) فيتمثل في كتابة مقدمة جاء فيها: (أما بعد، فلما وقعت بيدي مبيضة رسالة في تدبير أمر الوباء والطاعون، جمعها السيد محمد بن رجب الجزائري، سنة 1200 من كتب عديدة في الطب وغيره ... أردت استخراجها، وأن أجعل لها مقدمة قبل الشروع فيها تذييلا بعد تمامها، ليمكن النفع بها، وأبين بعض ألفاظها قدر الوسع والطاقة). ويذكر صاحب تعريف الخلف أن محمود بن الشيخ علي قد كتب مقدمة وسبعة فصول وخاتمة. ولم يذكر شيئا عن الفصول وهل هي مرتبة على المواد الطبية. أما بيان الألفاظ فإننا نفهم منه أن ابن الشيخ علي قد شرح غريب الألفاظ والاستعمالات في حالات العلاج والوصفات. ولم نعرف من تحدث عن هذه الرسالة غير الحفناوي بن الشيخ، وربما يكون محمد بن العربي قد اطلع عليها أيضا، أو اطلع على أصلها الذي تركه محمد بن رجب الجزائري. وكان الشيخ الحفناوي قد حصل على نسخة من تأليف محمود بن الشيخ علي عن طريق علي بن الحداد (¬2). 10 - الأدوية الشافية: رسالة ألفها محمد الطيب اليعلاوي المتوفى حوالي 1296 هـ. وربما هي في الأدوية الشعبية وحتى السحرية منها. ولهذا الشيخ مجموع في الطب نقله عن كتب الأولين مثل ابن سينا وكتاب الهارونية وكتاب الرحمة الخ. وقد قيل إن مؤلفات هذا الشيخ مفقودة الآن (¬3). 11 - كتاب الصحة: لمؤلف مجهول، صدر سنة 1923، بالعربية ¬

_ (¬1) انظر عنه فصل السلك الديني والقضائي. (¬2) تعريف الخلف، 2/ 474. (¬3) رسالة من الشيخ محمد الحسن عليلي، نوفمبر 1995.

والفرنسية. وهو من كتب الإعلام والدعاية ونشر المعارف العامة. وقد صدر عن معهد باستور بالجزائر، وكان الهدف منه تنوير الرأي العام المسلم، حول موضوعات التغذية وقواعد الصحة لدى العائلات والأفراد، الأطفال والكبار، وطرق الوقاية والعلاج، وذكر بعض الأمراض البشرية والحيوانية، كالسل والزهري. يقول من راجع الكتاب إن نصه العربي بلغ 112 صفحة، وهو بالعربية الفصحى. أما النص الفرنسي فقد بلغ 196 صفحة. وفيه نصوص (دينية) تساعد على كونه موجها إلى المسلمين. وقد قال من قدمه للقراء إنه في حاجة إلى من يقدم الكتاب من رجال الدين المسلمين ليساعد على تبليغ رسالته. لكن الرؤساء الأهالي (؟) الموجه إليهم الكتاب لا يقرأون العربية. ولاحظ المقدم أيضا أن ذلك يعني جعل النص الفرنسي هو المقروء، سواء مباشرة أو عن طريق مترجم آخر. وإليك ما تضمنه هذا الكتاب من مسائل: 1 - القواعد التطبيقية والأوليات المتعلقة بالصحة الشخصية والسكنية. 2 - واجب رب العائلة العناية بحفظ صحة أبنائه وعائلته. 3 - العناية بالأم في ساعة الولادة. 4 - طريقة تغذية الطفل وتنشئته إلى بلوغه العامين. 5 - طريقة الوقاية من الأمراض المعدية. 6 - علامات المرض المميزة سواء لدى الإنسان أو الحيوان. وقد حث الكتاب على ضرورة التبليغ على هذه الأمراض (المعدية) فور التعرف على علاماتها لتفاديها. 7 - وأخيرا واجب الرؤساء الأهالي في العمل المشترك من أجل حفظ الصحة العامية (¬1). ¬

_ (¬1) راجعه C.D في المجلة الجغرافية الجزائرية ... SGAAN ,1923، ص 139 - 140. ولعل المقصود بالرؤساء الأهالي هنا هم القياد ونحوهم. والواقع أنه لم يبق من نفوذ =

بعض التراجم

ولا شك أن معهد باستور والمراكز الطبية والإدارات الخاصة بالصحة قد أصدرت نشرات وإعلانات حول طرق حفظ الصحة، خلال الحربين. ولكن التقدم الطبي بين الجزائريين ظل ضعيفا جدا. وكان عدد المتخرجين ضئيلا أيضا. فمهما صدرت البلاغات والنشرات فإنها لن تكون مفيدة إذا لم تكن موجهة إلى جمهور قارئ ومتفتح الذهن ومستعدا لتطبيق الإرشادات. 12 - الإرشادات الطبية في الأمراض الجلدية: من تأليف أبي سعيد عدون بن بكير سنة (؟). وقد نوه الشيخ أحمد توفيق المدني بهذا المؤلف، وقال عنه إنه (من رجال المستقبل في العلم والعمل) (¬1)، ونحن نفهم أن السيد عدون بن بكير كان من رجال الطب وأنه كان ما يزال شابا. بعض التراجم بالإضافة إلى ذلك نذكر أن عددا من الأطباء قد برزوا في الميدان، وكانت لهم أطروحاتهم ومشاركاتهم في التأليف والنشر. ومن هؤلاء: الطيب مرسلي، وقدور بن العربي، وبلقاسم بن التهامي، وعلي بوضربة، والدكتور موسى (قسنطينة)، وزروق بن أحمد بن بريهمات، ومحمد الصالح بن جلول، والشريف سعدان، وربما عدون بن بكير أيضا. وقد جاء في ترجمة بلقاسم بن التهامي أنه ألف عدة كتب بالاشتراك مع أساتذة المدرسة الطبية العليا (كلية فيما بعد) بالجزائر. وذكرت بعض المصادر أن زروق بريهمات قد نشر سلسلة من المقالات حول الصحة العامة للعائلات الأهلية في جيدة كوكب افريقية (¬2) سنة 1908 وأنه كان من ¬

_ = هؤلاء سوى الهباء المنثور، لا في ميدان الصحة ولا في غيرها. وقد أصبح حالهم يرثى له، كما أصبحوا في مجموعهم من الانتهازيين الدخلاء على المهنة. انظر الحركة الوطنية، ج 1. (¬1) أحمد توفيق المدني (كتاب الجزائر) ص 94. (¬2) مجلة العالم الإسلامي، إبريل 1909، ص 444.

المدرسين في علم الصحة بالمدرسة الثعالبية. وكان مرسلي يفعل نفس الشيء في المدرسة الكتانية بقسنطينة. وقد اشتغل عدد من الأطباء الجزائريين بالسياسة، ابتداء من الطيب مرسلي الذي كتب (مساهمة في المسألة الأهلية) سنة 1892 عشية زيارة لجنة التحقيق الفرنسية للجزائر. وقد استمر على ذلك المنوال فترة من الزمن. وكان ابن التهامي كذلك قد دخل ميدان السياسة والمطالبة بالحقوق والمساواة من الفرنسيين، ثم وجدناه سنة 1912 على رأس الوفد الجزائري الذي زار باريس مطالبا بتعويض الخدمة العسكرية الإلزامية بالحقوق السياسية، ومنها المساواة، ثم أسس بعد الحرب جريدة (التقدم) وعارض الأمير خالد سياسيا. وأصبح محمد الصالح بن جلول من زعماء السياسة في قسنطينة حيث رأس (هيئة النواب) ثم أصبح على رأس المؤتمر الإسلامي سنة 1936، وأسس حزبا باسم التجمع الفرنسي - الإسلامي، إلى أن أفل نجمه سياسيا منذ الحرب العالمية الثانية. وكان الشريف سعدان من أقطاب السياسة في بسكرة والجنوب منذ الثلاثينات، ثم دخل في حزب البيان سنة 1946. وقد انضم الأمين دباغين إلى حزب الشعب. وهكذا كان الأطباء الجزائريون في الصفوف الأولى للعمل السياسي منذ بدأ الحديث عن المسألة الأهلية في أعقاب القرن الماضي. وكان بعض الأطباء نوابا في البلديات ومجالس الولايات. فهذا علي بوضربة كان نائبا في مجلس بلدية العاصمة قبل وفاته سنة 1907 عن 43 سنة. وكان محمد بن العربي (الذي ستحدث عنه) أيضا نائبا في نفس البلدية. والملاحظ أن بعض الأطباء عملوا خارج الجزائر أيضا. فهذا قدور بن العربي (أخو محمد المذكور) سبق له العمل طبيبا في بلاط بآيات تونس فترة. وقد ذكره أخوه في أطروحته وكذلك ذكره ابن العابد في (تقويم الأخلاق) (¬1). ومعظم هؤلاء الأطباء كانوا متجنسين بالجنسية الفرنسية، أي أنهم ¬

_ (¬1) محمد بن العابد الجلالي (تقويم الأخلاق) الجزائر، 1927، ص 59.

دخلوا تحت طائلة القانون الفرنسي، وتخلوا عن أحكام الشريعة الإسلامية استجابة لقانون 1865، كما أنهم كانوا في الغالب متزوجين بفرنسيات. ومن هؤلاء الطيب مرسلي وعلي بوضربة، وابن التهامي والشريف سعدان. وكان بعضهم عضوا في الجمعية الماسونية، مثل ابن التهامي، وكانوا جميعا تقريبا يؤمنون بالاندماج. وفي ميدان الصيدلة تخرج عدد قليل من الجزائريين أيضا. والمتتبع لسيرة زعماء الاندماجيين سيجد هذه الأسماء من الصيادلة: علاوة بن جلول وحفيظ (حفيز) بومدين، ومحمد حميدوش وفرحات عباس. وكان بعضهم أيضا أعضاء في الجمعية المهنية والسياسية والتاريخية، مثل زروق بريهمات وولعة بلقاسم. ومن الجلو بالذكر أن أوائل الأطباء في عهد الاحتلال كانوا من أبناء الجزائريين الذين تولوا الوظائف لدى الفرنسيين، وهم الذين فرض عليهم الفرنسيون تقديم أولادهم إلى المدارس الفرنسية عندما كان الجزائريون الآخرون نافرين منها. وهكذا وجدنا أوائل الأطباء كانوا في الواقع من أبناء القياد وجنود الصبائحية والقضاة. وقد ذكرنا أن مدرسة الطب قد تأسست في الجزائر سنة 1857. فلنا إذن أن نتصور أن أوائل الدفعات كانت خلال السبعينات، ولكننا مع ذلك لا نعرف من تخرج من الجزائريين قبل الثمانينات. فربما لم يتمكن أي جزائري من الوصول إلى شهادة دكتوراه قبل محمد بن العربي. أما الآخرون فكانوا يتوقفون في منتصف الطريق، أو لا يسمح لهم بالمواصلة فيكتفون بوظائف بسيطة في ميدان الطب والتمريض، وسنعرف من تاريخ مدرسة الطب أنها كانت أيضا متعثرة إلى بداية الثمانينات. 1 - محمد بن العربي: ولد في شرشال سنة 1850، وأسرته أندلسية الأصل. وكان والده من أنصار الاستفادة من الحضارة الغربية. ولا ندري إن كان والده من الموظفين في الإدارة، والغالب أنه كان كذلك. وقد وجه أبناءه

إلى التعليم الديني - العربي والتعليم الفرنسي. فتخرج ثلاثة منهم متعلمين بالفرنسية، فكان قدور ومحمد طبيبين وكان ثالثهم مترجما عسكريا، في الجيش الفرنسي. وقد ذكرنا أن قدور أصبح طبيبا لبايات تونس، وربما كان ذلك قبل احتلالها سنة 1881. درس محمد بن العربي في شرشال إلى بلوغه العاشرة، ثم انتقل إلى مدارس العاصمة حيث أصبح يسكن ويدرس، وتدرج في ذلك من المتوسط إلى الثانوي إلى العالي. ومن مدرسة الطب العليا بالجزائر توجه إلى جامعة باريس (السوربون) وبقي بها إلى أن حصل على الدكتوراه في الطب سنة 1884، كما ذكرنا. والمعروف أن جميع الشهادات كانت لا تمنح إلا من فرنسا حتى لفرنسيي الجزائر، إلى أن تأسست جامعة الجزائر سنة 1909. وكان ابن العربي قد درس من اللغات اليونانية واللاتينية أيضا، حسب متطلبات منهج الدراسة عندئذ. وكان له أصدقاء من الفرنسيين في باريس وغيرها، ومنهم الشاعر فيكتور هيغو الذي حضر مناقشة الأطروحة. وقد ذكر ابن العربي نفسه عددا منهم في أطروحته، فبالإضافة إلى هيغو، ذكر وقرسلي (وزير الحربية) والمستشرق شيربونو الذي اشتغل في قسنطينة وفي الجزائر بالتدريس والبحث قبل أن يتحول إلى مدرسة اللغات الشرقية في باريس. ومنهم أيضا لاتيلي، وبيرتيراند، وتيكسييه (¬1)، وماشويل الذي كان معلما مستعربا في الجزائر ثم أصبح مديرا لشؤون التعليم في تونس بعد احتلالها، وغيرهم (¬2). ¬

_ (¬1) كان تيكسييه مديرا لمدرسة الطب بالجزائر. بيرتيراند هو صاحب الدراسات العديدة عن الطب الأهلي في الجزائر. انظر كتابه المطبوع سنة 1855، سابقا. (¬2) انظر ترجمة (الطب العربي بعمالة الجزائر) تأليف محمد بن العربي وترجمة علي بوشوشة، تونس 1891. وقد بقيت لدينا هذه القائمة من الأسماء الجزائرية والفرنسية التي ذكرها ابن العربي في الأطروحة، أما باقي البطاقات فقد ضاعت منا سنة 1988، كما مر. وشملت قائمة الجزائريين أعيان البلاد كلها في الدين والتصوف والإدارة والعلم والسياسة والطب والقضاء وفيها 44 اسما على الأقل.

وعشية حصوله على الدكتوراه في الطب زار ابن العربي موطن أجداده، الأندلس، فتوجه إلى قرطبة وأشبيلية وغرناطة. وكحل عينيه بأطلالها وشنف سمعه بأخبارها، واسترجع الذكريات. وقال عن نفسه إنه ما حل بمكان إلا توقف عنده للعبرة والتذكر، وعبر عن ذلك بقوله إنه جدد إسلامه في الأندلس بعد أن وجد الإسلام في الجزائر وقد اعتراه التحول على يد الفرنسيين. ولا ندري إن كان قد تجول في غير فرنسا والأندلس (أسبانيا). والغالب أنه فعل، فلعله زار بلدانا أخرى في أوروبا والشرق وربما يكون قد أدى فريضة الحج. ومنذ 1888، وهي فترة حكم لويس تيرمان في الجزائر، فترة التجهيل الرسمي وقانون الأهالي البغيض، أصبح ابن العربي يجمع بين العمل كطبيب والعمل في بلدية العاصمة نائبا عن قومه. مارس الطب أولا في أماكن مختلفة تحت نظر الإدارة الفرنسية ثم استقر به الحال في العاصمة. وتقول بعض المصادر إن الأهالي هم الذين ألحوا على الحكومة في ذلك (¬1)، ونحن نستبعد أن تستجيب لهم في مثل هذا الإلحاح، وإنما سمحت له لظروف أخرى لا نعرفها الآن. وقد حل ابن العربي بالعاصمة وأصبح يمارس فيها الطب والسياسة، وكان المفتي أحمد بوقندورة الذي قيل إنه حث الناس على مؤازرة رجوع ابن العربي إلى العاصمة، كان من المقربين جدار للسلطات الفرنسية (¬2)، وقد بقي في الفتوى فترة طويلة. وربما كانت بينه وبين ابن العربي مصاهرة. وأثناء أداء ابن العربي واجب النيابة في بلدية الجزائر، وهو وظيف كان بالتعيين الإداري وليس بالانتخاب، سجلت له بعض المواقف المأثورة. فقد وقف ضد هدم الجامعين الكبيرين الباقيين في العاصمة، الجامع الأعظم والجامع الجديد، وكان الفرنسيون يخططون لإزالتهما وبناء فندقين في مكانهما (تجميلا) للعاصمة. وقد سبق لهم هدم عشرات المساجد منذ ¬

_ (¬1) ابن العابد (تقويم الأخلاق)، ص 59. (¬2) انظر عنه فصل السلك الديني والقضائي.

الاحتلال تحت شعار التجميل والتوسيع والمنافع العامة. ولولا حنكة ابن العربي وغضبة الجزائريين الذين تجمعوا في الجامع الجديد لنفذ الفرنسيون المشروع أو لوقعت ثورة لا يعرف أحد مداها (¬1). وقد ظلت مسألة هدم الجامعين تظهر وتختفي إلى أن حسم أمرها سنة 1905 أثناء عهد جونار، وذلك بالإبقاء على الجامعين، رغم ما حل بهما من التشويه والهدم الجزئي. والموقف السياسي الثاني الذي سجل لابن العربي هو ظهوره أمام لجنة فيرى سنة 1892، وهي لجنة التحقيق في أوضاع الجزائر. وكان ظهوره أمامها عند حلولها بالعاصمة، ثم في باريس عندما توجه مع زميله محمد بن رحال إليها لتقديم مطالب الجزائريين في القضاء الإسلامي والحالة المدنية وقانون الأهالي والنيابة والتعليم العربي. أما من حيث مهنة الطب فلا ندري سوى أنه كان يمارسها بالعاصمة. وأنه كان (حكيما) ناجحا ومحل ثقة مواطنيه. وقد قيل إن له كتابات، وهي فيما يبدو بالفرنسية. ولكننا لا ندري إن كانت في شؤون الحياة العامة وحقوق الجزائريين أو كانت في مهنة الطب وتطور البحث فيها. والغريب أن الذين تناولوا حياته بشيء من التفصيل ركزوا على مواقفه السياسية وأهملوا حياته المهنية. وكان ابن العربي يلبس اللباس التقليدي (الشاشية والعمامة والبرنس والسروال الواسع). وعندما كتب عنه ابن العابد سنة 1927 قال إنه كان في منتهى الشيخوخة، ولكنه عاش أكثر من عشر سنوات بعد ذلك، إذ توفي خلال أكتوبر سنة 1939 بعد اندلاع الحرب العالمية الثانية (6 رمضان 1358) ولكنه لم يشهد هزيمة فرنسا. وقد ترك ابن العربي أبناء وأحفادا، منهم ابنه رشيد الذي بلغ 73 سنة في عام 1988، وحفيده سليمان الذي كان معلما للإنكليزية في إحدى المتوسطات بالعاصمة (¬2). ¬

_ (¬1) انظر الحادثة مفصلة في ابن العابد (تقويم الأخلاق) ص 60 - 61. انظر كذلك فصل المعالم الإسلامية والأوقاف. (¬2) إسماعيل بولبنية (د. ابن العربي) في جريدة (أحداث الجزائر) 8 - 14 سبتمبر 1988.

وظاهرة الاشتغال بالسياسة عند الأطباء الجزائريين ظاهرة ملفتة للنظر. فنحن نلاحظ أن معظم هؤلاء الأطباء قد مارسوا بل اندمجوا في (المشكل الأهلي)، وربما كان ذلك من أجل تسوية وضعهم الخاص، لأن القوانين الفرنسية جعلتهم من جهة في الطليعة المثقفة، ومن جهة أخرى كانوا لا يتمتعون بالحقوق السياسية ولا بالمساواة إلا إذا تخلوا عن أحوالهم الشخصية الإسلامية، وربما كانوا يعتقدون - وهم قلة قليلة - أن حل مشكلتهم كطليعة سيؤدي إلى حل جميع المشاكل الجزائرية الأخرى. فإذا كان الأمر كذلك فإنهم كانوا على خطأ، ذلك أن التيار الذي سيحل المشاكل هو تيار الأمير خالد وحركة الإصلاح ونجم شمال افريقية وحزب الشعب. وليس التيار الإندماجي الذي كان على رأسه: مرسلي وابن التهامي، وابن جلول، وسعدان، وفرحات عباس. ومع ذلك فإن المشاركة السياسية للأطباء والصيادلة قد ساعدت على بلورة القضية الوطنية بكونها قدمت الأطروحة المضادة للأطروحة الوطنية في أغلب الأحيان. 2 - كان الطيب مرسلي أحد أبناء الجنود الصبائحية من نواحي وهران. ولا ندري كيف استقر الطيب في قسنطينة بعد تخرجه من مدرسة الطب في الجزائر، كما لا ندري أين أكمل دراسته التخصصية وما الأطروحة التي قدمها، وربما لم يفعل ذلك. وقد تزوج الطيب مرسلي بامرأة فرنسية وتجنس في أغلب الظن بالجنسية الفرنسية. ومنذ الثمانينات وجدناه قد برز على الساحة السياسية في قسنطينة، وذلك أثناء موجة تقديم العرائض والاحتجاجات ضد قانون الأهالي وإلغاء المحاكم الإسلامية والمطالبة بالتمثيل النيابي. ورغم ارتباطه بالفرنسيين وثقافتهم، فإنه كان حاضرا في التوقيعات التي كان يجمعها أعيان قسنطينة وكان قريبا من طموحهم. وقد كتب وحده بعض المقالات في جريدة (حرية المستعمرات)، وألف كتيبا عنوانه (مساهمة في المسألة الأهلية الجزائرية) (¬1). وكان يشغل وظيفة ¬

_ (¬1) قسنطينة 1894. كما أنه وقع على عريضة مع الأعيان في أكتوبر 1891. وقال =

مستشار بلدي في قسنطينة في وضع شبيه بوضع ابن العربي بالعاصمة. وكان مرسلي نشيطا في هذه الأمور أثناء عهدة أرنست ميرسييه الذي تولى بلدية قسنطينة عدة مرات. وقد دافع مرسلي في كتاباته عن الحضارة العربية والشعب الجزائري، وقال إن فرنسا نفسها قد عرفت عهودا من الهمجية. ولم يكشف عن رأيه في إدماج الجزائريين أو القضاء عليهم، وهي دعوة كانت رائجة عندئذ. وإنما قال إنه يعتمد على عنصر الزمن، وأنه (ليس من السهل القضاء على شعب كان سيد العالم)، وقال (إن الحضارة العربية قد لمعت وبهرت العالم عندما كانت أوروبا غارقة في بحر الظلام)، واعترف أن (لنا نقائص) وأن الصحافة في أيدي أعداء العرب، وقد سماهم الرأسماليين، وأن (كراهية العربي هي النغمة السائدة في الجزائر، عند الفرنسيين). وكان مرسلي معتزا بقومه مع ذلك، وقال إن الأهالي كانوا (وسادة البلاد السابقين) ولكنهم الآن أصبحوا لا شيء (¬1). وهو موقف قد تبناه غيره فيما بعد، ولا سيما فرحات عباس. وقد أدى مرسلي فريضة الحج، مع أنه كما قيل كان متجنسا، وربما أرسلته الإدارة الفرنسية في نطاق مهنته كطبيب للحجاج (¬2). وكان مرسلي يدرس علم الصحة في مدرسة قسنطينة الرسمية (الكتانية) سنوات طويلة، لأننا عرفناه كذلك في أوائل القرن، ثم استمر إلى ما بعد الحرب العالمية الأولى، ولا ندري ما إذا كان قد ألف أعمالا في الطب والتوجيهات الصحية، أو أن الحالة السياسية قد استأثرت به فترة. غير أننا نلاحظ أن مرسلي لم يساهم في الحياة السياسية بقوة منذ فاتح القرن. ويبدو أنه كان محل احترام ¬

_ = أجرون إن العريضة قد تكون من تحرير الدكتور مرسلي نفسه. انظر آجرون (الجزائريون المسلمون)، 1/ 449. انظر الحركة الوطنية، ج 1. (¬1) قنان (نصوص سياسية) عن عريضة مرسلي، ص 266 - 267. ولنشر إلى أن الليبرالية والماركسية والرأسمالية كانت تعابير شائعة في الصحافة الفرنسية (صحافة الكولون) الرأسمالية. (¬2) انظر ما كتبه عنه إسماعيل حامد.

الأوساط الحضرية في قسنطينة. 3 - وفي أوائل هذا القرن (1905) حصل بلقاسم بن التهامي على الدكتواره في الطب أيضا، وكان من مدينة مستغانم، ومن جيل الإندماجيين، وقد تجنس وتزوج في الجزائر، كما سبق، وانخرط في الماسونية وجمعية حقوق الإنسان. وحصل على شهادته الأولى من مدرسة الطب في الجزائر ثم ذهب إلى جامعة مونبلييه الفرنسية للامتحان. وبعد تخرجه أصبح من العاملين في الطب وفي السياسة والحياة العامة. عين في مستشفى مصطفى باشا لأول مرة ومارس هناك مهنته، ثم فتح عيادة خاصة به في منزله الذي كان أمام محكمة قاضي الصلح بالجزائر، وساهم في الانتاج الطبي مع زملائه أعضاء المدرسة الطبية (كلية الطب فيما بعد)، ونال بعض الجوائز. وقد كتب عنه معاصره إسماعيل حامد وأشاد به، وكذلك أشادت به بعض صحافة الوقت (¬1). شارك ابن التهامي في الحياة السياسية قبل الحرب الأولى بتوليه قيادة الاندماجيين الذين كانوا يطالبون بالحقوق والمساواة ولا يمانعون من التجنيد الإجباري. وفي باريس استقبلهم رئيس الوزراء بوانكريه. وكان في الوفد أيضا، الدكتور موسى من قسنطينة. ووصفه أجرون بأنه رجل عصامي. تعلم وترقى حتى وصل إلى صف القيادة. وبناء على أجرون أيضا فإن ابن التهامي تجنس في فبراير سنة 1906، أي بعد حصوله على الدكتوراه. ولم يواجه صعوبة، ومنذ 1904 سماه شارل جونار معيدا احتياطيا في الطب. وفي 1907 دعي للتعليم في العيادة البصرية (الانتمولوجيا) ثم واصل نشاطه الطبي إلى جانب نشاطه السياسي. فبالنسبة للنشاط السياسي بدأ في ممارسته منذ فاتح القرن، وقد واجه ¬

_ (¬1) جريدة (الأخبار) عدد 13361، في 30 ذو القعدة 1322 هـ. وكذلك رسالة الماجستير (مظاهر الإصلاح) لعبد المجيد بن عدة. وكان منزل ابن التهامي - حسب جريدة الأخبار- يقع في شارع لوميرسييه، عدد 3. انظر أيضا كتاب الشريف بن حبيلس (الجزائر الفرنسية كما يراها أهلي)، الجزائر 1914.

بعض الصعوبات في البداية، إذ كان زميله أحمد بوضربة (محامي) هو صاحب الصيت الذائع عندئذ. وكان مثله متجنسا ومتزوجا من فرنسية وماسونيا. وكان بوضربة من أنصار العلمانية، فكان ينكر على المسلمين تمسكهم بالتعليم الديني. وفشل ابن التهامي في الانتخابات البلدية سنة 1904، ولكنه، وقد نجح في الدكتوراه، أصبح سنة 1908 مستشارا بلديا، وأعيد انتخابه سنة 1913، ونشط في الجمعية الرشيدية أيضا. وفي أبريل 1914 أنشأ مع زملائه تنظيما سماه (الاتحاد الفرنسي - الأهلي) وهو التنظيم الذي سيذكرنا به (التجمع الفرنسي? الإسلامي) الذي أنشأه ابن جلول سنة 1938. وكان (الاتحاد) تنظيما سياسيا يمثل الاندماجيين. ولعلهم أحسوا بضعفهم أمام الجماهير فانضموا للأمير خالد، رغم أن هذا لم يكن نشيطا سياسيا بعد. ولم يظهر اسم خالد إلا نادرا عندئذ، منها سنة 1903 عند زيارة الشيخ عبده التي اعتذر عن حضورها، وسنة 1913 حين دعي إلى المؤتمر العربي في باريس، فاعتذر أيضا عن الحضور وأرسل برقية موافقة على خط المؤتمر. ويذهب أجرون إلى أن جماعة ابن التهامي قد انضموا للأمير خالد لأن بقية الأعيان والقادة كانوا يعتبرونهم طموحين ومرتدين (¬1). وقد سبق القول إلى أن ابن التهامي قد عاش فترة ما بين الحربين، وساهم في الحياة السياسية كما كان، وعارض الأمير خالد. وأنشأ جريدة (التقدم) خلال العشرينات. وشايع التيارات السياسية اليمينية الفرنسية. وكاد يحدث له ما حدث لمعاصره ابن جلول، أي الصعود إلى القيادة ثم السقوط إلى الهوة، وإذا كان ذلك مقبولا لدى السياسيين المحترفين، فإننا لا ندري كيف يكون الحال إذا حدث لطبيبين في مجتمع متخلف. وقد ظلت السياسة تحطم الأطباء والصيادلة في الحركة الوطنية، مرورا بالحكيم سعدان، ¬

_ (¬1) أجرون (الجزائريون المسلمون) 2/ 1041، 1050. انظر مجلة العالم الإسلامي، نوفمبر/ ديسمبر 1907، ص 496 - 497. ففيها كلمة كتبها إسماعيل حامد عن ابن التهامي. وتوجد صورة ابن التهامي في هذا المصدر أيضا. وهو أول (أهلي) عين للتدريس في مدرسة الطب بالجزائر.

مدرسة الطب

والحكيم دباغين، والصيدلي فرحات عباس (¬1). مدرسة الطب تحدثنا عن مدرسة الطب ثم كلية الطب في فصل التعليم (¬2). ونود هنا الإشارة إلى بعض المعلومات الإحصائية عنها. كانت بداية هذه المدرسة متواضعة، رغم صلة الاستعمار بالشعب الذي وقع فريسة له، ورغم اختلاف البيئة التي حل بها الفرنسيون أنفسهم، ولقد بقي الطب والأطباء مرتبطين بفرنسا حتى بعد تأسيس المدرسة (الكوليج) المذكورة سنة 1857. فقد بدأت بثمانية من الأساتذة المرسمين وبأربعة من الاحتياطيين. وكانت تقبل التلاميذ الأهالي الذين قضوا سنتين أو أكثر في المدرسة السلطانية (الكوليج الإمبريالي). وكانت تخصص بعض المنح (حوالي عشرة) لأبناء الموظفين والجنود الجزائريين. ولكن عدد التلاميذ الجزائريين لم يصل إلى أكثر من اثنين أو ثلاثة. قلنا إن الدولة قد خصصت بعض المنح للتلاميذ الجزائريين في مدرسة الطب، ولكنها جعلت معرفة اللغة الفرنسية إجبارية. فلم يلب هذا الشرط سوى تلميذين سنة 1867. وفي سنة 1869 لم تقبل المدرسة سوى ثلاثة تلاميذ. والواقع أن المنح المذكورة ليست من ميزانية الدولة الفرنسية وإنما هي مما كان يسمى (غرامة العرب)، وهي ضريبة إضافية فرضها الاحلال، وكانت تستعمل في أغراض مختلفة (¬3). وأخبرت جريدة المبشر أنه تخرج من ¬

_ (¬1) جاء في كتاب (شعراء الجزائر) للهادي السنوسي 2/ 2 أن أحد الأطباء الجزائريين اسمه مزياني الحاج علي الحذيفي، قد تبرع لطبع هذا الكتاب. وأن مزياني هذا قد أدى فريضة الحج وزار الشرق وكان غيورا على الأدب والنهضة في الجزائر. وهذا كل ما نعرف الآن عن هذا الطبيب. (¬2) انظر فصل التعليم الفرنسي والمزدوج. (¬3) جريدة (المبشر)، 3 أكتوبر 1867. من التلاميذ الذين دخلوا المدرسة عام 1867 علي بن محمد، وقدور بن أحمد.

مدرسة الطب عام 1869 ثلاثة في مستويات مختلفة. فالشهادات ليست دكتوراه أو ما يقاربها وإنما هي شهادات لممارسة بعض المهن المتعلقة بالصحة، مثل: طبيب مسؤول صحي، وصيدلي مركب أدوية من الدرجة الثانية، ولم تخبر المبشر عن شهادة التلميذ الثالث (¬1). وقد ظل رقم ثلاثة هو الرقم السحري في مدرسة الطب والصيدلة، ولا نعلم كم من أصحاب هذا الرقم استطاعوا مواصلة تعلمهم في فرنسا، أي للحصول على الدكتوراه. ففي 1882 كان العدد ما يزال ثلاثة فقط (¬2) (من 69 أوروبيا، رغم فارق عدد السكان). وفي 1905 كتب باولي يقول: إنه لم يسجل في مدرسة الطب منذ إنشائها عام 1857 سوى ثلاثة وثلاثين طالبا جزائريا، منهم اثنان في الصيدلة، وصلا إلى القسم الثاني فقط. ومن العدد المذكور (33) إثنا عشر فقط حصلوا على دبلوم مسؤول صحة، وستة على الدكتوراه. وأضاف باولي أن الباقين لم يواصلوا تعليمهم (¬3) (؟). ويجب أن نفرق بين التخرج من المدرسة الطبية بالجزائر وبين الحصول على الدكتوراه في الطب من فرنسا. ومن المعلومات الأخرى عن مدرسة الطب أنها كانت مدرسة (تحضيرية) فقط، لكن منذ 1889 ارتفع مستواها إلى درجة التكوين الكامل، ومع ذلك بقي الامتحان في المستويات الثالث والرابع ومناقشة الدكتوراه لا يكون إلا في باريس، وكانت مدرسة الطب تحضر للدكتوراه في الطب، كما تمنح دبلومات في الصيدلة والتوليد. وظل عدد الجزائريين قليلا جدا في هذه المدرسة بشكل ملفت للنظر، حتى للفرنسيين أنفسهم. ففي إحصاء سنة 1929 - 1930 كان عدد الطلبة الفرنسيين في كلية الطب 324 وفي كلية الصيدلة 211، أما الطلبة الجزائريون ¬

_ (¬1) نفس المصدر، 21 أكتوبر 1869. (¬2) يوليو، ص 264. وفي 1876 كان عددهم أيضا ثلاثة من بين 77. انظر شانزي (حكومة الجزائر)، ص 56. (¬3) باولي (المجلة الأفريقية)، 1905، ص 408، 414.

الفلك

في الطب فكانوا سبعة وفي الصيدلة ستة (¬1). وفسر باولي سنة 1905 (تحفظ) الجزائريين من دخول مدرسة (كلية) الطب تفسيرا غريبا هدفه إلقاء مسؤولية الجهل على الجزائريين أنفسهم، فقد قال إن هناك مادة ترجع إلى مرسوم 12 يوليو 1832 (قبل تأسيس مدرسة الطب) تقول بجواز ممارسة الأهالي للطب والجراحة على أهل دينهم دون امتحان مسبق. وهذا في الواقع يتنافى مع الممارسة، لأن الفرنسيين كانوا يعاقبون من مارس الطب الشعبي والجراحة من الأهالي بدون رخصة - وقد سبق ذلك عند الحديث عن الطب في الأوراس -. ومن جهة أخرى فإن (تصفية) التلاميذ كانت في يد الفرنسيين منذ الابتدائي، وهم الذين يسمحون أو لا يسمعون بمتابعة الدراسة، كما أن المنح كانت في أيديهم أيضا. وهكذا نرى أن الأطباء والصيادلة الجزائريين الذين تخرجوا من مدرسة ثم كلية الطب والصيدلة كانوا من النوادر. فمن اثنين أو ثلاثة في منتصف القرن الماضي إلى سبعة (طب) وستة (صيدالة) في النصف الأول من هذا القرن. الفلك استمرت العناية بالفلك حسب الطريقة القديمة، ولكنه بالتدرج تأثر بالدراسات العلمية الحديثة، سيما منذ الحرب العالمية الأولى، وقد حدث ذلك مع انتشار التعليم والإصلاح. وهذا لا يعني أن علم الفلك، كما عرفه الأولون وقلده المتأخرون قد انتهى. وإذا حكمنا من الإنتاج المتوفر في هذا العلم (الفلك)، فإننا نستطيع أن نؤكد بأنه قد تدهور أثناء العهد الاستعماري. فإلى عهد المجاوي (ت 1914) ¬

_ (¬1) أرشيف إيكس (فرنسا)، رقم 61 H 10 وقد ظل العدد ثابتا (7 في الطب و 6 في الصيدلة) في إحصاء بوجيجا سنة 1936 أيضا. انظر المجلة الجزائرية 1938 SGAAN، ص 66.

والحافظي (ت 1948) لا نظفر بكتاب يعالج تعديل الكواكب ورصد حركات الأفلاك بالطريقة التي كان يستعملها ابن حمادوش وابن علي الشريف في القرن الثامن عشر، بل إن المزاول (ج. مزولة) قد تخلفت تقنياتها، وبقي الاعتماد في أغلب الأحيان على الظل وميلان الشمس والشروق والغروب ونحوها من علامات أوقات الصلاة. وقد اهتم الفرنسيون بآثار الجزائريين في الفلك، وشمل البحث عن هذه الآثار مختلف اللجان التي تكونت، منذ اللجنة الإفريقية سنة 1833 إلى اللجنة العلمية 1839 إلى لجنة فيري سنة 1892. وقد أسس الفرنسيون مرصدا مهما في أعالي بوزريعة، قرب العاصمة. وعكفوا على دراسة الانتاج العربي في علم الفلك، سواء كان مكتوبا أو شفويا بناء على التقاليد والأساطير الموروثة، بما في ذلك خطوط الرمل، ومعرفة أسرار الحروف والأعداد. وإلى سنة 1935 كان الميلي يكتب عن تأثير (شمس المعارف) للبوني وغيرها فيقول: (ترى من تعلموا القراءة والكتابة من الجزائريين ينكبون على دراسة كتاب البوني المذكور، فيأخذون منه أقوالا وأعمالا مبنية على علم الحروف المنظور فيه إلى طبائع الكواكب المزعوم أنها الحاكمة في هذا العالم) (¬1). وهكذا فإنه في الوقت الذي أسس فيه الفرنسيون المرصد ومدرسة العلوم (كلية العلوم فيما بعد) وغيرها من المنشآت العلمية لمعرفة قوانين الأشياء ودراسة العلوم بدقة وبملاحظة نقدية، كان الجزائريون بعيدين عن الروح العلمية، لجهلهم بتراث أجدادهم من جهة ولإغراقهم في الخيالات والشعوذة من جهة أخرى. ولنتصور أن أقصى عدد وصله الجزائريون في كلية العلوم بين الحربين هو أربعة عشر طالبا فقط. بينما تردد عدد منهم على مدرسة ترشيح المعلمين (النورمال)، وزاول آخرون دروسهم العلمية في الابتدائي الفرنسي وفي المدارس الرسمية الثلاث. ¬

_ (¬1) الميلي (رسالة الشرك)، ط. 2، 1966، ص 152.

ورغم شهرة الجزائريين بتناول علم الفلك قدما، لصلته بالملاحة البحرية وأوقات الصلاة، فإننا لا نكاد نجد في العهد الاستعماري من ألف في الفلك إلا عددا ضئيلا جدا. ومنهم المكي بن عزوز وعبد القادر المجاوي والمولود الحافظي. وكان المجاوي مدرسا، فكان كتابه في الفلك تعليميا بالدرجة الأولى. أما الحافظي فقد مارس علم الفلك من خلال الدين، أي أنه كان يربط بين هذا العلم والصلاة ونحوها، كما أنه مارس التدريس أيضا. ولنذكر ما عرفناه من هذه المؤلفات: 1 - نظم متروكات السوسي: والنظم للشيخ السعيد بن أبي داود، (ت. 1840) وكان هذا تلميذا للشيخ الحسين بن أعراب. وقد علق على النظم حفيد الناظم، وهو أحمد بن أبي القاسم بن أبي داود. وهو تعليق موجز، كما جاء في مراسلة مع الشيخ علي أمقران السحنوفي (8 مايو 1981). 2 - الجوهر المرتب في الربع المجيب: تأليف المكي بن عزوز، ولا نعرف ما إذا كان مطبوعا. 3 - الفريدة السنية في الأعمال الجيبية: تأليف عبد القادر المجاوي. وقد طبع سنة 1904 (1321)، على نفقة الإدارة الفرنسية. وربما كان الكتاب موجها إلى التلاميذ بتغطية من الحكومة، لأن المدارس الرسمية الثلاث كانت تدرس هذا العلم. ومما يلاحظ أن جل مؤلفات المجاوي (عدا إرشاد المتعلمين) (¬1) قد ألفها في فترة بقائه في العاصمة، وفي آخر عمره، رغم أنه أقام بقسنطينة قرابة ربع قرن. وقد تحدث في (الفريدة) عن الارتفاع أو بعد الشمس عن أفق البلد المعني، وعن ميلان الشمس وعرض البلد. وفي المقدمة التي وضعها المجاوي للفريدة لخص خطته وهدفه فقال: وبعد فهذه رسالة صغيرة الحجم، وعجالة مختصرة كثيرة العلم، في كيفية العمل بالربع المجيب في الأوقات، مشتملة على مقدمة وعشرين بابا وخاتمة فيما يتعلق بالتعديل والميقات. ¬

_ (¬1) ط. القاهرة 1877. وكان المجاوي عندئذ في قسنطينة، مدرسا حرا.

وفي المقدمة أيضا تحديث المجاوي عن الأرض ودوائرها ومحيطها وأقاليمها وخطوطها. ويبدو المجاوي في هذا متأثرا. بالقدماء أمثال الإدريسي وابن حمادوش. وقد نقل عن علماء اشتهروا بعلم الفلك مثل مؤلف كتاب (سعود المطالع) وكتاب (تقويم البلدان) لأبي الفداء. وفي (الفريدة) حديث أيضا عن عدد الشهور وكيفية استخراج المنازل والفصول، واستخراج الشهور العربية، والفصول الأربعة. ومن الأبواب حديث عن ارتفاع الشمس وغيرها من الأجرام في أفق البلد المعني. ثم معرفة جيب القوس وقوس الجيب. وفي ميلان الشمس وغايته. وتناول المجاوي أيضا عرض البلد وبعد القطر والأصل والمطلق. وضمن العشرين بابا التي اشتمل عليها الكتاب ساق المجاوي أراجيز لنظم المعاني التي يتناولها، وذلك يؤكد توجه الكتاب إلى التلاميذ. لأن حفظ بعض الأبيات من قبلهم كان مقصودا له. وقد خصص الخاتمة في معرفة الضرب والقسمة، وأخذ الجذور بربع الجيوب (¬1). 4 - نظم في الفلك: منسوب إلى الشيخ محمد الطيب اليعلاوي. والنظم غير معروف (¬2). وقد عاش الناظم إلى حوالي 1296 هـ. 5 - آلة بركار: من وضع سليم الجزائري، شهيد القضية العربية سنة 1916. وقد قيل إنه اخترعه، وهو آلة تحمل في الجيب، وكان يرسم بها الخطوط المتوازية والمستقيمة والدوائر (¬3). 6 - شرح على رسالة في علم الميقات: وضعه الشيخ صالح السمعوني، أحد المهاجرين الجزائريين إلى الشام في القرن الماضي. وكان الشيخ السمعوني من المولعين بالفلك (¬4). ¬

_ (¬1) ط. فونتانة، الجزائر 1903 (1320 - 1321)، ويقع في 85 صفحة. (¬2) من رسالة للشيخ محمد الحسن عليلي، 19 نوفمبر 1995. (¬3) زكي محمد مجاهد (الأعلام الشرقية) 2/ 30. (¬4) محمد مطيع الحافظ ونزار أباظة (علماء دمشق وأعيانها)، دار الفكر المعاصر ودار =

7 - ساعات شمسية: للمولود الحافظي. وهذا ليس عنوان كتاب ولكنه صنعة أجادها الحافظي الذي كان ماهرا في وضع الجداول ومحبا لعلم الفلك حتى أصبح مرجعا فيه من المتأخرين. وقد كتب في هذا العلم مقالات عديدة نشرها في مثل الشهاب والنجاح. ورغم أننا لا نعرف مؤلفات الحافظي الأخرى فإن بعضهم قد ذكر أنه وضع عملين: الأول كتاب كبير تركه مخطوطا عندما كان في القاهرة عند صديق له يدعى الزايدي التواتي. وهذا المخطوط في الفلك والجغرافية والهيئة. وقيل إن والد علي أمقران السحنوني قد رآه. وأما العمل الثاني الذي قام به الشيخ الحافظي فهو إعداد ربع مجيب من الخشب صنعه أيضا وهو بمصر وسلمه إلى صديقه التواتي. وقد قام التواتي بتسليم هذا العمل إلى زاوية ابن سحنون بتاغراست (¬1). أما الساعات الشمسية فهي ثلاث، وضعها الحافظي عندما كان أستاذا بزاوية سيدي عبد الرحمن اليلولي، وما تزال آثار الساعات الشمسية في الزاوية. وذهب بعضهم إلى أن الحافظي قد ترك مقالات (وربما مؤلفات)، ولكنها ضاعت فيما ضاع أثناء الثورة. والحافظي من مواليد بوقاعة قرب سطيف، سنة 1895، وبعد أن نال حظا من التعلم العام في الزوايا والكتاتيب، سافر إلى تونس حيث عمه، ولم يدرس في الزيتونة، بل عمل في بيع تذاكر القطار (¬2)، ثم سافر إلى مصر في تاريخ مجهول، وانخرط في طلبة الأزهر الشريف. وبعد أن مكث طويلا رجع ¬

_ = الفكر، دمشق/ بيروت 1991، 2/ 672. (¬1) رواية علي أمقران السحنوني، وقد قال إن أحد الضباط الفرنسيين قد أخذ الروح المجيب أثناء ثورة التحرير، فاختفى. مراسلة منه يوم 17 مارس، 1980. (¬2) في تونس درس الفلك على الفلكي التونسي الشيخ مطيبع وابراهيم صمادح. أما صديقه الزايدي (غير المعروف لدينا) فقد لقيه بمصر. وكان الحافظي يعرف اللغة الفرنسية، وربما تعلمها في مسقط رأسه قبل سفره إلى تونس. انظر مراسلة علي أمقران السحنوني، 17 مارس 1980، ورسالة أحمد مريوش عن العقبي، معهد التاريخ، جامعة الجزائر.

إلى الجزائر في تاريخ مجهول أيضا، وربما هو منتصف العشرينات. واشتهر بعلم الفلك وهو بمصر، كما ذكرنا، ولما رجع إلى بلاده انطلق كغيره من العلماء في دروس الإصلاح والكتابة الصحفية. ولكنه لم يكن مثل ابن باديس ولا العقبي ولا الإبراهيمي في التوجه إلى الجمهور العريض. وقد قصد التعليم بالزوايا، وكان في أول أمره من أنصار الحركة الإصلاحية وساهم في تأسيس جمعية العلماء (سنة 1931). وفي اجتماع السنة الموالية تزعم الحافظي التيار المحافظ الذي أراد أن تكون جمعية العلماء صورة أخرى من جمعية الطرق الصوفية والزوايا، التي تحركها الإدارة الفرنسية. وربما كان الحافظي آلة فقط في ذلك الصراع بين أنصار الإصلاح والتحرر وبين أنصار الانتماء الطرقي والتبعية. وعندما فشل ذلك التيار المحافظ وانتصر تيار ابن باديس وزملائه، أسس الحافظي وأنصاره جمعية موازية باسم (جمعية علماء السنة) سنة 1932، ودام على رئاستها حوالي سنتين، ثم فشل المشروع كله لأسباب نجهلها الآن. وبقيت في الساحة جمعية العلماء الأصلية، وكان الحافظي قد كسبته بعض الزوايا مثل زاوية عمر بن الحملاوي. وعند افتتاح المعهد الكتاني سنة 1947 كان الحافظي هو رئيسه الشرفي. وكان الحافظي قد نافس ابن باديس وعارض العقبي، وتحالف مع عاشور الخنقي. وخلال وجود الحافظي في الحركة الإصلاحية كتب مقالات طويلة في شؤون الاجتماع والدين والأخلاق والفلك في الصحف. وقد عاش إلى 3 فبراير 1948، ومع ذلك كان إنتاجه قليلا ومساهمته أقل من اسمه وعلمه. ولا ندري سبب الأفول الذي حل به أثناء حياته. ولعل تردده بين الإصلاح وعدمه أو بين الإصلاح التحرري المتسيس والإصلاح الطرقي الراكد، هو الذي كان وراء أفوله. وما تزال آثاره غير مجموعة (¬1). ¬

_ (¬1) جاء في مراسلة من محمد الصالح الصديق إلى علي أمقران السحنوني 6 نوفمبر 1994، (وقد حصلت على نسخة منها) أن لجنة جمع آثار العلماء قد انتهت من آثار ابن باديس، وبدأت في جمع آثار الحافظي ثم أبي يعلي الزواوي. واللجنة المذكورة =

في الحساب والفرائض

في الحساب والفرائض بقيت المدرسة القديمة في علم الحساب سائدة عند بعض الجزائريين، وهي مدرسة القلصادي والحباك وابن البناء، رغم تعلمهم الحساب الحديث على الطريقة الأوروبية في المدارس الفرنسية الرسمية. ولا ندري إن كان خريجو هذه المدارس قد ساهموا في إحياء الحساب العربي والفرائض عن طريق التأليف، أو اكتفوا بدراسة الحساب الجديد والاستفادة منه في حياتهم العلمية فقط. وإذا صح أن أبناء المدارس لم يؤلفوا في هذا الفن فإننا نعد ذلك خسارة فكرية، لأن علم الحساب القديم لم يستفد من تجربتهم الجديدة. أما الحساب التقليدي فقد ألف فيه عدد قليل من الشيوخ. ومنهم البزاغتي، والدلسي وابن مالك، وإليك هذه النماذج: 1 - منهاج الوصول إلى ما في الإرث من الأصول، لأحمد الطيب الزواوي، المتوفى 1251، وهو أرجوزة في الفرائض. ولا ندري إن كان قد شرحها أيضا (¬1). 2 - شرح على كشف الأستار عن علم الغبار، لأبي القاسم البزاغتي (البوزاغتي) المجاجي، المتوفى بمجاجة سنة 1884. وكشف الأسرار هذا في الحساب ومنسوب إلى القلصادي، وقد اختصره من كشف الجلباب عن علم الحساب. ولم يصف صاحب (تعريف الخلف) شرخ البزاغتي المذكور، ولا فائدته. ونحن نعلم أن البزاغتي كان قد عاش وتعلم في معسكر ¬

_ = تابعة لوزارة الشؤون الدينية. وقد ذكر الشيخ الصديق أنهم جمعوا حتى الآن قرابة مائة مقالة للحافظي. انظر كذلك رسالة من محمد الشريف بن الشيخ إلى علي أمقران السحنوني (وعندي نسخة منها). 4 نوفمبر 1994. ومما يذكر أن للحافظي ابنا متقاعدا يسمى العربي، وقد سئل عن آثار والده المخطوطة فلم يعرف عنها شيئا. مراسلة أخرى من علي أمقران بتاريخ أبريل 1979. انظر أيضا محمد ناصر (المقالة الصحفية) 2/ 222. (¬1) تعريف الخلف 2/ 522، الأعلام 1/ 138.

وتلمسان، وتولى القضاء على عهد الفرنسيين في الأصنام. ثم تولاه ابنه من بعده، وكان الابن مقربا إلى الفرنسيين. وللبزاغتي تآليف في علوم أخرى ذكرناها في مكانها (¬1). وقد اعتبره الفرنسيون من أبرز علماء وقته، وعدوه من الأذكياء في الفقه والسياسة. وكان صاحب زاوية أيضا. 3 - تحفة السرور في أعمال الصحيح مع الكسور، تأليف محمد بن الموهوب بن مالك الزواوي المولود في قرية زكرى (دائرة عكورن) والمتوفى في حدود سنة 1900. وقد انتهى من تأليفه في 17 أكتوبر 1304 (1886) وتوجد منه نسخة في مكتبة الشيخ ابن دريوة في بجاية (ضمن مجموع) (¬2). وقيل إن لابن مالك مؤلفات أخرى في الرياضيات. وكان المؤلف قد درس في مسقط رأسه ثم في تونس ومصر. ثم رجع إلى بلاده. وكان حيا سنة 1896. ولعله اشتغل بالتدريس في إحدى الزوايا في زواوة ولا نظن أنه كان من الموظفين الرسميين. ويقول في خطبة كتابه: (وبعد، فهذه تحفة السرور ... بطريق الكسر الإعشاري ينتفع بها المبتدي ... ويرجع إليها المنتهى، خصوصا في الأعداد الضم، ولا سيما عند إرادة العمل لمن لا يعرف النسبة وحل الأعداد). وقد حث الناس على تعلم الحساب وطريقة الكسور التي طبقها مشافهة، وكأنه يبدي شيئا من التأسف لأنهم لم ينتفعوا بعلمه في الحساب. وقد طلب منهم تعلمه مشافهة لأنه كان يعرف أن الأمية هي السائدة بينهم. ولذلك أخبرنا أنه توقف في تحريرها (كتابتها) لأنه لم يجد لها متنا ولا شرحا. ومع ذلك أقدم على التأليف فيها، وهو يعلم أنه قد لا يكون لبضاعته رواج بين الناس، كما أنه كان غير متأكد من أسلوبه، ولكنه متأكد من معلوماته وطريقته، فكان حريصا على ألا تضيع هذه الخبرة. والمقصود، كما قال، هو فهم العبارة وليس أسلوب التأليف والتفنن فيه. بدأ محمد بن الموهوب تأليفه ببيان نقط الحروف (الأرقام) الهندية ¬

_ (¬1) تعريف الخلف 2/ 29. عنه وعن ابنه (الحاج مصطفى بن البزاغتي) انظر أيضا الان كريتسلو (المحاكم)، ص 115. (¬2) علي أمقران، مراسلة 8 غشت 1980.

والمعروفة بالقلم الهندي، وهي تسع كلمات. ثم أخذ في بيان ترحيلها في منازل العدد. والأرقام الهندية هي الأرقام المستعملة الآن في المشرق، وهي (1، 2، 3، 4 الخ). وبعد ذلك تحدث عن باب الجمع وباب الضرب ومنه ضرب الصفر، وباب القسمة، ومنه قسمة المحاصاة وأجزاؤها، ثم باب الكسور. وقد ألحق المؤلف بالكتاب تقييدا حول طريقة تقسيم الحصص، وجاء بنماذج من تقسيم التركات أو الفرائض بطريق الكسور ورسم الجداول، مما يذكرنا بأعمال سلفه عبد الرزاق ابن حمادوش. وقد جمع محمد بن الموهوب هذا التقييد إلى (تحفة السرور). وهو (التقييد) لا يتجاوز الخمس عشرة ورقة. وقد افتتحه بقوله: (وبعد، فهذا تقييد سميته شبه عرس (أو عروس) زفت في اختصار النسبة للمحاصاة إذا كثرت أجزاؤها وتباينت، وكذلك مسائل الفرائض، إذا امتدت فروعها وتشعبت، وهو باب يحتاج إليه الطالب، سيما إذا كان المقسوم عقارا أو أراضي ذات انخفاض وارتفاع أو شعاب وأحجار. وتضمن التقييد كذلك ثلاثة جداول لقسمة الحصص وجدولا واحدا. لتقسيم فريضة، متخذا إياه كنموذج (¬1). 4 - النيل الغزير: في القسمة على طريق الزنجير (؟)، لنفس المؤلف السابق محمد بن الموهوب. وهو كتاب في الحساب والفرائض، كما يدل عنوانه. ولكننا لا نعرف الآن معلومات أخرى عنه. 5 - تنوير الألباب في علم الحساب: تأليف إدريس بن محفوظ الدلسي. وكان الدلسي قد هاجر إلى تونس بعد الاحتلال واستوطن مدينة بنزرت. وانتسب للطريقة الرحمانية على يد مقدمها علي بن عيسى صاحب زاوية الكاف. وله شعر في التصوف والمدائح النبوية، ومنه قصيدة في ¬

_ (¬1) معلومات بعث بها محمد الحسن عليلي، مايو 1995. وتحفة السرور يقع في حوالي 63 صفحة، وهو مع التقييد في 78 صفحة. وقد نسخه الطاهر بن مقران في 28 شعبان 1313 (1896) والغالب أن ذلك كان في حياة المؤلف.

مؤسس الرحمانية، وقد درس العلم على شيوخ الزيتونة، ومنهم سالم بوحاجب والمكي بن عزوز وعمر بن الشيخ. وفي مقدمة كتابه (تنوير الألباب) ذكر نسبه وأصله فقال إنه: إدريس بن محفوظ بن أحمد الشريف الدلسي. وأما عن كتابه فقال: إنه وضعه على أسلوب غريب جليل، وتحاشى فيه الا? جمال والتطويل، وادعى أنه فريد من نوعه إذ لم يقلد غيره في تأليفه فهو (لم ينسج على منوال، ولم ويجار في مضمار الكمال، جمعت مسائله العبقرية، وفوائده الرائقة السنية، من رياض من تمم المعرفة والدراية ... كتاب الدرة البيضاء للأخضري وكتاب علي القلصادي (دون تحديد عنوان)، وكتاب النخبة السنية) وتلك هي مصادر الدلسي. وأضاف إلى ذلك كتاب شيخه محمد بن مالك سابق الذكر، وقد سماه بكل وضوح هكذا: (رسالة العلامة ... مؤدبنا وشيخنا سيدي محمد (بالفتح) ابن الموهوب بن مالك الشريف الزواوي). كما أضاف إليه (فوائد) من الشيخ المفتي محمد يرم، وأخرى من تحرير (شيخنا سيدي محمد السماتي) الذي قال عنه إنه قد هاجر (إلى طرابلس؟). ونبهنا الدلسي إلى أنه أخذ من غير هؤلاء أيضا، وأنه لن يذكر أماكن النقل في كتابه لأن (الناقل أمين). أما ترتيب (تنوير الألباب) فهو على مقدمة ومقصدين وخاتمة. واشتملت المقدمة على تعريف علم الحساب وموضوعه وفائدته وحكمه. وفي المقصد الأول تحدث الدلسي عن أعمال الصحيح. وبدا رياضيا رغم أنه متعلق بالتصوف، كما بينا. وخصص المقصد الثاني لأعمال الكسور. وجعل الخاتمة لأعمال المحاصة. وداخل كل مقصد أبواب مثل باب الجمع ثم باب الطرح، الخ. واعترف الدلسي أنه ليس من (صناديد هذا المجال) وإنما خشي أن يضيع منه ما تعلمه فسجل معلوماته. واعترف أيضا أنه كان في زمن غير موات للتأليف، فالجهل والفتن كانت سائدة. وقد كانت تونس في آخر القرن الماضي وأول هذا القرن تشهد حركة وطنية فعالة، وكان التصادم بينها وبين

السلطة الاستعمارية على أشده. وكان الدلسي من العاملين في هذه الحركة. وذلك ربما هو ما يشير إليه بالفتن. أما الجهل فقد كان سائدا في مختلف الأقطار، ومع ذلك فإن الحركة العلمية والأدبية في تونس ربما كانت أفضل منها في الجزائر (¬1). 6 - سند العربي بن حمدان: في الفرائض. وهذا ليس كتابا وإنما هو سند في علم الفرائض لأحد علماء الجزائر المعاصرين للاحتلال. وربما ترك ابن حمدان تأليفا في الفرائض لم يصلنا، لأن حبه لهذا العلم واتقانه له تجعلنا مطمئنين إلى أنه ألف فيه. لكن ما وصلنا منه هو نسخة نسخها بيده من كتاب (المقرب المستوفى في شرح فرائض الحوفي) في شهر شعبان سنة 1253 (1837). وقد حبس ابن حمدان هذا الكتاب على نفسه وعلى من فيه أهلية لدراسة هذا العلم. واحتوى الكتاب على جداول عديدة، وقد اطلعت على بعضها من صفحتين صورها لي الشيخ علي أمقران السحنوني. والعربي بن حمدان هذا ولد ونشأ في الجزائر، وهو يرجع إلى أصل أندلسي. وتعلم على شيوخ الوقت علم الفرائض وغيره كالحساب والفلك. واحتج بحديث يقول إن الفرائض نصف العلم. وهام بحب هذا العلم، وروى سنده فيه، وهو: 1 - كشف الجلباب للقلصادي، وقد درسه الحاج علي بن السفار على الشيخ عبد الغفار (¬2). ¬

_ (¬1) المكتبة الوطنية - تونس، رقم 3658، وهو في 80 ورقة. انتهى منه في جمادي الأولى 1315. وعليه تعاليق بخط المؤلف نفسه. وخطه جيد. وفيه الأسماء التي ذكرنا. وكذلك أسماء ابن عاشور ومحمد جعيط ومحمد بن الخوجة ومحمد النجار، وغيرهم من مشائخ الزيتونة. وكذلك أسماء والده هو ومحمد بن مالك والسماتي من الجزائريين. أما كتاب (النخبة السنية) الذي عده من مصادره فمؤلفه من المعاصرين إذ يستعمل فيه العملة الفرنسية. (¬2) معلوماتنا عنه ضئيلة، لكن جاءت بعض أخباره (أي السقار) في كتاب (تاريخ عبد الحميد بك) مخطوط - وكان من المعاصرين لابن العنابي.

2 - فرائض الشيخ خليل بن إسحاق قرأها على الشيخ محمد بن الشاهد، أحد العلماء الشعراء (تناولنا حياته في غير هذا). 3 - شرح السيد السجاوندي في فرائض الحنفية، قرأه على الشيخ محمد الجكيكن. 4 - الدرة البيضاء للأخضري وقرأها على الشيخ الحاج حمودة المقايسي، أحد تلاميذ الأزهر ومرتضى الزبيدي. 5 - كتاب العصنوني على رجز أبي إسحاق إبراهيم المعروف بابن التلمساني، قرأه على الشيخ الشامي (¬1)، (ولا نعرف عن الشامي شيئا). إن هذا السند مهم للغاية، لأنه يكشف عن مصادر علم الفرائض الباقية لدى علماء الجزائر غداة الاحتلال، ولأنه يبرهن على أن الشيخ العربي بن حمدان ربما يكون - وقد حصل على هذه الثقافة الواسعة في علم الفرائض - قد ألف فيه. ومن جهة أخرى فإن عبارة (نسخه بيده) تحتمل أن تكون (كتبه بيده) ومهما كان الأمر فإن الكتاب ضخم بلغ الألف صفحة، واحتوى على 1573 جدولا (¬2). 7 - شرح على الدرة البيضاء: وضعه الشيخ شعيب، ولعله هو قاضي تلمسان الشهير في وقته. وقد تناولنا حياته في مكان آخر (¬3). أما الكتاب فهو منسوخ في يونيو 1336 (1917) (¬4). والدرة البيضاء من تأليف عبد الرحمن الأخضري. وكانت عمدة في علم الفرائض والحساب عدة قرون ليس في الجزائر وحسب ولكن في الأقطار الإسلامية الأخرى بما في ذلك الهند. ولا ¬

_ (¬1) مراسلة من علي أمقران السحنوني، بتاريخ 6 يونيو 1980. وأخرى تاريخ 17 مارس، 1980. (¬2) بقيت حياة الشيخ العربي بن حمدان مجهولة لدينا، ولا نعرف تاريخ وفاته وحياته العلمية الأخرى. وهل هاجر أيضا من الجزائر؟. (¬3) انظر فصل السلك الديني والقضائي. (¬4) مراسلة علي أمقران السحنوني، 16 أبريل 1980، وتوجد نسخة من الشرح المذكور في مكتبة السحنوني.

ندري إن كان شرح الشيخ شعيب قد طبع. 8 - المسائل العامرية على مختصر الرحبية، لإبراهيم بن محمد الساسي العوامر السوفي. وكان من قضاء الوقت. أما الرحبية فنسبة إلى محمد بن علي الرحبي. وكانت الرحبية أحد المتون الأساسية في المعاهد الإسلامية يحفظها التلاميذ عن ظهر قلب، وتختص بعلم الفرائض أو قسمة التركات. وقد شرحها إبراهيم السوفي وقسم شرحه إلى أبواب، مثل باب أسباب الميراث، وباب الوارثين من الذكور والوارثات من الإناث. وقد رأينا من هذا العمل نسخة مخطوطة وأخرى مطبوعة. وعلى المخطوطة بعض التعاليق يبدو أنها للمؤلف نفسه، ولكنها بقلم مختلف، وفيها أنه انهى منه في سنة 1323 ثم شطبت هذه العبارة (¬1). ويبدأ الرجز هكذا: الحمد لله وصلى خالقي ... على الرسول الهاشمي الصادق وبعد، فالقصد اختصار ما اشتهر ... من درر (لابن الموفق) الأبر 9 - القول الراجح: بالعمل المصيب في الفرائض والكسور والجبر والوصايا بالنصيب. ألفه ابن الموفق الصالح بن عبد القادر القسنطيني. ولا ندري الآن الصلة بين اسم هذا المؤلف وعبارة (ابن الموفق) الواردة في البيت السابق. وقد كان إبراهيم بن عامر وابن الموفق في القضاء مدة طويلة. وكان ابن الموفق متقاعدا عندما صدر كتابه المذكور في القاهرة عام 1355 (1936). وتم طبع الكتاب بالتعاون بين مكتبة النجاح بقسنطينة، ودار الصاوي بالقاهرة. وقد أشرف على طبع الكتاب وتصحيحه شيخان مصريان (محمد مصطفى وعبد الله إسماعيل الصاوي). وواضح من العنوان الطويل أن كتاب ابن الموفق تناول عدة مسائل حسابية أساسها الفرائض والوصايا ¬

_ (¬1) المكتبة الوطنية - تونس، رقم 2744 ضمن مجموع. أما المطبوعة فقد طبعت في تونس سنة 1325 (أو فرغ منه في هذا التاريخ؟) وفي غلاف النسخة المطبوعة تقريظ لأحد تلاميذ المؤلف اسمه الهاشمي بن الحاج أحمد بن حميدة السوفي - ثلاثة أبيات.

علوم أخرى

واستعمال الجبر والكسور. وربما كان هذا الكتاب من آخر ما ألف الجيل الماضي في هذا العلم الذي يجمع بين الدين والرياضيات. 10 - جلاء الران وتنوير الجنان فيما أشكل من طرق الميراث على الإخوان، تأليف قدور بن سليمان المستغانمي (¬1). 11 - مدخل الطلاب إلى علم الحساب: تأليف الشيخ طاهر الجزائري السمعوني. ويبدو أنه كتاب مدرسي، شأن العديد من كتب الشيخ طاهر. وقد عرفنا أن والده كان أيضا مهتما بعلم الفلك. علوم أخرى لا نجد من (العلوم) الأخرى سوى النادر، بل إننا لم نعثر أثناء بحثنا عن تآليف في الجغرافية أو طبقات الأرض أو علم النبات والفيزياء والكيمياء والطبيعيات وعلوم الأحياء عدا النزر اليسير. وهذا غريب في عصر كان فيه بعض الجزائريين متمسكين بالماضي والتراث، وكان فيه آخرون منهم على صلة بالعلوم الأوروبية - الفرنسية، بل وأخذوا يدرسونها في المدارس، كما تشهد بعض إحصاءات كلية العلوم. ولذلك تصدق دراسات الدكتور بيرتيراند في أغلبها على الجزائريين عندئذ (1869). فقد كتب في جريدة (الأخبار) الفرنسية تحت عنوان (العلوم الفيزيقية والطبيعية عند عرب الجزائر) في ضوء بداية دخول الشباب العربي - كما قال - في تقاليد الفرنسيين من خلال التعليم والاتصال. وفي نظره أن ذلك سيغير من نظرتهم إلى أنفسهم وإلى العالم من حولهم. وكان الدكتور بيرتيراند عضوا في جمعية المناخ. وتحدث في دراسته عن الفصول الأربعة والشهور والأوقات اليومية، وعن استخراج المياه عند الجزائريين، ونظرتهم إلى الكواكب وإلى الشمس والقمر، وإلى الخسوف والكسوف، وحكمهم ¬

_ (¬1) تعريف الخلف، 2/ 330. وعن قدور بن سليمان انظر فصل التصوف.

على الأعشاب والاستفادة منها. ولاحظ أن بعض الجزائريين، سيما في بني ميزاب وفي زواوة كانوا يقيسون طبقات الأرض لمعرفة وجود المياه، كما أن الرعاة كانوا يعرفون أنواع النبات المفضلة لحيواناتهم. غير أن الجزائريين لا يعرفون البوصلة، ولا يعرفون أيضا تشكيلة الجسم سواء كانت بسيطة أو مركبة. ولكنه قال إن الجزائريين يفرقون بين عطور المرأة وعطور الرجل، فالياسمين مثلا للمرأة والعنبر للرجل. ومن رأي بيرتيراند أن الخرافة قد انتشرت بين الجزائريين. فثقافتهم في رأيه محدودة. وما الخرافة إلا وليدة الجهل. فهم يكتفون بحفظ القرآن - وهذه كانت سياسة فرنسية مدروسة وليست اختيارا منهم، كما لاحظنا في فصل التعليم الإسلامي - ويعتقدون أن كل شيء موجود في القرآن. وهم يربطون الأحداث والألوان والأشياء ما حدث في الإسلام، ولا سيما تقاليد الرسول (صلى الله عليه وسلم). أما عن الجغرافية فقد قال إن الجزائريين لا يعرفون منها شيئا تقريبا. وهم لا يعرفون من بلادهم سوى ما مشت عليه أقدامهم (¬1). كان بيرتيراند قد كتب ذلك بعد نشأة جيل كامل في حكم الاحتلال الفرنسي. ولا شك أنه عدل في مقاله ما كان تبناه في كتابه السابق. والوضع الذي وصفه صحيح في مجمله، ولكنه لم يقل إن الجزائريين لم يكونوا كذلك قبل هذا الجيل. وإذا غضضنا النظر عن العامة التي أهملتها السلطة الفرنسية تماما، فأين نتائج المدارس التي أنشئت منذ 1850 (المدارس الرسمية الثلاث، ومدرسة الطب، والمدرسة السلطانية؟)، ألا يدل ذلك على فشل المهمة الحضارية التي تدعيها فرنسا طولا وعرضا في الجزائر؟. وفي سنة 1894 ألف الطبيب رايسير كتابا في تربية النحل. فقام الشيخ ¬

_ (¬1) مقالة د. بيرتيراند E. L. BERTHERAND في الأخبار، عدد 12 نوفمبر، 1869. وكانت مقالته هذه قد ألفت بعد حوالي أربع عشرة سنة من نشر كتابه عن الطب والنظافة الصحية عند العرب الجزائريين (1855).

مدرسة العلوم

الحفناوي بن الشيخ بتعريبه على حلقات في جريدة (المبشر) تعميما للفائدة، لأنه موجه كما قيل لتعليم المسلمين كيفية تربية النحل. وكانت السلطة الفرنسية تشجع كل ما من شأنه أن يخدم الاقتصاد الفرنسي. وفي تعريبه لم يلتزم الحفناوي بالنص بل تصرف فيه بما يتلاءم والذوق العربي والإسلامي. فكان يذكر أبياتا من الشعر، ويروى على لسان خبير يصفه (أبو النحل)، وهو يعني أحد الجزائريين الخبراء في هذه الصنعة، كما أن الحفناوي كان يذكر آداب الإسلام (¬1). وفي وقت لاحق جمعت تلك المقالات ونشرت في كتاب تحت عنوان (رفع المحل في تربية النحل)، وقد طبع على نفقة الحكومة (¬2). وكانت الإدارة الأهلية عندئذ تحت وصاية دومنيك لوسياني (¬3). مدرسة العلوم أما عن المدرسة العليا للعلوم فقد تأسست سنة 1879، مثل مدرسة الآداب والحقوق. ثم أصبحت تدعى كلية العلوم سنة 1909 عندما تأسست جامعة الجزائر. وكانت في أولها تضم فقط تسعة من الأساتذة ومن المكلفين بالدروس، بالإضافة إلى ستة بعنوان مكلفين بالتحضير. وكان برنامج مدرسة العلوم في الجزائر هو برنامج الكلية المماثلة في فرنسا. والفرق هو أن مدرسة العلوم في الجزائر لا تمنح شهادة الليسانس. وعلى الطالب أن يحصل على ذلك في فرنسا، قبل تأسيس جامعة الجزائر، لكن المدرسة تمنح شهادات أقل درجة من الليسانس في الفيزياء والكيمياء. ومن اهتمامات المدرسة العناية بالزراعة، والبيئة الصحراوية، واستخدام ¬

_ (¬1) انظر المبشر 30 يونيو، 1894 - في حلقات متتابعة. (¬2) دون تاريخ. ط. فونتانة المدعومة من الحكومة. (¬3) يذكر المترجمون للشيخ طاهر الجزائري السمعوني أن له كتابا في المساحة (الهندسة) بعنوان (مد الراحة لأخذ المساحة) وآخر في الطبيعيات عنوانه (الفوائد الجسام في معرفة خواص الأجسام).

الكهرباء (¬1). ولكن عدد الجزائريين فيها كان ضئيلا جدا، فهو لا يتجاوز الخمسة في آخر القرن الماضي. أما خلال الثلاثينات من هذا القرن فقد وصل عددهم إلى أربعة عشر (¬2). بينما كان عدد الفرنسيين فيها 198. فمن أين للشعب إذن أن يستيقظ من الخرافة وأن يعتمد على العلم تحت الاحتلال؟. ومهما كان الأمر فإن مدرسة العلوم قد توسعت حين ضم إليها المرصد الفلكي الذي كان في القبة ثم نقل إلى بوزريعة. وكذلك ضمت إليها مصلحة الأرصاد الجوية بعد أن أعيد تنظيمها سنة 1884. وكان للمدرسة عدة مخابر لمواصلة البحث. وكان طلبة الطب يدرسون فيها أيضا المواد الطبيعية (الفيزيائية) والكيميائية، وللمدرسة بحوث ونشرات أيضا. ومن ملحقات المدرسة، المحطة الحيوانية (الزولوجية) ودراسة النباتات وإجراء التجارب عليها. وكانت المدرسة تخدم الإدارة الاستعمارية والأشغال العامة والأبحاث الزراعية ومصالح الغابات (¬3). وكانت بدايتها متواضعة رغم أن اختصاصاتها قديمة في الجزائر، ففي سنة 1895 كان بها ثلاثون طالبا فقط، ثم نمت سنة 1904 فأصبحت تضم 134 طالبا واستمرت في النمو بعد تأسيس الجامعة (1909) وبعد توسع الأبحاث في الجنوب وتكاثر الاهتمامات بتطوير البحث العلمي. وفي سبيل البحث النباتي والحيواني وجعل الجزائر حجر الزاوية للانتاج الذي تحتاجه فرنسا، تكونت منذ 1832 حديقة للتجارب في الجزائر، أي قبل أن تعلن فرنسا رسميا احتفاظها بها. كان اسم الحديقة في البداية: الأبحاث عن الانتاجات. وكانت الحديقة حكومية واستمرت كذلك إلى سنة 1867 حين تسلمتها الجمعية الجزائرية العاملة التي كان يسهر عليها ¬

_ (¬1) باولي (التعليم العالي في الجزائر) في (المجلة الأفريقية)، 1905، ص 416 - 417. (¬2) أرشيف إيكس (فرنسا)، رقم 61 l 0 H وبوجيجا في المجلة الجزائرية SGAAN 1938، ص 66. (¬3) فيشور E. FICHEUR (الإنجاز العلمي لمدرسة العلوم بالجزائر) في المجلة الأفريقية، 1905، ص 452 - 457.

أصحاب سان سيمون، وكان عضو هذه الجمعية البارز هوبولان تالابو. وقد نجحت التجارب نجاحا كبيرا، ففي سنة 1890، كان إنتاج الجزائر من الطماطم مثلا يصل أسواق مرسيليا في نفس اليوم. وحين درست لجنة التحقيق الرسمية سنة 1833 مستقبل الجزائر، شمل برنامجها الإنتاج الزراعي والحيواني، وثرواتها الطبيعية كالمناجم. وكانت أكاديمية العلوم الفرنسية تواصل اهتمامها بالبحث وتتعاون وتنسق مع وزارة الحربية المسؤولة على العمليات العسكرية. وبطلب من هذه الوزارة أنشئت محطة مناخية في الجزائر ودراسة تأقلم النباتات والحيوانات والإنسان. وكانت عضوية اللجنة المسؤولة على المحطة تتبدل من وقت لآخر. وقد أعطت الوزارة سنة 1855 إلى اللجنة ثلاث سنوات لتقديم تقرير كامل وبسيط عن نتائج عملها، وكانت الجمعية المناخية الفرنسية للتأقلم وراء هذا النشاط أيضا، وكانت برئاسة المستشرق المعروف أرنست رينان. وكانت الوزارة المذكورة تحث على اختيار رجال أكفاء مستعدين لتقديم المعلومات واختيار الوسائل الصالحة. وهناك جمعية باريسية دائمة تابعة للوزارة وتضم أعضاء من العلماء والإداريين، وكانت تهتم بحالات التأقلم سواء في فرنسا أو خارجها، وكانت تضم تسعة عشر عضوا سنة 1860. ومن أعضائها الجنرال يوجين دوماس الذي طالما عمل في الجزائر في عهد المارشال بوجو، وألف عنها عدة كتب منها واحد حول الخيول العربية، وكان مولعا بصيد الصقور. وأصبح دوماس الذي رافق الأمير عبد القادر أيضا، هو الرئيس الشرفي للجمعية منذ 1855. وكان دوماس قد ساعد، عندما كان في وزارة الحربية، على نقل البذور والنباتات إلى الجزائر لتجريبها في حدائق ومحطات حكومية خاصة. ومن ذلك نقل شجرة (تيك) TEEK من السينيغال إلى الجزائر. وكان الهدف هو منافسة الإنكليز في بناء السفن والنشاط البحري. وكانت تجربة الشجرة المذكورة تجري في بسكرة والجزائر في منتهى السرية. كما جرب الفرنسيون نباتات من أمريكا اللاتينية مثل شجرة (سينكونة) التي يستخرجون منها مادة

(الكينا) لمعالجة حمى المناطق الاستوائية. وقد اهتمت هذه الجمعية بكل ما يحمي ويحفظ ويساعد الاستعمار في الجزائر، من المستحثات (الآثار) إلى علوم الزراعة. وبالإضافة إلى دوماس الذي ترأس الجمعية سنة 1858، ظهر انطوان دي كنال CANAL الخبير في علم الطب العسكري وفي تنشئة الخيول أيضا. لقد كان كنال مشاركا في الخدمة العسكرية في الجزائر منذ الثلاثينات، وكان يتولى أثناء المعارك ضد المقاومة الوطنية فحص ثروة البلاد الزراعية والحيوانية. ثم رجع سنة 1857 إلى الجزائر لاختبار آثار التأقلم على الحيوانات والأفراد والسلالات بعد إخضاعها للمناخ الجديد والتدجين والعمل والصحة والتغذية. فقد رافق كنال زميله ألبير سان هيلير في السنة المذكورة وتجولا في الجزائر شرقا وجنوبا ووسطا، ونشر (كال) تقريرا في مجلة الجمعية. ومن الأماكن التي زارها محطة تربية وتحسين الأغنام بالأغواط، كما زار محطات أخرى تهتم بتربية الحيوانات والحشرات والنباتات. وكان تقريره يتعلق بذوات الأربع. وقد أوصى فيه بإدخال الأبقار والخيول الأجنبية إلى الجزائر وانتقد طريقة الرعي وتربية المواشي الأهلية فقال بأنها تنتج انواعا ضعيفة. ورأى أن إدخال الحيوانات الغريبة عن البيئة الجزائرية ضروري لتقدم وتطوير الزراعة فيها. ومن رأيه أن أبقار مملكة بيدمونت (إيطاليا) التي جاء بها الكولون تدر حليبا أفضل من البقر الذي يربيه الأهالي. ويجب أن نذكر أن هذه التجارب شملت أيضا: إنتاج دودة القز (الحرير)، وتهجين الحيوانات. وقد أوصى كنال في تقريره بأمور أخرى نذكرها بسرعة، وهي إنشاء حديقة تجارب للحيوانات، وأخرى للنباتات، وضرورة مراقبة التجارب بدقة. وتعتمد نظريته على أنه يمكن للحيوانات الأجنبية والنباتات والشعوب أن تتأقلم في الجزائر. ولذلك كانت سفن الجيش الفرنسي تقوم بنقل ذلك إليها (حيوانات، نباتات، أناسي). ومن ثمة يتضح أن الفرنسيين اعتبروا الجزائر بلادا سائبة أو حقل تجارب، يزرعون فيها

ما يشاؤون وينقلون إليها ومنها كل ما يرغبون. وكان لويس مول MOLL، وهو أستاذ مادة الزراعة والعضو في معهد الفن والحرف بباريس، أول من ألف كتابا رئيسيا عن الزراعة في الجزائر، وقد أوضح فيه مبادئ الزراعة للمستوطنين سواء كانوا فقراء أو أغنياء. وكان الهدف من ذلك تحويل الجزائر من بلاد منتجة للقمح إلى نموذج للمنتوجات الاستوائية، وكانت الوسيلة إلى ذلك هي حديقة التجارب. وكانت جمعية التأقلم والمناخ (¬1) التي ذكرناها تعتمد على نظرية الحماية الاقتصادية، وهي تقوم على أن للوطن الأم (فرنسا) أن يقتطع أكبر قدر ممكن من ثرواته من مالكها، وأن على المستعمرة ألا تتاجر إلا مع الوطن الأم. كما أن هذه الفلسفة كانت تقوم على أن المستعمرة المثالية هي التي تقدم المواد الأولية للوطن الأم ولا تتاجر إلا معه، وأن المستعمرة ما هي إلا سوق مفتوح لهذا الوطن الأم. وقد أصبح للجمعية لجان إقليمية. وخصصت، منذ اجتماعها سنة 1858، جوائز عديدة وأوسمة، وكانت بعض الجوائز تهم التقدم في معرفة أنواع الحيوانات الثديية. وقيل إن ثلاث جوائز تتعلق بإنتاج نوع من السمك وعدة أنواع من أغنام (الباقا) ونوع من العسل قد خصصت لإنتاج الجزائر. ومن جهة أخرى أنشأت وزارة الحربية معرضا دائما للانتاج المتطور من المستعمرات، بناء على تعليمات الحكومة وإشراف الجمعية (¬2). تلك هي بداية البحث في مجالات العلوم بالجزائر على يد الفرنسيين. وبالتدرج أخضع هؤلاء كل إمكانات البلاد، بما فيها أهلها، لخدمة الاقتصاد والأمن الغذائي الفرنسي. وكان لتطور البحوث وإنشاء المعاهد المتخصصة ¬

_ (¬1) من أعضاء الجمعية: الحاكم العام راندون، واللقيط (الجنرال) يوسف، ومدير الحدائق الاستعمارية أوغست هاردي. وفي سنة 1860 كان عدد الأعضاء الفرنسيين من الجزائر 135، وهو عدد لا يفوقه سوى عدد أعضاء الجمعية الباريسية. (¬2) اعتمدنا في هذا الموضوع على كتاب م. أسبورن M. ASBORNE . (الطبيعة ...)، ص 148 - 163.

في القرن العشرين والتوسع في غرب افريقية وجنوب الصحراء حوافز أخرى واكتشافات هامة في العلوم، إذ تضافرت جهود الفرنسيين، من رجال الدين إلى رجال الإدارة والجيش، على تسخير الأرض والإنسان لخدمتهم. وكان حظ الجزائريين في ذلك، تعلما وبحثا وإنتاجا، منعدما تقريبا. ... وفي مجال النباتات الطبية نشير إلى أن الفرنسيين قد اهتموا أيضا بها بحثا، وترجمة للوصول إلى مكافحة الأمراض الخطيرة. ونشير هنا بالخصوص إلى كتاب بيرتيراند عن الطب والنظافة الصحية عند العرب الجزائريين. وقد أشرنا فيما مضى إلى مؤلفين آخرين (¬1). وقد اهتم لوسيان ليكليرك بترجمة بعض الآثار العربية، ومنها آثار ابن حمادوش الجزائري، حول النباتات والعقاقير (¬2). وتعاون نور الدين عبد القادر مع الطبيب غبريال كولان على نشر قصيدة السلوانة في الصيد. ولكن مساهمة الجزائريين في التأليف في العلوم نادرة أو منعدمة، وهو أمر ملفت للنظر. ¬

_ (¬1) انظر سابقا. (¬2) نشر ليكليرك (تاريخ الطب العربي) في جزئين، باريس، 1876، كما نشر ترجمة (كشف الرموز) سنة 1874. والمعروف أن ابن حمادوش تحدث عن نباتات كان يعالج بها الجزائريون في القرن 18. وقد نشر كشف الرموز حديثا تحت عنوان (كشف الرموز في شرح العقاقير والأعشاب) دار الكتب العلمية، بيروت 1996، دون أية إضافة أو تقديم أو تحقيق، ودون ذكر ما إذا كان قد طبع من قبل، وهو في 184 صفحة.

الفصل الرابع التاريخ والتراجم والرحلات

الفصل الرابع التاريخ والتراجم والرحلات

سنسير في هذا الفصل على منوال فصل التاريخ في الجزء الثاني. فنذكر أهم ما طرأ على مفهوم التاريخ وما تفرع منه من تغييرات، ثم ندرس التواريخ العامة أو التي ليس لها علاقة مباشرة بتاريخ الجزائر، والغرض من ذلك هو معرفة الميادين التي اهتم بها المؤرخون الجزائريون في عهد الاحتلال. وبعد ذلك نذكر تاريخ الجزائر بصفة عامة، سواء بدأ المؤرخ كتابه من القديم أو بدأه من مرحلة متأخرة أو كان شاملا لكل العصور. وقد احتل التاريخ المحلي قسما هاما في هذا الكتاب لأننا رأينا أن المؤرخين قد اهتموا بمناطقهم دون قطرهم، وهي طريقة تقليدية من جهة وموجهة من قبل المحتلين من جهة أخرى. وتسهيلا للبحث قسمنا التاريخ المحلي إلى ما يتعلق بالغرب الجزائري وما يتعلق بالشرق ثم بالجنوب. وكما فعلنا في الجزء الثاني خصصنا فقرات من هذا الفصل للأنساب أيضا. وقد عثرنا على نماذج من ذلك تدل على أن النسابة كانوا حريصين على تسجيل أصولهم. وكان الأشراف والمرابطون ورجال التصوف والارستقراطية حريصة على تخليد ذكرها في وقت فقدت فيه كل النفوذ السياسي والاقتصادي. ويتصل بذلك أيضا. الحرص على تسجيل المناقب أو التراجم المديحية التي تأتي عادة من وحي الإعجاب بل التقديس أحيانا. وليس كل ما كتب في هذا الباب داخله في المناقب، بل منه ما يدخل فقط في التراجم العادية. ولكن هذا النوع من الإنتاج غير كثير، كما سنرى. وأنت ترى أن المناقب والتراجم تتفق في أمور وتختلف في أخرى. وللرحلات في هذا الفصل مكانة بارزة، ولكننا لاحظنا أن هذا الانتاج

مفهوم التاريخ وتعريفاته

مع ذلك كان قليلا جدا، رغم تنقل العلماء والمثقفين شرقا وغربا وشمالا وحتى جنوبا. فالجزائريون قصدوا المشرق وفرنسا والمغرب الأقصى وأفريقية. ومع ذلك فإن رحلاتهم المسجلة في جملتها قليلة وصغيرة الحجم. ويضاف إلى ذلك المذكرات والتقاييد. وتعتبر المذكرات أو السيرة الذاتية نوعا جديدا في هذا الباب، وقد ألف عدد قليل من السياسيين والعلماء والأعيان عن حياتهم الخاصة وعبروا عن آرائهم في شؤون الحياة والناس. وكدنا نعتبر كتاب المرآة لحمدان خوجة من أوائل كتب المذكرات. أما التقاييد فليست فنا جديدا، ولكننا اعتبرناها من ضمن التواريخ الذاتية، إذا صح التعبير. مفهوم التاريخ وتعريفاته يبدو أن مفهوم التاريخ لم يتطور كثيرا خلال الاحتلال، وإذا كان هناك من تطور فقد بدأ مع نهاية الحرب العالمية الأولى ومع الوعي الوطني والسياسي والبحث عن ماضي الجزائر، تعبيرا عن رفض الاندماج وتغييب الذاكرة الجماعية، وهو التغييب الذي فرضه الفرنسيون عن طريق تعليم تاريخهم فقط وقطع الصلة بين الجزائريين وتاريخهم. وإلى عهد السبعينات من القرن الماضي كان أبو حامد المشرفي يعرف التاريخ بأنه علم الجغرافية (¬1). وكانت التواريخ عندهم تبدأ عادة من حياة آدم. ولعل أول كتاب تناول الجزائر في ماضيها وفي علاقتها بالمغرب العربي القديم ثم مرورا بمختلف العصور الإسلامية إلى الاحتلال، هو محمد ابن الأعرج السليماني صاحب (زبدة التاريخ وزهرة الشماريخ) في آخر القرن الماضي، ثم جاء ¬

_ (¬1) يقول المشرفي في كتابه (ذخيرة الأواخر والأول) وهو يتحدث عما كانت تقدمه مدرسة تلمسان العربية الفرنسية سنة 1877 إنهم (يدرسون الجغرافية، أعني علم التاريخ).

بعده بقليل محمد بن الأمير عبد القادر الذي أرخ للجزائر بصورة سريعة في مختلف العهود ثم تاريخها منذ الاحتلال وبالأخص أثناء مقاومة والده الطويلة. وكلا الكتابين يؤرخ للجزائر باعتبارها امتدادا في التاريخ عبر العصور المختلفة، خلافا لمعظم مؤرخي القرن التاسع عشر المحليين من الاكتفاء بناحية أو قبيلة أو مدينة، وبشكل مقطوع عن الماضي الجماعي. ولنذكر الآن بعض التعاريف للتاريخ. والواقع أن المشرفي قد عرف بفضل التاريخ ونوه به في صفحات عديدة من كتابه (الحسام المشرفي لقطع لسان الجعرفي) إذ خصص قرابة أربع عشرة صفحة منه لهذه المسألة (ص 26 - 42). وفي الجزء الأول من (ذخيرة الأواخر والأول) مقدمة عرف فيها أيضا بالتاريخ رغم أنه ابتدأ الكتاب من آدم. وفي آخر الجزء الثاني منه خاتمة ضمنت الحديث عن أهمية علم التاريخ. وحين قرظ محمد بن عبد الرحمن الديسي كتاب (تعريف الخلف) للحفناوي عرف التاريخ بأنه (الفن الجليل، المعظم في كل أمة وقبيل، الذي لولاه ما عرفت سير الملوك والعظماء، ولا حفظت تراجم العلماء والحكماء). وهو تعريف واسع يجعل التاريخ جامعا للسياسة والتراجم. وبعد أن أورد الشيخ عبد الرحمن الجيلالي طائفة من أقوال العلماء في تعريف التاريخ وأهميته، وهم من الشرق والغرب، قال عن التاريخ في المصطلح بأنه (علم تعرف به أحوال الماضين من الأمم الخالية، من حيث معيشتهم وسيرتهم ولغتهم وعاداتهم، ونظمهم وسياستهم واعتقادهم وآدابهم حتى يتم بذلك معرفة أسباب الرقي والانحطاط في كل أمة وجيل). وجاء الجيلالي بما يشترط في المؤرخ أيضا، وهو في نظره (العلم بقواعد السياسة وطبائع الموجودات واختلاف الأمم والبقاع والأعصار ... والإحاطة بالحاضر من ذلك ومماثلة بينه وبين الغائب ... وتعليل المتفق منه والمختلف) (¬1). وهو تعريف رغم استناده إلى مبادئ ابن خلدون في التاريخ ¬

_ (¬1) عبد الرحمن الجيلالي (تاريخ الجزائر العام) ط. 2 مزيدة، 1965، 1/ 23، 25.

والعمران فإنه ينظر إلى الأساليب الحاضرة وشروط المعرفة والموضوعية والتعليل. وستعرف في فقرة أخرى رأي أبي يعلى الزواوي ومحمد مبارك الميلي وأحمد توفيق المدني في التاريخ. والمفهوم السياسي للتاريخ ظهر ربما لأول مرة، على يد حركة الأمير خالد وما تلاها. فقد استشهد خالد في خطبه وعرائضه بتاريخ جده وبكفاح الجزائريين خلال القرن التاسع عشر. وكان ذلك منبها للغافلين، فانتشرت فكرة الربط بين التاريخ والوطنية ولم تتوقف الفكرة عند الكفاح المذكور بل رجعت إلى الماضي البعيد. وكان الجزائريون في الخارج قد درسوا التاريخ المتعلق بالشعوب الأخرى ودرسوا كذلك تاريخ الإسلام وما قام به الأولون، ورجعوا إلى بلادهم بأفكار واضحة عن الاطلاع والكشف والمنافسة للشعوب الأخرى. وقصد من هؤلاء ابن باديس والزريبي والإبراهيمي والعقبي وأبا يعلي الزواوي. وكان الزواوي - وكذلك سعيد بوليفة - قد ألف عملا في التاريخ يفيض (بالوطنية) ولكنه خاص بالزواوة. وخلال العشرينات أيضا نشر أحمد توفيق المدني في (تقويم المنصور) فصولا في التاريخ واهتم بالتاريخ السياسي. وكانت تونس سباقة إلى ربط الحاضر بالماضي. وقد تأثر الجزائريون الذين درسوا فيها منذ بداية القرن بالتاريخ المشترك وبالمفهوم السياسي الذي نتحدث عنه. ورغم أن التنظيمات السياسية (الأحزاب) كانت أولى بالاهتمام بالتاريخ واستثماره للحاضر، فإنها كانت في أول أمرها، بعيد عن ذلك، إما لجهل أصحابها بالتاريخ الإسلامي وتاريخ الجزائر بالذات، وإما لابتعادها منذ البداية عن التراث والأصالة وتعلقها بالفكر الاقتصادي الماركسي والصراع الطبقي الذي يؤدي عندهم إلى انتزاع السلطة من يد أرباب العمل ويضعها في يد العمال. وكانت الأناشيد السياسية تشير إلى وقائع تاريخية معينة وإلى أسماء شهيرة مثل يوغرطة وماسينيسا وعقبة بن نافع، ولكن الزعماء السياسيين لم يكونوا يهتمون أو لم يكونوا يعرفون الضروري عن الكتابة التاريخية ولو من أجل توظيفها في البرامج السياسية لأحزابهم.

وأمام طغيان المدرسة الفرنسية التي جردت الجزائريين من الاتصال بماضيهم كثر الحديث عن أن الجزائر لم تكن شيئا مذكورا قبل الاحتلال الفرنسي. كانت المدرسة الفرنسية تدعي أن الجزائر كانت ممرا للمحتلين الذين يتداولون عليها، الغالب بعد الغالب، وأنها لم تكن دولة في يوم من الأيام، وأن فرنسا هي التي (صنعتها) وألحقتها بها، فهي ابنتها عند البعض، وهي فرنسا الصغيرة عند آخرين. وكانت تدعى أيضا أن الفرنسيين هم الذين حققوا الأمن والرخاء، ونظموا البلاد وجعلوا الجزائر جنة فوق الأرض. كما أشاعت أن سكان الجزائر لا يمثلون شعبا له ماض عريق، ولكن مجموعة من (المتساكنين) الذين لولا فرنسا لأكلوا بعضهم البعض. إن هذه الادعاءات نجد أصداءها في كتابات عديدة صدرت عن بعض الجزائريين الذين انقطعوا عن ماضيهم، نذكر منهم أبا بكر بوطالب صاحب (نزهة الأفكار) وفرحات عباس في كتاباته قبل 1943. ولكن يجب ألا نعمم هنا، ذلك أن بعض الأفراد من المتعلمين في المدارس الفرنسية كانوا على صلة بالحضارة العربية الإسلامية، وكانوا يرفضون الأطروحة الفرنسية المذكورة، ونحن نجد ذلك في كتابات حسن بريهمات وابنه أحمد، وكتابات بعض النواب مثل عريضة 1891 التي تقدم بها أعيان من نواحي قسنطينة (¬1). ومهما كان الأمر فإن هذه الروح هي التي دفعت بأعيان الإصلاح إلى (إصلاح التاريخ) إلى جانب إصلاح العقيدة والمجتمع. وعلى رأس هؤلاء الشيخ مبارك الميلي. فقد حكى أنه لم يكن قد درس التاريخ صغيرا ولا كبيرا، ولكنه كان مهتما بتراجم الماضين وتاريخ صدر الإسلام والتاريخ الحديث، فقرأ واستوعب، ورأى كيف زيف الفرنسيون تاريخ بلاده وأثروا بذلك على عقول فئة من الجزائريين كان يعرفها ويختلط بها، وكانت هذه الفئة تنكر أن للجزائر تاريخا جديرا بالدراسة والإطلاع، فعزم على كتابة تاريخ لوطنه يسد به الفراغ في انتظار ظهور مؤرخين أكفاء. ومن يقرأ ¬

_ (¬1) انظر فقرة العرائض من الحركة الوطنية، ج 1.

مقدمات كتابه (تاريخ الجزائر في القديم والحديث) سيجده مركزأ كثيرا على ذلك الدافع. ونعني به الجهل بالتاريخ الوطني مضافا إليه التنكر له أيضا والقدح فيه. وسنتناول كتابه في حينه. وفي اعتقادنا أن الميلي كتب تاريخا هو في الواقع درس في السياسة والوطنية وجزء من مهمته كمرشد وواعظ ومدرس في مدرسة الإصلاح. ويبدو لنا أن الذين تلقوا عليه الدروس العامة كانوا أيضا يتلقون عليه دروس الوطنية لأن أفكاره في دروسه هي أفكاره في كتابه. ودعك ممن قال عن هذا النوع من الكتابات إنها (دعاية) وعمل سياسي، بينما سكت هذا القائل عن كتابات ايميل غوتييه (العهود المظلمة في بلاد المغرب)، وربما اعتبرها في منتهى الموضوعية (¬1). إن الاعتماد على المراجع ونقد الأعمال المتقدمة وذكر محتوى الكتاب وغير ذلك من تقنيات البحث لم تكن جديدة على مؤرخي الجزائر. وكان الذين تناولوا التاريخ خلال القرن التاسع عشر قد عمدوا إلى ذلك بصفة عامة، ما عدا ربما نقد الماضين. كما أن مؤرخي هذه الحقبة كانوا يبدأون من التواريخ الغابرة، وأحيانا من سيرة الأنبياء والأمم المتمدنة. ومثال ذلك الكتاب المنسوب إلى الأمير عبد القادر والذي حرره أثناء سجنه بفرنسا. ولكن (اللمحة) التاريخية التي كتبها حمدان خوجة سنة 1833 لم يرجع فيها إلا إلى تواريخ العهد العثماني وميزاته. وتقنيات البحث الأوروبي ظهرت في أعمال الذين اتصلوا بالمستشرقين وتعلموا منهم. ونخص بالذكر ابن أبي شنب وبوليفة ومن جاء بعدهما. الأول ظهر عليه ذلك في دراساته وتحقيقاته. ومن ذلك رحلة الورتلاني، والبستان لابن مريم، فقد استعمل فيهما تقنيات البحث من فهرسة ومقابلة والرجوع إلى النسخ الأخرى. ولكن كتاب التراجم الذي أصدره أبو القاسم الحفناوي في بداية هذا القرن لم يظهر عليه التأثر بالأوروبيين رغم اختلاط ¬

_ (¬1) نشير بذلك إلى ما كتبه جوزيف ديبارمي على إثر صدور كتاب الميلي وكتاب المدني. وقد سار سعد الدين بن شنب على منوال ديبارمي أيضا، كما سنرى.

المؤلف بهم والعمل معهم سنوات طويلة، كما شهد على ذلك بنفسه حين قال إنه ظل في رفقة آرنو قرابة أربعين سنة. أما بوليفة فقد ظهر عليه التأثر بالأوروبيين في كتابه (جرجرة عبر التاريخ) واستفاد من تجاربهم في البحث واستخدام المصادر والنقد وما إلى ذلك. ولكن معاصره أبا يعلي الزواوي لم يفعل مثله في كتابه (تاريخ الزواوة)، فقد ظل فيه على الطريقة القديمة رغم أنه رجع إلى المراجع العديدة وانتقد بعضها. فقد كان أبو يعلي الزواوي من الذين ربطوا التاريخ بالوعي القومي وبالجنس (العرق) ونهضة الشعوب، وقد يكون الزواوي رائدا في ذلك. فمشروع كتابه عن الزواوة كتبه سنة 1912، وظل كما قال عشر سنوات يعمل على استيعاب معنى التاريخ وعلاقته باليقظة والماضي والأمجاد. فرأى أن الفرنسيين والإنكليز لم يتقدموا إلا بعد دراسة التاريخ الوطني. ورأى أن الشعوب المناهضة هي التي فهمت تاريخها ودرسته وحافظت عليه. فعزم على كتابة كتاب يكون رائدا أيضا في هذه الفكرة. ونحن نجده يقول بذلك عن نفسه. وقد عاب أبو يعلي من لا يدرس التاريخ ويتعظ به ويعمل بما جاء فيه، ومن ينظر إلى التاريخ على أنه أخبار وحكايات أو شكك في فائدته. فقال: إن قوما ظنوه خبرا يروى (تخشى آفته). وقال آخرون، فيما روي، إن التاريخ هو (أسطورة الأباطيل) يجب الابتعاد عنه والعقيدة فيه. بينما هناك من يذهب إلى أن التاريخ هو خير العبر لأنه هو (ديوان المبتدأ والخبر). وهذا هو رأي أبي يعلى الذي يبدو أنه استعاره من تاريخ ابن خلدون، أو من عنوان كتابه على الأقل. وأكد أبو يعلي أن (القرآن نفسه تاريخ وعبر). ثم أخذ يعرف التاريخ تعاريف عامة وعاطفية، مثل إنه (حياة الأمم الذي يحملها على المطالبة بمجد الغابرين ... (ولعل في ذلك ردا على الفرنسيين الذين طمسوا تاريخ الجزائر، ومنه تاريخ الزواوة). ويخبرنا أبو يعلي أن الفرنج (ولم يقل الفرنسيين) قد عرفوا التاريخ وفضله فدونوه، ووضعوا له الأسس والأصول. ومن الدول التي أحياها التاريخ بعد الحرب العالمية الأولى دولة بولونيا

(بولندا) وغيرها، في نظره. وعاب على قومه وعلماء المسلمين عامة إهمالهم للتاريخ حتى أنهم إذا جادلوا علماء أوروبا في التاريخ عجزوا. ومن المهم جدا هنا اان كتاب الزواوي - خلافا للمشروع الذي سبقه - قد تحدث عن نتائج الحرب العالمية الأولى في العالم العربي. ولكي يقنع قومه بالتحولات التي طرأت على العالم الإسلامي قال إن هذا العالم قد مر من الجاهلية والوثنية إلى الفتوحات، وغيرها - ولعله يريد أن يصل إلى الاحتلال وكونه مرحلة فقط في هذا التطور التاريخي -. وقد أعلن الزواوي أن الهدف من كتابه هو تنوير الجيل الجديد حتى يكون على بصيرة بمسيرة سلفه، وليتعلموا ما فعل الآباء والأجداد، ويقتدوا بالأمجاد. وأشار إلى أن الجيل الذي خاطبه قد يأخذ ببعض القديم وبعض الجديد. وكان همه الرئيسي أن (أنفخ فيهم روحا قوية، وأبعث منهم ذوي همم علية، وأهدي إليهم هذا الكتاب المستطاب ...) (¬1). وهكذا يتضح أن أبا يعلي قد تحول خلال عشر سنوات من التاريخ العرقي (بالنظر إلى فكرة الآرية وطهارة الدم) إلى التاريخ الجهوي، ومن هذا إلى مبدإ التاريخ العام، أو من الطائفة إلى الأمة، وكم للإنسان من تقلبات وأحوال!. والميلي الذي أهمه التاريخ كثيرا عندما رأى قومه وقد أهملوه ورأى الغربيين وقد اتقنوه بدراسة الآثار والاقتصاد ونحوه، قد عرف التاريخ بأنه وسيلة لمعرفة (سنة الكون وطبيعة العمران) وسير الأبطال والأنبياء والأولياء والسياسيين. ثم أكد على ذلك بقوله إن (التاريخ مرآة الغابر ومرقاة الحاضر ... ودليل وجود الأمم، وديوان عزها، ومبعث شعورها، وسبيل اتحادها وسلم رقيها) يدرسه الشباب فلا تبتلع قومية أخرى قوميتهم، وأدركوا ما لآبائهم من الأمجاد والشرف) (¬2). ومن جهته عرف المدني التاريخ بأنه (عرض وتحليل وتعليل وحكم). ¬

_ (¬1) أبو يعلى الزواوي (تاريخ الزواوة)، الديباجة. دمشق 1924. (¬2) مقدمة الجزء الأول، ط 1، 1929.

وقال عن المؤرخ بأنه (حاكم نزيه حر الضمير، يدرس الوثائق والمستندات، ويستخرج الحقائق من بين النصوص، ويستمع بإمعان إلى ما يقوله هؤلاء وما يقوله هؤلاء، فإذا أسفر أمامه وجه الحق ناصعا، أصدر حكمه عادلا، لا عاطفة ولا رياء ولا محاباة) (¬1). وهكذا يظهر أن التغيير الهام في مفهوم التاريخ وتقنياته قد ظهر مع نهاية الحرب العالمية الأولى، وكان ذلك مرتبطا بظهور الحركة الاصلاحية من جهة والحركة الوطنية (المطالب السياسية) من جهة أخرى. فكانت جهود ابن باديس في الأولى وجهود الأمير خالد في الثانية هي التي نبهت إلى ميلاد المفهوم الجديد للتاريخ. ومن نتاج ذلك العهد: تاريخ الميلي وتاريخ المدني ومن جاء بعدهما. والجدير بالذكر أن ذلك التغيير كان مرتبطا أيضا بالظاهرة التاريخية في المغرب العربي عامة. فالمدني مثلا كان نتاج حركة التاريخ في تونس، وهي أكثر تطورا مما هي عليه في الجزائر، منذ ابن أبي الضياف وخير الدين التونسي ومدرسة الشبان التونسيين. وكان التاريخ الإسلامي والعربي والسيرة النبوية والفتوحات تدرس في كل من القرويين والزيتونة. وكان لقاء الطلبة المغاربة دوريا في فرنسا وعواصم المغرب العربي خلال الثلاثينات قد عمق فكرة التاريخ المشترك، بالإضافة إلى الاهتمام بتاريخ كل قطر. ومن يرجع إلى محاضر تلك اللقاءات سيجد أن الاهتمام بالتاريخ في المدارس وضرورة تدريس التاريخ الإسلامي والعربي كان من بين مطالب المجتمعين (¬2). وقد ارتبط أيضا الاهتمام بالتاريخ القديم للمنطقة بالمستقبل السياسي لها. ففي نادي جمعية الطلبة المسلمين الشمال إفريقيين بفرنسا، ألقى السيد شريف ساحلي محاضرة بعنوان (مقاومة الوطنيين بالشمال الإفريقي للاستعمار ¬

_ (¬1) راجعنا كتابه (حرب الثلاثمائة سنة بين الجزائر وأسبانيا)، في أبحاث وآراء، ج 1/ 347، ط. 3. (¬2) انظر الحركة الوطنية، ج 3. وكذلك رسالة الباحث محمد بلقاسم عن (الاتحاد الوحدوي في المغرب العربي)، معهد التاريخ، الجزائر.

الروماني). وقالت جريدة (البصائر) التي نشرت الخبر عندئذ إنه اختار موضوعا يمثل العلاقة المتينة بين الطالب وتاريخه، لأن ذلك يظهر سيرة السلف الصالح الذي قام بواجب الجهاد ضد الاستعمار الغشوم. ولا شك أن ذلك إسقاط للماضي على الحاضر. وقد تحدث الشريف ساحلي عن (الأمة المغربية) - المغاربية - ورد على كل من كان ينفي وجود شعور وطني مغاربي، وأثبت وجود الوطنية المغاربية بحديثه عن يوغرطة وباكوس (¬1). ويجب ألا يفهم من حديثنا هذا أن تطور مفهوم التاريخ كان من جهة الوطنية والمذهب السياسي فقط، فنحن نتحدث عن ظاهرة عامة في الواقع، تشمل استخدام المراجع بطريقة نقدية وتصنيفية، واستخدام المراجع الأوروبية والرد على بعضها، ونقد المراجع العربية القديمة، والرجوع إلى المخطوطات والوثائق، والنقوش والآثار ومقابلة الآراء ببعضها، وقبول الحكم إذا كان صادقا ولازما ولو كان ضد النفس، بالإضافة إلى تقنيات البحث الجديدة من تعاليق وفهرسة وتبويب وصور وإحصاءات. فكل ذلك يدخل في ظاهرة التطور المشار إليها. وقد عانى التاريخ من ضعف شديد لم يكن ذاتيا، ولكنه أثر عليه مع ذلك. ونلخص جوانب الضعف فيما يلي: 1 - تغييب تدريس التاريخ الجزائري والإسلامي في المدارس الرسمية، مما تسبب في انقطاع المتعلم عن المراجع والبحوث والآراء حول الكتابة التاريخية. ومنذ 1880 أجبر بعض التلاميذ على دراسة تاريخ وجغرافية فرنسا فقط، وكان هؤلاء التلاميذ، وكذلك زملاؤهم في المدارس الابتدائية يرددون مع التلاميذ الفرنسيين أن أصول الجزائريين فرنسية (بلاد الغال). أما في الزوايا التي بقيت مفتوحة في العهد الاستعماري فلم يسمح فيها بتدريس التاريخ الإسلامي ولا الجزائري ولا السيرة النبوية والغزوات. ¬

_ (¬1) البصائر عدد 106، 2 إبريل 1938. وكانت المحاضرة بتاريخ 14 فبراير من نفس العام.

وكانت المواد المسموح بها هي الفقه والنحو والتوحيد والأدب. 2 - استيلاء ضباط المكاتب العربية والمستشرقين على المخطوطات التاريخية واستثمارها فيما يخصهم ثم تضييعها بعد استلافها من أصحابها تحت إغراءات وتهديدات مقنعة. وبذلك فقد تاريخ الأشراف والمدن والعائلات الكبيرة والوقائع. وكان ذلك من أسباب شكوى المؤرخ عندما شعر بواجبه في كتابة تاريخ بلاده. وقد حمل عدد من الفرنسيين الذين ذكرناهم مخطوطات جزائرية في التاريخ إلى بلادهم بعد انتهاء إقامتهم، ولا نعرف الآن مصيرها. 3 - بدراستنا لأحوال المخطوطات عرفنا أن كثيرا منها ضاع بطرق مختلفة، ومنها مخطوطات تاريخية هامة، فمنها ما جمعه وحمله أدريان بيربروجر إلى العاصمة من أبرز المدن بعد الحملات العسكرية الفرنسية، وكون منه نواة المكتبة الوطنية التي كانت في الواقع مكتبة فرنسية لخدمة الاستشراق والإدارة الاستعمارية. ومن جهة أخرى فإن مكتبات كاملة قد اختفت مثل مكتبة الجامع الكبير بالعاصمة التي كانت في العهد العثماني من أغنى المكتبات (¬1)، أو بعثرت ثم بيعت كما يباع ورق العطارين، مثل مكتبة الفكون في قسنطينة التي كان يضرب بها المثل في الغنى. وكانت معرفة العربية والفرنسية من عوامل تطور الكتابة التاريخية فقد استثمر المؤرخ الجزائري الجديد معرفته للفرنسية فرجع إلى مصادر مختلفة واتسعت رؤيته وشحذت آراؤه وأفكاره بالآراء الأجنبية التي كانت أحيانا مخالفة لما كان متداولا أو معروفا من نظريات، مثل أصول السكان والوحدة الوطنية والدين الإسلامي والوجود الاستعماري والنمو الاقتصادي. وهكذا لاحظنا أن معظم الذين ألفوا في التاريخ خلال القرن العشرين كانوا يعرفون الفرنسية إلى جانب العربية، مثل ابن أبي شنب وبوليفة، والحفناوي، والساحلي والمدني، من الجيل الذي نتناوله. ولعل الاستثناء هو الشيخ ¬

_ (¬1) انظر التاريخ الثقافي، ج 1، (حول المصادر). انظر التاريخ الثقافي، ج 1، (حول المصادر).

سيرة نبوية وتواريخ عامة

الميلي الذي اعترف أنه اعتمد على تلاميذه وأصدقائه للوصول إلى المراجع الفرنسية. أما الإنكليزية وغيرها من اللغات الأوروبية والشرقية والتي لها صلة بتاريخ الجزائر، فلا نعلم أن أحدا قد استفاد منها في تأليفه، عدا ربما ابن أبي شنب الذي قيل إنه كان يعرف عددا من اللغات، بما فيها التركية والفرنسية. وكان خوجة يعرف التركية، وكذلك أحمد الجزائري صاحب رسالة (كيف دخل الفرنسيون الجزائر). ويغلب على الظن أن البعض ممن كانوا متصلين بالمخزن، مثل مسلم بن عبد القادر، كانوا يعرفون التركية (العثمانية) أيضا. سيرة نبوية وتواريخ عامة تشتمل هذه الفقرة على المؤلفات المنسوبة إلى أصحابها، وهي جميعا مؤلفات تعتبر خارجة عن تاريخ الجزائر، غير أن مؤلفيها جزائريون بالميلاد أو بالوفاة أو بالنسبة الأصلية (¬1). وهي مؤلفات قليلة العدد، وتعتني عادة بتاريخ الإسلام والعرب والشعوب الأخرى قديما وحديثا. وهناك مؤلفات في السيرة النبوية والبلدان الإسلامية مثل تونس والمغرب، ثم صقلية وفرنسا، رغم أن فرنسا غير إسلامية. وقد لاحظنا أن بعض هذه التآليف كان خاصا بأحد الموضوعات المذكورة، بينما يكتفي المؤلف أحيانا بفصل أو نحوه من كتابه اخير الجزائر. وإليك الآن هذه المؤلفات: 1 - شمائل الرسول ومعجزاته، تأليف أحمد بن المبارك المعروف بالعطار القسنطيني. وقد تناولنا حياة المؤلف في غير هذا المكان، وقال (دورنون) الفرنسي عن هذا الكتاب إنه يقع في جزئين وإن عنوانه هو (سلم الوصول في الصلاة على الرسول) (¬2). 2 - تقاييد في شمائل المصطفى، تأليف أبي حامد المشرفي. ¬

_ (¬1) تحدثنا هنا عن المؤلفات، أما التحقيقات فانظرها في فصل اللغة والنثر. (¬2) تعريف الخلف، 2/ 78، ودورنون: المجلة الإفريقية 1913، ص 265، وعن حياة الشيخ العطار انظر لاحقا.

وحين ذكره قال إنه لم يكمل بعد. وقد تناولنا حياة المشرفي في عدة أماكن (¬1). 3 - عقود الدرر في تلخيص سيرة سيد البشر، ألفه محمد بن الأمير عبد القادر. وقد بناه على مقدمة وستة عقود وخاتمة. وذكر أنه قد ظهر له أن يلخص السيرة النبوية (بعبارة سهلة، يدركها المبتدئ من أول وهلة). وكان المؤلف قام بتأليف مدرسي للمبتدئين حين أخذته الغيرة من جهل الشباب بتاريخ الإسلام ولا سيما سيرة الرسول. وضمت المقدمة أهمية حياة الرسول عند الله والناس وفي الدنيا والآخرة. أما العقود (الفصول؟) فهي: في ابتداء خلقه إلى الهجرة، والهجرة وما حدث في أيامها، وفي مكاتبات الرسول إلى الملوك والوفود التي وفدت عليه، وفي حليته وأزواجه وأسمائه، الخ. وفي حلفائه وأمائه وخلفائه، وفي أخلاقه وأحواله. وأما الخاتمة فقد تناول فيها مرضه ووفاته (¬2). 4 - حياة محمد (صلى الله عليه وسلم) م ن تأليف سليمان بن إبراهيم وناصر الدين ديني، وهذا هو الفنان الفرنسي، إيتيان ديني، الذي اعتنق الإسلام على يد الشيخ محمد بن بلقاسم، مؤسس زاوية الهامل، قرب بوسعادة، في آخر القرن الماضي. وقد أدى ديني فريضة الحج، وقام الشيخ عبد الحليم محمود المصري بترجمة الكتاب عن الفرنسية وعلق عليه. وقد اطلعنا عليه، وقال بعض النقاد الفرنسيين إن الكتاب قد تناول الحياة العربية والإسلامية، ولم يرجع مؤلفاه إلى أعمال المستشرقين عن الإسلام وحياة الرسول، لأنهم طبقوا ما عرف بالطريقة النقدية وتناولوا حياة محمد عن بعد. وفي نظر ابن إبراهيم وديني أن هذه الطريقة قد أدت إلى تناقض وفوضى في فهم السيرة النبوية نتيجة آراء المستشرقين: لامانس ومرغليوث ودوزي وكزنوفا. وتفاديا لكل ¬

_ (¬1) انظر أبحاث وآراء، ج 3. (¬2) ط. اسطانبول، المطبعة العصرية، 1331 برخصة من نظارة المعارف (أي التربية والتعليم). والنسخة التي اطلعنا عليها منه كانت في ملك السيد رشيد (أو سعيد؟) طباع سنة 1333. وهي حاليا موجودة في مكتبة جامعة برنستون.

ذلك لجأ المؤلفان إلى سيرة ابن هشام مباشرة، وكذلك ابن سعد لقربهما من عهد الرسالة. فكان اعتمادهما على النصوص الإسلامية لأنها أولى من طرق البحث الجديدة. وقد ناقش المؤلفان دفاع لامانس وكزنوفا عن المشركين، مثل أبي جهل، ونقدهما لسيرة الخلفاء الراشدين والسيدة فاطمة. ومن رأي شارل سان كالبر، الذي راجع كتاب (حياة محمد)، أن المؤلفين قد أظهرا ضحالة وتناقض آراء المستشرقين الذين بدأوا هجومهم على محمد والإسلام منذ الثمانينات من القرن الماضي (¬1). 5 - ذكر من حضر بدرا من الصحابة وأنسابهم، نظمه الشيخ علي الونيسي، وهو من علماء قسنطينة ومن أهل القرن 13/ 19 (¬2). 6 - الشرق كما يراه الغرب (¬3)، تأليف ناصر الدين ديني. 7 - ذخيرة الأواخر والأول، لأبي حامد المشرفي، خصص فيه الأبواب الأربعة الأولى للتاريخ العام، من آدم إلى الإسلام، ثم إلى عصر المؤلف نفسه (وهو الباب الخامس). أما الباب السادس فقد خصصه لأخبار الدولة العلوية (الأشراف) بالمغرب الأقصى إلى أيام السلطان الحسن الأول، وهو أيضا عصر المؤلف (¬4). 8 - زبدة التاريخ وزهرة الشماريخ، تأليف محمد بن الأعرج السليماني، بعد المقدمة خصص الجزء الأول منه لتاريخ الإسلام والفتح ¬

_ (¬1) شارل سان كالبر، المجلة الجغرافية للجزائر وشمال افريقية، SGAAN، 1922، ص 289 - 293. وكان أحمد رضا حوحو قد راجع كتاب (حياة محمد) في مجلة المنهل السعودية أثناء هجرته إلى الحجاز. (¬2) تعريف الخلف، 2/ 286. توفي الونيسي عن أكثر من 90 سنة. ولعله هو والد الشيخ حمدان الونيسي، شيخ ان باديس. (¬3) ط. باريس 1922. (¬4) محمد المنوني، مجلة كلية الآداب، جامعة محمد الخامس، العدد 13.

بالمغرب، كما تناول تاريخ مصر وصقلية وتونس وليبيا والأندلس. 9 - اللسان المعرب عن تهافت الأجانب حول المغرب، تأليف ابن الأعرج السابق. وقد تناول في القسم الأول المغرب الأقصى والأندلس، وفي القسم الثالث أيضا تناول صراع المغرب مع الأجانب إلى عصر المؤلف نفسه. أما القسم الرابع فقد تناول فيه، حسب المنوني، المعارف العصرية والحريات السياسية والمدنية، وقد أخذ منه ونوه به أيضا. الهاشمي بن بكار (¬1). وفي هذا الكتاب معلومات غزيرة عن الجزائر والعائلات المهاجرة منها إلى المغرب. 10 - تاريخ الدولة العلوية لأبي حامد المشرفي. وهو في تاريخ الأشراف العلويين بالمغرب. وقد اعتبره بعضهم من نوادر الكتب. 11 - تاريخ الأمير عبد القادر، وهو كتاب نسبه البعض إلى الأمير، ونسبه آخرون إلى صهره ابن التهامي، أو هو مشترك بينهما. ويهمنا منه هنا الأبواب الثاني والثالث والخامس. فهي أبواب تشكل قسما كبيرا منه وتناول التاريخ العام، ما قبل الإسلام وتاريخ المسلمين وغيرهم. وهو مكتوب في حوالي منتصف القرن الماضي (1848 - 49) ويبين مفهوم التاريخ السائد عندئذ. وقد تناوله المحققون أخيرا (¬2). 12 - المسلمون في جزيرة صقلية وجنوب إيطاليا، تأليف أحمد توفيق المدني. (انظر حياته لاحقة). 13 - قرطاجنة في أربعة عصور، للمدني أيضا. 14 - كتاب في التاريخ للسمعوني، وهو صالح السمعوني والد الشيخ طاهر الجزائري المعروف. وقد وصل فيه إلى سنة 1260، أي عصر المؤلف. وقيل إنه استخدم فيه الإشارات (الرموز؟) دون أن نعرف لماذا فعل ¬

_ (¬1) المنوني (المصادر العربية)، 2/ 195، والهاشمي بن بكار (كتاب مجموع النسب)، ص 359. أيضا مراسلة من علي أمقران، ديسمبر 1994. (¬2) انظر فقرة المذكرات.

ذلك، وما هي؟ ولا نعلم الآن موضوعه (¬1). 15 - حادثة دمشق، كتاب وضعه سليم السمعوني، من أحفاد المهاجرين إلى الشام، وهو من أسرة السمعوني المذكورة. وسجل فيه الحادثة التي جرت في دمشق خلال شهر رمضان، وكادت تؤدي بحياة رشيد رضا (في خلافه مع صالح الشريف التونسي) سنة 1909. وقيل إن الكتاب مطبوع في مصر. 16 - التاريخ المتدارك في أخبار جان دارك (تاريخ فرنسا)، وضعه أحمد بن الفكون. وكان قد نشره فصولا في جريدة المبشر الرسمية، ثم طبعه في كتاب. (انظر حياة الفكون في فصل الترجمة). 17 - تواريخ موريطانيا السنيغالية، نشره إسماعيل حامد، وهو من وضع الشيخ ناصر الدين الديماني. فقد ترجمه إسماعيل حامد وزاد عليه تعاليق هامة، وقد أجازته ونوهت به حكومة فرنسا في أفريقية الغربية. وكتب له إسماعيل حامد مدخلا عن أصل المرابطين وتاريخ المنطقة مستعينا بعدة مصادر أشار إليها، ويتناول الكتاب أحداث القرن 16 و 17. وكان المؤلف ناصر الدين، إماما، وكانت له حروب ترجع إلى القرن 17. وتعرض إسماعيل حامد إلى جغرافية موريطانيا وحياتها الاجتماعية والموارد الطبيعية فيها وكذلك التجارة الصحراوية والحالة الفكرية لأهل البلاد، ودرس حياة الزوايا والمرابطين بالناحية معتمدا أيضا على كتاب (شيم الزوايا) (¬2). 18 - تاريخ المغرب الأقصى، تأليف اسماعيل حامد أيضا. باريس، 1923. 19 - السودان في القرن السادس عشر، بحث مترجم نشره محمد بن رحال واستخرجه من كتاب (نزهة الحادي) للإفراني، وهو عن حياة أهل السودان القديم في عهد الحكم المغربي (¬3). ¬

_ (¬1) عادل نويهض (معجم أعلام الجزائر) 79. (¬2) إسماعيل حامد (تواريخ موريطانيا السنيغالية)، ط. باريس 1911. انظر حياة اسماعيل حامد. (¬3) انظر نشرة الجمعية الجغرافية لوهران، 1887، ص 320 - 331.

الأنساب والأشراف

20 - رسالة يوغرطة، للشريف الساحلي، الجزائر 1947. وهو من المؤلفات التي وظفت الماضي من أجل الحاضر واستخدمت الرموز التاريخية لدفع الحركة الوطنية. الأنساب والأشراف كانت العناية بالأنساب وحفظها من أبرز سمات المجتمع العربي. وقد ظل الأمر كذلك إلى أواخر القرن الماضي. ويرجع ضعف الاهتمام بها إلى عدة عوامل أبرزها تحطيم كيان المجتمع على يد السلطة الفرنسية بدعوى القضاء على الارستقراطية العربية (والخيام الكبيرة) (¬1). وقد بدأ ذلك مع مطلع الستينات من القرن الماضي ولا سيما منذ التشريع المعروف بقانون الأرض (1863). فقد أدى في النهاية إلى اختفاء العائلات الكبيرة المحافظة على أنسابها وأصولها عن طريق الآباء والشيوخ، حتى أن أحد الحكام العامين (كامبون) قال في آخر القرن إنه لم يبق في الجزائر من العائلات الارستقراطية سوى الهباء. وكانت العائلات تحتفظ بأنسابها في أوراق خاصة وفي شكل أشجار منظمة ومتفرعة أبا عن جد. وكانت كل عائلة تفتخر بشجرتها النسبية الموروثة عن أحد كبارها أو نسابتها. ولا تظهر هذه الأشجار/ الوثيقة سوى عند الحاجة إليها لإضافة مولود جديد أو تسجيل وفاة أو توزيع تركة يحتاج الأمر فيها إلى الرجوع إلى الأصل. وفي ميزاب مثلا يحتفظ القضاة بأشجار النسب لاستعمالها عند التقاضي. يقول العقيد بورا: إن القضاة هناك يحتفظون بأشجار النسب في أماكن ورسائل خاصة. وكانت مكتوبة على جلود الغنم المدبوغة. وقد طلب من قائد الناحية - اسمه بلالو، وكان قد ¬

_ (¬1) الخيام الكبيرة مصطلح استعمله الفرنسيون ليرمزوا به إلى العائلات العربية الكبيرة ذات النفوذ الواسع في الأرياف (البادية) بالخصوص. وقد كتبنا بحثا عنوانه (آخر الأعيان أو نهاية الارستقراطية العربية في الجزائر) في مجلة (المنارة)، جامعة آل البيت، الأردن، عدد تموز، 1997.

تخرج من ثانوية الجزائر الفرنسية - أن يرى ذلك بعينه، فجاءه بنموذج على يد القاضي. وذكر أن من الأشجار النسبية ما يرجع إلى عشرة قرون خلت، وكانت محفوظة في الجلود، وكانت مطوية طيا خاصا وموضوعة في أنابيب من الحديد لحفظها واستعمالها عند الحاجة كمعرفة الأنساب وتقسيم التركات، ونحو ذلك (¬1). وكان هدف الفرنسيين هو القضاء على الأصول العائلية وقطع آثار الماضي بعد أن ثبت لديهم أن معظم الثورات كانت بإيعاز أو بقيادة الأشراف والمرابطين والأجواد، وكل هؤلاء يرجعون في أصولهم إلى أنساب عريقة. ونحن لا نريد أن نقول إن هذه الأنساب صافية كلها وصادقة فيما يدعيه أصحابها. ولكننا نؤكد على أهمية حفظ الأنساب وعلاقة ذلك بردود الفعل ضد الفرنسيين. وقد ثبت لهؤلاء بعد التجربة أن الانتهازيين الجدد، أولئك الذين ليس لهم أصول عائلية، هم الذين أسرعوا في الذوبان في الفرنسيين وقبول نمط عيشهم والخضوع إليهم، خدمة للمصالح المشتركة. ولذلك مال الفرنسيون إلى هؤلاء بعد أن اعتمدوا في أول الأمر (حوالي ثلاثين سنة) على بعض المرابطين والأشراف والأجواد، واستفادوا من سمعتهم ونفوذهم. وبتقادم العهد خيم الجهل بالأنساب ونسج النسيان والغموض خيوطهما على الذاكرة العائلية. وقد مر بنا في غير هذا أن الأجيال الجديدة لم تعد تهتم بالأنساب، وأخذ الفكر الغربي يحل محل الفكر الشرقي لدى طائفة المثقفين بالفرنسية، وانقطع هؤلاء عن أصولهم العائلية - رغم أن بعضهم كان من عائلات معروفة في التاريخ - بحكم جهلهم التام باللغة العربية، والتقاليد وأشجار النسب. وقد عرفنا نحن بعضا من هؤلاء فكانوا يملكون أشجارا نسبية ووثائق عائلية ولكن لا يدركون لها معنى، أو لا يفهمون عنها إلا فكرة غامضة. ¬

_ (¬1) العقيد بورا BURAT (ميزاب وأسرارها) في مجلة الجمعية الجغرافية للجزائر وشمال افريقية SGAAN، 1930، ص 172.

ولكن هذا لا يعني أن الانتساب قد اختفى. فقد وجدنا الانتماء إلى الأشراف قد ازداد اتساعا، نتيجة الفقر والاضطهاد. وأصبح من الشائع في القرن الماضي إن شيوخ الطرق الصوفية وبعض العناصر المعارضة للاحتلال قد لجأت إلى اختلاق أنساب تربطها بالشرف وترجع بها إلى أصول غامضة. ويجب التنبيه إلى أن فكرة الشرف لم تبق مرتبطة بأصول عرقية أو عربية أو الانتساب إلى آل البيت فقط، بل إن هناك عائلات شريفة في الأوساط البربرية سواء كان ذلك عن طريق اختلاط الدماء بالمصاهرات (وهناك البعض يجيزون الشرف من قبل الأب أو من قبل الأم أو من كليهما) أو كان عن طريق دعاوى أخرى كالانتماء إلى أشراف قريش أو بقايا الصحابة الذين نزلوا الجزائر أيام الفتح. وقد ظل الانتماء إلى الأدارسة والحسنيين، والساقية الحمراء والغرب (المغرب) علامة على حفظ الشرف والانتساب إلى آل البيت. أما الأنساب الأخرى القائمة على المجد السياسي والعسكري فقد ظلت متواترة ولكنها تأثرت بالأحداث التي عرفتها البلاد، كما ذكرنا (¬1). وأمام هذه التطورات لم يبق للكتاب موضوعات كثيرة يعالجونها حول الأنساب. فقد اختفى الاستشهاد بكتب نسابة البربر التي كانت المصدر الأساسي لابن خلدون والتي كانت متوفرة على عهد أبي القاسم الزياني أوائل القرن التاسع عشر، مثل تواريخ سليمان بن إسحاق المطماطي، وهاني بن يصدور القومي، وكهلان بن أبي لؤي الأوربي (¬2). ولكن المستشرقين اطلعوا - دون الجزائريين ربما - على أعمال في أنساب بعض الأمراء والعائلات في العصور الإسلامية، مثل تاريخ سعيد العقباني في دولة بني زيان، وتاريخ ابن مرزوق المعروف بالمسند الصحيح الذي تناول فيه حياة ¬

_ (¬1) انظر فقرة آخر الأعيان في الحركة الوطنية، وكذلك بحثنا (آخر الأعيان أو نهاية الارستقراطية العربية بالجزائر). (¬2) عالجها المستشرق رينيه باصيه في (الأرشيف البربري) تحت عنوان (النسابة البربر)، المجلد 1، ص 1 - 13. انظر مولاي بلحميسي (الجزائر من خلال رحلات المغاربة)، 19، ص 160 - 161.

السلطان أبي الحسن المريني. أما كتاب السلطان أبي حمو موسى المسمى واسطة السلوك، فقد نشر بتونس سنة 1862، ولا شك أن بعض الجزائريين قد اطلعوا عليه، كما اطلعوا على تاريخ ابن خلدون بعد ترجمته إلى الفرنسية في الخمسينات (¬1). وكذلك نشرت جريدة المبشر كتاب (عجائب الأسفار) لأبي راس، في حلقات، خلال الثمانينات من القرن الماضي. وقام بعض ضباط المكاتب العربية بترجمة ونشر بعض كتب الأنساب من أشراف غريس وغيرهم. وهكذا توفرت مادة طيبة عن الأنساب للمهتمين بها، ولكن المعنيين بالأمر كانوا في أغلب الأحيان غائبين عن هذه المنشورات. ولا نريد أن نؤرخ هنا لأنساب القبائل الرئيسية في الجزائر، وهي في الواقع جزء من الخريطة العامة لسكان المغرب العربي منذ أقدم العصور. ورغم ذكر القبائل البربرية والعربية فإن الدماء قد امتزجت بالمصاهرات واختلطت الأنساب ببعضها، وأصبح من الصعب تمييز هذه القبيلة عن الأخرى في الواقع. إننا لا نجد تاريخا لأنساب هوارة وكتامة وزناتة وصنهاجة وغيرها في العصر الحديث. وكان الفرنسيون يكررون ما وجدوه في الكتب القديمة من أن الشاوية والحراكته وأولاد خيار من هوارة، وإن سكان منطقة البابور وأجزاء من الحضنة يرجعون إلى كتامة وأنهم قد تعربوا بالإسلام، وإن أهل زواوة قد تفرقوا في خدمة الممالك التي ظهرت مثل أشير وقلعة بني حماد. أما زناتة فقد انتشرت من وسط الصحراء إلى المغرب الأقصى، وقد تعربوا أيضا بالإسلام. وفي الجنوب نجد تارقة ولمطة حيث فروعها في منطقة الهقار. ومن تارقة كان مسلم بن عبد القادر، وهو كاتب لآخر بايات وهران. وفي الجنوب أيضا ينسبون إلى (التارقي) طبقا للذاكرة التاريخية وليس إلى الطوارق، كما يظهر من الكلمة التي فسرها بعضهم بأنها تعني الطوارق الذين يقطعون الطرق أو التوارك الذين تركوا الوثنية ودخلوا في الإسلام. ولكن أين المؤلفات التي تحدثنا عن أنساب هؤلاء وأولئك الآن؟. ¬

_ (¬1) انظر تعليق محمد الشاذلي على النسخة المهداة إليه من تاريخ ابن خلدون، في كتابنا (القاضي الأديب).

وقد عرفنا في فصل سابق (¬1)، أن معظم النسابة المسلمين وكذلك التقاليد الشعبية (الشفوية) تنسب البربر إلى أصول عربية، سواء بالأصالة أو بطريق الولاء (¬2). وهناك من ينسبهم إلى قبائل حمير اليمنية، ومن ينسبهم إلى بني كنعان. ولكن ابن خلدون فصل الكلام في ذلك وأوضح أن هناك قبائل بربرية لها ميزاتها وأشرافها، وأن البربر يشتركون مع العرب في أمور ويختلفون عنهم في أخرى. وكان ابن خلدون قد اعتمد على النسابة من البربر، سواء كانت آراؤهم مدونة أو شفوية. وخاض بعض الفرنسيين في مسألة النسب العربي والبربري بهدف تركيز احتلالهم في الجزائر وليس بهدف علمي أو تاريخي. ومن الذين فعلوا ذلك العقيد كاريت والدكتور وارنييه والسياسي صابتييه. أما المؤرخ ستيفان قزال فقد كان مختلفا عنهم إذ حاول أن يدرس موضوع النسب البربري بتجرد. إلا أن إيميل غوتييه حاول الإساءة إلى التاريخ الإسلامي (العربي والبربري) متفقا في ذلك مع معاصره ألفريد بيل. وهكذا اضطربت الأقوال في الأنساب البربرية بدل أن تتضح. وقد ظل النسابة والمؤرخون المحدثون على الرأي القديم، وهو أن البربر من العرب العاربة أو من الشعوب التي تدامجت مع العرب حضاريا ونسبيا حتى لم يعد المرء يفرق بينهما إلا ببعض اللهجات والملامح. يقول الشيخ إبراهيم أطفيش: البربر في الحقيقة من الحميريين رغم اختلاف المؤرخين في أصلهم، إنهم من الموجات المهاجرة من اليمن بعد سيل العرم، وكانا هم يقولون عن أنفسهم إنهم من الحميريين (وهذا الذي يجب أن يعتبر) (¬3). وجاء في كتاب (منابع الحضارة العالمية) لعبد الرحمن ¬

_ (¬1) انظر فصل مذاهب وتيارات. (¬2) بالإضافة إلى المؤلفات التاريخية الإسلامية المعروفة، مثل المسعودي وابن حزم، انظر الروايات المنسوبة إلى كبار أهل زواوة سنة 1857 في المجلة الأفريقية، 1858. وقد ترجم النص السيد محمد واشق، ونشر في جريدة (الشعب) على ما أذكر أوائل الثمانينات. فقد كان معظمهم يتقدون أن أصولهم عربية. (¬3) إبراهيم أطفيش (كتاب الوضع)، ط 1، القاهرة، دون تاريخ ص 4 - 5، والكتاب =

ابن الحفاف أن أصل القبائل (الزواوة) فينيقيون - ساميون. ونحن نجد أقوالا شبيهة بهذه لدى الشيوخ: الإبراهيمي، وأبي يعلى الزواوي والفضيل الورتلاني. أما المصلحون كابن باديس، والسياسيون فقد اهتموا بالتركيبة الحاضرة للشعب الجزائري بقطع النظر عن الأنساب البعيدة وحكموا أن (الشعب) قد تكون عبر الزمن واندمج في بعضه وتلاحم وأصبح عجينة واحدة وعروة وثقى لا انفصام لها. وقد قال ابن باديس قولته الشهيرة: (إن ما وحدته يد الله لا تفرقه يد الشيطان)، وفي هذا المعنى قال الشاعر محمد العيد: (فصار ابن مازيغ أخا لابن وائل). ولنضرب مثلا على هذا التلاحم التاريخي بقبيلة نزليوة القاطنة بذراع الميزان. فقد كانت واحدة ولكنها تتألف من فروع هي: أولاد عيسى الذين قدموا من الصحراء، والقيروان وهم من بني فراوسن، وأولاد سالم ثم أولاد راشد وقد قدموا من ونوغة، وأولاد الشائب وهم مهاجرون من أولاد عبد الله القاطنين بزازوة في الصحراء، وأولاد يخلف، وهم مرابطون من بني خلفون. وكانت النزليوة من قبائل المخزن في العهد العثماني، ثم تولى عليها الحاج محمد بن زعموم (زعمون) هي وقبيلة فليسة (¬1)، وقل مثل ذلك ربما في قبيلة يسر والثعالبة والعمراوة وغيرها في المنطقة. ويمكننا أن ننقل هذه الخريطة إلى أي جزء آخر من القطر الجزائري لنعرف كيف تدامج السكان واختلطت الدماء والأنساب (¬2)، ولكن الجيل الحاضر يبدو أنه نسي هذه الظاهرة. وفي الجزائر اليوم قبائل أخرى قد تكون نسيت أنسابها رغم أنها كانت إلى منتصف القرن الماضي حافظة لها ومعتزة بها. فأولاد عياد، وبنو قيل، والزراينة، والحرار، والشعانبة يرجعون إلى قبيلة أثبج، وهي مضرية - قيسية. وحميان، والعطاف، والديلم، والناظر، والسحاري، والزقدو، وأولاد نائل كلها ترجع إلى قبيلة زغبة. بينما أولاد يعقوب والذواودة والأرباع والطرود ¬

_ = للجناوني. انظر رأي الطيب بن المختار في نفس الموضوع لاحقا. (¬1) انظر قان (ملاحظات تاريخية عن النزليوة) في المجلة الأفريقية، 1862، ص 424. (¬2) انظر ما كتبه لويس رين عن قبائل سوف فى المجلة الأفريقية، 1899، ص 120.

ينتسبون إلى قبيلة رياح. وهناك قبائل أخرى ترجع إلى القحطانية (أو المعاقل) مثل الأنكاد أو الحدج، وسكان الشلف الأدنى وسكان متيجة (الثعالبة)، كما يرجع بنو مزنى إلى قبيلة بني سليم، وهكذا. وبعض هذه القبائل أو تلك لها أنساب في الشجرة الصوفية وأخرى في الشجرة السياسية. وقد اهتم رجال الطريقة القادرية بسيرة الشيخ عبد القادر الجيلاني الذي تنتسب إليه الطريقة، ولا سيما كتاب العشماوي. واهتم الفرنسيون في عصر دراسة الطرق الصوفية بهذه الشجرة العريقة، فتناول لويس رين ذلك في كتابه (مرابطون وإخوان)، ثم جاء دور ديبون وكوبولاني في آخر القرن (1897). ولم يفت رجال الكنيسة الكاثوليكية أيضا أن يدلوا بدلوهم في هذا الميدان. فقام القس (الأب) جياكو بيتي، وهو من الآباء البيض وكان يقطن ويعمل في ورقلة ويتنقل عبر الصحراء، بترجمة نص كتابين، وهما (كتاب النسب) للعشماوي، وكتاب (العرف العاطر) لعبد السلام القادري (¬1). وقد كانت عائلات كثيرة في الجزائر تذهب إلى أن أصولها قادرية، سواء بالنسب الصوفي أو الشرفي، مثل عائلة الأمير عبد القادر، وعائلات أخرى في بجاية والعاصمة. ومن الجدير بالذكر أن كتاب النسب للعشماوي قد نشره أيضا في وقت لاحق الهاشمي بن بكار ضمن كتابه (مجموع النسب)، وسنشير إليه. ولنذكر الآن بعض المؤلفات التي عالجت موضوع الأنساب خلال العهد الذي ندرسه، وكذلك المؤلفات التي تقف ضد المغالاة في ادعاء الشرف، وردود الفعل. ولا شك أن هذا موضوع شائك عند بعض الناس. غير أننا لا نهتم هنا بغير الجوانب التاريخية (¬2). ¬

_ (¬1) انظر جياكوبيتي (كتاب النسب) المجلة الأفريقية، 1908، في حلقات، انظر أرقام المجلة الآتية: 244، 255، 269. وقد قام المترجم بذلك في الأبيض سيدي الشيخ 1905، وراجع الترجمة في ورقلة بعد ذلك. (¬2) عالج الهواري التواتي في بحث له بعنوان (الاعتزاز بالجدود والنظام الرمزي الشريفي في المغرب الأوسط خلال القرن 17 م (في مجلة (أرابيكة) مجلد 39، سنة 1992، =

1 - كتاب القول الأعم في بيان أنساب قبائل الحشم، تأليف الطيب بن المختار الغريسي. وهو في حجم صغير، ومطبوع (¬1). وكانت نية المؤلف هي بيان أنساب الحشم لأن هناك من خاض فيها وخلط في ذلك وسمى كتابه رسالة على عادة القدماء، (مقتصرا على ما تدعو (إليه) الحاجة من مشاهر القبائل ورؤساء الفضائل وأعيان الأشراف دون الحاشية والأطراف). وقد رتبه على مقدمة وثلاثة فصول، أطولها وأهمها هو الأول. وفي المقدمة بين معنى الحشم في اللغة والمصطلح. فهي في اللغة تعني الحياء أو الغضب، وقال المؤلف إن المعنيين صالحان هنا لأن قبائل الحشم يتميزون بالحياء والغضب أيضا. أما في المصطلح فيعني مطلق الأنصار. وقد كان الحشم يدعون بالرواشد والراشدية، ولكنهم منذ دخلوا في خدمة بني زيان (القرن الثامن الهجري) أصبحوا يسمون بالحشم أي الأنصار. أما لفظ الأشراف فقد انجر إليهم لسكناهم غريس إذ كان سكان غريس يسمون بالأشراف. ويفهم من ذلك أن إطلاق الأشراف على الحشم ليس في الحقيقة ولكن بالتبعية للمكان. ومثلهم في ذلك الزناتيون الذين يجاورون الأشراف ويسكنون غريس ويختلطون بالحشم. وفي الفصل الأول ذكر الطيب بن المختار أشراف غريس، وهو يطلق عليهم كلمة المرابطين، رغم أنه ليس كل مرابط شريفا، ثم ذكر من سماهم الأشراف حقيقة، فمنهم: - أولاد دحو بن زرفة. وهؤلاء أصلهم من الأندلس من بني حمود الذين تولوا الملك هناك، واشتهروا في العهد العثماني وعهد الأمير ¬

_ = ص 1 - 24. وهو بالفرنسية. تناول فيه مجموعة من المؤلفات التي أرخت للأشراف في الناحية الغربية، منها عقد الجمان، للتجيبي، وفتح الرحمان للراشدي، وغيرهما. وأشار الهواري إلى وجود كتاب في التوثيق من تأليف حسن بن محمد العطار، الجزائر (؟)، ذكر فيه أخبارا عن الأشراف. (¬1) طبع مطبعة ابن خلدون، تلمسان، 1961، ضمن كتاب (مجموع النسب) للهاشمي بن بكار، ص 329 - 355.

عبد القادر، ثم خمدت شهرتهم، لأسباب لم يذكرها، وربما يكون من بينها إبعاد (السادة) الأشراف بالتدريج عن النفوذ، كما ذكرنا، بعد قانون الأرض، والتنازع بين أصحاب الشرف وأصحاب الرياسة في معسكر خلال الخمسينات. ومهما كان الأمر فإن من علماء أولاد دحو: عبد القادر بن السنوسي، ومصطفى بن عبد الله. وكان أولاد دحو في تنافس مع أولاد دوبة. - أولاد سيدي عمر بن دوبة، وكانت لهم الرياسة في أولاد ابن دوخة وغيرهم. ومنهم ابن آمنة بن دوخة خال الأمير عبد القادر. - أولاد أحمد بن علي، وجدهم (أحمد) هو أول من استوطن غريس. كان أبوه يسمى سيدي علي بن عيسى، وقد قدم من وطن بني عامر. ومن علمائهم: أحمد بن التهامي والد مصطفى بن التهامي، خليفة الأمير عبد القادر علي معسكر وصهره. - أولاد سيدي محمد بن يحيى، وهم من مغراوة، وكانت لهم الرياسة في أولاد بنفريحة الذين كان فيهم الجاه أكثر من العلم. - المشارف، ويتصل نسب هؤلاء بإدريس، ومنهم عبد القادر المشرفي، صاحب زاوية الكرط بمعسكر، وحفيده ابن عبد الله سقاط (سقط) الذي كان من علماء الوقت، وهاجر إلى المغرب بعد 1843. - مهاجة، وهي متصلة أيضا بإدريس والأشراف. - أولاد سيدي أحمد الورغي (بورغية)، وأصلهم من المغرب الأقصى (أشراف؟). - أولاد سيدي العيد، ومن علمائهم: محمد بن حواء (ولعل منهم الطاهر بن حواء، شاعر الأمير، انظر فصل الشعر). - أولاد سيدي عبد القادر بن المختاري، وهم أدارسة، ومنهم الأمير عبد القادر (وكذلك الطيب بن المختار، المؤلف). وذكر في الفصل الثاني العرب الذين ليسوا أشرافا وإنما سكنوا غريس

أيضا. ومن تعليقاته هنا أن البربر هم الذين قطنوا بلاد المغرب ودافعوا عنها ضد الأمم الأجنبية، قبل العرب. ثم قص قصة افريقش وكيف جاء بالعرب على رأس التبابعة الحميريين وأقام ببلاد المغرب فترة ثم رجع عنها، تاركا وراءه، كما قال المؤلف، قبيلتي كتامة وصنهاجة الحميرتين. وقد اندمجت القبيلتان في البربر وتكلموا لغتهم وتزيوا بزيهم وخدموا ملوكهم، إلى أن لم يبق لكتامة وصنهاجة ذكر في العرب. وبقي البربر هم أسياد بلاد المغرب إلى أن حل به الإسلام فرجحت الكفة للعرب من أجل الدين. وفي هذا الفصل أيضا حديث عن قبيلة قريش وغيرها من العرب والعائلات المتفرعة والتي لعبت دورا في المنطقة. أما الفصل الثالث، وهو قصير جدا، فقد خصصه لقبيلة زناتة أو الموجود منها في غريس والذين اندمجوا في الحشم، وقد استبعد أن تكون زناتة من العرب، ولكنه قال إنها قد اندمجت في البربر. ويعرف الزناتيون من غيرهم بعد استبعاد العناصر الأخرى، فهم ما عدا الأشراف والأجواد والعرب الآخرين (¬1). والطيب بن المختار من أقارب الأمير عبد القادر، وقد ذهب إليه في الشام وزاره في فرنسا سنة 1865، ومدحه بالشعر، وظل على صلة به طيلة حياته، وقد تولى القضاء في الجزائر، ربما بتدخل من الأمير. وظل في القضاء إلى تقاعده سنة 1881، وكان عضوا، في مجلس معسكر خلال الخمسينات، وعضوا في لجنة قاستنبيد في الستينات، وهي لجنة وضعت أسسا لسير القضاء الإسلامي والتدخل في شؤونه وأخذ صلاحيات القضاة المسلمين وإعطائها إلى قضاة الصلح الفرنسيين (¬2). وكان قد درس على ¬

_ (¬1) يذكر الهاشمي بن بكار أنه استلف نسخة (القول الأعم) من خزانة الحاج العربي بن عبد الله شنتوف. (¬2) كريستلو (المحاكم)، ص 52 - 277، ويقول هذا المصدر إن الطيب بن المختار كان متهما بقتل ابن عم له. وكان متزوجة من عائلة بوطالب. وله أخ عمل أيضا في القضاء إلى تقاعده. ويقول كريستلو إن الصلة مع الأمير قد دعمت لأسباب سياسية. =

مصطفى بن التهامي وابن عبد الله سقاط المشرفي، ودرس في القرويين على أبي عبد الله محمد المجاوي (والد عبد القادر المجاوي) الذي هاجر إلى فاس. وكان الطيب بن المختار منافسا لابن عمه حسن بن الشرقي كما كان محمد بن الشرقي معاصرا ومنافسا. للأمير (¬1). وكان محمد هذا عالما ومفتيا بمعسكر زمن الأمير، وكان والد الطيب بن المختار من أعيان العلماء أيضا. 2 - شرح محمد بن الأعرج السليماني على منظومة بغية الطالب في ذكر الكواكب، لعيسى بن موسى التجيني الغريسي. والكواكب هنا هم الأعيان أو السادات (الأشراف) كما سماهم صاحب الشرح. وكان هؤلاء الأعلام قد عاشوا في عصر الناظم أو قريبا منه، وهم مجموعة من العلماء والصلحاء، من أهل غريس والراشدية. وقد عاش الناظم في القرن العاشر الهجري (توفي سنة 962). وهو عمل أقرب إلى التصوف منه إلى التاريخ والأنساب. ولكننا أوردنا الحديث عن الشرح هنا لأن ابن الأعرج اعتمد في شرحه على المؤلفات التي ألفت حول الأشراف بالمنطقة. وقال إنه قام بالشرح لأن والده قد حثه على ذلك، ولأن النظم قد احتوى على مجموعة من (السادات) وقد أطلق على شرحه اسم (تسهيل المطالب لبغية الطالب). وقام ابن الأعرج بالتعريف بالناظم، فقال إنه من أهل غريس ومن بني توجين الذين هم فرع من زناتة، سكان جبل الونشريس، ثم تحدث عن شيوخه في المغرب ومعسكر. وقد اعتمد ابن الأعرج في شرحه على مؤلفات سابقة له منها كتاب (القول الأعم) للطيب بن المختار، كما اعتمد على (فتح الرحمان) للراشدي. واتبع ابن الأعرج أبيات الناظم في الشرح، وقلما خرج عنها إلى الأحداث التاريخية والأنساب الفرعية، فاكتفى بالحديث عن سكان ¬

_ = وعنه انظر أيضا ابن بكار، ص 143 - 144. فصل السلك الديني والقضائي. (¬1) يقول ابن بكار إن محمد بن الشرقي هم بالهجرة إلى المشرق، فقيل له في الهجرة نحو الشام حيث ابن عمه الأمير، فقال أهاجر إلى من يشفع في وفيه - يقصد الرسول (صلى الله عليه وسلم).

غريس والأشراف هناك، وأعقاب الناظم وغيره من العلماء والأولياء. وتبدأ المنظومة هكذا: بدأت ببسم الله ربي ومالكي ... مجيبي ومنقذي عند النوائب وصليت ثانيا على خير خلقه ... محمد المختار من آل غالب ألا إن أهل الله ملجأ هارب ... وغنية محتاج و (بغية طالب) رجال كرام أدبوا فتأدبوا ... بآداب تنزيل من الله غالب (¬1) فأنت ترى أن طابع النظم هو التصوف، ولكن هل كان ابن الأعرج أيضا على نفس الهوى؟ إن كتابه (زبدة التاريخ) ومعاصرته للأحداث الكبرى في القرن الماضي وبداية هذا القرن تجعلنا نقول إنه سيسلك في شرحه منحى آخر. وها هو قد اعتمد الأدب وقوة البيان من جهة، والتصوف من جهة أخرى. 3 - منظومة (الفتح) لشعيب بن علي الجليلي، قاضي تلمسان، وهي أرجوزة نظم بها (عقد الجمان النفيس في أعيان شرفاء غريس). 4 - الحدائق الزاهرة الغصون في ذكر آبائي إلى النبي الكريم، لإدريس بن محفوظ الدلسي، ترجم فيه لأسرته التي هاجرت من الجزائر (دلس) إلى تونس، وقال إنهم أشراف (¬2). 5 - قبائل الشرفة (الأشراف)، كتاب من تأليف محمد بن بوزيد، وعنوانه كتاب (الحقيقة). ونحن لا نعرف عن المؤلف أكثر مما ذكره المترجم والمستشرق الفرنسي (آرنو) الذي نشر منه قطعة في المجلة الإفريقية (¬3). فمن هو المؤلف؟ وما عصره؟ وما كتابه بالضبط؟ وما قيمته ¬

_ (¬1) توفي ابن الأعرج سنة 1340 (1921). عن شرح ابن الأعرج انظر الهاشمي بن بكار (مجموع النسب)، ص 357 - 401. وكان النظم وشرحه قد طبعا في مطبعة ابن خلدون، بتلمسان، 1381. (¬2) محمد محفوظ (تراجم المؤلفين التونسيين) 3، وقد توفي الدلسي سنة 1934. (¬3) المجلة الإفريقية 17، ص 208 - 214.

العلمية؟ سيظل كل ذلك مجهولا إلى أن تتوفر معلومات كافية. 6 - منظومة في الأنساب و (التصوف) قالها مصطفى المختاري في الشيخ الهاشمي بن علي بوشنتوف ونسبه. والهاشمي المذكور هو جد الهاشمي مؤلف كتاب (مجموع النسب). وهي في بضعة أبيات، وصفه فيها بأنه: رئيس أهل العلم والدراية والفقه والتفسير والرواية (¬1) ولا شك أن هذا العمل يدخل في أنساب أشراف غريس الذين تحدث عنهم الطيب بن المختار في كتابه (القول الأعم). والناظم مصطفى المختاري هو جد الأمير عبد القادر، وقد توفي بعين غزالة (ليبيا). 7 - ألف عبد الله حشلاف، قاضي الجلفة في وقته، كتابا، في الأنساب أيضا، عنوانه سلسلة الأصول في شجرة أبناء الرسول. وهو مطبوع؟ وقد وصفه الشيخ أحمد توفيق المدني بقوله: (صديقنا الفاضل القاضي النزيه) وأخبر المدني كذلك أن (سلسلة الأصول) فيه فوائد تاريخية جليلة، ولعل المقصود بالتاريخ هنا الأنساب على الخصوص. وذكر مصدر آخر أن لحشلاف كتابا في الأشراف والأنساب عنوانه (بهجة الأنوار في نسب آل بيت النبي المختار) وقيل إنه ذكر فيه بعض العائلات الشريفة في الجزائر (¬2). 8 - وقد ألف الشاعر عاشور الخنقي كتابه أو ديوانه منار الإشراف ونظم عدة قصائد في أنساب البوازيد وأولاد نائل وغيرهم. ويمكن القول إنه (تخصص) في موضوع الأشراف في وقته، ونصب نفسه للدفاع عنهم، واعتبر عصاتهم من المغفور لهم. وقد لاقى في سبيل ذلك العنت والإرهاق والسجن، وهاجمه بعض المعاصرين هجوما عنيفا، ومهم محمد الصالح بن ¬

_ (¬1) الهاشمي بن بكار (مجموع النسب)، ص 139. والمنظومة تقع على صفحات 145 - 147، وكذلك توجد ترجمة للناظم مصطفى المختاري على ص 150. (¬2) المدني (كتاب الجزائر)، ص 95. ومفتاح (أضواء)، مخطوط.

مهنة، ومحمد بن عبد الرحمن الديسي (¬1)، وربما الشيخ الطيب العقبي أيضا. واعتصم هو بذوي النفوذ والجاه في الجزائر وغيرها. فناصره الشيخ محمد بن بلقاسم الهاملي والشيخ السعيد بن زكرى وأحد قياد القل، كما اعتصم بالشيخ أبي الهدى الصيادي نقيب الأشراف في السلطنة العثمانية على عهد السلطان عبد الحميد الثاني، وببعض أعيان المغرب الأقصى أيضا. ومهما يكن من أمر، فقد نعت الشاعر عاشور الخنقي نفسه بأنه (كليب الهامل) أي المنافح والمدافع عن الشيخ الهاملي والزاوية الرحمانية هناك، وبأنه خادم الأشراف ومقبل نعالهم، وقد أثار زوبعة في الجزائر آخر القرن الماضي وظلت متصلة إلى العشرية الأولى من هذا القرن. وكان موضوع النسب الشريف هو أساس هذه الزوبعة. ولعل الذي ساعد على انتشار صداها أن عاشور قد أعلن عن فكرته في الوقت الذي كان فيه الفرنسيون يرون الخطر كل الخطر في بقايا الطرق الصوفية. وكانوا يدرسون كيفية التغلب عليها واختراقها وتطويقها ومعرفة شبكاتها الخارجية، حسب دعواهم. ولكن السبب المباشر، فيما يبدو، هو نشر ابن مهنة بعض الآراء النقدية لما جاء في رحلة الورتلاني عن الأشراف (¬2). ومنذ 1897 كتب ديبون وكوبولاني عن قضية عاشور الخنقي/ وابن مهنة، وما انجر عنها من مؤيدين ومعارضين، وذكرا أن السلطات الفرنسية قد تدخلت (لتهدئة الأوضاع). ولم يذكر المؤلفان المشار إليهما اسم عاشور ولا ابن مهنة، ولكن القرائن تدل على ذلك. ونفهم من النص أن ابن مهنة قد اشتكى من عاشور الذي اعتبره خارجا عن الدين (زنديقا). وقد وصف ديبون وكوبولاني ابن مهنة بأنه (رجل دين عميق الديانة) وأنه كان قد كتب على هامش أحد الكتب (رحلة الورتلاني) التي تتحدث عن الأشراف بأن الشريف الحقيقي هو الذي يخشى الله، أما الشريف المزيف كالذي يرتكب الجرائم ¬

_ (¬1) شارك الديسي في مهاجمة عاشور برسالة عنوانها (الساجور للعادي العقور). (¬2) انظر رحلة الورتلاني كما نشرها في تونس، محمد الصالح بن مهنة والحواشي التي وضعها على النص.

والسرقات، فلا يستحق أي تقدير، وكل الأديان متفقة على ذلك. ولا شك أن هذا الكلام، وإن كان في ظاهره حقا، يساعد الفرنسيين الذين كانوا يرون أن سبب (التعصب) في الجزائر والثورات ضدهم هم الأشراف المزيفون (¬1). وعندما قرأ عاشور تعليق ابن مهنة على الأشراف ثارت ثائرته وهجاه بالشعر اللاذع، وسلط عليه لعنات السماء، حسب تعبير ديبون وكوبولاني، واعتبره قد تجرأ على مقام الأشراف الذين قال إنهم سواء عدلوا أو ظلموا فالله يغفر لهم، بل مغفور لهم قبل وجودهم. وسمى ديبون وكوبولاني عاشور (إخوانيا) أي أنه كان منتميا إلى إحدى الطرق الصوفية، وهي هنا الرحمانية التي كانت فرنسا تعتبرها على رأس قائمة أعدائها، سيما إذا عرفنا أن عاشور كان قد تلقى الورد على الشيخ الحداد نفسه في سجن قسنطينة، كما قال. وقد انقسم الناس فرقتين حول هذا الموضوع الحساس عندئذ. وانتشر شعر عاشور في مدح الأشراف وهجاه ابن مهنة. ولا ندري مشاركة هذا في الموضوع بعد تعاليقه على رحلة الورتلاني وشكواه من تهجمات زميله. فهل كتب ابن مهنة أيضا ضد عاشور أو اكتفى بدروسه في الجامع الكبير بقسنطينة وتآليفه التي دعا فيها إلى الإصلاح والابتعاد عن الخرافات. ولكننا نعرف أن الموضوع قد تطور بينهما إلى فصل ابن مهنة نفسه عن وظيفه سنة 1905 وتفتيش منزله واتهامه بانتقاد الحكومة وتنظيماتها، واحتجاز كتبه فترة من الوقت، ثم عفى عنه ورجع إلى عمله، ولكن حياته لم تطل بعد ذلك. فهل ذلك يرجع إلى صراعه ضد خصومه من أنصار الأشراف مهما كان حالهم، بل من أنصار الركود الذي يحاول هو أن ينفيه عن الناس، ومن ثمة تكون الإدارة الفرنسية لها ضلع أيضا في الموضوع. ومهما كان الأمر، فإن هذه الإدارة كانت هي الرابحة في النهاية، لأنها عرقلت عمل الرجلين وضحت بهما معا حين أدخلت عاشور السجن ونفته سنوات طويلة، وعزلت ابن مهنة عن جمهوره وتلاميذه بعض الوقت، رغم أنه كان (عميق الديانة) كما قال ديبون ¬

_ (¬1) انظر لويس رين (مرابطون وإخوان)، الجزائر، 1884، المقدمة.

وكوبولاني (¬1). وقد كتبت جريدة (الأخبار) أن ابن مهنة قد تراجع عن انتقاد الحكومة، وأن موقفه كان يتعلق بالعقائد (الدين والأشراف) وليس بالسياسة، ولذلك أعادته السلطات الفرنسية إلى وظيفه (¬2). وكان ذلك من تلاعب إدارة الشؤون الأهلية بأعيان المسلمين لترويضهم. لا نريد هنا أن ندرس حياة عاشور ولا حياة ابن مهنة، بل سنكتفي بوصف كتاب (منار الإشراف) باعتباره من كتب الأنساب (¬3). بدأه بمقدمة مسجعة وطويلة تدل على تمكن عاشور من اللغة والأدب التقليدي في ذلك الوقت الجدب. وكان قد تثقف في الخنقة ونفطة وكانت له موهبة قوية في الحفظ والاستيعاب. وقد أشاد في المقدمة بآل البيت، عصاتهم وظالميهم، وحييهم وبذيهم، وبرئيهم وجريمهم، وذكيهم وغبيهم. (على أن الإيمان وما يعلق به من الأوصاف معلق كتابا وسنة وإجماعا على القوةة في الأشراف). وذكر أن الكتاب (الديوان) يشتمل على خطبة وخاتمة بينهما خمسة تصانيف، وهي أربع قصائد في فضل عصاة الأشراف ومواليهم من الأطراف. كما ذكر أن الكتاب موجه للرد على ابن مهنة (عدو) الأشراف، حسب تعبيره. وقد وصفه بمختلف الأوصاف البذيئة، وأطلق عليه أسماء الزنادقة ونحوهم مثل مسيلمة الكذاب، وأبي جهل، وابن سلول، والغريب أنه اعترف بأن الذي أوعز إليه بالرد على ابن مهنة هو الشيخ محمد بن بلقاسم الهاملي (الشريف الحسني البوزيدي) حتى لا يقتدي ضعفاء العقول بابن مهنة. وبعد خطبة الكتاب التي استغرقت 52 صفحة، ذكر قصيدة (حسن الأمل) التي يسميها الكبرى، وقصيدة (كشف الخفاء) المختصرة من الأولى، ¬

_ (¬1) ديبون وكوبولاني (الطرق الدينية) الجزائر، 1897، ص 248. (¬2) الأخبار، 11 صفر 1323 (16 أبريل، 1905). تناولنا موضوع الهجاء الذي صدر عن عاشور في فصل الشعر. وقد هجا عاشور أيضا عبد القادر المجاوي وشبه درسه بالسوق. وسنتعرض إلى ذلك. (¬3) عاشور الخنقي (منار الإشراف)، الجزائر، 1332 (1914). وقد درسنا هذا الديوان من الناحية الشعرية وحياة صاحبه في فصل الشعر.

وقصيدة (أعجوبة الإطراف) المخمسة للسابقة، وقصيدة (غاية الإنصاف) التي يسميها صغرى الصغرى. وهذه هي القصائد الرئيسية التي تناول فيها موضوع الأشراف وأنسابهم وفضائلهم. أما ما جاء بعد ذلك فهو نوع من الإضافات (¬1). وقد انتصر في القصيدة الكبرى (حسن الأمل) إلى السلطات العثمانية، والغريب أننا لا نجد أية إشارة إلى اسم الأفغاني في شعر الخنقي الذي رجعنا إليه، بينما وجدناه يشيد بالسلطان عبد الحميد، ويعتبر آل عثمان من الأشراف، ونوه بأبي الهدى الصيادي، نقيب الأشراف في اسطانبول وشيخ الإسلام بها، كما قال. ونفهم من كلام عاشور أن ابن مهنة قد يكون رد على كتاب لأبي الهدى الصيادي اسمه (ضوء الشمس) واتهمه بالكفر وشنع عليه. وإذا عرفنا مكانة الصيادي في الدولة العثمانية والعالم والإسلامي علمنا مدى اتساع الموضوع الذي طرقه كل من ابن مهنة وعاشور، سيما في تلك الفترة (العشرية الأخيرة من القرن الماضي) التي اشتد فيها الاهتمام الفرنسي بالعالم الإسلامي (¬2). والشخصيات الأخرى التي مدحها كرر فيها النسب الشريفي أيضا، من ذلك مدحه لأبي التقى، ومحمد السعيد بن زكرى، وعبد القادر بن رزيق. ففي الأول - وهو دفين برج بوعريريج - قال إنه نظم القصيدة (استشفاعا به عند الملك الوهاب)، وأبو التقى ممن قدم من فاس: إليك أبا التقى مولى الموالي ... حقيق، لو دروا، شد الرحال لينتجعوا هماما هاشميا ... سريا من ذؤابة خير آل شريفا فاطميا حيدريا ... سلالة تاج أرباب الكمال (¬3) وفي ابن زكرى الذي سعى إلى إخراجه من السجن وعودته إلى الحياة ¬

_ (¬1) يقول وقع الفراغ من تجميعه وترقيعه وترتيبه وتذنيبه (تذيله) في 13 صفر، 1332 (1914)، ص 168. انظر أيضا فصل الشعر. (¬2) (منار الإشراف)، ص 36 من الخاتمة، انظر كذلك فصل الشعر. (¬3) (منار الإشراف)، ص 159 - 163.

العامة. وكان ابن زكري من أهل زواوة ومن أشرافهم، كما قال عن نفسه وأكد ذلك عاشور الذي اعتبره من آل هاشم ومن الأدارسة: إلى العلم الفرد السعيد محمد ... سليل أبي العباس قطب الورى الزكرى خليفة عليا هاشم في خلالها ... بقية افتاء الأدارسة الزهر (¬1) أما عن ابن رزيق فقد خصه بقطعة نوه فيها أيضا بشرفه، واعترف أنه هو الذي انتشله من براثن الجوع في قسنطينة، وساعفه (حالا ومالأ) فقال فيه: لله عبد القادر بن رزين ... مفتاح أغلاق العنا والضيق ولد الفتى الفياض زين العابدين ... ابن الحسين ابن النبي المصدوق (¬2) ولعاشور قصيدتان في أشراف البوازيد الذين يقول إنه منهم، وكذلك شيخه الهاملي. واعتبرهم من أقطاب السياسة والقطابة أيضا. والقصيدة الأولى رائية ومذكورة في (المنار)، والثانية دالية، وقد عثرنا عليها في سريانة. وقد نقل شرف البوازيد عن ابن فرحون وأبي راس وغيرهما. وهم، حسب دعواه، منتشرون، من جبل عمور غربا إلى بسكرة شرقا: جد البوازيد الضراغمة الذي ... بالأربعينات استبد عن البشر وعلى الرياسة والسياسة لابسا ... تاج الخلافة أربعون على ظفر وعلى القطابة في السياحة أربعون ... مسلما لأخيه فيما قد شجر (¬3) وفي الدالية كرر شرف البوازيد وافتخر بأصله وسماها (العقد الفريد في فضائل البوازيد)، وهي طويلة، ويذهب إلى أن آل عثمان والمقرانيين والشيخ الهاملي منهم. ومهما كان موضوعها فالقصيدة تعتبر من عيون الشعر في ذلك الوقت، وقد قالها سنة 1314 (1896). وبدايتها: أبرق على وادي جدي يصعد ... فبشر أن الحي بالري مسعد ¬

_ (¬1) نفس المصدر، ص 30 - 31. (¬2) نفس المصدر، ص 21 - 22. (¬3) نفس المصدر، ص 58 - 60.

أم انهل نور من منارة خالد ... يدل على أن البلاد ستسعد وما سائر الأشراف إلا جواهر ... ونحن البوازيد اليتيمة تفرد (¬1) 9 - قصة أولاد عبدي وأولاد زيان، تقييد كتبه صالح باي بن محية (كذا) بن عمر، وهو أحد كتاب (خوجات) المكتب العربي في أولاد عبدي، أواخر القرن الماضي. ولم نطلع عليه ولكن من اطلع عليه نقل عنوانه الكامل هكذا (هاته أوراق فيهن (كذا) قصة أولاد عبدي وأولاد زيان من دخولهم إلى هنا عام 443 إلى هذا الوقت، وفيهن قصة بورك بن علي، سنة 1893). ولا نعرف أن هذا التاريخ هو تاريخ كتابة التقييد أو تاريخ قصة بورك بن علي (¬2). ويبدو أن عرض صالح باي من تقييده، هو بيان أن أولاد عبدي قد حافظوا على عاداتهم القديمة، دون أن نعرف الآن ما هي. وقد جاء ذلك في وقت كان فيه المستشرقون الفرنسيون يركزون على دراسة اللهجات المحلية ويصنفون (الأهالي) حسب أصولهم. 10 - تاريخ الأشراف، لإبراهيم العوامر، ولعله هو الجزء الخامس بالأنساب والذي نشر مع كتاب (الصروف في تاريخ الصحراء وسوف) لنفس المؤلف. وعلى كل حال فقد ظهر باب الأنساب ضمن كتاب الصروف. ولم يظهر فيه أنه مهتم بالأشراف، وإنما الأنساب من حيث هي. فإذا كان له كتاب آخر عن الأشراف فإننا لم نطلع عليه ولا ندري من أشار إليه غير عادل نويهض (¬3). وفي باب الأنساب تحدث إبراهيم العوامر عن قبائل سوف وأصولها وعددها وأماكن استيطانها. ونوه بالأنساب ونادى بضرورة معرفتها وحفظها. وبناء عليه فإن قبائل سوف كلها عربية، ومعظمها طرود وعدوان وفروعهما ¬

_ (¬1) حصلت على نسخة منها من بلدة سريانة، كما ذكرت، كما سلمني نسخة منها الأخ أحمد بن السائح (بسكرة) في 3 يناير 1990. انظر أيضا فصل الشعر. (¬2) عبد الحميد زوزو، أطروحة الدكتوراه عن الأوراس، ص 169، هامش 2 من الجزء الثاني (مخطوطة). (¬3) معجم أعلام الجزائر، الفهارس، حرف (ت)، ط. 1.

ومن والاهما. وبعد أن تحدث عن نسب بني هلال وبني سليم ذكر القبائل بالتفصيل في كل بلدة من بلدان سوف المعروفة في وقته، وهي: الوادي، وكوينين وقمار وتاغزوت والدبيلة وسيدي عون والزقم والبهيمة، وكذلك القبائل المجاورة مثل الربايع والشعانبة. ولا شك أن منطقة سوف تشمل الآن بلدانا أخرى كثيرة العمران من مختلف القبائل القديمة والطارئة مثل: الرقيبة وورماس وغمرة والتجديدة. وليس كل ما ذكره إبراهيم العوامر محل تسليم من الباحثين، ولكنه كان خبيرا بهذا العلم واستعان على ذلك بالمصادر المختلفة، وتلك كانت خلاصة أبحاثه (¬1). 11 - مزيل الخفاء (انظر تواريخ الجنوب). 12 - تذكرة المبادى في خبر المعاش والمعاد تأليف عبد الكريم بن أحمد (انظر تواريخ الجنوب). 13 - تاريخ سيدي مبارك بن ناجي، دفين خنقة سيدي ناجي. ذكر غوستاف ميرسييه أنه حصل من القايد الأخضر بن حسين على مذكرة عن تاريخ العائلة، ولا سيما أصل جدهم سيدي ناجي. واعترف ميرسييه أنه حذف منها ما يتصل بتاريخ العائلة بعد الاحتلال الفرنسي (ربما للزلفى التي استعملت بهذا الصدد) وإظهار خدماتها لفرنسا. ثم ترجم الباقي من المذكرة وجعل لها عنوانا هو (أصل سيدي المبارك بن قاسم بن ناجي، تاريخ ظهوره). وبناء على المذكرة فإن الأصل يرجع إلى الخليفة الثالث عثمان بن عفان، فقد هاجر أجداد سيدي ناجي من المدينة المنورة إلى سورية في العهد الأموي، وبقوا هناك إلى ظهور العباسيين، ثم انتقلوا مع الأمويين إلى الأندلس. وبعد سقوط الأندلس هاجر أجداده إلى تونس. وفي تونس عاش ¬

_ (¬1) إبراهيم العوامر (الصروف)، مرجع سابق، باب الأنساب، ص 612 - 335. عن قبائل سوف انظر أيضا لويس رين (مملكة الجزائر في عهد الداي الأخير) رقم 500. ومقالته في المجلة الأفريقية 1899، ص 120.

سيدي قاسم وسيدي ناجي. وبعد وفاتهما غادرها سيدي مبارك إلى ورقلة حيث كثر أتباعه، ثم جاء إلى ناحية بسكرة حيث استقر فترة وحصل هناك على الأرض، وفي سنة 1602 انتقل إلى صحراء الزاب الشرقي وأسس زاوية سيدي ناجي في الخنقة وعمرها وأنشأ قناة للسقي. وتوفي سنة 1621. ويبدو أن إنشاء الزاوية كان يرجع، كما لاحظ المترجم ميرسييه، إلى الصراع الذي حصل مع الشابية، وقد تولى الابن الثالث لسيدي مبارك شؤون الزاوية واسمه سيدي أحمد، وهو آخر ولد من أولاد سيدي مبارك، وأحمد هذا هو جد عائلة ابن حسين بن ناصر. وقد عظم شأن الزاوية واشتهرت في عهد أحمد. واعترف به دايات تونس وأعفوه من الضرائب، سيما يوسف باشا ومحمد باشا. ومحمد باشا هو الذي حارب الخنانشة سنة 1644 وأخضعهم. وقد مات أحمد بن ناصر سنة 1667، فخلفه ابنه محمد الطيب وتوفى هذا سنة 1695، وترك إبنين هما سيدي عبد الحفيظ وسيدي محمد الذي تولى مكان أبيه. وأما عبد الحفيظ فقد غادر الخنقة واستقر في المزارع. وهكذا تستمر الوثيقة تتحدث عن الحفداء إلى عهد محمد الطيب بن حسين الذي كان في عهد الحاج أحمد، آخر بايات قسنطينة. وهو الذي كان موجودا أثناء الاحتلال. وقد منح الفرنسيون إلى عبد الحفيظ ظهيرا يثبته على ما هو عليه. ثم تحدثت الوثيقة عن وضع الخنقة أثناء مقاومة الأمير عبد القادر، وفي عهد خليفته الحسين بن عزوز، الخ (¬1). 14 - كتاب مجموع النسب والحسب والفضائل والتاريخ والأدب في أربعة كتب، من جمع وتأليف الشيخ محمد الهاشمي بن بكار، مفتي معسكر في وقته (1961). والكتب الأربعة التي يعنيها هي: القول الأعم للطيب بن المختار، وكتاب النسب للعشماوي، وشرح منظومة التجيني لابن الأعرج، وقد أتينا على ثلاثتها. أما الرابع فهو منظومة ابن بكار نفسه مع حاشية وضعها بنفسه عليها، وقد سمى ذلك (نسمات رياح الجنة ...). ¬

_ (¬1) غوستاف ميرسييه (روكاي)، 1915، ص 154 - 165.

وقال ابن بكار عن نفسه إنه من الأشراف، وأنه حسيني، بالإضافة إلى كونه راشديا غريسيا، وكان من أتباع الطريقة الطيبية الشاذلية. وقد سبق للطيب بن المختار أن ذكر بعض أجداده، وأكد ابن بكار أن التاريخ من أبرز العلوم، وعرفه تعريفا قديما غامضا، فقال إن جهابذة كل أمة وطبقة من الأجيال قد اعتنت به، ولكنه لاحظ، عن حق ربما، أن أهل زمانه قد فقدوا الاهتمام بالتاريخ والأدب، وأخبار الأوائل والنسب. (وعطلت فيه (أي الزمان) مشاهد العلم العربي ومعاهده). وقد دفعه إلى نشر الكتب المذكورة الخوف عليها من الضياع إذ أن طبعها ينقذها من الإهمال والتلف. وقال إن هدفه من ذلك هو (خدمة للعلم والدين والوطن) (¬1). 15 - ذكر الشيخ محمد السعيد الزواوي (أبو يعلى) سنة 1947 أن له كتابا بعنوان أصل البربر بزواوة. وقد كتب ذلك بعد علاجه في مقاله لمسألة البربر والمازيغية تعليقا على ما نشره السيد محمد المهدي بن ناصر التونسي حول الموضوع. وأكد الزواوي أن أصل البربر من حمير وأنهم عرب قحطانيون أو عرب عرباء. ورجع إلى خبرته (وهو منهم) وإلى نسابتهم، ثم إلى المؤرخين المسلمين أمثال ابن حزم وابن خلدون، بالإضافة إلى المدني والميلي (¬2). ولا ندري إن كان (أصل البربر بزواوة) هو نفسه الكتاب الذي ألفه الزواوي سنة 1918 بالقاهرة وطبعه في دمشق، سنة 1924 بعنوان (تاريخ الزواوة). ومهما كان من أمر فإن أصل هذا الكتاب هو المشروع الذي فكر فيه الزواوي منذ 1912 حين كان يعمل بالقنصلية الفرنسية بدمشق (¬3). وقد كتب المشروع وأرسله إلى الشيخ طاهر الجزائري الذي كان لاجئا في مصر، ¬

_ (¬1) الهاشمي بن بكار (كتاب مجموع النسب ...)، ط. تلمسان، 1961، في 459 صفحة. انظر المقدمة. (¬2) جريدة (الإصلاح) للعقبي، عدد 69، تاريخ 28 نوفمبر 1947، من رسالة للشيخ علي أمقران السحنوني، 1996. (¬3) درسنا هذا المشروع فى كتابنا (أبحاث وآراء فى تاريخ الجزائر)، ج 2.

وطلب منه أن يكتب تاريخا على ذلك النسق لزواوة، نظرا لشهرة الشيخ طاهر وخمول الزواوي. ثم وقعت الحرب العالمية وانتقل الزواوي أيضا إلى القاهرة، والتقى بالشيخ طاهر، بل ومكث معه خمس سنوات. وكان من الطبيعي أن يرجع الحديث بينهما عن تاريخ الزواوة. ويبدو أن الشيخ طاهر كان منشغلا بأمور السياسة وغيرها، أو كان غير مقتنع بالمشروع عندئذ، فوجه الزواوي إلى كتابة عمل آخر يفيد أهل زواوة وهو التعريف بلغتهم وقواعد نحوها. وقام الزواوي بذلك ونشر عدة مقالات في (المجلة السلفية) بمصر. ولكن فكرة تاريخ الزواوة لم تفارقه أيضا. وهكذا عكف على تأليفه وانتهى منه سنة 1918 كما ذكرنا، أي قبل رجوع الشيخ طاهر إلى دمشق ووفاته فيها سنة 1919 (¬1). ونحن لن ندرس (تاريخ) الزواوة، ولكن أنسابهم، كما جاءت في كتاب الزواوي المذكور. فقد خصص الفصل الثاني منه إلى هذا النسب، وخصص الثالث لذكر محامدهم وخصائصهم. ويذكر الزواوي نفسه أنه شريف النسب من بني هاشم وأن مولده ومنشأه بزواوة، وأنه قرأ في زواياها. وقال في الديباجة إن هناك من طلب منه القيام بتحرير هذا التاريخ وإنه سيقتصر فيه على (تبيين نسهم وذكر شيء من فضائلهم وما قيل فيهم وما كان لأوائلهم). وهدفه من ذلك، وهو أيضا هدف من طلب منه الكتابة في الموضوع، هو الرد على القائلين بأن الزواوة برابرة رومان. (فانتدبني كثير من الزواوة (¬2) لتحرير شيء بما يتعلق بهم وبنسبهم). وقد ذكرنا في غير هذا أن السياسة الفرنسية كانت قائمة عندئذ على فصل الزواوة (القبائل) عن بقية الجزائريين بدعوى أن الزواوة من جنس غير البربر وغير العرب. والغريب أن ¬

_ (¬1) توفي الشيخ طاهر بعد رجوعه إلى دمشق في العهد العربي الجديد. ولعل الشيخ الإبراهيمي الذي حل بدمشق سنة 1917 قد لقى الشيخ طاهر قبل وفاته. والمعروف أن سورية قد فرضت عليها فرنسا الانتداب (الاستعمار) باسم عصبة الأمم سنة 1920. (¬2) ولعل منهم الشيخ طاهر الجزائري نفسه.

الزواوي في (تاريخ الزواوة) قد عدل عن رأيه فيهم في مشروعه المذكور (سنة 1912) إذ اعتبرهم عندئذ من الجنس الآري، كما كان شائعا في الأدبيات الفرنسية. فهل أثر عليه في ذلك الشيخ طاهر الجزائري بعد لقائه به في القاهرة؟ أو اقتنع هو بعد البحث وأدرك المخطط السياسي الفرنسي؟. ومهما كان الأمر، فإن الزواوي قد ساق عدة آراء في أصل الزواوة، ومنها رأي الشيخ طاهر، وكان ذلك سنة 1915 حين لقائهما في مصر. فقد أخبره الشيخ طاهر أن الزواوة تمتد مواطنهم من طرابلس الغرب إلى قصور كتامة بالمغرب الأقصى. وحين عارضه الزواوي بأن الزواوة في الواقع المشاهد هم (سكان جرجرة اليوم)، أجابه الشيخ طاهر بأن ذلك غير صحيح لأن (العرب لما احتلوا افريقية اختلطوا بهم، والحال أنهم (أي الزواوة) عرب الأصل من اليمن، من شعوب حمير، ولغة حمير غير لغة مضر ...) (¬1) وأضاف الزواوي أن قبائل الزواوة كثيرة، وأن مواطنها بين خليج الجزائر إلى بجاية، وهي إحدى عواصم الزواوة، ثم إلى جيجل. (نصف دائرة، فهؤلاء هم المعروفون والمشهورون بالزواوة). وقد أوضح الزواوي أنه قضى في البحث عشر سنوات عن أصل الزواوة ونسبهم لكي يجيب على ما إذا كانوا عربا أو بربرا. وهذه هي نتائج بحثه، كما قال. وقد رجع إلى من كتب قبل ابن خلدون وإلى من كتب بعده، مشارقة ومغاربة. ثم رجح الاعتماد على ابن خلدون في نسب الزواوة لعدة اعتبارات منها: أن ابن خلدون مغربي - أندلسي - يمني، وأنه درس في بجاية، وأنه جاء إلى زواوة مبعوثا من قبل أحد السلاطين، وأنه عمل حاجبا لأبي عنان المريني، وأن أحد أساتذته زواوي. وهكذا يصبح ابن خلدون أكثر علما بأهل زواوة من غيره وهو لذلك (أحق الشهادة عليهم، مع أدلة أخرى وبراهين قاطعة). ومن أقوال ابن خلدون في ذلك أن كتامة وصنهاجة من شعوب اليمن، ¬

_ (¬1) الزواوي (تاريخ الزواوة)، ص 18.

جاء بهما افريقش بن صيفي مع من أنزل بإفريقية من الحامية. كما ذكر ابن خلدون أن الزواوة من كتامة، وبذلك يكون الزواويون من العرب العرباء، أي القحطانية الحميرية، فهم أبناء يعرب بن قحطان (¬1). وفي رأي الزواوي أن هناك شواهد تؤكد ذلك، منها الأسماء والأعلام اليمانية الباقية إلى الآن في زواوة. من ذلك ما وجده في بعض المصادر (الرحلة الحجازية) من أن الذي بنى سد مأرب الشهير هو (آيت عمرو، ملك سبأ)، والمعروف أن سبأ هو أخ حمير. وقد لفتت لفظتا (آيث عمرو) نظر الزواوي لأنهما مستعملتان في الزواوة. ثم استشهد باسم (تيزي أمقران) الموجود علما على قرية أو مكان شرقي الخليج العربي - الفارسي. ومن ذلك تشابه الخط الحميري والبربري (الخط المسند) (¬2). ومن ذلك أيضا كلمة (ذو) المشهورة في اليمن والتي استعملها الحميريون حتى سموا بالأذواء، ومنهم يزيد بن النعمان المعروف ذو الكلاع، ورأى الزواوي أن أصل ذلك هو كلمة (آيث) التي تعني (ذوي) عند الزواوة. والخلاصة عنده أن كتامة وصنهاجة من حمير وأن حمير يرجع إلى يعرب بن قحطان. (فالزواوة إذن عرب مستعربة وعرب عرباء بأصلهم المتقدم). فهم عرباء لأنهم حميريون وهم مستعربة لأنهم دانوا بالإسلام والقرآن الذي نزل على محمد (صلى الله عليه وسلم)، وهو من ولد إسماعيل المستعرب (¬3). وأخيرا نذكر أن الزواوي قد أهدى كتابه إلى شخصية شريفة أيضا، تقيم في الناحية وتحتفظ لنفسها بنسب قديم، وهو أحمد بن علي الشريف (الهاشمي العلوي الفاطمي الزواوي). وقد خاطبه بقوله: (مولاي، كان ¬

_ (¬1) الزواوي (تاريخ الزواوة)، ص 12 - 15. (¬2) نفس المصدر، ص 19 - 21. ذكر أن اطلع في المجلة الآسيوة أن علماء الآثار اكتشفوا الخط الحميري في قرية من قرى أفريقية وكان منقوشا على حجر، ص 22. (¬3) نفس المصدر، ص 22 - 26. من شواهده أيضا أن كثيرا، من طباع البربر وأخلاقهم وعاداتهم متماثلة ومتمازجة بطبائع العرب مثل اتخاذ البيوت من الوبر والشعر والطين والحجر والظعن والإقامة، والشجاعة والكرم وركوب الخيل.

تواريخ محلية (شرق البلاد)

لتاريخ الزواوة شأن عظيم وأنتم من الأعاظم، وكان لهم نسب كريم، وأنتم من الأكارم ... فأهديه إلى سيادتكم العظمى، ولكم فيه الكلمة العليا). تواريخ محلية (شرق البلاد) (¬1) نقصد بالتواريخ المحلية في النواحي الشرقية المؤلفات التي تعرضت إلى قسنطينة وإقليمها المعروف في العهد الحفصي والعهد العثماني وأثناء الاحتلال الفرنسي إلى منطقة زواوة غربا. وفي هذا المجال ستجد أن المؤلفات قليلة، ومعظمها تناولت مدينة قسنطينة نفسها. ولا نكاد نجد تواريخ عن عنابة وتبسة وسطيف وغيرها من المدن أثناء الاحتلال. ولكن الفرنسيين استكتبوا الجزائريين في ذلك وأصدروا مؤلفات حولها، فيها معلومات تاريخية من وجهة نظرهم وغيبوا آثار الجزائريين التي اعتمدوا عليها، كما فعل شارل فيرو بالنسبة للسلسلة التي سماها مدن الشرق الجزائري. وسنتبع نفس الطريقة التي اتبعناها في الأنساب. فنذكر ما نعلم عن المؤلفات والمؤلفين، وإذا عدمنا هذه المعلومات اكتفينا بذكر العنوان والإشارة إلى المصدر، تاركين ذلك للباحثين اللاحقين ليكملوا الموضوع. 1 - الفريدة المؤنسة أو تاريخ بايات قسنطينة في العهد العثماني، من الاستيلاء العثماني على قسنطينة إلى احتلالها من قبل الفرنسيين وسقوط نظام الحاج أحمد باي. والمؤلف وهو محمد الصالح العنتري، كان من عائلة خوجات وموظفين في الإدارة العثمانية. وكان أبوه من أعيان المدينة وقيل إن الحاج أحمد قتله عند التحضير للحملة الفرنسية، لأنه أرسله إلى قائد الحملة نواحي قالمة للتفاوض، وعندما رجع أحمد العنتري هول عليه ضخامة الأسلحة والجيوش الفرنسية فاتهمه بالعمالة. هكذا دخل الابن (محمد الصالح) إلى موضوعه، فكان متحمسا لكتابة تاريخ يشنع فيه على الحاج ¬

_ (¬1) لم نعثر على تواريخ خاصة بالبليدة والمدية وشرشال وغيرها من مدن وأهالي الوسط. أما مدينة الجزائر فقد تركت بشأنها تقاييد.

أحمد وسلفه ويبرر الاحتلال الفرنسي وخدمته هو للمحتل الجديد. وكان الضابط بواسوني، في الحقيقة هو الذي طلب منه كتابة هذا التاريخ، إذ كان بواسوني من الارستقراطية العسكرية، ومن الضباط المهتمين بالدراسات العربية وتاريخ المنطقة، وكان رئيسا للمكتب العربي (بلدية عسكرية) منذ إنشائه في قسنطينة حوالي 1843. وقد نشر هو نفسه بعض المؤلفات مثل (الفارسية) لابن قنفذ (¬1). ويبدو أن العنتري قد ألف عمله وهو شاب مندفع، إذ بقي على قيد الحياة إلى ما بعد سة 1877. وقد اعتمد على وثائق أبيه، وكان هذا الأب أيضا مهتما بالتاريخ وله فيه بعض التقاييد. وكان العنتري (الابن) من أصحاب الخطوط الجيدة، وقد رأينا ذلك. وتلك عادة الخوجات قديما. ولا شك أنه استفاد أيضا من وثائق المحاكم والعائلات. وقد كتب عمله بأسلوب بسيط ومنظم. وهو في الواقع لا يؤرخ للعصر والمدينة والناس، ولكنه يذكر البايات حسب تواريخ ولايتهم وما حدث في زمن كل واحد منهم وما أنشأ كل باي من مآثر. وقد خصص للحاج أحمد قسما كبيرا في الكتاب، لأنه من جهة يهم الفرنسيين ولأن العنتري نفسه قد عاصر جزءا من عهد هذا الباي. ومنذ ظهور كتاب العنتري، الذي طبع حوالي 1847 في قسنطينة بالعربية (¬2)، أخذ المترجمون وضباط المكاتب العربية ينقلون عنه دون ذكره أحيانا. ومن هؤلاء فايسات الذي كان مترجما ومدرسا في قسنطينة، فقد التهمه التهاما في عمله الذي سماه (تاريخ بايات قسنطينة في العهد العثماني) ثم أرنست ميرسييه (¬3) الذي أرخ لقسنطينة، وكذلك شارل فيرو. ويبدو أن المترجم أحمد (نيقولا) الأنبيري قد استفاد منه أيضا في كتابه المسمى (علاج السفينة). ويمكن القول إن تاريخ العنتري، رغم شباب مؤلفه وسرعة تنفيذه، بقي مصدرا هاما لتاريخ قسنطينة وإقليمها. ولم يكن العنتري مؤرخا، ولكنه كان مكلفا بكتابة ¬

_ (¬1) عن بواسوني انظر فصل الاستشراق، وكذلك كتابنا (محمد الشاذلي) ط. 2، 1985. (¬2) مطبعة قود Gueude، قسنطينة 1847، وكانت طباعته الأولى على الحجر. (¬3) انظر عن فايسات وميرسييه وفيرو فصل الاستشراق.

تاريخ، وكان شغوفا بالوثائق والمراجع، وله استعداد للتحرير والنقد. وبعد حوالي قرن من صدور (الفريدة المؤنسة) قام المستشرق دورنون بترجمتها إلى الفرنسية. وأشار إلى أن زملاءه، مثل فايسات وميرسييه، قد اعتمدا على العنتري في مؤلفاتهم. ومن ثمة يمكن القول إن دورنون قد أنصف العنتري ولكن بعد موت زميليه (¬1). 2 - تاريخ حاضرة قسنطينة، تأليف أحمد بن المبارك (¬2). وقد نشره نور الدين عبد القادر. ولعل العنوان من وضع الناشر (المحقق) وليس من وضع المؤلف. ويغلب على الظن أن تاريخ الانتهاء من التأليف هو 1852. وبذلك يكون تاريخ تأليفه قريبا من تاريخ تأليف زميله محمد الصالح العنتري. ورغم صغر حجم التأليف فقد ضم معلومات طيبة عن مدينة قسنطينة. وهو نوع من التاريخ والآثار والذكريات العامة والأحداث البارزة التي عرفتها قسنطينة وإقليمها. وبذلك يجد فيه القارئ معلومات غير موثقة أحيانا، عن بعض المدن مثل باغاي، ونقاوس، وحروب الكاهنة، وهجوم أبي عنان المريني، وهجوم مراد باي تونس، وابن الأحرش، وحمودة باشا، بالإضافة إلى الحديث عن بعض البايات ابتداء من حسن كيلاني المعروف بوكمية. وكان ابن المبارك يذكر ما وقع في عهد كل باي، وقد ختم عمله بالحديث عن الشيخ فتح الله وأحمد القبائلي. ويشعر المرء أن الكتاب غير منته، وأنه قابل للتوسع والإضافات، لأن خطته ربما كانت كذلك. فهو ليس كتابا بالفصول والأبواب المضبوطة. ومن الملاحظ أيضا أن أحمد بن المبارك ¬

_ (¬1) مجلة (روكاي)، 1930، ص 61 - 178. ولم نجد اسم دورنون في الترجمة، ولكن يغلب على الظن أنه هو. وتقع ترجمة أحمد باي من صفحة 107 - 175. ويذهب هذا المصدر إلى أن الفريدة قد طبعت سنة 1852 (وهي سنة وفاة الحاج أحمد باي). انظر أيضا عبد الحميد زوزو، أطروحة الدكتوراه، ج 3، ص 1078، وهو يقول ان فايسات قد ترجم كتاب العنتري. (¬2) دورنون، (المجلة الإفريقية)، 1913، ص 265 - 305. عن نور الدين عبد القادر انظر فصل التعليم، وقد نشر أيضا غزوات عروج وخير الدين.

قد أقدم على عمله بطلب من أحد الفرنسيين، ويغلب على الظن أنه هو نفس الضابط بواسوني الذي سبق ذكره مع العنتري. وخلافا للعنتري، فإن أحمد بن المبارك لم يجد، كما قال، الوثائق والمراجع التي يعتمد عليها. فاعتمد على الروايات الشفوية. ويقول نور الدين عبد القادر، انه لم يذكر سوى ابن أبي دينار القيرواني، صاحب (المؤنس)، ولكنه قد يكون اعتمد على مراجع أخرى لم يذكرها. والمعروف أن البكري والإدريسي وليون الإفريقي (الحسن الوزان) وغيرهم قد وصفوا قسنطينة. ولم يهتم ابن المبارك بحياة العلماء والدين والطرق الصوفية والأدب، ولعل بواسوني هو الذي خطط له الكتاب وطلب منه أن يسجل فقط أخبار الفتن والحكام الذين أحسنوا الحكم أو ظلوا. وهذا هو المهم للفرنسيين في ذلك الوقت، وربما كان ذلك هو ما يفسر استعمال ابن المبارك لعبارة (هذا زمان القبطان بوسنة)، وهو بواسوني، الذي أذاعت السلطات الفرنسية عنه على لسان العامة أن زمنه (أي ولايته على المكتب العربي الحاكم في قسنطينة) كان زمان أمن ورخاء (¬1). وقد أخذ نورالدين عبد القادر ترجمة أحمد بن المبارك عن ألفريد دورنون. فقد كان هذا مديرا لمدرسة قسنطينة الرسمية، وهو من المستشرقين الذين تكونوا ربما على رينيه باصيه، وكان معتدلا في آرائه، سيما في أحكامه على المدرسين الجزائريين في ولاية قسنطينة، الذين كان عليه أن يفتشهم بحكم وظيفه كمدير للمدرسة المذكورة (¬2)، خلافا لمعاصره ألفريد بيل، مدير ¬

_ (¬1) العبارة العامية الشائعة عندئذ هي (هذا زمان القبطان بوسنة، كول كسيرتك وتهنة). وهي من دعاية الاستعمار، مثل عبارة (عدم التدخل في السياسة). وقد نشر الكتاب لأول مرة، حسب علمنا، نور الدين عبد القادر، سنة 1952، ثم أعاد نشره رابح بونار، بعد تحقيق وتعاليق، أوائل السبعينات. (¬2) عن دورنون انظر (مذكرات) مالك بن نبي الذي كان طالبا في المدرسة التي كان دورنون يديرها. ولإبن نبي رأي صريح فيه إذ جعله من أساطين الاستعمار وعيون الإدارة الأهلية.

مدرسة تلمسان. وبناء على دورنون فإن أحمد بن المبارك من مواليد قسنطينة سنة 1790، وكان أصله من ميلة حيث أجداده وأخواله آل العطار. ولذلك نجده قد تربى في ميلة وأخذ بها مبادئ العلوم في زاوية العائلة حيث الطريقة الحنصالية. ولما رجع إلى قسنطينة واصل دراسته على علماء الوقت، وهم: عمار الغربي (جامع القصبة)، وعمار الميلي (جامع رحبة الصوف) ومحمد العربي بن عيسى (ناظر المدرسة الكتانية) قاضي البلاد في عهد الحاج أحمد، والقاضي أحمد العباسي الذي يضرب المثل بعلمه. ثم اشتغل ابن المبارك أيضا بالتجارة، وكانت هذه الحرفة تحمله إلى تونس حيث كان يشتري العمائم والحرير والعطور وغيرها ويبيعها في قسنطينة، وأثناء وجوده في تونس كان يحضر بعض دروس علماء الزيتونة، وهو تقليد سار عليه علماء الشرق الجزائري منذ القديم، وكانت دروس التوحيد هي المفضلة عنده. وقد حملته رجلاه في إحدى السفرات إلى الحج أيضا. وفي سنة 1835 (أي قبل احتلال قسنطينة) توفي الشيخ العباسي، فعين أحمد بن المبارك مكانه مدرسا بالجامع الكبير، وأخذت شهرته تزداد بين الناس، وصادف ذلك خلو منصب الفتوى بعزل أو وفاة الشيخ المفتي محمد العنابي صاحب كتاب (كشف البضائع). ويغلب على الظن أن ذلك كان بعد احتلال المدينة بقليل، رغم أن دورنون لا يذكر التواريخ إلا نادرا. كما عين أحمد بن المبارك في عدة وظائف أخرى على يد السلطة الفرنسية، منها مساعد في المجلس الشرعي بقسظينة الذي كان يبت في أحكام القضاة، ومنها مدرس في المدرسة الرسمية (عربية - فرنسية) الي أسسها الفرنسيون منذ 1850 والتي كان مديرها محمد الشاذلي، وجد استسلام الحاج أحمد، الباي السابق، سنة 1848، جاءت السلطات الفرنسية بهذا الباي إلى قسنطينة قبل نقله إلى العاصمة عن طريق البحر. وفى تلك الأثناء اتصل به أحمد بن المبارك اتصالا يبدو أنه غير سياسي، ولكن الفرنسيين جعلوا من نزول الباي في المدينة مصيدة للمشبوهين في نظرهم، وهم أولئك الذين ما يزالون على ولائهم للباي أو يتعاطفون معه، ويقتضي ذلك معاداة الفرنسيين طبعا. فقام

هؤلاء بعزل أحمد بن المبارك عن الفتوى، وهكذا بقي مدة بدون وظيف عقابا له، وفي أوائل الخمسينات وجدناه مدرسا في المدرسة الرسمية، كما ذكرنا. ويذهب دورنون إلى أن الشيخ ابن المبارك قد اغتنم فرصة العزل وقام بكتابة رسائل وكتب لا تعرف أعدادها ولا أحجامها ولا موضوعاتها. منها: شرح الجوهر المكنون للأخضري، وهو في البلاغة وفنونها (البيان والمعاني والبديع)، ومنها (سلم الوصول) الذي ذكرناه في أول هذا الفصل، والجوهرة الثمينة، ولعله هو تاريخ قسنطينة لأن عادة السجع تقتضي ذلك، ولأن المستشرق شيربونو الذي ذكر الكتاب بذلك العنوان قد نقل عنه، بعد أن استعاره منه، نصوصا حول حصون قسنطينة وأحداثها مع تونس (¬1). وهذا يصدق على تاريخ قسنطينة الذي لم يذكر له دورنون ولا نور الدين عنوانا يتلائم مع عناوين التآليف العربية التقليدية. ولابن المبارك أيضا. قصائد في الرثاء مثل التي قالها في شيخه أحمد العباسي. وقد أشرنا إلى أن ابن المبارك كان من أتباع الحنصالية، وهي طريقة مسالمة للفرنسيين قياسا، على غيرها. وكان مؤسسها في نواحي قسنطينة هو الشيخ أحمد الزواوي، أما أصلها ففي المغرب الأقصى. وقد أصبح الحاج ابن المبارك هو شيخ الحنصالية أيضا في قسنطينة (¬2). ونجده قد وضع سلسلة لها تربطها بأصلها وفروع الطريقة الأخرى وتسندها. وقد توفي الشيخ ابن المبارك سنة 1870 (1287) في قسنطينة. ولعل الشاعر عاشور الخنقي من الذين رثوه (¬3). ومما سبق تعرف أن الشيخ ابن المبارك لم يكن مؤرخا بالمعنى الدقيق للكلمة، بل ليس له إحساس بالتاريخ كالذي نجده عند زميله ¬

_ (¬1) شيربونو (المجلة الشرقية والجزائرية)، عدد 13 سنة 1853، ص 311 - 327، وعنوان بحث شيربونو هو (آثار قسنطينة). (¬2) عن هذه الطريقة انظر فصل الطرق الصوفية. (¬3) يقول دورنون إن الشاعر العاشور (كذا) قد سجل تاريخ وفاة الشيخ أحمد بن المبارك. وكان عاشور الخنقي يعيش عندئذ (1870) في قسنطينة. ولكننا لم نجد في (منار الإشراف) إشارة إلى ذلك.

العنتري. وإنما كان راوية وعارفا ببعض الأخبار فسجل ذلك في تأليفه عن قسنطينة. وقد عرفنا أن له تأليف أخرى ذات أهمية في البلاغة والتصوف ونحوهما. 3 - كشف البضائع، لمحمد العنابي، وهو كتاب يصعب تصنيفه ضمن كتب التاريخ، ولكنه يحتوي على مادة تاريخية مفيدة، سيما حول الفترة المعاصرة للاحتلال. وكان العنابي من علماء قسنطينة المخضرمين، لم يذكره أبو القاسم الزياني في رحلته، ولعله جاء قسنطينة بعد الزياني من عنابة حيث شهرته ونسبته. ومهما كان الأمر فقد تولى العنابي بعض الوظائف الدينية العالية، مثل الفتوى المالكية في آخر عهد الحاج أحمد، وظل كذلك إلى ما بعد الاحتلال (1837) رغم عدم تأكدنا من ذلك الآن. ذلك أننا وجدنا اسمه ضمن قائمة من الموقعين على عريضة كتبها أعيان من قسنطينة ضد الشيخ حمودة الفكون الذي كان المارشال فاليه قد عينه رئيسا للبلدية. وكان ذلك في 25 يونيو، سنة 1842، وكان توقيعه على أنه مفتي المالكية (¬1). ولعله بقي في ذلك المنصب إلى وفاته أو عزله، حين حل محله الحاج أحمد بن المبارك، كما ذكرنا. ونحن نعرف أن ابن المبارك نفسه قد عزل من منصبه سنة 1848 حين رحب بالحاج أحمد، باي قسنطينة السابق. وبذلك يكون عزلة أو وفاة محمد العنابي بين 1842 - 1848. على أننا عثرنا في الوثائق على اسم من أسرته (قد يكون ابنه) قد حصل صاحبه على جائزة سنة 1868 من المدرسة السلطانية (الكوليج الإمبريالي) في قسنطينة. 4 - تاريخ بجاية، كتبه السعيد بن علي البجائي، بطلب من شارل فيرو، وقدمه إليه. ونحن لا ندري حجم ولا محتوي الكتاب الآن. والظاهر أنه تأليف صغير الحجم (تقييد) جمع فيه البجائي معلومات ضرورية عن تاريخ بجاية خلال العصور، ولا سيما العهد العثماني. وكان فيرو مهتما. ¬

_ (¬1) جمال قنان (نصوص سياسية)، الجزائر 1993، ص 101. علمنا أن مخطوطة (كشف البضائع) عند السيد محمد بن عبد الكريم، ولم نتمكن من الاطلاع عليها. وقد ذكره الشيخ الجيلالي من بين مراجعه وكذلك عبد الجليل التميمي.

بالتاريخ لمدن الشرق الجزائري، كما أسلفنا، فاستعان بالبجائي، وربما استعان بغيره في مشروعه. ويقول البجائي في رسالة إلى أحد أعيان السلطة الفرنسية سنة 1890 إن فيرو قد قام بترجمة عمله (زمان كونه مع الجنرال بوثوت (؟) بقسنطينة)، وكان فيرو قد توفي عندئذ (¬1). وقد تحدث البجائي عن نفسه فقال إنه يعرف العربية والقبائلية، وإنه عارف بالشريعة الإسلامية والعرف البربري. وإنه مدرس في علوم اللغة العربية، وإنه جمع أيضا المسائل العرفية عن زواوة، وقدمها إلى القاضي الفرنسي (سوطرة). كما علمنا منه أنه كان يجيد الخط العربي ويعرف بعض الفرنسية. وهذه المؤهلات كانت ترشحه في نظره إلى منصب معاون أهلي في المحاكم الفرنسية، ولذلك كتب (البجائي) إلى السلطات الفرنسية طالبا. منها هذا الوظيف. والذي يعنينا هنا ليس حياة البجائي الشخصية ولكن التاريخ الذي قدمه لفيرو عن بجاية. وكذلك القوانين العرفية التي قدمها إلى القاضي سوطرة (¬2)، كما يهمنا استغلال المثقفين الفرنسيين للمتعلمين الجزائريين استغلالا شنيعا بحيث جعلوهم في خدمة مشاريعهم التي يقصدون من ورائها في النهاية السيطرة وتخريب المجتمع، كما فرضوا عليهم أخلاقيات معينة وهي البحث عن العمل في مقابل تنازلات وكتابات وهدايا. 5 - ألف سعيد بوليفة كتابا بعنوان جرجرة عبر التاريخ أوائل هذا القرن. وواضح من عنوانه أنه يؤرخ لمنطقة زواوة على مختلف العصور. وقد عالج فيه مسألة الأصول والخصائص أيضا، وركز على روح الاستقلال عند أهل زواوة وعدم اختلاطهم بالآخرين، وهي النقطة التي عالجها أبو يعلى الزواوي أيضا، ثم إنه، حسب السيد سالم شاكر، قد رفض الدعوة الشائعة ¬

_ (¬1) بلقاسم بن سديرة (كتاب الرسائل)، ص 125 - 126، يضم رسالتين للبجائي إحداهما 1888، والأخرى 1890. (¬2) سوطرة، كان مبرزا في القانون الفرنسي والشريعة الإسلامية، وكان ضد القضاة المسلمين، وقد ساهم في الحملة المضادة للشريعة والقضاء الإسلامي. وكان رئيسا لمحكمة الاستئناف بالعاصمة.

عندئذ من أن أهل زواوة من أصول سلتية (فرنسية) أو إغريقية أو جرمانية، وأنه أغضب رينيه باصيه بتدريسه القبائلية بطريقة مخالفة لما يريده المستشرقون الفرنسيون (¬1). ونحن نذكر هنا رأي السيد شاكر رغم أننا لم نلمس ذلك بأنفسنا. وقد قلنا إن المستشرقين قد استغلوا المتعلمين الجزائريين لمصالحهم الاستعمارية. فكان بوليفة وابن سديرة وابن أبي شنب وإسماعيل حامد وأضرابهم من ضحاياهم. 6 - تحدثنا عن كتاب تاريخ الزواوة لأبي يعلى الزواوي أثناء تعرضنا للأنساب. والآن نود أن نذكره من جهة التاريخ. وكنا قد عالجناه كذلك في دراستنا لمشروع الكتاب نفسه عندما كان فكرة تدور في خاطر الزواوي، وهو في دمشق سنة 1912. وقلنا عندئذ إن (المشروع) قد أرسله إلى الشيخ طاهر الجزائري بالقاهرة (¬2). ولم نكن وقتها قد وقفنا على رأي الشيخ طاهر في المشروع، وبناء عليه فإن الشيخ طاهر قد امتدحه وهنأه على المشروع. وبدل أن يلبي دعوة أبي يعلى إلى كتابة تاريخ الزواوة حاول أن يوجهه إلى الكتابة عن لغة الزواوة أولا. ولا ندري هل كان ذلك ثنيا لأبي يعلى عن المشروع التاريخي السياسي (والشيخ طاهر كان لا يجهل سياسة فرنسا في بلاد الزواوة وغيرها) أو كان حقا يريد أن يخدم اللغة قبل خدمة التاريخ. ومهما كان الأمر، فها هو رأي الشيخ طاهر في مشروع أبي يعلى عن تاريخ الزواوة: (أحي فيك نزعة إصلاحية ونهضة زواوية. وقد أثبت لي كتابك هذا ما بلغني عنك من غير واحد. ثم اعلم أن تاريخ الزواوة تاريخ مجيد، وتراجم علمائهم أشهر من أن تذكر، وأكثر من أن تحصر، وإنما يلزم أن تحرر لنا رسالة في لسانهم قبل الشروع في تاريخهم) (¬3). أما الكتاب نفسه فقد قسمه أبو يعلى إلى سبعة فصول، رغم صغر ¬

_ (¬1) سالم شاكر (مجلة الغرب الإسلامي والبحر الأبيض المتوسط)، 1987، ص 105. عن حياة بوليفة انظر فصل الاستشراق وفصل اللغة والنثر. (¬2) انظر دراستنا هذه في (أبحاث وآراء في تاريخ الجزائر) ج 2. (¬3) أبو يعلى (تاريخ الزواوة)، ص 102.

حجمه. فجعل الفصل الأول في فضائل التاريخ، والثاني والثالث في نسب الزواوة ومحامدهم (وقد تعرضنا إلى ذلك)، والرابع في زواياهم وعلمائهم وخدمتهم للغة العربية، والخامس في بعض عاداتهم، والسادس في الاصلاح المطلوب، والسابع في لائحة نظام التعليم المقترح وبيان طريق التعليم. ومن الواضح أن فصول الكتاب ما هي إلا توسع في ما جاء في المشروع. وقد دافع الزواوي عن علم التاريخ وذكر فوائده الجمة للأفراد والجماعات، بل افتخر الزواوي بأنه أول من عالج الموضوع، منذ قرون، وأنه خدم به الزواوة والأمة (؟) خدمة جليلة. يقول: (هذا آخر ما تيسر في وضع هذا الكتاب الذي لم يقدم مثله في الموضوع، وخدمت به الطائفة (الزواوة؟) والأمة خدمة لم يخدمها أحد منذ قرون). ورغم تعريف الزواوي للتاريخ بما يتفق وما عرفه عن الفرنسيين والأوروبين عموما ومع ما له من أهمية في حياة الأمم والشعوب والشعور القومي، فإنه في الحقيقة لم يلتزم بذلك في الكتاب، وإنما جعل الكتاب مجموعة من المعلومات الاجتماعية والدينية والثقافية من تراجم وعادات وزوايا. وقد أدخل فيه أيضا رأيه في الإصلاح العام (¬1). وما دام الكتاب قائما على المشروع السابق، فلنشر هنا باختصار إلى أن المشروع ضم أبرز النقاط التي احتواها الكتاب. وهي: إفراد الزواوة بالمحامد وجعلهم خالصين آريين (وهو رأي حذفه من الكتاب، بعد أن التقى بالشيخ طاهر في مصر، وسكن معه، وتمسك بكون أهل زواوة حميريين قحطانيين)، ورأي بعض الساسة الفرنسيين في الزواوة وكون فرنسا تفتخر بهم أو تعطف عليهم (وهو أيضا رأي حذفه الزواوي من الكتاب لنفس الأسباب تقريبا)، ونفى المقولة أنهم أدنى من غيرهم لأنهم بربر ولا يتكلمون العربية، ومقارنة ذلك بما كان يشاع عن العرب والترك في المشرق (وهذا الرأي أيضا، خفف منه الزواوي كثيرا في الكتاب)، وكونه في عصر ¬

_ (¬1) انتهى منه سنة 1337 (1918) ونشره في دمشق (سورية)، سنة 1924. وقد أورد فيه بعض أخبار الزواوة أيضا في بلاد الشام سنة 1860. انظر أيضا الخالدي (دور المهجرين ...)، ص 391.

القوميات ولا بد أن يكون ذلك في فائدة الزواوة والتعريف بمآثرها، ولأن كل أمة جاءت لتدرس تاريخها وجغرافيتها، والإشادة بمواقف الزواوة في مختلف المناسبات، وإعانتهم للأمير عبد القادر سواء أثناء مقاومته أو أثناء تدخله في فتنة الشام، وإشادة الأمير بهم. وقول الزواوي (الرجل هو الذي يخدم جنسه وملته) مخاطبا بذلك الشيخ طاهر حاثا له على كتابة كتاب يحمل اسمه اللامع ليترجم الكتاب إلى الفرنسية وليقرأه الناس في اللغتين ويعرفوا عن الزواوة الكثير من خلاله. ويدخل في هذا الحث والمقارنة قول الشيخ أبي يعلي إن الفرنسيين والإنكليز خدموا (الجنس والأمة والوطن ففازوا وملكوا العالم) (¬1). 7 - تاريخ أو تقييد كتبه محمد البابوري، سنة 1848. والبابوري يظهر أنه شخصية متعلمة جيدا، ومن أهل قسنطينة عند احتلالها. وقد ألف كتابه الذي نجهل عنوانه بطلب من المستشرق شيربونو (؟). وقد أشار إلى ذلك فايسات. وكان شيربونو قد حل بقسنطينة في الخمسينات عند إنشاء كرسي (حلقة) اللغة العربية. ولم يصف لنا فايسات عنوان الكتاب ولا حجمه ولا أهميته بالمقارنة مع غيره. ولا ندري هل الكتاب في تاريخ قسنطينة العام أو يتناول فترة منه فقط. ورغم قول فايسان إن البابوري شخصية متعلمة فإننا لا نجد له ذكرا إلا نادرا في الوثائق المعاصرة التي اطلعنا عليها. ومهما كان الأمر فإن فايسات قد جعله من بين مصادره عندما كتب تاريخ قسنطينة تحت حكم البايات العثمانيين، ولعله ضاع معه (¬2). 8 - تاريخ آخر ألفه مصطفى ابن جلول واعتمد عليه أيضا فايسات في كتابه المذكور. ومصطفى بن جلول من عائلات قسنطينة الشهيرة، منذ القرن السابع عشر. وأصلهم، حسب بعض المراجع، من المغرب، وكانوا يسمون بابن عبد الجليل. وتولوا الوظائف السامية في الإدارة، ومنها وظيفة الفتوى ¬

_ (¬1) بالإضافة إلى ما كتبناه عن المشروع في أبحات وآراء، انظر المخطوطات التيمورية، مصر، رقم 956 تاريخ. (¬2) فايسات (روكاي) 1867، ص 247 - 254.

التي ولاها الشيخ مصطفى، وكذلك التدريس. ولا ندري هل الشيخ مصطفى بن جلول كتب تاريخا على غرار الحاج ابن المبارك والعنتري أو كتب تقييدا بطلب من أحد المستشرقين أو الضباط الفرنسيين، مثل بواسوني وشيربونو. وقد أوردت بعض المصادر الفرنسية أن ابن جلول كتب عن علاقة والده (؟) مع أحد البايات وكيف حول الباي الجامع الذي بناه ابن جلول الأب إلى اسمه الخاص. وهو موقف إذا صح، يعبر عن تزلف ابن جلول للفرنسيين والتنديد (بالأتراك) الذين وظفوا أجداده وآباءه (¬1). 9 - تشير أوراق عائلة آل سحنون إلى أن الشيخ محمد الشريف السحنوني كان قد كتب تقاييد في تاريخ زواوة، وكانت هذه التقاييد موجودة إلى سنة 1958 حين تلفت أو ضاعت نتيجة المداهمات العسكرية الفرنسية وقت الثورة. ويبدو أن التقاييد لم تكن تاريخا بمعنى الكلمة وإنما كانت سجلات لأحداث وتراجم لأشخاص وتقاييد عن الزوايا وأخبار أهلها. فهل تلفت نهائيا (¬2)؟. 10 - علاج السفينة في بحر قسنطينة، اسم لكتاب في التاريخ والأخبار، ألفه أحمد الأنبيري، وهو غير جزائري بالمولد ولكنه تونسي بالنشأة وقسنطيني بالإقامة والعمل والوفاة (؟) وكان الأنبيري قد دخل تونس أسيرا صغيرا، وتربى فيها، واعتنق الإسلام، وتسمى بأحمد وأصبح يلبس اللباس الإسلامي. وكان اسمه الأصلي نيقولا، ولعله كان من أصل يوناني. وكان يجيد الخط العربي، وله فيه لوحات وتفننات عديدة. وألف كتابه بعد أن أقام في قسنطينة خمس عشرة سنة. وكان مترجما محلفا منذ 1847. وقد اعتمد على سبعة وعشرين مصدرا عربيا، إضافة إلى وثائق قضائية عديدة، ¬

_ (¬1) نفس المصدر 1867، ص 243 - 244. بالإضافة إلى ما ذكرناه أشار فايسات إلى أنه اعتمد على تواريخ (كرونيك) أهلية قديمة. فما هي يا ترى؟ وأين هي الآن؟ وعن علاقة الباي بالجامع الذي قيل إن والد ابن جلول بناه انظر فصل المعالم الإسلامية. (¬2) أخبرنا عنها إبنه الشيخ علي أمقران السحنوني وقال إن له أيضا (مراجعات في مختلف الفنون).

كما اعتمد على مؤلفات أوروبية. ولا ندري لماذا لجأ الفرنسيون إلى ترجمة مؤلفات أحمد بن المبارك والعنتري عن قسنطينة وأهملوا ترجمة (علاج السفينة) رغم أن الكتاب الفرنسيين أنفسهم قد استفادوا منه، مثل شيربونو. ومن مراجع الكتاب: ابن خلدون، وابن فرحون، ومحمد بن يوسف الوراق، والواقدي، وأبي بكر المالكي، وابن مسكين، والكلاعي، وابن الشباط التورزي، وابن نباتة، وابن الرقيق القيرواني، وابن ناجي ... وقد لاحظنا أن الكتاب الفرنسيين قد أهملوا الحديث عن الإنبيري، وإذا ذكروه لمزوه. فهل هذا راجع إلى كونه اعتنق الإسلام؟ أو لكونه قد دخل في عالم (الأهالي) وأصبح منهم وتعاطف معهم، وربما تزوج منهم؟ على أنه من المهم أن نقول إن تاريخه لا يقل أهمية عما كتب عن قسنطينة سواء من الجزائريين أو غيرهم (¬1). وحوالي 1955 كتب المستشرق الفرنسي هنري بيريز عن (الثقافة العربية الكلاسيكية في الجزائر) (ويعني بها ثقافة اللغة الفصحى أو غير الدارجة، وهي التي كان يعتبرها الفرنسيون لغة أجنبية وميتة) وتحدث عن ثلاثة مؤلفين كتبوا تاريخ قسنطينة في القرن 19، ولكنه لم يذكر أحدا منهم. ونظن أنه يعني العنتري وابن المبارك والبابوري. كما أنه أضاف أن ذوقا خاصا في العناية بالتاريخ المحلي والتاريخ العام قد ظهر عند الجزائريين، وكذلك لم يذكر منهم أحد. وزعم بيريز أن هذا الإحساس بالتاريخ أو الذوق الخاص فيه قد تزامن مع الصحوة الشعرية. ولا شك أنه كان يشير إلى الميلي والمدني ثم الجيلالي (¬2). ¬

_ (¬1) ميترو دولا موت - كابرون Maitrot de la Motte - Capron (احتلال قسنطينة من قبل عرب المشرق) في (روكاري)، 1927، ص 219 - 235. انظر أيضا دراستنا عن (علاج السفينة) في أبحاث وآراء، ج 1. ويقول موت - كابرون إن الأنبيري من إحدى جزر البحر الأبيض، دون تحديد. ويسميه الشيخ المهدي بن شغيب (علي الأنبيري)، انظر كتابه (أم الحواضر)، قسنطينة. (¬2) بيريز (مدخل إلى الجزائر)، ط. الجزائر، ص 297.

11 - احتلال الجزائر سنة 1830، حسب شهادة كاتب مسلم، وهو حسن بن جلول. وقد قام فيرو بترجمة النص العربي إلى الفرنسية ونشره في مجلة روكاي (¬1). وهو في الواقع من نوع التقييد. وقد وجده فيرو عند عائلة ابن جلول المعروفة في قسنطينة، وكانت تشغل وظيفة باش كاتب بالإدارة العثمانية، ولها اتصال بالأخبار والأحوال السياسية. ويقول فيرو إن ما ترجمه هو مجموعة ملاحظات ونصوص وتعاليق من العائلة حول تاريخ قسنطينة واحتلال الجزائر. وقد سلمها إليه حسن بن جلول. ولكن العنوان يدل على أن حسن هذا هو الذي صاغ تاريخ الجزائر عندئذ. وقد كان حسن بن جلول كاتبا لدى إدارة الشؤون العربية (المكتب العربي) بقسنطينة أوائل الاحتلال. وقد ركزت الوثيقة على نشاط ما كان يعرف (بحصن فرنسا) نواحي القالة وعلاقة تجار قسنطينة بعنابة والفرنسيين في الحصن وكيف بدأت أخبار الحملة الفرنسية تروج وتصل إلى قسنطينة وغيرها. وتذكر الوثيقة أن المركانتي (الممثل التجاري للباي في عنابة) قد أعلم الباي الحاج أحمد بما جرى في عنابة والحصن، ثم الحصار الفرنسي سنة 1827، والإنزال في يونيو 1830، وسير المعركة بين الجيشين نواحي سيدي فرج، ومحاولة الباي التحكم في الوضع في منطقته. ثم وصفت ما حدث بعد معركة اسطاويلي وتقدم الجيش الفرنسي نحو العاصمة، وانسحاب الحاج أحمد من هناك إلى قسنطينة، وتولى بومزراق قيادة الجيش، وما حدث مع الأعيان وسير المفاوضات مع الداي ثم مع الفرنسيين. كما وصفت الهلع الذي أصاب الناس. 12? مخدرة الشيخ العروسي، وهي كما قال الشيخ التليلي عبارة عن تقاييد تاريخية خاصة بمنطقة سوف، وبالأخص بلدة قمار، بعد احتلال فرنسا ¬

_ (¬1) فيرو (احتلال الجزائر 1830، كما يراه مسلم)، في مجلة (روكاي) 1865، ص 67? 79.

تواريخ محلية (الغرب)

لصحراء الجزائر (¬1). والشيخ العروسي من علماء ومقدمي الزاوية التجانية في قمار وتماسين. وتوفي حوالي 1925. وكان الشيخ إبراهيم العوامر قد استفاد من المخدرة ونقل منها في كتابه الصروف في تاريخ سوف. تواريخ محلية (الغرب) نتبع في هذه الفقرة نفس الطريقة التي اتبعناها في الفقرة السابقة، فندرس تواريخ الناحية الغربية أو ولاية وهران القديمة وجزءا من ولاية الجزائر. ويبدو لنا من المؤلفات وأهلها أن هذه الناحية قد حظيت أكثر من الناحية الشرقية بمؤلفات هامة ومتعددة، فلماذا؟ هل كان للمقاومة الطويلة في الغرب دخل في ذلك؟ أو هل هناك دخل لحالة العلم والتصوف المنتشرة عندئذ بكثرة وصعود عدد من رجال العلم والدين إلى السلطة في عهد الأمير؟ ليس لدينا جواب واحد في ذلك. والملاحظ أن حركة التأليف قد استمرت طيلة القرن تقريبا، فمن مؤلفات مسلم بن عبد القادر وحسين خوجة في البداية إلى مؤلفات المزاري والشقراني والمشرفي والزياني في حوالي الثمانينات. ونلاحظ أيضا أن بعض المدن لم تحظ بمؤلفات، رغم شهرتها السابقة بالعلم والمكتبات، مثل تلمسان ومليانة ومعسكر ومستغانم ومازونة. ومهما كان الأمر، فإن التأليف في الناحية الغربية خضع أيضا لنفس الظاهرة التي سادت في الناحية الشرقية، ونعني بذلك الاستجابة لطلب ضباط المكاتب العربية والمستشرقين الفرنسيين كتابة تواريخ وصفية من أهل العلم والقضاء والأعيان في الناحية. إن أشخاصا مثل ايسترهازي الذي كتب مبكرا تاريخ الناحية الغربية في العهد العثماني، وبروسلار الذي كتب عن الآثار العربية في تلمسان، والأب بارجيس الذي اهتم بتاريخ تلمسان في العهد الزياني بالخصوص، كانوا فى الحقيقة معتمدين على متعلمين جزائريين ¬

_ (¬1) مراسلة من الشيخ محمد الطاهر التليلي، يوليو 1995. وللشيخ التليلي نفسه تقاييد عديدة في حوادث سوف وتاريخه ورجاله. وعمره الآن 87 سنة.

يكتبون لهم الخطوط العريضة ويبصرونهم بالتواريخ والأحداث البارزة، ثم يأخذون هم في الغربلة والتصفية والمقارنة ويحتكمون أيضا إلى الوثائق الفرنسية والإسبانة، وإلى خيالهم أحيانا بما يتفق وأهدافهم ومصالحهم في الجزائر، ثم يخرجون على الناس ببعض المؤلفات التي توحي بأنها جميعا من صنعهم الخاص. وننبه إلى أن بعض ما كان يكتبه الجزائريون للفرنسيين كان مجهول المؤلف تماما، كما حدث للتقييد المعروف باسم (إتمام الوطر في التعريف بمن اشتهر)، وأحيانا يكتفي الفرنسيون بقولهم (تأليف أهلي). وكانت بعض التقاييد تكتب تحت الإلحاح والحاجة من الطرفين: الفرنسي يحتاج المادة التاريخية، والجزائري: يحتاج الوظيف والزلفى. ونلاحظ أنه وقع العبث ببعض المؤلفات التي كان أصحابها معروفون. فيقع تغييب الاسم ويبقى المؤلف مجهولا. وهناك عبث آخر، وهو نزع الصفحات الكاملة من المؤلفات المعروفة، كما حدث لسيرة مؤلف كتاب (طلوع سعد السعود). وقد وجدنا حوالي عشرين صفحة منزوعة من كتاب (القول الأوسط) للشقراني. وقس على ذلك. إن هناك تدميرا مستمرا لحركة التأليف، ولا سيما إذا كان فيها تعريض بما ارتكبه الفرنسيون في الجزائر من ذنوب. وهذه الظاهرة لا نكاد نجدها في المؤلفات التي تعاملت مع تاريخ قسنطينة. فإذا عرفت ذلك، فلنشرع في ذكر المؤلفات وأصحابها بقدر ما نملك عنها من معلومات: 1 - أنيس السهران ودليل الحيران، لمسلم بن عبد القادر الحميري. وهذا المؤلف كان من أعيان الكتاب والإداريين في وهران. وكان لقبه باش دفتر (كبير الكتاب) في الإدارة المخزنية. وكتابه جامع وكبير، ولكن ما بقي منه ليس جامعا ولا كبيرا. وقد توفي مسلم في أوائل الاحتلال (1249) سنة 1833. وبقي كتابه متداولا بين أيدي الضباط والمستشرقين الفرنسيين فترة

طويلة قبل أن يقوم المستشرق أدريان ديلبيش سنة 1874 بترجمته ونشره (¬1). ومحتوى الموجود من الكتاب يدور حول آخر بايات وهران وما وقع في عهدهم من الحوادث. ووقت تأليفه هو سنة 1814، ولكن يبدو أنه أضاف إليه أمورا بعد الاحتلال أيضا، لأننا نجد فيه تاريخا آخر وهو 1832. ولو عثر الباحثون على كل أنيس السهران لكان فيه فائدة عظيمة لمعرفة صاحبه بالأخبار والوثائق. وقد ذكر المهدي البوعبدلي أن لمسلم بن عبد القادر كتابا آخر لم يذكر موضوعه، مما جعلنا نظن أنه قد يكون هو نفس التأليف. يقول البوعبدلي إن الكتاب الآخر كان بخط محمود بن حواء، ويرجع نسخه إلى سنة 1232 (قبل الاحتلال باثنتي عشرة سنة)، وعليه تقريظ من الشيخ أحمد بن الطاهر، قاضي أرزيو وشيخ الأمير عبد القادر. وأضاف الشيخ المهدي أن هذا الكتاب كان موجودا بالمكتبة الوطنية الجزائرية برقم 893 (¬2). 2 - در الأعيان، تأليف آخر لأحد الخوجات أو كتاب المخزن في وهران أيام الحكم العثماني، والمؤلف هو حسين بن أحمد خوجة بن الشريف. وكان والد المؤلف (أحمد خوجة) أيضا من أعيان الكتاب، وأصل العائلة من مستغانم. وقد انتصب أحمد أيضا للتدريس في جامع وهران. وكان الأمير عبد القادر من تلاميذه هناك أثناء إقامة الأمير الجبرية مع والده في وهران على عهد الباي حسن بن موسى، وهو آخر البايات. ويبدو من اللقب (خوجة) أن العائلة قد تكون كرغلية، وقد تكون اكتسبت هذا التلقيب (الخوجة) بالوظيف. ¬

_ (¬1) أدريان ديلبيش (المجلة الإفريية)، 1874. كما حقق رابح بونار منه الخاتمة فقط ونشره سنة 1974. وقد دفن مسلم بن عبد القادر في بلدة تارقة بمكان يعرف بسيدي المسعود. ويبدو أن بقية الكتاب قد ضاعت. (¬2) المهدي البوعبدلي (دليل الحيران)، ص 3، 45، وهامش 43 ص 49. والمعروف أن قاضي أرزيو المذكور قد حكم عليه بالإعدام ونفذ فيه لاتهامه بالتعامل مع الفرنسيين.

أما الابن، حسين خوجة، فهو الذي عاصر الاحتلال الفرنسي. ولا شك أنه كان من الذين خرجوا من وهران أثناء غزوها في شتاء 1830 - 1831، إذ تثبت الأحداث أنه لم يبق بوهران عندئذ سوى حوالي 300 من اليهود والعجزة. فهل التحق حسين خوجة بمستغانم موطن أهله، والتي احتلت بعد ذلك بقليل؟ إن ما يهمنا هنا هو أن حسين خوجة قد يكون ألف كتابه بطلب من أحد الفرنسيين أيضا. وقد يكون ألفه من وحي ظروف الاحتلال بعد أن توقف عن نشاطه الإداري ولازم بيته. ولا شك أن له من الوثائق العائلية والإدارية والقضائية ما يؤلف منه كتابا هاما. ولكن كتابه، مع ذلك، يعتبر مفقودا. وربما عبثت به الأيدي الفرنسية، كما ذكرنا، فأخذ منه مؤلفو الفرنسيين ما أرادوا ثم غيبوه، لأنه يستبعد أن يكون قد تلف تماما، وربما أخذه أحدهم إلى فرنسا وبقي في أوراقه الخاصة. ولكن البوعبدلي يخبرنا أن كلا من الزياني والمزاري قد أخذ من كتاب (در الأعيان)، ثم يقول إنه لا يظن أن الكتاب موجود (¬1). فإذا كان الأمر كذلك فالكتاب ظل موجودا إلى سنوات الثمانين من القرن الماضي. ونفهم من الشيخ البوعبدلي أن مسلم بن عبد القادر الحميري قد تولى الكتابة بعد حسين خوجة، فحين وقع الاحتلال كان المباشر للكتابة المخزنية في وهران هو مسلم وليس حسين خوجة. 3 - حملة الباي على شلالة من المعروف أن الباي محمد الكبير، باي معسكر ثم وهران، في العهد العثماني، قد حظي بعدة تآليف تحدثنا عنها في الجزء الثاني، ومنها رحلة هذا الباي إلى الجنوب - نحو الأغواط وعين ماضي وشلالة - وإذا شئت سميتها حملته على هذه المنطقة وإخضاعها لسلطته. وقد سجل ذلك كاتبه أحمد بن هطال الذي توفي في إحدى المعارك بين الدرقاويين والباي مصطفى المنزالي (¬2). ولا يهمنا الآن عمل ابن هطال لأنه كتب قبل العهد الذي ندرسه، ولكن يهمنا ما ألفه كاتب مغمور حتى الآن، واسمه محمد بن ¬

_ (¬1) البوعبدلي (دليل الحيران)، هامش 44، ص 49. أيضا رسالة بعث بها إلى بتاريخ 10 - 10 - 1979. (¬2) بالإضافة إلى عملنا في الجزء الثاني انظر (دليل الحيران) بتحقيق البوعبدلي، المقدمة.

بلقاسم الزاوي، وعنوان عمله شبيه بعمل ابن هطال، وهو حملة الباي محمد الكبير على شلالة. ولا ندري إن كان العنوان من وضع المؤلف أو المترجم لويس برينييه. وكان السجع هو الغالب على العناوين العربية عندئذ. ونحن لم نطلع على الأصل العربي لنصفه، ولذلك سنعتمد على الترجمة المذكورة فقط. يفهم من هذه الترجمة أن التأليف وقع بعد الاحتلال، أي سنة 1255 (1839). والغالب أن الزاوي ألف ما ألف بطلب من أحد ضباط المكاتب العربية، رغم أن شلالة في تلك الفترة (1839) ما تزال خارج نطاق الاحتلال. ولكن هل كان المؤلف يعيش في شلالة عندئذ أو في إحدى المدن المحتلة؟ إن بريييه يؤكد أن التأليف يتضمن المعارك التي خاضها الباي المذكور وجنوده ضد سكان شلالة الظهرانية (الشمالية). وفي ذلك تأكيد على أن الفرنسيين يريدون أن يعرفوا ويفخموا مشاعر الناس ضد (الحكم التركي) الظالم الجائر بالمقارنة إلى الفرنسي العادل المحسن (؟). ولكن برينييه لم يعجبه من الكتاب شيء سوى محتواه التاريخي، أما مؤلفه فقد وصفه بأنه شخص غير معتاد على نقل الأفكار شأن معظم العرب (؟)، حسب تعبيره. وقال عن ملاحظاته إنها ساذجة، وإن تراكيبه متواصلة وغير مفصولة الجمل، وإن أسلوبه مهلهل. أما التعاليق والفواصل ونحوها من تقنيات الكتابة فالمؤلف غريب عنها، حسب المترجم برينييه (¬1). ¬

_ (¬1) لويس برينييه (حملة الباي محمد الكبير على شلالة) في (المجلة الإفريقية)، 1860، ص 175 - 186. ويفهم من هذا أن عدد الصفحات حوالي أحد عشر صفحة في الترجمة. فهل الأصل العربي كذلك أو هو مختصر؟ ومهما كان الأمر فهو يدخل فيما نسميه (تقييد) وليس كتابا. أما برينييه فهو الذي تولى حلقة الدراسات العربية سنة 1836 في الجزائر وظل على رأسها إلى وفاته سنة 1869. وقد ترجمنا له في فصل الاستشراق. وفي تعليق للمحرر بالمجلة الإفريقية بنفس المصدر، أن الضابط ديليني الذي تولى المكتب العربي بمعسكر، قد نشر (رحلة الباي محمد الكبير على شلالة) في جريدة (المونيتور الجزائري) في أعداد 5، 10، 15، 20 من فبراير 1847. وقال المحرر إن النصين مختلفان، رغم أنهما عن نفس الموضوع، فهل ما نشره ديليني غير النص الذي كتبه محمد الزاوي وترجمه برينييه؟.

4 - طرس الأخبار، لأبي حامد العربي المشرفي. وهذا أحد المؤلفات الهامة التي تجمع أخبار الاحتلال ودولة الأمير عبد القادر وما أحاط ذلك من علاقات داخلية ودولية. والمشرفي من الجيل المخضرم الذي حضر الاحتلال وتكوين دولة الأمير، ثم هاجر إلى المغرب بعد الاستيلاء على معسكر وواقعة الزمالة (1843). وقد رجع إلى الجزائر حوالي 1849، ثم جاءها عابر سبيل بعد سنوات طويلة (1877). ولكن كتابه ألفه بعد هجرته الأولى، وفيه تعريض كبير بتصرفات الأمير وكونه قد تأثر (بأهل دائرته الفجار)، حسب تعبير المشرفي. ورغم أنه من قوم الأمير ومن أنصاره الأولين فإنه قد تأثر من بعض مواقفه التي رآها منافية للعدل، فاختار الهجرة. هذا رأيه الشخصي ورأي عدد من الجزائريين أمثاله عندئذ. وقد رأى المشرفي أن الدعوة إلى الهجرة الجماعية بدعوى استيلاء (الكافر) الفرنسي على الجزائر، غير وجيهة، وأنه من الواجب البقاء وعدم الهجرة، واستشهد بعد ذلك بعدة شواهد، ولا ندري كيف ينسجم ذلك مع خروجه هو من البلاد. وقد قلنا انه هاجر إلى المغرب الأقصى. بنى المشرفي (طرس الأخبار) على مقدمة وسبعة فصول وخاتمة. والفصول هي: - في سبب ظهور هذا الجنس من الإفرنج (الفرنسيين) وغزو الجزائر من سيدي فرج. فهو موضوع يتعلق بأصل الفرنسيين وحملتهم على الجزائر عامة. وهو يسمي الفرنسيين (الكفرة وعبدة الأصنام) ويقول (دمرهم الله) كلما ذكرهم، أو (أذلهم الله)، أو (كسر شوكتهم). - في ذكر السنة التي وقعت فيها الحملة وما جرى بين الفرنسيين وبين الأتراك من حروب واحتلال مدينة الجزائر وافتراق المسلمين. - في ذكر احتلال وهران والمرسي الكبير وخروج الناس منهما، وظهور مبعوث سلطان المغرب، الأمير علي.

- في ذكر قيام أهل غريس وبني عامر ومن والاهم واتفاقهم على الجهاد بدون أمير (لكن بقيادة الشيخ محيي الدين). - في ذكر مبايعة الحاج (هكذا يلقبه المشرفي، وكل الناس عندئذ) عبد القادر على الجهاد وبعض الوقائع التي جرت حول الجزائر ووهران ومن مات فيها. وينفي المشرفي أن يكون الناس قد بايعوا عبد القادر على إمارة الجيش التي هي في نظره تختلف عن مبايعة الجهاد. - في سبب استيلاء الفرنسيين على الجزائر عموما، من حدود المغرب إلى حدود تونس، وسبب (تشتت العربان). - فيمن عاير أخاه بالتنصر ... وقال له: اهجر معي إني مهاجر، وإن بقيت فأنت كافر، أي معالجة مسألة الهجرة من الجزائر. فأنت ترى أن العمل يحتوي على الحملة والاحتلال وتقدم المقاومة ومعالجة عدة مواضيع متصلة بذلك كالمبايعة والإمارة والهجرة، وتدخل سلطان المغرب بتوسل من بعض الجزائريين، وباي تونس بالتحالف مع الفرنسيين. وقد عالج المشرفي أيضا موضوع الفتاوى التي كان يطلبها الأمير من أعيان رجال الدين في المغرب ومصر لتطبيق حكم الشريعة بالنسبة للضرائب والمعونات المالية أو بالنسبة للهجرة والتعامل مع العدو. وجاء على أجوبة الشيخ التسولي الشهيرة، والشيخ الحراق، والشيخ عليش المصري. ومن رأي المشرفي بقاء المسلم الذي غلبه النصارى على وطنه وعدم الهجرة، ولا يعتبر ذلك منه عصيانا أو كفرا، كما ذاع عندئذ على لسان فريق آخر. ومن رأيه أيضا أن سبب الاحتلال يرجع إلى كون فرنسا أرادت أن تسترد النقود التي دفعتها للجزائر (؟) مقابل موقفها المستقل من الدولة العثمانية، وهذه الفكرة موجودة في كتاب آخر ألفه عبد السلام بن محمد اللجائي بعنوان (المفاخر العلية). كما أن كتاب المشرفي يترجم لعدد من أعيان الناحية والعصر. وحاول أن ينبز سياسة الأمير وحاشيته، كما ذكرنا، وذهب حتى إلى التعريض بوالده حين قال إنه أوصى ابنه (الأمير) بالاعتماد

على الموظفين الرسميين وقتل الدرقاويين. وقد قلنا إن الكتاب يتعرض أيضا لدور محمد علي باشا مصر في احتلال الجزائر، وهو الدور الذي لم يتحقق، ولحلول نائب باي تونس بوهران أيام المارشال كلوزيل. وإذا غربلت هذه الأفكار كلها، فقد تجد المشرفي من دعاة النفوذ الشريفي (حكم سلطان المغرب) في الجزائر. فأنت تراه يقف ضد العناصر الأخرى فيها، من الفرنسيين إلى العثمانيين، وضد تدخل تونس في وهران، وتحالف قبائل الزمالة والدوائر مع الفرنسيين. أما الجهة التي لم يهاجمها فهي النفوذ المغربي، كما ذكرنا. ومهما كان الأمر فإن للمشرفي آراء أخرى حول نفس الموضوع في كتبه العديدة. فله رحلات وأشعار وكتب تاريخية وكنانيش. وقد عالجنا ذلك في بحث عن حياته ومؤلفاته (¬1). أما طرس الأخبار فيظل متميزا بروح خاصة، وكأن صاحبه ألفه ليدلي بدلوه في الحياة السياسية عندئذ، فهو من هذه الناحية يشبه كتاب (المرآة) لحمدان خوجة، إذ يعالج مثله القضايا الساخنة عن قرب شخصي يجرده أحيانا من الموضوعية. وقد قيل إن محمد بن أبي شنب قد حقق طرس الأخبار، ولعله فعل أو بدأ فقط في تحقيقه، ولكنه لم ينشر لا أثناء حياته ولا بعد وفاته. ثم حاول الشيخ علي أمقران السحنوني تحقيق الكتاب بإشرافنا ووضع له خطة ومقدمات، ثم توقف عن عمله ولا ندري أين وصل فيه. وقد علمنا أنه اعتمد على سبع نسخ تقريبا، بعضها مصور فقط عن نسخ أخرى. ومعظمها في المغرب الأقصى (¬2). ¬

_ (¬1) انظر (مؤلفات المشرفي) في كتابنا (أبحاث وآراء)، ج 2. وسبق أن نشرناها في مجلة (الثقافة) عدد خاص بالأمير 1983. (¬2) علي أمقران السحنوني، مخطط تحقيق (طرس الأخبار)، قدمه إلي في 2 فبراير 1983. ومن النسخ نسخة الكتاني بالخزانة العامة، الرباط، 496 ك، ونسخة المكتبة الملكية بالرباط 1476، ونسخة أخرى بالخزانة العامة - الرباط 6533، وأخرى فيها 4965، بالإضافة إلى نسختي المصورة، والنسخة التي قيل إنها عند ابن أبي شنب. وقبل وفاته ببضعة أشهر أرسل إلي المرحوم السحنوني نسخة من خطة بحثه عن طرس الأخبار.

5 - كتاب الدوائر والزمالة وحركاتهم، وهو كتاب يجمع بين التاريخ والأنساب، ألفه أحد أعيان هذه القبائل المنخزنية الشهيرة وهو أحمد ولد قاضي، المعروف باشاغا فرندة، وقد أنقذ كتابه بنشره في المطبعة (¬1)، خلافا لبعض زملائه الذين ظلت كتبهم نهب الأيادي العابثة، كما ذكرنا. كان ولد القاضي من أعيان المخزن في غرب البلاد، وهو نفسه من قبائل الزمالة والدوائر، وكذلك المزاري مؤلف (طلوع سعد السعود). حكم ولد القاضي فرندة بلقب آغا، وكان له نفوذ واسع وسمعة في الناحية، ومع ذلك لم يحمه اللقب من غضب الفرنسيين عليه أحيانا وتوريطه في قضايا محلية معقدة، مثل قضية سيدي بلعباس (¬2)، سنة 1881. وحين ذكره أوغسطين بيرك الذي عاش في نواحي تيهرت وتولى الشؤون الأهلية، أظهر الامتعاض من ذكر اسم ولد القاضي، ولكن الفرنسيين استفادوا من تحالفهم مع الزمالة والدوائر، وحفظوا لهم بعض المصالح، واستدعوا رجالهم إلى فرنسا لحضور المناسبات الهامة إظهارا لتعاطفهم، ومن هؤلاء ولد قاضي نفسه. وسنرى أنه اغتنم فرصة وجوده في باريس سنة 1878 فكتب رحلة وقدم مطالب باسم الجزائريين تعتبر عندئذ مطالب جريئة (¬3). والكتاب الذي أصدره ولد قاضي سنة 1883 وأرخ فيه للدوائر والزمالة يعتبر تسجيلا لدورهم منذ الاحتلال ودورهم في التاريخ عموما باعتبارهم من الارستقراطية المخزنية المتنفذة. وفي الكتاب من على الفرنسيين وشكوى من حالة هذه القبائل بعد القوانين ¬

_ (¬1) وهران، 1883. (¬2) في 1881 اعتقل الفرنسيون بعض الأعيان بدعوى أنهم كانوا يعقدون اجتماعا سريا في الليل، ومن بينهم أحمد ولد القاضي. كان ذلك في نواحي سيدي بلعباس، وكان الفرنسيون متوترين من العلاقة بين أحداث تونس التي احتلوها في نفس السنة والمؤامرات في الجزائر ضدهم. انظر كريستلو (المحاكم)، ص 235 - 236. ويقول كريستلو إن ولد قاضي كان ضد تدخل الارستقراطية الدينية في الحكم والسياسة. وكان يريد الاستفادة منها فقط. ولذلك عادى المرابط الحاج البشير بن خليل مما تسبب في نفي هذا الشيخ وسجنه في كورسيكا سنوات طويلة، ص 201. (¬3) انظر فصل العرائض من الحركة الوطنية، ج 1.

التي مست الارستقراطية (الأجواد) العربية بصفة عامة، مثل قانون الأرض سنة 1863، وسنة 1873. ومن الملاحظ أن ولد قاضي ألف تاريخ الزمالة والدوائر (قبيلته) بعد أن يتخلص من الاتهام في التورط المذكور. وقد اعتبره بعض المؤرخين عملا دعائيا لصالح العائلة من جهة وصالح القضية الوطنية (الأهلية) من جهة أخرى (¬1). أما الكتاب نفسه فقد تحدث فيه عن دور القبائل المذكورة، وعن واقعة وادي التافنة التي حضرها. وأظهر فضل الزمالة والدوائر على الفرنسيين باعتبارهم أول من دخلوا تحت حكم فرنسا (1835)، وخاطروا بأنفسهم، وشاركوا في الحروب مع الفرنسيين وتعرضوا لذلك لهجومات الأمير عبد القادر، وقطع رأس زعيمهم مصطفى بن إسماعيل، بينما أصبح أولاده بعده مهملين. وقد اتبعوا نصيحة المارشال بوجو، بعد أن قسم الأرض عليهم جزاء لهم على خدمتهم، ونصحهم بحيازة الأرض والبناء عليها، وبذلك أحيوا الأرض الموات. أما الآن (الثمانيات) فقد سادهم القلق حول أملاكهم، إذ أن الدولة الفرنسية واحدة ولا يمكن تغيير المعاهدات حتى لو حدث تغيير في نظام المخزن. فكيف تسترجع فرنسا ما منحت أو تنقض عهدا التزمت به؟ إن ذلك أمر، كما قال (تشمئز منه النفوس وينكره العقل) (¬2). 6 - وقريبا من هذا التاريخ ألف أحمد بن عبد الرحمن الشقراني رسالة في التاريخ سماها القول الأوسط في أخبار بعض من حل بالمغرب الأوسط. وهو عنوان كبير ومحتوى يوحي بالشمول، ولكنه في الواقع كتاب صغير وأخباره محدودة. لا ندري ما الوظائف التي تولاها الشقراني وكيف عاش حياته المادية ولا العلمية. ولكن ثقافته، كما تظهر في كتابه، تدل على أنه من النخبة المتعلمة والمتسيسة أيضا، ويعبر الشقراني عن مواقف مضطربة ¬

_ (¬1) كريستلو، مرجع سابق، ص 236، هامش 30. وقد ذكره المزاري أيضا في طلوع سعد السعود، مما يبرهن على أنهما متعاصران. انظر الطلوع، ج 2، ص 156 - 162، وقد نقل عنه بعض الأمور. (¬2) أحمد ولد قاضي (كتاب الدوائر والزمالة)، وهران، 1883.

إزاء السلطة الفرنسية وإزاء الثورات التي حدثت سواء في عهده أو قبله. فهو يعطيك الانطباع على أنه ضد الثورات لأنها تؤدي إلى التهلكة والتشتت والتضييق على الناس، ولأنها غير شرعية ما دامت تفتقر إلى الاستعداد والعدل والدين. وهو في ذلك يتفق مع الجزائريين الآخرين الذين انتقدوا زعماء ثورة 1871، مثل ابن زكرى والزواوي. ومن جهة أخرى يقدم الفرنسيين على أنهم أمة غنية ومتقدمة الوسائل المادية التي لا يملكها الجزائريون، فكيف يطمعون إلى التغلب عليها بوسائلهم المحدودة. إنه يستنكر ما حدث للجزائريين من سخرة وظلم وتعسف، ولكنه في نفس الوقت يجعله رد فعل على الثورات الطائشة. وهو أيضا ينكر على الفرنسيين معاملتهم للجزائريين معاملة واحدة فالمحرم والمجرم في نظرهم مجرمون، بينما هو يريد أن يعامل كل فرد على قدر فعله. ولعله يشير بذلك إلى قوانين (الأندجينا) التي بدأ سنها في السبعينات وأعطيت شكلها الأخير في الثمانينات. وكانت تفرض العقوبة الجماعية، أي على الذين يستحقون العقوبة والذين لا يستحقونها. وكان موقفه من بوعمامة أكثر وضوحا. من موقفه من الثوار الآخرين: سي الأخضر، زعيم فليته، وأولاد حمزة سيدي الشيخ، والطوطي، والخويدي. ويخبرنا الشقراني أن ثورات هؤلاء تعتبر من علامات الساعة!. ويبدو أن الشقراني كان يميل للمتصوفة أكثر من ميله إلى الأشراف الثائرين. وهم الذين يسميهم لويس رين (الأشراف المزيفين). فقد نوه الشقراني ببعض المتصوفة، وقال إن فرنسا لم تؤذهم وتركتهم لحالهم ما داموا مبتعدين عن السياسة، رغم شهرتهم، وعد من هؤلاء جماعة على رأسهم ابن الحمياني، وعدة بن غلام الله، ومحمد الموسوم، وابن تكوك المجاهري، والمجدوب محمد بن أبي سيف التراري، ومحمد بن بلقاسم الهاملي. وكان هؤلاء ينتمون إلى مختلف الطرق الصوفية، مثل الشاذلية والرحمانية، والسنوسية، والدرقاوية. ويوحي كلام الشقراني أن الجزائريين كانوا ينتظرون الفرج على يد معجزة، وكان متمسكا بالحكمة القائلة إن الشدة

لا تدوم. ولعله كان مؤمنا بزوال الاستعمار الفرنسي، ولكن بوسائل أخرى غير الثورات التي ينتج عنها في نظره، قمع جديد في كل مرة. وقد تناول الأحداث بطريقة عكسية. فقد بدأ بالأحداث المعاصرة له، كثورة بوعمامة، ثم تراجع إلى الأحداث السابقة لها، وهكذا إلى أن وصل إلى العثمانيين وغيرهم. ولكن عمله كان استعراضا سريعا للأحداث وليس دراسة لها. ولم يبوب عمله بطريقة منهجية. وإنما أخضعه لطريقة الأحداث نفسها، وهو متواضع في مؤلفه فليس هو بصاحب دعوى، ولذلك سمى تأليفه (تقييدا)، وهو في الواقع كذلك. يقول في تبرير إقدامه على التأليف: (إني لما رأيت مغربنا الأوسط قد سكنته أمم وانقرضت، وملكته ملوك وانفرضت ... أردت ... أن أجمع فيه ما قيدته ونقل ما وجدته، والواقع الذي شاهدته، وسميت هذا التقييد بالقول الأوسط ... ماشيا فيه القهقرا (كذا)، سالكأ فيه مسلك السادات الفقرا) (¬1). ويقول عن بوعمامة، وذلك في بداية عمله: (ثار رجل من أولاد سيدي الشيخ بالقبلة يقال له أبو عمامة، على الفرنسيس (يريد) (¬2) قطع دولتهم الراسخة، ومملكتهم الراسية الرامخة (؟) ويكون أحق بها وأهلها ...) وأضاف عنه إن بوعمامة كان قد ظهر أول مرة في الصحراء وظل يتردد هناك بدون فائدة كثيرة، ونسب إليه قتل العمال الأسبان، بغير حق (واتهمه بالسفه وكونه لا يتعظ، مع العجز والظلم، ولذلك لم يطعه الناس. وبعد أن كان الفرنسيون يهربون إليه أصبح هو الذي يهرب منهم. فهو (يتبع الخلوات كالطارق، ويتردد فيها كالسارق). وذكر الشقراني أن الفرنسيين قد لجأوا إلى اتهام كل المسلمين بالثورة، فسلطوا عليهم (السخرة والركبة وشددواعليهم، وضيقوا، عقوبة لهم، كأن الضر جاء من جميعهم ... ووقع الهرج والفزع بين الناس ... ولم تبق حرمة لمن كان يستحقها من الناس وصار المسلم من أبغض ما يبغض عندهم (الفرنسيين)). ¬

_ (¬1) هذه الكلمة كانت عادة تطلق على المتصوفة وأتباعهم. (¬2) أضفنا كلمة (يريد) لربط المعنى.

ومن نتائج ثورة بوعمامة، حسب ما جاء في الشقراني، أن الفرنسيين قد أقاموا ضده التحصينات وملأوها بالجيوش والمدافع، وغزوا بعض المواطنين، وسفكوا دماءهم، وسبوا نساءهم وذراريهم (وأخذوا أموالهم وأمتعتهم وأخرجوهم من ديارهم). (وما جاء ذلك إلا بسببه) واتهم بوعمامة بحرق خصومه والتمثيل بهم خلافا للفرنسيين. وأخبرنا أن الدولة تنقطع بالظلم والجور، ولا تنقطع بالشرك والكفر. وحتى هدم الفرنسيين لضريح سيدي الشيخ ونبش قبره جعله الشقراني من نتائج ثورة بوعمامة، ولولاه لما فعل الفرنسيون ذلك بالضريح وعظامه (¬1). وكيف غفل بوعمامة عن عظمة فرنسا وجيوشها الجرارة وقطاراتها التي تجوب البلاد على قضبان الحديد، (بقدرة الله القدير) وهي التي تتراسل بالبرق أيضا في زمن قصير. فالشقراني هنا يبدو منبهرا بالتقدم العلمي والعسكري والصناعي الفرنسي. ولم يبق للجزائريين إلا الخوف من ذلك والاتعاظ والصبر. أما بوعمامة فقوته في نظر الشقراني لا تتجاوز 700 فارس، ثم إنه لم يحصل على البيعة الشرعية، فكيف يطيعه الناس؟ إنه مجرد ثائر متمرد كالثوار الذين سبقوا في العهد العثماني أو العهد الفرنسي، مثل عبد القادر بن الشريف الدرقاوي، ومحمد التجاني في العهد (التركي)، ومثل موسى الدرقاوي (بوحمار) في عهد الأمير. ثم ذكر الثوار الذين أشرنا إليهم (عبد الرحمن الطوطي الدرقاوي، وأبو سيف الخويدي، والأزرق الفليتي ...) الذين ثاروا ضد الفرنسيين، ولكنهم لم ينالوا سوى التعب، وقد عرضوا حياتهم وحياة أتباعهم للفناء، فهم جميعا من الذين جاء في الحديث أنهم الستون الكاذبون الذين يسبقون ظهور (المهدي). ونلاحظ أن الشقراني لم يذكر سوى ثوار الجهة الغربية. أما الزعماء الدينيون (المتصوفة)، فهم في نظر الشقراني (كسائر المسلمين ينتظرون الفرج وزوال الحرج، وانتظار الفرج واجب، والعسر لا يدوم على إحد). ¬

_ (¬1) يفهم من ذلك أن الشقراني يلوم الفرنسيين على ما ارتكبوه من فظائع ولكن بصفة غير مباشرة، فهو يجعل بوعمامة هو السبب.

وفي جزء آخر من كتابه تحدث الشقراني عن الأتراك وعن احتلال وهران من قبل الفرنسيين، ثم تناول بيعة الأمير ومقاومته إلى نهايتها، ولكن باختصار. وقد وصل حديثه إلى مهاجمة الفرنسيين بني شقران سنة 1845 (1261). وشمل الكتاب أيضا الحديث عن المجاعة والوباء الذي حل بالجزائر سنتي 1867 - 1868 (1284 - 1285) وقد أحسن الوصف في هذه الصفحات القليلة (حوالي أرسل صفحات) عن هذه النكبة التي عاصرها والتي أودت بحياة الآلاف من الجزائريين. واستعار معلومات غزيرة من (عجائب الأسفار) لأبي راس الناصر حول القبائل التي سكنت الناحية مثل مغراوة وبني يفرن. ولا نراه قد جاء بجديد من عنده. ولكننا لاحظنا انقطاعا في النص امتد من صفحة 49 - 70، فهل المقطوع أيضا منقول من عجائب الأسفار؟ ثم لماذا القطع؟. وآخر تاريخ مذكور في كتاب (القول الأوسط) هو سنة 1303، وبذلك يكون الكتاب مؤلفا بعد هذا التاريخ. ونحن نعلم أنه تعرض أيضا إلى وفاة الأمير التي كانت سنة 1300 (1883). وبذلك يكون الكتاب قد ألف وسط الثمانينات (¬1). ولكن من هو الشقراني نفسه؟ إلا لا نملك عنه الآن سوى المعلومات الواردة في كتابه. ورغم قربه من مدار القرن فإن صاحب (خريف الخلف) قد أهمله. والمؤلف كما تدل نسبته يرجع إلى سكان جبال بني شقران قرب مدينة معسكر. 7 - دليل الحيران وأنيس السهران في أخبار مدينة وهران، لمحمد بن يوسف الزياني، وهذا من المؤلفات التي طبعت حديثا وتعرضت لتاريخ وهران وتاريخ الناحية عموما منذ عدة عصور. ولهذا الكتاب ولمؤلفه أيضا أهمية خاصة سنتعرض إليها. لقد اعتمد الزياني على النقل بصفة عامة ولم ¬

_ (¬1) اطلعنا على نسخة كانت في حوزة محمد بن عبد الكريم. وقد قام ناصر الدين سعيدوني بتحقيق (القول الأوسط) ونشره سنة 1989 بدار الغرب الإسلامي، بيروت.

يعالج الأمور من جهة نظره أو بناء على معطيات حديثة إلا في الجزء الخاص بالاحتلال الفرنسي أو القريب منه. ولكنه غلف ذلك بضباب من نوع خاص، كما سنرى. أما الكتب التي اعتمد عليها فهي مؤلفات ابن خلدون وأبي راس، وحسين خوجة، ومسلم بن عبد القادر الحميري. ويبدو من مقدمة الكتاب أن الزياني كان متحمسا لموضوعه وكأنه جاء لتصحيح خطأ شائع حول بناء وهران وما قيل في تاريخها. ويذهب البوعبدلي الذي حقق دليل الحيران إلى أن الزياني قد اعتمد على المشافهة أيضا، ورجع إلى الأدب الشعبي. وكان أسلوبه يعتمد السجع بكثرة، رغم عدم احترام قواعد اللغة. ومن المعروف أن الزياني قد عاصر الاحتلال الفرنسي وتثقف ثقافة مخضرمة. وكانت أسرته تتولى الوظائف في العهد العثماني، ومنها عمه أحمد بن يوسف الزياني الذي كان مستشارا لبعض البايات، حوالي (1170 هـ). وكانت الأسرة تقطن بلدة برج عياش (برج ولد المخفى اليوم)، الواقعة قرب معسكر. وهي من الأسر العلمية والسياسية. أما المؤلف فقد تولى للفرنسيين عدة وظائف قضائية ابتداء من سنة 1861 ببلدة البرج، وقد استمر في هذا الوظيف مدة طويلة إذ وجدناه قاضيا أيضا في وادي تليلات سنة 1883، ثم في سيق. ويغلب على الظن أنه بقي على قيد الحياة إلى مدار القرن الميلادي تقريبا (حوالي 1320). وإذا أخذنا هذه التواريخ في الاعتبار علما أنه قد يكون من الذين درسوا في المدارس الشرعية الفرنسية الثلاث (مدرسة تلمسان مثلا) التي تأسست سنة 1850. وأنه تولى القضاء في عهد المملكة العربية وما بعدها، سيما عقد الثمانينات حين انطلقت الحملة ضد القضاء الإسلامي لإدماجه في القضاء الفرنسي. وكان منصب القضاء نفسه منصبا سياسيا، لأنه كان يعني العمل تحت مظلة المكاتب العربية العسكرية قبل 1870 وتحت مظلة الولاة الفرنسيين المدنيين بعد ذلك. وما سنقوله عن رأي الزياني في حكم الفرنسيين قد يكون نابعا من وظيفه وتجربته في القضاء وعلاقته مع الفرنسيين هذه المدة الطويلة. والغريب أننا لا نجد له ذكرا في

كتاب كريستلو الذي خصصه لدراسة المحاكم ودور القضاة في معسكر ونواحيها وقسنطينة ونواحيها (¬1). ورغم ذلك فإن الزياني لم يكن معزولا ولا مغمورا. فكتابه (دليل الحيران) قد استغله الفرنسيون أمثال ايسترهازي وأخذ منه آخرون مثل مواطنه المزاري. كما أن الزياني كان على علاقة مع علماء الوقت مثل علي بن عبد الرحمن مفتي وهران، وهذا هو الذي كاتبه سنة 1320، حسبما جاء في تعاليق الشيخ البوعبدلي. وقد استنتج من ذلك أن وفاة الزياني كانت بعد هذا التاريخ. وقد رأى البوعبدلي بعض الفتاوى للزياني وبعض التعاليق على الكتب وكذلك المراسلات. أما تأليفه فالبوعبدلي انتقده من عدة وجوه. منها الاعتماد على النقل الكثير، ومنها عدم إبداء الرأي فيما ينقل مما جعله أحيانا ينقل الأخطاء كما هي. وقد ذكرنا أن الزياني كان لا يخضع لقواعد العربية ويتخذ أسلوب السجع. أما مزيته، حسب البوعبدلي، فتظهر في أنه جمع في كتابه ما كان متفرقا، بل ما أصبح مفقودار مثل (درء الشقاوة) لأبي راس، ودر الأعيان لحسين خوجة. ومن مزايا كتابه أيضا تعرضه لأحداث المغرب الأقصى. ومن جهة أخرى ضم دليل الحيران تراجم لعلماء وملوك وأعيان. ولكن بعضهم كان معروفا، مثل ترجمة إبراهيم التازي، مما جعل الشيخ البوعبدلي يختصرها لأنها معروفة في غيره (¬2). ورغم تولي الزياني القضاء وعيشته عيشة مخضرمة بين مجتمعه والمجتمع الفرنسي، وتطور الأحداث من حوله، فإنه كان يروي الكرامات في تراجم الأولياء والصالحين. وقبل أن ننتهي من الحديث عن حياة الزياني نقول إنه أورث لأحد أبنائه ¬

_ (¬1) اطلع كريستلو على نص (أقوال التأسيس) المنسوب للزياني، ولكنه قال إن مؤلفه مجهول، وإنه في الأرشيف الفرنسي. انظر كريستلو (المحاكم) ص 260 - 261. (¬2) محمد بن يوسف الزياني (دليل الحيران) تحقيق الشيخ المهدي البوعبدلي، ط الجزائر 1979، المقدمة.

الإمامة أيضا. فقد كان له ابن تولي الإمامة بمسجد سيق، وهو مسجد، حسب البوعبدلي، حر بناه صهره، وبقي هذا الابن (ولا نعرف اسمه) في الإمامة إلى أن توفي، وكان من فقهاء الوقت. أما إبنة الزياني فقد كانت متمردة ومعروفة (بالقايدة حليمة)، وكانت متزوجة من رجل له مكانة في العهد العثماني (؟)، وقد كانت متمردة على الحجاب، فكانت تحضر الحفلات الرسمية سافرة وتشارك في الفروسية وتستقبل الوفود. وقبل وفاتها أول الحرب العالمية الثانية أدت فريضة الحج واستبدلت لقب القايدة بالحاجة (¬1). أما محتوى الكتاب فهو أساسا عن وهران ونواحيها، كما سبق، ولكنه يتعرض أيضا لتاريخ الجزائر عموما في العهد العثماني، وشمل ذلك الحديث عن البايات، وعن الفتح الثاني لوهران، أي استرجاعها من يد الاسبان (1791). وخصص مكانا بارزا لثورة الطريقة الدرقاوية ضد بايات الغرب، معتمدا على عدة مصادر منها مؤلف مفقود لأبي راس، وكذلك الشعر الشعبي. ومثل معظم المؤلفين الجزائريين في عهد الاحتلال الفرنسي كان الزياني أيضا قاسيا على بعض البايات، فأظهر ظلمهم وتعسفهم. ولا ندري ما إذا كان الزياني قد ألف كتابه بطلب من بعض الفرنسيين، شأن عدد من مواطنيه، الذين كانوا يريدون من مؤرخي الجزائر أن يمهدوا لهم الأرض وأن يصفوا لهم أحوال البلاد والحكام والرجال والطرق الصوفية، ثم يتدخلون هم للتحليل والتعليق والاستنتاج. ورغم أن البوعبدلي يقول إن ايسترهازي قد أخذ من دليل الحيران، فإننا بالرجوع إلى التواريخ نستبعد ذلك. فايسترهازي ألف كتابه سنة 1838 ونشره بعد سنتين. ويغلب على الظن أن الزياني لم يكن عندئذ سوى يافع، فكيف يكون قد ألف كتابا ينقل عنه الآخرون؟ ولعل حماس الزياني إلى تصحيح ما كتبه الأجانب عن وهران يدل على أنه هو الذي قد يكون اطلع على كتاب ايسترهازي وليس العكس. ومن الأسف أننا لا نعرف الآن متى ألف الزيانى كتابه. ¬

_ (¬1) نفس المصدر، المقدمة. وفي هذه المسألة استغراب، فكيف يكون زوجها من العهد العثماني وتؤدي فريضة الحج خلال الحرب العالمية الثانية؟.

قسم الزياني دليل الحيران إلى جزئين أو قسمين رئيسيين: وقد جعل القسم الأول في أربعة فصول تضمنت التعريف بمدينة وهران، وتسميتها وتأسيسها، وعلماءها وأولياءها، ثم حكامها عبر الزمن. ولا سيما منذ إسلام زعيم مغراوة على عهد الخليفة عثمان بن عفان. أما القسم الثاني فقد بدأه بعهد السلطان الزياني أبي حمو موسى الثاني. وتناول فيه أيضا النزاعات بين الزيانيين والمرينيين، واحتلال الإسبان لوهران، ثم العهد العثماني الذي توسع فيه إلى غير وهران. وفي نهاية هذا القسم جعل فصلا ملفتا للنظر وهو عن دولة الفرنسيين، وقال إن الكلام على (الإفرنج) سيكون في سبعة مواضع. ولكن البوعبدلي الذي حقق المخطوط لم يظفر بمحتوى هذا الموضوع، وفي ظنه أن المؤلف توقف عن الكتابة خشية العواقب إذ أنه لم يرد أن يتورط في إبداء رأيه في الاحتلال والنظام الاستعماري. ولجأ بدلا من ذلك إلى التنبؤات (¬1). ونفهم من هذا أن الزياني قد أكمل كتابه ولكن بطريقة غامضة، فهل ذلك ينسجم مع ما سنقوله عن الكتاب المنسوب إليه باسم (أقوال التأسيس؟). ولكن قبل ذلك نود أن نذكر نقطتين حول الزياني أيضا، الأولى حول تعريفه للتاريخ، والثانية ذكر الكتاب الآخر المنسوب إليه. عرف الزياني (علم التاريخ) تعريفا، غير واضح، إذ اكتفى بقوله إنه (من العلوم التي ينبغي الاعتناء بها ولا تجعل في زوايا الإدخار)، واعتبره ضروريا في وقته بالخصوص إذ هو وقت ظهرت فيه الجهالة والضلالة، حسب تعبيره، وجن فيه الليل وأدبر النهار، وسكت فيه أهل العلم ولازموا غض الأبصار. وهكذا فإن علم التاريخ قد ينفض غبار الجهل، وينير جوانب الليل الحالك الذي ساد الجزائر. وقد أخذ الزياني بعد ذلك يذكر نماذج من الجهل والغفلة حين اعتقد الناس أن باني وهران هم غير العرب والمسلمين، بينما كان بانيها هو خزر المغراوي الزناتي في القرن الثالث الهجري. ¬

_ (¬1) الزياني، دليل الحيران، مقدمة المحقق، ص 13.

وقد نسب إلى الزياني كتابان آخران أحدهما هو (الدرة النقية في حسن مقاصد الدولة الفرنسية). ونحن مع هذا الكتاب في حيرة من أمرنا، فالاسم الذي مع الكتاب هو محمد بن يوسف فقط وليس معه النسبة (الزياني). ولكن الأسلوب المسجع والموضوع يدلان على أنه له، رغم عدم الجزم بذلك. ولم نستطع رؤية سوى صفحة واحدة من المخطوط، وفيها الديباجة، ولكن الجملة الأساسية التي تعطينا ظروف التأليف والهدف منه مبتورة. ويبدو أن الذي بترها يعرف أهميتها. ومن جهة أخرى فنحن في حيرة جديدة، لأن عنوان الكتاب، إذا صح أنه له، فيه دلالة واضحة على أنه مدح في الدولة الفرنسية. وهذا بخلاف كتاب (أقوال التأسيس) الذي سنتحدث عنه. ورغم أن (الدرة النقية) ليس في تاريخ الجزائر ولا غربها فإننا اضطررنا لذكره هنا لنوضح علاقته بالزياني وبكتابه الآخر المشار إليه، والموقف من الفرنسيين (¬1). وإليك ما وجدناه في الصفحة الفريدة من (الدرة النقية)، يقول محمد بن يوسف، بعد الحمدلة: (وبعد، فإنه لما صدرت الأحكام الإلهية من خدور الغيوب السماوية، بتحالفنا مع الدولة الفرانسوية، المتسببة لنا في المنافع الدنيوية والسعادة الأبدية، وكان البعض من أهالي هذا القطر الذين ضربت على عقولهم سرادق الجهل والغباوة، قد انطبعت في عقولهم بعض أراجيف مختلفة من ذوي الأطماع الذميمة). (من هنا انقطع الخبر). وكان المؤلف سيجيب بعد ذلك على جملة (ولما صدرت ...) ونلفت النظر إلى تعبير (تحالفنا مع الدولة الفرانسوية)، فهل يعني الاحتلال أو الاندماج؟ أما التحالف بالمعنى السياسي المعروف فغير وارد هنا. 8 - ونصل الآن إلى الكتاب الذي يثير الجدل والمنسوب أيضا إلى الزياني، وهو أقوال التأسيس فيما سيقع بالمسلمين من دولة الفرنسيس، ¬

_ (¬1) اطلعنا فقط على صفحة واحدة في أوراق سلمني إياها محمد بن عبد الكريم الزموري. وهي عندي، وليس بعد صفحة الدياجة تواصل.

والعنوان مختلف أحيانا، إذ هو في بعض النصوص (أقوال التأسيس عما وقع وسيقع من الفرنسيس). والعنوان الأول فيه التنبؤ بالمستقبل فقط، وهو يتناسب مع نسبة الكتاب إلى أبي راس الذي توفي قبل الاحتلال (¬1). أما العنوان الثاني فيتلاءم مع نسبة الكتاب إلى الزياني، لأنه يذكر ما جرى في الجزائر على يد الفرنسيين وما سيحدث منهم أيضا، فهو يجمع بين الماضي والمستقبل. رجح البوعبدلي نسبة هذا للزياني لبعض الاعتبارات. منها أن الزياني قد جعل آخر فصل في كتابه (دليل الحيران) عن الدولة التاسعة، وهم الفرنسيون، كما مر بنا، ثم لم يواصل عمله حتى لا يتورط في مواضيع سياسية عند الحديث عن الاحتلال والمقاومة. فيكون الزياني قد عالج بدايات الاحتلال أو ما جرى مع الفرنسيين في كتابه (أقوال التأسيس) وليس في دليل الحيران. ولكنه لم يتوقف عند ذلك، بل إنه سلك لتبرئة نفسه عدة وجوه: - أنه جعل أقوال التأسيس في شكل تنبؤات وتكهنات وليس في شكل وقائع تاريخية. فهو هنا يتحدث عن المستقبل من باب المهدويات التي شاعت في المغرب العربي منذ المهدي الشيعي ثم المهدي بن تومرت. - أنه لم ينسبه لنفسه، وإنما نسبه إلى عالم وحافظ ومؤرخ وهو أبو راس الناصر، الذي كتب عن أحداث التاريخ كما كتب عن أرهاط الجان. وقد قلنا إن أبا راس كتب أيضا عن الحملة الفرنسية على مصر. وهو متوفى قبل الاحتلال الفرنسي للجزائر. - أن الزياني سجل أقوال التأسيس في قائمة مؤلفات أبي راس، رغم أن أبا راس قد ترجم لنفسه وذكر مؤلفاته دون أن يذكر من بينها (أقوال التأسيس). ¬

_ (¬1) درسنا أبا راس الناصر وقارنا أعماله بأعمال عبد الرحمن الجبرتي من بعض الوجوه، كعناوين الكتب، والموضوعات، وهما متعاصران، وقد تناول أبو راس الحملة الفرنسية على مصر أيضا. انظر (أبحاث وآراء) ج 2.

ويبدو أن الزياني الذي كان على صلة وطيدة بالإدارة الفرنسية، كان يعرف جيدا خوف هذه الإدارة من كل ما هو ضدها. فحذر الجزائريين من عواقب الأحداث التي جرت مع الفرنسيين. وهذا هو معنى ما وقع وما سيقع معهم وقد شاع أقوال التأسيس بين المتعلمين، سيما في آخر القرن الماضي وخلال الحرب العالمية الأولى. وتناقلته الأيدي، وثارت ثائرة الإدارة الفرنسية عندما علمت بذلك، لأنها كانت تخشى ما قد يقود إليه من تورات. وكان المستشرقون والضباط يحذرون دائما من استعمال الجزائريين الألغاز والرموز والتنبؤات. فأخذوا يبحثون عن هذا الكتاب ويتلفون نسخه، رغم أنه غير مطبوع، وتتبعوه حتى في المكتبات الخاصة والمنازل وعند المشكوك فيهم من المتعلمين. ويقول الشيخ المهدي البوعبدلي إن السلطات الفرنسية قد سجنت الكثير من المتعلمين (الطلبة) لظنها أنهم يملكون منه نسخا (¬1). ونفهم من ذلك أن الزياني قد وضع على عمله اسم أبي راس، واطمأن على ذلك، فلم يواجه أية تهمة مباشرة من السلطات الفرنسية. ومعنى ذلك أن المؤلف كان معلوما ولكنه ليس الزياني. أما كريستلو فقد أشار إلى (أقوال التأسيس) بطريقة أخرى. وبناء عليه فالتأليف كان مجهول المؤلف، ولكنه غير أبي راس بالتأكيد عنده، لأن مؤلف (أقوال التأسيس) كان يعرف أحداث العصر، من حادثة فاشودا بين الفرنسيين والإنكليز إلى أزمة المغرب وتدخل ألمانيا. وكان المؤلف أيضا من القضاة العارفين بالسياسة الفرنسية. وقد تنبأ بسقوط الطغاة وتغيير الوضع الاستعماري في الجزائر. ويذهب السيد كريستلو إلى أن المؤلف كان خلدونيا في تحليله وليس مهدويا في تنبؤاته وخرافاته، كما قد يتبادر إلى الذهن. وقد اطلع عليه هذا الباحث الأمريكي في الأرشيف الفرنسى. ويقول كريستلو إن الكتاب قد ظهر عند ثورة بنى شقران سنة 1917 ¬

_ (¬1) البوعبدلي، مقدمة دليل الحيران، ص 13. ولم يذكر الشيخ البوعبدلي أدلة على هذه الدعوى.

منسوبا إلى أبي راس (¬1). ولا نظن أن الزياني قد عاش حتى أدرك هذه الثورة. والنص الذي أورده كريستلو من هذا التأليف يتلخص في عدة نقاط: أن النكبات والعذاب سيحل بالبلاد، وسيعم الظلام بدل النهار، وستحدث غرائب في العصر. وسينخفض المرتفعون ويعلو المنخفضون. وستحل نقمة الله السريعة بالطغاة، وليس هناك مفر من هذا العقاب. إن بعض العلماء قد سخروا أنفسهم لخدمة الجهلة والأغنياء، وأصبح أبناء الفضلاء يخدمون العالم المسيحي، مظهرين حبهم لهم، باستعدادات عظيمة، ويقول: يا إلهي إن الصالحين قد اختفوا! وقد رأى كريستلو أن في النص استنكارا لما آل إليه أمر النخبة الجزائرية والعلماء المسخرين وأولئك الطموحين من المستغربين الشباب الذين رموا بأنفسهم في عربة التوسع الامبريالي الفرنسي منذ 1900، راضين بالتنازل عن القدر المحترم من المعاش والحد الأدنى من الاحترام الثقافي. أما عن العنوان فهو عند كريستلو (الأخبار ذات التأسيس فيما يقع بين المسلمين والفرنسيس) وذات التأسيس هنا تعني ربما الأخبار الصادقة، ونعلم أيضا أن (الأخبار ذات التأسيس) كان متداولا منذ نهاية القرن الماضي، وأن المتعلمين كانوا يضيفون إليه عند المناسبات والأحداث، وكانوا أيضا يضيفون إليه أسماء أشخاص. فلم تأت سنة 1917 حتى كثرت نسخه واختلفت عن بعضها، بل كان فيه الحذف أحيانا. ويبدو أن مخطوطات أخرى قد وجدت في ناحية وهران على نمط هذه (الأخبار)، وكانت هي أيضا تخضع للزيادة والنقصان، بمرور الزمن. ومن ثمة خاف الفرنسيون من انتشار العدوى السياسية. وعلى هذا يكون أقوال التأسيس أو الأخبار ذات التأسيس عبارة عن منشور سياسي جمع بين الطريقة التقليدية وهي التنبؤ، والطريقة الجديدة وهي الحديث عن الوقائع بأسلوب إعلامي مثير. ولعل الزياني (أو غيره) قد كتبه أيام الحرب على القضاة التي جرت في الثمانينات من القرن الماضي، وكانت الشريعة ¬

_ (¬1) كريستلو (المحاكم)، ص 260 - 261، عن الأرشيف الفرنسي 16 H 9. وقعت ثورة بني شقران سنة 1914 وليس 1917.

الإسلامية من ضحايا تلك الحرب إذ نجح الفرنسيون في تجريد القضاء الإسلامي من نفوذه إلا في الأحوال الشخصية كما عرفنا. ويرى المهدي البوعبدلي أن أقوال التأسيس من عمل الزياني، كما ذكرنا، وأنه إنما نسبه لأبي راس للتقية فقط. وكان البوعبدلي يملك نسختين منه. وقد أكد له الشيخ الطيب زدور، أحد فقهاء وهران والذي كان والده على صلة شخصية بالزياني، أن (الأقوال) من تأليف الزياني. وقال إن الحكومة الفرنسية شددت في التفتيش عن نسخه سيما خلال الحرب العالمية الأولى. (ومزقت من أجل ذلك خزائن وأتلفتها). ولكن الكتاب، مع ذلك، بقي متداولا بين متعلمي وهران. ولم يذكر البوعبدلي الفرق ين النسختين اللتين كانتا في حوزته، وإنما قال إن إحداهما كتبها صاحبها (أي الناسخ) بخطوط مختلفة، سنة 1262. وهذا التاريخ مبكر جدا للأحداث التي ذكرها كريستلو، فلا بد أن بعضهم قد أضاف إليه ثورة بني شقران وغيرها. أما النسخة الأخرى فيقول البوعبدلي إنها تقع في كراسة خاصة. ويبدو أن أقوال التأسيس قد انتشر في الجزائر ووصل إلى زواوة وغيرها (¬1). وقد لاحظ البوعبدلي أيضا اختلاف النسخ في تفاصيل الأحداث، ولكنه قال إن الجوهر واحد. واعتبر هذه الرسالة، كما سماها، شبه مذكرات عن فترة الاحتلال الأولى وإنما صاغها الزياني في شكل تنبؤات وليس سردا تاريخيا، رغم أن الأحداث في الواقع تاريخية ومعروفة. خذ مثلا تجهيز الحملة الفرنسية ونزولها في سيدي فرج وما حدث مع الباشا حسين، واحتلال وهران بعد احتلال متيجة، ومبايعة الأمير وحروبه الطويلة وما وقع من الغارات والغزوات، إن هذه كلها وقائع وليست خيالا. ونلاحظ أن الزياني كان في برج المخفى، وكان المخفى من الذين عاقبهم الأمير، ولذلك نحس أن الزياني اتهم الأمير بقتل العلماء وأهل الدين، مما تسبب في هزيمته، في نظره. كما تعرض الزيانى (أو غيره) فى هذا الكتاب الصغير والخطير إلى ¬

_ (¬1) البوعبدلي، رسالة خاصة في 10 أكتوبر، 1979. ووصلتني منه أيضا رسالة أخرى فى 23 مارس 1980.

موضوع الهجرة، واقتراب أهل الطمع من الفرنسيين، واستبدال القوانين، ونقض أحكام القضاة المسلمين، وتصيير المسلمين خداما للفرنسيين، وإلى اغتصاب الأرض من مالكيها، وتعطيل المساجد والاستيلاء على الأوقاف، وتفشي الفجور وكثرة المقاهي والأسواق والفنادق، وسباق المتعلمين من أجل الوظائف، وطمع الأذلاء في المناصب العليا، وجعل الزكاة غرامة، وتجنيس اليهود (1870) وصعودهم إلى مستوى جنس الفرنسيين ودخولهم في حزبهم. وقال إن أكثر الجيش الفرنسي سيصبح من العرب. ولكن الدائرة ستدور على الفرنسيين في الحرب العالمية الأولى، كما دارت عليهم في حربهم مع بروسيا (¬1). وفي النسخة الثانية تفاؤل وتحذير، إذ يطلب الكاتب من الجزائريين ألا يقنطوا من رحمة الله، وينفي بنفسه أن تكون أخباره مجرد تنبؤات. ويزعم أنه وقد كشف له عن التصريح بالبداية ولم يكشف له عن التصريح بالنهاية (ولكني نهيت عن الإظهار، كما هو شأن هذه الأسرار، ولقد قالوا صدور الأحرار قبور الأسرار ... وإلى هنا أشد عنان اللسان، وللحيطان آذان، ورب كل يوم هو في شأن). فالنهاية هنا رغم غموضها متفائلة، كما تلاحظ. وعنوان هذه النسخة مختلف قليلا أيضا، فهو (التأسيس فيما سيقع بالمسلمين من دولة الفرنسيس). أما النسخة الأولى فقد ذكرها البوعبدلي هكذا: (الأخبار ذات التأسيس فيما وقع وسيقع مع الفرنسيس). ومن ثمة نرى أن العناوين متقاربة ولكنها مختلفة، وهي تحتفظ بكلمتين أساسيتين هما التأسيس والفرنسيس، مع الإشارة إلى الأحداث ماضيا ومستقبلا. ومن الواضح أن منشورا دعائيا ¬

_ (¬1) البوعبدلي، مقدمة دليل الحيران. انظر المقارنة مع النسخة الثانية في نفس المصدر. ويبدو أن هذه النسخة متأخرة في كتابتها عن الأولى، إذ تعود إلى أوائل الحرب العالمية الأولى (أحداث بني شقران 1917؟)، كما قال كريستلو. ويمكن الجمع بين ما ذهب إليه البوعبدلي وكريستلو إذ من الممكن أن يكون الزياني قد ألف النسخة الأولى أثناء حياته من (أقوال التأسيس) أو الأخبار ذات التأسيس، ثم جاء آخرون وأضافوا إليها ما بدا لهم من أحداث، إلى ثورة بني شقران.

كهذا كان له وقع على الفرنسيين أكثر من عدة عرائض ووفود ومقالات صحفية في آخر القرن الماضي وبداية هذا القرن. ولا ندري الآن ما تأثير هذا المنشور الخطير على الرأي العام الإسلامي عندئذ، سيما الشبان الذين كان عليهم أن يؤدوا الخدمة في الجيش الفرنسي، وفي أحداث بني شقران والأوراس، بل وفي ثورة عين التركي سنة 1901. 9 - ومن أبرز الكتب التي تناولت تاريخ وهران والناحية الغربية عموما كتاب (طلوع - أو طلعة - سعد السعود في شأن وهران وجيشها الأسود). واشتهرت نسبة هذا الكتاب إلى إسماعيل بن عودة المزاري. وهو كتاب ضخم ضم تواريخ قديمة وحديثة، ودولا كثيرة، وتوسع فشمل فترة الاحتلال الفرنسي، ثم حياة قبيلتي الدوائر والزمالة، أو المخزن، وكان المؤلف من الدوائر. وربما لم تحظ أي منطقة في الجزائر بعمل تاريخي كبير بهذا الحجم. وقبل أن نتحدث عن المؤلف وعن فصول الكتاب وظروف التأليف، نذكر بعض المعلومات عن المخزن كما كان شائعا في القرن الماضي. فالعبارة في الحقيقة تعني السلطة الرسمية، أو من يمثلها، وبعد اختفاء النظام العثماني في الجزائر بقي المخزن متمثلا في القبائل التي كانت تتعامل مع ذلك النظام بالخدمة والطاعة، وكانت تكسب منه الجاه والنفوذ والمال. وقد تعامل بعضهم مع الأمير، وعارضه آخرون لأسباب عديدة، منها أنه قدم عليهم أهل الدين والمرابطين وسوى بين الناس في الضرائب والخدمة، فما كان من بعض أهل المخزن إلا أن عرضوا خدماتهم على الفرنسيين على أن يتمتعوا بما كانوا يتمتعون به من امتيازات في العهد العثماني. فوافقهم الفرنسيون على ذلك مؤقتا لأنهم كانوا في أشد الحاجة إلى من يخدمهم من أهل البلاد ليضربوا الصفوف ببعضها (فرق تسد)، ثم داروا عليهم بعد أن انتهت الحاجة منهم. ومن أوائل من عرض خدماته على الفرنسيين من المخزن قبيلتا الدوائر والزمالة (اتفاق الكرمة 1835). وكان على رأسهم عندئذ مصطفى بن إسماعيل، عم مؤلف الكتاب، وابن عودة المزاري، والد مؤلف الكتاب. وبالإضافة إلى ذلك هناك قبيلة البرجية الكبيرة، والتي كان يقودها محمد

المخفي. لقد كان المخزن إذن يتمتعون بامتيازات عديدة، منها الإعفاءات من الضرائب، ومنحها الاقطاعات من الأراضي، مقابل الحرب إلى جانب السلطة سواء عند الفتن الداخلية أو عند الغارات الخارجية. وكان المخازنية هم الفئة الغنية والمتنفذة، وهم الأجواد ورجال السيف والبارود، والفرسان الذين يتقنون الرماية وركوب الخيل، ويمتازون بالشجاعة والإقدام. وكانوا هم عمدة الدولة الذين تنتصر بهم على أعدائها. وهم الأسود، الذين عناهم مؤلف (طلوع سعد السعود). لقد كانوا يمثلون الإقطاعية أو الارستقراطية، كما يسميها الفرنسيون. فهم الأغنياء المترفون أكثر من غيرهم، وهم سكان الأبراج والخيام الكبيرة إذا سكن غيرهم الأكواخ ونحوها. وهم فرسان الميدان ولابسو الحرير والثياب الوتيرة، وهم أهل القهوة والشاي والدخان التي لا تتوفر لغيرهم عادة، وهم ذواقة الشعر وأناشيد الفخر والحماسة. وكانوا فخورين بأصولهم وهندامهم وطبقتهم الاجتماعية. ولكنهم مع ذلك لا يؤلفون طبقة متماسكة، بل قد تكون بينهم خصومات وحتى حروب. وهم على حذر من رجال الدين والمرابطين، يحترمونهم، ولكنهم يخافون نفوذهم لدى العامة، ولذلك كانوا، حتى في زمن الاحتلال الفرنسى، فى أشد الخصام والحذر منهم. وقد أشرنا إلى العلاقة المتوترة بين آغا فرندة والمرابط. ومنذ الستينات أخذ الفرنسيون يعتمدون على رجال الدين بدل رجال السيف (المخازنية). وإلى 1835 كان أهل الدوائر والزمالة والبرجية مع المقاومة تحت لواء الأمير، ثم أخذوا يتخلون عنه وينضمون للفرنسيين ضده. ويضاف إليهم الكراغلة في كل من تلمسان ومستغانم، ثم بعض الطرق الصوفية مثل التجانية والطيبية (¬1). ذكرنا هذه الخلفية لتعلم أن إسماعيل بن عودة المزاري مؤلف (طلوع سعد السعود)، كان من هذه الطبقة المخزنية، وكان والده وعمه من أعيانها ¬

_ (¬1) بهذا الصدد انظر دراسة محمد غالم (مقاومة الأمير عبد القادر) في (مجلة الدراسات التاريخية) عدد 8، ص 40 - 42.

وقوادها. فهو جواد من أهل السيف والحرب وليس من أهل العلم والقلم. فما هي حياته؟ إن ترجمته مجهولة إلى اليوم، ورغم أنه ترجم لنفسه في طلوع سعد السعود فإن الصفحات المعنية بذلك (538 - 545) قد بترت من الكتاب بفعل فاعل، حرصا عليها أو خوفا منها. وكل من تعرض له ولكتابه وجد فقط أن اسمه هو إسماعيل بن عودة المزاري، وأن والده محمد المزاري كان من كبار الزمالة والدوائر وكان آغا في آخر العهد العثماني وبداية العهد الفرنسي، وكان محمد (ابن عودة) المزاري قد حالف الأمير عبد القادر فترة وولاه هذا على قومه، ولكن اتفاق 1835 لم يترك له المجال لمواصلة التحالف فانضم إلى عمه مصطفى بن إسماعيل وأصبحا حليفين للفرنسيين (¬1). أما إسماعيل المزاري فقد تثقف على يد الأسرة الزيانية، ولا سيما محمد بن يوسف صاحب كتاب دليل الحيران. وعاش إلى أواخر القرن الماضي، أي بعد 1897، ولكن تاريخ وفاته غير معروف. وهذه العلاقة بينهما - المخزنية والعلم - ستتطور إلى دورها في الكتاب الذي نحن بصدده. ونسبة الكتاب إليه ما تزال مشكلة بين الباحثين: هل الكتاب كله له أو جزء منه فقط أو ليس له فيه سوى الاسم؟ ويقال إن أول من أثار الضباب حول هذه النسبة هو الضابط مارسيل بودان حوالي 1924، وذلك حين تعرض إلى كتاب (الطلوع) ومؤلفه. وخلاصة رأيه أن المزاري كان من رجال المخزن وليس من رجال العلم، وليس له دور في الكتابة والبحث، وإنما استبد على بعض المؤلفين الحقيقيين أمثال شيخه محمد بن يوسف الزياني، مقابل ولاية القضاء وبعض المصالح الدينية. فالكتاب أصلا من تأليف الزياني. ويدل على ذلك أن الزياني قد ترك آخر جزء فى كتابه (دليل الحيران) ¬

_ (¬1) في رسالة من يحيى بوعزيز (29 يونيو، 1989) أن محمد المزاري استمر في خدمة الفرنسيين إلى تقاعده. ثم ذهب إلى الحجاز وجاور بمكة، ثم رجع إلى الجزائر واستقر فترة بالعاصمة، ثم حل بسهل ملاتة حول وهران، وأخيرا استقر بهذه المدينة إلى وفاته سة 1862. وقد ترجم له ابنه في الطلوع ترجمة واسعة وضمنها شجرة النسب العائلي.

معلقا وذكر أنه سيتناول فيه الاحتلال الفرنسي (الدولة التاسعة). ونتج عن ذلك أن (الطلوع) قد احتوى هذه الدولة التاسعة (الاحتلال الفرنسي) وكذلك تاريخ الدوائر والزمالة وأهل المخزن. ويقر بودان بأن الجزء الأخير فقط (وهو المخزن) قد يكون من تأليف المزاري. وله أدلة على ذلك، من بينها أن مؤلف هذا الجزء ذكر أن ذلك هو المقصود بالذات (عين المراد) من كل التأليف. ومنها أن الحديث عن العهد الفرنسي أولى بالزياني الذي وعد بذلك في دليل الحيران منه بالمزاري. كما أن الأساليب اللغوية والظروف التاريخية تساعد على نسبة الطلوع في أغلبه إلى الزياني وليس إلى المزاري (¬1). ولم نر من قارن أيضا بين عمل أحمد ولد قاضي عن الدوائر والزمالة (وهو أيضا منهم) وما جاء عنهم في كتاب (الطلوع). يتألف الطلوع من خمسة مقاصد (وليس فصولا)، تتشابه في ترتيبها مع ترتيب (دليل الحيران) للزياني، غير أن هذا استعمل الفصول بدل المقاصد. الأول في تأسيس مدينة وهران، والثاني والثالث في تراجم الرجال من العلماء والأولياء، والرابع وقد شمل 486 صفحة من أصل المخطوط الذي يحتوي على 582 صفحة، تناول فيه أخبار وهران والدول المتعاقبة عليها، وقد حشاه بمعلومات تاريخية منقولة عن غيره، كما سنذكر، أما الخامس الذي سماه (عين المراد) والذي لا يمثل سوى جزء ضئيل (حوالي 50 صفحة) من المخطوط الضخم، فهو عن تاريخ أهل المخزن وأعيانهم الذين تولوا حكم الناحية الغربية في عهود مختلفة. وبذلك يبدو الكتاب وكأنه خاص فعلا بتاريخ وهران من أقدم العصور إلى وقت المؤلف، وظهر أن في الكتاب حشوا لا علاقة له بالموضوع كحديث المؤلف عن دول وملوك فرنسا وإسبانيا. فهل ذلك راجع إلى كون هاتين الدولتين استعمرتا وهران أو إلى كون الضباط الفرنسيين قد تدخلوا في خطة التأليف ووجهوا المؤلف إلى التوسع والاستطراد؟. ¬

_ (¬1) ابن عودة المزاري (طلوع سعد السعود)، تحقيق يحيى وعزيز، طبع دار الغرب الإسلامى، بيروت، جزآن، 1990.

إن مصادر (الطلوع) تساعد على ذلك. فقد اعتمد مؤلفه (أو مؤلفاه - مؤلفوه؟) على الكتب العربية والأجنبية. وأهم الكتب العربية المؤلفة حول الناحية هي مؤلفات أبي راس والحميري (مسلم بن عبد القادر) والحسين خوجة، والشقراني والزياني (على فرض أن الكتاب ليس له)، ولعل ابن خلدون أيضا. وبالإضافة إلى ذلك اعتمد الطلوع على مؤلفات تعرضت إلى حكام فرنسا واسبانيا، وعلى تأليف (ايسترهازي) حول الحكم العثماني للناحية الغربية، وكذلك على (ما تنبري) (¬1). فهل كان المزاري والزياني على دراية باللغة الفرنسية أو الإسبانية ليستعينا بها على تأليف عمل مثل الطلوع؟ أما حياة الزياني فلا تدل على ذلك، رغم أنه كان يعرف بعض الفرنسية، وأما حياة المزاري فهي - كما قلنا - مجهولة إلى الآن. والعنوان الأصلي للكتاب هو (طلوع سعد السعود في أخبار وهران ومخزنها الأسود)، وأحيانا ترد عبارة جيشها مكان مخزنها. ولكن المحقق أو الناشر قد اختار الإضافة والإشهار للعنوان فأصبح (طلوع سعد السعود في أخبار وهران والجزائر وإسبانيا وفرنسا إلى أواخر القرن التاسع عشر). إن محتوى الكتاب يشمل كل ذلك فعلا، ولكن المخطوط كان بعنوان مختصر ومركز على (عين المراد). وقد لاحظ الذين درسوا الطلوع أن صاحبه لم يكن مؤرخا ناقدا أو معللا دقيقا للأحداث. وإنما كان يسردها بعد نقلها من مظانها دون تدخل. ورغم أن حياة الأمير عبد القادر ومقاومته وتاريخ الدوائر والزمالة أصبح معروفا، فإن الطلوع يقدم وجهة نظر خاصة حول ذلك كله، لأسباب منها أن المؤلف كان يعبر عن المواقف الصعبة التي اتخذها زعماء العهد الأول من الاحتلال. ومن الجيد أن يقارن الباحثون بين ما جاء في كتاب الطلوع وكتاب ولد قاضي عن الدوائر والزمالة أيضا. ¬

_ (¬1) محمد غالم، مرجع سابق، والدول التسع المشار إليها - وقد وردت أيضا في كتاب الزياني - هي الأمويون، والعبيديون (الفاطميون) والمرابطون، والموحدون، والزيانيون، والمرينيون، والإسبان، والأتراك، والفرنسيون. وحين تحدث عن الأمير أثناء العهد الأخير كان الموقف منه مشابها لموقف الزياني، انظر ما سبق.

وقد لاحظ المحقق أن مستوى التأليف أيضا ضعيف. فالمقاصد غير متوازنة في مادتها (وقد لاحظنا أن بعضها كان يشمل بضع صفحات، وبعضها يشمل المئات). وبالإضافة إلى الحشو والاستطراد والأخطاء التاريخية، هناك أيضا الأخطاء اللغوية وضعف الأسلوب. أما مصادره فكثيرة، إذ بلغت حوالي الخمسين. ولكن الاعتماد عليها غير متوازن أيضا. وقد جاءت فيه معلومة جديدة عن كفاح الأمير وطريقة انهزامه، خلافا للرواية المتواترة حتى الآن. ومهما كان الأمر فإن تاريخ الانتهاء منه غير معروف، ويرجح الشيخ البوعبدلي أن يكون ذلك حوالي الستينات من القرن الماضي، ولكن وجود اسم الحاكم العام لويس تيرمان في آخر عهده 1890 يدل على أن الانتهاء منه كان أوائل التسعينات، رغم أن المكتوب لا يشمل العهد الفرنسي كله إلى نهاية التأليف. والغريب أن البوعبدلي يذهب إلى أن المزاري يتميز بالموضوعية والنزاهة ومحاولة تبرير تصرفات عشيرته وموقفهم من الأمير، لتداخل قبيلة بني عامر (¬1). 10 - في سنة 1912 ألف أحد المترجمين باسم يحيى/ ياسين (لأنه رمز إلى اسمه بحرف Y). كتابا بعنوان مازونة العاصمة القديمة للظهرة. والمؤلف من مازونة، وكان مترجما احتياطيا في الإدارة، ولعله كان يعمل في سلك القضاء. وظهر التأليف في سلسلة تسمى (الجزائر كما يتحدث عنها ويصفها أهلها). واعتمد المؤلف على ما قاله ابن خلدون من أن مازونة قد أسسها المغراويون (مغراوة) في القرن السادس الميلادي. وأنها لخصوبتها وأهمية موقعها قد تداول عليها الطامعون. ودخلت التاريخ في عدة مناسبات منها أحداث الظهرة الشهيرة، سواء في ثورة 1845 حين قاد بومعزة حملة ضد الفرنسيين أو المقتلة التي عرفها أولاد رياح (غار الفراشيش) في نفس السنة، على يد العقيد بيليسييه. وكانت مازونة مركز علم وتعليم أيضا، ومحطة لأهل الأندلس الذين تركوا فيها بصماتهم الحضارية. وفي زمن المؤلف كانت ¬

_ (¬1) البوعبدلي، رسالة منه إلي بتاريخ 10 أكتوبر، 1979.

مازونة ما تزال جذابة كما كانت، ومركزا للطرق الصوفية حيث تجد كل واحدة منها مكانا للنشاط وجذب المريدين. كما كانت تحتوي على خمسة مساجد، ومدرسة قديمة (سنة 1850 افتتح الفرنسيون المدرسة الرسمية هناك، ثم حولوها إلى تلمسان)، ومكتبة هامة. إن هذا التعريف السريع بمدية مازونة ليس تاريخا بمعنى الكلمة، ولكنه ضم معلومات تاريخية. وكان المؤلف قد نشر بعض المقالات في جريدة (الأخبار) عن مازونة ثم جمعها ونشرها في هذا الكتيب الذي يعتبر من المؤلفات الاجتماعية، إذ يضم أيضا معلومات عن التقاليد الشعبية، وبعض الصور (¬1). 11 - تقييد كتبه عبد القادر بن قارة سليمان حول عائلته. وكان عبد القادر هذا قايدا، والقيادة وظيفة إدارية رسمية، غير أنها أصبحت خالية من النفوذ حين كتابة التقييد (1908). وقد سجل عبد القادر هذا بعض تواريخ أفراد عائلته وتوليهم القيادة للفرنسيين بل وقبل الفرنسيين أيضا. فالعائلة عريقة في الوظائف المخزنية، حسب التقييد. فقد تولى أبوه سبع سنوات. وكان زمان ولايته يدعى (عام الشر)، ومع ذلك كان يواسي الناس ويخرج لتفقد الأمن. ومن هذه العائلة من مات مقتولا (كذا) أي شهيدا، أثناء الاحتلال الفرنسي للجزائر سنة 1830. ومنهم محمد بن قارة سليمان الذي شارك الأمير في المقاومة. ولم يذكر التقيد أنه تولى وظائف للفرنسيين بعد هزيمة الأمير. وإنما قال إنه أدى فريضة الحج سنة 1313 عندما بلغ 89 سنة من عمره. وقد أدركته الوفاة قبل استكمال الحج. وبقي أولاده مشتغلين بالتجارة. ويبدو من التقييد أن القايد عبد القادر هو ابن محمد بن قارة سليمان (¬2). ¬

_ (¬1) (مازونة العاصمة القديمة للظهرة)، المطبعة الجزائرية، 1912، 50 صفحة. مراجعة ل. بوفا في (مجلة العالم الإسلامي)، مارس 1913، 331 - 332. (¬2) أوغست كور (الاحتلال المغربي لتلمسان) في (المجلة الإفريقية)، 1908، ص 65.

تواريخ محلية (الجنوب)

12 - تقاييد بعض حذاق المؤرخين، لمؤلف مجهول. ويضم عدة صفحات مكتوبة بخط واضح، قليل الأخطاء، وهو يؤرخ لأهل الجزائر عموما منذ أقدم العصور، خصوصا الناحية الغربية. والمؤلف يطعن في العرب والمسلمين، وفي زعماء المقاومة، وهو يبرر الاحتلال الفرنسي. وينتهي بعهد السبعينات من القرن الماضي إذ جاء ذكر ذلك في آخر المخطوط. وقد يكون هذا التقييد من عمل بعض المستعربين أو من بعض الجزائريين الذين كلفوا بذلك تحت ظروف خاصة. وبداية التقييد: (اعلم أن أول الأمم التي استقرت بالمواطن الجزائرية هم الفولان المتوطنون اليوم في سنيقال والسودان ...) أما آخره فهو (وبالجملة فمن حين استلاء (كذا) الفرنسيس على البلاد ثبتت العافية للمسلمين، ولأجلها يرجى منهم التقدم في ميادين التمدن والخيرات النافعة). وليس لهذا التقييد تاريخ الانتهاء (¬1). تواريخ محلية (الجنوب) نعنى بالجنوب عدا الولايات الشمالية الثلاث المعروفة أثناء الاحتلال الفرنسي. ويشمل ذلك المناطق الممتدة من بشار إلى سوف، ومن الأغواط إلى الهقار. ولا شك أن لعلماء هذه الأماكن تواريخ محلية، كبيرة أو صغيرة، خلال المرحلة التي ندرسها. وقد ورد بعضها في مؤلفات فرنسية أو سمعنا به، ولكن هناك تواريخ وتراجم وأنساب لم يعرفها إلا أصحابها أو القلائل من أقاربهم، وهي ما تزال مخبأة في المكتبات الخاصة، وربما تلف بعضها بعوامل الزمن واختلاف الأجيال والنهب ونحو ذلك. وسنذكر هنا ما تمكنا من معرفته بالوسائل المذكورة، تاركين لغيرنا استكمال ما بدأناه، ولعل أصحاب تلك التآليف أو ورثتهم يشفقون عليها فيعرفون بها وينشرونها حفظا لها من التلف وتخليدا لذكر مؤلفيها وإفادة الناس بها. ¬

_ (¬1) من مجموع أعاره لي محمد بن عبد الكريم الزموري.

وإليك بعض ما علمنا منها: 1 - في أوائل الثمانيات من القرن الماضي ألف الشيخ محمد بن يوسف أطفيش تاريخا لبني ميزاب سماه الرسالة الشافية. وقد طبعت في وقتها على الحجر، ثم أعيد طبعها أوائل هذا القرن. وكان الشيخ أطفيش أعلم علماء ميزاب في وقته، وكان الفرنسيون قد اتفقوا مع أهل ميزاب على نصب الحماية سنة 1853، مع الإبقاء على مصالح أهل ميزاب وتقاليدهم وممارسة شعائرهم وتجاربهم. ولكن مع فاتح 1880 كانت النوايا الفرنسية تتغير نحو الصحراء عموما، سيما بعد حوادث السبعينات ونشاط بوشوشة والمدقانات، فطلب ايميل ماسكري (¬1)، وهو مستشرق فرنسي اهتم بمدن ميزاب ولهجتها وتاريخها، من الشيخ أطفيش أن يكتب له خلاصة لتاريخ بني ميزاب تتضمن أنسابهم وأصولهم وعقائدهم وتواريخهم ورجالهم. فكتب الشيخ الرسالة الشافية. واعتقد أنه أجاب فيها بما لا يضر بالإسلام والمسلمين، وكأنه يريد أن يقول إنه كان يعرف أن الفرنسيين قد يتخذون من عمله ذريعة للإساءة إلى بني وطنه، فلم يكتب لهم إلا ما رآه نافعا غير ضار بالمسلمين. وقد قيل عن الرسالة الشافية (¬2) إنها أول عمل يطبع حول تاريخ بني ميزاب وحدهم، لأن التواريخ السابقة كانت تدمجهم ضمن الحديث عن الإباضية. ولكن ثقافة الشيخ أطفيش الفقهية طغت على شخصيته كمؤرخ، فلم يكتب (تاريخا) وإنما كتب أخبارا عامة ومعلومات لا تؤرخ فعلا لإنشاء المدن الميزابية، ولا تذكر أصول المؤسسات الاجتماعية والدينية، ولا النظم السياسية، وطريقة توارث الأيمة. ويذهب من درس الرسالة الشافية إلى أنها تبقى مع ذلك مصدرا هاما لتاريخ بني ميزاب، أمام انعدام المصادر الأخرى، ¬

_ (¬1) كان ماسكري قد كتب أطروحته عن تشكيل المدن عند أهل الحضر في الجزائر، وقد ظهرت بباريس 1886. وكان قد ترجم جزئيا تاريخ أبي زكريا يحيى الوارجلاني، الجزائر 1878. انظر عن نشاطه السياسي والفكري فصل الاستشراق. (¬2) الرسالة الشافية، ط. الجزائر 1299/ 1880، وط. 2 الجزائر، 1326/ 1908، وهي في 191 صفحة.

سيما المطبوعة، ذلك أن أطفيش قدم فيها معلومات عن العلاقات القديمة بين ميزاب والبصرة وتيهرت، وذكر فيها أصول قبائل بني ميزاب، وقائمة هامة بعلماء المذهب الأباضي، إلى حدود القرن العاشر الهجري، كما ذكر الأسانيد الفقهية. ومن جهة أخرى تضم الرسالة الشافية نقاطا حول علم الاجتماع في العالم الإسلامي. وقد دافع المؤلف عن وضع الإباضية المعتدلين، ورفض العبارة الشائعة وهي أنهم خوارج، دون معرفة موقفهم بالضبط بعد معركة صفين. وبناء على دراسة السيد كوبيرلي للرسالة الشافية نفهم أن الرسالة تضم خمسة عشر فصلا، وبعد أن لخص عناوين بعض الفصول، قال إن الفصل الثاني جدير بالترجمة في نظره، وقد قام فعلا بذلك، لأنه فصل يتعلق بأجداد بني ميزاب، وهذا الفصل أقرب إلى الأنساب منه إلى التاريخ المعروف. وخص الفصل الثالث بالحديث عن عدم إمكانية رؤية الله عند الإباضية، وعن موقفهم من الخليفتين: عثمان وعلي، وهي مسائل مذهبية. أما الفصل الرابع عشر فقد ذكر فيه العلماء من القرن الأول الهجري إلى العاشر، كما سبق (¬1). 2 - ويذهب محمد علي دبوز إلى أن الشيخ أطفيش قد كتب تارخا آخر لبني ميزاب توسع فيه أكثر من الرسالة الشافية، ولكنه لم يطبع، وأشار إلى أن نسخة منه كانت موجودة عند إبراهيم بن نوح امتياز في بني يسقن. ولم يذكر دبوز النواحي التي توسع فيها الكتاب الجديد أو الإضافات. ولعل هذه النسخة الجديدة تكون أحق بالطبع والنشر ما دام المؤلف قد أشار في الأولى إلى أنه ألفها بطلب من شخص أجنبي، وأنه قد يكون محرجا من ذكر كل شيء للفرنسيين عندئذ. 3 - وبعد حوالي ثلاثين سنة ألف إبراهيم العوامر، أحد قضاة سوف وفقهاء وأدباء جيله، تاريخا للمنطقة بطلب من أحد الفرنسيين أيضا. ولم ¬

_ (¬1) بيير كوبيرلي (محمد أطفيش ورسالته) في (مجلة معهد آداب اللغة العربية) IBLA، 1972، انظر محمد علي دبوز، نهضة الجزائر، 1/ 318.

يذكر العوامر اسم الشخص الذي طلب منه ذلك، ولكنه عبر عنه (بولاة الأمور)، وهي إشارة إلى قيادة المكتب العربي التي كان على رأسها في أول هذا القرن الضابط كوفيه. ونحن نرجح أن كون هذا هو الذي طلب منه الكتابة في الموضوع. وقد نشر كوفيه بعد انتهاء مهمته، تاريخا واسعا لسوف من وجهة نظره، وضمنه أمورا كثيرة نجدها في كتاب العوامر. ومهما كان الأمر فإن عنوان الكتاب الذي نحن بصدده هو الصروف في تاريخ سوف. وقد ألفه صاحبه، حسب بعض النسخ سنة 1331 (1913). وتقول بعض المصادر إنه كتب أيضا نسخة أخرى بدأها سنة 1916، وهي تكاد تكون كالأولى، غير أن التنقيحات التي أضافها جعلت الكتاب يتوسع ليشمل نواحي أخرى غير سوف، كالحديث عن أجزاء من الصحراء ذات الصلة بوادي سوف (¬1). ونظام كتاب الصروف يشبه نظام الكنانيش والمذكرات. فهو بدون فصول ولا أبواب، وإنما يشمل الأحداث والعناوين المستقلة، وكلما انتهى من تغطية الحدث أو الموضوع انقل إلى آخر، وهكذا. فالكتاب عبارة عن (مسائل) وحوادث متفرقة وليس تاريخا مترابطا. وقد اعترف المؤلف نفسه بذلك حين كتب (وبعد: فهذه نبذة لطيفة ومسائل شريفة، في بيان أحوال الصحراء وسوف، وما اشتملت عليه من الحوادث والصروف). ويمكننا تقسيم كتاب الصروف إلى قسمين متميزين، الأول في المسائل والنبذ التاريخية، والثاني في الأنساب، والأول أكبر حجما من الثاني. ويمكننا أيضا تقسيم القسم التاريخي إلى وحدات: مسائل عامة في الجغرافية وصفة المنطقة ونباتها وحيوانها وعمرانها، وهذا يشمل أيضا الأغواط وبسكرة وغرداية وتقرت وورقلة. ومسائل تاريخية بعيدة عن سوف مثل الأمم والشعوب القديمة السابقة للفتح الإسلامي والعربي - كالكنعانيين والرومان والوندال والروم - ثم الفتح نفسه وبداية استقرار الفاتحين. ومسائل تتعلق ¬

_ (¬1) إبراهيم العوامر (الصروف في تاريخ الصحراء وسوف) ط. تونس، 1977، المقدمة.

بهجرة بني هلال وبني سليم، ولا سيما هجرة قبيلة طرود وعدوان، والوقائع التي جرت في عهدهم سواء مع الزناتيين أو الشابية أو بايات تونس وعلاقاتهم مع النواحي المجاورة كالزبيان. ثم مسائل وأحداث جرت في النصف الأول من القرن التاسع عشر كالمناوشات والغارات من أجل العيش وتأمين الأمن والحدود، وتحركات قبائل سوف، وبناء بعض القرى. وأخيرا مسائل تخص العلاقات مع الفرنسيين منذ احتلال سوف سنة 1854 إلى أحداث السبعينات، مع نهاية مقاومة بوشوشة تقريبا (1874)، وبداية حكم الفرنسيين لسوف بطريقة مباشرة. أما القسم الثاني (الأنساب) فمكانه فقرة الأنساب من هذا الفصل (¬1). وقد اعتمد إبراهيم العوامر على مصادر عديدة، بلغت حوالي العشرين. بعض هذه المصادر قديمة مثل ابن خلدون، وبعضها متوسط القدم مثل المؤنس وتاريخ الدولتين، وبعضها ذو صلة وطيدة بتاريخ سوف مثل تاريخ العدواني ومخدرة الشيخ العروسي، ولكن هناك مصادر أخرى تبدو جيدة مثل عجائب المخلوقات للقزويني. ولا ندري ما علاقة النخبة الأزهرية وتذكرة الأنطاكي بالموضوع، ولكنهما مع ذلك مذكورتان من بين المراجع. ويبدو أن المخدرة وكناش الشيخ العروسي كانتا من المراجع الهامة، ولكننا لا نعرف اليوم ما فيهما حول سوف. فالشيخ العروسي (المقصود به مقدم الزاوية التجانية بقمار آخر القرن الماضي وأوائل هذا القرن) كان متعلما وسياسيا، في وقت حساس، ولا شك أن له معلومات ومخطوطات ووثائق تمكنه من الكتابة عن أمور لا يعرفها كل المتعلمين عندئذ. كما كان على صلة بالإدارة الفرنسية وقبائل التوارق وغيرهم. وقد اعتمد العوامر على الرواية الشفوية وأقوال القدماء، وهو مرجع ضروري عند انعدام الوثائق المكتوبة، ولكنه مرجع قد يكون غير مأمون العاقبة، لأن الرواية تحتاج إلى شروط كثيرة لمعرفة صحة الخبر. ونلاحظ أن العوامر قد اعتمد كثيرا على تاريخ العدواني ¬

_ (¬1) انظر سابقا.

دون ذكر النسخة أو النسخ التي كان يأخذ عنها. وكان كتاب العدواني معروفا للفرنسيين لأنهم ترجموه منذ 1867 (¬1). وكان العوامر في الثلاثينات من عمره عندما ألف (الصروف) - فقد ولد سنة 1881، سنة احتلال تونس - وعاش في عهد أربعة حكام عامين بارزين في تاريخ الجزائر، لويس تيرمان وجول كامبون وشارل جونار وشارل ليتو. وقد كان لكل واحد منهم صفة تميزه في حكمه، ومما يذكر أن تيرمان كان أول حاكم فرنسي يزور سوف إذ دخلها في عربة حملته إليها من تقرت. وفي عهد ليتو ألف العوامر كتابه. ونظرا لطموحه وشبابه وتعلمه طلبوا منه كتابة الصروف. ولعله فعل ذلك طمعا في الوظيف أو تفاديا لغضب الإدارة. فقد درس في موطنه ثم في تونس بالزيتونة، وتتلمذ على مشائخ متنورين أمثال محمد النخلي ومحمد الخضر حسين. وكانت تونس أيام رحلته في طلب العلم تشهد حركة نشيطة في الثقافة والسياسة. ولا شك أنه ظل على صلة بها حتى بعد رجوعه إلى وادي سوف. وقد كانت فترة طفولته وشبابه تشهد أيضا قمة انتشار الطرق الصوفية واعتماد السلطة الفرنسية على بعضها، ويا ويح من قاطع هذه الطرق أو انضم إلى بعض وخاصم الأخرى. ويروى من ترجم له أن الشيخ العوامر رأى من الحكمة إرضاء جميع الطرق الصوفية والاستفادة من الجميع وذلك بالانضمام إليها في نفس الوقت (¬2) ? رغم أن التجانية تمنع أتباعها من الانخراط في الطرق الأخرى - ولا ندري كيف وفق الشيخ العوامر بين كل هذه الطرق المتنافسة والمتناقضة أحيانا،. وقد كان بعض العلماء والمتعلمين وحتى الحكام يفعلون ذلك أيضا منذ القديم. ولعل ما يشفع للعوامر أن أبويه كانا ينتميان لطريقتين أيضا، فالأب تجاني والأم قادرية، وكانت الرحمانية نشيطة أما في سوف على ¬

_ (¬1) وقد حققناه ونشرناه سنة 1996، في دار الغرب الإسلامي، بيروت. (¬2) وكذلك كان يفعل بعض الحكام عندئذ، مثل سلاطين المغرب. واشتهر عدد من العلماء أوائل هذا القرن، مثل القاضي شعيب في تلمسان، وابن الحفاف وابن سماية في العاصمة، بالدخول في عدة طرق. انظر فصل الطرق الصوفية.

عهده فانضم إليها وألف رسالة في أحد أعيانها (¬1). ومن نال رضى الطرق الصوفية وداهن السلطات الفرنسية، حاز قصب السبق في الأمور الدنيوية، أو كما تقول العامة: نال الدنيا والآخرة. 3 - تاريخ توات، عالجه عدد من مؤلفي الناحية في كتبهم وتقاييدهم، ولكننا لم نعرف من ذلك إلا القليل. ومنه القول البسيط في أحبار تمنطيط لابن بابا حيدة الذي لا نعرف عصره بالضبط. وهو عمل في التاريخ والأنساب (¬2). وقد اعتمد أحد الفرنسيين، اسمه وتين، على عدة مؤلفات تواتية حين نشر دراسته عن الناحية سنة 1905. وهي دراسة عن (أصول سكان توات، طبقا للتقاليد المحفوظة)، وتناول أيضا العادات والتواريخ وطبقات المجتمع. وقسم المنطقة إلى نواح تبدأ بالسبع وتنتهي بتاوريرت، وتشمل قصور (قرى) تبلكوزة وعين صالح. وتشمل بوده، وتمنطيط، وبوفادي، وفونوعيل، وتامسيط، وزاوية كونته، وانزقمير، وصالي، وانزقلوف، ورقان. وتحدت عن قصة المغيلي واليهود، وعن الأنساب. ونقل عن الكتب القديمة من حل بالقصور المذكورة، وتعرض لذكر الزوايا والطرق الصوفية، ولا سيما الطيبية والشيخية. وإن ما يهمنا من ذلك كله هنا، هو أن (وتين) قد اعتمد في دراسته على عدة مراجع محلية، بالإضافة إلى رسالة ابن بابا حيدة. ومن ذلك (مزيل الخفاء عن نواب (؟) بعض الشرفاء) الذي نسبه إلى سيدي عبد الكريم بن أحمد بابا حيدة. وواضح أن كتاب مزيل الخفاء يتحدث عن الأشراف الذين ¬

_ (¬1) انظر النبذة التي كتبها عن حياته حسني الهاشمي (الصروف)، ص 11 - 14، وانظر عن حياة الشيخ العوامر في القضاء فصل السلك الديني والقضائي. (¬2) نشره فرج محمود فرج ضمن رسالته لدكتوراه الحلقة الثالثة، سنة 1980 (؟). وهو عمل قام به تحت إشرافنا. وقد ترجمه وتين L. WATIN، سنة 1905، ونشره في المجلة الجغرافية للجزائر وشمال افريقية SGAAN، 1905، ص 224 - 242 عن نسخة قال إنها غير جيدة. ولم نكن قد اطلعنا على ذلك عند إشرافنا على عمل فرج محمود فرج المذكور.

جاؤوا من بوسمغون، فهم أدارسة حسب دعواه. وذكر منهم أولاد علي بن موسى وأولاد سيدي بوحي. كما ذكر (وتين) كتابا آخر سماه (تذكرة المبادي في خبر المعاش والمعاد) ونسبه إلى سيدي محمد عبد الكريم بن أحمد. فهل هو نفس مؤلف مزيل الخفاء؟ إننا لا نستطيع القول بذلك أو بغيره ما دمنا لم نطلع نحن على العملين، ولم نقرأ لغير (وتين) وصفا للكتابين. ومهما كان الأمر فإن (تذكرة المبادي) تضم مجموعة من التراجم لعلماء تمنطيط، وكان المؤلف مطلعا على وثائق هامة في الناحية. وإذا صح أن موضوع الكتابين في الأنساب فإن مكانهما حينئذ سيكون فقرة الأنساب من هذا الفصل (¬1). 4 - منطقة توات، دراسة لعبد الرحمن سلكة، ونعرف عنه أنه كان كاتبا (خوجة) في مركز توات سنة 1913. ويبدو أنه من أولئك الجزائريين الذين تعلموا في إحدى المدارس الفرنسية الرسمية الثلاث، ووجدوا عملا لهم كأعوان للضباط الفرنسيين في المناطق النائية. ومهما كان أمره فقد اهتم بتاريخ ناحية توات وجمع معلومات عنها ونشرها في دراسة سنة 1922. فهل قام بذلك بطلب من الضباط الفرنسيين أيضا على عادتهم مع المتعلمين الجزائريين؟ إننا نرجح ذلك، ولكنه قد يكون اهتم بذلك حبا في المعرفة والفضول العلمي. أما منهج الدراسة فيوحي بأن الفرنسيين كانوا وراء إعدادها، لأنهم عادة يضعون المخطط هكذا: أصول السكان (وهم حريصون على ذلك أشد الحرص) وطبقاتهم وصناعاتهم وتجارتهم ونظام الزراعة عندهم وأخبار علمائهم، وقصورهم (قراهم) وأنسابهم. وقد ختم السيد سلكه دراسته بقوله إنه كان يهدف إلى التعريف بالحالة العقلية لأهل توات. ومما يوحي أيضا بأصابع الفرنسيين في هذه الدراسة قول السيد سلكه: إنه يريد المساهمة في فكرة (عزيزة علينا)، وهي مساعدة وتشجيع الحراثين، وهم الزنوج والعبيد ¬

_ (¬1) فرج محمود فرج، مرجع سابق، والدراسة تمتد من ص 209 إلى ص 246. انظر سابقا. انظر فقرة الأنساب عن التواريخ المورطانية، وترجمة حياة إسماعيل حامد في فصل الترجمة لمعرفة المزيد عن بعض هذه المؤلفات.

(قبل أية طبقة أخرى) في توات. فهذه العبارات كانت فعلا عزيزة على الفرنسيين، لأنهم كانوا يفتنون المجتمع ويخلقون بين فئاته النعرات العرقية والدينية والطبقية، كلما وجدوا إلى ذلك سبيلا. وقد يكون سلكة سار مسارهم، فهو لا يدرس دراسة محايدة، بل دراسة موجهة. وقد عالج أيضا العلاقات بين علماء الجزائر وعلماء توات، وذكر المغيلي وسعيد قدورة وأحمد بن يوسف المليالي وأضرابهم. وقد حظى تاريخ توات أيضا بجزء هام من هذه الدراسة (¬1). 5 - التبر المسبوك، عرف عن الشيخ محمد السائح أنه أديب وشاعر وراوية أخبار ونكت. وكان معاصرا لأديب تونس العربي الكبادي، ولعله عرفه أيام دراسته في الزيتونة، وتردده على مكتباتها. وربما كان السائح من أولاد السائح القاطنين في الطيبات، نواحي تقرت؛ ويهمنا منه أنه هو مؤلف (التبر المسبوك)، وهو كتاب في تاريخ الزاوية التجانية بتماسين، ومن ثمة تراجم رجالها وتاريخ الطريقة التجانية نفسها، ونشاطها في الجنوب الشرقي من البلاد. وقيل إن أوراق (التبر المسبوك) مفرقة بين أبناء الشيخ الذين قد يكونون باعوا بعض آثاره إلى علماء ميزاب. ولعل نسخة من هذا التأليف موجودة في مكتبة الزاوية التجانية بتماسين أو قمار. وقد توفي الشيخ السائح في تاغزوت ودفن بزاويتها التجانية (¬2). 6 - تاريخ قبائل الأزجر (الهقار) وهو تقييد كتبه الشيخ إبراهيم ولد سيدي وبعث به إلى الشيخ محمد العيد التجاني. وقد أشار إلى ذلك هنري دوفيرييه في كتابه (اكتشاف الصحراء) سنة 1860 (¬3). ¬

_ (¬1) عبد الرحمن سلكة (دراسة عن منطقة توات) في (المجلة الجغرافية للجزائر وشمال افريقية)، SGAAN 1922، ص 522 - 555. وقد ذكرنا أن الدراسة مكتوبة بالفرنسية سنة 1913، ولا نظن أنها مترجمة عن العربية. (¬2) عبد الباقي مفتاح (أضواء)، انظر أيضا إبراهيم العوامر (الصروف)، مرجع سابق، ص 32. (¬3) انظر فقرة الأنساب وفصل الطرق الصوفية.

تاريخ الجزائر عموما

7 - مخدرة الشيخ العروسي (انظر سابقا). 8 - تاريخ الزعاطشة، حدثني عنه أحد المتعلمين بالعاصمة (الشيخ ابن زكري؟) خلال السبعينات، ونسبه إلى مؤلف من المنطقة، لعله هو الطاهر عامر. وقد تركت ذلك في أوراقي بالجزائر. وقد بحثت عن المخطوط في عدة مناسبات، ولعل نسخة منه في مكتبة الشيخين عبد المجيد حبه أو عبد الكريم التواتي. تاريخ الجزائر عموما نقصد بالتاريخ في هذه الفقرة ما تناول الجزائر عموما دون جزء منها. فالمؤرخ في هذه الحالة يكتب عن الأحداث والأشخاص الذين شاركوا في صنع التاريخ للقطر كله. وسواء أكان هذا التاريخ قديما أو حديثا، شاملا لكل العهود أو مقتصرا على فترة بعينها، فإن ذلك لا يهم هنا. حقيقة أن بعض المؤلفين قد تغلبت عليهم عاطفة خاصة أو اهتمام بجزء دون جزء من الوطن، ولكن الموضوع العام هو الذي يعنينا هنا. وسنرى مثلا أن المشرفي يغلب عليه الاهتمام بالنواحي الغربية بحكم أنه لم يعش ولم يعرف، ربما، ما جرى في شرق البلاد ونواحيها الأخرى، وكذلك سنرى أن محمد بن عبد القادر في تحفة الزائر سيغلب ترجمة والده سيما في الجزء الثاني، على أحداث الجزائر العامة وسيكون موضع تركيزه على غرب البلاد بحكم الأحداث التي جرت هناك في عهد المقاومة الأولى. وسنرى أن مبارك الميلي قد انتهى بتاريخه مع العهد العثماني. ومع ذلك فإننا سنعتبر هؤلاء جميعا مؤرخين للجزائر عامة. 1 - كتاب المرآة: تأليف حمدان بن عثمان خوجة. ويسمى أيضا لمحة تاريخية عن إيالة الجزائر. وكان تأليفه سنة 1833، فهو من أوائل الكتب التي صدرت بعد الاحتلال وتناولت أحداثه وحكمت عليه بالفشل من البداية واستنكرت فظائعه وبذرت البذور الوطنية وبشرت بالتضامن الإسلامي للتحرر من الاستعمار.

وحياة حمدان خوجة أصبحت معلومة بعد أن ظلت مجهولة طيلة فترة الاحتلال. فقد خصه محمد بن عبد الكريم بدراسة شاملة، وترجم بعض آثاره، ومنها المرآة، وحقق كتابه إتحاف المنصفين (¬1). وتناوله العربي الزبيري حين ترجم المرآة أيضا وحين قدم لترجمة مذكرة خوجة إلى اللجنة الافريقية (¬2). ودرسه عبد الجليل التميمي في كتابه بحوث ووثائق مغربية (¬3). كما تعرضنا إلى بعض أفكار خوجة في القومية والحضارة الإسلامية ونضاله السياسي في كتابنا الحركة الوطنية. أما علي مصطفى المصراتي فقد درس العلاقة بين حمدان خوجة ومعاصره الليبي حسونة دغيز الذي قام بترجمة المرآة من العربية إلى الفرنسية (¬4). وقد أثبتت هذه المصادر وغيرها أن حمدان خوجة كان رجلا غير عادي، وأنه قام بدور إيجابي في سبيل تحرير وطنه من الاحتلال، وهو دور كان رائدا في العمل السياسي الذي لم تعرفه الجزائر إلا بعد حوالي قرن من الاحتلال. ولو وجد خوجة نخبة واعية مثله لكان مصير الجزائر غير الذي عرفته. ولا نريد الآن أن نفصل أو حتى نلخص سيرة حمدان خوجة وإنما نريد أن نذكر اهتمامه بالتاريخ ومكانة كتابه في مدرسة التاريخ التي نحن بصددها. لقد كان رجلا عارفا باللغات والشعوب والتطورات السياسية والاقتصادية والفكرية التي طرأت على أوروبا منذ الثورة الفرنسية. وليس ¬

_ (¬1) انظر (حمدان بن عثمان خوجة)، بيروت 1972. وقد جاء في آخره بمذكرة خوجة أيضا. وفي حوالي 1968 نشر ابن عبد الكريم أيضا كتاب (إتحاف المنصفين) بعد أن حققه. ولعل أول من ترجم لخوجة أوائل هذا القرن هو عمر راسم، ولكن ترجمته لم تنشر. (¬2) انظر ترجمة الزبيري لكتاب المرآة، ط. 2. وقد نشر ترجمة مذكرة خوجة ضمن مذكرات أحمد باي، وبوضربة، سنة 1972. (¬3) عبد الجليل التميمي (بحوث ووثائق مغربية)، تونس، 1972. (¬4) نقصد كتاب علي مصطفى المصراتي (مؤرخو ليبيا) إذ فيه فصل عن تعاون خوجة ودغيز فون فرنسا من أجل القضية الجزائرية.

ذلك عن طريق السماع وإنما كان عن طريق المشاهدة والمعايشة. وكان يقارن ما كانت عليه بلاده الإسلامية (منها الجزائر) وبين ما أصبحت عليه أوروبا. ولكننا لا نعرف أنه كتب أو عبر عن آرائه في ذلك قبل 1830. كان يتولى التجارة مع الأوروبيين ومع الشرقيين، وكان يسافر لزيارة عاصمة الدولة العثمانية وأقاليم هذه الدولة، وكذلك لزيارة أوروبا الغربية والشرقية. وكان لخاله دور في تسيير شؤون الدولة. وربما كان حمدان غير راض بما كان عليه حال الدايات ابتداء من مصطفى باشا في أول القرن، وكان بحكم تعاطيه التجارة ناقما على نفوذ بعض العائلات اليهودية لدى رجال الدولة، وكان لهذه العائلات، مثل بكري، نفوذ في أوروبا واحتكار للأسواق الجزائرية باتفاق مع الدايات، ولكن حمدان وربما غيره أيضا من أحفاد العثمانيين في الجزائر، كانوا ناقمين على الوضع ويتمنون تغيير الأحوال. وكان هذا الموقف من السلطة عندئذ هو الذي جعل حمدان يظن خيرا في الحملة الفرنسية ويصدق وعود قادتها بأنهم إنما غزوا الجزائر (لتحريرها) من استبداد الداي والأتراك. ولعل ذلك هو ما جعله يتعامل مع بورمون. وكان أحد أبنائه (وهو حسن) هو الذي شارك في وفد المفاوضة مع القائد الفرنسي حول مصير البلاد ومصير الداي. ولا ندري كيف وأين تعلم ابنه هذه اللغة الفرنسية حتى أصبح من المتفاوضين بها. ولكن بورمون لم يبق في الجزائر إلا حوالي شهر ثم عزل وحل محله كلوزيل، فقلب الوعود وجاء بفكرة الاحتلال الدائم والاستيطان، ثم خلفه روفيقو فكان أسوأ من سابقه في توظيف الوسائل البوليسية للقضاء على أعيان البلاد ومنهم خوجة. وبعد أن ظن خوجة أن عهدا جديدا قد أتى مع بيرتزين (القائد الجديد) إذا به فاجأ برجوع غريمه كلوزيل إلى الحكم (1835). فتأكد خوجة أن صوته قد انقطع وأن عودته إلى الجزائر من فرنسا أصبحت مستحيلة وحيل بينه وبين شعبه. فاختار اللجوء إلى اسطانبول. ومن هناك ظل يحرض السلطان (محمود ثم عبد المجيد) على نصرة الجزائر ويترجم لهما الوثائق والرسائل التي ترد إليه من أعيان البلاد ولا سيما

من الأمير ومن أحمد باي. ولم تعترف الدولة العثمانية بالسيادة الفرنسية على الجزائر إلا سنة 1847 وهي السنة التي هزم فيها الأمير، ويبدو أن خوجة قد توفي عندئذ إذ يغلب على الظن أن الوفاة أدركته حوالي 1845. وقد تابع أولاده، علي رضا وحسن، سيرة والدهما أيضا. فقد تولى حسن دفتر دار إيالة طرابلس خلال الخمسينات، ومن هناك كانت عينه على الجزائر. ثم تولى علي رضا حكم إيالة طرابلس باسم السلطان في السبعينات، وهو الذي كتب أيضا كتابا يذكرنا بكتاب والده، سماه (مرآة الجزائر). وقد اطلعنا على النسخة التركية لهذا الكتاب فوجدناها من حيث المنهج والمحتوى شبيهة بالمرآة، مع اختلاف طبعا (¬1). ولكن الأصل العربي لهذا الكتاب مفقود كما فقد الأصل العربي لمرآة حمدان. كل الدلائل تدل على أن حمدان خوجة ألف كتابه (المرآة) بالعربية في فرنسا خلال فترة قصيرة (¬2)، وذلك حين أعلنت الحكومة الفرنسية، بإلحاح من العرائض التي قدمها الأعيان، ومنهم خوجة نفسه، عن إرسال لجنة تحقيق. فكان غرض خوجة من كتابه أن يقدم إلى اللجنة كتابا يضم معارف ووثائق وإحصاءات عن الجزائر قبل أن تتوجه إليها، لأنه كان يعرف أن هذه اللجنة - التي ظن فيها العدل والخير - ستواجه أكداسا من الوثائق والبيانات من الأوروبيين أنصار الاستعمار والاستيطان سواء كانوا إداريين أو عسكريين أو مواطنين عاديين (¬3). وكان خوجة يأمل أن اللجنة ستحكم بعد التحقيق ¬

_ (¬1) صورنا منه نسخة أثناء زيارتنا لاسطانبول سنة 1971، وهو كتاب مطبوع ومترجم عن العربية. وبحثنا عن الأصل العربي فلم نعثر عليه، وأخبرنا أكثر من واحد أنهم بحثوا مثلنا وحصلوا على نفس النتيجة. (¬2) انظر الحجج التي اعتمد عليها محمد بن عبد الكريم في كتابه عن حمدان خوجة، مرجع سابق. ونضيف إليها هنا أننا وجدل بيليسييه، قنصل فرنسا في طرابلس في الخمسينات ينقم على حسن بن حمدان خوجة لأنه كان يوزع النسخ من كتاب والده بالعربية. والغالب أن نسخ المرآة بالعربية موجودة في ليبيا وفرنسا واسطانبول. (¬3) عن هذه اللجنة انظر كتابا (محاضرات في تاريخ الجزائر الحديث - بداية الاحتلال) ط. 3، 1982.

والاطلاع على كتابه الذي كتبه من موقع الخبير بالأوضاع والممثل لأهل بلاده، بجلاء الجيش الفرنسي ووقف الاستيطان ووضع حد لمصادرة الأوقاف وتغيير المعالم، وسلوك سياسة جديدة تقوم على الاعتراف بدولة يحكمها جزائري وترتبط مع فرنسا بعلاقات تجارية ممتازة. ولكن حلمه تحطم عندما حكمت اللجنة بعكس ما وقع، بل أوصت بدعم الجيش وتثبيت الإدارة واعتبرت الجزائر بلادا حيوية لفرنسا بعد أن درست موانيها وتجارتها ومواردها الطبيعية وموقعها الاستراتيجي. وقد اشتمل كتاب (المرآة) على مقدمة تحدث فيها عن الظلم الذي حل بالجزائريين وقارن بينهم وبين وضع غيرهم في أوروبا. ثم رتبه على كتابين: الكتاب الأول ضم ثلاثة عشر فصلا تناولت حالة البدو (أهل الريف) وأخلاق البربر وعادات سكان السهول وركز بالخصوص على أهل متيجة القريبين من العاصمة. ثم تحدث عن سكان غرب البلاد وعاداتهم وسكان مدينة الجزائر، ووصف الحكومة في العهد العثماني وأصل النظام السياسي والإداري والجيش أثناء حكم الدايات. كما ذكر حال الحاكم والمحكوم (الراعي والرعية)، ولم يغفل سياسة الأرض وأنواع الضرائب والمغارم، وأسباب تدهور الحكم وسقوط النظام في نهاية المطاف. وبعد أن تحدث عن دواخل البلاد، خص الداي حسين ببعض الفقرات. أما الكتاب الثاني فقد ضم إثني عشر فصلا، وكلها تقريبا عن علاقة الجزائر وفرنسا. وهكذا كان الحديث عن الحملة والنزول في سيدي فرج، والأعمال الفظيعة التي ارتكبت أثناء الاستيلاء على مدينة الجزائر. ثم الحديث عن البايات بعد الاحتلال ولا سيما مصطفى بومزراق باي التيطري، ثم غزوة كلوزيل البليدة والمدية، ومصادرة أوقاف مكة والمدينة، ووصف الأملاك الأوروبية الجديدة، وتقرب اليهود من الفرنسيين. وقد ضم هذا الكتاب ملحقا من عدة وثائق كلها عن النتائج السياسية للاحتلال خلال السنوات الثلاث الأولى. ونعرف منها مجموعة من العرائض التي تقدم بها الأهالي وزعامة حمدان خوجة في اللجنة المعروفة بلجنة المغاربة. وقد أعلن

خوجة في نهاية (المرآة) أنه سيؤلف جزءا آخر، ولكننا لا نعرف إن حقق ذلك. ولعل خيبة أمله في لجنة التحقيق واستحالة عودته إلى بلاده في تلك الظروف قد ثبطت من عزيمته وجعلته يهتم بمصيره فلجأ، كما قلنا، إلى اسطانبول. لم يكن حمدان خوجة مؤرخا حين أقدم على تأليف المرآة. وقد عرفنا لماذا وكيف ألفه. كان خوجة عندئذ رجلا سياسيا برز في وقت الأزمة ليمثل أهل بلاده لدى الرأي العام الفرنسي ورجال الحكومة الفرنسية. ولكنه اضطر إلى الرجوع للحوادث التاريخية، فتناول ذلك في الكتاب الأول. ورغم ما في هذا القسم من معلومات وإحصاءات وحوادث، فإنه عندئذ كان نوعا من الانطباع عن الحكم العثماني في الجزائر. ولكن خوجة لم يتبع في ذلك الطريقة الإسلامية مثل الاعتماد على السنوات وذكر الدول والعهود، بل إنه كان ينتقي موضوعاته التي كانت تبدو اجتماعية واقتصادية وإدارية، أكثر منها سياسية. ويكاد رأيه في العهد العثماني أن يكون سلبيا، وهو رأي معظم الجزائريين عندئذ، ولكن بالمقارنة إلى ما ارتكبه الفرنسيون خلال ثلاث سنوات فإن حمدان خوجة ظهر مفضلا للحكم العثماني، حين قال قولته الشهيرة: (اللهم ظلم الترك ولا عدل الفرنصيص!). أما الكتاب الثاني من المرآة، فهو نوع من المذكرات أو اليوميات. فهو يصف فيه الصراع بين إدارة الاحتلال المتغطرسة وبين الأهالي، ولا سيما في مدينة الجزائر. وخوجة لا يتحدث عندئذ عن مقاومة الأمير في غرب البلاد، لأن مبايعة الأمير لم تقع إلا في آخر نوفمبر 1832، ولم تكن بعد قد عمت البلاد. أما قسنطينة فكانت ما تزال في حكم الحاج أحمد. ولذلك كان اهتمام خوجة بإقليم الوسط وإقليم وهران (عشية ظهور الأمير). ورغم ذلك فإن كتاب المرآة يعتبر اليوم مصدرا أساسيا لتاريخ الجزائر في أول الاحتلال. وهو حسب علمنا أول وثيقة سياسية وتاريخية كتبها أحد الجزائريين وقدم فيها أحكامه عن النظام العثماني من جهة والاحتلال الفرنسي

من جهة أخرى. وكانت مذكرات الشريف الزهار ستكون في نفس الأهمية لو بقي منها القسم الذي يصف الاحتلال. أما القسم الذي نشره الشيخ أحمد توفيق المدني منها فهو يشبه الكتاب الأول من المرآة. ومع ذلك ذكرنا المرآة في تاريخ الجزائر وصنفنا كتاب الزهار في المذكرات للسبب الذي ذكرناه هناك (¬1). 2 - رسالة (مشروع) ابن عزوز: في حدود منتصف القرن الماضي ألف الحسين بن عزوز رسالة جعلها في شكل وصية أو مشورة عن وضع الجزائر عندئذ، واقترح حلولا سياسية وإدارية تقدم بها إلى الفرنسيين. ولأهمية صاحب الرسالة وما جاء فيها من أفكار أصبحت في الواقع عملا في التاريخ وإن لم تكن كذلك في وقتها. كتب الحسين بن عزوز رسالته من سجنه في جزيرة سان مرغريت الفرنسية. وكان قد نفي إلى هناك بعد إلقاء الفرنسيين القبض عليه حوالي 1845؟. وكان ابن عزوز قد تولى للأمير عبد القادر على منطقة الزيبان أوائل الأربعينات. وكان من رجال الدين، ومن المتعلمين والمحاربين الشجعان. وهو أحد أبناء محمد بن عزوز، مقدم الرحمانية أوائل القرن 19، كما أن أخاه مصطفى هو الذي أسس زاوية نفطة. وكانت معرفة الحسين بالمنطقة وبالأوضاع العسكرية والسياسية في عهد المارشال بوجو قد أهلته لكتابة رسالته. ولكنه لم يكتب تاريخا وإنما كتب ما كتب ليقترح حلولا (للمشكل الجزائري) في نظره. وكان يظهر على أسلوبه التواضع والحذر معا، كما كان يتنصل من بعض ما قام به في الماضي. وتبلغ الرسالة حوالي 24 صفحة. وهي تقترح عدة أمور من بينها: إعلان ابن ملك فرنسا (وكان له ثلاثة أولاد، ولعله يقصد الدوق دومال الذي أصبح حاكما عاما للجزائر بعد انتهاء مهمة بوجو)، ملكا على الجزائر، ومعرفة الفرنسيين والجزائريين لغة بعضهم ¬

_ (¬1) انظر فقرة المذكرات.

البعض، وازدواجية القضاء بحيث يكون قاض خاص بالمسلمين وآخر خاص بالفرنسيين في كل مدينة ومكان. وهناك وصايا أخرى تضمنتها الرسالة حول نظام الجيش، والأرض، والعلاقات العامة، من أجل جعل الجزائر مزدهرة. وكل ذلك سيكون في نظره تحت السلطة الفرنسية والمساعدة العربية. ونعتقد أنه توصل إلى هذه النتيجة لكي يحاول التخفيف عن نفسه من السجن والمنفى. ويظهر الحسين بن عزوز في رسالته معاديا (للأتراك) وبقاياهم في الجزائر. وقد حذر من الاهتمام بنشاط الحاج أحمد باي - وكان ما يزال في الأوراس عند كتابة الرسالة، ولم يستسلم إلا سنة 1948 - وإبراهيم باي (الكريتلي؟)، وأحمد بومزراق (ابن الباي السابق على المدية: مصطفى بومزراق) (¬1). 3 - تاريخ أبي حامد المشرفي المسمى: ذخيرة الأواخر والأوائل. ويظهر من عنوانه أنه تاريخ عام يشمل غير الجزائر أيضا، حتى أن محمد المنوني الذي رأى الكتاب واستفاد منه، قال إنه في ستة أبواب وإن أربعة منها قد أوجزت تاريخ ما قبل الإسلام، بداية من آدم عليه السلام. ويبدو أن المشرفي من المهتمين بالتاريخ حقيقة وله حاسة تاريخية كبيرة. ولو تعلم مناهج البحث وعاش في بيئة متطورة لأنتج أعمالا تاريخية ذات قيمة ليس في موضوعاتها وأحجامها ولكن في آرائها وتحاليلها. ولكنه عاش في زمن متقلب ودرس دراسة مبعثرة، وكان معتمدا على نفسه وحاسته التاريخية ومحفوظاته. وناهيك برجل قضى جل حياته معلما للصبيان ليجلب الرزق له ولأهله. وقد توفي سنة 1895 في الوقت الذي دخلت فيه الجزائر مرحلة جديدة من تاريخها على يد النخبة المتعلمة أمثاله والتي دخلت في صراع مع السلطة الفرنسية من أجل التعليم والنيابة والحقوق المدنية والدينية ¬

_ (¬1) انظر عبد الحميد زوزو، ملاحق أطروحة الدكتوراه. وكذلك يحيى بوعزيز (دور بعض الزعماء في الشرق الجزائري ...)، في مجلة الأصالة. وقد اطلعنا على الرسالة في أرشيف إيكس - فرنسا - وصورناها سنة 1982 ثم ضاعت منا في قصة المحفظة المشهورة.

والسياسية. ولكن المشرفي، كما عرفنا في غير هذا، كان يعيش في المغرب الأقصى في ظل السلطان الحسن الأول. وكان المغرب بدوره قد دخل في صراع مع فرنسا التي كانت لها أطماع في احتلاله وسط نفوذها عليه. وقد عكست مؤلفات المشر في هذه التطورات في المغرب بالخصوص. ويهمنا الآن البابان الخامس والسادس من ذخيرة الأواخر والأول. فقد خصص المؤلف الباب الخامس لتاريخ الإسلام وانتهى فيه إلى القرن التاسع عشر. ويذكر المنوني أن المشرفي توسع في العهد العثماني بالجزائر وكذلك الاحتلال الفرنسي لها. وقد اطلع المستشرق الفرنسي هنري بيريز على الذخيرة وقدم بحثا حول ما جاء فيها عن الاحتلال الفرنسي. وانتهى إلى أن المشرفي قد استعرض مراحل الاحتلال والمقاومة ولكنه مدح ما قام به الفرنسيون في الجزائر (¬1). والظاهر أن بيريز لم يدرس الذخيرة دراسة تاريخية وإنما أخذ منها رأي مؤلفها في الاحتلال الفرنسي لبلاده. وهذه هي النقاط (الإيجابية) في رأي بيريز، كما وردت في الذخيرة: استتباب الأمن العام والخاص في الطرقات والأسواق، ومد الطرقات وتقصير المسافات بين المدن، وحرية الدين والعبادة، وعمارة المساجد، واحترام العلماء وتوظيفهم مع منحهم الرواتب، وانتشار التعليم وعمارة المدارس، وعمارة الأرض والفلاحة، ووجود المراكز (المستوطنات) الفرنسية بنواحي الهبرة ومعسكر، وهي مثال في النظام والانتاج والرخاء، وانعدام المظالم مع العناية بالمساكين من المسلمين، ووصف حالة البدو في الصحارى، والقبائل في الجبال، والميزابيين والتجارة، ثم الحديث عن الضرائب التي لا يهرب منها أحد. وحرية التصرف إذ أن كل من يرغب في شيء فله ذلك بشرط عدم إذاية أي شخص آخر. ¬

_ (¬1) هنري بيريز (رحلتان - المشرفي وبيرم الخامس? في المؤتمر الأول لاتحادية الجمعيات الفرنسية، الجزائر، 1935، ص 266 - 267. أما الباب السادس من الذخيرة فلا يهمنا هنا، وهو عن أخبار الدولة العلوية بالمغرب الأقصى إلى عهد السلطان الحسن الأول.

ولا شك أن هذه صورة مثلى للاحتلال الفرنسي ونتائجه، وكان بيريز قد جعل رأي المشرفي حجة على رأي (الأهالي) في هذا الاحتلال. وهذا بدون شك مبالغة من الجانبين، جانب المشرفي الذي لم يكن يعرف ما كان عليه الجزائريون من مظالم حين زار البلاد سنة 1877، وهو العهد الأكثر ظلما وظلاما في تاريخ الاحتلال، ومن جانب بيرير الذي اعتبر رأي (سائح) جزائري جاء من مهجره حجة على الرخاء والعدل اللذين يسودان الجزائر في ظل الاحتلال الفرنسي: فهل نقول إن الفرنسيين قد هيأوا للمشرفي الظروف الملائمة وأقروا فيه بوسائلهم ورجالهم ليكتب ما كتب عنهم وليؤثروا من خلاله على الوضع في المغرب سيما وقد كان المشرفي مقربا من البلاط ومن الحاشية؟ أو نقول إن المشرفي نفسه كان متأثرا بأوضاع المغرب (المتخلفة) وعندما رأى ما في الجزائر أخذ الجانب البراق وكتب عنه ليتعظ به أهل المغرب من الأعيان والمخزن؟ إن كلا الاحتمالين ممكن، ولكن الأكيد هو أن الصورة التي نقلها المشرفي عندئذ كانت غير صادقة عن الاحتلال. والذي نريد أن نؤكد عليه أيضا أن المشرفي قد انتهى من تأليف الذخيرة سنة 1882 (1299) أي في بداية حكم لويس تيرمان وغداة ثورة بوعمامة وعرابي والمهدي واحتلال تونس ومصر، والشروع في العمل بقانون الأهالي (الأندجينا) البغيض. وهناك نواح أخرى تهمنا من الذخيرة، وهي أن المشرفي ترجم فيها لعدد من علماء الجزائر والمغرب، على عادة المؤلفين العرب والمسلمين عندما يتناولون موضوعات تاريخية. ويقول محمد المنوني إن الحاج محمد بن محمد بن مصطفى المشرفي (من العائلة؟) هو الذي اقترح على أبي حامد المشرفي تأليف كتاب على هذا النحو. وقد اطلعنا نحن على الجزء الثاني من الذخيرة مصورة على شريط صعب القراءة في المكتبة الوطنية الجزائرية، وأخذنا منه معلومات عن علماء القرن التاسع عشر وضاعت منا في الظروف التي وصفناها في غير هذا، ومما بقي في أوراقنا منها وصف المشرفي لمساجد تلمسان ومدرستها الفرنسية سنة 1877، فقد قال إن

بتلمسان ثلاثين مسجدا، غير المسجد الأعظم (الكبير) الذي تقام فيه الجمعة (ويفهم من ذلك أن الجمعة لا تقام إلا في مسجد واحد)، بالإضافة إلى مكاتب الصبيان أو المدارس القرآنية. أما المساجد الأخرى فقد قال إن لكل واحد منها إماما وجماعة تصلي فيه. وأثناء زيارته وجد إمام الجامع الأعظم هو ابن عودة بن غبريط (لعله هو والد قدور بن غبريط الشهير في هذا القرن). وكان ابن عودة يتقاضي 15 ريال دورو شهريا، أما رئيس الحزابين فيتقاضى 12 ريال دورو. أما المدرسة الفرنسية الرسمية فقد وصفها بإعجاب وإطراء ووصف مواد الدراسة بها وطلابها، وذكر أنه كان بها عندئذ حوالي ستين طالبا. ومن بين ما لفت نظره في المواد المدروسة هو التاريخ الذي وصفه بعلم الجغرافية. ولنذكر أن إصلاحات شانزي سنة 1876 هي التي أدخلت بعض التغيير في المواد عليها، ومنها التاريخ والجغرافية (الفرنسية). ووصف المشرفي كذلك مكتبة المدرسة المذكورة وقارنها بمكتبة الجزائر (¬1). ورغم أننا تحدثنا عن الذخيرة في كتابنا أبحاث وآراء، فإننا نضيف هنا بعض المعلومات حول النسخ الموجودة منه. لقد اطلع هنري بيريز على نسخة منه لم يقل أنها هي الجزء الأول أو الثاني أو معا، وإنما قال إن المؤلف انتهى منه في ربيع الأول سنة 1299 (يناير 1882). وذكر المنوفي الخبير في المخطوطات المغرية، أن للذخيرة جزئين وأن مصير الكتاب غير واحد. فهو يقع في سفرين وبخط جزائري. وأنهما متوزعان على خزانتين أو مكتبتين، السفر الأول موجود في خزانة خاصة (؟) بمراكش، وهو في 112 صفحة، ومبتور الآخر. ولم يتحدث المنوني عن محتوى هذا السفر الذي لعله يضم الأبواب الأربعة الأولى. أما السفر الثاني فموجود في الخزانة العامة بالرباط وفي 58 صفحة (¬2). والغالب أن بيريز لم يطلع على السفر ¬

_ (¬1) المشرفي، ذخيرة الأواخر والأول، مخطوط على الشريط، ج 2، ص 19. المكتبة الوطنية الجزائرية. (¬2) محمد المنوني (المصادر العربية لتاريخ المغرب)، مجلة كلية الآداب، جامعة محمد =

الأول، رغم أنه لم يقل ذلك. وقد وجدنا في أوراقنا أن بعض الذخيرة موجود بخط المؤلف في الخزانة الفاسية بفاس أيضا، دون ذكر السفر. ولا ندري من أين استقينا هذه المعلومة. ولعلها من (دليل مؤرخ المغرب). وقد أخذ بيريز حياة المشرفي عن محمد بن أبي شنب (¬1). وكان هذا قد حقق على ما قيل كتاب المشرفي المسمى (طرس الأخبار). وبناء على ذلك وعلى معلومات أخرى من علي أمقران السحنوني وغيره، فإن المشرفي من حفداء عبد القادر المشرفي صاحب (بهجة الناظر) وعالم وقته في نواحي معسكر، وشيخ أبي راس. واسمه هو محمد العربي بن عبد القادر بن علي المعروف (أبو حامد). وهو من قرية الكرط بضواحي معسكر، وقد تعلم بمعكسر ثم بوهران حوالي 1824 - 1825. وعند احتلال وهران شارك في الجهاد إلى حوالي 1841 إلى جانب الحاج محيي الدين ثم ابنه الأمير عبد القادر. ثم هاجر إلى المغرب وقصر حياته على التأليف وتعليم القرآن، إلى وفاته بفاس سنة 1895 (1313) كما ذكرنا. وأصل عائلة المشارف من بوسمغون بالجنوب الغربي. ومن الذين أخذ عنهم عبد الله سقط، وهو أحد رجال اللغة العربية والشريعة. وقد تولى سقط القضاء في العهد العثماني ثم في عهد الأمير، ثم أرسله الأمير في مهمة إلى المغرب ولكنه لم يرجع منها، وتوفي ودفن بمكناس. وقد رجع أبو حامد المشرفي إلى الجزائر مرتين، الأولى بعد خروج الأمير منها، أي 1265 (1848 - 1849)، أثناء مروره إلى الحج. أما المرة الثانية فكانت سنة 1294 (فبراير 1877) كما سبق (¬2). 4 - زبدة التاريخ وزهرة الشماريخ، لمحمد بن الأعرج السليماني، وقد تعرضنا إليه في التاريخ العام. ولا نريد أن نذكر هنا سوى ¬

_ = الخامس، العدد 13. ورقمه في الخزانة العامة هو ك 2659. وكذلك المنوني كتاب (المصادر العربية لتاريخ المغرب)، 2/ 91. (¬1) ابن أبي شنب مؤتمر المستشرقين 14، في المجلة الإفريقية، 1905. (¬2) بيريز، مرجع سابق، وكذلك علي أمقران السحنوني، مشروع تحقيق (طرس الأخبار) بتاريخ 16 إبريل 1983. انظر (أبحاث وآراء) ج 2.

الجزء الخاص بالجزائر. وهو الجزء الثاني من بين أربعة أجزاء، وقد سمى الجزء الذي يعنينا (تاريخ المغرب الأوسط). والسليماني واسع الاطلاع، وله ثقافة سياسية معاصرة، ويتمتع بعاطفة وطنية واضحة وشعور إسلامي فياض، وكان يعيش أيام أزمات المغرب مع الدول الأجنبية وتدخلات فرنسا في بلاده الأصلية وبلاده الثانية. وكل ذلك قد أثر فيه، فكتب عمله من وحي زمانه. ويبلغ الجزء الثاني، حسبما جاء في وصف المنوني له، 429 صفحة، وتوجد من الكتاب نسخة كاملة عند أسرة المؤلف، وقد اطلعنا منه على نسخة مصورة سنة 1973 في الخزانة العامة بالرباط (¬1). وأخذنا منها وصفا عاما، ومحتوى الكتاب، ولكن المعلومات ضاعت منا، ولم نستطع استدراكها. 5 - اللسان المعرب، لابن الأعرج أيضا، وقد سبق الحديث عنه في التاريخ العام. ولكننا ننبه هنا إلى أن قسمه الثاني يتعلق أيضا بأخبار الجزائر (المغرب الأوسط) وما جرى لحكامها مع الدول الأجنبية. ويذكر المنوني أن نسخة من الكتاب توجد مخطوطة، وهي أوسع بكثير من النسخة المطبوعة، ومن ضمنها السفر الأول الذي ينتهي عند أخبار الأمير عبد القادر. ومعنى ذلك أن السفر الأول يتضمن أيضا أخبارا عن الجزائر، وأن هناك تشابها في خطة الكتاب مع (زبدة التاريخ). أما النسخ المخطوطة من اللسان المعرب فهي متعددة، ومنها ما هو على الشريط وما هو مخطوط عادي (¬2). ويقول ابن ¬

_ (¬1) رقم د 3657. وذكر المنوني أنه توجد نسخة من السفر الثالث تشتمل على القسم الثاني، مع قطعة من القسم الثالث، في خ. س. رقم 170، وهي في 503 صفحات. (¬2) المنوني (المصادر العربية) 2/ 195 - 196. ويقول إن المخطوطة في خ. س. رقم 297 وتقع في 248 ورقة. وكذلك صورة على الشريط في الخزانة العامة، رقم 1836، وكذلك رقم 2265. وقد كتب ناصر الدين سعيدوني ترجمة قصيرة لابن الأعرج مع تعريف باللسان المعرب، وقال فيه ان القسم الثاني فقط هو الذي تعرض فيه إلى الجزائر (المغرب الأوسط). وذكر أن الكتاب صغير الحجم وأنه تلخيص لكتاب (زبدة التاريخ) لنفس المؤلف، وأن اللسان المعرب قد حققه عبد الله السليماني. الرباط 1977.

بكار إن ابن الأعرج قد ترجم للأمير عبد القادر في كتابه (اللسان المعرب) (¬1). ولكننا ما نزال في حاجة إلى وصف دقيق لكتابي ابن الأعرج ولا سيما ما يتعلق فيهما بتاريخ الجزائر. 6 - تاريخ الجزائر في القديم والحديث للشيخ مبارك الميلي، يعتبر الأول من نوعه فيما نحن بصدده، وهو التاريخ للجزائر عامة وفي مختلف العصور وبطريقة جديدة. ولذلك فإن الكتاب وصاحبه يستحقان منا وقفة طويلة. ولنبدأ بحياة المؤلف. ولد الشيخ محمد مبارك الميلي الهلالي في قرية أورمامن في الميلية حوالي 1898 (1896؟) وتيتم وهو في الرابعة من عمره (¬2). ولكن عائلة جده كفلته إلى أن بلغ العاشرة، وتقدم في حفظ القرآن على يد الشيخ أحمد بن الطاهر مزهود، وكان حفظه للقرآن في أولاد مبارك. وكان يرغب في مواصلة التعلم، ولكن أقاربه أرادوه على العمل معهم فيما هم فيه للمعاش مثل الفلاحة والرعي، وقد فعل ذلك على مضض مدة أربع سنوات، ولكنه لم ينقطع عن طموحه في التعلم، فهرب إلى زاوية الشيخ الحسين بسيدي خليفة، ثم أعاده أهله منها، ثم هرب مرة أخرى إلى مدرسة الشيخ محمد الميلي المعروف بابن معنصر فوجد فيها ضالته (¬3). واقتنع أهله برغبته في ¬

_ (¬1) الهاشمي بن بكار (مجموع النسب)، ص 359. (¬2) ذكر سعد الدين بن أبي شنب (بعض المؤرخين العرب) في (المجلة الإفريقية) 1956، ص 480، هامش 25، أن الميلي من مواليد 1880. (¬3) حياة الشيخ معنصر بسطناها في فصل التعليم العربي/ الإسلامي. وقد أضاف محمد علي دبوز بعض المعلومات الهامة عنه نذكرها فيما يلي: فهو (المعنصر) من تلاميذ الشيخين المجاوي والونيسي. وأصله من جهة الأوراس. ولد حوالي 1870، ودخل المدرسة الكتانية فى قسنطينة، وسكن الزاوية التجانية، زاوية ابن نعمون سابقا، (مسجد ابن المطماطية). وبعد تخرجه دخل السلك القضائي. وقد أصبح عدلا في شلغوم العيد، ثم في ميلة نفسها. ونظرا لقلة الوظائف القضائية بعد الاعتداء على حقوق القضاء الإسلامي، عين مدرسا للعربية في إحدى المدارس الفرنسية. ثم ظهر له أن ينشئ جامعا ومدرسة سنة 1901 أصبحا مركزا هاما لجلب التلاميذ من ميلة =

العلم فتركوه يبلغ مراده. والمدرسة كانت أيضا جامعا، فيه يحفظ التلاميذ القرآن ويتلقون التربية والعلوم الإسلامية والعربية. وكانت المدرسة قد تأسست سنة 1901. وقد أظهر مبارك الميلي من صغره ونبوغه واستحق عناية أسرة بوصوف فتولت إطعامه والقيام بضروراته، وقد مكنوه من هذه الضرورات حتى بعد التحاقه بالزيتونة في تونس. كما تدخل كبير العائلة، مصطفى بوصوف، فأعفاه من الجندية الإجبارية في الجيش الفرنسي سنة 1916 إذ دفع عنه مالا، وقد ظل مبارك الميلي في مدرسة الشيخ معنصر بميلة ست سنوات (1912 - 1918)، ثم توجه إلى قسنطينة للتعلم على ابن باديس. ولا ندري متى توجه الميلي إلى تونس لمواصلة دراسته، ولكننا نعرف أنه نال هناك شهادة التطويع (التحصيل)، ثم رجع إلى وطنه. وكانت تونس بعد الحرب العالمية الأولى تعيش حياة سياسية خصبة تتصارع فيها الاتجاهات الوطنية، وكان للصحافة فيها مجال واسع حيث أخبار المشرق والعالم أيضا. ومن جهة أخرى كانت الجزائر خلال العشرينات تعيش حركة نهضة نشيطة يقودها رجلان: الأمير خالد سياسيا وابن باديس دينيا وعلميا. وعندما رجع الميلي إلى الجزائر يبدو أنه عكف على التأليف أكثر من التدريس، رغم أنه كان شابا في الثلاثينات من عمره. فمتى ظهرت له فكرة وضع تأليف في التاريخ؟ هل في تونس وهو يقرأ مؤلفات بالعربية (وكان لا يعرف الفرنسية) تتحدث عن قرطاج والفينقيين وعن مؤلفات فيها أخبار الرومان والفتوحات الإسلامية؟ إنه كان كثير القراءة في كتب التراجم والتراث وكان يصطفي لنفسه من ذلك ما يصلح بميوله وطموحه. ولكن هل ¬

_ = والقرى المجاورة. وتولى أيضا التدريس في الجامع الكبير هناك. وقسم تلاميذه إلى طبقات، وكان له مساعدون، منهم عبد الرحمن بن الطيب (ت. 1925). وكان ابن معنصر من مفسري القرآن في درس عام ابتداء من سنة 1918. وقد مات مطعونا سنة 1928 نتيجة فتوى أفتاها ضد من طلق زوجه ثلاثا. انظر دبوز (أعلام الإصلاح) 3/ 15 وما بعدها.

فكر منذئذ في وضع كتاب في التاريخ للجزائر كلها؟. قبل أن نجيب على هذا التساؤل نذكر أن الدراسات الفرنسية لتطور الحياة في ميلة خلال العشرينات أظهرت أن إرهاصات ظهور شخص كالميلي بدأت منذ 1919. فقد كان تأثير عائلتين دينيتين كبيرا في ميلة. أولاهما عائلة الزواوي التابعة للطريقة الحنصالية (الرحمانية - خطأ كما جاء في النص). وكان مركزها هو روفاش، فكانت تتلقى الزيارات وتحظى برضى السلطات الفرنسية، ثم أخذت تتدهور، وكان على رأسها خلال العشرينات أخوان أصبحا يملكان السيارات ولهما ممتلكات عقارية كبيرة. وكان أحدهما متوليا لوظيفة قايد. أما العائلة الثانية ذات النفوذ فهي عائلة ابن الشيخ الحسين التي هرب الشيخ الميلي إلى زاويتها حوالي 1912. وكانت الزاوية في سيدي خليفة، وكان أعضاؤها لا يتحدثون الفرنسية، والعائلة غنية وتملك السيارات والأراضي التي تحرثها بوسائل عصرية. إن هذا الوضع الاجتماعي جعل المدينة مستعدة لتقبل صوت جديد يدعو إلى الاصلاح ولا سيما بعد موت ابن معنصر، سنة 1928. ولكن الميلي لم يأت إلى ميلة مصلحا إلا بعد أن عاش في الأغواط حوالي سبع سنوات وطبع الجزء الأول من كتابه (تاريخ الجزائر) وشارك في تأسيس جمعية العلماء وأصبح من هيئتها الإدارية وذاع اسمه في الجزائر. ويذهب من كتب عنه من الفرنسيين أن التفكير في كتابة تاريخه بدأ وهو مدرس في الأغواط (¬1). وكلام الميلي نفسه في مقدمة الكتاب يوحي بذلك. ولكن الجزء الأول الذي ظهر سنة 1929 والذي يحتوي على مشروع كتاب شامل لمختلف العصور، لا بد أن يكون التفكير فيه قد بدأ قبل ذلك. وربما ¬

_ (¬1) افريقية الفرنسية، انظر ملحقها AFS، سنة 1938، ص 32. وقد قالت إن الدراسة عن ميلة قام بها السيد نويل NOEL الذي كان مدرسا في ثانوية قسنطينة، وقد ذكرت المجلة أن الزواوي بميلة كان رحمانيا. والمعروف أنه حنصالي، انظر دراسة ج. نويل (التطور الديني في ميلة) في (المعلومات الكولونيالية) رقم 3 (مارس 1938) ص 32 - 34.

في تونس التي رجع منها حوالي 1927. ومهما كان الأمر فإن الميلي بدأ نشاطه الاصلاحي والتأليفي في الأغواط. فهل اختار الأغواط من تلقاء نفسه أو وجهه إليها ابن باديس؟ ولقد تعرف الميلي هناك على مجموعة من الشباب اليقظ والمزدوج اللغة (¬1)، كما وجد فيه هذا الشباب الرجل المتنور الذي يعالج قضايا العصر بروح جديدة بعيدة عن الخرافات والأوهام. فقد كان (عقلانيا) في تناوله لقضايا المجتمع والدين، وذلك ما جعله أقرب إلى التاريخ من غيره من العلوم. وكانت المدرسة في الأغواط تشهد نشاطا غير عادي في عهده، مما جعل السلطة الفرنسية تخشى من تأثيره على الشباب والسكان عامة. فكلامه جرئ، والتلاميذ يتلقونه منه بحماس ولكن دون فهم، حسب العيون الفرنسية التي تبثها السلطات حوله، وكان الميلي مسموع الكلمة بينهم. وقد ذكر علي مراد أن الميلي اعتمد في الأغواط على عائلة جلول بن فرحات (وهو الخليفة) ومن أصول ريفية - بدوية، على أساس أن المذهب الاصلاحي الذي يدعو إليه لا يتعارض مع مصالح فرنسا، وقال إن الخليفة جلول دعمه لمصلحته أيضا لأنه كان في حاجة إلى دعم سمعته والظهور بحب الاصلاح، وتفادى الميلي التعامل مع عائلة ابن سالم التي كانت مرتبطة بالطريقة التجانية، وكانت هذه ضد الإصلاح (¬2). وكان ذلك الموقف ربما وراء أمر السلطات له بمغادرة البلاد بعد سع سنوات. فذهب أولا إلى بوسعادة، وقام فيها بنفس الدور. ولكن السلطات كانت له بالمرصاد واتهمته بالجرأة وأمرته أيضا بالخروج من بوسعادة. وتحت غطاء الحالة الصحية، رجع إلى ميلة وانتصب للتدريس والنشاط الأدبي والإصلاحي منذ حوالي 1933. كانت جمعية العلماء عندئذ في الثالثة من عمرها وطريقة ابن باديس في ¬

_ (¬1) ذكر منهم ثلاثة هم: عيسى الزهار (ترجمان) ومحمد التهامي (ترجمان) وعمر دهينة (مدرس ورسام). وقد شكرهم على مساعدته. (¬2) علي مراد (الإصلاح الإسلامي)، ص 91.

التعليم قد أثبتت جدارتها وفعاليتها. فقام الميلي في ميله بما كان يقوم به ابن باديس في قسنطينة من تعليم وتوجيه وفتح نواد، ومهاجمة الطرقية، والكتابات الصحفية. وبالإضافة إلى توليه أمانة المالية في جمعية العلماء، تولى الميلي جريدة البصائر منذ تخلى عنها العقبي حوالي سنة 1935. كما أن الجزء الثاني من تاريخه قد ظهر سنة 1933. ودخل في مصادمات مع المعارضين للإصلاح في ميلة. وقد وصفته المصالح الفرنسية بأنه كان يقدم تعليما حيا وواسعا، وأن تلاميذه في ميلة يحبونه، وأنه أنشأ النادي الإسلامي الذي أصبح يدعو منه إلى الإصلاح الاجتماعي وتعلم اللغة العربية، كما أسس جمعية حياة الشباب. ولكنه وجد معارضة من بعض الموظفين الرسميين وعلى رأسهم إمام الجامع المدعو بوفامة (بوفيمة؟) وكذلك شيوخ الطرق الصوفية (¬1). وقد اتهمت السلطات الفرنسية الميلي باستعمال (العنف) في خطابه على غرار ما كانت تفعله مع العقبى في العاصمة. وفي 1935 دعا الميلي إلى تأسيس مدرسة وجامع في ميلة وجمع لهما المال بالتبرعات، وأصبح مكانه هناك هو مكان الإبراهيمي في تلمسان والعقبي في العاصمة والتبسي في تبسة وابن باديس في قسنطينة. وفي هذه الأثناء كان الميلي ينشر مقالاته عن الإصلاح الديني في البصائر، وهي المقالات التي نشرها بعد ذلك في كتاب بعنوان (رسالة الشرك ومظاهره) سنة 1356/ 1937. وقد تحدثت البصائر عن المرض (وهو السكر) الذي كان يعاني منه والذي أجبره على المعالجة في فرنسا. ولا نكاد نجد له نشاطا بعد توقف البصائر سنة 1939 وإلى وفاته في 9 فبراير 1945 (¬2). ورغم أن الجزء الثاني من تاريخه قد ظهر قبل هذا التاريخ بأكثر من عشر سنوات فإنه لم يواصل التأليف فيه ويخرج بقية الأجزاء. كما لا نعلم ¬

_ (¬1) افريقية الفرنسية/ الملحق، 1938، ص 32. (¬2) ذهب علي مراد (الإصلاح الإسلامي)، ص 91 إلى أن الميلي قد تولى التدريس في الجامع الأخضر بقسنطينة بعد وفاة ابن باديس سنة 1940، وبقي كذلك إلى وفاته 1945.

أنه ألف عملا اجتماعيا آخر بعد رسالة الشرك، رغم قلمه الخصب وفكره النير، وميله إلى التأليف والنشر. فهل المرض هو الذي كان وراء ذلك؟ أو كانت الأوضاع السياسية هي التي أسكتته كما أسكتت عددا من زملائه أيضا، أو هناك أسباب شخصية لا نعلمها، كالعزوف الذي يحدث أحيانا لبعض النشطين؟. صدر الجزء الأول من (تاريخ الجزائر في القديم والحديث) سنة 1347/ 1929 (¬1) وتم طبعه في قسنطينة العاصمة الثقافية عندئذ وحيث بدأت حركة الاحتجاج والعرائض منذ القرن الماضي، ومن ثمة الارتباط بالتاريخ والتراث والحركة الإصلاحية. وقد اتبع الميلي منهجا جديدا في المؤلفات العربية عن الجزائر وهي استعمال التبويب وتقنيات البحث الحديثة. من ذلك أنه جعل كتابه في كتابين (جزئين): الكتاب الأول ويضم مقدمات وثمانية أبواب (أو فصول) هي: جغرافية الجزائر، وقدماء الجزائريين في العصر الحجري، وأصول البربر وقبائلهم، والفنيقيون وأخبارهم، والبربر وملوكهم، وأحوال البربر مع الرومان، ثم الوندال والروم وعلاقاتهم بالبربر. أما الكتاب الثاني الذي خصصه للعصر العربي، فيضم ستة أبواب (فصول؟) هي: الفتح الإسلامي في افريقية (ويسميه الاستيلاء العربي)، وبه انتهى الكتاب (الجزء) (¬2) الأول. ويبدأ الجزء الثاني منه بالكتاب الثاني، ويضم ستة أبواب ¬

_ (¬1) قسنطينة، المطبعة الإسلامية الجزائرية، وهو في 368 صفحة + 16 مقدمات. ونشر الثاني في نفس المكان والمطبعة في 1350/ 1932 وهو في 444 صفحة. وحقوق الطبع كانت له. وظهر اسمه عليه هكذا: مبارك بن محمد الهلالي الميلي. وأعلن عنه قبل صدوره، مثلا عن طريق (تقويم الأخلاق) لمحمد بن العابد الجلالي، 1927، ص 176، إذ جاء فيه عن الميلي أنه النطاسي الخبير والمؤرخ الكبير، وأن الكتاب متميز بالخرائط والرسوم الأثرية، الخ. عن مصادر حياة الميلي انظر مقالة سعد الدين بن أبي شنب، مرجع سابق. (¬2) انظر الجزء الأول. وقد نوهت الصحف والنوادي وابن باديس وغيره من رجال الإصلاح والسياسيون والوطنيون بظهور الجزء الأول من تاريخ الجزائر. وقرظه ابن باديس، وأقيمت للمؤلف حفلة في قسنطينة، وقد ذكرنا تنويه الجلالي بالكتاب عشية =

هي: تكوين الدولة الرستمية، ثم دول أخرى كانت لها علاقات بالجزائر هي: الأدارسة والأغالبة والفاطميون - العبيديون، ثم الحديث عن بني هلال (وهو منهم) وهجرتهم. وقد ضم الجزء الثاني أيضا الكتاب الثالث وهو في العصر البربري، وتناول فيه ثمانية أبواب هي: بقية الفتوحات، والدول الإسلامية المتوالية إلى أن وصل إلى بني زيان والقرن 16. وهكذا لم يدرس الميلي العهد العثماني رغم طوله، ولا الاحتلال الفرنسي. فهل اعتبر هذين العهدين من حكم (الأجانب)؟ وقد رأى ابن أبي شنب أن عبارة (الحديث) الواردة في العنوان تتوقف عند القرن 16. والواقع أن المؤلف كان سيواصل مشروعه إلى أن يصل إلى العصر الحاضر الحقيقي لولا عوائق غير معروفة، وقد تساءلنا حولها فيما مضى. ولا شك أن مفهوم (الحديث) كان غير غائب عنه. وفي بداية الجزء الثاني أورد الميلي تنويه الأمير شكيب أرسلان بالجزء الأول إذ عبر أرسلان عن إعجابه الكبير به. (وأما تاريخ الجزائر فوالله ما كنت أظن أن في الجزائر من يفري هذا الفري، وقد أعجبت به كثيرا) (¬1). وفي آخر الجزء الأول أورد الميلي رسالة أستاذه عبد الحميد بن باديس في التنويه بالكتاب واقترح عليه تسميته (حياة الجزائر)، واعتبره (أول كتاب صور الجزائر في لغة الضاد صورة تامة سوية). وكانت خطة الكتاب المعلنة في الجزء الأول هي اشتماله على أربعة كتب: وهي الثلاثة التي ذكرناها، أما الكتاب الرابع الذي لم يظهر فهو (في مصير أمر الجزائر إلى الأجانب وأحوالها في هذا الدور). ونفهم من ذلك أنه يعتبر الحكم العثماني أجنبيا. وهو يسمى العهود التاريخية أو الحقب بالأدوار. وكان يعرف أنه يؤلف أثناء حكم الأجانب (الفرنسيين)، ولذلك ¬

_ = صدوره، ونوه به الشيخ أحمد توفيق المدني في (تقويم المنصور) السنة 5. 1348 (1929) ص 314 - 315. وقد حث المدني على إقامة الحفلات تنويها بالمؤلف. (¬1) من رسالة كتبها شكيب أرسلان إلى صديقه الطيب العقبي بعد اتصاله بنسخة من الجزء الأول.

قال إنه يوجه كتابه إلى من يعتبرون ويتبصرون، ويطلب الرجاء بدل البقاء في اليأس. وكان غرضه الحث على العمل من أجل الوطن وسعادته، وهو كمصلح كان غير يائس ولا منتظر لنتائج عاجلة. ولكنه عبر عن أمانيه (¬1). وقد أهدى كتابه إلى الشعب الجزائري وشبابه والعاملين من أجله. وعبارة (الشعب الجزائري) نفسها جديدة عندئذ، فهي لا تعني عنده المفهوم الفرنسي الذي يعني المسلمين والأوروبيين ولكنه يعني الجزائريين الذين يسميهم الفرنسيون عندئذ الأهالي أو المسلمين. ولذلك اعتبر عمله (بلاغ للشبيبة عن وطنيتهم)، وقد سبق تعريفه للتاريخ وأهميته للأمم والشعوب. فالميلي يتحدث عن التاريخ الوطني والشعب الجزائري الموحد بالتراث والأرض والحركات السياسية والفكرية الماضية والآمال القادمة، وهو يعتبر الفرنسيين (أجانب) سواء كانوا مدنيين أو عسكريين. إن الجدة في كتابة الميلي للتاريخ تظهر في عدة أمور، منها المنهج الحديث والتوجيه السياسي، واستعمال المصادر العربية ونقدها، واستعمال المصادر الأجنبية - الفرنسية - عن طريق الترجمة، واستخدام التقنيات مثل الخرائط والرسوم. والرد على نظريات المؤرخين الفرنسيين ومناقشة آرائهم دون إظهار التحيز لذاته. ونبه إلى ضرورة الابتعاد عن كتب الخرافات وتصديق كل ما جاء في الكتب القديمة، ودافع عن كون الإسلام نظاما حضاريا متكاملا، وركز على دور الشعب في التاريخ ولم يهتم كثيرا بالملوك والأعيان. ومن مراجعه الفرنسية (وعددها إثنا عشر مرجعا) بارجيس وقزال وقوتييه وميرسييه ومرمول، وفيرو. كما أنه رجع إلى الكتب العربية الكلاسيكية (وجملتها 56 مرجعا) منها قرطاجنة في أربعة عصور للمدني، والأزهار الرياضية للباروني، وموجز التاريخ العام لعثمان الكعاك. ومن رأيه أن الاستعمار الروماني فشل في بلاد المغرب وكذلك الاستعمار الفرنسي (ولكن هذا الرأي غير معلن). ولكن الميلي لم يستطع أن يتخلص ¬

_ (¬1) انظر مقدمة الجزء الأول من تاريخ الجزائر للميلي.

من ثقافته، مع ذلك، فالنقول كثيرة، واستخدام أسلوب الرواية متوفر بكثرة، والاستشهاد بالشعر. وإذا كان في الجزء الأول قد استخدم الهوامش فإنه استغنى عنها تماما في الجزء الثاني. غير أنه في هذا الجزء استعمل فهارس الرجال والنساء وأسماء المدن. واشتمل الكتاب على الأحداث السياسية والتطورات الاجتماعية والاقتصادية، ولكنه اشتمل أيضا على التراث الحضاري للشعب من نظم وأدب ولغة وعقائد (¬1). ورغم أن تاريخ الميلي لم يصل إلى الزمن (الحاضر)، فإنه وضع المؤشرات له، وذلك بخطابه للشعب وحكمه على الاستعمار الروماني وغيره من الاستعمارات (الأجنبية)، ووضع خطة للتنويه بالآثار الحضارية للجزائريين عبر العصور، وحسبه، كما قال، تنبيه الغافلين ودعوة الشباب والعاملين إلى مواصلة الجهد، رغم أنه لم يكن ينتظر النتائج السريعة. 7 - والحديث عن الميلي يؤدي إلى الحديث عن أحمد توفيق المدني وكتابه المعروف كتاب الجزائر. فقد كانت بينهما علاقات ثقافية، ولعلهما التقيا في تونس قبل أن يتعارفا في الجزائر. والمدني قد ساعد الميلي في الترجمة من بعض النصوص الفرنسية. وقد رأيا أن المدني قد نوه بصدور الجزء الأول من تاريخ الميلي ودعا إلى الاحتفاء بصاحبه. كما أن الميلي قد شكر المدني على مساعدته وسماه (صديقي). ولعل عدم إقدام الميلي على معالجة (الحاضر) هو الذي جعل المدني يتولى ذلك ويركز على العهد الفرنسي أكثر من العهود السابقة له، وأن يجعل (كتاب الجزائر) نوعا من كتاب الجيب لتاريخ الجزائر في العهد الفرنسي إلى 1930. وكلا الرجلين كان مهتما بالتاريخ، ولا سيما تاريخ المغرب العربي القديم، فهما يلتقيان في عدة أصعدة. ¬

_ (¬1) ابن أبي شنب، مرجع سابق، 482 - 486. انظر ديبارمي (افريقية الفرنسية). وبعد الاستقلال أكمل ابنه، محمد إبراهيمي الميلي، مشروع والده فأصدر الجزء الثالث. ولكن الدارس المتأنى يرى الفرق بين العملين رغم أن الخطة ربما أصلية.

وحياة المدني أصبحت معروفة بعد نشره لمذكراته (حياة كفاح)، ولكن جوانب أخرى منها ما تزال غير معروفة وهي متروكة للباحثين في تراجم الرجال وعلاقة ذلك بالعصر وأهله. ونحن نعلم أن المدني كان كثير التمجيد لنفسه ومواقفه وإبراز شخصيته أثناء وجوده في معترك الحياة مع جمعية العلماء ومع جبهة التحرير الوطني. وكانت حياته حقا نموذجا للرجل المكافح منذ الشباب المبكر. لقد ولد في تونس آخر القرن الماضي (1899) في عهد خصب بالنشاط العلمي والسياسي شهد ميلاد المدرسة الخلدونية وازدهار الصادقية، وإصلاحات جامع الزيتونة المعمور. وكان الصراع اللغوي في تونس يختلف عنه في الجزائر، فقد كانت النخبة التونسية غالبا مزدوجة اللغة، وإذا كانت واحدية اللغة فإنها لم تكن منغلقة على نفسها، وقد أدى الصراع اللغوي إلى انفتاح سياسي أيضا، وكان ذلك في عدة اتجاهات: وطني محلي، ووطني عثماني، ووطني متفرنس. وقد تخرج المدني من الزيتونة والخلدونية، وشارك في الصحافة والسياسة والحياة الحزبية، ولكن ذلك قد جلب عليه نقمة الإدارة الفرنسية فنفته إلى موطن آبائه وأجداده، الجزائر، سنة 1925. ومنذ هذا التاريخ أصبح المدني مؤثرا في الحياة الجزائرية. وكان قبل انضمامه الرسمي لجمعية العلماء في أوائل الخمسينات، قد شارك في تنشيط العمل الثقافي والصحفي والتأليف. في المجال الأول ساهم في تأسيس نادي الترقي بالعاصمة وإنشاء بعض المدارس الحرة، وفي المجال الثاني شارك بمقالاته الصحفية في الشهاب وغيرها عن أحداث المغرب العربي والسياسة العالمية والعربية، وفي المجال الثالث وجدناه قد أصدر عدة مؤلفات خلال العشرينات والثلاثينات، منها قرطاجنة، وتقويم المنصور، وكتاب الجزائر، ومحمد عثمان باشا، الخ. وأثناء الحرب العالمية الثانية ساهم أيضا في تحرير جريدة الإصلاح للعقبي، وكان من الأعيان الذين تفاعلوا مع الحلفاء ولهم رأي في بيان 1943. وبعد الحرب أصبح من محرري جريدة البصائر، لا سيما باب السياسة العالمية، ثم أمينا، عاما للجمعية، وفي غياب الشيخ

الإبراهيمي، رئيسها، أصبح المدني هو رئيس تحرير البصائر، وقد حرر فيها مقالات افتتاحية هامة أثناء الثورة. وحين توقفت البصائر وأعلنت الجمعية انضمامها إلى جبهة التحرير، 1956، التحق المدني بالقاهرة وأصبح عضوا بارزا في جهة التحرير، خطيبا وداعية، ومؤلفا ووزيرا. وممثلا للجزائر في الجامعة العربية. أما في المجال العلمي فقد انتخب عضوا في مجمع اللغة العربية بالقاهرة، وتولى تنشيط المركز الوطني للدراسات التاريخية، ونشر عدة كتب في التاريخ. وقد توفي في 18 أكتوبر، سنة 1983 (¬1). وللمدني مؤلفات عديدة معظمها في التاريخ العام للمغرب العربي (شمال افريقية) والجزائر خاصة. فكتابه: 1 - (المسلمون في جزيرة صقلية وجنوب إيطاليا) داخل إلى حد كبير في تاريخ المغرب العربي. يضاف إلى ذلك: 2 - مسرحية حنبعل الأدبية - التاريخية. وكل كتبه نشرت وهو في الجزائر إلا ثلاثة منها، وهي: 1 - تونس وجمعية الأمم، 1923، وهو مترجم إلى الفرنسية، ويعتبر من كتب الدعاية للقضية الوطنية التونسية. 2 - والحرية ثمرة الجهاد، وهو عن نضال إيرلندا ضد الإنكليز، تونس 1923. 3 - الأجزاء الثلاثة الأولى من تقويم المنصور. أما الكتب التي أصدرها وهو في الجزائر فنذكرها حسب تواريخها، وهي جميعا في تاريخ الجزائر وجغرافيتها إلا ما يظهر من عنوانه أنه خارج عنها أو متصل بها من بعيد مثل حنبعل، وقرطاجنة، وصقلية. وقبل أن نذكر هذه المؤلفات ونتحدث عن بعضها نذكر أن المدني كان يغتنم الفرصة ويعبر ¬

_ (¬1) عن حياته الأولى انظر مذكراته، وكذلك سعد الدين بن شنب (بعض المؤرخين العرب) في (المجلة الإفريقية)، 1956، ص 486، هامش 69.

عن رأيه الخاص في التاريخ الوطني حتى في الكتب التي تبدو بعيدة عن موضوع الجزائر بعناوينها. ذلك أن أطروحته الرئيسية هي التوجيه السياسي للشباب وبعث الوطنية التي يسميها (الملية)، في نفوسهم والدعوة إلى التحرر من الاستعمار الحديث بإدانة الاستعمار القديم (الروماني)، وإظهار شخصية بلاد المغرب المزيجة من البربر والعرب، وإبراز علاقاتهم بالمشرق قديما وحديثا. وهذه الأطروحة مكررة في معظم كتابات الشيخ المدني. وكان شعاره هو: الإسلام ديني، والعربية لغتي، والجزائر وطني. وهو الشعار الذي أصبح على لسان الحركة الإصلاحية، ولا ندري من تفون به أولا. وإليك الآن قائمة كتبه التي ألفها في الجزائر حسب تواريخ ظهورها: 1 - الجزآن الرابع والخامس من تقويم المنصور 1926، 1929 (¬1). 2 - تاريخ شمال إفريقية أو قرطاجنة في أربعة عصور، تونس 1927. وقد استعمل فيه الخرائط والصور، ووضع رسومه الفنان عمر راسم، وتأثر به الشيخ الميلي حسب رواية سعد الدين بن شنب، وهو على كل حال من بين مراجعه، كما لاحظنا. 3 - كتاب الجزائر، الجزائر، 1932، وهو من وحي الاحتفال بالاحتلال سنة 1930 ونبش الجروح من قبل المستعمرين. وسنتحدث عنه بعد قليل. 4 - محمد عثمان باشا وخلاصة تاريخ الأتراك بالجزائر، الجزائر 1938. وهو عن حياة أطول الدايات عهدا، وحكما، وربما أصلحهم. وقد أعيد طبعه بعد الاستقلال. 5 - جغرافية القطر الجزائري، الجزائر 1948. وهو الأول من نوعه بالعربية، وكان موجها إلى طلبة المدارس التي تشرف عليها جمعية العلماء. ¬

_ (¬1) طبع منه في تونس 1922، 1923، 1924، وهو تقويم شمل أبوابا في الأدب والتاريخ والسياسة والجغرافية والفنون، بالإضافة إلى الإحصاءات والأحداث.

وقد سد فراغا كبيرا، وربط فيه بين التاريخ والجغرافية وملأه بالمشاعر السياسية الوطنية، وطبع أيضا سنة 1952، 1964. 6 - المسلمون في جزيرة صقلية وجنوب إيطاليا، الجزائر، 1946. 7 - حنبعل (مسرحية)، الجزائر، 1950. 8 - هذه هي الجزائر، القاهرة، 1957، وهو تعريف بتاريخ الجزائر وثورتها، وهو من كتب الدعاية السياسية والإعلامية في وقته. 9 - حرب الثلاثمائة سنة بين الجزائر وأسبانيا، الجزائر 1968. وقد أعيد طبع هذا الكتاب عدة مرات (¬1). 10 - مذكرات الشريف الزهار (تحقيق)، الجزائر، 1974. وقد أعيد طبعه. والزهار هذا من عائلة نقيب الأشراف في بداية الاحتلال. 11 - حياة كفاح (مذكرات)، وهو في ثلاثة أجزاء، صدرت بتواريخ مختلفة. كما انتهى من الجزء الرابع وقدمه للنشر ولكن الرقابة رفضت نشره عندئذ. 12 - رد أديب على حملة الأكاذيب، قدمه للنشر، ولم ينشر. وهو كتاب موثق في الرد على من هاجموه بعد صدور مذكراته. ومن ثمة ترى الطابع التاريخي لمؤلفات أحمد توفيق المدني، فهو سياسي ومؤرخ وأديب وصحفي. وقد مارس الجميع بدرجات متفاوتة إلى آخر حياته، رغم أن الأدب عنده اختلط بالمواد الأخرى، ولكنه ظهر على أسلوبه المتميز وفي بعض أشعاره. ولا يمكننا الآن أن نكتب عن كل مؤلف له عالج فيه التاريخ، وحسبنا هنا بعض ما نحن بصدده، وهو تاريخ الجزائر العام. وذلك يظهر في كتاب الجزائر. بعد صدور كتاب الجزائر سنة 1932، راجعه جوزيف ديبارمي وحكم ¬

_ (¬1) راجعنا هذا الكتاب في (المجاهد الثقافي) عدد 8، 1969. ثم نشرت المراجعة في كتابنا (أبحاث وآراء) 1/ 347 - 350، ط. 3، بيروت، 1990.

بأنه كتاب ألفه صاحبه بهدف سياسي وطني (¬1). ولا يمكن أن يكون (كتاب الجزائر) غير ذلك. والواقع أن هذا الكتاب لم يكن تاريخا حين صدر، فقد كان شاملا لمواضيع عديدة معاصرة مثل النظام الإداري والقضائي، والمحاكم، والحالة الاقتصادية والاجتماعية، وأبرز المدن وعدد سكانها، والحياة التعليمية، وواقع الصحف والنوادي، وما إلى ذلك. أما الجانب التاريخي في الكتاب فضئيل جدا، وهو حسب ابن شنب لا يعدو ربع الكتاب. والمقصود بالجانب التاريخي هو ذكر الدول الماضية ومددها وحضارتها ودور الجزائريين عبر التاريخ وأبرز القبائل التي استوطنت الجزائر من بربر وعرب. إن كتاب المدني يشبه إلى حد كبير كتاب المرآة لحمدان خوجة. وكانت معرفة المدني بالفرنسية قد ساعدته على معرفة تاريخ الجزائر المكتوب بأقلام فرنسية أيضا، ولا سيما فترة الاستعمار التي انعدم فيها التأليف والنشر قبله تقريبا. وهكذا رجع إلى المؤلفات والوثائق الفرنسية التي تتناول الموضوعات المشار إليها وصاغ منها كتابا فيه جزء من التاريخ ولكنه كتاب موجه ومستوحى من احتفال الفرنسيين بالاحتلال (بدأت الاستعدادات للاحتفال سنة 1927). وقد أصبح الكتاب مرجعا هاما للدارسين والمطالعين، ومن الذين رجعوا إليه ونوهوا به الأمير شكيب أرسلان في حاضر العالم الإسلامي. أما الجانب السياسي للكتاب فيظهر من اعتماد المدني على بعض الآراء الفرنسية التي تقول بإنصاف الأهالي. ويذهب ابن شنب إلى أن المدني قد اعتمد على نصوص ووثائق فرنسية من بينها كتاب موريس فيوليت: (هل ستعيش الجزائر؟) واشتمل كتاب الجزائر أيضا على إحصاءات مرجعها الوثائق الفرنسية. ولكن لغته وأسلوبه وعاطفته كلها في صالح الهوية العربية - الإسلامية للجزائر، وهو يقف ضد الاندماج، ويقف إلى جانب ابن باديس في دعوته إلى المساواة بين الفرنسيين والجزائريين. وأبرز المدني أيضا أن ¬

_ (¬1) ديبارمي، إفريقية الفرنسية، 1933، ص 387 - 392.

الإنسان العربي قد استيقظ بعد 1930، بل منذ الحرب العالمية الأولى. وكان المدني من دعاة التجديد، فقد تحدث عن التعليم والمرأة والصحافة والشباب، وحث على تكوين المدارس والتخرج في المهن واتقان الفلاحة والتجارة، وانتقد المدارس الثلاث الرسمية لتقاعسها، وبعض الطرق الصوفية لتخاذلها، كما انتقد الإدارة الاستعمارية، ولكن بشيء من الاعتدال غير متوقع في تلك المرحلة. فكتابه يكاد يكون محايدا (¬1). 8 - ظهر لعبد الرحمن الجيلالي تاريخ الجزائر العام أوائل الخمسينات (1953)، وهو في جزئين. وقد تناول التاريخ من أقدم العصور إلى العهد العثماني. وكان، دافعه أيضا وطنيا. فقد أهداه إلى عقبة بن نافع، ووجهه إلى الشباب. وكان ذلك رمزا لربط الحاضر بالماضي. فعقبة رمز للفتح الإسلامي، والشباب رمز اليقظة والوطنية. وكان هدف المؤلف أن يقتدي الجيل الجديد بأجدادهم، ولا ينغمسوا في الحضارة الأجنبية وينسوا ماضيهم، وتدل ثقافة الجيلالي على هذا الوجه. فقد ولد سنة 1906، بالجزائر، ودرس على عدة شيوخ في المساجد والزوايا، ومنهم عبد الحليم بن سماية الذي كان من منتقدي النظام الاستعماري رغم أنه كان أستاذا في إحدى المدارس الرسمية، كما تتلمذ الجيلالي على الشيخ المولود الزريبي الأزهري الذي كان مصلحا ثائرا، وكان (الزريبي) قد تخرج من الأزهر وعاد إلى الجزائر ليدعو إلى النهضة والإصلاح ولكنه واجه العقوق والركود (¬2). كما درس الجيلالي على الشيخ الحفناوي صاحب (تعريف الخلف)، الذي كان من رجال الدين الرسميين ومن الصحفيين الذين عملوا في جريدة المبشر الرسمية طويلا. ودرس ¬

_ (¬1) سعد الدين بن شنب، مرجع سابق، ص 491 - 495. انتهى ابن شنب إلى أن الميلي والمدني يلتقيان في إظهار شخصية البربري والعربي عبر التاريخ على أنها شخصية لا تذوب في الغير، وأن هؤلاء القوم يقطنون المنطقة منذ القديم وبينهما علاقات راسخة تجعلهم شعبا واحدا. (¬2) خصصنا له دراسة منفردة.

الجيلالي على الشيخ محمد بن أبي شنب أيضا. ومهما كان الأمر فإن ثقافة الجيلالي كانت عصامية، وشملت التعمق في القرآن والحديث والأدب والتاريخ والفقه. وقد تولى التدريس بدوره في مدرسة الشبيبة الإسلامية أثناء إدارة الشاعر محمد العيد لها خلال الثلاثينات. ولم يكن نشاطه بارزا. لولا بعض المقالات القليلة في الشهاب، وكتابه في ذكرى محمد بن أبي شب (¬1)، لما سمعنا بإنتاجه قبل كتابه الذي نحن بصدده. صدر من تاريخ الجزائر العام جزآن. وقد ركز في الأول على تعريف التاريخ وعلاقته بالقومية، وخصص جزءا ضئيلا منه لتاريخ الجزائر قبل الفتح الإسلامي، ثم توسع في التاريخ منذ الفتح. ورجع إلى عدة مراجع، منها العربي وهو الغالب (61 مرجعا) واعتمد على بعض المخطوطات. وبناء على رأي سعد الدين بن شنب، فإن الجيلالي لا يعرف الفرنسية إلا قليلا، ولذلك اعتمد على التراجمة فيما أخذه منها (¬2). وهو في هذا يلتقي مع الميلي، كما يلتقي معه ومع المدني في الرؤية الوطنية للتاريخ وتوظيفه لخدمة الشباب والجيل الجديد عموما وضرورة بعث التاريخ لخدمة الحاضر. ويمتاز تاريخ الجيلالي بالتبويب المحكم وترتيب الأدوار التاريخية وذكر جداول الدول وتراجم بعض المشاهير. وقد دعا أيضا إلى المحافظة على الهوية الوطنية واحترام الأجداد والارتباط بالدين والوطن. وشمل تاريخه أيضا ذكر الأسباب ¬

_ (¬1) الجيلالي (ذكرى الدكتور محمد بن أبي شنب)، الجزائر 1932، وقد أعيد طبعه حديثا. وله من الكتب المطبوعة أيضا المولد والهجرة (1949)، وتاريخ المدن الثلاث، وحول سكة الأمير عبد القادر، وكلاهما بعد الاستقلال. (¬2) سعد الدين بن شنب (بعض المؤرخين العرب) في (المجلة الإفريقية) 1956، ص 495 - 498. وكان الطالب الصادق دحاش كتب مذكرة للماجستير تحت إشرافي عن الشيخ الجيلالي، وجاء في مذكرته أن الجيلالي قد درس في المساجد الآتية بالعاصمة: الكبير والجديد وسيدي رمضان والسفير (صفر) وكذلك في مدرسة الإحسان ومدرسة الهداية، ومن تأليفه المخطوطة: فن التصوير والرسم عبر العصور الإسلامية، والمستشرقون الفرنسيون والحضارة الإسلامية، وفنون الطلاسم، والربع المجيب. من مذكرة الطالب المذكور لسنة 1992 بالجزائر.

في التراجم والمناقب

في ظهور الدول واختفائها، ودوام النظم وانقراضها، بالإضافة إلى التعرض للوضع الاقتصادي والحضاري. ومن الملاحظ أن تاريخ الجيلالي قد أعيد طبعه بعد الاستقلال، كما أعيد تنقيحه وتوسيعه حتى صار كأنه كتاب جديد. وقد أصبح في أربعة أجزاء بدل اثنين، ووصل فيه المؤلف إلى عهد الثورة. وقد اعتمدنا نحن على طبعة 1965 (الثانية)، وفيها نوه بدور زوجته في ترجمة النصوص له عن الفرنسية. فقال إنها كانت (تلخصها وتترجمها إلى العربية طيلة أيام إعدادنا لهذا التأليف وجمع شتاته من أوله إلى آخره). وقد تعرضنا في أول هذا الفصل إلى تعريف الجيلالي للتاريخ والمؤرخ (¬1). في التراجم والمناقب نتناول في هذه الفقرة المؤلفات التي يتحدث أصحابها عن أعلام الناس، سواء كان التأليف جامعا لعدة أعلام أو لفرد واحد. وقد فصلنا هذه الفقرة عن الأنساب، رغم أن المؤلف قد يعمد إلى الترجمة لشخص من وجهة النسب فقط. وأدخلنا هنا المناقب، وهي عادة الترجمة لشخص أو أكثر من وجهة صوفية - دينية، رغم الاختلال أحيانا بين الترجمة العامة وتلك التي تنفرد بالمناقب وذكر المحاسن والكرامات. ولا شك أن هذا الباب - التراجم والمناقب - قد حظي بمؤلفات أخرى لم تصل إلينا. وقد عمد رجال التصوف إلى الترجمة لشيوخهم وذويهم والمعجبين بهم. وربما تطول الترجمة أو تقصر، وربما تكون غنية بالمعلومات عن العصر أو فقيرة منها فلا تسرد إلا حياة الشخص المعني في عبارات مديحية فضفاضة. وتشهد مؤلفات بعض الضباط والمستشرقين الفرنسيين ورجال الإدارة أنهم تمكنوا من الإطلاع على العديد من الترجمات لرجال العصر سواء كانوا من أهل السياسة أو الدين أو ¬

_ (¬1) ط. 1965، في جزئين عن مكتبة الشركة الجزائرية بالجزائر، ودار مكتبة الحياة ببيروت.

العلم. وقد استفادوا من ذلك في وضع (البطاقات) الخاصة بالعائلات والوظائف، ولكن أغلب تلك التراجم والمناقب قد تلفت أو دخلت في المحفوظات الشخصية. وبالمقارنة مع العهد العثماني، ظهرت في العهد المدروس الصحافة والوسائل الإعلامية الأخرى. فكانت تنشر التعريف بالأعيان الزائرين والحجاج والموظفين السامين، وتؤبن الموتى منهم وتشيد بعضهم وبخدماتهم. ولكننا لن نعد ذلك ترجمة هنا كما أننا لن نعد المقالات الصحفية التي تعرف بهذا أو ذاك أو ترثيه من باب التراجم والمناقب. فخطتنا إذن لا تشمل سوى المؤلفات ولو كانت صغيرة الحجم. كما أن عهدنا هذا شهد ظاهرة أخرى وهي كتابة المذكرات حيث يترجم الكاتب لنفسه ويتحدث عن تجاربه الخاصة ومواقفه من وجهة نظره هو، ويبرر ما اتخذه من مواقف وآراء، ولكننا لن نتناول المذكرات في فقرة التراجم والمناقب، ونعد بأن نتناولها في فقرة أخرى خاصة بها. 1 - تعريف الخلف برجال السلف، وهو تأليف أبي القاسم الحفناوي (ابن الشيخ) في بداية هذا القرن. والواقع أن حياة الشيخ الحفناوي تمثل أحد النماذج للمثقف الجزائري الريفي في العهد الاستعماري من عدة وجوه، ومنها تواضع أهل الريف واستغلال السلطات الفرنسية لهم، وتنوع مصادر الثقافة، فقد نهل الحفناوي من مختلف الزوايا والمساجد والكتب القديمة قبل الالتحاق بالعاصمة وتعلم الفرنسية والتوظف الرسمي، كما عرف بالعمل الدائب واتقان المهنة والتفرغ لها، مع ضيق مجالات الطموح إلى الأدوار الكبيرة والمغامرات الخطيرة. فهو من مواليد بلدة الديس الصحراوية القريبة من بوسعادة. قدمت إليه تقاليد الأسرة والبيئة ووهبته الطبيعة القاسية حب العلم وحب التجول والبحث عن مصادر الثقافة. فدرس على أبيه عدة علوم، وكانت بالقرب من الديس زاوية الهامل وشيخها محمد بن بلقاسم ومساعده محمد بن عبد الرحمن

(وهذا من الديس أيضا)، وكذلك زاوية طولقة التي اشتهرت بمؤسسها علي بن عمر. وبعيدا من ذلك زاويتان أخريان شهيرتان هما زاوية نفطة العزوزية (تونس) وزاوية ابن أبي داود بتاسلنت قرب آقبو. إن هذه الزوايا كانت بعيدة في الظاهر عن السياسة ولا تشارك في الثورات ضد الفرنسيين إلا بصفة غير مباشرة، خلال النصف الثاني من القرن الماضي. ولكنها كانت نشيطة في نشر العلم وحفظ القرآن الكريم وصيانة التراث الإسلامي من الضياع. ولم يكن للتلاميذ حدود سياسية، فهم ينتلقون من زاوية إلى أخرى ومن شيخ إلى آخر حسب رغباتهم وإمكاناتهم، ولكنهم كانوا في مختلف الأحوال يجدون المساعدات المادية والمعنوية من المحسنين ومن أهل الزوايا. وهكذا كان حال الشيخ أبو القاسم الحفناوي. ولد حوالي 1850 (1852؟) في الديس، ويرجع نسبه إلى سيدي إبراهيم الغول، أحد صلحاء المنطقة وصاحب زاوية بالديس. وكان أبوه محمد بن بلقاسم بن الصغير من العلماء في وقته أيضا. وكان جده بلقاسم قد أخذ العلم في أولاد جلال في زاوية سيدي عبد الباقي، وكذلك في زاوية ابن أبي داود. كما أن والد المؤلف أخذ العلم في الزاوية الأخيرة أيضا، وكذلك زاوية طولقة ثم زاوية شلاطة، ولازم شيخها ابن علي الشريف. والعادة ألا يغادر التلميذ المكان إلا بعد الحصول على الإجازة من شيخه. وقد تنقل محمد بن بلقاسم بعد ذلك إلى زاوية طولقة معلما. فيها هذه المرة، وبقي بها ست سنوات، ومن تلاميذه الحفناوي بن علي بن عمر الذي أصبح شيخا للزاوية. وكانت عندئذ تضم من 40 إلى 50 تلميذا من مختلف النواحي، ومواد الدراسة فيها هي العلوم الشرعية واللغوية، وكذلك المنطق والفلك والحساب. ومن معاصريه الشريف بن الأحرش ومحمد بن بلقاسم الهاملي. ومن تلاميذه محمد بن عبد الرحمن الديسي، عالم المنطق بدون منازع في آخر القرن الماضي. وبعد هذه الجولات العلمية استقر الشيخ ابن بلقاسم (والد صاحبنا) في الديس، واشتغل بتربية أولاده ونسخ الكتب والمطالعة، وكسب رزقه. ولا ندري لماذا لم يشارك مع مؤسس زاوية الهامل في التعليم وقد كان

عندئذ يبحث عمن يساعده. ومهما كان الأمر فقد توفي والد المؤلف سنة 1893 (1311) بالديس. عاش أبو القاسم الحفناوي إذن خلال النصف الثاني من القرن الماضي، فترة المملكة العربية وحكم المكاتب العربية العسكرية، ثم حكم النظام الجمهوري (1870)، وما سنه من قوانين ضد الجزائريين وإرهاقهم مثل قانون الأهالي. وقد عاش أحداث ثورات 1871، وبوشوشة، والأوراس، أثناء شبابه، ولعله كان يتردد على زوايا نفطة وطولقة والهامل عندما كان محيي الدين بن الأمير عبد القادر يبعث برسله ورسائله إلى أعيان الجزائر يدعوهم إلى الثورة، وحين تنفيذ حكم الإعدام في بوشوشة، ولجوء بومزراق وقادة الرحمانية إلى الصحراء. وكان الحفناوي قد تردد أيضا كأبيه على الزوايا الرحمانية للقراءة، ويظهر من كتابه أنه متأثر بثقافة الطرق الصوفية. ولكنه لم يؤسس طريقة، كما فعل بعض الشيوخ. ولا ندري ما الذي جاء به إلى العاصمة وكيف كان استقراره بها، وهل سبق له التوظف في المكاتب العربية في الصحراء ثم أرسلوه منها إلى العاصمة لأغراض أخرى؟ وهل جاء العاصمة زائرا أو باحثا عن الكتب القديمة؟. لقد كان الحفناوي في الثلاثينات من عمره عندما جاء إلى العاصمة، سنة 1883 (فترة الحاكم العام البغيض لويس تيرمان). وسرعان ما وجد طريقه في الجريدة الرسمية التي كان يشرف عليها المترجم آرنو (وهو اسم مستعار)، أحد أعيان الترجمة والمخابرات، وكانت صلته بإدارة الشؤون الأهلية قوية، وهي الإدارة التي كان يشرف عليها الضابط المختص في شؤون الطرق الصوفية، لويس رين. ويهمنا أن نعرف أن هذه الإدارة هي التي كانت تشرف أيضا على جريدة المبشر. وهكذا تتضح إلى حد كبير الصلة بين هذه الإدارة وآرنو وأبي القاسم الحفناوي. ولقد عبر الحفناوي نفسه عن عرفانه بالجميل لآرنو الذي تعلم منه، كما قال، الفرنسية، والآداب والترفع على المتكبرين والتواضع أمام غيرهم. فقد قال إن آرنو هو (شيخه) في العلوم العصرية أيضا، وإنه رباه عقليا وعلميا فارتقى إلى (درجة أفتخر بها على أبناء

وطني) وعلمه، كما قال أيضا، التواضع القلبي والترفع القالبي على أهل الكبرياء، ووصفه بالحكيم، ولازمه في الجريدة حوالي اثني عشر سنة، وكان آرنو محررا لها والحفناوي هو كاتبه (¬1). ويبدو أن الحفناوي قد حل في جريدة المبشر محل أحمد البدوي الذي كان من أوائل الصحفيين الجزائريين في هذه الجريدة (¬2). وكان عمل الحفناوي في المبشر هو التصحيح والإضافة والترجمة. أما التصحيح أو بالأحرى الصياغة وجعل أسلوب الجريدة مقرؤا بين العرب والمعربين فأمره هام لأن الجريدة عرفت عدة مراحل من جودة التحري? وردائه، وأما الإضافة فهي ما كان يختاره لها الحفناوي من مقالات وطرائف وتراجم من كتب التراث الإسلامي التي يعرفها والتي كانت المكتبة الوطنية تتوفر منها على المخطوطات والمطبوعات. فهو بهذه الصفة يوفر للجريدة المادة العربية، ولكن بتوجيه من (شيخه) آرنو ثم من جاء بعده. وفي هذا الصدد كان الحفناوي يتتبع أيضا ما كانت تكتبه الصحافة العربية في المشرق سيما في مصر وتونس وإسطانبول ولبنان. أما الجانب الآخر وهو الترجمة فنعتقد أن الحفناوي لم ينتج فيه إلا في وقت لاحق أي بعد أن تعلم الفرنسية وأصبح قادرا على الترجمة منها والتلخيص بها، وقد ظهر ذلك في عدة أعمال نشرها، كما سنذكر، ويهمنا من هذا كله أن الحفناوي كان بين 1883 - 1897 صحفيا من نوع خاص، فهو كاتب ومحرر ومصحح وناقد لما ينشر في جريدة المبشر. ومنذ 1897 أضاف إلى عمله ذلك وظيفة مدرس في الجامع الكبير بالعاصمة. وكان ذلك على إثر مراجعة السياسة التعليمية من قبل الفرنسيين ¬

_ (¬1) تعريف الخلف، 2/ 409، ذكر الحفناوي ذلك في ترجمة الديسي. وكان آرنو ربما احتاج الحفناوي في ترجمة النصوص وفهمها من العربية. وقد ذكر ذلك بمناسبة الحديث عن كتاب طبعه آرنو بعد ترجمته وهو (سعود المطالع) لعبد الهادي نجا الإبياري، سنة 1305. (¬2) انظر عنه فصل المؤسسات الثقافية.

بعد تحقيقات لجنة جول فيري 1892 وتقرير كومبس حول التعليم الإسلامي. فقد نشط الفرنسيون من جديد التعليم المسجدي، بإسناد درس في النحو والأدب إلى بعض المتعلمين المعروفين بولائهم السياسي من جهة وقدرتهم العلمية من جهة أخرى. ومن الملفت للنظر أن الحفناوي قد استمر في الجمع بين الوظيفتين: التحرير في المبشر والتدريس في الجامع إلى 1927 حين توقفت الجريدة (عشية الاحتفال بالاحتلال)، بينما عزل الفرنسيون من الجريدة بعض زملائه أمثال محمد بن مصطفى خوجة (الكمال) بدعوى التدخل في الشؤون السياسية والتأثر بالصحافة المشرقية (كان خوجة من أتباع محمد عبده الصريحين) (¬1). ومنذ 1936 تولى الحفناوي وظيفة جديدة وهي الفتوى على المذهب المالكي، وهو وظيف رمزي وإلى حد ما سياسي، تضمن به السلطة الفرنسية التحكم في الأوضاع الدينية والتهدئة العامة. أما نفوذ المفتي بين فئات الشعب فيكاد يكون منعدما. وتجدر الإشارة إلى أن الحفناوي قد تولى الفتوى في وقت حرج، وهو الذي تولد عن اغتيال سلفه في نفس الوظيف، الشيخ محمود كحول عقب انعقاد المؤخر الإسلامي الشهير (¬2)، وبعد تقاعده رجع الحفناوي إلى مسقط رأسه، بلدة الديس، وهناك أدركته الوفاة سنة 1942. أما إنتاجه من غير (تعريف الخلف) فهو قليل الأهمية الآن، ولكنه أفاد به الرأي العام في وقته، لا سيما الفئة المتعلمة بالعربية فقط والتي تجهل المجالات العلمية وتطور العلوم والطب (¬3). ولا شك أن نشر الحفناوي لبعض ما سنذكره كان بتوجيه واقتراح من هيئة تحرير المبشر وإدارة الشؤون الأهلية. لأن كان يدخل في توصيل المعارف العامة إلى المسلمين (الأهالي) ¬

_ (¬1) انظر ترجمته وكذلك الحديث عن زيارة الشيخ محمد عبده للجزائر 1903 في السلك الديني والقضائي. وكذلك فصل المشارق والمغارب. (¬2) كان أيضا قد تعاون مع كحول في جريدة (كوكب افريقية) سنة 1907. ولم نطلع على إنتاجه فيها. (¬3) انظر فصل العلوم التجريبية.

من وجهة النظر الفرنسية. كما أن كتاباته بصفة عامة كانت تمثل المرحلة التي عاشها. فنحن نجده يعالج في المبشر موضوعات تتعلق بقوافل الصحراء (أثناء اهتمامات الفرنسيين بالتوغل نحو الجنوب)، فنقل عن جريدة (الطان) سنة 1887 - 1888 مقالة عن تجارة القوافل المتجهة إلى القورارة. وكتب حول داء الكلب ودوائه، ونشر عن ذلك مقالة سماها (الكلب لدى أطباء العرب) أظهر فيها دور العرب والمسلمين في الطب. وقد نسب إليه بعض المترجمين أعمالا مخطوطة، منها مؤلفات في الجغرافية والتاريخ والمعاني: كالمستطاب في أقسام الخطاب، وأرجوزة في جغرافية (؟) ابن خلدون، وله رجز بعنوان غوص الفكر في حروف المعاني، وقد شرحه بنفسه تحت عنوان (صوغ الدرر على غوص الفكر). وتدل أعمال الحفناوي هذه، وكذلك الرسائل التي تناول فيها حفظ الصحة على أنه كان متحرر الفكر في حياته، ولعل صلته بالمستعربين الفرنسيين (¬1) والمصالح الدنيوية، وعمله في الصحافة قد جعلته يتجه إلى الحياة العملية وليس الصوفية أو الدينية، كما فعل بعض معاصريه من الذين تخرجوا من الزوايا. وبعض مقالاته في المبشر تدل على أنه متأثر أو مساير للحياة العصرية، إذ منها هذه العناوين: تركيب الماء، وتركيب الهواء، ذكر المغناطيس وخواصه، والحكمة بأنوارها في الكهربائية وأسرارها. وحين ألقى محاضرة في الجمعية الرشيدية سنة 1907 اختار عنوانها: فرنسا والحرية وتفوق اللغة الفرنسية. أما العمل الهام الذي بقي يحمل اسم أبي القاسم الحفناوي فهو (تعريف الخلف برجال السلف)، وهو في التراجم الخاصة بعلماء الجزائر عبر العصور. وكانت بدايته فيه ترجع إلى ارتباطه بالتراث وكتب الطبقات التي ¬

_ (¬1) بعض الأعمال العلمية التي تحمل اسم الحفناوي، مثل (الخبر المنتشر) قد أنجزه بالتعاون مع جان ميرانت الذي كان مترجما إداريا ثم تولى إدارة الشؤون الأهلية، بعد لوسياني.

قرأها وهو طالب، ثم أخذ منها وهو موظف سواء لنفسه كمحرر في المبشر أو للمستعربين الفرنسيين الذين كان يساعدهم على فهم التراث العربي الإسلامي والترجمة منه ما تقتضيه المصالح الفرنسية. وكان ديبون وكوبولاني قد اعترفا بفضله في مساعدتهما على توثيق مؤلفهما حول الطرق الصوفية، وقد عرفنا صلته بكل من آرنو وميرانت ولوسياني. ويذهب سعد الدين بن شنب إلى أن الحفناوي كان يجمع خلال ذلك الوقت البطاقات عن كل عالم، وكان يستعين ببعض المعاصرين من موظفين سامين ومن مرابطين وعلماء دين وأصدقاء. ثم أن السلطات الفرنسية قد سهلت له الاتصال بالمغرب الأقصى وخزائنه، فحصل عن طريق الاستكتاب على تراجم، وكانت هذه أحيانا تنتزع انتزاعا من أصولها المخطوطة بدل أن تنسخ، كما شاهدنا ذلك بأنفسنا عند دراستنا لمخطوطات بوراس في المغرب. كما ساعدته السلطات الفرنسية على نشر الكتاب نفسه على حسابها يوم أصبح جاهزا، وكان ذلك في عهد الحاكم شارل جونار، وقد نوه الحفناوي بهذا الحاكم في أبياته الشهيرة وفي أول كتابه تعريف الخلف. فقد قال عن جونار إنه اهتم بمسلمي الجزائر وأحيا آثارهم وحاول أخذهم في طريق (التقدم العصري) لكي تجمع الجزائر بين عصر الشرق القديم وبحر الغرب الجديد (¬1). وكذلك شكر الحفناوي (الحكومة) على طبع (ما ييسر من أبناء وطننا وديننا من معارف الاعتبار ومآثر الاختبار). ورغم ثقافة الحفناوي الواسعة في التراث وعلاقته بالفرنسيين ¬

_ (¬1) عن الأبيات التي قالها الحفناوي في المدرسة الثعالبية وفي جونار، انظر فصل الشعر. وعن الحفناوي انظر أيضا فصول التعليم والسلك الديني. أما عن شكر ديبون وكوبولاني له فهو في كتابهما (الطرق الدينية الإسلامية)، الجزائر، 1897، ص 27 من المقدمة. وقد وصفاه بأنه الخوجة المحرر بالمبشر، وأنه وضع نفسه يوميا تحت تصرفهما وأنه أثرى بمعارفه الواسعة ترجماتهما وصححها. ومن المؤلفات التي ذكراها مقرونة باسمه: ابتسام العروس، والدرر الكامنة، وروض القرطاس، وابن خلدون، الخ.

وإيمانه بالتقدم العصري - كما يسميه - فإننا لا نجد له حضورا في مؤتمر المستشرقين 14 الذي اعقد بالجزائر سنة 1905. بينما نجده يقوم بمرافقة الشيخ محمد عبده سنة 1903 من مرسيليا إلى الجزائر على ظهر الباخرة. وكانت مهمته معه مجهولة ولكن بتكليف من الحكومة الفرنسية (¬1). إن تعريف الخلف قد ضم جزئين، ولم يرتبهما صاحبهما أي ترتيب. فالجزء الأول ضم مجموعة صغيرة من التراجم مع التوسع في حياة أصحابها، وكانت أسماؤهم هي التي نقشت على حيطان المدرسة الثعالبية. كما ضم هذا الجزء معلومات عن والد المؤلف، وعن الزوايا وبعض شيوخها، وكذلك بعض الشخصيات المعاصرة. لقد رجع الحفناوي إلى مراجع عديدة، بعضها مطبوع، ولكن الكثير منها كان من وثائق العائلات والتقاييد الخاصة والمخطوطات التي لم يتمكن أصحابها من طبعها. وكانت طريقته تشبه التراجم القديمة في كتب الطبقات العربية. وبعض التراجم قصيرة جدا، وبعضها يضم عدة صفحات، وذلك حسب توفر المعلومات. وقد أقحم فيه بعض التراجم غير الجزائرية، وهو أحيانا لا يضيف شيئا من عنده لمن يترجم له، بل يكتفي بنقل ما وصله عنه من العائلات أو من المؤلفات الأخرى. ومن مراجعه، تاريخ ابن خلدون ونشر المثاني وصفوة من انتشر ووفيات ابن القنفذ، وكفاية المحتاج ونيل الابتهاج، والدرر الكامنة، والضوء اللامع. ولغة الحفناوي جيدة، وهي تدل على ثقافته الأدبية القوية، ولا يستعمل السجع أو الجمل العامية الثقيلة أو المتأثرة بالثقافة الأجنبية. ولكن تياره الفكري، رغم إيمانه بالتقدم، يتجه نحو التصوف وذكر الكرامات وبعض الخرافات. ولا ندري إن كان يؤمن بذلك حق إيمان (ونحن نستبعده)، أو هو نوع من مجاملة شيوخ العصر والمتعلمين الذين عاصرهم، وفيهم بعض القضاة والحكام والمرابطين. ونحن نعلم أن ¬

_ (¬1) انظر زيارة الشيخ عبده للجزائر فى فصل المشارق والمغارب.

المثقفين عندئذ، مهما بالغوا في التحرر، كانوا يحمون أنفسهم بالانضمام إلى إحدى الطرق الصوفية، على الأقل، أو التظاهر بموالاة أهل الخير والولاية. والواقع أن الحفناوي لم يكن يكتب تاريخا في تراجمه، حتى نحاكمه بقسوة على منهجه، كما فعل سعد الدين بن شنب، حين قال إن علم التاريخ لم يتقدم عنده، وإنه كان يسير في خطى مؤرخي العصور الوسطى. فإن كان ابن شنب يعني بذلك كتب التراجم فهو مصيب في دعواه، وإن كان يعني كتابة التاريخ فالأمر هنا مختلف. حقيقة أن الحفناوي قد ذكر الخرافات لبعض من ترجم لهم، وأكثر من الشعر أحيانا، وتوقف عند نقد مصادره، وعدم ترتيبها. ولكن لا حرج على الحفناوي أن يصبح كتابه كتاب أدب بدل أن كون كتاب تاريخ، لأن الترجمة كانت وما تزال تجمع بين الحقلين: الأدب والتاريخ، إضافة إلى علوم أخرى. وقد انتقد ابن شنب من خلال الحفناوي، كل متعلمي الجزائر المعاصرين له في العشرية الأولى من هذا القرن، لأنهم كانوا في نظره بعيدين عن التصور الحقيقي للتاريخ كمنهج ونقد وتحليل. وفي نظر ابن شنب أن المؤرخين (العصريين) بدأوا منذ العشرينات مع ظهور كتاب مبارك الميلي، كما أسلفنا (¬1). لكن تعريف الخلف له ميزة بارزة انفرد بها، وهي أنه ظهر في وقت لم ¬

_ (¬1) هناك مراجع عديدة عن الحفناوي منها: سعد الدين بن شنب (بعض المؤرخين العرب) في المجلة الإفريقية، 1956، والتقويم الجزائري لكحول، سنة 1912، وأعيان المغاربة لقوفيون، ج 1، 1924، وسعد الدين بن شنب (الأدب العربي في الموسوعة الاستعمارية والبحرية في الجزائر والصحراء)، باريس، 1946. وكذلك سعد الدين بن شنب (النهضة العربية) في مجلة كلية الآداب، 1964، وعبد الرحمن الجيلالي (تاريخ الجزائر العام)، وبحث خديجة بقطاش عنه، وكانت قد نشرته في الأصالة، وبحث رقية شارف (غير منشور)، 1993، وقد أعدته تحت إشرافي. وأحمد توفيق المدني (حياة كفاح) 2/. أما تعريف الخلف نفسه فقد ظهر جزؤه الأول سنة 1906، والثاني سنة 1907، وقد وقع تصويره في السبعينات في بيروت دون تنقيح أو إضافة.

يتقدمه عمل آخر، ثم أنه ظل على أهميته إلى الآن. فأن المؤلفات التي ظهرت بعده كلها تقريبا تتخذه مرجعا. ولعل ذلك راجع أيضا إلى شموله لكافة العصور ونقوله العديدة من مؤلفات ووثائق تعتبر الآن مفقودة، سيما بعد أحداث ثورة 1954. كما أن لغة الكاتب سهلة فلا يجد قارئه عناء في الوصول إلى المعنى. وتداخل المعلومات أحيانا ووجود الخرافة في الكتاب يشفع لها ما يقدمه من مادة ذات قيمة كبيرة. ورغم أن النية - نية الفرنسيين - كانت عنئذ هي المحافظة على طابع الجزائر الإسلامية - الفرنسية، فأن النتيجة كانت عكس ما توقعوه، فقد بعث تعريف الخلف في النفوس الحمية والوطنية والغيرة على التراث والاعتزاز بالآباء والأجداد، ويمكن اعتبار ظهوره صفحة جديدة في اليقظة الوطنية والشعور بالذات السياسية، سيما في الوقت الذي كانت فيه مدرسة النخبة المتفرنسة تدعو إلى الاندماج الكلي في فرنسا والتخلص من كل روابط الماضي. 2 - الكتاب الثاني الذي جمع تراجم هو شعراء الجزائر في العصر الحاضر لمحمد الهادي السنوسي. وهو كتاب في جزئين، ترجم فيه الشعراء لأنفسهم في غالب الأحيان، مع نماذج من أشعارهم. وكان دور السنوسي هو الترتيب والتنسيق فقط، مع التقديم والمعاناة في طبع الكتاب في تونس. وكان لظهور الكتاب وقع كبير في الحياة الأدبية. ويضم (شعراء الجزائر) حوالي عشرين ترجمة. وهي كما قلنا من نوع السير الذاتية. وبعض هذه السير طويل، وبعضها مجرد سطور أو فقرة. كما أن بعضهم قد تقدمت بهم السن، غير أن بعض السير كانت لشباب ما يزالون في مقتبل العمر. ورغم أن الكتاب قد نفد من أمد بعيد، فإنه لم يطبع من جديد ومن ثمة أصبح من الكتب النادرة (¬1). ¬

_ (¬1) السنوسي (شعراء الجزائر ...) ط. تونس، جزآن، 1926 - 1927. وقد نوه به محمد العابد الجلالي في (تقويم الأخلاق). انظر عنه فصل الشعر فقرة (الدواوين والمجاميع).

3 - تحفة الزائر في مآثر الأمير عبد القادر وأخبار الجزائر، من تأليف محمد (باشا) بن الأمير عبد القادر، وهو في جزئين ولكنه صدر أول مرة في مجلد واحد، الأول خاص بالترجمة لحياة الأمير أثناء المقاومة، مع أولياته ونهاية نضاله. والثاني يتناول حياة الأمير الدينية والأدبية، أي أثناء وجوده في السجن والمنفى. وفي الكتاب تاريخ للجزائر في العهود السابقة للاحتلال ولكن باختصار، وتعتبر حياة الأمير إلى 1847 هي حياة الجزائر أيضا، ولذلك يمكن اعتبار الجزء الأول تاريخا للجزائر كلها بين 1830 - 1847. وقد ضم الكتاب وثائق كثيرة ومصادر فرنسية وأخرى عربية وبعض الصور. ولكنه يذكر ذلك عرضا ولا يفردها بقائمة مرتبة، وليس في الكتاب تعاليق. وصدر الكتاب أثناء حياة المؤلف. وعندما طبع مرة أخرى، أضاف إليه ناشره بعض التعاليق الطفيفة (¬1). ألف محمد باشا الكتاب سبع سنوات بعد وفاة والده. ويبدو أن المشروع كان قائما منذ كان الأمير عبد القادر حيا. ذلك أن الأمير هو الذي مكن ابنه من الوثائق العائلية ومن الرسائل والآراء والصلات بينه وبين غيره. وقد عثرنا على نسخة يبدو أنها الأصلية للمخطوط أو مستخرجة من الأصل، مكتوبة بخط جميل ومذهبة ومجلدة تجليدا فاخرا ومهداة إلى السلطان عبد الحميد الثاني، وهي منتهية سنة 1890 (1307). وقد يكون المؤلف انتهى من الكتاب قبل ذلك، بينما النسخة السلطانية نسخت في التاريخ المذكور فقط. وبالمقارنة مع النسخة المطبوعة في حياة المؤلف وجدنا بعض الفروق الهامة. ففي المطبوعة يذكر المؤلف أنه حين انتهى من تأليفه سرقت منه النسخة، وليس في المطبوعة إهداء إلى السلطان. كما أن هناك فروقا في التفاصيل بين النسختين تناولناها في دراستنا المفصلة والمنشورة في غير هذا (¬2). أما ¬

_ (¬1) ط. الأولى، الإسكندرية (مصر)، 1903، وط 2 دمشق (سورية)، 1964. وتوفي المؤلف سنة 1913 انظر عنه فصل المشارق والمغارب. (¬2) (العثور على النسخة المسروقة من كتاب تحفة الزائر ...) في أبحاث وآراء في تاريخ الجزائر، ط 2، ج 2، ص 115 - 143.

النسخة السلطانية فقد عثرنا عليها في اسطانبول تحت عنوان (تاريخ الأمير عبد القادر) في مكتبة الحاج محمود أفندي التابعة للمكتبة السليمانية ورقمها 4788. ولد محمد في القيطنة ناحية معسكر، سنة 1840، والقيطنة هي مسقط رأس والده أيضا .. وعاش حياته في حضن أمه لأن والده كان مشتغلا بالجهاد على ظهر فرسه إلى ديسمبر 1847. وكان محمد طفلا في الثالثة من عمره عندما هربت به أمه من معركة الزمالة الشهيرة مع زوجات قادة الجيش الجزائري، سنة 1843. ورغم أنه لم يعش في الجزائر سوى سبع سنوات فإنه ظل يحن إليها ويتغنى بهوائها وترابها وشمسها. ويظهر ذلك في كتابه تحفة الزائر. وبقي محمد مع والده وأمه خمس سنوات في سجون فرنسا، ثم عدة سنوات في بروسة بالدولة العثمانية، ثم استقر بهم المطاف دمشق، سنة 1855. وكانت ثقافته وتعليمه على يد والده وصهرهم مصطفى بن التهامي وبعض علماء دمشق. وكان محمد أكبر أبناء الأمير، ولذلك كان رفيقه عند السفر، وموضع ثقته أثناء الحديث، ومهبط سره كلما طرأ طارئ سياسي أو عائلي. وكانت ميوله تشبه ميول والده. فقد اختار، وهو في الشام، الولاء الوطني والولاء العربي الإسلامي، واعتنق مبادئ الجامعة الإسلامية ومال إلى الدولة العثمانية بدل الدولة الفرنسية. ولكنه لم يستطع أن يجند كل إخوته لفكرته، لأن منهم من والى فرنسا مثل الهاشمي وعمر وعبد المالك في أول أمره (¬1). وقد حظي محمد ومحيي الدين بلقب الباشا من السلطات العثمانية. وشاء القدر أن يعاصر محمد أيضا سقوط السلطان عبد الحميد. يكشف محمد أنه أقدم على التأليف عن والده بعد إلحاح عدد من وجوه أهل الشام وأعيان العرب والمسلمين، نظرا لمكانة والده وموضعه هو ¬

_ (¬1) لم يكن أبناء الأمير العشرة من أم واحدة. ومن الذين والوا الدولة العثمانية محيي الدين وعلي. أما الهاشمي فقد جاء إلى الجزائر وكان ضريرا، وهو والد الأمير خالد الشهير في الحركة الوطنية. وتولى عبد المالك الشرطة الشريفية بطنجة تحت المظلة الفرنسية، ثم ثار على فرنسا سنة 1915. انظر عن أسرة الأمير فصل المشارق والمغارب.

من والده (فحرضوني على القيام بهذا المندوب). وقد جمع ما أمكنه من المصادر وهي: أحاديثه مع والده، والوثائق العائلية، والمحاضر الرسمية كالمعاهدات، والكتب الأجنبية المترجمة إلى العربية، والكتب العربية القديمة، والمراسلات، والصحف وإنتاج الأمير نفسه. ويذكر أنه جعل والده هو الحكم في هذه الوثائق، فهو راوية عن أبيه وهو مرجعه إذا اختلطت عليه الآراء. ونفهم من اللجوء إلى ترجمة الكتب المؤلفة عن الأمير أن محمد لم يكن يعرف لغة أجنبية. وقد رأينا أن الكتاب، رغم قيمته التاريخية يعتبر كتاب أدب، وهو من نوع المذكرات تقريبا. ولكنه يظل مرجعا أساسيا لحياة الأمير أولا من الوجهة الشخصية لأنه (أي الأمير) هو الحكم فيه، حسب تعبير ابنه، وثانيا من الوجهة العائلية والوطنية لأن العائلة تملك من الوثائق ما غاب عن الفرنسيين أو غيرهم من الكتاب، ثم إن الفرنسيين اعتمدوا أيضا على وثائقهم الخاصة، فكتاباتهم عن الأمير وعن الجزائر في عهده كتابات مجحفة وتعاني من النظرة الواحدية والعدائية، ومن ثمة يبقى الكتاب يمثل، في جزئه الأول على الأقل، وجهة النظر الجزائرية أيضا في الأحداث التي جرت بين 1830 - 1847. 4 - أحمد بن محيي الدين، وهو أخو الأمير عبد القادر، وقد خص أخاه أيضا بترجمة لحياته وكفاحه. وعنوان كتابه نخبة ما تسر به النواظر وأبهج ما يسطر في الدفاتر في بيان سبب تولية الأمير عبد القادر في إقليم الجزائر. وكان أحمد هذا هو أصغر إخوة الأمير. وكان لذكائه وشجاعته واعتداده بنفسه مرشحا لخلافة أخيه لو طال به العمر في الحكم وانتصر على العدو. وقد عانى أحمد السجن كما عانى أخوه، وكان سجنه هو في عنابة، مدة خمس سنوات، وهي المدة التي قضاها الأمير عبد القادر أيضا في سجن فرنسا. وعندما سمح له بالخروج من السجن توجه (أحمد) إلى دمشق سنة 1283. وقد مالت عائلة الأمير (عائلة محيي الدين الأب) إلى التصوف كما كان وضع أبيهم وجدهم. ومنهم أحمد هذا (¬1). ¬

_ (¬1) انظر عنه فصل المشارق والمغارب - عائلة الأمير. وقد نسب بعضهم إلى أحمد كتابا آخر هو (كيف دخل الفرنسيون الجزائر؟)، والواقع أن هذا الكتاب (رسالة) منسوب =

5 - تاريخ الأمير عبد القادر، وهو من تأليف ابن عمه الحسين بن علي بن أبي طالب. وقد قام بترجمته إلى الفرنسية ترجمة جزئية ونشره في المجلة الإفريقية السيد ديلبيش (¬1). 6 - تاريخ حياة طيب الذكر، هو عنوان الكتاب الذي أشرف عليه سعيد بن علي بن الأمير عبد القادر (¬2). وهو ترجمة ورثاء ومآثر الأمير علي الذي وقف إلى جانب الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى وساند أخاه عبد المالك في ثورته على الفرنسيين في المغرب الأقصى. وكان الأمير علي قد حارب الإيطاليين في طرابلس، وتولى النيابة عن دمشق في برلمان الدولة العثمانية. أما الأمير سعيد فقد ساند ثورة الشريف حسين ورفع علمها على سراي دمشق قبل دخول الأمير فيصل ولورنس إليها، وسنذكر ذلك في مكانه. 7 - عبرة الناظر في تاريخ الجزائر، تأليف الهاشمي بن بكار، مفتي مدينة معسكر في وقته. وقال إنه شرع فيه ولم يقل إنه أكمله. ويبدو أنه ليس تاريخا بالمعنى الذي نتناول، لأنه قال عنه إنه يتناول الخصومة بين علماء الطرق الصوفية وعلماء الإصلاح بين الحربين. وهو يسمى الفريق الأول علماء السنة والفريق الثاني المتطرفين. وذكر أنه ترجم فيه لجماعة من هؤلاء وأولئك. وقد ذكر ذلك في كتابه مجموع النسب ص 187. 8 - تحفة الزائر في مآثر الأمير عبد القادر، ألفه الهاشمي بن بكار، ولم نطلع على هذا الكتاب وإنما ذكره الهاشمي بنفسه في كتابه (مجموع ¬

_ = إلى أحمد أفندي، الذي يغلب على الظن أنه أحد كراغلة الجزائر الذين شردهم الفرنسيون أول الاحتلال. وقد نشر هذا الكتاب صلاح الدين المنجد سنة 1963. انظر عنه أيضا SCULUCHTA (احتلال الجزائر كما يرويه جزائري) في (المجلة الآسيوية)، 1863. (¬1) المجلة الإفريقية، عدد 20، ص 416 - 455. انظر أيضا فصل الاستشراق. وتوفي ديلبيش سنة 1894. (¬2) مطبعة الترقي، دمشق، 1918. وجاء في الغلاف أن الكتاب من وضع نخبة من الكتاب تحت رعاية الأمير سعيد، نجل الفقيد. 176 صفحة.

النسب) ص 36 قائلا: (قد بسطت ترجمته (أي الأمير) في كتابي المسمى ...). 9 - عبد القادر فارس العقيدة، للشريف ساحلي، الجزائر، 1948. وقد تناول فيه سيرة الأمير كرمز للمقاومة الوطنية والإسلام. وراجعته جريدة البصائر في مقال مطول. 10 - عبد القادر واستقلال الجزائر لكاتب ياسين، 1948. 11 - ياقوتة النسب الوهاجة، تأليف أبي حامد المشرفي. وقد ترجم فيه لحياة وتصوف ونسب الشيخ محمد بن علي المجاجي، دفين مجاجة بالشلف، أوائل القرن الحادي عشر الهجري. وهو كتاب هام فيه معلومات عن عصر المجاجي وعصر الأمير عبد القادر أيضا، كما فيه أخبار عن شخصيات اتصلت بالمجاجي. وتعرض المشرفي أيضا لأنساب الأدارسة بالمغرب وأخبار بعض علماء الجزائر. ورتبه على مقدمة وأربعة أقسام وخاتمة. ولهذا الكتاب عنوان آخر وهو (اليواقيت الثمينة الوهاجة في التعريف بسيدي محمد بن علي مجاجة). 12 - ترجمة الشيخ محمد بن المختار وأصل عائلته، وهو مخطوط مؤلف حوالي 1857. وكان هذا الشيخ قد حج وزار مصر وسورية والتقى ببعض شيوخ الوقت مثل الشيخ عليش المصري. ولا نعرف من ترجم لهذا الشيخ ولا الوظائف التي تولاها أثناء حياته من 1815 - 1908 (¬1). وتشير بعض المصادر إلى أن الشيخ المختار قد انتصب للتدريس في عدة زوايا، وأنه كان رحماني الطريقة وأن شيخه فيها هو محمد أمزيان الحداد. ¬

_ (¬1) المصدر الذي أشار إليه هو محمد امقران ايسلي في رسالته (الحركة الدينية والإصلاحية في منطقة القبائل)، ماجستير، جامعة الجزائر، معهد الفلسفة، ص 334. وجاء في من الشيخ محمد الحسن عليلي أن الذي كتب الوثيقة التي اعتمد عليها ايسلي هو أحد تلامذة الشيخ المختار، واسمه الشيخ العربي لواج، من بني يني، من رسالة الشيخ عليلي، مارس 1997.

13 - تراجم علماء الجزائر، تأليف عمر راسم، صاحب جريدتي ذو الفقار والجزائر أوائل هذا القرن. وقد ترجمنا له في فصل المنشآت الثقافية، ولم نطلع على عمله وإنما اطلعنا على وصف محمد علي دبوز له، وقد وصفه بالرسالة أي التأليف الصغير وقال عنه إنه غير مطبوع، وإنه استفاد منه في كتابه (أعلام الإصلاح)، كما لاحظنا نحن ذلك في بعض المواضع منه. وأعطاه عنوانا ربما من عنده وهو (تراجم بعض زعماء النهضة الأولين بالجزائر). وكان الشيخ دبوز قد قرأ هذه الرسالة بقسنطينة سنة 1965، ونفهم من ذلك أن هذه الرسالة كانت في حوزة الشيخ النعيمي وأن دبوز سمعها منه فسجلها على الشريط وانتفع بها. وأخبر دبوز أنها قد لا توجد عند الشيخ النعيمي (¬1). وقد نقل دبوز من رسالة عمر راسم ترجمة حمدان خوجة، فاعتبره وطنيا كبيرا، وسياسيا ماهرا، وعالما من علماء الدين. وأنه تقلد وظيفة التدريس بالجامع الجليد، فدرس التفسير والحديث. وهذا الوظيف لم يكن معروفا عن خوجة، ولا ندري إن كان ذلك قبل الاحتلال أو بعده، والغالب أنه يشير إلى ما قبل الاحتلال. والمعروف أن خوجة كان عندئذ تاجرا، ولكن ذلك لم يكن يمنعه من التدريس بالجامع، حسبما جرت العادة. وقد أضاف عمر راسم أن خوجة منع من دخول الجزائر بعد سفره إلى باريس للتعريف بقضية الجزائر والدفاع عن نسه أيضا. وبناء على عمر راسم فإن خوجة قد أفتى بالتحرز والاحتياط من (الكرنتينة) أو الحجر الصحي، وكذلك أفتى باستعمال اللباس الإفرنجي (الأوروبي) للعسكر العثماني - وهذا الرأي كان لابن العنابي (¬2) - وربما احتوى الكتاب على تراجم أخرى مفيدة. ¬

_ (¬1) محمد علي دبوز (نهضة الجزائر) 1/ ي. (¬2) دبوز (نهضة الجزائر)، 1/ 133. وعن ابن العنابي انظر دراستنا (رائد التجديد الإسلامي)، ط. 2، 1992، وكذلك (السعي المحمود) تحقيق محمد بن عبد الكريم.

14 - رسالة في تراجم علماء الجزائر تأليف محمد بن مصطفى. وقد ذكرها له بعضهم، وهي غير معروفة (¬1). ومهما كان الأمر فقد كان المؤلف واسع الاطلاع، وعاصر مرحلة هامة من تاريخ الجزائر. 15 - تاريخ رجال الإصلاح في جيل، تأليف عبد الرحمن بن عمر، وهو في ثلاثة أجزاء، وما يزال مخطوطا. وقد اطلع عليه محمد علي دبوز وأخذ منه، وقال إن مؤلفه مولع بالتدوين وكتابة المذكرات وإنه (مؤرخ) (¬2). وقد شارك المؤلف في تأسيس جمعية العلماء، 1931. 16 - وبالإضافة إلى ذلك نود أن نذكر بعض (البرامج) التي يسجل فيها العلماء أسماء وحياة من أخذوا عنهم، فهي إذا شئت نوع من التراجم أيضا. ومن ذلك برنامج محمد بن علي السنوسي المسمى البدور السافرة وهو ملخص عمله (الشموس الشارقة)، وقد تحدث فيه عن مشائخه الذين أخذ عنهم العلم والتصوف في الجزائر والمغرب الأقصى ومصر والحجاز وغيرهم (¬3). 17 - المنشور في رجال الشيخ عاشور، والمقصود بذلك هو عاشور الخنقي صاحب ديوان (منار الاشراف). وقد ذكر في هذا الكتاب أنه لا يمكنه أن يترجم لشيوخه لكثرتهم (لا تحتمل مناقبهم هذه العجالة). وأخبر أن الفرصة قد سنحت له لتأليف كتابه المسمى (المنشور ...) (¬4). فإن كان قد انتهى منه فإننا لم نطلع عليه، ولا نعلم من وصفه. وكان عاشور قد درس في الخنقة ونفطة، كما جلس للتدريس في قسنطينة ثم في زاوية الهامل نواحي بوسعادة. ¬

_ (¬1) عادل نويهض معجم أعلام الجزائر، ط. 1، ص 186. انظر عنه فصل السلك الديني والقضائي وفصل التعليم. (¬2) محمد علي دبوز، نهضة، 1/ ي - ك. (¬3) المكتبة الوطنية - الجزائر، رقم 2522، انظر الكتاني، فهرس الفهارس. وفصل العلوم الدينية. (¬4) عاشور الخنقي (منار الإشراف)، ط. 1914، ص 38 من الخاتمة. انظر ترجمتنا له في فصل الشعر وكذلك فقرة الأنساب من هذا الفصل.

18 - تاريخ علماء زواوة، وهو تأليف منسوب لمحمد أرزقي الشرفاوي، من بلدة الشرفة نواحي بجاية. وقد درس في الجزائر ومصر ثم عاد إلى بلاده مدرسا ومؤلفا. وقد يكون كتابه مفيدا في بابه، غير أننا لم نعرف من اطلع عليه أو نقل منه. 19 - المرآة الجلية في ضبط ما تفرق من أولاد سيدي يحيى بن صفية (¬1)، وفي التعريف بمشاهير العلماء ورجال المعاهد الصوفية. من تأليف الحاج الجيلاني بن عبد الحكم العطافي. ومحتوى الكتاب واضح من عنوانه، وهو في الأنساب وتراجم بعض رجال التصوف ومن تعاطف معهم. وربما هو يشبه الكتاب الذي أعلن عنه الهاشمي بن بكار (عبرة الناظر) من بعض الوجوه. فبالإضافة إلى أولاد سيدي يحيى بن صفية ترجم المؤلف لعلي البوديلمي، والمهدي البوعبدلي، وأفراد من عائلة العشعاشي، والمولود الحافظي، وشيوخ الزوايا المعروفة مثل محمد الموسوم وتلاميذه، وابن تكوك السنوسي، والهاشمي بن بكار، ومصطفى فخار مفتي المدية، ومفتي مليانة، ومحمد البشير الرابحي، والشاعر أحمد الأكحل،.الخ. فالتراجم إذن شملت شيوخ الزوايا ورجال التدريس والإفتاء في الفترة الفرنسية. ولكنه ترجم أيضا لعبد الحميد بن باديس. والكتاب على ما فيه، مفيد للمؤرخ إذ يقدم صورة لأحد التيارات المتفاعلة في الجزائر عشية الثورة، وهو التيار الديني المحافظ (¬2). ... وتدخل المناقب أيضا في باب التراجم، رغم أن كتاب المناقب يركزون على ذكر المظاهر الصوفية كالكرامات لمن يترجمون لهم. ¬

_ (¬1) أشار إليه عبد الباقي مفتاح (أضواء)، مخطوط. وقد حصلت منه على جزء مصور عن طريق الشيخ محمد الحسن عليلي. (¬2) ط. تلمسان، مطبعة ابن خلدون، سنة 1372 (1953). ومؤلفه كان مديرا لمدرسة الفلاح الأصنام (الشلف حاليا). وسيدي يحيى بن صفية هو جد المؤلف. =

20 - المواهب الجلية في التعريف بإمام الطريقة السنوسية، تأليف الشيخ محمد بن عيسى السعيدي القاسمي الجزائري. والمقصود بإمام الطريقة هو محمد بن علي السنوسي. وقد ذكر هذا الكتاب عبد الحي الكتاني وقال إنه في سفر وسط. ولا نعرف أكثر من ذلك عن مؤلفه (¬1). 21 - ترجمة محمد بن علي أبهلول المجاجي أرسل بها الونوغي بن أحمد بومزراق المقراني إلى أبي القاسم الحفناوي مؤلف (تعريف الخلف). وكان الونوغي عندئذ (أول هذا القرن) مفتيا في الأصنام - الشلف -. وهو ابن بومزراق زعيم ثورة 1871. ويقول الحفناوي إن المخطوط كان للآغا ابن آمنة الحاج بو طيبة، حفيد المجاجي. فالونوغي إذن كان مجرد واسطة. كما أرسل إليه الونوغي أشعارا لسعيد قدورة وغيره لتدرج في ترجمة المجاجي بعد تصحيحها. فمن كتب ترجمة المجاجي؟ هل هي ملخص ما كتبه الغير، مثل المشرفي؟ أو هناك مؤلف آخر مجهول؟ ولا نعتقد أن الترجمة كانت من وضع الآغا أو من الونوغي نفسه (¬2). 22 - مناقب الشيخ محمد بن عبد الله الديلمي، (البوديلمي) تأليف عبد الغني خطاب. وكان المؤلف مدرسا في المدرسة الرحمانية بتلمسان، المعروفة باسم مدرسة التربية والتهذيب) لزاوية البوديلمية. وقد سلم المؤلف مناقبه إلى الهاشمي ابن بكار فأدخلها ضمن كتابه (مجموع النسب)، ونفهم من ذلك أن عبد الغني خطاب كان من أهل الطرق الصوفية ومن خصوم حركة الإصلاح. أما محمد الديلمي موضع الدراسة فهو شيخ الطريقة الخلوتية (الرحمانية) بالمسيلة، ولد بها سنة 1264 (47 - 1848). واسمه الكامل ¬

_ (¬1) عبد الحي الكتاني، فهرس الفهارس، 2/ 1043. (¬2) تعريف الخلف، 2/ 448. وعن حياة أحمد بومزراق نفسه انظر الحركة الوطنية، ج 1.

هو: الحاج محمد بن عبد الله بن عبد القادر بن أبي زيان بن مبارك بن الموهوب، ويتصل نسبه بمحمد الديلمي المنسوب للأشراف عن طريق جده محمد بن عزوز الديلمي الذي ترجم له ابن مريم في (البستان). وفي طفولته سافر محمد الديلمي إلى بجاية طلبا للعلم، وهناك درس على الشيخ السعيد الحريزي، ثم تنقل بين الزوايا بزواوة مثل زاوية أحمد بن يحيى وزاوية اليلولي، ومن هناك توجه إلى قسنطينة فدرس على عبد القادر المجاوي وحصل على إجازات. ثم أسس هو زاوية في المسيلة (؟) ودرس عليه فيها طلاب من جهات مختلفة. وقد أخذ الطريقة على الشيخ محمد امزيان الحداد داعية ثورة 1871. وفي جبل الناظور التقى بالشيخ عمارة بن أبي اديار (؟) وأخذ عنه علم التصوف. كما أنه حج مرتين وجاور بالحرمين وأخذ عن بعض العلماء هناك، دون تحديد من هم ولا متى كان ذلك؟. وبعد رجوعه إلى الجزائر أخذ يطالع كتب التصوف والدين، مثل كتب الغزالي وابن عربي والرسالة القشيرية والإنسان الكامل. وقد انتصب للتدريس، فكان يدرس مختصر الشيخ خليل في الفقه، ويفسر بعض الآيات القرآنية. كما كان يدرس التوحيد والنحو. وكان يجمع إلى ذلك تعليم مريديه المبادئ الصوفية. وكان له تلاميذ يساعدونه على التعليم. واستمر على ذلك نحو أربعين سنة. وتوفي بالمسيلة سنة 1361 (1942). ولا نعرف أن آخرين تعرضوا لحياة الحاج محمد الديلمي غير عبد الغني خطاب والهاشمي بن بكار (¬1). 23 - الزهر الباسم في ترجمة محمد بن أبي القاسم الهاملي. تأليف محمد بن الحاج محمد بن أبي القاسم، وهو ابن أخ المترجم له. وفي الكتاب فصول وخاتمة وديباجة. وفيه أيضا فوائد هامة عن حياة الشيخ الهاملي (¬2). والترجمة هنا تصبح مسألة عائلية، لأن الإشادة بالشيخ الهاملي ¬

_ (¬1) ابن بكار (مجموع النسب)، ص 171 - 173. وكانت عائلة الديلمي معفاة من الضرائب أثناء العهد العثماني لصلتها بالتصوف والشرف. (¬2) ط. تونس، 1310 (1892) وفيه 149 صفحة. وقد ترجمنا للشيخ محمد بن بلقاسم في فصل التصوف. انظر عنه أيضا فصل التعليم.

هي نفسها إشادة بالزاوية والعائلة القاسمية ودورها في التعليم والتصوف. وقد تولى المؤلف خلافة عمه في الزاوية، بعد أن تولتها السيدة زينب ابنة الشيخ حوالي ست سنوات. 24 - فوز الغانم، تأليف محمد بن عبد الرحمن الديسي، وموضوعه هو سيرة شيخ زاوية الهامل، محمد بن بلقاسم وشرح أوراده وسلوكه الصوفي. وقد أشرنا إليه في الإنتاج الديني. 25 - غرائب البراهين في مناقب صاحب تماسين، تأليف محمد بن المطماطية، والمقصود بصاحب تماسين هو الحاج على الينبوعي، شيخ الطريقة التجانية مدة طويلة ومؤسس فرعها في تماسين. وهو الذي ورث خلافة الشيخ أحمد التجاني وعاد على إثر وفاته، بأولاده من المغرب الأقصى. وعدا الفترة التي تولاها محمد الصغير التجاني في عين ماضي 1840 - 1853، فإن أبناء الحاج علي هم الذين توارثوا أباهم في (البركة) التجانية. ونحن وإن كنا لم نطلع على (غرائب البراهين) إلا أنه من الواضح أن المؤلف، ابن المطماطية، يتحدث عن حياة الحاج علي التماسيني، ويذكر دوره وكراماته وأولاده. وكان ابن المطماطية هو (مقدم) الطريقة التجانية في قسنطينة ومقره هو زاوية ابن نعمون. وكانت له بعض الشهرة في قسنطينة خلال الثمانينات من القرن الماضي لعلاقته بالأحداث التي عرفتها المدينة عندئد (¬1). 26 - ولنفس المؤلف (ابن المطماطية) عمل آخر ترجم فيه لمجموعة من رجال الطريقة في تماسين، ويسميهم الخلفاء الخمسة أي الذين توارثوا ااالبركة «التجانية من عائلة الحاج على التماسيني، وعنوان الكتاب (مجالس الأنس في تراجم الخمس (كذا). ولم نطلع نحن أسيا على هذا الكتاب. ولعله يعني بهم: محمد العيد، ومحمد الصغير ومعمر الذين ورثوا والدهم، ¬

_ (¬1) انظر كريستلو (المحاكم)، ص 239 هامش 39.

أما الرابع والخامس فلا ندري الآن من هما (¬1). 27 - فتح المنان في سيرة الشيخ سيدي الحاج محمد بن أبي زيان لمؤلف مجهول، وهو يصل إلى سنة 1312 (1910). وبذلك يكون الكتاب معاصرا للفترة التي نعالجها. وكنا قد ذكرنا هذا الكتاب في الجزء الثاني من كتابنا هذا، دون التأكد من عصره (¬2)، وعندما رجعنا إلى دراسة (أوغست كور) عنه، تبين أن المؤلف قد تتبع تواريخ حياة أبي زيان وخلفاته إلى السنة المذكورة (1910) وآخرهم هو الثامن، وهو إبراهيم بن محمد الذي كان متوليا للزاوية الزيانية عندئذ والذي وفر نسخة من الكتاب لكور. ولم يلتزم كور بخطة المؤلف وإنما تصرف في عرض محتوى الكتاب. ومن بين الخلفاء أربعة تولوا الزاوية في عهد الاحتلال (¬3). ولكن يظل مؤلف فتح المنان مجهولا، فهل الكتاب عبارة عن كناش أو تقييد يضيف إليه الأواخر ما فات الأوائل؟ 28 - البحر الطافح في بعض فضائل شيخ الطريق سيدي محمد الصالح، تأليف إبراهيم بن محمد العوامر. وهي رسالة ألفها الشيخ العوامر في هذا الشيخ إعجابا به وبطريقته الرحمانية في وادي سوف. ومحمد الصالح هو نجل سيدي سالم الأعرج بن محمد بن محمد ... بن سيدي المحجوب، دفين القيروان، وقد أخذ محمد الصالح وكذلك شقيقه مصباح، ¬

_ (¬1) الكتابان مخطوطان، ولم نسجل مصدرهما. (¬2) انظر الجزء الثاني، ط. 1، ص 134. (¬3) أوغست كور، كتابان عن حياة أبي زيان وزاوية القنادسة، في (مجلة العالم الإسلامي) R.M.M، نوفمبر 1910، ص 359 - 379، وديسمبر، 1910، ص 571 - 590. وقد حصل كور على نسخة أيضا من كتاب (طهارة الأنفاس)، عن حياة أبي زيان، من الشيخ إبراهيم بن محمد المذكور، ثم على نسخة أخرى من محمد نهليل الترجمان في بني عباس (الغرب). ومؤلف طهارة الأنفاس معروف وهو مصطفى بن الحاج البشير؛ ويبدو أنه معاصر لأبي زيان (ت. 1145/ 1733). انظر أيضا فصل الطرق الصوفية.

الطريقة على والده سيدي سالم مؤسس الزاوية الرحمانية، المعروفة في سوف باسم زاوية سيدي سالم. وكان سيدي سالم قد أخذ الطريقة من علي بن عمر الطولقي. وقد ألف إبراهيم العوامر الرسالة وفاء لوصية جده الذي خدم، كما قال، سيدي سالم الأعرج، والذي أوصاهم بخدمة أولاد شيخه، ومنهم محمد الصالح المذكور. فألف فيه الكتاب وذكر كراماته (¬1). ونحن نستغرب كيف يلجأ العوامر إلى ذكر هذه الكرامات رغم أنه كان من المتعلمين العقليين والذين نهوا عن البدع والخرافات واهتموا بالتاريخ والأنساب، ولكن الذين درسوا حياته أخبرونا أنه كان يوالي جميع الطرق الصوفية في الناحية، رغبة أو رهبة. وقد رأينا (البحر الطافح) مخطوطا، ونظن أنه مطبوع أيضا. 29 - تراجم في شيوخ الطريقة التجانية في تماسين، ألفه محمدي العروسي السوفي، (وهو غير صاحب المخدرة) الذي كان أحد المقدمين لهذه الطريقة. ولا نعلم لهذا التأليف عنوانا. ولم نطلع عليه، ولعله مثل كتاب ابن المطماطية يؤرخ ويترجم لعائلة الحاج علي التماسيني الينبوعي التي توارثت زعامة الطريقة فترة طويلة. وكان لها أنصار في الناحية. وكان العروسي من سكان مدينة الوادي. ومثل هذه الكتب تكون عادة في خزانة الزاوية نفسها (¬2) لا يطلع عليها إلا الخواص. 30 - رسالة في سيدي نائل، ألفها محمد بن عبد الرحمن الديسي. والرسالة في تاريخ ومناقب رئيس عرش أولاد نائل وأماكنهم وفروعهم. وأذكر أن أحد علماء الجلفة قد أعطاني كراسا مكتوبا بخط جيد، في ترجمة سيدي نائل، وكان ذلك أوائل السبعينات. ولا أذكر الآن من هو المؤلف، ¬

_ (¬1) تعريف الخلف، 2/ 399. (¬2) لا ندري المصدر الذي أخذنا عنه، ولعله كتاب (أضواء) لعبد الباقي مفتاح، وهو مخطوط. ونشير هنا إلى تقاييد أخرى لمحمدي العروسي، وتقاييد للعيد بن يمينة، مقدم التجانية بالبياضة (الوادي)، وهي في خزانة الزاوية بتماسين. وتوفي ابن يمينة عام 1978.

ولعله الديسي نفسه. والكراسة ما تزال عندي ولكنها الآن بعيدة مني ويعتبر سيدي نائل من الأشراف عند أهل الناحية. 31 - رسالة في إثابت نبوة خالد بن سنان العبسي، تأليف إبراهيم العوامر السوفى، سماها حد السنان في عنق التنكر لخالد بن سنان. ولا نظن أنها مطبوعة. والمقصود به خالد بن سنان الذي قيل إن الشيخ عبد الرحمن الأخضري قد أثبت نبوته بطريق الكشف، وهو التعبير الصوفي عن الكرامة (¬1). وفي نواحي الزيبان بلدة معروفة باسم سيدي خالد. 32 - كنز الأسرار في مناقب مولانا العربي الدرقاوي وبعض أصحابه الأخيار، من تأليف محمد بن أحمد المعروف أبو زيان الغريسي المعسكري المتوفى في المغرب سنة 1271. وقد ترجم في الكتاب لشيخ الطريقة الدرقاوية، محمد العربي، وبعض أتباعه من الجزائر والمغرب. وقد توفي المؤلف قبل أن يكمله (¬2). 33 - تأليف عن نشأة أولاد سيدي الشيخ ومناقبهم إلى ثورتهم سنة 1864. أشار إليه قينار E. GUENAR في نشرة الجمعية الجغرافية لوهران. ولا ندري مؤلفه، ولا حجمه. 34 - كتاب في المناقب، مؤلفه مجهول، وربما هو في مناقب ابن علي الشريف دفين زاوية شلاطة. وقيل إن الشيخ محمد السعيد اليجري قد اطلع عليه سنة 1944. وليس هناك وصف للكتاب الآن (¬3). وقد ذكرنا في الجزء الثاني أن ¬

_ (¬1) انظر الجزء الثاني من هذا الكتاب. (¬2) تعرضنا لهذا الكتاب في الجزء الثاني، ط. 1، ص 135. ونضيف هنا أن مخطوط كلية الآداب في الرباط يقع في 187 صفحة. انظر أيضا المنوني (المصادر العربية) 2/ 24. (¬3) من مراسلة مع الشيخ محمد الحسن عليلي، نوفمبر، 1994. وهو ابن الشيخ محمد السعيد اليجري، وقد روى ذلك عن والده.

المذكرات

كتاب (طراز الخياطة) للعربي بن مصباح في مناقب ابن علي الشريف، فهل هو نفس الكتاب؟ 35 - روضة العاشق في شمائل ابن الشرقي الصادق، تأليف عبد الله بن محمد حشلاف، قاضي الجلفة في وقته. وقد عرف عن هذا القاضي اهتمامه بالأدب والتصوف والأنساب. وها أنت ترى أن مجموعة من المناقب قد وضعها مؤلفوها حول أعيان من الناس، معظمهم من رجال الطرق الصوفية التي ازدهرت في آخر القرن الماضي وظل لها نفوذ واسع على العامة، وحتى على بعض المتعلمين لما كان لها من مواقف إزاء السلطة الفرنسية. وقد استمر ذلك إلى عشية 1954. المذكرات كتابة المذكرات عمل جديد في الحياة الفكرية والسياسية بالجزائر. إن الرجوع بحياة الإنسان إلى الوراء ومراجعة أعماله وعلاقاته بنفسه ورواية أخباره في صورة ذاتية تعتمد القص والتدخل الشخصي، كل ذلك جديد. وهو ظاهرة ثقافية - حضارية تعتمد أيضا تقليد الكتاب الغربيين الذين برعوا في هذا الميدان براعتهم في الرواية والمسرح ونحوهما من الفنون التي لم تكن معروفة عند العرب والمسلمين إلا قليلا. ومن التجوز اعتبار ما خلفه بعض الزعماء في القرن الماضي على أنه مذكرات، مثل مذكرات أحمد باي. وقد كدنا نعتبر المرآة لحمدان خوجة من المذكرات لأنه كتبه في آخر حياته ولأنه شهادة على الفترة التى عاشها، ولكنا عدلنا عن ذلك لأن الكتاب احتوى على معلومات غير ذاتية بل هي تاريخية واجتماعية واحصائية خارجة عن نطاق المساهمة الشخصية. فصنفناه في التاريخ الخاص بالجزائر. وقد شهدت فترة الاستقلال ميلاد كتابة المذكرات، بالعربية والفرنسية، ولكن ذلك خارج عن مجال موضوعنا.

ونحن أمام بعض المذكرات في حيرة، ونعني بذلك المذكرات التي لم يظهر أو يعرف نصها العربي ولم تظهر إلا في النص الفرنسي على أساس أنها مترجمة. فهل لها حقا أصل بالعربية؟ وإذا كان فأين هو الآن؟ وفي أذهانا الآن مجموعة من (المذكرات) المنسوبة لأصحابها ولكنها جميعا. قد ظهرت بالفرنسية فقط، وهي مذكرة حمدان خوجة ومذكرة أحمد بوضربة ومذكرات الحاج أحمد (باي قسنطينة) ثم مذكرات عبد العزيز الحداد. لقد اضطر بعض الجزائريين إلى ترجمة النصوص الفرنسية لهذه المذكرات إلى العربية، كما فعلوا مع المذكرات الثلاث الأولى (¬1). ولم تترجم المذكرات المذكورة إلى العربية إلا بعد وفاة أصحابها. وقد لاحظ أحد الباحثين غير الفرنسيين ذلك قائلا إن كتاب المذكرات ربما كانوا يتقربون إلى الفرنسيين، وربما كان هؤلاء يحاولون الحصول منهم على شهادات تزكية لمباركة الاحتلال. وختم هذا الباحث ملاحظته بقوله إن نوايا المؤلفين والمترجمين والناشرين وراء هذه الأعمال كلها مشبوهة. ثم أين النصوص الأصلية لهذه الأعمال التي يقال إنها مترجمة إلى الفرنسية عن العربية؟ ثم كيف تظهر ترجمة دون وجود نص اللغة الأصلية. وللدلالة على بعض النوايا السيئة أن كتاب العنتري الفريدة المؤنسة طبع سنة 1852، ولم يترجم سوى سنة 1929، دون ذكر المؤلف، وجاء في مقدمة الترجمة الفرنسية أن الذي وضع الخطوط العريضة للكتاب هو الضابط بواسوني، كما أن العنوان الأصلي وهو (الفريدة المؤنسة) قد اختفى من الترجمة. ونفس الشيء يقال عن تاريخ قسنطينة لأحمد المبارك، فرغم أنه مؤلف بالعربية سنة 1852، فإنه لم يترجم إلى الفرنسية سوى سنة 1913، دون ذكر النص العربي أيضا (¬2). ونضيف أن مذكرات حمدان خوجة وأحمد بوضرية ¬

_ (¬1) قام بذلك العربي الزبيري، الجزائر، 1973. وكذلك ترجم المرآة لحمدان خوجة، رغم أن أصله عربي مفقود. وكذلك ترجم محمد بن عبد الكريم نفس الكتاب وقد نبهنا إلى ذلك سابقا. (¬2) جيمس ملاركي (البنية الدرامية) - دراسة لمجلة روكاي التي كانت تصدر في =

لم تظهر إلا سنة 1913 وباللغة الفرنسية فقط، أما مذكرات الحاج أحمد فلم تظهر ترجمتها الفرنسية سوى قرن بعد نصها العربي، فقد كتبت عشية وفاة الباي سنة 1852، ولم تنشر سوى سنة 1949، وهكذا. وإذا أخذنا ذلك بعين الاعتبار، يمكننا تتبع تلك المذكرات التي قيل إنها كتبت أصلا بالعربية، ولكنها ترجمت إلى الفرنسية واختفى نصها الأصلي إلى اليوم. 1 - مذكرة حمدان خوجة. والمقصود بها العريضة التي رفعها سنة 1833 إلى اللجنة الإفريقية التي عينتها الحكومة الفرنسية للتحقيق في أحوال الجزائر بعد الاحتلال (¬1). وفي نظرنا أن ما قدمه خوجة عندئذ لا يدخل في (المذكرات) التي نحن بصددها، ذلك أن ما كتبه خوجة في المذكرة كان عبارة عن وجهة نظر في نقد السياسية الاستعمارية وحل القضية الجزائرية، وليس تعبيرا عن تجاربه ووصفا لحياته وتقلبات الزمان به وإنجازاته. كما هو شأن المذكرات. 2 - مذكرة أحمد بوضربة. ويصدق عليها ما قلناه عن مذكرة حمدان خوجة. وقد كتبها بوضربة في نفس السنة ولنفس الغرض، بقطع النظر عن اختلاف وجهة نظر الرجلين في حل القضية الجزائرية. ولم يترك بوضربة كتابا أو مذكرات أخرى، حسب علمنا، تعبر عن تجربته في الحياة وتدخل فيما نحن فيه. 3 - مذكرات الحاج أحمد، باي قسنطينة. وهي التي أملاها على أحد ¬

_ = قسنطينة، انظر كتاب (معرفة المغرب العربي)، مرجع سابق، ص 158 - 159. (¬1) ترجمها العربي الزبيري ونشرها ضمن (مذكرات أحمد باي وحمدان خوجة وبوضربة)، الجزائر، 1973، ص 147 - 168. أما مذكرات أحمد باي فهي من ص 11 - 102. انظر ترجمة مذكرة حمدان خوجة لمحمد بن عبد الكريم في كتابه (حياة حمدان خوجة)، مكتبة دار الحياة، بيروت، 1972، ص 203 - 230.

الضباط الفرنسيين (المترجمين) بعد استسلامه سنة 1848. وهي في نظرنا تدخل في باب المذكرات، لأن الباي قد قص فيها حياته ومواقفه من سنة 1830 إلى 1848. وهي بالطبع لا تتناول جميع حياته (ت. 1850)، ولكن الأسلوب الذي كتبت به والمعلومات التي احتوتها والآراء، كلها تجعلها من نوع المذكرات الذي نعنيه. ورغم ما فيها من ثغرات في سرد الأحداث ومن اعتذارات للفرنسيين عن بعض المواقف، فإن المذكرات تبقى مادة خصبة، وتضم معلومات تاريخية وجغرافية وشخصية هامة تلقي الضوء على حياته وعصره. 4 - مذكرات الشيخ عبد العزيز (سي عزيز) الحداد. وهي أيضا في نظرنا من نوع المذكرات التي نحن بصددها. وتشبه في بنيتها وتبريراتها مذكرات الحاج أحمد. وقد تناولها يحيى بوعزيز ونشرها ضمن تأليفه (وصايا الشيخ الحداد ومذكرات ابنه سي عزيز)، الجزائر، 1989. 5 - مذكرات الأمير عبد القادر. ولا يصدق عليها في الواقع اسم المذكرات إلا تجاوزا. والمعروف أنها بقيت في نصها العربي، ولم تترجم إلى الفرنسية، فيما نعلم؛ وهناك خلاف بين الباحثين في مؤلفها، هل هو الأمير نفسه أو صهره مصطفى بن التهامى، أو هما معا. ويهمنا الآن أنها كتبت خلال سنوات السجن بفرنسا، وأنها تمثل تاريخا في فصول وأبواب طويلة تتناول أيضا التاريخ الإسلامي بل والعالمي. وهذا لا يهمنا هنا. أما ما نعنيه بالمذكرات فهو جزء صغير من هذا العمل الكبير. وهو الفصل الأول من الباب الأول، وفيه حوالى إثنى عشر صفحة من المخطوط تتناول نسب الأمير ودراسته وشيوخه، ثم الباب الرابع كله وهو ثمانون صفحة، ويغطي حياة الأمير منذ حجته الأولى حوالي 1828 إلى هزيمته سنة 1847 واعتقاله. أما الأبواب والفصول الأخرى فكلها خارجة عن ترجمة الأمير أو مذكراته وعن تاريخ الجزائر (¬1). ¬

_ (¬1) اطلعنا على المخطوط في عدة مناسبات حين كان بالمكتبة الوطنية - الجزائر، بعد أن =

6 - مذكرات الطاهر بن عبد السلام. وهو من أوائل من كتب في هذا الباب. فنحن نجده قد كتب مذكراته بصفة مفصلة وروى حياته وتجاربه وهو ما يزال في منتصف العمر عند كتابتها، ويبدو أنها طويلة، ولكن صاحب (شعراء الجزائر) اختصرها في حوالي خمس عشرة صفحة، بخط رقيق. وقال عنها إنها تحتوي على الحقائق التاريخية والنظريات الاجتماعية والعمرانية، بالإضافة إلى السيرة الذاتية للمؤلف. وكان الطاهر بن عبد السلام قد انتهى من تحرير مذكراته في 10 ديسمبر 1927 (13 ربيع الأول 1346) تحت عنوان (حياة الطاهر بن عبد السلام). وهو من مواليد 1309 هـ، بسوق اهراس، من أبوين فقيرين، وفقد أمه وهو ابن سنة، ولكن عائلته ساعدته على العيش والتعليم بصعوبة. وبعد عشرين سنة توفي والده أيضا. وفي سنة 1331 سافر إلى تونس فانخرط في جامع الزيتونة بمساعدة قريب له كان أيضا يدرس هناك. وفي 1336 حصل على شهادة التطويع. وظل يواصل التعلم أملا في الحصول على وظيف مدرس. ولكنه وجد العراقيل أمامه فاختار التجارة. وبقي يتردد على الجزائر، ولا سيما سوق اهراس وعنابة، وذكر كيف كانت السلطات الفرنسية تطارده، وكان بعض أدباء تونس والجزائر هم الذين طلبوا منه كتابة (تاريخ حياتي). ¬

_ = استلمته من أسرة جاك شوفالييه الفرنسية. ثم اشتغل عليه القس (الآن كاردينال) هنري تيسييه تحت إشرافنا فترة ليقدمه اطروحة دكتوراه، ووضع له مخططا، ثم توقف. وقد طبع أو بالأحرى صور سنة 1983 بمناسبة الذكرى المئوية لوفاة الأمير على يد وزارة الثقافة. وأخذ منذ ذلك الحين تقريبا تحققه مجموعة من الأساتذة هم محمد الصغير بناني ومحفوظ السماتي ومحمد الصالح ألجون. وبعد أن انتهوا منه كتبنا له مقدمة. وقد سمعنا أنه صدر سنة 1994 عن دار الأمة بالجزائر. ومن جهة أخرى بلغنا أن يحيى بوعزيز حققه ونشره سنة 1995 ثم اطلعنا على نسخة من تحقيقه. أما المهدي البوعبدلي فقد نشر عنه دراسة بعنوان (أضواء على تاريخ حياة الأمير عبد القادر قبل توليته من خلال مذكراته التي سجلها في قصر امبواز) في (مجلة التاريخ)، المجلد الأول، 1975، ص 51 - 68.

وقد جمع ابن عبد السلام العلم إلى التجارة. فكان يلقى دروسا على العامة في الزاوية القادرية بسوق اهراس، ثم ضاقت بهم فأراد التدريس بالجامع فابى إمامه، وكسدت تجارته، واتهمه الفرنسيون (1921) بنشر الفكرة الوطنية والمبادئ الاشتراكية. وفي نوفمبر 1923، قدموه للمحكمة، وبعد ذلك روى كيف سافر ثانية إلى تونس (1924) وكيف استفاد من التعليم وساهم في جريدة النهضة بمقالات عن الوضع العربي والإسلامي (¬1). 7 - أنفس الذخائر وأطيب المآثر في أهم ما اتفق لي في الماضي والحاضر، تأليف الطيب المهاجي. تحدث فيه عن محاولة سفره إلى مصر لكي يدرس بالأزهر أوائل هذا القرن، وعن الموانع التي اعترضته فلم يسافر. وكان شيوخه قد أذنوا له بالإجازة في أخذ العلم والسفر، وتحدث عن رغبته في المزيد من العلم بمصر. ورغم أن الكتاب مطبوع فإننا لم نطلع عليه، وإنما تحدث عنه عبد الله ركيبي في أحد بحوثه. ولذلك فإن إدراجه ضمن المذكرات غير قاطع أيضا (¬2). 8 - مذكرات معلم جزائري، من أصل أهلي، تأليف السعيد الفاسي. نشرته مجلة المستضعفين عدد أبريل 1931. 9 - مذكراتي للأمير محمد سعيد بن الأمير علي بن الأمير عبد القادر. وقد أقامها على طريقة المذكرات التي أصبحت معروفة في البلاد العربية. تحدث الأمير محمد سعيد فيها عن نشأته وعن محيطه حيث تيار الجامعة الإسلامية، ثم ثورة جمعية تركيا الفتاة. وقد انتقل بعد ذلك للحديث عن ¬

_ (¬1) راجع (شعراء الجزائر) للهادي السنوسي، 2/ 49 - 63. ولا ندري إن كان الشيخ الطاهر بن عبد السلام الذي عاش عدة عقود سد ظهور هذا الكتاب، قد كتب جزءا آخر من مذكراته الهامة. انظر حياة محمد الشافعي التونسي الذي كان ممنوعا، من الجزائر في فصل المشارق والمغارب. (¬2) عبد الله ركيبي (القصة القصيرة في الأدب الجزائري المعاصر)، ط 1، 1970، ص 34، هامش 1. وقد ذكر أن كتاب المهاجي قد طبع بوهران في مطبعة الشركة الجزائرية، د. ت.

بعض الأطراف كالسنوسيين وأحوال الجزائر، ثم رجع إلى الجالية المغاربية في الشام ودور عائلة الأمير عبد القادر. وكان التركيز بعد ذلك على أحداث الحرب العالمية الأولى وما شهدته من تطورات بالنسبة للعرب والترك. وما شهدته سورية بالذات من تقلبات من الحكومة الهاشمية إلى الانتداب الفرنسي، ودور الأمير محمد سعيد وأخيه وأبيه في كل ذلك،. من طموح واعتقال، ومن علاقات مع الملك عبد الله ومسألة الخلافة، ومسألة فلسطين، ومسألة الخط الحجازي، وأخيرا المسألة الجزائرية، (ثورة نوفمبر)، وقلق الأمير سعيد بوطنه الأول. والكتاب مزود بالصور الشخصية وبعض الوثائق الهامة كالمراسلات مع عدد من أعيان العرب المعاصرين. لا شك أن المذكرات في حد ذاتها تمثل صفحة في تاريخ الأمة العربية المعاصر، وتصور دور عائلة الأمير عبد القادر في التاريخ على العموم وفي الشام على الخصوص. وليس من غرض هذا العرض نقد المذكرات وتسليط الضوء على الأحداث التي صورتها، فالأمير سعيد كتب وجهة نظره، ورد على بعض التصرفات واتهم وبرر، وهذا حقه كشاهد ومعاصر للأحداث. وقد كتب آخرون مذكراتهم على نفس النمط تقريبا. وعلى الباحثين في الأحداث العربية خلال النصف الأول من هذا القرن أن يقارنوا ما جاء في مذكرات الأمير سعيد بمذكرات معاصريه، ومنهم لورنس الإنكليزي الذي استرق الأضواء كلها تقريبا وترك زعماء، بمن فيهم الأمير فيصل والأمير سعيد في الظل. ويكفي هذه المذكرات أنها أماطت اللثام عن الوجه الآخر للورنس، وأبرزت دور الأمير عبد القادر (الحفيد) في الثورة العربية، رغم أنه اغتيل غدرا قبل أن يجني ثمارها (¬1). 10 - مذكرات الشريف الزهار. وهي أقرب إلى السرد التاريخي والتجارب الشخصية والملاحظات العامة في الحياة ومجريات الأحداث. وقد ¬

_ (¬1) الأمير محمد سعيد (مذكراتي عن القضايا العربية والعالم الإسلامي) طبع بإشراف الأمير محمد سعيد نفسه، دار اليقظة العربية، دمشق (؟)، 1968.

صدرت من شخص مارس وشاهد ما كان يتحدث عنه. وهو نقيب الأشراف في مدينة الجزائر، حيث كانت له مكانة معنوية مرموقة لدى الشعب والحكام. واسمه هو أحمد بن الحاج علي الشريف الزهار. وقد تعرضنا لأسرته في الحديث عن الزوايا والمساجد (¬1). ولد المؤلف في الجزائر سنة 1196 (1781)، ودرس على والده وبعض شيوخ العصر أمثال أحمد بن عمار ومحمد بن الشاهد وعلي بن الأمين. وتولى بعد أبيه نقابة الأشراف. وعاصر الاحتلال الفرنسي وكان عمره إذاك حوالي خمسين سنة. وكان ممن نفاهم الفرنسيون، حسب رواية الشيخ أحمد توفيق المدني. ولعله من الذين اختاروا مغادرة البلاد بعد استيلاء الفرنسيين عليها انتظارا لجلية الأمر. ومهما كان الأمر فإنه توجه سنة 1832، في عهد الدوق دو روفيكو الذي اضطهد السكان وشك في كل الناس (وكان من رجال الشرطة)، إلى تونس. وحضر دروس الشيخ إبراهيم الرياحي في الزيتونة. وكان الفرنسيون عندئذ يتآمرون على قسنطينة التي كانت تحت حكم الحاج أحمد، فدخلها الزهار من تونس، وانضم إلى الحاج أحمد ولكننا لا ندري متى كان ذلك. وبعد احتلال قسنطينة التحق الزهار بالأمير عبد القادر، ويقول الشيخ المدني إنه تولى الكتابة له وربما التحق به ومعه عائلته، لأن المدني يقول إن والدة الزهار كانت من بين الأسيرات اللاتي حملهن الفرنسيون إلى بلادهم، وربما كان ذلك في حادثة الزمالة (1843). وذهب الزهار أيضا إلى المغرب الأقصى ونزل مدينة فاس سنة 1259. ثم رجع إلى الجزائر بعد أن تغيرت الأحوال، ورجع أيضا إلى نقابة الأشراف، كما اشتغل بالتجارة. وأثناء اشتغاله بالتجارة في دكانه كان يسجل ذكرياته عن العهد العثماني، الأحداث التي عاشها، وربما كانت له وثائق الأسرة تساعده على تسجيل الحوادث والأسماء. والمذكرات التي نحن بصددها هي نتاج هذه المر حلة من حياته. ¬

_ (¬1) انظر فصل المعالم الإسلامية.

يقول المدني الذي حصل على نسخة منها ونشرها مصاغة ومصححة: إن المذكرات مقسمة إلى قسمين: قسم يبدأ من سنة 910 أي بداية العهد العثماني، ويحتمل أن يكون هذا القسم من الكتاب قد ضاع. أما القسم الثاني فيبدأ من سنة 1168 وينتهي بالاحتلال الفرنسي. وهذا القسم هو الذي قدمه الشيخ المدني بعد أن عثر على النسخة الوحيدة منه لدى الشيخ محمود الشريف حفيد المؤلف. وكانت هذه النسخة على وشك الضياع أيضا، لأن السيد جان ميرانت، مسؤول الشؤون الأهلية كان يسعى للحصول عليها، وكان الحفيد الزهار والمدني يخشيان ضياعها إذا استحوذ عليها هذا المستعرب المبغوض. وذكر المدني أيضا أن للمذكرات قسما آخر (ثالثا) يبدأ من الاحتلال، مشارا إليه بعدة سطور فقط في آخر القسم الثاني. ولكنه يعتبر في حكم الضائع، لأن المدني يؤكد أن دومينيك لوسياني الذي سبق ميرانت في إدارة الشؤون الأهلية، قد استولى عليه ولم يظهر له خبر بعد ذلك (¬1). ورغم أهمية القسم الثاني من المذكرات، فإنه يبدو أن القسم الثالث الضائع يعتبر أهم منه بالنسبة لبحثنا هذا. ذلك أن تجربة الشيخ الزهار مع الحاج أحمد والأمير وفي المغرب وتونس، وما عاشه من آثار الاحتلال، ومن عاصره من العلماء كان سيساعدنا على فهم النصف الأول من القرن الماضي الذي يفتقر إلى المصادر الوطنية. ومهما كان الأمر فإن النسخة التي وصفها المدني مكتوبة بعربية بسيطة قريبة من الدارجة، وكانت في شكل مسودة. وفيها آراء جديدة عن الدايات وعلاقاتهم بالشعب والسلطان والبلدان الأجنبية (¬2). ¬

_ (¬1) نعرف أن لوسياني كان يحصل على المخطوطات العربية من أصحابها بدعوى النشر والتأليف، وكان يستكتب القضاة والعلماء. وقد حصل على مخطوطات حول حياة الشيخ عبد الرحمن الأخضري ومحمد بن يوسف السنوسي وابن تومرت، إلخ. انظر فصل الاستشراق. (¬2) أحمد توفيق المدني (مذكرات الحاج أحمد الشريف الزهار، نقيب أشراف الجزائر)، 1974. وعن قدور الشريف الزهار وعائلته انظر فصل السلك الديني والقضائي. وقد =

الرحلات

الرحلات لدينا رحلات عديدة في اتجاهات مختلفة. ولكن ليس من بينها رحلة معتبرة على غرار الرحلات القديمة، باستثناء ربما رحلة المشرفي. ولكن الرحلات جميعا تقدم لنا معلومات ذات قيمة في بابها. ومنها ما كان صغير الحجم في نحو الكراس، وما كان متوسط الحجم. واتجاهات الرحالة كثيرة، داخل الجزائر نفسها، وداخل البلاد العربية مثل المغرب وسورية، وفي اتجاه الحجاز مرتبطة بالحج، ثم في اتجاه فرنسا. ولا نزعم أننا هنا قد قمنا بإحصاء لهذه الرحلات واستنفدناها، وإنما نذكر ما عثرنا عليه أثناء بحوثنا. وسنذكر أيضا بعض الرحلات التي كتبت بالفرنسية سواء كتبها جزائريون مثل رحلة إسماعيل بوضربة إلى غات أو كتبها غير جزائريين لصلتها بموضوعنا. ومعظم الرحلات طبعت بطريقة أو بأخرى، مثل الرحلات التي كانت باتجاه فرنسا، لأن الهدف منها هو التعريف بما شاهد الزائر وبث الدعاية الموالية للفرنسيين ومدنيتهم. كما أن بعض الرحلات سيقت أو ترجمت في المجلات الفرنسية حيث يعرف بها الكتاب الفرنسيون لعلاقاتها باهتمامات بلادهم، كتلك التي عالجت موضوع الصحراء أو الحجاز في فترة لاحقة (آخر القرن الماضي). ولكن رحلات أخرى حجازية وغيرها لم تدخل المطبعة لأسباب مختلفة كالتي كانت داخل المغرب أو سورية. ومن الذين أكثروا من الرحلات خلال هذا العهد محمد العربي (أبو حامد) المشرفي. وننبه إلى أن بعض الرحلات العربية لم تنشر في كتب أيضا ولم تعرف بأنها مخطوطة وإنما نشرت في شكل مقالات في الصحف مثل رحلة الشيخ الإبراهيمي إلى المشرق، وزيارة الشيخ محمد الغسيري إلى مصر، وجولات الشيخ ابن ¬

_ = نجح الفرنسيون في تدجين هذه العائلة أيضا فأصبحت تتولى لهم القضاء والحكم والمناصب السياسية. انظر (مجلة العالم الإسلامي)، يونيو، 1910، ص 323 - 325. وقدور هذا هو ابن الحاج أحمد صاحب المذكرات.

باديس في أقاليم البلاد. ولذلك نكتفي هنا بالتنبيه عليها لأننا لن نذكرها في هذا الفقرة. 1 - رحلة الحاج البشير، حوالي 1867. وقد أملاها على أحد الفرنسيين، وهو ف. فيليب، عندما كان الحاج البشير في الخامسة والخمسين من عمره. ولد الحاج البشير في وادي الرتب ببلاد الشرفة على مسافة من تافيلالت، سنة 1229 (1814). ومنذ كان عمره 17 سنة بدأ حياة الترحال، فذهب إلى فاس ومكناس، ثم استقر في تلمسان وعمره حوالي 23 سنة، وتزوج من أربع عشرة امرأة. ولكي يعيش كان عليه أن يتنقل بين القبائل في إقليم وهران، وصادف ذلك عهد المقاومة تحت لواء الأمير عبد القادر. وكان الطرف الفرنسي والجزائري يشك فيه لأن كليهما يعتبره جاسوسا لعدوه. وذات مرة كاد الحاج البشير أن يهلك. ولما كان عمره 33 سنة ركب البحر إلى الحج عن طريق مرسيليا والإسكندرية. وفي مصر تعرف على أحوال الشرق ورأى جيش محمد علي باشا. واستغرقت الرحلة سنة، ثم رجع إلى تلمسان، واستقر بعد ذلك في مكان يعرف بزهرة، في بلاد بني سنوس، ولكنه ظل يتردد على سبدو. وللحاج البشير ذاكرة عجيبة، حسب فيليب الراوي عنه. فهو يتذكر المسافات التي قطعها وأسماء الأماكن والأشخاص الذين لقيهم. ويستطيع وصف الجميع. ورغم أنه كان أميا فإنه كان يروي الأحداث منطقيا وفي ترتيب ملفت للنظر. وقد أملى رحلته من الذاكرة في شكل يوميات ومراحل، وابتداء من تلمسان حيث باعوا حمولة مائة جمل من الجلد الفيلالي. وقد مروا بماسيون في دوار بني ماذر (معذر؟) الغرابة، ورأس العين وتقفايت، وفي هذه الأخيرة استقبلهم المرابط حمزة بن الطيب ثم سيدي علي بوسماحة حيث قبة لمرابط شهير (جد أولاد سيدي الشيخ، عبد القادر بوسماحة؟) وسوق عظيمة وزاوية تضم عددا كبيرا من الطلبة. ثم مروا بدبدو، وهي عاصمة بني مرين القديمة حيث آثار قصرهم ما تزال قائمة، وفيها مسجدان كبيران بصومعتين عظيمتين، ثم قعدة دبدو حيث أولاد سيدي محمد بن

أحمد، وهم مرابطون يستضيفون الغرباء، ثم إلى طرفة الشطبة حيث قبيلة أولاد الحاج، ثم راس الواد الشارف، ثم عقي حيث نزل أحمد بن حمزة (أولاد سيدي الشيخ) وأنصاره في شتاء 1867 أثناء المجاعة الشهيرة. وقد كان مع أحمد بن حمزة عندئذ ثلاثة زنوج ذوي نفوذ وهم: الحاج دحمان، والحاج الهواري، والحاج الشيخ ابن ميلاد. وكانت مهمتهم هي حفظ الزاوية الشيخية وقبض الزيارات التي يأتي بها أتباع الطريقة (¬1). ويذكر الحاج البشير أن الخليفة حمزة قد كلفه بمرافقة قافلة من أربعة عشر بعيرا متجهة إلى توات، وكانت أربعة منها محملة بالأسلحة النفيسة، وثلاثة محملة بالكتب، وسبعة محملة بأكياس من الفضة مكتوبا عليها بالعربية كلمة (أمانة). وقد وصف الحاج البشير وضع الصحراء وعائلة أولاد سيدي الشيخ في عقد الستينات أثناء ثورتهم على الفرنسيين سنة 1864. بدأ الحاج البشير يملي رحلته في 12 مايو وانتهى في 13 سبتمبر، 1867. ونعتقد أن ذلك كان عبارة عن جلسات مفصولة عن بعضها، أو أن فيليب لم ينشر كل ما سجله عن هذا الشيخ (¬2). 2 - رحلة إلى غات، لإسماعيل بوضربة. وهذه الرحلة كلفه بها الحاكم العام راندون، لجمع الأخبار عن أحوال الصحراء وأثناء ثورة محمد بن عبد الله والنشاط الذي كانت تقوم به الطريقة السنوسية في الجنوب. وقد غامر بوضربة إلى أن وصل إلى غات عبر مراحل صحراوية وأخطار ذكرها. وهو ابن أحمد بوضربة من زوجته الفرنسية. وكان والده هو الذي فاوض بين الداي حسين وبورمون على الاحتلال سنة 1830. وقد بذل أبوه (أحمد) جهدا لتسجيله في المدارس الفرنسية بفرنسا خلال الثلاثينات، ونجح في ذلك. ويظهر لنا أن إسماعيل بوضربة كان من المتجنسين، ولعله ¬

_ (¬1) انظر تفاصيل ذلك في فصل الطرق الصوفية، (الطريقة الشيخية). (¬2) ف. فيليب (رحلة الحاج البشير سنة 1867) في المجلة الإفريقية، 1911، ص 255? 273.

كان من أوائل المتجنسين الجزائريين. وقد ترجم له فيرو في كتابه عن المترجمين العسكريين (¬1). وبين 1858 - 1859 بعثه راندون إلى اكتشاف المنطقة الواقعة بين ورقلة وغات. وقد نشرت وقائع رحلته سنة 1859. وكانت تمهيدا لرحلة هنري دوفيرييه في الصحراء سنة 1859 - 61. ومن جهة أخرى ألحق إسماعيل بوضربة بين 1862 - 63 باللجنة التي ترأسها الضابط ميرشيه Mircher أثناء رحلته إلى غدامس. وكان إسماعيل حيا سنة 1876 عاملا لدى القائد العام الفرنسي لمقاطعة قسنطينة (¬2). 3 - رحلة مصطفى بونمان، وهو جزائري تشبه حياته حياة إسماعيل بوضربة في مهنته وتكوينه، فقد قام ونمان أيضا برحلة صحراوية وصل فيها إلى غدامس وعبر فيها بلاد الهقار. كان بونمان ضابطا في فرقة الصبايحية بقسنطينة مدة طويلة ترجع إلى بداية الاحتلال (1837؟) ووصل إلى رتبة رائد (كوماندان) وأخبرت جريدة المبشر أنه كان سيصل إلى بر العبيد - السودان - لولا أن الذين كانوا معه (من الفرنسيين؟) قد حددوا له المكان الذي لا يتجاوزه. ولا ندري الآن متى قام بونمان بهذه الرحلة ولا أين نشرت. ويبدو أن بونمان كان متجنسا أيضا، ومع ذلك حضر جنازته بعض ممثلي الطرق الصوفية. فالمبشر التي نعته أوردت تأبين صديقه فيرو في الكنيسة بقسنطينة وأمام حضور المسؤولين الفرنسيين. ثم قالت إن الإخوان التجانيين والرحمانيين ومقدميهم هم الذين حملوا النعش، ثم وضعوه في ¬

_ (¬1) انظر عن حياته فصل الترجمة والمترجمين. (¬2) فيرو (المترجمون العسكريون)، مرجع سابق، ص 333 - 334. وقد نشرت رحلة بوضربة في (المجلة الجزائرية والكولونيالية) ديسمبر 1859، وكذلك في كتاب مستقل سنة 1858. وقد استفاد من هذه الرحلة دوفيرييه، وكذلك فيليب في كتابه (مراحل صحراوية) ص 100 وهنا وهناك. ذكر فيليب أن بوضربة قد زار مراكش أيضا ووصف الحفلات الشعبية في ورقلة وأن دليله كان الشيخ عثمان التارقي.

عربة حملته في تابوت. وقد دفن في الماء البارد خارج قسنطينة حيث كانت أملاكه، وعند وضع التابوت في القبر رثاه أيضا فرنسيون آخرون. إن وجود الكنيسة والتابوت والعربة لا تدل على أن مصطفى بونمان كان من المسلمين. والذي يدرس تاريخ قسنطينة في الخمسينات والستينات سيلاحظ تكرار اسم هذا الضابط الرحالة الذي كرس حياته لخدمة المصالح الفرنسية، العسكرية والمدنية (¬1). 4 - رحلة محمد الطيب بن إبراهيم من ورقلة إلى غدامس حوالي 1885. ومحمد الطيب هذا هو ابن إبراهيم شيخ الزاوية القادرية بنفطة (تونس)، وهو أيضا أخو الهاشمي بن إبراهيم، مقدم القادرية في عميش بوادي سوف أواخر القرن الماضي. وقد افترق أولاد إبراهيم المذكور في تونس والجزائر، وأسسوا زوايا قادرية في سوف وتقرت وورقلة. وتهمنا الآن الزاوية الأخيرة التي كانت في الرويسات. ونفهم من الملابسات التاريخية أن محمد الطيب قد كتب وصفاء لرحلته وتركه عند أخيه محمد الكبير بزاوية نفطة. وهذا المخطوط الصغير هو الذي ترجمه أحد الفرنسيين من العربية سنة 1898. كان محمد الطيب بن إبراهيم يتقرب من الفرنسيين الذين أخذوا يهتمون بجنوب الصحراء ومناطق تقرت وسوف وميزاب وورقلة. وكانوا يعتمدون على أدلاء من المواطنين الصحراويين ودعم الطرق الصوفية لهم لأنها ذات نفوذ قوي في نواحي الهقار والصحراء عموما إلى السودان. ومن هذه الطرق المتنافسة التجانية والقادرية. ودون الدخول في التفاصيل التي أدت بالماركيز الفرنسي، دي موريس، إلى أن يغامر ويعرض حياته للقتل في الصحراء واعتراض العسكريين عليه وعلاقة ذلك بمسألة معاداة السامية في فرنسا، نقول إن محمد الطيب قتل أيضا أثناء معركة عندما كان يتبع آثار قتلة دي موريس الفرنسي (¬2). ¬

_ (¬1) المبشر، 31 يناير، 1867. (¬2) انظر عن ذلك فصل الطرق الصوفية. وكذلك حديثنا عن المغامرة الروسية? الألمانية، إيزابيل إيبرهارت في فصل مذاهب وتيارات، وكذلك بحث التدهور =

يقول مترجمو رحلة محمد الطيب إنها هامة جدا، فهي بالإضافة إلى حديثه فيها عن المراحل التي سنذكرها، يتحدث أيضا، عن الكتابات اللوبية أو الليبية القديمة، والآثار الرومانية على طول الطريق (وهو موضوع كان الفرنسيون يولونه اهتماما خاصا)، أما المراحل فهي: حاسى الغنامي، فحاسى أولاد صالح، فحاسى الدوي، فالحاسي الأخضر ... وقد باتوا في زاوية - مسجد سيدي ماهد (كذا) غير البعيد من غدامس. وفي المرحلة الثانية يتحدث عن مرورهم من غدامس إلى غات. وقد وصف غدامس وأبوابها السبعة والآثار الرومانية فيها، ومكثوا فيها ثمانية عشر يوما. وقطعوا بعد ذلك جبال أقبو والهامل، وعبروا بئرا وشجرة تسمى الطابية، ثم زريمة، واسم زريمة قد يكون لأحد أهل سوف (أحمد بن زرمة؟) كانت الحكومة الفرنسية قد أرسلته إلى هناك، ولكنه اغتيل عند الطابية. وبعد حوالي ثمانية عشر يوما في السير وصلوا غات، وكانت تضم 300 ساكن حضري و 250 من التوارق يسكنون حولها. وقد جاء في الرحلة وصف حي للآثار والطريق والجبال والرمال والحيوانات والمياه. ثم توجهوا من غات إلى حدود تونس، وبالذات في تطاوين. وهناك وجدوا ضابطا فرنسيا فسلمه الشيخ محمد الطيب المقبوض عليهم في مسألة دي موريس (¬1). وأخيرا نذكر أن رحلة محمد الطيب بدأت من ورقلة في أول مايو وانتهت في تطاوين (تونس) في 23 يونيو (جوان) سنة 1898، وهكذا دامت حوالي 54 يوما، حسبما شهد به المترجم عبد العزيز عثمان. والجزء المترجم من الرحلة لا يعدو عشر صفحات. ولا نعرف إن كان ذلك هو كل ما كتبه محمد الطيب أو أن المترجم جورج باري قد اختصر المخطوط (¬2). ¬

_ = القبلي في سوف الذي ترجمناه، وقدمناه إلى مجلة الدراسات التاريخية التي تصدر عن معهد التاريخ، جامعة الجزائر. (¬1) يذهب المحللون إلى أن محمد الطيب كان يهدف بذلك إلى إحراج الطريقة التجانية التي حامت حولها الشبهات في تدبر اغتيال دي موريس. (¬2) جورج باري BARRY مجلة (روكاي)، 1915. والمترجم إداري فرنسي متقاعد، =

5 - رحلة محيي الدين بن مصطفى، والد الأمير عبد القادر، وهي رحلة إلى الشرق. ذكر المهدي البوعبدلي أنه أرسل منها نسخة إلى الشيخ عبد الرحمن الجيلالي. وأنها تتعلق برحلة كتبها محيي الدين من الحجاز، وقد وصف فيها مراحل سفره من وهران بعد إطلاق سراحه من باي هذه المدينة، حسن بن موسى. ويقول البوعبدلي أيضا إن الرحلة مجهولة في تفاصيلها وظروفها من المؤرخين الأجانب (الفرنسيين؟) الذين اهتموا بتاريخ حياة صاحبها. وقد ربط البوعبدلي بين هذه الرحلة ومذكرات الأمير عبد القادر التي كتبت في سجن امبواز (¬1). ولا نظن أن محيي الدين قد سجل فقط بعض الصفحات عن رحلته من وهران إلى الحجاز. فهل كان لظروف الحرب والمقاومة وتبعثر المكتبات دور في اختفاء هذه الرحلة؟. 6 - رحلات المشرفي (محمد العربي - أبو حامد). إن هذا الشيخ كان له قلم لا يكاد يفتر وذهن لا يكل. وقد كتب في موضوعات تاريخية وأدبية وغيرها، وأكثر من تدوين رحلاته سواء داخل المغرب أو الجزائر أو الحجاز. وكان أحيانا يكتب رحلته رجزا كما سنرى. ونكتفي الآن بذكر عناوين رحلاته وبعض أخبارها القصيرة، وعلى من يرغب في دراسته ودراسة مؤلفاته أن يرجع إلى ما كتبناه عنه في غير هذا. وإليك عناوين رحلاته: أ? رحلة إلى شمال المغرب، ألفها سنة 1306 عندما رافق السلطان الحسن الأول إلى نواحي طنجة، وهي موجودة بخط المؤلف (¬2). ب - الرحلة الجزائرية، قيل إن منها نسخة في الجزائر، فهل المقصود ¬

_ = وكان مديرا لحفريات تمقاد وتيبازة. وقال إن المخطوط كان بيده منذ 15 سنة. (¬1) فعلا سلمني الشيخ الجيلالي ورقة كبيرة مصورة فيها خبر عن رحلة محيي الدين، ولكنها صعبة القراءة. ولم أسجل تاريخ ذلك. (¬2) الخزانة العامة، الرباط، رقم 1347 عن نسخة خ. س. 2420/ 62. ذكرنا هذا هنا لأنه معلومة زائدة عما تناولناه في بحثنا في كتابنا (أبحاث وآراء)، ج 2 انظره.

بها الجزء الخاص بالجزائر من (ذخيرة الأواخر؟) وقد أخبرنا الشيخ المهدي البوعبدلي أن المستشرق رينيه باصيه كان يراسل المشرفي، وهو الذي اقترح عليه كتابة رحلته من المغرب إلى الجزائر، وأن المشرفي كان يتردد على الجزائر. وقال البوعبدلي إن هذه الرحلة (؟) لم يسبقه غيره إليها، وهي لم تكن معروفة عند الرحالين (¬1). ج? الرحلة العريضة لأداء الفريضة، توجد في المغرب. وهي رحلة حجازية، كما يبدو من العنوان. د- رحلة القبائل الجبلية، ولا ندري إلى أين، وهي منظومة في حوالي 100 بيت. هـ - رحلة إلى نواحي فاس، أرجوزة من 168 بيتا، عن رحلته إلى إشراقة، وأولاد جامع، وسلاس، والجاية، وسفيان (¬2)، الخ. و- الرحلة السوسية، وهي المعروفة باسم (نزهة الأبصار لذوي المعرفة والاستبصار ...) في مناقب سيدي أحمد بن محمد وولده السيد الحسن. وقد قصد من مراكش إلى السوس حيث زاوية تكدشت. وترجم لصاحب الزاوية أحمد بن محمد التمكدشتي وابنه الحسن، سنة 7 187. كما سجل مشاهدته في الطريق. 7 - الرحلة الحسنية، نظم من 605 أبيات نظمها خليل بن صالح العامري الخالدي التلمساني نزيل فاس، والمتوفى سنة 1908/ 1326، وهي تتعلق برحلة السلطان الحسن الأول إلى تافيلالت عام 1311. ونشرت على الحجر في فاس، دون تاريخ وفي حجم صغير (¬3). ¬

_ (¬1) مراسلة منه إلي في 14 مارس 1985. (¬2) في الخزانة العامة بالرباط، ك 126/ 15. (¬3) محمد المنوني (المصادر العربية) 2/ 123. وهي كما قال في 104 صفحات. ومنها نسخة خطية في خ س 3915/ ز.

8 - رحلة جزائرية، عنوانها مجهول، وهي: رحلة (أهلي) إلى المغرب الأقصى، وقد ترجمها جان ميرانت عندما كان مترجما. عسكريا في الحكومة العامة بالجزائر وقبل أن يصبح مديرا لإدارة الشؤون الأهلية. وقد أشير إلى ذلك في آخر القرن الماضي، دون معلومات أخرى عن المؤلف والرحلة (¬1). 9 - رحلة المغرب سنة 1899، كتبها اسماعيل حامد المزدوج اللغة، وهي بالفرنسية. وعنوانها (خمسة أشهر بالمغرب). وكان ذلك عشية اهتمام فرنسا بأحوال المغرب تمهيدا لابتلاعه. ولا شك أن حامد قد توجه إلى المغرب في إطار البعثات الفرنسية التي كانت تتوالى. والغريب أن حامد قد اقترح على الفرنسيين احتلال المغرب. وقد بدأ وصفه بالحديث عن وجدة والجالية الجزائرية هناك والوضع الاجتماعي والسياسي واللغوي والاقتصادي وقد تحدثنا عن محتوى الرحلة في مكان آخر (¬2). 10 - رحلة القايد ابن الشريف، وهي رحلة حجازية بعنوان (في الأماكن المقدسة الإسلامية). ولم يذكر معها اسم المؤلف بالتفصيل، وإنما جاء فيها اسم سي أحمد بن الصادق، وهو غير معروف لدينا. وكان القايد ابن الشريف قد شارك في الحرب العالمية الأولى إلى جانب القوات الفرنسية. ثم ذهب إلى الحج، وزار أيضا سورية وفلسطين. وكانت تلك عادة بعض الجزائريين، وإنما الجديد في الموضوع أن سورية قد فرض عليها عندئد الانتداب الفرنسي. وقد انتقد ابن الشريف استغلال أهل الحجاز للحجاج، ثم وصف إجراءات الحج وحماس الحجاج الديني وشوقهم إلى الأماكن المقدسة، ثم عودتهم إلى أوطانهم، ووصف سلوكهم وكيف يستقبلهم الناس بعد الحج. والملفت للنظر أن الرحلة تصف الأحوال السيئة ¬

_ (¬1) ديبون وكوبولاني (الطرق الدينية)، الجزائر، 7 189، ص 72. (¬2) انظر إسماعيل حامد (خمسة أشهر في المغرب) في المجلة الإفريقية، 1900، ص 97 - 134 وخريطة. وله مؤلفات عديدة راجعها في دراستنا عنه في فصل الترجمة.

التي كان عليها مهاجرو المغرب العربي في الحجاز، وقد كانت عاطفتهم الدينية هي التي دفعتهم إلى الهجرة، وأخبر ابن الشريف قراءه أن هؤلاء المهاجرين قد أخذوا يرجعون إلى أوطانهم. ويبدو أن الرحلة كانت تخدم المصالح الفرنسية أو على الأقل تسير في الاتجاه الرسمي للحكومة العامة في الجزائر. فإلى جانب نقد أوضاع الحجاج في الحجاز وسوء حالة المهاجرين، ألح الكاتب على مدح الحكومة الفرنسية التي اعتبرها حكومة عادلة ومحترمة، وقال إن الحكومة المثالية التي تحدث عنها القرآن لا تتمثل إلا في الحكومة الفرنسية ومن جهة أخرى فإن الذي قدم الكتاب للقراء هو الحاكم العام، شارل جونار، وقد مدح المؤلف واعتبره (فرنسيا جيدا ومسلما جيدا) (¬1). 11 - الحقيقة والمجاز في الرحلة للحجاز، تأليف ابن عبد الله الحاج العربي، وهي رحلة ما تزال مخطوطة، وتحدث عنها الهاشمي بن بكار في كتابه (مجموع النسب) وهو ابن عم صاحب الرحلة (¬2). وقد ترجم فيها لبعض المتصوفة والعلماء. 12 - رحلة محمد الحافظ المصري إلى الجزائر وزيارته بعض الأماكن مثل الزوايا التجانية سنة 1356 (1937). وكاتب الرحلة هو محمدي العروسي السوفي. وقيل إنها مخطوطة في كناش بزاوية تاغزوت التجانية بسوف (¬3). وكان محمد الحافظ من دعاة الطريقة التجانية في مصر، كما كان أحمد سكيرج في المغرب. 13 - رحلة من دمشق إلى بعلبك سنة 1298 و (1880) ألفها مجهول، ¬

_ (¬1) ابن الشريف (في الأماكن المقدسة الإسلامية)، باريس، 1919، 252 صفحة + 3. راجعته مجلة العالم الإسلامي، عدد 36، 1919، ص 309 - 311. عن ابن الشريف انظر جغلول (عناصر ثقافية). (¬2) الهاشمي بن بكار (مجموع النسب)، ص 72، 132. (¬3) عبد الباقي مفتاح (أضواء)، مخطوط.

وكان من المهاجرين الجزائريين، وتنسب خطأ إلى الأمير عبد القادر. وقد كتبت الرحلة بعد تاريخها بثلاث سنوات. وليس لها عنوان ولا فصول. وهي ذات اتجاه عربي سياسي. وكان أبرز أعضائها الأمير عبد الله بن الأمير عبد القادر. وهي تصف جولة ونزهة حوالي اثنى عشر من أعيان دمشق توجهوا إلى بعلبك على الخيل، وقد مروا بدمر حيث إقامة الأمير عبد القادر فاستأذنوه وقدموا إليه فروض الاحترام،، ثم مروا بالهامة والزبداني وزحلة والبقاع إلى أن وصلوا آثار بعلبك. وقد كتبت الرحلة بأسلوب أدبي مليء بالسجع والشعر، وهي قليلة الفائدة إلا من الناحية الأدبية أو الحياة الخاصة بأسرة الأمير (¬1). 14 - رحلة الشيخ محمد الموسوم، وكان رئيس الطريقة الشاذلية في قصر البخاري. وقد ذكر في رحلته شيوخه، وربما هي نوع من (البرنامج) المصطلح عليه بين المتعلمين في القرن الماضي. ولم نجد لها وصفا (¬2). 15 - رحلة شعيب بن علي الجليلي قاضي تلمسان، ذكرها له ابنه أبو بكر في سيرة والده التي بعث بها إلى الشيخ محمود كحول محرر جريدة (كوكب افريقية). وعنوان الرحلة غريب نوعا ما إذ هو (رحلة المشرق والمغرب ومن ... خلقه العظيم عن حاله يعرب). وكان الشيخ شعيب قد سافر لحضور مؤتمر المستشرقين في استكهولم في آخر القرن الماضي. ولا نعلم أنه كتب عن ذلك رحلة، كما فعل غيره. ولم نعرف كذلك أنه أدى فريضة الحج. فما هو مجال رحلته يا ترى؟ (¬3). 16 - رحلة الجباري إلى إفريقية، وقد نشرت بعنوان (الناجون من بعثة ¬

_ (¬1) انظر عنها كتابنا (أبحاث وآراء)، ج 2، ص 169 - 174. عدد صفحات الرحلة 60 صفحة. (¬2) ذكرها في (تعريف الخلف)، 2/ 516. (¬3) عن القاضي شعيب انظر فصل السلك الديني والقضائي.

فلاترز)، سنة 1895 بالفرنسية، ومؤلفها هو مسعود الجباري الذي كان من المترجمين لدى الفرنسيين. وذهب إلى إفريقية مبعوثا منهم لتتبع آثار بعثة الضابط فلاترز التي هلكت في الصحراء وكانت نكبة على الفرنسيين. وقد بقي الجباري عدة شهور بإفريقية وادعى للفرنسيين ادعاءات كثيرة وكتب عن ذلك في جرائدهم، وألقى المحاضرات عليهم في تونس والجزائر وفرنسا (¬1). 17 - رحلة الحكيم محمد بن العربي إلى الأندلس سنة 1883. والمؤلف كان من أوائل الأطباء الجزائريين المتخرجين من فرنسا. وقد ظهر له أن يزور بلاد أجداده (الأندلس) فتوجه إليها من باريس. وقيل عنه إنه جدد فيها إسلامه وربط التاريخ البعيد بالحاضر. وتوقف عند الاطلال والآثار القائمة واعتبر بالتواريخ والشواهد. وللحكيم ابن العربي كتابات في الصحف والمجلات الفرنسية، ولكننا لا نعلم أنه نشر شيئا عن هذه الرحلة، ولعله فعل (¬2). 18 - رحلة ابن عليوة (¬3). وهو الشيخ أحمد المصطفى بن عليوة. والمعروف أن ابن عليوة قد توجه في أوائل هذا القرن إلى تونس ومنها إلى طرابلس ثم من هذه إلى الآستانة (اسطانبول)، وكان في أول أمره قد قرر الهجرة تماما من الجزائر وباع أملاكه واستعد مع أهله واخوته لهذا المشروع، واستخرج الرخصة بقصد الحج. ولكن الحج لم يتيسر فنوى الإقامة في طرابلس، ثم بدا له التوجه إلى (دار الخلافة) اسطانبول والإقامة بها. فركب البحر وحده وترك اخوته في طرابلس. وعندما وصلها وجد عائق اللغة، ولكن المشكل انحل عندما تقدم منه رجل مجهول وصفه بأنه جزائري شريف، وعرض عليه خدماته بالعربية. ولكن العائق الأكبر هو الاضطراب الذي كانت عليه اسطانبول على إثر الانقلاب المعروف والذي قادته (لجنة ¬

_ (¬1) عن نشاط مسعود الجباري انظر فصل الترجمة، وكذلك بحثنا عن دور المترجمين الجزائريين في إفريقية. المنشور في مجلة الثقافة عدد 113. (¬2) أشار إلى ذلك محمد بن العابد الجلالي في (تقويم الأخلاق)، ص 59. وعن ابن العربي انظر فصل العلوم التجريبية. (¬3) انظر عنها كتاب مارتن لنغز (الشيخ أحمد العلوي)، بيروت، 1973، ص 75.

الاتحاد والترقي) وخلع السلطان عبد الحميد (28 ابريل، 1909) وسجنه وتعيين أخيه بدله، وتدخل الأجانب في شؤون الدولة، والحروب التي تلت ذلك في طرابلس وفي البلقان. ولذلك لم يرتح ابن عليوة في إقامته وخاب أمله، وتأسف على مصير دار الخلافة، ورجع إلى الجزائر (مكتفيا من الغنيمة وبالأياب) كما قال. ورأي ابن عليوة في هذه الأحداث على غاية من الأهمية، ولكنه أملاه بعد استيلاء مصطفى كمال (أتاتورك) على السلطة وتحويل الخلافة إلى جمهورية، أي بين 1922 - 1924. ومع ذلك تظل ملاحظات ابن عليوة محتفظة بقيمتها، سواء بالنسبة لانطباعه عن الأحداث التي كانت تمر بها الدولة العثمانية عند زيارته، أو بالنسبة لآرئه الشخصية حول التقدم والوطنية (القومية؟) والعلمانية. كانت الرحلة خلال شتاء 1909 - 1910، أي بعد الانقلاب ببضعة أشهر فقط. وقد استعان بالرجل المذكور على تحقيق مراده. وهو التعرف على دار الخلافة فأعانه، ولكنه قال (لم أشف غليلي منها لتكوين الحواديث (كذا) الخلافية التي كان على وشك الاندلاع فيما بين (الأمة التركية وشبابها الناهض أو المصلح، كما يقولون). وهو هنا يشير إلى جماعة تركيا الفتاة أو الشباب التركي الذين تزعموا حركة التقدم والإصلاح، وقد جعلهم ابن عليوة في طرف و (الأمة التركية) في طرف آخر. وسنرى أنه لم يكن يحبذ (النهضة ولا القومية ولا الاصلاح)، وهي شعارات لجنة الاتحاد والترقي. وكان ابن عليوة دقيقا حين قال إن أعضاء اللجنة بل وزعماء الحركة كلها كانوا ألعوبة في يد الأجانب. فهم في نظره أفراد كانت الحكومة قد أبعدتهم فذهبوا إلى أروبا (وأسسوا الجرائد والمجلات، وتجردوا لانتقاد الحكومة وكشف عوراتها من بين الدول الأجنبية، فوجد المغرضون بتلك الحركة العوجاء نوافذ وأبواب فتسربوا منها

إلى قضاء حاجتهم). وكان من قضاء الله، حسب قوله، أن قبض على سلطان دار الخلافة (عبد الحميد) وزج به في السجن. وكان حكم ابن عليوة على الشباب التركي (تركيا الفتاة) حكماء قاسيا، ومن خلاله حكم على حركة النهضة والاصلاح، فقال: (تمادى الشباب الناهض (¬1) على عمله دون شعور ولا مبالاة إلى أن بلغوا بغيتهم آخرا. واتضح الصبح لذي عينين من عنوان: النهوض (¬2) والوطنية والاصلاح). وكل ذلك حدث مع حركة انقلاب 1908 - 1909. ولكن مصطفى كمال زاد الطين بلة فألغى الخلافة وتبنى العلمانية التي يسميها ابن عليوة الاباحية (¬3). وأعلن الجمهورية وألغى اللغة العربية: (ولا أزيدك بسطة، وفي حركة الكماليين ما يغنينا من تتبع النوازل (الأحداث) فقرة فقرة). وهكذا لم يطب له المقام الذي كان يشده، وقفل راجعا إلى بلاده، وحمد الله على ما (كنت استحسنه بالطبع من عوائد (عادات) أمتي وجمودهم على عقيدة آبائهم وأجدادهم، وتشبثهم بأذيال الصالحين). إن هذا رأى واضح في أن ابن عليوة كان بطبعه يحبذ جمود الجزائريين على عقائدهم وتعلقهم بأهل الصلاح من المتصوفة والمرابطين ونحوهم. ويبقى السؤال: (إلى أي مدى أثرت أحداث دار الخلافة على ميول ابن عليوة حين فضل التشبث (بأذيال الصالحين) والجمود على الاصلاح والمرابطية على الوطنية؟ ¬

_ (¬1) لا شك أنه يستعمل كلمة (الناهض) بالمعنى السلبي وبشيء من الامتعاض والاستهزاء. (¬2) الكلمة التي استعملتها جماعة تركيا الفتاة عندئذ هي (الترقي) وليس النهوض. (¬3) يقول إن ما منعه من الإقامة التي كان ينويها عدة أسباب منها: انقلاب المملكة (السلطنة) إلى الجمهورية، ومن الجمهورية إلى الإباحية. ونعتقد أنه يعني بكلمة (الإباحية) العلمانية التي شاعت عندئذ، كإطلاق الحريات والسفور وفصل الدين عن الدولة. وعن علاقة جماعة تركيا الفتاة بالحركة الصهيونية العالمية انظر البحث الذي ترجمناه عنها في كتابنا (في الجدل الثقافي)، دار المعارف، سوسة (تونس)، 1993.

19 - رحلة الشيخ يذير. ولا ندري من هو هذا الشيخ، وتوجد رحلته مخطوطة في مكتبة الشيخ محمد وعلي بالزواوة. ولكن ما هو محتوى الرحلة وحجمها وعصرها (¬1)؟ 20 - رحلة المكي بن عزوز. كان هذا الشيخ كثير التنقل بين تونس والجزائر، ثم بين هذه والمشرق. وكانت له قرابة بالمصاهرة مع عائلة أبي القاسم الحفناوي في الديس (ناحية بوسعادة) وكذلك مع العائلة القاسمية بالهامل. وقد تناولنا حياة المكي بن عزوز في غير هذا. ونريد ذكر رحلتين له إحداهما جزائية، وأخرى هاملية (أي إلى زاوية الهامل حيث الأسرة القاسمية). وقيل عن الرحلة الأخيرة إنها لم تتم. وقد توفي سنة 1916 في اسطانبول. ويبدو أن الرحلتين مخطوطتان، ولم نطلع نحن على أي منهما (¬2). 21 - مشاهداتي في الجزائر، تأليف الساسي محمد بلحاج محمد الساسي، رحلة صغيرة الحجم للمؤلف عبر عدد من مدن الجزائر ومشاهداته فيها ولقاءاته (¬3). وقد جرت سنة 1949/ 1368. 22 - الرحلة القادية في مدح فرنسا وتبصير البادية، تأليف أحمد ولد قادي (القاضي). رحلة حصلت سنة 1878، حين توجه مؤلفها رفقة بعض زملائه من أعيان البلاد لحضور المعرض الدولي في فرنسا. وقد نشرت تباعا في المبشر ثم نشرت في كتاب صغير بعد ذلك. والمؤلف كان باشاغا فرندة، ¬

_ (¬1) معلوماتنا عنها وردت في رسالة من محمد الشريف بن الشيخ إلى المرحوم علي امقران السحنوني في 4 نوفمبر 1994. وقد أطلعني المرحوم السحنوني على الرسالة. ويقول محمد الشريف إن صاحب المكتبة هو الشيخ عباس بن محمد وعلي، وهو أستاذ في زاوية سيدي علي بالزواوة. (¬2) ترجمته الوافية في (تراجم المؤلفين التونسيين) لمحمد محفوظ، ج 3، دار الغرب الإسلامي. انظر عنه أيضا محمد مخلوف (شجرة النور الزكية)، وكذلك ما كتبناه عن نشاطه في فصل المشارق والمغارب، وعن (الرحلة الهاملية) انظر الكتاني، فهرس الفهارس 2/ 856. (¬3) ط. تونس، 1949، وهي في 20 صفحة.

وكان من النخبة المخزنية المتنفذة، ويرجع أصله إلى قبائل الدوائر والزمالة التي خرجت عن المقاومة وارتبطت بفرنسا في اتفاق الكرمة سنة 1835. وكانوا من الأجواد أو الأرستقراطية، كما يسميهم الفرنسيون. ولكن ولد قادي، مثله مثل الأجواد الآخرين، فقد نفوذه بالتدرج منذ قانون الأرض سنة 1863. وقد تعرض حوالي 1881 إلى السجن والمحاكمة بعد تهمة التآمر أثناء حملة فرنسا على تونس. وهو صاحب كتاب تاريخ قبائل الدوائر والزمالة الذي نشره سنة 1883. أما رحلته إلى فرنسا، فقد أظهرته رجلا محافظا ومتحررا في نفس الوقت. فقد كان متمسكا بتقاليد أسرته وذويه من العرب الأجواد، وفي نفس الوقت نادى بالإصلاحات وأظهر تأثره بما شاهد في فرنسا من تقدم وما عاشه قومه من معاناة. وقد اغتنم فرصة وجوده بفرنسا وطالب برفع بعض المظالم عن مواطنيه وتطبيق بعض الإصلاحات. وعنوان الرحلة يقرأ: تبصير البادية أحيانا وتبشيرها أحيانا أخرى. كما أن الاسم يكتب ولد قادي وولد قاضي (¬1). 23 - رحلة ابن صيام إلى فرنسا سنة 1852. وصاحبها هو سليمان بن صيام، وقد ولاه الفرنسيون، آغا مليانة، منذ نهاية المقاومة تحت لواء الأمير عبد القادر. وابن صيام من الأغنياء والمثقفين، ومن الأجواد أيضا. ولعبت أسرته أدوارا في السياسة العامة، وكان أحمد بن صيام رئيسا للمكتب الخيري ثم الجمعية الخيرية بالعاصمة. وحين وقعت ثورة أولاد سيدي الشيخ (1864) أرسل سليمان بن صيام وغيره من الرؤساء العرب بيانا إلى نابليون الثالث يستنكرونها ويعلنون الولاء لفرنسا. ولم يلب سليمان بن صيام أيضا دعوة الحاج محمد المقراني إلى الثورة سنة 1871 (¬2) رغم أن هناك ما يدل ¬

_ (¬1) انظر المبشر، 21 ديسمبر 1878. والرحلة طبعت في كتاب، سنة 188. انظر فصل العرائض .. في الحركة الوطنية ج 1. وأيضا خالد زيادة (ثلاث رحلات جزائرية إلى باريس)، بيروت، 1979. (¬2) وربما كان ابن صيام أيضا من الأعيان الذين راسلهم محيي الدين بن الأمير عبد =

على حصول اتفاق سابق بينهما على الثورة واقتسام مناطق النفوذ. ومهما كان الأمر فإن سليمان بن صيام قد واصل مهمته الإدارية حتى بعد أن قلص الفرنسيون من نفوذ الأجواد وخفضوا من شأنهم. وقد توفي سنة 1896. أما رحلته فقد استغرقت شهرا - 25 أبريل إلى 25 مايو، 1852 - وكان هو ضمن مجموعة من الأعيان من الولايات الثلاث، ولم يسافروا من تلقاء أنفسهم، وإنما كانوا مأمورين، فقد أمرهم الحاكم العام، المارشال راندون، بالتوجه إلى العاصمة الفرنسية لحضور توزيع الألوية على الجنود وكبار الجيش الفرنسي تحت إشراف نابليون الثالث. وبعد الرجوع قابلهم الحاكم العام، وكتب ابن صيام الرحلة. وقد بدأها بحمد الله وشكر (السلطان) نابليون، ثم قال: (لما سبق في سابق علمه تعالى أني أمشي لرؤيا (كذا) أرض الشمال، ذات المحاسن العديدة والكمال، أمرني من يجب علي امتثال أمره، وهو والي قطر دائرة الجزائر وقطبه، صاحب الرأي السديد والجود ... راندون ... فامتثلت أمره السعيد ... وركبت من مليانة دار السكنى إلى الجزائر). ثم وصف ركوبهم البحر، ووصولهم إلى الضفة الأخرى منه، وامتطاءهم كروسة (عربة) الدخان - يعني القطار - فوق طريق من حديد، ووصف القضبان بأنها (شرائط من أول الطريق إلى آخره ... وهو اختراع عظيم). ورافقهم إلى هناك المترجم دريو. ووصف ابن صيام في الرحلة الحفلات التي حضروها والمادب التي أقيمت على شرفهم، والمقابلات الرسمية، وما شاهدوه من مخترعات وعجائب المدنية الفرنسية، والشخصيات التي قابلتهم، مثل الجنرال دوماس، ووزير الحربية سانطارنو. وقد ساق ابن صيام بعض الأبيات الشعرية في الرحلة (¬1). ¬

_ = القادر في خريف 1870 طالبا منهم الانضمام إلى ثورته بنواحي تبسة. انظر الحركة الوطنية ج 1. وكذلك فصل المشارق والمغارب. انظر بحثنا (آخر الأعيان أو نهاية الأرستقراطية العربية في الجزائر) مجلة (المنارة)، جامعة آل البيت، 1997. (¬1) المكتبة الوطنية - تونس، مخطوط رقم 4230، وهي في 35 ورقة. وخالد زيادة =

24 - رحلة ابن علي الشريف إلى فرنسا. وجرت في نفس التاريخ المذكور في رحلة ابن صيام. وقد ترافق الرجلان في السفر لنفس الغرض. وحياة محمد السعيد ابن علي الشريف مليئة بالعبر. فهو من أشراف الأدارسة، حسب سجلات عائلته، وترجع الأسرة إلى عبد السلام بن مشيش، واستوطنت زواوة منذ قرون، وبني جده، الشريف موسى وعلي، زاوية شلاطة التي أصبحت مركزا علميأ مشعا في زواوة وخارجها. وكان محمد السعيد هذا هو الذي جعل سمعة كبيرة لزاوية شلاطة. وكانت له مؤلفات وطلبة ومريدون أوائل القرن التاسع عشر. وقد ولد محمد السعيد في سنة 1820 في يلولة. وتربى في حضن العائلة والزاوية، وكان عمره عشر سنوات فقط عندما وقع الاحتلال. ولكن احتلال زواوة وقع بالتدرج. وبعد هجومات قام بها بوجو خلال 1844 و 1847 بدأت العلاقات مع الشاب ابن علي الشريف تتضح. فقد تولى للفرنسيين منصبا إدارية، رغم طابع الزاوية الديني - منذ 1847، وعمره 27 سنة فقط. وتعلم الفرنسية، ولم يكد يصل إلى بداية الثلاثينات حتى كان من بين الأعيان الذين استقبلهم نابليون الثالث ومنحهم الأوسمة الشرفية. فسفرته إلى فرنسا سنة 1852 كانت لحضور حفلة توزيع الأعلام على ضباط الجيش، كما ذكرنا. وقد عاش ابن علي الشريف كل تقلبات الأحوال في زواوة بين 1847 و 1896 تاريخ وفاته. ومن التواريخ الهامة التي عاشها ثورة الشريف بوبغلة أوائل الخمسينات في المنطقة التي كانت تابعة لنفوذه (ابن علي الشريف)، وكان هذا في موقف صعب، بين التصدي له والتغاضي عنه. ولم يفده طلب الرخصة للحج لتفادي المواجهة مع الطرفين: بوبغلة والفرنسيين. ثم وقع الاحتلال الثاني، وربما الحاسم، لزواوة وهو سنة 1857. وكان عليه ¬

_ = (ثلاث رحلات ...) مرجع سابق. وكذلك إبراهيم الونيسي رسالة ماجستير عن جريدة المبشر، مخطوطة. انظر المبشر حيث نشرت الرحلة ابتداء من 15 يونيو 1852 (خمس حلقات). انظر أيضا الزبير سيف الإسلام (فن الكتابة الصحفية عند العرب في القرن 19) الجزائر، 1986.

أن يظهر التعاون مع الفرنسيين ولا سيما أثناء معركة ايشريضن. وأكبر اختبار واجهه كان سنة 1871 أثناء ثورة المقراني والحداد. ورغم مناوراته، فإن ابن علي الشريف واجه المحاكمة وحكم عليه بالسجن خمس سنوات بعدها. وكان الفرنسيون بصفة عامة لا يريدون معاقبته بشدة، وكان له منهم خصوم وأنصار، وهذا ما خفف عنه الحكم بعض الشيء قياسا على ما وقع للزعماء الآخرين (¬1). هذا المتعاون الإداري، والمرابط السياسي هو الذي كان عليه أن يذهب في وفد إلى فرنسا سنة 1852 ويشاهد لأول مرة المدنية الفرنسية والمخترعات والتقاليد المختلفة والألبسة ووسائل النقل والفنون، ويلتقي بأعيان الفرنسيين، وعلى رأسهم نابليون الثالث، ويحصل منهم على وسام الشرف. وقد اغتنم هذه الفرصة وكتب رحلته بعد رجوعه ونشرها مسلسلة في المبشر (تعميما للفائدة ...) (¬2) ثم في كتاب بعد ذلك. وضمن رحلته نشر أفكاره حول التعليم والحضارة وواجب الجزائريين نحوهما. تحدث عن الأمن والهدوء اللذين يسودان الجزائر في العهد الفرنسي ولم يحدث ذلك في العهد العثماني الذي كثرت فيه المظالم والطغيان (وهذا موضوع عزيز على الفرنسيين)، فالجزائر يسودها العدل والرخاء في العهد الفرنسي، حسب دعواه، ونلاحظ أنه انتقد رجال المخزن الذين كانوا يضطهدون الشعب، ولم يكن هو ولا أسرته منهم بالطبع، واعتبرهم مسؤولين على ضياع البلاد، وأشاد ابن علي الشريف بالعلم والصنائع واللغة الفرنسية. وطلب من الجزائريين ضرورة إدخال أولادهم إلى المدارس العربية والفرنسية والاستفادة من الطب الفرنسي، أي عدم مقاطعة الفرنسيين باسم الدين، أو خوفا على أولادهم من التأثير الديني. واعتبر تعلم الفرنسية أمرا ضروريا. وكانت له فرصة أيضا لمقارنة الحياة والطبائع عند الجزائريين والفرنسيين. فالجزائريون كسلاء والفرنسيون نشطاء، وهؤلاء متقدمون وأولئك متخلفون. وقد قيل عن ¬

_ (¬1) انظر عنه فصل الثورات، في الجزء 1 من الحركة الوطنية. (¬2) بدأ نشرها في 30 يناير، 1853.

ابن علي الشريف إنه كان يبذر ماله على النساء عند زياراته المتكررة للجزائر، كما قيل إنه كان من شاربي الخمر، وإنه كان متأثرا بالعادات الفرنسية. ولكن مواقفه وتصريحاته للفرنسيين واعتراضاته على أمور كثيرة من (إصلاحاتهم) تناقض ذلك وتقدمه إنسانا غيورا على دينه ولغته وتقاليده (¬1). إن أهمية رحلة ابن علي الشريف تظهر من كونها تعكس رأي شاب في أوائل عهده بالتأثر الفرنسي. وهو من المرابطين المتنافسين مع الأجواد. وقد رأينا له وقف إلى صالح الأخذ من الفرنسيين أنواعا من تمدنهم. ولكنه لم يدرك أن ذلك غير مفتوح للجميع وأن هناك ثمنا غاليا، يدفعه الجزائري ليصل إلى ذلك الهدف. وقد تحدث في الرحلة عن واجب الراعي نحو الرعية، وعن العدل والظلم، ومشاهداته في باريس من مسارح وفروسية وألعاب، ومن بساتين وسيدات ومخترعات. 25 - رحلة الرؤساء العرب، كتبها محمد الفكون، وهي في وصف وفد جزائري من الأعيان توجه إلى فرنسا سنة 1902، بمناسبة استعراض جرى في فرنسا. وقد نشرت الرحلة مع الترجمة الفرنسية، في حجم صغير (¬2). 26 - رحلة أزهرية: منسوبة إلى الشيخ محمد الصالح بن مهنة. وكان قد درس في الأزهر، ولا ندري إن كان قد حج، وربما هي نوع من المذكرات والذكريات، ولا نظن أن الرحلة مطبوعة. انتهى الجزء السابع ويليه الجزء الثامن ¬

_ (¬1) عنه انظر المبشر، 14 نوفمبر 1896 (عن تأبينه)، ونفس المصدر، 30 يناير 1853 عن نشر رحلته، وخالد زيادة (ثلاث رحلات ...) مرجع سابق، وسيف الإسلام (فن الكتابة) مرجع سابق، وبحث إبراهيم الونيسي، مرجع سابق، ومالتسان (ثلاث سنوات في شمال غربي أفريقية)، ترجمة أبو العيد دودو، 1976، ج 2/ 142. (صدر الجزء الأول سنة 1973 بالجزائر) وقوفيون (أعيان المغاربة)، الجزائر، 1920. (¬2) ترجمها إلى الفرنسية السيد كورليو، وطبعت بالجزائر، 1909، 28 صفحة.

المحتوى

المحتوى

_ الفصل الأول: العلوم الدينية ................................. 5 تمهيد ....................................................... 7 التفسير والدراسات القرآنية ................................... 9 القراءات ورسم القرآن ........................................ 35 الحديث الشريف ............................................ 39 الأثبات ..................................................... 48 الإجازات .................................................... 54 الفقه والأصول ............................................... 76 في القضاء والأحكام .......................................... 88 الردود والاعتراضات .......................................... 95 مسألة تدوين الفقه الإسلامي .................................. 104 جهود أخرى في الفقه لبعض الجزائريين والمستشرقين .......... 106 الفصل الثاني: العلوم الاجتماعية ............................. 111 المؤلفات الصوفية ........................................... 115 في علم الكلام والمنطق ...................................... 148 دراسات حول الإسلام والإصلاح ............................. 157 حول المرأة .................................................. 181 موضوعات أخرى مختلفة .................................... 194 ظهور مالك بن نبي ......................................... 211 الفصل الثالث: العلوم التجريبية .............................. 221 الطب والتقاليد ............................................... 224

_ ممارسات طبية في الأوراس ...................... 243 الطب السحري والخرافي .......................... 248 بعض المؤلفات في الطب والصحة ............... 252 بلعربي، مرسلي، ابن التهامي ..................... 265 مدرسة الطب .................................... 275 الفلك ............................................ 277 الحساب والفرائض ............................... 283 علوم أخرى ...................................... 290 مدرسة العلوم .................................... 292 الفصل الرابع: التاريخ والتراجم والرحلات .......... 299 مفهوم التاريخ وتعريفاته .......................... 302 سيرة نبوية وتواريخ عامة ......................... 312 الأنساب والأشراف ............................... 317 تواريخ محلية (شرق البلاد) ....................... 342 تواريخ محلية (غرب البلاد) ...................... 356 تواريخ محلية (الجنوب) .......................... 387 تاريخ الجزائر عموما ............................. 395 في التراجم والمناقب .............................. 425 المذكرات ........................................ 450 الرحلات ........................................ 458

الجزء الثامن

الدكتور أبو القاسم سعد الله تاريخ الجزائر الثقافي الجزء الثامن (1830 - 1954) دار الغرب الإسلامي

1998 دار الغرب الإسلامي الطبعة الأولى دار الغرب الإسلامي ص. ب. 5787 - 113 بيروت جميع الحقوق محفوظة. لا يسمح بإعادة إصدار الكتاب أو تخزينه فى نطاق إستعادة المعلومات أو نقله بأي شكل كان أو بواسطة وسائل إلكترونية أو كهروستاتية، أو أشرطة ممغنطة، أو وسائل ميكانيكية، أو الاستنساخ الفوتوغرافي، أو التسجيل وغيره دون إذن خطي من الناشر.

تاريخ الجزائر الثقافي

الفصل الأول اللغة والنثر الأدبي

الفصل الأول اللغة والنثر الأدبي

حالة الأدب والثقافة غداة الاحتلال

بسم الله الرحمن الرحيم في هذا الفصل كثير من القضايا. فنحن سنتناول فيه النثر الأدبي أو الفني ومسائل اللغة من دراسات ومعاجم ونحو وصرف. وفي النثر الأدبي تفريعات عديدة هي: المقالة والمقامة والرسالة والخطبة والتقريظة. وفي الدراسات اللغوية سنتحدث عن اللغة العربية الفصحى ولهجاتها ومن أنتج بها خلال هذا العهد، وما كتبه الفرنسيون عنها من مدح أو طعن وما جاء حول ذلك من ردود على لسان علماء الجزائر. وسنتناول أيضا الدراسات البربرية وما كتب في الموضوع من معاجيم وما نشر من مخطوطات وآثار مكتوبة. كما سنعرض لنشر المخطوطات في إحدى الفقرات لأنه ساهم في النهضة الأدبية والثقافية. وإلى جانب ذلك سنترجم لبعض الأدباء واللغويين الذين أثروا في هذا الميدان. حالة الأدب والثقافة غداة الاحتلال إذا حكمنا من الكتابات التي عاصرت الاحتلال في مرحلته الأولى أدركنا أن الثقافة كانت تعاني ضعفا كبيرا. كان هناك شعراء مجلون أمثال محمد بن الشاهد - وقد كان في آخر عمره - ولكن لا وجود لأدباء مجلين. فمدرسة أحمد بن عمار قد تلاشت ولم يخلفه في ميدان النثر الأدبي والفني من ساواه أو قارب. والأدباء الأحرار الذين كانوا ينشطون خارج الإدارة أصبحوا نادرين ومعظمهم هاجروا. أما الكتاب (الخوجات) الإداريون فقد كانوا ضعافا ثقافيا صفة عامة، وكان عملهم الديواني لا يحتاج إلى منافسة أدبية. فإذا رجعنا إلى كتابات مسلم بن عبد القادر الحميري الذي كان كاتبا لباي وهران عند الاحتلال وجدناها متوسطة بل ضعيفة. وحمدان خوجة لم يكن من الكتاب الإداريين فى العاصمة، ولكن كتاباته فى (إتحاف المنصفين

والأدباء) لا تدل على تمكن قوى في اللغة والأدب، وكان أسلوب فيه أسلوب العالم المتوسط الثقافة. وكان باي قسنطينة وباي التيطري يتخذان كتابا لا نعرف عن آثارهم شيئا، رغم أن وثائق الحاج أحمد باي تشهد على أن شهادات ومحاضر للعلماء قد صيغت لإعلان الولاء له أو مراسلة السلطان العثماني لصالحه. وهي على كل حال شهادات ووثائق إدارية وليست أدبية متميزة، رغم وجود أشخاص مثل أحمد العباسي ومحمد العربي بن عيسى. وفي العاصمة عرف هذا العهد ابن العنابي والكبابطي. وكلاهما من رجال الدين والإفتاء. فإذا رجعنا إلى آثارهما لم نجد فيها مسحة أدبية تدل على أسلوب خاص. خذ مثلا كتاب (السعي المحمود) - ألف سنة 1826 - لابن العنابي فإنك ستجده مليئا بالنقول والأسلوب الفقهي لا الأدبي. وأما رسائل ابن الكبابطي التي عثرنا عليها فهي فقيرة في المعاني وفي الروح الأدبية والأسلوب، وهي قصيرة لا يمكن أخذ نموذج منها على وجود فن الأدب، رغم أن الكبابطي كان ينظم الشعر أيضا. ويبدو أن فن النثر قد تطور على يد هؤلاء وأمثالهم (ابن رويلة، وابن الشاهد، الخ.) على إثر أزمة دينية - فكرية، وهي وجوب الهجرة من الجزائر أو البقاء فيها رغم الاحتلال. وسنعرض إلى ذلك في حينه. وفي قسنطينة القريبة جغرافيا من جامع الزيونة والمتأثرة بالثقافة المشرقية أكثر من غيرها، نجد مجموعة من رجال الدين والوظائف الرسمية والتدريس. ملتفة حول بلاط الحاج أحمد باي والمدرسة الكتانية ومساجد المدينة وزواياها. ولكن لا عائلة ابن باديس ولا عائلة الفكون كان لها عندئذ أديب لامع. كان الشيخ أحمد العباسي هو الذي يشار إليه عندئذ، ولكن بصفته علما من من أعلام النحو والتدريس والقضاء وليس الأدب. وهناك أسماء لأشخاص متصلين بالزوايا أمثال الشيخ أحمد المبارك، وهو، كما سنرى، مثقف له معارف كثيرة ولكنه ليس أديبا. وقل مثل ذلك في المكي البوطالبي وفي مصطفى بن جلول ومحمد العربي بن عيسى. إنه من الغريب حقا ألا نجد فى قسنطينة عندئذ سوى هذه المجموعة من الأعيان وأمثالهم

الذين كانوا يعيشون على تراث عريق ولهم مكتبات ومدارس، ومع ذلك ليس لهم أدب راق ولا شعر. فإذا التفتنا نحو الغرب وجدنا مجموعة أخرى من (العلماء) مرتكزة حول وهران التي أصبحت العاصمة الجديدة للإقليم بعد معسكر، منذ 1791. وكانت مازونة والقيطنة وتلمسان روافد لمدرسة وهران هذه. ولكن الإشعاع كان محدودا. فبالإضافة إلى بعض الكتاب (الخوجات) الإداريين نجد أيضا في المدارس والزوايا والمساجد أعيانا من المتصوفة والعلماء أمثال الحاج محيي الدين (والد الأمير) وأحمد بن التهامي، وعبد الله سقط، وعبد الله المجاوي، ومحمد بن سعد. وقد اشتهر بعض هؤلاء بالنحو والبراعة في التدريس. ولكن آثارهم الأدبية مفقودة عندنا. وقد بعثرهم الاحتلال بسرعة فهاجر بعضهم إلى المغرب، ودخل بعضهم صفوف المقاومة واختلط عندهم حبر الأقلام بدم الأبطال. وفي المناطق الأخرى من الوطن لا نكاد نميز أديبا ذاع صيته وترك أثره. فالمدية رغم أنها كانت قاعدة باي التيطري، لم يحفظ لنا التاريخ اسم أديب فيها على ذلك العهد، سواء أكان كاتبا إداريا أو حرا. وكانت جاذبية المدية نحو العاصمة والبليدة. ورغم انتشار الطرق الصوفية في مختلف المدن والقرى فإن التعليم الذي يكون الأدباء كان محدودا ومقصورا على بعض العواصم والمراكز. فلا بجاية ولا ميزاب ولا بسكرة قد قدمت أديبا معروفا. غداة الاحتلال. ولا شك أن الثقافة الشعبية كان لها أدباؤها، ولكن ذلك ليس هو موضوع حديثنا الآن. والخلاصة أن نمط التعليم وتغلغل التصوف والجمود الثقافي قد جعل من الصعب على الأدباء أن يبرزوا أو يجدوا لهم مكانا في الجزائر غداة الاحتلال؛ ثم كان الاحتلال نفسه (ضغثا على إبالة)، كما يقول القدماء. فقد شرب التعليم ضربة قاضية على إثر مصادرة الأوقاف (الأحباس)، فأغلقت المدارس وتوقفت حلقات الدروس الحرة فى المساجد، وهاجر العلماء

ونهبت المكتبات. وانشغل الباقون من المتعلمين بحفظ الرمق وخافوا من الكتابة، بينما التحق بعضهم بالمقاومة التي تولاها عبد القادر بن محيي الدين في غرب البلاد والحاج أحمد في شرقها. وقد تركت لنا فترة الأمير عبد القادر (1832 - 1847) مجموعة من التراث الأدبي سندرسه في محله، كالرسائل الديوانية، والمراسلات، والخطب. كما أن فترة الحاج أحمد (1830 - 1837) قد تركت بعض الإنتاج المتمثل في المحاضر والشهادات والمراسلات. وسنعرض إلى ذلك أيضا. ومنذ الاحتلال، وظف الفرنسيون بعض الجزائريين في مختلف المجالات الدينية والديوانية والترجمة والصحافة (وهي فن جديد عليهم). فنشأ عندئذ أدب مختلف عن سابقه فكرا وروحا وأسلوبا، متأثرا بالمخالطات الاجتماعية والتأثيرات اللغوية والفكرية الفرنسية. ولم يظهر ذلك فجأة وإنما أخذ يتطور مع الأيام ويتسع مع الحاجة. فقد وظف الفرنسيون بعض رجال الدين في الإمامة والإفتاء والقضاء، كما وظفوا آخرين في التدريس والترجمة، وعينوا محررين ومصححين في الصحافة التي أنشأوها. وقد أصبح هؤلاء ينشؤون الرسائل الإدارية والمقالات الصحفية ويلقون الخطب الوعظية في الجمعة والأعياد على الطريقة الجديدة المعينة لهم من الإدارة الفرنسية. ومن ثمة أخذ ينشأ في الجزائر نوع آخر من الأدب العربي - الفرنسي أو (الفرنكو - أراب). وقد ظهر ذلك في رسائل رجال الدين إلى الإدارة الفرنسية (¬1). وفي مقالات أحمد البدوي وأحمد الفكون وعلي بن عمر وأضرابهم الذين تعاملوا مع جريدة (المبشر). وسيتوسع هذا الفن ليشمل العرائض أيضا. ويجب أن يكون مفهوما من البداية أن هذا النوع من الإنتاج العربي - الفرنسي (أو المتفرنس) قد استمر طيلة الاحتلال واتخذ لذلك ¬

_ (¬1) انظر دراستنا (من رسائل علماء الجزائر في القرن الماضي)، في (أبحاث وآراء في تاريخ الجزائر، ج 3.

أطوارا. كما أنه كان محدود المجال ومقصورا على الفئات المذكورة تقريبا، إلى أن ظهرت فئة الأدباء الأحرار والمعلمين الأحرار، كما ظهرت حركة التأليف ونشر المخطوطات والتأثر بالثقافة العربية الحديثة القادمة من المشرق في عهد النهضة الأدبية منذ أول هذا القرن. إن هذا التطور الذي حدث في أساليب الكتابة يرجع في الواقع إلى عدة عوامل منها: إنشاء المدارس الرسمية الثلاث، وهي التي سميناها المدارس العربية - الفرنسية الشرعية (¬1)، وقد بدأت تحت رقابة محدودة سنة 1850، ثم مرت إلى رقابة كاملة منذ 1876، وتفرنست إدارتها وبرنامجها منذئذ. وكانت أساسا مدارس لتخريج رجال الدين والقضاء في ظل الثقافة الفرنسية. وقد أخرجت فعلا بعض العناصر الجيدة أمثال ابن الموهوب وشعب بن علي ومحمد بن شنب ومالك بن نبي. غير أن هؤلاء كانوا أصحاب مواهب متميزة. وكان من أساتذتها عبد القادر المجاوي ولكنه لم يتخرج منها، فقد تخرج من القرويين في المغرب، كما تخرج محمد الزقاي من الأزهر، وهو شيخ آخر من شيوخ هذه المدارس؛ ومن العوامل أيضا إنشاء المعهد النابليوني سنة 1857، فقد درس فيه أمثال حسن بن بريهمات. وهو أديب بارع بمقياس المدرسة العربية - الفرنسية. ومنها رجوع عدد من الجزائريين الذين درسوا في المشرق أو المغرب إلى بلادهم رغم القيود الكثيرة التي كانت مسلطة عليهم. ولذلك يمكن القول إن ثقافة المشرق قد أثرت في الجزائر رغم سيطرة المدرسة الفرنسية. ولدينا عدد ممن درسوا في الأزهر والقرويين وزوايا تونس. ومنهم محمد الزقاي الذي سبق ذكره والذي تولى إدارة مدرسة تلمسان، وكان من كتاب الصحافة أيضا. ثم عاشور الخنقي الذي درس في زاوية نفطة وبعد ذلك انتصب للتدريس في قسنطينة خلال السبعينات، ثم في ¬

_ (¬1) كانت (المبشر) تسميها المدارس (السلطانية) نسبة إلى (السلطان) نابليون الثالث لأنها ظهرت في عهده وكان يرعاها. انظر عنها فصل التعليم الفرنسي والمزدوج.

زاوية الهامل حيث عاش فترة طويلة. ومنهم من هاجر أولا، إلى دمشق ودرس بها ثم رجع إلى الجزائر وتولى بها الوظائف الرسمية. ومن هؤلاء الطيب بن المختار، وهو شاعر وناثر، وكذلك عدد من عائلة بوطالب المعسكرية. ومن أدباء هذه العائلة أحمد المجاهد الغريسي وأبو بكر بوطالب. أما في القرن العشرين فقد وجدنا مجموعة أخرى من الجزائريين الذين درسوا بالأزهر أو عاشوا بالشام أو هاجروا إلى الحجاز ثم رجعوا إلى وطنهم وشاركوا في نهضته، وقد تولى بعضهم الوظائف الدينية الرسمية. وتحضرنا الآن أسماء المولود الزريبي، وأبي يعلى الزواوي، والطيب العقبي، والبشير الإبراهيمي، والمولود الحافظي، والعربي التبسي، وأحمد رضا حوحو. وقد نضيف إليهم عبد الحميد بن باديس. والواقع أن العهد الأخير قد شهد أيضا عودة مجموعة من المتعلمين الجزائريين من الزيتونة وإلى حد ما من القرويين. وكان بينهم أدباء متميزون أمثال الشاعرين محمد العيد ومفدي زكريا. وكان من المتوقع أن يحدث صراع بين المدرسة العربية والمدرسة الفرنسية، وهو صراع بقي إلى عهد الاستقلال. وهناك أدباء (بعليون)، إذا صح التعبير، ونعني بهم أولئك الذين درسوا بوسائلهم الخاصة وعانوا مرارة الحياة خارج النظام الاستعماري، ثم وجدوا أنفهسم داخل هذا النظام أو على هامشه. ومنهم أحمد البدوي الذي كتب للأمير عبد القادر، ثم أصبح محررا في جريدة (المبشر) مع المستشرق البارون دي سلان. وقد وظفت أسرة المبشر أيضا شخصا آخر له ثقافة غزيرة واستفادت من علمه وأدبه وهو الحفناوي بن الشيخ (أبو القاسم) صاحب كتاب تعريف الخلف. فقد وظفه المستشرق (آرنو) مدة طويلة. ومنهم محمد الديسي الذي درس في الزوايا المحلية وظل طول حياته مدرسا ومؤلفا في زاوية الهامل، وهو صاحب المقامات والإجازات والتقاريظ العديدة. وقد نذكر من هؤلاء شخصا آخر كان له قلم وفكر وكان أيضا بعليا عصاميا وهو محمد العاصمي.

التعامل مع اللغة العربية

وهكذا يمكننا القول إن الثقافة العربية قد عاشت في ثلاثة مراكز وانطلقت منها: المركز الأول: المدارس العربية الفرنسية (الرسمية)، والمركز الثاني: المعاهد والزوايا في البلدان العربية والإسلامية، والمركز الثالث: الزوايا والمدارس البعلية أو الحرة في الجزائر نفسها. وإذا كان التقارب قد وقع في غالب الأحيان بين طلاب المركزين الثاني والثالث، فإنه قلما وقع مع طلاب المركز الأول. وكان على الثقافة العربية أن تعاني من هذه الإزدواجية إلى اليوم. وهي ليست إزدواجية الثقافة الفرنسية المحض والثقافة العربية المحض، ولكنها إزدواجية الثقافة المتأثرة بالفكر الفرنسي والثقافة البعيدة عن هذا الفكر، بل المضادة له. ومهما كان الأمر فإن لكل مدرسة نتاجها. وسنرى عند تناولنا لهذا الإنتاج أيها كان أكثر ارتباطا بالتراث وأبعد تأثيرا في المستقبل. التعامل مع اللغة العربية اعتبر الفرنسيون اللغة العربية لغة أجنبية والفرنسية هي اللغة الرسمية. وكان ذلك موقفا واضحا من الدين الإسلامي أيضا لأن اللغة العربية هي لغة القرآن الكريم ولغة الحضارة التي كتب بها تراث الدولة الإسلامية. ومن جهة أخرى كان موقفا سياسيا واضحا أيضا، لأن العربية كانت هي لغة البلاد الإدارية والقضائية والتعليمية. فإذا استثنينا الجهاز المركزي بالعاصمة حيث كان الخلط بين العربية والتركية، فإن إدارة الأقاليم والأوطان والجماعات والمدارس والمحاكم كانت كلها باللغة العربية. وهكذا فإن اعتبار اللغة الفرنسية هي اللغة الرسمية كان نفيا لما عداها، مما يعني السيادة السياسية لفرنسا وضرب الدين الإسلامي ولغته وحضارته. ولكن هذا لا يعني استغناء الفرنسيين عن اللغة العربية. لقد فهموا أن حاجاتهم الإدارية والاجتماعية لا يمكن أن تنجز إلا باستعمال هذه اللغة. وقاموا من أجل ذلك بمحاولتين، الأولى هي إهمال تدريس العربية في

المدارس القديمة، وذلك بقطع مصادر الوقف عنها. والثانية هي الاكتفاء بتدريس العربية الدارجة لضباط الجيش والراغبين في العمل الإداري من الفرنسيين. وقد تركوا المسلمين يحفظون القرآن وحده في الكتاتيب بدون دراسة للعلوم المساعدة على فهمه وتفسيره. ومن ثمة بقي القرآن في الصدور دون الكتب ودون تطبيق تعاليمه على الحياة العامة. وكادت تختفي العلوم العربية (النحو والصرف والبلاغة والإنشاء والعروض، الخ). والعلوم الدينية (الفقه والتوحيد والحديث والتفسير، الخ). لولا وجود الزوايا القليلة التي تأثرت هي أيضا ولوضع العام (الاستيلاء على الأوقاف والحروب، والغلق) ولكنها مع ذلك واصلت تعليم العلوم المذكورة بطريقة تقليدية. أما تدريس العربية الدارجة فقد تولاه الفرنسيون أنفسهم. حقا لقد بدأه بعض المشارقة الذين رافقوا جيش الحملة، مثل جوني فرعون (وهو سوري - مصري) سنة 1832، ثم واصله لويس برينييه منذ 1836 (¬1). وقد شاركه في ذلك عدد آخر من المستشرقين الذين انتشروا في غرب البلاد وشرقها، ومنهم شيربونو في قسنطينة، وماشويل في وهران. وصدرت عن هؤلاء مجموعة من الكتب التعليمية بالعربية الدارجة والفرنسية، وهي كتب تقرأ من اليسار إلى اليمين، كما صدرت عنهم قواميس في نفس الموضوع. وكان التلاميذ في كل ولاية بين الثلاثين والخمسة عشر في كل موسم. ومعظمهم كانوا عسكريين في المرحلة الأولى (إلى 1870)، وكانت تعقد لهم المسابقات وترصد الجوائز. وكانت تنتظرهم الوظائف في المكاتب العربية العسكرية، وفي الإدارة المركزية، كما أن بعض المدنيين قد استفادوا من هذه الدروس. وقد أصبح الخريجون عادة مترجمين بدرجات متفاوتة تحدث عنها شارل فيرو في كتابه (مترجمو الجيش الإفريقي) (¬2)، ويمكن أن نسميهم مستعربين. وهل يعني هذا أن الفرنسيين لم يدرسوا اللغة العربية الفصحى؟ الواقع ¬

_ (¬1) انظر فصل الاستشراق. (¬2) فيرو (مترجمو الجيش الإفريقي)، الجزائر 1876.

أن بعضهم قد فعل، ومنهم هوداس وشيربونو ودي سلان وبرينييه وكور. وقد اعتبروها ضرورية لبلادهم من الناحية السياسية والتجارية والعلمية. ونشروا منها نصوصا عديدة وترجموا من تراثها الكثير، ولا سيما فئة المستشرقين المتأخرين أمثال فانيان وباصيه وماسينيون. وقد استعانوا بمجموعة من الجزائريين في هذا المجال نذكر منهم محمد بن شنب والحفناوي بن الشيخ وعلي بن سماية ومحمود كحول (ابن دالي) وأبا يعلى الزواوي. وعاشت العربية الفصحى أيضا، في المدارس الرسمية الثلاث التي بدأت تعمل، كما ذكرنا، سنة 1850. ومرت بمراحل من حيث البرمجة: مرحلة التعريب الكامل، ومرحلة الفرنسة الجزئية (1876)، ثم مرحلة ازدواجية البرنامج (العربي والفرنسي) بعد وضعها تحت إشراف مستشرقين فرنسيين منذ التسعينات من القرن الماضي. وكانت الدراسة بالفرنسية في المواد الفرنسية، كما أن الإدارة وطرق التعليم كانت أيضا فرنسية. ولذلك كانت اللغة العربية غريبة في المدارس الرسمية - في المرحلتين الأخيرتين - فهي كما قلنا تدرس كلغة أجنبية وكانت وسيلة تعليمها هي اللغة الفرنسية طبعا. وكذلك كان حال العربية في مدرسة ترشيح المعلمين أو في الثانويات الفرنسية. ذكرنا أن الفصحى ظلت تقاوم في بعض الزوايا التي سمح لها بالنشاط التعليمي، مثل بعض زوايا زواوة، وزاوية الهامل، وزاوية طولقة. وكانت المساجد الرسمية قد حافظت أيضا على الفصحى إلى حد كبير من جهتين: الجهة الأولى هي الخطب الدينية، فهي على بساطتها وسذاجتها كانت بالعربية الفصحى أو المعربة، ومن ثمة تأتي العلاقة بين العربية والدين، مما جعل بعض الفرنسيين يشبه العربية باللاتينية في الكنائس ويحكم بأنها لغة ميتة كاللاتينية أيضا. والجهة الثانية هي بعض الدروس العامة. وقد كانت الدروس في أول الأمر مقتصرة على جمهور محدود من عامة الناس القريبين من المسجد وعلى موضوع محدود وهو الفقه. ولكن المدرسين كانوا، باستثناء عدد منهم، يستعملون اللغة القريبة من الفصحى بحكم النصوص التي ينقلون عنها وتأثرهم بالمدرسة التى تخرجوا منها. وكان هؤلاء المدرسون قد سمح

لهم في نهاية القرن الماضي بتطوير تدريسهم ليشمل تعليم الشباب والتلاميذ المترشحين للمدارس الثلاث وليشمل أيضا موضوعات غير دينية كالنحو والأدب، والبلاغة. وإلى جانب هذه الدروس (الرسمية) رخصت الإدارة لبعض المدرسين (الأحرار) بإعطاء دروس في مساجد قراهم حول نفس الموضوعات. وهكذا كانت اللغة العربية الفصحى تنافس الدارجة العربية والبربرية والفرنكوية. وكل ذلك كان قبل ظهور الحركة الإصلاحية وانطلاق مدارسها ودروسها في التعليم والوعظ بالعربية الفصحى المتطورة. وإلى جانب العربية والتركية كان بالجزائر غداة الاحتلال لهجات كثيرة عربية وبربرية، بالإضافة إلى لهجة ساحلية (لغة إفرنكية) يتحدث بها أصحاب السفن وعمال الموانئ والتجار. ان اتساع رقعة الجزائر جعل استعمال وشيوع لهجة واحدة غالبة أمرا مستحيلا. كما أن نظام الحكم نفسه ساعد على عزلة الناس عن بعضهم. فهو حكم أقلية غريبة عن أهل البلاد. فظلت أقلية متقوقعة على نفسها. ونتيجة لذلك كانت العاصمة عاصمة فقط من حيث المركزية السياسية والسلطة. أما ثقافيا وحتى تجاريا فلم تكن هي عاصمة البلاد. كان كل أقليم له عاصمته، وكانت السلطات الإدارية (المخزنية) قد جعلت البلاد تشكل وحدات (فدراليات) مستقلة ولكن دون حدود تجارية ولا تعليمية. وهذا الوضع كله قد ساعد على بقاء اللهجات مجهولة عند بعضها البعض، سواء أكانت لهجات عربية أو غيرها. أما التركية فلم تكن معروفة خارج الإدارة المركزية بالعاصمة والثكنات. وقد كانت وسيلة التواصل بين الجزائريين هي اللغة العربية، مهما تباعدوا في المكان، وهي لغة الكتابة عندهم، ولغة الخطاب الرسمي، واللغة الأدبية والدينية. وبها كانوا يتعلمون وبها يحررون السجلات القضائية والمداولات العرفية ويعقدون الاتفاقات الدولية والصفقات التجارية (¬1)، بالإضافة إلى تأليف الكتب وقرض الشعر. وكان على الفرنسيين منذ البداية أن يدرسوا اللغة العربية ولهجاتها ¬

_ (¬1) هناك اتفاقات دولية كانت أيضا بالتركية (العثمانية).

لينجحوا في مهمتهم. وقد فهموا ذلك رغم غيرتهم على لغتهم التي كانوا يسمونها (لغة السادة). وفهموا أنه لا التركية ولا اللهجات العربية أو البربرية ولا الخليط الساحلي الإفرنكي (اللغة الإفرنكية) سيجعلهم يفهمون الجزائريين وتراثهم. لذلك عقدوا العزم على تعلم العربية مهما كان الثمن، وبرروا ذلك بأنه لا يمكن مطالبة المغزوين (الجزائريين) بتعلم لغة الغزاة (الفرنسيين) فورا. (وكان الرأي العام كله مع هذه الفكرة (حسبما جاء في كتاب فور ميسترو Fourmestront) (¬1) . ولقد أكد ذلك أكثر من واحد خلال فترة الاحتلال الأولى. فهذا بريسون، المتصرف المدني سنة 1836، كتب إلى المفتش العام للتعليم قائلا إن مهمة فرنسا في الجزائر تتوقف على دراسة اللغة العربية والتوسع فيها، من أجل التعرف على الأهالي والاتصال بهم، كما أن الاستعمار نفسه (الإستيطان واستغلال الأرض) يتوقف على معرفة اللغة العربية. ولا يكفي في ذلك الاعتماد على المترجمين. ومن جهة أخرى أكد بريسون على ضرورة دراسة اللهجات أيضا كلما توسع الاحتلال في الجزائر، وأخبر أن الإدارة سوف لا تقبل مستقبلا من الفرنسيين إلا الذين يعرفون العربية والفرنسية (¬2). وفي نفس هذا المعنى أعلن الدوق دورليان، وهو ابن الملك لويس فيليب، وقد شارك في حملات عسكرية، واجتاز مع الجيش الفرنسي مضائق البيبان قادما من قسنطينة إلى العاصمة عن طريق البر سنة 1838، وهو الاجتياز الذي تسبب في أزمة بين الأمير والفرنسيين. قال دورليان إن معرفة اللغة العربية ضرورية لتقريب الفرنسيين من الجزائريين، وأن جيشه الذي عبر البيبان كان يعرف العربية من ثمة كان نجاحه في العبور. ولم يكن في حاجة إلى مترجمين لأن هؤلاء قد أساؤوا في نظره أكثر مما أحسنوا (¬3). ¬

_ (¬1) نقل ذلك كور، ص 20 عن كتاب فورميسترو (التعليم العمومي في الجزائر من 1830 - 1880)، باريس، 1880. (¬2) الرسالة نشرتها الجريدة الرسمية (المونيتور الجزائري)، 10 فبراير، 1837. (¬3) الدوق دروليان (قصة حملة)، باريس، 1892، ص 258. من الغريب أن يقول =

وهذا المؤرخ المحافظ جان بوجولا، مؤرخ عهد بوجو، والمتحمس كثيرا لاستعادة الكنيسة، أعلن أن الأروبيين كانوا، سنة 1844، يتعلمون اللغة العربية لتكون علاقاتهم مع الأهالي أكيدة ومنتجة. وأعلن أيضا أن تعلم اللغة العربية شرط أساسي لتسريب الأفكار والعادات والثقافة الفرنسية إلى الأهالي. وطالب بحرية رجال الدين في تعلمها لكي يتصلوا بالأهالي ويبثوا الأفكار النصرانية عن طريقها (¬1). وكان المارشال بوجو قد أصدر قرارا بأن تكون اللغة العربية شرطا أساسيا في الوظيف ابتداء من يناير 1847. وجرى التحضير لذلك بالمسابقات والجوائز والامتحانات. وكان لويس برينييه هو المشرف على هذا البرنامج. وهكذا عممت العربية في الإدارة المدنية المركزية والمكاتب العسكرية المتصلة بالأهالي سواء في العاصمة أو خارجها. ونشطت حركة الترجمة وتوسعت حلقات اللغة العربية في وهران وقسنطينة. وبدأ الحديث عن إنشاء معهد عربي - فرنسي في فرنسا، ثم أنشئ في الجزائر المعهد النابليوني بدلا منه سنة 1857، كما أشرنا. ويقول أوغست كور إن العربية يمكن أن تقدم لفرنسا فوائد جمة لأنها كانت لغة الحديث منذ قرون. وهو يضيف بأن العربية لن تمكن الفرنسيين من فهم الذين يحكمونهم فقط ولكن ستمكنهم من تذويقهم طعم الحضارة الفرنسية. وتوسع كور في هذا المعنى قائلا إن دراسة أدب الجزائريين سيؤدي إلى معرفة عبقريتهم وأصالة فكرهم وشعرهم المؤثر، ومعرفة كتبهم في مختلف العلوم، ومن ثمة معرفة أصول أفكارهم وأحكامهم وتقاليدهم (¬2). وهناك آراء أخرى عديدة من العسكريين والمدنيين، السياسيين ¬

_ = دورليان ان الخمر كانت من بين الوسائل التي استخدمها الفرنسيون بنجاح. وقد تحدث أكثر من واحد عن نشر الجيش الفرنسى الخمر بين الجزائريين، ولا سيما الشبان والأغرار. (¬1) جان بوجولا (دراسات إفريقية)، ص 176. (¬2) كور (ملاحظات على كراسي اللغة العربية) في (المجلة الإفريقية)، 138، ص 31 - 32.

والمستشرقين، وكلها كانت تحث على تعلم اللغة العربية كوسيلة لفهم الجزائريين ونشر الثقافة الفرنسية. وقد أضيف إليها منذ آخر القرن الماضي مبرر آخر وهو بناء الروابط التجارية والسياسية مع البلاد العربية والإسلامية. ولكن هذه الآراء لم تكن آراء كل الفرنسيين في القرن الماضي، فقد انتصرت عندئذ السلطة في فرض اللغة الفرنسية وأصبح المغلوبون هم الذين عليهم أن يتعلموا لغة الغزاة، حسب تعبير بعض الكتاب. والغريب أنه بقدر ما كان الفرنسيون مؤمنين بضرورة تعلم العربية لأنفسهم كانوا يمنعون الجزائريين من تعلمها، رغم أنها لغتهم القومية والوطنية والدينية. ومنذ التسعينات انطلقت الدراسات الاستشراقية للهجات العربية في الجزائر. ويعترف رينيه باصيه الذي كان مديرا لمدرسة الآداب بالجزائر سنوات طويلة، أن هذا الاهتمام بدأ حوالي 1890. ونتيجة لذلك أخذ كل مستشرق يدرس لهجة أو أكثر في المدن والأرياف، فكان يذهب لزيارة المكان ويتصل بأهله، وربما يستعين بتلاميذه الجزائريين في الناحية، ويأخذ في جمع المادة والمقارنة ثم يكتب دراسة أو كتابا لنشره مسلسلا في المجلات ثم في المطابع. وهذا لا يعني أن دراسة اللهجات العربية لم تبدأ إلا سنة 1890، ولكنه يعني أن الخطة قد وضعت عندئذ لتطوير الدراسات وتوسيعها للوصول إلى غرض اجتماعي وسياسي وهو حصر اللهجات ومعرفة الأصول اللغوية والعرقية للسكان ومدى تأثير لهجة ما على ما جاورها، وكيف تنقلت القبائل عبر العصور واستوطنت جهات عديدة، رغم أنها قد تكون من أصل واحد. وفي هذا النطاق صدرت دراسات عن اللهجات الآتية - لاحظ أنها غير خاصة بالجزائر: دراسة عن أشراف سيق، ووهران، وأولاد إبراهيم بسعيدة، وتلمسان، والجزائر، وقسنطينة، ثم لهجة طنجة، ولهجة الحسنية بموريطانيا، ولهجة الجبالة. وأنت لا تكاد تفتح كتابا أو مجلة عندئذ إلا ستجد فيه دراسة عن لهجة كذا، ولهجة كذا .... le parlé arabe de. وقد اختص بعض المستشرقين بلهجة أو ناحية أو ظاهرة أدبية، مثل اهتمام

الإسكندر جولي في أول هذا القرن بالشعر العربي الشعبي في البوادي. وبينما كانت المؤسسات الحكومية، بل الحكومة نفسها، تدفع تكاليف الطبع وتخصص الجوائز لطبع الدراسات الخاصة باللهجات البربرية - في الجزائر والمغرب - لا نجد الحكومة ولا مؤسساتها تساهم في طبع دراسات عن اللهجات العربية. وربما يعود ذلك إلى أن عددا كبيرا من المؤلفات قد ظهرت بالعربية الدارجة منذ الاحتلال، وقد أشرنا إلى ذلك. يقول رينيه باصيه: ظهرت منذ الاحتلال أكوام من المعاجم والقواميس وكتب المحادثة ومجموعات الرسائل بهدف تعليم العربية الدارجة. انها مكتبة كاملة. أما الدراسة العلمية للهجات العربية فلم تبدأ إلا حوالي سنة 1890 (¬1). ويؤكد هذا قول أوغست كور إن المسؤولين الفرنسيين لم تختلف نظرتهم إلى اللغة العربية (الدارجة)، لا في أهمية دراستها من الناحية السياسية ولا في مبدأ تعليمها، إلى نهاية القرن التاسع عشر (¬2). وكانت هذه القناعة العامة ترجع إلى التقرير الذي كتبه سولفي Ch. Solvet سنة 1846 وأوصى فيه بضرورة تعليم العربية (الدارجة؟) لتوفير المترجمين الإداريين والاحتياطيين لدفع فكرة التقدم ودمج الأهالي إذا أمكن (¬3). ... أما عن تمسك الجزائريين باللغة العربية ونضالهم من أجلها فله أدبيات كثيرة لا يتسع المقام لذكرها هنا جميعا. ويكفي أن نذكر فصلا عما يسميه جوزيف ديبارمي (بردود الفعل اللغوية). لقد احتج أوائل الجزائريين ضد التعسف الذي ضرب مؤسسات التعليم العربي منذ الاحتلال وفرض الفرنسية. ونشير هنا إلى قصة المفتي مصطفى الكبابطي سنة 1843، فقد كان موقفه ¬

_ (¬1) رينيه باصيه ا (تقرير عن جهود فرنسا العلمية)، في (المجلة الآسيوية)، 1920، ص 93. (¬2) اوغست كور (ملاحظات على كراسي العربية) في (المجلة الإفريقية)، رقم 138. (¬3) جوزيف ديبارمي (رد الفعل اللغوي) في مجلة الجمعية الجغرافية للجزائر وشمال إفريقية، 1931، ص 19.

الرافض لإدخال الفرنسية في المدارس القرآنية سببا في عزله من وظيفه ونفيه إلى فرنسا ثم الإسكندرية (¬1). ويقول ديبارمي إن الأهالي سرعان ما شعروا بالخطة الفرنسية وخطورتها على اللغة العربية، لأنها خطة تقتضي إماتة هذه اللغة ودراساتها كلغة ميتة، فوقف الجزائريون ضد هذه الخطة من البداية. فقد علموا أن الأساتذة الذين عينهم الفرنسيون منذ جوني فرعون، كانوا يسمون أساتذة اللغة العربية الدارجة، وأن هذه الدارجة لا تكتب، وأنها لهجة شفوية ينشدها المداحون في الاحتفالات والأعراس وليالي الطرب. وكان ديبارمي ضد استعمال الفصحى لأنها لغة القرآن - لغة مقدسة حسب تعبيره - ولأنها تفصل الجزائريين عن الفرنسيين، وتجعل هؤلاء لا يعرفون (أسرار المسلمين) لأن هذه الأسرار لا تكون بالدارجة (¬2). ويقول المستشرق فيليب مارسيه سنة 1956 إن المتعلمين بالعربية في الجزائر قليلون جدا، وهم، حسب تقديره، لا يتجاوزون عشرة آلاف. وليس لهم معرفة بالنصوص الصعبة. ولكنه لاحظ أنهم سواء كانوا متعلمين أو نصف متعلمين أو مبتدئين فإن لهم رغبة مشتركة ومخلصة وأحيانا حادة، في معرفة أعمق للعربية والحصول من الفصحى على نصيب أوفر يستطيع أن يدغدغ عواطفهم ويشرف هيبتهم كمسلمين (¬3). إن هذا الشعور الصادق لدى الجزائريين في ضرورة تعلم لغتهم والالتصاق بها والمحافظة عليها كان واضحا في مختلف المطالب والعرائض الفردية والجماعية، والحزبية التي صدرت عبر مراحل الاحتلال. ولنشر إلى مقالات احمد بن بريهمات في الثمانينات، وعرائض أهل قسنطينة في نفس الفترة، وكتابات محمد بن رحال في نهاية التسعينات، وعريضة رؤساء عدة بلديات من نواحي قسنطينة، وهي ¬

_ (¬1) درسنا قضيته بالتفصيل في موضوع خاص، انظره في (أبحاث وآراء) ج 2. (¬2) ديبارمي (رد الفعل اللغوي) في مجلة الجمعية الجغرافية للجزائر وشمال إفريقية، 1931، ص 19 - 20. (¬3) فيليب مارسيه، (التساكن في الجزائر) في (السيكرتارية الاجتماعية لمدينة الجزائر) 1956، ص 57.

العريضة المسماة (مقالة غريق) والموجهة إلى لجنة مجلس الشيوخ (1892). وفي 1904 طالب الوفد الزواوي (القبائلي) في مجلس الوفود المالية بتكوين مدرسة في بجاية على غرار مدرسة تلمسان وقسنطينة والثعالبية لتحفظ التراث العربي الإسلامي، ولكن السلطات الفرنسية رفضت الطلب متعللة بعدم وجود ميزانية. وفي 1921 وقف محمد بن رحال أمام مجلس الوفود المالية ونادى بضرورة تعليم اللغة العربية في المرحلة الابتدائية. وهي اللغة الأم لملايين الأطفال المسلمين. وتساءل ابن رحال: كيف يعبر شعب بدون لغة عن أفكاره أو يتصور أفكار الآخرين، أو يثقف نفسه ويصلح أخلاقه وسلوكه. وهاجم أولئك الذين يرون آلاف الأطفال وهم لا مدارس لهم سوى كتاتيب فيها ألواح يحفظون بها القرآن وبعض الحروف العربية، ويزعمون مع ذلك أن الأطفال لا يتعلمون إلا التعصب، ويطالبون من أجل ذلك بغلق هذه الكتاتيب. ولذلك نادى ابن رحال لدعم التعليم الإسلامي الابتدائي، لأن المسلمين يدفعون الضرائب لميزانيته، ولأن ذلك من مصلحة الجزائريين والفرنسيين معا (مصلحتنا ومصلحتكم). وكان هذا الرأي سببا في الهجوم على صاحبه من قبل أعداء التعليم العربي من الكولون. وقد علمنا أن زملاءه النواب في المجلس قد أيدوه (¬1). وقد نقل ديبارمي عن جرائد الوقت، ومعظمها صدر خلال العشرينات، مثل النجاح والمغرب (لأبي اليقظان) والبلاغ والشهاب. فقال إن المغرب نشرت في عددها الأول دعوة إلى الشباب ليتعلم العربية الفصحى (26 مايو 1930) لأنها لغة القرآن والرسول (صلى الله عليه وسلم). ونقل عن البلاغ قولها إن العربية لغة الملايين وأنها مقدسة (34 يناير، 1931)، أما النجاح فنقل عنها مقالة عنوانها (اللغة العربية فى الجزائر) وقالت إنها هى أساس القومية المغاربية ¬

_ (¬1) عبد القادر جغلول (عناصر ثقافية)، ص 58، نقله عن جريدة (صدى الجزائر) الفرنسية، 18 يونيو، 1921. وقد نقل ذلك ديبارمي أيضا في المرجع السابق، ص 22.

والدين الإسلامي. وقد نقل عن جريدة الإقدام سنة 1923 أنها قالت إن تخلي الإنسان عن لغته (العربية) يعتبر انتحارا. وأخبرنا ديبارمي الذي تابع الموضوع بدقة ربما بالغ فيها، أن الأهالي جميعا يعتبرون المسألة اللغوية مسألة حياة أو موت للشعوب المغاربية. وهم الآن قد وضعوها موضع الدرس والاهتمام، واعترف ديبارمي أن العربية الفصحى قد عرفت سقوطا تدريجيا خلال النصف الثاني من القرن 19، ثم تسارع سقوطها، حسب رأيه، خلال النصف الأول من هذا القرن. ولكن الجزائر تشهد الآن (1931) (ثورة لغوية) وهي ظاهرة تحتاج إلى تفسير. ذلك أن المثقفين بالعربية أصبحوا يرفضون الدارجة والفلكلور والشعر الملحون باعتباره (كلام العوام) (¬1). وقد فسر ديبارمي هذه الثورة اللغوية بالتطور السياسي لبلاد المغرب عموما. ذلك أن هذه المنطقة تتقوقع حول نفسها إذا ما حاصرتها الدول الإسلامية (الخلافة من المشرق أو من المغرب، كما يقول) فتصبح مهتمة بالفكرة الإقليمية أكثر من الفكرة الإسلامية أو العالمية. أما في وقته فقد أصبحت بلاد المغرب العربي محاصرة بدولة نصرانية. لذلك كان على أهل هذه البلاد أن يبحثوا عن قواعدهم في الأصالة والرجوع إلى الجسور القديمة والروابط الإسلامية. وأول ما يفعله مواطن هذه البلاد عندئذ هو أن يتكلم لغته. واستشهد بكلام جريدة النجاح (أول يناير 1931) الذي وجهته إلى الشباب طالبة منهم الإبقاء على الفصل بين العربية والفرنسية وأن لا يرطنوا بكلام عربي ممزوج بالفرنسية. وفي عدد آخر من النجاح نفسها (15 يناير 1930) قالت: إن العربية هي لغة آبائنا وأجدادنا، ولغة نبينا وكتابنا المقدس، وعلينا أن نحميها وننشرها. وأضافت البلاغ أن العربية والعقيدة توأم (21 أكتوبر 1930). وأن دراسة العربية تضمن للجزائري الشخصية أو الذاتية والجنسية، بينما دراسة الفرنسية تجعله لا يعرف، حسبما روى ديبارمي، ¬

_ (¬1) ديبارمي، مرجع سابق، ص 2 - 10.

سوى تاريخ فرنسا وأفكارها. وقالت النجاح إن النهوض باللغة العربية هو خدمة للوطنية. وروى ديبارمي أن أطفال المدارس إذا رددوا ما جاء في الكتب الفرنسية من أن أجدادهم هم سكان بلاد الغال (فرنسا) فإن أطفالا آخرين يجيبونهم بأن أجدادهم هم العرب المسلمون يصلون بهم عن طريق اللغة العربية وأنهم يتصلون بالرسول عن طريق الشرق (¬1). واللهجة العربية في الجزائر - والمغرب العربي؟ - يسميها ديبارمي في شيء من السخرية، البوربري Beurbri . وهي العربية الفصحى بعد أن عجمت ودخلت عليها الأصوات والتأثيرات البربرية وغيرها. وقد سخر ديبارمي حتى من أستاذه هوداس لأنه نصح المعلمين الفرنسيين باستعمال الفصحى بدل الدارجة، وعندما طلب هوداس التحدث بالفصحى (ابتسموا منه). وهكذا أصبحت الدارجة عند ديبارمي ومدرسته هي لغة أهل المغرب العربي المتبربرة. ولكن هل ذلك ينفي اللهجات البربرية؟ إن ديبارمي لا يجيب على ذلك ويكتفي بالقول إن جميع الأشعار الملحونة التي صيغت بالعربية الدارجة إنما هي في نظره بالبوربرية. فهي موجودة في أشعار الشعراء الذين مدحوا الأمير أو هجوه، وهي موجودة في النثر غير الخاضع للقواعد النحوية والبلاغية. وقد كانت هذه اللهجة الملحونة هي لغة الشعر والنثر - حسب رأيه - عند الاحتلال. ولم يبق للعربية الفصحى عنده إلا مجال اللغات الميتة، وهي النصوص الفقهية والقضائية والصلوات، بعد أن حوصرت على كل الجبهات: الجبهة الفرنسية والجبهة البوربرية (الدارجة) وجبهة اللهجات البربرية. وقد ذكرنا أن ديبارمي يعتبر الفصحى قد ماتت إلا في بعض النصوص الدينية، وأن البوربرية أيضا قد تقلصت وكادت تضمحل في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ثم تسارع سقوطها في النصف الأول من القرن العشرين. وقد استشهد بكلام صاحب كتاب (الكنز المكنون) عندما قال إنه نشر الأشعار ¬

_ (¬1) ديبارمي، مرجع سابق، ص 13 - 14.

الشعبية الدارجة (البوربرية) لأنه يعتقد أن الناس قد نسوها، بعد أن كانوا غير راضين عنها في الماضي، ولعلهم قد أضاعوها تماما. ومن رأي ديبارمي أن صاحب الكتاب المذكور قد وجه تلك الأشعار إلى العامة (الأميين) الذين لا يذوقون طعم الأدب، ثم إلى طلبة الزوايا حيث ما يزالون يتذوقون اللغة. ولكن الأمر اختلف بعد بضع سنوات، وحدثت (الثورة اللغوية) حسب تعبير ديبارمي، وهي التي كانت تقودها الصحف العربية المكتوبة باللغة المقدسة، بلغة قريش القديمة، وهي ظاهرة تحتاج في نظره إلى تفسير (¬1). والذي ننتهي إليه من ذلك هو أن الجزائريين عن طريق نوابهم وصحفهم وسياسييهم قد نادوا بتعلم اللغة العربية، وربطوا بينها وبين الدين، ثم بينها وبين الوطنية والجنسية. ولا داعي لإيراد نماذج أخرى من منقولات جوزيف ديبارمي عن ردود الفعل اللغوي من خلال الصحف التي صدرت قبل 1931. وقد نشأت جمعية العلماء في هذه السنة (1931) وكان برنامجها ينص على أن تعليم اللغة العربية يمثل حجر الزاوية في وجودها، وكل أدبيات الجمعية وجرائدها وخطب رجالها، وأعمالهم تشهد على ذلك. ولا نرى داعيا لإيراد شواهد على ما نقول عنها (¬2). إنما نذكر أن المؤتمر الإسلامي الجزائري لسنة 1936 قد طالب بالحرية الكاملة في تعلم اللغة العربية وإلغاء كل ما اتخذ ضدها من إجراءات وقوانين وإنهاء اعتبارها لغة أجنبية، والاعتراف بها لغة رسمية (¬3). ومنذ 1933 نادى نجم شمال إفريقية بتعليم اللغة العربية إجباريا. وقد نصت المادة الثالثة من برنامجه على أن اللغة الرسمية للبلاد ستكون هي اللغة العربية، ونصت المادة السادسة على أن التعليم سيكون باللغة العربية ومجانيا ¬

_ (¬1) ديبارمي، مرجع سابق، ص 2، 9. (¬2) القانون الأساسي لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين، ط. عدة مرات بالعربية والفرنسية، أولها سنة 1931. ويوجد في الحركة الوطنية، ج 3. (¬3) الشهاب، عدد خاص، يوليو 1936، وكذلك الحركة الوطنية، 3/ 255.

وإلزاميا في جميع المراحل (¬1). وقد نادى المؤتمر العام لحزب الشعب الجزائري سنة 1938 بإصدار مرسوم يجعل تعلم اللغة العربية إجباريا في جميع المستويات على غرار الوضع في المغرب وتونس والمشرق العربي. كما طالب بتأسيس كلية للأدب العربية بجامعة الجزائر إلى جانب تدريس التاريخ والفلسفة وعلم الاجتماع باللغة العربية، وتحويل المدارس الثلاث الرسمية إلى جامعات إسلامية يدرس فيها بالعربية أساتذة مسلمون (جزائريون) (¬2). وفي (البيان الجزائري) الذي صاغه وقدمه فرحات عباس باسم الشعب الجزائري إلى الحلفاء سنة 1943، وردت المطالبة بالاعتراف باللغة العربية لغة رسمية على قدم المساواة مع اللغة الفرنسية (¬3). وقد أكدت ذلك مختلف الوثائق الرسمية الصادرة عن فروع الحركة الوطنية بين 1945 و 1954. ونتيجة لذلك الضغط المتواصل واعترافا بالأمر الواقع أعلن الفرنسيون سنة 1947 في القانون الخاص بالجزائر أن تعليم اللغة العربية سيكون إجباريا ورفعوا عنها صفة اللغة الأجنبية (¬4). ... ومنذ الثلاثينات قامت السلطة الفرنسية بحملة منسقة ضد اللغة العربية باعتبارها أحد مقومات الهوية الوطنية. وتجلت الحملة في إغلاق المدارس ¬

_ (¬1) عبد الحميد زوزو (دور المهاجرين الجزائريين في الحركة الوطنية)، ط. 1980، ص 188 - 189. وكان النجم قد طالب منذ 1927 في بروكسل (بإنشاء المدارس باللغة العربية). انظر محفوظ قداش (تاريخ الحركة الوطنية)، 2/ 909. (¬2) المؤتمر العام لحزب الشعب الجزائري، 23 - 24 غشت، 1939. (¬3) انظر (الحركة الوطنية)، 3/ 264. (¬4) عبد الرحمن العقون (الكفاح السياسي والقومي) 3/ 44. عن (حرية تعليم اللغة العربية) كما جاء في ملحق (البيان الجزائري) 26 مايو 1943، انظر محفوظ قداش (تاريخ الحركة الوطنية) 2/ 952. وعن موقف حزب البيان سنة 1948 وهو (ترسيم اللغة العربية والتعليم الإجباري بها) انظر قداش 2/ 990.

الحرة والتأكيد على اعتبار العربية لغة أجنبية واضطهاد المعلمين الأحرار، وعدم الترخيص بفتح المدارس وقمع الصحف العربية، وصدور تصريحات معادية تولاها كبار المسؤولين الفرنسيين، كما أطلقوا العنان لبعض الإندماجيين الجزائريين لمهاجمة القومية العربية والوطنية والدعوة إلى أن الفرنسية هي لغة الحضارة للجزائريين (¬1). كما أن الصحف الفرنسية ذات الاتجاهات المختلفة، بما فيها الاتجاه الشيوعي، أخذت تهاجم اتجاه جمعية العلماء والحركة الوطنية. وقد صرح الجنرال (كاترو) بأن عشرين مدرسة فرنسية ستؤدي إلى اختفاء اللغة العربية تماما من الجزائر خلال عشرين سنة. ونادى وزير العدل (ركار) وغيره بترجمة القرآن إلى الفرنسية وفرضه على الشعب وحذف كل ما يمت بصلة إلى النخوة والقومية فيه، ومنع المسلمين من تعلم العربية. وطالب البعض بعدم الترخيص لأي معلم للعربية إلا بعد اجتياز امتحان خاص في الفرنسية. وكذلك باغلاق حدود تونس حتى لا يتسرب إليها الراغبون في التعلم بجامع الزيتونة (¬2). وردا على هذه الحملة ساهم الشيخ الإبراهيمي بمقالاته في البصائر. وانبرى عدد من العلماء الآخرين ورجال الحركة الوطنية يردون على استخفاف الفرنسيين وذيولهم باللغة العربية. وظهرت هذه الردود في الصحافة موجهة أحيانا إلى الأفراد وأحيانا إلى العموم. كما ظهرت في شكل عرائض صادرة عن جمعية العلماء وأنصارها ومن جمعيات حرية الصحافة العربية، ومنها تقرير وفد مدينة بوفاريك الذي قدم إلى لجنة التحقيق الفرنسية سنة ¬

_ (¬1) قال ذلك أحمد لعيمش في (مجلة الجزائر وشمال إفريقية)، رقم 96. وقد أشار إلى ذلك ديبارمي في نفس المصدر، 1931، ص 31. وكان السيد لعيمش محاميا في محكمة الاستئناف بالجزائر. ولم يكن وحده في هذه الدعوى. (¬2) محمد الحاج الناصر في مجلة (المقتطف) أول نوفمبر 1947، ص 152 - 156، وهو مقال عن وضع الثقافة العربية في الجزائر. وقد ذكر أن بعض المثقفين الفرنسيين مثل جورج دوهاميل زار مصر ودعا فيها إلى تعلم اللغة والثقافة الفرنسية، وألقى محاضرة عنوانها (فرنسا هي حياتي). ودعا الحاج الناصر إلى المعاملة بالمثل من الجانب العربي ولا سيما من مصر وسورية.

1931 لائحة طالبت برفع الحيف على الجرائد العربية والكف عن اعتبارها صحافة أجنبية (¬1). وسارت صحيفة النجاح في هذا الاتجاه. ومنذ قرار ميشيل (1933) كانت جمعية العلماء ترفع عقيرتها بالاحتجاج والشكوى لأن ذلك القرار أضر بمصالح الجمعية ومنعها من تعليم اللغة العربية ومن إصدار صحفها بانتظام. وتلاقت عبارات التنديد بالإجحاف في حق العربية مع التنديد بدور الآباء البيض ورجال التنصير في الطعن في الإسلام، وسلوك الإدارة بخلق النعرات العرقية. ومن ذلك حملة جوزيف ديبارمي ضد استعمال اللغة الفصحى، وحملة مارسيل موران ضد الشريعة الإسلامية ودعواته للفصل بينها وبين العرف البربري، وادعاءات سيرفييه بأن العربية الدارجة خليط من الفينيقية وغير متصلة بالإسلام والمسلمين (¬2). وكان رد عبد الحميد بن باديس على لويس ماسينيون جزءا من هذه الردود. فقد ادعى هذا المستشرق المعروف أثناء سفره إلى القاهرة لحضور اجتماع مجمع اللغة العربية، بأن (اللغة العربية ليست غريبة عنا - الفرنسيين - بل هي جزء من تراثنا القومي). فرد عليه ابن باديس قائلا: إن ماسينيون لو أراد حقا خدمة العربية لنصح حكومته الفرنسية بالتوقف عن الإساءة إليها في الجزائر حيث هي محاربة وتعليمها مضطهد، ولطالب حكومته بجعل اللغة العربية لغة رسمية، ولدعا إلى حرية تعليمها. واستغرب ابن باديس من قول ماسينيون إن العربية من تراث فرنسا القومي، مؤكدا له أن ذلك مجرد مجاملة منه للمشارقة، وفيهم تلاميذه من أمثال طه حسين وزكي مبارك، أما الحقيقة فهي أن اللغة العربية إنما هي (تراث القومية العربية فقط) وليس لفرنسا شأن في ذلك، بل إن اللغة الفرنسية هي تراث القومية الفرنسية فقط (¬3). أما الشيخ أبو يعلى الزواوي فقد رد على لويس ماسينيون من جهة أخرى. فحين دعا ماسينيون العرب إلى استعمال الحروف اللاتينية، كما فعل الأتراك، اتهمه ¬

_ (¬1) أحمد توفيق المدني (كتاب الجزائر)، ص 344. (¬2) شارل روبير أجرون (الجزائريون المسلمون) 2/ 887. (¬3) ابن باديس (حول تصريحات م. ماسينيون) البصائر، 20/ 1/ 1939.

الزواوي باستعمال (الخزعبلات والسفسطات) (¬1) ويروى ديارمي أنه أراد أن يختبر غيرة أحد الجزائريين المتعلمين بالعربية فقال له: إن الفرنسيين قد تخلوا عن اللاتينية ... فرد عليه ذلك (الطالب) الجزائري قائان: إن الفرنسيين لم يكونوا يقاومون احتلالا أجنبيا. ثم حاجج ديبارمي طالبا آخر في استحالة نشر اللغة العربية (التي يسميها ديبارمي (لغة قريش) (تبعيدا لها عن الجزائريين) فاخبره هذا الطالب أن معجزة الاستقلال تتحقق عن طريق الدين الحق والعقيدة الوطنية. فاستنتج ديبارمي من هذا الرأي أنه يمثل خلاصة الوضع اللغوي وطموحاته في الجزائر، وهو ما يسميه برد الفعل اللغوي (¬2). ولقد لعبت الصحافة والنوادي الجديدة دورا بارزا من أجل تثبيت اللغة العربية الفصحى. واتفقت في ذلك صحافة الحركة الإصلاحية وصحافة الطرق الصوفية والصحافة المستقلة. فأغلبها قد أيد نشر التعليم بالعربية الفصحى. ويصف ديبارمي دور الصحف والنوادي بأنه ليس قيادة الرأي العام فقط ولكن إنشاء (لغة المستقبل)، وهي حسب تعبيره، (لغة قريش القديمة)، أو (اللغة المقدسة). وكان هدف هذه الصحافة هو تطوير اللغة العربية وتطويعها وجعلها مناسبة لشروط الحياة العصرية. إن الصحافة كانت تعطي درسا يوميا للشعب عن اللغة الوطنية. وكانت هذه الجرائد تتوقف من وقت لآخر لعدم وجود القراء - ولم يقل ديبارمي بسبب المنع الإداري? ولكن سرعان ما تظهر صحف أخرى تعوضها وتواصل الهجوم على الجهل. ويقول ديبارمي في شيء من السخرية والمرارة أيضا إن أبطال هذه الصحف يملأون دائما حفر أجداثهم، عارفين أن تضحياتهم لن تذهب أبدا سدى (¬3). إن المسألة اللغوية قضية حياة أو موت للشعوب المغاربية، حسب الجرائد الجزائرية. وهي شعوب، كما يقول ديبارمي، متفقة على ذلك. وقد جعلتها ¬

_ (¬1) جريدة (الإصلاح) 28 نوفمبر 1947. (¬2) ديبارمي، مرجع سابق، ص 33. (¬3) نفس المصدر، ص 23.

الدراسات البربرية

موضع دراستها واهتمامها الدائم. إن تلك الجرائد أصبحت تصف الإنتاج البوربري (الملحون) بأنه (كلام عوام) وتتعجب من كون المشاركين في الاحتفال المئوي (1930) يهتمون بالفلكلور والأدب الشعبي ولا يهتمون بالقصيدة الفصيحة (¬1). وهكذا نرى أن إهمال الفصحى والعناية بالدارجة الذي بدأ مع الاحتلال قد تحول بعد مائة سنة إلى العكس على يد الشعوب المغاربية، أي العناية بالفصحى وقلة الاهتمام بالدارجة، لأن الفصحى هي لغة الدين والتراث والقومية والاستقلال. الدراسات البربرية عرفنا أن دراسة اللغة العربية ولهجاتها كانت قائمة عند الفرنسيين، منذ بداية الاحتلال، على حاجتهم إلى فهم الشعب الجزائري وتوفير وسيلة الاتصال به والتجارة معه ومع غيره. أما دراسة البربرية ولهجاتها فقد جاءت فيما يبدو، نتيجة لما سمي بالسياسة الفرنسية البربرية، وهي السياسة التي قامت على تبعيد السكان عن بعضهم وتقسيمهم إلى بربر وعرب، وأقلية وأغلبية، لكي تظل الكلمة الفصل للفرنسيين أنفسهم. وعلى هذا الأساس تكون السياسة سابقة للدراسة. وقد عرفنا في مكان آخر أن السياسة البربرية بدأت مع بحوث العقيد كاريت في الأربعينات من القرن الماضي. ثم توسع فيها وعمقها الدكتور وارنييه في الستينات، ثم واصلها وكشف عنها كميل صابتييه خلال الثمانينات والتسعينات. وقد تبنتها إدارة الشؤون الأهلية والكنيسة. أما الإدارة فقد سلكت تلك السياسة في ميادين التعليم والقضاء والضرائب والتقسيم الإداري والنيابة ونحو ذلك. وكان آخر ذلك إحلال القضاء الفرنسي محل الشريعة الإسلامية، وإحلال ¬

_ (¬1) نفس المصدر، ص 10. وبعد الحرب العالمية الثانية رجعت (البصائر) في سلسلتها الثانية (1947) إلى نفس الدفاع عن التعليم الحر بالعربية وإحياء الفصحى، بل بلهجة أشد حدة وأكثر وعيا.

القضاة الفرنسيين محل القضاة المسلمين، في المناطق التي سميت بالبربرية. ومنها إحداث قسمين (عربي وبربري) في المجلس النيابي بالعاصمة سنة 1898، وهكذا (¬1). أما الكنيسة فقد ذهبت تنشط برجالها ونسائها البيض في الجبال والصحارى بحثا عن الضحايا وضعاف الإيمان، حسب رأيها، لكي تنشر بينهم العلاج الطبي ومبادئ اللغة الفرنسية وبعض الصنائع. وبذلك تهيأ الجو لفهم ودراسة البربرية، والمقصود بها عندئذ لهجة زواوة? القبائلية. يقول رينيه باصيه الذي تخصص بعد وصوله إلى الجزائر سنة 1880 في تعلم وتعليم البربرية: إن الاهتمام بلهجاتها ودراستها بدأ منذ حوالي التسعينات. وأخبرنا أن الحكومة وكذلك أكاديمية الآداب والفنون الفرنسية قد شجعت على ذلك ورصدت له الجوائز. ومن جهة أخرى خصصت مؤسسة قارنييه Garnier أموالا لبعثة دراسية للهجة زناقة (صنهاجة) بالسينيغال. وبعد أن ذكرنا باصيه بأعمال هانوتو عن لهجة وشعر ونحو زواوة، قال إن (المجلة الآسيوية) فتحت صفحاتها لأعمال تكمل ما بدأه هانوتو. ثم توالت الدراسات للهجات البربرية الصحراوية في الجزائر والمغرب وليبيا أيضا. وقد قامت الحكومة نفسها بنشر القاموس الذي تركه الراهب، شارل دي فوكو، حول لهجة الهقار (القاموس الهقاري - الفرنسي)، وبنشر عمله أيضا في النحو التارقي (¬2). ثم تضاعفت الدراسات البربرية، لغة ومجتمعا، بإنشاء عدة كراس لها في مدرسة اللغات الشرقية بباريس وفي المعهد الذي أنشأه المارشال ليوطي في الرباط تحت عنوان المعهد العالي للدراسات المغربية، كذلك استحدث في المغرب مشروع الأرشيف البربري في مقابل الأرشيف المغربي الذي بدأ في باريس سنة 1906. وبدعم من حكومة الحماية في المغرب نشرت أعمال عن اللهجات الشلحية والبرابر ولهجة النتيفة. ¬

_ (¬1) انظر فصل مذاهب وتيارات. (¬2) رينيه باصية (تقرير عن جهود فرنسا) في (المجلة الآسيوية)، 1920، ص 93. وكان باصية هو الذي أشرف على إعداد ما تركه دي فوكو من أوراق للنشر.

ومن الدراسات المبكرة للبربرية ما قام به هانوتو. إن هذا الضابط الذي كان حاكما لزواوة فترة طويلة، قد سبق غيره في الاهتمام بلهجتها وأصدر بشأنها عدة مؤلفات جاءت نتيجة اعتماده على علماء المنطقة وبحوثه في عين المكان. وقد خرج من ذلك بالكتاب الضخم الذي أصدره بمعية زميله لوتورنو، بعنوان جرجرة وعاداتها. كما أصدر هانوتو كتابا آخر عن النحو القبائلي، وثالثا عن الشعر الشعبي في زواوة. وقد تولت نشر ذلك الحكومة والوزارة الفرنسية. ومن أعمال هانوتو حول البربرية كتابه عن النحو التمشقي (لهجة الهقار). كما أن بروسلار ألف قاموسا عن اللهجة البربرية لبجاية. وقد أصدرت نشرة (المراسل الإفريقي) التي كانت تصدر عن مدرسة الآداب في الجزائر، مؤلفات كاملة عن اللهجات البربرية في واحة سيوة وغات والهقار والونشريس، وبنى سنوس وميزاب وزناقة ودمنات بالأطلس المغربي وبعض لهجات تونس. ونحن نعرف أيضا أن إيميل ماسكري قد اهتم باللهجة الشاوية ونشر عنها، بينما موتيلانسكي نشر عن لهجات ميزاب وغدامس وغيرهما. ويخبرنا رينيه باصيه الذي كتب سنة 1920، أن ما بقي ينتظر الإنجاز في هذا المشروع - الدراسات البربرية - هو دراسة كل لهجة على حدة، وإصدار مؤلفات عن النحو والمعاجم والألفاظ المقارنة، على امتداد سيوة شرقا والمحيط غربا والأبيض المتوسط شمالا ونهر النيجر جنوبا (¬1). وقد نشطت الدراسات البربرية كثيرا. في عهد رينيه باصيه وابنيه وتلاميذه. وقدم هو تقارير عن تقدم هذه الدراسات للمؤتمرات العلمية الأروبية، ومنها مؤتمر المستشرقين الذي عقد في همبورغ سنة 1902. فكان تقرير باصيه قد تضمن مسحا كاملا لما أنجز من دراسات حول البربرية والهوسة (¬2) خلال سنوات 1897 - 1902. وبقطع النظر عن رأي باصيه ¬

_ (¬1) رينيه باصية (تقرير)، المجلة الآسيوية، 1920، ص 93 - 94. (¬2) باصية، تقرير عن الدراسات البربرية والهوسة، باريس، 1902.

والفرنسيين في الموضوع، فإن التقرير ما يزال مفيدا جدا. أما التقرير الثاني فقد قدمه إلى نفس المؤتمر والذي انعقد في كوبناغن سنة 1908 (¬1). ثم تولى ولداه هنري وأندري باصيه المهمة بعده. فعمل أحدهما في الرباط في معهد الدراسات البربرية، وعمل الآخر في الجزائر. وتصادف هذا النشاط مع احتلال المغرب. ولذلك جندت فرنسا لهذه الدراسات بعض الجزائريين من زواوة، ومنهم بوليفة ونهليل ومعمري. فأرسلت الأول في مهمة دراسية إلى المغرب، وأرسلت الثاني والثالث للتدريس والاتصالات. كما تولى ديستان (وهو تلميذ باصيه) كرسي البربرية في مدرسة اللغات الشرقية بباريس بعد أن أدار مدرسة السينيغال. ويذكر أحد الباحثين، وهو إدمون بورك، أن تنافسا حدث بين مدرسة لوشاتلييه ومدرسة ليوطي حول الدراسات البربرية في المغرب. فبينما كان شاتلييه متوليا لمؤسسة البعثة المغربية العلمية ومجلة العالم الإسلامي وكرسي علم الاجتماع الإسلامي في باريس (الكوليج دي فرانس)، كان ليوطي قد أنشأ في المغرب معهد الدراسات المغربية العالية لدراسة البربرية، وظل (ليوطي) مرتبطا بمدرسة الاستشراق في الجزائر ومدرسة المكاتب العربية العسكرية فيها. وهو الذي جاء بمحمد نهليل الزواوي لتدريس البربرية في المعهد المذكور (¬2). ولا شك أن محمد معمري كان يعمل أيضا تحت سلطته. ومنذ وفاة رينيه باصيه سنة 1924، واصل تلاميذه تنشيط الدراسات البربرية في الجزائر، وكان منهم بوليفة وألفريد بيل وجوزيف ديبارمي. أما من الناحية الإقليمية فقد اعتنى علماء الفرنسيين باللهجات البربرية، وأصدروا بشأنها مؤلفات ومقالات وقواميس. فقد اهتم إيميل ماسكري كما سبق بالبربرية عموما. وزار بنفسه المناطق المدروسة وعمل في بعضها، ¬

_ (¬1) باصية، تقرير عن الدراسات البربرية والهوسة، باريس، 1908. (¬2) إدمون بورك E. Burke (الأزمة الأولى للاستشراق 1890 - 1914) في كتاب (معرفة المغرب - العربي -) إشراف جان ك. فاتان.

ونشر عنها دراسات وارتبط ببعض علمائها. وقد تعرضنا إلى ذلك في مكان آخر. وكان ماسكري قد ظل على علاقة علمية، وربما سياسية، مع الشيخ محمد بن يوسف أطفيش، وهو الذي استكتبه حول تاريخ ميزاب. وكان ماسكري هو الذي أوصى باحتلال ميزاب سنة 1882 بعد أن كانت محمية منذ 1853. وفي تنويهه به ذكر أوغسطين بيرنار أن ماسكري يقف على درجة واحدة مع الضباط والإداريين الفرنسيين المخلصين، لأنه فهم أن مهمة فرنسا القائمة على السيف والمحراث قد أتت أكلها وحانت مهمة فرنسا القائمة على الكلمة والقلم، حسب تصور بيرنار (¬1). ويأتي موتيلانسكي على أثر ماسكري في الاهتمام باللهجات البربرية الإقليمية. وخلافا لماسكري المولود في فرنسا، ولد موتيلانسكي في مدينة معسكر وتربى بين الجزائريين، ودرس في ثانوية الجزائر. واشتغل في الترجمة العسكرية، وأرسلته حكومته في مهمات إلى ميزاب أثناء احتلالها فدرس لهجتها أيضا ومذهبها وعاداتها ومخطوطاتها. ثم أخذ يتوسع في الاهتمام باللهجات فتاقت نفسه إلى التعرف على لهجات الهقار وغدامس وما وراء ذلك. وبقي خمس سنوات في ميزاب فتمكن من (اكتشاف) الصحراء عن طريق العلماء وأدلاء القوافل وربط علاقات معهم. وكان نشره للمخطوطات الإباضية قد أدخله إلى عالم الاستشراق. فتولى كرسي اللغة العربية وإدارة مدرسة قسنطينة، فكان بذلك يشرف على الدراسات العربية والإسلامية في عاصمة الشرق الجزائري، ولكنه ظل مهتما أيضا بالدراسات البربرية. فكتب بحثاعن لهجات جبل نفوسة (ليبيا) سنة 1885. وفي 1903 أرسلته الحكومة إلى وادي سوف لدراسة اللهجة الغدامسية عن طريق السوافة الذين كانوا أدلاء القوافل إلى غدامس، وعن طريق تجار غدامس في سوف. وقدم عن ذلك دراسة تاريخية وجغرافية ولغوية ونشرها سنة 1904، وفي 1906 توجه إلى الجنوب الأقصى لاستكشاف المنطقة ودراسة لهجتها فعاد من ذلك ¬

_ (¬1) أوغست بيرنار (إيميل ماسكري) في (المجلة الإفريقية)، 1894، ص 350 - 369، ترجمة كاملة لحياته وأعماله. عن ماسكري انظر أيضا فصل الاستشراق.

ببحث عن غات وغدامس ولهجات التوارق، مع نصوصں وحكايات (¬1). واعتنى ديستان بلهجة بني سنوس أثناء توليه إدارة مدرسة تلمسان بعض الوقت. وأثناء ذلك أيضا تعرف على لهجات معسكر وندرومة وتلمسان وسعيدة، واللهجات البربرية المحيطة بالمنطقة، مثل لهجة بني سنوس. وعن طريق تلاميذه كان ديستان يحصل على المعلومات - وهي طريقة سلكها معظم الدارسين (المستشرقين وغيرهم) الفرنسيين كما لاحظنا - فبواسطة تلميذ له يدعى بلقاسم بن محمد تمكن من نص بربري مكتوب بالحروف العربية، وهو نص يتعلق بالاحتفال بشهر الناير أو رأس السنة عند البربر (¬2). وقد صادف نشر هذا النص حملة المستشرقين الفرنسيين في جمع النصوص العربية والبربرية ودراستها وتصنيفها. وفي هذه الأثناء نشر دومينيك لوسياني عدة نصوص بربرية مترجمة إلى الفرنسية وأحيانا مع حروفها العربية. وقد استعان على ذلك بالشيخ محمد السعيد بن زكري، أحد علماء زواوة، وكان ابن زكري من المدرسين والمفتين أوائل هذا القرن. وبواسطته نشر لوسياني بعض النصوص للشيخين: إسماعيل أزيكيو ومحمد بن محمد (سي محند). كما نشر لوسياني نص كتاب بالبربرية في الفقه بالحروف العربية ألفه أحد فقهاء السوس بالمغرب، وهو محمد بن علي بن إبراهيم، من أهل القرن 18 الميلادي. وعنوان الكتاب هو (الحوض) (¬3). ¬

_ (¬1) عن رحلته إلى سوف سنة 1903 انظر (المجلة الآسيوية) م 2، السلسلة 10، ص 157 - 162. انظر عنه أيضا أرمون ميسبلي في (المجلة الجغرافية للجزائر وشمال إفريقية) SGAAN، 1907، ص 119 - 121. ومجلة (روكاي) 1907، ص 1 - 14. وقد ترجمنا هذه الرحلة ونشرناها في (الثقافة). (¬2) ديستان (أناير عند بني سنوس) في (المجلة الإفريقية)؟ ص 51 - 70. النص البربري ص 51 - 55 فقط. (¬3) لوسياني (الحوض) في (المجلة الإفريقية) 1896 - 1897. انظر دراستنا عن هذا الكتاب في (أبحاث وآراء)، ج 4.

إن هذه الدراسات البربرية والبحث في لهجات البربر عبر مساحة شاسعة في منطقة المغرب العربي قد امتدت أيضا إلى المناطق الصحراوية والجنوبية، كما ألمحنا. وقد بدأ ذلك في وقت مبكر أيضا. فكتابات كاريت في الأربعينات من القرن الماضي عن التجارة الصحراوية وعن طرق القوافل قد مهدت لذلك. كما مهد لذلك تقرير جيسلان Geslin الذي استقر في الأغواط منذ أوائل الخمسينات واتخذ منها نقطة اهتمام بالجنوب. وقد ذكرنا أنه كتب خمسة عشر كراسا عن اللهجات مع النصوص وقدمها إلى الحاكم العام (راندون) الذي قدمها بدوره إلى جمعية المستشرقين في باريس. وقد تولى المستشرق رينو Rienaud قراءة تقرير عنها في أكاديمية الفنون والآداب 14 و 19 مارس 1856 وكانت اللجنة التي استمعت إلى التقرير مؤلفة من أعيان الاستشراق الفرنسي، ومنهم جومار ودي سولسي، وكوسان. لقد جمع جيسلان معلوماته من أفواه العلماء والرحالة الذين كانوا بالأغواط أو كانوا يترددون عليها. ووصل اهتمامه إلى جنوب الصحراء وإفريقية الوسطى (¬1). ثم توالت الرحلات والاهتمامات باللهجات البربرية وحالة سكان الصحراء والجنوب. فكانت رحلة إسماعيل بوضربة إلى غات سنة 1858 (¬2) ثم رحلة هنري دوفيرييه إلى غات وغدامس سنوات 1859 - 1861. وقد ترك لنا الأخير معلومات هامة عن لهجات الناحية والأبجدية المستعملة. ومن أفواه سكان الناحية وعلمائها نعلم أن اللهجة كانت تسمى التماشك (التمشق) أو التماهق، حسب الأمكنة. وأن العرب قد أطلقوا عليها اللهجة التارقية، ¬

_ (¬1) تقرير حول لهجات الجزائر، باريس 1856. في مجلة الشرق؟، وبلغ التقرير وحده 26 صفحة. ومن المعروف أن أحد متعلمي الأغواط كتب حوالي سنة 1826 رحلة عن حالة سكان الصحراء ولهجاتهم. وقد نشرنا ذلك مترجما عن وليام هودسون الأمريكي. انظر أبحاث وآراء، ج 2. فهل حصل جيسلان على نسخة كاملة من الرحلة المذكورة؟ وهل عاش الحاج ابن الدين، صاحب الرحلة، إالى أن لقي جيسلان؟. (¬2) عن رحلة إسماعيل بوضربة انظر فصل التاريخ والرحلات.

نسبة إلى المتكلمين بها، وهم التوارق = التوارك. وقد حصل دوفيرييه على نسخة من كتاب في تاريخ الأزجر والهقار، ألفه الشيخ إبراهيم ولد سيدي، أحد علماء التوارق. وكان قد كتبه بطلب من الشيخ محمد العيد بن الحاج علي التماسيني، شيخ الزاوية التجابة. وقد جاء في الكتاب أن الأصول القبلية لسكان الأزجر ترجع إلى الأدارسة، فهم أشراف، وقبائلهم هي الإيفوغاس والإيمنان (السلاطين). على أن بعضهم كانوا من بني أمية، حسبما جاء في الكتاب. وبدون شك فإن بعضهم كانوا من أشراف البربر، وقد اختلطت دماؤهم وأحسابهم بأشراف العرب سواء كانوا من المغرب والأندلس أو من صحراء الجزائر اليوم. وتدل أسماؤهم ولهجتهم على الأصول البربرية. وأخبر دوفيرييه أن هناك فرنسيين قبله اهتموا باللهجات البربرية، وذكر منهم فانتور دي برادي وديلابورت وبروسلار وهانوتو. كما ذكر أن المكتشف الدكتور أودني ouadny قد جمع أبجدية من تسعة عشر حرفا سنة 1822 كان التوارق يعبرون بها عن كلامهم وأفكارهم. ولا ندري كيف توصل هانوتو إلى معرفة لهجة الهقار - التمشق - حتى ألف كتابا في نحوها وجمع شعرا وحكايات وقصصا حولها. فنحن نعلم أنه لم يذهب إلى هناك وربما لم يخالط أحدا من أهلها. والغريب أنه ألف ذلك الكتاب في نحو اللغة التمشقية، وظهرت الحروف المعروفة بالتفيناغ (الفينيقية) في المطبعة أيضا. وقد عرفنا في مكان آخر أن أحد علماء الهقار قد زار باريس وأخذه الفرنسيون إلى المطبعة وطبعوا أمامه نصا بالحرف التفيناغ والحروف اللاتينية لتخليد الذكرى. وفي سنة 1862 أصدرت مطبعة هريسون الإنكليزية كتابا في النحو بلهجة التمشق عنوانه (الخلاصة النحوية في لهجة التماشق) وقد ألفه ستانلوب فريمان الذي كان حاكما لمدينة لاغوس (بنيجيريا اليوم). وكانت الجمعية البيبلية (الإنجيلية) الإنكليزية قد أصدرت قبل ذلك بلندن بعض الكتابات حول لهجة التماشق بناء على ما عثر عليه جيمس ريتشاردسون الذي توفي أثناء رحلته الاستكشافية.

وبناء على دوفيرييه فإن لهجة جنوب الهقار تسمى التماشق ولهجة شماله تسمى التماهق. وأن النساء هن اللائي كن يعرفن القراءة والكتابة بهذه الحروف. أما الرجال فلا يتجاوز الذين يعرفونها الثلث. وعندما طلب من يعلمه إياها تطوع بعض النسوة لذلك. وقد أطلعهن على كتاب هانوتو في النحو التماشقي، فتعجبن منه وافتخرن به (؟) ونعلم من دوفيرييه أن هانوتو لم يزر المنطقة، ولذلك لم يفرق بين لهجتي الشمال والجنوب. ونعلم أيضا أن بنواحي الهقار أربع قبائل رئيسية تتكلم لهجات مختلفة ولكنها حافظت على نفس الحروف الكتابية. غير أن أشكال الحروف كانت تختلف من لهجة إلى أخرى حسب إرادة العلماء والنساخ، وهكذا فإن الحروف التي شاهدها دوفيرييه لا تختلف، في رأيه، عن حروز التقة Tugga المعاصرة للعهد القرطاجني. وتكتب التفيناغ من اليمين إلى اليسار كالعربية، ولكنها ذات حروف حرة يمكن كتابتها عموديا أو أفقيا أو من فوق إلى أسفل أو العكس. وفي كل الحالات يمكن للحرف أن يلتفت نحو اليمين أو نحو اليسار، أو إلى فوق أو إلى أسفل. وهكذا فإن حرف ط وشكله هو E يمكن أن يكتب: E، أو w أو m وقد أورد دوفيرييه الأبجدية التفيناغية على صفحة 388 (¬1). ومن جهة أخرى أخبر أن الكتابة التفيناغية موجودة في شكل حروف على الصخور والأسلحة والآلات الموسيقية والأساور والجلود والمطروزات، الخ. أما الكتابات الجادة كالمراسلات والتواريخ والمؤلفات فهي بالعربية. وهناك نسخة من كتاب في الشريعة والفقه مترجمة إلى التماهك بالحروف العربية. وقد أخبره الشيخ عثمان أن نسخة منها توجد عند الشيخ إبراهيم ولد سيدي، عالم قبيلة إيفوغاس الذي سبق ذكره. ويبدو أن دوفيرييه قد حصل على نسخة ¬

_ (¬1) هنراي دوفيريه (اكتشاف الصحراء)، باريس، 1864، ص 318 - 323، 389. لام دوفيرييه (التعصب السياسي) للمسلمين على محو اللغة القرطاجنية (الفينيقية)، وهي التي حافظ عليها، في نظره، سكان الهقار. وهو رأي لم يخل من تعصب أيضا، لأن المسلمين لم يحاربوا أية لغة ولم يفرضوا أية لغة. وقد انتشرت العربية كوسيلة لفهم الدين وليس كلغة قومية كما فعل الفرنسيون.

منها لأن الشيخ عثمان وعده بذلك، كما حصل من قبل (أي دوفيرييه) على نسخة من التاريخ الذي كتبه إبراهيم ولد سيدي ليحملها إلى الشيخ محمد العيد التجاني (¬1). ... إن الصلة بين عائلة دوفيرييه والدكتور وارنييه كانت وطيدة. فقد كان وارنييه صديقا لوالد هنري دوفيرييه الذي كان من الكولون البارزين. وعندما رجع هنري من رحلته مرض وكاد يقضي نحبه لولا علاج وارنييه له. ولم يعاود هنري رحلته إلى الصحراء رغم محاولات الضغط عليه، لأنه كان في مقتبل عمره عندما قام بالرحلة الأولى. وفي الوقت الذي نشر كتابه عن أحوال التوارق ولهجاتهم وحروفهم وطعن في المسلمين المتعصبين، كما قال، والعرب الفاتحين، كان الدكتور وارنيه يشن حملته ضد مشروع المملكة العربية الذي قيل إن نابليون الثالث قد تبناه. فقد نشرت رحلة دوفيرييه سنة 1864 وهي السنة التي أصدر فيها الدكتور وارنييه أيضا - كتابه الأول ضد المشروع المذكور ثم كتابه الثاني سنة 1865. وإذا كان تركيز دوفيرييه على الجغرافية واللهجات والأحوال الاجتماعية للتوارق فإن تركيز وارنييه كان على الأعراق والطبائع والملامح الاجتماعية والأنثروبولوجية للبربر. فهو لم يكن مهتما باللهجات إلا بقدر ما تساعده على الوصول إلى إحصاءاته في عدد السكان البربر ومواقعهم (¬2). وكان موقف بعض الكتاب والباحثين من البربرية موقفا سياسيا. محضا. فكميل صابتييه لم يكن دارس لهجات ولا متخصصا في التعليم والبحث وإنما استعمل البربرية (الزواوية) سلاحا سياسيا. فهو رجل إداري وسياسي قبل كل شيء. وقد ظهرت محاولاته في مجال التشريعات والنظم، مثل إنشاء فرع خاص بأهل زواوة في مجلس الوفود المالية الذي أنشئ سنة 1898. وكان ¬

_ (¬1) نفس المصدر. (¬2) عالجنا هذه المسائل في فصل مذاهب وتيارات.

جان سيرفييه من الصحفيين وليس من اللغويين أيضا. فشن حملته على الإسلام والجامعة الإسلامية والعرب، واعتبرهم جميعا خظرا داهما على الفرنسيين. ولكنه من الوجهة السياسية اعتبر اللغة الدارجة خليطا من الفينيقية، وقال إن الفاتحين المسلمين لم يحملوها معهم. وسار مارسيل موران، الأستاذ في الشريعة الإسلامية والأعراف البربرية في جامعة الجزائر، على ذلك النهج أيضا، فقال إنه كان على فرنسا ألا تعين القضاة المسلمين على مناطق الأوراس والبيبان لأن ذلك اعتراف منها بأن أهلها مسلمون راسخون. وأعلن موران أيضا أن هناك تنازعا بين الشريعة الإسلامية والعرف الزواوي لأن أهل زواوة في زعمه (قد رفضوا الشريعة القرآنية تماما) (¬1). وقد تجاهل موران طلب زعماء زواوة في نفس الوقت بتعيين القضاة المسلمين عليهم وكتابة السجلات باللغة العربية أسوة ببقية الوطن، بل كانوا يطالبون بالتخلص من العرف، ولكن لوسياني وجونار وشارل ليطو أبقوا على العرف البربري لأسباب سياسية. ومع ذلك ظل المواطنون يتوجهون إلى القضاة والموثقين المسلمين الذين كانوا يحررون السجلات بالعربية. وحتى ألبان روزي الذي قيل عنه إنه كان صديقا للجزائريين، طالب سنة 1913 بأن تحرر كل البيانات الموجهة إلى أهل زواوة بالفرنسية أو بالزواوية (أي بالحروف اللاتينية فقط). ومنذ أعلن روزي ذلك أيدته الصحافة الاستعمارية التي كانت قد عارضته في مواقفه الأخرى، ولكنها طالبت بأن تكون البيانات محررة بالفرنسية فقط (¬2). وكانت كتابات الشيخ محمد السعيد الزواوي المعروف بأبي يعلى تهاجم منذ نهاية الحرب العالمية الأولى ما آل إليه الوضع القضائي في زواوة. وكان الزواوي تارة يصب نقده على قومه لركونهم إلى ما فرضه الفرنسيون عليهم من إجراءات مقصودة. وتارة يصب غضبه على الإدارة التي سعت عن قصد إلى الإبقاء على الأعراف القديمة في المنطقة لضرب الشريعة، وتعرض أبو يعلى إلى مسألة عدم توريث المرأة وعدم الاحتكام إلى الشريعة في ذلك. ¬

_ (¬1) آجرون (الجزائريون المسلمون)، 2/ 887. (¬2) نفس المصدر، 2/ 880، وأيضا 1/ 291 - 292.

الدراسات النحوية والمعاجم

أما الجانب اللغوي فقد أعلن الزواوي أنه كتب مقالات عن النحو والصرف في الزواوية ونشرها في بعض الصحف المصرية خلال الحرب الأولى. وبحث كذلك في أصول اللهجات والمفردات المنتشرة في بلاد المغرب وفي المشرق. وانتهى إلى أن لغة البربر لغة يمنية قديمة، وأنها تعتمد على حروف المسند الحميري. وقد جاء بألفاظ وعبارات تبدو بربرية تماما ميل: (آيت) و (مقران)، وقال إنها موجودة أيضا في مناطق عربية اليوم مثل اليمن والعراق (¬1). وهكذا تكون الدراسات البربرية قد تسيست من قبل الإدارة والمستشرقين الفرنسيين كما تسيست الدراسات العربية عندهم. فقد كانت كل الدراسات تخدم الهيمنة الاستعمارية وتهدف إلى الإبقاء على الاستعمار قويا ثابتا - عن طريق تفتيت الروابط اللغوية والدينية والثقافية للجزائريين، لكي تسود اللغة الفرنسية ومشتقاتها الثقافية (¬2). وكان على الحركة الوطنية أن تناضل بقسوة لكي تتغلب على هذه العراقيل وتخلق في المواطنين روحا، وطنية واحدة ولسانا واحدا. ورؤية واحدة. الدراسات النحوية والمعاجم حال توقف التعليم العالي واضطراب أحوال العلماء دون الإنتاج في ميدان الدراسات النحوية والمعجمية. وظلت الدروس النحوية الباقية تعتمد ¬

_ (¬1) أبو يعلى الزواوي، جريدة (الإصلاح) عدد 28 نوفمبر، 1947. كذلك كتابه (جماعة المسلمين)، ص 63. لاحظ الزواوي أن المسلمين الذين أخذوا بالتعاليم الأجنبية من أروبا، مثل الزواوة، مغلوبون لمن أخذوا عنهم ومقلدون لهم، قائلا إنه ثبت عنده ذلك (بكل برهان). ولا شك أنه لا يقصد بذلك العموم وإنما يقصد نفرا تشبعوا بأفكار ودعايات الآباء البيض. ولعل الجريدة التي نشر فيها الزواوي وهو في مصر هي صحيفة (النذير). وربما نشر أيضا في صحيفة (البرهان) التي كان يديرها عبد القادر المغربي. (¬2) عن موقف الفرنسيين من العرب والبربر، انظر أيضا فصل مذاهب وتيارات.

على الكتب التقليدة القديمة مثل قطر الندى والألفية. ورغم ظهور الطباعة فإن التأليف في علم النحو لم يستأنف إلا في آخر القرن الماضي، وعلى أيدي عدد قليل من العلماء الجزائريين. وقد ظل بعض علماء الزوايا التعليمية يختصرون لتلاميذهم المطولات أو يضعون لهم موجزات في النحو تتلاءم مع عقولهم، كما فعل أبو القاسم البوجليلي وعبد القادر المجاوي. إن الجناية على اللغة العربية في عهد الاحتلال تظهر أكثر ما تظهر في توقف الإنتاج الأدبي والدراسات النحوية والصرفية. أما المعاجم فقد ساهم فيها الجزائريون أيضا بطريقة تختلف عن نهج أجدادهم لأنها طريقة كانت تخدم اللغة والثقافة الفرنسية، أكثر مما كانت تخدم العربية إذ أنهم وضعوا قواميس عربية دارجة - فرنسية أو اشتركوا فيها مع بعض المستشرقين والعسكريين الفرنسيين. أما العلماء الفرنسيون فقد أكثروا من هذه المعاجم إكثارا يدل على اهتمامهم بالدارجة العربية والبربرية معا، ويدل على أنهم قد أخذوا هذه الدراسات في أيديهم ونزعوها من أيدي الجزائريين بعد أن قضوا على الحركة الأدبية واللغوية منذ قضائهم على تعليم اللغة نفسها. وسنلاحظ أن بعض الفرنسيين قد تعاونوا أيضا مع بعض المشارقة مثل، أحمد فارس الشدياق، في وضع قاموس فرنسي - عربي موجه إلى أهل الجزائر وغيرهم. انقطعت الدراسات النحوية واللغوية إذن بانقطاع تيار التعليم العام. وقد عرفنا أن تعليما مقيدا جدا ظل متواترا في بعض الزوايا التعليمية مثل زاوية ابن أبي داود وزاوية طولقة وزاوية الهامل. وكان شيوخ هذه المؤسسات يستعملون النصوص والشروح القديمة وقلما يخرجون عنها. الى غيرها. وهي لا تكاد تخرج عن شرح قطر الندى، وشرح ابن عقيل على الألفية، وكذلك شرح الآجرومية للشريف ابن يعلى. وربما لا يدرسون الأشموني إلا في المعاهد الإسلامية خارج الجزائر. وقد ظلت هذه المؤلفات هى المستعملة أيضا فى المدارس الثلاث

الرسمية التي أسسها الفرنسيون سنة 1850. فقد كان من مدرسيها من قرأ في الجزائر فقط مثل محمد الشاذلي، وحسن بن بريهمات، ومن تخرج من المغرب مثل عبد القادر المجاوي، ومن مصر مثل محمد الزقاي. وهناك آخرون تلاحقوا بعدهم. كما أن دروس المساجد الرسمية قد اشتملت منذ أول هذا القرن على دروس في النحو موجهة إلى التلاميذ الراغبين في متابعة دراستهم في المدارس الرسمية الثلاث. وهكذا انتصب عدد من الشيوخ لتدريس مادة القواعد النحوية والصرفية على مستوى بسيط مما اضطر بعضهم إلى وضع مختصرات، كما ذكرنا. ومن جهة أخرى كان المستشرقون الفرنسيون قد تكفلوا بوضع كتب مدرسية على المقاس الرسمي، وبعضها قد ترجموه من العربية إلى الفرنسية لكي يتماشى نظام التعليم متوحدا، فيعلم المعلم العربية بواسطة الفرنسية. فقد تكونت لجنة رسمية للتأليف والترجمة في آخر القرن الماضي وعهد إليها بهذه المهمة. ولا يعني هذا أنه لم يشتهر من الجزائريين علماء في النحو والقواعد، أو كان حظهم من ذلك هو فقط الحفظ والنطق. فالنحو مادة تعتمد على المنطق والأدب والذاكرة القوية. وكلما اشتهر أحد الجزائريين في حفظ القواعد النحوية لقبوه بسيبويه زمانه. فكان ذلك مثله هو حال الشيخ ابن يامنة بن دوخة، خال الأمير عبد القادر، وهو من أشراف غريس وأولاد سيدي أعمر (¬1). وكان الطيب بن المختار من الأدباء والنحويين، ولكنه لم يؤلف في ذلك على ما نعلم (¬2). ونحن هنا إنما نتحدث عما وصلنا أو اطلعنا عليه من مطبوعات أو مخطوطات. ومن الأكيد أن هناك ما لم يصل إلينا. ولنذكر باختصار ما وصل إلى علمنا من مؤلفات مخطوطة أو مطبوعة، أولا في علم النحو، وثانيا في المعاجم: ¬

_ (¬1) الطيب بن المختار (القول الأعم)، ص 333 من كتاب (مجموع النسب) للهاشمي بن بكار. (¬2) تحدث عنه صاحب (تحفة الزائر) وكان الطيب بن المختار قريبا من الأمير عبد القادر. انظر عنه فصل السلك الديني والقضائي.

1 - اشتهر الشيخ محمد بن يوسف أطفيش بالتأليف، ووصلت تآليفه إلى 300 بين صغير وكبير، ومنها أرجوزة نظم بها كتاب المغني لابن هشام، وهي في 500 بيت. 2 - لأبي حامد المشرفي تقاييد على شرح المكودي على الألفية. ولم نعرف حجم ولا أهمية هذا العمل. وكان المشرفي يشتغل مؤدبا للصبيان، فلا نظن أنه وضع الكتاب لهذا المستوى من التلاميذ. 3 - أبو القاسم البوجليلي من علماء القرن الماضي، ومن شيوخ الزوايا المتنورين. ذكر له الباحثون عدة مؤلفات لا نعرف أنه طبع منها شيئا. ومن ذلك: (أ) النور السراجي في إعراب مقدمة الصنهاجي، انتهى منه عام 1286 هـ. وقد نسب إلى شيخه محمد أمزيان الحداد أنه قال إن علم النحو فرض عين (¬1). ولا نعرف الآن حجم التأليف ولا منهجه فيه. (ب) شرح شواهد السيد الشريف ابن يعلى على ابن آجروم، انتهى منه البوجليلي سنة 1300 هـ. وقد اطلع عليه بعضهم مخطوطا عند حفيد المؤلف، ولا نعرف أيضا حجمه ولا منهجه (¬2). وذكر علي أمقران أن السمة الغالبة على تآليف البوجليلي في النحو هي التكرار والتقليد، والصفة المدرسية. ومع ذلك فهي مفيدة لأنها تحتوي على معلومات حول الوضع السياسي أيضا، والعلاقات مع بعض الأعيان. ويضيف أمقران أن شرح شواهد ابن يعلى كان معتمدا في التدريس بزواوة. وهو يقع في 80 صفحة (¬3). ¬

_ (¬1) مراسلة للشيخ علي أمقران السحنوني، 16 أويل، 1980. في مكان آخر ذكر علي أمقران أن عدد صفحاته حوالي 100، وأن البوجليلي سار فيه على طريقة الكفراوي في شرحه على ابن آجروم. وكانت منه عدة نسخ. وكان قد انتهى منه سنة 1278 هـ. (¬2) مراسلة لعلي أمقران، 16 أبريل، 1980. (¬3) علي أمقران من مقالة مخطوطة كان قد بعث بها إلينا، ولعله نشرها فيما بعد. =

(ج) وقد نسب عمار طالبي إلى البوجليلي عمر آخر في النحو بعنوان (المبنيات) ولا ندري الآن شيئا آخر عنه. 4 - ولأبي القاسم البزاغتي شرح على نظم مقدمة ابن آجروم لابن الفخار، كما أشار إلى ذلك صاحب تعرف الخلف. والبزاغتي من قضاة القرن الماضي. 5 - ظل عبد القادر المجاوي حوالي أربعين سنة في التدريس في كل من قسنطينة والعاصمة. وفي الثلث الأخير من حياته عكف على التأليف في المواد التي كان يدرسها لتلامذته. من ذلك كتاب (الدرر النحوية) وهو مطبوع، وتناول فيه شرح الشبرخيتي. ولعل له تآليف أخرى في نفس الاختصاص. 6 - من مؤلفات إبراهيم بن محمد الساسي (العوامر؟) السوفي نظم وضعه على الآجرومية. وهو قصيدة وليس رجزا. وله عناوين حسب أبواب النحو المعروفة، تنتهي بباب مخفوضات الأسماء. ويقع في إحدى عشرة ورقة، وانتهى منه سنة 1322. أوله: حمدار لمولانا والصلاة تترى على ... خير الخلائق من بالحق قد فصلا وبعد فالنظم قد ساغت موارده ... فصغت ما لابن آجرومنا حللا (¬1) 7 - عبد السلام بن عبد الرحمن السلطاني، وقد ألف أشهر وأكمل عمل في النحو بين الحربين، وهو (شرح شواهد الأشموني). وكان الشيخ من أولاد سلطان بناحية عين التوتة بأقليم الأوراس. وقد طبع كتابه في تونس، وأجازه له علماء الزيتونة، وأصبح من المؤلفات المعتمدة في التدريس بالزيتونة. ورغم كثرة العارفين بقواعد النحو منذ الحرب العالمية الأولى فإننا ¬

_ = تاريخها 31 مايو، 1973. ذكر أنه اطلع على النسخة، وهي بقلم دقيق ومكتوبة بالحبر الأسود والأحمر، وكل صفحة بها 24 سطرا. ولعلها هي النسخة الأصلية للمؤلف. (¬1) المكتبة الوطنية - تونس، ضمن مجموع رقم 2744.

لا نعلم أن آخر قد أقدم على مثل هذا العمل الشاق. 8 - ألف إدريس بن محفوظ الدلسي كتابا، في النحو بعنوان (حلية فكر السامع في تحقيق الفعل المضارع). ولا نعلم إن كان مطبوعا. 9 - ومن تآليف أحمد الطيب بن محمد الصالح الزواوي شرح على الآجرومية، بعنوان (مفيد الطلبة). والمؤلف من أسرة تمارس التعليم في زاوية الشيخ الأزهري بوقبرين. ولذلك لا نستغرب أن يكون هذا التأليف داخله في المجال الذي وصفناه وهو التأليف المدرسي (¬1). 10 - شرح لامية الأفعال في التصريف لابن مالك، ألفه عبد القادر المسعدي وبدأه بقوله (وبعد، فإن علم العربية في الدين بالمحل الأعلى والمقام الأسنى). وقيل إن هذا المخطوط لعالم من الجلفة (¬2). وهناك بعض الأعمال غير المتأكدين الآن من نسبتها إلى جزائريين. ونحن نذكرها لعل بعض الباحثين يرجعون بها إلى أصلها. من ذلك: 11 - القصيدة الكفيلة بثمن الفوائد الجليلة، نظم عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن الثامري. ويبدو أنها نظم للفوائد الجليلة لابن هشام المصري في النحو. والقصيدة تقع في ثلاث صفحات مرقونة (¬3). 12 - سوق عكاظ فيما تكلموا فيه من اللغات والألفاظ، ذكره الخالدي ونسبه إلى بعض المهاجرين الجزائريين في المشرق. ويبدو أنه نشر في الكويت سنة 1976. أما النسخة الأصلية فتوجد في دمشق (¬4). ¬

_ (¬1) انظر عنه تعريف الخلف، 2/ 533. (¬2) ذكره عبد الكريم العوفي والسعيد بن إبراهيم في (فهرس مخطوطات مديرية الشؤون الدينية بباتنة)، 1991/ 1412. وقد توفي المسعدي سنة 1376. انظر أيضا معجم أعلام الجزائر، ص 298. (¬3) ذكر ذلك علي أمقران السحنوني، في مراسلة بتاريخ 8 غشت، 1980. (¬4) سهيل الخالدي (المهجرون الجزائريون)، مخطوط، ص 409. وقال إن المخطوطة الأصلية لسوق عكاظ توجد فى مكتبة الأسد بدمشق رقم 1 - 3 - 412.

13 - ومن تأليف الشيخ محمد البشير الإبراهيمي في البحث اللغوي: - بقايا فصيح العربية في اللهجة العامية بالجزائر. قال الإبراهيمي عنه (التزمت فيها اللهجة السائدة اليوم فهي مواطن هلال بن عامر) ولكنه لم يحدد هذه المواطن، وهي كثيرة. - النقايات والنفايات في لغة العرب (جمعت فيه كل ما جاء على وزن فعالة من مختار الشيء أو مرذوله). - أسرار الضمائر العربية. - التسمية بالمصدر. - الصفات التي جاءت على وزن فعل (بفتح العين). - نظام العربية في موازين كلماتها. - الإطراد والشذوذ في العربية. وهي رسالة قال عنها إنها (في الفرق بين لفظ المطرد والكثير عند ابن مالك). - رسالة في ترجيح أن الأصل في بناء الكلمات العربية ثلاثة أحرف لا اثنان. - رسالة في مخارج الحروف وصفاتها بين العربية الفصيحة والعامية (¬1). والغالب أن هذه المباحث والرسائل لم تنشر لا في حياة الشيخ الإبراهيمي ولا بعد وفاته. ولعلها ما تزال في أوراقه. وقد كان الإبراهيمي عالما بأسرار اللغة العربية، وهو من الجزائريين المعاصرين القلائل العارفين بها، بل نادر بينهم. 14 - ترك محمد بن أبي شنب مجموعة من الكتب والبحوث اللغوية أيضا. وكان مطلعا على تراكيب اللغة العربية وتاريخها وعلى اللغات الأخرى القديمة والأروبية. ومن مؤلفاته في هذا الميدان: - تحقيق كتاب تحبير الموشين للفيروزآبادي. وهو مطبوع في حجم صغير. ¬

_ (¬1) انظر كتاب (في قلب المعركة)، دار الأمة، الجزائر، 1993، ص 231.

- بقايا الألفاظ الفارسية والتركية في لهجة أهل الجزائر (وهو جزء من أطروحة الدكتوراه) (¬1). 15 - من مؤلفات أبي يعلى الزواوي: الفرق بين المشارقة والمغاربة في اللغة العربية وغيرها، وقد ذكره بنفسه بين مؤلفاته. 16 - ولشعيب بن علي الجليلي، قاضي تلمسان، تأليف بعنوان (نشر الأعلام النورانية في ذكر ماثور اللغة العربية والسريانية وما قيل في كل منهما أنها اللغة البرزخية الجنانية، وفي أولية الحروف العربية الهجائية، وفي إيحاء اللغة إلى نبينا (صلى الله عليه وسلم). ما نظن أن هذا التأليف مطبوع (¬2). 17 - تاريخ الأبجدية منذ أقدم العصور، تأليف عبد الرحمن بن الحفاف. وهو مطبوع، ويقدم أطروحة جديدة عن أصل اللغات، مفادها أن الأرض (البيئة؟) هي التي تنتج لغتها دون اعتبار لأصل السكان، وبذلك برهن على أن العربية غير محصورة في الجزيرة العربية، بل إن لها مجالات أوسع من ذلك. ... أما المعاجم والقواميس التي وضعها الجزائريون أو شاركوا في وضعها مع الفرنسيين فهي وفيرة نسبيا. وتشمل اللهجات العربية والبربرية. وطابعها تعليمي في أغلب الأحيان، ونستطيع أن نقول إنه طابع تجاري، لأنها صدرت في وقت انطلق فيه الاستشراق الفرنسي في البحث في اللهجات من جهة ومن جهة أخرى انطلقت المدرسة الفرنسية في تعليم الجزائريين تعليما مزدوجا، كما حدث في المدارس الثلاث، وبعض الدروس الرسمية المدعومة من الإدارة منذ مدار القرن. - أحمد بن بريهمات ولويس رين تعاونا على تأليف كتاب (قاموس) في ¬

_ (¬1) انظر حياة ابن شنب في مجلة المجمع العلمي العربي بدمشق، المجلد 10، 1930، ص 238 - 240. (¬2) الخزانة العامة - الرباط، ك 48.

القراءة الفرنسية والعربية عنوانه (اللسان يكمل الإنسان). وقد صدر سنة 1882 في 143 صفحة، لكل لغة، وهو موجه إلى تعليم الجزائريين اللغة الفرنسية. - أبو بكر عبد السلام بن شعيب، كان قد تولى القضاء والتدريس في مدرسة تلمسان. وتعاون مع بول بوري على إصدار كتاب فرنسي - عربي، بوهران، 1913. وهو كتاب في المحادثة العربية - الفرنسية موجها إلى من يجهل العربية من الفرنسيين ويرغب في السفر والتنقل بين أقطار المغرب العربي الثلاثة. وهو في 132 صفحة. ويبدو أنه عمل سياحي - تجاري ودعائي للغة الفرنسية أيضا (¬1). - قاموس عربي - فرنسي وآخر فرنسي - عربي من وضع بلقاسم بن سديرة (انظر لاحقا). - تعليم اللغة العربية الدارجة والفصيحة، جزآن، تأليف عبد الرحمن (؟)، ولا نعرف الآن بقية اسم المؤلف ولا تاريخ التأليف. - دروس القراءة والإلقاء في العربية الدارجة 1897، أو الطريقة المباشرة لتعليم العربية الدارجة 1904 للسيد فتاح (؟). ويبدو أنه كان في وقته كتابا. مشهورا. - طريقة عملية لتعليم العربية الفصحى، تأليف محمد صوالح. وله تآليف أخرى حول نفس الموضوع بالاشتراك مع فلوري الفرنسي. - مجموع في العربية الدارجة، تأليف علاوة بن يحيى، في 119 صفحة. ظهر سنة 1890 بمستغانم. - محادثة عربية - فرنسية، تأليف الطاهر بن النقاد، فسنطينة، 1863، في 182 صفحة. - دروس في العربية الدارجة، تأليف الدكتور علي فخار، ليون، ¬

_ (¬1) انظر مراجعته في (مجلة العالم الإسلامي)، سبتمبر 1913، ص 349.

1913، 439 صفحة. وهو كتاب عليه أيضا الطابع السياحي والتجاري. وقد سماه (دروس في العربية الدارجة المراكشية والجزائرية)، وذكر بوفا الذي راجعه في حينه أنه كتاب الساعة وأنه يهم الفرنسيين، وقال عنه إنه يخدم العربية الدارجة من جهة، ويعتبر موسوعة صغيرة حقيقية عن إفريقية الشمالية من جهة أخرى، وامتدحه بوفا Bouvat كثيرا. والكتاب في ثلاثة أقسام. الأول في النحو ويبلغ 200 صفحة، ويشمل مراجعة القواعد والنطق والتراكيب والأسلوب، والثاني في الموضوعات المختلفة، ومعها لوحات تمثل الأشياء المتحدث عنها. فهو من هذه الناحية دليل للحياة اليومية: القصص، والخطب، وأحوال الصحة، وغيرها. أما القسم الثالث فيضم نماذج من الحكايات والكتابات المغربية، مع الإشارة إلى بقايا اللغة التركية في لهجة تلمسان (¬1). واعتمد بوفا في مدح الكتاب على إفادته للكولون والإداريين وأهل اللغة - المستشرقين. وهكذا نرى أن بعض متعلمي الجزائر قد أصبحوا (خدما) للمستشرقين الفرنسيين وأدوات للاستعمار الفكري. ولم يكن ابن علي فخار وحده في ذلك، فقد ركب هذه الموجة ابن سديرة وبوليفة وابن شنب وأبو بكر عبد السلام وإسماعيل حامد وعدد آخر من (النخبة الإندماجية). ومما يذكر أن ابن علي فخار كان أول جزائري يحصل على الدكتوراه في الشريعة الإسلامية من الجامعة الفرنسية. ثم أصبح أستاذا في اللغة العربية بالغرفة التجارية، بمدينة ليون الفرنسية (¬2). - قاموس فرنسي - عربي، وضعه بكير خوجة سنة 1908. - المعجم الفرنسي - الشلحي والمازيغي، وضعه سعيد الصدقاوي، باريس، 1907. ولا نعلم الآن الكثير عن الصدقاوي، غير أن باصيه يقول عنه إن من بني صدقة. وقد انتقده انتقادا مرا. ذلك أن باصيه راجع معجم ¬

_ (¬1) ج. بوفا (مجلة العالم الإسلامي)، مارس، 1913، ص 329 - 330. (¬2) انظر عنه فصل الترجمة.

الصدقاوي في المجلة النقدية، كما ذكرنا. وحين قرأ الصدقاوي ذلك النقد نشر كتيبين في الرد على باصيه. ولم نطلع على هذين الكتيبين ولا عن دفاع الصدقاوي، عن نفسه وعلمه. وإنما ذكر باصيه أن الصدقاوي أظهر فيهما غضبه وأنهما شهادتان على غروره المجروح، حسب تعبير باصيه. وقد اتهمه بعدم الكفاءة العلمية في الميدان. وأخذ عليه باصيه أنه ذكر ثلاثا (وليس أربعا) من اللهجات الخطابية في المغرب الأقصى، ومن بينها تمروكيت الشائعة في منطقة الريف، والتي قال عنها الصدقاوي (انها تشبه كثيرا القبائلية في جرجرة) وقد وضع باصيه أمام هذه الجملة علامة تعجب. أما الثانية فهي الشلحية. ولم يذكر باصيه اللهجة الثالثة. وكعادته أشاد باصيه بدراسة ديستان (مدير مدرسة تلمسان في وقته وتلميذه) للهجة بني كومي. واعتبرها دراسة جيدة. وقال باصيه إن هذه اللهجة قد شملت لهجة زكاوة، وبوزقو، وبوسعيد، ويزناسن، وهي إحدى فروع اللهجات الأربع الموجودة في المغرب الأقصى. ثم كرر باصيه نقده للصدقاوي (¬1). - درس في اللغة القبائلية لبلقاسم بن سديرة (¬2). ولا شك أن هناك تآليف أخرى في المعاجم واللغة والنحو سواء بالعربية أوالزواوية أو غيرهما، وتعليمها جميعا بواسطة الفرنسية، وخدمة الاستشراق الفرنسي. وذلك هو الهدف من كل هذه البحوث، كما عرفنا (¬3). ¬

_ (¬1) باصية (تقرير عن الدراسات البربرية والهوسة)، 1902 - 1908 لمؤتمر المستشرقين في كوبنهاغن، 1908 في (المجلة الإفريقية)، 1908، ص 256. وقد ذكر باصيه أن دراسة ديستان عن لهجة بني كومي قد ظهر منها المجلد الأول. وبنو كومي هم قبيل عبد المؤمن بن علي زعيم الموحدين. (¬2) وسنترجم له في هذا الفصل. (¬3) نذكر بهذا الصدد اعتماد الفرنسيين في نشر لغتهم بين أهل الجزائر وأهل المشرق على بعض أعيان المشارقة. فقد اشترك غوستاف دوقا Dugat الفرنسي مع أحمد فارس الشدياق على إصدار معجم عربي/ فرنسي لاستعمال عرب الجزائر - كما جاء في ديباجة الكتاب - وسمياه (سند الراوي في النحو الفرنساوي). باريس، 1854، في 128 صفحة. وأضيف إليه أيضا أنه كتاب لاستعمال عرب الجزائر وتونس =

بلقاسم بن سديرة

بلقاسم بن سديرة رغم مكانة بلقاسم بن سديرة في البحث اللغوي والنحو والتدريس فإننا لم نعثر له على ترجمة وافية إلى الآن. ويعتبر من المواهب النادرة التي ظهرت خلال الاحتلال، ولكن التوجيه الرسمي جعله في خدمة الاستشراق وليس في خدمة اللغة العربية وثقافتها، كما شلت موهبته إلى حد كبير فاقتصرت على ما ينفع المؤسسات الاستعمارية، وقلما انتفع الجزائريون بعلمه. وهناك قدر مشترك بين ابن سديرة وابن شنب، وهو الموهبة النادرة والبحث المستمر ولكن في خدمة الإدارة والاستشراق أكثر من خدمة الثقافة الوطنية. وسنحاول الآن صياغة المعلومات التي عندنا عن ابن سديرة لعلنا نصل إلى وضع ترجمة مختصرة له، في انتظار توفر معلومات أخرى تكمل ما عندنا. ولد بلقاسم بن سديرة في بسكرة، ربما أوائل الأربعينات. وكانت بسكرة قد احتلت سنة 1842. وتداولت عليها الأيدي خلال الأربعينات بين عائلة ابن قانة وخصومهم أولاد بوعكاز الذين كانوا ينافسونهم على مشيخة العرب هناك منذ عهد البايات. ثم تدخل الأمير عبد القادر وحلفاؤه ومنهم الحسين بن عزوز ومحمد بن الحاج وفرحات بن سعيد في أحداث بسكرة. وفي 1849 وقعت ثورة الزعاطشة في ناحية بسكرة أيضا. وكانت المعاملة الفرنسية للواحة وأهلها من الوحشية بحيث كانت مضرب المثل في سياسة القمع. ولا ندري كيف تعلم بلقاسم بن سديرة ولا أين في هذه الظروف الصعبة. ولكننا نعرف أن أهل بسكرة كانت لهم (نقابة) في العاصمة وكانوا على صلة بأحداث العالم من خلالها، وكانوا، مثل بني ميزاب وأهل زواوة، يتنقلون بين موطنهم والعاصمة ويرسلون النقود والأخبار إلى أهلهم. ¬

_ = ومراكش وسورية ومصر. وهو أساسا موجه إلى الجزائريين. وكان الشدياق قد فعل ذلك قبل إسلامه. وكان دوقا عضوا بالجمعية الآسيوية الفرنسية. وهو مترجم (ذكرى العاقل) الذي ألفه الأمير عبد القادر.

وفي 1857 تأسس في العاصمة معهد متوسط لتخرج فئة من أبناء الجزائريين العسكريين العاملين في الجيش الفرنسي، وسمي بالمعهد السلطاني نسبة إلى نابليون الثالث، وهو المدرسة التي تعني بالثقافة الفرنسية والعربية معا. فهل كان ابن سديرة من أبناء العسكريين الجزائريين، وهل كانت له صلة بعائلة ابن قانة فرشحته لدخول المدرسة المذكورة؟ إن في الرسائل التي سنذكر بعضها ما يدل على هذه الصلة بين ابن سديرة وعائلة ابن قانة. لقد كانت المدرسة مفتوحة أيضا لبعض التلاميذ الآخرين. وكانت تقبلهم في نظام داخلي محكم، وتصرف عليهم صرفا كاملا أو جزئيا، حسب الوضع العائلي وإخلاص الآباء للقضية الفرنسية. ومتى دخل ابن سديرة هذه المدرسة؟ إن مدة الدراسة فيها حوالي ثلاث سنوات. وقد تخرج منها سنة 1863. وهي سنة هامة في تاريخ الجزائر إذ قرر نابليون عندئذ أن يغير بنية المجتمع، فاعترف بالملكية الجماعية التقليدية للقبائل والأعراش على أن تحصى بعد ذلك الأراضي وتحد حدودها ثم توزع توزيعا فرديا، وتنشأ بعد ذلك الملكية الفردية لتسهيل مهمة انتزاع الأراضي من أيدي أصحابها (قانونيا) (¬1). ولم يحضر ابن سديرة الشروع في تطبيق ذلك القانون ولا ثورة أولاد سيدي الشيخ التي حدثت سنة 1864، فقد سافر إلى فرنسا لمواصلة دراسته في فرساي حيث مدرسة تكوين المعلمين. وقضى في هذه المدرسة سنتين بنفقة كاملة من وزير الحربية الذي يشرف على شؤون الجزائر. وفي نهاية السنة الأولى أظهر ابن سديرة تفوقه في الدراسة فأرسل مدير المدرسة رسالة إلى الحاكم العام بالجزائر أشاد فيها بنبوغ ابن سديرة، وطلب من الحاكم إرسال النجباء من أمثاله إلى مدرسة فرساي (¬2). وفي نهاية السنة الثانية (آخر يوليو) حصل ابن سديرة على الإجازة أو ¬

_ (¬1) درسنا قانون 1863 وعواقبه في الحركة الوطنية، ج 1. (¬2) المبشر، 22 غشت، 1864.

الشهادة (¬1). وأحرز أيضا على تقدير أساتذته ومدير المدرسة. ثم رجع إلى الجزائر ليتولى التدريس في مدرسة ترشيح المعلمين التي تأسست حديثا. ولا تخبرنا المبشر عن نشاط ابن سديرة خارج مدرسة فرساي. فلا نعرف عن زياراته لباريس ولا قراءاته ولا اهتماماته وأصدقائه. ولكن يمكننا أن نلجأ إلى التصور في ذلك. فقد كان شابا في أول العقد الثالث من عمره. ولنا أن نتصور أنه كان مهتما بالآداب والفنون وبالصحافة والمجتمع. وقد خزن في ذاكرته الكثير من ذلك ثم رجع إلى بلاده. إن كتبه المطبوعة تدل على أنه رجل كرس نفسه لخدمة اللغة الفرنسية وتطويع اللهجة العربية الدارجة والزواوية لخدمتها أيضا. ويدل ذوقه في (كتاب الرسائل) على اهتمامه بالخطوط وفن الترسل سواء كان بالدارجة أو الفصحى. ولكن مؤلفاته لا تعكس نشاطه السياسي ولا رؤيته الثقافية ولا أحكامه على الاستعمار. ورغم وجود صحيفة المبشر والمنتخب وغيرهما قبل وفاته فإننا لا نعلم أنه كتب فيهما رأيا. أو تعليقا. وكذلك لا نعرف أنه تراسل مع شخصيات عربية وإسلامية خارج الجزائر سواء عندما كان في فرنسا أو عندما استقر في العاصمة، رغم أن آخر القرن الماضي - فترة نضجه - كان يشهد حركة فكرية وسياسية واسعة في العالم الإسلامي. ومنذ رجع إلى الجزائر عين ابن سديرة في مدرسة ترشيح المعلمين (النورمال)، وهي المدرسة التي تطورت أيضا منذ الثمانينات وأصبح لها فرع أهلي موجه إلى تدريب الجزائريين على التعليم. وهو فرع يدل على التمييز العنصري والثقافي لأن أساتذته وطلابه كانوا من طينة ومقاييس خاصة. وفي السنة التي أنهى ابن سديرة فيها دراسته (1865) زار نابليون الجزائر للمرة الثانية، ولما رجع منها أصدر قانونه الشهير - قانون التجنس للجزائريين الراغبين في الجنسية الفرنسية بشرط التخلى عن أحوالهم ¬

_ (¬1) نفس المصدر، 22 غشت، 1865، عدد 469.

الشخصية الإسلامية. فهل استفاد ابن سديرة من هذا القانون وتجنس كما فعل أمثاله من المتعلمين عندئذ؟ إننا نرجح ذلك ونرجح أيضا أنه قد تزوج من فرنسية أو أروبية. ذلك أن أحد أبناء العائلة، ولعله ابنه، قد تسمى باسم شارل بن سديرة. وهو الاسم الذي كان يتسمى به أطفال الجزائريين المتجنسين (وكذلك لويس وجان الخ.). ومهما كان الأمر فقد دخل ابن سديرة سلك التعليم وبرع فيه وأنتج الكتب التعليمية والقواميس. وذلك هو المنتظر من أمثاله. وكان له تلاميذ ومعارف. وكان هؤلاء يستنجدون به في إعانتهم على قضاء الحاجات. وكان بعضهم يذكره بالعلاقات السابقة. ويدل ذلك على شهرته خلال السبعينات والثمانينات أو بالأحرى على ارتباطاته بالفرنسيين، أو هكذا كان الناس يظنون فيه. وقد أورد هو في كتاب الرسائل نماذج من هذه المراسلات. ثم أصبح معاونا في محكمة الاستئناف بالعاصمة، وهو وظيف كان يتولاه رجال الدين والشريعة، أي أنه كان معاونا للقضاة الفرنسيين في شؤون القضاء الإسلامي بعد أن نزعت السلطات الفرنسية من القضاة المسلمين صلاحيات الحكم في المسائل التجارية والجنائية والمعاملات. كما تولى ابن سديرة التدريس في المدرسة العليا للآداب، واختير عضوا في الجمعية الآسيوية بباريس. وهي الجمعية التي كانت تخدم الاستشراق الفرنسي عموما. وهذه الوظائف كانت تجلب إليه سمعة كبيرة وتجعله هدفا لطموح الطامحين في الوظائف أيضا. ومن ذلك رسالة وجهها إليه شيخ العرب في بسكرة، محمد الصغير بن قانة، سنة 1875 يذكره بأنه بمثابة أبيه وأنه هو الذي رباه، وأن له عليه حقوق التربية. وكذلك مجموعة من الرسائل الموجهة إليه من أصحابه وتلاميذه بين 1886 - 1888، وكان بعضهم يطلب إليه التدخل لصالحه، وآخر يطلب منه مقابلة. ومن مراسليه الشيخ محمد السعيد بن زكري المدرس بالجامع الكبير بالعاصمة، سنة 1889، ومحمد أرزقي بن أحمد من القرقور (سطيف) يطلب منه المعونة على

الحصول على وظيفة، سنة 1889 أيضا (¬1). وأثناء شهرته كلفته السلطات الفرنسية بدراسة الوضع في زواوة سنة 1887. وكانت زواوة محط أنظار هذه السلطات منذ أوائل الثمانينات حيث انطلقت فيها جنود (الأباء البيض) الكاردينال لافيجري. وزارها عدد من الوزراء الفرنسيين. وبدأت فيها بعض المدارس الابتدائية مع إجبارية التعليم. وفي هذا الجو من الاهتمام ذهب ابن سديرة إلى أعماق جرجرة، وبعد البحث والدراسة في العادات والتقاليد واللغة والتوجهات نشر بحثه تحت عنوان (مهمة في بلاد القبائل حول اللهجات البربرية وإدماج الأهالي) (¬2). وهو عنوان يوضح المهمة الأساسية التي كلف بها. ولم نطلع على الكتاب لنعرف وجهة نظره في إدماج الأهالي. وفي هذه السنة نشر ابن سديرة أيضا عملا عن اللغة البربرية، وهو العمل الذي أشاد به أبو القاسم بن الشيخ في جريدة المبشر (¬3). إن تكليفه بهذه المهمة يدل على ثقة الإدارة الفرنسية فيه علما وسلوكا. وكان إيميل ماسكري، مدير مدرسة الآداب العليا، قد قام أيضا في نفس المكان (زواوة) بنفس المهمة قبل ذلك. وفي هذه الأثناء (1880) حل بالجزائر رينيه باصيه، أستاذا في المدرسة المذكورة ومؤسس الدراسات البربرية. وباصيه هو الذي عرف كيف يوظف ابن سديرة وابن شنب وبوليفة لخدمة طموحات الاستشراق والاستعمار. ففي 1891 نشر ابن سديرة كتابا آخر عن تدريس العربية خاطب فيه التلاميذ الجزائريين بقوله: (إن اللغة الفرنسية هي لغتكم الأم) (¬4). والواقع أن ابن سديرة قد ساهم في تسهيل تعلم العربية الدارجة على ¬

_ (¬1) هذه المعلومات موجودة في (كتاب الرسائل في جميع المسائل)، جوردان، الجزائر، 1893. وقد سماه أحيانا (الدروس التدرجية من الرسائل العربية المخطوطة). (¬2) طبع الجزائر، 1887، وهو مكتوب بالفرنسية. انظر أيضا فصل مذاهب وتيارات. (¬3) المبشر، 8 أكتور، 1887. لعل هذا العمل هو نفسه تقرير المهمة المذكورة. وأبو القاسم بن الشيخ هو صاحب (تعريف الخلف). (¬4) الكتاب ط. الجزائر، 1891. انظر بحث إبراهيم الونيسي عن جريدة المبشر.

الفرنسيين بمجموعة من المؤلفات سنذكرها. كما أنه ساهم في تعليم البربرية لهم بلهجة زواوة. ومن جهة أخرى ساهم في تعليم الفرنسية لأبناء الجزائر. فرغم تدريسه في مدرسة ترشيح المعلمين وتوليه الوظائف الأخرى التي ذكرناها، نجده قد تعين منذ 1880 أستاذا محاضرا في العربية الدارجة بمدرسة الآداب العليا. بينما زميله الهاشمي بن الونيس تعين أستاذا محاضرا في اللهجة البربرية في نفس المدرسة، في الوقت الذي كان فيه رينيه باصيه يتولى مادة الأدب العربي. وكان كميل صابتيه يتولى تدريس مادة النظم والعادات القبائلية (¬1). ألف بلقاسم بن سديرة حوالي سبعة كتب لا تخرج عن نطاق تعليم اللغة، ومنها: دروس تطبيقية في اللغة العربية (الدارجة)، ودروس تطبيقية في الآداب العربية، ودروس تطبيقية في اللغة القبائلية (الزواوية)، وقاموس عربي - فرنسي، وقاموس فرنسي - عربي. بالإضافة إلى كتاب الرسائل الذي يدخل في نطاق التعليم أيضا. وفي هذا المستوى ساهم ابن سديرة في تكوين عدد من التلاميذ المستعربين والجزائريين. ومن تلاميذه المستشرق باصيه نفسه. توفي ابن سديرة في 30 نوفمبر 1901 بالعاصمة. وقد نعته مجلة (إفريقية الفرنسية) دون ذكر شيء عن تجنسه، وإنما اعتبرته رجلا ذا كفاءة عالية ذهب مأسوفا عليه، ثم عددت الأوسمة التي حصل عليها والوظائف التي تولاها. أما الوظائف فقد عرفناها، وأما الأوسمة فهي جوق الشرف (ليجون دونور)، ووسام التعليم العمومي (الذي تمنحه الأكاديمية)، ونيشان الافتخار التونسي، والميدالية العسكرية. وإذا كان منح الأوسمة الأولى واضحا، فإننا لا نعرف لماذا منح الميدالية العسكرية، والرجل لم يكن، حسب علمنا، في السلك العسكري. وقد خلفه في تدريس اللهجة العربية بمدرسة الآداب، إدمون دوتيه (¬2). وهكذا ترى أن بلقاسم بن سديرة، رغم ¬

_ (¬1) أجرون (الجزائريون المسلمون) 1/ 292. (¬2) إفريقية الفرنسية، يناير، 1902، ص 20. ولكن دوتيه الذي تأثر بنظرية دور خايم أصبح متخصصا في الدراسات الإسلامية والمجتمع الإسلامي. وكان دوتيه مستشارا لحكومة الجزائر في الشؤون الإسلامية.

عمر بن سعيد بوليفة

نبوغه قد وظفه المستشرقون - سيما ماسكري وباصيه - وشلوا موهبته. ولم تستفد منه الجزائر إلا حظا ضئيلا، رغم أنه عاش في النصف الثاني من القرن الماضي حين كانت تبحث لها عن مثقف يأخذ بيدها. لقد كان مكنه هو وحسن بن بريهمات والمكي بن باديس وأحمد البدوي وعبد القادر المجاوي وشعيب بن علي ومحمد بن رحال أن يلعبوا دورا وسيطا في مرحلة حرجة من تاريخ الوطن. ولكن التنسيق والوعي كانا مفقودين عندهم، وكانت الطموحات والمؤثرات مختلفة. فكانت جهود ابن سديرة بالخصوص بعيدة كل البعد عن جهود زملائه الآخرين. ولعل جهود ابن سديرة الباقية هي مجموعاته في اللهجة العربية، وفي كتاب الرسائل، وفي مهمته بزواوة والنصوص المحفوظة فيها. عمر بن سعيد بوليفة كان بوليفة من أوائل النخبة الذين وقعوا ضحية المخططات الفرنسية. فهو أحد أبناء زواوة الذى عانوا الفقر واليتم، رغم أصل عائلته الشريف أو المرابط. وقد كان يمكنه أن يصبح في طليعة المثقفين المزدوجين، بعد تلقيه تعليما فرنسيا، إلى جانب تعليم الزوايا أو المعمرات الذي تلقاه في أول عهده، وأن يلعب دورا رئيسيا في الحياة الفكرية. غير أن احتواء الفرنسيين له منذ الطفولة جعله في دور قزم مثله مثل دور ابن سديرة وأحمد بن بريهمات وعلي بوضربة. اسمه العائلي هو بوليفة الذي يبدو أنه ارتضاه بعد تغيير الأسماء والألقاب في الثمانينات من قبل الفرنسيين. أما اسمه الحقيقي أو الأصلي فهو عمر بن سعيد من آل بلقاسم بن عمر. أو عمر أو سعيد آيت بلقاسم أو عمر. ونظرا لأصله المرابط - من رجال الدين والشرف - فإنه يضاف إلى اسمه أيضا لقب سي (سيدي). ولد عمر بوليفة في قرية عدني بزواوة، لعائلة متواضعة الدخل. وقد توفي والده مبكرا فتيتم صغيرا. ولكن والدته احتضنته بشدة

فقربته من أعيان تامزيرت وهم آل عمر (آيت عمر)، وفيهم قياد؛ وهناك أدخله عمه المدرسة الفرنسية الجديدة، وهي الأولى من نوعها في زواوة، سنة 1875. وكان الترشح إليها نادرا. ويمكننا أن نفهم أمرين على الأقل من هذه المرحلة المبكرة من حياة الصبي عمر بن سعيد. الأول أنه فتح عينيه على جرح زواوة الذي ظل مفتوحا منذ ثورة 1871، فكانت المصادرات والقمع والنفي وأحكام الإعدام. والثاني أن عمه قد يكون أراد التخلص منه بإدخاله المدرسة الفرنسية الوحيدة والجديدة في القرية. فكان القدر يخطط للصبي عمر طريقا آخر، ربما لم يخطر ببال هذا العم الذي لا نعرف الآن مستوى تعلمه ولا تفكيره. ومع ذلك كان طريقا مدروسا ومعروفا. فالذي يتخرج من مدرسة فرنسية ابتدائية قلما يجد له عملا إذا كان من الأهالي. ولكن حظا معينا كان ينتظر أبناء زواوة إذا أكملوا تعليمهم الابتدائي، وهو مواصلة التعلم في الفرع الأهلي من مدرسة ترشيح المعلمين. وهكذا كان الأمر بالنسبة لعمر بن سعيد. فقد بدأ مسيرته معلما ممرنا بسيطا في قرية تامزيرت، ثم أصبح معلما أهليا مساعدا (وهو منصب خاص بالأهالي، ولا يترقى الأهلي إلى رتبة معلم مرسم مهما طالت به الوظيفة) في مدرسة ترشيح المعلمين ببوزريعة، سنة 1896. ولم يعترف له الفرنسيون بصفة المعلم في مدرسة ابتدائية إلا قبل وفاته بعشر سنوات، أي سنة 1922. ومع ذلك فإنه قضى كل حياته تقريبا في ميدان التعليم الابتدائي: فهو معيد في البربرية سنة 1890 بمدرسة النورمال - ترشيح المعلمين -، ثم معيد أيضا في مدرسة الآداب العليا، منذ 1901، ربما على إثر شغور مكان الهاشمي بن الونيس الذي سبق ذكره والذي عين هناك سنة 1880. أو وفاة بلقاسم بن سديرة. صادف وجود بوليفة معيدا في مدرسة الآداب انطلاقة الاستشراق الفرنسي والاهتمام باللهجات المحلية والإسلام والمجتمعات الإسلامية. كما صادف الاهتمام المتزايد لفرنسا بأحوال المغرب الأقصى والتمهيد لاحتلاله. وقد كثرت البعثات الفرنسية إلى المغرب منذ آخر القرن الماضي، وكان فيها

جزائريون وفرنسيون. ومن الجزائريين إسماعيل حامد الذي حل بالمغرب في مهمة رسمية سنة 1899. وفي سنة 1904 أرسلت السلطات الفرنسية عمر بوليفة إلى المغرب لدراسة اللهجات البربرية وجمع المعلومات الاجتماعية. ولا ندري كم أقام في المغرب، ولكننا نعلم بعض نتائج مهمته. وقد لخصها أستاذه رينيه باصيه نفسه فيما يلي: أ - جمع عدد من المخطوطات البربرية التي حصل عليها من مراكش، وقد نشرها يد وصف لها، في باريس سنة 1905. وقام باصيه بمراجعة هذا المجهود وامتدحه عليه (¬1). وقال باصيه إن محتوى المخطوطات لا يخرج عن مسائل الدين. أما اللغة المكتوبة بها فهي تماثل تلك اللغة التي كتبت بها مخطوطات أخرى وكانت توجد في مكتبة الجزائر وباريس والمكتبة الملكية ببرلين. إنها صيغة بربرية لبردة البوصيري ومجموعة أشعار في المدائح النبوية وسيرة الصحابة. كما جاء بوليفة بنسخة من مخطوط (الحوض) المكتوب أيضا بالبربرية والحروف العربية، والذي قلنا إن لوسياني كان قد نشره قبل ذلك. ب - أما العمل الثاني الذي قام به بوليفة في المغرب فهو جمعه لنصوص حول الحياة الاجتماعية لقبائل الشلوح، والموضوعات هي: الميلاد، والزواج والختانة والطلاق والحرب والمرض والجنائز والحفلات الدينية، وتحضير الصوف والزيت، وبعض العادات حول الحيوانات، وبعض القصص. جمع بوليفة هذه النصوص بواسطة طالب من دمنات في الأطلس. وكانت مكتوبة بلهجة القبائل المذكورة (الشلوح). وقد طبع منها القسم الأول في باريس أيضا بعنوان (نصوص بربرية من الأطلس المراكشي - المغربي) سنة 1908 (¬2). وكانت الحكومة الفرنسية هي التي صرفت على نشر هذه المطبوعات. ¬

_ (¬1) رينيه باصيه في المجلة النقدية (ريفو كريتيك) رقم 43، 28 أكتوبر، 1907. ويذكر سليم شاكر أن بوليفة شارك في بعثة سيقونزاك إلى المغرب segonzac، بين 1904 - 1905. انظر (مجلة الغرب الإسلامي) ROMM 1987، ص 102 - 106. (¬2) رينيه باصيه (تقرير عن الدراسات البربرية والهوسة) 1902 - 1908، في المجلة الإفريقية، 1908، ص 255.

ويبدو أن رحلة بوليفة إلى المغرب كانت هي الرحلة الوحيدة له خارج الجزائر. فلا نعرف أنه زار فرنسا، ولا أنه زار المشرق أو توجه إلى الحج. فهل فقد بوليفة ارتباطه بالمرابطية واعتبر نفسه منسلخا عن تراثه بعد هذه التجربة في المدرسة الفرنسية؟ ولكي نحكم عليه في ذلك يجب الرجوع إلى أوراقه الخاصة. وقد قيل إن مكتبته قد أحرقت خلال حرب الحرير من قبل العدو، أما زمامه أو دفتره الخاص الذي سجل فيه رحلته إلى المغرب فقد أنقذ. كما أن كتابه في تاريخ جرجرة يضم بعض أفكاره، ولكننا لا نملكه الآن. ويبدو أن بوليفة كان مثل ابن سديرة، غير مهتم بأحوال العصر الاجتماعية والسياسية فلم يكتب في صحيفة ولم يناقش قضايا الوقت، مكتفيا بجمع النصوص والتعليم في أغلب الأحيان. ولكن أعماله الأدبية والتاريخية تشهد على غزارة إنتاجه وتنوع اهتمامه. ففي ميدان الأدب واللغة جمع مجموعة من الشعر الزواوي (القبائلي) ونشرها سنة 1904 (¬1). وقد ترجم ذلك إلى الفرنسية وعلق عليه. ويتمثل معظمها في الأغاني الشعبية. وفي نظر باصيه أنها أغاني (أشعار) لم يسبقها إلا مجموعة هانوتو عن الشعر الزواوي، ولكنها في نظر باصيه الذي اعتاد الحط من كل ما يقوم به الجزائريون، كما فعل مع الصدقاوي أيضا، أشعار أقل أهمية مما جمع هانوتو، لأنها لا تكاد تخرج عن موضوع المرأة. ولكن باصيه قال إنه بالرغم من ذلك فإن المجموعة تحتوي على وثائق هامة حول المجتمع البربري المعاصر، ولذلك ألح على أهمية العمل من الوجهة اللسانية وليس الأدبية. ولبوليفة عمل آخر سماه (توفيقي أو قانون عدني). وعدني هي مسقط رأسه كما عرفنا، وتضم عرشا يقطن خمس قرى بين تيزي وزو وعين الحمام ¬

_ (¬1) راجعها فان جيناب Van Ginap في المجلة العامة للبيبليوغرافية الفرنسية، المجلد 2، ص 312 (. R.G.DE.B.F).

(فور ناسيونال)، حسب تحديد باصيه. (وقانون عدني) هو البحث الذي تقدم به بوليفة إلى مؤتمر المستشرقين الرابع عشر الذي عقد بالجزائر سنة 1905، ثم نشره على حدة. وقد أحال باصيه (¬1) على كتاب هانوتو ولوتورنو في أهمية القوانين (الأعراف) في زواوة ومجتمعها. فهي قوانين غير مكتوبة ولكن تحتفظ بها الذواكر عند القدماء، واعترف باصيه أن إحلال القوانين والتشريعات الفرنسية محل هذه الأعراف سيجعلها تختفي، ومن ثمة تظهر أهمية العمل الذي قام به بوليفة، فقد دون قانون عدني ودرسه، وقام بعمل يضاهي، حسب باصيه، عمل ماسكري وابن سديرة وهانوتو (¬2). ومن أعمال بوليفة التي دخل في اختصاصه التعليمي: منهج اللغة القبائلية الموجه للسنة الثانية، وهو دراسة لغوية واجتماعية لأهل جرجرة. وقد ضم نصوصا متبوعة بقائمة مفردات (¬3). وهو عمل يخدم أيضا اللغة الفرنسية. ولكن أبرز أعمال بوليفة التي يبدو أنه ختم بها حياته العلمية، هو (جرجرة عبر التاريخ)، الذي تناول فيه حياة المنطقة من أقدم العصور إلى الاحتلال الفرنسي (1830). وقد ظهر الكتاب سنة 1925 مؤشرا إلى عدة اعتبارات. منها أنه ظهر أيام له النشاط السياسي للحركة الوطنية بالأسلوب الجديد، بعد تجربة ثلاثين سنة من العرائض والاحتجاجات والمطالب ومخاض النهضة. وظهر على إثر نفي الأمير خالد، وعشية ميلاد نجم الشمال الإفريقي، وكذلك عشية الاستعداد للاحتفال المئوي بالاحتلال. وكانت الحرب العالمية الأولى قد تركت بصماتها على الجزائريين، ولا سيما العمال والجنود الذين كان شباب جرجرة من أكثرهم عددا واغترابا في فرنسا. وكان قد سبقه إلى الظهور بقليل كتاب (تاريخ الزواوة) للشيخ أبي يعلى الزواوي، في دمشق سنة 1924. وكان الزواوي قد فكر في الكتابة ¬

_ (¬1) باصيه، مرجع سابق، مس 257 - 258. (¬2) نفس المصدر. (¬3) الجزائر، 1913. وقائمة المفرادات نعني بها القاموس أو (قلوسري).

عن هذا الموضوع منذ 1912، ثم طوحت به الحرب إلى مصر والتقى بالشيخ طاهر الجزائري السمعوني هناك ثم خرجت الفكرة في الكتاب المذكور. وهكذا فإن (جرجرة عبر التاريخ) يجب ألا ينظر إليه معزولا عن هذه المعطيات كلها. وفي الكتابين المذكورين ظهرت الروح الأقليمية قوية خلافا لمن كتبوا من قبل تاريخ المدن (قسنطينة مثلا) مجردا عن الإحساس بالأقليمية، بل عبارة عن تسجيل للحوادث، وخلافا أيضا لمن كتب التاريخ الوطني في نفس الوقت، كما فعل الشيخ محمد مبارك الميلي سنة 1929. وقد ألح بوليفة على أن زواوة كانت مستقلة في العهد العثماني عن الإدارة المركزية. وهو إلحاح لم يعجب الفرنسيين أيضا إلا بالمقدار الذي يباعد بين الزواويين والعثمانيين (¬1). ظهر بوليفة في ثوب الباحث الجاد في كتابه عن تاريخ زواوة وكذلك في بحثيه قانون عدني وقانون زاوية سيدي منصور. فقدم البحث الأول إلى مؤتمر المستشرقين كما ذكرنا؛ وقدم البحث الأخير إلى الكتاب التذكاري (ميلانج) المكرس لباصيه عشية وفاته (¬2). ومنذ هذا التاريخ لا نعرف أن بوليفة قد ألف أو نشر أعمالا أخرى. فلم يعترف به الفرنسيون معلما ابتدائيا إلا سنة 1922، كما أشرنا، ثم تقاعد سنة 1929، ووافته المنية في 8 جوان 1931، بالغا من العمر حوالي ستين سنة (¬3)، ورغم أنه عاش حتى أدرك الاحتفال المئوي بالاحتلال، فإنه ترك وطنه وقد استفاق وتكونت فيه الأحزاب والجمعيات وارتفعت فيه أصوات الوحدة والحرية والاستقلال. ¬

_ (¬1) الجزائر، 1925، 409 صفحات + ملحق بالعربية من عشر صفحات + خريطة. انظر سليم شاكر، مرجع سابق. وقد نتناول (جرجرة عبر التاريخ) في فصل التاريخ والرحلات. (¬2) نشر الكتاب التذكاري في 1923، وتوفي باصيه سنة بعد ذلك. (¬3) توفي في مستشفى مصطفى باشا بالعاصمة، ودفن في مقبرة باب الواد، حسب رواية سليم شاكر.

لم يترك بوليفة أولادا. ولم يذكر من ترجموا له حياته العائلية. ولكنه ربى ابني أخيه أحمد وبلقاسم. وكان صالح بن بلقاسم هو الذي زود سليم شاكر بالمعلومات عن عمر بن سعيد بوليفة - عم أبيه. وكان صالح ما يزال يعيش في عدني عندما كتب شاكر مقالته عن بوليفة سنة 1987. وكانت والدة صالح هي التي أنقذت بعض أوراق بوليفة من النيران خلال حرب التحرير. وقد نوه شاكر بسي عمر بوليفة على أنه (بربري) متعدد الجوانب ومن رواد اليقظة البربرية - الزواوية. فهو بتدريسه اللغة البربرية واتخاذه الطريقة المسماة (المباشرة) في تعليمها، واهتمامه بتاريخ وآداب زواوة، كل ذلك في نظر شاكر، جعل منه رائدا من الرواد في هذا المجال (¬1). ونحن نرى أن عمل بوليفة كان بالأساس موجها من قبل المستشرقين والإداريين لأسباب شرحناها. وليس الأمر مقصورا عليه، بل كان هو وغيره من ضحايا هذا المخطط. ولم تكن له مبادرة فيه أو اختيار إلا في كتابة تاريخ زواوة، ربما. أما تدريس اللغة وجمع نصوص آدابها وأغانيها فقد كان ضمن الحملة الاستشراقية التي اشترك فيها الجميع، جزائريون وفرنسيون، وشمل زواوة وغيرها. وحتى الاهتمام بتاريخ زواوة فقد رأينا أن أبا يعلى الزواوي قد سبق بوليفة في ذلك، أي منذ 1912، وقد أخرج الزواوي كتابه سنة 1924، سنة قبل ظهور كتاب بوليفة. كما أن الشيخ محمد السعيد بن زكري سبق إلى الحديث عن زوايا زواوة وقوانينها قبل أن يكتب بوليفة قانون عدني وقانون زاوية سيدي منصور. فكتاب (أوضح الدلائل) لابن زكري طبع سنة 1903، وربما كان هذا الكتاب مصدر وحي واهتمام لبوليفة الذي لم يبدأ في نشر بعض أعماله إلا سنة 1904. وليس هذا تفضيلا لأحد على آخر ولكنه فقط الاجتهاد في البحث وإعطاء كل ذي حق حقه من الريادة. وهو أيضا إنصاف لمن كتبوا بغير الفرنسية من مثقفي زواوة. ¬

_ (¬1) سليم شاكر، (وثائق عن الرواد: مصلحان قبائليان ...) في (مجلة الغرب الإسلامي) 1987، ص 102 - 106.

النثر الأدبي

النثر الأدبي إن فنون النثر كثيرة، وسنعرض إليها مفصلة بعد تقديم عام. ونقصد بالنثر الفني الكتابة المتميزة بالطابع الأدبي والمحافظة على قواعد اللغة والتي يعتني أصحابها بالأسلوب. إنها كتابة خاصة وليست عامة. فالخطب المنبرية المعتادة والكتابات الفقهية والفتاوى والنثر التعليمي والرسائل الإدارية المحض وما شاكل ذلك، لا تعنينا هنا. فإذا أخذنا ذلك بعين الاعتبار فإننا سنلاحظ أن العهد الذي ندرسه، رغم ضعف المستوى الثقافي عموما وفي اللغة والأدب العربي، قد عرف نماذج من فنون النثر تدل على استمرارية المدرسة القديمة من جهة والتأثر، عند البعض، بالثقافة والتيارات المعاصرة. ومن الجديد في هذا العهد الاهتمام بالمقالة الصحفية، وقد جمع بعضهم مقالاته في كتاب بعد نشرها في الصحف. وقد حصرنا فنون النثر فيما يلي: المقالة الصحفية، والتقاريظ، والرسائل، والخطابة، والعرائض وما يتصل بها، والبلاغات أو النداءات، والتعازي، والمقامات والروايات والمسرحيات. ويمكن إلحاق فنون أخرى مثل الردود ومقدمات الكتب. وقبل أن نتحدث عن كل فن نود أن نذكر أننا وجدنا عددا من العلماء قد عرفوا عند المعاصرين بالإجادة في التدريس وتخريج المسائل. وكان تلاميذهم والمعجبون بهم يمدحونهم (بالبلاغة) وحسن القول، دون أن نطلع على تآليفهم، كما أنهم لم يشتهروا بين الناس بالتأليف وإنما بالصناعة في التدريس. فهذا الشيخ أحمد العباسي المتوفى سنة 1836 قد تولى وظائف الفتوى والقضاء في عهد الحاج أحمد، باي قسنطينة، ولكنه كان معروفا كأستاذ مؤثر وبليغ. ولذلك كرر مترجموه بأنه كان مشاركا في علم البلاغة من بيان ومعان. وكان العباسي قد تخرج من الزيتونة وتشبع بثقافة

الوقت (¬1). وقد اهتم بعض العلماء بالبلاغة حتى في عهد الاحتلال، رغم قلة الفاهمين لها والعاملين بها. ومنهم أحمد بن المبارك المعروف بالعطار والمتوفى سنة 1870. فقد تولى التدريس في الكتانية بقسنطينة، وألف في علم البلاغة بوضع حاشية على شرح عبد الرحمن الأخضري (الجوهر المكنون) (¬2). ولا شك أن البلاغة قد استمر تدريسها كعلم من علوم العربية في المدارس الثلاث الرسمية، وهي المدارس التي كانت في وقت ما تضم بعض المثقفين العصاميين أمثال: محمد الزقاي (تلمسان) وحسن بن بريهمات (العاصمة) ومحمد الشاذلي (قسنطينة). وقد ترك كل منهم عملا يدل على مستواه في فن الكتابة. فالشاذلي كان شاعرار وناثرا. وبريهمات كان ناثرا أكثر منه شاعرا، وله اطلاع واسع على فنون الأدب. أما محمد الزقاي فلا نعلم له سوى مقالة نشرها في جريدة المبشر، وكان متنوع الثقافة إذ درس في الجزائر والأزهر (وربما درس في المغرب أيضا). ثم جاء جيل آخر من الكتاب، جيل الثلث الأخير من القرن الماضي، وفيه درس وألف عدد من الأدباء. نذكر منهم الشاعر الناثر عاشور الخنقي، والناثر عبد القادر المجاوي، والشاعر الناثر الطيب بن المختار. ومن يرجع إلى إرشاد المتعلمين (¬3) للمجاوي ثم كتاباته اللاحقة، يعرف أنه كان ضليعا في فنون النثر بعامة، سواء في تدريسه أو تأليفه. ولكنه اشتهر، مع ذلك، بالتدريس. أما عاشور فقد انتصب للتدريس في قسنطينة ثم في زاوية الهامل، وكان متمكنا من ناصية اللغة والأدب، ويعتبر فلتة في وقته. وكان قد تخرج من زاوية نفطة، بينما تخرج المجاوي من القرويين بالمغرب. ومن أبرز أدباء هذه الفترة أيضا الطيب بن المختار ومحمد بن يوسف أطفيش. وكان الأول قاضيا وشاعرا وله نثر أدبي راق (انظر تحفة الزائر). أما الشيخ أطفيش فقد كان يهوى الأدب ويدرسه لتلاميذه، رغم شهرته بالتأليف في فنون أخرى كالتفسير ¬

_ (¬1) تعريف الخلف 2/ 59. انظر عنه فصل السلك الديني والقضائي. (¬2) عن حياة أحمد بن المبارك انظر فصل التاريخ. (¬3) طبع في مصر، 1877.

والحديث والفقه. وكان محمد بن مصطفى خوجة من أدباء هذه الفترة أيضا. ومن مدرسي البلاغة والأدب أوائل هذا القرن عبد الحليم بن سماية في العاصمة والمولود بن الموهوب بقسنطينة. وهناك أدباء آخرون أخذوا في الظهور، وكانوا معاصرين لهؤلاء، نذكر منهم المولود الزريبي وعمر بن قدور ومحمود كحول (ابن دالي). وقد تولى الزريبي الوعظ وفشل فيه لاندفاعه وثورته، غير أنه ترك بعض التآليف التي تدل على نبوغه اللغوي والبياني؛ وظهرت موهبة عمر بن قدور في المقالة الصحفية الجديدة. بينما اشتغل كحول بالتدريس والصحافة، وعرف حفظ اللغة والأمثال والشعر والأسلوب المتين. ورغم أن ابن شنب قد ألف في العروض وحقق كتب الأدب فإنه لم يكن أديبا بالمقياس الذي نتخذه الآن. ولقد كان من هذا الجيل الذي أتقن اللغة العربية وألف وحقق بها. أما الجيل الرابع فقد تميز بظهور مدرسة شاملة في فنون النثر. فالخطابة قد وجدت مجالها في النوادي والمساجد، والرسائل تبادلها عدد من الأدباء مع بعضهم أو مع أدباء المشرق والمغرب. والتقاريظ واكبت حركة التأليف والنشر. وأبرز ما ميز هذه الفترة هو المقالة الصحفية التي وجدت في تعدد الصحف والآراء منطلقا لها على يد أدباء اتصلوا بالحركة الرومانتيكية والأدب المهجري أو تمكنوا من تطوير التراث والأسلوب. ومن هؤلاء رمضان حمود، وسليمان بو جناح (الفرقد) وعبد الحميد بن باديس والإبراهيمي وأبو يعلى الزواوي وأحمد توفيق المدني. ولم تكد تنتهي الحرب العالمية الثانية حتى ظهر جيل التف حول جريدة البصائر، ومنهم أحمد سحنون وباعزيز بن عمر وحمزة بوكوشة وأحمد رضا حوحو. وكلهم استعملوا المقالة الصحفية في أغراض متعددة: الأدب والإصلاح الاجتماعي والسياسة. وليس بوسعنا دراسة كل هؤلاء، ولعل تقسيم الفترة إلى أجيال، وتفريق فنون الأدب والبلاغة على العناوين التي أشرنا إليها، يكفي في رصد المعالم. ولنبدأ بالمقالة الصحفية.

المقالة الصحفية

المقالة الصحفية عندما تذكر الصحافة في الجزائر خلال القرن الماضي لا بد أن ينصرف الذهن إلى (المبشر) الرسمية لأنها كانت الجريدة الوحيدة التي ظهرت خلال السنوات (1847 - 1927). ويجب ألا يحتج بالمنتخب لأنها كانت ترجمة في أغلبها للنسخة الفرنسية ولأنها لم تهتم بالأدب والمقالات، كما أنها لم تبق إلا فترة قصيرة. والمعروف أن الصحافة التي يديرها جزائريون لم تظهر إلا أوائل هذا القرن. ولقد ظهر على صفحات المبشر عدد من الأسماء. ومن الصعب أن ننسبهم للأدب بدون تحفظ، ولكن أقلامهم كانت ترشح بثقافتهم. فإذا عدنا إلى إنتاجهم لاحظنا عليه المسحة الأدبية ومتانة الأسلوب والكتابة الخاصة، كما ذكرنا. ومن هؤلاء حسن بن بريهمات وابن علي الشريف وسليمان بن صيام، ومحمود بن الشيخ علي (الذي ألف والده رسالة هامة في البلاغة) (¬1). وقد كتب محمود هذا عدة مقالات، منها واحدة سنة 1867 بعنوان (نصيحة عمومية لأهل الحضر والبادية)، ونشرها على صفحة كاملة من المبشر وبخط رقيق. نلاحظ أنه رغم طول المقالة لم يستعمل السجع، ولكنه استعمل الشواهد الكثيرة من أحاديث وآيات قرآنية وشعر. وأسلوبه فيها بسيط (¬2). وفي أوائل هذا القرن ظهر عمر بن قدور بأسلوبه الصحفي الجذاب مع تناوله موضوعات حية وهامة. ونشر في صحف الجزائر، ومنها جريدته الفاروق، وجرائد الشرق وتونس. وقد تعرضنا إلى حياته وموضوعاته في مكان آخر (¬3). وكان أسلوبه حديثا وقد طوع اللغة إلى روح العصر، ويبدو أنه تأثر بالمدرسة النثرية الجديدة في المشرق. وكانت بعض صحف المشرق ¬

_ (¬1) انظر عن ذلك الجزء الثاني من هذا الكتاب، ونعني رسالة (أما بعد). (¬2) المبشر، 25 يوليو، 1867. وكذلك فصل مذاهب وتيارات. (¬3) انظر فصل المنشآت الثقافية، فقرة الصحافة.

تصل إلى الجزائر مثل اللواء والمؤيد ومجلة المنار. وساهم محمود كحول في جريدة (كوكب إفريقية) التي عاشت سنوات. كذلك ظهرت عدة أقلام على جريدة (المغرب). ومن كتابها جريدة (المغرب) مصطفى الشرشالي، وابن سماية وابن الموهوب والمجاوي. لقد تقدمت المقالة الصحفية عندئذ وخرجت من أسلوب جريدة المبشر الذي كان يدور في فلك الاستشراق إلى أسلوب الصحف العربية الرائجة في المشرق. ولم تكد الحرب العالمية الأولى تنتهي حتى ظهرت النجاح والإقدام والمنتقد والشهاب والبصائر وجرائد أبي اليقظان، فاحتضنت عددا من كتاب المقالة. وهؤلاء الكتاب لم يتخرجوا من مدرسة الصحافة ذات البرامج والقواعد المضبوطة، ولكنهم تمرسوا في الميدان وجربوا أقلامهم في صحف ليس لها من كتاب غيرهم. كان الطيب العقبى والبشير الإبراهيمي وأبو يعلى الزواوي قد عرفوا الصحافة في المشرق، في المدينة المنورة وفي سورية ومصر. وعرف ابن باديس الصحافة في تونس والمشرق. فنقلوا تجاربهم إلى الجزائر، وامتلأت بهم أعمدة الصحف المذكورة. ويجب أن نذكر هنا دور أحمد توفيق المدني في تطوير المقالة الصحفية بمساهمته الغنية في الشهاب ثم البصائر وتغطيته أبوابا دائمة في السياسة وأحوال المغرب العربي. بل إن تقويم المنصور الذي بدأه في تونس وواصله في الجزائر قد احتوى على مقالات له وأخرى لغيره، مثل محمد العاصمي. وكان كفاح جرائد أبي اليقظان. قد جعل أبواب الصحافة مفتوحة أمام الكتاب (¬1). وقد كتب محمد مبارك الميلي مقالات في الإصلاح الديني الاجتماعي، ثم جمعها في كتاب خلال هذه الفترة أيضا سماه (رسالة الشرك ومظاهره). ويبدو أن كتاب (الإسلام في حاجة إلى دعاية) للزاهري كان في الأصل مقالات نشرها في الجرائد، ومنها مجلة (الفتح) المصرية. ¬

_ (¬1) من مقالات الزواوي سنة 1936 واحدة بعنوان (رسالة من الشيخ .... الزواوي تعرب عن مقصده في تأييد النادي الجديد ...)، انظر (البصائر)، عدد 35 في 18 سبتمبر، 1936.

وكانت مقالات ابن باديس تمتاز بالعمق والقصر والدلالة. أما العمق فذلك يرجع إلى بعد غوره ووفرة أفكاره وشدة ملاحظته والتجائه إلى التلميح والترميز أحيانا. وأما القصر فلأن ابن باديس كان كثير الأشغال والترحال والدروس، وليس متخصصا للصحافة أو متفرغا للكتابة. ولذلك كان يقتطع من وقته بعض الساعة فيكتب فيها مقالاته الأسبوعية لهذه الصحيفة أو تلك. وقد بدأ الكتابة في جريدة النجاح لمامي إسماعيل، ثم تفرغ قلمه للمنتقد والشهاب، وهما جريدتاه، ثم البصائر جريدة جمعية العلماء. وأما الدلالة فهي ترجع إلى أن ابن باديس كان يرمي إلى معان بعيدة يوجه إليها خطابه ومخاطبه ويترك له الحرية في القرار مع لمسة لضميره ونفحة في قلبه. إن المقالة عند ابن باديس فن بذاته يترجم عن روحه الثورية وتفكيره العميق وغيرته الوطنية. ومن حسن الحظ أن مقالاته قد جمعت وصنفت في عدة مجلدات (¬1). وهي تشهد على ما نقول. ولدينا شهادتان على تمكن محمد العاصمي من فن المقالة. الأولى من أحمد توفيق المدني الذي أورد صورته في تقويم المنصور ووصفه بأنه كاتب بليغ وبحاثة وأنه قام بجولات في البلاد (الجزائر) وأورد له مقالة هامة في التقويم عنوانها (المجتمع الجزائري وعماد نهضته الراهنة). وقد امتدح العاصمي فيها تمسك الفرد الجزائري بالملية القومية (الوطنية؟) ومظارها أمام موجة التحضر ... ونفى أن يكون الدجل والشعوذة من العلم في شيء. واعتبر الدين الإسلامي من أقوى دعائم التمسك بالملية المذكورة. وحكم بأن الإنسان الجزائري يمقت الطفرة والجمود، وأنه حذر، ولكنه حلو المعشر، وأنه يحب الحرية حتى أنه يعبدها عبادة، كما أنه متعلق باللغة العربية أشد التعلق (¬2). وقد رتبها المدني تحت عنوان أدب المقالة الاجتماعية. ¬

_ (¬1) عمار طالبي (آثار الإمام ابن باديس)، وقد طبعت مرتين. وكذلك وزارة الشؤون الدينية التي أصدرت من آثار ابن باديس عدة مجلدات حتى الآن. (¬2) تقويم المنصور، السنة الخامسة، 1348، ص 276 - 282. وقد وصفه أحمد توفيق المدني في (كتاب الجزائر)، ط. 1931، ص 93، بالمجاهد بقلمه وبدروسه في =

أما الشهادة الثانية عن جودة أدب المقالة عند محمد العاصمي، فهي لكاتب آخر كان في المقام الأول من الاحترام والوطنية، وهو محمد العابد الجلالي، صاحب كتاب تقويم الأخلاق. وقد نشر للعاصمي مقالة في (الأخلاق والآداب الإسلامية) وهي في أخلاق العرب في الجاهلية والإسلام مع جولة في التراث والمجتم المعاصر، وأمثلة ومقارنات بالأخلاق الغربية. ورغم أنه لا وجود لاسم الجزائر فيها فإن كل المؤشرات تدل على أن الكاتب (العاصمي) كان يعني قومه. ومن جوانب هذه المقالة الحديث عن الفلسفة والأخلاق عند القدماء والنفس وأنواعها ... الغضبية والبهيمية، ثم عند العرب والمسلمين، وعند الغربيين، وجاء فيها أيضا، حديث عن الدين والعقل وتارخيهما. واعتبر العاصمي أن المدنية والدين صنوان، وأبرز دور المساواة العامة في الشريعة، كما أبرز حقوق المرأة وحرية الفكر، والديموقراطية الحقة في نظره، وكذلك حرية الاعتقاد بالنسبة للآخرين، وضرورة الانتهاء من تحكيم العصبيات والجنسيات القبلية، والابتعاد عن الجمود الديني، وبين الحكمة من الزكاة والصوم والصلاة والحج. وأخيرا دعا إلى إلغاء الواسطة بين الله والإنسان أو الخالق والمخلوق. إن مقالة العاصمي هذه تعالج موضوعا كأنه هو موضوع الساعة. ولا شك أنه كان موضوعا يشغل أذهان المثقفين المتنورين بين الحربين أيضا. ومن المفيد أن الجلالي قد أورد أيضا صورة العاصمي مع ترجمة قصيرة له، وذكر معها أنه رجل لا يحب الظهور ولا الشهرة ولا يهمه (إلا الحب الخالص لأبناء وطنه مع ملازمة التستر). وامتدحه بأنه قد التزم بتعليم الناشئة والكتابة في الصحف الوطنية، وأنه بمنزلة عالية من الخبرة والاطلاع وسداد الرأي. واعتبر مقالته غزيرة المادة العلمية وطيعة الأسلوب (¬1). ويبدو أن هذه ¬

_ = سبيل الأمة والعروبة والإسلام. للمزيد عن العاصمي انظر فصل السلك الديني والقضائي. (¬1) محمد العابد الجلالي (تقويم الأخلاق)، 1927، ص 20 - 45، والشطر الثاني من المقالة، ص 105 - 142.

الخصائص كانت غير غائبة عن إدارة الشؤون الأهلية الفرنسية، فسعت إلى ترويض العاصمي وإبعاده عن هذا التيار الذي امتدحه عليه المدني والجلالي. وقد تعرضنا إلى ذلك في غير هذا (¬1). وكان للمقالة الأدبية أيضا رجالها. ومن هؤلاء رمضان حمود الذي عاش عمرا قصيرا. وكان مثالا للشباب الطموح، والنهاية المأساة التي يلذ للرومانتكيين البحث عنها في المجاهل والأدغال والمغامرات. نشر رمضان حمود مجموعة من المقالات النقدية حول الأدب والشعر، وحول الجمود والتقليد والتراث والتجديد. وكان صوتا ثائرا على التقاليد البالية وعلى من سماهم (عبيد التقليد وأعداء الاختراع). وقد نشر مقالاته في جريدة (الشهاب) الإصلاحية، ثم جمعها ونشرها في كتاب بعنوان (بذور الحياة). وكان حمود قد أظهر نقده بالخصوص في المجال الشعري، فلم يعجبه شعر شرقي ولا شعر الذين يقلدونه إعجابا به، بل لم يعجبه الشعر التقليدي، ودعا إلى الصدق الفني والتجديد في هيكل القصيدة وأشكالها. ولكنه ظل في دائرة الوطنية والقومية. وبقدر ما أعجب ببعض الشعراء الأجانب فإنه لم ينبهر بهم كما فعل بعض شعراء المشرق (¬2). وسليمان بن يحيى بوجناح المعروف بالفرقد، كان مثل رمضان حمود في ثورته وشبابه. وكانا متعاصرين. ويقول عنه محمد العابد الجلالي إنه كان دون العشرين. ومع ذلك فإن مقالاته تدل على أنه قد عاش الدهر. وشهد على أن مقالاته كانت تمتاز بالغيرة الدينية وحصافة العقل والذكاء والوطنية وعزة النفس، وقد فصله الجلالي عن (الشباب الآخر) الذي انفصل عن (شرقيته) وتعلم لغة قوم آخرين فانقطعت بذلك أسباب الاتصال بينه وبين ¬

_ (¬1) نفهم من أوصاف المدني والجلالي لمحمد العاصمي أنه كان من المدرسين. ولكننا لا نعرف أين كان ذلك. (¬2) محمد ناصر (رمضان حمود وقضايا الشعر العربي الحديث)، (الثقافة) 32، إبريل - مايو، 1976، ص 63 - 78. توفي رمضان حمود عن 23 سنة. ولعل حمود كان متأثرا أيضا بمدرسة المازني والعقاد، كما عبرت عنها (جماعة الديوان).

أصوله. ولا شك أن الجلالي كان يلح بذلك إلى من يسمون بالنخبة لأنهم حبذوا الاندماج في الفرنسيين ونسوا وطنهم. ولذلك قال الجلالي عن الفرقد إنه (برمحه العريي وسنانه الفرنسوي (يعني أنه كان مزدوج اللغة) جاء طليعة لكتائب النصر الحقيقي ... بقلمه العربي والفرنسوي). وقد وصفه بالشاب الأديب، وجاء بصورته ووعد بإيراد ترجمة وافية له في أعداد لاحقة. وقال إن الفرقد كان من نجباء ميزاب الذين أخذوا العلوم العربية في تونس (¬1). ونحن نعلم أن الفرقد طبع كتيبا صغيرا بعنوان (كتاب الفرقد) ونفدت طبعته في مدة قصيرة، ولتوارد الطلب عليه من الشباب أعيد طبعه (ترويجا للأدب واللغة العربية الشريفة والفكرة الحرة ومبادئ الوطنية الصادقة) (¬2). ولكن سليمان بن يحيى قد واجه صعوبات في حياته أثرت على قلمه وهدت من جسمه. وقد عرفت المقالة الأدبية أيضا تطورا آخر على يد حمزة بوكوشة، وأحمد رضا حوحو، ثم الابراهيمي .. وليس بوسعنا تتبع إنتاج هؤلاء جميعا. لقد ساهم بوكوشة في الجرائد المعاصرة تم أنشأ جريدة باسم (المغرب العربي) في وهران. وكانت دراسته بتونس ومعاصرته لحركة التجديد الأدبي، بما فيها الحركة الرومانتيكية، قد أثرت على أسلوبه، وكان بالإضافة إلى ذلك شاعرا رقيقا، ولكنه كان مرتبطا بالحركة الإصلاحية. فجاءت مقالاته تصب في هذا التيار. ومثله في ذلك محمد العيد الذي يعرفه الناس شاعرا فقط، ومع ذلك نجد له فى صدى الصحراء والبصائر بعض المقالات القصيرة. ¬

_ (¬1) الجلالي، مرجع سابق، ص 143 - 144. ترجم له أيضا محمد ناصر في (المقالة الصحفية الجزائرية) 2/ الملحق. انظر عن الفرقد، محمد ناصر: (أبو اليقظان وجهاد الكلمة)، 1980، ص 215. وكان للفرقد دور بارز في التعاون مع الشيخ أبي اليقظان. (¬2) البصائر، 16 ديسمبر 1938. والإعلان كان عن ط. 2 من (كتاب الفرقد). وقالت البصائر عن هذا الكتاب إنه (رسالة فيما يقارب المائة صفحة تشتمل على مقالات نشرت في ظروف مختلفة لكاتبها الأديب المقدام). انظر البصائر 25 مارس، 1938.

الأسلوب من عاشور الخنقي إلى الإبراهيمي

وكان مزج أحيانا مقالته بأبيات من عنده. ومن ذلك مقالته (لماذا ابتليت الأخلاق بالخيبة والإخفاق؟) (¬1) وفي الثلاثينات هاجر أحمد رضا حوحو إلى الحجاز ولكنه لم ينقطع عن الحركة الأدبية في الجزائر. فكان يساهم بمجلة المنهل بالحجاز، ويراسل البصائر أحيانا (¬2). وقد دلت كتاباته التي نشرت أخيرا على أنه كان دائم الصلة بوطنه وبالإنتاج الأدبي فيه. ولكن مساهمته الكبيرة ستكون بعد 1947، فى المقالة والقصة. أما الإبراهيمى فسنفرد له حديثا قصيرا بعد حين. الأسلوب من عاشور الخنقي إلى الإبراهيمي تحاصر الإيراهيمي مع عاشور الخنقي فترة من الزمن ولكن عاشور أكبر منه سنا، وقد توفي في أغلب الظن خلال الثلاثينات. وفي الوقت الذي كانت فيه شهرة الخنقي ذائعة بسبب مسألة الأشراف كان الإبراهيمي تلميذا في زاوية ابن علي الشريف بآقبو، أو مراهقا في معاهد سطيف. ولم يكن (منار الإشراف) قد طبع عندما هاجر الإبراهيمي إلى الحجاز، سنة 1910 (¬3)، ولكن قصائد عاشور وقصته مع ابن مهنة واعتقاله ونفيه كلها كانت معروفة عند المتعلمين والمتأدبين، أمثال الإبراهيمي ولا سيما في دوائر الزوايا حيث مسألة الشرف كانت مسألة حساسة. كما أن زاوية الهامل كان لها ضلع في دفع عاشور إلى الدفاع عن الأشراف، وقد أقر عاشور نفسه بذلك. وكانت عائلة ابن علي الشريف ممن يهمها الأمر أيضا لأنها تقول إنها من الأشراف. ¬

_ (¬1) البصائر 21 يناير 1938. وقد قدم هذه المقالة مبارك الميلي الذي كان رئيس تحرير الجريدة وجعلها افتتاحية. وضمنها 13 بيتا من الشعر. (¬2) البصائر 17 سبتمبر 1937. انظر أيضا صالح خرفي (أحمد رضا حوحو في الحجاز) دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1992. (¬3) الشائع أن الإبراهيمي هاجر سنة 1910، ولكننا وجدنا أن التاريخ هو 1911، كما جاء في الجزء الخامس من آثاره.

وكان الإبراهيمي قوى الحفظ وربما حفظ بعض أشعار الخنقي في الموضوع نفسه قبل سفره إلى المشرق. وقد سمعت الإبراهيمي يشيد بشعر عاشور وقوة عارضته لولا أنه استعمل قلمه كما قال، في موضوع لا طائل تحته. لم يكتب عاشور الشعر فقط، وإنما كتب النثر أيضا رغم أن نثره قليل. وهو الذي يهمنا هنا. ومنذ أحمد بن عمار في آخر العهد العثماني لا نعرف أن أديبا كتب بأسلوب قوي كأسلوبه، سوى عاشور الخنقي. ورغم سلسلة الأسماء الدينية والأدبية التي عرفتها الجزائر بين 1830 - 1880، فإننا لا نعرف اسما كتب صاحبه بنفس القوة البلاغية التي تميز بها عاشور. وسواء في ذلك الذين درسوا في الجزائر أو خارجها. وقد كنا عرفنا أن عاشور ولد في خنقة سيدي ناجي، وتربى في بيئة عربية، ولكنه كان يتيما وفقيرا معدما. وظهرت موهبته في الحفظ مبكرة فحفظ القرآن في خمسة أعوام ونصف. وكان شيوخه في ذلك ثلاثة من الأشراف حسب قوله. وهو كما قال أيضا، من قبيلة البوازيد الهلالية الشريفة. وكانت الخنقة نفسها مدرسة نافقة في العلم قبل الاحتلال، ولكن العلم صوح فيها، حسب تعبير الخنقي، أثناء حداثته، فنصحه أحد شيوخه بطلبه في زاوية نفطة التي أنشأها مصطفى بن عزيز. وقد جمعت بين عاشور وهذه الزاوية الطريقة الرحمانية الخلوتية أيضا. لا نريد أن نكرر ما كتبناه عن عاشور الخنقي في فصل آخر، وإنما نقصر القول الآن على أسلوبه الثري. لقد تعلم على شيوخ زاوية نفطة الجزائريين والتونسيين. وتعهد لشيخه، مصطفى بن عزوز، بأن لا يقبل وظيفا رسميا. ولما رجع إلى الخنقة بعد وفاة شيخه بعام واحد (1286) (¬1) لم يجد فيها ما يتعلق به رغم أنه كان (يتعهد معاهد العلوم الرسمية ويزور مزارات العلوم الفقهية) فتأسف على اندراس العلوم في الخنقة. وأدركته الفاقة ¬

_ (¬1) توفي الشيخ مصطفى بن عزوز سنة 1285 (1865)، فيكون حلول الشيخ عاشور بالخنقة حوالي 1866 وبقسنطينة حوالي 1867.

والإذاية أيضا فأنشد قول الشاعر: كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا ... أنيس ولم يسمر بمكة سامر بلى نحن كنا أهلها فأبادنا ... صروف الليالي والجدود العوائر ولم تحدثه نفسه فيما يبدو، بالرجوع إلى تونس أو الهجرة إلى المشرق، كما فعل غيره، وإنما شد رحاله إلى قسنطينة حاضرة الأقليم الشرقي. منشدا مع الشاعر: إذا كان أصلي من تراب فكلها ... بلادي وكل العالمين أقارب وعندما حل عاشور بقسنطينة كانت فيها جماعة من الأعيان وعلى رأسهم المكي بن باديس. وكان هؤلاء الأعيان متوظفين عند الدولة الفرنسية في مختلف الوظائف الدينية والقضائية والتعليمية والإدارية. وكان الشيخ محمد الشاذلي. هو مدير المدرسة الكتانية، وهو بوزيدي الأصل، مثل عاشور. ولكننا لا ندري العلاقة الشخصية بينهما. وفي 1867 فتح الفرنسيون فرعا للمدرسة السلطانية في قسنطينة، وكانت مزدوجة التعليم وتحت إدارة أوبلان، وكان شيربونو على رأس الحلقة العربية والدراسة الاستشراقية وهو أحد عيون فرنسا على فئة المثقفين بالعربية. وما دام عاشور قد مهد بعدم التوظف فإنه ظل يلقي دروسا حرة في الزوايا والمساجد المعزولة. وكان فيما يبدو متمردا ومندفعا ودخيلا على مجتمع المدينة. وذلك لا يروق الفرنسيين ولا فئة الحضر. ومن ثمة نفهم شكواه من أنهم (حسدوه) على علمه وأغروا به السلطات الفرنسية وربما هي التي حرضت عليه وتوجس منه رجالها. ورغم إقبال الناس عليه وتزاحمهم على دروسه في البداية، كما قال، فإنه سرعان ما واجه معارضة شديدة من أشباه العلماء الذين سعوا به إلى الفرنسيين حتى أخرجوه من جميع المساجد، وهددوه حتى بالقتل!. فتوقف عن الدروس وبقي كاسف البال فقير الحال، عدة سنوات (¬1). كان عاشور في قسنطينة أثناء ثورة 1871، وقد اجتمع بالشيخ الحداد ¬

_ (¬1) انظر حياته العائلية في فصل الشعر.

في سجن قسنطينة وحضر وفاته. وكان من أنصار دعوته وطريقته الرحمانية. وعاش في قسنطينة طويلا (حوالى ربع قرن). عرف أثناءها بداية عهد العرائض والمطالب، وحلول عبد القادر المجاوي بقسنطينة معلمار حرا ثم موظفا رسميا في المدرسة الكتانية. وظهور علماء آخرين أمثال حمدان الونيسي، وحميدة بن باديس، وصالح بن مهنة. وقد وجدناه يتعرض بالنقد الشديد للمجاوي وابن مهنة، دون الآخرين، الأول كمدرس منافس له والثانية كمنتقد لعصاة الأشراف (¬1). ولا نعرف أن عاشور ساهم في جريدة المنتخب التي ظهرت سنة 1882 في قسنطينة، ولا في جريدة المبشر الرسمية التي كان يكتب فيها بعض أدباء قسنطينة أمثال مصطفى بن السادات. ويبدو أن عهد الكتابة عنده قد بدأ في الثمانينات فقط. ويظهر أسلوبه النثري في مقدمات ديوانه منار الإشراف، وفي نقده لحالة العلم واللغة والأدب التي عليها الأدباء، وفي رسالته عن البوازيد. وجاء في ديباجة منار الإشراف أنه سلك فيه (سبيل الجزالة والسهولة والعذوبة والانسجام، أولا تطريبا لأعلام العلماء الأعلام، وثانيا، تقريبا لإفهام الطلبة والعوام. وثالثا تدريبا على سلوك الحكمة الحقة التامة: البلاغة مارضيته الخاصة وفهمته العامة. ورابعا عملا بوارد الحديث ... خاطبوا الناس بما يفهمون). وقد انتقد عاشور أسلوب أهل العصر الجديد لما فيه من التكلف، حسب تعبيره. (فليت شعري أين أهل العصر الجديد، من أرباب المعلقات السبع الصناديد، وفرسان الفصاحة والبلاغة أهل الأسجاع والأناشيد؟) (¬2) ونحن نفهم من ذلك أن عاشور كان يميل إلى أسلوب التراث ولا يرضى بأسلوب المتأدبين الجدد. ولعله يقصد أولئك الذين يكتبون بالطريقة التي شاعت في صحف المشرق. أما أساليب الجزائريين فقد ظلت محافظة وضعيفة من جهة أو متأثرة بالتعابير الاستشراقية من جهة أخرى. فنقده للأسلوب الجديد وتفضيله الأساليب البلاغية القديمة يذكرنا أيضا بنقد ¬

_ (¬1) تعرضنا لذلك في ترجمة عاشور. (¬2) عاشور الخنقي (منار الإشراف) ط. الجزائر، 1914، ص 130 - 156.

الإبراهيمي لأساليب معاصريه وميله هو (الإبراهيمي) إلى طريقة القدماء اليت كانت مخزونة في حافظته، كما سنرى. استعمل عاشور السجع في كتابته، ولكن قوة تمكنه من اللغة والأدب جعلته غير متكلف في سجعه خلافا لضعاف المواهب الذين سرعان ما تنكشف ضحالتهم ويتعرى نقصهم من الجملة الأولى. أن تراكيب عاشور اللغوية متماسكة وجزلة رغم المسحة القديمة التي عليها. ونثره مليء بالحكمة والإشارات الأدبية، وهو يستمد قوته من المحفوظات والقوالب التراثية، ولكن شخصيته ظاهرة فيه، فهو ليس مجرد مقلد أو ناقل، بل حاضر الفكر قريب المعاني من الواقع. يقول عن الذين تناسخوا شعره أثناء اعتقاله حتى أفسدوه عن قصد أو دون قصد: أنه هرب به إلى المطبعة خوفا. عليه (من كتابة عوج الأيدي وهوج الأضع) فالألفاظ هنا قديمة ولكن استعمالها لتبرير الهروب إلى حروف المطبعة بدل النسخ اليدوي استعمال جديد. وفي منار الإشراف أيضا رسالة لعاشور في شجرة الشرف صاغها بالسجع. وقد ضمنها ما عثر عليه من الوثائق والكتب المتعلقة بالأنساب. وأورد لذلك الأحاديث والآيات والنقول. وقال: (هذه رسالتنا النثرية السجعية المسماة مقدمة الشجرات الشرفية، فينبغي لكل من له شجرة في الشرف الفاطمي الخاص أو في الشرف الهاشمي العام، أن يجعلها مقدمة شجرة نسبه بعد الثبوت التام، حتى تكون لها تحفة من أحسن التحف، وطرفة من أكمل الطرف، في بيان فضل الشرف وما خصه به الله من اللطف، وهي هذه، عائذة بالله خير معاذه). وتعتبر الرسالة من أجمل الكتابات النثرية في ذلك الوقت رغم تحليتها بالسجع. وهي طوية وتقع من صفحة 130 إلى صفحة 156 من منار الإشراف. وتاريخ كتابها هو سنة 1909. ولعاشور رسالة أخرى في البوازيد لا نعرف أنها قد نشرت. تحدث فيها عن أشراف البوازيد وفروعهم ومكانتهم في التاريخ. وأشار إلى بعض قصائده. وهاجم فيها ابن مهنة، كعادته. وتميزت بطابع الحزن والأسى لأنه

فيما يبدو ألفها أثناء سجنه وابتلائه بسبب مواقفه التي اشتكى منها بعض الناس للسلطات الفرنسية. وقد يكون وجهها إلى أحد تلاميذه ومعارفه إذ حمله فيها السلام إلى (مولانا ابن علي الشريف) وطلب من سائله أن لا ينساه من دعائه (في خلواتك وجلواتك بالسراح الجميل من هذا الثقاف (السجن) المضروب علي بموجب الذب على حرم الأشراف، وبقضاء الحاجات، إن ربك قريب مجيب الدعوات). ويبدو أن الرسالة طويلة، ولكن ما بقي منها واطلعنا عليه لا يتجاوز اثنى عشر ورقة (23 صفحة) (¬1). وفي الوقت الذي كان فيه عاشور يعاني الحرمان المادي والإرهاق النفسي، بسبب قلمه وطول لسانه، كان الإبراهيمي قد هاجر إلى الحجاز ملتحقا بوالده الذي سبقه إلى هناك. كان الإبراهيمي قد تكون في زاوية ابن علي الشريف من جهة وعلى يد عمه من جهة أخرى. ثم اتصل في مصر أثناء سفره ببعض الشيوخ مدة ثلاثة أشهر. ومنها توجه إلى المدينة حيث وجد التدريس تقليديا إلا عند شيخ أو اثنين، ومنهم أحد مشائخ تونس، اسمه محمد الوزير، ثم أحد علماء الهند. وبعد ثورة الشريف حسين (1916) أجبره الأتراك مع عرب آخرين على التوجه إلى سورية مع عائلته. وقد قال إنه كان ضد هذه الثورة التي اعتبرها (مشؤومة)، واستجاب لدعوة العثمانيين بنقل سكان المدينة إلى دمشق بعد أن تعذر نقل الغذاء إليهم لظروف الحرب. ولكن الإبراهيمي لم يكن مواليا للعثمانيين أيضا. فمن جهة رفض وظيفة عرضها عليه جمال باشا، والي دمشق العثماني، ومع ذلك فإن هذا الوالي لم يضطهده كما اضطهد مثقفي وزعماء الحركة القومية في سورية. ومن جهة ¬

_ (¬1) ألفها وهو في خنقة سيدي ناجي سنة 1317، ولعله كان هناك تحت الإقامة الجبرية. وجاء فيها أنه كليب الهامل ومولى البوازيد وشاعر الأشراف، خادم العلم الشريف وأهله. والرسالة غير مذكورة في (منار الإشراف). أطلعني عليها الأخ علي أمقران السحنوني في 8 غشت 1980. فهل وجه الرسالة إلى الشيخ محمد السعيد بن زكري وعن طريقه إلى ابن علي الشريف؟ وهل هذه المراسلة هي التي أدت إلى إطلاق سراحه بتدخلات هذين الشيخين؟.

أخرى كان الإبراهيمي يعرف الأمير فيصل بن الشريف حسين الذي دخل دمشق على رأس الجيش العربي بمساعدة الإنكليز. وقد عرض عليه فيصل بعض الوظائف الرسمية فاعتذر أيضا. واكتفى بالتدريس في الجامع الأموي وفي بعض المدارس الرسمية. وبعد دخول سورية تحت طائلة الانتداب الفرنسي وطرد فيصل من سورية، اختار الإبراهيمي الرجوع إلى الجزائر. ولم يذكر هو سبب رجوعه: هل كان لأسباب سياسية أو عائلية أو مادية؟ ففرنسا كانت في الجزائر وها هي الآن في سورية. وقد انتهى الحكم العثماني والحكم العربي في سورية. وقد أحس بعض الجزائريين بالحرج من الانتداب الفرنسي وهو في سورية، فقد كان منهم الأعداء الألداء لفرنسا وهم أحفاد المهاجرين الأوائل، غير أن بعضهم رأى الاستفادة من الوجود الفرنسي بعد أن أعلن الفرنسيون أنهم كانوا يحمون (رعاياهم) الجزائريين. ومن جهة أخرى نعلم أن الإبراهيمي كان على صلة بالشيخ ابن باديس منذ لقائهما في المدينة المنورة سنة 1913، وكان لهما مخطط سري يقتضي العمل المشترك لإنشاء حركة إصلاحية - تعليمية في الجزائر. ومهما كان دافعه في الرجوع إلى وطنه سنة 1920، فإن الإبراهيمي لم يجد طريقا مفروشة بالزهور. وقد ظل سنوات وهو يعاني الحرمان كما عاناه الشيخ عاشور. فلا وظيفة ولا تجارة ولا تدريس. يقول الشيخ الإبراهيمي عن نفسه إنه تظاهر لفرنسا بالتجارة منعا للشك فيه. ولكن السلطات الفرنسية كانت ربما لا تخفى عليها خافية. وأية تجارة؟ إنها عملية بسيطة تتمثل في شراء بعض الأشياء كالبرانيس والشحوم ثم بيعها للناس بالتقسيط. ولكن أمثال الإبراهيمي لم يخلقوا للتجارة، فمن أين كان يعيش؟ لقد قيل إن أسرة ابن علي الشريف قد اتصلت به وحاولت منحه وظيفة مدرس في زاويتها ليعيش منها. وقيل إنهم قد عرضوا عليه وظيفة مفتي في بجاية، وهو وظيف لا تمنحه إلا إدارة الشؤون الأهلية وتوقيع الحاكم العام. ولكن شيئا من ذلك لم يتم. إنها مجرد محاولات وربما جس نبض أمام ضغط الحاجة المادية.

أما الثابت فهو أن الإبراهيمي قد وجد صديقه ابن باديس قد هيأ الجو النفسي في الشعب بنشر التعليم منذ 1914 وتخريج التلاميذ. ولكننا لا نعرف أن الإبراهيمي قد أسس مدرسة خلال العشرينات ولا واظب على محاضرات ودروس في مسجد معين. وأول لقاء معروف بينه وبين ابن باديس كان سنة 1924 (¬1). وهو الاجتماع الذي كان في سطيف والذي وقع فيه نقاش حول تأسيس رابطة أو جمعية علمية، سماها الإبراهيمي جمعية الإخاء العلمي، وهي تسمية تذكرنا بجمعية الإخاء العربي التي كانت في المشرق تدعو إلى القومية العربية، وكان فيصل من أعضائها (وربما كان الإبراهيمي أيضا؟). حدث ذلك اللقاء بين ابن باديس والإبراهيمي، ولكنه لم يسفر عن اتفاق لأن الفكرة لم تنضج بعد. وكان الجو السياسي أيضا غير مهيء، لأن السلطات الفرنسية قد نفت الأمير خالد سنة 1923، وأخذت تتهيأ للاحتفال بالاحتلال من مركز القوة دون اعتبار لمشاعر الجزائريين. وعلى إثر ذلك الاحتفال ولدت جمعية العلماء المسلمين، وانتخب الإبراهيمي نائبا لرئيسها. وهو أول منصب بارز يتولاه منذ رجع إلى الجزائر. ثم ترقى الإبراهيمي في المسؤوليات فتولى الدعوة الإصلاحية في غرب البلاد، ومركزه تلمسان، منذ 1932، ولعب دورا أساسيا في المؤتمر الإسلامي سنة 1936، ثم في إنشاء دار الحديث بتلمسان والاحتفال بها سنة 1937، وقد اعتقلته السلطات الفرنسية ونفته إلى آفلو (في وضع شبيه بنفي عاشور أيضا مع اختلاف الأسباب طبعا) سنة 1940. ولكن الحلفاء أطلقوا سراحه أوائل سنة 1943، وكان الإبراهيمي قد انتخب غيابيا رئيسا لجمعية العلماء خلفا لابن باديس الذي توفي في أبريل 1940. وبعد حوادث 8 مايو 1945 اعتقل الإبراهيمي وسجن في سجن الكدية بقسنطينة ولم يطلق سراحه إلا بعد العفو العام سنة ¬

_ (¬1) ذكر الإبراهيمي أنه أثناء رجوعه إلى الجزائر عبر تونس لقي بها ابن باديس، كما اجتمع به في قسنطينة وهو في طريقه إلى سطيف. انظر سيرته الذاتية (أنا) في مجلة مجمع اللغة العربية، القاهرة، عدد 21، 1966، وانظر أيضا الجزء الخامس من آثاره.

1946. ومنذئذ تولى تسيير الجمعية وتحرير البصائر وقيادة الحركة العلمية بما فيها المدارس ومعهد ابن باديس. وفي فاتح 1952 توجه الإبراهيمي إلى المشرق للدعوة إلى فتح معاهد الشرق في وجه تلاميذ الجمعية وجلب المساعدات المادية لها. وقد اندلعت ثورة نوفمبر وهو في المشرق فظل يدعو لدعم الثورة في العالم العربي والإسلامي إلى الاستقلال الوطني. وقد رجع إلى الجزائر سنة 1963 (¬1). لا يعنينا هنا نشاط الإبراهيمي في ميدان السياسة والإصلاح والصحافة، ولكن يعنينا دوره في اللغة والأدب. فقد كان أديبا فذا قلما أنجبت الجزائر مثله في العقود الأخيرة. وإذا اعتبرنا بالجو الثقافي الذي كان سائدا أثناء ميلاده وطفولته اعتبرناه (وحيد زمانه) كما يقول القدماء. وتمتع الإبراهيمي بحافظة نادرة، وحب للأدب العربي القديم. فنهل من حياضه ما شاءت نفسه وطموحه. حفظ دواوين الشعراء ومتون اللغة وخزائن الأدب والشواهد. ولذلك بهر المعاصرين في المشرق والمغرب بحفظه واستحضاره ذخائر التراث. وقد ظهر ذلك على لسانه وقلمه. لم يؤلف الكتب لأن وقته كان مكرسا، كما قال، لتكوين الرجال، وهم التلاميذ في الأدب والخطباء في النوادي، والأنصار في المجتمع. وحين أجبر على الإقامة في آفلو قضى وقته في نظم الأراجيز ووضع الأسجاع وتأليف القصص الغريبة مثل رسالة الضب، وكاهنة الأوراس، والأدباء الثلاثة. ولما رجعت البصائر سنة 1947 تولى تحريرها وكتب فيها المقالات الطوال في شؤون الحياة والدين والسياسة، ولكن بعضها كان نماذج من الأدب الطلي الذي تكلف فيه الإبراهيمي وخرج ¬

_ (¬1) توفي الإبراهيمي في مايو، سنة 1965 بالجزائر. وترجمته متوفرة في عدة مصادر منها آثار الشيخ الإبراهيمي التي تضم مقالاته. وكتاب (في قلب المعركة)، الجزائر، 1993. وقد ترجم هو لنفسه ونشرت الترجمة في عدة مطبوعات، منها (الثقافة) ومجلة المصور المصرية، وحديثه إلى مجلة جمعية الشباب المسلمين (مصر). انظر أيضا بحثنا عن الإبراهيمي، في الوثائق الإدارية، 1932 - 1940، في كتابنا أبحاث وآراء ج 3.

به عن مألوف المقالة العادية. وقد اختار هو ما رآه خالدا من تلك المقالات لما فيها من قيم بلاغية وأخلاقية وأدبية ونشرها تحت عنوان (عيون البصائر) (¬1)، وهي عيون لا من حيث موضوعاتها الهامة فقط ولكن من حيث أسلوبها النادر الجميل. ومن مساهماته في هذا الميدان مقالاته القصيرة التي نشرها تحت عنوان (سجع الكهان). وهي قطع من الأدب الصرف رجع فيه إلى أساليب العرب القديمة في صوغ السجع على لسان الكهان، واستعاد فيه صفاء اللغة وإشراق الأسلوب مع معالجة موضوعات حديثة. وكان كثير من التلاميذ في المدارس والمعلمين وهواة الأدب الراقي يحفظون تلك الأسجاع عن ظهر قلب ويتهادون بها ويقلدونها، لطرافتها وجمالها وارتباطها بالحياة المعاصرة، مثل القطعة التي تناول فيها الحالة في اليمن عندئذ. والغالب أن الإبراهيمي كان لجأ إلى هذا الأسلوب عندما يريد الابتعاد عن الطريقة المباشرة فيستعمل الرموز ويدير الكلام بالتوية على لسان كاهن من أهل الحي، أو هو كاهن الحي نفسه، كما كان يطلق عليه. وهناك مقالات عادية ولكنها تميزت بأسلوب أدبي دافق. ونشير هنا إلى مقالاته عن الشباب الجزائري كما تمثله له الخواطر. ومقالته عن إضراب طلبة جامع الزيتونة، ومقالته في عبد الحي الكتاني، وغيرها. ومنذ سافر إلى المشرق سنة 1952 زار عدة بلدان عربية وإسلامية. وكان لا يكاد يجد وقتا لتحرير المقالات التي تشنف القراء في الجزائر وغيرها، إما لابتعاده عن أوضاع البلاد وإما لكثرة أشغاله وتنقلاته وزواره، وإما لتقدم السن به ومعاناته من بعض الأمراض. ولكنه لم ينقطع عن البصائر ¬

_ (¬1) ط. أول مرة في مصر، 1963، وأعيد طبعه عدة مرات. انظر أيضا (آثار) الشيخ الإبراهيمي، وهي في أجزاء. وقد جمعت من قبل بعض أصدقائه وتلاميذه وبإشراف ابنه. ومن ضمن كتاباته مقالته (تعريب المدرسة أساس كل تعريب) نشرت بعد وفاته في مجلة (اللسان العربي) عدد 4، 1966، ثم أعيد نشرها في كتاب (في قلب المعركة).

إذ كان يرسل إليها بين الحين والحين مقالات نموذجية سماها (من نفحات الشرق) ومنها مقالة بعث بها من باكستان. وكانت كتاباته التي جادت بها قريحته بعد توقف البصائر (1956) تدل على مواصلة قلمه مسيرته الأدبية الطويلة. وقد ظهرت هذه الكتابات أخيرا. في كتاب جديد (¬1). وهو يضم نماذج من أدبه القوي الذي ساهم به في معركة التحرير وخاطب به الأدباء العرب في المشرق. مثل مقالته عن حرية الأديب وحمايتها، ومن وحي العيد، وعن شعر شوقي. لقد استحق الإبراهيمي التقدير الكبير على أدبه من المعاصرين. فانتخب لمجمع اللغة العربية في القاهرة وفي دمشق. ونوهت به النوادي في تونس والجزائر والعراق وغيرها. وبقدر ما كان أدب عاشور الخنقي حجة على استمرار ومقاومة اللغة العربية وأسلوبها الراقي، رغم اعتبارها أجنبية في بلادها، بقدر ما كان أدب الإبراهيمي حجة أخرى على نبوغ الجزائري في التراث ودفاعه عن الأصالة. وخلافا لعاشور كان الإبراهيمي واسع الجمهور كثير الأنصار والمعجبين، وكان بعيد التأثير في الجزائر والمشرق. ورغم مكانة الإبراهيمي الأدبية في المغرب والمشرق فإن المستشرقيين الفرنسيين وتلاميذهم من الجزائريين لم يعترفوا بأدبه ولم ينوهوا به في كتاباتهم. فالمستشرق هنري بيريز كتب سنة 1957 بحثا عن (الثقافة العربية الكلاسيكية في الجزائر) اكتفى فيه بذكر الأمير عبد القادر، رغم أن ثقافة الأمير لا ترجع في الحقيقة إلى العهد الفرنسي، وتجاهل دور ابن باديس والإبراهيمي وغيرهما من أدباء وشعراء (¬2). ومن وجهة أخرى كتب ¬

_ (¬1) نعني به كتاب (في قلب المعركة)، دار الأمة، 1993. وقد كتبت تصديرا لهذا الكتاب انظر أيضا تقديمنا للجزء الخامس من آثار الشيخ الإبراهيمي، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1997. (¬2) هنري بيريز (الثقافة العربية الكلاسيكية في الجزائر) في كتاب (المدخل إلى الجزائر) - بالفرنسية -، الجزائر 1957، ص 283 - 299.

الرسائل

سعد الدين بن شنب مقالة في مجلة (الأديب) اللبنانية، وأعاد نشرها في مجلة (هنا الجزائر) تناول فيها حالة الأدب العربي تحت عنوان (اللغة العربية والأدب العربي في الجزائر) فلم يدرج الأدباء الجزائريين الذين رفعوا رأس اللغة والأدب العربي واكتفى بذكر نماذج من النوع الذي ترضى عنه السلطات الفرنسية (¬1). ولكن ابن شنب كتب عن الشاعر محمد العيد وترجم بعض شعره (¬2). أما الإبراهيمي وأمثاله فلم يذكرهم، ربما خوفا من سخط الإدارة. الرسائل أدب الرسائل فرع هام من الأدب العربي، برع فيه البعض دون البعض وتفنن فيه آخرون وقصر دونه فريق آخر. والرسائل على أنواع، منها ما هو بين الإخوان والعائلات، وما هو بين العلماء والمثقفين، ومنه ما هو ديواني وإداري. ولكل طابع يميزه. وقد عرف الجزائريون هذه الأنواع من الرسائل. ومن الصعب علينا الإحاطة بها جمعا وتصنيفها، لأن معظمها قد ضاع، وما يزال منها نصيب في المحفوظات الخاصة والعامة. والرسائل التي تعنينا الآن هي التي تدور حول موضوع معين، سياسي أو إداري أو اجتماعي، وفيها يتفنن كاتبوها بعض التفنن في الأسلوب والتعقل في اللغة والتصوير، وهي التي تدور عادة بين الفئات الخاصة وليس العامة. أما ما يدور بين عامة الناس من رسائل بسيطة، الهدف منها قضاء الحاجات وتبليغ السلام والسؤال عن الأحوال، فذلك لا يعنينا هنا. وهو كثير بدون شك. ¬

_ (¬1) سعد الدين بن شنب (اللغة العربية والأدب العربي في الجزائر) في مجلة (الأديب)، يناير، 1954، وكذلك في (هنا الجزائر) رقم 21، فبراير 1954. (¬2) نشر ذلك في الوثائق الجزائرية (التي تنشرها الحكومة العامة بالجزائر، عدد 7، 15 يوليو، 1946. وبعد أن عرف به في صفحتين ترجم له قطعتين هما: أين ليلاي؟ ويا رياض الجنى. وقد كتبت عن الإبراهيمي أديبا ومصلحا بعض الرسائل الجامعية في الجزائر والمشرق العربي.

ولنبدأ بالرسائل الديوانية، وهي تلك الصادرة عن الإدارة أو باسمها وكذلك الموجهة إليها بنفس الأسلوب والطريقة. وقد كان للإدارة الفرنسية كتاب جزائريون ومترجمون فرنسيون يتولون ذلك، فيكتبون الرسائل إلى أعيان البلاد، ويتلقون رسائلهم ويترجمونها. كان ذلك في الفترة الأولى من الاحتلال، واستمر التعامل به على مستوى المكاتب العربية العسكرية. ولكن هذه الرسائل من الجانبين ليس فيها عناية بالأدب، ولم يكن في المكاتب ولا المترجمين من يتقن اللغة والأساليب إلى درجة الرقي بها إلى مستوى رفيع. ولك أن تقرأ الرسالة التي بعثت بها الإدارة الفرنسية إلى المفتي الحنفي تهدده إذا لم يتراجع عن موقفه إزاء زميله المفتي المالكي (¬1). وكانت إدارة الأمير عبد القادر قد وفرت الشروط لمراسلات ديوانية رفيعة المستوى. فقد جند الأمير مجموعة من الكتاب المتأدبين، بعضهم معروف بالاسم، مثل قدور بن رويلة ومحمد المخروبي وأحمد البدوي، ومصطفى بن التهامي، وبعضهم غير معروف لنا الآن. وقد قلده خلفاؤه في ذلك، فكان لمحمد بن علال كتابه، ولمحمد البوحميدي كتابه، إلخ. كما أن الخلفاء أنفسهم، والأمير بالطبع، كانوا متعلمين من صنف المثقفين والمرابطين غالبا. ولنذكر منهم الحسين بن عزوز، ومحمد البركاني، وأحمد الطيب بن سالم. وإذا عدنا إلى الرسائل الصادرة عن إدارة الأمير العامة أو إدارة خلفائه، نجدها متقيدة بقواعد اللغة محافظة على الأساليب العربية في الحكمة والمثل والاستشهاد بالشواهد والإيجاز. وهذه الخصائص نجدها في الرسائل الصادرة عن إدارة الأمير سواء كانت موجهة إلى الفرنسيين، أو إلى الجزائريين أو إلى غيرهم من الساسة والعلماء، مثل الرسائل التي وجهها الأمير إلى حكام فرنسا وحكام بريطانيا وأمريكا وإسبانيا، وكذلك حكام المغرب والدولة العثمانية. ومن شاء فليراجع مراسلة الأمير إلى السلطان عبد المجيد (¬2). ¬

_ (¬1) انظر ذلك في أبحاث وآراء، ج 3. فصل (من رسائل علماء الجزائر). (¬2) عبد الجليل التميمي (بحوث ووثائق مغربية)، تونس، 1972.

وفي هذا النطاق تدخل رسائل محمد بن علال إلى المارشال فاليه، حاكم الجزائر (¬1). وكذلك بعض الرسائل التي نشرها أوغست كور التي كانت بحوزة شارل فيرو، وهي من بعض القادة الجزائريين إلى السلطات الفرنسية (¬2). وبهذا الصدد نذكر أيضا رسائل الحاج أحمد، باي قسنطينة إلى بعض الحكام الفرنسيين من جهة وإلى السلطان محمود الثاني من جهة أخرى. ومنها الرسالة التي وجهها الحاج أحمد، أو كتبت على لسانه، قبيل وفاته، إلى الجنرال دوهوتبول سنة 1850. وقد اطلعنا عليها فوجدناها مليئة بالأخطاء. وقد هنأه بولاية حكم الجزائر وتمنى له النجاح في مهمته وتوفير الأمن والعافية للبلاد في عهده، واعدا إياه بالزيارة (وهذا هو المراد) (¬3). ومن السجون والمنافي وجه زعماء جزائريون رسائل كثيرة الى السلطات الفرنسية، وقد اتخذ معظمها طابع الشكوى ووصف الحالة السيئة التي كانوا عليها وطلب العفو أو إطلاق السراح. وكثير من هذه الرسائل ما يزال مكدسا في الأرشيف الفرنسي، لم يصنف لأنه بالعربية. وقد اطلعنا على بعضها فوجدنا لغتها ضعيفة، إلا في بعض العبارات أو الاستشهادات. ومن ذلك رسائل الحسين بن عزوز، ورسائل أولاد الصادق بلحاج لطلب السراج من السجن (¬4). وهناك الرسائل التي دارت بين مثقفين جزائريين وقادة وأدباء فرنسيين. ¬

_ (¬1) جورج ايفير في (المجلة الإفريقية)، 1914، ولا سيما الرسالة الأولى، ص 120، والأخيرة، ص 19. ويمكن اتخاذ الرسالتين نموذجا في هذا الباب. (¬2) أوغست كور في (المجلة الإفريقية)، 1914، ص 91 - 117. مجموعة من الرسائل مصنفة دون نصوصها. لا بد من الرجوع إليها في الأرشيف. (¬3) أشيل روبير (رسالة الحاج أحمد بن محمد الشريف، آخر بايات قسنطينة) في مجلة (روكاي)، 1916، ص 147 - 157. النص والترجمة. (¬4) اطلعنا على ذلك سنة 1982 في أرشيف إيكس، ثم ضاعت منا البطاقات الخاصة به. وقد نشر عبد الحميد زوزو بعض رسائل أولاد الصادق بلحاج في أطروحته. ومع ذلك نجد أحدهم، وهو إبراهيم، يؤلف فى التصوف.

ونبدأ بالإشارة إلى مراسلات الأمير عبد القادر الكثيرة مع نابليون الثالث وغيره. ومن ذلك الرسالة التي بعث بها الأمير إلى المارشال كاستلان سنة 1277 شاكرا له بعبارات ضافية مع التمنيات والثناء لنابليون بعبارات شرقية فخمة (وقد كتبت الرسالة على لسانه) (¬1). والمعروف أن الأمير راسل عدة قادة فرنسيين مجاملة أو طلبا للتدخل لصالح بعض أقاربه وأصدقائه في الوظيف وغيره. كما تدخل لصالح بعض الزعماء المسلمين مثل شامل الداغستاني؛ ونحن نعرف أنه كتب أيضا إليهم بمناسبة دخول ابنه محي الدين للجزائر سنة 1870. أما غير الأمير من القادة فقد تراسلوا أيضا مع المترجمين والأدباء والقادة الفرنسيين في أغراض مختلفة، بعضها للمجاملات، مثل رسائل محمد الشاذلي مع بواسونيه، وبعضها لطلب التدخل للتعيين في وظيف مثل رسالة محمد الصالح العنتري إلى شارل فيرو. وهناك رسائل من القاضي شعيب بن علي إلى القاضي الفرنسي زيس. وقد درسنا مراسلات محمد الشاذلي في كتابنا عنه، كما نشرنا رسالة العنتري إلى فيرو في غير هذا. ومن الصعب إحصاء هذا النوع من الرسائل، وقد نشر بلقاسم بن سديرة مجموعة من الرسائل التي دارت بين بعض أعيان الجزائر والمسؤولين الفرنسيين (¬2). ولكن الطابع الأدبي يكاد يكون منعدما في أغلبها. وقد عثرنا على مجموعة من المراسلات التي جرت بين عدد من علماء الدين والسلطات الفرنسية. وهي رسائل من المفروض فيها التفنن والتنميق الأدبي، لأنها صادرة عن مثقفين وموظفين بارزين. ولكن خاب ظننا، إذ وجدناها قد اتخذت طابع الأسلوب الإداري المحض: عبارات قصيرة مكتفية بالمرغوب والمطلوب، تطرح المشكلة مثل وفاة موظف أو سفره، وتقترح تعيين خليفة عنه من ثلاثة أشخاص. وهي عادة رسائل تبدأ بالتحية وعبارات ¬

_ (¬1) نصها في المكتبة الوطنية - باريس، رقم 7038. (¬2) انظر ابن سديرة (كتاب الرسائل).

المجاملة، وتنتهي كذلك مع التوقيع والتاريخ. فهذا النوع من الرسائل رغم أنه صادر عن فئة العلماء ورجال الدين كان ديوانيا - إداريا جافا، لأن المخاطب، وهو الإدارة الفرنسية، لا يروق له الأسلوب الأدبي (الشرقي)، وربما تكون الإدارة قد أوصت بطريقة الكتابة مقدما، لأن كل رسالة كانت لا تقدم إليها إلا بعد ترجمة مرفقة يقوم بها أحد المترجمين المختصين (¬1). ولم نطلع على رسائل لعلماء الجزائر بالعربية إلى السلطات الفرنسية في هذا القرن، لأن الجزائريين أصبحوا لا يقدمون عملا من هذا الصنف إلا مترجما إلى الفرنسية. ولا ندري الآن هل كانت خطابات جمعية العلماء وزعيمها ابن باديس، ترفع مباشرة إلى السلطات الفرنسية أو بعد ترجمتها إلى الفرنسية. أما البيانات والتصريحات والاحتجاجات الصادرة عن جمعية العلماء فقد كانت بالعربية الجيدة. وسنقسم باقي الرسائل إلى رسائل اجتماعية وإخوانية، وهي تلك التي تبادلها بعض المتعلمين. وهناك نوع آخر من الرسائل تبادله جزائريون مع علماء وأدباء المغرب والمشرق. ورسائل النوع الأول تكون عادة خالية من التفنن والعبارات الأدبية وإنما هي تجري مجرى الخواطر والأشواق بين أفراد العائلة والسؤال عن الأحوال في عبارات بسيطة وموجزة. ومن ذلك الرسائل التي بعث بها الشيخ محمد وعلي السحنوني من المدينة المنورة إلى ابن عمه محمد السعيد بالجزائر. ورغم أنها رسائل اجتماعية فإننا نستفيد منها أخبار الحجاج الجزائريين وسياسة فرنسا نحوهم، وأخبار الحجاز والطرق الصوفية. أما الأخبار الاجتماعية فمنها حالة الفقر التي كان محمد وعلي يعاني منها، وطلبه إرسال النقود إليه، وكذلك إرسال زوجة لعدم ارتياحه لنساء الحجاز (وقد أرسلت إليه امرأة من الجزائر وتزوج ¬

_ (¬1) انظر عن ذلك (من رسائل علماء الجزائر في القرن الماضي) في كتابنا أبحاث وآراء، ج 3.

بها)، وحالة التجارة بين مصر والحجاز ونحو ذلك (¬1). ويرجع تاريخ الرسائل إلى سنوات 1878 - 1891. وهذه ليست رسائل أدبية بالطبع، وليست من النثر الفني في شيء. ومن رسائل العلماء ما بعث به القاضي شعيب بن علي إلى محمد بن عبد الرحمن الديسي سنة 1317 هد. فمن تلمسان بعث يشكره على قيامه بشرح عقيدة التوحيد التي كتبها القاضي شعيب، ويعتذر له عن كونه لا يملك نسخة من شرح خطبة بهرام. ومن القاضي شعيب أيضا صدرت رسالة إلى عبد الحليم بن سماية واصفة إياه (بمن له بالرواية غاية العناية، وهو في الدراية آية). ويرجع تاريخها إلى سنة 1327 هـ. وأرسل القاضي المذكور رسالة أخرى إلى قدور بن سليمان، وهو من المتصوفين. وقد صدرت عنه مجموعة من الرسائل حفل ببعضها كناش ما يزال مخطوطا، ويعتقد أن الكناش كان بحوزته إلى أن انتقل إلى الشيخ عبد الحي الكتاني (¬2). كما تلقى القاضي شعيب رسائل عديدة من بعض المعاصرين الجزائريين، منهم محمد ولد بن عودة بن سليمان. ومحمد بن عبد الرحمن الديسي، وعلي بن الحاج موسى قيم ضح الشيخ الثعالبي، وعبد القادر بن قارا مصطفى، مفتي مستغانم. أما رسائل القاضي شعيب إلى علماء المشرق والمغرب فنذكر منها رسالته إلى المكي بن عزوز. ورغم أن فيها تكلفا واضحا، فهي تعبر عن ¬

_ (¬1) نصوصها بخط الأخ علي أمقران السحنوني، بتاريخ 23 فبراير، 1981. عن الشيخ محمد وعلي انظر فصل التصوف وكتاب الحركة الوطنية، ج 1. وهناك رسائل دارت بين العربي بن أبي داود وشيخه محمد بن بلقاسم الهاملي. وكذلك ما راسل به البشير بن هدوقة الشيخ العربي بن أبي داود، بتاريخ 1311 - هـ. كل ذلك حسب وثائق علي أمقران السحنوني. (¬2) نقصد الكناش رقم ك 48، الخزانة العامة بالرباط، وهو كناش غني فيه أخبار كثيرة عن علماء الجزائر أول هذا القرن. وحصلنا منه على نسخة بواسطة صديقنا الدكتور عباس الجراري.

النوازع الأدبية بين الرجلين، وربما كان القاضي شعيب يطلب الإجازة منه. وبدايتها: (المولى الذي يعتقد قلبي محبته، وتود عيني رؤيته، تاج رؤوس الأقران، وبديع العصر والأوان، العلامة الدراكة سيدي محمد المكي بن عزوز). وكان هذا قد أرسل أيضا رسالة إلى القاضي شكيب. ووصلت رسالة أخرى إلى هذا القاضي من أحد أدباء تونس اسمه محمد الشافعي بن محمد النفطي الذي قيل عنه إنه كان كثير الترحال وذلك سنة 1330 هـ. ومع الرسالة قصيدة مدح تعبر عن الرغبة في زيارته (¬1). ولا نعرف أن القاضي شعيب قد تراسل مع علماء مشارقة، أمثال الأفغاني ومحمد عبده، فقد كان معاصرا لهما واكتسب بعض الشهرة على إثر مشاركته في مؤتمر المستشرقين بالسويد سنة 1892. وقد ذكره محمد أمين فكري باشا في كتابه (إرشاد الألبا) (¬2). ونعتقد أن هناك مراسلات للقاضي شعيب مع غير هؤلاء أيضا مثل مراسلته مع قاضي وجدة، ومع بعض علماء المغرب المعاصرين، ومنهم عبد الحي الكتاني وأحمد سكيرج (¬3). ولو جمعت مراسلات الأمير عبد القادر مع غير الجزائريين من الأعيان والأداء لجاءت ربما في مجلد. فالرجل كان علما من أعلام العصر، وكان قاصدا ومقصودا في حياته. كتب مجيبا على أسئلة، وكتب مستفسرا. وكتب شاكرا ومادحا، ومعزيا ومهنئا، ونحو ذلك. وقد دارت بينه وبين الشيخ أبي الهدى الصيادي، والشيخ محمد عبده مراسلات وهو في آخر عمره، وراسل وزراء تونس في شأن المقرانيين وفي شأن ناصر بن شهرة وغيرهم. وربما كتب إلى الخديوي إسماعيل باشا عند مروره بمصر متوجها إلى الحجاز، وبعد حضوره افتتاح قناة السويس. ¬

_ (¬1) نفس المصدر. (¬2) محمد أمين فكري باشا (إرشاد الألبا إلى محاسن أوربا)، القاهرة، 1892، ص 608، 649 ويبدو لنا أن علماء الجزائر كانوا لا يتراسلون مع علماء المشرق خوفا من الإدارة الفرنسية. (¬3) انظر مخطوط ك 48، مرجع سابق، وكذلك عبد الحي الكتاني (فهرس الفهارس).

ومن رسائله ما كاتب به خير الدين باشا التونسي عند ظهور (أقوم المسالك) سنة 1867. وبعد إشادته بالكتاب وبجهود صاحبه كتب الأمير هذه العبارات الطريفة (فلله درك ودر ما به ألمعت، وما قربت من فنون المعارف وبعدت، ثم إنك حميت ضمار الشرع المحمدي وعضدته، وقطعت عنه ضرر الملحدين وخضدته، وذلك بما قررتموه من أن الشريعة المطهرة لائقة بكل زمان، صالحة للحكم في كل أوان ... وقد اطلعنا على (أقوم المسالك) فرأينا فيه ما بهر العقول، وأدى الأفكار إلى الذهول، من قضايا المعقول والمنقول، فاتفقت القلوب على تفضيله، واختلفت الألسنة في تمثيله. أما نحن فقد تركنا التشبيه، وقلنا ما له في فنه مثيل ولا شبيه ... كتاب تنفس الدهر به تنفس الروض في الأسحار ... كتاب يزرى بتاج تراجم الأعيان، وكأنه مرآة انعكست فيه رسوم أخبار الملوك وأفاضل الزمان، فاتخذته مرتع ناظري، ومنتعش خاطري ... ولا يخفى أنه لا بد لكل عصر من رجال يقومون بأعبائه، ويهيمون في أودية أنبيائه) وهناك مراسلات ومهاداة أخرى بين الرجلين يضيق المقام عن ذكرها (¬1). ومن أشهر رسائل الأمير ما كتب به إلى نابليون (الثالث) على إثر إطلاق سراحه من سجن أمبواز، وهي الرسالة التي قيل إن الأمير قد تعهد فيها بعدم حمل السلاح في وجه فرنسا. وتهمنا نحن هنا صيغتها الأدبية وليس السياسية. فقد صاغها الأمير عن عاطفة أكيدة متأثرا بالحرية التي تعهد له بها ممثل فرنسا في الجزائر، ولكنه خان العهد. فكان الأمير مغتبطا بالحرية، شاكرا لنابليون صنيعه معه، ذاكرا أن الحرب بدأها بإرادة الله وأوقفها أيضا ¬

_ (¬1) عن هذه المراسلات انظر محمد بن عبد القادر (تحفة الزائر) 2/ 196 - 199. وهنا وهناك. وقد عالجنا هذا الموضوع بكتابة بحث عن خير الدين باشا في نظر الجزائريين. انظر كتابنا أبحاث وآراء ج 4. وقد صدق ابن الأمير حين قال (ومن المعلوم أن الأمير من مشاهير العالم وأعيانه، والناس على اختلاف مللهم ونحلهم لهم به تعلق ومواصلة، فلا يخلو من كتاب وارد وجواب صادر). انظر (تحفة الزائر)، 2/ 189.

بإرادة الله. ومن ثمة لم يغلق الباب في وجه الحرب، كما فهم البعض، ما دام ذلك متوقفا على إرادة الله التي لا يتحكم هو فيها، وإنما قال إنه توقف عنها لأن الله أمره بذلك عندئذ. وذكر أن الدين الإسلامي والشرف العائلي يأمرانه بالوفاء بوعده وعدم الغدر. وإليك بعض العبارات الأدبية منها. قال الأمير متحدثا عن نفسه ومخاطبا نابليون: (جاء إلى حضرتكم العلية بالله يستكثر بخيركم، ويتمتع بالنظر إليكم، فإنكم والله أحب إليه من كل محبوب، وفعلتم معه الفعل الذي هو فوق قدره وما يستأهله، ولكن فعلكم على قدر همتكم وعلو مقامكم وكمال شرفكم، ولستم، أعزكم الله، ممن يمدح بالباطل، أو يخدع بالكذب، وأنكم أمنتم فيه وما صدقتم من شك في أمانته وسرحتموه، وفعلتم من غير وعد، وغيركم وعد وما فعل. وهو (يعني نفسه) أعطاكم عهد الله وميثاقه وعهود جميع الأنبياء والمرسلين أنه لا يخالف أمانتكم فيه، ولا يخرج عن عهدكم، ولا ينسى فضلكم، ولا يرجع إلى قطر الجزائر أبدا، لأنه حين أوقفه الله تعالى وقف وضرب البارود على قدر ما قدر، وحين أراد الله جلوسه جلس ورضى بقضاء الله، وسلمت في الملك وجئتكم، وديني وشرفي يأمرانني بالوفاء بالعهد وعدم الغدر. وأنا شريف لا نرضى أن ينسبني الناس إلى الغدر، وكيف يكون ذلك وقد رأيت من إحسانكم وفضلكم ما نعجز عن شكره، (إن) الإحسان إلى الأحرار سلسلة في رقابهم تقودهم إلى محبة المحسن، وقد شاهدت من فخامة ملككم وقوة عساكركم وكثرة أموالكم ورجالكم وعدالة أحكامكم ونصيحة عمالكم واستقامة أموركم كلها ما نقطع ولا نشك فيه أنه لا يغلبكم ولا يردكم عن مرادكم إلا الله تعالى ...) (¬1). ولنذكر من النثر الفني خلال القرن الماضي الرسالة التي بعث بها ¬

_ (¬1) مخطوطات المكتبة الوطنية الفرنسية (عربي)، رقم 7123. ص 96 - 97، منتصف محرم 1269/ 30 أكتوبر، 1852. نفس النص قام بترجمته إسماعيل أوربان (عربان) ونشرته (المجلة الشرقية والجزائرية)، المجلد 3، 1853، ص 379 - 381.

الطيب بن المختار إلى الأمير عبد القادر، وهي في وصف ما آل إليه حال العلم في الجزائر وحالة الجهل التي أصابت أهلها والترميز إلى الوضع السياسي المتردي (وإسناد الأحكام إلى غير أهل الرياسة). وديباجتها هي قوله مخاطبا الأمير: (سيدي الذي أستند في جميع أموري بعد الله إليه، ومولاي الذي أعتمد بعد الاعتماد على الله عليه، رب المحاسن التي صورها على منصة التنويه تجلى، والأحاديث التي لا تمل على كثرة ما تملى). وقد حلى الرسالة بشعر له وآخر لغيره، كما هي عادة الأدباء في أغلب الأحيان. ثم شكا الطيب بن المختار من الأوضاع المشار إليها فقال إنها (مجالسة الجهال فجرا والحال أنه ذهب من العمر أكره ... فمن استعاذ من شيء فليستعذ مما نحن فيه، كيف وقد أسند الشيء لغير أصله، ووسد الأمر لغير أهله، ... وقد تصدى من هذا الجنس أقوام لإلحاق الفرع وهيهات، بأصله، ووضع الشيء وليت شعري، في غير محله، فعدموا التوفيق، لتعاطيهم الرواية وما رووا، ودعواهم الدراية وما دروا، فرأوا إقامة الجمعة في غير الجامع، وراموا القياس بقطع النظر عن الأمر الجامع، فكان الأخذ عنهم ضلالا) (¬1). ولم نطلع على نماذج من المراسلات التي قيل إن الشيخ محمد بن يوسف أطفيش تبادلها مع بعض المعاصرين مثل الشيخ محمد عبده. ونظن، بعد معرفتنا لأسلوب الشيخ أطفيش في بعض تأليفه، أن رسائله ستكون مختصرة وغير مسجعة، مع العناية باللغة والنحو، ولكن العناية أكثر بالموضوع (¬2). ولو رجعنا إلى ما دار بين علماء الجزائر وعلماء العصر من مراسلات لملأنا صفحات. إن أمثال المجاوي وأطفيش وابن باديس والعقبى والإبراهيمي والزواوي والمدني والزاهري وأبي اليقظان قد تراسلوا مع علماء ¬

_ (¬1) تحفة الزائر، 2/ 210 - 211. (¬2) بيير كوبيرلي (محمد أطفيش ورسالته) في مجلة معهد الأدب العربي IBLA تونس، 1972، ص 269 وما بعدها.

الجزائر ومع علماء المشرق والمغرب في شؤون الأدب والإصلاح والسياسة والدين. مع الثعالبي، وشكيب أرسلان، ومحب الدين الخطيب، وسليمان الباروني وغيرهم من زعماء الحركات الإسلامية والأدبية. وكنا قد نشرنا بعض مراسلات ابن باديس مع الشيخ الطاهر العبيدي أحد علماء سوف، وقد كان العبيدي يقيم ويدرس في تقرت (¬1). ولابن باديس مراسلات مع أصدقائه وزملائه وتلاميذه وهم كثيرون. وكذلك كان العلماء الذين ذكرنا بعض أسمائهم، وقد تكون في مراسلات الأدباء أمثال حمزة بوكوشة ومحمد العيد ومفدي زكرياء والأمين العمودي ومحمد الهادي السنوسي ورمضان حمود وسليمان بن يحيى (الفرقد) والربيع بوشامة والحفناوي هالي وغيرهم، أخبار أدبية وأساليب بلاغية ونكت حكمية. إن مدرستهم هي التي أحيت الأدب العربي الذي يسميه المستشرقون الفرنسيون الأدب الكلاسيكي تبعيدا له عن ساحة الجزائر (الفرنسية). وأثبتت السير الذاتية لمجموعة من علماء الجزائر أن التراسل كان مستمرا بينهم وبين علماء المشرق. وحين اتصل شكيب أرسلان بكتاب (تاريخ الجزائر) لمبارك الميلي كتب إلى صديقه الشيخ الطيب العقبي يعبر عن إعجابه وأضاف له (كما إني معجب بكتابة ابن باديس. فالميلي وباديس والعقبى والزاهري حملة عرش الأدب الجزائري الأربعة) (¬2). لقد كانت بين أبي اليقظان وسليمان الباروني مراسلات مستمرة وكذلك غيره من علماء ميزاب مثل إبراهيم امتياز والأخوين العنق (¬3). وكانت بين ¬

_ (¬1) انظر كتابنا (تجارب في الأدب والرحلة)، الجزائر، 1982. وأيضا عبد الله حمادي (دراسات في الأدب المغربي القديم) دار البعث، قسنطينة، 1986، ص 345 - 358. (¬2) انظر بحثنا عن (شكيب أرسلان والحركة الوطنية الجزائرية) في الكتاب التذكاري المقدم إلى د. نقولا زيادة، لندن، 1992، وكذلك أبحاث وآراء ج 4. وفاتحة الجزء الثاني من (تاريخ الجزائر) لمبارك الميلي، ط 1. (¬3) عن مراسلات الباروني مع أبي اليقظان انظر كتاب (سليمان الباروني)، تأليف أبي =

التقاريظ

محمد بن شنب ومحمد كرد علي مراسلات متوالية خلال العشرينات. وقد نشرنا بعضها في غير هذا. وهي نماذج من الأدب ولكنها كانت رسائل مختصرة وتكاد تكون إدارية. التقاريظ ارتبطت التقاريظ في أغلب الأحيان بتأليف الكتب. فكان المؤلف يخط كتابه فإذا تلقاه أستاذه أو زميله وأعجب به عبر عن ذلك الإعجاب بقطعة شعرية ونثر مسجوع أو اكتفى بأحدهما. وشاع ذلك قبل وجود الطباعة وبعد ظهورها. ومن أوائل الكتب المطبوعة التي وجدنا عليها تقريظا كتاب هدية الإخوان للعنتري، وإرشاد المتعلمين للمجاوي. وكان الكتاب الأخير قد طبع في مصر، وعليه تقريظ من أحد أدباء الشام المقيمين في مصر. وربما حظيت بعض مؤلفات الأمير عبد القادر المخطوطة بتقريظ لم نعثر عليه. ونذكر هنا أن بعض المستشرقين والمتصلين بالماسونية قد أشادوا بكتابه (ذكرى العاقل وتنبيه الغافل). ولعل علماء المشرق قد نوهوا بكتبه الأخرى مثل (المواقف). أما في الجزائر فإن من أوائل الكتب التي نشرت بتقاريظ هو كتاب (روضة الأخبار ونزهة الأفكار) الذي طبع سنة 1901، وهو من تأليف أبي بكر بن أحمد بن أبي طالب، أحد أقارب الأمير عبد القادر. وكان أبو بكر صهرا لعبد القادر المجاوي، المدرس المعروف. وكان من القضاة، مثل عدد آخر من عائلته، وكان والده أحمد المجاهد قد درس في دمشق، وتولى منذ 1864 القضاء في سطيف ووهران، وتوفي سنة 1890. أما أبو بكر فقد تولى القضاء في أماكن عديدة بما في ذلك العاصمة. وقد قرظ كتابه عدد من ¬

_ = اليقظان، ج 1، 2. وكان للباروني مراسلات أيضا مع الهاشمي بن إبراهيم، زعيم القادرية في عميش بوادي سوف. انظر زعيمه الباروني (صفحات خالدة من الجهاد). وقد كتبنا بحثا عن سليمان الباروني انظر مجلة الثقافة، سنة 1995.

العلماء المعاصرين منهم صهره المجاوي. ومن التقاريظ الأخرى لكتاب روضة الأخبار ما كتبه محمود بن الحاج كحول (ابن دالي) الذي كان عندئذ مدرس العربية بمدرسة سيدي الجليس (فرنسية - عربة) بقسنطينة، وهو أيضا من تلاميذ الشيخ المجاوي. وقد كتب كحول قطعة نثرية مسجعة وقصيرة وضمنها أبياتا شعرية. وكل من تقريظ المجاوي وكحول عليه مسحة أدبية ويدخل فيما نحن فيه من أساليب الكتابة عندنا. وهناك تقاريظ أخرى عليه وهي من النثر القصير، كتبها محيي الدين بن الحاج قدور الشريف، قاضي محكمة مستغانم، وهو من عائلة الشريف الزهار الشهيرة في العاصمة، وكانت فيها نقابة الأشراف. وأيضا تقريظ الأخضر بن الطيب، قاضي محكمة أولاد زيان، ولا نعرف عنه الآن إلا هذا، وربما كان زميلا للمؤلف. وهناك قريبان آخران للمؤلف، كما تدل أسماؤهما، وهما محيي الدين بن أحمد ين أبي طالب قاضي محكمة الحروش (قسنطينة) ومحمد الأمين بن عبد الله بن أبي طالب، قاضي معسكر. فكلاهما كتب تقريظا من النثر القصير (¬1). وفي هذه الأثناء (1897) ألف المزاري بن عودة كتابا بعنوان (طلوع سعد السعود) في التاريخ. وقد تضمن الكتاب تقريظين في شكل إجازة من كاتبين يبدو من اسميهما أنهما مصريان، أحدهما عبد العالي شبكة وثانيهما عبد الرحمن بن سليمان المصري، ولكن عبارات التقريظ ركيكة وفيها مدح سخيف لصاحب الكتاب. ولا ندري ما العلاقة بين المزاري وهذين الكاتبين ولا بين الكاتبين وموضوع الكتاب (¬2). وعندما حقق محمد بن مصطفى خوجة كتاب (الجواهر الحسان في تفسير القرآن) للشيخ عبد الرحمن الثعالبي، مقابلا له على عدة نسخ، كتب له ¬

_ (¬1) أبو بكر بن أحمد بن أبي طالب (روضة الأخبار ونزهة الأفكار)، الجزائر، 1910. (¬2) حول طلوع سعد السعود انظر فصل التاريخ. أما التقريظان (الإجازتان) فيظهران في آخر الجزء الثاني، انظر أيضا ج - 1، ص 15.

كل من محمد السعيد بن زكري وعبد الحليم بن سماية تقريظا ينوه بالتفسير والتحقيق. وكان ابن زكري مفتيا ومدرسا بالقسم العالي في المدرسة الثعالبية. أما ابن سماية فكان مدرسا بالجامع الجديد وبالمدرسة الثعالبية أيضا. وكتابة المقرظين تعبر عن فن الكتابة المخضرمة عندئذ، فهي كتابة تجمع بين ازدواجية الثقافة التي ترمز إليها المدرسة الثعالبية وبين التأثر بالتطور الذي حصل في فن الكتابة بالمشرق. وقد نوه ابن زكري في عبارات تقليدية بالقرآن والمفسرين ومنهم الثعالبي، (رحالة زمانه لرواية الحديث ... إمام المتقين، وأستاذ المحققين، منهل المعارف واللطائف ... ملجأ كل خائف). كما نوه بالمحقق محمد بن مصطفى خوجة المعروف بالكمال (¬1). وأسلوب ابن سماية في التقريظ أدبي وكثير التصنع والتنميق، وهو أيضا أسلوب تقليدي من محفوظات التراث. وجاء فيه (الحمد لله الذي منح أحبابه من كنز مواهبه بالجواهر الحسان، وألبسهم من مطارف المعارف ما يخرس وصفه شقائق اللسان، وعقد لهم على بساط المكارم منبرا، وتضوعت أنفاسهم الزكية بين الورى مسكا وعنبرا ...) وكذلك نوه ابن سماية بالعلم والتفسير وبالشيخ الثعالبي وبمجهود ابن الخوجة على تصحيحه للكتاب ومقابلته على سبع نسخ مع مراجعة بعض الأصول (¬2). وفي سنة 1911 ظهر كتاب (القواعد الكلامية) لعبد القادر المجاوي. وهو في علم الكلام ألفه قبل وفاته بقليل، وربما كان حصيلة دروسه التي كان يلقيها على طلبته في المدرسة الكتانية بقسنطينة وطلبة القسم العالي من مدرسة الجزائر (الثعالبية). وقد قرظه تلميذه محمود كحول تقريظا قصيرا ولكن في عبارات أدبية وافية، وهي أيضا عبارات تقليدية في صيغتها يمكن أن تلصق بأي كتاب فلا ينفر منها ولا تظهر غريبة فيه. وبعد أن نوه الشيخ كحول بالمجاوي قال عن الكتاب (تابعت النظر في أبوابه السنية وفصوله ¬

_ (¬1) تفسير الثعالبي، ط. 2 بيروت، 1980، ج 4 (مصورة عن طبعة الجزائر 1327) ص 456 - 458. (¬2) نفس المصدر، ص 459 - 461.

البهية، ووجدته سلك في هذا الفن الطريقة المثلى التي تقرب شوارده للأذهان، وتزيل ما على غوامضه من الحجب والأستار، وتدني فوائده لكل عاكف عليه). ثم ذكر أن الكتاب قد ظهر في وقت اشتدت فيه الحاجة إله، فهو سهل العبارة وأسلوبه مما يفهمه الصغار والكبار. (مع بساطة في البيان وجزالة التبيان) (¬1). وهكذا يكون هذا التقريظ قد صيغ في شكل الإعلان عن الكتاب. وعندما ألف أحمد الأكحل كتابه (سائق السعادة في الحسنى وزيادة) (¬2) قرظه عدد من الأدباء، وحظي كتاب (تعريف الخلف برجال السلف) لأبي القاسم بن الشيخ بتقريظ محمد بن عبد الرحمن الديسي. وكان المؤلف أيضا من بلدة الديس، وربما قد زاولا الدراسة معا، ولكن الأيام فرقت بينهما فرحل أبو القاسم إلى العاصمة حيث استقر محررا في جريدة المبشر ومدرسا بالجامع الكبير، ومكث ابن عبد الرحمن - وكان ضريرا - مدرسا في زاوية الهامل ناحية بو سعادة. وكلاهما كان من رجال العلم والأدب غير أن علم وأدب أبي القاسم كان في فائدة الإدارة الفرنسية والاستشراق، بينما علم وأدب ابن عبد الرحمن كان لفائدة التلاميذ والعلماء في القطر كله. وحين ظهر الجزء الأول من تعريف الخلف (1906) أهدى المؤلف نسخة منه إلى ابن عبد الرحمن فبادر هذا إلى كتابة تقريظ سخي نشره المؤلف في الجزء الثاني من نفس الكتاب. وقد اعتبر ابن عبد الرحمن (تعريف الخلف) كتابا تاريخيا يصل الحاضر بالماضي ويعيد ذكرى الأجداد ويحيى النفوس لتحمل علم الوطنية. والتقريظ كالعادة جمع بين النثر والشعر. يقول الشيخ محمد بن عبد الرحمن في تقريظه: (نحمدك اللهم يا من جعل العلم حلية الأبرار، وقنية المهتدين الأخيار ... أما بعد فإن العلم من أفضل الذخائر ... وأن من أظرف فنونه ... فن التاريخ الجليل، المعظم في ¬

_ (¬1) المجاوي (القواعد الكلامية)، الجزائر، 1911، ص 146? 147. (¬2) ط. الجزائر، 19. كانت لدينا عنه معلومات في بطاقات ولكنها ضاعت منا فيما ضاع لنا، وكنا قد اطلعنا عليه في المكتبة الوطنية - باريس.

كل أمة وقبيل، الذي لولاه ما عرفت سير الملوك والعظماء، ولا حفظت تراجم العلماء والحكماء. وأن من أبدع مصنفاته وأحسنها، وأجل مؤلفاته وأتقنها، السفر المسمى (بتعريف الخلف برجال السلف) ... كتاب جليل الموضوع، أحيا به مجد علماء القطر ... وقد قلنا أبياتا في مدح المؤلف وتأليفه: حبذا عقدا جمان ودرر ... صاغه الحبر الجليل المعتبر وكفانا شاهدا إبرازه ... تحفة في العصر تسبى من نظر ضمنها تعريفه بالعلما ... من رجالي ذكرهم ويجلى الكدر جملوا (الغرب) وأعلوا قدره ... وهم للغرب نعم المفتخر (¬1) وقد قرظ الشيخ ابن عبد الرحمن أيضا منظومة (ستر العورة) للشيخ الطاهر العبيدي سنة 1337 هـ (1918 م). ولم نطلع على هذا التقريظ، غير أننا اطلعنا على تقريظ عبد الحميد بن باديس للمنظومة نفسها. فيقول ابن باديس: (وبعد فإني بعد أن سمعت هذه المنظومة من مؤلفها العالم العلامة الشيخ سيدي الطاهر بن العبيدي قلت هذه الأبيات خدمة للعلم وإشادة بفضل هذا الرجل العظيم، ومنظومته المزرية بالدر النظيم، على حسب ما سمح به الخاطر الكليل القاصر: ذى درر حسنة التنضيد ... سالمة من وصمة التعقيد جامعة للقصد والمزيد ... تدنى الجنى لكل مستفيد من نظم زين العلما العبيدي ... جازاه رب الناس من مفيد بالعلم والعمل والتأييد (¬2) ¬

_ (¬1) (تعريف الخلف) 2/ 416. وقصد الشاعر (بالغرب) المغرب الأوسط (الجزائر) أو المغرب العربي كله. ولعله يقصد بكلمة (الغرب) الثانية أروبا. فيكون المعنى أنهم علماء يفاخر بهم المغرب الأوسط (المغرب العربي) الغرب الأروبي. (¬2) الطاهر العبيدي (النصيحة العزوزية)، ط. مصر، 1954، ص 6 - 7. وكان ابن باديس قد كتب تقريظه في 7 رجب سنة 1337 (1918).

ومن الواضح أن التقريظ كان للمخطوطة كما سمعها أو تلقاها ابن باديس من ناظمها. أما طبعها فقد تم في مرحلة متأخرة. وكانت بين الشيخ أبي يعلى الزواوي وبعض شيوخ العصر من جزائريين وغيرهم معارف وصلات. وحين وضع مشروع كتابه عن تاريخ الزواوة أشاد به الشيخ طاهر الجزائري، وهو في مصر. ثم التقى الرجلان أثناء الحرب العالمية الأولى في مصر ووضعا تصورا لما يجب أن يقوما به في سبيل المشروع المذكور. وقد اعتز أبو يعلى بشهادة كل من الشيخ طاهر ومحمد السعيد بن زكري على عمله. ولكنه أهدى كتابه إلى أحمد بن علي الشريف واعتبره من عظماء زواوة وأشرافها (هاشميا فاطميا زواويا) قائلا في عبارات فخمة: (مولاي! كان لتاريخ الزواوة شأن عظيم وأنتم من الأعاظم، وكان لهم نسب كريم وأنتم من الاكارم). ويقول أبو يعلى إن التقريظ الذي يطلبه المؤلفون غير طبيعي وغير جيد، أما التقريظ الذي يصدر نتيجة قناعة من المقرظ فهو عمل حسن ودلالة على صدق التقريظ. واعتز بشهادة الشيخ طاهر لمشروعه (أي قبل أن يصبح كتابا) حين قال له (أحى منك نزعة إصلاحية ونهضة زواوية، وقد أثبت لي كتابك (خطابك) هذا ما بلغني عنك من غير واحد. ومن الذين قرظوا الكتاب (وقد صدر سنة 1924) الشيخ السعيد اليجري في نص قصير (¬1)، جاء فيه: (وما أهديتموه إلينا من جواهر آدابكم استودعناه الحافظة واستنارت به البصيرة، فيجدر بنا أن نجعل رسائلك البليغة الولائم، لأنها تفوق لدينا الأعياد والمواسم). ومنذ العشرينات كانت الكتب تظهر مرفقة ببعض التقاريظ التي تجود ¬

_ (¬1) أبو يعلى الزواوي (تاريخ الزواوة)، دمشق 1924، ص 103. كان أبو يعلى قد انتهى من تأليف كتابه في القاهرة، سنة 1918. وقد طلب الشيخ اليجري من الزواوي أن يبعث إليه نبذة عن شيوخه والكتب التي قرأها، مما يبرهن على أن الزواوي كان ربما ما يزال في المشرق عند كتابة التقريظ.

بها أقلام الأصدقاء والمعجبين والأنصار. وأحيانا كانت تكتب المقالات الصحفية في الإشادة بالتأليف بعد ظهوره في الصحف والمجلات. وهكذا ترافقت حركة التأليف مع موجة التقاريظ. ومن التقاريظ ما كان شعرا كما عرفنا، وهو ما لا يهمنا هنا. لقد حظي (شعراء الجزائر) لمحمد الهادي السنوسي بالتقاريظ عند ظهوره سنة 1927، وكذلك مؤلفات وبحوث أحمد توفيق المدني ومبارك الميلي وصحف أبي اليقظان وابن باديس، ودروس العقبي وبلاغة الإبراهيمي. ولقد حاول مبارك الميلي أن يعفى كتابه (تاريخ الجزائر) من هذا التقليد وهو طلب التقاريظ من إخوانه، معترفا أن ذلك كان ديدن المؤلفين، ولكنه لم يستغن عن رأي عالم جليل في كتابه، وهو الشيخ عبد الحميد بن باديس. ولا يمكن إيراد رسالة التقريظ بحذافيرها هنا، لأنها طويلة نوعا ما. ولنكتف بالعبارات المقصودة بالتنويه بالكتاب وبأسلوب ابن باديس الذي قلنا إنه يتميز بالعمق والحرارة والسرعة على قدر أعصاب ووقت صاحبه. فقد اعتبره (أول كتاب صور الجزائر في لغة الضاد صورة تامة سوية، بعدما كانت تلك الصورة أشلاء متفرقة هنا وهناك. وقد نفخت في تلك الصورة من روح إيمانك الديني والوطني ما سيبقيها حية على وجه الدهر، تحفظ اسمك تاجا لها في سماء العلا، وتخطه بيمينها في كتاب الخالدين ... إذا كان من أحيا نفسا فكأنما أحيا الناس جميعا، فكيف من أحيا أمة كاملة؟ أحيا ماضيها وحاضرها، وحياتهما عند أبنائها حياة مستقبلها. فليس - والله - كفاءة عملك أن تشكرك الأفراد، ولكن كفاءة أن تشكرك الأجيال ...) (¬1). وآخر ما نذكره من التقاريظ الآن هو ما كتبه الشيخ أحمد الأكحل في تقريظ كتاب (مجموع النسب) من تأليف الشيخ الهاشمي بن بكار حوالي 1961. وكان كلا الرجلين من أهل العلم والدين والوظيف الرسمي في ¬

_ (¬1) عبد الحميد بن باديس (رسالة تقريظ) في كتاب (تاريخ الجزائر) لمبارك الميلي، ج 1، ط 1، 1929، ص 361 - 362. والرسالة بتاريخ 1347.

وقتهما. ونعرف من مصادر أخرى أن أحمد الأكحل كان من الأدباء أيضا، وله شعر رائق. وامتاز تقريظه بالجمع بين النثر والشعر، وغلبة الطابع الديني والتكلف، ولعل تقدم السن والوظيفة (كان عند الكتابة يشتغل بوظيفة صاحب التوقيت في الجامع الكبير بالعاصمة). وهذه بعض العبارات: (بعد مستوجب الحمد مستمطر من سحب جوده غيث الخير الأعم، وبشكر مستحق الشكر نستهل من ينبوع كرمه مزيد المبرات والنعم، وبالصلاة والسلام على أشرف نبي عدنان، روح الوجود وسيد الأكوان ... أما بعد، وفي كل ركب بنو سعد، فإن من منن الله جلت حكمته، وتوالت بالحمد والشكر نعمته، وجود سيد شريف، ذى قدر منيف، ضم تالد الشرف إلى طارفه، ولبس من ثياب المجد أحسن مطارفه، ألا وهو الأستاذ الهاشمي بن بكار، من هو إلى الأعمال الصالحات بكار ...). وبعد مقدمة على هذا المنوال الذي يذكرنا بأسلوب القدماء، أورد قصيدة صوفية في روحها وتقليدية في أسلوبها. يقول فيها: إن ترد ترقي إلى أوج الجمال ... فارق بالروح إلى مأوى الكمال حيث تلقى زمرة قد أدركت ... ما سوى الباري خيال في خيال بالتسابيح نشاوي حول عرش ... المجيد المتجلى ذى الجلال راحة الأرواح زهد وتقي ... راحة الأرواح ذكر وابتهال ونلاحظ أن الأبيات، وقد اختصرناها، لم تذكر من قريب أو بعيد اسم الشيخ الهاشمي بن بكار. وفي آخر النص جاء أن أحمد الأكحل من آل خليفة الشارف صاحب الضريح بعرض صبيح، وأنه كتب التقريظ في العاصمة في فاتح رجب سنة 1380 (1960) (¬1). ¬

_ (¬1) الهاشمي بن بكار (مجموع النسب)، ص 218 - 221. ترجم أحمد الأكحل لنفسه في كتاب (شعراء الجزائر) 2/ 132. ط. تونس 1927. وقال إنه ولد سنة 1324 هـ. وأنه درس على شيوخ منهم عبد الحليم بن سماية وأبي القاسم الحفناوي بن الشيخ أن والده كان أمين الدلالين بالعاصمة، وقد درس والده على شيوخ منهم المجاوي وعلي بن الحاج موسى. ولعل هؤلاء هم الذين قرظوا كتابه =

الخطابة

ونعتقد أن هناك تقاريظ أخرى لم نقف عليها. ويمكن أن تدخل ضمن التقاريظ أيضا تلك التعاليق التي كتبها المتأدبون على الإنتاج الأدبي، مقالة أو قصيدة أو كتابا، كإشادة الإبراهيمي وشكيب أرسلان والطيب العقبي بشعر محمد العيد في مناسبات عديدة (¬1). الخطابة نعني هنا الخطابة باللغة العربية ارتجالا أو كتابة. وقد مرت بمراحل سنذكرها. وتنوعت إلى أربعة أنواع على الأقل، وهي الخطب السياسية - الجهادية، والخطب الدينية، والخطب الإصلاحية - الاجتماعية، والخطب التعليمية والتأبينية. ومن الجدير بالذكر أن الخطباء نادرون لأسباب يرجع بعضها إلى طبيعة الجزائري نفسها التي تتميز بالتحفظ والتردد في الكلام عادة، وإلى ظروف السياسة التي قيدت الخطباء وحرية التعبير وأنشأت قوانين القمع والرعب، وأخيرا يرجع إلى ضعف المستوى الثقافي الذي تحدثنا عنه في فصول التعليم ومحاربة اللغة العربية. والمراحل الرئيسية التي مرت بها الخطابة هي عهد الأمير، وعهد الأشراف والمرابطين، ثم عهد المصلحين والساسة. ففي العهد الأول وجدنا الخطابة متصلة بزعماء المقاومة وعلى رأسهم الأمير عبد القادر. فكان خطيب الأمة وخطيب الجهاد وخطيب الصلوات. أول خطبة ألقاها تتمثل في قبول البيعة والحث على الجهاد والطاعة. ثم توالت بعد ذلك الخطب في ¬

_ = (سائق السعادة)، انظر سابقا. وخلال الخمسينات كان أحمد الأكحل من كتاب مجلة (هنا الجزائر) أيضا. (¬1) انظر كتابنا (شاعر الجزائر: محمد العيد) ط. 3؛ في آخر الجزء الثاني ذكر الهادي السنوسي في (شعراء الجزائر) مجموعة من التقاريظ، منها تقريظ الشيخ مبارك الميلي. وفي جريدة (البصائر) الصادرة سنة 1947 عناية خاصة بما تصدره المطابع وتنويهات بالكتب مثل الظاهرة القرآنية وغادة أم القرى.

المؤتمرات وجموع القبائل والحشود العسكرية. وقد ذكر المترجمون للأمير مجموعة من تلك الخطب السياسية - الجهادية. وليرجع من شاء إلى هذه المؤلفات: تحفة الزائر، وحياة الأمير عبد القادر لتشرشل. ومن ذلك خطبته بعد البيعة الأولى والبيعة الثانية. وقد قال صاحب (تحفة الزائر) في الخطبة الأولى إنها (مبتكرة طويلة تحتوي على وعظ ووعد ووعيد وأمر ونهي وحث على الجهاد). وقد تحدث عنها أيضا تشرشل (¬1). ومن الخطب البليغة والمؤثرة في عهد الأمير خطبة عمه علي بن أبي طالب سنة 1837. وكان مدار الخطبة هو إقناع المعارضين لمعاهدة التافنة بقبولها لأنها تخدم، في نظر الخطيب، مصالح الدين والوطن. وقد استعمل فيها علي أبو طالب السجع الجميل في أغلبه، ولمح فيها إلى الشواهد المؤثرة في سامعيه. وربما التجأ إليه الأمير لإقناع المعارضين في مجلس الشورى وذلك لمكانة عمه الدينية والأخلاقية. وكان الأمير متزوجا ابنة عمه المذكور. وفي الخطبة وصف لحالة الحرب وحالة البلاد عموما في ذلك التاريخ. وقد تميزت بأسلوب فني كان له مفعوله على جمهور الحاضرين. وكانت معاهدة التافنة قد وقعت في نهاية الأمر بين الأمير والجنرال بوجو، ممثل فرنسا عندئذ في وهران وما احتله الفرنسيون من أقليمها. بدأ علي أبو طالب خطبته - بعد أن حمد الله وصلى على النبي - ص- بقوله: (وقد علمتم أيها السادة أنه لما تكاثرت المظالم، وتواطأ العمال ومن وافقهم على ارتكاب الماثم، انتقم الرب تعالى منهم وعمنا ذلك منهم، قال تعالى: {واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة}. وهو يشير (بالعمال) إلى الحكام العثمانيين - الأتراك - الذين أشاعوا الظلم والفساد في نظره، وهو سبب الاحتلال (فسلط الله علينا عدو ديننا فتكالب على بلادنا، واستولى على مراسينا، واستبدل مساجدنا فيها بالكنائس، وأخلاها من المدرس ¬

_ (¬1) (تحفة الزائر) ط. 1903، 1/ 97. انظر أيضا ترجمتنا لكتاب تشرشل (حياة الأمير عبد القادر)، ط. 2، 1982.

والدارس). ثم ذكر كيف تبدلت الأحوال واضطرب الناس وغاب عنهم القائد وتحيرت عقولهم (فمرج لذلك أهل قطرنا، وضاقت بهم أرض مغربنا، واستبدلوا القصور المشيدة بخيام الشعر ومضارب الوبر، وتفرقوا أوزاعا في المواطن، وتباينوا في الموارد والمعاطن ... إلى أن طالت القصة، وعز ما ندفع به عن هذه الغصة، ومالت شمس الاتفاق إلى الأفول، وتهيأ جند التناصر والتعاضد للرواح والقفول، فأظهر الله تعالى بلطفه بدر الدين، ومؤيد كلمة المؤمنين، ابن أخي هذا السيد عبد القدر بن محيي الدين، فبذل جهده في الذب عن الدين والوطن، وأتى في ذلك من العجائب والغرائب ما هو به قمن). ثم وصف علي أبو طالب مسيرة المقاومة تحت راية الأمير وما حققته، وتوالت الحروب والإمدادات العسكرية الفرنسية. وكيف (استدعى حضرة الأمير ... ملوك الإسلام في أقاصي البلاد، واستنصرهم للجهاد، فأعاروه أذنا صماء ولم يسمعوا له نداء، بل أجابه لسان الحال لا حياة لمن تنادى، ولا معين على من تمادى). وخلص الخطيب إلى أن الأمير إذا لم يقبل ما عرضه العدو عليه فإنه، وهم جميعا معه، سيكونون ممن يلقون بأيديهم إلى التهلكة. وبذلك يرجع الفساد وتمشى سماسرة الفتنة بين الناس. ولكن (اذا صحت النية، وصحت المقاصد السنية، فلا حرج على حضرة الأمير فيما استشاركم فيه واستلفتكم إليه، إذ هو من سياسة السلف، ومن تبعهم من ملوك الخلف، وهو الذي عليه فتوى الفقهاء وبه عمل العلماء ... وصون دماء المسملين فرض متعين حتى في الجهاد. وقد قيل ... الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شرطه الأمن على النفس والأهل والمال مع ظن الإفادة ... فالنظر أيها السادة إنما هو للإمام لا لغيره ...) وقد أنهى الخطبة بحث أعضاء المجلس على قبول الصلح وتوكيل الأمير في ذلك. وهو ما وقع بالفعل (¬1). ¬

_ (¬1) تحفة الجزائر 1/ 175 - 176. وأيضا محمد طه الحاجري (جوانب من الحياة العقلية ... في الجزائر)، مرجع سابق، ص 71.

وبعد الأمير كادت الخطبة السياسية - الجهادية تنحصر في خطب الأشراف والمرابطين الذين تميز بهم العهد من 1848 إلى 1882. وكان هؤلاء يظهرون بين الفينة والأخرى فيهزون المجتمع هزاه عنيفا، ولا سيما المجتمع الريفي، فيدعون إلى الجهاد وجمع الكلمة وتوحيد الصفوف والطاعة، وذلك في عبارات قصيرة وحماس وغيرة على الدين والوطن. وهؤلاء الخطباء عادة يحلون كلامهم بالقرآن والحديث لإقناع سامعيهم والتأثير عليهم. ومن هؤلاء الشريف بو بغلة، والشريف بوزيان، والشريف المقراني والشريف محيي الدين (ابن الأمير) والمرابط محمد الحداد وابنه عبد العزيز، والمرابط بو عمامة، والأجواد من عائلة أولاد سيدي الشيخ. ولا توجد حتى الآن خطب مكتوبة أو مدونة لهؤلاء لأنهم كانوا يلقون كلامهم في الجموع ثم يفترقون استعدادا للجهاد. ومنذ فاتح هذا القرن اختلطت بعض الخطب بالدروس المسجدية، وظهرت الخطبة الإصلاحية على يد الشيخ المولود بن الموهوب. وكان نادى صالح باي في قسنطينة مجالا لابن الموهوب لبث هذا النوع من الخطب التي تسمى أحيانا (محاضرات) بلهحة الصحف عندئذ. ومن أشهر ذلك خطبة قبوله وظيفة الفتوى سنة 1908 وقد حث فيها على التعلم واغتنام فرصة فتح المدارس الفرنسية. وهي خطبة مكتوبة، وقد عثرنا على نصها ونشرناه (¬1). وظهر خطباء آخرون في النوادي التي تأسست في العاصمة مقل نادي الرشيدية ونادى التوفيقية ثم نادى الترقي، ونحن نعرف أن الناديين الأولين قد تميزا بـ (المحاضرات) وليس بالخطب، أما نادي الترقي فقد عرف عدة خطباء بالمعنى الذي نقصده هنا، وهو استعمال اللغة العربية الفصيحة والارتجال في الكلام وتناول الموضوعات الإصلاحية. وكان أبرز الخطباء في النادي الأخير (تأسس سنة 1927) هو الشيخ الطيب العقبي وابن باديس وأحمد توفيق المدني (¬2). ¬

_ (¬1) انظر كتابنا أبحاث وآراء، ج 3. (¬2) عن تأسيس نادي الترقي ودوره انظر فصل المنشآت الثقافية.

وهناك مناسبات عديدة ظهر فيها هؤلاء، وبالأخص العقبي وابن باديس، مثل الحفلات السنوية لبعض المدارس والجمعيات، وزيارة بعض الأعيان من العرب، وتأسيس جمعية العلماء واجتماعاتها السنوية، وهكذا. ومن المناسبات التي احتضنها نادي الترقي المؤتمر الإسلامي سنة 1936، وقد ألقيت فيه الخطب التحضيرية فقط، لأن نشاط المؤتمر قد وقع في بعض دور الحفلات أو في الملاعب العامة. وقد توسعت الخطبة الإصلاحية في عهد جمعية العلماء لارتباط الجمعية باللغة العربية واستعمالها في التعليم والوعظ والإرشاد والصحافة وتعميمها في كامل القطر. وهكذ ظهر، بالإضافة إلى من ذكرنا، خطباء ووعاظ ومدرسون من أمثال أبي يعلى الزواوي والعربي التبسي، ومبارك الميلي وأحمد سحنون، وعبد القادر الياجوري. وكان الأخير من أبرز خطباء هذه المرحلة وقد جمع بين الخطاب السياسي والإصلاحي، وكان محركا للجماهير وموقظا للنفوس بطريقة مؤثرة (¬1). إن الخطبة الإصلاحية على يد هؤلاء قد خرجت من موضوع الاستنهاض والسلفية إلى الموضوعات الاجتماعية كالفقر والغنى والتكافل والتضامن والمرأة والتعليم، والموضوعات الوطنية كتاريخ الجزائر والعرب والإسلام والاستعمار واستقلال الشعوب وحريتها. وقد أعدت مدارس جمعية العلماء منهجا تربويا لتكوين الخطباء، فألزمت المعلمين بتعليم الأطفال فن الخطابة من الصغر وتشجيعهم على الإلقاء أمام زملائهم وفي الحفلات العامة وارتجال الكلمات المناسبة. كما أن جمعية العلماء قد أسست النوادي ليتبارى فيها الخطباء في المناسبات المختلفة. وسنرى أن الجمعية قد شجعت أيضا التمثيل كجزء من تشجيع الخطابة بين الشباب. لقد اشتهر ابن باديس بخطبه النافذة والمؤثرة. وكان مخلصا في كلامه ¬

_ (¬1) كنا كتبنا سيرة له وبدأت بعض الصحف في نشرها خلال غشت 1994. ثم نشرت كاملة في مجلة الثقافة، 1995، ولكن بدون التعاليق.

صادقا في تعابيره، حاضر البديهة، كثير الاستشهاد بالشواهد، ومع ذلك كان محافظا على توازن القول فلا يميل إلى الهجوم ولا يغالي في التقريع. فكان اعتداله من خصائص شخصيته ومن أسرار نجاحه وتأثيره. وربما على النقيض منه الطيب العقبي الذي بدأ الخطابة في مساجد بسكرة ثم في نادي الترقي بالعاصمة حوالي عشر سنوات قبل أن تحل به أزمة 1936 الشهيرة والتي أدت إلى اعتقاله وسجنه (وترويضه). وكان العقبي قبل هذه الحادثة مندفعا كالتيار، اعتبره معاصروه من أخطب الخطباء ارتجالا ومن أفصحهم لسانا وأكثرهم تأثيرا على جمهوره. وربما يرجع ذلك إلى مزاجه الحاد وبيئته الصحراوية وتعليمه في الحجاز قبل رجوعه إلى الجزائر. هاجم العقبي الطرق الصوفية الضالعة في ركاب الإدارة الاستعمارية ومن خلالها مس الإدارة نفسها والأجهزة الفاعلة فيها. فلم يغفروا له اجتيازه الخطوط الحمراء. أما خطابة الإبراهيمي فتميزت بالطابع الأدبي والبلاغي واستحضار المحفوظات والشواهد، وكان مؤثرا في الخاصة أكثر من العامة. وهو يجيد النكتة السريعة واللمحة الدالة. وقد ألقى الإبراهيمي الخطب الكثيرة في الجزائر، عند افتتاح مدرسة دار الحديث واجتماعات جمعية العلماء، وفي حفلات الزوار الأعيان، وافتتاح المدارس الحرة. ومن أشهر خطبه تلك التي ألقاها في باريس فاتح سنة 1952، وهو في طريقه إلى المشرق، وكانت أثناء الحفل الذي حضرته الوفود العربية. وفي المشرق اشتهر الإبراهيمي بالخطب المرتجلة في جمعية الشباب المسلمين وأثناء زياراته للأزهر ودار العلوم بمصر، وزياراته أيضا للأقطار العربية. وقد غطت البصائر كثيرا. من هذا النشاط قبل أن تتوقف عن الصدور سنة 1956 (¬1). ¬

_ (¬1) بعض خطبه منشور في كتاب (في قلب المعركة)، مرجع سابق، وقد كان بعض تلاميذه يلخصون كلماته بأقلامهم لجمهور قراء البصائر مع المحافظة على بعض تعابيره المتميزة. ونكتفي بالإحالة على خطبه ولا سيما خطبته في باريس، وذلك لأهميتها وطولها. حضرت بعض خطب الشيخ الابراهيمي في جمعية الشبان المسلمين فكانت في صوته بحة وفيه تمديد بطيء بنبرة جزائرية واضحة. فلم يكن له =

بقي أن نتحدث عن الخطب الدينية ثم التعليمية والتأبينية. ونعني بالخطب الدينية خطب المساجد الخاصة بالجمعة والأعياد، وهي عادة يلقيها خطباء مختصون، ويمتازون بالفصاحة والبيان، والقدرة على الإسماع وحفظ القرآن، وكان الإمام العادي لا يقوم بالخطابة وإنما يؤدي الصلوات، أما الخطيب فله دوره وميزاته الأخرى كالتأثير في الناس وطلاقة اللسان، والتمكن من التفسير والحديث. ولذلك كان تجنيد الخطباء ليس بالأمر الهين، لأن عامة الناس هم الذين يحضرون للصلوات اليومية، أما صلاة الجمعة والأعياد فيحضرها الأعيان وقد يحضرها كبار المسؤولين والضيوف. وهكذا يحتاج الأمر إلى شخصيات علمية وسياسية أيضا. أما في العهد الفرنسي فقد ضعفت الخطابة الدينية بالتدرج لضعف مستوى الثقافة وهجرة العلماء الأكفاء وإعطاء الوظيف لمن سأله لا لمن استحقه، بل لمن رضيت عنه السلطات الفرنسية. وكانت الإدارة هي التي تعد الخطب وتصوغها وتقدمها للخطيب فلا يخرج عنها إلا للأدعية والأذكار إذا شاء. وموضوعات الخطب سلبية جامدة، فلا تتحدث إلا عن العبادات وأحوال الآخرة والأموات وعذاب القبر. وقد لاحظ حمدان خوجة منذ البداية أن العلماء قد ذلوا ولم يعد في إمكانهم مصارحة السلطات الفرنسية بما يجري أو بما يعتقدون لكثرة القمع والجوسسة من حولهم. وكانت أية كلمة إضافية خارجة عن نطاق الورقة المكتوبة يحاسب عليها صاحبها، حتى الدعاء للسلطان والخلفاء الراشدين ونصرة الدين قد غير صيغته الفرنسيون منذ بداية الاحتلال، ولم يعد في استطاعة الخطيب في الجمعة مثلا أن يدعو بالنصر للسلطان العثماني ولا باتباع السلف الصالح، بل إن الإدارة الفرنسية جعلت الخطباء ينوهون بأعياد فرنسا والدعاء لحكامها. يضاف إلى ذلك ضعف اللسان وقهر الجنان. ولقد ¬

_ = تأثير سريع ومباشر على الجمهور. ولعل استعمالاته اللغوية وعنايته بالأمثال والشعر يفقده القدرة على التأثير إلا على الخاصة.

شاهدنا خطباء في المساجد الرسمية لا يكادون يهجون حروف الخطبة المكتوبة. فنحن إذن أبعد ما نكون عن البيان والبلاغة والبحث عن نماذج للخطابة الأدبية التي نحن بصددها. هناك أسماء لعلماء اشتهروا مع ذلك بالخطابة في المساجد الرسمية. وقد أشاد بهم معاصروهم، لأن خطبهم لم تصل إلينا. فبالإضافة إلى مصطفى الكبابطي الذي كان يمثل بقية الجيل السابق للاحتلال نذكر حميدة العمالي وعلي بن الحفاف، وكلهم خطباء الجامع الكبير بالعاصمة. وكان أبو القاسم بن الشيخ قد ولى الخطابة في الجامع الكبير أيضا ولكن بعض تلاميذه قالوا إنه كان ينيب غيره في ذلك. ولا شك أن ذلك ليس تواضعا منه، فإما أن يكون خجولا أو خائفا، أما علمه فلا شك فيه، كما أن المنصب المذكور قد تولاه محمود كحول، وكان من الكتاب والصحفيين والشعراء والمدرسين. ولا ندري تأثيره في الخطابة ما دام لا يستطيع الخروج عما رسم له. أما في قسنطينة فقد اشتهر من الخطباء والمفتين المولود بن الموهوب. وقد سبقه في الخطابة بالجامع الكبير محمد الصالح بن مهنة الذي سنتحدث عن خطبه. وكان علي بن عبد الرحمن مفتي وهران مدة طويلة، ولكننا لا نعرف أنه كان متوليا للخطابة فيها أيضا. وكان ابن عبد الرحمن هذا من علماء الوقت. وكان هناك خطباء جمعة وأعياد آخرون قادرين لو أتيحت لهم الفرصة ومنحت لهم الحرية في القول والإنشاء وتناول الموضوعات الحيوية المتعلقة بالمعاملات والحياة الاجتماعية. وقد عرف من الخطباء المرتجلين - وهذا غريب - الشيخ أبو يعلى الزواوي، وهو الذي سن نوعا من الخطب سنتحدث عنه بعد قليل. لقد كان الفرنسيون يعتبرون اللغة العربية قد ماتت ولم يبق لها سوى الاستعمال التعبدي في الصلوات حيث لا يفهمها أحد وحيث يكون مصيرها هو مصير اللاتينية. ولكن ليس كل رجال الدين كانوا موظفين لا يخطبون إلا من أوراق مكتوبة أو كانوا عاجزين عن الخطابة الفنية. نحن سلم أن المساجد منها

الرسمي الموضوع تحت إدارة الشؤون الأهلية ومنها ما هو مستقل عنها. والنوع الأول هو الذي كان خطباؤه معينين رسميا ولا يخرجون عما ترسمه لهم الإدارة قيد أنملة، وهي التي كانت تدفع إليهم المرتبات الشهرية. أما النوع الثاني من المساجد فقد كان خطباؤه أحرارا مستقلين عن الإدارة ولا تدفع لهم شيئا، وإنما كانوا يعينون من قبل الجماعات أو كانوا متطوعين. وبعض المساجد كانت تابعة للزوايا وكان خطباؤها من المرابطين. والمساجد الأخيرة - المستقلة أو التابعة للزوايا - هي التي كان خطباؤها يعالجون موضوعات غير مملة، موضوعات اجتماعية ودينية تهم العامة والتربية العمومية. ولكن الإدارة الفرنسية كانت تراقب هذا النوع من خطباء المساجد عن طريق المكاتب العربية الرسمية وعن طريق الجواسيس الذين تبثهم في المصلين والمستمعين، وكذلك عن طريق القياد وشيوخ الأعراش وأعوانهم. ولكن الزمام كان يفلت أحيانا من يد الإدارة عند وقوع ثورة من الثورات، مثل ثورة 1871 وثورة 1881. فالخطيب حنيئذ يصبح هو نفسه داعية للتمرد وتصبح الكلمات مثورة ومهيجة. وليس لدينا أمثلة كثيرة على ذلك. ومنه ما قام به أبو القاسم البوجليلي أثناء ثورة 1871، فقد كان يخطب الجمعة ويعلن ولاءه للسلطان عبد العزيز العثماني. والمعروف أن فرنسا عندئذ قد هزمت في أروبا على يد بروسيا وأن حالة الاستنفار قد أعلنت في الجزائر على يد عدد من دعاة الثورة. وكان البوجليلي من الزعماء الرحمانيين ومن كبار المربين في وقته. وقد قيل إن خطبه كانت تدعو على هذا النحو: اللهم انصر خليفتك الإمام الناشر لواء الإسلام، ذا الأمانة والأمان، عبد الحميد (كذا) خان، اللهم انصره نصرا تعز به الدين، وتذل به رقاب الكافرين، اللهم أهلك الكفرة وما ابتدعوا، وشتت شملهم وما جمعوا، ووهن كيدهم وما صنعوا، واجعلهم فيئا للمسلمين، وغنيمة للموحدين، وانصرنا عليهم يا خير الناصرين) (¬1). ¬

_ (¬1) عمار الطالبي، محاضرة عن البوجليلي في الملتقى 15 للفكر الإسلامي بالجزائر، وذكر الطالبي أنه أخذ المعلومة من مخطوط للبوجليلي يرجع إلى سنة 1278 هـ =

ولا شك أن هناك خطباء آخرين مستقلين أو مرابطين كانوا يجيدون الخطبة بقطع النظر عن الموضوعات السياسية والثورات. لأن هؤلاء عادة كانوا يتطوعون عندما يحسون في أنفسهم القدرة على هذه المهمة وهي الخطابة الارتجالية ذات الموضوعات الحية واللغة السليمة. كما أن إقبال الناس عليهم كان متوقفا على إجادتهم فن القول والإقناع. والنوع الأخير من الخطب هو ذلك الذي كان يلقى في مناسبات تعليمية أو تأبينية. والمقصود بالتعليمية تلك التي تكون في الاحتفالات بافتتاح المدارس أو بتوزيع الجوائز على التلاميذ. وقد حدث ذلك أثناء الاحتفالات التي كان يحضرها المديرون وبعض الوزراء، وكان بعض الجزائريين يتكلمون فيها ترغيبا في العلم وإشادة بجهود فرنسا. ومن نماذج ذلك ما خطب به حسن بريهمات عندما كان متوليا إدارة المدرسة السلطانية - الرسمية - بالعاصمة، وفي عدة مناسبات أخرى. من ذلك الحفلة التي أقيمت في قسنطينة في يوليو 1869 لتوزيع الجوائز على تلاميذ المدرسة السلطانية - في عامها الثاني عندئذ - ومن التلاميذ المجازين: عبد الكريم بن باديس الذي تفوق في الترجمة، وحسن بن محمد العنابي (¬1) في الأدب، وحميدة بن عمر في الرياضيات. بينما الخطابة الرئيسية تولاها الحاج أحمد المبارك صاحب تاريخ حاضرة قسنطينة، وكان المبارك هو أحد المدرسين بالمدرسة، وكان مفتيا أيضا ومن أعيان المتصوفة. وكانت خطبته مسجعة على هذا النحو: (الحمد لله الذي شرف من هداه بالعلم لحسن العمل، وزينه بالآداب المنيلة لغايات الأمل ...) وقد دعا فيها بطول العمر لنابليون الثالث وسماه في الخطبة ¬

_ = (1861). فإذا كان تاريخ الخطبة يصادف 1871، فإن السلطان الحاكم عندئذ هو عبد العزيز وليس عبد الحميد الثاني الذي لم يتول الحكم إلا سنة 1876. (¬1) ربما محمد العنابي هذا هو صاحب كتاب (كشف البضائع). وقد كان مفتيا في وقته. فيكون ابنه حسن حينئذ من الجيل الثاني.

(مولانا وولي نعمتنا السلطان الأعظم والملك الأفخم ... أن من عظيم النعم الإلهية على هذه الأمة الإسلامية، أن تكلفتها (كذا) ولاية هذا السلطان الكريم، الشفيق الحليم). والغريب أن الشيخ أحمد المبارك الذي كان من أنصار الحاج أحمد باي حتى عندما انهزم واستسلم سنة 1848، وهو الموقف الذي تسبب في عزل الشيخ نفسه من وظيفته فترة، قد تحول إلى نصير علني لنابليون الثالث واعتبر احتلال الجزائر (من الألطاف الخفية). فقد قال الشيخ في خطبته التي كان من المفروض أن تقتصر على العلم والجوائز: (ومن الألطاف الخفية استيلاؤه (أي نابليون) على هاته الأرض الجزائرية ... ومن أوامره السعيدة ... إحداث هذا القصر المشيد ... لتعليم أولادنا وتأديبهم، ونفع ذلك عائد عليهم وعلى أهليهم ... وما رغبة مولانا السلطان إلا الاتحاد بين الجنسين ومؤخات (كذا) الفريقين (¬1)). كما حضر الوزير الفرنسي، كومبس، سنة 1896 توزيع الجوائز على بعض المدرسين والمتعلمين في مدرسة الجزائر وألقيت بين يديه كلمات من الأعيان، بعضها باللغة الفرنسية (¬2). وقد حدث ذلك أيضا عند افتتاح المدرسة الثعالبية الجديدة، ونحو ذلك، ولكن في معظم هذه المناسبات كانت الخطابة روتينية وفيها عبارات المجاملة، وأحيانا بالفرنسية. فهي لا تدخل فيما نحن فيه تجاوزا. غير أن حفلات افتتاح المدارس وتوزيع الجوائز قد اتخذت طابعا آخر في عهد الحركة الإصلاحية، وكانت مناسبة هامة في حياة اللغة العربية حيث يتفاصح الخطباء مشيدين بالعلم والتربية، داعين للنهضة، طالبين للتبرعات وتوسيع المشاريع الخيرية. أما الخطب التأبينية فنعني بها الكلمات التي تلقى تنويها بجهود بعض الأعيان المتوفين. وكانت هذه الكلمات بالعربية الفصحى وأحيانا كانت ¬

_ (¬1) المبشر، 12 غشت، 1869. ويقصد (بالجنسين) المسلمين والفرنسيين. (¬2) من الذين خطبوا عندئذ: محيي الدين الشريف وعلي الشريف (وكلاهما من عائلة الزهار - نقيب الأشراف). فخطب الأول بالفرنسية رغم أنه كان يمثل (أرباب المساجد) كما تقول المبشر 11 - 4 - 1896. انظر أيضا عدد 18 إبريل، 1896.

ارتجالية وأحيانا مكتوبة. وكان بعضها يلقى عند الوفاة وبعضها بعد حين، كإقامة ذكرى الأربعين. ولنبدأ بالإشارة إلى حفل التأبين الذي أقيم في العاصمة للخليفة حمزة زعيم أولاد سيدي الشيخ سنة 1861 (¬1). وكان الخطيب هذه المرة هو حسن بريهمات وهو الذي تقبل التعازي أيضا بتكليف من المارشال بيليسييه. وحين توفى أحمد بن محمد التجاني سنة 7 189 أقيم له حفل تأبين في الجامع الجديد بالعاصمة خطب فيه بعض الأيمة والمرابطين والقياد بحضور جول كامبون (الحاكم العام) على رأس من حضر من الجهاز الإداري الفرنسي. وكثيرة هي المناسبات التأبينية والخطابة فيها. فحين توفي المستشرق موتلانسكي، مدير مدرسة قسنطينة الرسمية، أقام له الفرنسيون هناك حفلة تأبين ودعوا إليها بعض العلماء الجزائريين، فألقى هؤلاء خطبا مناسبة. ولكن مجلة (روكاي) نشرت كل الكلمات ما عدا كلمات العلماء الجزائريين لأنها - كما قالت - بالعربية! ووقع تأبين محمد بن شنب الذي توفي سنة 1929 في حفلة أقامها أدباء وعلماء العاصمة، وحضرها الإبراهيمي والمدني والعاصمي والهادي السنوسي ومحمد العلمي وعبد القادر الحاج حمو (فكري). وقد جمعت هذه الكلمات في كتاب بعنوان (ذكرى الدكتور ابن شنب) (¬2). وقد ذكر المدني في شيء من المبالغة أن مدينة الجزائر قد أقامت لابن شنب حفلة تأبين لم تعرفها من قبل ولا عرفها شمال إفريقية!. وعند وفاة ناصر الدين ديني، الفنان الفرنسي الشهير، أقيمت له حفلة تأبين في بو سعادة إثر جلب جثمانه من فرنسا حيث توفي، وكان ذلك في آخر يناير 1931. وقد حضر الحفلة وخطب فيها الشيوخ: المدني والعقبي وغيرهما، وكلماتهم مسجلة في الصحف المعاصرة (¬3). ¬

_ (¬1) انظر قصة وفاته (مسموما؟) في الحركة الوطنية، ج 1. (¬2) انظر أحمد توفيق المدني (تقويم المنصور)، ج 5، 1348، ص 262. انظر أيضا كتاب (ذكرى الدكتور ابن شنب) لعبد الرحمن الجلالي، ط 2. (¬3) انظر مجلة الشهاب؟. وقد حالت قوانين الحرب العالمية الثانية دون إقامة حفل =

أما الخطب السياسية الحديثة فقد كانت انطلقت مع ظهور الأحزاب والتجمعات والمؤتمرات والانتخابات. وقد أصبح لكل حزب وجمعية خطباؤها. واستعملت لذلك العربية والفرنسية واللهجات المحلية. وكان خطباء جمعية العلماء لا يتدخلون في السياسة علنا، ولذلك نجد تدخلاتهم مصبوغة بالصبغة الدينية والاجتماعية أو مغلفة. المناسبات السياسية التي ظهروا فيها وألقوا خلالها بخطبهم إلى الجمهور، هي المؤتمر الإسلامي ولواحقه سنة 1936، وقد ظهر فيه ابن باديس والعقبي والإبراهيمي بشكل واضح. ويجد الباحث وصفا لذلك في الجرائد والمجلات المعاصرة كالشهاب والبصائر. والمناسبة الثانية هي انعقاد ندوة جبهة الدفاع عن الحرية سنة 1952. وقد خطب فيها الشيوخ: العربي التبسي ومحمد خير الدين وأحمد توفيق المدني. والنصوص موجودة في البصائر والمنار. وكان الشيخان التبسي والمدني من المرتجلين للخطب، ويغلب على الأول الطابع الديني والاجتماعي، وعلى الثاني الطابع السياسي. وقد حضرت بنفسي خطابا مرتجلا للشيخ المدني (وكان من طبعه ارتجال الخطب) في باتنة سنة 1954 عند افتتاح إحدى المدارس أمام جماهير غفيرة، فكان خطابه مؤثرا ومثورا. كما حضرت خطاباته السياسية في القاهرة باسم جبهة التحرير الوطني في عدة مناسبات وأمام جموع الطلبة والمثقفين المشارقة. وكانت الموضوعات عند الخطباء المذكورين وأمثالهم هي السياسة العامة، والحقوق، والمظالم، والتربية والتعليم، وإحياء الأمجاد والإشادة بالعرب وأبطال المسلمين، والدفاع عن العربية والإسلام. أما الخطب السياسية التي كانت الأحزاب الأخرى تشارك بها باللغة العربية، فكانت قليلة. وقد قيل إن الخطابة السياسية الحديثة بدأت بالأمير ¬

_ = تأبين الشيخ ابن باديس سنة 1940. ولكن المناسبة ظلت تحييها الهيئات والأحزاب وتلقى فيها الخطب في الجزائر وتونس، بمشاركة خطباء البلدين.

محمد الصالح بن مهنة وكتابه

خالد. وكان حزب الشعب قد جند عددا من الخطباء بالعربية بعد الحرب الثانية، وهم عادة من خريجي الزيتونة أو المدارس العربية في الجزائر. فظهرت أسماء العربي دماغ العتروس، وأحمد بوده، وهما عضوان في الحزب وخطيبان باسمه. ورغم انتماء الشيخ العباس بن الشيخ الحسين وعبد القادر الياجوري إلى جمعية العلماء فإن خطبهما كانت سياسية وتميل إلى سياسة حزب الشعب، ولا سيما الثاني. ولكن خطباء الأحزاب السياسية كانوا ضعافا في العربية إلا القليل منهم. مثل عبد الحميد مهري ولم نجد لحركة النواب ولا لحزب البيان خطباء بالعربية، بل كانت خطب زعماء الهيئتين بالفرنسية. ومثال ذلك خطب مصالي، زعيم حزب الشعب. فرغم أنه كان يتحدث العربية الدارجة فإنه كان يفضل الخطابة بالفرنسية، وربما يرجع ذلك إلى أن أتباعه كانوا يفهمونه بالفرنسية أكثر من العربية. ومن خطبه المزدوجة ما ألقاه في تجمع المؤتمر الإسلامي سنة 1936 (¬1) بالعاصمة عند رجوعه إليها لأول مرة بعد غيبة دامت اثنتي عشرة سنة، ومن الخطباء السياسيين بالفرنسية الدكتور محمد الصالح بن جلول وفرحات عباس والحكيم سعدان. وكان الأمير خالد يخطب باللغتين. ومن خطبه السياسية بالفرنسية خطابه أمام رئيس الجمهورية الفرنسية سنة 1922، عند زيارته للجزائر. وبعد نفيه (1923) ألقى الأمير خالد عدة خطب بالفرنسية في باريس، ولا سيما أثناء عقد المؤتمر الأول لعمال شمال إفريقية سنة 1924. أما خطبه السياسية بالعربية فلعل في جريدة (الإقدام) نماذج منها. محمد الصالح بن مهنة وكتابه محمد الصالح بن مهنة (¬2) طور الخطابة في نظره وجعل لها أسلوبا ¬

_ (¬1) انظر الحركة الوطنية ج 3. وقد ألقى جزءا صغيرا منها بالعربية - ربما الدارجة؟ - ثم واصلها بالفرنسية. (¬2) درس حياته وآثاره سليمان الصيد، انظر كتابه (محمد الصالح بن مهنة)، دار البعث، قسنطينة، 1984 (؟).

ونماذج. وألف في ذلك كتابا ما يزال مخطوطا. وكان تلاميذه وبعض الخطباء يتداولونه للاستفادة منه. وحياته قد ألممنا بها في عدة بطاقات من مخطوطاته التي اطلعنا عليها، ومن تعاليقه على رحلة الورتلاني التي نشرها بتونس. ولكن تلك البطاقات قد ضاعت منا كلها سنة 1988، ولم نستطع تعويضها جميعا، وإنما تمكنا من إعادة الاطلاع على كتابه (الفتوحات الأزهرية في الخطب المنبرية الجمعية). ومن الواضح أن الكتاب في الخطب الجمعية. وكان هو نفسه قد تولى ذلك في الجامع الكبير بقسنطينة فترة طويلة. وكان قد درس في الأزهر في ظروف لا نعلم الآن منها كيف سافر ولا متى ولا كم أقام هناك ولا بعض شيوخه. فهل عاش في مصر زمن الخديوي إسماعيل وجمال الدين الأفغاني والثورة العرابية والاحتلال الإنكليزي؟ أو عاش فيها بعد ذلك؟ وما الظروف التي وظفته فيها السلطات الفرنسية بينما هي كانت تشك في كل من درس خارج الجزائر؟ وقد صادف ابن مهنة في قسنطينة علماء آخرين واردين عليها مثل عاشور الخنقي وعبد القادر المجاوي ومحمد بن شنب. وحسب بعض المعلومات فإن ابن مهنة كان من مدينة القل أو نواحيها. وقد تعرض في بعض كتاباته، وربما خطبه أيضا إلى مسألة الأشراف، ويبدو أنه فرق بين الطائعين منهم والعصاة. ونفهم من هجوم عاشور الخنقي عليه أنه اعتبر عصاة الأشراف مثل كل العصاة. وكانت هذه المسألة حساسة في الجزائر بل في المشرق أيضا. فقد كثر المرابطون وأدعياء الشرف منذ السبعينات من القرن الماضي، وروجت الدعاية العثمانية عن طريق أبي الهدى الصيادي، نقيب الأشراف على مستوى الدولة، لفكرة الشرف وأهميته بالنسبة لسلاطين آل عثمان أنفسهم، وارتبط كل ذلك بفكرة الجامعة الإسلامية. وأمام ذلك كان رأي ابن مهنة في مسألة الشرف له أهمية خاصة. وقد وقعت ردود فعل استفادت منها الإدارة الفرنسية لضرب الأنصار والخصوم معار لفكرة الشرف ومعارضة توسع الجامعة الإسلامية. وقد اعتقلت الإدارة في البداية الشيخ عاشور الخنقي بدعوى أنه أساء إلى بعض الأعيان، ونفته

وفرضت عليه الإقامة الجبرية والسجن. ثم وصل الأمر إلى محمد الصالح بن مهنة نفسه بدعوى أنه أساء إلى الدولة الفرنسية، وأنه تفوه بكلام ضدها وضد علماء الوقت لا يناسب مع وظيفته كخطيب في جامع رسمي. وادعت جريدة (الأخبار) الفرنسية شبه الرسمية أن ابن مهنة قد أوقفته الإدارة عن عمله (1905) لأنه (انتقد ... انقادا شنيعا على الحكومة وعلى كثير من فضلاء المسلمين). ثم نشر ابن مهنة رسالة (أنكر فيها كلية ما نسب إليه من الانتقادات على الحكومة الفرنسية وعلى تنظيماتها)، وأن نقده إنما كان للعقائد، وليس للحكومة. وزعمت أنه سب المفتين والقضاة وجميع العلماء. وعلى أية حال فقد أعيدت إليه كتبه بعد حجزها كما أعيد إلى منصبه (¬1). ونفهم من بعض أشعار عاشور الخنقي أن ابن مهنة قد تعرض لأبي الهدى الصيادي بالسب (¬2). أما هجاء عاشور لابن مهنة فقد أشرنا إليه في فصل الشعر (¬3). قدمنا هذه السطور لنعرف الظروف التي كان يعمل فيها محمد الصالح بن مهنة، فهو بالرغم من توظيفه الرسمي كان غير قار وغير مرتاح. وكان له فكر نير إلى حد كبير، فلم يكن مع الأشراف في كل أحوالهم وإنما جعل العمل الصالح هو الميزان، ولم يكن كذلك مع المرابطين على ما هم عليه في استغلال العامة وتنويمها وإنما كان مع الزهد الذي يؤدي إلى الإنتاج وخدمة الصالح العام. وكانت دراسته في الأزهر وربما إقامته في تونس قد سلحته بالفكر النير، وربما اضطر فقط إلى قبول الوظيف من أجل العيش. ¬

_ (¬1) الأخبار- القسم العربي - 16 أبريل، 1905، 11، صفر 1323. (¬2) من قصيدة نظمها عاشور سنة 1895 وجاء فيها: (رغما لأنف ابن المهنا صالح ... في سبه لأبي الهدى فيما شكر) وقد اشتهر أبو الهدى الصيادي عندئذ بعدة تآليف في الأنساب والتصوف والدين، منها (ضوء الشمس البديع) في جزئين. انظر عنه أبو منح (السلطان عبد الحميد والشيخ أبو الهدى الصيادي) في مجلة دراسات الشرق الأوسط. J.M.E.S، مايو 1979، ص 131 - 153. ودافع الصيادي عن الطريقة الرفاعية أيضا. (¬3) انظر فصل الشعر، فقرة الهجاء والفخر.

ومع ذلك لم يسلم شخصه ولا علمه ولا كتبه من الأذى. وفي الوقت الذي هاجر فيه علماء وأعيان إلى الشرق، مثل حمدان الونيسي، واستعدت فيه عائلة ابن باديس للهجرة في فترة سابقة، وعائلات غيرها من سطيف وقسنطينة، لم نسمع أن ابن مهنة هاجر أو حاول الهجرة. فقد بقي إلى وفاته سنة 1911 في قسنطينة. وقد نوه بأثره في الناس مالك بن نبي الذي سمع عن تأثيره وهو تلميذ. وابن نبي من المعاصرين القلائل الذين ذكروا ابن مهنة. فهو، رغم مكانته ما يزال مجهولا. وقد سلط عليه سليمان الصيد في كتابه عنه بعض الضوء، ولكن ابن مهنة ما يزال في حاجة إلى دراسة شاملة ومرتبطة بالظروف التاريخية والسياسية التي أشرنا إليها مع الاستفادة من الوثائق الفرنسية في الموضوع. بدأ ابن مهنة كتابه (الفتوحات الأزهرية) بهذه العبارات (أما بعد، فهذا ديوان يشتمل على الخطب المنبرية، والمواعظ الجمعية، أنشأته دررا، وحبرته غررا، اقتطفت أكثره من حديث سيد الكائنات، وجنيت بعضه من الحكم المبتكرات، متجنبا لغريب اللغات، جانحا إلى أوضح العبارات، عل الله ينفع به العباد، ويجعله خير زاد، ويفتح به آذانا صما، وقلوبا غلفا). وقد ذكر أنه احتوى على ألف حديث شريف، بعض الأحاديث أوردها بألفاظها وبعضها بالمعاني فقط. وأخبرنا عن طريقة تأليفه فقال: (من فوائد هذا الديوان، مما اختصر به ولم يوجد في غيره، إني صدرت كل خطبة بحديثين وذيلتها بثلاثة أحاديث ... والتزمت أن يكون الأول من الثلاثة من صحيح البخاري والثاني من صحيح مسلم والثالث من غيرهما، كما التزمت في الصدر أن يكون أحد الحديثين من الشمائل النبوية، والثاني من الترغيب والترهيب، والتزمت أيضا تصدير كل خطبة بآية قرآنية وختمها بآية. فيشتمل الديوان (الكتاب) على نحو مائة آية قرآنية، وعلى نحو ثلاثمائة حديث نبوي (المصرح بها) (¬1). ¬

_ (¬1) عبارة (المصرح بها) موجودة هكذا في المخطوط، وهي محيرة. ونعتقد أنه يشير إلى أن بعض الأحاديث الشريفة كانت السلطات الفرنسية تمنعها على الخطباء، مثل الجهاد والغنائم والحرب والضرائب الإسلامية. وكانت الآيات الدالة على ذلك ممنوعة أيضا في الدروس والخطب.

خطب أبي يعلى الزواوي

وقد افتخر ابن مهنة بكتابه في الخطب المنبرية واعتبره فريدا من نوعه واعتبر نفسه موضع حسد بسببه. وقد سبقت الإشارة إلى كونه يرى عمله قد احتوى على ما لا يوجد في غيره، ثم أضاف (وبالجملة فهو ديوان يعجز عنه أهل العصر، خصوصا أهل هذا المصر) وهو يقصد هنا علماء الجزائر الذين عجزوا في نظره عن الإتيان بمثله. وقد لمح إلى أنه محسود على علمه، فقال مستشهدا: إن يحسدوني فإني غير لائمهم ... قبلي من الناس أهل العصر قد حسدوا والخطب التي أوردها كلها مسجعة. وجعل لبعضها عناوين مثل (في فضائل عاشوراء). وموضوعات الكتاب تدور حول الوعظ والزهد والمولد النبوي والحج ودخول المحرم والموت ورؤية هلال رمضان، والترغيب والترهيب. وآخر الموضوعات هو وداع العام الهجري. وفي المخطوط تعاليق بخط المؤلف وأحيانا بخط الناسخ أو أحد تلاميذ المؤلف. وفي البداية عثرنا على تقريظ مكسور الأبيات لأحد تلاميذ المؤلف اسمه ابن ردسلي عبد الكريم بن عمر. وبدأ ابن مهنة الخطب بشهر محرم فكانت له خطبه، ثم خطب خاصة بكل شهر من شهور السنة الهجرية (¬1). خطب أبي يعلى الزواوي كتب أحمد توفيق المدني سنة 1931 متحدثا عن الخطابة عند الشيخ أبي يعلى الزواوي، فقال: (أخرج الخطب المنبرية من صيغتها التقليدية العتيقة إلى صيغة قومية مفيدة. فهو يخطب للعامة ارتجالا في مواضيع إسلامية محلية مفيدة. ويعتبر خطابه درسا بحيث لا ينتهي منه إلا وقد اعتقد أن كل من بمسجد سيدي رمضان من رجال ونسوة قد فهموا جيد الفهم ¬

_ (¬1) المكتبة الوطنية - تونس رقم 3755، أوراقه 104، حجم 22، 8 في 16، 5، ولا وجود لتاريخ الانتهاء منه.

خطابه، وأشهد أنه قد كان لتلك الخطب الأثر الفعال في النفوس) (¬1). وفي سنة 1343 (1924) أصدر أبو يعلى كتيبا تحت عنوان (الخطب)، وهو أول كتاب يطبع في موضوعه على ما نعرف (¬2). وقد بدأه بديباجة مسجعة وطويلة هكذا: (الحمد لله الذي أنطق الخطباء بالكلام الفصيح، وسهل لهم الارتجال بالكلام الصريح ... أما بعد، فإن جل أو كل أحوالنا، معشر المسلمين، طرأ عليها التغير والفساد، في مشارق الأرض ومغاربها وسائر البلاد، في الماديات والأدبيات، إذ قلت الحسنات وكثرت السيئات، ومن جملة ذلك الخطابة في مساجد الجمعات، فقد توقفت كسائر الحركات، وأسباب ذلك لا تخفى على العارفين، الملمين بأحوال المسلمين، إذ ترجع إلى الترقي والتدلي في أدوار أحوال الأمة وأطوارها ...). ثم واصل الزواوي حديثه على ذلك النحو إلى أن وصل إلى كون أدوار الفصاحة أيضا قد تدرجت حتى انتهت إلى القرآن الكريم كمعجزة. وحدثنا الزواوي عن تعيينه خطيبا في جامع سيدي رمضان، واعتبر ذلك من منن الله عليه، وعمل بعد ذلك على تجديد طريقة السلف في الخطابة، فالتزم أن تكون الخطبة من إنشائه هو، لا من إنشاء الآخرين، مثل الإدارة الفرنسية (؟). واعتبر ذلك أيضا عودة للأصول إذ الأصل هو أن تكون الخطبة من إنشاء الخطيب ودون ورقة، أي ارتجالا. ولا ندري كيف رضيت الإدارة بهذه الطريقة وعلى حساب ماذا (¬3). وقضى الزواوي على ذلك النحو سنة ثم بدا له أن يدوون خطبه (لكيلا يقال نقلها عن الغير وحفظها وسرقها، (وأنها) ليست ¬

_ (¬1) أحمد توفيق المدني (كتاب الجزائر)، ص 94. ومسجد سيدي رمضان بالعاصمة هو المسجد الذي كان أبو يعلى يخطب فيه. (¬2) طبع الجزائر، باستيد - جوردان - كاربونيل، 1343 هـ، 78 صفحة. (¬3) هذا الخروج عن مألوف الإدارة وعدم اتخاذ الإدارة أي شيء يخالفه يدل على أن هناك موقفا خاصا منه. ونحن نعلم أن الزواوي عمل موظفا في القنصلية الفرنسية بدمشق قبل الحرب العالمية الأولى، ولعله كان أيضا على صلة بقنصلية فرنسا في مصر خلال الحرب حيث قضى خمس سنوات.

من إنشائه ... فنضحى كأن لم نعمل شيئا يذكر فيشكر). ورغم صغر حجم كتاب (الخطب) فإنه قد احتوى على معلومات مفيدة في تاريخ الخطابة والخطباء. فبعد تعريفه الخطبة في اللغة، تحدث عن الخطابة قبل الإسلام، مثل خطبة قس بن ساعدة، ثم الخطابة في العصر الإسلامي ابتداء من أول خطبة للرسول (صلى الله عليه وسلم)، ثم خطبته في حجة الوداع، وخطب الصحابة ومن جاء بعدهم مدة ثلاثة قرون، ثم الخطابة في العصر العباسي الثاني والمملوكي، والعصور المتأخرة، أي منذ القرن الثامن (هي خطب المتصوفة أكثرها في فضائل رجب وشعبان ورمضان وصيامها، والذكر والاستغفار وطرز ذلك بالسجعات ... والدعاء لسلاطين آل عثمان). وتدخل الزواوي في موضوع شائك ويعتبر خارجا عن موضوع الكتاب. ولكنه كان شائعا، وهو نسبة آل عثمان للعرب ولقريش خاصة وللشرف، وانتقد هو ذلك بشدة واعتبر الأيمة الذين يدعون إلى ذلك كاذبين. وقال إن آل عثمان مسلمون فقط. وانتقد آل عثمان على إضرارهم باللغة العربية وتخريبها قائلا إن قضاتهم لا يحسنون العربية، وروى أنه اجتمع في الشام مع بعض قضاتهم فكانوا عاجزين عن التفوه بكلمة عربية، بينما البربر والفرس قد خدموا اللغة العربية. وعندما تحدث عن الخطبة الشرعية للجمعة قال إن عليها أن تكون بالعربية، واعترض على الخطبة باللغة التركية سنة 1341 هـ لأنها في نظره (لغو) ولعله في ذلك كان يرد على من نادى باستعمال غير العربية في الخطب منذ الفرنسيين. وانتقل إلى الحديث عن الخطبة المحكية أو المنقولة، وقال إن مواضيعها هي درء المفاسد وإرشاد العامة ومحاربة البدع والاهتمام بوحدة التربية والتعليم حتى (نتجنب الخلافات في المذاهب والأحزاب والألسنة وحتى الطرق الصوفية). وذكر أن نكبات التاريخ تشهد على أن الخلافات المذهبية وإن كان أصلها صحيحا، فإنها قد أدت إلى نزاعات، وكان من رأيه التوقف عن ذلك وعن الخلاف في التصوف. وقد أشاد بالخطباء في مصر والشام وقدرتهم على التحكم في اللغة عندما يرتجلون الخطب، ونوه برباطة

جأشهم، وهم لا ينقلون من ورقة، خلافا لخطباء الجزائر (وكان في ذلك يعزض بهم وبالإدارة التي تقيدهم). وذكر أنه حضر بعض خطباء مصر والشام، ومنهم خالد النقشبندي، في الجامع الأموي، وعابد بن حسين في مصر. واجتمع بالأول على طعام الغداء. ومن رأى الزواوي أن المشارقة (وهو يعرفهم جيدا) بقوا على تقدمهم في الحياة الفكرية بينما تأخر المغاربة منذ سقوط العواصم العلمية كالأندلس والقيروان وبجاية وتلمسان. ورأى أن ذلك قد أدى إلى التصوف وسيادة المتصوفة، (فاقتنعنا بالزهد في العلوم وتصوفنا، فلا مطبعة ولا جمع ولا جماعة ولا مدرسة ... إلا المتصوفة). وقد حول هؤلاء المدارس إلى قباب وفتحوا الصناديق لجمع المال (¬1). انتصر الزواوي للغة العربية في الخطابة وميز بين الخطب الاجتماعية والدينية والخطب السياسية. ولم يقبل أن تكون الخطابة المنبرية بغير العربية واعتبر أن الخطابة بغيرها لغو من الكلام. وقال: يجب تجنب رطانة ولهجات أهل المغرب والعجم واللهجات المحلية والتغني والتصنع والعجمة الزواوية: (قد طرحت بقدر الإمكان لهجة عجمتنا الزواوة وتغني حضر الجزائر المدينة) (¬2). واعتبر الزواوي الدعاء للسلاطين لغوا أيضا وكذلك الكلام غير المشروع والدعاء بالشر، وكل ما هو خارج عن الخطبة. أما الخطب السياسية فهي تلك التي يلقيها الرؤساء والزعماء والوزراء وتنشرها الجرائد. ورأى أن العبرة في هذا النوع من الخطب هي في (القائل والمقول) وليس في الفصاحة والبلاغة. والصحيح أن البيان له دور كبير في الخطب السياسية أيضا، ولا ¬

_ (¬1) رأى أبي يعلى على العموم صحيح في وصف الظاهرة، ولكنه أهمل أسبابها، ولا سيما في العهد الاستعماري الذي قضى على التعليم وشجع التصوف الكاذب. وقد أفادته إقامته في المشرق على عقد هذه المقارنة، وربما سمع بعض هذه الأفكار من الفرنسيين أيضا. (¬2) الخطب، ص 23. والظاهر أنه يقصد بالعجمة النبرات الصوتية الخاصة بالنطق الزواوي ولهجة حضر العاصمة.

الروايات والقصص والمسرحيات

يستطيع الخطيب السياسي أن يكون مؤثرا إلا إذا كان فصيح اللسان نافذ البيان. وموضوعات الخطبة عند الزواوي تدور حول الأمراض الاجتماعية والجهل وفساد الأخلاق وفساد التربية والتعليم، والحاجة إلى الإصلاح، إضافة إلى موضوعات تقليدية كالمولد النبوي والهجرة ومواقف السلف. ثم الوعظ والإرشاد، وأحاديث عن الزكاة والصوم والحج والتعليم والمعاملات الأخرى. واعتذر في كتابه عن عدم ذكر كل الخطب التي كان يلقيها لاستحالة جمع نحو الخمسين خطبة كانت هي نفسها تتغير بحسب الحال والعوارض، واكتفى بذكر نماذج من خطبه في مواضيع شتى. وهي في شكل (مختصرات)، وقد كتبت في عبارات مسجعة نظيفة تتخللها أحاديث وآيات (¬1). واعترف الزواوي بأنه لم يجرب الخطابة من قبل إلا مرة واحدة عندما ارتجل خطبة الجمعة في الشام زمن حكم جمال باشا. ولكنه بدأ الخطابة بعد رجوعه إلى الجزائر وتعيينه إماما لجامع سيدي رمضان، كما ذكرنا (¬2). ... الروايات والقصص والمسرحيات الروايات والقصص الشعبية المحكية ظلت نشيطة في الجزائر خلال العهد المدروس. وأمام ضعف الثقافة المكتوبة لجأ الفكر الشعبي إلى التعبير الشفوي القائم على الحفظ والذاكرة والاستمداد من التراث أو من الخيال. وقد أوحى الواقع كثيرا من الرموز والأمثال. فالأبطال والأشراف والفرسان والمرابطون والزعماء كانوا نماذج لإنشاء الروايات الخرافية أو المعتمدة على ¬

_ (¬1) صحح الكتاب الشيخ عبد الرحمن الجيلالي الذي كان خادما (للعلم الشريف بالجامع الأعظم بالجزائر). فهل كان الشيخ الجيلالي أحد ملازمي الزواوي وأتباعه، أو كان يعمل مصححا في المطبعة المذكورة بالإضافة إلى عمله في الجامع؟. (¬2) واضح من كلام الزواوي عن الأتراك وحكم جمال باشا في سورية أنه من المؤمنين بالحركة العربية التي دعت إلى استقلال العرب عن الترك. انظر حياته.

الواقع ولكن في أسلوب خيالي جامح. والثورات التي فشلت كانت تتحول إلى آمال أخرى في النصر، والقادة الذين استشهدوا أو نفوا كانوا يتحولون إلى مهديين منتظرين سيعودون ذات يوم بالنصر. وكان الإيمان بالمكتوب والمقدر يغذى الأمل ولا يترك المكان لليأس. وهكذا كان الرواة والقصاصون يروون في المجالس والمقاهي والأسفار والندوات الحكايات على لسان أبطالهم الواقعيين أو الخياليين. ويذهب بعض النقاد إلى أن الرواية الحديثة لم تظهر في الجزائر إلا خلال السبعينات من هذا القرن (¬1). وهو رأي قد ينازعه فيه نقاد آخرون في ضوء الإنتاج الذي سنذكره. ومصادر القصص الشعبية هي في العادة الحياة الشعبية نفسها وكذلك ألف ليلة وليلة، وبالخصوص القصص الهلالية. وقد حاول بعض الفرنسيين أن يجمعوا الروايات والقصص الشفوية ويكتبوها فاستطاعوا أن يجمعوا بعضها في آخر القرن الماضي وأن يترجموها إلى الفرنسية، وقد ترجم بعضها إلى لغات أخرى أيضا (¬2). وهي تضم أغاني عاطفية وحكايات وقصصا عربية وبربرية. ولا يمكننا الآن ذكر كل ما ترجم من هذه الآثار الشفوية، فهي كثيرة، ولكننا نذكر بعض ما توصلنا إلى معرفته: 1 - قصة الجازية وذياب، كما راجت في تاريخ أولاد رشاش، وهي تتناول قصة الجازية الهلالية وخليفة الزناتي وغانم بن ذياب. وقد أورد أحد الكتاب الفرنسيين إن القصة أصبحت جزءا من تاريخ أولاد رشاش. وجاء بنصوص منها. (¬3) 2 - مائة حكاية وحكاية (؟) وهي أثر أدبي منسوب إلى الحاج الباهي ¬

_ (¬1) عبد الحميد بن هدوقة (علاقة الأدب بالسينما في بلد ينمو ...) في (مظاهر من الثقافة الجزائرية)، نشر المركز الثقافي الجزائري، باريس، 1986، ص 167. (¬2) الأدب المغاربي The Moorish Literature، ط. منقحة، نيويورك، 1901. (¬3) فيسيير في (المجلة الإفريقية)، 1892، سيما ص 312 - 324. عن تغريبة بني هلال وقصة الجازية انظر مراجع تحقيقنا لكتاب (تاريخ العدواني)، ط، بيروت، دار الغرب الإسلامي، 1996.

البوني (من عنابة). وقد قيل إن البوني كان حيا سنة 1837، والأثر مطبوع بدون اسم صاحبه. وكان الحاج الباهي نساخا سنة 1248، أي بعد الاحتلال بسنتين. ولكن قسنطينة عندئذ كانت ما تزال تحت حكم الحاج أحمد. فلعل الحاج الباهي انتقل من عنابة عشية احتلالها إلى قسنطينة، ذلك أن الحاج الباهي نسخ كتابين على الأقل في السلة المذكورة (1248) للشيخ محمد العربي بن عيسى، أخ علي بن عيسى قائد جيش الحاج أحمد. وكان العربي بن عيسى من علماء قسنطينة، وله مكتبة ضخمة، وكان متوليا نظارة الأوقاف. ومن المؤلفات التي نسخها له الحاج الباهي كفاية المحتاج لأحمد بابا ونتيجة الاجتهاد للغزال المغربي. وجاء في النسخ أن الحاج الباهي هو (خديم الطلبة) - يعني العلماء - بقسنطينة. وجاء في نهاية كفاية المحتاج أنه نسخة (لسيدي الجهبذ النقاد، العالم العلامة ذى السداد، مأوى الفقراء، مولانا أبي عبد الله السيد محمد العربي ناظر النظراء، ببلد قسنطينة ذات الهواء، فما أسعده من بلد احتوى على عالم الورا) (¬1) إلخ. هذه هي كل المعلومات التي نعرفها الآن عن الحاج الباهي البوني مؤلف مائة حكاية وحكاية. فهو من المعاصرين للاحتلال ومن سكان قسنطينة. ولعله عاش إلى احتلال هذه المدينة أيضا سنة 1837. ولا ندري ما موضوع حكاياته الآن. هل فيها رموز سياسية ووصف لواقع رهيب؟ إن أحمد شريبط الأستاذ بجامعة عنابة قد أخبرني ذات مرة أنه قد عثر على النسخة الخطية لهذا الأثر الأدبي، وأنه راغب في تحقيقه، وقد طلب مني معلومات عن الحاج الباهي، فلم أستطع أن أفيده. وقتها. ولا ندري ماذا فعل السيد شريبط بعد ذلك، وما تزال تسمية النص المذكور غير معروفة أيضا. 3 - نزهة المشتاق وقصة العشاق في مدينة ترياق في العراق، ط. الجزائر 1848. وهذه الرواية ألفها أحد المترجمين الأجانب واسمه إبراهيم ¬

_ (¬1) المكتبة الوطنية، الجزائر، مخطوط مجموع رقم 1738.

دنينوس الذي ولد بالجزائر سنة 1797 وعاش فيها. وانضم دنينوس للحملة وتجنس بالجنسية الفرنسية وأصبح من فرقة المترجمين. وكان قد عمل قبل ذلك في المحكمة التجارية بباريس. واستفاد الفرنسيون من خبرته في الترجمة ومعرفة البحر أثناء الحملة. ورافق دنينوس بعثة المولود بن عراش إلى فرنسا سنة 1838، وظل حيا إلى 1872 (¬1). روايته المذكورة اعتبرها بعضهم رائدة في باب المسرحيات العربية، ولم تؤلف قبلها سوى (البخيل) لمارون النقاش وربما تكون (نزهة المشتاق) سابقة للبخيل. وقد استعمل دنينوس الأساطير الشعبية، وروايته مكتوبة بأسلوب الموشحات، ولغتها تقف بين الفصحى والدارجة. وهي قسمان، وبينهما فصول صغيرة، وفيها اثنان وعشرون دور، منها ثمانية أدوار للنساء، رغم أن الذي كان يؤدي هذه الأدوار هم الرجال. وأحداث الرواية كانت تجري في إحدى المدن العراقية وعصرها غير محدد. وبطلتها نعمة، كانت متزوجة من ابن عمها نعمان الذي كان كثير الترحال فكان يقصد الهند ويطيل السفر. وأثناء غيابه حاولت أمها إقناعها بالزواج من ابن خالتها، ولكن نعمة فضلت الوفاء لابن عمها إلى أن رجع وسامحته على غيابه. وفي المسرحية حبكة أخرى وهي وفاء آمنة أيضا لزوجها. ورغم حديث المسرحية عن المدن والأوطان فإنها لا تتعرض للجزائر. ويذهب الأستاذ فيليب سادجروف، أستاذ الدراسات العربية في جامعة أدنبرة (اسكوتلاندا) إن للمسرحية بعدا وطنيا وعربيا. وأنها تتعرض للمجتمع الجزائري بطريقة غير مباشرة. أما عرضها فليس مؤكدا، وربما لم تعرض على المسرح أصلا (¬2). ¬

_ (¬1) انظر عن حياته فصل الترجمة، وكان أحمد بوضربة (الذي قد يكون هو الترجمان لابن عراش) واليهودي ابن دوران ضمن الوفد. (¬2) انظر جريدة (الشرق الأوسط) عدد 4135، 25 مارس، 1990. وقد عثر على نسخة من المسرحية في مكتبة مدرسة اللغات الشرقية بلندن. أما جزائرية هذا الأثر الأدبي فلا شك أنها غير مسلم بها بعد.

4 - وفي هذه الأثناء نفسها كتب أحد الجزائريين رواية شعبية ذات أبطال وأحداث وطنية وشخصيات تاريخية، وهي رواية حكاية العشاق في الحب والاشتياق. ومؤلفها هو الأمير مصطفى بن إبراهيم بن مصطفى باشا. وتاريخ تأليفها هو سنة 1849. وكان جد المؤلف (مصطفى باشا) هو أحد دايات الجزائر أول القرن 19، وهو الذي بقي اسمه يطلق على ضاحية العاصمة والمستشفى المعروف بها. وكان أبو المؤلف (إبراهيم بن مصطفى) ممن تولى الدفاع عن أهل العاصمة بعد الاحتلال وألف مع حمدان خوجة وغيره لجنة وطنية لتقديم العرائض والشكاوى والاتصال بالصحافة والشخصيات الفرنسية للعمل على جلاء القوات الفرنسية واستقلال الجزائر. وانتهى به الأمر إلى السجن في عنابة والوفاة فيه. وكانت للعائلة أملاك وثروات وسمعة فضاعت كلها ونددت مع الاحتلال. فاستولى الفرنسيون على قصرهم، وحولوا بعض أملاكهم إلى مكان للمكتبة العمومية والمتحف. وكان المؤلف معروفا باسم الأمير مصطفى، وكان متميزا بمظهره التركي الكرغلي. وقد آلت بعض أملاكه سنة 1859 إلى عائلة (فيالار) الفرنسية، وفي 1863 انتقلت إلى غيره. وهكذا كانت عائلة الأمير مصطفى قد رهنت أملاكها عند الأروبيين، وعندما عجزت عن الدفع لفقرها انتزعت منها الأملاك عن طريق المحاكم (¬1). كانت بطلة الرواية هي زهرة الأنس والبطل هو ابن الملك، الذي يغلب على الظن أنه هو الأمير مصطفى نفسه أو والده (¬2). واشتملت الرواية على عدة شخصيات أخرى ذكرناها في مكانها. ولغة الرواية أقرب إلى الفصحى منها إلى الدارجة. وفيها النثر وهو الغالب وكذلك الشعر. وهي تستمد روحها من الأساطير الشعبية ومن ألف ¬

_ (¬1) قافولي P. Gavaulet (تعليق حول مكتبة ومتحف الجزائر) في (المجلة الإفريقية)، 1894، ص 248. (¬2) حققنا هذه الرواية، وطبعت مرتين، آخرها سنة 1982.

ليلة وليلة. وفيها نصوص ورموز سياسية، ليس فقط عن الجزائر ولكن عن العائلة أيضا. وفيها أوصاف للحياة الاجتماعية قلما توجد في غيرها. وإلى جانب الشعر تقوم الرواية على الإنشاد والموسيقى واللهو والإدمان على الخمر ونحو ذلك من علامات اليأس والتدهور بعد الاحتلال. وتعتبر (حكاية العشاق) من المسرحيات العربية المبكرة حسب بعض النقاد (¬1). 5 - حكاية في ذم الحسد، من وضع الشيخ القاضي عيسى، بوادي سوف. وقد ترجمها لارجو، ومصطفى بن الحاج موسى، كما جاء فى بعض المصادر. ولا نعرف حبكة القصة الآن ولا حجمها (¬2). 6 - بين حمارين جزائري وإفرنجي (فرنسي). فقد جاء في أحد المصادر أن هناك حكاية بعنوان (ما حكاه حمار جزائري)، وهو حوار بين هذا الحمار والحمار الإفرنجي. كذلك لا نعرف الآن موضوع الحوار ولا المؤلف، إن كان (¬3). ولعلها في التفاضل بين الأهالي والفرنسيين ولكن على لسان الحيوان. 7 - قصة المعراج لمحمد بن عبد الله المشرفي. وموضوعها كما هو واضح، ديني، أولها هذه قصيدة (كذا)، وهي قصة المعراج المعروفة في كتب السيرة النبوية. وبدايتها (الحمد لله السميع البصير الذي يبصر دبيب النمل على كيان الرمل تحت أفلاك الليل ... وبعد، فقد حدثنا علي ابن الحسن، قال أخبرنا أبو علي بن عيسى إلخ ... قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): فبينما أنا ذات ليلة نائم بين الصفا والمروة في ليلة مظلمة ذات رعد وبرق، لا يصيح فيها ديك ولا ينبح فيها كلب ...) إلى آخر القصة. وقد انتهى منها صاحبها، إذ جاء في آخرها: كمل الحديث المبارك بحمد الله وحسن عونه ... على يد ¬

_ (¬1) تناولها عدد من الأدباء بالنقد والتعريف منهم عبد الله ركيبي، وعمر بن قينة، وحسن فتح الباب، انظر أعمالهم. (¬2) المبشر، 6 يناير، 1877. (¬3) نفس المصدر (؟) مايو، 1877.

عبد ربه محمد بن عبد الله بن أحمد بن أحمد بن دح المشرفي نسبا الغريسي وطنا. (¬1). والمعروف أن عائلة المشرفي (المشارف) من مدينة معسكر وما جاورها من سهل غريس. وقد هاجر عدد منها إلى المغرب بعد الاحتلال وفشل المقاومة. ومنهم محمد العربي المشرفي (أبو حامد). 8 - قصة شعبية كتبها باللهجة التلمسانية عبد العزيز الزناقي ونشرت سنة 1904. ومحتوى القصة مخترع للمتعة والتشويق الأدبي. أما شكلها وإطارها فهو محلي ومن وحي الواقع بتلمسان. وهي تتناول الحياة الاجتماعية بتفاصيلها. وكان الزناقي من خريجي مدرسة تلمسان الفرنسية الرسمية، وأصبح معيدا في مدرسة اللغات الشرقية في فرنسا. ولا ندري هل كتب القصة من تلقاء نفسه أو بطلب من شيوخه المستشرقين الفرنسيين أثناء موجة اهتمامهم بالأدب الشعبي، نثرا وشعرا، وباللهجات إلخ. وقد ترجمها وعلق عليها وقدم لها السيد قودفروا - ديموبيان (¬2) G. Demonbeyne . 9 - لعبة البوقالة (¬3)، دراسة موثقة مع النص العربي والفرنسي. وفي الدراسة أشعار شعبية ورقيقة محتوية على حكم وأمثال، مع نكهة من التقاليد القديمة للجزائر. فلعبة البوقالة تركية الأصل، وهي ذات صلة بالبلدان الواقعة على البحر مثل العاصمة ودلس وبجاية أو القريبة من البحر مثل المدية والبليدة والقليعة. وتتمثل اللعبة في حل الكتاب، قراءة الكتاب. فتح الكتاب، أي الكشف عن أسرار الحظ والتكهن. والبوقالة أصيصں فخاري صغير، واللعبة تقوم بها امرأة عجوز أو متقدمة في السن وسط حلقة من النساء، وهي تنادي على الشيخ عبد القادر الجيلاني الذي اسمه هنا (أبوعلام). ¬

_ (¬1) المكتبة الوطنية - تونس، مجموع رقم 825، أوراق 143 - 168. وهي دون تاريخ ولا اسم لناسخ، فلعلها بخط المؤلف. (¬2) المجلة الآسيوية، 1904، النص العربي ص 46 - 63، والفرنسي 63 - 106 مع التعاليق. (¬3) سعد الدين بن شنب (طريقة جلب الحظ في لعبة البوقالة) (مجلة معهد الدراسات الشرقية)، المجلة 14، 1956، ص 19 - 111.

10 - المجالس الأدبية، وهي قصص من وضع فلاحين هما الشيخ محمد بن إبراهيم خوجة ورابح بن قويدر. من نواحي البليدة. وقد حصل على النصين يوسف (جوزيف) ديبارمي، المستشرق الفرنسي سنة 1908. وأعطى النصين إلى أحد المتعلمين الجزائريين، وهو من أهل الحضر، ولكنه لم يذكر اسمه وإنما قال إنه غير متعصب (؟). وقام هذا الرجل الحضري بصياغة النصين. وكانوا جميعا لا يعرفون الفرنسية، ولذلك اعتبر ديبارمي رأي الحضري رأي ثالثا في الموضوع. والنصوص في شكل (مجالس) مختلفة أو لقاءات أو ندوات يحكي فيها البطل جزءا من قصة ولا ينتهي منها، ثم يلتقي في المجلس الموالي بالمستمعين فيروي لهم جزءا آخر منها، وهكذا. ومحتوى المجالس، حسب رواية ديبارمي، يدور على المحاور التالية: المسلم (الجزائري) لا يخرج من داره إلا ذليلا ومحجبا كالمرأة لأن الشارع فيه حضارة أخرى، وهي حضارة الرومي (الفرنسي). المسلمون أهينوا على يد الكفار، أما الترك فهم، رغم استبدادهم، أخف وطأة من الفرنسيين. والقضاة الذين يعينهم الفرنسيون لا يخدمون إلا أنفسهم ولا ثقة فيهم، وكذلك الولاة (القياد) والعلماء، لأن المسلم الحقيقي لا يقبل أن يعمل عند الكفار (الفرنسيين). إن هؤلاء كانوا يغرقون البلاد ببضائعهم، وأن السكر والملابس التي يقدمها الفرنسيون للمرابطين تعتبر نجاسة. وأن الكفار يتسربون إلى صفوف المسلمين ويصلون معهم، ويذهبون معهم حتى إلى الحج لاكتشاف أسرارهم. والكفار يظهرون في البداية لينين ولكنهم قساة في النهاية، فهم يمنعون المسلمين من تعلم الدين الإسلامي والقرآن في المدارس بينما يعلمون اللغة الفرنسية لأبناء المسلمين، ليجعلوهم خارجين عن دينهم، ثم بعد المدرسة تأتي الثكنة والخدمة العسكرية. لكن سيأتي يوم يتحطم فيه النير الفرنسي (النصراني)، حسب رواية ديبارمي عن هذه القصص أو المجالس. وذكر ديبارمي أن هناك حوالى ثمانين مجلسا (86)، لكل مجلس قصة

يدور حولها. وقد حضر في آخرها رجال التصوف البارزون في الجزائر - أغواث وأقطاب وأوتاد، أو نوابهم. وكان من بينهم غوث من مرسيليا اسمه سيدي المرسلي الذي تحدث عن خيرات فرنسا، كما حضر رئيس الديوان الصوفي. وقد اتفق هؤلاء الأولياء على تفويض الأمر إلى الله. وتلك هي نهاية الحبكة. ومن الواضح أن الموضوع الرئيسي هو الوضع في الجزائر في آخر القرن الماضي حين سيطرت الإدارة الاستعمارية ولجأ العامة إلى طلب الخلاص من رجال الطرق الصوفية (¬1). وهذا الإغراق في القدرية والاستسلام كان يتماشى مع سياسة فرنسا أيضا لأنها كانت تشجع عليه بدعوى أن حكمها في الجزائر إنما هو بإرادة الله وقضائه وقدره. 11 - الفتى، وهي قصة كتبها الشاعر الأديب رمضان حمود ونشرها في تونس. وهي تعكس أيضا جوانب من حياة مؤلفها الشاب الطموح. فهي تمثل شابا كان يعمل على إسعاد شعبه في ظروف سيطر فيها الأجنبي على بلاده. وقد أهدى رمضان حمود قصته إلى والديه بعبارات حانية. ومع ذلك قال إنه لا يقصد من القصة شخصا بعينه ولا وطنا محددا .. بدأ الحديث عن قصة محمد، ذلك الطفل الذي نشأ في إحدى قرى ميزاب، وتابع المؤلف الطفل في نموه في البيئة الصحراوية. ثم سافر الطفل إلى إحدى مدن الجزائر الشمالية، وهناك دخل المدرسة. وتدخل المؤلف ليعظ ويرشد وليذكر بعض الشعر، وليشيد بالتربية وأثرها. وبعد أن عاد الطفل إلى وطنه، سافر من جديد ودخل مدرسة فرنسية، وهكذا يظل يتردد بين مسقط رأسه والمدرسة. وانتهى به الأمر إلى الزواج ودخول ميدان الإصلاح الاجتماعي. وجاء في ذلك بحديث مسهب عن العلوم والدين والفلاحة والكفاح والتجارة. وتلك هي المرحلة الأولى من حياة (الفتى). وقد وعد رمضان حمود بالجزء الثاني ¬

_ (¬1) عن ذلك انظر فصل الطرق الصوفية وكذلك الحركة الوطية ج 1. وعن المجالس القصصية الشعبية انظر ديبارمي (أعمال فرنسا كما يراها الأهالي) في (المجلة الجغرافية للجزائر وشمال إفريقية) SGAAN، القسم الأول، ص 167 - 188، القسم الثاني 417 - 436.

من هذه القصة الشيقة، ولكنه توفي قبل أن يفي بوعده (¬1). ... ونود الآن أن نتحدث عن المسرحيات وليس عن المسرح (¬2). كان الجزائريون قبل الاحتلال يمثلون عن طريق خيال الظل المعروف بالكركوز. كما كانوا يعرفون التمثيل بهذه الوسيلة التي كانت شائعة في المشرق العربي أيضا. وكان مسرح خيال الظل مزدهرا سنة 1830، وظل بضع سنوات بعد ذلك، وقد وصفه الكتاب الأروبيون الذين سجلوا الحياة العامة في رحلاتهم وكتاباتهم الانطباعية عن المجتمع الجزائري، وحضروا بعض الحفلات. ومن الشخصيات البارزة في مسرح خيال الظل شخصية الحاج عيواز. ولكن مع الاحتلال يبدو أن هذا المسرح قد اتخذ أساليب جديدة. ويبدو أن السلطات الفرنسية لم ترق لها هذه الأساليب الجديدة، فمنعته تماما في بداية الأربعينات. ففي سنة 1843 كتبت (مجلة الشرق) أن مسرح خيال الظل قد أوقفته السلطات (لفظاعته) وأنها جعلت (عقوبات صارمة) ضد من يمارسه. فهل كانت هذه السلطات أكثر حرصا على الأخلاق العامة من السلطات العثمانية السابقة؟ لا نظن ذلك. وإنما الأكيد أن الممثلين قد تسيسوا وأصبح الحاج عيواز رمزا للحكم السابق الذي يريد الفرنسيون محوه من ذاكرة الناس. وكان الحاج عيواز وغيره من الممثلين يستعملون الرموز ضد الوجود الفرنسي، فحكم بوجو على المسرح كله بالإعدام. وقد قيل إن هذا المسرح كان محبوبا، وكان يحضره الشباب الجزائري وحتى الأروبي، وكان ينشط بالخصوص في ليالي رمضان (¬3). ولا نعتقد أن التمثيل قد انقطع بعد إلغاء مسرح الكركوز. فقد بقيت ¬

_ (¬1) عن رمضان حمود انظر فصل الشعر، ومحمد ناصر (رمضان حمود: حياته وآثاره)، الجزائر، 1985، ط. 2. ص 310 - 348. (¬2) عن تطور المسرح انظر فصل الفنون وأيضا فصل المنشآت الثقافية. وعن التمثيل في العهد العثماني انظر الجزء الثاني. (¬3) مجلة الشرق (بالفرنسية)، 1843، ص 247 - 248.

أشكاله ماثلة في الحفلات الصوفية، وفي مجالس اللهو والطرب، ولعله قد ظهر من جديد بعد مرحلة المقاومة العنيدة، أي منذ الخمسينات. وكانت حفلات الزنوج في العاصمة، والحفلات الشعبية في غيرها تلجأ إلى التمثيل وتستحضر الشخصيات العربية والإسلامية القديمة، مستمدة من ألف ليلة وليلة الإطار وبعض الأدوار. فكان جحا ومجنون ليلى وعنتر العبسي وغيرهم. ومع ذلك لم نقرأ عن تمثيليات جزائرية مكتوبة قبل الحرب العالمية الأولى، رغم وجود بعض الروايات التي تصلح للتمثيل مثل (نزهة المشتاق) و (حكاية العشاق)، إلخ. أما منذ 1921 فقد ألف بعض الجزائريين مسرحيات معظمها، كما قال سعد الدين بن شنب، كانت باللغة العربية الفصحى. من ذلك مسرحيات علي الشريف الطاهر. ورغم أن اسم علي الشريف مشهور في العاصمة، فإن اسم علي الشريف الطاهر غير معروف في مجال الأدب. ومع ذلك نسب إليه الباحثون المسرحيات التالية: 1 - الشفا بعد العنا، وهي بالعربية الفصحى، وكانت تشتمل على بعض الأغاني. وموضوعها يدور حول الخمر. وقد مثلها قدماء تلاميذ الثانوي (الليسيه) الفرنسية بالجزائر. وكانت الفرقة تسمى (المهذبة) وتأسست سنة 1921، وهي التي مثلت أيضا المسرحيتين التاليتين: 2 - خديعة الغرام، وهي مسرحية من نوع التراجيديا، اشتملت على أربعة فصول، وقد مثلت على مسرح الأوبرا بالعاصمة سنة 1923. ويحتمل أن تكون تطويرا لموضوع المسرحية الأولى. ولا ندري إن كان ممثلوها هم أنفسهم الذين مثلوا الأولى .. 3 - بديع، وهي مسرحية أيضا تتحدث عن الخمر وعواقبها. وقد مثلت على أحد مسارح العاصمة - المسرح الجديد - سنة 1924. والمفهوم أن الموضوع الرئيسي الذي دارت حوله هذه المسرحيات الثلاث هو الخمر والحب، وذلك من الموضوعات الاجتماعية الهامة عندئذ،

لأن هناك سياسة مقصودة، لإغراق الشباب في النسيان عن طريق الخمر والإجرام والإفساد الاجتماعي. فكان دور المسرح هو التنبيه على ذلك محافظة على الأسرة والأخلاق والعلاقات الاجتماعية السليمة. وسيكون موضوع الخمر أيضا هو الموضوع المفضل - بعد الدعوة إلى العلم والنهضة - في عقد الثلاثينات. 4 - في سبيل الوطن، وهي مسرحية مثلت في 29 ديسمبر 1922 بالعاصمة على المرسح الجديد الذي كان سابقا يدعى (الكورسال). وهي مسرحية في فصلين، وليس لها مؤلف معين. وقد مثلتها فرقة كانت بصدد التكوين، ولعلها كانت تتألف من الشباب المتأثر بحركة الأمير خالد وأفكار النهضة العربية، لأن الموضوع الذي تناولته موضوع حساس وسياسي، ولذلك منعت السلطات الفرنسية تمثيل المسرحية من جديد. والإقدام على تمثيلها من جديد يدل على إقبال الناس عليها، وقد تناولتها بعض الصحف اليومية. ولم يكن من العادة تمثيل المسرحية أكثر من مرة لقلة الجمهور الراغب في التمثيل، ولكن موضوع هذه المسرحية (في سبيل الوطن) جعل الممثلين يحاولون إعادة تمثيلها، فمنعتها السلطات الفرنسية. ولم يذكر ابن شنب لغة مسرحية في سبيل الوطن. والظاهر أنها كانت أيضا بالفصحى لأنه ذكر في مكان آخر أن معظم التمثيليات بين 1921 - 1924 كانت بالفصحى. 5 - المصلح، قامت فرقة أخرى بتمثيل مسرحية المصلح سنة 1923. وكانت هذه المسرحية من تأليف أحمد فارس، وباللغة الفصحى. وقد خصص دخلها لفائدة جمعية الطلبة المسلمين في المغرب العربي. ويبدو من العنوان أن المسرحية كانت أيضا من وحي الواقع. وقد لاحظ ابن شنب أنه كان للمرأة دور واحد في هذه المسرحيات، فمثله أحد الرجال لفقدان المرأة الممثلة عندئذ (¬1). ¬

_ (¬1) سعد الدين بن شنب (المسرح الجزائري) في (المجلة الإفريقية)، 1935، ص 75. وقد ذكر هذا المصدر أن صحيفة (لينوفيل) المسائية عدد أول يناير 1923 قد تناولت مسرحية في سبيل الوطن. وأن (حولية) ودادية الطلبة المسلمين لشمال إفريقية قد =

كان الموضوع الاجتماعي هو السائد في المسرحيات، كما لاحظنا. ويرجع ذلك إلى أسباب منها قطع العلاقة بين المواطن وتاريخه وثقافته الأصلية. كما أن الموضوعات التاريخية تحتاج إلى ثقافة خاصة لدى المؤلفين للمسرحيات، وهو ما كان منعدما عندئذ. ولذلك كانت الموضوعات التاريخة رغم أهميتها مضببة عند المؤلفين وعند الممثلين معا. وكانت إلى حد ما معقدة وتحتاج إلى مراجع وفهم للأحداث. ولذلك كان المؤلفون يستمدون شخصياتهم التاريخية من التراث المحفوظ في الذاكرة وليس من الكتب، وكانوا يحولون الأشخاص التاريخيين إلى أشخاص تقبلهم الذهنية العامة في أسلوب ساخر. من ذلك شخصية عنتر بن شداد، فهو عند المؤلف الجزائري ليس عنتر التاريخي، ولكنه عنتر الحشايشي الذي لم يبق منه إلا اسمه الراسب في الذاكرة. كما حول المؤلفون أسماء هارون الرشيد إلى قارون الراشي ومنصور إلى مسرور وجعفر البرمكي إلى جعفر المرخي. كما أن المؤلفين لجأوا إلى استعمال الدارجة بدل الفصحى وبالخصوص دارجة العاصمة. وبذلك تحولت المسرحيات إلى مسرحيات شعبية في لغتها وموضوعاتها وأدائها. وظهر ممثلون - مؤلفون من أمثال رشيد القسنطيني وعلالو. وكانت أول مسرحية تحرز نجاحا هي مسرحية جحا. 6 - جحا ألفها، حسب بعض نقاد المسرح - كل من علالو ودحمون سنة 1926، ومثلت بالدارجة على المسرح الجديد، في 12 أبريل 1926. وقد مثلت ثلاث مرات متوالية لنجاحها. وجاء ذلك بعد توقف التمثيل سنتين (1924 - 1926). وكانت السنة الأخيرة قد سجلت ميلاد نجم شمال إفريقية بفرنسا وهزيمة عبد الكريم الخطابي في المغرب الأقصى، وانطلاق حركة الإصلاح في الجزائر. ¬

_ = تناولت مسرحية (المصلح) في عدد ديسمبر 1928، رقم 1، ص 23. ولسعد الدين بن شب مقالة أخرى بعنوان (التمثيل وكيف يكون مستقبله) في مجلة (التلميذ) السنة الأولى، رقم 7، 8، عدد مايو - يونيو، 1932.

7 - اللونجا الأندلسية من تأليف رشيد القسنطيني، وهي أيضا بالدارجة، وكل مسرحياته الكثيرة كانت بالدارجة. وقد مثلت (اللونجا) على مسرح الأوبرا بالعاصمة في 28 فبراير، 1928. ورغم أن موضوعها تاريخي، فإن المؤلف قد تصرف في التاريخ واستمد من الذاكرة الشعبية وليس من بطون الكتب (¬1). 8 - موت كليوبترا، وهي من تأليف الشاعر أحمد شوقي، وتتناول أحداثا تاريخية، ولغتها فصيحة طبعا، وقد مثلت بالعاصمة في 2 مايو، 1932. وقيل إنها لم تنجح عند الجمهور. ولعل عدم نجاحها يرجع إلى ابتعاد أحداثها عن الذاكرة والواقع معا، وليس إلى اللغة التي كتبت بها. كان المسرح الجزائري قد تطور أيضا خلال الثلاثينات. وقد وقع تحت عدة تأثيرات منها التأثر بالمسرح الفرنسي العريق والذي ظهرت أنشطته منذ الاحتلال. فكان في كل مدينة مسرح وتمثيل وروايات. وفي العاصمة نفسها عدد من المسارح الفرنسية. كما أن زيارات الفرق العربية من تونس ومصر قد ساهمت في تنشيط المسرح بالجزائر تقليدا أو منافسة. ومن أوائل الفرق الزائرة المعروفة فرقة الجوق التونسي التي زارت الجزائر سنة 1913 ومثلت عدة مسرحيات (¬2). وغداة الحرب العالمية الأولى حلت بالجزائر الفرقة المصرية بقيادة جورج أبيض ومثلت بعض التمثيليات بالفصحى. وحوالي 1932 زارت الجزائر فرقة فاطمة رشدي المصرية وأحرزت نجاحا (¬3). وكان ذلك أثناء ازدهار مسرح رشيد القسنطيني الشعبي. وأوائل الخمسينات زارت الجزائر فرقة مصرية بقيادة يوسف وهبي، واحتفى بها الجزائريون شعبا وقادة (¬4). وكان نجاحها يرجع ربما إلى انتشار التعليم بالعربية وارتفاع الذوق ¬

_ (¬1) ابن شنب (المسرح ...) مرجع سابق، ص 78 - 79. وفي حديثنا عن المسرح سنتناول شخصية رشيد القسنطيني ومساهمته. (¬2) انظر فصل الفنون. (¬3) نفس المصدر وكذلك مجلة التلميذ، 1932. (¬4) كتبت عنها البصائر والمنار.

الأدبي لدى الجمهور على ما كان عليه أوائل العشريات. وإذا كان المسرح الشعبي على يد رشيد وعلالو ومحيي الدين باش تارزي قد سار في اتجاهه الباحث عن الجمهور والموضوعات الاجتماعية الساخرة، فإن المسرح الأدبي - التعليمي (إذا صح أن نسميه كذلك) قد ظهر على يد نخبة من المعلمين في مدارس جمعية العلماء أوأنصار التيار الإصلاحي الذي كانت تسير عليه. فظهر مؤلفون للمسرحيات من المعلمين أنفسهم، منهم محمد العيد، ومحمد العابد الجلالي، ومحمد النجار. وكانت الموضوعات اجتماعية وتاريخية وحتى سياسة. وكان الممثلون أحيانا هم التلاميذ أنفهسم. 9 - عاقبة القمار والجهل. رواية البعثة التعليمية، ألفها محمد العابد الجلالي، ومثلت في شهر رمضان. وقد مثلها تلاميذ مدرسة التربية والتعليم حيث كان الجلالي معلما، على مسرح كلية الشعب بقسنطينة، وقدمها المؤلف نفسه للجمهور ولخصها له. وحضرها، حسب جريدة البصائر، جمهور غفير. وتحتوي الرواية - المسرحية على ثلاثة فصول وتسعة مناظر. الفصل الأول منها يمثل الرجل الثري الذي أرسل بعثة علمية على نفقته للدراسة في المشرق، والفصل الثاني عن المقامرين ومصيرهم بعد أن ضبطتهم الشرطة ومروا بالمحكمة، والثالث عن الاحتفال بتكريم البعثة التي رجعت غانمة بعد نجاحها العلمي. وكان للرواية هدف اجتماعي وتعليمي وسياسي واضح. فقد حضرها ابن باديس، وخطب في نهاية التمثيل وألقى نشيده المعروف: اشهدي يا سماء (¬1). 10 - عاقبة الجهل ألفها بعض المعلمين أيضا ولكنه غير معروف الاسم. وهي في خمسة فصول، وقد مثلها التلاميذ أيضا في قسنطينة (؟). ووجدنا في جريدة البصائر التي تحدثت عنها باختصار أن هؤلاء التلاميذ قد تلقوا التمثيل على يد الأستاذ يوسف وهبي في مدرسة شاطودان. وحكمت ¬

_ (¬1) انظر البصائر. عدد 91، 17 ديسمبر 1937، وعدد 92، 24 ديسمبر 1937.

الجريدة على أن الرواية (ممتازة في بابها). ولا نعرف عنها الآن أكثر مما جاء في البصائر (¬1). 11 - الدجالون. مسرحية ألفها محمد النجار. ومثلتها جمعية محبي الفن في مدية قسنطينة. وجرى التمثيل في عنابة بمناسبة عودة الحجاج، وموضوعها هو العلم والخرافة، وتوجيه الرأي العام إلى اليقظة والابتعاد عن الخرافات والإقبال على العلم. وهذا هو اتجاه الحركة الإصلاحية عندئذ. وإليك ما كتبته البصائر في تعليقها على الرواية: (أبدع (المؤلف) وأفاد حيث جعلها دليلا حقيقيا على حالة الجزائري ... ومن جهة أخرى أظهر لنا براعة قلمه في هذه الرواية، وسبكها في قالب لم يسبق إليه، ولغتها مفهومة عند جميع الطبقات) (¬2). فهل كانت بالدارجة القريبة من الفصيحة؟ أما الجمعية التي مثلتها فكانت تضم مجموعة من الهواة وليس التلاميذ. وسيرد اسمها. 12 - شبان اليوم، وهي مجهولة المؤلف. ولكن مثلتها جمعية الشباب الفني لمدينة قسنطينة في 10 أبريل 1938 على المسرح البلدي. وهي تقع في ثلاثة فصول. وتقول البصائر إن الرواية تتناسب مع ذوق وعقل الجمهور، أي أنها رواية تربوية. فهي (متدرجة مع عقله، محققة لفائدته) كما قالت. والرواية تعالج موضوعا اجتماعيا و (تتخللها جريمة تحدث في ظروف غريبة وسلسلة حوادث ووقائع تأسر حواس الجمهور وتستثير مشاعره). وتتخلل الرواية فواصل موسيقية أيضا (¬3). وفي تعليق آخر ذكرت أن مؤلفها رجل قسنطيني وأنه أراد منها تسلية المتفرج وتهذيبهه. وعن موضوعها قالت إنه التزوج على الطريقة العصرية، هذا الموضوع الذي يمثل مشكلة خطيرة (تكاد تهدم دعائم الأسرة الجزائرية). وقد أشادت بحوارها وأداء الممثلين ¬

_ (¬1) نفس المصدر، عدد 96، 21 يناير، 1938، ومدينة شاطودان هي شلغوم العيد اليوم. ويفهم من ذلك أن يوسف وهي قد زار الجزائر قبل الخمسينات. (¬2) البصائر، عدد 62، 9 أبريل، 1937. (¬3) البصائر 107، 8 أبريل 1938.

لأدوارهم، وحسن إخراجها، وأنها رواية ترضى الخاصة والعامة (¬1). 13 - عباقرة العرب، وهي من تأليف محمد العابد الجلالي. وقد مثلها سبعة من كبار التلاميذ. وموضوعها تاريخي وسياسي أيضا. فهو هداية العرب للشعوب الأخرى بالدعوة الإسلامية، بدون تمييز لأحد ولا تقديم قبيلة على أخرى. وقد مثلت على مسرح كلية الشعب بمدينة قسنطينة. وشمل الأداء البنات والبنين. وظهر طابعها السياسي في أنها تنتهي بمصافحة الجميع على الاتحاد وسط تصفيق الجمهور (¬2). 14 - النهضة الجديدة، وهي بدون مؤلف، وفيها ثلاثة فصول واثنا عشر منظرا. وقد مثلتها كثافة الرجاء بباتنة. ويشمل الفصل الأول الرجل الغني الذي يبخل بماله، والفصل الثاني في الخمر، وسجن المدمنين ومحاكمتهم أمام الجمهور، والثالث يمثل المدرسة والاحتفال بالناجحين (¬3). وتذكرنا هذه الرواية بأخرى سبقت، وهي (عاقبة القمار)، التي ألفها محمد بن العابد الجلالي. وكلتاهما تعالج موضوعا اجتماعيا والدعوة إلى الإصلاح والعلم. 15 - بلال بن رباح، ألفها الشاعر محمد العيد، وهي مسرحية تاريخية وشعرية فصيحة. وموضوعها الصبر على المكاره في سبيل الدين والمبدأ. واتخذ منها محمد العيد رمزا لصبر الشعب على الاستعمار في مقابل صبر بلال على التعذيب والاضطهاد. وتلك هي رسالة المسرحية. مثلت أول مرة في قسنطينة في 4 يناير 1939 على المسرح البلدي. وكان الشاعر وقتها في العاصمة. وقد مثلها تلاميذ جمعية التربية والتعليم بمشاركة الفرع الموسيقى لجمعية الشباب الفني. وقد قالت البصائر إن الناس قد ضاق بهم المسرح (¬4). ¬

_ (¬1) البصائر 116، 2 يونيو 1938. (¬2) البصائر 116، 2 يونيو، 1938. (¬3) البصائر 9، ديسمبر 1938. كاتب التعليق هو محمد الحسن الورتلاني (فضلاء؟). (¬4) البصائر، 23 ديسمبر 1938، وكذلك 27 يناير، 1939.

وبعد ذلك جرى تمثيلها في عدة مناسبات وأمكنة. 16 - المدرسة، وهي رواية هزلية، حسب جريدة البصائر. مثلتها جمعية الشباب الفني لقسنطينة. ولا نعرف لها مؤلفا. واعتمد الممثلون على التنكيت والضحك دون الجد مما جعل البعض ينتقدون طريقة الأداء ورسالة الرواية. كما أن الجمعية المذكورة مثلت رواية أخرى حول المولد النبوي. ونعرف من بعض التعاليق أن رواية (المدرسة) أحرزت نجاحا كبيرا. غير أننا لا نعرف من هو مؤلفها ولا أين مثلت (¬1). 17 - سحار بالرغم منه، من تأليف وتمثيل محيي الدين باش تارزي. وقد مثلها بمناسبة انعقاد المؤتمر الكشفي في يوليو 1939 (؟) (¬2). ... ومنذ هذا التاريخ اندلعت الحرب العالمية وتوقفت البصائر والشهاب ومعظم الجرائد. وتوقفت أيضا حركة التمثيل المسرحي وتأليف الروايات. وكانت موضوعات الروايات المذكورة تعالج قضايا الدين والمجتمع والتاريخ والسياسة، كما سبق القول. وقد تعمدنا ذكر نماذج من المسرحيات التي أنشأها المعلمون ومثلها التلاميذ في أغلب الأحيان لنبرهن على أن المسرح لم يكن حكرا على هواته في العاصمة فقط، ولا على اللغة الدارجة فقط ولا على الموضوعات الساخرة التي تشوه التاريخ أحيانا ولا تربي الذوق ولا تدعو إلى الرقي الأدب والفني. فقد رأينا أن معظم لغة الروايات التعليمية كانت فصيحة، وأن الجمهور كان حاضرا بكثافة ومنسجما مع تيار المسرحيات. كما أن المسرح قد خرج من العاصمة إلى الأقاليم، ولا سيما قسنطينة حيث النهضة التعليمية والأدبية وحيث يلتقي الجمهور مع المؤلف. ومن جهة أخرى لجأنا إلى ذكر هذه النماذج لأن الذين درسوا المسرح ¬

_ (¬1) البصائر 14 يوليو، 1939. (¬2) البصائر 11 غشت، 1939.

والمسرحيات لم يتحدثوا عن المسرح المدرسي واقتصروا في حديثهم عن المسرح على تجارب علالو ورشيد وباش تارزي، ومعظمها كانت تجارب في العاصمة التي كانت تغلب عليها اللغة الفرنسية والمزيج اللغوي والذوق الأجنبي. وبعد الحرب العالمية الثانية ألف الأدباء الجزائريون روايات ومسرحيات، ولكنها كانت محدودة، بالنظر إلى تقدم حركة التعليم ومسيرة النهضة الوطنية. ومن ذلك: 18 - أدباء المظهر، من تأليف أحمد رضا حوحو، سنة 1948. وهي مسرحية في فصلين (¬1). وموضوعها هو النقد الاجتماعي. 19 - حنبعل، تأليف أحمد توفيق المدني. وهي مسرحية ذات فصول. وموضوعها سياسي تاريخي، إذ ربط فيها الكاتب بين مقاومة حنبعل للاستعمار الروماني ومقاومة الشعب للاستعمار الفرنسي. ووجهها المؤلف إلى الشباب الناهض. وقد مثلت عدة مرات (¬2). 20 - امرأة الأب، تأليف أحمد بن ذياب. وهي رواية اجتماعية للقراءة الأدبية. ولا ندري إن كانت قد صيغت للتمثيل أيضا (¬3). 21 - غادة أم القرى، تأليف أحمد رضا حوحو، وهي قصة/ رواية، عن المرأة العربية في الحجاز، ورمز بها المؤلف إلى المرأة الجزائرية أيضا. ولا نعلم أنها قد مثلت على المسرح. 22 - كاهنة الأوراس، من تأليف الشيخ محمد البشير الإبراهيمي. وقال عنها إنه كتبها (بأسلوب مبتكر يجمع بين الحقيقة والخيال). ¬

_ (¬1) نشرها في مجلة (إفريقية الشمالية)، مايو، سنة 1948. (¬2) أحمد توفيق المدني (حنبعل)، الجزائر 1950. انظر عنها أيضا كتابنا (دراسات في الأدب الجزائري الحديث) ط. 3، 1984. (¬3) أحمد بن ذياب (امرأة الأب)، الجزائر، 1953، وكذلك كتابنا (دراسات ...).

23 - خواطر مجموعة لعبد المجيد الشافعي، وقد نشرها سنة 1952. ولنفس المؤلف محاولات أخرى. ولكن بعض النقاد، مثل ابن هدوقة لا يعتبر هذه الأعمال قد اكتملت لها عناصر الرواية. ... بالنسبة للقصة القصيرة، لقد تناولها عدد من النقاد في بحوث جامعية وغيرها. أرخوا لأوائلها، وأظهروا أنها ابتدأت في شكل حكاية قصيرة أو في شكل لوحة أدبية، أو مقالة صحفية، ثم ظهرت القصة الفنية بعد أن استكملت عناصرها على يد بعض الأدباء. ومن الذين تناولوا هذا الموضوع باستيعاب عبد الله ركيبي، وعمر بن قينة، وذهب عبد الحميد بن هدوقة (وهو قصاص وكاتب رواية) إلى أن القصة القصيرة الحقيقية لم تولد إلا خلال الثورة (¬1). ورغم محاولات سابقة، فإن الكلمة تكاد تتفق على أن أحمد رضا حوحو كان أول من كتب القصة القصيرة. وكان حوحو قد هاجر إلى الحجاز وساهم في مجلة (المنهل) بمقالاته وقصصه وترجماته عن الفرنسية. وفي الكتاب الذي ألفه صالح الخرفي عن حوحو في الحجاز أضواء جديدة على حياته الأدبية هناك. ومن قصصه المبكرة ما نشرته له (المنهل) في العدد الممتاز في خاتمة سنتها الأولى. فقد نشر حوحو فيها قصة بعنوان (نبيل) وهي القصة التي أشارت إليها في حينها البصائر أيضا (¬2). ومنذ رجع حوحو إلى الجزائر أخذ ينشر القصص في البصائر وغيرها، ثم جمع ما نشره في كتاب (مع حمار حكيم) و (صاحبة الوحي وقصص أخرى)، و (نماذج بشرية). وقد نشر الكتاب الأخير بعد وفاته. ونشر حوحو أيضا في مجلة (إفريقية الشمالية) التي كان يصدرها إسماعيل العربي، مثل قصة جريمة حماة، وكذلك نشر في مجلة (هنا الجزائر) حسب الظن. ¬

_ (¬1) ابن هدوقة (علاقة الأدب بالسينما ...)، مرجع سابق، ص 168. (¬2) البصائر، 97، 28 يناير 1938.

المقامات

ولم يكن حوحو وحده في الميدان، ولكنه كان هو المجلى فيه، فإلى جانبه ظهر عدد من كتاب القصة، بعضهم استكمل أو كاد شروطها الفنية، وبعضهم حاولها كفن أدبي جديد، ثم سار إلى غيرها من مقالة ودراسة وشعر إلخ (¬1). ومن هؤلاء أحمد بن عاشور، والشريف الحسيني ومحمد الطاهر فضلاء وعبد الله ركيبي وأبو العيد دودو، وسعدى حكار (¬2) ثم ظهر جيل آخر كان منه زهور ونيسي والطاهر وطار وعبد الحميد بن هدوقة. وقبل أن نتحدث عن الرواية والقصة باللغة الفرنسية نتحدث عن فن المقامات، باعتبار المقامة من فنون النثر الأدبي. المقامات المقامات فن قديم في الجزائر، وقد تعرضنا إليه في الجزء الثاني. وإنما الجديد هو ما نشأ في العهد الذي ندرسه، والذي نريد أن نعرف ما إذا كان قد تأثر بالحياة الجديدة. وإذا كانت المقامات تعتمد الأسلوب الشيق والقص الطريف والشخصيات الذكية والثقافة الواسعة، فإن ذلك لم يتوفر لها في العهد الذي ندرسه إلا نادرا. فخلال القرن الماضي ولا نكاد نجد كاتبا واحدا للمقامات الجيدة المتوفرة على الشروط التي ذكرنا. كانت هناك محاولات بدون شك، بعضها في الجزائر وبعضها على يد من هاجروا منها. وكانت بعض المقامات قريبة من الدارجة وبعضها بالفصحى. ومما نلاحظه أنه بعد تقدم التعليم واطلاق تباشير النهضة الأدبية حدث تجديد في الشعر ¬

_ (¬1) جربت أنا أيضا هذا الفن مبكرا، فنشرت قصة عنوانها (سعفة خضراء) في جريدة البصائر. وهي منشورة ضمن المجموعة التي تحمل نفس العنوان. (¬2) نشر هؤلاء قصصهم إما في جريدة البصائر وهنا الجزائر والمنار وغيرها وإما في مجموعات بعد الاستقلال. وظهر إنتاج الطاهر وطار وابن هدوقة أثناء الثورة. وهناك آخرون لا يتسع المقام لذكرهم. ولكن مرحلة الثورة والاستقلال خارجة عن نطاق هذا الفصل. ومما نشره سعدي حكار قصة (في ليلة واحدة) في مجلة إفريقية الشمالية، يونيو، 1948.

وفي المقالة وظهرت القصة والمسرحية، ولكن المقامة بقيت نادرة. وربما كان البعض ينظر إليها على أنها وسيلة للغموض والتقعر والتفاصح الفارغ، سيما إذا كان الذين يحاولونها غير ملمين بالأحداث الكبرى ولا يحسنون فن القص الأدبي. وقد ذكرنا أن الإبراهيمي قد برع في أسلوب معين سماه سجع الكهان نشر منه نماذج بين 1947 - 1952. والمقامات التي علمنا بوجودها أو اطلعنا عليها قليلة. وها نحن نذكرها حسب ترتيبها بقدر الإمكان: 1 - المقامة الصوفية أو شبه المقامة، وقد وضعها الأمير عبد القادر في صورة قصصية، كمقدمة لكتابه (المواقف) في التصوف. تصور الأمير أنه كان في مجمع من الأصحاب فأخذوا يتساجلون أثناء بحثهم عن الحقيقة الإلهية، وهي كما قال محمد طه الحاجري، تلك الغائية الفاتنة (¬1). والمعروف أن التصوف لم يكن جديدا على الأمير، فقد ورثه عن الأسرة، وكانت طريقة والده هي القادرية، ولكنه اتصل بعد حجته الثانية بعدد من المتصوفين في الحجاز ومنهم الشيخ محمد الفاسي الذي أدخله الطريقة (النقشبندية؟). لقد كانت حجته (1863 - 1864) فرصة لتجديد العهد بأقطاب التصوف والعودة إلى ملكوته اللامتناهي. وقد اختار الأمير لمقامته اسم المعشوقة وهو يقصد بها الحقيقة. وجاء فيها (حضرت محاضرة من محاضرات الشرفا، ومسامرة من مسامرات الظرفا، في ناد من أندية العرفا، فجاؤوا في سمرهم بكل طرفة غريبة ومستظرفة عجيبة، وكان الحديث شجونا وألوانا وفنونا، إلى أن تكلم عريف الجماعة ومقدم أهل البراعة، فقال: أحدثكم بحديث هو أغرب من حديث عنقاء مغرب، فاشرأبوا لسماعه ومدوا أعناقهم، وفرغوا قلوبهم وحدقوا أحداقهم، فقال: إن في الوجود معشوقة غير مرموقة، الأهوية، إليها جانحة، والقلوب بحبها طافحة، والأبصار إلى رؤيتها طامحة، يطير الناس إليها كل ¬

_ (¬1) محمد طه الحاجري (جوانب من الحياة العقلية ...)، القاهرة، 1968، ص 61.

مطار، ويرتكبون الأخطار، ويستعذبون دونها الموت الأحمر، ويركبون لطلبها المكعب الأسمر (أي قناة الرمح)، ولا يصل إليها إلا الواحد بعد الواحد في الزمان المتباعد، فإذا قدر لأحد مشارفة حماها، ومقاربة مرماها، ألقت عليه اكتسترا لا له مادة ولا مادة، ولا هو عين ممتدة، فيحصل انقلاب عينه، وجميع الأعيان في عينه، إلى عين هذه المعشوقة، التي هي غير مرموقة، المعلومة المجهولة، المغمودة المسلولة، الباطنة الظاهرة، المستورة الساترة، الجامعة للتضاد ... ولا يقدر أن يعبر عنها بعبارة ... أكثر من قوله: وصلتها وحصلتها. وبعد التعب والعنا ... وجدت هذه المعشوقة (هي) أنا، ويتبين لي أنني الطالب والمطلوب والعاشق فما كان هجري للذاتي، إلا في طلب ذاتي ... ولا وصولي إلا إلي، ولا تفتيشي إلا علي، ولا كان سفري إلا مني في إلي) (¬1). 2 - ومن العائلات المهاجرة عائلة المبارك، هاجرت منذ بداية الاحتلال - الأربعينات - ومنها محمد المبارك بن محمد. وقد تميزت العائلة في بلاد الشام بإتقان اللغة العربية والتوسع في الأدب حتى أن هذه (الصنعة) قد توارثتها أجيالها، ولد محمد في بيروت سنة 1848 وعاش إلى أن توفي في دمشق سنة 1912. ثم واصل أبناؤه وأحفاده مسيرته. وقد درس على علماء جزائريين وشاميين، وتوظف في عدة وظائف، ومنها القضاء في أزمير، وأسس مدرسة النهضة العلمية، وترك مجموعة من الآثار الأدبية، منها رسالة في رثاء الأمير بعنوان (لوعة الضمار في رثاء الأمير عبد القادر) وهي مطبوعة، كما طبع أعمالا في شكل مقامات (حسب عناوينها)، منها (غريب الأنباء في مناظرة الأرض والسماء) و (غناء الهزار في محاورة الليل والنهار). والمناظرة والمحاورة فن آخر من أسلوب المقامة. أما أعمال محمد المبارك المخطوطة فمنها: (المقامة اللغزية والمقالة ¬

_ (¬1) كتاب (المواقف)، المجلد 1، ص 10 - 11. انظر أيضا بحث عبد الله ركيبي (فن المقامة في النثر الجزائري الحديث) في مجلة الأصالة، عدد 12، 1973، ص 33 - 35.

الأدبية)، و (المقامات العشر لطلاب العصر) و (أبهى مقامة في المفاخرة بين الغربة والإقامة). فإذا ثبت أن هذه كلها من نوع المقامات التي نحن بصددها، فإن محمد المبارك يكون من المكثرين من هذا النوع الأدبي (¬1). وقد توفر لمحمد المبارك في المشرق، مع الطباعة والجو الأدبي والجرائد، ما لم يتوفر لمواطنيه في الجزائر. وإذا أتيحت للأدباء الجزائريين الفرص والظروف المناسبة فإنهم يبدعون ويبزون غيرهم، كما حدث مع الشيخ طاهر الجزائري أيضا. 3 - وشبيه بالشيخ المبارك في الإكثار من المقامة، الشيخ الديسي (محمد بن عبد الرحمن). وقد عرفنا أنه كان ضريرا ومعلما في زاوية الهامل قرب بوسعادة وأنه كان متقنا للغة العربية رغم محاربتها من السلطات الفرنسية. وقد لاحظ الشيخ محمد بيرم الخامس أثناء زيارته للجزائر في آخر السبعينات من القرن الماضي أن العربية بقيت في النواحي الصحراوية النائية وبعض المراكز كالزوايا حيث يتغرب طلبتها في سبيل العلم ثم يرجعون لبثه بين المواطنين بطريقة التهريب تقريبا. ولا ندري إن كان الديسي قد تغرب في سبيل العلم ولكن عددا من زملائه قد فعلوا ذلك، ومنهم الشاعر عاشور الخنقي. والشيخ محمد بن بلقاسم مؤسس زاوية الهامل. وحفظت الأيام عددا من مقامات الديسي، منها واحدة مطبوعة بعنوان (المناظرة بين العلم والجهل) (¬2). وقد قال عنها صاحب تعريف الخلف أنه قد ¬

_ (¬1) عن محمد المبارك انظر سهيل الخالدي (المهاجرون الجزائريون) مخطوط. وقد ترجمت له عدة مراجع أخرى، منها (حلية البشر) و (أعيان دمشق) و (تعطير المشام) و (أعلام الفكر الإسلامي) و (منتخبات التواريخ)، وغيرها. انظر أيضا فصل المشارق والمغارب. (¬2) طبع تونس، دون تاريخ، وقد صدرت بأخطاء كثيرة، كما قيل في وقتها. انظر (تعريف الخلف)، 2/ 407 - 417. وقد درس عمر بن قينة حياة الديسي ونشر بحثه في كتاب اشتمل على التعريف به وبآثاره وعصره، تحت عنوان (الديسي)، الجزائر، 197.

ضمنها فوائد تاريخية ولطائف علمية وإشارات إلى حوادث عظمى تتميز بها الأجيال والممالك في الماضي والحاضر. ونفهم من ذلك أن المؤلف قد ساقها في مجال العبر والاتعاظ. وها هو الديسي يقول بنفسه (بعد حمد ملهم الصواب، وكاشف الأوصاب، والصلاة الكاملة، المتواصلة الشاملة، على سيدنا ومولانا محمد وآله وصحبه والفئة العالمة العاملة، فقد اقتضى الحال، أن يقع بين العلم والجهل مناظرة وجدال، فاجتمع قوم، وعينوا لذلك يوم. وقد شاخ وأسن، وأدركه الضعف والوهن، بادئ الإعواز، يتوكأ على عكاز ... وقال: يا جهل! ما أنت لخطابي بأهل ...) أما على لسان الجهل فقد قال مخاطبا: (يا قليل الجدوى، يا داعية الكبر والدعوى، أتفخر ببنيك الشعث الغبر، الذين ليس لهم، عند أهل الدنيا اعتبار ولا قدر ...) (¬1). وللديسي مقامات أخرى. 4 - وفي سنة 1913 نشر فرنسيان مستعربان كانا مهتمين بالأدب الجزائري، وهما ج. ديلفان، والجنرال فور بيقي مجموعة من المجالس الأدبية أطلق عليها صاحها (المقامات العوالية). والمؤلف هو محمد بن علي بن الطاهر الجباري، وهو من قبيلة الجبارة في ناحية سعيدة الآن. وكان الجباري قد سكن وهران، وقيل إن أصله من بطيوة، وربما درس في المدارس القرآنية وبعض الزوايا قبل أن يلتحق بمدرسة تلمسان الفرنسية الرسمية لتخريج القضاة. وقد حكى ديلفان أن الجباري قد وصل إلى رتبة عالية في ميدان القضاء. ولكن عصره كان عصر حرب شعواء ضد القضاة والقضاء الإسلامي. ويبدو أنه توفي مغموما محروما بعيدا عن أهله وبلدته، رغم أن ديلفان يقول إنه سعى في تبديله لدى السلطات ولكن دون جدوى. ولم يترجم المستعربان الفرنسيان نص مقامات الجباري إلا بعد وفاته بسنوات ¬

_ (¬1) تعريف الخلف، 2/ 415. انظر عنه أيضا فصل التعليم في الزوايا. أشار عبد الله ركيبي أن لعمر بريهمات مقامة كتبها بمناسبة حضوره مؤتمرا في باريس سنة 1897 وأنه قد نشرها في جريدة (المغرب) الجزائرية سنة 1903 (دون تحديد العدد). وهي فيما يبدو مقامة أدبية انطباعية. انظر عبد الله ركيي، الأصالة عدد 13، 1973.

طويلة. وقد وصفه ديلفان بالشرف والإخلاص. والجباري كان أديبا بطبعه، محبا للغة العربية، ينظم الشعر ويهوى التمثيل، ويعرف خبايا الناس في الوسط الديني الذي درس فيه والوسط الإداري الذي ارتبط به عمله غير المجدى، كما يقول ديلفان. كان الجباري حريصا على تأليف مقامات يحفظ بها اللغة العربية من الضياع، ولعله أحس بغريزته أن هذه اللغة كانت تتدهور وتتلاشى فكتب مقاماته مستوحيا الحريري والهمذاني، ثم قدم ذلك ديلفان تاريخا وأسلوبا ولغة وموضوعا. قال إن المؤلف (الجباري) قد عاش في وهران وسعيدة ومعسكر والدليمة التي سماها الفرنسيون سان لوسيان، وكان أصله من بطيوة (أرزيو). وما دام الجباري قد تنقل بين أماكن عديدة فمن الصعب، في نظر ديلفان، أن تكون المقامات بلهجة واحدة، فلا بد أن يكون قد تنقل من جامع إلى آخر، على عادة الطلبة القدماء، بحثا عن العلماء والمخطوطات والأوقاف. اعتمد الجباري في كتابة مجالسه التسعة عشر على الذاكرة، فكان محفوظه غزيرا. وكان يروي المغامرات المسلية، ويتداخل فيها. فمقاماته نوع من السيرة الذاتية له أيضا. لقد كتبها بأسلوب هزلي مفصل. واختار لها الكلمات المناسبة في الوقت الذي لا وجود فيه للمسرح عند الجزائريين. وقال ديلفان إن الجباري كان يقترب كثيرا من الفصحى ويستعير منها، وحذر من أن يظن المستعربون الفرنسيون أن في ذلك تعديا على اللغة الفصحى. وكان الجباري حريصا على اللغة والتراث، ولذلك كان يورد أيضا أبياتا شعرية على طريقة المقامات، لتمليح النص. وكان أحيانا يذكر شعرا ملحونا أو زجلا. وقد كان هو نفسه شاعرا (¬1). أخبر ديلفان أنه عندما كان يقيم في وهران وصل إلى يده مجلس من مجالس الجباري أو مقاماته. فنظر إلى أهمية ما جاء فيه من حيث لهجة المنطقة - وكان المستشرقون مهتمين بذلك - فبدأ مساعيه للحصول على كل ¬

_ (¬1) كتب الجباري شعرا تمثيليا وطبعه في وهران. انظر فصل الشعر.

المجالس التي سمع أنها بلغت تسعة عشر، كما ذكرنا. طلب ذلك من المؤلف نفسه، وكان صديقا له، ولكن الموت عاجله، فلم يتم تحرير كل المجالس. وأقر ديلفان أنه حصل على اثنى عشر مجلسا. بصعوبة ومثابرة. وحرصا على هذه المجالس قدمها للنشر بعد ترجمتها والتعليق عليها، وقد قال إن المؤلف لم يكن في نيته أن يرى عمله مطبوعا ذات يوم (¬1). اعتقد الجباري أنه من الأهمية وضع مدخل لمجالسه يطرح فيه نظريته في التغيير الذي أصاب اللغة العربية الفصحى في المغرب العربي من جراء تأثير البربرية، فما بالك بتأثير الفرنسية. ومما يذكر أنه أجرى الحديث على لسان بطل يسمى سي الحبيب بن عيسى العوالي، وهو أحد الجماعة في الدوار، وكان أيضا من الطلبة، قضى حوالي ثلاثين سنة من عمره في التعلم، لكنه بقي جاهلا ولم يكن يعرف سوى معلومات عامة، وكان لا يحسن حتى النطق بالإعراب والأدب في المجالس، ولم يكن هناك من يتعاطف مع هذا النوع من الطلبة. ولكن أهل الدوار احتفلوا به عند قدومه مع ذلك، لأن قدومه كان فقط فرصة لاستعادة الذكريات. وكان ابن عيسى العوالي بدينا بعد أن تقدمت به السن. ويبدو أن الجباري أراد المساهمة عندئذ في مهاجمة التعليم التقليدي - الزوايا والكتاتيب - لأنه تعليم في نظره عقيم، فالمرء يقضي سنوات طويلة ثم يخرج ولا يحفظ سوى القرآن عن ظهر قلب، ولا يحسن القراءة والكتابة والحساب، ولا يستطيع منافسة أنداده المتخرجين من المدارس الفرنسية رغم دراستهم القليلة. هذه الظاهرة النقدية انطلقت مع آخر القرن الماضي، وظهرت في عدة أعمال منها كتاب (أوضح الدلائل) لابن زكري وكتابات الزواوي. وعنوان المقامات الكامل هو (كتاب المقامات العوالية في أخبار ¬

_ (¬1) المدخل الذي كتبه ديلفان للمقامات أو المجالس يمتد من ص 285 إلى 292 في المجلة الآسيوية، 1913. وكم من مؤلفات وكتابات ضاعت باسم ذلك الشعور القاتل، وهو أن الكاتب الجزائري كان يعرف مسبقا أن جهده سيضيع لا محالة ولن يرى النور.

العلالية) على اللغة المغربية (المغرابية؟). وهذه هي الفاتحة: (يقول عبيد الله القاهر الباري، محمد بن علي بن الطاهر الجباري. الحمد لله الذي هدانا للهداية، وأرشدنا للاستقامة، وملك أعنتنا فقهر، وعفا عن عباده الصالحين وتجاوز عن سيئات من زاغ منهم وغفر ... أما بعد، فإني لما سيقت بي الأقدار بجولات الأماكن، جعلت استقراري بمدينة بلاد (سان لوسيان) (¬1)، فوجدتها ذات قيمة سنية، موجودة بوطن الظليمة فصرت كمن جلس بين فرشين وتوسد مخدتين، فشرعت أهوى الخلطة مع بعض من طلبة نجع الغرابة، وأتقلب طورا مع بعض من عرش الزمالة، وأخرى أحاكي بها الظهرة والغابة، وقد طال ما بحثت عن إفادة بعض العلوم، فلم أجد مرشدا عليه والى من إليه يقوم، حتى خلت أن شجرة العلم لم يغرس ببلادهم، ونبذة الأدب لم يزرع بترابهم ... فما لبثت على ذلك إلا قليلا ... إذ بي وجدت ابن عيسى العوالي يتقلب بالأوصاف والأحوالي، فمرة يحضر مع الطلبة والجنائز، وطورا يقصد خطبة العجائز، وتارة يميل إلى مجالس العلامة (العلماء؟)، وأخرى يحضر مع كبار الجماعة، وساعة يأتي راكبا مع الميعاد، ويتخالى مع الأمراء والقياد ... بيد أنه مع تقلب أوصافه أن مع عرب البربر قوالا. فرميت النظر عليه، وتسببت في الخلطة إليه ... ثم إني امتزجت معه كما يمتزج الماء باللبن، وانطلقت بدواخله كالحكة في الجبن ... فلما رأيت من ارتكام ظلمات الجهل، وانقطاع الأدب بهذه الواسطة على الأصل، تذكرت ما سمعت عن بعض الثقة والأمان ... أن رياسة الرجال الصناديد من بلاد الشرق لما وصلوا لهذه الأوطان، وأمروا بفتح تلك المدن، بتعريب (؟) أصحاب هذه البلدان، بعد معاركتهم ومحاربتهم إياهم، أن يدخلوا في الإسلام طوعا ومحبة لأعلاهم. (فلما عرفوا لذة لغتنا وفوائدها استعملوها، ومع أن كانوا يبعدونها من قواعدها وعن صافي أصلها واستأصلوها، فقد حصل لها بسبب إدخالها بعض ¬

_ (¬1) وهي الدليمة، كما ذكرنا سابقا، وقد كتبها (الظليمة). والغرابة والزمالة من قبائل الغرب الجزائري الشهيرة.

الألفاظ الملحونة، من لغاتهم المختلفة المثبونة، مثل الشلحة، والتمزيغية والتوارقية والوارقلية، اختلاف عجيب واتساع، ليس له يزيد الإشفاع، فبإضافة لغتهم إلى لغتنا لم يتركوا سائر ألفاظ اللسان المضبط، حتى صاروا العلماء لا يفهمون لها نمط مرتبط، لا سيما ناس الشرق الذين لم يسملوا (يصلوا) هنا، ولم يخالطوا المستعربة من أوطاننا، لأنهم لا يعثرون على هذه الألفاظ في سائر كتوبهم العظام). (ولا يخفى أنه في بلاد الغرب كثير من فصحاء الكلام، منهم المؤرخون، والمداحون، والراويون، والشيوخ أرباب التلحين والقوالون. وأنهم الآن ليست لهم شهرة عند العامة ولا عند ناس الشرق ولا المجانبة ... فلما رأيت خبو هذا المنهاج ... تضجرت وتأملت وتنمرت ... ثم إني اتبعت الفكرة الهامدة وامحنت (امتحت) القريحة الهانية (¬1)، وعزمت لإتيان مرامه، اثنتا عشر مقامة (¬2)، أتلو فيها جملة من الألفاظ المستعملة، في ناحية القبلة والظهرة، وفي نجوع التل والصحرة، عند ناس الديار وأهل الخيام، والبداوي والمدني والقرى والمقام ...). ثم أخذ يتحدث عن المشائخ والطلبة، وعن الفلاحين وفلاحتهم، والصناع وصنائعهم. وتتضمن المقامات أحاجي مغاربية وانظاما (أشعارا) ومواعظ ووقائع. وقد جعل كل ذلك في شكل إملاءات على لسان ابن عيسى العوالي، وأسند روايتها إلى محمد بن العربي. وكان هدفه خدمة اللغة العربية الفصحى وتطريب قارئها. وأخبر أنه ألفها على شكل المقامات، وأن سلفه في ذلك هو بديع الزمان والحريري، وأنه قصد بذلك تنشيط الطلبة وتسليتهم (¬3). ¬

_ (¬1) يبدو لنا أن الكلمات المكتوبة خطأ ترجع إلى سوء فهم ديلفان لتخريج النص أو الخطأ المطبعي وليس إلى المؤلف. (¬2) سبق أن ذكر ديلفان أن المؤلف خطط لكتابة تسع عشرة مقامة. (¬3) المجلة الآسيوية، مرجع سابق، ص 207 - 293. المقصود بالواسطة هي بلاد الجزائر، والظهرة منطقة شاسعة جنوب مستغانم. والصحرة هي الصحراء.

وإليك الآن عناوين المقامات الاثنى عشرة: فقد سمى الأولى المقامة الصحراوية وضمنها أخبار الشيخ ابن عيسى العوالي عندما كان سخارا وجوالا في الصحراء. وروى على لسان امحمد بن العربي قال (كنت في زمان سعيد الكوكب أنه سمع وهو تاجر في الصحراء بثورة بوعمامة وأنه (نافق - ثار- بأعلامه، وطاح على الطرافي بازدحامه، وأخذ أولاد إبراهيم وخوض الإمامة، فلما تحققنا بهذا العبث، وخشينا الهلاك في اللبث، فافترقت رفقتي قبل النفث، فمنهم من قصد المنقار الفوقاني، ومنهم من وعد المنقار التحتاني، ومنهم من توجه لأبي سمغون، ومنهم من بقي في العقلة (¬1) متأملا فيما يكون، فالتفت لما سمعت هذه البلية، ودخلت لبلاد المشرية، فانخزنت فيها كما يتخزن المخوف ...) (¬2). ونفهم من هذا أن الجباري قد عاصر ثورة بوعمامة وأنه كان ضدها، ولكنه أجرى الحديث على لسان الرواة حتى لا يعلن عن موقفه الصريح. والمقامة من هذه الناحية تضمنت فائدة تاريخية هامة، بالإضافة إلى فائدتها اللغوية والأدبية. أما المقامات الأخرى فنقتصر منها على العناوين، وهي أيضا تتضمن فوائد اجتماعية وتاريخية ذات بال: 1 - المقامة الكرموسية (الكرموس = التين)، وتتضمن أوهام ابن عيسى العوالي وطمعه وخلاف وعوده، ومدح التين بالشعر. 2 - المقامة الدوايرية (جمع دائرة، والدوائر عرش كبير معروف) وهي تتحدت عن رحلة ابن عيسى والدواير السبع وتذكره وتأسفه وفرحه وحزنه. 3 - المقامة التمتامية، في خبر ابن عيسى وابنه الجالس في حجره والخوف عليه من الموت وهو حي وفتنته مع جماعة. 4 - المقامة الزهوانية في سفرة ابن عيسى لوهران ومغامراته الغرامية ¬

_ (¬1) المنقار (الموقار) وأبو سمغون والعقلة والمشرية وغيرها هي أسماء أماكن صحراوية جرت فيها ثورة بوعمامة سنة 1881. (¬2) المجلة الآسيوية، مرجع سابق، ص 297.

ونظمه للشعر في وصف الحسن والجمال. 5 - المقامة الوعدانية (الوعدة = النذر) في أخبار ابن عيسى بوعدة الزمالة وصحبته للجمالة وتفسيره الأحاجي. 6 - المقامة الإخياطية، في ألفاظ ونكت خرجت، كما قال، من بطن ابن عيسى، وجوابه عن مكتوب المحبة. 7 - المقامة المعسكرية في تأملات ابن عيسى ودخوله حالة الحال الصوفي واستدارة حلقة الدراويش عليه وهو مغشى. 8 - المقامة العروسية في خبر ابن عيسى أنه كتب لأحد الطلبة رسالة بالواوية في شأن ابنة متعرض، أي الرجل المربوط في حالة تعرسه. 9 - المقامة الندرومية وفيها يخبر ابن عيسى أنه باع النقط (؟) في سوق ندرومة وما حدث له في تلمسان مع الشرطي. 10 - المقامة الكرصية الميدانية في خبر ابن عيسى بوهران وشأن رجل مات مصهودا في الحمام ومن الزهد في الميدان. 11 - المقامة الفوكية (فوكة قرب العاصمة على ساحل البحر) وهي في شأن المخاصمة التي حدثت هناك حول زردة الربيع وحكم ثبوتها وما جرى فيها (¬1). ورغم أن ديلفان قد قال إن مشروع المقامات كان يتضمن تسع عشرة مقامة فقد رأينا أن المؤلف نفسه تحدث في المقدمة عن اثنتى عشرة مقامة فقط. ولاحظ أن الأماكن التي روى فيها المؤلف عن ابن عيسى العوالي هي النواحي الغربية مثل وهران وندرومة ومعسكر وتلمسان والزمالة والدواير وغيرها. والمدينة الوسطية الواردة في النص هي (فوكة) التي تقع على ساحل البحر غربي العاصمة. ويبدو أن الشيخ الجباري كان قد توظف فيها قاضيا. ¬

_ (¬1) المجلة الآسيوية، مرجع سابق، 1914، ص 373. كلمة (الكرصية) لعلها من كلمة الكروسة التي تعني العربة التي تجرها الخيل في بعض اللهجات.

أدب العرائض والنداءات والنصائح

ونفهم من ديلفان أن الجباري مات في فوكة قبل أن يتمكن من الانتقال إلى وهران حيث كان يريد. وقد تكون المقامة الفوكية هي آخر مقاماته. ومن جهة أخرى نجد في النص تعاليق من قبل المؤلف نفسه، وهذه التعاليق جاءت حواشي في آخر معظم المقامات لتوضيح الألفاظ والعبارات الغامضة أو المحلية جدا. وقد قام ديلفان بترجمة تلك التعاليق أيضا. والخلاصة أن مقامات الجباري التي كتبت فيما يبدو آخر الثمانينات من القرن الماضي، تعتبر نصا أدبيا وتاريخيا مهما، وتمثل مرحلة في التطور اللغوي لدى بعض المثقفين الجزائريين الذين عاشوا بين مرحلتين وثقافتين. ومن يدري، لعل هناك مقامات أخرى محفوظة عند أصحابها أو عند ورثتهم، ألفها قضاة آخرون أو مثقفون من كل فئة. وإذا كان ديلفان وبيقي قد نشرا المقامات العوالية ضمن جهود المستشرقين الفرنسيين لتوفير النصوص (الأهلية)، مهما كان مستواها، فإن هناك مقامات أخرى ربما تنتظر من ينفض عنها الغبار ويخرجها إلى النور. أما المقامات المطبوعة فلا نعلم الآن غير ما ذكرنا. والشائع أن الإبراهيمي قد كتب بعض المقامات أثناء اعتقاله في آفلو (¬1). أدب العرائض والنداءات والنصائح هناك أنواع أخرى من الأدب استعمل فيها النثر الراقي والأسلوب الصافي واللغة الجيدة. ونعني بذلك أشكالا من التعبير الفردي أو الجماعي يتفنن فيها الكتاب بعض التفنن لكي تصل إلى السامع أو القارئ مؤثرة نافذة. ولا يمكن أن تصدر هذه الأشكال إلا عن كتاب مهرة وأدباء حذاق، فإذا صدرت عن غيرهم كانت ضعيفة باردة لا تؤثر وإن حصل بها المقصود من ¬

_ (¬1) انظر كتابات عبد المالك مرتاض عن الشيخ الإبراهيمي. وكانت جريدة الشعلة قد فتحت صدرها لنوع من المقامات ذات الموضوعات الاجتماعية والسياسية الساخرة. ولكنها كانت، حسب علمنا، باللغة الدارجة.

التبليغ ونعني بها، العرائض والنداءات السياسية والنصائح. وقد صدرت العرائض عن الجزائريين منذ بداية الاحتلال. وكانت عادة تصدر عن الفئات الاجتماعية التي أصابها الاحتلال في الصميم، فكانت تحاول توصيل شكواها ورغبتها في عريضة جماعية. ومن ذلك ما كتبه أهل مدينة الجزائر مفوضين لأحمد بوضربة والتحدث باسمهم لدى السلطات الفرنسية في فرنسا. وقد حررت إحداها من قبل بعض العلماء المعاصرين وغيرهم من الأعيان، وعليها توقيعات كثيرة (¬1). ويمكن الإشارة أيضا إلى (النداء) الذي كتبه جماعة من علماء العاصمة، وفيهم المفتيان والقاضيان المالكي والحنفي، وهو موجه إلى سكان متيجة بمناسبة خروج قائد الحملة الفرنسية إلى تلك الناحية. وهو نداء مكتوبة بأسلوب نظيف (¬2). وهناك عرائض أخرى صدرت عن أهل العاصمة أيضا في مختلف الأزمنة والأغراض، ولكنها كانت تضعف في صياغتها كلما تقدم الزمن لضعف العارفين باللغة العربية وهجرة أو موت القادرين عليها. كما صدرت عرائض عن أهالي البليدة وشرشال والمدية أيضا. وصدرت عرائض أخرى عن أعيان قسنطينة في عهد الحاج أحمد، ومنها ما وجهوه إلى السلطان محمود الثاني، وكان يمتاز بقوة البيان وجودة الصياغة ووضوح الحجة (¬3). ومن جهة أخرى صدرت أيضا شكاوى فردية وجهت إلى الفرنسيين من قياد ونحوهم من أعيان البلاد. وكانوا يسمون ذلك (شكاية). ورغم أن هذه (الشكايات) كثيرة فإننا لم نعثر منها على نصوص متميزة يمكن أن نتخذها نماذج في أدب الشكوى السياسية. لقد كان الشاكي يكتفي بعرض مشكلته في عبارات مباشرة ودارجة في أغلب الأحيان، وكان يعرف أنه ضعيف اللغة، ¬

_ (¬1) انظر العريضة في أرشيف فرنسا (أيكس)، وهي من القطع الكبير. (¬2) انظر عنه فصل السلك الديني والقضائي. (¬3) نشرت (مجلة التاريخ) التي كان يصدرها المركز الوطني للدراسات التاريخية نماذج من ذلك. انظر أيضا التميمي (بحوث ووثائق)، وبالخصوص عريضة 1871 إلى السلطان عبد العزيز.

وأن الشخص الموجه إليه الخطاب لا يقرأ العربية الأدبية، وأن هناك مترجما ستمر عليه الشكوى قبل أن تصل إلى هدفها، ولذلك لم يكن الكتاب من هذا النوع يتفننون في الأسلوب لعدم الفائدة من ورائه وعدم شعورهم بأنهم يؤثرون به على المخاطب. واستمر ذلك الموقف في العرائض الجماعية السياسية التي أخذت في الظهور بعد الثمانينات. فقد صدرت عدة عرائض عن أعيان قسنطينة وتلمسان كتبت أصلا بالعربية الضعيفة ثم ترجمت إلى الفرنسية وقدمت إلى السلطات الحاكمة (¬1). وبعد تقدم الزمن نحو بداية هذا القرن رأينا العرائض أصبحت تكتب بالفرنسية مباشرة، كما حدث سنة 1912 عند معارضة التجنيد الإجباري، وسنة 1919 عندما قدم الأمير خالد عرضته إلى مؤتمر الصلح بباريس حول تقرير المصير. ورغم أن جمعية العلماء قد قدمت مطالبها بالعربية سنة 1936، فإن مطالب المؤتمر الإسلامي قد رفعت إلى الحكومة بالفرنسية. كما حدث أيضا في بيان 1943، وبيان 1954. وكانت جمعية العلماء قد نشرت في صحفها عرائض عديدة بالعربية تحتج فيها على اضطهاد المعلمين واللغة العربية والمساجد. ومن ذلك أيضا ما نشره ابن باديس باسمه تحت عنوان (كتاب مفتوح) إلى النواب الأحرار وقدماء المحاربين والقضاة ومعلمي الفرنسية حول نفس الموضوع (¬2). ونقصد بالنداءات الخطاب المكتوب غير المباشر الذي يكتبه عالم أو سياسي أو أديب ويوجهه إلى الشعب عموما أو إلى قبيلة أو جماعة، طالبا في ندائه الانضمام إلى دعوته أو الانتماء إلى فكرته أو التأييد له. وقد كثرت النداءات في عهود المقاومة، مثل نداءات الجهاد الصادرة عن الأمير عبد القادر والشيخ الحداد والشيخ بوعمامة، ومثل دعوة ابن باديس لعقد المؤتمر ¬

_ (¬1) انظر الحركة الوطنية، ج 1. (¬2) انظر البصائر، 4 أبريل 1938، وكذلك عدد 13 مايو من نفس العام. بعد 1947 تلاحظ أن البصائر كانت حافلة بالعرائض والبيانات حول مواضيع عديدة، ومنها مسألة فلسطين، وفصل الدين عن الدولة.

الإسلامي، وتأييد الإبراهيمي للثورة سنة 1954. وقد اتخذت النداءات شكلا آخر بعد ظهور الأحزاب وخوض المعارك الانتخابية، فكان الزعماء يوجهون نداءاتهم إلى الناخبين كتابة ويعلنون عن برامجهم العملية. ولكن في معظم الأحيان كانت اللغة المستعملة في هذه الحالة هي الفرنسية أو الدارجة، وهي لا تعنينا هنا. ومن النداءات الهامة والتي تدخل في موضوعنا ما وجهه الأمير عبد القادر إلى أهالي فجيج سنة 1836 (1251 هـ). ولا شك أن الذي حرره هو أحد كتاب الأمير البلغاء. وقد جعله في شكل استصراخ ودعوة للجهاد والانضمام إلى صفوف المجاهدين. إن الأمير قد وجه كثيرا من هذه النداءات، ومنها ما كان فيه التحذير أيضا. ومن ذلك النداء الذي وجهه الأمير إلى أولاد سيدي الشيخ، وإلى الزواوة، وإلى الدوائر والزمالة، وإلى شيخ عين ماضي. ولك أن ترجع إلى ندائه الموجه إلى أهل فجيج (¬1). أما النداء الذي وجهه الإبراهيمي إلى الشعب الجزائري سنة 1954 فقد مثل أسلوبه المعروف. وإليك الفقرة الأولى منه، وكله في الواقع على نسق واحد: (أيها المسلمون الجزائريون ... حياكم الله وأحياكم، وأحيا بكم الجزائر. وجعل منكم نورا يمشي من بين يديها ومن خلفها. هذا هو الصوت الذي يسمع الآذان الصم، وهذا هو الدواء الذي يفتح العيون المغمضة، وهذه هي اللغة التي تنفذ معانيها إلى الأذهان البليدة، وهذا هو المنطق الذي يقوم القلوب الغلف، وهذا هو الشعاع الذي يخترق الحجب والأوهام. كان العالم يسمع ببلايا الاستعمار الفرنسي لدياركم، فيعجب كيف لم تثوروا، وكان يسمع أنينكم وتوجعكم منه، فيعجب كيف تؤثرون هذا الموت البطيء، على الموت العاجل المريح. . .) (¬2). ونقصد بالنصائح أو الوصايا النصوص النثرية الصادرة عن بعض العلماء ¬

_ (¬1) المجلة الإفريقية، 1913، ص 248 - 250. (¬2) محمد البشير الإبراهيمي (في قلب المعركة)، 1993، ص 15.

والمرابطين لإعلان موقفهم من حادثة من الحوادث أو التصريح بولائهم للسلطات الفرنسية، ونصح المواطنين بالبقاء في هدوء وولاء لفرنسا. لم يكن هؤلاء العلماء والمرابطون يتخذون مواقف جهادية أو نحوها، وإنما كانوا يلبون دعوة السلطات نفسها عندما طلبت منهم البرهنة على ولائهم وأن يدعوا أتباعهم وأنصارهم ليفعلوا مثلهم. وعلى هذا الأساس، قام بعض الموظفين الرسميين من رجال الدين أمثال المولود بن الموهوب وعبد الكريم باش تارزي، وبعض رجال التصوف وشيوخ الطرق أمثال شيخ زاوية الهامل وشيخ زاوية طولقة الرحمانيتين، وكذلك شيوخ الزوايا التجانية والقادرية والشاذلية والدرقاوية والطيبية، بإسداء النصائح إلى الأهالي سنة 1914. ولقد تحدثنا عن ذلك في غير هذا المكان، والذي يهمنا الآن هو فقط أسلوب الكتابة. حقيقة، أن اللغة التي كتبت بها النصائح (الوصايا) هي العربية الأدبية، وأن الذين حرروها يعتبرون من عدة وجوه ممثلين لبقايا اللغة العربية في البلاد. وكانوا من أبرز المثقفين بها ومن حماتها أيضا. ولكن هناك ما هو خارج عن طاقتهم. فتكوينهم ليس واحدا ومواهبهم على درجات متفاوتة وكذلك أقلامهم. وعند المطالعة المتأنية للنصائح يكاد المرء يجزم أن ممليها واحد. وهذا يدلنا على أن إدارة الشؤون الأهلية هي التي ربما حررت لهم نموذجا لا يخرجون عنه إلا قليلا وفي التفاصيل. فهناك تحفظ في التعابير عند الجميع واقتصاد في الألفاظ ومراعاة للمجاملات السياسية. ومع ذلك فإن الوصية (النصيحة) الصادرة عن المفتي ابن الموهوب وجماعة من أعيان قسنطينة، يمكن اتخاذها نموذجا من هذا الأدب: (يا مسلمين! لا يخفى عليكم أن أغراض أمبراطور الألمان القبيحة وسياسته العوجاء صيرت هذا العام، أنحس الأعوام، وأيامه أقبح الأيام. لم يخش هذا الأمبراطور رب الأرباب، الذي أهلك ويهلك من هو أقوى منه لأنه بيده الرقاب. لم يعجب هذا الأمبراطور طريق السلم المحبوب الذي كان قبل الحرب دعي إليه خصوصا من الدولة الفرنسوية، ولم يكن في قلب هذا الأمبراطور ولو قطرة من الرحمة، ولو كان ذلك فيه لأشفق على بني الإنسان

والإنسانية. لم يتصور هذا الأمبراطور، لتحيره قبل الحرب، ما ينشأ عن الحرب من المصائب وقتل البراء وسيل أودية من الدم وكثرة الخراب ...) وقد جاء في نهاية الوصية هذا الدعاء الملفت للنظر، وهو: (اللهم أعز فرنسا التي هي أمنا ونحن أبناؤها، إنك على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير) (¬1). أما من شيوخ الزوايا فهناك (وصية) الشيخ الذي قيل إنه مفتي المذهبين المالكي والحنفي بالجزائر العاصمة. ولا ندري الآن من هو، لأن الوثيقة لم تذكر اسمه. وبلغت الوثيقة ثلاث صفحات، وأسلوبها مشابه لما قبلها، ولكنه أكثر استعمالا للعبارات الأدبية. ومما جاء في أولها: (أما بعد، فإن شيطان الألمان، بما له من الزور والبهتان، قد وسوس الدولة العثمانية واستهواها، وأضلها وأغواها، وأصمها وأعماها، وخدعها بمكايده، وأوقعها في حبائله ومصايده، حتى مكرت مكرا كبارا. وأعلنت الحرب جهارا، على الدول العظام، فرنسا وروسيا وانكلترا، وبهذا الغرور قد جاءت شيئا فريا، وأضرت نفسها، وأهلكت جنسها، حيث لم تتأمل في المآل بل أسرعت، وعليه فلا تحصد إلا ما زرعت، وخصوصا إذ خالفت قوله تعالى: {وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا ...} (¬2). وبالطبع فإن عبارة (في سبيل الله) قد استعملت في غير محلها. وقد استمر رجال الدين الرسميين والزوايا على عهدهم بإعلان الولاء لفرنسا بالأسلوب السابق. ففي 1939 عشية الحرب العالمية الثانية بادر مؤتمرهم الذي عقد في أبريل إلى إعلان ثقتهم في فرنسا أيضا، بنصائح ونداءات أخرى مشابهة. وأدب التعازي أيضا برع في نثره بعض الكتاب، رغم أن المراثي ¬

_ (¬1) مجلة العالم الإسلامي، المجلد 29، ديسمبر، 1914، ص 4. الوصية فيها ثلاث صفحات، وخمسة عشر توقيعا، منها توقيع المفتيين المذكوريين ومحمد المصطفى بن باديس (والد الشيخ عبد الحميد) وبعض أفراد من عائلة الفكون، ومقدم الطريقة الشاذلية، إلخ. (¬2) مجلة العالم الإسلامي، المجلد 29، ديسمبر، 1914، ص 1.

ميدانها الشعر. ولدينا أمثلة من أدب التعازي من عهد الأمير إلى عهد الإبراهيمي. فعند وفاة الأمير أرسل محمد المبارك رسالة تعزية إلى محمد بن الأمير يعتبر أسلوبها من أجمل الأساليب الأدبية في وقتها، وقد جعل عنوانها (لوعة الضمائر ودمعة النواظر في رثاء الأمير عبد القادر). وقد تخللها الشعر أحيانا، من نظمه ومن حفظه، وختمها بقصيدة أشرنا إليها في فصل الشعر (¬1). بدأ محمد المبارك رسالة التعزية هكذا: (سبحان من تفرد بالبقاء، وكتب على ما سواه الفناء، وأنزل على إمام أهل العرفان، قوله تعالى: {كل من عليها فان} ... وبعد، فلما قضى القادر وحكم، بوفاة عبده السيد العلم، مولانا الأمير، والقطب الشهير، واسطة عقد السيادة، وعين ينبوع السعادة، سيدنا عبد القادر ابن سيدنا محيي الدين، عزيت بفقده شعائر الإسلام والدين، ولبس المجد ثياب الحداد، وصالت الخطوب بأسنة ألسنة حداد) (¬2). وفي سنة 1868 توفي أحد أعوان الأمير البارزين في الجزائر أيام حرب المقاومة، وهو الشيخ محمد بن الحاج حمود (¬3). فكتب الشيخ حسن بن بريهمات مقالة في التعزية فيه. وهي مقالة طويلة حلاها بالسجع ونمقها بالشعر، ونشرها في جريدة المبشر الرسمية، وهي تدل على قوة عارضة ابن بريهمات في الأدب أيضا، وقد كان بالمهنة فقيها ومديرا لمدرسة الجزائر الرسمية. وظهر عليه التأثر لفقد الشيخ حمو، لأنه عاصره ودرس على نفس المشائخ الذين درس عليهم. كما ظهرت عليه حالة التأثر من وضع الجزائر السياسي والاجتماعي، أي أثناء الجوائح التي أصابت البلاد عندئذ (1868 - 1867) فأكثر بريهمات من ذكر الفناء والموت في مقالته. وقد جاء فيها (نحمدك اللهم، يا من تقررت ذاتك العلية بالبقاء، واتصفت بالنزاهة ¬

_ (¬1) تحدثنا عن الرثاء في فصل الشعر، وعن حفلات التأبين في باب الخطب من هذا الفصل. (¬2) محمد بن الأمير (تحفة الزائر)، ط. 1، 2/ 264 - 269. (¬3) تحدثنا عنه في فصل السلك الديني والقضائي. انظر أيضا ترجمة حسن بن بريهمات في نفس الفصل.

والنقاء، وتحصنت باستمرار القدم، ولم يطرأ على وجودك الواجب عدم، أو يطرق ساحتك هم ألم، أو ضعف عرض أو ألم ... فسبحانه من إله قهر العباد بالموت، وجرعهم مرارة الفقد والفوت، وكتب عليهم الفناء، وأرصد لهم ملك الموت بالقنا، وعرضهم لسهام المنايا، وحكم فيهم سيف المحن والبلايا، فكل من عليها فان، ولا ينجو ملك ولا إنس ولا جان ... وبعد، فإنه لا شيء مما يحن (كذا) القلوب، ويكدر صفو العيش المحبوب، كفقد المصائب، وأفجع الدواهي والنوائب، إذ هم، كثرهم الله، لمن أراد الطيران أجنحة، ولمن حاول القتال أسلحة، ولا سيما العلماء الأعلام، ومصابيح الظلام، وأيمة الاقتداء، ونجوم الاهتداء، مثل مولانا سيدي محمد بن الحاج حمو، الذي ما قالت الأفاضل أين الفضل إلا قال هلموا ...) (¬1). وعند وفاة الشيخ محمد عبده (1905 تأخر علماء الجزائر وعزوا فيه رشيد رضا وأتباعه. وكان بعض هؤلاء قد أصبح من تلاميذ الشيخ عبده، قبل أن يروه في بلادهم سنة 1903. ومنذ زار الجزائر زادت الروابط الأدبية والعلمية بينهم وبينه. وقد عالجنا هذه النقطة في غير هذا (¬2). أما الآن فحسبنا ذكر التعزية التي أرسل بها أحد المتعلمين الجزائريين إلى الشيخ رشيد رضا، ومن خلاله إلى كل (إخوان المرحوم وأبنائه وأحبائه). ومن الأسف أن الشيخ رشيد رضا اختصر هذه التعزية وأن المعزي لم يذكر اسمه وإنما رمز إليه بحرفين (ع. ز.)، ولم نستطع الآن أن نتبين كل الاسم. وقد ذكر المعزي أنه حضر مجالس محمد عبده عند زيارة الجزائر وأن الله قد من (علينا رؤية حضرته الغراء، وطلعته الزهراء، وحاضرناه وشافهناه). ثم أخبر أنه سامره ونال منه علوما كثيرة خلال الأيام التي بقيها الشيخ في الجزائر. (وخاطبنا بخطاب أشهى من طعم الضرب، بأفصح كلام العرب ... وكشف لنا عن ¬

_ (¬1) من مقالة طويلة نقلها إلي إبراهيم الونيسي وقدمها إلي في 8 يناير، 1990، انظر المبشر 31 ديسمبر، 1868. ولعل كلمة (يحن) هي (يحزن). (¬2) انظر فصل الجزائر في المشارق والمغارب.

مؤلفات وشروح أدبية والتحقيق

دقائق المسائل، والناس حوله بين مصغ وسائل). وتحدث المعزي بعد ذلك عن وقع خبر الوفاة على نفوس الجزائريين، وحث على جمع آثار الشيخ وطبعها تعميما لفائدتها (¬1). ولقد كتبت بعد ذلك تعازي كثيرة بأقلام مختلفة. فكانت المبشر والأخبار وكوكب إفريقية والمغرب وغيرها من الصحف الرسمية وشبه الرسمية تنشر التعازي عن بعض الأعيان في كلمات مركزة وجافة، وتكاد تكون إدارية. وقد احتوت كوكب إفريقية والتقويم الجزائري على تعازي ذات مستوى أدبي إلى حد كبير، لأن الشيخ محمود كحول، مدير النشريتين، كان من أدباء الوقت. ولعل عمر بن قدور قد نشر في جريدته الفاروق بعض التعازي الأدبية. وتدخل الكلمة التي كتبها الشيخ محمد سعيد الزاهري عند وفاة محمد بن شنب في الباب الذي نحن بصدده، وقد نشرها في إحدى الجرائد المشرقية (¬2). واشتملت النجاح وجرائد أبي اليقظان على تعازي أدبية. كما أن البصائر الثانية قد تضمنت ساذج من التعازي الأدبية على يد الإبراهيمي وغيره، حول ابن باديس وبعض رجال المغرب والمشرق المرموقين. إن أدب التعازي ليس مجرد مقالة في جريدة، ولكنه كان يحتوي على عناصر هامة تشمل علاقات الحي والميت، واللغة والأسلوب، والظروف الاجتماعية والسياسية، وهو أدب جدير بدراسة منهجية مستقلة. مؤلفات وشروح أدبية والتحقيق ونريد أن نشير الآن إلى عنصرين آخرين من عناصر الأدب والنثر، الأول الشروح الأدبية، والثاني تحقيق المخطوطات. ونعني بالأول وضع شرح أو حاشية بقلم أحد الأدباء على عمله الشخصي أو على عمل غيره. وقد ¬

_ (¬1) رشيد رضا (تاريخ الأستاذ الإمام)، 3/ 296 - 298. (¬2) لعلها هي مجلة (المقتطف)؟.

أشرنا في الجزء الثاني إلى وجود العديد من هذه الشروح والحواشي في العهد العثماني. ولكن هذا النوع قد ضعف في عهد الاحتلال. فقد قلنا إن الثقافة العربية (الكلاسيكية) عموما قد ضعفت. وكان الشراح والمحشون عادة يلجأون إلى تلك الصنعة خدمة لتلاميذهم ونشرا للفائدة. ولكن المدارس التي كانت تستعمل تلك الشروح والحواشي قد اختفت تقريبا، ولم تبق إلا بعض الزوايا المهمشة. أما المدارس الرسمية فقد كان المستشرقون الفرنسيون يختارون لها بأنفسهم النماذج من الكتب العربية القديمة أو المطبوعة حديثا. ومع ذلك وجدنا بعض الشروح والحواشي سواء فيما كتبه المقيمون أو المهاجرون. ومن المهاجرين نذكر أبا حامد المشرفي الذي كتب وهو في المغرب (شرح الشمقمقية) لابن الونان. وقد سمى شرحه (فتح المنان في شرح قصيدة ابن الونان). وهي من عيون الشعر والأدب، وفيها مواعظ وحكم وأخبار ونسب. وللمشرفي شرح آخر على قصيدة يبدو أنها في التصوف، وسمى هذ الشرح (الفتح والتيسير). وقد تأثر شرح المولود الزريبي لمتن ابن عاشر بالأسلوب الأدبي، رغم أن المتن في حد ذاته في العقائد. ولكن أسلوب عبد القادر المجاوي في (اللمع في نظم البدع) وبعض شروحه الأخرى أسلوب (علمي)، فهو عالم ومدرس أكثر منه أديب. وكان الديسي من الأدباء والشعراء ولكن شرحه على العقيدة التي وضعها القاضي شعيب قد غلب عليه الأسلوب الديني. وكذلك غلب الأسلوب الديني على شرح إبراهيم بن عامر (العوامر) السوفي على المولود بن الموهوب. ومهما كان الأمر فإن الشروح الأدبية ظلت متوفرة ولكنها قليلة (¬1). على أن الأدباء المعروفين كالإبراهيمي وعاشور الخنقي لم يساهموا فيها. كما كان يفعل كبار الأدباء في العهد العثماني. وفي نطاق الشروح أيضا ذكر المترجمون أن أبا القاسم البزاغتي له ¬

_ (¬1) نعرف أن الشيخ محمد الطاهر التليلي قد وضع عدة شروح على أعمال قديمة، كالسمرقندية، وهو عالم وأديب.

(شرح على ملحة الإعراب للحريري) (¬1). ولا ندري إن كان الشرح محفوظا عند العائلة أو ضاع. فقد تولى البزاغتي القضاء، وكذلك ابنه من بعده. وكان لهما اهتمام بالأدب واللغة. ومن مؤلفات الحاج الداودي (ت. 1854) حاشية في البلاغة أيضا عنوانه (فك العاني من ربقة المغاني). والظاهر أنه ما يزال مخطوطا. ولعبد الله حشلاف كتاب بعنوان (الروض المغرب في معرض المغرب) قد يكون في الأدب أيضا (¬2). وقد اطلعنا في مكتبة تونس على كتاب أدبي في أسلوب طيب من تأليف المكي بن علي بن أحمد الفكون، وأخذت معلومات ضرورية في وصفه، ولكن البطاقات كانت في جملة ما ضاع مني سنة 1988، ولم استدركها. وكل ما أذكره أنه كتاب في النقد والبلاغة، وأن مؤلفه كان من أهل قسنطينة (عائلة الفكون) أوائل هذا القرن. وفي سنة 1879 نشر بلقاسم بن سديرة كتابا صنفه المحققون في باب البلاغة وهو (التحفة السنية في النوادر العربية). كما نشر آخر في نفس المعنى في اللغة الزواوية، أي حكايات ونوادر، سنة 1887. وله كتب أخرى (¬3). ولا شك أن الكتب الأدبية لا تقتصر على ما ذكرنا. فرمضان حمود مثلا ترك كتابا بعنوان (بذور الحياة) وصفه دارسوه بأنه شحنة من عاطفته الجياشة (¬4). ومما ترك الشيخ الإبراهيمي تأليف في الأمثال العربية عنوانه (ما أخلت به كتب الأمثال من الأمثال السائرة). وترك المهاجرون أيضا مؤلفات في الأدب واللغة. وأشهرهم في ذلك الشيخ طاهر الجزائري، ومحمد المبارك. ونكتفي بالتنويه بهما لكثرة ¬

_ (¬1) تعريف الخلف 2/ 33. (¬2) ذكره له عبد الباقي مفتاح في (أضواء)، وهو مخطوط. ولم يذكر موضوع (الروض المغرب). (¬3) سركيس (معجم المطبوعات العربية)، 1/ 341 - 342 وكل كتب ابن سديرة مطبوعة في الجزائر. وقد ذكر له سركيس سبعة كتب أدبية ومعجمية. (¬4) ترك رمضان حمود أيضا (الفتى)، وهي قصة طبعت في تونس، 1929، عن حياة هذا الشاعر الشاب انظر محمد ناصر (رمضان حمود)، ط. الجزائر، 1985.

إنتاجهما في الموضوع ولا سيما الأول. وكان محمد بن الأمير عبد القادر من الأدباء واللغويين أيضا. وكاد كتابه (تحفة الزائر) يدخل في موضوع الأدب لأسلوبه، ولا سيما النسخة المخطوطة التي عثرنا عليها والتي يغلب على الظن أنها الأصلية. ويعنينا هنا بعض مؤلفاته الأخرى. فقد أشار فى رسالته (كشف النقاب) إلى أن له كتابا عنوانه (بلوغ المرام في شؤون العرب قبل الإسلام). ويبدو أنه كتاب في التاريخ، ولكن محتواه يدل على أنه في الأدب بالمعنى العام والقديم، فقد قال إنه تحدث فيه عن عادات وتقاليد العرب في الجاهلية، كالاحتجاب والسفور عند المصيبة، وفي معاني الألفاظ كالنصيف والخدر، الخ. وأثناء حياته نشر (سنة 1908) محمد بن الأمير كتابا في الأدب أيضا عنوانه (نخبة عقد الأجياد في الصافنات الجياد) (¬1)، وهو كتاب في الخيل وما جاء فيها. وكان المؤلف قد جمع مادة غزيرة في كتاب عن الخيل العراب سماه (عقد الأجياد في الصافنات الجياد)، ثم بدا له أن يلخصه في الكتاب الأول (نخبة عقد الأجياد) (¬2). ... وقد عني بعض الجزائيين بنشر التراث وتحقيق بعض المخطوطات، أبرزهم في التحقيق محمد بن أبي شنب (انظر لاحقا)، وأبرز من استفاد من كتب التراث، هو أبو القاسم بن الشيخ صاحب تعريف الخلف، وسندرس كتابه في فصل التاريخ والتراجم. وحاول جزائريون آخرون أن ينشروا التراث ويحققوا المخطوطات مستقلين أو بالتعاون مع بعض المستشرقين (¬3). فقد قام ¬

_ (¬1) ط. 1 1908/ 1326. وقد انتهى منه سنة 1323. ط. 2 دار الفكر بدمشق 1985/ 1405 على نفقة أحد أمراء الخليج. ولا نعلم إن كان الأصل (عقد الجياد) مطبوعا أيضا في حياة المؤلف أم لا؛ وقد توفي محمد بن الأمير عبد القادر سنة 1913. (¬2) عن هذا الموضوع انظر فصل العلوم الاجتماعية. (¬3) انظر نماذج عن ذلك في مجلة العالم الإسلامي، أبريل 1907، ص 262 - 263. =

محمد بن أبي شنب

محمد بن مصطفى خوجة بتحقيق تفسير الثعالبي المعروف (بالجواهر الحسان) وأشرف غيره (وربما هو عبد الرزاق الأشرف) على طبع (كشف الرموز في بيان الأعشاب) لابن حمادوش (¬1)، ونشر آخر (بستان الأزهار) للقلعي. وتعاون نور الدين عبد القادر مع المستشرق جاهيير على نشر (روضة السلوان) في الصيد. كما أن نور الدين أشرف بنفسه على تحقيق ونشر عملين على الأقل، الأول هو (غزوات عروج وخير الدين) (¬2)، والثاني هو تاريخ حاضرة قسنطينة لأحمد بن المبارك (¬3). وقد ذكرنا في فصل آخر نماذج لهذا (التعاون) مثل مشاركة ألفريد بيل مع الغوثي بوعلي في إصدار بغية الرواد. ولا شك أن هناك تحقيقات فردية أو بالاشتراك لم نشر إليها. كما أن بعض المهاجرين، أمثال الشيخ طاهر الجزائري، قد ساهموا في نشر التراث العربي على العموم. محمد بن أبي شنب وهنا نصل إلى الحديث عن محمد بن أبي شنب الذي نشر عددا من المخطوطات محققة، وشرح أيضا بعض الأعمال الأدبية مثل مثلثات نظم قطرب. وقد وضع كتابا في العروض سماه تحفة الأدب في ميزان أشعار العرب. وكانت له مراسلات مع علماء وأدباء العصر مثل محمد كرد علي. وقد تميز عن معاصريه باهتمامه بالتحقيق. وكان قد تأثر كثيرا بأسلوب المستشرقين وشاركهم في أبحاثهم ومؤتمراتهم، وقام بالتدريس معهم في ¬

_ = وكان فور بيقي ولوسياني قد نشرا أعمالا في التراث استعانا فيها ببعض الجزائريين، وعن العلاقة بين الجزائريين والمستشرقين انظر فصل الاستشراق، والترجمة. (¬1) هذا الكتاب نشرته دار لبنانية (بيروت، 1996) قالت عن نفسها إنها (علمية)، ومع ذلك فإنها لم تذكر من أشرف على طبع الكتاب من جديد، ولا كيف طبعت النسخة الجزائرية. والعجب أنها كتبت داخل الكتاب العبارات المعروفة بأن حقوق الطبع محفوظة وأنه لا يجوز كذا وكذا. فأين العلمية وأين الأمانة؟. (¬2) ط. في مصر، سنة 1934. (¬3) انظر عن ابن المبارك (العطار) وكتابه فصل التاريخ.

كلية الآداب ومدرسة قسنطينة (الكتانية) ومدرسة الجزائر (الثعالبية). كما أنه درس دراسة أكاديمية منظمة إلى أن نال شهادة الدكتوراه. وبهذه الصفة التحق بركب الباحثين وخرج من قافلة الأدباء. ومع ذلك قدم ابن شنب مساهمة عظيمة في خدمة التراث الجزائري والإسلامي عموما. فقد استعمل علمه وقدرته في البحث لتسليط الضوء على آثار الماضين، من الجزائريين والعرب والمسلمين. بدأ حياته بنشر مقالات ودراسات في المجلات حول الشؤون الاجتماعية كالفكلور والمرأة المسلمة وبعض النصوص الشعبية والرحلات والكلمات الدارجة. ومنذ عودته إلى العاصمة من قسنطينة بدأ مشروعا ضخما صادف أن كانت حكومة جونار مقبلة ومشجعة عليه، وهو تحقيق المخطوطات ونشر التراجم. وكان المستشرقون يفعلون ذلك منذ آخر القرن الماضي، ولكن تحت غطاء الحكومة وتمويلها. وكان حظ أبي القاسم بن الشيخ هو إعداد موسوعة الاعلام الجزائريين، وهي (تعريف الخلف برجال السلف). أما حظ ابن شنب فكان تحقيق جملة من الكتب تطول قائمتها لو ذكرناها جميعا. ومنها نبذة من رحلة ابن عمار، ورحلة الورتلاني، والبستان لابن مريم وعنوان الدراية للغبريني (¬1). وطريقة التحقيق عنده هي مقابلة أكثر من نسخة، ووضع مقدمة قصيرة في وصف طريقة التحقيق - دون ترجمة المؤلف وعصره ونحو ذلك -. وأهم جهد كان ابن شنب يقوم به في التحقيق هو وضع الفهارس، فهارس الأعلام والأماكن والكتب والموضوعات والشعر وغير ذلك. وهنا تظهر مهارته وطريقته ومساهمته. وكأن ابن شنب كان على ¬

_ (¬1) حقق أيضا مؤلفات حول المغرب العربي والأندلس والأدب العربي عموما، واللغة العربية والفارسية والتركية. من ذلك الممتع في شرح المقنع للسوسي، وتحبير الموشين للفيروزآبادي، وطبقات علماء إفريقية، والفارسية لابن القنفذ، والذخيرة السنية في تاريخ الدولة المرينية. انظر حياته في كتب التراجم مثل الأعلام للزركلي ومعجم أعلام الجزائر نويهض. وقد كتبنا عن حياته في (تجارب في الأدب والرحلة). كما قدمنا الطبعة الجديدة من (تحفة الأدب) في العروض.

عجل، فهو لا يهتم بالتنميق ولا بالتطويل، وإنما كان يقتصر في الأسلوب على ما قل ودل. ولذلك قلنا إن أسلوبه أقرب إلى الأسلوب العلمي منه إلى الأسلوب الأدبي. وحياة ابن شنب معروفة إلى حد كبير ولكنها غير مرتبطة عند من ترجموا له بحوادث الزمان وظروف العمل والمحيط. أخذ معظم الذين ترجموا له من سيرته الذاتية التي كتبها بنفسه لعضوية مجمع اللغة العربية (المجمع العلمي العربي) في سورية. ولم يرجعوا حتى لكلمات التأبين التي كتبها في حقه بعض الفرنسيين أمثال ألفريد بيل. أما نحن فقد تناولناه من خلال حيان في الجزائر مع الاستعانة بكتاباته عن نفسه. ولد ابن شنب في المدية على قمة الأطلس، وحفظ بعض القرآن، فانطبع في نفسه وحفظ قلمه ولسانه من العجمة. ثم تفرغ للمدرسة الفرنسية بالمدية نفسها، ومنها انتقل إلى المدرسة النورمالية - ترشيح المعلمين - في بوزريعة بالعاصمة حيث أنشأ الفرنسيون قسما، خاصا بالأهالي تمشيا مع مبدأ العنصرية الذي طبقوه في كل المجالات. وقد لاحظ ابن شنب ذلك التمييز منذ دراسته في المدية ولكنه عاشه أكثر من ذلك في بوزريعة. وبعد عام أجيز ابن شنب للتعليم في المدارس الابتدائية الفرنسية - الأهلية. ولا ندري إن كان قد علم في هذا المستوى أو تفرغ للدراسة في مدرسة الآداب العليا حيث كان المستشرق رينيه باصيه وجماعته (¬1). والذي نعرفه أنه حصل على الليسانس في الآداب من هذه المدرسة. ومنها تعين في قسنطينة - المدرسة الكتانية - لتدريس النحو والصرف والعروض والأدب، مكان الشيخ المجاوي الذي استدعى إلى مدرسة الجزائر الرسمية - الثعالبية - سنة 1898. وقد بقي ابن شنب في قسنطينة حوالي ثلاث سنوات، ففي 1901 رجع إلى العاصمة وأصبح من مدرسي مدرستها إلى جانب المجاوي وابن سماية وابن زكري. وبعد حوالى ¬

_ (¬1) من قوانين مدرسة (النورمال) أن التلميذ - المعلم يتعهد بالتعليم مدة معينة بد التخرج، فهل علم ابن شنب بعد تخرجه أو دفع ثمن الدراسة؟ أو احتاجته مدرسة الآداب؟.

أربع عشرة سنة أصبح من مدرسي القسم العالي بها، وهو القسم الذي استحدث سنة 1895. وظلت المواد التي يدرسها هي اللغة والأدب والمنطق. وقد انعكس ذلك على نوع التأليف التي صدرت عنه أو التي حققها خلال هذه الفترة. فقد ألف في الأدب والعروض والمنطق كما ذكرنا، وظهرت علاقته بالاستشراق في مؤلفاته وبحوثه، وفي تحقيقه للنصوص والتعريف بالإجازات والتراجم، وقد شارك سنة 1905 مشاركة بارزة في مؤتمر المستشرقين 14 بالعاصمة حيث قدم بحثين، وقام بكتابة تقرير عن قسم اللغات الشرقية في المؤتمر، نشر في المجلة الإفريقية. وكان عندئذ في منتصف عقد الثلاثين. وكان طموحا في مجال العلم متمكنا من اللغات الشرقية والأروبية (سيما الفرنسية)، فكان لا ينفك عن البحث والتحقيق إلى أن حصل سنة 1922 على الدكتوراه في الأدب عن أبي دلامة من كلية الآداب (المدرسة العليا سابقا)، وكان بحثه الثاني للدكتوراه عن الألفاظ الفارسية والتركية في لهجة العاصمة. وشهدت سنة 1924 وفاة شيخه باصيه، عميد كلية الآداب، وتعيينه هو أستاذا بهذه الكلية، ولكن بصفته أهليا (أندجين) إذ كانت العنصرية الفرنسية تمنعه من أن يكون أستاذا كامل الحقوق. في الوقت الذي كان فيه ابن شنب يتكون علميا كانت الجزائر كلها تمر بمرحلة انتقالية هامة. فإذا طرحنا سنوات طفولته في المدية - السبعينات - وجدنا العقود التالية كلها متميزة بأحداث كان لها أثر كبير على جيله. وقد ظهر ذلك في فشل الثورات، وارتماء العامة في حضن التصوف، وفتح الفرنسيين بعض المدارس (الأهلية) بما فيها قسم بمدرسة بوزريعة خاصا بتكوين المعلمين الجزائريين. وحلت بالجزائر لجنة التحقيق الفرنسية الشهيرة سنة 1892، وأعيد النظر في برنامج المدارس الرسمية الثلاث الخاصة بتخريج القضاة والمدرسين والأيمة. وراجع الفرنسيون سياستهم عن العالم الإسلامي والدولة العثمانية، وتركزت أطماعهم على المغرب الأقصى وإفريقية، وكان كل ذلك قد وقع خلال عهدي جول كامبون وشارل جونار.

وفي أوائل هذا القرن حدثت أحداث أخرى هامة، مثل التجنيد الإجباري وظهور الجرائد والنوادي والجمعيات وتأليف الوفود، واحتلال ليبيا والمغرب وزيارة الشيخ عبده. فأين كان ابن شنب من كل ذلك؟ الواقع أننا لا نعرف له أي نشاط ظاهري خارج التعليم والتأليف في هذه الأثناء، وحتى إرساله إلى المغرب في مهمة خاصة تحدث عنه ألفريد بيل، ولا نعرف متى وقع ذلك بالضبط ولا تحديد المهمة. كما أن الحرب قد غيرت موازين عديدة في داخل البلاد وخارجها، وكان من أثرها ظهور حركة الأمير خالد السياسية. وحركة ابن باديس الإصلاحية. ومع ذلك فإن اسم ابن شنب كان غير معروف لا في هذه ولا تلك. وعند وفاة ابن شنب سنة 1929 شاه الرأي العام الجزائري والفرنسي. وكتب عنه الجزائريون والفرنسيون. فقد مشى في جنازته (النصارى والمسلمون) على حد تعبير هنري ماسيه. ومن النصارى مارتينو، عميد كلية الآداب، الذي خلف باصيه في هذه الوظيفة. وفي خطبة التأبين قال عنه مارتينو إن ابن شنب كان (صورة للأديب المسلم الذي عرف كيف يطلع على الأساليب الأروبية في العمل بدون أن ققد شيئا من صفاته وعاداته، وإن أستاذه باصيه هو الذي كان يتولى هدايته في العمل. وأن ابن شنب قد عرف لوازم النقد العلمي). وكذلك ابنه ألفريد بيل الذي كان له فيه رأي شبيه برأي مارتينو، غير أنه خالفه في أمور أساسية ومنها التركيز على ولاء ابن شنب لفرنسا وتصنعه في الاحتفاظ باللباس العربي. أما هنري ماسيه فقد قال إن ابن شنب كان مثال (التآلف) الفرنسي - الإسلامي في الجزائر وتنبأ بأن أحد المؤلفين سيكتب كتابا يجعل فيه ابن شنب رمزا لهذا التآلف والانسجام. وقد نوه الجزائريون المعاصرون بابن شنب أيضا ونظروا إليه نظرة المعجب المفتخر، لأنه تمكن من العلم وحافظ على هندامه الوطني ووصل إلى أعلى درجات الوظيفة الأكاديمية، ونشر كتب التراث مع تواضع ووقار، وانتخب لعضوية المجامع العلمية. وشارك في ذلك التنويه محمد السعيد

الأدب باللغة الفرنسية

الزاهري والبشير الإبراهيمي وأحمد توفيق المدني وآخرون (¬1). وهكذا احتل ابن شنب مكانا مرموقا في حياة الأدب واللغة والتراث. وستبقى للأجيال اللاحقة كلمة أخرى فيه. الأدب باللغة الفرنسية دراسة هذا الأدب غير داخلة في مخطط الكتاب، وإنما نتعرض له باعتباره جزءا من التراث الجزائري خلال مرحلة معينة وشاذة، وكنا تعرضنا قبل هذا إلى بعض آثار المستشرقين الفرنسيين. إننا هنا نسجل ما حدث لجيل من الجزائريين وقع فريسة للمدرسة الاستعمارية فحولته من تراثه إلى تراثها ونقلته من عالمه إلى عالمها. وهو جيل لعب مع ذلك، دورا في الثقافة والسياسة ونحوهما، وها هو الآن ينقرض لتعود الأمور إلى نصابها وتتصل حلقة الأجيال ببعضها وتنطلق الوحدة الثقافية بين الجزائريين، وهي الشرط الأساسي للإبداع الوطني. ومراحل التأثر باللغة الفرنسية ثلاث على الأقل، من 1830 إلى 1880، ولا نكاد نجد فيها تأثيرا فى ميدان الكتابة، لا فى المقالة ولا فى الرواية ولا في غيرها. وخلالها وقع انفصام بين الشعبين وإهمال للمدرسة والتعليم. ولا نكاد نجد اسما جزائريا كتب أو ألف عملا بالفرنسية خلال هذه المرحلة. وما وجد من بعض الآثار كان مترجما من العربية مثل كتاب المرآة لحمدان خوجة، ومذكرات بوضربة والحاج أحمد وعبد العزيز الحداد. وهكذا مرت خمسون سنة على الجزائريين هي سنوات التجهيل بالعربية والفرنسية معا. والمرحلة الثانية تمتد من 1880 إلى 1920، وقد شهدت ظهور كتاب ¬

_ (¬1) بالإضافة إلى ما ذكرنا، انظر عن ابن شنب (مجلة المجمع العلمي)، دمشق، المجلد 10، 1930، ص 238 - 240. انظر أيضا (ذكرى الدكتور ابن شنب) لعبد الرحمن الجيلالي، ط. 2، 1980؟.

المقالات والعرائض والكتيبات وحتى بعض الكتب والدراسات، ولكن لم تعرف الإنتاج الأدبي أو الإبداعي باللغة الفرنسية. ويرجع ظهور بعض الكتاب إلى فتح المعهد الإمبريالي (المدرسة السلطانية) سنة 1857 في العاصمة و 1867 في قسنطينة، ثم البدء في تأسيس المدارس الأهلية الابتدائية في بعض المناطق، سيما في الزواوة، وظهور الفرع الأهلي لمدرسة المعلمين ببوزريعة، وفرنسة المدارس الثلاث الرسمية (العاصمة وتلمسان وقسنطينة) منذ 1876 وخصوصا منذ 1895. وكان التعليم كاد يقتصر على أبناء العسكريين الجزائريين المتطوعيين في الجيش الفرنسي وأبناء بعض الموظفين. فهم الذين استقبلت منهم المدرسة السلطانية، وخصصت لهم المنح، أما بعد الثمانينات فقد بدأت (المدرسة الأهلية) تخرج بعض المعلمين من غير أبناء العسكريين وأبناء الموظفين، غير أن بعض الخريجين الجدد كانوا من الأبناء الذين تكونوا على يد الآباء البيض في المدارس الكنسية التي أسسها الكاردينال لافيجري. ومهما كان الأمر فقد شهدت المرحلة ظهور الكتابات الجزائرية باللغة الفرنسية، ولا سيما المقالة والدراسة على يدي أحمد بن بريهمات، والمجوب بن قلفاط، والطيب مرسلي، ومحمد بن رحال، وابن علي فخار، وأبو بكر عبد السلام، وإسماعيل حامد. والمرحلة الثالثة من 1920 إلى 1950، وخلالها انتشر التعليم الفرنسي والعربي، وأصبح غير مقتصر على أبناء فئة معينة في غالب الأحيان. وأدى التطور السياسي إلى ظهور الأحزاب والجمعيات، وظهور الصحف الناطقة باسم هذا الاتجاه أو ذاك. ولكن أغلب الأسماء التي شاركت في الكتابة بالفرنسية خلال هذه المرحلة ترجع إلى أسماء العائلات التي كانت في الوظيف القيادي من قبل، أو في التعليم، وكانت الصحافة هي المجال الذي شارك فيه الكتاب (¬1). ومن هؤلاء فرحات عباس والزناتي والفاسي بين ¬

_ (¬1) هي العائلات التي سماها قوفيون (أعيان المغاربة) والتي ألف كتابه المشهور للتعريف بها ودورها في خدمة فرنسا.

الحربين، ثم مالك بن نبي وعبد الرحمن بن الحفاف وعمار أوزقان بعد الحرب الثانية. وفي هذه المرحلة ظهرت المحاولات الأدبية أيضا لأول مرة، ربما بدأها بعض أبناء العسكريين أو بعض العسكريين أنفسهم، ثم أخذت تنتشر، فوجدنا روايات وأشعارا قد ظهرت بين الحربين، ثم انطلقت الرواية بالفرنسية على يد جيل من الكتاب منذ مطلع الخمسينات. والأدباء الذين ظهروا بين الحربين هم: محمد ولد الشيخ، وابن الشريف، وحسن خوجة شكري، والحاج حمو المعروف بعبد القادر فكري. أما الجيل الذي انطلق بالرواية منذ مطلع الخمسينات فلا يعنينا هنا. وقد درست آثاره وما تزال، وحظي باهتمام خلال حرب التحرير في الشرق والغرب. وكان على رأسه: محمد ديب، وكاتب ياسين ومالك حداد ومولود فرعون ومولود معمري. ومن الممكن أن نضيف إليهم، في غير مجال الرواية، مالك بن نبي ومصطفى الأشرف (¬1). ... وبعد هذا التمهيد نقول إن المجال الأدبي قد احتكره الفرنسيون منذ الاحتلال. فأدباؤهم وفنانوهم قد (اكتشفوا) الجزائر، ووردوا عليها بطريقة حرة أو منظمة، فقد كانت وزارة الحربية ترسل أعيان الأدباء والفنانين الفرنسيين للاطلاع والكتابة عن مشاهداتهم لتغري بها الرأي العام والراغبين في إستيطان الجزائر، وقد كان ذلك هو حال الإسكندر دوماس وارنست فيدو Feydeau مثلا. ومهما كان الأمر، فقد شاعت صناعة نشر أدلاء السياحة منذ 1830 (les guides). فكان الراغب في السفر يجد في الدليل وصف المدن الجزائرية (¬2) والجبال والطرق والسكان ووسائل الإقامة والمفردات اللغوية. ¬

_ (¬1) كتب مالك بن نبي (لبيك)، وهي رواية أدبية 1947. وكتب الأشرف مسرحية سياسية، سنة 1955، بعنوان (الباب الأخير)، وقد تناولناها في كتابنا (دراسات في الأدب ...) ط. 3. (¬2) كتب مالك بن نبي (لبيك)، وهي رواية أدبية 1947. وكتب الأشرف مسرحية =

وهكذا ظهرت أعداد متوالية من الأدلاء، مثل دليل فرنسي الجزائر، والخلاصة الطوبوغرافية لمملكة الجزائر، وخريطة مملكة الجزائر، ودليل المسافر إلى الجزائر، والدليل التاريخي والوصفي للجزائر، والدليل الشعبي الذي ظل يطبع على التوالي بين 1862? 1893. وإذا رجع المسافرون إلى فرنسا نشروا أعمالهم عن الجزائر، فأثرت المكتبات وأقبل القراء على القراءة. وهكذا ظهرت مؤلفات في شكل مشاهدات وذكريات ومراسلات. وكانت المبالغة طابع هذه الأعمال. وكان مؤلفوها عسكريين أحيانا وموظفين مدنيين أحيانا، حلوا بالجزائر في مهمات خاصة أو رسمية. ومعظم الكتابات على هذا العهد كانت تتحدث عن (الغرائب) الموجودة في الجزائر، غرائب أهلها، وغرائب مناخها، وغرائب أسرارها. ومن الذين تركوا آثارهم في القرن التاسع عشر فرومانتان، وثيوفيل قوتييه، وألفونس دوديه، وإدمون وجول دي قونكور، والإسكندر دوماس، والفنان هوراس فيرنيه، والفنان دو لاكروا، والفنان ثيودور شاسيرو، والكاتب فيبو، والأديب غوستاف فلوبير (¬1). وكان إنتاج هؤلاء فيه الغث والسمين. وقد كتب الضابط أوسيد دي صال رواية (علي والثعلب أو قصة احتلال الجزائر)، وكان هو قد شارك في الحملة ونشر الرواية سنة 1832. ومعظم الكتاب أصبحوا - عندما يكتبون عن الجزائر - يتحدثون عن شخصيات عربية، رجالا ونساء، فكانت العنصرية والأحكام الدينية المسبقة والعداء الاستعماري هي التي تتحكم في أهوائهم. ولذلك افتقرت أعمالهم إلى الدقة والنزاهة. ومعظم أسماء النساء المستعملة في رواياتهم هي عائشة (واسم عائشة استعملوه ربما لأنها كانت أول امرأة مسلمة هربت من دارها إلى الفرنسيين سنة 1834 وتزوجت من فرنسي بعد أن ¬

_ = سياسية، سنة 1955، بعنوان (الباب الأخير)، وقد تناولناها في كتابنا (دراسات في الأدب. . .). ط. 3 (¬1) جاكلين بيلي (عندما أصبحت الجزائر فرنسية)، ص 262.

عمدتها الكنيسة وهربتها إلى فرنسا) (¬1). وكذلك اسم باية. وكانت المرأة الجزائرية في الروايات الفرنسية تظهر شهوانية تبحث عن الغرام لدى الضباط الفرنسيين. كما أن الزواج بين المسلمات والفرنسيين كان من الموضوعات المحببة في هذه الروايات. وكانوا يتحدثون عن الجزائري في شيء من السخرية كما فعل هوق لورو مع المقراني في روايته (رجل الساعة). وهكذا كان المجال محتكرا للكتاب الفرنسيين. ومنذ عقد التسعينات بدأ الاحتكار يزول (¬2). فقد كتب محمد بن رحال قصة (انتقام الشيخ) ونشرها سنة 1891 (¬3). وفي سنة 1912 نشر أحمد بوري رواية مسلسلة في جريدة (الحق) التي كانت تصدر بوهران، وعنوان الرواية (المسلمون والمسيحيون). ورغم أن عنوانها غير روائي، فإن بعض النقاد أكد على أنها تمثل ربما الرواية بالمعنى الحقيقي للكلمة وليست مجرد محاولة (¬4). وفي فاتح هذا القرن ألف بعضهم أعمالا إبداعية في شكل روايات، ولكننا لا ندري هل المؤلف جزائري أو أجنبي، رغم أن الاسم يظهر جزائريا، وهو الصديق بن الوطا (اسم نكرة؟). وقد نسبت إليه رواية (الخيمة الكبيرة) التي رمز بها إلى الأجواد والمرابطين الذين رغم تأثرهم بالحياة الفرنسية بقوا على حالهم من العادات والتقاليد. وقد ميزهم بالطموح والبخل وحب الحياة المادية ونسب إليهم مجموعة من السيئات. والبيئة التي تصفها ¬

_ (¬1) انظر قصتها في الحركة الوطنية 1. (¬2) نشير إلى أن محمد بن علي بن الطاهر الجباري كتب سنة 1887 شعراء ساخرا ونشره في وهران وباريس في نفس السنة مع ترجمة فرنسية. ولا نعتقد أنه هو الذي كتب الترجمة بالفرنسية لأن لغته العربية قوية وهو من أبناء المدارس الرسمية والزوايا. ولذلك لا نعد عمله ابتكارا بالفرنسية. انظر عنه فقرة المقامات. وكذلك (المجلة الآسيوية) 1913، ص 292، هامش 2. (¬3) في المجلة الجزائرية والتونسية، السنة 4، رقم 13، سنة 1891. (¬4) جغلول (عناصر ...)، ص 133.

الرواية هي جبال زكار وثنية الحد ومنطقة الشلف. وفي الرواية شخصية امرأة شابة اسمها (تبن) تلعب دورا رئيسيا وهي معتزة بنفسها وبجمالها وتدعي أنها قادرة على الوصول إلى ما تريد لأنها جميلة. وذهب أحد النقاد إلى أن المؤلف امرأة. ونسبت إلى الصديق بن الوطا أعمال أدبية أخرى مثل (إيالة الجزائر) و (ضربة المروحة). ونترك للباحثين العثور على أصله واسمه أو اسمها الحقيقي. فإذا ثبت أنه (أنها) من الجزائريين فستكون الرواية فعلا مبكرة (¬1). ولا ندري متى ألف عبد الله شعابنة روايته (العجوز والطفل) التي نسبها إليه أحد الكتاب (¬2). فهل هو العسكري المتقاعد الذي أشار إليه جغلول؟ (¬3) كما أشار هذا الكاتب إلى أن زيد بن ديب (واسمه النكرة هو عمر سمار) قد نشر في جريدة (الحق) العنابية رواية مسلسلة تحت عنوان (يا علي يا أخي) سنة 1893. وكان الضابط ابن الشريف في آخر أيامه عندما نشر بعض الأعمال الأدبية سنة 1920. فقد نشر في باريس رواية باسم غريب وهو (أحمد بن مصطفى غومييه). وقيل إنها رواية تمثل سيرته الذاتية، وقد روى فيها مغامرات رومانتيكية لجندي جزائري في المغرب وفرنسا ووقوعه في أسر الألمان. كما تحدث فيها عن حياة الصالون والعبث في باريس، ثم المرض والوحدة في سويسرا. ويذهب جغلول إلى أنه بالرغم من التناقض الذي يظهر في الولاء للجزائر وفرنسا لدى العسكريين الذين عملوا في الجيش الفرنسي ¬

_ (¬1) انظر شارل طيار (الجزائر في الأدب الفرنسي)، 1925، ص 494، هامش 4. وكذلك ص 511 هامش 1. ظهرت رواية (إيالة الجزائر) - مسرحية - في 1913 و (ضربة المروحة)، 1914. انظر أيضا دي فاند لبورغ (عن آخر الروايات الجزائرية) في (المجلة الإفريقية)، 1905، ص 35 - 48. وأصدر جان ديجو (بيبلوغرافية) عن الأدب الجزائري المكتوب بالفرنسية، ط. الجزائر 1977. (¬2) انظر قوانار (الجزائر)، صں 279. (¬3) عبد القادر جغلول (عناصر ثقافية)، ص 113.

فإن ابن الشريف قد ذكر أنه انتقل من مرحلة الحرب من أجل الشرف والقبيلة إلى مرحلة الوطن (¬1). ولكن هل هذا يكفي؟ وأي وطن يقصد؟ إن المثقفين الاندماجيين، من بلقاسم بن التهامي إلى فرحات عباس، كانوا يعتقدون عندئذ أن الوطن هو فرنسا? الوطن الأم. وقد سبق لابن الشريف أن نشر عملا آخر سة 1919 عند هاشيت المشهورة، وهو رحلته إلى مكة لأداء فريضة الحج. وقد وصف في هذا الكتاب شعائر الحج وشعور المسلمين وسوء معاملة الحجيج من المطوفين. ولا ندري إن كانت له مهمة أخرى من حجه؟ ومن المعروف أن الذي قدم الكتاب الأخير هو الحاكم العام السابق الجزائر شارل جونار الذي أشاد بابن الشريف واعتبره من أبناء فرنسا المخلصين (¬2). وكان ابن الشريف قد شارك في الحرب العالمية الأولى، ثم ذهب إلى الحجاز في دور غامض حين كانت فرنسا تخطط لاحتلال سورية ولبنان، وكان الوضع في الحجاز غير مستقر للشريف حسين. ولا غرابة أن يجمع ابن الشريف عندئذ بين زيارة الحجاز وسورية وفلسطين. وتبدو أعمال حسن خوجة شكري أكثر اتصالا بما نحن فيه. فقد ولد ودرس في العاصمة في المدارس الرسمية. ويذهب جغلول إلى أن شكري قد ولد سنة 1891، ودرس في مدرسة الجزائر حتى حصل على دبلوم اللغة العربية. ومنذ 1910 دخل الوظيف الإداري - مترجما.؟ - وقد نشر روايتين، الأولى سنة 1928 وهي (مأمون)، والثانية سنة 1930 وسماها (العلج أسير بربروس). وصدور الرواية الأخيرة أثناء فترة الاحتفال بالاحتلال بمثل في حد ذاته نقطة تحول. فقد استعمل المؤلف التاريخ لتسليطه على الحاضر. ووقع البطل المسيحي أسيرا في قبضة القراصنة، وكان عليه أن يخرج من الرق ¬

_ (¬1) نفس المصدر. (¬2) ابن الشريف (في الأماكن المقدسة الإسلامية)، باريس، 1919، مراجعة (مجلة العالم الإسلامي) عدد 36، ص 309 - 311. عن ابن الشرف انظر أيضا فصل المشارق والمغارب وفصل التاريخ والرحلات.

باعتناق الإسلام وأن يتزوج ابنة سيده لتتم عملية الاندماج. غير أن هذه العملية لم تتم رغم أن ابنه قد أصبح مفتيا. فهل أراد حسن شكري أن يقول للفرنسيين إن الجزائري مهما اعتنق من مبادئهم وتأثر بثقافتهم وتزوج من نسائهم فإنه لا يمكنه أن يندمج فيهم؟ إن بعض النقاد يرون ذلك ويرون من الرواية إعلانا فشل سياسة الاندماج (¬1). أما في (مأمون) فإن شكري جعل بطله يندمج في الثقافة الفرنسية ويغرق في التمدن (؟) بشرب الخمر والتقليد، ولكنه مع ذلك أبقى على بعض الفوارق مثل لبس الطربوش. ولا ندري إن كان حسن شكري من (المطورنين) الذين تجنسوا فرفضهم الجزائريون والفرنسيون معا (¬2). ولا ندري إن كان محمد ولد الشيخ من أبناء قبيلة أولاد سيدي الشيخ الشهيرة. فقد ولد في بشار في فبراير سنة 1905 ودرس في المدرسة الأهلية الفرنسية هناك ثم التحق بثانوية وهران ولكنه لم يكمل شهادته فيها لأسباب لا نعرفها أيضا. ولعله أخرج من المدرسة بسبب عنصري أو لكبر سنه أو فشله. ولما رجع إلى مسقط رأسه واصل تكوين نفسه. وكان يكتب الشعر ويراسل به الصحف، وقد نشر سنة 1930 مجموعة شعرية بعنوان (أغنى إلى ياسمينة) وكان يعاني مرضا صدريا مزمنا، فكان عليه أن يقصد بعض الأماكن للاستشفاء، مثل فيشي (فرنسا) وتلمسان. ولكن المرض قتله في فاتح سنة 1938. وخلال عمره القصير نشر رواية هي (مريم بين النخيل) سنة 1936. وقد عبر فيها عن استحالة الاندماج الذي يدعو إليه بعض الفرنسيين والجزائريين، وكان يميل إلى دعوة جمعية العلماء الإصلاحية وإلى محاربة الطرق الصوفية المنحرفة والبدع، وقد دافع عن الإسلام واللغة العربية (¬3). ¬

_ (¬1) جغلول (عناصر ...)، ص 105 - 108. وقد أحال هذا المؤلف أيضا على مقالة لجوهر موساوي في المجاهد اليومي، 21 يناير 1987. (¬2) قارن ذلك بما كتبه ماسينيون عن شخص جزائري مشابه، في أول هذا القرن. انظر (مجلة العالم الإسلامي)، RMM. يوليو - غشت، 1909. (¬3) أحمد العناصري (محمد ولد الشيخ، روائي جزائري من سنوات الثلاثينات)، =

وتأثر بالأدب الفرنسي والعربي. ويبدو أن مطالعاته بالفرنسية قد غلبت عليه. وقصة (إدريس) لعلي الحمامي تمثل موضوعا آخر وإن كانت لغتها فرنسية. صاحبها هو علي الحمامي أحد مناضلي المغرب العربي سياسيا. ولد في تيارت سنة 1902، وبعد عهد لا ندري كم طال ذهبت أسرته إلى الحج فرافقها، وعندما رجعت لم يرجع معها، ظل مغامرا جوالا في البواخر التجارية. ويذهب أبو عمران الشيخ إلى أن الحمامي بدأ حياته مناضلا في الريف المغربي مع عبد الكريم الخطابي، وأنه شارك أيضا مع الأمير عبد المالك بن الأمير عبد القادر في ثورته ضد الفرنسيين بالمغرب. وإذا صح ذلك فإنه يكون قد شارك في النضال أثناء مرحلة متقدمة من حياته، لأن الأمير عبد المالك ثار سنة 1915 واستمر إلى مقتله سنة 1924، والأمير الخطابي اعتقل ونفي سنة 1926. ومهما كان الأمر فإن قصة (إدريس) كانت من وحي الحياة بالريف المغربي وليس الجزائر. وقد عايش الحمامى حياة متشردة بين الحربين، اتصل خلالها بالأمير خالد في فرنسا، ثم ذهبا إلى روسيا وتكون على يد المعادين للاستعمار، ثم ظل فترة يتنقل ين البلدان الأروبية، وتعرف عليه الأمير شكيب أرسلان، وتدخل لصالحه لدى الملك عبد العزيز آل سعود وكذلك لدى السلطات العراقية. ونتيجة لذلك أقام الحمامي في العراق سنوات واشتغل مدرسا، وفي 1946 ذهب إلى القاهرة، وانضم بعد ذلك إلى مكتب تحرير المغرب العربي برئاسة الأمير الخطابي. وفي القاهرة نشر قصة إدريس سنة 1948، وقدمها بالعربية الأمير الخطابي (أخو بطل الريف؟). وقصة إدريس تروي قصة شاب ريفي اعتنق الوطنية وذهب للدراسة في القرويين، ثم شارك في إحدى المظاهرات لكنه قتل برصاص القوات الاستعمارية. وكان والده من الجيالة يعيش على الفلاحة، وله مبادئ بسيطة ¬

_ = الجزائر، 1986. والبودالي سفير (شاعر جزائري باللغة الفرنسية) في مجلة (أليجريا) مارس- أبريل 1953. وجغلول (عناصر نافية)، ص 33 - 36.

في التعليم. وقد تناول الحمامي في القصة عدة لوحات تارخية واجتماعية، ولوحات أخرى عن الاستعمار وحقوق الإنسان. وانتقد أنشطة الكاردينال لافيجري والراهب دي فوكو، كما انتقد القديس أوغسطين لأنه عارض الحركة الدوناتية التحررية في نظره. وانتقد كذلك مبادئ الرئيس ويلسون التي خيبت آمال الشعوب. وتعرض إلى ضعف أساليب التعليم في بلدان المغرب العربي، وتمجيد الأولياء، وحبذ الحمامي الحركات الإصلاحية الإسلامية، وطالب بأخذ العلوم عن الغرب (¬1). إن قصة إدريس نموذج جديد في تسخير الأدب لخدمة القضية الوطنية ويقظة الشعب. ... ولنلخص الآن أهم ما عرفنا من روايات وكتابات الجزائريين بالفرنسية غير التي ذكرناها: 1 - عبد القادر حاج حمو (المعروف باسم عبد القادر فكري) نشر سنة 1925 رواية باسم (زهرة). والظاهر أنه كان من الأوائل المتصلين كثيرا بالأدباء الفرنسيين. فقد كان عضوا في جمعية الكتاب الفرنسيين في الجزائر التي تأسست سنة 1920. وكانت هذه الجمعية تصدر مجلة بعنوان (إفريقيا) ظهرت سنة 1924 (استمرت إلى سنة 1960). وأصبح فكري هذا نائبا لرئيس الجمعية سنة 1952. ومن الجزائريين الذين كانوا أعضاء في الجمعية ¬

_ (¬1) عن الحمامي انظر علال الفاسي (الحركات الاستقلالية)، القاهرة، 1948، وشكيب أرسلان (حاضر العالم الإسلامي)، وبحثنا عن (شكيب أرسلان والحركة الوطنية) في تذكار نقولا زيادة 1991، وكتب أبو عمران الشيخ تقديما للطبعة الثانية لقصة (إدريس)، 1977، في مجلة الثقافة، عدد 42، ديسمبر 1977 - يناير 1978، ص 75 - 79. انظر أيضا بحث محمد بلقاسم (وحدة المغرب العربي) - ماجستير، معهد التاريخ، الجزائر. وجان ديجو (بيبلوغرافية)، ص 48. ويقول ديجو إن الحمامي كتب الرواية بين ديسمبر 1941 ويوليو 1942، وإن جريدة (الشاب المسلم) الإصلاحية قد نشرت منها قطعة في 2 يناير 1953.

أيضا: جميلة دبيش ومحمد زروقي والبودالي سفير. وكان زروقي وفكري من كتاب المجلة المذكورة (¬1). ويبدو أنهم اختاروا فكري ليكون نائبا لرئيس الجمعية عندما أصبح في آخر أيامه إذ توفي سنة 1953. وكان فكري قد نشر مع روبير راندو عملا أدبيا تحت عنوان (أصحاب البستان) (¬2). كما حضر المؤتمر الذي نظمته ماري بوجيجا في قسنطينة عن المرأة الجزائرية خلال الثلاثينات. 2 - جميلة دبيش، بالإضافة إلى ما ذكرنا عنها، نشرت رواية بعنوان (ليلى فتاة جزائرية) سنة 1947. كما نشرت أخرى بعنوان (عزيزة) سنة 1955. وجميلة دبيش من مواليد سطيف وكانت تقيم في فرنسا وتعمل في الإذاعة الفرنسية. وساهمت بمقالات عن التعليم والوضع المهني للمرأة. وترأست مجلة (العمل) المتخصصة في شؤون المرأة أيضا (¬3). 3 - محمد زروقي سابق الذكر، نشر عدة أعمال منها (حي روبنسون عربي) سنة 1948، وعمر الخيام 1952، والمعري سنة 1951 وطه حسين سنة 1952، وهي مقالات كان ينشرها في مجلة البحر الأبيض، ومجلة معلمي شمال إفريقية. 4 - سليمان بن إبراهيم بامر، وهو رفيق الفنان إتيان ديني (ناصر الدين) في رحلته إلى الحجاز ومشاركه في تأليف بعض الكتب، ومنها (خدة راقصة أولاد نائل) سنة 1910 (¬4). ¬

_ (¬1) ديجو (بيبلوغرافية)، 1977، ص 7 - 18. وعن زروقي انظر فصل الفنون، فقرة الموسيقى. (¬2) باريس 1933. ويبدو أنه يتعلق بالعادات الجزائرية والحكايات الشعبية. (¬3) انظر ألف أندرو هيقوي A.A. Heggoy (القاموس التاريخي للجزائر)، 1981، ص 99. (¬4) باريس 1910، 263 ص. وهو عمل مبكر، إذ عاش ديني وسليمان بعد ذلك حوالي عقدين آخرين. انظر جغلول (تكوين المثقفين العصريين 1880 - 1930) في (مظاهر الثقافة الجزائرية)، باريس، 1986.

5 - مالك بن نبي نشر رواية بعنوان (لبيك)، أو حج الفقراء، سنة 1948. وهي قصة رجل فحام من عنابة، كان سكيراو ولكنه أدى فريضة الحج مع طفل كان يعمل ماسح أحذية في نفس المدينة. وقد اختفى الطفل في الباخرة متبعا لركب الحج. وفي آخر القصة قبل الطفل أن يكون ابنا للفحام الذي تاب من غوايته. وقال الكاتب إنه أراد أن يشارك بروايته في جزء هام من الفولكلور الجزائري (¬1). 6 - سعد الدين بن شنب، كتب مقالات وبحوثا هامة عن مختلف الموضوعات المتصلة بالأدب والثقافة والتاريخ. ولا يمكن الآن الإحاطة بها. إنما نذكر له (حكايات مدينة الجزائر) التي نشرها في وهران 1946. وهي حكايات مترجمة عن العربية. ومن مقالاته (كتاب الجزائر بالفرنسية) في الموسوعة الكولونيالية والبحرية، وقد خصص منها عدة صفحات للكتاب بالعربية أيضا (¬2). ومنها مقالته عن الشاعر (محمد العيد حمو علي) في (الوثائق الجزائرية) عدد 7 (1946). 7 - رشيد بن شنب، كتب (ثلاث قصص صيد من منطقة المدية)، ونشرها في المجلة الإفريقية، م 60. 8 - أما حمزة بو بكر فقد كتب قصة (اعتراف مسلم القرن) ونشرها في مجلة (إيقاع العالم - ريثم دي موند) رقم 3، سنة 1947، وكذلك (مذكرات صحراوي) في نفس المصدر، رقم 1، سنة 1957. وله غير ذلك من المنشورات. 9 - مصطفى الأشرف ترجم سنة 1953 (الأغاني العربية لبنات مدينة ¬

_ (¬1) ديجو، مرجع سابق، ص 49. والرواية في 99 صفحة، وطبعتها دار النهضة بالجزائر. وجاء في كتاب (شروط النهضة) ط. دمشق 1986 لنفس المؤلف (ابن نبي) أن لبيك هي القصة الوحيدة التي كتبها وأنه اتجه فيها اتجاها أدبيا. انظر ص 7. (¬2) Encycolopedie Coloniale et Maritime الجزء الثاني، باريس، 1946، ص 248 - 253.

الجزائر) كما أشارت إلى ذلك بعض المراجع، ولكننا لا ندري أين نشر ذلك (¬1). وكنا قد ذكرنا أن الأشرف نشر أوائل عهد الثورة مسرحية في مجلة (الفكر) التونسية، وقد قامت المجلة بالترجمة من الفرنسية إلى العربية. 10 - محمد ديب عرف برواياته وقصصه، ومنها الدار الكبيرة والحريق والمنسج، وقد أصبحت أعمالا كلاسيكية. وكان كذلك كتب المقالات والتعاليق الأدبية والنقدية في جريدة (الجزائر الجمهورية)، ومنها مقالة سنة 1950 عن (المثقفين الجزائريين والحركة الوطنية) (26 أبريل). كما نال محمد ديب جائزة فرنسية عن الدار الكبيرة. وقد ترجمت معظم أعماله إلى العربية. 11 - مولود معمري ومولود فرعون وحسن شبلي نال كل منهم جائزة فرنسية، الأول عن روايته الربوة المنسية، والثاني عن روايته الأرض والدم، والثالث عن شعره. وكل ذلك كان قبل الثورة. ثم توالى الإنتاج والجوائز الفرنسية لأعمال أخرى لهؤلاء، وكذلك لأعمال جيل آخر من الكتاب أبرزهم كاتب ياسين وآسيا جبار ومالك حداد ومالك واري (¬2). والمعروف أن الجوائز كانت تعطى لتشجيع الإنتاج باللغة الفرنسية وليس لإبداع الأدبي في حد ذاته. وهكذا يتبين أن الأدب الجزائري باللغة الفرنسية أخذ مكانا واضحا منذ ¬

_ (¬1) أشارت إلى ذلك كريستيان عاشور في بحثها (المدرسة والمجتمع والأدب ...) في (المظاهر الثقافية الجزائرية)، باريس 1986، ص 90. (¬2) مما يذكر أن لرابح الزناتي عملا بعنوان (بولنوار) نشرته دار الكتاب، الجزائر، 1945، ولا ندري الآن محتواه ولا شكله ولا نوعه. وبالإضافة إلى مقالة سعد الدين بن شنب عن محمد العيد حظي هذا الشاعر بمقالات من أدباء فرنسيين منهم إيمانويل روبلس في جريدة (وهران الجمهورية) أول أبريل 1947، وفرنسوا بونيان في (التام TAM) 17 غشت 1946، وآخر مجهول (. A.E) في (مناخ - فرنسا ووراء البحار) 22 ديسمبر 1946.

مطلع الخمسينات، وأخذ ينافس الأدب العربي القديم والحديث في الجزائر، وقد زادت أحداث الثورة من بلورة هذا الأدب وظهوره على المسرح العالمي أيضا، وكادت الجزائر لا يعرفها العالم إلا به حتى بين أدباء المشرق عندئذ، تحت شعار أن الاستعمار الفرنسي قد جرد الجزائريين من لغتهم وثقافتهم الأصلية حتى أنهم اندمجوا في لغة المستعمر ذاته ونسوا لغتهم. وقد أثمرت جهود الكنيسة والحركة الشيوعية فتولد عنهما أدب هجين ظهرت آثاره بعد الحرب الثانية. وليس هناك من سبيل إلى دراسته هنا، ولكننا ننبه إلى أن الكنيسة والحركة الشيوعية - على اختلافهما في الأيديولوجية - تمكنتا من إخراج بعض الروائيين والكتاب. فقد أخرجت الكنيسة أو مدارسها الخاصة أمثال جان عمروش وأوغسطين أيبازيزن (¬1)، وكان الأول قد كتب حياة يوغرطة وألف الثاني سيرة ذاتية برر فيها لماذا اختار اسم أوغسطين رغم أن عائلته عائلة إسلامية معروفة. وربما كان حسني لحمق من هذه المدرسة أيضا، وكذلك مولود فرعون صاحب المؤلفات الأدبية التي منها (الطرق الصاعدة) و (التلميذ والدرس). وكان فرعون ضحية منظمة الجيش السري سنة 1962. أما لحمق فلا نعرف له سوى (الرسائل الجزائرية) التي نشرها سنة 1933. وعشية الثورة دخلت الرواية الجزائرية بالفرنسية عصرها الذهبي. وقد صنف النقاد الفرنسيون كتابها في مدرسة البحر الأبيض (؟) من حيث الانتماء الأقليمي، وإلى المدرسة الفرنسية من حيث اللغة، وإلى الثقافة العربية -الإسلامية من حيث الروح والتراث. أما النقاد العرب فقد اعتبروا هؤلاء الكتاب ضحايا الاستعمار، فهم يعبرون بقلب عربي وبربري وقلم فرنسي. وكان مالك حداد أكثرهم صراحة وصدقا حين اعتبر نفسه منفيا فى اللغة الفرنسية وذهب إلى المشرق ليسترد هويته. ¬

_ (¬1) قوانار (الجزائر)، ص 279.

ومن جهة أخرى أخرجت الحركة الشيوعية كتابا وأدباء نذكر منهم، البشير حاج علي، وعمار أوزقان، والصادق هجرس، إضافة إلى كاتب ياسين الذي تألق نجمه منذ الخمسينات، وقد رجع أوزقان إلى أحضان الوطنية والعمق الحضاري، أما الآخرون فقد ظلوا على ولائهم للمذهب الشيوعي الرافض للوطنية الضيقة. وكان أدبهم يعبر على ذلك (¬1). ولكن الثورة استطاعت أن تصهر هذه العناصر وأن تقارب بين الجزائريين على اختلاف ميولهم وثقافتهم، رغم أن بعضهم رجع بعد الاستقلال إلى خطه القديم، ولعله لم يتحول عنه أصلا. ¬

_ (¬1) انظر ترجماتنا للأدب الجزائري بالفرنسية في (دراسات في الأدب) ط. 3. وفي (هموم حضارية)، 1993، انظر كذلك مجلة (لا نوفيل كريتيك) سنة 1960، وعمار أوزقان (الجهاد الأفضل)، بيروت، 1962. وجريدة (الشاب المسلم) - بالفرنسية - عن إنتاج ابن نبي وأوزقان والأشرف والشريف ساحلى.

الفصل الثاني الشعر

الفصل الثاني الشعر

مدخل في تطور حركة الشعر

مدخل في تطور حركة الشعر نعالج في هذا الفصل الشعر الفصيح والزجل (الملحون) خلال أكثر من قرن، أي من 1830 إلى عشية ثورة نوفمبر 1954. والشعر الفصيح ليس كله فصيحا حقا، فسيكون فيه القوي والضعيف والجميل والتافه. ولكن المصطلح سيحترم. فالفصيح هنا هو الذي سار على قواعد اللغة وطبق مبادئ العروض. أما الزجل فهو ذلك الذي خرج عن هذه القواعد والمبادئ وعبر بالدارجة وتوجه عادة إلى العامة. وسيتضمن الزجل أيضا بعض الأشعار البربرية التي عثرنا عليها، وقد كان شعراء البربرية متعلمين أو غير متعلمين، متأثرين بأصول العروض العربية. أما الشعراء الجزائريون بالفرنسية فسنشير إليهم إذا وجدوا، لنعلم فقط إلى مدى وقع التأثير اللغوي والأجنبي عليهم. ولكننا لن نتناول هنا الشعراء الفرنسيين الذين عاشوا في الجزائر أو زاروها. الأغراض التي تناولها الشعراء كثيرة، وتكاد تكون هي أغراض الشعر العربي المعهودة. فنحن سنلاحظ أن شعر الفخر والهجاء ما يزال يواصل مسيرته. أما الرثاء والمدح والغزل والتوسل فهو ملح الطعام في كل العصور. وسنجد الوصف قد أخذ حظا وافرا في هذا الشعر. وهناك ميدان خب فيه الشعراء، كل على حسب جهده، وهو الشعر الوطني والاستنهاض، والشعر القومي والإسلامي. وقد ارتبط بذلك ظهور الشعر الإصلاحي - الاجتماعي. فبدل الغوثيات والتوسلات ومدح شيوخ الزوايا جاء شعر التحرر من البدع والخرافات والدعوة إلى الإسلام الصحيح والتضامن. وقد كان شعر الغزل من ضحايا هذا الاتجاه، فقد أصبح ينظر إليه على أنه شعر العبث واللهو، وذلك غير مقبول في وقت كانت البلاد في معاناة وشدة. فكان على الشعراء أن

يجدوا ولا يهزلوا وأن يتضامنوا مع الشعب ولا ينفردوا عنه. أما طريقة المعالجة فإننا سنذكر، بعد المدخل، الدواوين المعروفة سواء المطبوعة أو المخطوطة، وكذلك المجاميع من الشعر. وسنذكر ما نعرف عن كل ديوان أو مجموع. وإذا لم نتمكن من الإطلاع على بعضها فسنشير إلى ذلك. وبعد ذلك نعالج أغراض الشعر غرضا غرضا، مع ذكر النماذج. بقدر ما توفر أو ما تسمح به المساحة. أما القسم الثاني من هذا الفصل فسيخصص للشعر الملحون أو الزجلي، وسنحاول أن نصنفه أيضا إلى أغراض، وكذلك سنفعل مع شعر البربرية. وفي الوقت الذي كان فيه الشعراء يواصلون رسالتهم كان بعض المتعلمين والأدباء يصنفون لهم ولغيرهم مؤلفات في علم العروض وقواعده. وهي مؤلفات ليست كثيرة إذا قيست بغيرها ولكنها تدل على الترابط بين الشعر وعلم العروض (¬1). ومن أوائل المصنفين في ذلك هو الشيخ محمد بن يوسف أطفيش إذ وضع كتابا سماه (مختصر الكافي في العروض والقوافي). ويدل العنوان على أن الشيخ لم يضع تا ليفا وإنما اختصر التأليف المعروف بالكافي، وهو ما فعله غيره أيضا. فقد قام المولود بن الموهوب بنظم شرح الكافي وسماه (التبر الصافي). وخدمة لهذا الاتجاه شرح إبراهيم العوامر السوفي هذا النظم وسماه (مواهب الكافي على التبر الصافي) (¬2). ولكن التأليف الذي تميز عن غيره بالمنهج العلمي والأسلوب الجذاب والشواهد المفيدة هو كتاب (تحفة الأدب في ميزان أشعار العرب) لمحمد بن أبي شنب. وقد طبع هذا الكتاب عدة طبعات، منها واحدة بتصديرنا (¬3). وآخر من ألف في علم العروض وجمع بينه وبين الشعر هو الشيخ موسى نويوات الأحمدي (¬4). ¬

_ (¬1) عن العلاقة بين الشعر والموسيقى انظر فصل المنشآت الثقافية. (¬2) ط. تونس 1323. وتوجد نسخة من هذا الشرح في المكتبة الوطنية، الجزائر، مخطوط رقم 1680. (¬3) انظر ط. 2، دار الغرب الإسلامي، بيروت 1990. (¬4) المتوسط الكافي في علمي العروض والقوافي. ط. عدة طبعات.

ويزدهر الشعر عادة بازدهار التعليم ووسائل النشر والحوافز والنقد. غير أن هذه جميعا كانت منعدمة تقريبا قبل 1920. وإذا استثنينا بعض الصحف التي ظهرت أوائل هذا القرن فإن الشعراء لم يجدوا أين ينشرون قصائدهم ودواوينهم (¬1). ولم تكن حركة التعليم نشطة حتى تخرج شعراء متمرسين باللغة العربية ومطلعين على التراث ومسايرين لروح العصر. وليس هناك حوافز معنوية أو مادية تجعل الشعراء ينطلقون في تجربتهم ومتنافسين في فنهم. أما النقد فلم تعرفه الحركة الأدبية إلا خلال الثلاثينات عندما أخذت الشهاب تعلق على ما كان ينشر فيها، ثم ظهرت البصائر، وكان النقد عندئذ ما يزال اختراعا جديدا. ولا يعني ذلك أن من قال شعرا لا يتعرض للذم أو الاستحسان ولكننا هنا نشير إلى النقد كقواعد و (علم) بذاته لتقييم الشعر. وقد يكون من التناقض أن نوقع شعراء يظهرون في بلاد سيطرت عليها الأمية طيلة سبعين سنة تقريبا وتحت احتلال عنصري بغيض. فمنذ وضع الفرنسيون لديهم على الأوقاف الإسلامية وانهمكوا في هدم المدارس والمساجد وتشريد العلماء والطلبة، جفل العلماء وخلت حلقات الدرس وجفت ينابيع المعرفة، بل إن ذلك كان دافعا قويا لهجرة عدد من الأدباء وسكوت الآخرين. وقد رثى بعض الشعراء حالة الوطن بعد الاحتلال، وأنجبت المقاومة شعراء الفصيح والزجل، والأنصار والمعارضين. ولكن هذه الظاهرة انتهت تقريبا مع بداية الخمسينات من القرن الماضي، أي مع الجيل الذي كان شاهدا على وقوع البلاد في براثن الأعداء. وهكذا اختفى أمثال: محمد بن الشاهد، والأمير عبد القادر، وابن التهامي، بحلول سنة 1850. ¬

_ (¬1) كانت مصلحة الشؤون الأهلية التابعة للحكومة هي التي تنشر ما ترضى عليه من الإنتاج، وهو عادة ما كان يخدم المخططات الاستعمارية ويدعم المدارس الرسمية ويوفر النصوص للمستشرقين. وكان بعض الجزائريين مثل المجاوي والزريبي، ينشر إنتاجه في تونس، أو يبقى عمله محفوظا شأن الكتاب الذي أعلن عنه عبد الحليم بن سماية سنة 1905.

وعانت حركة الشعر تبعا، لمعاناة تجربة التعليم بين 1851 - 1880. فنحن خلال هذه الفترة لا نكاد نسمع بشاعر فصيح. وربما كانوا موجودين ولكنهم لم ينشروا شعرهم لأنه لا يوجد أين ينشرونه ولا من يتذوقه. ومهما كان الأمر فإن القليل من الشعر الذي بقي لا يدل على ثقافة أصحابه ولا على إخلاصهم لأن فكرة نبيلة. ولا شك أن الذى ملأوا الفراغ هم شعراء الزجل (الملحون). فهم الذين سجلوا الملاحم، ووصفوا الطبيعة والصيد والمرأة والمآسي التي تعرض لها الشعب، وهم الذين مدحوا أبطالهم من المجاهدين وبكوا أبناءهم ورفاقهم من الشهداء. أما القطع الباقية من الشعر الموزون فلا تكاد تخرج عن مدح بعض الفرنسيين، مثل نابليون الثالث أثناء زيارتيه للجزائر - 1860، 1865 - وتهنئة بعضهم بعيد الميلاد، كما فعل محمد الشاذلي مع بواسونيه. وقد احتفظت لنا الوثائق أيضا بنمادج من الشعر الإخواني كالذي تبادله الأمير ومحمد الشاذلي في سجن امبواز (فرنسا). وما دار بين الشاذلي ومصطفى بن التهامي وغيره من حاشية الأمير في نفس المناسبة. ولا بد من القول إنه لم تكن توجد عندئذ أية وسيلة لنشر الشعر. فالجريدة الوحيدة التي كانت تصدر بالعربية (المبشر) هي جريدة رسمية للإعلانات والتوجيهات الحكومية، ولا نعرف أنها نشرت من الشعر غير بعض القصائد في مدح القادة الفرنسيين أو بعض القطع لحسن بن بريهمات وأمثاله، وهي قطع في موضوعات اجتماعية ودينية غالبا تخدم أهداف الجريدة. وهذا لا يعني أن الشعراء كفوا في هذه الفترة (1851 - 1880) عن قرض الشعر. ولكن نلاحظ أن جلهم قد لجأ إلى شعر التوسلات والغوثيات، وما نسميه بالشعر الديني المتجه إلى التصوف والاستسلام للأمر الواقع، مع الضعف الشعري الذي يلازم ضحالة التعليم وانعدام الحوافز. ولم يكن هناك سوى مصدرين لتعليم متوسط ومحدود جدا خلال هذه الفترة، الأول وجود المدارس الثلاث الرسمية التي كانت تستقبل أعدادا قليلة من تلاميذ الزوايا وغيرها لتخرج منهم قضاة. والثاني الزوايا التي سمح لها بالاستمرار في

تحفيظ القرآن الكريم وبعض المعارف العربية والإسلامية، مثل زوايا الجنوب وزواوة. وتنسب إلى مصطفى بن التهامي غوثية هامة عندئذ، وكذلك منظومات لمحمد الشاذلي، وكان رجال السلك الديني (رجال الإفتاء والخطابة والإمامة) يتعاطون هذا النوع من الشعر الديني أيضا، كما كانت لهم أراجيز وقطع تعليمية تدور حول الفنون التي كانوا يدرسونها. ومن هؤلاء المفتي حميدة العمالي. وفي المرحلة الثانية (1881 - 1919) برزت الصحف وانتشر التعليم قليلا وسمح بالتعبير المحدود عن خلجات النفس في عهدي كامبون (1891 - 1897)، وجونار (1903 - 1912) في الميادين غير السياسية. وكان ذلك سببا في بروز عدد من شعراء اللغة الفصحى معظمهم من الجنوب. ومن أبرزهم على الإطلاق الشيخ عاشور الخنقي الذي كان يعيش في قسنطينة منذ السبعينات ثم انتقل إلى زاوية الهامل للتعليم. وكان ديوانه (منار الإشراف) الذي نظمه خلال التسعينات أول ديوان في الجزائر (طبع كذلك ديوان الأمير في المشرق حوالي نفس الفترة). ولولا أن شعر الخنقي كان معظمه في غرض واحد، وهو الدفاع عن الأشراف بالحق أو بالباطل، لكان صاحبه أعظم شاعر جزائري في آخر القرن الماضي وبداية هذا القرن. وهناك أيضا محمد بن عبد الرحمن الديسي الذي له ديوان غير مطبوع. لقد جرب الشعراء خلال الفترة المذكورة كل أنواع الشعر تقريبا، الشعر السياسي والاجتماعي والصوفي والغزلي والمدحي. وسنرى ذلك بعد قليل، وقد وجد بعضهم في جريدة (المنتخب) وهي جريدة فرنسية خاصة، وسيلة للتعبير (1882 - 1883) ولكنها سرعان ما اختفت. ولم تظهر الصحف التي نشرت الشعر سوى في العشرية الأولى من هذا القرن، ومنها المغرب، وكوكب أفريقية، والفاروق. ولا بد من الإشارة إلى أن الأولى والثانية جريدتان حكوميتان، أما الفاروق فقد كانت من إنشاء عمر بن قدور، وقد كان ابن قدور نفسه شاعرا وكذلك كان المولود الزريبي المعاصر له. وقبل أن نتحدث عن المرحلة الثالثة، نقول إن بعض الشعراء كانوا قد

نشروا إنتاجهم، رغم قلته، في جرائد عربية خارج الجزائر خلال الفترة الثانية. فقد نشرت (الجوائب) لأحمد فارس الشدياق و (المنار) للشيخ محمد رشيد رضا و (الحاضرة) لعلي بوشوشة، قصائد وقطعا في المدح والتقريظ والرثاء وغيرها لشعراء جزائريين. ومن هؤلاء أحمد المجاهد الغريسي الذي كان قاضيا، وعمر بن قدور الذي كان محررا في جريدة الأخبار قبل الفاروق، ومحمد بن مصطفى خوجة الذي كان صحفيا في المبشر ثم مدرسا في أحد مساجد العاصمة، بالإضافة إلى مشاركة إخوة الأمير عبد القادر وأولاد أخوته في الحركة الشعرية بالمشرق. ومما يذكر أن محيي الدين بن الأمير عبد القادر له ديوان شعر في مستوى راق بمفهوم وقته. فالحركة الشعرية في المشرق كانت أكثر خصوبة منها في الجزائر عندئذ، نظرا لمستوى التعليم وانتشار الصحف وشيوع الترجمة وظهور النقد الأدبي. والمرحلة الثالثة للشعر تبدأ من 1920 وتستمر إلى عشية ثورة نوفمبر 1954. وهي أخصب الفترات إنتاجا. وخلالها برز عدد من الشعراء الذين كانوا غالبا مستقلين، وكان بعضهم من رجال الدين الرسميين أو من المساندين للإصلاح الذي تبنته جمعية العلماء المسلمين. ورغم اختلاف المستوى بين شاعر وآخر، فإن الحركة على العموم كانت تتقدم وتتسع إلى أن وصلت إلى قمتها على يد محمد العيد ومفدي زكريا. لقد انتعشت حركة التعليم العربي منذ شرع ابن باديس في تأسيس المدارس عبر القطر، وأخرجت الدارس الرسمية أيضا عناصر معربة أو مزدوجة اللغة، وانتشر الطلاب الجزائريون ينشدون التعليم العربي في تونس ومصر والمغرب، ثم رجع بعضهم بزاد وفير. وكذلك رجع بعض العلماء المهاجرين من الحجاز (العقبى) وسورية (الإبراهيمي). وزيادة على ذلك ظهرت الصحف العربية المستقلة عن الحكومة، وتنافست في نشر القصائد مما سمح للشعراء أن ينشروا إنتاجهم، فكانت الإقدام والشهاب، وجرائد الشيخ أبي اليقظان العديدة، والنجاح، والبلاغ، والبصائر، والإصلاح، والمنار، ميادين لهؤلاء الشعراء. وكانت تقدم للقصائد بعبارات الاستحسان والمدح أحيانا.

وفي هذا الصدد نشرت أول مجموعة شعرية عشية مرور مائة سنة على الاحتلال. وكانت تضم ترجمات ومختارات لعدد من الشعراء المتمايزين سنا وجودة وفكرا. فقد كان منهم الشيخ والشاب، والمتوسط الشعر وجيده، والمصلح المستقل والموظف الرسمي، ومع ذلك جمعهم محمد الهادي السنوسي، صاحب (شعراء الجزائر في العصر الحاضر) في كتاب واحد بجزئين مع صورهم أحيانا (¬1). وقد تلا ذلك نشر ديوان الشيخ أبي اليقظان أيضا. وكان أبو اليقظان صحفيا بارعا وشاعرا اجتماعيا مطبوعا. ويمكن اعتبار ديوانه ثالث ديوان يطبع بعد ديواني الأمير وعاشور الخنقي. أما أنماط الشعر خلال هذه الفترة فقد تنوعت. فأنت تجد الشعر الذاتي عند عدد من الشعراء، منهم رمضان حمود ومبارك جلواح والطاهر البوشوشي وعبد الكريم العقون. وتجد الشعر السياسي الصريح أو المغلف عند البعض مثل ابن باديس ومفدي زكريا، والربيع بوشامة ومحمد العيد، والشعر الاجتماعي عند هذا وعند أحمد سحنون وأبي اليقظان والصادق خبشاش والهادي السنوسي. ومن شعراء الدين والتصوف أحمد المصطفى بن عليوة. وكان بعض الشعراء يجمعون بين عدة أغراض مثل محمد العيد. وتجدر الإشارة إلى أن شعر التمثيل قد ظهر أيضا خلال هذه الفترة. ذلك أن الحركة الأدبية قد نمت وارتبطت بالتراث العربي والثقافة الإسلامية، وأصبحت تستمد أمثلتها من الشعراء القدماء والمحدثين وتقلد ما ظهر في المغرب والمشرق مما يسمى بالشعر التمثيلي. فكان الشعراء يكتبون لتلاميذهم روايات شعرية قصيرة يمثلونها في المناسبات الدينية والاجتماعية، كالمولد النبوي والأعياد، ومن ذلك مسرحية (بلال) لمحمد العيد. ومن الممكن أن نلحق بذلك الأناشيد المدرسية التي كان ينظمها الشعراء بروح دينية إصلاحية وطنية لينشدها التلاميذ في المدارس تربية لهم ¬

_ (¬1) ظهر الجزء الأول سنة 1926، والثاني سنة 1927. كلاهما طبع في تونس.

وتنشيطا لهممهم. ومن الذين برعوا في ذلك ابن باديس ومحمد العيد ومحمد بن العابد الجلالي. وفي مواجهة القوانين الجائرة والاستبداد الاستعماري، كانت القضايا التي يطرقها الشعراء في الداخل أقل تسيسا من القضايا التي يتناولونها في الخارج. وكانوا أحيانا يعكسون وضع الجزائر بطريق غير مباشر عندما يتناولون قضية عربية أو دولية. فإذا مدح الشعراء أو وصفوا أو رثوا شخصا أو حادثا خارج البلاد فإنهم سرعان ما يمثلون لذلك بحالة بلادهم وأشخاصهم ومواطنيهم. من ذلك رثاء عمر المختار وغازي ملك العراق والشاعرين حافظ وشوقي والأمير خالد. ثم قيام الجامعة العربية ونفي السلطان محمد الخامس واستقلال ليبيا ثم السودان، وثورة مصر، وقنبلة هيروشيما، وتهنئة الحجاج بأداء الفريضة وسلامة العودة. والقصيدة العمودية هي التي ظلت تميز الشعر خلال مراحله الثلاث، فالوزن والقافية، والمحافظة على مصراعي البيت وحتى البداية بالغزل أحيانا وتعدد الأفكار في القصيدة الواحدة، كل ذلك مما كان يميز شعر هذه المراحل. لقد كان التجديد في الأسلوب الشعري والأغراض غير وارد. ولكن هل يعني ذلك أن قصيدة الثلاثينات من هذا القرن هي نفسها قصيدة الأمير عبد القادر، مثلا؟ الجواب هو أن الروح ظلت واحدة والموسيقى الشعرية أيضا بقيت واحدة تقريبا. أما الذي تجدد فهو الأغراض واستعمال الرمز والإيحاء والمصطلحات والألفاظ. ولا شك أن محمد العيد يعتبر مجددا إلى حد كبير في خطابه الشعري: شاعر المجتمع والجمهور الحاضر، وشاعر القلب الدافق بالحب للدين والوطن والإنسان. وأن مفدي زكريا قد أدخل في الخطاب الشعري، سيما بعد 1956، جلجلات الثورة وقعقعات السلاح والتمرد العاطفي لكي يعبر عن إيمان صادق بمستقبل الجزائر الحرة. ولقد عبرت أشعار رمضان حمود وجلواح والعقون عن رعشة القلب في صلواته أمام براءة الطبيعة وذنوب الحاضر الاستعماري.

ولكن هذا لا يعني أن الشعراء لم يستعملوا قوالب شعرية أخرى غير القصيدة. فقد كتب رمضان حمود نوعا من الشعر الحر أو المتحرر. واستعمل بعضهم القطع القصيرة، والتفعيلات المتعددة في القصيدة الواحدة، وكذلك تنوع القوافي. وقد ظل الموشح مستعملا عند عدد من الشعراء،. ومنهم القديم مثل مصطفى بن التهامي، ومنهم الجديد مثل محمد العيد، مرورا بعمر بن قدور. ولكن الموشح الجديد يلاحظ عليه القصر وحداثة اللغة. كما نجد عند شعرائنا حتى في المرحلة الثالثة من كان يخمس الشعر ومن كان يعارضه، ومن يشطره، ومن يلغزه، ومن يرجزه، الخ. وهكذا فإن (ملاعب) الشعراء القديمة على عهد الآرام والأطلال كانت مزدحمة في عهد السيارات وناطحات السحاب والتقنيات الجديدة وعصر الفضاء والأقمار الصناعية. لقد ظهرت عدة دراسات تناولت الحركة الشعرية في الجزائر منذ 1919 - أي المرحلة الثالثة، أما المرحلة الأولى والثانية فغير مدروستين حسب علمنا. وليس من مهمة دراستنا هذه تسليط الضوء على كل ما كتب حول الشعر منذ 1919 ولا نقده. وإنما نذكر هنا أن عددا من الباحثين قد ركزوا جهودهم في عهد الاستقلال على كتابة أطروحاتهم الجامعية حول هذا الشعر. وقد تسابقوا في الميدان حتى لم يبق فيه ربما مكان لمتسابق. فتناولوا أفرادا من الشعراء، وأغراضا من الشعر، وربطوا بين ذلك والحالة السياسية والاجتماعية والعلاقة مع الحركة الأدبية في البلاد العربية. ومعظم الدراسات وجدت نفسها تعالج الشعر باعتباره نتاج الحركة الإصلاحية التي بعثت اللغة العربية وحررت العقول، وأسالت الأقلام، وأنشأت الجرائد والنوادي والمدارس. والشعر الديني نفسه قد تأثر بهذا الجو، فأصبح الشعراء يتنافسون في الدفاع عن بعض التيارات الدينية، ورغم ظهور الإصلاح فإن التيار الديني أو الصوفي بقي قويا، وله شعراؤه أيضا. وأحيانا كانت الخلافات بينهم تصل إلى حد المهاترات والسباب. ولكن هذا لا يمنع من القول إن الحركة الشعرية كانت من نتاج تطور اللغة العربية في المدارس ولا سيما بعد ظهور معاهد ابن باديس والكتانى والحياة.

وهناك على الأقل ثلاث دراسات تناولت تطور الحركة الشعرية بالرصد والنقد: الشعر الحديث لصالح خرفي، والشعر الديني لعبد الله ركيبي، ثم الشعر الحديث لمحمد ناصر. ولعل ركيبي هو الوحيد الذي رجع إلى ما قبل سنة 1919 في بحثه عن الشعر الديني. أما الباحثان الآخران فقد ركزا على الفترة الثالثة المشار إليها. وكان خرفي قد عالج في بحث آخر الشعر في عهد الأمير. إن هؤلاء الباحثين قد درسوا النماذج والظروف وسير الشعراء والأساليب والمؤثرات. وها هي أعمالهم الآن مراجع هامة لتلاميذهم وغيرهم من الباحثين. وهناك دراسات قام بها باحثون آخرون، مثل الشعر عند فلان، ومثل أثر جمعية العلماء في الشعر، والشعر السياسي، والتجديد في الشعر، وغير ذلك من الجوانب. وقد قلنا إن الزحام قد بلغ أشده على هذا النبع حتى كاد يغيض. وفي هذا الصدد يأتي الحديث عن التأثير الفرنسي في الشعر. ورغم أننا ندرس الشعر العربي فصيحه وشعبيه وما يتصل به من لهجات، فإن السؤال عن التأثير المذكور يظل قائما. فهل أثر الشعراء الفرنسيون في شعراء الجزائر سواء منهم شعراء العربية أو الفرنسية؟ إن بعض المصادر الفرنسية تذكر أنه قد مر بالجزائر أكثر من مائة شاعر فرنسي. ومنهم من تولى مسؤوليات إدارية. ولكن ما مدى صلتهم وتأثيرهم على شعراء الجزائر؟ فالشاعر شانسيل أصبح نائبا لوالي مدينة الجزائر. وقارن في شعره بين روما والجزائر، وتغنى بفتاة موريسكية، وله شعر عنوانه (الجزائرية الأولى) وآخر سماه (مليانة). وتغنى الشاعر الطبيب أوباسي بمدينة البليدة في مجموعته (المغربيات). وتحدث الشاعران الأخوان قونكور عن الفتى البسكري أو الزنجي الصغير سنة 1849، وزعما أنه شعر بالحزن عندما رحل عنه الفرنسيون! وعلى هذا النحو طلب الشاعر شارل ماري لوفيفر من فرنسا أن تأتي لترى الجزائر (ابنتها الكبرى) (¬1). فهل هذه هي الأفكار التي سيؤثر بها الشعراء الفرنسيون على ¬

_ (¬1) جاكلين بيلي (عندما أصبحت الجزائر فرنسية)، ص 264.

الجزائريين؟ إن المدرسة الفرنسية كانت مرتبطة بالإدارة الاستعمارية وبفكرة الهيمنة والتعالي، بل إن الشعراء كانوا أصواتا لهذه الإدارة المهيمنة. ونحن لا نجد عند هؤلاء الشعراء روح التسامي والإنسانية والعلاقات الروحية بين الشعوب، أو الإعجاب بالبربر والعرب وأخلاقهم العالية وشجاعتهم النادرة وإيثارهم الفذ. وإنما كان إعجابهم بالطبيعة وتسخير فرنسا. (الأهالي) لخدمتها. وأقصى ما قاله العقيد قادشو، وهو يلقي محاضرة عن مجموعة (انطولوجيا) شعرية سنة 1920، أنه يحب العرب ويحب البربر ويحترم الروح الإسلامية، ولكنه يعتقد أن السلالة التي ستعيش في الجزائر سوف لا تكون بربرية ولا حتى فرنكو - بربرية، وإنما ستكون سلالة فرنسية، وستنتج أعمالا تنسجم مع وسطها (الفرنسي؟). ان عنوان المجموعة هو (13 شاعرا جزائريا) - كذا جزائريا - ولكنها مع ذلك لا تضم إلا الشعراء الفرنسيين، لأن كلمة (الجزائري) هنا تعنيهم هم فقط. وقد قدم لها الأديب الذي ذاع صيته بين الحربين وهو روبير لاندو. ونوه المحاضر، العقيد (؟) قادشو، بالشاعر لاندو وبالشعراء الذين تغنوا بالجزائر، وهم طبعا من الفرنسيين. وجاء برأي شارل ماري لوفيفر الذي سبق ذكره (وكان مستشارا لوالي العاصمة) حين قال يجب تشجيع المحاولات الجزائرية (يعني الفرنسية) الآن على ضحالتها وضعفها لأنها ستصبح ذات يوم مزدهرة، وستمثل فنا بذاته ومتميزا في افريقية (¬1). اننا إذن في الزمن الذي عرف بعهد (مدرسة الجزائر) وهي التي اختفى فيها الأدب العربي والإسلامي كما اندمج فيها الإنسان الجزائري، في ¬

_ (¬1) انظر المجلة الجغرافية للجزائر وشمال أفريقية SGAAN، 1920، ص 04 2 - 233، مع نص المحاضرة التي ألقيت في 30 ديسمبر 1920. ومن الشعراء الذين ورد ذكرهم في المجموعة شارل كورتان المولود في البليدة سنة 1885، وديلبيازو، الذي ولد في العاصمة، وراؤول جنيلا المولود أيضا في العاصمة، والسيدة أنيت قودان التي قيل انها تغنت بوهران، وادمون كوجون المولود أيضا في العاصمة وكذلك هيجل.

نظرهم، في المجتمع الفرنسي، تماما مثلما اختفت نظم القضاء والمعالم الإسلامية والتراث. رغم انتشار التعليم الفرنسي المحدود منذ أواخر القرن الماضي، ورغم وجود عدد من الجزائريين الذين درسوا الطب والأدب والقانون، فإننا لا نعلم أنهم أنتجوا شعرا بالفرنسية قبل الأربعينات إلا نادرا. إن هناك من بدأ قبل ذلك يكتب القصة والمقالة بها، ولكن الشعر كان آخر المحاولات. ولعل ذلك راجع إلى سيطرة التفكير العربي على العقل الجزائري، ذلك آن الشعر في أية لغة هو علامة على سيطرة تلك اللغة على عقل المتكلمين بها واندماجهم فيها. ونعتقد أن بعض المحاولات قد بدأت بين الحربين، بل في آخر القرن الماضي (¬1)، ولكنها لم تصل إلى درجة الإبداع بالفرنسية كما حدث بالنسبة للقصة والرواية. وكان هناك جزائريون معجبين ببعض الشعراء الفرنسيين، الأحياء والأموات، يقرأون لهم ويقلدونهم. أما شعراء العربية فمن الممكن أن ننفي تأثير الشعر الفرنسي عليهم، رغم أن هناك إشارات تفيد أن بعضهم ربما قد تأثر بعض التأثر. لقد ترجم أحمد رضا حوحو، وهو في الحجاز، بعض أشعار فيكتور هيغو، وحوحو لم يكن شاعرا، ولا نعلم أنه نظم حتى شعرا تقليديا. وكان قد تخرج من مدرسة فرنسية في سكيكدة (الجزائر) قبل هجرته إلى الحجاز سنة 1935 (¬2). وكان الطاهر البوشوشي شاعرا بالعربية ويحذق الفرنسية، ولا ندري إن كان قد ترجم من هذه اللغة إلى العربية، أو نظم بالفرنسية أيضا، ولكن شعره العربي على قلته، عليه مسحة التأثر بالشعر الفرنسي. وقد قام إسماعيل العربي بترجمة بعض القصائد الفرنسية إلى العربية في الأربعينات، ولكنه لم يكن شاعرا أيضا. كما أننا لا نعلم مدى تأثر شعراء الوقت بهذه القطع المترجمة. والمعروف أن كبار شعراء العربية مثل عاشور الخنقي والديسي ومحمد العيد ¬

_ (¬1) كما فعل محمد بن علي الجباري الذي قلنا انه نشر شعرا مترجما بالفرنسية في وهران سنة 1883. (¬2) انظر عنه دراسة صالح خرفي (أحمد رضا حوحو في الحجاز)، بيروت 1992.

ومفدي زكري وأحمد سحنون لم يكونوا يعرفون الفرنسية، وكذلك شعراء البربرية أمثال إسماعيل أزيكيو ومحمد بن محمد (محند أو محند). فهل بعد ذلك يمكن الحديث عن تأثر الشعر الجزائري بالشعراء الفرنسيين؟ ولا حديث بعد ذلك عن شعراء الزجل في البوادي والمناطق النائية. ومما تجدر الإشارة إليه في هذا المدخل أن بعض الشعراء لا نعرف من إنتاجهم شيئا الآن، وإنما أخبر الرواة عنهم أن لهم شعرا جيدا (¬1)، وأحيانا قالوا إن لهم دواوين في أيدي الناس، أو نحو ذلك من التعابير. وقد وقع للشعر ما وقع للنثر والمخطوطات، بعضه ضيعه أهله بالإهمال واليأس والتشرد، وبعضه ضاع منهم بالتلف والسرقة وعدم اهتمام الورثة، وكان الافتقار إلى الطبع والعجز المالي وعدم. المعرفة بأهمية الطباعة، كل ذلك ساهم في ضياع هذا الشعر. ولعل بعضهم كان يعتقد أن شعره لا يستحق الخلود بالتدوين والنشر. وكثيرا ما (تاب) الشعراء في آخر أعمارهم ورأوا أن أول علامات التوبة هو حرق شعرهم غير الديني. فكان الشعر ضحية كل هذه العوامل. ولذلك فإننا نستغرب من بقاء ما بقي منه أمام هذه الظروف، كما أننا سنجد صعوبة في الحكم على الشاعر من قصيدة أو مجموعة من بعض القطع. فنحن هنا لا ندرس دوادين ولكن قصائد ومقطوعات قاومت عوامل الفناء بنقل بعضهم أبياتا منها في مخطوطة له، أو نشر قصيدة للشاعر في إحدى الجرائد أو الكتب، وهكذا. ولنضرب على ذلك مثالا، يقول محمد بيرم بعد زيارته لضريح الشيخ الثعالبي في العاصمة ولقائه مع خادم هذا الضريح، وهو علي بن الحاج موسى: وله (أشعار جيدة) (¬2). أولا ما هي هذه الأشعار؟ وثانيا أين هي؟ ومن المتواتر، ثم من مصادر أخرى نعلم أن ابن الحاج موسى. كان من ¬

_ (¬1) لا نستطيع الآن أن نحكم على تأثر شعر رمضان حمود وعبد الكريم العقون ومبارك جلواح والربيع بوشاشة بالشعر الفرنسي. كما أن الفرقد (سليمان بوجناح) كان يعرف الفرنسية، ولكنه غير معروف كشاعر. (¬2) محمد بيرم (صفوة الاعتبار) 4/ 16.

الشعراء خلال القرن الماضي، وأنه بعد خدمة القضاء مال إلى الزهد والعبادة والتأليف. ولكن هذا لا يجعل منه شاعرا مجيدا إلا إذا اطلعنا على شعره وموضوعاته لنعرف مكانته وقيمته. وهذا غير ممكن في الوقت الحاضر. والأمثلة على ذلك عديدة. فعندما يقول لك أحد المؤلفين ان لفلان ديوانا، تميل إلى تصديقه، ولكنك تحتاج إلى دليل. وإضافة إلى ذلك فإننا سنتحدث عن الشعر وليس عن الشعراء إلا قليلا. وللتوضيح نقول ان كثيرا من المتأدبين والمتعلمين لهم أشعار وقطع في موضوع أو أكثر، وليسوا بالضرورة شعراء بالمعنى الخاص للكلمة. ولو قصرنا حديثنا على الشعراء المحترفين لما وجدناهم بسهولة ولكان عددهم ربما على الأصابع فقط. بينما هناك شعر وفير أنتجه فقهاء وقضاة وأيمة وأبطال وزهاد ومربون وصحفيون. وهذا الشعر هو موضوعنا هنا. وإذا وجدنا الدواوين والمجموعات فسنتناولها بالطبع ولكننا لن نتوقف عندها. وإذا وجدنا شعراء محترفين، فسنترجم لهم أو لبعضهم مبتهجين. ولقد هاجر الشعر مع المهاجرين أيضا. ففي المغرب والمشرق حط الشعر رحاله مع قوافل العلماء والزهاد الذين فضلوا العيش بعيدا عن الاحتلال الأجنبي لبلادهم، أو نفاهم هذا الاحتلال نفسه من بلادهم. فقد انتقل شعر الأمير عبد القادر معه إلى سجون فرنسا ثم إلى قصور بروسة ودمشق، ولولا ما جمعه له ابنه محمد، وما ترجمه له الضابط دوماس، لضاع شعره كما ضاع شعر غيره. وأنتج أبناء الأمير وإخوته وأبناء عمومته أشعارا لم نسمع إلا ببعضها. ولأبي حامد المشرفي ديوان مخطوط في المغرب يضم أمداحه ومشاعره، ولمحفوظ الدلسي (تونس) وصالح السمعوني (سورية) والكبابطي (مصر)، أشعار تختلف في الجودة ولكنها غائبة في الهجرة. ولأبناء وأحفاد وإخوان هؤلاء دواوينهم وقصائدهم. فهذا سليم الجزائري له شعر وقد نظم النشيد القومي العربي ضد الأتراك. وكان من فتيان العرب الذين قتلهم جمال باشا سنة 1916 بدعوى التآمر ضد تركيا.

الدواوين والمجاميع

الدواوين والمجاميع نذكر هنا الدواوين المطبوعة والمخطوطة التي علمنا بها أو اطلعنا عليها. كما نذكر المجاميع بنفس الطريقة، وهي تلك التي تضم قصائد لشعراء عديدين. وسنلجأ إلى الترتيب الزمني كلما أمكن ذلك. 1 - ديوان الأمير عبد القادر المسمى (نزهة الخاطر في قريض الأمير عبد القادر). وربما كان هذا الديوان أقدم الدواوين التي طبعت. ورغم أنه طبع في مصر بدون تاريخ، فالغالب أنه طبع قريبا من تاريخ طبع (تحفة الزائر) الذي ظهر في مصر أيضا، سنة 1903. وكان ابنه محمد (الأمير محمد باشا) هو المسؤول على جمع نزهة الخاطر وطبعا، بعد وفاة والده بربع قرن. ولعل الديوان كان مجموعا في حياة الأمير. ولكن ما ظهر منه لا يضم كل ما قاله الأمير من شعر. فهناك قصائد وقطع معروفة له، وهي غير موجودة في الديوان، فهل هذا راجع إلى اختيار ابنه محمد أو عدم تمكنه من جمع القصائد كلها؟. وكانت قصاند من شعر الأمير قد ظهرت في بعض مؤلفات الضابط دوماس الفرنسي، سيما كتابه عن (الخيول الصحراوية). وفي بعض كتب دوماس الأخرى ظهرت نماذج أيضا مثل (المرأة العربية). وكان هذا الضابط على صلة بالأمير أثناء سجنه فرنسا، وكان يتقن العربية. وكان الأمير قد كتب فصلا عن الخيول في الجزائر وقدمه مع قصيدته عن البداوة والحضارة إلى هذا الضابط (¬1). وقد ذكرت له بعض المصادر الفرنسية الأخرى قصائد في أغراض شتى. منها قصيدة نشرت في النص الفرنسي ولم يذكر نصها العربي، وهي تعبر عن شوقه لإخوته. فكان يحن إليهم بعد فراقهم في المعارك والغزوات. وقد ترجمها المستشرق برينييه ونشرت في (مجلة الشرق). وقد بدأها بأوصاف تناسب كل واحد من إخوته فى نفسه، مثل: يا سويداء قلبى، وروح ¬

_ (¬1) انظر تفصيل ذلك في المجلة الشرقية الجزائرية، ج 1، 1852.

جسمي، وربيع قلبي، وذراعي الأيمن. وحاول المحلل للقصيدة أن ينسب كل وصف من هذه الأوصاف إلى أحد الأخوة. ويبدو أن الفرنسيين قد عثروا على القصيدة إما في حادثة الزمالة وإما باحتجاز بريد الأمير. ذلك أن المترجم وجد على النسخة ملاحظة يبدو أن الأمير قد أملاها على كاتبه وهي: اكتب هذا الشعر (القصيدة؟) على ظهر الرسالة الموجهة إلى محمد السعيد أو إلى مصطفى، واحتفظ بالنسخة الأصلية عندك، وإذا وجدت أخطاء فصححها، وعسى الله أن يوفقنا جميعا بجاه سيدنا محمد وآله وصحبه (¬1). وهذه القصيدة تقع في حوالي 20 بيتا. وقد ذكرت مجلة الشرق أن الأمير بدأ قرض الشعر وعمره خمسة عشر عاما. وأنه كان معجبا بثورة التجاني ضد حكم الأتراك في معسكر (1814) وأنه أشاد بالتجاني واعتبره شهيدا. ولكن هذه القصيدة لا تعبر عن ذلك. وقد نسبت إليه مجلة الشرق أيضا قصيدة قالها في الزلزال الذي أصاب وهران، والذي أجبر الأسبان على مغادرتها (؟). ولكنها لم تورد أيضا نص هذه القصيدة (¬2). وقصيدة (يوم البين) التي قالها الأمير سنة 1847 وقع خلاف حولها بين كاتبين فرنسيين. قال (اوغست شيربونو) إن الأمير قالها في امرأة فرنسية، ولكن عائلة ابن رحال (من ندرومة) كانت تحتفظ بنص القصيدة وتعرف مناسبتها. لأن حمزة بن رحال كان قاضيا في عهد الأمير ثم أصبح آغا لدى الفرنسيين. وكان يعرف أن قصيدة (يوم البين) قالها الأمير في توديع الوفد الذي أرسله إلى السلطان عبد الرحمن بن هشام، برئاسة محمد البوحميدي ¬

_ (¬1) مجلة الشرق، باريس 1846، ص 344 - 345. معلومات إضافية عن هذه القصيدة وظروفها موجودة في فصل المشارق والمغارب. (¬2) عن علاقة الأمير بالشعر انظر دراسة قندوز (؟) (الصحراء لها شاعرها: الأمير عبد القادر) في المجلة الجغرافية للجزائر وشمال افريقية SGAAN، 1931، ص 65 - 78. وقد ترجم للأمير شعرا مما ذكره له ابنه في (عقد الأجياد) وعن دوماس أيضا (وربما الصحيح كتاب نخبة عقد الأجياد).

صديق الأمير وخليفته على تلمسان. وكان ذلك في شهر نوفمبر 1847 عندما انغلقت كل السبل أمام الأمير وأصبح محاصرا بالجيش الفرنسي والجيش المغربي. فالقصيدة كانت في وداع الوفد والفراق. وكأن الأمير يقرأ الغيب، لأن البوحميدي لم يرجع إليه، فقد توفي في فاس في ظروف غامضة. ومات كذلك عضد الأمير الآخر، وهو محمد بن عيسى البركاني في تازة (المغرب)، وهكذا بقي الأمير وحيدا، تقريبا. وقد حصل المستعرب ف. باتورني على نص القصيدة ونشرها مع بعض الملاحظات (¬1). وللأمير أشعار متفرقة ضمها مجموع مخطوط كان في حوزة محمد الشاذلي في قسنطينة وانتقل منه إلى مكتبة الشيخ المولود بن الموهوب. وفي تحفة الزائر نماذج أخرى من شعره، كما أن ابنه ذكر له في (نخبة عقد الأجياد) قصيدة البدو والحضر، وكذلك في كتاب (المواقف) أشعار أخرى له. ولا شك أن في مراسلات الأمير أثناء المقاومة وبعدها أشعارا أخرى. ولو جمع كل ذلك لجاء في ديوان كبير، وشمل مختلف الأغراض التي طرقها الأمير. أما ديوانه المتداول فقد احتوى كما قلنا على بعض شعره (¬2). ومهما كان الأمر فقد رتبه ابنه على عدة أغراض. وإذا صح أن الأمير بدأ نظم الشعر مبكرا (15 سنة) وأنه نظم في الزلزال والثورة التجانية، فمن الممكن أن نزعم ¬

_ (¬1) نشر شيربونو نص القصيدة في (تمارين على قراءة المخطوطات العربية)، باريس 1850، ص 55. أما باتورني فقد نشر النص الجديد في المجلة الإفريقية، 1896، ص 278 - 281. ومما قاله ليون روش عن البوحميدي (وقد عرفه عن كثب عندما كان مقيما عند الأمير يتجسس عليه): كان البوحميدي أطول قليلا من الأمير، له لحية سوداء وبشرة مصهودة بالشمس، نحيفا، وله عضلات قوية وروح عسكرية، ونظرته حادة لكن الأهداب تخفف من حدتها. قاد معظم الهجومات ضد الفرنسيين في ناحية وهران. شجاع نادر وفارس مغوار، يتصرف بمهارة في السيف والبندقية. واشتهر بالعدل أثناء حكمه تلمسان. (¬2) ط. 1، مصر، د. ت، 58 صفحة. ثم طبع طبعات أخرى منها ط. ممدوح حقي، دار اليقظة، سورية 1964، وط. الجزائر، 1990، بتحقيق ودراسة زكريا صيام.

أنه كان أيضا شاعر الطبيعة والوصف. فقد ارتحل للحج وشاهد آثار الشرق والإسلام، فهل سجل ذلك في ديوانه؟ ثم إنه كان يمارس رياضة الصيد والفروسية قبل الاحتلال. ونظن أنه نظم حول ذلك أيضا. ورغم أنه تزوج مبكرا، فإن حياة الشباب والغزل ربما لم تمر بدون نفحات خيالية وأشواق ملتهبة. إن ما في الديوان لا يجيب على هذه الأسئلة ولا يسجل هذه المرحلة، وربما تصرف ابنه بما ظن أنه يناسب مقام أبيه وشهرته كرجل دين ودولة وموضع احترام العالم. ولكنه قد حرم بذلك الشعر والباحثين من جانب هام في حياته، إذا صح أنه تصرف كما قلا. وثقافة الأمير تقليدية، فهي ثقافة الزاوية والمسجد، والدراسة والمشاهدات. درس في القيطنة ووهران، وتتلمذ على شيوخ الوقت ومنهم والده شيخ الطريقة القادرية. ولكن الأمير عاش تجربتين الأولى رحلته إلى المشرق التي أضافت إلى رصيده العلمي أشياء كثيرة، مثل معرفة المذاهب في الحجاز والإصلاح في مصر. والتجربة الثانية هي الاحتلال الفرنسي ومقاومته مع ما يلزم ذلك من معرفة ما عند العدو من وسائل التقدم والتفوق، كالأسلحة والألبسة والتدريب العسكري والانضباط، ثم الصحف والمطابع والمعاهدات والمعاملات. فهل دخل ذلك في شعر الأمير أو تأثر به؟ إن الجواب على ذلك صعب، لأننا لا نملك كل شعره من جهة ولأننا لا نعرف تواريخ هذا الشعر. فإذا استطعنا ذات يوم أن نعرف ما نظمه قبل التجارب التي ذكرنا وما نظمه بعدها استطعنا أن نميز الفرق، إن كان. أما الأغراض فمعظمها تقليدية، فالفخر والحنين والغزل والوصف والفروسية والمدح، كلها أغراض معروفة في الشعر العربي. ولكن هناك مسحة جديدة في هذا الشعر وهي ارتباطه بوقائع معلومة مع حرارة العاطفة عند صاحبه وصدقه. فهو صادق الفخر إذا افتخر، وهو صادق الفروسية إذا تباهى بها. والجديد أيضا هو أن هذا النوع من الشعر كان غائبا قبل 1830 منذ مدة طويلة. فالشعراء قد يتحدثون عن معارك الجهاد ضد الأجانب، ولكنهم لم يكونا هم الفرسان. فالأمير كان هو الشاعر والفارس والمجاهد

معا. كما كان رجل دولة ودين. 2 - ديوان عاشور الخنقي: ظهر هذا الديوان سنة 1914. وهو في الواقع منظوم في نهاية القرن الماضي. ولكن الشاعر جمع ما تفرق من شعره سنة 1913 وطبعه بعد ذلك (¬1). وعنوان هذا الديوان هو (منار الإشراف). وقد رتبه بنفسه على النحو التالي: أولا: خطبة الديوان وفيها حوالي 52 صفحة. ثانيا: القصيدة الكبرى المسماة (حسن الأمل في فضل الشرف المجرد عن العمل). ثالثا: القصيدة الصغرى التي اختصرها من الكبرى وسماها (كشف الخفاء عن فضل عصاة الشرفاء ومواليهم من الطرفاء). رابعا: القصيدة الوسطى التي خمس بها الصغرى وسماها (أعجوبة الأطراف بفضل عصاة الأشراف ومواليهم من الأطراف). خامسا: القصيدة المسماة صغرى الصغرى، وعنوانها (غاية الإنصاف فضل عصاة الأشراف ومواليهم من الأطراف). سادسا: رسالة نثرية سجعية، وهي بالطبع ليست من الشعر، ولكنها جزء من ترتيب الديوان. سابعا: الخاتمة التي ضمت قصيدتين، الأولى سماها (ترقيص أطفال الكتاب)، وهي في هجاء الشيخ صالح بن مهنة، والثانية سماها (غاية الرقى في مدح الشيخ أبي التقى) دفين بالبرج. فأنت ترى أن الديوان كله تقريبا عن الأشراف والدفاع عنهم ومهاجمة من يتعرض لهم، وقد بالغ في ذلك حتى اعتبر العصاة منهم مغفورا لهم من ¬

_ (¬1) يقول (وكان الفراغ من تجميعه وترقيمه وترتيبه وتذنيبه صبيحة يوم السبت الثالث عشر من صفر الخير، عام 1332، ص 168. وتقع القصائد التي ذكرها من صفحة 55 - 129. والديوان طبع في المطبعة الثعالبية، الجزائر 1914 (1332). وعنوانه الكامل (منار الإشراف على فضل عصاة الأشراف).

عند الله، بل جعلهم في مقامات فوق البشرية. وذلك ما جلب إليه النقمة من البعض واعتبر هو ذلك حسدا منهم له. ودخل معهم في مهاترات ماكان أغنى الجزائر عنها لو كانوا من العاقلين. وسنذكر ما حصل له من تقلبات ومحن نتيجة ذلك. ونفهم من الترتيب والتقسيم السابق للديوان أنه لا يضم سوى قصيدتين خارج القسم الخاص بالأشراف. والواقع أن القصيدتين أيضا داخلتان في موضوع الشرف، فالأولى في مهاجمة ابن مهنة، دفاعا عنهم. والثانية في مدح شيخ يعتبره الشاعر أيضا من أهل الشرف. وليس ذلك كل شيء. ففي الديوان قصائد أخرى يبدو أنه أضافها إليه، وهي غير داخلة في الترتيب المذكور، ومنها: قصيدة في مدح القاضي عبد القادر بن زريق الذي احتضنه ووسع عليه عندما جفاه الناس في قسنطينة. وقصيدة في ملح وشكر الشيخ محمد السعيد بن زكري مفتي ومدرس العاصمة على تدخله لإطلاق سراحه بعد سبعة عشر عاما من السجن. وكان ابن زكرى يقول إنه من أشراف زواوة، فتكون القصيدة أيضا في موضوع الشرف. ونلاحظ أن كل قصائد الديوان نظمت قبل 1896 إلا قصيدة أبي التقى فهي سنة 1909. وكان الشيخ عاشور قد ضاق به الحال، فاستنجد بالأحياء والأموات، وكان أبو التقى من الصالحين الذين استنجد بهم. أما مدح ابن زكري فنحن نعلم بالقرينة أنه بعد 1909 ولعله سنة 1911، حين أطلق سراحه. ولكن ليس ذلك هو كل شعر عاشور الخنقي. فقد كان كثير الإنتاج واسع الاطلاع قوي الحافظة، وقد أورد في كتابه (منار الإشراف) أن له أشعارا أخرى بل ديوانا آخر. ولكن أين ذلك الآن؟ إن له ديوانا في ذم الشيخ عبد القادر المجاوي سماه (الديوان الباوي في هجو المجاوي) (¬1). وقد ذكر بعضهم أنه يقع في أكثر من ألف بيت. ولا نعلم سبب الخصومة بين الرجلين، ولكن المعروف أن المجاوي قد حل بقسنطينة ¬

_ (¬1) محمد علي دبوز (نهضة) 1/ 91، 99.

حوالي 1872 في الوقت الذي حل بها عاشور تقريبا. وأخذ المجاوي يدرس للطلبة في أحد المساجد، كما كان يفعل عاشور، ثم إن الفرنسيين عينوا المجاوي مدرسا في المدرسة الكتانية الرسمية التي كان مديرها محمد الشاذلي، ولم يعينوا عاشور. فهل هي الغيرة والحسد فقط؟ إن من مآخذ عاشور على المجاوي أن مجلس درسه كان محل السوق. ومع ذلك نجح المجاوي في تدريسه بقسنطينة وأخفق عاشور حين قاطعه الناس، كما ذكر هو. والجدير بالذكر أن محمد الشاذلي، مدير الكتانية خلال السبعينات كان أيضا من البوازيد الهلاليين، وهم قبيل عاشور، كما سنرى، وقبيل شيخه محمد بن بلقاسم الهاملي. والديوان الثالث لعاشور الخنقي هو ما نظمه في هذا الشيخ، نعني محمد بن بلقاسم (البوزيدي) الهاملي. وقد سماه (ديوان مديح يشفى غلة القلب القريح) وقال إنه يشتمل على عدة قصائد كلها جمانات وجواهر وفرائد. وفيه القصائد الطوال. ومن هذه القصائد (الرحلة البدرية)، و (بانت سعاد) وأرجوزة سماها (غنية القلوب) وقصيدة (الشافية) وأخرى سماها (الصفاتية في أجوبة الإنكارات السماتية) و (سيوف الأصحاب على رقاب الأحزاب) و (المنفرجة الهاملية). وغيرها من القصائد الطوال والقصار، وقال إنها متفرقة في الأقطار أيدي سبإ. وقد وعد بأنه سيجمعها ويطبعها عن قريب. ولكن لم تظهر في كتاب وظلت في خزائن الخاصة، ولعلها في خزائن الزاوية الهاملية. ومنها ما يبلغ 600 بيت. وهكذا، فنحن أمام شعر غزير، قد يكون ثلاثة دواوين على الأقل، إذا اقتصرنا على ما ذكره هو وما نظمه قبل سجنه، بل إلى حوالي 1913. ولكن الشعر الذي لم يذكره ربما كثير أيضا، ونعقد أنه استمر في قرض الشعر بعد 1914، وكان قد دخل مرحلة أخرى في الدفاع عن الأشراف والصالحين حين هاجم الشيخ الطيب العقبي أيضا خلال العشرينات لأن العقبي تعرض لرجال الطرق الصوفية، وفهم عاشور وبعض الناس أنه كان ضد آل البيت وأهل الله.

كانت العلاقة وطيدة بين الشيخ القاسمي وعاشور. وقد كشف عاشور عن عدة جوانب منها، من ذلك أن الشيخ القاسمي هو الذي وظف عاشور في زاويته لتدريس العروض والمنطق. وكان عاشور قد قرأ الأوزان في نفطة على الشيخ المدني بن عزوز وأجازه فيها. وجاء عاشور إلى الزاوية الهاملية بزوجته (باية) وأقام بها هناك إلى أن توفيت، وقال إنها كانت تقرأ القرآن. وخصص له الشيخ راتبا بمائة فرنك من أحباس الزاوية فأغناه عن الناس، وكانت بينهما رابطة خاصة حتى أن الشيخ كان مستعدا للتنازل له على إحدى زوجاته - بعد العدة - لو لم يكن الشيخ عاشور متزوجا. هذا جانب، والجانب الآخر أن الشيخ القاسمي هو الذي قال لعاشور إنه عنده بمنزلة حسان بن ثابت، وكان يسميه (شاعري). وذكر عاشور أن الشيخ كان يطرب لشعره ويتواجد حتى يخرج عن أحواله الظاهرة. وهذا قد يدل على تذوق الشيخ للشعر وعلى طغيان النازع الصوفي عليه، رغم أن شعر عاشور ليس صوفيا كله ولا روحيا عميقا، وإنما هو شعر يمتاز بالجزالة والتدفق. والشيخ القاسمي هو الذي شجع عاشور على خوض معركة الدفاع عن الأشراف، وكان، كما يقول عاشور، مثله من البوازيد، رغم أن الذين ترجموا للشيخ القاسمي لم يهتموا بذلك (¬1). وعندما قرأ الشيخ القاسمي قصائد عاشور الكبرى والوسطى والصغرى قال: (أحيا الشرف في هذا الزمن المظلم، الله يحييه!). والغريب أن الشيخ القاسمي إذا كان هو الذي شجع عاشور على التصدي لمن هاجموا الأشراف كما فهموا، مثل الشيخ محمد الصالح بن مهنة، فإنه لم ينقذه مما وقع له رغم مكانته عند الفرنسيين وعند الرأي العام. ويقول عاشور بصراحة إن الذي حمله على نظم منار الإشراف هو محمد بن أبي القاسم، وذلك عند ظهور دعوة ابن مهنة (حتى لا يقتدي به ضعفاء العقول)، ونفهم أن عاشور بقي سجينا أو تحت الإقامة الجبرية سبعة عشر عاما وبضعة أشهر، قبل سنة 1911، فيكون قد سجن حوالي 6 189. ونحن ¬

_ (¬1) انظر تعريف الخلف، 2/، وكان مؤلفه يعرف الشيخ القاسمي جيدا.

نعلم أن الشيخ محمد بن بلقاسم قد توفي سنة 1897. وربما كان ذلك من سوء حظ عاشور، لأن الذين تولوا شؤون الزاوية بعد الشيخ لم يعترفوا له بما كان الشيخ يرتبه له، وربما لم يتذوقوا شعره كما كان يفعل الشيخ، وربما شعروا بالراحة والتخلص منه، سيما وأن من خصومه أيضا الشيخ محمد بن عبد الرحمن الديسي. وهو صاحب كلمة في الزاوية، وكان عالما قوي المعرفة وشاعرا بارزا أيضا، كما سنرى. وأثناء سجنه الطويل عبثت الأيدي بشعر عاشور، وخشي عليه من الضياع والتحريف. وقد قال إنه كان ينوي جمعه وطبعه بين 1895 - 1896، ولكن ما حدث له أخره عن إنجاز رغبته. وتوجه الشك لخصومه الذين سماهم (عوج الأيدي وهوج الأصابع) ظانا بهم ظن السوء. وكان بالطبع يعني ابن مهنة وأنصاره، فقد اتهمهم بالزيادة والنقصان في شعره، ولذلك وجد شعره، بعد خروجه من السجن مشوها في عدة نسخ. فأخذ (يرقعه) - كما قال، فجمع القصائد المتفرقة (على أنني غير مكترث في ترقيعه بما وافق الأصل الفاسد أو خالفه، بموجب التباسه علي بكثرة المخالفة، ومطاولة الأجل المهول على العهد الأول). ونفهم من ذلك أنه وجد صعوبة في الحصول على الأصل أو في جعل المطبوع قريبا من الأصل. ومع ذلك أقدم على جمعه وطبعه إنقاذا له، وقد طلب من كل من لديه نسخة غير المطبوعة ألا يعتمد عليها (¬1). ورغم أن المنار قد احتوى على قصيدة في مدح البوازيد، فإن هناك قصيدة أخرى له فيهم غير مذكورة في المنار، وهي القصيدة الدالية التي افتخر فيها أنه منهم وأن آل المقراني، وآل عثمان من البوازيد أيضا، وهي التي سماها (العقد الفريد في فضائل البوازيد)، وأولها: ¬

_ (¬1) طبع منه 5000 نسخة، وهو عدد ضخم إذا عرفنا عدد القراء القليل عندئذ. وقال إنه تكلف الصرف على طبع الكتاب، فهل معنى ذلك أنه استدان أو استكتب الناس وطلب تبرعاتهم؟ وقد طلب ممن له نسخة قديمة من منار الإشراف أن يتلفها بالماء الطهور أو النار السريعة.

أبرق على وادي جدي ن يصعد ... فبشر أن الحي بالري مسعد وسنذكر منها أبياتا في فقرة الفخر. ولكننا لم نعثر على أشعار أخرى له غير ما ذكره هو في ديوانه المطبوع أو ما قال إنه نظمه في الشيخين محمد بن بلقاسم الهاملي وعبد القادر المجاوي. ومهما كان الغرض الذي نظم فيه الشيخ عاشور فإن شاعريته تظل عندئذ بدون تحد، ولغته كانت حقا متينة، ولم يكن أحد من الأدباء قادرا، على مجاراته في الميدان. ولعل ما وقع له في قسنطينة لم يكن كله حسدا شخصيا، بل قد يكون وراءه أغراض أخرى. فالرجل قد هاجر في طلب العلم إلى نفطة وتغرب، ولكنه نال ما تمنى. ولم يكن المجاوي من المهاجرين في طلب العلم، ولكن والده هو الذي أنجبه في المغرب ورباه وعلمه في القرويين. وكان وراء المجاوي مصاهرة عائلة الأمير عبد القادر ولم يكن ذلك متوفرا لعاشور. وكان عاشور فيما يبدو هجاء سليط اللسان ومعتدا بشعره ونبوغه، ولم يكن المجاوي ولا ابن مهنة من الشعراء (¬1). وقد حملت مسألة الشرف عاشور إلى مدح السلطان عبد الحميد الثاني ونقيب الأشراف في الدولة العثمانية أبي الهدى الصيادي. ونوه عاشور بالصيادي وشرفه وبكتابه (ضوء الشمس)، وجعل نسب البوازيد وبني عثمان واحدا. كل ذلك في وقت كانت السلطة الفرنسية فيه تراجع سياستها الإسلامية وتصد تيار الجامعة الإسلامية القادم، حسب الفرنسيين، مع عملاء الدولة العثمانية. ويبدو لنا أن سجن الشيخ عاشور وإبعاده عن مسرح الأحداث لم يكن كما فهمه هو من فعل ابن مهنة وأنصاره، ولكنه من فعل المخابرات الفرنسية، ومن فعل إدارة الشؤون الأهلية التي كانت ترى في لسانه وشعره وعلاقاته خطرا على سياستها في الجزائر. وتلفيق التهم التي أشار إليها عاشور كان أمرا هينا على أمثال دومينيك لوسيانى وجان ¬

_ (¬1) عن حياة المجاوي انظر فصل السلك الديني والقضائي، وعن ابن مهنة انظر فصل اللغة والنثر الأدبي.

ميرانت عندئذ (¬1). انظر إلى عاشور كيف فهم القضية: (استعجلني على ذلك (أي طبع الكتاب) مصيبة النفي والتغريب، واسترهقتني عليه مشيئة السجن والتعذيب، مدة سبعة عشر عاما، أو تزيد أشهرا وأياما، بموجب هذا المجموع الشريف ... بإغراء ذلك الدجال الضال (ابن مهنة؟) وأشياعه على ذلك الضلال، ولاة الأمر اليوم من أهل دولة الفرنسيس، بما افتروه علي وأضافوه إلي من أراجيف التدليس، على وجه التخليط والتلبيس) (¬2). فالاتهام هنا موجه إلى خصومه الجزائريين الذين أغروا به السلطة الفرنسية ولبسوا له التهم فسجنته، وهذا فهم ساذج في نظرنا. وإلى جانب كونه قد مدح السلطان العثماني ونقيب الأشراف في اسطانبول، كان عاشور رحمانيا (خلوتيا)، ومن تلاميذ الشيخ محمد بن أمزيان الحداد زعيم ثورة 1871. وهذا وحده كاف لقمع شاعر كعاشور وقطع لسانه إذا أمكن. وقد روى عاشور كيف أخذ الطريقة على الشيخ الحداد في سجن قسنطينة (توفي الشيخ الحداد في سجنه). ونعته بالقطب والأستاذ، وحاول تبرئته من الضلوع في الثورة خدمة لأنصاره، ربما (اتهم الأستاذ القطب بتلك الثورة، فأتي به فيها إلى تلك الحضرة (قسنطينة)، وعلى الحقيقة هو منها برئ سليم ... حسبما أخبر بذلك المؤلف (عاشور) بمشافهته السنية، من قصة تقتضي الإطالة) (¬3). ويسمى عاشور عام ¬

_ (¬1) دومينيك لوسياني كان المكلف بإدارة الشؤون الأهلية (الجزائرية) وكان ميرانت موظفا بارزا فى الحكومة العامة، وسيتولى المنصب الأول بعد لوسيانى. وكان لويس رين الذى تولى الشؤون الأهلية خلال الثمانينات ما يزال مستشارا للحكومة الجزائرية، ما الحاكم العام زمن سجن عاشور فهو جول كامبون. وعن إشادة عاشور بالسلطان عبد الحميد والصيادي انظر منار الإشراف، ص 59. وكانت دعوى شرف آل عثمان قد روج لها بعض دعاة الجامعة الإسلامية/ العثمانية بقيادة السلطان عبد الحميد، تقربا وزلفى. وهي دعوى باطلة ولا أساس لها في التاريخ. (¬2) المنار، ص 22 - 23. (¬3) نفس المصدر، ص 23. وليته قد أطال!.

1871 عام (الثورة المقرانية على الدولة الفرنساوية). وأخبر عاشور أن له جلسات ومحاضرات، مع الشيخ الحداد وأنه ذاكره عدة مرات، وذهب إلى أن الشيخ الحداد كان يوصي أتباعه باغتنام فرصة الطريقة الرحمانية لأنها منتقلة إلى أشراف الهامل. وكان الحداد، كما قال عاشور، ينوه بالشيخ محمد بن بلقاسم. غير أننا نعرف من المصادر الفرنسية (لويس رين) أن وصية الحداد بالخلافة كانت لابن الحملاوي وليس للشيخ الهاملي ولا الشيخ البوجليلي (¬1). وهناك ناحية أخرى كانت تغضب الفرنسيين على الشيخ عاشور، وهي أنه درس في نفطة عدة سنوات. وكانت الزاوية العزوزية بنفطة عدوة لفرنسا، وهي أيضا رحمانية. وكانت خلال دراسته، تأوي ثوار الجنوب من محمد بن عبد الله إلى ناصر بن شهرة، إلى المقرانيين في أول السبعينات. ولعل للإدارة الفرنسية شبهات أخرى ضد عاشور لا نعلمها الآن. وقد اغتنمت الإدارة فرصة المهاترات التي وقعت بينه وبين بعض المعاصرين، وسجنته وغربته مدة طويلة. ونحن نفهم أن يكون السجن لمدة قصيرة (تأديبا) له وإرضاء للشاكين معه، ولكن كيف يظل سجينا أو تحت الإقامة الجبرية في إحدى القرى طيلة سبعة عشر عاما وشهورا! من أجل ماذا؟ هل يصدق عاقل أن فرنسا تفعل ذلك به غيرة على الأشراف؟ وماذا عساها تستفيد هي من ذلك؟ ان ذلك هو ما يدفعنا إلى الاعتقاد بأن وراء سجنه أو بالأحرى قطع لسانه تهمة سياسية، ولكننا لا نعلم الآن حيثياتها بالضبط، وهو نفسه لم يكن ربما يعلمها لأنه لم يتهم بها بصراحة. وها هو يصف السجن: (وبينما أنا على تلك الشجون (التنقل بين القرى والبادية لتغيير المنكر والتدريس - كما قال)، إذ حملت إلى مختلف السجون ... بعضها ظلمات فوق بعض، مع أجلاف، أو منفردا مع الفئران) (¬2). ولم يسلم ابن مهنة أيضا من (التأديب) الرسمي إظهارا (العظمة الدولة الفرنسية)، كما قالت جريدة (الأخبار) شبه الرسمية. فقد أوقفوه أيضا عن الإقامة، واحتجزوا كتبه وأوراقه لانتقاده ¬

_ (¬1) انظر فصل التصوف - الرحمانية. (¬2) المنار، ص 25 - 26.

الحكومة وتعرضه لرجال الدين (¬1). بالإضافة إلى سوء التفاهم الذي وقع بين عاشور وبعض مشاهير العلماء في قسنطينة، مثل المجاوي وابن مهنة، عارضه الشيخ محمد بن عبد الرحمن الديسي أيضا. وكان ذلك فيما يبدو، بعد نشر (ديوان المنار). وكان الديسي، كما ذكرنا، أحد مدرسي زاوية الهامل. وكان فاقد البصر. فألف كتابا أو رسالة سماها (هدم المنار)، وهو يقصد بذلك (منار الإشراف) لعاشور. وقد هاجمه واعتبره، كما قيل، شيطانا في صورة إنسان، واتهمه بتأليه الأشراف تقربا من أعيانهم من أجل المال (¬2). وقد أشار عمر بن قينة إلى أن للعقبي أيضا رأيا في الشيخ عاشور، أو بالأحرى خلافا معه (¬3). وأغراض الشعر عند عاشور الخنقي غير جديدة. فالمدح بالشرف أو غيره، والفخر والهجاء كلها أغراض قديمة عرفها الشعر العربي وجال فيها الشعراء. ولكن هل ذلك كل ما أنتج عاشور؟ ان شاعرا يتمتع بموهبة كبيرة في الأدب واللغة، وعاش في الشرق الجزائري ونفطة في فترة ثورات وانتفاضات، وفترة ضنك للشاعر والشعب، ثم احتلال تونس، والانقلاب العثماني، ونحو ذلك من الأحداث - هذا الشاعر لا يمكن أن يكرس كل شعره في الأمداح لأهل الشرف والتصوف، وبعض الهجاء والفخر. وماذا عن سجنه الطويل، وعن حرمانه ووفاة زوجه وأقاربه؟ ومن الملفت للنظر أنه رغم تقديره القوى لبعض شيوخه في العلم والتصوف، مثل مصطفى بن عزوز ¬

_ (¬1) سنعرض حياة ابن مهنة وما حدث له في فصل آخر (فصل اللغة والنثر الأدبي). انظر (الأخبار)، 16 أبريل 1905. (¬2) لم نطلع على رسالة الديسي، وقد أشار إليها أحمد مريوش في بحثه لنيل الماجستير عن الشيخ العقبي. وقد ذكرنا في مكان آخر أن للديسي رسالة بعنوان (الساجور للعادي العقور). (¬3) عمر بن قينة (الديسي) وكذلك الشهاب مارس 1926، عدد 17. وقيل ان عاشور قد تحالف مع الشيخ المولود الحافظي ضد العقبي. وكان الحافظي رئيسا لجمعية علماء السنة ومتقربا، رغم علمه، من أهل الزوايا.

ومحمد الحداد، لم يذكر أنه نظم في رثائهما أو مدحهما، ونحن نعلم من سيرته أنه حضر وفاة كليهما. كان عاشور مفتخرا بنفسه إلى حد الغرور، على طريقة المتنبي، أليس هو القائل: أنا الشاعر الفحل الغيور، ولا وجل ... على جانب الله، ما دام لي أجل وفي المدح للسلطان عبد الحميد وأبي الهدى الصيادي والبوازيد، قال عاشور، مبتدئا بالصيادي: شيخ الشريعة والطريقة والحجا ... صدر النقابة في بني الزهرا الخير في حضرة الآستانة الغراء من ... أعضاء سلطان السلاطين الأخر مولى الورى (عبد الحميد) حميد ما ... شملتمه سلطنة البرايا من سير أهل الخلافة كابرا عن كابر ... عن كابر عن كابر عن ذي كبر من آل عثمان الذي جمع الخلا ... فة في الورى فيما تجاهر واستتر ولقد بدا أن السلاطين العلا ... من آل عثمان (بوازيد) غرر وبه تقاسمت البوازيد الخلافة ... هؤلاء ولاتها فيما استتر وأولئك الأملاك جهرا أهلها ... فالكون طرا للبوازيد العبر (عاشور) مولاهم ومولى القوم منـ ... ـهم قال جدهم الرسول ولا فخر لي في البوازيد العلا لا سيما ... أستاذنا، ديوان مدح كالدرر (¬1) وقد هجا عاشور معاصره ابن مهنة، وكان إماما وخطيبا في أحد مساجد قسنطينة، وله تآليف سندرس بعضها. وكان قد نشر رحلة الورتلاني وجعل عليها تعاليق، أثارت الزوبعة التي نظم فيها عاشور جل (منار الإشراف). ولا نريد أن نذكر نماذج من هذا الهجاء، وإنما نذكر أن عاشور قد جعل عنوان إحدى قصائده فيه (ترقيص الأطفال)، متهما ابن مهنة ¬

_ (¬1) منار الإشراف، ص 59، 97. ويشير بكلمة (أستاذنا) إلى الشيخ محمد بن بلقاسم الهاملي الذي اعتبره أيضا من البوازيد. وهكذا جعل عاشور آل عثمان من البوازيد الأشراف، وجعل نفسه مولى لهم.

بالانحراف عن الدين واصفا إياه بالقرمطي واليزيدي والإساءة إلى العلم، ونحو ذلك. وقد مدح قاضي القل، عبد القادر بن رزيق بأبيات يبدو فيها الصدق، لأنه أنقذه مما كان فيه من بؤس وفاقة، وعده أيضا من الأشراف الفاطميين ومن آل زين العابدين بن الحسين بن الإمام علي، ومدحه كذلك بالعدالة في القضاء والتفقه في الدين وبالمروءة والكرم: بحر الندا والجود لما أصبحا ... غولا وعنقاء وبيض أنوق وعلي من عليا نداه جلائل ... لا يستقل بشكرها منطوقي (¬1) وله قصيدة مفردة في البوازيد - إضافة إلى ما قاله فيهم في القصيدة الكبرى - وسماها (العقد الفريد) كما عرفت. وهي غير منشورة لأسباب ربما سياسية، لأن البوازيد قد ثاروا ضد الفرنسيين، وهددوهم في الزيبان (ومن ثمة ذكره لواد جدي). وقد ردت السلطات الفرنسية عليهم بتشريدهم في النواحي، وحملت بعضهم إلى زواوة وأوطنتهم هناك. فهل قال عاشور قصيدته الفخرية بعد هذه الثورة (¬2)؟. أما الأغراض الأخرى في شعر عاشور، فلم نطلع عليها، كما لم نطلع على هجائه للمجاوي ولا مدحه لشيخ زاوية الهامل. ولعل أغراضه الأخرى في هؤلاء لا تخرج عما ذكرنا. لكن سكوته، إذا صح، بعد سجنه، يظل محيرا للباحثين. 3 - ديوان أبي اليقظان (¬3): وقد طبعه سنة 1931. وتحدثنا عن أبي اليقظان في فصل المؤسسات الثقافية - الصحافة، وكان أبو اليقظان واسع المعرفة المعاصرة، درس في ميزاب وتونس. وعاش في العاصمة، وأنشأ ¬

_ (¬1) منار الإشراف، ص 22 .. (¬2) انظر أبياتا منها في فقرة الفخر والهجاء. (¬3) طبع المطبعة العربية الجزائر، 1931. وهي المطبعة التي أنشأها أبو اليقظان نفسه سنة 1931 أيضا.

الصحف. وراسل علماء الوقت وسياسييه. وكان له علاقات خاصة بالشيخ سليمان الباروني، وقد ترجم له في جزئين وجاء بنصوص عديدة تدل على مكانته عنده ومكاتباته معه. أما شعره فيغلب عليه الطابع الاجتماعي، بالإضافة إلى الأغراض التقليدية. وهو أيضا تقليدي في صوره وتعابيره. وكان أبو اليقظان يمتح لا من جرابه الدراسي. ولكن روحه كانت إصلاحية، وأهدافه أخلاقية واجتماعية. ويعتبر ديوانه من الدواوين القليلة التي طبعت في الجزائر في الفترة التي نتحدث عنها. فقد رأينا ديوان الأمير طبع في المشرق، وديوان عاشور يعتبر ديوانا خاصا في موضوعه ولم يسمه صاحبه ديوانا. وإذا شئت فإن ديوان أبي اليقظان هو الأول من نوعه. وكان طبعه في ذلك الوقت يعد في نفسه مغامرة أدبية كبيرة. 4 - ديوان المشرفي: بالإضافة إلى التاريخ والتراجم نظم أبو حامد المشرفي قصائد كثيرة معظمها في المدح، ولا سيما في سلطان المغرب، الحسن الأول، الذي كان ولي نعمته. ولكن في الديوان قصائد أيضا في أحوال الجزائر التي ولد وعاش فيها قبل هجرته إلى المغرب، وفي مدح رجال آخرين سواء من الأسرة العلوية أو قواد الجيش في المغرب - المخزن. وفي الديوان بعض الأراجيز، مثل التي نقلها عنه محمد بن الأعرج في الجزء الثالث من (زبدة التاريخ)، وهي أرجوزة تصف ما جرى بين الجزائريين والفرنسيين. وقد اعترف المشرفي أن ديوانه مجموعة من القصائد التي تقادم عهدها، وبذلك نعرف أنه جمع ديوانه في مرحلة متأخرة من حياته. وقد قال ان تسجيلها سيجددها ويخلدها، كما يخلد ذكر صاحبها. هكذا كان يظن عند تسجيلها. ولكن شعره لم يطبع، وقل من اطلع عليه ليجدد ذكرى صاحبه. وقد اطلعنا على نسخة منه فكانت في حجم كبير، وهي بخط الشاعر نفسه (¬1). ¬

_ (¬1) الخزانة العامة - الرباط، ك 204. وكنا أخذنا بطاقات عنه ولكنها ضاعت منا سنة 1988.

وللمشرفي ديوان آخر في مدح السلطان الحسن الأول يوجد في المكتبة الملكية بالمغرب (¬1). ويغلب على الظن أنه هو المسمى (مشموم عرار النجد والغيطان). ومن الصعب أن نتحدث عن أغراض شعر المشرفي وقيمته الفنية ما دامت معلوماتنا عنه ناقصة. وكل ما نستطيع قوله الآن هو أنه شعر بلاط، وأنه يعكس ثقافة صاحبه في معسكر ثم في المغرب. وأن المشرفي قد يكون نظم أيضا في الوصف والتأملات والوصف، وربما الهجاء أيضا. 5 - ديوان المكي بن عزوز: قيل إنه بلغ حوالي ثلاثة آلاف بيت، وانه مخطوط عند ورثته. والمكي بن عزوز عالم أكثر منه شاعر. ولقد اطلعنا له على قصائد متفرقة، معظمها في الأغراض التقليدية، ومنها الإخوانيات والمراثي والتصوف والزهد ونحوها. وهو من الشخصيات الكبيرة التي تتنازعها الجزائر وتونس، فأصوله وارتباطاته ومصاهراته وبعض ولده جزائرية، وهو بميلاده وتعلمه وارتباطاته الأخرى تونسي. وقد ترجم له السيد محمد محفوظ بما لا مزيد عنه. وجدير بشعر المكي بن عزوز أن يفرد بدراسة، فما بالك بنشاطه السياسي والإصلاحي والتربوي (¬2)، وهو عالم متعدد جوانب المعرفة. 6 - ديوان الديسي: وهو محمد بن عبد الرحمن، وقد اطلعنا على نسخة مخطوطة مصورة منه كانت لدى عمر بن قينة، وعنوان الديوان (منة الحنان). وهو في مجلد ضخم. وقال عبد الله ركيبي انه في جزئين. وشعر الديسي يمتاز بالطلاقة والصفاء، وأغراضه اجتماعية وإخوانية، مع مسحة دينية. وهو، كما سبق، من شيوخ زاوية الهامل، وكان محل تقدير علماء وقته يستجيزونه ويسألون أخباره (¬3). ¬

_ (¬1) المكتبة الملكية - الرباط، 5310. (¬2) تعرضنا إلى بعض نشاطه في فصل المشارق والمغارب. (¬3) خصه عمر بن قينة بدراسة شاملة نال بها شهادة الماجستير، وهي مطبوعة، الجزائر. وعندنا نسخة من ديوان الديسي، ولكنها الآن بعيدة عنا.

وقد ذكر الركيبي في دراسته للشعر الديني مجموعة من الدواوين لم نطلع عليها (¬1). فلنكتف بذكرها هنا، مع ملاحظة أن بعضها ليس بالضرورة في الشعر الديني فقط، وأننا أضفنا إلى المجموعة ما عرفناه من مصادر أخرى، وهي: 7 - ديوان ابن يوسف (؟): فهل هو شاعر بالفصيح أو بالملحون؟ 8 - ديوان أبي عبد الله البوعبدلي: ويبدو أن الشاعر هو والد الشيخ المهدي البوعبدلي، وقد كان من رجال التصوف أيضا. 9 - ديوان أحمد بن عليوة: وهو أحمد المصطفى منشئ زاوية مستغانم العليوية. وقد نسبت إليه أشعار جادل خصومه في قدرته على نظمها. والغالب على الظن أن ديوان ابن عليوة مطبوع في تونس (؟) 1921. وشعره بين الفصحى والعامية، ولكنه شعر صوفي تحدث فيه عن خمرة الكأس وعن الطريق والمريد، وعن المقام الصوفي والحب الإلهي. ولابن عليوة منظومة في ألف بيت تسمى (الرسالة العلوية) تحدث فيها عن أصول الدين والفرائض والتصوف أيضا، وهي على غرار (المرشد المعين) لابن عاشر. وقد نظمها بلغة بسيطة. 10 - ديوان الطاهر بن عزوز: ولا نعرف إن كان الشاعر من عائلة ابن عزوز الطولقية أو غيرها. 11 - ديوان محمد بن سليمان: لعله من أسرة قدور بن سليمان صاحب ديوان عقد لآلي الوفاق، الجزائر، حوالي 1905. ويبدو أنه في الشعر الصوفي، لأن ابن سليمان كان من العلماء الزهاد وقد جمع بين عدة طرق صوفية، ولعله من نسل محمد بن سليمان صاحب (كعبة الطائفين) الذي درسناه في غير هذا المكان. 12 - ديوان معمر بن صالح (؟): لا نعرف عن هذا الديوان أكثر مما ¬

_ (¬1) عبد الله الركيبي (الشعر الديني الجزائري الحديث)، الجزائر 1984.

ذكره الركيبي وقد يكون مخطوطا وفي التصوف أيضا. 13 - ديوان قدور بن عاشور (؟): وعنوانه كنوز الأنهار والبحور في ديوان السر والنور. وهو مطبوع في وجدة، د. ت. 14 - ديوان محمد بن يلس: طبع في تلمسان، 1951. وكان بعض أفراد أسرة ابن يلس قد هاجروا إلى الشام واهتموا بالتصوف (انظر فصل التصوف). 15 - ديوان محمد الصغير (؟): وعنوانه: تعطير الأكوان بنشر نفحات أهل العرفان. طبع الثعالبية بالجزائر، 1916. 16 - ديوان عدة بن تونس: وعنوانه آيات المحبين في مقامات العارفين، طبع للمرة الثانية في مستغانم 1951. وابن تونس هو الذي خلف ابن عليوة في قيادة الزاوية. (انظر فصل التصوف). 17 - ديوان عبد الله البيضاوي تحت عنوان: مطلع اليقين في مديح الإمام المبين، طبع مستغانم 1941. وقد يكون الشاعر من متصوفة الطريقة العلوية. 18 - ديوان بلقاسم بن منيع: نزهة اللبيب في محاسن الحبيب، طبع قسنطينة 1926. 19 - ديوان ابن عبد الله (؟): الحلل الفردوسية في نظم قطب الغريسية، وهران، د. ت. (وغريس بضواحي معسكر اليوم، بل أصبحت جزءا منها). 20 - ديوان الطاهر العبيدي: النصيحة العزوزية، ط. مصر، د. ت.؟ وعن العبيدي انظر فصل العلوم الدينية، ومراسلته مع ابن باديس. وإضافة إلى هذه الدواوين ذات الطابع الديني والصوفي والتي نظم بعضها بالشعر الملحون، هناك دواوين ومجموعات في أغراض أخرى، ومن ذلك: 21 - ديوان الهادي السنوسي: وقد قيل إنه اجتمع لديه شعر غزير،

سواء قبل طبع (شعراء الجزائر) أو بعده. وكان حقا من الشعراء العاطفيين الذين تدفق شعرهم بقوة خلال العشرينات. ولعله قد استمر على نظمه في سنواته اللاحقة. ومعظم أغراضه كانت اجتماعية وسياسية متطورة ووصفية جميلة. ويبدو أنه أضاع شعره. فقد كتب سنة 1963 (ولا أكتمكم أنني جد آسف على ما ضاع لي من شعري الذي هو عصارة أيام الشباب. وما الذي أبقته غير الدهر منه بالشيء الذي يذكر أو ينشر) (¬1). 22 - مساجلة أدبية اجتماعية أخلاقية: للسنوسي أيضا، طبع قسنطينة، 1928. ولم نطلع عليها. 23 - شعراء الجزائر فى العصر الحاضر: لنفس الشاعر، وفيه بعض شعره، انظر لاحقا. 24 - تحية العلم: (الفرنسي)، انظر الشعر السياسي. 25 - مجموع محمد قاضي: المسمى الكنز المكنون في الشعر الملحون، ط. الجزائر، 1928. انظر الشعر الشعبي. 26 - كتاب مجموع القصائد والأدعية: طبع الجزائر، 1320، لمؤلف مجهول؟ وموضوعه التصوف. ونكاد نقول ان كل الذين عرفوا بالشعر خلال الفترة التي ندرسها قد اجتمع لهم ديوان. وقد لا يكون اهتمامهم بطبع شعرهم قويا، وربما كانت الظروف تعاكسهم في ذلك أو لا يعرفون الطريق إلى النشر، كما سبقت الإشارة. ومثال ذلك: معظم الشعراء الذين ترجم لهم السنوسي في (شعراء الجزائر) لهم دواوين صغيرة أو كبيرة. ولكنها ظلت مغمورة عند بعض الورثة أو تلفت لأسباب مختلفة (¬2). ¬

_ (¬1) صلاح مؤيد (الثورة في الأدب الجزائري) ط. مصر، 1963، ص 21. وفي هذا الكتاب بعض شعر السنوسي. (¬2) انظر الملاحظات التي أبداها أحمد توفيق المدني على الشعراء الذين ترجم لهم السنوسي في (شعراء الجزائر) والذين كانوا في السلك الرسمي. وقد ذكر منهم أيضا =

27 - ديوان محمد العيد خليفة: جمع هذا الديوان السيد أحمد بوعد، حوالي سنة 1952 وسماه (شاعر القرن العشرين). وعلق أحمد بوعد على بعض القصائد، وقسمه إلى جزئين. وهذه المخطوطة أرسلت إلى الشيخ محمد البشير الإبراهيمي لطبعها في المشرق (¬1). ولكن ذلك لم يحصل إلا في الجزائر بعد الاستقلال وبعد أن أضيفت إلى الديوان أشعار قديمة وجديدة. ونحن لا يعنينا هنا الديوان المطبوع ولكن المخطوط الذي جمع قبل الثورة. لقد ضم الكثير من شعر محمد العيد وليس كله، ويبدو أن ذلك كان باتفاق وتنسيق مع الشاعر نفسه، لأننا وجدنا في المخطوطة إصلاحات وتدخلات من محمد العيد. ولكن جامع الديوان أهمل عددا كبيرا من القصائد والقطع، بعضها فهمنا لماذا أهملها (لأسباب سياسية واجتماعية) وبعضها لم نفهم. وكانت مبررات الإهمال هي الإحراج، أو فوات أوان المناسبة أو عدم رضى الشاعر عن بعض ما نظمه في وقت سابق، أو ضياع أو نسيان بعض القصائد المنشورة. وقد درسنا شعر محمد العيد في غير هذا المكان. وهو شعر قديم وجديد. قديم في تراكيبه وأوزانه وقوالبه، وجديد في روحه وموضوعاته، لم يتخل محمد العيد عن القصيدة العمودية ولا عن الألفاظ الجزلة والصور التقليدية التي كان يستعيرها الشعراء من قبله. ومن ثمة فهو شاعر قديم محافظ ويمثل استمرار مدرسة حافظ وشوقي والرصافي ونظرائهم المخضرمين. ولكن محمد العيد كان متأثرا بالنهضة الإصلاحية والتطور ¬

_ = العزوزي حوحو ومحمد عبابسة الأخضري. انظر المدني (كتاب الجزائر)، 1931، ص 95 - 96. (¬1) لدينا نسخة بخط السيد أحمد بوعد، وعليها تصحيحات محمد العيد، وهي في جزئين، وكانت في حوزة الشيخ الإبراهيمي بالقاهرة. وكنا قد جمعنا أشعارا كثيرة لإضافتها لهذا الديوان تحت توجيهات الشيخ الإبراهيمي بين 1956 - 1959. ومن شعر محمد العيد نشرنا دراستنا (شاعر الجزائر محمد العيد)، القاهرة سنة 1961. وقد طبعت عدة طبعات.

السياسي للجزائر فكانت روحه متسامية ومتحفزة تريد التجديد والتحرر وتطلب فكاك الأسر والتحليق. فتمثل شعره ذلك كله وصوره أحسن تصوير وأخلص له كل الإخلاص، وكانت تتقاسم روح محمد العيد نزعتان: النزعة الإصلاحية - الوطنية التي أشرنا إليها، ونزعة التصوف في أصفى معانيه والانجذاب إلى الله في حب وفناء. وهكذا غلبت على شعره مسحة التربية والأخلاق والدعوة إلى الخير والصلاح إلى جانب الدعوة إلى التحرر والحرية السياسية والتخلص من الاستعمار. عندما درسنا أغراض شعر محمد العيد في القاهرة قسمناها إلى التالي: المراثي والوصف والوطنيات والدينيات، والاجتماعيات والإخوانيات. وقد أضفنا إلى ذلك مجموعة من القضايا نظم فيها محمد العيد. وقسمناها إلى أربع قضايا، وهي: أولا: القضايا العامة وتشمل الشعر الذي قاله في افريقية والحبشة وهيروشيما وتركيا. ثانيا: القضايا العربية وتشمل شعره في الاستقلال والمشاكل التي تعرضت لها هذه البلاد: ليبيا وتونس والسودان ومصر والعراق وفلسطين ومراكش. ثالثا: القضايا الجزائرية، وقد لخصناها فيما يلي: المرأة والتعليم والاندماج والأحزاب والشباب والدين واللغة وحياة الريف والسياسة والحرية. رابعا: القضايا الخاصة وهي الإخوانيات والحب والوصف والشكوى والغزل والألغاز (¬1). ولكن شعر محمد العيد متعدد الجوانب، ومن الصعب حصره في مجموعة من الأغراض والقضايا، لأن قصائده الطوال ملا تشتمل على العديد من الأفكار والأغراض. ¬

_ (¬1) وجدنا هذه التقسيمات في ورقة لنا قديمة ترجع إلى عهدنا بالدراسة في مصر. وكانت عندي أوراق مثلها ضاعت فيما ضاع لي سنة 1988.

ومن ثمة فإن أغراض شعره لا تكاد تخرج عن هذه الحقول. وقد رتب السيد أحمد بوعد ديوان محمد العيد على حروف الهجاء ولم يراع الموضوعات. أما الذين جمعوا شعره فيما بعد فقد حاولوا تقسيمه إلى أغراض، فكان أمرا صعبا حقا (¬1). فأنت تجد في القصيدة الواحدة كما قلنا مجموعة من الأغراض. فالرد على أعداء الإسلام تجد فيه الدعوة إلى النهضة والقومية، وأبيات في توجيه الشباب قد تجد فيها التربية والأخلاق والسياسة، وقصيدة تبدو غزلية فإذا فيها فلسفة وتأملات وتصوف. أما الفخر والهجاء فان محمد العيد لم يطرقهما على حد علمنا. وقد مدح أعيان العلماء، ورثاهم أيضا، وكذلك أعيان السياسة في الجزائر والعالم العربي. وأشاد بالمواقف والنزعات الخيرية والمشاريع القومية. ولم يكن يمدح عن طمع كما فعل شعراء آخرون. فالذين مدحهم (إذا جاز أن نسمي ذلك مدحا) لم يكن لهم ما يقدمون إليه من الوسائل المادية. وهناك باب آخر أكثر منه محمد العيد هو الشكوى والتشكي من الزمان وأهله، وليس ذلك عن تذمر وانزعاج ولكن عن قلق وتوتر شعري وتواجد صوفي. وقد وجدنا له قطعا في مدح قادة الطريقة التجانية المتوفين (مثل الحاج علي التماسيني، وكان الشاعر نفسه قد سمي على أحد شيوخ التجانية، وهو محمد العيد التماسيي المتوفى سنة 1875)، وكل ما كانت الطريقة التجانية تفعله نحوه هو حمايته من جبروت السلطة الفرنسية إذا تعرض لسوء، كما حدث له سنة 1955. ولكن شعره الذي نحن بصدده قد قيل قبل الخمسينات. 28 - ديوان العقبي: لا نعرف أن له عنوانا، ولكن جاء في (شعراء الجزائر) أن للطبيب العقبي أشعارا كثيرة لو جمعت في ديوان لجاءت في ¬

_ (¬1) جمع محمد بن سمينة ما لم يشمله ديوان محمد العيد المنشور سنة 1967، وهو ما فات جامعي الديوان، ونشره في دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1997. وكان المرحوم علي أمقران السحنوني قد استدرك بعض ذلك في مقالة صحفية. ونعتقد أن الأيام ستكشف عن مستدركات أخرى من شعر محمد العيد.

مجلد ضخم. وكان العقبي قد نبغ في الشعر وهو في الحجاز، ولا ندري إن كان قد نشر منه في جرائد المشرق. وبعد رجوعه إلى الجزائر أخذ يدرس لمن حوله فنونا شتى، بما في ذلك علم العروض. وقد قيل إن محمد العيد قد تعلم ذلك على يديه. واستمر العقبي يقرض الشعر من وقت لآخر. فكان شعره فيض المناسبات، وهو شعر إصلاحي متمشيا مع مذهب صاحبه. كذلك كتب العقبي التقاريظ، ونوه ببعض الأحداث والأشخاص، ونشر ذلك في الصحف المعاصرة. وقد يكون له شعر لم ينشر شأن أغلب الشعراء، ولكن أولاده ينفون وجود الديوان عندهم. 29 - ديوان الدر النفيس في شعر إدريس: ولم نطلع عليه، والظاهر أنه ما يزال مخطوطا. وقد نسبه إليه بعض المترجمين (¬1). 30 - ديوان في المديح والإذكار: لعلي البوديلمي، ذكره له صاحب (المرآة الجلية). ويبدو أن الديوان في الدين والتصوف (¬2). 31 - ديوان الشيخ محمد بن يوسف أطفيش. 32 - ديوان حسن أبو الحبال: اليدري، وهو من الشعراء الذين ضمهم (شعراء الجزائر). وقيل إنه (ساع في جمع ديوانه وله عزم على طبعه) (¬3). 33 - ديوان الربيع بوشامة: نشر منه قصائد في البصائر، وقد جمعه ونشره جمال قنان سنة 1995. وكان بوشامة من شهداء الثورة سنة 1957 (¬4). ¬

_ (¬1) عن إدريس الدلسي انظر فصل العلوم التجريبية. وهو من أبناء المهاجرين إلى تونس. (¬2) يحيى بن صفية (المراة الجلية)، تلمسان 1953. عن البوديلمي انظر فصل التصوف وفصل العلوم الدينية. (¬3) (شعراء الجزائر) 2/ 75. ولد أبو الحبال في خنشلة سنة 1897 حيث كان أبوه قاضيا وأصلهم من نواحي جيجل. وقد درس في الزيتونة. ورجع منها معلما في خنشلة وباتنة والعين البيضاء، ثم تولى الفتوى. (¬4) قرأت للشاعر الربيع بوشامة في جريدة البصائر وأنا طالب بتونس، ثم عرفته شخصيا في شتاء 1954 - 1955 حيث كنت أعلم في مدرسة الثبات بالحراش، وكان هو المدير عندئذ. وكان يمتاز بعشق الشعر وحب الوطن. وطالما حدثني وأنا يافع، عن =

كتاب شعراء الجزائر في العصر الحاضر

وفي المقدمة التي كتبها قنان تفصيل عن حياة الشاعر وظروف استشهاده. 34 - ديوان حسن حموتن: جاء في رسالة منه إلى صلاح مؤيد أنه نظم كثيرا في السنوات الأولى لحرب التحرر. ولكن (تلك القصائد مع الأسف الممض وقعت في يد الجيش الاستعماري) (¬1). ولم يذكر حسن حموتن شعره قبل الثورة، وهو الذي يعنينا هنا، ونحن نعلم أنه نشر بعض شعره أيضا في البصائر. ونريد أن نؤكد أن معظم شعراء فترة 1919 - 1954 لهم أشعار لو جمعت لملأت دواوين. ولكن بعضهم أضاعها، أو ضاعت منه، وبعضهم عزف عن نشرها تواضعا أو عجزا ماديا. ... كتاب شعراء الجزائر في العصر الحاضر لقد وعدنا أن نخصص لـ (شعراء الجزائر في العصر الحاضر) وقفة خاصة لأهميته في الحركة الشعرية. فقد كان وقع ظهوره يشبه ظهور تاريخ الجزائر لمبارك الميلي، رغم أن شعراء الجزائر ظهر قبله قليلا. ففي الوقت الذي كانت الجزائر تعيش آثار الحرب العالمية الأولى وتعاني من غطرسة الكولون الذين اعتادوا على التمرد بعد كل حرب أو أزمة تعرفها البلاد، ظهر شعراء الجزائر يحمل البشرى لأنصار النهضة والإصلاح دليلا على ميلاد الشاعر الرائد لهذه النهضة والإصلاح. فالكتاب كان يمثل ميلاد الجزائر الجديدة كما تصورها الشعراء. ولا يعني ذلك أن هؤلاء كانوا كلهم سياسيين أو حتى متسيسين، ولكن إحساسهم العميق بالتجربة الوطنية والتعلق بالتراث والحلم بالمستقبل كان واضحا في هذا الكتاب. أين كان أمثال هؤلاء الشعراء ¬

_ = تجربته في فرنسا لإدارة المدرسة الإصلاحية التابعة لجمعية العلماء، وعن تتلمذه على الشيخ ابن باديس. (¬1) صالح مؤيد (الثورة في الأدب الجزائري)، ط. مصر، 1963، ص 61.

في القرن الماضي، وأين كانوا في العشرية الأولى من هذا القرن؟ كيف وأين تعلموا حتى يظهروا بهذه القوة وهذه الروح في وقت واحد؟ تلك هي أهمية هذا الكتاب. إن أول ما يفاجئك فيه قول محمد اللقاني بن السائح (¬1): بني الجزائر هذا الموت يكفينا ... لقد أغلت بحبل الجهل أيدينا ومن مزايا هذا الكتاب أنه جمع بين شعر الشيوخ أمثال ابن الموهوب وأحمد الغزالي، وشعر الشباب أمثال محمد العيد ومفدي زكريا. وكان فيهم الموظفون الرسميون وفيهم المدرسون الأحرار، وفيهم الباحثون عن العيش في غير هذا أو ذاك. وقد كان فيهم أيضا خريجو مدارس الشرق مثل العقبي والمولود الزريبي، والزيتونة مثل محمد العيد ومفدي زكريا، ومدارس الحكومة الفرنسية مثل الجنيد أحمد مكي والأمين العمودي. ولكن جمعهم كلهم حب الشعر وحب الوطن وحرف الضاد في وقت ظن المستعمرون فيه أن الأدب العربي، فما بالك بالشعر الجيد، قد اختفى من الجزائر. فلا غرابة إذن أن يستقبل المتفائلون بمستقبل الجزائر هذا (الديوان) الجماعي بالفرح والسرور، وأن يحتلفوا بصاحبه أيما احتفال، وأن ينظروا من خلال الإنتاج إلى أفق جديد للوطن. وقد قال محمد العابد الجلالي ان العمل كان منتظرا من غير محمد الهادي السنوسي، من أولئك الذين تقدمت بهم السن وأدركوا الحاجة إلى مثل هذا العمل، ولكن الشاب السنوسي أبى إلا أن يأخذ على عاتقه هذا المشروع الطموح. إنه مشروع جاء في وقته، وكانت الحاجة ماسة إلى إحياء الأدب العربي. وبعد أن نوه بالجزء الأول تمنى ظهور بقية الأجزاء (¬2). ونوه بالكتاب أيضا أحمد توفيق المدني قائلا إن السنوسي قد ¬

_ (¬1) أصل اللقاني من أولاد السائح قرب تقرت. ولد بنفطة سنة 1313 وتعلم في الطيبات ونفطة، ثم جلس للتدريس في قمار وتماسين عند الزاوية التجانية. وقد نشر شعره السياسي والإصلاحي في صدى الصحراء والشهاب. وتوجد ترجمته في (شعراء الجزائر)، 1/ 30 - 61. وقد أدركناه في جامع الزيتونة وحضرنا عليه بعض الدروس. (¬2) محمد العابد الجلالي (تقويم الأخلاق)، ص 175.

ترجم لأغلب شعراء وقته وذكر نبذا من أشعارهم وسيرهم (فقام بعمل جليل خلد اسم الجزائر في عالم التاريخ الأدبي الحديث) (¬1). وجرى احتفال بالشاعر وكتابه في بسكرة يوم 4 فبراير 1927، وحضر الاحتفال عدد من الأدباء، منهم الشعراء الذين ظهروا في الكتاب، مثل محمد العيد والأمين العمودي والطيب العقبي، وعمر العنق، ومحمد الطاهر بن الشيخ حمدان الونيسي وسعيد الزاهري. وشملت كلمات التكريم كلمة ألقاها الشيخ الطيب العقبي بعنوان (العلم خير منتقى) (¬2). اشتمل الجزء الأول من شعراء الجزائر على إهداء (قصيدة) بعنوان روحي لكم بقلم السنوسي نفسه، ثم مقدمة. أما الشعراء الذين ترجموا لأنفسهم أو لخص السنوسي حياتهم، فهم: محمد العيد، ومحمد اللقاني، ومحمد السعيد الزاهري، والجنيد أحمد مكي، وإبراهيم أبو اليقظان، والطيب العقبي، ومفدي زكريا، وأحمد الغزالي، ورمضان حمود، وإبراهيم امتياز، ثم محمد الهادي السنوسي (المؤلف). ولعل أكبر الشعراء سنا في هذا الجزء هو أحمد الغزالي المولود سنة 1873. أما الجزء الثاني فقد احتوى على عشرة شعراء وهم: الأمين العمودي، المولود بن الموهوب (ولعله أكبرهم سنا في هذا الجزء إذ هو مولود سنة 1866، والطاهر بن عبد السلام الذي أطال في ترجمة حياته وكتبها في شكل (مذكرات) قد تكون هي الأولى من نوعها في أدبيات هذا النوع من الكتابة، ثم حسن أبو الحبال، ومحمد الصالح خبشاش، والمولود الزريبي، ومحمد العلمي (وهو من مواليد المغرب)، ومحمد الطرابلسي (من مواليد طرابلس) وأحمد بن يحيى الفحل، وأخيرا محمود بن دويدة. وفي هذا الجزء كتب خمسة منهم حياتهم بينما لخص السنوسي حياة الخمسة الباقين. وقد تضمن ¬

_ (¬1) أحمد توفيق المدني (كتاب الجزائر)، ص 95. (¬2) قام سعيد الزاهري بتلخيص خطبة (كلمة) العقبي، ونشر ذلك في (الشهاب)، انظر أحمد مريوش (الطيب العقبي والحركة الوطنية)، مخطوط. وكذلك شعراء الجزائر 2/ 177.

الشعر الديني

هذا الجزء مجموعة من التقاريظ أشرنا إليها، ومنها كلمة الشيخ مبارك الميلي التي عنوانها (الأدب الجزائري يبعث من مرقده). كما جرى احتفال كبير بالشاعر وكتابه في تونس، واشترك في التنويه به الأدباء والصحف التونسية، ومنهم جزائريون أيضا مثل الطاهر بن عبد السلام (وهو من بين الشعراء الذين شملهم الكتاب)، وعبد اللطيف سلطاني القنطري. ومن أبرز أدباء تونس عثمان الكعاك وزيد العابدين السنوسي ومصطفى بن شعبان (¬1). الشعر الديني المقصود بالشعر الديني ما تناول الدين والقضايا الإسلامية سواء في نطاق العبادات أو الأخلاق والتربية، فنظم الشعر في الحج والصوم والصلاة وما إليها، وفي سيرة السلف، وفي الدفاع عن الإسلام، وفي الأمداح النبوية، كله داخل في الشعر الديني عندنا. ونضيف إلى ذلك شعر المناقب الصوفية والتوسلات بالشيوخ والغوثيات أو الاستنجاد بالله على أمر من الأمور. وهناك دواوين مطبوعة ومخطوطة نظمت في الشعر الديني. ودواوين أخرى اشتملت على نصيب من هذا الشعر. وقد أشرنا في فقرة الدواوين والمجاميع إلى ما ذكره عبد الله ركيبي من أعمال مطبوعة في هذا الميدان. كما أن الركيبي قد بحث الموضوع بإسهاب وسلط عليه أضواء هامة سواء من خلال الدواوين المطبوعة والمخطوطة أو من خلال القصائد المتناثرة. فكان عمله أوفى عمل حتى الآن عن هذا الموضوع. وقد درسنا نحن شعر محمد العيد الديني، ودرسه غيرنا أيضا، مثل محمد بن سمينة. وقام دارسون بدراسة الشعر الديني عند شعراء آخرين، ولا نطيل في ذلك الآن. ويكاد يكون لكل شاعر خلوته الخاصة التي يتعبد فيها من وقت لآخر، رغم ما يقال عن الشعراء بأنهم ملحدون وغواة وأنهم في كل واد يهيمون. وما يزال شعراء لم يدرس الباحثون شعرهم الديني وتأثيرهم، مثل أحمد سحنون الذي تميز ¬

_ (¬1) الجزء الأول، تونس 1926، والثاني، تونس 1927.

بشعر تعليمي رقيق وسهل، له مسحة دينية جاءت من ورع وتقى صاحبه (¬1). ولا تعنينا هنا الدواوين الخالصة بالشعر الديني وروحانية المتصوفين، ولكن تعنينا القصائد المتناثرة والتي قيلت في مناسبات دينية معينة، ونلاحظ من البداية أنها قليلة، وتكاد تنحصر في عدة قصائد. بينما نعتقد أن القصائد الدينية كثيرة، وأن مناسباتها عديدة. فلماذا لم يصلنا منها إلا القليل؟ لعل ذلك راجع إلى أن الشعر الديني في العهد الاستعماري كان للشكوى إلى الله من ظلم الحكام وسوء الحال وتقلب الزمان بأهله. وهذه الظاهرة من القول لا تسر الفرنسيين لأهم يعتبرون ذلك تعريضا بهم وبنظام حكمهم. فكان الشعراء يكتبون شعرهم ويلجأون إلى الرموز أحيانا، ويغرقون في التصوف حتى لا يفهم الآخرون ما يريدون. ويبقى شعرهم موضعا للتأويل فقط. أما الدفاع عن الإسلام ووصف حالة المسلمين من الوجهة الدينية فقلما طرقه الشعراء مباشرة أيضا. وقد هاجم محمد العيد (آشيل) دفاعا عن الدين، واعتز بدخول بعض الأوروبيين الإسلام. ولا شك أن الطرق الصوفية قد حظيت بالنصيب الكبير من الشعر الديني، لأنها كانت تعمل برخصة من السلطات الفرنسية. فكان الشعراء يجدون الحماية في مدح شيوخ الزوايا ومقدمي الطرق. كما أن للشيوخ أنفسهم أشعارهم، التي ينظمونها للإنشاد في حلقات الذكر وترويج تعاليمهم الصوفية. ويشمل ذلك غوثية الشيخ محمد الموسوم، شيخ الشاذلية في وقته. كما يشمل الطرق الصوفية التي نشطت بالخارج أيضا، كالسنوسية والشاذلية والقادرية. ولنذكر الآن بعض الغوثيات والقصائد. غوثية مصطفى بن التهامي: وهو مصطفى بن أحمد بن التهامي الغريسي. كان والده من علماء الوقت، وتولى الفتوى في وهران في العهد العثماني. ومن تلاميذه محمد العربي المشرفي (أبو حامد) صاحب التآليف ¬

_ (¬1) جمع شعر أحمد سحنون بعد الاستقلال وصدر في ديوان ومن شعراء الدين أيضا محمد بن الرحمن الديسي.

العديدة. وأما مصطفى بن التهامي فقد كان صهرا للأمير عبد القادر وخليفة له على معسكر ونواحيها مما شمل، كما يقول المشرفي، قبائل بني عامر وجبال ولهاصة، والترارة، وندرومة. ووصفه المشرفي بأنه سيبويه زمانه بمعرفته بالنحو. وقد درس البلاغة والتفسير في الجامع الأموي بدمشق، بعد الهجرة إليها مع الأمير. وأثناء سجنه مع الأمير في قلعة امبواز (فرنسا) ضاقت به، وبهم، الحال وطال عليهم الأسر وكاد يصيبهم اليأس. فنظم استغاثته التي سنذكر أبياتا منها. ويقول المهدي البوعبدلي ان هذه الغوثية كانت في حكم الضائعة إلى أن عثر عليها مفتي معسكر الشيخ الهاشمي بن بكار ونشر منها بعض الأبيات في كتابه (مجموع النسب). وقد تحصل عليها البوعبدلي، وقدم لي جزءا كبيرا منها (¬1). والغوثية رجز طويل بلغ 530 بيتا. وقد وصف فيها ابن التهامي حالته في السجن ثم استغاث بالأنبياء والصحابة والتابعين والصالحين لإطلاق سراحهم وفكاك أسرهم. وشعر ابن التهامي فيه غموض أحيانا، وهو يستعمل الرموز والإشارات. وكنا قد اطلعنا على بعض شعره في مخطوط محمد الشاذلي الذي ذكرناه. وفيه أيضا أغراض دينية أخرى. قال مصطفى بن التهامي في تقديم الغوثية: (ومما قلته مع الرضى والتسليم للقدر والقضاء، متوسلا متضرعا معترفا متبرما مفصلا في الوسائل تارة وتارة مجملا، راجيا النفع لي ولكل من دعا بها (أي الغوثية)، متبذلا، ومؤملا حصول كشف الكرب والفرج). لما جرى القدر بالخلاف ... ووقع الخلاف بالإتلاف ووجب الوحش بقفر اليم ... واتحف النقص ببدر التم واقتنص الصقر عدو صائد ... وللنعام في القرى وصائد وابتعدت عن العقول حيل ... واقتعدت بالاعتراف جيل ¬

_ (¬1) مراسلة منه بتاريخ 5 أكتوبر 1985.

لم يبق إلا الابتهال والسكن ... للقاهر المالك كل ما سكن هذا الذي قدمته نجواي ... في رفع ضيمي وبلا بلواي فامنن علينا بصلاح الحال ... وانقذن من شدة المحال مولاي يا ذا المد والأفضال ... داو سقام دائم العضال فنجمع الرفقة والأفذاذ ... من ربقة الأسر إلى اللواذ بمنزل رحب الجناب والسعة ... ومسجد جماعة وجمعة (¬1) ونعتقد أن هناك غوثيات أخرى على هذا النسق لغير مصطفى بن التهامي. فالعصر كان عصر ظلم واضطهاد واللجوء إلى الله لكي ينتقم من الظالم ويفرج الكرب بعد عجز الوسائل الأخرى عن الانتصار. ولعل من ذلك ما ذكره عاشور الخنقي من أن له (منفرجة) على نحو منفجرة ابن النحوي، وقد سماها عاشور الهاملية. ومن الشعر الديني شعر التوسلات بالرسول وأصحابه وبالصالحين. وقد توسل عاشور الخنقي بأبي التقي وبالأشراف، كما ذكرنا، وذكر الحفناوي بن الشيخ أن لوالده رجزا في التوسل، سماه (القصيدة التوسلية) (¬2). وللديسي أيضا قصيدة في التوسل. وهناك أشعار في الصالحين والأولياء نذكر منها قصيدة إدريس بن محفوظ الدلسي. قالها في مدح شيخ الرحمانية، محمد بن عبد الرحمن الأزهري. وقد هاجر آباء الدلسي إلى تونس وأقاموا ببنزرت، فولد بها، ودرس في هذه المدينة ثم في الزيتونة. ثم أصبح مصححا في المطبعة الرسمية بتونس. ثم انقطع عن ذلك ورجع إلى بنزرت واشتغل بالعلم. وله شعر ديني غزير في مقاصد مختلفة. منه المديح النبوي وعترة الرسول (صلى الله عليه وسلم) والمتصوفة، وهو ¬

_ (¬1) مراسلة أخرى من البوعبدلي بتاريخ 3 ديسمبر 1973. وتوفي مصطفى بن التهامي في دمشق سنة 1280. انظر عنه أحمد تيمور (أعلام الفكر الإسلامي الحديث). وقد وقع فيه خلط بين ابن التهامي وبين مصطفى درغوث التونسي (والد عبد القادر المغربي)، انظر قصيدة الأمير الصوفية: ماذا على سادتنا ... في فقرة الشعر الذاتي. (¬2) تعريف الخلف، 2/ 191.

رحماني متحمس للطريقة. وكان قد أخذ العهد على شيخها في الكاف علي بن عيسى، وكانت هناك زاوية رحمانية نشيطة بعد أن طوردت في الجزائر (¬1). ويقول الدلسي في الشيخ الأزهري الخلوتي: تب وانكفف عن كل غي وامتثل ... متوسالا بالسيد المفضال هو ذاك مشهور الكرامات العلا ... من صيتها قد شاع كالأمثال بدر الكمال الأزهري محمد ... غوث الورى في شدة الأوجال يحمي من أهوال الحساب شفاعة ... في الاختصار مثبتا وسؤال في حي جرجرة مطالع شمسه ... أكرم به قد فاق عن أمثال (¬2) وكذلك مدح محمد المازري الديسي، أهل زاوية ابن أبي داود ومشائخها. ولا نعرف نماذج من شعره في ذلك. غير أن الحفناوي بن الشيخ يقول عن القصيدة انها لو نشرت لكانت أحسن. فهو غير راض عن شاعرية صاحبها وإن كان راضيا عن نبل أفكاره (¬3). ومن ذلك قصيدة في مدح الشيخ محمد بن بلقاسم الهاملي، قالها فيه محمد العربي بن أحمد بن أبي داود (¬4). وللشيخ المكي بن عزوز قصائد في مدح شيخ زاوية الهامل أيضا، وأخرى في مدح الرجل الصالح علي السني، دفين نفطة، ومطلعها (¬5): أعيدا الندا يا صاحبي فليس لي ... قرار إذا لم تمس سلمى بمنزلي وكان الشيخ مختار الجلالي، صاحب زاوية أولاد جلال الرحمانية، ¬

_ (¬1) توفي الشيخ علي بن عيسى سنة 1388. (¬2) تعريف الخلف، 2/ 472. (¬3) نفس المصدر، 549. (¬4) حسب رواية علي أمقران السحنوني، وذكر أن لديه كراسا يحتوي على أشعار منها القصيدة المذكورة، وهي في 31 بيتا. (¬5) هي القطعة الخامسة من مجموع المكتبة الوطنية - تونس، رقم 18112. من صفحة 61 - 55.

كثير الإنشاد في مدح شيوخه من المتصوفة، مثل محمد بن عزوز. وقد رثاه المكي بن عزوز بقصيدة، بدايتها: تقلد الهداة من الورى ليل دجا ... من صدمه الإسلام أصبح مزعجا لا سيما شيخ جليل باذخ ... بذر الرشاد ومنه شاد الأبرجا كالسيد المختار منشور الهدى ... كم من رجال في الطريقة درجا سعدت بتربته بنو جلال قد ... أضحت منارا في البلاد مزبرجا (¬1) ومدح (أحمد؟) أبو طالب الغريسي عددا من الصالحين المعروفين، منهم سيدي علي مبارك (القليعة) وسيدي أحمد الكبير (البليدة) وأحمد بن يوسف الملياني (مليانة). والمادحون لشيوخ الصوفية معظمهم من الأتباع المتفانين سواء قربت ديارهم أو بعدت، وسواء كان الشيوخ أحياء أو أمواتا. وقد كان محمد العيد قد رضي بالإصلاح والوطنية رغم انتمائه الطرقي. فكان أبوه مقدما للتجانية في العين البيضاء ثم في بسكرة. ولا ندري إن كان محمد العيد قد تمرد بعض الوقت عن التجانية ثم رجع إليها أو أنه كان فقط يخفي انتماءه إليها. والغالب أنه كان قد انجذب كشاعر صادق لمشاعره نحو الحركة الوطنية والإصلاحية بعدما شاهد شراسة الاستعمار وتواطؤ بعض الطرق الصوفية معه. ولكنه لم يهاجم الطرق الصوفية أثناء انتمائه الإصلاحي والوطني. فهو بالرغم من صداقته وتأثره بالشيخ العقبي الذي شهر سلاحه البتار ضدها، فانه (آي محمد العيد) لم يسايره في هجوماته. وقد ظهر لنا تمرد محمد العيد في فترة ما بين الحربين على الطرق الصوفية في شعره الذي توسل به إلى شيوخ التجانية بعد ذلك، ولا سيما الشيخ الحاج علي التماسيني. وقد درسنا شعره الديني في كتابنا عنه، ولكن شعره في رجال التجانية لم نكن قد اطلعنا عليه عند صدور الطبعات الثلاث من تأليفنا (شاعر الجزائر). لذلك نسوق هنا ما قاله ¬

_ (¬1) تعريف الخلف، 2/ 576.

محمد العيد عند زيارته لقبر الشيخ التماسيني سنة 1956 (¬1) (42 بيتا): سلام وارث الختم التجاني ... عليك مبارك سامي المعاني أقدمه أسير الذنب مضنى ... كسير القلب معقود اللسان وقد رجحنا أن يكون محمد العيد قال هذا الشعر بعد أن قبض عليه وسيق إلى الموت ثم عفى عنه بتدخل محتمل من الزاوية التجانية. بينما نفذ الإعدام في غيره من المثقفين أمثال أحمد رضا حوحو والربيع بوشامة وعبد الكريم العقون والشيخ العربي التبسي، إلا من سجن أو هرب منهم مثل مفدي زكريا. أما عن توبته فيقول محمد العيد في قصيدة لا ندري متى قالها، ولعلها ترجع إلى بداية الخمسينات أيضا. وهي موجهة إلى الحاج ابن عمر، شيخ زاوية عين ماضي. ولنتأمل هذا الشعر الغريب عن محمد العيد، فهو يطلب الشفاعة والضمانة من الشيخ التجاني، ويعترف أنه قد غوى بعض الوقت، ولكنه انتبه الآن، وبرهن على أنه كان منذ طفولته تجانيا. وقد كنا شككنا في أول الأمر أن يكون هذا الشعر صادرا من محمد العيد الذي نعرف شعره الآخر، غير أن التوقف عند معاني وألفاظ القصيدة وأسلوبها يدل على أنها لمحمد العيد: يا ابن التجاني المضيء بنوره ... وشبيهه في اليأس والإقدام كن ضامنا لي عند جدك انني ... قد همت عن واديه بعض هيام في فترة للقلب هاروتية ... بالسحر، إضغاثية الأحلام ثم انتبهت فلم أزل متضرعا ... متطلبا منا الرضى بدوام فعساه يسعفني ببذل لبانتي ... وعساه يسعدني بنيل مرامي هو قائدي للصالحات وراشدي ... وكفيل تربيتي بها وإمامي أحببته طفلا ولذت به فتى ... ومجاوز الخمسين في الأعوام ¬

_ (¬1) ذكرنا هذا الشعر رغم أنه بعد الثورة لنعرف التحول الذي حدث لمحمد العيد وأسبابه.

فليشهد الكونان والثقلان لي ... أني له أبدا من الخدام (¬1) والشعر الديني الصوفي أكثر من أن نحصره في نماذج هنا. وكثير من رجال الطرق كانوا ينظمون أشعارا يروحون بها عن أنفسهم ويتقربون بها إلى خالقهم، ويعلمون بها تلاميذهم ومريديهم. وقد اشتهر الأمير عبد القادر ومحمد الموسوم وأحمد المصطفى بن عليوة وغيرهم بالشعر الصوفي ومدح مشائخهم أيضا. وقد أشرنا إلى دواوين بعضهم في ذلك. وقد شاع أيضا شعر النصائح الذي هو باب من أبواب الشعر الديني. ومن ذلك النصيحة العزوزية، ونصيحة الشباب للطاهر العبيدي (¬2). وقد تكون النصيحة موجهة للأبناء، كما فعل محمد الشاذلي، أو لعامة المسلمين مثل نصيحة محمد بن آمنة ابن دوبة. وجدنا لمحمد الشاذلي قصيدة طويلة ولكنها ضعيفة النسخ، قدم فيها لإبنه نصائح لقمانية، أي ملأها بالوعظ والتوجيه التربوي والأخلاقي (¬3). أما ابن آمنة فنصيحته تتحدث عن خواطر النفس وعن الشباب والمشيب، وعن الهجرة الروحية وتجارب الزمن، والصلة بالناس: ذكرني خلابه عهد خلا ... إيماض برق سرى من سفح قبا وفي فؤادي قدحت نيرانه ... وحرها بين الضلوع والحشا ¬

_ (¬1) عبد الباقي مفتاح (أضواء ...) مخطوط. وكان ابن عمي عبد الرحيم سعد الله قد نقل لي هذه الأبيات وغيرها من شعر محمد العيد الموجود في زاوية تماسين. وعبارة (مجاوز الخمسين) تدل على أن القصيدة قيلت قبل 1959، لأن محمد العيد ولد سنة 1904. وقد أكد لنا الشيخ حمزة بوكوشة (يوم 22 مارس 1991) أنه كان رفيق الدراسة لمحمد العيد في الزاوية القادرية ببسكرة، وشيخهما عندئذ هو علي بن إبراهيم العقبي. (¬2) انظر (النصيحة العزوزية)، ط. مصر حوالي 1954. (¬3) نسخة منها في مخطوط يبدو أنه كان في ملك محمد الشاذلي، وفيه أشعار لمصطفى بن التهامي الذي سبق ذكره.

جدد لي عهدا بمن هويته ... وما نسيت عهد أيام الصبا والقصيدة بلغت 143 بيتا. وهي مليئة بالأدب والأمثال والتربية النفسية. وصاحبها من علماء غريس في أوائل الاحتلال وهو من خريجي الأزهر الشريف، وله إجازات من علمائه، وهو الذي كتب صك البيعة الذي بمقتضاه بايع الناس الأمير عبد القادر على الحكم والجهاد وبناء الدولة الجديدة، وكان ذلك بحضور علماء الناحية (¬1). وقد أفادني الشيخ البوعبدلي أن نصيحة ابن آمنة اشتملت أيضا على توجيهات دنيوية كالاقتصاد في المعيشة، وحسن استقبال الضيوف، والابتعاد عن عبدة الدرهم والدينار، وعدم مخالطة الحكام الظلمة (¬2). أما بالنسبة للمديح النبوي فهناك القصائد والمقطعات وحتى الدواوين. وشعراء هذا المديح هم عادة من رجال الدين الذين كنا نتحدث عنهم. وقد يكونون من شعراء الحياة العامة ولكن في لحظة من الزمان تنتابهم مشاعر خارقة للعادة فيتذكرون أنسابهم وارتباطاتهم بالإسلام والتراث، فينظمون المدائح التي نحن بصددها. والواقع أننا لا نجد قصائد (عصماء) في ذلك على غرار البردة والهمزية وبانت سعاد ولا حتى تقليدها، كما فعل شوقي. إنما هي قصائد من شعر عادي، تقال في المناسبات الدينية، مثل المولد النبوي الشريف، والحج الذي يذكر بتاريخ الإسلام وظهور الرسالة. ومن ذلك قصيدة السعيد بن أبي داود (¬3). وقصائد لإدريس الدلسي والديسي (¬4). ولمحمد العيد أيضا (أنشودة الوليد) التي نشرها قصيدة مستقلة سنة 1938، وهي موجهة للناشئة الجزائرية لكي تقتدي بالرسول (صلى الله عليه وسلم)، وتعارض تقليد الفرنسيين وترفض الاندماج، فهي من الشعر المديحي الإصلاحي، وقد ¬

_ (¬1) عن الشاعر والقصيدة ونص البيعة انظر محمد بن الأمير (تحفة الزائر)، ط. 1، 1903، 1/ 98. (¬2) مراسلة بتاريخ 3 ديسمبر 1971. (¬3) علي أمقران السحنوني، مراسلة معه، وهي في 42 بيتا. وليس لنا نماذج منها الآن. (¬4) عن الدواوين المكرسة للشعر الديني انظر سابقا.

الشعر السياسي

قالها محمد العيد وهو مدير لمدرسة الشبيبة بالعاصمة (¬1). الشعر السياسي والشعر السياسي أنواع، منه ما قصد به الشاعر التعبير عن تذمره من الأوضاع السياسية والشكوى من الاضطهاد. ومنه ما قيل في الفرنسيين ورجالهم وأعمالهم. وهناك شعر سياسي آخر، وهو ذلك الذي شارك به الشاعر في الأحداث الوطنية والإسلامية، مثل حرب طرابلس. ولم يظهر الشعر السياسي الوطني الصريح إلا بعد الحرب العالمية الأولى، ونقصد بذلك تناول الشاعر لقضية الحرية والاستقلال والوحدة الوطنية والإشادة بالعرب والبربر وتاريخ الأمجاد. ومن الملاحظ أن الشعر السياسي الفصيح كاد يختفي بعد فشل المقاومة سنة 1847. ولا ندري هل كان لهجرة الشعراء أثر على ذلك، أو هو غياب الثقافة والتعليم العربي أو كلاهما. إن الذي تولى التعبير عن خلجات الناس بعد ذلك هو الشعر الشعبي. ولم يعد الشعر السياسي الوطني للظهور إلا عشية الحرب العالمية الأولى أو في المهجر. وفي فترة المقاومة ظهر شعراء ينافحون عن الدين والوطن، وتعلقوا بالأمير عبد القادر، كما فعل محمد الشاذلي (¬2)، ولكن كان هناك أيضا خصوم للأمير. وخلال تلك الفترة نظم حمدان خوجة أبياتا في السلطان محمود الثاني. وهناك من نظم في السلطان عبد الرحمن بن هشام. ¬

_ (¬1) البصائر عدد 112، 6 مايو 1938. وقد قيل ان للشيخ شعيب بن علي (مولودية)، ووعدني بنسخة منها حفيده شعيب أبو بكر في رسالة منه بتاريخ 10 غشت 1987، ولكن المراسلة انقطعت بيننا، ويفهم أن المولودة من الشعر الرجزي. (¬2) انظر (القاضي الأديب: محمد الشاذلي)، ط. 2، 1985. وهي قصيدة استنجد فيها الشاعر بالأمير لإنقاذ قسنطينة بعد 1837. وعن شعر الخصوم في الأمير انظر: بحث أوغست كور عن (الشعر السياسي في عهد الأمير) في المجلة الإفريقية، 1918.

ورغم تفاهة الشعر السياسي الذي قيل في الفرنسيين فإنه يمثل جزءا من هذا الإنتاج في المرحلة المدروسة. ومعظم هذا الشعر جاء في شكل التهنئة بمولود أو بحلول رأس السنة الميلادية، وقد كدنا نعد هذا من شعر الإخوانيات والمناسبات لولا أنه قيل في الفرنسيين تزلفا لهم أو نفاقا أو وفاء لصديق منهم. وقد أكثر من هذا الشعر محمد الشاذلي، ولا سيما مع الضابط بواسوني وبعض الشخصيات الفرنسية الأخرى التي كان على صلة بها وله مصلحة معها. وقيل إن مصطفى بن الكبابطي كتب أيضا أبياتا هنأ بها بميلاد ابن لملك فرنسا. ولم نطلع نحن على هذه الأبيات، ولكن حديث علي بن الحفاف عنها يدل على وجودها، بل ووجود عبارات نثرية (بليغة) مع الأبيات. وقد أغضبت هذه الأبيات ابن الحفاف وقدور بن رويلة وغيرهما من شيعة الأمير عبد القادر والمقاومة عندئذ. وكان الكبابطي وقتها مفتيا لدى الفرنسيين، أي قبل أن يعزلوه وينفوه سنة 1843، ومن غضبه على الكبابطي عبر ابن الحفاف عن مولود الملك الفرنسي قوله: (المقصوف الذي ازداد، قطع الله نسله). ومن جهة أخرى كتب الكبابطي أبياتا أربعة في تهنئة ومدح الدوق دورليان، وهو أحد أبناء ملك فرنسا، وشبهه بالنيل، وأشاد بفضله. وقيل ان هذه الأبيات قد رسمت على رخامة ووضعت بداخل الجامع الكبير. ولم نطلع عليها أيضا (¬1). وحظى نابليون الثالث بأشعار من بعض الجزائريين: بعض هذا الشعر قيل فيه وهو رئيس جمهورية، وبعضه عندما كان امبراطورا. ورغم ضعف هذا الشعر وكسره فإن جريدة المبشر كانت تبادر إلى نشره لأنه يخدم هدفا واضحا عندها وهو تعلق بعض الجزائريين بالحكام الفرنسيين أو التقرب منهم. والغريب أن يصدر هذا الشعر من أحد أفراد أسرة الأمير عبد القادر التي طالما حاربت الفرنسيين واعتبرتهم مغتصبين. والقصيدة التي نشير إليها هي التي ¬

_ (¬1) جمال قنان (نصوص)، ص 120، عن مخطوط المكتبة الوطنية - الجزائر، رقم 2083.

قالها أحمد بوطالب الغريسي، وعائلة بوطالب فرع من فروع عائلة الأمير، سنة 1849، أي أثناء وجود الأمير في السجون الفرنسية. وقد قالها بعد انتخاب لويس نابليون رئيسا للجمهورية الفرنسية ونشرت في المبشر، ومطلعها: جاءت توفى لنا سعدى بميعاد ... من بعد مهد فألفتنا بمرصاد لما غدا (بونابرطي) هو رايسها ... رغما على أنف عنتاد وحساد قد عرفت به يا أعراب ساحته ... نتائج نالها من إرث أجداد وقد جاء في آخرها هذا البيت: خذها على فرح زهوا لطالبها ... واطلب لتاريخها حكيم تعداد (¬1) ولنفس الشاعر قصيدة أخرى في مدح الامبراطور نابليون الثالث، بعد زيارته الثانية للجزائر سنة 1865. وقد شاع عندئذ أن نابليون صديق للعرب، وأنه أمر ممثليه في الجزائر بالعدل في معاملتهم وتعليمهم واحترام أراضيهم، ونحو ذلك. وظهرت بين الكولون إشاعة تقول ان نابليون يريد إنشاء ما سمي بالمملكة العربية في الجزائر. وهكذا تحرك الشعر ليعبر عن هذه الروح الجديدة. فقال أحمد بوطالب أيضا مرحبا بنابليون: أهلا بمن سعت به الأزمان ... وتشرفت بقدومه الأوطان يا أيها الملك المؤيد مرحبا ... بك إذ حللت بنا فحل أمان أشبهت عمك في النهي بل فقته ... وورثت فخرا ديمه هتان عمت محامدك السنية إذ بدا ... منها لـ (عبد القادر) الإحسان والشاعر يشير (بعمه) إلى نابليون الأول، وبالإحسان إلى عبد القادر أي إطلاق سراحه من السجن. كما أشاد بما قدمه نابليون الثالث من أعمال ¬

_ (¬1) طبعتها المبشر على حدة داخل إطار خاص، في 30 يناير 1849. انظر بحث إبراهيم الونيسي (رسالة ماجستير عن المبشر). وكان أحمد بوطالب قد توجه إلى دمشق، سنة 1863، بعد أن خدم القضاء في الجزائر وفي سطيف، بين 1856 - 1863. وقد ذكرت المبشر أن القصيدة من نظم أخ الأمير، وهو خطأ أو خداع. ورغم أن الأمير قد راسل نابليون الثالث وزاره ومع ذلك لا نعرف أنه قال فيه شعرا.

للمسلمين، في نظره، كالمساجد والمدارس، والأمن، والجسور والمصانع. وهذا الشعر، إن كان لنفس الشاعر (¬1)، فهو أجود من سابقه من الناحية الأدبية. وتقع القصيدة في عشرين بيتا. وهناك أبيات غير معروفة الشاعر وضعيفة النسج الشعري، قيلت بمناسبة ميلاد ولي العهد، سنة 1856. وقد أراد الشاعر أن يهنئ نابليون الثالث بولده وأخذ يمدح الطفل بما رآه فيه من مخايل المستقبل. ومع ركاكتها نشرتها المبشر لقيمتها السياسية وليس لقيمتها الأدبية، والغريب أنها نشرتها بعد تسعة أعوام من نظمها أو من ميلاد ولي العهد (¬2). والشخص الثاني الذي حظي بالمدح والتنويه من بعض الشعراء هو شارل جونار، الذي حكم الجزائر عدة مرات، وأطولها سنوات 1903 - 1912. وقد ظهر لبعض الجزائريين، ومنهم الشعراء، أنه خير من غيره، وأنه تعاطف مع آمالهم في التعليم واحترام التقاليد وحرية الصحافة، رغم أن ذلك في الواقع كان سياسة ظاهرية فقط وفي نطاق خدمة المخططات الفرنسية البعيدة. وتحضرنا من ذلك قصيدة قالها الحسين بن الحاج محمد بن حفيظ الخراشي البسكري، سنة 1905 في مدح جونار. وقد دعا الشاعر المواطنين إلى العلم الذي قيل أن جونار قد سهل طلبه عليهم، وحرضهم على نبذ الكسل، وأضاف إلى ذلك مدح فرنسا. وكان الشاعر يسير على نفس الطريق مع المولود بن الموهوب الذي كرر تقريبا نفس المعاني في خطبته الرسمية سنة 1908. وقد بلغ جونار قمة شهرته سنة 1905 أثناء انعقاد مؤتمر المستشرقين الدولي في الجزائر، كما سنذكر. ويبدو أن الحسين الخراشي من الذين تخرجوا من إحدى المدارس الفرنسية الرسمية الثلاث. ومما جاء في القصيدة: ¬

_ (¬1) لأننا غير متأكدين أنه لنفس الشاعر ما دام هناك أكثر من واحد باسم أحمد بو طالب، وكانوا متقاربين في الزمن وخدمة القضاء. وقد قلنا إن الأول قد هاجر إلى سورية سنة 1863. عن القصيدة الأخيرة انظر المبشر 2 يوليو 1865، وكذلك بحث إبراهيم الونيسي. (¬2) نشرت في 22 فبراير، 1865، بينما الطفل ولد في 16 مارس 1856.

فهل رأيت كاسلا نال العلا ... إن العلا بالاجتهاد في العمل ويقول عن فرنسا انها (خير الدول) التي نشرت العلم والتهذيب (أي الحضارة والتمدن): لا سيما في وقتنا المهذب ... قد نشرت لواءه خير الدول (¬1) ومن أشهر القصائد التي قيلت في هذه الأثناء قصيدة القاضي شعيب التلمساني. وقد أرسل بها إلى مؤتمر المستشرقين الرابع عشر الذي انعقد بالجزائر في إبريل 1905 تحت إشراف شارل جونار. وفي القصيدة إشادة فخمة بالعلم وجونار وعلماء المسلمين في الغابرين. وكان القاضي شعيب قد حضر مؤتمرا استشراقيا سابقا في استكهولم سنة 1898 (1307) مندوبا عن فرنسا، ولكنه لم يحضر شخصيا سنة 1905 وإنما أرسل القصيدة إلى المؤتمر فألقاها ابنه، أبو بكر عبد السلام بن شعيب، نيابة عنه. وقد وجدنا مسودتها في أحد المخطوطات التي آلت إلى الشيخ عبد الحي الكتاني، وهي في أربع صفحات، وعليها تصحيحات كثيرة، مما جعلها صعبة القراءة. ولها عدة مطالع: (العلم قد سطعت له أنوار) و (العلم قد طلعت عليه أقمار) (¬2). وشارل جونار هو الذي افتتح المدرسة الثعالبية الجديدة سنة 1904 بالعاصمة. وهي المدرسة التي تأسست سنة 1850، ولكن اسمها لم يكن الثعالبية. وقد دل ذلك عند البعض على اهتمامه بالمسلمين وفتح المدارس في وجههم. ولذلك نظم أبو القاسم الحفناوي بن الشيخ صاحب تعريف الخلف أبياتا لتحفر على الرخام وتوضع على مدخل المدرسة، وأشاد فيها طبعا بالحاكم العام، جونار. ورغم وجود اسم جونار فيها، فإنها من الشعر المناسب في بابها. وهي من أوائل الشعر ¬

_ (¬1) جريدة (الأخبار) 20 جمادي 1، 1323، 23 يوليو 1905. وقد ظهر اسم الشاعر نفسه أيضا على هذه الجريدة في 18 يونيو 1905. (¬2) الخزانة العامة - الرباط، ك 48، وقد صور لنا الأستاذ عباس الجراري نسخة منه بعد أن ضاع منا سنة 1988 ما كنا قيدناه منه من قبل.

الذي قيل في المنشآت العامة، وهو الشعر الذي سينطلق مع محمد العيد انطلاقة كبيرة للإشادة بالمدارس والنوادي والصحف التي أنشأها الشعب تحت إشراف جمعية العلماء المسلمين وغيرها. وهذه هي أبيات الحفناوي بن الشيخ: في كل جيل من الأجيال أخيار ... وخيرهم من له في العلم أخبار بالعلم شاد بنو اليونان دورهم ... وكان للعرب منه بعد آثار كل مضى تاركا في العلم منقبة ... كأنها علم في رأسه نار واستخلفوا (دولة الجمهور) قائمة ... بكل علم له في العصر أنوار وهذه آية العرفان مشرقة ... (بالثعلبية) نعم الاسم والجار وشيدت، وتاريخها لجنسنا فتحت ... وذو الولاية نجم العصر (جونار) وفي هذه الأبيات الستة لخص الحفناوي تاريخ العلم من اليونان (الإغريق)، إلى العرب، إلى الفرنسيين، الذين سماهم (دولة الجمهور)، أو الجمهورية. ورغم البراءة العلمية هنا فإن الشاعر قد جعل فرنسا هي خليفة العرب والإغريق في العلوم، وهذا رأي سياسي واضح. ويقصد بعبارة (لجنسنا فتحت) أن فرنسا فتحت هذه المدرسة للمسلمين والعرب، أثناء عهد جونار. وكان الشاعر معجبا، مثل غيره من النخبة المتعلمة، بهذا الحاكم العام، الذي (اهتم بمسلمي الجزائر محييا آثار أسلافهم، وحاول أخذهم على طريق التقدم العصري، حتى تجمع الجزائر بين عصر الشرق القديم وبحر الغرب الجديد، كما فعل الأوروبيون من قبل) (¬1). ومن الشعر السياسي أيضا قصيدة زين العابدين بوطالب - من نفس عائلة بوطالب أولاد عم الأمير عبد القادر - وزين العابدين هذا كان قاضيا في سطيف ومعسكر منذ 1873. وهو ابن محمد بن عبد القادر بوطالب. وقد قالها في وفد فرنسي قدم الجزائر، ويسميه الألبينيين (الألبينيست). وافتخر بأنه يعرف الشعر العربي، فأراد المدح به. وقد بدأ قصيدته بتبشير بني الدنيا ¬

_ (¬1) الحفناوي (تعريف الخلف) مقدمة الجزء الأول.

بهذا الوفد الذي ظن الشاعر أنه جاء يحمل السعادة والخير: بشراكم يا بني الدهماء قد جاءكم ... وفد السعادة للاإقبال مفتاح يطوفون الأرض كي يروا منافعها ... يسعون في الخير للأهالي نصاح وهو في شعره لا يمدح فقط، ولكنه يشكو أيضا. وكان يطلب العيش الصافي ولكن ذلك غير ممكن لأن فرنسا (دولتنا) تقرب وتبعد، وتعامل الأهالي بالشدة واللين، وهو يعرض بها دون جرحها أو دون تعريض نفسه لغضبها بطريقة التورية. وهو لا يبالي باللغة إذا استقام له الوزن، فالشكوى تحولت إلى (شكوة)، والجناح - بضم الجيم وتخفيف النون - تحول إلى مشدد النون. ولا عليه بعد ذلك ما دام يجمع بين المدح والشكوى من حاله وحال مواطنيه: همي من العيش ود ساغ مشربه ... ولم يشب صفوه كدر وأتراح فإن دولتنا، والله ينصرها ... تبيحنا قربها حينا وتنزاح كالأم تفطمنا حينا وترضعنا ... وما على فعلها في السر جناح فهذه قصتي لكم يا وفد الهنا ... ضمنتها شكوة لكم وأمداح وفي 1896 ألقى عمر بن بريهمات قصيدة أمام وفد فرنسي آخر عالي المستوى في مدينة الجزائر. وكانت المناسبة هي زيارة وزير التربية السيد كومبس، للمدرسة الثعالبية. وقد حضر الحفل أساتذة المدرسة وفيهم الشاعر المذكور والشيخ محمد السعيد بن زكرى والأيمة أحمد بن القبطان، وأمين قدور بن عبد الرحمن، والمستشرق هوداس، والطبيب محمد بن العربي الذي كان في نفس الوقت أحد أعضاء المجلس البلدي لمدينة الجزائر، بالإضافة إلى مدير المدرسة المستشرق ديلفان، ومحيي الدين الشريف الذي ألقى كلمة بالفرنسية نيابة عن رجال الدين، وكذلك علي الشريف، أول عضو جزائري في المجلس الأعلى للحكومة (¬1). وكان من بين الحاضرين أيضا الحاكم العام جول كامبون. ¬

_ (¬1) عن علي الشريف ومحيي الدين الشريف. انظر فصل الترجمة.

أما الشاعر عمر بن بريهمات فقد ألقى قصيدته بعد أن حصل من الوزير كومبس على وسام الأكاديمية (التعليم)، وذلك أمام الوفد المذكور عندما جلس لتناول القهوة والحلوى العربية والاستماع إلى الموسيقى. وقد رحب الشاعر بالوزير وشكر الحاكم العام ومدح فرنسا. والغريب أنه سمى الاحتلال فتحا. وردد المعزوفة الفرنسية المعروفة، وهي أن الجزائر كانت مضطربة قبل استعمارها، وأن الناس كانوا يغزون بعضهم بعضا ويسفكون الدماء. وطلب من المواطنين مصافحة هذا الوفد وإكرامه لأنه من جنس الفرنسيين، وزاد عمر في المبالغة فقال انه يفدي أعضاء الوفد بالروح: قطر الجزائر قم صافح موافيكا ... من أمة هي خير من يصافيكا واصدع لهم ولها بالشكر إذ جلبت ... إليك كل نفيس لم يكن فيكا وطالما كنت قبل الفتح مضطربا ... والسفك يسطو على أجيال ثاويكا أعيان قوم هم الإفرنج أصلا وإن ... قلت الفرنسيس بالأرواح نفديكا (¬1) ومما يذكر أن الوزير أجاب رجال الدين، الذين حضروا الحفلة أيضا، بأن فرنسا قد بنت مسجدا في باريس. وأجاب الوزير أيضا مدير المدرسة الذي شكا من ضيق المكان بأن فرنسا قد خصصت ميزانية لبناء مدرسة جديدة (وهي التي أصبحت تعرف بالثعالبية وافتتحت سنة 1904)، كما ذكرنا. وقد جرت الحفلة في الوقت الذي أعطيت فيه الإشارة إلى التغيير في نظام التعليم نحو الجزائريين (¬2). إن الشعر السياسي لم يكن كله في الأشخاص والتملق لهم، بل كان فيه ما كان رائدا في مدح المنشآت العامة التي لها صدى سياسي. ففي 1882 أنشأ أحد الفرنسيين، وهو بول ايتيان، جريدة بالعربية سماها (المنتخب) في مدينة قسنطينة. وكانت الجريدة نسخة مترجمة تقريبا من جريدة أخرى بالفرنسية تصدر في نفس المدينة. وكانت قد ظهرت بثوب مدافع عن الأهالي ¬

_ (¬1) المبشر 18 إبريل 1896، وهي في 23 بيتا. (¬2) انظر فصل التعليم المزدوج.

ضد الظلم الذي كانوا يتعرضون له على يد الكولون أثناء النظام السياسي الجديد (النظام الجمهوري). وقد التفت جماعة من أعيان الجزائريين حول هذه الجريدة (المنتخب)، ومنهم عبد القادر المجاوي والمكي بن باديس، فساهموا فيها وعبروا عن آرائهم حول الوضع العام. ومنهم زين العابدين بوطالب الذي سبقت الإشارة إليه. فقد مدح الجريدة على اهتمامها بشؤون الجزائريين، واعتبرها من وسائل النشاط السياسي ونوه بها كجريدة إخبارية، للتقريب بين الجزائريين والفرنسيين. ومن الأسف أن القصيدة مشوهة بالأخطاء، ولو اطلعنا على أصلها أو على ديوان قائلها لبذلنا الجهد في تصحيحها. ونحن الآن لا نورد منها هذه الأبيات إلا لمعرفة موضوعها، أما روحها الشعرية فتكاد تكون مفقودة. وقد رمز الشاعر إلى الجريدة بالبدر، وقال انها محررة باللغتين، وهنأ صاحبها على صنيعه، وهو غير عارف بالدوافع التي دفعت به إلى إنشاء (المنتخب)، والمعروف أن الحكومة أوقفت الجريدة لأنها خشيت من تأثيرها (السيء) على الأهالي. وكان ذلك أثناء إدارة لويس تيرمان. يقول الشاعر زين العابدين بوطالب (وكان عندئذ قاضيا): بدر السياسة بالدهماء قد سطعا ... أم هذا (منتخب) الأخبار قد طلعا (¬1) (جرنال) كاللؤلؤ المكتوب منتظما ... ألفاظة رقصت باللغتين معا مؤلف لقلوب الناس قاطبة ... من الرعايا وللأهالي قد نفعا يشفى الصدور من الداء الذي وجعا ... قد نار منشئه المزايا إذ طبعا فليبشروا بالأماني والحق سادة ... قد سارعوا في اشترائه الذي وقعا (¬2) ولا شك أن هناك شعراء قد رحبوا بالجرائد التي أنشئت في فاتح هذا القرن، سواء تلك التي ملكها جزائريون أو التي ملكها الفرنسيون، لأن الشعراء سرعان ما يستجيبون لما يرون فيه فائدة للشعب أو مصلحة شخصية ¬

_ (¬1) في الأصل (ظهرا) بدل (طلعا). والشطر الثاني من البيت الثاني ينتهي في الأصل بكلمة (لذا) وقد بدلناها بكلمة (معا) لتستقيم القافية. (¬2) قنان (نصوص)، ص 182، هامش 1، عن العدد 5 من جريدة (المنتخب).

لهم. وقد راسل الجزائريون أيضا بالشعر حتى الصحف العربية الصادرة في تونس ومصر وإسطانيول، كما سنذكر. وكان الكبت السياسي قد أدى إلى أن يلجأ الشعراء إلى الرمز وأساليب غير مباشرة في التعبير عن خلجات أنفسهم. وقد استعمل الشاعر سعد الدين خمار أسلوب الغزل في موضوع سياسي. وخمار هذا ابن بيئة عربية مثقفة، هي بسكرة، أوائل هذا القرن، وكان أحد أفراد أسرته من أعيان العلماء المدرسين عندئذ، وهو بلقاسم خمار (¬1). وقد تخرج سعد الدين من زاوية طولقة التي عرفت بنضالها من أجل التعليم العربي والقرآني والديني خلال القرن الماضي. وهو شاعر قوي وله ثقافة سياسية فائقة رغم الجو المكبوت الذي عاش فيه. وقد نشر عدة قصائد في جريدة (الفاروق) التي أنشأها عمر بن قدور سنة 1913. وكانت الفاروق نفسها جريدة سياسية إسلامية مصلحة، وعارضت التجنيد الإجباري وانتصرت لحركة الجامعة الإسلامية ووقفت ضد إيطاليا في حربها ضد ليبيا. ولا شك أن الشاعر خمار قد نظم الشعر قبل ذلك، وربما لم ينشر منه إلا ما لا يغضب الفرنسيين، وقد يكون نشر في الجرائد المتوفرة مثل المغرب وكوب افريقية، أو جرائد تونس. ولكن القصيدة التي قيل إنه نشرها في الفاروق وجلبت إليه البلاء والاعتقال والسجن والتعذيب، هي التي عنوانها (في الغزل السياسي)، ومطلعها (¬2): أراك سليب الفكر ناهزك الضر ... وخافية الإنسان ويدلى بها الجهر وقد اشتهرت هذه القصيدة بين الأدباء والسياسيين. وقام بعضهم بتخميسها مثل الشاعر الجنيد أحمد مكي (¬3). ويرجع ذلك إلى موضوعها وجرأة صاحبها، وقد قيل انه عذب لأجلها، وكان مصيره التغييب والإهمال، ¬

_ (¬1) انظر عنه فصل التعليم. (¬2) ورد اسم الشاعر في شعراء الجزائر على أنه بلقاسم بن الخمار، ونحن نفرق بين سعد الدين وبلقاسم. وقد نشرت القصيدة في جريدة (الفاروق) عدد 55، 1914، انظر صالح خرفي (الشعر الجزائري الحديث). (¬3) شعراء الجزائر 1/ 95، أيضا دبوز (نهضة الجزائر)، 1/ 46.

(كما أن عمر بن قدور قد نفى وعذب وسير به إلى الأغواط مشيا على الأقدام. ولعل (شفاعة) الزاوية التجانية هي التي أنقذت حياته). وفي هذه القصيدة ما يذكر المرء أيضا بقصيدة أبي فراس الحمداني: (أراك عصي الدمع). وقد انطلق الشعر السياسي بعد الحرب العالمية الأولى (¬1) مع حركة الأمير خالد السياسية وحركة ابن باديس الإصلاحية، ثم ظهور الأحزاب وجمعية العلماء، ودخلت موضوعات وطنية وعربية وإسلامية قاموس الشعراء، فكانت قصيدة اللقاني (بني الجزائر)، وقصيدة محمد العيد على لسان جريدة صدى الصحراء. ثم طغت على الساحة قضايا ليبيا وفلسطين والعراق وتركيا. وإن من يرجع إلى ديوان أبي اليقظان، و (شعراء الجزائر)، وأناشيد مفدي زكريا، ونشيد شعب الجزائر واعصفي يا رياح لابن باديس، وغيرها سيدرك أن الشعر قد خرج من التلميح السياسي إلى التصريح، ومن الخذلان إلى المواجهة. فللعمودي (محمد الأمين) قصيدة سياسية قوية في مدح الأمير خالد والإشادة بدوره بعد زيارة قام بها الأمير لبسكرة سنة 1922، وكان الأمير في أوج سمعته، وكان العمودي موظفا في المحكمة. ولذلك نشرها مغفلة الاسم، ومنها قوله: رجل الجزائر يا عظيم الشأن ... أنت الأمير المسلم الحقاني حييت من بطل تعاظم قدره ... يا زينة الأقوام والأوطان أهلا بمقدمك الذي ابتهجت له ... منا القلوب ومنزل الفرقان (¬2) ¬

_ (¬1) من الشعر السياسي أيضا نشير إلى مقطوعات الأمير عبد المالك بن الأمير عبد القادر أثناء ثورته على الفرنسيين 1915 - 1924. انظر كتابنا (أبحاث وآراء) ج 1، ط. 3. (¬2) صالح خرفي (الشعر الجزائري الحديث)، ملحق 49. وقد نشرت القصيدة في جريدة (الإقدام) عدد 26 نوفمبر 1922.

وكان الافتخار بالماضي والنهوض بالحاضر واستشراف المستقبل المشرق هو لسان الشعراء المصلحين والوطنيين منذ الثلاثينات. وها هو محمد العيد يخاطب فرنسا سنة 1936 على لسان الشعب أثناء وداع وفد المؤتمر الإسلامي الذي حمل إلى الحكومة الفرنسية في باريس، مطالب كانت عند البعض متواضعة جدا. ومع ذلك فإن الشاعر اعتبر الحدث قمة في النضج الشعبي والتضامن السياسي، فهو يخاطب فرنسا هكذا: فخففي الحجر عنا ... إنا نضاهيك رشيدا إنا نقاضيك دينا ... قد آن أن ويستردا حقا لنا منك ويقضي ... لا نعمة منك تسدى نحن الحنيفون دينا ... نحسن المنيفون مجدا يا شعب بشراك هذا ... خير لجيلك يهدى فخط للعز صرحا ... وخط للذل لحدا إن الجزائر منا ... بالروح والمال تفدى (¬1) إن هذه الروح الملتهبة بالحماس والوطنية لا نكاد نجدها في الشعر الجزائري خلال القرن الماضي، باستثناء بعض القصائد الفخرية للأمير عبد القادر. وليس من غرضنا الآن تتبع هذا الشعر السياسي إلى عشية الثورة. فقد تكفلت بذلك الدراسات التي ظهرت عن الشعر الجزائري الحديث، وقد أشرنا إليها. على أن جرح 8 مايو 1945 قد أوحى إلى شعراء مثل محمد العيد والإبراهيمي والربيع بوشامة وأحمد معاش الباتني قصائد مؤثرة. وحسبنا الآن التنويه بما أصاب الحركة الشعرية من تحول. ونريد أن نقول إن بعض الشعراء قد استمروا أيضا في (مدح فرنسا). وقد وجدنا من كان يتغنى بالراية الفرنسية سنة 1916. وذكرنا أن هناك مجموعة شعرية طبعت سنة 1916. ولعل هؤلاء الشعراء لم يعرفوا بعد الشعار الوطني: الإسلام ديني والجزائر وطني والعربية لغتي. ومع ذلك ¬

_ (¬1) البصائر 24 يوليو 1936.

الشعر الإسلامي والإصلاحي

فالتاريخ يحتم علينا ذكرهم (¬1). الشعر الإسلامي والإصلاحي ومن الشعر السياسي أيضا ما قاله الجزائريون قاصدين به استنهاض العالم الإسلامي ومدح رجاله والمشاركة في النهضة العربية. ويدخل في ذلك توجيه الخطاب للأفراد وللشعوب والدول. ونريد الآن أن نتحدث عن الشعر الذي نظمه أصحابه وهم في الجزائر، ثم نذكر نماذج من شعراء المهجر أيضا أمثال محيي الدين بن الأمير عبد القادر وسليم الجزائري. وخلال الستينات شارك حسن بن بريهمات في التنويه بكتاب أقوم المسالك لخير الدين باشا التونسي. وهو الكتاب الذي نوه به أيضا الأمير عبد القادر، ولكن بالنثر. أما حسن بن بريهمات فقد بعث بقصيدة إلى المؤلف أظهر فيها ما للكتاب من أهمية للعالم العربي والإسلامي، بدعوته إلى التقدم وتقليد أوروبا في غير العقيدة. ومن أبياته في ذلك: لله درك، خير الدين، من علم ... أبدى منار الهدى للناس في القنن نهجت نهجا قويما قل سالكه ... إلى السياسة كي ينجو من الفتن بنيت طرق السداد بل وأقومها ... وقمت منتصرام للدين والوطن حق على أمة الإسلام شكركم ... ورعي تأليفكم بالقلب والأذن ومدح شخصيات مثل أحمد فارس الشدياق ومحمد عبده وأبي الهدى الصيادي والسلطان عبد الحميد الثاني يدخل في مضمار السياسة أيضا. ولكننا فضلنا ذكر ذلك في باب المدح. أما القصيدة التي قالها عمر بن قدور في ¬

_ (¬1) نشرت مجلة العالم الإسلامي R.M.M سنة 1916 عدد 34 تصريحات منسوبة إلى معلمين جزائريين في طنجة - المدرسة الفرنسية - وذكرت منهم مصطفى الجزائري (؟) ومحمد بن العربي التلمساني، وكلاهما كان يتغنى بالجيش الفرنسي ورايته. ظهرت المجموعة في باريس 1916، طبع أرنست لورو. والشاعران غير معروفين.

حرب طرابلس فهي في الشعر السياسي الذي نحن بصدده. فقد أشاد فيها بأهل طرابلس وكفاحهم المرير ضد العدو، ونوه بضفلهم على العرب والمسلمين، وبكونهم صبروا وصمدوا في وقت تخاذلت فيه القوى الأخرى. وقد اختار لقصيدته عنوان (الأسوة الحسنة) ونشرها في جريدة (الحضارة) التي كانت تصدر بإسطانبول: رعى الله قوما من طرابلس الغرب ... تبين فضل الشرق منهم على الغرب خلاصة أسلاف كرام وأمة ... تلاشت نعوت الغير في نعتها الرحب رجال أبوا أن يضمحل فخارهم ... أمام العدو النهم في طلب النهب فأصلوه نار القهر درءا لبغيه ... وأبدوا مزايا الحزم والعزم عن قلب وصانوا ضمار الشرق والشرق مشرف ... على حيرة تفضي إلى الموقف الصعب على إثر يأس فت في ساعد المنى ... لقد أطلعوا الآمال تلمع كالشهب فهم معشر أرضوا الإله وحسبهم ... مزية رفع الذل عن عاتق الشعب (¬1) إنه شعر جديد في موضوعه وفي نغمته السياسية. وألفاظه غير مألوفة في أدبيات الشعر قبله. ونحن نعرف أن حرب طرابلس التي كان يتحدث عنها قد جربت بين 1911 - 1912. ومن هذا النمط قصيدة (يا شرق) لعمر بن قدور أيضا. وهي من الشعر القومي والإسلامي في عهد النهضة. وكان الشاعر يعيش قضايا وطنه وملته وقومه، وكان يتحسر على وقوع بلاد المسلمين في قبضة الأجانب، وهو يرى أن الغرب المتمدن يستخدم الخداع والمكر لمد نفوذه، وكان على الشرق أن يعي نفسه ودوره ويثبت للغرب أنه ناهض للدفاع عن نفسه. وكانت عبارتا (الشرق والغرب) شائعتين عندئذ للدلالة على عالمين متباعدين وفي نفس الوقت واقعين في معركة حضارية كبيرة. وقد نشر ابن قدور قصيدته هذه في ¬

_ (¬1) صالح خرفي (عمر بن قدور رائد الصحافة الوطنية الجزائرية)، مجلة الحياة الثقافية (تونس) عدد خاص 32، 1984، ص 46. وقد ترجمنا لعمر بن قدور في فقرة الصحافة، فصل المنشآت الثقافية.

جريدة (الحضارة) أيضا سنة 1912، ثم أعاد نشرها في جريدته (الفاروق) التي أسسها سنة 1913. وفي تلك الأثناء كانت فرنسا تفرض على الجزائريين التجنيد الإجباري للخدمة في جيشها، وكان ابن قدور من أبرز المعارضين لذلك الإجراء، وأظهر معارضته في عدة مقالات نشرها أيضا في جريدة الحضارة المذكورة. وإليك أبياتا من (يا شرق): يا شرق ما لعقول قومك لا تعي ... نصحا من الماضي إلى المستقبل صالت عليك مطامع الغرب الذي ... أرضعته لبن الترقي الأكمل إن كان أهل الغرب قوم تمدن ... فهم الثعالب سبقا بتحيل جعلوا مواطننا حمى لذويهم ... وأبوا علينا أن نقر بمعقل يا شرقنا إني أعيذك أن ترى ... متغافلا عنهم فتسقط من عل إني أعيذك أن يسود نفوذهم ... وتساق حيلتهم عليك فتنطلي (¬1) وكان عمر بن قدور يؤمن بهذه الأفكار حول الإسلام والغرب والاضطهاد، ولكنه لا يستطيع أن ينشرها في الجزائر. ولذلك كان يراسل بنثره وشعره الصحف العربية والإسلامية، وكان عندئذ ما يزال في العشرينات من عمره؛ وقد نشر سنة 1909 موشحا سياسيا في جريدة (الحاضرة) التونسية، استعمل فيه السياسة بدل الغزل ووصف الطبيعة، واستعار الصيغة من ابن سهل صاحب التواشيح المشهورة، واتخذ ابن قدور ذلك وسيلة لنقد الوضع الراهن في بلاده والبلدان الإسلامية الأخرى، وأعطاه العنوان التالي (هل أباد اليأس جيش الأمل؟) وقد صور حالة النور والظلام والتسلط والاضطهاد والنهضة والرقود - ذلك الجو المتناقض الذي كان يعيشه المسلمون. والشاعر مع ذلك غير يائس، فهو مصلح ويرجو أن يجني الشعب ثمار الأمل ولو بعد حين: كيف نبقى في ظلام بعد ما ... أشرق النور بجو المجلس لا تقولي الخير فيما قد سما ... عن حضيض الذل من ذي قبس ¬

_ (¬1) خرفي، مجلة الحياة الثقافية، مرجع سابق، ص 40.

ذهب الوقت متى نجني المنى ... هل أباد اليأس جيش الأمل وفي رأي ابن قدور أن العلماء المسلمين هم الذين أوصلوا العالم الإسلامي إلى ما هو عليه. ذلك أن الحضارة الإسلامية قد ازدهرت ثم ذوت، وأخذ الغرب منها ما ارتقى به. ولكن العلماء المسلمين لم يستقيظوا، وضعف دينهم وضميرهم فحللوا الحرام وحرموا الحلال. وقد بقي الشاعر متسائلا عن مصير الأمة الإسلامية، ويبدو أنه كان غير يائس، كما قلنا، فهو يقول عن العلماء: كم حلال حرموا كم من حرا ... م أحلوا حين نالوا الذهبا من ضمير القوم زيغ يشترى ... هل ضمير الوعظ عنهم ذهبا أمة الإسلام عنها انسلخت ... روح مجد بمساعي المنكر هل يعود العلم والمجد كما ... عادت الشورى لأصل المغرس (¬1) إن شاعرا على هذا المبدإ لا يمكن أن يكون له من الشعر سوى ما نشره في بعض الجرائد المعاصرة. وقد عاش ابن قدور إلى أوائل الثلاثينات. والغريب أننا لا نجد شعره ضمن كتاب (شعراء الجزائر) الذي نشر في آخر العشرينات. فهل هو الذي اختار عدم الظهور فيه أو هناك خلفيات أخرى للموضوع؟. وفي هذه الأثناء كان هناك شاعر آخر يتحرق أيضا على وضع أمته ووطنه، وهو محمد المولود الزريبي. فقد عاش نفس الظروف تقريبا، وكان في نفس السن مع ابن قدور وعمر راسم. وزاد عليهما أنه درس في الأزهر، وشهد آثار النهضة في المشرق، ولعله توقف بتونس فامتلأ أفكارا وآمالا، ¬

_ (¬1) علي العريبي (أصداء جزائرية في جريدة الحاضرة) في مجلة (الحياة الثقافية) - تونس - عدد خاص 32، 1984، ص 73 - 74. وقد ذكر الكاتب أن الحاضرة نشرت أيضا قصيدة أخرى لابن قدور عنوانها (نفثات قلم الجزائري) في عدد 15 إبريل 1911. ويبدو أنها على نفس الوتيرة. وتلاحظ أن في الأبيات الأخيرة بعض الغموض.

ولكنه حين رجع إلى بلاده وجد الاستعمار جاثما والشعب نائما والأفكار جامدة والبدع تغزو المجتمع، فثارت ثائرته ودعا إلى النهضة ونبذ البدع والخرافات ومقاومة الاستعمار والطرقية بأسلوب جديد، وهو التعليم وبناء المساجد الحرة. وقد تنقل الزريبي أثناء ذلك في المناطق النائية قبل أن يستقر في العاصمة. فهو ليس مثل ابن قدور وعمر راسم من أبناء المدية، ولكنه ابن ريف (من زريبة الوادي)، وقد عاش في ليانة وباتنة وبسكرة وأريس قبل أن يحل بالعاصمة. ولا نعرف أنه نشر شعره خارج الجزائر، كما فعل ابن قدور. والقطع التي عثرنا عليها له كانت منشورة في جريدة (كوكب أفريقية) التي كانت تصدر بالعاصمة، ثم ضمنها كتابه (بدور الأفهام) الذي طبعه بتونس. وقد قال ذات مرة إن له (قصائد كثيرة) في موضوع الدعوة إلى العلم والنهي عن البدع. وجاء في قصيدة (زفرات العشي) التي تبلغ السبعين بيتا: كأني بزفرات العشي موكل ... وفي (الكوكب الإفريقي) أبدى دواها إذا دهمتني النوائب برهة ... رفعت له (¬1) الشكوى فأمسى مساها سيخضع أهل السوء من كل منكب ... فسيف يراعى كم أباد جباها فأنت تراني تارة أزعج الملا ... وحينا كما الخنساء ترثي أخاها أقول، وأهل الحي مني بمسمع ... وأغرق عيني في بحار بكاها أعوذ برب العرش من فئة طغت ... وما برحت في غيها وعماها وفي القصيدة ذكر الشاعر أنه غيور على الدين ومناهض للبدع، وأنه من طلبة الأزهر، ونوه بهذا الجامع وكذلك جامع الزيتونة. وافتخر بنفسه لأنه من العلماء الأعلام وبرحلاته شرقا وغربا، وتمنى أن يقتدي به قومه في العلم وشد الرحال له (¬2). ومن قصائد الزريبي الجيدة في هذا المجال تلك التي سماها (نظرات أو ¬

_ (¬1) لعله يشير بـ (له) إلى الكوكب الإفريقي? الجريدة. وقد نقلنا البيت على ما فيه من خلل في الشطر الأول. (¬2) المولود الزريبي (بدور الأفهام) تونس، ص 62 - 65. والقصيدة نشرها سنة 1332 في كوكب إفريقية دون ذكر العدد والتاريخ المضبوط.

عبرات في النفس والعقل والعلم والجهل). وقد نشرها في كوكب أفريقية أيضا. وهو فيها يخاطب قومه النائمين ولا يهاجم الغرب ويتداخل في السياسة، كما فعل ابن قدور. ونحن نعلم أن جريدة كوكب افريقية كانت حكومية وكان محررها هو محمود كحول. ولو هاجم الزريبي الغرب وتداخل في السياسة لما نشرت له الجريدة شعره ولاضطر إما إلى نشره خارج الجزائر وإما إلى السكوت. ولكن الزريبي قد لف شعره الثائر بالدعوة إلى العلم (كما فعل ابن الموهوب أيضا)، وهي دعوة أصبحت مقبولة عندئذ من الفرنسيين، لأنها تبدو دعوة محايدة سياسيا. وفي مطلع هذه القصيدة نزعة رومانتيكية مجنحة وبداية جميلة: يا بدر مالك بالأنحاء تفتخر ... ألم تكن بطلوع الشمس تستتر والقمر (البدر) والشعر رفيقان منذ القديم، والشاعر المتأمل يستهويه الليل السادر والقمر الساهر. ولكن الزريبي انتقل بسرعة إلى موضوعه الرئيسي - العلم والجهل -، وها نحن نرى تغييرا كبيرا حدث في مطلع القصائد من عهد الأمير وعهد أحمد بوطالب الذي بدأ سنة 1849 قصيدته بقوله (جاءت توفي لنا سعدى بميعاد) ثم أضاف الزريبي قوله: والعقل تصلحه العلوم والحكم ... وليس تصلحه الآصال والبكر يا قوم ما لي أراكم في جهالتكم ... كقوم موسى طغوا فهالهم صغر هذا الذي ترك العلوم خامدة ... وأفسد القطر حتى عمه الضجر وهذه عبرات كنت أسكبها ... أذاعها قالب الأنظار والخبر لا زلت أنشدكم في خدمة الوطن ... كفى شهيدا علي الصحف والطرر إن عشت يشهد لي القرطاس والقلم ... وإن أنا مت فالتاريخ والعبر (¬1) ولعل الفرق بين ابن قدور والزريبي أن هذا ثائر اجتماعي وابن قدور ثائر سياسي. ولكن شعرهما معا يمثل مرحلة جديدة في تطور الحركة الشعرية من التقليد إلى التجديد، في الموضوعات والقوالب والروح والصور. ¬

_ (¬1) الزريبي، مرجع سابق، ص 26 - 27، والقصيدة بلغت أربعين بيتا.

وكان ابن الموهوب معاصرا لهما أيضا، ولكنه كان أضعفهما شاعرية، وإن كانت روح الإصلاح عنده قوية. وكان ابن الموهوب موظفا رسميا، وهما أكثر منه حرية. وكان ابن قدور، على ما نعلم، يكسب من العمل في جريدة الأخبار حين تولى بها القسم العربي الجديد، ولكنه غير معين من قبل إدارة الشؤون الأهلية مثل ابن الموهوب الذي كان مدرسا في مدرسة قسنطينة الرسمية، ثم تولى منذ 1908 وظيفة الفتوى (¬1). فكان شعره إصلاحيا وتعليميا. ولذلك لا نستغرب أن يقوم شيخه المجاوي بشرح قصيدته التي تشبه في ثورتها الاجتماعية قصائد الزريبي. وقد آمن ابن الموهوب أيضا بالعلم والتقدم سبيلا لنهضة قومه. ولكن مجال القول كان محدودا في ذلك قبل عهد شارل جونار، فظل على صمته أو لم ينشر مشاعره على الناس، رغم أنه كان مدرسا في قسنطينة منذ حوالي 1898. ومع انطلاقة الدعوة إلى التعلم على عهد جونار انطلق ان الموهوب أيضا، فنظم الشعر في إصلاح المجتمع، ونظم الأناشيد للتلاميذ ليتغنوا بها وألقى محاضرات في نادي صالح باي حول نفس الموضوعات. وهكذا يكون ابن الموهوب قد استغل الفرصة المتمثلة في (التسامح) الفرنسي حول التعليم وناشد الجزائريين التخلي عن الكسل، ونبذ الخمور والفساد والربا والحسد والبدع، والدخول إلى معترك الحياة إلى جانب الفرنسيين لمناكبتهم ومزاحمتهم، وهي دعوة شبيهة بدعوة الشيخ محمد عبده سنة 1903 حين زار الجزائر وطلب من أهلها أن ينافسوا الفرنسيين في العلم والعمل كتفا بكتف وذراعا بذراع. وقصيدة (المنصفة) لابن الموهوب قصيدة قوية الروح ولكنها ضعيفة الشعر. وهدفها، كما قلنا، تعليمي. وقد صاغها على قالب قصيدة عمرو بن كلثوم. وهي في نحو خمسين بيتار (¬2). فشكا ابن الموهوب أولا من تقلب ¬

_ (¬1) انظر دراستنا عنه وعن خطبة توليه الفتوى في (أبحاث وآراء) ج 2. (¬2) نشرت عدة مرات، آخرها في جريدة الشعب، 13 يوليو، 1994، على يد عقبة شودار مع مقدمة. كما أن عبد الله ركيبي قد أشار إليها في (الشعر الديني)، ص 563. =

الأحوال حين ارتفع الأسافل وانخفض الأعلون، وأصاب الجهل كيان الشعب ودبت في أوصاله أدواء كثيرة، وما الخلاص إلا في اليقظة والعلم لنفي التهمة عن الإسلام من أنه دين التخلف. ولم يهاجم ابن الموهوب الإدارة ولم يتداخل في السياسة، بل كان لسان حاله هو شكر الإدارة على فتح مجال التعليم. وهذه أبيات من القصيدة: صعود الأسفلين به دهينا ... لأنا للمعارف ما هدينا رمت أمواج بحر اللهو منا ... أناسا للخمور ملازمينا أضاعوا عرضهم والمال حبا ... لبنت الحان فازدادوا جنونا ألا يا دهر يكفي ما بلينا ... به من نشر ذي الأمراض فينا أليس اليسر يأتي بعد عسر ... فهل كان الشقاء لنا قرينا ينادينا الكتاب لكل خير ... فهل كنا لذلك سامعينا إن الموضوعات التي عالجها ابن قدور والزريبي وابن الموهوب قبل الحرب العالمية الأولى ستظهر بقوة في شعر محمد العيد وأبي اليقظان والعقبي والزاهري وأضرابهم بعد هذه الحرب. وقد احتل الشعر الإسلامي والإصلاحي جانبا كبيرا من شعر محمد العيد. وتناول ذلك بعض الدارسين له أمثال محمد بن سمية. كما أن موضوعات المرأة والأطفال المشردين والفقراء والأغنياء والمآسي الاجتماعية قد أخذت حظا وافرا عند الشاعر محمد العيد. ومعظم الشعراء قد عالجوا موضوع التعليم بطرق مختلفة (¬1). لم تعد الدعوة إلى العلم هكذا، ولكن إلى التعليم العربي والحضارة الإسلامية ونشر الماضي، وتكوين رجال ونساء الغد. وأنت ستجد في شعر أحمد سحنون والصادق خبشاش وأبي بكر بن رحمون رصيدا كبيرا من هذا ¬

_ = وقد شرحها المجاوي ونشر الشرح في مطبعة فونتانة سنة 1912، وفي طبعة جريدة الشعب أخطاء يبدو أنها مطبعية. (¬1) سنة 1348 (1929) نشر محمد العلمي قصيدة في العلم والتعليم في (تقويم المنصور) لأحمد توفيق المدني، السنة الخامسة. ومطلعها: بدا طالع الإرشاد في مشرق البدر ... فأشرقت الأنوار في جنة العصر

شعر المدح

الشعر الإصلاحي - الإسلامي. ولا نريد الآن أن نعالج ذلك لوفرة الدراسات فيه. شعر المدح شعر المدح كثير نسبيا، وهو يشمل مدح الأعيان والمشاريع والأفكار والمؤلفات وغيرها، والشعراء خاضوا في كل ذلك تقريبا. وقد كدنا نعتبر جانبا من الشعر السياسي في الفرنسيين مدحا أيضا، مثل مدح نابليون الثالث، ومدح جونار، لولا أننا رأيناه شعرا متسيسا إلى حد كبير، بينما شعر المدح قائم في الأساس على الإعجاب والاحترام. وسندخل في شعر المدح أيضا تقاريظ الكتب ونحوها والإشادة بأصحاب الجرائد والمواقف. وقد ذكرنا جانبا من ذلك في حديثنا عن قصيدة حسن بن بريهمات في خير الدين التونسي وكتابه وربطنا ذلك بتطور العالم الإسلامي والحضارة الغربية. وشعر الرثاء مدح أيضا، لأن الشاعر الراثي إنما يسجل أسفه على الفقيد ويعدد محامده كما لو كان حيا. وقد فضلنا الفصل بين الفقرتين، مع ذلك. والهجاء من المدح أيضا، وسنشير إلى بعض الشعر الذي استعمل للهجاء والمناسبة، إذا لزم الأمر. ويمكن تقسيم شعر المدح، كما فعلنا مع بعض أنواع الشعر الأخرى، إلى مرحلتين: من الاحتلال إلى حوالي 1914، ومن هذا التاريخ إلى عشية الثورة. وقد ارتبطت كثرة الأمداح وقلتها بتطور حركة الشعر نفسه، كما سبقت الإشارة. ولكن قصائد المدح، كانت تظهر من وقت لآخر، سيما في عهد الأمير، وفي علاقات شعراء الجزائر بأعلام الشرق، وولائهم لرجال التصوف والمناقب، أما في المرحلة الأخيرة فقد كثر المادحون والممدوحون لتطور حركة التعليم وظهور الشعر المتأثر بالنهضة في الأسلوب والروح، وكان للحركة الإصلاحية رجالها من الشعراء والزعماء. والملاحظ أن القيادات السياسية لم تستطع أن تستدر عطف الشعراء، فباستثناء الأمير خالد

لا نجد الشعراء قالوا في زعماء الأحزاب شعراء، مثل مصالي الحاج وفرحات عباس والدكتور ابن جلول. بينما حظي ابن باديس والإبراهيمي بقسط كبير من ذلك. ولعل كثرة التقاريظ للكتب تدل على أن الشعر لم يجد الزعماء والأعيان ليمدحهم. فاكتفى بمدح آثار بعض الكتاب. والتقريظ في الواقع مدح للكتاب وليس للمؤلف، وللأفكار لا للأشخاص. ولكن المؤلف يأخذ نصيبه القليل من ذلك، رغم أنه ليس زعيما ولا سياسيا. وسيضم شعر المدح ما قيل في الجزائريين وفي غيرهم. وما نظمه المقيمون والمهاجرون منهم. وقد حظي الأمير عبد القادر بأمداح ذكر منها ابنه في الجزء الثاني من (تحفة الزائر) مجموعة، ولكن يلاحظ أنها في أغلبها من غير الجزائريين (¬1). أما هؤلاء فنعرف أن ابن عمه الطيب بن المختار، كان يقول فيه الشعر، وله فيه أكثر من قصيدة. وكان الطيب بن المختار قد عاش مع الأمير في المشرق ثم رجع إلى الجزائر وتولى فيها وظيفة القضاء. وقد اجتمع بالأمير مرة أخرى حين توجه إلى مرسيليا لمقابلته أثناء إحدى زيارات الأمير لفرنسا. ومن قصائده فيه: بالله يا عبد القادر من مهجة ... ألقيت بين صوارم وسهام يا شمس علم في سماء معارف ... يا نخبة الفضلاء والأعلام لك في الحروب مناقب علوية ... ووضوحها أغنى عن الأعلام لله در نفيسة أرخصتها ... وبذلتها في نصرة الإسلام (¬2) ورغم أن الطيب بن المختار عاش خلال النصف الثاني من القرن الماضي، فإنه مدح الأمير بقصيدة بدأها باسم هند على عادة القدماء، ومطلعها: ¬

_ (¬1) من ذلك قصيدة إبراهيم الرياحي التونسي، وهي طويلة، وأولها: بلسان صدق في الورى لهج ... وقلوب أهل الشرك أضحت في وجل انظر عنها الهاشمي بن بكار (مجموع النسب)، ص 341. (¬2) نفس المصدر، ص 342. وهي قصيدة طويلة ذكر منها ابن بكار إثنى عشر ييتا فقط.

أكل خليل لا يدوم له عهد ... أم انفردت في حل ما عقدت هند أراها استحالت حالها وتنكرت ... معارفها والطرف عني مرتد (¬1) وقد كاد الشعر الفصيح الذي عثرنا عليه ينحصر في عائلة الأمير خلال القرن الماضي. فإلى جانب الطيب بن المختار، هناك عائلة بوطالب، وأبناء الأمير، سيما محمد ومحيي الدين وعبد المالك. فلماذا ذلك؟ إن هناك بعض العائلات قد توارثت الشعر أيضا، مثل ابن بريهمات، ولا سيما شعر المدح، ولكن ما توصلنا إليه لا يدل على قصائد كثيرة وعلى تنوع مراتع الشعراء، باستثناء الشعر الصوفي طبعا. وقد لاحظنا أن اسم الأمير قد ورد في شعر أحمد بوطالب، ولكنه جاء عرضا، فقط عند ذكر (الإحسان) الفرنسي وإطلاق سراحه. فهل كان أقارب الأمير لا يمدحونه خوفا من الفرنسيين؟ وها هو أحد متعلمي تلمسان، واسمه ابن مزيان، مدح الأمير بقصيدة لا ندري تاريخها الآن. وهي غير منشورة على ما نعلم قبل المصدر الذي نقلنا عنه؛ يقول ابن مزيان: بشراك ما شرب كأس المجد في شرف ... في حضرة حفها قطب وأبدال أنت الإمام وابن الإمام وابن الذي ... لولاه ما أرسلت للناس أرسال هذا الذي أدب الأبطال في كبر ... كما تؤدب أولاد وأطفال (¬2) وواضح أن الشاعر يمدح الأمير بالشرف والدين والتصوف في حضرة حفها قطب وأبدال. ولكنه في البيت الأخير أعطى للأمير حقه في الجهاد وتحرير البلاد. ولا ندري ما إذا كان للشاعر قصائد أخرى على هذا النمط. ومن الملفت للنظر أن الأمير لم يدخل أدبيات الشعر إلا بعد الاستقلال. ورغم شهرته في العالم وعند الفرنسيين خاصة، فإنه قد غيب عن الجزائريين قصدا، وأصبح اسمه كأنه عنقاء مغرب. وفي حدود 1837 (1252 هـ) كان حمدان خوجة في إسطانبول ¬

_ (¬1) نفس المصدر، ص 143. وقد أجابه عنها الأمير بقصيدة بنفس الوزن والقافية. (¬2) نفس المصدر، ص 341.

لاجئا. وقد ألف كتابه (إتحاف المنصفين) وأهداه إلى السلطان محمود الثاني مع قصيدة في مدحه، مطلعها: تخيرت (محمود) المعالي على الكبر ... ويممت ساحات الندى راحة البشر وكان خوجة قد تجاوز الستين سنة، وقد عاش حوالي عشر سنوات بعد ذلك، ووجد في العاصمة العثمانية عملا واحتراما (¬1). وفي أواخر القرن اشتهر عاشور الخنقي بالأمداح. وقد ذكرنا أنه خصص شعره لمدح الأشراف والمنافحة عنهم وهجو من يتعرض لهم. ومن تقاليد الجزائريين أن الذي يختم تفسير القرآن الكريم أو صحيح البخاري أو عقيدة السنوسي في التوحيد يتقدم إليه الشعراء ليلة الختم بالمدح في حفل مهيب يقام لهذا الغرض في أحد المساجد. ومن ذلك احتفال العلماء والشعراء بختم الأمير عبد القادر (أم البراهين) للسنوسي سنة 1837 في المدية. وكان قدور بن رويلة، وهو أحد كتاب الأمير، من الذين مدحوه شعرا (¬2). وكان الشاعر أحمد بوطالب الغريسي الذي ذكرناه بالنسبة للشعر السياسي قد مدح الشيخ علي بن الحفاف، مفتي المالكية في الحزائر (ت 1307/ 1889) وهنأه بختم الحديث الشريف. وكان ابن الحفاف من أنصار الأمير عبد القادر أثناء المقاومة، فالارتباط بين عائلة بوطالب وابن الحفاف ربما يرجع إلى ذلك التاريخ. ومهما كان الأمر، فإن قصيدة أبي طالب تبدأ: ختم الحديث له الأكوان تفتح ... لا سيما ما ببدء الوحي مفتتح (¬3) ¬

_ (¬1) انظر (إتحاف المنصفين والأدباء) تحقيق محمد بن عبد الكريم 1968. ولحمدان خوجة قصيدة أخرى في مدح أحد شيوخه (محمد بن علي الجزائري) نظمها في لندن، سنة 1814. (¬2) محمد طه الحاجري (جوانب من الحياة العقلية)، ط. القاهرة 1968، ص 78، و (تحفة الزائر)، 1/. (¬3) تعريف الخلف 2/ 93، ذكر منها 13 بيتا.

وقد اشتهر في تلمسان ونواحيها القاضي شعيب في آخر القرن وأول هذا القرن (ت. 1928). وقصده بعض الأدباء والعلماء في طلب الإجازة، وتناوله آخرون بالمدح طلبا في تدخلاته لقضاء مصالحهم. وقد عثرنا على شعر وفير في ذلك، ومنهم من كان يقرض الشعر تجريبا، ومن كان حظه فيه قليلا. ولكن الغوثي بن أبي علي (بوعلي) يظهر أنه قد تمرس على الشعر. وها هي قصيدته في مدح الشيخ المذكور تشهد بذلك. وكان الغوثي من خريجي المدارس الرسمية، وتولى القضاء أيضا فترة ثم جلبه المستشرق ألفريد بيل إلى مدرسة تلمسان الرسمية، واستعان به مستشرقون آخرون على تحقيق بعض المخطوطات (¬1). فكان أديبا وشاعرا لو وجد من يأخذ بيده لكان له شأن عظيم. ومهما كان الأمر فإن الغوثي بوعلي نظم قصيدته في مدح القاضي شعيب في سبتمبر 1912. ولا نعرف أنه نشرها. وقد افتخر فيها بنفسه وبانتمائه الحضاري وعلاقته بالقاضي المذكور - أصول أندلسية؟. ويدل شعره على معارف قوية. والقصيدة ذات بداية تقليدية إذ طالعها غزلي ثقيل. وقد اعترف لشيخه بالأستاذية ولا سيما في الشعر. وإليك بعض أبيات منها: وناعمة الخدين زاهرة البشر ... ململمة الشديين عاطرة النشر رضابها من شهد وخدها من ورد ... وعرفها من ند وثغرها من در وخذها من النسل الكريم عقيلة ... تزف إلى مغناك باسمة الثغر تسير بهمس الصوت للقصر عندكم ... وحاشا علاكم أن ترد بلا مهر فإن حرم المرغوب عندك شاعر ... سلام على التسجيع والنثر والشعر فلو كان هذا الشعر بالإرث يقتني ... لما خطت الأقلام حرفا على سطر ولو كانت الأرزاق تأتي بقوة ... لما رزق العصفور شيئا مع النسر ¬

_ (¬1) انظر فصل الترجمة. أما مدح القاضي شعيب لملك السويد والنروج والإشادة بمؤتمر المستشرقين، فانظر سابقا، وكذلك محمد أمين فكري باشا (إرشاد الألبا إلى محاسن أوروبا)، القاهرة 1892، ص 649.

ولكنه فضل من الله ظاهر ... فلا زالت الأقلام تنطق بالحبر ولازلت بالتقريض للمولى مادحا ... أمجد ذاك الفضل حتى إلى الحشر (¬1) وواضح أن في هذا الشعر تكلفا كبيرا في الألفاظ والمعاني. كما أن الموضوع تقليدي، ليس في المدح فقط ولكن في الطالع، كما ذكرنا. ويغلب على الظن أن للغوثي بوعلي أشعارا أخرى، وربما نشر في جريدة المغرب وكوب افريقية من جرائد الحكومة العامة بالعاصمة. وكثيرا ما مدح الطلبة أساتذتهم والمقدمون شيوخهم في وقت اختفت فيه المناسبات العمومية وخفت فيه صوت الحديث عن السياسة وأهلها. ومن ذلك مدح حسن بن بريهمات لشيخه مصطفى الحرار (¬2). وقد أشرنا إلى عاشور وشيخه الهاملي. وها نحن نذكر قصيدة محمد الصالح القلي في شيخه أبي القاسم البوجليلي. وتبدأ هكذا: أشجاك شوق منه دمعك سائل ... أم أدركتك بشائر ورسائل ثم تخلص إلى مدح شيخه فقال: علامة العلماء والبحر الذي ... لا ينتهي، ولكل بحر ساحل يأتي إليه الطالبون لعلمه ... ولفضله، ذا راكب ذا راجل فاق الفحول فصاحة وبلاغة ... فهم الجداول وهو بحر كامل و (أبو جليل) قد بدا متبخترا ... وتفجرت لذوي الفهوم مناهل (¬3) ولقد حظي ابن باديس بعدة قصائد من تلاميذه وأنصاره، وفيهم المجود والمهلهل. وكان محمد العيد في طليعة المجودين. فقد كان شعره العذب المتجدد متفوقا على شعر الشعراء المعاصرين له. وكانت لمحمد العيد حوليات يأتي فيها على ذكر الأعمال التي كان يقوم بها ابن باديس من أجل ¬

_ (¬1) من مخطوط الخزانة العامة - الرباط، ك 48، ص 48 - 49، وهي في 37 بيتا. (¬2) تعريف الخلف، 2/ 120. (¬3) من كناش عند علي أمقران السحنوني. والقصيدة بدون تاريخ، وهي في 13 بيتا. عن البوجليلي انظر فصل التصوف.

الوطن والإسلام واللغة العربية. ولعل أعظم قصيدة قالها فيه هي مدحه على ختم القرآن الكريم سنة 1938، ومطلعها: بمثلك تعتز البلاد وتفخر ... وتزخر بالعلم المنير وتزهر وهي منشورة في الديوان المطبوع وفي جرائد الوقت، وقد تناولناها في دراستنا عنه. والواقع أن مناسبة الاحتفال بختم القرآن كانت فرصة نادرة لتباري الشعراء وانطلاق قرائحهم في المدح لابن باديس وأعماله. ومن الذين نظموا قصائدهم أيضا وألقوها أو ألقيت بالنيابة عنهم، الحاج أحمد البوعوني ومبارك جلواح. وكان البوعوني كبير السن فنظم قصيدة ألقيت بالنيابة عنه، وقد جاء فيها: وإن الشعر ممن عاش قرنا ... لكالهذيان في الطفل الصغير ولو عاد الشباب لقمت فيها ... مقامات الفرزدق أو جرير (¬1) ولمحمد العيد عيون من الشعر في بعض أعيان جمعية العلماء كالعقبي والإبراهيمي. وقد هنأ الإبراهيمي بانتخابه عضوا مراسلا لمجمع اللغة العربية بالقاهرة. وهنأ العقبي بإطلاق سراحه وتبرئته. وقد مدح محمد العيد المنشآت والجرائد والمؤلفات أيضا، فأشاد بالمدارس التي تبنى بأموال الشعب، لأغراض خيرية وعلمية، وبالنوادي، والجمعيات، وبجريدتي ن المنتقد وصدى الصحراء وغيرهما. كما هنأ وقرظ الكتب الآتية: تاريخ الجزائر، ورسالة الشرك للميلي، وكتاب محمد عثمان باشا للمدني، وكتاب ذكرى الدكتور ابن شنب للجيلالي، وكتاب شعراء الجزائر للسنوسي، وغيرها. ولا نريد أن نتحدث طويلا عن الشعر بعد 1919 لأنه، كما قلنا، مدروس، وإنما نريد أن نربط الحلقات بعضها ببعض. وقد قلنا إن التقريظ صفحة أخرى من المدح. ونحن نجد ذلك شائعا ¬

_ (¬1) البصائر 17 يونيو 1938، وقد جرى الحفل في كلية الشعب بقسنطينة، يوم 13 يونيو من نفس السنة. وكان الإبراهيمي هو الذي أشرف على الحفل. وكان البوعوني من تلاميذ ابن باديس، رغم كبر سنه.

منذ بدأت الكتب في الظهور آخر القرن الماضي (في الماضي كانت التقاريظ أيضا وكانت تحفظ ضمن المخطوطات). ومن أوائل الكتب المطبوعة التي وجدنا عليها عددا من التقاريظ كتاب (نزهة الأفكار) لأبي بكر بوطالب (¬1). وعند ظهور تعريف الخلف 1906 قرظه محمد بن عبد الرحمن الديسي شعرا ونثرا. كما قرظ آخرون كتاب (سائق السعادة في الحسنى والزيادة) لأحمد الأكحل (¬2). وقرظ قدور بن محيي الدين تفسير الشيخ الثعالبي بقصيدة هنأ فيها المحقق الشيخ محمد بن مصطفى خوجة على جهده، ومطلعها: أعز مغتنم تصفو مشاربه ... يحظى به لهج بالعلم مسرور (¬3) بالإضافة إلى ما ذكرنا نشير إلى تقريظ الطيب العقبي لكتاب (جماعة المسلمين) لأبي يعلى الزواوي (¬4). وذكر الزواوي نفسه أن بشير الرابحي قد مدحه بقصيدة على خطه في المصحف الشريف (¬5). وقد أشرنا في فصل النثر إلى تقريظ أحمد الأكحل لكتاب الهاشمي بكار. ... ونتناول الآن الأمداح المتعلقة بأشخاص غير جزائريين. وقد مدح الأمير عبد القادر السلطان عبد المجيد بقصيدتين على الأقل، الأولى عند نزوله اسطانبول أول مرة ضيفا على الدولة العثمانية. والثانية عند وقوع الحرب بين هذه الدولة وروسيا. ولا داعي لذكر نماذج منهما (¬6). كما أن حسن بن ¬

_ (¬1) انظر فقرة التقاريظ. (¬2) عن أحمد الأكحل انظر فصل النثر واللغة. (¬3) انظر (الجواهر الحسان) ج 4، ط. بيروت (مصورة عن ط. الجزائر) 1980، ص 461. وشارك في التقريظ نثرا ابن زكري وابن سماية، انظر فصل النثر الأدبي. (¬4) الزواوي (جماعة المسلمين)، ط. 1948، ص 75، وبلغت أبيات العقبي إثني عشر بيتا. (¬5) أشار الزواوي إلى ذلك في رسالة له في علم الخط مكتوبة سنة 1947. (¬6) انظر (تحفة الزائر)، 2/ 51.

بريهمات مدح خير الدين التونسي، وعاشور الخنقي مدح السلطان عبد الحميد الثاني وأبا الهدى الصيادي. ونحن نعلم أن المشرفي (أبا حامد) قد مدح سلطان المغرب الحسن الأول، وقد ذكرنا ذلك في الدواوين. ولا نتوقع أن نحصي ذلك النوع من الشعر هنا. فهو لا شك كثير، ولكن تعوزنا اليوم مصادره. وقد كشف أبو اليقظان على أنه قد مدح سليمان الباروني وربما مدحه غيره أيضا. واشتهر مفدي زكريا بالمدح، حتى خص سلاطين المغرب بديوان ورئيس تونس بآخر، ولكن ذلك لا يعنينا هنا لأنه جاء بعد الفترة التي نتناولها. وكان أبو طالب الغريسي (أحمد؟) قد مدح أحمد فارس الشدياق، رئيس تحرير جريدة (الجوانب) الشهيرة في الدولة العثمانية. وكان الشدياق معروفا في الجزائر أيضا لأن له كتابا تعليميا في نحو اللغة الفرنسية كان متداولا، وربما كان الشدياق قد زار الجزائر، ومن الأكيد أنه زار فرنسا، وكان من النصارى الذين اعتنقوا الإسلام. وله قصيدة طويلة في مدح الأمير عبد القادر. اغتنم بوطالب ظهور كتاب للشدياق عنوانه (سر الليال في القلب والإبدال) وأرسل إليه قصيدة فنشرها الشدياق في (كنز الرغائب). وبوطالب كان متمسكا بطالع القصيدة التقليدية - الغزل - فهو يقول: سنا (سر الليال) أضاء ليلا ... فأنساني مسامرتي لليلي وذكرني المثاني لا المباني ... وأذهلني فرواني وعلا وقد جاء فيها عن الشدياق خاصة: وحيد في الفصاحة لا يجاري ... فريد في البلاغة لا يجلى أصاب بفهمه غرض المعاني ... وحاز بحزمه القدح المعلى وكم جابت (جوائبه) بلادا ... وجاب بيانها حزنا وسهلا بنيت لك الوداد أبا سليم ... على عهد يدوم له محلا (¬1) ¬

_ (¬1) تعريف الخلف، 2/ 93. وكان كتاب (سر الليال) قد ظهر في الآستانة، المطبعة العامرة 1284 هـ. ويشير (بجوائبه) إلى جريدة (الجوائب) التي لا نظن أن السلطات =

ولا ندري متى قال بو طالب هذا الشعر، ولكن شتان بين شعره في الفرنسيين وشعره هذا. فهو هنا شعر عذب سائغ ورقيق شائق. فهل تطور في شعره إلى هذا الحد؟ وأين ديوانه الذي قد يكون اشتمل على جميل الشعر، إذا عرفنا أنه عاش في فترة فراغ شعري كبير، وهي النصف الثاني من القرن الماضي؟. وقد أثرت شخصية الشيخ محمد عبده على جيل العلماء في مدار القرن سواء أولئك الذين درسوا في مصر أمثال المولود الزريبي أو الذين سمعوا به وقابلوه، أمثال عمر راسم وعمر بن قدور، ومحمد بن مصطفى وعبد الحليم بن سماية، وربما كان الكمال ممن زاروا مصر أيضا، فقد ذكر عمر راسم في ترجمته له أنه كان يعرف مصر كثيرا حتى كأنه من أهلها. وكان عمر راسم قد زار مصر أيضا. أما ابن سماية وابن زكري فقد زارا بلاد الشام وربما زارا مصر أيضا. وقد تكونت (مدرسة) لأتباع الشيخ عبده في الجزائر، منهم من ذكرنا ومنهم أيضا الشيخ المولود بن الموهوب وغيره (¬1). ويهمنا الآن الشعر الذي قيل فيه. وكان ابن مصطفى متأثرا بتفسير سورة (والعصر) الذي نشره الشيخ عبده في مصر بعد رجوعه من الجزائر، فقرظه (شعر؟) (¬2). وارتبطت علاقات وطيدة بين محمد عبده وعبد الحليم بن سماية، وظهر الإعجاب بالشيخ عبده عند ابن سماية في قصيدة (50 بيتا)، نشرت منها المنار حوالي عشرين فقط، ووعدت بنشرها كاملة. وقد عبر فيها ابن سماية عن الإعجاب الشديد بعلم وتقى الشيخ عبده، وبمجالسه المفيدة: ¬

_ = الفرنسية كانت تسمح لها بدخول الجزائر، لأنها جريدة السلطنة العثمانية ولسان الجامعة الإسلامية بعض الوقت. (¬1) عن زيارته للجزائر وأثرها انظر فصل المشارق والمغارب. وكان عبده قد زار أيضا تونس مرتين. وقد درس إثر زيارته علي مراد ورشيد بن شنب بالنسبة للجزائر، والمنصف الشنوفي بالنسبة لتونس. (¬2) انظر المنار، م. 6. ص 617، وأيضا (تاريخ الأستاذ الإمام) لرشيد رضا، 1/ 872.

فأنت لنا شمس تنير على المدى ... أتى نورها من غير أن نتطلعا أدير بذكراك الذي منك قد مضى ... فاشرب كأسا بالصفاء مشعشعا يذكر فيك المجد والعلم والتقى ... فانظر من علياك عرشا مرفعا وتلوى إلى تلك المجالس فكرتي ... فتنرك قلبي بالخيال ممتعا محافل كان العلم فيها مجالسي ... أسامر بدرا بالجلال مقنعا (¬1) والقصيدة تدور على هذا النمط من الذكريات العلمية والأدبية التي قامت بين الرجلين ثم افترقا. وكان الشيخ عبده يسمى ابن سماية (ولدي). وقد راسله من صقلية ومن مصر. وكانت للمغرب الأقصى وفود دينية وسياسية تتردد على الجزائر، ويحظى بعض رجالها بالترحيب. ومن الزيارات الدينية زيارة شريف وزان، زعيم الطريقة الطيبية في آخر القرن الماضي. ولا نعرف أن هناك من مدح شريف وزان عندئذ. ثم حل وفد مغربي رسمي أوائل هذا القرن برئاسة الوزير محمد الجباس، وجندت السلطات الفرنسية أدباء وأعيان البلاد للترحيب بالوفد المغربي، ومنهم محمد بن مصطفى خوجة الذي سبق ذكره. ولكن الشعر كان غائبا في هذه المناسبة أيضا، على ما نعلم. وكان عبد الحي الكتاني يتردد على الجزائر، فتبادل مع بعض علمائها الشعر والإجازات، كما سنعرف. أما قصائد المدح فلم تنظم إلا في الوزير محمد الحجوي الذي جاء إلى الجزائر لحضور ندوة جامعة الزوايا، التي أنشأتها الطرق الصوفية في المغرب العربي بدعم وإيعاز من السلطات الفرنسية. وكان ذلك سنة 1357 (1938). ومن الشعراء الذين شاركوا في النظم أحمد الأكحل الذي سبق ذكره، والبشير الرابحي. وكان أحمد الأكحل عندئذ رئيسا لجمعية تسمى الحياة، أما الرابحي فقد كان إماما بجامع الزحاولة غير بعيد من العاصمة. ونظن أن هذا الشعر كان أيضا بإيعاز من الفرنسيين، لأن الشاعرين لا يمكنهما تمجيد الرجل لو لم توافق الإدارة. ¬

_ (¬1) انظر المنار، وأيضا دبوز (نهضة الجزائر)، 1/ 125، وقد جاء منها بـ 15 بيتا.

شعر الرثاء

يقول أحمد الأكحل في وزير المعارف المغربي (الحجوي): ألا أيها المولى السعيد الممجد ... ومن هو في المعارف مفرد هو المرتضى (الحجوي) من آل هاشم ... بل العالم الشهم الفقيه الموحد حللتم حلول البدر ليلة تمه ... بمزغنة الحسناء والسعد يرصد (¬1) أما الرابحي الذي كان كاتبا عاما لجامعة اتحاد الزوايا، فقد رحب بالحجوي على النحو التالي: أهلا وسهلا ومرحبا ... بالصدر فخر الرجال السعد أمسى قريرا ... مستعليا كالهلال من مغرب قد تسامى ... إذ نال أسنى الخصال من حاز علما ونبلا ... في عز وجاه وآل ذاك الوزير المفدى بكل نفس ومال (¬2) وواضح أن في هذا الشعر تكلفا كثيرا وضعفا كبيرا. ولكن الشعر الجزائري الجيد شارك في مدح رجال المغرب الذين سعوا لاستقلاله. وقد خص محمد العيد وغيره سلطان المغرب، محمد بن يوسف، بشعر جيد عند رجوعه منتصرا من المنفى ونجاحه في المفاوضات مع السلطات الفرنسية سنة 1955، ذلك شعر عبقري لا تكلف فيه، ولكن تناوله هنا يخرجنا عن موضوعنا (¬3). شعر الرثاء تشمل فقرة المراثي ما قاله الشعراء في الأفراد وحتى المدن، مثل رثاء ¬

_ (¬1) الهاشمي بن بكار (مجموع النسب)، ص 212. ومزغنة اسم مدينة الجزائر القديمة. (¬2) نفس المصدر، ص 211 - 212. (¬3) انظر ديوان محمد العيد، ط. الجزائر، وكذلك دراستنا (صورة محمد الخامس في الصحف الوطنية الجزائرية)، في (أبحاث وآراء)، ج 4.

الجزائر لابن الشاهد، كما تشمل مراثي الجزائريين وغيرهم. وبالمقارنة سنرى أن حجم المراثي ضئيل بالنسبة إلى بعض الأغراض الأخرى. وهذا الشعر، كغيره، فيه الصادق الجيد وفيه المتكلف الضعيف، والرثاء يمكن أن يكون بابا من أبواب المدح كما أشرنا، ولكن للأموات. وقد قيل رثاء كثير في الأمير عبد القادر عند وفاته سنة 1883. ولكن أغلب من رثاه كانوا من المشارقة. أما الجزائريون فقد رثاه منهم بعض المهاجرين، مثل محمد المبارك والطاهر السمعوني. فقال الأول من قصيدة بعثها إلى محمد بن الأمير، كبير العائلة: الصبر أجدر في الخطوب وأليق ... والحزم أوفق بالنفوس وأرفق وبعث مع القصيدة رسالة تضمنت أبياتا عديدة على عادتهم في ذلك. وتعتبر من الرسائل الأدبية الرائقة (¬1). أما الطاهر السمعوني فقد أرسل من بيروت قصيدة ورسالة أيضا إلى محمد بن الأمير والعائلة، وعبر عن حرقته لوفاة الأمير ومكانته في الجزائر والمشرق: خطب جسيم عم بالأكدار ... ما بعده لسواه من مقدار (¬2) أما الجزائريون المقيمون في بلادهم فلا نعرف أنهم رثوا الأمير غير ابن عمه الطيب بن المختار، ولعل ذلك راجع إلى خوفهم من سوء معاملة فرنسا لهم أو عدم وجود وسائل النشر. أما الطيب بن المختار فقد بعث بقصيدته إلى محمد بن الأمير، وهي: هذا هو الرزء لا الرزء الذي غبرا ... فليتني كنت قبل اليوم تحت ثرا ولعل هناك من رثى الأمير أيضا دون أن تصل إلينا آثارهم. وكان الأمير عبد القادر نفسه قد رثى والدته. وكانت قد رافقته في كل ¬

_ (¬1) تحفة الزائر، 2/ 269. (¬2) نفس المصدر، 2/ 272.

تنقلاته. وعاونته أثناء جهاده. وكان يكن لها حبا جما. وقد أدركها الموت في دمشق عن ثمانين سنة. وحضر الأمير دفنها وعبر عن حزنه بعد ذلك في قصيدة، مطلعها: جاورت يا لحدها في الشام يحياها ... وأنت يا روحها بشراك في طه ولا أقول اختفى في الرمس هيكلها ... لكن أقول سماء الشمس موطاها وقبل ذلك كان الشيخ مصطفى الكبابطي قد رثى شيخه علي المانجلاتي بابيات قليلة وضعيفة. ولكنها تعبر عن لوعته وشدة مصابه. وكان ذلك في السنوات الأولى للاحتلال (حوالي 1835). قال الكابطي: سهام المنايا علام تميل عن الغرض ... فلو تقبل الأبدال كنت أنا العوض وكان المانجلاتي من المدرسين وأصحاب الوظائف الدينية. وقد تولى الكبابطي القضاء والفتوى بعده، ثم نفاه الفرنسيون سنة 1843 إلى الإسكندرية حيث توفي. وسبق أن ذكرنا أن الشيخ المكي بن عزوز قد رثى الشيخ المختار الجلالي، شيخ زاوية أولاد جلال الرحمانية. كما رثى غيره (¬1). واشتهرت من قصائد الرثاء في المدن والوطن عامة (¬2)، قصيدة محمد بن الشاهد الذي بكى مدية الجزائر على إثر احتلالها. وقد كنا خصصنا لابن الشاهد دراسة في غير هذا، وذكرنا بعض نسخ القصيدة، كما عثر عليها السيد فانسان الفرنسي وترجمها إلى الفرنسية ونشرها في المجلة الآسيوية. وقد كان ابن الشاهد من كبار شعراء زمنه، وأدركه الاحتلال كبير السن، وفاقد البصر، وأصبح في حاجة إلى من يقدم له المساعدة على قوت يومه، بعد أن استولى الفرنسيون على أموال الأوقاف. وكان رثاؤه صادقا معبرا عن لوعة الحزن، ووصف فيه حالة المدينة وسكانها على إثر الغزو، ¬

_ (¬1) انظر سابقا، وكذلك كناش الطواحني - المكتبة الوطنية، تونس، رقم 18763، ورقة 43? 44. (¬2) عن رثاء مدينة الجزائر بالعامية انظر فقرة الشعر الشعبي: في ذم الزمان.

وتفرق الناس في مختلف الاتجاهات. ولكنه مع ذلك لم يكن يائسا من إنقاذها ذات يوم، وقد علق ذلك على إرادة الله. وقد خاطب ابن الشاهد سور الجزائر، وهو يعني بذلك القصبة أو القلعة، رمز القوة والحصانة في الماضي. وكيف أصبح السور بعد الاحتلال وقد لبس السواد وتوشح بالحزن على فقد العلماء والفرسان. ونحن نورد القطعة على طولها بعض الشيء، لأهميتها ولأنها متماسكة الأجزاء (¬1): أمن صولة الأعداء سور الجزائر ... سرى فيك رعب أم ركنت إلى الأسر لبست سواد الحزن بعد مسرة ... وعمت بواديك الفتون بلا حصر رفضت بياض الحق عنك فأصبحت ... نواحيك تشكو بالأمان إلى الجور ولثم درس العلم، والجهل عسعس ... ونادى بتعطيل العلوم عن النشر وناح على الأسواق طير خرابها ... فأصبح فأس الهدم ينبئ بالغدر أصبت بسهم عن عيون سهامها ... تزاد عن المعيان بالشفع والوتر فأظهرت للأعداء وجه ملاحة ... وأوزت للأحباب وجها من النكر عليك لقد أجريت نهر مدامعي ... وفيك استحق العقل سكرا بلا خمر نقضت عهودا بالوداد تقررت ... وواليت أقواما تمالوا على ضر فجاسوا بروجا للحروب تشيدت ... وداسوا ديارا بالنواهي وبالأمر ونالوا من الأموال يسرا ميسرا ... وفازوا بها والقلب يصلى على الجمر ومن لطفه أن السيوف أتت لنا ... وسلت على الأشجار تقطع بالثمر فضجت أناسي والعقول تولهت ... وباتوا على حر الفراق بلا فكر فباعو انفائيس المتاع ببخسها ... وهاموا حيارى في الفيافي وفي البحر فآه على جهدي وما به منعة ... وآه على داري يسود بها غيري ¬

_ (¬1) هذا النص أخذناه من نسخة تونسية (مخطوط رقم 16511، المكتبة الوطنية، تونس) ورقة 86 - 87. وفيه بعض الاختلاف مع النص الذي نشرناه في تناولنا لحياة ابن الشاهد انظر (تجارب في الأدب والرحلة)، ط. 1، 1982. وقد عثرنا على بعض القطع الأخرى لابن الشاهد بعد ذلك، ولكنها ضاعت منا سنة 1988، ولم نستطع تعويضها لأننا نسينا المصدر.

أموت وما تدري البو اكي بقصتي ... وكيف يطيب العيش والأنس في الكفر فيا عين جودي بالدموع سماحة ... ويا حزن شيد في الفؤاد ولا تسر ويا دار تدبير الأمور لخالقي ... فصبرا عسى عسر يبدل باليسر (¬1) وفي هذا القرن بكى الشعراء بعض المدن على إثر الزلازل ونحوها، كما فعل الشاعران محمد العيد ومفدي زكريا مع مدينة الأصنام سنة 1954. ولم نعثر على شعر يرثى المدن الأخرى التي غزاها الفرنسيون عنوة، مثل قسنطينة وبجاية وتلمسان والمدية. ولعل الشعراء قد فعلوا وضاع شعرهم، لأنه يعتبر من الشعر السياسي المضاد للاحتلال، فلم يذع ولم ينشر. أما رثاء الأعيان، فلا شك أنه قد استمر، ولكن الموجود منه قليل، كما لاحظنا. وما نعرفه الآن هو القريب من عهدنا، ولا شك أيضا أن شخصية مثل محمد بن يوسف أطفيش لا تختفي دون أن يبكيها الشعراء من التلاميذ وغيرهم، ومثله المجاوي وغيره من شيوخ العلم والتصوف. وقد رثى محمد العيد ابن باديس بأبيات ليست في مستوى مكانته ومنزلته عند الجزائريين. ولعل ذلك راجع إلى أن الوفاة حدثت خلال الحرب العالمية الثانية (16 إبريل 1940)، وكان السكوت مفروضا بالقانون ومطلوبا بالحيطة. كما رثى محمد العيد الأمير خالد سنة 1936، وكان رثاؤه أيضا دون مستوى المرثي وشاعرية الشاعر. ¬

_ (¬1) انظر أيضا النص الذي نشره محمد الهادي الغزي في (الأدب التونسي في العهد الحسيني)، تونس 1972، ص 61 - 62. وهو لم يعرف بابن الشاهد، وقد ذكر أن القصيدة مأخوذة من كناش مخطوط بالخلدونية (تونس) رقم 3259، ص 169. هذا وقد رثى عدد من شعراء تونس الجزائر على إثر احتلالها، ومنهم أحمد القليبي الذي اعتبر احتلال الجزائر مقدمة لاحتلال تونس وغيرها، وبدأ شعره هكذا: عظم الله أجركم في الجزائر ... وجزاكم برزئها أجر صابر وهي مذكورة في المصدر نفسه، وكذلك في مخطوط رقم 16511. وبكى الجزائر بالشعر الملحون محمود السيالة، في قطعتين. انظر مخطوط تونس رقم 19449.

ومن جهة أخرى رثى محمد العيد الدكتور ابن أبي شنب. وقد صدرت عن محمد العيد مرثيات عديدة لا يمكن حصرها الآن. وقد تناولنا بعضها في كتابنا عنه. كما رثاه محمد الهادي السنوسي ومحمد العلمي (¬1). ولعل أبا اليقظان قد خصص بعض شعره للرثاء أيضا. ... وهناك شطر آخر من الرثاء الذي صدر عن شعراء الجزائر، ونعني به رثاء شخصيات عربية وإسلامية، لها مكانتها في الدفاع عن الحرية وفي الجهاد. ومن هؤلاء: محمد عبده، وعمر المختار، وشكيب أرسلان، والملك غازي (ملك العراق)، والشاعران شوقي وحافظ، وبعض شيوخ القرويين. ولا يمكن الإحاطة بهم جميعا. فمما قاله مصطفى بن التهامي يرثي الشيخ محمد بن عبد الرحمن الفيلالي، شيخ القرويين: لقد غيض عذب اليم واغتم وارده ... وسدت على الظمآن سدا موارده ورغم هذه البداية المثيرة، فإن الأبيات الأخرى ليست في هذا المستوى، إذ فيها تكلف ومعاناة في القافية واستدرار المعاني الغريبة، مثل: فيا روضة السلوان يا قبلة المنى ... سقاك سحاب الودق غيث وبارده ضممت الجمال الكل في نظم هيكل ... على الفرع والأسلاف تبدو أسانده إلى عبد رحمان الأنام اشتهاره ... أصل الأسام (؟) امتاز عنه معابده فمن للقراوي في مزاهي محافل ... وأعراسها علم تثنت شواهده (¬2) وكانت سمعة الشيخ عبده ذائعة بين الجزائريين أوائل هذا القرن، وقد ¬

_ (¬1) عن ذلك انظر (تقويم المنصور) للمدني، سنة 5، 1348، ص 262. وقد جرى حفل التأبين سنة 1929، وهي سنة وفاة ابن أبي شنب. (¬2) وردت في كناش العمالي (مفتي الجزائر) وقد اطلعت عليه بعد أن بعثه إلي الشيخ البوعبدلي، وصورت منه القصيدة، وهي في نحو 73 بيتا، ثم راسلني البوعبدلي نفسه في 3 ديسمبر 1971. ونقل لي بعض الأبيات منها بخطه. و (القراوي) هي القرويين.

زار بنفسه العاصمة وقسنطينة، وألقى درسا جامعا، وأقام حوالي عشرة أيام، والتقى بالعلماء الرسميين والأحرار. وبعد وفاته رثاه بعض الشعراء، منهم محمد بن القائد علي الذي لم نقرأ له شعرا آخر غير هذا الرثاء، وكان إماما بالجامع الجديد في العاصمة، أي أنه كان من رجال الدين الرسميين، وتدل عبارته على تمكنه من الشعر. قال متأثرا: غاض بحر العلوم أين العزاء ... وعيون الأنام سحب دماء فبكى المسلمون حزنا عليه ... وبكى الدين والتقى والحياء وبكى الفضل والفضائل طرا ... عن إمام الورى يحق البكاء (عبده) الفيلسوف أحيا قلوبا ... ميتات أماتها العلماء حجة الله والرسول بعصر ... جاء يهدي أقوامه فأساؤوا وبعد أن ذكر ما للشيخ عبده من مؤلفات وتفسير، ومواقفه الإصلاحية، أشار إلى زيارته للجزائر سنة 1903؛ وقد اختصر رشيد رضا القصيدة الأصلية ربما لطولها: قد سعدنا بزورة منه جاءت ... بسعود يفسر منها الشقاء كم سهرنا ومنه نلنا علوما ... ما سمعنا بها ولا الآباء لم تحط ألسن الرثاء بفضل ... لم تسعه الغبراء والخضراء رب انزل عليه وبل رضاء ... في رضاء، فنعم ذاك الرضاء (¬1) ولكن أبرز المعجبين بالشيخ عبده هو: عبد الحليم بن سماية ومحمد بن مصطفى خوجة. ومع ذلك لا نجد لهما شعرا في رثائه. وكان الثاني شاعرا قويا، حتى قيل إن له ديوانا ضائعا. فهل الإهمال راجع إلى الشاعرين أو إلى رشيد رضا الذي لم يضمن ذلك تاريخه عن الشيخ محمد عبده؟. ومن أجود الرثاء ما قاله محمد العيد في الشيخ عمر المختار الذي ¬

_ (¬1) تاريخ الأستاذ الإمام 3/ 303 - 304.

الشعر الإخواني

أعدمه الإيطاليون سنة 1931. كما أن الشاعر نفسه قد رثى ملك العراق (غازي) بقطعة أظهر فيها مكانة هذا الملك واتهم الإنكليز بسوء النية (¬1). وكان شكيب أرسلان من أكثر الشخصيات العربية تأثيرا على الجزائريين، سياسيين ومصلحين، منذ العشرينات. وحين توفي سننة 1946 رثاه بعضهم كالشاعر أحمد سحنون (¬2). الشعر الإخواني الشعر الإخواني كثير، وهو ما تبادله أو قاله الشعراء في مناسبات اجتماعية معينة، وقد يأتي في بيت أو بيتين، وقد يكون قطعة، أو رجزا، كما قد يأتي على شكل مساجلة، أو طلب حل لغز، أو عتاب، بل إن منه ما كان ردا على أحد الفقهاء ورجال الدين والسياسة، ولكنه لم يبلغ حد الهجاء. وعلى كل حال فإن الشعر الإخواني هو جزء من الشعر الاجتماعي. ورغم يقيننا بكثرة هذا النوع من الشعر، لأنه لا يحتاج في الأغلب إلى عبقرية ولا خيال بعيد، فإن ما لدينا منه محدود. وربما كانت قلة الموجود منه ترجع إلى أن الشعراء كانوا يحتفظون بالقصيدة المليحة والقطعة العزيزة ولكنهم كانوا يهملون الأبيات الإخوانية التي مكانها عادة المراسلات الشخصية والمجالس والأسمار. ومن الشعر الإخواني ما دار ين الأمير عبد القادر ومحمد الشاذلي في امبواز سنة 1849 - 1850. وقد وردت المساجلة في (تحفة الزائر) وهي أيضا موجودة في مخطوط يرجع في أغلب الظن إلى محمد الشاذلي. وفي هذا المخطوط (ديوان) من القطع والقصائد التي اشترك فيها أهل المجلس عندئذ، ومنهم الأمير ومحمد الشاذلي وان التهامي وأخوة الأمير وربما بعض ¬

_ (¬1) رثى محمد العيد زميله وصديقه محمد البشير الإبراهيمي، كما رثى غيره. ولكن بعد الفترة التي نعالجها. (¬2) عن الرثاء بالدارجة انظر الشعر الشعبي، لاحقا.

أبناء إخوته. وقد أضاف محمود بن محمد الشاذلي شعره أيضا. فأصبح لدينا ديوان جماعي من هذه الإخوانيات التي تهم مختلف جوانب الحياة في الغربة والأسر: من أطعمة وهواء وحنين ودين وتراث ومجاملات. ولا نريد أن نفصل القول في هذه الإخوانيات هنا، وإنما نحيل على ما ذكرناه حولها في موضع آخر (¬1). ويمكننا إضافة مساجلات الأمير مع يوسف بدر الدين المغربي أيضا، وهو في الشام (¬2). وكان الأمير ينظم الشعر في الحنين إلى إخوته كلما طال العهد بينهم أو حالت الظروف دون تلاقيهم، وقد ترجم له الفرنسيون قطعة من ذلك ونشروها في مجلة الشرق سنة 1844 (¬3)، كما نظم فيهم أبياتا يوم أن فصل الفرنسيون بينهم بعد هزيمة 1847 (¬4)، بدأها بقوله: ألا إن قلبي يوم بنتم وسرتمو ... غدا حائما خلف الظعون يسير رحلتم ولو تدروا رحمتم فبينكم ... لخطبي يوم للبلاء عسير وفي هذا النطاق كان الأمير يراسل ابنه محمد بالشعر أيضا إذا سافر إلى جهات عربية أو أوروبية. وقد أرسل إليه من فرنسا سنة 1271 هـ أياتا فيها التعبير عن حب الأب لابنه. وكدنا نضم ما قاله الأمير في إخوته وأبنائه إلى الشعر الذاتي. ولكنا رأينا أن نذكر ما قاله في زوجته في هذا النوع من الشعر. وبين الأمير وقريبه الطيب بن المختار إخوانيات، رغم أنها صيغت في شكل مدائح من الثاني للأول. وكان الأمير يجيبه شعرا أيضا، وكانت بين الطيب بن المختار وحميدة العمالي أيضا مساجلات ومراسلات. وقد تدخل ¬

_ (¬1) انظر كتابنا (القاضي الأديب: الشاذلي القسنطيني)، ط 2، 1985. (¬2) (تحفة الزائر) 2/ 65، وكذلك بين الأمير وأمين الجندي عند بناء الأمير داره في دمر. (¬3) انظر ترجمة الأمير في فصل المشارق والمغارب. (¬4) حمل الفرنسيون الأمير إلى السجن في فرنسا، ثم فرقوا بينه وبين إخوته، وكان بعضهم قد هاجر إلى المغرب منذ حادثة الزمالة. ويقول في (تحفة الزائر) 1/ 267، إن الأمير كان يتشوق إليهم.

الطيب في مسألة وقعت بين الشيخ العمالي ومعاصره الشيخ أحمد بوقندورة، وانتصر فيها للعمالي. المسألة فيما يظهر فقهية - الوصية؟ - وكان العمالي عندئذ قاضيا ثم تولى الفتوى. والعمالي هو الذي مهد لتدخل الطيب بقوله: (لما وقف العلامة النحرير، اللوذعي الشهير، خاتمة البلغاء وواسطة عقد الأدباء، السيد الطيب بن المختار، على ما كتبته أنا وما كتبه المخالف في نازلة السيد أحمد بوقندورة التي اضطربت فيها الآراء، وبان فيها تعصب المخالف ومصادمته للشريعة الغراء، واشتهر ذكرها (أي النازلة) حركته الغيرة على الشريعة، لما جبل عليه من الإنصاف، وجودة القريحة، فقال مادحا لي بقصيدة غراء فريدة: بشراك قد وفت بذاك الموعد ... سلمى، وقد برزت في زي مفرد فنزه لحاظك في بديع جمالها ... واشهد، فديتك! حسن ذاك الفرقد واقصر مرادك عند وقف مرادها ... متمثلا في صورة المتهجد ومدح فيها العمالي بحسن الخطابة والوعظ. ثم انتصر له ضد بوقندورة. وختمها بقوله: أخلاق أحمد لا أقوم بعدها ... ولو أنني خصصتها بمجلد (¬1) وقد توفي العمالي سنة 1866، وطال عهد بوقندورة. وكان هذا مندمجا في الحياة العامة ومقتربا من الفرنسيين، حسبما تحدثت عنه المصادر المعاصرة، مثل الشيخ محمد بيرم الخامس والسيدة بروس (¬2). وقد هجاه الطيب بن المختار بقصيدة بدأها بالتأسف على ما وصلت إليه حالة الجزائر حتى يجد فيها أمثال بوقندورة المكانة التي هو فيها. ويبدو أن الشاعر كان ¬

_ (¬1) كناش حميدة العمالي، والقصيدة في نحو 50 بيتا. وقد نسخها البوعبدلي، مراسلة منه في 3 ديسمبر 1971. (¬2) عن العمالي وبوقندورة انظر فصل السلك الديني والقضائي. وقد التقى بيرم بالشيخ بوقندورة سنة 1878. كما حضر بوقندورة تأبين الشيخ أحمد التجاني سنة 1897. وبعد وفاته تولى مكانه في الفتوى ابنه محمد بوقندورة.

يمس النظام الاستعماري كله في شخص بوقندورة الذي أصبح مفتي المذهب الحنفي، إذ شمل الشاعر بالتأسف أيضا مدينة معسكر، واتهم بوقندورة بالجهل، واستغرب كيف وصل مثله إلى ولاية الفتوى. ورغم مبالغة الشاعر، فإن ما قاله عن بوقندورة يصدق على معظم رجال السلك الديني والقضائي في العهد الفرنسي. يقول الشاعر: لقد أشفقت من أرض الجزائر ... كما أشفقت من أم العساكر يحق لها البكاء من أجل مفت ... جهول بالموارد والمصادر (¬1) وبين الأمير وكاتبه السابق، قدور بن رويلة، إخوانيات أيضا. وأثناء عهد المقاومة بدأ الأمير قصيدة في (تلمسان) ووصل فيها إلى ثمانية أبيات، ثم ترك لابن رويلة أن يكملها، فأضاف إليها أبياتا من عنده في شيء من التكلف والصنعة، لأنه كان ناثرا لا شاعرا. ومنها في وصف تلمسان التي شبهها بفتاة خجولة وعفيفة: ولم تسمح العذرا إليه بعطفة .... ولم يتمكن من جميل سناها وشدت نطاق الصد صونا لحسنها ... فلم يتمتع من لذيذ لماها (¬2) ومن الأبيات التي بعث بها ابن رويلة من الحجاز إلى الأمير في بروسة، قوله: أخي نلت الذي قد كنت تطلبه ... وفزت دوني بما ترجو وترغبه (¬3) ويقصد بذلك إطلاق سراح الأمير من الأسر، وحلوله بالمشرق، كما كان قد اشترط على الفرنسيين أول مرة. وقد ترك لنا مصطفى الكبابطي أبياتا إخوانية. ومن ذلك التهنئة بزواج ابن صديق: ¬

_ (¬1) كناش العمالي ومراسلة البوعبدلي. (¬2) عن التقاء الأمير بابن رويلة في المشرق انظر فصل المشارق والمغارب. (¬3) والحاجري (جوانب من الحياة العقلية)، 1968، ص 77 - 80، والهاشمي بن بكار (مجموع النسب)، ص 41.

لقد لاح فجر السعد غر نجومه ... فتحرسه رجما على كل شيطان فماست غصون الروض في حسن بهجة ... مفتحة الأزهار تزهو بألوان (¬1) وتبادل الشيخان القاضيان: الطيب بن المكي الصحراوي وأحمد المجاهد أبياتا في المجاملة ذكرها صاحب التقويم الجزائري، 1913. والتهنئة بالزواج تناولها محمد العيد أيضا. ومن بواكيره تهنئة الشيخ محمد خير الدين بزواجه في مدينة بسكرة. وقد حفلت الشهاب والبصائر وغيرهما بأبيات التهاني بزواج الأصدقاء وبالمواليد وبالعقيقة. وهناك شعر العتاب، وهو ما يدور بين الأصدقاء عادة. وقد يكون عتابا سياسيا. ومن أقدمه ما قاله الأمير عن قوم يشرطون (يوشمون) وجوههم في الحجاز، بدعوى أن ذلك يزيد في الوسامة والجمال. فعاتبهم على ذلك بقطعة: أقول لقوم لا تفيد نصيحتي ... لديهم ولو أبديت كل الأدلة ألا فاتركوا ورد الخدود وشأنه ... فتخديدكم في الخد أقبح فعلة وقد عاتب عبد الملك بن الأمير عبد القادر آله وعشيرته على تخاذلهم في نصرته وعدم تأييدهم للسلطان العثماني، بل تأييدهم فيما رأى هو، لعدوهم القديم الذي غدر بالأمير وسجنه بدل إطلاق سراحه. وكان عبد المالك قد ثار على الفرنسيين في المغرب الأقصى، واستعان بالدولة العثمانية وألمانيا ووقف على الحياد من إسبانيا. ولكن الفرنسيين حاربوه إلى أن قتل سنة 1924. وفي عتاب سياسي إلى آل الأمير في دمشق، وجه أبياتا منها ما يلي: عهدي بكم آل الأمير كواكبا ... نشرت أشعتها على الأكوان فصرفتم تلك المكارم كلها ... في غير ما نفع ولا إحسان ضحيتم أقماركم وشموسكم ... أسد الحروب وقاهري الأقران ¬

_ (¬1) قطعة من خمسة أبيات ذكرناها في دراستنا عن الكبابطي في أبحاث وآراء، 2/ 37 وكذلك القطع الأخرى له.

في نفع من أضحى لكم في فعله ... أعدى عدو من بني الإنسان ونسيتم (عبد المجيد) وفضله ... وضمانه ذاك الأسير العانى الفرقة هدمت شوامخ مجدكم ... هذا، لعمري! غاية الخسران (¬1) والعتاب مجال واسع بين الإخوان والأصدقاء. والمعروف أن الشعراء: محمد العيد وأحمد سحنون وحمزة بوكوشة قد تبادلوا شعر العتاب. ويدخل في الشعر الإخواني اللجوء إلى الألغاز. وهو نوع من الرياضة الفكرية واستحضار المحفوظات والتسلية. ومنه ما جاء على لسان محمد بن وادفل القسنطيني - وكان من السلك الديني? والشيخ مصطفى بن قويدر الجلالي (¬2): وشاع البيتان التاليان بين المتعلمين، وقد عمل بعضهم فكره ليستخرج المقصود منهما، فكانت الأجوبة نوعا من تمرين الفكر والقلم على النظم والكتابة. وهما: عينان عيان لم ترقا دموعهما ... لكل عين من العينين نونان نونان نونان لم يخططهما قلم ... لكل نون من النونين عينان وقد حاول الإجابة الشيخ شعيب، قاضي تلمسان في وقته، وبناء عليه فالمقصود بهما سورة الرحمن، فهو يقول في ذلك من أبيات: جوابه سورة الرحمن ناطقة ... به، أيا روح ذاتي عين إنسان فكل عين لها نون، عليك بها ... لكنها باعتبار البعض نونان (¬3) ¬

_ (¬1) أبحاث وآراء، ج 1، وقد درسنا وثائق عائلة الأمير عبد المالك. ويقصد (بالأسير العاني) الأمير عبد القادر، والده، ويقصد بعبد المجيد السلطان العثماني الذي ضمن في الأمير لدى الامبراطور نابليون الثالث، لكي يقيم في الدولة العثمانية. والأبيات منظومة بالمغرب في 14 ربيع الثاني 1338. والخطاب لإخوته وأحفاد الأمير الذين اختاروا فرنسا وتخلوا عن الدولة العثمانية. (¬2) من كراس عند علي أمقران السحنوني. وأبيات الأول أحد عشر وأبيات الثاني (الجلالي) 13 بيتا. (¬3) الخزانة العامة - الرباط، رقم ك 48.

واشتهر الشيخ محمد بن يوسف أطفيش بحله (لغز الماء) الذي عجز عن حله المعاصرون. وقد كوفئ على ذلك بأوسمة من قادة بعض الدول، ومنهم رئيس فرنسا (¬1). وللشيخ أطفيش أشعار إخوانية تفرقت في أيدي تلاميذه. وأرسل الشيخ كحول إلى جريدة (الحاضرة) التونسية قصيدة تقريظية وفيها إجابة عن لغز طرحه شاعر تونسي يدعى عمر بن بوبكر. قال هذا الشاعر مشيرا إلى جريدة الحاضرة: ما قولكم في غادة فتانة ... في رأسها بدر الدجى إكليل إنسية مربية عجمية ... غصن الندى من وبلها مطلول تاهت على عشاقها بلواحظ ... وغدت ترد الطرف وهو كليل فكانت إجابة الشيخ كحول على ذلك هي: خذ يا أخا التقوى جواب اللغز من ... باع قصير فهما متبول ما الغادة الفتانة إلا الحاضرة ... نبراسها بدر الدجى إكليل جمعت نقولا من جرائد جمة ... غصن الندى من وبلها مطلول (¬2) ونحن نذكر هذه الأبيات على ما فيها من تكلف لندلل أيضا على الصلات الإخوانية بين شعراء المنطقة من جهة، وعلى أن الشيخ كحول كان من الذين يعالجون الشعر. وقد شاع شعر الألغاز بعد ذلك، لدى محمد العيد. فكان يستعمله رياضة شعرية وتعمية سياسية ووسيلة لتعليم الأطفال. وكان يصوغ عدة أبيات ويترك لخيال الأطفال الأدبي يبحث عن المعنى. وهكذا نجد له ألغازا في القهوة وفي الأذن ونحو ذلك. ولا شك أن لدى الشعراء الآخرين بضاعتهم ¬

_ (¬1) دبوز (نهضة)، 1/ 319 - 320. والمدني (كتاب الجزائر)، ص 91. (¬2) وقد ذكر منها علي لعريبي في مجلة (الحياة الثقافية)، 32 (1984)، ص 72 - 73، سبعة عشر بيتا. وهي منشورة في (الحاضرة) أول مارس، 1892.

أيضا من هذا الفن. وقد ذكر دبوز أن للشيخ أطفيش بعض الشعر المرموز، مثل قصيدته العينية: تقول نساء المصر هذي ديارنا ... عوامر، قلت بل ديار بلاقع فإن لم يكن لي في حماكن موضع ... فلي في حمى تلك الوجوه مواضع (¬1) ونكاد نقرأ هذا الشعر على أنه غزل، ولكن بعض الشيوخ أو أتباعهم لا يريدون ذلك، فينسبون هذا الشعر إلى الرمز (؟). وهذا على غرار وصف محمد العيد ورفيقه امرأة فرنسية في بستان ببسكرة، ولكن (الشهاب). فسرت الوصف اعتباطا بأن المقصود به غزال، حتى لا يغضب القراء وتحافظ المجلة على سمعتها الدينية (¬2). والشعر التعليمي إخواني أيضا إلى حد كبير. وهو عادة في شكل أراجيز، أو أبيات للحفظ، ومن ذلك نظم الكبابطي لحدود المنطق. وسلم (رجز) ابن الموهوب للكافي في العروض، ونظم محمد المازري لمتن مختصر خليل في الفقه. وهكذا يقول الكبابطي: أيا معشر الخلان جولوا بفكركم ... لهيب اشتياقي هل يرى فصل حده فإن حبيبي قد شجاني بصده ... وما جاد لي يوما بطيف خياله سروري جزئي لكلي وصله ... أيدرك سلواني بلا جنس قربه (¬3) أما نظم خليل فقد سبق إليه عدد من النظامين، ومنهم الشيخ خليفة بن حسن القماري، وهو نظم مطبوع ومنشور أول هذا القرن. وقد عاش المازري إلى سنة 1286 (1869) (¬4). وسمى ابن الموهوب رجزه (الرجز الشافي والتبر الصافي في نظم الكتاب المسمى بالكافي في علمي العروض ¬

_ (¬1) دبوز (نهضة) 1/ 321. (¬2) عن ذلك انظر كتابنا (شاعر الجزائر). (¬3) انظر دراستنا عنه في أبحاث وآراء 2/، والقطعة في سبعة أبيات. (¬4) تعريف الخلف 2/ 549. وكان المازري هو شيخ الحفناوي بن الشيخ - وجده لأمه. أما الشيخ خليفة بن حسن القماري فانظر عنه الجزء الثاني من هذا الكتاب.

الشعر الذاتي

والقوافي)، وهو عنوان طويل لرجز لم يبلغ عندما طبع اثني عشر صفحة. وقد قام البعض بشرح هذا الرجز أيضا (¬1). والشعر التعليمي متوفر بكثرة حتى لدى الشعراء المحدثين. فنحن نجد قصيدة لمحمد العلمي عنوانها (العلم والتعليم)، وطالعها: بدا طالع الإرشاد في مشرق البدر ... فأشرقت الأنوار في جنة العصر (¬2) وقد نوه الشاعر بنادي الترقي وبشائر النهضة التعليمية الحرة التي كان ابن باديس رائدها. وراح الشعراء منذ العشرينات يضربون على هذا الوتر، وهو الشعر الإخواني، كل حسب مهارته. فكان أبو اليقظان، ومحمد الطاهر التليلي، ومحمد العيد، وأحمد سحنون، والربيع بوشامة، وعبد الكريم العقون من الضاربين المجلين عليه (¬3). الشعر الذاتي ونعني به شعر الوصف والحب والتأمل والحنين والشكوى وما إلى ذلك مما يعبر عن خلجات النفس والمشاعر الذاتية. وقد أدخلنا في هذا الصنف الحوار بين البادية والحاضرة، لأنه من الميول النفسية. وكان يمكن إدخال شعر التصوف والتوسل في هذا أيضا لأنه يعبر عن الوجد والشكوى والتأمل والذوبان في الله عند الشعراء المطبوعين الصادقين. ولدينا من الشعر الذاتي نماذج عديدة مما يرجع إلى القرن الماضي. ولكنه كثر في المرحلة التي تبدأ من 1920. وعند الأمير عبد القادر ¬

_ (¬1) ط. تونس 1310 هـ. (¬2) تقويم المنصور السنة 5، 1348. (¬3) من شعراء الإخوانيات الشيخ محمد الطاهر التليلي الذي يضم ديوانه المخطوط قطعا وقصائد في ذلك. وكثيرا ما تتحول عنده الرسائل إلى أشعار وأراجيز ذات ألفاظ سهلة ومعاني رمزية. ولكنه لم ينشر من شعره إلا القليل. ولا شك أن لغيره ما يشبه ذلك.

والطيب بن المختار وابن التهامي (شعراء معسكر) نماذج من ذلك سنعرض إليها. أما منذ 1920 فقد كثر هذا الشعر لدى شباب المتعلمين أمثال الهادي السنوسي ورمضان حمود، ومحمد العيد ومبارك جلواح وعبد الكريم العقون، ثم عند أحمد معاش منذ الخمسينات. ولا يمكننا ذكر النماذج على ذلك كله. فمنه المعلوم والمجهول لدينا. ومن المعلوم شعر المرحلة الأخيرة، وذلك لتوفر دواوين بعض الشعراء وتقدم الدراسات التي أشرنا إليها في مختلف الجامعات. فقد أصبح شعر مفدي زكريا ومحمد العيد ورمضان حمود وجلواح وسحنون وأضرابهم معروفا في الدواوين أو في الدراسات. بينما ظل شعر المرحلة الأولى (قبل 1919) مجهولا تقريبا، عدا بعض الدواوين التي أشرنا إليها، مثل (نزهة الخاطر) للأمير، وما أورده صاحب تعريف الخلف من شعر لبعض متعلمي القرن الماضي أمثال الطيب بن المختار وأبي طالب الغريسي. أما المرحلة الوسطى (بين 1890 و 1920) فقد برز فيها أمثال عاشور الخنقي ومحمد بن عبد الرحمن الديسي وعمر بن قدور وابن الموهوب والقاضي شعيب والزريبي. وهؤلاء وأمثالهم لم يتميزوا بالشعر الذاتي إلا قليلا. فلننظر الآن كيف تناول الشعراء هذا النوع من الشعر. ففي الوصف والارتباط بالمكان (الأطلال؟)، تقف قصيدة الأمير في تلمسان فريدة من نوعها. وقد تمثلها فتاة بكرا وهو فارسها المغوار. ورغم أنه وصف المعنى أكثر من المبنى والظل أكثر من الرسم، فإن عاطفته كانت جياشة وكان شعره حينئذ يمثل نقلة جديدة في شعر الوصف والحب والارتباط بالمكان. وكانت تلمسان رمزا سياسيا أيضا. فقد صارع الأمير الفرنسيين عليها حتى استعادها منهم، ثم أجبروه على الخروج منها بعد نحو ست سنوات. وقد بدأها بقوله: إلى الصون مدت تلمسان يداها ... ولبت فهذا حسن صوت نداها وقد رفعت عنها الأزار فلج به ... وبرد فؤادا من زلال نداها

ومن ذلك انتصار الأمير للبادية على الحاضرة. وكان بعض الفرنسيين قد تناقشوا في ذلك وبلغه اختلافهم وقرارهم بتحكيم الأمير في الموضوع. فأجاب: يا عاذرا لامرئ قد هام في الحضر ... وعاذلا لمحب البدو والقفر لا تذممن بيوتا خف محملها ... وتمدحن بيوت الطين والحجر لو كنت تعلم ما في البدو تعذرني ... لكن جهلت وكم في الجهل من ضرر ما في البداوة من عيب تذم به ... إلا المروءة والإحسان بالبدر من لم يمت عندنا بالطعن عاش مدى ... فنحن أطول خلق الله في العمر وهي قصيدة طويلة وسهلة التعابير وعميقة المعاني. وقد أظهر الأمير فيها أنه فخور ببيئته لطهارتها وجمالها. كما وصف الأمير القصر الذي بناه في ضاحية دمر - قرب دمشق، فقال فيه: عج بي فديك! في أباطح دمر ... ذات الرياض الزاهرات النضر ذات المياه الجاريات على الصفا ... فكأنها من ماء نهر الكوثر وكذلك وصف ناعورة وهو في طريقه إلى حماة، وشبه صوت النواعير بحنين الحوار إلى أمه. فهو يستمد تشابيهه من الطبيعة والبادية. وكان قد نشأ في حضنها في القيطنة بالقرب من معسكر، وكم تتشابه الطبيعة في المكانين: معسكر وسورية. وللأمير شعر عميق في التصوف يطول بنا الحديث لو حاولنا وصفه ونقلنا منه. والعلاقة بين الطبيعة والتصوف وطيدة. وكان الأمير متصوفا بالطبيعة، فهو من بيئة تعيش على الدين والطريقة القادرية. وكان جده ووالده وأخوه الأكبر قد تولوا شؤون هذه الطريقة. وعندما كان في حالة الحرب وصفه الفرنسيون الذين شاهدوه عن كثب واجتمعوا به أنه كان رجل الجهاد والدين والتصوف سواء في حديثه وتفكيره أو في تصرفاته وسلوكه. ولكن شعر التصوف لم يظهر عنده إلا منذ انتهت حروبه وغدر به الفرنسيون فأخذوه سجينا وأسيرا في بلادهم بدل حمله إلى الجهة التي طلبها واشترطها في

الاتفاق بينهم وبينه. ففي سجن أمبواز ضاق به الحال، وتذكر أهل التصوف فأخذ يستنجد ببركتهم وبشفاعة الرسول (صلى الله عليه وسلم)، وكان من نتيجة ذلك قصيدته: ماذا على ساداتنا أهل الوفا ... لو أرسلوا طيف الزيارة في خفا يا أهل (طيبة) ما لكم لم ترحموا ... صبا غدا لنوالكم متكففا لا تجمعوا بين الصدود وبعدكم ... حسبي الصدود عقوبة فلقد كفى قلبي الأسير لديكم والجسم في ... أسر العداة معذبا ومكتفا وفي البيت الأخير عبر الأمير عن حالته النفسية. فهو أسير القلب والجسم. قلبه في طيبة عند أهل الوفاء والسادات الكرام وعلى رأسهم الرسول (صلى الله عليه وسلم)، وجسمه معذب في قبضة الفرنسيين الغدارين. وأي عذاب أكثر من الجمع بين عذاب الروح والبدن!. ولقد تعمقت نظرته الصوفية منذ وصل إلى المشرق، ثم أدى فريضة الحج مرة ثانية بعد نحو عشر سنوات من حلوله بالمشرق (1864). وكانت الطرق الصوفية نشيطة هناك، فالرفاعية في حلب واسطانبول، والنقشبندية في الحجاز وغيره، وكان أعيان المثقفين الذين لم يجدوا لهم مكانة في السياسة والمجتمع قد اندمجوا في الحياة الروحية ظاهريا على الأقل. إن التصوف كان هروبا من الواقع الذي سيطر فيه الغرب على الدولة العثمانية وسيطرت فيه هذه على العقول الإسلامية بنظام استبدادي وحكم بائد ومتخلف وتقاليد عتيقة. وشاعت الانتماءات إلى الأشراف، والقيام بالأوراد وحلقات الذكر والتفنن في الأناشيد والأدعية. والتقرب من ذوي النفوذ والسلطان بأساليب معظمها شيطانية. وماذا يفعل المتصوفة الصرحاء؟. في مكة جاور الأمير واقترب من شيخ يدعى محمد الفاسي الذي أدخله في الطريقة النقشبندية. ومارس الرياضة الروحية في أجواء طيبة التي طالما حن إليها. وتحقق له الحلم، فاختلى بنفسه وذهب إلى غار حراء يتعبد ويجاهد النفس. وروى ابنه محمد أن والده قد جاءته البشرى بالمرتبة العليا، وإن كرامات وخوارق قد لاحت له. وقد التقت هذه الحالة عند الأمير بحالته

الأولى أي استعداداته الطبيعية لهذا الضرب من الحياة. ومهما كان الأمر فإن الشعر قد عبر عن هذه النقلة من مرحلة إلى أخرى: أمسعود جاء السعد والخير واليسر ... وولت جيوش النحس ليس لها ذكر ليالي صدود وانقطاع ووحشة ... وهجران سادات، فلا ذكر الهجر فراشي فيها حشوه الهم والضنا ... فلا التذلي جنب ولا التذلي ظهر (¬1) ومنذ هذه الرحلة تعمق الأمير في عالم التصوف. وقد قضى العشرين سنة الأخيرة من حياته باحثا عن الحقيقة الإلهية. فألف كتاب المواقف بعد هذه الرحلة. ولكن أسفاره ومعيشته واستقبالاته وتمتعه بالحياة الدنيا تدل على أنه لم يتجرد للتصوف والزهد، كما قد يتبادر إلى الذهن. ومن شعر الوصف لدى الطيب بن المختار قصيدته في وصف صقلية. وكانت المناسبة هي نزول الشاعر والوفد الذي كان يرافق الأمير بهذه الجزيرة، في رحلتهم إلى المشرق بعد إطلاق سراحهم (ديسمبر 1852). وقد جاسوا خلالها واستحضروا تاريخها العربي والإسلامي. ورأوا كيف تحولت حالتها وحالت آثارها. ففاضت شاعرية الشاعر بأبيات تذكر المرء بما قاله أبو البقاء الرندي في الأندلس المفقودة، مع فارق الزمن والعاطفة. يقول الطيب بن المختار: هذي صقلية لاحت معالمها ... تجر تيها ذيول الريط من أمم دار أقر لها بالفضل ذو نظر ... والفضل ما شهدت فيه ذوو الهمم كانت منار هدى كانت محط ردى ... كانت سماء شموس الفضل والكرم هذي منازلهم تبكي مآثرهم ... بكاء طرف قريح بات لم ينم هذي المساجد قد دكت قواعدها ... هذي المآذن بالناقوس في سقم ومن جميل ما في القصيدة هذا الربط بين الأثر والإنسان، بين الجامد ¬

_ (¬1) العمدة في شعر الأمير على (تحفة الزائر)، سيما الجزء الثاني، وكذلك (نزهة الخاطر) أو ديوان الأمير. وقد أورد الحاجري في (جوانب من الحياة العقلية) نماذج من شعر الأمير أيضا مستقاة كلها من تحفة الزائر. انظر أيضا كتاب المواقف.

والحي، حتى كاد الجماد يتكلم للشاعر الإنسان: إذا رأت مسلما قد زارها فرحت ... واستبشرت ثم باست موضع القدم وقد ربط الشاعر أيضا بين المآذن والمحاريب وبين كراسي العلم والعلماء - هؤلاء الذين يمثلون الإنسان الأعلى الذي كتب عليه أن ينشر المعرفة ويحفظ الحضارة. كما ربط الشاعر بين صقلية القديمة وحلول الأمير بها، وهو من سلالة أولئك الكرام الذين زينوها بالعلم والدين والفنون. وفي المرحلة الأخيرة من الشعر، منذ 1926، تغنى بعض الشعراء أيضا بوصف المدن والمآثر. ونحن نجد في شعر محمد العيد وصفاء رائعا لمدن تلمسان وقسنطينة والعاصمة وآثار تمقاد، وكذلك وصف بسكرة وباتنة والقنطرة وغيرها. أما شعر الغزل والشوق فلم يكثر منه الشعراء، أو على الأقل لم يصلنا منه إلا القليل. ذلك أن الشعراء إذا تقدمت بهم السن تخلصوا، في أغلب الظن، من شعر الشباب ولبسوا لباس التقوى. ورغم ذلك فنحن نجد نماذج من شعر الغزل في المرحلة المتقدمة ويمثله الأمير ومحمد بن الشاهد ومصطفى الكبابطي، وكلهم من رجال الدين أيضا. ورغم شاعرية الطيب بن المختار فلم يحتفظ له التاريخ بنماذج من غزله سوى بعض المطالع، ولم نتذكر ما إذا كان أبو حامد المشرفي قد نظم في الغزل. وكذلك لم نطلع لعاشور الخنقي والديسي على قصائد غزلية. والغزل عند الكبابطي متكلف متصنع، وهو تقليدي مطبوع عند ابن الشاهد، ولكنه عند الأمير صادق ويأخذ طابع الشوق والوفاء والتذكر الدائم. يقول الكبابطي (وكان قاضيا ثم مفتيا) فيمن لقبه (سيدي)، وهو لفظ يستخرج من الحروف الأولى من مصارع الأبيات: سقاني مدام الحب ساحر لحظه ... أراني ورود الروض تندى بخده يفوق على الياقوت باسم ثغره ... حلا جيده مسك تراه بنحره دوائي برقي ريقه عند مزه ... مليح جميل الفعل حتى بهجره

يمين علي لا أزال بحب ... دنيف ولو جاد الحكيم بطبه (¬1) وكان الكبابطي قد نظم هذا الشعر ليتغنى به المغنون، فهو شعر إلى الأندلسيات أقرب، وإلى شعر الغناء والصنعة أليق. وأما ابن الشاهد الذي كان شاعرا بالطبيعة، وكانت أيدي الناس مملوءة بأشعاره، وعاش حتى كف بصره وعانى الفقر والحرمان، ورأى، كما سلف، بلاده وقد احتلها الأعداء وعاثوا فيها فسادا، فقد كان شعره الغزلي قويا، وأكثر صدقا في وصف حالته النفسية، رغم ما يلوح عليه من التقليد اللفظي وحتى في الصور الشعرية، فاستمع إليه: ظبي، ولكن تخاف الأسد سطوته ... لحظ، ولكن شيوخ السحر تخشاه رشيق قد تزين الغصن قامته ... بديع حسن تساقى الراح عيناه تبدي شموس الضحى في الليل طلعته ... والبدر إن أفل يغنيك مرآه تغنى برأفته الأرواح يا عجبا! ... الروح تسبى به والقلب يهواه يعطف القلب في التسليم مبسمه ... ويترك العقل مفتونا محياه تراكمت في الحشا أشجان صبوته ... القلب في حرق والصبر عاداه يا ون قلبي لظى الأشواق تتلفه ... والحين يهوى ومبدا الهم رؤياه سلوا منامي عن الأجفان كم أرقت ... وعن سلو مضى، هل زار مضناه هاتوا حكيما يعاين ما أكابده ... أو اتركوا لومكم فالسمع يأباه (¬2) ولكن غزل الأمير يختلف عن هذا. فهو يتشوق إلى زوجته أثناء غزواته إذ يتركها بعيدة عنه فتعاني هي وهو من هذا البعد الذي كان يدوم أياما أو شهورا. ويبدو لنا أن عاطفة الأمير صادقة في هذا الشوق. ومن ثمة اختلف غزله عن الغزل التقليدي. فهو لا يصف محبوبا مجهولا ولا خياليا أو طيفا، ¬

_ (¬1) مخطوط تونس، كناش رقم 16511، ص 34. وانظر أيضا دراستنا عن الكبابطي في (أبحاث وآراء) وملحقات الشعر هناك. (¬2) مخطوط تونس، كناش رقم 16511، ورقة 46. في الأبيات ألفاظ أمليت خطأ مثل ظبي ولظى فقد كانت (ضبي) و (لضى). ومثل كلمة (يعاين) في البيت الأخير فقد وجدناها يعانى.

ولا فتاة أحبها ثم صدت عنه أو صارت لغيره. إنه يصف لوعته لزوجته (أم البنين) كما سماها في بعض الأحيان، وهي خيرة ابنة عمه علي أبي طالب: أقول لمحبوب تخلف من بعدي ... عليلا بأوجاع الفراق وبالبعد أما أنت حقا لو رأيت صبابتي ... لهان عليك الأمر من شدة الوجد وللأمير أكثر من قصيدة في هذا المعنى. وقد نظم القصيدة التي ذكرناها وهو في اسطانبول وترك زوجته في بروسة. فهي ليست من الغزل الذي قاله أثناء غزواته على كل حال. وهي من قصائده الطوال (¬1). وقد عالج الشعراء المحدثون الغزل من طرف خفي إذا صح ذلك. فناجوا الحرية والظباء واتخذوا الأسماء الرمزية مثل ليلى وسعاد. وقد درسنا الظروف التي جعلتهم يفعلون ذلك ولا يصرحون بمحبوباتهم (¬2). وأغلب الظن أن ذلك راجع إلى سيطرة البيئة الاجتماعية ومقاييسها الصارمة في المعلم ورجل الدين والشاعر العربي. وكان أغلب الشعراء قد ارتبطوا بالحركة الإصلاحية. كما أن التعسف السياسي وجور القوانين لم يسمحا للشعراء السياسيين أن يتغزلوا، والغزل عند أغلب الناس نوع من المجون والعبث. ولا شك أن ذلك راجع إلى الانغلاق الاجتماعي، نتيجة الاحتلال. وقد رأينا أن ذلك كان ظاهرة جديدة، لأن ابن الشاهد والأمير، مثلا، لم يكونا على ذلك النمط، فكان المجتمع في وقتهما أكثر انفتاحا وتقبلا لهذا النوع من الشعر، ولا يرى فيه غضاضة لصاحبه. وفي قصيدتي: أين ليلاي؟ وتعذيبي، لمحمد العيد غزل واضح، رغم التفسيرات الاجتماعية والدينية والصوفية التي أعطيت له عند ظهور القصيدتين. وقد تناولنا ذلك في دراستنا عن هذا الشاعر. ... ¬

_ (¬1) تحفة الزائر 2/ 65. (¬2) انظر فصل الغزل في الشعر الجزائري من كتابنا (دراسات في الأدب الجزائري الحديث)، ط. 3 تونس، 1983.

إن الشعر الذاتي قد مارسه شعراء معروفون مثل الأمير ومحمد العيد، ولكن تخصص فيه شعراء أهملهم الدارسون أثناء حياتهم ربما لكونهم قد تمردوا على القيم الاجتماعية، فلم يقبلهم المجتمع الفرنسي لأنهم ليسوا منه ولم يرحب بهم المجتمع الجزائري لأنهم متمردون عنه. وهم فئة من الشعراء ظهرت آثارهم في تونس والجزائر وفرنسا. ومنهم: رمضان حمود ومبارك جلواح والطاهر البوشوشي. وكنا قد اهتممنا بشعر محمد العيد واهتم غيرنا بشعر مفدي زكريا، ثم ظهر من اهتم برمضان حمود مثل محمد ناصر وصالح خرفي. ومن اهتم بمبارك جلواح مثل عبد الله ركيبي، ولا نعرف أن هناك من اهتم بشعر البوشوشي حتى الآن. وقد لفتت حياة رمضان حمود أنظار المعاصرين أيضا، لأسباب، منها موهبته العجيبة وموته المبكر. ذلك أن هذا الشاعر الناثر الموهوب لم يعش سوى حوالي عشرين سنة. فقد ولد سنة 1906 في غرداية أثناء مرحلة الشدة في تعسف الاستعمار سيما في الجنوب حيث درس حمود دراسته الأولى. ثم توجه بعد ذلك إلى تونس والتحق بالزيتونة، وربما كان ذلك في نطاق البعثات التعليمية التي كان أهل ميزاب ينظمونها ويوجهونها إلى تونس. ورغم شبابه فقد أصدر بتونس عملين هما (الفتى) و (بذور الحياة). وقد دل كتابه الثاني عن تعلقه بالحركة الرومانتيكية. ويغلب على الظن أنه عرف أبا القاسم الشابي وقرأ من إنتاج المشرق العربي وإنتاج المهاجر العربية، مثل أدب جبران ونعيمة. وكانت تونس مفتوحة على هذا الأدب. وباعتبار انفتاح الإدارة الفرنسية عموما على أدب المهجر وأدب لبنان بالذات. ومع ذلك كان شعر وأدب رمضان حمود متجددا في الشكل والروح، ولكنه تقليدي في الموضوعات، فهو، رغم شبابه، من دعاة العروبة والإسلام. وكان ناقدا للاستعمار والتسلط الغربي. وكانت روحه أعظم من بدنه، فأصيب بالسل القاتل ومات دون أن يتمتع بشبابه ولا أن يتمتع الناس بموهبته الشعرية،

مبارك جلواح

في سنة 1926. وهي سنة بارزة في تاريخ الوطنية والإصلاح بالجزائر (¬1). مبارك جلواح وكانت حياة مبارك جلواح مأساة من نوع آخر. حقيقة أنه أنتج شعرا غزيرا وقام كجندي بأدوار في الجزائر والمغرب وفرنسا، ولكن حياته الذاتية تظل غامضة ومثيرة. ولد سنة 1908 (1910؟) في قلعة بني عباس قرب آقبو. وبعد أن درس على والده القرآن الكريم تعلم تعلما عصاميا في ظاهر الأمر، ربما في بعض الزوايا المحلية، لأن مدارس الإصلاح لم تؤسس بعد، ولأن المدرسة الفرنسية لم تكن متوفرة للجميع. وربما يكون قد دخل المدرسة الفرنسية الابتدائية بعض الوقت. ولا ندري مدى تأثير حياة أسرته على طفولته. فقد كان والده يمارس التجارة والترحال بحثا. عن الرزق. فهل كان ترحال والده في الجزائر فحسب أو حملته قدماه إلى فرنسا أيضا. وماذا كان مصير مبارك أثناء ذلك. وما دور أمه وأسرته في تربيته أثناء غياب والده. كل ذلك يجعلنا نعرف بعض الأسباب التي أحاطت بحياة القلق والوتر التي ظل يحياها خلال شبابه، سيما خلال الثلاثينات. ولما بلغ الثامنة عشرة من عمره كان من المجندين في خدمة الجيش الاستعماري، شأن الشباب الجزائري. كان ذلك سنة 1928، وفي هذه السنة كان الفرنسيون يستعدون للاحتفال بالاحتلال المئوي للجزائر. وبعد التدريب وقضاء فترة لا نعلمها وجد نفسه في المغرب الأقصى في خدمة أحد الضباط المغاربة. وكانت للشاعر فرصة للمقارنة بين حياة الجزائر وحياة المغرب، فرغم أن الاستعمار واحد، فإن هناك فروقا واضحة بين البلدين. فالمغرب حديث العهد بالاستعمار وشخصيته العربية الإسلامية لم تشوه، بينما الأمر لم ¬

_ (¬1) عن رمضان حمود انظر محمد ناصر (رمضان حمود الشاعر الثائر). وكذلك مقالة محمد الصالح الجابري (من تاريخ التواصل) في مجلة (الحياة الثقافية)، تونس. عدد خاص 1984، ص 22. وكان رمضان حشود قد ساهم في الصحافة المعاصرة، ولا سيما صحافة أبى اليقظان.

يكن كذلك في الجزائر. ثم إن الكولون في هذه البلاد هم الأسياد بينما المغرب لا يظهر الفرنسيون فيه إلا كإدارة وجيش (مخزن). وبعد رجوع جلواح إلى الجزائر، ربما على إثر تأسيس جمعية العلماء (1931)، وبعد حادثة الظهير البربري التي هزت المغرب، اتصل بابن باديس، وكان هذا يبحث عمن يعتمد عليه في فتح مدارس لتعليم المهاجرين في فرنسا اللغة العربية ومبادئ الإسلام. كما يقوم بالدعوة هناك لجمعية العلماء وسط المهاجرين. فوقع اختياره على جلواح. وربما كان ذهابه إلى فرنسا سنة 1936. وكان جلواح خلال ذلك يتردد بين فرنسا والجزائر، ففي الأولى كان ينقط مدارس التهذيب، وفي الثانية كان يشارك في الندوات. ونحن نجد أخباره في قالمة وسكيكدة وعزابة والمحمدية وقلعة بني عباس ومستغانم (¬1). أما في فرنسا فكان جلواح هو الكاتب العام (للقلم العربي) لنادي أو جمعية أخوة آقبو (¬2). ومنذ 1939 جند جلواح للحرب من جديد، وظل في الخدمة العسكرية إلى أن هزمت فرنسا واحتل الألمان باريس، فسرح من الجندية. ولا ندري ماذا حدث له بعد ذلك، أي منذ 1943. فالركيبي الذي درس حياته بالتفصيل قد رجح أن يكون قد انتحر في لحظة يأس. ودليله في ذلك كثرة حديث الشاعر عن الموت والانتحار، وكون جلواح فشل في حبه وطموحه. ولعل انتماءه إلى الحركة الإصلاحية كان يمنعه من هذا المصير إذا لم يكن قد انحرف في حياته في باريس. ويشير الركيبي إلى أن جلواح كان من المعجبين بهتلر، وكان الألمان محتلين لفرنسا، وقد أعجب جزائريون آخرون بهتلر لا لشيء إلا لكونه هزم فرنسا. وانضم بعضهم إلى الجيش الألماني على أمل تحرير بلادهم بمساعدة الألمان. فهل كان موقف جلواح هذا سببا في قتله ورميه في نهر (السين) حيث وجدت جثته؟ كما أن الركيبي ¬

_ (¬1) انظرا مثلا البصائر 2 ديسمبر 1938. والكلمة بقلم محمد الزواوي معطى الله. وقد سماه (الأديب العبقري). (¬2) نفس المصدر، 23 سبتمبر 1938.

قد ذكر الصهيونية دون الربط المباشر بينها وبين موت جلواح. والغالب أن الصهيونية عندئذ كانت تحاول أن تحمي نفسها أكثر مما كانت تنتقم من خصومها. ومع ذلك فإن كل هذه الاحتمالات لا تقدم الجواب على قتل أو انتحار الشاعر جلواح. ترك جلواح ديوانا سماه (دخان اليأس)، وهو يشمل، حسب عبد الله ركيبي، ستين قصيدة. وهي ليست كل شعره. ذلك أن له أشعارا ما تزال مفرقة في الصحف وفي أيدي الناس، ولو جمعت لاكتمل منها ديوان كبير. ونفهم من ذلك أن شعر جلواح تناول مختلف الأغراض، بما فيها الإصلاح والتحرر والذاتية والوصف. وقد رأينا له قصائد في البصائر وأخرى مما نشره له الركيبي، فإذا بها تقدم لنا شاعرا فريدا. كان جلواح في غمرة الحركة الرومانتيكية التي غزت الوطن العربي منذ الحرب الأولى تقريبا. وكان الشابي في تونس يغني لها أجمل أشعاره، وفي الجزائر اقترب منها محمد العيد ولكنه ظل أسير الدين والإصلاح والتقاليد الشعرية، وسرعان ما اختفى رمضان حمود (1926)، ولم يفرض البوشوشي نفسه كشاعر غنائي. أما جلواح فكانت الغربة (نحو المغرب ثم فرنسا)، تزيده اغترابا عن المجتمع، ولذلك انتج قصائد في غاية الروعة الجمالية والعاطفية. والاغتراب كان أحد ميزات الشاعر الرومانتيكي. ولكن المثقفين المعاصرين كانوا في أغلبهم من (المصلحين) وهم الذين كانوا يسيطرون على الصحف الحرة والنوادي والجمعيات. ولم يكن بوسع جلواح المتحرر الثائر بمحكم مزاجه واختياره الشعري، أن ينتمي إلى الصحف الرسمية أو الطرقية. ونعتقد أن بعض قصائده كانت تجد طريقها للنشر بسبب اختياره لفنه الشعري. وإن أشعاره (المرفوضة) ربما ما تزال في أوراقه، وقد تكون من أجود شعره. ويذكر الركيبي أن جلواح قد تغنى بالطبيعة والمرأة، وأنه مجد العروبة والوطنية. وحظيت ابنته ببعض شعره. ويعتقد أن جلواح كان مجددا ومتحررا، وأنه قد خرج عن المألوف - التقاليد- مما سبب له المقاطعة أو

الصمت من جانب النقاد المعاصرين. ولو عاش جلواح أحداث 8 ماي 1945 وما بعدها لعرف أن مصير الجزائر أزهى ما تخيله في لحظة يأس، إن كان حقا قد انتحر. فالرجل كان يعيش مأساة نفسه ومأساة وطنه الصغير والكبير. فقد عبر عن عاطفته الثائرة نحو وديان الجزائر: وادي الرمل ووادي الشلف، وهما رمزان للخصوبة والنماء، وتحدث بلسان الجزائري في إحدى قصائده، كما أن له أخرى خاطب بها الشرق (¬1). وقد كان جلواح يعيش هموم نفسه وغيره، حتى أنه كتب عن المسلم الإفريقي في باريس، وذلك من أوائل الحديث عن وضع المهاجر في الغربة، وهو الموضوع الذي شغل المثقفين الذين هاجروا بعد الحرب الثانية إلى فرنسا، مثل محمد ديب، وكاتب ياسين، وإدريس الشرايبي. ولا ندري أين قرأنا نحن أن جلواح قد سجن في باريس، وأن بعض الطلبة قد هاجمه فيها على نوعية أدبه. وكانت البصائر تكتفي بالإشارة إلى كونها اتصلت بمقالات منه دون أن تنشرها. ومع ذلك نجد له بعض المقالات عن نشاط نادي التهذيب الذي كان يديره بباريس وعن الجالية العربية فيها. وقد كانت باريس تشهد زيارات بعض الأعيان العرب، مثل شكيب أرسلان وإحسان الجابري، كما كانت تضم مجموعة من طلبة المغرب العربي، وهم زعماء تونس والمغرب والجزائر مستقبلا. وكان من النشطين فيهم مالك بن نبي وأحمد بن ميلاد ومحمد الفاسي، فأين مكانة جلواح بين هؤلاء؟ وهل تعاون مع الشيخ الفضيل الورتلاني الذي بعثه ابن باديس في نفس المهمة إلى فرنسا سنة 1936؟ ولماذا لم يعد جلواح محل ثقة الجمعية؟ والمعروف أن الورتلاني ¬

_ (¬1) نشر عبد الله ركيبي دراسة عن شعر جلواح تحت عنوان (الشاعر جلواح من التمرد إلى الانتحار)، الجزائر، 1987 (؟). كما نشر عنه بحثا في مجلة (الحياة الثقافية)، تونس، عدد 32، 1984، بعنوان (الشاعر جلواح)، ص 64 - 68. ومقالة أخرى في جريدة (الشعب) عدد 27/ 12/ 1975. واطلعنا بدورنا له على قصائد وأخبار في البصائر في أعداد، وغيرها من الجرائد المعاصرة، انظر أيضا محمد ناصر (الشعر الجزائري الحديث).

الشعر التمثيلي والأناشيد

اختار حركة الإخوان المسلمين والهروب إلى مصر سنة 1938، ربما هروبا من الخدمة العسكرية. إننا نكثر من التساؤلات هنا لعلنا نلفت النظر إلى أن جوانب أخرى من حياة جلواح ما تزال غامضة وأن أخباره قد تكون عند ذلك الجيل من زعماء المغرب العربي الذين كانوا ما يزالون طلابا. وهكذا يكون الشعر الذاتي قد خسر في جلواح رائدا كبيرا لأنه كان شاذا وسط الشعراء ونشازا في منظومة الإصلاح، وغريبا في بلاد مستعمرة، وكان عليه أن يتأقلم مع كل ذلك أو يموت. الشعر التمثيلي والأناشيد ونقصد به الشعر الذي يلقى أو يغنى على المسرح، ويدخل في ذلك الأناشيد المدرسية باعتبارها كانت تمثيلية أيضا. ولم يكن هذا الفن شائعا في الشعر العربي، واعتبره بعض النقاد فنا حديثا ومن التأثيرات الأوروبية. ومهما كان الأمر فإن الشعر التمثيلي قديم عندنا، على الأقل في العهد الذي ندرسه، فقد كانت الحلقات الأدبية تنعقد في أماكن معينة من المدن، ويلقى خلالها الشعراء أنفسهم أو من ينقل عنهم القطع والموشحات. ولكن ليس في شكل أدوار وتوزيعات كما حدث في وقت لاحق. كما أن المداحين وأعوانهم كانوا يتقاسمون الأدوار ويستعملون الآلات الموسيقية وينشدون الشعر. غير أن ذلك كان في معظم الأحيان شعرا شعبيا أو ملحونا. وتذكر المصادر الفرنسية أن محمد بن علي الجباري قد نظم في آخر القرن الماضي مجموعة شعرية ساخرة جعل موضوعها حياة الطلبة (المتعلمين عندئذ)، وقام هو شخصيا بتمثيل هذا الشعر على المسرح. وهناك عدة شخصيات شملها الشعر الذي اختار له العنوان التالي (مغامرات طالبين عربيين في القرية الزنجية بوهران). ونحن نرجح أن يكون هذا الشعر غير فصيح، ولكن قدرة الجباري على اللغة (وقد كان قاضيا) قد تجعله ينظمه

بالفصيح أو القريب منه. وقيل ان هذا الشعر قد نشر مع ترجمة فرنسية، ولكننا لم نطلع عليه (¬1). ونحن وإن كنا سنذكر بعض المعلومات عن الجباري في باب المقامات، فإننا نقول هنا إن اسمه في الشعر المذكور ظهر مستعارا وهو (محمد قبيح الفعل). فهل فعل ذلك لأنه أراد نقد الوضع الاجتماعي والسياسي، سيما وأن تلك الفترة هي فترة الحملة ضد القضاة المسلمين (¬2)؟. ويقول المصدر الفرنسي الذي أخذنا منه هذه المعلومات إن الجباري قد جعل شخصيات الشعر هم شخصيات المقامات. وفي سنة 1938 وضع محمد العيد مسرحية شعرية ونشرها على الناس بعنوان (بلال بن رباح) (¬3). وهي من حيث الموضوع غير جديدة، لأنها تتناول شخصية إسلامية معروفة. ولكنها جديدة من حيث الشكل. فلأول مرة على ما نعرف يؤلف أحد شعرائنا مسرحية شعرية. وهي موجهة إلى تلاميذ المدارس، وكان الشاعر عندئذ مديرا لمدرسة الشبيبة الإسلامية بمدينة الجزائر. ولم يكن الهدف منها على ما نرى أدبيا أو فنيا، ولو كان ذلك هو هدفه لارتقى محمد العيد بالفن الشعري إلى الخيال والرمز وإلى استعمال الوقائع والهزات النفسية، ولكن غرضه على ما يظهر كان دينيا واجتماعيا. ولذلك علق أحد الأدباء عند ظهورها بهذه العبارات: (وقد رمى منشئها الأديب إلى بث روح الثبات على المبدأ بين الناشئة، واحتمالهم المكاره في سبيل الدين ولغتهم إلى أن العظمة الحقة والمجد الخالد إنما يكونان بسمو النفس وطهارة الروح وكمال الخلق) (¬4). وقد مثلت مسرحية (بلال). عدة مرات منذ نشرها، سواء على مستوى ¬

_ (¬1) نشر في وهران وباريس، سنة 1887، انظر (المجلة الآسيوية). J.A، (1913)، ص 292، هامش 2. (¬2) انظر فصل السلك الديني والقضائي، وكذلك الحركة الوطنية، ج 1. (¬3) المطبعة العربية، 1938، 24 صفحة من القالب الصغير. (¬4) البصائر، 7 أكتور 1938.

المدارس الإصلاحية أو على المستوى الشعبي، لأن رسالتها كانت هي خدمة الدين والأخلاق وربط الجيل الجديد بماضيه. وقد ذكر لنا محمد قنانش أن السيد جلول أحمد الذي كان مناضلا في حزب الشعب، وكان من مدينة قالمة، قد كتب مسرحية شعرية بعنوان (هارون الرشيد)، وأنه نشرها في تونس، وكانت هي باكورة أعماله، كما قال، وذلك قبل 1936. ونفهم من هذا أنها كانت بالعربية الفصحى، لأن قنانش يقول إن للشاعر مسرحية شعرية أخرى بالفرنسية سماها (الكاهنة)، نشرها سنة 1954 - بفرنسا؟ -. وترك جلول أحمد أيضا (ملحمة شعرية) حول اعتقاله سنة 1938، وهي، كما فهمنا، قصيدة وليست مسرحية. وقد نشر قنانشں جزءا منها في كتابه عن حزب الشعب (¬1). أما الأناشيد المدرسية فهي عادة توضع للتربية الأخلاقية والدينية والوطنية. واشتهرت بها مدارس جمعية العلماء بين الحربين كجزء من حملتها في توعية الشعب لافتكاك استقلاله وهويته. وكانت الأناشيد تنشد بأصوات جماعية وألحان، وأحيانا تنشد بالموسيقى أثناء مسيرة. ونذكر أن هذا النوع من الأناشيد قديم، فنحن نجده عند تلاميذ ابن الموهوب في قسنطينة قيل الحرب العالمية الأولى. ولكن دور جمعية العلماء فيه هو التعميم والتسييس. وقد اشتهر عدد من الشعراء بوضع الأناشيد المدرسية، وعلى رأسهم محمد العيد الذي مارس التعليم وإدارة المدارس مدة طويلة، وكان مفعما بفكرة الوطنية والإصلاح، وفي ديوان أمثلة على ذلك. وكان الشيخ محمد العابد الجلالي غير معروف كشاعر، ولكنه معروف بحماسه الوطني وغيرته الدينية. وهو من تلاميذ ابن باديس ومن شيوخ مدرسة التربية والتعليم بقسنطينة بعد أن كان مدرسا في الكتانية. فكان حماسه وغيرته وراء وضع أناشيد مدرسية يتغنى بها التلاميذ جماعيا وقد طبع ذلك في ¬

_ (¬1) محمد قنانش (المسيرة الوطنية وأحداث 8 مايو 1945)، الجزائر 1991، ص 45. وكان لجلول أحمد أشعار أخرى منها شعر في رثاء أخيه.

شعر الفخر والهجاء وغيرهما

كتيب سنة 1939، فنوهت به كل من الشهاب والبصائر. فقالت الشهاب إنها أناشيد تشتمل على (العقائد الصحيحة والأفكار السليمة والأخلاق الفاضلة). ورأت البصائر أنها مجموعة تشجع (حركتنا القلمية ... ونهضتنا الفكرية) (¬1). ونعتقد أن هناك نماذج أخرى من الشعر التمثيلي جديرة بالتنويه، ولكن ذلك هو كل ما وقفنا عليه حتى الآن. ولا ندري إن كانت (الملحمة الرجزية) التي وضعها الشيخ الإبراهيمي في 3600 بيت قد بنيت على الحوار التمثيلي. ويفهم من وصف الشيخ لها أنها كذلك، لأنه قال إنه جاء فيها (بأفانين من الهزل والمذاهب الاجتماعية والسياسية والأنحاء على البدع في الدين وتصوير لأولياء الشيطان ومحاورات أدبية بينهم وبين الشيطان ووصف الاستعمار). ونحن نفهم من كلمة (محاورات) أن الملحمة كانت في صيغة تمثيلية (¬2). شعر الفخر والهجاء وغيرهما رغم أن الفخر والهجاء لم يحتلا مكانا بارزا لدى الشعراء فإنهما استمرا عند بعضهم. ونحن نورد هنا ما عثرنا عليه من هذين اللونين إشارة لا إحصاء، كما نورد ألوانا أخرى من الشعر الفصيح لم تصنف في أية فقرة أخرى. وقد نبهنا إلى أن الفخر هو مدح للذات والقوم، وأن الهجاء هو سلب لصفات المدح عن المهجو. والفخر إذا كان بالوقائع والإنجازات مقبول شعريا، أما الفخر بالأجداد والرسوم المتخيلة فهو ادعاء كاذب ويذم صاحبه عند الله وعند الناس ولو كان شعره في غاية الروعة. وكان يحق للأمير عبد القادر أن يفتخر بنفسه وبأجداده وشجاعته وفرسه، بعد معركة خنق النطاح التي وقعت قبل توليه الإمارة، أي ¬

_ (¬1) الشهاب، غشت 1939، ص 367، والبصائر 4 غشت، 1939. وقد طبعت الأناشيد في تونس، في حوالي 20 صفحة. (¬2) الإبراهيمي (في قلب المعركة)، 1993، ص 231.

عندما كان يحارب تحت لواء والده (29 مايو 1832): توسد بمهد الأمن قد مرت النوى ... وزال لغوب السير من مشهد الثوى ومما يذكر أن الأمير عندئذ قد هجم على الأعداء تحت وابل من رصاصهم وقذائفهم لإنقاذ جثة ابن أخيه، ويدعى أحمد بن محمد السعيد، الذي لم يتجاوز الخامسة عشرة من عمره. وكان هذا الفتى قد قتل برصاص الأعداء (¬1). وتسمى قصيدة الفخر التي نحن بصددها (مقصورة الأمير). ومن الفخر قصيدة الطيب بن المختار في الأمير، وقد افتخر فيها بنفسه أيضا لأنه من نفس العائلة: بكم السماحة والمروءة ألبست ... ثوب البها يا بضعة (المختار) (¬2) وقد قرأنا لمحيي الدين بن الأمير عبد القادر شعراء يفتخر فيه بنفسه وبأفعال والده. ونحن نعلم أن محيي الدين كان من المخططين والمنفذين لثورة 1870 - 1871. ويبدو أن ديوانه غير مطبوع، ولكن كتاب (حلية البشر) قد احتوى على مجموعة من شعره. ومنه القصيدة الفخرية (¬3). ومن قوله مفتخرا بفعله وفعل والده وقومه: على ماذا الخمول وأنت قرم ... مطاوع في العشائر لا وتمارى وانك لا تنال المجد حتى ... تقود عرمرما يملأ القفارا فقومي سادة عرب كرام ... بغير الحرب ما نالوا فخارا وكان علي بو طالب، عم الأمير، شاعرا أيضا، فاغتنم فرصة الانتصار في واقعة المقطع ونظم قصيدة في الفخر والفروسية، وهنأ الأمير على النجاح. وكان علي بو طالب حاضرا للواقعة: هنيئا لك البشرى نصرت على العدا ... ودمرت جيش الكفر بالقتل والخسف ¬

_ (¬1) انظر القصة في (تحفة الزائر)، 1/ 92، 94. (¬2) تحفة الزائر، 2/ 8. (¬3) حلية البشر، 3/ 1423 - 1449، ط. دمشق 1963.

وحزت مقاما دونه كل باسل ... يرى الحرب ميدان الخلاعة والقصف بجيش عظيم قد تفرد في الوغى ... له سطوة عزت وجلت عن الوصف (¬1) وفي قصيدة عاشور الخنقي في البوازيد (وهو منهم) فخر واضح يذكرنا بقصائد الافتخار القبلي عند الشعراء العرب القدماء. اسمع إليه يقول: فما الناس إلا كالمعادن كلها ... ونحن البوازيد اليواقيت توقد وما الناس إلا كالليالي مواسما ... وغبرا ونحن ليلة القدر ترصد وما سائر الأشراف إلا جواهر ... ونحن البوازيد اليتيمة تفرد على كل أرض سيما الغرب أهلنا ... بنا تأمن الأرض البلاء وتسعد ولو جمعتنا بقعة لتجمعت ... لنا الأرض حتى لم يكن للسوي يد شمائلنا الحرب الكريهة في الورى ... وطعم القرى حتى إذا العام أجرد لنا وبنا منا وفينا وإن ترد ... مفاخرنا حدث عن البحر يرعد (¬2) ثم ركد شعر الفخر لأن المقاومة كانت تمنى بالفشل، وكان الاحتلال قد تغلب على البلاد. ولكن مع ظهور النهضة ونشاط الحركة الوطنية رجع الأمل بالنصر، وأخذت الكلمة مكانها من جديد لتعلي من شأن الماضي المجيد، وتفخر بالأجداد، وبالجبال وبالوطن. ومن الممكن القول إن الأناشيد الوطنية أصبحت تعبر عن الفخر بالمعنى الجديد. ويدخل في ذلك نشيدا ابن باديس: إشهدي يا سماء، وشعب الجزائر، وأناشيد مفدي زكريا أثناء انتمائه لحزب الشعب. وتوجد بعض القطع الشعرية عند محمد العيد معبرة عن الفخر الجماعي، كقوله: نحن الجبال بنو الجبال ... صدى الجبال بنا حدا من سامنا بإذاية ... فعلى الجبال قد اعتدى ¬

_ (¬1) تحفة الزائر، 1/ 156. (¬2) قدم إلي نسخة من القصيدة السيد أحمد بن السائح، يناير 1990. وهي في ست صفحات صغيرة. انظر سابقا.

وفي الشعر الذي قيل في تقريظ الكتب التاريخية، مثل كتاب الجزائر للمدني وتاريخ الجزائر للميلي فخر بالعرب والبربر واللغة العربية والإسلام، ومنجزات الجدود، والرصيد الحضاري. وهكذا تحول الفخر من شخصي إلى جماعي، أو إلى شعب كامل وبلاد متسعة تتطلع لغد عظيم. أما الهجاء فقد أشرنا إلى بعضه ومناسبته. وهو قليل بالفصحى، ولكنه كثير بالعامية. ولعل ذلك راجع إلى أن الشعراء لم يجدوا أين ينشرون شعر الهجاء، كما وجدوا أين ينشرون شعر المدح والدين ونحوهما. ثم إلا الشعراء بالفصحى كانوا قلائل، وكانوا يشتغلون عموما بالتعليم والقضاء، فلم يروا من اللائق بهم التهاجي فيما بينهم. أما هجاء الشعراء للحكام الفرنسيين فلا نعلم أن شاعرا قد حاوله. ولا نرى داعيا لتكرار ما قلناه من أن الهجاء ظهر عند الشيخ عاشور الخنقي ضد الشيخ محمد الصالح بن مهنة، وضد الشيخ عبد القادر المجاوي، وربما هجا الشيخ عاشور أيضا محمد بن عبد الرحمن الديسي وغيره. ولا نستبعد أن يكون علماء الأربعينات من القرن الماضي، وهم مصطفى الكبابطي وقدور بن رويلة وابن الشاهد وابن الحفاف، قد تبادلوا الهجاء أيضا لأنهم اختلفوا حول رأي الدين من الهجرة إلى المشرق اختلافا كبيرا. كما سبقت الإشارة إلى قصيدة الهجاء التي صدرت عن الطيب بن المختار في المفتي أحمد بوقندورة. وقد اتهمه فيها بالجهل وعدم الأهلية للفتوى. ثم تطور الهجاء كما تطور الفخر، فعند ظهور حركة الإصلاح وركود الطرق الصوفية جرى تبادل الشعر الهجائي بين الفريقين، ولكنه لم يكن شعرا فرديا، أي لا يهاجم شيخ التصوف لذاته، ولكن لعقائده المنحرفة وعلاقته بالإدارة، بينما أهل الطرق كانوا يهجون خصومهم بالحداثة والزندقة والخروج عن الجماعة. ومن يقرأ الصحف التي ظهرت خلال الثلاثينات وأوائل الخمسينات سيدرك ذلك. ومع ذلك فإن الشعراء الكبار قلما شاركوا في هذا النوع الجديد من الهجاء، لأنهم ربما كانوا

الشعر الشعبي

يترفون عنه، وإذا ساهموا فيه فبأسماء مستعارة. الشعر الشعبي تضم هذه الفترة الشعر الشعبي العربي والبربري. وهو كالشعر الفصيح، تناول أغراضا عديدة، ولكنه تناول بالخصوص المدائح النبوية والتوسلات ومدح الفرسان والأبطال، والشكوى من الزمان وأهله أي من الظلم والحرمان، والسياسة ولكن بطريقة ساخرة أحيانا. وفيه يجد الباحث ألوانا من وصف الطبيعة والحب والحكمة والمغامرات والصيد، والمدح والفخر. وقد شاركت كل جهات الوطن في هذا اللون من التعبير. وكان الشعر البدوي صافيا من تأثير الثقافة الفرنسية، ولكن شعر المدن قد تأثر بها، ويظهر ذلك في كثرة الكلمات الأجنبية المعربة. ولا يعني وجود تلك الأغراض كلها في الشعر الشعبي أننا سنتناولها جميعا هنا. فنحن سنكتفي بوضع التصنيف التالي لهذه الفقرة. سنشير إلى بعض الدراسات التي درست الشعر الشعبي وأغراضه ولغته وتأثيره وصلته بالحياة العامة. ثم نتناول المجامع الشعرية سواء ظهرت في شكل دواوين أو في شكل نماذج في المجلات، كما أننا سنتتبع ردود فعل الشعراء الشعبيين عن الأحداث التي جرت في البلاد مثل الثورات والتشريعات والزيارات وكيف وصفوها. ومن خلالها سنتعرف على بعض هؤلاء الشعراء وأبطالهم من الفرسان المنتصرين أو المنهزمين. وقبل أن يدرس الجزائريون الشعر الشعبي اهتم به العلماء الفرنسيون منذ الاحتلال لأنه في نظرهم يعبر عن حقيقة الروح الجزائرية المقاومة لاحتلالهم. وقد حاربت السلطة الفرنسية المداحين أو القوالين، وراقبت نشاطهم لأنهم كانوا نقلة هذا الشعر ومروجيه، وكان معظمهم من الشعراء المرتجلين، وأخذ بعض الضباط المستعربين يحللون نصوص الشعر الشعبي الصوفي لغموضه عندهم ولاحتوائه على رموز وتلميحات تاريخية وسياسية

معادية للفرنسيين. فالعناية بالشعر الشعبي في القرن الماضي كانت لأغراض سياسية في أغلب الأحوال. ثم أخذ المستشرقون يدرسون هذا الشعر باعتباره مصدرا اجتماعيا ولغويا وإثنيا. ومن الذين برزوا في ذلك رينيه باصيه وتلميذاه الإسكندر جولي وجوزيف ديبارمي. ومن تلاميذه الجزائريين محمد بن شنب الذي نشر وترجم بعض شعر محمد بن إسماعيل عن حرب القرم وأشعارا أخرى لابن مسايب وغيره. ثم جاء محمد صوالح فنشر شعرا لمصطفى ثابتي عن وضع الجنود الجزائريين في الحرب العالمية الأولى عندما جندوا ونقلوا إلى أوروبا. ومن جهة أخرى كان لويس رين ودومينيك لوسياني قد اهتما بالشعر الزواوي الذي قيل في ثورة 1871، وقد نشر كل منهما نماذج من ذلك، بعضه لإسماعيل ازيكيو، وبعضه لمحمد بن محمد (محند أو محند)، وبعضه لمجهولين (¬1). ولقد اهتم جولي بالشعر الشعبي في الجنوب: مناطق الحضنة والأغواط وتيارت وبسكرة وعين الصفراء. وكان قد حصل على منحة لجمع ودراسة هذا الشعر. وقد استعان على ذلك ببعض الجزائريين، مثل غيره، فكان القاضي عبد الرزاق الأشرف من المساعدين له في جمع المادة وتحليلها لغويا وفهم معاني الشاعر. أما جولي فكان له حظ الترجمة والتصنيف والتعليق. وكذلك استعان لوسياني في ترجمته لنماذج الشعر الزواوي بالشيخ محمد السعيد بن زكرى. وأما ديبارمي فقد (تخصص) في الأدب الشعبي عموما، ومنه الشعر، في منطقة متيجة، بما في ذلك البليدة والمدية وأوطان الحجوط والخشنة والقليعة وبودواو ويسر. وقد ترجم قصصا وأشعارا كثيرة حصل عليها من بعض (الطلبة) والفلاحين المتصلين بالأوروبيين في المنطقة. وكان ديبارمي يحسن قراءة أفكار الشعراء إلى درجة المبالغة أحيانا. فكان يستخرج منهم المعاني الظاهرة والباطنة في نظره ويربط ذلك بالوقائع والواقع. ¬

_ (¬1) عما نشره رين (وهو ضابط) انظر كتابه (انتفاضة 1871). أما ما نشره لوسيانى فتجده فى المجلة الإفريقية، 1899. انظر لاحقا. وكان لوسيانى مسؤولا عن إدارة الشؤون الأهلية.

وقام سعد الدين بن شنب أوائل الخمسينات بدراسة للأدب الشعبي، ولكنه كاد يقصر اهتمامه على الشعر. وقد نجح في رصد أغراض هذا الشعر وتناول حياة بعض الشعراء. ورأى أن الموضوع الخالد في هذا الشعر هو الحب، ولكن الشعراء تناولوا أيضا الدين والتوسلات بالرسول (صلى الله عليه وسلم) والأولياء، والفروسية والصيد والبطولات والتغني بالطبيعة وجمال الريف، إلى جانب النصائح والحكم والرثاء والفرح والتعاسة والشكوى من الدهر. ومن الشعراء الذين أشار إليهم، عبد الله بن قريو الأغواطي (ت. 1921) الذي تغنى بامرأة أحبها، وكانت الأخلاق الاجتماعية لا تسمح بإعلان ذلك. فاكتفى بالتغني بالجمال والشكوى قائلا: (أشكو إليك يا قاضي الحب). ومنهم محمد العنقاء (و. 1907) الذي تغنى أيضا بالحب وزمز للمحبوبة بالحمام الذي طار من يديه. وكان عبد الرحمن الأعلى من هؤلاء الشعراء الذين تناولوا الجانب الاجتماعي ووصفوا شقاء الناس ونادوا بفعل الخير والإحسان. وأما رابح بن الطاهر (¬1) الصحراوي فقد امتلأ قلبه بحب الطبيعة وابتهج بالجمال في الصحراء ولكنه أيضا تناول مواضيع الحزن والغربة، وصور مشاعر شاب اغترب عن أمه في فرنسا ومأساة البطالة وطلب العمل في البلد الأجنبي. وبالإضافة إلى هؤلاء الشعراء ذكر سعد الدين بن شنب، سيدي ابن عمر الذي تميز بالشعر الديني ومدح الرسول (صلى الله عليه وسلم)، والحنين إلى مكة والمدينة والرغبة في العيش في أرض الإسلام. وهو الشعر الذي يحبه الرأي العام ولا سيما في المناسبات الدينية. وكان عبد الرحمن عزيز قد تولى غناء هذا النوع من الشعر. وأدى الشاعر عيسى بن علال الشملالي فريضة الحج وركب البحر فصور هذه التجربة الفريدة عنده، وهي الحج والبحر. وامتاز الشاعر محمد عبابسة (ت. 1953) بشعر الحكمة والمثل، وتقديم المواعظ والنصائح الفلسفية. وكانت قصائده يتغنى بها المنشدون. وأثناء الأحداث الكبيرة ¬

_ (¬1) كذا مكتوب، ولعل له صلة بالشاعر محمد بن الطاهر المازوزني البوزيدي الذي ذكره الشاعر عاشور الخنقي في ديوانه (منار الإشراف) 1914، ودارت بينهما مراسلة سنة 1896.

يسارع الشعراء الشعبيون إلى تصوير الحدث ومشاركة المجتمع والارتفاع إلى أسمى درجات الشعور الإنساني، كما حدث أثناء زلزال الأصنام وثورة نوفمبر. وقد ذكر ابن شنب أن هناك حوالي مائة شاعر شعبي (¬1). ... ولنذكر الآن بعض الدواوين والمجامع في الشعر الشعبي، وهو الذي يسميه البعض بالزجل والملحون، ويسميه بعض المشارقة بالشعر النبطي. 1 - كنوز الأنهار والبحور في ديوان السر والنور: وهو (ديوان قدور بن أحمد بن قدور بن عاشور الندرومي). ظهر منه الجزء الأول في وجدة على أنه سيتبع بأجزاء أخرى. والشاعر من مواليد ندرومة. وكانت سنة ميلاده 1280 هـ (1863) تقريبا. وقيل إن للمؤلف ترجمة في الكتاب، وإنه هو حفيد قدور بن عاشور الذي كان خليفة لباي وهران (مخزن؟) في ناحية ندرومة. وكان الشاعر قد حفظ القرآن الكريم ثم تركه إلى الموسيقى حتى بلغ فيها درجة عالية. ثم أصبح من خدمة بعض الصالحين، كأحمد البجائي الذي تعلم منه نظم الشعر، ومصطفى بن عمرو الذي أدخله في رحاب التصوف، وقيل إن قدور غرق في عالم التصوف بعد وفاة شيخه المذكور حتى (أدرك الغوثانية العظمى (؟)) (¬2). 2 - الكنز المكنون في الشعر الملحون: تأليف محمد قاضي. وهو مجموع ظهر سنة 1928. وقد ضم أشعارا شعبية قديمة وحديثة، في الحكمة والمواعظ والوصف والتوسل. فمن القديم قصيدة ابن مسايب التلمساني في التأسف على أحوال تلمسان (ت. 1766) وقد استعمل البعض شعره ضد الفرنسيين أيضا. وهناك شعر يمجد أشراف غريس كتبه السيد عدة التحلايتي. ¬

_ (¬1) سعد الدين بن شنب (الأدب الشعبي) في (مدخل إلى الجزائر)، 1955، ص 301 - 308. (¬2) من علي أمقران السحنوني. وقد ذكر أن الديوان المذكور يضم صورة للشاعر، وأن الطبع كان في وجدة، دون تاريخ، ويضم 114 صفحة.

وطالما ألف المؤلفون حول أشراف غريس، ولكن دخول الشعر الشعبي هذا الميدان أمر يلفت النظر. وقد اتخذ الشعراء مسألة الأشراف حجة للبكاء على الماضي وضياع المدن وضعف الدين وتدخل الفرنسيين في الحياة الخاصة للمسلمين كفرض الضرائب، ويسمونها (المغارم). والغرايم. والشعراء يوجهون خطابهم (للمسلمين)، كما نقول اليوم (أيها الشعب). وهذا الشيخ ابن عثمان يتأسف على أن الأوضاع قد انقلبت مع الاحتلال الفرنسي فتقدم الوضيع على الشريف، وامتاز النحاس على الذهب، معتبرا ذلك من عجائب الزمان. وقد ذهب ديبارمي الذي راجع (الكنز المكنون) عند ظهوره إلى أن هذه الأفكار موجودة عند أهل الزوايا الذين يكنون بغضا شديدا للفرنسيين ويستعملون التقية ضدهم. والظاهر أنه لا صلة بين مؤلف الكنز المكنون والعقيد الذي حمل الهدية الفرنسية إلى الشريف حسين بالحجاز سنة 1916، رغم أنهما متعاصران. وكلاهما يلقب (قاضي) (¬1)، وقد نوه محمد قاضي في الكنز بمكانة العرب في الشعر قاتلا إنه عندهم سجية، سواء منهم المتعلم والأمي، والعرب هم الشعب الوحيد الذي ينظم مبادئ العلوم شعرا، رجزا وغيره، كنظم المتون النحوية والفقهية والطبية، ونحوها. لأن النظم عندهم سليقة. وافتخر المؤلف بالآباء والأجداد في هذا المجال، ولمح إلى أن الفرنسيين قد حاربوا اللغة الفصحى التي هي الأصل في النظم، ولكن الجزائريين لم يتوقفوا عن النظم فقالوا الشعر الملحون غير المتقيد بالقواعد النحوية والعروضية. ونصح باتباع السلف في ذلك، وشكر الله الذي (أكرم وطن إفريقية بشعراء عظام من فحول العرب (الذين) تركوا لنا كلاما نفيسا يجد القارئ فيه الفصاحة والبلاغة والحكمة). وكان دافعه على التأليف هو الخشية من ضياع الشعر الملحون وتلاشيه من الجزائر. لأن الجيل الجديد غير مهتم به ولأن الشعر نفسه قد أصابه ¬

_ (¬1) عن العقيد قاضي انظر فصل المشارق والمغارب وفصل التاريخ والرحلات.

الإهمال، فأصبح مجهولا عند الكثير من الناس. وهكذا فإن جمعه للقصائد وتقديمها للطبع كان بدافع الرغبة في حفظها وانتفاع الجزائريين (المسلمين) بها، والتذكير بالأسلاف الأطهار، والإطلاع على أعمالهم وعصرهم وإنجازاتهم، فلعل الجيل الجديد على التشبه بهم. وهكذا فإن رسالة محمد قاضي تبدو (وطنية)، فهو يخاطب المعاصرين الذين ابتعدوا عن أسلافهم ويدعوهم إلى الرجوع إلى مآثرهم عن طريق الشعر الملحون، وهو الوسيلة الوحيدة الباقية من تراثهم الأدبي. ولكن محمد قاضي أخذ يحث الناس أيضا على الصبر على الشدائد والمحن، وعدم العجلة التي فيها الندامة، ووجوب طاعة الرؤساء وذوي السلطان (وهم الفرنسيون) امتثالا، لقول العرب (إدفع حق السلطنة وارقد بالباب) وقولهم: (جانب السلطان واحذر بطشه). ونصح الناس باتباع سياسة اللين حتى مع العدو (كيف يسوس العدو حتى يرجعه حبيبا، ويتلاطف مع الحبيب ويغفر له عثراته ...) ثم أضاف: (ومن كان بقرية أجنبية فلا يتداخل في أمور أهلها ولا يجعل منهم عدوا، ويعرف مقامه مقام الأجنبي، ولو بلغ ما بلغ). وعاتب من كان ينظر إلى الأجنبي على أنه لا فائدة منه، ذلك أن المؤلف يرى أن في الأجنبي فوائد عظيمة. ومن غريب قوله إن (الأرض (الجزائر؟) ليست هي لمخلوق ... وإذا نظرنا المسألة على الوجه الشرعي فنجدها للدولة الفرنساوية من حيث أخذتها عنوة، كما كانت لأسلافنا في السابق). وإذا كان الإنسان ضعيفا، فعليه في نظر المؤلف، أن لا يعاند القوي ولو ظلمه (¬1)!. إن محمد قاضي قد استعمل لغة الرموز في معالجة الوضع بالجزائر سنة 1928، وهي فترة الاستعداد للاحتفال المئوي بالاحتلال، وبداية الصحوة الوطنية. ولعله تأثر بالشعر الملحون نفسه، لأن الشعراء قالوه بطريقة رمزية ¬

_ (¬1) محمد قاضي (الكنز المكنون في الشعر الملحون)، ط. الثعالبية، الجزائر، 1928. وجاء في الغلاف أن المؤلف كان المحامي الشرعي بتيارت.

أيضا في ظروف كانت عادة صعبة، وهو الأمر الذي جعل ديبارمي يحكم بأن رجال التصوف وشعراء الملحون كانوا يستعملون التقية. والشعراء الشعبيون اعتبروا التجنس بالجنسية الفرنسية خروجا عن الدين الإسلامي، ووصموا المتجنسين بلقب (المطورنين) أي المرتدين. ورثى الشعراء حالة الجزائر في العهد الفرنسي وتأسفوا من التأثير الفرنسي في الحياة الاجتماعية. ومن هؤلاء الشاعر قدور بن خليفة الذي قيل إنه كان من جنود الأمير عبد القادر، وكان أميا، ولكنه تمتع بموهبة شعرية جعلت شعره يخلد بين 1867 و 1910. وكان شعره يتناول الجوانب الاجتماعية التي ذكرناها ومدى التأثير المعنوي الفرنسي. وقال ديبارمي إن تأثير شعره بقي قويا إلى سنة 1910، إذ وجد من شعره نسخة في البليدة أوائل هذا القرن. ويرى ديبارمي أن التأسف على الماضي عند الشعراء يوحي لهم بالتحرر مستقبلا ويشجعهم على ذلك. ومن شعراء الأمير أيضا، الطاهر بن حواء، وله شعر في كتاب الكنز المكنون، ولكننا سنذكره أيضا عند حديثنا على من ناصر ومن عارض الأمير من الشعراء. وكان رثاء الجزائر من الموضوعات الشائعة لدى شعراء القرن الماضي، ومنهم ابن البقال (السقال؟) التلمساني، الذي ذاع شعره، حسب ديبارمي، في مختلف أنحاء البلاد، وقد جمع منه ديبارمي مجموعة سنة 1917 بالبليدة (¬1). 3 - قراءات مختارة لتعليم العربية الدارجة (¬2): جمعها عبد الرحمن (؟) الذي كان أستاذا بثانوية (ليسيه) وهران. وقد ذكر كور أن المجموعة قد ضمت جزءا من قصيدة قدور بن محمد البرجي المعروف بو نقاب، وكان قد ¬

_ (¬1) جوزيف ديبارمي (ردود الفعل الوطنية في الجزائر) في (المجلة الجغرافية للجزائر وشمال افريقية) SGAAN، 1933، ص 35 - 54. وعن محمد قاضي نعرف أنه كان سنة 1918 كاتبا بالمكتب العربي بوجدة (المغرب)، انظر كور (الشعر الشعبي السياسي في عهد الأمير) في (المجلة الإفريقية)، 1918، ص 486، ثم أصبح محاميا شرعيا في تيهرت (تيارت) سنة 1928. (¬2) ط. جوردان، 1906.

هجا بها الأمير ثم طلب العفو منه. وهي القصيدة التي نشرها كور كاملة، بعد ذلك، كما سنرى. 4 - الشعر الشعبي السياسي في عهد الأمير عبد القادر: مجموعة نشرها أوغست كور سنة 1918. وقد اشتملت على قصائد قدور البرجي (بونقاب) سابق الذكر والطاهر بن حوا الذي ناصر الأمير. وذكر كور أنه جمع قصائد بونقاب من تلاميذه الجزائريين، أثناء وجوده في مدرسة تلمسان سنة 1912. وقد استعان أيضا بالعلماء والطلبة لترجمة النصوص والحصول على المعلومات، منهم سي محمد الستوتي الذي كان حارسا لملجإ العجزة بتلمسان، وسي محمد قاضي الذي كان كاتبا بالمكتب العربي بوجدة، والذي أصدر فيما بعد كتاب (الكنز المكنون)، ثم سي البها الحاج رحو المجاجي. ونعني بالشعر السياسي ذلك النوع الذي وقف من الأمير موقفا مؤيدا أو معارضا. وكان التأييد على أساس ديني وعائلي وقبلي ووطني، وكذلك كانت المعارضة، غير أن المعارضين، بمن فيهم الشعراء، كانوا معتزين بالانتماء القبلي والرفعة الاجتماعية، لأنهم غالبا ما كانوا من الأجواد المخازنية أصحاب السيف والبارود والجاه والسلطان، ولم يألفوا حكم رجل الدين والطرق الصوفية كما كان عليه حال الأمير. فكان قادة الأجواد قد رفضوا الأمير على أنه ابن شيخ زاوية وليس من المحاربين المخازنية، وكان وراء المعارضين رجال مشهورون أمثال سيدي لعريبي البرجي، والغماري، زعيم قبيلة أنجاد، ومصطفى بن إسماعيل، زعيم الدوائر والزمالة. وكانت سمعة سيدي العريبي تشمل المنطقة بين الشلف ومستغانم. ولكن الأمير حارب سيدي لعريبي والبرجية 1843، ومصطفى بن إسماعيل، لأن الدوائر والزمالة وقعوا اتفاقا خاصا مع الفرنسيين ضده سنة 1835. وكان الشاعر قدور بن محمد البرجي (بونقاب) قائدا، على البرجية فعزله الأمير لأنه ساند سيدي لعريبي ضده. وكانت موهبته الشعرية عظيمة. فأخذ يهجو الأمير ويعلن خصومته، فسخر من الأصل الاجتماعي للأمير ومن عائلته

وكونه ابن زاوية وحضريا وتساءل: هل رأيتم أبدا سلطانا خرج من زاوية؟ وهل رأيتم أبدا حضريا أصبح قائدا للعرب؟. وقد كان الشاعر بونقاب يعتقد أن المسألة اجتماعية. وكان خصمه السياسي في القيادة هو الحبيب بوعالم. وقد أرادت الدوائر والزمالة ذات يوم أن تجعل من الشاعر قدور بونقاب لسان حالها كما كان ابن السويكت شاعر الامحال في الماضي. وكان الاعتقاد القبلي لا ينظر إلى الفرنسيين على أنهم هم الأعداء للجميع، وإنما ينظر إلى النزاع نظرة اجتماعية وسلطة دنيوية. فكأن القبائل عندئذ كانت في عهد الجاهلية، فكانت كل قبيلة تبحث عن شاعر ينافح عنها وتتغنى به. وهكذا دعت قبيلة الدوائر الشاعر قدور البرجي إلى مأدبة وحاولوا ضمه إليهم. وبعد تناول الطعام قالوا له إنهم جميعا أقسموا على أن تكون أنت بمثابة ابن السويكت لنا، فتنظم الشعر باسمنا. فاعتذر إليهم في البداية. وفسر كور ذلك الاعتذار بأنه قد يكون راجعا إلى كون الدوائر قد تحالفوا مع الفرنسيين (النصارى) أو لأن الشاعر كان خائفا من عقاب الأمير. ولذلك سجنه الأمير فترة لموقفه المعادي له، ثم تدخل أصدقاء الشاعر لصالحه فأطلق الأمير سراحه، ولكنه أبقى عائلته تحت المراقبة. ثم تدخل الشاعر نفسه وأصدقاؤه من جديد لكي يسرح الأمير العائلة فأبى. وأثناء ذلك نظم قدور البرجي قصيدته المشهورة: عييت صابر ونراعي فيك الانتصال ... يا قريب الضحكة وبعيد في رضاك ما سمعت ولا شفت القصى كقصاك وفي هذه القصيدة كرر للأمير طلب العفو عنه وإطلاق سراح أهله. وقد انتشر شعر قدور في عهد الأمير، وكان يخشى على نفسه فهرب واختفى. وقد قيل إنه استسلم للأمير، رغم أن كور ينفي ذلك، ربما عن رواية كبار الناحية. وظل الشاعر على حاله إلى أن أدركه التعب والكبر والموت. ولكن شعره ظل محفوظا في نواحي وهران، كما يقول كور. أما الشاعر الرسمى للأمير فهو الطاهر بن حوا. وقد كان الأمير شاعرا

وفارسا، وكان يقدر الشعر ويعرف قيمته الدينية والإعلامية (الدعوة). وكان الأمير يعرف ما كان للشعر من دور في عهد الرسول (صلى الله عليه وسلم) والصحابة، ويذكر قصيدة (بانت سعاد) ودور حسان بن ثابت في الدفاع عن الإسلام ورسوله. ولذلك قرب الأمير منه الطاهر بن حوا وأغراه بخدمة جهاده كما خدم حسان وعبد الله بن رواحة الدعوة الإسلامية. وقد تصدى ابن حوا لخصوم الأمير، ولم يكن شاعر قبيلة وإنما كان شاعر جهاد وأمير وفكرة. ومن شعره الذي مدح فيه الأمير ودعا له بالنصر على أعدائه، قوله: يا من درى شي من يوم سلطاني مبارك ... ممزوج بالمسرات والرضا مبروك بلى تجد واللي تريد يجمع شملك ... ويدير ليك مولاك في المضيق سلوك (¬1) وحوالي مدار هذا القرن جمع الإسكندر جولي مجموعة من الشعر الشعبي وسماها (ملاحظات على الشعر العصري عند البدو الجزائريين). وكان جولي قد رافق بعثة (فلامان) نحو الجنوب سنة 9 189. فجمع أشعارا عديدة أثناء رحلته إلى عين صالح. وقد حضر بعض السهرات، ونقل من أفواه الكبار. ثم رتب ذلك الشعر وصنفه. وفي نظره أن شعر الجنوب البدوي يختلف عن الشعر الحضري في الشمال من عدة وجوه. وقام الإسكندر جولي بدراسة فنية ونوعية أيضا للشعر الشعبي في الجنوب. وذكر منه هذه الأنواع: الزغوية، والنم (بكسر النون)، والمدح، والقول (بضم القاف المعقودة)، والهجوة، والقطاعة (بشد الطاء) وهي أغنية الطريق أو الحداء، والعيدي وهو شعر الحرب والأعراش، والغناء وهو الشعر المرفوق بصوت آلة الطرب. وقال جولي إن هذا النوع الأخير نادر عند البدو ولكنه شائع عند أهل الحضر. وعرف (القول) بأنه شعر قصير ينشد بتنغيم موقع وهو ليس غناء حقيقيا. أما الهجوة فهي الهجاء المعروف في الشعر الثري. ¬

_ (¬1) كور (الشعر السياسي الشعبي في زمن الأمير عبد القادر) في (المجلة الإفريقية)، 1918، ص 458 - 493.

ومن شعر (القول) جاء جولي بنموذج لسي ابن حرز الله، وهو من الحرازلة، وهم قبيلة كبيرة من الأرباع، قرب الأغواط. وهو شعر بسيط وطبيعي يتماشى مع ما فرضته الطبيعة والمناخ الصحراوي. وهو يمثل الذوق العربي البدوي. أما (النم) فهو المناجاة أو حديث النفس والغنائي الذاتي بصوت منخفض كشعر الحب. وجاء جولي بنموذج منه لبوزيان،. وهو شاعر من أولاد يعقوب الزرارة بجبل عمور، وهم فرقة من أولاد فاطمة. كما أورد نموذجا من شعر (القطاعة)، وهو نوع من الزغوية أو غناء الطريق - الحداء -، وهو شعر يرتجله الشعراء في الغالب للتغلب على طول الطريق. أما الموضوع فهو دائما قصة عن الرحلة التي ترد فيها أسماء الأماكن. وقد أورد جولي نموذجا للقطاعة من شعر سي بوزيد بلحاج بلقاسم، وهو من قصر سيدي بوزيد عند جبل عمور أيضا (¬1). وفي وقت لاحق جمع جولي أيضا قصائد من نفس المنطقة لشعراء آخرين. ففي حوالي 1900 جمع من فم باعفو بن سليمان شعرا من 14 بيتا لشاعر مجهول. ومكان جمعها هو الوادي الأحمر قرب حاسي المطقوين، جنوب الأغواط. وابن سليمان كان من الشعانبة القبالة، ويفهم من النص أن الشاعر نفسه من ناحية ورقلة والصحراء الشرقية، ذلك أنه يرد في شعره رحيل البطلة إلى توزر، وهو الرحيل الذي أثار أشواق الشاعر. وتبدأ القصيدة هكذا: أملاح الناس اللي بي ... ساكنين السد الوعر طاعنين الأوطان القبلية ... ناس فاطنة زهو الخاطر نفضت دماغي الزيدية ... حبها على قلبي جوار (¬2) ¬

_ (¬1) الإسكندر جولي (ملاحظات على الشعر العصري عند البدو الجزائريين) في (المجلة الإفريقية)، في حلقات، الأولى سنة 1900، ص 283 - 311. (¬2) أ. جولي (ملاحظات ...)، مرجع سابق 1903، ص 171 - 178. وفيه النص والترجمة الفرنسية والتعليق. وفاطنة هي فاطمة في بعض اللهجات.

ومن نواحي طاقين قدم المغني صفراني قصيدة طويلة وشهيرة جدا في وقتها في الجنوب الغربي. أما ناظمها فهو دحمان بن معاوز، أصله من ستيتن، جنوب وهران. غير أن هناك من قال إنها من نظم وليد محمد، من معسكر. ورأى جولي أن للقصيدة عدة صيغ مما يدل على أنها قد تكون منحدرة من أصل واحد قديم ولكنه ضاع. ولم ينته هو (جولي) إلى رأي أخير في ذلك. وبداية هذه القصيدة: يا مرقوم الريش اسعاني ... حشمتك اد عنواني خفق بجناحين (¬1) ونظل في شعر الجنوب لنقول إن المجلة الإفريقية قد نشرت ثلاث قصائد للشاعر الأغواطي عبد الله بن كريو (قريو) مع ترجمة فرنسية وتعاليق. ورغم أن اسم المترجم غير مذكور فإنه من المرجح أن يكون هو نفسه الاسكندر جولي الذي سبق ذكره والذي اهتم، كما أشرنا، بهذا اللون من الشعر. وفي هذا الشعر يذكر الشاعر عددا من الأولياء والصالحين أمثال الحاج عيسى الأغواطي، وأحمد التجاني، وأحمد بن يوسف الملياني. ومحمد بن عودة الغيليزاني، ومحمد البركاني (المدية - شرشال)، ثم عبد القادر الجيلاني. وبداية القصيدة الأولى هي: لا تقنط يا خاطري سعف الأقدار ... تماهل لمصايب الدهر الفاني وبداية الثانية: يا لايم في محنتي ما فاد اللوم ... ما دركك شي ذا العزام ومشعاله وأما الثالثة فبدايتها: ¬

_ (¬1) نفس المصدر، ص 178 - 194. وفي 1909 نشر جولي أيضا في (المجلة الإفريقية) (سجل الأغاني لمدينة الجزائر ونواحيها). وجاء بنماذج من الشعر الغنائي الأندلسي مطبقا على أنغام العاصمة مثل انقلاب صيكة، ومصدر مجنبة، وبطيح رصد، وانصراف حسين، ودرج حسين، وصياح. وذكر جولي اسمي المغنيتين عندئذ وهما عائشة ويامنة.

قمر الليل خوالفي تتونس بيه ... نلقى فيه أوصاف يرضاهم بالي (¬1) وهناك شعر يعزى إلى الحاج عيسى الأغواطي، وهو، حسب التقاليد الشعبية، من الصالحين والأشراف، ومتوفى قبل الاحتلال. ولكن تأثيره ظل قويا بعده. وهذا الشعر عبارة عن قصيدة في الصيد بالصقر. والنص بالعربية والترجمة الفرنسية بدون تعاليق، وقد نشره المترجم القضائي في قصر البخاري عندئذ (1908)، السيد سيدون. ويبدأ النص هكذا: نحوا مهامزي وتماقي عيانا ... واليوم يوم تعبة يا بو كلتوم صبحوا مراكزي بسبوعة نيانا ... يتخازروا براني بصدور نجوم (¬2) وقد اشتهر محمد بن قيطون البوزيدي بنظم الشعر أيضا. وما تزال قصيدته (حيزية) شائعة إلى اليوم، وهي مأساة إنسانية قبل أن تكون قصة حب عذري. ولا بد أن تكون هناك ترجمة وافية لابن قيطون، ولم نطلع عليها. وممن ذكره وعاصره وراسله الشيخ عاشور الخنقي. فقد ذكر سنة 1896 أنه تلقى منه قصيدة (أو أرجوزة) مدحه فيها على انتصاره للأشراف. ولم يذكر عاشور هذه القصيدة، لنعرف هل هي فصيحة أو زجلية. وقد وجدنا في أحد المصادر أن محمد بن قيطون نظم قصيدة (حيزية) سنة 1295 هـ (1878) وهو تاريخ مذكور في آخر القصيدة نفسها. وسواء كان ابن قيطون هو البطل أو هو فقط الشاعر الذي أحسن تمثيل القصة (وهذا هو الراجح)، فإنه قد نجح غاية النجاح في تصوير العاطفة التي طبعت علاقات البطل سعيد بالبطلة حيزية. وقد ترجمت القصيدة إلى الفرنسية ثم إلى الإنكليزية ونشرت في طبعة ثانية سنة 1901 (¬3). ومطلعها: ¬

_ (¬1) مجهول (المجلة الإفريقية)، 19، ص 285 - 307 مع النصوص والترجمة. (¬2) سيدون (أنشودة معزوة إلى الحاج عيسى الأغواطي) في (المجلة الإفريقية)، 1908، ص 272 - 294. والقصيدة في نحو عشرين بيتا. (¬3) نشرت بالإنكليزة ضمن مجموعة الأدب المغاربي The Moorish literature ترجمة سونيك وآخر، ط. جديدة، نيويورك، 1901، ص 187 - 194.

عزوني يا ملاح ... في زينة البنات (¬1) 5 - مجموعة الأشعار التارقية: وكان قد جمعها وترجمها الراهب شارل دي فوكو. وكان هذا قد أقام طويلا في الصحراء باحثا ومتجسسا ودارسا للأدب واللغة في الهقار، وبين توارق الشمال. وكان قد خدم في الجيش الفرنسي طويلا وتجول في المشرق العربي والإسلامي، ودخل جمعيات سرية عديدة. ومن أصدقائه المعروفين المارشال ليوتي، الذي احتل المغرب، وكان دي فوكو رفيقا له هناك أيضا. ثم استقر حوالي عشر سنوات في كهف بجبل الهقار حيث كان يترهب ويرصد حركة المرور ويجمع المعلومات للإدارة الفرنسية، إلى أن اغتيل سنة 1916 على يد ثوار الناحية. ويتهم الفرنسيون أنصار الطريقة السنوسية بتدبير اغتياله. جمع دي فوكو إذن الأشعار التارقية من الأفواه لأن التوارق لا يكتبون أشعارهم وإنما يحفظونها حفظا شأن قدماء العرب. وكانوا يرتجلون الشعر في الأسفار والأسمار شأن العرب أيضا. فهم شعراء بالطبيعة. ولهم شعر غزير في الحب والمغامرات والفروسية. والرجال حسب قول الدارسين أشعر من النساء عندهم. وشعرهم يغني وينشد في المناسبات وفي الطريق وفي الخلوات. وبعد اغتيال دي فوكو عثر الفرنسيون على المخطوط الذي كان يسجل فيه الأشعار التارقية، وقيل إنهم وجدوه بعد يومين من الحادث، ولم يصبه التلف. ورأوا أن أفضل من يعهدون إليه بالإشراف على المخطوط هو المستشرق رينيه باصيه، الذي سبق له دراسة لغة التمشق وخطوطها ولهجات التوارق. فكلف باصيه ابنه هنري بمتابعة العمل، لكن هذا توفي في المغرب سنة 1925 (أي بعد والده رينيه بسنة واحدة)، فواصل العمل أخوه اندري باصيه، وساعدته الحكومة العامة بالجزائر على إنجاز العمل الذي تركه دي فوكو. وبناء على المقدمة التي كتبها أندري باصيه للمجموعة فإنها لا تمثل ¬

_ (¬1) ومنذ 1862 ذكر دانيال سالفادور أنه جمع 400 أغنية في الحب والفخر والحرب، انظر ما كتبناه عن الموسيقى.

سوى الحد الأدنى من الأدب الشعبي التارقي الشمالي (أي توارق عين صالح ونواحيها)، وأخبر أن العمل سيتواصل بنشر مجلدات أخرى. ولا ندري إن كان العمل قد تواصل فعلا. ونلاحظ أن المجموعة لا تضم إلا النص الفرنسي لأن دي فوكو لم يسجل الشعر التارقي إلا بهذه اللغة (الفرنسية) بدعوى أنه جمعه من الأفواه. واعتبرت النصوص الأصلية التماشقية أو العربية ضائعة، ولا تحفظها إلا الحافظة الشعبية. وقد قال الفرنسيون عن التوارق أشياء عديدة، كما فعلوا مع غيرهم، كقولهم إن إسلامهم رقيق، وأنهم جوالة (¬1)، ومن المعروف أن بوعلام بالسائح قد ترجم مجموعة من الأشعار التارقية إلى العربية منذ سنوات، والغالب أنه ترجمها عن الفرنسية من مجموعة دي فوكو التي نحن بصددها. وقد نشر ذلك في إحدى المجلات الوطنية (¬2). 6 - مجموعة من الشعر القبائلي: جمعها ونشرها سعيد بوليفة سنة 1904. ومن ضمنها شعر لمحمد بن محمد (محند أو محند) (¬3). وهكذا حفظت من الضياع مجموعة من الشعر الشفوي. وقد قيل إن الشيخ محمد كان يرتجل الشعر أيضا ولا يكتبه. ولكننا نقول بغير ذلك، فقد كان رجلا متعلما بالطريقة التقليدية، فحفظ القرآن الكريم ودرس في زاوية عبد الرحمن اليلولي، ومن الأكيد أنه سجل أشعاره بالحروف العربية كما جرت عادة ¬

_ (¬1) لوهورو (ضابط) (الأدب الشعري عند توارق الهقار) في المجلة الجغرافية للجزائر وشمال افريقية SGAAN، 1925، ص 234 - 244. وقال هذا المصدر إن هدف دي فوكو كان إعداد موسوعة (انسيكلوبيديا) تارقية وإحياء اللغة التماشقية. عن دي فوكو انظر أيضا فصل الاستشراق. (¬2) بوعلام بالسائح، مجلة الثقافة، 198. (¬3) سنة 1960 جمع مولود معمري أيضا أشعار محند أو محند ونشرها في باريس. عن بوليفة انظر فصل اللغة والنثر الأدبي. وفي سنة 1913 نشر لاييه E. LAYER في مدينة روان الفرنسية مجموعة من الشعر الشعبي القبائلي. وفي سنة 1946 نشر جان عمروش في باريس، مجموعة من الأغاني البربرية للقبائل. انظر أيضا سعاد خضر (الأدب الجزائري المعاصر)، بيروت 1967، ص 64 - 78.

المتعلمين في زواوة. ولا تعنينا هنا سيرته الشخصية، إذ قيل إن التعسف الذي تعرض له أهل زواوة على يد الفرنسيين منذ 1857 (والشاعر من مواليد 1845)، والتشرد الذي تعرض له قد أديا إلى انحرافه. فقد كان عمره اثني عشرة سنة عندما وقعت معركة ايشريضن واحترقت المداشر والمزارع وقتل عشرات المسبلين واعتقلت فاطمة نسومر، وفي ثورة 1871 قتل والده، وهاجر أخوه إلى تونس. فعاش الشيخ محمد حياة المأساة الذاتية والشعبية. وتعرضت زواوة بعد ذلك للغزو الفرنسي الآخر، الغزو التنصيري على يد الآباء والأخوات البيض الذين أرسلهم الكاردينال لا فيجري. ثم الغزو اللغوي إذ بدأت منذ الثمانينات تظهر المدارس الفرنسية في المنطقة. ولكن الشيخ محمد كان من جيل آخر، فوجد نفسه في آخر القرن وقد فاته الركب وأصبح شيخا من الآخرين، وقد توفي سنة 1906. وشمل شعره مختلف الموضوعات، ومنها الحب والخيانة (¬1). 7 - ديوان مصطفى بن إبراهيم: وهو شاعر بني عامر، الذي عاش بين 1800 - 1867. وقد نسجت من حوله قصص كثيرة، نظرا للظرف الخاص الذي عاشه والوظائف التي تولاها، فهو لم يكن مجرد شاعر يتغنى بما يحلو له، ولكنه كان شاعرا مشاركا في الحياة العسكرية والسياسية والإدارية للبلاد. وقد وجده الاحتلال الفرنسي في ريعان شبابه، وكان قومه بنو عامر ممن ناصروا الأمير عبد القادر إلى آخر رمق. وكان الشاعر نفسه ممن حارب في صفوف الأمير، ولكنه لم يلبث أن خرج من الصف وقبل بوظيفة قايد على أولاد سليمان بإسم الفرنسيين. وبهذه الصفة كان عليه أن يصبح نصير عدوه السابق، ولو مكرها. فقد اعتقل الثائر بوسيف (محمد بن عبو) وسلمه إلى ¬

_ (¬1) عبد القادر جغلول (عناصر ثقافية)؟، 19، ص 143 - 147. وذكر عمار إيزلي في جريدة (الوجه الآخر) سبتمبر 1994، الحلقة السادسة أن الشيخ محمد بن محمد (محند) كتب أشعاره على إثر ثورة الشيخ الحداد، واعتبر الثورة مستمرة منذ 1857. وهو صاحب المقولة (نكسر ولا نعصر). وكان متأثرا بالصوفية الذين أشاعوا أن العالم سينتهي مع القرن الرابع الهجري ..

الفرنسيين سنة 1848. وشارك بنفسه في قمع ثورة أولاد سيدي الشيخ سنة 1864. وفي أثناء قيادته لجأ إلى المغرب، لسبب غير واضح، قد يكون سياسيا أو ماليا أو غراميا. وكانت قبيلته نفسها قد لجأت إلى المغرب في آخر عهد الأمير. وما يزال الكتاب يبحثون في الموقف السياسي لمصطفى بن إبراهيم بين الوطنية والخيانة. والواقع أن كان مثل العشرات من الأعيان الجزائريين الذين لم يدركوا الفرق بين القبيلة والوطنية، وبين مصلحة البلاد العامة ونوايا الفرنسيين الاستعمارية، وكانوا يعتقدون أن مصلحة الفرد قبل الجماعة ومصلحة القبيلة قبل الوطن، والدنيا قبل الدين. هذا من الناحية السياسية، أما من الناحية الأخلاقية فقد قيل عن مصطفى بن إبراهيم إنه كان منحرفا أشد الانحراف، ولعل هذا الانحراف الخلقي هو الذي أدى به إلى الانحراف السياسي أيضا. فكان على ما قيل، مدمنا على الخمر، وزيرا للنساء وخارجا عن الأعراف الاجتماعية. ولو عاش لشعره وفساده الأخلاقي لما استحق ربما ذلك الاهتمام السياسي ولعومل معاملة الشعراء الذين يهيمون في كل واحد ويلبسون مختلف الثياب. ولكنه ارتبط أيضا بالمقاومة وبقبيلة عتيدة مثل بني عامر. وقد نسبوا إليه أيضا الكرامات والخرافات، وصورة الإنسان (الكامل) التي لا تكتمل إلا بإضافة التصوف إلى إطارها. وكان فصيح القول واللسان، جوادا، معتزا بقبيله. وقد بقي يمثل الشاعر الفارس في صورته التي كانت للشعراء الفرسان في النصف الأول من القرن الماضي. أما شعره فقد بقي منقولا شفويا بين قومه وقبائل الجنوب الغربي، يتغنى به المغنون في الأسمار والحفلات. ثم قام عبد القادر عزة بجمع ديوانه. وكان نصف الديوان تقريبا قد سجله المنشدون من أهل الحضر وغنوه بالآلات الموسيقية، أو من أهل البادية الذين تغنوا به على آلة القصبة (¬1). ولا ¬

_ (¬1) جغلول (عناصر ثقافية) مرجع سابق، ص 153 - 156. بناء على هذا المرجع فإن عبد القادر عزة قد جمع ديوان الشاعر حوالي سنة 1980 (؟). وقد أورد جغلول نماذج من شعر مصطفى بن إبراهيم مترجمة إلى الفرنسية، ص 157 - 160.

ثورات وشعراء

ندري إن كان الديوان قد ضم كل شعره أم جزءا منه فقط. ومهما كان الأمر فإن شاعرا فارسا مثل مصطفى بن إبراهيم سيختلف الناس حوله نظرا للظرف الحساس الذي ظهر فيه ونظرا، للتناقض بين الوظائف التي تولاها وبين السيرة الذاتية التي عرفها الناس ورووها عنه. ثورات وشعراء تكاد كل ثورة يكون لها شعراؤها الشعبيون الذين يتغنون بأبطالها ويسجلون مآثرها. وكانت ثورة الزعاطشة (1849) أبرز الثورات بعد نهاية المقاومة الكبيرة على يد الأمير عبد القادر، وربما يمكن اعتبارها امتدادا لها. وكان زعيمها المعروف هو بوزيان (رغم أن الحاج موسى الدرقاوي كان إلى جانبه) وكان هناك آخرون بالطبع ممن ضربوا المثل في الفروسية والدفاع عن الواحة المعروفة بالزعاطشة إلى أن خربها الفرنسيون عن آخرها وقطعوا نخيلها. وقد نظم الشاعر الشعبي محمد بن عمر، وهو من واحة ليشانة القريبة من الزعاطشة قصيدة في مدح بوزيان قبل نهاية المعركة. وبعد أن انتهت وعلقت القيادة الفرنسية رأس بوزيان (ورأس ابنه ورأس الحاج موسى) على مدخل المعسكر، أنشد محمد بن عمر القصيدة في حفل قروي سنة 1851، فاعتقله الفرنسيون وسجنوه في بسكرة بهمة تهديد الأمن العام، مما يدل على تأثير الشعر واتساع ملحمة الزعاطشة. وربما غضب الفرنسيون من كون الشاعر قد شبه بوزيان بالمهدي المنتظر وتلقيبه (باي الصحراء). وكان الشاعر يعتقد أن الثوار كانوا مسلحين جيدا، فكانت بنادقهم وخناجرهم مرصعة وطويلة، كما قال إن بارودهم كان من النوع الإنكليزي. ولا ندري كم دام سجن الشاعر ولا ما العقوبات الأخرى التي نزلت به (¬1). ولا ننسى أن سنة 1851 كانت أيضا سنة انطلاق ثورة الشريف محمد بن عبد الله في الصحراء ¬

_ (¬1) جوليا كلنسي - سميث (ثائر وقديس)، بيركلي/ لندن، 1994، ص 120.

الشرقية (ورقلة، وتقرت، وسوف). وقد وصلت آثارها إلى منطقة الزيبان، كما كان بوبغلة ثائرا في زواوة. ولذلك فإن خوف الفرنسيين من تأثير هذا الشعر ربما كان في محله. وهناك شاعر آخر تغنى ببطولة بوزيان أيضا، واسمه علي بن الشرقي. فقد وصف كثرة جيش العدو (ويسميهم النصارى) الذي كان كالجراد. كما وصف نوع بارودهم ودقات طبولهم، وغبار المعركة التي دامت أكثر من خمسين يوما. وبناء على هذا الشاعر فإن سمعة بوزيان قد وصلت إلى تونس، بل وسمع به السلطان العثماني (¬1). وفي سنة 1864 حدثت ثورة أولاد سيدي الشيخ، فكان لها شعراؤها، ومن المعارك التي خلدها الشعر الشعبي معركة الشلالة في هذه السنة، وصاحب الشعر هو أحمد بن دالة العامري، وربما يكون من بني عامر الذين ساندوا الأمير عبد القادر. ولكن الشعر منظوم بعد عشرين سنة من الواقعة. فهل تأثر الشاعر بثورة بوعمامة التي كانت مرحلة أخرى فقط من مراحل ثورة أولاد سيدي الشيخ؟ ويعبر الشاعر عن المعركة بأنها (نهار الشلالة) المخلد في التاريخ (في الزمان معدود): يالحاضرين عاودوا الأخبار واشته صار ... على نهار الشلالة في الزمان معدود سعد النهار الشلالة خرجت المحلة ... جات ثم الخيالة ما بقي مجحود (¬2) وحدثت ثورة بوخنتاش في الحضنة سنة 1864. وقد حظيت بشعر سجل وقائعها وسيرة بطلها. ولكن الشاعر ظل مجهولا، وإنما تناقل الناس شعره ورددوه في الذكريات. وكان المداحون هم نقلة هذا الشعر ورواته لأنهم كانوا يحيون ذكرى الواقعة في الأسواق وغيرها ويريدون من السامعين أن يمجدوا مثلهم بطولات وجهاد الثائر وأصحابه. وكان بعض الشعراء يتجد الماضي والبطل، ولكن آخرين كانوا يسخطون على ما حدث، لأنهم كانوا ¬

_ (¬1) نفس المصدر، ص 121. (¬2) عمار أيزلي، جريدة (الوجه الآخر)، عدد 24 - 30، سبتمبر 1994، الحلقة 6.

يتوقعون النصر ولهم ثقة في البطل، فخاب ظنهم فيه. وقصيدة (يا راعي الملجوم) من الصنف الأول، ذلك الذي يمجد البطل وينعش الذكريات. وأولها: يا راعي الملجوم رضى امهل لي ... وعودك من الأبعاد جاء عرقه يقطر تعلمني ما صار في الحضنية ... فيما بين الناصرة وأولاد عمر خبر جاني مع النجوم الحق لي ... وحرمة الأبطال عامت على البر فتنة خفق أم حمام قعدت محكية ... يا معتاه نهار في جرام عمر (¬1) وفي سنة 1871 وقعت ثورة أخرى ابتدأت في البرج ثم عمت زواوة والبابور ومعظم الشرق والوسط. وقد درسناها في غير هذا. وكان من أبرز قادتها الحاج محمد المقراني وأخوه أحمد، ثم الشيخ محمد الحداد وابنه عبد العزيز. وقد تحالف خلالها رجال السيف ورجال الدين. فالمقراني كان يمثل الأجواد، والحداد كان يمثل المرابطين، وقد استجاب العامة لنداء الجهاد الذي أعلنه الشيخ الحداد باسم الطريقة الرحمانية. وكان الناس يعتقدون في التحرر الوشيك من الفرنسيين على أيدي هؤلاء القادة، ولكن حين فشلت الثورة وواجهوا القمع والاضطهاد تغيرت الأمزجة ووقعت خيبة الأمل. وقد ركز الرواة الفرنسيون على الجانب السلبي من هذا الشعر. وقدموا الشعراء على أنهم غضبوا من قادة الثورة لأنهم كانوا سيجعلون الحكم دينيا لو نجحوا، بينما الحكم الفرنسي غير الديني أقرب إلى طبيعتهم وأحب إلى نفوسهم!. هكذا زعم لويس رين الذي كتب عن تاريخ ثورة 1871، وكان أثناء نشره لهذا الشعر يشغل وظيفة خطيرة هي إدارة الشؤون الأهلية. وكان يقول لقومه إن شعراء زواوة يفضلون الحكم الفرنسي على الحكم (الثيوقراطي) ¬

_ (¬1) شارل فيرو (بنو جلاب) في (المجلة الإفريقية، 1886، ص 114 - 118. وهي قصيدة طويلة جاء فيها على ذكر محمد بوخنتاش الذي قتل مع مساعده المنصوري في هذه الثورة. انظر كتابنا الحركة الوطنية، ج 1. وكان أولاد عمر يقطنون الحضنة.

الذي كان سيبدأ من زاوية صدوق لو نجحت الثورة. ونحن نشك في هوية الشاعر الذي أورد له رين القصيدتين، أولا لأنه مجهول، ولم يذكر رين نفسه اسم الشاعر، وثانيا لأنه يقول إن القصيدتين قد أرسلتا إلى الحاكم العام الجديد عندئذ (وهو الأميرال ديقيدون) سنة 1872، أي عندما كانت الثورة في آخر نفسها. وذكر رين أيضا أن القصيدتين قريبتان مما نشره الجنرال هانوتو سنة 1867 في كتابه (قصائد شعبية لقبائل جرجرة). وكل ذلك يجعلنا نشك في صدق المعنى السياسي الذي أراد رين إضفاءه على القصيدتين. وما دام غرضنا هو الشعر نفسه وليس موضوعاته وصدقه أو كذبه، فلنذكر هنا بداية النص الذي أورده رين: أون يغران دت لجدول ... القوليو يد اعقر ابيغ جاحن لقبايل ... أروح ومل أذثا لكسر وبناء على رين فإن الشاعر وقف ضد أحمد بومزراق المقراني لأنه خدع الشعب، لذلك اعتبره الشاعر رجله مجنونا، واعتبر الشيخ الحداد قد ارتكب جريمة بدعوته للجهاد، فهو أيضا مفسد للدين بدل إصلاحه. وتحدث الشاعر كذلك عن حالة زواوة مع الفرنسيين وكيف كان خضوع الشيخ الحداد سببا في خضوع أهل الجبال (¬1). أما بالنسبة لإسماعيل الزيكي (أزيكيو) (¬2)، فإنا نجد أنفسنا أمام شاعر يتحدث عن ثورة 1871 بأسلوب آخر. فهو شاعر يمثل روح الزواويين حقا، في ثورتهم الآملة، وفي نهايتها الفاشلة، وفي تطلعاتهم الآجلة. لقد تقمص روح قومه. فذكر الأولياء والصالحين، والرسول وعبد القادر الجيلاني، ¬

_ (¬1) لويس رين (قصيدتان قبائليتان عن حرب 1871) في (المجلة الإفريقية) 1887، ص 55 - 71. ونحن نجد صدى هذه الفكرة عند الشيخ محمد السعد بن زكري، وكذلك عند الشيخ أبي يعلي الزواوي في أول أمره، إذ ذكر أنه عاتب أباه على ثورة 1871. انظر دراستنا عنه وعن مشروعه لتاريخ زواوة في أبحاث وآراء، ج 2. (¬2) من قبيلة بني زيكي ZIKKl، بمنطقة سباو الأعلى، بين بجاية وتيزي وزو.

وتمنى عليهم إنقاذ روحه يوم القيامة. وذكر أبطال الثورة من آل المقراني وآل الحداد وآل أوقاسي. ونحن نعرف أن الحاج محمد المقراني استشهد وهو يصلي، وأن أخاه أحمد قد قبض عليه في الصحراء وحوكم ونفي إلى كاليدونيا، وأن مصير الشيخ الحداد كان السجن حيث توفي، بينما مصير ابنه كان الأسر والمحاكمة ثم النفي إلى كاليدونيا. وكذلك حوكم ونفى كل من محمد أمقران أوقاسي (بن بلقاسم أو قاسي) باشاغا عمراوة، وابن عمه علي أوقاسي، نفي محمد أمقران أوقاسي إلى كاليودنيا أشباه ثم سمح له بالرجوع سنة 1879، وتوفي في الجزائر، وأما علي أوقاسي فبعد نفيه أيضا سنوات طويلة، سمح له سنة 1893 بالرجوع إلى الجزائر وكان ما يزال على قيد الحياة سنة 1899. وكان محمد السعيد من الشخصيات التي مجدها الشاعر، وهو ابن عم القايد علي أوقاسي. فقد شبهه بحصان الإمام علي، وكانت وفاة محمد السعيد محل شبهة عند الشاعر، فقد توفي في ثامدة سنة 1878، واتهم الشاعر الفرنسيين بوضع السم له. وبذلك غابت الشمس عن زواوة، حسب تعبير الشاعر. أما المقراني فقد نوه به الشاعر ومجده واعتبر قاتله من الجنود السكارى. واعتبر الشاعر إسماعيل الزيكي ثورة 1871 ثورة ضد الفرنسيين (النصارى)، وقد أدى فشلها إلى قمع شديد واضطهاد مثالي. وعوقب الأشخاص بالضرائب والغرائم والإعدام والنفي والسجن، وانتزعت الأراضي من أيدي العائلات سيما عائلات المقراني وأوقاسي، وأعطيت إلى مهاجري الألزاس من الفرنسيين. وشملت، حسب الشاعر، الأراضي الواقعة بين واد عايسي (بني عايسي) في تيزي وزو وزاوية ابن إدريس، وقد نزل على إثر ذلك الفقر بالناس. وحدثت أشياء غريبة، ومنها المجاعات، واستيلاء قضاة الصلح الفرنسيين على المحاكم الشرعية الإسلامية. وكان الشاعر مترددا أزاء موقف محمد السعيد بن علي الشريف من الثورة. وقد توفي ابن علي الشريف سنة 1897. وهكذا يكون الشاعر إسماعيل قد عاش ثورة 1871 بكل أبعادها. وإليك هذا النموذج من شعره:

إن ثورة 1871 قد أدت إلى إفلاسنا بل إنها قد هدت كياننا فيالساني لا تتوقف عن الإنشاد ترى ما أسباب التنازع؟ ولم يذكر لوسياني متى توفي الشاعر، وإنما قال إنه توفي منذ سنوات. ويبدو أن إسماعيل شاعر مكثر، وهو ما أكده لوسياني أيضا رواية عن الشيخ ابن زكري. ولكن أين شعره أو بالأحرى ديوانه؟ وهل كان موقفه السياسي سببا في إهمال شعره الكثير؟ (خلافا للشاعر محمد بن محمد). ولا ندري إن كان بوليفة قد أضاف أشعار إسماعيل إلى مجموعته من الشعر القبائلي سنة 1904. ومهما كان الأمر فإن لوسياني قد أخذ النصوص عن الشيخ محمد السعيد بن زكري كما ذكرنا، وكان ابن زكري إماما بمسجد سيدي رمضان بالعاصمة وأستاذا في مدرسة الجزائر الرسمية. ويقول لوسياني إن الشيخ ابن زكري قدم له النص الأصلي بالحروف العربية، وأكد له أصالة الشعر، وترجم له حياة الشاعر، وأعانه على الترجمة من الأصل إلى اللغة الفرنسية (¬1). وإذا كانت ثورة 1871 قد وجدت شاعرها في إسماعيل الزيكي، فإن ثورة 1881 قد وجدت شاعرها في محمد بلخير. وهذه هي المعروفة بثورة بوعمامة، حسب المصطلح التاريخي. وكان بوعمامة من ناحية البيض، ولد حوالي 1835 في قبيلة الرزيقات. وكانت ثقافته محلية وشفوية، ولعله عرف مدرسة الخيمة حيث القرآن وعلوم الدين. ولكنه تثقف من الحياة نفسها واستمد طاقته من التراث والتقاليد التي حوله. ومنطقة البيض عاشت عهد الرخاء والنعومة على عهد الخليفة حمزة، ثم عهد التقشف والثورات والمجاعات منذ الستينات حين جاء قانون الأرض 1863 ليقضي على (الارستقراطية العربية) ويحل محلها فئة اجتماعية صغيرة موالية للسلطة ¬

_ (¬1) دومينك لوسياني (قصائد قبائلية) في (المجلة الإفريقية)، 1899، القسم الأول، ص 17 - 33، والقسم الثاني، ص 142 - 171.

الفرنسية. وكان ذلك سببا من أسباب ثورة أولاد سيدي الشيخ سنة 1864. وما كان بوعمامة إلا واحدا منهم. وقد حافظ بلخير على ولائه للقبيلة رغم ذلك وظل يتغنى بالبداوة والحرية والفروسية، كما كان يتغنى بها ثوار أولاد سيدي الشيخ الذين يسميهم الفرنسيون أحيانا (أولاد حمزة). وقد مجد الشاعر بلخير بطولات الثوار واستغاث بعبد القادر بوسماحة (سيدي الشيخ) ليخلصه من محنته. ومن سوء حظ محمد بلخير أنه وقع في أسر العدو الذي نفاه إلى جزيرة كورسيكا حيث بقي حوالي عشر سنوات (1884 - 1894) غريبا عن الأهل والوطن. وطالما روض السجن الأسود. وكم قتلت قلعة (كالفي) وقلاع (سان مرغريت) وكاليدونيا وغيرها من أرواح جزائرية كانت متفائلة مبتسمة. وكم كان الفرنسيون يخشون من الشعراء ومن الثوار! ثم سمح له بالرجوع إلى وطنه والموت بين أهله سنة 1905 ولكن بعد أن تغير الحال به وببلاده (¬1). فقد احتل الفرنسيون مناطق الجنوب ومدوا السكة الحديدية وأسكنوا الكولون على أراضي أولاد سيدي الشيخ واستعملوا المحراث الآلي، فأصبح يشق صدر الأرض أمام أعين مالكيها السابقين. ولكن أشعار بلخير ظلت في فم المنشدين لأنها محفورة في الذاكرة الشعبية التي تتأتى على المحراث والقطار وغيرهما من المخترعات والمستوردات. وعرفت الجزائر شعراء ثورات آخرين، منهم بوديسة، شاعر وقائد ¬

_ (¬1) جغلول (عناصر ثقافية) مرجع سابق، ص 175 - 178. وذكر هذا المصدر أن بوعلام بالسائح نشر شعر محمد بلخير تحت عنوان (الراية الممنوعة)، باريس 1976 (هل ذلك قصيدة أو مجموعة شعرية؟). وذكر عمار إيزلي أن البشير ولد حمو كتب شعرا عن ثورة بوعمامة أيضا، ولكننا لا نعرف متى كان ذلك. وذكر له نموذجا يبدأ هكذا: لله أرجاني يا الفارس نسأل ... منى لا تجمد لا تدس كلمه اشتد اليوم إطراد لبطال ... رياس القوم أولاد بوعمامه انظر جريدة (الوجه الآخر)، سبتمبر 1994، الحلقة 6.

أولاد مختار، وهو أيضا فارس فخور بقومه الذين طالما دوخوا العدو في معارك مشهودة أيام الأمير عبد القادر، ثم أيام أولاد سيدي الشيخ، بنواحي قصر البخاري وجنوب المدية. ولكننا لا نعرف الآن الكثير عن الشاعر بوديسة، لأن شعره لم يجمع، حسب علمنا، من أفواه الحفاظ ولم ينشر (¬1). وفي الوقت الذي فشلت فيه الثورات ظهر صعاليك الأنفة والشرف من شعراء ومغامرين لكي يرفعوا التحدي ويأخذوا بالثأر في أشكال مختلفة. ونكاد نعد ناصر بن شهرة واحدا منهم، وكذلك بوشوشة. وكلاهما ملأ الصحراء دويا قرابة ثلاثة عقود. الأول منذ الخمسينات، والثاني منذ الستينات. ثم ظهرت بعدهما جماعة (المدقانات) التي برز فيها صعاليك من سوف والشعانبة والتوارق وأولاد سيدي الشيخ وغيرهم. وتصادف ظهورهم مع ثورة بوعمامة ومحاولات الفرنسيين التوغل في الصحراء عن طريق ما أسموه بالبعثات العلمية والاستكشافية. وهي بعثات كانت في الحقيقة للتجسس على الأهالي وجمع المعلومات قام بها ضباط وعلماء ورهبان. وقد درس الضابط ألفريد لوشاتلييه نشاط المدقانات لأنه كان عارفا بهم إذ كان مسؤول المكتب العربي في ورقلة في وقت نشاطهم. ثم درسهم لويس رين، وهو أيضا من الضباط المستعربين والعارفين بالحياة الجزائرية، كما أشرنا. وقد قال رين إن الشعانبة المتمردين الذين كانوا مخلصين لبوشوشة، شكلوا فرقا (عصابات) من النهابة - حسب وصفه - وأطلقوا عليها اسم المدقانات، وحصلوا بذلك على غنائم خيالية. وظلوا خلال عشر سنوات (1874 نهاية زعامة بوشوشة إلى 1883) يقطعون الطرق ويجوبون الصحراء من وادي درعة غربا إلى فزان شرقا. ويدعى رين أنه قد قضي على هذه الفرق نتيجة الحملة التي قادها ضدهم الضابط (ايقنيدي). ويقول رين نفسه إن المدقانات تعتبر ذيللا لحركة بوشوشة (¬2). ولا شك أن الصحراء والمغامرات ¬

_ (¬1) انظر مقالة قندوز (الصحراء لها شاعرها) ... مرجع سابق، ص 65 - 78. وكذلك كتابنا الحركة الوطنية ج 1. (¬2) لويس رين (تاريخ انتفاضة 1871)، آخر الكتاب. وأيضا لوشاتلييه (المجلة الإفريقية) =

والشعر قد التقت في هذه الفرق، وتولد على ذلك شعر الحماسة والفخر باللهجات الشعبية، ومنه أنشودة (أنا التارقي ولد التارقية). ولعل بعضهم قد جمع من الأفواه بعض هذا الشعر. وقد ظهر أيضا الشاعر الشعبي بوزيان القلعي في نواحي معسكر خلال الستينات والسبعينات من القرن الماضي. وكان بوزيان من بقايا المقاومة التي لم تخمد نارها منذ عهد الأمير ومنذ أحرق كلوزيل مدينة معسكر (سنة 1835) وكانت جبال بني شقران تستقبل الثوار دائما، شعراء وغيرهم، كما كانت تفعل جبال الأوراس وجرجرة وعمور. وقيل إن بوزيان كان من الساخطين على تغيير البنية الاجتماعية التي جاء بها قانون 1863 والذي قصد من ورائه انتزاع الأراضي من أهلها ومنحها للكولون. فكان بوزيان القلعي (قلعة هوارة - الراشدية) يهاجم المزارع التي أقامها الفرنسيون على أنقاض الأراضي المغتصبة من أصحابها. وثار بوزيان أيضا على الظلم والجبروت المتمثل في القايد. وكان هذا موظفا رمزا للسلطة الفرنسية. وعندما أهانه القائد لم يتحمل بوزيان الإهانة وعزم على الانتقام منه، ثم نفذ إرادته وأخذ سلاحه واختفى عن الأنظار، وكانت الحادثة مصدرا للشعر الشعبي والتغني ببطلها، رغم أن السلطة الفرنسية قد قبضت على بوزيان وحاكمته وأعدمته في معسكر خلال يوليو 1876، أي بعد إعدام بوشوشة بسنة واحدة. فالبطل هنا ليس هو الشاعر، ولكنه الفارس الذي أصبح رمزا ومصدر إيحاء للشعر الشعبي (¬1). وحوالي نفس الوقت (1873) جرى في صحراء سوف - بسكرة اغتيال العربي المملوك، قائد سوف، على يد ثلاثة أفراد، على رأسهم (حميد) الذي أصبح أسطورة. وكان العربي المملوك متجبرا، على ما قيل، فأساء استخدام سلطته وأهان شرف البعض، فترصد له حميد وزميلاه وقتلاه وهو في طريقه ¬

_ = 1886 - 1887. وقد نشر لوشاتلييه مقالاته عن المدقانات في كتاب. (¬1) قدمت نادية بن دروش بحثا عن بوزيان القلعي، في العلوم السياسية، الجزائر 1976، حسبما جاء في جغلول (عناصر ثقافية) مرجع سابق، ص 183.

إلى بسكرة لقضاء بعض مآربه في قسنطينة. وانتشرت الحادثة بين الأهالي ووصلت إلى الجريد التونسي، وتناقل النسوة والشعراء خبرها، فاخذوا يؤلفون الأغاني فيها ويمجدون الفعلة لأنها في نظرهم تغسل العار وتطهر الشرف وتعطي درسا للفرنسيين وعملائهم. وقد سجلت المصادر الفرنسية أن حميد قد دخل التاريخ في الشعر الشعبي، ولكننا لا نملك نماذج من ذلك الآن. ولعل بعضهم في الجزائر أو تونس قد قام بتسجيل قصائد في هذا الصدد (¬1). وبعد ثورة 1871 وطغيان الكولون والإدارة الفرنسية في زواوة والمناطق التي جرت فيها الثورة، ظهر أيضا صعاليك الشرف واستمروا يأخذون بالثأر ويحدثون الرعب في أوساط الكولون سنوات. واشتهر من بينهم أرزقي بن البشير الذي كان يتحرك هو وجماعته في منطقة تيزي وزو. ودام نشاطه ثلاث سنوات، حسب رواية الحاكم العام جول كامبون (سنة 1892). وقد جند هذا الحاكم رئيسي دائرة تيزي وزو، ليفيبور، فتمكن من القبض على البعض وسجنهم. ولكننا لا ندري مصير أرزقي الآن. وقد كان الأهالي يرون في فعله انتقاما لشرفهم، فأدخلوه في الأغاني الشعبية ومجدوه، غير أن الشعر الذي مجدوه به غير متوفر لدينا (¬2). وقد سال حبر كثير عن قصة اغتيال الماركيز الفرنسي دي موريس، سنة 1898. ولا تعنينا هنا القصة في حد ذاتها وما أثارته من ردود في الصحف الفرنسية وبين ضباط الجيش الفرنسي في الجزائر، وعلاقتها بمعاداة السامية، بل ولا تعنينا قصة الفتاة الروسية? الألمانية، إيزابيل ابيرهارد التي جاءت الجزائر في أعقاب ذلك الاغتيال لتبحث عن (الحقيقة). إنما يعنينا جانب آخر ¬

_ (¬1) عن قصة العربي المملوك (وهو إيطالي دخل الخيالة الفرنسية، وقيل إنه اعتنق الإسلام، وقد عينه الفرنسيون قايدا على سوف لمدة قصيرة)، انظر الحركة الوطنية، ج 1. (¬2) جول كامبون (حكومة الجزائر) 1918، ص 63، وكذلك موريس كولان (بعض المسائل الجزائرية)، ص 21 - 33.

من القصة، وهو صلتها بالجزائريين. فقد تمكن الشيخ محمد الطيب بن إبراهيم من القبض على قاتل دي موريس، ويدعى الخير عبد القادر، وحين وصل الخير إلى نواحي تماسين أمرت السلطات الفرنسية قايد تقرت بالقبض عليه، ولكن الخير علم بذلك، بالتواطئ أو بالحدس، فهرب. وبدل أن يطارده القايد، فضل أخذ أفراد عائلته رهائن (زوجته وأولاده وأمه، وحتى مهاريه ونياقه)، وأخذ كل ذلك إلى ورقلة. وكان الحاكم العام نفسه، ليبين، هو الذي أمر قايد تقرت بالقبض على الخير (¬1). إن الحادثة قد تكون من نوع الأساطير المعروفة في الصحراء بين القبائل، ولكنها مع ذلك، كانت مصدرا للأدب الشعبي. وكم من شاعر تغنى بالفارس الذي قتل دي موريس والصعلوك الذي أخذ بالثأ، ولم يتمكن العدو منه. وكما استولى الفرنسيون، عن طريق قيادهم، على زوجة بوشوشة سنة 1874 (وهي من أولاد سيدي الشيخ) وقادوها هي ووصيفتها إلى قسنطينة، ثم إلى ورقلة، ثم إلى أهلها في البيض، كذلك استولوا على زوجة وأولاد الخير عبد القادر، وقادوهم إلى ورقلة. وكم في الصحراء من أسرار، وفي الشعر من ألغاز!. ومن هؤلاء الصعاليك الذين يأخذون بالثأر ويوحون بالشعر، مسعود بن أحمد بن زلماط. فقد ولد بدوار زلاطو بالأوراس، حوالي 1894، وتوفي عنه أبوه فتربى عصاميا. وعندما شب في حضن والدته، حدثت فاجعة غيرت مجرى حياته، وهي مقتل أخيه. وكان الأخذ بالثأر من عادة العرب القديمة، وهي أيضا عادة شائعة لدى شعوب أخرى. ويبدو أن مسعود لم يقتنع بالعدالة القائمة عندئذ، فعزم على الثأر لأخيه بنفسه، فقتل أحدهم، وهدد آخر، ثم اختفى وكون جماعة أصبح هو على رأسهم. وأخذوا يرهبون السلطات الفرنسية وممثليها في الناحية. ولم يكتفوا بما فعلوا بل أخذوا يثأرون من كل ظالم في نظرهم. فكانوا يهاجمون القيادة والوشاة والعملاء، أولئك الذين كانت السلطات الفرنسية ¬

_ (¬1) افريقية الفرنسية، يناير، 1988، ص - 33. عن تفاصيل القصة انظر فصل التصوف (القادرية)، وفصل مذاهب وتيارات.

في الشكوى وذم الزمان

تعتمدهم لقهر الشعب. بدأ ابن زلماط حركته حوالي 1917، وكان الأوراس عندئذ منطقة ثائرة، ولذلك بادر الحاكم العام (شارل ليطو) بعزل الأوراس عن العالم وجوع أهله بالحصار الشديد، واستعمل جنود السينيغال ضد الثوار وعلى رأسهم ابن زلماط، بضعة أشهر (¬1). وفي يوليو 1920 حكمت عليه المحكمة الفرنسية في باتنة بالإعدام. ولكن ابن زلماط، مثل بوزيان القلعي وغيره من الأسطوريين، لم ينته بإعدامه، فقد خلده الشعر الشعبي وظل اسمه على لسان الأمهات والمظلوميين. وليس لدينا الآن نماذج من هذا الشعر سوى ما ذكره البعض (¬2). في الشكوى وذم الزمان شاعت بين الباحثين في الأدب الشعبي قصيدة الشيخ عبد القادر في (رثاء مدينة الجزائر). وهي تشبه، من عدة وجوه، مرثية محمد بن الشاهد، وقد ذكرناها. ولم يتوصل الباحثون إلى نسب الناظم (الشيخ عبد القادر) ومكانته في المجتمع، غير أن (مجلة الشرق) التي كانت تنطق باسم المستشرقين الفرنسيين سنة 1843 قد نشرت ترجمة للقصيدة بقلم أوسون دي شانصيل. وقد ذكر المترجم أن الناظم اسمه عبد القادر المازوني، أي من مازونة. ولكنه لم يورد سيرته، فهل هذه النسبة صحيحة؟ وهل كان المازوني مقيما في العاصمة عند رثائه لها، وهو الأقرب، أو كان في مازونة أو في إحدى المدن الأخرى، ولكنه أحس بالفاجعة وتأثر بها فنظم قصيدته. والقصيدة وإن كانت في رثاء مدينة الجزائر فإنها في الحقيقة رثاء لكل الجزائر ¬

_ (¬1) كان الفرنسيون قد أرسلوا بالجنود الجزائريين إلى أوروبا، وجاؤوا بالسينيغاليين إلى الجزائر، حتى لا ينضم الجنود إلى الأهالي كما وقع سنة 1871. (¬2) ذهب جغلول (عناصر ثقافية)، مرجع سابق، ص 183 - 186 إلى أن ابن زلماط قد سقط والسلاح في يده، مارس 1921. أما عبد الحميد زوزو (أطروحة الدكتوراه)، فقد قال انه قبض عليه وحوكم ثم أعدم، كما ذكرنا. وكان عمره عند إعدامه حوالي 26 سنة.

لأن ما وقع في العاصمة في أول الأمر وقع مثله في غيرها بعد ذلك. ويغلب على الظن أن القصيدة قيلت بعد الاحتلال بقليل، أي بعد استيلاء الفرنسيين على المدينة وجلاء معظم أهلها عنها وتعطيل المدارس والمساجد وهجرة العلماء والطلبة، والاستحواذ على الخزينة، كما تروى القصيدة. لم يورد دي شانصيل في مجلة الشرق النص العربي مع النص الفرنسي، وإنما المجلة الإفريقية هي التي نشرت النص العربي بمناسبة الذكرى المائوية للاحتلال (1930). وبالرجوع إلى النصين الفرنسي الذي نشر سنة 1843 والعربي الذي نشر سنة 1930 ندرك أنهما من أصل واحد. فالنص الفرنسي للقصيدة يبدأ بالحمدلة والتصلية، ويذكر أيام الخميس والجمعة والإثنين، والجهاد والحور العين، وطلب الغفران من الله، ثم مخاطبة الشاعر إخوانه المسلمين معزيا ومسليا قائلا إن الأيام دواليك، والدهر متقلب، ثم تأسف على ضياع الجزائر وخراب قصورها وقلاعها وصوامعها، وعلى انقطاع القرآن والعلم في المدارس والمساجد، وعلى هجرة العلماء. وتأسف كذلك على المعابد التي داسها الكافر بقدميه وأضرحة الأولياء، ومصائر رجال الدين والقضاة والإسلام (¬1). أما النص العربي الذي نشرته المجلة الإفريقية، ثم أخذته عنها مجلات وكتاب آخرون، فيبدأ هكذا: بالحمد نبتدا ذا القصة ونعيدها ... استغفروا وتوبوا يا مسلمين صلوا عليه قد الدنيا وامحانها ... ما دمنا نشوفوا واحنا حيين توبوا واستغفروا للمولا ... هذا آخر الزمان ادركنا وقد استمر الشاعر في ذكر (زمن الفتنة) الذي أصاب كل قبيلة، واعتبر من مات قد استراح، وأما الحي فهو الذي بقي يواجه المحن. وتساءل: أين هي جزائر مزغنة، سلطانة كل المدن، ها هي أصبحت في قبضة الأعداء، ¬

_ (¬1) أوسون دي شانصيل (قصيدة الشيخ عبد القادر المازوني في رثاء الجزائر) في مجلة الشرق R. Le L'orient، 1843، ص 284 - 286.

وهم النصارى الفرنسيون. وبعدما كانت الأجناس والشعوب والدول تخاف الجزائر، فها قد تبدل حالها وانخفضت أعلامها (سناجقها) ودالت أوجاقها، لأن أهل الله الصالحين قد تخلوا عنها فاستولى عليها الأجانب، لقد أعطاها الصالحون إلى الأعداء وتخلوا عنها لفساد حكامها وانحراف أهلها. فأخذها الفرنسيون عنوة بالسفن الحربية العديدة، والجنود الذين كانوا كالجراد، والعتاد الكبير. إن العقل قد أصبح في ذهول مما حدث. وكانت اللازمة التي يكررها الشاعر هي حزنه الدائم على ضياع وطنه: (راني على الجزائر يا ناس حزين!). ثم وصف الشاعر كيف حدثت عملية الاستيلاء على المدينة، فذكر المراسي وما كان فيها من مدافع وسفن والاستعداد لمواجهة العدو. ولكن هذا العدو لم يأت من الشرق كما كان متوقعا بل فاجأ وسائل الدفاع وهاجم من الغرب، من مرسي سيدي فرج. وكان ذلك يوم السبت - حسب الشاعر - وقد مات من المسلمين عدد كبير، وتكاثر عدد المجاهدين ودوت زغاريد النساء، ودامت الحرب يومي الأحد والإثنين. وبعد ذلك انعكست الآية، وتحول السرور حزنا لدى المسلمين، وفرح اليهود بهزية المسلمين وزغردت نساؤهم. واستولى الفرنسيون على الخزينة ذات الجواهر والمثمنات. وجرت معركة اسطاويلي، وتقدم العدو عن طريق الأبيار وبوزريعة ثم برج مولاي حسن (الثغريون). وأبيحت المدينة يومين، وتفرق أهلها هائمين على وجوههم. لقد أصابتها العين الحاسدة! أين دار السلطان، وأين البايات؟ وأين القضاة والشواش والسراي؟ وأين المفتون والعلماء؟ وأين الجوامع وخطباؤها ومنابر الرخام والصوامع وآذانها؟ وأين حلقات الدروس ومجالس الحزابين؟ لقد غلقت الأبواب وبات كل ذلك في عالم النسيان. وهدم العدو حتى الجامع الكبير (نقمة في المسلمين)، ووضعوا ساعة في مكان سوق القيصارية حيث كانت سوق الكتب والسفارين. ولم ينس الشاعر تاريخ الجهاد البحري وجحافل الأسرى، وأكوام الغنائم التي كانت ترد إلى الجزائر، وهذه الذكريات جعلته يلتفت إلى الله

ويتوسل إليه بالرسول (صلى الله عليه وسلم) لكي يرزقها سلطانا رحيما وعادلا، فيحكم من قصورها وسراياها وتكون له الجيوش القوية، ويشيع الحق والعدل بين الناس. ثم كرر الشاعر لازمته: (راني على الجزائر يا ناس حزين!) (¬1). إن قصيدة رثاء الجزائر للشيخ عبد القادر (المازوني) وثيقة تاريخية هامة، وهي ليست مجرد وصف وسرد للأحداث التي جرت نتيجة الاحتلال ولكنها مفعمة بالمشاعر الإنسانية العميقة، فالرجل لا ينطلق من دوافع شخصية ولكنه قد انطلق من غيرته على الوطن والدين والتراث والقيمة التاريخية لمدينته وآثارها. ولذلك يجب أن تدرس هذه الوثيقة مع قصيدة ابن الشاهد، في المدارس والجامعات في مواد التاريخ والأدب والآثار. وهي دليل على أن الأدب الشعبي الصادق يظل خالدا رغم مرور الزمان. وإن الشكوى من الزمان ومن الظلم والانتقام كانت سمة هذه الفترة، ولا سيما بعد فشل الثورات التي كانت تعطي الأمل والبدائل للشعب. ومن الظلم شيوع الفقر وكثرة المراباة وفقدان الأرض ومصادر الحياة والرزق. وقد شاع بين الجزائريين أن اليهود بالغوا في أخذ الربا وجمع الأموال على حسابهم، لا سيما أيام المجاعات والنكبات، فهم يقرضون المحتاجين ثم يأخذون منهم أضعاف ما أقرضوهم، وقد يؤول إلى اليهود كل ما يملك المقترض إذا عجز عن الدفع. وقد شاع ذلك سنوات الستين من القرن الماضي أيام اغتصاب الأرض بقانون 1863 ثم المجاعات التي حدثت سنوات 1867 - 1869. ولعل هذا هو ما يشير إليه الشاعر الشعبي المجهول الذي لعله من فترة ثورة 1871. والمعروف أن التعسف والجبروت قد كثرا على يد الكولون واليهود الذين منحهم الفرنسيون الجنسية الكاملة بعد حرب السبعين. ¬

_ (¬1) المجلة الإفريقية 1930، ص 225 - 256. وكذلك جمال قنان (نصوص سياسية) ص 33 - 35. انظر فصل المعالم الإسلامية، لترى ماذا فعل الفرنسيون بالآثار التي ذكرها الشاعر من مصادر أخرى.

ومهما كان الأمر فقد اشتكى الشاعر من شيوع الفساد والربا واستنجد بالسلطان العثماني عبد العزيز (¬1) ليأتي من الشام (الشرق؟) وينقذ الرقاب المغلولة بالربا، وينصر جند الإسلام. وقد اعتز الشاعر بالقرآن والدين، وأعلن أن الوطن قد ضاق به ولم يبق سوى الهروب منه - وكانت الهجرة شائعة نحو الشرق عندئذ -: يا رب عجل به من يفك الرقاب ... يأتي من وطن الشام غيثنا بيه يهدي (عبد العزز) يأمره للركاب ... يعطيه جنود النصر ليه تحميه في الدين حصلنا والكريم لينا كتاب ... رب نزل قضى أذل خلقيه ما بقات إلا الهرب ... هذا الوطن انعاف حتى يجي مولا النوب ... سلطان من الأشراف (¬2) وشاعت الشكوى من الزمان أو ذم الزمان وأهله في الأدب الشعبي عموما. ونحن نجد ذلك في مختلف المراحل من الاحتلال. وكان الاستنجاد بالله وبالرسول (صلى الله عليه وسلم) وبالأولياء وبالسلطان العثماني هي لازمة الشعر الشعبي. وكان البحث عن منقذ أو (فكاك الرقاب) كما عبر الشاعر السابق هو أعظم ما يقدمه الشاعر من أمل للناس الذين يستمعون إليه أو يروون شعره. وقد يصل اليأس إلى حد الهجرة من الوطن لأنه أصح (ينعاف) وهو أقصى ما يصل إليه الشاعر من الضيق. وقلما يدور اليأس الكامل بقلبه فيصل إلى الانتحار وما شابهه. وقد شاع في هذه الفترة أيضا التعبير (بقرن اربعطاش) دلالة على نهاية العالم وطي الدنيا: زمن أربعطاش، ذرية أربعطاش، وحكم أربعطاش ... والمعنى أن الشاعر يسلي الناس بأن بداية القرن الرابع عشر الهجري (أربعطاش) ستكون هي الخلاص مما هم فيه. ولكن العهد الجديد قد حل، ولم يتغير الحال، فذهب الشعراء ومن على شاكلتهم يقولون إن الخلاص لن ¬

_ (¬1) حكم بين 1854 - 1876. (¬2) عبد الحميد زوزو (نصوص)، ص 119. من كتاب F. Gourgeot (Les Sept Plairs (d'Algerie الجزائر، 1891، ص 168 - 170.

يكون في البداية ولكنه سيكون خلال مائة سنة - قرن أربعطاش -. وهكذا يقدم الشعر المواساة والمسكنات لقلق الناس على مصائرهم وفقدانهم الأمل والحرية. وهناك من بلغ به اليأس درجة عالية فأدمن الخمر وانتظر القضاء يحكم له، فمات غما وكمدا، مثل الشيخ المختار بن فرحات. فقد ذكر المستشرق لويس ماسينيون أن المختار كان من عائلة كبيرة تنتسب إلى قبيلة بني المعارز (؟) وعاصر الاحتلال منذ كان جده، وهو الحاج المبروك، صيادا ماهرا للأسود. ورغم أنه اصطاد 26 أسدا فإن الأسطورة الشعبية تذهب إلى أن الحاج المبروك قد اصطاد 99. وكان الحاج المبروك عندئذ في رفقة بعض الجنرالات الفرنسيين. أما حفيده المختار فقد ولد حوالي 1861 وحفظ القرآن الكريم في موطنه وأصبح (طالبا) كثير الفضول والاهتمام، شديد الذكاء. كان نقادا وله روح حية ونادرة بين زملائه في المدرسة. ولا ندري إن كان قد درس في المدرسة الفرنسية الرسمية أيضا، لأن ماسينيون يقول إنه كان يقارن بين النصوص القرآنية والنصوص الموسوية (اليهودية)، وأنه كان يخالط الربيين، وأنه درس على أيديهم اللغة العبرية. ولكن المجتمع الإسلامي، حسب ماسينيون، لم يتسامح معه، وهجر المختار وانتقده وشك فيه. وكان المختار قد جاء إلى مدينة الجزائر باحثا عن عمل. ولكنه وجد نفسه فيها غريبا، وعانى الكثير من الغربة في نفسه وبدنه. وأصيب بالإحباط، فقال قصيدة عتابية للزمان. وهي تتألف من 50 بيتا. انتقد فيها العادات، وأبدى ذوقا إسلاميا مخلصا (حسب تعبير ماسينيون) وإيمانا بالإسلام. ولكنه في نفس الوقت أظهر ما للفرنسيين (الأروام) من وسائل القوة المادية والمعنوية، وانتقد قومه على تركهم الروم يتصرفون في أمور الجزائريين، فيعاقبون على الجرائم ويتصرفون في العدل - الشريعة - قائلا: إنه لا طالب ولا طبيب يداوي هذا الوضع الذي عليه الجزائر. وقد حكم ماسينيون من ذلك على أن الشاعر كان يائسا من الإصلاح ومن الزمان وأهله. ولذلك توسل الشاعر إلى الله بالأغواث والأقطاب والأبدال الصوفية، لكي

أغراض أخرى للشعر الشعبي

يغير الحال. وهكذا أعطى مادة لأهل التصوف فأصبح شعره على لسان الأهالي في الطرق الصوفية. وقد أنهى المختار بن فرحات قصيدته بالصلاة على النبي (صلى الله عليه وسلم)، وبطلب الدعاء لأبيه ولنفسه. ولكن ماسينيون لم يذكر النص العربي للقصيدة، ولذلك نكتفي بالمعاني التي أوردها منها. وكم ضاعت من نصوص جزائرية مع المستشرقين الفرنسيين!. أما عن نهاية الشاعر فهي مأساة حقا. فقد تاه في المدينة ولم يسعفه أحد في عمله ولا في دراسته، وهجره الناس، كما ذكرنا، رغم أن ماسينيون يدعي أن المجتمع الإسلامي هو الذي لم يأت لنجدته، ولكن الإدارة الفرنسية هي التي لها (المكتب الخيري) الذي زعمت أنه حل محل أوقاف مكة والمدينة التي استولت عليها منذ الاحتلال. ولو كانت الأوقاف على عهدها في العناية بالفقراء والغرباء لما كان مصير هذا الشاعر كالذي ذكره ماسينيون. وكم عاني أمثال هذا الشاعر نتيجة الحرمان والإذلال واليأس. لقد أدمن الشيخ المختار على الخمر، وعاش وحيدا غريبا، ومهملا، وهو الأمر الذي عجل بنهايته، كما تنبأ، فمات سنة 1906 ولم يتجاوز عمره الخامسة والأربعين (¬1). وكان ماسينيون يعرف أن الإدارة الفرنسية كانت تساعد المتنورين الجزائريين على إدمان الخمر والإهمال حتى يظلوا في غيبوبة ولا يتفطنوا إلى واجباتهم الوطنية والدينية. وقد شهد ابن نبي شيئا من ذلك ورواه في مذكراته. أغراض أخرى للشعر الشعبي تناول الشعراء الشعبيون أغراضا أخرى غير ما ذكرنا. فهناك الموضوعات المتعلقة بالدولة العثمانية ومشاركة الجزائريين في حرب القرم ¬

_ (¬1) لويس ماسينيون (قصيدة في ذم الزمان) في (مجلة العالم الإسلامي)، يوليو - غشت 1909، ص 288 - 289. رمز ماسينيون إلى اسمه. L.M . ولم يذكر ما إذا كانت القصيدة فصيحة أو ملحونة، وقد رجحنا أن تكون من النوع الأخير.

سنة 1853، وهناك وصف زيارة فرنسا من قبل فرق للموسيقى والبهلوانيات لتعرض مباذلها على المتفرجين الفرنسيين، سنة 1867، وقد شارك في هذه الفرق أهل الدنيا وأهل التصوف مثل العيساوية. ونجد إحدى القصائد تتعرض إلى لجنة التحقيق الفرنسية سنة 1892 والتي ظن بعض الجزائريين أن الخير سيأتي على يديها. وإضافة إلى ذلك هناك وصف لانتقال المجندين الجزائريين من بلادهم إلى أوروبا خلال الحرب العالمية الأولى وما عانوه من مفارقات الحياة وهم بين نوعين من التقاليد والبيئات والأجناس. ولنبدأ بقصيدة سيدي محمد بن إسماعيل عن حرب القرم، والتي نشرها بعد نصف قرن محمد بن أبي شنب مع ترجمة فرنسية وتعاليق مفيدة. ولا يخفى أن حرب القرم كانت بين الدولة العثمانية وروسيا. وقد ساندت فرنسا وبريطانيا الدولة العثمانية، وجندت فرنسا في مساهمتها الحربية فرقة جزائرية خاصة وتكلفت لها احتفالا خاصا عند الذهاب والإياب. وجعل الفرنسيون من ذلك وسيلة دعائية لجلب مسلمي الجزائر إليهم لأنهم (الفرنسيين) قد نصروا خليفة الإسلام ضد روسيا. وكان السلطان عندئذ هو عبد العزيز. وبهذه المناسبة أرسل أعيان الجزائر وفدا إلى فرنسا يتقدمه العلماء لشكر نابليون الثالث على موقفه. وصيغت أبيات الشعر للمناسبة. وفي هذا الجو الحماسي والديني كتب محمد بن إسماعيل قصيدته الطويلة. وصف الفرقة وأسباب ذهابها، والدولة العثمانية وحالة المسلمين، وموقف فرنسا ومعونتها، والحرب وما جرى خلالها، والانتصار على الروس، بالإضافة إلى تفاصيل أخرى (¬1). وهناك شاعر معاصر لإبن إسماعيل، اسمه قدور بن عمر بن بينة المعروف بالحدبي، لاحدداب ظهره. ولكن الحدبي كان عميق النظرة واسع ¬

_ (¬1) محمد بن أبي شنب (قصيدة محمد بن إسماعيل) في (المجلة الإفريقية) 1907، ص 169 - 222.

الإطلاع دقيق النقد. كان يمتهن عدة مهن. درس في مدرسة الجزائر الرسمية عندما كان مديرها هو حسن بن بريهمات. وتعاطى تجليد الكتب ونسخ المخطوطات، ولعل عدم توظيفه في وظيفة رسمية - مثل خريجي المدرسة - يرجع إلى حدبة ظهره. وهي عاهة عند البعض. ولعله فضل الاستقلال بنفسه وامتهانه المهن الحرة دون الدخول في أسر الوظيف الرسمي. ويقول أحد المصادر إنه ظل ثلاثين سنة يكتب الشعر ويغني بسخرية عن كل عين من أعيان مدينة الجزائر. وقصيدته (العيساوية في باريس) وجدناها مترجمة من الفرنسية إلى الإنكليزية، ولم نهتد إلى أصلها العربي. وهي قصيدة قالها عند سفر فرقة من الموسيقيين والمغنين وإخوان العيساوية إلى باريس ليشاركوا في معرض باريس الدولي سنة 1867. وكانت الفرقة تحت إشراف دنيال سلفادور، أستاذ الموسيقى. وكان التجار الأجانب يتاجرون بالفن الجزائري، فيأخذون أسافل الناس عادة ليغنوا ويرقصوا في باريس، على أنهم يمثلون الفن العربي الإسلامي الإفريقي. ومما لفت نظر الشاعر وجود العيساوية (¬1) المحسوبين على التصوف والدين ووجود التجار اليهود في هذه العملية، والغالب على الظن أن دنيال سلفادور منهم. كما ربط الشاعر بين ما كان يحدث في وطنه من نكبات وجوائح (وهي سنة المجاعة الشهيرة، 1867) وسفر تلك الفرقة إلى باريس للغناء والرقص والمتاجرة بالدين والأعراض. ولذلك بدأ الحدبي قصيده بالنداء الصارخ: تعالوا وانظروا ما حدث في هذه السنة الملعونة، من الزلازل وخراب المنازل والجراد والقحط والأوبئة. ثم إن الشاعر يطلب من المخاطبين أن يقارنوا ذلك بما راح وذاع من أن ¬

_ (¬1) العيساوية إحدى الطرق الصوفية المعروفة في المغرب والجزائر. مؤسسها محمد بن عيسى من المغرب، وانتقلت إلى الجزائر، وعرفت بالرقص الصوفي والحركات البهلوانية، والتضارب الخشن والمداواة وإظهار الخوارق كاللعب بالنار والثعابين. انظر عنها فصل الطرق الصوفية.

العيساوية والموسيقيين من الوصفان والمغنين ونحوهم ذاهبون إلى فرنسا للرقص والغناء، وذكر أن الذي وضعهم على السفينة هو (النصراني) سلفادور دنيال. ثم أخذ الشاعر يصف حالهتم في السفينة، فهذا أحدهم قد أصابه الغثيان وأعلن أنه مريض، وتقدم منه آخر ورش عليه العطر ليفيق. وفي نظر الشاعر أن هؤلاء سيرون في باريس عبد العزيز، سلطان الدولة العثمانية، وكأن الشاعر يغبطهم على ذلك. ولا شك أن ذلك كان من الدعايات الفرنسية. وفي القصيدة أسماء عديدة ومشاهد متنوعة وكأنها تصور مسرحية ساخرة. بعض الأسماء كانت لأولياء، وبعضها كان لأعيان معروفين عندئذ، وبعضها كان لمسؤولين على الفرقة. وقد صور الشاعر حركات أعضاء الفرقة وتصرفاتهم. ومن هذه الأسماء: رئيس الفرقة علي الطري، ثم وليد الحاج والي، والحاج مصطفى، وحميدة الذي يلقبه الشاعر بوجه الحمار، وسيدي الطيب، وسيدي أحمد، وعبد القادر، وابنه زرفة، والحاج طاطا، ومصطفى بن المداح، ووليد ابن زعموم، ووليد سيدي السعيد، وكذلك كان معهم رئيس مليانة (؟). وقال عنه إنه درس على سيدي حسن (ابن بريهمات) (¬1) مختصر سيدي خليل في الفقه والسنوسية في التوحيد، ولذلك لم يتناول معهم الدخان (الحشيش؟). وأشار إلى أن محمد بن الحفاف كان معهم أيضا، ولكنه ظل يصلي كل النهار، بالإضافة إلى سي محمد وليد الأصنام والحاج ابن رابحة. ¬

_ (¬1) الغالب أنه يعني حسن بن بريهمات. وكان قدور الحدبي قد درس عليه، وكان بريهمات مديرا لمدرسة الجزائر الفرنسية الرسمية. عن ابن بريهمات انظر ترجمتنا له في فصل السلك الديني والقضائي. أما عن دانيال سالفادور فانظر فقرة الموسيقى في فصل المنشآت الثقافية. ومن الأسماء المعروفة، محمد بن الحفاف (قريب من المفتي الشيخ علي بن الحفاف) وابن زعموم. وقد تعمدنا ذكر هذه الأسماء على كثرتها في النص، لعل فيها أضواء على المشتغلين بالحياة الفنية عندئذ.

ولا تخلو القصيدة من الحديث عن النصارى والامبراطور نابليون، وعن النقود. وفيها سخرية لاذعة بأصحاب اللحى البيضاء الذاهبين للتفرج على باريس قائلا- لا أرجعهم الله! - وهكذا نجد مجموعة من التناقضات: الصلاة والتدخين، والدين والموسيقى، والمأساة في الجزائر والملهاة في باريس، وأهل التقوى والأشرار. وعرف الشاعر بنفسه فقال بأنه قدور المعروف لدى الناس بأنه مسفر الكتب والمنسوب لسيدي بوقدور (¬1) وأنه لابس قشبية، وأعلن أنه لو لم يكن أحدب الظهر لما نافسه أحد. واستهزأ بالفرقة قائلا: إن الناس أخبروه أنه إذا رجعت الفرقة من باريس فإنها سترسله إلى الآخرة، ربما لأنه استهزأ بأعضائها ونال منهم، فاجابهم بأنه سيدافع عن نفسه، وإذا عجز فإنه سيشتكي إلى الشرطة (الفرنسية؟). وهكذا يكون الشاعر الذي عاش إلى 1898 قد سجل نموذجا. لحياة الجزائريين في آخر عهد نابليون الثالث، وكشف عن تناقضات اجتماعية وسياسية عديدة. ولو جمع شعره الاجتماعي الساخر لكان ثروة هامة (¬2). وقد عالج شاعر آخر خلال نفس الفترة تقريبا حالة الجزائريين البائسة في قصيدة طويلة خاطب فيها لجنة التحقيق الفرنسية (لجنة السنا SENAT) أو مجلس الشيوخ، وهي قصيدة تلخص الحالة خلال عشرين سنة (1870 - 1891) كما قال الشاعر. وعالج فيها أمور القضاء والألقاب (الحالة المدنية) والشريعة الإسلامية. وهي الموضوعات التي كانت تشكل مصدر الشكوى للجزائريين عندئذ. فقد استمر الفرنسيون في محاولات دمج الجزائر دون اعتبار لتقاليدها وأرضها وقوانينها وأفكارها. وبعد صدور قوانين ¬

_ (¬1) عن بوقدور انظر فصل المعالم الإسلامية، وهو في الغالب أحد الصالحين في مدينة الجزائر. (¬2) من كتاب (الأدب المغاربي) بالإنكليزية، نيويورك، ط. منقحة، 1901. والأصل مترجم عن الفرنسية، ص 195 - 203. وقد انتهى الشاعر من نظم شعره في 1294 هـ (1877).

الأرض 1863، 1873، 1887، لجأوا إلى تغيير الحالة المدنية بجعل كل عائلة تختار لقبا يتوارثه أبناؤها كما يفعل الفرنسيون أنفسهم، وبذلك ينتهي الارتباط بالعائلة الكبيرة والقبيلة والعرش، وتكون الأسرة الصغيرة- الفردية منقطعة عن كل صلة بالماضي. وأعلن الفرنسيون الحرب على القضاء الإسلامي وأحلوا محله القانون الفرنسي، وعوضوا القضاة المسلمين بقضاة الصلح الفرنسيين، وهكذا. والشاعر مجهول لدينا، وقد صور حالة البؤس التي عليها (العرب) وهو يقصد كل الشعب الجزائري، فيخاطب اللجنة بأن تعمل على نصرتهم. وكان متفائلا بها لأنها في نظره قد جاءت لإعلان الحق، واعتبر أن عهدا جديدا قد جاء وعهدا قديما قد ولى: صحى القيام والحق نشرا علامه ... لما تحركوا جميع (السينا) ربى قادهم للطريق استقاموا ... بعثوا رجال يختبروا في وطننا ماتوا العرب انهلكوا كثرتهم هاموا ... الحال غاظهم وبكاوا علينا (¬1) وفي 1916 ترجم محمد صوالح شعرا في الدين والحرب نظمه في فرنسا الجندي مصطفى ثابتي ولد قدور بن ثابت. وكان هذا الجندي قد عاش حياة متقلبة منذ ميلاده سنة 1876 في دوار أولاد الجيلالي عرش المزيلة، بلدية كسينيو المختلطة عندئذ، بولاية وهران؛ وقد عزف صوالح بالشاعر الذي لقيه بالمستشفى في فرنسا جريحا. على إثر معارك المارن الشهيرة على الجبهة ضد ألمانيا. ومن إملائه على فراش النقاهة كتب صوالح عنه قصيدته الهامة. وكان مصطفى ثابتي قد تربى في إحدى الخيام العربية البدوية. وحفظ القرآن على طالب الدوار، باللوحة المعروفة، ولم يجد خدمة تناسبه فتطوع في الجيش الفرنسي (الأهلي) بنواحي مستغانم، وعمره ما يزال ستة عشر ¬

_ (¬1) بلقاسم بن سديرة (كتاب الرسائل)، ص 238. ولجنة مجلس الشيوخ تكونت سنة 1891. ولكنها لم تأت إلى الجزائر إلا سنة 1892. والقصيدة حسب ابن سديرة مكتوبة سنة 1891.

عاما. وكان هدفه، كما قال، هو (لعب البارود)، لأن الجنود الجزائريين كانوا يسمون (بالرماة) ويؤلفون فرقة خاصة بهم. ودام تطوعه أربع سنوات. في سنة 1896 حاول امتهان مهنة، فلم يفلح فأصبح خماسا، وبعد ذلك فتح دكانا للتجارة في دواره وفشل. وساءت حالته المادية، فعاود التطوع في الجيش، بعد أن أصبح التجنيد إجباريا للجزائريين منذ 1912. وعند بدء الحرب العالمية الأولى نقل هو وغيره إلى فرنسا ومنها إلى بلجيكا، وشارك في معارك شارلروا والمارن، وجرح في 6 يونيو 1915. فنقل إلى المستشفى للعلاج، ثم سمح له بالنقاهة في منزله. ويقول صوالح الذي قد يكون أيضا من المجندين غير المحاربين، أن ثابتي قد ظل يتغنى بالغنائم الفرنسية والانتصارات ضد الألمان، وبذلك أثر على سكان دواره بأولاد الجيلالي. ويبدو أن صوالح نفسه كان من ناحية مستغانم. والقصيدة التي نحن بصددها مكتوبة بالعربية الدارجة، عربية الناحية الوهرانية، وقائلها طالب لم يحفظ سوى القرآن، ولعله قد نسيه ونسي معه الكتابة أيضا. وقد امتزجت بالقصيدة ألفاظ أجنبية عديدة، معظمها عسكرية نظرا للبيئة الجديدة التي عاشها الشاعر. فهو قد انتقل لأول مرة من وهران إلى أوروبا، رغم أنه قد عرف الجنود الفرنسيين في الجزائر. وفي القصيدة تظهر ثقافة الشاعر المحلية. وهي مزيج من الدين والدنيا، وحياة الحرب والجنود في المعارك. وقد وصف طريق الوصول إلى فرنسا وركوب السفينة والانطباعات عند النزول بأرض الغربة. ويقول صوالح إن شعر ثابتي متأثر بالقرآن الكريم وبقصيدة البردة للبوصيري. ويبدو أن الشاعر كان من الطريقة القادرية لأنه يشير إليها، كما أن سيدي الجيلالي هو اسم قرية وجد سكانها. كما يظهر من الشعر أن الجزائريين كانوا يعرفون الكثير عن الحرب والحلفاء. ورغم أن صوالح جمع الشعر سنة 1916 فإنه لم ينشره إلا سنة 1919، لظروف الحرب. وفي نفس المصدر نشر صوالح أيضا أبياتا من شعر آخر نظمه في نفس الموضوع سي ميلود بن عبد الرحمن، أحد القضاة. وكان أخو هذا

القاضي قد ترجم شعر ميلود إلى الفرنسية. ومنه أخذ صوالح. وبناء على هذا فإن ميلود بن عبد الرحمن قد تغنى أيضا، بفرنسا وجيشها وهجا الأتراك وندد بعلاقتهم بألمانيا، وأخبر أن الأتراك يكرهون العرب منذ القديم. وهو الموضوع المحبب للدعاية الفرنسية عندئذ. وكان هذا القاضي يؤكد على أن فرنسا صديقة للمسلمين ولذلك مجدها ومجد أحبابها أيضا (¬1). ونحن لا ننتظر إلا أن يكون ذلك من بعض الجزائريين الذين أثرت عليهم الدعاية الفرنسية ضد (الأتراك)، لأن الدولة العثمانية قد شاركت في الحرب إلى جانب ألمانيا ومن ثمة ضد فرنسا. ويجب التذكير بأن الشعر الشعبي قد تناول أيضا الحياة الدينية والوعظ والإرشاد سواء بالعربية الدارجة أو البربرية. ... ولقد واصل الشعر الشعبي دوره الاجتماعي والسياسي والديني. وبعد ظهور الحركة الوطنية كان لها شعراؤها أيضا. وكان للطرق الصوفية شعراؤها المعادون للإصلاح، وكان للإصلاح شعراؤه الفصحاء والشعبيون. واستمر بعضهم أيضا في وصف أعمال فرنسا وذم الزمان. فكثر بذلك ميدان القول والتنافس. ومن أشهر شعراء الملحون بين الحربين محمد عبابسة الأخضري ورحاب الطاهر. وقد ساعدت الأغاني والتسجيل على نشر هذا الشعر. وبعد الحرب الثانية واصل الشعراء تصوير حالة المجتمع في ضوء التطورات الجديدة (¬2). وجاءت جريدة (الشعلة) لتنشر قصائد ملحونة ذات طابع نقدي ¬

_ (¬1) محمد صوالح (جنودنا الأفارقة (كذا) والألمان) في (المجلة الإفرقية، 1919، ص 494 - 498. النص العربي، ص 509 - 520، والنص الفرنسي ص 498 - 508. أما ميلود بن عبد الرحمن وأخوه، فلا ندري حياتهما الآن. ولم يذكر صوالح سوى أن الأول كان قاضيا وأن الثاني كان معلما بثانوية وهران. ونحن نعرف أن مفتي وهران في أول هذا القرن هو علي بن عبد الرحمن، وقد طال عهده في الفتوى وكان من أتباع الطريقة التجانية. فهل القاضي والمدرس المذكوران من أسرته؟. (¬2) انظر مقالة محمد الحاج صادق الذي نشر قصيدة لشاعر شعبي شارك في الحرب =

سياسي واجتماعي. وأصبحت الإذاعة وبعض الصحف تحتفل بالشعر الشعبي. وبعد أن كان هذا الشعر ضائعا منسيا (وكلام عوام) كما قال ديبارمي، حانت فرصة تسجيله والتغني به، ونقصد ذلك الشعر المسموح به سياسيا وأخلاقيا. أما ثورة نوفمبر فقد فجرت الطاقات الكامنة وشحذت مواهب الشعراء، ولو جمع الشعر الشعبي الذي قيل فيها لملأ ربما دواوين. ¬

_ = العالمية الثانية، اسمه محمد ولد قويدر الملياني، وعنوانها: اشتو رواشي أجناس روضوا الفتنات ... وبغوا الشوم عمدوا ليه قبالي وهي منشورة في (مجلة الغرب الإسلامي)، 1973، ص 21 - 23، أي النص والتعجيم والتعليق.

الفصل الثالث الفنون

الفصل الثالث الفنون

نتناول في هذا الفصل الإنتاج المتصل بالفنون وتطور موضوعاته ومساهمة المنتجين خلال العهد الاستعماري. ونضيف إلى ذلك تأثير الجزائر على الفنانين الفرنسيين منذ لاكروا إلى مدرسة عبد اللطيف الشهيرة. ونتناول حياة محمد راسم وبعض الفنانين الآخرين كالرسامين والخطاطين، وكذلك حياة ناصر الدين ديني، ذلك الفنان الفرنسي الذي اعتنق الإسلام. وسنتتبع أيضا تدخل الفرنسيين لتوجيه الفنون الشعبية وجعلها في خدمة الاقتصاد الاستعماري والذوق الفرنسي. وما أنشأه الفرنسيون من مراكز نسائية للطرز وغيره متخذين هذه الفنون ذريعة للتأثير على المرأة والأسرة عموما. كما نتعرض للكتابات الفرنسية التي عالجت الموضوعات التي نحن بصددها والآراء النقدية التي وجهت إلى الفنون وتطورها. ومن جهة أخرى، سنعالج الفنون المعمارية، ولن تكون دراستنا للآثار عامة وإنما من الوجهة الجمالية والأسلوبية، وهكذا سنتوقف عند نماذج من القصور والمنازل الخاصة التي ظهر فيها الفن الأصيل وحافظت على الطابع التراثي الفني. وفي هذا النطاق سندرس أيضا المتاحف وما وضع فيها من النماذج المعبرة عن الفنون عامة. وكذلك سنعالج فنون الرسم والنحت والنقش بمختلف أشكالها كلما وجدنا المادة المساعدة. وأخيرا سنخصص فقرة للإنتاج المسرحي وتطوره وتطور لغته وانتشاره في البلاد، والفرق المسرحية التي أنشئت لهذا الغرض (¬1)، كما أننا سندرس في فقرة أخرى الإنتاج الموسيقى (¬2). ¬

_ (¬1) عن المسرح إرجع أيضا إلى ما كتبناه في فصل المنشآت الثقافية. (¬2) عن تطور الموسيقى وتسجيلها وما كتب فيها، انظر فصل المنشآت الثقافية.

الفنون التقليدية - الشعبية

الفنون التقليدية - الشعبية تتمثل هذه الفنون في عدة نماذج من المصنوعات التقليدية ذات الاستعمال الفردي والعائلي، وهي تستعمل أيضا للمنازل والحيوانات. وكانت هذه الفنون مزدهرة مع ازدهار التجارة وانفتاح البلاد على الأسواق الأوروبية والشرقية والإفريقية، وكذلك مع وجود طبقة اجتماعية تتذوق وتستهلك هذه المصنوعات، ووجود مدن كبيرة ذات بازارات وحرفيين مختصين. وقد كان للفنون نقاباتها كما كان لغيرها نقابات. فلصانعي الفضة والذهب (الصاغة) نقابتهم وكذلك للنحاسين والسراجين والطرازين نقاباتهم. وهي نقابات ليست فقط للتنظيم الاجتماعي والمالي ولكن للمحافظة على اتقان الصنعة وأصالتها وتطويرها. وليس لدينا كتابات وصفية دقيقة عن وضع الفنون التقليدية عند الاحتلال. فالجزائريون يبدعون أو يستهلكون هذه الفنون ولكن قلما ألفوا فيها. ولذلك فان اعتمادنا سيكون على ما ألفه عنها الأوروبيون. وهؤلاء كانوا إلى جانب اهتمامهم الفني والحضاري كانوا مهتمين بالجانب التجاري وتنافس البضائع الأهلية والأوروبية (¬1)، وملاحظة التحولات التي طرأت على المجتمع بعد الاحتلال واختلاط العناصر الأوروبية بالجزائريين. ومن نافلة القول أن ننبه إلى أنه قد وقع للفنون الشعبية ما وقع لغيرها نتيجة الاحتلال. ولعل إصابة الفنون كانت أعمق وأسرع. ذلك أن الفئة التي كانت تنتجها وتستهلكها قد أصابها الذعر فهاجرت من المدن الكبرى حيث كانت الفنون مزدهرة. والمعروف أن الاحتلال قد بدأ بالمدن الرئيسية. وإلى جانب الهجرة تعرضت الأسواق والبازارات والقصور إلى الهدم، سيما في ¬

_ (¬1) كتب القاضي شعيب الجليلي رسالة بالعربية وترجمت إلى الفرنسية عن مصنوعات تلمسان. انظر حياته، وكذلك فصل العلوم الاجتماعية. ونحن نجد في (حكاية العشاق) للأمير مصطفى بن إبراهيم باشا أسماء عديدة ووصفا هاما لبعض المصنوعات التقليدية، انظره.

العاصمة وقسنطينة وبجاية. كما تعرضت التحف والنماذج إلى النهب والسرقات ورجع تقريبا كل ضابط وجندي فرنسي إلى بلاده بتحفة فنية على قدر ذوقه وقدرته على النهب، بما في ذلك الكتب المذهبة (¬1). وتشمل الصناعات التقليدية الحلي والطرز والخزف والنسيج والأسلحة والنحت على الجبس والنحاس والصباغة والنقش على الخشب وأنواع الأثاث والزخرفة والديكور، وغيرها. وكانت كلها مزدهرة قبل الاحتلال، رغم أن بعض النقاد الفرنسيين قد لاحظوا بداية تدهورها من القرن 18 م. وقد كتب عن هذه الفنون وتطورها واستعمالاتها عدد من النقاد والدارسين، منهم الضابط روزي، وبيربروجر، وأوديل، وفي عهود متأخرة كتب عنها جان ميرانت وأوغسطين بيرك وماري بوجيجا. أنواع الحلي تتمثل في الخواتم والأساور والأقراط والعقود الذهبية والخلاخل. يضاف إلى ذلك حلي تستعمل للمناسبات مثل الصرمة والريحانة والبدل والمشرف والتيغار والخلال وخيط الروح. ويصاغ الذهب والفضة لهذه الحلي. وقد تكون من الجواهر أو من قطع الذهب (السلطاني) واللويزة. كما أن منها النوع الفضي الجيد. ومعظم الحلي كان للنساء. أما الرجال فيستعملون منه بعض الخواتم والأوسمة وتزيين السلاح وبعض المستعملات الأخرى، مثل الساعات وعلب الدخان أو النشوق. وكانت الحلي غالبا من صنع جزائري، ولكنها قد تكون مستوردة من المشرق أو من أوروبا. أما من أفريقيا فكان استيراد الآبنوس وتراب الذهب وأسنان الفيل والعاج، وكانت تصنع محليا لنفس الغرض. واشتهر بنو يني في الزواوة بصنع الحلي، وكذلك صاغة العاصمة وتلمسان وقسنطينة. ولكن هجرة اليهود من الأندلس ثم نزوح بعضهم من ليفورنيا إلى الجزائر، جعلهم يسيطرون على صناعة الحلي. وكان اليهود هم محل ثقة الباشوات في اختبار ¬

_ (¬1) تعرض لمسألة النهب في التحف والوثائق و (الكنوز) عدد من المؤلفين الفرنسيين، منهم: أدريان بيربروجر في الأوائل، وشارل أندري جوليان في الأواخر.

العملة الرسمية وأصالة الجواهر والمذهبات التي ترد إلى الدولة في الهدايا والغنائم. وهذا الامتياز أعطى لليهود أيضا اليد العليا في صناعة الحلي. وكانت هداياهم الذهبية، سيما لنساء البايات والباشوات، وهي رشوة واضحة، قد سهلت عليهم مهمتهم في السيطرة على سوق العملة والذهب والفضة، وهي أساس صناعة الحلي. وقد ظلوا يستعملون نفس السلاح، حتى أنه عندما زارت امبراطورة فرنسا الجزائر سنة 1860 قدم لها نساء اليهود هدية ثمينة من الحلي (¬1). الحلي الجزائرية عليها رسومات تمثل الذوق المحلي والديني. فهي على العموم ذهبية أو فضية، كما ذكرنا، وترسم عليها الجواهر والورود والأغصان. وهناك عقود مذهبة ومحببة. وفي الزواوة يصنعون الحلي الفضية عادة وهي ذات ألوان زاهية وتتدلى منها أشكال مختلفة بسلاسل دقيقة ذات ألوان زرقاء وخضراء وصفراء وبنية وطينية (لون الطين). هذه الصناعة التي كانت مزدهرة ومنسجمة مع الذوق الوطني والديني، أخذت في التدهور لعدة أسباب، منها أن اليهود ازدادت مكانتهم في عهد الاحتلال، سيما بعد تجنيسهم الجماعي سنة 1870. وأدت الهجرة الجزائرية إلى إحداث فراغ في اليد الصانعة الماهرة، وكذلك سيطرة البضائع والمصنوعات الأوروبية المستوردة، واختلاف الأذواق، مع الافتقار الذي حل بالمجتمع الجزائري. ولكن صناعة الحلي مع ذلك لم تنقرض، فقد تطورت مع الزمن وأخذت أشكالا جديدة تنافس بها الذوق الأوروبي، ولا سيما في المدن، أما في الأرياف (وكان معظم الجزائريين أهل ريف في عهد الاحتلال) فقد استمرت صناعة الحلي، رغم تأثير اليهود، وظل الاستعمال على ما كان عليه تقريبا فى الحياة اليومية وفى المناسبات الاجتماعية. ¬

_ (¬1) انظر محاضرة ماري بوجيجا عن الحلي الجزائرية في مجلة الجزائر SGAAN، 1931، ص 203 - 224. أيضا ميرانت (كراسات الاحتفال)، ص 44. وماري بوجيجا أيضا (نحو نهضة ...) في المجلة المذكورة، 1923، ص 325.

والطرز كان أحد الصناعات التقليدية الرائجة والمتجددة. وله أماكن مشهورة وهي العاصمة وقسنطينة ووهران. وقد أخبرنا فانتور دي بارادي منذ آخر القرن 18 أن الذوق الجزائري يظهر حقيقة في المطروزات. وأكد ذلك روزي الذي رافق الحملة الفرنسية وكان في قيادة أركان بورمون، بعد تجواله في المدن التي وقعت تحت الاحتلال (¬1). وكانت المطروزات تظهر على الحرير وعلى قماش الملف بالألوان المنسجمة، وكان اللون البنفسجي بالخصوص يستعمل في الطرز على الحرير. أما الألوان الأخرى، فهي الأحمر والأزرق وأحيانا الأخضر والأصفر، وحتى الأزرق الفاتح، وكانت تستعمل أحيانا كإضافات. وقد تجول روزي في العاصمة والقليعة عندئذ ورأى الشال (المنديل الكبير) المطروز يباع هناك، مع العلم أن هذه الصناعة قد تأثرت بالاحتلال وبالهجرة التي ذكرناها وغلق المحلات وكساد التجارة. ولم يكن لباس المطروزات خاصا بالنساء بل كان الرجال يلبسون المطروز أيضا، وكان ذلك من علامات الثروة والأبهة والذوق السليم. ويذهب بعض النقاد إلى أن العثمانيين هم الذين أدخلوا الطرز، وهو قول مارسيه، ولكن المعروف أن الأندلسيين قد برعوا في هذا الفن. فالقول بأن الجزائر مدينة في صناعة الطرز (للأتراك) فيه مبالغة ظاهرة. والعبارة في حد ذاتها غير دقيقة لأن التأثير عموما كان شرقيا، بمعنى أن الصناعة قد تكون شامية أو فارسية وليست (تركية) بهذا المعنى. وللشام علاقة وطيدة بالأندلس وفنونها. ومن جهة أخرى فإن الذوق الوطني أو المحلي كان واضحا في المطروزات، يظهر ذلك في العقود الفنية والأشجار والغصون والتشابكات وانسجام الألوان. ومن عادة الفرنسيين أنهم يجردون الجزائريين من كل شيء حتى الذوق والفن، فقد قالوا إن قيمة المطروزات لا تظهر في الجودة والاتقان والذوق ولكن في كمية الذهب الذي تشتمل عليه. أما المطروزات ¬

_ (¬1) روزي في كتابه (رحلة في إيالة الجزائر)، 1833، نقل عنه ميرانت، مرجع سابق.

ذاتها فهي (خشنة)، حسب تعبيرهم (¬1). وسنرى أن محاولات فرنسية ستجرى لتجديد الفنون التقليدية، ومنها الطرز. واشتهرت عائلات جزائرية بالطرز الجيد فأصبحت متخصصة فيه، كما اشتهر فيه أفراد يشار إليهم بالبنان، مثل محمد بن الحاج الذي عرف عنه أنه كان يطرز الأقمشة الحريرية بالذهب والفضة. ويشمل ذلك الأحزمة والمناديل والفوطات. ومنذ 1845 التفت الفرنسيون إلى هذا الفن، وبدأوا يهتمون به، بعد أن لاحظوا تدهوره واتجاهه نحو الانقراض. وكان الطرز في بداية الاحتلال مصدر دخل لمن يصنعه، كما كان تجارة رابحة للسواح الأوروبيين الذين تهاطلوا على الجزائر. ولذلك أسست السيدة لوس (المعروفة أيضا أليكس)، باتفاق مع المارشال بوجو، مدرسة للطرز، وجلبت إليها بعض الفتيات الجزائريات لتروج هذه الصناعة من جهة، ومن جهة أخرى لتنشيط الحركة التجارية فيها مع السواح، ثم الدخول عن طريقها إلى دواخل الأسرة الجزائرية المنغلقة على نفسها في نظر الفرنسيين. وهكذا أصبح فن الطرز لا يذكر مع العائلات والأفراد الجزائريين المتقنين له، ولكن يذكر على أنه إنتاج مدرسة لوس أو ابن عابن وغيرهما. فالنقاد الفرنسيون نسوا دور الجزائريين المباشر وأصبحوا يتحدثون عن ورشات الطرز التي تأسست بجهود فرنسية وما أخرجته من تلميذات جيلا بعد جيل، فتلك الورشات هي التي استخرجت حسب تعبير بوجيجا (سر هذا الفن) بعد أن أحيته لوس ومررته عبر الأجيال (¬2). أما محمد بن الحاج وأمثاله فقد نسي الناس حتى أسماءهم. وهكذا يكون الاحتلال لم يستول على الأرض ويسقط الدولة فقط ولكنه استولى أيضا على الفن واغتصبه من أهله وبنى على جهودهم جدارا يحجبها عن الأجيال. وكان النسيج من الصناعات التي تفتخر بها الجزائر. وقد كانت له ¬

_ (¬1) ميرانت، مرجع سابق. (¬2) بوجيجا، مرجع سابق، ص 395. عن حيا ودور لوس، انظر فصولا أخرى.

صناعة كاملة وأسواق رائجة في مختلف أنحاء البلاد، وفي المدن الرئيسية كانت سوق خاصة بأسماء الأقمشة والحرير والأصواف ونحوها، مثل سوق الحرارين، وفلان الحرار، وسوق الصوف (رحبة في قسنطينة)، وسوق الشواشي. وكانت الجزائر تصدر إلى المشرق الأحزمة الحريرية. واشتهرت، من الناحية الفنية بصناعة الزرابي، والحياك والفوطات التي تستعمل للحمام، والمناديل والأحزمة والملابس كالبرانس والقنادر (ج. قندورة) والصدريات والسراويل. فهي صناعة وطنية كاملة تمثل الذوق المحلي، لا سيما في الزرابي إذ تظهر كل جهة أو منطقة تفننها الخاص، مما كان يؤدي إلى التنافس وتعدد الاختيار أمام الزبائن. وقد أخذ فن الزرابي بألباب الأوروبيين منذ الاحتلال. لاحظوه أولا في المساجد، كما ذكر روزي، إذ هدموا جامع السيدة، وهو أجمل مسجد بالعاصمة، سنة 1830، واغتصبوا زرابيه وثرياته. كما لاحظوا ذلك على جامع كتشاوة الذي حولوه إلى كنيسة، وكذلك حولوا غيره في مختلف المدن، سيما العاصمة وقسنطينة ووهران وبجاية. وكان أول احتلالهم للقصبة قد جعلهم على خطوات من جامع القصبة وجامع باب الجديد اللذين يفترشان زرابي فاخرة. ويقول روزي إنه قد زار في مدينة الجزائر - وقد هجرها الأغنياء والصناع - عددا من مصانع الزرابي، وذكر تفاصيل هامة عن صباغة النسيج عندئذ والألوان المستعملة فيها. ويقال إن الزرابي التي بقيت شائعة إلى حوالي 1860 كانت لا تخرج عن ستة أنواع: الفراشيات، والزرابي الصوفية، والحنبل، والقطيفة، والمطارح، والزرابي الملساء - بدون خملة. والأماكن التي اشتهرت بالزرابي هي: مدينة الجزائر، وآفلو، والسور، وبسكرة، وباتنة، وبوسعادة، ووادي سوف، وشلالة، والقلعة، وسطيف، وسعيدة، وتيهرت، وتلمسان، وكذلك اشتهرت بالزرابي المسيلة، وفرندة وجبل عمور، وجبال بوطالب، وقصر البخاري. وتتميز أنواع الزرابي عن بعضها باستعمال الألوان والأشكال واستخدام الذوق المحلي لكل منطقة، مع الإبداع الفردي. وهكذا نجد

الألوان الآتية متغلبة، وهي الأحمر القاني، والأصفر والأحمر العادي، والأسود، مع بعض الألوان الأخرى الثانوية أحيانا لتضفي تجديدا وتهذيبا وراحة للنفس. ومرة أخرى يدعى النقاد الفرنسيون أنهم تدخلوا لاسترجاع فن الزرابي، وبدأ ذلك على يد السيدة لوس المشار إليها حين أسست ورشتها واستخدمت النساء الجزائريات، وبحثت عن الفن الأكثر أصالة - في نظرها - وأحيته، وتخرج على يديها فيه عدد من التلميذات اللاتي أصبحن ممتهنات في ورشات جديدة، وهكذا (¬1). كما راجت صناعة الزرابي بين السواح والتجار، واستفادت السوق الفرنسية من هذه العملية. وكان للآباء البيض دور في تشجيع ذلك أيضا. ولكن هذا الادعاء فيه قفز على التاريخ وإجحاف بحق الجزائريين الذين استمروا، رغم الصعوبات، في صنع الزرابي حسب الذوق المحلي، كما ذكرنا. لقد كان هناك متخصصون يطلق عليهم اسم (الرقامة) (¬2) - ومفردها رقام -. وكان الرقامة يتجولون على أهل الصنعة ومراكز الزرابي المعروفة، فيراقبون، ويشيرون بآرائهم لتحسين الصناعة والمحافظة على الأصالة والتقاليد. وهم يحذقون هذه الصنعة أبا عن جد، أو هي محفوظة عندهم في القلوب، كما يقولون. فهم لا يتلقونها في مدرسة ولا يطالعونها في كتاب، ولكنهم ورثوها عن بعضهم. وتتألف عناصر النسيج الجزائري من جريدات النخيل التي هي فارسية الأصل، حسب ميرانت، ومن الوردة ذات الشكل البسيط. يضاف إلى ذلك الخطوط المركبة ذات الأشكال الهندسية المبتكرة، إذ تتخذ أشكال المربعات والمستطيلات، والشكل اللوزي، وكل هذه الأشكال تتداخل باعتبارها عناصر أساسية في الصنعة. ويبرز الفن البربري بوضوح في النسيج أيضا. وهو يظهر بحرية صارخة وبأسلوبية متميزة، ولكن تبدو عليه البساطة والنظرة الساذجة ¬

_ (¬1) بوجيجا، مرجع سابق، ص 393. (¬2) من الرقم والترقيم، وهو هنا يعني الزخرفة والتزيين والتوشيات ونحوها، ومن ذلك تسمية ابن الخطيب أحد كتبه (رقم الحلل).

للحياة، بالإضافة إلى أنه فن قليل التطور، ربما لعدم تأثره وعزلته (¬1). وقد قيل الكثير عن علاقة فن الزرابي بالكائنات الحية ورسمها في النسيج. انه كفن إسلامي كان بعيدا عن تصوير الإنسان. أو الحيوان في الزرابي ونحوها. فكان الناسج يلجأ إلى تعويض ذلك بالنباتات والأشكال الهندسية والخطوط التي تمثل تجريدا بعيدا عن الإساءة إلى الدين وعقيدة التوحيد. وقد بحث الفرنسيون، حسب قول ميرانت، فوجدوا أن السبب يرجع إلى العامل الإسلامي. ولكنهم ادعوا أيضا أنه راجع إلى الخرافات وشيوع السحر والعقائد الوثنية. كما أن البدائية تؤدي إلى إبداع فن بسيط في موضوعه من جهة ومثير للخوف والغموض من جهة أخرى. والغريب أن الفرنسيين خلطوا بين الحركة الرومانتيكية عندهم وبين الموضوعات البسيطة والتعلق بالخرافي والخيالي والمجهول وحتى بالبدائية الأولى لدى الجزائريين. فجعلوا ذلك كمالا عندهم، وجعلوه نقصا عند الفنانين الجزائريين الذين أبدعوا فنونا من الزرابي والأنسجة الأخرى خالية من التصوير البشري والحيواني. وكل نسيج تقريبا لا بد له من صبغة. وكانت الصباغة هي إحدى الصناعات المحلية النافقة قبل الاحتلال. وقد أورد روزي عدة تفاصيل عن صباغة أنواع النسيج سنة 1833. فتثبيت الألوان واختيارها يرجع إلى أيادي ماهرة، وإلى حلقات من التحضير والبحث. فاللون الأصفر مثلا كان يستعمل له العفص، وكان موجودا بكثرة حول مدينة الجزائر، واللون الأحمر البنفسجي كان يستحضر من خشب شجر البقم Campeche، والأزرق كان يحضر من النيلة، والأسود من قشور الجوز المعروف بالغرناطي. وهكذا فإن مواد الصباغة قائمة من أساسها على النباتات. فالأحمر الغامق مثلا يستخرج من نبات الفوة الممزوج بالعفص، والأزرق من النيلة، كما ذكرنا، والأحمر الفاتح من قشور الجوز الغرناطي والأخضر من رغوة النيلة المغلية. وهناك عدة زخارف أخرى ملونة تأتى عن طريق مزج النيلة والعفص أو غيرهما. ¬

_ (¬1) ميرانت، مرجع سابق، 39 - 40.

وأما اللون الأسود فيأتي من خليط النيلة والكبريت الحديدي ومن العفص وثمرة جوزة الطيب. وأما اللون البنفسجي فإنه يستحضر بإضافة رغوة الدردي إلى النيلة. ويقول ميرانت إن هذه الصناعة ستعرف بعض التحول عندما أدخلت المواد الكيمياوية على تحضير الألوان (¬1). ثم إن نباتات عديدة اختفت نتيجة الحرائق واستيلاء الفرنسيين على الأراضي وتحويل حقول العفص مثلا إلى حقول زراعية أكثر فائدة، ربما، من صبغة المواد النسيجية. كما اختفى الرقام من الوجود الفني. ومن الصناعات التقليدية التي كانت رائجة المصنوعات الخشبية، رغم أن بعضهم يقول إنها كانت في درجة ثانية من الأهمية. وتحدث عنها ليون الإفريقي (الحسن الوزان) ومرمول، وهايدو. ولكن الأخير قال ان الجزائريين كانوا لا يستعملون الموائد والسفرات، وليس لهم خزائن، بل كانت تكفيهم علبة أو صندوق لحوائجهم. غير أن مؤلفين آخرين أثبتوا عكس ذلك، فقد لاحظوا وجود خزائن الكتب، وخزائن الملابس، والموائد، والأرائك، والمناضد، وحاملات المصاحف. ولهذه الصناعات مراكز كانت معروفة، وهي العاصمة والمدية ووهران وقسنطينة وقالمة والزواوة وأم البواقي (¬2). والمصنوعات الخشبية كانت تزخرف بعدة أشكال وألوان. وذكرت بوجيجا أن الزخرفة كانت بواسطة الزهور وفن الأرابسك الذي يرسم على الصناديق والأدراج في أشكال مختلفة. وألوان هذه الرسومات تتألف من الأبيض والأخضر والأصفر وغيرها (¬3). ويتصل بهذا الفن - فن الصناعات الخشبية - بعض الأثاث العربي. ويظهر ذلك في الكراسي الموضوعة في المساجد، وأبواب المنازل والمساجد وغيرها، والمناضد المستطيلة، وصناديق حفظ القماش، لكن الزخارف على ¬

_ (¬1) ميرانت، مرجع سابق، ص 51. (¬2) نفس المصدر، ص 44 - 45. (¬3) بوجيجا، مرجع سابق، ص 388.

المصنوعات كانت مدهشة، وعليها نقوش ونماذج موزعة بمهارة. ومن هذه الزخارف نجد الكتابة العربية ذات الخطوط الفنية الرائعة. وكان الخطاطون والنقاشون البارعون أمثال سي محمد بن عودة، وسي أحمد أمين البنائين، والسيد السفطي، يضفون على هذه المصنوعات ذوقا وجمالا، مع الطابع المحلي والديني. ولكن هذا الفن تدهور أيضا بل اختفى مع الجهل بفن الخط، ومزاحمة المستوردات الأوروبية من الخشب. ولا بد من ذكر صناعة النحاس أيضا. فقد كانت إحدى الصناعات التقليدية الرائجة. وقد أخبر روزي سنة 1833 أن مختلف أنواع الأسلحة كانت تصنع في الجزائر عدا المدافع. وكانت مصانعها موجودة في أمكنة عديدة، منها العاصمة وقصر البخاري والأغواط وبوسعادة. وكانت المادة الخام تستخرج محليا، وتستورد أيضا من المغرب والأندلس (إسبانيا). وهذه المادة كانت تستعمل في أغراض عديدة، منها الأطباق وأحواض الحمام، وأواني الكسكسي، والسكريات والمصابيح (الثريات). وهناك أبواب كاملة من الخشب كانت مغطاة بالنحاس، وقد نقشت عليها نقوش متناسقة، كما حدث في جامع سيدي بومدين في تلمسان وجامعها الكبير. وقد صنعت الثريات في هذه الأماكن من نفس المادة، وحافظت قسنطينة والعاصمة على صناعة النحاس بينما أخذت تنقرض فيما عداهما. ومن أشهر المهرة في هذه الصنعة سي الحاج القصباجي الذي كان يصنع منها المهاريس. وهناك غيره من الفنانين الجيدين. ويذهب بعض النقاد إلى أن معظم الباقين من هؤلاء الفنانين كانوا من أصل سوري. وكانوا يستعملون النماذج السورية التي يعرفوها أو يقلدون نماذج متحفية (¬1). وقد اشتهرت الجزائر بصناعة السيوف والسكاكين، وبالأدوات المستعملة للفرس كالركاب واللجام. ويذهب ميرانت إلى أن الصناع الجزائريين لم يبلغوا درجة إخوانهم فى المغرب وتونس فى الإتقان. ¬

_ (¬1) بوجيجا، مرجع سابق، ص 386 - 387. ولا ندري الفترة التي تشير إليها الكاتبة.

وكان الفخار من أنشط الصناعات المحلية. وقد ذكر مارسيه أن مصنعا للفخار والخزف كان قرب العاصمة في عهد الاحتلال. وأقر روزي أنه كان بباب الواد (العاصمة) سنة 1830 عدة مصانع للفخاريات. وقد قضى الاحتلال بالهدم وتنفير الصناع من البقاء فاضمحلت هذه الصناعة بالتدرج. بينما يعترف ميرانت، وهو الذي يستنقص تقريبا كل ما ينسب إلى الجزائريين من أعمال جيدة، بأن الفخار الجزائري كان ذا شهرة واسعة قبل الاحتلال. وقد أشار إلى أن الدكتور شو (القرن 18) قد أكد على وجود مصانع للفخار والخزف في شرشال وأن الجزائريين كانوا يستعملونه بكثرة. وكذلك يعترف ميرانت أن هذه الصناعة الرائجة والمستعملة بكثرة قد أصابها الكساد بعد الاحتلال نتيجة ظهور الخزف الأوروبي. ولم يسع الجزائريون إلا محاولة تقليد هذا النوع الطارئ عليهم. فلم يبلغوا فيه مبلغ الاتقان، وظل إنتاجهم من النوع العادي. وربما بقي النوع الزواوي محافظا على أصالته بعض الوقت لعزلته عن المدن، غير أن ميرانت يقول أيضا كعادته، إن هذا النوع لم يبلغ درجة عالية من الرقي الفني (¬1). ويجد المرء في أخبار الأمير، ما كان يفعله لتزيين سروجه وأعلامه وتسويم الجند وغير ذلك مما يحتاج إلى الزخرفة (¬2). والخلاصة أن الصناعات التقليدية المذكورة كانت كلها ذات شأن في الجزائر، لها خبراؤها وأمناؤها وطبقتها الاجتماعية. وبعضها كان رائجا في الداخل والخارج، ولكن الاحتلال أوقف مصانعها وشتت أهلها وأفقر من بقي منهم. ونتيجة الاحتلال أيضا حلت الصناعات الأوروبية محل الجزائرية فأدت إلى منافستها في الجودة وفي الأثمان. وبعد هذا التدهور الذي طال أمده، ماذا فعل الفرنسيون؟. ... ¬

_ (¬1) ميرانت، مرجع سابق، ص 42 - 43. (¬2) انظر (تحفة الزائر) 1/ 120 وما بعدها، وص 201 عن علم الأمير (الراية). وكذلك جورنال دي مينوار سنة 1841 في (المجلة الإفريقية)، عدد 441، سنة 1955 ص 133.

يذهب ميرانت إلى أن التدهور بدأ منذ القرن السادس عشر (بداية العهد العثماني) ربما لكي يبعد كل الوصمة عن الاحتلال الفرنسي الذي يقر ميرانت نفسه أن الصناعات والفنون الجزائرية قد تدهورت خلاله. ولكنه يعزو (الانحطاط) في ذلك إلى تكاثر العمليات العسكرية منذ 1830، وهذا أمر لا يحتاج إلى برهان وبحث طويل، فالاحتلال قد فجر المقاومة، واستمر الصراع عقودا طويلة، وقد نتج عن ذلك اقتلاع جذور المجتمع في المدن وبعثرة الحياة القبلية وزعزعة الاستقرار في الوطن كله. ومع اختفاء الطبقة المستهلكة لنتاج الصناعات والفنون اختفت أيضا فئة المختصين في ذلك واضمحلت حرفهم وصناعتهم. ويعترف الفرنسيون أيضا بأن تغييرات أخرى قد حدثت في هذا المجال ضاعفت من تدهور الصناعات والفنون التقليدية. ومن ذلك تحول طرق التجارة عن مجراها السابق، وعزلة الأماكن والمراكز التي اشتهرت بالانتاج عن الأسواق التي كانت تروج فيها بضاعتها، كما افتقدت زبائنها المعتادين. وبالإضافة إلى ذلك فقد تحول الاهتمام عند الناس وتغيير الذوق تدريجيا مع دخول ومنافسة المصنوعات الفرنسية. وهناك ظواهر اجتماعية واقتصادية تشهد على أن المجتمع لم يبق على ما كان عليه. ويسمى الفرنسيون ذلك (تقدما) في الحياة المادية للسكان. والواقع أن المجتمع قد تعرض لهزات عنيفة بسبب حلول آلاف الغرباء (الكولون) مع عاداتهم وتقاليدهم وأذواقهم. ثم بسبب الإفقار والإهمال (اغتصاب الأرض، ومصادرة الأوقاف، والاستيلاء على أملاك الذين شاركوا في المقاومة أو هاجروا، والتجهيل المنظم). ومع امتداد الاستعمار تأثرت حياة البداوة والرعي وأصبحت الأراضي مزروعة، ولكن فيه ملك الغرباء الفرنسيين. وتحول الجزائريون بالتدرج إلى (خماسة) في الأرض التي كانوا يملكونها أو يرعون ماشيتهم عليها. ويذهب ميرانت إلى أن ذلك التحول قد أدى إلى حلول الدار (المنزل) محل الكوخ (القوربي) وحلول الأثاث الأوروبي في المنزل محل الزرابي في الخيمة. لأن اختفاء قطعان الماشية قد أدى إلى اختفاء صناعة الزرابي.

ولا شك أن تحولات عديدة قد حدثت في الملابس والأثاث والأسلحة حتى خلال العهد العثماني، ولكن ذلك كان بطيئا ولم تفرضه الظروف فرضا كما حدث في أيام الاحتلال. فمنذ 1830 غزت البضائع الأوروبية الجزائر فأثرت وبسرعة على الصناعات التقليدية وأفقدتها أصالتها وأسواقها. وقد اختفت شخصية (الرقام) الذي كان يلعب دورا تقليديا حيويا في المحافظة على أصالة الزرابي والسجاد والإشراف على الألوان النباتية المناسبة. وهكذا حلت الألوان المعدنية. وفقدت الصباغة مادتها الأولية. فأشجار البلوط أو الزان (Chene - Kermès) التي كانت تعطي اللون الأحمر جهة القلعة قد تعرضت للحرائق عدة مرات، نتيجة الصراع بين المقاومة والاحتلال. ثم ان حقول نبات الفوة Garance التي كان منها الكثير حول العاصمة قد تعرضت بدورها إلى تغيير أفقدها مهمتها الأولى، لقد أصبحت أيضا في يد الغرباء يستغلونها للزراعة (¬1). أشرنا إلى أن السيدة لوس كانت قد أسست في العاصمة وباتفاق مع إدارة بوجو، أول ورشة للطرز وتعليم اللغة الفرنسية والحساب لبعض الفتيات الجزائريات. ولوس هذه كانت امرأة مغامرة بدأت حياتها في فرنسا، وتزوجت هناك من السيد اليكس، وأنجبت منه طفلة، ثم هربت منه إلى الجزائر ومارست مختلف الأعمال، وتعلمت اللغة العربية الدارجة، إلى أن شرعت في مشروعها المذكور (¬2). وقد ذكرنا أن الهدف المعلن من الورشة هو تعليم الطرز للجزائريات. والظاهر أن الورشة قد أدت مهمتها على غاية ما يرام، لأنها ظلت تتطور وتتسع حتى شاركت لوس في المعارض الدولية بالطرز الجزائري، ومنها معرض لندن سنة 1862. وتشهد السيدة روجرز أن ¬

_ (¬1) ميرانت، مرجع سابق، ص 45 - 47. (¬2) حياتها مفصلة في عدة مصادر، ومنها كتاب السيدة روجرز الإنكليزية (شتاء في الجزائر) لندن، 1865، ص 191 - 199. وكانت روجرز قد عرفتها شخصيا في الجزائر وزارت ورشتها وشاهدت معرضها في لندن. انظر أيضا الحركة الوطنية، ج 1.

المطرزات كانت قد تدهورت سنة 1845، ولكن بفضل ورشة لوس عادت إلى الازدهار، وكان السواح الإنكليز يشترون المطرزات بأثمان باهظة حتى وصلت القطعة منها إلى 150 جنيه إسترليني (¬1). وقد أخرجت ورشة لوس بعض الجزائريات أيضا، ومنهن السيدة نفيسة بنت علي، التي حصلت على (بروفي) أو دبلوم في الطرز سنة 1856. ولكنها لم تعمر طويلا بعد ذلك إذ توفيت سنة 1861. ومن تلميذات المدرسة أيضا السيدة ابن عابن التي تابعت أعمال لويس. ثم ظهرت في عهد جول كامبون (العشرية الأخيرة من القرن الماضي) مدارس عديدة للطرز وغيره من الأشغال اليدوية النسائية، وكان الغرض منها التجارة من جهة والمحافظة على الصناعات التقليدية (الأهلية) من جهة أخرى. وقد أولى شارل جونار في أول هذا القرن هذه الصناعات اهتماما، خاصا فازدادت الورشات وعممت في عدة أماكن. تكونت مدرسة ابن عابن في العاصمة حوالي سنة 1850 وأعلنت أيضا أنها مدرسة لتعليم البنات الجزائريات اللغة الفرنسية والحساب، وكذلك الرسم وأشغال الإبرة وإدارة المنزل. ثم في سنة 1883 أنشأت السيدة سوسروت في قسنطينة مدرسة لتعليم الطرز ونسج الزرابي، وطبقت فيها الطريقة القديمة في الصباغة كما كانت مستعملة في الأعراش والبادية. وخلال العشرية الأولى من هذا القرن نشأت عدة مدارس للفنون الشعبية والصناعات التقليدية بتشجيع من إدارة جونار كما قلنا. وجرى فيها البحث عن استعادة الأساليب القديمة في الطرز العربي وصباغة الزرابي والسجاد والأغطية، وكذلك أشغال الإبرة. وقد عرفت العاصمة وقسنطينة وبجاية ووهران وتبسة هذا النوع من المدارس والنشاط. وكذلك عرفت ¬

_ (¬1) ظهر وصف لسيرة وأعمال لوس في مجلة إنكليزية عنوانها: مجلة المرأة الإنكليزية E.W. Journal كتبته السيدة بوديشون. وقد نقلت منه السيدة روجرز في كتابها المذكور.

شرشال والقليعة والمدية وتلمسان وتنس وبسكرة والأغواط وغرداية وعدة مراكز في زواوة، نماذج أيضا من هذه الورشات. ويجب ألا يختلط علينا أمرها بالمدارس الابتدائية أو نحوها، فنحن نتحدث هنا عن الورشات الخاصة بإنتاج المطروزات ونسج الزرابي وأشغال الإبرة، أي هذه الصناعات التي تدخل في إحياء التراث التقليدي من جهة والتجارة به من جهة أخرى. ولا بد من الملاحظة هنا أن جمعية الآباء البيض والأخوات البيض كانوا يقومون أيضا بأعمال موازية في كنائسهم وورشاتهم التابعة للأسقفية. وكانت الورشات قد أنشئت حيث يكثر النشاط الديني التنصيري مثل غرداية وزواوة وبسكرة والشلف. وبذلك أصبح هناك غرض ثالث من هذه الورشات، وهو التنصير بدعوى إحياء الصناعات التقليدية. أما تعليم اللغة الفرنسية (وغسل المخ) والتوجيه الثقافي فهو قدر مشترك بين جميع المدارس والورشات. ومما يذكر أن هناك ورشات للطرز أيضا قد أسستها سيدات إنكليزيات كن يدن بالمذهب البروتيستنتي، في كل من شرشال وضاحية مصطفى باشا بالعاصمة (¬1). وعشية الحرب العالمية الأولى كانت مدارس الطرز والنسيج التقليدي موجودة في عدة نقاط بالجزائر. من ذلك ورشة العاصمة التي كانت تديرها سنة 1913 السيدة قيتفيل. وكانت هذه السيدة قد تعلمت فن الصناعات التقليدية بالقيروان. ثم أسست ورشة في وهران، وأخيرا حلت بالعاصمة. وقيل إن مدرستها التي كانت في نواحي القصبة (شارع مرنقو)، قد ازدهرت، وكانت تضم حوالي 170 تلميذة، وكانت الورشة تضم ست عشرة بنتا يتعلمن بصفة دائمة، أعمارهن بين العاشرة والثالثة عشر. وكانت المدرسة متخصصة في صنع الزرابي والسجاد القديم بالأسلوب الفارسي والقبطي. وكان إنتاجها مطلوبا جدا. وهذا يبرهن، إذا صح، على تحويل الصناعات الوطنية عن ¬

_ (¬1) بوجيجا إيمانويل، المجلة الجزائرية SGAAN (1938)، ص 72 - 74. حول دور المدارس الفرنسية المتجهة للتعليم الإبتدائي، انظر فصل التعليم الفرنسي والمزدوج.

وجهتها وإدخال تأثيرات أخرى مستوردة عليها. وكانت المدرسة تنتج أيضا المخدات (الوسائد) والمطروزات التركية والجزائرية والمغربية. بالإضافة إلى أشغال الإبرة أو الدنتال. وكانت مدرسة آيت هشام بزواوة (ميشلي) قد فتحت أبوابها عام 1890، وحصلت في سنة 1900 على جائزة المعرض الدولي في الخياطة والطرز. وفي سنة 1913 كانت المشرفة على هذه المدرسة هي السيدة بيرين، وكان معها زوجها يساعدها في هذه المهمة. ولا ندري إن كانت لها علاقة بالنشاط الديني التنصيري هناك أيضا. وتضم المدرسة 34 تلميذة. أما مدرسة الشلف (الأصنام) التي كانت تديرها السيدة شوبير فقد كانت تضم سنة 1913، 146 تلميذة (¬1)، وهكذا. في عهد جونار أيضا أنشئ مكتب خاص للرسم وألحق بإدارة مدير التعليم. وكانت مهمة هذا المكتب وضع جرد دقيق ومتواصل للأعمال الفنية الموجودة بالجزائر، ثم إعادة العمل بها حسب الحاجة. وكان على المكتب أيضا غربلة وتنقية وتصحيح هذه الأعمال الفنية، وذلك بالرجوع إلى الأشكال التقليدية - الكلاسيكية - الأصلية، وفي هذا النطاق طلبت إدارة جونار من السلطات الفرنسية في تونس والمغرب (احتلت المغرب سنة 1912، ولكن النفوذ الفرنسي هناك يرجع إلى عهد سابق) إمدادها بالنماذج من الفن الشرقي أو العربي - البربري لتطويره بالجزائر باعتباره تراثا مشتركا في المنطقة. وبهذه الإجراءات وقع تطوير وتنقيح الزرابي المعروفة بزرابي القرقور، وزرابي القلعة. كما وقع الرجوع إلى الشكل الهندسي الذي كان شائعا في الفن البربري. كما جرى تطوير آخر في الطرز وغيره من الصناعات والفنون. فقد استفيد من تجربة المغرب في الطرز المعروف بالرباطي المشتهر باستعمال الزهور والألوان الزرقاء والخضراء مع البنفسجى الغامق والمذهب. وجرى ¬

_ (¬1) ألفريد كولون (دروس الصناعات للفتيات الأهليات) في المجلة الجزائرية SGAAN (1913)، ص 545 - 563.

ذلك على الصناعات النحاسية إذ أدمج الأسلوب السوري مع الأسلوب الجزائري، وأصبح هذا الطراز الجديد يعلم في المدارس والورشات، كما ظهر في بعض الإنتاج. ويسمى ميرانت ذلك (نوعا من النهضة) في هذا الفن. وكانت إدارة التعليم هي التي وراء هذا التحديث والرجوع في نظر الفرنسيين، إلى الفن الأهلي الأصيل، وهي نهضة تعتمد البساطة والرشاقة في الرسومات والزخارف التي لا تتناقض أيضا مع تعاليم الإسلام (¬1). ومن جهة أخرى ساهم استعمال المواد الكيمياوية في الألوان وإنشاء ورشة جديدة للصباغة في إعطاء حيوية للفن المحلي. فبعد الفوضى التي أصابت هذا الفن من اجتهادات المجتهدين الفرنسيين وبعد اختفاء أهله العارفين به، أصابه الاختلاط في الألوان وضياع الهوية الوطنية. ويبدو أن الفرنسيين كانوا يظنون أنهم بمراجعة ميدانية لما أصاب الفن الجزائري ومحاولة تدارك الألوان والصباغات، سيبعثون فيه الحياة. ولذلك رجعوا في الألوان إلى المواد الكيميائية، وأنشأوا ورشة للصباغة عهدوا بها إلى السيد دلاييه Delaye . فبعد صباغة الصوف بالمواد المذكورة تقدم إلى الورشات المستعملة لها. ويذهب ميرانت إلى أن هذه العملية قد جاءت بنتائج طيبة جدا. فقد وقع التجديد في الزخرفة (الديكور) وفي الألوان مما أدخل على الفن البربري - العربي حياة قوية وصلبة (¬2). ولكن الذين كتبوا بعد ميرانت لم يكونوا متفائلين مثله. حقيقة أن المحاولات التي ذكرها قد وقعت، كما وقع الربط بين تعليم الفتاة الجزائرية والصناعات المهنية، كالطرز والخياطة وأشغال الإبرة ونحوها. ولكن التجربة قد فشلت فيما يبدو. لقد كان دافع الفرنسيين من إحياء الفن الجزائري الذي تدهور على أيديهم هو الكشف على أن الجزائر كانت بعد استقرار الاحتلال أحسن زبون لهولندا وإيطاليا في المواد الفنية. فكان من أول ما قام به جونار ¬

_ (¬1) ميرانت، مرجع سابق، ص 48 - 49. وكان ميرانت معاصرا ومشاركا في توجيه الفنون والصناعات التقليدية في الفترة التي نتحدث عنها. (¬2) نفس المصدر، ص 51.

هو إنشاء ورشة جديدة للخزف والفخار. وصدرت عن هذه الورشة أنواع من الأباريق ذات الأسلوب البربري والعربي والأندلسي. وبدا وكأن النهضة التي أشار إليها ميرانت أصبحت حقيقة واقعة. غير أن التجربة كانت مؤقتة. فقد ألغيت الورشة بعد جونار. وتقول بوجيجا إن خلفاءه لم يشعروا بضرورة إحياء هذا الفن (¬1). وقد كان محمد راسم (أمير فن المنمنمات) كما قال أوغسطين بيرك، قد ظهر خلال هذه الفترة، وسندرس حياته بعد قليل (¬2). وفي عهد هذه (النهضة) كتب إسماعيل حامد، أحد شهودها من (النخبة)، متحدثا عن الورشات والمدارس التي أنشئت لتعليم الفتيات الجزائريات الفنون التقليدية. وبعد أن ذكر ورشة لوس وابن عابن للطرز العربي، لاحظ أنها قد أهملت الأشكال الأخرى من تلك الفنون. ولاحظ حامد كذلك أن الجهود بعد أن كانت خاصة قام بها أفراد، تدخلت الحكومة وأصبحت هي التي تشجع على إحياء وتأصيل هذه الفنون. وقد أهمل حامد التعرض إلى مدارس وورشات الآباء البيض التي أنشئت لنفس الغرض، ولعله كان يعدها من الجهود الخاصة. ومهما كان الأمر فقد اختيرت مناطق معينة لفتح ورشات رسمية للبنات. وكان الغرض منها تعليم الفتيات الفنون والصناعات التقليدية، كجزء من التكوين المهني ولكن لفائدة السوق الفرنسية والسياحة، أكثر من تعليمهن العلم أو الحصول على وظائف مفيدة لهن. وإليك الإحصاءات التي أوردها إسماعيل حامد عن هذا النوع من التكوين المهني الموجه لإنتاج الفنون التقليدية. في ولاية الجزائر بين 1903 - 1909: هناك ستة مراكز تضم 526 تلميذة في السجاد الشرقي (إيران وتركيا) والزرابي الإفريقية - الجزائرية، من نوع زرابي القلعة، ثم الطرز العربي والنسيج البربري. ¬

_ (¬1) بوجيجا (نحو نهضة ...) في المجلة الجزائرية SGAAN (1923)، ص 391. (¬2) انظر عنه لاحقا.

وفي ولاية قسنطينة بين 1893 - 1910، أحدثت سبعة مراكز، وكانت تضم 539 تلميذة متخصصة في النسيج البربري والطرز العنابي والدنتال أو أشغال الإبرة، وكذلك الزرابي المتنوعة، وأنواع المرصعات. أما في ولاية وهران بين 1906 - 1910 فهناك أيضا سبعة مراكز، وتضم 674 متخصصة في الطرز المغربي - الزرابي الرباطية - وكذلك إنتاج جبل عمور. ومن النقد الذي وجهه حامد لهذه التجربة أنها كانت في بداية الطريق، وهو يقصد المقارنة بين عدد البنات وعدد البنين في التعليم. والنقد الآخر هو ازدحام الأقسام الخاصة بهذا التكوين. ففي وهران مثلا كانت 242 بنتا تحت إشراف أربع معلمات فقط. وفي مستغانم وعنابة 156 تلميذة تشرف عليهن ثلاث معلمات. أما الخريجات من هذه المدارس والورشات فليس أمامهن باب لمواصلة دراستهن، وبذلك كن ينسين ما تعلمنه بسرعة (¬1). ... ومن أشهر ما تميز به الفن الجزائري هو صناعة التجليد أو التسفير. فقد كانت هذه الصناعة شائعة ومتقنة في العهد العثماني. وكانت لها نقابة واختصاصيون مهرة. ولم تكن الكتب المطبوعة قد عرفت طريقها إلى الجزائر، فكان حفظ المخطوطات عن طريق إتقان فن التجليد. ولهم في ذلك ذوق رفيع في اختيار الألوان والتذهيب وأنواع الجلد. ولم يكن كل من يملك المخطوطات قادرا على تجليدها لأن ذلك يتطلب ثروة خاصة. وكان تجليد الكتب جزءا من الصناعة الجلدية عامة. وكان التجليد من الحرف التي تورث أبا عن جد. وقد عرفنا من دراستنا للعهد العثماني أن ابن حمادوش كان من المجلدين أو المسفرين، وكان يعيش، كما قال، من هذه الصنعة. ومن الأسف أنه لم يترك لنا وصفا ¬

_ (¬1) إسماعيل حامد (النساء المسلمات في شمال أفريقية) في مجلة العالم الإسلامي، يونيو، 1913، ص 293 - 295.

لها ولا لأدواته. وتذهب ماري بوجيجا إلى أن هذا الفن أوشك على الانقراض في العهد الاستعماري. وتأسفت أن هذا (الفن الجميل) قد اختفى تقريبا، وذكرت أنه على عهدها (سنة 1923) كان الشيخ محمد سفطة (¬1) - وهو اسم مرتبط أيضا بألوان الموسيقى والألحان - هو الوحيد الذي ما يزال يمارس هذه الصنعة، وذكرت أن هناك أعمالا أخرى شبيهة بها وأصحابها لهم نقابة خاصة بهم. كان التجليد يقوم على على التزاوج بين الألوان، فهناك اللون الذهبي الممزوج بالبرتقالي واللون البنفسجي الممزوج بالزمرد. وقد اعترفت بوجيجا أنه نتيجة الاحتلال قد اختفى هذا الفن أو كاد. فقد تغير الذوق بالتدرج، وأصبحت خيالات الفنانين، في نظرها ضحلة. وهي لم تقل لماذا وقع ذلك، ولكنه واضح أن الحياة الاجتماعية قد انقلبت بعد الاحتلال، فالجمهور الذي كان يتذوق التجليد بالألوان المذكورة ويدفع في مقابل ذلك المال، قد تراجع واختفى بدوره. وقد هدمت المحلات الخاصة بالصناعات التقليدية، ومنها التجليد والوراقة، لأنها كانت تقع قرب المساجد وفي البازارات والأسواق الشعبية. ومن جهة أخرى لم يعد الفنان يجد الأدوات التي تعود عليها. فقد حلت المطبعة محل النساخ، كما حل جمهور أوروبي لا يتذوق فنه، ونهبت نماذج عديدة من مصنوعاته. وتقول بوجيجا إن الفن الفرنسي - ذوق لويس 14 و 16 قد أثر على الفن العصري الجزائري فجعله يفقد أصالته (¬2). ومن أواخر من ذكرتهم المصادر في هذا الفن هو الشاعر محمد العلمي. وكان من مواليد المغرب، ثم جاء الجزائر وتتلمذ على الشيخ ¬

_ (¬1) ورد اسم الصفطي والسفطي على أنه من الخطاطين والمسفرين للكتب، ومن أعماله خط المصحف الشريف الذي طبعه أحمد وقدور رودوسي. وقد عرفنا أن الشيخ الحدبي كان أيضا يشتغل بتسفير الكتب. انظر فصل الشعر. وفصل المنشآت الثقافية. انظر أيضا فقرة المؤلفات في الخط من هذا الفصل. (¬2) ماري بوجيجا (نحو نهضة ...) في (المجلة الجزائرية) SGAAN، 1923، ص، 398.

الجزائر والشرق عند الفنانين الفرنسيين

المولود الزريبي، وفتح محلا لتجليد الكتب في العاصمة. وقال عن نفسه (فأنا في هذا قد سددت فراغا وقمت بمهم) (¬1). وكان المغرب متقدما في هذه الصنعة، فلعل محمد العلمي قد نقلها إلى الجزائر وأضاف إليها الطابع المحلي. ومن ملاحظته نعرف أنه قام بسد فراغ في هذا الباب، وهو يعني تجليد الكتب وزخرفتها ربما بالحروف والزخارف العربية التي أضرت بها صناعة التجليد بالحروف اللاتينية. الجزائر والشرق عند الفنانين الفرنسيين يرجع اهتمام المستشرقين الفرنسيين عموما بالشرق والجزائر إلى ما قبل سنة 1830 بعقود. ولكن الحملة الفرنسية هي التي فتحت لهم أبواب الشرق على مصراعيه، فرافقها بعضهم ولحق آخرون في أعقابها. ومن هؤلاء وأولئك بعض الفنانين البارزين أمثال دي لاكروا وهوراس فيرنيه. ثم تلاحقت زيارات الفنانين وإقامتهم بالجزائر و (اكتشافهم) لأسرار وعطور الشرق فيها إلى أن أنشئت (فيلا عبد اللطيف) التي أصبحت في أول هذا القرن مدرسة يتكون فيها الفنانون الفرنسيون الموهوبون، وخصصت لهم المنح والجوائز. فمهمة هذه الفقرة إذن هي تتبع تطور الاستشراق الفرنسي في النواحي الفنية بالجزائر (¬2). تصادفت الحملة الفرنسية على الجزائر مع عنفوان الحركة الرومانتيكية في أوروبا وفرنسا بالخصوص. وكان الرومانتيكيون يبحثون عن المجهول وعن البداية وعن كل ما هو غريب، هروبا من المجتمع الواقعي - الكلاسيكي الذي رأوا فيه الجحيم بعينه. هرب بعضهم إلى البحيرات والجزر النائية، والتجأ آخرون إلى الخيالات البعيدة، واستعمل بعضهم الخريف والحزن والقتامة شعارا لهم في الحياة. وكان سحر الشرق يأخذ بألبابهم ويتصورون فيه الجنة المفقودة. على أن بعض الرومانتيكيين رأوا في المغامرات العسكرية ¬

_ (¬1) السنوسي (شعراء الجزائر)، 2/ 116. (¬2) انظر فصل الاستشراق.

والروح القومية مجالا لخيالهم الخصب، فكانت الحملة على الجزائر بالنسبة لهذا الفريق فرصة ذهبية لتحقيق أحلامهم وأمجادهم. وللتعبير عما يجيش في نفوسهم لجأ الرومانتيكيون إلى الشعر والرسم والمسرحيات. وهكذا أنتج الفنانون الفرنسيون بعد أن تأثروا بحياة الجزائر الجديدة أعمالا في غاية الروعة الفنية ما تزال محل إعجاب المعجبين. أننا لا نريد أن ندرس الفن الفرنسي في الجزائر، ولا حياة الفنانين الفرنسيين لذاتها، ولكن هدفنا من عقد هذه الفقرة هو متابعة مدى تأثير الجزائر (الشرقية) على حياة الفنانين الفرنسيين الذين اتصلوا بها، ثم مدى تأثر الفنانين الجزائريين بهذه المدرسة الفرنسية والتفاعل الذي حصل بين الطرفين في مجال الفن. ولا بد من تحديد بعض المصطلحات الأخرى. إن المقصود بالجزائر (الشرقية) هو ما تصوره أولئك الفنانون من حياة البربر والعرب والمسلمين القاطنين في الضفة الأخرى للمتوسط، تلك الحياة المتصلة بالعالم الإسلامي والعربي والإفريقي. ففي رواسب الذاكرة الفرنسية أن هؤلاء القوم هم الذين عاشوا ألف ليلة وليلة، وهم الذين أنجبوا هارون الرشيد، ونقلوا حضارة الهند وفارس، ووصلت حضارتهم هذه إلى الأندلس وجنوب فرنسا وإيطاليا. وإن صلاح الدين منهم، وهو الذي استرجع القدس وما حولها وهزم الصليبيين. وأخيرا فقد كان في رواسب الذاكرة الفرنسية أن القراصنة كانوا أحفاد هارون الرشيد وصلاح الدين، وربما أحفاد حنيبعل أيضا. وقد ساعد دعم البابوية للحملة الفرنسية على إعطاء الطابع الصليبي لها. وكانت تصريحات المسؤولين على الحملة تزيد هذا الشعور إذكاء، فهي تتحدث عن (استرجاع) الكنيسة القديمة في الجزائر، وكانت تتخذ من القضاء على القرصنة حجة لدعم تجار مرسيليا وبرجوازية باريس لها. فكان الفنانون نتاج هذه الظروف كلها. فتحت الجزائر أمام الفنانين الفرنسيين أبواب المغامرة والأحلام. فالمدن فتحت لهم الشهية في الاطلاع على أسرار القصبة ذات الأسوار العالية، وما تحويه من حريم وخصيان، ومؤامرات وشهوات، وحب للمال

والجمال. وفي أذهانهم أن البازارات تلمع بالجواهر وتفوح منها روائح الهند وسمرقند، وتتدلى منها المطروزات الحريرية ذات الألوان الباهرة والغريبة. والريف كان يفاجئهم بالإنسان البدوي الذي يعبر عن البراءة المتوحشة، وهو الإنسان النموذجي الذي كان يبحث عنه الرومانتيكيون، وهو يعني عندهم إنسان الفطرة الصافية (¬1). والطبيعة ملأت أنظارهم بالزرقة الفاتنة - زرقة السماء والبحر، والضوء الغامر، ضوء الشمس الإفريقية. فالمدن والأرياف، والإنسان والشمس والبحر ومفارقات الساحل والصحراء وتناقضات الشرق والغرب، كلها أعطت للفنانين رؤية جديدة للحياة، وقد عبروا عنها في لوحاتهم ومؤلفاتهم وتماثيلهم وقصصهم وأشعارهم. ومنذ 1830 انطلقت تجارة السياحة والسفر إلى الجزائر على قدم وساق. وكان وراءها (أدلاء) السفر، تلك الكتيبات التي تضم وصفا مغريا للبلاد وأهلها ولغتها وعاداتها وتقاليدها، وتنظيم الزيارات فيها ووسائل الإقامة وأثمانها، وقد ضاعفت مع الأيام واستقرار الإدارة العسكرية والسيطرة على المدن. وكانت الصحف توالي نشر أخبار الجزائر وأوصافها، وكانت الحكومة الفرنسية نفسها تشجع الفنانين والأدباء على زيارة الجزائر والكتابة عنها ليعرف الرأي العام الفرنسي والأوروبي عنها، ويوجه المهاجرون إليها بدل أمريكا وأستراليا. وهكذا جاء دي لاكروا، وفيرنيه، وفرومنتان، وثيوفيل غوتييه، وألفونس أوديه، والاخوان غونكور، والإسكندر دوماس، وشاصيرو، وآخرون (¬2). وهناك فنانون جاؤوا الجزائر زائرين فقط، وهناك ¬

_ (¬1) انظر كتاب آن تومسون (بلاد البربر في أعين المتنورين الأورويين)، نيويورك 1987، وقد راجعناه وبعثنا ذلك للنشر. وعن أوائل من زار الشرق والجزائر من الفنانين، انظر أيضا جان ألازار في كتاب (مدخل إلى الجزائر) 1957، 351. وكذلك عفيف بهنسي (أثر العرب في الفن الحديث)، 54، وهنا وهناك. وجان كلود بيرشيه Berchet (الرحلة إلى الشرق)، باريس 1985. (¬2) من الذين زاروا الجزائر أيضا الأديب غوستاف فلوبير (1858) فزار سكيكدة وعنابة وسوق أهراس وقالمة. وأندري جيد الذي زار الساحل والصحراء، مثل فرومنتان. عن أدلاء السفر وحركة الأدباء الفرنسيين في الجزائر انظر شارل نجار (الجزائر في =

من اتخذها مقاما، بل إن هناك من ولد فيها مثل ليموز، وأتلان، وأندري مارك، وكلو. وقد قال الشاعر ثيوفيل غوتييه ان السفر إلى الجزائر أصبح بالنسبة للمصورين أكثر أهمية من الحج إلى إيطاليا. فكانت الأسفار والزيارات لا تنقطع نحو الجزائر. وقبل أن نذكر بعض الفنانين وما تميز به كل واحد منهم، نذكر بعض الموضوعات التي أوحت بها الجزائر إلى الفنانين الفرنسيين. لقد مثل الفنانون بالدرجة الأولى الروح الاستعمارية، فكانت الغلبة في إنتاجهم دائما للجيش الفرنسي والهزيمة على الجزائريين. وهكذا كان موضوع الغالب والمغلوب أو المستعمر والمستعمر رئيسيا في أعمالهم. ويظهر ذلك في معركة قسنطينة لفيرنيه، والاستيلاء على الزمالة حيث ظهرت المرأة الجزائرية باللباس الشفاف راكبة ظهر جمل وعليها سيماء الهزيمة والعار. وقد دخل الفنانون الأماكن المحرمة على أمثالهم من قبل، فأظهروا في فنهم أنهم دخلوا الحريم، والمساجد، والحمامات، وذهب البعض إلى أنهم قد اتخذوا من المرأة اليهودية نموذجا، وأجبروا بعض النساء المسلمات على التوقف أثناء المشي وصوروهن. ومن المشكوك فيه أنهم دخلوا الحمام النسائي. أما المساجد فقد استباحها الفرنسيون بالدخول والهدم ونحوهما. كما أن الصور التي تركها الفنانون عن الجزائريين تمثل طابع العنف والوحشية في الغالب. وهكذا فسيوف الجزائريين كانت مضرجة بالدم، مع رسم الهيكل العظمي خلف الصور، وكانت صورة فرنسا الحضارة هي الماثلة دائما. وكثير من الفنانين اتخذوا موضوع الحيوانات في صورهم، فنجد منها: الغزال والأسد والحصان والجمل والكلب والحمار والطيور على اختلاف أشكالها. وهم يظهرون أحيانا الألفة بين الإنسان والحيوان. ومن الموضوعات التي استأثرت باهتمامهم أيضا الثروة الطائلة عند بعض الأعيان، ¬

_ = الأدب الفرنسي) 1925، وجاكلين بيلي Bayle (عندما أصبحت الجزائر فرنسية) 1984، ص 262.

وكان الفنان يظهرهم باللباس الفخم والجواهر، والأسلحة المحلاة بالذهب والفضة، وصناديق النقود، والقصور الفاخرة. كما أن الفنان يرسم المسألة الطبقية في المجتمع بإعطاء الأولوية للأشخاص: ففي الصورة يظهر السيد والمرأة الوصيفة والخصي على الترتيب (¬1). دي لاكروا: كان من أوائل الفنانين الذين زاروا الجزائر بعد الحملة مباشرة. وقد قال بعضهم إنه لم يبق سوى ثلاثة أيام، وقال آخر بل هي عشرة أيام (سنة 1832). ومع ذلك فقد ترك أثرا فنيا خالدا، وهو لوحته الشهيرة عن (نساء الجزائر). وادعى أنه رأى حريما أو دارا من الداخل المحرم على أمثاله، فصور المنظر الذي قد يكون في أحد المنازل اليهودية، لأنه وصف أيضا بعض الأعراس اليهودية. وقد عرضت لوحته سنة 1834 واعتبرت أروع ما أنتج الفن الفرنسي، فقد قيل أنه لأول مرة يقدم فيها الفنان المنظر الشرقي من وثائق محددة وطبقا لمواصفات دقيقة. وقد رسم دي لاكروا لوحة أخرى لمرسى الجزائر، وهي تعتبر لوحة واقعية. وامتاز دي لاكروا بتمثل الطبيعة والقدرة على تفسيرها. وكان من الفنانين الرومانتيكيين، وقد اكتشف في دعواه روما والرومان من خلال المغرب العربي (شمال أفريقية)، فكان معجبا بالقديم شأن معظم أهل هذه الحركة، وهم يعنون بالقديم العهدين الإغريقي والروماني. والمعروف أن دي لاكروا كان أيضا عضوا في البعثة الدبلوماسية للمغرب (مراكش) (¬2). هوراس فيرنيه الذي يسميه البعض (العسكري المصور)، قد زار الجزائر مبعوثا من الحكومة لتصوير معركة قسنطينة الثانية التي انتصر فيها الجيش الفرنسي، والمعروف أن المعركة الأولى (1836) قد انهزم فيها هذا ¬

_ (¬1) لورنس ميشالاك في (معرفة المغرب - العربي)، باريس، 1984، ص 47 - 63. انظر ص 50 منه عن قائمة الفنانين الذين زاروا بلاد المغرب. (¬2) انظر ألازار، مرجع سابق، وبيلي، مرجع سابق 262. عن دي لاكروا انظر أيضا عفيف بهنسي (أثر العرب في الفن الحديث)، الباب الثالث، الفصل الأول. وقد تحدث عن تأثره بالحركة الرومانتيكية والروم الشرقية.

الجيش وعاد أدراجه منتظرا الفرصة للعام التالي (1837). وقيل إن فيرنيه قد أصبح من الكولون (مستعمر) في منطقة متيجة حيث سكن مدينة بوفاريك، وأصبح يرسم معارك لم يحضرها أبدا، وإنما يرسمها من الخيال والحكايات، وربما من وصف الجرائد. وكان بيته هو (حوش ابن قبة) الذي أصبح مرسمه بعد أن طرد صاحبه منه. وكان فيرنيه يرتاد خمارة (كابريه) في بوفاريك ويدفع ثمن ما يشربه برسم اللوحات (¬1). وقد زار فيرنيه الجزائر أكثر من مرة. ومن لوحاته الشهيرة المناظر العسكرية، وتوجد منها بالخصوص نماذج في قصر فرساي. وكان يظهر فيها غلبة الجندي الفرنسي على المقاوم الجزائري. ومناظره كانت تمثل المدرسة الرومانتيكية ونفوذ الاستشراق في الجزائر والتأثر بألوان الطبيعة وضوئها. وفيها يظهر أيضا الملمح الإسلامي - المسيحي (¬2). ومن أشهر الفنانين الذين بقوا في قسنطينة عدة أسابيع (سنة 1846) فريدريك شاصيريو، بدعوة من الخليفة علي بن أحمد (حامد)، أحد أعيان قسنطينة. وقد رسم له لوحة رائعة حسب نقاد هذا الفن، وتجول في الجزائر بعض الوقت (¬3)، وقد كان يسير على هدى مدرسة دي لاكروا، ومن لوحاته (الراقصات بالمناديل)، وله أخرى بعنوان (الخروج من الحمام) و (دخول الحريم). فموضوعاته ذات صلة بالمرأة والحياة الداخلية (المحرمة). وشاصيريو ولد في سان دومينيك، لأحد الدبلوماسيين الفرنسيين، وقد بدأ اهتمامه بالرسم مبكرا، بينما كان في العاشرة من عمره. ونال جوائز على لوحاته الدينية، وتأثر بدي لاكروا واستعار منه. وتشمل أعماله واحدا وتسعين رسما. واستعمل فيها الألوان المختلفة وبعضها مجرد رسومات خفيفة. أما أعماله الجادة فهي المتصلة بالاستشراق، مثل الاهتمام بالأسواق ¬

_ (¬1) بيلي، مرجع سابق. (¬2) قوانار (الجزائر)، ص 282. (¬3) هذه الصورة موجودة نسخة منها في كتاب شارل اندري جوليان (تاريخ الجزائر المعاصرة)، باريس، 1964، وهي تمثل الخليفة علي بن أحمد على جواده بلباسه العربي وهيبته.

والفرسان والنساء والشخصية العربية والراقصات والمعارك والوصيفات ... فهي كلها من وحي الشرق في نظره. والرسم الذي وضعه للخليفة علي بن أحمد اعتبره النقاد أول رسم أدخل شاصيريو لصالون الفن. ويمثل الرسم الخليفة على صهوة جواده وسرجه وركابه، ولحيته الكثة وملابسه الوطنية. وتظهر مدينة قسنطينة خلفه بصوامعها. والغريب أن الصورة قد رسمها شاصيريو في باريس قبل سفره إلى قسنطينة، فهي صورة من الخيال لا من الواقع، ومع ذلك فقد علق النقاد على الصورة بأنها مشابهة جدار لأصل، سيما رسم العيون التي تؤثر على نساء باريس. ولا ندري من أين لشاصيريو الوصف الواقعي الذي بنى عليه وصفه الخيالي للخليفة المذكور، وهل عدل من الصورة بعد أن رأى الخليفة عيانا؟. وقد قيل إن أعمال شاصيريو تمثل إيديولوجية المستعمر الغالب، فهي تمثل الوطن الفرنسي، والتجارة، والاستعمار. ولها عناوين غريبة تعبر عن ذلك (مثل العرب يحملون موتاهم) بعد هزيمتهم سنة 1856. وبقي هذا الرسم يدغدغ العواطف الاستعمارية في المعارض التي تقام من وقت لآخر مثل المعرض الاستعماري لمرسيليا سنة 1906. كما رسم شاصيريو (الغالبون يدافعون عن أنفسهم) سنة 1855. وقد قلنا إن أبرز موضوعاته أيضا. هي المرأة في مظهرها المضطهد، مثل الاغتصاب، والقيود، والاغتيال (¬1). وسيبقى موضوع المرأة هو المفضل لعدد آخر من الفنانين حتى عند ناصرالدين ديني، ولكن برؤية مختلفة. ولد يوجين فرومنتان في لا روشيل، وهو ابن لطبيب في الأمراض العقلية. درس القانون دون رغبة منه، ثم اختار دراسة الفن. وزيارته للجزائر كانت هروبا من سيطرة والده عليه. كان منذ الطفولة مولعا بالرسم والنثر. سافر إلى الجزائر سنة 1846 مرافقا لصديق فنان اسمه شارل لابي، وكان هذا رساما، ومستشرقا، وكان لابى ذاهبا لزيارة أخت له متزوجة فى البليدة. ¬

_ (¬1) ميشالاك، مرجع سابق، ص 55.

وابتداء من سنة 1847 بدأ فرومنتان يرسل إلى صالون الفن الذي كان في متحف اللوفر برسوماته. وكان مولعا برسم صور الفلاح الجزائري على حماره وطبيعته، أو صورة القافلة العربية وهي تمزق الأفق بلونها الأسود، مع تصويره للملابس القديمة وعلامات الفقر والضعف والهزيمة. في السنة المذكورة (7 184) أرسل فرومنتان إلى الصالون ثلاث لوحات، ثم توالت لوحاته، وأخذ النقاد يستحسنون أعماله. وحصل له أكبر نجاح سنة 1859 حين حصل على ميدالية واستدعاء لمقابلة نابليون الثالث. اهتم فرومنتان أكثر من شاصيريو بالحياة الجزائرية الواقعية، كان دقيقا في ملاحظاته. وقد عبر عنها بالرسم والكتابة. فمن كتبه (صيف في الصحراء) الذي ظهر سنة 1854 و (سنة في الساحل) الذي ظهر سنة 1857. لم يكن فرومنتان متعجلا في وصفه للناس والأماكن التي زارها، كان ناضجا في ملاحظاته ويتتبع كل التفاصيل. وكان يتجول على هواه، ويظهر اندماجه في الحياة في الأماكن التي يصفها. وقد عاب على من سبقه اهتمامهم بالسطحي فقط دون العمق، والمظهر دون الجوهر. فالحياة العربية عنده مجبولة على الجدية والصرامة والهدوء والحزن. وقد عرف هو كيف يفسر، حسب النقاد، قوة الضوء في الجنوب. أما في رسوماته فقد اهتم بالأفق، وعناصر فنه هي: الخيل، والأشجار، والإنسان العربي، والسماء (الأفق). غير أن الروح الاستعمارية كانت واضحة عنده. فالجزائر كانت عنده مجرد موضوع جميل، ريفها وصحراؤها وسماؤها، ولذلك فهي موضوع للامتلاك والاستغلال وإذن فهي عنده فريسة يجب قنصها، وقطعة من الشرق يجب فرنستها (¬1). ومن لوحاته: جمل وجمال، والصيد بالصقور، وقطاع الطرق، وعرب هاجمهم أسد في مضيق. وبعد هؤلاء حل بالجزائر عدد آخر أو جيل آخر من الفنانين، ولكنهم ظلوا مبهورين بها، ويعتقدون أنهم كانوا (يكتشفونها). ومن هؤلاء غيوميه ¬

_ (¬1) ميشالاك، مرجع سابق، ص 59، وجان ألازار، مرجع سابق، ص 352.

Guillaumet الذي قام بتسع رحلات إلى الجزائر بين 1862 و 1883. وقد (اكتشف لا برسوماته بوسعادة وبسكرة وزواوة والأغواط. وولع أيضا برسم المرأة، والنقاد يعتبرونه الفنان الأول الذي اهتم حياة الأكواخ (القربيات) ورسم حياة البداوة، بعيدا عن الحضارة الغربية الزاحفة. لقد رسم غيوميه حياة منطقة السهوب ونساء واحاتها وجبالها. ومن لوحاته: سوق عربي في الجزائر. وهناك ألبير لوبورغ، ورونوار، ونواريه، كان الأول على رأس مدرسة الانطباعيين وقضى في الجزائر خمس سنوات. ومن لوحاته رسم الاميرالية. ومن لوحات رونوار: المرأة الجزائرية وهي تصطاد بالصقر. وتخصص نواريه في رسومات الجنوب، واهتم بمنظر الشروق والغروب. كما أن بونيول رسم مناظر زواوة، ورسم بول إيلي دوبوا منطقة الهقار الأزرق. وهناك بازيي Bazille الذي زار الجزائر سنة 1870 ورسم لوحات عن الزنجية والمسجد والمرأة أمام المنضدة، وكان بازيي عسكر، في فرقة (الزواف) (¬1). ومن لوحات دودنك: موسيقيون عرب، ومن لوحات ديكومب: مدرسة تركية (في الجزائر)، وهي موجودة في متحف شانتييه. ... أنشأ الفرنسيون مدرسة الفنون الجميلة ثم فتحوا فيلا عبد اللطيف أمام الفنانين الفرنسيين. أما المدرسة فقد دشنوها سنة 1881 في مدينة الجزائر. وبقيت حوالي سبعين سنة تعمل لتكوين الفنانين وإقامة المعارض ورعاية الفنون خدمة لفرنسا الممتدة وراء البحار. ولم ينل الجزائريون منها إلا النزر اليسير من الاهتمام في أوقات متأخرة. وفي سنة 1954 أعيد بناء هذه المدرسة على طراز أكثر ملاءمة مع رسالتها وموقعها في بلاد عربية - ¬

_ (¬1) قوانار، مرجع سابق، ص 282. وبهنسي، مرجع سابق. ونشير هنا إلى أن المرجع الأخير ذكر، ص 31 لوحة (داي الجزائر) ولا ندري من رسمها. وهل اللوحة كانت لحسين باشا (الداي) أو كانت للمعركة التي جرت سنة 1824. انظر التاريخ الثقافي، ج 2، ص، 464.

إسلامية. وهي ما تزال اليوم حيث كانت بالأمس بعد أن آلت إلى أهل البلاد (¬1). في إحدى الدراسات الحديثة عن تطور فن الرسم في الجزائر على العهد الفرنسي، ذكر أحد الباحثين أن هناك ثلاث مراحل لعلاقة الفنان الفرنسي بالجزائر: المرحلة الأولى سماها مرحلة الإنتاج الشرقي (الاستشراقي؟) التصويري المرتبط برؤية الاستشراق الفرنسي للأشياء الاستعمارية، وبأبعاد الحركة الرومانتيكية والحركة الفكرية الأوروبية على العموم. وكان النحت والتصوير من سمات هذا العهد الاستشراقي للفن، وسارا جنبا إلى جنب عند دي لاكروا وفرومنتان وغيرهما. وكان التركيز خلال هذه المرحلة على الحريم واللذة والخيال الشرقي والأزقة الضيقة (القصبة) وكذلك النخيل والحيوانات، والرقص الشعبي والأحلام. والمرحلة الثانية تمثل تدخل السلطات الرسمية في الفنون واحتضانها الفنانين الفرنسيين. ويسمى الباحث هذه المرحلة بترسيخ الفن أو ترسيمه (جعله في يد السلطة). ويتمثل ذلك في وضع فيلا عبد اللطيف (1907) تحت تصرف الفنانين الموهوبين والممنوحين والمتفرغين لمدة سنتين لإنتاجهم الفني بكل حرية. وقد تبنى فنانو هذه (المدرسة) أفكار الاستعمار وسماته، وذوقه في الفنون والآداب، كما تبنى - حسب الكاتب - مبادئ الرأسمالية (¬2). أما المرحلة الثالثة فهي عند الباحث مرحلة ظهور الفنانين المستقلين عن دعم السلطة، وقد تبنوا الموضوعات الإنسانية والديوقراطية. وفي رأيه ¬

_ (¬1) تقع الآن قرب قصر الشعب ومتحف الباردو. (¬2) من الواضح أن الباحث ماركسي النزعة والتحليل. ورغم أننا لم نعثر على اسمه في الأطروحة التي وقعت بين أيدينا، إلا أن البحث قد جرى بالفرنسية في جامعة شارل في براغ بتشيكوسلوفاكيا (قديما). ومن الغريب أن الكاتب يسوي تحت كلمة (الجزائري): العربي والفرنسي واليهودي والأوروبي. كما أنه ينسب المرحلة الثانية (الديموقراطية) إلى فضل الحزب الشيوعي الجزائري. وكل ذلك يقدم اللون الذي يريد الكاتب صبغ أفكاره به في اطروحته.

فيلا عبد اللطيف

أن الحركة الوطنية الجزائرية قد دعمت هذا الاتجاه، ولكن ما العلاقة بين الفنان الفرنسي والحركة الوطنية؟ ومن جهة أخرى خلط الكاتب بين الحركة الوطنية والحزب الشيوعي الجزائري، منذ 1945. ونحن لا نريد أن نناقش هذه النقطة سياسيا هنا، وإنما نكتفي بالناحية الفنية، وتطور فن الرسم بالذات في الجزائر (¬1). فيلا عبد اللطيف وأما فيلا عبد اللطيف فقد أصبحت ورشة لفن الرسم والنحت والنقش والتصوير منذ فاتح هذا القرن. وكانت تستقبل الفنانين الفرنسيين المبعوثين من فرنسا مدة سنتين لكل منهم. وقد أصبحت مدرسة فنية في حد ذاتها تمثل الفن الجزائري بأزاميل وأذواق فرنسية. ويبدو أن الفنانين الجزائريين لم يدخلوا هذه الفيلا التي هي لهم بالأصالة، ولم يتمتعوا بالمنح التي تمتع بها الفنانون الفرنسيون طيلة نصف قرن. فيلا عبد اللطيف تنسب، كما هو واضح من الإسم، إلى عالة عبد اللطيف التي اشتهرت في القرن الثامن عشر بالثروة والجاه والسياسة والأدب. وكان من هذه العائلة وزراء وقضاة. وقد خلدها الشاعر أحمد بن عمار في قطعة نثرية نادرية وقصيدة فريدة نشرناها في المجموعة الشعرية التي صدرت منذ سنوات (¬2). وبناء على وصف ابن عمار فإن الفيلا (القصر) كانت غارقة في الإخضرا الزمردي، وكانت آية في الجمال والرونق. وقد استقبلت ضيوفها من الأدباء والسياسيين حيث قضوا سهرة من سهرات القصور البغدادية والأندلسية. ¬

_ (¬1) (الرسم الجزائري أثناء الاستعمار، 1830 - 1954)، براغ 1985 - 1986. أطروحة بالفرنسية. اطلعنا على هذه الأطروحة مخطوطة بالصدفة في مكتبة جامعة منيسوتا. وأخذنا منها الأفكار والملاحظات المذكورة، ولكن بطاقة المرجع ضاعت منا. (¬2) نشرت أولا بعنوان (أشعار جزائرية)، ثم ط 2. بعنوان (مختارات من الشعر العربي) بيروت، 1991.

وهذه هي عبارة ابن عمار النثرية في وصف فيلا عبد اللطيف: (فاحتللنا قصرا، وما أدراك من قصر، تقابل الواصف أوصافه بالحبس والقصر، وتعبث محاسنه بالزهراء والزاهرة، وتشرف شرفاته على النجوم الزاهرة، وتزهو بدائعه على الزاهي والدمشق، وتلهو مقصوراته بقصور العراق ودمشق، ما شئت من انفساح عرصات، وارتفاع آرائك ومنصات، ودسوت كأنها البدور بهالاتها محفوفة، وزرابي مبثوثة ونمارق مصفوفة، وفرش مرفوعة، وأكواب موضوعة، وفاكهة كثيرة لا مقطوعة ولا ممنوعة، قطعنا به ليلتنا حتى الصباح ...) (¬1). كان الفنانون الفرنسيون يأتون إلى الجزائر بطريقة حرة منذ الاحتلال، كما لاحظنا، وكان بعضهم يأتي أيضا في مهمات حكومية، وتلك هي المرحلة الأولى من التأثر والتأثير على الفن الفرنسي - الاستشراقي (انظر لاحقا). وأما المرحلة الثانية فهي التي تمثلها مدرسة (فيلا) عبد اللطيف في أول هذا القرن. بدأت الفكرة عندما أصبح شارل جونار حاكما عاما للجزائر حوالي 1903. وكان قد جاء ليطبق نظريته السياسية التي طالما نادى بها عندما كان في البرلمان واللجان الرسمية، وهي أنه يجب أن تظل الجزائر فرنسية ولكن تحافظ على شخصيتها التقليدية. وقد طبق جونار نظريته هذه بعد أن أصبح حاكما، في مختلف المجالات، ومنها مجال الفنون. ففي 1906 كتب الناقد الفني، أرسن الإسكندر، مقالة في جريدة (الأخبار) حول (الفنون والصناعات الفنية في الجزائر) وصف فيها موقع فيلا عبد اللطيف في حديقة التجارب (الحامة اليوم). وقال إنها قصر فخم ولكنه آيل إلى السقوط. ورغم حالته فهو تحفة رائعة، ولو جعل القصر مقرا للفنانين لأسهم في دفع الحياة الفنية، سيما ما يقدمه لهم من تنوعات الطبيعة كالشمس والمناظر الخلابة، وروعة البحر القريب منه، ثم إن إمكانات القصر نفسه كبيرة، ¬

_ (¬1) من وثيقة بخط الشيخ المهدي البوعبدلي ترجع إلى سنة 1973. انظر (أشعار جزائرية)، مرجع سابق.

فمن سقفه وأعمدته وساحته المزخرفة بالقاشاني يمكن أن يوحي للفنانين برسومات وإبداعات نادرة. والقصر تحيط به الحدائق الغناء والخضراء في لون الزمرد (¬1). وبعد ذلك تلقى جونار تقريرا عن الفيلا وإمكاناتها الفنية. وقد تبنى جونار الفكرة سنة 1907 ودعا الموهوبين الناشئين في الحركة الفنية بباريس ليحلوا بالجزائر ويعيشوا فيها الحياة العربية، ويستفيدوا من أجوائها وطبيعتها. وقد زارها مدير متحف لوكسمبورغ. واتفق الرأي على تنفيذ المشروع وهو إيواء فنانين إثنين كل سنة بعد المشاركة في مسابقة في فرنسا، على أن تكون رحلتهم وإقامتهم على نفقة الدولة، وأن يكونوا أحرارا فيها مدى السنتين غير ملزمين بأداء أية خدمة. وكانت لجنة الامتحان تتألف من هواة وفنانين محترفين ومن محافظي المتاحف. وكانت تجتمع كل سنة لاختيار اثنين من المترشحين. وكان الفائزون يجدون أنفسهم محظوظين. فبالإضافة إلى المنحة والسفر والحرية الكاملة، كانوا يتمتعون بجو عربي (شرقي) يجمع بين الأصالة والمعاصرة. فالفيلا بنيت على الطراز الأندلسي. والمحيط ينبض بالحياة الجزائرية المعاصرة سواء في الريف أو المدينة. وهكذا يجد الفنان نفسه غريبا في بلاد (أخرى) رغم أنه فرنسي في مستعمرة (فرنسية). وبدراستنا لحياة الفانين نجد أن بعضهم قد رجع إلى بلاده بينما اختار آخرون البقاء في الجزائر، حتى أن أحدهم، وهو نواريه Noiret كان يلقب (بالفنان الجزائري). وقد تداول على فيلا عبد اللطيف عدد من الفنانين واكتسبوا شهرة بحكم إنتاجهم الإبداعي والغريب على الذوق الفرنسي، وشاركوا في المعارض الفنية، وبيعت لوحاتهم بأثمان عالية. ومن لوحات نواريه: ولادة في الصحراء، وأغنية الناي، وياسمين الساحل، وغير ذلك من المناظر المستوحاة من الطبيعة الجزائرية. وقد حصل على جائزة على لوحته (خليج ¬

_ (¬1) عفيفي بهنسي (أثر العرب في الفن الحديث)، دمشق 1970، ص 91. وكذلك جان ألازار (فيلا عبد اللطيف بالجزائر)، في (الوثائق الجزائرية)، تاريخ 20 سبتمبر 1946، رقم 10، ص 267 - 268.

الجزائر). ولا شك أنه كان يراه بكل وضوح من فيلا عبد اللطيف نفسه. وقد اكتشف كوفي Cauvy الحيوية في المناظر الجزائرية، بينما مال كاريه Carre إلى الأناقة وتفاصيل الطبيعة. ومن الفنانين الذين ولعوا بالتصوير وتخرجوا من فيلا عبد اللطيف شارل دو فريسن Duferesne المتوفى سنة 1934. فقد أقام سنتي 1910 - 1911 واكتشف موهبته في هذا القصر (الفيلا) وتميز بأسلوبه الغنائي. وحصل ديبوا Dubois على جائزة سنة 1927، ومن لوحاته (امرأة من الهقار) التي وضعت في متحف الجزائر. وهناك جان لونوا Lounois الذي ورد على فيلا عبد اللطيف عام 1920 ومات في وهران سنة 1942، وله لوحة (الشرقيات) و (نساء من الجزائر). وقائمة هؤلاء الفنانين المصورين طويلة (¬1). أما من النحاتين فنذكر جوزج بيقي Peguet الذي نحت تمثال (عربي يتوضأ)، وقد حصل على الجائزة الكبرى سنة 1924، ثم النحات بينو Penau الذي نحت (عربي يصلي). وكلا التمثالين وضع في متحف الجزائر عندئذ (¬2). وقد استمرت الفيلا في مهمتها حتى بعد جونار، وهي من المشاريع النادرة، لأن معظم ما دشنه انتهى بعده. وربما استمرت الفيلا في مهمتها لأنها غير موجهة إلى الجزائريين. فالفنانون الفرنسيون هم المستفيدون، ومن ثمة الفن الفرنسي بالطبع. وقد بقيت شروط الاستقبال والإقامة على ما كانت عليه تقريبا. ويذكر السيد ألازار الذي تولى إدارة الفيلا فترة، أن اسمها قد تغير إلى (فيلا مديشي الجزائرية). فأنت ترى أن الفرنسيين أرادوا طمس اسمها العربي. ولاحظ أن فيلا دي مديشي كانت لها إدارة بينما فيلا عبد اللطيف ليس لها إدارة، وذلك جزء من أصالتها، ذلك أن قاطنها لا ¬

_ (¬1) أورد عفيف بهنسي، ص 98 أسماء عدد منهم وما ميز به كل منهم ونبذة عن حياتهم. (¬2) نفس الصدر. وقد ذكر هذا المصدر أن فيكتور باروكان الذي كان مديرا لجريدة (الأخبار) سنوات طويلة، قد ألف كتابا بعنوان (الجزائر والمصورون المستشرقون)، سنة 1930. وذلك التاريخ يتوافق مع الاحتفال المئوي بالاحتلال.

معارض الفنون الإسلامية

يخضع لأي نظام أو انضباط، مهما كان شكله. وتلك هي روح الشرق في نظر الفرنسيين، وهي الحرية الكاملة أمام الطبيعة. ويبدو أن تأثير فيلا عبد اللطيف كان عظيما حتى أن هناك جمعيات فنية أصبحت مرتبطة بها. وقد ذكر ألازار قائمة الفنانين الذين سكنوا هذه الفيلا واستفادوا منها (¬1). من الذين اشتهروا وتخرجوا من الفيلا: ألبير ماركي الذي ترك لوحات عديدة عن مرسي الجزائر، ومرسي بجاية. وهو يعتبر من الذين أقروا بتقنياتهم على جيل من الفنانين الفرنسيين بالجزائر والذين ساهموا في إنشاء المدرسة المذكورة. كذلك كان لهنري ماتيس تأثير بلوحاته المثيرة والغريبة، كما أثر في اتجاهات الرسم الجزائري - الفرنسي. وتخرج من هذه المدرسة أيضا نحاتون بارزون آخرون، أمثال هيلبير، وبول بيلماندو، وقد أصبحا في درجة النحاتين الباريسيين. كانت فيلا عبد اللطيف تضم مجموعات من اللوحات الفنية النادرة. وكان يشرف عليها السيد ألازار. وقد تبرع لها عدد من الفنانين والعائلات، مثل عائلة لونق Lung، وبعض المستشرقين، ومن ذلك سجل فني يرجع إلى عهد دي لاكروا، ونماذج من أعماله، وأخرى لفرومانتان، ونموذجان لشاصيريو. كما وصلتها أعمال الفنانين الانطباعيين والواقعيين. وقد حمل الفرنسيون هذه اللوحات والنماذج معهم إلى بلادهم عشية استقلال الجزائر سنة 1962 (¬2). معارض الفنون الإسلامية ضمن اهتمام الفرنسيين بالسياسة الإسلامية، افتتحوا معرض باريس ¬

_ (¬1) ألازار (الوثائق)، مرجع سابق، ص 268. (¬2) قوانار (الجزائر)، ص 283. ويقول قوانار إن فرنسا قد أعادتها إلى الجزائر في عهد الرئيس بومبيدو. انظر عن فيلا عبد اللطيف وتطورها أيضا دراسة جان ألازار في (مدخل إلى الجزائر)، مرجع سابق، ص 357. ودراسة جان بيرسييه Bersier (رسامان قديمان أقاما في فيلا عبد اللطيف) في (مجلة البحر الأبيض)، عدد 2، م. 8، 1950، ص 229 - 240، وهي عن حياة كل من بوشو Bouchoud وليفريل. Levrel

للفن الإسلامي سنة 1903، ثم سنة 1912. وفيه عرضت نماذج من الفنون. وفي كل سنة كانت تفتح قاعة للمستشرقين تجذب الكثير من الزوار وتعرض فيها الفنون ذات الصلة بالحياة العربة والإسلامية في الجزائر وغيرها. ومثل هذه القاعات والصالونات كان يتكرر في العواصم الإقليمية أيضا مثل وهران وقسنطينة. وقد تكونت جمعيات لرعاية الفنون وتشجيعها. ومن المعارض الفنية ما حدث سنة 1905 بمناسبة انعقاد مؤتمر المستشرقين 14 في الجزائر. فقد افتتح المعرض في المدرسة العربية - الفرنسية بالعاصمة التي أصبحت تسمى الثعالبية. وسمى (معرض الفنون الإسلامية). وعرضت فيه تحف نادرة جمعت من أشهر العائلات العريقة الباقية. ومن هذه التحف مجموعة من الأسلحة والسروج والمطروزات. وكان منها سرج كله مرصع بالذهب يرجع إلى البشير التجاني هدية من باي تونس حوالي 1817. ومن العائلات التي تقدمت بما عندها من تحف عائلة الفكون، وعلي باي (بوعكاز)، والحاج الأخضر (حاكم الأرباع؟)، وابن قلفاط، وابن مرابط. وكان منهم أهل الريف وأهل المدن على السواء، وكانت الصناعات النحاسية ممثلة في المعرض أيضا. ويقول جورج مارسيه الذي وصف المعرض وصفا مطولا وغنيا، أن صناعة النحاس كانت شهيرة في العاصمة وبوسعادة والأغواط وقصر البخاري (¬1). وهناك معرض آخر أقيم سنة 1924 في المدرسة الثعالبية أيضا، وكان يستهدف التعريف (بالفن الأهلي). ومما عرض فيه مصحف شريف ضخم كان موضوعا في الجامع الجديد. وكان في لون أزرق، واعتبروه تحفة فنية جميلة أخذت بالألباب لقدمه وألوانه وفخامته. وقد أشرف على المعرض ¬

_ (¬1) جورج مارسيه (معرض الفن الإسلامي) في (المجلة الإفريقية)، 1905، 380 - 401. من بين الأسماء الأخرى التي ذكرها في إعارة تحفها إلى المعرض: أحمد بن الشريف، وبومنديل، والحاج لعيرج، وعلي الحاج مكتوت، وعلي بن بوزي. أما التاريخ 1817، فالظاهر أنه يمثل تاريخ الهدية من الباي إلى الزاوية التجانية، لأن البشير التجاني لم يعش في ذلك الوقت وكان معاصرا للمؤتمر المذكور (1905).

جان ميرانت مدير الشؤون الجزائرية (الأهلية)، ولكن أوغسطين بيرك هو الذي نظمه، وكان عندئذ في منصب الملحق الإداري بالحكومة العامة. وقد كتب بيرك كتابا كاملا تعليقا على المعرض، ولعله هو كتاب (الجزائر بلاد التاريخ والفن). وبناء عليه فإن الفن الحضري الجزائري قد مثلته العاصمة وقسنطينة والبليدة، وقد ظهر في مدارس متنوعة. وهناك أيضا الفن البربري والفن الصحراوي. وقد دام المعرض نصف شهر (إبريل - مايو). ولكي تظهر الروح الجزائرية في أحلى مظاهرها، حسب المنظمين للمعرض، غنى الشيخ عبد الكريم (؟) في القاعة الصحراوية، ورقصت (وريدة) الرقص الحضري، وعزفت جوقة إيفيل اليهودية ألحان الموسيقى (الأندلسية) فشنفت أسماع الزوار القادمين من فرنسا. وقد تساءل أحد الكتاب عن وصف الفن الجزائري (بالشرقي)، فالجزائر في نظره بلاد مسلمة ولكنها قليلة التشرق، لأن هناك الفن البربري الذي ترك عليها أيضا بصماته (¬1). ومن أضخم المعارض ذلك الذي دشن سنة 1930 بمناسبة الاحتفال المئوي بالاحتلال. ثم توالت المعارض الفنية. وليس هدفنا استقصاء هذا النشاط الذي كان يخدم الإدارة الفرنسية التي تشرف عليه وتوجهه. وقد اشترك فيه في وقت لاحق بعض الجزائريين، عندما فرضوا أنفسهم على الساحة الفنية، مثل محمد راسم. ولكن الإشراف والتأطير كان دائما فرنسيا، وكان المعرض موجها سياسيا. والواقع أنه منذ 1923 نبهت السيدة بوجيجا إلى ضرورة إنشاء متحف للفن الإسلامي في الجزائر ليكون على غرار متحف الفن الإسلامي بالقاهرة. ويبدو أن السواح كانوا يختلسون الآثار الإسلامية ونماذج الفن الوطني فدعت هذه السيدة إلى ضرورة إنقاذ الآثار الإسلامية بإنشاء المتحف وصيانة الآثار ¬

_ (¬1) ف. ر. (كذا). F.R (الفنون الأهلية الجزائرية) في (المجلة الجزائرية) SGAAN، 1925، ص 154 - 155. ويوحي تعليق هذا الكاتب بأنه من أنصار المدرسة التي تقول إن البربر غير عرب وغير شرقييين، تحضيرا لإدماجهم في فرنسا. انظر فصل مذاهب وتيارات.

الآثار الدينية

والتحف الفنية فيه. ونبهت إلى أن السيدتين: لوس (أليكس) وابن عابن كلتاهما ساهمت في إحياء التراث الفني الإسلامي و (الأهلي). وهذا التراث أصبح في حاجة إلى مساعدة مستمرة من السلطات الحاكمة، لأن الجهود الفردية لا تكفي، في نظرها (¬1). الآثار الدينية في فصل آخر تحدثنا عن المعالم الإسلامية من حيث أعدادها وأوضاعها وما آل إليه أمرها على يد الاحتلال. أما في هذا الفصل فحديثنا سيكون عن بعض الفنيات لهذه المعالم والموقف من حفظها وصيانتها كآثار إسلامية، بعد أن تعرضت للهدم ونحوه في وقت سابق. كما أننا سنتحدث عما يتصل بهذه المعالم من كتابات أثرية وأشكال هندسية، وما ألفه بعض الفرنسيين من مؤلفات حول هذا الموضوع. أما الجزائريون فلا نكاد نعثر لهم على مؤلف في الموضع خلال هذا العهد. منذ 1897 كتب أحد الفرنسيين تعليقا على صدور كتاب بلانشيه عن (قلعة بني حماد) فنوه به وذكر قومه بأنهم لم يهتموا إلى ذلك الحين سوى بالآثار الرومانية، وكل ما هو روماني حتى استنفدوا الميدان، ولم يعد لهم ما يدرسون فيه، وقال إنهم قد أهملوا الآثار البربرية والعربية والتركية (الإسلامية). وقد دعا هذا الفرنسي إلى بحث الأمر والاستعداد له لأنه يحتاج إلى ثقافة خاصة لدراسة الآثار الإسلامية. ووجه أيضا اللوم للعرب على اهتمامهم بالورق (المخطوطات) أكثر من اهتمامهم بالأحجار (الآثار)، حسب تعبيره (¬2). ¬

_ (¬1) ماري بوجيجا (نحو نهضة ...)، في (المجلة الجزائرية) SGAAN، 1923، ص 398. (¬2) الكاتب مجهول وقد رمز إلى اسمه بالحرفين (O. H)، في نشرة أفريقية الفرنسية،. A.F سبتمبر، 1897، ص 307. ولعله هو المستشرق أوكتاف هوداس. O.Houdas

والواقع أن الأمر كما قال هذا المعقب، فالعرب اهتموا بالكتب أكثر من الآثار، والفرنسيون اهتموا منذ الاحتلال بالآثار الرومانية أكثر من الآثار الإسلامية، بل إنهم أهملوا هذه تمام الإهمال صيانة وبحثا وتدوينا. ولم يبدأ التحول قليلا إلا مع إدارة جونار في أول هذا القرن. ولكن القرن الماضي لم يخل من دارسين للمعالم الإسلامية، كما رأينا، فقد اهتم بعض المدنيين والعسكريين بالكتابة عن الآثار الدينية في مدينة الجزائر (ألبير دوفوكس وكلاين)، وفي قسنطينة وإقليمها (شيربونو، وفيرو، وفايسات، وميرسييه)، وفي تلمسان (بروسلار، ومارسيه، وبارجيس). ولكن عمليات الإحصاء والدراسة العلمية والوصف المعماري والفني بدأ مع عهد جونار، كما أشرنا. إن ما بقي من مساجد العاصمة الـ 122 لا يعدو أربعة مساجد من النوع الذي تقام به صلاة الجمعة. ويشهد جورج ايفير سنة 1913 على أن الفرنسيين قد هدموا ستة وستين مسجدا في العاصمة وحدها. وفي تلك الأثناء (أول هذا القرن) كانت المخططات الفرنسية تعمل على هدم الجامعين الكبيرين الباقيين أيضا (الأعظم والجديد) (¬1) بعد أن تعرضا للتنقيص والتشويه منذ الاحتلال. وكان الجامع الأعظم يقوم مقام (الجامعة) العلمية قبل الاحتلال، وكانت أوقافه من أغنى الأوقاف ومكتبته مضرب الأمثال. فإذا بالفرنسيين قد حشروه وسط العمارات، فتآكلت أطرافه واختفت منارته التي قيل إنها كانت تشبه منارات جوامع تلمسان. وكان تحفة في بنائه إذ تتقاطع فيه العرصات، وتكثر فيه الزرابي والثريات، ويغطي حيطانه الزليج والمرمر. أما الجامع الجديد فقد وقع له ما وقع لزميله وكان من المعالم العثمانية التي تعرضت أيضا للتنقيص، واستولى الفرنسيون على أوقافه الغنية. ويقول عنه ألبير باللو سنة 1904 إنه كان معلما جميلا ورشيقا (بعد كل الذي حدث له)، ¬

_ (¬1) كان ذلك منذ 1888، ولكن وقفوا بقيادة الحكيم محمد بن العربي ضده، ثم عادت المسألة إلى الظهور سنة 1905 بحدة. عن جورج ايفير انظر (مذكرات حمدان خوجة) في المجلة الإفريقية، 1913. انظر فصل المعالم الإسلامية.

وكان متعدد القباب، ومنبره ومحرابه من الأرابسك، مزينا بالآيات القرآنية جذابة الخطوط. وفي حديثه عن زاوية وجامع سيدي عبد الرحمن يقول (باللو) إن المرمر قد استخدم في العرصات ذات الطراز العربي - الإسلامي. وفي المسجد فسيفساء عجيبة. والمنارة ذات جمال فائق، وهي أيضا مزينة بالفسيفساء ومربعة الشكل. وكل ذلك كان يحدث لذة في النفس وتأثيرا مدهشا إذ ينظر المرء إليها وهي (المنارة) غارقة في الإخضرار الذي يكاد يحجبها من كثرة الأشجار (¬1) التي حولها. وعن فنيات المعالم الإسلامية في تلمسان يقول ألبير باللو نفسه إنها من نفس الطراز الأندلسي، ثم تأثرت بالطابع المحلي، لأن كل فن مهاجر لا بد أن يخضع للتأثيرات المحلية. فأنت في تلمسان كأنك في قرطبة أو غرناطة أو أشبيلية. ويذهب إلى أن الفنانين الذين نشروا هذا الفن في تلمسان والأندلس قد جاؤوا من القاهرة - الشرق؟ وعبروا دون توقف إلى تلمسان حيث المملكة والثروة والذوق. ولاحظ أن الفن الإسلامي واحد من القاهرة إلى تلمسان، ثم منها إلى فاس وإلى الأندلس. نفس النقوش ونفس الذوق الفني والجمالي. لكن التعديل وقع في الزخرفة وفي التفاصيل وهذا هو الطابع المحلي، غير أننا لا نجد الفن المصري، كما قال، بحذافيره في المنصورة (تلمسان) والكتبية (مراكش) ولا في الخيرالدا (أشبيلية). فالتأثير موجود ولكنه اصطبغ بالصبغة المحلية. وهكذا نجد مسجد سيدي بومدين تقابله الحمراء في الأندلس، والمنصورة تقابلها الخيرالدا، كما أن مساجد سيدي الحلوى وسيدي أبو الحسن والجامع الكبير في تلمسان يقابلها القصر في (الأندلس؟). وأخبرنا باللو أن جامع سيدي أبو الحسن قد حوله الفرنسيون إلى متحف، ومع ذلك وصف محرابه بأنه مزخرف بالأرابسك الجميل جدا ¬

_ (¬1) ألبير باللو (الفن الإسلامي في الجزائر) في (المجلة الإفريقية) 1904، ص 170 - 174.

وكذلك ما حول المحراب. وقد وضع الفرنسيون في هذا المتحف كل القطع الأثرية والفنية العزيزة، حسب تعبيره. أما الجامع الكبير بتلسمان فهو مبني بالآجر ومحلى بالفسيفساء الجميلة الأشكال. وممراته خشبية ذات طراز عربي متناسق، وله محراب رائع وقبة جيدة الصنع، وثريا من خشب الأرز الجيد وهي ترجع إلى عهد الملك يغمراسن إذ هو الذي أهداها إلى الجامع خلال القرن 13 ميلادي. وجامع سيدي الحلوى له منارة جميلة وغنية بالفسيفساء، بل هي أكثر غنى من منارة الجامع الكبير. ويحتوي على ثماني عرصات يظهر في أعلاها الطراز العربي الجميل، وهي محلاة بالحجر الكريم الأسود. وقد أصبح بابه الكبير مهدما، ولا يمكن التعرف على ثروته الفنية (¬1). أما جامع خنق النطاح بوهران فهو يرجع إلى القرن 18 م فقط، وكان يتمتع بطابع موريسكي، وله زخرفة تقليدية، حسب وصف أوغسطين يرك له. ويقول عنه إنه جامع متفتح جدا على الطبيعة، وهو من رموز الفن الإسلامي في وهران إذ تقابله من الجهة الأخرى معلمة سانتاكروز (¬2). ويذهب بيرك إلى أن (الفن العظيم قد اختفى) من الجزائر. وهو لم يقل إن ذلك كان بفضل سياسة بلاده، ولكنه مفهوم. وهو يقر أن هناك (عظمة) لهذا الفن، اختفت مع الأندلس الغابرة، وتلمسان الزيانية البائدة. إنه فن كان يعطي جاذبية خاصة للمؤمنين وغموضا عبر العصور، حسب تعبيره. وكان بيرك هنا يربط بين الدين والفن. ثم سلط انتقاده اللاذع على المنارة (التركية) التي قال إنها أدت دورها في (التهدئة)، ويقصد بذلك التسلط والجبروت الذي تمثله المنارة لأنها تركية!. وربط بينها وبين السياسة، فقال إن المنارة حكومية وإدارية، ولذلك فهي أقل حدة. وتساءل هل المسألة تتعلق بغلطة تركية؛ إن الداي كان يخشى الثورة عليه من الانكشارية الذين كانوا دائما، ¬

_ (¬1) باللو، مرجع سابق، ص 176 - 183، قارن وصفه بوصف بروسلار ومارسيه لمساجد تلمسان. (¬2) أ. بيرك، كراسات الاحتفال المئوي، ص 99.

يطالبون برفع الأجور. ومن الصعب أن يظهر خلال ذلك فن وكتابات زخرفية أو قباب جمالية أو محاريب رشيقة (¬1). والغريب أن بيرك الذي أدار الشؤون الأهلية في الجزائر ربع قرن يحمل هذه الأفكار العنصرية حتى في الفن. فبعد أن قضت الحكومة الفرنسية (المتحضرة) على مساجد ومنارات تعتبر آية في الفن بشهادة الفرنسيين أنفسهم، مثل جامع السيدة، جاء هو بعد قرن لينفي الذوق والإبداع ويجعل المسجد والفن صنيعة الإدارة (التركية). ثم إنه لم يضرب مثلا على الإبداع الفرنسي في مساجد الجزائر والذي يعتبره هو من علامات التحضر والحكم الإنساني. ولنستمع إلى أحد الفرنسيين ينعي على سلطات بلاده هدم إحدى زوايا قسنطينة وغيرها من المعالم الإسلامية. فهذه زاوية يحيى بن محجوبة، هدمها الفرنسيون بعد قرنين من حياة صاحبها. كان ذلك سنة 1865 (¬2)، بدعوى مد طريق. وقد وصفها شيربونو المعاصر لعملية الهدم واعتبرها من النماذج الأكثر جمالا في الفن الإسلامي. وقد وصف بيقوني سنة 1903 نقيشة ترجع إلى هذه الزاوية وصفا يدل على قيمتها الفنية. وكانت النقيشة قد قدمت هدية إلى متحف الأشياء القديمة بالعاصمة، وهي مكتوبة على خشب الأرز، وذات شكل متعدد الأضلاع. ويقول بيقوني إن الكتابة قد تعود إلى ابن محجوبة نفسه لأنه كان من الأدباء والقضاة. وانتقد بيقوني عمليات الهدم العشوائية للمباني العربية الإسلامية القديمة وعدم العناية بما يخدم المعرفة التاريخية للبلاد واكتشاف الروح الفنية عند الجزائريين عبر العصور. واعتبر النقيشة إحدى الأمثلة العديدة على ذلك. لقد قص بيقوني قصة مأساة النقيشة التي ترجع إلى زاوية ابن محجوبة وكيف عثر عليها. يقول إنه أجرى بحثا طويلا سنة 1878 في قسنطينة لمعرفة الآثار القديمة ومواقعها وما كان فيها من كتابات ورسومات فلم يجد أحدا ¬

_ (¬1) بيرك، كراسات الاحتفال المئوي، ص 99. وبيرك هو والد المستشرق جاك بيرك. (¬2) يحيى بن محجوبة ذكره الفكون في (منشور الهداية). وهو من أهل القرن 17 م، وقد حققنا هذا الكتاب، ونشرته دار الغرب الإسلامية، بيروت 1987.

يخبره بشيء لا من المسلمين ولا من الفرنسيين، بل لم يجد أحدا يهمه الأمر منهم. وبينما هو يعاني الحيرة واليأس علم بوجود نفس المقاول الذي على يديه وقع هدم الزاوية وغيرها لمد الطريق المذكور، فقصده وسأله فوجد أن ذاكرته قد ضعفت بعد أكثر من عشر سنوات على عملية الهدم، ولكنه دله على كومة من الخرائب ترجع كلها إلى المباني التي خربت على يديه، ورخص له بالبحث فيها وأن يأخذ منها ما يريد. وقد وجد بيقوني النقيشة في حالة يرثى لها، حسب قوله، ولكن يمكن استعادتها، وقد فعل ووضعها في إحدى القاعات (بالمتحف) فكانت تمثل منظرا جميلا. وإليك النص كما وجده بيقوني في النقيشة: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه، يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال. بيت مرفعة بالذكر عامرة، لله قائمة، يغفر لمن فيها ... الخ) (¬1). وفي هذا النطاق اتسع الاهتمام بالآثار الإسلامية إلى حد ما، ولكن بعد إهمال دام عقودا وبعد عمليات الهدم وتحويل المعالم نفسها عن أغراضها. ففي سنة 1905 (عهد جونار) صدر قرار يعتبر بعض المعالم جزءا من الآثار التي تجب المحافظة عليها. ومن ذلك في العاصمة بعض الأضرحة (ضريح حسن باشا بن علي، وكانت له قبة، وضريح الأميرة في الحديقة المجاورة لسيدي عبد الرحمن الثعالبي). وكذلك جامع سفير (صفر)، وجامع سيدي محمد الشريف، وبعض العيون مثل العين الواقعة بالأميرالية (¬2). ونفس الشيء وقع في غير العاصمة أيضا. ولكن معظم الفرنسيين في الجزائر كانوا معارضين لهذا التوجه عندئذ. وقد كشف الأخوان (جورج وويليام) مارسيه في كتابهما عن (المعالم العربية في تلمسان) عن ذلك حين وصفا هذا الاتجاه لدى الفرنسيين القاطنين في ¬

_ (¬1) بيقوني E. BEGONET (كتابة عربية من قسنطينة) في المجلة الإفريقية، 1903، ص 305 - 311. ذكر منها تسعة أسطر، وتوجد صورة للنقيشة نفسها، وجاء في آخر المقال أن بيقوني قد توفي قبل ظهور المقال عن 72 سنة. (¬2) المجلة الإفريقية، 1906، ص 137.

تلمسان. فقالا إنهم كانوا يريدون تخليص المدينة من أي شيء يجلب الزوار ويجعل تلمسان الملكية الزيانية منافسة لأي مركز دائرة من أم الوطن (فرنسا). وقدم الأخوان مارسيه صورة مختلطة عن مستقبل تلمسان وماضيها. فهي عندهما مثل الجزائر القديمة ستختفي بالتدرج وستسقط تحت ضربات المعاول وفؤوس المنتصرين - الفرنسيين - ولكنها ستظل إلى حين محجة لزوار الف في نظرهما (¬1). لقد درس الرجلان معالم الفن المعماري لتلمسان وأجادا الوصف والتدقيق، واعتمدا على مصادر هامة سجلت أمجاد هذه المدينة الخالدة، على عكس تنبوؤهما. وبعد أن كتبا مدخلا مطولا عن الفن المعماري التلمساني وعلاقته الفن الأندلسي الخصوص، وصفا المدينة نفسها وسكانها من خلال الكتب التاريخية كإبن خلدون (يحيى وعبد الرحمن) وليون الإفريقي، والتنسي، والمقري. وكذلك المؤلفات الفرنسية عن تلمسان ومعالمها وخطوطها. ومن أولها (1846) ما كتبه عنها الأب بارجيس المستشرق المتعصب الذي جاءها زائرا ودارسا، وكان، كراهب، يعمل على استعادة الكنيسة القديمة. ومن مؤلفاته الشهيرة (تلمسان: العاصمة القديمة لمملكة بهذا الاسم) (¬2). وقيل إنه كتاب، رغم الأخطاء التي تضمنها، مليء بالوثائق والملاحظات الشخصية (¬3). وفي 1852 نشر بارجيس نفسه تاريخ بني زيان للحافظ التنسي مترجما عن العربية. وفي 1887 نشر بارجيس أيضا إضافة (ذيل) إلى تاريخ بني زيان ملوك تلمسان، كما نشر كتابا عن أبي مدين وآخر عن التجارة بين تلمسان والسودان القديم في عهد بني زيان. واعتمد الأخوان مارسيه كذلك على دراسة بروسلار الذي أطال المكث في تلمسان كرجل إداري، وكان على صلة بعلماء هذه المدينة. ومن خلال مساعداتهم أصدر دراسته عن الكتابات والخطوط في تلمسان. كما اهتم بورسلار بالآثار ¬

_ (¬1) جورج وويليام مارسيه (المعالم العربية لتلمسان)، 1903، ص 111. (¬2) الأب بارجيس، تلمسان، باريس 1859. انظر أيضا فصل المعالم الإسلامية. (¬3) بروسلار، المجلة الآسيوية، 1878.

الأخرى لتلمسان فأصدر دراسة عن قبور أمرائها وبعض رجالها (¬1). وهناك على الأقل ثلاثة فرنسيين آخرين اهتموا بآثار تلمسان، وهم ديتوا Duthoit الذي شغل منصب مفتش للبنايات الأثرية بالجزائر بين 1871 - 1880. وقد ترك تقريرا وملاحظات عن آثار تلمسان ورسوما وخطوطا ونحوها. والثاني هو بييس Piesse الذي ترك مونوغرافا (كتابا، - دراسة) والذي واصله كنال Canal ثم نشر في مجلد. وفي 1900 نشر رييه باصيه دراسة شاملة بعنوان (التطور التاريخي للفن المغاربي) في كتاب عنوانه (الجزائر من خلال معالمها الأثرية) (¬2). ومع انطلاقة هذا النوع من الدراسات، وقع الاهتمام حتى بالآثار البعيدة عن المدن، مثل قلعة بني حماد المشار إليها، وجامع سيدي عقبة بن نافع، ومسجد خنقة سيدي ناجي. ففي سنة 1915 كتب غوستاف ميرسييه دراسة أثرية ووصفية لآثار الخنقة التي ترجع إلى القرن 18. وهي تضم المسجد والمدرسة والقبة أو الضريح. وما جاء عليها من كتابات ونقوش. وربط بين ذلك والأحداث التاريخية التي عرفتها الناحية على يد الحنانشة والشابية، وسيرة سيدي مبارك بن ناجي في الخنقة. وقد أعانه على جمع مادته الشيخ محمد رشيد بن حسين، شيخ الولجة، وهو من عائلة ابن ناصر المنحدرة من نسل سيدي مبارك بن ناجي الذي يعتبر المؤسس الحقيقي للخنقة (¬3). ولكن هذه الدراسات كانت دائما تتعثر لأسباب مالية وسياسية. ولذلك ظل الاهتمام بالآثار الإسلامية محدودا ومرتبطا بالنزوات الشخصية للحكام، فكانت النتائج غير باهرة. ¬

_ (¬1) بروسلار، المجلة الإفريقية، 1858? 1861. (¬2) جورج وويليام مارسيه، مرجع سابق، المقدمة. وقد نشر كتابهما بعناية حكومة شارل جونار وبتوصية من مدير الفنون الجميلة. (¬3) غوستاف ميرسييه، مجلة (روكاي) 1915، ص 154 - 165. انظر أيضا مقالنا عن خنقة سيدي ناجي في (تجارب في الأدب والرحلة)، وفقرة الأنساب من فصل التاريخ.

القصور والمباني الحضرية

القصور والمباني الحضرية أما القصور والفيلات فقد عرفت منها الجزائر نماذج جيدة تميزت بالطراز العربي الإسلامي الذي انتشر في المغرب العربي والأندلس. ومن ميزات هذه المباني (الدنيوية) هو الراحة النفسية والستر والهدوء وراحة العين وجمع الشمل العائلي والتمتع بجمال الطبيعة. ورغم أن هذا الطراز قديم، كما ذكرنا، فإنه ازدهر خلال العهد العثماني نتيجة الازدهار الاقتصادي وخلود بعض كبار الدولة والأغنياء إلى الراحة. وقد وجدت النماذج المذكورة في المدن والأرياف على حد سواء. فكان أغنياء البلاد يبنون قصورهم أيضا في الريف ويقصدونها في أوقات الفراغ والأعياد والجمعات. وها هم الفرنسيون الذين لا يكادون يذكرون فضيلة للعهد العثماني يقولون على لسان أحدهم، وهو أوغسطين بيرك، إن أجمل ما بني في هذا العهد هو القصور في المدن والفيلات (الأحواش) في الأرياف. فجمال الجزائر وحلاوتها ورشاقتها وروائح الساحل قد أسرت قلوب الرياس الذين كانوا يتمتعون بين حملة بحرية وأخرى بالراحة ولذة الحياة، فبالنسبة لهؤلاء الرياس كانت كل دقيقة تساوي قطرة من الذهب. وكانت كل رغبتهم هي توفير قصر هانئ حيث يتذوقون الحياة وينعمون بها على أفضل وجه (¬1). ولكن تلك القصور والأحواش الريفية الخاصة قد استولى عليها الفرنسيون عند الاحتلال، وتحولت إلى أملاك الدولة، ونصبت فيها الإدارات والمحاكم والمصالح الأخرى كالمتاحف والمكتبات وإقامات رجال الدين ورجال الجيش. وأنت إذا سألت عن قصر الصيف أو قصر الشتاء حيث كانت إقامة حكومة الجزائر (الفرنسية) أو عن مقر المكتبة العمومية (الوطنية فيما بعد) أو عن مستشفى مصطفى، أو قصر أحمد باي، أو فيلا عزيزة أو فيلا عبد اللطيف أو غيرها من المباني والمعالم، فإنك ستجد الجواب دائما أنها آثار (موريسكية) حولت إلى ما آلت إليه بعد هجرة أو نفي أو افتقار ¬

_ (¬1) أوغسطين بيرك (كراسات الاحتفال)، ص 100.

أصحابها. وقبل أن تستقر هذه الآثار في أيدي السلطات الفرنسية وتنتصب هيئة الآثار والفنون الجميلة، تعرضت إلى الهدم والنهب. ففي أتون الحملة العسكرية خلعت الأبواب والنوافذ لعدد من هذه المباني الحزينة، بدعوى أن فيها خزائن الذهب والفضة وكنوز أغنياء الجزائر. وتعرضت الفسيفساء والزليج الذي كان يغطي الحيطان إلى التكسير والاقتلاع بحثا عن الثروات المخبوءة. وبذلك فقدت الجزائر الكثير من آثارها وفنونها. جاء في كتاب صادر سنة 1859 أن مؤلفه شاهد القصور التالية في العاصمة: قصر مصطفى باشا الذي يمثل كما قال رشاقة الفن المعماري الحضري وفخامته. وهو ينتسب إلى الداي مصطفى باشا الذي قتل سنة 1805. وكان هذا القصر قد جعله الفرنسيون فترة من الزمن قصر استقبال وحفلات ومعارض. وتحدث المؤلف أيضا عن قصر حضري آخرغني بعرصاته المرمرية، وعن أبوابه ونوافذه التي كانت تتداخل أيضا ضمن عرصات مرمرية. وكان هذا القصر عندئذ مقرا للحاكم العام (راندون). كما وصف القصر الآخر الذي أصبح سكنى للأسقف، والآخر الذي سكنه اللقيط يوسف، ثم ذلك الذي تحول إلى المحكمة الإمبريالية (¬1). أما بالنسبة لقصور قسنطينة فقد تحدث شيربونو عن قصر أحمد باي (الذي سنفرده بالحديث بعد قليل) وعن قصر آخر كان لصالح باي الشهير، ثم آل إلى ورثته، وقال شيربونو إن هؤلاء الورثة قد أجروه (؟) إلى البلدية. وهذا يذكرنا بما حدث لقصور وأملاك ورثة مصطفى باشا في العاصمة التي آلت إلى أغنياء اليهود والفرنسيين بالحيلة (¬2). وكان شيربونو يكتب أيضا في أوائل الخمسينات (في عهد الحاكم العام راندون). وقد قال إن حريم صالح باي قد ظل في القصر، ثم تولاه الورثة الذين أجروه إلى البلدية. ثم منحته ¬

_ (¬1) ديتسون G.L. Ditson، (الهلال والصليبيون الفرنسيون)، نيويورك، 1859، ص 40 - 44. (¬2) انظر تحقيقنا لكتاب (حكاية العشاق)، للأمير مصطفى بن إبراهيم، الجزائر 1982، ط 2.

البلدية إلى مؤسسة فرنسية تسمى (مؤسسة الآنسات) وأصبحت تديره أخوات المذهب المسيحي. وكانت مقاسات القصر كبيرة جدا إذ امتدت على طول محطة المسافرين (القافلة - سراي). ومن ممتلكات هذا القصر كيس من الملف الأخضر المطرز بالذهب، كان في ملك إحدى السيدات، والعبارات المطروزة تقرأ: كل يد أمسكت بك أصبحت مصونة، وكل عين نظرت فيك نجت من كل حسد (¬1). وهناك قصور قديمة في العاصمة ترجع إلى عهد القسيس الأسباني هايدو (القرن 16). وقد وصف طرازها، وهو على عهد قريب به في الأندلس، فقال بأن الأبنية الإسلامية تتميز بشيئين، الأول العناية الكاملة بالستر، وفسر ذلك بالغيرة الشرقية (الإسلامية) على الحريم والحياة الخاصة، والثاني الذوق السليم في اختيار الهدوء والجو الرائق ونضح الماء حول الزليج للتخفيف من حدة الشمس. وهذا الأسلوب ببعديه، كان شائعا في كل الأبنية الحضرية بالجزائر، وكانت الأحواض الريفية تخضع لنفس الخصائص ما عدا أمرين، وهما قلة النوافذ منعا لاعتداء قطاع الطرق واتساع المساحة خلافا لقصور المدن. وهكذا تحتل الساحة والحديقة والقاعة مجالا واسعا في الريف. ومما يذكر أن دار مصطفى باشا التي تحولت إلى قصر الصيف ومقر الحاكم العام، كانت تعتبر في منطقة ريفية، وكذلك قصر الباردو، وقصر الأقواس الذي بناه الريس حميدو الشهير في أول القرن التاسع عشر. كما أن إحدى دور مصطفى باشا تحولت إلى المكتبة والمتحف، كما ذكرنا، وهي غير القصر. وأشار بيرك إلى وجود دار (قصر) أخرى تسمى دار الصول التي اتخذها الحاكم العسكري الفرنسي مقرا له (¬2). ¬

_ (¬1) شيربونو، مجلة (روكاي) 1856 - 1857، ص 112، هامش 1، ص 120. نقل شيربونو عبارة (الخلاف) و (أف) في آخر كل سطر. والظاهر أنها بيت من الشعر، لم نهتد إلى أصلها، فتصرفنا في الترجمة كما ترى. (¬2) بيرك، مرجع سابق، ص 100، 103. وعن استيلاء قادة الجيش الفرنسي وأعيان الفرنسيين على القصور والأحواش انظر هنري كلاين (أوراق الجزائر).

وكان قصر مصطفى باشا يضم، حسب ديتسون، سبعة وعشرين شقة، وهو أوسع من قصر الداي بالقصبة. وكانت الأجزاء السفلى من قصر مصطفى منخفضة ومعتمة، وله ساحة. ولم يكن سنة 1858 مستعملا في أغراض معينة عدا استعماله بضع ساعات من قبل بنات المدرسة. وتقوم أجنحة القصر على أربعين عرصة من المرمر. ومدخله طويل ومعتم كما قال، ولكن له عدة أبواب. وقد وصف الدار التي افتتحت فيها المكتبة والمتحف، فقال إنها أجمل وأكثر رشاقة من قصر مصطفى باشا ولكنها غير واسعة مثله. ويدل بناؤها على ذوق رفيع. وقال إن بعضها معتمد على نوع من اللوالب لا يوجد مثلها في العالم بأسره، وهو منظر يشد العيون. وتعتبر القبة الحضرية من الجمال والروعة بحيث تشبه ربما المنطاد (البالون) المعلق. والغرف في هذا المبنى وفي غيره مثل أبنية الصوامع وأضرحة المرابطين، كلها مصقولة ومطلية البلار وقائمة على أربعة أو خمسة بوصات مربعة. وهي عادة من اللون الأزرق المزخرف بالحروف العربية والآيات القرآنية المنسابة الخطوط. ويتألف أثاث بيوت الأغنياء من الحشايا والزرابي الكثيفة والمرايا والمناضد المرصعة بالجواهر (¬1). هذا النوع من الأبنية يسميه الكتاب الأبنية المدنية، وهم يضيفون إليها مباني القصبة والمساجد وما يتصل بذلك كالقباب. وقد اختفت مساجد كثيرة، دون مراعاة الخسارة الأثرية ولا الوطنية. كما تهدمت أجزاء عديدة من القصبة في العاصمة، واختفت أو كادت قصبات معظم المدن الأخرى: قسنطينة وعنابة وبجاية ومستغانم ووهران. ولولا أن القصور سكنها أعيان الأوروبيين ومنظماتهم واستخدمت لمصالحهم لكان أمرها كالقصبات والمساجد والأضرحة. والغريب أن أحد الكتاب الفرنسيين يقول إن سكنى الأوروبيين للقصور والأحواش هو الذي أنقذها من التخريب (¬2). ولكن ممن؟ ¬

_ (¬1) ديتسون، مرجع سابق، ص 168 - 170. (¬2) قوانار Goinar (الجزائر)، 284.

ويخبرنا هذا الكاتب أن المهندس الإنكليزي، بوكنال Buknal، قد جاء إلى الجزائر وعمل على صيانة الفن المعماري بها، وذلك بالمحافظة على كل قطعة وإعادة الحياة في النماذج الفنية من أجل إقامات شتوية في الحدائق الواقعة في أعلى مدينة الجزائر، كما أنه عمل على تواصل الفن القديم حتى لا ينقطع عن الماضي وطرازه. وهكذا تحولت الإقامة القديمة لحراس الداي إلى قصر منيف أصبح هو مقر الحاكم العام الفرنسي صيفا. وهذا القصر كان يقع بوسط حديقة غناء واسعة، وحافظ الفنانون على طرازها الأصلي الذي ينسجم مع الساحل الجزائري، حيث الإخضرار الداكن وأشجار النخيل والبرتقال وأنواع الزهور. إنها إقامات بيضاء اتخذها أيضا بعض الفنانين نماذج لفنهم. وكان جونار الذي جاء لحكم الجزائر بفكرة استرجاع شخصيتها التقليدية، قد بذل جهده في بناء نماذج جديدة مستوحاة من الطراز القديم، وهو ما سماه بعضهم (بالحركة الموريسكية الجديدة). وظهر ذلك في المباني الإدارية التي بنيت في عهد جونار أو التي تمت بعده مثل البريد المركزي، ومقر ولاية الجزائر، والبلدية وبريد الأبيار، وعمارة جريدة (لا ديباش ألجيريان)، ومحطة وهران ومركز سكيكدة، وأخيرا نشير إلى مباني المدارس الرسمية الثلاث في كل من العاصمة (الثعالبية)، وقسنطينة، وتلمسان. وقد وقع تقليد هذه الحركة مع التخفيف من الزخارف، في بعض المدارس والمباني الحكومية الأخرى. وشارك بعض المهرة من الجزائريين في الخط والزخرفة وفي تطوير هذا الفن (¬1). وانتشرت فكرة تأصيل الفن خارج المدن أيضا، وانقلت إلى المشاريع ¬

_ (¬1) يذكر أنه جيء بأحد النقاشين والخطاطين من وادي سوف، اسمه الشيخ عمر قاقة لزخرفة البريد المركزي بالعاصمة. وهذه العائلة ما تزال موجودة وتواصل فنها إلى اليوم. ويقال إن عمر قاقه قد أخذ فنه عن فنان مغربي ساهم في نقش الزاوية التجانية بقمار، ربما في آخر القرن 18 ولكن علينا أن نقدر المسافة الزمنية بين الرجلين.

السياسية الصحراوية. فظهرت المباني الآن محملة بالتأثر البربري - الإفريقي والإسلامي. وكانت الفنادق التي شيدت باسم (عابرة الأطلنطي) وكذلك بعض المباني الإدارية. وكانت تدل على التأثر بالنموذج السوداني القديم، كما في تميمون. ومن جهة أخرى استمرت فكرة الأحواش التي ليس لها طوابق، فلا يطل ساكن على آخر، مهما كان. وكانت الإدارة الفرنسية قد أسست قبل الثورة مصالح معمارية ملحقة بالبلديات للإشراف على عمليات البناء وخضوعها لمتطلبات البناء الحضري، كما تأسس معهد حضري ملحق بكلية الآداب منذ 1946 (¬1). أما دار عزيزة فتنسب إلى عزيزة بنت رمضان، وهي زوجة رجب باي، أحد بايات قسنطينة. وكانت تسمى دار عزيزة باي، وأحيانا دار العزيزة أي المحبوبة عند زوجها، حسب الروايات الشعبية. ويذهب لويس رين إلى أن عزيزة هذه كانت ابنة أخ لعلي بتشين، ذلك البحار الشهير والثري الكبير في القرن 17 والذي بنى المسجد المعروف باسمه جهة باب الواد عندئذ. ويبدو أن شهرة عزيزة هذه لم تقم على دور سياسي أو مغامرة من المغامرات، اللهم إلا الحب الجارف الذي كان يكنه لها زوجها، وهو الحب الذي انتهى بقتلها على يد زوجها نفسه، غيرة عليها ربما، لأن القصة بقيت غامضة. وقد ماتت كما قيل بضربة سيف. كان رجب باي قد بنى لها دارا (قصرا) نموذجية في الجزائر. وبعد ذلك صادر الباشا هذه الدار، ثم جعلها إقامة ثابتة لبايات قسنطينة ينزلون فيها حيثما حلوا بالعاصمة لأداء عادة الدنوش، وكذلك كان ينزل بها خلفاء البايات الذين ينوبون عنهم في أداء الزيارة، وبعد الاحتلال حولها الفرنسيون إلى مقر للأسقفية (¬2). وقد حظى قصر أحمد باي بدراسات وملاحظات ربما لم يحظ بها قصر ¬

_ (¬1) قوانار، مرجع سابق، ص 284. (¬2) لويس رين، (المرأة البربرية) في المجلة الجزائرية SGAAN، 1905، ص 485.

آخر. وكان القصر حديث العهد إذ بني قبل الاحتلال بسنوات قليلة (1826 - 1835). وقد بنته أيادي جزائرية صرفة مراعية فيه الذوق والجمال وانسجام الطبيعة، وجلبت بعض مواده من إيطاليا وتونس. ولكن الحاج أحمد لم يتمتع به، فبعد سنة واحدة من إكماله ضرب الفرنسيون قسنطينة، وفي السنة الموالية تمكنوا من احتلالها واحتلال القصر أيضا. وقد أصبح القصر منذ الاحتلال مقرا للإدارة الفرنسية الإقليمية، فعاثوا فيه فسادا، وجردوه من تحفه، وأهملوه فترة، ثم تبادلت عليه الأيدي، وشيئا فشيئا فقد القصر رونقه وجماله، وأصبح فقط موضعا للدراسة والزيارة. يقول أوغسطين بيرك إن بناء القصر قد تم على يد الحاج الجابري القسنطيني والسيد الخطابي، وكلاهما معروف بتجربته ومواهبه. وللقصر أهمية فنية كبيرة. فقاعاته مستطيلة وله باحات داخلية وحديقتان. ويقع جناح الباي بين الحديقتين. وقاعاته واسعة، وهو مضاء إضاءة طبيعية جيدة عن طريق نوافذ مدروسة للتهوية والإضاءة. ويقوم القصر على عرصات مرمرية تربطها أقواس منحنية، وتغطي جدرانه طبقة من الزليج الملون (¬1). وقبل بيرك، وصف ديتسون قصر الحاج أحمد باي بإعجاب كبير واعتبره تحفة من الفن المعماري الجميل. ووصفه وصفاء داخليا دقيقا، بعد أن زاره شخصيا وتمتع به، وتحدث عما فيه وعمن فيه. وتذكر ديتسون بالمناسبة الباي المستبد والحوريات الحسان والموسيقى وخرير المياه والليالي الهادئة والزرابي المبثوثة. وقد تخيل ديتسون أنه في إحدى عجائب ألف ليلة وليلة، ثم أفاق من غيبوبته. ومن رأي ديتسون أن القصر كان يتألف من عدة حدائق، وهي مليئة بأنواع النباتات الاستوائية التي كانت أوراقها تلمع بنثير المياه عليها من العيون العذبة. وحول الحدائق صفوف من العرصات المرمرية وهي التي تقودك إلى الأبهاء والقاعات المزخرفة بالأرابسك. كما وصف ديتسون شقق وأجنحة ¬

_ (¬1) بيرك، مرجع سابق، ص 100. وقد زرناه خلال السبعينات.

القصر والأضواء الطبيعية النافذة إليه، والهدوء التام الذي يسوده رغم وقوع القصر قرب شوارع المدينة المزدحمة وضجيج الأسواق. ويرجع ذلك إلى أن القصر ليس له نوافذ تطل على المدينة. وقد اعتبره هذا الكاتب رمز الحياة الإسلامية في قسنطينة (¬1). وحين تحدث شيربونو عن هذا القصر قال في شيء من التشفي إن صاحبه قد سكنه بضعة أشهر فقط، مرة باشا ومرة سجينا. وقد نقل لنا البيتين اللذين وجدهما منقوشين بخط مشرقي (ديواني؟) على هذا القصر وبطريقة فنية تجلب النظر، وهما: لمالكه السعادة والسلامة ... وطول العمر ما سجعت حمامة وعز لا يخالطه هوان ... وأفراح إلى يوم القيامة (¬2) ومن الذين دخلوا القصر (1837) واعتبروه تحفة من بقايا ألف ليلة وليلة، الفنان الفرنسي هوراس فيرنيه الذي سبقت إليه الإشارة والذي رسم معركة احتلال قسنطينة بعد أن دفعت له الحكومة نفقات السفر والإقامة. وقد عده حلما من الأحلام الشرقية، ربما لأن فيرنيه نفسه كان يبحث عن الشرق في الجزائر. وقد أعجب بالزخارف العذبة والمنسجمة، وأعجب أيضا بالمرمر الأبيض والرسومات الملونة بالألوان الأكثر حيوية وحياة، وهي تدل على ذوق راق. وكان فيه على عهده الفوارات والمياه الجارية من عيون تظللها أشجار البرتقال وغيرها (¬3). والواقع أن فيرو هو الذي خص قصر الحاج أحمد بدراسة مفصلة بعد منتصف القرن الماضي. وكان ذلك بعد أن حدثت القصر أمور منها الإطاحة بعشرات المنازل القريبة منه لتوسيع المدينة ومذ الطريق الوطني. ومنها إقامة نابليون الثالث فيه أربعة أيام أثناء زيارته لقسنطينة سنة 1865. والجديد الذي ¬

_ (¬1) ديتسون، مرجع سابق، ص 265 - 267. (¬2) شيربونو، مرجع سابق، ص 134. (¬3) شارل فيرو (مونوغراف قصر الحاج أحمد) في مجلة (روكاي)، 1867، ص 5 - 6.

جاء به فيرو هو: أن أحمد باي تأثر بفكرة القصر بعد زيارته لمصر أثناء أدائه فريضة الحج، وأن الذين بنوه وتفننوا فيه هم من الجزائريين وليس من الأجانب، كما ادعى البعض. وأخيرا ألح فيرو على كون الحاج أحمد استولى على دور كثيرة لبناء القصر واستبد بالحكم والرأي حتى أن بعض العائلات التي لم تستجب لطلبه في المساعدة فرت إلى الفرنسيين. هذه هي الأفكار الجديدة حول القصر، كما نلمحها في كتابات فيرو (¬1). وهو لم يكتب عنه معجبا بل منتقدا خلافا لمن سبقوه إلى وصفه. بعد أداء فريضة الحج ومشاهدة قصور مصر وكذلك المعالم التي تركها صالح باي في قسنطينة، عزم الحاج أحمد على بناء قصره الذي بدأه، كما ذكرنا سنة 1826 وهو يومئذ باي، وانتهى منه سنة 1835 وهو عندئذ باشا إذ بعث إليه السلطان محمود الثاني فرمان الباشوية. ولقد كانت الأسرة الباي بعض الدور حيث القصر. فأضاف إليها هو بالشراء والمصادرة دورا أخرى. وكلف أحد الإيطاليين من جنوة (من اليهود؟)، وكان يتاجر بالجملة في الحبوب بعنابة، أن يجلب إليه الرخام الأبيض من إيطاليا، وكل ما هو ضروري لزخرفة قصر منيف. وقد فعل هذا الإيطالي، واسمه (شييافينو) وحملت ألواح المرمر على ظهور البغال والإبل من عنابة إلى قسنطينة. وتسلم الإيطالي أجره حبوبا فحملها إلى ليفورنا، ثم أخذ البناؤون والفنانون في عملهم تحت إشراف قائد الدار، ابن البجاوي. وقد جيء بالمعماريين من كل أنحاء الإقليم، وعلى رأسهم الحاج الجابري والسيد الخطابي اللذان ذكرناهما من قبل. ويذهب فيرو إلى أن كليهما قد مارس البناء سابقا في الإسكندرية وفي تونس. وكذلك جاء الرسامون والنجارون من الأهالي. وجيء ببعض اليهود من تونس لوضع المربعات والنوافذ الزجاجية. وما عدا المرمر والزليج الملون فإن كل المواد الأخرى للبناء إنما جيء بها من المدينة أو مما حولها. ¬

_ (¬1) كان فيرو مترجما رئيسيا في الإدارة بقسظينة عند كتابة كتابه عن القصر. ونتوقع أن معلوماته الشفوية قد حصل عليها من الشيوخ المسنين في وقته، إضافة إلى وثائق إدارة الحاج أحمد.

ويذهب فيرو إلى أن الباشا (الداي) حسين قد تلقى شكاوى من الناس على أن الباي أحمد أخذ ديارهم غصبا، فوبخه، على ذلك، ولكن الباي أخبره أنه عوض المتضررين منهم. ثم إن الباي تبين أن القصر يحتاج إلى مواد أخرى أكثر مما اشترى إلى ذلك الحين، فلجأ إلى كبار المدينة والإقليم لينجدوه بما عندهم من المرمر والأبواب والنوافذ. وحسب فيرو الذي ربما استقى معلوماته من الموتورين من حكم أحمد باي بعد جيل أو أكثر، فإن الخائفين والطامعين جاؤوه بما عندهم، بينما بعض العائلات لجأت إلى الفرنسيين خوفا من بطش الباي، وقد ذكر منها فيرو أولاد قارة علي، وأولاد إبراهيم باي، وهم الذين صادر الباي أملاكهم طبعا. وكان ذلك على إثر حملة 1836 الفاشلة على قسنطينة. أما تكاليف ومساحة القصر فقد أوجزها فيرو فيما يلي: رواية عن الحاج محمد الزموري الذي كان خزناجيا (وزير مالية) الباي. فكانت التكلفة مليونا ونصفا من عملة البياستر. وكان رؤساء البناء والنجارة يحصلون على خمسة بياستر كل يوم، بينما العامل العادي يحصل على بياستر واحد يوميا. وكان الدفع أسبوعيا على يد الخزناجي. وأما المساحة التي احتلها القصر فهي 5، 609 متر، وهو يتألف من ثلاثة أجنحة سكنية ورئيسية، في طابق واحد. وكانت هذه الأجنحة منفصلة عن بعضها بحديقتين، يقع بينها حريم الباي نفسه، وكانت للقصر حيطان عالية. كان الحاج أحمد متزوجا من أرسى نساء بعضهن من عائلات عريقة ومتنفذة مثل أولاد مقران وعائلة عثمان خوجة (والد حمدان خوجة صاحب كتاب المرآة). وقدر الفرنسيون عدد النساء اللائي وجدوهن في القصر بعد الاحتلال (1837) بحوالي 350. وهو ما يطلقون عليه (الحريم). والمعروف أن الحاج أحمد قد أخذ عائلته معه إلى الأوراس عندما لجأ إليه، وقد وضع نساءه في الزاوية القادرية في بلدة بوزينة. ولا ندري الآن أي نسائه أخذ معه عندئذ، وقد كان أخواله هم أولاد ابن قانه الذين تخلوا عنه في وقت

المتاحف

الشدة وانضموا للفرنسيين. ومن جهة أخرى صور الكتاب الفرنسيون، ومنهم فيرو، معاملة الحاج أحمد لنسائه معاملة سيئة وتحدثوا عن إحداهن، وهي عائشة التي كانت قد اختطفت كسبية من إيطاليا. وذهب فيرو إلى أنها تحولت، بعد الاحتلال إلى النصرانية على يد الأسقف دوبوش وتزوجت فرنسيا. وربما كانت من المحظيات أو الإماء ولم تكن من النساء الحرائر للباي. وقد احتوى القصر على رسومات كلها من رسم الفنانين الجزائريين، وكتابات عربية للزخرفة والموعظة، مثل البيتين اللذين سبقا، وعبارة (نصر من الله) وغير ذلك. وفيه غنائم وهدايا من تقرت، وهي تشمل أسلحة فاخرة، ومجموعة ملفتة للنظر من الآلات الموسيقية، ومنها طنابير من النحاس ذات الحجم الكبير. وغيطة أخذت من (السلطان) سلمان، شيخ تقرت على أثر معركة المقرين. كما احتوى القصر على خوذات واردة من تبسة تشبه الخوذات التي لبسها المسلمون أثناء الحروب الصليبية. وفيه أيضا أعلام ورايات من مختلف القبائل، وأنواع من الأسلحة. ويبدو أن بعضها مما أضافه الفرنسيون بعد حروبهم ضد المقاومين الجزائريين. وكان الحاج أحمد قد رجع إلى قصره بضعة أيام سنة 1848، أي بعد استسلامه لعدوه القديم. فقد سمحوا له بالإقامة في القصر إلى أن حملوه من قسنطينة إلى الجزائر حيث توفي بعد بضع سنوات. وكان إحضاره إلى قسنطينة مصيدة قصدوا بها معرفة من كان ما يزال على ولائه له من المسلمين. ومن جهة أخرى أقام في نفس القصر وجوه أوروبية معروفة. فبالإضافة إلى نابليون الثالث، نزل بالقصر الأمير نابليون والأميرة كلوتيلد سنة 1861، وملك بلجيكا، ليوبولد الثاني، سنة 1862 (¬1). المتاحف في فصل المنشآت الثقافية تحدثنا عن المتاحف بصفة عامة منذ إنشائها ¬

_ (¬1) فيرو، مرجع سابق.

حوالي 1835 (¬1). وفي هذه الفقرة نريد أن نتعرض للمتاحف الفنية فقط، ولا سيما تلك المتصلة بالفنون الإسلامية والتراث الوطني الذي يسميه الفرنسيون (الأهلي). ويبدو أن الاهتمام بهذا النوع من المتاحف يرجع إلى آخر القرن الماضي وبالذات إلى عهد الحاكم العام جول كامبون. ففي تلك الأثناء راجع الفرنسيون سياستهم الإسلامية عموما، وأخذوا يهتمون أيضا بالآثار الإسلامية والفنون الشعبية، احتواء للمد الإسلامي، في نظرهم. وقد كان على رأس إدارة الشؤون الأهلية عندئذ المستشرق لوسياني الذي اطلع على التراث الجزائري وترجم ونشر منه نماذج عديدة. ثم خلفه جان ميرانت، وكان أيضا عاملا في نفس الإدارة من قبل. ففي ديسمبر 1892 أنشئ بقرار وزاري متحف الآثار الجزائرية القديمة، وخصصت له بناية كانت تقع في حي مصطفى باشا من الجهة العليا. (وكان المتحف الرئيسي أو العتيق تابعا، منذ تأسيسه سنة 1835، إلى المكتبة العمومية). وفي سنة 1909 وهي سنة إنشاء جامعة الجزائر وازدهار عهد جونار، صدر قانون يأمر بوضع نسخة من كل ما له علاقة بالآثار لدى مصلحة الفنون الجميلة. وكانت الأبحاث عندئذ جارية في المدن الآتية: شرشال وجميلة وتيمقاد، وكلها تحتوي على آثار رومانية. ومن حسنات هذا العهد تصنيف الآثار والبنايات التي تعتبر معالم أثرية، وكذلك تحديد الأشياء التاريخية، والحفريات. وفي سنة 1927 كان مدير مصلحة الآثار القديمة هو السيد (ألبرتيني). وقد خصصت مصلحته ميزانية للحفريات وصيانة الآثار واسترجاعها. كما خصصت منحا للدراسات الأثرية. وكان ذلك عشية الاحتفال المئوي بالاحتلال حين ازداد اهتمام السلطات بالآثار وعرضها وتخصيص الميزانية لها. ففي سنة 1929 وزعت الميزانية هكذا - بزيادة معتبرة على السنوات السابقة - على المتاحف التالية: ¬

_ (¬1) انظر فصل المنشآت الثقافية، فقرة المتاحف.

1 - صيانة واسترجاع المعالم الأثرية .......... 525، 000 ف. 2 - متحف تيمقاد ومتحف جميلة .......... 8، 000 ف. 3 - معونة للمتاحف العلمية والأثرية ......... 18، 000 ف. 4 - منح للدراسات الأثرية .......... 8، 000 ف. 5 - متحف الآثار القديمة ومتحف الباردو .......... 12، 000 ف. وفي سنة 1930 عندما كان الاحتفال على قدم وساق أعلن الحاكم العام (بيير بورد) عن تخصيص ميزانية لجوانب أخرى تتعلق بالآثار والفنون. ونلاحظ أن حظ المعالم الإسلامية فيها كان ضئيلا، لأن الاهتمام ظل دائما بآثار الرومان التي يعتبرها الفرنسيون من آثارهم باعتبارهم ورثة (مجد) روما وصولجانها. وهذا هو توزيع الميزانية الجديدة: 1 - للبحوث الأثرية، 421، 000 ف. خصص منها: 20، 000 لحفريات قبر الرومية (قبر الملك يوبا وابنة كليوباترة). و 25، 000 لمتحف شرشال، و 100، 000 ف لحفريات زانة ومقابر الخروب وعنابة، و 15، 000 ف للبحث في آثار ما قبل التاريخ. 2 - لمجموعة الآثار اللاتينية، وتعويض بعثة الآثار الإسلامية، وشراء أملاك في هيبون (عنابة): 261، 598، 90 ف (¬1). وقد سبق القول أن جمعيات أثرية كانت قد أنشئت في مختلف المدن الرئيسية وكان لبعضها نشرات تنطق باسمها وتعلن عن نتائج أبحاث أعضائها. وبمناسبة الاحتفال المئوي المذكور عمدت تلك الجمعيات إلى إجراء بحوث وجرد وعرض ما توصلت إليه من بحوث، وكانت هذه الجمعيات تتعاون مع البلديات في جمع الآثار وتكوين المتاحف وتخصيص وسائل الحفظ والصيانة. وهكذا نشطت إدارة الآثار في العاصمة فجمعت لوحات عديدة من رسم وتصوير الفنانين (المحليين) ووضعتها في قاعة البلدية. ويجب التنويه ¬

_ (¬1) جان مزار Mazard، (حفظ البنايات التاريخية في الجزائر) 1830 - 1930، في مجلة الجمعية الجغرافية SGAAN، 1930، ص 151 - 166.

بجهود جورج مارسيه الذي تولى الإشراف على مجموعات الآثار الإسلامية والعناية بمتحفها. وقد وفر من هذه الآثار ما ضاق به المكان. ومن المتاحف الهامة في هذا المجال نذكر متحف باردو لما قبل التاريخ. وكانت لجنة الاحتفال المئوي قد خصصت له إحدى الفيلات (القصور) العربية - الإسلامية ذات الفن والزخرفة الراقية، وهي فيلا ترجع إلى العهد العثماني. وفيه وضع السيد (ريجاس) مجموعته الأثرية بعد إجرائه لعدة حفريات في الصحراء وغيرها. ثم جاء السيد (بالو) وأضاف مخبرا لما قبل التاريخ، بما في ذلك، مكان (لتين هينان) التي ترجع أسلحة عهدها وحليه إلى القرن الرابع الميلادي حسب الأخبار. وبالإضافة إلى ذلك انفصل المتحف الذي سمي على (ستيفان قزال) بناحية قصر الشعب اليوم عن المتحف القديم الذي خصص للآثار الإسلامية. فكان متحف قزال يضم المجموعات الغنية من التماثيل والمنحوتات القديمة المنقولة من شرشال التي تعبر عن الحضارة الرومانية. وكانت المجموعة تضم أيضا نماذج من الفسيفساء والحلي والمصابيح التي تدل على ما كانت عليه المدن عندئذ. بينما بقي المتحف القديم خاصا بالفن الإسلامي تحت إشراف مارسيه المذكور. وفي ناحية حديقة التجارب (الحامة) وحيث توجد فيلا عبد اللطيف المخصصة لإقامة الفنانين الفرنسيين، أنشئ متحف الفنون الجميلة، على بعد خطوات فقط من الفيلا، وهو متحف يكاد يكون خاصا. بالآثار الفنية الفرنسية أو التي أنتجها الفنانون الفرنسيون بالجزائر. وكان السيد (ألازار) هو الذي أنشأ وأدار هذا المتحف، وقد كان أستاذا لتاريخ الفن بجامعة الجزائر. وكانت المجموعات الفنية في المتحف قد جمعها ألازار من جهات عديدة وخلال عدة سنوات. وكانت فيلا المتحف تضم عدة طوابق: فالطابقان الأسفلان مخصصان للتماثيل والمنحوتات، ومنها ما نحته تلاميذ فيلا عبد اللطيف الذين جاؤوا لينعموا بسحر الشرق، كما أشرنا. وأما الطوابق العليا في الفيلا (المتحف) فقد خصصت للرسم. وكانت تضم مجموعة لأكبر

الرسامين الاستشراقيين الفرنسيين الذين أتينا على ذكر بعضهم، مثل دي لاكروا، وفرومنتان، وشاصيريو، وقوميه. وإضافة إلى ذلك ضمت الفيلا (المتحف) مجموعة من الفنون العصرية (¬1). ومن بين المتاحف التي أنشئت أيضا (متحف التاريخ العسكري) بالعاصمة، وقد أطلق عليه اسم المارشال ديسبيريه. وكان موضعه بالقصبة حيث قصر الداي. وقد قسم المتحف إلى ثلاثة أقسام: ذكريات عسكرية من كل نوع، وأسلحة جزائرية وصور وملابس، ثم قادة جزائريون، قيل عنهم إنهم (خدموا فرنسا) (¬2). أما المتاحف الجهوية فهناك متحف قسنطينة ومتحف وهران. أنشئ متحف قسنطينة فوق (كدية عاتي) وهي ربوة عالية تشرف على المدينة وعلى مساحات من السهول. وقصد الفرنسيون المأخوذون بالعهد الروماني إلى أن يمثل هذا المتحف قصرا بونيقيا حتى أن الزخرفة استمدها المهندس والفنان من حضارة العهد البونيقي. كما وقعت فيه المزاوجة بين فن هذه الحضارة وصورة سيرتا (قسنطينة القديمة) في مختلف العصور، باعتبارها عاصمة الفن النوميدي. ومع ذلك يذهب غوستاف ميرسييه إلى أن المتحف كان يجمع بين اللون الإغريقي - والروماني أيضا. ولكن متحف قسنطينة لم يكن خاصا بالفن الفينيقي ولا النوميدي ولا ¬

_ (¬1) جان ألازار في (مدخل إلى الجزائر)، ص 357. انظر أيضا جورج هويسمان Huisman مقدمة لكاتالوق الرسومات والمنحوتات لمتحف الفنون الجميلة بالجزائر، 1936. (¬2) غوستاف ميرسييه في (مدخل إلى الجزائر) 195، ص 338 - 339. من الواضح أن المتحف العسكري غير داخل في الفنون الجميلة، ولكن وجود بعض المطروزات والملابس والصور فيه هو الذي جعلنا نذكره هنا. كما أن بعض الأسلحة كانت مطعمة بالأحجار الكريمة. ويذهب ميرسييه إلى أن (هنان) هي جدة أهل الهقار? التوارق. وتلك أساطير. كما كرر تسمية فيلا عبد اللطيف بفيلا مديشي، وذلك مخطط فرنسي داخل في محو كل الأسماء والآثار الجزائرية من الذاكرة التاريخية.

الإغريقي - الروماني، بل كان شاملا لفنون القرن التاسع عشر أيضا والعهد الاستعماري على العموم. فمن آثاره لوحات لهوراس فيرنيه وقيوميه ولازيرق الذي قيل إنه تخصص في الفن الزواوي، وكذلك ديكامب. ويشمل المتحف أيضا قاعة للمعروضات الأثرية التي ترجع إلى ما قبل التاريخ، كما يشمل آثارا إسلامية أو ترجع إلى العهد الإسلامي. وآثار العهد النوميدي غنية في هذا المتحف، وكان محافظ المتحف عندئذ (أوائل الخمسينات) هو أندري بيرتييه الذي عمل على إثراء هذه المجموعة (النوميدية). ويعتبر متحف قسنطينة صورة لتاريخها من أقدم العصور إلى العهد الاستعماري، مرورا بالمعالم الإسلامية مثل الجامع الكبير ومدرسة سيدي الكتاني وجامع سيدي الأخضر وقصر أحمد باي (¬1). ولكن وجهة المتحف تظل غريبة عن الهوية الوطنية. وفي سنة 1930 دشن متحف وهران. وهو أيضا كان غريبا عن الهوية الوطنية. فقد جعله المهندس المعماري، وولف، متحفا بطابع إغريقي. وهكذا فالمتاحف لا تمثل الطابع البربري ولا العربي ولا الإسلامي. وإنما هي هجين تسيطر عليه الروح الرومانية والإغريقية ثم الفرنسية. وفي القاعة الرئيسية لهذا المتحف وضعت الرسومات والصور لمشاهير الفنانين، ومنها رسم للدوق دومال ابن ملك فرنسا. وكانت شهرته ترجع إلى أنه طارد زمالة الأمير، ثم إنه هو الذي وعده في نهاية 1847 بتركه يختار منفاه وإقامته. ومن أسماء الفنانين التي عرضت آثارهم في هذا المتحف وينترهالتر، ودايون، وليين، وهوقي، وشاتو، وغيرهم من الرسامين المعاصرين. وفي المتحف قاعات أخرى، واحدة لتعليم الفن، وأخرى للتاريخ الطبيعي. وأما الطابق الأرضي للمتحف فكان مخصصا للمنحوتات كالتماثيل، ومجموعة الاثنوغرافية، كما أن مبنى المتحف قد ضم المكتبة البلدية أيضا، وقاعة محاضرات، وقاعة عرض. وهناك حديقة تحوط بالمبنى. ¬

__ (¬1) ميرسيه، مرجع سابق، ص 340، ومتحف قسنطينة من هندسة السيد كاستيلي.

الرسام ناصر الدين (إيتيان) ديني

ومن أغنى المتاحف بالتماثيل والفسيفساء متحف شرشال الذي تحدثنا عنه. وهو يحتفظ بآثار يوبا الثاني وكليوباترة سيليني، وأيول القيصرية. وكانت تيبازة قد بدأت تكشف عن آثار رومانية أخرى، وهي أيضا هامة للمنطقة. وكذلك ظهرت متاحف سوق أهراس وتبسة وجميلة وتيمقاد (¬1). وكلها كانت تهتم بجمع الآثار الرومانية، كما لاحظنا. فالآثار الإسلامية لا تكاد تجد المهتمين بها من الباحثين. وقد ضمت تلمسان أيضا متحفا جعله الفرنسيون في أحد المساجد (أبو الحسن) بعد أن عطلوه تماما. عن الصلاة. الرسام ناصر الدين (إيتيان) ديني من الفنانين الفرنسيين الذين ارتبط اسمهم بالجزائر والفن الإسلامي - العربي، إيتيان ديني الذي أصبح اسمه بعد اعتناقه الإسلام ناصر الدين. ولد في باريس سنة 1861 وكان أبواه محاميين، وأرادوا له أن يكون مثلهما في مهنة المحاماة، ولكنه توجه إلى الفن وتخصص في الرسم. حصل على الثانوية من مدرسة الفنون الجميلة بباريس، وزار الجزائر في أول رحلة له سنة 1883. وقصد الواحات. ولعله تأثر بكتابات فرومنتان عنها بعد قراءة كتابه (صيف في الصحراء). وتكررت زيارات ديني للجزائر بعد ذلك التاريخ، وفي سنة 1892، قرر البقاء فيها رغم أنه ظل يتردد على باريس. وفي إحدى زياراته لها سجل نفسه في مدرسة اللغات الشرقية. وقد شارك بقوة في معرض الفن الإسلامي الذي أقيم سنة 1903 (¬2). في بو سعادة تعرف ديني على إحدى العائلات، هي عائلة الحاج سليمان بن إبراهيم الذي أصبح صديقا له وملازما. وعن طريق ابن إبراهيم اكتشف الحياة والمشاعر العربية، وظهر ذلك في لوحاته التي سنشير ¬

_ (¬1) ميرسييه، مرجع سابق، ص 341. (¬2) أطروحة عن (الرسم الجزائري أثناء العهد الاستعماري، 1830 - 1954)، جامعة شارل، براغ، 1985 - 1986، بالفرنسية. وإسم صاحب الأطروحة محذوف منها.

إليها (¬1). وقد اشترك ديني والحاج سليمان في تأليف الكتب والأسفار والحج. وتعلم منه اللغة العربية وآدابها، وتاريخ الإسلام وتعاليمه. وقاده تعمقه في فهم الحياة العربية وحياة المسلمين ومبادئ الإسلام إلى إظهار اعتناقه هذا الدين سنة 1927. ولا ندري هل آمن ديني بالإسلام قبل ذلك ولم يعلنه إلا في 3 نوفمبر من العام المذكور (1927)، بعد أن تقدمت به السن، خوفا أو حرجا من قومه الفرنسيين، أو أنه لم يكتشف الإسلام إلا في هذه السنة. ومهما كان الأمر، فإن سنة 1927 تمثل رمزا هاما، فهي تمثل مرور مائة سنة على ضرب الحصار الفرنسي على الجزائر، وهو الحصار الذي انتهى بالاحتلال. كما أنها هي السنة التي بدأت فيها السلطات الفرنسية الاستعداد للاحتفال المئوي. وتعتبر سنة 7 192 رمزا آخر لنهضة الجزائر أيضا، فهي السنة التي ولد فيها نادي الترقي بالعاصمة، وأعلن فيها زعماء نجم شمال افريقية عن مطلب استقلال الجزائر. وظهر بعدها الحديث عن تأسيس جمعية للمصلحين، وهي الجمعية التي ستظهر بعد أربع سنوات في صورة (جمعية العلماء المسلمين). أمام حفل جرى في الجامع الجديد بالعاصمة تحت إشراف المفتي الحنفي الشيخ محمد بوقندورة أعلن ديني إسلامه وتسمى بناصر الدين كما ذكرنا (¬2). وقد احتفل المسلمون بهذا الحدث لشهرة ديني الفنية التي سبقته. وأقاموا له حفلا على شرفه في نادي الترقي. وفي سنة 1929 أدى فريضة الحج برفقة صديقه الحاج سليمان بن إبراهيم. ويبدو أن الحج لم يكن متيسرا له، وخشي الشك في أمره من الحجاج وسلطات الحجاز، فتدخل له الأمير شكيب إرسلان، ربما بواسطة أحمد توفيق المدني، لدى السلطات المصرية ¬

_ (¬1) قندوز (الصحراء لها شاعرها: الأمير عبد القادر) في (المجلة الجزائرية) SGAAN 1931، ص 65. (¬2) تذكر مصادر أخرى أن ديني قد اعتنق الإسلام على يد الشيخ محمد بن بلقاسم، شيخ زاوية الهامل (ت 1897)، ولكنه لم يعلنه. انظر حياة الشيخ المذكور في فصل الطرق الصوفية.

والحجازية، وأتم حجه، ورجع إلى بوسعادة التي اتخذها مقرا له في سبتمبر 1929. ولم تطل به الحياة بعد ذلك. فقد سافر إلى باريس فأصابته هناك نوبة قلبية فتوفى على إثرها، وأوصى أن ينقل جثمانه ويدفن في بوسعادة، ووقع ذلك بالفعل في 21 يناير 1930. وحضر جنازته هناك بعض أعيان الجزائر، ومنهم الشيخ الطيب العقبي والشيخ أحمد توفيق المدني. وقد تركا لنا وصفا بالصور للتأبين والحضور، نشرة مجلة الشهاب (¬1). ويبدو أن معظم المسلمين في الجزائر اعتبروا اعتناق ديني الإسلام انتصارا لهم، وربما كان اهتمامه بالحياة العربية مما قربه إلى نفوسهم. ولا ندري إن كان لجان ميرانت المسؤول عن الشؤون الأهلية عندئذ، دور في هذه الأحداث. ترك ناصر الدين ديني مجموعة من اللوحات التي خلدت الوجوه العربية وحياة الصحراء والطقوس الإسلامية. وهي تظهر تأثره بالطبيعة الجزائرية وتعكس مدرسته الفنية المتميزة. ويجب القول إن بعض لوحاته كانت بذيئة جدار من حيث الذوق العام، رغم أنها كانت ترضى الذوق الفرنسي ولا تجرح الذوق الأوروبي، سيما (الرقصة النائلية)، وكان ديني مثل الفنانين الفرنسيين الآخرين قد تبنوا الموضوعات الاستعمارية ومنها إظهار الإنسان الأهلى فى صورة البدائي المتخلف، أو الوحشية الفطرية، كما سماها بعضهم، ولا ندري إن كان ديني قد بقي على رأيه في مثل هذه الصور حتى بعد اعتناقه الإسلام، واقترابه من المشاعر العربية. من لوحاته الدينية: (العرب أثناء الصلاة)، وهي تمثل صورة ثلاثة من الرجال في حالة التأهب للتكبير وهم بلباسهم الإسلامي الأبيض، ولكنه أضفى على الصورة ألوانه الخاصة، وجعل حركات أيديهم ولمعان عيونهم كأنها ناطقة. ومنها (أطفال العرب أثناء كتابة الألواح) في المدرسة القرآنية التقليدية. وهي أيضا لوحة نابضة بالحياة. وله لوحات أخرى اجتماعية ¬

_ (¬1) انظر الشهاب عدد يناير 1930. وكذلك أحمد توفيق المدني (حياة كفاح) 2/ وأطروحة أحمد مريوش عن الشيخ العقبي.

النقش والرسم والخطاطة

وغرامية، أو معبرة عن أنشطة خاصة مثل صورة (المداح) وهو ينشد وحوله المستمعون في حالة انسجام واستغراق. وصورة (الكمين) الذي نصبه ثلاثة من العرب، وهم يتأهبون لإطلاق النار على عدوهم. ثم صورة (الحمار والأطفال) أي صورة حمار يركبه ثلاثة أطفال وهم في حالة زهو ونشوة. ويقال إن ديني ترك حوالي مائة وخمسين لوحة. وقد لخص باحث فرنسي إنجازات ناصر الدين ديني فقال إنها تعمقت في الحياة بتصوير الكثبان الرملية والجبال والخيل والأطفال والرجال والنساء، والفوارس والراقصات، والفتيات الجميلات، والرجال وهم في حالة الصلاة، كما صور حالة اقتراب الموت، ونبض الحياة في الواحات، ولا سيما بو سعادة (¬1). أما كتب ناصر الدين ديني، فقد عالجناها في المؤلفات الدينية، وهي من إنتاجه وإنتاج صديقه الحاج سليمان بن إبراهيم أيضا (¬2). وهناك شخصية أخرى ذكرت معه أثناء الحج، وهو الحاج عيسى، دون أن ندري دوره بالضبط. ورغم شهرة ناصر الدين فإن تأثيره على معاصريه مجهول لدينا. فهل تأثر بفنه ومدرسته بعض الجزائريين؟ وهل تخرج على يديه بعضهم؟ وما مدى تأثيره على الفنانين الفرنسيين؟ أو كان مجرد فنان فرنسي عاش في الجزائر (الفرنسية) واعتنق الإسلام، ثم جمعت لوحاته في متحف الفنون الجميلة مع لوحات غيره. ولم يبق منه للجزائريين سوى قبره المشاهد من بعيد في سفح جبل كردادة في مدينة بوسعادة؟. النقش والرسم والخطاطة ساهم الجزائريون في الفنون الجميلة قبل الاحتلال، كما عرفنا من دراستنا للعهد العثماني (¬3). وكانت مهارتهم قد برزت في فنون الخط ¬

_ (¬1) قوانار (الجزائر)، ص 282. (¬2) انظر فصل العلوم الدينية. (¬3) انظر فصل الفنون من الجزء الثاني. وتقول ماري بوجيجا إن بجاية الإسلامية كانت =

والزخرفة في المنازل والتجليد وبعض الرسوم والنقوش. ورغم ما قيل من أن الإسلام يحرم التصوير، فإن الآثار تدل على عدم الالتزام بذلك دائما. وقد ظهرت الزخرفة على الأكثر في توظيف النباتات أكثر من الحيوانات في الرسم والتصوير. والمعروف أن أوليات الرسم عند الجزائريين تبدأ من المدرسة القرآنية حين يرسم التلميذ على لوحته رسوما مختلفة ويلونها بما أمكنه من الألوان. وقد يرسم عندئذ ما في محيطه من أشجار وعصافير وخطوط. وهو يلجأ إلى رسم معين ويتفنن فيه كلما أكمل (ختمة) لحزب من القرآن. وكثيرا ما يباهي التلميذ بذلك أقرانه. وقد يكتب سورة الفاتحة ويحيطها بإطار ملون جميل فيه أشكال هندسية على قدر عقله ومحيطه. وكان المتوقع أن تزدهر الفنون بالجزائر مع تقدم العلم والفن والاتصال مع الخارج. ولكن الذي حدث هو العكس، كما لاحظت ماري بوجيجا، فقد انقطع الإنتاج القديم ولم يحدث الجديد. وعاش الفنانون الجزائريون عهدا طويلا من الظلام الدامس دام أكثر من سبعين سنة (جيلان تقريبا). فخلال هذا العهد الطويل لا نكاد نجد من استعمل الرسم والزخرفة، لأن الأذواق اختلفت، والإمكانات انقطعت، ومجالات العمل بهذه الفنون قد تولاها الغير، مثل فن البناء والتجليد. ولم تستأنف المسيرة الفنية نشاطها المحدود إلا في آخر القرن الماضي، مع أفراد من عائلات عريقة كعائلة ابن الحفاف، وعائلة ابن سماية، وسارمشق، وفرفارة. لا ندري إن كانت عائلة الهاشمي سارمشق قد واصلت فنها خلال العهد الاستعماري، فنحن لا نكاد نجد لها صدى في ما عندنا، من وثائق وآثار، بينما كانت لها آثار هائلة في تلمسان ومعسكر في آخر القرن الثامن عشر، ومن آثارها نقش وزخرفة مدخل ضريح سيدي بومدين (1208 هـ/ ¬

_ = مهد صناعة الفسيفساء والزليج المذهب بشكل نادر ومتقن. وكانت صناعة الفخار فيها تمثل الذوق والفن الرفيع، وهو الفخار الذي كان يصدر إلى إيطاليا وجزر الباليار وإلى أواسط فرنسا. انظر ماري بوجيجا (نحو نهضة للفنون الجزائرية) في المجلة الجزائرية SGAAN 1923، ص 388 - 390.

1793 م) (¬1). وفي عهد الأمير عبد القادر نجد عائلة فرفارة (وهما ابنا عم واسمهما: سالم بوجنان بن فرفارة ومحمد بن حسن بن فرفارة) التي كانت تعمل لحساب الأمير. وقد قام أحدهما بنقش الخشب الخاص بمنبر جامع سيدي إبراهيم (تلمسان؟) سنة 1248 (1832). كما أن نفس الشخص ربما هو الذي صمم الكرسي الموضوع في جامع سيدي بومدين والذي أمر به الأمير عبد القادر حوالي سنة 1843 (¬2). وعندما بنيت الزاوية التجانية بقمار، جيء لها بفنان (نقاشں) من فاس. لا نعرف الآن اسمه، ولكنه كان ذا شهرة واسعة، وقد بنى الزاوية ورسم عليها نقوشا كثيرة وزخرفها حسب الذوق العربي الإسلامي متأثرا بالطراز المغربي - الأندلسي. وقد بهر فنه عددا من الموهوين في قمار، فتعلموا منه الصنعة، ومنهم عمر قاقه الذي سبقت الإشارة إليه. وقد ساهم عمر قاقه في نقوش أخرى في قمار وفي البريد المركزي بالجزائر إذ كان الناس يستدعونه لهذه المهمة من شتى النواحي. وأخذ عنه الصنعة بعض الموهوبين الآخرين، ومنهم ابنه التجاني قاقه الذي بنى ونقش عدة مساجد وزوايا. ومنهم عبد الفتاح حتى الذي نقش دار البريد المركزي أيضا بعد تجديدها، وهو الذي نقش كذلك ضريح محمد الحبيب (الصغير) التجاني في عين ماضي (¬3). ولم يبق النقش حكرا على الجزائريين بعد الاحتلال. فقد جاء النقاشون الفرنسيون وغيرهم، وكثرت أعمال النقش في غير البناء، ومن ذلك نقش الأختام الرسمية. وكان النقاشون الفرنسيون يملكون حق الإعلان عن حرفتهم. فنحن نجد مثلا إعلانا للنقاش (ليون) يصف نفسه بأنه نقاش لدى الولاية (الحكومة) العامة، وأنه صانع أختام وطوابع الولاية. وهذا (الإعلام) بالعربية وموجه إلى (الرؤساء المسلمين الراغبين في طابع جميل). كما يصفه ¬

_ (¬1) عن هذه العائلة انظر فصل الفنون من الجزء الثاني. (¬2) جورج وويليام مارسيه (المعالم العربية لتلمسان)، باريس، 1903، ص 39 من المدخل. انظر أيضا ووسلار (المقابر)، ص 50. نقلا عن مارسيه. (¬3) عبد الباقي مفتاح (أضواء)، مخطوط عن حياة الشيخ أحمد التجاني وأتباع طريقته.

بأنه حامل وسام العلم، وأنه قد فتح (مصنعه) منذ 1868. ولا شك أن هناك غيره أيضا، قبله وبعده (¬1). يوسف ابن الحفاف: ومن أبرز النقاشين الجزائريين أوائل هذا القرن يوسف ابن الحفاف. فهو، كما قالت بوجيجا من النوادر في فن الموزاييك، رغم أن هذا الفن تدنت قيمته لانقطاع رجاله، كما ذكرنا. وكان ابن الحفاف هذا، وهو يرجع إلى أسرة عريقة في الدين والأدب، من مدينة الجزائر (¬2)، يمارس النقش على الخشب والنحاس بجودة واتقان، وهو يلون ويضيء مربعات الزليج بأشكاله، ويقوم بزخرفة التحف كذلك. وكانت موهبته قد لفتت إليه الأنظار في الجزائر وخارجها. فهو مبدع في تناسق وتناغم الظلال الفنية، وكان يزاوج بين اللون البنفسجي والأزرق والأحمر ... ويستعمل التذهيب أيضا، وكان يحتفظ، حسب بوجيجا، بسر مهنته لنفسه. وقد استحق التقدير والجزاء على فنه. وقد وصفته بوجيجا بأنه كان يرسم وينقش مباشرة بإزميله بدون رسم مسبق، وعندما كان ينتهي من الرسم يضع الفخار كله في الماء فلا يحول ولا يفسخ. وقالت إنها جلست إلى جانبه طويلا وتأملت في عمله، فوجدته صانعا لعمل فني أصيل، فقد كان فنانا يثير الإعجاب. ولذلك دعت قومها إلى ضرورة الاهتمام به. وقد شارك يوسف ابن الحفاف في معرض مرسيليا (1903؟) ونال فيه حظا كبيرا، وكانت موهبته الفنية محل إعجاب. وخصص له جناح في المعرض المذكور بتوصية من بوجيجا وزوجها، لأن الموهبة وحدها لا تكفي للفنان الجزائري إذ لا بد من تقديم المستعمرين له. وفي هذا الجناح رسم يوسف تلقائيا وارتجالا أمام آلاف الزوار فجلبت طريقته في ¬

_ (¬1) الإعلان مصور في صفحة من المجلة الجزائرية SGAAN، 1902، عدد 7. وكان عنوان (ليون) هذا 15 شارع طنجة بالجزائر. والمقصود (بالرؤساء المسلمين) القضاة والحكام الذين وظفتهم فرنسا وكانوا في حاجة إلى أختام رسمية. (¬2) انظر فصل السلك الديني والقضائي عن حياة المفتي علي بن الحفاف المتوفى سنة 1307 (1889)، ولا ندري صلة يوسف به.

الرسم والتنفيذ وإنتاج الرسومات والأشكال البديعة تهاني الشخصيات الرسمية والفنية، وقد عبروا له صراحة على أنهم لم يشهدوا موهبة كموهبته ولا طريقة كطريقته في الرسم والنقش. وفي مرسيليا حاول بعضهم (الاحتفاظ) بيوسف واستغلال موهبته الفنية. ولكنه اعتذر بوجود عائلته وورشته الفنية في الجزائر. فألحوا عليه بالبقاء بعض الوقت، فبقي حوالي عشرين يوما رسم خلالها رسومات نالت جائزة كبيرة. وقد منحه مدير المصنع الذي عمل معه ألفي فرنك في اليوم بعملة ذلك الوقت. أما في مدينة ليون فقد قام يوسف برسم نماذج أخرى على تحف فنية من النحاس. وقد وردت عليه عروض مغرية. ولا ندري إن كان قد واصل طريقه إلى باريس أيضا وعرض فيها فنه. ومهما كان الأمر، فإنه نقل سر مهنته إلى فتاة فرنسية، اسمها (بودو) إذ علمها في الجزائر هذا الفن ضمن الدروس التي تلقتها عنه، ثم فتحت هي بدورها ورشة في فرنسا (لوفيسبيين)، وقد زارها هناك وعرفته على تلاميذها وورشتها (¬1). ومن الأسف أن ابن الحفاف لم يورث صنعته أحد الجزائريين أيضا. ومع ذلك تقول بوجيجا عنه إنه احتفظ بسر صنعته لنفسه. وبالإضافة إلى ابن الحفاف، هناك الفنان ابن المكي. وقد وصفته ماري بوجيجا بأنه مزخرف وفنان في فن الفسيفساء (¬2). ولم نعثر على معلومات أخرى عنه. عمر بن سماية: واشتهر من الرسامين - النقاشين والخطاطين أيضا عمر بن سماية (سمايا). وكان قد نال وسام الأكاديمية سنة 1896. وهو من عائلة ابن سماية التي أنجبت علي بن سماية الذي تولى التحرير في جريدة (المبشر) مدة طويلة، وتولى أيضا التدريس. ثم عبد الحليم الذي اشتهر أمره كأستاذ في الثعالبية في أول هذا القرن، وكانت له مواقف ضد التجنيد الإجباري ¬

_ (¬1) ماري بوجيجا، مرجع سابق، ص 390. (¬2) نفس المصدر.

وضد آراء بعض المستشرقين (¬1). ولا نملك الآن الكثير من أعمال عمر بن سماية الفنية. ولعله لم يجد من يسجل سيرته ويصف تجربته الفنية كما فعلت بوجيجا مثلا مع يوسف ابن الحفاف. ولولا اللوحات الفنية التي رسمها لكتاب ديبون وكوبولاني عن (الطرق الدينية الإسلامية) لما وجدنا اسمه في الوثائق التي اطلعنا عليها. ولعل الصحف المعاصرة كالمبشر والأخبار وكوكب أفريقيا تضم أخبارا هامة عنه. وهناك على الأقل أربع لوحات ذات طابع إسلامي ظهرت ملونة بخطوط مختلفة الجمال والأحجام في كتاب ديبون وكوبولاني. واللوحة الأولى تمثل الطرق الصوفية، وهي في شكل وردة مفتحة الأوراق ذات ألوان ويعلوها الهلال والنجمة (وقد تبدو الصورة كأنها عمامة كبيرة قديمة). وفي اللوحة أيضا تتعانق الأغصان ذات الألوان والأوراق، وكل منها يمثل طريقة صوفية، ويبدأ ساق الوردة بالبسملة (باسم الله)، ثم اسم جبرائيل، ثم اسم محمد (صلى الله عليه وسلم)، ثم أسماء الخلفاء الراشدين الأربعة. وبعد ذلك يبدأ التفريع للطرق الصوفية، وهو ينتهي بالطريقة السنوسية عند اجتماع أطراف الوردة أو العمامة في نقطة النهاية. ويوجد داخل الهلال الذي يتوسط الوردة عبارة (بيان الطرق). أما داخل النجمة فتوجد عبارة (الكتاب والسنة)، وتظهر النجمة ذات أشعة منطلقة في كل الاتجاهات. أما الألوان التي نجدها في هذه اللوحة فهي الأحمر والأخضر والأصفر والبرتقالي والأخضر الزيتي والأزرق الفاتح واللون البني (¬2). وهناك لوحة ثانية على مساحة صفحة كاملة من الكتاب الضخم. وهي ضمن إطار ملون بالرسم الإسلامي - العربي الجميل. وداخل هذا الإطار شجرة ذات أوراق على كل ورقة منها اسم طريقة من الطرق الصوفية، ثم ¬

_ (¬1) لا ندري الآن صلة عمر بن سماية - الفنان - بكل من علي وعبد الحليم. وكان إيميل ماسكري - مدير المدرسة العليا للآداب في الجزائر، قد تعلم العربية على يد الشيخ علي بن سماية. انظر كتابه (ذكريات ورؤى أفريقية). (¬2) في أسفل اللوحة نقرأ: مطبعة جوردان - الجزائر (1897).

أغصان. ويتعانق غصنان في أعلى الساق التي تبدأ بالبسملة أيضا (باسم الله)، ثم اسم جبرائيل، ثم محمد (صلى الله عليه وسلم) ثم القرآن والحديث ثم قواعد الإسلام الخمس. وحين ترتفع ساق (جذع) الشجرة تنتهي بأوراق أربعة على كل منها اسم خليفة من الخلفاء الراشدين الأربعة، بينما الورقة الوسطى ظلت شاغرة. وعلى الجانبين من أعلى الساق نلاحظ الهلال والنجمة مكررين في كل من الزاوية اليمنى واليسرى للإطار العام في الجهة العليا. أما أرضية الإطار فهي باللون الأخضر الزمردي. وأما الألوان الأخرى الغالبة في اللوحة فهي الأحمر والبرتقالي والأخضر والأزرق والأصفر والرمادي. واللوحة الثالثة تمثل إطارا عاما أيضا على صفحة كاملة من الكتاب، وهو إطار بني اللون ومنقط بالأحمر. وبداخله زخرفة نباتية من زهور وأغصان متعانقة، ذات أوراق خضراء وورود حمراء ووردية (بنفسجية) على أرضية زرقاء. وداخل هذا الإطار المزدوج صورة على شكل بيضة خضراء مؤطرة أيضا بإطار بني يتوسطه شريط أحمر. وداخل البيضة شجرة ذات أغصان تبدأ باسم الجلالة (الله)، ثم اسم جبرائيل ومحمد (صلى الله عليه وسلم) والكتاب والسنة، ثم الإجماع والقياس والمصالح العامة (المرسلة) والاستحسان والاستصحاب. ومن هذه الشجرة تتصاعد المذاهب الإسلامية بما فيها المذاهب الأربعة، على شكل براعم. وهناك برعم رئيسي صاعد من أصل الرسم تتفرع عنه المذاهب الأربعة المعروفة. أما اللوحة الرابعة فهي في شكل ورقة نباتية كبيرة ولكنها ذات أغصان متداخلة ومتعانقة، وهي تبدأ باسم الجلالة ثم جبرائيل أيضا ثم اسم محمد، ثم علي وأبي بكر. ثم كبار المؤسسين للطرق الصوفية: عبد القادر الجيلاني، النقشبندي، الجنيد، ثم تتفرع الطرق الأخرى على أن تجتمع كلها في أعلى الورقة في السنوسية. والألوان المستعملة هي الأزرق والبرتقالي والبني والأحمر والأخضر الهادئ والبنفسجي (¬1)، الخ. ¬

_ (¬1) ديبون وكوبولاني (الطرق الدينية الإسلامية)، الجزائر 1897. واللوحات بدون =

مؤلفات في الخط

وهذه اللوحات مهمة كتعبير عما وصل إليه فن الخط والرسم والألوان في آخر القرن الماضي. فالخطوط جزائرية متشابكة. وهي ليست مقصودة لذاتها، وإنما المقصود رسم الطرق الصوفية والتعبير عن الروح الدينية. كما أن استخدام الألوان والإطار التقليدي للرسم الإسلامي - العربي يعبر عن استمرارية هذا الفن. والألوان ليست صارخة بل منسجمة رغم تعددها، وهي تعبر عن الهدوء الديني والحضري. ووجود أشكال عديدة من النباتات: أوراق، زهور، أغصان، سيقان، الخ. تدل على التزام الفنان بالتعاليم الدينية. ونلاحظ أن ثقافة الفنان هنا عميقة في معرفة الطرق الصوفية وفروعها، ومعرفة أساس المذهب المالكي والأصول والرجوع إلى أهل السنة. وهناك ما يلفت النظر عن معرفة الفنان بكون الطريقة السنوسية هي آخر الطرق التي استوعبت ما سبقها في وقته، ولا بد من لفت النظر إلى وجود الهلال والنجمة كرمزين أيضا. ومهما كان الأمر فنحن أمام اللوحات الأربع نجد أنفسنا أمام فن إسلامي جمع بين الأصالة في الإطار، والروح في الأفكار الدينية، والتقاليد في الألوان والخطوط. مؤلفات في الخط وفن الخط كان ضحية أخرى للاستعمار في الجزائر. فقد تدهور بتدهور الثقافة العربية نفسها. فأصبحت الكتابة بالحروف العربية قليلة. وانتشرت الأمية، ولذلك فإن الفنانين إذا أرادوا الكتابة الفنية بالحرف العربي - التخطيط - فإنهم يلجأون إلى النقل والتقليد لأنهم لم يتعلموا غالبا فن الخط ولم يتثقفوا بالعربية، وربما لا تزيد معرفتهم في العربية عن حفظ القرآن ¬

_ = أرقام. واسم عمر بن سمايا (كذا) لا يوجد إلا على اللوحة الثانية. ونعتقد أن البقية من اللوحات له أيضا لأنها بنفس الروح والأسلوب تقريبا، وكذلك الألوان والخطوط. انظر أيضا جريدة (المبشر) عدد 9 مايو، 1896 (عن الميدالية التي فاز بها عمر بن سماية).

الكريم أو أجزاء منه. والذي يتأمل في بعض أسماء الشوارع في الأحياء العربية القديمة التي تسامح الفرنسيون في كتابتها بحروف عربية فإنه قد يرى عجبا، سيرى كيف تحول الحرف المنساب الجميل إلى قطعة حجر أو حديد لا ذوق فيها ولا انسياب. ولقد أصبحت الحروف نفسها ممسوخة، متأثرة بالأصابع الغريبة التي خطتها. ولا شك أنها كانت من عمل النقاشين الفرنسيين واليهود. وليست من عمل الفنانين الجزائريين. وفي غياب التطبيق لفن الخط العربي المعتاد، كادت تنعدم أيضا المؤلفات الخاصة بالخط، تلك التي ترسم القواعد وتعلم حذاق التلاميذ كيف يرسمون ويخطون على بينة. ونشير هنا إلى: 1 - منية الكتاب: نذكر هذا العمل بكل تحفظ لأننا لا نعرف هوية مؤلفه، والعمل يتمثل في قصيدة طويلة مجهولة الناظم، والتاريخ، ولها بعض الشروح، وهي مبتورة الأول والآخر. وتحتوي على 136 بيتا. وذكر ناظمها عنوانها ومحتواها فقال: سميته بمنية الكتاب ... في صفة التخطيط للكتاب ومن هذه الصفة نفهم أنها قد تكون في رسم المصحف وليس في فن الخط (¬1). 2 - رسالة في الخط العربي: ذكرها المترجمون لحياة الشيخ محمد بن يوسف أطفيش وهي ليست في فن الخط، بل في رسم المصحف (¬2). 3 - رسالة في الخط كتبها أبو يعلى الزواوي: وقد وجهها إلى الشيخ محمد الحسن فضلاء، مدير التعليم في مدرسة الشبيبة سنة 1947. وكان الشيخ الزواوي من مجودي الخط، وعرف عنه أنه كان ينسخ المصاحف ويخطها بيده. وقد جمع خطه بين الروح الجزائرية والتعريقة الشرقية، رغم ¬

_ (¬1) أفادنا بهذه المعلومة الأستاذ محمد شريفي صاحب المصحف المعروف باسمه. وقد استفاد منها في بحوثه. وتوجد منها نسخة في المكتبة الوطنية - الجزائر. وربما هي بخط الناظم. مراسلة منه 14 إبريل، 1995. (¬2) انظر عنها فصل العلوم الدينية.

قوله إنه تأثر بالخط الفاسي الموروث عن الأندلس. وقد ورث جودة الخط عن أبيه حتى قال إن من يعرف سر الخطوط لا يكاد يميز بين خطه وخط والده، وقد برع الزواوي في الخط منذ أولياته، وقال إنه وجد أهل زواوة قد ابتعدوا عن الخط الجميل شأنهم شأن أهل المغرب العربي الآخرين، ولذلك مال هو إلى الخط الفاسي (المغربي) قائلا: (إذ قد ملت كثيرا إلى الفاسي المنتقل من الأندلسي). ونال وهو (في أولياته أيضا الجائزة الأولى في الخط بمدرسة قسنطينة، فقال إنه أثناء إجراء امتحان القضاء في قصر العدالة بالمدينة المذكورة (الرسمية - الكتانية عندئذ) (وهو من المستشرقين الكبراء، فقال ما حاصله: ما ظننت أن يوجد خطاط متل هذا وهو قادم من البادية. وعير طلبة المدرسة ...). ونلاحظ هنا عدة ملاحظات على رسالة الزواوي. فهي تتحدث عن كون (الخط من الفنون الجميلة)، وعن كونه هو وغيره من العارفين، أصبحوا يتعجبون (أن قد صار طلبة الخط لا يكادون يفرقون بين الخطوط الجميلة). وأشار إلى رأي ابن خلدون في مقدمته من كون الخط صناعة، وأن خطوط أهل افريقية صارت رديئة صعبة القراءة بينما كان الخط الأندلسي قد امتاز بالجمال والذوق اللطيف. ولكن طلبة زواوة، كما قال الزواوي، قد انصرفوا جملة عن الخط الأندلسي، واهتموا بالرسم بدلا منه. ويرجع جمال وشهرة الخط الأندلسي إلى كونه قائما على الصنعة والتفنن والتنافس في الاتقان والجودة. وعاب الزواوي على خطاطي العصر بأنهم لا يتنافسون في ذلك، وإنما يسرعون في كتابة المصاحف مثالا، ويكتبونها بدون توسع ولا مراعاة للفن لأن هدفهم من ذلك هو الحصول على الأجرة. وقد فهمنا من رسالة الزواوي أنه حصل على مدح كثير على خطه. فبالإضافة إلى من ذكرنا، مدحه البشير الرابحي أحد أهل العلم والدين والأدب في هذا القرن، بقصيدة. وكذلك نوه به إمام جامع بئر خادم، وطلبة الزواوة، وطلبة العاصمة. ولكن بعضهم كان يتحداه ويقول: (نستطيع أن نكتب بخط مثل هذا). عندما اطلعوا على خط مصحفه، ولكن الزواوي

اعتبرهم من (القاصرين)، لأنه (عارف وجازم أنهم غير قادرين، بل هم قصر بالكلية) (¬1). والشيخ الزواوي كان أيضا من كتاب المصاحف. وله مصحف بخطه الذي اشتهر به. وقد نبهنا الزواوي إلى وجود عدة مصاحف بخطوط أهلها في الجزائر. وأنهم اختلفوا في ذلك من حيث الاتقان والتجميل. وقدم ما يمكن أن يكون نقدا في هذا الباب. فانتقد أولا المصحف الذي كتبه الشيخ السعيد أبهلول - والد محمد الحسن فضلاء - وكان هذا (فضلاء) قد أرسل مصحف والده إلى الشيخ الزواوي. فعلق عليه الزواوي بما يلي: أعجبني (المصحف المرسل) وتذكرت مصاحف أهل الوطن ... وإن خط والدكم في غاية الجودة لولا صغر حجم المصحف وعدم تمكنه ... من إطلاق عنان القلم بالقالب الذي ينبغي. وتلك طريقة غالب، بل جميع نساخ الوطن. وصرفهم عن العناية بالتجمل والتوسع في الخط حرصهم على إتمام المصحف في مدة قليلة لأخذ الأجرة) (¬2). ولم يذكر الزواوي في رسالته الشيخ السفطي الذي كتب مصحف رودوسي الشهير، رغم أنه تعرض له في مناسبة أخرى (¬3). ويبدو أنه بعد اختفاء مجالات الخط الفنية، كالصحف، والنقش، واللوحات، استقر فنانو الجزائر على نسخ المصاحف. وهم في ذلك، كما قال الزواوي، بين متسرع لأخذ الأجرة، وبين متقن لفنه، وهؤلاء قليلون. ¬

_ (¬1) رسالة من أربع صفحات موجهة من الشيخ الزواوي إلى محمد الحسن (فضلاء) بتاريخ 23 محرم 1346 (18 ديسمبر 1947). وقد بعث لنا بصورة منها الشيخ محمد الحسن عليلي في غضون نوفمبر 1994. وربما كان المستشرق الذي أشار إليه الزواوي هو موتيلانسكي الذي أدار مدرسة قسنطينة في أول هذا القرن، ثم تولاها بعده شارل سان كالبر. انظر فصل المستشرقين. (¬2) رسالة الزواوي في الخط، مرجع سابق. (¬3) أفادني الشيخ محمد عليلي أن الزواوي قد تحدث عن الشيخ السفطي في إحدى مقالاته في جريدة (الإصلاح) وقال إنه كان قيما في جامع سيدي رمضان، وهو الجامع الذي تولى فيه الزواوي الخطابة. رسالة من عليلي سبتمبر 1995.

عمر راسم وأخوه محمد وآخرون

ومن رأي الزواوي أن الخطوط الشائعة في المشرق ثلاثة، وهي: الرقعي والنسخي والثلثي، واعتبر النسخي والثلثي أجودها، أما الرقعي فاعتبره أردأها، وقال فيه ما قال ابن خلدون في خط أهل المغرب بعد تغيره، إذ هو لا يكاد يقرأ إلا بصعوبة. ولاحظ أن حسن الخط مما يزيد الحق وضوحا، واستشهد بقول الإمام أبي حنيفة لأحد الكتبة: لا تقرمط الحروف فإنك إن عشت تندم وإن مت تشتم. وقد اطلعنا للزواوي على نماذج من خطه، غير الرسالة التي نحن بصددها، ومن ذلك التقييد الذي كتبه من دمشق وأرسل به إلى الشيخ طاهر الجزائري في القاهرة سنة 1332/ 1912 (¬1). أما مصحفه فلم نطلع عليه. عمر راسم وأخوه محمد وآخرون محمد بن سعيد راسم، أحد إخوة من عائلة واحدة اشتهرت بفن الرسم والفنون الجميلة كالخط والمنمنمات. وكان سعيد راسم نفسه فنانا. ويذهب جورج مارسيه إلى أن الأسرة قد تكون جاءت من المشرق في وقت غير معروف واستقرت أولا في بجاية، ثم انتقلت إلى العاصمة. ومهما كان الأمر فإن بجاية قد عرفت بعائلاتها الأندلسية أيضا وربما تكون عائلة راسم، مثل عائلة ابن خلدون ذات منابت عديدة. واشتهر من هذه العائلة عمر راسم في أول هذا القرن، وقد تناولناه في الصحفيين. فقد كان مناضلا منذ زمن مبكر في ميدان الصحافة والأدب، وكان كذلك خطاطا ورساما، إذ كان قد أصدر جريدة (الجزائر) و (ذو الفقار) حافلتين بخطوط يده ورسوماته حسب رواية الرواة، وكان قد عمل في جريدة المبشر الرسمية التي استجلبته للاستفادة من معارفه وخطوطه ورسوماته (¬2). ¬

_ (¬1) نشرنا ذلك في دراستنا عنه، مع صورة للتقييد، في كتابنا (أبحاث وآراء) 2. وربما لجودة خطه طلب منه دومينيك لوسياني حوالي 1910 أن ينسخ له كتاب (أعز ما يطلب) لابن تومرت. وقيل إن الزواوي قد نسخ مصحفا عظيما قبل وفاته. (¬2) لا ندري كم دام عمله في جريدة المبشر، والمعروف أن السلطات الفرنسية قد اتهمته بالتعاون مع العدو، وحكمت عليه بالأشغال الشاقة. عن عمر راسم انظر محمد =

أما فنه فنجده في أغلفة بعض الكتب المعاصرة مثل اللوحة التي رسمها لغلاف (كتاب الجزائر) لأحمد توفيق المدني. وهو غلاف لو أتيح له أن صدر بالألوان لكان تحفة فنية. ومع ذلك فإن الذوق العربي والإسلامي بارز فيه. فالعنوان داخل في إطار من الرسم التقليدي في الفن الإسلامي، وعبارة (كتاب الجزائر) مكتوبة بخط كوفي جميل ومتداخل. وقد صممت اللوحة كاملة لتعطينا نافذة تطل على مدينة الجزائر وماضيها، ويظهر من خلالها البحر، وأمامه أبرز بناء تعلوه صومعة أو فنار، وتتحرك داخل مياه البحر سفن، وتوجد على سارية إحداها راية تخفق وهلال بهذه العبارة (حب الوطن من الإيمان). وتحت عنوان الكتاب كتابة رقيقة هي: تاريخ الجزائر إلى يومنا هذا - وجغرافيتها الطبيعية، والسياسية، وعناصر سكانها ومدنها، ونظاماتها وقوانينها، ومجالسها، وحالتها الاقتصادية والعلمية والاجتماعية، تأليف أحمد توفيق المدني. وفي وجه اللوحة، بين الصومعة والراية، كتبت العبارات التالية: الإسلام ديننا، الجزائر وطننا، العربية لغتنا. وعند التأمل ستلاحظ أن طرف الراية يكاد يلتصق بعبارة (الجزائر وطننا) بالذات، وكأن الفنان عمر راسم أراد أن تحمل الراية تلك العبارة وحدها. فاللوحة حينئذ ذات رسالة وطنية موجهة ومحتوى فني أصيل. ولا ندري كيف يزاوج الفنان في الألوان لو كانت اللوحة ملونة (¬1). يذكر جورج مارسيه أن والد محمد راسم كان أيضا رساما ونقاشا ¬

_ = العابد الجلالي (تقويم الأخلاق) الجزائر 1927، وأحمد توفيق المدني (حياة كفاح) 2/ 52. ومحمد شريفي (اللوحات الفنية)، وهي أطروحة دكتوراه من جامعة الجزائر. وفيها أن الأسرة عثمانية، وأن علي راسم، والد عمر، كان أيضا فنانا وخطاطا. انظر أيضا سابقا. (¬1) (كتاب الجزائر) لأحمد توفيق المدني، ط. سنة 1931، وقد أعيد طبع الغلاف القديم في ط. الجديدة، 1963، فتأمله. كما أن عمر راسم هو الذي وضع لوحة غلاف (تقويم المنصور) للشيخ المدني أيضا. وربما هو الذي رسم أغلفة أخرى له ولغيره.

ونحاتا. فقد كان يرسم وينقش وينحت إبداعات نادرة على الزجاج، كما كان رساما على الورق ونقاشا على الخشب، فمحمد وأخوه عمر إذن قد تلقيا الفن في ورشة العائلة عن والدهما (اسمه علي راسم). ولكننا لا نعرف إلا القليل عن أعمال هذا الوالد الموهوب. وقد عاش في النصف الثاني من القرن الماضي الذي كان عهد ظلام في العلم والفن، لولا بعض النادرين الذين أشرنا إليهم. ومهما كان الأمر فإن عمر ومحمدا قد تعودا على الإزميل منذ الطفولة ولاحظا تناسق الألوان، وقد أمدتهما الطبيعة من حولهما والموهبة بطاقات الإبداع. وكل منهما بقي وفيا لتقاليد العائلة والبلاد. ويذكر مارسيه أن عمر بالذات قد ترك صفحات من الفن الزخرفي - ديكوراتيف - وأنه مال بالخصوص إلى الخط العربي. وهذه شهادة أخرى على أن الخطاطين كانوا موجودين ولكن عددهم قليل. ولكن ما الخط الذي كان يكتب به عمر راسم؟ وفي أي مجال استعمله؟ وإذا حكمنا على لوحة (كتاب الجزائر) للمدني فربما يكون الخط الكوفي من اختياراته. وأما محمد راسم فقد تخصص في فن المنمنمات. وهو أكبر من أخيه بعدة سنوات. والمدرسة التي تخرج منها محمد هي مدرسة العائلة والطبيعة والموهبة، رغم أنه، كما قال مارسيه، قد مر بمدرسة الفنون الجميلة الفرنسية. فلم يتأثر بما فيها. ومنذ بلغ السنة الرابعة عشر لفت إليه نظر أستاذ فرنسي، هو بروسبير ريكارد Ricard فأدخله في مكتب الرسم بأكاديمية الجزائر - وكانت مدرسة الفنون الجميلة تتبعها - فاشتغل محمد راسم بنماذج الزرابي وأنواع المطروزات، كما اشتغل في الكتب التي تحتاج إلى التصوير. ولاحظ عليه الفرنسيون أنه قد أدخل حياة الشرق في فنه، وجذب إليه بالتالي أنظار علماء الرسم. وتوسعت صلاته بدوائر الإنتاج الفني والمستفيدين منه، واستدرجوه بعيدا عن محيطه (الأهلي) كما فعلوا مع يوسف بن الحفاف. فقد عرفه (أي راسم) مدير الأكاديمية على الناشر (بيازا) فطلب منه هذا زخرفة كتاب (حياة محمد) الذي ألفه ناصر الدين

(إيتيان) ديني وسليمان بن إبراهيم. والمعروف أن ديني نفسه قد وضع رسومات كتابه (¬1). وبعد هذه المرحلة الاستكشافية ذهب محمد راسم إلى فرنسا ونزل باريس، فاستقبله فيها المهتمون بالخطوط والفنون. ومنهم السيد بلوشيه، المحافظ بالمكتبة الوطنية بباريس. وأبقاه عنده حيث عمل في قسم المخطوطات. كما تعرف على المجموعات الفنية هناك، وفيها آثار شرقية نادرة. ومن باريس ذهب محمد راسم إلى لندن لكي يطلع على مجموعاتها الشرقية (العربية - الإسلامية)، واستقبله هناك السير دنيسون روس المختص في الدراسات الإيرانية وسهل له مهمته. ثم قصد الأندلس (اسبانيا) ممنوحا بمنحة من الحكومة العامة في الجزائر. وقد وجد راسم في الأندلس العصر الذهبي للفن العربي الإسلامي، وبالخصوص في قرطبة وغرناطة، فتعمقت معارفه واتصل بالماضي الفني، ونشطت موهبته للإبداع. وبعد ذلك أخذ اسم محمد راسم في الظهور، وشارك في عدة معارض دولية، ونال الجوائز. شارك في معارض: القاهرة وروما وبوخاريست وباريس وفيينا واستكهولم. ويبدو أنه تزوج من سيدة سورية إذ يقول مارسيه إن راسم قد وجد فيها رفيقة حياته. ومن أعمال راسم أنه رسم كتاب ألف ليلة وليلة، ونال عدة جوائز وميداليات، منها ميدالية المستشرقين سنة 1924، والجائزة الفنية الكبرى للجزائر سنة 1933. وقد ظل مع ذلك متواضعا ومستمرا في خدماته (¬2). وقد نوه مختلف الكتاب الذين تناولوا تاريخ الفن بمجهود وإبداعات محمد راسم، لا سيما في فن المنمنمات الذي يكاد يختص به. فأطلق عليه ¬

_ (¬1) جورج مارسيه (محمد راسم ونهضة المنمنمات) في (الوثائق الجزائرية) Doc. Alg، رقم 5 تاريخ 30 يونيو، 1946، ص 265 - 266. وقد اطلعنا على كتاب (حياة محمد) في الترجمة العربية التي قام بها الشيخ عبد الحليم محمود، وليس فيها رسومات. ولعل مساهمة راسم كانت في لوحة الغلاف للطبعة الفرنسية. (¬2) مارسيه، مرجع سابق، ص 266.

أوغسطين بيرك اسم (أمير فن المنمنمات). وقال إنه كان يمزج في أعماله بين أصالة الفن الفارسي ونارية المزاج الجزائري (¬1). وقالت عنه ماري بوجيجا سنة 1923، وهو عندئذ ما يزال في بداية عطائه الفني، إنه شخص بارع في فن المنمنمات، وهو ذو موهبة، وإن حصل على ميدالية فيرماي Virmeil للفنانين الشرقيين بباريس، وإن بلدية الجزائر قد منحته منحة قيمتها 500 ف (¬2). ونوه به أيضا قوانار قائلا إنه تفرد بفن المنمنمات ونافس الفنانين الفرنسيين ولم يترك لهم المجال وحدهم، وقال عنه أيضا إن له تلاميذ واصلوا المهمة بعده (¬3). ... لم يكن الأخوان راسم، ولا يوسف ابن الحفاف ولا عمر بن سماية وحدهم في الميدان. فقد نشأ جيل آخر اهتم أيضا بالرسم والتصوير والنقش. وقد ذكر قوانار منهم حيمش التلمساني الذي قيل إنه كون مدرسة خاصة في الرسم (¬4). ولكننا الآن لا نعرف عنه أكثر من هذه الشهادة. وقد اعتبره محمد خدة من رواد الرسم الجزائري الذين وقعوا في مصيدة الرسم الاستعماري، أو المدرسة التي تخرج منها ديني وغيره (¬5). وهي ملاحظة في حاجة إلى بيان وتبرير. ولنذكر الآن نماذج أخرى من الرساميين الجزائريين في هذا القرن. وهم الذين ظهر إنتاجهم الفني غالبا بعد الحرب العالمية الثانية، فمنهم: ¬

_ (¬1) أوغسطين بيرك (الجزائر أرض الفن والتاريخ)، 1937، ص 262. (¬2) ماري بوجيجا (نحو نهضة ...) مرجع سابق، ص 391. (¬3) قوانار (الجزائر)، ص 283. كانت نهاية محمد راسم مأساوية فقد اغتيل في بيته بالجزائر خلال السبعينات في ظروف ما تزال غامضة. وربما نهبت لوحاته خلال ذلك. (¬4) نفس المصدر. (¬5) محمد خدة (الرسم الجزائري) في كتاب (مظاهر تطور الفنون والعلوم في الجزائر)، منشورات المركز الثقافي الجزائري في باريس، 1990.

1 - أزواو معمري: وهو أخ لمحمد بن أرزقي معمري الذي أصبح من معلمي ووزراء سلطان المغرب. وعائلة معمري من بني يني بزواوة، وقد تولت الوظائف الرسمية لفرنسا، ومنها وظيفة القيادة على بني يني. وأرزقي كان حفيدا للحاج علي بن محمد السعيد (أمين أمناء) بني يني عند الاحتلال. ومنهم بوسعاد معمري وقانة معمري، وأزواو هو حفيد الحاج علي المذكور. ولد سنة 1890 واستفاد من وضع عائلته البرجوازية بمقاييس ذلك الوقت والقريبة في الخدمات من السلطات الفرنسية. تلقى أزواو دروس الرسم على يد ادوارد هيرزيق Herzig . ولنا أن نتصور أن أزواو تعلم في المدرسة الفرنسية بالقرية. وقد لقى تشجيعا أيضا. من ليون كار Carre سنة 1913، وكان في سن الجندية عندئذ. ولكننا وجدناه قد ذهب إلى المغرب حيث سبقه أخوه محمد معمري لإنشاء مدرسة للغة الفرنسية في الرباط (¬1). ولا ندري العمل الذي قام به أزواو في المغرب بين 1914 - 1918، غير أننا وجدناه سنة 1919 قد عين أستاذا للرسم بالمدرسة الإسلامية بالرباط. وقد ظهرت أول رسوماته القماشية في فرنسا حيث ضم متحف لوكسمبورغ مجموعة منها. وفي سنة 1921 نظم آزواو معرضه الأول، وكتبت عنه الصحافة الإشهارية فاشتهر أمره كرسام مبدع. ولكن محمد خدة اعتبره من رواد الرسم الذين وقعوا أيضا في فخ المدرسة الاستعمارية (¬2). والعجيب أن هذا الرسام المبدع قد سمته الإدارة الفرنسية (قايدا) على بني يني ليواصل تقاليد الأسرة في الإدارة، وذلك حوالي سنة 1927 رغم أنه لم يبق للقيادة سوى سلطات رمزية. ولا ندري ما إذا كان أزواو قد جمع بين الفن والإدارة. ذلك أننا وجدناه سنة 1924 قد رجع إلى الجزائر من المغرب ¬

_ (¬1) تخرج محمد معمري من كلية الآداب بالجزائر، وأرسله الفرنسيون سنة 1908 ضمن من أرسلوهم (لتنظيم) المغرب. وكان ذلك قبيل الاحتلال طبعا. (¬2) محمد خدة، مرجع سابق.

وحصل على منحة دراسية في الأندلس (أسبانيا)، ثم رجع إلى المغرب، واشتغل من جديد أستاذا للرسم ولكن في فاس. ثم أصبح هو المفتش الإقليمي للفنون الأهلية بالرباط. ثم أصبح سنة 1929 مفتشا للفنون المغربية في مراكش، وقد ظل كذلك إلى سنة 1948 حين تقاعد. ومن لوحاته (قرية قبائلية) وهي رسم زيتي على القماش، رسمها سنة 1934 (¬1). ولا شك أن تاريخ الأسرة الإداري ووجود أخيه في البلاط المغربي قد ساعدا أزواو معمري على إنجاز العديد من مهماته في فن الرسم. 2 - ميلود بوكرش: وهو رسام من سيدي بلعباس، وحياته مجهولة لدينا في معظمها، ومما نعرف عنه أنه درس في المدرسة الوطنية للفنون الجميلة بباريس، ربما بمنحة خاصة نظرا لمواهبه الفنية. وقد بدأ إنتاجه الفني يظهر سنة 1947 حين شارك في المعرض الذي نظمه النادي الفرنسي - الإسلامي (فرنكو- مسلم) بالجزائر العاصمة. ثم نظم بوكرش معرضا شخصيا سنة 1950، وقيل إن رسوماته وصوره تتخذ طابعا، استشراقيا - شرقيا؟. ومن لوحات ميلود بوكرش (رجل أهلي) (¬2). وقد نلاحظ أن الرسم في هذه الفترة، مثله مثل الأدب المكتوب بالفرنسية، قد ضيع أصالته، ما عدا إنتاج الذين احتفظوا بأصالتهم (وهو أمر صعب) مثل منمنمات محمد راسم. 3 - حسن بن عبورة: وهو أيضا من جيل من سبقه. وحياته الأولى مجهولة لدينا. وبناء على بعض المصادر فإن نشاطه في الرسم قد بدأ في الأربعينات. وصنفه النقاد في الرسامين (السذج)، على أنه رسام عصامي، ربما لأنه لم يتلق دروس الرسم على أي معلم وفي أي مدرسة. وقد شارك ¬

_ (¬1) أطروحة (الرسم الجزائري خلال العهد الاستعماري)، براغ 1985 - 1986، ص 271. وهناك تداخل في سنوات وظائفه وتفرغه للفن لم نستطع الآن تنسيقها. عن حياة الأسرة ودور محمد معمري في المغرب، انظر قوفيون (أعيان المغرب الأقصى). ط. الجزائر، 1934، ص 261 وشكيب أرسلان (حاضر العالم الإسلامي) 3/ 333. (¬2) نفس المصدر، ص 270.

ابن عبورة في الحرب العالمية الأولى 1914 - 1918، ولكننا لا ندري هل في الجبهة الأوروبية أو غيرها. وقد عرض إنتاجه لأول مرة في الجزائر سنة 1945. ثم أخذ يشارك في المعارض باستمرار، ومنها معارض النادي الفرنسي - الإسلامي بالعاصمة سنوات 1946، 1947، 1949. كما شارك في قاعة المكتبة الجديدة (الوطنية اليوم؟) سنة 1954. تخصص حسن ابن عبورة في رسم الساحات والمناظر الطبيعية العامة، وكذلك رسم شوارع مدينة الجزائر. وقيل إنه في رسمه لهذه الشوارع قد حولها إلى شوارع مضيئة شفافة وانعكست عليها حساسيته الساذجة والمفرطة. ومن لوحاته: ساحة الحكومة (ساحة الشهداء حاليا)، وشارع الجزائر بالبليدة، وكلتاهما رسمت بالزيت على القماش (¬1). ولا شك أن هناك رسامين آخرين نجهلهم الآن، أو لا نعرف عنهم إلا النزر اليسير. فقد ذكر الشيخ مبارك الميلي في مقدمة الجزء الأول من كتابه (تاريخ الجزائر) أن عمر دهينة الذي كان مدرسا بالمدارس الفرنسية في الأغواط على عهده، كان (أحد ... أفذاذ نبغاء الرسامين) ولكنه لم يذكر بعض أعماله. ... خلال الثمانينات من القرن الماضي ظهر اسم لأحد الجزائريين اهتم بالفنون عامة وتناولها في بعض المحاضرات وعلقت عليها الصحافة. وللأسف لا نعرف أن محاضراته قد طبعت، ولا نعرف كذلك مجموعة من آرائه في الفنون القديمة وعلاقتها بالفنون الجميلة الحديثة. كما أنه من الأسف أننا لا نعرف أين تلقى دراسته الفلسفية والفنية حتى أصبح من المشار إليهم في عهد وصفناه بأنه عهد ظلام دامس. ذلك هو أحمد بن قدور الذي ظل كأنه اسم نكرة. وقد وجدنا في بعض الوثائق أنه أحمد بن قدور الملقب عطشى. وكان من مواليد سنة 1853، ¬

_ (¬1) أطروحة (الرسم الجزائري)، مرجع سابق، ص 276.

ومن خريجي مدرسة الصنائع بباريس. وقالت عنه صحيفة (التايمز) أنه عربي تخرج من الجامعة. وقد توظف في المكتبة الوطنية بباريس، ثم حول إلى العاصمة فعمل عند رئيس المحكمة العليا، ثم التحق محررا في إدارة الحكومة العامة. ويهمنا هنا أن أحمد عطشي كان مولعا أيضا بتاريخ الفنون القديمة والحديثة، وأنه قد ألقى محاضرة عن الأديب الإيرلندي - الإنكليزي (لورانس ستيرن)، سنة 1880، وأعلنت الصحف أنه كان مهتما بالفنون القديمة والحديثة، وقد توفي أحمد عطشي مبكرا، سنة 1897. فهل ترك تراثا عن فنون قومه؟ وهل أضل بعضها وعالج الفنون الحديثة الجزائرية منها والأوروبية؟ ذلك ما بقي مجهولا عنه لدينا (¬1). وفي دراسته لتاريخ الرسم الجزائري لاحظ محمد خدة، وهو من الخبراء والمنتجين في هذا الفن، أن هناك عدة مراحل له. وقد ذكر منها مرحلة الرواد الذين تأثروا بالمدرسة الاستعمارية أو وقعوا في فخها، حسب دعواه، وهي مدرسة إيتيان ديني وغيره من المستشرقين والفرنسيين التي سادت منذ أول هذا القرن إلى الحرب العالمية الثانية. ومن رأيه أن إنتاج هذه المرحلة كان متأثرا أيضا بالمدارس العالمية، بما في ذلك فن المنمنمات الذي يرجع في نظره إلى التأثير البيزنطي. ولكن هناك من يذهب إلى أن نتاج هذه المرحلة كان فنا وطنيا وأنه مصطبغ بالصبغة المحلية والموروث الشعبي. ومهما كان الأمر فإن من رواد هذه المرحلة بوكرش، وحيمش ومعمري. ولا نجد حسن بن عبورة من بينهم حسب تصنيف خدة، رغم أنه شارك في الحرب العالمية الأولى. ¬

_ (¬1) انظر ما كتبناه عنه في فصل الترجمة تحت عنوان (أحمد بن قدور عطشي)، و (ستيرن) ولد في إيرلندا في 24 نوفمبر 1713 وتوفي في 18 مارس 1768. له مؤلفات عديدة في الأدب، منها حياة وآراء (تريسترام شاندي المهذب) في تسعة أجزاء. وهو الذي عالجه أحمد بن قدور في محاضرته. وقد أشارت إلى ذلك أيضا (التايمز) الإنكليزية في عدد 24 مارس 1880 في سطرين فقط. عن ستيرن انظر: Dictionnary of Literary Biography. vol.39 Gale Co. Detroit, Michigan, 1985, pp 471 - 499 .

وأما الجيل الثاني من الرسامين فهو الذي ظهر بعد الحرب العالمية الثانية، وتأثر بالحركة الاصلاحية ومختلف التيارات الفكرية والوطنية، ومنها أيضا فكرة القومية العربية، والأحلام الاشتراكية، وطموحات الشعوب إلى التحرر والاستقلال، وعبرت هذه المدرسة عن (العودة إلى الأصل) التي اتخذت منها شعارا لها، كما اهتمت بالتراث الوطني. وقد فهمنا أن من هذا الجيل: محمد راسم، وتمام، وغانم، وحميمونة. ثم تلاميذهم مثل صحراوي وعجواب وبلكحلة وكربوش. وفي عهد هؤلاء ازدهر، مع حركة الاستقلال العربية، فن التصوير الإسلامي والتجريدي، ثم ظهر فن الزخرفة العربية (الأرابسك) والتصوير العربي، وقاد هذا التيار كل من قرماز وخدة وابن عنتر. وجميع هؤلاء اهتموا بالخط العربي وحروفه. ومنهم أيضا زروقي، وزودمي، وقريشي، وشاير، وابن بلة. وضمن دراسته لمراحل الرسم وسيرة رواده تعرض محمد خدة أيضا إلى المنمنمات فقال انها استوردت من الشرق (بلاد فارس? بيزنطة؟) ثم أصبحت من الفنون التراثية، وتطورت إلى أن أصبحت مادة في التدريس منذ سنة 1930 في المدرسة الوطنية للفنون الجميلة بالجزائر، فكان عنوانها في أول الأمر هو الفنون الأهلية. وبعد الاستقلال أصبح عنوانها هو الفنون التقليدية. والمنمنمات تشمل السفن، والقوارب العثمانية، والنشاط البحري، والأميرات، والغزلان، والأزهار ونحوها من الموضوعات. وكان محمد راسم سيد هذا النوع من الفن (¬1)، كما سبقت الإشارة. ولا ندري متى بدأ الاهتمام أيضا بالوشام البربري الذي اعتبره بعضهم ظاهرة فنية في الرسم. كما أن العناية انصرفت إلى الصناعات التقليدية المستعملة كالزرابي، والفخار، والأثاث، وأنواع الحلي، والرسومات الجدارية، والمنازل، في نطاق الفنون الشعبية البربرية في رقعة تمتد على مساحة الوطن. بل إنه في وقت لاحق أخذ الاهتمام ينصب أيضا على رموز ¬

_ (¬1) ولد محمد راسم سنة 1896، ومات سنة 1975.

مؤلفات وآراء حول المسرح ورواد التمثيل

التيفيناع ورسوم الطاسيلي (¬1). ولكن الاهتمام بالفنون الزخرفية التقليدية لم ينقطع، مثل الرسم على الخشب وأنواع الخزف. وفي دراسة محمد خدة نعثر أيضا على تصنيف لجهود إيسياخم وباية وغيرهما. وبناء عليه فإن ايسياخم الذي ولد سنة 1929 قد مارس الفن التعبيري وتأثر بالمدرسة الغربية، بينما تابعت باية ما يسمى بالفن الساذج المتأثر بالفنون الإسلامية والمحيط الثقافي، وهي تميل إلى الأسلوب التجريدي - التشخيصي، ويعبر فنها عن حياة الشرق والمرأة الجزائرية. أما عن فن النحت فقد لاحظ خدة أنه غربي النزعة، وهكذا فإن نحت التماثيل ليس له أثر كبير في الجزائر (¬2)، وربما يرجع ذلك إلى تأثير المدرسة الإسلامية. مؤلفات وآراء حول المسرح ورواد التمثيل كنا تحدثنا عن تطور المسرح في الجزائر، بشقيه العربي والفرنسي، في الفصل الخاص بالمنشآت الثقافية (¬3). ونشير إلى أن بطل مسرح خيال الظل (الكراكوز- قرقوش) في الجزائر هو الحاج عيواز، وهو شخصية تاريخية، قيل إنه كان أحد وزراء السلطان مراد الثاني العثماني (¬4). وقد عالج شؤون المسرح عدد من الكتاب العرب وغيرهم. فمن ¬

_ (¬1) محمد خدة، مرجع سابق. (¬2) نفس المصدر. (¬3) انظر فصل المنشآت الثقافية - فقرة المسرح. (¬4) انظر مجلة الشرق R. De. L'orient سنة 1843، ص 247? 248. يشير هذا المصدر إلى كون مسرح الكراكوز له أصل بيزنطي حسب رواية المؤرخ (هامر). وكررت مجلة الشرق أن السلطات الفرنسية قد أوقفت مسرح الكراكوز واضطهدت أبطاله بدعوى الصعلكة والفضيحة. وهو ادعاء باطل، كان وراءه الخوف من تأثيره السياسي على الجمهور في وقت جند فيه المارشال بوجو كل إمكاناته للقضاء على المقاومة بقيادة الأمير عبد القادر، إذ كان حظره بين 1841 - 1843.

المصادر العربية أو الفرنسية التي كتبها جزائريون نذكر: 1 - سعد الدين بن شنب (المسرح العربي في الجزائر) في المجلة الإفريقية، سنة 1935، وهو بحث من أشمل البحوث عن الموضوع. 2 - رشيد بن شنب (رشيد القسنطيني: أبو المسرح العربي بالجزائر) في الوثائق الجزائرية Doc. Alg، سنة 1947. 3 - رشيد بن شنب أيضا (علالو وجذور المسرح الجزائري)، في مجلة الغرب الإسلامي، 1977، رقم 24. 4 - محيي الدين باش تارزي، المذكرات، في جزئين، ط. الجزائر 1968. 5 - أبو العيد دودو (المسرح الجزائري)، في المجاهد الثقافي (المجلة) 1969. 6 - عبد القادر جغلول (عناصر من التاريخ الثقافي)، ط. الجزائر 1987؟. 7 - عبد القادر العربي، وهو عبد القادر الحاج حمو (¬1)، (المسرح والموسيقى العربية)، في (لافريك) وهي مجلة كانت تنشرها جمعية الكتاب، رقم 51 - يونيو 1929. 8 - رشيد بن شنب (كتاب المسرحيات العرب ...) في مجلة الغرب الإسلامي 1974. 9 - أرليت روت A. Roth (المسرح الجزائري باللهجة العامية) ¬

_ (¬1) غير مطمئنين إلى صحة هذا الاسم، لأن عبد القادر فكري هو المعروف بأن اسمه الحقيقي عبد القادر الحاج حمو. أما عبد القادر العربي فلعله اسم آخر له أو هو اسم لغيره. وقد جاء في كتاب محمد ناصر عن الشيخ أبي اليقظان، الجزائر 1980، أن عبد القادر الحاج حمو كان موظفا بالجامع الكبير، وهو وظيف غير متناسب مع اختياره الأدبي.

1926 - 1954، باريس 1967. 10 - لاندو Landau (دراسات في المسرح والسينما العربية)، باريس 1965. 11 - مجموعة أخرى من المقالات تعالج المسرح ورجاله كتبها: محمد ديب ومصطفى كاتب، ورشيد بن شنب، ومحمد فرحات، وحليمة خالدي، وسفير البودالي، ومحمد الرازي، الخ. (¬1). وهناك غير هذه المراجع والمصادر، ومنها الذكريات والأحاديث الشفوية والمقالات الصحفية التي كانت تظهر من وقت لآخر، ومنها أيضا الأحاديث المسجلة بذكريات وتجارب الذين ساهموا في المسرح، رجالا ونساء. وقد لاحظ سعد الدين بن شنب أن الصحافة العربية المعاصرة كانت لا تحفل بالنشاط المسرحي، على خلاف الصحف الفرنسية. ولعل الصحف العربية كانت تترفع عن تغطية النشاط المسرحي لعلاقته بالحياة الاجتماعية الدنيا وظهور الاختلاط في الأدوار وتناول الممثلين الخمر وتقليدهم للأوروبيين. ولا نظن أن الأمر يتعلق بالترفع الطبقي كما رأى ذلك البعض. فقد كانت الصحف العربية تكتب عن قضايا الفقراء والمحرومين والبدو والمهمشين ما داموا على أصالتهم. وكل المصادر متفقة على أن نشأة المسرح العربي في الجزائر كانت متأخرة، ولكن الكتاب غير متفقين في نقطتين: سبب تأخر ظهوره وتاريخ ظهوره بالضبط. والمسرح في ذاته ظاهرة حضارية، وكان موجودا في شكله البسيط في المدن ولكن الفرنسيين قضوا عليه لأنه كان وسيلة نقدية لاذعة لسياستهم لا سيما أن الشعب كان قد دخل عهد الظلام الثقافي ولم يبق له إلا الكلمة المسموعة والحركات الرمزية المعبرة. ونحن نشك في أن سبب إلغاء المسرح كان أخلاقيا أو اجتماعيا، لأن ما أحدثه الفرنسيون من فساد (كإشاعة الخمر والقمار وأماكن الدعارة وإهمال التعليم ...) يفوق بكثير الأثر السلبي ¬

_ (¬1) انظر عن ذلك البيبلوغرافية التي أعدها جان ديجو 1977، ط الجزائر.

للحاج عيواز وفرقته، ولاله سنباية ولهجتها. أما تاريخ عودة المسرح (وليس ظهوره) فقد لاحظنا أن أحد الجزائريين (محمد بن علي الجباري) كان قد قام بتمثيل مسرحية شعرية ساخرة في وهران، خلال سنة 1880. ولا شك أن هذه التجربة لم تكن شاذة، بل إن المحاولات، سواء كانت امتدادا للأصالة أو تقليدا للمسرح الفرنسي، لم تنقطع، ولكنها كانت بأساليب تتفق مع التقاليد الشعبية، كما كان حدث في ورقلة، حسب رواية إسماعيل بوضربة والضابط فيليب. وليس بالضرورة أن يكون المسرح في هذه المرحلة مطابقا للمسرح الفرنسي المعروف، على أن غالبية الآراء ترجع البداية إلى نهاية الحرب العالمية الأولى. لا نعتقد أن زيارة الفرقة المصرية بقيادة جورج أبيض سنة 1921 هي وحدها التي حركت في الجزائريين الاهتمام بالمسرح. فقد سبق لفرقة عربية أن زارت الجزائر قبل الحرب العالمية المذكورة، ومع ذلك لم تجعلهم يهتمون بتأليف الفرق الموسيقية والغنائية والمسرحية. فهناك ظروف جديدة تولدت عن سنة 1919 وما بعدها، ومنها تطور الأحداث السياسية وبداية الفكر الاصلاحي وظهور الصحافة ذات الاتجاهات المختلفة وشخصية الأمير خالد وشخصيات أخرى علمية عادت من الشرق مثل العقبي والإبراهيمي والزواوي. وربما كان من المتعذر على الفرقة المصرية أن تزور الجزائر وتمثل فيها ما مثلت لو جاءت قبل 1921. كما أن تطورات مصر والسعودية وسورية وغيرها بعد 1919 قد ساعدت على ميلاد الجو الجديد. وقد ذكر البعض أن سبب فشل الفرقة المصرية يرجع إلى اللغة الفصحى التي استعملتها في التمثيل، لأن جمهور العاصمة لم (يفهمها). ويبدو لنا أن ذلك مبالغة قصد بها الفرنسيون عندئذ أن يؤكدوا مقولتهم: إن اللغة الفصحى (لغة القرآن الكريم) ليست لغة الجزائريين فهي (كلاسيكية) كاللاتينية، لا تستعمل إلا في العبادات وخطب الجمعة، وليس للمسرح والحياة العامة. ولعل بعض المثقفين الجزائريين قد انخدعوا بتلك المقولة

التي ظهرت لهم بريئة. ومن جانبنا نرى أن الأسباب ربما تكمن في نواحي أخرى، ومنها المكان الذي اختير للتمثيل، وقد لاحظ ذلك سعد الدين بن شنب. فقد مثلت المسرحيات العربية على مسرح بعيد على الجمهور الجزائري الذي أغلبه من الأحياء الشعبية. وهذا المسرح (المسرح الجديد) كان بعيدا حتى على الحي الأوروبي. فقد خطط المغرضون للفرقة المصرية أن تمثل في المنفى. كما أن الإعلانات عن الفرقة والمسرحيات لم تتم بالشكل المطلوب، وحتى الطريق المؤدي إلى المسرح كان غير معروف. وقد قلنا إن الصحافة العربية لم تهتم بالموضوع. ولكن ما هي الصحافة العربية سنة 1921؟ إنها فقط جريدة النجاح والإقدام الأسبوعيتان. وكانت الأولى تصدر في قسنطينة ولا نعرف مدى توزيعها في العاصمة، فعن أية صحافة عربية يتحدثون؟ على أن ابن شنب قد ذكر أسبابا أخرى أيضا لعدم نجاح الفرقة المصرية (¬1). ومهما كان الأمر فقد مثلت الفرقة المصرية مسرحيتين: الأولى ثارات العرب، والثانية صلاح الدين الأيوبي. وكلتاهما من تأليف جورج حداد. ولنا أن نتساءل عن الموضوعات والمؤلف. وإذا كان اسم صلاح الدين معروفا في الذاكرة الشعبية وكذلك (العرب)، فإن العناوين لا توحي بجاذبية خاصة للجمهور، ولا اسم (جورج) يجعل المسرحيات (عربية) في الفطرة الجزائرية. وقد ورد اسم (جورج) كمؤلف وكممثل ورئيس للفرقة (¬2). وهذا الاسم في الفطرة الجزائرية مرتبط بالأسماء الفرنسية وليس العربية، والناس عندئذ لا يفرقون بين المسلم والعربي. ولسنا ندري من دعا الفرقة للحضور أصلا. ونحن نتساءل عن ذلك لنعرف الجهة التي كانت مسؤولة عن الإعلان والتعريف بالفرقة. فهل هي الحكومة أو الخواص؟ ولا نظن أن الفرقة ¬

_ (¬1) سعد الدين بن شنب (المسرح العربي في الجزائر) المجلة الإفريقية، 1935، ص 74. أما صحافة الحركة الإصلاحية وصحافة الشيخ أبي اليقظان وغيرها فقد ظهرت بعد ذلك، أي منذ حوالي 1924. (¬2) نعني أن المؤلف هو جورج حداد ورئيس الفرقة هو جورج أبيض.

المصرية قد جاءت من تلقاء نفسها بدون إعداد وترخيص وإجراءات دقيقة، من مصلحة الشؤون الأهلية التي كانت بإدارة جان ميرانت. ثم لماذا اختيرت العاصمة التي يغلب عليها عندئذ الطابع الأوروبي، لتمثيل مسرحيات تاريخية باللغة العربية الفصحى؟. ولنسلم الآن أن فرقة جورج أبيض قد فشلت في تمثيل مسرحيات جورج حداد، لأنها باللغة الفصحى، فهل كانت زيارة الفرقة ضرورية لإحياء روح المسرح في الجزائريين؟ وهل كان الجزائريون سيظلون بدون مسرح لو لم تزرهم وتفشل معهم الفرقة المصرية؟ لا نعتقد ذلك، لأن الجزائر قد دخلت مرحلة عبر عنها الكتاب والملاحظون بمرحلة (النهضة) في ميادين مختلفة. فالمسرح كان سيظهر لا محالة كما ظهر النادي والصحيفة والمسجد الحر والمدرسة الحرة والأحزاب والجمعيات والتأليف، وغير ذلك من مظاهر النهضة. وهكذا مثلت بين 1921 - 1926 عدة مسرحيات على يد الفرق الطلابية، وهي الفرق التي أعادت موضوع المسرح والتمثيل إلى روح الجمهور، كما أعاد إليه الأمير خالد روح النضال السياسي وابن باديس روح النضال الديني والقومي. والغريب أن يقول سعد الدين بن شنب الذي كان صدى لتيار فرنسي شائع في الثلاثينات (وهو ليس منه في الأساس) إن الطلبة قد أنشأوا فرقا للتمثيل (كرد فعل على فشل) فرقة جورج أبيض لأنها مثلت بالفصحى. وهذه المسرحيات الطلابية كانت من إنتاج فرقة (المهذبية)، وهي جمعية للآداب والتمثيل العربي، تأسست بتاريخ إبريل 1921. وكان رئيسها هو الطاهر علي الشريف الذي ربما كان أحد أقارب علي الشريف الذي أسره الفرنسيون صبيا سنة 1843 وحملوه إلى باريس رهينة وعلموه الفرنسية وأدخلوه فى مجتمعهم (¬1). ومثلت (المهذبية) ثلاث مسرحيات كلها من ¬

_ (¬1) عن علي الشريف وزملائه، انظر فصل الترجمة. وقد أصبح من المترجمين الاحتياطيين. ويكتبه ابن شنب علي الشريف الطاهر بتقديم اللقب على الاسم.

تأليف رئيس الجمعية نفسه (الطاهر علي الشريف). وهي: 1 - الشفاء بعد العناء. 2 - خديعة الغرام. 3 - بديع (¬1). وهناك جمعية أخرى حاولت أن تشق طريقها في اتجاه آخر، يبدو أنه سياسي - إسلامي، وقبل أن تعطى لها الرخصة ويعرف اسمها، قامت بتمثيل مسرحية ذات عنوان جذاب وخطير على الاستعمار وهو (في سبيل الوطن) في 29 ديسمبر 1922، وكان ذلك بدون شك زمن الراحة السنوية بمناسبة عيد الميلاد، وأثناء اضطهاد حركة الأمير خالد الذي حكم عليه الفرنسيون بالنفي بعد أقل من سنة. ولم يذكر مؤرخو المسرح مؤلفا لهذه المسرحية، فهل هو الأمير خالد أو أحد أنصار فكرته أو حزبه؟ إن المسرحية كانت ناجحة رغم أنها مثلت على المسرح الجديد الذي قلنا إنه كان بعيدا عن وسط المدينة. وهي مسرحية من فصلين فقط. ولو أن فرقة جورج أبيض أو غيرها حاولت تمثيل مسرحيات من هذا النوع بالفصحى لكان الإقبال ربما غير ما كان، رغم بعد المسرح وقلة الإعلان (¬2). وفي سنة 1923 قامت جمعية أخرى لا نعرف اسمها الآن، وهي بدون شك من الهواة، بتمثيل مسرحية اجتماعية عنوانها أيضا جذاب، وهو (المصلح)، وهي من تأليف أحمد (علي؟) فارس، باللغة الفصحى. وتسير المسرحية في خط النهضة الذي تحدثنا عنه لأن الأربع سنوات التالية للحرب قد أحدثت هزة في المجتمع. وقد أعلن أن ريع المسرحية سيجمع لفائدة ودادية طلبة أفريقية الشمالية. ولا نعرف الآن أين مثلت ولا عدد فصولها ومدى نجاحها (¬3). ¬

_ (¬1) ابن شنب (سعد الدين)، مرجع سابق، ص 74. هامش 1 عن المسرحيات الثلاث المذكورة انظر فصل اللغة والنثر الأدبي. (¬2) ابن شنب (سعد الدين)، مرجع سابق، ص 75. عن هذه المسرحية انظر أيضا فصل اللغة. (¬3) نفس المصدر. انظر أيضا حولية ودادية الطلبة المسلمين، الجزائر، ديسمبر 1928، =

يذهب سعد الدين بن شنب إلى أن ما ذكرناه من تجارب لسنوات (1921 - 1925) كان مرحلة فاشلة للمسرح الجزائري. فبالإضافة إلى فشل فرقة جورج أبيض، فشلت أيضا، في نظره، تجربة الطاهر علي الشريف وأحمد (علي؟) فارس، ومسرحية في سبيل الوطن. ويرجع ذلك إلى عدة عوامل، منها اللغة الفصحى التي لم يتعود عليها الجمهور (وقد ناقشنا ذلك)، ومنها الضعف المادي والمعنوي للمثلين الذين وجدوا أن حماسهم وإخلاصهم لفكرة المسرح لا يكفيان. ومن جهة أخرى واجهوا صعوبة من نوع مختلف، وهي العثور على امرأة تقوم بالدور النسائي في المسرحيات. ثم أن المسرح نفسه (المكان) لم يكن في متناولهم، إذ كان عليهم دائما انتظار الفراغ الموسمي الأوروبي، أو التمثيل في أي مكان يعثرون عليه (¬1). هذه مجموعة من الأسباب التي أدت إلى فشل المرحلة الأولى من عودة المسرح. وبعد توقف دام سنتين (1924 - 1926) ظهر رواد جدد للمسرح. فكانت السنتان المذكورتان فترة تأمل ومراجعة للنفس والإمكانات الأدبية واللغوية والاجتماعية. ومن الصعب أن نقول إن المسرح قد (توقف) تماما، فربما كانت جهات أخرى من الوطن تجرب حظها بأساليب متواضعة، لا نعلمها. ولكن دعنا نذهب مذهب الذين قالوا رجوع المحاولة المسرحية الثانية (المرحلة الثانية) على يد علالو ودحمون بمسرحية (جحا) في إبريل 1926. فقد مثلت هذه المسرحية ثلاث مرات متوالية. فكانت تجربة ناجحة لأنها بلغة مفهومة وموضوعها بسيط، بسطه المؤلفان ليتماشى مع ¬

_ = رقم 1، ص 23. نقلا عن ابن شنب. وفارس ذكره جغلول على أنه (علي). انظر (تكوين المثقفين ...) في (مظاهر الثقافة الجزائرية)، باريس، 1986، ص 81. انظر أيضا فصل اللغة والنثر. (¬1) سعد الدين بن شنب (المسرح ...) مرجع سابق، ص 75. لنفس المؤلف مقالة بالعربية بعنوان (التمثيل وكيف يكون مستقبله) في مجلة (التلميذ) رقم 7 - 8، عدد مايو - يونيو، 1932. وهي لسان حال الطلبة المسلمين عندئذ.

المستوى الثقافي للجمهور، مع استخدامها للتاريخ كمادة أساسية، ولكن تحويله إلى حكايات ساخرة وأسماء معاصرة تثير الضحك أحيانا. ويبدو أن رسالة المسرحية هي التسلية والضحك وليس الثقافة العامة والتوعية التاريخية (¬1). ومن الملاحظ أن الموضوعات التاريخية واللغة الفصحى قد رجعت خلال الثلاثينات واستقطبت جمهورا كبيرا، ولا ندري إن كان ذلك راجعا إلى انتشار فكرة النهضة بين الناس وشيوع التعليم العربي على يد الحركة الإصلاحية، ومن ثمة شيوع الثقافة التاريخية نفسها. أو كان راجعا إلى الموضوعات وطريقة علاجها. فمسرحية (بلال) مثلا كانت ناجحة جدا. رغم أنها كانت بالفصحى (شعر) وتناولت موضوعا دينيا - تاريخيا. وقد حلت فرقة مصرية أخرى سنة 1932 بقيادة فاطمة رشدي. وقد مثلت بعض المسرحيات التاريخية وبالفصحى. ومع ذلك أحرزت على نجاح أكثر من السابق. وإذا قيل إنها لم تنجح في تمثيل (موت كليوباطرة) لأحمد شوقي في العاصمة، فذلك راجع، ربما إلى غرابة الموضوع على الجمهور، اللهم إلا بعض المثقفين الملمين بالأحداث التاريخية (¬2). وقد انتقلت الممثلة المصرية إلى قسنطينة واحتفل بها المثقفون وألقوا أمامها خطبا بالفصحى، وكان التفاعل كبيرا، لأن البيئة الثقافية في الجزائر ليست على درجة واحدة. والعاصمة في العهد الفرنسي كانت (أوروبية) أكثر منها عربية، وذوقها لم يكن حجة على ذوق كل الجزائريين. ومخالطة المثقفين، سيما الممثلون، في العاصمة للجمهور الفرنسي وحضورهم حفلاته وتتبع مسرحياته جعلهم يتأثرون بالمسرح الفرنسي وأسلوبه في الحركة وسرعة الحوار وانتزاع الضحك من الجمهور. ولكن هذا الحكم يجعل المسرح مكرسا فقط لتوفير التسلية والضحك بينما الفرنسيون قد ¬

_ (¬1) نفس المصدر، ص 76. (¬2) مثلت بالعاصمة في 2 مايو 1932.

مثلوا أيضا الموضوعات الجادة والتراجيديات والمآسي الاجتماعية والتاريخية. وسنلاحظ أن الممثلين والمؤلفين الجزائريين، رغم بدايتهم المستقلة مالوا إلى الاقتباس من الأدب الفرنسي، ولكنهم وظفوا الاقتباس في مهمتهم المسرحية وتصرفوا في المعاني بما يتلاءم والذوق الجزائري العام. ومن الملاحظ كذلك أن معظم المؤلفين المسرحيين لم يكونوا مثقفين في البداية، فكانوا يعتمدون على الذاكرة والحكايات الشعبية الشفوية. ولم يكونوا يعتمدون على النصوص المكتوبة، سواء كانت بالعربية أو بالفرنسية، ونجد مثالا لذلك بعض مسرحيات رشيد القسنطيني (¬1). أما الموضوعات التي عالجتها المسرحيات فهي متنوعة، ولكن معظمها اجتماعي. وقد جاءت شخصيات دينية في المسرحيات مثل القاضي والمفتي والإمام، ولكنها لا تتعرض للوظيفة الدينية التي يتولاها، وكان استخدام السخرية يجعل رجل الدين يظهر ساذجا وقصير النظر. ومن الموضوعات أيضا غمز رجال الطرق الصوفية، سيما في المسرحيات التي أنتجها أصحاب الاتجاه الإصلاحي. وبعض المسرحيات تعرضت أيضا لتاريخ الإسلام والحج وعدالة الخلفاء الراشدين. واحتلت الخمر ومضارها، والجهل، وتأثر المرأة بالحياة الأوروبية، والمخدرات، مكانة بارزة في عدد من المسرحيات. كما أن الإصلاح والتعليم العربي والوطنية قد ظهرت في بعضها الآخر. وتظهر المبالغات أحيانا في اختيار الألفاظ والعناوين. فرشيد القسنطيني غير عنوان مسرحية (ابن عمتي في فارسوفيا) إلى (ابن عمي الاسطانبولي)، وقد مثلت على مسرح الأوبرا سنة 1929، وفيلم (ثقبة في الحائط) حول نفس الممثل عنوانه إلى (حفرة في الأرض) ومثلها على مسرح الحمراء سنة 1931 وقد أخذ علالو ودحمون قصة عنتر الحشائشي وقصة الصياد والجن من ألف ليلة وليلة. وقد مثلت الأخيرة عام 1928 على مسرح ¬

_ (¬1) مثل مسرحية (لونجا الأندلسية) التي مثلت على مسرح الأوبرا، في 28 فبراير 1928. انظر ابن شنب، مرجع سابق، ص 78 - 79. انظر فصل اللغة.

الأوبرا. والملاحظ أن المسرحيات كان يمثلها مؤلفوها في هذه المرحلة. ولا تكاد المسرحية الواحدة تعاد مرة أخرى. وكانت قصة جحا استثناء. ورغم ظهور عدد من أسماء الشباب في العشرينات فلم تظهر أخرى في الثلاثينات غير محيي الدين باش تارزي، بينما برز مؤلفون لمسرحيات تعليمية خلال الثلاثينات، أمثال محمد العيد ومحمد بن العابد ومحمد النجار. وأفضل أوقات العرض هي شهر رمضان لأن الناس يسهرون ويتسلون أثناء أوقات الفراغ. والجمهور كان يختلف باختلاف الموضوعات والممثلين. فالمسرحيات العامة كان يحضرها جمهور المتعلمين المتنورين (وهم عادة ممن لهم علاقة بالمدرسة الفرنسية والثقافة الغربة)، وفئة العمال والخدم والطلبة في المدارس الفرنسية. ويقول ابن شنب إن العلماء وأصحاب العمائم (أي طبقة رجال الدين والعلم التقليدي) كانوا معارضين للمسرح وخروج المرأة كممثلة، وكان المسرح في نظرهم ضد الأخلاق الحسنة والعادات الكريمة. وربما كان ذلك أثناء كتابة مقاله (1935). ولكن الأمر قد تغير بعد ذلك، فقد كان أصحاب العمائم من رجال الإصلاح يحضرون التمثيليات وسط الجمهور، بل كان بعضهم هم الذين ألفوا المسرحيات للطلبة لكي يمثلوها. وأصبح التمثيل وسيلة للنهضة ونشر الأفكار والتربية. ولكن بشرط ألا ينحط الممثل إلى درجة سفلى، فيقلد لمجرد التقليد، ويبالغ في التقعر من أجل إحداث الضحك وانتزاع الإثارة. والمسرح على العموم مشروع اجتماعي، له تقنياته ولغته وإشاراته وديكوره وملابسه وهواته (¬1). ومهما كان الأمر فإنه مع الحرب التحررية (1954) كان المسرح الجزائري قد بنى لنفسه تقاليد وأصبح له أمجاد وتراث، وعرف طريقه إلى قلب الشعب. لم يكن المسرح مقتصرا على العاصمة، كما نفهم من بحث سعد الدين بن شنب. فقد كانت جهات أخرى أيضا. تحاول جهدها، كما أشرنا ¬

_ (¬1) ابن شنب (المسرح ...)، مرجع سابق، ص 84 - 85.

سابقا. وهذا أحد الرواد قد أسس (فرقة المزهر البوني) سنة 1928، أي في الوقت الذي كان فيه علالو ودحمون ورشيد القسنطيني يحاولون جهدهم في العاصمة. وكان مؤسس هذه الفرقة يدعى الجندي، وهو من خريجي المدارس الرسمية، وكان يعمل وكيلا قضائيا. تأسس (المزهر البوني) في عنابة، وشعت آثاره على الناحية الشرقية فدخل قسنطينة، وكذلك تبسة، وربما غيرهما من المدن المجاورة. ويقول مالك بن نبي إن (مرور هذه الفرقة في المدينة - تبسة - كان حدثا ثقافيا ... لكنه حدث سياسي كذلك (¬1). ويؤكد ابن نبي أن المسرح قد ساعد على إحياء اللغة العربية وبعث أمجاد الماضي. بل إن بعض الشباب أخذوا يفكرون في تأسيس فرقة مسرحية في تبسة أيضا على غرار المزهر البوني (¬2). وكنا قد تعرضنا باختصار إلى حياة رشيد القسنطيني في فصل آخر. واسمه الحقيقي هو رشيد بن الأخضر، وهو من مواليد العاصمة سنة 1887. وقد تعلم في مدرسة محمد البليدي بالقصبة، ومال إلى التجارة فمارسها في الواقع بباب الواد ثم شارك في البحرية التجارية فحملته السفن إلى بلدان أخرى ابتداء من سنة 1914، أي أثناء الحرب الكبرى. وكانت جولاته هذه فرصة له تعرف منها على أخلاق الشعوب ولغاتها وتجاربها. وربما بقي في هذه الخدمة مدة الحرب. وكان رشيد محبا للموسيقى وحفلات الطرب، ومشاركا في نشاط الأوبرا بالعاصمة، وكان من الضاربين على القيتارة. وكان مع علالو وباش تارزي ودحمون وجلول باش جراح يمثلون كوكبة (الفن الأهلي) من تمثيل وموسيقى وغناء ابتداء من العشرينات. عاش رشيد حياة ¬

_ (¬1) مالك بن نبي (مذكرات شاهد القرن) ط. 2، دمشق، 1984، ص 186. (¬2) عن نشاط المزهر البوني خلال الثلاثينات والمسرحيات التي مثلها انظر فصل المنشآت الثقافية. ذكر ابن نبي في مذكراته، ص 248، أن مصالي الحاج كتب سنة 1932 مسرحية في باريس وتركها بدون عنوان، وسلمها إلى ابن نبي فصاغها واختار لها عنوانا وهو (الحاكم الطيب) ويعني الحاكم الجائر. وقد مثلت المسرحية في باريس من قبل بعض الطلبة الجزائريين والتونسيين.

الحرمان التي كان عليها الشعب، مثل البطالة والفقر والقهر والجهل، فتأثر بكل ذلك وعالج في موضوعاته هذه القضايا بأسلوب ساخر دون أن يهاجم الاستعمار مباشرة. وقد ذكرنا في فصل آخر أنه كان يساير تيار النهضة والإصلاح دون أن يكون ملتزما بتيار سياسي معين (¬1). وكانت وفاته مبكرة نسبيا. وقد عاش زميله باش تارزي حياة أطول من حياته. بدأ باش تارزي حياته منذ 1915 أيضا حزابا في الجامع الجديد، وقد ساعده حفظ القرآن الكريم على طلاقة لسانه وصفاء صوته خلافا لزميله. وقيل إن باش تارزي سجل قراءة للقرآن (تجويد؟) سنة 1919 كما سجل الأذان. وفي سنة 1927 دعي لأداء الأذان عند افتتاح جامع باريس. أما نشاطه المسرحي فقد قيل إنه ترك أكثر من مائة مسرحية مثلت كلها على خشبة المسرح أو في الإذاعة. وقد عمل باش تارزي في مجال الغناء والطرب أيضا، وفي الإذاعة ثم في التلفزة. ومن الجمعيات التي عمل فيها جمعية (المطربية) التي أدارها أكثر من عشرين سنة وطاف بها عددا من البلدان. كما نشط في الجمعية (الفخارجية) للموسيقى. وجمع بين الأغاني الدينية والوطنية. وعاصر الأحداث العالمية، وثورة نوفمبر وعهد الاستقلال. وعاش إلى أن كتب مذكراته. وهو ربما الوحيد الذي فعل ذلك من بين زملائه، فكانت عملا حافلا سجل فيه نشاطه ونشاط جيله منذ الحرب العالمية الأولى (¬2). وتجدر الإشارة أيضا إلى رائد آخر من رواد المسرح الهزلي الهادف إلى خدمة الأغراض الاجتماعية، وهو محمد التوري. وهو من مواليد البليدة سنة 1918، وقيل إن اسمه الحقيقي بسناسي. وكان من الشباب الذي تأثر بالنهضة والإصلاح والوطنية، فدخل مدارس جمعية العلماء، ومدرسة الكشافة الإسلامية، ووصل في تعليمه إلى المرحلة الثانوية، ومارس بعض ¬

_ (¬1) انظر حشلاف (مجموعة الموسيقى العربية)، باريس، 1993، ص 269? 270. (¬2) حشلاف (مجموعة الموسيقى ...) مرجع سابق، ص 183 - 184. ومذكرات باش تارزي، سيما الجزء الأول، 1968. وقد توفي سنة 1986. وترك تلاميذ.

آراء ومؤلفات في الموسيقى

المهن التي جعلته يعرف معاناة الشعب، ونشط في مجال المسرح والأغنية الساخرة. وفي أواخر الثلاثينات ألف مع مجموعة من أصدقائه فرقة مسرحية، منهم عبد الرحمن عزيز. وهي الفرقة الثانية بعد (المطربة) لباش تارزي. وظهرت أعمال التوري المسرحية ابتداء من (المدمن) على الخمر الذي سماه (الكيلو). وكان يستوحي موضوعاته من التاريخ العربي والواقع الاجتماعي وبعض القصص الأوروبية، ومن أعماله أيضا مسرحية (البارح واليوم) و (وصية المرحوم) و (المجنونة). وكان التوري مثل، رشيد وباش تارزي، قد استعمل الأسلوب الساخر والأغنية الشعبية لتوعية الشعب وتصوير حالته، ولكنه كان يحتفظ بطابعه الخاص (¬1). ومنذ 1946 ظهر جيل آخر من الممثلين وكتاب المسرح، وهم الذين عاصروا الثورة وعاشوا مرحلة الاستقلال. ومنهم مصطفى كاتب وعبد الله نقلي وكاتب ياسين وحسن دردور، وسفير البودالي وغيرهم (¬2). آراء ومؤلفات في الموسيقى سبق أن تناولنا موضوع الموسيقى والحفلات العامة في فصل آخر. ورأينا أن الآلات الموسيقية كانت مستعملة ومتنوعة. ومنها الآلات الأوروبية الدخيلة، كما أن حفلات الطرب واللهو، وحفلات الصوفية (الحضرة) كانت شائعة، سواء عند أهل الحضر أو عند أهل الجبال والصحاري. كان (الإنشاد) أسلوبا مميزا لدى معظم الطرق الصوفية. وكان لشعراء المديح النبوي وتمجيد الشيوخ دور في الحياة العامة، وهم ينشدون بأنفسهم في المناسبات الصوفية أو يتركون قصائدهم ليغنيها مطربون متميزون ¬

_ (¬1) حشلاف، مرجع سابق، ص 273 - 274. انظر كذلك مجلة (ألجي - ريفو) خريف 1959 مقالة بعنوان (التوري رائد كبير للمسرح الإسلامي). (¬2) في كتاب سعاد محمد خضر (الأدب الجزائري المعاصر)، 1967، فصل مفيد عن المسرح الجزائري، ص 54 - 64.

بالأصوات الشجية، وقد شاع ذلك في اللهجات المحلية سواء العربية الدارجة أو البربرية. ومن الطرق التي اشتهرت بالإنشاد وإقامة الحضرة والتواجد: الحنصالية والعيساوية والقادرية. ويذهب (رين) إلى أن الحنصالية كانوا ينشدون قصيدة الدمياطي الشهيرة في حلقاتهم الخاصة، ذلك أن اجتماعهم على الإنشاد غير عمومي. وذكر مالك بن نبي أن القادرية في تبسة كانت تتكفل لأتباعها بالأنشاد في حفلات الزفاف والختان. وقد شاهدنا أنواعا من الموسيقى وضرب الطبول والرقص والإنشاد لدى كل من القادرية والتجانية في وادي سوف وفي تقرت كلما ارتحل أو قدم الشيخ. وقد يكثر في ذلك الضجيج والهرج وضرب البارود وألعاب الفروسية (¬1). وقد تحدث الضابط فيليب عن حفلات غنائية وراقصة في تقرت وورقلة خلال السبعينات من القرن الماضي. فقد ذكر حفلة تسمى (النبيطة) في تقرت. وفي ورقلة أقام الآغا محمد بن الحاج بن إدريس، حفلة على شرف المسؤولين الفرنسيين تسمى (النوبة). وقد لعب فيها الزنوج ألعابا متنوعة من الفروسية وسط موسيقى صاخبة بالجواق (الناي) وغيره. وكان ذلك وسط جموع من الجنود والمهارى والخيالة، وخلالها أنشد أحد القياد قصيدة غنائية وهو على ظهر جواده (¬2). وبالإضافة إلى النقر على الطبل في رمضان للسحور ونحوه، والضرب على آلات أخرى من النحاس أو الحديد في مناسبات عديدة، هناك التجمعات في الأحياء حيث كانت تجرى حفلات شعبية يتضارب فيها (الفنانون) بعصي في حركات جماعية منسجمة وهم في دوائر راقصة ¬

_ (¬1) جاء وصف ذلك حيا عند إيزابيل ايبرهارد عند مشاهدتها عودة الشيخ الهاشمي (القادرية) من فرنسا إلى تقرت. انظر ذلك في كتاب أنيت كاباك (إيزابيل) 1986. كذلك انظر فصل التصوف (القادرية). (¬2) فيليب (مراحل صحراوية) ص 40، 68. كلمة (النوبة) كانت معروفة في العهد العثماني وحكم الأمير عبد القادر، وهي عزفة موسيقية جماعية عند تحرك الأمير أو في نهاية العمل اليومي.

منضبطة. ولهم انسجام مهيب مع الموسيقى. ومن الآلات التي تحدث عنها الملاحظون الربابة (violin). وهي ذات وترين، ويسمونها الفيولين العربية. كما أن الآلات الأوروبية كانت مستعملة عند الجزائريين فقد لاحظت السيدة بروس، منذ منتصف القرن الماضي، أن آلة المندولين الإيطالية كانت متوفرة عندهم، ولكنها قالت إن العزف عليها كان يتم بدون ذوق ولا منهج، ونحن نفهم من ذلك أنها لم تفهم الموسيقى أو اللحن المعزوف بها. كما تحدثت عن آلة الجواق (الناي) ذات الثقب الثمانية، وهي من القصب. وتحدث السيد حشلاف عن ثماني آلات منتشرة، وهي: العود والكويترة (القيثارة) والقانون، والرباب، والناي، والزرنة والطار والدربوكة والفيولين. ولاحظ أن هناك آلات أجنبية أضيفت وهي: البيانو، والبانجو والماندولين، ثم ماندولات أخرى للغناء الشعبي (¬1). 1 - إن آراء الجزائريين في الموسيقى ونقدها والتأليف فيها قليلة. ومع ذلك فهي آراء وأعمال جديرة بالتسجيل. وقد لاحظ إسماعيل حامد سنة 1900 أن المغاربة يتذوقون الموسيقى ويستجيبون لها أكثر من الجزائريين، فبينما وجد (كل الناس) في المغرب يحبون الموسيقى، فإن أهل الحضر في الجزائر والزواوة هم فقط الذين يستمتعون بها. وقد قال حامد ذلك رغم أنه كان يعيش قريبا من تلمسان التي اشتهرت بتراثها الموسيقى الغني. ولاحظ حامد أن عرب الجنوب، سيما سكان الخيام منهم، كان لهم القوالون أو المداحون، وكان هؤلاء ينشدون الأشعار دون أن يغنوها ولا يهتمون إلا قليلا بالموسيقى (¬2). وكان حامد قد عاش وتوظف في الجنوب الغربي من الوطن: معسكر، وعين الصفراء وآفلو، ثم وهران. فهو إذن خبير بما يقول، ونحن نعلم أنه ربما يكون من مدينة الجزائر، ومن ثمة جمع بين معرفة أهل الحضر وأهل البادية - الريف. ¬

_ (¬1) أحمد ومحمد الحبيب حشلاف (مجموعة ...) مرجع سابق، ص 177. (¬2) إسماعيل حامد (خمسة أشهر في المغرب) في (المجلة الإفريقية). R.A . 1900، ص 119.

وكان حامد نفسه من المولعين بالموسيقى. وقد اغتنم فرصة رحلته إلى المغرب فألف نوطة الموسيقى المغربية في وجدة. وقد جعل عنوان إحداها: مقدمة ومسيرة، وعنوان الثانية: نغمة الرقص العربي، ونشر نوطته على ثلاث صفحات في المصدر المذكور. وكان قد وصف الموسيقى المغربية وقواعدها ونفحاتها (¬1). ولعل رأيه ونوطته ستكون هامة للباحثين في الموسيقى المغربية. ففي الوقت الذي كان فيه يافيل اليهودي يضع النوطة للموسيقى الجزائرية (والأندلسية)، كان حامد يضع النوطة للموسيقى المغربية. 2 - وفي أول القرن أيضا ألف القاضي شعيب بن علي تأليفا في الموسيقى سماه (بلوغ الأرب في موسيقى العرب)، كما أطلق عليه عنوانا آخر جميلا هو (زهرة الريحان في علم الألحان). ورغم اشتغال الشيخ بأمور القضاء فإنه ساهم في البحث الموسيقي، وربما وجد نفسه في مرحلة كان الاهتمام فيها بالموسيقى ظاهرة ملفتة للنظر. وقد نرجح أنه ألف كتابه بطلب من السلطات الفرنسية إذ كانت قد طلبت منه أيضا تأليف كتاب عن مصنوعات تلمسان. وسنرى أن عددا من الأوروبيين (في عهد جونار) أخذوا يكتبون البحوث عن الموسيقى العربية ويستعينون فيها بهواتها ومعلميها من الجزائريين، كما فعل رواني مع الشيخ محمد سفنجة. ومهما كان الأمر فإن القاضي شعيب كان متمكنا من علم الموسيقى تاريخيا وربما ممارسة، لأن تلمسان كانت موطن هذا العلم قديما واحتفظت به مع مرور الزمان. ودليلنا على ذلك أن القاضي شعيب سبق له أن ألف كتابا مطولا في الموسيقى سماه (سفينة الأدب الماخرة في بحور ألحان العرب الزاخرة). وهو الذي اختصره في الكتاب الذي ذكرناه في البداية وهو (بلوغ الأرب). وفي ديباجة هذا الكتاب أبان القاضي شعيب أهمية الموسيقى لدى الشعوب وعلاقتها بالآداب والفنون ومجالات عزفها والمصادر التي اعتمد عليها. وها هو يقول: (الحمد لله مولى النعم، ومؤتى الحكم، ومخصص من ¬

_ (¬1) نفس المصدر، ص 133 - 134.

شاء بما شاء من علم التلاحين والنغم، المسمى بالموسيقى والموزيكا في عرف العرب والعجم ... وبعد ... هذه رسالة صغيرة الحجم غزيرة العلم، اختصرتها من كتابي المسمى (سفينة الأدب ...) قلدتها من الجواهر دررا كثيرة، ومن النوادر غررا خطيرة ... ووشحتها بفرائد الفوائد ... خصوصا تحرير المقام على رقائق الفنون الشعرية التي تدور عليها غالبا رحى المحافل السمرية، بين أهالي الطرب والزهو والرقص واللهو، في منتجع الأندية الزهرية، وهي: القريض والموشح والدوبيت والزجل والمواليا والكان وكان والقومات ... على أنه لا مزية لي إلا في الاعتناء بجمعها، واقتحام العناء في اقتناصها من شتيت مواضعها ...) ثم ذكر أن من الكتب التي أخذ منها كتاب العبر لابن خلدون، وسفينة الملك لشهاب الدين، كما اعتمد على محفوظه الخاص (¬1). 3 - وفي سنة 1934 صدر تأليف لعبد الرحمن السقال ومحمد بخوشة بعنوان طويل هو (نفح الأزهار ووصف الأنوار وأصوات الأطيار ونغم الأوتار) (¬2). والمؤلفان تلمسانيان كانا فيما يظهر يقيمان في المغرب. ونحن نعلم أن للسيد بخوشة عناية بالشعر إذ نشر ديوان ابن مسايب (1951). أما السقال فلا نعرف مدى علاقته بالشعر والموسيقى. ولعله هو الذي عناه السيد حشلاف حين قال إنه كان من أعلام الموسيقى في تلمسان (¬3). 4 - ومن الذين أرخوا ووصفوا الموسيقى الجزائرية، أحمد توفيق المدني في (كتاب الجزائر). وكان المدني قد نفي من تونس التي ولد وتربى فيها. وكانت تونس قد طورت موسيقاها بالمقارنة إلى الجزائر. وحين حل ¬

_ (¬1) صورة من الديباجة مخطوطة بثها إلي حفيد المؤلف، وهو الشيخ شعيب أبو بكر، من تلمسان في غشت 1987. ولا ندري إن كان (بلوغ الأرب) قد طبع ولا كذلك (سفينة الأدب). (¬2) ط. تطوان (المغرب) 1934. وكانت عائلة السقال قد لعبت دورا هاما أثناء تبادل الأيدي على تلمسان في أول الاحتلال بين الأمير والمغاربة والفرنسيين. (¬3) حشلاف، مرجع سابق، ص 191.

المدني بالجزائر سنة 1925 لاحظ أن الشعب الجزائري حزين لا يميل إلى الضحك والطرائف، ولم تتطور عنده الموسيقى كما تطورت في تونس. ففي الجزائر جفاف في الطبع ومعاناة في الحياة وركود في الموسيقى. ولاحظ أن الموسيقى في البادية ما تزال على عهدها الأول، وهي (تعتمد على المعاني أكثر مما تعتمد على الأنغام). ومن رأيه أن هناك نوعا من الموسيقى الحربية المصحوبة بقرع الطبول، وهي ترافق عادة ألعاب الفروسية. أما اللحن الموسيقي فهو واحد وطويل وبسيط. ونفهم من ذلك أنه ممل ورتيب، ويجري ذلك مع كل مصراع من البيت الشعري بإعانة طبل ومزمار (¬1). أما في المدن فقد نشأت في رأيه موسيقى جميلة، وهي خليط من الموسيقى الأصلية وموسيقى أهل الأندلس والأتراك الواردة. ومع الموسيقى. التركية خليط من الإغريقية أيضا. ومن هذه الأنواع جميعا تكون ما سماه المدني (ديوان الموسيقى الجزائرية). وهي متميزة عن الموسيقى الشرقية والغربية، وهي (موسيقى علمية فنية واسعة الغنى إلى درجة مفرطة) (¬2). ثم تحدث المدني عن النوبات الجزائرية التي كانت 24 نوبة فلم يبق منها، كما قال، سوى 16 وقد أرجعها إلى موسيقى الأندلس (غرناطة وإشبيلية ومالقة). ومن النوبات الستة عشر هناك سبعة أصلية وتسعة فرعية. أما الأصلية فهي الجاركة والصيكة والموال والعراق والرمل الماية والزيدان والمزموم. وأما الفرعية فهي (من الموال): الذيل ورصد الذيل والماية. ومن فروع (الزيدان): الرمل والمجنبة. ومن فروع (الجاركة): الغريب. ومن فروع (العراق): الحسين والرصد. ومن (رمل الماية): الغريب. وقد ساعدت المدني ثقافته الموسيقية التي تلقاها في تونس، على وصف ألوان من النوبات الموسيقية الجزائرية، كما لاحظها عند نزوله بالجزائر. فكل نوبة موسيقية تبتدئ بما يسمى التوشية، وهي مقطع موسيقى ¬

_ (¬1) أحمد توفيق المدني (كتاب الجزائر) ص 340. (¬2) نفس المصدر، انظر أيضا فصل المنشآت الثقافية، فقرة الموسيقى.

يشبه قطعة افتتاح الأوبرا عند الأوروبيين. ويذهب المدني إلى أن الكثير من نوبات التوشية قد ضاع، ولكن في منها ستة، وهي: الرمل، ورمل الماية والغريب والزيدان والصيكة والماية. ويأتي بعد التوشية المصدر، وشبهه المدني بقطعة الأوبرا الأوروبية. وليس من الضروري أن يقع مصدر واحد بعد التوشية. فقد يأتي مصدران. وبعد المصدر يأتي نوع يسمى البطايحي، ثم الدرج، ثم ما يسمونه الاستخبار، وهو إنشاد بيتين من الشعر الأندلسي. وبعد الاستخبار يقع الانصراف. وتختم النوبة بعد ذلك بالخلاص، وهو نغمة راقصة. هذا هو التقليد الذي سارت عليه النوبات الموسيقية. ولكن دخلها أيضا بعض التأثير من الخارج، من ذلك افتتاحات أعجمية (فارسية - تركية؟) استعملت مكان التوشيات التقليدية، وأطلقوا عليها أسماء جديدة، وهي الباشراف، والتشامبار، وباشراف انقلابات (¬1). وفي مجال التأثر ذكر المدني أن موسيقى تلمسان وقسنطينة قد تأثرت بالموسيقى التونسية والشرقية، بينما ظلت موسيقى العاصمة محافظة، ولكنها أدخلت بعض الآلات الموسيقية الجديدة، مثل الربابة (السنيترة) بدل القيثارة، وقد ترتب على ذلك تغير في مخارج النغمات. كما أن موسيقى العاصمة لجأت إلى الاعتماد على الآلة وإهمالها للصوت والأداء، بحجة أن العبرة في الموسيقى بالآلة فقط. ولذلك نجد الموسيقى عذبة والصناعة متقنة، ولكن الأصوات أحيانا منكرة. ويبدو أن المدني قد لاحظ التأثير الأجنبي (الفرنسي) على موسيقى العاصمة، فقال إنها صفحة جميلة من الموسيقى العربية والفن الأندلسي ولكنها (ستضمحل مع الحضارة الغربية). ولا ندري ما يقول أهل هذا الفن اليوم وقد مر على ملاحظة المدني المتشائمة أكثر من نصف قرن (¬2). وكان بعض الفرنسيين قد توقعوا ذلك أيضا. ¬

_ (¬1) المدني، مرجع سابق، ص 340. (¬2) المدني، مرجع سابق، ص 341. ومن الكتب التي أوفت الموضوع حقه ودرست =

وتعتمد النوبات الموسيقية على إنشاد الشعر الأندلسي. فالأبيات أو القطع الشعرية تتغنى بجمال بلاد الأندلس، ويكون منها أنغام (فرحة)، كما أنها قد تكون حزينة تبدي التأسف على العهد السالف. والأشعار قد تكون في موضوع الغزل والغرام. والغريب أن الشعر الجزائري، سواء كان حول الطبيعة أو حول النفس، لا يغني عادة. ونحن نجد هذه الظاهرة في الشعر الصوفي أيضا. أما أشعار القوالين والمداحين فهي من إنشاد المنشدين أنفسهم أو من إنشاد شخصيات معروفة. وفي عهد المدني كانت هناك جمعيات ومنظمات تهتم بالموسيقى، وذلك يدل على النشاط الذي أخذ يدب في جميع أوصال الشعب، وهو النشاط الذي عبرنا عنه في مكان آخر بالنهضة. ففي العاصمة تكونت الجمعيات الموسيقية التالية: المطربية، والأندلسية، والجزائرية، والزاهية، والجوق المسائي لمحمد سفنجة. وتكون في تلمسان جوق الحاج العربي بن صاري، كما تكونت أجواق أخرى في غير العاصمة وتلمسان للمحافظة على التراث الموسيقي. وتكونت في العاصمة جمعية أخرى تسمى الطليعة (¬1)، وقد تبنت الموسيقى الحديثة. فهل نفهم من هذا أن الجمعية كانت تهتم فقط بالموسيقى المتأثرة بالنغم الأوروبي والشرقي، مثل موسيقى محمد عبد الوهاب وسيد درويش؟ وقد ذكر المدني محاولة أخرى للموسيقى الحديثة، وهي جمعية محمد بن الموفق في العلمة. فهذه وفرقة الطليعة، في نظر المدني، حاولتا تقليد الجمعيات الموسيقية التونسية، ويبدو أن المحاولة لم تنجح (¬2). وقد ولد (المزهر البوني) وغيره من الجميعات الفنية خلال ¬

_ = النوبات والطبوع وصنفتها بأمثلة وتفاصيل كتاب (الموشحات والأزجال) في جزئين، تأليف جلول بن يلس والحفناوي أمقران، ط. الجزائر، ج 1، 1975، ج 2؟ 19. وقد استفدنا منه ولم ندرسه لأنه صدر بعد الثورة. (¬1) لم يشر المدني إلى جمعية (الزاهية) ولا إلى جوق سفنجة. وقد صدر (كتاب الجزائر) سنة 1931. (¬2) المدني، مرجع سابق، ص 341 - 342.

الثلاثينات، كما عرفنا، ونشطت الحركة الموسيقية في قسنطينة مع إنشاء النوادي والمدارس وظهور التمثيليات. وارتبط الغناء والموسيقى بالتمثيل والتأثر بالأساليب الغربية. وهكذا ظهر نمط (المونولوج) الذي استمده بعض الجزائريين من الموسيقى المصرية أيضا. وممن عالجوا ذلك محيي الدين باش تارزي ورشيد القسنطيني. فكلاهما استعمل هذا الفن للترفيه والتوعية والإصلاح الاجتماعي، وقد أقبل عليه الجمهور أكثر من إقباله على الموسيقى (الكلاسيكية) لبقائها غير متطورة أو ابتعاد الذوق العام عن نغماتها. ويقول المدني في معرض النقد إنه لم تنشأ مدرسة موسيقية شعبية تعبر عن مشاعر الجمهور إلى جانب الموسيقى الأندلسية. كما أن الساحة ظلت فارغة من الفرق الموسيقية العصرية التي تستعمل الآلات الجديدة بدل الآلات الوترية القديمة. والمحاولات التي جاءت بها الطليعة، وجمعية ابن الموفق، لم يكتب لها النجاح (¬1). 5 - وفي سنة 1932 ألقى السيد طالبي محاضرة عن الموسيقى العربية في مدينة تيزي وزو. ولا نعرف عن طالبي سوى أنه كان محاميا. ولكن اسم (طالبي صالح) وجدناه سنة 1910 عضوا في الجمعية الرشيدية بالعاصمة، وكان معلما متربصا. ولا ندري الآن إن كان الاسم لشخص واحد. ومهما كان الأمر، فإن عددا من الشخصيات حضرت المحاضرة، ومنهم شخصيات فرنسية سامية. ومن رأى السيد طالبي أن الموسيقى العربية (الأندلسية؟) قد جمعت بين رومانتيكية (روحانية؟) الشرق والتفكير الإسباني (الأندلسي)، وأنها من نتاج الحضارة الأندلسية الإسلامية. ومن الملاحظات التي أبداها السيد طالبي أن الموسيقي العربي لا يميل ¬

_ (¬1) المدني، مرجع سابق، ص 341 - 342. ذكرنا في فصل المنشآت الثقافية أن الذي وضع النوطة للموسيقى الجزائرية هو اليهودي أدمون يافيل، فقد سجل الكثير من القطع وضبطها بالنوطة وأعانه على ذلك فنانون جزائريون، منهم ربما محمد سفنجة. لكن إيفيل لم يسجل كل الأنواط الجزائرية، وقيل إنه وقع في أخطاء كثيرة وفي خلل أيضا. انظر المدني، مرجع سابق، ص 341. وقد طبع كتاب يافيل سنة 1904.

إلى المناظر الصارخة أو الطارئة، بل يحب السهول حيث تتكسر حدة الضوء. أما عن الموسيقى ذاتها فقد قال إنها متساوية التوزيعات في الإيقاع ونعومة الأصوات، واعتبر القطعة الموسيقية عبارة عن (حلم قد مضى). وجاء طالبي بعدة حكايات تساعد على فهم هذه الموسيقى. وأثناء شرحها قامت (جوقة ساسي) للموسيقى الشرقية بعزف يبين معاني تلك الحكايات، وقد أدت ذلك بمهارة وعاطفة خاصة. ودامت المحاضرة ساعتين، ولا شك أنها كانت باللغة الفرنسية. ونحن لم نعرف عن (جوقة ساسي) هذه سوى من هذا النص (¬1). 6 - كتب السيد محمد زروقي سنة 1936 مقالة في مجلة (الرسالة) المصرية تعرض فيها إلى الموسيقى الجزائرية أثناء نقده لموسيقى محمد عبد الوهاب. كما أن السيد زروقي تعرض إلى أصول الموسيقى العربية والغربية وقواعدها وميزاتها. ويبدو أنه كان من مدينة تلمسان ومن المعجبين بالتراث الأندلسي وأصالته. وانتقد (اقتباسات) عبد الوهاب وغناءه باللهجة المصرية. واعتز بالموسيقى الشرقية - العربية قائلا إن أوروبا تلميذة الشرق في الموسيقى والآلات والإيقاعات، وإن الموسيقى الغربية فقيرة في النغمات (ولا أدل على ضعف السلم في الموسيقى الغربية من اقتصاره على استعمال النغمين فقط). وأضاف أن النغمة المنخفضة ترجع إلى عرب الأندلس. ثم إن أحزان الموسيقى الغربية لا تفوق أحزان الأغاني العربية (¬2). من ملاحظات زروقي أن عبد الوهاب أخذ ألحان فيلم (الوردة البيضاء) من بحارة الفولغا، وهي أغنية روسية واقعية، وهذا لا يتلاءم مع الفيلم الشعري الخالص. كما أن أغنية (يا شراعا) في مدح الملك فيصل (العراق) تحتوي على عاطفة ولكن ليس فيها حمية وحماس. ولاحظ أن التجديد ليس هو في تقليد الغرب فقط، فهناك جزائري حاول أن يقلد الموسيقى الغربية، ولكنه سرعان ما انطفأ بعد نجاح قصير. ولا ندري إلى من كان يشير زروقي. ¬

_ (¬1) انظر عن المحاضرة المجلة الجزائرية SGAAN، 1932، ص LXVI. (¬2) محمد زروقي (إلى الأستاذ محمد عبد الوهاب) في مجلة (الرسالة) عدد 177 بتاريخ 23 نوفمبر 1936، ص 1921.

ثم ذكر شخصا آخر قال إن اسمه هو (كاروزو شمال افريقية) حاول أن يرجع إلى التراث القديم، وهو يحترم الموسيقى العربية القديمة. ولم نعرف من كلام زروقي من هو هذا الرجل أيضا. وقد انتقد زروقي أيضا ما قدم من الموسيقى الأندلسية في مؤتمر القاهرة للموسيقى (انعقد سنة 1932)، ومن رأيه أن المساس بالموسيقى الأندلسية كان (خيانة حقيقية). واعترف محمد زروقي أن طرق التلحين الأندلسية الاثنى عشر والتي ما تزال مستعملة في المدن الرئيسية بالمغرب العربي، ليست في الحقيقة إلا مخلفات بالية من الأندلس. ولكنه اعترف أيضا أن للغرب سحره وتأثيره على المغنى الجزائري. فهذا المغني قد خضع لتأثير الأوبرا الغربية، واستمع إلى الألحان القصيرة بسرور في الأوبريت والصالونات، فأثرت تلك الألحان على مقطوعاته بالتدرج. ولكن (ها نحن نرى فيها أكبر فشل فني). ونوه محمد زروقي بالفنانة أنيسة الجزائرية التي لم تتأثر، في نظره، بالموسيقى الغربية، وظلت امرأة موسيقية موهوبة معتمدة على طريقة الغناء القديمة ومستعملة مشاعرها النسوية القوية، وهي تعتبر ذات خبرة طويلة في فن الموسيقى. وذكر زروقي أن أنيسة كانت تذهب إلى أوساط الفقراء وتعيش بينهم وإلى البدو الرحل، ثم ترجع منهم برصيد موسيقي غني ومتنوع. وقال إنها تفعل ذلك لكي تستوحي صوت أجدادها وتتسمع نفسها ثم تنطلق في ألحان تخلب الألباب. وزروقي هو الوحيد الذي رأيناه، فيما نعلم، يذكر هذه السيدة وينوه بها. والخلاصة أن محمد زروقي انتقد الذين يقلدون الموسيقى الغربية ويتخلون عن الموسيقى الشرقية والأندلسية الأصيلة، سواء كانوا من الجزائريين أو من المصريين مثل محمد عبد الوهاب. واعتبر زروقي الموسيقى من أبرز سمات كل حضارة، إذ أن العرب يبتسمون كلما سمعوا موسيقى غربية، والأوروبيين يبتسمون كلما سمعوا موسيقى عربية. ثم إن الأوروبيين هم الذين أخذوا قديما وحديثا من الموسيقى الشرقية. ومن آخر الأمثلة أن المؤلف الموسيقي (سان سانس) الذي عاش حقبة طويلة في الجزائر قد اقتبس

لمؤلفه المشهور (شمشون ودليلة) من الألحان الأندلسية المعروفة بالزيدان. ولذلك دعا (زروقي) عبد الوهاب ألا يحقق أمنية من يذهب إلى أن الموسيقى العربية والشرقية ستموت أمام الموسيقى الغربية الزاحفة. كما دعاه إلى المزج بين الموسيقى العربية والإفرنجية بدل إخراج ثمرة غير ناضجة لا يهضمها الذوق العربي (¬1). ومن الأسف أننا لا نعرف الآن ما إذا كان لمحمد زروقي مقالات أخرى أو مؤلف في هذا المجال. ويبدو أنه كان على اطلاع واسع بتاريخ الموسيقى وآلاتها وأنواعها. وسنرى أن تلمسان قد تركت لنا بعض المؤلفات الموسيقية. 7 - الجنى المستطاب، رسالة في السماع والموسيقى، ألفها أحمد بن محيي الدين المتوفى سنة 1902، وهو أحد إخوة الأمير عبد القادر. وبيان هذه الرسالة أنها ألفت في الرد على من زعم أن سماع الموسيقى والألحان يحرك القلوب نحو الله (¬2). وهذا معنى غامض، ولا بد من الرجوع إلى الرسالة نفسها لنعرف هل المؤلف يوافق أو يعارض سماع الموسيقى. فقد كان بعض الصوفية يوافقون على الموسيقى بالنسبة لهم فقط لكي تعاونهم على الوجد والاندماج الروحاني، وكان التصوف شائعا في أسرة الأمير. 8 - كشف القناع عن آلات السماع، ألفه أبو علي بن محمد الغوثي (¬3). وكان المؤلف من الشبان الذين تخرجوا من مدرسة تلمسان العربية - الفرنسية الرسمية، ولكنه ظل محافظا على التراث، فكان يقرض ¬

_ (¬1) زروقي، مرجع سابق، ص 1924. وقد ظهر اسم محمد زروقي في مجلات معاصرة تصدر بالفرنسية، مثل المجلة الجزائرية SGAAN. وكذلك مجلة البحر الأبيض. ولكننا غير متأكدين من أنه هو نفس الكاتب. ويظهر أن مقالته التي صدرت في مجلة الرسالة، كانت مترجمة عن الفرنسية. (¬2) تعريف الخلف، 2/ 92، والأعلام 1/ 229. عن أحمد بن محيي الدين انظر فصل: الجزائر في المشارق والمغارب. (¬3) أبو علي الغوثي (كشف القناع)، الجزائر 1904، 143 صفحة (1322 هـ).

الشعر ويطالع كتب التراث، ويخالط شيوخ الناحية مثل القاضي شعيب الجليلي. كما أنه مارس التدريس في سيدي بلعباس بأحد المساجد. ثم جاء به المستشرق ألفريد بيل إلى مدرسة تلمسان بالذات التي كان مديرا لها، وكان بيل من المعجبين بالغوثي، وربما كان في حاجة إليه لمساعدته في تحقيق بعض المخطوطات وتحضير كتابه عن الفرق الإسلامية (¬1). ألف الغوثي الكتاب لكي يعرف بالموسيقى العربية في الجزائر في أوائل هذا القرن، وكان ذلك يستجيب للانطلاقة التي جاء بها شارل جونار سنة 1903. ولذلك تبنت حكومته نشر هذا الكتاب وغيره من الأعمال التراثية، مثل تعريف الخلف ومؤلفات المجاوي وابن الخوجة. وبعد أن تحدث الغوثي عن قواعد النحو في العامية الجزائرية - سيما عامية تلمسان - وهي قواعد وضعها المستشرقون لكي يدرسوا بها العربية الدارجة للأوروبيين، حدث عن آراء علماء المسلمين في الموسيقى، وعن الشعر والأوزان في الجاهلية وبعدها. كما تحدث عن أنواع الشعر قديما وحديثا. والبحور الشعرية المعروفة والجديدة، مثل المواليا والقوما والدوبيت والكان وكان، والسلسلات والعروبي. وأورد فصلا مطولا عن الموشحات، وجاء بموشح إبراهيم بن سهل الإشبيلي الشهير. وفي حديثه عن الزجل أورد نص قصيدة (العقيقة) لأبي سعيد عثمان المنداسي التلمساني، وذكر أشعار شعراء تلمسان الملحونة، أمثال ابن مسايب وأحمد بن التريكي وأبي مدين بن سعيد، وأبي فارس عبد العزيز المغراوي، وهم من أهل القرنين الحادي عشر والثاني عشر (17 - 18 م). وابتداء من صفحة 93 أخذ الغوثي يدخل في الموضوع الرئيسي، وهو الموسيقى. فتحدث عن مؤهلات الفنان، والأصوات والطرب والنفخات والآلات الوترية وكذلك القيثارة والرباب والناي والمزمار والهرمونيكا، وذكر ¬

_ (¬1) انظر فصل التعليم، فقرة تفتيش بيل على معلمي الجهة الغربية ورأيه في الغوثي عندئذ.

تطورات أخرى في مجال الموسيقى والغناء

من آلات النفخ الجواق والغيطة. وأشار إلى أنواع الموسيقى الباقية إلى وقته، والفرق الموسيقية العربية. وقد نوه بالكتاب بعض المراجعين مثل محمد بن أبي شنب (¬1). تطورات أخرى في مجال الموسيقى والغناء رغم عراقة الموسيقى الجزائرية، فإنها تقوم على التراث العربي - الأندلسي، ولكن أصولها هي ترتيل القرآن الكريم وإنشاد المدائح النبوية، وقد ازداد هذا التماسك منذ سقوط الأندلس واستغراق الناس في التصوف. وكانت أصوات المؤذنين في المساجد وإنشادات الحضرة الصوفية تلقي بظلالها على مختلف الألحان الموسيقية. ثم أضيفت إلى ذلك أنواع الغناء الأخرى كالشعبي والبدوي والصحراوي والقبائلي. ويذهب السيد حشلاف إلى أن الجزائريين قد استعاروا أيضا من المشرق الألحان العربية منذ 1930 ولعله يشير بذلك إلى مدرسة محمد عبد الوهاب، كما استعاروا من الأوروبيين. ولذلك أصبح الغناء الجزائري متأثرا بعدة تيارات (¬2). وقد درس ذلك أكثر من واحد، ولا سيما السيد محمود قطاط، كما عرفنا (¬3). ¬

_ (¬1) محمد بن شنب (المجلة الإفريقية)، 1906، ص 290 - 291. انظر عنه أيضا جريدة (المجاهد) بالفرنسية 3 يونيو 1992. وتعطي الدراسة الأخيرة فكرة أيضا عن مجموعة من الموسيقيين وأعمالهم وآلاتهم. لا ندري تاريخ ما كتبه سفير البودالي كشرح وتعليق على بعض الاسطوانات الخاصة بالموسيقى الجزائرية. وكذلك (ديوان الطرب) الذي وضعه سونيك. أما التراث الغنائي الجزائري الذي أعده وقدمه جلول بن يلس والحفناوي أمقران (1975)، ومجلة آمال العدد الرابع (1969)، والجواهر الحسان الذي جمعه محمد بن مرابط، فهي كلها قد صدرت بعد الاستقلال. انظر مراجع السيد محمود قطاط (الحياة الثقافية)، تونس، عدد 32 (1984). (¬2) حشلاف (مجموعة الموسيقى العربية)، ص 175. (¬3) انظر فصل المنشآت الثقافية، فقرة الموسيقى.

ومن رأي السيد حشلاف أيضا أن الموسيقى الجزائرية لا تكاد تخرج عن ضربين: الحضرية والبدوية. والموسيقى الحضرية تتنوع إلى: العروبي، والحوزي، والمالوف والحوفي والزنداني والمحجوز والرحوي والغاوي. وكل نوع له مكانه وزمانه. أما الموسيقى البدوية فهي تختلف باختلاف جهاتها، وهي: الصحراوية، والغربية (الوهرانية) والأوراسية، الخ. وعند الغناء يستعمل أهل كل جهة لهجتهم المحلية مثل التارقية (الهقارية)، والشاوية، والقبائلية، والميزابية، الخ. وقد ظل معظم الشعب يعيش في الأرياف، ولذلك بقيت الموسيقى ريفية (بدوية) في أغلبها ولم تخضع للتأثيرات الخارجية، وهي تستعمل الآلات التقليدية (الجواق، والزرنة والمزود والطبلة والبندير والدف والقلال)، ويسمى المغني البدوي (الفحصى) تحريف (الفصحى) لأن المغنين الأولين كانوا شعراء ينشدون أشعارهم بالفصحى. ومن أشهر الشعراء المغنين في الريف أوائل هذا القرن: الشيخ وراد (تجلابين) والشيخ ابن مناد (تابلاط)، والشيخ بوطبل (الشلف) وأحمد بن الزبير (بنو سليمان)، والشيوخ محمد السنوسي، وولد منور، وولد الزاوي، وحمادة، وكلهم كانوا بناحية مستغانم. وقد لعب التسجيل دورا بارزا في حفظ التراث الموسيقي. فقد سجلت أغاني الشيوخ الأربعة المتأخرين المشار إليهم بين سنوات 1906 و 1926، بينما ضاع تراث وراد وابن مناد وبوطل وابن الزبير وغيرهم (¬1). والواقع أنه منذ 1908 انطلق التسجيل لأصوات الفنانين رجالا ونساء. كما سجلت أصوات جماعية (جوقة) مثل (قالوا العرب قالوا، ورانا جيناك، يا بلارج). وكانت الفرق في بداية القرن تضم أسماء يهودية مثل يافيل وسرور وروباش، أو أوروبية (نصرانية) مثل ماري سوسان. ومن هذه الفرق فرقة فيتوسي، وفرقة البيدي، وفرقة ليفي، ثم ظهرت فرقة المطربية وفرقة الكمال (وهي غير معروفة من قبل). ¬

_ (¬1) حشلاف، مرجع سابق، ص 277.

ومن الفرق (الأجواق) الجزائرية ما أنشأه باشر تارزي، وقد سبق ذلك. وفرقة سفنجة التي تسمى (الموصلية)، وكان يشرف عليها بعده تلميذه عبد الرحمن سعيدي وابن التفاحي. وتكونت فرق أخرى في البليدة بقيادة محمود ولد سيدي سعيد الذي توفي سنة 1918. ثم عوضه تلميذه الزموري، وهذا هو شيخ دحمان بن عاشور. ثم فرقة أخرى كانت نواحي وادي الرمان (جنوب/ غربي العاصمة) أشرف عليها قويدر بن إسماعيل، ثم جمعية (الودادية) في البليدة التي كان من أعضائها دحمان بن عاشور. وفرقة (الناصرية) في بجاية، وهذه كان يشرف عليها الصادق البجاوي. وتكونت أيضا فرق في شرشال والقليعة. وكان هناك تبادل وتفاهم بين الفنانين في هذه الفرق، بحيث تبادلت ودادية البليدة والموصلية بالعاصمة والناصرية في بجاية الخبرات والفنانين. وتكون بذلك فن أندلسي وثيق الصلة بالماضي ومعروفا. وكانت الودادية هي التي قدمت الشيخ محيي الدين الأكحل إلى الموصلية فأثر فيها وأصبح تلاميذه في خدمة التعليم الفني وتنشيط الإذاعة (¬1). أما الموسيقى الحضرية فتعرف بالصنعة. وهي تقوم على التفنن في الآلات خلافا للموسيقى البدوية. واشتهرت بذلك تلمسان وقسنطينة ثم العاصمة، ولكن اسم (الصنعة) غير موحد في هذه المدن. وعندما نتحدث عن تلمسان فإنما نعني كل الناحية الغربية تقريبا، مثل مستغانم وندرومة أيضا. وقد ظهرت في هذه المدن عدة شخصيات موسيقية في آخر القرن الماضي، وأول هذا القرن. واستطاعوا أن يجددوا فن الغناء والموسيقى وأن يحافظوا على التراث الأندلسي بالخصوص. ومنهم الشيخ بوخالفة الذي كانت له فرقة خاصة، ومن تلاميذه الحاج العربي بن صاري المولود سنة 1857. ومن الشعراء الشعبيين نذكر أيضا الشيخ المرغوني، وقد كان أعمى، وكانت له موهبة موسيقية نادرة. ومنهم قدور بن عاشور الإدريسي الذي ترك مجموعة من الأغاني غير مطبوعة، مثل قصيدة (ولفي مريم)، وكان أهل ¬

_ (¬1) نفس المصدر، ص 180 - 181.

تلمسان، رغم حبهم للموسيقى يمنعون أطفالهم من احترافها. وفي مستغانم وندرومة ظهر أوائل هذا القرن الشيوخ ابن دادة ومحمد بن سعدون وحميدة السنوسي، وعبد القادر بن طوبجي وعبد القادر بن قطاط. ويذكر السيد حشلاف أن الشيخ بلقاسم ولد سعيد الجنادي، وهو من مواليد آيت منصور قرب عزازقة، قد تتلمذ على الشيخ سفنجة في العاصمة، ثم حل بمستغانم وأقام فيها وأصبح له تلاميذ في الموسيقى التقليدية، وقد توفي الجنادي سنة 1954. كما ذكر حشلاف مجموعة من أعلام الموسيقى في تلمسان، منهم الشيوخ: بريكسي، والسقال، وبشير زروقي، ومحمد بن صاري، وعبد الغني مالطي، وبومدين بن زينب (¬1). ولنتحدث الآن عن بعض الموسيقيين والموسيقيات أو المغنين والمغنيات ما دمنا بصدد هذا الموضوع الفني الصرف، وإذا شئت الثقافي، لأن الشعوب تتميز بلغاتها وموسيقاها وأغانيها الشعبية. ونود أن نسرع إلى القول بأن موضوعات الشعر قد تكون غير أخلاقية عند بعض الشعراء، ولكن منها ما هو ديني وما هو تأملي وما هو وجداني، وما هو في الطبيعة وحتى في مناجاة بعض الحيوانات. وربما تعرض الشعراء إلى الشكوى من الزمان ومن الظلم والاستعمار، وخلدوا ذكر فقيد وبكوا الأحبة والمهاجرين. وربما فرحوا بمولود أو بعودة غريب أو بشفاء مريض. فالموضوعات إذن كثيرة ومتنوعة. أما الصنعة الموسيقية فهي التطريب الشجي المحرك لدواعي النفس وأوتار القلب مهما كان الموضوع. كان عبد الرحمن المنيمش من مواليد العاصمة في زمن غير محدد في النصف الثاني من القرن الماضي. ولعله كان من ذلك الجيل الذي عاصر ¬

_ (¬1) حشلاف، مرجع سابق، ص 190 - 191. في إحدى المرات ذكر حشلاف أن سفنجة توفي سنة 1891، ويبدو أنه خطأ، لأن رواني روى عن سفنجة أول هذا القرن، وكان عندئذ (أي سفنجة) متقدما في السن. ولذلك رجحنا تاريخ الوفاة سنة 1912. وقد سبقت الإشارة إلى المقال، ولسنا متأكدين الآن من هوية الشيخ الجنادي.

مرحلة التهدئة التي تعني كبح المقاومة الشعبية ومراقبة أصوات المداحين. وقيل إن المنيمش كانت له ذاكرة قوية وصوت جميل، واستطاع أن يحفظ جميع النوبات أو القوالب الموسيقية، وأنه عزف على الآلات التقليدية وغيرها مثل القيثارة والرباب والكمنجة التي كان يفضلها على غيرها. ومن تلاميذه محمد بن علي سفنجة الذي أخذ عنه رواني الفرنسي أول هذا القرن واعتبره (المعاجم) الأول في هذا الفن (¬1). وتوفي سفنجة سنة 1912، ودفن بضريح الشيخ الثعالبي. وكان سفنجة محل تقدير تلاميذه وجيله حتى أن صورته ظلت معلقة في قاعة الجمعية الموصلية تخليدا له. واستطاع سفنجة أن يجمع من حوله تلاميذ شيخه المنيمش، ومنهم عبد الرحمن سعيدي. وعند وفاة سفنجة خلفه سعيدي هذا، فواصل مع زملائه تلاميذ سفنجة، مسيرته في الحفاظ على التراث الموسيقي، ومنهم الشيخ زعيبق الذي كان يعزف أيضا على الكمنجة، ثم أحمد سبتي. ومن جيل سفنجة نذكر عبد الرحمن الأكحل ومحمد فخارجي، ثم تلاميذهما مثل عبد الرحمن بن الحسين وعبد الرزاق فخارجي. ومن تلاميذ قندين: أحمد سري ومحمد خزناجي. وهكذا جيلا بعد جيل. ونلاحظ أن بعض العائلات كانت تتوارث الفن الموسيقي، كما كانت عائلات أخرى تتوارث القضاء والتعليم والطب وبعض المهن الأخرى. أما بالنسبة لتلمسان فقد أشرنا إلى أن الحاج العربي بن صاري كان من مواليد 1857، وأنه كان من تلاميذ الشيخ بوخلفة، وأن الشيخ ابن صاري قد واصل إدارة الفرقة مع تلاميذ شيخه، وهم عمر بخشي والبغدادلي والتريكي ويحيى بن دالي وأضرابهم. وقد ذكر السيد حشلاف عددا، من الفرق الموسيقية التي ظهرت في تلمسان ولكنه لم يذكر تواريخ إنشائها فلا نعلم هل هي من إنشاء هذا الجيل أو من إنشاء جيل آخر سابق: وهي فرقة نسيم الأندلس، وفرقة الهواء الجميل، وفرقة الهلال (مستغانم). وقد عرفنا ¬

_ (¬1) انظر رواية رواني عنه، سابقا. فصل المنشآت الثقافية.

منه أيضا أن الحاج العربي بن صاري كان أول من سجل الموسيقى التقليدية على الشريط، ثم تلاه عبد الكريم دالي وبومدين بن قبيل. وفي سنة 1932 شارك ابن صاري في مؤتمر القاهرة للموسيقى العربية، وشارك معه ابنه رضوان. وقيل إن ابن صاري قدم إلى المؤتمر نماذج من مدرسة تلمسان الموسيقية، فبعد التوشية، قدم القطع الآتية: شمس العشية، وراني نهواك، وقطر الندي، وياللحمام يبكي، وتلمسان يا العالية، وقم دير الجزائر، الخ. وعند تشكيل الوفد فضل العربي بن صاري ابنه رضوان على عبد الكريم دالي. ومن ثمة كانت القطيعة بين الرجلين (ابن صاري ودالي). وكان عبد الكريم دالي يأتي إلى العاصمة من وقت لآخر للمشاركة في الحفلات الموسيقية الأندلسية التي كانت تقدمها جوقة الإذاعة تحت إشراف محمد فخارجي، ولكنه منذ 1952 استقر (دالي) بعائلته نهائيا في العاصمة. وكانت مهارته قد برزت في الموسيقى الغرناطية وموسيقى الحوزي وسجل الكثير من الموسيقى الأندلسية، وأحيا عدة حفلات منذ الاستقلال (¬1). وسبق لنا ذكر بعض المغنيات مثل يمينة وأنيسة. ولا بد أن يقوم الإنتاج الموسيقي على المغنين والمغنيات رغم التحفظات الدينية المعروفة في الحفلات العامة. وتتحدث المصادر عن المعلمة يمينة بنت الحاج المهدي التي اشتهرت أول هذا القرن. وكان غناؤها من نوع الحوفي التلمساني المعروف في العاصمة باسم البوقالة والجعلولة. وهو من غناء الرجال أيضا. وقيل إن يمينة هذه قد سجلت منذ 1908 بعض أغانيها الأندلسية، مثل: جار ¬

_ (¬1) ولد عبد الكريم دالي في تلمسان سنة 1914 وتوفي في العاصمة سنة 1978 ودفن بمقبرة سيدي يحيى. انظر حشلاف، مرجع سابق، ص 291. ومن مصادر تاريخ الموسيقى الجزائرية نذكر مقالة سفير البودالي (وقد كان هو المدير الفني لمحطة إذاعة الجزائر) وعنوانها (الموسيقى العربية في الجزائر) في الوثائق الجزائرية. Doc .Alg السلسلة الثقافية رقم 36، 1949. ومقالة بشير حاج علي (بعض الأفكار عن خصائص ومصادر واتجاهات الموسيقى الجزائرية) في مجلة (لانوفيل كريتيك) يناير 1960 عدد خاص. انظر كذلك جان عمروش (الأغاني البربرية لبلاد القبائل) تونس 1939.

الهوى، نبتدي باسم الله، صباحك بالخير؛ ويبدو أن هذه المرأة قد عاشت إلى حوالي 1930. ثم ظهرت مغنيات أخريات مثل المعلمة تطيف (طيطمة؟) التي تعاطت أيضا الغناء الأندلسي وسجلت منه منذ 1908 مثل: هائم في الخلا، ويا قامة غصن البان. وذكر السيد حشلاف أسماء مغنيات أخريات، وهن حسيبة بنت محمد وغزالة الجزائرية وفاطمة بنت المداح، وكلهن ظهرن أوائل هذا القرن وسجلن أغانيهن بين 1910 - 1912. وكذلك المغنية مريم فكاي ثم فضيلة الجزائرية المعروفة باسم مدني فضيلة، وهي من مواليد القصبة في فترة الحرب العالمية الأولى. وقد عاشت في باريس وغنت هناك للمهاجرين، ثم رجعت إلى العاصمة وشاركت في فرقة مريم فكاي، ثم كونت مع أختها فرقة غنائية. وسجنت خلال حرب التحرير، وأغانيها من النوع الأندلسي الشعبي (¬1). وثمة فئة أخرى من المغنين غنوا الأندلسي والشعبي. وانتشر اسمهم بين الحربين ثم بعد 1946. ويتساءل المرء عن سبب شهرة بعض الفنانين، هل لفنهم أو لشيء آخر. ولا شك أن الإعلام قد أصبح يلعب دورا كبيرا. في ترويج الأسماء والأغاني، سيما بعد ظهور الإذاعة والتلفزة. ومن الأسماء البارزة التي غزت غرب البلاد ووسطها في الفترة المشار إليها اسم الشيخ حمادة (وهو الحاج محمد قويش) الذي ولد سنة 1889 بنواحي مستغانم. وقيل إنه درس العربية والفرنسية، وأحب الموسيقى، فكان يحضر الحفلات منذ صغره ثم أخذ يشارك في نشاطها منذ 1920، وكون حوله فرقة من القصابة. وأصبح يحيي الحفلات في مستغانم والبليدة والعاصمة. وبدأ في تسجيل أغانيه منذ 1926. وقيل إنه سجل أكثر من مائة أغنية في الجزائر وخارجها. وكان غناؤه أندلسيا وشعبيا. وقد ربط علاقات مع كل من العربي بن صاري ¬

_ (¬1) توفيت فضيلة سنة 1970. انظر حشلاف، مرجع سابق، ص 186. وبناء عليه فإن فضيلة كانت أمية (وربما الأخريات أيضا) وكلمات الأغاني كانت تسمعها همسا من أحد الملقنين. وعن تكوين وثقافة الفنانين الجزائريين انظر ملاحظات رواني، سابقا.

في تلمسان والحاج العنقاء في العاصمة (¬1)، وما يزال له معجبون إلى اليوم. ومن هذا الجيل الحاج محمد العنقاء المولود في القصبة (العاصمة) سنة 1907، واسمه الحقيقي هو محمد ايدير حالو. وتعلم الموسيقى والشعر على الشيخ مصطفى الناظور، وكانت له ذاكرة قوية فحفظ الأشعار والألحان. وأخذ على شيوخ آخرين أيضا، وقيل أنه دخل الثعالبية وأخذ على الشيخ سيدي علي وليد الأكحل، وكان يريد بذلك تصحيح النطق حسب الشعر القديم فراسل الشيخ أحمد بن زكري والحاج أحمد الأكحل (الشعر؟) العارف بأسرار الموسيقى الأندلسية (¬2). وكان العنقاء عارفا بأواع الشعر الملحون (الزجل)، وهو الذي أصبح فيما بعد يسمى العروبي (الموال). وبعد موت شيخه الناظور سنة 1925 أسس العنقاء فرقة خاصة وأخذ ينشط الحفلات العامة. وشارك العنقاء سنة 1928 في حفلة افتتاح محطة الإذاعة (راديو الجزائر) واشتهر فيها أمره، إذ تولى فيها الإشراف على الجوقة الشعبية (¬3). وكان وجوده في العاصمة وفي المنصب المذكور قد جعل منه علما بارزا في الموسيقى التقليدية، ولكنه كان مثل زميله الشيخ حمادة، لا يستجيب لمقاييس الطرب والغناء في الذوق الجزائري جميعا. فقد ظلت أصواتهما محلية أو جهوية (¬4). ¬

_ (¬1) حشلاف، مرجع سابق، ص 278. توفي الشيخ حمادة، إبريل 1968 بعد أن أدى فريضة الحج. (¬2) لا نعرف أن الشيخ سيدي علي وليد الأكحل كان من شيوخ الثعالبية. أما أحمد الأكحل. فهناك شاعر معروف بهذا الاسم وترجمته في شعراء الجزائر لمحمد الهادي السنوسي انظر فصل الشعر. (¬3) حشلاف، مرجع سابق، ص 199 - 201. توفي الحاج العنقاء في نوفمبر 1978. وقد خصه رابح سعد الله بتأليف يحمل اسمه. (¬4) استمعنا نحن إلى عدد من هؤلاء الفنانين، كالشيخ حمادة والحاج العنقاء وفضيلة والحاج الفرقاني وأمثالهم، فوجدناهم يتمتعون بأصوات طيعة ومواهب كبيرة، ولكن غناءهم لا يخضع لأي قواعد لغوية ولا يكادون يفصحون عن مشاعرهم من خلال =

محمد إيقربوشن

وسجلت كذلك الأغاني الصحراوية والأوراسية وظهرت أسماء في عالم الموسيقى الشعبية. اختلفت في حظوظ الشهرة وساعدت الظروف والوسائل بعض الفنانين بينما توقف الآخرون دون الهدف. ونشير إلى المغني الصحراوي قويسم محمد الطيب، والمغني القبائلي سعيد بن محمد (أو محند)، والشاوي (الأوراسمي) علي الخنشلي. كما سجلت أغاني كل من عبد الرحمن بن عيسى المتسغانمي والمسيلي (وهو اسم واحد لشخصين مختلفين)، وأحمد وهي الذي جمع بين الموسيقى والألحان الوهرانية والمشرقية (¬1). وكان التنافس على الجودة والإبداع قليلا لدى جميع هؤلاء المغنين الذين يبدو أن الشهرة قد أغرتهم وأغنتهم عن الجديد والتجديد. ومن الذين شذوا عن ذلك محمد ايقربوشن. محمد إيقربوشن كانت الظروف والموهبة قد لعبت دورا كبيرا في تكوين ايقربوشن، فأصبح بحق فنانا عالميا. فكيف حدث ذلك؟ ولد محمد في تمغوط (ولاية تيزي وزو) سنة 1907. ولعله كان طفلا لعائلة فقيرة، لأن أهله انتقلوا به (¬2) إلى العاصمة حيث تلقى تعليمه الابتدائي أثناء الحرب العالمية، وعاش في حي سوسطارة الشعبي إلى سنة 1919، وكان تعليمه على يد الآباء البيض (المبشرين)، ومنهم الراهب الرسام (روس Rouss الذي كانت له ورشة في القصبة ربما كانت موجهة لاصطياد أبناء المسلمين. ولكن حظ ايقربوشن أخذ يتغير بعد 1919، إذ انفتح أمامه باب جديد منذ زيارة أحد النبلاء الإنكليز ¬

_ = الكلمات، فالمعاني غائبة عندهم، وإنما كانوا يتبعون اللحن، وهو نوع سماهم بعضهم (الدندنة). (¬1) ولد أحمد وهبي في مرسيليا سنة 1921 وعاش في وهران. وشارك في المسرح سيما أثناء الثورة. انظر دراسة حشلاف عنه، وقد توفي في ماي 1993. (¬2) لا ندري هل أهله هم الذين انتقلوا به أو هو الذي انتقل إلى العاصمة على يد الآباء البيض الذين كانوا نشطين في زواوة.

للجزائر، وهو الكونت (لوث Loth) في السنة المذكورة. فقد زار هذا الكونت ورشة (روس) وتعرف فيها على الفتى محمد ايقربوشن وأعجب بموهبته الموسيقية عندما سمعه يعزف على البيانو الأنغام التي كان الكونت قد سمعها في مسرح الأوبرا ومسرح الكورسال بالعاصمة (الجزائر). فكان ايقربوشن يعزف تلك الأنغام من ذاكرته بينما لم يكن سمعها سوى مرة واحدة. قرر الكونت لوث أن يأخذ ايقربوشن معه إلى بلاده وأن يفسح أمامه الطريق إلى مسارح أوروبا ومدارسها، لكي يكمل دراسته الموسيقية. وفي لندن دخل ايقربوشن الأكاديمية الملكية للموسيقى، وتعرف على الموسيقار الإنليزي ليفنقستن Livingstone . ثم أرسلوا به إلى فيينا ليتابع دروسه على الموسيقار النمساوي ألفريد كرونفيلد Kronfeld . وأمام الجمهور النمساوي قدم ايقربوشن أول حفلة له سنة 1925، وشمل البرنامج قطعة من تأليفه الخاص. وبين 1925 و 1956 أنتج ايربوشن عشرات القطع الموسيقية والأشعار والألحان وسجل منها الكثير، ولكن أغلبها قد ضاع. ولم يكتف ايقربوشن بالتأليف الموسيقي بل شمل نشاطه الفني الإخراج وتقديم الحصص الإذاعية والنماذج الموسيقية، وقد ساعدته عربته الواسعة ومعرفته للغات الفرنسية والإنكليزية والألمانية على التعرف على الفنانين الأوروبيين وربما علاقات معهم، وعلى تنويع مصادره الفنية. ونكاد نجزم أنه كان على معرفة بالعربية والتراث الإسلامي أيضا لأن اختياراته الموسيقية تدل على ذلك، كما سنرى. ولكننا لا ندري أين ومتى درس ذلك. وإليك حصيلة أعماله الباقية? المسجلة -. فقد وجد الباحثون عن آثاره أن وثائق (أرشيف) جمعية المؤلفين الفرنسيين التي كان عضوا فيها، تحتوي على مجموعة من أعماله بين 1925 - 1956. وبناء عليها فالقائمة تشمل: 1 - حفلة 1925 في النمسا (بريقنز Bergenz). 2 - حفلة في لندن سنة 1928.

3 - حفلة أخرى في لندن (؟) تتضمن أشعارا مستمدة من ألف ليلة وليلة سنة 1946. 4 - حفلة أخرى في لندن (؟) تتضمن ألحانا وأشعارا سمفونية، سنة 1947. 5 - حفلة باليه شرقية في لندن (؟) بالتعاون مع ماكس دوريو، سنة 1948. 6 - حفلة في باريس متلفزة سنة 1950، وهي من نوع الباليه الراقص تحت عنوان موت أبي نواس وزوجته سلمى، بالتعاون مع دوريو أيضا. 7 - حفلة أخرى في باريس سنة 1952 بمناسبة زيارة أحد الأمراء العرب، عنوانها ليلة غرناطية. وكانت على مسرح الأوبرا. 8 - وفي باريس أيضا قدم حفلة عنوانها نغم جزائري، سنة 1953. 9 - وفي سنة 1955 قدم حفلة في باريس ضمنها خمس قطع موسيقية عنوانها: موسيقى من منطقة القبائل. وهذه هي بعض أعماله الموسيقية فقط، لأن معظمها لم يسجل ويعتبر في حكم الضائع (¬1). ولكن نشاطه لم يقتصر على التلحين وتقديم الحفلات الموسيقية. فقد قلنا إنه كان أيضا مخرجا ومقدما لحصص إذاعية، ومؤلفا للموسيقى التصويرية لعدة أفلام، منها فيلم عزيزة سنة 1928، وفيلم عن القصبة سنة 1933، وآخر عن تونس سنة 1937. وقدم ايقربوشن لإذاعة الجزائر حصة مسلسلة عن الموسيقى العالمية، كما كتب الأغاني وتعاون مع الفنانين الجزائريين. واستوحى من الفنون الشعبية عدة قطع موسيقية وقدمها للإذاعة أيضا. وهكذا كان ايقربوشن موسيقيا ومخرجا ومؤلفا ومنشطا للأوبريت أو الحفلات الراقصة. ويمكننا ذكر أنشطة أخرى له نتيجة تجاربه أثناء الحرب العالمية الثانية وما بعدها. ففي 1940، وهي السنة التي سقطت فيها باريس وانهزمت فرنسا، فتح ايقربوشن ناد? ليليا في باريس باسم (الجزائر). وقيل إن النادي ¬

_ (¬1) حشلاف، مرجع سابق، ص 219 - 220. وقد ذكر حشلاف أنه أرسل من فرنسا نسخة من أعمال ايقربوشن المسجلة إلى وزارة الثقافة الجزائرية. كما ذكر أن بعض النوادر من إنتاج ايقربوشن قد سجلها محمد بوثلجة واحتفظ بها شخصيا.

قد جلب الكثير من السواح، وشارك في تنشيطه رشيد القسنطيني، وغيره من الفنانين الجزائريين والجزائريات. وفي سنة 1944 اعتقلته السلطات الفرنسية، بعد تحرير باريس، وأدخلته السجن فترة لا نعلمها ثم أطلق سراحه. وربما كان اعتقاله نتيجة تعامله مع الألمان خلال الحرب. وبعد الحرب رافق ايقربوشن أحد المخرجين الفرنسيين إلى الصحراء لإنتاج فيلمين هما: الرجل الأزرق (عن التوارق) والقصر المهجور (عن الصحراء الكبرى). وقد قام ايقربوشن بكتابة الموسيقى التصويرية للفيلمين. ثم رجع إلى الجزائر سنة 1956. ولا ندري ما إذا كان قد بقي فيها إلى الاستقلال. ومهما كان الأمر فقد توفي بالعاصمة سنة 1966 (¬1). انتهى الجزء الثامن ويليه الجزء التاسع الخاص بالفهارس والمراجع ¬

_ (¬1) نفس المصدر، ص 220. اعتمدنا في الفقرة الأخيرة من هذا الفصل على كتاب أحمد والحبيب حشلاف، وهو كتاب مفيد، ويحتوي على صور الفنانين، وكتبت تراجمهم عادة على إثر وفاتهم، فليس هناك تاريخ واحد لتأليف الكتاب، فهو مجموعة من المقالات المكتوبة في تواريخ مختلفة، واستغربنا عدم وجود قسم في الكتاب يشمل حياة الفنانين وألوان الموسيقى والآلات في قسنطينة والشرق الجزائري عموما، وكذلك بعض الوجوه الصحراوية والأوراسية. فلعل للسيد حشلاف دراسة أخرى عن هذا الموضوع. ونلاحظ أيضا أن بعض التراجم كانت لفنانين وفنانات ما يزالون أحياء.

المحتوى

المحتوى

_ الفصل الأول: اللغة والنثر الأدبي .......................................................... 5 حالة الأدب والثقافة غداة الاحتلال ...................................................... 7 التعامل مع اللغة العربية ............................................................ 13 الدراسات البربرية ................................................................ 30 الدراسات النحوية والمعاجم ......................................................... 41 بلقاسم بن سديرة ................................................................ 52 عمر بوليفة ..................................................................... 58 النثر الأدبي .................................................................... 65 - المقالة الصحفية .............................................................. 68 - الأسلوب من عاشور الخنقي إلى الإبراهيمي ............................................. 74 - الرسائل ................................................................... 85 - التقاريظ .................................................................. 96 - الخطابة ................................................................... 104 - محمد الصالح بن مهنة وكتابه ...................................................... 117 - خطب أبي يعلى الزواوي ......................................................... 121 - الروايات والقصص والمسرحيات ................................................... 125 - المقامات .................................................................. 145 - أدب العرائض والنداءات والنصائح .................................................. 156 - مؤلفات وشروح أدبية والتحقيق .................................................... 164 محمد بن أبي شنب ............................................................... 168 الأدب باللغة الفرنسية ............................................................. 173 الفصل الثاني: الشعر .................................................................. 189 مدخل في تطور حركة الشعر ......................................................... 191 الدواوين والمجاميع .............................................................. 205 كتاب (شعراء الجزائر في العصر الحاضر) ................................................. 229 - الشعر الديني ................................................................ 232 - الشعر السياسي .............................................................. 241

_ - الشعر الإسلامي والإصلاحي ...................................................... 253 - شعر المدح ................................................................. 261 - شعر الرثاء ................................................................. 272 - الشعر الإخواني .............................................................. 279 - الشعر الذاتي ................................................................ 287 مبارك جلواح .................................................................. 296 - الشعر التمثيلي والأناشيد ......................................................... 300 - شعر الفخر والهجاء وغيرهما ...................................................... 303 الشعر الشعبي .................................................................. 307 - ثورات وشعراء .............................................................. 324 - في الشكوى وذم الزمان ......................................................... 353 - أغراض أخرى للشعر الشعبي ..................................................... 341 الفصل الثالث: الفنون ................................................................. 351 الفنون التقليدية - الشعبية ............................................................ 354 الجزائر والشرق عند الفنانين الفرنسيين ................................................... 374 فيلا عبد اللطيف ................................................................. 384 معارض الفنون الإسلامية ........................................................... 388 الآثار الدينية ................................................................... 391 القصور والمباني الحضرية ........................................................... 399 المتاحف ..................................................................... 409 الرسام ناصر الدين (إيتيان) ديني ....................................................... 415 النقش والرسم والخطاطة ........................................................... 418 مؤلفات في الخط ................................................................ 425 عمر راسم وأخوه محمد وآخرون ....................................................... 429 مؤلفات وآراء حول المسرح ورواد التمثيل ................................................. 439 آراء ومؤلفات في الموسيقى .......................................................... 452 تطورات أخرى في مجال الموسيقى والغناء ................................................. 465 محمد إيقربوشن ................................................................. 473

دار الغرب الإسلامي بيروت - لبناله ولصاحبها: الحبيب اللمسسي شارع الصوراتي (المعماري) - الحمراء، بناية الا. سود تلفون: Tel: 009611 - 35033 l / خليوي: 638535 - 009613: C: ellulair فاكس: 742587 - 009611: Fax / ص. ب. 5787 - 113 بيروت، لنان DAR AL-Ci HARB AL-IS: LAMI B.P.: 113 - 5787 Beyrouth, LIBAN الرقم: 1998/ 11/2000/ 337 التنضيد: كومييو تايب - بيروت الطباعة: دار صادر، ص. ب. 10 - يروت

HISTOIRE CULTURELLE DE LALGERIE PAR Professeur Aboul Kacem Saadallah Universite d'Alger Tome 8 1954 - 1830 DAR AL-GHARB AL-ISLAMI

الجزء التاسع

الدكتور أبو القاسم سعد الله تاريخ الجزائر الثقافي الجزء التاسع الفهارس العامة دار الغرب الإسلامي

1998 دار الغرب الإسلامي الطبعة الأولى دار الغرب الإسلامي ص. ب. 5787 - 113 بيروت جميع الحقوق محفوظة. لا يسمح إعادة إصدار الكتاب أو تخزينه في نطاق إستعادة المعلومات أو نقله بأي شكل كان أو بواسطة وسائل إلكترونية أو كهروستاتية، أو أشرطة ممغنطة، أو وسائل ميكانيكية، أو الاستنساخ الفوتوغرافي، أو التسجيل وغيره دون إذن خطي من الناشر.

تاريخ الجزائر الثقافي

مقدمة

مقدمة يضم الجزء التاسع سبعة فهارس وهي تغطي الأجزاء الثمانية من تاريخ الجزائر الثقافي: 1 - فهرس الأشخاص. 2 - فهرس الأماكن. 3 - فهرس الكتب والدوريات والجرائد. 4 - فهرس الشعوب والقبائل والأقوام. 5 - فهرس المذاهب والطرق الصوفية والمصطلحات. 6 - فهرس الأحزاب والجمعيات والمؤتمرات. 7 - فهرس المؤسسات والمراكز الدينية والفنية والثقافية. وأثناء وضعنا لفهرس الأشخاص اعتمدنا الترتيب العالمي وذلك بتقديم اللقب أو الشهرة على الاسم الشخصي، ولكن واجهتنا أحيانا مشكلة مع ألقاب بعض العائلات فرتبناها بناء على معطيات إضافية. فعائلة الأمير عبد القادر (أبناؤه وأخوته وأحفاده) رتبناها تحت الجزائري (ج) لأنهم عرفوا بهذه النسبة منذ استقروا في الشام. أما الأمير عبد القادر نفسه فقد أبقيناه على حاله لشهرته باسم عبد القادر (ع). كما رتبنا شيوخ الطريقة التجانية في تماسين تحت التماسيني (ت) وهم

أولاد وأحفاد الشيخ الحاج علي. وتركنا لقب التجاني لعائلة الشيخ التجاني (ت) وفروعها في عين ماضي. كما رتبنا أحمد بن العطار تحت ابن المبارك (م)، ومصطفى الكمال - المضربة - تحت ابن الخوجة (خ). وبقي ابن علي الشريف على ما هو عليه (ع)، وعائلة بوطالب تحت هذا اللقب (ب). ومن جهة أخرى أبقينا الأعلام المعروفة بدون تقديم ولا تأخير. فعمر بن الخطاب - رضي الله عنه - (ع)، وأبو بكر الصديق - رضي الله عنه - (أ)، ووحدنا اسم الرسول (صلى الله عليه وسلم) ومحمد (م). ونود أن ننبه بهذا الصدد إلى أن لفظ (سيدي) لم يراع في الترتيب إلا في الأعلام المكانية: (مثل سيدي عقبة، سيدي بلعباس). كما لم يراع لفظ (الشيخ) ولا لفظ (الحاج) إلا إذا كان جزءا من اللقب وليس وصفا مضافا. أما الحروف اللاتينية: V، P، G فقد كتبناها هكذا: V = ف (Victor = فيكتور)، G = ق معقودة (Guy = قي) وقلما ترد (غ) (ديغول)، P = ب (Pearson = بيرسون). وقد وردت علامة الإضافة الفرنسية: دي، دو , de, des du بكثرة مع بعض الأسماء. فلجأنا إلى وصلها أحيانا مثل ديقيدون، وفصلها أحيانا. أخرى مثل دي بارادي، حسب ما بعدها من حروف. والجدير بالذكر أن الرقم المرفوق بالخط المائل (/) يدل على الجزء. كنا عزمنا على إضافة قائمة بالمصادر والمراجع إلى هذا الجزء، وقد تقدمنا في ذلك شوطا كبيرا. فإذا نحن أمام عشرات من المصادر والمراجع بأنواعها المختلفة (مخطوطات، أطروحات، كتب مطبوعة، بحوث، مقالات، إلخ). وهنا أشار علينا بعضهم باختصارها، ونصح آخرون بالاكتفاء بمختارات منها. ولكننا فضلنا في نهاية الأمر مواصلة الجهد وحشد الطاقة لإخراج مجلد خاص بالمصادر والمراجع في مستقبل الأيام. أما الذين يرغبون في الاطلاع على بعض مصادر ومراجع هذا الكتاب فعليهم أن يرجعوا أولا: إلى هوامش (حواشي) الكتاب إذ فيها مادة هامة خاصة بكل فصل. ثانيا: إلى فهرس الكتب الواردة فى متن كل جزء من الكتاب.

ونذكر بهذا الصدد أن فهرس الكتب والدوريات والجرائد لا يشمل تلك المذكورة في الهوامش (الحواشي) وإنما يشمل فقط ما جاء في متن الكتاب. وقد أضفنا إلى هذا الجزء مجموعة من الصور، وهي صور متنوعة لجزائريين وفرنسيين، وفيها بعض قادة الرأي وبعض الفنانين وأهل الفكر، كما تحتوي على صور للحلي وأخرى لرسوم دينية وفنية تقليدية. ولكنها صور لا تشكل في أغلبها مجموعة نادرة ولا شاملة. ويرجع ذلك إلى عاملين، الأول: أن فكرة إضافة الصور إلى الكتاب طرأت علينا متأخرة. الثاني: أن معظم الصور التي نعرفها يتعذر علينا الوصول إليها الآن. ونحن نعد بأننا سنعمل على استكمال مجموعة الصور من مظانها في طبعة لاحقة إن شاء الله. إن كل من اشتغل باستخراج الفهارس من كتاب واحد يعرف كم هو متعب مثل هذا العمل، فكيف إذا تعلق الأمر بثمانية كتب!. وقد كان بالإمكان برمجة الفهرسة على الحاسوب عند الطبع، ومن ثمة كنا نتفادى العمل اليدوي التقليدي والمضني، ولكن المنضد لم يأخذ الفهرسة بعين الاعتبار عند الطبع، لذلك لجأنا إلى الطريقة التقليدية وقضينا أكثر من سنة عاكفين على فهرسة الكتاب مما جعل صدوره يتأخر سنة أخرى. ولا يسعني في مقدمة هذا الجزء إلا التنويه بالأستاذين حمادي الساحلي الذي ترجم المقدمة المختصرة إلى الفرنسية، Allan Christelow الذي راجع ترجمتي الإنكليزية لنفس المقدمة. والواقع أنني ظللت طيلة السنوات الماضية أسابق الزمن وأخشى ألا يكتمل الكتاب، وما أكثر المعرقلات والمثبطات، ولكن الله وفقني وشد من أزري حتى أوصلت الكتاب إلى هذه المرحلة. فلله وحده أركع ذاكرا وأسجد شاكرا، إنه نعم المولى ونعم النصير. أبريل 1998 أبو القاسم سعد الله جامعة الجزائر وجامعة آل البيت

معجم المصطلحات

معجم المصطلحات الأجواد: الفرسان، أشراف الحرب، ذوو المكانة الأرستقراطية، أهل السيف. الإخوان: الأتباع، المريدون، ومن ثمة المؤاخاة والرابطة بين أصحاب الطرق الصوفية أو ذوي الاتجاه الواحد. إدارة الشؤون الأهلية (العربية): إدارة تابعة للحاكم العام الفرنسي تتولى حكم المسلمين الجزائريين، على رأس هذه الإدارة ضابط فرنسي يسمى مدير الشؤون الأهلية. الأعلاج: المسيحيون الذين اعتنقوا الإسلام، أولادهم، غير العرب، غير الأشراف، الروم. الأندجين indigène: الإنسان الجزائري المسلم، الجزائري الأصلي. وهو المنظور إليه من الفرنسيين عادة على أنه يمثل الإنسان الأمي والمتخلف والمقهور. المستعمر (بالفتح). الأندجينا Code de L'indigènat: مجموعة القوانين الصادرة لقهر الإنسان الجزائري المسلم (الأندجين)، حالة كون الجزائري مستعمرا مقهورا. الإندماج: إلحاق الجزائر إداريا، وسياسيا، واقتصاديا، وتعليميا، بفرنسا. جعل الجزائر جزءا من فرنسا في الواقع وليست مستعمرة، إلحاق الجزائريين بالفرنسيين عن طريق القوانين الفرنسية. مطالبة بعض الجزائريين (النخبة) بمساواتهم مع الفرنسيين بواسطة الدمج الحضاري. الأهالى (م. أهلى): هو الاسم الذي أطلقه الفرنسيون على المسلمين

الجزائريين إشعارا لهم بأنهم دون الفرنسيين (والأوروبيين عموما)، هم المسلمون الجزائريون الذين فضلوا البقاء على حكم الشريعة الإسلامية بدل الدخول تحت طائلة القوانين الفرنسية. الجماعة: مجلس القرية، أو الدوار، هيئة لإدارة شؤون أهل القرية. أعيان أو كبار القوم. الحضرة: حلقة للذكر الجماعي عند المتصوفة بقيادة شيخ الطريقة أو نائبه. أثناء الحضرة قد يتواجد المشاركون في الذكر لدرجة الغيبوبة. الدنوش: زيارة الباي السنوية للداي تعبيرا. عن التبعية والولاء، الهدايا التي يحملها الباي معه أثناء الزيارة المذكورة لتقديم فروض الطاعة. خراج الإقليم الذي تحت الباي. الزاوية (ج. زوايا): مبنى يضم قبة وضريح الولي أو شيخ الطريقة، ومسجدا وقبورا لأبناء وأحفاد الولي أو الشيخ وأحيانا يضم مكتبة وملجأ للغرباء. بعض الزوايا أصلها رباطات. هناك زوايا اشتهرت بالتعليم وأخرى بالعبادة واستقبال الزوار والفقراء. الزردة: وليمة موسمية يحضرها إخوان (أتباع) الطريقة الصوفية في مكان مفتوح أو عند ضريح أحد الأولياء، الوليمة من تبرعات الأتباع وأحيانا من عطاء بعض الأغنياء وحتى من السلطات الفرنسية. والقصد هو لفت الأنظار وتكثير الأنصار وجمع التبرعات لشيخ الطريقة. الزمالة: قبيلة معروفة. مجموعة خيام متنقلة، قرية متحركة، دائرة تألفت من أنصار الأمير عبد القادر وعائلاتهم وأطفالهم وحريمه وخزينته، ثم سطا عليها الفرنسيون سنة 1843. الزيارة: قدوم المريد (التابع) على شيخه محملا بمستحقات الطاعة والتبعية، حق الشيخ على المريد. المبلغ المالي المحمول إلى الشيخ، قل أو كثر، الهدية مهما كان نوعها عند زيارة الشيخ أو نائبه فى الزاوية.

سنتوس كونسلت (1863): مرسوم صادر عن مجلس الشيوخ الفرنسي يعترف بالملكية الجماعية (القبلية) للجزائريين، وترتب عليه تقسيم الأرض على أفراد القبيلة، تسهيلا لشرعية شرائها من قبل الفرنسيين وإخراجها من يد أصحابها (بطريقة قانونية). سنتوس كونسلت (1865): المرسوم الفرنسي الذي نص على منح المسلمين الجزائريين حق اختيار المواطنة الفرنسية بشرط التخلي عن الأحوال الشخصية الإسلامية، فإذا رفضوا الشرط فإنهم يبقون على حالة الرعية (أندجين)، أي يعاملون معاملة من الدرجة الثانية. شيخ العرب: حاكم. لقب لقائد قبيلة أو منطقة. حملت هذا اللقب عائلة ابن قانة بالخصوص عند توليها حكم منطقة الزيبان، وتنافست عليه مع عائلة بوعكاز. الصبايحية: سيباهة، الفرسان الذين في خدمة السلطة العثمانية. الإقطاعيون أو التيماريون في المشرق. الصف (ج. صفوف): حزب، خصم، على أساس النعرات القبلية أو العرقية أو السياسية أو الدينية. سياسة الصف هي استعمال الفرنسيين صفا من الجزائريين ضد آخر. الطلبة: (بضم الطاء وتشديدها وتسكين اللام)، هم المتعلمون الجزائريون تعلما تقليديا، العلماء الشرعيون، رجال الدين الإسلامي. الظهير البربري: مرسوم صدر في المغرب الأقصى (مراكش) على عهد الحماية الفرنسية لإحلال الأعراف محل أحكام الشريعة الإسلامية، المرسوم الذي فهم سكان المغرب منه أنه يهدف إلى التفرقة بينهم على أساس العرق والتمهيد لسيادة القوانين الفرنسية. العرش: العشيرة. تجمع سكاني قبلي يضم عددا من القبائل والأفخاذ ويخضع لكبير يسمى (شيخ العرش).

العزابة: جماعة تدير شؤون القرية (البلدة) في النظام الاجتماعي لبني ميز اب (الإباضيين). الغفارة: خراج يدفعه الأتباع لبعض الطرق الصوفية أو الحكام. هدايا، خدمات، سيما عند أولاد سيدي الشيخ. قانون الأهالي: رغم الاسم المفرد فهو يشير إلى مجموعة من القوانين الاستثنائية الخاصة التي أصدرتها السلطات الفرنسية لردع المسلمين الجزائريين (انظر الأندجينا). القربى: (بضم القاف وعقدها وتسكين الراء وكسر الباء) الكوخ. المسكن الرث المبني بالطوب والخوص. الكراغلة: (ج. كرغلي) أبناء العبيد، المولدون من أم جزائرية وأب تركي. فئة من الحضر كانوا في الدرجة الثانية في السلم الاجتماعي بعد فئة الحكام خلال العهد العثماني. الكركوز: مسرح خيال الظل، طريقة التمثيل التقليدي بقيادة بطل واحد أو أكثر. التمثيل بحركات ساخرة. ألغى الفرنسيون مسرح الكركوز من أول الاحتلال بدعوى أنه يحث على العنف. المكتب العربي (ج. مكاتب): وحدة إدارية عسكرية تمثل السلطة الفرنسية في المدن وفي القرى، سيما أوائل الاحتلال، على رأس كل مكتب ضابط برتبة عقيد، كل مكتب فرعي يشع المكتب المركزي للشؤون العربية ثم إدارة الشؤون الأهلية (انظر سابقا). الكولون: المستوطنون الأوروبيون سواء كانوا فرنسيين بالأصالة أو متجنسين. ملاك الأراضي التي كانت للجزائريين، الرافضون منهم للمساواة مع الجزائريين. المجلس العام: مجلس ولائي يضم فرنسيين منتخبين وجزائريين تعينهم السلطات الفرنسية. هيئة مداولات استشارية على مستوى كل ولاية من الولايات

الثلاث، ابتداء من سنة 1858. المخزن: الحكومة. ممثلو النظام العام، القبائل المحاربة إلى جانب الحكومة نظير إقطاعات. المدقانات: الصعاليك. فرق من المتمردين (الثوار) الصحراويين الذين حاولوا منع الفرنسيين من التوسع نحو الجنوب خلال السبعينات والثمانينات من القرن الماضي. المملكة العربية: تعبير ظهر في الستينات من القرن الماضي ويعني سياسة نابليون الثالث نحو المسلمين الجزائريين. محاولة تولية الأمير عبد القادر على الجزائر نيابة عن نابليون الثالث. وهى المحاولة التى عارضها الكولون (انظر سابقا) بكل شدة. منشور ميشيل (1933): ميشيل هو أمين عام حكومة الجزائر الاستعمارية. ونص منشوره على منع العلماء المصلحين (غير الحكوميين) من نشر التعليم باللغة العربية واستعمال المساجد للوعظ والإرشاد، تحت طائلة عقوبات صارمة. النخبة: فئة قليلة من الجزائريين تأثرت بالثقافة الفرنسية واختلطت بالفرنسيين عن طريق الزواج والوظائف والتملك والمصير المشترك. الجماعة الجزائرية المتسيسة التي طالبت بالاندماج في فرنسا ولو بالتخلي عن أحكام الشريعة الإسلامية. الوعدة: نذر. عند أتباع الطرق الصوفية هي ذبيحة يتخذ منها وليمة دينية مصحوبة ببعض الممارسات السحرية أو الخرافية. الوفود المالية: هيئة نيابية مركزية مختلطة أنشئت سنة 1898. مجلس يضم ممثلين جزائريين تعينهم الإدارة الفرنسية وممثلين فرنسيين ينتخبهم مواطنوهم. مقر المجلس مدينة الجزائر، مهمة أعضائه استشارية وخاصة بالشؤون المالية فقط.

فهرس الأشخاص

1 - فهرس الأشخاص

_ (أ) الآبلي محمد: 240/ 1. آبهلول: 1/ 369. آبهلول أبو علي المجاجي: 1/ 243، 360، 361، 503 - 504. آبهلول محمد: 1/ 361. 2/ 12، 13، 29، 103، 104، 113، 349. آجرون شارل روبير Ch. R. Ageron: 3/ 33، 244، 400. 4/ 269، 270، 271، 321، 326، 327، 328، 397، 398، 403، 404، 405، 435، 442، 444، 457، 460، 468. 5/ 216، 242، 245 - 250، 474، 481، 587، 588، 592. 6/ 33، 69، 225، 229، 230، 249، 252، 264، 305، 322، 324، 418، 419، 420، 421، 427، 441، 443، 445، 447، 450، 451. 7/ 91، 162، 163، 272، 273، 274. 8/ 28، 40، 57 . آدم: 4/ 43. 6/ 429. 7/ 303، 314، 403. آرطو: 6/ 21. آرنو: 2/ 346. 3/ 89، 90، 91. 5/ 222، 227، 228، 231. 6/ 95، 184، 350. 7/ 74، 184، 196، 307، 328، 428، 429، 432. 8/ 12. آرنو (ضابط): 4/ 67، 158، 238. آزبار محمد: 3/ 265. 5/ 377. آشيل روبير: 8/ 233. آغ أمسطان موسى: 6/ 135. آل أواقوان: 3/ 187، 188. آل أوقاسي: 3/ 190، 191. آل خليفة محمد العيد: 3/ 157، 227، 249، 250، 251، 262. 5/ 73، 254، 259، 276، 281، 282، 312، 427، 491. 7/ 70، 119، 177، 322، 424. 8/ 12، 73، 85، 95، 104، 139، 141، 184، 185، 196، 197، 198، 199، 202، 225، 226، 227، 228، 230، 231، 232، 233، 237، 238، 240، 241، 246، 251، 252، 260، 266، 276، 272، 277، 279، 283، 284، 285، 286، 287، 288، 292، 294، 295، 298، 301، 305، 449. آل سحنون: 3/ 204، 211.

_ آل الشيخ: 3/ 186. آل طالب = بو طالب. آل القاضي: 3/ 200. آل المقراني: 3/ 219. آمنة: 8/ 128. آيت عمرو (ملك سبأ): 7/ 341. آيت عمر (المولى): 6/ 171. إبراهيشا: 5/ 333. إبراهيم (آغا): 5/ 67، 343، 496. إبراهيم باشا: 1/ 147، 214. 2/ 187. 5/ 347، 611، 612. 6/ 183. إبراهيم باي: 8/ 408. إبراهيم بن الحاج عيسى = أبو اليقظان: إبراهيم بن مصطفى باشا: 5/ 420، 421. إبراهيم بوشناق (باي): 5/ 331. إبراهيم التوزري (شيخ القادرية): 3/ 235. إبراهيم خالد: 5/ 605. إبراهيم الخليل: 1/ 271. 4/ 137، 149، 175، 176. 7/ 66، 190، 191. إبراهيم خوجة باشا: 1/ 277. 2/ 374. إبراهيم (سيدي): 6/ 308، 342. إبراهيم الغريب: 5/ 109. إبراهيمي دنس: 1/ 149. الإبراهيمي محمد البشير: 1/ 13. 3/ 123، 130، 139، 140، 183، 211، 247، 251، 255، 257. 4/ 134، 331 - 333، 338. 5/ 258، 271، 313، 391، 486، 529، 580، 595، 600، 602، 603، 615. 6/ 226، 375، 406، 427. 7/ 19، 25، 28، 94، 167، 181، 216، 282، 304، 322، 399، 413، 419، 459. 8/ 12، 27، 47، 67، 69، 73، 74، 75، 78، 80، 81، 82، 83، 85، 94، 102، 104، 109، 115، 116، 143، 146، 156، 159، 162، 164، 165، 166، 173، 196، 225، 252، 262، 267، 279، 303، 442. الإبريعجي علي: 2/ 105. الإخليفي حسن: 7/ 62. إدريس: 4/ 61. 7/ 325. إدريس الأصغر: 4/ 271. 5/ 578. إدريس الأكبر: 4/ 94، 95. الإدريسي: 2/ 433. 7/ 280، 345. الإدريسي قدور: 8/ 467. إدمون: 5/ 415. الإزميري مصطفى: 1/ 431. إستودارد: 4/ 247، 249، 259. إسحاق أديب: 5/ 539. إسطانبولي (الشيخ): 4/ 336. الإسكندر أرسن: 8/ 385. الإسكندر الثاني (قيصر): 5/ 545. إسكندر الفضيل: 7/ 28. إسكندراني مصطفى: 5/ 301. الإسكندري: 7/ 141. الإسلامي محمد (رايس): 2/ 419. إسماعيل باشا (الخديوي): 5/ 314، 518،

_ 540، 543، 545، 547. إسماعيل (عليه السلام): 7/ 341. إسماعيل عمر: 3/ 249، 251، 261. الإشبيلي عبد الحق: 1/ 480. 5/ 90. الإفراني: 1/ 424. 2/ 298. 6/ 179، 427. 7/ 167، 316. إفريقش بن صيفي: 7/ 326، 341. الإفريقي ليون: 2/ 334. 5/ 11. 7/ 345. 8/ 362، 397. إقبال محمد: 7/ 217. إقليدس: 2/ 427، 428. 5/ 345. الار إدوارد E. Allard: 407 /4، 408. إلياس (عياش) ليون: 6/ 147. امتياز إبراهيم: 3/ 268. 5/ 379. 7/ 289. 8/ 95، 231. إيبازيزن أوغسطين: 6/ 431. 8/ 186. إيبازيزن بلقاسم: 6/ 257. إيبرهارد، ايزابيل E. Eberhardt: 4/ 51، 52، 53، 164، 321، 504 . 5/ 216، 238، 239. 6/ 341، 387، 388، 389، 390، 391. 7/ 721، 463. 8/ 333، 453 . إيتيان بول: 5/ 234. 6/ 194. 8/ 248. إيتيان يوجين E. Etienne: 296 / 3، 297، 348 . 6/ 14، 179، 225، 285، 417 . إيحدادن زهير: 5/ 235، 276. 6/ 452. إيدير حالو محمد = العنقاء. إيزابيلا: 6/ 106. إيزلي عمار: 8/ 322، 325، 330. إيزنباخ: 6/ 391، 402. إيسترهازي ويلسون: 6/ 47. 7/ 356، 371، 372، 384. إيسكار (دكتور): 5/ 98. إيسكير غبريال G. Esquer: 349/ 5، 350، 355، 356 . 6/ 89، 384، 385، 387 . إيسلى محمد أمقران: 7/ 440. إيسياخم محمد: 8/ 439. إيفير جورج G.Yever: 1/ 237، 267 . 4/ 197، 199. 5/ 76، 611. 6/ 96، 387. 7/ 255. 8/ 87، 392. إيقربوشن محمد: 5/ 240، 466. 8/ 473 - 476. إيمريت مارسيل. Emerit, M: 1/ 183. 230، 248، 250، 260، 266، 267، 275، 316، 329، 330، 333، 334، 336، 337، 342، 410، 517. 4/ 357، 430. 6/ 8، 117، 118، 120، 121، 123، 125، 126، 128، 285، 287، 441، 7/ 239 . أباظة نزار: 5/ 522. 7/ 280. أبركان الحسن: 1/ 53، 74، 95. أبهلول السعيد: 8/ 428. أبو الأسود: 2/ 165. أبو البركات محمد عبد اللطيف: 1/ 99. أبو بكر بن محيي الدين: 5/ 564. أبو بكر الصديق: 1/ 510. 4/ 16، 24، 113، 104 282. 5/ 297. 8/ 424.

_ أبو تاشفين (سلطان): 5/ 29. أبو التقى سيدي: 1/ 264، 3/ 194، 5/ 23، 40، 62، 131، 7/ 333، 8/ 210، 235. أبو تمام: 2/ 233، 234، 235، 303. أبو جهل: 7/ 314، 332. أبو الحبال حسن: 3/ 157، 4/ 413، 7/ 24، 84، 8/ 231. أبو الحبال محمد: 4/ 413. أبو حجر عبد الرحمن: 5/ 528. أبو الحسن (سيدي): 5/ 107. أبو الحسن علي: 2/ 15. أبو حمو موسى الثاني: 5/ 460. أبو حنيفة (الإمام): 2/ 47، 65، 79، 229، 3/ 75، 4/ 536، 5/ 345، 7/ 77، 8/ 429. أبو حيان: 2/ 17، 221، 279. أبو دلامة: 8/ 171. أبو السادات محمد: 1/ 432. أبو طالب الحاج علي: 4/ 112. أبو طالب زين العابدين: 4/ 486. أبو طالب (عائلة): 4/ 373، 472. أبو طالب محمد: 4/ 484. أو طاب محمد العيد: 4/ 485. أبو العباس أحمد الحفصي (السلطان): 1/ 63. أبو عتيقة سيدي: 1/ 270. أبو عصيدة البجائي: 1/ 84، 85، 86، 87، 88، 110، 113. أبو عمرو عثمان الحفصي (السلطان): 1/ 44، 79، 81، 86، 133. أبو فارس عبد العزيز (السلطان الحفصي): 1/ 44، 64، 73، 2/ 334. أبو الفداء: 7/ 280. أو لبابة (صحابي): 1/ 479. أبو محمد (الشيخ): 4/ 283. أبو محمد الكبير (الشيخ) 4/ 88. أبو مدين شعيب: 1/ 65، 74، 250، 265، 459، 461، 463، 467، 468، 479، 505، 2/ 222، 438، 449، 4/ 11، 60، 64، 65، 68، 78، 90، 165، 274، 304، 304، 508، 5/ 106، 110، 172، 175، 7/ 24، 144، 251، 8/ 393، 397، 419، 420. أبو مروان (سيدي): 1/ 178، 249، 484، 5/ 93، 94. أبو معيزة محمد الطاهر: 4/ 276. أبو مقرع: 1/ 352. أو نواس: 2/ 233، 8/ 475. أبو هريرة: 4/ 113، 7/ 161. أبو يعلى الشريف: 8/ 42. أبو اليقظان: 3/ 250، 268، 273، 274، 5/ 254، 263، 264، 265، 276، 290 - 294، 309، 310، 311، 379، 381، 491، 579، 600، 601، 7/ 259، 8/ 22، 69، 73، 94، 95، 102، 164، 196، 219، 220، 231، 260، 269، 277، 287، 296، 440، 443.

_ أبو يوسف: 6/ 53. أبو يوسف صالح: 7/ 216. أبو يوسف يعقوب: 7/ 108. أبوقية: 6/ 153. الأبي: 1/ 92. الأبياري عبد الهادي نجا: 7/ 429. أبيض جورج: 5/ 422، 579، 582، 8/ 138، 442. أبيقراط: 2/ 436، 5/ 345. أتاتورك مصطفى: 5/ 504، 552، 7/ 471، 472. أتانو (سيدة): 3/ 446. أتلان: 8/ 377. الأجهوري علي: 1/ 426، 2/ 51، 55، 56، 71، 388، 422. أحمد آغا: 1/ 429. أحمد باشا (سلطان): 1/ 433، 434، 2/ 30، 314، 337، 421. أحمد باشا (عطشى): 1/ 200. أحمد باشا نعمان: 1/ 431. أحمد باي: 4/ 233. أحمد باي (تونس): 2/ 264، 5/ 515. أحمد بن حنبل (الإمام): 2/ 101، 5/ 345، 7/ 85. أحمد الحاج العربي (مولاي): 4/ 116. أحمد (سيدي): 8/ 344. أحمد (الشعنبي)؟: 6/ 36. أحمد صديق: 5/ 579، 581. أحمدوش (زاهد): 2/ 117، 351. الأحمدي موسى نويوات: 5/ 272. 7/ 132، 8/ 192. الأحمر الحاج محمد: 3/ 228. الأخداشي العربي: 3/ 212، 7/ 36. أخروم سيدي يحيى: 5/ 364. الأخضر آغا: 4/ 217. الأخضر (سي): 7/ 366. الأخضر (سيدي): 5/ 148. الأخضر (قائد): 5/ 603. الأخضر محمد: 2/ 411، 6/ 103، 104، 263، 389. الأخضري (دكتور): 4/ 46. الأخضري عبد الرحمن: 1/ 8، 179، 268، 271، 294، 350، 351، 352، 373، 379، 384، 451، 470، 476، 482، 500 - 503، 519، 522, 523، 2/ 16، 33، 73، 86، 87، 96، 112، 130، 131، 138، 140، 150، 151، 152، 153، 162، 167، 168، 169، 170، 241، 251، 252، 404 - 409، 3/ 97، 135، 137، 201، 212، 4/ 78، 6/ 73، 171، 7/ 36، 114، 151، 286، 288، 347، 449، 458، 8/ 66. الأخضري عبد العالي: 3/ 264. الأخضري محمد الصغير: 1/ 500. الأخضري محمد عامر:، 1/ 500، 2/ 162. الأخضري محمد عبابسة: 5/ 254، 256، 257, 8/ 348، 225. الأخفش: 2/ 165.

_ أخنوخن: 4/ 228. أدراق عبد الوهاب: 2/ 264، 275، 426. أراندا: 1/ 152، 2/ 242. أرسطو: 4/ 323، 5 /، 7/ 114. أرسلان شكيب: 2/ 222، 4/ 245، 247، 249، 251، 253، 259، 260، 5/ 264، 292، 552، 556، 563، 600، 601، 604، 606، 607، 609، 6/ 238، 7/ 190، 208، 216، 217، 415، 422، 8/ 95، 104، 181، 182، 277، 279، 299، 416، 435. الأرقش أحمد: 6/ 354. أرقيل (محافظ متحف): 5/ 408. الأرناؤوط محمد: 3/ 74. أرنوب: 6/ 116. أريب: 3/ 391، 6/ 232. أزان بول P.Azan: 548 / 5. الأزدي أحمد: 7/ 42. الأزرق مغتية: 6/ 338. الأزهري خالد: 2/ 165. الأزهري محمد بن عبد الرحمان: 1/ 266، 493، 506 - 510، 2/ 42، 37، 147، 384، 3/ 23، 43، 77، 111، 129، 186، 193، 199، 4/ 23، 139، 140، 145، 146، 147، 149، 153، 171، 174، 175، 176، 177، 188، 192، 193، 519، 520، 5/ 124، 125، 135، 358، 475، 479، 7/ 130، 131، 149، 8/ 46، 235، 236. أزيكيو إسماعيل: 3/ 97، 6/ 73، 8/ 35، 203، 327، 308، 328، 329. أسبورن 7/ 296: M.Asborne. أسعد أفندي: 1/ 364، 2/ 248، 277 304، 305. الأشرف عبد الرزاق: 3/ 389، 4/ 495، 496، 497، 533، 534، 5/ 590، 6/ 104، 170، 178، 179، 245، 249، 262، 7/ 105، 8/ 168، 308. الأشرف مصطفى: 8/ 175، 184، 185، 187. الأشعري أبو الحسن: 3/ 396، 7/ 149. الأشعري أبو موسى: 1/ 132، 2/ 92، 100، 110. الأشموني: 5/ 342، 8/ 42. الأصرم أحمد القيرواني: 1/ 437. الأصطا حسن (نقاش): 2/ 449. أطانو: 6/ 102. أطفيش: 1/ 330. أطفيش إبراهيم: 3/ 270، 273، 4/ 373، 5/ 378، 379، 491، 498، 499، 7/ 88، 167، 168، 321. أطفيش إبراهيم بن يوسف (أخو القطب): 3/ 266. أطفيش محمد: 5/ 380. أطفيش محمد بن يوسف: 2/ 76، 3/ 49، 62، 88، 164، 169، 215، 221، 264، 265 - 275، 323، 4/ 41، 283، 373،

_ 379، 536، 5/ 376، 377، 399، 579، 6/ 35، 39، 171، 334، 340، 7/ 9، 15، 16، 17، 18، 19، 20، 38، 40، 44، 45، 78، 86 - 88، 109، 148، 152، 167، 259، 388، 389، 8/ 34، 44، 66، 94، 192، 426، 276، 285، 286. أطفيش محمد بن يوسف (الحفيد): 5/ 377. الأعراج: 5/ 475. الأعرج إبراهيم: 4/ 92. الأعرج أبو مدين: 4/ 91. الأعرج سيدي سالم: 7/ 155، 447، 448. الأعرج عبد الرحمن: 5/ 371. الأعرج عبد الرحمن (القندوسي): 4/ 93. الأعرج مبارك: 4/ 91، 92. الأعرج محمد: 4/ 91، 93، 334. الأعرج محمد ن أبي مدين: 4/ 91. الأعرج محمد بن عبد الله: 4/ 92. الأعرج محمد الصالح: 7/ 447، 448. الأعرج محمد المصطفى: 4/ 91، 92. الأعرج مصباح: 7/ 447. الأعلى عبد الرحمن: 8/ 309. الأغواطي الحاج ابن الدين: 2/ 386، 387، 8/ 36. الأغواطي الحاج عيسى: 4/ 220، 6/ 52، 296، 8/ 318، 319. الأغواطي مصطفى: 5/ 389. الأفضلي يحيى بن صالح: 1/ 326، 2/ 74، 76، 3/ 264. الأفغاني: 1/ 57، 58، 7/ 166، 333، 3/ 268، 5/ 474، 508، 513، 516، 518، 542، 547، 550، 552، 598، 599، 617، 6/ 220، 422، 8/ 91، 118. أفغول محمد: 1/ 459. أفلاطون: 2/ 424. أفندي عبد العزيز: 5/ 272. الأكحل أحمد: 2/ 373، 5/ 240، 281، 282، 7/ 169، 170، 443، 8/ 99، 102، 103، 104، 231، 268، 271، 272، 472. الأكحل عبد الرحمن: 8/ 469. الأكحل عزيز: 5/ 424. الأكحل محيي الدين: 8/ 467. الأكحل مصطفى: 5/ 590، 591. اكنسوس محمد: 7/ 100. أكسموث اللورد: 1/ 205، 398، 2/ 377. ألازار جان: 6/ 415، 8/ 376، 378، 381، 386، 387، 388، 412، 413. ألبرتيني: 8/ 410. البوني أحمد زروق: 7/ 50. الألوسي محمد شكري: 4/ 510. أليزابيت (قديسة): 3/ 342. أليغ هنري: 6/ 441. أليكس (لوس) Luce Allix: 3/ 38، 441، 442، 443، 444، 445، 5/ 48، 6/ 312، 338، 339، 7/ 182، 8/ 358، 366، 367، 371، 391.

_ أم أحمد: 3/ 14. أم عالمة: 5/ 91. أماري: 6/ 59. أمزيان السعيد: 5/ 365. أمزيان محمد الطيب: 5/ 365. أمغار محمد أرزقي: 5/ 397. أمقران السعيد: 3/ 197. أمقران سيدي محمد: 5/ 150. أمقران الحفناوي: 8/ 459، 465. أمقران محمد: 8/ 328. الأمير (باتنة): 5/ 391. الأمير خالد: 6/ 221، 226، 259، 374، 421، 7/ 207، 210، 211، 266، 271، 274، 304، 309، 410، 437، 8/ 62، 172، 81، 117، 136، 158، 181، 198، 251، 261، 276، 442، 444، 445. أمير عثمان: 6/ 152. الأمير علي: 7/ 361. الأمين: 6/ 308. أمين قاسم: 7/ 185. الأنبابي محمد: 2/ 151. الأنبيري أحمد (نقولا): 1/ 174، 262، 417. 2/ 335، 5/ 340، 6/ 152، 7/ 343، 353، 354. الأنجاصي (سيدي): 7/ 251. أنجلز فريدريك: 6/ 447، 448، 449. أندري (جنرال) Andre: 4/ 305. الأندلسي أبو حيان: 2/ 166. الأندلسي حميدة: 1/ 240. الأندلسي محمد: 2/ 134. الأندلسي محمد السراج: 6/ 192. الأنصاري أبو أيوب: 2/ 117، 351، 364، 365. الأنصاري أحمد النائب: 2/ 146. الأنصاري ابن هشام اللخمي: 2/ 163 - 164. الأنصاري علي بن عبد الواحد: 1/ 283، 295، 273، 325، 344، 364، 370 - 376، 384، 412، 438، 439، 472، 495، 504، 2/ 15، 17، 40، 43، 52، 53، 58، 60، 104، 105، 164، 186، 212، 216، 277، 301، 358. الأنطاكي داود: 2/ 420، 422، 428، 433، 434، 436، 5/ 345، 7/ 226، 230، 231، 234. أنطونوس جورج: 5/ 524. أنكاوة راب إفرائيم: 6/ 395. أنكروف المختار الصنهاجي: 2/ 184. أنور باشا: 5/ 552، 617. أنيسة: 8/ 462، 470. أواكيلي سعدي: 6/ 140، 6/ 377. أوباشي (طبيب): 8/ 200. أوبتات: 6/ 115. أوبري Aupry: 7/ 247. أوبلان Aublain: 6/ 212، 8/ 76. أوبن: 3/ 406.

_ أوبوتي ل.: 5/ 248. أوبيتي 5/ 305: Oppetit . أودني 8/ 37: Ouadny . أوبيل بول 8/ 355، 3/ 447: P.Eudel . أوديه ألفونس: 8/ 376. أورابح: 4/ 383، 6/ 303. الأوراسي أحمد: 1/ 218، 486. الأوراسي يحيى: 1/ 218، 268، 383، 408، 494، 2/ 73. أوربان (عربان) توماس: 3/ 288، 6/ 48، 50، 150، 312، 215، 378، 432، 438، 449، 440، 441، 442، 443، 445، 446، 447، 4/ 442، 6/ 432، 8/ 93. الأوربي كهلان بن أبي لؤي: 6/ 305، 7/ 319، أورليان (دوق): 3/ 39، 5/ 31، 118، 6/ 248، أوري (اسقف): 6/ 132، أوريلي = بيكار أوزقان عمار: 6/ 451، 452، 7/ 36، 187، 8/ 175. أوزن حسن: 1/ 154، 200. أوسعدة (إمام): 6/ 376. أوسكار 4/ 510، II. أوطو: 6/ 44، أوعبد الله سيدي علي: 5/ 366. أوغسطين (القديس): 5/ 93، 6/ 8، 111، 112، 115، 272، 326، 385، 8/ 182. أوقاسي (بلقاسم): 5/ 479، 6/ 303، 8/ 328. أوقاس علي: 8/ 328. أوكبتان هنري (بارون): 5/ 99، 6/ 307، 314. أولندروف: 6/ 44. أوليفييه: 6/ 96، أوميرا 3/ 44، 4/ 395، 536: Aumerat، 5 / 8، 9، 12، 14 - 25، 27 - 29، 31 - 34، 36 - 42، 44، 51، 52، 55، 57، 58، 60، 61، 65، 67، 72، 75، 111، 113 - 129، 128، 123، 121، 118، 135، 133، 131 - 141، 143، 155، 157، 161، 162، 165، 169، 170، 171، 175، 180، 183، 184، 186، 188، 190 - 195، 198، 7 / 91 . أونفنتان: 6/ 49، 81، 85، 439، 439، 440، 442، 445، 451. الأيجي عضد الدين: 7/ 156. أيقنيدي (ضابط): 8/ 331. أيوب سيدي: 1/ 264، 278، 5/ 139. ابن آشنهو: 3/ 120، 121. ابن آفغول محمد: 1/ 461، 2/ 118. ابن آفوناس: 1/ 382، 390، 400، ابن آقوجيل محمد = القوجيلي، ابن إبراهيم باشا مصطفى: 8/ 354. ابن إبراهيم البشير: 3/ 161،

_ ابن إبراهيم الحاج سليمان: 8/ 415، 416، 418، 432. ابن إبراهيم خوجة محمد: 6/ 297، ابن إبراهيم السعيد: 8/ 46، ابن إبراهيم سليمان: 6/ 431، 7/ 313، ابن إبراهيم سليمان بامبر: 8/ 183، ابن إبراهيم عباس: 1/ 13، 55، 66، 318، 423، 435، 512، 2/ 115، 4/ 192. ابن إبراهيم محمد: 2/ 269، 4/ 114، 115، ابن إبراهيم محمد بن علي: 8/ 35. ابن إبراهيم محمد الطيب: 7/ 463، 464. 8/ 334. ابن إبراهيم محمد الكبير: 7/ 463، ابن إبراهيم مصطفى: 8/ 129، 322،، 323، 334، 400، ابن إبراهيم الهاشمي: 3/ 235، 236، 5/ 395، 6/ 39، 389، 7/ 116، 463، 8/ 96، 453، ابن إدريس: 5/ 420، 8/ 328، ابن إدريس أحمد: 1/ 266، 3/ 182، 187، 190، 7/ 75، ابن إدريس محمد: 8/ 453. ابن إدريس محمد (وزير): 4/ 489، ابن إدريسو محمد: 3/ 267، ابن إسحاق: 1/ 69، ابن إسحاق حنين: 2/ 424، 428، 436، ابن إسحاق خليل: 3/ 228، 4/ 455، ابن إسماعيل علي: 4/ 471، 472، ابن إسماعيل قدور: 8/ 467. ابن إسماعيل محمد: 1/ 292، 297، 301، 5/ 517، 8/ 308، 342. ابن إسماعيل مصطفى: 4/ 34، 44، 5/ 309، 6/ 200، 302، 7/ 365، 380، 382، 8/ 314. ابن الأبار: 1/ 303. ابن أبي بكر حمزة: 4/ 105، 107، 312. ابن أبي جمرة: 1/ 256، 2/ 29، 7/ 139. ابن أبي زيان إبراهيم: 7/ 447. ابن أبي اديار (الديار) عمارة: 3/ 233، 7/ 445. ابن أبي ثابت محمد المتوكل: 1/ 46، 124، ابن أبي حجلة أحمد: 1/ 62، 84، 2/ 207، 324، 412، ابن أبي حفص عبد الواحد: 5/ 84. ابن أبي داود: 1/ 266، 3/ 89، 204، 212، 218، 7/ 64، 258. ابن أبي داود أحمد: 3/ 194، 4/ 16، 5/ 362، 7/ 279، ابن أبي داود السعيد: 3/ 186، 193، 194، 4/ 41، 160، 272، 5/ 125، 362، 397، 7/ 79، 279، 8/ 240، ابن أبي داود سليمان: 5/ 374. ابن أبي داود العربي: 8/ 90. ابن أبي داود محمد الطيب: 3/ 194. ابن أبي داود محمد العربي: 8/ 236. ابن أبي دينار: 1/ 174، 383،

_ ابن أبي راشد يحيى: 2/ 207، 337، 257، 295، ابن أبي الربيع: 5/ 398، ابن أبي الرجال: 1/ 114. ابن أبي سماحة سليمان: 1/ 337. ابن أبي الشرف محمد بن علي: 2/ 27. ابن أبي شنب سعد الدين: 3/ 92، 94، 99، 5/ 301، 309، 313، 316، 317، 427، 428، 6/ 103، 263، 7/ 306، 414، 419، 420، 422، 423، 432، 434، 8/ 85، 131، 135، 136، 137، 184، 185، 309، 310، 440، 441، 443، 444، 445، 446، 448، 449. ابن أبي شنب محمد: 1/ 8، 66، 241، 377، 378، 2/ 26، 30، 169، 231، 317، 340، 352، 355، 389، 3/ 34، 95، 179، 4/ 408، 416، 511، 514، 5/ 307، 309، 327، 517، 581، 588، 590، 592، 609، 6/ 31، 33، 54، 56، 57، 58، 59، 60، 99، 104، 103، 172، 176، 178، 180، 233، 241، 263، 332، 333، 350، 351، 7/ 47، 69، 157، 165، 166، 185، 186، 255، 306، 311، 312، 350، 363، 407، 409، 415، 417، 419، 424، 48، 47، 15، 8/ 11، 50، 52، 56، 67، 96، 115، 118، 164، 167، 168 - 173، 192، 277، 308، 342، 465، ابن أبي الضياف أحمد: 1/ 437، 4/ 148، 154، 222، 7/ 309. ابن أبي الضياف أحمد التاغزوتي: 5/ 391، ابن أبي طالب جعفر: 4/ 113. ابن أبي العافية: 2/ 117، 351. ابن أبي محلى: 1/ 205، 360. ابن أبي مقرع أحمد: 2/ 121، 403، 409، ابن أبي وقاص سعد: 4/ 280. ابن الأثير: 2/ 221، 6/ 58، 304. ابن الأثير مجد الدين: 1/ 304. ابن الأحرش (الشريف): 1/ 221، 268، 294، 300، 416، 438، 518، 3/ 100، 215، 4/ 30، 150، 7/ 344، ابن أحمد أحمد: 117، 4/ 76. ابن أحمد الأخضر: 4/ 231. ابن أحمد التومي: 6/ 161. ابن أحمد حسن: 4/ 520، 5/ 349. ابن أحمد سالم: 4/ 54. ابن أحمد عبد الكريم: 7/ 336، 336. ابن أحمد علي: 5/ 262، 263، 8/ 379، 380، ابن أحمد قدور: 7/ 275، 275. ابن أحمد محمد ارزقي: 8/ 55. ابن أحمد الهاشمي: 4/ 512. ابن أحمد يحيى: 7/ 75، 4/ 125. ابن الأحمر: 6/ 180،

_ ابن الأحول عبد القادر: 4/ 46، 116. ابن الأخضر الطيب: 4/ 235. ابن الأخضر عبد الله: 4/ 53. ابن الأخضر علي: 4/ 40. ابن الأزرق: 1/ 61، 2/ 361، 4/ 268. ابن الأزعر عمار: 3/ 259، 4/ 369. 5/ 486. ابن الأزعر محمد: 3/ 165. ابن الأشقر موشي بن سويل: 1/ 46. ابن الأطرش محمد: 4/ 247. ابن أعراب الحسين: 3/ 185، 186، 193، 194، 199، 203، 4/ 144، 529، 5/ 125، 7/ 279. ابن الأعرج محمد: 1/ 29، 506، 7/ 302، 314، 315، 327، 328، 337، 407، 8/ 220. ابن الأعرج محمد السليماني: 7/ 140، 408، 409. ابن الأعمش محمد الشنقيطي: 2/ 99. ابن أغادير محمد أحمد: 2/ 95 - 96. ابن أم هاني قاسم: 1/ 471، 483. ابن أميان الحبيب: 4/ 115. ابن الأمير عبد القادر: 6/ 213. ابن الأمير محمد: 7/ 57. ابن الأمين: 5/ 348. ابن أمين السكة أحمد: 6/ 205. ابن الأمين الطاهر: 3/ 157. ابن الأمين عبد الرحمان: 7/ 69. ابن الأمين عبد القادر: 1/ 8، 193، 258. 348، 399، 3/ 411، 7/ 262، ابن الأمين علي: 2/ 27، 32، 36، 38، 48، 51، 166، 167، 169، 170،، 185، 228، 379، 3/ 72، 74، 4/ 140، 193، 371، 489، 524، / 24، 7/ 41، 54، 69، 457، ابن الأمين محمود = ابن الشيخ علي. ابن أيوب عبد الرحمن: 4/ 159. ابن بابا حيدة محمد: 7/ 393، 394. ابن بابا عمر: 2/ 340. ابن بابشاذ: 2/ 159. ابن باحوم قدور: 6/ 183. ابن باديس أحمد: 1/ 399، 403، 2/ 205. ابن باديس بركات: 1/ 13، 324، 402، 453، 502، 523، 2/ 62، 138، 146، 165، 171، 181، 268، 286، 287، 353، ابن باديس حسن: 1/ 52، 63، 82، 88، 159، 187، 513، 2/ 128، 5/ 148. ابن باديس حميدة: 3/ 129، 4/ 461، 464، 465، 466، 471، 477، 5/ 219، 235، 6/ 144، 194، 223، 232، 371، 8/ 77، ابن باديس الشريف: 3/ 129، 4/ 464. ابن باديس (العائلة): 1/ 45، 175، 390، 399، 416، 417، 422، 8/ 8، ابن باديس عبد الحميد: 2/ 32، 148، 3/ 112، 123، 125، 129، 131، 132، 134، 135، 136، 137، 139، 140،

_ 157، 165، 170، 196، 198، 199، 246، 251، 255، 257، 258، 263، 337، 360، 390. 4/ 55، 134، 138، 139، 158، 161، 329، 331، 336، 338 - 340، 380، 452، 464، 471، 505، 525. 5/ 73، 84، 135، 251، 252، 253، 254، 255، 256، 259، 260، 273، 274، 276، 281، 291، 292، 293، 294، 310، 311، 317، 318، 319، 379، 428، 474، 486، 491، 498، 580، 595، 599، 600، 603، 614، 615. 6/ 222، 256، 260، 328، 334، 340، 352، 372، 375، 376، 406. 7/ 12، 17، 18، 19، 20، 21، 22، 23، 24، 25، 26، 34، 40، 46، 57، 63، 70، 74، 85، 130، 149، 151، 158، 173، 211، 213، 216، 282، 304، 309، 314، 322، 410، 412، 413، 415، 422، 443، 460. 8/ 12، 28، 67، 69، 70، 76، 80، 81، 84، 89، 94، 95، 100، 101، 102، 107، 108، 116، 120، 139، 158، 164، 172، 196، 197، 198، 223، 229، 251، 262، 266، 267، 276، 287، 297، 299، 302، 305، 444. ابن باديس عبد الكريم: 8/ 113. ابن باديس محمد بن علي: 2/ 424. ابن باديس مصطفى: 4/ 380، 383، 464. 8/ 61. ابن باديس المكي: 3/ 127، 372. 4/ 443، 444، 452، 462 - 465، 471، 482، 525، 530. 5/ 219. 6/ 371، 7/ 90، 195، 8/ 58، 249. ابن باديس المولود: 6/ 263. ابن باديس يحيى: 1/ 422. ابن باروخ صمويل: 6/ 153. ابن باطو سيدي عبد الله: 7/ 234. ابن البجاوي: 1/ 175. ابن البجاوي محمد: 8/ 407. ابن البحار علي: 4/ 360. ابن البدوي عبد الرحمن: 5/ 43. ابن بدوي محمد: 2/ 166. ابن البراء: 4/ 66. ابن برد بشار: 1/ 233. ابن بركات عبد اللطيف: 1/ 158. ابن بركات علي: 1/ 325. ابن بركة الفلاح: 4/ 284. ابن بري: 1/ 351. ابن بسام: 2/ 221. ابن بسام أحمد: 3/ 264. 4/ 335. ابن بسعى محمد: 7/ 36. ابن بسيط عبد الرزاق: 5/ 130. ابن بشكوال: 2/ 221. ابن البشير أحمد: 3/ 110، 391. 4/ 508. ابن البشير أرزقي: 8/ 333. ابن البشير الحاج الطاهر: 4/ 474. ابن البشير الحاج علي: 3/ 124. 5/ 497. ابن البشير الحاج منور: 7/ 83، 84.

_ ابن بطوطة: 2/ 221. ابن بغريش: 1/ 518. ابن البقال (الصقال) التلمساني: 8/ 313. ابن بكار الهاشمي: 3/ 123، 124، 223، 234. 4/ 46، 71، 73، 80، 96، 103، 116، 128، 131، 132، 271، 272، 312، 487، 488. 5/ 152، 272، 391، 484، 578. 6/ 363، 363. 7/ 24، 41، 61، 62، 67، 84، 85، 135، 140، 141، 146، 149، 150، 315، 323، 324، 326، 327، 328، 337، 338، 409، 439، 443، 344، 445، 468. 8/ 43، 102، 103، 234، 262، 268، 272، 282. ابن بكير أبو سعيد عدون: 7/ 265. ابن بكير محمد: 5/ 252، 280، 292، 311. ابن بكير محمد باشا: 1/ 235، 277، 327. ابن بلقاسم أحمد: 4/ 234. ابن بلقاسم الحاج محمد: 4/ 163، 188. ابن بلقاسم الطيب: 4/ 367. ابن بلقاسم علي: 5/ 399. ابن بلقاسم محمد: 4/ 229. 6/ 183. ابن بلقاسم محمد= القاسمي. ابن بلقاسم محمد بلحاج: 4/ 217، 283. ابن بلقاسم محمد (صحفي): 5/ 229. ابن بلقاسم المختار: 4/ 164، 186. ابن بلقوم محمد: 4/ 233. ابن بلة: 8/ 438. ابن البنا المراكشي: 1/ 114. 2/ 402، 404، 405، 409. ابن البناء: 7/ 283. ابن بنقي سليمان: 5/ 243. ابن بوبكر السايس: 4/ 283. ابن بورنو محمد العياشي: 4/ 440، 443. ابن بوزيان محمد: 2/ 126، 127، 363. ابن بوزيد (عائلة): 4/ 183. ابن بوزيد علي: 8/ 389. ابن بوزيد محمد: 7/ 328. ابن بوشناق صالح: 4/ 461، 464، 465، 467، 471. ابن بوضياف محمد: 1/ 401، 417، 418، 422. ابن البيطار: 2/ 420، 422، 428، 433. 7/ 230. ابن تاج الدين أحمد: 2/ 45. بن تاشفين: 1/ 44، 72، 197. بن تاشفين علي بن يوسف: 5/ 109. بن تجريست علي: 1/ 291. بين الترجمان: 1/ 429، 430، 510. 2/ 92، 100، 146. ابن تر كي: 5/ 42. بن تركية قدور: 4/ 452. ابن التريكي: 2/ 317، 389. 6/ 178. ابن التريكي أحمد: 8/ 464. ابن تغريت. 7/ 36. ابن التفاحي: 8/ 467. ابن تكوك = طكوك.

_ ابن التلمساني إبراهيم: 7/ 288. ابن تلمون سيدي رمضان: 5/ 53. ابن التهامي: 8/ 277. ابن التهامي أحمد: 7/ 325. 8/ 9. ابن التهامي بلقاسم: 3/ 245. 5/ 251، 265، 287، 314، 590. 6/ 223، 225، 228، 236، 243، 257، 371، 378، 378، 419، 421. 7/ 209، 210، 237، 274. 8/ 179. ابن التهامي محمد: 2/ 117. ابن التهامي مصطفى: 3/ 62. 4/ 202، 486. 5/ 327، 526، 558، 565. 6/ 204. 7/ 146، 315، 325، 327، 437، 443. 8/ 86، 193، 194، 195، 199، 233، 234، 235، 239، 279، 288. ابن التواتي محمد الأغواطي: 5/ 280. ابن تومرت: 1/ 51، 197، 396. 3/ 97. 4/ 66،.340، 7/ 159، 175، 375، 458، 8/ 429. ابن تونس: 3/ 183. 8/ 223. ابن تونس عدة: 4/ 132، 133. ابن تيمية. 7/ 177. ابن ثابت إدريس: 4/ 507، 508 - 509. ابن ثابت أحمد: 2/ 22 - 24، 30. ابن ثابت الغوثي: 4/ 334. ابن ثابت محمد ولد حمو: 4/ 334. ابن ثلجون: 4/ 366. ابن ثلجون أحمد: 1/ 432. ابن جار الله (ثائر): 3/ 50. ابن جاور علي: 5/ 50. ابن جبير: 2/ 221. ابن جدو: 4/ 78. ابن جدو سيدي أحمد: 3/ 237. ابن جديد أبو بكر: 6/ 207. ابن جديد النعيمي: 6/ 207. ابن الجراح أبو عبيدة: 5/ 102. ابن الجزري: 2/ 24. ابن جعدون: 1/ 240، 258. ابن جعدون أحمد: 4/ 425، 426، 451. 5/ 41. ابن جعدون (عائلة): 1/ 399. ابن جعدون محمد: 2/ 36، 225، 228. ابن جلاب إبراهيم: 1/ 249. ابن جلال: 1/ 426. ابن جلال محمد: 2/ 279. 4/ 438. ابن جلول: 1/ 175. ابن جلول أحمد: 3/ 127، 129. ابن جلول حسن: 7/ 355. ابن جلول شعبان: 1/ 325. 2/ 165، 269. ابن جلول عائلة: 1/ 422. 3/ 131. 4/ 482. ابن جلول عباس: 1/ 261. 2/ 285. 5/ 83. ابن جلول علاوة: 7/ 267. ابن جلول محمد الصالح (طبيب): 4/ 46.

_ 5/ 149، 258، 265، 266. 6/ 228، 230، 255، 257، 371. 7/ 211، 216، 265، 266، 271، 274. 8/ 117، 262. ابن جلول مصطفى: 1/ 261. 3/ 59، 126، 127. 5/ 83، 84، 338. 6/ 201. 7/ 352، 353. 8/ 8. ابن جلون الحاج الطالب: 4/ 197، 199. ابن جميع: 7/ 152. ابن جميع عمر: 3/ 271. ابن جني: 2/ 165. ابن الحاج إبراهيم: 4/ 155، 156. 5/ 452. 7/ 129. 130. ابن الحاج أحمد: 1/ 505. 7/ 81، 89. ابن الحاج البشير الطيب: 4/ 78. ابن الحاج البشير مصطفى: 4/ 90. 7/ 447. ابن الحاج بلقاسم: 5/ 124. ابن الحاج حسن محمد: 4/ 451. ابن الحاج حمو: 7/ 91. ابن الحاج حمو عبد الحق: 4/ 491. ابن الحاج حمو عبد القادر = فكري. ابن الحاج حمو محمد: 4/ 461، 477، 489 - 491، 515، 520. 6/ 218، 321. ابن الحاج حمود محمد: 8/ 162، 163. ابن الحاج حميدة إبراهيم: 1/ 273. ابن الحاج سعيد المختار: 3/ 179. ابن الحاج الصادق: 3/ 218. 4/ 147، 154، 155، 188. 7/ 130. ابن الحاج الطاهر: 4/ 155، 156، 188. ابن الحاج عبد القادر: 3/ 109، 163. ابن الحاج علي علي: 4/ 85. ابن الحاج علي محمد: 7/ 195. ابن الحاج عمر أحمادو: 4/ 227. ابن الحاج عيسى إبراهيم = أبو اليقظان. ابن الحاج عيسى قاسم: 3/ 274. ابن الحاج عيسى محمد: 5/ 254. ابن الحاج (فقيه): 6/ 361. ابن الحاج قاسم أبو بكر: 3/ 269. ابن الحاج محمد: 1/ 417. 3/ 107، 220، 222، 6/ 228. 7/ 216. 8/ 52، 358. ابن الحاج محمد (بلحاج): 4/ 199، 537. ابن الحاج محمد (خليفة): 5/ 490. ابن الحاج محمد محمد: 4/ 443، 452. ابن الحاج محمد محمود: 5/ 65. ابن الحاج موسى: 1/ 198. ابن الحاج موسى أحمد: 3/ 78. 4/ 488. ابن الحاج موسى حمو: 6/ 144. ابن الحاج موسى علي: 4/ 379، 442، 451، 488، 511. 5/ 69، 122، 321، 397، 512، 573، 575، 590. 7/ 54، 60، 69، 70، 72، 73، 147، 148، 257. ابن الحاج موسى مصطفى: 8/ 130. ابن الحاجب: 1/ 69، 124، 346، 360، 370، 406. 2/ 165، 388. ابن حافظ العربي: 7/ 180.

_ ابن حبة عبد المجيد: 5/ 391. ابن حبيب بن علي: 2/ 332. ابن حبيلس الشريف: 3/ 245. 5/ 314. 6/ 371. 7/ 93، 207، 203، 273. ابن حجر: 1/ 60، 67. 2/ 31، 324. ابن الحداد علي: 7/ 263. ابن حرز الله: 8/ 317. ابن حزم: 2/ 206. 6/ 304، 307. 7/ 321، 338. ابن حزيرة موريس: 6/ 167. ابن الحسن سيدي عيسى: 5/ 121. ابن حسن الشريف: 5/ 36. ابن الحسن علي: 8/ 130. ابن الحسين: 8/ 469. ابن حسين الأخضر: 7/ 336. ابن حسين بوقطاية: 5/ 429. ابن حسين حسن (داي): 5/ 27. ابن حسين الحنفي: 6/ 303. ابن حسين الخنقي: 4/ 281. ابن الحسين زين العابدين: 7/ 334. ابن الحسين الطيب: 4/ 489. ابن حسين عمار: 6/ 176. ابن حسين محمد: 2/ 197. 4/ 171، 192. ابن حسين محمد (حمد): 6/ 161. ابن الحسين محمد رشيد: 8/ 398. ابن حسين محمد الطيب: 7/ 337. ابن الحفاف (عائلة): 3/ 58. 8/ 419. ابن الحفاف عبد الرحمن: 2/ 35. 7/ 47، 158، 170، 171، 172، 322. 8/ 48، 175. ابن الحفاف علي: 3/ 64، 72، 80، 81، 82، 83، 84، 112، 113، 238، 324. 4/ 366، 368، 369، 375، 377، 417، 485، 488، 490، 491، 493، 503. 5/ 30، 573. 6/ 185، 205، 206، 358، 359. 7/ 36، 37، 38، 47، 48، 49، 54، 60، 61، 64، 69، 78، 96، 97، 101، 102، 136. 8/ 111، 242، 464، 306، 344، 421. ابن الحفاف محمد: 2/ 276. 8/ 344. ابن الحفاف يوسف: 8/ 421، 422، 423، 431، 433. ابن حماد محمد بن علي: 1/ 306. ابن حمادوش عبد الرزاق: 1/ 7، 16، 29، 92، 112، 147، 158، 159، 166، 168، 198، 203، 206، 214، 234، 255، 276، 283، 288، 289، 292، 293، 294، 298، 319، 221، 323، 347، 349، 352، 353، 398، 401، 404، 428، 431، 436، 443، 448، 450، 451، 452، 453، 455. 2/ 12، 26، 44، 49، 62، 87، 92، 98، 138، 149، 152، 153، 158، 183، 187، 189، 192، 197، 208، 210، 211، 224، 227، 228، 240، 242، 245، 246، 247، 250، 263، 264، 269، 272، 275، 276، 277، 281، 291، 292، 297، 304، 310، 315، 325، 335، 366، 367، 372، 374، 376،

_ 382، 384، 385، 391، 401، 402، 404، 405، 407، 414، 417، 418، 420، 421، 423، 425 - 436، 440. 3/ 80، 113. 4/ 364. 5/ 374. 6/ 59، 189، 7/ 226، 227، 230، 231، 260، 278، 280، 285، 297. 8/ 168، 372. ابن حمانة عباس: 3/ 170، 241، 243، 244، 245، 246، 247، 323. 4/ 500، 6/ 371، 421. 7/ 214. ابن الحمريش سيدي محمد: 6/ 52. ابن حمزة أحمد: 7/ 461. ابن حمزة جلول: 6/ 343. ابن حمزة عبد المالك: 5/ 606. ابن حمزة قدور: 4/ 106، 109، 112، 320. ابن حمزة محمد: 4/ 115، 122. ابن الحملاوي: 7/ 35، 64. 8/ 216. ابن الحملاوي (الآغا): 4/ 36. ابن الحملاوي الطيب: 7/ 180. ابن الحملاوي علي: 4/ 31، 168، 169، 171، 172، 731، 188. ابن الحملاوي عمر: 3/ 170، 264. 5/ 82. 7/ 282. ابن حمود يحيى. 7/ 62. ابن حمودة الشرشالي: 6/ 228، 233، 246، 248، 254، 280. ابن الحمياني: 7/ 366. ابن حميدة إبراهيم: 5/ 18. ابن حميدة عبد القادر: 4/ 216. ابن حميدة عبدالوهاب: 1/ 337. ابن حميدة الهاشمي السوفي: 7/ 289. ابن حميدوش عمر: 5/ 479. ابن الحنفية محمد: 1/ 75. ابن حوا: 1/ 199. 4/ 116. ابن حوا الطاهر: 1/ 207، 208، 272، 281، 325. 7/ 325. 8/ 313، 314، 315، 316. ابن حوا محمد: 2/ 351، 352. 7/ 325. ابن حوا محمد الطاهر: 2/ 279، 325، 347. ابن حوا محمد الموفق: 1/ 263. 2/ 126، 239، 253. ابن حوا محمود: 7/ 358. ابن حوا محمود بن الطاهر: 2/ 180، 181. ابن حوا الهاشمي: 1/ 304. ابن حوراء: 6/ 355. ابن خاطر سيدي فريحة: 4/ 487. ابن خاقان الفتح: 2/ 201، 208، 221، 233، 303. ابن خالد أبو بكر: 4/ 157. ابن خالويه: 2/ 165، 166. ابن خدة محيي الدين: 4/ 532. ابن خدة عبد القادر: 7/ 150. ابن خراط عبد الله: 7/ 36. ابن الخطاب سيدي عبد الله: 4/ 246.

_ ابن الخطاب عمر = عمر بن الخطاب. ابن الخطيب لسان الدين: 2/ 201، 218، 219، 220، 221، 223، 233، 234، 235، 267، 300، 303، 309، 329، 330، 360، 361، 362. 8/ 360. ابن خلدون: 7/ 219، 254، 303، 307، 319، 321، 324، 328، 338، 340، 341، 354، 385، 370، 391، 432، 443. ابن خلدون عبد الرحمن: 1/ 52، 61، 67، 91، 112، 132، 178، 290. 2/ 175، 221، 222، 223، 233، 239، 243، 311، 322، 330، 333، 342، 344، 349، 350، 381، 2 38، 405. 3/ 56، 64، 90، 324. 4/ 8، 18، 19، 165، 322، 323، 341. 5/ 438، 459. 6/ 10، 33، 304، 307. 8/ 397، 427، 429، 456. ابن خلدون يحيى: 1/ 61. 6/ 60، 99، 170، 180، 8/ 397. ابن خلكان: 2/ 157، 221، 345. ابن خلوف الأكحل: 1/ 200، 201، 275. 2/ 248، 313، 333. ابن خلوف علي: 1/ 261. ابن خليفة أبو عبد الله: 2/ 152. ابن خليفة الحاج محمد: 4/ 77. ابن خليفة عبد العزيز: 1/ 494. 2/ 133. ابن خليفة قدور: 8/ 313. ابن خليفة محمد: 2/ 16. 5/ 131. ابن خليفة المختار: 3/ 216، 218، 219، 230. 4/ 147، 149، 150، 160، 161. ابن خليل إسماعيل باشا: 1/ 524. ابن خليل الحاج البشير: 4/ 474. 7/ 364. ابن خليل خليل: 6/ 263. ابن خليل عبد الباسط: 1/ 40، 46، 53، 71، 85، 92، 100، 113، 122، 124، 183، 274، 354، 462. ابن خليل علي: 1/ 325. ابن خليل عمار: 4/ 474. ابن خميس: 1/ 78. ابن الخوجة محمد التونسي: 7/ 287. ابن الخوجة محمد المصطفى (الكمال): 3/ 83 - 88، 92 - 94، 104، 162، 272. 5/ 62، 229، 242، 284، 289، 578، 587، 588، 590، 592، 593، 608. 6/ 333، 347، 350، 351، 381. 7/ 47، 80، 162، 182، 184، 186، 187، 199، 200، 252، 253، 255، 430، 442. 8/ 67، 97، 98، 168، 196، 464، 268، 270، 271، 278. ابن الخوصة محمد الصالح: 4/ 235. ابن خويدم مبارك: 4/ 147. ابن خويدم محمد: 4/ 188. ابن دادة (الشيخ): 8/ 468.

_ ابن دالي يحيى: 8/ 469. ابن الداني: 1/ 485. ابن داود أحمد: 1/ 268، 371، 390، 470، 502، 503. 2/ 96، 151، 167، 226، 251، 252، 273، 281. 5/ 57. 6/ 171. ابن داود أحمد زروق: 1/ 361، 393. ابن داود عبد القادر: 6/ 378. ابن داود (عقيد): 4/ 497. 7/ 32، 194، 195. ابن داود علي: 1/ 480. ابن داود محمد: 6/ 171، 172، 177. 7/ 32. ابن دح عبد القادر: 4/ 507. ابن دحمان العربي: 7/ 287، 288. ابن دحمان محمد: 4/ 507. ابن الدراجي فرحات: 5/ 614، 615. ابن درار علي: 2/ 172. ابن درقة يوسف: 2/ 112. ابن درمش محمد الشرشالي: 2/ 313. ابن الدرويش سي الحاج: 5/ 512. ابن درويش مصطفى: 5/ 549. ابن دريش نادية: 8/ 332. ابن دريوة: 7/ 39، 84، 152، 284. ابن دغمان أحمد: 5/ 394. ابن دغمان محمد بن أحمد: 5/ 399. ابن دوبة: 2/ 407. ابن دوبة سيدي عمار: 3/ 238. ابن دوبة محمد بن آمنة: 8/ 239، 240. ابن دوخة ين آمنة. 7/ 325. 8/ 43. ابن دوران: 8/ 128. ابن دوران سيمون: 6/ 395، 414. ابن الدين: 4/ 109، 284، 448، 449. ابن ديودة محمد: 8/ 231. ابن ذي يزن سيف: 1/ 69. ابن ذياب أحمد: 5/ 240، 244. 8/ 143. ابن ذياب غانم: 8/ 126. ابن رأس العين محمد: 1/ 8، 362، 373. 2/ 198، 202، 267، 268، 299، 305، 311. 5/ 374، 388. ابن رابح أحمد: 7/ 39. ابن الرجال علي القيرواني: 2/ 403، 404. ابن رجب محمد: 1/ 167. 7/ 262، 263. ابن رحال الحسين: 3/ 121، 122. ابن رحال حمزة: 4/ 443، 511. 6/ 224. 8/ 206. ابن رحال (عائلة): 3/ 232. ابن رحال محمد: 3/ 232، 245، 297. 4/ 461، 476، 5/ 298، 6/ 104، 144، 179، 222، 227، 233، 239، 241، 381، 426، 427. 7/ 91، 166، 167، 170، 208، 213، 270، 316. 8/ 21، 22، 58، 174، 177، 206. ابن رحال منور: 3/ 115. ابن رحمون أبو بكر: 8/ 260. ابن رحمون سيدي عيسى: 3/ 192. ابن ردسلي عبد الكريم: 8/ 121. ابن رزيق عبد القادر: 7/ 333، 334.

_ 8/ 210، 219. ابن رستم عبد الرحمن: 6/ 318. ابن رشد: 1/ 91، 133، 355. 2/ 81، 420، 427، 436. 4/ 165، 498. 6/ 177، 250. 7/ 110، 114، 171، 240. ابن رشيد: 2/ 393. ابن رشيق: 2/ 164. ابن رضوان حمدان: 5/ 35، 149، 202. ابن رعاد عبد القادر: 5/ 368. ابن الرقيق الحاج محمد: 3/ 124. 5/ 497. ابن الرقيق الحاج المنور: 3/ 124. ابن رقية علي: 3/ 105، 106. ابن رقية محمد التلمساني: 2/ 339، 340، 341. ابن رمضان علي: 5/ 67. ابن رواحة عبد الله: 8/ 316. ابن الرومي: 2/ 233. ابن رويلة أحمد: 4/ 492. 6/ 206. ابن رويلة (عائلة): 4/ 493. ابن رويلة قدور: 3/ 58، 80، 82، 83، 238، 324. 4/ 492، 368. 5/ 473، 484، 490. 6/ 62، 184، 358، 359، 360. 7/ 78، 96، 97، 150، 201، 202. 8/ 8، 86، 242، 264، 282، 306. ابن زاغو أحمد: 2/ 265. ابن زاكور أبو القاسم: 1/ 171، 276، 295، 346، 365، 367، 373، 439، 443، 516. 2/ 16، 44، 45، 51، 72، 98، 152، 186، 187، 240، 272، 358. ابن زاكور محمد: 3/ 78. 4/ 217. 5/ 30، 69، 590. 7/ 256. ابن الزبير أحمد: 8/ 466. ابن الزبير الشريف: 2/ 349. ابن زراق محمد: 3/ 149، 150. ابن زرفة أحمد: 7/ 464. ابن زرفة عبد القادر: 7/ 41. ابن زرفة محمد: 8/ 344. ابن زرفة محمد المصطفى: 1/ 29، 199، 208، 211، 272، 281، 292، 325، 480. 2/ 26، 84، 203، 341، 342، 6 34، 347، 348، 440. ابن زرمة أحمد: 6/ 67. ابن زعموم: 6/ 303، 7/ 225. ابن زعموم الحاج محمد: 7/ 322. ابن زعموم محمد: 4/ 141. 5/ 16. ابن زغودة الحاج محمد: 4/ 443، 451. ابن زقوطة الطاهر: 3/ 264. 4/ 413. ابن ز كري: 7/ 396، 8/ 79 .. ابن زكري أحمد: 1/ 54، 82، 93، 94، 95، 250، 2/ 80، 4/ 375. 8/ 472. ابن زكري (العائلة): 2/ 118. ابن زكري محمد السعيد: 3/ 34، 85، 97، 98، 99، 106، 179، 189، 191، 206، 207، 213، 387، 389، 390، 402. 4/ 338، 341، 377، 379، 380.

_ 5/ 523، 588، 590، 6/ 28. 7/ 109، 163، 164، 206، 257، 330، 333، 334، 366. 8/ 35، 55، 64، 98، 101، 151، 170، 210، 247، 268، 270، 308، 327، 329. ابن زكريا: 2/ 424. ابن زلماط مسعود: 8/ 334، 335. ابن زمرك: 2/ 233، 294، 303، 310. ابن زياد طارق: 2/ 329. ابن زيدان عبد الرحمان: 1/ 66، 68، 378، 448، 494. ابن زيدون: 6/ 57. ابن زينب بومدين: 8/ 468. ابن السادات مصطفى: 3/ 129، 287، 410، 411. 5/ 229. 6/ 144، 209 - 213، 218، 221، 248، 330. 7/ 50. 8/ 77. ابن الساسي علاوة: 4/ 461، 468، 532. ابن ساعدة قس: 1/ 69. ابن الساعي: 3/ 243. ابن الساعي حمودة: 7/ 216. ابن سالم أحمد الأغواطي: 4/ 194، 196، 198، 206. ابن سالم أحمد الطيب: 3/ 62، 236. 4/ 141، 142، 160. 5/ 227، 475، 479، 484، 509، 521، 524، 525، 6/ 185، 205، 8/ 86. ابن سالم (الأغواطي): 7/ 412. ابن سالم الباي أحمد: 5/ 399. ابن سالم الباي علي: 5/ 399. ابن سالم سي عبد الله بن الحاج: 5/ 368. ابن سالم الشريف بن أحمد: 6/ 205. ابن السائح أحمد: 4/ 229. 5/ 241، 398. 7/ 335. 8/ 305. ابن السائح هني: 4/ 532، 533. ابن سحنون: 6/ 139. ابن سحنون أحمد: 1/ 20، 21، 29، 31، 164، 208، 230، 258، 260، 272، 280، 281، 300، 328، 420، 446، 469. 2/ 26، 41، 84، 169، 173 - 177، 184، 197، 198، 202، 203، 212، 239، 240، 242، 243، 245، 250، 255، 258، 259، 260، 269، 279، 283، 284، 293، 311، 312، 316، 317، 325، 341، 342، 343، 344، 347، 346، 376، 389، 419، 423. ابن سديرة بلقاسم: 3/ 98، 269، 376. 4/ 75، 225، 366، 367، 5/ 69، 122، 171، 399، 549، 557. 6/ 27، 30، 33، 36، 54، 78، 103، 160، 174، 175، 178، 263، 347، 371. 7/ 75، 95، 349، 350. 8/ 49، 50، 51، 52 - 58، 59، 61، 62، 88، 166، 346. ابن سعد علي: 4/ 55، 336. ابن سعد محمد: 3/ 110. 4/ 487، 502 - 504، 507، 511. 5/ 475، 529.

_ 8/ 9. ابن سعدون محمد: 8/ 468. ابن سعود عبد العزيز: 4/ 413. ابن سعيد: 2/ 221. ابن سعيد أبو مدين: 8/ 464. ابن سعيدرع.: 7/ 127. ابن سعيد عبد القادر: 4/ 53. ابن سعيد عبد اللطيف: 1/ 432. ابن سعيد فرحات: 4/ 34. 6/ 302. 8/ 52. ابن سعيد محمد: 4/ 511. ابن السفار الحاج علي: 7/ 287. ابن السكات (عائلة): 1/ 45. ابن السكات عبد الله: 1/ 170. ابن سلام: 5/ 452. ابن سلطان أبو القاسم: 2/ 134، 385. ابن سلول: 7/ 332. ابن سليمان أحمد: 7/ 195. ابن سليمان أحمد المجذوب: 1/ 486. ابن سليمان سيدي علي: 7/ 234. ابن سليمان الشريف: 5/ 47. ابن سليمان عمر: 3/ 265. ابن سليمان قدور: 3/ 230. 4/ 59، 72، 77. 5/ 485. 7/ 66، 67، 137، 138، 153، 161، 290. 8/ 90، 222. ابن سليمان محمد: 1/ 60، 101، 139، 158، 203، 215، 216، 263، 268، 275، 295، 325، 337، 342، 353، 359، 376، 419، 420، 467، 472، 475، 476، 477، 485، 488، 504 513. 2/ 100، 112، 118، 120 122، 125، 126، 131، 132، 139 213، 252، 282، 263، 317، 355 363، 383، 384، 407، 420، 438 439. 4/ 334. 8/ 90، 222،. ابن سليمان محمد الروداني: 2/ 135، 136. ابن السماتي سيدي مبارك: 3/ 237. ابن سماية: 1/ 167. 6/ 144. ابن سماية (عائلة): 8/ 419. ابن سماية عبد الحليم: 3/ 93 - 96، 98 112، 117، 163، 221، 245، 272 389، 402. 4/ 375، 496، 512. 527، 5/ 239، 277، 289، 390 587، 590، 592، 593، 595. 6/ 28، 57، 103، 104، 239، 241، 333، 350، 381، 429. 7/ 10، 47، 58، 63، 83، 164، 165، 167، 169، 185، 186، 392، 423. 8/ 67، 69، 90، 98، 103، 170، 193، 268، 270، 271، 278، 422. ابن سماية عبد الرحمن: 3/ 95. ابن سماية علي: 3/ 93، 95، 389. 4/ 496. 5/ 229. 6/ 35، 183، 184، 195. 7/ 61، 69، 164، 184. 8/ 15، 422، 423. ابن سماية عمر: 4/ 379. 5/ 590، 597. 8/ 422، 423، 433.

_ ابن سماية محمد: 5/ 590. ابن سمينة محمد: 3/ 250. 7/ 70. 8/ 227، 232، 260. ابن السنوسي عبد القادر: 7/ 325. ابن سهل: 2/ 303، 428، 5/ 278. ابن سهل إبراهيم الإشبيلي: 8/ 255، 464. ابن سودة: 1/ 68. 7/ 100. ابن سودة التاودي: 4/ 247، 7/ 73. ابن سودة عمر بن الطالب: 7/ 75. ابن سوري محمد: 1/ 65، 215، 216، 421، 468. 2/ 126. ابن شاكر: 5/ 47، 119. ابن الشاهد إبراهيم: 2/ 274. ابن الشاهد (عائلة): 1/ 399. ابن الشاهد محمد: 1/ 26، 258، 283. 2/ 36، 128، 148، 184، 239، 250، 259، 273، 274، 293. 3/ 72، 74، 7 7. 371، 523. 5/ 15، 140، 348، 433. 6/ 153، 184، 358، 360، 361. 7/ 37، 78، 96، 97، 288، 457. 8/ 7، 8، 193، 273، 274، 275، 292، 293، 294، 306، 335، 338. ابن السوسي محمد: 4/ 235. ابن السويكت: 1/ 212. 8/ 315. ابن سيدي الشيخ الزواوي: 3/ 264. ابن (سيدي) الهادي محمد: 2/ 26، 35، 227، 244. ابن (سيدي) هدى محمد: 2/ 35، 302، 375. ابن سينا: 1/ 350، 355. 2/ 420، 424، 427، 428، 432، 433، 434، 436. 4/ 165. 6/ 250. 7/ 171، 231، 240، 263. ابن الشاذلي محمود: 3/ 129، 132، 390، 391. ابن الشارف محمد بن علي: 4/ 247. ابن شاس: 1/ 70، 133. ابن الشاط: 1/ 127. ابن شاكر: 5/ 47، 119. ابن الشاهد إبراهيم: 2/ 274. ابن الشاهد (عائلة): 1/ 399. ابن الشاهد محمد: 1/ 26، 258، 283. 2/ 36، 128، 148، 184، 239، 250، 259، 273، 274، 293. 3/ 72، 74، 77، 371، 523. 5/ 15، 140، 348، 433. 6/ 153، 184، 358، 360، 361. 7/ 37، 78، 96، 97، 288، 457. 8/ 7، 8، 193، 273، 274، 275، 292، 293، 294، 306، 335، 338. ابن الشاهين أحمد: 2/ 48، 99، 217، 218، 276. ابن الشباح سعيد: = الشباح. ابن الشباط محمد التوزري: 2/ 327. 7/ 354. ابن شبانة: 5/ 56. ابن شبيرة أحمد: 3/ 214. ابن شبيرة محمد علي: 3/ 88، 214، 218. 4/ 160. ابن الشتاح السعيد: 4/ 461، 467، 468، 469. ابن الشرقي علي: 8/ 325. ابن شريط عمار: 3/ 126. ابن الشريف أحمد: 8/ 389. ابن الشريف (ضابط): 8/ 175، 178، 179. ابن الشريف عبد القادر: 1/ 220، 221،

_ 222، 224، 268، 518. 2/ 127، 316. 4/ 30. 30. 7/ 368. ابن الشريف (قايد): 7/ 468. ابن الشريف محمد (السلطان): 1/ 436. 2/ 194. ابن شعاعة محمد: 1/ 459، 461، 465، 466. ابن شعبان إبراهيم: 5/ 280. ابن شعبان أحمد: 4/ 366. ابن شعبان مصطفى: 5/ 49، 254، 296، 582. 8/ 232. ابن شعوة عبد الرحمن: 4/ 451. ابن شغيب المهدي: 3/ 140. 7/ 354. ابن شقرون عبد القادر: 1/ 442. 2/ 37. ابن شقرون محمد الوجديجي: 1/ 424. ابن شنب رشيد: 5/ 419، 423، 425، 428، 429، 588، 590. 6/ 253. 8/ 184، 270، 440، 441. ابن شنب سعد الدين = ابن أبي شنب. ابن شنب محمد= ابن أبي شنب. محمد ابن شنوف: 4/ 413. ابن شنوف الحاج العربي: 5/ 391. ابن شهرة ناصر: 4/ 153، 198. 5/ 479، 490، 517. 6/ 129. 8/ 91، 216، 331. ابن شهلة محي الدين: 4/ 247. ابن شهيدة محمد: 2/ 175، 197. ابن شهيدة يحيى: 2/ 97. ابن الشويهت عبد القادر: 1/ 300. ابن شيبان محمد صالح: 3/ 193. ابن الشيخ أبو القاسم الحفناوي: 1/ 29، 71، 319، 359، 419، 455، 449. 2/ 14، 119، 273، 407، 415. 3/ 77، 79، 82، 83، 88 - 94، 99، 110، 112، 113، 126، 134، 163، 183، 184، 194، 216، 237. 4/ 71، 73، 76، 147، 150، 154، 158، 159، 176، 177، 377، 379، 385، 484، 486، 502، 511، 521، 524، 525، 537. 5/ 228، 229، 242، 289، 307، 400، 503، 585، 586 6/ 99، 171، 172، 183، 184، 195، 213، 249. 7/ 63، 81، 106، 136، 169، 184، 253، 257، 263، 292، 303، 306، 311، 423، 426، 427، 428، 429، 430، 431، 434، 473، 444. 8/ 12، 15، 56، 99، 103، 111، 167، 169، 235، 236، 245، 246، 286. ابن الشيخ بلقاسم: 7/ 427. ابن الشيخ الحسين (عائلة): 7/ 411. ابن الشيخ الحسين العباس: 8/ 117. ابن الشيخ الحسين عبد القادر: 4/ 380. ابن الشيخ عبد الحكيم: 4/ 233. ابن الشيخ علي محمود: 2/ 424. 3/ 287، 411. 5/ 229، 399، 596. 6/ 144، 183، 209، 213 - 218، 221، 248، 330. 7/ 147، 262، 263. 8/ 68. ابن الشيخ عمر: 7/ 285.

_ ابن الشيخ محمد بن الصغير: 7/ 427. ابن الشيخ محمد الشريف: 7/ 132، 283، 473. ابن الشيخ المدني: 7/ 257، 259. ابن صابر بلقاسم: 1/ 485، 488، 489. 2/ 282. ابن صارمشق: 1/ 291. 2/ 449. ابن صارمشق أحمد: 5/ 104. ابن صارمشق (عائلة): 5/ 399. صارمشق الهاشمي: 8/ 419. ابن صاري الحاج العربي: 5/ 302، 316. 8/ 467، 469، 470، 471. ابن صاري رضوان: 8/ 470. ابن صاري محمد: 8/ 468. ابن صالح أحمد: 5/ 394. ابن صالح المهدي: 1/ 407، 418. ابن الصباغ: 4/ 69. ابن الصباغ محمد: 1/ 463. ابن الصحراوي قدور: 1/ 222. ابن الصخري: 1/ 180. ابين الصخري أحمد: 1/ 216 - 217، 293. ابن الصخري محمد: 1/ 217، 221، 293، 297، 299، 363، 364، 372، 398، 412، 416، 521. 2/ 53، 54، 61، 106، 125، 191، 335. ابن الصديق عبد القادر: 5/ 578. ابن الصديق الهاشمي: 4/ 120. ابن صعد: 1/ 74 - 76، 286 - 472 - 476. 2/ 112، 118، 4/ 60. ابن صعد محمد بن أحمد: 1/ 44، 73. ابن الصغير: 6/ 53. ابن الصغير الحبيب: 4/ 274. ابن الصفار أحمد: 5/ 130. ابن صفية الجيلالي: 3/ 234. ابن صفية يحي: 8/ 228. ابن صولة محمد: 1/ 325. 2/ 21. ابن صيام أحمد: 5/ 202. ابن صيام سليمان: 4/ 443، 490، 494، 521. 5/ 229، 8/ 68. ابن صيام محمد: 5/ 191، 196، 197. ابن الطالب أحمد: 4/ 507. ابن الطاهر أحمد: 4/ 431. 7/ 358. ابن الطاهر رابح الصحراوي: 8/ 309. ابن الطاهر محمد: 4/ 76. 367. ابن طعيوج أبو القاسم: 3/ 198، 199، 200. 7/ 61، 80، 144، 145، 174. ابن طفيل: 7/ 171. ابن طلحة: 4/ 32. ابن طوبجي عبد القادر: 8/ 468. ابن طولة شريط: 1/ 217. ابن طوير الجنة أحمد المصطفى: 2/ 131. 5/ 570، 571، 577. ابن الطيب الأخضر: 8/ 97. ابن الطيب الحاج الأخضر: 5/ 393. ابن الطيب حمزة: 7/ 460. ابن الطيب عبد الرحمن: 4/ 113. 7/ 410.

_ ابن الطيب عبد السلام: 4/ 312. ابن الطيب محمد: 7/ 141، 142. ابن الطيب محمد الشيخ: 3/ 232. ابن العابد محمد الجلالي: 3/ 145. ابن عابن: 3/ 445. 5/ 119. 6/ 338، 348. 7/ 182. 8/ 358، 367، 371، 391. ابن عاشر عبد الواحد: 7/ 36، 143، 149، 151. 8/ 165. ابن عاشور: 7/ 287. ابن عاشور أحمد: 8/ 145. ابن عاشور دحمان: 8/ 467. ابن عاشور الطاهر: 4/ 338. 6/ 375. 7/ 25، 70، 84. ابن عاشور (عائلة): 3/ 337. ابن عاشور الفاضل: 4/ 337، 338. 5/ 578. ابن عاشور قدور: 8/ 310. ابن عاشور محمد: 4/ 451. ابن عاصم: 1/ 373. 7/ 107. ابن العاصي سيد عبد الله: 7/ 234. ابن عالية (سيدي): 6/ 52. ابن العالية معمر بن سليمان: 4/ 107. ابن عامر (العوامر) إبراهيم: 5/ 98، 259. ابن عامر هلال: 8/ 47. ابن العايش محمد: 4/ 39. ابن العباس: 4/ 157. ابن العباس أحمد: 1/ 183. ابن العباس سيدي عيسى: 5/ 43. ابن عباس شعبان: 2/ 42، 64. ابن العباس عيسى: 1/ 278. ابن العباس محمد: 1/ 71، 124. 2/ 81. 163. ابن عبد الله أحمد (الثائر): 2/ 126، 365. ابن عبد الله الحاج الطاهر: 5/ 477. ابن عبد الله الحاج العربي: 7/ 468. ابن عبد الله الحاج محمد: 5/ 399. ابن عبد الله سليمان (ابن أبي داود): 3/ 193. ابن عبد الله عمر: 6/ 160. ابن عبد الله محمد: 3/ 230. 7/ 126. ابن عبد الله مصطفى: 7/ 325. ابن عبد الجبار عبد القادر: 1/ 485. ابن عبد الجليل إبراهيم: 6/ 378. ابن عبد الجليل (ابن جلول) القسنطيني: 2/ 42، 64. ابن عبد الجليل (عائلة): 5/ 495. 7/ 352. ابن عبد الحكم: 6/ 304، 307. 7/ 26، 170. ابن عبد الحكم الجيلالي: 7/ 24، 63، 443. ابن عبد الرحمن: 6/ 334. ابن عبد الرحمن أبو حفص: 4/ 209. ابن عبد الرحمن أمين: 3/ 388. 4/ 379. ابن عبد الرحمن أمين قدور: 8/ 247. ابن عبد الرحمن عبد القادر: 4/ 509. ابن عبد الرحمن علي: 3/ 78، 111، 112،

_ 114، 124، 227. 4/ 380، 451، 513. 5/ 388. 7/ 71، 75، 137، 371. 8/ 111، 348. ابن عبد الرحمن محمد: 4/ 107، 116، 156، 377. ابن عبد الرحمن المسعود: 2/ 394، 395. ابن عبد الرحمن منة: 4/ 248. ابن عبد الرحيم: 4/ 159. ابن عبد الرسول ابن عبد الكريم: 2/ 35، 235. ابن عبد الرسول عمر: 4/ 250. ابن عبد السلام: 1/ 133، 6/ 166. ابن عبد السلام الطاهر: 5/ 490، 491، 576. 7/ 454، 455. 8/ 231، 232. ابن عبد السلام العز: 4/ 66. ابن عبد العزيز الحاج محمد: 3/ 265. ابن عبد العزيز حمودة: 1/ 296. 2/ 185، 226، 228، 277. ابن عبد العزيز زروق: 7/ 72. ابن عبد العظيم أحمد: 1/ 325. ابن عبد القادر بن عبد الله: 4/ 117. ابن عبد القادر محمد: 3/ 214. 4/ 247. ابن عبد القادر مسلم: 1/ 167، 432. ابن عبد القادر مصطفى: 5/ 557. ابن عبد القادر مولاي الحسن: 3/ 93. ابن عبد الكريم محمد: 1/ 61، 89، 181، 354، 426، 427، 428، 512. 2/ 17، 19، 51، 109، 131، 145، 153، 161، 205، 208، 222، 261، 323، 336، 338. 5/ 26، 140، 1156،. 7/ 78، 79، 80، 97، 159، 200، 201، 253، 255 348، 369، 374، 387، 397، 399 441، 451، 452. 8/ 264. ابن عبد اللطيف أحمد: 2/ 200، 228، 368، 370. ابن عبد المالك الحبيب: 4/ 413. ابن عبد المطلب يونس: 5/ 367. ابن عبد المولى علي: 4/ 253. ابن عبدالمؤمن: 1/ 382، 394، 403، 466. ابن عبد المؤمن محمد: 2/ 44، 45، 51، 72، 98، 187، 198، 240، 323، 358. ابن عبد الوهاب عبد الستار: 2/ 185. ابن عبد الوهاب محمد: 1/ 508. 2/ 293، 4/ 339، 7/ 178. ابن العبري: 2/ 325. ابن عبورة حسن: 8/ 435، 436، 437. ابن عثمان باي: 5/ 101، 104. ابن عثمان البليدي: 4/ 182. ابن عثمان الحاج علي: 3/ 161. ابن عثمان الحسين: 4/ 182. ابن عثمان (الشيخ): 8/ 311. ابن عثمان ضاي محمد: 2/ 270. ابن عثمان عثمان: 7/ 336. ابن عثمان علي: 3/ 88، 215، 217. 219. 4/ 31، 148، 149، 160، 161، 175، 182، 188، 288، 308، 319.

_ 7/ 61، 65، 129. ابن عثمان عمر بن علي: 4/ 185. ابن عثمان عمر (ثائر): 4/ 179. ابن عثمان محمد باشا: 5/ 41. ابن عثمان محمد باي (الكبير): 2/ 84، 340، 345. ابن العجمي حبيب: 4/ 65، 193. ابن عجيبة أحمد: 2/ 39. ابن عدة أحمد: 3/ 230. ابن عدة عبد المجيد: 3/ 88، 96، 99. 5/ 313. 6/ 253، 7/ 273. ابن العديم: 2/ 165. ابن عذبية الأطرش: 4/ 84، 85. ابن عذبية الحسين: 4/ 85. ابن عراش المولود: 4/ 202. 6/ 146، 185، 201، 342، 8/ 128. ابن العربي: 1/ 450، 451، 7/ 117، 118، 445. ابن العربي أبو بكر: 2/ 10. ابن العربي أحمد الهاشم: 4/ 113. ابن عربي زوينة: 4/ 247. ابن العربي قدور: 6/ 227. ابن العربي قدور (المملوك): 6/ 166. ابن العربي قدور (دكتور): 7/ 265، 266. ابن العربي محمد (طبيب): 3/ 388. 4/ 79، 191، 479، 6/ 144، 222، 223، 225 - 228، 253. 8/ 153، 247، 392. ابن عربي محي الدين: 1/ 187، 459. 4/ 130. 5/ 298، 522، 540، 562. 7/ 96، 97، 140، 160. ابن عربية الصديق: 4/ 448، 449. ابن عربية يوسف: 4/ 448. ابن عرفة: 1/ 52، 92، 106، 133. ابن عروس: 2/ 248. ابن عروس أحمد: 1/ 62. ابن عزة أبو بكر: 1/ 504، 505. ابن عزوز أحمد الأمين: 3/ 100. ابن عزوز الأزهاري: 3/ 250. 4/ 182. ابن عزوز الأزهر: 4/ 188. ابن عزوز التبريزي: 4/ 337. ابن عزوز الحسن: 3/ 216. ابن عزوز الحسين: 4/ 146. 7/ 337، 402، 403. 8/ 52، 86، 87. ابن عزوز الحفناوي: 4/ 182. ابن عزوز ذخيرة: 4/ 148. ابن عزوز (عائلة): 4/ 148. ابن عزوز عبد الله المراكشي: 2/ 142، 143، 411، 412، 421. 7/ 226. ابن عزوز عبد الرحمن: 1/ 183. 3/ 157. ابن عزوز الكامل: 3/ 217. 4/ 182، 183، 7/ 128. ابن عزوز مبروك: 4/ 182. ابن عزوز محمد: 3/ 127، 216. 4/ 146، 147، 148، 150، 154، 182، 188. 7/ 45، 127، 128، 129، 402. 8/ 237.

_ ابن عزوز محمد البرجي: 2/ 147. ابن عزوز محمد الديلمي: 1/ 424. ابن عزوز محمد العربي: 7/ 61. ابن عزوز محمد (قاض): 4/ 452، 462، 482. ابن عزوز محمد مصطفى بن المكي: 7/ 170 ابن عزوز المدني: 5/ 400. 7/ 53، 57، 60، 128. 8/ 212. ابن عزوز مصطفى: 1/ 503. 3/ 216، 217. 4/ 32، 146، 147، 148، 153، 170، 176، 182، 183، 188، 272. 5/ 454، 490، 575. 7/ 10، 57، 60، 67، 128، 258، 402. 8/ 75، 217. ابن عزوز مكي: 3/ 6، 83، 185، 200، 217، 221. 4/ 150، 153، 183، 188، 499، 508. 5/ 490، 492، 503، 520، 529، 575، 603، 616. 7/ 50، 56، 60، 68، 69، 73، 84، 129، 147، 258، 279، 286، 473. 8/ 90، 91، 221، 236، 237، 274. ابن عسكر: 1/ 31، 61، 74، 94، 426، 467، 494، 496. 2/ 45، 80، 95، 128، 133، 296، 327، 358، 359. ابن عشرين الحسن: 5/ 578. ابن عطاء الله: 1/ 111، 290، 350، 370، 472، 480، 499. 2/ 123. 4/ 67، 69، 113. 7/ 80. ابن العطار محمد: 3/ 78. ابن عطية: 2/ 15، 17. ابن عطية العربي: 3/ 228. 4/ 71، 114، 115، 116، 197، 297. 5/ 572. 7/ 66، 135. ابن عظوم: 4/ 154. ابن عظوم عبد الجليل: 1/ 235. ابن العقبي علي: 5/ 259. ابن علال حامد: 4/ 84. ابن علال علي (ابن مبارك): 4/ 383. ابن علال محمد: 3/ 80. 4/ 36، 489. 5/ 105، 307، 327، 511، 529، 533. 6/ 185، 201، 204. 8/ 86، 87. ابن علال محي الدين: 4/ 492. 6/ 205. ابن علاوة: 3/ 244، 246. ابن علي: 5/ 348. ابن علي إبراهيم: 5/ 18. ابن علي أحمد: 5/ 22، 57. ابن علي بورك: 7/ 335. ابن علي السعيد البجائي: 7/ 348، 349. ابن علي سليمان التلمساني: 2/ 240. ابن علي الشريف: 1/ 266، 268، 325، 335، 343، 464. 2/ 20، 126، 139، 276، 328، 365، 407، 409، 410. 5/ 229، 361، 364، 365، 373. 6/ 120، 125، 139. 8/ 79، 80. ابن علي الشريف أحمد: 7/ 341. 8/ 101. ابن علي الشريف السعيد: 7/ 116، 122،

_ 278، 427، 449، 450، 476، 477، 478. ابن علي الشريف سيدي موسى: 3/ 184. ابن علي الشريف محمد السعيد: 3/ 29، 182، 183، 184، 202. 4/ 160. 306، 413، 443. 160، 306، 413، 443. 6/ 203، 209، 303، 331. 8/ 68، 328. ابن علي الشريف محمد الشريف: 4/ 533. ابن علي صالح: 4/ 145. ابن علي عبد المؤمن: 4/ 66. 8/ 51. ابن علي عبد النبي: 4/ 233. ابن علي عسول: 5/ 254. ابن علي الغوثي: 6/ 57. ابن علي مبارك: 1/ 241، 271، 469. 6/ 205، 7/ 201. ابن علي مبارك خديجة: 4/ 493. ابن علي محمد: 5/ 22. ابن علي محمد (الشاعر): 1/ 7، 29، 78، 204، 267، 295، 365، 373، 399، 400، 403، 404، 443. 2/ 65، 66، 198، 202، 208، 212، 225، 227، 228، 232، 233، 239، 248، 257، 259، 268، 272، 273، 275، 276، 286، 289، 290، 291، 292، 293، 295، 299 - 310، 325، 335، 337، 358، 375، 426. ابن علي المكي: 3/ 155. ابن علي (ولي): 1/ 265. ابن عليوة أحمد المصطفى: 1/ 126 - 139، 304، 325، 329. 5/ 260، 310، 495، 503، 504. 6/ 294، 433، 434، 436. 7/ 22، 23، 24، 25، 81، 102، 134، 142، 143، 144، 470، 471، 472. 8/ 197، 222، 223، 239. ابن العماد: 2/ 422. ابن عمار أحمد: 1/ 1، 29، 159، 171، 255، 273، 283، 288، 295، 346، 347، 350، 361، 384، 390، 400، 430، 431، 439، 452، 482. 2/ 2، 11، 12، 26، 27، 30، 34، 36، 43، 46، 48، 50، 51، 65، 66، 68، 85، 112، 126، 152، 173، 182، 183، 184، 185، 186، 188، 195، 199، 202، 205، 212، 224، 239، 240، 245، 247، 246، 248، 265، 272، 274، 276، 277، 289، 292 - 295، 297، 299، 301، 303، 304، 306، 307، 308، 310، 326، 357، 358، 363، 364، 366، 378، 382، 387، 388، 391، 392، 426، 440، 446. 5/ 348، 389. 6/ 180. 7/ 47، 69، 81، 89. 8/ 7، 75، 384، 385. ابن عمار أحمد زروقي: 1/ 93. 2/ 226. ابن عمارة محمد: 4/ 174. ابن عمر باعزيز: 8/ 67.

_ ابن عمر التهامي: 1/ 516. ابن عمر الحاج: 8/ 238. ابن عمر الحسين الطولقي: 7/ 128. ابن عمر الحفناوي: 7/ 427. ابن عمر حميدة: 8/ 113. ابن عمر (سيدي): 8/ 309. ابن عمر صالح: 3/ 268. ابن عمر صالح باي: 7/ 335. ابن عمر الطاهر: 4/ 438. ابن عمر عبد الرحمن: 7/ 442. ابن عمير علي: 1/ 450، 503، 509. 2/ 147، 148. 3/ 172، 215، 216. 5/ 229، 230، 254، 367، 454. 7/ 65، 128، 258، 427. ابن عمر علي (صحفي): 6/ 183، 184، 188، 190، 212. ابن عمر علي الطولقي: 4/ 147، 148، 149، 153، 161، 188، 271. ابن عمر محمد: 8/ 324. ابن عمر مصطفى: 6/ 200، 377. 8/ 310. ابن عمر يحيى: 3/ 268. ابن عمرو عبد القادر: 4/ 247. ابن عمرو نصر علي: 2/ 412. ابن العمري حمو: 3/ 129. ابن العنابي محمد بن محمود: 1/ 8، 20، 26، 165، 166، 259، 294، 295، 302، 347، 348، 393، 398، 399، 400، 418، 445، 449، 452، 453، 482. 2/ 9، 11، 18، 27، 32، 38، 46، 48، 65، 68، 79، 85، 86، 92، 101، 102، 112، 169، 176، 195، 410، 418. 3/ 58، 72، 74، 80، 324. 4/ 36، 350، 359، 371، 537. 5/ 140، 159، 212، 329، 348، 473، 496، 529. 6/ 199، 213. 7/ 10، 47، 54، 68، 77، 104، 105، 200، 201، 206، 207، 224، 153، 262، 287، 441. 8/ 8. ابن عنتر (فنان): 8/ 438. ابن عنتر محمد: 7/ 36. ابن العنتري أحمد: 4/ 452. ابن عودة بن عبد الحليم: 4/ 452. ابن عودة سي محمد: 8/ 363. ابن عودة سيدي محمد: 3/ 31، 238. ابن عودة الشريف: 3/ 106، 163. ابن عودة محمد: 1/ 469. 4/ 45. ابن عودة محمد الغيليزاني: 8/ 318. ابن عياد أحمد: 4/ 440. ابن العيدوني محمد: 4/ 507. ابن عيسى: 6/ 391. ابن عيسى أبو علي: 8/ 130. ابن عيسى الحاج العربي: 4/ 198. 8/ 127. ابن عيسى الحبيب: 5/ 421. ابن عيسى سيدي علي: 7/ 325. ابن عيسى الطيب: 5/ 280. ابن عيسى عبد الرحمن المستغانمي: 8/ 473.

_ ابن عيسى عبد الرحمن المسيلي: 8/ 473. ابن عيسى علي: 3/ 126. 5/ 334، 335،. 8/ 127، 236. ابن عيسى علي (حفيد؟): 4/ 144. ابن عيسى علي (الكاف): 5/ 362. 7/ 285. ابن عيسى علي المغربي: 4/ 36، 139، 140، 142، 143، 144، 174، 188. ابن عيسى محمد: 2/ 81. 7/ 42، 138، 139. 8/ 343. ابن عيسى محمد (الشيخ): 4/ 23، 81، 84، 366. ابن عيسى محمد العربي: 1/ 298، 303، 309، 325. 3/ 126. 5/ 334، 335، 400. 7/ 346. 8/ 8. ابن عيسى موسى: 1/ 45. ابن غازي: 2/ 27، 71. ابن غازي محمد: 7/ 38، 39. ابن غانية: 6/ 64. ابن غبريط ابن عودة: 4/ 396. 7/ 406. ابن غبريط قدور: 4/ 396، 411، 412، 413. 5/ 483. 6/ 103، 162. 7/ 406. ابن غذاهم علي: 4/ 222. ابن غراس الطاهر: 3/ 374. 4/ 440. ابن الغرديس محمد: 1/ 124. ابن غرنوط: 2/ 431. ابن غلام الله: 6/ 362. ابن غلام الله عدة: 3/ 229. 4/ 70، 71، 80، 116، 170، 271، 297، 304، 312، 431. 7/ 66، 135، 136، 366. ابن الغول علي: 7/ 138. ابن غياطو مصطفى: 4/ 450، 451. ابن فارس إبراهيم = شريف ورقلة. ابن فارس سيدي علي: 5/ 137. ابن الفارض: 1/ 80، 459. 2/ 132، 248، 253. 7/ 117. ابن الفاسي أحمد: 4/ 461، 467، 468. ابن فائد إبراهيم الزواوي: 1/ 121. ابن فتح الله محمد: 3/ 127. ابن الفخار: 8/ 45. ابن فرحات جلول: 7/ 412. ابن فرحات علي باي: 2/ 332. ابن فرحات محمد: 1/ 422. ابن فرحات محمد بن قدور: 5/ 399. ابن فرحات المختار: 8/ 340، 341. ابن فرحون: 1/ 133. 2/ 124، 245، 396. 7/ 334، 354. ابن فرحون علي: 5/ 396. ابن فريحة: 5/ 327. ابن فريحة عبد القادر: 3/ 123، 124،، 125. ابن فشوش محمد بن علي: 1/ 46، 111، 113، 354. ابن الفضيل دحمان الديسي: 7/ 258. ابن الفكون: 6/ 66، 161، 263. ابن فوديو عثمان: 6/ 234. ابن فيالة: 5/ 150. ابن قادة الصادق: 3/ 111.

_ ابن قار مصطفى عبد القادر: 4/ 512. ابن قارة سليمان: 7/ 386. ابن قارة عبد القادر: 8/ 90. ابن قارة مصطفى: 7/ 137. ابن قاسم محمد: 1/ 422. ابن القاضي: 1/ 63، 124، 125، 376 - 379. ابن القاضي (إمارة كوكو): 1/ 211. ابن القاضي أحمد: 2/ 45، 49، 134، 135، 175، 213. ابن قانة: 3/ 153، 215. 8/ 52، 53، 408. ابن قانة بوعزيز: 4/ 413. ابن قانة (شيخ العرب): 6/ 302. ابن قانة (عائلة): 4/ 148، 209. ابن قانة محمد الصغير: 8/ 55. ابن القايد علي محمد: 5/ 594. 8/ 278. ابن القائد عمر حميدة: 3/ 111. ابن القبطان أحمد: 3/ 339، 388. 4/ 379. 5/ 452. 8/ 247. ابن قبيل بومدين: 8/ 470. ابن قدور سليمان: 4/ 107. ابن قدور عمر: 3/ 94، 99، 245، 249. 4/ 500. 5/ 216، 242، 245، 247، 252، 264، 273، 276 - 284، 286، 287، 290، 292، 492، 581، 592، 607، 608. 6/ 144، 184، 187. 7/ 124. 8/ 67، 68، 164، 195، 196، 199، 250، 251، 253، 254، 255، 256، 257، 258، 259، 260، 270، 288. ابن قدور محمد: 4/ 233. ابن قراني عويس: 4/ 282. ابن قربة بلقاسم: 4/ 41. ابن قرمان: 1/ 393. ابن قرواش محمد: 1/ 362.2/ 277. ابن القرون عبد الرحمان: 1/ 501. ابن قري الحسين: 7/ 36. ابن قريش الحاج حسين: 5/ 32. ابن القريني: 7/ 145. ابن قريو (كريو) عبد الله: 8/ 309، 318. ابن القزادري محمد: 7/ 61. ابن القشي = بلقشي. ابن قطاط عبد القادر: 8/ 468. ابن قلفاط مجدوب: 6/ 169، 253، 254. 8/ 174، 389. ابن قلفاط محمد: 5/ 109. ابن القندوز: 1/ 223. 4/ 116. ابن القندوز النوي: 5/ 39. ابن القنفذ أحمد: 1/ 41، 42، 44، 45، 51، 52، 57، 59، 60، 63، 64، 66، 67، 73، 78، 88، 92، 102، 104، 111، 114، 115، 118، 119، 123، 132، 418. 2/ 149، 382، 404، 405، 5/ 388، 6/ 47، 62. 7/ 343. 8/ 169. ابن القنفذ حسن: 5/ 148. ابن القوطية: 6/ 45.

_ ابن قويدر رابح: 6/ 297. 8/ 132. ابن قيطون محمد: 8/ 319. ابن القيم (بلقيم) الحاج علي: 3/ 164. 4/ 235. ابن قينة عمر: 7/ 74. 8/ 130، 144، 148، 217، 221. ابن كانون (قائد): 5/ 479. ابن الكاهية أحمد: 3/ 77. 4/ 524. 7/ 54. ابن الكبابطي: 1/ 183. ابن الكرتيلو يونس: 1/ 407. ابن الكردبوس: 2/ 325، 440. ابن كرونبة مصطفى الأندلسي: 5/ 63. ابن كريبع: 4/ 155. ابن كلثوم عمرو: 8/ 259. ابن الكماد القسنطيني: 1/ 346. ابن الكماد محمد: 1/ 324، 344، 350، 381، 384، 427، 428. ابن كمخة: 5/ 20. ابن كيران الطيب: 2/ 37. 4/ 247، 507. ابن لدغم بو عبدل: 1/ 485. ابن للو التلمساني: 1/ 420، 421، 467. 2/ 12، 13، 14. ابن لوطا الصادق: 4/ 416، 8/ 177، 178. ابن لؤي خالد: 5/ 485. ابن لؤي كعب: 1/ 69. ابن الماروني الطاهر: 1/ 300. ابن ماسويه: 2/ 433. ابن مالك: 2/ 82، 161، 165. 7/ 283. 8/ 46. ابن مالك أحمد: 1/ 266. ابن مالك سيدي محمد: 3/ 202. ابن مالك علي بن أحمد: 2/ 281. ابن مالك محمد: 1/ 419. 2/ 36، 133، 148، 163، 228، 264، 265، 281، 298. 7/ 286، 287. ابن مالك محمد بن علي الثقابي: 3/ 202، 212. 7/ 36، 64. ابن مالك محمد بن الموهوب: 7/ 284. 285. ابن مالك النحوي: 8/ 47. ابن المبارك أحمد: 2/ 49، 152، 275، 276، 282، 426. ابن المبارك أحمد (العطار): 1/ 214، 262، 432، 468، 519. 2/ 167، 168، 169. 3/ 126، 127، 130، 374. 4/ 88، 295، 440، 449، 485. 5/ 338. 6/ 21، 66، 172. 7/ 45، 312، 344، 345، 346، 347، 353، 354، 451. 8/ 8، 66، 113، 114، 168. ابن المبارك الأخضر: 3/ 232. ابن المبارك الحاج علي: 3/ 231، 236. ابن المبارك الحاج محي الدين: 3/ 62، 80، 236. 4/ 34، 489، 493. 5/ 571، 6/ 240. ابن المبارك رايس: 1/ 198.

_ ابن المبارك (عائلة): 1/ 399. ابن المبارك علي القليعي: 2/ 50. ابن مبارك مبارك: 4/ 235. ابن المبارك محمد: 1/ 301. ابن المبارك محمد العطار: 5/ 88. ابن المبخوت أحمد: 4/ 121. ابن مجقان أحمد: 6/ 104، 163، 164 165، 233، 262. ابن مجنان علي بن الحاج: 2/ 168. ابن المحبوب محمد: 4/ 153. ابن محجوبة يحيى: 1/ 422، 447. 2/ 159. 5/ 144، 145، 148، 149. ابن محرز محمد الوهراني: 2/ 207. ابن محلى: 2/ 262، 337. ابن محمد أحمد: 4/ 366، 376. 5/ 122. 6/ 152. ابن محمد بلقاسم: 8/ 35. ابن محمد حسن: 3/ 408. 6/ 158، 159. ابن محمد حسين: 2/ 18. ابن محمد سالم: 2/ 165، 269. ابن محمد سعيد (محند): 8/ 473. ابن محمد سيدي أحمد: 7/ 466. ابن محمد علي: 7/ 275. ابن محمد عمر (أبو حفص): 1/ 436. ابن محمد قدور: 3/ 306، 408. ابن محمد قويدر: 4/ 115. ابن محمد مالك: 6/ 205. ابن محمد محمد (سي محند): 8/ 35، 203، 308، 321، 322، 329. ابن محمد الهاشمي: 6/ 179. ابن محمد وعلي: 7/ 473. ابن محمود أحمد: 5/ 42. ابن محمود الحاج محمد: 1/ 235. ابن محمود محمد: 1/ 277. ابن محمود محمد المختار: 5/ 274. ابن محند محند: 6/ 325. ابن محي الدين قدور: 8/ 268. ابن المختار الطيب: 4/ 417، 443، 472 486، 487. 5/ 529، 548. 6/ 363. 7/ 40، 41، 46، 152، 322، 324 326، 327، 329، 337، 338. 8/ 12، 43، 66، 94، 262، 263، 273، 280، 281، 288، 291، 292، 304، 306. ابن المختار (عائلة): 5/ 512. ابن المختار محمد: 7/ 440. ابن المختار محمد الصغير: 4/ 487. ابن المختار مصطفى العربي: 4/ 43. ابن مخلوف أحمد: 4/ 275، 276. ابن مخلوف سيدي علي: 5/ 86، 147. ابن المداح مصطفى: 8/ 344. ابن المرابط: 3/ 58. ابن مرابط قدور: 4/ 367. ابن مرابط محمد: 5/ 35، 433. 8/ 389، 465. ابن المرابط مصطفى: 6/ 358، 361. ابن مراد إبراهيم: 2/ 431.

_ ابن مراد الأخضر: 7/ 195. ابن مراد (عائلة): 3/ 337. ابن مرزوق: 1/ 119، 287، 498. 272، 463. ابن مرزوق أحمد: 3/ 142، 143، 144. ابن مرزوق (الجد): 1/ 52. ابن مرزوق (الحفيد): 1/ 52، 53، 68، 106. 67، 71. 2/ 33. ابن مرزوق الخطيب: 1/ 435. 2/ 393. ابن مرزوق (الكفيف): 1/ 124.2/ 33. ابين مرزوق محمد: 1/ 435. 2/ 215. 6/ 59، 7/ 319. ابن مرزوقة الملياني: 1/ 465. ابن مريم محمد: 1/ 29، 50، 52، 56، 63، 66، 69، 75، 77، 79، 90، 94، 95، 106، 111، 124، 125، 139، 158، 166، 177، 201، 212، 213، 252، 263، 267، 277، 293، 294، 320، 324، 326، 337، 344، 346، 376، 377، 2/ 10، 21، 67، 97، 112، 118، 119، 120، 121، 122، 124، 125، 132، 137، 138، 158، 208، 213، 241، 249، 253، 255، 326، 354، 355، 402، 420، 423. 4/ 60، 65. 5/ 107، 6/ 70، 7/ 306، 8/ 169. ابن مزني ناصر البسكري: 1/ 44، 45، 67، 2/ 324. ابن مزيان أحمد: 2/ 410، 415. ابن مزيان التلمساني: 8/ 263. ابن مسايب: 2/ 317، 389. 6/ 178. 8/ 308، 310، 464. ابن المسبح محمد: 1/ 404، 405. ابن المسراتي: 1/ 448. ابن مسعود قدور: 4/ 46. ابن مسكويه ابن مسكين: 7/ 354. ابن مسلم عبد العزيز: 2/ 241، 252، 406، 409. ابن مسلم محمد خوجة: 1/ 395، 399، 406. ابن المسني محمد بن مصطفى: 1/ 404، 418. ابن المسيسني قدور: 3/ 81. 4/ 375، 5/ 27. ابن المشري الريان: 7/ 124. ابن المشري محمد: 4/ 191. 7/ 124. ابن مشيش عبد السلام: 1/ 459، 461. 3/ 184، 4/ 65 - 69، 299. 7/ 476. ابن مصباح محمد العربي: 2/ 276، 365. 3/ 183، 5/ 373. 7/ 450. ابن مصطفى باشا إبراهيم: 3/ 324. 4/ 36، 452، 8/ 129. ابن مصطفى الحاج أحمد: 5/ 34. ابن مصطفى الحبيب: 7/ 152. ابن مصطفى حسين: 2/ 302. ابن مصطفى سيدي محمد: 6/ 170.

_ ابن مصطفى محمد: 1/ 346. 4/ 370. 442، 450، 451، 517. 7/ 81، 89. ابن مصطفى محمود: 3/ 232. ابن مصطفى محي الدين: 7/ 465. ابن مصطفى مصطفى: 1/ 236، 270. ابن المطماطية محمود: 5/ 82. 7/ 446، 448. ابن المظفر محمد: 2/ 30. ابن معاشو محمد: 4/ 438. ابن معاوز دحمان: 8/ 318. ابن معزة محمد الصباغ: 2/ 114. ابن معطي يحيى: 1/ 308. 5/ 137. ابن معنصر محمد: 3/ 148. ابن معنصر محمد الميلي: 5/ 359. ابن المغوفل محمد: 1/ 466. ابن المفتي: 1/ 29، 69، 145، 158، 216، 234، 293، 300، 305، 319، 325، 358، 362، 365، 366، 390، 393، 395، 403 - 405، 407، 408، 417، 418، 437، 449. 2/ 208، 210، 300، 302، 321 - 323، 348، 366، 376. ابن مقران الطاهر: 7/ 285. ابن مقلش مصطفى: 6/ 200، 302. ابن مقلة: 1/ 290. ابن المكي: 8/ 422. ابن المكي عثمان: 5/ 596. 7/ 143. ابن ملزي إبراهيم: 4/ 451. ابن ملوك محمد: 1/ 203. ابن ملوكة أحمد: 1/ 467. 2/ 81. ابن مناد (الشيخ): 8/ 466. ابن منشاوي سيي محمد: 5/ 512. ابن منصور عبدالله: 1/ 265. 2/ 207. 4/ 334. ابن منصور عبد الحق: 3/ 120. ابن منصور عبد الوهاب: 5/ 275. ابن منصور محمد: 4/ 334. ابن منيع بلقاسم: 4/ 413. ابن مهدي: 6/ 159. ابن مهدي إسماعيل: 6/ 158. ابن المهدي محمد بن علي: 1/ 373. ابن مهنا محمد الصالح: 3/ 70، 125، 128، 143، 272. 4/ 416. 5/ 82، 497، 598. 6/ 233، 333، 7/ 10، 76، 84، 138، 139، 214، 252، 330، 331، 332، 333، 478. 8/ 74، 77، 78، 111، 117، 118، 119، 120، 121، 209، 210، 212، 214، 215، 6 21، 217، 218، 306. ابن مهيدي العربي: 3/ 44، 392، 5/ 89، 132، 145، 149. ابن موسى حسن (باي): 5/ 496، 7/ 358، 465. ابن موسى عبد الرحمن: 1/ 201، 320. 2/ 249، 255. ابن موسى علي: 1/ 495. ابن موسى محمد: 7/ 54. ابن الموفق الحاج محمد: 5/ 479.

_ ابن الموفق الصالح: 7/ 289. ابن الموفق عبد الرحمان: 1/ 420. ابن الموفق عمر: 3/ 156. ابن الموفق محمد: 8/ 459. ابن مولاي أحمد الهاشمي: 7/ 67. ابن الموهوب: 6/ 38، 40، 57، 59، 232، 241، 334. 7/ 27، 47، 106، 154، 173، 3 21، 252. ابن الموهوب (عائلة): 5/ 375. ابن الموهوب عبد القادر: 1/ 325. ابن الموهوب عمر: 5/ 202. ابن الموهوب محمد: 4/ 336. 7/ 445. ابن الموهوب المولود: 1/ 523. 2/ 42، 165، 269. 3/ 98، 113، 131، 133، 138، 142، 190، 268، 390، 402. 4/ 338، 377، 380، 505، 518. 5/ 82، 314، 316، 391، 590، 592. 8/ 11، 67، 69، 107، 111، 160، 165، 192، 207، 230، 231، 244، 258، 259، 260، 270، 286، 288، 302. ابن ميلاد أحمد: 7/ 216. ابن ميلود محمد: 4/ 451. ابن الميلي محمد التاونتي: 1/ 74. ابن ميمون: 1/ 29، 31. ابن ميون حسن: 5/ 85. ابن ميمون محمد: 1/ 154، 159، 171، 204، 213، 228، 250، 295، 300، 391، 403، 411، 413، 415، 420، 436، 453. 2/ 15، 16، 171، 188، 190، 202، 204، 208، 209، 212? 223، 228، 255، 256، 257، 261، 262، 269، 275، 276، 287، 292، 302، 304، 305، 307، 310، 325، 336، 337، 358، 375، 376، 426. 5/ 46. ابن ناجي أبو الحسن: 2/ 388. ابن ناجي سيدي مبارك: 7/ 81، 336، 345. 8/ 398. ابن ناجي محمد: 2/ 21. ابن نادرة محمد أمزيان: 4/ 157. ابن ناصر: 8/ 398. ابن ناصر بن حسين: 7/ 337. ابن ناصر سليمان: 3/ 270. ابن ناصر سيدي أحمد: 7/ 337. ابن الناصر محمد: 1/ 284. 5/ 30. ابن ناصر محمد أرزقي: 3/ 163. ابن ناصر محمد الطيب: 7/ 337. ابن ناصر محمد المهدي: 7/ 338. ابن ناصر سيدي عبد الحفيظ: 7/ 337. ابن نافع عقبة: 3/ 251، 1/ 48، 277، 5/ 298، 6/ 235، 7/ 304. ابن نباتة: 7/ 354. ابن نبي مالك: 3/ 142، 145، 243، 244، 245، 400، 402. 4/ 20، 47، 474، 481. 5/ 251، 256، 257، 262، 263، 266. 6/ 233، 259، 260، 265، 327، 353، 378، 421، 431،

_ 433. 7/ 28، 29، 30، 31، 32، 149، 158، 207، 210، 211 - 220، 345. 8/ 11، 120، 175، 184، 187، 299، 341، 453، 450. ابن النجار عمر: 3/ 79. ابن النجاري الحبيب: 4/ 155، 450. ابن النحال: 4/ 45، 299. ابن النحوي: 2/ 112. ابن النحوي يوسف: 1/ 89، 90. ابن نصير موسى 1/ 197، 2/ 329. ابن النظر (الشيخ): 3/ 271. ابن نعمون: 2/ 402. ابن نعمون محمد: 1/ 159، 175، 400، 403، 405، 406. ابن النقاد الطاهر: 3/ 60، 127. 5/ 335. 6/ 158، 159، 175، 178، 195. 8/ 49. ابن نوح أبو النصر: 3/ 271. ابن نيكرو: 2/ 210، 228، 302، 310، 370، 375، 426. ابن نيكرو محمد بن إبراهيم: 1/ 183، 240، 258، 399، 403، 404. ابن نية الأطرش: 3/ 154. ابن الهادي سي علي: 3/ 193. ابن الهاشمي = الشريف. ابن الهاشمي عبد الحفيظ: 5/ 252، 311. ابن الهاشمي عبد العزيز: 3/ 235، 236. 7/ 116. ابن هدوقة البشير: 8/ 90. ابن هدوقة عبد الحميد: 5/ 305. 8/ 126، 144، 145. ابن هشام: 2/ 165. ابن هشام الأزهري: 3/ 266، 271. ابن هشام عبد الرحمن (سلطان): 4/ 147، 199، 203، 503. 5/ 514. 7/ 41. 8/ 206، 241. ابن هشام المصري: 8/ 46. ابن هطال أحمد: 1/ 143، 181، 221، 512. 2/ 175، 197، 261، 346. 7/ 359، 360. ابن هلال إبراهيم السجلماسي: 2/ 275. ابن الهلالي بلقاسم: 4/ 233. ابن هني أحمد: 3/ 228. 7/ 59. ابن هيبة عبد القادر: 4/ 233. ابن واد فل الطيب: 3/ 129. ابن واد فل محمد: 8/ 284. ابن وطاف عبد الحق: 7/ 204، 205. ابن الوقاد محمد بن أحمد: 1/ 425. ابن وليد الطيب قدور: 5/ 452. ابن الونان: 8/ 165. ابن ونيس أحمد: 2/ 121. ابن الونيسي الهاشمي: 4/ 471، 472. 8/ 57، 59. ابن الونيش الهاشمي: 6/ 54. ابن يحيى أحمد: 7/ 445. ابن يحيى سليمان: 3/ 265. 8/ 95. ابن يحيى صالح: 5/ 491. ابن يحيى الصديق: 1/ 302.

_ ابن يحيى علاوة: 6/ 175. 8/ 49. ابن يحيى علي: 1/ 344. ابن يحيى علي بن أحمد: 6/ 104. ابن يحيى عيسى: 4/ 334. ابن يحيى محمد: 1/ 265. 4/ 39. ابن يخلف حبيب: 1/ 61. ابن يعقوب محمد: 4/ 120. ابن يعلى: 2/ 174. ابن يلس جلول: 8/ 459، 465. ابن يلس محمد: 4/ 80. 5/ 527، 528. 7/ 139. ابن يمينة العيد: 7/ 448. ابن يوسف أحمد: 1/ 266. ابن يوسف الأخضر: 4/ 63. ابن يوسف السبتي: 4/ 63. ابن يوسف عمر ابن يوسف مبارك: 4/ 41، 60، 61، 62، 63، 77، 97، 296. ابن يوسف محمد: 7/ 374. ابن يوسف محمد الجزائري: 2/ 72، 337. ابن يوسف محمد (سلطان): 8/ 272. ابن يوسف مصطفى: 4/ 367. ابن يونس علي: 1/ 44، 114، 118. ابنة جعفر الكتانية: 5/ 127. (ب) البابا: 5/ 39. 6/ 118، 121، 123، 126، 137. بابا حسن: 5/ 62. بابا حيدة الطيب: 2/ 325، 348. بابا علي باشا: 2/ 418. بابا عمر محمد: 3/ 105. 5/ 577. بابا عمي الحاج محمد: 5/ 311. البابلي: 2/ 51، 55، 59، 105. البابوري محمد: 5/ 338. 7/ 352، 354. بابييه: 1/ 249، 5/ 92، 94، 6/ 96. الباتني أحمد معاش: 8/ 252، 288. باتورنيه: 5/ 94. 8/ 207. باجو صالح: 5/ 381. الباجوري: 2/ 150. 3/ 98. 7/ 57. الباجي: 1/ 133. باحمون الحاج: 5/ 96. باحوم قدور: 5/ 229. باربيس ليو - ليوس: 5/ 432، 454. بارتوك: 5/ 432، 453، 454. بارث: Barth: 4/ 278، 279 . بارجيس (الأب) Bargès: 70/1، 337. 2/ 119، 355 . 4/ 439. 5/ 107، 6/ 13، 47، 95، 113، 116، 115، 198. 7/ 356. 416. 8/ 392، 397. باردان بيير P. Bardin: 5/ 474، 477، 478، 479، 481، 524، 556، 560، 561، 603، 604، 617. بارلو، جول: 1/ 173. بارليت ليونار L. Barlete: 3/ 210 . 5/ 124، 125 .

_ بارليت هنري: 4/ 47، 6/ 323. بارو: 6/ 50. بارو فيرديناند F. Barot: 3/ 318 . باروكان فيكتور V. Barrocan: 216/5 . 6/ 249، 390، 447. 8/ 387. الباروني أبو البركات: 1/ 170. الباروني زعيمة: 4/ 54. 8/ 96. الباروني سليمان: 2/ 79. 3/ 221، 244، 268، 270. 4/ 54، 5/ 264، 292، 293، 379، 495، 499، 579. 7/ 88، 167، 259، 416. 8/ 95، 96، 220، 269. الباروني عبد الله: 3/ 268. باري جورج Bary: 464/7. باري (سيدة): 3/ 446. بازي Bazille: 8 / 382 . باستور لون: 44/ 3، 90. باسين مارث: 6/ 434. باش أحمد: 5/ 35. باش تارزي: 1/ 175، 301، 303، 308، 309. 3/ 131، 134. باش تارزي أحمد: 4/ 167. باش تارزي السعيد: 3/ 129. باش تارزي (عائلة): 4/ 184. باش تارزي عبد الرحمن: 2/ 102، 147. 3/ 216. 7/ 130، 131. باش تارزي عبد الكريم: 3/ 129. 4/ 380. 8/ 160. باش تارزي محمد بن عبد الكريم: 4/ 141، 146، 147، 150، 153. باشر تارزي محمد السعيد: 4/ 32، 167، 168، 188. باش تارزي محيي الدين: 5/ 316، 424، 427، 428، 429، 455، 466. 8/ 139، 142، 143، 440، 449، 450، 451، 452، 460، 467. باش تارزي مصطفى: 2/ 148. 4/ 146، 167، 188. 7/ 130. باش جراح جلول: 5/ 424. 8/ 450. باش حانبة: 3/ 243. باش حانبة علي: 5/ 278، 291، 520، 604، 616. باش حانبة محمد: 5/ 520، 609، 616، 617، 618. 6/ 608. باش كلفاط حسن: 5/ 20. باصيه اندري: 6/ 31، 33، 101، 304. 8/ 33، 320. باصيه رييه R. Basset: 206/1، 266، 463. 2/ 332. 3/ 113، 260، 5/ 326، 369 . 6/ 13، 26 - 34، 37، 40، 53 - 58، 79، 87، 97، 99، 100، 103، 172، 235، 241، 280، 304، 325، 326، 425، 426. 7/ 108، 109، 319، 345، 350، 466. 8/ 15، 19، 20، 31، 32، 33، 50، 51، 56، 57، 58، 60، 62، 63، 170، 171، 172، 308، 320، 398 . باصيه هنري: 6/ 30، 31. 8/ 33، 320.

_ باطايون: 5/ 98. باعفو ابن سليمان: 8/ 317. باعيسى: 5/ 96. بافار: 6/ 99. بافي لويس L. Pavy: 102/5، 7/6، 114 - 119، 25 1، 39 1، 198، 311 . الباقلاني: 1/ 75. باكوري: 6/ 83. باكوس: 7/ 310. باكوي: 6/ 84. بالسائح بوعلام: 8/ 321، 330. باللو البير Ballout: 35/5، 55، 61، 68، 72، 101، 102، 107، 108. 8/ 392، 393، 412 . بامبر: 6/ 341. بأمبر ديفرو D. Pamber: 439/5، 474، 480. بامفورد بول P. Bam ford: 14/3 . بان Pen (عقيد): 4/ 51. بانانتي: 1/ 166، 173، 174، 247، 248، 276، 316. 2/ 207، 290، 417، 442، 443، 444، 449. 5/ 213. 6/ 9، 300. الباني: 5/ 525. باولي لويس L. Paoli: 305/3. 351/5، 7/ 277. باون: 1/ 186، 387. بايلين Baelen: 232/7. باية: 6/ 443. 8/ 177، 212، 439. باية بنت أحمد: 6/ 330، 341. البتاني محمد بن جابر: 2/ 428. بتشين علي: 1/ 234، 237، 253، 255. 2/ 447، 449. 3/ 58، 19، 42، 45، 46، 61، 207. 8/ 404. بتقه سيدي (أبو التقا): 1/ 190. البجاوي الصادق: 8/ 467. البجاوي محمد: 4/ 171. البجائي أبو القاسم: 2/ 163. البجائي أحمد: 2/ 80، 128، 166، 327. 8/ 310. البجائي أحمد بن ثابت: 5/ 364. البجائي الحسن من أحمد: 4/ 274. البجائي سعيد: 1/ 477. البجائي عبد الرحمن: 1/ 68، 69. البجاني علي أبو الحسن: 2/ 141، 142. البجائي علي بن محمد: 2/ 415. البحتري: 2/ 233، 303، 304. البحري يونس: 5/ 582، 583. البحيري أحمد بن أبي سيف: 7/ 59. البحيري محمد بن أبي سيف: 7/ 59. البخاري: 4/ 61. بخشي عمر: 8/ 469. بخوشة محمد: 8/ 456. بخيت محمد: 5/ 498. البدوي أحمد: 3/ 58، 78، 89. 4/ 113، 517. 5/ 43، 227، 228، 229. 7/ 81، 139، 140، 429. 8/ 10، 12، 58، 86.

_ البدوي جلول: 5/ 350. بدوي عبد الرحمان: 10. برازا Braza: 17/42 . براكس: 6/ 440. براهمشة: 6/ 150. براون جان: 5/ 221. براوني: 6/ 425. بربروس: 1/ 137، 138، 189. بربروس إسحاق: 2/ 114، 374. بربروس خير الدين: 1/ 139، 140، 169، 174، 211، 235، 254، 303، 465. 2/ 114، 335، 345، 446. 5/ 62، 617. بربروس عروج: 1/ 169، 191، 211، 212، 465، 467. 2/ 206، 334، 335. 5/ 410، 411، 412. البرجي البشير: 5/ 396، 397. البرزلي: 1/ 92، 106، 2/ 436. البرزنجي محمد بن رسول: 2/ 107، 135، 136، 137. البرغوثي البصير: 1/ 325. البرقي محمد: 5/ 394. بركات موسى: 5/ 612. البركاني: 1/ 264. البركاني محمد: 5/ 327. 8/ 86، 207، 318. البركاني محمد بن عيسى: 3/ 62، 236. 4/ 115. 5/ 467، 571. 6/ 185، 201، 204. البرمكي جعفر: 8/ 137. برناز أحمد: 1/ 296، 324، 437. 2/ 21. البرنوسي أحمد زروق: 1/ 88. بروا إدمون: 5/ 221. برودو Brudo: 3/ 179 . برودوم: 5/ 408. بروديل ف. F.Braudel: 274/5 . بروس (سيدة) Madame Prus: 1/ 145 5 / 82، 83، 184، 441، 531، 532، 557. 6/ 111، 112، 339، 342، 345 . 8/ 281، 454 . بروسلار شارل ch. Brousselard: 1/ 98، 177، 252، 255، 265، 299. 2/ 359. 4/ 30، 60، 301. 5/ 8، 106، 107، 109، 172، 182، 326. 6/ 48، 92. 7/ 356، 8/ 32، 37، 392، 394، 397، 398، 420. بروفنزالي: 2/ 119. بروفنسال، ليفي: 1/ 62، 70، 272. 6/ 14، 101. 58، 59. بروكلمان، كارل: 1/ 56، 66، 76، 79، 87، 88، 100، 101، 105، 106، 108، 118، 121، 123، 135. 2/ 18، 30، 31، 57، 60، 75، 94، 109، 121، 132، 142، 147، 166، 169، 179، 207، 382، 406، 408، 411، 413، 415، 421، 422. 5/ 377. برونشفيك، روبير: 1/ 40، 46 6/ 14، 101.

_ بريسنيه لويس: 2/ 194. بريسوم: 8/ 17. بريسييه جان: 8/ 388. البريش ابن علي: 3/ 228. بريقو (جنرال) Perregaux: 337/5 . بريكسي: 8/ 468. بريمون إدوارد (عقيد) Bremond: 4/ 411. 5/ 369، 483، 555 . برزنيه لويس L. Bresnier: 3/ 293، 299، 312، 313، 319، 321، 340. 5/ 214. 6/ 10، 11، 15، 18، 19 - 21، 43، 44، 46، 69، 76، 95، 148، 153، 155، 156، 157، 168، 174، 186. 7/ 360. 8/ 14، 15، 18، 205 . بريهمات إبراهيم: 4/ 525، 526. 6/ 160، 249. بريهمات أحمد: 4/ 525، 526. 5/ 219، 231، 590، 591. 6/ 104، 170، 174، 179، 249 - 254، 371، 381، 421. 7/ 305. 8/ 21، 48، 58، 174. بويهمات حسن: 3/ 78، 374، 375، 387، 402. 4/ 348، 372، 440، 442، 462، 483، 488، 491، 495، 515 - 528. 5/ 229، 349، 387، 595. 6/ 25 - 160، 176، 177، 178، 186، 209، 218، 214، 248، 244، 330، 331. 7/ 53، 54، 56، 81، 92، 158، 305. 8/ 11، 43، 58، 66، 68، 113، 115، 162، 194، 253، 261، 263، 266، 269، 343، 344. بريهمات زروق: 4/ 495، 528، 6/ 240، 253. 7/ 237، 252، 265، 267. بريهمات عمه: 3/ 388، 389، 390، 4/ 379، 525، 526، 527، 528. 6/ 177. 7/ 92، 93، 8/ 149، 247، 248. بريهمات محمد: 6/ 249. بريون فوزية. 7/ 220. البزاغتي أبو القاسم: 2/ 117. 3/ 237. 4/ 440. 7/ 283، 284، 8/ 45 - 165، 166. البزاغتي مصطفى: 4/ 440. 7/ 284. البستاني بطرس: 5/ 611، 612. البسطامي أبو زيد: 1/ 476. 4/ 304. بسطانجي: 5/ 316. البسكري: 2/ 436. البسكري أبو الطيب: 1/ 384. البسكري أبو الفضل: 1/ 78، 384. البسكري أبو القاسم: 1/ 180. البسكري أبو محمد عبد الله: 2/ 245. البسكري عيسى بن سلامة: 1/ 45، 77، 88، 89، 105، 106، 107. البسكري محمد: 4/ 263، 264. بسيس محمد الصادق: 5/ 274. البشري سليم: 3/ 215. 5/ 595، 596.

_ البشير بن الحاج مصطفى: 2/ 127، 363. البشير الحاج باشا: 1/ 183، 211. البشير (الشيخ): 4/ 510. البشير مصطفى بن الحاج: 1/ 506. البصري الحسن: 4/ 65، 88، 193. البصري عبد الله بن سالم: 2/ 105. البطيوي: 1/ 29، 293، 324، 346، 472، 475، 476، 478. 2/ 112، 120، 124، 125. البطيوي أحمد: 2/ 122. البطيوي عيسى: 1/ 378. 2/ 119، 121 - 124، 132، 354، 355. البطيوي محمد: 1/ 379، 477. 2/ 120. البعبيدي الحاج محمد: 4/ 80. البغدادلي: 8/ 469. البغدادي: 3/ 391. 7/ 38. البغدادي محمد بن عبد الله: 5/ 511. البقراوي إدريس: 4/ 247. بقطاش خديجة: 7/ 434. البكاي أحمد: 4/ 48، 195، 277، 278، 280. 6/ 235، 236، 7/ 122. البكاي أحمد (الحفيد): 4/ 279. البكاي سيدي المختار: 4/ 279. البكاي عبد الكريم: 4/ 278. البكاي علي: 4/ 278. البكاي عمر: 4/ 277، 279. بكتاش (بكداش، بقطاش) محمد باشا: 1/ 143، 144، 154، 186، 187، 189، 191، 194، 200، 204، 228، 235، 241، 242، 250، 343، 357، 366، 389، 392، 413، 415، 418، 420، 436، 459، 470. 2/ 63، 171، 172، 188، 190، 192، 202، 208، 254، 255، 256، 257، 258، 261، 269، 278، 302، 336، 337، 368. 5/ 115. بكري: 1/ 152، 5/ 46، 6/ 391، 7/ 345. بكري بوشناق: 7/ 398. البكري الحاج: 4/ 228. البكري عثمان التارقي: 6/ 67، 102، 429. البكري علي الصديقي: 2/ 83، 135، 221، 396. البكري مصطفى: 7/ 131. بكري ناتان: 1/ 152. بكون روجي: 7/ 171. بكير إبراهيم: 6/ 414. بكير باشا: 5/ 26. بكيرو: 6/ 349. بلا فريج أحمد: 7/ 216. بلاكسكي Blacksky: 3/ 28. 4/ 395. 5/ 8، 74، 76، 116، 139، 174، 412، 413. 6/ 107، 109، 110. بلال بن رباح: 8/ 301.

_ بلالو: 7/ 317. بلانشية: 8/ 391. بلايلي محمد العربي: 3/ 145، 246. 5/ 359. بلحاج بلقاسم بوزيد: 8/ 317. بلحاج حمدون: 4/ 247. بلحاج الصادق: 5/ 150. 8/ 78. بلحاج عبد القادر: 4/ 283. بلحاج محمد: 4/ 115. 6/ 257. 7/ 106. بلحاج (مدرس): 5/ 360. بلحميسي مولاي: 1/ 440. 6/ 304. البلخي إبراهيم بن أدهم: 1/ 75. البلخي أبو محشر: 2/ 428. بلخيرمحمد: 8/ 329، 330. بلعربي رشيد: 7/ 270. بلعربي سليمان: 7/ 270. بلعربي الشريف (قاض): 5/ 483، 485، 497، 498. بلعربي عبد القادر: 4/ 46. بلعربي قدور: 7/ 268. بلعربي محمد (دكتور): 5/ 13، 30، 36، 491، 607. 7/ 232، 237، 252، 259، 260، 261، 262، 263، 266، 269، 270، 271، 272. بلغيث الشيخ: 1/ 487، 491. بلفور: 4/ 412. 5/ 613. بلقاسم الحاج حمدي: 5/ 482. بلقاسم محمد: 7/ 309. 8/ 182. بلقاسمى بوعلام: 4/ 424، 430، 436، 448، 457، 459، 460، 469، 470. بلقايد محمد: 4/ 439. بلقشي الحسين: 5/ 367. 7/ 180. بلقشي خليلا: 5/ 317. بلقندوز محمد: 4/ 194، 267، 247، 273. بلكحلة: 8/ 438. بلة محمود: 259/ 5، 312. بلنشي 146/ 5: M.P. Blanchet. بلة محمد بن عيسى: 4/ 512. بلوشيه: 1/ 137. 6/ 96. 8/ 432. بلوصيف عبد السلام: 5/ 317. بلولة محمد: 4/ 334. بلوم ليون 401/ 6.498/ 4: L.Blum. البلوي: 1/ 90. البليدي الشيخ: 2/ 50، 170. البليدي محمد: 8/ 420. البليدي المكي: 4/ 440. بليرميشو 487/ 5: M.Blaire. بليستروس: 4/ 450. بليفير: 1/ 140. 2/ 449. البنا حسن: 5/ 498. البناني أحمد: 7/ 75. البناني محمد: 2/ 49، 150، 151، 275، 426. البناني محمد بن عبد السلام: 1/ 428. البناني محمد الصغير: 7/ 454.

_ بنت حامد تماني: 5/ 452. بنت حامد زهور: 5/ 452. بنت العربي فاطمة: 3/ 228. بنت علي نفيسة: 3/ 445. بنجامين فانسان: 6/ 153. بنعلي أبو بكر: 7/ 67. بهرام: 3/ 203. بهلول: 5/ 251. بهلول سيدي: 1/ 317. البهلول علي بن محمد: 2/ 50، 126، 365. البهلول عمر بن محمد: 2/ 20. البهلول محمد السعدي: 2/ 42، 48. البهلولي (آبهلول) علي: 2/ 280. البهلولي السعيد: 7/ 132. البهلولي عبد الرحمن: 2/ 112، 126، 280. البهلولي محمد السعدي: 3/ 189. البهنسي عفيف: 8/ 376، 378، 382، 386، 387. بواسونيه (البارون) 242، 194، 88/ 8، 451، 353، 345، 343/ 7، 195، 172، 63، 62، 47/ 6، 533، 398، 307، 295.294/ 5، 482/ 4: Boissonet. بوانكاريه: 7/ 273. بواييه بيير: 1/ 145، 188، 214، 215. بوبرمة: 4/ 36. بوبريطر: 3/ 193. بوبغلة (محمد الأمجد): 3/ 97، 192، 193، 218، 325، 5/ 92، 536، 6/ 76، 160، 7/ 476، 8/ 107، 325. بوبكر حمزة: 6/ 378، 8/ 184، 285. بوبكر (سيدي الشيخ): 6/ 240. بوبكرسي الاعلى: 4/ 320. بوبلوس: 5/ 416. بوتان (عقيد) 300/ 6، 40/ 5: Boutin. بوتردين يحيى بن صالح: 7/ 18. بوتشنت محمد: 7/ 146. بوتلجة محمد: 8/ 475. بوتليليس (الشيخ): 4/ 45. بوثلجة (الشيخ): 3/ 115 - 118. بوثوب (جنرال): 6/ 78. بوجا 232، 51/ 4: Bujat. بوجلال: 1/ 325. بوجلال أبو القاسم: 1/ 266. بوجلال أحمد: 1/ 485. بوجلال محمد: 1/ 208، 272، 281. بوجلال محمد بن عبد الله: 1/ 511. بوجلال محمد بن الموفق: 1/ 207. البوجليلي أبو القاسم: 3/ 186، 189، 191، 197، 202، 203، 206، 211، 212، 213، 215، 218، 219، 4/ 31، 169، 170، 188، 5/ 595، 596، 6/ 334، 7/ 10، 35، 37، 49، 64، 163، 8/ 42، 44، 45، 112، 216، 266.

_ بوجمعة عبد الله: 4/ 452. بوجمعة عبد المجيد: 3/ 138، 139، 141، 142، 7/ 214. بوجناح سليمان (الفرقد): 8/ 67، 72، 73، 203، بو جو Bugeaud (مارشال): 3/ 73، 74، 182، 183، 283، 300، 313، 314، 338، 369، 403، 421، 442، 443، 4/ 98، 204، 255، 254، 359، 368، 367، 429، 432، 435، 493، 494، 495، 503، 524، 5/ 8، 21، 29، 40، 75، 93، 168، 180، 217، 222، 223، 227، 329، 443، 496، 572، 6/ 20، 23، 24، 36، 64، 71، 75، 95، 106، 108، 111، 112، 113، 114، 146، 156، 160، 165، 182، 202، 204، 205، 248، 260، 273، 274، 283، 293، 307، 308، 309، 311، 339، 343، 347، 359، 363، 383، 387، 408، 416، 438، 294/ 7، 365، 402، 476، 8/ 18، 105، 134، 358، 366، 439، البوجوري عبد الصمد: 4/ 192، بوجولا جان: 5/ 93، 405، 6/ 111، 112، 113، 186، 8/ 18، بوجيجا: 5/ 581، بوجيجا إيمانويل: 3/ 193، 209، 210، 303، 311، 331، 334، 342، 349، 354، 356، 359، 360 - 363، 398، 421، 435، 440، 444، 446، 451، 452، 7/ 277، 293، 8/ 368، 371، بوجيجا ماري: 3/ 363، 442، 4/ 538، 6/ 314، 339، 352، 353، 354، 335، 356، 7/ 182، 8/ 183، 355، 356، 358، 360، 362، 363، 373، 390، 391، 418، 419، 421، 422، 433، بوحاجب خليل: 5/ 314، بوحاجب سالم: 7/ 286، بوحجاجة أحمد: 4/ 88، 89، بوحلة علي: 3/ 232، 7/ 142، البوحميدي محمد: 4/ 503، 6/ 185، 204، 343، 42/ 7، 8/ 86، 206، 207، بوحنك حسن باي: 1/ 261، 423، 468، 5/ 84، بوخالفة الحبيب: 3/ 115، بوخا لفة (الشيخ): 8/ 467، 469، بوخروبة سيدي أحمد: 3/ 192، بوخشم عمارة: 4/ 275، بوخنتاش محمد: 8/ 325، 326، بوخوس: 5/ 404، بودا (بوده) أحمد: 5/ 269، 8/ 117، البودالي سفير: 5/ 429، 433، 8/ 181، 183، 441، 452، 465، 470، البودالي (الشيخ): 4/ 120، بود ان 305/ 3: Baudens، بود ان، مارسيلا: 1/ 201، 265، 266، 473، 496، 497، 517، 518،

_ 2/ 114، 139، 253، 313، 360، 7/ 382، 383. بودريوة محمد أمزيان: 3/ 199. بودلي 448، 447/ 5، 365/ 3: R.V.C. Bodley. بودلير: 6/ 197. بودو (سيدة): 8/ 422، بودي لويس 246/ 5، 478، 384/ 4: L. Boudi، بوديار عمارة: 4/ 32، بوديسة: 8/ 330، 331، بوديشون (طبيب): 3/ 444، 4/ 142، 8/ 367، البوديلمي علي: 5/ 272، 295، 7/ 23، 24، 25، 26، 63، 443، 8/ 228، بودين (د كتور): 2/ 418، بورا 318، 317/ 7: Burat، بوراس (سيدي): 7/ 51، بوراس عبد القادر: 2/ 378، بوراس محمد: 4/ 452، بوراس الناصر = الناصر بورتاد شارل: 1/ 152، بورجاد: 5/ 480، 538، بورجي بودري: 5/ 603. بورخارت تيتوس 138، 130/ 4: Burckardtt، بورد بيير 411/ 8، 417، 88/ 6، 537/ 4: P. Bourde، بورك E. Burke الثالث: 6/ 14، 34، 55، 76، 8/ 33، بوركايب حمدان: 3/ 557، 5/ 590، 6/ 200، 249، 377، بوركايب (عائلة): 3/ 447، بورمون (الكونت): 2/ 449، 4/ 353، 359، 420، 5/ 155، 213، 330، 6/ 106، 145، 146، 149، 328، 416، 7/ 298، 461، 8/ 357، بوروبة: 4/ 51، بوري: 6/ 440، بوري أحمد: 8/ 177، بوري بول: 8/ 94. بوزار محمد: 5/ 229، 6/ 183، بوزاقو: 8/ 51، البوزريعي علي: 1/ 198، 2/ 194، بوزرينة أحمد: 5/ 309، 578، البوزنياري لونيس: 3/ 126، بوزوزو محمود: 5/ 271، بوزيان: 5/ 572، 8/ 107، بوزيان الزعاطشي: 4/ 36، 115، 122، 148، 150، 155، 160، 8/ 324، 325، بوزيان (شاعر): 8/ 317، بوزيان محمد: 1/ 509، بوزيان محمد القنادسي: 4/ 90، 91، 94، 326، بوزيد (آغا): 5/ 479. بوزيد (ثائر): 1/ 213، بوزيد المولود: 5/ 374، البوزيدي السعيد: 1/ 485،

_ البوزيدي محمد: 1/ 450، 504 - 506، 2/ 93، 4/ 81، 113، 127، 131، 133، 5/ 527، 7/ 143، 144، بوزينة: 8/ 408، بوسبسي أحمد: 5/ 479، بوسبسي سي الطيب: 5/ 479، البوسعادي عبد القادر بلحاج: 6/ 166، البوسعادي عمر بن عبد القادر: 3/ 215، بوسعيد: 8/ 51، بوسكي: 7/ 195، بوسكيه ج. هـ.: 6/ 378 447، 448، 449. بوسماحة أبو بكر: 4/ 104، بوسماحة ابن الدين: 4/ 104، بوسماحة الحاج أبو حفص: 4/ 104، 109، 110، 284، بوسماحة الحاج عبد الكريم: 4/ 104، بوسماحة حمزة: 4/ 104، بوسماحة سليمان: 4/ 104، بوسماحة سيدي علي: 7/ 460، بوسماحة عبد القادر: 4/ 103، 104، 107، 7/ 460، 8/ 330، بوسماحة عبد القادر (الحفيد): 4/ 104، بوسماحة العربي: 4/ 104، بوسماحة محمد: 4/ 104، بوسماحة النعيمي: 4/ 104، بوسنة عمار: 4/ 60، 62، 63، 64، بوسوني: 6/ 66، بوسيف: 4/ 36، بوسيف محمد بن عبو: 8/ 322، بوسيه دي جانتي: 3/ 328، 330، 332، 395، بوشار (راهب): 6/ 131، بوشامة الربيع: 3/ 258، 8/ 95، 197، 203، 238، 252، 287، بوشريط: 6/ 40، بوشلاغم مصطفى: 1/ 154، 163، 184، 200، 275، 420، 429، 448، 469، 5/ 102، بوشمال أحمد: 5/ 255، 272، 310، 317 429، البوشوشي الطاهر: 5/ 240، 241، 301، 6/ 197، 8/ 197، 202، 295، 298، بوشناق: 1/ 152، 5/ 46، 6/ 391، بوشناق إبراهيم: 6/ 302، بوشناق أبراهام: 1/ 152، بوشناق صالح: 6/ 391، بوشنتوف الهاشمي: 7/ 329، بوشو 388/ 8: Bouchoud، بوشوارب محمد: 5/ 479، بوشوشة: 5/ 321، 490، 518، 6/ 74، 343، 7/ 388، 391، 428، بوشوشة (عائلة): 5/ 490، بوشوشة علي: 4/ 512، 5/ 492، 607، 616، 7/ 259، 268، 8/ 196، 331، 332، 334، بوصوف مصطفى: 7/ 410،

_ البوصيري: 1/ 68، 81، 373، 2/ 147، 248، بوضربة: 7/ 209، 451، بوضربة إسماعيل: 4/ 321، 5/ 419، 420، 6/ 102، 104، 228، 230، 262، 7/ 459، 461، 462، 8/ 36، 442، بوضربة أحمد: 1/ 224، 3/ 238، 245، 4/ 536، 5/ 35، 153، 162، 222، 487، 590، 6/ 153، 154، 199، 200، 209، 228، 328، 377، 7/ 397، 274، 461، 8/ 157، 128. بوضربة أحمد (الجد): 6/ 231، بوضربة أحمد (الحفيد): 6/ 229، 371، 378، 7/ 91، بوضرية علي: 6/ 223، 228، 230، 231، 7، 236/ 252، 265، 266، 267، 8/ 58، بوضربة عمر: 5/ 35، 36، 6/ 228، 229، 230، 419، بوضربة محمد: 6/ 230، بوضربة مصطفى: 5/ 162، 487، 6/ 199، 231، بوطالب: 6/ 363، بوطالب آمنة: 5/ 557، بوطالب أبو بكر: 3/ 65، 391، 4/ 482، 6/ 280، 7/ 305، 8/ 96، 12، 268، بوطالب (أبو طالب) محمد الأمين: 8/ 97، بوطالب أحمد: 5/ 230، 8/ 263، 269، 270، بوطالب أحمد المجاهد: 4/ 417، 483 - 486، 487، بوطالب زين العابدين: 5/ 235، 8/ 246، 249، بوطالب الحسين: 7/ 439، بوطالب الحسين بن علي: 6/ 70، بوطالب (عائلة): 3/ 110، 131، 5/ 375، 512، 530، 548، 554، 597، 7/ 326، 8/ 12، بوطالب عبد القادر: 4/ 484، بوطالب علي: 5/ 525، 526، 529، 530، 531، 8/ 105، 106، 219، 294، 304، بوطالب محمد: 5/ 578، بوطالب محي الدين: 8/ 97، بوطالب مصطفى: 5/ 557، البوطالبي المكي: 3/ 60، 126، 130، 374، 4/ 372، 440، 6/ 21، 213، 7/ 50، 8/ 8، بوطبل (الشيخ): 8/ 466، بوطريق: 1/ 211، بوطيبة بن آمنة: 7/ 444، بوطيبة (نائب): 4/ 494، بوعالم الحبيب: 8/ 315، البوعبدلي أبو عبد الله 7/ 84:، البوعبدلي عبد الله: 8/ 222، البوعبدلي المهدي: 1/ 7، 12، 31، 45، 47، 53، 201، 213، 223، 272، 281، 285، 293، 369، 435، 499، 500،

_ 503، 511، 2/ 23، 44، 201، 227، 273، 276، 313، 4 3، 352، 373، 429، 435، 3/ 12، 43، 79، 80، 113، 5/ 356، 361، 371، 372، 381، 387، 388، 389، 392، 396، 397، 497، 577، 6/ 344، 405، 7/ 35، 36، 37، 38، 101، 102، 132، 358، 359، 370، 371، 372، 373، 375، 376، 378، 379، 385، 443، 454، 465، 466، 8/ 222، 234، 240، 277، 281، 282، 335، بوعتيقة (سيدي): 1/ 264، بوعدة أحمد: 8/ 225، 227، بوعرور محمد: 4/ 474، البوعري أحمد: 4/ 413، بوعزيز يحيى: 4/ 456، 5/ 101، 102، 105، 109، 150، 374، 549، 6/ 400، 7/ 382، 383، 403، 453، 445، بوعصيدة أحمد: 1/ 44، البوعقلي محمد: 4/ 247، بوعكاز: 8/ 389، بوعكاز أحمد: 1/ 471، بوعكاز (شيخ العرب): 1/ 163، بوعكاز (عا ئلة): 4/ 149، بوعكاز فلة: 3/ 215، بوعكاز (قائد): 4/ 474، بوعكاز محمد (ابن الصخري): 1/ 216، بوعكاز (مرابط): 1/ 486، بوعكاز الهلالي: 6/ 302، بوعلام: 8/ 131، بوعلام حمو: 5/ 590، بوعلي (سيدي): 5/ 90، 91، بوعلي الغوثي: 3/ 116، 117، 120، 6/ 58، 60، 70، 171، 173، 8/ 168، 265، 266، بوعمامة: 3/ 49، 82، 116، 4/ 44، 79، 89، 100، 92، 107، 108، 109، 111، 113، 158، 171، 216، 268، 284، 288، 298، 321، 327، 328، 404، 508، 329/ 5، 508، 519، 526، 549، 6/ 36، 77، 130، 133، 435، 7/ 366، 367، 368، 405، 8/ 107، 154، 158، 325، 329، 330، بوعمران الشيخ: 8/ 181، 182. بوعنان: 5/ 430، بوعنان (سيدي): 1/ 264، بوعنان (المولى): 3/ 39، بوعنانة (سيدي): 5/ 147، بوعود: 4/ 36، البوعوني الحاج أحمد: 8/ 267، بوعياد محمود: 1/ 7، 61، 71، 72، 5/ 350، بوفا 50/ 8، 386/ 7، 167/ 6: L. Buvat، بوفامة: 7/ 413، بوفلاقة سعيد: 5/ 367، بوفلجة: 1/ 505،

_ بوفيه: 6/ 81، بوقدور (سيدي): 8/ 345، بوقرانة سي محمد: 6/ 296، بوقرط علي: 6/ 457، بوقشبية بلقاسم: 4/ 33، 40، 76، 77، بوقصيعة: 1/ 275، بوقندورة أحمد: 2/ 35، 3/ 75، 64، 406، 4/ 217، 416، 449، 5/ 69، 573، 6/ 244، 7/ 48، 91، 257، 269، 8/ 281، 282، 306، بوقندورة حسن: 3/ 76، 4/ 367، بوقندورة محمد: 3/ 76، 5/ 390، 593، 8/ 416، بوكرش ميلود: 8/ 435، 437، بوكمية (باي): 1/ 261، 2/ 385، 419، 5/ 83، 7/ 344، بوكنال 403/ 8: Buknal، بوكنته محمد: 6/ 347، بوكوشة البشير: 5/ 401، بوكوشة حمزة: 3/ 235، 4/ 54، 506، 5/ 202، 259، 312، 401، 6/ 405، 7/ 33، 70، 8/ 67، 95، 239، 284، بول: 2/ 334. بولبينة إسماعيل: 7/ 260، 270، البولداوي محمد بن الشارف: 1/ 183، بولسكي: 1/ 254، 260، 276، 277، 309، 330، 341، 2/ 202، 3/ 41، 4/ 425، 426، 427، 5/ 8، 74، 75، 139، 419، 436 - 438، 457، بولكباش يوسف: 5/ 70، بولكباشي علي بن محمد: 3/ 306، 408، بولمييه (راهب): 6/ 131، بولون (أسقف): 6/ 132. بوليو لوروي: 6/ 250، 263، 264، 345، 447,346، 7/ 185، بوليري 151، 99، 78/ 5، 175، 173، 46/ 3: J. de Boulery، بوليفة أحمد: 8/ 64، بوليفة بلقاسم: 8/ 64، بوليفة صالح بن بلقاسم: 8/ 64، بوليفة (سعيد) عمر: 1/ 266 6/ 27، 30، 31، 33، 54، 99، 103، 172، 175، 181، 322، 325، 326، 7/ 304، 306، 307، 311، 349، 350، 8/ 33، 50، 56، 58 - 65، 321، 329، بوليفة محمد: 6/ 233، بولينياك: 5/ 414، بولينياك (عقيد): 6/ 97، 228، بوليو 450، 415، 412، 409، 408، 405، 378، 348، 308، 302، 301، 296، 295، 280، 175، 51/ 3: P. Beaulieu، بومبيدو جورج: 5/ 208، 8/ 388، بومدين حفيظ: 6/ 104، بومدين (سيدي): 3/ 374،

_ بومدين (نائب): 4/ 383، بومزراق: 7/ 355، بومزراق أحمد: 6/ 82، 170، بومزراق مصطفى: 1/ 250، 4/ 34، 36، 5/ 496، 7/ 400، 403، بومزراق الونوغي: 3/ 107، 108، 163، 4/ 377، بومحزة:: 6/ 113، 147، 7/ 385، بومحز ة (سيدي): 5/ 147، بومحزة (محمد بن عبد الله): 4/ 30، 36، 97، 98، 205، 5/ 508، بومنجل (سيدي): 5/ 147، بومنديل: 8/ 389، بونار رابح: 1/ 53، 2/ 347، 5/ 350، 7/ 198، 345، 358، بونتيان فرنسوا: 8/ 185، بونقاب قدور البرجي: 8/ 313، 314، 315، بونمان مصطفى: 7/ 462، 463، البوني: 1/ 178، البونا أحمد: 1/ 29، 100، 162، 187، 189، 204، 228، 241، 250، 263، 273، 294 - 296، 316، 324، 335، 412 - 416، 443، 450، 452 - 455، 478، 484، 487، 2/ 17، 18، 27، 30، 31، 42، 43، 54، 60 - 64، 68، 74، 81، 82، 94، 106، 126، 133، 144، 145، 146، 165، 166، 169، 192، 209، 210، 241، 251، 256، 257، 269، 270، 287، 325، 327، 328، 337، 352، 356، 390، 417، 21 4، 422، البوني أحمد زروق: 1/ 423، 2/ 42، 43، 47، 62، 64، 81، 166، 169، 390، 6/ 213، البوني الحاج إبراهيم: 8/ 162، البوني (عائلة): 1/ 382، 422، البوني عبد الله: 2/ 275، البوني علي: 2/ 53، 58، 335، البوني قاسم: 2/ 30، البوني محمد: 1/ 204، 217، 240، 374، 485، 486، 491، 492، 7/ 278، البوني محمد بن أحمد: 2/ 174، 181، 157، 421، البوني محمد ساسي: 2/ 61، 62، 64، 133، 145، 191، 192، 252، 253، 422، 438، البوني مصطفى: 1/ 394، 2/ 16، 204، 257، بونيفال (تاجر): 7/ 225، بونيول (رسام): 8/ 382، البوهالي العربي: 6/ 453، بويزار عمر: 7/ 61، بويسن 258/ 3: Bouisson، البويوسفي أحمد: 4/ 187،

_ بي Py (قس): 6/ 424، بيازا (ناشر): 8/ 431، البياض (سيدي): 5/ 147، بيانشي: 6/ 146، البيباني سعيد: 3/ 258، بيتراند إيميل لويس: 7/ 230، 232، 233، 234، 235، 237، 238، 240، 241، 242، 243، 268، 290، 291، 297، 398، 5/ 236، 407، 6/ 259، 285، 382، بيتز، جوزيف: 1/ 145، 150، 161 - 163، 172، 180، 189، 190، 199، 215، 217، 234، 446 - 454، 469، بيدو (الجنرال): 3/ 21، 27، 28، 32، 44، 45، 318، 334، 365، 403، 413، 6/ 50، 442، بيدويل روبن 483/ 5: R. Bedwell، بير بروجر أدريان: 6/ 8، 11، 16، 18، 45، 4، 49، 81، 85، 86، 87، 94، 95، 156، 170، 201، 228، 148، 307، 432، بير بول 446، 175، 151، 37/ 6:: P. Bert، بير صوفال: 3/ 318، 6/ 19، 25، 45، 72، 98، بيربروجر ادريان 333، 328، 326، 243، 242، 214، 97، 96، 44/ 5، 490، 199، 142، 141/ 4، 373، 335، 334، 332/ 2، 443، 309، 303، 301، 289، 286/ 1: A. Berburgger، 334، 335 - 336، 337، 340، 341، 343، 344، 348، 349، 400، 402، 404، 408، 7/ 224، 231، 239، 311، 8/ 355، بيرتاي أرسن: 5/ 436، بيرتوزين (جنرال): 4/ 34، 493، 5/ 157، 6/ 240، بيرتيلو: 3/ 354، 363، بيرتييه أندري: 8/ 414، بيردو 356، 353/ 3: Burdeau، بيرسون 351/ 5: Pierson، بيرشيه كلود 376/ 8: Berchet، بيرك أوغسطين 252، 76/ 3: A. Berque، 395، 401، 450، 4/ 127، 128، 130، 136، 137، 138، 292، 310، 313، 322، 323، 324، 425، 328، 331، 341، 348، 373، 382، 419، 420، 5/ 19، 33، 34، 40، 68، 71، 101، 109، 110، 396، 471، 474، 6/ 255، 292، 293، 294، 296، 299، 319، 397، 434، 436، 7/ 142، 143، 364، 8/ 355، 371، 390، 394، 395، 399، 401، 405، 433، بيرك جاك: 1/ 43، 127، 285، 299، 2/ 67، 4/ 136، بيرلو يوجين 443/ 3: Berlau، بيرلوت: 6/ 195، بيرم الثالث: 6/ 360،

_ بيرم محمد: 1/ 296، 2/ 46، 48، 79، 7/ 286، بيرم محمد الخامس: 3/ 64، 73، 75، 82، 83، 164، 4/ 369، 387، 396، 449، 469، 479، 480، 481، 488، 500، 5/ 94، 135، 384، 520، 570، 573، 606، 6/ 132، 156، 281، 359، 367، 7/ 37، 72، 73، 404، 8/ 148، 203، 281، بيرم محمد الرابع: 5/ 573، بيرمنغام إيميل: 4/ 12، 130، 273، 274، 305، 312، بيرنار: 5/ 336، بيرنار أوغسطين 34/ 8، 383، 58، 37، 36، 34/ 6، 471/ 5: A. Bernard، بيرنار بول 450، 430، 428، 421، 420، 358، 357 356/ 3: P. Bernard، بيرنار سارة: 5/ 412، بيرنو: 5/ 416، بيرو 196/ 6: Perrauli، بيرون N. Perron (طبيب): 3/ 318، 406، 446، 4/ 453، 518، 5/ 442، 6/ 15، 22، 25، 48، 51، 87، 168، 219، 7/ 77، 107، 225، 242، البيروني: 2/ 428، بيروني 321، 320، 307، 241، 229، 212، 207، 194، 161، 160، 152، 151، 150، 147، 146، 75/ 6، 232، 109، 51/ 4: Peyronet، بيري: 4/ 442، 443، بيري رايس: 1/ 137، 177، 179، 182، 184، 189، 460، 464، 5/ 150، بيريز هنري: 5/ 573، 6/ 14، 24، 101، 281، 7/ 354، 404، 405، 406، 407، 8/ 84. بيرين (سيدة): 8/ 369، بيرييه: 3/ 390، 391، بيرييه أدولف: 5/ 217، بيزان: 6/ 77، 95، 96، بيزي: 4/ 105، بيزيز هنري: 1/ 63، 127، بيسمارك: 5/ 559، بيسونيل: 6/ 9، بيسييه لوسيان: 7/ 210، بيشاري أرنست: 6/ 435، بيشون: 6/ 407، بيشون (البارون): 5/ 76، 214، بيشون ستيفان 412/ 4: S. Pichon، البيضاوي: 1/ 383، 2/ 48، 7/ 21، البيضاوي أبو القاسم: 5/ 299، البيطار عبد الرزاق: 4/ 192، 5/ 521، 527، 562، 563، 7/ 121، بيفياجان 96/ 6: J. Bevia، بيقو (ضابط) 440/ 6: Bigot، بيقوني 396/ 8، 149، 145، 144/ 5: E.Bigonet، بيقي Peguet جورخ: 8/ 387، بيقي (بيكي) فور: 2/ 316، 331، 380

_ 381، 393، 5/ 307، بيكار أوريلي 215، 214، 213، 210، 191، 86/ 4، 406، 224/ 3، 377، 340، 339، 338، 279، 73/ 2، 434، 219، 205، 199، 142/ 1: P. Aurelie، 217، 218، 219، 224، 226، 243، 311، 312، 6/ 66، 320، 377، 430، 434، 7/ 123، بيكمال (أسقف): 6/ 132، بيكي، فيكتور: 6/ 320، بيكون: 5/ 30، بيكي (محافظ متحف): 5/ 405، بيل (سيدة): 6/ 425، 7/ 212، بيل الفريد 280، 239، 238، 208، 178 - 176، 162، 159 - 157، 123 - 113، 71، 68 - 66، 57 - 53/ 3، 316، 274، 188، 61، 49، 48/ 1: A. Bel، 340، 370، 372 - 374، 376، 377، 378، 391 - 397، 399، 401، 449، 4/ 304، 450، 514، 5/ 105، 107، 326، 358، 359، 6/ 15، 28، 30، 31، 32، 52، 54، 60، 97، 101، 170، 173، 299، 311، 420، 433، 7/ 164، 321، 345، 8/ 33، 168، 170، 172، 265، 464، بيلاج: 6/ 140، بيلاري: 4/ 245، 6/ 69، بيلمار الإسكندر: 3/ 45، 61، بيلماندو: 8/ 388، بيلي جاكلين 447، 441، 381، 312، 129، 128، 125، 117، 114/ 6، 440، 412، 306، 221، 142، 102، 93، 73/ 5، 448، 436/ 4، 417، 408، 344، 307، 305/ 3: J. Baylé، 8/ 176، 200، 377، 378، 379، بيليزير: 6/ 319، بيليسييه دي رينو: 3/ 77، 315، 5/ 8، 76، 218، 222، 224، 226، 246، 326، 494، 530، 544، 6/ 17، 49، 81، 84، 86، 118، 120، 123، 343 378، 379، 386، 416، 439، 444، 6 44، بيليسييه (مارشا): 4/ 155، 156/ 4، 206، 442، 517، 519، 7/ 385، 399، 8/ 115، بينو 387/ 8: Penau، بيهان: 6/ 13، بيوض إبراهيم: 3/ 226، 275، 5/ 290، 381، 491، 579، 6/ 578، 7/ 20، بيوض عبد الغني: 5/ 350، بييس 398/ 8: Piesse، (ت) تابييه 249/ 5: Tapie، تاتارو: 1/ 183، تاج العارفين العثماني: 1/ 296، 398، 437، 494، 523، تاج العارفين محمد: 2/ 195، 196، 216، التاجوري عبد الرحمن: 2/ 135، التادلي أحمد: 2/ 49، 213،

_ التازي إبراهيم: 1/ 45، 74، 82، 89، 95، 96، 100، 101، 105، 183، 286، 297، 459، 462، 2/ 115، 129، 132، 7/ 371، التازي عبد الوهاب: 4/ 250، التاغزوتي إبراهيم: 2/ 332، تالابو هوبولان: 7/ 294، تالليرا ند: 6/ 393، تامزالي: 5/ 287، 6/ 228، 419، 421، التاملي محمد بن يوسف: 2/ 216، التاودي محمد السقاط: 5/ 576، التبسي العربي: 3/ 123، 217، 218، 246، 251، 255، 256، 4/ 338، 5/ 490، 498، 6/ 375، 7/ 13، 177، 211، 413، 8/ 12، 108، 116، 238، تبن: 8/ 178، التتائي: 3/ 203، التجاني أحمد: 1/ 223، 318 400، 468، 507، 509 - 513، 76/ 3، 81، 222، 223، 224، 225، 4/ 32، 191، 193، 194، 205، 219، 220، 222، 237، 238، 239، 240، 315، 6/ 377، 7/ 96، 123، 124، 133، 137، 180، 446، 8/ 281، 318، 420، التجاني أحمد (الحفيد): 4/ 77، 162، 191، 204، 208، 209، 211 - 218، 225 - 228، 230، 231، 235، 288، 308، 311، 326، 327، 328، 5/ 546، 6/ 66، 240، 434، 7/ 123، 137,124، 8/ 115، التجاني البشير: 3/ 224، 4/ 208، 211، 212، 213، 215، 218، 224، 229، 231، 235، 312، 5/ 546، 6/ 66، 7/ 123، 8/ 389، التجاني عبد الرحمن: 2/ 126، 325 353، التجاني علي: 4/ 243، التجاني محمد: 4/ 243، 368، 6/ 363، 7/ 368، 8/ 206، التجاني محمد الحبيب: 8/ 420، التجاني محمد الصغير: 3/ 224، 225، 4/ 32، 44، 191، 194، 197 - 211، 215، 220، 223، 268، 5/ 526، 6/ 302، 7/ 123، 124، 446، التجاني محمد الكبير: 3/ 224، 4/ 194، 199، 219، التجاني محمود: 4/ 244، التجاني الهاشمي: 6/ 436، التجيبي: 7/ 324، التحلايتي عدة: 8/ 310، التراري عمرو: 2/ 279، التراري المجدوب: 7/ 366، تراسي جيمس: 3/ 14، التراك: 6/ 231، تركي رابح: 3/ 256، التركي عبد المجيد: 1/ 51، ترنقة فيكتور: 6/ 305، 423، تروتباس: 6/ 97، تروميلي Trumelet: (عقيد) 3/ 224،

_ 4/ 105، 203، 207، 208، 209، 210، 212، 6/ 70، 207، التريكي: 8/ 469، التريكي الحاج محمد: 2/ 189، تريل: 7/ 195، تريله (نائب): 6/ 417. التزاني محمد بن عبد الله: 4/ 192، التستري: 6/ 75، التستوني (التستاوني؟) أحمد: 1/ 427، تسعديت (لاله): 5/ 132، تشرشل: 1/ 514، 6/ 362، 423، تشرشل شارل هنري: 4/ 33، 201، 5/ 417، 530، 533، 8/ 105، تطيف (سيدة): 8/ 471، التفتزاني: 2/ 16، 17، 168، التفتزاني السعد: 1/ 351، التكروني إبراهيم: 5/ 64، تكوك = طكوك (عا نلة) .. التلمساني: 1/ 29، التلمساني إبراهيم: 2/ 420، التلمساني أحمد: 2/ 416، 7/ 42، التلمساني الحاج الداودي: 7/ 43، 44، التلمساني حيمش: 8/ 433، 437، التلمساني (سيدي): 1/ 265، التلمساني سيدي علي: 5/ 86، 87، 148، التلمساني علي: 1/ 265، التلمساني محمد بن الحاج: 4/ 91، التلمساني محمد بن العربي: 6/ 254، 8/ 253، التلمساني محمد بن علي: 2/ 31، 385، التلمساني محمد بن يلس: 7/ 156، التلمساني محمد الطالب: 2/ 71، التلمساني محمد المنور: 2/ 34، 36، 47، 49، 51، 358، التلمساني محمد الهاشمي: 4/ 81، التلمساني المدني بن أحمد: 4/ 253، التلمساني المنور: 1/ 420، 429، التليلي أحمد: 1/ 284، 290، التليلي البشير: 3/ 302، 440، 5/ 609، التليلي قاسم: 1/ 290، التليلي محمد الطاهر: 1/ 7، 12، 132، 290، 383، 443، 502، 2/ 50، 77، 78، 79، 85، 98، 131، 162، 332، 333، 3/ 13، 4/ 499، 500، 5/ 98، 99، 391، 395، 596، 7/ 39، 157، 355، 356، 8/ 165، 287، التماسيني أحمد: 3/ 226، 4/ 236، التماسيني البشير: 4/ 236، التماسيني البشير بن محمد: 3/ 226. التماسيني الحاج علي: 3/ 81، 4/ 194، 197، 199، 200، 204، 205، 206، 215، 217، 219، 220، 232، 237، 5/ 97، 150، 7/ 123، 446، 448، 8/ 227، 237، 238، التماسيني محمد: 3/ 226، 4/ 208، 218، 230، 231، 236، التماسينا محمد الصغير: 3/ 225. 4/ 208، 225 - 230، 242، 244،

_ 7/ 446، التماسيني محمد العروسي: 3/ 226، 4/ 504، 506، التماسيني محمد العيد بن الحاج علي: 3/ 225، 4/ 204، 207، 208، 218، 221، 222، 223، 224، 225، 288، 308، 5/ 454، 6/ 67، 102، 7/ 123، 395، 8/ 37، 39، 227، التماسيني محمد العيد بن البشيرة 3/ 226، التماسيني معمر: 3/ 225، 4/ 208، 223 - 227، 229، 230، 7/ 446، تمام: 8/ 438، التمبكتي: 6/ 100، 235، التمبكتي أحمد بابا: 1/ 60، 66، 90، 380، 381، 383، 448، 2/ 49، 80، 213، 233، 5/ 338، 400، 8/ 127، التمغروطي: 1/ 147، 170، 171، 178، 179، 182، 184، 247، 276، 286، 318، 319، 390، 440، 494، التمغروطي عبد الله: 2/ 240، التمكوشتي أحمد: 7/ 466، التميمي إسماعيل: 1/ 452، 2/ 228، 231، التميمي عبد الجليل: 1/ 8، 5/ 314، 518، 549، 7/ 348، 397، 8/ 86، 157، التميمي معاوية: 7/ 25، 63، التنسي: 8/ 397، التنسي عمار: 5/ 23، 24، التنسي محمد بن عبد الجليل: 1/ 44، 53، 54، 57، 59، 60، 61، 70 - 73، 79، 120، 121، 2/ 22، 33، 201، 233، 234، 345، التهامي محمد: 7/ 412، التواتي أحمد بن المبارك: 2/ 54، 58، التواتي البشير البجائي: 7/ 49، التواتي الحاج أحمد: 4/ 253، 254، 255، 263، 264، التواتي الزايدي: 7/ 281، التواتي الشيخ: 2/ 102، التواتي عبد الله: 4/ 253، التواتي عبد الكريم: 5/ 391، 7/ 396، التواتي محمد: 1/ 8، 179، 189، 265، 266، 295، 325، 350، 357، 393، 401، 432، 440 - 442، 450، 459، 460، 462، 464، 522، 2/ 158، 159، 226، 356، 5/ 90، 150، 391، 7/ 49، التواتي محمد (بجاية): 1/ 269، التواتي محمد بن عبد الكريم: 1/ 325، التواتي محمد بن مزيان: 2/ 20، التواتي الهواري: 7/ 124، 141، 323، تواس: 5/ 452، توتنباخ الكونت: 5/ 525، توتييه وبارفيه: 5/ 416، التوجيني أبو القاسم: 2/ 382، التوجيني عيسى: 2/ 352، 7/ 140، 327، التوحيدي أبو حيان: 5/ 339،

_ تودوروف 285/ 6: T. Todorov. توري: 4/ 94، التوري محمد: 8/ 451، 452، تورين يافون: 7/ 226. تولوزي (قائد): 2/ 449، توماس: 5/ 406، تومسون آن: 6/ 273، 310، 8/ 376، تومسون (نائب): 6/ 127، 285، 417، التومي سالم: 5/ 410، 412، التومي سليم: 1/ 140، 163، 169، 211، 2/ 206، التونسي أحمد بن عمر: 2/ 449، التونسي علي بن محمد: 2/ 449، التونسي محمد بن أحمد: 4/ 194، توينبي: 7/ 219، 220، تيار شارل 376، 178/ 8، 387، 385، 382، 381، 291، 290، 88/ 6، 416، 414، 411، 407/ 5، 290، 29/ 4، 435، 360، 357/ 3: Ch. Taillart، تيرمان لويس 504، 470، 405، 404، 398، 356، 354، 327، 326، 319، 310، 270، 227، 73/ 4، 351، 348، 268، 220، 131، 82/ 3: L. Tirman، 517، 5/ 30، 143، 176، 204، 222، 235، 276، 549، 557، 584، 6/ 36، 68، 220، 221، 222، 225، 227، 249، 250، 252، 7/ 17، 19، 86، 260، 269، 385، 392، 405، 428، 8/ 249، تيرتو ليان: 6/ 115، تيسيي هنري: 7/ 454، التيفاشي أحمد: 2/ 445، 6/ 96، تيكسييه (دكتور): 3/ 305، تيلر: 1/ 446، تيمور: 2/ 38، 39، 49، 56، 59، 160، 178، 324، تيمور أحمد: 8/ 235، تيمور محمود: 6/ 179، تين هينان: 8/ 412، تيير 399/ 6: Thier، (ث) ثابتي مصطفى: 6/ 261، 8/ 308، 346، 347، الثالوثي السنوسي: 1/ 98، ثامر الحبيب: 7/ 216، الثامري عبد الله: 5/ 363، 8/ 46، الثعالبي: 8/ 95، الثعالبي أبو منصور: 2/ 299، الثعالبي (عائلة): 5/ 490، الثعالبي عبد الرحمن: 1/ 43، 44، 45، 49، 50، 52، 53، 57، 60، 68، 69، 70، 83، 84، 88، 89، 90، 91، 92، 93، 95، 96، 100، 101، 106، 111، 121، 122، 170، 178، 187، 205،

_ 236، 237، 245، 263، 271، 286، 381، 435، 459، 460، 462، 482، 498، 504، 2/ 12، 16، 33، 52 - 60, 112، 123، 132، 146، 148، 281، 333، 3/ 39، 86، 229، 250، 4/ 11، 142، 165، 366، 373، 379، 451، 488، 496، 5/ 16، 17، 31، 48، 54، 67 - 69، 72، 113، 116، 118، 121، 122، 127، 131، 144، 153، 164، 165، 172، 512، 517، 6/ 28، 7/ 21، 72، 147، 257، 8/ 97، 98، 168، 202، 268، 393، 396، 469، الثعالبي عبد الحزيز: 3/ 242، 245، 274، 5/ 291، 379، 492، 520، 575، 600، 616، 618، 7/ 213، الثعالبي عيسى: 1/ 294 - 296، 344، 347، 364، 367، 371، 373، 374، 401، 412، 429، 440، 495، 522، 2/ 15، 17، 27، 30، 32، 33، 40، 43، 45، 48، 52، 57، 103 - 105، 108، 150، 195، 196، 235، 271، 335، 358، 382، الثعلبي عبد الله: 2/ 169، الثغري إبراهيم بن أحمد: 1/ 111، 112، الثغري محمد: 2/ 167 - 169، 233، الثغري محمد بن يوسف: 1/ 112، الثميني عبد العزيز: 1/ 310، 326، 2/ 30، 68، 72، 74 - 76، 80، 83، 101، 153، 3/ 265، 266، 274، 4/ 536، 7/ 78، 87، 152، 167، الثميني محمد: 2/ 84، ثورو- دانجون: 6/ 387، الثوري سفيان: 1/ 75، (ج) جابر أبو بكر: 5/ 272، الجابري إحسان: 8/ 299، الجابري محمد الصالح: 5/ 276، 279، 281، 285، 491، 8/ 296، الجاحظ: 2/ 436، 4/ 165، الجادر وليد: 1/ 8، 2/ 167، الجادري محمد ة 1/ 432، 2/ 412، الجازية: 8/ 126، جاكار: 3/ 362، جاكرهي إبراهيم: 5/ 38، جاكمان 99/ 5:: D. Jacguemin، جالينوس: 2/ 424. الجامعي عبد الرحمن: 1/ 171، 187، 202 - 204، 217، 241، 772، 276، 283، 295، 310، 336، 443، 2/ 63، 172، 202، 208، 240، 243، 255، 257، 258، 272، 296، 300، 301، 302، 306، 309 - 312، 325، 337، 358، الجامي (سيدي): 5/ 135، جان دارك: 1/ 217، 6/ 192، 193، 194، 7/ 316،

_ جان مير 327/ 6، 419، 343/ 3: Jean Maire، جاهبيي هنري 434/ 6: H.Jahbier، جاهير هنري: 6/ 58، جاهيير: 8/ 168، جاويد: 6/ 406، جاويش عبد العزيز: 3/ 179، 248، 5/ 579، 580، 581، 606، جبار آسيا: 8/ 185، الجباري محمد بن علي: 5/ 421، 6/ 172، 173، 8/ 149، 150، 152، 154، 156، 177، 202، 300، 301، 442، الجباري مسعود: 4/ 468، 469، 6/ 165، 166، 7/ 470، الجباس محمد: 5/ 578، 587، 7/ 119، 200، 8/ 271، جبران خليل جبران: 5/ 240، 8/ 295، جبرائيل: 1/ 505، 4/ 16، 65، 67، 69، 88، 95، 174، 175، 193، 8/ 423، 424، الجبرتي عبد الرحمن: 1/ 288، 292، 298، 429، 430: 1/ 2/ 23، 51، 63، 346، 376، 390، 7/ 375 .. جحا: 8/ 135، 137، الجداوي حسن: 1/ 507، الجراري عباس: 8/ 90، 245، الجرجاني: 5/ 342، الجركلي إبراهيم: 2/ 449، جرمونة: 6/ 442، الجرود علي بن محمد: 2/ 181، الجزائري: 7/ 34، الجزائري أبو بكر: 4/ 486، الجزائري أحمد: 8/ 463، الجزائري أحمد أفندي: 7/ 312، 439، الجزائري أحمد بن عبد الله: 1/ 44، 45، 57، 82، 83، 89، 91، 93، 170، 205، 219، 220، 243، 245، 263، 270، 370، 459، 519، 2/ 79، 94، 112، 281، 5/ 47، 48، 118، الجزائري أحمد بن عبد القادر (الأمير): 5/ 551، الجزائري أحمد بن محمد السعيد: 4/ 44، الجزائري أحمد بن محي الدين: 5/ 563، 565، 569، 7/ 122، 438، الجزائري أحمد بن يوسف: 2/ 416، الجزائري ابن رجب محمد: 2/ 423، 424، الجزائري بديعة: 5/ 563، 567، الجزائري الحاج عبد الله: 5/ 606، الجزائري حسين بن عبد الله: 1/ 291، الجزائري الحسين بن محي الدين: 5/ 563، 568، الجزائري سعيد بن علي: 5/ 553، 604، 605، 7/ 117، 439، 455، 456، الجزائري الشيخ طاهر: 3/ 6، 99، 186، 5/ 385، 386، 500، 523، 606، 6/ 421، 423، 424، 7/ 68، 82،

_ 157، 290، 292، 315، 338، 340، 350، 351، 399، 8/ 63، 101، 148، 166، 68، 273، 429، الجزائري عبد الله: 5/ 551، 7/ 469، الجزائري عبد الباقي: 4/ 57، الجزائري عبد الرزاق بن الأمير: 5/ 551، الجزائري عبد القادر= عبد القادر (الأمير)، الجزائري عبد القادر (الحفيد): 5/ 553، 555، 7/ 456، الجزائري عبد القوي: 5/ 562، الجزائري عبد المالك: 5/ 526، 551، 553، 554، 563، 7/ 437، 439، 8/ 181، 251، 263، 282، 284، الجزائري عز الدين: 5/ 567، الجزائري علي: 5/ 495، 503، 520، 551، 552، 553، 554، 561، 562، 604، 7/ 437، 439، الجزائري علي بن حسن: 2/ 416، الجزائري عمر: 3/ 90، 5/ 385، 386، 520، 551، 555، 6/ 62، 7/ 437، الجزائري محمد (ابن الأمير): 1/ 29، 2/ 36، 37، 51، 170، 3/ 61، 4/ 33، 5/ 385، 499، 520، 532، 552، 555، 578، 583، 6/ 66، 361، 422، 7/ 60، 68، 99، 117، 150، 159، 160، 161، 184، 191، 192، 202، 203، 238، 303، 313، 396، 436، 437، 438، 8/ 92، 162، 167، 204، 205، 240، 263، 273، 280، 290، الجزالري محمد بن علي: 8/ 264، الجزائري محمد بن عيسى: 3/ 78، 93، الجزائري محمد السعيد: 1/ 514، 3/ 234، 4/ 44، 45، 57، 294، 5/ 385، 511، 551، 563، 564، 617، 7/ 115، 156، 122، 8/ 206، الجزائري محمد المأمون: 4/ 486، الجزائري محمد المرتضى: 4/ 45، 46، 57، 58، 294، 485، 5/ 511، 512، 565، 566، 578، 7/ 115، 122، الجزائري محي الدين: 4/ 45، 153، 193، 484، 486، 503، 5/ 503، 511، 517، 530، 535، 547، 549، 551، 555، 558، 583، 7/ 126، 428، 437، 474، 8/ 88، 107، 196، 253، 263، 304، الجزائري مختار (بن الأمير نور الدين): 5/ 499، 500، 568، 609، الجزائري مصطفى (؟): 6/ 2، 54، 8/ 206، 253، الجزائري مصطفى بن محي الدين: 5/ 563، الجزائري مصطفى بن الهاشمي: 5/ 557، الجزائري الهاشمي (والد الأمير خالد): 5/ 520، 551، 556، 561، 7/ 437، الجزري عباس: 1/ 7، الجزلاوي محمد التواتي: 7/ 79،

_ الجزولي عبد الرحمن: 5/ 503، الجزولي محمد بن سليمان: 4/ 86، 96، 7/ 138، 139، الجزيري احمد: 2/ 21، الجزيري حسين: 5/ 280، جسوس عبد السلام: 1/ 505، الجعبري: 2/ 24، الجعدي محمد: 4/ 145، 146، 188، 5/ 124، جعفر باشا: 1/ 145، الجعفري محمد بن علي: 2/ 42، 43، 64، جعيط محمد: 7/ 287، جغلول عبد القادر: 3/ 273، 5/ 244، 425، 6/ 224، 452، 7/ 167، 468، 8/ 22، 177، 178، 179، 180، 181، 183، 322، 323، 330، 332، 335، 440، 446، الجكيكن محمد: 7/ 288، الجلاب محمد بن أحمد: 1/ 95، 124، الجلالى إبراهيم: 5/ 97، الجلالى أحمد: 3/ 264. الجلالي محمد بن العابد: 3/ 247، 248، 4/ 476، 537، 5/ 30، 257، 282، 286، 288، 289، 297، 298، 310، 428، 6/ 227، 7/ 170، 171، 213، 266، 269، 270، 414، 435، 470، 8/ 71، 72، 73، 139، 141، 198، 230، 302، 430، 449، الجلالى محمد بن قويدر: 8/ 284، الجلالي محمد الصغير: 4/ 186، الجلالي المختار: 1/ 503، 4/ 188، 8/ 236، 237، 274، جلواح مبارك: 8/ 197، 198، 203، 267، 288، 295، 296 - 300، جلول (آغا): 4/ 198، جلول أحمد: 8/ 302، جلول محمد بن زادي: 5/ 603، الجليس (سيدي): 3/ 136، الجليلي أبو بكر عبد السلام: 3/ 116، 4/ 510، 514، 534، 535، 5/ 389، 6/ 56، 103، 104، 171، 175، 177، 242، 263، 371، 7/ 46، 86، 106، 164، 250، 251، 469، 8/ 49، 50، 174، 241، 245، 456، الجليلي شعيب: 3/ 83، 94، 110، 112، 116، 221، 230، 4/ 59، 478، 483، 488، 503، 504، 506 - 515، 534، 5/ 314، 432، 576، 580، 6/ 33، 334، 7/ 10، 46، 58، 64، 66، 67، 68، 70، 71، 75، 85، 86، 106، 137، 149، 153، 163، 204، 288، 289، 328، 469، 8/ 11، 48، 58، 88، 90، 91، 165، 241، 245، 354، 265، 284، 288، 454، 464، جمال باشا: 5/ 385 500، 524، 555، 7/ 157، 8/ 79، 125، 204، جمعة (سيدي): 1/ 205، 263، الجموعي أبو القاسم: 2/ 438،

_ الجنادي أحمد: 3/ 190، الجنادي بلقاسم: 8/ 468، الجنادي الطاهر: 5/ 491، 7/ 36، 163، الجنادي عبد الحفيظ: 5/ 317، الجنادي محمد السعيد: 3/ 190، الجنادي محمد الطاهر: 3/ 191، 212، الجنان محمد: 2/ 215، الجناوني: 7/ 322، جنتيل 164/ 6: Gentil، الجنحاني الحبيب: 2/ 222. الجندوبي علي: 1/ 47، 2/ 445، الجندي أمين: 8/ 280، الجندي (العنابي): 8/ 450، الجندي (محامي): 5/ 428، الجنيد: 2/ 148، 7/ 133، 149، 173، 8/ 424، الجنيد أبو القاسم: 4/ 64، 65، 68، 193، 282، 304، الجنيد أحمد مكي: 3/ 149، 150، 152، 153، جنيلا راؤول (شاعر): 201/ 8، جوان أدولف: 3/ 42، 5/ 418، 439، جوبا (ملك): 5/ 41، جوبيان: 5/ 411، 416، جوبير: 6/ 19، 71، الجوثي علي: 2/ 117، الجوخدار محمد: 5/ 558، الجودي (سيدي): 1/ 205 - 263، جوردان: 5/ 307، جوركي جاك: 6/ 251، جوريس جان 451، 450، 449، 419/ 6: J. Jaures، الجوزي: 1/ 255، الجوزي أبو الفرج: 1/ 111، الجوزي ابن القيم: 1/ 132، الجوزي محمد: 1/ 263، 2/ 353، جوس: 5/ 98، جوسو عبد الكريم: 4/ 136، جوقه (ضابط) 98/ 6: Jugue، جوكلاري محمد الشريف: 5/ 256، 263، 601، 6/ 433، 7/ 218، جوكوبان: 5/ 356، جولى الإسكندر 232، 95/ 3:: A. Joly، 233، 389، 4/ 49، 70، 72، 73، 74، 303، 321، 322، 325، 328، 334، 496، 497، 5/ 8، 137، 266، 6/ 32، 40، 41، 52، 57، 170، 433، 7/ 141، 142، 250، 8/ 20، 308، 316، 317، 318، جوليان شارل أندري: 6/ 387، 399، 400، 401، 427، 451، 8/ 355، 379، جومار 36/ 8، 417/ 3: Jomard، الجون محمد الصالح: 7/ 454، جونار شارل 70، 68، 67/ 3: Ch. Jonnart، 91، 95، 133، 164، 242، 247، 327، 352، 354، 357، 358، 381، 401، 430، 433، 434، 435، 4/ 158، 231، 328، 354، 355، 384، 408،

_ 409، 477، 494، 495، 510، 535، 5/ 25، 30، 79، 143، 145، 146، 216، 238، 239، 241، 244، 249، 278، 296، 313، 358، 405، 448، 453، 466، 476، 586، 589، 603، 607، 6/ 28، 72، 233، 248، 285، 289، 290، 324، 348، 417، 7/ 257، 266، 270، 273، 392، 432، 468، 8/ 40، 169، 171، 179، 195، 244، 245، 246، 259، 261، 367، 369، 370، 385، 386، 392، 396، 398، 403، 410، 455، 464، الجوهري أحمد: 2/ 38، 51، الجوهري محمد: 2/ 170، جوهو: 5/ 415، الجويني عبد الملك: 7/ 149، 151، جياكوبيتي (قس): 4/ 43، 7/ 143، 323، جيب هاملتون: 1/ 186، 387، الجيجلي علاوة: 3/ 258، الجيجلي عمر: 3/ 264، جيد أندري: 6/ 382، 8/ 376، جيراردان: 5/ 155، 6/ 149، 411، جيرمان Germain (ضابط): 4/ 151، جيرو نيمو: 6/ 8، جيريفيل مارتن: 4/ 108، جيسلان: 36/ 8: Geslin، الجيطالي: 3/ 271، 272، الجيلالي عبد الرحمن: 1/ 12، 90، 45، 71، 79، 82، 87، 113، 118، 130، 132، 2/ 73، 160، 373، 3/ 7، 78، 92، 96، 250، 5/ 427، 429، 7/ 63، 303، 348، 354، 423، 424، 425، 434، 465، 8/ 115، 125، 173، 267، الجيلاني عبد القادر: 1/ 88، 459، 187، 205، 263، 273، 279، 485، 513، 2/ 128، 132، 439، 3/ 53، 234، 4/ 42، 43، 46، 63، 64، 65، 94، 284، 294، 5/ 112، 132، 133، 135، 137، 565، 578، 7/ 123، 133، 147، 323، 8/ 131، 318، 327، 424، الجيلاني محمد: 7/ 226، جيلي 128/ 5: Geylers، جيول لويس 352/ 5: Gieules، (ح) الحاج إبراهيم: 5/ 436، 452، الحاج إحساين: 3/ 186، 197، الحاج أبو منصور: 6/ 435، الحاج أحمد باي: 1/ 163، 176، 194، 224، 309، 470، 2/ 190، 194، 3/ 44، 126، 127، 215، 281، 4/ 33، 61، 149، 196، 377، 434، 462، 5/ 89، 122, 133، 148، 159، 242، 334، 335، 336، 338، 398، 400، 505، 515، 6/ 151، 296، 302، 7/ 10، 43، 223، 337، 342،

_ 343، 346، 348، 355، 397، 399، 401، 403، 457، 8/ 8، 10، 65، 87، 114، 127، 157، 405، 407، 408، 409، الحاج الأخضر: 8/ 389، الحاج ابن رابحة: 8/ 344، الحاج ابن ميلاد: 7/ 461، الحاج اكلي: 4/ 328، 405، 406، الحاج باشا: 5/ 127، 236، الحاج البشير: 7/ 416، الحاج الجابري: 8/ 405، الحاج جلول: 5/ 140، الحاج الحبيب (مجاهد): 5/ 34، الحاج حساين: 5/ 523، الحاج حمو عبد القادر = فكري الحاج الحواس: 3/ 256، الحاج الداودي: 8/ 166، الحاج دحمان: 7/ 461، الحاج الزراقي: 7/ 146، الحاج السعدي (سيدي): 5/ 129، 131، 571. الحاج سعيد الشريف: 5/ 317، الحاج سعيد المختار: 5/ 314، الحاج الشفيع: 7/ 136، الحاج صادق محمد: 1/ 473، 479، 480، 2/ 26، 35، 230، 233، 235، 300، 397، 398، 3/ 97، 6/ 60، 103، 104، 180، 228، 263، 8/ 348، الحاج طاطا: 8/ 344، الحاج عبد الحكيم: 4/ 110، الحاج عبد العزيز: 7/ 136، الحاج علي آغا: 2/ 374، الحاج علي البشير: 6/ 451، 452، 8/ 187، 470، الحاج علي (شيخ وزرة): 4/ 84، الحاج علي عبد القادرة 6/ 452، الحاج عمر: 3/ 97، 218، الحاج عمر الأفريقي: 4/ 24، 227، 195، الحاج عمر (الرحماني): 4/ 144، 188، الحاج عمر (صهر الداي): 5/ 343، الحاج عمر المغربي: 5/ 124، 475، 479، 509، الحاج عيسى: 8/ 418، الحاج عيواز (بطل شعبي): 8/ 134، 439، 442، الحاج لعيرج: 8/ 389. الحاج مبارك: 4/ 15، الحاج المبروك: 8/ 340، الحاج محمد خوجة: 2/ 262، الحاج محمد الطاهر: 2/ 168، 340، الحاج محمد (محند): 3/ 186، الحاج محمود أفندي: 7/ 437، الحاج الملياني: 4/ 79، الحاج موسى علي: 8/ 90 - 103 - 203، الحاج ناصر محمد: 8/ 27، الحاج الهواري: 7/ 461،

_ الحاج يعقوب: 3/ 228، الحاجري محمد طه: 7/ 99، 160، 183، 8/ 106، 146، 264، 282، 291، حاجي خليفة: 2/ 151، حاجيات عبد الحميد: 1/ 61، 5/ 433، الحارثي عبد القادر: 1/ 98، 2/ 94، حافظ إبراهيم: 5/ 615، 8/ 198، 225، 277، الحافظ محمد: 7/ 468، الحافظ محمد مطيع: 5/ 522، 7/ 280، حافظ مصطفى: 3/ 170، 247، 248، 251، 5/ 252، 261، 282، الحافظي المولود: 3/ 264، 5/ 254، 261، 497، 7/ 278، 279، 281، 282، 443، 8/ 12، 217، حامد إسماعيل: 3/ 401، 4/ 48، 278، 5/ 489، 6/ 30، 103، 162، 178، 180، 223، 228، 231، 232 - 242، 262، 326، 348، 350، 351، 371، 421، 7/ 122، 182، 187، 188، 189، 200، 207، 208، 272، 273، 274، 316، 350، 394، 467، 8/ 50، 60، 174، 371، 372، 454، 455، الحباك محمد بن أحمد: 1/ 95، 111، 115 - 118، 2/ 403، 404، 427، 7/ 283، الحبشي محمد: 2/ 51، الحبشي ياقوت: 7/ 139، حبة عبد المجيد: 7/ 396، الحبيباتني أحمد: 3/ 129، 4/ 385، الحبيبي أحمد (؟): 4/ 413، حبيبي داود: 6/ 149، حبيبي يعقوب: 6/ 149، حجام (سيدي): 5/ 85، الحجوي محمد: 4/ 339، 340، 8/ 271، الحجيج محمد التونسي: 2/ 384، الحداد بلقاسم: 2/ 315، حداد جورج: 5/ 422، 8/ 443، 444، الحداد صالح: 4/ 173، الحداد الطاهر: 7/ 21، الحداد عبد العزيز (عزيز): 4/ 168، 171، 172، 173، 174، 188، 307، 308، 5/ 473، 484، 510، 559، 560، 6/ 35، 160، 7/ 132، 451، 8/ 107، 326، حداد مالك: 8/ 175، 185، الحداد محمد: 5/ 580، 7/ 35 36، 57، 68، 129، 131، 132، 206، 331، 440، 445، 477، الحداد محمد أمزيان: 3/ 97، 103، 129، 163، 189، 190، 197، 199، 200، 206، 212، 213، 215، 218، 219، 230، 232، 233، 4/ 24، 71، 142، 145، 146، 161، 167، 168 - 171، 180، 185، 188، 268، 288، 294، 443، 5/ 124، 363، 373، 558،

_ 559، 560، 8/ 44، 76، 107، 158، 215، 216، 218، 322، 326، 327، الحداد محمد (ابن محمد): 4/ 168، الحدبي قدور بن عمر: 8/ 342، 373، حدوش (سيدي): 1/ 477. حدوني محمد: 5/ 260، الحرار محمد: 4/ 366، 375، الحرار محمد بن مصطفى: 5/ 178، الحرار محمود: 3/ 232، الحرار مصطفى: 3/ 32، 4/ 488، 489، 515، 516، 520، 523، 524، 7/ 47، 53، 54، 69، 72، 8/ 266، حرازم الحاج علي: 4/ 191، 192، 237، الحراق الشيخ: 7/ 362، حربي محمد: 6/ 451، الحرشاوي (الشيخ): 3/ 105، حركات إبراهيم: 1/ 425، الحركاتي إبراهيم: 1/ 290، الحريري: 2/ 185، 6/ 45، الحريري أبو القاسم: 8/ 150، 153، الحريزي الحبيب: 3/ 114، 115، 118، الحريزي السعيد: 3/ 33، 7/ 24، 445، حسان ابن ثابت: 7/ 178، 8/ 212، 316، حساني رمضان: 5/ 263، حسنا آغا: 1/ 237، 382، 5/ 403، الحسن الأول: 4/ 99، 118، 5/ 562، 7/ 204، 314، 404، 465، 466، 8/ 221، 269، حسن باشا: 1/ 200، 201، 211، 250، 261، 477، 2/ 313، 418، 446، حسن باشا (بابا): 1/ 163، حسن باشا بن خير الدين: 1/ 144، 151، حسن باشا بن علي: 8/ 396، حسن باشا (داي): 5/ 38، 71، 128، 130، 146، 343، حسن باي: 1/ 223، 224، 236، 250، 265، 421، 514، 2/ 194، 266، 347، 441، حسن بن موسى (باي): 4/ 267، 193، الحسن الثاني: 2/ 18، 30، الحسن الحفصي: 2/ 334، الحسن الحفصي (سلطان): 1/ 382، الحسن السيد: 7/ 466، الحسن الصادق: 4/ 246، حسن عبد الغني: 2/ 222، حسن علي: 7/ 93، الحسني بدر الدين: 5/ 528، 570، الحسني تقي الدين: 2/ 48، حسني سليمان بن ناصر: 5/ 311، الحسني الطالب: 7/ 124، الحسني محمد بن صالح: 3/ 129، حسون (سيدي): 5/ 85، حسيبة بنت محمد: 8/ 461، حسين أحمد: 3/ 199، 6/ 177، 7/ 95، حسين باشا: 1/ 144، 235، 253، 254،

_ 266، 465، 2/ 172، 194، 5/ 17، 25، 31، 36، 59، 60، 61، 63، 75، 155، 159، 216، 299، 343، 409، 417، 437، 494، 496، 6/ 270، 8/ 382، 408، حسين باشا (الداي): 4/ 33، 34، 79، 420، 6/ 228، 328، 347، 380، 384، 7/ 223، 378، 400، 461، حسين باي (تونس): 5/ 515، حسين خوجة الشريف باشا: 1/ 357، 410، 413، 418، 425، 428، 470، 2/ 21، 61، 138، 163، 170، 256، 316، 383، الحسين الشيخ: 5/ 366، حسين علي: 4/ 538، حسين محمد الخضر: 3/ 217، 244، 4/ 153، 505، 5/ 490، 500، 503، 520، 575، 599، 616، 7/ 84، 392، الحسيني الشريف: 8/ 145، الحسيني عبد القادر 6/ 404، الحسيني محمد: 3/ 163، الحسيني محمد بن الحاج: 3/ 106، الحشائشي: 4/ 263، حشلاف أحمد: 8/ 454، حشلاف الحبيب: 8/ 451، 452، 454، 456، 465، 466، 468، 469، 471، 472، 473، 475، حشلاف عبد الله: 7/ 148، 329، 450، 8/ 166، حشلاف محمد: 5/ 300، 301، الحصار الغوثي: 4/ 334، الحضري المحجوب المزغناي: 1/ 436، 2/ 192، الحطاب (الشيخ): 2/ 97، حفصة (السيدة): 1/ 380، الحفناوي محمد بن سالم: 1/ 479، 507، 7/ 131، الحفني (الحفناوي) الخلوتي: 2/ 50، 4/ 174، 175، 193، الحفني محمد: 2/ 48، حفيان علي ابن الشيخ: 1/ 301، حفيز (حفيظ) خوجة: 5/ 162، 349، حفيظ التركي (قائد): 2/ 13، حفيظ (حفيز) بومدين: 7/ 267، حفيظ خوجة الكبير (قايد): 1/ 291 420، 421، 468، الحقار سيدي محمد: 5/ 135، حقي (التركي): 6/ 406، حقي ممدوح: 8/ 207. حكار سعدي: 8/ 145، الحلاج أبو منصور: 1/ 459، 4/ 129، الحلفاوي محمد: 1/ 203، 204، 265، 275، 2/ 240، 241، 257، 309، 325، 336، 337، الحلوي زروق: 5/ 202، الحلي صفى الدين: 5/ 240، حليمة (القائدة): 7/ 372، حمادة (الشيخ): 8/ 466، 471، 472.

_ حمادي عبد الله: 1/ 455، 2/ 15، 8/ 95، الحمامي علي: 5/ 500، 8/ 182، 181، حماني أحمد: 4/ 127، 5/ 272، حماني الصادف: 5/ 272، الحمداني أبو فراس: 8/ 51، الحمزاوي سليم: 5/ 540، الحمزاوي محمود: 5/ 540، حمزة بوبكر: 5/ 272، حمزة (الخليفة): 5/ 370، 8/ 115، حمزة سليمان: 6/ 344، حمزة (سيدي الشيخ): 4/ 111، 518، 519، 6/ 67، 343، حمزة (المدني): 4/ 125، حمو (سيدي) عبد الرحمن: 3/ 192، حمو عبد الحق: 6/ 219، حموتن حسن: 8/ 229، حمود حمدان: 3/ 87، 103، 104، 4/ 385، 383، 386، 6/ 137، حمود رمضان: 3/ 274، 8/ 67، 72، 95، 133، 134، 166، 197، 199، 203، 231، 288، 295، 296، 298، حمود قايد: 5/ 251، حمودة باشا: 7/ 344، حمودي يحيى: 6/ 326، الحموي ابن واصل: 1/ 119، حميد: 8/ 332، حميدة: 8/ 344، حميدو (الريس): 1/ 140، 8/ 401، حميدو عبد الحميد: 6/ 103، 263، حميدوش محمد: 7/ 267، الحميدي سليمان: 1/ 183، الحميري مسلم بن عبد القادر: 2/ 179، 346، 347، 7/ 312، 320، 356، 357، 358، 359، 370، 384، 8/ 7، حميمونة: 8/ 438، حناش الطاهر: 5/ 303، 304، حنبعل: 8/ 143، 375، الحنصالي سعيد: 4/ 86، الحنصالي يوسف: 1/ 518، الحنفي جلال بنا خضر: 2/ 181، الحنفي عبد الحفيظ: 7/ 45، 127، 128، الحنفي محمد: 1/ 321، 448، الحنفي محمد الولي: 2/ 81، حنوز: 7/ 216، حني عبد الفتاح: 8/ 420، حنيفة بنت مصطفى: 1/ 237، حنيفة محمد خوجة: 5/ 117، الحنيفي ابن عبد الله: 4/ 501، حوتيه محمد: 4/ 48، 280، حوحو أحمد رضا: 3/ 255، 5/ 272، 486، 6/ 197، 7/ 314، 8/ 12، 67، 73، 74، 143، 144، 145، 202، حوحو محمد العزوزي: 5/ 54، الحوضي محمد: 2/ 94، 112،

_ الحوضي محمد بن عبد الرحمان: 1/ 44، 57، 59، 79، 80، 81، 83، 98، 99، 100، حيزية: 8/ 319، (خ ( الخازن: 7/ 141، خاطري أحمد: 6/ 160، 159، الخاقاني علي: 2/ 160، 166، خالد (الأمير): 3/ 360، 4/ 329، 418، 494، 5/ 251، 258، 267، 281، 283، 292، 499، 520، 552، 550، 554، 555، 557، 588، خالد العربي: 5/ 414، الخالدي: 3/ 243، الخالدي الحبيب بن موسى: 4/ 513، الخالدي حليمة: 5/ 429، 8/ 441، الخالدي سهيل: 4/ 58، 81، 5/ 385، 386، 521، 522، 524، 528، 539، 556، 560، 561، 566، 568، 604، 605، 7/ 15، 34، 140، 351، 8/ 46، 146، الخالدي عبد العزيز: 7/ 29، الخالدي محمد: 7/ 99، الخالدي محمد بن عبد الله: 5/ 558، الخالدي مولاي الحبيب: 7/ 66، الخالديوي محمد: 5/ 362، خاوة صالح: 4/ 183، 184، الخبزاوي محمد: 4/ 448، 502، 508، 7/ 99، خبشاش محمد الصادق: 8/ 197، 231، 260، خبشاش محمد الصالح: 5/ 254، خداوي موسى: 5/ 275، خدة محمد: 8/ 433، 434، 437، 438، 439، خديجة (سيدة): 7/ 215، خديجة (لالة): 3/ 191، 192، 4/ 140، 143، 5/ 530، الخديوي إسماعيل باشا: 8/ 91، 118، خراز أحمد: 5/ 391، الخراشي الحسين البسكري: 8/ 244، الخراطي: 2/ 422، الخرشي: 1/ 346، 2/ 71، 3/ 103، 185، 194، 195، الخرفي صالح: 3/ 275، 5/ 273، 276، 279، 280، 281، 294، 581، 605، 607، 616، 6/ 197، 8/ 74، 144، 200، 202، 250، 251، 254، 255، 295، الخروبي محمد: 4/ 197، 5/ 527، 327، 8/ 86، الخروبي محمد بن علي: 1/ 397، 398، 435، 473، 476، 498 - 500، 523، 2/ 16، 133، 134، 3/ 201، الخزرجي ابن أبي الجيش: 2/ 171،

_ الخزري (سيدي): 5/ 148، خزناج مصطفى: 2/ 100، خزناجي محمد: 8/ 469، خزندار محمد الشاذلي: 5/ 582، الخضر: 1/ 381، 484، 4/ 16، 17، 282، خضر باشا: 1/ 145، 194، 235، 236، 240، 244، 254، 256، 277، 330، 434، 2/ 340، 5/ 130، خضرسعاد: 8/ 321، 452، خطاب عبد الغني: 3/ 234، 7/ 24، 444، 445، الخطابي (بناء): 8/ 405، 407، الخطابي عبد القادر: 2/ 36، 7/ 53، الخطابي عبد الكريم: 4/ 119، 5/ 379، 8/ 137، 181، الخطيب عدنان: 5/ 23، 6/ 424، الخطيب قصي: 5/ 386، الخطيب محب الدين: 5/ 386، 484، 567، 600، 601، 6/ 353، 7/ 168، 8/ 95، الخفاجي: 2/ 55، 182، الخلوف أحمد: 1/ 44، 79، 81، 82، 109، الخلوي (السيخ): 3/ 125. خليفي أحمد: 5/ 301، خليل بن إسحاق: 1/ 346، 406، 449، 2/ 49، 67، 72، 73، 354، الخليل بن أحمد: 2/ 165، خليل الحاج: 1/ 237، خليل الحاج (باي): 2/ 348، خمار بلقاسم: 8/ 250، خمار سعد الدين: 8/ 250، خمار قدور: 3/ 151، خمار محمد: 5/ 360، خمار محمد بن بلقاسم: 3/ 150، 152، خميسة (الحاجة): 5/ 439، خنجل علي: 1/ 485، 2/ 438، الخنشلي علي: 8/ 473، الخنقي الأزهاري: 4/ 151، 188، الخنقي ابن حسين: 3/ 218، الخنقي الحفناوي: 4/ 151، الخنقي سعد السعود: 4/ 152، الخنقي عاشور: 3/ 70، 99، 125، 128، 143، 217، 220، 222، 4/ 41، 153، 161، 164، 416، 5/ 369، 490، 513، 597، 598، 599، 6/ 334، 341، 7/ 53، 57، 58، 60، 74، 46، 139، 282، 330، 331، 332، 333، 334، 347، 442، 8/ 11، 66، 74، 74، 78، 80، 84، 118، 119، 148، 165، 195، 197، 202، 210، 211، 212، 213، 214، 215، 235، 264، 269، 288، 292، 305، 306، 309، 319، الخنقي عبد الحفيظ: 1/ 503، 3/ 216، 218، 4/ 147، 150، 151، 152، 160، 188،

_ الخنقي محمد العربي: 4/ 151، 152، خوجة إبراهيم: 1/ 234، خوجة بكير: 6/ 161، 176، 8/ 50، خوجة الجلد عمر: 7/ 255، خوجة حسن: 1/ 221، 5/ 494، 6/ 153، 328، 329، 7/ 398، 399، خوجة حسين: 7/ 356، 358، 359، 370، 371، 384، خوجة حمدان: 1/ 26، 29، 158، 172، 224، 292، 2/ 170، 418، 3/ 58، 72، 324، 4/ 13، 36، 349، 350، 352، 538، 5/ 8، 12، 15، 76، 123، 140، 156، 159، 289، 329، 347، 478، 493، 494، 502، 503، 529، 6/ 199، 200، 269، 298، 296، 298، 328، 339، 395، 7/ 79، 121، 158، 159، 236، 253، 254، 255، 256، 302، 306، 312، 358، 363، 396 - 402، 422، 441، 450، 451، 8/ 7، 110، 126، 173، 241، 263، 264، 392، 408، خوجة عثمان: 8/ 408، خوجة علي رضا: 7/ 80، 399، خوجة لويس: 6/ 371، خوجة محمد بن إبراهيم: 8/ 132، خوجة محمد الحاج: 1/ 213، 236، 282، خوجة محمود: 5/ 21. خوجة مصطفى: 1/ 194، الخويدي أبو سيف: 7/ 366، 368، الخيام عمر: 8/ 183، خير الدين باشا التونسي: 4/ 517، 521، 522، 5/ 229، 314، 541، 542، 550، 573، 595، 6/ 178، 183، 220، 422، 7/ 158، 197، 200، 309، 8/ 92، 253، 261، 269، خير الدين (سيدي): 3/ 23، خير الدين محمد: 3/ 255، 5/ 254، 312، 8/ 116، 283، خير الدين (ولي): 1/ 264، الخير عبد القادر: 8/ 334، خيرة (لالة): 5/ 531، 6/ 341، خيمينيث فرنشيسكو: 1/ 172، (د) دابر: 1/ 149، 164، 173، دادة (الولي): 1/ 205، 243، 263، 270، 271، دادي محمد: 5/ 577، 578، دار أنطونيني: 5/ 17، الدارجي بلقاسم بن عثمان: 2/ 100، دارماندي: 6/ 416، داروي لوسيان 432/ 5: L. Darraouy، 454، 456، 458، 460، 461، 462، داروين: 3/ 203، 302، داستونق: 1/ 462، الداغستاني شامل: 5/ 547، 8/ 88، دافيزاك: 2/ 386، 6/ 91، داكستا منديس: 5/ 415،

_ دالكونت الكونت: 1/ 200، 2/ 313، دالماطي (مارشال) 167/ 5: Dalmatie، دالي عبد الكريم: 5/ 302، 8/ 470، داليون: 6/ 410، الدامرجي محمد علي: 3/ 249، 251، 261، دان (راهب): 6/ 300، دان فوديو عثمان: 6/ 180، دانيللي دي بورث: 6/ 130، داود باشا: 5/ 572، داود جلال الدين: 7/ 242، دا ود (القائد): 1/ 183، داود محمد: 1/ 7، 2/ 135، داود المصري: 7/ 234، داود (النبي): 6/ 319، الداودي أحمد: 4/ 187، الداودي (سيدي) بن ناصر: 7/ 251، الداوي ابن عيسى: 3/ 265، الدايجي محمد الحاج: 3/ 118، 159، الدباغ (عائلة): 2/ 425، الدباغ عبد العزيز: 4/ 250، 251، دباغين محمد الأمين: 7/ 266، 274، دبوز محمد علي: 3/ 47، 62، 72، 96، 222، 226، 242، 243، 245، 256، 264، 265، 272، 274، 275، 4/ 26، 165، 500، 5/ 177، 244، 249، 263، 283، 294، 311، 313، 320، 377، 390، 491، 499، 579، 6/ 340، 7/ 12، 13، 86، 88، 134، 152، 154، 163، 165، 255، 389، 409، 410، 441، 442، 8/ 210، 250، 271، 285، 286، دبوسي (مترجم): 6/ 149، دبي (سيدي): 5/ 147، دبيش جميلة: 8/ 183، دحاش الصادق: 7/ 63، 424، الدحاوي ابن الحاج عبد القادر: 2/ 178، 266، 299، دحلان أحمد: 7/ 37، دحلان الزيني: 3/ 267، دحمان: 8/ 137، دحمون: 8/ 446، 448، 450، دحمون إبراهيم: 5/ 424، دحو (سيدي): 3/ 31، دحو العربي: 5/ 374، الدراجي عبد الله بن غانم: 7/ 146، الدارجي يحيى: 7/ 25، الدرار (سيدي): 5/ 147، دراز عبد اللطيف: 7/ 216، دردور حسن: 8/ 452، دردور الهاشمي: 4/ 154، 156، 157، الدردير (الشيخ): 2/ 170، 367، 5/ 393، الدرعي أحمد: 1/ 179، 180، 181، 252، 295، 310، 317، 422، 443، 494، 503، 505، 2/ 59، 60، 78، 138، 252، 380، 393، 395، الدرعي محمد بن عبد السلام الناصري:

_ 1/ 502، 512، الدرعي محمد بن ناصر: 4/ 90، 248، 275، درغوث مصطفى: 8/ 235، الدرقاوي أبو بكر: 4/ 115، الدرقاوي الحاج موسى: 8/ 324، الدرقاوي محمد العربي: 1/ 127، 220، 221، 494، 517، 4/ 67، 71، 112، 122، 123، 125، 129، 247، 7/ 66، 449، الدرقاوي محمد الهاشمي: 4/ 138، الدرقاوي مصطفى: 4/ 115، الدرقاوي موسى: 4/ 30، 70، 114، 115، 150، 196، 205، 297، 5/ 137، 508، 513، 571، 572، 7/ 368، دركل (دكتور): 3/ 91، 7/ 226، 227، 257، درومون: 6/ 400، درويش سيد: 8/ 459، دريفس 420، 402/ 6، 313/ 4، 246/ 3: Dreyfus، دريو (مترجم): 7/ 475، دريوة: 4/ 711. دزبون عبد الله: 6/ 150، 417، الدساسي علي: 2/ 409، الدسوقي: 3/ 98، الدسوقي محمد: 2/ 37، دغمان أحمد: 4/ 498، 499، 7/ 38، دغيز حسونة: 5/ 493، 494، 7/ 397، دقيوس: 2/ 424، الدكالي إبراهيم: 1/ 75، الدكالي رشيد: 1/ 149، الدكالي شعيب: 5/ 578، الدلائي أبو عبد الله: 2/ 160، الدلائي أحمد بن سعيد: 2/ 56، الدلائي محمد بن أبي بكر: 1/ 372، 2/ 42، الدلسي إدريس محفوظ: 5/ 529، 7/ 39، 94، 134، 135، 205، 283، 285، 286، 287، 328، 8/ 46، 228، 235، 240، 236، الدلسي أمحمد: 7/ 36، الدلسي الحبيب: 7/ 205، الدلسي (عائلة): 5/ 607، الدلسي محمد: 4/ 516، دماغ العتروس العربي: 8/ 117، الدماميني: 2/ 164، 289، دمبري محمد الصالح: 6/ 391، الدمنهوري أحمد: 2/ 150، 167، الدمياطي شمس الدين محمد: 2/ 130، الدميري: 2/ 436، 5/ 345، الدنا محمد رشيد: 5/ 566، دندان الصادق: 5/ 248، 251، 265، دنزيقر رافائيل 201/ 4: R. Denziger، دنينوس إبراهيم: 5/ 420، 421، 6/ 154، 146، 8/ 128، دهي 300/ 5: Dhé، دهينة عمر: 7/ 412، 8/ 436،

_ دوانو 148/ 6، 438/ 4: Doincau، دوباري توماس 365/ 4: Th. Debarry، دوبة الحاج محمد: 3/ 106، دوبو (مستشرق): 6/ 71، دوبوا بول إيلي: 8/ 382، دوبوش 93، 77، 76، 39/ 5: Dupuch، 102، 6/ 7، 106، 116، 126، 139، 415، 429، 8/ 409، دوبينيوس: 6/ 149، دوتيه إدمون 307، 305/ 3:: E. Doutte، 401، 4/ 30، 34، 531، 5/ 588، 6/ 32، 34، 52، 96، 328، 425، 7/ 250، 8/ 57، دودنك (رسام): 8/ 382، دودو أبو العيد: 1/ 310، 7/ 478، 8/ 145، 440، دودييه: 6/ 381، دودييه الفونس: 8/ 176، دور 331، 330/ 5: Dur، دورخايم: 6/ 13، 34، 75، 243، 307، 425، 8/ 57، دورليان: 8/ 17، 18، 242. دورنون: 1/ 236، 519، 3/ 142، 143، 144، 146، 148، 150، 153، 155، 156، 6/ 22، 227، 7/ 312، 213، 344، 345، 346، 347، دورو: 5/ 220، دو روفيقو: 3/ 236، 395، 4/ 493، 5/ 45، 132، 157، 213، 214، 311، 329، 6/ 15، 16، 17، 18، 147، 182، 7/ 399، 457، دوريو (زعيم): 6/ 401، دوريو ماكس: 8/ 475، دوزي: 7/ 313، دوسير (أسقف): 6/ 132، الدوعاجي حسن: 3/ 102، دوفال: 3/ 317، 5/ 218، دوفال جول: 6/ 346، دوفريسن شارل 387/ 8: Dufresné، دوفوكس: 8/ 392، دوفيرييه شارل: 6/ 312، دوفيرييه هنري 245، 240، 239، 237، 233، 228، 223، 222، 221، 220، 205، 204، 192، 154، 111، 110، 106، 104 30/ 4: H. Duveyrier، 246، 254، 255، 258، 259، 260، 264، 265، 278، 280، 301، 302، 321، 5/ 97، 177، 6/ 48، 67، 68، 102، 312، 429، 440، 7/ 395، 462، 8/ 36، 37، 38، 39، دوقا غوستاف 52، 51/ 8، 161، 159/ 7، 47/ 6، 597، 541/ 5، 423، 408، 407، 405، 404/ 3: G. Dugat، دوقلاس، إيلمر: 1/ 463، دوكيني 32/ 5: Duguesne، دولابورت: 1/ 430، 5/ 181، 182، 6/ 42، 150، دولار الجزائري: 1/ 291،

_ دولاروك (جنرا) 277، 235، 232، 51، 50، 49/ 4: De Laroque، دولاكروا: 3/ 299، دولاكروا (فنان): 8/ 176، 374، 376، 278، 379، 383، 388، 413، دولسي 185/ 5: Doulset، دوما الاسكندر: 6/ 381، دوما (دوق): 6/ 62، 442، دوماس: 3/ 362، دوماس الإسكندر: 8/ 175، 176، 376، دوماس يوجين: 1/ 337، 3/ 21، 23، 25، 181، 5/ 340، 385، 6/ 17، 95، 156، 186، 304، 307، 308، 339، 383، 442، 7/ 181، 182، 183، 202، 233، 235، 294، 295، 475، 8/ 204، 205، دومال (دوق) 414/ 8، 402/ 7، 385، 327، 222/ 5، 216، 111/ 4: DAumale، دومانيان: 5/ 416، دومة بنت محمد: 1/ 237، دومورك غوستاف: 4/ 383، دوميرت: 5/ 356، دوميرسان: 5/ 415، دونوفو: 6/ 48، 50، 81، 95، 378، دوهاميله جورج: 8/ 27. دوهوتبول: 8/ 87، دي إيبالزا ميكيل: 1/ 172، دي بارادي فانتور: 1/ 206، 257، 273، 276، 317، 5/ 116، 130، 6/ 9، 8/ 37، 357، دي بانيير (جنرال): 4/ 79، دي براسفياش لويس: 6/ 149، دي براي: 228/ 6: Barail، دي بوا: 6/ 101، دي بورجوا: 6/ 129، دي بورمون = بورمون دي تاسي لوجي: 1/ 163، 2/ 206، 6/ 19، 300، دي جانسون جيرار: 1/ 232، دي روتشيلد: 6/ 399، دي رينو = بيليسييه، دي ساسي: 1/ 72، 5/ 305 6/ 9، 10، 12، 16، 18، 33، 45، 71، 90، 146، 182، دي سان فانسان بوري (عقيد): 6/ 49، 81، 87، دي سولسي: 8/ 36، دي شانصيل أوسن: 8/ 336، 335، دي صال أوسيد: 6/ 153، 8/ 176، دي طرازي فيليب: 5/ 222، 224، 227، 6/ 183، دي فاندلبورغ: 8/ 178، دي فوكو شارل: 4/ 273، 6/ 55، 133، 136، 140، 431، 435، 8/ 31، 182، 320، 321، دي قرامون (96، 95، 77/ 6، 138/ 1:) De Grammont.

_ دي كاستري هنري: 1/ 147، دي كاسي الكونت: 1/ 206، دي كلبري: 4/ 442، دي كونستانت: 4/ 327، دي لاشاريير: 4/ 414، دي لامار: 6/ 83، 84، دي منوار: 7/ 239، 8/ 364، دي مواينكور: 4/ 495، 6/ 205، 206، دي موتبين غ: 6/ 173، دي موريس (ماركيز) 51/ 4: De Morrès، 6/ 387، 388، 7/ 463، 464، 8/ 333، 334، دي موزيس سلمون: 6/ 151، دي ميشيله (جنرال): 6/ 147، دي مينوار توستان: 4/ 430، 7/ 238. دي مينوار غوستاف: 4/ 357، دي نوفو (عقيد) 301، 31، 29/ 4: De Neveu، ديب محمد: 5/ 429، 8/ 175، 185، 299، 441، ديبارمي جوزيف: 3/ 34، 76، 260، 261، 262، 288، 4/ 37، 410، 497، 498، 5/ 426، 427، 428، 611، 6/ 30، 32، 54، 97، 297، 298، 299، 326، 328، 7/ 306، 417، 421، 422، 8/ 20، 21، 22، 23، 24، 25، 27، 28، 29، 33، 132، 133، 308، 311، 313، 349، ديباي أوغست 339/ 3: Depeille، ديبوا 387/ 8: Dubois، ديبورتر Deporter (ضا بط): 4/ 50، 51، 252، ديبورد (عقيد): 4/ 327، ديبوسيه جنتي: 5/ 38، 214، 225، 305، 340، 6/ 15، 16، 17، 42، 7/ 223، 224، 225، ديبوسيه رولاند: 5/ 225، 6/ 10، 95، ديبون 92، 91، 89، 88، 85، 84، 80، 78، 77، 67، 64، 60، 58، 50، 45، 39، 38، 32، 29، 24، 12/ 4، 220، 213، 176، 174، 90، 63، 52/ 3: Dupont، 101، 102، 108، 109، 111، 113، 117، 118، 120، 125، 126، 147، 149، 153، 157، 159، 161، 162، 168، 169، 170، 171، 173، 176، 178، 179، 188، 192، 202، 215، 217، 218، 220، 230، 231، 234، 235، 245، 247، 249، 250، 254، 256، 257، 259، 265، 266 - 269، 270، 271، 275، 277، 279، 290، 292، 293، 299، 300، 302، 303، 305، 313، 314، 315، 316، 318، 319، 321، 322، 325، 331، 353، 361، 362، 363، 364، 369، 419، 420، 5/ 8، 175، 176، 178، 193، 476، 509، 511، 6/ 52، 163، 171، 364، 365، 7/ 66، 148، 323، 330، 331، 332، 432، 8/ 423، 424،

_ ديتسون 75/ 5، 43/ 3: G.L. Ditson، 139، 446، 8/ 400، 402، 405، ديتوا 398/ 8: Duthoit، ديجو جان 429/ 5، 119/ 3:: J. Dejeux، 8/ 178، 183، 182، 184، 441، ديدنثسانت: 6/ 57، ديدييه: 4/ 109، دير نبورغ: 6/ 33، ديرابي توماس 77/ 5: Th. Deraby، ديرسوا: 3/ 376، ديرلون (الكونت): 5/ 435، ديرمنغام إيميل: 3/ 263، 4/ 138، 5/ 458، 6/ 435، 436، ديريو جان 238، 237/ 5: J. Desrayaux، ديسبورد - بورنبي: 4/ 227، ديسبيريه (مارشال): 8/ 413، ديستان 88، 87/ 3، 51/ 1: Destaing، 96، 102 - 109، 113، 162، 5/ 360، 6/ 30، 31، 32، 33، 54، 235، 8/ 33، 35، 51، ديسكو: 6/ 411، ديسلان البارون: 1/ 301، 303، 305، 306، 308، 309، 386، 2/ 373، 5/ 222، 223، 227، 228، 230، 382، 383، 6/ 22، 33، 34، 47, 70، 71، 72، 87 95، 186، 8/ 12، 15، ديسونيس (عقيد): 4/ 212، الديسي ابن أبي القاسم: 7/ 61، الديسي دحمان بن سندس: 3/ 185، الديسي محمد بن عبد الرحمن: 3/ 100، 107، 185، 220، 221، 4/ 161، 165، 508، 511، 513، 5/ 362، 369، 503، 598، 6/ 334، 341، 7/ 10، 66، 67، 68، 73، 74، 85، 134، 148، 152، 153، 258، 303، 330، 426، 427، 446، 448، 449، 8/ 12، 90، 99، 100، 148، 149، 195، 202، 213، 217، 221، 233، 235، 240، 165، 268، 288، 292، 306، ديسيرني ألان: 5/ 220، ديشتال: 6/ 444، الديشم علي: 5/ 364، ديغول (جنرال): 6/ 443، ديفيرنوا: 6/ 127، ديفد جيرون: 6/ 441، ديفري فورتان (310، 309/ 6، 212/ 5، 403/ 4:) F. Divry، ديفو Desvaux (جنرال): 4/ 143، 155، 221، 6/ 67، ديفوكس ألبير 240، 239، 237، 236، 235، 231، 147، 140/ 1: A. Devaulx، 247، 248، 253، 256، 259، 267، 278، 282، 284، 300، 328، 334، 358، 362، 405، 406، 418، 449، 471، 2/ 225، 300، 301، 302، 336، 366، 372، 373، 375، 376، 419، 447، 3/ 40، 44، 4/ 14، 26،

_ 27، 393، 394، 5/ 8، 9، 11 - 14، 16 - 29، 31، 32، 36 - 38، 42 - 73، 80، 91، 111، 112، 114، 116، 117، 118، 119، 120، 121، 123، 127 - 130، 132، 133، 135، 138 - 143، 159، 160، 161، 163، 164، 167، 168، 169، 175، 330، 331، 344، 6/ 45، 46، 47، 170، ديفونتين: 6/ 9، 300، ديفونفيل 232/ 5: A. Founville، ديقيدون: 3/ 51، 78، 341، 343، 347، 377، 409، 413، 448، 4/ 270، 354، 356، 403، 456، 517، 5/ 222، 6/ 77، 212، 220، 251، 278، 8/ 327، ديقير أبو القاسم: 5/ 272، ديكور: 5/ 415، 416، ديكومب (رسام): 8/ 382، 414، ديلابورت 491/ 4، 81/ 3: Delaporte، 8/ 37، ديلارين بوسكي: 5/ 129، ديلاييه 370/ 8، 450/ 3: Delayé، ديلبيازو: 8/ 201، ديلبيش أدريان: 6/ 69، 70، 7/ 358، 439، ديلفان: 1/ 145، 154، 305، 402، 418، 437، 508، 509، 2/ 74، 366، 367، 372، 373، 375، 376، 380، 3/ 113، 388، 390، 392، 5/ 421، 6/ 15، 28، 172، 173، 8/ 149، 150، 151، 153، 155، 156، 247، الديلمي محمد: 7/ 444، 445، الديلمي محمد بن عبد الله: 3/ 233، 234، الديلمي محمد بن عزوز: 3/ 233، ديلنو (سيدة): 3/ 446، ديليسيبس فيرديناند F. DeLesseps: 5/ 499، 543، 544، 546، 547، ديليني (ضابط): 7/ 360، الديماني ناصر الدين: 6/ 180، 235، 7/ 316، دينا جان 331/ 5، 238، 206، 173/ 1:: J. Deny، ديني ناصر الدين 426/ 5، 166/ 4: Dinet، 6/ 197، 341، 431، 7/ 313، 314، 8/ 115، 183، 253، 380، 415 - 418، 431، 437، دينيزيه جان: 5/ 300، دينييه (جراح): 6/ 410، 416، ديهتبول: 3/ 21، ديوسكوريدس: 2/ 433، ديون: 3/ 76، 171، ديوي جون 217/ 7: J. Dewey، (ذ) ذبيح الشريف: 5/ 132، 311،

_ ذهبية بنت محمد: 6/ 340، ذو الكلاع: 7/ 341، الذيب (سيدي): 1/ 265، (ر) الرابحي بشير: 5/ 391، 7/ 443، 8/ 268، 271، 272، 427، رابعة العدوية: 1/ 337، 2/ 377، راجب باي: 8/ 404، راجي 492، 473/ 5: Rager، راجي Ragie ج. ج: 6/ 367، الرازي: 1/ 355، 2/ 110، 424، 428، 7/ 141، 240، الرازي أحمد بن فارس: 1/ 63، الرازي محمد: 5/ 429، 8/ 441، راسم علي: 5/ 283، 8/ 430، 431، راسم عمر: 2/ 443، 3/ 72، 84، 85، 86، 88، 94، 96، 5/ 242، 247، 265، 276، 282 - 290، 296، 298، 397، 433، 492، 498، 590، 592، 607، 6/ 239، 381، 451، 452، 7/ 165، 255، 397، 420، 441، 8/ 256، 257، 270، 429، 430، 431، 433، راسم محمد: 6/ 103، 263، 294، 8/ 353، 371، 390، 429، 430، 431، 432، 433، 435، 438، راشد الشيخ: 2/ 117، الراشدي ابن خذة: 1/ 368، الراشدي السنوسي: 2/ 38، الراشدي (سيدي) إبرا هيم: 5/ 88، الراشدي عبد الرحمن: 2/ 30، الراشدي عبد القادر: 1/ 273، 325، 417، 449، 454، 2/ 12، 14، 47، 65، 82، 92، 102، 228، 349، 415، الراشدي عثمان: 5/ 497، الراشدي عمر بن أحمد: 1/ 62، الرافعي عبد القادر: 2/ 39، 48، الرافعي مصطفى صادق: 5/ 429، 616، رافق عبد الكريم: 1/ 8، رامبو: 3/ 349، راندون 281، 174، 77/ 3: Randon، 306، 403، 438، 4/ 435، 516، 517، 5/ 8، 406، 443، 6/ 25، 106، 447، 7/ 230، 296، 461، 462، 476، 8/ 36، 183، 400، راوي: 6/ 151، رايسير: 7/ 291، ربيحة (الشيخ): 7/ 85، رجاس: 1/ 222، 223، الرجاي أحمد: 1/ 294، رجب باي: 1/ 521، رحاب الطاهر: 8/ 348، الرحبي محمد بن علي: 7/ 289، رحماني إبراهيم: 4/ 162، رحماني سليمان: 6/ 103،

_ رحماني عبد الرحمن: 5/ 270، الرحموني أبو القاسم: 2/ 315، الرحموني أحمد بن الطيب: 1/ 509، 2/ 74، الرحموني (الحداد) أبو القاسم: 1/ 491، 508، 519، رحموني عبد المجيد: 5/ 256، رحموني محمد: 5/ 317، رحو (ضابط): 5/ 485. رحومة علي: 5/ 274، الرزقي أبو الحسن علي: 4/ 192، الرزقي محمد الطاهر: 4/ 192، رستان عبد الرحيم: 3/ 117، رستان (قنصل): 5/ 560، رشدي: 28/ 7 أسماء، 220، رشدي فاطمة: 5/ 579، 8/ 447، الرشيد بن الشريف: 1/ 440، الرصافي معروف: 8/ 225، رضا أحمد: 7/ 217، رضا محمد رشيد: 3/ 84، 85، 270، 5/ 542، 584، 586، 587، 592، 593، 594، 606، 616، 7/ 18، 20، 22، 28، 34، 316، 8/ 163، 196، 270، 278، رضوان أفندي: 2/ 430، رضوان خوجة: 1/ 236، 265، 331، 5/ 148. الرضوي محمد صالح 3/ 77: 82، 4/ 524، 5/ 509، 570، 572، 575، 7/ 53، 54، 56، 67، 69، 72، الرفاعي أحمد الشرفي: 7/ 13، الرفاعي عبد الله: 2/ 147، رافوازييه: 5/ 39، 6/ 83، الرقاني عبد المالك: 4/ 94، الرقعي: 2/ 120، رقية: 6/ 343، رقية الشارف: 7/ 434، ركار (وزير): 8/ 27، ركيبي عبد الله: 2/ 385، 6/ 452، 7/ 455، 8/ 130، 144، 145، 147، 149، 200، 221، 222، 223، 232، 259، 295، 297، 298، 299، الرماح (سيدي): 3/ 337، الرماصي مصطفى: 1/ 183، 199، 202، 203، 272، 295، 326، 2/ 34، 71، 91، 92، 96، 97، 138، 279، رمزي محمود: 5/ 567. رمضان باشا: 5/ 48، رمضان (سيدي): 5/ 54، رمضان محمد الصالح: 5/ 276، 7/ 20، 22، رندرق: 3/ 391، الرندي أبو البقاء: 8/ 291، رو شارل 546، 544/ 5: Ch. Roux، روا: 4/ 56، رواني 471، 469، 468، 454/ 8، 466، 465، 461، 454 - 451، 450، 449، 448، 432، 431، 315، 135/ 5: J. Rouanet،

_ روباش (فنان): 8/ 466، روبان (عقيد): 1/ 214، 5/ 479، روبلس إيمانويل: 5/ 306، 8/ 185، روبير إيميله: 6/ 440، روبير أشيل: 3/ 220، 4/ 29، 41، 63، 161، 163، 166، 416، 5/ 8، 72، 73، 111، 119، 127، 158، 440، 446، 8/ 87، روبيني: 5/ 220، روث أرليت 440/ 8، 428/ 5: A. Roth، روجرز Rogers (سيدة): 3/ 444، 5/ 134، 330، 354، 404، 8/ 366، 367، رودوسي: 5/ 366، 591، رودوسي أحمد: 5/ 574، 8/ 373، رودوسي أحمد بن مراد: 2/ 432، 434، رودوسي قدور: 4/ 496، 5/ 308، 8/ 373، رودوسي مراد: 5/ 309، رودير (مهندس): 5/ 546، روزي ألبان 364، 363، 361، 359، 357، 355، 40/ 8، 450، 447/ 6، 184/ 4، 381، 350، 348، 51/ 3:: A. Rozet، روزيتي: 6/ 148، روزية: 1/ 317. روس ROUSS(راهب): 8/ 473، 474، روس دنيسون: 8/ 432، روستان (قنصل): 4/ 404، روسو: 1/ 221، 248، 2/ 208، 316، 336، 340، 5/ 80، 174، 493، 6/ 10، 47، روسو والدك: 3/ 381، روسيه كميل: 6/ 386، 387، روش (راهبة): 6/ 354، 355، 356، روش ليون 207/ 8، 79/ 7، 432، 417، 365، 364، 363، 355، 148/ 6، 483، 431، 242/ 5، 369، 368، 328، 254، 203، 202، 197، 98، 45/ 4، 403، 370، 369/ 3، 164/ 1: L. Roche، الروشفور هنري: 5/ 286، روفاش 409، 408، 407، 87/ 4: Ruvache، روكفلر: 3/ 261، 5/ 208، 5/ 208، رولان: 4/ 234، رولفس 326، 264/ 4: Ruhlfus، الرومي جلال الدين: 1/ 186، 459، رونوار: 8/ 382، الروية (لاالة) 5/ 108، ري 218/ 5: Rey، الرياحي إبراهيم: 3/ 81، 4/ 123، 5/ 596، 7/ 457، 8/ 262، رياض جمانة: 5/ 237، 238، 239، الريان المشري: 3/ 224، 4/ 207، 209، 210، 211، 213، ريبو (عقيد): 5/ 216، 218، ريتولت: 4/ 500، ريجاس: 8/ 412،

_ ريجس ماكس: 3/ 246، 5/ 284، الريحاني إبراهيم: 1/ 296، الريحاني (الشيخ): 4/ 39، ريدشاردسون جيمس: 8/ 37، ريشارد: 7/ 230. ريشار (راهب): 6/ 131، ريشار شارل: 6/ 345، 440، 7/ 185، ريشار (ضابط): 4/ 97، ريشارد (ضابط): 7/ 240 ريشاردو أرموند 237، 236، 232/ 7: A. Richardot، ريشي: 6/ 15، 22، الريف علي: 1/ 516، ريفوال Revoil (حاكم عام): 4/ 355، 6/ 72، الريفي أحمد: 2/ 264، 4/ 253، ريكار 439، 438/ 3: P. Ricard، ريكارد بروسبير 431/ 8: Ricard، ريكارد (وزير): 4/ 476. ريلييه 53/ 6: Relillet، الريماوي سهيلة: 5/ 601، ريمون ألبير: 5/ 415، ريمون جورخ: 5/ 553، 554، رين لويس Rinn 89، 63، 22، .21/ 3: L، 183، 190، 224، 4/ 9، 10، 14، 17، 19، 21، 23، 25، 26، 29، 38، 39، 40، 42، 44، 58، 60، 63، 64، 65، 67، 70، 71، 72، 74، 75، 80، 82، 83، 84، 85، 87، 89، 91 - 96، 100، 102، 104، 105، 109، 111، 119، 120، 121، 122، 124، 126، 142، 146، 151، 156، 160، 168، 169، 171، 176، 178، 180، 181، 192، 199، 200، 204، 208، 210، 211، 212، 213، 216، 221، 222، 225، 226، 227، 229، 230، 238، 239، 241، 242، 245، 246، 247، 248، 250، 253، 256، 257، 258، 262، 264، 265، 271، 272 - 275، 278، 281، 287، 288، 292، 293، 302، 303، 305، 306، 307، 308، 309، 310، 311، 313، 314، 319، 325، 327، 332، 351، 352، 353، 354، 396، 417، 497، 419، 431، 432، 456، 523، 526، 5/ 8، 9، 176، 231، 282، 326، 507، 508، 510، 518، 613، 6/ 52، 62، 63، 138، 171، 174، 249، 304، 319، 320، 344، 433، 7/ 51، 64، 115، 322، 323، 331، 336، 366، 428، 8/ 48، 215، 216، 308، 331، 326، 327، 404، 453، رينان إرنست: 4/ 531، 530، 6/ 72، 75، 307، 311، 319، 7/ 217، 294، رينبير: 6/ 149، ريندر: 6/ 300، رينو 36/ 8، 87، 71، 45/ 6: Rienaud، رينود 230/ 7: Raynaud.،

_ رينيه (وزير): 4/ 335، رينييه: 3/ 240، رينييه ليون: 6/ 296، 297، (ز) زادي مصطفى: 3/ 152 - 154، زافرة (ظافرة): 2/ 206، الزاهري محمد السعيد: 4/ 332، 335، 338، 5/ 258، 262، 265، 271، 600، 609، 610، 613، 614، 6/ 140، 352، 353، 356، 7/ 168، 169، 8/ 69، 94، 172، 231، 260، الزاوي محمد بن بلقاسم: 7/ 360، زبادية عبد القادر: 1/ 55، 7/ 122، 130، الزبرقان: 2/ 185، الزبوشي عبد الله: 1/ 221، 222، 268، 518، الزبيدي محمد مرتضى: 1/ 20، 291، 314، 2/ 14، 34، 36، 37، 47، 51، 62، 108، 378، 5/ 384، 7/ 41، 69، 288، الزبيري العربي: 7/ 397، 451، 452، الزجاي = الزقاي محمد، زدور الطيب: 7/ 378،، الزراد (الشيخ): 5/ 128، الزردومي معمر: 3/ 153، 245، 4/ 499 - 500، الزرقاني عبد الباقي: 5/ 393، الزركشي: 1/ 42، 79، الزركلي خير الدين: 8/ 169، الزروالي محمد: 7/ 238، 239، الزروالي محمد الحضري: 1/ 435، زروق أحمد: 1/ 134، 187، 380 - 381، 459، 476، 496، 498، 499، 523، 2/ 131، 138، 282، 360، 422، 433، 281، 3/ 197، 201، 259، 4/ 67، 78، 80، 98، 113، 5/ 85، زروق أحمد بن عبد الرحمان: 1/ 435، زروق أحمد الفاسي: 7/ 148، 234، الزروق الحاج: 2/ 26، الزروق عبد الرحمن: 2/ 26، زروق عبد الرحمن بن أحمد: 3/ 105، زروق محمد السعيد: 3/ 201، زروقي: 8/ 438، زروقي بشير: 8/ 468، زروقي محمد: 5/ 433، 609، 6/ 179، 8/ 183، 461، 362، 463، الزروقي الهادي: 3/ 201، 251، 259، الزريبي المولود: 3/ 70، 165، 177، 5/ 252، 280، 292، 497، 7/ 63، 70، 133، 151، 173، 174، 197، 304، 423، 8/ 12، 67، 165، 193، 195، 230، 231، 256، 257، 258، 259، 260، 270، 288، 374، الزعاطشي بوزيان = بوزيان، زعيبق الشيخ: 8/ 469، زفيرة: 5/ 410، 412،

_ زفيرة (ظافرة): 1/ 163، الزقاق: 1/ 375، الزقاي محمد: 1/ 222، 280، 290، 297، 299، 300، 401، 418، 432، 449، 2/ 13، 18، 19، 41، 42، 148، 164، 385، 4/ 372، 448، 507، 5/ 229، 497، 7/ 59، 60، 76، 8/ 11، 43، 66، الزقاي محمد بن عبد الله: 3/ 110، 111، 374، 6/ 144، 209، 217، زقوطة الطاهر: 7/ 25، زكار شارل: 6/ 106، 145، 150، 151، 154، 168، 182، زكار غبريا: 6/ 151 ل، زكريا مفدي: 3/ 274، 5/ 268، 269، 491، 600، 601، 8/ 12، 95، 196، 197، 198، 203، 230، 231، 238، 251، 269، 276، 288، 295، 305، زكرياء (الشيخ): 4/ 283، الزكوطي أحمد: 1/ 350، زكي عبد القادر: 4/ 123، الزمخشري: 1/ 376، 2/ 17، 5/ 342، الزموري: 8/ 467، الزموري الحاج محمد: 8/ 408، الزموري عبد القادر: 7/ 58، الزموري محمد البشير: 4/ 168، 169، الزموري محمد بن عمرو: 1/ 130، الزموشي السعيد: 3/ 157، الزناتي خزر المغراوي: 7/ 373، الزناتي خليفة: 8/ 126، الزناتي رابح: 8/ 185، الزناتي الربيع: 5/ 266، 6/ 140، 228، 255 - 258، 280، 355، 371، 377، 7/ 207، 8/ 174، الزناقي: 2/ 317، 389، الزناقي عبد العزيز: 6/ 170، 173، 8/ 131، زنتار جوزيف: 6/ 431، زنتور: 6/ 257. الزهار: 3/ 58، الزهار أحمد: 7/ 457، الزهار أحمد الشريف: 2/ 441، 443، 4/ 492 - 495، 6/ 184، 185، 206، الزهار الحاج قدور الشريف: 4/ 492 - 496، 5/ 30، الزهار الشريف: 1/ 17، 159، 163، 167، 206، 228، 231، 237، 241، 253، 255، 262، 399، 419، 4/ 39، 40، 451، 7/ 402، الزهار الشريف علي: 3/ 388، الزهار علي الشريف: 4/ 39، 492 - 495، 6/ 104، 159، 205، 206، 207، 208، 8/ 114، 247، الزهار عيسى: 7/ 412، الزهار قدور الشريف: 7/ 458، 459، الزهار محمد: 4/ 492، الزهار محمد الشريف: 5/ 63، 72، 7/ 458،

_ الزهار محمود الشريف: 4/ 494، الزهار محيي الدين: 4/ 494، الزهار محيي الدين الشريف: 8/ 97، 114، زهران بنت العربي: 6/ 340، زهرة الأنس: 8/ 129، زهرة باي: 2/ 368، زهرة بنت موسى: 5/ 148، زهرة (لالة): 5/ 529، 530، 563، 6/ 342، الزواوي بلقاسم: 4/ 88، الزواوي أبو جميل زيان: 1/ 87، 2/ 157، الزواوي أبو يعلى: 3/ 35، 98، 99، 179، 180، 185، 189، 202، 206، 207، 213، 259، 4/ 338، 340، 341، 5/ 55، 254، 274، 286، 400، 401، 497، 500، 523، 600، 602، 606، 615، 6/ 325، 335، 337، 345، 352، 372، 7/ 46، 80، 109، 155، 173، 174، 175، 176، 177، 190، 191، 197، 282، 304، 307، 308، 322، 338، 340، 349، 350، 351، 252، 399، 8/ 12، 15، 28، 29، 40، 41، 48، 62، 64، 67، 69، 94، 101، 108، 111، 121 - 124، 125، 151، 268، 327، 426، 427، 428، 429، 442، الزواوي أحمد: 2/ 339، 410، 415، 4/ 86، 5/ 603، 7/ 347، الزواوي أحمد بن مزيان: 1/ 325، الزواوي أحمد الطيب: 7/ 93، 149، 150، 283، 8/ 46، الزواوي ابن معطي: 3/ 157، الزواوي البشير= المغربي سيدي محمد البشير، الزواوي سيدي السعيد: 4/ 485، الزواوي سيدي علي: 5/ 132، الزواوي طاهر بن زيان: 2/ 137، 138، الزواوي عبد الكريم: 2/ 396، الزواوي علي: 1/ 270، الزواوي علي بن محمد: 7/ 133، الزواوي محمد بن إسماعيل: 5/ 364، الزواوي محمد بن راشد: 2/ 158، 159، الزواوي محمد الطاهر: 5/ 396، الزواوي الموهوب بن محمد: 1/ 487، 488، الزواوي الميلي: 7/ 411، الزواوي يحيى بن علي: 1/ 65، الزواوي يحيى بن عمر: 1/ 320، 380، 383، الزواوي يحيى بن معطي: 1/ 87، 2/ 157، زودمي: 8/ 438، زوزو عبد الحميد: 3/ 13، 23، 24 25، 27، 60، 88، 92، 96، 143، 175، 306، 373، 406، 438، 4/ 108، 152، 155، 156، 157، 165، 215، 314، 360، 390، 5/ 392، 7/ 130، 198، 335، 344، 403، 8/ 26، 87، 335، 339،

_ زوزو محمود: 5/ 577. زوينة: 5/ 395، الزيات أحمد حسن: 5/ 609، 615، زيادة خا: 6/ 204 لد، 7/ 474، 475، 478، زيادة مي: 5/ 500، 568، زيادة نقولا: 5/ 600، 7/ 208، 8/ 95، 181، الزياني أبو حمو: 2/ 114، 201، 223، 234، الزياني أبو حمو (السلطان): 1/ 71، 72، الزياني أبو حمو موسى: 7/ 320، 373، الزياني أبو عبد الله (سلطان): 1/ 59، الزياني أبو القاسم: 1/ 154، 295، 438، 439، 2/ 138، 441، 3/ 125، 126، 130، 4/ 462، 6/ 100، 304، 7/ 44، 319، 348، الزياني أحمد بن يوسف: 7/ 370، الزياني حليمة: 6/ 344، الزياني حمادي: 4/ 334، الزياني محمد بن يوسف: 2/ 381، 6/ 344، الزياني محمد يوسف: 7/ 356، 359، 369 - 380، 382، 383، 384، زيتون محمد: 1/ 417، 436، زيتونة محمد: 1/ 431، 2/ 426، الزيتوني محمد بن عبد الله: 1/ 435، 498، زيدان جورجي: 5/ 240، زيس 4: Zeys/ 327، 511، 6/ 26، 32، 33، 53، 170، 177، 245، 7/ 91، 260، 8/ 88، زيكي علي: 5/ 607، 608، زين الدين فريد: 7/ 216، زينب ابنة الأمير: 5/ 567، زينب (لالة): 3/ 221، 4/ 163، 164، 188، 6/ 341، 343، 390، 7/ 446، (س) الساحلي حمادي: 3/ 265، ساحلي محمد الشريف: 6/ 421، 7/ 309، 310، 311، 317، 440، 8/ 187، الساحلي مصطفى ولد الحاج: 4/ 79، ساحي أحمد: 3/ 187، 184، السادات أنور: 7/ 218، سادجروف فيليب: 8/ 128، سارجان 483/ 5: R.B. Sergeant، سارمشق الهاشمي = ابن صارمشق، ساري مصطفى: 1/ 236، 277، 3/ 39، السازيلجي (السازيلي) محمد بن عمر: 3/ 213، 4/ 170، الساسي محمد: 5/ 82، 88، الساسي محمد بلحاج: 7/ 473، سالفادور دانيال: 5/ 431، 435، 441، 442، 443، 444، 456، 460، 462، 466، 8/ 320، 343، 344، سالفندي (وزير): 3/ 304،

_ سالم (الشيخ): 3/ 203، سالم (مترجم) 6/ 151، السالمي سالم الأعرج: 4/ 32، السالمي سالم بن محمد: 4/ 147، 153، السالمي سيدي سالم: 4/ 154، 179، 505، السالمي محمد الصالح: 4/ 153، 505، السالمي مصطفى: 5/ 98، 373، 391، سالوست: 5/ 49، سالي: 4/ 278، سام: 7/ 161، سان أندري: 5/ 102. سان جورج: 5/ 303، 533، سان جوزيف: 5/ 40، سان سانس 462/ 8، 458/ 5: Saint Saens، سان سيبريان: 6/ 8، 115، 272، سان سيلير ألبير: 7/ 295، سان سميمون: 4/ 301، 5/ 217، 6/ 85، 311، 312، 343، 432، 437، 7/ 294، سان فانسان دي بول: 5/ 50، 6/ 420، سان فيليب: 5/ 73، سان كالبر شارل: 87/ 3، 88، 104، 113، 130، 132، 136 - 138، 142 - 154، 160، 161، 163، 391، 5/ 359، 6/ 22، 41، 7/ 314، 8/ 428، سان لوسيان: 8/ 150، 152، سان لويس: 3/ 103، سانسون (طبيب): 2/ 419، سانطارنو (عقيد/ جنرا) ل: 4/ 196، 206، 490، 6/ 343، 7/ 475، السائح (الشيخ): 4/ 336، السائح محمد: 1/ 203، 7/ 395، السائح محمد بن المشري: 4/ 237، السائح محمد الصغير: 4/ 229، 230، السائحي الأخضر: 5/ 274، السائحي مصطفى: 5/ 51، السبتي أحمد: 2/ 410، 8/ 469، سبعين (سيدي): 5/ 85، السبكي: 1/ 351، 373، 427، 7/ 80، سبنسر هيربرت 585/ 5: Spencer، سبيلمان فيكتور 267/ 5: Spelleman، ستو العربي = كروي: 5/ 498، الستوتي محمد: 8/ 314، ستورا بنجامين: 6/ 451، ستي (لاله): 5/ 106. ستيرن 437/ 8، 246، 245/ 6: L. Sterne، ستيفان د.: 6/ 449، السجراري بوعلام: 1/ 223، 2/ 316، السجلماسي أحمد: 1/ 360، السحمراتي أسعد: 7/ 220، سحنون (الإمام): 1/ 78، سحنون أحمد: 7/ 14، 46، 47، 8/ 67، 108، 197، 203، 232، 233، 260، 279، 284، 287، 288، السحنوني الحفناوي أمقران: 5/ 433، السحنوني علي أمقران: 1/ 7، 266، 267،

_ 407، 2/ 160، 164، 341، 394، 409، 3/ 12، 180، 183، 186، 189 - 191، 193 - 195، 198، 200، 213، 264، 257، 4/ 133، 5/ 145، 308، 361، 363، 364، 365، 390، 396، 398، 473، 484، 523، 6/ 340، 7/ 33، 36، 39، 47، 61، 64، 65، 68، 79، 80، 82، 84، 101، 102، 132، 134، 135، 145، 147، 152، 181، 279، 281، 282، 283، 287، 288، 315، 338، 353، 363، 407، 473، 8/ 44، 46، 79، 90، 227، 236، 240، 266، 284، 310، السحنوني عمر: 3/ 186، السحنوني محمد السعيد: 3/ 197، 198، 200، 5/ 397، 7/ 135، 8/ 89، السحنوني محمد الشريف: 3/ 198، 199، 7/ 353، السحنوني محمد الصالح: 5/ 390، السحنوني محمد وعلي: 3/ 190، 197، 199، 200، 5/ 308، 484، 47/ 7، 8/ 89، 90، السخاوي عبد الرحمن: 1/ 60، 90، 111، 132، سراج الحاج إبراهيم: 5/ 308، سراج الدين الحاج أبو بكر- لانغز مارتن، السراج محمد الوزير: 2/ 160، 383، 407، السرايري أحمد: 2/ 49، 426، سركيس: 2/ 240، 8/ 166، سرور: 8/ 466، سري أحمد: 8/ 469، السطاح عبد الرحمن: 1/ 170، السطي: 2/ 427، سعد الله أبو القاسم: 1/ 10، 12، 27، 2/ 11، 3/ 14، 4/ 33، 201، 5/ 12، سعد الله خالد (أبو بكر): 3/ 13، سعد الله رابح: 8/ 472، سعد الله عبد الرحيم: 8/ 239، سعد الله علي: 3/ 13، 5/ 298، سعدان الشريف (حكيم): 6/ 378، 7/ 265، 266، 267، 271، 274، 8/ 117، السعدي: 2/ 117، 351، السعدي الحاج سيد علي: 3/ 62، السعدي (سيدي): 1/ 205، 263، السعدي سيدي علي: 7/ 224، سعدي الشريف: 3/ 147، 148، 155، سعدي الصديق: 3/ 242، السعدي محمد: 1/ 266، سعيد حسن بن محمد: 2/ 48، سعيد (سيدي): 1/ 181، 5/ 119، 300، السعيد محمد: 5/ 308، سعيدة (سيدة): 4/ 149، سعيدوني ناصو الدين: 1/ 231، 243، 3/ 13، 4/ 114، 5/ 11، 70، 7/ 369، 408،

_ سعيدي عبد الرحمن: 8/ 469، 467، السفار محمد: 3/ 72، السفاقصي محمد أحمد: 7/ 75، سفطان (باي): 1/ 214، سفطة محمد: 8/ 373، السفطي (الشيخ): 5/ 309، 8/ 363، 373، 428، سفنجة جمال: 5/ 202، سفنجة محمد بن علي: 5/ 315، 423، 431، 432، 433، 448، 450، 451، 466، 8/ 455، 459، 460، 468، 469، السفياني الطيب: 4/ 191، السقا إبراهيم: 2/ 39، 48، 5/ 496، السقال: 8/ 468، السقال عبد الرحمن: 8/ 456، سقراط: 2/ 304، 6/ 99، سقط ابن عبد الله المشرفي: 1/ 346، 2/ 37، 39، 4/ 486، 5/ 475، 525، 576، 577، 7/ 40، 41، 42، 43، 325، 327، 407، 8/ 9، السقطي السري: 4/ 65، سكالي داود كوهين: 6/ 402، السكتاني: 2/ 92، السكلاوي محمد الصالح: 5/ 521، السكلاوي المهدي: 3/ 58، 5/ 475، 479، 509، 521، 522، 524، 525، 7/ 97، 132، 134، سكيرج أحمد: 3/ 112، 4/ 191، 339، سكينر توماس 310/ 1: Skinner، سلال حاييم: 6/ 402. سلال يعقوب: 6/ 402، سلالي علي = علولة: 5/ 302، 317، 423، السلاوي أبو نصر: 5/ 566، سلطان محمد: 5/ 379 581، 6/ 350 سلطاني عبد السلام: 5/ 491، 8/ 45، سلطاني عبد اللطيف: 8/ 232، السقلي الهادي: 7/ 75، السلكسيني علي بن يحيى: 1/ 326، السلكسيني محمد عاشور: 2/ 402، سلكة عبد الرحمن: 7/ 394، 395، سلمان (سلطان تقرت): 8/ 409، سلمى: 8/ 475، سليم (السلطان): 1/ 181، سليمان حامد: 7/ 196، السليمان عبد الله: 7/ 408، سليمان القانوني: 1/ 186، 388، سليمان (مترجم): 6/ 151، سليمان المولى (سلطان): 1/ 398، 510، سليمان (النبي): 6/ 419، السماتي (الباشاغا): 4/ 413، السماتي محفوظ: 7/ 454،

_ السماتي محمد: 7/ 286، 287، السماحي (بوسماحة) عبد القادر: 1/ 488، 489، السمار عمار: 5/ 243، 244، 8/ 178، السمان عبد الكريم: 1/ 511، 2/ 147، 4/ 192، السمرقندي: 1/ 106، 288، 3/ 212، سمعون: 3/ 197، السمعوني سليم: 5/ 386، 300، 323، 555، 7/ 157، 280، 316، 8/ 204، 253، السمعوني صالح: 3/ 6، 186، 5/ 522، 7/ 82، 280، 315، 8/ 204، السمغوني أحمد بن عاشور: 7/ 124، السمهودي: 2/ 396، سنباية (لالة): 8/ 442، السنهوري: 1/ 406، السنهوري سالم: 2/ 40، السنهوري علي: 2/ 51، السنوسي أحمد: 5/ 308، السنوسي أحمد الشريف: 7/ 52، 123، السنوسي بوعلي: 4/ 274، 275، السنوسي زين العابدين: 8/ 232، السنوسي (عائلة): 5/ 490، السنوسي عبد الله: 4/ 253، السنوسي علي: 2/ 113، 5/ 308، السنوسي محمد: 2/ 23، 33، 91، 92، 93، 95، 96، 97، 100، 101، 105، 109، 112، 113، 119، 121، 124، 132، 146، 149، 152، 358، 359، 363، 404، 409، 412، 420، 422، 427، 433، 3/ 201، 203، 8/ 466، السنوسي محمد بن علي: 4/ 43، 39، 70، 83، 123، 222، 245، 247 - 260، 267، 271، 272، 282، 5/ 483، 484، 494، 497، 510، 513، 7/ 50، 43، 50، 51، 52، 53، 57، 59، 60، 68، 442، 444، السنوسي محمد بن يوسف: 1/ 44، 49، 50، 51، 53، 54، 55، 57، 59، 60، 75، 76، 77، 78، 80، 83، 88، 89، 93، 94، 95، 96، 97، 98، 99، 100، 111، 113، 114، 116، 117، 119، 123، 187، 223، 250، 255، 265، 299، 337، 350، 377، 435، 442، 459، 462، 472، 473، 476، 482، 496، 498، 499، 506، 4/ 165، 246، 5/ 106، 7/ 141، 150، 151، 458، 153، 73، السنوسي محمد (تونس): 4/ 522، 5/ 492، 616، السنوسي محمد الها دي: 3/ 157، 227، 250، 4/ 413، 5/ 272، 576، 7/ 24، 151، 170، 180، 197، 275، 435، 455، 8/ 95، 102، 104، 115، 197، 230، 231، 267، 277، 288، 374، 472، السنوسي المهدي: 4/ 253، 262، 268،

_ 270، 320، السني علي: 8/ 236، السهروردي: 1/ 111، 2/ 124، 4/ 281، السهيلي أحمد: 4/ 88، السهيلي صالح بن محمد: 7/ 131، السهيلي محمد: 5/ 358، السهيلي محمد بن عبد الرحمن: 4/ 103، سوبير: 8/ 369، سوبير (سيدة): 3/ 447، سوتيل: 5/ 495، السوداني عبد الله: 4/ 172، السوداني عمار الغوثي: 4/ 191، 5/ 233، 508، 510، 519، 550، سوزيد: 5/ 185، سوسان ماري: 8/ 466، سوسروت (سيدة): 3/ 446، 8/ 367، السوسي: 8/ 169، السوسي أحمد: 2/ 121، السوسي (ثائر): 1/ 216، السوسي الشريف: 1/ 407، 2/ 270، السوسي محمد: 1/ 132، 2/ 126، السوسي محمد بن علي: 6/ 54، السوسي يحيى: 1/ 125، 2/ 126، سوشيك س.: 1/ 137، 139، 177، 179، 461، سوشيه (قس): 5/ 82، 6/ 106، 109، 113، 114، 115، 430، سوطيرة (قاضي): 4/ 475، 7/ 95، 349، السوفي أحمد بن محمد: 5/ 399، السوفي عمارة بن أحمد: 4/ 39، السوفي عمارة بن مسعود: 5/ 308، السوفي محمد الساسي: 5/ 298، سوفينيزبة: 5/ 410، سوكولوف: 4/ 412، سولال كوهين: 6/ 57، سولتز: 7/ 224، سولفي 20/ 8: Ch. Solvet، سوناج: 5/ 415، سونيك: 8/ 319، 465، سويد أمين: 5/ 528، السويدي محمد: 1/ 212، 2/ 387، سويسي صالح القيرواني: 5/ 254، 280، سي أحمد (أمين البنائين): 8/ 363، سي الحاج الطاهر: 3/ 105، سي سعيد (الشيخ): 4/ 154، سي العربي: 7/ 283، سي ميلود عبد الرحمن: 8/ 347، 348، السياج (سيدي): 5/ 105، السيالة إبراهيم: 1/ 295، 2/ 35، 46، 185، 224، 226، 229، 230، 234، 364، السيالة محمود: 8/ 276، سيبستيان (ملك): 1/ 181، سيبويه: 1/ 125، 440، 2/ 21، 158، 165، 8/ 43، 234، سيبيس: 6/ 99، سيتون: 5/ 8، سيدن 355، 310/ 1: Sidden،

_ السيدة الافريقية: 6/ 116، 118، 137، سيدة الخلاص: 6/ 116، سيدون: 8/ 319، سيدي أبو الحسن: 8/ 393، سيدي أبو مروان = أبو مروان سيدي بوحمى: 5/ 132، سيدي الجودي: 6/ 303، سيدي الحبشي: 3/ 23، سيدي حيدان: 5/ 84، سيدي دحو: 4/ 437، سيدي رمضان: 1/ 368، سيدي السعدي الحاج: 4/ 30، 115، 141، 142، سيدي السعيد: 3/ 23، سيدي الشيخ: 3/ 31، 4/ 103، 104، 106، 108، 110، سيدي عبد الله: 4/ 271، سيدي عبد السلام: 4/ 337، سيدي العريبي: 6/ 302، سيدي علي بن التومي: 3/ 192، سيدي علي مبارك: 3/ 58، سيدي عمار بن دوبة: 3/ 32، سيدي عمر الشريف: 3/ 191، 192، سيدي عمرو: 3/ 43، 77، سيدي الكتاني: 5/ 128، سيدي كرامة: 5/ 85، سيدي مبارك: 6/ 206، سيدي محمد أولحاج: 3/ 205، سيدي محمد بن الحاج: 3/ 192، سيدي مسيد: 1/ 264، 4/ 384، سيدي ميمون: 1/ 264، سيدي ناجي: 3/ 218، سيدي يحيى: 8/ 470، سير قال - 233، 232/ 5:: Sers- Gal، السيرفي: 2/ 165، سيرفييه اندري: 6/ 304، 322، 323، 327، 417، 420، سيرفييه جان 28، 40/ 8، 610/ 5: J. Servier، سيروكا: 6/ 48، سيريز (جنرا) ل: 5/ 125، 6/ 69، سيف الإسلام الزبير: 3/ 184، 5/ 294، 7/ 476، 478، سيف الدولة: 2/ 165، سيف النصر = ابن عبد الجليل: 5/ 579، سيفان إيمانويل 451، 401، 92/ 6: Sivan، سيقونزاك: 60/ 8، 401/ 3: Segonzac، سيكار 242، 241/ 7، 99/ 6: Sicard، سيماطو: 5/ 35، سيمور (أسقف): 6/ 111، 112، سيمون 95/ 5:: H. Simon، سينيوري: 3/ 244، سينييت (ضابط): 4/ 510، السيوطي: 1/ 87، 255، 451، 523، 2/ 100، 157، 161، 164، 165، 323، 379، 422، 3/ 86، 5/ 342، 7/ 163، 225،

_ السيوطي جلال الدين: 7/ 242، سيون: 5/ 414، (ش) شابولاتور (جنرا): 5/ 216 ل 218،، الشابي أبو القاسم: 8/ 295، الشابي أحمد: 4/ 276، الشابي ابن جدو: 4/ 276، الشابي الحاج محمد: 4/ 276، الشابي رمضان: 4/ 276، الشابي سيدي المسعود: 5/ 98، الشابي عبد الصمد: 2/ 333، 4/ 275، الشابي علي: 1/ 470، 483، 486، 487، 2/ 332، 333، 4/ 277، الشابي علي بن عبد الصمد: 2/ 333، الشابي عمار: 4/ 276، الشابي محمد المسعود: 1/ 487، الشابي مسعود: 4/ 275، 276، شاتمان (راهب): 6/ 288، شاتو (فنان): 8/ 414، شاتوبريان: 7/ 217، شاخت يوسف: 5/ 377، 378، الشاذلي أبو الحسن: 1/ 459، 461، 491، 492، 505، 511، 2/ 147، 436، 438، 3/ 184، 4/ 64، 66، 67، 68، 69، 78، 88، 90، 113، 7/ 133، 139، الشاذلي محمد: 3/ 127، 130، 131، 373، 374، 390، 4/ 213، 214، 375، 439، 440، 462، 482، 483، 5/ 231، 230، 295، 387، 417، 526، 6/ 38، 63، 203، 210، 211، 330، 7/ 320، 346، 8/ 43، 66، 76، 88، 194، 195، 207، 211، 234، 239، 241، 242، 279، الشاذلي محمد القسنطيني: 1/ 284، الشاذلي محمود: 8/ 280، الشاذلي موسى أبو عمران: 2/ 117، 351، شارف رقية: 3/ 93، الشارف عبد الرحمن: 2/ 152، الشارف محمد: 1/ 325، شارل الخامس (شارلكان): 1/ 142، 199، 205، 2/ 73، 334، 447، 5/ 61، 62، 115، 127، 136، 404، 6/ 190، 384، شارل السادس: 6/ 193، شارل العاشر: 5/ 213، 493، 6/ 106، 384، شارلفيله: 6/ 402، شارلمان: 6/ 271، شارون: 5/ 169، شاسلو- لوبا: 4/ 441، شاصيرو ثيودور: 8/ 176، 381، 388، 413، شاصيرو فريدريك: 8/ 379، 380، الشاطبي: 2/ 24، 5/ 56، 7/ 35،

_ الشاطبي إبراهيم: 1/ 128، الشاطبي أبو القاسم: 7/ 38، شاطرون: 5/ 339، الشافعي (الإمام): 4/ 536، 5/ 240، 345، 7/ 85، 176، الشافعي أحمد: 4/ 67، 69، الشافعي الباجي محمد: 1/ 796، 437، الشافعي عبد المجيد: 144/ 8، الشافعي محمد النفطي: 4/ 512، 5/ 576، 7/ 455، 8/ 91، الشافعي محيي الدين يحيى: 5/ 613، شاكر سالم: 7/ 349، 350، 8/ 60، 63، 64، شاكر محمود: 7/ 29، 30، 31، 220، شالان د 230/ 7: Challan، الشامي أحمد: 5/ 602، الشامي الشيخ: 7/ 288، شانتييه: 5/ 327، شانزي (حاكم عام): 3/ 51، 52، 82، 93، 174، 176، 220، 316، 372، 378، 4/ 270، 326، 403، 493، 517، 5/ 195، 222، 232، 476، 6/ 77، 148، 220، 248، 374، 7/ 276، 406، شانسيل: 8/ 200، شاهين عبد الصبور: 7/ 29، شاهين محمد توفيق: 7/ 20، 22، شاوش إبراهيم: 5/ 437، شاوش حسين بن رجب: 1/ 393، 417، 2/ 368، 369، شاوش رجب بن محمد: 2/ 368، 369، شاوش (عائلة): 5/ 488، الشاوش عمرو بن محمد: 3/ 408، الشاوي عيسى: 2/ 108، الشاوي محمد: 4/ 79، الشاوي يحيى: 1/ 294، 296، 359، 367، 373، 429، 449، 450، 453، 2/ 17، 19، 27، 42، 43، 48، 56، 60، 64، 65، 91، 102 - 111، 124، 135، 137، 150، 158، 161، 235، 269، 287، 382، شائب الذراع (ابن الحسين): 7/ 72، شاير: 8/ 438، الشباح محمد سعيد: 2/ 198، 299، 5/ 388، 574، 6/ 371، الشبرخيتي إبراهيم: 2/ 71، 5/ 345، 7/ 82، شبكة عبد العالي: 8/ 97، شبلي حسن: 8/ 185، شبنقلر: 7/ 219، الشدادي علي: 7/ 42، الشدياق أحمد فارس: 5/ 231، 518، 540، 596، 597، 605، 6/ 152، 216، 8/ 42، 51، 52، 253، 196، 269، الشرايبي إدريس: 8/ 299، الشرشالي العابد بن الأعلى: 1/ 307، 508، 4/ 141،

_ الشرشالي مصطفى: 4/ 333 537، 333، 537، 5/ 229، 483، 590، 6/ 183، 7/ 105، 106، 8/ 69، شرعي باشا محمد: 5/ 603، الشرفاوي الرزقي: 5/ 497، 7/ 80، 81، 181، 443، الشرقي أحمد بن حسين: 5/ 391، 7/ 140، الشرقي حسن: 7/ 327، الشرقي محمد: 4/ 72، 80، 117، 312، 487، 488، 512، 7/ 327، الشرقي موسى: 6/ 158، شرمس غبريال: 5/ 519، الشرملسي علي: 2/ 45، 51، 105، الشرنبلالي حسن: 7/ 79، شريبط أحمد: 8/ 127، الشريشي الخراز: 1/ 120، 2/ 21، 22، شريط الشريف: 4/ 98، 98، شريط عبد الرحمن الكومي: 2/ 145، شريف آغا: 1/ 214، الشريف إبراهيم بن أحمد: 4/ 47، 49، 51، 47، 49، 51، الشريف أبو بكر بن أحمد: 4/ 47، 47، الشريف أحمد: 4/ 48، 51، 184، 5/ 182، الشريف بركات: 1/ 305، 2/ 334، 335، الشريف التلمساني: 1/ 112، 119، 2/ 232، الشريف حسين: 5/ 229، 255، 479، 482، 483، 485، 497، 540، 555، 562، 613، 7/ 439، 8/ 79، 179، 311، الشريف الحسين بن إبراهيم: 4/ 48، 52، 53، الشريف حسين بن علي: 4/ 410، 411، 410، 411، الشريف حسين خوجة باشا: 1/ 144، 194، 204، الشريف سليمان بن إبراهيم: 4/ 51، 51، الشريف سيدي محمد: 1/ 263، 5/ 120، الشريف صالح (تونس): 5/ 320، 602، 616، 617، 7/ 316، الشريف طاهر علي: 5/ 316، 8/ 135، الشريف عبد الله: 1/ 515، 5/ 485، الشريف عبد العزيز بن الهاشمي: 4/ 55، 56، 55، 335، 336. الشريف عون: 4/ 408، 408، 5/ 513، الشريف غالب: 4/ 254، 254، الشريف قدور: 5/ 573، الشريف محمد: 5/ 146، الشريف محمد الإمام: 4/ 48، 48، الشريف محمد الأزهر: 4/ 48، 48، الشريف محمد بن إبراهيم: 4/ 47، 30، 53، 47، 50، 53، الشريف محمد بن أحمد: 2/ 30، 46، 47، 130، 144، 145، 364، 421، الشريف محمد بن أحمد الجزائري: 1/ 367، 431، الشريف محمد بن عبد الله: 4/ 262، 267،

_ 334، 262، 267، 334، 5/ 536، الشريف محمد بن علي: 5/ 452، الشريف محمد بن محمد: 7/ 141، الشريف محمد الصالح بن الهاشمي: 4/ 336، الشريف محمد الطيب بن إبراهيم: 4/ 48، 49، 50، 51، 52، 48، 49، 50، 51، 52، الشريف محمد العربي: 4/ 48، 48، الشريف محيي الدين: 3/ 388، 8/ 247، شريف مكة: 6/ 365، الشريف الهاشمي بن إبراهيم: 4/ 34 56، 504، 506، شريف ورقلة: 3/ 218، 325، 4/ 106، 207، 5/ 329، 494، 6/ 66، 67، 74، 129، 7/ 461، 8/ 216، 324، شريف وزان: 4/ 111، 6/ 240، 8/ 271، شريفي محمد: 5/ 283، 7/ 16، 17، 8/ 426، 430، الشريقي أحمد: 4/ 513، 7/ 72، الشريقي حسن بن محمد: 7/ 42، الشنشوري عبد الله: 6/ 73، شطا محمد بن التهامي: 5/ 520، 553، 604، الشطيبي: 2/ 138، 396، 438، شعابنة عبد الله: 8/ 178، شعبان خوجة باشا: 1/ 237، 417، 437، 445، 5/ 27، 28، الشعراني: 2/ 422، 4/ 67، 7/ 141، شعراوي هدى: 6/ 353، الشفيع الحاج: 4/ 71، الشقراني: 7/ 356، 357، 365، 366، 367، 369، 384، الشقفة مولاي: 1/ 265، 518، 5/ 150، الشقيري أسعد: 5/ 556، شكري حسن خوجة: 8/ 175، 179، 180، شلا بوا تيريز: 1/ 434، 2/ 340، الشلاطي = ابن علي الشريف، شلبي: 1/ 186، 5/ 58، 59، شلبي محمد: 6/ 414، الشليحي: 1/ 468، الشماخي: 7/ 88، الشطي عبد السلام: 5/ 526، 540، الشملالي أحمد: 7/ 36، الشملالي عيسى بن علال: 8/ 309، شميتي: 5/ 406، شنارتز: 5/ 381، شنتوف الحاج العربي: 7/ 326، الشنفري: 2/ 181، الشنقيطي محمد الطالب: 4/ 231، الشنوفي المصنف: 5/ 586، 593، 8/ 270، شو (دكتور) 300، 9/ 6، 430/ 5، 447، 443، 442، 419، 418، 404، 403، 402، 291/ 2، 335، 332، 330، 316، 194، 193، 166/ 1:: Shaw،

_ 240/ 7، 8/ 362، شوصبوا فريدريك: 6/ 147، 148، 186، شوازني: 5/ 416، شودار عقبة: 8/ 59، سورا قي: 6/ 391، سوفالييه جاك: 7/ 454، سوفان محمد: 3/ 237، شوقي أحمد: 5/ 240، 579، 615، 8/ 72، 84، 138، 198، 225، 240، 277، 447، الشوكاني محمد: 7/ 177، 178، شوون 433/ 6: Shuon، الشويرف الحاج عبد الله: 4/ 513، 7/ 66، شيبان عبد الرحمن: 3/ 199، 5/ 272، شيبيو الإفريقي: 5/ 43، 6/ 272، الشيخ عثمان التارقي: 7/ 462، 8/ 38، 39، الشيخ وراد: 8/ 466، شيربونو 406، 340، 319، 313، 45، 44، 28/ 3، 285، 284، 279/ 2، 422، 394، 331، 308، 261، 249، 236، 72، 70/ 1: Cherboneau، 4/ 27، 88، 449، 526، 5/ 8، 79، 80، 81، 83، 84، 86، 87، 146، 148، 326، 334، 338، 6/ 15، 20 - 23, 27، 33، 45، 47، 51، 59، 90، 92، 93، 168، 172، 191، 195، 211، 7/ 49، 268، 347، 352، 353، 354، 8/ 14، 15، 76، 206، 207، 392، 400، 401، 406، شيفرو 411، 410/ 6: Chevrau، شيلر: 2/ 403، شيلر ويليام 300، 9/ 6، 342، 339، 338، 174، 35/ 1: Shaler، شيلي: 6/ 197، شيلييه (سيدة): 7/ 237، شييافينو: 8/ 407، (صلى الله عليه وسلم) صابتييه (ساباتييه) كميل: 5/ 409، 6/ 249، 279، 322، 8/ 30، 39، 57، الصادق باي (محمد): 4/ 222، صالح باي: 1/ 19، 20، 154، 163، 219، 220، 229، 236، 243، 248، 249، 251، 255 - 257 - 261، 267، 271، 275، 284، 296، 298، 314، 327، 329، 331، 334، 344، 416، 519، 2/ 14، 172، 201، 278، 279، 282، 283، 284، 317، 338، 339، 368، 419، 446، 447، 448، 3/ 23، 44، 125، 133، 142، 261، 263، 371، 392، 4/ 86، 315، 5/ 84، 89، 93، 94، 148، 239، 327، 335، 337، 342، 6/ 210، 8/ 400، 407، صالح خوجة بن مصطفى: 1/ 264، صالح رايس: 1/ 145 - 168،

_ صالح عبد اللطيف: 5/ 596، صالحي سعيد: 3/ 258، الصائغي الشريف: 4/ 336، الصائغي مبارك: 3/ 125، الصائغي موسى العربي: 3/ 57،، الصباغ عبد الرحمان: 1/ 88، الصباغ القلعي: 1/ 29، 101، 472، 476 - 478، 496، 2/ 112، 114، 115، 116، 118، 129، 162، 208، 359، 363، 8/ 168، الصباغ ليلى: 1/ 8 - 56، صبري الدرويق: 4/ 59، الصحراوي إبراهيم: 4/ 413، الصحراوي الحاج قدور (آغا): 4/ 306، 310، الصحراوي الحاج محمد: 3/ 143، 144، الصحراوي (الشيخ): 3/ 155، الصحراوي الطيب بن أكلى: 8/ 383، الصحراوي (عائلة): 6/ 303، الصخري محمد الأندلسي: 2/ 413، 414، 415، الصدام الناصر: 5/ 582، الصدقاوي سعيد: 6/ 174، 8/ 50، 51، 61، الصديق: 5/ 282، 292، الصديق (سيدي): 5/ 90، الصديق عبد الرحمن: 4/ 537، الصديق محمد بن أبي بكر: 4/ 104، الصديقي أحمد الحبيب: 4/ 192، الصديقي المفتي: 1/ 324، الصعيدي علي: 1/ 430، الصغير أبو الحسن: 1/ 98، 476، الصغير أبو الحسن السوسي: 2/ 112، الصغير الحسن (سيدة): 6/ 354، الصفار: 1/ 116، الصفار محمد: 1/ 65، 5/ 86، الصفاقسي (السفاقصي) أحمد: 4/ 125، الصفائحي إسماعيله: 5/ 520 602، 616، صفر بشير: 3/ 242، صفر عبد الله: 1/ 235، 253، 254، صفراني: 8/ 318، الصفروي سعيد (أبو عثمان): 1/ 102، الصفصافي الشريف: 4/ 450، 5/ 573، الصقال حمادي: 4/ 333، الصقلي أحمد: 1/ 510، صلاح الدين: 8/ 375، صلاح الدين الأيوبي: 5/ 417، الصلح عادل: 5/ 560 573، 6/ 423، الصلح منح: 5/ 539، 560، صمادح ابراهيم: 3/ 198 الصنهاجي أبو منصور: 5/ 247، 283، الصنهاجي علي بن داود: 1/ 406، الصنهاجي محمد بن أحمد: 2/ 164، الصنهاجي محمد بن حماد: 6/ 59، الصنهاجي محمد بن داود: 3/ 201، الصهاريدي اللحاني: 1/ 464،

_ صوالح محمد: 4/ 416، 5/ 287، 314، 6/ 31، 56، 103، 104، 170، 177، 175، 178، 181، 203، 228، 260 - 263، 331، 419، 421، 8/ 49، 308، 346، 347، 348، الصيادي أبو الهدى: 5/ 513، 568، 598، 599، 8/ 91، 118، 119، 214، 315، 218، 253، 269، صيام زكريا: 8/ 207، الصيد سليمان: 8/ 117، 120، (ط) طابوني: 6/ 151، طاردو: 6/ 412. طارق بن زياد: 6/ 319، طاطارو: 1/ 250، 260، 2/ 250، 260، طاغور: 7/ 217، طالب عبد السلام: 6/ 371، طالبي: 5/ 433، الطالبي عمار: 3/ 213، 5/ 596، 7/ 36، 117، 8/ 45، 70، 112، طالبي (محامي): 8/ 460، 461، الطالبي محمد: 1/ 47، 2/ 47، طاما إيلي: 6/ 415، طاهر الحاج محمد: 1/ 434، 2/ 434، طاهرات: 6/ 259، الطاهي طاهر: 1/ 87، 2/ 87، 157، الطائي داود: 4/ 65، الطبري: 2/ 424، 7/ 32، الطبني محمد: 2/ 287، طبيبال عبد العزيز: 5/ 245، 247، الطحاوي محمد بن علي: 2/ 48، الطحلاوي عمر: 1/ 507، 2/ 507، الطرابلسي عمران: 4/ 53، الطرابلسي محمد: 8/ 231، طراد الشيخ: 1/ 471، 484، 486، 2/ 61، 471، 484، 486، الطرطوشي: 1/ 75، 476، 2/ 75، 476، الطري علي: 8/ 344، الطغرائي الحسين بن علي: 2/ 181، طكوك: 3/ 231، 4/ 304، 7/ 366، 445، طكوك أحمد: 4/ 270، 271، 7/ 166، طكوك بن محمد: 4/ 271، طكوك الشارف: 1/ 223، 4/ 182، 267 - 274، 296، 320، 325، طلابو (إخوة): 6/ 440. الطليعة بنت رابح: 6/ 343، الطنطاوي محمد: 5/ 522، 540، 558، طه حسين: 5/ 611، 613، 614، 7/ 31، 8/ 183، الطهطاوي رفاعة رافع: 5/ 230، 611، 612، 6/ 183، 193، 7/ 200، الطواحني: 2/ 196، 8/ 274، طوبال: 1/ 7، 2/ 7، الطوشي أحمد: 4/ 192، الطوطي عبد الرحمن: 4/ 115، 7/ 366، 368،

_ طوكفيل أليكسيس دي: 3/ 21، 27، 282، 325، 345، 365، 6/ 282، 283، الطياب المولود: 5/ 240، 6/ 197، الطيار سيدي علي: 7/ 25، الطيار سيدي يحيى: 5/ 136، الطيار علي: 4/ 160، طيارمحمد: 7/ 90، الطيب (سي): 8/ 344، طيبال: 6/ 195، 196. الطيبي حسن بن سلامة: 2/ 63، 390، الطيبي الطيب: 3/ 149، طيفور محمد: 3/ 375، (ع) العابد عزت باشا: 5/ 494، 353، 555، العابد محمد علي: 5/ 555، عابدين: 6/ 135، عابدين (الشيخ): 4/ 47، 279، عابير: 6/ 235، عارف باشا: 3/ 95، عارف باي: 3/ 95، عارف حكمت: 1/ 89، عاشور كريستيان: 8/ 185، عاشور محمد: 1/ 488، العاصمي محمد: 3/ 99، 100، 101، 4/ 338، 420، 5/ 58، 262، 275، 296، 7/ 26، 27، 46، 47، 8/ 12، 69، 70، 71، 72، 115، عاقل محمد: 5/ 496، عالية (سيدة): 5/ 105، عامر (سيدي): 5/ 524، عامر الطاهر: 7/ 396، العامري أحمد بن دالة: 8/ 225، العامري الحبيب: 6/ 362، العامري خليل بن صالح: 7/ 466، العامري محمد التلمساني: 2/ 388، العامري محيي الدين: 4/ 507، العاملي محمد الأمين: 5/ 539، عائشة: 1/ 233، 8/ 318، عائشة (أسيرة): 8/ 409، عائشة بنت محمد: 4/ 425، 5/ 140، 6/ 123، 338، 386، عائشة (زوج الورتلاني): 2/ 395، عبابسة محمد: 8/ 309، العبادي أحمد: 1/ 77، 423، 2/ 45، 358، 359، العبادي (عائلة): 2/ 118، العبادي محمد بن توزينت: 2/ 223، 23، 25، العباس سيدي أحمد: 5/ 121، عباس علي خوجة: 6/ 263، العباس (عم الرسول ص): 4/ 284، عباس فرحات: 5/ 251، 259، 265، 266، 270، 407، 592، 6/ 228، 230، 257، 265، 280، 371، 372، 378، 7/ 207، 210، 211، 215، 216، 267،

_ 271، 272، 274، 305، 8/ 26، 117، 174، 179، 262، العباسي أحمد: 1/ 239، 273، 325، 349، 2/ 36، 228، 3/ 60، 126، 4/ 371، 482، 5/ 81، 82، 338، 7/ 10، 40، 43، 49، 346، 347، 8/ 8، العباسي (سيدي): 5/ 138، العباسي محمد: 3/ 60، 127، 7/ 49، العباسي محمد بن أحمد: 5/ 338، العباسي محمد بن محمد: 1/ 425، عبد الله (مولاي): 7/ 79، عبد الله أبو محمد: 1/ 45، عبد الله بن الحسين (ملك): 7/ 456، عبد الله (سلطان المغرب): 2/ 263، 264، 273، 426، عبد الله الغالب (سلطان): 2/ 45، عبد الله القيم (السلطان): 1/ 497، عبد الباقي: 2/ 21، عبد الباقي (سيدي): 3/ 203، العبد حميد: 1/ 182، 212، 6/ 366، 425، عبد الحميد بيك: 5/ 497، 7/ 54، 287، عبد الحميد الثاني: 3/ 85، 270، 280، 4/ 122، 123، 124، 126، 135، 263، 297، 303، 380، 5/ 247، 278، 474، 503، 504، 508، 513، 519، 520، 550، 552، 553، 561، 562، 588، 598، 599، 7/ 166، 330، 333، 436، 471، 472، 8/ 113، 214، 215، 218، 253، 269، عبد الحميد مولود: 1/ 435، 499، عبد الرحمن: 6/ 174، 8/ 49، 313، عبد الرحمن (سيدي): 5/ 40، 147، عبد الرزاق مصطفى: 7/ 21، عبد الستار عبد الوهاب: 2/ 35، عبد الصمد الأوراسي (الشيخ): 4/ 305، 306، 311، 319، عبدالعال: 6/ 151، 152، عبد العزيز (الحاج): 5/ 50، عبد العزيز (السلطان): 4/ 123، 8/ 112، 113، 157، 339، 342، 344، عبد العزيز (سلطان المغرب): 5/ 360، 612، عبد العزيز (الشيخ): 3/ 228، عبد العزيز (قاض): 3/ 58، 4/ 424، 425، 5/ 487، 529، عبد الغفار (سيدي): 5/ 53، عبد الغفار الشيخ: 7/ 287، عبد القادر (الأمير): 1/ 183، 202، 220، 223، 224، 260، 267، 268، 275، 296، 301، 335، 337، 347، 345، 367، 418، 421، 480، 514، 3/ 6، 31، 45، 58، 61، 80، 82، 192، 197، 215، 218، 228، 236، 281، 294، 300، 324، 333، 365، 369، 371، 374، 4/ 9، 33، 34، 36، 37، 39، 44، 45، 47، 59، 73، 83، 97، 98،

_ 106، 111، 112، 114، 115، 116، 139، 141، 142، 143، 149، 154، 160، 195، 196، 197، 199، 203 - 204، 205 - 207، 209، 212، 215، 235، 236، 254، 255، 267، 282، 294، 297، 354، 356، 368، 373، 389، 401، 403، 427، 430، 431، 432، 434، 437، 438، 439، 441، 442، 443، 451، 483، 484، 485، 486، 487، 488، 489، 490، 492، 494، 495، 503، 521، 522، 5/ 16، 17، 35، 70، 77، 100، 101، 103، 109، 113، 120، 122، 127، 129، 137، 162، 224، 227، 230، 235، 242، 307، 327، 328، 334، 340، 386، 391، 405، 417، 430، 474، 475، 477، 478، 481، 484، 486، 488، 490، 492، 499، 500، 502، 503، 505، 512، 513، 514، 517، 520، 521، 522، 524، 525، 529 - 570، 572، 574، 576، 584، 588، 595، 596، 597، 609، 616، 6/ 20، 24، 46، 50، 62، 63، 66، 70، 81، 83، 102، 107، 108، 109، 113، 114، 118، 145، 146، 147، 148، 150، 185، 199، 200، 201، 204، 205، 206، 218، 224، 274، 283، 296، 302، 308، 311، 318، 329، 342، 343، 357، 358، 361، 362، 363، 369، 385، 393، 413، 416، 417، 421، 422، 429، 432، 447، 7/ 9، 15، 37، 40، 42، 45، 46، 68، 78، 94، 96، 97، 98، 99، 114، 116، 117، 119، 121، 124، 135، 141، 146، 148، 150، 156، 158، 159، 160، 167، 170، 182، 183 - 194، 196 - 201 - 203 - 233 - 234 - 238، 239، 294، 306، 315، 323، 324، 325، 326، 327، 329، 337، 352، 358، 356، 361، 362، 365، 368، 369، 378، 380، 381، 382، 384، 385، 386، 399، 401، 402، 407، 408، 409، 424، 436، 438، 440، 454، 456، 458، 460، 465، 469، 474، 8/ 10، 12، 17، 43، 52، 84، 86، 88، 91، 92، 93، 94، 96، 104، 105، 106، 107، 146، 158، 159، 162، 193، 194، 195، 196، 197، 198، 200، 204، 206، 207، 208، 214، 220، 234، 239، 241، 242، 243، 246، 252، 258، 261، 262، 263، 264، 268، 269، 273، 274، 279، 280، 282، 283، 287، 288، 289، 290، 291، 292، 293، 294، 295، 303، 304، 313، 315، 316، 322، 323، 324، 325، 331، 332، 414، 416، 420، 439، 453، 456، 463،

_ عبد القادر (سيدي): 1/ 270، 5/ 132، 147، عبد القادر (الشيخ): 5/ 15، عبد القادر (فنان): 8/ 344، عبد الكافي أبو عمار: 7/ 152، عبد الكافي أبو محمد: 1/ 484، عبد الكريم أحمد عزت: 5/ 601، عبد الكريم (الشيخ): 8/ 390، عبد الكريم محمد: 6/ 361، عبد اللطيف (الشيخ): 2/ 419، عبد اللطيف (عائلة): 2/ 200، 292، عبد المالك (السلطان السعدي): 1/ 181، عبد المالك (مترجم): 6/ 150، 151، عبد المجيد (سلطان): 5/ 538، 610، 7/ 398، 8/ 86، 268، 283، عبد المولى (سيدي): 5/ 119، عبد المؤمن بن علي: 1/ 197، عبد المؤمن (سيدي): 1/ 264، 5/ 89، عبد النبي (الشيخ): 4/ 232، 233، 235، عبد الهادف محمد: 4/ 276، عبد الهادي (سيدي): 5/ 147، 553، عبد الوهاب حسن حسني: 1/ 31، 105، 2/ 96، 146، 179، 240، 5/ 614، عبد الوهاب محمد (فنان): 8/ 459، 461، 462، 463، 465، العبدري: 1/ 63، 2/ 396، العبدلي أبو حسون: 1/ 203، 272، العبدلي أحمد: 2/ 64، العبدلي محمد: 2/ 282، العبدلي محمد بن علي: 1/ 215، 216، 420، 468، 485، 488، عبده محمد: 3/ 84، 85، 94، 134، 242، 268، 4/ 74، 505، 511، 5/ 239، 284، 286، 314، 499، 533، 542، 550، 552، 570، 579، 580، 583 - 595، 616، 6/ 74، 239، 252، 253، 323، 350، 422، 7/ 18، 20، 83، 162، 163، 164، 166، 175، 177، 187، 199، 217، 258، 430، 278، 433، 8/ 91، 94، 163، 172، 253، 259، 270، 271، 277، 278، عبدي باشا: 1/ 235، 244، 254، 277، 327، 330، 2/ 262، 3/ 58، العبسي خالد بن سنان: 1/ 179، 479، 502، 503، 2/ 138، 241، 251، 252، 397، 7/ 33، 449، العبيدي أحمد: 3/ 165، 5/ 259، 391، 7/ 74، العبيدي الشيخ: 7/ 249، العبيدي الطاهر: 3/ 165، 5/ 259، 391، 7/ 74، 84، 85، 132، 133، 8/ 95، 100، 239، عثمان ابن باشا طرابلس: 5/ 493، عثمان ابن محمد الكبير: 2/ 269، عثمان باشا: 1/ 436، 2/ 103، 192، 193، عثمان باي: 1/ 222، 223، 404، عثمان بن عفان: 7/ 373، 389،

_ عثمان الحاج: 4/ 228. عثمان (الشيخ): 4/ 233، عثمان عبد العزيز: 4/ 52، 7/ 464، عثماني عبد الحميد: 4/ 336، العثماني عبد القادر: 1/ 7، 2/ 64، 5/ 368، العجلوني عيسى: 2/ 34، العجمي عبد الحفيظ: 4/ 250، العجمي مفتاح الدين: 4/ 489، العجوز إبراهيم: 1/ 76، العدواني محمد: 1/ 287، 302، 493، 2/ 331، 333، 4/ 277، عدون باسعيد: 5/ 270، العدوي حجازي عبد المطلب: 2/ 37، العدوي حسن: 7/ 78، العدوي (الشيخ): 2/ 170، عرابي أحمد باشا: 4/ 264، 5/ 233، 499، 508، 519، 542، 549، 610، 6/ 77، 7/ 405، عرب أحمد باشا: 1/ 140 - 145، 2/ 446، عربان إسماعيل = أوربان العربي إسماعيل: 3/ 255، 5/ 275، 299، 6/ 191، 197، 8/ 144، 202، العربي علي: 6/ 244، العرفاوي: 3/ 119، العرفجي (الشيخ): 4/ 283، عرفة القيرواني: 1/ 382، العروسي محمد: 4/ 32، 53، 55، 204، 218، 231، 232، 233، 234، 235، 236، 242، 244، 500، 7/ 123، العروسي محمدي: 7/ 448، 468، العروضي أحمد بن هـ: 1/ 170 لال، العريبي (سيدي): 3/ 31، 228، 238، العريبي (سيدي البرجي): 8/ 314، العريبي علي: 5/ 276، 608، 8/ 256، 285، 323، عزام عبد الرحمن: 5/ 601، عزرائيل: 4/ 67، عزوري نجيب: 5/ 611، عزيز عبد الرحمن: 5/ 301، 8/ 309، 452، عزيزة باي: 8/ 404، عزيزة بنت رمضان: 8/ 404، العساسي وارث: 2/ 121، العساكر محمد: 3/ 275، العشعاشي: 7/ 443، العشعاشي الحاج محمد: 4/ 334، العشماوي: 4/ 42، 7/ 323، 337، العصنوني عبد الرحمن: 3/ 229، العطار أحمد = ابن المبارك، العطار: 2/ 436، العطار حسن: 2/ 37، 5/ 295، 611، 6/ 99، 7/ 324، العطار سليم: 5/ 565، العطار محمد: 2/ 125، 245،

_ عطشي أحمد: 6/ 244 - 246، 262، عطشي أحمد بن قدور: 8/ 436، 437، عطشي الحاج أحمد: 5/ 68، عطشى مصطفى: 1/ 469، 2/ 369، عفان (سيدي): 1/ 264، العفيفي عبد الوهاب: 1/ 479، 2/ 35، 50، عقاب محمد الطيب: 3/ 13، العقاد عباس محمود: 5/ 240، 8/ 72، العقباني: 1/ 45، 124، العقباني سعيد: 1/ 52، 119، 2/ 86، 152، 7/ 319، العقباني (عائلة): 2/ 67، 118، العقباني قاسم: 1/ 52، 53، 71، عقبة بن نافع: 1/ 197، 7/ 423، العقبي أحمد: 5/ 254، العقبي الطيب: 3/ 101، 130، 140، 250، 4/ 269، 336، 338، 348، 383، 384، 420، 5/ 200، 254، 255، 256، 257، 258، 259، 260، 281، 292، 293، 311، 312، 476، 483، 484، 529، 595، 600، 602، 603، 6/ 375، 376، 404، 405، 406، 432، 436، 7/ 28، 46، 175، 176، 179، 180، 211، 216، 249، 281، 282، 304، 330، 338، 413، 415، 8/ 12، 69، 94، 95، 102، 104، 107، 108، 109، 115، 116، 196، 211، 217، 227، 228، 230، 231، 237، 260، 267، 268، 417، العقبي علي بن إبراهيم: 8/ 239، العقبي علي بن موسى: 5/ 262، العقبي محمد العابد: 5/ 252، 254، العقون عبد الرحمن: 8/ 26، العقون عبد الكريم: 8/ 197، 198، 203، عكاشة: 4/ 269، علال ولد مصطفى محمد: 3/ 119، علالو: 8/ 137، 139، 143، 440، 446، علاوة طالب: 3/ 143، العلاوي أحمد = ابن عليوة، العلج محيي الدين: 5/ 68، علجية بنت بوعكاز: 1/ 162، 217، العلمي أحمد بن المبارك: 3/ 125، العلمي الأخضر: 3/ 146، 147، 5/ 359، العلمي محمد: 5/ 254، 8/ 115، 231، الحلمي محمد بن عبد الرحمان: 7/ 170، العلمي محمد الحمصي: 3/ 125، علواش محمد: 3/ 129، العلواني: 5/ 239، العلوي أحمد: 5/ 312، العلوي محمد بن الشريف (السلطان): 1/ 428، علي ابن أبي طالب (الإمام): 1/ 72،

_ 442، 2/ 339، 4/ 16، 39، 42، 43، 65، 69، 88، 104، 175، 173، 246، 492، 5/ 71، 7/ 389، 8/ 328، 424، علي باشا: 1/ 229، 244، 277، 520، علي باسا بنا حسن: 2/ 226، علي باشا بوصبع: 2/ 228، علي باي: 2/ 229، 234، 8/ 389، علي خوجة: 5/ 23، علي خوجة باشا: 1/ 419، علي رايس: 5/ 50، علي السريف الطاهر: 8/ 444، 445، 446، علي القاضي المولى: 1/ 433، 434، علي يوسف: 5/ 605، 607، 608، عليش الشيخ محمد: 7/ 37، 78، 362، 440، عليش العلمي: 6/ 166، عليش محمد: 4/ 249، 250، 259، 502، عليلي محمد الحسن: 3/ 12، 180، 5/ 241، 7/ 27، 33، 62، 147، 206، 263، 280، 285، 440، 443، 449، 8/ 428، علية (لالة): 3/ 122، العمادي عبد الرحمن: 2/ 217، 218، عمار إيميل: 4/ 497، 530، 531، عمار يوسف: 6/ 153، عمارة محمد: 5/ 532، عمارة محمد الطاهر: 3/ 226، العمالي أحمد: 2/ 26، العمالي حميدة: 3/ 43، 72، 76، 77، 78، 79، 80، 82، 112، 389، 4/ 367، 375، 416، 517، 440، 442، 485، 488، 417، 519، 5/ 30، 6/ 186، 7/ 10، 47، 69، 81، 89، 8/ 111، 195، 277، 280، 281، العمالي علي: 3/ 79، 4/ 375، العمالي محمد: 3/ 79، العمامرة السعيد: 5/ 299، عمامو سليمان: 4/ 333، العماني خميس: 2/ 101، عمر ابن أحمد: 2/ 48، عمر باشا: 1/ 20، 164، 398، عمر بن الخطاب: 1/ 132، 133، 4/ 16، 24، 113، 282، 7/ 53، عمر الشريف: 3/ 196، عمران السعيد: 4/ 380، العمراني محمد الصالح: 4/ 154، العمروسي: 1/ 507، عمروش جان: 5/ 236، 8/ 186، 321، 470، العمري أحمد بن عمارة: 5/ 236، العمودي عبد الرحمن: 4/ 505، 7/ 74، العمودي محمد الأمين: 5/ 254، 259، 260، 293، 312، 315، 6/ 221، 326، 8/ 95، 230، 231، 251، العموشي إبراهيم: 5/ 317،

_ عمي سعيد الميزابي: 4/ 283، العنابي: 1/ 178، العنابي الحاج الباهي: 5/ 400، العنابي حسين: 2/ 17، 18، 210، 301، 8/ 113، العنابي رمضان: 1/ 324، العنابي محمد: 3/ 126، 7/ 346، 348، العنابي محمد بن عبد الرحمن: 2/ 87، العنابي مصطفى: 1/ 171، 403، 2/ 85، 209، 210، 370، 426، العناصري أحمد: 8/ 180، عنان عبد الله: 1/ 56، 2/ 222، عنتر بن شداد: 2/ 206، 8/ 137، العنتري أحمد: 2/ 338، 339، 340، 5/ 398، 7/ 342، العنتري محمد: 3/ 127، 375، 4/ 452، العنتري محمد الصالح: 1/ 174، 262، 2/ 339، 3/ 126، 5/ 294، 295، 307, 398, 612، 6/ 63، 66، 78، 172, 187، 7/ 197، 198، 206، 342, 344, 345, 348, 353, 354، 451، 8/ 88، 96، العنق بكير: 3/ 242، 245، العنق عمر: 3/ 242، 273، 8/ 95، 231، العنقاء الحاج محمد: 5/ 300، 301، 8/ 309، 472، العوالي سي الحبيب: 8/ 151، 152، 153، 154, 155، العوامر إبراهيم: 4/ 147، 153، 6/ 171، 7/ 123، 155, 173، 289، 335، 336، 343، 356، 389 - 393، 395، 447, 448, 449، 8/ 45، 165، 192، العوامر عبد الله: 4/ 504 - 506، العوفي عبد الكريم: 5/ 350، 367، 371، 8/ 46، عون ميشيل: 5/ 573، العياشي: 3/ 201، العياشي أبو سالم: 1/ 180، 182، 252، 287، 292، 295، 297، 301، 310، 373, 374, 378، 396، 406، 412، 441، 443، 454، 495، 503، 509، 522، 523، 524، 2/ 45، 53 - 59، 78، 83, 103، 104، 106، 108، 135، 13، 138، 140، 141, 160, 161، 196، 197، 246، 271، 357، 383، 384، 393، 395، 396، 436، 4/ 248، العياشي محمد: 7/ 226، عياض القاضي: 1/ 75، 133، 2/ 28، 29، 80، 205، 223، 230، 330، 360، 361، 362، 5/ 339، العيثاوي محمد الدمشقي: 2/ 56، العيد محمد = آل خليفة، عيد (ولي): 1/ 264، العيدلي يحيى: 1/ 88، 5/ 364، العيساوي: 4/ 16، العيساوي علي: 1/ 486، عيسى (سيدي) - عانلة -: 1/ 470،

_ عيسى (عليه السلام): 6/ 107، 117، عيسى عنتر: 8/ 135، عيسى القاضي: 8/ 130، عيشوش: 6/ 343، عيني يوسف: 5/ 443، 444، 452، 466، عيوشة (زوج الورتلاني): 2/ 394، (غ) غارسان: 6/ 19، غاريبالدي: 6/ 286، غازويت سيف الدين ثاوي: 5/ 617، غازي (ملك): 8/ 198، 277، 279، غاشان ش، 346/ 3: Ch. Ghachant، الغافقي أبو القاسم: 1/ 106، الغافقي عبد الرحمان: 1/ 197، 6/ 271، غالم محمد: 7/ 381، 384، غاليان = قاليان: 2/ 433، 436، غانم (فنان): 8/ 438، الغاياتي علي: 5/ 485، 609، 617، الغبريني: 1/ 306، الغبريني أحمد: 1/ 90، 2/ 21، 7/ 230، 8/ 169، الغبرينى عبد الرحمان: 1/ 83، 84، الغبريني عيسى: 1/ 90، 92، الغراب محمد: 1/ 219، 220، 271، 2/ 208، الغرابلي: 1/ 124، غرامو يحيى: 4/ 532، الغربي أبو الحسن: 2/ 150، 402، الغربي أحمد: 1/ 158، 396، 400، 405، الغربي عمار: 1/ 325، 3/ 126، 5/ 81، الغربي محمد: 1/ 121، الغربي محمد القسنطيني: 1/ 133، الغرناطي الشريف: 1/ 352، غرناوط محمد بن مصطفى: 5/ 31، غروي جورج: 6/ 145، 147، الغرياني إبراهيم: 1/ 296، 398، 437، الغريب عبد الرحمن: 5/ 258، الغريبي محمد بن السائح: 2/ 79، الغريس مصطفى: 1/ 313، 515، الغريسي = الجزائري، الغريسي أحمد بن السنوسي: 7/ 75، الغريسي أحمد بن محمد السعيد: 8/ 304، الغريسي أحمد بوطالب: 8/ 243، 258. الغريسي أحمد، المجاهد: 7/ 101، 102، الغريسي بوطالب: 8/ 237: الغريسي الحاج البشير: 6/ 362، الغريسي محمد أبو ناب: 2/ 22، الغريسي محمد المعسكري: 7/ 115، الغريسي محمد المهيزل: 5/ 393، الغريسي محيي الدين (والد الأمير):

_ 1/ 183، 223، 224، 271، 418، 421، 438، 514، 2/ 266، 4/ 30، 44، 5/ 384، 548، 564، 566، 7/ 115، 116، 362، 407، 8/ 9، 162، غزال= GselI قزال، الغزال أحمد: 1/ 295، 398، 439، 2/ 35، 224، 225، 227، 229، 272 - 274، 5/ 400، 8/ 127، غزالة: 8/ 471، الغزالي: 1/ 51 - 75، 106، 111، 133، 459، 473، 476، 491، 2/ 132، 170، الغزالي أبو حامد: 1/ 48، 3/ 234، 396، 6/ 333، 7/ 80، 121، 144، 159، 445، الغزالي أحمد: 8/ 230، 231، الغزي (الشيخ): 2/ 168، الغزي محمد الهادي: 8/ 276، الغسال محمد: 5/ 377، 578، الغساني الوزير: 1/ 398، 439، الغسيري محمد: 7/ 459، غفريل بول 347/ 3: Gaffarel، غلام الله محمد: 4/ 117، 413، غلام الله (نائب): 4/ 121، الغماري أحمد: 1/ 74، 265، 4/ 253، الغماري الحاج أحمد: 7/ 66، الغماري (زعيم): 8/ 314، الغناي يحيى: 5/ 378، غوبينو: 3/ 302، غوتييه إيميلا 321، 306/ 7، 328، 314، 307، 304، 89/ 6، 501، 471، 223/ 5، 304/ 4، 389،.281/ 3: E.F Gautier، غوتييه تيوفيله = قوتييه: 8/ 377، غوتييه ليون:: 7/ 171، 208، الغوثي أبو علي: 5/ 433، 6/ 334، 8/ 463، 464، غودفري- ديمونبين: 6/ 170، الغول إبراهيم: 7/ 427، الغول محمد الحفناوي: 7/ 68، غولدزيهر: 6/ 425، غومييه أحمد بن مصطفى: 8/ 178، 413، غونزاليز: 1/ 203، 2/ 366، 367، غونكور= قونكور، غيزو 222/ 5: Guizot، غينون R. Guenon رينيه: 6/ 433، غيور (محافظ متحف): 5/ 406، غيوميه 382، 381/ 8: Guillaumet، (ف) فابار: 6/ 307، فابر: 6/ 87، فاتان كلود 33/ 8، 275، 14/ 6، 266/ 4: C. Vatin، الفارابي: 2/ 428، فارس أحمد: 5/ 317، فارس أحمد (علي؟): 8/ 136، 445، 446،

_ الفارسي سلمان: 4/ 104، 288، فارنييه 205/ 5: Varnier، فارير: 7/ 217، فارين شارل: 1/ 519. فازي ادمون 425/ 6: E.Fazy، الفاسي: 5/ 266، 509، 7/ 141، الفاسي أحمد: 1/ 182 - 441، 442، 450، 5/ 97، الفاسي أحمد بن إدريس: 4/ 250، 251، 256، 259، 282، الفاسي ابن يعلى: 5/ 393، الفاسي حمدون: 1/ 516، الفاسي سعيد: 6/ 257 - 260، 7/ 207، 210، 455، 8/ 174، الفاسي (سيدي): 1/ 205، 264، الفاسي سيدي علي: 5/ 113، 130، الفاسي عبد الرحمن: 2/ 427، 429، 431، 7/ 36، الفاسي عبد القادر: 1/ 426، 2/ 49، 77، الفاسي علال: 5/ 280، 374، 394، 491، 492، 562، 618، 8/ 182، الفاسي علي الجمالي: 4/ 113، الفاسي الغربي: 1/ 325، الفاسي محمد: 1/ 65، 442، 447، 505، 2/ 49، 136، 382، 4/ 59، 5/ 521، 7/ 116، 118، 216، 8/ 290، 146، 299، الفاسي محمد بن أحمد: 2/ 160، الفاسي محمد العربي: 2/ 42، فاضل: 3/ 155، فاضل مصطفى: 5/ 314، 518، فاطمة: 2/ 395، فاطمة بنت جبور: 1/ 255، فاطمة بنت محمد: 5/ 452، فاطمة بنت المداح: 8/ 471، فاطمة الزهراء: 1/ 72، 4/ 10، 16، 39، 42، 95، 104، 246، 492، 5/ 71، 7/ 314، فاطمة (لالة): 4/ 36، 37، 5/ 150، 6/ 343، فاغلبون خ: 7/ 108، فاليري: 3/ 21، فاليه (المارشال) 87/ 8، 348/ 7، 191، 157، 147، 110، 83/ 6، 337، 215، 77/ 5، 402، 204، 203، 201، 200، 198/ 4، 333/ 3: vaIé، فان جناب 61/ 8: VanGinap، فان سيفرز بيتر 105/ 4: P.VanSivers، فانسان ب: 8/ 274، فانسان بنجامين: 6/ 31، 90، 153، 356، فانسان بول: 2/ 148، فانفاني: 5/ 269، فانون فرانز 350/ 5: F.Franz، الفاني سعيد: 1/ 480، 2/ 172، فانيان إدموند: 1/ 303، 305، 5/ 231، 326، 340، 348، 382، 384، 6/ 27، 32، 34، 53، 57، 58، 75، 73، 96، 100، 241، 7/ 108، 109، 8/ 15،

_ فايان (مارشا) 5: Vaillant ل/ 187، 188، 191، 194، فايسات 392/ 8، 352، 344، 343/ 7، 173، 92، 66، 65، 47/ 6، 338، 334، 174، 146، 84، 79/ 5، 402/ 4، 419، 357، 349، 335، 266، 265، 61، 54/ 2، 423، 417، 394، 382، 334، 284، 262، 261، 248، 229، 220، 219، 217، 167، 154/ 1: Vayssette، فتاح: 6/ 175، 8/ 49، فتح الله (الشيخ): 1/ 285، 437، 438، 494، 7/ 344، فتح الباب حسن: 8/ 130، الفجيجي إبراهيم: 1/ 292، 307، 2/ 179، 296، 377، الفجيجي أبو القاسم: 1/ 292، 2/ 179، 296، الفجيجي الحاج محمد: 4/ 228، الفجيجي محمد بن عبد الجبار: 1/ 465، 2/ 253، فخار إبراهيم: 5/ 375 - 381، فخار ابن علي: 5/ 245، 608، 6/ 56، 144، 176، 241، 244، 7/ 82، 83، 8/ 50، 174، فخار الحربي: 5/ 245، فخار علي: 3/ 78، 8/ 49، فخار مصطفى: 7/ 170، 443، فخارجي عبد الرزاق: 5/ 301، 8/ 469، فخارجي محمد: 5/ 301، 302، 8/ 469، 470، الفراتي عبد العزيز: 2/ 384، الفراوسني محمد: 2/ 112، 208، 7/ 137، الفراوسني محمد بن علي: 5/ 364، الفراوسني محمد الزواوي: 1/ 101، 102، 105، 107، 513، فرج (سيدي): 5/ 134، 144. فرج محمود فرج: 1/ 297، 2/ 349، 7/ 79، 207، 393، 394، الفرجيوي سعدون: 4/ 86، فرحات باي: 1/ 174، 521، فرحات محمد: 5/ 429، 8/ 441. فرعون: 2/ 421، 7/ 242، فرعون إلياس: 6/ 16، فرعون جوني: 3/ 293، 312، 5/ 214، 6/ 11، 15، 16، 17، 18، 42، 48، 147، 154، 155، 174، 8/ 14، 21، 175، 185، 186، فرعون فلورين: 6/ 147، فرغان (سيدي): 5/ 85، فرفارة سالم: 8/ 419، 420، فرفارة محمد: 8/ 420، الفرفور: 5/ 528، 566، 569، الفرقاني الحاج (محمد الطاهر): 8/ 472، فرنسوا الأول: 6/ 271، فروخي مصطفى: 5/ 271، فرومان 339/ 5: Froment،

_ فرومنتان يوجين: 6/ 37، 381، 382، 383، 8/ 176، 376، 380، 381، 383، 388، 413، 415، فرويد: 7/ 217. فريد بك محمد: 3/ 85، 179، 4/ 511، 248، 5/ 579، 580، 581، 609، 611، 617، الفريرا محمد (الذباح): 1/ 213، 214، 265، فريسون أميري (دكتور): 3/ 305، الفريش (سيدي): 5/ 148، فريمان ستانلوب: 8/ 37، الفزاني ابن عبد الجليل (سيف النصر): 5/ 494، 579، الفسيلي سيدي أحمد: 5/ 85، فضلاء محمد الحسن: 3/ 186، 8/ 141، 426، 428، فضلاء محمد الطاهر: 2/ 131، 5/ 240، 241، 8/ 145، فضيل رينيه: 5/ 202، فضيلة الجزائرية: 5/ 439، الفقي الحاج: 4/ 228. فكاي مريم: 5/ 439، 8/ 471، فكري الحاج حمو عبد القادر: 3/ 119، 6/ 257، 354، 8/ 115، 175، 182، 183، 440، 450، فكري أحمد: 1/ 44، فكري باشا محمد أمين: 4/ 310، 511، 8/ 91، 265، الفكون: 1/ 269، 286، الفكون أحمد: 5/ 129، 230، 382، 6/ 158، 178، 184، 190، 194، 263، 371، 7/ 316، 8/ 10، الفكون حمودة: 1/ 301، 302، 303، 305، 308، 4/ 402، 5/ 338، 382، 6/ 191، 7/ 348، الفكون (عائلة): 1/ 394، 416، 422، 2/ 349، 3/ 131، 4/ 309، 402، 5/ 375، 8/ 8، 161، 389، الفكون عبد الكريم: 3/ 134، 201، 4/ 40، 78، 5/ 81، 89، 148، 149، 368، 7/ 82، 139، 157، 8/ 395، الفكون عبد الكريم (الجد): 1/ 519، 2/ 16، 17، 81، الفكون عبد الكريم (الحفيد): 1/ 29، 44، 119، 132، 139، 158، 159، 166، 175، 216، 218، 239، 263، 273، 290، 293، 294، 295، 316، 319، 320، 321، 324، 350، 352، 357، 369، 380، 382، 383، 393، 396، 399، 400 - 406، 408، 417، 428، 432 - 434، 440، 447، 450، 451، 454، 466، 470 - 476، 482، 483، 485، 487، 492، 494، 502، 519 - 524، 2/ 9، 10، 11، 15، 16، 24، 27، 40، 43، 54، 55، 58، 60، 61، 65، 72، 73، 82، 83، 86، 87، 93، 99، 103، 111، 112، 113، 121،

_ 124، 125، 126، 132، 140، 141، 149، 151، 158، 159، 160، 161، 167، 174، 195، 196، 205، 212، 214، 216، 223، 226، 241، 246، 252، 254، 268، 269، 279، 287، 292، 326، 355، 356، 358، 365، 383، 389، 390، 402، 405، 423، 437، الفكون قاسم: 2/ 72، الفكون محمد: 1/ 524، 3/ 126، 4/ 350، 380، 402، 6/ 180، 7/ 478، الفكون محمد بن حسن: 5/ 384، الفكون محمد بن حسين: 5/ 383، الفكون محمد بن عبد الكريم: 2/ 21، الفكون محمد (الجد): 6/ 191، الفكون المكي: 8/ 166، الفكون يحيى: 2/ 72، 73، الفكيرين أبو عمران موسي: 1/ 405، الفكيرين عاشور: 1/ 430، 2/ 158، 383، 384، الفكيرين موسى: 2/ 73، فلاترز Flatters (عقيد): 4/ 111، 216، 232، 234، 262، 327، 6/ 74، 102، 131، 165، 287، 7/ 470، فلاح (مستشار): 4/ 263، الفلاري إبراهيم: 2/ 159، 160، فلامان 41/ 6، 70/ 5، 49/ 4: Flamand، فلوبير غوستاف: 6/ 381، 8/ 176، 376، فلوري 49/ 8، 440، 175، 170/ 6، 618، 609/ 5: A. Fleury، الفليتي الأزرق: 7/ 368، فليح (سيدي): 5/ 25، فنزالي: 2/ 355، الفهري (الشيخ): 2/ 164، الفوال (سيدي): 5/ 147، فوتييه ليون: 6/ 101، 240، وربيقي: 8/ 149، 156، 168، فوربيه: 6/ 441، فورتان 91/ 6: Fortin، فورد: 5/ 208، فورميسترو 17/ 8: Fourmestront. فورنيل هنري: 6/ 307، 309، 319، 320، 440، فورو (ضا بط) 102/ 6، 233، 232، 204/ 4: Foureau. فوزان جورج: 6/ 441، 445، فوشيه ماكس: 5/ 236، فوكيه أشيله: 5/ 144، فولبرايت 311، 14، 13، 11/ 3، 10/ 1: Fulbright، فولتير: 6/ 107، 197، فولير 179/ 3: Vollers، فونتانة بيير: 5/ 246، 305، 307، 7/ 258، 280، فونتين: 5/ 411، فونسين 349/ 3: Foncin، فونوعيل: 7/ 393،

_ فونيل: 6/ 87، فيالار 415، 408/ 6، 347، 344/ 5: Vialar، فيالار Vialar (سيدة): 3/ 293، 5/ 344، 347، 6/ 408، 415، فيبو (كاتب): 8/ 176، فيتال 444، 285/ 6، 288/ 3: Vital، فيتزجيرالد: 6/ 258، فيجياك شامبليون: 1/ 309، فيدرمان البارون هنري: 1/ 214، 250، 253، 270، فيدو أرنست 175/ 8: Feydeau، فيدير جاك 303/ 5:: J. Feyder، فيديرب (حا كم): 4/ 280، فيديو: 6/ 382، فيرديناند: 6/ 106، فيردييه (أسقف): 6/ 137، فيرمي (قاضي) 449، 448/ 6: Fermé، فيرنو: 7/ 247، فيرنيه هوراس: 6/ 381، 8/ 176، 374، 376، 377، 378، 379، 406، 414، فيرو شارل 88، 87، 14/ 8، 462، 416، 355، 349، 348، 343، 342/ 7، 207، 206، 194، 190، 187 - 185، 168، 167، 160 - 155، 154، 153، 148، 146، 145، 93، 92، 79 - 76، 67، 66، 48، 25، 18/ 6، 398، 334، 331، 330، 326، 295، 150، 146، 95، 92، 91، 90، 79، 8/ 5، 526، 495/ 4، 27/ 3، 447، 339، 334، 333، 332/ 2، 518، 470، 334، 316، 305، 302، 301، 287، 286، 275، 267، 266، 265، 257، 249، 248، 229، 223، 220، 217، 193، 176، 137، 42/ 1: Ch. Feraud، 326، 392، 406، 7 40، 408، 409، الفيروز أبادي: 8/ 169، فيري Feret (سيدة): 4/ 105، 312، 6/ 378، فيري جول 430، 270، 167، 91/ 7، 370، 232 - 230، 227، 225، 129/ 6، 425، 381، 363، 354، 343، 326، 143، 129/ 3: J. Ferry، فيسينو الإسكندر: 5/ 38، فيسيير: 8/ 126، الفيشي يوسف: 2/ 56، فيصل (الأمير): 7/ 439، 456، فيصلا بن الحسين: 4/ 410، 8/ 80، 81، 461، فيصل (الشريف): 5/ 523، 555، فيصل شكري: 1/ 8، فيله 402/ 6: Weil، الفيلالي أحمد: 2/ 337، الفيلالي الحبيب: 2/ 198، الفيلالي عبد الكريم: 1/ 439، 7/ 44، الفيلالي محمد بن عبد الرحمن: 8/ 277، فيلالي مختار: 2/ 398، فيلو (مستشرق): 6/ 92، فيلي ديهير: 5/ 415،

_ فيليب ف. 453، 442/ 8، 462، 461، 460/ 7، 420، 98/ 5، 281، 230، 224، 223، 150/ 4: F. Philippe، فيليب لويس (ملك): 5/ 213، 222، 223، 370، 407، 534، 6/ 23، 87، 201، 8/ 17، فيليبير (جنرا) ل: 4/ 277، فينوس: 5/ 404، فينيار: 6/ 15، 21، 92، فينيون لويس 429، 294، 290، 289، 288، 285/ 6، 519، 518/ 5، 473، 417، 352، 313، 312، 293، 262، 260، 111/ 4، 432، 348، 346، 280/ 3: L. Vignon، فينييه: 6/ 384، فيورموز: 6/ 48. فيوري هيرمان: 5/ 306، فيوليت موريس 422، 106/ 7، 450، 428، 375، 371، 285، 260، 230، 88/ 6، 537، 536، 493/ 4: M. Violette، الفيومي علي: 1/ 479، فيون (ضابط) 241، 240/ 7: Viollont، (ق) قابو شار: 6 ل/ 66، 67، القادري: 1/ 31، 36، 358، 376، 428، 427، 2/ 57، 108، 271، 272، القادري أحمد: 7/ 75، القادري عبد السلام: 3/ 78، 4/ 43، 7/ 323، قادشو (عقيد): 8/ 201، قارنيه 225/ 7:: Garnet، قارنييه 31/ 8: Ganier، قارة علي: 8/ 408، قارو هنري 378، 52/ 6، 353، 312، 303، 300، 273، 242، 237، 181، 180، 179، 178، 111، 105، 90، 87، 85، 68، 58، 44، 28/ 4: H. Garot، القاري محمد بن علي: 2/ 218، قاستلتي: 6/ 118، قاستنبيد يوجين: 3/ 372، 4/ 442، 444، 487، 533، قاستو: 6/ 229، قاسم محمود: 6/ 372، القاسمي الشيخ محمد بن بلقاسم: 3/ 53، 89، 94، 107، 112، 171، 185، 194، 218، 220، 221، 222، 223، 225، 229، 230، 267، 268، 272، 4/ 31، 41، 147، 150، 158، 159، 160، 161، 162، 164، 166، 170، 171، 188، 272، 319، 328، 379، 5/ 369، 6/ 334، 341، 431، 7/ 60، 74، 134، 137، 258، 313، 330، 332، 334، 366، 26 4 , 427، 445، 446، 8/ 90، 148، 211، 212، 213، 214، 216، 218، 236، 266، 416، القاسمي عبد القادر: 5/ 262، القاسمي محمد بن الحاج: 7/ 121، 445، القاسمي محمد بن عيسى: 7/ 126، 444،

_ القاسمي مصطفى: 3/ 223، 4/ 165، 332، 335، 337، 5/ 261، 262، 370، قاضي (عقيد) = بلعربي الشريف، القاضي محمد: 5/ 433، 8/ 310، 312، 314، القاضي المولى: 6/ 104، قافو 129/ 8، 348، 347/ 5: Gavault، قافولي: 8/ 217، قاقة التجاني: 8/ 420، قاقة عمر: 8/ 403، 420، القاكي إبراهيم: 2/ 57، قالون: 1/ 342، 3/ 212، 7/ 36، القالي: 2/ 180، 189، 190، قاليبير Galibert ليون: 6/ 193، القامة عمار: 7/ 32، قاميزو باسكال (طبيب): 2/ 419، قان 322/ 7، 47/ 6، 353، 129/ 2: Guin، قانياج: 6/ 367، القايد علي: 5/ 40، قايد العيون خليل: 5/ 243، القبائلي أحمد: 7/ 344، قداش محفوظ: 6/ 421، 8/ 26، قدور أمين: 5/ 69، قدورة: 1/ 258، 405، قدورة أحمد: 1/ 300، 357، 365، 389، 399، 403، 404، 413، 416، 419، 420، 449، 2/ 43، 210، 369، 375، قدورة الحاج إبراهيم: 1/ 369، قدورة سعيد: 1/ 93، 202، 243، 270، 273، 283، 293، 4 29، 319، 321، 344، 349، 350، 357 - 364، 365، 367 - 369، 371، 372، 378، 384، 390، 395، 399، 402، 403، 418، 426، 427، 443، 453، 472، 495، 503، 504، 522، 2/ 12، 17، 32، 33، 42، 43، 50، 52، 55، 58، 60، 72، 96، 103، 104، 105، 113، 121، 149، 151، 152، 161، 164، 171، 186، 187، 188، 195، 205، 215، 226، 241، 248، 268، 277، 280، 287، 288، 292، 300، 301، 358، 375، 4/ 391، 5/ 113، 134، 135، 168، 348، 7/ 395، 444، قدورة محمد: 1/ 283، 325، 357، 362، 363، 365، 366، 370، 399، 417، 2/ 17، 43، 44، 45، 288، 289، 368، 375، القديري مصطفى: 3/ 73، 74، 78، 81، 83، 4/ 367، 370، قرافيني (قنصل) 490، 489/ 4: Gravini، قرسلي (وزير): 7/ 268، القرطبي: 1/ 133، 2/ 120، القرطبي أبو عبد الله: 4/ 283، القرطبي سيدي يحيى: 5/ 92، قرقوش: 8/ 439، قرماز (فنان): 8/ 438، قرة محمد: 5/ 532، القرومي أحمد: 2/ 260، 261، 283،

_ القروجمي محمد: 1/ 204، 401، القرومي يحيى: 4/ 525، القروي عمر: 4/ 222، القري أحمد: 1/ 111، قريبي ألبير: 5/ 196، قريزلي (عقيد): 4/ 442، قريشي: 8/ 438، قريشي عبد العزيز: 3/ 129، قريفي البير 463، 404، 403، 398، 287/ 4: A. Grevy، القزادري علي: 5/ 182، القزادري محمد: 3/ 78، القزازي: 1/ 505، قزال ستيفان 412/ 8، 416، 321/ 7، 387، 96، 94، 89، 62/ 6، 406، 405، 350/ 5: S. Gsell، القزويني جلال الدين: 2/ 167، 433، 436، القسام عز الدين: 6/ 404، القسطلاني أحمد: 1/ 111، القسطلي: 4/ 154، القسطلي أبو عمرو: 2/ 134، القسنطيني الدرويش علي: 1/ 291، القسنطيني بركات: 1/ 89، 107، 108، 110، 299، القسنطيني رجم: 6/ 164، القسنطيني رشيد: 5/ 316، 423، 453، 466، 8/ 137، 138، 139، 143، 440، 448، 450، 452، 460، 476، القسنطيني محمد: 5/ 135، القسنطيني محمد بن أحمد: 1/ 447، قسوم عبد الرزاق: 1/ 57، القشاش: 3/ 44، 323، القشاش أبو الغيث: 1/ 487، القشاشي صفي الدين: 1/ 495، 2/ 55، القشي: 4/ 413، القشيري: 1/ 106، 2/ 130، القصار محمد: 1/ 124، 183، 2/ 49، 213، قطاط محمد: 2/ 445، قطاط محمود: 5/ 432، 458 - 465، 8/ 465، قطايم الصادق: 1/ 290، 443، 2/ 49، 5/ 387، قطرانجي عبد الرحمن: 3/ 108، 4/ 377، 7/ 103، القلاتي حسن: 5/ 490، 491، القلال محمد: 5/ 248، 249، قلال منصور: 3/ 105، 163، قلال المنور: 6/ 355، قلاوون أبو بكر: 7/ 242. القلصادي علي: 1/ 95، 111، 2/ 355، 361، 402، 404، 405، 427، 3/ 135، 137، 201، 203، 7/ 283، 287، 286، القلعي: 5/ 307،

_ القلعي بوزيان: 8/ 332، 335، القلعي مبارك: 2/ 64، القلعي محمد: 1/ 170، 7/ 148، القلعي = الصباغ. قلنتو إبراهيم: 6/ 414، القلي أحمد: 1/ 163، 214،، 249، 5/ 94، 95، القلي محمد بن جمعة: 7/ 62، القلي محمد الصالح: 3/ 213، القليبي أحمد: 8/ 276، قليليو: 2/ 429، قليو (سيدي): 5/ 84، القماري خليفة بن حسن: 1/ 284، 325، 442، 443، 2/ 49، 68، 7774 - 79، 84، 85، 98، 162، 241، 8/ 286، القماري علي بن سعد: 5/ 257، قمر: 1/ 145، قمر بنت محمد باي: 1/ 236، القميشي (الشيخ): 5/ 62، قنان جمال: 3/ 126، 412، 4/ 13، 343، 466، 5/ 219، 235، 244، 6/ 222، 251، 252، 254، 332، 359، 361، 362، 371، 395، 406، 452، 7/ 90، 97، 272، 348، 8/ 228، 229، 242، 249، 338، قنانش محمد: 5/ 268، 269، 8/ 302، قندوز: 8/ 206، 331، 416. قندوز عمر: 6/ 104، قندوز محمد: 7/ 110، القندوسي= الأعرج، قندين (فنان): 8/ 469، قنطيس (عقيد): 6/ 96، القنقاجي (عائلة): 5/ 488، قنيش (سيدي): 5/ 85، القنيلي إبراهيم الطرابلسي: 1/ 436، 2/ 257، 258، 269، قهواجي مصطفى: 5/ 182، قوانار بيير 433، 418، 404، 402، 388، 382، 379، 186، 178/ 8، 436، 434، 420، 404، 403، 401، 395، 319، 291، 285، 138، 132، 116/ 6، 466، 458، 440، 413، 350، 306، 237، 221، 215/ 5، 405، 386/ 4: P. Goinard، قوتيه تيوفيل: 6/ 381، 8/ 176، 376، قوتييه = غوتييه، القوجيلي محمد: 1/ 203، 204، 228، 335، 373، 393، 398، 403، 407، 410، 411، 414، 445، 2/ 30، 31، 226، 256، 263، 270، 271، 281، 287، 288، 292، 293، 301، 305، 337، 358، 440، 5/ 21، قودان أنيتا: 8/ 201، قودفروا - ديمونبين 131/ 8: G. Demombeyne، قورجو 339/ 8: F. Gourgeot، القورصو محمد: 4/ 333، قور قوس: 6/ 15، 21، 45.

_ قورليو: 6/ 180، القوري أحمد الصدراتي: 4/ 40، القوري محمد بن قاسم: 1/ 131، قوسلان:: 5/ 41، 44، القوصي هاني بن يصدور: 6/ 304، قوفيون 435، 174/ 8، 478، 434/ 7، 245/ 5، 414، 119، 118، 93/ 4، 184/ 3: Gouvion، قوقنهايم: 6/ 402، قوكلر 407، 406/ 5: Gauckler، قوميه = غوميه، قونكور: 6/ 381، 8/ 200، قونكور إدمون: 8/ 176، 376، قونكور جو: 8 ل/ 176، قويسم محمد: 2/ 349، 384، قويسم محمد الطيب: 8/ 473، قويون (طبيب): 6/ 81، قيتفيله (سيدة): 3/ 446، 8/ 368، القيرواني: 2/ 333، 334، القيرواني ابن أبي دينار: 7/ 345، القيرواني ابن أبي زيد: 7/ 108، 110، 175، القيرواني ابن الرقيق: 1/ 78، 7/ 354، القيرواني عرفة: 1/ 383، 4/ 275، القيري بدر الدين: 4/ 276، القيطني = الجزائري (عائلة الأمير)، قينار 449/ 7: E. Guenar، قينون رينيه: 6/ 435، قيوميه: 4/ 164، 8/ 414، قيوميه (فنان): 6/ 341، قيون 225/ 7: Guyon، (ك) كاباتو 114/ 7: Cabatou، كاباك أنيت: 8/ 453، كابوري: 6/ 101، كاتب مصطفى: 5/ 429، 8/ 441، 452، كاتب ياسين: 8/ 175، 185، 187، 299، 452، كاترمير: 6/ 19، كاترو (جنرال): 3/ 297، 8/ 27، كاتنف ناثانيان: 1/ 167، 168، كاتون 49/ 5: Caton، كاربونيل: 5/ 307، كارد جول: J.Carde 332 /4. كارموس: 5/ 415. كاروزو (فنان): 8/ 462، كاريت (عقيد): 5/ 326، 6/ 47، 48، 49، 81، 84، 86، 87، 304، 307، 310، 312، 314، 440، 7/ 321، 8/ 30، 36، كاريه ليون 434، 387/ 8: Carré، كارييه مارسيل 139، 137، 136، 135/ 4: M. Carré، كاستلان: 8/ 88، كاستيلي: 8/ 414،

_ كاسو (تركي): 6/ 406، كافينياك: 5/ 181، كاقايوس: 5/ 220. كالو (قسي): 6 س/ 120، كامبس 248، 247، 114/ 8، 429، 107/ 7، 327، 24، 23/ 6، 527/ 4، 397، 392، 388، 385، 384، 382، 381، 353، 350، 326/ 3: Cambes، كامبل توماس: 2/ 290، كامبوزا بول: 1/ 53، كامبون جولا 227، 215، 218، 210، 204، 173، 145، 111، 106، 100، 99، 49/ 4، 447، 433، 421، 397، 395، 393، 387، 384، 383، 381، 350، 176، 76، 34/ 3:: J. Cambon، 231، 232، 233، 234، 270، 303، 312، 316، 320، 321، 326، 328، 354، 355، 361، 369، 379، 386، 405، 412، 477، 496، 504، 527، 5/ 145، 205، 244، 309، 404، 406، 423، 476، 477، 478، 587، 6/ 73، 98، 132، 163، 165، 233، 349، 364، 365، 407، 7/ 255، 237، 317، 392، 8/ 115، 171، 195، 215، 247، 333، 367، 410، كامبيريو (ضابط): 4/ 264، كامل مصطفى: 5/ 254، 580، كامو ألبير 382، 275، 37/ 6، 306، 220/ 5: A. Camus، كانتينو: 6/ 14، 101، كانيا: 5/ 406، كانيا - فورستر: 6/ 166، 262، الكاهنة: 5/ 410، 414، 6/ 64، 7/ 344، الكبابطي سليمان: 1/ 240، الكبابطي مصطفى: 2/ 35، 410، 3/ 41، 58، 59، 72، 3 7، 74، 77، 83، 95، 136، 139، 338، 443، 4/ 359، 368، 371، 392، 4 2 4، 425، 523، 524، 5/ 21، 22، 29، 30، 113، 140، 168، 182، 15 2، 329، 348، 473، 496، 529، 558، 6/ 182، 184، 358، 359، 7/ 47، 54، 72، 92، 78، 96، 8/ 8، 20، 111، 204، 242، 274، 282، 283، 286، 292، 293، 306، الكبادي العربي: 7/ 395، الكبير سيدي أحمد: 8/ 237، الكبير محمد (سيدي): 4/ 85، 225، الكتاني (محمد بن جعفر): 1/ 57، 174، 129، 346، 424، 426، 427، 495، 512، 4/ 192، 504، 7/ 73، الكتاني (سيدي): 1/ 205، 261، 263، 264، 438، 2/ 14، 284، الكتاني عبد الحي: 1/ 52، 62، 92، 115، 371، 2/ 10، 14، 28، 34 - 38، 47، 51، 58، 63، 64، 225، 230، 233، 352، 382، 3/ 136، 183، 184،

_ 185، 221، 4/ 129، 165، 245، 246، 247، 255، 256، 335، 337، 478، 488، 507، 510، 512، 513، 5/ 262، 368، 391، 397، 511، 575، 578، 6/ 213، 7/ 40، 41، 42، 48، 49، 52، 53، 54، 57، 60، 61، 63، 69، 70، 71، 72، 73، 125، 126، 142، 143، 363، 444، 473، 8/ 83، 90، 91، 245، 271، الكتاني عبد الكبير: 4/ 508، 7/ 58، الكتاني محمد بن إبراهيم: 1/ 7، 7/ 43، كحالة: 2/ 235، كحول محمود: 3/ 91، 92، 132، 135، 183، 4/ 77، 103، 168، 185، 219، 269، 377، 383، 384، 478، 497، 537، 5/ 35، 87، 229، 242، 246، 257، 295، 383، 384، 554، 556، 590، 608، 6/ 59، 195، 378، 404، 7/ 105، 106، 131، 154، 169، 170، 258، 430، 434، 469، 8/ 15، 67، 69، 97، 98، 111، 164، 258، 285، كربوش (فنان): 8/ 438، الكرخي معروف: 4/ 65، كرد علي محمد: 5/ 523، 8/ 96، الكردي محمد: 2/ 348، الكردي محمود: 1/ 511، الكردي محمود العراقي: 4/ 192، 193، الكرزازي أحمد بن موسى: 4/ 88، 90، الكرزازي عبد الرحمن: 4/ 90، كرم يوسف: 5/ 539، 572، 573، 611، الكرمانلي (عائلة): 5/ 494، الكرماني أحمد = بيري رايس: 1/ 137، كرمبله (مستكشف): 6/ 165، كروزا: 6/ 117، 120، 122، 128، 131، كروزيل Clauzel (المارشال): 4/ 349، 350، 359، 436، 503، كروشار: 6/ 342، كروشار (ضابط): 4/ 162، 163، كروللي (عقيد): 6/ 91، كرومر (اللورد): 5/ 585، 587، كرونفيلد الفريد 474/ 8: Kronfeld، الكريتلي: 6/ 302، الكريتلي إبراهيم باي: 7/ 403، كريستلو: 6/ 164، 166، 194، 221، 232، 262، 349، 371، 427، كريستيلو ألان 76، 75/ 3: A. Christelow، 401، 4/ 71، 412، 437، 439، 443، 444، 446، 462، 464، 465، 467، 472، 474، 475، 477، 486، 487، 491، 501، 502، 508، 510، 514، 515، 517، 521، 525، 531، 533، 5/ 13، 232، 234، 235، 236، 382، 387، 479، 482، 484، 512، 526، 545، 548، 549، 555، 557، 7/ 90، 91، 93، 99، 102، 164، 167، 197، 284، 326، 364، 365، 371، 376، 377، 378، 379، 446، كريسنته: 5/ 413.

_ كريم عبد الكريم: 1/ 7، كريم مصطفى: 6/ 200، كريمة بنت حسين: 5/ 318، 319، الكريمي محمد بن يوسف: 2/ 218، كريميو أدولف 329/ 3: A. Cremieuz، 4/ 214، 412، 5/ 284، 6/ 398، 399، 400، 401، 419، الكزبري سلمى الحفار: 5/ 568، كزنوفا: 7/ 313، 314، الكزولي ولد الحاج محمد: 4/ 85، الكسائي: 2/ 165، الكستي أبو الحسن: 5/ 566، كسرى أنوشروان: 2/ 200، كسوس محمد: 4/ 496، كسوس محمد بن يوسف: 6/ 104، كسيلة: 5/ 414، 6/ 64، الكعاك عثمان: 1/ 51، 6/ 59، 7/ 416، 8/ 232، كعب بن زهير: 2/ 244، كعبش الطيب: 3/ 264، الكفيري محمد: 2/ 48، كلارك ميشيل: 5/ 271، الكلاعي: 7/ 354، كلاين هنري 447/ 2، 291/ 1: H. Klein، 5/ 8، 16، 17، 19، 20، 21، 24، 25، 26، 27، 29، 31، 35، 36، 37، 41، 43، 50، 51، 52، 55، 60، 62، 67، 69، 70، 118، 119، 123، 124، 127، 128، 129، 8/ 392، 401، الكلشني محمد بن سعيد: 2/ 222، كلنسي - سميث جوليا Clancey - Smith: 3/ 220، 222، 4/ 55، 148، 164، 166، 182، 321، 6/ 341، 342، 343، 431، 8/ 324، كلو: 8/ 377، كلوت بيه: 6/ 25، كلوتيلد (أميرة): 8/ 409، كلوزيل (مارشال) 530، 515، 496، 402، 340، 333، 329، 213، 162، 161، 160، 157، 101، 100، 77/ 5، 421/ 3، 190، 161/ 1: Clauzel، 6/ 16، 17، 46، 94، 106، 151، 162، 200، 260، 387، 7/ 194، 363، 398، 400، 8/ 332، كليبير:: 5/ 62، 146، كليرمون - تونير: 6/ 106، كليمانت (راهب): 6/ 117، كليمنصو جورج Clemenceau . 184/ 4: G، كليوباترة سيليني: 8/ 411، 415، كليوباطرة: 5/ 21، 112، الكماد عبد اللطيف: 1/ 324، الكماد علي: 1/ 324، الكماد محمد: 2/ 45، 80، 81، 125، 271، 297، كمال رايس: 1/ 464، 5/ 150، كمال مصطفى: 5/ 304، 552، كنار ماريس 498/ 4: M. Canard،

_ 6/ 101، 7/ 32، 33، كنال 8: Canal / 398، كنال انطوان: 7/ 295، كنال، ج: 6/ 135، الكنتي محمد بن المختار: 6/ 234، الكنتي المختار: 4/ 48، 278، كنون عبد الله: 1/ 154، 2/ 424، 7/ 75، كهلان: 2/ 180، الكواكبي عبد الرحمن: 7/ 177، كوباك أنيت 388، 341/ 6، 53/ 4: A. Kobak، كوبروللو: 2/ 30، 421، كوبولاني ايكزافييه 52/ 3: X. Coppolani، 63، 76، 90، 171، 174، 176، 213، 220، 4/ 12، 24، 29، 32، 38، 39، 45، 50، 58، 60، 64، 67، 77، 78، 80، 84، 85، 88، 89، 91، 92، 101، 102، 108، 109، 111، 113، 117، 118، 120، 125، 126، 147، 149، 153، 156، 157، 159، 161، 162، 168، 169، 170، 171، 173، 176، 178، 179، 188، 192، 208، 215، 217، 218، 220، 230، 231، 234، 235، 242، 245، 247، 249، 250، 254، 256، 257، 259، 265، 266، 267 - 272، 275، 277، 279، 290، 292، 293، 299، 300، 302، 303، 305، 313 - 316، 318، 319، 321، 323، 325، 331، 352، 361 - 364، 369، 419، 420، 5/ 8، 175، 176، 178، 193، 476، 509، 511، 6/ 52، 163، 171، 364، 365، 7/ 66، 148، 323، 330، 331، 332، 432، 367، 8 / 423، 424، كوبيرلي بيير 270، 269/ 3: Coperley، 273، 7/ 389، 8/ 94، كوجان ادمون (شاعر): 8/ 201، كوديرة: 5/ 383، كور أوغست 506، 491/ 1: A. Cour، 2/ 127، 363، 3/ 314، 316، 319، 321، 414، 4/ 90، 91، 92، 144، 145، 181، 182، 183، 184، 303، 503، 504، 5/ 330، 331، 357، 358، 6/ 15، 18، 23، 22، 28، 57، 74، 78، 186، 7/ 386، 447، 8/ 15، 17، 18، 20، 87، 241، 314، 315، 316، الكوراني نور الدين: 2/ 107، 135 - 137، كوربيه دوران: 5/ 217، كورتان شارل (شاعر): 8/ 201، كمورتيلمونت جيرفي G. Courtelement: 4/ 328، 369، 405، 406، 6/ 365، 366، كورليو: 7/ 478، كوسان: 8/ 36، كوفي: 6/ 390، كوفي (أثري): 6/ 11،

_ كوفيه 387/ 8، 390/ 7، 333/ 5، 504، 500، 218، 154، 32/ 4: Couvet، كوفيه (عقيد): 5/ 98. كوك جيمس: 3/ 279، 6/ 310، كوك وينقرون: 5/ 412، كوكفيل: 6/ 280، كولاس: 4/ 245، 256، كولان غبريا: 2 ل/ 431، 432، 434، 6/ 26، 32، 59، 7/ 297، كولان موريس: 8/ 333، كولبير مارسيلا 352/ 5: Koelber، كولون الفريد: 3/ 447، 4/ 447، 8/ 369، كولونا تاجمه 279، 264/ 6، 266/ 5، 428، 427، 425، 421، 419، 352، 349، 340، 330، 311، 304، 33/ 3: Colonna، كومباريل: 6/ 15، 23، كومبس (أسقف): 6/ 132، كوهين: 6/ 391، كوهين (مترجم): 6/ 151، كويان 210/ 4، 30/ 3: Coyene، كوينار: 5/ 415، كيرمابو: 6/ 131، كيسنو (سيدة): 3/ 447، كيلاني حسن = بوكمية كيلسترانيكو 391/ 6: N. Kielstra، (ل) لاباتو: 4/ 245، 262، 263، 264، لاباسيه: 6/ 440، 441، لابرين: 6/ 134، 135، 167، لا بوتيير: 5/ 222، لاتيلي: 7/ 268، لارجو (مترجم): 8/ 130، لارشي إيميل: 4/ 532، لازيرق: 8/ 414، لاسبيس: 6/ 89، لاسكاز (قس): 6/ 120، 121، لاشيفر: 6/ 440، لافاي: 1/ 181، 2/ 447، لافيجيري 342، 210/ 3: Lavigerie، 4/ 116، 214، 355، 5/ 52، 223، 606، 6/ 7، 35، 117، 119 - 133، 134، 136، 137، 138، 139، 209، 217، 285 - 288، 311، 428، 430، 434، 8/ 56، 174، 182، 322، لافيريير: 4/ 112، 6/ 249، 400، لاقليز جان 225/ 4: Lagleyz، لاكرون: 6/ 69، لاكروا 356/ 4: Lacroix، لاكروا فريدريك: 6/ 190، 312، 440، لاكوست روبير: 6/ 450، اللالتى محمد: 2/ 363، اللالتي موسى: 1/ 467، 473، 477، 485، 2/ 121، 131، 252، 282،

_ 316، 438، 439، لالوي: 1/ 189، 301، 302، لا ليزار: 6/ 89، لاما رتين: 6/ 384، 7/ 217. لامبير: 6/ 242، لامورسيير 440، 148، 17/ 6، 535، 385، 334، 333/ 5: Lamorcière، لاندوروبير 441، 201/ 8، 428/ 5: R. Landau، لانز 525/ 5: Lenz، لانسلو كلود: 2/ 151، لانغز مارتينا: 4/ 123، 128، 130 - 133، 136، 137، 138، 139، 5/ 312، 504، 6/ 434، 7/ 23، 143، 144، 470، لاهو سرور: 5/ 452، لاوست: 6/ 31، لاييه 321/ 8: E. Layer، اللبلابشي: 2/ 449، اللبلباجي أحمد: 5/ 19، 40، اللجائي عبد السلام: 4/ 511، 7/ 362، لحمق حسني: 5/ 265، 6/ 140، 280، 326، 327، 431، 7/ 210، 216، 8/ 186، لطفي مارتن أستيه 303/ 5: M.A. Lautfi، لعيمش أحمد: 4/ 497، 498، 537، 6/ 162، 177، 7/ 32، 95، 106، 110، 8/ 27، اللقاني: 7/ 141، اللقاني إبراهيم: 2/ 50، 72، 6/ 73، اللقاني محمد: 3/ 126 227، 5/ 254، 490، 491، 529، اللقاني محمد بن السائح: 8/ 230، 231، لكروتز: 5/ 76، اللمسي الحاج الحبيب: 1/ 9، لواج الشيخ العربي: 7/ 440، لوازي 412/ 6: Lowazy، لوبران: 3/ 240، لوبلان: 5/ 86، لوبو Le Beau (حاكم عام): 3/ 240، 4/ 413، 6/ 294، 376، لوبورجوا 434، 354، 353، 343، 326/ 3: Le Bourgeois، لوبورغ ألبير: 8/ 382، لوبون غوستاف: 7/ 171، لوتورنو: 3/ 29، 47، 55، 180، 181، 182، 183، 187، 188، 189، 196، 201، 203، 204، 205، 207، 209، 219، 4/ 30، 144، 302، 358، 453، 455، 5/ 79، 178، 204، 6/ 48، 171، 307، 324، 340، 8/ 32، 62، لوتي: 7/ 217، لوتيلري: 5/ 306، لوث Loth (الكو نت): 8/ 474، لوثروب: 6/ 238، 7/ 208، لودوييه أوغست 15، 14، 13/ 5: Lodoyer،

_ لوران جان: 6/ 381، لورنس: 4/ 410، 5/ 555، 7/ 439، 456، لورنسو: 6/ 122، لورو هوق 177/ 8، 385/ 6، 38/ 4: H. Le Roux، لوس = أليكس لوس، لوسياني دومينيك 429، 410، 329، 308، 215، 214، 168، 60، 40، 35/ 8، 458، 432، 431، 292، 200، 149، 148، 109، 105/ 7، 328، 324، 282، 246، 245، 172، 171، 79، 74، 73، 72، 54، 53/ 6، 588، 580، 400، 313، 307، 286، 241، 238، 231، 216/ 5، 535، 534، 533، 532، 380، 158/ 4، 159، 113، 99، 98، 97، 90، 66، 65/ 3، 167، 151، 150، 138، 96، 86/ 2، 503، 470، 97/ 1: D. Luciani، لوشاتلييه ألفريد 332، 331، 33/ 8، 208، 104/ 7، 366، 290، 240، 75، 74، 34، 13/ 6، 481، 480/ 5، 535، 349، 303، 265، 245، 74، 30/ 4، 327، 280، 76/ 3: Le Chatelier، لوفران (عسكري): 6/ 440، لوفراني (دكتور): 6/ 404، 405، لوفوك: 5/ 306، لوفيفر شار: 8 ل/ 200 201، لوقونييه: 5/ 415، لومير: 5/ 303، لوميرسييه: 5/ 306، 7/ 273، لونغا: 6/ 84، لونق 388/ 8: Lung، لونوا جان 387/ 8: Launois، لوهورو (ضابط): 8/ 321، لويس بيرنار 70/ 5، 198، 187، 140/ 1: B. Lewis، لويس الرابع عشر: 6/ 384، 8/ 373، لويس السادس عشر: 2/ 344، لويس لوقران: 5/ 557، 561، ليباتو: 4/ 273، ليباير: 1/ 387، ليبير (جنرا) ل: 4/ 23، ليبيشو أوغست: 3/ 2421، 5/ 392، ليبين (حاكم عام): 4/ 354، 355، 8/ 334، ليبين (فنان): 8/ 414. ليتو (لوطو) شارل 335، 40/ 8، 392/ 7، 420، 417، 72/ 6، 328، 185/ 4، 303/ 3: Lutaud، ليريس ريمون: 5/ 458، ليشيه: 6/ 101، ليفر: 1/ 446، ليفريل 388/ 8: Levrel، ليفنقستن 474/ 8: Livingstone. ليفيبور: 8/ 333، ليقوييه: 5/ 415،

_ ليكليرك لوسيان: 1/ 250، 252، 258، 260، 298، 2/ 344، 429، 431، 433، 434، 435، 5/ 104، 399، 6/ 51، 59، 96، 7/ 225، 226، 230، 231، 261، 297، ليموز: 8/ 377، لين: 1/ 430، لينو (أسقف): 6/ 132، ليو بولد الثاني: 8/ 409، ليوتي (غير المارشا) ل: 5/ 334، ليوجي ليليستان 339/ 3: L. Liogiet، ليوطي = ليوتي: 4/ 118، 231، 6/ 55، 75، 76، 134، 136، 387، 435، 447، 8/ 31، 33، 320، ليون (نقاش): 8/ 420، 421، ليونار روجي 404/ 4: R. Leonard، المأمون: 6/ 183، ماء العينين: 6/ 323، ماء العينين (الشيخ): 4/ 279، الماتريدي: 2/ 80، 92، 100، ماتلبري (ضابط): 7/ 384، ماتيبو: 7 ل/ 109، ماتيس هنري: 8/ 388، ماحي (سيدة): 3/ 445. مادح إبراهيم: 3/ 198، مارتن: 6/ 15، 22، 313، 392، مارتن (ضابط): 6/ 122، مارتن (مستشرق): 6/ 27، 38. مارتن (موثق): 7/ 225، مارتي بول: 6/ 72، 73، مارتيل شارل: 6/ 24 271، مارتيل (مستشرق): 7/ 107، مارتينو: 8/ 172، مارجليوث: 31، 313، مارسيل جان جوزيف: 6/ 154، مارسيه جورج: 1/ 249، 258، 463، 3/ 286، 327، 343، 344، 351، 352، 354، 355، 356، 358، 362، 391، 418، 420، 423، 427، 430، 431، 433، 434، 435، 450، 463، 5/ 105، 106، 107، 108، 144، 146، 241، 6/ 32، 58، 89، 101، 171، 173، 8/ 357، 364، 389، 392، 394، 396، 398، 412، 420، 429، 430، 431، 432، مارسيه فيليب: 8/ 21، مارسيه ويليام 420، 398، 396/ 8، 425، 327، 310، 101، 32/ 6، 359، 144، 107، 106، 105/ 5، 304/ 4، 162، 157، 113، 107، 105، 104، 103، 95، 92، 88، 87، 86/ 3، 249/ 1: w. Marçais، مارشان (د كتور): 6/ 379، مارك أندري: 8/ 377، ما ركس كارل: 6/ 448، 449، ماركي ألبير: 8/ 388، مارمول: 1/ 137، 2/ 334، 7/ 416، 8/ 362،

_ ماري (جنرال): 4/ 206، 223، 6/ 17، المازري محمد: 8/ 286، المازري محمد بن الطيب البليدي: 2/ 260، 261، المازري محمد الديسي: 8/ 236، المازني: 2/ 165، المازني إبراهيم: 8/ 72، المازوني: 1/ 43، 2/ 253، 5/ 373، المازوني أبو راس: 4/ 501، 7/ 61، المازوني أبو طالب: 4/ 116، 247، 302، 504، المازوني أبو الطيب محمد: 2/ 36، المازوني (الشيخ): 3/ 235، المازوني الشيخ عبد القادر: 8/ 335، 336، 338، المازوني محمد: 1/ 233، 243، 4/ 48، 56، 62، 256، المازوني محمد بن الطاهر: 8/ 309، المازوني محمد بن علي: 7/ 53، المازوني محمد بن علي الشارف: 1/ 207، 272، المازوني موسى بن عيسى: 1/ 75، 462، 489، 2/ 116، المازوني يحيى بن موسى: 1/ 42، 45، 123، 132، 2/ 67، 112، 4/ 528، مازيغ: 6/ 326، 7/ 322، ماس تيريز: 6/ 378، ماسكري إيميله 57، 55، 54، 37، 36، 35، 32، 29، 23/ 6، 399، 339/ 5، 323، 302، 234، 112، 111/ 4، 343، 269، 268، 93/ 3: E. Masquery، 95، 100، 129، 171، 314، 382، 444، 447، 7/ 61، 78، 87، 388، 8/ 32، 33، 34، 56، 58، 62، 423، ماسينيسا: 7/ 304، ماسينيون لويس 399، 398، 350، 304، 300/ 4، 421، 419، 398، 39 7، 311، 304، 303، 298/ 3: L. Massignon، 414، 495، 533، 5/ 177، 485، 526، 6/ 75، 294، 295، 299، 311، 345، 433، 394، 435، 436، 7/ 215، 8/ 15، 28، 180، 340، 341، ماسيه هنري 172/ 8، 108، 107/ 7، 175، 98، 89، 72، 61، 58، 51، 48، 41، 40، 31، 25، 24، 22، 18/ 6 340/ 5: H. Masse، ماشويل: 6/ 15، 23، 28، 42، 44، 7/ 268، 8/ 14، ماصول: 6/ 440، ماضور محمد: 1/ 79، 81، 2/ 185، 226، 228، ماضوي عبد الرحمان: 2/ 42، 129، 165، 269، ماضي (مهدي) علي: 5/ 452، ماضي نجيب: 5/ 444، 445، 465، ماقيلون ج: 6/ 65، ماكماهون: 3/ 77، 210، 415، 4/ 453، 517، 519، 5/ 86، 193، 194، 197،

_ 201، 204، 222، 224، 544، 596، 6/ 119، 124، 125، 126، 216، 217، 220، 416، 443، 444، 447، ماكوم خان: 6/ 425، مالبو: 7/ 247، مالتسان: 7/ 478، مالتيرن: 6/ 96، مالركي جيمس: 6/ 94، 275، 7/ 451، مالطي عبد الغني: 8/ 468، مالك بن أنس (الإمام): 1/ 70، 78، 473، 2/ 42، 47، 59، 60، 65، 4/ 529، 536، 6/ 61، 65، 7/ 81، 85، 104، 149، المالكي أبو بكر: 7/ 354، مالكي الحبيب: 3/ 120، مامو محمد بن إبراهيم: 3/ 408، مامي إسماعيل: 5/ 252، 311، 8/ 70، مامي رايس: 5/ 51، مانتران روبير: 1/ 137، 177، 179، 461، مانتي إيميل 339/ 3: F. Mantis، مانجان 116/ 4: Mangin، المانجلاتي: 2/ 232، 239، 240، المانجلاتي أحمد: 1/ 364، 2/ 233، 247، 248، 277، 280، 305، 358، المانجلاتي علي: 3/ 72، 4/ 359، 489، 524، 6/ 184، 7/ 54، 72، 8/ 274، المانجلاتي عمر: 1/ 367، 373، 2/ 40، 44، 186، 187، المانجلاتي محمد بن عمر: 1/ 431، المانزالي مصطفى (الباي): 1/ 265، المانصالي (ماماد) محمد: 7/ 175، مانصيل (جندي): 4/ 427، مانقي ش. Mangay(ضابط): 5/ 158، مانيسمان 525/ 5: Manessmen، ماهد (سيدي): 7/ 464، الماوردي: 6/ 53، المايني محمد بن راشد: 7/ 132، المايني محمد الطاهر: 7/ 162، مايير: 6/ 285، مبارك زكي: 4/ 412، 8/ 28، مبارك (سيدي): 5/ 136، 7/ 127، 337، مبارك علي: 8/ 237، مبارك علي (الشيخ): 7/ 81، 200، المبارك محمد: 5/ 321، 322، 524، 8/ 147، 148، 162، 166، 273، المبارك محمد بن محمد: 5/ 522، المبارك محمد الطيب: 5/ 521، 522، المتليلي الحاج موسى: 4/ 284، المتليلي مولاي سليمان: 4/ 283، المتنبي: 2/ 213، 218، 233، 259، 303، 5/ 534، 7/ 214، 8/ 218، المتوكل محمد (ابن أبي تاشفين): 1/ 72، 73، 74، المتيطي: 1/ 133، المجاجي: 1/ 270، 271، المجاجي أبو علي: 1/ 358، المجاجي البها الحاج رحو: 8/ 314، المجاجي عبد الرحمان: 2/ 29، 30 71، 388،

_ المجاجي محمد أبهلو: 1 ل/ 268، 278، 344، 359، المجاجي محمد بن علي: 1/ 202، 3/ 237، 7/ 440، المجاسي المجاجي 2: / 18، مجاهد زكي محمد: 4/ 57، 131، 5/ 524، 7/ 74، 280، المجاوي عبد الله: 5/ 529، 8/ 9، المجاوي عبد القادر: 3/ 34، 72، 88، 91، 95، 110، 125، 126، 128، 129، 130، 131، 132، 133، 136، 142، 143، 152، 197، 233، 267، 268، 272، 287، 379، 390، 402، 4/ 338، 373، 384، 467، 471، 472، 484، 485، 487، 514، 527، 533، 5/ 232، 233، 235، 239، 246، 277، 289، 314، 475، 489، 498، 512، 48، 549، 6/ 28، 38، 103، 144، 209، 216، 220، 223، 232، 241، 331، 333، 7/ 10، 24، 74، 76، 102، 114، 146، 149، 153، 157، 158، 196، 173، 196، 197، 213، 252، 277، 289، 280، 332، 409، 445، 8/ 11، 42، 43، 45، 58، 66، 69، 77، 94، 96، 97، 98، 103، 118، 165، 170، 193، 210، 11 2، 214، 217، 219، 249، 259، 260، 276، 474، المجاوي محمد: 4/ 487، 504، 7/ 327، المجرادي محمد: 2/ 160، المجيري أحمد: 2/ 51، المحاسني يحيى: 2/ 218، محبوب محمد بن بلقاسم: 7/ 34، المحبي: 1/ 140، 371، 372، 375، 2/ 17، 28، 43، 48، 53، 55، 56، 58، 59، 105، 106، 108، 161، 212، 217، 222. المححوب البهلول بن عمر: 7/ 34، المحجوب محمد: 5/ 578، المحجوبي علي: 6/ 288، المحفوظ الزواوي محمد: 2/ 407، محفوظ محمد: 5/ 303، 575، 7/ 129، محمد الأمير الكبير: 1/ 20، محمد باشا: 1/ 235، 230، 2/ 286، محمد باشا بن عثمان: 1/ 253، محمد باشا (تونس): 7/ 337، محمد باي: 2/ 230، محمد بن حسين (باي): 1/ 437، محمد بن الشريف (السلطان): 1/ 445، محمد بن عبد الله: 5/ 511، محمد بن عثمان (الباي): 1/ 257، محمد الحاج (مرابط): 1/ 440، 483، محمد الخاص (السلطان): 8/ 198، محمد الخاص (سلطان عثماني): 5/ 504، محمد خان (السلطان): 2/ 161،

_ محمد خوجة الحاج: 1/ 237، 283، محمد خوجة الدولاتلي: 2/ 189، محمد (السلطان العثماني): 2/ 108، محمد الشريف (سيدي): 1/ 278، محمد الشيخ (السلطان): 1/ 498، محمد (صلى الله عليه وسلم): 1/ 32 63، 66، 68، 69، 14 99، 100، 101، 103، 104، 105، 108 - 110، 235، 347، 353، 447، 480, 497، 508 - 510، 515، 520، 2/ 24، 27، 28، 60، 81، 112، 121، 123، 133، 137، 140، 141، 146، 172، 174، 176، 186، 189، 221، 222، 240، 244، 245، 246، 248، 249، 250، 281، 323، 326، 327، 328، 329، 342، 347، 360، 387، 389، 392، 412، 417، 419، 423، 424، 437، 444، 3/ 140، 4/ 10، 16، 17، 19، 23، 39، 43، 59، 65، 67، 69، 88، 90، 95، 96، 120، 136، 144، 174، 175، 176، 193، 238، 240، 241، 243، 257، 276، 282، 288، 363، 5/ 339، 345، 341، 434، 450، 566، 6/ 113، 115، 116، 117، 168، 311، 323، 350، 357، 361، 362، 429، 431، 452، 7/ 9، 30، 44، 65، 66، 97، 136، 137، 138، 146، 161، 170، 174، 176، 186، 291، 313، 314، 341، 8/ 22، 24، 48، 105، 123، 130، 149، 206، 235، 240، 290، 309، 316، 327، 338، 339، 341، 423، 424، محمد عثمان باشا: 1/ 29، 240، 334، 344، 372، 425، 2/ 228، 7/ 418، محمد علي باشا (والي مصر): 1/ 20، 164، 452، 453، 2/ 377، 3/ 406، 5/ 515، 6/ 24، 183، 215، 442، 7/ 104، 107، 206، 207، 363، 460، محمد الكبير: 1/ 19، 20، 143، 154، 168، 181، 183، 184، 194، 200، 207، 208، 211، 229، 236، 239، 250 - 252، 255، 258، 260، 275، 280، 281، 292، 293، 294، 296، 298، 299، 304، 310، 314، 316، 326، 328، 329، 336، 420، 469، 512، 2/ 26، 84، 171 - 175، 190، 201، 242، 250، 254، 255، 258، 259، 282، 283، 341، 343، 346، 347، 379، 385، 419، 440، 446، 5/ 101، 103، 327، 340، 7/ 360، محمود: 1/ 233، محمود الثاني (السلطان): 1/ 452، 453، 7/ 255، 398، 8/ 87، 157، 241، 264، 407، محمود (الجزائري): 5/ 503، محمود خان (السلطان): 1/ 147، محمود عبد الحليم: 4/ 65، 7/ 313، 8/ 432،

_ المحمودي سوف: 5/ 579، المحمودي غومة: 5/ 579، محيي الدين علي: 4/ 533، محيسن محمد سالم: 7/ 35، المختار عمر: 8/ 198، 278، المختاري: 1/ 447، 2/ 81، المختاري بن عودة: 5/ 511، المختاري مصطفى: 7/ 329، المختالي أبو القاسم: 3/ 125، المخفي محمد: 7/ 380، مخلوف (سيدي): 1/ 264، مخلوف علي: 3/ 44، مخلوف محمد: 2/ 383، 4/ 192، 5/ 618، 7/ 473، مدحت باشا: 4/ 510، 6/ 422، المدني: 6/ 153، المدني إبراهيم سراج: 7/ 197، المدني أحمد توفيق: 1/ 14، 29،، 159، 281، 284، 334، 344، 362، 372، 417، 425، 2/ 103، 405، 420، 3/ 7، 100، 248، 249، 250، 259، 273، 4/ 126، 131، 418، 419، 430، 448، 461، 492، 498، 525، 537، 5/ 16، 61، 201، 202، 206، 207، 244، 245، 246، 247، 251، 252، 253، 255، 260، 264، 267، 271، 273، 276، 280، 282، 283، 286، 287، 288، 294، 296، 310، 311، 312، 313، 316، 421، 422، 423، 425، 6 2 4، 427، 429، 432، 455، 491، 582، 600، 6/ 138، 372، 406، 432، 7/ 61، 106، 168، 170، 265، 304، 306، 308، أ 31، 315، 329، 338، 354، 402، 415، 417، 419، 420، 421، 423، 434، 457، 458، 8/ 28، 67، 69، 70، 72، 94، 102، 107، 115، 116، 121، 22 1، 143، 173، 224، 225، 230، 231، 260، 267، 277، 285، 306، 416، 417، 430، 456، 457، 458، 459، 460، المدني بن خليفة: 5/ 575، 7/ 73، المدني بن الشيخ الديسي: 7/ 258، المدني سراج الدين: 7/ 59، المدني ظاهر الوتري: 7/ 56، المدني (عائلة): 5/ 490، المدني علي بن ظافر: 5/ 312، 575، المدني علي بن ظاهر: 7/ 42، 72، مدني فضيلة: 8/ 471، 472، المدني (قائد): 6/ 205، المدني محمد أحمد: 4/ 125، المدني محمد ظافر: 4/ 123، 124، 125، 297، 5/ 503، 504، 513، المرابط محمد: 1/ 426، مراد باشا: 1/ 216، 521، مراد باي: 1/ 217، مراد الثاني: 8/ 439، مراد رايس: 1/ 140، 198، 5/ 70، 7/ 344،

_ مراد علي: 4/ 130، 138، 301، 329، 412، 5/ 64، 65، 200، 6/ 59، 264، 265، 377، 7/ 20، 21، 22، 412، 413، 8/ 270، المرادي محمد خليل: 1/ 291، 361، 431، 2/ 32 - 35، 48، 59، 186، 225، 226، 227، 231، 391، 392، المراشلي: 3/ 232، المراكشي محمد: 1/ 66، المراكشي محمد إبراهيم: 5/ 148، المرايشي سيدي عبد الرحمن: 5/ 66، المربوسي: 1/ 264، مربوني: 3/ 23، مرتاض عبد المالك: 8/ 156، المرتضى: 1/ 241، المرتضى (عائلة): 1/ 399، المرتضى عبد: 1/ 300، المرتضى عبد الرحمن: 1/ 357، 366، 370، 2/ 44، 187، 225، 228، 375، مرحوم عزيز: 6/ 242، مرحوم علي: 5/ 239، 245، 247، 249، 251، 252، 254، 257، 258، 264، 272، 275، مرداسي إبراهيم: 5/ 245، مردوشين: 6/ 134، مرزوق (سيدي): 5/ 136، المرزوقي محمد: 2/ 380، مرسلى سكالي: 6/ 120، المرسلي (سيدي): 8/ 133، مرسلي الطيب (طبيب): 3/ 387، 4/ 408، 409، 5/ 314، 6/ 223، 228، 231، 232، 233، 236، 338، 371، 378، 7/ 208، 209، 237، 252، 265، 266، 267، 271، 272، 8/ 174، المرسي أحمد: 1/ 463، 2/ 388، 4/ 67، 113، 7/ 139، مرسيه جورج = مارسيه، المرصاوي أحمد بن محمد: 2/ 410، المرغولي (الشيخ): 8/ 467، المرغيتي محمد السوسي: 2/ 409، المرموري الحاج بكير: 3/ 242، المرموري حمو بن عيسى: 3/ 273، المرموري الناصر: 5/ 381، مرمول = مارمول، مرنقو: 6/ 440، المرواني علي: 1/ 450، مريبو: 6/ 94، مريم بنت ابن نيكرو: 1/ 236، مريم (السيدة): 6/ 434، المريني إبراهيم: 1/ 141، 306، المريني إبراهيم أبو علي: 1/ 137، المريني أبو الحسن، 7/ 313، المريني أبو علي إبراهيم: 2/ 333، 334، المريني أبو عنان: 7/ 340، 344، المريني أبو يعقوب: 4/ 246، مريوش أحمد: 3/ 13، 101، 140،

_ 4/ 128، 5/ 95، 254، 272، 275، 311، 313، 7/ 281، 8/ 217، 231، 417، المزاجي: 2/ 105، مزارجان 411/ 8: J. Mazard، المزاري إسماعيل: 7/ 356، 359، 364، 380، 381، 382، 385، المزاري بن عودة: 8/ 97، المزاري (سيدي): 1/ 250، المزاري محمد: 6/ 302، 7/ 82، 365، 371، 382، المزغنائي الحاج محمد الحضري: 2/ 192، 193، مزهود أحمد: 7/ 409، مزهودي إبراهيم: 3/ 255، مزيان عبد السلام: 6/ 103، 263، مزياني الحاج علي الحذيفي: 7/ 275، المزيلي محمد: 2/ 129، 130، 325، المزيلي محمد الجوزي: 1/ 21، المسبح بركات: 1/ 432، المسبح عبد اللطيف: 1/ 219، 400، 422، 520، 2/ 86، 87، 125، 139، 140، 187، 405، 406، المستغانمي بدر الدين: 4/ 56، المستغانمي عمار: 1/ 390، 396، 405، 2/ 227، 370، 375، المستغانمي قدور بن سليمان: 4/ 369، 513، المستغانمي محمد: 2/ 162، 258، مسطول محمد: 5/ 269، المسعدي عبد القادر: 8/ 46، المسعود (سيدي): 5/ 128، المسعودي: 2/ 221، 5/ 230، 7/ 32، 321، المسعودي العربي: 6/ 103، 104، 263، 304، مسلم (الإمام): 6/ 61، مسلم بن محمد: 6/ 70، المسناوي محمد: 2/ 34، مسيخ بشير: 6/ 179، المسيسني: 7/ 205، 206، مسيلمة الكذاب: 7/ 332، المسيلي عبد الجليل: 2/ 117، المشدالي أبو القاسم: 1/ 85، المشدالي أحمد: 5/ 48، 49، المشدالي محمد أبو الفضل: 1/ 44، 45، 57، 84، 85، 87، 88، 110، 111، 113، 119، 127، المشرفي أبو حامد (محمد العربي): 1/ 80، 177، 202، 243، 268، 273، 346، 359، 420، 421، 404، 517، 2/ 13، 14، 39، 266، 279، 299، 349، 378، 3/ 77، 110، 237، 4/ 396، 411، 417، 5/ 106، 475، 574، 6/ 281، 7/ 40، 41، 42، 56، 68، 72، 97، 99، 100، 101، 203، 205، 259، 302، 303، 312، 313، 314، 315، 356، 362، 361، 363، 396،

_ 403، 404، 405، 406، 407، 440، 444، 459، 465، 8/ 44، 131، 165، 204، 220، 221، 233، 269، 292، المشرفي الحاج محمد: 7/ 405، المشرفي (عائلة): 3/ 58، 5/ 391، 488، المشرفي عبد القادر 1/ 183، 347، 420، 2/ 36، 132، 133، 195، 198، 338، 378، 385، 3/ 110، 7/ 40، 325، 407، المشرفي محمد بن عبد الله: 8/ 130، المشرفي محمد الطاهر: 2/ 36، 133، 7/ 41، المشرفي محمد المصطفى: 4/ 485، مصالي الحاج: 4/ 185، 5/ 268، 269، 271، 281، 299، 600، 601، 6/ 221، 378، 452، 7/ 211، 216، 8/ 117، 262، 450، مصباح (سيدي): 5/ 50، المصراتي علي مصطفى: 5/ 493، 579، 7/ 397، المصري عبد الرحمن بن سليمان: 8/ 97، المصري علي أبو الحسن: 2/ 55، مصطفى باشا: 1/ 249، 419، 2/ 107، 5/ 46، 71، 347، 349، 405، 413، 7/ 398، 8/ 129، 368، 400، مصطفى باشا (داي): 6/ 392، مصطفى باشا محمد: 3/ 78، 162، مصطفى بن إبراهيم (الأمير): 5/ 347، مصطفى بن الهاشمي = الجزائري، مصطفى خوجة: 1/ 434، 435، مصطفى خوجة بن حسين: 2/ 340، مصطفى (السلطان): 1/ 429، مصطفى محمد المصري: 7/ 59، المصمودي إبراهيم: 1/ 75، 5/ 109، المصمودي أبو محمد عبد السميع: 1/ 125. المصمودي محمد بن أحمد الحسني: 1/ 118، 120، 121. مطاهري ابن الصادق: 3/ 108، 109، المطماطي سليمان: 6/ 304، 7/ 319، المطماطي محمد: 1/ 93، 358، 359 مطيبع الشيخ: 7/ 281، المطيعي محمد نجيب: 7/ 70، 151، المعاتقي بلقاسم بن محمد: 1/ 507، معاوية: 4/ 42، المعتصم (العباسي): 1/ 14، معريش محمد العربي: 3/ 13، 4/ 99، 6/ 351، 391، 7/ 220، المعسكري أحمد بن حنفي: 2/ 178، المعسكري عبد الرحمن: 1/ 21، المعسكري محمد: 2/ 127، المعسكري محمد بوزيان: 1/ 517، معطى الله محمد الزواوي: 8/ 297،

_ معمر علي بن يحيى: 3/ 275، معمر علي يحيى: 5/ 579، المعمري: 8/ 183، معمري أزواو: 8/ 434، 435، 437، معمري بوسعاد: 8/ 434، معمري الحاج علي: 8/ 434، معمري قانة: 8/ 434، المعمري محمد: 5/ 489، 6/ 103، 162، 8/ 33، 434، 435، معمري محمد أرزقي: 8/ 434، معمري مولود: 8/ 175، 185، 321، معنصر محمد الميلي: 7/ 12، 409، 410، معيزة (الشيخ): 3/ 143، 144، 155، المغراوي أبو فارس عبد العزيز: 8/ 464، المغراوي أحمد: 1/ 132، المغراوي أحمد بن زكري: 3/ 96، المغراوي حمزة: 1/ 477، المغراوي محمد بن أحمد: 1/ 202، 504، المغراوي محمد بن عبد الرحمن: 1/ 379. المغراوي محمد بن يحيى: 1/ 95، المغراوي محمد شقرون: 2/ 22، المغربي أبو القاسم: 1/ 480، المغربي أحمد: 1/ 430، المغربي الحاج البشير: 4/ 143، 146، 154، 188، المغربي خليل: 2/ 25، مغربي عبد الغني: 5/ 303، 304، 305، المغربي عبد القادر: 5/ 606، 7/ 174، 177، 8/ 41، 235، المغربي محمد الصالح: 4/ 146، المغربي مسعود: 7/ 39، المغربي يوسف بدر الدين: 8/ 280، المغري (الشيخ): 5/ 135، 136، المغوفل سيدي بوعبدل: 3/ 238، المغوفل محمد (بوعبدل): 2/ 116، 118، 125، 133، 248، 249، 253، 327، 351، 352، المغيلي: 7/ 393، 395، المغيلي (عائلة): 2/ 67، المغيلى محمد بن عبد الكريم: 1/ 44، 53، 54، 55، 57، 58، 71، 88، 97، 119، 121، 123، 132، 134، 151، 450، 451، 519، 2/ 33، 69، 149، 152، 388، 4/ 279، 6/ 361، مفتاح أحمد: 5/ 391، 7/ 84، مفتاح عبد الباقي: 3/ 113، 226، 4/ 191، 235، 499، 5/ 280، 395، 7/ 38، 124، 125، 148، 329، 395، 443، 448، 467، 8/ 239، 420، مفرج (سيدي): 5/ 85، المقايسي حمودة: 1/ 419، 431، 2/ 36 37، 42، 51، 3/ 72، 77، 4/ 371، 489, 524، 5/ 37، 6/ 184، 7/ 54، 288، مقبل محمد بن السعيد: 6/ 166،

_ مقدم مبروك: 5/ 371، المقراني: 1/ 163، المقراني أحمد بومزراق: 3/ 200، 5/ 484، 560، 608، 7/ 103، 403، 428، 444، 8/ 326، 227، 328، 397، المقراني (أسرة): 6/ 341، المقراني الحاج محمد: 3/ 97، 108، 192، 4/ 71، 161، 268، 307، 443، 5/ 558، 559، 560، 6/ 35، 385، 386، 7/ 474، 477، 8/ 107، 177، 326. المقراني الونوغي بومزراق: 7/ 103، 444، المقري: 5/ 488، المقري أحمد: 1/ 45، 59، 61، 81، 131، 177، 294، 296، 303، 349، 354، 357، 369، 371، 372، 375، 378، 401، 402، 406، 426، 428، 453، 454، 522، 524، 2/ 10، 15، 17، 28، 33، 34، 45، 48، 49، 56، 60، 68، 82، 83، 94، 98، 99، 101 - 104، 106، 108، 111، 161، 173، 188، 195، 201، 202، 205، 212، 233، 235، 239، 240، 250، 254، 263، 268، 276، 287، 288، 289، 295، 297، 303، 323، 324، 327، 328، 329، 330، 331، 335، 356، 360، 361، 362، 382، 405، 412، 4/ 248، 7/ 80، المقري سعيد: 1/ 273، 321، 349، 350، 357، 360، 361، 376 - 379، 384، 390، 402، 2/ 12، 17، 28، 32، 33، 42، 45، 103، 120، 121، 122، 205، 206، 213، 214، 223، 266، 420، المقري (عائلة): 1/ 400، 2/ 67، 118، 5/ 488، المقري محمد: 1/ 56،، 427، 2/ 223، 382. المقريزي: 2/ 396، المقطاعجي محمد خوجة: 5/ 124، المقلش محمد: 1/ 221. مقناوة الشريف: 5/ 87، 89، 147، 149، مكارثي: 5/ 349، 6/ 95، 134، المكتابجي محمد خوجة: 1/ 327، 5/ 117، مكتوت الحاج علي: 8/ 389، المكناسي سيدي بن علي: 5/ 511، المكناسي محمد: 1/ 517، المكودي: 2/ 165، مكي الجنيد أحمد: 6/ 233، 8/ 230، 231، 250، المكي الشاذلي: 5/ 274، 500، 601، 616، 6/ 405، مكي طاهر أحمد: 2/ 222، المكي عبد الله: 1/ 120، الملا علي: 1/ 494، 523، الملاري: 1/ 65،

_ الملالي محمد: 1/ 76، 77، 95، 472، 2/ 95، 113، 118، 355، 359، 363، الملطي: 2/ 402، 427، 428، الملوي: 2/ 150، الملياني: 8/ 237، 318، الملياني إبراهيم: 1/ 265، الملياني أحمد بن يوسف: 1/ 25، 188، 191، 290، 459، 461، 462، 464، 465، 466، 469، 473، 476، 477، 495 - 498، 502، 504، 2/ 114، 115، 133,116، 147، 162، 253، 359، 360، 3/ 107، 232، 4/ 67، 78، 79، 88، 104، 113، 298، 488، 492، 493، 5/ 126، 359، 364، 488، 6/ 296، 7/ 73، 147، 148، 395، الملياني الحاج محمد: 6/ 184، الملياني محمد ولد قويدر: 8/ 349، المملوك العربي: 8/ 332، 333، مناصرية يوسف: 3/ 370، 4/ 98، 5/ 483، 576، 6/ 289، 409، 413، 417، 419، المناطقي عبد الرحمن: 1/ 264، منامش: 5/ 452، المناوي محمد الحاج: 1/ 461، 2/ 21، 158، المنجد صلاح الدين: 2/ 409، 7/ 439، المنجرة إدريس: 1/ 428، المنجور أحمد: 1/ 380، 381، 383، 425، 2/ 135، المنداسي سعيد: 1/ 172، 420، 428، 2/ 173، 174، 175، 213، 239، 240، 244، 265، 266، 289، 298، 299، 316، 389، 8/ 464، المنذري: 1/ 106، المنزالي مصطفى: 7/ 359، المنزلي (الشيخ): 4/ 47، المنزلي علي بن عمار: 4/ 48، المنزلي محمد: 7/ 146، المنصور الذهبي (سلطان): 4/ 61، منصور (سيدي): 1/ 266، 271، 5/ 130، 144، منصور عبد الحفيظ: 1/ 7، 2/ 382، منصور علي: 7/ 87، المنصور يعقوب: 4/ 65، المنصوري (ثائر): 8/ 326، المنصوري محمد الطاهر: 7/ 152، المنفلوطي لطفي: 5/ 240، المنقاري يحيى: 2/ 107، 108، منهالندكيم: 3/ 14، منوار عبد الرحمن: 4/ 502، المنور محمد: 5/ 522، 529، المنوني محمد: 1/ 7، 494، 2/ 58، 134، 240، 300، 306، 5/ 576، 578، 7/ 42، 43، 199، 200، 204، 205، 314، 315، 403، 404، 405، 406، 407، 408، 449، 466،

_ المنياري علي: 1/ 325، المنيمش عبد الرحمن: 8/ 468، 469، المهاجري علي: 2/ 442، المهاجي الطيب: 7/ 84، 455، المهدوي عبد العزيز: 2/ 141، المهدي: 1/ 438، 4/ 36، 8/ 324، المهدي السوداني: 3/ 85، 4/ 158، 172، 340، 405، 4/ 264، 327، 5/ 233، 508، 510، 519، 550، 6/ 77، 7/ 405، المهدي الشيخ محمد (السلطان): 1/ 424، 435، المهدي الشيعي: 7/ 375، مهدي عبد الحميد: 8/ 117، المهدي عبيد الله: 6/ 47، المهدي عمر: 5/ 420، المهدي محمد: 2/ 300، 301، مهندس: 4/ 413، 6/ 376، موافي: 7/ 144، الموافي محمد إسماعيل: 4/ 133، المواني (با شاغا): 6/ 124، موبا 349/ 5: Maupas، موباسان: 6/ 381، الموبل محمد الحاج: 1/ 325، موت - كابرو ميترو 354/ 7: M. Motte - Caprou، موتاينو: 5/ 138، موتيلا نسكي: 3/ 130، 132، 135، 141، 145، 146، 148، 149، 150، 152، 153، 156، 188، 390، 391، 4/ 234، 5/ 326، 339، 6/ 15، 22، 27، 32، 38، 39، 40، 53، 55، 60، 69، 99، 102، 171، 390، 7/ 108، 109، 8/ 32، 34، 115، 428، موجان 488، 487/ 5:: Maugin، موجان (ضابط): 4/ 118، 198، المورالي الشاذلي: 3/ 242، 274، المورالي محمد: 5/ 488، موران مارسيلا 40، 28/ 8، 109، 105/ 7، 100، 328، 26/ 6، 536، 535، 533/ 4، 99/ 3:. M Morand، مورقان: 2/ 447، مورقان جورج: 1/ 140، 151، 198، مورقن: 5/ 8، موريل جون: 3/ 43، 6/ 339، موريلي: 6/ 83، مورينو: 6/ 285، موزدروس باي: 6/ 285. موزينو: 5/ 452، موساوي جوهر: 8/ 180، موسوليني: 6/ 376، الموسوم (الميسوم) احمد المختار: 3/ 233، 4/ 73 - 76، 7/ 136، 199، الموسوم عبد الرحمن: 4/ 76، 81، الموسوم محمد: 3/ 53، 82، 171، 219، 227، 228، 229، 231، 232، 4/ 9، 10، 67 - 73، 76، 77، 80، 7 11، 124، 170، 171، 293، 312، 313،

_ 6/ 171، 7/ 66، 135، 137، 141، 142، 151، 199، 366، 443، 8/ 233، 239، موسى (د كتور): 7/ 237، 265، 273، موسى (سيدي): 3/ 197، موسى (قائد): 5/ 58، موسى محمد العربي: 7/ 74، موسى وعلي الشريف: 7/ 476، موهل: 6/ 72، الموفق عبد العزيز: 1/ 420، موقيرو: 5/ 411، مول لويس 296/ 7: MoII، مولاي حسن: 1/ 270، 4/ 94، مولاي الطيب (الشيخ): 4/ 192، مولاي (مقدم): 4/ 80. المولدي (الشيخ): 4/ 305، 506، المولى إسماعيل: 1/ 367، 426، 439، 2/ 426، مولى الكاف الأخضر (سيدي): 6/ 53، مولى الهدبة سيدي يحيى: 6/ 52، موليراس: 5/ 580، 6/ 15، 28، 32، 97، موليه قي 450/ 6: Guy Mollet، موليير 466/ 5: Moliere، مونان: 2/ 177، مونتسكيو: 7/ 164، مؤيد صلاح: 8/ 224، 229، المويلحي إبراهيم: 4/ 123، ميتران فرنسوا: 6/ 450، ميخاييله: 4/ 67، ميرا: 6/ 101، ميرانت جان 332، 330، 174، 170، 60/ 4، 450، 448، 442، 440، 439، 434، 426، 425، 424، 419، 416، 409، 405، 400، 396، 395، 381، 367، 363، 361، 360، 354، 349، 348، 333، 332، 330، 2 83، 228، 213، 117، 91، 90/ 3: (، Mirante، 5/ 187، 199، 200، 205، 206، 207، 222، 242، 601، 6/ 59، 282، 354، 353، 396، 397، 7/ 431، 432، 458، 467، 8/ 215، 355، 356، 357، 358، 360، 361، 362، 363، 364، 365، 366، 370، 371، 390، 410، 417، 444، ميرسان: 5/ 411، ميرسييه: 8/ 392، 398، 415، ميرسييه أرنست 87، 85، 83، 82، 81، 79/ 5، 538/ 4، 348، 84/ 2، 521، 394، 264، 214، 213/ 1: E. Mercier، 89، 149، 334، 6/ 22، 32، 52، 64، 92، 320، 349، 350، 7/ 108، 123، 182، 185، 189، 272، 416، 343، 444، ميرسييه ج: 8/ 397، 414، ميرسييه ستانسلاس: 6/ 64، ميرسييه غوستاف: 3/ 309، 310، 6/ 55، 58، 87، 89، 94، 95، 97، 100، 102، 103، 104، 263، 7/ 336، 337، 8/ 398، 413،

_ ميرشيه: 7/ 462، الميرغني محمد الصالح: 4/ 251، ميزمورطو الحاج حسين: 1/ 140، 234، 235، 244، 254، 758، 277، 278، 2/ 170، 274، 371، 3/ 40، 58، 5/ 43، 44، 208، ميزون 163/ 6: Mizon، ميسبلي أرمون: 6/ 40، 7/ 109، 8/ 35، الميسوم = الموسوم، ميسيا 37/ 4: Maissiat، ميشالاك لورنس: 8/ 378، 380، 381، ميشيل: 4/ 333، 335، 451، ميشيل شار: 3 ل/ 244، ميشيل (صاحب القرار): 8/ 28، ميغني محمد: 7/ 50، ميقريه (جنرا) Meygret ل: 5/ 369، ميكيافيلي: 5/ 538، الميلي علي بن محمد: 7/ 14، 41، 96، الميلي عمار: 7/ 346، الميلي محمد مبارك الهلالي: 1/ 14، 3/ 148، 251، 255، 4/ 21، 22، 109، 240، 338، 5/ 254، 258، 310، 491، 528، 550، 6/ 321، 375، 7/ 11، 12، 173، 177، 178، 179، 180، 181، 248، 249، 250، 251، 278، 304، 305، 306، 308، 312، 338، 354، 396، 409، 410 - 417، 420، 423، 424، 434، 8/ 63، 69، 74، 95، 102، 104، 108، 229، 232، 267، 306، 436، الميلي محمد إبراهيم: 7/ 417، ميليس جورج: 5/ 304، مينوري (راهب)، 6/ 131، مينييه (جنرا) ل: 6/ 130، 131، 135، ميو: 4/ 413، ميو ليون: 4/ 538، (ن) النابتي محمد الخرشي: 7/ 102، النابلسي عبد الرحمن: 3/ 78، نابليون (أمير): 8/ 409، نابليون الأول: 4/ 61، 5/ 40، 514، 532، 6/ 9، 111، 148، 150، 151، 271، 402، 407، 417، 8/ 243، نابليون الثالث: 3/ 84، 317، 326، 402، 341، 409، 4/ 72، 377، 402، 435، 442، 447، 448، 455، 457، 464، 516 - 520، 5/ 72، 129، 137، 188، 190، 217، 218، 224، 229، 230، 307، 442، 444، 516، 517، 534 - 538، 544، 545، 547، 559، 560، 6/ 26، 50، 63، 87، 114، 118، 119، 124، 125، 126، 127، 160، 182، 187، 188، 211، 219، 220، 224، 251، 311، 312، 316، 347، 369، 380، 387، 399، 400، 432، 438، 441، 443، 444، 7/ 98، 159، 474، 475، 476، 477، 8/ 11، 39، 53، 54، 88، 92، 93، 114، 194، 242،

_ 243، 244، 261، 284، 342، 345، 381، 406، 409، ناجي (سيدي): 2/ 54، 7/ 337. نارون عمار: 6/ 327، 431، 7/ 216. نازلي (الأميرة): 5/ 314، الناصح (كاتب): 7/ 35، الناصر أبو راس (بوراس): 1/ 20، 21، 25، 67، 111، 143، 165، 167، 183، 184، 199، 203، 205، 208، 209، 222، 253، 273، 276، 280، 281، 282، 285، 294، 296، 297، 300، 316، 325، 337، 346، 347، 349، 354، 357، 384، 398، 401، 418، 432، 468، 517، 2/ 10، 12، 18، 19، 22، 23، 27، 29، 35، 36، 39، 42، 43، 46، 51، 61، 68، 76، 100، 101، 123، 129، 133، 146، 148، 153، 164، 166، 169، 173، 174، 176، 177، 178، 179، 180، 182، 185، 224، 225، 226، 227، 228، 229، 230، 231، 233، 239، 243، 245، 248، 249، 260، 261، 262، 283، 296، 312، 316، 317، 322 - 327، 328، 333، 338، 341، 344، 345، 346، 347، 350، 353، 358، 374، 376 - 381، 385، 389، 390 - 393، 405، 423، 3/ 110، 228، 4/ 247، 501، 5/ 26، 112، 230، 340، 7/ 40، 41، 43، 53، 61، 320، 376، 432، 334، 369، 370، 371، 372، 375، 377، 378، 384، 407، ناصر الدين شاه: 5/ 550، الناصر عبد الرحمن: 6/ 183، ناصر محمد: 5/ 235، 240، 264، 276، 283، 294، 313، 381، 382، 7/ 283، 168، 8/ 72، 73، 134، 166، 200، 295، 296، 299، 440. الناصر المولى (سلطان): 5/ 91، الناصري أحمد السلاوي: 1/ 181، 360، 445، 473، 498، 510، 2/ 193، الناظور مصطفى: 8/ 472، نافع (إمام القراءات) 10/ 120، نايت عنان محمد بن بلقاسم: 4/ 143، 188، نايت فرنسيس: 1/ 145، 172، 173، 215، نائل (سيدي): 6/ 52، 7/ 449، نائلة: 5/ 241، النبراوي زيزي: 6/ 353، النبهاني: 7/ 141، النبهاني يوسف: 4/ 506، نتموسني ابنة عمر: 5/ 337، نجا مصطفى: 5/ 566، النجار أبو الحسن: 7/ 25، النجار صا لح: 5/ 280، النجار محمد: 5/ 427، 7/ 287، 8/ 139، 140، 449، النجاري (سيدي): 3/ 229،

_ النخلي محمد: 4/ 505، 7/ 392، الندرومي قدور: 8/ 310، الندرومي يوسف: 1/ 89، النزاوي سالم: 1/ 507، نسومر فاطمة: 3/ 97، 193، 4/ 140، 143، 5/ 78، 8/ 322، النشا سيدي محمد: 5/ 127، نصيح: 5/ 248، 249، نصيف محمد: 7/ 178، نعمان أحمد باشا: 2/ 46، نعمان (بطل): 8/ 128، نعمة (بطلة): 8/ 128، نعيمة ميخاييل: 8/ 295، النعيمي: 5/ 391، النعيمي نحيم: 1/ 31، 4/ 127، 7/ 441، النفاتي عبد العزيزة 1/ 422، النفزي عبد الله: 1/ 436، 2/ 193، النفزي محمد التلمساني: 2/ 123، النفزي محمد الفاسي: 2/ 39، نفيسة بنت علي: 8/ 367، نقاش فرج: 6/ 158، نقاش مارون: 8/ 128، النقاوسي أحمد: 1/ 84،، 89، 90، 91، 2/ 112، النقاوسي عبد الرحمان: 1/ 90، النقاوسي محمد: 1/ 90، 291، 319، النقشبندي خالد: 8/ 124، نقلي عبد الله: 8/ 452، نقولا (قديس): 6/ 146، نمور: 5/ 53. النميلي: 1/ 264، 3/ 23، نهليل محمد: 4/ 91، 121، 6/ 30، 55، 103، 162، 233، 7/ 447، 8/ 33، نوا (نوح) مردخاي: 1/ 140، 151، 152، 173، 174، 175، 178، 179، 446، نواريه: 385، 283/ 8: Noiret، نوبل 538/ 5: Nobel، نوح: 4/ 149، 175، 176، 7/ 66، 166. نوح مردخاي 493/ 5:: M. Noah، نور الدين (الشيخ): 5/ 301، نور الدين عبد القادر: 1/ 69، 293، 300، 319، 358، 366، 390، 395، 403، 405، 2/ 179، 300، 305، 321، 322، 366، 367، 372، 373 - 376، 3/ 104، 4/ 364، 5/ 240، 241، 568، 6/ 58، 59، 104، 179، 434، 7/ 297، 344، 345، 347، 8/ 168، النوري: 7/ 35، نوري بيك: 5/ 552، النوري علي: 7/ 38، نوشي أندري: 1/ 174، 248، 276، 333. نونان توماس 14/ 3: Th. Noonan، النووي: 1/ 111، النوي مسعود: 5/ 393، نويرة الهادي: 7/ 216، نويل ج. 411/ 7: Noel، نويهض عادل: 2/ 382، 4/ 499، 7/ 316، 335، 442، 8/ 169،

_ ني Ney (ضابط): 5/ 518، النيار محمد: 1/ 405، 406، 449، 2/ 370، النيال محمد البهلي: 3/ 81، 4/ 48، 56، 127، 129، 131، 154، 222، 274، 5/ 84، 7/ 143، نيبتون 404/ 5:: Neptune، نيتشه: 3/ 302، نيتمون الفريد: 6/ 387، النيفر محمد الشاذلي: 1/ 51، نيقرييه (ضابط): 4/ 110، نيقولاس نيقولاي: 1/ 170، 172، 173، نيل (مارشا): 6 ل/ 125، 126، نيوتن: 2/ 429، الهادفي الحاج الشافية: 3/ 228، هادمار 23، 22/ 6، 320/ 3: Hadmart، هادمان:: 6/ 15، الهادي (الشيخ): 3/ 107، 149، هاردي أوغست: 7/ 296. هاردي جورج: 3/ 364، 6/ 98، 7/ 209، هارون الرشيد: 6/ 271، 8/ 137، 375، هارون عبد السلام: 1/ 291، الهاروني محمد وارث: 2/ 140، هاس ويليام: 1/ 508، هاشم لبيبة: 5/ 238، الهاشمي بن إبراهيم = الشريف الهاشمي، الهاشمي حسني: 4/ 506، 7/ 393، الهاشمي محمد: 7/ 139، 155، 156، الهاشمي محمد بن: 2/ 115، 116، الهاشمي محمد بن عبد الرحمن: 5/ 527، 528، هافاس: 4/ 340، هالي الحفناوي: 3/ 255، 8/ 95، هالي العبيدية: 3/ 14، هامان: 2/ 421، هامر 8: Hammer / 439، الهاملي = القاسمي هانوتو: 3/ 29، 47، 55، 180 - 183، 187 - 189، 196، 201، 203، 204، 205، 207، 209، 219، 4/ 30، 144، 302، 358، 453، 5/ 79، 178، 204، 326، 6/ 48، 95، 120، 171، 304، 307، 314، 324، 340، 344، 7/ 160، 8/ 31، 32، 37، 38، 62، 327، هافي بن يصدور: 7/ 319، هاني (هني؟) سليمان: 4/ 52، 53، هايدو: 1/ 138، 139، 141، 146، 211، 212، 247، 253، 5/ 11، 13، 20، 27، 45، 127، 142، 6/ 8، 8/ 362، 401، الهبري محمد: 4/ 117، 118، 119، 181، 297، 312، الهبري محمد بن سعيد: 2/ 145، 146، هتلر: 6/ 376، 398، 401، 8/ 297، هجرس الصادق: 8/ 187، هرموس: 2/ 304، 424، هادل (سيدي): 5/ 130،

_ هلال عمار: 3/ 235، 5/ 313، 320، 497، الهلالي تقي الدين: 5/ 583، الهمذاني بديع الزمان: 8/ 150، 153، الهمهام محمد: 1/ 485، الهنتاتي عمر أبو حفص: 3/ 265، الهنتاتي عيسى البوسعيدي: 1/ 295، الهندي أحمد بن عبد الله: 4/ 192، هنري: 3/ 343، هنري الرابع: 6/ 40، هنقلي: 5/ 408، 409، الهواري (سيدي): 5/ 147، الهواري محمد: 1/ 45، 51، 74، 88، 89، 96، 101، 459، 461، 462، 464، 469، 504، 2/ 132، 173، 382، هوجو فيكتور = هوقو، هوداس أوكتاف 401، 388، 313/ 3، 440، 341، 84، 26/ 2، 481، 469، 272، 208، 147/ 1:: O. Houdas، 4/ 408، 531، 533، 5/ 146، 6/ 15، 19، 23، 24، 26، 27، 29، 32، 33، 56، 7/ 107، 8/ 15، 24، 247، 391، هودسون ويليام: 2/ 386، 8/ 36، هوقو فيكتور 202/ 8، 268، 260/ 7، 384، 226، 197/ 6، 411/ 5 H. Hugo، هوقي (فنان): 8/ 414، هولسنقر دونالد: 1/ 156، 181، هويدي يحيى: 1/ 30، 31، 52، هويسمان جورج: 8/ 413 ض، 413، هويغ: 6/ 55، هيبقراط: 7/ 247، هيبوليت سان: 1/ 260، هيرادور (قنصل): 5/ 493، هيرزيق ادوارد 434/ 8: E. Herzig، هيرلوك: 3/ 362، هيقل (شاعر): 8/ 201، هيقلمان: 5/ 416، هيقوي اندرو 183/ 8، 272/ 5: A.A. Heggoy، هيلتون - سيمسون: 7/ 243، 244، 245، 246، 247، 248، 261، 262، هيليير: 8/ 388، (و) الوادي آشي: 1/ 131، وادي مالك: 8/ 185، وارث محمد: 1/ 320، 485، وارث محمد الهاروني: 2/ 83، الوارجلاني أبو زكرياء: 7/ 388، الوارزقي: 7/ 26، الوارزقي محمد الحسن: 5/ 266، وارنييه Warnier (الدكتور): 3/ 317، 5/ 218، 223، 6/ 48، 49، 67، 81، 85، 121، 280، 281، 282، 285، 304، 307، 311، 319، 322، 317، 438، 440، 446، 7/ 321، 8/ 30، 39، واري مالك: 5/ 241، واشقا محمد: 7/ 321، واشنطن جورج: 1/ 168.

_ واضح (سيدي) بن عاصم: 1/ 74، واضح محمد: 1/ 462، واضح محمد الشيخ: 1/ 461، الواعزاني أحمد: 1/ 424، واعزيز محمد: 3/ 77، 4/ 524، 7/ 54، 72، واغنر 35/ 5: Wagner، الوافي محمد عبد الكريم: 5/ 553، الواقدي: 1/ 305، 7/ 354، واكر شارل: 1/ 446، والي وليد الحاج: 8/ 344، واني محمد عبد الكريم: 6/ 166، واهل: 3/ 348، 356، وائل: 7/ 322، وتين: 7/ 393، 394، الوجديجي إبراهيم: 2/ 81، الوجديجي محمد بن موسى: 1/ 432، وجدي محمد فريد: 7/ 191، الوراف محمد: 7/ 354، الورتلاني الحسين: 1/ 29 - 94، 139، 159، 176، 180، 228، 248، 251، 252 - 254، 264، 267، 268، 275، 280، 284، 290، 296، 297، 301، 310، 317، 325، 337، 349، 400، 401، 405، 432 - 443، 445، 454، 470، 472، 475، 478، 479، 488، 489، 493، 500، 503، 511، 513، 2/ 42، 46، 49، 50، 62، 92، 95، 96، 97، 112، 116، 130، 131، 146، 147، 157، 172، 173، 199، 200، 224، 225، 228، 244، 282، 312، 321، 323، 327، 366، 374، 382، 384، 388، 390، 391 - 3/ 128، 185، 201، 211، 4/ 40، 5/ 87، 88، 89، 364، 568، 7/ 306، الورتلاني الفضيل: 3/ 258، 5/ 498، 500، 602، 609، 7/ 216، 322، 8/ 299، الورجلاني أبو يعقوب يوسف: 2/ 153، الورززي أحمد: 1/ 276، 295، 329، 403، 443، 516، 2/ 12، 49، 92، 152، 227، 229، 272، 309، 310، 426، ورش: 1/ 342، الورنيدي أحمد: 1/ 477، الورتد غيري محمد بن عبد الجبار: 1/ 125، وريد ة: 8/ 390، الوزان: 1/ 515، الوزان الحسن (ليون الإفريقي): 1/ 42، 54، 137، 172، 173، 176، 178، 179، 181، 182، 274، 280، 318، 328، 515، 2/ 334، 7/ 345، 8/ 362، وزان شريف: 5/ 578، الوزان عمر: 1/ 218، 273، 326، 349، 357، 379 - 384، 390، 391، 400، 427، 450، 472، 486، 492، 500،

_ 501، 522، 2/ 15، 16، 33 42، 73، 80، 96، 113، 125، 356، 5/ 89، الوزاني أحمد: 1/ 515، الوزاني أحمد بن الحسين: 4/ 103، الوزاني أحمد بن العربي: 5/ 577، الوزاني التهامي: 4/ 100، 101، الوزاني الحاج العربي: 4/ 95، 98، 100، 101، 102، الوزاني الشريف عبد الله: 1/ 516، الوزاني الطيب: 1/ 265، 510، 515، 4/ 95، الوزاني عبد السلام: 4/ 95، 99، 100، 101، 326، الوزاني علي: 10/ 515، الوزاني علي بن عبد اسلام: 4/ 96، الوزاني علي بن محمد: 4/ 101، الوزاني محمد: 4/ 100، الوزاني المهدي: 4/ 511، 7/ 139، الوزير محمد: 8/ 79، الوسلاتي الهادي: 1/ 172، الوشتاتي أبو القاسم: 1/ 44، وطار الطاهر: 8/ 145، الوطاسي أحمد: 1/ 424، الوغليسي سيدي يحيى: 5/ 364، الوغليسي عبد الرحمان: 1/ 88، 91، 115، ولد بونطيرو عمر: 6/ 205، ولد حمو البشير: 8/ 330، ولد دادة مختار: 5/ 389، ولد رويس بوعلام: 5/ 577، ولد الزاوي: 8/ 466، ولد السعيد محمد: 6/ 170، 177، ولد سيدي إبراهيم: 7/ 395، 8/ 37، 38، 39، ولد سيدي السعيد محمد: 7/ 90، 91، ولد سيدي السعيد محمود: 8/ 467، ولد الشيخ محمد: 8/ 175، 180، ولد الصوفي الحاج محمد: 4/ 115، ولد عودية: 6/ 431، ولد الفكاي علي: 5/ 229، 6/ 183، ولد قاضي أحمد: 7/ 364، 365، 383، ولد القاضي محمد: 6/ 203، 204، ولد قاضي محمد (عقيد): 4/ 411، ولد قادي أحمد: 7/ 473، 474، ولد مصطفى علال: 3/ 118، ولد منور: 8/ 466، ولد النجاري سيدي محمد: 5/ 137، ولعة بلقاسم: 7/ 267، الولهاصي أحمد: 2/ 121، 122، الولي دادة: 4/ 395، 5/ 62، 113، 115، وليد الأصنام سي محمد: 8/ 344، وليد الأكحل سيدي عدى: 8/ 472، وليد ابن زعموم: 8/ 344، وليد سيدي السعيد: 8/ 344، وليد محمد: 8/ 318، الونشريسي أحمد: 1/ 25، 44، 55 - 57 -

_ 78، 111، 121 - 123 - 132، 153، 177، 377، 424، 2/ 12، 16، 32، 33، 45، 68، 72، 74، 80، 404، 410، 437، 439، 5/ 372، 6/ 358 - 361، 7/ 96، الونشريسي سحنون: 2/ 50، 269، 287، 404، 406، 408، 409، 415، الونشريسي (عائلة): 1/ 400، 2/ 67، الونشريسي عبد الواحد: 1/ 125، 377، 424، 426، 2/ 45، 68، 69، 214، الونيسي إبراهيم: 3/ 13، 23، 111، 78، 337، 374، 405، 408، 411، 416، 4/ 400، 416، 418، 419، 420، 421، 441، 5/ 221، 226، 227، 228، 230، 536، 6/ 139، 188، 190، 7/ 81، 228، 476، 478، 8/ 56، 163، 243، 244، الونيسي أحمد: 3/ 130، الونيسي حمدان: 1/ 404، 3/ 70، 125، 128، 129، 130، 131، 132، 133، 134، 135، 136، 137، 138، 139، 140، 141، 142، 144، 157، 159، 197، 200، 272، 4/ 134، 369، 384، 5/ 82، 367، 486، 529، 590، 603، 6/ 232، 333، 7/ 10، 57، 61، 70، 314، 409، 8/ 77، 120، الونيسي زهور: 8/ 145، الونيسي عبود: 3/ 134، 157، الونيسي علي: 2/ 138، 228، 3/ 125، 130، 7/ 44، 314، الونيسي محمد الطاهر: 8/ 231. الونيسي محمد بن علي: 7/ 81، وهاب صالح بن سعيد: 3/ 154، وهبي أحمد: 8/ 473، وهبي أفندي: 7/ 196، وهبي يوسف: 5/ 427، 579، 8/ 138، 139، 140، الوهراني أحمد: 2/ 163، الوهراني محمد بن أبي جمعة: 1/ 25 55 - 338، الوهراني محمد شقرون: 2/ 33، 80، 81، وولف جان 414/ 8، 61/ 5: J. Wolf، ويبر ماكس 217/ 7، 75/ 6، 525/ 5: M. Weber، ويرجسكي: 5/ 407، ويس (جنرال): 6/ 404، 405، ويل فيكتور 96، 95/ 6، 407، 406، 79/ 5: V. Waile، ويلسون: 3/ 11، 13، 14، ويلسون ميريدت: 5/ 353، ويلسون وودرو: 182/ 8: W. Wilson، ويليام الثاني: 5/ 612، وينتر هالتر: 8/ 414، وينفين (جنرا) ل: 4/ 92، (ي) الياجوري إبراهيم: 2/ 151، الياجوري عبد القادر: 3/ 217، 235، 255، 4/ 55، 56، 336، 5/ 490، 8/ 108، 117،

_ اليازجي: 5/ 611، ياسمين (سيدي): 5/ 85، ياسين كاتب: 6/ 452، 7/ 440، يافيل أدموند: 5/ 315، 316، 424، 431، 447، 448، 455، 460، 466، 8/ 455، 460، 466، الياقوت (سيدي): 5/ 128، ياكونو ايكزافييه: 6/ 409، 410، 412، 413، 414، 415، 421، 441، يامنة: 8/ 318، الياوراسي أبو النور: 1/ 84، اليبدري محمد بن عبد الرحمن: 2/ 69، 70، 71، 72، اليتورغي الطاهر: 7/ 64، اليجري السعيد: 8/ 101، اليجري محمد السعيد: 7/ 62، 449، يحيى آغا: 5/ 67، يحيى (سيدي): 1/ 291، يخلف (سيدي): 1/ 485، اليدالي محمد السعيد: 6/ 180، 235، اليراثني أبو القاسم: 2/ 64، اليراثني محمد: 7/ 36، اليراثني وليد الشيخ أعراب: 5/ 479، يزيد (ابن سلطان المغرب): 2/ 259، يعرب: 6/ 326، يعرب بن قحطان: 7/ 341، يعقوب (سيدي): 1/ 264، يعقوب (الشيخ) - ثائر -: 4/ 179، يعقوب يوسف: 6/ 16، اليعقوبي عبد الرحمان: 1/ 467، 477، اليعلاوي محمد الطيب: 7/ 263 280، اليعلاوي الهاشمي: 7/ 27، يغمراسن (السلطان): 1/ 74، 5/ 108، 109، 8/ 394، يلس جلو: 5 ل/ 433، اليلولي عبد الرحمن: 1/ 266، 3/ 97، 182، 187، 188، 189، 190، 191، 202، 206، 208، 211، 212، 221، 233، 390، 5/ 361، 491، 7/ 36، 64، 281، 8/ 321، يمينة بنت الحاج مهدي: 5/ 452، 8/ 470، الينبوعي = التماسيني، الينبوعي بوشطة: 4/ 120، الينبوعي الحاج عيسى: 4/ 219، الينبوعي مولاي أحمد: 4/ 120، يهودا: 1/ 62، 68، 78، 84، 88، 89، 96، 115، 131، 375، 383، 2/ 31، 73، 86، 365، 412، 416، يوب أحمد: 5/ 114، يوبا (جوبا): 8/ 411، 415، يوجيني (إمبراطورة): 4/ 518، 5/ 545، يوسف باشا: 1/ 154، 191، 194، 204، 217، 364، 368، 371، 372، 374، 412، 413، 429، 470، 484، 2/ 53، 54، 61، 191، 7/ 337، يوسف (جنرال): 4/ 61، 115، 210،

_ 6/ 151، 216، 416، 7/ 296، 8/ 400، يوسف (سيدي) الزنجي: 5/ 62، يوسف علي: 5/ 603، اليوسفي بلحسن: 1/ 507، يوسفي عبد القادر: 4/ 334، اليوسي أبو علي: 1/ 426، يوغرطة: 7/ 304، 310، 8/ 186،

فهرس الأماكن

2 - فهرس الأماكن

_ (أ) الآستانة: 5/ 504، 599، 7/ 470، 8/ 218، آسيا: 4/ 124، 133، 260، 5/ 507، 518، 6/ 75، 295، 319، 431، آسيا الصغرى: 1/ 197، 406، 2/ 368، 370، 5/ 501، 6/ 134، آفلو: 4/ 47، 5/ 259، 6/ 241، 7/ 25، 215، 217، 8/ 82، 156، 359، 454، اقبو: 1/ 266، 297، 3/ 29، 149، 182، 186، 193، 194، 196، 213، 4/ 31، 62، 160، 170، 178، 5/ 125، 361، 364، 6/ 303، 7/ 116، 427، 464، 8/ 74، 296، آن آربر: 1/ 26، 156، آيت إسماعيل: 1/ 266، 306، 509، 2/ 74، 4/ 24، 140، 171، 192، 5/ 125، 6/ 124، 474، 508، آيت إيراثن: 1/ 507، آيت أحمد: 4/ 171، آيت اتسورغ: 3/ 203، آيت ايجر: 3/ 203، آيت جناد: 1/ 266، آيت حيالي: 3/ 190، آيت علي أو محمد: 3/ 187، آيت غوبري: 3/ 203، آيت مرجة: 5/ 124، آيت منصور: 8/ 468، آيت هاشم: 3/ 446، 8/ 369، آيت يحيى: 3/ 203، أبو كرام: 4/ 451، الأبيار: 3/ 75، 5/ 135، 403، 6/ 63، 123، 8/ 337، 403، الأبيار الشاذلية: 4/ 67، الأبيض (سيدي الشيخ): 1/ 510، 6/ 436، 7/ 323، ابن خلدون (مكان): 6/ 88، ابن شيكاو: 3/ 439، ابن عكنون: 5/ 136، 6/ 109، 114، 123، أثيوبيا: 6/ 165،

_ أحمر خدو: 4/ 178، الأخضرية: 3/ 107، 172، 4/ 168، 528، أدرار: 5/ 371، 373، أدنبرة: 8/ 128، الأربعاء: 1/ 264، 3/ 23، 4/ 485، 7/ 102، الأربعاء بني راثن: 3/ 185، 196، 200، 5/ 365، الأردن: 1/ 10، 6/ 295، 7/ 48، 337، أرزيو: 5/ 361، 6/ 84، 7/ 358، 8/ 150، أرض أبو بلح: 5/ 543، 544، 547، 6/ 422، أرمينيا: 6/ 134، أريس: 8/ 257، أزفون: 5/ 364، أزمير: 1/ 224، 368، 431، 2/ 47، 364، 368، 5/ 212، 501، 503، 522، 566، 574، 8/ 147، أستراليا: 8/ 376، إسباليون: 6/ 65، إسبانيا: 1/ 140، 141، 142، 189، 198، 199، 05 2، 206، 09 2، 434، 452، 460، 2/ 241، 273، 338، 340، 5/ 61، 134، 213، 493، 6/ 86، 114، 123، 314، 7/ 269، 383، 384، 421، 8/ 86، 363، 432، 435، إستوكهولم: 4/ 307 510، 7/ 162، 469، 8/ 245، 432، إسرائيل: 4/ 67، 6/ 398، 404، إسطانبول: 1/ 8، 31 38 143، 145، 146، 147، 168، 170، 1 7 1، 186، 191، 192، 241، 259، 285، 287، 289، 292، 296، 364، 365، 387، 388، 393، 398، 399، 407، 409، 429، 433، 434، 440، 5 44، 493، 498، 187، 2/ 17، 30، 38، 47، 103، 105، 107، 108، 9 10، 110، 131، 135، 136، 161، 195، 248، 277، 302، 340، 369، 371، 421، 447، 3/ 6، 108، 4/ 57، 115، 122، 123، 124، 125، 133، 134، 135، 138، 245، 251، 258، 260، 297، 307، 313، 328، 354، 377، 404، 489، 5/ 11، 35، 212، 223، 277، 279، 329، 347، 435، 473، 474، 475، 478، 482، 483، 501 - 506، 513، 515، 516، 518، 524، 529، 537، 550، 552، 553، 558، 561، 562، 565، 568، 575، 597، 602، 604، 6/ 63، 66، 217، 7/ 60، 79، 102، 103، 126، 158، 159، 229، 253، 255، 313، 333، 398، 399، 401، 429، 437، 470، 473، 8/ 215، 250، 254، 263، 268، 290، 294، إسطاويلي: 5/ 30 67، 135، 144، 496،

_ 6/ 71، 109، 110، 147، 7/ 355، 8/ 337،، إسكتدلاندا: 2/ 444، 8/ 128، الإسكندرية: 1/ 31، 44، 68، 168، 2/ 104، 167، 388، 389، 410، 426، 4/ 33، 66، 326، 401، 5/ 22، 328، 442، 481، 482، 495، 496، 499، 502، 537، 543، 544، 546، 577، 586، 603، 6/ 134، 149، 151، 347، 359، 422، 423، 7/ 35، 139، 207، 436، 460، 8/ 21، 274، 407، إسلام آباد: 7/ 28، إشبيلية: 4/ 65، 5/ 107،، 6/ 227، 7/ 269، 8/ 393، 457، أشراقة: 7/ 466، أشير: 7/ 320، أصبهان: 5/ 233، أضنة: 5/ 528، الأطلس: 3/ 213، 214، 5/ 355، 6/ 41، 8/ 32، 60، 170، الأعراض: 7/ 51، أغادير: 1/ 326، 5/ 109، 7/ 251، إغريس: 2/ 126، 129، 130، 353، أغمات: 1/ 66، 318، 423، 512، 2/ 16، الأغواط: 1/ 217، 512، 2/ 193، 261، 346، 386، 3/ 47، 65، 109، 158، 163، 213، 215، 281، 325، 347، 446، 4/ 22، 48، 115، 116، 182، 198، 201، 202، 206، 207، 212، 218، 229، 248، 249، 254، 262، 448، 449، 5/ 99، 175، 199، 279، 282، 375، 389، 490، 572، 604، 6/ 91، 117، 129، 134، 139، 161، 228، 296، 382، 383، 7/ 124، 295، 359، 387، 390، 411، 412، 8/ 36، 251، 308، 317، 363، 368، 382، 389، 436، إفريقيا الشمالية: 6/ 64، 177، 8/ 50، إفريقية: 1/ 77، 78، 107، 125، 164، 171، 179، 198، 286، 304، 306، 2/ 69، 332، 3/ 182، 309، 401، 405، 4/ 32، 50، 124، 125، 126، 192، 194، 195، 218، 223، 226، 227، 228، 232، 235، 237، 245، 251، 252، 261، 278، 280، 303، 339، 344، 413، 469، 496، 531، 5/ 39، 98، 226، 309، 371، 489، 507، 518، 6/ 7، 15، 30، 38، 53، 73، 75، 95، 97، 100، 102، 103، 106، 125، 126، 129، 133، 162، 163، 164، 165، 166، 180، 192، 194، 233، 236، 295، 315، 316، 319، 392، 424، 425، 426، 428، 431، 7/ 53، 190، 209، 256، 297، 302، 316، 340، 341، 470، 8/ 36، 171، 226، 311، 355،

_ أفغانستان: 5/ 514، 6/ 75، أقابلي: 4/ 278، إقلميم: 3/ 193، أقوني: 3/ 192، أكسفورد: 6/ 9، 7/ 245، أكفادو: 3/ 199، الألزاس: 3/ 50، 341، 4/ 214، 6/ 289، 8/ 328، ألمانيا: 1/ 502، 3/ 361، 4/ 52، 54، 55، 92، 93، 121، 185، 186، 187، 212، 216، 243، 336، 379، 5/ 279، 319، 505، 525، 526، 606، 6/ 44، 53، 75، 387، 419، 452، 7/ 103، 104، 376، 8/ 283، 346، 348، أم البواقي: 5/ 263، 476، 477، 480، 8/ 362، أم دوكال: 1/ 483، 6/ 53، أم السنام = الأصنام: 3/ 31، 102، 107، 163، 375، 447، 4/ 377، 387، 440، 474، 526، 5/ 137، 220، 372، 6/ 127، 7/ 284، 443، 444، 8/ 276، 310، 369، أمبواز: 4/ 482، 5/ 340، 385، 526، 532، 539، 557، 558، 6/ 63، 385، 7/ 9، 97، 98، 146، 454، 465، 8/ 92، 194، 234، 279، 290، أمريكا: 1/ 8، 10، 23، 27، 141، 152، 156، 174، 178، 2/ 86، 386، 3/ 11، 13، 261، 4/ 133، 489، 5/ 13، 211، 212، 296، 303، 350، 538، 539، 611، 6/ 275، 290، 419، 7/ 172، 260، 8/ 86، 376، أمريكا اللاتينية: 5/ 461، 7/ 294، أناضوليا: 1/ 16، 139، 154، 185، 186، 189، 191، 215، 429، 2/ 203، 5/ 501، 502، 555، 556، 6/ 300، أندات: 4/ 33، 117، الأندلس: 1/ 9، 16، 17، 41، 46، 47، 54، 55، 57، 66، 78، 84، 111، 123، 125، 127، 129، 133، 134، 141، 142، 148، 151، 155، 159، 175، 197، 209، 230، 231، 238، 239، 240، 43 2، 44 2، 85 2، 286، 7 28، 322، 337، 352، 379، 425، 426، 428، 433، 460، 461، 484، 493، 504، 2/ 15، 81، 158، 218، 219، 221، 222، 227، 232، 255، 260، 303، 324، 329، 330، 331، 336، 345، 346، 361، 363، 381، 401، 446، 3/ 182، 241، 272، 4/ 42، 64، 65، 68، 5/ 7، 53، 107، 115، 116، 117، 153، 156، 157، 161، 164، 175، 185، 208، 396، 442، 444، 580، 618، 6/ 58، 101، 106، 178، 183، 188، 192، 193، 219، 227، 250، 252، 271، 300، 302، 313، 315، 357، 359، 395، 7/ 96،

_ 269، 315، 324، 336، 385، 470، 8/ 37، 124، 169، 291، 355، 357، 363، 375، 393، 394، 399، 401، 427، 432، 435، 457، 459، 461، 462، 475، أندونيسيا: 3/ 280، 5/ 514، 6/ 101، الأنفليد: 5/ 533، إنكلترا: /1 140، 198، 469، 4/ 381، 6/ 413، 7/ 245، 8/ 161، الأهرام: 2/ 286، 5/ 609، الأوراس: /1 42، 218، 284، 408، 521، 2/ 172، 194، 349، 3/ 13، 33، 50، 172، 217، 218، 4/ 47، 147، 154، 155، 156، 167، 178، 186، 209، 299، 305، 308، 319، 368، 5/ 8، 150، 303، 329، 395، 445، 454، 458، 462، 490، 6/ 35، 37، 48، 55، 57، 279، 296، 306، 310، 343، 349، 383، 419، 7/ 116، 129، 130، 151، 173، 243، 246، 248، 261، 262، 277، 335، 380، 403، 409، 428، 8/ 40، 45، 334، 335، 408، أورمامن: 7/ 409، أوروبا: 1/ 49، 139، 141، 151، 152، 164، 165، 166، 168، 169، 175، 198، 451، 460، 482، 2/ 381، 433، 3/ 289، 329، 339، 350، 361، 441، 4/ 27، 133، 313، 427، 5/ 61، 211، 212، 240، 347، 410، 426، 449، 494، 508، 519، 532، 538، 539، 558، 572، 573، 580، 585، 586، 596، 597، 604، 608، 615، 6/ 9، 61، 123، 151، 162، 183، 240، 271، 275، 311، 317، 319، 328، 332، 337، 354، 380، 392، 393، 395، 399، 401، 403، 406، 407، 409، 423، 425، 427، 431، 450، 451، 7/ 103، 166، 168، 170، 177، 237، 245، 246، 253، 272، 308، 397، 398، 400، 471، 8/ 41، 100، 112، 253، 335، 342، 347، 355، 374، 461، 474، أوزلاقن: 3/ 183، أولاد إبراهيم: 3/ 192، أولاد جلال: 1/ 179، 252، 317، 2/ 395، 3/ 31، 172، 216، 219، 4/ 147، 149، 150، 160، 161، 162، 180، 185، 186، 306، 5/ 150، 572، 7/ 327، 8/ 236، 274، أولاف: 4/ 278، إيران: 2/ 240، 4/ 510، 5/ 238، 239، 514، 550، 6/ 425، 7/ 227، 8/ 371، إيرلندا: 1/ 140، 6/ 34، 70، 246، 8/ 437، إيسلي (ايزلي): 4/ 99، 5/ 132، 6/ 149، 185، 385،

_ إيسحنونن: 3/ 196، إيسلاند ا: 1/ 140، 198، 2/ 403، 5/ 70، 355، إيشرعيون: 3/ 185، إيشريضن: 3/ 200، 4/ 145، 6/ 386، 7/ 477، 8/ 437، إيطاليا: 1/ 196، 261، 2/ 447، 449، 3/ 268، 270، 361، 4/ 55، 126، 245، 264، 273، 5/ 40، 233، 496، 554، 579، 6/ 114، 232، 315، 318، 329، 413، 414، 7/ 295، 419، 421، 8/ 250، 370، 375، 377، 405، 407، 09 4، 419، إيعكورن: 3/ 190، إيغرام: 3/ 183، إيغندوسن: 4/ 146، إيغيل علي: 3/ 335، إيكس (فرنسا): 3/ 26، 83، 88، 102، 103، 105، 115، 129، 130، 135، 142، 159، 162، 269، 299، 303، 310، 311، 337، 339، 363، 387، 398، 399، 400، 406، 408، 410، 442، 444، 451، 4/ 143، 186، 370، 376، 377، 378، 5/ 163، 237، 359، 6/ 78، 7/ 277، 293، 8/ 87، 157، إيمولا: 3/ 190، إينكرمان: 4/ 270، إيول القيصرية: 8/ 415، ايوا: 5/ 539، (ب) الباب الجديد: 3/ 38، 39، 5/ 51، 53، 64، 65، 73، باب الجزيرة: 1/ 278، 2/ 163، 5/ 27، 28، 29، باب الجهاد: 5/ 28، 29، باب الجماد: 1/ 485، باب السريجة: 5/ 566، باب عزون: 2/ 286، 4/ 427، 5/ 11، 16، 41، 42، 3 4، 44، 45، 73، 112، 130، 131، 2 13، 155، 343، 412، 590، 6/ 294، باب فرنسا: 5/ 29، باب القنطرة: 5/ 89، باب المرسي: 5/ 28، باب الواد: 1/ 160، 2/ 338، 369، 3/ 300، 4/ 425، 5/ 11، 18، 19، 20، 31، 21، 46، 48، 73، 75، 113، 123، 127، 128، 138، 141، 242، 306، 413، 419، 424، 6/ 14، 393، 8/ 63، 364، 404، 450، بابل: 7/ 171، 172، البابور: 1/ 488، 4/ 474، 5/ 150، 329، 6/ 160، 76، 185، 7/ 320، 8/ 326، باتنه: 3/ 46، 141، 217، 251، 337، 4/ 52، 157، 209، 306، 387، 390، 473، 5/ 89، 391، 427، 480،

_ 6/ 161، 170، 192، 194، 390، 7/ 173، 248، 8/ 46، 116، 141، 228، 257، 292، 335، 359، باجة: 1/ 295، 357، 441، 2/ 21، 352، 4/ 154، باجو: 3/ 186، 5/ 125، باجيرمي: 6/ 164، باريس: 1/ 23، 30، 40، 60، 70، 121، 122، 124، 130، 147، 170، 178، 179، 184، 187، 203، 204، 205، 208، 209، 217، 224، 249، 272، 280، 283، 290، 292، 294، 297، 328، 349، 353، 337، 374، 412، 436، 2/ 17، 19، 22، 42، 54، 61، 86، 116، 132، 138، 139، 148، 164، 172، 173، 187، 190، 191، 192، 205، 208، 209، 242، 243، 256، 258، 261، 262، 263، 269، 279، 283، 296، 301، 305، 312، 322، 331، 337، 341، 344، 380، 385، 406، 411، 412، 413، 418، 419، 427، 431، 432، 3/ 27، 45، 47، 51، 53، 63، 108، 148، 191، 245، 270، 286، 295، 299، 305، 311، 312، 313، 317، 327، 333، 334، 343، 347، 352، 369، 370، 374، 388، 393، 402، 417، 422، 439، 4/ 30، 38، 45، 52، 53، 74، 111، 137، 138، 173، 199، 201، 212، 213، 233، 250، 254، 260، 300، 304، 325، 360، 383، 385، 386، 403، 407، 412، 439، 442، 490، 5/ 97، 120، 144، 177، 217، 228، 231، 237، 241، 266، 303، 305، 307، 333، 334، 338، 339، 343، 391، 411، 413، 417، 421، 428، 436، 440، 516، 518، 530، 532، 533، 535، 539، 555، 556، 559، 563، 585، 6/ 9، 13، 14، 16، 19، 21، 22، 23، 24، 25، 27، 33، 37، 43، 48، 51، 53، 55، 58، 62، 64، 66، 68، 70، 72، 74، 86، 90، 100، 111، 113، 119، 126، 127، 137، 143، 146، 164، 165، 166، 168، 171، 174، 177، 178، 186، 200، 201، 202، 203، 205، 206، 209، 212، 215، 216، 227، 228، 240، 241، 244، 250، 251، 275، 285، 295، 308، 309، 318، 321، 327، 367، 371، 382، 394، 399، 302، 307، 420، 423، 429، 433، 434، 436، 443، 447، 452، 307، 7/ 33، 80، 105، 109، 125، 143، 204، 208، 223، 225، 230، 239، 264، 268، 270، 273، 276، 296، 297، 314، 316، 364، 388، 434، 441، 468، 470، 478، 8/ 17، 31، 32، 33، 36، 37، 38، 50، 51، 54،

_ 55، 60، 88، 99، 109، 117، 126، 128، 149، 158، 177، 178، 179، 183، 184، 185، 206، 207، 248، 252، 253، 297، 299، 301، 321، 330، 343، 344، 345، 375، 376، 377، 380، 386، 388، 397، 415، 417، 420، 422، 432، 433، 435، 437، 441، 444، 446، 450، 471، 475، 476، الباستيل: 5/ 480، 6/ 366، باغاي: 7/ 344، بافيا: 6/ 111، الباكستان: 7/ 28، 220، 8/ 34، بامنديل: 6/ 130، بايون: 6/ 119، بجاية: 1/ 7، 40، 41، 42، 43، 44، 45، 66، 85، 86، 88، 90، 91، 102، 113، 127، 137، 140، 142، 143، 148، 158، 175، 8 7 1، 179، 180، 182، 189، 253، 263، 265، 7 26، 269، 285، 302، 310، 401، 460، 462، 463، 464، 479، 480، 513، 523، 2/ 16، 72، 104، 128، 255، 334، 394، 415، 3/ 29، 37، 45، 59، 65، 141، 146، 147، 155، 160، 162، 192، 197، 201، 211، 213، 233، 259، 294، 392، 441، 446، 450، 4/ 43، 62، 64، 65، 78، 296، 368، 389، 390، 413، 424، 486، 5/ 10، 38، 90، 92، 110، 146، 150، 199، 283، 327، 358، 359، 360، 364، 372، 390، 396، 436، 460، 475، 480، 490، 522، 6/ 48، 76، 78، 151، 159، 160، 185، 324، 356، 357، 394، 413، 7/ 24، 39، 49، 62، 82، 84، 152، 228، 230، 284، 323، 340، 349، 443، 445، 8/ 9، 22، 32، 80، 124، 131، 276، 327، 355، 359، 367، 388، 402، 418، 429، 467، البحر الأبيض المتوسط: 2/ 345، 346، 403، 5/ 93، 233، 581، 6/ 259، 270، 300، 320، 7/ 189، 354، 8/ 32، 186، البحر الأحمر: 2/ 396، 4/ 120، 409، 5/ 66، البحر الأسود: 5/ 515، بحر الشمال: 2/ 403، بحر القلزم: 2/ 108، بحيرة الأرنب: 4/ 500، بحيرة تشاد: 4/ 217، 279، بخارى: 4/ 60، 5/ 509، 6/ 219، بختي: 4/ 304، براغ: 8/ 183، 384، 415، 435. برباشة: 6/ 76، البرتغال: 1/ 142، البرج البحري: 4/ 33، 6/ 272، برج بلحيران: 4/ 232،

_ برج بوعريريج: 3/ 149، 192، 194، 199، 267، 4/ 40، 50، 85، 166، 7/ 25، 333، 8/ 209، 326، برج بوغنى: 1/ 214، برج حمزة: 1/ 214، 4/ 142، 6/ 432، برج طولقة: 3/ 216، 4/ 146، 7/ 60، برج عياش: 7/ 370، برج قورد: 5/ 102، برج المخفى: 7/ 370، 378، برج منايل: 3/ 195، برج موتيلانسكي: 6/ 135، برج مولاي حسن: 8/ 337، برج نابليون: 6/ 121، برشيك: 1/ 182، برقة: 1/ 290، 2/ 345، 395، 397، 4/ 249، 252، 261، 264، 7/ 51، برلين: 1/ 30، 2/ 276، 411، 5/ 373، 553، 606، 609، 8/ 60، برنستون: 1/ 62، 68، 78، 84، 88، 89، 96، 115، 131، 375، 383، 2/ 31، 73، 86، 107، 137، 365، 412، 416، 4/ 71، 517، 5/ 232، 382، البرواقية: 1/ 7، 83، 2/ 85، 87، 148، 210، 250، 281، 3/ 107، 4/ 78، 85، 166، 295، 296، 5/ 137، 7/ 141، 142، بروسة: 5/ 385، 501، 503، 526، 527، 537، 539، 558، 569، 7/ 138، 159، 437، 8/ 204، 282، 294، بروسيا: 7/ 379، 8/ 112، بروفنسال: 1/ 170. بروكسيل: 3/ 42، 5/ 418، 439، 8/ 26، بريان: 3/ 267، 5/ 378، 6/ 36، بريرا: 2/ 331، بريطانيا: 1/ 61، 140، 3/ 280، 444، 4/ 45، 99، 5/ 211، 212، 222، 233، 287، 350، 354، 514، 539، 584، 585، 588، 612، 6/ 86، 123، 423، 8/ 86، 342، بريكة: 4/ 230، 7/ 146، بسكرة: 1/ 40، 45، 106، 156، 179، 180، 228، 251، 252، 317، 384، 401، 422، 441، 442، 500، 522، 2/ 49، 54، 72، 77، 78، 191، 395، 410، 3/ 47، 65، 141، 150، 151، 152، 153، 159، 160، 213، 215، 216، 217، 259، 335، 342، 446، 4/ 50، 62، 85، 134، 146، 148، 149، 151، 153، 160، 182، 201، 205، 216، 220، 263، 304، 497، 500، 533، 5/ 95، 99، 114، 150، 199، 254، 255، 259، 262، 302، 309، 311، 312، 360، 361، 391، 394، 398، 422، 432، 445، 453، 454، 476، 478، 483، 490، 494،

_ 601، 6/ 47، 56، 67، 85، 129، 132، 152، 160، 161، 338، 382، 388، 7/ 60، 127، 128، 232، 248، 261، 266، 294، 334، 335، 337، 389، 8/ 7، 52، 55، 109، 231، 237، 239، 250، 251، 257، 283، 286، 292، 308، 308، 328، 332، 333، 359، 368، 382، بشار: 3/ 47، 213، 5/ 370، 375، 6/ 55، 7/ 387، 8/ 180، البصرة: 1/ 8، 2/ 160، 166، 7/ 389، البطحاء: 1/ 497، 2/ 117، 351، 4/ 116، بطيوة: 2/ 121، 3/ 43، 4/ 431، 5/ 371، 372، 6/ 405، 7/ 84، 101، 8/ 149، بعلبك: 7/ 469، بغداد: 1/ 88، 89، 92، 460، 493، 513، 2/ 202، 223، 294، 390، 3/ 95، 261، 4/ 23، 31، 42، 43، 48، 56، 57، 59، 65، 274، 291، 294، 351، 5/ 133، 474، 506، 511، 512، 537، 565، 6/ 183، 236، 7/ 116، البقاع: 7/ 469، البقيع: 5/ 484، البلاد الإسكندينافية: 5/ 350، بلاد البربر: 6/ 84، 271، 292، بلاد السودان: 2/ 345، 365، بلاد سوف: 7/ 251، بلاد الشام: 1/ 132، 4/ 401، 5/ 385، 478، 481، 500، 509، 510، 521، 524، 529، 7 59، 603، 606، 6/ 361، 423، 7/ 9، 82، 132، 351، بلاد الشرفة: 7/ 460، بلاد الغال: 7/ 310، 8/ 24، بلاد فارس: 8/ 438، بلاد المغرب: 1/ 9، 44، 4/ 325، 5/ 350، 6/ 329، 7/ 108، 261، 326، 416، 420، 8/ 23، 41، بلازمة: 4/ 186، بلبازة: 3/ 192، بلجيكا: 6/ 123، 8/ 347، 409، بلدة عمر: 4/ 223، بلعباس: 4/ 47، 6/ 70، بلفور: 3/ 408، البلقان: 1/ 20، 139، 189، 191، 2/ 314، 3/ 270، 4/ 186، 5/ 515، 524، 610، 7/ 471، البليدة: 1/ 167، 180، 233، 243، 2/ 389، 3/ 46، 65، 102، 104، 105، 163، 231، 294، 302، 320، 334، 347، 367، 368، 373، 374، 392، 444، 4/ 166، 359، 360، 451، 5/ 77، 78، 124، 137، 199، 213، 220، 306، 327، 441، 475،

_ 487، 488، 6/ 70، 110، 275، 297، 302، 7/ 92، 400، 442، 8/ 9، 131، 132، 157، 200، 201، 237، 308، 313، 380، 390، 436، 451، 467، 471، بليرم (بليرمو): 5/ 593، البندقية: 1/ 177، 4/ 222، بنزرت: 5/ 607، 7/ 135، 285، 8/ 235، بنطيوس: 1/ 177، 470، 500، 501، 502، بنغازي: 4/ 152، 252، 5/ 353، بنو سليمان: 8/ 466، بني ايراثن: 3/ 188، 203، 205، بني بوخالفة: 3/ 203، بني بودرة: 6/ 122، بني جناد: 3/ 190، بني زكريا: 3/ 97، بني سليمان: 3/ 46، 236، بني صاف: 6/ 288، بني عباس: 4/ 91، 7/ 142، بني م: 2 لال/ 171، بني منصور: 3/ 190، بني منقلات: 6/ 123، بني موسى: 1/ 264، بني ميزاب: 3/ 38، 196، 273، 274، 4/ 254، 283، 5/ 492، 495، 7/ 291، بني وعزان: 2/ 407، بني ونيف: 5/ 375، بني يسقن (بني يزقن): 1/ 181، 310، 3/ 169، 265، 266، 267، 268، 271، 4/ 198، 283، 373، 379، 5/ 376، 378، 379، 7/ 16، 389، بني يني: 4/ 144، 6/ 35، 122، 7/ 440، 8/ 434، البهيمة: 4/ 53، 6/ 391، 7/ 336، بو (سجن): 4/ 97، 5/ 530، 6/ 62، 343، بوبريح: 4/ 113، 123، بوتليميت: 3/ 150، بوجليل: 6/ 595، بوحجر: 4/ 183، بوحمام: 4/ 62، بوحمزة: 3/ 183، بوخاريست: 8/ 432، بوخرشفة: 4/ 33، بودواو: 8/ 308، بودة: 7/ 393، بوردو: 4/ 191، 212، 213، 214، 216، 5/ 339، 532، 549، 6/ 66، 108، 111، 114، 137، 261، 398، 399، 434، بورقيسة: 3/ 100، بورنو: 4/ 216، 227، 228، بوزريعة: 1/ 169، 3/ 75، 356 417، 421، 5/ 11، 69، 135، 266،

_ 6/ 256، 403، 7/ 278، 293، 8/ 59، 170، 171، 174، 337، بوزقزة: 4/ 451، بوسعادة: 2/ 179، 3/ 88، 100، 107، 109، 158، 163، 213، 214، 217، 222، 267، 272، 347، 4/ 31، 71، 84، 109، 145، 147، 158، 159، 160، 162، 163، 164، 178، 182، 248، 249، 263، 321، 5/ 99، 199، 302، 360، 361، 368، 426، 443، 445، 503، 524، 551، 557، 575، 6/ 70، 74، 161، 195، 341، 342، 390، 432، 7/ 61، 232، 258، 313، 412، 426، 442، 473، 8/ 99، 115، 148، 359، 363، 382، 389، 415، 418، 417، بوسمغون: 1/ 510، 511، 4/ 30، 193، 194، 7/ 394، 407، 8/ 154، بوعلي: 4/ 278، بوغار: 4/ 72، 162، 6/ 74، 207، بوفا دي: 7/ 393، بوفاريك: 1/ 264، 3/ 23، 5/ 76، 6/ 69، 109، 114، 206، 436، 8/ 27، 379، بوقاعة: 5/ 390، 7/ 132، 281، بولاق: 5/ 369، بولونيا = بولند ا: 7/ 307، بومليل: 1/ 466، بونة (هيبونة): 1/ 66، 2/ 270، 352، 6/ 112، بونورة: 1/ 181، 3/ 266، 267، 271، 4/ 283، البويرة: 1/ 214، 3/ 190، 4/ 473، 5/ 328، 509، البياضة: 7/ 448، البيبان: 4/ 160، 8/ 17، 40، بيت الشريعة: 4/ 276، 277، بيت المقدس: 2/ 217، 222، 6/ 134، بيدمونت: 7/ 295، بئر الخادم: 5/ 11، 69، 70، 8/ 427، بئرسالم: 4/ 264، بئرعلالي: 6/ 164، بئر مراد رايس: 5/ 69، 135، 6/ 410، 7/ 255، بيركلي: 4/ 148، بيروت: 1/ 9، 79، 126، 171، 524، 2/ 10، 11، 15، 83، 146، 332، 357، 409، 409، 431، 3/ 56، 83، 265، 4/ 8، 45، 56، 57، 58، 78، 99، 114، 123، 128، 133، 277، 291، 294، 359، 401، 485، 5/ 13، 22، 98، 140، 301، 308، 478، 481، 483، 500، 511، 524، 525، 537، 542، 550، 556، 560، 561، 565، 566، 567، 572، 576، 577، 578، 583، 6/ 131، 197، 204، 207، 422، 423، 434، 7/ 23، 51، 78، 79، 82، 88، 97، 99، 122، 144، 157، 158، 159،

_ 201، 202، 203، 207، 255، 281، 297، 369، 383، 392، 421، 425، 434، 452، 470، 474، 8/ 74، 84، 126، 147، 168، 187، 192، 202، 227، 268، 273، 321، 384، 395، بيزنسون: 6/ 137، بيزنطة: 1/ 197، 8/ 438، البيض: 3/ 32، 47، 213، 214، 4/ 103، 104، 110، 281، 5/ 152، 375، 6/ 303، 343، 8/ 329، 334، البيضاء: 4/ 252، بيلفاست: 6/ 70، (ت) تابلاط: 3/ 236، 4/ 143، 296، 8/ 466، تاجرونة: 4/ 184، تارودانت: 1/ 425، تازة: 2/ 51، 4/ 192، 6/ 87، 8/ 207، تاسلنت: 3/ 89، 186، 194، 196، 211، 4/ 41، 5/ 125، 361، 7/ 427، تاغراست: 3/ 197، 200، 7/ 281، تاغزوت: 2/ 332، 3/ 227، 4/ 235، 5/ 98، 365، 391، 7/ 336، 495، 468، تاغمونت عزوز: 6/ 128، التافنة: 3/ 293، 333، 4/ 490 - 503، 5/ 100، 511، 6/ 83، 147، 200، 201، 311، 342، 358، 416، 7/ 150، 8/ 105، تافيلالت: 1/ 360، 4/ 93، 113، 7/ 460، 466، تاقدامت (تاكدمت): 2/ 386، 3/ 46، 4/ 200، 203، 5/ 103، 6/ 84، 308، 318، 342، تاقموت: 7/ 231، تاكورارن: 1/ 287، 297، 301، تالة: 4/ 154، تامسيط: 7/ 393، تاوريرت: 3/ 439، 6/ 78، 7/ 393، تبسة: 3/ 155، 156، 158، 170، 241 - 246، 256، 273، 323، 446، 4/ 40، 47، 48، 153، 181، 274، 276، 483، 500، 5/ 262، 402، 409، 490، 498، 558، 6/ 48، 78، 7/ 13، 126، 211، 217، 213، 214، 215، 217، 218، 342، 413، 375، 8/ 367، 409، 415، 450، 453، تبلكوزة: 7/ 393، تجالبين: 8/ 466، تجمعوت: 4/ 206، تدلس = دلس، الترارة = الطرارة .. تركيا: 1/ 289، 4/ 93، 103، 126، 133، 185، 186، 236، 243، 244، 273، 381، 410، 534، 5/ 287، 298،

_ 578، 6/ 51، 424، 8/ 204، 251، 371، تستور: 2/ 352. تسكانيا: 7/ 225، تشاد:، 6/ 164، تشيكوسلوفاكيا: 8/ 383، تطاوين: 7/ 464، تطوان: 1/ 368، 427، 494، 516، 2/ 27، 58، 69، 72، 84، 109، 133، 134، 135، 146، 210، 273، 297، 299، 331، 384، 385، 426، 427، 8/ 456، تعز: 2/ 51، تغنيف: 3/ 124، تفريت: 3/ 202، تقرت: 1/ 40، 156، 179، 181، 182، 252، 309، 2/ 332، 387، 3/ 47، 165، 213 - 215، 226، 235، 4/ 52، 153، 184، 197، 201، 218، 219، 220، 225، 232، 237، 5/ 96، 97، 99، 150، 303، 338، 391، 454، 527، 6/ 46، 47، 134، 161، 343، 388، 389، 7/ 84، 232 390، 392، 395، 463، 8/ 95، 230، 334، 409، 453، تقصرين: 5/ 69، 71، 135، تقفايت: 7/ 460، تقيطونت: 7/ 241، 242، تكدشت: 7/ 466، تكوت: 6/ 161، التل: 4/ 161، 199، 294، 295، 323، 455، 181، 5/ 395، 6/ 301، التل الكبير: 5/ 519، التلاغمة: 4/ 41، 86، تلمان: 7/ 102، تلمسان: 1/ 40، 43، 44، 45، 46، 51، 52، 53، 54، 57، 60، 61، 65، 66، 70، 71، 72، 75، 78، 79، 88، 89، 90، 92، 94، 98، 102، 113، 123، 124، 130، 131، 145، 158، 169، 174، 175، 176، 177، 180، 182، 188، 189، 201، 203، 211، 212، 215، 243، 246، 250، 251، 252، 255، 263، 265، 266، 269، 270، 273، 274، 275، 279، 280، 285، 286، 291، 294، 295، 296، 299، 301، 302، 309، 310، 318، 320، 321، 325، 326، 328، 330، 333، 335، 342، 350، 354، 360، 361، 363، 369، 376، 377، 379، 398، 390، 401، 402، 419، 420، 421، 423، 425، 426، 439، 440، 461، 463، 465، 466، 467، 468، 473، 477، 479، 485، 496، 497، 498، 510، 512، 516، 523، 2/ 13، 16، 23، 29، 45، 67، 68، 81، 86، 94، 97، 103، 114، 116، 118، 119، 122، 123، 126، 132، 193، 206،

_ 212، 213، 214، 215، 216، 218، 219، 223، 227، 232، 241، 257، 265، 266، 295، 317، 330، 335، 336، 345، 348، 354، 359، 360، 382، 383، 385، 389، 407، 412، 420، 423، 449، 3/ 31، 46، 54، 59، 62، 64، 65، 94، 97، 105، 110، 111، 113 - 121، 123، 127، 139، 175، 221، 230، 231، 232، 234، 247، 252، 273، 294، 302، 320، 325، 367، 370، 371، 373، 374، 375، 378، 379، 380، 381، 390، 391، 392، 395، 397، 398، 400، 401، 439، 446، 4/ 11، 43، 47، 60، 64، 65، 78، 79، 80، 85، 89، 91، 101، 134، 191، 195، 200، 246، 274، 296، 299، 301، 304، 327، 332، 333، 342، 372، 389، 390، 396، 411، 413، 438، 439، 440، 448، 449، 450، 452، 484، 487، 488، 497، 502، 503، 504، 507، 509، 512، 514، 534، 5/ 9، 53، 100، 101، 105، 106، 107، 108، 109، 110، 144، 146، 151، 172، 182، 199، 245، 272، 275، 302، 314، 315، 316، 320، 327، 328، 333، 341، 355، 356، 357، 358، 359، 360، 361، 371، 373، 384، 388، 389، 399، 402، 422، 425، 426، 432، 433، 436، 441، 444، 451، 455، 457، 458، 460، 464، 465، 475، 480، 481، 486، 487، 488، 502، 515، 527، 528، 558، 576، 580، 595، 596، 603، 6/ 13، 23، 28، 32، 46، 48، 52، 56، 57، 58، 60، 69، 95، 98، 113، 115، 133، 176، 177، 200، 7 21، 241، 242، 243، 247، 279، 302، 308، 324، 334، 356، 396، 420، 447، 7/ 23، 24، 26، 43، 44، 58، 59، 63، 75، 94، 110، 139، 144، 152، 164، 169، 204، 250، 251، 284، 2 30، 324، 328، 338، 346، 356، 370، 381، 386، 405، 406، 413، 443، 444، 460، 469، 8/ 9، 19، 22، 35، 48، 49، 50، 66، 81، 90، 124، 131، 149، 155، 158، 174، 130، 207، 223، 228، 263، 265، 276، 282، 284، 288، 292، 310، 314، 359، 363، 368، 392، 393، 394، 397، 398، 403، 415، 419، 420، 445، 455، 456، 458 459،، 461، 463، 464، 467، 468، 469، 470، 472، تمازيرت: 3/ 205، 8/ 59، تماسينا: 1/ 182، 252، 2/ 332، 3/ 33، 198، 214، 224، 225، 226، 227، 4/ 32، 192، 194، 195، 196، 197، 200، 205، 207، 209، 210، 215،

_ 216، 217، 218، 219، 221 - 223، 225 - 232، 235، 236، 242، 249، 259، 288، 294، 308، 323، 326، 5/ 96، 97، 150، 454، 6/ 102، 67، 7/ 123، 356، 395، 446، 8/ 230، 239، 334، تمبكتو: 4/ 93، 195، 223، 228، 277، 278، 279، 5/ 50، 518، 525، تمغزة: 4/ 50، 151، 181، 7/ 128، تمغوط: 8/ 473، تملاحت: 4/ 219، 221، 223، تمنراست: 3/ 214، تمنطيط: 2/ 348، 3/ 214، 5/ 361، 375، 391، 7/ 394، تموقرة: 3/ 183، تميمون: 2/ 387، 8/ 404، تندوف: 3/ 213، تنزانيا: 3/ 270، تنس: 1/ 71، 138، 182، 202، 211، 212، 213، 243، 285، 359، 2/ 50، 103، 3/ 46، 4/ 389، 451، 488، 5/ 475، 6/ 64، 390، 8/ 368، تنعملت: 1/ 368، 2/ 171، توات: 1/ 54، 55، 71، 97، 297، 310، 325، 396، 497، 510، 2/ 69، 348، 349، 387، 3/ 47، 49، 165، 213، 214، 283، 4/ 47، 88، 89، 93، 100، 106، 195، 216، 228، 252، 254، 255، 277، 278، 279، 280، 288، 5/ 363، 370، 371، 373، 410، 490، 492، 6/ 41، 316، 7/ 79، 251، 394، 395، 461، تورين: 3/ 443، توزر: 2/ 395، 3/ 234، 235، 4/ 50، 152، 182، 225، 276، 505، 506، 6/ 389، 8/ 317، توسكانيا: 6/ 148، تونس: 1/ 7، 8، 9، 18، 31، 35، 40، 42، 43، 51، 53، 54، 63، 66، 70، 76، 79، 81، 82، 85، 86، 90، 91، 92، 102، 103، 105، 106، 111، 123، 133، 138، 142، 146، 148، 154، 162، 169، 174، 175، 178، 182، 196، 208، 216، 220، 243، 249، 251، 261، 264، 284، 287، 295، 296، 300، 302، 352، 357، 398، 399، 413، 430، 431، 434، 436، 441، 445، 452، 453، 461، 463، 486، 487، 492، 493، 500، 507، 508، 510، 514، 518، 525، 2/ 13، 21، 27، 35، 36، 37، 38، 46، 54، 63، 68، 72، 73، 77، 85، 96، 101، 102، 110، 116، 132، 141، 142، 144، 146، 147، 158، 159، 160، 163، 164، 179، 184، 196، 216، 226، 228، 229، 230، 231، 234، 235، 240، 248، 263، 265، 267،

_ 268، 274، 280، 298، 332، 333، 339، 344، 352، 363، 364، 369، 378، 379، 380، 382، 383، 384، 285، 386، 389، 390، 391، 392، 393، 395، 396، 398، 420، 422، 426، 440، 447، 448، 3/ 6، 10، 26، 33، 36، 57، 62، 64، 70، 78، 89، 93، 94، 100، 110، 116، 126، 128، 133، 139، 142، 151، 152، 174، 191، 198، 200، 214، 216، 217، 220، 221، 225، 226، 234، 237، 239، 242، 243، 245، 251، 253، 254، 255، 263، 265، 267، 269، 270، 273، 274، 275، 323، 369، 370، 387، 388، 401 402،، 449، 4/ 28، 32، 47، 48، 49، 55، 56، 60، 61، 62، 66، 104، 107، 109، 114، 116، 122، 126، 127، 134، 135، 138، 141، 143، 144، 146، 151، 152، 154، 158، 161، 168، 169، 171، 179، 181، 183، 184، 192، 194، 209، 218، 219، 221، 222، 229، 230، 249، 252، 256، 259، 262، 264، 272، 274، 275، 276، 277، 294، 297، 298، 299، 302، 304، 307، 326، 337، 348، 354، 361، 368، 372، 405، 406، 409، 410، 413، 468، 471، 483، 484، 486، 499، 502، 503، 504، 505، 508، 511، 512، 517، 530، 531، 532، 5/ 94، 97، 112، 131، 172، 227، 228، 233، 234، 237، 238، 254، 255، 259، 264، 266، 274 - 285، 285، 286، 291، 292، 296، 309، 310، 312، 318، 329، 333، 362، 366، 368، 370، 378، 379، 380، 394، 395، 396، 398، 404، 442، 454، 459، 460، 472، 473، 474، 476، 477، 478، 482، 487 489،، 495، 491، 493، 501، 502، 504، 506، 507، 514، 517، 519، 520، 529، 541، 546، 547، 549، 554، 558، 571، 573، 575، 576، 578، 581، 582، 584، 586، 587، 594، 596، 599، 600، 605، 606، 607، 609، 612، 614، 616، 617، 6/ 7، 27، 28، 34، 38، 44، 46، 60، 72، 77، 86، 87، 98، 101، 103، 112، 136، 149، 152، 153، 154، 161، 165، 166، 175، 190، 244، 286، 287، 316، 317، 320، 333، 375، 386، 388، 389، 406، 413، 416، 417، 7/ 23، 38، 49، 61، 63، 66، 69، 74، 97، 104، 106، 126، 127، 128، 129، 134، 135، 142، 146، 147، 149، 151، 153، 155، 166، 167، 185، 188، 198، 205، 209، 213، 216، 217،

_ 228، 241، 246، 259، 266، 268، - 281، 284، 285، 286، 287، 289، 309، 312، 315، 320، 328، 330، 336، 344، 346، 347، 353، 362، 363، 364، 390، 391، 392، 595، 397، 405، 410، 412، 417، 418، 420، 427، 429، 435، 445، 454، 455، 457، 458، 463، 464، 470، 472، 473، 474، 475، 8/ 11، 26، 27، 32، 45، 51، 68، 69، 73، 76، 79، 81، 84، 86، 91، 94، 116، 118، 119، 121، 131، 133، 148، 166، 193، 196، 197، 204، 217، 219، 221، 222، 226، 228، 232، 235، 236، 250، 256، 257، 269، 270، 274، 275، 276، 287، 293، 294، 295، 296، 298، 299، 302، 303، 327، 325، 333، 363، 369، 389، 405، 407، 456، 457، 465، 470، 475، تيبازة: 7/ 465، 8/ 415، تيبرماسين: 4/ 156، تيديكلت: 3/ 49، 4/ 49، 51، 93، 232، 255، 278، 5/ 371، تيزي أمقران: 7/ 341، تيزي راشد: 1/ 265، 3/ 182، 185، 186، 199، 203، 5/ 125، 6/ 35، تيزي وزو: 3/ 65، 102، 108، 163، 187، 196، 347، 4/ 109، 525، 532، 5/ 497، 6/ 70، 163، 418، 8/ 61، 327، 328، 333، 460، 473، التيطري: 1/ 199، 214، 250، 265، 470، 3/ 53، 371، 4/ 34، 83، 194، 5/ 137، 6/ 41، 48، 53، 57، 87، 442، 447، 7/ 400، 8/ 8، 9، تيكسبت: 7/ 400، تيماسينين: 4/ 228، 233، تيمقاد: 7/ 465، 8/ 292، 415، 410، تيميزار: 3/ 203، تيميزيرت: 4/ 283، تيهرت (تيارت):: 3/ 32، 6/ 318، 323، 4/ 46، 281، 297، 304، 306، 310، 5/ 8، 100، 361، 375، 460، 7/ 194، 364، 389، 8/ 181، 308، 312، 313، 359، ثغر ابن عكاشة: 2/ 331، الثنية: 6/ 70، ثنية بني عائشة: 3/ 199، ثنية الحد: 3/ 46، 4/ 76، 76، 7/ 146، 236، 8/ 178، ثورتاتين: 3/ 236، (ج) جانت: 3/ 214،

_ الجاية: 7/ 466، جبال الأطلس: 3/ 77، 6/ 309، جبال الأوراس: 8/ 332، جبال البابور: 3/ 190، جبال بني راشد: 2/ 95، جبال بني شقران: 8/ 332، جبال بني مناصر: 4/ 490، 5/ 386، جبال بو طالب: 8/ 359، جبال الريف: 4/ 117، جبال زكار: 6/ 146، 8/ 178. جبل أبي قبيس: 4/ 251، 252، 268، جبل أحمر خدو: 4/ 155، 156، الجبل الأخضر: 1/ 372، 4/ 252، 259، 263، جبل اترار: 7/ 59، جبل بني سلام: 3/ 193، جبل بني ورنيد: 5/ 106، جبل بوزريعة: 6/ 116، جبل بوزقزوك: 7/ 72، جبل بوعريف: 4/ 305، 319، جبل تاسطارة: 4/ 159، جبل جلاس: 4/ 66، جبل السحاري: 4/ 248، جبل ششار: 4/ 151، 276، جبل شطابة: 1/ 220، جبل طارق: 5/ 212، 571، 6/ 317، جبل عالم: 4/ 65، 66، جبل علام: 1/ 515. جبل عمال: 3/ 77، 7/ 72. جبل عمور: 2/ 386، 4/ 104، 105، 198، 248، 312، 7/ 334، 8/ 317، 359، 372، جبل قاسيون: 4/ 57، 5/ 521، 565، جبل كردادة: 8/ 418، جبل كرسوط: 2/ 377، جبل لبنان: 5/ 572، 6/ 217، جبل اللوح: 3/ 229، جبل المائدة: 1/ 207، 208، 272، جبل مساعد: 4/ 115، جبل الناظور: 3/ 233، 7/ 445، جبل ندات: 7/ 146، جبل نفوسة: 3/ 275، 5/ 381، 495، جبل ونوغة: 4/ 142، جدة: 2/ 217، 4/ 169، 171، 174، 406، 407، 413، 5/ 482، 483، 528,510، 6/ 231، 416، 7/ 178، الجديدة: 7/ 336، جربة: 1/ 358، 2/ 74، 344، 380، 386، 387، 3/ 271، 4/ 134، 5/ 380، 381، 6/ 91، 318، جرجرة: 1/ 464، 509، 2/ 74، 172، 3/ 23، 192، 404، 4/ 37، 134، 140، 141، 147، 6/ 25، 48، 53، 57، 68، 185، 279، 306، 310، 324، 7/ 340، 8/ 32 - 51 - 56 - 62 - 327 - 332 - 336، الجريد: 1/ 508، 4/ 249، 264، 274، 276، 277، 498، 5/ 294، 596،

_ 6/ 46، 51/ 7، 8/ 333، الجزائر: 1/ 8، 9، 11، 12، 13، 14، 16، 17، 18، 19، 23، 25، 26، 30، 31، 32، 35، 39، 40، 43، 44، 45، 49، 50، 51، 53، 57، 59، 65، 67، 69، 70، 71، 72، 75، 77، 79، 83، 86، 88، 92، 93، 97، 98، 100، 101، 103، 105، 108، 113، 123، 127، 129، 137، 138، 139، 140، 141، 142، 146، 148، 149، 151، 164، 165، 167، 168، 171، 180، 181، 182، 184، 185، 186، 187، 189، 190، 191، 192، 193، 196، 198، 199، 201، 202، 205، 208، 209، 216، 220، 222، 223، 225، 231، 233، 235، 251، 268، 273، 274، 284، 286، 288، 291، 294، 296، 297، 300، 301، 310، 315، 317، 318، 319، 321، 335، 345، 348، 354، 355، 360، 362، 363، 366، 367، 374، 375، 382، 383، 387، 389، 390، 391، 393، 398، 401، 408، 413، 421، 428، 429، 431، 433, 434، 435، 436، 437، 438، 439، 442، 443، 444، 446، 448، 453، 459، 463، 465، 468، 470، 478، 482، 493، 494، 495، 497، 499، 506، 508، 512، 513، 517، 523، 2/ 10، 12، 15، 16، 20، 24، 25، 35، 36، 38، 43، 45، 46، 49، 50، 51، 52، 54، 65، 67، 68، 71، 78، 79، 80، 82، 83، 93، 101، 102، 105، 108، 115، 126، 128، 130، 133، 135، 138، 142، 145، 146، 147، 148، 150، 161، 162، 163، 166، 168، 170، 177، 178، 179، 181، 183، 184، 185، 188، 189، 192، 193، 203، 204، 205، 212 - 223، 225، 226، 228، 229، 231، 235، 240، 241، 243، 247، 249، 252، 254، 256، 257، 258، 262، 264، 268، 272، 273، 276، 277، 279، 283، 287، 288، 297، 305، 306، 309، 312، 314، 322، 327، 331 - 335، 338 - 340، 344، 347، 351، 352، 355، 356، 358، 360، 364، 365، 366، 371، 377، 380، 382 - 386، 388 - 390، 392، 393، 396، 398، 401 - 403، 407، 417، 418، 420، 422، 423، 426، 427، 428، 431 - 435، 442، 443، 445، 446، 448، 449، 3/ 6، 8، 9، 11، 12، 13، 14، 17، 20، 21، 25، 26، 27، 29، 43، 44، 52، 57، 63، 65، 74، 75، 77، 78، 81، 82، 84، 86، 87، 90، 93، 94، 95، 98، 99، 100، 101، 103، 104، 106، 107، 108، 109، 112، 117، 119، 120، 121،

_ 123، 126، 131، 133، 134، 140، 141، 142، 145، 148، 157، 162، 163، 171، 173، 177، 178، 179، 182، 185، 187، 200، 203، 207، 208، 213، 217، 223، 224، 230، 231، 234، 235، 238، 242، 243، 246، 248، 250، 252، 253، 256، 257، 262، 267، 268، 269، 270، 272، 273، 244، 279 - 285، 290 - 292، 296، 299، 300، 304، 305، 309، 310، 311، 312، 314 - 323، 325، 329، 330، 334، 336، 341، 343، 345، 349، 350، 352 - 355، 357، 360، 362، 366، 368، 370، 347، 375، 377، 379 - 382، 384، 388، 391 - 393، 395، 397 - 399، 400، 401، 403، 406، 408، 409، 411 - 417، 419، 420، 422 - 424، 427، 429 - 431، 433، 437، 438، 439، 441 - 445، 447، 449، 450، 452، 8/ 4، 12، 13، 14، 21، 25، 28، 29، 30، 32، 33، 35، 37، 43، 45، 47، 49، 50، 51، 54، 56، 57، 58، 60، 61، 65، 67، 68، 70، 71، 72، 74، 75، 78، 79، 80، 82، 83، 84، 86، 88، 89، 93، 94، 95، 97، 98، 100، 101، 102، 108، 112، 114، 115، 118، 119، 120، 121، 122، 125، 126، 127، 133، 135، 138 - 142، 146، 152، 158، 161، 162، 164، 166، 168، 170، 171، 172، 173، 174، 178، 179، 182، 184، 192، 193، 195، 196، 201، 205، 212 - 217، 219، 220، 224، 227، 228، 231، 232، 234، 235، 237، 238، 239، 242، 243، 244، 245، 246، 247، 248، 250، 252، 255، 256، 259، 262، 266، 270، 271، 272، 274، 277، 288، 290، 291، 293، 295، 296، 298، 299، 302، 304، 305، 308، 309، 311، 314، 315، 317، 319، 321، 323، 324، 325، 326، 327، 328، 329، 332، 334 - 337، 339، 341، 348، 349، 351، 352، 355، 356، 360، 365، 367، 368، 379، 371، 373، 375، 377، 378، 379، 383، 384، 387، 388، 389، 390، 395، 396، 397، 401، 404، 406، 407، 409، 410، 411، 412، 413، 418، 419، 421، 427، 433، 434، 435، 440، 441، 442، 448، 449، 453، 454، 460، 461، 463، 464، 465، 471، 475 - 479، 486، 489، 492، 493، 494، 496، 499، 500، 502، 505، 510، 511، 514 - 520، 522، 523، 525، 526، 528، 529، 531، 533، 535، 538، 8/ 5، 9، 12، 16، 17،

_ 18، 21، 24، 27، 29، 35، 39، 42، 43، 44، 46، 55، 59، 61، 71، 73، 76، 78، 79، 91، 98، 102، 105، 110، 112، 113، 115، 117، 118، 126، 131 - 134، 136، 138، 141، 144 - 146، 151، 153، 154، 157، 159، 160، 165، 169، 171، 173، 174، 176، 180، 183، 188، 189، 192، 203 - 208، 211، 214 - 216، 219، 220، 222، 223، 224، 226، 227، 229، 230، 231، 233، 234، 235، 237، 238، 240، 243، 244، 248 - 253، 255، 256، 260، 262، 267، 268، 269، 270، 274، 275، 276، 277، 278، 279، 281، 282، 284، 288، 289، 290، 291، 292، 294، 296، 297، 300، 301، 302، 305، 306، 308، 309، 312، 313، 317، 321، 325، 326، 329، 330، 332، 333، 336، 337، 340، 341 - 355، 358، 360، 364، 366، 370، 373، 375، 376، 378، 379، 384، 387، 388، 389، 392، 393، 396، 397، 399، 400، 402 - 408، 410، 411، 417، 418، 425، 432، 435، 438، 443، 450، 451، 452، 454، 459، 460، 462، 465، 466، 471، 472، 475، 477، 478، 479، 481، 482، 486، 487، 492، 496، 497، 499، 500، 501، 504 - 507، 509، 512، 513، 514، 519 - 523، 525، 527، 528، 529، 532 - 536، 544، 545، 547، 548، 549، 552، 556، 557، 568، 570 - 574، 578، 580، 581، 582، 583، 586، 588، 589، 591، 592، 594، 595، 597، 600، 601، 602، 603، 604، 605، 606، 607، 608، 612، 613، 615، 617، 618، 6، /7، 8، 9، 10، 11، 12، 14، 16، 17، 18، 19، 20، 22، 23، 24، 25، 26، 27، 29، 30، 31، 32، 33، 35، 37، 39، 42، 43، 46، 47، 48، 49، 50، 51، 54، 56، 58، 60، 61، 64، 65، 66، 67، 71، 72، 74، 79، 80، 81، 82، 83، 84، 85، 86، 88، 89، 90، 91، 92، 94، 95، 100، 102، 105، 106، 108، 110، 113، 114، 115، 116، 117، 118، 119، 120، 123، 126، 130، 132، 133، 134، 135، 136، 137، 138، 143، 144، 145، 146، 147، 149، 150، 151، 152، 153، 154، 155، 158، 160، 161، 164، 165، 168، 172، 175، 176، 177، 184، 185، 186، 187، 188، 189، 196، 197، 200، 202، 206، 208، 213، 215، 216، 217، 218، 219، 220، 221، 223، 224، 226، 227، 231، 235، 236، 238،

_ 239، 241، 242، 246، 247، 248، 250، 252، 257، 260، 261، 262، 270، 271، 272، 273، 275، 276، 281، 280، 285، 286، 290، 291، 292، 293، 295، 296، 298، 301، 304، 306، 307، 309، 311، 312، 316، 321، 322، 323، 324، 326، 328، 331، 334، 338، 339، 341، 343، 348، 349، 353، 356، 358، 359، 360، 362، 364، 365، 367، 368، 369، 371، 372، 374، 376، 379، 380، 381، 382، 384، 385، 386، 387، 388، 390، 391، 394، 398، 399، 400، 402، 403، 405، 407، 409، 412، 414، 416، 417، 418، 420، 424، 425، 426، 427، 428، 429، 431، 432، 433، 435، 436، 437، 428، 439، 440، 441، 443، 444، 447، 448، 449، 450، 451، 10/ 7، 12، 15، 16، 17، 19، 21، 28، 33، 34، 37، 39، 40، 43، 46، 47، 49، 51، 53، 54، 56، 57، 59، 60، 66، 67، 68، 69، 70، 72، 74، 78، 79، 80، 83، 93، 94، 97، 100، 101، 103، 104، 105، 15، 108، 109، 115، 116، 117، 118، 122، 125، 126، 128، 132، 137، 139، 142، 146، 147، 148، 150، 151، 164، 166، 167، 169، 170، 171، 173، 174، 175، 176، 180، 183، 185، 186، 187، 188، 194، 195، 198، 199، 203، 204، 205، 206، 209، 212، 215، 217، 225، 226، 227، 228، 229، 230، 232، 233، 235، 236، 243، 245، 248، 253، 257، 259، 260، 261، 262، 264، 266، 267، 268، 269، 272، 273، 274، 276، 282، 287، 288، 291، 292، 293، 294، 295، 296، 301، 302، 303، 304، 305، 309، 312، 315، 317، 319، 320، 321، 327، 328، 330، 331، 340، 354، 355، 356، 357، 360، 361، 362، 363، 369، 371، 372، 374، 375، 376، 378، 380، 384، 385، 387، 388، 392، 393، 395، 396، 398، 399، 400، 401، 403، 405، 406، 408، 409، 411، 414، 415، 418، 419، 420، 421، 422، 423، 424، 425، 428، 431، 432، 433، 434، 435، 436، 437، 438، 440، 441، 442، 443، 445، 449، 450، 452، 456، 457، 459، 463، 466، 467، 468، 470، 471، 473، 476، 477، 478، 8/ 7، 8، 9، 10، 12، 16، 17، 18، 19، 20، 23، 24، 27، 28، 29، 31، 33، 34، 42، 43، 47، 51، 53، 54، 56، 58، 60، 61، 62، 66، 68،

_ 69، 74، 75، 80، 82، 84، 85، 87، 89، 91، 95، 96، 99، 100، 102، 109، 112، 114، 115، 117، 118، 121، 124، 125، 127، 128، 129، 130، 131، 133، 135، 137، 138، 145، 148، 153، 157، 162، 163، 170، 171، 172، 175، 176، 179، 181، 182، 185، 186، 194، 196، 198، 199، 200، 201، 202، 207، 209، 210، 214، 219، 220، 221، 222، 225، 226، 227، 228، 229، 230، 231، 236، 242، 243، 244، 245، 246، 247، 251، 252، 253، 255، 257، 258، 259، 261، 264، 268، 269، 270، 273، 274، 275، 276، 277، 278، 281، 282، 295، 296، 297، 298، 299، 301، 305، 311، 312، 313، 320، 332، 333، 335، 336، 337، 338، 340، 342، 343، 345، 453، 355، 356، 357، 358، 359، 361، 363، 364، 366، 368، 369، 371، 372، 374، 375، 376، 377، 379، 380، 381، 382، 383، 384، 385، 386، 387، 388، 389، 390، 394، 395، 396، 397، 398، 400، 401، 403، 409، 412، 415، 416، 417، 420، 421، 422، 423، 424، 425، 426، 428، 430، 431، 432، 433، 435، 436، 438، 439، 440، 441، 444، 445، 447، 454، 456، 457، 462، 464، 470، 471، 474، 475، 476، جزائر بني مزغنة: 2/ 245، 8/ 336، الجزائر (مدينة): 1/ 20، 43، 45، 83، 89، 91، 140، 142، 143، 145، 148، 151، 156، 158، 159، 163، 166، 169، 170، 171، 173، 174، 175، 176، 205، 213، 215، 224، 232، 239، 247، 248، 253، 254، 263، 254، 263، 264، 267، 269، 276، 282، 295، 299، 303، 309، 324، 332، 333، 338، 350، 358، 360، 361، 371، 388، 417، 419، 425، 423، 426، 460، 469، 504، 2/ 26، 37، 43، 103، 104، 192، 227، 228، 232، 235، 255، 274، 281، 295، 348، 368، 372، 374، 378، 379، 389، 410، 423، 425، 440، 441، 3/ 22، 23، 37، 40، 43، 50، 59، 72، 80، 92، 93، 105، 221، 229، 232، 237، 291، 292، 324، 327، 329، 339، 340، 347، 385، 386، 441، 444، 4/ 11، 29، 431، 445، 519، 5/ 9، 11، 32، 38، 48، 62، 72، 111، 123، 155، 167، 164، 184، 190، 194، 197، 218، 348، 426، 516، 6/ 13، 15، 28، 53، 89، 99، 205، 206، 302، 357، 443، 7/ 136،

_ 159، 202، 292، 361، 457، 8/ 318 - 378، جزر الكناري: 1/ 140، 198، 5/ 70، الجزيرة الخضراء: 5/ 488، جزيرة رودس: 5/ 309، 574، جزيرة زنجبار: 6/ 413. جزيرة سانت مرغريت: 4/ 438، 5/ 329، 6/ 205، 359، 7/ 235، 402، 8/ 330، جزيرة شكيو: 1/ 234، جزيرة شيو: 2/ 371، الجزيرة العربية: 2/ 386، 390، 394، 395، 396، 398، 4/ 104، 261، 339، 5/ 421، 7/ 171، جزيرة كورسيكا: 4/ 155، 327، جسر قسنطينة: 2/ 448، جغبوب: 4/ 122، 252، 259، 261، 263، 265، 268، 269، 270، 272، 5/ 510، 7/ 125، الجلفة: 3/ 100، 215، 231، 267، 4/ 150، 248، 5/ 572، 6/ 161، 383، 7/ 148، 329، 448، 450، الجليل: 5/ 525، جمعة الصهاريج: 3/ 203، 205، 6/ 35، جميلة: 6/ 382، 8/ 415، جندسابور: 2/ 428، جندل: 4/ 70، 84. جنوة: 1/ 151، 177، 6/ 86، جنيف: 5/ 609، 6/ 8، 38، الجنينة: 3/ 38، 39، 5/ 59، جوزيف (بلدية): 3/ 147، جوليا القيصرية: 6/ 85، جيجل: 1/ 41، 140، 142، 143، 265، 2/ 255، 3/ 200، 4/ 390، 413، 452، 474، 5/ 199، 248، 249، 303، 6/ 48، 56، 78، 7/ 340، 8/ 228، جيريفيل: 3/ 65، 114، 158، 163، 4/ 110، 212، 320، (ح) حاسي إيفيل: 6/ 131، الحاسي الأخضر: 7/ 464، حاسي أولاد صالح: 7/ 464، حاسي الدوي: 7/ 464، حاسي الغنامي: 7/ 464، حاسي المطقوين: 8/ 317، حالوحة: 4/ 157، الحامدية: 4/ 159، الحامة: 3/ 43، 5/ 11، 69، 71، 124، 134، 135، 590، 591، 8/ 385، 412، الحبشة: 6/ 360، 7/ 186، 8/ 226، الحجاز: 1/ 85، 86، 87، 251، 285، 288، 295، 296، 384، 431، 508، 520، 2/ 35، 46، 55، 57، 101، 103، 217، 219، 230، 248، 260، 271، 328، 383، 386، 387، 389،

_ 390، 391، 392، 398، 3/ 78، 110، 130، 139، 145، 164، 165، 200، 230، 260، 267، 280، 369، 375، 4/ 30، 74، 98، 123، 125، 128، 126، 155، 172، 173، 174، 219، 245، 265، 268، 274، 282، 291، 303، 400، 401، 402، 404، 405 - 408، 410، 411، 413، 414، 5/ 227، 238، 254، 308، 329، 380، 394، 473، 475، 478، 482 - 486، 497، 502، 506، 510، 513، 515، 518، 526، 529، 537 543،، 545، 548، 550، 565، 602 603،، 610، 6/ 197، 293، 306، 417، 7/ 41، 43، 47، 59، 60، 63، 97، 119، 137، 146، 161، 256، 314، 382، 442، 459، 465، 467، 468، 8/ 12، 74، 79، 89، 90، 91، 159، 143، 144، 146، 179، 183، 196، 202، 208، 228، 282، 283، 290، 311، 416، الحجوط: 4/ 427، 6/ 159، 433، 8/ 308، الحجون: 8/ 76، حدادن: 7/ 231، حدوش: 1/ 465، 2/ 253، الحراش: 1/ 169، 3/ 250، 4/ 156، 6/ 139، 7/ 130، 8/ 228، حربيل: 3/ 237، الحروش: 6/ 64، 8/ 97، حصن فرنسا: 7/ 355، حصن لامالق: 6/ 62، الحضنة: 5/ 329، 490، 7/ 146، 320، 8/ 308، 325، 326، حلب: 6/ 236، 8/ 290، الحمام الفوقاني: 4/ 107، حمام ملوان: 4/ 451، حماة: 8/ 289، حمزة: 3/ 190، 236، 4/ 198، 5/ 16، 227، 484، الحنايا: 2/ 119، حوران: 5/ 522، 552، حيدر آباد: 2/ 28. حيدرة:: 5/ 135، 136، (خ) خراسان: 5/ 342، الخرمة: 5/ 485، الخروب: 8/ 411، الخشنة: 3/ 23، 5/ 11، 8/ 308، الخليج: 8/ 167، الخليج (العربي): 7/ 202، 341، خنشلة: 3/ 217، 4/ 21، 151، 152، 181، 275، 276، 296، 5/ 490، 7/ 128، 8/ 228، خنق النطاح: 3/ 59، 8/ 303، الخنقة: 4/ 32، 145، 147، 150، 152، 156، 160، 176، 179، 281، 296،

_ 5/ 150، 373، 490، 6/ 303، 7/ 81، 127، 332، 336، 337، 442، الخنقة (سيدي ناجي): 1/ 179، 249، 265، 268، 284، 297، 298، 310، 317، 335، 350، 479، 522، 2/ 77، 84، 92، 157، 388، 449، 3/ 161، 216، 218، 255، 8/ 75، 79، 398، الخيثر: 4/ 118، الخيرالدا: 8/ 393، خيران: 3/ 217، 4/ 21، 32، 179، (د) دادس: 4/ 61، 87، دار الحاج عمر: 5/ 346، 404، دار السلام: 3/ 270، دار الصدقة الإسلامية: 5/ 202، دارفور: 1/ 507، 2/ 384، داكار: 6/ 247، دالي إبراهيم: 3/ 292، 6/ 410، دانزيقير: 4/ 278، الدانمارك: 1/ 205، 206، 2/ 314، دبدو: 7/ 460، دبلن: 6/ 407، الدبيلة: 7/ 336، درعة: 1/ 360، 504، 4/ 296، 6/ 179، 249، الدرعية: 2/ 386، 387، درنة: 1/ 514، 5/ 553، الدريعات: 3/ 194، دلس: 1/ 41، 42، 143، 148، 266، 464، 3/ 189، 4/ 389، 451، 5/ 76، 204، 247، 475، 509، 521، 6/ 376، 7/ 134، 328، 8/ 131، دلول: 4/ 94، 102، 6/ 378، دمر: 5/ 385، 7/ 469، 8/ 280، 289، دمشق: 1/ 31، 89، 90، 92، 140، 251، 273، 462، 493، 2/ 26، 28، 32، 48، 87، 99، 103، 105، 108، 200، 212، 213، 217، 219، 240، 336، 362، 376، 385، 404، 425، 3/ 180، 186، 245، 258، 4/ 20، 57، 59، 80، 81، 138، 351، 5/ 227، 263، 266، 286، 385، 474، 481، 482، 500، 511، 512، 520، 525 - 528، 531، 537، 538، 540، 544، 549، 553، 555، 556، 558، 560، 561، 562، 566، 568، 569، 583، 602، 604، 605، 616، 617، 6/ 66، 145، 147، 259، 325، 352، 7/ 15، 29، 94، 97، 116، 117، 121، 139، 155، 156، 157، 174، 176، 203، 280، 281، 308، 316، 338، 350، 351، 399، 436، 437، 438، 439، 456، 8/ 12، 46، 48، 62، 79، 80، 84، 96، 101، 147، 167، 173، 184، 204، 234، 235، 242، 274، 283، 289، 304، 385، 386، 429، 450،

_ دمنات: 8/ 32، 60، دمياط: 4/ 409، الدنمارك: 6/ 147، الدنوش: 8/ 404، دوار أنيسمان: 5/ 125، دوار بني ماذر: 7/ 460، دوار بونوح: 5/ 125، دوار تيقرين: 3/ 213، 4/ 170، دوار زلاطو: 8/ 334، دوار الشرفة: 3/ 107، دوار طرش: 4/ 246، 247، دوار عين الملاحة: 4/ 184، دوار المريج: 4/ 183، دوار معاوية: 7/ 145، الدويرة: 1/ 264، 3/ 23، الديس: 3/ 88، 93، 222، 223، 5/ 575، 7/ 61، 232، 258، 426، 427، 428، 430، 473، 8/ 99، دينيو: 6/ 111، ذراع الميزان: 3/ 192، 210، 211، 5/ 125، 6/ 76، 120، 7/ 322، رابغ: 4/ 413، راس سيدي مروان: 1/ 177، راس العين: 7/ 460، راس العيون: 7/ 145، راس الواد الشارف: 7/ 461، الراشدية = معسكر، الراشدية (قلعة): 2/ 51، 351، راقوس: 6/ 149، الرباح: 4/ 51، الرباط: 1/ 7، 35، 55، 57، 59، 62، 65، 66، 69، 70، 74، 75، 76، 81، 83، 84، 87، 88، 90، 93، 94، 99، 101، 102، 104، 114، 5 11، 116، 117، 118، 120، 130، 138، 285، 368، 427، 428، 436، 443، 448، 454، 493، 494، 496، 509، 517، 2/ 22، 27، 29، 30، 71، 72، 78، 80، 81، 82، 83، 91، 92، 95، 96، 97، 102، 109، 114، 115، 120، 121، 124، 127، 128، 132، 135، 138، 144، 147، 152، 153، 161، 163، 165، 169، 180، 182، 193، 198، 227، 240، 249، 250، 252، 265، 279، 281، 299، 313، 316، 352، 354، 404، 405، 413، 424، 432، 4/ 478، 504، 511، 6/ 75، 98، 7/ 43، 44، 51، 59، 67، 72، 86، 91، 137، 153، 162، 204، 406، 408، 449، 465، 466، 8/ 31، 33، 48، 90، 220، 221، 245، 266، 284، 434، 435، الرحبة: 3/ 39،

_ رحبة الطابية: 3/ 44، الرزيقات: 8/ 329، رسقونيا: 5/ 403، رشيد: 2/ 63، 352، 390، 391، 427، 429، 431، 435، رقان: 3/ 213، 4/ 93، 94، 7/ 393، الرقيبات: 4/ 237، الرقيبة: 7/ 336، الرمشي: 4/ 85، الرملة: 5/ 11، روان: 6/ 35، 8/ 321، روسيا: 1/ 186، 189، 429، 4/ 97، 251، 381، 411، 5/ 226، 234، 239، 484، 539، 545، 547، 611، 6/ 9، 77، 8/ 161، 181، 268، 342، روسيكادة: 5/ 407، 6/ 85، رومة: 2/ 433، 5/ 39، 43، 6/ 123، 134، 272، 317، 407، 425، 8/ 200، 378، 432، روميليا: 1/ 139، الرويسات: 3/ 200، 214، 4/ 47، 48، 49، 52، 7/ 463، الريف (المغرب): 4/ 118، 128، 8/ 51، 181، ريكيافيك: 5/ 355، (ز) الزاب: 1/ 40، 67، 156، 501، 4/ 233، 7/ 337، زانة: 6/ 296، 8/ 411، الزاهرة: 8/ 385، الزحاولة: 5/ 69، 70، 135، زحلة: 7/ 469، زريبة حامد: 2/ 395، زريبة الوادي: 2/ 395، 3/ 165، 7/ 173، 8/ 257، زريمة: 7/ 464، الزعاطشة: 3/ 88، 214، 218، 325، 4/ 115، 122، 150، 151، 155، 160، 5/ 508، 572، 6/ 149، 343، 7/ 127، 8/ 52، 324، الزغارة: 6/ 139، الزقم: 5/ 98، 7/ 336، زكري: 7/ 284، زمزم: 1/ 480، زمورة: 1/ 180، 337، 3/ 31، 4/ 45، زنجبار: 3/ 269 - 271، 7/ 15، 17، 88، زهرة: 7/ 460، زواوة: 1/ 7، 43، 87، 156، 175، 179، 201، 213، 214، 219، 266، 267، 295، 298، 310، 321، 325، 350، 398، 401، 421، 437، 440، 464، 479، 488، 506، 510، 520، 523، 2/ 20، 21، 54، 157، 158، 159، 410، 3/ 24، 28، 29، 31، 33، 35، 38، 49، 53، 61، 89، 97، 172، 175،

_ 180، 181، 182، 184، 186، 187، 190، 194، 195، 201، 202، 206، 209، 210، 211، 218، 219، 221، 233، 238، 262، 281، 295، 325، 326، 342، 347، 348، 353، 362، 363، 419، 422، 434، 438، 446، 4/ 45، 49، 50، 115، 127، 139، 140، 143، 144، 146، 159، 160، 161، 187، 294، 302، 323، 357، 368، 442، 450، 454، 456، 457، 538، 5/ 8، 10، 16، 77، 78، 124، 125، 129، 177، 178، 204، 227، 329، 357، 361، 363، 364، 396، 443، 458، 462، 475، 477، 478، 479، 481، 490، 492، 509، 521، 523، 536، 538، 559، 6/ 35، 37، 48، 55، 95، 116، 117، 120، 121، 122، 123، 128، 129، 131، 139، 171، 172، 205، 258، 302، 308، 313، 317، 321، 322، 324، 325، 327، 338، 339، 340، 343، 345، 353، 367، 370، 375، 383، 447، 7/ 25، 35، 49، 61، 81، 95، 127، 150، 176، 205، 228، 251، 258، 284، 297، 304، 320، 339، 341، 342، 349، 350، 378، 445، 469، 473، 476، 8/ 15، 31، 32، 33، 35، 39، 40، 44، 52، 56، 57، 58، 59، 62، 63، 64، 101، 195، 210، 219، 322، 325، 326، 328، 332، 368، 369، 382، 427، 434، 473، زوسفانة: 4/ 304، زولة: 2/ 377، زويلة: 6/ 67، الزيبان: 1/ 179، 217، 284، 2/ 77، 158، 333، 388، 3/ 216، 217، 4/ 146، 160، 220، 254، 5/ 567، 6/ 48، 7/ 391، 402، 449، 8/ 219، 325، (س) الساحل: 6/ 382، 419، ساحة البطحاء (قسنطينة): 5/ 81، ساحة الحكومة: 5/ 14، 35، 37، 73، ساحة الشهداء: 3/ 39، 8/ 436، ساحة القصبة: 5/ 133، الساقية الحمراء: 1/ 241، 264، 464، 3/ 182، 265، 4/ 42، 147، 237، 7/ 319، سان جيرمان: 7/ 127، سان دومينيك: 8/ 379، سان سيبريان: 6/ 127، سان مونيك: 6/ 127، سانت أوجين: 6/ 109، 116، 123، 137، سانت ايتيان: 4/ 102،

_ سانتا كروز: 6/ 116، سانتا هيلينا: 6/ 111، السانية: 1/ 481، الساورة: 4/ 237، سباو: 1/ 16، 214، 3/ 200، 4/ 141، 5/ 479، 8/ 337، سبتة: 2/ 331، 4/ 66، السبخة: 3/ 192، سبخة وهران: 6/ 362، 7/ 66، سبدو: 4/ 327، 398، 5/ 528، 6/ 64، 7/ 139، 460، ستراسبورغ: 6/ 133، ستيتن: 8/ 318، سجلماسة: 1/ 360، 375، 425، 445، 504، 2/ 193، السحاري: 4/ 162، السد: 5/ 11، سدراتة: 3/ 267، سردينيا: 5/ 539، سريانة: 3/ 251، 5/ 374، 7/ 334، 335، سطيف: 1/ 501، 3/ 129، 139، 141، 143، 144، 155، 160، 167، 192، 199، 302، 4/ 39، 134، 198، 333، 387، 390، 449، 464، 483، 484، 485، 5/ 358، 390، 475، 476، 480، 490، 492، 527، 6/ 83، 84، 133، 152، 161، 7/ 102، 132، 232، 281، 342، 8/ 55، 74، 81، 96، 120، 183، 243، 246، 359، السعودية: 2/ 386، 387، 3/ 140، 5/ 379، 483، 7/ 79، 216، 256، 314، 8/ 442، سعيدة: 4/ 96، 117، 118، 281، 5/ 421، 6/ 161، 8/ 19، 35، 149، 150، 359، سفلات: 7/ 145، سفيان: 7/ 466، سقوطو 4: / 216، 227، 279، سكيكدة: 3/ 46، 199، 299، 302، 320، 4/ 387، 389، 431، 449، 452، 5/ 76، 89، 95، 212، 402، 407، 481، 511، 6/ 83، 8/ 202، 297، 376، 403، سلولا أومالو: 3/ 192، سليانة: 4/ 154، سمرقند: 5/ 518، 8/ 376، السمندو: 4/ 32، سنغاي: 4/ 279، سهل ملاقة: 7/ 382، السودان: 1/ 44، 55، 58، 182، 287، 430، 507، 2/ 69، 150، 179، 383، 384، 3/ 412، 4/ 47، 48، 140، 223، 232، 233، 235، 237، 251، 284، 315، 327، 405، 505، 5/ 40، 47، 338، 511، 519، 528، 6/ 24، 39، 47، 77، 129، 130، 165، 180، 225، 233، 237، 390، 22 4، 426،

_ 7/ 167، 316، 387، 462، 463، 8/ 198، 226، 397، سور الغزلان: 3/ 183، 192، 375، 4/ 84، 166، 296، 387، 451، 473، 5/ 217، 220، 480، 524، 6/ 64، 161، 8/ 359، سورية: 1/ 8، 130، 296، 399، 437، 460، 2/ 371، 374، 379، 390، 393، 433، 3/ 350، 401، 4/ 115، 138، 327، 411، 469، 5/ 227، 264، 286، 308، 474، 477، 478، 479، 480، 481، 489، 496، 500، 502، 503، 509، 514، 515، 520، 523، 524، 532، 537، 539، 551، 552، 554، 555، 560، 561، 562، 566، 568، 578، 610، 613، 6/ 72، 119، 134، 136، 145، 150، 153، 366، 7/ 46، 175، 336، 399، 436، 440، 456، 459، 467، 8/ 27، 52، 69، 79، 80، 125، 170، 179، 196، 204، 244، 289، 442، السوس: 5/ 543، 7/ 36، 466، 8/ 35، السوس الأقصى: 4/ 281، سوسطارة: 8/ 473، سوسة: 7/ 472، سوف: 1/ 175، 3/ 49، 200، 213، 214، 217، 275، 4/ 48، 146، 154، 218، 219، 221، 232، 274، 277، 283، 336، 506، 5/ 98، 99، 294، 299، 308، 476، 492، 494، 498، 517، 6/ 46، 57، 67، 102، 383، 390، 389، 7/ 74، 84، 116، 126، 232، 322، 335، 336، 355، 356، 387، 391، 392، 448، 468، 8/ 35، 95، 325، 331، 332، 333، سوف (الوادي): 2/ 49، 77، 332، سوفلات: 3/ 236، سوق أهراس: 3/ 217، 4/ 144، 181، 182، 183، 299، 5/ 395، 490، 558، 7/ 454، 455، 8/ 376، 415، سوق الجمعة: 3/ 23، سوق عكاظ: 3/ 196، 7/ 26، سومور: 3/ 408، السويد: 1/ 213، 4/ 502، 507، 510، 7/ 162، 225، 8/ 91، 265، سويسرا: 5/ 585، 604، 617، 6/ 388، 8/ 178، سيبوس (نهر): 1/ 177، سيدي إبراهيم: 5/ 152، 6/ 113، سيدي بلعباس: 3/ 46، 65، 103، 114، 120، 121، 302، 335، 4/ 114، 115، 390، 411، 438، 448، 502، 5/ 141، 199، 306، 6/ 113، 7/ 99، 140، 364، 8/ 435، 464، سيدي بلقاسم: 4/ 46، سيدي بهلول: 1/ 449، سيدي بوزيد: 4/ 202، سيدي خالد: 1/ 268، 479، 2/ 251،

_ 395، 7/ 449، سيدي خليفة: 3/ 237، 5/ 366، 7/ 408، 411، سيدي سالم: 6/ 390، سيدي الشيخ: 7/ 368، سيدي عقبة: 1/ 179، 180، 252، 422، 443، 479، 2/ 77، 78، 395، 3/ 139، 161، 163، 4/ 39، 149، 369، 5/ 95، 96، 308، 432، 478، 483، 490، 7/ 127، 228، سيدي علي بوناب: 3/ 192، سيدي عون: 7/ 336، سيدي عيسى: 4/ 84، 6/ 349، سيدي عيش: 3/ 197، 7/ 205، سيدي فرج: 5/ 18، 20، 69، 213، 305، 330، 6/ 110، 145، 146، 272، 410، 7/ 355، 361، 378، 400، 8/ 337، سيدي المسعود: 7/ 358، سيدي مسيد: 3/ 409، سيدي نعمان: 4/ 146، سيرات: 4/ 246، سيرتا: 1/ 284، 6/ 419، 420، 8/ 413، سيرقين: 3/ 231، سيق: 3/ 123، 124، 256، 5/ 498، 7/ 61، 370، 372، 8/ 19، سيقو: 4/ 227، سيقوس: 6/ 354، سيلا أومالو: 3/ 108، السيلات: 3/ 200، سينقال: 7/ 387، السينيغال: 3/ 103، 120، 4/ 58، 133، 192، 195، 262، 280، 6/ 30، 103، 165، 235، 247، 316، 318، 425، 7/ 294، 8/ 31، 33، 335، سيوة: 8/ 32، (ش) شاذلة: 4/ 66، شارل روا: 8/ 347، شارلو: 5/ 306، شاطبة: 5/ 56، شاطودان: 4/ 169، 8/ 139، 140، الشاغور (حي): 4/ 81، شالون: 6/ 111، الشام: 1/ 20، 165، 166، 291، 2/ 27، 105، 106، 186، 216، 217، 218، 219، 220، 226، 260، 330، 381، 388، 3/ 6، 76، 93، 99، 139، 4/ 57، 367، 368، 401، 404، 410، 484، 485، 486، 488، 5/ 473، 475، 476، 482، 487، 495، 521، 522، 524، 526، 528، 537، 543، 545، 548، 555، 558، 559، 569، 572، 602، 610، 611، 615،

_ 6/ 319، 322، 362، 363، 422، 423، 429، 7/ 45، 97، 115، 118، 122، 196، 280، 316، 327، 437، 456، 8/ 12، 96، 123، 124، 125، 147، 223، 270، 280، 339، الشراقة: 3/ 106، شرشال: 1/ 148، 182، 264، 464، 2/ 255، 371، 3/ 23، 102، 103، 104، 163، 172، 231، 236، 446، 4/ 143، 389، 451، 473، 5/ 77، 78، 79، 100، 124، 137، 199، 402، 404، 406، 409، 6/ 85، 226، 247، 310، 7/ 267، 268، 342، 8/ 157، 318، 364، 368، 410، 412، 467، الشرفة: 3/ 191، 192، 199، 7/ 443، الشرق: 4/ 248، 333، 5/ 240، 440، 471، 6/ 11، 12، 90 - 91، 293، 386، 417، 433، 443، 7/ 119، 190، 256، 275، 475، 8/ 68، 120، 208، 246، 254، 261، 299، 374، 380، 381، 388، 431، 438، 442، 460، الشرق الأدنى: 6/ 149، الشرق الأقصى: 7/ 114، شلاطة: 2/ 139، 276، 365، 3/ 29، 172، 182، 183، 184، 185، 190، 194، 202، 211، 218، 4/ 45، 306، 5/ 361، 373، 488، 6/ 120، 7/ 449، 476، شلالة: 1/ 512، 2/ 346، 3/ 450، 4/ 30، 7/ 359، 360، 8/ 325، 359، شلغوم العيد = شاطوران: 4/ 169، 7/ 409، الشلف: 1/ 462، 466، 2/ 116، 118، 133، 249، 351، 3/ 172، 228، 230، 237، 375، 4/ 109، 116، 5/ 138، 199، 220، 329، 579، 6/ 127، 129، 139، 343، 345، 7/ 103، 323، 440، 443، 444، 8/ 178، 314، 368، 369، 466، شمال إفريقيا: 1/ 137، 140، 141، 142، 197، 2/ 381، 7/ 172، 209، 4/ 239، 303، 5/ 43، 246، 259، 454، 519، 520، 6/ 37، 39، 84، 170، 291، 300، 314، 326، 348، 376، 402، 405، 8/ 115، 378، 462، شنقيط: 2/ 386، 387، 4/ 195، 228، 6/ 91، 235، شنيل: 2/ 258، (صلى الله عليه وسلم) صالي: 7/ 393، الصحراء: 4/ 223، 232، 233، 242، 248، 252، 254، 264، 266، 267، 280، 282، 302، 304، 321، 328، 369، 459، 477، 5/ 97، 216، 238، 290، 304، 337، 357، 368، 375، 376، 410، 490، 493، 511، 518،

_ 536، 6/ 27، 35، 36، 37، 38، 39، 40، 55، 64، 74، 85، 87، 97، 101، 102، 103، 125، 130، 131، 134، 140، 144، 161، 165، 179، 228، 235، 279، 288، 306، 309، 310، 339، 342، 343، 364، 370، 383، 388، 431، 435، 441، 7/ 77، 79، 108، 189، 190، 209، 241، 244، 247، 251، 297، 320، 322، 323، 367، 388، 390، 428، 431، 459، 461، 462، 470، 8/ 34، 36، 39، 154، 267، 309، 317، 320، 324، 328، 331، 334، 417، 475، 476، صدوق: 3/ 183، 189، 190، 197، 211، 212، 4/ 145، 161، 168، 172، 294، 504، 5/ 124، 125، 150، 374، 7/ 64، 132، 205، 206، 219، 8/ 327، الصديقية: 4/ 103، 282، الصفا: 8/ 76، 130، صفاقس (سفاقص): 1/ 498، 5/ 519، صفين: 7/ 219، صقلية: 1/ 54، 5/ 515، 586، 593، 7/ 312، 315، 419، 421، 8/ 27، 291، 292، صوبيا: 4/ 250، الصومام: 3/ 180، الصين: 3/ 361، 4/ 518، 5/ 226، (ض) الضاية: 6/ 159، ضاية الحرث: 4/ 159، (ط) الطاسيلي: 3/ 214، 8/ 439، طاقين 5: / 327، 6/ 207، 8/ 318، الطاهير: 4/ 496، 6/ 104، الطائف: 5/ 485، 6/ 364، طرابلسى: 1/ 102، 103، 138، 142، 287، 152، 436، 498، 2/ 146، 332، 389، 390، 392، 395، 398، 426، 3/ 243، 401، 4/ 28، 54، 68، 122، 123، 125، 133، 134، 135، 138، 152، 169، 181، 183، 209، 249، 261، 297، 299، 337، 403، 410، 493، 505، 253، 5/ 239، 249، 493، 494، 504، 515، 519، 549، 553، 610، 617، 6/ 41، 60، 67، 77، 150، 166، 386، 406، 288، 7/ 51، 286، 340، 399، 439، 470، 471، 8/ 231، 241، 254، الطرارة: 5/ 105، 8/ 234، طرش: 1/ 223، طنجة: 4/ 98، 287، 411، 484، 486، 5/ 35، 163، 212، 233، 475، 488، 525، 526، 527، 555، 571، 577، 612، 6/ 75، 77، 147، 148، 150، 153، 199، 255، 7/ 50، 437، 465،

_ 8/ 19، 253، 421، طنطا: 5/ 543، 7/ 139، طولقة: 1/ 7، 31، 77، 79، 98، 101، 450، 509، 2/ 43، 64، 87، 106، 108، 112، 123، 130، 131، 138، 140، 142، 353، 406، 3/ 65، 89، 100، 161، 163، 172، 214، 215، 216، 217، 4/ 31، 146، 147، 148، 151، 154، 156، 160، 161، 178، 180، 181، 182، 185 288،، 308، 335، 5/ 150، 254، 361، 367، 368، 383، 432، 454، 490، 6/ 189، 7/ 61، 65، 258، 385، 395، 428، 8/ 15، 160، 250، طولون: 3/ 38، 443، 4/ 142، 5/ 47، 243، 6/ 16، 111، 112، 155، الطيبات: 4/ 230، 8/ 230، طيبة: 2/ 245، 3/ 134، 140، 5/ 399، 8/ 290، طيوط: 4/ 79، (ظ) الظهرة: 1/ 516، 4/ 97، 116، 474، 490، 6/ 113، 279، 306، 308، 310، 8/ 152، 153، (ع) العالم الإسلامي: 1/ 76، 273، 320، 387، 388، 459، 493، 525، 2/ 11، 60، 94، 149، 377، 381، 382، 398، 3/ 7، 82، 85، 98، 100، 309، 327، 350، 385، 388، 401، 4/ 29، 74، 172، 173، 243، 251، 252، 257، 261، 303، 304، 313، 314، 339، 351، 361، 368، 403، 405، 410، 528، 5/ 223، 273، 282، 288، 551، 278، 480، 514، 543، 588، 6/ 44، 76، 90، 232، 238، 271، 425، 427، 436، 437، 7/ 30، 46، 114، 124، 167، 175، 308، 333، 389، 8/ 54، 375، العالم العربي: 1/ 186، 4/ 525، 5/ 238، 278، 574، 6/ 151، 7/ 247، 398، 8/ 82، 227، العالم المسيحي: 4/ 313، العباد: 3/ 374، 4/ 65، 246، 5/ 109، عبد الكريم حساني: 6/ 389، عجاين (مشهد): 4/ 283. عدني: 8/ 58، 61، 64، العراق: 1/ 8، 25، 287، 296، 2/ 27، 160، 166، 200، 4/ 128، 327، 5/ 420، 496، 523، 568، 583، 613، 6/ 423، 8/ 41، 84، 181، 198، 226، 251، 277، 279، 461، العرائش: 2/ 215، 273، عزابة: 8/ 297، عزازقة: 3/ 187، 190، 197، 5/ 497، 8/ 468، عسير: 4/ 250،

_ العطاف (سان سيبريان): 3/ 33، 342، 375، 4/ 80، 117، 312، 7/ 322، العطاف: 1/ 181، 4/ 283، 5/ 376، 378، 380، العقلة: 8/ 154، عقي: 7/ 461، عكورن: 7/ 284، العلمة: 4/ 485، 7/ 145، 8/ 459، عمالو: 3/ 183، عمان: 3/ 266، 269، 270، 271، 308، 4/ 373، 5/ 240، 379، 380، 381، 7/ 16، العمرى (واحة): 3/ 50، 4/ 39، 148، 308، عمور: 8/ 332، عمي موسى: 3/ 439، 4/ 267، 474، 514، 534، عميش: 3/ 178، 214، 235، 4/ 47، 49، 51، 52، 55، 184، 259، 335، 336، 504، 5/ 150، 395، 6/ 30، 389، 7/ 116، 122، 463، 8/ 96، عنابة: 1/ 40، 41، 42، 45، 140، 143، 148، 151، 177، 178، 180، 217، 228، 240، 248، 250، 253، 261، 262، 267، 273، 284، 302، 321، 324، 335، 374، 402، 407، 412، 413، 414، 437، 446، 470، 479، 484، 484، 485، 486، 523، 2/ 53، 54، 61، 62، 63، 72، 104، 126، 158، 162، 191، 255، 269، 335، 338، 352، 390، 438، 3/ 42، 45، 59، 65، 129، 131، 136، 141، 145، 147، 160، 179، 217، 267، 284، 292، 293، 299، 302، 303، 320، 332، 334، 392، 434، 441، 444، 451، 4/ 33، 40، 61، 76، 85، 119، 183، 274، 276، 298، 359، 390، 368، 424، 428، 431، 449، 452، 469، 481، 5/ 92، 93، 199، 217، 243، 245، 307، 319، 327، 337، 355، 356، 358، 360، 440، 425، 436، 441، 475، 490، 532، 565، 566، 569، 573، 576، 6/ 11، 15، 48، 66، 77، 78، 96، 108، 109، 111، 132، 133، 151، 161، 165، 194، 302، 309، 356، 357، 378، 394، 396، 416، 420، 7/ 122، 342، 348، 355، 438، 454، 8/ 127، 129، 140، 184، 372، 376، 402، 407، 411، 450، عين بسام: 3/ 236، العين البيضاء: 1/ 250، 257، 3/ 59، 134، 141، 156، 157، 160، 217، 4/ 181، 182، 183، 5/ 476، 575، 6/ 195، 309، 8/ 228، 237، العينا البيضاء (معسكر): 2/ 449، 5/ 103، عين تاغروت: 5/ 480،

_ عين التركي: 4/ 179، 6/ 72، 240، 7/ 380، عين تموشنت: 2/ 347، 4/ 89، عين التوتة: 8/ 45، عين الحمام: 3/ 438، 4/ 38، 5/ 204، 6/ 117، 256، 287، 8/ 61، عين الحوت: 1/ 265، 269، عين الدفلى: 4/ 61، عين الربط: 2/ 338، عين الزبوجة: 5/ 11، العين الزرق اء: 5/ 11، عين الصابون: 4/ 154، عين صالح: 2/ 387، 3/ 213، 214، 283، 4/ 47، 216، 232، 6/ 67، 161، 7/ 79، 393، 8/ 316، 321، العين الصفراء: 4/ 32 89، 281، 321، 5/ 375، 6/ 136، 161، 241، 390، 8/ 308، 454، عين عبيد: 3/ 200، عين غزالة: 1/ 514، 7/ 329، العين الكبيرة: 7/ 59، عين ماضي: 1/ 179، 180، 181، 252، 268، 317، 509، 510، 512، 2/ 346، 361، 386، 3/ 213، 214، 224، 227، 4/ 30، 32، 191، 194، 195، 196، 197، 198، 200، 201، 202، 203، 204، 205، 207، 208، 209، 210، 211، 212، 214، 216، 218، 219، 220، 223، 224، 227، 229، 230، 231، 235، 242، 248، 288، 294، 5/ 279، 280، 375، 526، 530، 546، 6/ 66، 383، 7/ 123، 124، 137، 180، 359، 446، 8/ 159، 238، 420، عين مسرة: 4/ 246، عين مليلة: 4/ 184، 5/ 478، 7/ 70، (غ) غات: 4/ 47، 280، 321، 5/ 420، 6/ 67، 104، 228، 7/ 461، 462، 464، 8/ 32، 35، 36، غار حراء: 7/ 116، 8/ 290، غار الظهرة: 6/ 283، غار الفراشيش: 7/ 385، الغال (بلاد): 3/ 344، غدامس: 2/ 386، 387، 3/ 141، 4/ 44، 45، 152، 201، 228، 233، 264، 280، 301، 6/ 39، 55، 57، 102، 228، 7/ 108، 462، 463، 464، 8/ 32، 34، 35، 36، غرداية: 1/ 181، 3/ 214، 265، 270، 272، 342، 446، 4/ 48، 50، 51، 109، 283، 284، 5/ 8، 290، 311، 376، 399، 567، 601، 6/ 35، 74، 129، 131، 134، 7/ 390، 8/ 368، غرناطة: 1/ 36 57، 137، 201، 2/ 258، 313، 5/ 66، 67، 107،

_ 458، 6/ 227، 250، 7/ 269، 8/ 393، 432، 457، غريب: 3/ 128، 129، 130، 4/ 33، 70، 7/ 136، 141، غريس: 1/ 421، 3/ 123، 124، 125، 4/ 114، 483، 487، 5/ 152، 387، 6/ 47، 7/ 124، 140، 202، 320، 324، 326، 327، 328، 329، 362، 8/ 43، 131، 223، 240، 310، 311، غزة: 2/ 379، الغزوات: 4/ 111، الغسول: 4/ 509، غسيرة: 4/ 155، غمرة: 7/ 336، غيليزان: 3/ 231، 4/ 45، 46، 127، 474، 486، 5/ 199، 7/ 25، (ف) الفاتيكان: 1/ 30، 6/ 108، 118، فارس: 1/ 79، 493، 5/ 223، 475، 487، 549، 577، 6/ 219، 8/ 375، فارس (بلاد): 5/ 223، 226، 516، فاس: 1/ 43، 44، 54، 57، 58، 78، 123، 124، 125، 130، 131، 138، 169، 176، 208، 241، 260، 274، 295، 360، 372، 376، 377، 379، 423، 424، 425، 426، 427، 435، 439، 442، 443، 463، 477، 493، 497، 498، 505، 509، 510، 511، 512، 515، 2/ 27، 29، 34، 37، 45، 67، 68، 71، 81، 103، 122، 123، 148، 213، 215، 216، 218، 223، 227، 274، 288، 309، 330، 334، 359، 379، 384، 426، 427، 3/ 57، 392، 4/ 48، 64، 65، 86، 91، 113، 134، 148، 191، 192، 194، 195، 199، 219، 222، 237، 239، 245، 247، 354، 484، 493، 503، 504، 509، 511، 6/ 101، 188، 7/ 41، 42، 43، 73، 75، 204، 205، 327، 333، 457، 460، 466، 8/ 207، 293، 420، 435، فاشودا: 7/ 376، فانسان: 4/ 390، فج مزالة: 3/ 148، 5/ 480، الفجوج: 4/ 45، فجيج = فقيق: 1/ 138، 360، 4/ 90، 107، الفحول: 4/ 507، فرجيوة: 4/ 474، 5/ 150، فرساي: 8/ 53، 54، فرندة: 1/ 220، 4/ 120، 281، 474، 5/ 375، 6/ 203، 7/ 364، 381، 473، 8/ 359، فرنسا: 1/ 70، 140، 152، 166، 234، 284، 302، 317، 2/ 367، 380، 434، 3/ 22، 25، 26، 27، 37، 50،

_ 54، 64، 72، 74، 76، 80، 81، 83، 88، 93، 97، 98، 103، 105، 108، 115، 121، 129، 130، 135، 142، 152، 158، 174، 176، 177، 181، 182، 184، 193، 207، 210، 217، 218، 236، 241، 242، 244، 246، 251، 252، 254، 258، 269، 270، 279، 280، 282 - 285، 292، 295، 300 - 308، 310، 311، 314، 318، 321، 325، 326، 331، 332، 333، 334، 335، 337، 338، 339، 341، 343، 344، 345، 348، 349، 350، 354، 357، 358، 361، 363، 365، 368، 369، 370، 374، 382، 383، 387، 388، 389، 392، 393، 398، 399، 400، 401، 402، 405، 406، 407، 408، 409، 410، 412، 413، 416، 418، 419، 420، 421، 422، 423، 424، 427، 428، 429، 431، 432، 442، 443، 445، 451، 4/ 14، 31، 37، 40، 45، 46، 47، 50، 51، 53، 54، 55، 59، 62، 63، 81، 92، 93، 97، 98، 99، 100، 101، 102، 103، 106، 111، 118، 119، 121، 122، 124، 125، 128، 129، 130، 151، 152، 154، 155، 158، 164، 165، 172، 173، 178، 186، 181، 182، 183، 185، 187، 191، 195، 197، 199، 202، 203، 206، 211 - 216، 228، 233، 236، 239، 240، 242، 244، 249، 254، 264، 270، 272، 294، 300، 302، 303، 304، 306، 307، 309، 310، 311، 312، 313، 314، 315، 316، 317، 318، 319، 321، 323، 324، 326، 329، 330، 331، 332، 335 - 338، 348، 349، 351، 352، 354، 356، 357، 358، 361، 364، 365، 369، 370، 372، 376، 379، 380، 381، 384، 386، 387، 391، 396، 398، 402، 403، 404، 405، 406، 408، 410، 411، 418، 420، 425، 431، 432، 433، 434، 435، 441، 465، 468، 475، 492، 497، 502، 518، 520، 522، 526، 527، 531، 534، 5/ 28، 51، 68، 85، 93، 126، 133، 141، 146، 187، 200، 203، 205، 206، 207، 212، 213، 214، 217، 219، 221، 223، 225، 228، 229، 230، 233، 234، 235، 237، 239، 240، 241، 242، 245، 248، 249، 251، 256، 260، 263، 266، 267، 268، 269، 274، 278، 285، 287، 293، 305، 308، 314، 327، 329، 330، 331، 332، 339، 341، 343، 344، 346، 359، 374، 375، 403، 407، 410، 411، 432، 440، 471، 474، 476، 480، 482، 483، 484، 485، 489،

_ 493، 497، 501، 502، 505، 507، 510، 514، 515، 516، 517، 518، 519، 520، 525، 526، 529، 532، 534، 536، 537، 539، 541، 543، 544، 546، 547، 548، 549، 550، 551، 552، 554، 555، 556، 557، 558، 559، 560، 562، 569، 578، 582، 584، 585، 588، 589، 597، 601، 602، 603، 604، 606، 608، 611، 612، 614، 6/ 8، 9، 11، 14، 16، 17، 18، 19، 21، 29، 30، 35، 40، 45، 50، 54، 60، 61، 62، 63، 64، 65، 66، 67، 68، 73، 74، 75، 77، 85، 86، 90، 93، 100، 102، 106، 107، 108، 111، 112، 115، 116، 118، 119، 123، 124، 125، 126، 130، 132، 134، 143، 146، 148، 149، 150، 153، 154، 159، 162، 176، 180، 181، 183، 188، 191، 192، 193، 197، 200، 201، 202، 203، 205، 206، 207، 208، 209، 210، 214، 216، 221، 225، 226، 227، 228، 229، 232، 237، 238، 241، 244، 246، 247، 248، 250، 251، 255، 258، 259، 260، 261، 271، 275، 278، 280، 282، 283، 290، 291، 293، 295، 310، 312، 315، 316، 318، 319، 320، 322، 323، 330، 331، 335، 336، 342، 343، 359، 363، 364، 365، 366، 367، 368، 369، 370، 372، 374، 376، 378، 379، 380، 381، 388، 390، 393، 399، 401، 402، 404، 407، 411، 413، 414، 416، 417، 419، 425، 426، 427، 428، 429، 432، 433، 437، 439، 442، 443، 444، 446، 447، 572، 7/ 9، 79، 97، 98، 102، 118، 124، 175، 182، 194، 198، 210، 214، 215، 216، 217، 218، 227، 232، 235، 237، 256، 259، 260، 268، 269، 272، 276، 291، 292، 293، 296، 302، 305، 306، 309، 310، 312، 316، 326، 331، 336، 350، 351، 355، 359، 362، 364، 365، 366، 368، 383، 384، 397، 398، 399، 403، 404، 407، 458، 412، 413، 431، 435، 437، 453، 459، 461، 463، 470، 473، 474، 476، 477، 478، 8/ 17، 18، 21، 24، 33، 34، 40، 53، 59، 61، 62، 76، 80، 86، 89، 92، 105، 110، 112، 113، 115، 128، 131، 133، 137، 157، 160، 161، 172، 174، 176، 177، 178، 179، 180، 183، 194، 201، 204، 205، 216، 229، 234، 242، 244، 245، 246، 247، 248، 252، 255، 262، 269، 280، 284، 285، 295،

_ 296، 297، 298، 299، 309، 344، 345، 346، 347، 348، 356، 366، 374، 375، 377، 382، 384، 386، 388، 390، 397، 414، 419، 421، 422، 432، 434، 453، 475، فزان: 2/ 345، 396، 4/ 253، 255، 261، 273، 5/ 495، 8/ 331، الفشاطو: 6/ 67، فكونة: 2/ 349، فلانس: 6/ 111، فلسطين: 4/ 138، 411، 412، 5/ 247، 264، 278، 502، 525، 618، 6/ 405، 407، 429، 437، 7/ 124، 456، 467، 8/ 158، 179، 226، 251، فندق الرحبة: 2/ 210، الفوتا: 4/ 195، 227، فور- لا مي 217/ 4: Fort - Lamy، فوغالة: 4/ 148، فوكة: 8/ 155، 156، الفولجا: 8/ 461، فيالار: 8/ 129، فيشي: 6/ 400، 419، 8/ 180، فيلا عبد اللطيف: 6/ 58، 8/ 353، 374، 382، 383، 384، 385، 386، 387، 388، 399، 412، 413، فيلا عزيزة: 8/ 399، فيلا مديشي: 8/ 387، 413، فينيقيا: 7/ 172، فيينا: 1/ 70، 6/ 9، 8/ 432، 474، (ق) قابس: 2/ 386، 387، 395، 4/ 50، 274، 5/ 543، القادر (بلدية في أمريكا): 5/ 539، القادوس: 5/ 11، 69، 71، 135، قارة حصار: 2/ 371، قالمة: 3/ 129، 137، 152، 155، 158، 4/ 45، 61، 298، 299، 387، 449، 468، 469، 470، 473، 5/ 318، 403، 429، 432، 481، 6/ 311، 8/ 297، 302، 362، 376، القالة: 1/ 151، 5/ 404، 490، 6/ 85، 150، 7/ 355، القاهرة: 1/ 31، 67، 75، 79، 82، 84، 85، 86، 87، 101، 103، 105، 113، 176، 181، 291، 402، 430، 492، 493، 494، 507، 512، 2/ 37، 86، 104، 132، 147، 150، 157، 167، 212، 219، 220، 225، 235، 261، 344، 377، 385، 392، 405، 406، 3/ 74، 152، 159، 173، 406، 4/ 42، 66، 68، 123، 131، 169، 172، 192، 222، 249، 369، 510، 5/ 238، 302، 379، 386، 391، 432، 433، 435، 474، 485، 495، 499،

_ 500، 519، 520، 543، 544، 573، 586، 601، 603، 604، 6/ 16، 18، 60، 148، 149، 226، 315، 364، 424، 7/ 16، 18، 43، 51، 87، 161، 168، 192، 193، 196، 197، 218، 246، 279، 281، 289، 321، 338، 340، 350، 399، 419، 421، 8/ 28، 81، 84، 91، 101، 116، 146، 181، 182، 225، 226، 264، 265، 267، 390، 393، 429، 432، قبا: 8/ 239، القبائل (بلاد): 1/ 317، 488، القبائل (منطقة): 3/ 29، 201، 210، 233، قبلى: 4/ 50، القبة: 3/ 105، 295، 5/ 69، 135، 136، 6/ 116، 117، 139، 7/ 293، قجال (كجال): 2/ 54، 335، قداشة: 3/ 150، القدس: 1/ 82، 86، 92، 119، 462، 493، 2/ 217، 219، 379، 390، 393، 5/ 247، 474، 502، 605، 6/ 363، 404، 7/ 96، 167، 8/ 375، القرارة: 3/ 247، 267، 273، 274، 5/ 290، 293، 376، 378، 381، 521، 6/ 57، 7/ 108، قرطاج: 5/ 409، 6/ 112، 165، 317، 7/ 410، قرطاجنة: 6/ 413، 188، 419، قرطبة: 2/ 329، 4/ 65، 5/ 107، 458، 6/ 227، 250، 7/ 269، 8/ 393، 432، القرقور: 3/ 147، 37، 2 449، 4/ 186، 8/ 55، 369، القرم: 4/ 97، 5/ 56، 517، 525، 537، 610، 6/ 178، 180، 319، 232، 8/ 308، 341، 342، قرومة: 1/ 401، 2/ 261، 3/ 23، 172، قردة الحجاج: 7/ 151، قرية علي حرزون: 7/ 231، القسطل: 6/ 404، القسطنطينية: 1/ 171، 185، 2/ 181، 301، 364، قسنطينة: 1/ 40، 42، 44، 45، 51، 52، 63، 64، 65، 66، 78، 79، 82، 88، 89، 90، 92، 102، 104، 105، 107، 152، 154، 158، 159، 163، 169، 173، 174، 175، 176، 177، 178، 179، 180، 181، 194، 199، 211، 214، 216، 217، 218، 219، 220، 221، 222، 223، 228، 229، 236، 239، 243، 245، 248، 249، 251، 252، 253، 255، 257، 261، 263، 264، 267، 269، 271، 275، 276، 284، 285، 286، 289، 290، 291، 294، 295، 296، 297، 298، 301،

_ 302، 303، 305، 308، 309، 317، 320، 321، 324، 325، 326، 327، 328، 331، 333، 335، 349، 350، 357، 369، 371، 379، 380، 382، 383، 384، 388، 390، 393، 394، 396، 398، 399، 400، 401، 402، 403، 404، 405، 407، 412، 417، 421، 422، 427، 430، 433، 437، 438، 440، 441، 442، 445، 447، 449، 450، 451، 466، 468، 470، 471، 483، 486، 487، 494، 500، 503، 508، 517، 518، 519، 520، 521، 522، 523، 2/ 16، 21، 24، 51، 54، 62، 64، 72، 73، 77، 81، 82، 92، 93، 96، 104، 138، 148، 150، 158، 159، 165، 190، 191، 194، 195، 201، 206، 216، 226، 228، 241، 277، 284، 285، 287، 313، 315، 317، 332، 334، 335، 338، 339، 344، 349، 355، 373، 378، 379، 383، 389، 390، 394، 398، 410، 419، 423، 438، 441، 447، 3/ 17، 23، 24، 26، 27، 28، 33، 37، 44، 45، 50، 59، 60، 62، 64، 65، 91، 98، 100، 102، 106، 125، 126، 127، 128، 129، 130، 131، 133، 134، 135، 136، 137، 138، 139، 140، 141، 142، 143، 144، 145، 146، 147، 148، 151، 152، 156، 158، 159، 160، 162، 163، 175، 190، 194، 200، 221، 233، 237، 242 243،، 724، 253، 263، 267، 272 273،، 281، 293، 294، 300، 301، 305، 312، 314، 318، 319، 325، 333، 334، 336، 337، 339، 340، 367، 370، 371، 373، 374، 377، 378، 379، 380، 387، 391، 392، 397، 398، 399، 400، 403، 406، 408، 409، 410، 412، 417، 423، 426 434،، 439، 444، 445، 446، 448، 450، 451، 4/ 14، 32، 33، 34، 36، 43، 50، 55، 60، 61، 62، 64، 77، 78، 85، 86، 87، 88، 98، 120، 139، 141، 145، 146، 149، 153، 167، 168، 173، 178، 184، 185، 199، 203، 218، 219، 220، 221، 223، 242، 404، 5/ 9، 10، 45، 79، 80، 82 - 87، 89، 90، 95، 99، 100، 110، 123، 124، 131، 132، 136، 144، 145، 146، 147، 148، 159، 172، 173، 174، 176، 199، 212، 215، 218، 220، 232، 234، 236، 243، 246، 247، 251، 253 - 258، 260، 261، 262، 266، 267، 277، 294، 297، 299، 300، 304، 306، 307، 309 - 319، 327، 328، 334، 336، 337، 340 - 342، 345 - 348، 355 - 360، 382 -

_ 384، 391، 398، 400، 402، 407، 408، 409، 422، 425، 426، 427، 428، 429، 441، 443، 444، 455، 458، 460، 461، 463، 465، 475، 476، 480، 481، 490، 510، 515، 532، 548، 549، 573، 579، 582، 590، 595، 596، 597، 603، 612، 615، 6/ 11، 13، 15، 20، 21، 22، 23، 27، 32، 38، 39، 40، 45، 46، 47، 48، 57، 60، 62، 63، 64، 65، 67، 71، 76، 77، 78، 79، 83، 84، 85، 92، 93، 98، 106، 108، 109، 113، 115، 116، 118، 120، 132، 137، 147، 149، 151، 157، 158، 161، 170، 172، 175، 187، 190، 191، 192، 195، 196، 203، 210، 211، 212، 213، 220، 222، 231، 232، 236، 237، 247، 253، 256، 257، 262، 263، 275، 279، 302، 312، 322، 324، 329، 330، 331، 332، 333، 343، 348، 354، 366، 378، 399، 400، 402، 404، 411، 417، 420، 419، 430، 432، 436، 440، 442، 7/ 9، 10، 12، 13، 23، 25، 27، 33، 36، 43، 49، 50، 57، 61، 63، 64، 77، 82، 90، 93، 102، 108، 131، 154، 195، 196، 198، 211، 212، 213، 214، 217، 218، 223، 226، 234، 265، 266، 268، 271، 272، 279، 289، 305، 311، 314، 331، 334، 337، 342، 343، 344، 345، 346، 347، 348، 349، 354، 355، 357، 371، 401، 409، 410، 411، 413، 414، 441، 442، 445، 446، 452، 457، 462، 463، 8/ 8، 11، 14، 17، 18، 19، 21، 22، 34، 45، 49، 63، 65، 66، 67، 76، 77، 81، 87، 95، 97، 98، 107، 111، 113، 115، 117، 118، 120، 127، 139، 140، 141، 157، 158، 165، 166، 169، 170، 174، 174، 183، 195، 207، 210، 211، 214، 215، 217، 218، 224، 241، 248، 259، 267، 276، 278، 292، 302، 333، 334، 355، 357، 359، 362، 363، 367، 372، 377، 378، 379، 380، 389، 390، 392، 395، 396، 405، 402، 403، 404، 405، 406، 407، 408، 413، 427، 428، 443، 447، 450، 458، 460، 467، 6 47، القشطولة: 4/ 144، القصبة: 1/ 261، 279، 396، 422، 438، 450، 4/ 142، 520، 5/ 11، 14، 17، 19، 39، 46، 55، 56، 58، 65، 67، 73، 75، 81، 91، 102، 213، 277، 328، 335، 436، 439، 440، 6/ 50، 145، 301، 380، 382، 383، 385، 8/ 275، 368، 375، 402، 413، 450،

_ 471، 472، 473، 475، القصر: 3/ 192، قصر الأقواس: 8/ 401، قصر أمبواز: 6/ 62، قصر أهجي مصطفى: 2/ 447، قصر ابن عبد اللطيف: 2/ 200، 295، 446، قصر باردو: 4/ 222. قصر الباي: 5/ 124، قصر البخاري: 3/ 31، 53، 82، 172، 227، 228، 229، 230، 231، 232، 267، 269، 4/ 33، 70، 71، 72، 73، 75، 76، 77، 80، 81، 117، 119، 293، 304، 5/ 137، 361، 399، 445، 6/ 35، 36، 307، 7/ 66، 135، 136، 141، 151، 199، 499، 8/ 319، 331، 359، 363، 389، قصر جابر: 2/ 196، قصر الجنينة: 5/ 13، 37، 403، قصر الحاج أحمد باي: 2/ 201، 447، 5/ 83، 84، 6/ 78، 93، 8/ 399، 400، 404، 406، 414، قصر الحكومة: 5/ 350، قصر (دار) الصول: 8/ 401، قصر (دار) عزيزة: 6/ 108، 8/ 404، قصر الداي: 5/ 349، 8/ 402، 413، (قصر) الدمشق: 8/ 385، قصر الزاهي: 8/ 385، قصر سيدي بوزيد: 8/ 317، قصر الشارف: 3/ 228، قصرالشتاء: 5/ 155، 8/ 399، قصرالشعب: 8/ 383، 412، قصر الشلالة: 3/ 231، قصر صالح باي: 6/ 93. قصرالصيف: 8/ 399، 401، قصرالطير: 2/ 389، 395، قصر فرساي: 8/ 379، قصر كتامة: 7/ 340، قصر كردان: 3/ 224، 4/ 214، 217، قصر مصطفى باشا: 4/ 101، 111، 234، 5/ 47، 347، 8/ 400، 402، قصر ملوكة: 1/ 310، القصرين: 4/ 154، 179، قفصة: 4/ 488، القل: 1/ 42، 265، 4/ 168، 7/ 330، 8/ 118، القلعة: 2/ 410، 3/ 231، 449، 5/ 460، 8/ 359، 366، 369، 371، قلعة بني حماد: 1/ 89، 5/ 145، 7/ 320، 8/ 391، 398، قلعة بني راشد: 1/ 496، قلعة بني عباس: 1/ 214، 6/ 66، 8/ 296، 297، قلعة حسن: 2/ 447، قلعة كالفي: 8/ 330، القلعة (مصر): 1/ 31، قلعة مولاي حسن: 1/ 300،

_ قلعة نابليون: 7/ 231، قلعة هوارة: 1/ 106، 8/ 332، القليعة: 1/ 241، 264، 271، 301، 335، 399، 419، 469، 2/ 50، 370، 387، 3/ 107، 231، 236، 446، 4/ 34، 389، 451، 486، 493، 5/ 77، 137، 6/ 134، 205، 240، 279، 7/ 81، 8/ 131، 237، 308، 357، 368، 467، قمار: 1/ 290، 443، 2/ 49، 68، 77، 332، 3/ 33، 153، 164، 165، 198، 214، 226، 227، 235، 259، 275، 298، 4/ 32، 48، 52، 53، 154، 210، 215، 217، 218، 219، 225، 229، 231، 232، 234، 235، 236، 242، 244، 259، 321، 323، 498، 499، 500، 504، 5/ 98، 150، 361، 387، 391، 393، 394، 398، 399، 596، 6/ 39، 102، 7/ 38، 84، 123، 125، 336، 355، 356، 391، 395، 8/ 230، 403، 420، القنادسة: 1/ 504، 505، 506، 3/ 214، 4/ 88 - 94، 248، 326، 5/ 371، 375، 7/ 447، قناة السويس: 5/ 499، 540، 543، 545، 546، 547، 610، 8/ 91، قناة قابس: 5/ 546، 547، قنزات: 2/ 394، القنطرة: 3/ 408، 5/ 432، 6/ 93، 349، 382، 8/ 292، القنيطرة (سورية): 5/ 553، القورارة: 1/ 54، 4/ 90، 93، 99، 106، 228، 277، 288، 5/ 371، 7/ 431، القوقا ز: 3/ 410، 5/ 547، قونية: 1/ 186، 5/ 514، 522، 540، 7/ 117، 416، القيرة: 4/ 276، القيروان: 1/ 43، 46، 2/ 332، 352، 3/ 392، 446، 5/ 519، 6/ 364، 417، 7/ 79، 322، 447، 8/ 124، 368، القيطنة: 1/ 183، 189، 220، 268، 270، 297، 325، 335، 345، 513، 514، 3/ 31، 45، 172، 234، 4/ 58، 437، 503، 5/ 151، 327، 361، 384، 558، 565، 7/ 116، 118، 437، 8/ 9، 208، 289، (ك) كابول: 5/ 516، كاسينيو: 3/ 104، 4/ 271، 8/ 346، كاشرو: 3/ 32، الكاف: 2/ 389، 3/ 235، 4/ 47، 48، 56، 62، 144، 152، 154، 184، 294، 498، 5/ 362، 7/ 38، 8/ 236، كالفي: 4/ 271، كاليدونيا: 6/ 343، 8/ 328، 330، كاليدونيا الجديدة: 4/ 168، 171،

_ 5/ 125، 484، 510، كامب موران: 4/ 73، كايان: 3/ 199، 200، 5/ 125، 484، 6/ 343، 347، 432، 441، كتشاوة: 3/ 58، 4/ 389، 520، 389، 520، كجال (قجال): 1/ 217، 501، 2/ 54، 4/ 304، الكدية: 4/ 55، 168، 5/ 257، 8/ 81، كدية عاتي: 1/ 104، 5/ 382، 6/ 191، 8/ 413، الكرط: 7/ 407، كرزاز: 3/ 115، 116، 4/ 89، 90، 248، 298، 90، 248، 298، 5/ 375، الكرشة: 4/ 184، الكرمة: 6/ 161، 7/ 380، 474، الكعبة: 1/ 244، 480، 2/ 222، 403، 4/ 408، 5/ 484، كلوني: 4/ 526، 526، كنتة: 4/ 48، 278، 48، 278، كوبنهاغن: 6/ 31، 53، 8/ 33، كوردان: 4/ 218، 218، كورسيكا: 4/ 157، 172، 271، 157، 172، 271، 6/ 446، 7/ 364، 8/ 330، كوريا: 5/ 226، كوسام: 5/ 371، كوكو: 1/ 138، 211، 464، 3/ 203، الكونغو: 4/ 217، 233، 6/ 163، الكويت: 8/ 46، كوينين: 2/ 332، 7/ 336، (ل) لابروفانس: 6/ 116، لاروشيلا: 6/ 64، 7/ 108، 8/ 380، لاطوس: 6/ 63. لاغوس:: 6/ 165، 8/ 37، لبنان: 4/ 411، 5/ 209، 502، 522، 6/ 124، 152، 7/ 116، 399، 8/ 179، 295، لندن: 1/ 30، 115، 140، 145، 173، 2/ 386، 3/ 28، 41، 43، 365، 444، 4/ 148، 365، 395، 426، 5/ 77، 83، 134، 200، 330، 404، 412، 419، 439، 448، 483، 531، 573، 586، 593، 600، 6/ 107، 110، 339، 407، 414، 423، 436، 8/ 37، 95، 128، 264، 324، 366، 432، 474، 475، لواري (فرنسا): 6/ 23، 7/ 107، اللورين: 3/ 50، 341، 4/ 214، 217، لوزان: 5/ 617، لوكسمبورغ: 8/ 386، ليانة: 2/ 388، 8/ 257، ليبيا: 1/ 514، 2/ 397، 398، 3/ 201، 244، 269، 270، 4/ 115، 122،

_ 126، 226، 245، 251، 252، 255، 256، 266، 268، 272، 273، 296، 337، 5/ 278، 379، 380، 459، 460، 474، 493، 494، 495، 505، 506، 513، 515، 517، 553، 562، 571، 576، 579، 605، 6/ 116، 235، 316، 7/ 59، 60، 87، 124، 125، 315، 329، 8/ 31، 34، 172، 178، 226، 250، 251، ليدن: 1/ 308، 2/ 408، 4/ 329، 6/ 273، ليشانة: 1/ 501، 8/ 324، ليفورنيا: 1/ 152، 5/ 212، 496، 6/ 212، 329، 391، 8/ 355، 407، ليون: 5/ 245، 6/ 115، 176، 242، 8/ 49، 50، 422، ليياج: 6/ 34، 7/ 108، (م) المارن: 8/ 347، ما زغران: 1/ 200، 2/ 313، 333، مازونة: 1/ 45، 177، 180، 182، 183، 199، 223، 250، 269، 279، 280، 284، 285، 297، 299، 335، 343، 350، 420، 2/ 36، 37، 193، 3/ 31، 110، 114، 117، 120، 258، 228، 261، 439، 4/ 62، 71، 116، 147، 167، 5/ 104، 151، 327، 475، 7/ 59، 142، 146، 356، 385، 386، 8/ 9، 335، ماسيون: 7/ 460، مالطة: 5/ 558، 593، 6/ 153، مالقة: 8/ 457، مالي: 3/ 214، ماهون: 5/ 33، ماهونة: 4/ 61، متليلي: 2/ 387، 3/ 213، 214، 4/ 283، 284، 5/ 375، 490، متيجة: 1/ 43، 140، 169، 212، 320، 523، 2/ 377، 3/ 23، 236، 260، 4/ 30، 33، 115، 141، 359، 360، 451، 5/ 16، 77، 124، 137، 213، 436، 571، 6/ 69، 97، 7/ 323، 378، 400، 8/ 157، 308، 379، مجاجة: 1/ 268، 2/ 29، 377، 388، 389، 407، 3/ 172، 137، 4/ 440، 7/ 283، 440، مجانة: 3/ 107، 211، 237، 337، 4/ 198، المجر: 6/ 311، مجردة: 4/ 183، المحمدية: 4/ 502، 8/ 297، المحيط الأطلسي: 2/ 194، 403، 6/ 310، 7/ 114، 8/ 32، مدرونة: 4/ 156، 157، مدريد: 1/ 30، 2/ 205، 4/ 99، 100،

_ مدغرة: 4/ 113، مدغشقر: 3/ 361، 422، 4/ 133، المدنية: 5/ 506، المدينة المنورة: 1/ 84، 89، 108، 114، 230، 231، 235، 236، 238، 239، 243، 244، 272، 287، 301، 379، 405، 495، 501، 2/ 28، 45، 48، 120، 135 - 138، 147، 217، 245، 246، 250، 396، 397، 3/ 134، 139، 140، 199، 200، 229، 230، 241، 4/ 28، 68، 70، 113، 115، 119، 122، 123، 125، 126، 153، 171، 181، 192، 252، 253، 279، 297، 309، 367، 395، 401، 402، 404، 407، 488، 532، 5/ 7، 29، 156، 157، 158، 160، 161، 162، 163، 164، 165، 167، 171، 172، 180، 181، 182، 183، 184، 185، 191، 208، 213، 308، 339، 478، 482، 484، 486، 504، 508، 509، 510، 513، 571، 577، 578، 600، 603، 7/ 146، 336، 400، 8/ 69، 79، 80، 89، 309، 341، المدية: 1/ 40، 214، 243، 250، 253، 263، 280، 3/ 31، 46، 53، 59، 65، 78، 102، 106، 163، 194، 231، 232، 236، 302، 325، 347، 368، 370، 371، 375، 392، 4/ 70، 83، 85، 115، 166، 295، 336، 359، 360، 389، 451، 5/ 8، 78، 77، 124، 137، 199، 213، 7 32، 475، 502، 567، 572، 6/ 279، 302، 308، 7/ 28، 141، 142، 150، 170، 342، 400، 403، 443، 8/ 9، 131، 157، 170، 264، 276، 308، 318، 331، 362، 368، المرادية: 1/ 82، 5/ 135، مراكش: 1/ 66، 182، 318، 360، 368، 423، 424، 435، 498، 512، 2/ 16، 34، 45، 69، 72، 86، 3/ 174، 401، 4/ 60، 235، 471، 5/ 68، 554، 562، 6/ 154، 176، 228، 7/ 49، 406، 462، 466، 8/ 52، 60، 226، 378، 393، 435، مرزوق: 4/ 228، 253، 255، مرسط: 4/ 183، 184، 5/ 480، مرسي الخرز: 1/ 177، المرسي الكبير: 1/ 142، 143، 184، 272، 4/ 248، مرسي وهران: 2/ 255، 260، مرسيليا: 1/ 152، 3/ 406، 4/ 401، 439، 487، 5/ 142، 212، 329، 527، 544، 548، 577، 585، 6/ 111، 123، 124، 146، 147، 152، 153، 199، 228، 291، 298، 329، 391، 441، 448، 449، 7/ 294، 433، 460، 8/ 133، 262، 375، 380، 421، 422، 473،

_ مرنقو (حديقة): 3/ 50،، المروة: 8/ 130، مزغنة: 2/ 192، 8/ 272، مساعد: 4/ 248، مستشفى مصطفى: 8/ 63، 399، مستغانم: 1/ 143، 148، 177، 180، 182، 199، 213، 223، 285، 420، 516، 2/ 126، 139، 146، 193، 249، 255، 313، 348، 3/ 31، 42، 45، 65، 114، 118، 119، 230، 231، 294، 302، 334، 439، 444، 4/ 2، 46، 78، 126، 127، 133، 135، 138، 166، 181، 245، 246، 256، 266 - 269، 271، 273، 368، 424، 438، 440، 449، 452، 484، 502، 512، 5/ 100، 151، 260، 272، 303، 310، 311، 315، 334، 335، 389، 475، 485، 486، 487، 557، 6/ 83، 84، 151، 175، 260، 302، 394، 433، 7/ 23، 25، 50، 125، 134، 137، 142، 173، 356، 358، 359، 381، 8/ 49، 90، 97، 153، 222، 223، 314، 346، 347، 372، 402، 466، 466، 467، 468، 469، 471، مسقط: 6/ 413، 7/ 15، مسكيانة: 5/ 480، المسيلة: 3/ 141، 146، 152، 153، 154، 160، 194، 213، 233، 234، 4/ 299، 6/ 85، 161، 7/ 25، 126، 146، 444، 445، 8/ 359، مشدالة: 3/ 192، المشرق: 1/ 9، 44، 48، 59، 62، 75، 82، 90، 102، 113، 118، 130، 191، 208، 223، 239، 268، 293، 367، 369، 376، 408، 426، 429، 437، 438، 444، 452، 460، 467، 485، 494، 495، 498، 507، 509، 510، 512، 523، 525، 3/ 6، 62، 82، 84، 85، 94، 110، 125، 133، 139، 142، 179، 183، 186، 220، 236، 239، 250، 251، 252، 253، 255، 258، 267، 375، 400، 408، 449، 4/ 26، 28، 29، 42، 45، 46، 57، 61، 63، 67، 68، 69، 74، 81، 90، 97، 106، 127، 130، 134، 173، 182، 249، 252، 270، 281، 303، 305، 309، 331، 351، 355، 367، 368، 369، 372، 401، 407، 408، 411، 412، 414، 434، 477، 483، 499، 5/ 190، 228، 231، 232، 243، 253، 271، 273، 782 284، 286، 292، 308، 330، 350، 368، 369، 379، 388، 391، 424، 472، 473، 475، 476، 477، 479، 480، 485، 489، 490، 492، 495، 497، 499، 503، 506، 509، 512، 515، 516، 520، 521، 529، 537، 541، 548، 549، 552، 562، 567، 568، 575، 582،

_ 596، 597، 599، 602، 603، 604، 606، 610، 611، 613، 614، 616، 618، 6/ 13، 34، 43، 50، 62، 63، 66، 73، 77، 114، 119، 124، 143، 145، 149، 151، 169، 192، 193، 181، 217، 220، 236، 237، 238، 282، 301، 363، 367، 368، 369، 407، 425، 426، 429، 7/ 25، 28، 37، 42، 51، 68، 88، 100، 116، 128، 133، 173، 177، 174، 185، 197، 214، 216، 253، 260، 285، 302، 410، 420، 459، 473، 8/ 11، 23، 41، 46، 51، 61، 68، 69، 72، 75، 76، 77، 81، 82، 83، 84، 95، 96، 98، 101، 109، 118، 124، 139، 148، 164، 186، 195، 196، 197، 220، 225، 228، 252، 254، 256، 262، 273، 282، 291، 306، 337، 339، 355، 359، 429، 465، المشرق الإسلامي: 1/ 58،، 138، 159، 250، المشرق العربي: 5/ 237، 473، 481، 6/ 58، 100، 405، 8/ 26، 134، 295، المشرية: 4/ 121، 8/ 154، المشور: 1/ 250، 4/ 205، 5/ 109، 6/ 113، مصر: 1/ 8، 20، 31، 58، 59، 63، 73، 85، 86، 92، 102، 104، 132، 144، 165، 166، 251، 285، 287، 288، 289، 291، 292، 294، 295، 296، 302، 371، 372، 413، 419، 426، 429، 430، 431، 437، 452، 453، 454، 461، 462، 463، 480، 498، 510، 518، 520، 2/ 27، 34، 34، 35، 36، 37، 38، 48، 49، 50، 51، 55، 56، 57، 63، 73، 76، 79، 99، 101، 103، 105، 106، 107، 108، 110، 135، 136، 137، 170، 217، 218، 219، 227، 260، 271، 286، 294، 297، 345، 371، 286، 294، 297، 345، 371، 377، 378، 380، 381، 388، 389، 390، 391، 392، 393، 395، 396، 398، 403، 416، 426، 428، 429، 431، 433، 435، 3/ 26، 33، 57، 64، 85، 95، 99، 110، 224، 164، 178، 179، 185، 186، 206، 211، 215، 246، 247، 248، 255، 258، 266، 267، 270، 273، 275، 318، 350، 395، 401، 406، 411، 4/ 66، 67، 78، 98، 115، 122، 126، 223، 245، 249، 250، 256، 258، 261، 264، 268، 307، 315، 337، 351، 354، 373، 401، 405، 409، 503، 531، 534، 5/ 22، 212، 223، 226، 227، 233، 238، 264، 277، 279، 280، 286، 308، 309، 310، 314، 329، 366، 369، 370، 379،

_ 380، 381، 385، 423، 442، 451، 478، 495، 496، 497 - 500، 506، 508، 514، 516، 518، 519، 523، 528، 529، 537، 542، 544، 545، 547، 549، 550، 555، 556، 558، 565، 578، 579، 581، 585، 591، 592، 596، 599، 601، 602، 603، 605، 606، 609، 610، 612، 615، 616، 6/ 16، 24، 25، 50، 51، 72، 77، 103، 145، 148، 149، 150، 153، 154، 205، 219، 220، 236، 311، 331، 350، 353، 359، 360، 378، 405، 406، 407، 417، 422، 423، 426، 432، 438، 442، 7/ 10، 14، 29، 37، 41، 47، 51، 53، 59، 69، 70، 78، 87، 88، 96، 104، 106، 107، 133، 134، 139، 151، 158، 167، 174، 175، 184، 196، 197، 200، 216، 229، 262، 281، 282، 284، 315، 316، 338، 340 8/ 27، 41، 43، 52، 63، 66، 69، 83، 79، 90، 91، 96، 101، 109، 118، 123، 124، 138، 168، 196، 198، 204، 205، 207، 208، 223، 226، 229، 239، 250، 270، 271، 297، 300، 407، 442، مصراته: 3/ 201، 4/ 123، 5/ 553، مصطفى باشا (مكان): 3/ 417، 430، 446، 6/ 382، 431، المطرية: 5/ 379، مطماطة: 1/ 358، المعادي: 7/ 218، معسكر: 1/ 177، 182، 183، 184، 194، 199، 207، 208، 221، 229، 236، 239، 243، 250، 251، 255 257،، 260، 273، 280، 281، 285، 286، 296، 301، 302، 309، 310، 325، 328، 349، 360، 399، 401، 420، 421، 449، 514، 2/ 129، 175، 177، 190، 197، 228، 259، 260، 261، 279، 283، 284، 348، 350، 378، 423، 446، 449، 3/ 31، 46، 59، 65، 110، 114، 118، 123، 124، 159، 172، 224، 230، 231، 234، 261، 367، 392، 4/ 30، 33، 58، 96، 114، 116، 117، 127، 142، 194، 199، 200، 205، 281، 306، 342، 366، 367، 382، 389، 431، 436، 437، 438، 439، 452، 474، 479، 483، 485، 486، 487، 501، 503، 5/ 100، 101، 151، 152، 199، 242، 327، 334، 341، 385، 391، 393، 394، 399، 431، 436، 475، 486 - 488، 497، 525، 526، 530، 537، 550، 558، 565، 574، 6/ 38، 81، 84، 109، 114، 150، 151، 201، 241، 308، 311، 343، 356، 362، 417، 7/ 59، 62، 85،

_ 141، 146، 152، 224، 239، 283، 325، 326، 327، 337، 356، 359، 360، 361، 361، 370، 371، 404، 407، 437، 439، 8/ 9، 34، 35، 97، 131، 150، 155، 206، 221، 223، 234، 246، 282، 288، 289، 318، 332، 419، 454، المغرب: 1/ 8، 25، 31، 52، 53، 59، 60، 61، 62، 63، 65، 66، 68، 70، 82، 84، 85، 90، 105، 112، 118، 123، 125، 126، 127، 130، 133، 134، 142، 146، 191، 192، 221، 222، 223، 289، 320، 346، 355، 357، 361، 367، 368، 369، 371، 372، 375، 376، 377، 381، 398، 399، 402، 408، 419، 423، 424، 425، 426، 427، 428، 429، 431، 435، 438، 439، 440، 441، 442، 444، 445، 450، 453، 460، 461، 467، 468، 496، 498، 502، 503، 512، 516، 519، 525، 3/ 6، 33، 36، 81، 110، 121، 126، 142، 220، 221، 224، 253، 323، 369، 370، 375، 387، 402، 449، 4/ 28، 32، 39، 48، 57، 58، 61، 64، 65، 66، 82، 83، 84، 86، 87، 89، 94، 98، 102، 106، 107، 110، 112، 115، 126، 147، 193، 194، 197، 198، 203، 211، 237، 249، 232، 267، 274، 302، 307، 309، 315، 339، 348، 351، 361، 368، 372، 410، 411، 425، 489، 513، 5/ 330، 363، 367، 371، 379، 388، 391، 396، 459، 472، 474، 477، 478، 487، 488، 489، 490، 493، 505، 506، 509، 510، 511، 525، 529، 555، 562، 563، 571، 572، 576، 578، 586، 587، 597، 605، 612، 618، 6/ 12، 55، 58، 60، 72، 75، 76، 77، 103، 134، 136، 149، 162، 174، 175، 212، 231، 233، 242، 316، 342، 366، 417، 424، 566، 616، 7/ 23، 25، 26، 36، 40، 41، 42، 63، 66، 68، 69، 71، 73، 75، 78، 100، 116، 122، 137، 138، 152، 184، 188، 200، 203، 204، 209، 216، 238، 241، 259، 260، 315، 312، 319، 320، 327، 352، 361، 362، 363، 376، 392، 405، 407، 408، 440، 449، 458، 459، 465، 466، 468، 8/ 9، 11، 20، 26، 31، 33، 35، 37، 43، 51، 59، 60، 61، 66، 67، 84، 86، 91، 124، 131، 164، 165، 172، 178، 181، 197، 196، 204، 207، 214، 220، 221، 231، 269، 272، 280، 284، 296، 297، 298، 299، 320، 323، 343، 363، 469، 373، 374، 378، 429،

_ 434، 435، 454، 455، 456، المغرب الإسلامي: 1/ 15، 55، المغرب الأدنى: 1/ 40، المغرب الأقصى: 1/ 40، 76، 138، 176، 177، 220، 251، 268، 285، 287، 293، 294، 328، 493، 494، 497، 515، 2/ 103، 110، 214، 216، 254، 297، 335، 361، 363، 383، 385، 393، 426، 432، 3/ 164، 198، 225، 228، 265، 401، 412، 4/ 29، 40، 42، 61، 68، 69، 70، 74، 80، 81، 100، 118، 123، 191، 205، 235، 246، 247، 248، 250، 253، 268، 276، 291، 295، 296، 298، 304، 312، 335، 337، 342، 354، 367، 405، 413، 436، 483، 493، 503، 504، 5/ 84، 85، 97، 204، 238، 278، 279، 329، 387، 460، 475، 481، 486، 501، 506، 509، 520، 528، 574، 586، 6/ 7، 13، 30، 31، 32، 33، 34، 41، 54، 75، 97، 98، 103، 113، 133، 134، 144، 172، 220، 233، 235، 236، 237، 249، 287، 320، 332، 362، 364، 435، 552، 570، 7/ 302، 314، 315، 330، 340، 347، 361، 363، 371، 404، 432، 439، 442، 446، 457، 467، 8/ 137، 171، 271، 283، المغرب الأوسط: 1/ 40، 2/ 195، 7/ 41، المغرب العربي: 1/ 9، 40، 41، 47، 48، 50، 51، 53، 57، 58، 62، 123، 129، 131، 134، 137، 138، 141، 291، 433، 440، 459، 460، 461، 498، 2/ 23، 49، 108، 175، 216، 218، 223، 239، 255، 330، 331، 336، 360، 372، 384، 385، 445، 3/ 56، 281، 309، 4/ 42، 66، 68، 125، 129، 133، 165، 195، 323، 336، 403، 414، 420 471،، 488 531،، 5/ 117، 253، 263، 273، 274 - 278، 281، 282، 293، 302، 341، 345، 347، 349، 351، 369، 408، 459، 460، 471، 500، 501، 503، 513، 514، 515، 519، 558، 568، 579، 582، 586، 600، 602، 604، 605، 606، 608، 614، 615، 616، 617، 618، 6/ 24، 32، 42، 53، 60، 61، 91، 94، 98، 99، 100، 101، 133، 180، 261، 419، 426، 427، 436، 7/ 20، 143، 171، 209، 219، 302، 309، 320، 375، 418، 417، 419، 468، 8/ 23، 24، 36، 49، 69، 151، 169، 181، 182، 271، 299، 300، 378، 399، 427، 462، مغنية: 3/ 335، 4/ 281، المغير: 5/ 391،

_ مفتاح: 4/ 205، 219، 231، المقران: 1/ 501، المقرين: 8/ 409، المقطع: 8/ 304، المكسيك: 3/ 361، 6/ 232، 318، مكناس: 1/ 241، 425، 2/ 210، 211، 384، 426، 4/ 61، 81، 82، 84، 295، 5/ 575، 7/ 41، 42، 138، 401، مكة المكرمة: 1/ 8، 31، 82، 92، 114، 230، 231، 235، 236، 238، 239، 243، 244، 272، 287، 430، 479، 507، 2/ 25، 27، 39، 46، 48، 52، 55، 56، 99، 108، 204، 225، 226، 381، 388، 389، 391، 396، 3/ 128، 164، 200، 241، 7/ 37، 71، 79، 116، 125، 126، 197، 382، 400، 8/ 76، 179، 290، 309، 341، 4/ 59، 104، 107، 171، 174، 192، 223، 250، 251، 252، 254، 256، 259، 268، 309، 328، 367، 369، 395، 401، 402، 405 - 409، 413، 488، 5/ 7، 29، 156، 157، 158، 160، 161، 162، 163، 164، 165، 167، 171، 172، 180، 181، 182، 183، 184، 185، 191، 208، 213، 474، 478، 479، 482، 484، 485، - 486، 510، 511، 512، 513، 540، 577، 578، 6/ 191، 201، 364، 365، مليانة: 1/ 40، 182، 211، 250، 496، 2/ 45، 52، 103، 389، 407، 410، 440، 3/ 31، 46، 65، 80، 102، 106، 107، 163، 228، 231، 232، 236، 335، 347، 375، 4/ 34، 70، 78، 179، 200، 298، 389، 448، 451، 452، 488، 489، 490، 491، 493، 521، 5/ 77، 100، 104، 105، 124، 126، 137، 199، 359، 386، 488، 529، 530، 6/ 127، 185، 203، 205، 206، 279، 296، 308، 342، 7/ 136، 201، 202، 356، 443، 474، 475، 8/ 237، 344، مليكة: 1/ 181، 3/ 268، 4/ 283، 5/ 378، مليلة: 4/ 304، منزل بوزلفة: 4/ 47، المنصورة: 5/ 107، 108، 8/ 393، منعة: 4/ 47، 5/ 395، 7/ 116، 122، المنقار التحتاني: 8/ 154، المنقار الفوقاني: 8/ 154، منى: 4/ 407، منيسوتا: 5/ 353، المنيعة: 1/ 301، 2/ 387، 3/ 47، 214، 4/ 106، 110، 111، 112، 320، 5/ 375، 6/ 67، مهاجة: 7/ 325، المهدية: 5/ 614، موريطانيا: 2/ 131، 3/ 150، 153،

_ 5/ 409، 6/ 30، 180، 235، 7/ 316، 8/ 19، موسكو: 1/ 429، 6/ 388، موقادور: 6/ 150، الموقار: 4/ 107، مونبلييه: 5/ 351، مونتارجيس: 6/ 19، ميرا: 6/ 35، ميزاب: 1/ 156، 179، 181، 310، 2/ 74، 75، 172، 387، 3/ 30، 47، 49، 62، 164، 165، 213، 214، 215، 232، 245، 264، 265، 266، 267، 268، 269، 271، 272، 275، 281، 283، 298، 438، 446، 451، 4/ 41، 283، 451، 455، 5/ 96، 176، 177، 290، 291، 329، 376، 380، 462، 490، 579، 605، 6/ 35، 36، 37، 38، 39، 48، 55، 57، 67، 134، 303، 306، 334، 338، 7/ 15، 17، 19، 77، 78، 88، 108، 251، 317، 388، 389، 395، 463، 8/ 9، 32، 34، 73، 95، 133، 219، 295، ميسرغين: 1/ 480، 6/ 117، ميسلون: 5/ 567، ميشلي: 3/ 446، 8/ 369، ميلة: 1/ 222، 398، 2/ 394، 3/ 141، 143، 144، 148، 160، 237، 4/ 464، 5/ 199، 359، 6/ 83، 7/ 12، 14، 346، 409، 411، 412، 413، ميلواكي: 6/ 258، الميلية: 4/ 109، 5/ 366، 7/ 409، مينة: 3/ 31، 4/ 45، 116، مينيابو: 3 لس/ 14، ميونيخ: 1/ 30، 502، 2/ 131، (ن) نابولي: 5/ 573، 593، النارو: 4/ 246، الناصرة: 6/ 134، الناظور: 4/ 32، نافرينو: 6/ 271، نانت: 6/ 413، نانسي: 6/ 119، نجد: 1/ 508، 4/ 265، النجيلة: 4/ 271، ندرومة: 1/ 89، 182، 250، 285، 420، 467، 2/ 143، 3/ 114، 121، 122، 123، 231، 232، 4/ 476، 5/ 105، 358، 359، 488، 6/ 56، 224، 7/ 39، 167، 8/ 35، 155، 206، 310، 467، 468، نديلة (ندايلة): 1/ 466، 2/ 116، النرويج: 8/ 265، نشماية: 4/ 62، نفطة: 3/ 31، 89، 100، 164، 216،

_ 217، 227، 246، 255، 4/ 32، 47، 48، 50، 53، 146، 148، 149، 151، 152، 153، 154، 156، 176، 178 - 183، 272، 274، 275، 4 29، 499، 5/ 394، 395، 454، 490، 575، 576، 597، 6/ 389، 7/ 53، 57، 60، 65، 126، 127، 128، 133، 258، 332، 402، 428، 442، 463، 8/ 11، 66، 75، 212، 216، 217، 230، 236، نفوسة: 3/ 271، نقاوس: 1/ 398، 401، 441، 483، 2/ 53، 158، 335، 3/ 389، 4/ 304، 497، 498، 533، 534، 6/ 170، 7/ 344، النمسا: 4/ 243، 5/ 234، 279، 6/ 311، 7/ 103، 8/ 474، نهر البانو: 6/ 163، نهر السين: 8/ 297، نهر النيجر: 8/ 32، نوميديا: 5/ 409، 6/ 419، النيجر: 3/ 214، 4/ 228، 6/ 135، 163، 165، نيجيريا: 6/ 30، 163، 8/ 37، نيس: 6/ 76، 449، نيفير: 6/ 111، نيويورك: 3/ 41، 43، 5/ 75، 446، 6/ 338، 341، 388، 8/ 126، 319، 345، 376، 400، هامبورغ: 6/ 53، 8/ 32، الهامل: 2/ 179، 385، 3/ 31، 53، 88، 89، 94، 100، 107، 172، 214، 217، 219، 220، 221، 227، 267، 4/ 31، 41، 46، 72، 145، 147، 158، 161، 165، 178، 180، 185، 186، 217، 300، 332، 335، 5/ 98، 150، 261، 262، 357، 361، 503، 6/ 303، 341، 343، 390، 308، 7/ 25، 134، 258، 428، 442، 446، 446، 473، 8/ 15، 74، 79، 99، 148، 160، 195، 216، 217، 219، 221، 236، الهامة: 7/ 469، الهبرة: 7/ 404، الهضاب العليا: 4/ 294، 295، 323، 455، 5/ 355، 559، 6/ 339، الهقار: 3/ 172، 214، 4/ 195، 201، 224، 228، 231، 234، 235، 5/ 177، 6/ 39، 48، 55، 67، 102، 135، 167، 306، 7/ 108، 320، 387، 395، 462، 463، 8/ 31، 32، 34، 37، 38، 320، 321، 382، 413، هليل: 4/ 46، 246، 270، 271، 301، الهند: 1/ 493، 507، 2/ 150، 3/ 280، 350، 365، 4/ 50، 251، 409، 5/ 223، 226، 508، 514، 516، 518، 6/ 326، 364، 8/ 79، 128،

_ 375، 376، الهند الصينية: 3/ 361، 6/ 318، هوارة (قلعة): 2/ 114، 117، 360، الهوسة (الحوس): 6/ 234، هولندا: 5/ 211، 514، 6/ 425، 8/ 370، هيبون: 1/ 137، 249، 284، 7/ 467، 8/ 411، هيبونة: 6/ 111، 419، هيروشيما: 8/ 198، 226، (و) واترلو: 6/ 271، الواحات: 3/ 404، واحة البوريمي: 5/ 379، واحة سيدي المصمودي: 4/ 154، 155، واحة الكفرة: 4/ 263، الوادي الأحمر: 8/ 317، وادي براز: 7/ 127، وادي البردي: 5/ 480، وادي بومسعود (الصومام): 3/ 180، 5/ 364، 397، وادي التافنة: 7/ 365، وادي تليلات: 7/ 370، وادي تيكلوت: 5/ 70، وادي جدي: 4/ 500، 7/ 334، وادي الحاكم: 5/ 137، وادي الحراش: 2/ 338، 5/ 116، 174، 214، 6/ 15، وادي الحمام: 1/ 514، 4/ 484، وادي الخميس: 2/ 338، وادي الخير: 4/ 64، وادي درعة: 8/ 331، وادي الرتب: 7/ 64، وادي الرمال: 6/ 191، وادي الرمان: 5/ 137، 8/ 367، وادي الرمل: 8/ 299، وادي رهيو: 7/ 116، 122، وادي الروينة: 3/ 106، 107، وادي ريغ: 3/ 49، 281، 4/ 219، 220، 221، 254، 283، 5/ 96، 97، 6/ 288، وادي زقزل: 4/ 120، 221، وادي الزناتي: 3/ 141، 148، 149، 150، 153، 160، 162، 200، 4/ 45، 5/ 360، 7/ 145، وادي الزيتون: 3/ 23، 5/ 502، وادي الساحل: 3/ 183، 6/ 160، وادي الساورة: 4/ 90، الوادي (سوف): 1/ 156، 179، 284، 325، 3/ 47، 153، 165، 172، 198، 215، 217، 235، 281، 298، 4/ 32، 47، 50، 52، 53، 55، 147، 151، 179، 201، 220، 223، 225، 232، 233، 235، 249، 254، 274، 276، 298، 321، 336، 498، 499، 504، 505، 506، 5/ 8، 97، 98، 150، 259،

_ 373، 391، 401، 454، 479، 484، 490، 493، 579، 596، 6/ 39، 161، 171، 388، 389، 390، 7/ 38، 65، 74، 155، 173، 228، 336، 389، 390، 448، 463، 8/ 34، 96، 130، 359، 403، 453، وادي الشلف: 4/ 46، 8/ 299، وادي الصومام = (وادي بومسعود) وادي العابد: 4/ 114، وادي عايسي: 8/ 328، وادي العثمانية: 3/ 264، 4/ 31، 168، 169، 178، 185، 452، 462، 464، وادي عروة: 5/ 137، وادي العلايق: 3/ 340، 6/ 159، وادي قريش: 5/ 11، وادي قير: 4/ 88، 92، وادي الكرمة: 5/ 71، وادي كيس (قيس): 4/ 117، وادي اللحم: 4/ 45، وادي المخازن: 1/ 181، وادي مكرة (مقرة): 4/ 513، 7/ 66، وادي ملوية: 1/ 439، 477، وادي ميزاب: 4/ 198، 282، 5/ 96، 264، 311، 375، 378، 380، وادي مينة: 4/ 89، 116، وادي يسر: 1/ 401، واشنطن: 5/ 555، الواضية: 6/ 121، والي: 1/ 287، وانزقمير: 7/ 393، وجدة: 1/ 138، 4/ 509، 5/ 475، 587، 6/ 236، 237، 7/ 152، 467، 8/ 91، 223، 310، 313، 314، 454، ودان: 5/ 571، وداي: 4/ 161، 253، ورجلان: 3/ 265، ورقلة: 1/ 42، 179، 181، 182، 287، 303، 396، 2/ 333، 387، 3/ 47، 49، 200، 213، 235، 265، 267، 280، 325، 342، 446، 4/ 30، 36، 47 - 50، 51، 53، 106، 110، 153، 207، 254، 259، 265، 268، 279، 303، 5/ 99، 375، 419، 420، 454، 484، 490، 6/ 13، 74، 129، 130، 134، 139، 161، 179، 179، 228، 249، 389، 7/ 116، 323، 126، 337، 390، 462، 463، 464، 8/ 317، 325، 331، 334، 442، 453، ورماس: 4/ 235، 7/ 336، الوريط: 7/ 251، وزان: 3/ 229، 4/ 94، 96، 97، 98، 99، 100، 102، 106، 107، 287، 288، 295، 8/ 271، وزرة: 4/ 83، 84، 85، 295، الوعاد: 4/ 228، ولاته: 4/ 51، الولايات المتحدة الأمريكية = أمريكا

_ الولجة: 8/ 398، الوليمة: 8/ 150، 152، وميلة: 4/ 390، الونشريس: 1/ 398 516، 518، 2/ 407، 3/ 230، 4/ 114، 115، 449، 5/ 329، 6/ 310، 8/ 32، الونوغة: 4/ 199، 6/ 46، 7/ 224، 239، وهران: 1/ 19، 20، 41، 45، 51، 89، 96، 100، 123، 124، 140، 142، 143، 151، 154، 169، 174، 176، 177، 182، 183، 184، 198، 199، 201، 202، 203، 204، 206، 207، 208، 209، 217، 220، 221، 223، 224، 239، 250، 255، 260، 272، 280، 285، 286، 295، 297، 309، 310، 326، 410، 420، 424، 443، 448، 461، 462، 463، 464، 469، 477، 510، 511، 512، 514، 516، 517، 2/ 22، 26، 37، 61، 191، 194، 203، 240، 241، 255، 256، 260، 262، 263، 266، 279، 302، 309، 313، 316، 324، 325، 331، 332، 336، 337، 338، 341، 342، 343، 345، 348، 377، 381، 433، 3/ 17، 31، 45، 59، 65، 78، 102، 106، 111، 112 - 115، 117، 118، 124، 140، 142، 158، 163، 224، 227، 238، 283، 284، 293، 300، 301، 305، 312، 314، 315، 318، 319، 320، 330، 331، 332، 334، 336، 339، 376، 392، 399، 403، 409، 434، 438، 439، 441، 444، 446، 451، 4/ 14، 30، 34، 44، 45، 90، 101، 103، 104، 117، 120، 126، 127، 193، 194، 242، 267، 297، 298، 334، 350، 359، 368، 377، 380، 386، 387، 390، 404، 424، 428، 431، 437، 439، 445، 446، 447، 449، 450، 451، 452، 463، 486، 501، 513، 5/ 9، 27، 38، 99، 100، 101، 102، 103، 106، 146، 151، 176، 182، 199، 215، 217، 236، 245، 249، 258، 259، 300، 306، 307، 309، 355، 358، 387، 345، 388، 391، 402، 413، 421، 436، 462، 475، 487، 496، 515، 526، 532، 577، 580، 615، 6/ 11، 15، 20، 22، 24، 44، 47، 79، 83، 84، 97، 108، 109، 118، 116، 120، 134، 149، 157، 161، 162، 171، 175، 177، 231، 237، 241، 247، 249، 311، 312، 338، 344، 348، 356، 357، 378، 396، 397، 402، 411، 416، 420، 427، 440، 7/ 23، 25، 33، 59، 71، 72، 75، 84، 116، 137، 138، 167، 194، 256، 271، 316، 320، 322، 352، 359، 361، 362، 363، 364، 369، 370،

_ 371، 372، 373، 377، 378، 380، 382، 383، 384، 401، 407، 447، 447، 449، 455، 460، 465، 8/ 7، 9، 14، 18، 19، 49، 73، 96، 105، 111، 149، 150، 154، 155، 156، 177، 180، 184، 201، 202، 206، 208، 223، 233، 300، 301، 310، 313، 315، 318، 346، 347، 348، 357، 359، 362، 367، 372، 387، 389، 394، 402، 414، 442، 454، 473، ويلز: 2/ 444، (ي) اليابان: 6/ 417، يافا: 4/ 401، اليدوغ: 4/ 40، 76، 276، يسر: 1/ 91، 3/ 191، 5/ 479، 7/ 322، 8/ 308، يسر (وادي): 2/ 52، يلولا أو سامر: 3/ 202، يلولا أومالو: 3/ 202، يلولة: 7/ 476، اليمن: 1/ 287، 3/ 200، 4/ 128، 5/ 522، 524، 529، 602، 7/ 321، 340، 341، 8/ 41، 83، ينبع: 4/ 219، يوتا: 4/ 105، اليونان: 7/ 119، 254، 8/ 246،

فهرس الكتب والدوريات والجرائد

3 - فهرس الكتب والدوريات والجرائد

_ (أ) الآجرومية: 1/ 351، 2/ 159، 162، 3/ 66، 114، 201، 203، 271، 4/ 347، 5/ 342، 360، 397، 8/ 142، 45، 46، آخر الأخبار: 5/ 220، 221، آلام الشعوب المضطهدة: تونس والجزائر: 5/ 617، آلة بركار: 7/ 280، آما: 5 ل/ 433، آيات المحبين في مقامات العارفين: 8/ 223، الإبداء والإعادة .. : 5/ 280، الإبريز المسبوك: 1/ 305، إتحاف الأخوان في القرآن: 7/ 39، إتحاف أعلام الناس: 1/ 66، إتحاف الألباب بفضله الخطاب: 2/ 166، إتحاف المريدين: 7/ 146، إتحاف المنصفين والأدباء: 7/ 159، 253، 254، 255، 256، 397، 8/ 7، 264، إتحاف ودود وإسعاف بمقصد محمود: 2/ 54، إتقان الصنع في شرح رسالة الوضع: 7/ 156، الإتقان في علوم القرآن: 7/ 45، إتمام الوطر في التعريف بمن اشتهر: 1/ 300، 7/ 357، إثمد البصائر: 2/ 144، إجازات بعض علماء الجزائر: 7/ 60، 63، إجازات بعض علماء المغرب: 7/ 75، إجازاث الجيلالي: 7/ 63، إجازات الكتاني: 7/ 70، 73، إجازة الإحريزي: 7/ 62، إجازة ابن الحفاف: 7/ 67، إجازة ابن عزوز: 7/ 57، 61، إجازة ابن مالك: 7/ 64، إجازة الحرار: 7/ 56، إجازة الخنقي: 7/ 58، إجازة الديسي: 7/ 67، إجازة الرضوي: 7/ 54، 69، إجازة الزقاي: 7/ 59، إجازة السنوسي: 7/ 60، إجازة الشيخ بخيت: 7/ 70، إجازة الشيخ الحداد: 7/ 64، إجازة الطاهر بن عاشور: 7/ 70،

_ إجازة عامة للطولقي: 7/ 65، إجازة عبد القادر الفاسي: 6/ 99، إجازة عمر بن الطالب، إجازة في التصوف: 7/ 75، إجازة القاضي شعيب: 7/ 58، 61، إجازة المكي بن عزوز: 7/ 74، إجازة المنور: 7/ 61، إجازة الونيسي: 7/ 61، إجلاء المرآة لإظهار الضلالات: 7/ 134، الإحاطة لابن الخطيب: 1/ 111، 2/ 360، أحكام ابن عاصم: 1/ 373، إحكام صنعة الكلام: 1/ 84، الإحياء: 5/ 237، 238، 239، 240، 247، 248، إحياء علوم الدين: 1/ 87، 111، 485، 3/ 233، الإخلاص (جريدة): 3/ 101، 4/ 331، 332، 5/ 260، 261، الإخوان المسلمون (مجلة): 5/ 601، 609، إدريس (رواية): 5/ 500، 8/ 181، إرشاد الألبا: 8/ 91، إرشاد أهل الهمم العلية: 7/ 146، إرشاد الحائرين: 5/ 292، الإرشاد في تجديد العهود والأوراد: 7/ 148، إرشاد المتعلمين: 3/ 34 287، 5/ 232، 6/ 220، 331، 7/ 158، 173، 196، 279، 8/ 66، 96، الإرشادات الطبية: 7/ 265، إستر الشرق: 5/ 33، الإسطافيت: 5/ 213، 215، 305، إسقاط التدبير: 1/ 351، الإسلام: 5/ 242، 245، 247، 248، 249، 251، الإسلام الجزائري: 6/ 52، الإسلام الصحيح: 6/ 352، 7/ 174، 190، الإسلام في حاجة إلى دعاية وتبشير: 6/ 352، 7/ 168، 8/ 69، الإسلام في القرن التاسع عشر: 6/ 74، الإسلام وأصول الحكم: 7/ 21، إسماع الأصم: 2/ 180، 354، 380، الإشراف في الرد على الحمار الهفهاف: 7/ 101، الإصابة فيمن غزا المغرب من الصحابة: 2/ 331، الإصلاح (جريدة): 5/ 255، 256، 262، 270، 310، 311، 312، 7/ 418، 8/ 196، إضاءة الحلك: 1/ 131، إضاءة الدجنة: 2/ 49، 94، 98، 99، 195، 222، إظهار البدع وإرهاط المبتدعة: 2/ 143، إظهار الحق: 7/ 139، إظهار صدق المودة: 1/ 68، إظهار نفائس ادخاري ... البخاري:

_ 2/ 63، إعراب القرآن: 5/ 339، الإعلام: 5/ 606، إعلام الأحبار بغرائب ... : 2/ 209، إعلام أهل القريحة: 2/ 144، 421، الإعلام بمن حل مراكش: 1/ 66، 2/ 115، الإفادة الأحمدية: 4/ 191، الإفادة في خوارق العادة: 7/ 134، الإفريقي (جريدة): 5/ 218، الإفريقي (مسرحية): 5/ 415، إفريقيا الشمالية (مجلة): 5/ 275، إفريقيا اللاتينية (مجلة): 5/ 36، إفريقية القديمة: الإنتاج النباتي: 6/ 190، الإفلاس المعنوي للسياسة الغربية في المشرق: 7/ 217، إقامة البراهين العظام على نفي التعصب ... عن الإسلام: 5/ 608، 7/ 162، الإقدام: 5/ 248، 251، 265، 267، 6/ 259، الإقدام الباريسي: 5/ 267، الإقدام (جريدة): 8/ 23، 69، 117، 196، 443، الإقدام الشمال الإفريقي: 5/ 267، إقليم توات: 7/ 79، الإكتراث بحقوق الإناث: 6/ 350، إمداد ذوي الاستعداد ... : 2/ 136، إمداد الفتاح: 7/ 79، إنباء الغمر: 1/ 67، الإنجيل: 1/ 69، 3/ 428، 4/ 136، 6/ 117، 120، 140، 180، 250، 429، 7/ 161، 193، 218، إنجيل يوحنا: 4/ 136، الإنسان الكامل: 7/ 445، الإنسانية (هيومانيتي) جريدة: 6/ 452، 7/ 217، الإنشاء لأبي المطرف: 1/ 307، الإنشاء للحنبلي: 1/ 305، إنشاد المريد: 7/ 38، الإنصاف في رد اعتراضات السفساف: 7/ 101، إيالة الجزائر (رواية): 8/ 178، إيالة الجزائر (مسرحية): 5/ 416، إيساغوجي: 2/ 151، إيضاح الغميس وأنوار البرجيس: 2/ 353، إيضاح المسالك: 2/ 68، إيضاح المسالك على قواعد الإمام مالك: 1/ 125، إيضاح المسالك للونشريسي: 1/ 130، إيضاح المعاني: 1/ 119، إيقاظ الوسنان في العمل بالحديث والقرآن: 7/ 43، أبحاث حول أصول القبائل الرئيسية وهجراتها: 6/ 86، أبحاث وآراء في تاريخ الجزائر: 7/ 406، أبو الحسن (مسرحية): 5/ 424، أبو العجائب: 5/ 257، أجوبة الشيخ التسولي: 7/ 78، 362،

_ أجوبة على اعتراضات أبي حيان: 2/ 109، أجوبة فقهية: 1/ 125، الأجوبة النورانية: 2/ 144، أجوبة الونشريسي: 1/ 130، أحكام الخنثى: 7/ 81، الأحكام السلطانية: 6/ 53، الأخبار: 3/ 153، 4/ 471، 499، 500، 5/ 131، 215، 216، 218، 225، 235، 241، 245، 279، 418، 607، 612، 6/ 127، 166، 195، 244، 245، 246، 249، 388، 390، 7/ 290، 332، 386، 8/ 119، 164، 196، 216، 259، 385، 423، أخبار الحرب: 5/ 241، الأخبار ذات التأسيس: 7/ 377، 379، الأخضرية: 1/ 420، 2/ 261، الأدب العربي الصحراوي: 6/ 234، الأدباء الثلاثة: 8/ 82، أدباء المظهر: 8/ 143، الأدلة السنية: 2/ 396، الأدوية الشافية: 7/ 263، الأديب (مجلة): 8/ 85، أرجوزة الأخضري: 1/ 502، أرجوزة ابن أبي الرجال: 1/ 114، أرجوزة ابن عبد المؤمن: 2/ 98، أرجوزة ابن المغوفل: 1/ 466، أرجوزة البرجي: 2/ 148، أرجوزة الحلفاوي: 1/ 443، أرجوزة في جغرافية ابن خلدون: 7/ 431، أرجوزة في الرعد: 5/ 362، أرجوزة محمد بن عمار: 5/ 362، أرجوزة المكودي: 1/ 522، الأرشيف البربري: 6/ 76، الأرشيف المراكشي (المغربي): 6/ 30، 75، 76، الأرض والدم: 8/ 185، أزهار الرياض: 1/ 131، 294، 307، 2/ 219، 220، 223، 230، 240، 361، الأزهار الرياضية: 7/ 416، الأزهار الشقيقة المتضوعة بعرف العقيقة: 2/ 169، 174، 176، 184، 197، 239، 245، 259، 344، أزهار الكمامة في أخبار العمامة: 2/ 28، 217، 328، أساس الطاعات: 7/ 88، الأسد الإسلامي: 5/ 520، الأسرار البادية في الأسباب العادية: 7/ 155، أسرار الشعب العربي (طب): 7/ 230، أسرار الضمائر العربية: 8/ 47، الأسرار النورانية: 2/ 75، أسرى الجزائر (مسرحية): 5/ 416، أسلوب الحكيم في العليم: 7/ 197، الأسلوب الغريب في التعلق بالحبيب: 5/ 364، أسماء الأماكن البربرية في الأوراس: 6/ 55،

_ أسنى المتاجر: 1/ 55، 6/ 359، 7/ 96، أسير الداي (مسرحية): 5/ 411، أسير عبد القادر (الأمير): 5/ 415، أشعار جزائرية: 2/ 300، الأشموني: 5/ 342، أصحاب البستان: 8/ 183، أصل البربر بزواوة: 7/ 338، أصول الأرضين: 2/ 83، أصول سكان توات: 7/ 393، أضواء: 4/ 191، 7/ 125، الأطلس (جريدة): 5/ 218، 6/ 312، أعز ما يطلب: 3/ 98، 5/ 400، 6/ 99، أعلام الاصلاح: 7/ 441، الأعلام الشرقية: 4/ 131، الأغاني: 6/ 71، 178، الأغاني (اختصار): 2/ 175، أغني إلى ياسمينة: 8/ 180، أفريقيا (مجلة): 8/ 182، أقوال التأسيس: 7/ 373، 374، 375، 376، 378، أقوال المطاعين في الطعن والطواعين: 7/ 259، أقوم المسالك في أحوال الممالك للتونسي: 4/ 521، 522، 5/ 229، 541، 573، 595، 6/ 178، 7/ 158، 200، 8/ 92، 253، ألف ليلة وليلة: 2/ 206، 207، 291، 5/ 230، 231، 411، 420، 422، 434، 6/ 11، 50، 177، 8/ 126، 135، 405، 406، 432، 448، 475، الألفاظ التركية والفارسية الباقية في لغة أهل الجزائر: 6/ 176، الألفية: 8/ 42، ألفية ابن مالك: 1/ 87، 351، 2/ 42، 105، 158، 162، 3/ 137، 201، 203، 271، 5/ 342، ألفية ابن معطي: 1/ 308، ألفية السالمي: 3/ 272، ألفية السيوطي: 2/ 164، ألفية العراقي: 1/ 351، 373، 2/ 42، 53، أم البراهين: 2/ 93، 3/ 66، 98، 137، 6/ 73، 7/ 114، 148، 150، أمثال العوام في الجزائر: 6/ 178، الأمثال للميداني: 1/ 305، 5/ 342، الأمراض الزهرية والجلدية لبربر الأوراس: 7/ 230، الأمة (أبو اليقظان): 5/ 264، الأمة الجرائرية: 5/ 271، الأمة (حزب الشعب): 5/ 268، 270، الأمة العربية: 5/ 609، 7/ 217، أنباء المدرسين وأهلا الفتوى: 7/ 81، أنس الجليس في جلو الحناديس: 2/ 128، أنس الغريب: 1/ 86، 110، أنس الفقير: 1/ 63، 64، أنشودة الوليد: 8/ 240،

_ أنفس الذخائر وأطيب المآثر: 7/ 455، الأنموذج الفريد (في التوحيد): 7/ 143، أنواء نيسان في أنباء تلمسان: 2/ 212، 219، 335، أنوار التجلي على قصيدة الحلي: 2/ 169، الأنوار في آيات النبي المختار: 1/ 69، الأنوار القدسية في مقدمة الطريقة السنوسية: 7/ 125، الأنوار المضيئة في الصلاة على خير البرية: 7/ 136. الأنوار المنبلجة: 1/ 89، 90، 2/ 112، الأنوار وكنز الأسرار: 2/ 328، أنوار اليقين (عن الأئمة المجتهدين): 7/ 161، أنيس السهران: 7/ 357، 358، أنيس الغريب والمسافر: 1/ 167، 432، 2/ 346، الأهرام: 5/ 58، الأوائل: 5/ 255، أوضح الدلائله في إصلاح الزوايا ببلاد القبائل: 3/ 98، 34، 7/ 163، 8/ 64، الأولياء وأساطير الإسلام: 6/ 52، ابتسام العروس: 1/ 62، الإبريز في مناقب سيدي عبد العزيز: 7/ 45، ابن عمتي الاسطانبولي (مسرحية): 8/ 448، ابن عمتي في فرسوفيا (مسرحية): 8/ 448، أبهى مقامة في المفاخرة بين الغربة والإقامة: 8/ 148، الاجابة بحسم خلاف اساؤوا السؤى: 7/ 38، احتلال الجزائر: 7/ 355، اختصار صدق المودة: 1/ 68، اختيار حكايات: 6/ 196، اخواتنا المسلمات: 6/ 353، الارتضاء في الفرق بين الطاء والظاء: 2/ 166، استجلاب المسرات بشرح دلائل الخيرات: 2/ 145، الاستعارات: 3/ 212، استعمار الجزائر: 6/ 438، 440، 445، استعمالات القانون العرفي في تلمسان: 6/ 177، الاسطافيت: 6/ 410، الاطراد والشذوذ في العربية: 8/ 47، الافتتاح من الملك الوهاب: 1/ 132، الاقتراح للسيوطي: 2/ 109، 161، الاكتراث بحقوق الإناث: 4/ 538، 7/ 184، اكتشاف الجزائر العلمي (مجموعة): 6/ 45، اكتشاف الصحراء: 7/ 395، الاكتفاء في حكم جوائز الامراء والخلفاء: 2/ 346، 347، 348، امرأتنا في الشريعة والمجتمع: 7/ 21، امرأة الأب: 8/ 143،

_ انتقام الشيخ: 8/ 177، انحسام الريق في حلف من انكر الجمعة ... : 7/ 83، انطولوجيا: 6/ 43، اهتزاز الأطواد في مسألة تحليل الربا: 7/ 83. (ب) الباتريوت/ الوطني: 5/ 271، باربلو أو اللحية الزرقاء: 6/ 195، البارح واليوم (مسرحية): 8/ 452، البارع: 1/ 288، الباريا: 5/ 267، بانت سعاد: 8/ 240، 316، بحث ابن الموفق: 5/ 363، البحر الطافح في بعض فضائل سيدي الصالح: 7/ 447، 448، بحوث حول الملكية عند العرب: 6/ 441، بحوث في أصول القبائل: 6/ 307، بحوث ووثائق مغربية: 7/ 397، البخيل (رواية): 8/ 128، بدائع السلك: 1/ 19، 61، بداية المجتهد: 4/ 497، 498، 6/ 177، 7/ 95، 110، البدر المنير في علم التفسير: 1/ 121، بدور الافهام ... على عقائد ابن عاشر: 7/ 150، 173، 8/ 257، البدور السافرة في عوالي الأسانيد: 7/ 52، 442، بديع: 8/ 135، 445، بذور الحياة: 8/ 72، 166، 295، البردة: 2/ 146، البردة (قصيدة): 8/ 240، البردة للبوصيري: 1/ 68، 81، 260، 373، 8/ 60، 347، البرلمان الجزائري: 5/ 269، البرهان: 5/ 606، البروقري (جريدة): 5/ 218، 220، البروقري دي ليست: 5/ 232، البريد الجزائري: 5/ 249، بزوغ الشمس: 7/ 134، البستان: 1/ 60، 75، 77، 94، 111، 158، 166، 177، 201، 212، 267، 293، 324، 346، 401، 419، 423، 432، 463، 476، 2/ 10، 21، 67، 118، 119، 120، 124، 137، 241، 325، 354، 355، 423، 3/ 233، 6/ 70، 7/ 306، 8/ 169، بستان الأزهار: 1/ 290، 495، 2/ 114 - 116، 162، 359، 5/ 306، 7/ 148، 8/ 168، البستان (جريدة): 5/ 264، بستان الموت: 6/ 382، بشائر أهل الإيمان: 2/ 163، البصائر: 3/ 35، 257، 258، 5/ 253، 271، 272، 299، 310، 319، 550، 6/ 196، 372، 7/ 13 - 14 - 28 - 47

_ - 178 - 310 - 413 - 416 - 419 - 440، 8/ 27، 67، 69، 70، 73، 74، 82، 84، 109، 116، 139، 140، 141، 142، 144، 145، 164، 193، 196، 228، 229، 283، 298، 299، 303، البضاعة المزجاة: 1/ 383، البعثة التعليمية: 5/ 427، 428، بغية الآراب في لطائف العتاب: 2/ 223، بغية الأديب في علم التكعيب: 2/ 430، بغية الرواد: 1/ 61، 2/ 355، 6/ 60، 170، 180، 8/ 168، بغية السالك في اشراف الممالك: 5/ 358، بغية السول في حديث الرسول: 7/ 43، بغية الطالب: 7/ 328، بغية الطلاب في الإسطرلاب: 1/ 116، 117، 2/ 404، بغية الطلاب في علم الآداب: 7/ 181، بقايا الألفاظ الفارسية والتركية في لهجة أهل الجزائر: 8/ 48، بقايا فصيح العربية: 8/ 47، البلاغ (جريدة): 3/ 262، 4/ 127، 338، 5/ 260، 311، 6/ 196، 7/ 190، 8/ 22، 23، 196، بلال (مسرحية): 5/ 427، 8/ 141، 197، 447، بلوغ الأرب في موسيقى العرب: 8/ 455، بلوغ المرام في شؤون العرب قبل الإسلام: 8/ 167، بهجة الأنوار في نسب آل بيت النبي: 7/ 329، بهجة الناظر: 2/ 338، 7/ 407، البوصيري: 7/ 44، بولنوار (رواية): 8/ 185، البيان الشيوعي: 6/ 447، بيان القوانين الردعية ... في الأرياف الجزائرية: 7/ 90، بيان ملوك الجزائر: 1/ 305، 2/ 373، بيروت (جريدة): 5/ 566، البيقونية: 7/ 46، بين حمارين جزائري وافرنجي: 8/ 130، بين أهل الجبال في الجزائر: 7/ 243، (ت) التأسيس فيما سيقع بالمسلمين: 7/ 379، تأليف عن نشأة أولاد سيدي الشيخ: 7/ 9 44، تأليف في أطوار الرحمانية: 7/ 132، تأليف في رجال البخاري: 1/ 375، تأليف في علم القوم (تصوف): 7/ 146، تأليف في القضاء: 7/ 81، تأليف لابن الجوزي: 1/ 299، تأليف للسيوطي: 1/ 299، التاج في حقوق الأزواج: 2/ 75، التاج (كتاب): 2/ 101، التاج المرصع في شرح رجز أبي مقرع: 2/ 412، تاريخ الأبجدية منذ أقدم العصور: 8/ 48،

_ تاريخ أبي زكريا: 5/ 339، تاريخ الأستاذ الإمام: 5/ 532، تاريخ الأغواط: 4/ 198، تاريخ أفريقية والأندلس: 6/ 58، تاريخ الأمير (عبد القادر): 5/ 369، 6/ 70، 7/ 315، 437، 439، تاريخ ابن الأثير: 1/ 308، تاريخ ابن جلول: 7/ 352، تاريخ ابن الجوزي: 1/ 307، تاريخ ابن خلدون: 5/ 230، 231، 6/ 47، 7/ 320، 433، تاريخ ابن المفتي: 1/ 324، 5/ 389، تاريخ احتلال الجزائر: 6/ 387، تاريخ الاشراف: 7/ 335، تاريخ الافريقية حول النباتات: 6/ 189، تاريخ انتفاضة (1871): 6/ 69، تاريخ البابوري: 7/ 352، تاريخ الباشوات في الجزائر .. : 2/ 373، تاريخ بايات قسنطينة: 7/ 343، تاريخ بجاية: 7/ 348، تاريخ البكري: 6/ 100، تاريخ بني العباس: 1/ 305، تاريخ بني عبد الواد: 6/ 99، تاريخ توات: 7/ 393، تاريخ الجامع الكبير: 5/ 334، تاريخ الجزائر: 6/ 69، تاريخ الجزائر العام: 3/ 92، 7/ 63، 423، 424، تاريخ الجزائر في القديم والحديث: 5/ 310، 7/ 306، 409، 411، 414، 8/ 95، 102، 267، 306، 436، تاريخ حاضرة قسنطينة: 5/ 88، 7/ 344، 8/ 113، 168، تاريخ حلب: 2/ 165، تاريخ حياة طيب الذكر: 7/ 439، تاريخ الدولتين: 1/ 42، 81، 6/ 58، 7/ 391، تاريخ الدولة العثمانية: 1/ 306، تاريخ دولة العرب في إفريقيا: 5/ 230، تاريخ الدولة العلية: 7/ 315، تاريخ رجال الإصلاج في جيل: 7/ 442، تاريخ الزعاطشة: 7/ 396، تاريخ زواغة: 5/ 339، تاريخ الزواوة: 6/ 325، 7/ 176، 307، 338، 340، 350، 8/ 62، 101، تاريخ السودان: 6/ 235، تاريخ سورية للواقدى: 1/ 306، تاريخ سيدي مبارك بن ناجي: 7/ 336، تاريخ شمال إفريقية: 6/ 64، 7/ 420، تاريخ الطب عند العرب: 7/ 230، تاريخ الطبري: 1/ 305، تاريخ عبد الحميد بيك: 5/ 497، تاريخ العدواني: 7/ 391، 392، تاريخ العقباني: 7/ 319، تاريخ علماء زواوة: 7/ 443، تاريخ علي باي: 1/ 295، 2/ 230، 363، تاريخ فرنسا: 7/ 316، تاريخ قبائل الأزجر: 7/ 395، تاريخ قسنطينة: 5/ 334، 7/ 451،

_ تاريخ قسنطينة (علاج السفينة): 6/ 152، تاريخ قسنطينة في العهد العثماني: 6/ 65، تاريخ القيرواني: 6/ 84، تاريخ القيسي: 1/ 307، تاريخ اللغات السامية: 6/ 319، التاريخ المتدارك في أخبار جان دارك: 5/ 229، 6/ 192، 194، 7/ 316، تاريخ المغرب الأقصى: 7/ 316، تاريخ المغرب لابن عذارى: 6/ 99، تاريخ الموحدين للمراكشي: 6/ 58، التاريخ ومؤرخو الجزائر: 6/ 89، التام تام: 5/ 220، 221، التايمز: 6/ 245، 8/ 437، التبر الصافي (في العروض): 8/ 192، التبر المسبوك في جهاد غزاة الجزائر: 1/ 434، 2/ 340، 7/ 395، التبصرة: 7/ 35، تبصرة المبتدى وتذكرة المنتهى: 2/ 415، تجريب القلم في خط العرب والعجم: 6/ 43، تحبير الموشين: 8/ 47، تحرير الأصول .. فيما على القضاة والعدول: 4/ 453، 455، تحرير البيان في الرفق بالحيوان: 7/ 205، تحرير المرأة: 7/ 185، التحف الربانية: 2/ 109، 110، تحفة الإخوان في إرهاط وقبائل الجان: 2/ 350، تحفة الأحباب (في التفسير): 7/ 14، تحفة الأدب في ميزان أشعار العرب: 8/ 192، تحفة الأريب عندما لا يحضر الطبيب: 7/ 226، تحفة الحكام لابن عاصم: 2/ 53، 4/ 422، 529، 6/ 24، 7/ 107، تحفة الزائر: 1/ 29، 5/ 499، 520، 532، 540، 552، 569، 578، 6/ 66، 422، 423، 7/ 45، 61، 78، 94، 97، 150، 159، 182، 184، 238، 396، 436، 437، 8/ 66، 105، 167، 205، 207، 262، 279، تحفة الزائر (غير السابق): 7/ 439، تحفة السرور في أعمال الصحيح مع الكسور: 7/ 284، 285، التحفة السنية في النوادر العربية: 8/ 166، تحفة الطلبة وبهجة الأدباء: 6/ 43، تحفة العروس: 6/ 62، التحفة في أوائل الكتب: 7/ 52، تحفة المحب في أصل الطب: 7/ 259، التحفة المختارة في ثواب الزيارة: 7/ 135، التحفة المرضية في الدولة البكداشية: 1/ 31، 35، 2/ 257، 269، 336، تحفة الناظر ونزهة المناظر: 1/ 101، 103، 104، 2/ 208، تحفة الوراد: 1/ 63، 66، التحقيقات الإعجازية: 2/ 169،

_ تحية العلم (الفرنسي): 8/ 224، التخليص في شرح التلخيص: 1/ 114، تدبير صحة الأبدان: 7/ 257، تذكرة الأنطاكي: 2/ 424، 433، 7/ 234، تذكرة الحكام: 7/ 93، التذكرة (طب): 7/ 226، تذكرة الغافل ونصرة الجاهله: 1/ 108، التذكرة للمقريزي: 1/ 292، 305، تذكرة المبادى في المعاش والمعاد: 7/ 336، 394، تراجم علماء الجزائر: 5/ 289، تراجم في شيوخ الطريقة التجانية: 7/ 448، تربية النحل: 7/ 291، ترجمان الأشواق: 7/ 136، ترجمة الشيخ ابن المختار: 7/ 440، الترح في منظومة ابن فرح: 5/ 394، الترغيب والترهيب: 1/ 106، 8/ 120، التسمية بالمصدر: 8/ 47، التسهيل لابن مالك: 2/ 161، 164، تسهيل المطالب لبغية الطالب: 7/ 327، التشريفات: 1/ 328، تطهير الاعتقاد من أدران الإلحاد: 7/ 178، تعاظم الموجين في شرح مرج البحرين: 2/ 153. تعديل الكواكب: 2/ 413، تعديل المزاج: 2/ 427، 429، 431، 435، 436، 7/ 260، التعريف بالإنسان الكامل: 7/ 127، التعريف بالأحبار المالكين الأخيار: 2/ 126، التعريف بما للفقير من التأليف: 2/ 62، 63، 64، تعريف الخلف برجال السلف: 2/ 424، 3/ 79، 82، 90، 91، 110، 113، 134، 183، 194، 216، 4/ 73، 76، 158، 166، 502، 511، 524، 5/ 289، 307، 503، 6/ 99، 172، 213، 7/ 54، 59، 61، 74، 81، 128، 130، 136، 137، 151، 199، 257، 262، 263، 283، 303، 369، 423، 425، 430، 431، 432، 433، 434، 435، 444، 8/ 12، 45، 99، 100، 148، 167، 169، 245، 268، 288، 464، تعطير الأكوان بنشر نفحات أهله العرفان: 8/ 223، تعليق على قول خليل: 1/ 383، تعليق على مختصر ابن الحاجب: 1/ 125، تعليق على مورد الظمان: 2/ 22، تعليقات في علم الكلام: 7/ 150، تعليم القارئ في الخط العربي: 6/ 45، تعليم اللغة العربية الدارجة والفصيحة: 6/ 175، 8/ 49، تعمير الوقوت بسماع ما قيل في دعاء القنوت: 2/ 145، تفجير الأنهار خلل روضة الأزهار:

_ تفريج الهموم: 7/ 136، تفسير آبهلول: 1/ 359، تفسير (إذا الشمس كورت): 7/ 15، تفسير أبي السعود: 5/ 341، تفسير الأنصاري: 1/ 375، تفسير ابن عطية: 1/ 122، تفسيرالبهلول: 2/ 20، تفسير البيضاوي: 5/ 341، تفسير الثعالبي: 1/ 350، 5/ 309، تفسير الخازن: 5/ 341، تفسير الخروبي: 1/ 435، 499، تفسير الرازي: 7/ 178، تفسير الزمخشري: 5/ 341، 7/ 178، تفسير سورة (والعصر): 7/ 258، تفسير السيوطي: 1/ 350، 7/ 178، تفسير الشيخ محمد عبده: 5/ 594، تفسير الطبري: 1/ 122، تفسير الغريب للمبتدي القريب: 2/ 20، تفسير القرطبي: 7/ 178، تفسير المنار: 7/ 178، التفكر والاعتبار في الصلاة على النبي المختار: 2/ 30، التفكير والاعتبار: 5/ 364، التقارب بين الأديان: 6/ 435، تقاييد بعض حذاق المؤرخين: 7/ 387، تقاييد التليلي: 5/ 98، تقاييد على صحيح مسلم: 7/ 43، تقاييد في تاريخ زواوة: 7/ 353، تقاييد في شمائل المصطفى: 7/ 312، التقدم: 5/ 251، 265، 292، 7/ 210، 266، 274، التقدم (تونس): 5/ 280، 285، تقريب النافع في الطرق العشر لنافع: 2/ 22، تقويم الأخلاق: 5/ 257، 262، 282، 297، 298، 310، 7/ 213، 266، 8/ 71، تقويم البلدان: 7/ 280، التقويم الجزائري: 3/ 183، 4/ 77، 384، 5/ 295، 554، 6/ 59، 7/ 131، 258، 8/ 164، 283، تقويم المنصور: 3/ 100، 5/ 262، 296، 7/ 304، 418، 419، 420، 8/ 69، 70، تقييد الأخضري: 2/ 84، تقييد ابن المفتي: 2/ 204، 348، 372، تقييد على مسألة وقف: 1/ 522، تقييد في ذم أهل فاس: 7/ 100. تقييد في نسب بهلول بن عاصم: 5/ 363، تقييد كتبه عبد القادر: 7/ 286، تقييدات على جمع الجوامع: 7/ 82، تقييدات مختلفة: 5/ 364، تكملة الديباج: 5/ 338، تكملة الفوائد في تحرير العقائد: 7/ 149، التكميله لبعض ما أخفه به كتاب النيل: 2/ 75، 83.

_ التل (جريدة): 5/ 220، تلخيص الإبريز: 5/ 612، تلخيص أعمال الحساب: 1/ 114، تلخيص ابن البنا: 1/ 116، تلخيص العمل: 1/ 119، تلخيص المفتاح: 1/ 87، 351، 2، 373/ 167، 168، تلقيح الأفكار بتنقيح الأذكار: 2/ 144، 146، التلمود: 6/ 402، 403، التلميذ: 5/ 273، التلميذ والدرس: 8/ 186، تمرد القرآن على العصور: 7/ 34، تمهيد لدراسة الإسلام: 7/ 170، تمييز الأنساب: 2/ 349، تنبيه الأنام: 1/ 231، 235، 256، 262، 299، 351، 4/ 363، 392، 393، 508، 5/ 54، تنبيه التلميذ المحتاج: 2/ 142، 412، تنبيه الحاذق الندس: 1/ 78، تنبيه المغتربين في الرد على إخوان الشياطين: 7/ 139، التنقيح في التعريف ببعض .. : 2/ 353، 165. تنوير الألباب في علم الحساب: 7/ 285، 286، تنوير السريرة: 2/ 63، 328، التهاني والفتاوى .. في أمر الشيخ العلاوي: 7/ 134، تهذيب السعد: 1/ 352، تواريخ موريطانيا السينيغالية: 7/ 316، التوبة (مسرحية): 5/ 428، التوراة: 1/ 69، 4/ 136، 6/ 402، 403، 429، 7/ 161، توشيح طراز الخياطة: 2/ 276، 365، التوضيح (كتاب): 1/ 327، التوضيح لابن الحاجب: 2/ 73، 159، توكيد العقد: 2/ 109، 111، تونس الشهيدة: 5/ 291، تونس وهيئة الأمم: 7/ 419، التيسير إلى علم التفسير: 2/ 19، التيسير في التفسير: 7/ 15، 16، 45، (ث) ثارات العرب (مسرحية): 5/ 422، 8/ 343، الثبات: 5/ 257، ثبت أبي طالب: 2/ 38، ثبت ابن الأمين: 2/ 38، ثبت ابن السادات: 7/ 50، ثبت ابن عمار: 2/ 231، ثبت التواتي: 7/ 49، ثبت الجزائري: 2/ 38، ثبت الجوهري: 2/ 38، ثبت الحرار: 7/ 53، ثبت السنوسي: 7/ 50، ثبت العباسي: 7/ 49،

_ ثبت المكي بن عزوز: 7/ 54، الثرثار: 5/ 220، الثغر الجماني: 1/ 26، 31، 35، 208، 292، 2/ 41، 258، 283، 343، 344، الثقافة (المصرية): 5/ 366، 609، ثقبة في الحائط (مسرحية): 8/ 448، ثمرات الأوراق: 3/ 137، الثمرة الأولى: 5/ 274، الثمرة الثانية: 5/ 275، (ج) الجاسوس على القاموس: 2/ 166، جامع الأصول المنيفة: 2/ 47، جامع جوامع الاختصار: 1/ 338، جامع الشمل: 7/ 44، الجامع للسيوطي: 5/ 341، الجامع لما افترق من درر العلوم: 7/ 124، جامع الهمم في أخبار الأمم: 1/ 69، جامع الوضع والحاشية: 7/ 88، جحا (مسرحية): 5/ 424، 8/ 446، 449، الجحيم: 5/ 261، جذوة الاقتباس: 2/ 45، 49، جرجرة عبر التاريخ: 6/ 325، 7/ 307، 349، 8/ 62، 63، الجزائر أمام الإمبراطور: 6/ 307، 311، الجزائر بلاد التاريخ والفن: 8/ 390، الجزائر التاريخية والمصورة: 6/ 46، الجزائر تحت الرعاية الفرنسية: 7/ 210، الجزائر الجديدة: 5/ 218، 271، الجزائر (جريدة): 5/ 217، 247، 257، 258، 285، 529، 569، 7/ 441، 8/ 429، الجزائر الجمهورية (جريدة): 5/ 220، 267,221، 429، 6/ 453، 8/ 185، الجزائر الحرة: 5/ 271، الجزائر الدينية (دراسة): 4/ 305، الجزائر الفرنسية: 5/ 217، 218، الجزائر في الأدب الفرنسي: 6/ 88، الجزائر في سنة (كتاب): 5/ 76، 832، الجزائر كما يتحدث عنها أهلها: 7/ 385، الجزائر كما يراها أهلي: 7/ 93، 209، الجزائر للجزائريين: 6/ 445، الجزائر (مسرحية): 5/ 415، 416، الجزائر المصورة: 5/ 44، الجزائر من خلال معالمها الأثرية: 8/ 398، الجزائر هيفيرنال: 5/ 236، الجزائرية (المنظومة): 1/ 170، جعفر المرخي (مسرحية): 8/ 137، جغرافية الإدريسي: 1/ 304، جغرافية أبي الفداء: 6/ 71، جغرافية ابن الوردي: 1/ 306، جغرافية القطر الجزالري: 7/ 420، جلاء الران وتنوير الجنان: 7/ 290، جماعة المسلمين: 7/ 175، 176، 8/ 268، الجمان في مختصر أخبار الزمان: 2/ 138،

_ الجمان للشاطبي: 5/ 342، جمع الجوامع للسبكي: 1/ 351، 373، 427، 2/ 42، 53، جمله الخونجي: 1/ 119، 352، جمهورية جنوب وهران: 5/ 217، 306 الجمهورية الجزائرية (جريدة): 5/ 270، الجنى المستطاب (رسالة في السماع): 7/ 122، 8/ 463، جواب الأمير عبد القادر فى مسائل شرعية: 7/ 94. جواب المستشارين الأهالي: 7/ 195، جواهر إلإكليل في نظم مختصر خليل: 2/ 78. الجواهر الحسان في تفسير القرآن: 3/ 86، 4/ 496، 5/ 433، 8/ 97، 98، 168. جواهر المحتاج في شرح السراج: 2/ 407، جواهر المعاني = الكناش الجواهر المكنونة في العلوم المصونة: 7/ 128. الجوائب (جريدة): 4/ 313، 5/ 541، 596، 597، 605، 6/ 217، 8/ 196، جورنال دالجي: 5/ 221، جورنال قسنطينة: 5/ 218، الجوهر المرتب في الربع المجيب: 7/ 279. الجوهر المكنون: 1/ 112، 2/ 167، 168، 428، 430، 431، 432، 435، 3/ 212، 7/ 36، 8/ 66، الجوهر الوهاج المنقوش: 6/ 192، 194، الجوهرة: 3/ 37، 6/ 73، الجوهرة الثمينة: 7/ 347، الجوهرة للأخضري: 2/ 42، الجيريا: 5/ 236، الجيش العرمرم: 7/ 100، الجيش الكمين: 1/ 80، 4/ 363، (ح) حادثة دمشق: 7/ 316. الحارس: 5/ 257، 258، الحاشية الاختصارية الرملية الفلكية: 2/ 416. حاشية البناني: 2/ 71، حاشية الدسوقي: 5/ 393، حاشية الشهاب: 5/ 342، حاشية على الخفاجي: 2/ 230، حاشية على السلم: 2/ 151، حاشية على شرح أم البراهين: 2/ 109، حاشية على شرح التتائي: 2/ 69، حاشية على شرح الشبرخيتي: 7/ 82، حاشية على شرح صغرى السنوسي: 1/ 368. حاشية على شرح اللقاني: 1/ 368، حاشية على شرح المرادي 2/ 109،

_ حاشية على قصيدة الصغرى للسنوسي: 1/ 383، حاشية على المرادي: 2/ 111، حاضر العالم الإسلامي: 4/ 246، 247، 249، 250، 5/ 606، 7/ 208، 422، الحاضرة (جريدة): 4/ 512، 5/ 277، 278، 280، 492، 607، 608، 6/ 244، 8/ 196، 285، الحاكم الطيب (مسرحية): 8/ 450، حالة المرأة المسلمة في شمال أفريقية: 6/ 349، الحب الإفريقي (مسرحية): 5/ 415، حبيب الأمة: 5/ 492، حد اسشان في عنق المنكر لخالد بن سنان: 7/ 449، الحدائق الزاهرة الغصون: 7/ 135، 328، الحدائق الندية (في التوحيد): 7/ 156، حديقة الجذور الإغريقية: 2/ 151، حرب الثلاثمائة سنة بين الجزائر وإسبانيا: 7/ 421، حرب يوغرطة: 6/ 69، حرز الأماني: 2/ 24، 5/ 399، 7/ 35، الحركة الوطنية الجزائرية: 7/ 65، 397، الحريق: 8/ 185، الحريم الكولونيالي: 5/ 302، الحرية ثمرة الجهاد: 7/ 419، الحرية (ليبرتي): 5/ 221، حرية المستعمرات (جريدة): 7/ 271، حزب الأنوار الجامع: 7/ 136، حزب البحر: 4/ 67، 69، حزب العارفين (قصيدة): 2/ 121، 252، 363. حزب الفلاح ومصباح الأرواح: 7/ 127، حسام الدين لقطع شبه المرتدين: 6/ 361، الحسام السمهري في تكذيب ما نسب إلى الأشعري: 7/ 96، الحسام في تكسير السهام: 7/ 151، الحسام المشرفي لقطع لسان الشاب الجعرفي: 7/ 100، 303، حسن المحاضرة: 1/ 306، 2/ 396، حضارات الشرق القديم: 7/ 171، الحضارة (جريدة): 5/ 277، 607، حضارة شمال أفريقية: 6/ 307 320، الحضارة العربية: 7/ 171، الحضارة العربية في أفريقية الوسطى: 6/ 234. حضارة الهند: 7/ 171، حط النقاب: 1/ 114، حط الوراد على حب الأوراد: 2/ 144، حفرة في الأرض (مسرحية): 5/ 426، 8/ 448، الحق: 5/ 243، 605، 606، 244، الحق (بسكرة): 5/ 262، الحق (وهران): 5/ 249، الحقيقة والمجاز في الرحلة إلى الحجاز:

_ 7/ 468، حكايات مدينة الجزائر: 8/ 184، حكايات المسلمين: 6/ 45، حكايات وتقاليد فجيج (فقيق): 6/ 179، حكاية العشاق في الحب: 5/ 347 420، حكاية غونزالف القرطبي (مقالة): 5/ 230، 6/ 188. حكاية في ذم الحسد: 8/ 130، حكم ابن عطاء الله: 1/ 350 - 351، الحكم الحفيظية: 7/ 127، الحكم العربي في أفريقية (دراسة): 6/ 193. الحكم العطائية: 4/ 94، حكم الهجرة: 7/ 97، حكمة العارف: 7/ 121، 158، حكمة مشروعية الزكاة: 7/ 94، حكمة المغانم: 7/ 129، 130، حلاق قرطبة (مسرحية): 5/ 424. الحلل الحريرية: 2/ 177، الحلل السندسية: 2/ 324، 331، 380، الحلل السندسية في شأن وهران: 1/ 203، الحلل الفردوسية في نظم قطب الغريسية: 8/ 223. حلية الأولياء لأبي نعيم: 1/ 111، حلية البشر: 5/ 540، 8/ 304، حلية فكر السامع في تحقيق الفعل المضارع: 8/ 46، حلية المسافر: 1/ 45، الحماسة: 1/ 307، حملة الباي على شلالة: 7/ 359، حنبعل: 5/ 56، 427، 7/ 419، 421، 8/ 143، حواشي السعد: 2/ 42، الحواليات الشرقية: 6/ 58، الحوض (كتاب): 8/ 35، 60، حول تدوين علوم الإسلام: 7/ 162، الحوليات الجزائرية: 6/ 386، 416، حوليات روسو: 6/ 47، حوليات فيرو: 6/ 77، حوليات معهد الدراسات الشرقية: 5/ 432، 6/ 101، حوليات موريطانية - سينيغالية: 6/ 180، الحولية (أنوير): 5/ 236، 274، حي ابن يقظان: 6/ 98، حي روبنسون عربي: 8/ 183، حي على الفلاح: 7/ 88، الحياة: 5/ 276، حياة إبراهيم بن سهله: 6/ 178، حياة أبي دلامة: 6/ 178. حياة أحمد بن عروس: 1/ 307، حياة الأمير عبد القادر: 8/ 105، حياة الحيوان: 5/ 345، حياة القلوب وقوت الأرواح: 2/ 139، حياة كفاح: 5/ 283، 7/ 418، 421، حياة محمد (صلى الله عليه وسلم): 7/ 313، 314، 8/ 431، الحياة المدنية في مدية الجزائر (بحث):

_ 6/ 351، 7/ 185، (خ) الخبر المنتشر في حفظ صحة البشر: 7/ 257، خدة راقصة أولاد نائل: 8/ 183. خديعة الغرام: 8/ 135، 445، الخراز في علم الضبط: 1/ 120، خرق العوائد (رحلة): 5/ 576، الخزرجية: 1/ 352، 6/ 99، الخطب: 8/ 122، 123، خطب قس بن ساعدة: 8/ 123، خطر المستقبله: القومية الإسلامية: 6/ 417، خلاصة الأثر: 2/ 48، 60، 105، 212، الخلاصة النحوية في لهجة التماشق: 8/ 37، الخلافة قرشية: 7/ 177، الخليفة والصياد (مسرحية): 5/ 424، خواطر مجموعة: 8/ 144، الخيمة الكبيرة (رواية): 8/ 177، خيول الصحراء: 6/ 95، 7/ 202، 235، 8/ 205، الخيول العربية: 6/ 383، (د) الدار الكبيرة: 8/ 185، الداعي: 5/ 272، داعي الأمل ليوم العمل: 7/ 15، 16، 18، داي الجزائر (مسرحية): 5/ 415، دائرة معارف البستاني: 3/ 183، الدجالون (مسرحية): 5/ 427، 8/ 140، دخان اليأس: 8/ 298، در الأعيان: 7/ 358، 359، 371، الدر الثمين: 2/ 92، 328، الدر الثمين في أسماء الهادي الأمين: 2/ 28. الدر الثمين في تحقيق القول في صفة التكوين: 2/ 100، الدر المختار: 7/ 77، الدر المصون في تدبير الوباء والطاعون: 7/ 262، 263. الدر المعنوي في شرح حزب النووي: 2/ 145، الدر المكنون في الرد على العلامة جنون: 7/ 100، الدر النضيد في إخلاص كلمة التوحيد: 7/ 178، الدر النظيم في فضل آيات من القرآن العظيم: 2/ 17، الدر والعسجد في مناقب الباي محمد: 2/ 343، درء الشقاوة: 1/ 222، 7/ 371، الدراسات البربرية ولغة الهوسة: 6/ 53، دراسات حول منطقة القبائل: 6/ 86،

_ دراسات شاملة للجغرافية والسكان واللغة: 6/ 86، الدراسات العربية في الجزائر: 6/ 41، 58، دراسات في الأدب الجزائري: 5/ 320، دراسات في المسرح والسينما العربية: 8/ 441، الدراسات اللغوية والاثنولوجية عن البربر: 6/ 69، دراسة عن الشاذلية: 4/ 74، دراسة عن الفتح العربي لإفريقية: 6/ 307، الدرر البوعبدلية: 7/ 136، الدرر الحسان في الرسم: 7/ 39، الدرر على المختصر: 1/ 522، 2/ 73، 152، 183، 224، 277، درر الفيض اللدني: 7/ 138، الدرر الكامنة: 7/ 433، الدرر المديحية: 2/ 306، الدرر المكنونة في نوازل مازونة: 1/ 42، 43، 45، 132، 392، 2/ 67، 4/ 528، 5/ 373، الدرر النحوية: 8/ 45، درس في اللغة القبائلية: 8/ 51، الدرة الألفية في علم العربية: 1/ 87، الدرة الأنيقة: 2/ 176، 240، 380، الدرة البيضاء: 2/ 86، 406، 5/ 360، 6/ 73، 7/ 286، 288، الدرة الثمينة: 5/ 338، الدرة الشريقة: 2/ 133، الدرة الصباعية: 2/ 162، الدرة المصونة: 1/ 263، 2/ 63، 126، 325، 352، 423، الدرة المكنونة (منظومة): 7/ 150، الدرة المنيفة في السيرة الشريفة: 1/ 375، الدرة النحوية: 5/ 393، الدرة النقية في حسن مقاصد الدولة الفرنسية: 7/ 374، الدرة اليتيمة: 2/ 165، دروس تطبيقية في الآداب العربية: 8/ 57، دروس تطبيقية في اللغة العربية: 8/ 57، دروس تطبيقية في اللغة القبائلية: 8/ 57، الدروس العلمية والنظرية للغة العربية: 6/ 42، دروس في العربية الدارجة: 6/ 176، 8/ 49، دروس في العربية الدارجة المراكشية والجزائرية: 8/ 50، دروس القراءة والإلقاء في اللغة العربية الدارجة: 6/ 175، دروس القراءة والألقاب في العربية الدارجة: 8/ 49، الدستوري (جريدة): 3/ 317، الدعوة: 5/ 272، الدعوة إلى سبيل المؤمنين: 7/ 167، الدفاع: 5/ 257، 259، 260، الدقائق المفصلة في تحوير آية البسملة: 7/ 37. دقائق النكت: 7/ 129،

_ دكوستامنديس (مسرحية): 5/ 414، دلائل الخيرات: 1/ 256، 262، 351، 511، 4/ 86، 96، 5/ 335، 7/ 70، 71، 138، الدليل: 5/ 270، دليل الحيران: 7/ 369، 370، 371، 372، 373، 375، 382، 383، دليل مؤرخ المغرب: 2/ 134، 7/ 100، 407، دوحة الأسرار في معنى الصلاة: 7/ 144، دوحة الناشر: 1/ 31، 423، 2/ 45، 95، 133، الديبا (جريدة): 6/ 383، ديباجة الافتخار: 1/ 45، ديلي نيوز: 5/ 539. الديمقراطي البلدي. ديوان أبي اليقظان: 5/ 293، 8/ 197، 219، 251، ديوان أحمد بن عليوة: 8/ 222، ديوان الأمير عبد القادر: 8/ 205، ديوان ابن أبي الوفاء: 1/ 307، ديوان ابن حزم: 1/ 307، ديوان ابن حمادوش: 2/ 240، ديوان ابن خفاجة: 1/ 307، ديوان ابن عبد الله: 8/ 223، ديوان ابن عربي: 1/ 307، ديوان ابن علي: 1/ 300، 2/ 287، 299، ديوان ابن عمار: 2/ 231، ديوان ابن مسايب: 8/ 456، ديوان ابن يوسف: 8/ 222، ديوان أطفيش: 8/ 228، ديوان امرئ القيس: 1/ 304، 6/ 71، ديوان حسن أبو الحبال: 8/ 228، ديوان حسن حموتن: 8/ 229، ديوان الحماسة: 5/ 342، ديوان الخفاجي: 1/ 307، ديوان الخلوف: 1/ 81، ديوان الديسي: 5/ 366 8/ 221، ديوان الدر النفيس في شعر إدريس: 8/ 228، ديوان الربيع بوشامة: 8/ 228، ديوان سليمان بن علي: 2/ 240، ديوان الطاهر بن عزوز: 8/ 222، ديوان الطاهر العبيدي: 8/ 223، ديوان الطواسين: 6/ 435، ديوان عاشور الخنقي: 8/ 209، ديوان عبد الله البيضاوي: 8/ 223، ديوان عدة بن تونس: 8/ 223. ديوان العقبي: 8/ 227، ديوان عقد لآلي الوفاق: 8/ 222، ديوان علي بن أبي طالب: 1/ 308، ديوان الفكون: 2/ 141، 246، 327، ديوان في المديح والأذكار: 8/ 228، ديوان قدور ابن عاشور: 8/ 223، ديوان المانجلاتي: 2/ 248، ديوان محمد بن يلس: 8/ 223، ديوان محمد بن سليمان: 8/ 222. ديوان محمد الصغير: 8/ 223،

_ ديوان محمد العيد: 8/ 5، ديوان مديح يشفي غلة القلب الجريح: 8/ 211، ديوان المشرفي: 8/ 204، 220، ديوان مصطفى بن إبراهيم: 8/ 322، ديوان معمر بن صالح: 8/ 222، ديوان المكي بن عزوز: 8/ 221، ديوان نور الدين: 1/ 307، ديوان الهادي السنوسي: 8/ 223، (ذ) ذات الإفلاس إلى خواص أهل مدينة فاس: 2/ 134، ذبائح أهل الكتاب: 7/ 80، ذخيرة الأواخر والأوائل: 7/ 303، 314، 403، 404، 405، 406، 407، 466، ذكر من حضر بدرا: 7/ 314، الذكرى: 5/ 272، 7/ 24، ذكرى الدكتور محمد بن شنب: 8/ 115، 267، ذكرى ذوي الفضل في مطابقة أركان الإسلام للعقل: 7/ 160، ذكرى العاقل وتنبيه الغافل: 7/ 159، 161، 8/ 96، ذكرى محمد بن أبي شنب: 7/ 424، ذكريات، ورؤى افريقية: 6/ 37، 383، ذهاب الكسوف ونفي الظلمة: 2/ 144، 421، الذهب الخالص: 7/ 88، ذو الفقار: 6/ 406، 451، 7/ 441، 8/ 429، ذيل الأماني: 2/ 169، ذيل الديباج: 1/ 307، (ر) الرأي الوطني (جريدة): 313، الرابطة العربية: 5/ 366، 614، راح الأرواح: 1/ 71، الرامزة الشافية: 2/ 171، رائد التجديد الإسلامي: 7/ 200، 207، الرائد التونسي: 5/ 492، الراية الحمراء: 5/ الربا في الشريعة الإسلامية: 6/ 242، 7/ 82، ربح التجارة في آداب الزيارة: 1/ 495، 2/ 116، 7/ 73، 147، الربوة المنسية: 8/ 185، رثاء مدينة الجزائر: 8/ 335، 338، رجز أبي مقرع: 2/ 412، رجز الحلفاوي: 1/ 295، 2/ 300، الرجز الشافي والتبر الصافي: 8/ 286، الرجز الكفيل بذكر عقائد أهل الدليل: 7/ 153، رجل الساعة (رواية): 6/ 385، 8/ 177، الرحبية: 6/ 53، 73، 7/ 109، رحلات المشرفي: 7/ 465،

_ رحلة إسماعيل بوضربة: 6/ 67، رحلة إلى غات: 7/ 461، رحلة إلى معسكر الأمير عبد القادر: 6/ 46، رحلة أبي راس: 1/ 324، رحلة أزهرية: 7/ 478، رحلة الأغواطي: 6/ 91، رحلة ابن بطوطة: 6/ 71، 100، رحلة ابن حمادوش: 1/ 403، 437، 2/ 87، 197، 241، 300، 326، رحلة ابن رشيد الفهري: 1/ 111، رحلة ابن زرفة: 1/ 469، رحلة ابن الصباح: 1/ 42، رحلة ابن صيام: 6/ 203، 7/ 474، 476، رحلة ابن علي الشريف: 6/ 203، 7/ 476، رحلة ابن عليوة: 7/ 470، رحلة ابن عمار: 2/ 26، 229، 8/ 169، رحلة ابن عمر التونسي: 6/ 235، رحلة الباي محمد الكبير: 2/ 346، رحلة بوضربة: 7/ 459، رحلة بيري رايس: 1/ 137، رحلة التوجيبي: 2/ 382، رحلة الجباري إلى افريقية: 7/ 469، رحلة جزائريه: 5/ 575، 7/ 465، 467، رحلة الحاج البشير: 5/ 370، 7/ 460، رحلة حجازية: 2/ 385، 7/ 341، الرحلة الحسنية: 7/ 466، رحلة الحشائشي: 4/ 245، رحلة الحكيم ابن العربي: 7/ 470، رحلة الدرعي: 1/ 290، 2/ 396، 6/ 46، 49، 86، 170، رحلة دوفيرييه: 6/ 87، رحلة الرؤساء العرب: 7/ 478، رحلة السنتوريون: 6/ 435، الرحلة السوسية: 7/ 466، رحلة شعيب الجليلي: 7/ 469، رحلة الشيخ الموسوم: 7/ 469، رحلة الشيخ يذير: 7/ 473، رحلة عبد الباسط بن خليل: 1/ 124، رحلة العبدري: 1/ 306، الرحلة العريضة لأداء الفريضة: 7/ 466، رحلة العياشي: 1/ 364، 396، 4/ 526، 5/ 366، 6/ 46، 49، 86، 170، 179، 249، الرحلة الفاسية: 2/ 385، الرحلة القادية في مدح فرنسا: 6/ 203، 7/ 473، رحلة القايد ابن الشريف: 7/ 467، رحلة القبائل الجبلية: 7/ 466، رحلة القلصادي: 2/ 355، الرحلة القمرية: 2/ 26، 84، 341، 440، رحلة محمد الحافظ المصري: 7/ 468، رحلة محمد الطيب: 7/ 463، 464، رحلة محيي الدين: 7/ 465، رحلة المشرفي: 2/ 385، رحلة المشرق والمغرب: 7/ 469، رحلة مصطفى بونمان: 7/ 462،

_ رحلة المغرب: 7/ 367، رحلة المكي بن عزوز: 7/ 473، رحلة من دمشق إلى بعلبك: 7/ 468، رحلة المنى والمنة: 5/ 571، الرحلة الناصرية الكبرى: 1/ 443، 502، رحلة الورتلاني: 1/ 263، 266، 316، 324، 463، 473، 4/ 40، 5/ 148، 6/ 59، 180، 7/ 139، 330، 331، 8/ 118، 169، 218، الرحلة الوزانية: 5/ 577، رحمة الأمة في اختلاف الأمة: 2/ 100، رد أديب على حملة الأكاذيب: 7/ 421، الرد على الشبوبية (الشابية؟): 1/ 382، 383، الرد على من أخلد إلى الأرض: 7/ 163، الرسالة: 5/ 366، 609، 615، 8/ 461، رسالة ابن خميس: 5/ 365، رسالة ابن عزوز: 7/ 402، رسالة التوحيد: 5/ 594، 7/ 175، 217، رسالة حول الحج: 7/ 85، رسالة حول الزواج بالربيبة: 7/ 80، الرسالة الشافية: 3/ 269، 6/ 35، 171، 7/ 388، 389، رسالة الشرك ومظاهره: 4/ 338، 5/ 310، 7/ 11، 177، 178، 180، 181، 248، 413، 414، 8/ 69، 267، رسالة الضب: 8/ 82، رسالة عاشور الخنقي: 5/ 362، الرسالة العضدية: 7/ 156، الرسالة العلوية: 8/ 222، رسالة عمر بن الخطاب في القضاء: 2/ 125. رسالة عن وضع القضاء والقضاة: 7/ 90، الرسالة الغراء في ترتيب أوجه القراء: 2/ 23. رسالة الغريب إلى الحبيب: 1/ 84، رسالة فقهية: 7/ 80، رسالة في إثبات نبوة خالد: 7/ 449، رسالة في الإسطرلاب: 1/ 116، رسالة في أحكام مياه البادية: 7/ 81، الرسالة في أهل البصبور الحثالة: 7/ 203. رسالة في الأوبئة والجوائح: 7/ 205، رسالة في اختلاف المذاهب: 7/ 82، الرسالة في اسم الجلالة: 7/ 136، رسالة في تحريم الدخان: 1/ 455، رسالة في تراجم علماء الجزائر: 7/ 442، رسالة في ترجيح ... بناء الكلمات: 8/ 47، رسالة في التفسير: 2/ 230، رسالة في تلقين الأوراد: 7/ 132، رسالة في الخط العربي: 8/ 426، رسالة في الرقص: 2/ 114، رسالة في سيدي نائل: 7/ 448، رسالة في الصلوات: 2/ 79، رسالة في الطب النبوي: 7/ 225، رسالة في الطريقة الخلوتية: 2/ 230، رسالة في علم الوضع: 7/ 122.

_ رسالة في مخارج الحروف وصفاتها: 8/ 47، رسالة في مسألة وقف: 2/ 85، 230، رسالة في المسائل الفقهية: 1/ 131، رسالة في معنى الدين: 7/ 80، رسالة في المنطق: 7/ 157، رسالة القحط: 7/ 197، 206، رسالة القشيري: 1/ 111، الرسالة القشيرية: 3/ 234، 7/ 175، 445، رسالة القصد إلى الله: 2/ 138، رسالة القيرواني: 1/ 256، 337، 350، 351، 370، 406، 2/ 53، 65، 66، 120، 395، 4/ 347، 422، 529، 6/ 53، 177، 260، رسالة الكامل بن عزوز: 7/ 128، رسالة كشف النقاب عن أسرار الاحتجاب: 7/ 191. رسالة لطيفة في الطريقة: 7/ 129، الرسالة (مجلة): 4/ 339، الرسالة المحتوية على إشارات أهل الدلالة: 2/ 141، رسالة المريد: 2/ 147، رسالة مضحكات وعجائبات: 1/ 434، 2/ 340، رسالة الناصر معروف: 7/ 144، رسالة النصر لثبوت الطرق المحمدية: 7/ 144، رسالة الوضع: 2/ 42، 7/ 75، رسالة يوغرطة: 7/ 317، رسائل جزائرية: 6/ 326، 7/ 210، 8/ 186، رسائل جزائرية: حكم الهجرة: 7/ 78، رسائل صوفية: 2/ 134، رسائل القديس بولص: 4/ 136، رسائل وإجازات: 2/ 231، الرشاد: 5/ 262، 272، رشيد القسنطيني أبو المسرح العربي بالجزائر (بحث): 8/ 440، الرشيدي: 5/ 242، 248، 249، 251، رفع الاشكال والمرا في حكم غراس العنب: 7/ 85، رفع المحل في تربية النحل: 7/ 292، رقم الأيادي على تصنيف المرادي: 1/ 368، 2/ 161، الرماح: 4/ 191، روح البيان للبرسوي: 7/ 144، روح السعادة وسر الشهادة: 7/ 169، روح القوانين: 7/ 164، روح وفلسفة الشريعة الإسلامية: 6/ 177، 7/ 164، روض الآس العاطر الأنفاس: 1/ 402، 2/ 34، 213، 219، الروض الأريض: 1/ 84، روض الأزهار في علم وقت الليل والنهار: 1/ 118، الروض الباسم: 4/ 163، الروض البهيج في أحكام العزوبة والتزويج: 2/ 85،

_ الروض المغرب في معرض المغرب: 8/ 166، روضة الأخبار ونزهة الأفكار: 8/ 96، روضة السلوان: 2/ 178، 296، 331، 6/ 59، 8/ 168، الروضة السنية: 4/ 133، الروضة الشهية في الرحلة الحجازية: 2/ 63، 390، روضة العاشق في شمائل ابن الشرقي الصادق: 7/ 450، روضة النسرين: 1/ 74، 75، 76، 5/ 358، 6/ 58، 171، 180، روكاي (أنوير): 2/ 332، 3/ 45، 6/ 47، 51، 62، 64، 77، 92، 262، 7/ 355، 8/ 115، ري الغليل: 5/ 579، رياض النزهة على نسمات رياح الجنة: 7/ 140، الريحانة المروحة على القلوب المقترحة: 2/ 139، 253، (ز) زبدة التاريخ وزهرة الشماريخ: 7/ 302، 314، 328، 407، 408، 8/ 220، زبرة الحداد (أرجوزة): 7/ 151، الزرامة: 5/ 217، زمام بوليفة: 8/ 61، الزهر الاكم في شرح الحكم: 2/ 100، الزهر الباسم في ترجمة محمدبن أبي القاسم: 7/ 445، زهرة البستان: 1/ 61، زهرة تلمسان (مسرحية): 5/ 414، 415، زهرة (رواية): 8/ 182، زهرة الريحان في علم الألحان: 8/ 455، الزهرة النيرة فيما جرى في الجزائر: 1/ 303، 2/ 340، زواج بوعقلين (مسرحية): 5/ 424، زواج سيزاري: 5/ 415، الزواف: 5/ 220، زيج ابن الشاطر: 1/ 288، زيج الراصد: 1/ 287، (س) الساجور للعادي العقور: 8/ 217، ساعات شمسية: 7/ 281، سائق السعادة في الحسنى وزيادة: 7/ 124، 8/ 99، 268، سبيكة العقيان: 1/ 263، 2/ 126، 253، سبيل الرشاد: 5/ 492، ستر العورة: 8/ 100، سجل جمعية العلماء: 3/ 140، 5/ 614، سحار بالرغم منه: 5/ 427، 8/ 142، سر التفكر في أهل التذكر: 7/ 128،

_ سر الليال في القلب والإبدال: 5/ 597، 8/ 269، السر المصون: 1/ 103، السراج: 2/ 73، 406، سراج الرواة اللسيوطي): 1/ 305، سراج القارئ: 7/ 35، السراج للأخضري: 1/ 352، سراج الملوك للطرطوشي: 1/ 306، سربال الردة: 1/ 522، 2/ 24، السعادة العظمى: 5/ 575، سعود المطالع: 7/ 280، السعي المحمود في نظام الجنود: 1/ 294، 452، 2/ 11، 85، 5/ 212، 6/ 199، 7/ 10، 200، 201، 224، 8/ 8، سفينة الأدب الماخرة (موسيقى): 8/ 455، 456، سقوط غرناطة: 5/ 230، سلاح الذليل في دفع الباغي: 2/ 140، 250، سلافة العصر: 1/ 307، سلالات وعوائد افريقية الشمالية: 6/ 307، السلام: 5/ 272، سلام إفريقيا: 5/ 272، السلسل المعين: 4/ 56، 245، 7/ 50، 51، سلسلة الوصول في شجرة أبناء الرسول (صلى الله عليه وسلم): 7/ 329. سلم الاستقامة: 5/ 294، السلم المرونق: 1/ 350، 352، 370، 6/ 73، 171، 7/ 114، 156، سلم الوصول في الصلاة على الرسول: 7/ 312. السلوانية: 1/ 292، 307، سلوك المسالك في تدبير الممالك: 5/ 398. السمرقندية: 6/ 178، 7/ 36، سمط اللآل في معرفة الآل: 2/ 349، سند الراوي في النحو الفرنساوي: 5/ 541، سند العربي بن حمدان: 7/ 287، سند الورتلاني: 5/ 362، السنة: 5/ 253، سنة في الساحل: 6/ 37، 8/ 381، سنة في الصحراء: 6/ 37، سنى الاتحاف: 7/ 159، سهام الربط في الخمس خالي الوسط: 2/ 408، السمهام الصائبة في رد لدعاوى الكاذبة: 7/ 151. سوابغ الأيدي في مرويات أبي زيد: 4/ 255، 7/ 53، السودان في القرن السادس عشر (بحث): 6/ 179، 7/ 316. سوق عكاظ فيما تكلموا فيه من اللغات والألفاظ: 8/ 46، السياسة: 5/ 615، سياسة فرنسا في الجزائر: 6/ 444،

_ السيبوس: 5/ 217، سير الأيمة: 6/ 53، سيرة ابن هشام: 7/ 314، السيرة الصغرى: 1/ 375، سيرة المصطفى: 2/ 328، سيرة ناصر الدين: 6/ 180، السيف الرباني: 7/ 147، السيف المسلول: 7/ 139، السيف المسلول الرباني: 7/ 144، 145، السيف المسلول في الرد ... على منكري سدل الرسول: 7/ 102، السيف الممدود في عنق من أعان اليهود: 2/ 81. السيف المنتضى فيما رويته عن الشيخ مرتضى: 2/ 36، 378، سيمون: 5/ 237، السينية: 1/ 82، 88، 187، (ش) الشاب الجزائري: 4/ 464، 7/ 210، الشاب المسلم: 5/ 265، 271، 7/ 219، شاعر الجزائر: محمد العيد: 1/ 13، 8/ 237، شافية الأمراض: 2/ 140، 250، شامل الأصل والفرع: 7/ 88، الشباب: 5/ 614، الشباب التونسي: 4/ 505، شباب اليوم: 8/ 140، شذور الذهب: 5/ 366، شرح ابن عقيل: 5/ 345، 8/ 42، شرح ابن القنفذ: 2/ 403، شرح ابن القوطية: 1/ 308، شرح ابن نباتة على ابن زيدون: 1/ 307. شرح ابن الهيثم على إقليدس: 1/ 304، شرح الباجوري: 5/ 231، شرح بانت سعاد: 1/ 303، شرح البزاغتي على نظم ابن الفخار: 8/ 45، شرح بهرام على خليل: 5/ 393، شرح تائية الشريشي: 1/ 378، شرح التبريزي على المعلقات: 1/ 307، شرح تحفة ابن عاصم: 1/ 375، شرح التذكرة: 1/ 288، شرح التسهيل: 2/ 109، شرح الجرومية: 5/ 393، شرح الجمل للخونجي: 1/ 373، 2/ 105. شرح الجمل للمغيلي: 1/ 119، شرح الجمل المجرادية: 7/ 157، شرح الجوهر المكنون: 7/ 347، شرح الجياني على إقليدس: 1/ 304، شرح الحماسة لأبي علي: 1/ 303، شرح خالد الأزهري: 5/ 397، شرح الخرشي على مختصمرخليل: 1/ 299، 303، 4/ 528، 5/ 345. شرح خطبة بهرام: 8/ 90، شرح الدر المختار: 2/ 79،

_ شرح الدعائم للمبتدين: 7/ 88، شرح دعوة السباسب: 7/ 135، شرح الرضى على نهاية ما يرتضى: 2/ 407. شرح الزرقاني: 5/ 393، شرح السعد: 7/ 44، شرح السنوسي: 2/ 403، شرح السيد السجاوندي: 7/ 288، شرح الشاطبية: 5/ 339، شرح الشبرخيتي: 1/ 299، 8/ 45، شرح شطرنج العارفين: 7/ 140، شرح الشمقمقية: 8/ 165، شرح شواهد الأشموني: 8/ 45، شرح شواهد ابن يعلى: 8/ 44، شرح شواهد شذور الذهب: 2/ 164، شرح شواهد المغني: 1/ 304، شرح صحيح البخاري: 7/ 43، 44، شرح صلاة ابن مشيش: 1/ 378، شرح العقائد النسفية: 5/ 342، شرح عقيدة العزابة: 7/ 152، شرح على أرجوزة المكودي: 2/ 160، شرح على البخاري: 2/ 231، شرح على الدرة البيضاء: 7/ 288، شرح على رسالة في الميقات. شرح على السلم المرونق: 1/ 369، شرح على شواهد الشريف على الأجرومية: شرح على كشف الاستار: 7/ 283، شرح على ملحة الأعراب للحريري: 8/ 166. شرح على المنهج المنتخب للزقاق: 1/ 375. شرح في التوحيد للورتلاني: 5/ 364، شرح كتاب النيل: 7/ 78، 86 - 88، 109، شرح الكفراوي على ابن آجروم: 8/ 44، شرح الكلمات الشافية: 7/ 152، شرح لامية الأفعال: 8/ 46، شرح لامية ابن الوردي: 5/ 366، شرح لامية العجم: 1/ 306، شرح مختصرخليل: 2/ 69، 7/ 81، شرح مختصر العدل والانصاف: 7/ 88، شرح المرادي: 2/ 161، شرح معالم الدين: 7/ 152، شرح مقامات الحريري: 1/ 307، شرح المكودي: 1/ 351، شرح منظومة التوجيني: 7/ 140، 337، شرح المنظومة الحزرجية: 1/ 368، شرح ياقوتة الصفا: 7/ 137، شرح اليواقيت: 2/ 409، شرع عقائد السنوسي: 7/ 151، شرف الطالب: 1/ 65، 66، الشرق كما يراه الغرب: 7/ 314، شروط النهضة: 7/ 29، 217، 218، 219، الشريعة (جريدة): 5/ 253، 6/ 140، الشعب: 5/ 268، 269، 287، 373،

_ شعب الإيمان: 7/ 181، الشعر الشعبي السياسي في عهد الأمير: 8/ 314، شعراء الجزائر في العصر الحاضر: 3/ 149، 7/ 84، 435، 454، 8/ 102، 197، 224، 224، 228، 229 - 232، 251، 256، 267، الشعلة: 5/ 272، 8/ 156، 348، الشفا بعد العنا: 5/ 329، 7/ 44، 45، 8/ 135، 445، شفاء الغليل والفؤاد: 1/ 101، 2/ 115، 129، الشفاء لعياض: 1/ 85، 373، 351، 2/ 27، 53، الشقائق النعمانية في شرح الروضة السلوانية: 2/ 178، 380، الشقراطسية: 2/ 128، 327، شمال إفريقية: 5/ 617، شمال إفريقية المصورة: 5/ 236، شمائل الرسول ومعجزاته: 7/ 312، الشمائل النبوية: 8/ 120، شمس المعارف: 7/ 249، 278، شمشون ودليلة: 8/ 463، الشموس الأحمدية: 6/ 234، الشموس الشارقة في أسانيد ... 7/ 52، 442، الشهاب (مجلة): 4/ 539، 5/ 253، 254، 257، 273، 310، 319، 428، 6/ 196، 352، 372، 7/ 19، 20، 21، 22، 46، 190، 213، 8/ 22، 69، 70، 72، 116، 142، 193، 196، 230، 283، 286، 303، 417، شهر في الأوراس: 7/ 230، شوارق الأنوار: 2/ 146، 5/ 264، 390، 396، الشيطان (جريدة): 5/ 220، شيم الزوايا: 6/ 180، 7/ 316، (صلى الله عليه وسلم) صاحبة الوحي: 8/ 144، الصحاح للجوهري: 1/ 304، 308، 5/ 342، صحيح البخاري: 1/ 85، 92، 160، 256، 257، 283، 289، 299، 350، 370، 373، 2/ 25، 26، 28، 29، 31، 35، 39، 40، 41، 42، 48، 53، 67، 113، 222، 247، 3/ 66، 79، 4/ 367، 391 - 393، 489، 5/ 54، 341، 6/ 24، 99، 7/ 39، 40، 42، 46، 47، 63، 69، 8/ 120، 264، صحيح القياس: 5/ 566، صحيح مسلم: 1/ 299، 2/ 39، 42، 7/ 40، 41، 45، 8/ 120، صدى الحراكته: 5/ 263، صدى الصحراء (جريدة): 5/ 254، 255، 262، 292، 310، 8/ 73، 230، 251، صدى وهران (جريدة): 5/ 217،

_ الصديق (جريدة): 3/ 242، 5/ 52، 254، 280، 7/ 197، الصراط: 5/ 253، الصراع الطبقي (جريدة): 5/ 267، 6/ 452، الصروف في تاريخ سوف: 5/ 98، 6/ 171، 7/ 335، 356، 390، 392، صغرى السنوسية: 1/ 370، 2/ 93، 94، 5/ 231، 7/ 58. الصفات التي جرت على وزن فعل: 8/ 47، صفحات من تاريخ مدينة الجزائر: 2/ 366، الصفصاف: 5/ 217، 218، صفوة الاعتبار: 4/ 488، 5/ 573، صفوة الصفوة: 1/ 111، صفوة من انتشر: 7/ 433، صقلية (كتاب): 5/ 310، صلاح الدين الأيوبه (مسرحية): 5/ 422، 8/ 443، الصلاة المشيشية: 1/ 499، 511، 2/ 134، 4/ 66، صلحاء الشلف: 2/ 112، 116، صلة السمط وسمة الربط: 2/ 327، الصمصام الفاتك في الرد على القادح في مذهب مالك: 7/ 96، الصوارم والأسنة: 7/ 96، صوت الأهالي: 5/ 266، الصوت الأهلي: 6/ 236، صوت الجزائر: 5/ 271، صوت الشعب: 5/ 262، 263، 271، صوت المسجد (مجلة): 4/ 338، 420، صوت المناضل: 5/ 271، صولاي (الشمس): 5/ 237، الصوم عند المسلمين (بحث): 6/ 177، الصياد والجن: 8/ 448، صيانة الرياسة في القضاء والسياسة: 4/ 528، 7/ 104، 178، 206. صيف في الصحراء: 6/ 382، 8/ 381، (ض) ضوء الشمس البديع: 5/ 598، 7/ 139، ضوء الشموع على شرح المجموع: 7/ 37، الضوء اللامع: 1/ 60، 7/ 433، ضياء القابوس على كتاب القاموس: 2/ 166. (ط) طابلو الممتلكات الفرنسية بالجزائر: 6/ 387. طارق بن زياد (مسرحية): 5/ 425، 426، الطان (جريدة): 5/ 252، 7/ 431،

_ الطب العربي في الجزائر: 5/ 607، 7/ 232، 259، الطب والحجر الصحي: 7/ 255، الطب والنظافة الصحية عند العرب: 7/ 232، طبقات ابن سعد: 7/ 314، طبقات الذهبي: 1/ 306، طبقات علماء قسنطينة: 1/ 63، طراز الخياطة: 3/ 183، 7/ 450، الطراز على الخراز: 1/ 71، الطراز في شرح الخراز: 1/ 120، 2/ 22، طرس الأخبار: 5/ 574، 7/ 97، 99، 361، 363، 407، طرفة الشطية: 7/ 461، الطرف الدينية الإسلامية: 3/ 90، 4/ 76، 169، 6/ 52، 8/ 423، الطرف الصاعدة: 8/ 186، الطرف الصوفية الإسلامية في الحجاز: 6/ 74، طريقة عملية لتعليم العربية الفصحى: 6/ 175، 8/ 49، طلوع سعد السعود: 7/ 357 364، 380 - 385، 8/ 97، الطليعة: 5/ 316، طهارة الأنفاس والأرواح: 2/ 127، 363، 4/ 90، 91، 92، طوارف الشمال: 6/ 87، (ظ) الظاهرة القرآنية: 7/ 28، 29، 30، 31، 217، 218، 219، 8/ 104، (ع) عاقبة الجهل (مسرحية): 5/ 428، 8/ 139، عاقبة القمار: 8/ 141، العباسة (مسرحية): 5/ 417، عباقرة العرب (مسرحية): 5/ 427، 8/ 141، عبد القادر (الأمير) في باريس: 5/ 411، 415، عبد القادر فارس العقيدة: 7/ 440، عبد القادر واستقلال الجزائر: 7/ 440، عبرة الناظر في تاريخ الجزائر: 7/ 439، 443، العبقرية: 5/ 275، عجائب الأسفار: 1/ 316، 2/ 101، 344، 345، 380، 5/ 230، 340، 7/ 320، 369، عجائب المخلوقات: 7/ 391، العجوز والطفل: 8/ 178، عجيب الذاهب والجائي: 7/ 99، العدالة الإسلامية: 7/ 93، عدتي ونحلتي في تعداد رحلتي: 2/ 393، العدة في عقب الفرج بعد الشدة: 2/ 140، العرب (جريدة): 5/ 583، عرف الطيب في أخبار الوزير ابن الخطيب: 2/ 219،

_ العرف العاطر: 7/ 323، العرف في منطقة تلمسان: 7/ 86، عرف النشق في أخبار دمشق: 2/ 336، عروج بربروس (مسرحية): 5/ 416، العروض عند العرب: 6/ 178، عزيزة (رواية): 8/ 183، عصا موسى في الرد ... : 5/ 272، 7/ 136. العصر الجديد: 5/ 605، العصور المظلمة (الغامضة): 6/ 307، 7/ 306، العطارية: 3/ 66، عطيل: 5/ 417، العقاب الهاوي على الثعلب العاوي: 2/ 107، 135. عقائد السنوسي: 1/ 373، العقائد النسفية: 7/ 45، عقد الأجياد في الصافنات الجياد: 7/ 202، 8/ 167، العقد الثمين في الصلاة ... : 7/ 136، عقد الجمان اللامع ... من بحر الجامع: 2/ 30. عقد الجمان: 1/ 21، عقد الجمان في تكملة البستان: 2/ 116، عقد الجمان الملتقط: 2/ 132، عقد الجمان النفيس: 2/ 126، 128، 129، 325، 353، 345، 7/ 328، عقد الجواهر في نظم النظائر: 1/ 375، العقد الفريد: 1/ 308، العقد النفيس: 1/ 263، عقود الجواهر في حلول الوفد المغربي بالجزائر: 7/ 199، عقود الدرر في تلخيص سيرة سيد البشر: 7/ 313. عقود المحاسن: 2/ 158 259، عقيدة التوحيد: 4/ 512، عقيدة السنوسي: 6/ 33 99، عقيدة السنوسي = أم البراهين: 8/ 264، عقيدة المريد: 4/ 78، العقيقة: 1/ 428، 2/ 169، 173، 175، 184، 244، 250، 298، 316، 353، 389، 8/ 464، علاج السفينة في بحر قسنطينة: 7/ 343، 353، 354، العلاقة بين الدين والفلسفة: 7/ 185، علاقة الدين بالفلسفة: 7/ 164، علالو وجذور المسرح الجزائري (بحث): 8/ 440، العلج أسير بربروس: 8/ 179، العلق النفيس: 5/ 365، العلوم التاريخية والجغرافيا: 6/ 86، العلوم الفاخرة: 1/ 100، علي والثعلب أو قصة احتلال الجزائر: 8/ 176، عمدة الأثبات: 7/ 54، 69، عمدة البيان في معرفة فروض الأعيان: 1/ 120، 2/ 87، 139، عمر (مسرحية): 5/ 416،

_ العمل (جريدة): 8/ 183، العمل الجزائري: 5/ 271، عناصر من التاريخ الثقافي: 8/ 440، عنتر الحشائشي (مسرحية): 5/ 44، 8/ 137، 448، عنوان الأخبار: 2/ 333، عنوان أهل السر المصون: 1/ 103، عنوان الدراية: 2/ 396، 7/ 30، العهود العسكرية لمنطقة القبائل: 6/ 307، عين بني مناد (مسرحية): 5/ 415، عيون البصائر: 8/ 183، (غ) غادة أم القرى: 8/ 104، 143، الغازيت الطبية الجزائرية: 242/ 7، غاية البداية في حكم النهاية: 7/ 128، غرامي صحيح: 1/ 65، غرائب البراهين في مناقب صاحب تماسين: 7/ 446، الغريب: 6/ 382، غريب الأنباء في مناظرة الأرض والسماء: 8/ 147، غزوات عروج وخير الدين: 1/ 139، 2/ 305، 8/ 168، غليون الخشب (جريدة): 5/ 220، غناء الهزار في محاورة الليل والنهار: 8/ 147، الغني والفقير: 7/ 197، غنية القارئ في ثلاثيات البخاري: 7/ 45، غنية المريد في شرح نظم ... التوحيد: 2/ 102، 7/ 128، غنية المعاصر والتالي في شرح وثائق الفشتالي: 1/ 125، غنية الواجد وبغية الطالب الماجد: 1/ 92، غوثية ابن التهامي: 7/ 146، 8/ 234، 233، الغوثية (قصيدة): 4/ 73، غوص الفكر في حروف المعاني: 7/ 431، الغيث النافع: 7/ 35، 38، (ف) الفارسية: 1/ 41، 42، 44، 59، 63، 64، 73، 92، 6/ 47، 62، 7/ 343، الفاروق (جريدة): 4/ 505، 5/ 245، 247، 252، 273، 279، 280، 282، 286، 581، 592، 7/ 173، 8/ 68، 164، 195، 196، 250، 255، الفاروق والترياق في تعدد الزوجات والطلاق: 7/ 184، 192، فاكهة الحلقوم: 2/ 147، 7/ 128، 129، فاكهة الخلفاء: 1/ 307، الفائق في الوثائق: 1/ 125 - 129 - 130، فتاة الشرق: 5/ 239، فتاوى الإبراهيمي: 7/ 94، فتاوى الشيخ العمالي: 7/ 81،

_ فتاوى في الفقه والكلام: 1/ 383، الفتح: 4/ 339، 5/ 366، 609، 614، 8/ 69، فتح الإله ومنته: 2/ 36 153، 177، 226، 230، 378، 380، 393، فتح الأندلس: 5/ 426، فتح الباري: 5/ 333، فتح الباري على البخاري: 2/ 31، فتح الباري في ضبط ألفاظ الأحاديث: 2/ 29، فتع الجليل في شرح مختصرخليل: 2/ 71، فتح الحصون السبعة: 1/ 304، الفتح الرباني: 7/ 139، فتح الرحمان في شرح عقد الجمان: 2/ 129، 130، 353، 7/ 324، 327، فتح الفتاح القدير: 7/ 138، فتح القدير للشوكاني: 7/ 178، فتح المتعال في شرح النعال: 28/ 2، 217، 328، فتح المتين في تراجم بعض .. : 2/ 165، 353، فتح المجيب في علم التكعيب: 2/ 430، فتح المجيد شرح كتاب التوحيد: 7/ 178، فتح المنان: 2/ 127، فتح المنان في الأجوبة الثمان: 2/ 109، فتح المنان في سيرة أبي زيان: 7/ 447، فتح المنان في سيرة الشيخ .. : 2/ 363، فتح المنان في شرح قصيدة ابن الونان: 8/ 165. فتح المولى لشواهد أبي يعل: 2/ 160، فتح الهادي بشرح المجرادي: 1/ 522، 2/ 160. الفتح والتيسير: 8/ 165، فتوح إفريقية: 1/ 305، الفتوحات الأزهرية في الخطب المنبرية: 8/ 118، 120. الفتوحات المكية: 5/ 522، 540، الفتى: 8/ 133، 295، فرائد الدرر ... في شرح المختصر: 1/ 63. فرائض الشيخ خليل: 7/ 288، الفرق الإسلامية في افريقية: 6/ 52، 8/ 464، الفرق بين المشارقة والمغاربة في اللغة العربية: 8/ 48، الفرقان: 5/ 264، الفرقد: 5/ 254، فرنسا الإسلامية: 5/ 241، فرنسا في شمال إفريقية: 4/ 312، فرنسا المتوسطية والإفريقية: 5/ 170، فرنسا اليهودية: 6/ 400، الفرنسيون في الجزائر (مسرحية): 5/ 416، الفريد في تقييد الشريد: 2/ 179، الفريدة السنية في الأعمال الجيبية: 7/ 279، 280.

_ الفريدة المؤنسة: 5/ 307، 6/ 63، 172، 7/ 342، 344، 451، فصوص الحكم: 7/ 116، 117، 119، الفصوص لابن عربي: 3/ 234، فصول في الاصلاح: 7/ 176، فصيح ثعلب: 5/ 366، فضائل الشيخ الدهماني: 1/ 304، الفضيلة: 5/ 275، فك العاني من ربقة المغاني: 8/ 166، الفلك الكواكبي: 2/ 116، 117، 351، فهرس أبي سالم العياشي: 7/ 53، فهرس البابلي: 2/ 59، فهرس الشيخ خليل: 5/ 31، فهرس فانيان: 5/ 350، فهرس الفهارس: 3/ 183، 4/ 255، 70، فهرس المخطوطات العربية والفارسية والتركية: 5/ 348، 350، فهرسة أبي عبد الله سقط: 2/ 39، فهرسة البناني: 1/ 428، فهرسة السنوسي (محمد بن علي): 4/ 256، فهرسة الغربي القسنطيني: 1/ 132، فهرسة المقري: 2/ 34، فهرسة المنجرة: 1/ 425 - 428، فهرسة الونشريسي: 1/ 124، 125، فوز الغانم في شرح ورد سيدي بلقاسم: 7/ 134، 446، فونتين: 5/ 236، في الأماكن المقدسة الإسلامية: 7/ 467، في سبيل الوطن (مسرحية): 8/ 136، 445، 446، في ظلا الإسلام الدافئ: 7/ 217، الفيوضات الربانية: 7/ 133، (ق) قارون الراشي (مسرحية): 8/ 137، قاصي الوهاد في مقدمة الاجتهاد: 2/ 100، القاموس: 2/ 419، القاموس الصغير (عربي/ فرنسي): 6/ 10، قاموس عربي/ فرنسي: 8/ 49، 57، قاموس فرنسي/ شاوي: 6/ 55، قاموس فرنسي/ عربي: 6/ 176، 8/ 50. القاموس المحيط: 1/ 292، 304، 5/ 342، 384، القاموس الهقاري/ الفرنسي: 8/ 31، قاموسان: 6/ 45، قانون زاوية سيدي منصور: 8/ 63، 64، قانون عدني: 8/ 61، 62، 63، 64، القانون لابن سينا: 2/ 424، 433، 5/ 345، القائد (مسرحية): 5/ 415، القبائل العربية: 6/ 307، القبائل والاستعمار في الجزائر: 6/ 307، القبس: 5/ 272،

_ قبس الأنوار وجامع الأسرار: 1/ 89، القبلة: 5/ 255، 484، 485، 600، القدسية للأخضري: 1/ 400، 500، 502، 2/ 130، 144، 7/ 174، القرآن الكريم: 1/ 315، 322، 337، 339، 341، 342، 343، 346، 370، 378، 420، 455، 478، 499، 505، 506، 509، 512، 2/ 9، 11 - 21، 42، 67، 74، 103، 117، 118، 121، 205، 304، 317، 323، 378، 380، 384، 394، 395، 3/ 20، 21، 23، 25، 26، 28، 29، 30، 33، 35، 36، 37، 41، 42، 43، 46، 47، 48، 49، 53، 56، 62، 69، 79، 86، 97، 130، 170، 173، 175، 176، 179، 180، 182، 184، 188، 191، 192، 194، 198، 199، 201، 202، 203، 205، 206، 207، 212، 214، 221، 224، 228، 232، 234، 238، 239، 240، 242، 248، 249، 251، 255، 260، 262، 265، 271، 288، 289، 316، 347، 365، 404، 405، 406، 426، 427، 428، 429، 436، 448، 4/ 17، 24، 46، 87، 116، 117، 123، 131، 133، 134، 159، 163، 205، 231، 238، 257، 258، 272، 318، 335، 336، 346، 348، 357، 363، 364، 375، 391، 393، 401، 413، 419، 432، 489، 496، 497، 498، 507، 520، 523، 526، 531، 532، 534، 5/ 35، 54، 61، 62، 65، 74، 79، 101، 141، 191، 273، 284، 290، 328، 341، 348، 367، 401، 431، 450، 452، 558، 565، 581، 6/ 117، 120، 127، 162، 168، 177، 184، 191، 214، 226، 229، 250، 4 25، 272، 287، 305، 314، 316، 317، 319، 324، 333، 339، 341، 350، 354، 366، 392، 402، 418، 429، 434، 7/ 7، 9، 10، 11، 12، 13، 14، 15، 18، 19، 20، 21، 22، 24، 28، 29، 30، 31، 33، 34، 35، 39، 59، 82، 99، 120، 143، 161، 163، 165، 174، 176، 179، 185، 187، 189، 219، 233، 235، 248، 249، 256، 291، 307، 407، 409، 410، 424، 427، 8/ 13، 14، 21، 22، 27، 75، 98، 107، 110، 212، 122، 132، 151، 170، 195، 264، 267، 296، 310، 321، 329، 336، 339، 340، 347، 346، 424، 425، 442، 451، 465، قراءات مختارة لتعليم العربية: 8/ 313، القراض في الإسلام: 6/ 242، القراض في الشريعة الإسلامية: 7/ 83، قرطاجنة في أربعة عصور: 7/ 315، 416، 418، 420، قرة العين في جمع البين: 2/ 109،

_ القرون الغامضة: 4/ 305، قرير المقام وتيسير المرام: 7/ 85، قصائد وغوثيات عدة بن غلام الله: 7/ 135، قصص لقمان: 6/ 42، قصة أولاد عبدي وأولاد زيان: 7/ 335، قصة الجازية وذياب: 8/ 126، قصة حرب الجزائر (مسرحية): 5/ 415، قصة شعبية باللهجة التلمسانية: 8/ 131، قصة المعراج: 8/ 130، القصيدة الإسماعيلية: 7/ 134، قصيدة ابن عمر: 5/ 32، قصيدة ابن الوردي: 1/ 308، القصيدة التوسلية: 8/ 235، قصيدة حزب العارفين: 1/ 467، 473، 477، 487، 2/ 128، 131، 316، قصيدة الحلى: 2/ 169، قصيدة حيزية: 8/ 319، قصيدة الدمياطي: 2/ 130، 8/ 453، قصيدة زبرة الحداد: 4/ 363، قصيدة السلوانية: 7/ 297، قصيدة الشيخ شعيب: 8/ 245، قصيدة الصيد: 6/ 179، قصيدة في الحرب العالمية الأولى (الثابتي): 6/ 181، قصيدة في حرب القرم (ابن إسماعيل): 6/ 178، 180، القصيدة الكفيلة بثمن الفوائد الجليلة لابن هشام: 5/ 363، 8/ 46، القصيدة المرادية: 2/ 115، قصيدة (نصرة السني): 5/ 363، القضاء المدني الإسلامي: 7/ 91، قضية تبسة: 3/ 245، قطر الندى: 4/ 347، 5/ 360، 8/ 42، القلادة الجوهرية: 2/ 413، قلائد العقيان: 2/ 233، قواعد التجارة العصرية: 7/ 204، القواعد الكلامية: 7/ 153، 154، 8/ 98، قوت القلوب: 1/ 111، قوته قولي: 2/ 147، القول الأعم في بيان أنساب قبائل الحشم: 4/ 487، 7/ 40، 152، 324، 327، 329، 337، 357، القول الأوسط في بعض من حل بالمغرب الأوسط: 7/ 365، 367، 369، القول البسيط في أخبار تمنطيط: 1/ 297، 2/ 325، 348، 349، 7/ 393، القول الراجح (في الفرائض والكسور): 7/ 289، القول الصحيح في منافع التلقيح: 7/ 57، القول الفصل في جواز زيارة الأولياء الكفل: 7/ 148، القول المتواطي: 2/ 130، القول المسلم في شرح السلم: 2/ 153، القول المعتمد في مشروعية الذكر ... : 7/ 144، القول المعروف (المعرف) فى الرد على من أنكر التصوف: 7/ 142،

_ القول المقبول فيما تتوصل إليه العقول: 7/ 144. القول الناصح في مجادلة المائن الكاشح: 7/ 103. (ك) كاتلوق المخطوطات العربية: 6/ 72، الكافي (في العروض): 8/ 192، 286، كاهنة الأوراس: 8/ 82، 143، الكاهنة (مسرحية): 5/ 416، 8/ 302، كتاب الإرشاد لإمام الحرمين: 7/ 149، كتاب أشراف غريس: 4/ 501، كتاب أحمد زروق: 7/ 234، كتاب الأغاني: 1/ 292، 304، كتاب الأنس الجليل: 1/ 305، 4/ 78، 7/ 148، كتاب الأنساب: 6/ 235، كتاب ابن أبي جمرة: 5/ 396، كتاب الاعتبار لابن فرحون: 5/ 363، كتاب الاكتفاء: 2/ 84، 5/ 358، الكتاب الباشي: 2/ 185، كتاب بركات القسنطيني: 1/ 299، كتاب البوني: 7/ 234، كتاب التبصرة: 1/ 288، الكتاب التذكاري لباصيه: 8/ 63، كتاب تعليم القاري في الخط العربي: 5/ 338، كتاب التكمل للزمخشري: 1/ 304، كتاب التنوير: 1/ 472، كتاب الجامع: 4/ 191، كتاب جامع الرسوم: 4/ 454، كتاب الجزائر: 1/ 29، 5/ 282، 310، 7/ 417، 418، 420، 421، 422، 8/ 306، 430، 431، 456، كتاب الجمان في مختصر أخبار الزمان: 1/ 303، كتاب الحقائق: 2/ 100، كتاب الحكم: 1/ 472، كتاب الحوض: 6/ 54، 73، كتاب الخبر في معرفة عجائب البشر: 1/ 295، كتاب الخراج: 6/ 53، 7/ 108، كتاب الخراز: 1/ 351، كتاب الخطب: 7/ 80، 176، 177، كتاب الدوائر والزمالة وحركاتهم: 7/ 364، كتاب الرحمة في الطب والحكمة: 7/ 225، 263، كتاب الرسائل: 8/ 54، 55، 57، 58، كتاب رؤية المصطفى ووصيته: 7/ 141، كتاب السير: 1/ 63، كتاب الصحة: 7/ 263، كتاب الطب النبوي: 7/ 242، كتاب الطرائف والتلائد: 6/ 234، 235، كتاب العدواني: 1/ 42، 2/ 331، 332، 333، 5/ 98، كتاب العشماوي: 7/ 323،

_ كتاب العصنوني: 7/ 288، كتاب الفرقد: 8/ 73، كتاب فرنسي/ عربي:: 8/ 49، كتاب في الأخلاق للزريبي: 7/ 197، كتاب في الأدوية: 5/ 374، كتاب في التاريخ للسمعوني: 7/ 315، كتاب في الطريقة المباشرة ... : 6/ 175، كتاب في المناقب: 7/ 449، كتاب في الوعظ والأذكار: 2/ 139. كتاب قرطاجنة: 5/ 310، كتاب لاستعمال المترجمين القضائيين: 7/ 95، كتاب المبشرات: 7/ 130، كتاب المجالس: 1/ 108، كتاب المجسطي: 1/ 288، كتاب مجموع القصائد والأدعية: 8/ 224. كتاب مجموع النسب: 4/ 80، 131، 132، 7/ 140، 323، 329، 337، 439، 444، 468، 8/ 102، 234، كتاب المراة: 1/ 29، 158، 292، 5/ 8، 15، 76، 140، 493، 494، 7/ 159، 302، 363، 396، 397، 399، 400، 401، 402، 422، 450، 8/ 173، 408، كتاب المرادي: 2/ 158، كتاب المرائي: 1/ 89، 101، 105، 187، كتاب المسرحيات العرب ... : 8/ 440، كتاب المعيار: 6/ 358، كتاب المغازي: 1/ 69، كتاب المكودي: 2/ 159، كتاب الناصري في الطب: 7/ 242، كتاب النسب: 7/ 323، كتاب النوري عن افريقية والمغرب: 6/ 71، كتاب النيل وشفاء العليل: 2/ 76، 4/ 536، 7/ 78، كتاب الهارونية: 7/ 234، 263، كتاب الهيئة للفاسي: 5/ 394، الكتابات العربية في تلمسان: 5/ 106، الكرافاش (رواية): 5/ 220، كرمين (رواية): 5/ 554، الكشاف للزمخشري: 1/ 376، كشف البضائع: 7/ 346، 348، كشف الجلباب عن علم الحساب: 7/ 283، 287، كشف الحجاب: 4/ 191، كشف الرموز في بيان الأعشاب: 2/ 417، 418، 428، 431، 432، 433، 436، 5/ 309، 7/ 260، 261، 8/ 168، كشف الغمة في الصلاة على خير الأمة: 7/ 136، كشف القناع عن آلات السماع: 8/ 463، كشف اللبس والتعقيد: 2/ 96، كشف النقاب عن أسرار الاحتجاب: 7/ 184، 8/ 167، كعبة الطائفين: 1/ 60، 158، 215، 216، 263، 419، 421، 468، 476، 477، 488، 513، 2/ 22، 2/ 122، 123، 131،

_ 139، 250، 363، 383، 384، 8/ 222، الكفاح الاجتماعي: 7/ 217، كفاية الطالب النبيل: 1/ 375، كفاية المريد: 1/ 499، كفاية المحتاج: 1/ 304، 5/ 342، 400، 7/ 433، 8/ 127، الكلام في علم الكلام: 7/ 155، الكلب لدى أطباء العرب: 7/ 431، الكلمات الشافية: 7/ 154، كليلة ودمنة: 5/ 230، 6/ 178، كمال البغية: 2/ 349، الكناش: 2/ 78، 4/ 191، 237، 238، 239، 7/ 123، 137، كناش ابن راس العين: 5/ 388، كناش ابن سليمان: 8/ 90، كناش السمغوني: 7/ 124، كناش الشيخ العروسي: 7/ 391، كناش العمالي: 4/ 493، 5/ 378، الكناشة الناصرية: 2/ 240، كنز الأسرار في المناقب ... : 7/ 449، كنز الأسرار (مناقب الدرقاوي): 2/ 127، كنز الرغائب: 5/ 597، كنز الرواة: 1/ 371، 2/ 53، 57، 58، 59، الكنز المكنون في الشعر الملحون: 5/ 309، 8/ 24، 224، 310، 311، 313، 314، كنوز الأنهار والجور (ديوان): 8/ 223، 310، الكنيسة الإفريقية: 6/ 115، الكواكب الدرية في أوائل الكتب للمناوي: 1/ 303، 7/ 52، الكواكب العرفانية: 2/ 230، الكوشون: 5/ 220، كوكب إفريقية (جريدة): 4/ 384، 528، 5/ 240، 242، 246، 247، 248، 295، 418، 6/ 195، 253، 7/ 252، 258، 265، 469، 8/ 69، 164، 195، 250، 257، 258، 266، 423، الكوكب الثاقب في أسانيد الشيخ أبي طالب: 2/ 36، 7/ 53، الكوكب الجزائري: 5/ 220، 246، كيف دخل الفرنسيون الجزائر: 7/ 213، الكيف (مسرحية): 5/ 428، الكيلو (مسرحية): 8/ 452، (ل) اللآلئ الفريدة: 5/ 339، لا ديباش: 5/ 220، 221، 610، 6/ 322. لانتانت: 5/ 265، لاديباش الجيريان، 5/ 120، 6/ 355، 388، 8/ 403، لاديباش دي كونستنتين (قسنطينة): 6/ 417، لاديباش كوتيديان: 5/ 221، لاديفانس: 5/ 259، لاراش: 5/ 236،

_ لاروس: 7/ 191، لافريك (مجلة): 8/ 440، لامية الأفعال: 3/ 66، 5/ 360، لامية العجم: 2/ 174، 181، 5/ 342، لامية العرب: 2/ 181، اللامية في نظم الأجرومية: 2/ 162، لانتانت (جريدة): 4/ 258، لانتيرن (جريدة): 4/ 220، لانديباندانت: 5/ 218، لب أفياخي في تعداد أشياخي: 2/ 36، لباب الحكمة: 2/ 144، اللباب في أحكام الزينة واللباس والاحتجاب: 6/ 350، 7/ 186، لبيك (رواية): 7/ 28، 218، 8/ 184، لسان الدين (جريدة): 4/ 127، 5/ 252، 261، اللسان المعرب عن تهافت الأجانب حول المغرب: 7/ 315، اللسان المعرب: 7/ 408، 409، لسان المقال (رحلة): 2/ 385، 391، 410، 432، اللسان يكمل الإنسان: 4/ 526، 5/ 231، 6/ 174، 249، 8/ 49، لطالف الأنوار: 4/ 42، لفظ أبي موسى: 7/ 88، اللمع في شرح البدع: 7/ 173، اللمع في نظم البدع: 8/ 165، اللواء: 5/ 245، 272، 277، 8/ 69، اللواء الجزائري: 5/ 245، لواء النصر: 2/ 126، 224، 230، 233، 299، 300، 306، 326، 357، 358، اللوامع والأسرار في منافع القرآن والأخبار: 1/ 105، 106، لوبرولو (البحر الأبيض): 5/ 218، لوتوركو (جريدة): 5/ 220، لوجور: 6/ 165، لوجورنال: 6/ 165، لوطان: 5/ 587، لوعة الضمائر في رثاء الأمير عبد القادر: 8/ 147، 162، اللونجا الأندلسية: 8/ 138، 448، الليالي: 5/ 257، 258، ليقريزيت (مسرحية): 5/ 415، ليكو دوران: 5/ 217، (م) مأمون (رواية): 8/ 179، 180، ما أخلت به كتب الأمثال: 8/ 166، ما رواه الواعون: 2/ 423، مازونة العاصمة القديمة للظهرة: 7/ 385، مائة حكاية وحكاية: 8/ 126، 127، المباحث الأصلية: 1/ 373، المباحث الحسان المرفوعة إلى قاضي تلمسان: 7/ 71، مباحث الذكرى في شرح العقيدة الكبرى: 2/ 98، مبادئ الأمثال العربية في الجزائر: 6/ 42،

_ مبادئ التأييد ... ما يحتاجه المريد: 7/ 144، المبدي لخطأ الحميدي: 1/ 131، المبشر: 3/ 13، 34، 74، 75، 83، 84، 85، 86، 87، 88، 89، 91، 92، 93، 108، 287، 306، 322، 326، 337، 367، 369، 375، 388، 394، 402، 404، 407، 408، 410، 411، 421، 437، 447، 4/ 151، 254، 282، 384، 400، 421، 445، 447، 448، 449، 453، 455، 500، 517، 518، 519، 521، 522، 5/ 214، 216، 218، 219، 221، 222، 231، 234، 237، 242، 247، 250، 286، 287، 288، 305، 307، 357، 397، 400، 534، 536، 544، 546، 585، 610، 612، 6/ 22، 33، 35، 72، 95، 119، 138، 143، 174، 178، 182، 184، 186، 187، 188، 189، 190، 192، 194، 195، 199، 203، 209، 210، 211، 212، 213، 214، 216، 217، 220، 221، 239، 244، 245، 329، 330، 347، 7/ 50، 74، 89، 158، 164، 184، 186، 196، 200، 320، 228، 252، 253، 255، 256، 257، 263، 275، 276، 291، 316، 423، 428، 429، 430، 431، 432، 443، 462، 8/ 10، 12، 54، 56، 66، 68، 69، 77، 99، 162، 164، 194، 196، 271، 242، 243، 244، 422، 423، 429، مبين المسارب في الأكل والطب: 1/ 455، 2/ 144، 422، المبينات في النحو: 8/ 54، مترجمو الجيش الإفريقه: 8/ 14، متسعات الميدان: 2/ 415، مثلثات قطرب: 5/ 362، مجاعات قسنطينة: 7/ 198، المجالس الأدبية: 8/ 132، مجالس الأنس في تراجم الخمس: 7/ 446، مجالس التذكير: 7/ 19، 46، المجالس للبوني: 2/ 144، مجاميع في الحديث: 1/ 308، المجاهد الثقافي: 8/ 440، المجتمع الأهلي في افريقية الشمالية: 6/ 261، 7/ 209، المجربات للسنوسي: 1/ 96، المجلة الآسيوية J.A: .31/ 8، 170، 59، 51، 47، 21، 19/ 6، 367/ 2، المجلة الإفريقية: R.A. 440، 336، 318، 184، 171 /8، 439، 328، 109 /7، 386، 383، 332، 261، 260، 244، 233، 180، 178، 177، 167، 148، 104، 96، 95، 94، 77، 69، 52، 51، 47، 46، 36 /6، 274، 236 /5، 496 /4، 366 /2، مجلة إفريقية الشمالية: 5/ 299، 6/ 196، 8/ 57، 144، 145،

_ مجلة إفريقية الفرنسية 256/ 7، 258، 257، 239، 133/ 6، 266/ 5، 407/ 4: A.F، مجلة إيقاع العالم: 8/ 184، مجلة الأحكام الإسلامية: 4/ 535، 7/ 104، مجلة الأحكام السارية الجزائرية: 7/ 105، مجلة أرابيكا: 7/ 141، مجلة الاتحاد الكاثوليكي الأهلي: 6/ 431، مجلة البحر الأبيض المتوسط: 6/ 179، 8/ 183، المجلة الجزائرية: 6/ 190، مجلة جغرافية مدينة الجزائر وشمال إفريقية.167/ 6، 432/ 5، 496/ 4: S.G.A.A.N، مجلة الحديقة: 6/ 352، مجلة الحياة الثقافية: 5/ 432، المجلة السلفية: 7/ 399، مجلة الشرق: 5/ 529،، 539، 564، 569، 6/ 90، 7/ 201، 8/ 134، 205، 206، 280، 335، 336، مجلة الشرق والجزائر: 6/ 51، 91، المجلة الشرقية والجزائرية: 6/ 51، مجلة صوت المستضعفين: 5/ 266، 6/ 259، 260، 334، 7/ 455، مجلة العالم الإسلامي 33/ 8، 106/ 7، 363، 290، 247، 242، 236، 233، 232، 75، 52، 34، 30، 13/ 6، 607، 606، 485، 400، 285، 248، 246، 239/ 5، 535، 530، 349، 303، 74/ 4، 356/ 3: R.M.M، مجلة العالمين: 6/ 387، مجلة الغرب الإسلامي: 8/ 440، مجلة الفكر: 8/ 185، مجلة لافوا أندجين: 6/ 355، مجلة اللغات الشرقية: 6/ 145، مجلة الماسونية الافريقية: 6/ 414، مجلة المسائل الدبلوماسية والاستعمارية: 6/ 225، 425، مجلة المطورني: 6/ 431، مجلة معلمي شمال إفريقية: 8/ 183، مجلة المغرب: 3/ 302، 5/ 609، 617، مجلة المغرب الكاثوليكي: 6/ 140، مجلة المنار: 3/ 84، 94، 5/ 271، 520، 585، 587، 588، 590، 592، 595، 606، 6/ 236، 406، 7/ 83، 8/ 69، 116، 145، 196، 270، مجلة هنا الجزائر: 5/ 240، 301، 389، 6/ 197، 8/ 85، 144، 145، المجلى في مشروعية الخروج إلى المصلى: 7/ 84، مجموع الأحكام القضائية: 6/ 176، مجموع البجائي في المسائله العرفية: 7/ 95. مجموع الفوائد في العقائد: 7/ 152، مجموع في العربية الدارجة: 8/ 49، مجموع القوانين الدينية الجزائرية: 7/ 105،

_ مجموع القوانين القضائية: 7/ 90، مجموع قوانين مفيدة: 7/ 199، مجموع محمد قاضي: 8/ 224، مجموع المكاتيب في العربية: 6/ 43، مجموع موضوعات للعربية الدارجة: 6/ 175. مجموع النصوص الفقهية والوثائق: 7/ 90، مجموعة الأشعار التارقية: 8/ 320، مجموعة ثلاثة عشر شاعرا جزائريا: 8/ 201. مجموعة خطب: 1/ 375، مجموعة شروح الحساب: 1/ 304، مجموعة شعرية قبائلية: 6/ 54، مجموعة من الشعر القبائلي: 8/ 61، 321، مجموعة هانوتو عن الشعر الزواوي: 8/ 61، مجنون ليلى: 8/ 135، المجنونة (مسرحية): 8/ 452، محادثة عربية - فرنسية: 6/ 175، 8/ 49، محاضرات اليوسي: 2/ 213، المحاكم: 7/ 93، محاورات فرنسية - عربية: 6/ 175، محجة القاصدين: 2/ 141، محدد السنان في نحور إخوان الدخان: 1/ 83، 454، 522، 2/ 82، 125، محصل المقاصد: 2/ 95، المحلى: 2/ 42، محمد عثمان باشا وخلاصة تاريخ الأتراك بالجزائر: 7/ 420، 8/ 267، محمد قبيح الفعل: 5/ 421، المحمدية (الصلاة): 1/ 235، 262، مخالطة البابوات مع عرب افريقية (مقالات): 6/ 190، مختصر الأخضري: 2/ 3 73، 87، مختصر ابن أبي جمرة: 1/ 289، 351، 2/ 29، مختصر ابن الحاجب: 1/ 326، 351، 371، 2/ 65، 68، 93، 4/ 529، مختصر التاريخ العام: 5/ 342، مختصر حاشية مسند الربيع بن حبيب: 2/ 30، مختصرخليل: 1/ 66، 299، 326، 360، 368، 373، 442، 2/ 53، 65، 70، 74، 77، 367، 3/ 64، 66، 103، 124، 137، 177، 185، 194، 396، 406، مختصرالسعد: 2/ 169، مختصر السنوسي (في المنطق): 1/ 119، 352، 373، مختصر الشيخ خليل: 4/ 323، 347، 422، 453، 479، 480، 489، 506، 510، 528، 536، 5/ 230، 345، 387، 393، 6/ 24، 48، 53، 87، 7/ 12، 75، 76، 80، 104، 107، 108، 205، 445، 8/ 286، 344، مختصر الكافي في العروض والقوافي: 8/ 192،

_ المخدرة: 7/ 123، 355، 356، 391، 396، 448، المخطوط البربري لزواغة: 7/ 108، مخطوطات في التصوف: 7/ 141، مخطوطة ابن سلام: 5/ 381، مدخل إلى الجزائر: 4/ 503، مدخله الطلاب إلى عدم الحساب: 7/ 290، المدرسة (مسرحية): 8/ 142، المدن الصحراوية (بحث): 6/ 25، المدونة: 2/ 72، 4/ 529، 5/ 393، مدونة ابن غانم: 6/ 53، 7/ 108، مذكرات: 2/ 335، 4/ 495، مذكرات الأمير عبد القادر: 7/ 453، مذكرات باش تارزي: 8/ 440، مذكرات بوضربة: 8/ 173، مذكرات تاريخية وجغرافية عن الجزائر: 6/ 86، مذكرات الحاج أحمد باي: 7/ 442، 450، 451، 452، 453، 8/ 173، مذكرات حمدان خوجة: 7/ 397، 451، 452، مذكرات الشريف الزهار: 2/ 26، 77، 402، 421، 456، مذكرات الشيخ محمد عبده: 5/ 594، مذكرات الطاهر بن عبد السلام: 7/ 454، مذكرات عزيز الحداد: 7/ 453، 451، 8/ 173، مذكرات معلم جزائري: 7/ 455، مذكراتي للأمير سعيد: 7/ 455، مذكرة أحمد بوضرية: 7/ 42، 451، مذكرة ابن داود: 7/ 194، مرآة الجزائر: 7/ 399، المرآة الجلية: 7/ 24 26، 63، 443، 8/ 228، المرآة لإظهار الضلالات: 7/ 143، مرآة المرأة المسلمة: 6/ 352، 7/ 190، المرأة البربرية: 6/ 339، المرأة العربية: 5/ 442، 6/ 95، 339، 383، 7/ 181، 8/ 205، المرأة المسلمة في شمال إفريقية: 4/ 538، 6/ 65، 7/ 182، 185، المرأة المسلمة في المغرب (العربي): 4/ 538، مرابطون وإخوان: 3/ 183، 4/ 29، 302، 6/ 52، 69، 171، 7/ 51، 115، 323، المراسل الإفريقي: 6/ 37، 383، 8/ 32، المرائي المكية في آداب الطريق: 2/ 148، مرج البحرين: 2/ 153، المرشد المعين: 5/ 272، 285، 288، 7/ 143، 148، 8/ 222، المرصاد: 5/ 256، 6/ 433، المرفوعات الحسان: 4/ 512، مروج الذهب: 1/ 304، 3/ 137، 5/ 230، 7/ 32، مروج الذهب في نبذة من النسب: 2/ 350،

_ مريم بين النخيل (رواية): 8/ 180، المزهر للسيوطي: 1/ 308، مزيل الخفاء عن نواب بعض الشرفاء: 7/ 336، 393. المسألة الأهلية: 6/ 231، مسألة وجوب الزكاة في أوراق المصارف: 7/ 84. مساجلة أدبية اجتماعية ... : 8/ 224، مسارح الأنظار: 1/ 68، 84، المسافة السنية: 1/ 63، 66، مسالك الوصول: 1/ 375، مساهمة في المسألة الأهلية: 7/ 266، 271. المساواة: 5/ 270، المسائل العامرية على مختصر الرحبية: 7/ 289. المسائل المفيدة في فضل الأولياء: 7/ 134. المستحسن من البدع: 1/ 127، المستطاب في أقسام الخطاب: 7/ 431، المستطرف: 3/ 96، 137، 6/ 178، المستقبل: 5/ 485، 6/ 312، مستقبل الإسلام (بحث): 6/ 225، 7/ 166. مستقبل تركيا: 5/ 519، المستقبل التونسي: 5/ 492، المستملح من التكملة: 1/ 303، المسرح الجزائري باللهجة العامية: 8/ 440. المسرح الجزائري (بحث): 8/ 440، المسرح العربي بالجزائر (بحث): 8/ 440. مسرح القراقوز: 1/ 161، المسرح والموسيقى العربية (بحث): 8/ 440. مسك الحبوب: 2/ 364، 365، المسلسلات العشرة: 7/ 53، مسلك السداد إلى مسألة خلق العباد: 2/ 136. المسلم: 5/ 247، مسلمات شمال افريقية (بحث): 7/ 187، مسلمو شمال افريقة: 6/ 233، 237، المسلمون الفرنسيون في شمال افريقية: 7/ 208. المسلمون في جزيرة صقلية وجنوب إيطاليا: 7/ 315، 419، 421، المسلمون في الجيش الفرنسي: 7/ 103، المسلمون والمسيحيون (رواية): 8/ 177، المسند الصحيح: 7/ 319، المسند الصحيح الحسن: 1/ 62، مشاهداتي في الجزائر: 5/ 299، 7/ 473، مشاهداتي في قسنطينة: 5/ 299، مشاهير مسلمي الجزائر: 2/ 367، المشرفي الحمزاوي لقطع فؤاد الخبزاوي: 7/ 99. مشروع محمد بن الحاج: 7/ 91، المشكل الجزائري كما يراه أحد الأهالي:

_ مشموم عرار النجد والغيطان: 8/ 221، المصباح: 5/ 245، مصحف رودوسي: 8/ 428، مصحف عثمان: 7/ 16، المصلح (مسرحية): 8/ 136، 445، مضاعفة ثواب هذه الأمة: 2/ 30، 57، مطالع الأنوار في حكم الاحتكار: 7/ 205، مطلب الفوز والفلاح: 1/ 293، 324، 346، 378، 476، 477، 2/ 119، مطلع اليقين في مدح الإمام المبين: 8/ 223، مطمح الأنفس: 2/ 233، مع حمار الحكيم: 8/ 144، معارف ابن قتيبة: 1/ 308، معالم الاستبصار: 1/ 266، 2/ 409، 410، 5/ 364، 365، المعالم العربية في تلمسان: 8/ 396، معجم أعلام الجزائر: 7/ 80، معجم البلدان: 1/ 308، معجم الزبيدي: 2/ 47، المعجم الفرنسي/ التارقي: 6/ 99، المعجم الفرنسي/ الشلحي/ المازيغي: 8/ 50. معراج التشوف إلى حقائق التصوف: 5/ 528، 7/ 139، 140، معرفة بلاد المغرب: 6/ 134، المعشوقة: 8/ 146، المعلقات السبع: 1/ 303، 5/ 342، 8/ 77، المعلومات الحسان في مصنوعات تلمسان: 7/ 204، المعيار (الجديد): 2/ 12، 437، 5/ 261، المعيار المعرب: 1/ 41، 56، 123، 125، 126، 128، 129، 153، 392، 424، 4/ 528، مغامرات طالبين في القرية الزنجية: 8/ 300، المغرب (جريدة): 5/ 241، 244، 418، 601، 6/ 195، 7/ 252، 8/ 22، 69، 164، 195، 266، المغرب العربي (جريدة): 5/ 257، 259، 271، 299، 319، 8/ 73، المغني لابن هشام: 8/ 44، مغني اللبيب: 3/ 266، المفاخر العلية (عن الشاذلية): 4/ 67، 69، مفتاح الأحكام في الفتوى (منظومة): 7/ 93. مفتاح البشارة في فضائل الزيارة: 2/ 138، مفتاح الجنة في شرح عقائد أهل السنة: 7/ 155، مفتاح الشهود في مظاهر الوجود: 4/ 132، 7/ 143، 144، مفتاح النحو والأدب: 6/ 43، مفردات ابن البيطار: 2/ 424،

_ المفيد: 5/ 481، 550، 524، 606، مفيد الطلبة: 8/ 46، مفيد المحتاج: 2/ 406، 409، مقاصد القرآن: 7/ 33، مقالات في النسب والتناسب: 1/ 304، مقالة غريق: 8/ 22، مقاليد الأسانيد: 2/ 58، 59، مقامات ابن ميمون: 2/ 208، مقامات الحريري: 1/ 303، 2/ 354، 3/ 147، 4/ 491، 5/ 342، المقامات العشر لطلاب العصر: 8/ 148، المقامات الحوالية: 6/ 172، 8/ 149، المقامة الصوفية: 8/ 146، المقامة اللغزية والمقالة الأدبية: 8/ 147، المقتبس: 5/ 383، المقتبس (جريدة): 5/ 481، 520، 606، المقتطف: 5/ 609، المقدمات للسنوسي: 1/ 96 - 98، 100، مقدمة ابن آجروم: 6/ 43، مقدمة ابن خلدون: 1/ 19، 2/ 222، 6/ 47، 72، 87، مقدمة ابن رشد: 2/ 120، المقراض الحاد: 7/ 97، المقرب المستوفي في شرح فرائض الحوفي: 7/ 287، المكاتبات/ الكريستوماتية العربية: 5/ 333، 6/ 43، المكودي على الألفية: 8/ 44، المكيال الأوفى: 7/ 136، ملتقى البحرين (جريدة): 5/ 544، الملحمة الزجرية: 8/ 303، الممارسات الطبية لأهالي الجزائر: 7/ 232. الممالك البربرية الأولى: 6/ 69، مملكة الجزائر تحت آخر الدايات: 6/ 69، من مصر إلى مصر: 4/ 511، المن والسلوى في حديث لا عدوى: 2/ 30، 145، 421، منابع الحضارة العالمية: 7/ 171، 321، منار الإسراف: 3/ 222، 5/ 513، 7/ 53، 329، 332، 334، 442، 8/ 74، 77، 78، 195، 209، 210، 213، 215، 217، 218، المناظرة بين العلم والجهل: 8/ 148، المنافع البينة وما يصلح للأربعة أزمنة: 2/ 424، مناقب الأربعة المتأخرين: 1/ 75، مناقب الشيخ الديلمي: 7/ 444، مناقب الملياني: 2/ 115، منامات الوهراني: 2/ 207، منبر الشرق: 5/ 309، المنتخب: 5/ 231، 232، 233، 234، 235، 236، 241، 360، منتخب الأسانيد: 2/ 35، 59، المنتخب (جريدة): 6/ 194، 8/ 54، 68، 77، 195، 248، 249،

_ المنتقد: (جريدة): 5/ 253، 254، 292، 310، 7/ 179، 213، 8/ 69، 70، المنح الإحسانية في الأجوبة التلمسانية: 1/ 375، المنح الربانية في بيان المنظومة الرحمانية: 7/ 130، المنح القدسية: 4/ 131، 132، المنح القدوسية: 7/ 143، المنحة الإلهيه في الآيات الإسرائيلية: 2/ 30، المنحة المحكية لمبتدي القراءة المكية: 1/ 120، المنسج (رواية): 8/ 185، المنشآت الفرنسية في الجزائر: 7/ 25، المنشور في رجال الشيخ عاشور: 7/ 442، منشور الهداية: 1/ 158، 263، 275، 291، 293، 316، 320، 324، 380، 384، 394، 400، 421، 440، 463، 470، 474، 521، 522، 524، 2/ 83، 99، 112، 124، 125، 140، 161، 196، 204، 241، 252، 326، 355، 357، 423، 3/ 134، 4/ 40، 5/ 81، 85، 148، 7/ 82، المنصفة: 7/ 173، المنصوري (في الطب): 2/ 424، منطقة توات: 7/ 394، منطقة القبائل الكبرى: 6/ 307، منطقة القبائل والعادات القبائلية: 6/ 307، منظومة ابن سينا: 2/ 430، منظومة ابن غرنوط: 2/ 431، منظومة بغية الطالب في ذكر الكواكب: 7/ 327. منظومة جامعة الأسرار: 1/ 375، المنظومة الجزائرية: 1/ 82، 93، 98، 263، 351، 2/ 94، 5/ 48، 118، منظومة الجزري: 1/ 351، منظومة الحوضي: 1/ 94، المنظومة الدندانية: 5/ 363، المنظومة الرحمانية: 2/ 148، 5/ 310، منظومة السيف المسلول: 5/ 363، منظومة العوامر في العقائد: 7/ 155، منظومة الفتح: 7/ 328، منظومة في الأنساب: 7/ 329، منظومة في التوحيد: 7/ 152، 154، منظومة في ستر العورة: 7/ 84، منظومة في السير والشمائل = انظر الدرة المنيفة، منظومة في الطب: 5/ 394، منظومة في الفقه المالكي وشرحها: 7/ 82، منظومة المراصد: 1/ 82، 94، المنظومة الوغليسية: 1/ 98، المنفرجة: 1/ 89، 90، المنفرجة لابن النحوي: 8/ 235، المنفرجة للخنقي: 8/ 235، المنقذ من الظلال: 3/ 233، منة المتعال في تكميل الاستدلال: 7/ 37، 38،

_ المنهاج: 5/ 243، 379، 498، 520، 605، منهاج الطالبين: 2/ 75، 101، منهاج الوصول إلى ما في الإرث من الأصول: 7/ 283، المنهج السوي في الفقه الفرنسي: 6/ 177، المنهج الفائق والمنهل الرائق: 1/ 125، المنهل: 8/ 74، 144، المنهل الأصفى ... من ألفاظ الشفا: 2/ 27، المنهل الروي: 4/ 255، المنهل الروي الرائق: 7/ 51، المنهل الروي ... في الطب النبوي: 2/ 419، منهل الظمآن في كرامات ابن أبي زيان: 7/ 141، منية القاصد في بعض أسانيد ... : 7/ 71، منية الكتاب (قصيدة): 8/ 426، المهاجر: 5/ 243، 520، 553، 604، مهمة طبية في بلاد القبائل: 7/ 230، مهمة في بلاد القبائل (بحث): 8/ 56، الموارد الغيثية الناشئة عن الحكم الغوثية: 7/ 144، مواعظ هلانيك: 6/ 402، المواقف: 4/ 9، 5/ 522، 540، 7/ 116، 117، 118، 120، 8/ 96، 146، 207، 291، المواقف للعضد: 3/ 94، المواهب الجليلة (عن الطريقة السنوسية): 7/ 126، 444، المواهب القدسية: 1/ 76، 77، 299، 2/ 113، 355، مواهب الكافي على التبر الصافي: 8/ 192، موت كيلوباترا: 8/ 138، 447، موجز التاريخ العام: 7/ 416، الموجز في التوحيد: 7/ 152، الموجز المفيد في شرح درة عقد الجيد: 7/ 153. موجز النحو العربي: 6/ 42، مورد الظمآن: 2/ 21، 22، مورد الظمآن في علم رسم القرآن: 7/ 36، المؤسسات الدينية في مدينة الجزائر: 2/ 366، 6/ 46، الموسوعة الكولونيالية والبحرية: 8/ 184، الموسيقى الإسلامية في شمال إفريقية (بحث): 5/ 432، الموسيقى العربية (بحث): 5/ 431، موضح السر المكنون: 2/ 167، موطأ الإمام مالك: 2/ 47، 48، 5/ 345، 366، 7/ 44، 57، 178، موطأ المهدي ابن تومرت: 6/ 73، المولد (مسرحية): 5/ 427، المؤنس: 1/ 304، 2/ 334، 7/ 345، المونيتور: 5/ 218، 305، 340، 6/ 16، 19، 46، 186، 7/ 184، المونيتور الجيريان: 5/ 214، 215،

_ المؤيد: 5/ 603، 605، 607، 608، 8/ 69، الميدان: 5/ 266، ميزاب (جريدة): 5/ 264، ميزان الحق (في المنطق): 7/ 157، ميزان الشعراني: 1/ 304، الميساجي دي لويست: 5/ 217، (ن) الناجون من بعثة فلاترز: 6/ 166، 7/ 469، ناصر الدين (بحث): 6/ 235، نبذة ابن عليوة: 4/ 133، النبذة المحتاجة في أخبار صنهاجة: 5/ 390، 6/ 59، النبذة المحتاجة في ذكر ملوك صنهاجة: 2/ 396، النبراس: 5/ 264، نبراس الإيناس: 2/ 136، النبل الرقيق: 2/ 107، 109، 135، 136، نتيجة الاجتهاد: 2/ 273، 5/ 400، 8/ 127، نثر الدر: 5/ 569، 570، النثر الرائق: 7/ 94، النجاح (جريدة): 3/ 261، 262، 264، 5/ 251، 252، 6/ 196، 7/ 11، 84، 213، 8/ 22، 23، 28، 69، 70، 164، 196، 442، النجم الثاقب: 1/ 73، 74، 75، 286، 476، 2/ 112، 355، النجم الشمالي: 6/ 447، نحلة اللبيب في أخبار الرحلة إلى الحبيب: 2/ 199، 224، 225، 230، 231، 299، 305، 306، 307، 357، 358، 391، النخبة الأزهرية: 7/ 391، نخبة ابن حجر: 2/ 42، نخبة عقد الأجياد في الصافنات الجياد: 7/ 203، 8/ 167، 207، نخبة ما تسر به النواظر: 7/ 438، النداء: 5/ 613، النذير: 5/ 609، نزع الجلباب: 2/ 286، نزهة الأبصار لذوي المعرفة والاستبصار: 7/ 466، نزهة الأفكار: 4/ 483، 7/ 305، 8/ 268، نزهة الأنظار في فضل علم التاريخ: 2/ 395، نزهة الحادي: 6/ 179، 427، 7/ 167، 316، نزهة الخاطر في قريض الأمير عبد القادر: 8/ 205، 288، نزهة العيون: 2/ 167، نزهة المريد في معاني كلمة التوحيد: 2/ 138، نزهة المشتاق وغصة العشاق: 5/ 420، 8/ 127، 128، 135،

_ نسمات رياح الجنة (في آل البيت): 7/ 140، 337، نشاط فرنسا العلمي في الجزائر وشمال افريقية: 6/ 79، نشر الأعلام النورانية ... في اللغة العربية والسريانية: 8/ 48، نشر المثاني: 1/ 31، 66، 98، 7/ 433، نشرة أكاديمية هيبون: 6/ 96، نشرة جمعية طلبة شمال إفريقية: 5/ 274، نشرة جمعية وهران: 6/ 179، نصرة الأوخوان في احتجاج الفقهاء بالبرهان: 7/ 93. نصرة السني في الرد ... : 7/ 132، نصرة الشرفاء: 5/ 366، نصرة الفقير: 2/ 112، نصوص بربرية من الأطلس: 8/ 60، النصيح: 5/ 251، نصيحة الإخوان: 7/ 146، النصيحة الدرية: 6/ 211، النصيحة الزروقية: 2/ 37، النصيحة العزوزية في نصرة ... الصوفية: 7/ 132، 133، 8/ 223، 239، نصيحة عمومية: 6/ 214، 330، النصيحة للأجيال: 4/ 241، 5/ 237، 241، 244، نصيحة وإرشاد: 6/ 211، النظافة الصحية عند قبائل قلعة نابليون: 7/ 230، نظام العربية في موازين كلماتها: 8/ 47، نظم الجواهر في سلك أهل البصائر: 2/ 180. نظم الخصائص النبوية: 2/ 63، 328، نظم الدر والعقيان: 1/ 44، 59، 70، 73، نظم الدرر المديحية: 2/ 63، 300، نظم الدر وبسطه في كون العلم نقطه: 7/ 122. نظم السوسي: 5/ 362، نظم في الفلك: 7/ 280، نظم لامية في إعراب اسم الجلالة: 2/ 109. نظم متروكات السوسي: 7/ 279، نفح الأزهار ووصف الأنوار ... : 8/ 456، نفح الروانيد: 2/ 63، نفح الطيب: 1/ 294، 304، 306، 378، 406، 426، 2/ 195، 216 - 220، 222، 240، 245، 276، 324، 329، النفحات القدسية: 2/ 128، نفيسة الجمان في فتح ثغر وهران: 2/ 324، 5/ 340، النقايات والنفايات في لغة العرب: 8/ 47، نماذج بشرية: 8/ 144، النمط الأكمل في ذكر المستقبل: 2/ 412، النهاية في غريب الحديث: 1/ 304، النهاية لابن الأثير: 1/ 308، النهج السوي في الفقه الفرنسوي:

_ 4/ 528، 7/ 92، النهضة (جريدة): 7/ 455، نوازل البرزلي: 1/ 287، نوازل التلمساني: 1/ 368، نوازل الجزلاوي: 5/ 363، 7/ 79، نوازل مازونة = الدرر المكنونة نور الإيضاح: 7/ 79، نور الأثمد في وضع اليد على اليد: 7/ 81، نور الألباب: 6/ 180، 234، النور (جريدة): 5/ 264، نور الحياة فيما يجب للخالق: 2/ 143، النور الساطع: 4/ 124، النور السراجي في إعراب مقدمة الصنهاجي: 8/ 44، النور (كتاب): 2/ 75، 101، النور المقتبس: 2/ 68، النور الوضاح الهادي إلى الفلاح: 2/ 138، النور الوقاد في تعزية الأولاد: 4/ 73، 7/ 199، النيل: 3/ 269، 5/ 546، نيل الابتهاج: 1/ 60، 2/ 80، 355، 7/ 433، النيل الغزير في القسمة: 7/ 285، نيل المطلوب في العمل بربع الجيوب: 1/ 117، 2/ 404، النيله وشفاء الغليل: 2/ 75، الهادي للمهتدي: 2/ 31، هارون الرشيد (مسرحية): 8/ 302، هائية المستغانمي: 2/ 249، هدايا الداي (مسرحية): 5/ 414، الهداية: 5/ 366، هداية الطالب: 6/ 234، الهداية في رجال بجاية: 1/ 306، هدم المنار: 8/ 217، هدية الإخوان: 5/ 294، 295، 307، 6/ 63، 8/ 96، هذه هي الجزائر: 7/ 421، هقادة دي بيسه: 6/ 402، هل ستعيش الجزائر: 7/ 422. هلال رمضان وطريقته الشرعية والفلكية: 7/ 80، همزة الوصل: 5/ 267، الهمزية (قصيدة): 8/ 240، هميان الزاد ليوم المعاد: 7/ 15، 16، هيبون (مجلة): 6/ 77، هيسبريس: 6/ 34، (و) وادي ميزاب: 5/ 292، واسطة السلوك: 1/ 94، 98، 99، 100، 7/ 320، الوثائق الجزائرية: 8/ 184، الوحدة السامية للأديان: 6/ 433،

_ الورد البسام في رياض الأحكام: 2/ 75، الورشة (جريدة): 6/ 438، ورقات في رواج السكة بالزيادة: 7/ 203، 205، الوسائل العظمى للمقصد الاسمى: 1/ 81، 99، 100، وسيلة المتوسلين: 1/ 108، وشاح الكتائب: 3/ 82، 6/ 62، 205، 7/ 201، 233، وصايا الشيخ الحداد: 7/ 453، وصف افريقية: 6/ 71، وصف المغرب: 6/ 87، وصية لفقراء الجزائر: 1/ 494، وصية المرحوم (مسرحية): 8/ 452، الوطن: 5/ 270، 299، الوظيفة الزروقية: 1/ 337، الوغليسية: 1/ 88، 2/ 396، وفاء الضمانة: 7/ 44، 45، الوفاق: 5/ 248، 257، 258، 311، وفيات الأعيان: 1/ 306، وفيات ابن القنفذ: 1/ 63، 65، 66، 78، 7/ 433، الوفيات للونشريسي: 1/ 125، 5/ 372، ويليام تل: 5/ 441، 441، (ي) يا علي يا أخي (رواية): 8/ 178، الياقوتة: 4/ 191، ياقوتة الحواشي على شرح الإمام الخراشي: 2/ 69، ياقوتة النسب الوهاجة: 1/ 202، 504، 2/ 39، 7/ 41، 440، يالله: 5/ 270، يتيمة الدهر: 1/ 304، 5/ 342، يقظة عنابة: 5/ 221، اليواقيت الثمينة: 1/ 375، 7/ 440،

فهرس الشعوب والقبائل والأقوام

4 - فهرس الشعوب والقبائل والأقوام

_ (1) الآريون: 6/ 319، آل أوقاسي: 8/ 328، آل البيت: 4/ 25، 5/ 599، 616، 7/ 319، 8/ 211، آل تريش: 4/ 46، آل الحداد: 8/ 328، آل حمير: 2/ 180، آل خليفة الشارف: 8/ 103، آل سعود عبد العزيز: 8/ 181، آل سيدي علي: 4/ 46، آل عثمان:: 5/ 561، 562، 599، 6/ 271، 7/ 333، 334، 8/ 63، 79، 118، 123، 213، 215، 218، آل عمر: 8/ 59، آل المقراني: 3/ 211، 8/ 213، 328، آل هاشم: 7/ 334، 8/ 272. آل يافث: 1/ 467، الإسبان (الإسبانيون): 1/ 30، 41، 123، 137، 138، 142، 143، 148، 151، 167، 169، 170، 176، 179، 183، 184، 198، 199، 200 - 204، 207، 209، 217، 219، 253، 272، 280، 292، 410، 424، 445، 448، 460، 461، 496، 471، 2/ 22، 23، 26، 46، 61، 114، 119، 203، 215، 255، 257، 260، 262، 279، 313، 331، 334، 336، 338، 339، 341، 345، 348، 374، 448، 4/ 104، 5/ 27، 101، 102، 134، 424، 4 44، 7/ 367، 372، 373، 384، 8/ 206، الإغريق: 3/ 181، 5/ 442، 444، 8/ 246، الإفرنج (الفرنجة): 3/ 35، 6/ 185، 215، 319، 336، 7/ 170، 184، 254، 307، 361، 373، الإلزاسيون: 3/ 291، 6/ 367، الإنكليز: 1/ 20، 30، 53، 167، 178، 518، 3/ 443، 4/ 129، 195، 266، 278، 280، 402، 405، 406، 407، 411، 412، 5/ 354، 508، 517، 519، 528، 608، 610، 613، 6/ 44، 77، 164، 236، 364، 384، 393،

_ 448، 7/ 192، 262، 294، 307، 352، 376، 419، 8/ 80، 279، 367، 473، الإيطاليون: 4/ 183، 263، 264، 5/ 495، 552، 553، 579، 6/ 77، 8/ 279، إيفوغاس: 4/ 232، 6/ 67، 102، 8/ 37، 38، الايمنان: 8/ 37، الأيوبيون: 1/ 463، الأتراك (الترك): 1/ 14، 17، 103، 105، 139، 149، 150، 160 - 163، 167، 170، 179، 180، 182، 185، 189، 190، 193، 194، 202، 212، 213، 224، 228، 265، 266، 299، 334، 356، 420، 423، 424، 428، 430، 434، 460، 465، 467، 468، 487، 510، 512، 2/ 23، 114، 144، 189، 193، 194، 254، 262، 265، 266، 316، 333، 335، 340، 347، 365، 374، 380، 341، 443، 4/ 54، 81، 93، 103، 121، 135، 185، 186، 187، 204، 220، 239، 243، 244، 263، 273، 313، 333، 382، 408، 5/ 55، 154، 155، 156، 157، 283، 331، 385، 451، 485، 495، 500، 501، 502، 504، 523، 524، 540، 556، 562، 6/ 135، 261، 292، 298، 300، 302، 305، 309، 314، 319، 384، 393، 7/ 195، 213، 351، 353، 361، 369، 384، 398، 401، 403، 456، 8/ 28، 79، 105، 125، 204، 206، 348، 357، 457، أثبج: 7/ 322، الأدارسة: 2/ 350، 4/ 80، 116، 120، 7/ 319، 334، 394، 415، 440، 476، 8/ 37، الأرباع: 4/ 107، 198، 206، 323، 5/ 393، 479، 7/ 322، 8/ 317، 389، الأزجر: 4/ 228، 232، 6/ 102، 8/ 37، الأزواد: 6/ 234، الأشراف: 2/ 187، 227، 4/ 42، الأعشاش: 6/ 390، الأغالبة: 2/ 446، 6/ 47، الأغريق: 6/ 326، 7/ 193، الألمان: 4/ 46، 121، 195، 244، 263، 266، 278، 380، 381، 5/ 256، 485، 505، 6/ 135، 261، 289، 8/ 160، 161، 178، 297، 347، 476، الأمحال: 8/ 315، الأمريكان: 1/ 30، 53، 4/ 407، الأمويون: 7/ 336، 384، أنجاد (الأنكاد) 7/ 323، 8/ 314، الأندلسيون: 1/ 46، 47، 148، أولاد إبراهيم: 3/ 100، 231، 4/ 120، 8/ 19،

_ أولاد الإمام: 1/ 250، 275، أولاد أحمد: 6/ 390. أولاد أحمد بن علي: 4/ 437، 487، 7/ 325، أولاد الأقويني: 4/ 159، أولاد الأكراد: 3/ 32، 33، 172، 229، 230، 4/ 116، 117، 297، أولاد أيوب: 4/ 156. أولاد ابن دوخة: 7/ 325، أولاد ابن قانة: 4/ 34، أولاد بلقاضي: 1/ 211، 3/ 337، أولاد بليل: 1/ 220، أولاد بنفريحة: 7/ 325، أولاد بوعريف: 4/ 152، أولاد بوعزة: 4/ 118، أولاد بوعكاز: 8/ 52، أولاد التازي: 5/ 488، أولاد تفورة: 4/ 152، أولاد ثابت: 4/ 152. أولاد جامع: 7/ 466، أولاد جلول: 1/ 265. أولاد الجيلالي: 8/ 346، 347، أولاد الحاج: 7/ 461، أولاد حمزة: 7/ 366، أولاد حمو: 3/ 232، أولاد خالد: 1/ 417، 422، 5/ 480، أولاد خليفة: 6/ 390، أولاد خيار: 7/ 320، أولاد داود: 4/ 155، أولاد دحو بن زرفة: 7/ 324، 325، أولاد دراج: 7/ 146، أولاد راشد: 7/ 322، أولاد رشاش: 4/ 152، 8/ 126، أولاد رياح: 7/ 385، أولاد زكري: 4/ 123، أولاد زياد: 4/ 212، أولاد زيان: 4/ 148، 7/ 335، 8/ 97، أولاد سالم: 7/ 322، أولاد السائح: 4/ 229، 230، 8/ 230، أولاد سلطان: 4/ 499، 8/ 45، أولاد سليمان: 8/ 322، أولاد سيدي أحمد الورغه: 7/ 325، أولاد سيدي أعمر: 8/ 43، أولاد سيدي سالم: 3/ 236، أولاد سيدي الشيخ: 3/ 111، 238، 4/ 11، 15، 21، 46، 71، 89، 100، 104، 105، 7 10، 108، 109، 110، 211، 212، 216، 222، 226، 262، 268، 298، 308، 311، 312، 320، 324، 328، 369، 449، 508، 518، 5/ 151، 152، 272، 329، 361، 486، 488، 519، 534، 536، 4 54، 545، 546، 6/ 64، 68، 74، 118، 207، 216، 240، 303، 343، 359، 378، 7/ 194، 460، 461، 474، 8/ 53، 107، 115، 159، 180، 323، 325، 330، 331، 334، أولاد سيدي عبد الله: 4/ 255، 271،

_ أولاد سيدي عبد القادر: 7/ 325، أولاد سيدي عبيد: 7/ 212، أولاد سيدي علي بن أيوب: 4/ 502، أولاد سيدي علي الشريف: 1/ 470، أولاد سيدي عمر بن دوبة: 7/ 25، أولاد سيدى عيد: 7/ 325، أولاد سيدي عيسى الأكحل: 2/ 165، أولاد سيدي مبارك: 2/ 370، أولاد سيدي محمد بن أحمد: 7/ 460، أولاد سيدي محمد بن يحيى: 7/ 325، أولاد سيدي يحيى: 7/ 211، 394، أولاد سيدي يحيى بن صفية: 7/ 443، أولاد سيدي يوسف: 4/ 246، أولاد الشائب: 7/ 322، أولاد شفاعة: 4/ 268، 273، أولاد صولة 1/ 211، 219، أولاد طريف: 4/ 78. أولاد عبد الله: 7/ 22، أولاد عبد القادر: 5/ 488، أولاد عبد المؤمن: 1/ 219، أولاد عبد النور: 1/ 271، 465، 468، 4/ 168، أولاد عبدي: 4/ 152، 156، 157، 5/ 445، 7/ 335، أولاد عتيق: 5/ 99، أولاد عدة: 5/ 488، أولاد عزوز: 2/ 147، أولاد عزيز 6/ 70، أولاد علاف: 4/ 150، أولاد علي بن عمر: 2/ 147، أولاد علي بن موسى: 2/ 349، 7/ 394، أولاد علي بن يحيى: 4/ 40، أولاد عمر: 5/ 399، 8/ 326، أولاد عنتر: 3/ 230، أولاد عياد: 7/ 322، أولاد عيسى: 1/ 486، 7/ 322، أولاد فاطمة: 8/ 317، أولاد فرحات: 1/ 211، أولاد الفكون: 1/ 265، أولاد مبارك: 7/ 409. أولاد محمد: 4/ 159، أولاد محيي الدين: 3/ 236، أولاد مختار: 5/ 511، 8/ 331. أولاد مقران: 2/ 394، 3/ 337، 4/ 377، 8/ 408، أولاد منديل: 3/ 23، أولاد نابت: 7/ 102، أولاد نائل (بنو نائل): 1/ 359، 2/ 280، 3/ 218، 228، 4/ 115، 125، 149، 150، 323، 5/ 511، 7/ 75، 322، 329، 448، أولاد نصر: 4/ 152، أولاد نعمون: 1/ 265. أولاد هلال: 3/ 230، أولاد يحيى: 2/ 349، أولاد يخلف: 7/ 322، أولاد يعقوب: 7/ 322، أولاد يعقوب الزرارة: 8/ 317،

_ أيلولا أو سامر: 3/ 183، (ب) البراجة: 4/ 152، البراكنة: 3/ 23، 172، 236، البربر: 2/ 345، 5/ 414، 6/ 62، 136، 140، 272، 303 - 308، 310، 313 - 321، 326، 383، 428، 430، 431، 7/ 319، 321، 326، 338، 399، 400، 414، 420، 422، 8/ 30، 36، 37، 39، 41، 123، 152، 201، 241، 306، 375، البرتغاليون: 1/ 41، 181، البرجية: 7/ 380، 381، 8/ 314، البروسيون: 4/ 264، البريطانيون: 3/ 327، 365، 4/ 251، البساكرة: 1/ 175، البعادشية: 4/ 152، البنادقة: 1/ 178، بنو إسرائيل: 2/ 345، بنو الأحمر: 2/ 232، بنو الأصفر: 1/ 43، 150، 4/ 95، 6/ 296، بنو أمية: 8/ 37، بنو بومسعود: 1/ 265، 470، بنو تميم: 2/ 270، 349، بنو حسن: 2/ 134، بنو راشد: 2/ 360، بنو زيان = الزيانيون بنو زيكي: 8/ 327، بنو سعد: 8/ 103، بنو صدقة: 8/ 50، بنو عامر: 1/ 338، 2/ 262، 8/ 234، 322، 323، 325، بنو عباس: 1/ 505، بنو عثمان: 8/ 214، بنو المعارز: 8/ 340، بنو مقران: 1/ 265، 470، بنو ملال: 1/ 368، بنو ورتلان: 2/ 394، بنو يزناسن: 2/ 139، بنو يعلى: 1/ 137، 2/ 334، بنو يني: 8/ 325، بني بادين: 6/ 123، بني بوسليمان: 4/ 155، بني بويعقوب: 4/ 494، بني توجين: 7/ 327، بني جعد: 3/ 236، بني جلاب: 1/ 181، 3/ 214، 4/ 219، 237، 5/ 97، 6/ 47، بني جناد: 3/ 190، 191، 203، 4/ 187، بني حافظ: 5/ 389، بني حماد: 3/ 190، بني حمدان: 3/ 191، بني حمود: 7/ 324، بني خلفون: 7/ 322،

_ بني خليل: 5/ 11، بني راثن: 5/ 79، 479، بني زروال: 4/ 113، 123، بني زيد: 5/ 105، بني سليم: 7/ 323، 336، 391، بني سليمان: 6/ 161، بني سمعون: 5/ 522، بني سناسن: 1/ 467، 4/ 89، 117، 297، بني سنوس: 4/ 246 7/ 460، 8/ 32، 35، بني شقران: 5/ 497، 7/ 369، 376، 377، 378، 379، 380، بني عابس: 6/ 53، بني عامر: 4/ 513، 5/ 486، 488، 6/ 362، 7/ 66، 325، 362، 385، بني عباس: 3/ 206، 211، 4/ 45، 5/ 397، 7/ 447، بني عبد الواد: 1/ 61، 6/ 60، بني عروس: 1/ 515، 4/ 65، بني عيدل: 2/ 394، 3/ 183، بني غيل: 4/ 89، بني فراوسن: 3/ 203، 7/ 322، بني فرح: 6/ 121، 122، بني قائد: 4/ 62، بني قيل: 7/ 322، بني كاني: 3/ 193، بني كنعان: 6/ 326، 7/ 321، بني كوفي: 3/ 192، بني كومي:: 4/ 90، 8/ 51، بني ماني: 3/ 191، بني محمد: 6/ 53، بني مرين: 1/ 40، 43، 62، 115، 138، 4/ 237، 5/ 97، 6/ 58، 59، 171، 7/ 373، 384، 460، بني مزني: 1/ 42، 67، 7/ 325، بني مطير: 4/ 86، بني مناصر: 1/ 464، 3/ 236، 375، بني منصور: 3/ 191 - 193، 6/ 161، بني منيع: 3/ 190، بني موسى: 3/ 23، 5/ 11، بني ميزاب: 1/ 175، 326، 2/ 333، 4/ 42، 408، 6/ 96، 171، 7/ 77، 231، 388، 389، 8/ 52، بني هلال: 2/ 206 6/ 292، 314، 7/ 336، 391، 399، 415، 8/ 126، بني واقنون: 3/ 103، 5/ 479، بني ورتلان: 7/ 102، بني وطاس: 4/ 451، بني وغليس: 3/ 186، 197، 201، 203، 5/ 125، 364، 365، 523، 7/ 152، 205، بني يحيى: 4/ 115، 118، بني يعلى: 3/ 237، بني يفرن: 7/ 369، البوازيد: 5/ 362، 599، 7/ 329، 334، 335، 8/ 75، 77، 78، 79، 211،

_ 212، 213، 214، 218، 219، 305، بودرار: 7/ 231، البوربون: 5/ 213، بورغية: 7/ 325، البيزنطيون: 1/ 189، (ت) تارقة: 7/ 320، 358، التبابعة: 7/ 326، التتار: 4/ 244، التحاتة: 1/ 504، التوارف (الطوارف): 2/ 345، 4/ 47، 48، 50، 93، 221، 222، 229، 233، 234، 235، 254، 255، 264، 273، 277، 279، 302، 304، 321، 5/ 303، 494، 6/ 37، 55، 134، 165، 167، 316، 390، 429، 435، 7/ 320، 391، 8/ 35، 37، 39، 320، 331، 476، تيهرت: 4/ 117، الثعالبة: 1/ 138، 140، 169، 212، 2/ 52، 345، ثمود: 7/ 191، (ج) الجبابرة: 5/ 421، الجبارة: 8/ 149، الجبالة: 8/ 19، 181، الجركس: 3/ 410، الجرمان: 6/ 326، الجعافرة: 7/ 25، الجنس الآري: 7/ 340، الجنويون: 1/ 178، الجيتول: 5/ 50، (ح) حام: 7/ 161، الحدج: 7/ 323، حدوشة: 4/ 157، الحرار: 4/ 114، 7/ 322، الحراكته: 7/ 320، الحرازلة: 8/ 317، الحسنية: 8/ 19، الحسنيون: 7/ 319، الحشم: 1/ 222، 4/ 114، 5/ 487، 7/ 202، 324، 326، الحفصيون: 1/ 18، 40، 43، 52، 67، 79، 92، 138، 169، 388، 463، 2/ 446، 4/ 275، الحماديون: 3/ 233، حميان: 4/ 89، 5/ 486، 488، 7/ 322، حمير: 7/ 321، 338، 340، 341، الحنانشة: 1/ 216، 217، 293، 412، 5/ 558، 7/ 337، 8/ 398، حنصالة: 4/ 86، الحياينة: 4/ 438،

_ (د) درقاوة: 1/ 220، 299، 418، 419، 2/ 316، 377، الدروز: 5/ 537، 6/ 101، الدنماركيون: 1/ 206، 2/ 314، الدوائر: 4/ 44، 115، 5/ 204، 331، 439، 6/ 161، 162، 200، 378، 7/ 194، 363، 365، 380، 381، 382، 383، 474، 8/ 155، 159، 314، 315، دوقة: 4/ 112، الديلم: 7/ 322، (ذ) الذواودة: 1/ 216، 217، 293، 412، 4/ 35، 148، 7/ 322، (ر) الربايع: 7/ 336، الروس: 3/ 410، 8/ 242، الروم: 1/ 200، 2/ 345، 380، 4/ 95، 6/ 296، 298، 7/ 32، 390، 414، 8/ 340، الرومان: 1/ 190، 3/ 181، 5/ 37، 407، 413، 6/ 11، 84، 93، 113، 125، 271، 272، 276، 296، 306، 309، 316، 317، 320، 7/ 193، 390، 410، 414، 8/ 378، 411، رياح: 7/ 323، (ز) الزحاولة: 8/ 271، الزرامة: 4/ 500، الزراينة: 7/ 322، الزعاطشة: 4/ 148، زغبة، 4/ 118، 7/ 322، الزقدو: 7/ 322، زكاوة: 8/ 51، الزمالة: 5/ 46، 204، 206، 255، 331، 368، 436، 439، 6/ 161، 200، 7/ 363، 365، 374، 380، 381، 382، 383، 8/ 152، 155، 159، 314، 315، زناتة: 7/ 320، 326، 327، الزناتيون: 7/ 324، 391، الزناخرة: 5/ 511، زناقة:: 8/ 31، 32، الزنوج: 1/ 156، 157، 175، 184، 4/ 223، 253، 284، 5/ 147، 440، 454، 511، 6/ 428، 7/ 394، 8/ 135، الزواغة: 5/ 150، 6/ 55، 7/ 108، الزواوة: 1/ 214، 509، 7/ 163، 172، 231، 322، 334، 341، 343، 351، 352، 399، 8/ 159، 174، 355،

_ 356، 362، 427، 454، الزوة: 4/ 108، الزيانيون: 1/ 18، 40، 43، 70، 72، 73، 79، 120، 138، 140، 169، 176، 188، 198، 211، 310، 354، 388، 423، 464، 465، 497، 2/ 232، 446، 3/ 371، 4/ 78، 104، 246، 5/ 109، 144، 6/ 47، 292، 7/ 319، 324، 373، 384، 415، 8/ 397، (س) السحاري: 3/ 218، 4/ 150، 7/ 322، السعديون: 1/ 138، 181، 377، سعيد عتبة: 4/ 324، سلاوة: 7/ 51، السلتيون: 6/ 326، سمعون: 3/ 186، السوافة: 4/ 219، 8/ 34، سويد (قبيلة): 1/ 138، 212، 2/ 315، (ش) الشاوية: 5/ 299، 454، 6/ 86، 309، 390، 7/ 244، 247، 320، الشعانبة: 3/ 172، 4/ 48، 51، 109، 111، 115، 232، 233، 413، 5/ 518، 6/ 36، 7/ 322، 336، 8/ 317، 331، الشلوح: 8/ 60، (صلى الله عليه وسلم) صبيح: 8/ 103، الصرب: 7/ 254، صنهاجة: 1/ 306، 5/ 283، 7/ 320، 326، 340، 341، 8/ 31، الصهاينة: 4/ 412، الصينيون: 3/ 181، (ط) طرود: 2/ 331، 332، 7/ 322، 335، 391، الطليان: 3/ 243، الطوارق = التوارق الطورانيون: 6/ 319، (ع) العبابسة: 1/ 441، العباسيون: 7/ 186، 336، العبيد: 3/ 211، العبيديون: 7/ 384، 415، العثمانيون: 1/ 17، 50، 134، 137، 138، 143، 149، 157، 160، 163، 169، 172، 175، 176، 181، 185، 187 - 189، 190، 191، 192، 194، 196 - 199، 201، 202، 204، 208، 210 - 212، 214، 216 - 218، 223، 224، 234، 235، 241، 251، 254، 255،

_ 274، 285، 287، 289، 290، 294، 297، 316، 320 - 322، 325، 328، 356، 366، 377، 382، 383، 388، 390، 391 - 394، 403، 404، 408، 412، 417، 419، 423، 433، 435، 436، 438، 445، 454، 459، 460، 462، 464 - 466، 468 - 470، 493، 494، 497 - 499، 510 - 514، 517، 520، 522، 2/ 53، 54، 64، 73، 85، 116، 127، 144، 163، 193، 292، 202، 213، 214، 228، 255، 257، 262، 264، 266، 282، 311، 313، 314، 315، 316، 317، 327، 335، 345، 346، 377، 380، 381، 382، 394، 442، 444، 3/ 6، 243، 4/ 13، 30، 34، 78، 97، 112، 118، 125، 193، 199، 203، 212، 259، 275، 297، 263، 313، 315، 380، العجم: 1/ 14، 139، 405، 466، 5/ 223، 8/ 124، عدوان: 2/ 331، 7/ 335، 391، العرب: 1/ 53، 180، 216، 217، 293، 346، 2/ 106، 222، 244، 324، 325، 335، 444، 3/ 90، 175، 181، 281، 283، 333، 337، 340، 365، 369، 376، 388، 405، 409، 416، 4/ 76، 95، 106، 142، 162، 186، 244، 288، 313، 359، 411، 459، 473، 493، 511، 514، 5/ 72، 77، 82، 83، 134، 141، 144، 146، 216، 218، 233، 238، 239، 243، 244، 245، 265، 277، 326، 328، 333، 341، 414، 426، 432، 435، 440، 441، 442، 443، 444، 449، 485، 500، 501، 502، 523، 524، 2 53، 540، 545، 546، 552، 555، 556، 562، 564، 613، 618، 6/ 25، 50، 87، 110، 117، 120، 124، 136، 162، 192، 194، 201، 206، 215، 219، 220، 221، 222، 235، 250، 252، 270، 271، 272، 275، 276، 287، 291، 302، 309، 311، 313، 314، 315، 318، 319، 321، 324، 326، 331، 333، 340، 385، 390، 401، 406، 407، 412، 418، 424، 428، 445، 446، 448، 449، 7/ 99، 119، 182، 183، 188، 195، 202، 218، 226، 231، 234، 235، 239، 240، 243، 244، 247، 257، 260، 261، 272، 321، 325، 326، 329، 338، 340، 341، 351، 360، 373، 379، 387، 399، 405، 420، 422، 431، 437، 450، 456، 474، 8/ 24، 28، 30، 37، 39، 40، 41، 52، 71، 108، 116، 123، 125، 141، 152، 163، 167، 169، 186، 201، 204، 241، 243، 254، 246، 305، 306، 311، 312، 315، 320، 334، 346،

_ 375، 380، 391، 392، 417، 418، 439، 443، 462، 475، عرش الشرفة: 4/ 15، عريب: 5/ 480، العزازلة: 6/ 390، العمامرة: 4/ 152، عمراوة: 3/ 190، 200، 5/ 479، 7/ 322، 8/ 328، العوفية: 5/ 214، 6/ 15، (غ) الغرابة: 8/ 152، غمارة: 4/ 66، الفاطميون: 7/ 384، 415، 8/ 219، فرجيوة: 1/ 417، 3/ 337، الفرس: 2/ 344، 345، 5/ 613، 6/ 319، 7/ 32، 8/ 123، فرطاسة: 1/ 221، الفرنسيون: 1/ 53، 71، 178، 2/ 39، 190، 274، 285، 312، 347، 3/ 6، 8، 9، 10، 18، 20، 21، 26، 28، 30، 32، 33، 34، 36، 37، 40، 42، 43، 44، 45، 49، 51، 52، 54، 58، 59 4 60، 62، 63، 64، 65، 66، 70، 74، 77، 80، 81، 85، 88، 90، 91، 94، 95، 102، 107، 108، 110، 113، 115، 116، 122، 126، 127، 132، 134، 148، 155، 159، 169، 172، 174، 176، 178، 181، 183، 184، 192، 194، 196، 212، 217، 218، 224، 225، 230، 331، 233، 237، 239، 240، 245، 254، 260، 271، 279، 281، 282، 286، 290، 291، 300، 303، 311، 312، 314، 315، 319، 320، 324، 327، 329، 333، 334، 335، 338، 340، 342، 344، 354، 355، 356، 357، 360، 362، 367، 369، 373، 374، 377، 382، 388، 392، 394، 395، 401، 402، 404، 405، 407، 409، 411، 412، 418، 419، 420، 423، 436، 437، 440، 441، 444، 445، 4/ 11، 14، 15، 22، 24، 28، 29 - 32، 34 - 37، 39، 44، 45، 47، 48، 49، 51، 52 - 55، 57، 59، 61، 63، 72، 74 - 76، 78، 79، 81، 83، 86، 89، 92، 93، 94، 97، 100 - 102، 105، 106، 108، 112، 115، 118، 121، 122، 124، 125، 129، 137، 142، 144، 148، 152، 160، 162، 164، 168، 169، 171، 172، 173، 182، 183، 194، 195، 196، 197، 199، 200 - 205، 207، 211، 213، 214، 215، 217، 218، 220، 224، 226، 227، 230، 233 234، 236، 237، 248، 251، 254

_ 262، 264، 265، 267، 268 - 273، 277، 281، 286، 287، 288، 289، 291، 299، 300، 302، 304، 306، 307، 309، 310، 311، 312، 316، 319، 320، 325، 326، 329، 331، 339، 341، 345، 346، 347، 350، 351، 353، 354، 356، 358، 359، 365، 369، 371، 372، 378، 381، 388، 400، 411، 412، 420، 421، 426، 428، 439، 441، 442، 449، 454، 460، 465، 468، 479، 482، 494، 503، 517، 518، 530، 5/ 10، 13، 17، 18، 47، 49، 53، 55، 56، 58، 59، 68، 71، 72، 73، 74، 77، 78، 80، 84، 89، 102، 107، 108، 109، 113، 114، 118، 120، 122، 123، 124، 126، 127، 129، 130، 131، 133، 136، 138، 141، 142، 143، 154، 156، 157، 163، 166، 172، 179، 186، 192، 199، 206، 213، 224، 228، 230، 241، 242، 259، 300، 302، 303، 305، 308، 325، 326، 328، 329، 331، 332، 340، 343، 354، 357، 358، 370، 374، 387، 393، 396، 402، 407، 408، 410، 412، 417، 419، 438، 448، 471، 477، 480، 482، 483، 494، 501، 502، 506، 510، 512، 513، 514، 526، 527، 529، 530، 546، 548، 553، 554، 556، 564، 567، 570، 572، 603، 611، 613، 6/ 9، 10، 15، 24، 25، 41، 77، 122، 125، 129، 136، 143، 146، 148، 150، 151، 154، 155، 161، 162، 165، 173، 181، 190، 191، 197، 198، 200، 203، 207، 210، 224، 236، 240، 241، 243، 260، 262، 271، 273، 276، 291، 293، 296، 298، 301، 303، 311، 315، 323، 327، 333، 345، 356، 359، 360، 363، 366، 367، 379، 382، 396، 430، 448، 7/ 7، 37، 56، 70، 72، 79، 89، 97، 105، 114، 115، 129، 150، 164، 169، 181، 188، 192، 194، 195، 200، 224، 227، 229، 230، 233، 242، 244، 253، 256، 267، 275، 278، 284، 294، 307، 318، 320، 323، 330، 337، 342، 352، 354، 357، 364، 365، 367، 368، 371، 375، 376، 378، 381، 384، 386، 388، 400، 404، 410، 430، 438، 439، 455، 457، 461، 464، 474، 477، 8/ 10، 13، 14، 18، 37، 40، 43، 51، 59، 76، 105، 111، 128، 129، 157، 170، 171، 175، 176، 180، 193، 200، 206، 216، 242، 246، 248، 249، 263، 274، 276، 280، 283، 288، 289،

_ 290، 297، 307، 311، 312، 320، 321، 322، 324، 330، 335، 337، 338، 345، 353، 346، 358، 360، 361، 365، 375، 385، 392، 394، 395، 399، 405، 409، 413، 426، 431، 441، 432، 444، 445، 447، 456، فليتة: 4/ 246، 268، 5/ 486، 488، 7/ 366، فليسة: 1/ 214، 3/ 211، 7/ 322، الفوتا: 4/ 228، الفولان: 7/ 387، الفينيقيون: 5/ 296، 7/ 171، 410، 414، (ق) القبائل: 3/ 342، 4/ 455، قبائل الشرفة: 7/ 328، القحطانيون: 7/ 323، 338، القرطاجنيون: 6/ 317، القرمنليون: 4/ 122، قريش: 7/ 32، 177، 319، 326، 8/ 25، 29، 123، قشطولة: 1/ 506، القولوا (الغولوا): 6/ 294، 319، (ك) كتامة: 7/ 320، 326، 340، 341، الكراغلة: 5/ 101، 368، 374، 416، 502، كنته: 4/ 277، 280، 7/ 116، 122، الكنعانيون: 7/ 390، (ل) اللفيف الأجنبي: 6/ 274، لمطة: 7/ 320، (م) المازيغية: 7/ 338، المالطيون: 1/ 178، مجاهر: 4/ 255، 267، 269، المحاشة: 4/ 152، مدغرة:: 4/ 79، 117، مزاية: 5/ 364، المزيلة: 8/ 346، المشارف: 5/ 487، 7/ 59، 325، 407، 8/ 131، المصاعبة: 6/ 390، المصامدة: 3/ 265، المعاتقة: 3/ 211، 4/ 146، المعاقل: 7/ 323، مغراوة: 7/ 325، 369، 373، 385، المقرانيون: 4/ 34،

_ الموحدون: 1/ 48، 50، 51، 123، 134، 396، 3/ 265، 4/ 65، 66، 6/ 84، 292، 7/ 175، 219، 384، 8/ 51، (ن) الناظر: 7/ 322، النزليوة: 3/ 211، 7/ 322، النصارى: 1/ 42، 119، 147، 171، 179، 184، 203، 205، 244، 421، 428، 445، 446، 448، 450، 453، 487، 2/ 46، 81، 194، 262، 430، 3/ 284، 4/ 79، 86، 108، 129، 365، 406، 427، 480، 5/ 33، 140، 223، 411، 6/ 119، 138، 163، 363، 7/ 85، 142، 231، 253، 362، 8/ 172، 269، 315، 325، 328، 336، 345، النمامشة: 7/ 211، النورديك: 6/ 310، (هـ) الهبرة: 4/ 118، الهزج: 4/ 502، 7/ 99، الهمامة: 4/ 183، الهنود: 3/ 181، 4/ 7، 408، الهنود الحمر: 6/ 290، هوارة: 7/ 320، الهوسة: 8/ 32، الهولنديون: 3/ 327، 6/ 448، (و) الوطاسيون: 1/ 138، 377، 424، 4/ 451، ولاته: 6/ 235، ولهاصة: 7/ 50، 8/ 234، الوندال: 6/ 310، 7/ 390، 414، (ي) يافث: 7/ 161، يزناسن: 8/ 51، يلولا: 3/ 184، 187. اليهود: 1/ 15 - 17، 53 - 54، 69، 71، 97، 119، 134، 151، 152، 154، 161، 170، 172، 175، 184، 205، 243، 244، 329، 445 - 448، 2/ 69، 81، 262، 263، 338، 339، 3/ 42، 82، 284، 291، 294، 299، 329، 452، 4/ 365، 411، 412، 417، 418، 426، 457، 472، 480، 5/ 46، 157، 216، 219، 220، 284، 321، 413، 414، 443، 449، 452، 466، 480، 6/ 10، 16، 56، 92، 136، 137، 145، 147، 153، 155، 167، 301، 302، 329، 370، 374، 391، 392، 393، 394، 395، 396، 397، 398، 399، 400، 401، 402، 403، 406، 407، 411، 415، 419، 435، 436، 7/ 92، 218، 231، 359، 379، 393، 400، 439، 8/ 337، 338، 343، 355، 356، 407، 426، اليونان: 5/ 613،

فهرس المذاهب والطرق الصوفية والمصطلحات

5 - فهرس المذاهب والطرق الصوفية والمصطلحات

_ (أ) الآباء البيض: 3/ 49، 210، 342، 347، 354، 363، 418، 422، 438، 446، 4/ 116، 131، 5/ 125، 264، 606، 607، 6/ 8، 126، 128، 131، 133، 134، 136، 137، 140، 256، 258، 321، 322، 325، 431، 335، 343، 374، 429، 7/ 169، 237، 323، 8/ 28، 41، 56، 174، 322، 360، 368، 371، 473، الآرية: 7/ 308، الإباحية (العلمانية؟): 5/ 504، الإباضية (والإباضيون): 1/ 394، 2/ 65، 76، 3/ 135، 268، 270، 271، 390، 4/ 42، 5/ 294، 7/ 88، 388، 389، الإخوان: 4/ 11، 15، 17، 18، 20، 21، 22، 24، 27، 29، 46، 52، 71، 73، 75، 80، 85، 89، 90، 96، 110، 115، 117، 120، 126، 149، 152، 153، 167، 168، 169، 174، 175، 176 - 180، 240، 262، 271، 275، 285، 5/ 124، 145، 6/ 140، 7/ 131، 462، الإمبريالية: 6/ 451، الإنسية: 6/ 408، الإنكشارية: 5/ 17، 23، 85، 89، 156، 344، 403، 501، الأجواد: 5/ 14، 35، الأحمدية: 4/ 70، 88، أخوات بوسيكور (الإغاثة): 5/ 149، الأخوات البيض: 3/ 210، 438، 442، 445، 446، 6/ 8، 126، 131، 133، 7/ 169، 8/ 368، أخوات القديس يوسف: 5/ 40، أخوات المذهب المسيحي: 8/ 401، أخوة المذهب المسيحي: 5/ 47، الأدارسة: 3/ 237، الأشاعرة: 7/ 154، الأشراف: 1/ 241، 242، 322، 399، 419، 470، 471، 479، 3/ 39، 128،

_ 133، 181، 184، 193، 195، 211، 213، 220، 233، 234، 237، 241، 4/ 10، 11، 14، 35، 36 - 40، 79، 84، 88، 93، 102، 104، 160، 196، 219، 245، 246، 351، 391، 416، 451، 492، 493، 523، 5/ 7، 110، 115، 153، 157، 176، 208، 513، 540، 568، 598، 599، 6/ 205، 306، 308، 313، 336، 7/ 41، 74، 89، 100، 139، 169، 214، 251، 301، 310، 314، 315، 318، 319، 324، 327، 328، 329، 330، 331، 332، 333، 335، 338، 366، 393، 421، 445، 447، 8/ 74، 75، 77، 79، 104، 106، 118، 119، 125، 195، 209، 211، 210، 212، 214، 215، 216، 217، 219، 235، 264، 290، 311، 319، 339، الاشعرية: 2/ 100، الأعلاج: 5/ 193، الأفلاطونية الجديدة: 4/ 25، الأقنوستوكية: 4/ 25، الأليقاركية: 4/ 239، الاندجينا: 3/ 35، 243، 244، 257، 4/ 184، 214، 458، 464، 470، 5/ 313، 473، 580، 589، 603، 608، 6/ 225، 232، 270، 276، 369، 405، 418، 7/ 90، 95، 212، 366، 405، أهل السنة: 5/ 98، اتحادية النواب: 4/ 329، اتفاق سايكس - بيكو: 4/ 411، الاجتهاد: 5/ 48، 49، 51، 52، الاشتراكية: 5/ 498، 6/ 105، 107، 419، 437 - 453، الاشكينازي، 6/ 395، الانكشارية: 7/ 201، (ب) البابوية: 1/ 198، 4/ 309، 365، 5/ 38، 6/ 121، برنامج طرابلس: 6/ 453، البروتيستانتية: 4/ 417، 6/ 110، البكائية: 4/ 70، 94، 195، 277، 278، 279، 302، البكداشية: 1/ 185، 187، 189، 191، 192، 289، 387، 413، 459، 493، 498، 4/ 25، 282، البكرية: 4/ 70، 103، البوزيدية: 4/ 303، البوسنية: 4/ 41، البوعبدلية: 4/ 116، البوعلية: 4/ 274، 5/ 506، البيان الجزائري: 8/ 26، التجانية: 1/ 188، 224، 268، 273، 318، 400، 468، 492، 507، 509، 511،

_ 513، 515، 2/ 148، 346، 3/ 81، 112، 113، 121، 124، 198، 224، 225، 227، 229، 4/ 7، 16، 19، 23، 25، 28، 30، 32، 44، 50، 51، 53، 55، 56، 59، 77، 92، 93، 94، 99، 103، 120، 180، 181، 183، 187، 191، 248، 249، 250، 259، 262، 279، 280، 284، 288، 293، 302، 306، 308، 309، 310، 312، 314، 315، 319، 321، 323، 328، 332، 335، 339، 340، 351، 369، 380، 451، 463، 483، 499، 500، 504، 505، 513، 5/ 97، 149، 150، 177، 280، 360، 454، 485، 506، 582، 588، 6/ 39، 67، 68، 102، 302، 303، 389، 429، 7/ 75، 113، 123، 124، 125، 126، 137، 138، 140، 180، 356، 381، 391، 392، 395، 409، 412، 446، 463، 468، 8/ 37، 160، 227، 237، 348، 453، الترابست (الطرابست/ جمعية): 6/ 109، 134، تركيا الفتاة: 7/ 471، 472، التوديم 112/ 6، 354، 353/ 4: Tedem، التوفيقية: 3/ 93، التيوقراطية: 4/ 58، (ج) الجامعة الإسلامية: 3/ 94، 269، 280، 4/ 25، 54، 58، 84، 95، 122، 124، 125، 127، 173، 182، 226، 258، 263، 271، 297، 299، 303، 313، 327، الجبرية: 1/ 97، الجزولية: 4/ 69، الجزويت: 3/ 210، 342، 6/ 105، 107، 109، 116، 117، 118، 120، 122، 123، 132، 326، جمعية أصدقاء فرنسا: 4/ 133، الجمعية البيبلية: 8/ 37، جمعية حقوق الإنسان: 3/ 246، الجمعية الصديقية الخيرية: 3/ 241، جمعية الصفاء: 3/ 261، جون تورك: 4/ 243، (ح) الحبيبية: 4/ 70، 192، 292، 299، الحفنية: 4/ 69، 70، الحنصالية: 1/ 188، 491، 517 - 519، 3/ 33، 133، 171، 4/ 61، 70، 86، 87، 95، 293، 295، 306، 483، 485، 5/ 149، 360، 506، 6/ 180، 346،: 7/ 347، 411، 8/ 453، (خ) الختمية: 4/ 288،

_ الخضرية: 4/ 16، 250، 251، 272، 282، 5/ 521، الخلوتية: 1/ 507، 510، 525، 3/ 186، 229، 4/ 120، 172، 174، 176، 181، 192، 193، 309، 5/ 506، 7/ 65، 127، 130، 131، 133، 444، الخوارج: 4/ 42، 7/ 389، الدردورية: 4/ 299، الدرقاوية: 1/ 188، 220، 221، 260، 273، 320، 512، 515 - 517، 525، 2/ 127، 128، 148، 379، 381، 3/ 229، 4/ 25، 28، 30، 31، 32، 45، 67، 70، 71، 75، 81، 92، 112، 118، 119، 120، 121، 122، 123، 124، 126، 130، 131، 134، 137، 138، 141، 154، 157، 158، 193، 196، 197، 200، 212، 228، 250، 262، 267، 268، 293، 297، 304، 306، 315، 319، 328، 485، 513، 5/ 504، 506، 508، 527، 530، 560، 571، 6/ 70، 224، 303، 7/ 63، 66، 100، 113، 135، 139، 155، 366، 372، 449، 8/ 160، الدلائية: 1/ 371، 440، الدنوش: 5/ 441، الدورخايمية: 6/ 96، الدوناتية: 8/ 182، الديموقراطية: 8/ 383، الرأسمالية: 7/ 272، الراشدية: 4/ 298، 7/ 324، 327، الرحبية: 7/ 289، الرحمانية: 1/ 188، 221، 223، 268، 273، 308، 491، 493، 494، 506، 508، 509، 513، 518، 519، 2/ 37، 74، 147، 148، 3/ 31، 43، 89، 112، 129، 134، 157، 161، 164، 172، 180، 186، 192، 193، 199، 200، 212، 215، 216، 217، 229، 233، 234، 236، 264، 4/ 7، 16، 19، 21، 24، 28، 31، 34، 39، 41، 45، 50، 52، 70، 116، 132، 164، 167، 139 - 188، 217، 228، 250، 281، 284، 288، 292، 293، 305، 306، 319، 323، 327، 328، 443، 505، 520، 523، 5/ 82، 71، 124، 125، 135، 149، 360، 400، 475، 477، 484، 506، 509، 510، 524، 559، 575، 597، 6/ 107، 303، 341، 269، 380، 381، 383، 384، 408، 442، 447، 7/ 24، 35، 45، 47، 60، 63، 65، 113، 126، 129، 131، 133، 145، 149، 155، 205،

_ 258، 285، 331، 336، 392، 392، 402، 411، 428، 447، 448، 8/ 75، 77، 216، 235، 326، الرشيدية: 3/ 93، 7/ 257، الرفاعية: 5/ 509، 513، 8/ 119، 290، الرومانتيكية: 3/ 443، 5/ 410، 8/ 67، 73، 295، 298، 361، 374، 378، 383، (ز) الزروقية: 1/ 266، 501، 523، 4/ 77، 78، 90، 7/ 148، الزمالة: 5/ 385، الزيانية: 1/ 188، 492، 504، 525، 2/ 127، 148، 363، 4/ 16، 70، 80، 88، 90، 91، 92، 211، 237، 442، 248، 250، 288، 296، 297، 7/ 447، (س) السادة الوفائية: 2/ 217، 218، 4/ 69، السامية، 5/ 216، السانسيمونية: 4/ 30 6/ 5، 2 105، 269، 408، 437 - 452، السحنونية: 3/ 198، 200، 201، 271، السلامية: 4/ 299، 337، 5/ 506، السلف: 5/ 126، السلفية: 4/ 258، 265، 266، 5/ 503، 7/ 43، 173، السنوسية: 3/ 172، 231، 4/ 16، 25، 28، 30، 43، 50، 56، 106، 121، 122، 124، 125، 158، 172، 181، 187، 221، 222، 226، 231، 235، 237، 242، 244، 266، 282، 296، 302، 304، 309، 320، 325، 327، 404، 505، 5/ 177، 472، 474، 483، 494، 495، 506، 510، 511، 519، 6/ 164، 7/ 43، 51، 57، 113، 125، 126، 366، 461، 8/ 233، 320، 423، 424، 425، السهروردية: 4/ 281، السهيلية: 4/ 69، سيدات بون باستور: 5/ 87، (ش) الشابية: 1/ 188، 471، 483، 484، 486، 493، 525، 2/ 332، 4/ 28، 274، 275، 276، 277، 296، 298، 5/ 98، 506، 7/ 337، 391، 8/ 398، الشاذلية: 1/ 187، 188، 192، 461، 462، 464، 465، 479، 492، 493، 495 - 499، 501، 504، 505، 506، 508، 513، 515، 517، 523، 2/ 16، 34، 50، 55، 127، 363، 394، 3/ 31، 82، 112، 184، 229، 4/ 28، 32، 59، 64، 67، 68، 69، 70، 71،

_ 73، 74، 75، 76، 77، 80، 81، 84، 86، 88، 90، 93، 94، 95، 103، 104، 108، 109، 112، 113، 114، 115، 117، 118، 119، 122، 123، 124، 126، 132، 139، 149، 172، 175، 176، 192، 196، 197، 228، 242، 250، 257، 262، 274، 281، 282، 293، 297، 304، 322، 380، 485، 513، 5/ 485، 503، 504، 506، 527، 7/ 23، 66، 67، 73، 75، 113، 116، 135، 137، 141، 142، 151، 155، 199، 366، 469، 8/ 160، 161، 233، 52، 171، الشبان الأتراك: 3/ 99، الشبان التونسيون: 7/ 309، الشيخية: 4/ 21، 45، 70، 92، 103 - 112، 187، 197، 200، 236، 268، 282، 298، 302، 319، 321، 6/ 68، 7/ 393، 461، الشيوعية: 4/ 138، 332، 6/ 256، 266، 413، 452، 7/ 213، 8/ 186، 187، (صلى الله عليه وسلم) الصبايحية: 5/ 44، 281، الصفرديون: 6/ 401، الصليب الأحمر: 5/ 208، الصهيونية: 5/ 257، 281، 498، 503، 508، 562، 6/ 269، 398، 403، 404، 405، 406، 407، 419، 422، 428، 436، 7/ 472، 8/ 298، (ض) ضربة المروحة: 8/ 178، (ط) الطكوكية: 4/ 244، 266 - 274، الطورانية: 5/ 562، 6/ 424، الطيبية: 1/ 188، 270، 320، 510، 512، 515 - 517، 525، 3/ 229، 4/ 16، 23، 25، 28، 30، 45، 52، 70، 86، 92، 94 - 103، 106، 107، 111، 113، 114، 116، 118، 132، 187، 192، 211، 237، 242، 272، 287، 291، 295، 302، 309، 312، 315، 320، 321، 326، 328، 368، 369، 5/ 360، 472، 506، 6/ 68، 363، 378، 7/ 126، 338، 381، 393، 8/ 160، 271، (ظ) الظهير البربري: 6/ 136، 136، 8/ 298، (ع) العروسية: 4/ 70، 299،

_ العزابة: 3/ 47، 62، 266، 267، 271، 7/ 77، العزوزية: 3/ 164، 4/ 146، 151، 152، 499، 5/ 176، 376، 380، 400، 597، العكازين (طائفة): 2/ 134، العلمانية: 4/ 532، 7/ 471، 472، العلوية: 4/ 28، 112، 126، 304، 5/ 260، 272، 311، 360، 503، 6/ 303، 7/ 23، 63، 81، 135، 144، 274، 8/ 223، العمارية: 3/ 171، 172، 4/ 48، 60، 63، 296، 300، 399، 5/ 360، العمامية: 4/ 107، العويسية: 4/ 282، العيساوية: 3/ 171، 172، 4/ 24، 28، 52، 61، 69، 70، 81، 82، 83، 84، 85، 95، 117، 131، 133، 134، 275، 291، 293، 295، 300، 306، 339، 5/ 149، 360، 506، 7/ 42، 138، 8/ 342، 343، 344، 453، (غ) الغازية: 4/ 69، الفاشية: 7/ 217، الفاطمية: 4/ 340، الفرنكوفونية: 5/ 422، 6/ 226. (ق) القادرية: 1/ 97، 102، 103، 105، 187 - 189، 192، 220، 223، 224، 268، 271، 273، 287، 289، 460، 462، 492، 494، 498، 499، 515، 525، 2/ 116، 148، 3/ 198، 234، 235، 4/ 16، 19، 23، 24، 28، 30، 31، 32، 33، 42 - 60، 62، 63، 64، 77، 94، 99، 103، 104، 116، 141، 157، 181، 187، 192، 193، 195، 211، 228، 232، 236، 250، 251، 259، 268، 274، 278، 279، 280، 291، 293، 294، 302، 319، 321، 336، 499، 504، 505، 5/ 97، 177، 360، 395، 454، 472، 506، 511، 512، 513، 553، 564، 565، 566، 569، 6/ 39، 64، 67، 68، 102، 224، 235، 302، 303، 387، 389، 390، 7/ 73، 113، 115، 146، 147، 323، 455، 463، 8/ 96، 146، 160، 208، 233، 289، 347، 453، قانون الأهالى = الاندجينا، قرار رينيه: 3/ 256، 257، قرار ميشيل: 3/ 240، 256، 6/ 210،

_ (ك) الكاتيدرالية: 4/ 388، الكاثوليكية: 4/ 417، 6/ 115، 122، 384، الكراغلة: 7/ 381، الكرزازية: 1/ 505، 4/ 70، 88، 89، 211، 237، 242، 248، 250، 298، 365، الكركوز: 5/ 410، 418، 419، 8/ 134، الكرنتينة: 7/ 254، 255، الكليرجي: 4/ 357، 6/ 132، الكولون: 6/ 275، كومون باريس: 6/ 187، (ل) اللائكية: 3/ 425، 5/ 39، 6/ 106، 418، 419، 7/ 91، لعبة البوقالة: 8/ 131، الليبرالية: 4/ 238، 239، 5/ 39، 60، 72، 6/ 106، 107، 408، 446، 7/ 272، (م) الماتريدية: 2/ 100، 7/ 154، الماركسية: 7/ 272، المارونيون: 5/ 611، الماسونية: 3/ 197، 228، 246، 428، 4/ 129، 313، 325، 5/ 504، 544، 523، 6/ 91، 107، 226، 229، 250، 270، 403، 404 407 - 428، 429، 7/ 91، 159، 267، 273، 8/ 96، محفل الاتحاد الافريقي: 6/ 420، محفل الاسكندرية: 6/ 422، محفل بيليزير: 6/ 409، 410، 411، 412، 413، 415، 419، 420، محفل التجديد الافريقي: 6/ 415، محفل دبلن: 6/ 414، محفل سيرتا: 6/ 417، محفل سيرنوس: 6/ 410، محفل الشرق: 6/ 407، 410، 412، 413، 414، 423، محفل الشرق الماسوني: 5/ 544، محفل قرطاجنة: 6/ 413، محفل لندن: 6/ 414، المخازنية: 7/ 381، المختارية: 4/ 279، المخزن: 5/ 488، (مدرسة الجزائر): 6/ 7، 26، 31، 34، المدقانات: 3/ 172، 5/ 518، 6/ 74، 7/ 383، 8/ 331، المدنية: 4/ 262، 7/ 75، 135، المدينية (نسبة إلى أبي مدين): 4/ 64، المرابطون: 1/ 16، 17، 43، 45، 48، 157، 186، 188، 190، 191، 210، 211، 215، 219، 221، 222، 227.

_ 228، 273، 277، 318، 324، 377، 397، 400، 408، 444، 459، 460، 461 - 464، 466 - 468 - 470 - 472، 479، 482، 486، 488، 489، 490، 494، 499، 503 - 513، 522، 2/ 61، 116، 123، 206، 265، 333، 394، 396، 3/ 29، 33، 48، 60، 76، 115، 116، 129، 171 - 174، 180، 181، 183، 184، 187، 190، 191، 196، 216، 287، 323، 4/ 13، 14، 15، 20، 26، 27، 34، 35، 36، 38، 72، 86، 105، 120، 144، 155، 158، 183، 196، 197، 199، 213، 219، 284، 287، 305، 306، 326، 325، 329، 341، 351، 358، 367، 424، 426، 437، 439، 456، 476، 523، 5/ 45، 50، 57، 108، 109، 113، 126، 151، 176، 177، 178، 237، 334، 453، 488، 507، 588، 6/ 48، 68، 131، 139، 209، 292، 297، 306، 313، 390، 7/ 54، 69، 89، 180، 239، 242، 246، 250، 251، 252، 258، 301، 316، 318، 324، 381، 384، 433، 461، 472، 478، 8/ 104، 107، 112، 113، 115، 118، 119، 125، 177، 160، 325، 402، المزدكية: 4/ 25، مسألة الغرانيق: 5/ 136، 137، المسيحية (لم تفهرس)، المشيشية: 4/ 64، المصالية: 5/ 299، المعتزلة: 2/ 92، 100، 101، 102، 135، 137، 7/ 161، المكاحلية: 4/ 280، 298، مملكة جويلية: 6/ 275، 384، المملكة العربية: 6/ 274، منشور ميشيل = قرار المهدوية: 7/ 124، 175، (المهمة الحضارية): 6/ 275، الموحدية: 4/ 340، المولوية: 1/ 186، 187، 191، 289، 387، 460، 4/ 59، 7/ 116، ميثاق الجزائر: 6/ 453، الميرغنية: 4/ 251، 264، 282، الميكيافيللية: 4/ 327، 6/ 290، 328، (ن) النازية: 3/ 436، 7/ 217، الناصرية: 1/ 510، 3/ 218، 4/ 70، 95، 192، 275، 276، 281، 296، 315، النصرانية: 4/ 418، 5/ 83، 6/ 159، 121، 123، 7/ 229، النقشبندية: 1/ 187، 460، 493، 495، 2/ 55، 4/ 250، 282، 7/ 116، 118، النهضة الجديدة: 8/ 141،

_ النيرفانة: 4/ 19، (هـ) الهبرية: 4/ 112، 117 - 122، 297، (و) الواقعية: 5/ 410، الوزانية: 3/ 229، وعد بلفور: 6/ 407، الوهابية: 1/ 20، 508، 513، 2/ 101، 231، 377، 381، 4/ 251، 263، 265، 333، 342، 5/ 254، 485، 6/ 325، 326، 7/ 134، الوهابيون: 4/ 195، الوهبية: 4/ 263، (ي) اليسوعيون: 5/ 611، اليهودية: 4/ 418، 6/ 110، 391، 396، 428، 429، 435، 436، 8/ 340، اليوسفية: 1/ 465، 492، 4/ 69، 77، 79، 80، 298، 398،

فهرس الأحزاب والجمعيات والمؤتمرات

6 - فهرس الأحزاب والجمعيات والمؤتمرات

_ (أ) الاتحاد الإسرائيلي العالمي: 6/ 402، اتحاد الزوايا: 5/ 261، 262، الاتحاد العربي: 5/ 539، الاتحاد الفرنسي - الأهلي: 7/ 274، الاتحاد المغربي: 5/ 603، اتحادية النواب: 5/ 266، أحباب البيان: 5/ 256، الأخوان المسلمون: 3/ 258، 5/ 498، 602، 618، 8/ 300، (ب) البعثة المغربية العلمية: 8/ 33، (ت) التجمع الفرنسي - الإسلامي: 7/ 266، 274، تركيا الفتاة: 5/ 485، 504، 505، 553، (ج) الجامعة الإسلامية: 5/ 238، 278، 284، 472، 474، 477، 479، 483، 492، 498، 504، 505، 507، 508، 509، 513، 514 - 520، 541، 542، 555، 561، 562، 563، 566، 580، 584، 588، 603، 6/ 75، 366، 426، 7/ 79، 158، 166، 437، 455، 8/ 40، 118، 214، 215، 250، 270، جامعة الدول العربية: 5/ 300، 601، 602، 613، 618، جامعة الزوايا: 8/ 271، 272، جامعة الصحافة الإسلامية: 5/ 279، الجامعة العربية: 6/ 245، 7/ 419، 8/ 198، الجامحة اليسوعية: 6/ 131، جبهة التحرير الوطني: 7/ 218، 419، 8/ 116، جبهة الدفاع عن إفريقية الشمالية: 5/ 300، 568، 602، جبهة الدفاع عن الحرية: 8/ 116، الجبهة الشعبية: 7/ 217، جماعة الأخوة المسلحين في الصحراء: 6/ 133،

_ جماعة التعاون الإسلامي: 5/ 279، 281، جمعية الآباء البيض: 6/ 130، 131، الجمعية الآسيوية: 5/ 339، 6/ 9، 71، 90، 99، 116، 8/ 52، 55، جمعية الإخاء العربي: 8/ 81، جمعية الإخاء العلمي: 8/ 81، جمعية إفريقية الفرنسية: 5/ 237، الجمعية الأثرية لسطيف: 6/ 97، الجمعية الأثرية لسوق أهراس: 6/ 97، الجمعية الأثرية لقسنطينة: 6/ 8، 21، 39، 63، 64، 65، 79، 91، 92، 94، جمعية الأخوات البيض: 6/ 130، جمعية أخوات سان فانسان دي بول: 6/ 126، جمعية أخوة آقبو: 8/ 297، جمعية الأخوة الجزائرية - التونسية: 5/ 602، جمعية أخوة المدارس المسيحية: 6/ 116، جمعية أصدقاء تلمسان: 6/ 97، جمعية أهل الزقم: 5/ 299، جمعية الاتحاد والترقي: 4/ 126، 135، 5/ 385، 504، 553، 562، 610، 617، 618، 6/ 424، 7/ 455، 471، الجمعية الاستعمارية والقارية: 5/ 354، جمعية البحوث البترولية: 6/ 101، جمعية التاريخ الطبيعي: 6/ 97، الجمعية التاريخيه الجزائرية: 6/ 46، 63، 68، 70، 76، 77، 79، 94، 95، 104، 148، 228، 261، 262، جمعية تركيا الفتاة = تركيا الفتاة، جمعية توحيد الأديان الثلاثة: 6/ 436، جمعية الجالية الجزائرية: 5/ 300، 568، الجمعية الجزائرية: 5/ 316، الجمعية الجغرافية: 7/ 110، الجمعية الجغرافية - مدينة الجزائر: 6/ 97، 104، 163، 262، الجمعية الجغرافية - وهران: 6/ 79، 97، 104، 7/ 449، الجمعية الجغرافية الفرنسية (باريس): 4/ 264، 6/ 68، 91، 99، 165، 228، جمعية حقوق الإنسان: 7/ 273، جمعية الحياة: 8/ 271، جمعية حياة الشباب: 7/ 413، الجمعية الخيرية الإسلامية: 5/ 7، 182، 201، 202، 207، 299، 503، 517، 518، 7/ 474، جمعية الدراسات التاريخية - فرنسا: 6/ 64، جمعية الدراسات السياسية والاجتماعية: 4/ 536، 6/ 229، الجمعية الدينية: 4/ 418، 5/ 314، جمعية دينية سرية: 6/ 165، جمعية الرحمة: 5/ 116، جمعية السلام: 3/ 249، جمعية الشبان المسلمين: 5/ 500، 601، 8/ 109، جمعية الشرفاء: 5/ 603، الجمعية الشرقية: 6/ 51، 90، 91،

_ جمعية الطلبة الجزائريين الزيتونيين: 5/ 274، جمعية الطلبة المسلمين/ المغرب العربي: 8/ 136، جمعية الطلبة المسلمين لشمال افريقية: 7/ 309، جمعية العروة الوثقى: 5/ 508، 316، 542، 543، 584، جمعية علماء السنة: 3/ 101، 4/ 128، 331، 332، 5/ 261، 390، 497، 7/ 26، 282، جمعية العلماء المسلمين الجزائريين: 1/ 13، 3/ 101، 123، 170، 180، 198، 199، 201، 216، 223، 227، 250، 252، 255، 256، 258، 263، 298، 323، 451، 4/ 55، 128، 130، 138، 321، 329، 330، 338، 341، 348، 383، 384، 398، 420، 506، 537، 5/ 207، 208، 253، 256، 258، 259، 260، 261، 264، 271، 274، 292، 293، 299، 310، 312، 316، 319، 320، 427، 467، 497، 498، 491، 595، 601، 614، 615، 6/ 136، 140، 256، 325، 326، 334، 335، 340، 355، 372، 375، 376، 436، 7/ 24، 25، 26، 28، 94، 177، 180، 181، 216، 219، 282، 411، 412، 412، 413، 418، 420، 442، 8/ 25، 27، 28، 70، 81، 89، 108، 217، 229، 246، 251، 267، 297، 302، 416، 451، الجمعية العلمية السورية: 5/ 612، جمعية العلوم الفيزيائية: 6/ 101، الجمعية الفرنسية للفيزياء: 6/ 97، جمعية قدماء المحاربين: 3/ 257، جمعية الكتاب الفرنسيين: 8/ 182، جمعية الكتاب: 8/ 440، جمعية المتجنسين: 6/ 377، جمعية المستشرقين: 8/ 36، جمعية المناخ: 7/ 290، الجمعية المناخية الفرنسية للتأقلم: 7/ 294. جمعية المؤلفين الفرنسيين: 8/ 474، جمعية نساء الرحمة: 5/ 196، الجمعية الودادية لرجال الديانة الإسلامية: 5/ 275. (ح) حركة انتصار الحريات الديمقراطية: 5/ 271، 601. الحزب الاجتماعي: 6/ 419، الحزب الاشتراكي: 6/ 372، حزب البيان: 5/ 270، 299، 7/ 219، الحزب الدستوري التونسي: 3/ 274،

_ حزب الشعب الجزائري: 3/ 223، 4/ 185، 385، 5/ 251، 265، 268، 269، 271، 299، 318، 500، 601، 6/ 265، 266، 335، 453، 7/ 211، 219، 266، 271، 8/ 26، 117، 302، 305، الحزب الشعبي: 6/ 401، الحزب الشيوعي الجزائري: 5/ 270، الحزب الشيوعي الفرنسي: 5/ 267، 268، 6/ 372، 411، 452، 7/ 217، الحزب الفاشيستي: 6/ 372، حزب اللامركزية: 5/ 385، 500، 523، 6/ 424، الحزب الوطني المصري: 5/ 277، 580، (ش) الشباب التونسي: 5/ 291، شباب الموحدين: 5/ 272، (ط) الطرابست (منظمة مسيحية): 5/ 67، طلبة شمال افريقية: 7/ 215، (ع) عصبة الأمم: 7/ 399، (ف) فرقة البر والإحسان: 6/ 111، فيدرالية الجمعيات العلمية لشمال افريقية: 6/ 98، (ك) الكشافة الإسلامية: 5/ 276، 8/ 451، كشافة الرجاء: 5/ 319، 427، 8/ 141، كشافة الصباح: 5/ 319، كشافة نادي الشباب: 5/ 429، (ل) لجنة الاتحاد والترقي = جمعية لجنة الاحتفال المئوي (1933): 6/ 80، اللجنة الافريقية (1833): 6/ 79، 146، 438، 7/ 278، 452، لجنة افريقية الفرنسية: 6/ 14، 55، لجنة الاكتشاف العلمي للجزائر: 6/ 24، 49، 80، 88، 148، لجنة بيدو: 3/ 319، 321، لجنة تحرير المغرب العربي: 5/ 604، لجنة التحقيق (1871): 6/ 370، 8/ 27، لجنة التحقيق (1892) = لجنة فيري، لجنة ترجمة الكتب العربية: 6/ 73، 79، 98،

_ اللجنة الثورية للوحدة والعمل: 5/ 271، اللجنة الخيرية: 5/ 182، لجنة دراسة الأوضاع الإسلامية: 6/ 79، لجنة دراسة مصر وسورية: 6/ 80، لجنة الدفاع عن الجزائر: 5/ 500، لجنة سورية وفلسطين: 5/ 604، اللجنة العلمية: 6/ 307، 439، 7/ 278، اللجنة العليا للدفاع عن الجزائر: 5/ 368، 601، لجنة فرنسا الحرة: 6/ 419، لجنة فيري: 3/ 426، 433، 6/ 79، 229، 7/ 266، 270، 278، 8/ 22، لجنة قاستنبيد: 3/ 372، 7/ 326، لجنة قسنطينة: 3/ 425، 426، لجنة لوهون: 6/ 444، لجنة المغاربة: 7/ 400، (م) المجلس الجزائري: 5/ 208، مكتب البحوث المنجمية: 6/ 101، مكتب تحرير المغرب العربي: 8/ 181، المكتب الخيري: 7/ 474، 8/ 341، المكتب الخيري الإسرائيلي: 5/ 197، المكتب الخيري الإسلامي: 5/ 7، 162، 182، 183، 186، 189، 192، 193، 194، 195، 196، 197، 201، 203، 204، 205، المكتب الخيري الفرنسي: 5/ 196، المكتب العربي (المكاتب): 3/ 21، 47، 126، 127، 88، 89، 193، 232، 280، 284، 317، 370، 371، 4/ 53، 163، 303، 346، 424، 437، 438، 439، 440، 441، 442، 462، 482، 499، 501، 505، 506، 516، 5/ 8، 84، 98، 106، 183، 225، 294، 355، 398، 6/ 11، 13، 17، 42، 55، 62، 74، 92، 120، 122، 127، 144، 160، 161، 167، 171، 207، 216، 221، 247، 307، 308، 309، 312، 383، 390، 441، 445، 447، 7/ 175، 224، 231، 232، 233، 253، 310، 335، 343، 345، 355، 356، 360، 370، 390، 8/ 33، 313، 314، 331، مكتب المغرب العربي: 5/ 500، مكتب مكة والمدينة: 5/ 181، 182، منظمة الأمم المتحدة: 6/ 295، منظمة الجيش السري: 5/ 352، 8/ 186، منظمة العفو العام: 5/ 208، المؤتمر الإسلامي الجزائري (1936): 4/ 334، 383، 384، 5/ 257، 269، 293، 6/ 210، 230، 256، 436، 7/ 216، 217، 266، 430، 8/ 25، 81، 108، 116، 117، 158، 252، 259، المؤتمر الإسلامي (القدس): 7/ 167، المؤتمر الإسلامي (مصر): 7/ 218، المؤتمر الإفخارستي: 6/ 136، 137، مؤتمر الأديان الثلاثة: 6/ 436،

_ مؤتمر الخلافة: 5/ 499، مؤتمر رؤساء الطرق الإسلامية: 4/ 332، مؤتمر الصلح: 8/ 158، مؤتمر الصومام: 6/ 266، 404، المؤتمر العربي (باريس): 7/ 274، مؤتمر عمال شمال إفريقية: 8/ 117، مؤتمر فرساي: 5/ 291، مؤتمر فيينا: 6/ 271، مؤتمر القاهرة (1932): 8/ 462، 470، مؤتمر القدس: (1931): 5/ 605، 6/ 404، مؤتمر القوميات: 5/ 617، المؤتمر الكشفي: 8/ 142، مؤتمر المستشرقين - كوبنهاغن: 6/ 31، 8/ 33، 51، مؤتمر المستشرقين (1889): 7/ 162، مؤتمر المستشرقين (1902، 1908): 6/ 53، مؤتمر المستشرقين (استكهولم): 7/ 469، 8/ 245، مؤتمر المستشرقين (باريس، 1897): 6/ 225، 426، 427، 7/ 165، مؤتمر المستشرقين (الجزائر، 1905): 3/ 94، 242، 248، 304، 4/ 74، 510، 6/ 29، 31، 39، 60، 74، 99، 350، 353، 429، 7/ 47، 164، 185، 433، 8/ 62، 63، 171، 245، 389، مؤتمر المستشرقين/ هامبورغ: 8/ 32، مؤتمر المؤمنين: 6/ 436، مؤسسة البحر الأبيض المتوسط: 6/ 354، مؤسسة القديس أوغسطين: 6/ 121، الميثاق الدستوري: 5/ 242، (ن) نجم شمال إفريقية: 4/ 329، 5/ 251، / 265، 267، 268، 600، 601، 6/ 453، 7/ 211، 271، 8/ 25، 62، 137، 416، نقابة الأشراف: 7/ 457، 8/ 97، (هـ) هيئة النواب: 5/ 258، 265، 7/ 266، (و) الودادية: 8/ 467، ودادية طلبة شمال إفريقية: 5/ 74، 8/ 445، ودادية الطلبة المسلمين لشمال إفريقية: 8/ 136، ودادية المحاكم: 7/ 93، الوفود المالية: 3/ 308، 354، 358، 364، 435، 5/ 580، 6/ 56، 325، (ي) اليد الحمراء: 5/ 256، 260،

فهرس المؤسسات والمراكز الدينية والفنية والثقافية

7 - فهرس المؤسسات والمراكز الدينية والفنية والثقافية

_ (أ) الأزهر: 1/ 246، 251، 273، 287، 429، 506، 507، 509، 2/ 28، 37، 38، 50، 104، 217، 3/ 33، 57، 72، 74، 110، 124، 125، 128، 165، 201، 215، 255، 258، 259، 264، 387، 395، 396، 401، 4/ 140، 249، 250، 259، 373، 448، 5/ 24، 37، 261، 295، 366، 472، 474، 490، 495، 497، 498، 502، 544، 583، 591، 596، 613، 6/ 217، 316، 361، 365، 7/ 7، 13، 37، 57، 59، 102، 151، 214، 262، 281، 288، 423، 455، 478، 8/ 11، 12، 66، 109، 118، 119، 140، 156، 157، أكاديمية هيبون: 6/ 96، (ث) الثعالبية = (مدرسة) (ج) جامع أبو رفيسة: 5/ 93، 94، جامع أبو عبد الله الشريف: 5/ 109، جامع الأزهري: 5/ 71، جامع الأعشاش: 5/ 99، الجامع الأعظم/ الكبير (غير مفهرس)، جامع الإمامين: 4/ 162، 5/ 99، الجامع الأموي: 1/ 251، 3/ 251، 5/ 526، 8/ 80، 124، جامع أولاد حمد: 5/ 98، جامع أولاد حميدة: 5/ 99، جامع أولاد خليفة: 5/ 98. جامع أولاد زروم: 5/ 99. جامع ابن الرقيسة: 5/ 57، جامع ابن شاكر: 3/ 38، جامع ابن الشاهد محمد: 5/ 48، جامع ابن شلمون: 4/ 395، جامع ابن الصديق: 5/ 58، جامع ابن فارس: 5/ 49، جامع ابن مخلوف علي: 3/ 126، جامع ابن نيكرو: 3/ 38، 5/ 17، 18،

_ جامع البادستان: 5/ 14، جامع باريس: 4/ 412، 6/ 204، جامع الباشا (بابا حسن): 5/ 102، جامع بني عامر: 5/ 102، جامع بوزكري: 5/ 78، جامع بونحلة (سيدي عبد العزيز): 5/ 56. جامع بئر مراد رايس: 5/ 70، جامع التسوري: 5/ 92، جامع تقرت: 7/ 133، جامع الحاج باشا: 5/ 30، جامع الحسين (مسجد): 2/ 225، جامع الحطابي: 5/ 98، جامع خضر باشا: 5/ 13، 42، 175، 208، جامع خنق النطاح: 5/ 101، 8/ 394، جامع خنقة سيدي ناجي: 8/، جامع خير الدين: 3/ 38، جامع خير الدين بربروس: 5/ 37، جامع رحبة الصوف: 7/ 346، جامع رمضان باشا: 5/ 52، جامع الزيتونة (تونس) = الزيتونة جامع الزيتونة (الجزائر): 5/ 64، 67، جامع ستي مريم: 3/ 38، 5/ 17، جامع سفير (صفر): 5/ 62، 72، 284، 592، 7/ 256، 424، 8/ 396، جامع سوق الغزل: 6/ 115، 430، جامع السيدة: 2/ 447، 4/ 389، 425، 5/ 10، 13، 14، 15، 30، 37، 59، 75، جامع سيدي إبراهيم: 5/ 95، 98، 8/ 420، جامع سيدي إبراهيم العمري: 5/ 95، جامع سيدي إبراهيم الغريب: 3/ 119، جامع سيدي أبو الحسن: 5/ 108، جامع سيدي أبو زكري: 5/ 91، جامع سيدي أحمد: 5/ 95، جامع سيدي الأخضر: 3/ 44، 60، 5/ 84، 89، 95، 8/ 414، جامع سيدي ابن علي: 5/ 57، جامع سيدي امعمر: 5/ 95، جامع سيدي بلعباس: 3/ 116، جامع سيدي بلقاسم: 5/ 95، جامع سيدي البنا: 5/ 109، جامع سيدي بوجمعة: 5/ 107، 109، جامع سيدي بوحديد: 5/ 95، جامع سيدي بوشداد: 5/ 88، جامع سيدي بوعلي: 3/ 122، 5/ 105، جامع سيدي بوقدور: 5/ 61، جامع سيدي بومدين: 5/ 107، 8/ 363، جامع سيدي التواتي: 5/ 91، 95، جامع سيدي الجامي: 5/ 67، 174، جامع سيدي الجليس: 5/ 87، جامع سيدي الجودي: 5/ 32 95، جامع سيدي الحربي: 5/ 49، جامع سيدي الحسن الراشدي: 5/ 109،

_ جامع سيدي الحلوي: 5/ 107، 108، 172، 8/ 393، 394، جامع سيدي حماني: 5/ 91، جامع سيدي حيواني: 5/ 95، جامع سيدي الخضر: 5/ 91، جامع سيدي الخنفري: 3/ 151، جامع سيدي داود: 5/ 47، جامع سيدي الداودي: 5/ 95، جامع سيدي الرحبي: 5/ 20، جامع سيدي الرماح: 3/ 448، 5/ 87، جامع سيدي رمضان: 3/ 65، 78، 81، 97، 99، 101، 102، 162، 4/ 375، 393، 174، 197، 424، 8/ 121، 122، 125، 329، 428، جامع سيدي الزاوش: 5/ 95، جامع سيدي زكري: 5/ 109، جامع سيدي زوال: 5/ 95، جامع سيدي سالم: 5/ 98، جامع سيدي السعدي: 5/ 16، جامع سيدي سعيد: 5/ 98، جامع سيدي السنوسي: 3/ 115، 116، جامع سيدي السياج: 3/ 122، جامع سيدي الشاذلي: 5/ 88، جامع سيدي شنوف: 5/ 95، جامع سيدي صالح أحمد: 5/ 95، جامع سيدي الصحابي: 5/ 95، جامع سيدي الصديق: 5/ 92، جامع سيدي الصوفي: 5/ 92، 7/ 62، جامع سيدي العاجن: 5/ 95، جامع سيدي عبد الله: 5/ 49، جامع سيدي عبد الله بن منصور: 5/ 109، جامع سيدي عبد الرزاق: 5/ 98، جامع سيدي عبد السلام: 5/ 95، جامع سيدي عبد العزيز: 5/ 45، جامع سيدي عبد القادر: 5/ 98، جامع سيدي عبد اللطيف: 5/ 89، جامع سيدي عبد الهادي: 5/ 91، جامع سيدي عزيز: 5/ 95، جامع سيدي عفان: 5/ 88، جامع سيدي عقبة: 7/ 12، 8/ 398، جامع سيدي علي: 5/ 79، 95، جامع سيدي علي دليل: 5/ 95، جامع سيدي علي المقري: 5/ 95، جامع سيدي عمار: 5/ 95، جامع سيدي عيسى: 5/ 91، جامع سيدي فتح الله: 5/ 88، جامع سيدي فليسة: 5/ 88، جامع سيدي القفصي: 5/ 88، جامع سيدي قيس: 5/ 88، جامع سيدي الكتاني: 3/ 65، 129، 135، جامع سيدي كوفي: 5/ 95، جامع سيدي مسعود: 5/ 95، جامع سيدي مصباح: 5/ 95، جامع سيدي مفرج: 5/ 88، جامع سيدي المليح: 5/ 91، جامع سيدي المناطقي: 5/ 84، 89،

_ جامع سيدي منصور: 5/ 95، جامع سيدي موسى: 5/ 95، 98، جامع سيدي الموهوب: 5/ 91، جامع سيدي ميمون محمد: 5/ 88، جامع سيدي نقاش: 5/ 89، جامع سيدي الهادي: 3/ 40، 5/ 51، جامع سيدي هاني: 5/ 95، جامع سيدي هلال: 5/ 73، جامع سيدي هوا هوارن: 5/ 88، جامع سيدي الهواري: 5/ 102، جامع سيدي يحيى (الشام): 7/ 45، جامع سيدي يدون: 5/ 108، جامع سيدي يوسف: 5/ 58، جامع السيدة: 6/ 146، 430، جامع الشابي سيدي المسعود: 5/ 98، جامع الشاه حسين: 5/ 64، جامع الشرفة: 5/ 99، 109، جامع الشريعة: 5/ 399، جامع صالح باي: 5/ 82، جامع صفر = سفير: 3/ 65، 85، 87، 102، 104، 162، 4/ 366، 389، 516، 520، 524، جامع صفية: 5/ 91، جامع الطنجي سيدي علي: 5/ 88، جامع عبد الرحيم: 5/ 63، جامع عبدي باشا: 3/ 39، 5/ 13، 25، جامع عز الدين: 4/ 81، جامع عزوم النبي: 4/ 146، جامع عكاش: 5/ 528، جامع علناس أحمد: 5/ 87، جامع علي باشا: 5/ 23، 27، 52، جامع علي المدفع: 5/ 53، جامع العناية: 5/ 569، جامع العين البيضاء: 5/ 399، جامع القشاش: 5/ 12، 26، 27، 54، 208، جامع القصبة: 3/ 58، 126، 7/ 346، 8/ 359. جامع قلاق عبدي: 5/ 65، جامع كتشاوة: 2/ 447، 449، 5/ 34، 37، 40، 6/ 116، 430، 8/ 359، جامع كوينين: 5/ 98، جامع لاله الغريبة: 5/ 108، جامع لاله فاطمة: 5/ 91، جامع لاله القوراية: 5/ 92، جامع محمد أمقران: 5/ 92، جامع محمد باشا: 5/ 15، 16، جامع محمد الشريف: 5/ 89، 8/ 396، جامع أغادير: 5/ 107، جامع الملياني: 5/ 31، جامع ميزومورطو: 5/ 13، جامع النجار أحمد: 5/ 91، جامعة آل البيت: 7/ 48، 317، 475، جامعة اتحاد الزوايا: 4/ 335، جامعة الجزائر: 3/ 13، 304، 305، 307، 308، 309، 310، 318، 327، 368، 451، 4/ 128، 280، 400، 5/ 76،

_ 100، 7/ 268، 281، 464، 8/ 26، 40، 410، 412، 430، جامعة شارل: 8/ 383، 415، جامعة عين شمس: 7/ 18، جامعة القديس لوقا: 6/ 434، جامعة ليل: 6/ 128، جامعة ليون: 7/ 82، جامعة محمد الخامس: 5/ 376، 578، 7/ 314، جامعة منيسوتا: 3/ 10، 12، 13، 5/ 353، 8/ 384، جامعة مونبلييه: 7/ 237، جامعة ميشيقان: 3/ 10، جامعة وهران: 5/ 379، جمعية أحباب الفن: 5/ 317، الجمعية الأندلسية: 5/ 316، جمعية الأوقاف والأماكن المقدسة الإسلامية: 4/ 411، جمعية ابن الموفق: 8/ 459، 460، جمعية الاتحاد الأدبى الإسلامي: 5/ 315، جمعية التربية والتعليم: 5/ 315، 316، 8/ 141، الجمعية التوفيقية: 3/ 93، 5/ 314، 315، الجمعية الرشيدية: 5/ 314، 7/ 274، 431، 8/ 460، جمعية الشباب الفني: 5/ 317، 319، 427، 8/ 140، 141، 142، جمعية الشبيبة الإسلامية: 5/ 315، 316، الجمعية الطرقية الدينية الإسلامية: 4/ 334، جمعية الفن والثقافة: 5/ 429، جمعية الفنون الجميلة: 5/ 350، 444، جمعية محبي الفن: 5/ 427، 8/ 140، جمعية المسرح الجزائري: 5/ 429، جمعية المطربية (فرقة): 5/ 315، 316، 424، 426، 447، 453، 455، 466، جمعية المنوبية: 5/ 318، جمعية المهذبة: 3/ 100، 5/ 316، جمعية الهلال التمثيلي: 5/ 49، 318، جوق إيفيل: 8/ 390، جوق الأدب التونسي: 5/ 417، جوق الحاج العربي بن صاري: 5/ 316، 8/ 459، جوق مدينة الجزائر: 5/ 422، الجوق المسائي: 8/ 459، الجوق المصري: 5/ 417، جوقة ساسي: 8/ 461، الجوقة الشعبية: 8/ 472، (د) دار الحديث النووية: 7/ 46، دار العلوم: 3/ 206، 8/ 159، دار الكتب المصرية: 5/ 379، 386، 7/ 50، (ر) رابطة الطرق الصوفية: 4/ 331،

_ الرشيدية (جمعية): 4/ 528، (ز) زاوية آيت إسماعيل: 7/ 206، زاوية آيت الحاج: 3/ 205، زاوية آيت عمر: 3/ 205، زاوية آيت منصور: 3/ 203، زاوية إيسلمونن: 3/ 203، زاوية أبي التقى: 5/ 118، زاوية الأزهري: 7/ 150، زاوية أمادان: 3/ 237، زاوية أوطالب سيدي علي: 3/ 203، زاوية أولاد الأكراد: 5/ 361، زاوية ابن أبي داود: 3/ 195، 5/ 361، 7/ 427، 8/ 42، زاوية ابن الحاج عمر: 3/ 202، زاوية ابن الحملاوي: 4/ 185، زاوية ابن عباس: 5/ 395، زاوية ابن علي الشريف: 8/ 74، زاوية ابن محجوبة: 8/ 395، زاوية ابن موسى سيدي علي: 6/ 70، زاوية ابن نعمون: 7/ 409، 446، زاوية ابن يحيى أحمد: 3/ 233، 7/ 25، زاوية ايعشوبة: 3/ 203، زاوية باش تارزي: 4/ 181، زاوية بقيرات: 7/ 50، زاوية بني يحيى: 3/ 149، زاوية بوجليل: 4/ 170، زاوية بوجملين: 7/ 25، زاوية ترلات سيدي علي: 3/ 203، زاوية تندبار سيدي موسى: 3/ 203، زاوية التنسي: 5/ 123، زاوية تيبر ماسين: 7/ 130، زاوية تيزي الأحد: 3/ 188، زاوية تيزي تفريس: 3/ 203، زاوية تيميزار: 3/ 190، زاوية جغبوب: 7/ 60، زاوية الحركاتي معطي الله: 3/ 200، زاوية خيران: 7/ 128، زاوية دار الخيرزان: 4/ 251، زاوية السيدة: 5/ 123، زاوية سيدي التلمساني: 5/ 338، زاوية سيدي الجودي: 3/ 237، 5/ 113، زاوية سيدي الحسين: 5/ 395، زاوية سيدي خليفة: 5/ 367، زاوية سيدي سالم: 3/ 217، 5/ 124، 374، 7/ 65، زاوية سيدي الشيخ: 3/ 50، زاوية سيدي عبد الباقي: 7/ 427، زاوية سيدي عبد القادر: 6/ 390، زاوية سيدي علي: 7/ 473، زاوية سيدي علي أوموسى: 3/ 203، زاوية سيدي محمد الأكحل: 5/ 52، زاوية سيدي محمد أمزيان: 3/ 203، زاوية سيدي محمد الشريف الزهار: 5/ 119، زاوية سيدي منصور: 3/ 290، 203،

_ 4/ 187، 7/ 163، زاوية سيدي موسى: 7/ 205، زاوية سيدي الموهوب: 3/ 290، زاوية سيدي يعقوب: 5/ 123، زاوية الشرفة: 3/ 203، 205، زاوية شرفة البهلولي: 3/ 203، زاوية شلاطة: 4/ 46، 6/ 203، 209، 7/ 427، زاوية الشيخ الحسين: 7/ 409، زاوية طولقة: 7/ 129، 427، 8/ 42، زاوية عبد القادر الجيلاني: 5/ 124، زاوية عدني: 3/ 203، زاوية عروس: 3/ 203، الزاوية العليوية: 6/ 433، زاوية عمرو والحاج: 3/ 197، زاوية القشاش: 5/ 112، زاوية القلعي: 5/ 126، زاوية القنادسة: 7/ 141، زاوية القواضي: 3/ 205، زاوية الكاف: 7/ 285، زاوية الكرط: 7/ 101، زاوية كنته: 5/ 373، 7/ 393، زاوية محمد الحاج: 4/ 125، زاوية المولى حسن: 5/ 116، زاوية نفطة: 7/ 427، زاوية الهامل (بوسعادة): 7/ 137، 313، 426، 427، 8/ 12، 42، 66، 416، زاوية اليلولي: 6/ 340، 7/ 25، 445، الزيتونة: 1/ 246، 251، 273، 335، 500، 2/ 46، 72، 382، 3/ 33، 57، 70، 100، 126، 132، 188، 206، 217، 221، 226، 227، 235، 236، 246، 254، 255، 258، 260، 263، 264، 267، 288، 401، 4/ 56، 153، 182، 331، 338، 371، 484، 498، 503، 505، 5/ 57، 252، 257، 259، 277، 291، 378، 380، 398، 472، 490، 491، 492، 573، 575، 584، 596، 599، 616، 6/ 190، 191، 7/ 7، 23، 24، 25، 33، 38، 70، 74، 143، 149، 281، 286، 287، 309، 346، 392، 395، 418، 454، 457، 410، 8/ 18، 27، 45، 65، 83، 117، 228، 230، 235، 257، 295، (س) سان سير = مدرسة سان لويس = مدرسة السوربون: 2/ 445، 3/ 309، 4/ 530، 6/ 13، 34، 100، 209، 7/ 268، (ض) ضريح الأميرة: 8/ 396، ضريح الثعالبي: 8/ 90،

_ (ف) فرقة الأندلس: 8/ 459، فرقة البيدي: 8/ 466، الفرقة الجزائرية: 8/ 459، فرقة جورج أبيض: 8/ 444، 445، 7/ 446، فرقة جولة المدن الذهبية: 5/ 413، فرقة الزاهية: 5/ 317، 425، 447، 8/ 459، فرقة سفنجة: 8/ 467، فرقة الشباب الفني: 5/ 429، فرقة الطليعة: 8/ 459، 460، فرقة فاطمة رشدي: 5/ 582، 8/ 138، 447، فرقة الفخارجية: 8/ 451، فرقة فيتوسي: 8/ 466، فرقة الكمال: 8/ 466، فرقة ليفي: 8/ 466، فرقة المزهر البوني: 5/ 425، 428، 8/ 450، 459، الفرقة المصرية: 8/ 442، 443، 444، فرقة المطربية: 8/ 451، 452، 459، 466، فرقة المهذبية: 8/ 135، 444، الفرقة الموسيقية المصرية: 5/ 612، فرقة الموصلية: 8/ 467، 469، فرقة ناصر الدين ديني: 5/ 425، فرقة الناصرية: 8/ 467، فرقة نسيم الأندلس: 8/ 469، فرقة الهلال: 8/ 469، فرقة الهواء الجميل، فرقة الوتر الجزائري: 5/ 428، فرقة يوسف وهبي: 5/ 582، فونتانة = مطبعة (ق) قبر الرومية: 8/ 411، قبة ابن يعقوب: 7/ 251، قبة سيدي سالم: 5/ 129، قبة سيدي القيس: 7/ 251، قبة سيدي يعقوب: 5/ 15، القرويين: 1/ 49، 78، 246، 260، 273، 335، 379، 424، 425، 426، 427، 428، 515، 2/ 45، 359، 3/ 33، 57، 100، 121، 392، 401، 4/ 247، 373، 487، 5/ 371، 489، 596، 6/ 375، 7/ 7، 23، 24، 75، 309، 327، 8/ 11، 12، 66، 181، 214، 277، (ك) الكتانية = مدرسة كوليج الجزائر: 3/ 292، كوليج دي فرانس: 3/ 280، 315، 318، 4/ 30، 6/ 13، 34، 75، 240، 291، 7/ 208، 8/ 33،

_ (ل) لجنة الأهلة: 4/ 415، (م) متحف الآثار: 8/ 411، متحف باردو: 7/ 412. متحف البارود: 8/ 383، 411، المتحف البريطاني: 5/ 358، متحف بيت ريفرز 245/ 7: Pitt-Rivers، متحف التاريخ العسكري: 8/ 413، متحف تيمقاد: 8/ 411، متحف الجزائر: 8/ 387، متحف جميلة: 8/ 411، متحف شانتييه: 8/ 382، متحف شرشال: 8/ 411، 415، متحف قزال: 8/ 412، متحف قسنطينة: 8/ 413، 414، متحف اللوفر: 8/ 381، متحف لوكسمبورغ: 8/ 434، متحف مصطفى باشا: 5/ 407، متحف وهران: 8/ 413، المجلس الأعلى للفقه الإسلامي: 4/ 447، المجلس الفقهي: 4/ 448، 449، 450، 452، 453، 457، 517، 521، 522، المجمع العلمي العربي: 8/ 170، مجمع اللغة العربية: 7/ 419، 8/ 28، 81، 84، 170، 267، المجمع اللغوي المصري: 5/ 614، مدارس الشرق: 6/ 112، 121، 125، مدرسة الإحسان: 7/ 424، مدرسة الإخاء: 3/ 259، المدرسة الأشرفية: 7/ 46، مدرسة أولاد الإمام: 3/ 392، مدرسة البداية: 7/ 424، مدرسة البنين والبنات: 3/ 256، مدرسة التربية والتعليم: 3/ 252، 323، مدرسة ترشيح المعلمين (النورمال): 3/ 286، 336، 356، 365، 413، 416، 418، 419، 421، 422، 428، 429، 430، 5/ 266، 6/ 104، 165، 256، 258، 260، 261، 335، 431، 7/ 278، 8/ 54، 59، 170، مدرسة التهذيب: 3/ 258، المدرسة الثعالبية: 3/ 79، 95، 96، 132، 136، 247، 392، 4/ 71، 525، 527، 5/ 123، 277، 284، 357، 366، 389، 6/ 28، 40، 177، 162، 184، 210، 7/ 58، 83، 153، 266، 322، 323، 432، 433، 8/ 22، 98، 114، 169، 209، 245، 247، 248، 389، 403، 422، 472، المدرسة الجقمقية: 7/ 45، المدرسة الخلدونية: 3/ 259، 5/ 291،

_ 7/ 418، مدرسة دار الحديث: 3/ 247، 252، 8/ 81، 109، مدرسة سان سير: 3/ 408، 4/ 101، 6/ 68، 74، 133، 209، مدرسة سان لويس: 4/ 492، 6/ 206، 208، 247، مدرسة السلام: 3/ 242، 248، 261، 274، 323، مدرسة سيدي التلمساني: 3/ 44، مدرسة سيدي الجليس: 3/ 135، 137، مدرسة الشبيبة الإسلامية: 3/ 249، 250، 251، 261، 262، 323، 451، 5/ 281، 282، 7/ 424، 8/ 241، 301، المدرسة الصادقية: 5/ 492، 7/ 418، المدرسة الصديقية: 3/ 242، 273، مدرسة الفلاح: 3/ 248، 252، مدرسة الفنون الجميلة: 8/ 415، المدرسة القشاشية: 3/ 261، 367، 5/ 393، المدرسة الكتانية: 3/ 44، 60، 126، 132، 133، 261، 263، 267، 371، 392، 4/ 439، 485، 5/ 357، 390، 6/ 27، 38، 40، 7/ 50، 266، 272، 346، 8/ 66، 76، 77، 98، 169، 211، 302، 414، مدرسة اللغات الشوقية: 3/ 312، 313، 388، 392، 6/ 9، 11، 19، 21، 23، 27، 29، 30، 33، 34، 51، 71، 72، 100، 150، 153، 168، 8/ 31، 33، 131، 415، مدرسة لويس لوقران: 6/ 16، 25 228، المدرسة المحمدية: 3/ 261، 367، المركز الوطني للدراسات التاريخية: 7/ 419، مسرح الأوبرا: 8/ 448، المشهد الحسيني: 7/ 45، مشهد السفرجلاني: 7/ 45، مطبعة أبو اليقظان: 5/ 309، مطبعة أمبير: 5/ 306، المطبعة الأميرية: 5/ 485، مطبعة باستيد: 5/ 306، 8/ 122، مطبعة براشيه: 5/ 306، مطبعة برك جول: 5/ 225، مطبعة البصائر: 5/ 312، مطبعة البلاع: 5/ 310، 311، مطبعة بودري: 5/ 306، مطبعة بويير: 5/ 225، المطبعة الثعالبية: 5/ 308، 309، المطبعة الجزائرية الإسلامية: 5/ 309، 310، مطبعة جوردان: 4/ 74، 5/ 306، المطبعة الحكومية: 6/ 10، المطبعة الرسمية: 6/ 17، مطبعة روادو: 5/ 306، مطبعة رودوسي: 3/ 86، 5/ 308، مطبعة سارلين: 5/ 306،

_ المطبعة العربية: 5/ 311، 381، المطبعة العلمية: 5/ 312، مطبعة غيشين: 5/ 306، مطبعة فونتانة: 4/ 214، 251، 384، 536، 5/ 225، 241، 306، مطبعة القبطان: 5/ 306، مطبعة كاربونيل: 5/ 306، 6/ 262، مطبعة المغرب العربي: 5/ 312، مطبعة موجان: 5/ 306، مطبعة النجاح: 5/ 310، 311، مطبعة هاشيت: 5/ 407، 8/ 178، مطبعة هاينز: 5/ 306، مطبعة هريسون: 8/ 37، معهد ابن باديس: 3/ 170، 255، 256، 258، 263، 264، 5/ 82، 7/ 28، 8/ 82، 199، معهد ابن الحملاوي: 3/ 170، 263، معهد باستور: 3/ 307، 7/ 264، 265، معهد البحوث الصحراوية: 6/ 101، معهد بني يسقن: 3/ 264، 272، 275، معهد الجيولوجيا التطبيقية: 6/ 101، المعهد الحضري: 6/ 101، معهد الحياة: 3/ 169، 170، 247، 263، 275، 451، 5/ 290، 8/ 199، معهد الدراسات البربرية: 6/ 76، 8/ 33، معهد الدراسات الشرقية: 6/ 101، 282، معهد الدراسات العليا في المغرب: 6/ 34، المعهد العالي للدراسات المراكشية: 6/ 30، المعهد الفرنسي بمصر: 6/ 34، المعهد الفرنسي في دمشق: 6/ 34، معهد قرطاج: 6/ 34، المعهد الكتاني: 7/ 282، 8/ 199، معهد باستور: 6/ 151، مقبرة الدحداح: 5/ 526، مكتبة آل سحنون: 5/ 365، مكتبة أرنولية: 5/ 306، مكتبة أقبلي: 5/ 371، مكتبة أقسطن: 5/ 371، مكتبة الأكحل أحمد: 5/ 389، مكتبة الأمير (عبد القادر): 5/ 384، مكتبة الأمين: 5/ 366، مكتبة أولاد سيدي الشيخ: 5/ 370، مكتبة أولاد سيدي عيسى: 5/ 371، مكتبة ابليدي صالح: 5/ 379، مكتبة ابن أبي داود: 5/ 361، 364، مكتبة ابن بكير إبراهيم: 5/ 378، مكتبه ابن حمو عمر: 5/ 378، مكتبة ابن داود سليمان: 5/ 380، مكتبة ابن سعد محمد: 5/ 384، مكتبة ابن سماية: 5/ 390، مكتبة ابن شعلان: 5/ 390، مكتبة ابن شنب: 5/ 386، مكتبة ابن صالح أحمد: 5/ 378، مكتبة ابن صالح يحيى: 5/ 378، مكتبة ابن عمر عبد الرحمن: 5/ 379، مكتبة ابن العنابي: 5/ 384، مكتبة ابن يوسف داود: 5/ 378،

_ مكتبة ابن يوسف سعيد: 5/ 378، 379، مكتبة الاستقامة: 5/ 378، مكتبة الاسكندرية: 7/ 51، مكتبة بابانو محمد: 5/ 379، مكتبة باش تارزي: 5/ 382، 384، 6/ 71، مكتبة باكونيه: 5/ 306، مكتبة الباكيللي عبد الرحمن: 5/ 378، مكتبة بالزملال صالح: 5/ 379، مكتبة بلحاج (الشيخ): 5/ 378، مكتبة بني ثامر: 5/ 371، مكتبة بودريوة: 5/ 390، المكتبة البوعبدلية: 5/ 372، مكتبة بوكامل عبد الله: 5/ 379، مكتبة تبحرين: 5/ 371، المكتبة التيمورية: 5/ 386، مكتبة الثميني: 5/ 366، 378، مكتبة الجامع الكبير: 7/ 311، مكتبة جامعة برنستون: 7/ 313، المكتبة الجامعية: 5/ 351 - 353، مكتبة الجليلي شعيب: 5/ 388، مكتبة الحاج حمو: 5/ 386، مكتبة الحافظي: 5/ 389، مكتبة حمودة الفكون: 6/ 71، مكتبة خمار: 5/ 391، المكتبة الزكية: 5/ 386، المكتبة السليمانية: 7/ 437، مكتبة سيدي حيدة: 5/ 371، مكتبة سيدي خليفة: 5/ 366، مكتبة الشقفة محمد: 5/ 379، مكتبة الطرابلسي: 5/ 378، مكتبة طولقة: 5/ 367، المكتبة العبدلية: 5/ 371، مكتبة العسلي: 5/ 366، مكتبة العطفاوي سعيد: 5/ 380، مكتبة العطفاوي يوسف: 5/ 380، مكتبة العمالي: 5/ 388، المكتبة العمومية (الوطنية): 5/ 340 - 351، 404، 7/ 231. مكتبة الغناي يحيى: 5/ 377، مكتبة الفكون: 5/ 382، 383، 384، 7/ 311. مكتبة القرادي محمد: 5/ 380، مكتبة قصر الحكومة: 6/ 437، مكتبة القماري: 5/ 387، مكتبة القنادسة: 5/ 370، مكتبة كعباش محمد: 5/ 380، مكتبة المحفوظي محمد: 5/ 387، مكتبة المشرفي: 5/ 387، المكتبة الملكية: 5/ 343، مكتبة الهامل: 5/ 368، مكتبة وادي العثمانية: 5/ 374، المكتبة الوطنية: 7/ 108، مكتبة اليسجاني صالح: 5/ 378، مكتبة يوسف المعز: 5/ 378، منتدى الوحدة المسيحية: 7/ 216، 218، (ن) نادي الإخلاص: 3/ 332،

_ النادي الإسلامي: 7/ 413، نادي الترقي: 3/ 261، 5/ 255، 296، 299، 315، 316، 423، 582، 6/ 404، 405، 8/ 107، 108، 109، 287، 416، نادي التهذيب: 8/ 299، نادي التوفيقية: 8/ 107، نادي الجزائر: 8/ 475، نادي الرشيدية: 8/ 107، نادي السعادة: 5/ 315، 425، نادي الشباب: 5/ 318، نادي صالح باي: 5/ 315، 316، 6/ 232، 8/ 107، 259،

ملحق صور

ملحق صور

الخريطة الدينية والثقافية للجزائر منذ القرن 10 هـ - 16 م

_ دلالات الأرقام: 1 - الجامع الكبير 2 - المدرسة القشاشية 3 - المدرسة الثعالبية 4 - جامعة الجزائر 5 - نادي الترقي 6 - المدرسة الكتانية 7 - مدرسة التربية والتعليم 8 - معهد ابن باديس 9 - نادي صالح باي 10 - مدرسة تلمسان 11 - دار الحديث 12 - مدرسة مازونة 13 - المدرسه المحمدية 14 - زاوية القيطنة 15 - زاوية اليلولي 16 - زاوية آيت إسماعيل 17 - زاوية شلاطة 18 - زاوية قصر البخاري 19 - زاوية الهامل (بوسعادة) 20 - خنقة سيدي ناجي 21 - زاوية طولقة 22 - زاوية تماسين 23 - زاوية قمار 24 - زاوية عين ماضي 25 - معهد الحياة (القرارة) 26 - معهد بني يزقن 27 - زاوية كنتة

الأمير عبد القادر الجزائري صورة ثانية للأمير عبد القادر الجزائري

أختام بعض الحكام الفرنسيين للجزائر

صورة لأعضاء جمعية العلماء المسلمين الجزائريين بحضور الشيخ محمد بن إبراهيم الكتاني المغربي (بين ابن باديس والإبراهيمي) الشيخ محمد البشير الإبراهيمي

Neuf Médailles Or et Argent aux différentes Expositions IMPRIMERIE & GRAVURE ARTISTIQUE & COMMERCIALE S. LEON Graveur Fournisseur du Gouvernement et des principales Administrations 15. - RUE DE TANGER, 15. - ALGER Spécialité de Cachets Argent pour Chefs Indigènes إعلان للراكبين من الرؤساء الجزائريين في نقش أختامهم سنة 1868

الخلفاء الراشدون وفروع الطرق الصوفية

تفريعات الطرق الصوفية

رمز نشأة المذاهب السنية الأربعة

بيان الطرق الصوفية

الشيخ عبد الحميد بن باديىس يقرأ القرآن الكريم صورة أخرى للشخ عبد الحميد بن باديس

مارسيل موران محيي الدين باش تارزي

الجنرال يوسف

ستيفان قزال (غزال) رينيه باصيه

إيميل فيليكس غوتييه الشيخ محمد بن أبي شنب

الجامع الأخضر بمدينة قسنطينة مدرسة الحديث بتلمسان

أحمد توفيق المدني (بالطربوش) ومحمد العاصمي ابن علي فخار الشيخ عبد الحفيظ ابن الهاشمي

المجلس الإدارية لجمعية (الشبيبة الإسلامية) بالعاصمة الشيخ محمد الهاشمي (جالسا) نائب الطريقة القادرية في الوادي (سوف) وأخوه محمد الطيب مقدم الطريقة في ورقلة سنة 1900

الشيخ العربي بن صارى عازفا على الرباب السيد مامي إسماعيل إسماعيل حامد السيدة جان ديريو (جمانة رياض)

محمد العيد التماسني شيخ الطريقة التجانية إيزابيل إيبرهارد بلباسها التونسي سنة 1895 الدكتور ابن تامي ولد حميدة

من الفنون التقليدية

من الفنون التقليدية

من الفنون التقليدية

من الفنون التقليدية

من الفنون التقليدية

خيط الروح من الفنون التقليدية

ساحة الجزائر (الشهداء حاليا) وجامع السيدة قبل هدمه

مدينة الجزائر في القرن السادس عشر

مدينة الجزائر في القرن الثامن عشر

قصر مصطفى باشا بعد أن حوله الفرنسيون إلى ملجإ للأيتام

فهرس المحتويات والمقدمات

فهرس المحتويات والمقدمات

محتوى الجزء التاسع

محتوى الجزء التاسع

_ المقدمة .................................................. 5 معجم المصطلحات ...................................... 8 فهرس الأشخاص ........................................ 13 فهرس الأماكن ........................................... 168 فهرس الكتب والدوريات والجرائد .......................... 230 فهرس الشعوب والقبائل والأقوام ........................... 284 فهرس المذاهب والطرق الصوفية والمصطلحات ........... 298 فهرس الأحزاب والجمعيات والمؤتمرات .................... 308 فهرس المؤسسات والمراكز الدينية والفنية والثقافية .......... 314 ملحق الصور ............................................ 321 المقدمة الإنكليزية المقدمة الفرنسية

دار الغرب الإسلامي بيروت - لبنان لصاحبها: الحبيب اللمسي شارع الصوراتي (المعماري) - الحمراء، بناية الأسود تلفون: 350331 - 009611: Tel / خلوي: 638535 - 009613: Cellulair فاكس: 742587 - 009611: Fax / ص. ب. 5787 - 113 بيروت، لبنان DAR AL - GHARB AL - ISLAMI B.P.: 113 - 5787 Beyrouth, LIBAN الرقم: 337/ 2000/ 11/ 1998 التنضيد: كومبيوتايب - بيروت الطباعة: دار صادر، ص. ب. 10 - بيروت

task. It is true that I wrote about the past but I also was looking toward the future. My message is addressed to those Algerians who, for many reasons, were not able to appreciate and understand their ancestral contribution to human culture. It is my hope that the generation of the coming century will be better equipped for studying and appreciating the cultural heritage of their beloved country At the end I have to acknowledge the great help which a number of persons and institutions provided me. I have to mention here my colleagues at the University of Algiers and specially the Institute of history for giving me a prolonged leave; the staff of the University of Michigan and of the University of Minnesota for their generous help. I have to thank my colleagues at the History Department of the University of Minnesota for providing me with an opportunity to teach some courses in order to support myself financially. Special thanks go to my associate Professor Paul Bamford for his endless support. Aboul Kacem Saadallah University of Algiers and Al al Bayt University (Jordan) 11

mostly bilingual became disciples of French orientalists. Their main contribution was translations of texts from Arabic to French. In this respect we name Muhammad Ben Cheneb, Muhammed Soualih, Ismail Hamet and Sayed Boulifa. Translation from French to Arabic was not allowed to make progress .Some Algerian educators and writers left a number of books which became important for the coming generation such as Aboulkacem Al-Hafnawi, Abdelkader Al-majjawi, Ben Cheneb, Mubarak Al-Mili, Ahmed T. Al-Madani ... In the Algerian annals writers of inter war period, talk about the "Nahda" (renaissance) which started about 1920. They usually had in mind Ibn Badis educational movement which carried the banner of reviving Algerian Arabic and Islamic identity . This revival included going back to the sources of pure Islam, modernizing Arabic language and spread of Arabic education through free schools (non-governmental) and giving sermons and religious guidance in mosques. Ibn Badis' efforts are later carried out by Association of the Algerian Muslim Ulama, created in 1931. In addition, Al-Kattanyah Institute in Constantine and Al-Hayat Institute in Mzab worked for the same goal. Algerian students sought Arabic and Islamic education at the Zitouna University (Tunis), Al-Azhar University (Cairo) and Al-Karawiyyn University (Fez). Algerian teachers and students, however, were more interested in education than in cultural revival per see. Apart from musicians, journalists, dramatists, historians and poets, writing about culture was not of an interest to educated Algerians. Those whose education was only in Arabic were not trained to do research work, they were leaders trained to teach in schools and to give sermons in mosques. They call this mission the formation of men not writing books. As for the Algerians whose education was only in French, they were virtually cut off from their roots. They in fact, lost contact with Arabic documents, manuscripts and even their family genealogical trees which were all written in Arabic in different periods. So this category of Algerians were not expected to write cultural history of their country either. This cultural vacuum, therefore, I tried to fill in and, as I said earlier, it is not an easy 10

of Algiers was founded) ushered in a new era for the French orientalists. These activities, however, culminated in 1905 when the 14 th International Congress of the Orientalists was held in Algiers under the leadership of René Basset himself and the sponsorship of the Governor Général Charles Jonnart. The French orientalists while working to consolidate their country's colonial plans, translated and published manuscripts and studies which served in many ways the Algerian cultural heritage. The French period witnessed also the birth of various scientific commissions, societies, specialized institutions and congresses. They all left a great deal of materials which those interested in Algerian culture find very useful The Algerians, although they contributed to the Arabic and Islamic culture, were not aware of their particular role. At the time of the Ottomans, Algerian Ulama (scholars) such as Ahmed Al-Makkary, Yahia Al-Shawi, Ahmed Ibn Ammar .... found themselves immigrants in Morocco and in the Near East. In most cases, the Ottoman regime alienated Algerian scholars who, consequently, sought refuge elsewhere. Some of them, however, remained home but they were domesticated or they entered into a mystic seclusion. This was the time of great saints or holy men During the French period the Algerian Ulama gradually disappeared in different manners. From the beginning the French exiled the most active opponents (such as Muhammad Ibn Al-Annabi, Mustafa Al-Kababti, Kaddour Ibn Rouilah, Amir Abdelkader, Hamdan Khuja ...); some of them chose to immigrate because they did not want to live under foreign rule. Those who chose to remain in Algeria had to accept to live with a limited cultural package . Only three bilingual schools established by the French (around 1850) provided some Arabic education. Some surviving zawias (Koranic schools) were also allowed to teach Arabic and Islamic elementary education . In this atmosphere Arabic culture could not have been expected to flourish . Algerians who were 9

toman period with an introductory chapter on the 15 th century. My plan was to continue my research to cover also the French period, but an un-fortunate event took place in 1988 at Heathrow Airport, (London), that is the loss of more than three drafted chapters, diary, notes, personal pa-pers and photocopied documents from different archives. It was a big blow for my project. For tlrree years, the shock prevented me from re-suming research. The big question I faced was: How to start again? After loosing hope in recovering the lost briefcase, I slowly re-sumed my research around 1991. In 1993,1 was fortunate to receive a Fulbright Grant. Meanwhile the University of Algiers gave me a sabbat-ical year and the University of Minnesota offered me library and other research facilities . The original plan was to cover all forms and aspects of the Algerian culture. I had to study also the political, economic and social factors which had an impact on the culture. In both the Ottoman and the French periods I dealt with education, literature, jurisprudence, theology, logic, travels, sciences, mysticism, art and music. New forms and aspects of this culture appeared during the French period, including newspapers, theater, cinema, radio, museums, and printing. Scholars who contribut-ed to the development of the culture were also studied but within. The framework of the main subject which they contributed to the book therefore is not a collection of biographies, rather biographies are part of the main stream of the cultural aspect under study. From another an-gle, the book is divided into two distinct parts. The first part is a theo-retical and interpretive study of the factors that shaped Algerian culture and forms through which it has been expressed. The second part is a particular study of the texts which were written by Algerian scholars in their respective fields, e.g. history , literature, medicine, music, etc. During the French occupation, French Orientalists played an impor-tant part in discovering the heritage of Arabic and Islamic Algeria. The coming of René Basset in the I 880's, the establishment of the Ecole des letters (in 1909, it became Faculté des lettres when the new University

Preface Writing a multi volume book about the cultural history of Algeria is not an easy task, maybe it is an adventure. Since the 7 th century Algeria has been a part of the Arabic and Islamic world. So, one might argue that Algeria has no particular culture of her own. Yet, the book deals with such a particular culture since the early 16 th century when Algeria became a part of the Ottoman Empire and gradually developed a geographical and political identity. In 1830, the French occupation put an end to this identity. The French, trying to integrate Algeria into their Metropole, cut off Algeria from the Arabic and Islamic world and suppressed many expressions of Algerian culture. The sources of this study are numerous. They include manuscripts, private papers, correspondences, theses, archival reports and published works in Arabic, French and English . In addition to the Algerian libraries , I had to do research in North Africa, Middle Eastern and European and American libraries, including those of Morocco, Tunisia, Egypt, Syria, Turkey, France, Britain and the USA. Some of these libraries I visited several times. While in America, I worked at the University of Michigan (Ann Arbor) and University of Minnesota in their own rich collections, rear books, and interlibrary loan systems, where I found an important deposit of information about my subject. I first became interested in studying Algerian culture when I was a student at Cairo University during the fifties. Since then some findings of my research appeared in the form of articles which I published years ago. I also edited some manuscripts and wrote biographical studies of a number of leading representatives of Algerian culture. In 1981 I was able to publish the first two volumes of this book. They covered the Ot- 7

importance. En effet ceux d'entr'eux dont la culture était purement arabe n'étaient nullement préparés à faire des recherches en matière de patrimoine, car ils ne s'étaient entraînés qu'à l'enseignement dans les écoles et la prédication dans les mosquées. C'est pourquoi ils pensaient que leur mission devrait consister non pas dans la confection d'ouvrages, mais dans la formation des hommes. Quant aux Algériens ayant reçu une formation uniquement française, ils se séparèrent ou presqe de leurs origines et de leurs racines, en perdant tout contact avec les documents et les manuscrits arabes et même avec leurs arbres généalogiques établis tous en arabe durant les différentes périodes historiques. Ainsi donc ces genres d'Algériens n'étaient nullement habilités à écrire l'histoire culturelle de leur pays. En conséquence, c'est ce vide culturel que j'ai tenté de combler, et il s'agit-comme je l'ai déjà dit plus haut-d'un travail qui ne constitue point une tâche facile. Il est vrai que j'ai parlé dans mon ouvrage du passé, mais je n'ai pas négligé pour autant l'avenir. Mon message s'adresse à ces Algériens incapables, pour différentes raisons, d'apprécier et de comprendre la participation de leurs ancêtres à la culture humaine. Mon espoir est que les Algériens de la génération du prochain siècle seront plus armés pour étudier et apprécier le patrimoine culturel de leur pays bien-aimé. Enfin je dois rendre hommage à l'aide précieuse qui m'a été apportée par certaines personnes et institutions, et il est de mon devoir également de mentionner mes collègnes de l'Université d'Alger et notamment de l'Institut d'Histoire, avec tout l'estime qu'ils méritent, pour m'avoir accordé un congé de longue durée, afin de me permettre de me consacrer à mes travaux de recherches. Je dois remercier aussi les fonctionnaires des Universités de Michigan et de Minnesota pour leur aimable concours. Je remercie également mes collègues du Département d'histoire de l'Université de Minnesota de m'avoir associé à leur enseignement, et notamment le Professer Paul Bamford qui fut désigné par la Fondation Fulbright comme mon partenaire. Aboul-Kacem Saâdallah Professeur à l'Université d'Alger et à l'Université «Al al-Bayt» de Jordanie 5

intellectuels qui constituaient les éléments les plus actifs de la population algérienne, et les plus opposés à l'hégénronie française, tels Mohamed Ben Annabi, Mustapha Kababti, Kaddour Ben Rouila, l'émir Abdel'Kader et Hamdane Khouja. D'autres intellectuels choisirent l'exil de leur propre gré, car ils ne désiraient pas vivre sous la domination étrangère. Les intellectuels qui restèrent durent accepter de vivre avec une part limitée de culture. En effet la France n'avait créé en Algérie que trois écoles bilingues en 1850, ne dispensant qu'un enseignement limité en arabe. Mais certaines zaouias qui n'étaient pas démolies ou fermées, furent autorisées à donner un enseignement élémentaire arabo-islamique. Il n'était pas donc prévisible de voir la culture arabe prospérer dans une telle ambiance. Par ailleurs certaines Algériens (le plus souvent bilingues) devinrent les élèves des orientalistes français. Leur principale action consistait dans la traduction de textes arabes en français, il convient de citer parmi eux: Mohamed Ben Cheneb, Mohamed Soualah, Ismail Hamed et Omar Boulifa. Quant à la traduction du français en arabe, on ne lui permit de réaliser aucun progrès. Or certains éducateurs composèrent quelques manuels qui revêtirent une grande importance pour la génération suivante. Dans les annales algériennes certains auteurs de la période de l'entre deux guerres évoquèrent l'ère de la «Nahdha», ayant commencé d'après eux vers 1920, et concernant le mouvement promu par Cheikh Abdelhamid Ben Badis en vue du développement de l'enseignement. Il s'agit du mouvement qui avait arboré l'étendard de la renaissance de l'identité algérieune. arabo-islamique. Cette renaissance consistait dans lé retour aux premières sources de l'Islam, la modernisation de la langue arabe, le développement de l'enseignement arabe par l'intermédiaire des écoles libres (non gouvernementales) et la diffusion des cours de prédication dans les mosquées. Les efforts fournis en cette matière furent pris en charge ultérieurement par «l'Association des Ulémas musulmans algériens» fondée en 1931. En outre l'école katania à Constantine et l'Iustitut «al-Hayat» aü M'zab poursuivirent les mêmes buts. De même les étudiants algériens désireux de poursuivre leurs études en arabe se dirigèrent vers les Universités: La Zitouna à Tunis, Al-Azhar au Caire et Karaouine à Fès. Mais les enseignants et les étudiants algérieus s'interessaient beaucoup plus à l'instruction qu'à la renaissance culturelle de façon intrincèque. C'est ainsi que les intellectuels algériens, à l'exception de certains musiciens, journalistes, dramaturges, historiens et poètes, considèrent que la composition d'ouvrages consacrés à la culture ne revêt aucune

deuxième partie, elle c.mprend une étude pratique de la production des auteurs algériens, chacun dans sa propre spécialité, telles que l'histore, la littérature, la médecine, la musique, etc ... Durant la période coloniale française, les Orientalistes jouèrent un rôle important dans «la découverte» du partrimoine culturel algérien arabo-islamique. Ce fut d'abord 1'arrivée eu Algérie de René Basset dans les années quatre vingts du xixe siècle. Puis ce fut la création de 1'école supérieur des Lettres qui se transformera par la suite en «Faculté des Lettres», lors de la fondation de l'Université d'Alger en 1909. Cette dernière date marque le début d'une ère nouvelle pour les orientalistes français dont les activités avaient atteint leur apogée en 1905 avec l'organisation du XI? e Congrès international des orientalistes à Alger, sous la direction de René Basset et sous 1'égide du Gouverneur général d'Algérie Jonnart. Tout en œuvrant en faveur du renforcement des plans Colonialistes de leur pays, les orientalistes français participèrent à la. traduction et à la publication de manuscrits et d'études arabes ayant rendu d'éminents services au partimoine culturel algérien dans plusieurs secteurs. La période française connut également la création de plusieurs Comités et associations scientifiques, l'organisation de colloques et séminaires, et la mise en place d'établissements spécialisés. Toutes ces institutions avaient rassemblé des renseignements abondants dont ont besoin tous ceux qui s'intéressent à la culture algérienne, étant donné le grand profit qu'ils peuvent en tirer. Malgré la participation algérienne à l'essor de la culture arabo-musulmane, les Algérieux n'étaient pas conscients du rôle joué par leur pays dans ce domaine, c'est ainsi qu'au cours de la période attomane certains intellectuels algériens (Telsque Ahmed Maqari, Yahia Chaoui et Ahmed Ben Ammar) furent astreints à émigrer au Maroe et au Moyen Orient. En effet le régime ottoman agit souvent en vue d'isoler les intellectuels algériens qui cherchèrent alors refuge dans d'autres pays, en revanche certains d'eutr'eux restèrent en Algérie, acceptant la soumission, ou préférant la retraite des mystiques, c'était 1'époque des grands marabouts. Au cours de 1'époque coloniale française les intellectuels algériens quittèrent leur pays progressivement et de différentes manières. Car les Français ont tout fait dès le début de l'occupation pour exiler ces

manuscrits et j'ai composé un certain nombre de biographies de quelques figures illustres de la culture algérieune. J'ai réussi ainsi à publier en 1981 les deux premiers volumes du présent ouvrage, à savoir ceux qui couvrent la période ottomance, en plus d'une introduction relative au XVe siècle. Mais un malheureux incident m'arriva en 1988 à l'aéroport de Heathrow à Londres où j'ai égaré ma valise contenant plus de trois chapitres rédigés, ainsi que le journal de ma vie, mes fiches de recherches, mes papiers personnels et des photocopies d'archives. Cet incident constitua une énorme calamité qui frappa le rete de mon projet. Je dus donc interrompre mon travail de composition durant trois années, à la suite du puissant choc que j'avais reçu. Le grand point d'interrogation auquel je devais répondre était le suivant: Comment pourrais-je me remettre au travail? . Après avoir perdu tout espoir de retrouver la valise, je repris lentement mes recherches vers 1991. Puis j'ai eu la chance d'obtenir une bourse de la Fondation Fulbright. L'Université d'Alger m'accorda en même temps une année sabbatique pour me permettre de poursuivre mes recherches. L'Université de Minnesota me réserva un bon accueil et m'accorda des facilités pour me permettre d'effectuer mes travaux. Le plan initial de l'ourage s'intéressait à l'étude de tous les aspects et les formes de la culture algérienne. C'est pourquoi je dus étudier également les facteurs politiques, économiques et sociaux ayant eu un impact sur la culture, C'est ainsi que j'ai étudié l'enseignement, la littérature, le droit musulman, la théologie, la logique, les récits de voyages, les sciences, le mysticisme, les arts et la musiques, tant au cours de la période ottomane qu'au cours de l'époque coloniale française. J'ai étudié aussi d'autres formes et aspects de la culture algérienne durant l'occupation française tels que le théâtre, le cinéma, la presse, la radio, la muséographie et l'imprimerie. Par ailleurs, j'ai étudié la biographie des intellectuels qui avaient contribué à l'évolution de la culture algérienne, à travers le principal centre d'intérêt par rapport à chacun d'eux. Ainsi donc le présent ouvrage ne consiste pas en une succession de biographies, mais celles-ci font parité intégrante du principal courant de l'aspect culturel étudié. Par ailleurs l'ouvrage est divisé eu deux parties distinctes: la première comporte une étude théorique et explicative des formes, des facteurs et des aspects concernés de la culture, algérienne. Quant à la 2

Préface Composer un ouvrage de plusieurs volumes sur l'histoire culturelle de l'Algérie n'est pas une tâche facile, ce serait plutôt une aventure. En effet l'Algérie est devenue partie intégrante du monde arabo-musulmen depuis le VIIe siècle de l'ère chrétienne. En conséquence on pourrait avancer qu'elle ne possède pas de culture propre. Pourtant le présent ouvrage a précisément pour objet l'étude de cette propre culture algérienne depuis le XVIe siècle, date à laquelle l'Algérie fit partie de l'empire ottoman, puis évolua progressivement vers une entité politique et géographique. Cependant l'occupation française en 1830 mit fin à cette entité, puis les Français, en essayant d'annexer l'Algérie à leur pays, l'ont séparée du monde arabo - musulman et réprimé les tendances et les symboles de sa culture. Les sources de cette culture sont nombreuses, elles englobent les manuscrits, les documents privés, les correspondances, les thèses, les rapports d'archives ainsi que les travaux publiés aussi bien en arabe qu'en Français et en anglais. En plus des bibliothèques algériennes, l'auteur a dû effectuer des recherches dans les bibliothèques d'Afrique du Nord (Maghreb arabe), du Moyen Orient, d'Amérique et d'Europe, y compris le Maroc, la Tunisie, l'Egypte, la Syrie, la Turiquie, le France,.la Grande Bretagné et les Etats Unis. L'auteur rendit visite à plusieurs reprises à quelques unes de ces bibliothèques. Et au cours de son séjour aux Etats Unis, il effectua des recherches aux Universités de Michigan et de Minnesota, à travers leurs riches collections et précieux ouvrages, et grâce au système de prêts en vigueur entre les différentes bibliothèques, ce qui lui a permis d'obtenir une mine de renseignements sur le sujet qu'il traitait. En fait, j'avais commencé à m'interesser à la culture algérienne depuis que j'étais étudiant à l'Université du Caire au cours des années cinquante. Et à partir de cette époque mes travaux aboutirent à des résultats qui parurent sous forme d'articles et d'études publiés depuis quelques années, J'ai établi également l'édition critique de plusieurs 1

HISTOIRE CULTURELLE DE L'ALGERIE PAR Professeur Aboul Kacem Saadallah Université d'Alger Tome 9 INDEX DAR AL - GHARB AL - ISLAMI

الجزء العاشر

الدكتور أبو القاسم سعد الله تاريخ الجزائر الثقافي الجزء العاشر 1954 - 1962 دار البصائر الجزائر عاصمة الثقافه العربية

طبعة خاصة دار البصائر 2007 ردمك: 5 - 29 - 887 - 9961 - 978 الايداع القانوني: 2007 - 3314 دار البصائر للنشر والتوزيع 50 شارع طرابلس - حسين داي - الجزائر الهاتف/ فاكس: 25/ 27 - 36 - 77 - 021

تاريخ الجزائر الثقافي

المقدمة

المقدمة هذا المجلد يواصل مسيرة مجلدات تاريخ الجزائر الثقافي التي توقفت عند سنة 1954، وبذلك تكتمل السلسلة بنهاية المرحلة الاستعمارية سنة 1962، ذلك أن عهد الثورة يمثل مرحلة انتقالية أو مخضرمة لابد من اجتيازها ليبدأ مؤرخو الثقافة عندنا بداية جديدة وهي مرحلة الاستقلال، وقد كانت تغطية مرحلة الثورة من أهداف المجلدات السابقة ولكن مادتها الوثائقية لم تكن متوفرة عندئد. ومع ذلك فإن كثيرا من مادة المجلد الجديد عاصرناها كما عاصرنا مؤلفيها وصناعها، فنصوص الثورة، وصحفها، وتنظيماتها، وشعراؤها وفنانوها وكتابات أنصارها وأعدائها عشنا معها خلال الخمسينات وبداية الستينات، واطلعنا عليها أو سمعنا بها في وقتها، ولكن لم يتح لنا رصدها وتصنيفها كما أتيح لنا خلال السنوات الأخيرة، ثم إن عددا من المذكرات والوثائق والدراسات والتفاعلات ظهرت منذ استقلال الجزائر، وكلها تصب في خدمة تاريخ الثورة، مما أتاح لنا الاطلاع على مادة وآراء جديدة وأغرانا الآن بالكتابة عن عهد يعتبر بمختلف المقاييس قد انتهى. ومنذ حوالى ثلاث سنوات رجعت إلى الوطن بعد غربة طويلة وكنت

أحمل مشروع مواصلة البحث في التاريخ الثقافي أثناء الثورة، وحين عرضت المشروع على المركز الوطني للبحوث والدراسات في تاريخ الحركة الوطنية وثورة أول نوفمبر، سارع بالترحيب به وتعاقدنا على إنجازه، فشمرت على ساعد الجد وبذلت الجهد إلى أن وفقني الله بإكمال الكتاب على الوجه الذي هو عليه الآن. يتميز هذا المجلد عن إخوته بأنه كتب بناء على عقد محدود الزمان، وبأن جزءا منه قد كتب مباشرة على الحاسوب، بينما لم يسبق لي أن فعلت ذلك من قبل، فقد تعودت أن أكتب بحرية زمنية بحيث لا أحس بأي ضغط، مادي أو نفسي، رغم أن الطرف المتعاقد معي لم يتدخل مطلقا ليشعرني بالوقت، كما تعودت أن أكتب وأصحح على الورق بالطريقة التقليدية، قبل أن أسلم عملي إلى الراقن أو الطابع ليكمل مهمته، أما مع هذا الكتاب فقد حررت وصححت على الحاسوب، بالإضافة والحذف والتقديم والتأخير ... ومع ذلك فهناك فصول وفقرات كتبتها خارج الجزائر وبالطريقة التقليدية، كما اعتدت أن أفعل في الماضي. إلى الآن مازلت عندر أيي في الكتابة عن تاريخ الثورة، فما زلت أرى أن الوقت لم يحن بعد للكتابة عن تاريخها المفصل، ولاسيما تاريخها السياسي والعسكري والدبلوماسي، أما تاريخها الثقافي فهو في نظري متاح، ومع ذلك فليس من السهل الخوض فيه، إنه قد يبدو للبعض أنه لا يعرض الكاتب للتبعات والأحكام المسبقة ولما قد يعتبره البغض محرما أو مضرا بالآخرين، ولكني أرى أن التاريخ الثقافي أيضا محفوف بكل الأخطار فهو يتعرض للأشخاص، بل لفئة معينة محسوبة على النخبة الاجتماعية التي قد ترى في الأحكام الصادرة عنها خطرا عليها أو تزكية لغيرها، والمثقفون والفنانون وأمثالهم يريدون - ربما أكثر من السياسيين - أن يستفيدوا أيضا من الثورة، فيقال عنهم إنهم ساهموا في خدمتها وعانوا من أجلها حتى ولو لم يشاركوا فيها من قريب أو من بعيد، بل حتى لو وقفوا منها موقفا غير مشرف.

وكما نشاهد اليوم في المجال السياسي سباقا لدى المواطنين للانتساب للثورة، جهويا وإقليميا ووطنيا، فكذلك نشهد سباقا ربما أشد منه في المجال الثقافي، فكل عشيرة أو بلدة أو مدينة تحاول أن تتبنى عالما أو شاعرا أو فنانا أو روائيا على أنه أحد أبنائها، فتخرجه من قبر العصور، (إذا كان قديم العهد)، وتنفض عنه غبار الإهمال (إذا كان حديث العهد)، وتقدمه للناس وللإعلام على أنه علم الأعلام ومصباح الظلام في مهرجانات (ثقافية) ترصد لها الأموال الطائلة والتفاخر الفارغ، دون تسجيل أو طبع ما يلقى في المهرجان حتى يبقى الباب مفتوحا لتكرار التوسل إلى الناس والإعلام مرات ومرات. إذن، لم يكن تناول التاريخ الثقافي قضية سهلة كما قد يتخيل البعض، ولعل أبرز قضية تواجه الباحث في هذا الخصوص هي مدى وفاء المثقفين للثوابت الوطنية، تلك الثوابت التي حصنت الجزائر عبر العهد الاستعماري من الذوبان والتحلل في البوتقة الأجنبية، ونعني بها الإسلام واللغة العربية والانتماء الحضاري للعروبة، فقد لاحظنا أن الشعارات والرموز والمطالب العامة كانت لا تخرج في البداية عن هذه الثوابت، ولكن هذا الالتزام لم يبق على حميته الأولى بل أخذ يضعف بالتدرج وحلت محله لغة التشكيك والمساءلة والعلمانية المفرطة التي وصلت في نهاية المطاف إلى تبني الاشتراكية العلمية، كما جسدتها الوثائق والنصوص تحت تأثير الصراع الإيدولوجي بين الشرق الاشتراكي والغرب الاستعماري الرأسمالي، وتأثير الجيل الجديد المتعلم في المدارس الغربية ولا سيما الفرنسية، وهو الجيل الذي (استولى) على مقاليد أمور الثورة في الخارج أولا ثم أمور البلاد كلها في الداخل منذ الاستقلال، هذا الجيل كان في الواقع يجهل الثوابت الوطنية لأنه لم يتعلمها في مدرسة ولا في حزب وطني، فتغلبت عليه الأنانية حين رأى أنه هو وحده الذي يمثل النخبة القائدة في البلاد وأنه أقرب ثقافيا إلى الفرنسيين منه إلى مواطنيه الجزائريين. ومن جهة أخرى فإن نصوص الثورة نفسها أخذت تتنكر للثوابت الوطنية.

وستعرف من هذه الدراسة أن القائمين على الثورة، ولاسيما منذ 1956 قد مالوا عن هذه الثوابت وانفتحوا على ما يشبه (العولمة) اليسارية، فهبت على الثورة رياح عديدة مع الجيل الجديد المنضم للثورة ومع (الأصدقاء) الذين أرادوا أن يجربوا في الثورة الجزائرية ما فشلوا في تحقيقه في نقاط أخرى من العالم، أي أرادوا تدويل الأفكار التي يؤمنون بها، لاسيما وأن في الثورة الجزائرية مجالا للشعبية غير المتاحة في الثورات الأخرى، ما عدا ربما في الثورة الفيتنامية، ويظهر تخلي الثورة عن الثوابت في النصوص الصادرة عنها مثل البرامج والاتفاقات والتصريحات، وفي بعض الأحيان كان هناك وجهان للثورة: وجه تعيش به في الداخل ووجه تتحدث به في الخارج، وعندما حاول الخارج فرض مفاهيمه على الداخل سنة 1962 حدث تناقض كبير، ولكن الغلبة كانت لمفاهيم الخارج كما أشرنا. إن هذا المجلد ليس دراسة فلسفية عن الظاهرة الثقافية للثورة الجزائرية، فلو أردنا ذلك لاكتفينا بالانتقاء والتركيز على نماذج معينة صغناها في أفكار وقوالب نظرية، ولكن هدفنا هو متابعة التطور الثقافي للجزائر خلال الثورة، وهذا المنهج اقتضى منا أن نجمع الإنتاج، سمينه وغثة، وتدوينه وتصنيفه حفاظا عليه من التلاشي، لذلك وسعنا من دائرة مفهوم الثقافة لتشمل حتى الإعلام والقضاء والصحة، وتناولنا الجانب النظري في النصوص والأعمال الفكرية مثل أفكار مالك بن نبي ومصطفى الأشراف وفرانز فانون، بالإضافة إلى العناوين المتعارف عليها في الثقافة مثل التعليم والسينما والمسرح والرسم والموسيقى، وتجب الملاحظة أن بعض العناوين لم نستطع تغطيتها كما رجونا لعدم توفر مادتها حاليا مثل المكتبات والمتاحف والمؤسسات التعليمية كالجامعة ومعاهدها. لذلك اختلفت مادة هذا المجلد عن باقي المجلدات السابقة في بعض التفاصيل، فهو مثل سابقيه يجمع مفهوم الثقافة في كونها (جزائرية) بقطع النظر عن كون العمل الثقافي أنتجه جزائريون ثائرون على الاستعمار أو عاملون فى

إدارته ومؤسساته، وسواء كتبوا إنتاجهم بلغتهم الوطنية أو بلغة المستعمر، وسواء كانوا يعيشون داخل الجزائر أو خارجها، وتتبعا لهذا المسلك اضطررنا إلى أن يواصل هذا المجلد ما توقف عنده في أخواته، وأحيانا وجدنا معلومات على فترة عالجناها سابقا فأضفناها إلى هذا، استكمالا للمعلومة، أما ما كنا متأكدين من أنه انتهى بزمنه فلم نرجع إليه. ولكن هذا المجلد ليس كاملا من جميع النواحي، ولا يدعى أن يكون كذلك، لأن الكمال العلمي والإحاطة الدقيقة مستحيلان علميا وعمليا، فلن يجد كل أديب وكل فنان وكل مفكر نفسه فيه، ولن يدعي الإحاطة بكل فكرة أو وثيقة أو رأي، بل على الباحثين أن يطوروا منه ما شاءوا من آراء وأفكار، وعلى آخرين أن يبحثوا انطلاقا منه على مؤلفين وفنانين ومنتجين آخرين، فهذا الكتاب لا يزعم أنه جمع فأوعى أو أنه قطع الطريق على كل الباحثين. وقبل أن أضع القلم يجب أن أنوه بجهود كل الذين ساهموا في تسهيل مهمتي العلمية لإنجاز الكتاب، فأنا مدين لهم جميعا بالشكر والتقدير. أغتنم هذه الفرصة لأشكر كل الذين أمدوني بآرائهم في بعض قضايا هذا الكتاب، وأخص بالذكر الأستاذين الكريمين الأمين بشيشي وعبد الحميد مهري. فقد أجريت مقابلة مع الأستاذ بشيشي في المركز الوطني للدراسات والبحث في الحركة الوطنية وثورة أول نوفمبر، يوم 09 يناير 2005 صباحا، ودامت المقابلة حوالي ساعتين ونصف. أما الأستاذ مهري فقد استقبلني في بيته: 30 شارع سعيد حمدين بحيدرة، يوم الأحد 12 جوان، 2005 على الساعة العاشرة، ودامت المقابلة ساعتين. أ. د/ أبو القاسم سعد الله الجزائر (ابن عكنون) في 12/ 02/ 2006.

الفصل الأول عشية الثورة

الفصل الأول عشية الثورة عرفت الجزائر تجربة الأحزاب والانتخابات مبكرا إذا ما قورنت بالمنطقة العربية، رغم أن ميلاد الأحزاب فيها كان عسيرا وإجراء الانتخابات كان نموذجا للتزوير، فلم تظهر الأحزاب أو بالأحرى التجمعات إلا منذ نهاية الحرب العالمية الأولى، مع ظهور تنظيم (الأخوة الإسلامية) للأمير خالد في الجزائر، ونجم شمال إفريقيا في فرنسا، وكلاهما كان شكلا بدائيا للحزبية، ومثلهما هيئة النواب وتجمع ابن جلول وأحباب البيان في الجزائر، وحزب الشعب في فرنسا، ويمكن القول إن التنظيم الحزبي الحقيقي لم يظهر إلا على يد حزب الشعب والحزب الشيوعي ثم حزب البيان. أما الانتخابات النيابية فقد بدأت في الجزائر منذ 1848 ولكنها لم تطبق إلا على الفرنسيين عند قيام الجمهورية الثانية في فرنسا، وأما الجزائريون فلم يكن لهم أي دور في هذه الانتخابات بحيث كان لهم نواب في المجالس المحلية ولكن بالتعيين من قبل الإدارة الفرنسية نفسها بعد أن تتأكد من سيرة كل معين ومن ولائه، وأول انتخابات شارك فيها الجزائريون جرت سنة 1920 وهي التي شارك وفاز فيها الأمير خالد وقائمته من أجل مقاعد في بلدية مدينة الجزائر، فكانت هذه الانتخابات البلدية أول تجربة خاضها الجزائريون، ثم استمرت وتوسعت ولكنها ظلت دائما تجري تحت نظر الإدارة التي تنجح فيها من تشاء وتبعد عنها من تشاء إلى اندلاع الثورة، وتلك الطريقة في التدخل في الرقابة والاختيار هي التى أصبحت معروفة عند الجزائريين بالانتخابات المزورة أو

الحالة الاقتصادية والإدارية والسياسية

الانتخابات على الطريقة النيجلانية، نسبة إلى الحاكم العام مارسيل نيجلان (1952 - 1948) الذي كان يشرف عليها شخصيا. دعنا نقل كلمة عن الحالة العامة عشية الثورة حتى ترتبط فعاليات النشاط الثقافي بالوضع العام في الجزائر. الحالة الاقتصادية والإدارية والسياسية الحالة الاقتصادية يقول الدارسون لاقتصاد الجزائر إنها عاشت أزمة اقتصادية حادة منذ الحرب العالمية الأولى ولم تبدأ في الخروج منها إلا أوائل الخمسينات، وكان الخروج منها يعود إلى الأداء الذي عاشه الاقتصاد الفرنسي بعد الحرب من جهة وبفضل الاستثمارات الي تولدت عن خطة أو برنامج السنوات الأربع ابتداء من 1949، ولكن النمو والعافية لم يؤثرا في كل القطاعات الاقتصادية بدرجة متساوية، مثلا بين 1930 - 1955 تطورت القطاعات الاقتصادية كما يلي (1): القطاع ... 1930 ... 1955 .... النسبة الزراعة ... 194 ... 210 ... 30% المناجم ... 14 ... 19 ... 1، 2% المصنوعات والطاقة ... 33 ... 104 ... 4، 6% البناء والأشغال العمومية ... 13 ... 47 ... 5، 4% النقل والأعمال والخدمات ... 169 ... 269 109% الإدارة المدنية ... 36 ... 80 ... 3، 3 % فيكون إجمالي الإنتاج المحلي ... 460 ... 730 ... 8، 1%

_ (1) المصدر: جون رودي، الجزائر الحديثة، نقلا عن سمير أمين: اقتصاد المغرب، ج 1، ص 186.

لقد كانت الزراعة والمناجم في وضع راكد، أما النمو الجزئي الذي عرفه القطاع الزراعي فقد كان في المجال الحديث حيث كان المستفيدون منه هم الكولون - المستوطنون، أما في المجال الزراعي التقليدي حيث الزراعة هي أساس الاقتصاد لأغلبية السكان فقد استمر التراجع فيه حتى عاد إلى ما كان عليه منذ ستين سنة خلت، فإنتاج الحبوب مثلا لم يتقدم تقريبا منذ فاتح القرن العشرين، أما الإنتاج الحيواني فقد انكمش بشكل ملحوظ، وفي سنة 1953 ربح الكولون 34، 000 فرنك عن معدل الهكتار المزروع بينما الفلاح الجزائري لم يربح سوى 6، 400 فرنك، لقد كان الدخل السنوي للفلاحين، (وعددهم 5، 840، 000 نسمة) هو 19، 200 فرنك، أما الطبقة الوسطى (منها 92? أوروبيون) فكان دخلهم السنوي هو 227، 000 فرنك، وأما دخل الطبقة العالية (البرجوازية) فكان 1، 500، 000 فرنك (1). ولاحظ مصدر خبير بالحياة الاقتصادية والبطالة والتعليم عشية الثورة بأن 11% فقط من اليد العاملة للسكان المسلمين، بينما 42% للكولون في كل الأعمال ذات الصلة بالصناعة، ثم إن 92% من الأنشطة الصناعية والتجارية كانت في أيدي الأوروبيين، وأما في ميدان التوظيف فهناك 19% فقط من الموظفين في القطاعات الاقتصادية المؤممة كانوا مسلمين، وبالنسبة للتعليم الذي سنتناوله في فصل لاحق، لاحظ الباحثون أن طفلا واحدا مسلما من كل عشرة أطفال كان يذهب إلى المدرسة، بينما كل الأطفال الأوروبيين تقريبا كانوا يدرسون، أما الأمية فقد بلغت 94% في الرجال المسلمين و 98% في النساء المسلمات، ولم يدخل التعليم الثانوي من المسلمين سوى 7000 تلميذ، ولا التعليم العالي سوى 685 طالبا، ومن حيث التجهيزات كانت مزارع الأوروبيين مجهزة بـ 19509 من الجرارات بينما المسلمون ليس لهم سوى 418 جرار.

_ (1) المصدر: جون رودي، مرجع سابق، ص 186.

الحالة الإدارية والسياسية

لذلك كان قطاع الأروبيين يتج 9، 74 قنطارا، أما قطاع المسلمين فلا ينتج سوى 4، 65 قنطارا. وكانت 73% من الأرض التي يملكها المسلمون مقسمة إلى أقل من عشرة هكتارات، أما الأراضي التي يملكها الكولون فكان 80% منها مقسما إلى أكثر من 100 هكتار، وكانت ملكية الأرض تلفت الانتباه وتحدث عن نفسها. فالأوروبيون يملكون 7، 2 مليون هكتار، بينما يملك المسلمون 3، 7 مليون هكتار، غير أن الأوروبيين يملكون أكثر الأراضي خصوبة وغنى (1). الحالة الإدارية والسياسية بالنسبة للوضع القانوني والإداري للجزائريين عشية الثورة نلاحظ أيضا مجموعة من الاستثناءات، فهذا المستشرق الفرنسي لويس ماسينيون يقول إن الجزائريين المسلمين كانوا من الناحية القانونية رعايا فرنسيين منذ 1834، 1865 وليسوا مواطنين. ولم يعطهم القانون حق إرسال نواب عنهم إلى البرلمان الفرنسي إلا سنة 1944، أما دستور سبتمبر 1947 المعروف بقانون الجزائر فقد منحهم المواطنة الفرنسية الكاملة، حسب قوله، اعتمادا على التصور الإسلامي لحكم أهل الذمة (!) ولكن مع إبقائهم على أحوالهم الشخصية الإسلامية، ونتيجة للقانون الأخير (الدستور) ألغيت القيود على الهجرة العمالية إلى فرنسا، وتم منح العلاوات والتقاعد لقدماء المحاربين الجزائريين بالمساواة مع الفرنسيين، وفرضت الخدمة العسكرية الإجبارية على جميع الاحتياطيين (2). أما من الناحية الإدارية فقد كانت الجزائر مقسمة إلى ثلاثة أقاليم على رأس كل إقليم وال، وله نواب، وكل ولاية مقسمة إلى دوائر، وكل دائرة إلى

_ (1) ديفد غوردن، نهاية الجزائر الفرنسية، لندن 1966، ص 51 - 52. (2) لويس ماسينيون، حولية العالم الإسلامي، 1954، باريس، 1955، ص 230.

بلديات إما كاملة الصلاحيات وإما مختلطة، هذا في شمال البلاد، أما في جنوبها، فهناك أربع مقاطعات عشية الثورة، وهي: عين الصفراء، والواحات الصحراوية، وغرداية، وتقرت، بالإضافة إلى عشر بلديات مختلطة، وتسع ملحقات، إضافة إلى تيديكلت وجانت والهقار، وهي مناطق تابعة للملحقات، وهناك قانونان مهمان في هذا المجال أولهما قارن أول أغسطس 1918 الذي استرجع العمل بنظام (الجماعة) الريفية المنتخبة أو المعينة محليا في البلديات كاملة الصلاحيات، وثانيهما قانون 6 فبراير 1919 الذي عممها ونظمها (أي الجماعة) في كل الدواوير (البلديات)، فقد كانت هذه الجماعات موجودة في الماضي واسترجعت الآن صلاحياتها، وهي تتداول في تسيير شؤون القرية مثل ملكية الأرض العروشية (التابة للعشيرة أو العرش) والتصرف في المال العام (1). فإذا انتقلنا إلى الجانب السياسي وجدنا الحكم في يد الوالي العام الممثل للحكومة الفرنسية في الجزائر والمعين من قبلها، وهو يتبع رسميا وزارة الداخلية باعتبار أن الحكم في الجزائر مدني، وكان اسم الحاكم عند اندلاع الثورة هو (روجي ليونار)، والحاكم يبقى عادة في ولايته بين ثلاث وأربع سنوات، وهو يسير شؤون الجزائر إداريا وسياسيا وعسكريا واقتصاديا، وتحته مجموعة من المصالح والإدارات والقطاعات العسكرية والمؤسسات الاقتصادية، وقد جرب الجزائريون عددا كبيرا من هؤلاء الولاة فوجدوهم غالبا خاضعين لضغط أصحاب المصالح الاقتصادية والسياسية من الكولون، وقد تدعم موقف هؤلاء منذ أصبحت الميزانية تناقش في الجزائر ثم ترفع إلى الحكومة والبرلمان الفرنسي للموافقة عليها، ولم يكن للجزائريين أدنى سلطة ضغط لأنهم لم يكونوا يتمتعون بالحقوق السياسية والحريات المدنية من جهة، ولأنهم لم يكونوا ممثلين في البرلمان الفرنسي حيث تناقش الميزانية من قبل ممثلي الكولون ثم

_ (1) ماسينيون، مرجع سابق، ص 234.

تتم الموافقة عليها في غياب كامل للجزائريين. وهذا هو ما يجرنا إلى الحديث عن مسألة التمثيل النيابي، بناء على قانون 1947 أصبح للجزائر مجلس محلي (برلمان) يسمى المجلس الجزائري، صلاحياته تنتهي عند مناقشة ما يعرضه عليه الوالي من مسائل، فهو مجلس استشاري وحسب، ولكن تركيبته هي الأهم، فهو يتألف من 120 عضوا، نصفهم جزائريون ونصفهم فرنسيون (رغم فارق عدد السكان)، ومدته ست سنوات، لكن نصفه ينتخب كل ثلاث سنوات، والغريب في أمر هذا المجلس أن له هيئتين انتخابيتين وليس هيئة واحدة (مسلمون وأوروبيون) فالقسم الأوروبي (الفرنسي) يتمتع أعضاؤه بكامل حقوق المواطنة القانونية حسب القانون المدني الفرنسي، وأما القسم الثاني [الثاني ليس في الترتيب فقط ولكن في الاعتبار أيضا] فهو القسم الأهلي الذي يتكون أعضاؤه من مواطني الحالة الإسلامية. عند اقتراب الثورة كان أغلب أعضاء القسم الأول في المجلس من الراديكاليين المستقلين (بالتعريف الفرنسي)، أما أعضاء القسم الثاني فأغلبهم (51 منهم) من المستقلين، وكل هيئة في المجلس يمثلها ستون عضوا، وعبارة (مستقلين)، بالنسبة للجزائريين تعني أن الإدارة هي التي أوعزت لهم بالترشح وضمنت لهم النجاح حتى تقطع الطريق أمام مرشحي الأحزاب الوطنية واليسارية، مثل حزب الشعب (حركة الانتصار) وحزب البيان، والحزب الشيوعي، أما جمعية العلماء فرغم أنها تعتبر قائدة لتيار إصلاحي قوي فإن رجالها لا يترشحون في الانتخابات لأنها جمعية دينية ثقافية وليست حزبا سياسيا (1).

_ (1) ماسينيون، مرجع سابق، ص 233، والملفت للنظر أن ماسينيون ذكر (الأحزاب السياسية الإسلامية الكبيرة): حركة الانتصار وحزب الشعب، وحزب البيان، وحزب العلماء المصلحين (كذا) وأهمل ذكر الحزب الشيوعي، ربما لأن من بين أعضائه فرنسيين.

جبهة الدفاع عن الحرية ومسألة الاتحاد

وفيما يلي سنتحدث باختصار عن هذه الأحزاب وقادتها، وسنركز على حزب الشعب (حركة الانتصار) باعتباره المخطط للثورة وكون القيادات الأولى برزت من صفوفه، ثم نركز على جمعية العلماء باعتبارها جمعية ثقافية أعدت الجماهير روحيا ودينيا لتحتضن الثورة، وباعتبار عملنا هذا يتناول الجانب الثقافي. جبهة الدفاع عن الحرية ومسألة الاتحاد عندما أصبح تزوير الانتخابات مسألة مكشوفة تمارسها الإدارة دون وجه حق ولا غطاء شرعي، وعندما تكاثرت الاعتداءات على الحريات المدنية والسياسية بالاعتقال ومصادرة الصحف وإغلاق المدارس تجاوبت الأحزاب المذكورة، بالإضافة إلى جمعية العلماء والشخصيات المستقلة والتأمت في العاصمة لتكوين (جبهة للدفاع عن الحرية واحترامها)، هكذا ولدت هذه الجبهة في أغسطس 1951 على يد زعماء الأحزاب وجمعية العلماء، ورغم الخطب والإعلان عن برنامج جذاب وفي الصميم فإن الجبهة سرعان ما تفتتت وتخلت عن مواصلة الاجتماعات والعمل المشترك، وبذلك انتصرت الإدارة التي واصلت سياستها القمعية وانتخاباتها المزورة. وقد طرحت بعد ذلك جريدة (المنار) استفتاء على الاتحاد، وتعني به اتحاد القوى الوطنية لمواجهة الإدارة الماضية في سياستها القمعية فاستجاب الكتاب لفكرة الاتحاد قادة وأتباعا، سياسيين ومثقفين من كل الفئات، فكانت حملة إعلامية، ملأت الفراغ بعض الوقت بعد أن أصبح عامة الناس متضايقين منه أمام فشل الأحزاب في تحقيق الآمال الوطنية، بل وانشغال بعض الأحزاب بانشقاقات داخلية. انشقاق في حزب الشعب من هذه الأحزاب التى كانت تعاني الانشقاق في وقت عصيب حزب

الشعب الذي كان بزعامة مصالي الحاج، هذا الحزب الذي تأسس سنة 1937 ظل هو العمود الفقري في سياسة المطالبة باستقلال الجزائر والعمل على تحقيق ذلك بكافة الوسائل ومنها السلاح، وفي مرحلة قريبة من بداية الثورة جرى داخل الحزب بعض الخلاف حول الطرق المؤدية للاستقلال: هل هي مقاطعة العمل السياسي داخل النظام أو التعامل مع النظام بوجهين: وجه ظاهري تمثله المشاركة في الانتخابات ووجه باطني أو سري وهو الإعداد لثورة مسلحة، وقد استقر الرأي على ذلك المنهج فأصبحت (حركة الانصار) هي الوجه السياسي الظاهري و (المنظمة الخاصة) هي النواة لتحضير الثورة في السرية، بينما بقي حزب الشعب الذي حلته السلطة الفرنسية واعتبرته خطرا على أمن الدولة ومصير الجزائر الفرنسية، هو التنظيم الذي يغطي الاثنين وهو المرجع في السياسة وفي العمل المسلح. ولابد من القول إن الحزب قد تضخم وتجدد ودخلته عناصر مثقفة، مارست السياسة وحركتها الحياة في السجون، وأصبحت لها آراؤها في وضع الإستراتيجية المناسبة للمرحلة، لذلك برزت شخصيات قائدة في كل تنظيم سواء في المنظمة الخاصة أو حركة الانصار، وأصبح هناك قادة عسكريون وقادة سياسيون، وفيهم النواب في الجزائر وفرنسا، وفيهم الصحفيون والصيادلة والأطباء والمعلمون، وقد حدث انشقاق بين (الحرس) القديم والقيادة الجديدة، أو بين المحافظين على زعامة الحزب كما هي بقيادة مصالي الحاج وبين (اللجنة المركزية) التي أصبحت بالتدرج تضم جيلا جديدا من السياسيين الميدانيين، وقد ظهرت التسمية الجديدة بعد قطع الجسر بين أنصار مصالي وخصومه داخل الحزب، وبعد أن فشلت جهود التوفيق بينهما على يد بعض العناصر من المنظمة الخاصة. لماذا لم يعد مصالي الحاج محل ثقة أعضاء الحزب؟ إن مصالي ظل يملأ الساحة السياسية لحزبه وأنصاره منذ 1927، فهو المرجع السياسي الوطني عندما كان العمل السياسي مرتكزا في فرنسا، وهو كذلك المرجع عند ما انتقل

العمل السياسي إلى الجزائر وانتشرت خلايا الحزب في مختلف جهات الوطن، بنى مصالي الحاج شخصية ذات هالة (كاريزمتية) عند أتباعه، وحتى على المستوى الشعبي، فكان له مظهر الزعيم ممسكا بزمام الحزب، رغم أن خصومه ينتقدون مستواه الفكري وقدرته في الذكاء، وكان يقال إن عقيدته كانت وطنية يسارية (ماركسية) لتأثره بمبادى الحزب الشيوعي الفرنسي ولكون زوجته الفرنسية كانت شيوعية صريحة، ولكن عقيدته تحولت إلى عربية إسلامية تبعا للتيار القومي والإسلامي الذي كان ينشط في المشرق خلال الثلاثينات، كان البعض من أتباعه قد اتهمه بالفردية والاستبداد بالرأي ونشر (عبادة) الفرد، وهذا ما أخذته عليه اللجنة المركزية عشية الثورة حين بلغ الخلاف بينهما أشده، وأقصى كل منهما الآخر، وكان من نتيجة هذا الخلاف تأخير إعلان الثورة حوالي سنتين، ومن نتائجه أيضا أن الثورة قد أعلنت بدون مصالي وبدون خصومه المركزيين، فقد أعلنها فريق ثالث من الحزب ذاته منبثق عن المنظمة الخاصة ليجعل المتخاصمين أمام الأمر الواقع ويجبرهما على الانضمام إلى الثورة بدل الجدال العقيم حول الزعامة. ولعل من المأساة أن يعيش المرء عيشة مصالي، فقد ظل فترة طويلة في السجون الفرنسية (في الجزائر، وفرنسا، وإفريقيا) بينما كان الحزب ينمو ويكبر عددا وفكرا، ومع السن والمسافة لم يعد مصالي قادرا على متابعة الأحداث وفهم ذهنية الأجيال إلا بواسطة وذلك لا يكفي، فالاستعمار الفرنسي يقتل بعض الزعماء قتلا بطيئا بينما يصنع الفرص لآخرين حتى ينتفخوا ويصيروا زعماء، ورغم شهرته فإن مصالي لم يخرج عن فرنسا وسويسرا (أو أدغال إفريقيا) ولم يزر المشرق العربي سوى مرة واحدة عندما أدى فريضة الحج، ولم يمر على تونس أو ليبيا أو سوريا لأن الرخصة التي أعطيت له للحج صيف 1951 اشترطت عليه السفر جوا. ومع ذلك فإن مصالي نزل مصر بعد أداء الحج، وكانت له فيها أنشطة شملت الأزهر والجامعة العربية ومكتب المغرب العربي، ويبدو أنه أقام في مصر

بضع أسابيع ظهر فيها محل تقدير وتكريم، فنحن نجده في إحدى الصور بلباسه الأوروبي مع الطربوش واللحية الطويلة وهو يتبادل الحديث مع بعض الأعيان كالدكتور منصور فهمي والشيخ عبد اللطيف دراز شيخ الأزهر، ومفتي فلسطين الحاج أمين الحسيني، ورئيس الجمعية الملكية الفلاحية فؤاد أباظة، ويبدو من المؤكد أنه التقى عبد الرحمن عزام الأمين العام للجامعة العربية، وفي هذه الأثناء اتخذت اللجنة السياسية للجامعة العربية قرارا برفع القضية المراكشية إلى هيئة الأمم المتحدة، وقد ذكرت جريدة (منبر الشرق) نبذة عن حياة مصالي وأفكاره السياسية ونشاطه في جنيف مع صديقه علي الغاياتي وغيره، وصرح للصحفي عبد الكريم محمد الذي يعرفه من قديم بأن البلاد العربية المسلمة لن ينقذها إلا العودة إلى تعاليم الإسلام ووحدة العرب والمسلمين حول الإسلام (1). ويبدو أن أتباع مصالي في الجزائر وفرنسا كانوا يعتقدون أنه سيغتنم فرصة وجوده في المشرق لأول مرة ويوسع من دائرة التعريف بالقضية الجزائر وربما نصحوه بأن يختار الإقامة هناك، كما فعل الأمير الخطابي وغيره، بدل البقاء في السجون الفرنسية، ولكن مصالي فاجأ الجميع بالرجوع إلى أوروبا، والحلول بسويسرا بدعوى التعريف بالقضية الجزائرية في الأمم المتحف التي كان مقرها عندئذ في جنيف، وقد أقام مصالي مأدبة في أوائل ديسمبر 1951 للوفود العربية والإسلامية بهيئة الأمم في جنيف، ومن الذين حضروا المأدبة عبد الرحمن عزام وأحمد الشقيري ورؤساء وفود الدول العربية والإسلامية (2). ومما يلفت النظر أن مصالي ألقى فيهم خطابا نوه فيه بالكرم الذي حظي به لدى الحكومات والشعوب العربية والإسلامية أيام إقامته في المملكة العربية السعودية ومصر، ووعدهم بأن الشعب الجزائري سيحقق آمالهم، وبعد حوالي شهرين ونصف قامت السلطات الفرنسية باعتقال مصالي وهو متجه إلى بوردو

_ (1) المنار، 15، 22 أكتوير 1951. (2) المنار، 11، 8 ديسمبر 1951

جمعية العلماء المسلمين الجزائريين

(فرنسا) (1). وهكذا دخل مصالي القفص من جديد وظل الحزب بدون زعيم يعيش قضاياه ويحس بصوت الشعب عن قرب إلى أن انفجرت الأزمة التي أشرنا إليها والتي استعصت عن الحل، ولم ينهها إلا دوي الثورة. جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في اجتماع الجمعية الذي انعقد في سينما دنيا زاد في سبتمبر 1951 تحت رئاسة الشيخ محمد البشير الإبراهيمي قدمت التقارير المالية والأدبية استعرض فيه نشاط الجمعية منذ سنة 1943، وخلاصة ذلك أنه أصبح للجمعية 123 مدرسة ذات هندسة منسجمة مع تاريخ العمران الإسلامي (الأندلسي) وذلك أمر مقصود من الجمعية لتحافظ على الطراز التاريخي والذوق الفني، ولتفهم الأجيال تراث الأجداد، والعدد المذكور من المدارس لا يدخل فيه المعطل بسبب الإدارة الفرنسية أو بسبب العجز، أما عدد المعلمين فقد بلغ 175 معلما وهم يتقاضون أجورا متدنية لا تكاد تسد الرمق، وقد بلغت ميزانية المعلمين في الجمعية 37 مليون فرنكا سنويا، والمعلمون عرضة دائما للقمع الإداري والتغريم والمحاكمة والسجن مع المجرمين. من الأعمال التي أعلن عنها في هذا الاجتماع أيضا أن الجمعية أنشأت لجنة عليا للتعليم والتفتيش، وكانت ما تزال تحت التجربة، ولم تتقدم في نشاطها للنقص في التمويل، وقد بلغت نفقاتها خلال السنة التجريبية مليون فرنك، والمعروف أن هذه اللجنة قد تطورت ونمت وعاشت إلى سنة 1956 على الأقل رغم الخطوات المتعثرة التي بدأت بها. كما أنشأت الجمعية معهد عبد الحميد بن باديس في قسنطينة، وكان إنشاؤه وفاء لرئيسها ابن باديس، وقد أصبح المعهد يضم حوالي 700 تلميذ

_ (1) المنار، 16، 15 فبراير 1952.

واثني عشر معلما، والدراسة فيه تعتبر جسرا للتعليم الثانوي، فهو يوصل لشهادة الأهلية ثم ينتقل تلاميذه إلى الزيتونة للحصول على شهادة التحصيل أو الثانوية العامة، وكانت الجمعية تخطط لإنشاء كلية في قسنطينة أيضا للطلبة المتخرجين من جامع الزيتونة والمعاهد الإسلامية الأخرى. كما عادت البصائر للظهور، وهي جريدة - كما ستعرف - كانت مقروءة في المغرب العربي والمشرق وحتى في الأمريكيتين، وقد قال عنها الإبراهيمي، رئيس تحريرها وصاحب امتيازها (إنها سيف من سيوف الإسلام، وقبس من روحانية الشرق) حملت على الاستعمار، وشاركت في قضية فلسطين وانتقدت العرب المتخاذلين، ومنعت من دخول المغرب الأقصى لأنها تبنت قضيته الوطنية ونددت بتصرف الاستعمار فيه، وأضاف الإبراهيمي أن البصائر (استردت للجزائر ما كانت مغبونة فيه من حسن السمعة). ومن جهة أخرى بسطت الجمعية وجريدتها القول في قضية فصل الدين عن الدولة، وقدمت بشأنها مقترحات إلى النواب بالمجلس الجزائري، وعالجها الإبراهيمي في عدة مقالات متصلة الحلقات. وفي نفس الاجتماع تحدث الإبراهيمي عن نشاط الجمعية في فرنسا ولماذا اختارت أن ترسل مندوبا عنها إلى الجالية الجزائرية هناك، وهي الجالية التي بلغت أكثر من مائة ألف نسمة، ولها أطفال بلغوا العشرين ألفا وكلهم يقضون مضاجع الجمعية الحريصة على توصيل رسالة الإسلام واللغة العربية إلى هذه الجالية وتعتبر نفسها مسؤولة على رعاية الجالية دينيا وأخلاقيا في بلاد الغربة، لذلك أرسلت وفدا من الشيوخ منهم الفضيل الورتلاني، وسعيد صالحي وعبد الرحمن اليعلاوي، ثم الربيع بوشامة وسعيد البيباني، وذكر الإبراهيمي أن الثلاثة الأوائل حاولوا الحصول على محل (مكتب) دائم للجمعية في باريس، فلم ينجحوا، ولكنهم بذلوا جهودا في فتح نوادي تهذيبية، والمقصود بها محلات لتعليم الدين والأخلاق واللغة العربية وإلقاء دروس الوعظ والإرشاد بما يربط

الجالية بوطنها ودينها خوفا عليها من الضياع في الحياة الفرنسية، وبينما فشلت الجمعية في الحصول على مركز في باريس حتى بعد سفر الإبراهيمي إليها فإنها، نجحت في الحصول على مكتب في القاهرة بفضل جهود ثلاثة رجال لم يذكر الإبراهيمي أسماءهم، وهم أنفسهم قاموا بتدبير بعثات طلابية للجزائريين من قبل حكومة مصر وباكستان، ولا شك أن أحد هؤلاء الرجال هو الفضيل الورتلاني. وبنهاية الاجتماع قرأ الشيخ إبراهيم مزهودي تقريرا عن نشاط الجمعية في فرنسا، وألقى الشاعر أحمد سحنون قصيدة، وشاركت الأحزاب السياسية المدعوة بالحضور وإلقاء الكلمات، فقد تحدث العربي دماغ العتروس (وهو نائب عن حزب الشعب في المجلس الجزائري) باسم حركة الانتصار، وتكلم عبد الحميد بن سالم باسم حزب البيان، ويونس كوش عن الحزب الشيوعي، وأحمد توفيق المدني عن الجبهة الجزائرية للدفاع عن الحرية، وختم الشيخ العربي التبسي الاجتماع بخطبة ناقش فيها من يقول إن الجمعية لا تتدخل بالسياسة، ففي نظره أن جمعية العلماء هي جمعية لكل الجزائريين بحكم مبادئها، وما دامت السياسة قد تدخلت في الدين (يقصد الحكومة الفرنسية وسيطرتها على شؤون الدين الإسلامي) فإن الجمعية تقف مع الديمقراطية وحقوق الإنسان لأن الإسلام والاستعمار لا يلتقيان (1). على هذا المنوال سارت جمعية العلماء في الجزائر، لكن حدثت أحداث جعلتها في الواجهة أحيانا أو كما قال الشيخ التبسي لا تستطيع ألا تدخل في السياسة لأن هذه تدخلت في شؤون الدين الإسلامي، ففي يناير 1952 غادر الإبراهيمي الجزائر عبر فرنسا متجها إلى المشرق لكي يحضر مؤتمرا إسلاميا في باكستان ويدبر منحا لطلبة المعهد ثم يرجع، ولكنه لم يرجع لحدوث الثورة وانقطاع السبل بأمثاله، وأثناء ذلك وقعت تغييرات في الجمعية أصبح بها النائبان

_ (1) المنار، أكتوبر، 1951.

(الشيخ التبسي والشيخ محمد خير الدين) يتنافسان على إدارة الجمعية، وأصبح أحمد توفيق المدني هو الكاتب العام ورئيس تحرير البصائر، ووقع بعض التمرد من الطلبة في القاهرة ضد سلطة مكتب الجمعية، وخصوصا ضغط الشيخ الورتلاني الذي كان يعمل - كما قيل - على إدخال الطلبة في حركة الإخوان المسلمين، بينما كان مكتب المغرب العربي في القاهرة الذي يسيطر عليه حزب الشعب الجزائري، يعمل على جذب الطلاب إليه، وكان لهذه التطورات ارتداداتها في الجزائر لدى أولياء الطلبة والأساتذة، ولذلك طلب المجلس الإداري للجمعية في اجتماعه، سبتمبر 1954، بعودة الشيخ الإبراهيمي لإعطاء تفسير واضح عما حدث مع الطلبة، مع تقديم بيانات عن تأزم الوضع في الجزائر وحرج الجمعية من اتخاذ مواقف في غيابه (1). ويرى بعض الباحثين أن العلماء خدموا التعليم الحر واللغة العربية، وقاموا بالوعظ والإرشاد في المساجد الحرة عندما لم تسلم لهم الإدارة الشؤون الدينية التي ظلت تشرف عليها، كل ذلك في ظرف قصير بين 1947 و 1954، ومن جهتها قامت فرنسا بحل اللجان الاستشارية للديانة الإسلامية التي كان يشترك فيها موظفون فرنسيون، بتاريخ الثالث من أغسطس 1944، وهو إجراء رأى فيه العلماء انتصارا لهم لأنه سيمكنهم من الإشراف على الشؤون الإسلامية ويحقق ما سعوا إليه طويلا وهو فصل الدين الإسلامي عن الدولة الفرنسية أسوة بما حدث مع النصرانية واليهودية، لكن الإدارة لم تسلم لهم الشؤون الإسلامية وفتحت في المجلس الجزائري نقاشا لا طائل تحته مما أتاح لها (الإدارة) الإبقاء في يدها على تعيين ممثلي الديانة الإسلامية رغم الوعد بالفصل الذي جاء في قانون (دستور) 1947. وهكذا أبقى المجلس الجزائري شؤون الدين الإسلامي في أيدي رجال

_ (1) محضر اجتماع جمعية العلماء بنصبه في كتابا أبحاث وآراء، ج 2، ط 4، بيروت، 2005.

تعينهم الإدارة وتحدد لهم اختصاصاتهم بدل أن يكونوا مستقلين، أما العلماء فكانوا يرون تسليم الشؤون الإسلامية إلى جماعة المسلمين لأنها وحدها الكفيلة والمؤهلة لإدارتها، رافضين أي تدخل فيها من الإدارة، كما كانوا يطالبون الإدارة بإعادة الأوقاف (الأحباس) إلى جماعة المسلمين أيضا، وهي الأوقاف التي استولت عليها فرنسا منذ الاحتلال، وطالب العلماء منذ مايو 1950 بإنشاء مجلس إسلامي أعلى مؤقت يتكفل (بالتعاون مع رؤساء الجمعيات الدينية الجديدة المنتخبين) بإدارة الأوقاف والموارد الرئيسية الضرورية لأجور الموظفين الدينيين، وقد ظلت هذه القضية تراوح مكانها إلى اندلاع الثورة، وكانت من القضايا التي زادت في بعد المسافة بين العلماء والإدارة، ومهما كان الأمر فإن العلماء لجأوا بعد فشلهم إلى إنشاء المساجد الحرة التي انطلقوا منها في دروس الوعظ والإرشاد وهي مشيدة بأموال أنصارهم، وقد نجحوا في ذلك نجاحا كبيرا (1). أما المجال الآخر الذي نشط فيه العلماء ونجحوا فيه فهو نشر اللغة العربية والدفاع عنها، بالإضافة إلى أنهم طوروا الصحافة العربية وأسهموا في حركة الطباعة العربية، وكلها كانت مظاهر لنهضة تعليمية وأدبية واضحة، وإليك بعض الإحصاءات الأخرى عن عدد المدارس والتلاميذ الذين تشرف عليهم جمعية العلماء ابتداء من 1947، ففي هذا التاريخ كان عدد التلاميذ حوالي عشرين ألفا وعدد المدارس حوالي تسعين مدرسة، وفي التاريخ المذكور افتتحوا، كما سبق، معهد ابن باديس الذي كان يضم حوالي 700 تلميذ يتأهلون فيه للالتحاق بجامع الزيتونة. وفي سنة 1954 أعلنت الجمعية قائمة بمدارسها فإذا هي 124 مدرسة وعدد معلميها 274 معلما، ولكنها في سنة 1954 أعطت رقم أربعين (40) ألف تلميذ، بينما الإدارة الفرنسية تضع الرقم في حدود 22000 تلميذ، أما في

_ (1) شارل روبير آجرون، تاريخ الجزائر المعاصرة، ج 2، ص 581 - 582.

الحالة الاجتماعية

سنة 1955 فقد كان العلماء يملكون 181 مدرسة منها 58 مدرسة ذات تعليم راق ولكن عدد التلاميذ انخفض إلى 11000 تلميذ، وكان برنامج التعليم عند العلماء يكاد ينحصر في مواد اللغة العربية والدينية، بينما أهملت تقريبا المواد العلمية، ومن فضل هذا التعليم أنه يكون شبابا طليق اللسان والقلم في اللغة العربية واستعمال ما سماه آجرون باللغة العربية الحديثة (1). عرج الشيخ الإبراهيمي على فرنسا في طريقه إلى المشرق سنة 1952، وبالإضافة إلى ما أعلن عن اتصالاته بالقادة العرب وحضور نشاط ثقافي كانت تقوم به منظمة اليونسكو فإن تفقد أنشطة الجمعية في باريس كان على رأس أولوياته، وربما كان العلاج من بينها أيضا، كان الإبراهيمي قد أشار في خطبته في سينما دنيا زاد في نوفمبر سنة 1951 إلى أن نشاط الجمعية في فرنسا ليس على ما يرام، ذلك أن أكثر من مائة ألف مسلم كانوا يعيشون بدون إسلام ولا عروبة، ولم يسافر الإبراهيمي إلى فرنسا وحده بل صحبه إليها نائبه أيضا فوجدا استعدادا من الجالية، وقد مهدا الطريق لشراء مركز للجمعية في باريس ولكننا لا نعرف عن دوره الكثير (2). الحالة الاجتماعية جاء في دراسة عن مستوى الحياة في الجزائر سنة 1954 أن عدد سكان القطر وصل إلى تسعة ملايين و 528 ساكنا، منهم مليون و 42، 000 أروبي، ويمثل السكان الأوروبيون 10 في المائة من مجموع السكان، وأن نمو هؤلاء يتماثل مع نمو سكان فرنسا نفسها، أما هجرة الجزائريين فالتقارير الرسمية تشير إلى أن في فرنسا حاليا 300، 000 جزائري نصفهم من القبائل، كما لاحظ التقرير أن مليونا ونصفا من السكان يعيشون في الجزائر من النقود التي يرسلها العمال من فرنسا، وأن خمسة وثلاثين مليارا من الفرنكات أرسلت من فرنسا

_ (1) آجرون، نفس المرجع، ص 582. (2) أنظر سابقا.

الكشافة الإسلامية

إلى الجزائر في شكل حوالات سنة 1954 (1) .. الكشافة الإسلامية قبل الثورة كانت الكشافة الإسلامية نشطة ولها انتشار واسع فيما يبدو، وكانت تمثل توجها وطنيا تعبر عنه في بياناتها وآراء قادتها والأناشيد التي كانت تلقنها لأعضائها، وقد وجدنا اهتماما بها من قبل الصحافة الوطنية مثل البصائر والمنار اللتين كانتا تنقلان أخبار الكشافة بتعاطف واضح، بما في ذلك نشر البيانات وأسماء الأفواج والقادة، وابتداء من سنة 1948 أصبح هناك جناحان للكشافة وهما الكشافة الإسلامية الجزائرية الوفية لمبادى مؤسسها بوراس، والأخرى شبيبة الكشافة الإسلامية الجزائرية التي انطلقت منذ السنة المذكورة والتي يبدو أنها ذات ميول سياسية معاصرة. تاريخيا، ينسب تأسيس الكشافة الإسلامية إلى محمد بوراس الذي قيل عنه إنه كان يخطط لاتخاذ الكشافة وسيلة لعمل عسكري سياسي ضد الاحتلال الفرنسي، وقد انتهى به الأمر إلى الحكم عليه بالإعدام سنة 1941، ولد بوراس بمليانة في 1908، ولا نعرف الكثير عن تعلمه وأولياته، ولا كيف انتقل إلى العاصمة وسكن ضاحية (بولوغين)، ولكننا نعرف أنه اشتغل ضاربا على الآلة الكاتبة، وأنه كان متزوجا وله أولاد، اتهمه الفرنسيون بالاتصال مع الألمان أثناء الحرب العالمية والمساس بأمن الدولة رغم أن فرنسا ساعة محاكمته وإعدامه كانت تحت حكم فيشي، أي تحت الاحتلال الألماني، ولكن الجزائر عندئذ كانت تعيش وضعا خاصا، وكانت محاكمة بوراس سرية، كما بقي تنفيذ الحكم فيه سرا أيضا مدة طويلة، وقد حوكم معه آخرون، منهم محمد بوشارب من مليانة أيضا ومحمد محمودي (المدية) وأحمد فكراش (بني راتن)، وكانت المحكمة عسكرية برئاسة العقيد (دوماسيل) وبحضور المكلف بالشرطة

_ (1) الأرشيف الوطني، علبة 31، تقرير مرقون من ثلاث صفحات بعنوان دراسة عن مستوى الحياة في الجزائر سنة 1954.

(أشياري) المشهور في وقته بالوحشية في التعامل مع الجزائريين، سيما أثناء أحداث 8 مايو 1945 (1) .. في أكتوبر 1950 أصدرت (جامعة الكشافة الإسلامية الجزائرية) بلاغا تقول إنها عقدت اجتماعا في مدرسة الثبات بالحراش وإنها درست عدة مسائل منها ربط العلاقات بجمعيات الكشافة في الخارج وتعميم الإرشاد الديني، كما ناقشت الميزانية ووسائل النشر والتأمين ضد الحوادث، وأخيرا قررت إرسال وفود للدعاية في داخل القطر. ومن جهة أخرى أقامت جمعية العلماء وحزب البيان حفلة للكشافة المذكورة في نفس المدرسة، وهي المدرسة التي كان يشرف عليها الشاعر الشهيد الربيع بوشامة، وفي هذه الحفلة أنشدت الأناشيد وألقيت كلمات من قبل الشيخ الربيع بوشامة والتومي بوعلام رئيس جمعية المدرسة وبعض أعضاء حزب البيان وغيرهم من الرياضيين، كما ألقى بوشامة قصيدة بالمناسبة، ومن الملاحظ أن القائد العام لجامعة الكشافة عندئذ هو الطاهر التجيني (2). وأصدر القائد العام (للكشافة الإسلامية الجزائرية) السيد محفوظ قداش بلاغا يذكر فيه بالاجتماع الذي حصل بتاريخ 28 أكتوبر سنة 1950 بالعاصمة والذي عين المسؤولين في اللجنة المسيرة للكشافة وهم: محمود بوزوزو رئيسا وعمر الآغة نائبا له، ومحفوظ قداش كاتبا عاما، وحمدان بن عبد الوهاب أمينا للمال، وصالح الونشي قائدا للجوالة، وقد حددوا نشاطهم ليكون خلال عيد الميلاد وعيد الفصح والصيف، ومما يلفت النظر بشكل خاص أن البلاغ نص على أن الكشافة تعمل على (تكوين شباب مسلم شهم ذي وعي تام). وبمناسبة عطلة الربيع (الفصح) التقى حوالي 400 شاب في مختلف

_ (1) هذه المعلومات أدلى بها الشيخ بوعمران ومحمد جيجلي، ونشرت في جريدة الشروق اليومي 31 أكتوبر، 2005. (2) البصائر، 134، أول نوفمبر، 1950.

مخيمات القطر (العاصمة وقسنطينة، ومغنية)، وفي مغنية التابعة لولاية وهران خصص يوم 25 مارس 1951 للمساعدة على بناء مدرسة حرة، وفي الليل كان الفتيان يقضون أوقاتهم في السمر بالأناشيد وتمثيل الروايات، أما في قسنطينة فقد انتهى المخيم بحفلة مسرحية ساعد على إحيائها الفوج الكشفي المحلي، وكان الهدف من هذا النشاط هو تكوين شباب واع مخلص لدينه ووطنه، حسب تعبير الجريدة (1). ومن جهة أخرى شاركت وفود من الكشافة الإسلامية الجزائرية في مخيمات عالمية شملت عددا من العواصم الأوروبية مثل برلين وإسبانيا ولوكسمبورغ وإيطاليا وفرنسا، وقد أخبرت المنار أن المشرف على مخيم لوكسمبورغ كشاف جزائري مسلم هو القاهد حمدان بن عبد الوهاب، وسبق لوفود الكشافة أن زارت في وقت سابق مدنا في أوروبا الشرقية وهي براغ وبودابست، ولاحظت المنار أن وفود الكشافة تشرف (الجزائر العربية المسلمة) (2). وكان للكشافة الإسلامية نشرات شهرية بالفرنسية هي: الشبل وهي نشرة خاصة بالأطفال، وصوت الكشاف التي تصدر باللغتين، والجوال، وهي نشرة خاصة بالشبان، وأخيرا النشرة الإخبارية الخاصة بالقادة، كما قررت الحركة الكشفية إصدار نشرة للعموم مرة أو مرتين في السنة لكي تطلعهم عما تم إنجازه من أعمال (3). وفي السنة الموالية نجد الكشافة نشطة بمناسبة عطلة الربيع أيضا، وشمل نشاطها إقامة مخيمات في تلمسان والأوراس وغيرهما، وأخبرت المنار أن هناك مفاوضات بين الكشافة واتحاد الشبيبة الديموقراطية الجزائرية (؟) وهو اتحاد ربما يرجع إلى بعض الأحزاب والمنظمات اليسارية، والهدف من المفاوضات

_ (1) المنار، 3، 4 مايو 1951. (2) المنار 6، 30 يوليو، 1951. (3) المنار 7، 15 أغسطس، 1951.

هو تكوين جبهة وطنية للشبيبة الجزائرية، وقد ذكرت جمعية الكشافة أنها تعتزم إصدار جريدة باسم صوت الشباب وهي جريدة تربوية إخبارية تهتم بمشاكل الشباب الجزائري، هذا وقد صدر العدد الأول من صوت الشباب فعلا دون أن نعرف بأية لغة، وهي جريدة أصدرها قسم الجوالة في الكشافة الإسلامية (1). وفي نفس الشهر أقامت الكشافة حفلا في سيدي بلعباس في مدرسة التربة والتعليم? التي تديرها جمعية العلماء، وقد خطب فيهم الشيخ محمد القباطي والحبيب بناسي، وصادف ذلك حلول ذكرى وفاة الشيخ ابن باديس فأحيوا هذه المناسبة، وفي خطبتيهما حث الشيخان الشباب على التعلق بالوطن وقالا إن الجزائر بخير ما دام هذا الشباب يؤمن بها، ونوها بالعروبة والإسلام وبمجد الجزائر (2). وقامت (جمعية الكشافة الإسلامية الجزائرية الحرة) أيضا بأعمال البر والإحسان، فقد وجدنا أحد أفواجها وهو فوج القطب يطعم حوالي 300 فقير، كما قام فوجا الاجتهاد والفلاح بإطعام حوالي 200 فقير آخرين، ونلاحظ هنا كلمة (الحرة) في هذه الجمعية، فهل كان هناك جمعيتان للكشافة؟ يبدو ذلك (3). ويبدو أن جمعية الكشافة كانت تتعرض للقمع والاضطهاد من قبل سلطة الاحتلال، ففي ربيع 1954 هاجمت الشرطة مقر الكشافة الإسلامية الجزائرية وفتشت أوراقها وأخذت آلتين راقنتين وناسخة دون ترك وصل لحارس المحل، وبعد هذا الحادث اجتمعت الهيئة وأصدرت احتجاجا باعتبارها (منظمة قانونية وتربوية تمثل آلاف الكشفيين وآباءهم وأولياءهم،) وطالبت بإرجاع ما أخذته الشرطة من المقر (4).

_ (1) المنار 1، 11 أبريل، 1952. (2) المنار 3، 9 مايو، 1952. (3) المنار 50، 11 ديسمبر، 1953. (4) البصائر 271، وقع الحادث في 30 أبريل، 1954.

ومع بداية الثورة وتغير العلاقات مع السلطة الاستعمارية وجدنا الكشافة الإسلامية تتخذ موقفا يمكن وصفه بالمتشدد، فقد نددت بالدعوة التي خرج بها اجتماع شيوخ المدن (رؤساء البلديات) الفرنسيين ورؤساء الغرف الفلاحية والمنظمات (الرجعية) ... ودعوا فيه إلى القمع ضد الجزائريين، لذلك خرجت الكشافة بعد اجتماع عقدته في سطيف خلال شهر يوليو للتنديد بموقف السلطة التي لم تضع حدا لهذه الحملة، واعتبرت الكشافة موقف الشيوخ وزملائهم قد أملاه الحقد العنصري الذي يوسع شقة الخلاف بين عناصر (الأمة الواحدة) (كذا)، وفي الأخير دعا بيان الكشافة جميع العناصر النظيفة في الشعب، وخصوصا الشباب، إلى رفض جميع المناورات الرجعية ... والواقع أن هذا بيان سياسي إلى حد كبير، فقد استنكر التفرقة بين عناصر الأمة الواحدة، والمقصود بذلك هم المسلمون والأوروبيون معا، ودعا البيان إلى عزل العناصر الرجعية، وهذه كلها تعبيرات غامضة ستتحول إلى (هم / نحن) بعد أن فقدت هذه الدعوة معناها لأنها لم تجد آذانا صاغية من الطرف الآخر. ومن الملفت للنظر أن نجد الكشافة تدعو إلى التمسك بمبادى الإسلام ونبذ الإلحاد وإلى التحذير من الانحراف الديني ونشر الأفكار الهدامة بين عناصر أمة تدين بالإسلام السمح، وهي في الواقع تقف ضد القوانين الوضعية أصلا. فقد صدر بلاغ عن هيئة الكشافة هاجم الإلحاد وانتقد ترك البنات يخرجن بدون مرافق، وحذر الأمة من (الهدامين الذين يملون على وأد معنويات هذه الأمة) ودعاها إلى موقف حازم لصد تيار الإلحاد ونشر الأفكار السيئة بين عناصر أمة تدين بالإسلام وتمجد الأخلاق وتقتدي بالرسول (صلى الله عليه وسلم)، ذلك أن إرسال الفتيان والفتيات إلى الخارج بدون مرافق يحرسهم ويحافظ على أخلاقهم وعاداتهم القومية يعد جريمة في نظر الكشافة الإسلامية الجزائرية، وبشر البيان الأمة بأن (عهدا جديدا للإسلام فوق تراب هذا الوطن سيسود التعاليم الوضعية الأرضية ... لا محالة،) وهذا بالطبع تعريض واضح بالقوانين الفرنسية بل ربما

جمعيات رياضية وطلابية

بالوجود الفرنسي (1). جمعيات رياضية وطلابية كانت جمعية الطلبة المسلمين تقوم بأنشطة رياضية وغيرها، ويبدو أن هناك فرقا عديدة مسؤولة على هذه الأنشطة التي تهدف إلى التعارف وجمع كلمة الشباب لأهداف وطنية بعيدة، فقد اشتركت الفرق الإسلامية المشهورة على حد تعبير جريدة المنار، وهي المولودية الجزائرية، والاتحاد الرياضي الإسلامي البليدي، والاتحاد السطيفي، والمولودية القسنطينية في تنظيم دورة كروية كانت نتيجتها إحراز الاتحاد الرياضي الكأس الذي سلمه له الصيدلي عبد الله بن احبيلس، وهذا يدل على تعاون الشباب مع الجيل السابق لهم كما يدل على التعاون بين الشباب والنخبة. وهناك أنشطة أخرى فنية ورياضية تدل على الانسجام الذي كان بين الطلبة والكشافة والشعب، كما تدل على التوجه الوطني والقومي والإسلامي لهذه المنظمات، فقد أقيمت حفلة شاي اشترك فيها بعض العامة وألقى فيها رئيس جمعية الرياضيين بنادي المولودية السيد عبد السلام كلمة شكر فيها الحاضرين على مساهمتهم في نشاط الطلبة، كان هذا في مدينة الجزائر، أما في البليدة فقد أقيمت حفلة أسهم فيها الطلبة بتقديم مسرحية عن (غزوة بدر)، وقد سمتها الجريدة (الرواية المشهورة)، ونفهم من ذلك أن الرواية قد مثلت من قبل وأنها معروفة للجمهور، والمهم هو أن الرواية قد لاقت نجاحا كبيرا ربما لموضوعها، وهو تاريخ الإسلام والسيرة النبوية الشريفة والربط بين الماضي الحاضر، بين مجاهدة الكفار ومقاومة الاستعمار. وفي نفس المناسبة أو الحفلة شارك أحد الشبان، ويدعى زينات، رئيس الفرقة الكشفية، بمحاورة فكاهية، كما اشتركت فيها الفرقة الموسيقية للمسرح

_ (1) البصائر 329، 29 يوليو، 1955.

البلدي ببعض الأغاني الشرقية، وتلفت نظرنا هنا كلمة (الشرقية) وهي بدون شك تعني العربية مما يدل على شعور الناس بالتوجه الحضاري للشباب الجزائري المتشبع بالروح الوطنية، وفي هذا الحفل ظهر اسم الشاب عبد السلام سابق الذكر والذي حث الشعب على تقديم المساعدة للطلبة الذين سينهضون حسب رأيه، بالأمة في المستقبل، كما خطب طلاب آخرون داعين إلى نفس الفكرة، ولا ندري إن كان الشاب عبد السلام هو نفسه عبد السلام بلعيد الذي سيرد اسمه يد قليل أو هو شخص آخر (1). ومهما كان الأمر فإن جمعية الطلبة المسلمين لشمال إفريقيا بالجزائر قد جددت مكتبها في 6 ديسمبر 1953، فكان فيه عدد من الأسماء التي سيظهر أصحابها على الساحة السياسية والثقافية والنضالية، فكانت التشكيلة على النحو التالي: صابر صادق الشريف - رئيسا، مراد علي - كاتبا عاما، اسكندر نور الدين وبلحاج محيي الدين - نائبين له، زرهوني الطاهر - أمينا للمال، وقد اتفقوا على تعيين الرئيس السابق للجمعية، وهو عبد السلام بلعيد رئيسا شرفيا (2). كان الوعي الوطني والإسلامي كبيرا بين فئة الطلبة المغاربة عموما والجزائريين خصوصا للظروف التي أحاطت بقضيتهم بد تطور الأحداث في كل من تونس والمغرب، وبعد جمعية الطلبة في الجزائر وجمعية طلبة شمال إفريقيا في فرنسا قرأ عن تكوين تنظيم جديد للطلبة المغاربة في الجزائر يبدو أنه كان يضم من كانوا يدرسون في جامعة الجزائر، وكان الدافع إلى تكوين هذا التنظيم هو تعدد الهيئات الطلابية وتشتتها وتكاثر عدد الطلبة المسلمين (المغاربة؟) وظهور مشاكل كان على الطلبة مواجهتها باعتبارهم الفئة الواعية، ولعل المقصود بالمشاكل هنا هو المشاكل السياسية وتجاذب الأحزاب لعناصر الطلبة والضغط على هؤلاء لاتخاذ قرار بشأن مستقبل أوطانهم، والقائمة التي تحمل

_ (1) المنار 18، 14 مارس، 1953. (2) البصائر، التاريخ والرقم منزوعان، ربما في أعداد شهر ديسمبر 1953 أو يناير 1954.

جمعيات جزائرية في تونس

أسماء المنظمين لهذا التجمع لا تدل على مشاركة طلبة من المغرب أو من تونس وإنما الأسماء كلها فيما يبدو جزائرية. ومهما كان الأمر فإن التنظيم الجليد قد نشأ في عاصمة الجزائر وأطلق عليه اسم (الاتحاد الإسلامي للطلبة المغاربة)، ونلاحظ هنا أن جميع التنظيمات التي تجمع الطلبة تحمل كلمة (الإسلامي) والإسلامية في عنوانها، وكان رئيس التنظيم الجديد هو محمد أمير الذي هو في نفس الوقت رئيس طلبة شمال إفريقيا المسلمين بباريس، وقد ذكر أن مركز الاتحاد هو 23 جادة روبيرتسو، الجزائر، أما الحاضرون فهم: محمد أمير من جمعية طلبة شمال إفريقيا بباريس، معيزة الطاهر من نفس الجمعية في طولون، رزيق قاسم عن جمعية الطلبة الجزائريين الزيتونيين بتونس، الطرش محمد عن جمعية الطلبة الجزائريين القرويين بفاس، قائد الطاهر عن تلاميذ سائر المدارس الثانوية بالجزائر، الضيف عبد الحميد عن تلاميذ سائر المدارس الثانوية بقسنطينة (1). حقيقة أننا لم نقرأ عن نشاط هذا التنظيم ولكنه يدل على خطوة متقدمة من أجل تجميع القوى الطلابية لصالح الحركة الوطنية، ولعل الدافع لتكوين التنظيم هو حزب الشعب/ حركة الانتصار الذي كان يعمل على تأطير النخبة الجديدة في صفوفه، وربما لأول مرة يتكون تنظيم من طلبة يدرسون في المدارس الفرنسية في الجزائر وفرنسا مع طلبة يدرسون في المغرب (القرويين) وتونس (الزيتونة)، ومن الملاحظ أنه لا يوجد من يمثل ثانويات وهران، ومهما كان الأمر فإن هذا التنظيم يعتبر خطوة جريئة نحو تكوين الاتحاد العام للطلبة المسلمين الجزائريين بعد ثلاث سنوات. جمعيات جزائرية في تونس تكونت في تونس جمعيات طلابية غير التي أشرنا إليها، وكانت في شكل

_ (1) المنار 9، 15 أغسطس، 1952.

بعثات يشرف عليها شيوخ من بني ميزاب، أمثال أبي اليقظان ومحمد علي دبوز، وهذه البعثات جاءت بنتائج باهرة إذ تخرج منها عدد هام من الطلبة الذين توجه كثير منهم للتعليم في المدارس الحرة ومنهم من توجه إلى الاقتصاد والسياسة. ويهمنا من هذه الجمعيات تلك التي تكونت سنة 1934 في تونس والتي تولاها الشاذلي المكي في فترة حافلة بالأحداث في القطرين وزيارة ابن باديس لتونس ثلاث مرات في هذا العهد وإلقاء محاضرات وعقد لقاءات عن مستقبل القطرين، وهذه الجمعية هي التي أصدرت نشرة بعنوان (الثمرة الأولى) ظهر عليها الطابع الوطني والإسلامي، وقد اشترك في الكتابة فيها الشيخ أبو يعلى الزواوي واعتذر لهم عن الكتابة الشيخ مبارك الميلي والشاعر مفدي زكرياء، بينما كتب فيها أحمد حماني ومحمد الشبوكي والأخضر السائحي ... وإذا كانت الحرب العالمية الثانية قد جمدت نشاط هذه الجمعية كما تقلص خلالها عدد الطلبة الدارسين في الزيتونة فإن الجمعية عادت إلى نشاطها بعد الحرب، وبعد أن تولتها قيادة تنتمي إلى جمعية العلماء مثل أحمد بوروح وعبد الرحمن شيبان آلت إلى قيادة موالية لحزب الشعب/ حركة الانتصار على رأسها محمد مرازقة وعمار النجار، وقد أصدرت القيادة الجديدة نشرة (الثمرة الثانية)، ومن الملاحظ أن الذي كتيب لها التصدير هذه المرة هو مصالي الحاج زعيم حزب الشعب، وقد دفع بكلمته الطلبة نحو السياسة باعتبارهم نخبة مثقفة هي التي عليها أن تقود البلاد في المستقبل، وهو اتجاه كان الحزب قد بدأ في تطبيقه في الجزائر أيضا، والملاحظ أيضا أن مصالي تحدث عن (دور شبيبتنا المثقفة في تكوين الحركة الوطنية بمغربنا)، أي أن كلامه يصدق على الجزائر وغيرها وكأنه كان ما يزال يتحدث بلغة نجم شمال إفريقيا، وفي هذا النطاق دعاهم إلى قيادة الجماهير مستقبلا باعتبارهم نخبة مثقفة .. بعد أن تكون قد تشبعت بروح الحضارة العربية، وهذا الكلام إذا قرى على أنه من قلم زعيم فإنه يدل على قناعته بمشروع فكري للمستقبل.

وهكذا نلاحظ أن جمعية الطلبة في تونس كانت في مرحلتها الأولى وطنية باديسية الاتجاه وفي مرحلتها الثانية وطنية مصالية الاتجاه. ولذلك لا نستغرب أن يتمسك كل فريق باتجاهه بعد ذلك وأن تنشأ في تونس جمعيتان للطلبة الجزائريين في فاتح الخمسينات من القرن العشرين: جمعية الطلبة وهو الاسم القديم وجمعية البعثة وهو الاسم الجليد، والأخيرة هي التي عادت بأتباعها إلى الاتجاه الباديسي باعتباره هو الاتجاه الأصلي، وبين 1948 و 1954 خف نشاط جمعية الطلبة ربما لميول الطلبة نحو الدراسة بدل السياسة وربما للأزمة التي عرفها حزب الشعب وهي الأزمة التي كادت تصيب نشاط خلايا الحزب بالشلل. وقد عشت شخصيا هذه الفترة بتونس وعرفت بعض مجرياتها وقادتها، ومما يكر أن جمعية العلماء قد عينتني سنة 1952 مسؤولا على جمعية البعثة التي حلت محل جمعية الطلبة في شارع عبد الوهاب برحبة الغنم بينما بحثت جمعية الطلبة عن مكان آخر لها لأن مركز شارع عبد الوهاب كان حسبما فهمت عندئذ مؤجرا من قبل جمعية العلماء من السيد علالة. ومهما كان الأمر فإنني أذكر أن من بين الأنشطة التي قامت بها جمعية البعثة شتاء سنة 1952 تمثيل رواية (الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز) بإشراف السيد محمد الحبيب التونسي، فقد سافرنا بها إلى الجزائر ومثلناها في عدد من المدن (قسنطينة، جيجل، باتنة ...) وجمعنا منها تبرعات مالية للقيام بنشاطنا في تونس، وكانت تلك الجولة قد جعلتني أكتشف مناطق هامة من الجزائر في وقت مبكر من حياتي، ومن الأنشطة التي قامت بها جمعية البعثة إجراؤها مسابقة بين الطلبة الجزائريين عنوانها (أملك في مستقبل بلادك)، وقد اشترك فيها عدد من الطلبة وتكونت لها لجنة تحكيم من أساتذة جامع الزيتونة، وفازت فيها مجموعة من الطلبة منهم عبد الله ركيبي ومحمد الدريدي ومحمد بغدادي، وقد نشرت أعمالهم مع صورهم في جريدة

البصائر (1). كما تكونت في تونس جمعيات تضم الجاليات الجزائرية التي شعرت بضرورة التضامن مع بعضها للتنسيق من أجل القضية الوطنية أو القضايا الاجتماعية، فبالإضافة إلى ما ذكرنا تكونت جمعية الوفاق التي أسسها طلبة وادي ميزاب وأعلنت أن مهمتها الاحتفال بالعلماء وعظماء البلاد والإسلام وتخليد المآثر والذكريات، وهي جمعية تجمع بين النشاط الطلابي والنشاط الاجتماعي (2). وهناك جمعية الودادية الجزائرية الإسلامية، وهي جمعية قديمة ترجع إلى سنة 1937 ولكننا لا نعرف كم استمرت في نشاطها، وكانت برئاسة السيد قاش الزين، كما ظهرت جمعية أخرى للعمال الجزائريين (3). من الجاليات الجزائرية الهامة في تونس جالية السوافة أو أهل سوف، وكان فيهم العمال والطلبة، وقد أسس هؤلاء جمعيات بأسماء بلداتهم الأصلية أو باسم منطقة سوف، وقد وجدت في جريدة (المغرب العربي) اسم جمعية الرابطة القمارية الثقافية (من قمار) واسم كاتبها العام هو التجاني زغودة الذي كتب مقالة طويلة بهذه المناسبة حول الحكم العسكري في منطقة سوف وعن حكم القياد والأغوات، ومنهم آغا قمار (4).

_ (1) عن هذه الخلفية انظر الجابري، النشاط العلمي ... ص 102 - 106، وكانت البصائر في الخمسينات تنشر أنشطة البعثة في شكل تقارير مني أو من محمد الدريدي وغيره عن الطلبة المتخرجين من الزيتونة في كل دورة وعن الأنشطة الأخرى التي تقوم بها الجمعية. (2) انظر الجابري، النشاط العلمي .. ص 338. (3) قد أشار إلى الودادية الجابري، المرجع السابق ص 122. (4) المغرب العربي 26 سبتمبر، 1947، وقد التقيت السيد زغودة في قمار يوم 28 أكتوبر سنة 2002 فاستفسرته عن الجمعيات الجزائرية في تونس فلم يتذكر إلا رابطة القماريين (هكذا أسماها)، ثم حدثني عن نشاطه أثناء الثورة في تونس والتبرع لها باعتباره صاحب مكتبة الفتح في سوق البلاط، كما فعل الشيخ الثميني صاحب مكتبة الاستقامة، وكان =

كانت الجمعيات والأحزاب التونسية مفتوحة أمام الجزائريين، وقد اشترك فيها البعض بكل نشاط وإيمان بالمصير المشترك، وكانت بالنسبة للبعض مدرسة في العلم وفي السياسة والثقافة والإعلام، فكان رجل مثل زغودة يشارك في تحرير جريدة الزهو وجريدة الزهرة، ووجد رجل آخر مثل عبد الله شريط طريقه في تونس في ميدان التعليم والصحافة، وسنتحدث عن نشاط نخبة من الجزائريين أيام الثورة في تونس. من التنظيمات التي شاركت في إنشائها شخصيا مع إخوان تونسيين وجزائريين (رابطة القلم الجديد) التي تأسست في يناير سنة 1952، وكان رئيسها زميلنا الشاعر والدبلوماسي الشاذلي زوكار، ومن أعضائها التونسيين منور صمادح ومحمد الشابي ونور الدين صمود ومحمد بلحسن، أما من الجزائر فكانت تضم محمد العيد الخطراوي ومحمد علي كرام والجنيدي خليفة .. كانت الرابطة مفتوحة لكل أبناء المغرب العربي، وقد تولى رئاستها الجنيدي خليفة سنة 1954 قبل إلقاء القبض عليه، وكان الجنيدي ناقدا، كما كان كرام قصاصا، والخطراوي شاعرا، وكانت الرابطة تربط بين الأدب والحياة والوطنية، وكان شعارها (نريد أدبا تريده الحياة)، وكان طموح الشباب والآمال السياسية والنهضة الثقافية هي الدافع لنا في هذا المضمار، وقد بقيت عضوا في هذه الرابطة إلى أن تخرجت من الزيتونة ورجعت للجزائر سنة 1954 (1).

_ = للشيخ زغودة قبل الثورة نشاط في الحزب الدستوري القديم ثم الجليد وفي جمعية صوت الطالب الزيتوني التونسية التي ظهرت في أوائل الخمسينات وقادت حركة تجديدية في جامع الزيتونة. (1) عن تفاصيل نشأة الرابطة ومبادئها وأعضائها ونشاطها انظر الحوار الذي أجراه عز الدين المدني مع أول رئيس لها وهو الشاذلي زوكار في جريدة العمل التونسية، الجمعة 17 أبريل 1970، وقد تأسست الرابطة في المدرسة العرفانية الواقعة قرب المدرسة الخلدونية بتونس، وكان أعضاؤها يجتمعون كل خميس في أماكن مختلفة ثم استقروا على الاجتماع في المدرسة الهلالية - برحبة الغنم.

ونحن نلاحظ أن هناك تجاوبا بين طلبة الجزائر وطلبة المغرب وتونس ربما لم تعهده المنطقة من قبل، فقد تضامن الطلبة الجزائريون في المغرب وتونس مع إخوانهم في كلا البلدين، وكان من نتيجة هذا التضامن الاضطهاد والسجن والتعذيب، حسب جريدة المنار، وقد علقت الجريدة على ذلك بقولها إن الفرنسيين لم يكتفوا باضطهاد الثقافة العربية الإسلامية في الجزائر بل اضطهدوا من يرغب في دراستها في معاهد تونس والمغرب، فقد داهمت الشرطة في هذين البلدين بيوت الطلبة الجزائريين الذين خرجوا للتضامن مع إخوانهم وزجت بهم في السجن وقادتهم إلى مخافر التحقيق وسلطت عليهم التعذيب، واعتبرت أن ذلك يكشف عن حقد الفرنسيين على الثقافة العربية الإسلامية ورجالها (1). كانت جمعية الطلبة الجزائريين في تونس نشطة وعدد أفرادها كثر، كما كانوا يتعاطون السياسة في أغلبهم، وقد تكاثر عددهم منذ بدأ الشيخ ابن باديس يرسل منهم أو يوجههم للدراسة في الزيتونة، ومن نشاطهم إصدار نشرة وتنظيم محاضرات واستقبال كبار رجال العلم الجزائريين الذين يزورون تونس أو يمرون بها والكتابة في الصحف عن إحياء المناسبات والذكريات الدينية والوطنية، وفي كل عام كانت تتخرج دفعات جديدة من جامع الزيتونة وتعود إلى الجزائر لتمارس التعليم تحت مسؤولية جمعية العلماء أو حزب الشعب، والمعروف أن عددا من الطلبة الجزائريين انضموا أيضا إلى الأحزاب التونسية وأصبحوا قادة فيها، خصوصا خلال العشرينات والثلاثينات من القرن العشرين كالأخضر السائحي ومفدي زكرياء ومحمد العريبي، ومحمد العيد الجباري، وإبراهيم أطفيش والشاذلي المكي وأحمد حماني (2) ...

_ (1) المنار 19، 28 مارس، 1952. (2) كان المكتب الإداري لجمعية الطلبة بتونس يتجدد دوريا، ففي 6 فبراير 1952 مثلا جدد المكتب على النحو التالي: قاسم رزيق - رئيسا، عيواز محمد - نائبا، خضارة محمد الصالح - نائبا ثانيا، الدريدي الحارث - كاتبا عاما، ابن رابح البشير - نائبا له، عبد =

ومما يلاحظ أن من مهام جمعية الطلبة هذه تقويم المنحرفين من الطلبة ومراقبة سيرهم، وإعانتهم، وقد وصفت نفسها بأنها جمعية ثقافية. وبعد حوالي سنة جدد مكتب جمعية الطلبة فوجدنا فيه أسماء جديدة وأخرى قديمة مما يدل على أن بعض القدماء على الأقل قد تخرجوا والتحقوا بمهامهم في التعليم أو بمواصلة الدراسة في المشرق، جدد المكتب في شهر فبراير سنة 1953، وجاءت تشكيلته على النحو التالي: قاسم رزيق - رئيسا، ونائباه خضارة محمد الصالح وأحمد عواق، ودخل عبد الحميد بن هدوقة كاتبا عاما ونائبه هو البشير بن رابح، وعين علي كافي وموسى زغلاش مراقبين بينما أصبح أمين المال هو محمد بوصبيعات ونائبه هو عبد القادر عيساوي، ودخل عضوان جديدان هما رشيد سحري ومحمد السعيد موالكي (1). ويلاحظ أن عدد الطلبة الخريجين من جامع الزيتونة في ازدياد كل سنة، ففي سنة 1952 وحدها تخرج ثمانية وثلاثون (38) طالبا، 23 منهم في الدورة الأولى و 15 في الدورة الثانية، وهذا العدد يدل على الإقبال على التعلم بصفة عامة في الجزائر بعد الحرب العالمية الثانية، كما يدل على انتشار المدارس الحرة التي تنشر الثقافة العربية الإسلامية في الجزائر تحديا لعملية الفرنسة التي تقوم بها السلطة الاستعمارية وهي المدارس التي كانت تستوعب الخريجين كإطارات تعليم فيها (2). كانت في جامعة الجزائر جمعية طلابية تسمى جمعية طلبة شمال إفريقيا المسلمين، وقد جددت مكتبها أيضا بنهاية سنة 1951 في قاعة الأفراح

_ = الرحمن بن سالم - أمينا للمال، حفيان مصطفى - نائبا له، علي شكيري - مراقبا عاما، معافة العربي - نائبا له، أما المستشارون فهم كافي علي، زعلاش موسى، حرباوي علي، بوصبيعات محمد، المنار 17، 29 فبراير، 1952. (1) المنار 18، 27 فبراير، 1953. (2) المنار 10، 24 أكتوبر 1952.

جمعيات أخرى

بالعاصمة، وبعد تقديم التقرير الأدبي والإداري صوت الطلبة على عدة لوائح احتجوا في واحدة منها على طرد الكثير من دار الجامعة، وعلى نظام السجون اللاإنساني سواء في وهران أو الأصنام أو الأغواط، وأعلنوا تضامنهم مع ضحايا القمع، فإذا كان هذا يشير إلى الضحايا من الطلبة فمعنى ذلك أن الطلبة كانوا يتعاطون السياسة مبكرا خلافا للشائع عنهم، وكانت الجمعية - كما يدل اسمها - تشمل الطلبة الجزائريين وغيرهم من طلبة المغرب العربي، كما أعلنوا عن ترحيبهم بفتح مصر معهدا للدراسانت العربية في الجزائر (1). جمعيات أخرى وبالإضافة إلى ما ذكرنا ظهرت جمعيات نسائية تقوم بأعمال خيرية وتحتفل بالأعياد الدينية ونحو ذلك من الأنشطة الاجتماعية، فقد احتفلت جمعية النساء المسلمات الجزائريات بالمولد النبوي الشريف في البليدة بتوزيع الملابس والحلويات على عدد من الأطفال المحرومين، وكان عددهم حوالي مائة وخمسين طفلا، وكانت الحفلة من تنشيط نساء يبدو أنهن من العائلات السياسية في المجتمع مثل السيدة تامزالي التي ترأست الحفلة والسيدة شنتوف والسيدة ابن ونيش والسيدة حمود، وكان للفن دور في إحياء الحفلة بالمدائح النبوية على يد المطرب الصاعد عبد الرحمن عزيز (2). من الجمعيات التي ظلت نشطة إلى بداية الثورة جمعية المزهر القسنطيني التي أنشأها الأديب أحمد رضا حوحو وبقي يديرها بين 1949 و 1954، وكانت تقدم حفلات موسيقية ومسرحيات من تأليف حوحو نفسه، وكانت الجمعية ذات جناحين موسيقي ومسرحي، وقدمت أعمالا ناجحة في قسنطينة

_ (1) المنار 12، 21 ينام، 1952، كان المجلس الإداري المنتخب بهذه المناسبة يضم الأسماء التالية: عبد السلام رئيسا، الجويني وهجرس تجاني نائبين له، وآيت خالد كاتبا عاما، والجنيدي وخان (الأمين؟) نائبين له، وبوجمعة أمينا للمال. (2) المنار 49، 20 نوفمبر، 1953.

الشؤون الإسلامية

والمدن المجاورة وحتى البعيدة نسبيا مثل بسكرة، بل قامت برحلة تمثيلية في فرنسا، وفي بعض الحفلات كان شباك التذاكر يغلق قل رفع الستارة لكثرة الجمهور، ووصل عدد الممثلين في بعضها إلى الأربعين فردا، وكانت المسرحيات تستوحي التاريخ كما تستوحي الواقع (1). الشؤون الإسلامية رجال الدين والمساجد واصلت فرنسا سياستها الدينية في الجزائر، فالمؤسسات بقيت تحت سلطتها وتعيين رجال (الديانة) الإسلامية كان يتم بقرارات منها، والأوقاف والقضاء والإفتاء والجمعيات الخيرية الإسلامية كلها كانت تابعة لإدارة الشؤون الأهلية بالولاية العامة. وكانت القضية التي أثارت الرأي العام الإسلامي في الجزائر وأسالت حبرا غزيرا حوله هي قضية فصل الدين الإسلامي عن الدولة الفرنسية اللائكية، وهذه القضية ربما لم تكن مفهومة إلا للفرنسيين وبعض المسلمين العلمانيين وأنصار الاندماج، أما عامة الناس فلم يكونوا يفهمون أبعادها الحقيقة، ويطول بنا العرض لو رجعنا إلى الموضوع من جميع جوانبه، لذلك نكتفي بالتذكير بما درسناه في كتابنا السابق بأن الليبرالية الفرنسية توصلت سنة 1905 إلى فصل الدين عن الدولة ولكنها في الجزائر طبقته على الديانتين المسيحية واليهودية واستثنت منه الإسلام، فأعادت شؤون الديانتين إلى المؤمنين بهما ولكنها شؤون الإسلام تحت الإدارة الاستعمارية ولم تسلمها للمسلمين، ودعواها في ذلك أن الإسلام دين ودولة، وما دامت فرنسا هي الدولة التي تقوم مقام دولة الإسلام فإنها حافظت على شؤونه تحت جناحيها، وعندما أكثر القادة المسلمون من المطالبة بتسليم شؤون دينهم إلى هيئة منهم أظهر الفرنسيون دعوى جديدة وهي

_ (1) انظر أحمد منور، مسرح الفرجة والنضال في الجزائر، دار هومة، 2005، ص 61 - 63.

غياب الجهة التي يسلمون إليها المقاليد الإسلامية، وقد تنازعت في ذلك جمعية العلماء وجهات أخرى في المجلس الجزائري وتيار المرابطين والعلماء الرسميين، وكان ذلك التنازع (الذي كانت تغذيه الإدارة نفسها) بردا وسلاما على الفرنسيين لأنه برر لهم الاحتفاظ بشؤون الديانة الإسلامية تحت أيديهم. ويبدو أن أتباع حركة الإخوان المسلمين في الجزائر اعتقدوا (مثل غيرهم) أن ثورة الجزائر هي ثورة جهادية بالمعنى الديني للكلمة فاستبشروا بها خيرا ودعموها عن قرب وعن بعد، فانضم إليها من استطاع في الجزائر باسم الجهاد في سبيل الله، وطلب الشهادة، ولكن ذلك كان موقفا غير شامل ولا حاسم، فجمعية العلماء مثلا قد تريثت في الدعوة إلى الجهاد جهارا من الجزائر لأنها كانت تعرف أنها جمعية غير سياسية ولها رسالة محددة، ولم يكن الجهاد والثورة والعمل السياسي المباشر داخلا في برنامجها، ومن جهة أخرى كان دعاة الثورة غير معروفين للجمعية، أما رئيسها (الشيخ الإبراهيمي) فقد أعلن من القاهرة تأييده للثورة والجهاد دون ذكر دعاتها، وأما رجال الدين الرسميون وهم الموظفون لدى الإدارة الفرنسية، فلا حول لهم ولا قوة لأنهم كانوا يأتمرون بأوامر الإدارة، فهم غير مستقلين بأي قرار جماعي. أما الصنف الثالث من رجال الدين فهم أهل الزوايا والطرق الصوفية، وقد كانوا أيضا مشتتين وليس لهم مؤسسة تجمعهم ولا صوت ينطق باسمهم، وإذا كان هناك صوت منهم فهو صوت صنعته الإدارة نفسها لينطق باسمها وقت الحاجة كاتحاد الزوايا الذي ظهر في الثلاثينات من القرن العشرين لدعم فرنسا في الحرب ضد ألمانيا وإيطاليا. فكان على مختلف هذه الفئات الدينية أن تتصرف، كل على حدة، بما تراه مناسبا، ولعل صنف الإخوان (وعددهم قليل) كان أكثرهم حيوية وتحررا وأكثرهم وضوحا في رؤية المستقبل، ومنهم الشيخ أبو بكر جابر الذي سبق أن هاجر إلى الحجاز في نهاية الأربعينات أو بداية الخمسينات من القرن العشرين

بعد أن حاول ممارسة السياسة في الجزائر دون جدوى. ومن المدينة المنورة حيث كان يدرس في المسجد النبوي بعث الشيخ أبو بكر جابر برسالة إلى السيد محمد خيضر (ممثل جبهة التحرير بالقاهرة) مبديا استعداده الشخصي للمشاركة في معركة التحرير، إلى أي حد كان ملتزما بما قال؟ ذلك لا نعرفه إلا من خلال المراسلات التي تمت بينه وبين محمد خيضر وغيره، وربما من خطبه ودروسه، ويبدو أن جبهة التحرير لم تكن في حاجة إلى حماسة ومواعظ الشيخ جابر وإنما كانت في حاجة إلى مال السعودية وبنادق روسيا ودعم الغرب والشرق على السواء ضد الاستعمار الفرنسي، دون إعطاء الثورة في الخارج أي طابع جهادي أو ديني (1). أبقى الفرنسيون على بعض المساجد الرسمية في مختلف المدن الجزائرية، وجعلوا على كل مسجد رسمي هيئة تتمثل في الإمام وأحيانا المدرس والقيم والمؤذن وبعض الأعوان الذين يقومون بحاجة المسجد من غلق وفتح ونظافة وصيانة، وأحيانا إقراء القرآن الكريم، وإلى جانب هذه المساجد الرسمية هناك مساجد شعبية بناها الشعب من حر ماله وأوقف عليها ما يلزمها من الأوقاف (الأحباس)، وفي عهد الحركة الإصلاحية ظهرت مساجد حرة كثيرة غير تابعة لا للدولة الفرنسية ولا للزوايا والطرق الصوفية، ولكنها مساجد بناها المتأثرون ي لحركة الإصلاحية للصلاة ودروس الوعظ والإرشاد والإصلاح والوطنية، وهكذا يمكن الحديث عن مساجد رسمية ومساجد شعبية، والمساجد الأخيرة تكثر في الأرياف والقرى والمدن الصغيرة. أما المساجد الرسمية فموجودة في المدن الكبيرة على الخصوص، وقد ذكرنا في مؤلفا السابق ما فعلته الإدارة الفرنسية بهذه المساجد وكيف استولت

_ (1) عن مراسلة الشيخ جابر مع خيضر أنظر الأرشيف الوطني، رسالة رقم 25، في سلسلة 2، علبة 1 - 20، وليس هناك رد من خيضر على هذه الرسالة، حسب علمنا، عن هذا الموضوع أنظر أيضا الفصل الأخير من هذا الكتاب، (لم ينجز بعد)

الزوايا والتعليم والمحافظة على السند

على أغلبها وضمت أوقافها إلى أملاك الدولة، وهكذا لم يبق في العاصمة مثلا سوى ستة مساجد بينما اختفى الباقي (وكان عددها الإجمالي عند الاحتلال يفوق المائة)، وكانت هناك رقابة دائمة على كل المساجد خوفا من أن تكون بؤرة لأفكار وطنية معادية للسلطة الفرنسية (1). وفي كل ولاية (وهي ثلاث) كان هناك مفت معين من قبل مصلحة الشؤون الأهلية في الإدارة الفرنسية، كما كان الشيخ إبراهيم بيوض في بني ميزاب هو صاحب السلطة الروحية المعترف بها رسميا رغم أنه كان غير معين من الفرنسيين وإنما انتخبته المجالس المحلية. الزوايا والتعليم والمحافظة على السند الزوايا مؤسسات دينية وتعليمية معترف بها، فهي بيوت للعبادة والعلم واستقبال الغرباء، وكثير منها كان يقوم بالتعليم وإقراء القرآن، ومعظم الزوايا التي كانت تقوم بهذا الدور كانت في الأرياف والمناطق النائية، وهي التي كانت تقدم الغذاء الروحي للشعب أمام الجفاف الذي عانت منه التربية والتعليم طبقا للثقافة العربية الإسلامية، وهي التي حافظت على مصادر التراث الوطني كالمخطوطات، وكانت تستقبل أفواج التلاميذ الذين لم يجدوا مكانا لهم في المدارس الأهلية (فرنكو - ميزولمان) أو الذين لم يرغب آباؤهم في إرسالهم إلى هذه المدارس، أما الغذاء الروحي المحض فقد كانت الزوايا تقوم به باستقبال (المقدمين) والمريدين وإنشاد الأذكار وإقامة الحضرة و (الزردات) (الولائم) التي هي تجمعات للتعارف والإعلام والتجنيد والتمويل، كما كانت الزوايا تقوم

_ (1) عن المساجد الباقية إلى وقت الثورة في العاصمة انظر مقالة السيد زهير في مجلة هنا الجزائر، عدد 35، مايو، 1955 وهي مقالة بالعربية والفرنسية استعرض فيها سيرة وصور المساجد الستة الباقية، أما عن مساجد قسنطينة فانظر كتاب المهدي بن شغيب: أم الحواضر في الماضي والحاضر، عن تفصيل الشؤون الإسلامية زمن الثورة، انظر لاحقا.

بدور اجتماعي هام وهو الإصلاح بين الناس والمحافظة على الاستقرار الذي هو شيء أساسي للسلم الاجتماعي والإنتاج الاقتصادي، وقد صدق من أسماها (حراس الظل) لأنها حافظت على الهوية والثقافة الوطنية دون ضجيج ولا ادعاء (1). حقيقة أن الفرنسيين حاولوا توظيف الزاوية لتحقيق مآرب سياسية خاصة بهم، ولكن الزاوية كانت أيضا تستفيد منهم المحافظة على دورها الاجتماعي والعلمي والاقتصادي، وقد بقيت الزوايا مؤسسات فاعلة طيلة عهد الثورة ولعب بعضها دورا إيجابيا لصالح الثورة رجعت به إلى سالف عهدها في المقاومة، ولذلك عانت التخريب والاضطهاد، واضطر بعض زعمائها إلى الاغتراب وانضم مريدوها إلى الثورة وأبلوا فيها البلاء الحسن (2). كان لبعض الزوايا دور بارز في الحفاظ على سند القراءات، والمقصود بالسند هنا سلسلة الرواة المتصلة بالحفظ والتواتر إلى القارى الأول وكيفية النطق بالحروف والآيات، أي تجويد القرآن الكريم بقراءة مخصوصة، (انظر لاحقا) فقد حافظت زوايا القبائل وزاوية الهامل وزاوية طولقة وبعض الزوايا في غرب البلاد على التعليم القرآني والعلوم الدينية واللغوية والتاريخ، وهناك زوايا لها سجلات ومدونات واكتسبت شهرة واسعة بين الناس تسير بها الركبان دون سجلات ولا مدونات. وقد قام محمد السعيد أبوزار بدراسة مفيدة عن أحوال الزوايا في القبائل، وهي زوايا معظمها ترجع إلى الطريقة الرحمانية التي اشتهرت بالعلم والمقاومة، فدرس أحوال زاوية سيدي منصور وزاوية عبد الرحمن اليلولي وغيرهما، كما درس السند الذي اشتهرت به القبائل في القراءات وقواعد تجويد القرآن الكريم.

_ (1) الصادق هجرس في الثقافة والاستقلال والثورة في الجزائر، باريس/ الجزائر، 1980 ص 17. (2) حول دور الزوايا أنظر لاحقا.

يقول الشيخ أبوزار إن على طالب العلم أن يصحب معه قلما ودواة ودفترا يسجل فيه شهادات شيوخه له بالحضور في الدرس الذي تلقاه مع زملائه عن شيوخهم مع ذكر اسم كل منهم، والمراد بالسند هنا هو سد تجويد القرآن أو فن الرواية، وهو من أهم العلوم التي عني بها علماء القراءات، وأكمل سند عثر عليه الشيخ أبوزار هو سند الشيخ أبي القاسم البوجليلي. فقد ذكر الشيخ البوجليلي نفسه في كتابه (التبصرة في القراءات العشر) أن سند قراءته يبدأ بافتتاحه قراءة القرآن على والده ثم على الشيخ العربي بن الجودي الأخداشي اليتورغي بزاوية سيدي عبد الرحمن اليلولي سنة 1261 هجرية، ثم على الشيخ الطاهر الجنادي، وقد أخذ الجنادي روايته على الشيخ ابن صالح الوزقاني كما أخذ اليراتني عن الشيخ محمد بن يحيى اليراتني بالزاوية اليلولية، وعن محمد بن علي ابن مالك التقابي المتوفى سنة 1282، وقد أخذ اليراتني عن الشيخ محمد بن سبع، وهو عن الشيخ عبد الله بن خراط المتوفى سنة 1265، وأخذ ابن خراط وابن يذير اليعلاوي وابن تريغت عن ابن قري عن محمد بن عنتر من أولاد علي حرزون، عرش أولاد علي حرزون، عرش أولاد بترون. ونسخ ابن عنتر بيده تسعا وتسعين نسخة من المصحف الشريف ولكنه لم يكمل المائة، ووزعها على مختلف الأماكن، وتميزت نساخته للقرآن بجمال الخط ودقة النقل وصحة الرسم، واجتهد أن تكون النسخة الأخيرة هي المرجع، ولكنه توفي قبل إتمامها، وأخذ هو عن شيخه عبد الرحمن اليلولي، وتوفي سنة 1105 ودفن ابن عنتر بجوار شييخه اليلولي، وأخذ اليلولي عن شيخه سيدي محمد السعدي دفين غابة مزانة بين دلس وتيقزرت، وهو عن شيخه عبد الرحمن ابن القاضي الفاسي شارح درر ابن بري، وهو عن شيخه عبد الواحد بن عاشر، شارح منظومة مورد الظمآن في رسم القرآن (1).

_ (1) هنا الجزائر 53، فبراير، 1953.

الأوقاف

يظهر أن الشيخ محمد السعيد أبوزار من المتمكنين في تراث الزوايا والطرق الصوفية بالزواوة (القبائل)، وقد أسهم بعدة مقالات عن التعليم والقراءات والزوايا والمساجد والشيوخ ونظام الطلبة في هذه العلوم والمراكز العلمية ... ومنها زاوية سيدي منصور، فبعد التعريف بالزاوية عموما (وهي كما قال بيت للعبادة والذكر من جهة وبيت للعلم والقرآن من جهة أخرى) ركز على كون سيدي منصور هذا شخصية غير معروفة جاء من الساقية الحمراء حسب التقاليد الشعبية، أي أنه من الأشراف العلويين القاطنين في تافيلالت، وبعد تجواله في الزواوة استقر في بني جناد دائرة أزفون البحرية، كان ذلك أوائل القرن التاسع الهجري، وقد أخذ الشيخ سيدي منصور ينشر القرآن الكريم والعلم الشريف في زاوية أسسها لهذا الغرض، وبتوالي الأيام أصبحت زاويته معهدا علميا له سمعة وشأن، وقد تكلم الشيخ أبوزار عن الزاوية من حيث موقعها ومؤسسها وتمويلها، وشيوخها ... ولو جمعت بحوثه لجاءت في كتاب لا غنى عنه للمتطلعين للمعرفة. الأوقاف رغم مرور قرن ورسم على الاحتلال فإن الجزائريين أبقوا على مسألة الأوقاف حية في وجدانهم وكتاباتهم، ففي سنة 1952 تحدثت جريدة المنار عن (حرية الدين) في الجزائر ولاحظ أحد كتابها، ويدعى ابن عمار، أن فرنسا تعهدت باحترام الدين الإسلامي عند الاحتلال ومع ذلك لم تف بوعدها، فقد استولت على المساجد الكثيرة وحولتها إلى غير ما أنشئت من أجله كما استولت على الأوقاف، وضرب الكاتب على ذلك مثلا بأوقاف الجامع الكبير بالعاصمة التي كانت تشمل 125 دارا و 39 حانوتا، وثلاثة مخابز، وتسعة عشر بستانا، أما أوقاف جامع سيدي بومدين بتلمسان فقد كانت تشمل تسع حدائق، وقطعتي أرض، وأربعة بساتين، ومنزلين، ومطحنتين وحماما، وقطعة أرض للحراثة تبلغ 300 هكتار، كما لاحظ الكاتب أن فرنسا بعد استيلائها على الأوقاف

القضاء

استعملت مداخيلها سلاحا لنشر الجهل وضرب الدين نفسه، ثم تساءل أين كل ذلك اليوم؟ (1). وقد أثيرت قضية الأوقاف وفقراء المسلمين أيضا على إثر انطلاق الثورة، وسندرس في فصل لاحق تفاصيل هذا الموضوع كما تناولته صحف الثورة نفسها، وكأن الذين أثاروا هذا الموضوع عندئذ أرادوا تذكير الجزائريين بتراثهم المغتصب لمحاسبة الفرنسيين على ما ارتكبوه من جناية باستيلائهم على الأوقاف الإسلامية وحرمان آلاف المسلمين من ثمارها، بل إننا قد نفهم من إثارتها في ذلك الوقت نوعا من تعبئة الرأي العام ضد الاستعمار الذي اعتدى على حرمة الوقف وقدسية الدين. القضاء رغم أنا سنتعرض إلى القضاء في فصل آخر فإنا نقول في الفصل الذي نمهد به لدراستنا إنه كان بالجزائر أنواع من الأقضية وأنواع من المحاكم، فقد أنشأ الفرنسيون محاكم جنائية ومحاكم مدنية ومحاكم صلحية ... وأخرى تجارية ... وتعددت المحاكم بتعدد المناطق عسكرية ومدنية، وبتعدد المناطق شرعية وعرفية ... ثم إن هناك محاكم شرعية يحتكم إليها المسلمون في بعض قضاياهم وأخرى فرنسية مدنية يحتكم إليها سكان الجزائر سواء كانوا مسلمين أو أوروبيين. وهكذا نخرج بنتيجة وهي تعدد القضاء، ولكن رغم تعدده فهو موحد ويصب في خانة القانون الفرنسي ويخدم الدولة الفرنسية. كان القضاء الإسلامي في الجزائر عشية الثورة لا يخرج عن الأحوال الشخصية بين المسلمين، ذلك أن أنواع القضاء الأخرى قد انتزعت منه كالجنائي والتجاري والصلحي (من الصلح) والعسكري، وبالطبع كل ما يتصل

_ (1) المنار 7، 19 يوليو، 1952.

بالاستئناف، فالقاضي المسلم الذي تعطيه الشريعة حق الحكم في جميع أنواع الأحكام قد جرده القانون الفرنسي من كل الصلاحيات ما عدا البت في قضايا الزواج والطلاق والحضانة والميراث والنفقة وما شابهها. في المحاكم الإسلامية تسجل جميع العقود الشرعية في سجلات خاصة بالأحوال الشخصية، كما أن هذه المحاكم تقوم بتنفيذ الأحكام التي تصدرها المحاكم الفرنسية في المسائل المدنية، وهذه المحاكم الإسلامية توجد في مختلف مدن الولايات الثلاث وهي قسنطينة ووهران والعاصمة، والقضاة المسلمون تعينهم السلطات الفرنسية وهم مسؤولون لديها. وبالإضافة إلى المحاكم الشرعية هناك المحاكم العرفية التي تحكم بمقتضى العرف في القبائل فقط منذ السبعينات من القرن التاسع عشر، وقبل هذا التاريخ، كانت القبائل تحكم بمقتضى الشريعة الإسلامية مثلها مثل بقية مناطق الجزائر، ولكن ثورة 1871 وتدشين السياسة الطائفية الهادفة إلى تفريق الجزائريين وفصلهم عن بعضهم خوفا من وحدتهم ضد المستعمرين جعلت فرنسا تفرض على محاكم القبائل العمل بالعرف وليس بالشريعة الإسلامية، ونحن نقول (تفرض) لأن أهل القبائل أنفسهم احتجوا على القضاء العرفي وطالبوا ببقائهم ضمن المحاكم الشرعية باعتبارهم مسلمين، وعندما فشلوا رفع بعضهم قضاياهم أمام محاكم مناطق أخرى في البلاد تحكم طبقا للشريعة الإسلامية، وقد ادعت فرنسا أن القبائل أنفسهم يريدون الاحتكام إلى أعرافهم بدل القرآن، ومن هذا العرف عدم توريث المرأة، وقد استنكر بعض الكتاب مثل الشيخ أبي يعلى الزواوي عدم توريث المرأة مما يعتبر مخالفا للشريعة الإسلامية، وإمعانا في هذا الموقف أنشأ الفرنسيون كرسيا خاصا بدراسة العرف القبائلي في جامعة الجزائر. وتنفيذا للعرف القبائلي نشأت خطة القاضي الموثق، ومهمته تسجيل الوثائق الخاصة بالمعاملات، وهذا القاضي لا يصدر أحكاما وإنما ينفذ أحكام

الحالة الثقافية

المحاكم الفرنسية، وهناك عدة مراكز لقضاة التوثيق في القبائل، منها العاصمة وتيزي وزو وبجاية. كما كان للأباضيين قضاء مستقل ولهم محاكمهم الشرعية طبقا لمذهب عبد الله بن أباض، ومركز المذهب هو وادي ميزاب في جنوب الجزائر، وتوجد أيضا محاكم أباضية في شمال البلاد حيث جالية أباضية في العاصمة وقسنطينة ومعسكر. هذا هو وضع القضاء في المناطق الشمالية وهي المناطق المسماة بالمدنية، أما في الجنوب حيث الحكم العسكري هو السائد فالقضاة لهم صلاحيات واسعة سواء في المسائل الدينية أو المدنية بين المسلمين، لأنه لا توجد جالية أوروبية في الجنوب، وللقاضي في الجنوب سلطات واسعة كما قلنا خلافا لقضاة الشمال الذين لا يتدخلون في غير الأحوال الشخصية بينما القاضي في الجنوب له سلطة القاضي الشرعي (المسلم) وسلطة قاضي الصلح (الفرنسي) (1). الحالة الثقافية التعليم ولنتحدث الآن باختصار عن أنواع التعليم عشية الثورة، فالتعليم الابتدائي الرسمي كان منتشرا إلى حد ما في أغلب المدن الكبيرة والصغيرة، حيث يتلقى التلاميذ في المدارس أوليات العلوم ويتأهلون منها للشهادة الابتدائية، وهي أساسا مدارس للتلاميذ الأوروبيين وبرنامجها فرنسي، ولكن يمكن لأبناء المسلمين أن يدخلوها إذا وجدوا فيها مكانا، وتضم سنة 1952 ثلاثين ألف تلميذ أوروبي وتسعين ألف تلميذ مسلم، كما وجد مدارس فرنسية عربية على

_ (1) عن موضوع القضاء عشية الثورة انظر أحمد توفيق المدني، جغرافية القطر الجزائري، ط 2، 1952، ص 101 - 104، وكذلك أحمد سفطة (القضاء الشرعي في الجزائر)، مجلة المناظر (تصدر في فرنسا)، فبراير 1961، ص 6 - 11، والمقال مصور.

مستوى الابتدائي موجهة إلى أبناء الجزائريين وعددها حوالي ألفي مدرسة (2000) ولها برنامج يشبه برنامج المدارس التي يتردد عليها أبناء الفرنسيين بحيث لا وجود فيها للغة العربية ولا للعلوم الإسلامية، بالإضافة إلى مدارس لتخريج المدرسين والمدرسات في التعليم الابتدائي (1). كذلك كان التعليم الثانوي مجانيا أيضا، وله مؤسساته الخاصة وهي الثانويات (الليسيات) الموزعة على الولايات الثلاث: الجزائر ووهران وقسنطينة، وله برنامج فرنسي أيضا، وهناك معاهد (كوليجات) منتشرة في عدد من المدن ولها برنامجها الخاص القائم على اللغة الفرنسية، إضافة إلى ثلاث ليسيات خاصة بالبنات، وكل المدارس الثانوية تؤهل التلاميذ للحصول على شهادة الباكلوريا التي هي المفتاح لدخول التعليم العالي، ولكن يمكن لطلبة المدارس الثانوية أن يختاروا اللغة العربية الفصحى أو الدارجة كلغة أولى أو كلغة ثانية، وتوجد في الثانويات سنة 1952 عشرة آلاف طالب وخمسة آلاف طالبة، أما المعاهد فتشمل ستة آلف طالب وأربع آلاف طالبة، وأكثر هؤلاء الطلبة أوروبيون. وهكذا لاحظ أن التعليم الثانوي يشمل 25 ألف طالب وطالبة، أغلبهم فرنسيون، أما عدد المسلمين الذين يزاولون دراستهم الثانوية سنة 1950 فكان لا يتجاوز الألف طالب. فإذا انتقلنا إلى التعليم العالي الذي تمثله جامعة الجزائر الوحيدة فإنه يقدم البرهان على وجود سياسة مدروسة لتجهيل شباب الجزائر، فالجامعة التي كانت تضم أربع كليات (الحقوق، والآداب، والطب والصيدلة، والعلوم) وفيها معهد للدراسات العربية حديث العهد - كانت لا تضم سوى حوالي أربعة آلاف (4130) طالب معظمهم من الأوروبيين (لغفلة الآباء أو لعجزهم عن القيام بتكاليف التعليم العالي) حسب تعبير الشيخ المدني، ولكن هذه الملاحظة ليست

_ (1) المدني، جغرافية القطر الجزائري، ص 106.

تباشير نهضة تعليمية

كلها صحيحة، لأن خطوة الدخول إلى الجامعة تبدأ من الباكالوريا ولأن شروط القبول في الجامعة شروط تعجيزية وعنصرية (1). تباشير نهضة تعليمية تحدث محمود بوزوزو عن اضطهاد التعليم العربي الحر والانبعاث الإسلامي في الجزائر، ولاحظ أن هذا التعليم قائم على كاهل الشعب، وأنه لا يتعدى التعليم الابتدائي وله برنامج بسيط يشمل قواعد الدين وقواعد اللغة وبعض الجغرافيا والتاريخ الإسلامي، ثم إن الأطفال الذين يتلقونه هم الذين تركتهم المدرسة الفرنسية في الشارع فإذا تخرجوا منه فإنه ليس لهم وظيفة تنتظرهم، بل حتى الذين واصلوا الدراسة بعده في المعاهد الإسلامية خارج الوطن وعادوا بشهادات ليس لهم مكان في الوظيفة. ولاحظ بوزوزو أن الحاكم العام عندئذ (شوطان) قد منع تدريس التاريخ والجغرافيا والحساب في المدارس العربية الحرة، وهناك اضطهادات للمدارس الحرة ولمعلميها سبق الحديث، عنها بدعوى عدم الاستظهار برخصة أو عدم ملاءمة المكان للدراسة، وغير ذلك من التعلات. ومن رأي بوزوزو أن النهضة الإسلامية قد بدأت في الشرق (باكستان، اندونيسيا، مصر ...) وأن الجزائر تسير على طريق الحياة الحديثة والنهضة أيضا، وأن هناك قيما إسلامية أو ما سماه انبعاثا، وأن للإسلام وقيمه حافظا لا ينام وهو الله سبحانه، وما يجري من انبعاث إسلامي في الشرق إنما هو عبرة للجميع، ولن يوقف تياره في الجزائر أحد (2). وفي نطاق هذا الانبعاث الملحوظ نوهت الجريدة بتدشين معلمين وهما

_ (1) المدني، جغرافية ... ص 107 - 108، هناك إحصاءات أخرى عن التعليم ستتضح بها الصورة أكثر مما سقناه حتى الآن، أنظر لاحقا. (2) المنار 15، 9 يناير، 1953.

التعليم العربي الرسمي

مسجد بلكور بالعاصمة ودار الطلبة في قسنطينة، بالنسبة للمسجد رسمت له المنار صورة مجسمة واعتبرته برهانا على حرص المسلمين على دينهم، ونوهت بالمتبرعين لبناء المسجد ووعدت بالكتابة عنه تحت عنوان الإسلام بين الحرص والإهمال (1). أما دار الطلبة فقد افتتحت في 8 نوفمبر من نفس السنة، وقد أوردت الجريدة وصفا حيا للاحتفال الشعبي الذي حضرته شخصيات علمية واجتماعية، كما وصفت التنظيم والكلمات التي ألقيت في الحفل، وحضور بعض الضيوف كوفد تونس الذي كان برئاسة الشيخ علي النيفر الذي عددا من علماء الزيتونة، وكان مقدم الحفل هو الشيخ أحمد توفيق المدني، وقد تبارى الشعراء في هذا الحفل، ومنهم محمد العيد وأحمد سحنون ومفدي زكرياء، وكانت قصائدهم إذا قرئت قراءة مستقبلية نجدها إرهاصات بالثورة المظفرة، كان خطيب الحفل الرسمي هو الشيخ محمد خير الدين النائب الثاني لرئيس جمعية العلماء، ويبدو أن النائب الأول وهو الشيخ العربي التبسي، كان غائبا ربما يؤدي فريضة الحج، كما أن الشيخ الإبراهيمي كان في القاهرة عندئذ، ولذلك أرسل كلمة سمعها الحاضرون من تسجيل صوتي مع مقدمة من قبل الشيخ الفضيل الورتلاني الذي كان أيضا في القاهرة، ولكن صوت الإبراهيمي كان غير واضح في التسجيل، ومع ذلك استمر الحاضرون في الاستماع إليه دون فهم، وبد الخطب والشعر طلب مقدم الحفل، الشيخ المدني، التبرع بالمال فجمع في ظرف ساعة نحو عشرة ملايين فرنك (2). التعليم العربي الرسمي التعليم الابتدائي العربي الرسمي ليس له مدارس خاصة به، كما أن اللغة العربية لا تعلم في المدارس الابتدائية الفرنسية، كما أشرنا، أما (المدرسون)

_ (1) المنار 48، 6 نوفمبر، 1953. (2) المنار 49، 20 نوفمبر، 1953.

التعليم العربي الحر

فهم عادة موظفون رسميون معينون من قبل إدارة التعليم، مع مباركة الحاكم العام، وعددهم حوالي خمسين مدرسا موزعين على المساجد في المدن، ومهمتهم إقراء من يرغب في علوم الدين واللغة كالتوحيد والفقه والنحو، وليس لهؤلاء برنامج مسطر يسيرون علي هداه. أما التعليم الثانوي العربي الرسمي فله مدرستان إحداهما في تلمسان والثانية في قسنطينة، وكلتاهما تعلم الفقه والأدب العربي واللغة الفرنسية والتاريخ الطبيعي وبعض المواد العلمية، والناجحون من هاتين المدرستين يواصلون دراستهم في المدرسة الثعالبية الجزائر (العاصمة)، وهي مدرسة عليا تغير نظامها منذ سنة 1951 فأصبحت تدعى الكوليج الفرنسي - الإسلامي، ومنها يتخرج القضاة الشرعيون ووكلاء المحاكم الشرعية وكذلك المدرسون الرسميون الذين أشرنا إليهم، كما أن الناجحين في الامتحان النهائي في هذه المدرسة العليا يمكنهم أن يدخلوا معهد الدراسات العربية التابع للجامعة حيث يقضون سنتين يحصلون بعدهما على دبلوم، وحوالي 1953 خصصت الثعالبية للبنات المسلمات وانتقل الطلبة إلى الثانوية الفرنسية - الإسلامية الجديدة في بن عكنون التي تدعى اليوم عمارة رشيد. التعليم العربي الحر أمام هذا الإهمال للغة العربية، رغم اعتراف دستور 1947 بها، تنادى الجزائريون لإحياء لغتهم فأسسوا لها المدارس الحرة في مختلف المدن، كما سبق، وهي مدارس تتوفر في أغلبها على شروط التدريس الحديث مع برامج تربوية وطنية، وقد نجح المشروع رغم العراقيل، بإقبال الشعب عليه، وهو المشروع الذي بدأت الحركة الإصلاحية في تطبيقه منذ العشرينات من القرن العشرين بقيادة الشيخ عبد الحميد بن باديس، كما كانت الكتاتيب القرآنية العتيقة تقوم بتحفيظ القرآن وتعليم قواعد اللغة ومبادى الدين الإسلامي، وإلى جانبها عدد من الزوايا التعليمية التي أخذت على عاتقها انتشال الناشئة من حمأة الجهل.

وفي سنة 1952 أصبح هناك حوالي ثلاثمائة مدرسة حرة لتعليم القرآن الكريم واللغة العربية ومبادى العلوم العصرية، ولكن ليس كل المدارس كانت على مستوى واحد من النظام والتطوير، وكانت جمعية العلماء بالأساس هي التي تشرف على هذا النوع من المدارس الحرة في حوالي 140 مدرسة من الثلاثمائة المذكورة، وكانت تسير بها حسب برنامج موحد ومنظم، وهي تضم حوالي خمسة وثلاثين ألف تلميذ، أي في المدارس المائة والأربعين (1). وفي سنة 1953 تحولت المدرسة الثعالبية التي كانت في قلب القصبة إلى مدرسة حديثة تقع في ضاحية ابن عكنون (ثانوية عمارة رشيد حاليا) وأصبح اسمها المدرسة الفرنسية - الإسلامية وهي خاصة بالذكور، وقد تولى إدارتها الشيخ أحمد بن زكري، ومن شيوخها السيد محمد الحاج صادق الباحث والمترجم أيضا، أما البنات فقد خصصت لهن مدرسة جديدة بالقبة (حسيبة بنت بوعلي حاليا) ابتداء من سنة 1959، ومن شيوخها: ولد رويس، وعويسي المشري، ونور الدين عبد القادر .. وقد عاصرنا بعضهم يوم انتقلوا للتدريس في الجامعة بعد الاستقلال، أما معهد الدراسات العربية فقد كان موقعه جهة جامع كتشاوة بساحة الشهداء، وكان تحت إدارة المستشرق هنري بيريز إلى عشية الاستقلال (2). إن التعليم العربي الحر، كما لاحظنا، كان مقصورا على التعليم الابتدائي، غير أنه يمكن القول إن هناك ما يشبه التعليم الثانوي الحر أيضا، وهذا النوع كانت تقوم به بعض الزوايا مثل زاوية الهامل وزاوية اليلولي وزاوية ابن الحملاوي ومعهد الحياة في ميزاب ومساجد الجنوب عموما، فهذه

_ (1) المدني، جغرافية، ط 2، 1952، ص 109 - 110، أنظر أيضا ما كتبناه عن جمعية العلماء في أول هذا الفصل. (2) أبنت مجلة هنا الجزائر الشيخ أحمد بن زكري وحضر جنازته أعيان من المسلمين والفرنسيين، وقد أكد البعض أنه مات مقتولا.

معلمو جمعية العلماء

المؤسسات كانت تعلم العلوم الإسلامية والفقه وعلوم اللغة ومختلف المواد المكملة لثقافة عربية إسلامية متينة. وفي هذا المجال نشير إلى أن معهد عبد الحميد بن باديس الذي أسسته جمعية العلماء بقسنطينة قد أصبح فرعا من فروع جامع الزيتونة يحتذي حذوه في البرنامج والشيوخ، فكانت امتحانات المعهد تجري بحضور لجنة زيتونية هي التي تعتمد النتائج، ويحق لطلبة المعهد بعد ذلك الالتحاق بجامع الزيتونة إذا أرادوا، ونفس الإجراءات خضع لها أيضا المعهد الكتاني وطلبته في قسنطينة، وقد بلغ الذين كانوا يزاولون تعليمهم باللغة العربية في الزوايا والمعاهد نحو ثلاثة آلاف طالب، وهو عدد ضئيل بالنسبة لشعب تعداده قرابة تسعة ملايين ويعتبر اللغة العربية إحدى عناصر هويته الوطينة. أما التعليم العالي الحر فلا وجود له، لذلك اكتفى الطلبة الراغبون في مواصلة تعليمهم العالي بلغتهم العربية بالتوجه إلى جامع الزيتونة لتعلم الدين والثقافة، وقد تجاوز عددهم فيه الألف والستمائة طالب في بعض الأوقات، وهم يتحملون المشقة الشديدة من أجل تحصيل العلم ودراسة التراث الإسلامي، كما اتجه بعضهم صوب جامعات المشرق العربي، وهذا الخلل في التعليم الوطني هو الذي جعل جمعية العلماء مثلا تسعى إلى إرسال بعثات طلابية إلى الأزهر الشريف وإلى غيره من المعاهد الإسلامية في المشرق، كما سترى (1). معلمو جمعية العلماء كان معلمو المدارس الحرة التابعة لجمعية العلماء يعانون مختلف المشاكل لأنهم هدف لاضطهاد الاستعمار وقمعه، فقد كانوا يتعرضون للحبس والتغريم والمحاكمة كالمجرمين، وكانوا يحبسون مع هؤلاء حتى أنه في

_ (1) المدني، مرجع سابق، ص 110.

مجلس واحد - حسب الشيخ الإبراهيمي - ينادي المنادي على المتهم بالسرقة وبفتح مدرسة بدون رخصة يوم الجمعة بطريقة يقصد بها الإهانة والإذلال (1). ففي مغنية مثلا مدرسة ابتدائية حرة اسمها التقدم، تعرضت لمهاجمة الشرطة التي جاءت تبحث وتعتقل عددا من التلاميذ بحجة أن آباءهم أو مدير المدرسة قد أعطاهم مناشير يعلقونها على الجدران، وهو محمد أدراعو وأسماء التلاميذ المعتقلين وسنهم التي كانت تتراوح بين ست وعشر سنوات، كانت هذه المدرسة قد بدأت التعليم سنة 1949، وبعد ثلاث سنوات طلب من القائمين عليها رخصة فتحها، ولم تذكر الجريدة ما إذا كانت هذه المدرسة الحرة تابعة لجمعية العلماء أو لحزب الشعب. كما أن السلطات الفرنسية في مستغانم اعتقلت الشيخ ابن الدين المعلم في المدرسة الحرة وأودعته السجن أربع سنوات بدعوى أنه قد علم التلاميذ أناشيد ثورية، وقد علقت الجريدة على ذلك بقولها إنه على كل حال لم يدع إلى حمل السلاح وإنما كان يعلمهم تعاليم الإسلام، وأن ما حدث لهذا المعلم بمثل صورة صادقة لما يجرى في الجزائر وطن العروبة والإسلام، كما اعتقل الشيخ الزروقي أحد معلمي المدرسة الحرة بمستغانم لأنه كان يعلم الأطفال الأناشيد أيضا، وحكم عليه بأربع سنوات سجنا وبغرامة مالية قدرت بـ 250، 000 فرنك (2). ومن جهة أخرى أغلقت السلطات الفرنسية مدرسة بلفور الحرة الواقعة بضاحية الحراش في العاصمة بعد عامين من فتحها، وكانت هذه المدرسة تحت إشراف جمعية تهذيبية شعبية، وكان إغلاقها قد تم بناء على أمر صادر من الوالي العام نفسه، وحجته في ذلك هي أن المدرسة لا تمتلك رخصة قانونية (3).

_ (1) المنار، 24 أكتوبر 1952. (2) المنار، 28 نوفمبر 1952، و 12 ديسمبر، 1952، و 23 يناير 1953. (3) المنار، 28 مارس، 1952.

بعثات جمعية العلماء

تلك نماذج فقط لما كان يحدث لمعلمي المدارس الحرة سواء كانت تابعة لجمعية العلماء، وهو الأغلب، أو كانت تابعة لحزب الشعب، والمقصود بالمعاملة السيئة التي يخضع لها المعلمون هو منع مقنع لتعليم اللغة العربية وقمع واضح لتيار الوعي الوطني حتى لا يتجذر في الشباب فيستيقظ ويعمل على استقلال بلاده. بعثات جمعية العلماء سنت جمعية العلماء سنة حميدة وهي إرسال بعثات طلابية للدراسة في معاهد الشرق العربي والإسلامي، ويبدو أن تمويل هذا المشروع كان بمساع قام بها الفضيل الورتلاني وآخرون ثم جهود الشيخ البشير الإبراهيمي، مسايرة للنهضة العربية الإسلامية، وكان التمويل قد انطلق من مصر وباكستان والسعودية، ثم توسع إلى دول عربية أخرى كالعراق وسورية والكويت، وكان الإبراهيمي قد سافر إلى المشرق في فاتح عام 1952 من أجل إجراء اتصالات شخصية لتدبير المنح للطلبة المبعوثين أو الذين تعتزم الجمعية إرسالهم، بالإضافة إلى حضور مؤتمر في باكستان، والتعريف بالحركة الإصلاحية في الجزائر، كان ذلك هو ظاهر الأمور من سفره. وفي نوفمبر 1953 أعلن الشيخ محمد خير الدين في حفل افتتاح دار الطلبة أن بعثات الجمعية قد بلغت ستين طالبا، وأنها ستصل إلى ثلاثمائة (300) طالب، ووعد سامعيه بأن الجمعية تخطط لإرسال طالبات أيضا إلى المشرق، وأنها تتوقع أن يكون لها اختصاصيون في مختلف المجالات العلمية (1). لا نعرف بالضبط عدد الطلبة الجزائريين في مصر قبل شروع جمعية العلماء في إرسال بعثاتها، كان القسم العام في الأزهر الشريف هو الجهة

_ (1) المنار، 20 نوفمبر، 1953.

الوحيدة تقريبا في المشرق التي تستقبل الطلبة الجزائريين الذين تقطعت بهم سبل الدراسة، وتشير بعض الوثائق إلى وجود طلبة جزائريين في مصر قبل بعثات الجمعية وإن كنا لا نعرف عددهم بالضبط، فقد نشرت المنار مراسلة من قاسم الجزائري (ربما هو قاسم زيدون) ذكر فيها تضامن الطلبة الجزائريين، جامعيين ومدرسيين وأزهريين، حسب تعبيره، مع مصر في يوم الشهداء، ولكن المراسل لم يذكر عدد ولا أسماء المشاركين في المظاهرة التي جرت في القاهرة (1). نشرت البصائر لسان حال جمعية العلماء شروط المشاركة في بعثات جمعية العلماء، ومن أولها أن يكون الطالب قد تخرج من مدارس الجمعية أو من معهد عبد الحميد بن باديس، وأن يكون حاصلا على الشهادة الابتدائية وأن لا يتجاوز عمره ست عشر سنة، كما يمكن أن يلتحق بخريج مدارس الجمعية تلاميذ السنتين الأولى والثانية في المعهد، وحدد خريج المعهد بأنه هو الحاصل على الشهادة الأهلية ولم يتجاوز عمره العشرين سنة، وآخر الشروط أن يوفر الطالب تسعين ألف فرنك وجواز سفر. بهذه الشروط استطاعت الجمعية أن ترسل عددا من الطلبة وهم في سن المراهقة، وهي سن لا تؤهله للغربة الطويلة والبعيدة عن الأهل والوطن، وفي ذلك مغامرة جنت منها العائلات والطلبة والجمعية نفسها مشاكل كثيرة رغم الهدف النبيل الذي كان وراء إرسال البعثات ورغم الاحتياطات التي اتخذتها الجمعية ليكون الطلبة تحت أنظار صارمة ورعاية حكيمة، ويبدو أنه حدث تهافت على الالتحاق بالبعثات من كل من يمت للجمعية بصلة في محاولة للالتفاف على الشروط المعلنة، وقد حاولت أنا من موقعي في تونس كمسؤول على جمعية البعثة الزيتونية التابعة لجمعية العلماء أن أستفيد من الاشتراك في البعثات ولكني لم أنجح لأني لم أكن من الذين درسوا في معهد ابن باديس.

_ (1) المنار، 11 ديسمبر، 1951.

اللغة العربية

وأعرف أن خالي الحفناوي هالي والشيخ الطاهر التليلي حاولا إشراك ابنيهما في البعثات باعتبارهما من معلمي الجمعية ولكنهما لم ينجحا لقيام الثورة وتوقف البعثات إلى المشرق من جهة ولوقوع مشاكل بين الطلبة والمشرفين عليهم في المشرق أدت إلى فصل بعض الطلبة من جهة أخرى، وقد أحدث فصل بعض الطلبة من البعثة ضجة في أوساط الجمعية والعائلات بالجزائر بينما كان الشيخ الإبراهيمي في المشرق وقد حالت ظروف الثورة دون التواصل الواضح بهذا الشأن، ومهما كان الأمر فإن الطلبة الذين فصلوا قد نشرت أسماؤهم في جريدة البصائر وعددهم عشرة، من مصر والكويت والعراق (1). ومهما يكن من أمر فإننا إذا عدنا إلى أوليات النشاط الطلابي نجده يتمثل في طلبة سوريا والكويت، ثم تأتي القاهرة، والعراق والسعودية، والمعروف أن جمعية العلماء أخذت في إرسال البعثات إلى المشرق العربي منذ فاتح الخمسينات، وقد التحق الشيخ الإبراهيمي نفسه بالمشرق في فاتح 1952، وكانت البعثات بين عشرة طلاب وأكثر أو أقل إلى كل العواصم العربية (بغداد، دمشق، القاهرة، الكويت ...) (2) اللغة العربية رغم أن قانون (دستور) الجزائر سنة 1947 قد نص على ترسيم اللغة العربية فإن تطبيقه ظل حبرا على ورق، وكانت الأحزاب والجمعيات تطالب بتطبيقه واحترام اللغة العربية في المدارس الحرة والاعتراف بشهادات الخريجين من جامع الزيتونة والقرويين والأزهر الشريف وغيرها من المعاهد

_ (1) انظر أزمة جمعية العلماء في كتابنا أبحاث وآراء في تاريخ الجزائر، ج 2، وكذلك البصائر، عدد سبتمبر أو أول أكتوبر 1954، وهو العدد الذي كتب فيه الشيخ الإبراهيمي تبريرا لفصل المجموعة، والعدد الذي اطلعنا عليه مبتور. (2) رابح تركي، البصائر 262، 12 مارس 1954، والأصالة 8، 5 يونيو، 1972.

الإسلامية، وقد ذكر فرحات عباس أن البيان الذي صاغه سنة 1943 جعل الاعتراف باللغة (العربية لغة رسمية كالفرنسية من المطالب الأساسية، كما طالب البيان بالتعليم المجاني والإجباري لجميع الأطفال (1). واتهم بعض الكتاب فرنسا بالتناقض في موقفها من العربية، فقال إن فرنسا تدافع عن التعليم والثقافة في منظمة اليونسكو ولكنها تضطهد اللغة العربية ومدارسها وثقافتها في الجزائر، كما اتهمها بمحاربة الدين الإسلامي واللغة العربية (اللغة القومية) مع أن المدارس الحرة لا تطلب من فرنسا سوى رفع يدها وترك الشعب يتعلم لغته كما يريد، ومن الإجحاف في نظره أن يطالب الجزائري بالاستظهار بالرخصة حسب قانون 1938 ولكنه عندما يتقدم لطلبها يؤجل الجواب إلى ما بعد تقارير الشرطة، كما أن فرنسا لا تعترف بالشهادات العلمية الصادرة من المعاهد الإسلامية (2). وتحت عنوان (واجبنا نحو لغة الضاد) تحدث نفس الكاتب (المطالع) عن الجهود التي تبذلها باكستان نحو اللغة العربية بينما هي مضطهدة في الجزائر، كما لاحظ أن التعلم باللغة العربية يتراجع في الأوساط الموسرة التي تقبل بدلا منها على تعلم اللغة الفرنسية، أما الطبقات الفقيرة فلها عذرها في عدم إرسال أبنائها إلى المدارس العربية التي لا مجانية فيها, في الوقت الحاضر، وقد عزا الكاتب ذلك إلى كون السلطة الفرنسية قد وضعت يدها على شؤون البلاد (يقصد الأوقاف التي كانت تمول التعليم). وقد استمر الكاتب في التعليق على موقف الطبقة الغنية والطبقة الفقيرة من التعليم بالعربية، فاتهم الطبقة الأولى التي سماها المستنيرة بالاعتزاز باللغة الفرنسية على حساب العربية رغم أن أبرز ما يتميز به الفرنسيون هو الاعتزاز بلغتهم القومية، ومن رأيه أن نشر اللغة العربية يتوقف على عاملين: الأول

_ (1) فرحات عباس، ليل الاستعمار، ص 170. (2) المنار 1، 11 أبريل، 1952.

الإكثار من المدارس الحرة، والثاني الإكثار من الصحافة العربية وتنشيط حركة التأليف وتهذيب لغة المسرح وتعريب لغة المجالس والمسامرات في النوادي الأدبية والسياسية وبث روح الاعتزاز باللغة العربية وتنظيم حملة واسعة لمكافحة الأمية بها، وهي اقتراحات في جوهرها بناءة وواقعية وتدل على أن (المطالع) رجل ذو خبرة واسعة بأوضاع الجزائر (1). وقد كتب الشيخ علي مرحوم عما أسماه (محنة العربية) في الجزائر، والمقالة كتبها في البصائر وتعرض فيها لحال معلمي ومتعلمي اللغة العربية أمام محاولات الفرنسيين منع تدريسها وتعلمها، ودور المعلمين في المدارس الفرنسية الذين اتهمهم بالعمل على منع التلاميذ من تعلم العربية في مدارس جمعية العلماء ناقلا عن بعضهم قوله: (يجب ألا يوجد في الجزائر سوى لغة واحدة وشريعة واحدة،) وفسر الشيخ مرحوم ذلك بأنه يعني القضاء نهائيا على العربية والإسلام، واتهم أولئك المعلمين بالمكر والتعصب واعتبر موقفهم حربا معلنة، ودليله في ذلك اضطهاد مدارس جمعية العلماء (2). وفي هذا النطاق أعلنت جريدة المنار من أول عدد شعارها الوطني والقومي، وهو الشعار الذي يذكرنا بشعار الحركة الإصلاحية: (الإسلام ديننا، العربية لغتنا، الجزائر وطننا)، لم تذكر المنار من هو صاحب الأبيات الثلاثة التي ازينت بها، وعنوان الأبيات هو (لمن تعيش؟) والجواب: عش للجزائر كوكبا ... يجلي الدياجي نيرا عش للعروبة صارما ... يحمي حماها مشهرا ولتغد للإسلام ... حجته إذا اشتد المرا (3). والغريب في هذا المجال هو أن أحد أعمدة المسرح منذ العشرينات من

_ (1) المنار، 25 أبريل، 1952. (2) البصائر، عدد 306. (3) المنار، 29 مارس، 1951.

من قضايا الثقافة والأدب

القرن العشرين وهو محيي الدين باش تارزي، قد اعتز بالثقافة الفرنسية بدل العربية واعتبر نفسه وسيطا ثقافيا بين قومه والفرنسيين، بل عبر عن موقف إنسان مستلب الهوية، فقد حاوره صحفي فرنسي من مجلة (الوثائق الجزائرية) اسمه أندريه صاروي Sarrouy فقال له: إذا كنت مرتبطا بالثقافة الفرنسية الكلاسيكية فلأني على يقين أن مبادرتي تجد هوى وتفهما لدى الأوساط الإسلامية، إن إخواني في الدين الذين يعودون إلى أصول متواضعة ومتطورة أصبحوا اليوم متشبعين بالثقافة الفرنسية، عن طريق اتصالهم المتواصل بالأوروبيين، فأصبحت لديهم عقلية فرنسية، إنهم يفكرون ويشعرون بالفرنسية، وهم معجبون بالأسماء اللامعة في تاريخكم وأدبكم، وليس هناك أعز لدى تلميذ في المدرسة العربية - الفرنسية من أن يعرف عن ظهر قلب قصة لافونتين) (1). إن مثل هذه الآراء ما تزال تعشش بيننا اليوم، وليس هناك من سبيل للتخلص منها سوى تطبيق مبادى الثورة وعزل أصحاب هذه الآراء التي لا تعبر إلا على تذبذب وحيرة أصحابها، ولعل باش تارزي كان فقط يجامل ذلك الصحفي الفرنسي، أو أنه قد غير رأيه بعد سنوات الكفاح الطويلة من أجل إقرار هوية الشعب الجزائري القائمة فعلا على الدين الإسلامي والعروبة الثقافية والوطن الجزائري، وهي العناصر التي بنيت عليها ثقافة الشعب الجديدة منذ الفتح عبر المسيرة الحضارية الطويلة التي اشتركت فيها الرموز السياسية والثقافية (الملوك والعلماء)، كل في مجاله. من قضايا الثقافة والأدب إذا حكمنا من القضايا التي كانت تداولتها الصحافة فإن الجزائر كانت عشية الثورة تعيش زخما ثقافيا مبشرا بانطلاقة جديدة، حقيقة أن حركة النشر بالعربية تكاد تكون معدومة والكتب التي طبعت خلال العشرية 1945 - 1954

_ (1) لطفي محرزي، السينما الجزائرية، الجزائر، 1980.

تعد على الأصابع، ولا تختلف حركة النشر بالفرنسية كثيرا عنها بالعربية، ولا نعرف أن هناك مطابع جديدة نشأت بعد مطبعة البصائر، ولا دور نشر جديدة، أما الصحف فقد ظهر بعضها عشية الثورة مثل المنار وهنا الجزائر، وكلتاهما قامت بدور هام في الحركة الثقافية رغم اختلاف اتجاههما. والصحف التي تناولت بالنقاش قضايا ثقافية وأدبية هي البصائر وهنا الجزائر والمنار على الخصوص، كان أحمد رضا حوحو يثير من وقت لآخر زوبعة في نقاشه مع بعض الكتاب والنقاد سيما منذ ظهر كتابه (مع حمار الحكيم) الذي تناوله بالنقد أو التعريف أكثر من واحد، فكان حوحو يتأفف من النقاد ويدافع عن وجهة نظره وأصالة فكره، وقد كتب أيضا عمن أسماهم (أدباء المظهر)، ففي العدد 301 من البصائر قال حوحو عن مولود الطياب الذي انتقده في كتابه مع حمار الحكيم: إنه لا يعرف النقد وإنه غير موهوب فيه، وقد كنت أيضا من بين من تناول كتاب حوحو في البصائر. وظهرت ردود مختلفة من الكتاب على صفحات البصائر حول المقالة التي كتبها الشيخ عبد الوهاب بن منصور بعنوان (ما لهم لا ينطقون)، وهو يعني بهم الأدباء والمثقفين الذين ليس لهم دور فيما يجري من حولهم من قضايا الفكر والثقافة والمجتمع، وقد نطق أكثر من كاتب لمناقشة هذا الموضوع الذي يحمل في طياته تهمة بالسكوت على المنكر، والجدير بالذكر أنني كنت أيضا من بين الناطقين، كما دار بيني وبين المرحوم رابح بونار نقاش في البصائر حول إرهاصات النهضة في الجزائر ودور المثقفين، وكان الشيخ البشير الإبراهيمي يثير في افتتاحيات البصائر قضايا ذات بعد كبير مثل قضية فصل الدين عن الدولة، والعدالة تحت الاستعمار، وعلاقة الطرق الصوفية والعلماء الرسميين بالإدارة الفرنسية، كما أثارت المنار قضية هامة وهي الوحدة الوطنية وعوامل تحقيقها، فاشترك عدد كبير من المثقفين والسياسيين ورجال الدين بالكتابة حول تحقيق الوحدة بحيث عبر كل منهم عما رآه الطريق الأمثل لتحقيقها.

ومن الذين أجابوا على استفتاء الوحدة مالك بن نبي، فقال إن جوابه على السؤال موجود في كتابه (شروط النهضة)، ومع ذلك شارك قائلا إن الذي يهمنا هنا هو إدراك الدستور الذي من شأنه أن يرفع نصب الحياة من الحضيض الذي شاهده إلى المستوى الذي يطمح إليه الفرد أو المجتمع بطبيعة الشيء المسطر في غريزة بني الإنسان، وفي نظره أن المشكل في الجزائر إنما هو قبل كل شيء عائد إلى أصول اجتماعية عامة لا تخص طورا من الحياة البشرية دون الأطوار الأخرى ولا عنصرا منها دون العناصر الأخرى بل تشملها في جميع مراحلها، تارة من حضيض إلى حظ وتارة من حظ إلى حضيض (1). ومن جهته حدد الشيخ العربي التبسي إجابته على أسئلة المنار حول الوحدة فقال إن الاتحاد ضروري لأنه هو المنقذ في الوقت الحاضر ويعني به تكتل الشعب بأسره، وإن في بقاء الأحزاب إطالة لعمر الاستعمار، وكان قد نادى بالاتحاد الشعبي لا الحزبي منذ سنة 1945، أما الوسائل فتتمثل عنده في إلغاء التنظيمات السياسية القديمة، بما في ذلك المؤسسات التي تحمل اسم (الفرنسية المسلمة) ووضع مبادى تتسع لجميع سكان الجزائر، وإخراج العناوين الدينية من الحياة السياسية، فلا قال (مسلم فرنسي) وإنما يقال (جزائري)، ودعا الشيخ إلى عقد مؤتمر عام تعلن فيه الوحدة الشعبية (2). ومن جهته كان الشيخ الحفناوي هالي يكتب في زاوية من البصائر عن موضوعات عديدة تحت عنوان (ندوتي)، بينما يشاركه أو يخالفه الرأي بعض المتتبعين للحركة الثقافية مثل العلاقة الأدبية بين المشرق والمغرب والإصلاح الاجتماعي. وفي البصائر أيضا كان عبد المجيد الشافعي وعمار النجار ومحمد منيع وغيرهم يتطرقون إلى مواضيع تثير بدورها ردود أفعال بين الكتاب بل بين

_ (1) المنار 17، 6 فبراير 1953. (2) المنار 17، 6 فبراير 1953.

أصحاب المكتبات والمطابع، فطابع الشافعي بطبع كتب المثقفين الجزائريين في الجزائر بدل الاعتماد على الكتب المشرقية ولا سيما الكتب التعليمية، منتقدا عناية أصحاب الكتبات بجلب كتب المشارقة وإهمال كتب الأدباء الجزائريين. وهاجمت البصائر مجلة هنا الجزائر لإهانتها الدين الإسلامي مرة بطريقة مباشرة وأخرى غير مباشرة، فتحت عنوان (الإذاعة تهين الدين) قالت البصائر إن الإذاعة مثلت رواية (أيوب) بصوته، وإنها تلقت احتجاجات من المواطنين على ذلك، وإنها تدعمهم وتستنكر عمل الإذاعة معهم، أما الإهانة غير المباشرة فحين قدمت الإذاعة رواية سخيفة (ولم تسمها) لأحد المنبوذين ممن لا يدرون ما العلم وما الفن، فالإذاعة بذلك قد أهانت الذوق والفن. عرف عبد المجيد الشافعي بقصصه التي بدأها بـ (الطالب المنكوب)، فكان ظهوره واهتمامه بهذا الفن مبكرا، ولم يكتف بالتعبير عن ذلك بمقالة أو بقصة وإنما تابعه في سلسلة من الأعمال، انتهت حسب علمنا وسط الخمسينات، ولكن الشافعي لم يتطور كثيرا أثناء رحلته الأدبية، شأن بعض رفاقه في الدرب، ومن أعماله قصة (ضحايا الجهل في بلادنا)، وهي قصة فتاة كانت تدرس في المدرسة، وكانت في غاية الحسن والجمال والذكاء والمثابرة وفجأة أمرها والدها أن تلازم البيت رغم أنها على وشك الحصول على الشهادة الابتدائية، فاعتمدت على نفسها في الدراسة في البيت لكي تحقق أملها، ولكن قواها تراجعت وتراجع معها الأمل من تحقيق هدفها، وبقيت بين التشاؤم والتفاؤل إلى أن بشرتها أمها بأنها ستزف إلى رجل غني قريبا وقد ختم الشافعي قصته بطلاق الفتاة وضياع عمرها، فتأست بصاحباتها اللائي لم يدرسن أصلا، وللشافعي ألوان أخرى من هذا النمط القصصي الاجتماعي الذي يستوحي المدرسة والمجتمع، والشافعي هو أيضا صاحب (خواطر مجموعة) التي علق عليها بعض الكتاب عند ظهورها قبل الثورة (1).

_ (1) البصائر عدد 361.

بينما كتب محمد فيلالي عن عقم الأديب مقالة قال فيها إن الأديب الجزائري يكرر نفسه وليس مبدعا، وأنه لفظي وحشوي، ولاحظ أن القراء لا يشتركون في النقد (1). وبين سنتي 1951 - 1952 تعرضت المنار إلى وجوب الاهتمام بالمناهج التربوية وتعليم التاريخ والجغرافيا مما يجعل التربية مستوحاة من تعاليم الإسلام والتراث والشخصية الوطنية. كما فتحت مجلة هنا الجزائر بابا دائما عنوانه (حديث الكتب والمجلات) كان مولود الطياب يتناول فيه الكتب الصادرة حديثا سواء كانت جزائرية أو غيرها، ويهمنا الآن منه ما تناوله الطياب قبل الثورة، فقد تناول حسب علمنا، كتاب القول المأثور من كلام الشيخ عبد الرحمن المجذوب، واعتبره وثيقة عن حياة أهل شمال إفريقيا في القرن العاشر الهجري، كما عرف بالخواطر المجموعة لعبد المجيد الشافعي وبكتب حوحو وغيره من الإنتاج الجزائري (2). ففي العدد 285 من البصائر مقالة وصفية لحفل افتتاح مدرسة باتنة الجديدة باعتبارها معقلا جديدا للعروبة والإسلام، وهي مقالة مصورة لمن حضر الحفلة من العلماء والشعراء والأعيان، والشعر والخطب التي ألقيت، وفي العدد 258 مقالة نقدية تضايق فيها حوحو من النقاد الذين تناولوا كتابه (مع حمار الحكيم) عنوانها (آه من هؤلاء النقاد)، وفي نظره أن نقدهم لم يكن في المستوى لأنهم يلجأون إلى الألفاظ الرنانة والأفكار المجترة، وقد رد على بعضهم بعبارات ساخرة لكونه لا يحب توفيق الحكيم ولا يقرأ له، قائلا إن موضوعاته هو جزائرية محض وهي تختلف عن موضوعات الحكيم. وفي نفس العدد من البصائر (285) مقالة نقدية لي من حلقتين بعنوان (أرض الملاحم)، وهي المقالة التي نشرت أيضا في مجلة الآداب اللبنانية.

_ (1) البصائر، عدد 306، وعدد 307. (2) هنا الجزائر، 26، يوليو، 1954.

وفيها نماذج من الشعر الملحمي ودعوة إلى كتابة الشعر الواقعي. اهتمت هنا الجزائر وكذلك البصائر بالتعريف بالتراث والعائلات، كما اهتمتا بالمدن والعلاقة الحضارية مع الشرق والمواسم الدينية والتراجم التي تذكر الأمة بأمجادها وتاريخها رغم أن هنا الجزائر كانت دورية رسمية، وكانت لا تكتب عن هذه الرموز من وجهة نظر وطنية ولكن معرفية فقط، فقد حقق أحمد الأكحل في نسب الشيخ عبد القادر المجاوي الذي يسمونه شيخ الجماعة، وانتهى إلى أنه من أشراف ترارة وأن أصلهم من نواحي تطوان. وتناول غيره (ربما هو عبد الرحمن الجيلالي) زيارة الشيخ محمد عبده للجزائر سنة 1903 وجاء بمعلومة جديدة عن هذه الزيارة، وهي أن لقاء الشيخ أبي القاسم الحفناوي والشيخ عبده في السفينة بمرسيليا كان صدفة فقط بينما الرواية الأخرى تذهب إلى أنه كان لقاء مرتبا من قبل السلطة الفرنسية، كما أن الحفناوي سأل عبده عن بعض مسائل التفسير وتلقى الإجابة عليها، وأن الحفناوي كرر زيارة عبده في الجزائر وهو أمر تنفيه الرواية الأخرى، وأن عبده كان معجبا بالحفناوي، وأن من الذين حضروا الاجتماع مع الشيخ عبده في مسجد المحسن مصطفى الأكحل: يوسف بن سماية، وعبد الرزاق الأشرف، ومفتي المالكية محمد بن زاكور، ومفتي الحنفية محمد بوقندورة، والمدرس بجامع سفير محمد قايد علي، وإثارة موضوع كهذا في هذه السنة له دلالة خاصة لأننا أشرنا إلى أن التركيز كان واضحا على علاقات الجزائر بالمشرق (1). أما البصائر فكانت تتحدث وبالصور، عن الثورة المصرية واستقبالات رجال الجمعية من قبل قيادة هذه الثورة، وظهرت عدة مقالات وصور لشخصيات بارزة من حركة الإخوان المسلمين، أبرزها مقالات سيد قطب، وظهر شيوخ الأزهر بجلابيبهم على صفحاتها وصفحات وليدتها (الشاب المسلم) التي تصدر بالفرنسية، وكتب الإبراهيمي بعض مقالاته بعنوان من

_ (1) هنا الجزائر، 29 نوفمبر، 1954.

الأدب وجبهة الدفاع عن الحرية

نفحات الشرق، وأصدرت البصائر عددا خاصا (ممتازا) عن مصر أثناء صدامها مع الأنجليز، كما اهتمت بتطور السعودية وتحدثت عن الملك عبد العزيز بإعجاب ورثته بعد وفاته، وكذلك اهتمت بأحداث المغرب ونفي سلطانه، ثم عودته ظافرا إلى وطنه، ونقلت أخبار وصور وفد جمعية العلماء الذي توجه إلى المغرب لتحية وتهنئة السلطان. من ذلك رثاء محمد العيد للملك عبد العزيز آل سعود وقد نشرها في المنار في أول يناير 1954، ومطلع القصيدة: لك الويل من نعي به هتف البرق ... فريع له الإسلام واضطرب الشرق (1). حاول محمد منيع إنشاء رابطة باسم (الرابطة القلمية)، ولكنه لم يوفق، وكان قد وعد بوضع قانونها الأساسي بنصيحة من أحمد توفيق المدني، ولكن الأدباء كما قيل، تقاعسوا عن المساندة، وقد كتب منيع كلمة بعنوان (صرخة في واد) وأهداها إلى أبي القاسم سعد الله تحسر فيها على مشروعه الذي لم ير النور (2). الأدب وجبهة الدفاع عن الحرية نشرت المنار شعرا للصادق نساخ في تحية جبهة الدفاع عن الحرية، وكان نساخ من تلاميذ محمد العيد، وكان متفائلا بالجبهة التي رأى أنها ستوحد الشعب من حولها فجعل عنوان شعره (اجمعوا الشعب حولكم)، كما نظم قطعة (يا نجم) التي تذكرنا بقصيدة شيخه محمد العيد (يا ليل) معنى ووزنا. أما محمد العيد فقد نظم في نفس المناسبة قصيدته السياسية المبشرة بالثورة والتي عنوانها (يا قوم هبوا)، وقد جاء فيها:

_ (1) نعلم أن الشاعر نفسه نشر قصيدة في جريدة الأسبوع التونسية في أكتوبر 1953، ولكننا لا نعرف عنوانها ولا غرضها، أنظر الجابري، النشاط العلمي ... (2) البصائر، 23 ديسمبر، 1955.

يا قوم هبوا لاغتنام حياتكم ... فالعمر ساعات تمر عجالى الأسر طال بكم فطال عناؤكم ... فكوا القيود وحطموا الأغلالا لا أمن إلا في ظلال مرفرف ... حر لنا عال ينير هلالا كما نظم محمد العيد قطعة جميلة وهادفة دعا فيها أهل وهران إلى الثقافة، بدأها بقوله: العصر عصر ثقافة الأذهان ... فإلى الثقافة يا بني وهران (1) كما توجد في المنار قطع شعرية وطنية وصفية صاغها شعراء متحمسون للنضال السياسي والتحرر الوطني رأوا في اجتماع جبهة الدفاع عن الحرية أملا في الوحدة والخلاص من الاستعمار، وقد شارك في هذه (الحملة) الشعرية أيضا أحمد بوعدو وأبو بكر بن رحمون الذي علق أملا عريضا على الجبهة فقال: ارفع لواء الفاتحين ... واهتف بعزم المؤمنين (2) ومن الكتب التي ظهرت في هذه الأثناء (فارس العقيدة) للشريف ساحلي. وهو كتاب يتناول حياة الأمير عبد القادر الذي اعتبره المؤلف مغمورا رغم ما كتبه عنه الأجانب، سيما في الجزائر التي دافع عنها ولأن قوة الحديد والنار هي التي وضعت حدا لعمله العظيم، ولاحظ الساحلي أن قليلا من الجزائريين فقط كتبوا عن الأمير والأقل منهم من درس حياته وفهمها حق الفهم، فجاء كتابه في وقت تحتاج البلاد إلى معرفة هذا البطل المغوار، ينقسم فارس العقيدة إلى قسمين الأول يدرس الأمير مفكرا والثاني يدرسه إنسانا، ولا يحاول المؤلف أن يقدم ترجمة كاملة للأمير وإنما قدمه في مختلف ألوانه وظلاله ومختلف جوانبه، كما درس بعض الأحداث فحللها بدقة، وتمنى المراجع أن يترجم الكتاب إلى

_ (1) المنار 9، 5 أكتوبر 1951، في هذه الأثناء نشر عمر البكري أيضا قصيدة في المنار عن تلمسان. (2) المنار 8 مايو، 1952.

العربية (1). ومن الأمثلة على مشاركة الشعر في الحياة الجديدة عشية الثورة افتتاح مدرسة باتنة سنة 1953، وتدشين دار الطلبة بقسنطينة في نفس السنة، فعندما نشرت البصائر الخبر جعلته تحت عنوان (باتنة تشيد معقلا للعروبة والإسلام)، وقد ظهر في المقال المصور زعماء الحركة الإصلاحية عندئذ: خير الدين وأحمد توفيق المدني وأحمد السرحاني ومحمد العيد والشيخ نعيم النعيمي والطاهر الحركاتي، كما ظهر عدد من أنصار الإصلاح من السياسيين والمحسنين والنواب، وأذكر أن الشيخ الإبراهيمي قد أرسل تسجيلا صوتيا خاطب فيه جمهور باتنة وهنأه بالمدرسة وطلب منه المزيد من البذل والسخاء في سبيل الإسلام واللغة العربية والجزائر، وبهذه المناسبة ألقى محمد العيد رائعته التي جاء فيها بإرهاصات ثورية ساخنة: وما التسجيل للآثار إلا ... ببذل المال أو بذل الضحايا حذار من الشقاق فإن أقمتم ... عليه عصاكم انفلقت شظايا (2) كما نشير إلى تدشين دار الطلبة بقسنطينة، وهي الدار التي بنيت تحت إشراف جمعية العلماء لتكون إقامة لطلبة معهد عبد الحميد بن باديس بعد أن تكاثر عددهم، حضر حفل الافتتاح رجال الجمعية ووفد من علماء جامع الزيتونة وأنصار الإصلاح، وقد ألقيت قصائد معبرة عن الفكر الإصلاحي والمشاعر الوطنية والدعوة إلى الاتحاد بين الأحزاب والنهضة الإسلامية. من شعراء هذا الحفل مفدي زكرياء الذي ظهر بعد غياب طويل وألقى قصيدته المؤثرة التي عبر فيها عن خيبة أمله في الأحزاب والسياسة وأعلن فيها دعمه لمنهج جمعية العلماء، وقد جاء فيها:

_ (1) المنار 20، 27 مارس 1953، والكتاب من مطبوعات مكتبة النهضة بالجزائر. (2) البصائر، عدد 285.

وما الزعامة أقوال وشقشقة ... إن الزعامة إصلاح وتشييد وما النضال احتجاجات على ورق ... إن النضال كفاءات ومجهود وما الجهاد (جدار أنت تكتبه). .. إن الجدار كبعض الناس جلمود هذي المدارس كالأعلام قائمة ... للعلم يحرسها قوم مناجيد وهذه بعثات العلم شاخصة ... للشرق يكلأها في الشرق تأييد جاء (البشير) فزكاها وأرسلها ... فصائلا كلها عزم وتأكيد جمعية العلماء المسلمين ومن ... للمسلمين سواك اليوم منشود؟ خاب الرجآ في سواك اليوم فاضطلعي ... بالعبء مذ فر دجال ورعديد سيروا ولا تهنوا فالشعب يرقبكم ... وجاهدوا فلواء النصر معقود أمانة الشعب قد شدت بعاتقكم ... فما لغيركم تلقى المقاليد فابنوا المدارس في عرض البلاد فما ... غير المدارس للتحرير تمهيد أما زميله الشاعر محمد العيد فهذا الميدان ليس غريبا عنه فطالما خب فيه وأوضع كما يقولون، ولكن قصيدته كانت من أنجح شعره الإصلاحي خصوصا وقد جاءت بعد سكوت دام أيضا طويلا وبعد ابتعاد عن الحفلات والأضواء والتوجه بدلا منها نحو المحراب الصوفي والحياة الروحية، وهذه طالعة القصيدة. هات البشائر للجزائر هاتها ... إن الجزائر أبصرت غاياتها سنذكر نموذجا للشاعر الديني والإصلاحي أحمد سحنون من قصيدتيه إلى المعلم ثم إلى التلميذ، ولكن هذا النمط من الشعر أخذ يختفي بعد قيام الثورة ودخول الشعر السياسي ساحة المعركة.

الفصل الثاني الثقافة في نصوص الثورة

الفصل الثاني الثقافة في نصوص الثورة قضايا الهوية عالجتها وثائق الحركة الوطنية بإسهاب في مختلف مراحلها، ومن العبث أن نكررها هنا، فمن عهد الأمير عبد القادر إلى عهد الأحزاب السياسية تحدث الجزائريون عن تراثهم ومكوناتهم الفكرية واللغوية والدينية كعناصر وحدة منصهرة في التاريخ لا انفصام لها، وكان ذلك واضحا في كل عمل جماعي قاموا به، بما في ذلك نخبة المدن في القرن التاسع عشر إلى برنامج النجم وحزب الشعب والمؤتمر الإسلامي وجمعية العلماء وأحباب البيان والحرية وحزب البيان ... إلى المؤتمر الثاني لحزب الشعب الذي انعقد عشية الثورة (1953) والذي نص على أن ثقافة الجزائر ثقافة وطنية مرتبطة بالثقافة العربية الإسلامية وأن التربية الوطنية في الجمهورية الجزائرية ستكون مرتبطة بالثقافة العربية الإسلامية، ومن ثمة فإنه من المؤكد أن بيان أول نوفمبر كانت له مرجعية واضحة لو أراد محرروه العودة إليها واستلهامها، ولكن هل فعلوا؟ يقر مصطفى الأشرف الذي قام ببحوث مكثفة في تاريخ الجزائر أثناء الثورة بأن الحركة الوطنية (القومية) لم تتمخض على مذهب عقائدي يؤسس للمستقبل، لأن مهمتها قد انحصرت منذ نشأتها في تحرير التراب الوطني، ولا يجوز أن نطالبها بشيء آخر، فهل هذا الحكم ينسجم مع ما أشرنا إليه من تحديد الحركة الوطنية لمعالم عقيدتها منذ عهد الأمير عبد القادر؟ لعل الأشرف يريد بالعقيدة هنا الايديولوجية الاشتراكية التي أسس لها برنامج طرابلس الذي كان

الثقافة في بيان أول نوفمبر

الأشرف أحد صناعه على الورق ولكنه لم يستطع تطبيقه على أرض الواقع. ومن جهة أخرى يقر الأشرف بأن فكرة الثورة لم تنبع من الريف الذي اكتفى بالمحافظة على الأرض انطلاقا من غريزة حب البقاء، وأن المجتمع الريفي أصبح هيكلا خاليا من أية ثقافة ومن أي وعي سياسي، بل هو مجرد هيكل للمحافظة على العادات والتقاليد، ولكنه هو العمدة في تحرير البلاد، أما فكرة الثورة فقد نبعت من المدينة، ولعل الأشرف كان يقيس وضع الجزائر في القرن التاسع عشر بوضع فرنسا في القرن السادس عشر عند ظهور الوعي القومي السياسي على أنقاض الإقطاع الريفي، كما أنه لم يري المسألة الثقافية، ولو تمعن لتأكد أن خميرة الثقافة الوطنية التي هي منطلق هويتنا قد بقيت في الريف وليس في المدينة (1). الثقافة في بيان أول نوفمبر تناول بيان أول نوفمبر بالشرح والتعليق عدد من الكتاب والمؤرخين فرأى فيه البعض وثيقة كاملة تضمن كل ما يعبر عن الجزائر في ثورتها وما هو أبعد من ثورتها، ورأى فيه آخرون وثيقة ظرفية الهدف منها توضيح الأسباب الداعية إلى تفجير الثورة وشروط الصلح ووقف القتال مع العدو والهدف من الثورة وهو استرجاع الاستقلال الذي اغتصبه المحتلون سنة 1830، فهل تعرض البيان إلى المسألة الثقافية؟ وهل كان صائغوه مؤهلين للحديث عن ماضي وحاضر ومستقبل الجزائر الثقافي؟ إلى أي حد كان بيان أول نوفمبر معبرا عن الهوية الثقافية للجزائر؟ إن الذين تناولوه بالتحليل معظمهم من المتعاطفين مع أصحابه وبالتالي رأوا فيه وثيقة كاملة تضمن كل هموم الجزائر ومشروع مجتمعها أثناء الثورة وما بعد الاستقلال، ولكن الذين انتقدوه رأوا فيه وثيقة كتبت على عجل وبقلم بسيط وفكر ساذج، وكان همها الوحيد انطلاق الثورة وليس بناء المستقبل.

_ (1) مصطفى الأشرف، الجزائر: أمة ومجتمع، 1983، ص 457.

جاء في البيان (1) أن (على فرنسا أن تعترف رسميا بالقومية الجزائرية وبإعلان صريح رسمي تلغي بمقتضاه جميع القوانين والقرارات والمراسيم التي جعلت الجزائر أرضا فرنسية رغم تاريخ الشعب الجزائري ورغم التاريخ والجغرافية واللغة والديانة والعادات)، كما نص البيان على ضرورة إجراء مفاوضات مع الممثلين الحقيقيين للشعب الجزائري على أساس احترام السيادة الجزائرية التي هي جزء لا يتجزأ ... (ومن جهتنا نتعهد بضمان المصالح الفرنسية الثقافية والاقتصادية ..). واضح من هذا النص أن البيان يتحدث عن (القومية) (الوطنية) الجزائرية وأن مقومات هذه القومية هي التاريخ والجغرافيا واللغة والديانة والعادات المشتركة، ومن المفهوم، وليس بالتصريح، أن اللغة المقصودة هي اللغة العربية، وأن الديانة المقصودة هي الإسلام، وأن التاريخ يعني هنا التاريخ الجزائري المرتبط بالتاريخ العربي الإسلامي لأن تاريخ الجزائر منذ الفتح هو جزء من هذا التاريخ العربي الإسلامي. ولكن لماذا لا يعبر البيان عن ذلك صراحة؟ إن البعض يرون أن التصريح بهذه المقومات القومية، لو أعلن، قد تعزل الأقليات الأوروبية عن دعم الثورة، كما يرى البعض أن محرري البيان أنفسهم كانوا مترددين في موضوع اللغة والإسلام والتاريخ لأن تكوينهم لم يكن يتضمن هذه المقومات، وهم كوطنيين يساريين ربما يريدون تفادي التمسك بمبادى تعتبر رجعية في حينها، ثم من

_ (1) اعتمدنا على ترجمة البيان المنشورة ضمن النصوص الأساسية لجبهة التحرير الوطني، وأول منشور للجبهة، أنظر لاحقا، جاء في كتاب ميكال كلارك، الجزائر المضطربة، ط، 2، ص 114 أن محمد العيشاوي مدير مكتب حركة الانتصار بالعاصمة، هو الذي طبع جريدة (الباتريوت)، وكذلك بيان جبهة التحرير على آلة الميموغراف التابعة لحسين الأحول، وقد ظهر العددان الثاني والثالث من الباتريوت، في شهر مايو 1954، وهي مطبوعة على الحجر (ميموغراف)، أما العدد الأول فقد ظهر مع ظهور اللجنة الثورية للوحدة للعمل (C. R. U. A).

برنامج أول نوفمبر

منهم كان قد درس تاريخ الجزائر (خارج العهد الاستعماري) القديم والوسيط والحديث، وعرف ما تراث الجزائر خلال هذه العهود الطويلة؟ ثم إن المسألة ليست مسألة لغة ودين وتاريخ ... ولكنها مسألة حضارة متكاملة، وليس في ذلك النفر من المناضلين من كان دارسا أو ملما بجوانب الحضارة العربية الإسلامية ودور الجزائر فيها؟ عند الحديث عن السند الخارجي ميز البيان بين الدعم المضمون والدعم المحتمل، أما الدعم المضمون فهو من (إخواننا العرب والمسلمين)، وهذا واضح من أنه يعبر عن الشعور بالانتماء الحضاري، وهذا يمثل الدائرة الأوسع للجزائر، كما أن هدف الثورة المعلن هو إخراج الحركة الوطنية من التردي الذي وقعت فيه إلى (المعركة الحقيقية الثورية إلى جانب إخواننا المغاربة والتونسيين)، وهذه هي الدارة الأقرب للجزائر , فقد كان محررو البيان يدركون أن أول من يتوقعون منه الدعم هم العرب والمسلمون سواء كانوا في المشرق أو في المغرب، وأن واجب النضال يقتضي اللحاق بركب الثورة في البلدين الجارين وتوسيع رقعة المعركة لصالح الجميع مع توقع الدعم القادم من (الاخوة) الأقارب والأباعد. برنامج أول نوفمبر أما النقطة التي دار حولها كثير من الجدل وما يزال يدور، فتتمثل في برنامج الثورة، فهل هو إقامة دولة اشتراكية أو إسلامية أو ليبرالية، ويبدو أن محرري البيان كانوا (اشتراكيين) في توجههم، ولكنهم مع ذلك ومراعاة ربما للجماهير، ألحوا على أن الهدف من البرنامج سياسيا هو تحقيق الاستقلال وإقامة دولة ديموراطية اجتماعية ... (في إطار المبادى الإسلامية)، فلماذا هذا الغموض؟ إن عبارة ديموراطية اجتماعية تعني أن النظام الذي مستنشئه الجزائر سيكون شيوعيا أو اشتراكيا وليس نظاما اجتماعيا عادلا كما فهمه البعض، فأصحاب البيان كانوا يقفون إلى يسار الخط الايديولوجي الاشتراكي.

وربما لم يمنعهم من الإعلان عن الشيوعية سوى الخوف من معارضة بعض زملائهم لهذا التوجه أو من معارضة جماهير الشعب السابحة في البحر الإسلامي منذ قرون، ولا شك أن تعبير (دولة ديموقراطية اجتماعية) يعني تقليد النظم التي تدور في فلك المعسكر الاشتراكي وبعض الجمهوريات الشيوعية ذات النظام الديموقراطي الاجتماعي في آسيا، فماذا بقي للمبادى الإسلامية؟ وما معناها؟ وما المقصود من عبارة إطار؟ يبدو أن هذه التعابير كلها غامضة في أذهان أصحابها أو أنهم صاغوها بطريقة غامضة عن قصد حتى تبقى محل احتمالات وأخذ ورد، وهي فعلا بقيت غامضة في أذهاننا نحن اليوم أيضا، وهو السبب في أن كل طرف يحاول تفسيرها على هواه أو كما تنسجم مع عقيدته السياسية وقناعته الثقافية، فلا المبادى واضحة ولا الإطار كذلك واضح، ولكن لو طلبنا من أي مسلم متعلم عندئذ أن يحدد مفهوم المبادى الإسلامية لأجاب بأنها جوهر الشريعة وما تحتويه من عبادات ومعاملات، أما (الإطار) فمفهومه أن الدولة الجزائرية المستقلة لن تخرج عن تعاليم الإسلام في الحلال والحرام والشورى وإقامة الحدود ... فمن كان يفكر في ذلك ممن صاغوا البيان؟ بينما في المبادى الأخرى العلمانية نجد البيان واضحا لا غبار عليه، فهو يصرح بوجوب (احترام جميع الحريات الأساسية دون تمييز عرفي أو ديني)، وهو نداء يقترب فيه البيان من الأقليات الأوروبية في الجزائر ويكشف فيه عن هوية الثورة بالنسبة للرأي العام الخارجي، كما طالب بوجوب (إعادة الحركة الوطنية إلى نهجها الحقيقي) في نطاق الدعوة إلى لملمة أطراف الحركة الذين اختلفوا حول أولويات النهج الثوري أو السياسي، بل كان البيان واضحا أيضا في توجيه الدعوة إلى الأطراف الوطنية الأخرى غير المنخرطة في حزب الشعب لأن العمل الآن أصبح يتمثل في تجميع وتنظيم جميع الطاقات الشعبية للتخلص من الاستعمار تحت لواء وطني واحد يدعى (جبهة التحرير الوطني). كما كان البيان أكثر وضوحا فيما يتعلق بوحدة المغرب العربي، فالثورة

لغة البيان ومضمونه

ستعمل على وحدة شمال إفريقيا (داخل إطارها الطبيعي العربي والإسلامي) بينما كلمة (طبيعي) لم ترد في المبادى الإسلامية ولا في تحديد مفهوم القومية القائم على التاريخ والجغرافيا واللغة والدين والعادات المشار إليه، ومرة أخرى يشير البيان إلى مسألة الانتماء العربي الإسلامي للجزائر في نطاق المغرب العربي، وللمغرب العربي في الإطار العربي الإسلامي، وكلمة (الطبيعي) كلمة مهمة هنا، فهي تعبر عن علاقة لم يفرضها غزو ولا احتلال وإنما فرضها واقع جغرافي وسياسي وثقافي تشكل عبر القرون فانصهر فيه الشعب بجميع مكوناته، فأصبح هو من هو في التاريخ، كما كان البيان واضحا في إصراره على أن الجزائر وحدة لا تتجزأ، وعلى السيادة الكاملة، وعلى ضمان المصالح الفرنسية (بما فيها الثقافية)، وعلى حق الفرنسيين الذين يختارون البقاء في الجزائر تحت مظلة الجنسية الأصلية (الفرنسية) أو الجنسية الجزائرية الجديدة (1). وقد اختلفت الآراء حول أهمية بيان أول نوفمبر من الناحية الإيديولوجية، فمنها الذي يعطيه قيمة كبيرة لذاته، ومنها الذي يقول بأنه فاتحة للعهد ومعلم في الطريق إلى بيانات وبرامج أخرى تتبلور مع تقدم الثورة نفسها ومع وجود مثقفين قادرين على صياغة مفاهيم حقيقية لثورة في حجم الثورة الجزائرية، يقول فرحات عباس عن البيان (نستطيع أن نقول دون محاباة ولا مغالاة بأن هذا النداء يعتبر عقد ازدياد الجزائر الجديدة) وهي الجزائر التي برزت إلى الوجود في غرة نوفمبر، 1954 (2). لغة البيان ومضمونه كتب البيان باللغة الفرنسية من قبل شخص أو أشخاص لهم صلة ضعيفة

_ (1) النصوص الأساسية لجبهة التحرير الوطني، 1979، ص 9 - 10، وأيضا (أول منشور للجبهة: الوثيقة التاريخية لميلاد ثورتنا) جريدة المجاهد، أول نوفمبر، 1959، عدد خاص. (2) ليل الاستعمار، ص 272.

جدا بالثقافة العربية والإسلامية، فلم يكن معروفا عنهم لدى زملائهم أنهم تلقوا أي قدر من ثقافة الزوايا أو الكتاتيب القرآنية، فما بالك بالمعاهد الإسلامية كالزيتونة والقرويين، ولو كان المشرف على بيان أول نوفمبر رجالا من أمثال الأمير عبد القادر أو الحاج محمد المقراني أو الشيخ الحداد أو الصادق بن الحاج ... لاختلفت صياغته بالتأكيد واتضحت فيه الإيديولوجية الثقافية والانتماء الحضاري، صحيح أن الزمن قد اختلف واختلفت معه العقليات والاهتمامات ولكن الأصل ظل قائما، وبدون أن نذهب بعيدا، فلو أن الذي صاغ البيان هو ابن باديس أو أحد تلاميذه لكان له توجه آخر وقوة لغوية واضحة. إن هذا البيان كان في الواقع نتاج مرحلة سياسية محددة أدت إلى أن يصوغه وطنيون ذوو ثقافة ماركسية علمانية بعيدين كل البعد عن التراث الثقافي لوطنهم مما أبعدهم عن هويتهم - ما عدا الروح الوطنية والولاء للجزائر التاريخية والجغرافية - لأن السياسة الاستعمارية التي دامت قرنا من الزمن قد أبعدتهم عن حقيقة أنفسهم حتى أصبحوا يفكرون بحقيقة الغير، بل أصبحوا لا يرون في الوطنية إلا في إطار المبادى العلمانية التي تلقوها من ثقافة المحتل أو قرأوها في الصحافة المعاصرة، أو اكتسبوها من ممارسة النشاط السياسي على أرض الواقع، وهي التاريخ والجغرافيا واللغة والدين والعادات، وكلها تعبيرات مجردة غير مرتبطة بالتراث الثقافي الصميم. وحتى بعد أن تقدمت الثورة لم تنضج عند قادتها فكرة الانتماء الحضاري ولا العمق الثقافي، فلم يتداركوا في كتاباتهم ما فات محررو البيان، فقد كتب كريم بلقاسم وفرحات عباس وابن المهيدي وغيرهم في (المجاهد) عن التحضير للثورة واتخاذ القرارات الأولى وما حصل في الاجتماعات ومسار الثورة في الداخل والخارج ... ومع ذلك لا نجدهم يذكرون البعد الفلسفي أو الروحي أو الإسلامي أو العقائدي للثورة، فهم يكتفون برد أحداثها وحصول الاجتماعات حولها والقرارات التي اتخذت بشأنها ومسارها ومناضليها (البسطاء)، انظر مثلا

كلمة كريم بلقاسم في العدد الخاص من المجاهد، أول نوفمبر 1959، وهي كلمة مفيدة لأنها تلقي الضوء على طريقة التحضير للثورة من وجهة نظره. قلنا إن البيان كتب بالفرنسية ومر على بعض المناضلين ليعطوا فيه الرأي بالتنقيح والتعديل، ثم أعطي إلى من صاغه صياغة مقروءة صحفيا وأدبيا ثم سحب في مكان سري في عدة من النسخ لا ندري عددها ثم وزع في داخل البلاد، أما على المستوى الخارجي فقد حمل منه محمد بوضياف نسخة بخط اليد حسب البعض (ومرقونة ومسحوبة حسب البعض الآخر)، وسافر بالنسخة إلى فرنسا فسويسرا، وكانت الخطة هي أن يواصل سفره إلى القاهرة ولكن السفر تعطل دون أن نعرف التفاصيل؟ ومع ذلك وصلت النسخة إلى القاهرة دون أن نعرف التفاصيل أيضا، فترجم البيان إلى العربية وأذيع في الوقت المناسب من إذاعة صوت العرب، أي عند التأكد من وقوع الأحداث في الجزائر، ثم نشرته الصحف المصرية كاملا أو مختصرا، ولا شك أن بعض النسخ من البيان قد وصلت إلى فرنسا عن طريق بوضياف، هذه رواية السيد أحمد سعيد مدير إذاعة صوت العرب عندئذ، كما رواها لي بالقاهرة، مارس 2004. أما محمد يزيد فيروي أن فريقا آخر (غير مصالح صوت العرب) قام بترجمة البيان إلى العربية في القاهرة دون أن يخبرنا محمد يزيد عن كيف وصلت نسخة من البيان بالفرنسية، وهذا الفريق يتكون من بعض الساسة التونسيين والمراكشيين الذين كانوا في القاهرة، وهم الرشيد إدريس (كتب خطأ: الرئيس) و (الحبيب؟) بولعراس وإبراهيم طوبال (وكلهم من تونس)، وعبد الكريم غلاب وعبد المجيد بن جلون وابن امليح (وكلهم من مراكش)، قال يزيد ذلك أثناء حديثه عن وفود المغرب العربي في القاهرة عشية الثورة أو غداة اندلاعها، فقال عن محمد خيضر إنه قد وصل حديثا إلى القاهرة وأن الشاذلي المكي قد تكتل مع الشيخ الإبراهيمي بشأن تمثيل الجزائر، وأشاد يزيد بالاعتراف الذي حصل عليه ممثلو الجبهة من حزب الاستقلال المراكشي وحزب الدستور التونسي كممثلين للجزائر الثائرة ولم يعترفوا بالآخرين (يعني الشاذلي المكي والشيخ

الثقافة في مؤتمر الصومام

الإبراهيمي ...)، وقال إنهم كانوا يحضرون كل الوثائق مع حزبي الدستور والاستقلال، وإذا ثبت ما قاله أحمد سعيد وما رواه يزيد فإنه يكون لدينا على الأقل ترجمتان متزامنتان بالعربية البيان أول نوفمبر (الترجمة المصرية والترجمة المغاربية) (1)، غير أن يزيد لم يقل ما إذا كانت نسختهم هي التي أذيعت من صوت العرب. الثقافة في مؤتمر الصومام انعفد مؤتمر الصومام بعد سنتين من قيام الثورة وفي ظروف تختلف عن ظروف أول نوفمبر، فقد نضجت الثورة بعد حوالي سنتين من التجربة القاسية، ومرت بعشرين أوت 1955 بعد مرور قرابة السنة على اندلاعها، وشهدت الساحة الدولية انعقاد مؤتمر باندونغ وعرض قضية الجزائر على الأمم المتحدة، ونظر البعض إلى استقلال تونس والمغرب (مارس 1956) على أنه عامل معرقل لمسيرة الثورة، ولكن آخرين نظروا إليه على أنه عامل مساعد لها، كما انعقد مؤتمر الصومام بعد إضراب الطلبة عن الدراسة (مايو 1956) في الجامعات الفرنسية، بما فيها جامعة الجزائر، وقد انضم كثير منهم بعد ذلك إلى الثورة مما أعطى لها دفعا جديدا تميز بطاقة شابة ومثقفة، وسيكون لهذا التطور عواقب على مسيرة الثورة على المدى البعيد، ومن جهة أخرى انعقد مؤتمر الصومام بعد انضمام الأحزاب والجمعيات إلى الثورة فأعلن حزب البيان عن حل نفسه وانضمام أعضائه إلى الثورة، وكذلك فعل أعضاء جمعية العلماء، وقد التحق زعماء هؤلاء وأولئك بالوفد الخارجي بينما التحقت أفواج من المعلمين والسياسيين والتلاميذ بالجبال، وفي نفس الوقت تكونت منظمات جماهيرية ومهنية موالية لجبهة التحرير كاتحاد العمال الجزائريين واتحاد الطلبة المسلمين الجزائريين واتحاد النساء الجزائريات، إضافة إلى جمعية الكشافة الإسلامية

_ (1) كتاب جيش التحرير المغاربي 1948 - 1955 في أعمال ملتقى مؤسسة محمد بوضياف، الجزائر، 2004، ص 117، هناك ترجعات أخرى للبيان قد نعرف لها.

والشباب، واتحاد التجار. أما الحزب الشيوعي فقد أبى قادته أن يحلوا حزبهم بأيديهم وينضموا فرادى إلى جبهة التحرير، لذلك كونوا فرقة أطلقوا عليها (مكافحو الحرية) انحصرت مساحة نشاطها في منطقة واحدة تقريبا هي الشلف وفي بعض المدن كالعاصمة، وكان مناضلو هذا الحزب يجمعون بين العرب والفرنسيين باعتبار الحزب كان مفتوحا لعضوية الطائفتين، ومهما كان الأمر فإن الشيوعيين لم يحضروا مؤتمر الصومام، وقد دام هذا الوضع بضعة أشهر أخرى ثم انضم الجنود العرب (الجزائريون) إلى صفوف جيش التحرير بينما ظل القادة على موقفهم يحاولون مفاوضة جبهة التحرير لعلهم ينالون، عند المفاوضة مع فرنسا، قطعة من الكعكة، ويجب أن نتذكر هنا بأن كاتب جلسات المؤتمر هو عمار أوزقان أحد أقطاب الحزب الشيوعي السابقين، والكاتب العام له، فلا غرابة عندئذ أن يصطبغ محضر المؤتمر باللون اليساري والعلماني، وهو الأمر الذي اعتبره بعض قادة الثورة الأوائل (انحرافا) خطيرا عن روح بيان أول نوفمبر وروح الانتماء الحضاري للجزائر (1). فكيف عالج مؤتمر الصومام المسألة الثقافية بعد أن أصبحت صفوف الثورة متراصة بهذه العينات من الكهول والشباب؟ وهل اختلفت نظرته ومرجعيته عن نظرة ومرجعية بيان أول نوفمبر؟ الواقع أن المؤتمر عالج موضوعات ثقافية هامة ولكن كيف عالجها؟ لقد تحدث عن مقومات الأمة من تاريخ ولغة واحدة ودين وعادات، وتحدث عن انتماء الشعب الجزائري الحضاري، وعن فيدرالية المغرب العربي (وليس شمال إفريقيا خلافا لبيان أول نوفمبر)، وركز على الدعم العربي (وليس الإسلامي) للثورة الجزائرية مؤكدا

_ (1) ترجمنا فصلا من كتاب مايكل كلارك، الجزائر المضطربة، الجزائر، يوليو 2005، وقد ظهر كتاب كلارك سنة 1961، وتحدث في الفصل الذي ترجمناه عن العلاقة بين جبهة التحرير والشيوعيين.

ومنتقدا، ولكن وثائق المؤتمر المعلنة لا تشير إلى أية إيديولوجية خاصة بالثورة كما لا تشير إلى الانتماء العربي الإسلامي أو الارتباط بالتراث أو مرجعية التاريخ الجزائري. دعنا نتتع هذه الأمور بشيء من التفصيل، لأول مرة تتردد في محضر المؤتمر عبارة (المغرب العربي)، وبالضبط عند ذكر تونس ومراكش وعند ذكر (الأقطار الثلاثة) ووحدة كفاحها، مع العلم أن كلا من تونس ومراكش قد حصلتا على الاستقلال قبل المؤتمر بأقل من خمسة أشهر، وكانت العبارة تتردد في البلدين ولا سيما على لسان الرئيس التونسي الذي كان ربما يغضل استعمال عبارة (المغرب الكبير) بدلا منها، ومما جاء في نص الصومام (أن ما يميز الوضعية السياسية للمغرب العربي هو أن المشكل الجزائري مندمج ومتداخل في مشكلتي المغرب وتونس بحيث لا تمثل في مجموعها إلا مشكلة واحدة)، ولم يشر المحضر إلى أن من بين أهداف (المشكلة) في الجزائر تحقيق هدف ثقافي أو استرجاع هوية ثقافية، كما لم ينص على أن من شروط وقف القتال شرط ثقافي وإنما التأكيد على التخلص من الجزائر الفرنسية و (الاعتراف بالأمة الجزائرية التي لا تتجزأ)، وهناك حديث طويل في المحضر عن الأقلية الفرنسية، والتركيز على اليهود الفرنسيين ومحاولة جلبهم إلى الصف المساند للثورة وفصلهم عن بقية الفرنسيين لأنهم في الأصل (جزائريون). كذلك يوجد تركيز مقصود (نظرا للظرف الخاص عندئذ) على (فيدرالية إفريقيا الشمالية)، التي تؤلف في نظر المؤتمرين كلا واحدا (نظرا للجفرافية والتاريخ واللغة والحضارة والمصير)، وهذه الفيدرالية ستتولى (إقامة تعليم وتبادل في الإطارات الفنية وتحقيق التبادل الثقافي). فيما يتعلق بإضراب الطلبة عن الدراسة الذي كان قريب العهد رحب المؤتمر بالمثقفين الشباب واعتبر انضمامهم إلى الثورة وإلى الوطنية الجزائرية فشلا لسياسة (الفرنسة) التي حاولت خنق الوعي الوطني لدى الشباب المثقف.

وها قد تخلى الشباب عن المواقف المثالية الفردية أو الإصلاحية مما يدل على وجود اتجاه سياسي سليم لدى هذا الشباب، ولذلك دعا المؤتمر إلى تكوين لجان عمل تضم المثقفين الوطنيين وتأطيرهم، وعلى جبهة التحرير أن توضح مجالات العمل لهؤلاء الطلبة والطالبات، وهي المجالات السياسية والإدارية والثقافية والصحية والاقتصادية. بالنسبة للأقلية الأوروبية (الفرنسية) التي نعتتها النصوص بالليبرالية وقف المؤتمر موقفا لينا حتى ليكاد يسميها (ضحية) جهل الأحزاب السياسية حين لم تضع خطة استراتيجية تجعل الأوروبيين على قدم المساواة مع المسلمين في الجزائر، ودعا المؤتمر كذلك إلى التغرب من هذه الأقلية خلافا لساسة الأحزاب القديمة، فقد أنحى باللائمة على الأحزاب لأنها لم تهتم بالأقلية الأوروبية بينما اهتمت بالرأي العام الإسلامي فقط مما جعل الدعاية الاستعمارية تستغل الوضع وتتهم الحكومة الفرنسية بالتخلي عن (الأقلية الجنسية غير المسلمة وتركها عرضة للبربرية العربية والحرب المقدسة)، وفي هذا دعوة لجبهة التحرير لكي تتخلى عن دعاية الأحزاب القديمة التي تخيف الأقلية الأوروبية بإلحاحها على استرجاع الهوية العربية المتوحشة تحت راية الجهاد، ومن رأي المؤتمرين أنه من الخطأ غير المغتفر وضع كل الأوروبيين واليهود في سلة واحدة، وقد ألح محضر المؤتمر على أن الثورة الجزائرية ليست حربا أهلية بين الأقلية الأوروبية والأغلبية المسلمة ولا حربا دينية أو جهادا بين الإسلام والمسيحية. لقد أفاض المحضر في الحديث عن الجالية اليهودية بالخصوص وأعطاها اهتماما دون السكان الآخرين، ربما لأنها كانت من السكان الذين وجدهم الاحتلال الفرنسي في الجزائر مثلهم مثل (الأندجين) الآخرين، وعاملهم كما عامل بقية (الأهالي)، ثم فرض عليهم الجنسية الفرنسية منذ 1870 دون استشارتهم، وأكد المحضر على أن النزاع - العربي - اليهودي (كذا) في المشرق لم يكن له أصداء خطيرة في الجزائر كما هو الحال في المشرق، ولو كان له تلك الأصداء لاغتبط له أعداء الشعب الجزائري، فلم يكن المؤتمرون يدركون، ربما

أن النزاع بين العرب والصهاينة وليس بينهم وبين اليهود، أو كانوا يريدون تجاهل تلك الحقيقة تزلفا للجالية اليهودية، والمعنى الذي يهدف إليه النص أنه لو كان هناك صدى عميق للنزاع لما كان يجري في فلسطين لاستغله الناقمون على الثورة ووظفوا الحركة الصهيونية العالمية ضدها، ولذلك يجب استغلال ضعف التجاوب الجزائري مع النزاع العربي اليهودي لصالح الثورة، وذلك بالتقرب إلى اليهود الفرنسيين وتجنيدهم لصالحها، وطالبت الوثيقة كذلك بالقيام بدعاية قوية للتأثير على الليبراليين الأوروبيين واليهود بتمثيل مسرحيات تمجد التضال الوطني (المشترك؟)، أي أن الوثيقة تعترف بوجود نضال مشترك بين العرب واليهود في الجزائر، ولكن ضد من؟ والغريب أن المؤتمر لم يوجه خطابه إلى البلاد العربية التي كانت وحدها تدعم الثورة الجزائرية حتى ذلك الحين، بل وجه خطابه لدول مؤتمر باندونغ، فهي التي شكرها وطلب منها الدعم. أما بخصوص الجنسية والذاتية اللغوية فقد ألح المؤتمر على أن الجزائريين في الماضي لم يقبلوا أبدا بالفرنسة ورضوا بالعيش في وطنهم بدرجة أقل حرية من الأجانب، بينما عمد المستعمر إلى (ختق اللغة الوطنية التي تتكلمها الأغلبية الساحقة من المواطنين، أي اللغة العربية،) وعبارة المواطنين هنا غامضة وتحتمل عدة معاني، منها كل السكان بمن فيهم الأوروبيون فتكون اللغة العربية لغة الأغلبية المطلقة لسكان الجزائر، وقد تعني الأغلبية من السكان المسلمين، وبذلك تخرج أقلية أهلية لا تتكلم هذه اللغة، وفي ذلك مشكل من نوع جديد للهوية الثقافية الوطنية، ومهما كان الأمر فالظاهر أن المؤتمرين عنوا بذلك التعبير كل سكان الجزائر لأن الوثيقة تحدثت عن اختفاء التعليم العالي باللغة العربية منذ بداية الغزو الفرنسي الذي شتت أساتذة وتلاميذ اللغة العربية وأوصد أبواب الجامعات في وجوههم وهدم المكتبات واغتصب التبرعات (الأوقاف) الدينية، كما دنس الدين الإسلامي وأخضع رجاله فأصبحت الإدارة الاستعمارية هي التي تختارهم وهي التي تمنحهم أجورهم.

في عبارات لا تصدر إلا عن إيديولوجية يسارية أدانت وثيقة الصومام محاربة الإدارة للحركة التقدمية التي كانت تمثلها جمعية العلماء، فهي تصف الحركة الإصلاحية التي قامت بها الجمعية بالتقدمية كما تصف حركة المرابطين والصلحاء بالرجعية، وبالطبع كان هناك عدم تفاهم بين جهود العلماء وجهود المرابطين في خدمة الثوابت الوطنية ولا سيما التعليم العربي وإحياء التاريخ والتراث والنهوض الاجتماعي بنبذ البدع والخرافات والعودة إلى الإسلام الصحيح والسلف الصالح، ومن ثمة قالت وثيقة الصرمام بأن (الإمبريالية الفرنسية وفرت كل الدعم لخرافات الأولياء المرابطين الذين سخرتهم عن طريق إرشاء بعض رؤساء الطوائف) (ربما تعني بالطوائف الطرق الصوفية)، وتساءلت الوثيقة: (ألا يعتبر العقاب القاسي الذي يناله رجال الدين الخونة داخل المساجد نفسها أحسن دليل؟) وهذه العبارات تعتبر اعترافا وتهديدا في نفس الوقت، وقد نددت الوثيقة بالدعاية التي بثها حاكما الجزائر (لاكوست) و (سوستيل) والكاردنال (فلتان) التي زعمت أن المقاومة الجزائرية (حركة دينية متعصبة تصب في خدمة الحركة الوحدوية الإسلامية)، وتكذيبا لهذا الادعاء أعلن المؤتمر أن الثورة قد أنزلت العقاب الصارم بالخونة من رجال الدين حتى في حرم المساجد، ومعنى ذلك أن الثورة الجزائرية لا علاقة لها بالحركة الإسلامية الوحدوية ولا هي ثورة ذات طابع ديني. بالنسبة لموقف الدول العربية من الثورة انتقدت الوثيقة هذه الدول، وخصت بالذكر مصر التي كان المتوقع أن يشيد المؤتمرون بدعمها للثورة كما حدث فعلا أو على الأقل من الناحية الدبلوماسية، فقد اتهمتها الوثيقة بالتخلي عن نقاش القضية الجزائرية في الجمعية العامة للأمم المتحدة لإرضاء فرنسا، واعتبرت ذلك الموقف من الدول العربية عموما جبنا، وانتقدتها على دورها المحدود في دعم نضال الشعب الجزائري، خضوعا لاعتبارات سياسية ودبلوماسية مع فرنسا، ولكي تعبر عن الاستقلالية قالت الوثيقة إن علاقات الثورة مع البلدان الشقيقة هي (اتصالات تحالف وليست اتصالات عمالة)، وأن

الثورة يجب أن تحافظ على استقلالها وصيانة نفسها، والواقع أن هذا المبدأ لا ينازعها فيه أحد، فلولا الاستقلالية لما حافظت الثورة على وحدتها وقرارها الجماعي، ولكن السؤال هو من أجل ماذا (تتحالف) الثورة مع الدول العربية، هل هناك قضية أو مصير مشترك؟ ولماذا لا يكون التحالف مع الدول الاشتراكية مثلا؟ ومن الملاحظ أن الوثيقة تتحدث عن الدول العربية التي تتأثر عادة بعلاقاتها مع الدول الأخرى حسب المصالح الآنية أحيانا، ولا تتحدث عن الشعوب العربية التي كانت تدعم الثورة الجزائرية دعما مطلقا وتشعر أنها ثورتها هي أيضا. ومن الملفت للنظر أن المؤتمر وجه عنايته، بدلا من الدول والشعوب العربية، إلى المهاجرين العرب في أمريكا اللاتينية لأن ذلك في نظر المؤتمرين، يدعم الوفد الخارجي للثورة، ودعت الوثيقة إلى الاعتماد على النفس في نشر الدعاية المكتوبة كإنشاء المكاتب الصحفية وطبع التقارير (المناشير؟)، والصور والأفلام ...) (1). ومما يذكر أن البرنامج السياسي لمؤتمر الصومام قد حرره عمار أوزقان الذي لم يكن من المندوبين، ولكنه كان - كما أشرنا - الكاتب العام السابق للحزب الشيوعي الجزائري، لذا فإن عبارات القومية والشعبوية والنزعة الاجتماعية المحافظة قد ظهرت في وثيقة المؤتمر بلغة ماركسية واضحة (2). ونلاحظ في النهاية أن برنامج الصومام لم يخرج بخطة ثقافية للمستقبل، حقيقة أنه انتقد معاملة الاحتلال لمقومات الثقافة الوطنية (التي لم يحددها بوضوح) كاللغة والإسلام والتعليم ... ولكنه لم يعلن عن برنامج ما بعد الاستقلال، وبقدر ما لام الدول العربية على انتهازيتها وتخاذلها بدل الإشادة بدعم شعوبها للثورة، بقدر ما انفتح على المثقفين الأوروبيين، وعلى

_ (1) ميثاق مؤتمر الصومام، نشر آفاق عربية، عدد 18، 1971. (2) حمد حربي، جبهة التحرير، ص 150.

الثقافة والحكومة المؤقتة

الديموقراطيين الأحرار والرأي العام الديموقراطي في فرنسا، ومن الخطأ في نظره المساواة بين الأوروبيين في هذا المجال، ولا سيما اليهود الذين حاولت الوثيقة فصلهم عن بقية الفرنسيين مطمئنا لهم بأن مكانهم محفوظ في الجزائر المستقلة، واعتبر ضعف المشاركة (حسب دعواه) في النزاع العربي اليهودي فضيلة يمكن للثورة أن تستفيد منها، وألح على أن الجمهورية الجزائرية الديموقراطية الاجتماعية القادمة لن تقصي أحدا وأنها تضمن المساواة للجميع (والإشارة هنا للأوروبيين بمن فيهم اليهود)، وهكذا يمكن أن نخرج بخلاصة وهي أن الخطاب العربي والهوية الثقافية يكاد يكون غائبا في برنامج مؤتمر الصومام (1). الثقافة والحكومة المؤقتة منذ تأسست الحكومة المؤقتة هيكلت نفسها على التعامل باللغة الفرنسية، فكانت إدارتها كالإدارة الفرنسية، هذا بناء على الأرشيف الصادر عنها والموجود اليوم، حتى الوزراء المحسوبين على اللغة العربية كان عليهم أن يتعاملوا بالفرنسية مثل أحمد توفيق المدني وعبد الحميد مهري، وكل المراسلات التي كانت تصل إلى مقر الحكومة بالعربية كانت تترجم إلى الفرنسية وليس العكس كالرسالة التي تتحدث عن الدخل المالي من الفريق الرياضي في المشرق، لكي يصب في حساب الداخلية (2). لم يتعرض بيان الحكومة المؤقتة الأول إلى مشكلة الثقافة في الجزائر بطريقة مباشرة، ولم يجعل منها قضية في الكفاح من أجل الحرية والاستقلال، وكان تعيين الرئيس فرحات عباس نفسه على رأس الحكومة برهانا آخر على عدم الاهتمام بالثقافة والهوية، فالرجل - رغم أنه سياسي ماهر وغير متنطع - معروف بأنه صاحب ثقافة غربية (فرنسية) وشديد الحماس لها، وكان برنامج حزبه وبعض تصريحاته قبل الثورة تصب في خدمة اللغة العربية وثقافتها بل وتعتز

_ (1) النصوص الأساسية لجبهة التحرير الوطني، مرجع سابق. (2) الأرشيف الوطني علبه 21 - 50.

بالثقافة الإسلامية للجزائر، ولكن ذلك ليس برنامجا مشروطا لسياسة فرحات عباس أو منهاجا يسير عليه في التعامل مع السلطة الفرنسية، شأن جمعية العلماء أو الأحزاب المحافظة في البلدان الأخرى مثل حزب الاستقلال في المغرب وحزب الدستور القديم في تونس، ولا ندري ما النقاش الذي دار في المجلس الوطني ولجنة التنسيق والتنفيذ عندما تقرر تعيين السيد فرحات عباس على رأس الحكومة المؤقتة: من اقترحه، ومن عارض تعيينه، وعلى أي أساس؟ ومهما كان الأمر فإن الأصداء التي بلغتنا عندئذ ونحن طلاب تقول بأن فرحات عباس قد اختير للحكومة إفحاما لفرنسا والغرب بأن الثورة ليست معادية للحضارة الغربية ولا للثقافة الفرنسية بدليل أن عباس من المعجبين بهذه الحضارة ومن المعتدلين وغير شيوعي، كما أنه شخصية سياسية معروفة. ومهما كان الأمر فلا شك أن ردود الفعل في محافل الثورة والرأي العام الجزائري كانت متنوعة، وكان بعضها يتساءل عن مصير الثقافة في الجزائر إذا كان فرحات عباس هو قائد سفينتها وهو رمزها، وقد يؤخذ ذلك على أن الثورة عندئذ لم يكن يهمها الشأن الثقافي على الإطلاق، وإنما الذي كان يهمها هو الشأن السياسي والعسكري، أما الثقافة فقد أسندت إلى الشيخ أحمد توفيق المدني، وهو من جمعية العلماء في الطيف الفكري الذي انبثق عن مؤتمر الصومام، وبالإضافة إلى ذلك فالشيخ المدني من جامع الزيتونة ومن المدرسة الخلدونية حيث ازدهرت الثقافة العربية والعلوم الإسلامية، فما الذي يمنعه من بناء الثقافة الوطنية في عهد الثورة على قاعدة صلبة طابعها ويسمها بميسم الأصالة والتقدم؟ ولكن هناك موانع ومثبطات. فبالرغم من عمق قناعة الشيخ المدني بالانتماء العربي الإسلامي للجزائر وحرارة إيمانه بتاريخها ولغتها فإن شخصيته وماضيه لا تجعلان منه ذلك المدافع الصامد عن هذا الاتجاه، فقد كان هناك من ينظر إليه على أنه (تونسي) منفي في الجزائر، وبهذه الصفة كان عليه أن ينفذ ما يتفق عليه لا أن يبادر أو يفرض رأيه في الشأن الثقافي الجزائري، وقد دأب الجزائريون عامة أيام الثورة على

إسناد الشؤون الثقافية إلى رجل متكون في المعاهد العربية الإسلامية مما قد يفهم منه احترام الانتماء الثقافي أو يفهم منه عدم الاهتمام أصلا بقضية الثقافة، وهكذا فحين تجددت الحكومة المؤقتة عين السيد عبد الحميد مهري وزيرا للشؤون الثقافية، وهو رجل متخرج من جامع الزيتونة وعميق الإيمان بالثقافة العربية كما أنه من عائلة متدينة، وأذكر أن فروع اتحاد الطلبة في الخارج كانت تسند النشاط الثقافي أيضا إلى أحد الطلاب المتخرجين من معهد عربي إسلامي، كلما أمكن ذلك. ويخبرنا أحمد توفيق المدني في مذكراته أن المصريين كانوا يعارضون تعيين فرحات عباس على رأس الحكومة المؤقتة، لأنهم كانوا لا يثقون فيه، كما أنه كان لا يثق فيهم، فهم يرون الذين قاموا بالثورة أول مرة أحق منه بهذه المهمة، وينظرون إليه على أنه مندس من أجل تحويل مسار الثورة نحو الغرب وليس نحو المشرق والعروبة، ومن رأي المدني أن المصريين قد أخفقوا في معارضتهم تعيين فرحات عباس. قام المدني نفسه بتعريب بيان الحكومة المؤقتة يوم 19 ستمبر 1958 ووزعه على الصحفيين العرب والغارات العربية والسلطات المصرية، واعترفت الجمهورية العربية المتحدة والعراق وباكستان وليبيا واليمن بالحكومة المؤقتة، ولا يتحدث البيان الحكومي عن هوية الجزائر على الإطلاق، وهو أمر يثير الدهشة بالنسبة لثورة تكافح من أجل استعادة الاستقلال الذي يعني استعادة الأصالة والهوية الوطنية، ثم وجه فرحات عباس إلى جمال عبد الناصر رسالة خاصة قام المدني بتعريبها أيضا، كما وجه عباس رسائل أخرى إلى رؤساء وملوك العرب، وكانت الرسالة مرفقة بمذكرة قانونية صاغها القانوني محمد البجاوي مع قائمة بأسماء الوزراء، وقد جاءت في هذه الرسالة عبارات غامضة مثل إن استقلال الجزائر سيكون عامل استقرار في المغرب العربي وفي البلدان العربية كلها (التي نعتبرها وحدة لا تتجزأ)، وفي هذه الرسالة طلب أو رجاء أن تكون الجمهورية العربية المتحدة أول من يعرف بهذه الجمهورية (الجزائرية)

الفتية التي نشأت في الجهاد وآمنت بمستقبل العروبة الخالد، كما آمنت باستقلال الشعوب وبالسلام العالمي)، وكل هذه عبارات سياسية ودبلوماسية لا شأن للغة المشتركة فيها ولا خيار الجزائر الثقافي وسط المد الثوري الذي تصنعه حركات التحرير في العالم. وعند أول اجتماع للحكومة المؤقتة (20/ 09/ 1958) طالب أحمد توفيق المدني بوقف إضراب الطلبة عن الدروس في جامعة الجزائر لأن الجبهة هي التي أمرت به وأن الاتحاد صادق عليه، وأن الجبهة هي التي أمرت الطلبة بالالتحاق بجيش التحرير، وبعد المناقشة وافقت الحكومة على دعوة طلبة جامعة الجزائر لاستئناف دراستهم (1) وربما يعتبر ذلك من أهم قرارات الحكومة المؤقتة بشأن مظهر من مظاهر الثقافة وهو التعليم (2). أعلنت الحكومة المؤقتة في أول تصريح بعض توجهاتها الفكرية وتحدثت عن الروابط الحضارية بين الجزائر والشعوب العربية، كان التصريح واضحا هذه المرة في أنه يؤسس لعلاقات جديدة ويذكر بعلاقات قديمة، فمن حيث البناء الإيديولوجي قال التصريح إن الشعب الجزائري يريد إقامة جمهورية ديموقراطية واجتماعية تأسيسا على ما جاء في بيان أول نوفمبر، وعن شعوب تونس والمغرب والجزائر قال إن لها مصيرا مشتركا عبر العصور وإن الجزائر جزء لا يتجزأ من المغرب العربي ... وهي تتقاسم مع شعوبه (التراث الرائع للحضارة العربية الإسلامية). . وأضاف التصريح أن الشعب الجزائري (المتعلق بحضارته ينتمي إلى الوطن العربي، فهذا الوطن واحد ومن الخطأ السياسي محاولة تقسيمه،) وأضاف أن التضامن العربي ليس كلمة جوفاء، ونوه بفضل الشعوب الشقيقة وحكوماتها وما قامت به نحو الشعب الجزائري حتى أصبح

_ (1) بعد أن كان طلبة الثانويات والجامعات الفرنسية الأخرى قد استأنفوها في أكتوبر 1957 بأمر من لجنة التنسيق والتنفيذ. (2) أحمد توفيق المدني، حياة كفاح، ج 3، الجزائر، 403، 405.

قريبا من بلوغ هدفه .. ومن ثمة فإن الشعب الجزائري يعترف بدينه الكبير لجميل الشعوب العربية ... ونحن إذا تأملنا في النصوص المختلفة التي تحدثت عن الثقافة والروابط الحضارية ربما نجد النص الذي أوردناه الآن أكثر النصوص صراحة ووضوحا (1). وفي رسالة وجهتها الجبهة إلى الفرنسيين قالت إن الثورة ليست حربا دينية بل هي ثورة تحريرية، وتحدثت بلغة دبلوماسية عن أن فرنسا يمكنها الاحتفاظ في العالم الإسلامي بسمعة طيبة إذا ما تخلت عن سياسة القوة في الجزائر، إن على فرنسا أن تنضم إلى سياسة الصداقة والتعاون الحر .. انطلاقا من شرارة الاتصال بين حضارتين .. تلك هي (وجهة المغرب العربي كهمزة وصل بين ثقافتين وبين عالمين)، ووعدت الرسالة بأن الجزائر المستقلة ستقيم (علاقات ودية مع القطرين الآخرين في المغرب العربي ومع بلدان المشرق الشقيقة للشعب الجزائري في تقاليده العربية الإسلامية)، ونحن هنا أمام التزامات واضحة بتعاون الحضارات وتفاهمها بدل تصادمها، كما أننا أمام مشروع يجعل المغرب العربي صلة وصل بين ضفتي البحر الأبيض المتوسط كما أنه يفعل ذلك بالتكاتف أيضا مع أشقائه في المشرق العربي الذي ينتمي وإياه لحضارة واحدة هي الحضارة العربية الإسلامية (2). في افتتاح المؤتمر الرابع للاتحاد العام للطلبة المسلمين الجزائريين الذي عقد في بئر الباي بتونس سنة 1960، ألقى السيد فرحات عباس كلمة الحكومة المؤقتة وعرج فيها على قضايا ثقافية توضح فكر الثورة وهي في معمعانها، فقد رجع بالطلبة إلى سنوات العشرينات من القرن الماضي عندما كان طالبا ولم يسمح لهم كجزائريين بتكوين اتحاد خاص بهم، وروى أنه ترأس سنة 1926

_ (1) النصوص السياسية لجبهة التحرير .. نقلا عن المجاهد، 10، أكتوبر 1958، ص 139. (2) النصوص الأساسية لجبهة التحرير الوطني، مرجع سابق.

جمعية (ودادية) الجزائريين وساهم في تحويلها إلى (جمعية الطلبة المسلمين)، كما شارك في تأسيس جمعية طلبة شمال إفريقيا المسلمين بباريس، وقال إنهم واجهوا عندئذ مشاكل عديدة مثل (مشكلة المحافظة على الثقافة واللغة العربية)، وأضاف أن الاستعمار قد بذل كل جهوده للقضاء على ثقافتنا القومية قصد إحلال الثقافة واللغة الفرنسية محلها من الناحية النظرية، لأن الاستعمار في الواقع منع الجزائريين من تعلم لغتهم دون أن يعلمهم لغته، والذي يرجع إلى أدبيات العهد الذي يتحدث عنه فرحات عباس يدرك أن المعركة الثقافية كانت تثشكل جوهر القضية الوطنية سواء بالنسبة لمن درسوا بالفرنسية أو من درسوا بالعربية، فالسؤال كان دائما: كيف يسترد الشعب الجزائري هويته العربية الإسلامية (1). وفي نفس المؤتمر ألقى وزير الثقافة عندئذ السيد عبد الحميد مهري كلمة وزارته وتحدث عن المسألة الثقافية أيضا، ومن رأيه أن المثقفين بالثقافة العربية متصلون بالأمة والتراث ولكنهم مفصولون عن العصر، وأن الطلبة المثقفين باللغات الأجنبية متصلون بالعصر ولكنهم مفصولون عن الأمة وتراثها، وهذه معادلة صعبة، فمن هو الأقرب إلى تمثيل هوية الشعب الجزائري: من تمثل حضارته أو من تمثل حاجة العصر؟ لقد وجد الطبيب الشيوعي الصادق هجريس نصف الجواب عندما أطلق على الصف الأول في المعادلة (حراس الظل) أي حماة التراث العلمي والديني للحضارة العربية الإسلامية (2)، ولا نظن أن هناك اختبارا لهذا الصنف أو ذاك لأن فلاسفة الاحتلال قطعوا المدد عن الاثنين فلم يتركوا الصنف الأول ليطور تراثه ولم يفسحوا المجال للصنف الثاني ليوظف مواهبه، ومهما كان الأمر فإن الوزير مهري قد حث هؤلاء وأولئك على استكمال النقص عند كل منهم، ورأى في المؤتمر بادرة لتدارك ذلك النقص، فهو مؤتمر جمع بين طلبة من بلد واحد ويدرسون في بلاد مختلفة، ولكنهم سيصبحون قادة

_ (1) المجاهد، 74، 8 أغسطس، 1960. (2) انظر سابقا.

الثقافة في تقرير لجنة صبيح

لبلد واحد، وقال ردا على ما كان يشيعه أنصار الجزائر الفرنسية: إننا (لا نفكر في بناء الجزائر على أسس عنصرية أو دينية متعصبة ... بل نبني جمهورية متصلة بماضينا وحاضرنا، ومتصلة بقوميتنا وثقافتنا العربية الإسلامية). الثقافة في تقرير لجنة صبيح أثناء المفاوضات في إيفيان بين الوفدين الجزائري والفرنسي تكونت لجنة في الرباط بالمغرب تتألف من ستة أشخاص مهمتها، فيما يبدو، هي وضع تصور للمسألة الثقافية بما فيها المنظومة التربوية، لكي يهتدي بها الوفد الجزائري المفاوض، وكانت اللجنة تتألف من ميسوم صبيح، مقررا، وأحمد الأخضر، ومحمد الليشاني، وعلال سعدون، وعبد القادر بوسلهام، وقادة بوطارين، والأخير هو الذي كان يترأس الجلسات، ولا ندري من عين هذه اللجنة ولكن مهمتها واضحة، وهي اقتراح بروتوكول ثقافي للوفد المفاوض يتضمن مبادى ومعطيات المشروع الثقافي والتعليمي بعد الاستقلال، مستفيدة من تجربة المفاوضات بين المغرب وفرنسا، قسم أعضاء اللجنة هذا البروتوكول إلى قسين أو فصلين: - التعليم الوطني. - الأنشطة الثقافية الأخرى. وحين وصل الحديث إلى الثقافة قالت اللجنة إنها قامت بإجراء مسح للإنجازات الثقافية لفترة مائة واثنين وثلاثين سنة من الاحتلال الفرنسي، واعتذروا عن عدم وجود الأرقام، ولكنهم سجلوا محطات رئيسية، وبذلك قدموا خدمة لمواصلة البحث المعمق في الفترة التالية، لكن تقرير هذه اللجنة لا يحتوى سوى على ثلاث صفحات، ثم إن البروتوكول نفسه غير متوفر في العلبة التي رجعنا إليها، ولم يتحدثوا في التقرير عن اللغة بتاتا، ولا عن نوعية الثقافة ولا عن برنامج التعليم إلا بطريقة عابرة، ولا يتضمن المدخل سوى العنوان وهو (بروتوكول اتفاق ثقافي للفترة الانتقالية)، ولعل المقصود بهذه

الفترة هي ما بين وقف إطلاق النار وإجراء الاستفتاء، ولكننا نستبعد ذلك لقصرها وعدم أهميتها بالنسبة لما سيتلو من الأيام، لذلك نرى أن الفترة الانتقالية المقصودة هي المرحلة التي تلي الاستقلال بسنوات، ومهما كان الأمر فإن التقرير بدأ بديباجة وانتهى بمجموعة من الملاحق، وهي: - نظرة عن الإنجازات التعليمية والثقافية في الجزائر. - مذكرة عن التعليم في المغرب. - مذكرة عن التعليم في تونس. - مذكرة عن المبادى والتكتيك. - مذكرة عن تسيير وزارة التربية الوطنية (1) ... في 22 مايو 1961 قدمت اللجنة توصيات تتعلق بمشروع الاتفاق الثقافي الفرنسي - الجزائري (كذا) كما يمكن توقيعه بين الحكومتين في إطار المفاوضات إما الآن وإما غداة تقرير المصير، وقد أرفقت اللجنة وثائق داعمة مع تقريرها لتبرير توصياتها ومنها الاتفاق الفرنسي - المراكشي، وقالت إنها استلهمت هذا الاتفاق بتوسع، والواقع أن اللجنة قد درست مشروعين الأول على أساس أنه سيكون هناك تعاون بسيط بين الجزائر وفرنسا في المجال الثقافي، والثاني على أساس الشراكة أو التعاون الوثيق، لكن اللجنة مالت وعملت على أساس الشراكة الثقافية، وفي نهاية المطاف وقع مسؤول البعثة الجزائرية في المغرب على التوصيات النهائية (2). كتب التقرير السيد ميسوم صبيح مقرر اللجنة الثقافية، وقد قام رئيس بعثة المغرب للخارجية الجزائرية بإرسال التقرير إلى الوفد المفاوض في جنيف، والهدف منه هو مساعدة الوفد على توقيع اتفاق شراكة ثقافية مع فرنسا، وقد خص التقرير خدمة المفاوضات في المرحلة الانتقالية وليس مرحلة الاستقلال

_ (1) الأرشيف الوطني، علبة 27. (2) لاحظ أن رئيس البعثة في المغرب عندئذ هو الشيخ خير الدين.

على أساس أن الخصم تهمه مصالحه في المرحلة الأخيرة فإذا ضمنها فإنه سيسرع بالمفاوضات وإلا فإنه سيتباطأ فيها، ولكننا لاحظنا أن التقرير يتحدث أيضا عن التعاون والشراكة غداة الاستقلال أيضا، وأشار تقرير البعثة إلى شخصين اعتمد عليهما في صياغة التقرير وهما السيد ميسوم صبيح الذي له خبرة أربع سنوات خدمة في وزارة التربية المغربية حيث كان مكلفا بالشؤون التشريعية، والثاني السيدة ابن تومي التي قدمت دراسة عن وضع الأقليات الأوروبية في الجزائر ومصيرها وكيف يمكنها أن (تساهم عضويا) في الدولة الجزائرية المستقلة، وقد أرسل مسؤول البعثة نسخة من عمل السيدة ابن تومي إلى الوفد دون إدماجه في تقرير اللجنة، وتاريخ التقرير الصادر عن مسؤول البعثة هو 15 مايو، 1961، الرباط، والتقرير مختوم بختم البعثة. ورغم أهمية تقرير اللجنة فإنه لم يحدد المرجعية الثقافية للشعب الجزائري لينطلق منها في استشراف المستقبل، وسنحاول رصد ما في التقرير المطول من نقاط ثم نعود إليه بالتحليل، يقول القرير: - إن مائة وثلاثين سنة من الاحتلال الفرنسي هي المدة التي منع فيها الجزائري من الإبداع ومن النمو، وهي التي تميزت بظهور (الروح) الجزائرية نتيجة القمع، فعلى المفاوض أن يصل إلى بروتوكول خلال المرحلة الانتقالية بإزالة عدم التوازن الموجود حاليا بين اللغتين الفرنسية والعربية. - فيما يتعلق بالتعليم والتربية الوطنية هناك قسمان وهما التسيير الإداري والتعليم المعروف، فالإدارة يجب أن تكون جزائرية والكف عن كونها مؤسسة تابعة لوزارة فرنسية، بل عليها أن تسمى بوزارة جزائرية للتربية الوطنية، وعلى المفاوض أن يلح بأن يتولى هذه الوزارة جزائري من أهل البلد بلقب وزير أو يتولى الإدارة العامة للتعليم التي ستنشأ والتي ستتولى الإشراف على كل التعليم. - على المفاوض أن يستوحي مسألة التربية والتعليم من إنشاء تعليم إجباري

باللغة العربية، وهي اللغة الوطنية، بمعدل خمس ساعات في تعليم المستوى الابتدائي وسبع ساعات في تعليم المستوى الثانوي وتوسيعه إلى التعليم العالي، ولتحقيق ذلك يجب إجراء امتحان دخول باللغة العربية إلى كل الامتحانات المهنية للوصول إلى الوظيف العمومي، ويجب ألا تنسى البربرية التي هي اللغة الأم لعدد كبير من المواطنين، فيجب أن يوجد لها مكان في التعليم العالي لكي تحفظ وتتطور، كما يطلب من السلطات الفرنسية تنظيم تعليم اللغة العربية لأطفال وكبار الجزائريين بفرنسا، على أن تكون مصاريف هذا النوع من التعليم في فرنسا من الحكومة الجزائرية أو من الجالية نفسها في حالة ممانعة فرنسا. - إعطاء الحرية لهذا التعليم في المدارس الخاصة، لا سيما بالنسبة للتعليم الديني، وهذا يعني حرية الدين الإسلامي مما يترتب عليه إعادة الأوقاف للدولة الجزائرية التي صادرتها فرنسا، أو الحصول على تعويض يماثلها، وإعادة فتح المدارس المغلقة منذ 1954 بإجراء إداري، مع إصلاحها وترميمها. - إعادة النظر في البرامج والكتب سيما المتعلقة بالتاريخ والجغرافيا لتصفيتها من الشوائب والأخطاء وتخليصها من الأفكار المضللة أو المضرة بالمجموعتين الجزائريتين والتي تتعارض مع وحدة السكان، وإدخال تعليم مدني ينسجم مع المثل الأعلى الجزائري (؟) - التخلص من الأحكام المسبقة التي عانى منها الجزائريون منذ فاتح نوفمبر 1954، وذلك بإعطاء الأولوية في التعليم للذين عانوا من الحرب والسجون والمحتشدات أو الذين كان عليهم مغادرة البلاد إلى الخارج، لكي يندمجوا ويصنفوا ويعوضوا. كما أوصى التقرير بدمج المعلمين الذين كانوا في المدارس المغلقة بإجراءات قمعية، في التعليم العام، لكن بشرط أن تجرى لهم دورات تربوية

مناسبة، لكي يعوضوا النقص في المعلمين، وهو أمر ضروري في تعليم سيتوسع باللغة العربية. وأشار التقرير إلى ضرورة إجراء امتحانات استدراكية لتلاميذ الثانوي والعالي، وهي الامتحانات التي تأخرت نتيجة الثورة، كما يجب زيادة المنح، ونفس هذا الامتياز ينطبق على الطلاب الفرنسيين الذين تبنوا قضية الجزائر. ومن جهة أخرى تكلم التقرير عن الشباب والحركات الشعبية والرياضية وعن المراكز الاجتماعية ومكافحة الأمية، وعن فتح المجال أمام المراكز الثقافية الأجنبية والسماح لها بإنشاء المعاهد والمكتبات ... وعن تنشيط فتح النوادي الجزائرية لتشكيل الإنسان الجزائري الجديد، وتوفير المكتبات، وسحب بعض الكتب من التداول وإضافة أخرى كالتي تعالج الجغرافيا والتاريخ، ومراجعة التشريعات القائمة فيما يتعلق بفتح المقاصف (الملاهي) .. كما ألح على العناية بالفن والفولكلور وحصره في الشعر والأغاني والموسيقى والرقص والمسرح الشعبي والمنمنمات والتصوير والفنون التقليدية ذات الطابع الفني، ووعد بأن هذه الأمور ستجمع تحت إدارة مشتركة تقدم إلى أصحابها كل تشجيع وتعطيهم دفعة جديدة، وتحدث التقرير عن الصحافة والإذاعة والسينما باعتبارها أدوات إعلامية صرف أو باعتبارها ذات تأثير ثقافي، فهذه الوسائل الإعلامية الثلاث تلعب دورا ثقافيا هاما في الحياة العصرية. وقد أدى هذا باللجنة إلى أن تقترح أن يكون هناك مسؤول جزائري للإعلام تساعده لجنة إدارية تخدم نفس الغرض (السينما، الصحافة، الإذاعة) خلال الفترة الانتقالية. وأوصى التقرير بمنح الحرية لكل إنتاج أدبي أو فني أو إعلامي أو تربوي أو علمي بشرط ألا يسيء للأخلاق العامة والوحدة الوطنية، وبشرط أن يظل يسير في اتجاه التخلص من الاستعمار ... وأن تظل جبهة التحرير هي المؤهلة

الثقافة في اتفاقيات إيفيان

للإنتاج المتعلق بالنشر والتوزيع، ودعا إلى رفع الحظر المضروب على المنشورات المطبوعة في الخارج، خصوصا باللغة العربية، بحيث تدخل الجزائر مختلف الأعمال التربوية والمؤلفات والخرائط والأفلام والأقراص والأشرطة ... فيما يتعلق بالإذاعة ذكر التقرير أنه من المحتم إعادة النظر في حجم الساعات وإدخال الجزائريين في خدمتها إلى الحد الأقصى، وتقوية الإرسال ودعم الحصص باللغة العربية وتطويرها، كما طالب بوضع برنامج لتوجيه الحصص الأدبية والعلمية والمسرحية نحو التربية المدنية للجماهير ودعم الروح الوطنية. واهتم التقرير حتى باللحن المميز للإذاعة فطالب بتغييره وإدخال النشيد الوطني الجزائري في برامج الإذاعة، وإشعار السلطة الفرنسية بعدم التدخل في الحصص الجزائرية، (أثناء المرحلة الانتقالية؟). وبناء على التقرير فإنه توجد حاليا وكالة الأخبار الفرنسية A. F. P التي تحتكر أحداث الجزائر، وهي معروفة الصلة بالحكومة الفرنسية والدوائر الاستعمارية ... فمن الضروري الحد من نشاطها بتنظيمات جديدة محددة في انتظار إنشاء وكالة جزائرية فريدة مزدوجة اللغة، يقول التقرير ذلك مع أن أصحابه يعرفون أن للجزائر عندئذ وكالة رسمية للأنباء (1). الثقافة في اتفاقيات إيفيان بالرجوع إلى نصوص هذه الاتفاقيات نلاحظ أنها: لم تكتب باللغة العربية ولم تترجم إليها قبل التوقيع عليها وأن الوفد الجزائري المفاوض كان حاضرا وكأنه يمثل بلادا فرنكفونية مثل كندا أو بلجيكا.

_ (1) الأرشيف الوطني، علبة 27، وليس للتقرير تاريخ مذكور معه، ولكن إعلان وقف إطلاق النار يرجع - كما هو معروف - إلى 19 مارس سنة 1962.

فكان يتخاطب مع الفرنسيين ويحرر وثائقه ومعاهداته بلغتهم لا بلغته. فموضوع السيادة اللغوية كان غائبا لدى الوفد. والغريب أنه لم ينص في الاتفاقيات على أن العربية ستكون لغة الجزائريين في التعليم والإدارة والمعاملات بحيث لم تذكر العربية سوى مرة واحدة، فقد جاء في إعلان المبادى أن المناهج التي تسير عليها المنشآت التعليمية التي تؤسسها كل بلاد في البلد الآخر تعلم لغة الآخر - فالجزائر تعلم العربية في مدارسها بفرنسا وفرنسا تعلم العربية في مدارسها بالجزائر، كما نص على أن كل بلد يشجع دراسة اللغة والتاريخ وكذلك الحضارة الخاصة بالبلد الآخر. وقد ركزت الاتفاقيات على احترام وتعليم اللغة الفرنسية في الجزائر بالنسبة للفرنسيين الذين كان متوقعا بقاؤهم بعد الاستقلال سواء كانوا من حملة الجنسية الفرنسية أو الذين اختاروا الجنسية الجزائرية، بحيث يمارسون اللغة الفرنسية في الحياة السياسية والإدارية والقضائية والتعليم. ويفهم من سياق النص وإلحاح الصائغ أن الثقافة الفرنسية، ممثلة في التعاون العلمي والتعليمي والتقني والفني ستكون هي السيدة في الجزائر. وإليك بعض التفاصيل، فالاتفاقيات نصت على أن تضمن الجزائر مصالح فرنسا والحقوق المكتسبة للأفراد الحقيقيين والمعنويين بالشروط التي تحددها هذه الاتفاقات، فإذا فعلت الجزائر ذلك فإن فرنسا ستقدم إليها المساعدة الفنية والثقافية ... وبعد الحديث عن التعاون الاقتصادي والاجتماعي والمالي تقول الاتفاقيات إن فرنسا ستبقى على القوانين واستغلال ثروات الصحراء والتعدين وأنها مع الجزائر ستبقى العلاقات الثقافية بحيث يستطيع كل بلد إنشاء مكتب ثقافي وجامعي في البلد الآخر، وهذه المنشآت ستفتح أمام الجميع، وتتعهد فرنسا بتقديم مساعدتها لإعداد الفنيين الجزائريين وستضع الحكومة الفرنسية موظفين فرنسيين لدى الحكومة الجزائرية، وخاصة المدرسين والفنيين (1).

_ (1) ابن خدة، اتفاقيات إيفيان، الترجمة العربية، ط، 2002، ديوان المطبوعات الجامعية.

وفيما يتعلق بالمعتقدات وحرية التعليم واللغة الفرنسية نصت الاتفاقيات على ضرورة التقيد بحرية المعتقدات للجزائريين الذين سيخضعون للقانون المدني العام (أي الفرنسيين الذين سيصبحون جزائريين)، وكذلك ضمان حرية إقامتهم للشعائر الكاثوليكية والبروتيستانتية واليهودية، وحرية تنظيم هذه المعتقدات وممارستها وتعلمها وحرمة أماكن العبادة، لقد وردت هذه العبارات رغم أن فرنسا طبقت فصل الدين عن الدولة منذ 1905 على النصرانية واليهودية ولم تطبقه على الإسلام، كما عرفنا، ومما يلاحظ أن الوفد الجزائري لم يحرص على تضمين نصوص مشابهة في الاتفاقيات بالنسبة للجزائريين الذين يعيشون في فرنسا، فهؤلاء الجزائريون ليس لهم ضمانات لإقامة شعائرهم الدينية وحرية بناء المساجد مثلا، وتعلم دينهم ولغتهم، كما حرص الوفد الفرنسي. كما حرص الوفد الفرنسي على أن النصوص الرسمية التي تصدرها الحكومة الجزائرية المقبلة تنشر أو تبلغ باللغة الفرنسية وباللغة الوطنية (كذا) أيضا (دون تسمية هذه اللغة ولا الحديث عنها من قبل)، كما تستخدم اللغة الفرنسية في المعاملات بين المرافق العامة الجزائرية وبين الجزائريين الخاضعين للقانون المدني العام، ولهؤلاء الجزائريين الحق في استخدام اللغة الفرنسية، خاصة في الحياة السياسية والإدارية والقضائية، كما سبق، بمعنى آخر أنهم غير ملزمين بتعلم اللغة العربية ولا باستعمالها في مختلف أنماط حياتهم. إن الوفد الجزائري قد غض الطرف عن مسألة أخرى هي المنشآت التعليمية، فللفئة الفرنسية الباقية في الجزائر الحق في اختيار منشآت التعليم وأنظمته، كما لها الحق في إنشاء وإدارة المؤسات التعليمية الخاصة بها، ولها الحق كذلك في الالتحاق بالأقسام الفرنسية التي ستنظمها الجزائر في منشآتها التعليمية طبقا لما جاء في إعلان المبادى الخاصة بالتعاون الثقافي، وإضافة إلى ذلك فإن على الإذاعة والتلفزيون تخصيص جزء من إذاعتها باللغة الفرنسية

يتناسب مع أهمية هذه اللغة في الجزائر (كذا) (1). وتستمر الاتفاقيات في إعطاء الأولية للغة الفرنسية بقولها إن الرعايا الفرنسيين لهم الحق في استعمال اللغة الفرنسية في جميع علاقاتهم مع القضاة والإدارة، ولهم الحق أيضا في فتح منشآت تعليمية خاصة بهم وأداتها للبحث والتعليم، ومن جهة أخرى على الجزائر أن تفتح لهم أبواب مؤسساتها التعليمية، ولهم الحق أيضا في الالتحاق بالأقسام الفرنسية المذكورة في إعلان المبادى الخاصة بالتعليم المجاني (2). وإعلان المبادى الذي طالما أشارت إليه الاتفاقيات ينص - في المجال الثقافي - على أن فرنسا ستمد الجزائر بالمدرسين والفنيين والوسائل اللازمة لتطوير التعليم والبحث، بما في ذلك التفتيش وإجراء المسابقات والامتحانات، وللبلدين الحق في إقامة منشآت تعليمية ومعاهد جامعية في البلد الآخر، ولرعايا كل بلد حرية الالتحاق بهذه المنشآت والمعاهد. وستتضمن هذه المنشآت مناهج تسير على ضوئها في التعليم، بما في ذلك تعليم اللغة العربية في الجزائر واللغة الفرنسية في فرنسا، على أن يشجع كل من البلدين في أرضه دراسة اللغة والتاريخ والحضارة الخاصة بالبلد الآخر (3). إن مقارنة بسيطة بين نصوص وبرامج الثورة من بيان أول نوفمبر إلى برنامج طرابلس تساعد على تحديد مسار الثورة الفكري، هل كانت تسير وفق استراتيجية واضحة منذ البداية بحيث تقف على أرضية إيديولوجية راسخة محددة المعالم، كما ذهب إلى ذلك ابن خدة وحتى فرحات عباس ومن سار على رأيهما، أو كانت ثورة تحريرية عليها بعد استرجاع الاستقلال فقط أن

_ (1) نفسه، ص 100. (2) نفسه، ص 103. (3) نفسه، ص 117 - 118.

العلاقة الثقافية بين ما جاء في تقرير صبيح واتفاقيات إيفيان

تتحول إلى ثورة عقائدية كما ذهب إلى ذلك محررو برنامج طرابلس الذي وافق عليه أعضاء مجلس الثورة بالإجماع، وهو البرنامج الذي اختار المذهب الاشتراكي للثورة العقائدية رغم اعترافه بأن الشعب الجزائري كان معتزا بانتمائه إلى الحضارة العربية الإسلامية وأنه عبر عن هذا الاعتزاز والارتباط قبل الثورة حين أنشأ المدارس العربية الحرة التي بناها من تبرعاته وصانها. والغريب أن يكتفي محررو برنامج طرابلس بهذه الإشارة إلى تعلق الشعب بانتمائه الحضاري دون الرجوع إلى المرجعيات الأساسية المتمثلة في عرائض النخب المدنية خلال القرن التاسع عشر، وهي العرائض المطالبة بالتعليم العربي الإسلامي وإعادة الأوقاف إلى أهلها المسلمين ليوظفوها في التعليم كما كانوا في السابق، ولم يشيروا إلى مقاطعة المدارس الفرنسية في الأرياف، واغتراب الجزائريين من أجل التعلم في المعاهد الإسلامية التي اختفت من بلادهم ... ورفض الشعب التخلي عن أحواله الشخصية الإسلامية رغم المغريات بمنح المواطنة الفرنسية والتمتع بجميع الحقوق التابعة لها، كما حصل مع يهود الجزائر. ولك بعد ذلك أن تقارن بين حرص الوفد الفرنسي على الحصول على امتيازات وضمانات للغة والثقافة الفرنسية في اتفاقيات ايفيان في الجزائر المستقلة وبين تحفظات وتحذيرات اللجنة التي صاغت برنامج طرابلس فيما يتعلق باللغة العربية وموافقة المجلس الوطني عليها. العلاقة الثقافية بين ما جاء في تقرير صبيح واتفاقيات إيفيان في التصريح الذي أعلنته الحكومة المؤقتة للشعب الجزائري غداة التوقيع على اتفاقيات إيفيان ووقف إطلاق النار جاء أن الاتفاقيات قد حققت: الوحدة الترابية، واستقلال الجزائر، والاعتراف بوحدة الشعب الجزائري، وتخلي فرنسا عن مفهومها القاضي بأن الجزائر خليط من الجاليات المختلفة، والاعتراف بالشخصية الوطنية للشعب الجزائري صاحب الثقافة العربية الإسلامية التي

التحمت في لهيب المعركة من أجل الاستقلال (1). وإذا كانت العناصر الأربعة الأولى في هذا التصريح لا تهمنا هنا فإن العنصر الخامس يهمنا لأنه يحتوي على عبارة مفتاحية وهي أن الشعب الجزائري هو صاحب الثقافة العربية الإسلامية وأن هذه الثقافة قد انصهرت عبر الزمن في لهيب المعركة، والمتأمل جيدا في هذه العبارة يلاحظ عليها عدة ملاحظات. أولا: الاعتراف بأن الشعب الجزائري يمثل الثقافة العربية الإسلامية، ومن ثمة فهو شعب له هوية أقدم من معركة الاستقلال ومن الاحتلال. ثانيا: أن وحدة الشعب قد التحمت ليس بالإجراءات والتلفيق والتفاهمات ولكن في المعارك الحديثة والقديمة دفاعا عن هويته واستقلاله. ثالثا: كان المتوقع ألا يتقيد المفاوضون بين الوحدة والثقافة والهوية وبين معركة الاستقلال، ذلك أن الشخصية الوطنية ليست وليدة ثورة نوفمبر وحدها ولكنها ممتدة عبر عصور طويلة. إلى أي مدى تضمنت اتفاقيات إيفيان محتوى تقرير اللجنة الثقافية التي أسميناها بلجنة ميسوم صبيح؟ إن على المرء أن يعود إلى الاتفاقيات ويقارن بين ما أخذ به الوفد المفاوض وما تركه في الأرشيف، ثم إن الاتفاقيات وما حوته يتعلق بعهد الاستقلال، ونحن إنما ندرس فترة الثورة نفسها. أما التقرير فقد تضمن تركيزا خاصا على أمور نريد إجمالها فيما يلي: - التعليم الوطني (الاستعمار منع الجزائريين من التعلم طيلة 130 سنة). - عدم تحديد المرجعية الثقافية. - ضرورة إدارة جزائرية للتعليم (وزارة) أو إدارة عامة بإشراف جزائري. - على المفاوض أن يصل مع الطرف الآخر إلى النص على مرحلة انتقالية لسد الخلل الذي تركته 130 سنة بالنسبة للغة العربية والفرنسية.

_ (1) النصوص الأساسية، مرجع سابق، ص 151.

الثقافة في نصوص الطلبة

- على المفاوض أيضا أن يستوحي (يوجه) التربية والتعليم من إنشاء تعليم إجباري باللغة العربية، وهي اللغة الوطنية، وذلك بجعلها إجبارية في كل امتحان دخول إلى الوظيف العمومي، دون نسيان اللغة البربرية التي هي اللغة الأم لعدد كبير من المواطنين، فيجب أن يوفر لها مكان في التعليم العالي، لكي تحفظ وتطور، ويطلب المفاوض الجزائري من فرنسا أيضا تعليم اللغة العربية لأطفال وكبار الجزائريين لفرنسا، على أن تكون مصاريف هذا التعليم على الحكومة الجزائرية أو على الجالية. - إعطاء الحرية للتعليم الخاص، سيما التعليم الديني، وهذا يعني حرية الدين الإسلامي وهو يعني أيضا إرجاع الأوقاف للدولة الجزائرية أو تفويضها. - إعادة النظر في كتب التاريخ والجغرافية. - تعيين مسؤول جزائري في الإعلام خلال المرحلة الانتقالية، (والإعلام هنا يعني الإذاعة، السينما، الأفلام، الفنون الشعبية. الثقافة في نصوص الطلبة إذا كان يهمنا رأي جميع شرائح القيادة الجزائرية في الثقافة الوطنية أثناء الثورة، فمن باب أولى يهمنا رأي الطلبة الذين هم الشريحة الأقرب إلى المسألة الثقافية ماضيا وحاضرا ومستقبلا، وقد قال الطلبة كلمتهم في الثقافة في مناسبات عديدة، ونريد أن نرصد بعض آرائهم التي عبروا عنها في لوائحهم وبياناتهم وتصريحات قادتهم، خصوصا وأن بعضهم قد أصبح بعد الاستقلال مسؤولا في الدولة التي ناضل من أجلها وأتيحت له فرصة خدمة أو عرقلة الفكرة التي آمن بها أثناء الثورة. في اللائحة المتعلقة بالعالم العربي الصادرة عن مؤتمر الطلبة الرابع أن المؤتمر (يؤكد من جديد على تعلقه بالثقافة العربية الإسلامية وبوحدة العالم العربي ... لأن الجزائر تعد جزءا لا يتجزأ من العالم العربي بتاريخها وتقاليدها

وثقافتها العربية الإسلامية) (1). كما وجه اتحاد الطلبة مذكرة إلى هيئة الأمم المتحدة حلل فيها الوضع الثقافي والتعليمي في الجزائر عشية عرض قضيتها على الجمعية العامة، وقد اشتكى الطلبة من الاضطهاد الثقافي: - فرض الاستعمار مبادى ثقافية وأدخل قيما أجنبية على الشعب بعد تجريده من حضارته. - صير الاستعمار اللغة الوطنية لغة أجنبية، بينما هي الوعاء لحضارته، وهو تصرف يرمي إلى محو الشخصية الجزائرية. - عند الاحتلال وجدت فرنسا شعبا له حضارته العريقة وقيمه، شعبا متعلما وليس أميا. - نتيجة الحروب هدمت المدارس والمراكز الثقافية واغتصبت الأوقاف التي كانت في خدمة الثقافة والعبادة. - التعلم السائد في الجزائر ليس له خصوبة بل هو تعلم مطابق لما هو في فرنسا - فهو يهدف إلى إدماج الجزائريين لأنه تعليم موقوف على الفرنسيين، ولم يستفد منه إلا القليل من الجزائريين. وبعد ذلك قدمت المذكرة إحصاءات عن التعليم بين المسلمين (الجزائريين) والفرنسيين في المستوى الابتدائي والثانوي والعالي والتعليم العربي الحر، وخلصت المذكرة إلى أن نسبة الأمية في الجزائر بلغت 80% (2). ونختم علاقة الطلبة بموضوع الثقافة الوطنية برأي أحمد طالب الإبراهيمي باعتباره كان أول رئيس لاتحاد الطلبة المسلمين الجزائريين وباعتبار تعليقه جاء على نتائج المؤتمر الرابع للاتحاد الذي انعقد في تونس (1960) وكان

_ (1) المجاهد 74، 8 أغسطس 1960. (2) المقاومة الجزائرية 9، 18 مارس 1957، عن المذكرة أنظر فصل التعليم والتنظيمات الطلابية.

للثورة إيديولوجيتها الخاصة؟

الإبراهيمي عندئذ في السجن بفرنسا، فقد كتب إلى رئيس الاتحاد عندئذ وهو مسعود آية شعلال مستغربا كيف لم يتعرض المؤتمر إلى انتساب الجزائر للعروبة والإسلام بينما صرح بذلك كريم بلقاسم أصالة عن الحكومة المؤقتة، وأضاف أنه ليس من حق الاتحاد السكوت على مثل هذه القضية لأن الثقافة هي مجال الاتحاد (ولا مفر من أن يكون لعروبتنا محتوى ثقافي في جوهره) (1). هذه النصوص كلها تؤكد على انتماء الجزائر الحضاري العربي الإسلامي والإيمان بالوحدة العربية والمصير المشترك، وبأن الجزائر جزء من الأمة العربية الإسلامية، إنها نصوص صيغت في معظمها أيام الكفاح عندما لم يكن هناك مجال للمراوغة والتفلسف البيزنطي، ومع ذلك جاء من يتساءل اليوم عن هوية الجزائر ويثير الشك حول مسألة المواطنة. للثورة إيديولوجيتها الخاصة؟ كان السيد ابن يوسف بن خدة مصرا على أن للثورة إيديولوجيتها وقد عبر عن ذلك في كتابه شهادات ومواقف، وابن خدة ليس بالرجل العادي فهو الذي ترأس الحكومة المؤقتة سنة 1961 وسار بها المشوار الباقي على الاستقلال والذي تمت في عهده مفاوضات إيفيان وصادق في عهده المجلس الوطني للثورة على برنامج طرابلس، ثم إنه قبل هذا وذاك سياسي مثقف ومناضل من الجيل الثاني في حزب الشعب. فمن رأيه أن للثورة الجزائرية استراتيجيتها وأسلوبها الخاص في مجابهة التحديات .. وقد استطاعت أن تكيف مع الزمن وسائل كفاحها حسب مفهومها الخاص النابغ من إرادتها والمنسجم مع حجم إمكانياتها، والمنبثق من إيديولوجيتها التي أعلنتها منذ الفاتح من نوفمبر 1954، ألا وهي الكفاح بجميع الوسائل لتحقيق الهدف المنشود وهو الاستقلال وتكوين دولة جزائرية

_ (1) أحمد طالب، رسائل من السجن، تعريب مصطفى مازيغ، تونس، 1965، عن هذا الكتاب انظر لاحقا.

ديموقراطية اجتماعية ذات سيادة في إطار المبادى الإسلامية، (ولقد ظلت جبهة التحرير وفية - في نظره - لهذا المبدأ طوال سنوات الحرب (1). لقد وضع ابن خدة خطا واضحا بين عقيدة الجماهير وعقيدة النخبة بالنسبة لهذه الإيديولوجية الثورية، فالجماهير كان حافزها الجهاد دون أن يكون في استطاعتها التعبير عما يحتويه من مفاهيم اقتصادية واجتماعية وسياسية وثقافية ... أما النخبة، وهو يسميهم قادة المعركة، فقد كانوا في الخارج وكانوا متأثرين بالثقافة الأوروبية ومنها الإيمان بالاشتراكية وفضائلها، ولكن عن حسن نية ... وربما هذا تبسيط ساذج للموضوع خصوصا عندما يدخل حسن النية، فالاشتراكية قناعة وعقيدة وليست تأثرا يمكن التخلص منه أو حلية تلبس ثم تنزع، وابن خدة نفسه يقول إن قادة المعركة بالخارج لم يحللوا الاشتراكية ولم يتعمقوا في معانيها ويقارنوا بينها وبين الإسلام الذي هو أساس هوية الجزائر الثقافية وضميرها الوطني ... وهنا انعكس التخلف الثقافي الذي كانت فيه البلاد إبان الاستعمار، مما أحدث فجوة وتناقضا بين القمة والقاعدة داخل الثورة، وقد ربط ابن خدة بين الفجوة خلال الثورة وغداة الاستقلال، فبينما استطاعت الجبهة أن تتفادى الخلافات الفكرية الداخلية أثناء الثورة فإنها لم تستطع أن تمنع تفجرها غداة الاستقلال، عندما تحول الأمر إلى صراع على الحكم، وهو الصراع الذي وصفه ابن خدة نفسه بالانقلاب الذي حطم وحدة جبهة التحرير وفتح الباب أمام الانتهازيين والمغامرين وأصحاب المذاهب الأجنبية اليسارية والماركسية وتسرب أصحابها إلى هياكل الدولة والحزب ومراكز القرار والنفوذ، ومن هنا بدأ انحراف الثورة في نظره عن إيديولوجيتها، والملاحظ أن أمثال ابن خدة قليل في الكتاب والمفكرين الجزائريين الذين تمسكوا بأن للثورة فكرها وفلسفتها النابعة من التراث العربي الإسلامي، ولا

_ (1) ابن خدة، شهادات ومواقف، دار النعمان، الجزائر، 2004/ 1425، ص 133.

الثقافة في الإعلام الرسمي

شك أن للتيار اليساري أيضا رأيه في إيديولوجية الثورة، فهي في رأيهم مستمدة من التناقض الطبفي والبورجوازية المدعومة من الاستعمار (1). الثقافة في الإعلام الرسمي لعل الحديث عن الثقافة في الإعلام الرسمي لا يتم إلا بربطه بالتعريب، ونعني هنا الإعلام الموجه إلى الشعب الجزائري وإلى جمهور الوطن العربي الذي رأى في الثورة الجزائرية وسيله الخلاص له من ربقة الاستعمار والإمبريالية فاحتضنها، فكيف عالج إعلام جبهة التحرير المسألة اللغوية مثلا؟ إن النشرات الخبرية في صوت الجزائر كانت في الجزائر والبلاد العربية باللغة العربية بالأساس سواء في برامجها أو في عدد حصصها، ونقصد هنا العربية الفصحى والعربية الدارجة، وكانت جريدة المجاهد نفسها مزدوجة اللغة (عربية - فرنسية)، كما كانت معظم النشرات الصادرة عن وكالة الأنباء الجزائرية، وكانت البرامج الموجهة من صوت العرب والإذاعة المصرية الدولية باللغتين أيضا (2). وقد أوضح السيد محمد يزيد وزير الأخبار في الحكومة المؤقتة سنة 1959 عندما كان يتحدث عن نظام الدعاية والتوجيه الموجه إلى الخارج والداخل قائلا: إن الوسائل الدعائية والنفسية والمادية للحكومة الآن محدودة، ولذلك قررت دعم هذه الوسائل وإمدادها بالقوة البشرية اللازمة، وقال إن إعلامنا موجه إلى الخارج ولا سيما الرأي العام الفرسي، وأن (الشعب الجزائري شعب عربي ولغته (هي) العربية، لذلك تولي وزارة الأخبار عناية خاصة بوسائل تعريب دعايتنا في المنشورات والإذاعات معا،) ومما يلاحظ بهذا الصدد أن هذا التصريح كتبته المجاهد بالحرف الكبير مع صورة الوزير. وفي نظر الوزير يزيد أن لجوء الاستعمار إلى سياسة الاندماج مع طول

_ (1) ابن خدة، شهادات ومواقف، مرجع سابق، ص 106. (2) انظر ذلك في محله في فصل الإعلام والثورة.

العهد قد أضعفت من الوسائل البشرية في ميدان التعريب، لكن الثورة قد تمكنت من تهيئة الإطارات المعربة الكافية في ميدان الدعاية حتى يكون (باستطاعتنا أن نواجه حاجتنا بعد الاستقلال من الإطارات العربية اللازمة سواء كانت صحافية أو ثقافية) (1). ولكن الحكومة المؤقتة والمسؤولين في الاجتماعات الرسمية كانوا يتناقشون - كما سبق - باللغة الفرنسية أو كما اتفق، وكانت المحاضر تكتب باللغة الفرنسية بما في ذلك محاضر مؤتمر الصومام واجتماعات المجلس الوطني ولجنة التنسيق والتنفيذ واتفاقيات إيفيان وبرنامج طرابلس وبيان أول نوفمبر، ومعظم هذه النصوص الحيوية عرفت العربية عن طريق الترجمة فقط، كما أن اتفاقيات إيفيان لم تكتب إلا باللغة الفرنسية دون الأخذ في الاعتبار مسألة السيادة التي كان قادة الثورة يلحون عليها، وإذا كانت وثائق الثورة الأخرى (بيان أول نوفمبر والصومام وطرابلس ..) قد كتبت أصلا بالفرنسية ثم ترجمت وكانت وثائق جزائرية محض فإن إيفيان كانت عبارة عن تعاهد بين طرفين بل بين حكومتين، ومع ذلك لم تكتب نسخة منها بالعربية التي طالما تحدث قادة الثورة على أنها اللغة الوطنية المضطهدة للشعب الجزائري ولغة تراثه وثقافته الممتدة عبر العصور. ويبدو أن المكاتب الإعلامية في البلاد العربية كانت تتعامل باللغة العربية مع سلطات البلاد التي هي فيها ولكنها تتراسل بالفرنسية مع رئاسة الوفد الخارجي قبل تأليف الحكومة ثم مع وزراء الحكومة بعد تأليفها، كما يظهر من وثائق هذه الحكومة المتوفرة الآن في الأرشيف الوطني، وأثناء البحث في الوثائق لاحظنا اختلافا حتى في اتخاذ الأختام الرسمية، فبينما كان ختم وزارتي, الثقافة والخارجية مكتوبا كله باللغة العربية كان ختم وزارة القوات المسلحة

_ (1) المجاهد 41، أول مايو 1959.

الثقافة في برنامج طرابلس

وختم نائب الرئيس مكتوبين بالفرنسية (1). ومنذ سنة 1956، أي بعد مؤتمر الصومام أرسل رمضان عبان، باسم لجنة التنسيق والتنفيذ، رسالة إلى (الإخوان في تونس) مؤرخة في 21 نوفمبر تقول إن اللجنة اتصلت من سي إبراهيم مزهودي برسالة مكتوبة بالعربية، وطلب منهم (وهم علي محساس، وإبراهيم مزهودي نفسه، ومصطفى بن عودة، ومولود قائد المعروف رشيد) أن يكتبوا مستقبلا رسائلهم وتقاريرهم بالفرنسية تفاديا لطلب ترجمة أسرارنا إلى مترجم) (2). إن المبرر الذي استند عليه رمضان عبان غير مقنع طبعا، لأن نفس المبرر ينطبق أيضا على اللغة الفرنسية بالنسبة لمن لا يعرفها وأيضا على اللغات الأخرى التي قد ترد بها المراسلات، ثم إنه مبرر يتجاهل تماما مسألة الهوية الثقافية الوطنية، بالعكس فقد كان المقاومون القدماء يموهون على العدو بالكتابة بلغتهم العربية التي لا يعرفها الفرنسيون إلا عن طريق الترجمة (3). الثقافة في برنامج طرابلس برنامج طرابلس يشار به إلى آخر وثيقة أصدرتها الثورة الجزائرية قبل أن يدخل قادتها إلى بلادهم بعد سنين من العيش خارجها، والوثيقة صادرة عن الدورة الرابعة للمجلس الوطني للثورة الجزائرية (البرلمان)، وهو أعلى مؤسسة مخولة للثورة الذي انعقد في طرابلس بليبيا، وكان جدول الأعمال في هذه الدورة يتألف من نقطتين أساسيتين: - صياغة برنامج أو منهج عمل فكري (إيديولوجي) تسير عليه الجزائر المستقلة. - انتخاب هيئة أو مكتب سياسي على رأس جبهة التحرير الوطني التي ستصبح

_ (1) الأرشيف الوطني، علبة 21 - 50. (2) رسالة مزهودي تاريخها 16 نوفمبر، ورسالة عبان موقعة فقط باسم - رمضان - وهو اسم رمضان عبان، أنظر مبروك بلحسين، بريد الجزائر - القاهرة 1954 - 1956، ص 206. (3) فيما يتعلق بالترجمة انظر الأجزاء السابقة من تاريخ الجزائر الثقافي.

هي الحزب السياسي الوحيد الذي بيده السلطة في الجزائر. قبل الاجتماع ببضعة أشهر كانت الحكومة المؤقتة قد عهدت إلى لجنة من المثقفين الخبراء بوضع برنامج يقدم إلى مجلس الثورة عند اجتماعه المتوقع في طرابلس، كانت هذه اللجنة تتألف في أغلبها من عناصر معروفة باتجاهها الاشتراكي الماركسي والعلماني المفتوح ولكنها عناصر مناضلة ساهمت في الثورة في المجالات المحددة لها من الإعلام إلى الديبلوماسية إلى الاتصالات ... والأعضاء هم: مصطفى الأشرف ومحمد حربي ومحمد الصديق بن يحيى ورضا مالك، كان الأشرف كاتبا اجتماعيا ومؤرخا للحركة الوطنية وكان من المخطوفين في الطائرة المغربية مع بعض قادة الثورة سنة 1956، وسبق لحربي أن عمل في جهاز الحكومة المؤقة بالقاهرة، وشارك محمد بن يحيى في نفس الجهاز وفي المفاوضات مع الفرنسيين آخرها كانت إيفيان، وكان رضا مالك مسؤولا على جريدة المجاهد بنسختيها العربية والفرنسية في تونس، أما الميلي فكان من مدرسة جمعية العلماء، وكان عندئذ مسؤولا على تحرير الطبعة العربية من المجاهد، وجميعهم تقريبا مارسوا الديبلوماسية قبل اجتماعهم في اللجنة، ومن تشكيلة اللجنة نتوقع ماذا سيصدر عنها من أفكار بشأن تفسيرها للثقافة الجزائرية ورصد مستقبلها. وبعد عدة أسابيع خرجت اللجنة بمسودة الوثيقة التي أصبحت تسمى (بعد الموافقة عليها من المجلس) ببرنامج طرابلس، وتكاد المصادر تجمع على أن البرنامج لم يكن محل نقاش في المجلس بل تمت الموافقة عليه بسرعة وبالإجماع، أما النقطة التي أثارت الجدل والخلافات الحادة بل والانشقاق فهي تشكيل المكتب السياسي، فهذه المسألة هي التي فجرت الاجتماع وأفاضت الكأس لأن الرفقاء انفضوا دون اتفاق نهائي مما جعلهم يدخلون الجزائر مشتتين لا موحدين، وهكذا بقي البرنامج موحدا والقيادة ممزقة، وهذا فصل من تاريخ الجزائر لا يعنينا هنا. إنما الذي يعنينا هو المحتوى الثقافي للبرنامج وسرعة الموافقة عليه: هل

كان ذلك دليلا على صحة محتواه أو عدم الاهتمام به أصلا؟ يبدو أن ذلك يشمل الاثنين معا، أولا نلاحظ أن أعضاء اللجنة قد توزعوا المهام فمنهم من كتب الديباجة وتناول الخط التاريخي والفلسفي للمشروع، ومنهم من كتب له الرؤية الاقتصادية، ومنهم من كتب عن الرؤية المستقبلية للثقافة، ثانيا نلاحظ أنه ليس كل أعضاء المجلس كانوا قادرين على فهم ومناقشة وثيقة عميقة الفكر تتحدث عن التجارب المعاصرة في الاقتصاد والفكر وتحيل على مراجع أوروبية قديمة وحديثة، ثالثا ليس كل الأعضاء كانوا مهتمين بالمسقبل بقدر اهتمامهم بالحاضر، كيف سيدخلون الجزائر وما موقعهم في التركيبة السياسية الجديدة، ولذلك فإن الموافقة السريعة على البرنامج ليس دليلا على التوافق والرضا، فمعظم الحاضرين لم يعطوا البرنامج الاهتمام الجدير به، وهكذا بقي البرنامج لا يلزم بالأساس حتى الذين وضعوه. تحدث البرنامج على التوجه الثقافي للجزائر المستقلة ولكن مرجعيته كانت أوروبية لا عربية إسلامية، فإذا ذكرت الحضارة الإسلامية فإن محرري البرنامج يسارعون إلى وضع النعوت والتحديدات لها حتى لا تفهم على إطلاقها أو أنهم يتبنونها لتسيير الجزائر المستقلة، أما الذي ركز عليه البرنامج بالتعريف والتحليل فهو الميزات الثلاث للثقافة الجزائرية الجديدة وهي الوطنية والعلمية والثورية، وقد تكرر وصف العلمية أكثر من مرة مما يفهم منه أن الاشتراكية المبشر بها هي اشتراكية علمية، أي الماركسية رغم أن محرري الوثيقة لا يكتبونها صراحة، ولعل هذا ما جعل ابن خدة يصف أصحاب هذه الاشتراكية بحسن النية، وهو الذي رأى أن الاشتراكية المتفق عليها في طرابلس والتي تبناها مؤتمر الجزائر (سنة 1964) قد تحولت في ميثاق سنة 1976 إلى اشتراكية علمية، أي ماركسية - لينينية، وهي في نظره تختلف تماما عن الإسلام لأنها نظرية مادية محض وتدعو صراحة إلى صراع الطبقات (1).

_ (1) ابن خدة، مرجع سابقا، ص 162.

تقول ديباجة برنامج طرابلس في شيء من الادعاء والزهو الفكري إنه من الضروري خلق فكر سياسي واجتماعي تغذيه مبادى علمية لتحميه من ترهات الفكر، والغالب أن المقصود بهذه الترهات هو الخرافات المنسوبة عادة إلى الفكر الإسلامي في العصور الوسطى، وتلح الديباجة أيضا على أنه من الأهمية بمكان إحداث تصور جديد للثقافة الجزائرية وهو أن تكون وطنية وثورية وعلمية: فهي وطينة باعتبارها تمثل (مرحلة أولى في إعطاء اللغة العربية المعبرة الحقيقية عن القيم الثقافية لبلادنا كرامتها ونجاعتها كلغة حضارة،) فهذه اللغة هي التي ستعيد بناء التراث الوطني وتقييمه والتعريف بإنسانيته المزدوجة القديمة والحديثة لإدخالها في الحياة الفكرية وتربية الشعور الوطني، وهي التي ستحارب الهيمنة الثقافية والتأثير الغربي (الفرنسي) اللذين ساهما في تلقين الكثير من الجزائريين احتقار لغتهم وقيمهم الوطنية. أما بصفتها ثورية فستعمل الثقافة على تحرير شعب يعمل على التخلص من مخلفات الإقطاع والخرافات والعادات الفكرية والتقليدية، إنها ليست ثقافة فئة تسد أبوابها عن التقدم وليست ترفا فكريا، بل هي ثقافة تساعد على تطوير الوعي الثوري في الجماهير. وأما بصفتها ثقافة علمية فيجب أن يظهر في وسائلها وأبعادها، ومعنى العلمية هنا هو أنها (ثقافة عقلية ذات تجهيزات تقنية)، فهي تشجع على روح البحث المنهجي وتسير على هداه في جميع المستويات، بما في ذلك المستوى اللغوي، لأن (اللغة العربية، باعتبارها وسيلة ثقافية علمية وعصرية، قد تخلفت، ويجب ترقيتها حتى تقوم بدورها في المستقبل بأساليب علمية ومهذبة جدا)، وهذا الشرط لتأهيل اللغة العربية قد استمر استعماله إلى الوقت الحاضر، فكلما دعا الداعي إلى استعمال اللغة العربية واجهه أنصار هذا الرأي بهذا الشرط التعجيزي رغم أنهم يدركون أن من شروط ترقية اللغة علميا استعمالها في الميدان.

ومن جهة أخرى ألح البرنامج على نشر التعليم بين الجميع حتى تشيع روح العمل ويرتفع الإنتاج ... وخاطب الطليعة الثورية بأن عليها إعطاء المثل للشعب، ومن ثمة يجب التنديد بشدة بنزعة جحود المجهود الفكري وعدم تقدير الكفاءات، والتنديد كذلك بالدعوة إلى معاداة المثقفين التي تظهر من وقت إلى آخر. وقد استدرك البرنامج، كما كان متوقعا، فحذر مما أسماه أخلاقيات البرجوازية الصغيرة ومن توظيف الإسلام لأغراض ديماغوجية، معترفا بالانتماء حقا للحضارة الإسلامية التي أثرت في تاريخ البشرية، لكننا سنسيء إلى هذه الحضارة في نظر واضعي البرنامج، إذا نحن اعتقدنا أن النهوض بها يخضع لصيغ ذاتية بسيطة في السلوك العام وفي ممارسة الشعائر الدينية، ويبدو أن أصحاب البرنامج لم يفرقوا في هذا الصدد بين الإسلام كعقيدة وممارسات ذاتية وبين الحضارة الإسلامية كإنتاج جماعي وإبداع فكري مشترك (1). ومما يلاحظ أن البرنامج كرر أيضا عبارات الطليعة والطليعة الثورية، وأعطى لها حجما كبيرا في سياق العمل لبناء الجزائر الجديدة، فهي التي ستقود البلاد (عن طريق حزب طليعي) وتضع العقائد وتمهد الطريق أمام العامة، وهي التي ستعلم الفلاحين، وهي التي ستعطي المثل لرفع المستوى الثقافي للمواطن، وتطور الإسلام (كذا) وتخرجه من المفاهيم البالية، وتندد باستعمال الإسلام لأغراض ديماغوجية، موضحة أن الحضارة الإسلامية في الماضي كانت نتاج فكر وعمل، أي ثقافة واقتصاد، وكان في هذه الحضارة استعمال لمنهج البحث العلمي وانفتاح عقلي على الثقافات الأجنبية وعالمية العصر (وهو شعور مبكر بالعولمة)، وكان بينها وبين الحضارات الأخرى تبادل خصب. وقد ندد البرنامج بالحنين إلى الماضي المرادف في نظر محرريه للعجز والبلبلة، والمقصود هنا في أغلب الظن هم دعاة التمسك بالتراث والمحافظة

_ (1) نصوص أساسية لجبهة التحرير الوطني، مرجع سابق، ص 41.

عليه لذاته، ومن جهة أخرى دعا محررو البرنامج إلى تخليص الإسلام مما أسموه بالبدع والأوهام التي كبلته ومست جوهره لكي يظهر على حقيقته في الثقافة والشخصية الوطنية، وهي الشخصية المرتبطة بالثقافة الوطنية الثورية والعلمية، تلك الشخصية التي صقلها وأبرزها الكفاح التحريري بعد أن كانت مجهولة والتي ستتقوى مع الأيام لقدرة الشعب الجزائري على (مسايرة العصر دون قطع الصلة بماضيه). ويبدو أن محرري برنامج طرابلس قد أحسوا بالفراغ العقائدي للثورة، وهو الفراغ الذي كان المثقفون يشيرون إليه عادة في البيئات الخارجية، فأرادوا إبراز هذا الجانب الآن وتبرير الفراغ المشار إليه أثناء الثورة فقالوا إن طابع الثورة كعملية تحرير قد تغلب على الثورة كمشرع عقائدي أيام الكفاح، أي أن العملي قد سبق النظري، أو أن التحرير قد سبق التفكير (كما أشيع فيما بعد) وهو ما يؤكد ما ذهب إليه أكثر من واحد من أن الثورة كانت تسير بدون إيديولوجية، وها قد أراد محررو البرنامج تدارك الأمر بعد الاستقلال وبعد اعترافهم بالفراغ السابق، ومع ذلك فإن كلمة الثورة في نظرهم، كانت تغذي حماس الجماهير وأن هذه الجماهير هي التي أعطتها بالفطرة معنى يتجاوز حرب التحرير نفسها، واعترفوا أيضا أن ما كان ينقص الثورة في الماضي وما يزال ينقصها في الحاضر هو الخط العقائدي الذي لا بد منه، أما الآن وقد توقفت حرب التحرير واستعاد الشعب الاستقلال فإنه لا بد من استمرارية الحرب ولكن على الصعيد العقائدي (إن الكفاح المسلح يجب أن يترك مكانه اليوم للمعركة العقائدية التي تعني الثورة الديموقراطية الشعبية ... التي تعني التشييد الواعي للبلاد في إطار المبادى الاشتراكية)، وبذلك حاول محررو برنامج طرابلس تفسير ما جاء به بيان أول نوفمبر حول (إقامة الدولة الجزائرية الديموقراطية الاجتماعية ذات السيادة ضمن إطار المبادى الإسلامية) (1).

_ (1) ملفات وثائقية، 24، نصوص أساسية لجبهة التحرير الوطني 1954 - 1962، أغسطس 1976، وزارة الإعلام والثقافة، الجزائر، ص 39.

ولعل هذا الاختيار الاشتراكي الواضح هو الذي جعل رجلا مثل ابن خدة يعترف ولكن بعد عقود بأن برنامج طرابلس كان في الأساس يتنافى مع الإسلام رغم أن التصويت عليه في المجلس كان بالإجماع، ومعترفا أيضا أنه قد صوت لصالحه (عن حسن نية؟) رغم أن البرنامج كان يدور حول محورين هما الاختيار الاشتراكي والحزب الواحد (1). ولكن برنامج طرابلس لم يهمل الإشارة إلى أن الشعب كان (قبل الثورة متعلقا بالقيم الوطنية التي صيغت في إطار الحضارة العربية الإسلامية)، والدليل على ذلك تأسيسه المدارس العربية الحرة وصيانتها رغم معارضة الإدارة الاستعمارية، كما أشار إلى أمر جديد وهو أن الولايات خلال الثورة بذلت جهودا كبيرة لتجعل الثقافة الوطنية في متناول الشعب، وهذا ينسجم تماما مع ما درسناه من أن جيش التحرير جسد مظاهر عديدة من هذه الثقافة في القضاء والتعليم وممارسة الطقوس الدينية ونحوها. أما بعد الاستقلال فقد أراد البرنامج الاسمترار في جعل الثقافة في متناول الشعب ولكن في أسلوب جديد، فبعد التحفظات على الممارسات القديمة للثقافة ألح على (استعادة الثقافة الوطنية والتعريب التدريجي للتعليم اعتمادا على أسس علمية)، وهي مهمة تتطلب توفير (وسائل عصرية لا يمكن تحقيقها بالتسرع دون خطر الضحية بأجيال كاملة) وهذه التحفظات (2) هي كلها عقبات ليس من السهل تجاوزها، ولكن البرنامج كان واضحا في الدعوة إلى المحافظة على التراث الوطني أو الثقافة الشعبية، وهي إشارة فيما يبدو إلى الثروة الفولكلورية للهجات المحلية والتقاليد الشعبية، كما كان واضحا في الدعوة إلى

_ (1) ابن خدة، شهادات ومواقف، مرجع سابق، ص 153 - 154. (2) اللجوء إلى التدرج وانتظار الوسائل العصرية والتحذير من التسرع الذي قد يؤدي إلى التضحية بالأجيال، واشتراط العلمية في التعرب ...

تعميم وإجبارية التعليم وجزأرة البرامج لتتكيف مع واقع البلاد، واستعمال مختلف الوسائل للتخلص من الأمية في أقرب الآجال (1).

_ (1) النصوص الأساسة لجبهة التحرير، الوطني، مرجع سابق، ص 92، وكذلك التعليم والثقافة في الجزائر، Enseignement et culture en Algérie، وزارة الأخبار، الجزائر، 1963.

الفصل الثالث الهوية الثقافية والأدباء بالفرنسية

الفصل الثالث الهوية الثقافية والأدباء بالفرنسية نتناول في هذا الفصل تحديد وأبعاد الهوية الثقافية، وحياة وإنتاج المثقفين والأدباء الجزائريين باللغة الفرنسية، ومواقف بعض المثقفين العلمانيين من الثورة، وصراع الأفكار عند بعض القادة المثقفين، واضطهاد وتعذيب واغتيال بعضهم، ثم موقف جريدة المجاهد من اللغة والدين والقومية. ومنذ البداية نقول بأن تناولنا هذا لن يكون شاملا لأن ذلك غير واقعي. ولكن سندرس الظاهرة ودور أصحابها في الوقوف بصف المدافعين عن تحرير وطنهم بلغة المستعمر نفسه، ومشاعرهم الخاصة في هذه الأثناء، وشعورهم بواجبهم وكيف عبروا عنه، ثم نتناول إنتاجهم نثرا وشعرا كلما أمكن ذلك، ومن هؤلاء، وإلى جانبهم زملاء لهم، كانوا غير أدباء بالمعني الدقيق للكلمة، ولكنهم كانوا ضمن قائمة المثقفين المنتمين أيضا إلى نفس الثقافة والمعبرين بنفس اللغة، فما دور هؤلاء في الثورة وهل استوت نظرتهم ونظرة إخوانهم الأدباء أو اختلفت كما اختلفوا عنهم في ميدان العمل؟ كلما ذكرت الثورة الجزائرية ذكرت معها الثقافة ومشروع المجتمع الذي جاءت به أو بشرت به، البعض يقول إنها ثورة قام بها مناضلون تكونوا في مدرسة حزب الشعب ليكونوا طلائع نضالية وليس لهم تكوين ثقافي ولا شهادات مؤهلة للقيادة الفكرية، وقد درس البعض سير جماعة الواحد والعشرين

ومجموعة الستة فلم يجد من بينهم حاملا لشهادة الثانوية العامة. صحيح أن الحياة السياسية في الجزائر كانت تربي الشباب على الوعي المبكر بحكم القمع والحرمان ومعاينة الجالية الأوروبية في نمط عيشها مما جعله يكتسب تجربة لا يكتسبها الشباب العادي إلا بعد طول مراس ومطالعة، ومن الخطأ أن نحكم على الثورة من طليعتها فقط، ذلك أن تقدم العمر بالثورة جعلها تكسب شبابا من حملة الشهادات وقادة حنكتهم الحياة السياسية تحت قوانين الإدارة الفرنسية، وقد حصل هذا بالتدرج، فانضم إلى الثورة أولا عناصر من ساسة الحزب نفسه (حزب الشعب) وهم المركزيون، وقد كان فيهم حملة الشهادات العلمية العليا أمثال ابن خدة وحملة الشهادات الثانوية أمثال عبد الحميد مهري ومحمد يزيد وسعد دحلب وعبان رمضان، كما انضم للثورة الدكتور محمد الأمين دباغين ثم فرحات عباس والدكتور أحمد فرنسيس والمحامي أحمد بومنجل ... ثم شيوخ جمعية العلماء، وبالتدرج انضم إلى الثورة عدد من الطلبة المتطوعين والصحافيين والمعلمين والسياسيين في الجزائر وخارجها، فلم يعد القرار في يد المناضلين الأوائل وحدهم. كان يشاع أثناء الثورة وبعدها أن هناك تيارا ضد المثقفين حسدا لهم أو خوفا منهم، وأشيع وقتها أن هناك (تصفيات) وقعت في صفوف بعض المتطوعين الذين تخلوا عن مقاعد الدراسة والتحقوا بالثورة، فكان الواحد منهم يصفى لأتفه الأسباب أو لا يترك له المجال ليسهم في النضال بأنواعه، وكان السعيد منهم، حسب بعض الروايات، هو من كتب له أن يعود من حيث أتى بنصيحة من زميل له أو من ابن بلدته أو جهته، والأسعد من الجميع هو الذي يقال له عد وواصل تعليمك لأن الوطن سيحتاجك غدا وليس اليوم، وكنا نسمع ونحن طلاب في القاهرة، أن هناك تمييزا بين الطلبة في تونس فمنهم من يوجه إلى الجزائر (ليموت) ومنهم من يرسل سرا أو علنا ليدرس في الشرق أو الغرب ليكون عنصرا فاعلا في الجزائر المستقلة، هذه الروايات وأمثالها قد تكون مبالغا فيها أو لا تمثل إلا تصرفا فرديا ولكنها كانت تروج في أوساط الطلبة (المثقفين)

النظام التربوي والإسلام وتعليم التاريخ

على كل حال، فإلى أي مدى كانت الوقائع تؤكد ما ذهبت إليه بعض هذه الروايات؟ النظام التربوي والإسلام وتعليم التاريخ في بحث ترجمته المنار ونشرته ملخصا سنة 1952 تحدث صاحبه عن التوجيه الديني في النظام التربوي، ولم تذكر الجريدة أين نشر نصه الفرنسي ولا لأي غرض نشر ولا من هو صاحب البحث، ومهما كان الأمر فقد تحدث الكاتب عن مكانة الدين وأوضح أنها ما تزال كبيرة في المجتمع الجزائري رغم القول بفصل الدين عن الدولة، وبالإيمان بالتقدم، كان البعض يقول إن الدين كان صالحا في الأزمنة السابقة، وأن الاستعمار يحاربه إذا أحس منه قوة أو يستغله إذا لاحظ في أهله غفلة، وتذهب بعض الآراء إلى أن العالم الإسلامي ما يزال يرزح تحت القوتين المادية والروحية، ولكن حالة الدين الإسلامي ومقتضياته تجعل العالم الإسلامي كتلة بذاتها مختلفة عن الكتلتين الأخريين (المقصود المعسكر الاشتراكي والمعسكر الرأسمالي) لأن التعاليم الإسلامية تقدم نظاما مغايرا، وهو نظام يطمح أيضا إلى العالمية وسيادته من أجل إسعاد البشرية، وتساءل الكاتب المجهول: هل تقف التربية الإسلامية على الحياد أمام القوتين المادية والروحية؟ ثم أجاب بأن الرسول (صلى الله عليه وسلم) قد أعلن عن عالمية الإسلام بنزول القرآن على الناس كافة. وقد ربط الكاتب بين الحركات الإسلامية التي أنشأت دولا مثل (الرابطة الإسلامية) في الهند التي تولدت عنها باكتسان، و (الحزب الإسلامي) الذي يعمل على تخليص الملايو من الاستعمار، لأن الاستعمار لا يثبت في بلاد يسودها الإسلام، وأن حركة (الإخوان المسلمين) في مصر وسورية تبذل جهدا ولها آثار محمودة لتخليص الدين من الاضطهاد، ومن الواضح أن صاحب البحث يسير على نهج هذه الحركة التي كانت تملأ الساحة السياسية والفكرية

والإعلامية قبل قيام الثورة المصرية والتصادم مع قادتها (1). ولذلك رأى الكاتب أنه لا بد من تحديد (الأهداف من التربية والتعليم)، فالشعب الجزائري لم يتوقف عن العطاء الحضاري إلا منذ الابتلاء بالاستعمار، فلم يظهر أي عبقري فيها خلال هذا العهد، ويجب في نظره أن تستوحى الأهداف التربوية من (تعاليم الإسلام وأن تستند إلى تقاليد الوطن التاريخية وتلائم المناهج السياسية لشعب عربي مسلم وأن تساعد على تحقيق أمانيه القومية من وحدة عربية شاملة خالصة لا تشوبها شائبة الامتزاج والاختلاط بالمبادى الاستعمارية) (2). ذلك هو ما يتصل بالدين في المنظومة التربوية، ولا يكاد يختلفط تعليم التاريخ عن تعليم الدين، ونحن وإن كنا سنرجع إلى معالجة التاريخ في مناسبة أخرى فإننا ننقل هنا رأيا جاء في مرحلة سابقة للثورة ويعتبر ممهدا لانفجار الشعور الوطني المعتز بالتاريخ، فما الهدف من تعليم التاريخ للنشء الصاعد؟ إنه إعداد المواطن الصالح وتكوين الشخصية الاجتماعية ومساعدة التلميذ على اكتساب الثقة بنفسه وتكوين الذوق والحس التاريخي المشترك، ذلك أن للتاريخ أثرا كبيرا في تكوين البطولة لدى الفرد وغرس روح التضحية من أجل الوطن. ومن الخطأ أن يعلم المعلم التاريخ للتلاميذ لذاته أي بصفته أحداثا جرت وانتهت ثم يحشو بها عقل التلميذ، بل يجب على المعلم أن يقنع الطالب بأن (الوطن الجزائري مثلا ملك للأمة الجزائرية وممتد في أقدم العصور ... وأنه جزء من الوطن العربي الأكبر الممتد من الخليج الفارسي شرقا إلى بوغاز جبل طارق غربا)، إن على المعلم أن يكون هدفه من تعليم التاريخ هو إثارة حب التعاون في المتعلم من أجل (الدفإع عن الإرث العظيم) وأن نذكره بالحروب التي خاضها أجداده دفاعا عن الوطن، والتنويه له بالدعائم التي يقوم عليها

_ (1) المنار 14، 19 جانفي 1952. (2) المنار 13، 4 ينار 1952.

التراث وهي (اللغة القومية والدين المتبع والعوائد الجارية)، بمعنى آخر فالتاريخ يجب أن يكون مادة للتربية الأخلاقية والسياسية والتاريخية وأن يخرج المواطن الصالح الذي يؤثر الدين والوطن واللغة على نفسه، ومن ثمة يكون مستعدا للتضحية في سبيل هذه الأركان التي لا يكون الوطن وطنا إلا بها ولا يكون المواطن صالحا إلا إذا عمل بها. ومن المهم أيضا عند الحديث عن البرنامج التربوي المقترح أن يذكر المعلم التلميذ بأن المؤسسات الاجتماعية، ومنها المدرسة كانت وسائل فقط لتحقيق هدف وأن هذه الوسائل تتبدل بتبدل الزمن عندما تأتي أهداف جديدة، فالمدرسة إذن عبارة عن آلية، وقد نبهنا الكاتب إلى أن وزارات التربية والتعليم في الدول الواعية لدورها التاريخي تحرص على تحضير منهاج التاريخ بعناية خاصة ولا تعطي التاريخ للأجانب ليدرسوه لأبناء الأمة بل لا تعطيه إلا للمواطن الذي يشعر بمواطنته، بينما يمكن للأجنبي أن يدرس مواد أخرى كالرياضيات، فالمواطن هو الذي يطبع التلميذ بالطابع القومي من خلال التاريخ، وقد أكد الشيخ الإبراهيمي هذه الفكرة في محاضراته بمعهد الدراسات العربية بالقاهرة (1). وقد نوه كاتب المنار بجمعية العلماء لتكوينها هيئات عليا لتخطيط المناهج وتقديم توجيهات للمعلمين، ولكنه انتقدها لأنها لم تهتم في نظره بإعداد منهاج موحد يوجه التلاميذ توجيها قوميا، فالمعلمون ما يزالون يستعملون منهج حشو رؤوس التلاميذ وتقدم إليهم خلاصات جافة ليس معها توجيه مثالي، وليس هناك اهتمام بتعليم تاريخ الجزائر، وهذا لا يقلل من أهمية تعليم التلاميذ التاريخ الإسلامي العام الذي لم تغفله الجمعية، ذلك أن حالة الجزائر حالة خاصة لأن تاريخها يعلمه الأجانب (الفرنسيون) بلغة غير اللغة

_ (1) انظر بحثنا الإبراهيمي مؤرخا في وقائع ندوة الشيخ الإمام الإبراهيمي، الجزائر، مايو، 2005.

أبعاد الهوية الثقافية

القومية، وهؤلاء لا يتوقفون عن الافتراء كقولهم إن الرسول (صلى الله عليه وسلم) كان راعيا، كما أنهم يعملون على إماتة روح الاعتزاز بالنفس وزعزعة الثقة في التلاميذ كقولهم إن الفاتحين كانوا يهدفون إلى الحصول على الغنائم والأسلاب (1). أبعاد الهوية الثقافية لم تكن مسألة الهوية واضحة في أذهان من خططوا للثورة، كان هدفهم إحداث صدمة نفسية وضربة عسكرية لصخرة الاحتلال الجاثمة على صدر الجزائر، كان بعض القادة أنفسهم قد صرحوا بذلك، فهذا بوضياف وبيطاط وابن طوبال متفقون على أنهم لم يكونوا يتوقعون انتصارا عسكريا، وإنما كانوا يهدفون إلى عملية تحرك الشعب وتوقظه من سباته ومن اللامبالاة التي كان يعيشها سيما بعد أزمة الحركة الوطنية وانشقاقها بين تيارات متصارعة، فهذا ابن طوبال اعتبر انطلاق الثورة (مغامرة)، وقد أوضح بوضياف أن الأمر الذي كان متفقا عليه كهدف من القيام بالثورة هو الاستقلال، مع التمسك بمبدأ القيادة الجماعية وأنهم لم يضعوا لما بعد ذلك برنامجا ولا إيديولوجية، أما بعد أن تحولت الفرق الصغيرة من المجاهدين إلى جبهة حقيقية تضم مختلف الأتباع من حركة الانتصار وحزب البيان وجمعية العلماء والطلبة والعمال والتجار فقد تجند الجميع لكسب معركة الاستقلال، ثم انضمت الجماهير بعد ذلك إلى هذه الجبهة بالتدرج (2).

_ (1) المنار 15، أول فبراير، 1952، وصاحب المقال غير مذكور وإنما هناك عبارة (المطالح) فقط، وقد رجع نفس المطالح إلى الموضوع نفسه وهو أهمية التاريخ في مقال بعنوان التاريخ في خدمة القومية، انظر المنار عدد 17، 29 فبراير، 1952، ويبدو أنه مثقف ثقافة سياسية بارعة وله ميول إسلامية وقومية، ولا نستبعد أن يكون هو نفسه محمود بوزوزو. (2) ديفيد غوردن، نهاية الجزائر الفرنسية، لندن، 1965، ص 57.

من الشخصيات القيادية التي دار النقاش حول موقفها من التعليم والمثقفين العقيد عميروش، يذكر البعض أن عميروش كان ضد المثقفين، مثل أغلب زملائه القادة الميدانيين، بينما يصنفه آخرون أنه كان يقف إلى الجانب الداعم لنشر التعليم واحترام المثقفين، ويستشهد هؤلاء بكون عميروش كان قبل الثورة يجمع بين العضوية في حركة الانتصار وجمعية العلماء ويرى، مثل العديد من أعضاء التنظيمين، أنهما يكملان بعضهما البعض، فالعمل السياسي والعمل الثقافي لا غنى للجزائر المستقلة عنهما - فكان عميروش وهو في باريس قبل الثورة يناضل من أجل تحقيق أهداف الجمعية أيضا ومسؤولا على إحدى شعبها هناك، وقد تعاون عندئذ مع الشاعر الشهيد الربيع بوشامة الذي جاء باريس ممثلا لجمعية العلماء التي كان لها حوالي عشر شعب في باريس وحدها (مع شعب في مناطق أخرى مثل مرسيليا وليون). كان عميروش يرى - كما قيل - ضرورة المحافظة على القيم العربية الإسلامية ونشر التعليم العربي بين الناشئة، وكان الشاعر بوشامة يؤمن بنفس المبدأ، كما كان صديقا لعميروش الذي أعد للشاعر أوراق الخروج من الجزائر سنة 1957 عندما أحس بالخطر من الإرهابيين الفرنسيين المجندين في وحدات سرية لتصفية النخبة الوطنية، وتذهب هذه الرواية إلى أن العقيد استمر في قناعته بضرورة تعليم الناشئة اللغة العربية والعلوم الإسلامية، وهو الذي أرسل بعض الأفواج من فتيان القبائل ليتعلموا في تونس أو في البلاد العربية الأخرى تحت حماية فرق مرافقة لهم من جيش التحرير، كما قيل إنه خصص مالا لاستكمال بناء مدرسة (قنزات) الحرة وتجهيزها عندما حررها (1). ولا شك أن العقيد عميروش ليس وحده في هذا الموقف، فقد كان في قادة الثورة الأوائل من كان يجمع بين نضال حزب الشعب السياسي وغيرة

_ (1) ديوان الشهيد الربيع بوشامة، تقديم جمال قنان، منشورات المتحف الوطني للمجاهد، الجزائر، 1994، ص 17, 23, 27, 29 هامش 1، انظر أيضا لاحقا.

جمعية العلماء على التراث الثقافي، تحت الشعار الثلاثي: الإسلام ديننا - العربية لغتنا - الجزائر وطننا). ويستشهد البعض على أن عميروش قد وقف مع التعليم والثقافة بكونه أقام في تونس مدرسة خاصة بأبناء الولاية الثالثة بالذات، ويستند هؤلاء إلى ما قاله عميروش لضابط فرنسي اعتقله الثوار (إذا فقدنا الحياة فليس لذلك من أهمية على الإطلاق لأن قوتنا الحقيقية تكمن في شبابنا المثقف وفي النخبة الشابة التي تتعلم حاليا في خارج البلاد) (1). وقد نسب البعض إلى عميروش أنه عمل على تطوير التعليم في الولاية الثالثة بكل الوسائل بعد تطوع الطلبة سنة 1956 لأنه كان يعرف أهمية التعليم للمستقبل, ويقال إنه بعث برسالة إلى الطلبة أوائل سنة 1958 حثهم فيها على اكتساب العلم (2). وبصفته العسكرية ذات الرتبة العالية بعث عميروش كلمة إلى الطلبة من موقعه في مجلس الولاية الثالثة في 8 مارس، 1958 حثهم فيها على خدمة الوطن من موقعهم في الجامعات والمدارس الثانوية، كما حثهم على عدم نسيان إخوانهم الذين استشهدوا من أجل القضية الوطنية أو الذين يكافحون في الجبال من أجلها، وأثار نخوتهم بقوله إنهم هم الذين سيكملون (الثورة السياسية التي تحرر الشعب س الاستعمار)، وربما جاءت هذه الرسالة بمناسبة استئناف الطلبة لدروسهم والتحلل من الإضراب (3). وليس هذا الموقف خاصا بالقادة الميدانيين بل إن فرحات عباس، وهو من القادة السياسيين المثقفين قد أعلن للطلبة أثناء انعقاد مؤتمرهم الرابع في تونس سنة 1960 أن الثورة استطاعت أن تكون منهم في ظرف قصير ما لم يكونه

_ (1) نقل ذلك عمار هلال، نشاط الطلبة ... 1986، ص 93. (2) المجاهد بالفرنسية، ج 1، مايو 1958، 456، نقلا عن هلال، نفس المرجع. (3) انظر مقالة (من أجل جزائر حرة وديموقراطية)، المجاهد 7 مايو 1958، العدد 23.

الاستعمار في ظرف قرن من الزمن، وأذكر أن فرحات عباس نفسه قد حثنا على طلب العلم ونحن طلاب في القاهرة قائلا إن الجزائر المستقلة ستكون في حاجة إليكم لتعليم اللغة العربية (1). ومع ذلك فهناك من عمم وتحدث عن أن قادة الثورة كانوا لا يرتاحون للمثقفين وبالأخص الطلبة، ولا يحبذون التعامل معهم، وكانوا يخشون منهم على أنفسهم وعلى الثورة، فقد كان الإعلام الفرنسي يتحدث عن هذه الظاهرة ربما لتوسيع الهوة بين الطلبة وقادة الثورة سيما بعد ما شن الطلبة الإضراب وقاطعوا الدراسة، وهناك رواية تتحدث عن أن عجول من الولاية الأولى حكم على شابين في الثورة بالإعدام لأنه سمع أن لهما علاقة صداقة مع تلميذتين زميلتين لهما في الدراسة، ولكن الجندي الذي كلف بالشابين أطلق سراحهما بعد أن عرف منهما القصة وتأكد من الخطاب الذي كان يحمله بشأنهما إلى عباس لغرور، فما كان من عباس لغرور إلا أن مزق الرسالة وعفا عن الشابين (2). وعندما كنا في القاهرة كانت هذه المفاهيم والأخبار منتشرة بين الطلبة، ولا سيما بعد أن تأكدت باختفاء بعض الطلبة المتطوعين إثر وصولهم إلى تونس، فقد شاعت هذه المفاهيم حتى أصبح من يستدعى إلى تونس يتوقع أنه لن يعود منها، أو لن يبقى على قيد الحياة، وقد تكون التصفيات الجدية التي وقعت نتيجة لتصرفات أخرى، ولكن الوقائع أثبتت أن بعض الطلبة المتطوعين والمتحمسين للثورة قد اختفوا منذ وصولهم إلى تونس أو منذ عبورهم الحدود إلى الجزائر، وأذكر أن من بين هؤلاء محمد زعروري وعبد

_ (1) انظر كتابنا مسار قلم - يوميات - جزءان في مجلد واحد، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 2005. (2) مذكرات الرائد عثمان سعدي بن الحاج، دار الأمة، الجزائر، 2000، ص 81 - 82، انظر أيضا كتاب جي بيرفييه، الطلبة الجزائريون في الجامعات الفرنسية: 1880 - 1962، باريس، 1984.

الكريم عباس، إضافة إلى علي شكيري ورفاقه الذين قضى عليهم (النظام) بدعوى عصيان أوامر لجنة التنسيق والتنفيذ. يروي أحمد توفيق المدني وزير الثقافة في الحكومة المؤقتة أنه دخل مرة في مشادة كلامية مع عبد الحفيظ بوصوف وزير المواصلات حول الطلبة في جلسة للحكومة المؤقتة عام 1959، فمن رأي بوصوف أن المدني يحمي الطلبة الفارين من المعركة ويوفر لهم المنح الدراسية، وقد نعتهم بالمتوارين أو المتسترين، ويبدو أن بوصوف قد وجد دعما من زميليه ابن طوبال وزير الداخلية وكريم بلقاسم نائب الرئيس، أما بقية الوزراء فلم نعرف انطباعهم حول هذا الموضوع. كان رد المدني أن الطلبة في المشرق كانوا موجودين قبل الثورة، وأنهم كانوا من أنصار الثورة بعد قيامها فتطوعوا لها وأصبحوا من دعاتها، ولكن القيادة طلبت منهم مواصلة الدراسة لأنهم كالجنود في ميدان الجهاد ولأنهم - حسب قوله - أعمدة المستقبل، ذلك أن لجنة التنسيق والتنفيذ (قيادة الثورة قبل الحكومة المؤقتة) أصدرت تعليمة في سبتمبر 1957 تأمر بتهيئة الظروف لمواصلة الطلبة دراستهم في الجامعات العربية والغربية، أي الطلبة الذين لم يجندوا وأصبحوا بعد الإضراب بدون أمكنة للدراسة. وكان بوصوف نفسه عضوا في الحكومة التي أقرت ميزانية الطلبة والمنح المخصصة لهم وأعدت لهم برنامج الالتحاق بالجامعات، كما رد المدني بأن عميروش نفسه قد أنشأ في تونس مدرسة خاصة بطلبة الولاية الثالثة ذات نظام داخلي وأنفق عليها مالا جزيلا وأرسل إليها مائتي (200) طالب، وأضاف المدني أن العقيد أوعمران قد طلب تطوع خمسة عشر طالبا من طلبة القاهرة لفرقة فزان فتطوع منهم أكثر من العدد المطلوب حتى اضطر إلى إجراء القرعة بينهم (1).

_ (1) المدني حياة كفاح 3/ 443.

تراشق المثقفين

وعن تعدد مشارب الطلبة في تونس قبل تكوين الحكومة المؤقتة يقول أحمد توفيق المدني، إنهم كانوا بأعداد كبيرة ولكنهم كانوا موزعين من حيث الولاء قبل تأسيس الحكومة، وكانت لهم مدارس مختلفة، فمنهم من كان مواليا لجمعية العلماء ومنهم من كان يتبع عميروش رأسا، ومنهم من كان مستقلا، وبعد تأسيس الحكومة ووجود وزارة للثقافة سلم عميروش مدرسته إلى وزارة الثقافة، وبذلك (زالت الازدواجية)، حسب تعبير المدني، وكان أعوان الوزير في تونس هم محمد العساكر وعبد الرحمن شريط وعلال الثعالبي وأحمد بوضربة، وكان العساكر هو ممثله في تونس، كما كان محمد الفرجاني هو ممثله في المغرب، وبوزيان التلمساني ممثله في القاهرة (1). تراشق المثقفين نقصد بهذا العنوان ما كان يدور بين المثقفين من تنابز إيجابي أو سلبي حول أصالة الفكر وعلاقته بالقومية والهوية والوطنية والإسلام والعرق أحيانا، وفي هذا النطاق يدخل نقد مالك بن نبي لبعض معاصريه أمثال فرانز فانون ورمضان عبان، ورأي بعض هؤلاء في الثقافة والمثقفين أيام الثورة. ابن نبي عن رمضان عبان والواقع أن الثورة نفسها لم تخل من أعمال العنف والتصفيات، ومن الصعب البحث عن مبررات لهذه التصفيات، ومن الممكن عزوها إلى التنافس الشخصي والاتهامات المشبوهة والمرتجلة، ولكن يصعب لمس الحقيقة في مثل هذه الأحداث، وإذا كان العاملون في الميدان لهم مبرراتهم وحججهم في التخلص من بعضهم البعض باسم الغيرة على مصير الثورة تارة وباسم مطاردة شبح الخيانة تارة أخرى فإن حكم مفكر في مقام مالك بن نبي على سياسي ديناميكي في حجم رمضان عبان, يجعل المرء يتساءل بطريقة أكثر إلحاحا

_ (1) المدني، حياة كفاح 3/ 407، 418 - 419.

للوصول إلى الحقيقة، ولا شك أن عددا من علامات الاستفهام ستختفي مع أصحابها قبل أن تجد لها جوابا، ومما يزيد الأمر استغرابا بهذا الصدد أنه لا توجد أفكار مشتركة بين ابن نبي وعبان، كما لا نتصور أن بينهما تنافسا على زعامة ما. يتهم ابن نبي عبان اتهاما لا غبار عليه بأنه كان يخطط لتحويل الثورة عن مسارها، وأنه رجل (مندس) في الثورة وليس منها، وأن دخوله (أو إدخاله) إلى الثورة كان عملا خارجيا، فهو خطأ - كما يقول - (مولد)، وليس خطأ نابعا من تحول ذاتي للثورة، أو اجتهادا شخصيا لتصحيح مسارها، وأن عبان كان لعبة في يد (الحاوي) الذي يرمز به ابن نبي إلى الاستعمار الذي يقدم ألعابه الخادعة إلى الناس في صورة تغيب عنهم معها الحقيقة، وفي نظر ابن نبي أن مصالي قد قام بدوره ربما عن حسن نية رغم أن مخططه كان يخدم الاستعمار لأنه كان متطابقا مع ما يريده (الاستعمار)، وأن مصالي قد كون في (مدرسته حفنة من الزعماء الصغار) فقتلوه وخانوا الثورة، ثم انتهى الأمر بأن تنكر هو نفسه للثورة تكبرا وغطرسة. أما عبان فإن ابن نبي متأكد من أنه رجل (متواطى ... فتصرفاته المريبة لا تترك ظلا من الشك على هذه الحقيقة،) فقد كان حتى آخر لحظة من حياته يرتضى لنفسه لعبة الحاوي (الاستعمار) ليجهز على الثورة ولكي يغتصب سلطتها ويحاول استعمالها ضد الثورة نفسها (1). وإذا كان عبان من القادة البارزين وفي مسؤولية خطرة تجعله محط أنظار زملائه في الثورة وهدفا للهجمات الخارجية التي تريد أن توجه الثورة وجهة

_ (1) ابن نبي، مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي، دار الفكر (الجزائر) ودار الفكر (دمشق)، ط 1، 1992، بسام بركة وأحمد شعبو، ص 122، 124، أيضا جريدة الرأي، ديسمبر 2002، انظر أيضا رأي أحمد (علي) محساس في عبان، ولعل من أخطاء عبان أنه كان لا يخفي زعامته الفردية في حين قامت الثورة نفسها على نفي هذا المفهوم.

ابن نبي عن فانون

معينة، فإن تيار (معاداة المثقفين) قد امتد أيام الثورة حتى شمل عددا من العاملين في صفوفها بل حتى إلى الطلبة الذين ظهرت منهم كوكبة أخذت تعمل في داخل الثورة نفسها وفي أجهزتها الخارجية في الإعلام والدبلوماسية والسياسة ضمن الوفد الخارجي لجبهة التحرير أو ضمن المنظمات المساندة للثورة والجبهة مثل اتحاد الطلبة، وكان المسؤولون في الثورة يحتاجون فئة المثقفين وفي نفس الوقت يخشون منها - كما سبق - حاضرا ومستقبلا، ولكن ذلك كان يجري تحت الرماد وقلما طفا على السطح إلا في حالات نادرة. وفي كتابات فرحات عباس، وهو من أبرز المثقفين زمن الثورة وكان رئيسا لحكومتها المؤقتة، وصف دقيق للصراع الذي كان يدور في لقاءات واجتماعات هيئات الثورة مما لا يدع مجالا للشك في أن الجماعة كانوا، بصفة عامة، في مستوى فكري وثقافي هابط، ولم تكن لدى فرحات عباس أية عقدة من المثقفين ولذلك أعلن بافتخار للطلبة في إحدى المناسبات التي جمعته بهم أن الثورة استطاعت في سنوات قصيرة أن تكون منهم إطارات للجزائر المستقلة أكثر مما كون منهم الاحتلال خلال 130 سنة، وفي كتبه التي ألفها بعد الاستقلال وصف فرحات عباس مجالس وأحاديث زملائه قادة الثورة وصفا لا ينسجم، من الناحية الفكرية والثقافية، مع مسؤولياتهم التاريخية. ابن نبي عن فانون ولنبدأ بحديث مالك بن نبي عن فرانز فانون، فقد تعاصر الرجلان، وتشابها في التفكير الثوري والانتماء إلى الجزائر الرافعة علم الحرية ولكنهما اختلفا اختلافا بينا في طبيعة الولاء وعمقه والهدف منه، حتى أصبح من الصعب الجمع بينهما على صعيد واحد لأنهما ينتميان روحيا ووطنيا وعمليا إلى مدرستين مختلفتين: مدرسة تنبع فلسفتها من داخل الجزائر ومدرسة تستمد حيويتها من خارج الجزائر، وليس في ذلك غضاضة في التركيب الشخصي والمزاج ولكن في الطبيعة نفسها، فالطبيعة هي التي أنشأت فرانز فانون في

المارتنيك وأنشأت مالك بن نبي في الجزائر، والطبيعة نفسها هي التي رسخت روح المسيحية أو الإلحاد في فانون وروح الإسلام والوحدانية في ابن نبي، وربما لا دخل لأي منهما في ذلك، فكل منهما يمكنه أن يقول مع المعري: (هذا ما جناه أبي علي)، هذا التحليل قام به مالك بن نبي نفسه بكل صراحة رغم أنه معني به أيضا. فقد قارن بين فانون وبين غيره في العلاقة بالجزائر وثورتها وتقاليدها ودينها، وليس هذا (الغير) سوى مالك بن نبي نفسه، كما نظن، يقول ابن نبي: أشير هنا إلى قضية فرانز فانون، مع كل التأثر والتقدير اللذين يستشعرهما كل جزائري عند ذكر فانون، إن عمله سيظل ذا قيمة لا تقدر، ولكنه في نفس الوقت لا يمكنه أن يقود نشيد النضال والعمل للشعب الجزائري لأنه لا يغوص إلى الجذور العميقة في ذاتية هذا الشعب، ولا هو يعانق كلية موضوعيته الاجتماعية والتاريخية، وهذا نقد في غاية الصرامة والوضوح بل وغاية الموضوعية، فمن هو القادر على عزف النشيد الحقيقي للشعب الجزائري، ومن هو القادر على ربط النشيد بالنضال التحرري، والغوص إلى الجذور العميقة في تاريخ الجزائر؟ لقد عرف ابن نبي أولا النشيد بأنه هو الذي يقوم بحشد المكثف للشحنة الكهربائية وهو (أي النشيد) بذلك لا يمكنه أن يتشكل على مسجل أجنبي لأن عملية تركيب النشيد تتم داخل روح الشعب أولا، إذن لقد حاول فانون عزف النشيد ولكنه سجله على سجل أجنبي فلم يبلغ مداه رغم أنه قام بحشد المكثف الكهربائي له، ولكن من خارج التركيبة التي لا تتم إلا داخل روح الشعب الجزائري. وقد ضرب ابن نبي مثلا حيا على ذلك بقصة غاندي ورفاقه الانجليز. فهؤلاء الرفاق الذين ساعدوه على المطالبة بحقوق الهنود المشروعة، هم الذين - في نظر ابن نبي - عزفوا (النشيد العظيم) الذي قاد الأمة الهندية إلى التحرير، ولكن ذلك لا يكفي، فقد بقي الموقف في حاجة إلى من يتقمص روح الهند الأصلية، ومن ثمة كان دور غاندي الحقيقي، فهو الذي جمع جوهر

النشيد وألفه من ذات روحه المفعمة بحمية الهند، وهذا هو دور الزعيم الخارج من رحم الشعب، وقياسا على ذلك فإنه لم يكن أمريكيا ذلك الذي ألف نشيد المارسيلية (المارسييز) أو نشيد تجمع العمال (الدولية) ولا كان شيخصا قادما من بلاد أخرى، كما هو الحال مع فرانز فانون (1). ومع ذلك يعترف ابن نبي بالفضل لفانون لأنه في نظره كان العازف الموسيقي العظيم لأحسن النبرات الثورية المؤلفة من الروح الإفريقية، فهو رافع لواء الحمية الوطنية، وهو مقدم أشجى الألحان الثورية، وهذا اعترافه واضح من ابن نبي لفانون، ولكنه، أي فانون، كان يفتقد، كما يثبت سجله الشخصي (ويقصد به ابن نبي أصوله العرقية ولونه وجغرافيته البشرية) كان يفتقر إلى اللمسة التي تهز الروح الجزائرية التي لها هي أيضا ذاتيتها وخصوصيتها، تلك هي اللمسة التي تربطها - في نظر ابن نبي - بالرعشة المقدسة القادرة على دفع الشعب الجزائري إلى النضال الذي يحرر الشعب من قيوده. ويصل ابن نبي في نهاية المطاف إلى هدفه وهو تجريد فانون من حق التنظير للثورة الجزائرية، سواء أرادها هو أو أرادها له بعض رفاقه المعجبين به، وقد رأى ابن نبي أنه من الظلم أن نعزو ذلك إلى فانون أو نكلفه ما لا يطيق أو ما لا تسمح به قوانين الطبيعة، فليس فانون بصاحب هذه النظرية الثورية التي أرادها له البعض، ذلك أنه لكي يتكلم الإنسان لغة شعب معين (كالشعب الجزائري) يجب أن يقاسمه معتقداته، فكيف يصح ذلك مع فانون وهو إنسان ملحد (حسب تعبير ابن نبي)؟ أما دوره في بناء (مفهومية إفريقية) فيجب عدم التقليل من شأنه فيه، لأن ذلك سيكون من الظلم له، ولأنه من هذه الناحية يمثل كلا متكاملا لأن فانون يحمل في روحه كل روح إفريقيا، وكل تاريخها، وكل مأساتها (2). لقد جعلنا طالع الفصل هذا الرأي الحاسم لابن نبي عن فانون، لأن

_ (1) مالك بن نبي، آفاق جزائرية، ص 142. (2) ابن نبي: آفاق جزائرية، ص 142 - 144.

مصطفى الأشرف

موضوع هذا الفصل يقوم على هذا الأساس، فالعلاقة التي سنتكلم عليها فيه هي علاقة بين المثقفين الجزائريين والمثقفين الفرنسيين، بين المثقفين الأصليين المفعمين بمعتقدات الشعب ولغته وروحه وبين المثقفين العلمانيين الذين تخلوا عن المعتقدات وتجردوا من الروح واللغة فأصبحوا كغيرهم ممن لا وطن لعقيدتهم ولا روح لأفكارهم ولا لغة لتعبيراتهم. إن الجزائري ولو تجرد من الهموم كلها فإنه لا يستطيع أن يتجرد من هم أهله وأسرته وعقيدته، لذلك لا نستغرب أن يقول النقاد إن كتاب الجزائر بالفرنسية، رغم اتفاق اللغة مع الآخر فإنهم لم يستطيعوا أن يتجردوا من تقاليدهم ومعتقداتهم التي ربما يثورون عليها ولكنهم لا يستطيعون التخلص منها، ولذلك كانوا في حالة توتر دائم. مصطفى الأشرف وقبل أن نتناول حياة وأعمال بعض هؤلاء المثقفين وأنصارهم من الفرنسيين، نذكر بعض الخطوط العامة عن كتاب وشعراء ظهروا أيام الثورة وتبنوا قضية الشعب بكل وضوح، من هؤلاء مصطفى الأشرف الذي كتب عدة بحوث استمدها من الوثائق الوطنية التاريخية وجعلها مرتكزا لنظرية اجتماعية تساعد الشعب على التحرر وتخرج المستعمر الذي اعتقد أنه دفن الهوية الجزائرية واستراح، كان الأشرف قد بدأ يشارك ببحوثه الاجتماعية قبل الثورة، فنشر في مجلة (المباحث) التونسية مقالتين على الأقل سنة 1945، ومع اندلاع الثورة كتب عدة بحوث دسمة وموثقة في مجلة (الأزمنة الحديثة les temps (modernes التي كان يشرف عليها الفيلسوف جان بول سارتر، كما كتب مسرحية بعنوان (الباب الأخير)، وهي المسرحية التي نشرت ترجمتها بالعربية مجلة الفكر التونسية سنة 1955 ولا ندري هل ظهرت أيضا بالفرنسية في إحدى الدوريات (1).

_ (1) عن هذه المسرحية انظر فصل المسرح، وكذلك كتابنا دراسات في الآدب الجزائري =

كذلك نشر الأشرف بحثين هامين في نفس المجلة (الأزمنة الحديثة)، الأول عن الوطنية والأرض في الجزائر، أكتوبر 1955، والثاني عن البطولة في الثورة الجزائرية، نوفمبر 1959، ويبدو أن مجلة (الفكر) قد نشرتهما بترجمة قام بها عبد الله شريط (1)، وله بحث آخر أشارت إليه المجاهد ونشره أيضا في (الأزمنة الحديثة)، سبتمبر 1956، نقل فيه عن كتاب (المرآة) لحمدان خوجة رأيه ضد الاحتلال وموقف المثقفين منه، وكشف فيه الأشرف عن رأي حمدان خوجة عن النفاق والازدواجية في المواقف الفرنسية: فكيف يحتل الفرنسيون الجزائر بينما يساندون استقلال اليونان وبلجيكا وبولندا، ويدعمون في هذه البلدان كيانات قومية مستقلة، أما الجزائر فالفرنسيون قاموا بإلغاء قوميتها واحتلوا أراضيها، وقد نقل الأشرف عن خوجة أيضا أن الجزائريين لا يمكن التغلب عليهم إلا بإحدى وسيلتين: إبادتهم (أو إجلاؤهم)، أو جلاء القوات الفرنسية عن بلادهم، ورأى خوجة، وهو أيضا رأي الأشرف بعد قرن وربع، أنه لا حل للقضية إلا بجلاء قوات الاحتلال إذا كانت فرنسا تريد إدخال الحضارة إلى الجزائر، وفي ذلك نفي لادعاء الفرنسيين أنهم في الجزائر لنشر رسالة حضارية (2).

_ = الحديث، ط 4، 2005، وكان تعريفنا بالمسرحية قد نشر أولا في مجلة الآداب البيروتية، ومجلة العالم العربي القاهرية، وعن أوليات الأشرف في تونس انظر الجابري، النشاط العلمي ... مرجع سابق. (1) بعد الاتصال الهاتفي الشخصي بعبد الله شريط يوم 28 يناير 2006 أكد لنا أنه ترجم أعمالا لمصطفى الأشرف من مجلة (الأزمنة الحديثة) ولكنه لا يتذكر ما هي الأعمال التي ترجمها له. (2) المجاهد، 45، 29 يونيو، 1959، عن رأي الأشرف في نشاط حمدان خوجة وأحمد بوضربة انظر مصطفى الأشرف، الجزائر: الأمة والمجتمع، ترجمة حنفي بن عيسى، الجزائر، 1983، ص 201 وما بعدها، عن محتوى كتاب الأشرف انظر فصل كتب وكتابات.

هجرس وابن زين

هجرس وابن زين كان المثقفون باللغة العربية يعيشون وضعا خاصا زمن الاستعمار، فهم يعرفون أن ثقافتهم لها أصول ولها فروع، أما الأصول فهي الثقافة العربية القائمة على اللغة العربية والوعاء الحضاري الإسلامي، ولذلك فإن بقايا المثقفين بالعربية كانوا يعتقدون أنهم هم أصحاب البلاد، فهم الذين حافظوا على التركة الماضية من الاندماج والذوبان في ثقافة الغير، كانوا يعتقدون رغم شعورهم بالموقف الدفاعي - أنهم هم الحصن الذي يحمي الهوية والتراث وأن ثقافة المحتل لا يمكنها أن تمحو ثقافة البلاد المستعمرة مادام هناك تواصل للأجيال داخل الثقافة الأصيلة، ولذلك حرصوا على استمرار تعليم القرآن بدون فهم وحفظ التراث بدون تطوير والتشبث بالماضي اعتمادا على معطيات المستقبل، فالهزيمة وقعت ولكن الانقراض لن يحدث. أما المثقفون بالفرنسية فقد تقبلوا الواقع واحتملوا التاريخ ورأوا أن الاستعمار له مزايا كما له مساوى، فقد حطم القيم الروحية والكيان السياسي والاقتصادي للجزائر، هذا صحيح، ولكنه فتح أعين البعض على حقيقة التقدم والتخلف، وأنشأ جيلا من العقلانيين والمتعلمين بلغته المنفتحين على الحضارة الأوروبية، مما فتح المجال أمام الاتصال بالآخر، ومعرفة مدى تقدمه والعمل على مشاركته ومعايشته، صحيح أن هناك صراعا بين الأجيال، بين المتعلم بالفرنسية والمتعلم بالعربية، وقد تطور هذا النزاع أثناء حرب التحرير، فقد كانت الضرورة والمعركة الحاسمة ضد الاستعمار قد حتمت لقاء الأجيال على خط واحد وبذلك تحقق تركيب مدهش على الأرض، وقد استسلم الكبار للأمر وفهموا أن الشباب في العهد الجديد لهم الحق في الذهاب إلى الأمام، وهو يكن احتراما كبيرا للقيم القديمة، والحقيقة أن المرء لا يتوقع أكثر من ذلك بين ثقافة فرنسية وثقافة تقليدية، إن الثقافة التقليدية يرجع إليها الفضل في تحصين الجزائر ضد الجهود الاستعمارية لطمس الهوية عند نشر الثقافة الفرنسية بدلها، كما أن عقلانية الثقافة الفرنسية أدت إلى هدم ما كان في ثقافتنا التقليدية من مضادة للعلوم (؟).

هكذا ذهب الصادق هجرس وهو يحلل تطور الوضع الثقافي داخل التجربة الاستعمارية وبالخصوص منذ حرب التحرير، ولكن الأمر لم يبق كما كان سابقا، ذلك أن التطور شمل مسألة اللغة أيضا، وبناء على رأي هذا المناضل الشيوعي فإن هناك مشكلا لغويا من نوع آخر في الجزائر، وهو تعدد استعمال المجال اللغوي، فهناك أطفال لا يتكلمون سوى القبائلية في عائلاتهم، يعبرون بالعربية عندما يخرجون للشارع، ويتعلمون الفرنسية في المدارس، وبعضهم نشر الجرائد بالعربية الفصحى لسان حال منظمات وطنية، والوثائق الرسمية للحكومة المؤقتة كانت بهذه اللغة، ثم إن العربية الدارجة هي في الغالب المستعملة في المسرح والإذاعة رغم أن الفرنسية هي اللغة العلمية التي تربط الجزائريين بالثقافة العالمية. هذا هو الوضع اللغوي في الجزائر كما صوره الصادق هجرس في الخمسينات، وكان عليه أن يضيف أن اللهجات العربية الدارجة ليست واحدة، كما أن اللهجات البربرية ليست واحدة، وأن الفصحى العصرية هي الوسيلة الوحيدة للحديث الراقي والأدب الرسمي المدون الذي ستفيد منه الأجيال، وهي لغة الكتب والجرائد والخطب والوثائق الرسمية، وأن الفرنسية ليست سوى وسيلة للاتصال بالخارخ على مستوى معين ولكنها ليست اللغة العالمية الوحيدة، كما أن وسائل الاتصال الحديثة جعلت العربية لا تقل أهمية كأداة اتصال عن الفرنسية. إن التناقض اللغوي الذي كان عليه الوضع في الجزائر أثناء الثورة قد خلقه الاستعمار وتعكسه اجتماعات جيش التحرير على مستوى القيادات العليا، فهذه الاجتماعات كانت تجري بالفرنسية بينما الرتب العسكرية وبعض المصطلحات التقنية كانت بالعربية الفصحى وكذلك كانت الاجتماعات على مستوى القيادات الولائية وما دونها بالعربية الفصحى أو الدارجة، وربما كانت تجري ببعض اللهجات المحلية أيضا، أما المداولات والتعاليق السياسية والمناقشات مع القاعدة فقد كانت تجري بالعربية الدارجة، أو بالقبائلية أو غيرهما، وأحيانا

بالفرنسية أيضا (1). وشبيه بهذا التحليل للوضع اللغوي والثقافي جاء على لسان عبد الحميد بن زين، وهو مثل زميله هجرس في النضال الشيوعي وقت الثورة، فهو الذي كتب المدخل لكتاب هجرس، وفيه مقالتان الأولى نشرها سنة 1960 في عدد يناير من مجلة إيديولوجية تسمى النقد الجديد la nouvelle critique، ويصدرها الحزب الشيوعي الفرنسي، فهذه المجلة أصدرت عددا خاصا بالثقافة الجزائرية تضمن مقالات هامة حول الأدب والتاريخ والشعر والموسيقى والمسرح في الجزائر، وقد نقح الكتاب بمناسبة الذكرى الـ 25 للثورة ونشر المقالة القديمة مع مقالة أخرى كتبها سنة 1980. قال ابن زين إن الشيوعيين انتقدوا (ديجول) في مقدمة العدد الخاص من المجلة على نفيه وحدة وسيادة الشعب الجزائري، وإن زميله هجرس قد رجع بأفكاره إلى سنة 1880، وشبه ابن زين المدارس القرآنية والإسلام واللغة العربية واللغة البربرية (بحراس الظل) والحصون الواقية للثقافة الوطنية، فقد حافظت على الشخصية الجزائرية ضد المحتل، بل إن اللغة الفرنسية (العدوة) أصبحت ذراعا ضد الإمبريالية الفرنسية، وفي نظره أن تلك العناصر الثقافية (حراس الظل) أصبحت عناصر بائدة أو عتيقة ومع ذلك فإن لها دورا إيجابيا عبر تاريخ الاستعمار. كان لهجرس ثلاثون سنة فقط عندما كتب مقالته السابقة، ففي سنة 1955 غادر مختبر البحث الجامعي وتخلى عن الطب الذي مارسه في الحراش حيث يكثر العمال ودخل عالم السرية حيث بقى ست سنوات ونصف داخل الوطن، وقد اشترك عندئذ مع البشير حاج علي وغيره من الشيوعيين الراسخي العقيدة في إدارة المعركة السياسية والعسكرية والمنخرطين في الحرب إلى جانب جبهة

_ (1) الصادق هجرس، الثقافة والاستقلال والثورة في الجزائر، باريس/ الجزائر، 1980، ص 54 - 55.

حالة فرانز فانون

التحرير، وقد تقابل مع بشير حاج علي عدة مرات سنة 1956 وقابلا معا رمضان عبان وابن خدة للحديث عن وضع الشيوعيين في الثورة وسبيل دمجهم في جيش التحرير، وقبل ذلك كان هجرس رئيسا (لجمعية الطلبة المسلمين الشمال إفريقيين) وهي تنظيم سبق اتحاد الطلبة المسلمين الجزائريين (لوجيما)، كما كان هجرس عضوا في الكشافة الإسلامية (1). ولا نرى حاجة الآن إلى الحديث عن عودة الأدباء والشعراء والفنانين إلى حضن المجتمع وإثراء الثقافة بإنتاجهم، ذلك أن الطلبة مثلا سرعان ما سرت فيهم روح الثورة وعبروا بأدبهم عن انشغالاتهم الوطنية مثل بوعلام طايبي (الصديق) الذي كان يدرس الأدب في جامعة الجزائر قبل التحاقه بالثورة ويصبح مسؤولا على الإعلام في الولاية الثالثة، ففد نظم قصيدة في الحرية التي كان جيش التحرير يكافح لاسترجاعها، لقد اختلط الطلبة المثقفون مع الريفيين، أي مع الأجواد رموز الفروسية والنخوة والأصالة، بعد أن درسوا في فرنسا وانقطعوا عن الجذور وعن استعمال اللغة العربية فترة من الزمن، ومن جهته جاء الطالب إلى عالم الريف بالأفكار التقدمية وحاول المواءمة بينها وبين العادات والتقاليد الشعبية، إن كره المثقفين للاستعمار هو الذي جعلهم يختارون النصر أو الاستشهاد، لقد اكتشفوا مجتمعهم الحقيقي في الثورة (2). حالة فرانز فانون سبق القول عن فانون في رأي مالك بن نبي، والآن نتناول فانون نفسه في رأي المعجبين به وخصوصا جريدة المجاهد، فقد كتبت عن حياته وعن تركته

_ (1) هجرس: الثقافة والاستقلال ... 1980، ص 12، انظر أيضا فصل التنظيمات الطلابية من كتابنا هذا، ومما يذكر أن الرجلين بشير حاج علي والصادق هجرس قد وضعا أثناء الفترة الانتقالية - ربيع 1962 - برنامج حزبهما في الجزائر المستقلة، وهو برنامج ثري بالأفكار، وقد ترجم من الفرنسية إلى الإنجليزية، ولا ندري إن كان قد ترجم إلى العربية أيضا. (2) هلال، نشاط، ص 121 - 130.

الفكرية حول الجزائر التي اتخذها نموذجا للتحرر، كان الرجل قد فرض نفسه على الأحداث زمن الثورة، فهو قد ثار على الاستعمار واكتشف ذاته في الثورة الجزائرية، كما اكتشف أصوله وجذور الهوية الإفريقية التي كادت أن تضيع، ومنها الهوية الجزائرية، كما فرض فانون نفسه يوم اندمج في الثورة فعالج مرضاها، ودرس شعبها وراقب تطور حركتها الوطنية، كان فانون جزءا من النظام الثوري فجرد قلمه للتعريف بالثورة وبرجالها وبقاعدتها الشعبية، وتبنى الجزائر وطنا وأصبحت الجذور الإفريقية ممثلة عنده في الهوية الجزائرية وأصبحت هزيمة الاستعمار في الجزائر تعني عنده هزيمة الاستعمار في إفريقيا وعودة الأمل إلى ملايين الزنوج الذين شتتهم السفن الأوروبية في شتى أنحاء العالم وجعلت منهم عبيدا وعمالا في بيئات مختلفة عن بيئاتهم الأصلية. حين توفي فانون كتبت عنه (المجاهد) مقالا لخصت فيه حياته وفكره وقدمته لقرائها على أنه ابن الجزائر بالتبني وأنه خدمها كما خدمها أحد أبنائها البررة، فقد توفي دون الأربعين سنة من عمره بسبب مرض استعصى علاجه على الأطباء، ورسمت صورته ولكنها لم تذكر تاريخ الوفاة ولا مكانها، ووعدت بالرجوع إليه وإلى تفكيره الثوري، كما وعدت بنشر ترجمة لبعض الفصول من كتابه (معذبو الأرض)، وقد وفت بذلك. ولد فانون في المارتنيك الخاضعة للاستعمار الفرنسي، وعاش في مدينة ليون الفرنسية، وهو من أب فرنسي وأم مارتنيكية، وتعلم في فرنسا وتخصص في علم النفس وتخرج طبيبا نفسانيا، وقد لاحظ الفرق بين فرنسي وفرنسي نتيجة لونه وأصله، وآمن بالعنف كوسيلة للتخلص من الاستعمار، رغم أن مظهره الهادى لا يدل على اعتناقه مبدأ العنف، وهو - شخص - كما قيل - حساس مرهف المشاعر، وكان يعتقد أن الثورة الجزائرية ليست ثورة محلية وإنما هي ثورة لتحرير الإنسان أينما كان من الاستعمار، كما آمن بالاشتراكية كوسيلة للعدالة الاجتماعية، وبالوحدة الإفريقية، كان فانون هادى المزاج أنيق اللباس يتمتع بوظيفة رفيعة قارة، وكان يمكنه أن يعيش عيشة راضية لو أراد، ولكنه

اختار حياة النضال من أجل الإنسان وتحرير الأرض، ورفض الزيف والعنصرية، على حد تعبير جريدة جبهة التحرير. خدم فانون الثورة الجزائرية بقلمه وبلسانه وبعلمه الواسع، وكان يقيم ويعالج في مدينة البليدة حيث كان مديرا لمستشفى الأمراض العقلية، كما عمل مع مناضلي جبهة التحرير في مداواة الجرحى وحملة السلاح، آوى قادة الجبهة عند تنقلهم، وعمل محررا في جريدة (المقاومة الجزائرية) التي سبقت المجاهد، كما رأس بعثة الحكومة المؤقتة في أكرا عاصمة غانا، ومن أعظم الأعمال التي قدمها فانون للثورة الجزائرية هو التعريف بها في الأوساط الفكرية العالمية، فقد وهبه الله قلما ميالا وفكرا متحررا فقدم خدمة جليلة للثورة في ميدان الإعلام والفكر، وقد أصبح كتابه (السنة الخامسة للثورة الجزائرية) مرجعا لحركات التحرير في العالم، وأما كتابه الثاني (معذبو الأرض) فهو وإن لم يصل إلى درجة الأول في الأهمية إلا أنه كان الكتاب الذي حمل أيديولوجية فانون التي أصبحت ملتصقة باسمه كمثور للشعوب المستعمرة ومزلزل للأرض تحت أقدام المستعمرين (1). اهتمت بكتاب (السنة الخامسة للثورة الجزائرية) دوائر المثقفين وترجم إلى عدة لغات، وكان المرجع للمثقفين اليساريين في العالم ولقادة حركات التحرير الذين انبهروا بأفكار فانون فيه، ومن الجدير بالذكر هنا أننا عندما كنا طلابا في أمريكا خلال الستينات كنا نقرأ في المجلات ونسمع في الندوات الفكرية والطلابية الإشادة بكتاب فانون والاستشهاد بنصوص منه حول ثورة الجزائر التي كانت النموذج لثورات العالم الثالث، وقد تبنته النخبة الإفريقية بالخصوص سواء كانت تعيش في إفريقيا أو كانت متحدرة من أصول إفريقية، وقد عرف الناس عن الثورة الجزائرية من خلال كتابات فانون عنها أكثر ربما من

_ (1) المجاهد، 110، 11 ديسمبر 1961، أثناء حياة فانون ظهر كتابه الأول ط، ماسبيرو، باريس، 1959، وسنعود إلى كتابيه في الفصل الخاص بالكتب والكتابات.

جولات وإعلام وفود جبهة التحرير في العالم، لأن الكتاب استطاع أن يغزو المكتبات وموائد المناقشات في الجامعات وغيرها من المراكز البحثية والنخب السياسية ولا سيما حركات الود وحركات التحرير. ومن جهتها قامت المجاهد بالتعريف بالكتاب وتحليل محتواه وامتدحت صاحبه، ففي مقال لها تناولت العلاقة التي طرأت على المجتمع الجزائري كما حللها فانون في كتابه، ومنها علاقة الابن الأكبر بالأب، ونقرأ من عناوين المقال الفرعية: التناقضات داخل الأسرة والأمة، وأول نوفمبر 1954، والابن والأب، والعلاقة بين الأسرة والثورة، ومسألة المرأة في العهد الثوري، وتطور المجتمع الجزائري نتيجة الثورة، والبنت دائما خلف الولد .. وفي تحليلها قالت المجاهد إن المجتمع الجزائري مثل كل المجتمعات التي تقوم على خدمة الأرض يصبح فيها ميلاد الولد أكثر أهمية من ميلاد البنت، فالأب يرى الطفل رفيقا له في خدمة الأرض وخليفة له على الأرض العائلية، وعندما يموت الأب يصبح الابن هو الحامي (والولي) على أمه وأخواته، أما البنت فتبقى ثانوية لأخيها، وهذا التحليل النفسي للواقع الجزائري سنة 1959 هو الواقع المتولد عن الثورة، ويظهر أن المجاهد نشرت من الكتاب بعض الصفحات عشية صدوره، وهي صفحات تتعلق بالعائلات الجزائرية وهي في أتون الكفاح (1). وبعد أقل من سنة توفي فانون وترك كتابه الثاني (معذبو الأرض) وهو الكتاب الذي أسمته المجاهد (الكادحون في الأرض)، وقد ترجمت منه فصولا ولم تنته منه رغم أنها أعلنت أنها صاحبة الحق في ترجمته، ونعت المؤلف بأنه (فقيدنا العظيم) واصفة مقولته (هيا بنا يا إخواني، يجب أن نخلق إنسانا جديدا) بأنها حديث (ضمنه كل حرارة إيمانه الملتهب وعمق فكره النفاذ وسمو روحه المشرقة وغزارة تجربته الثورية الفذة).

_ (1) المجاهد - بالفرنسية - عدد 53 - 54، أول نوفمبر 1954.

كان فانون يعرف - حسب الجريدة - منذ أكثر من عام أن الموت يترصده. وكان يشعر أن رسالته الثورية، لن تكتمل إلا إذا توجها بعمل فكري خالد يجمع خلاصة دراساته وتجاربه في ميدان الكفاح الثوري وبناء المجتمع الجديد، فكتب كتابه (معذبو الأرض)، وعبرت الجريدة على لسان الجزائريين إنهم فقدوا فيه أخا ورفيقا ومناضلا ومفكرا عظيما، إن هذه الثروة الفكرية الثمينة ستضيء الدرب للإنسانية الجديدة في العالم الثالث، وتخليدا له قررت ترجمة كتابه (معذبو الأرض) إلى العربية، وهو الكتاب الذي أحدث دويا في أوروبا لم يحدثه كتاب آخر - حسب الجريدة - منذ بيان ماركس وإنجلز، وبالفعل تولت أسرة المجاهد ترجمته، واعتبرت نفسها أول من ترجم الكتاب إلى اللغة العربية، كما تعهدت بترجمته إلى أهم اللغات الأخرى في العالم الثالث الذي عاش فانون حياته النضالية والفكرية من أجل أبنائه، وقد افتتحت الترجمة بمقدمة للكتاب كتبها الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر. لكن بعد نشر المقدمة والفصل الأول في الأعداد التالية بدأت بنشر الفصل الثاني، ثم توقفت الجريدة عن نشر الترجمة الموعودة، ولا ندري إن كانت قد ظهرت في مكان آخر، ذلك أن آخر عدد ظهرت فيه الترجمة هو 30 أبريل 1962، وظهرت عبارة (يتبع) في نهاية المكتوب ولكنه لم يتبع بأي شيء، فهل كان لتوقيع اتفاقيات إيفيان (18 مارس 1962) تأثير على مواصلة نشر بقية الكتاب؟ إن أسرة تحرير المجاهد هي التي لديها الخبر اليقين (1). وبعد أن انتهينا من تحرير هذه الفقرة من الفصل اطلعنا على ما كتبه محمد الميلي، وهو يضيء هذه النقطة، فقد قال إن وزير الإعلام في الحكومة المؤقتة محمد يزيد، قد كلفه بإصدار المجاهد بالجزائر، كما كلف رضا مالك ومصطفى الأشرف بإصدارها بالفرنسية بالجزائر أيضا، على إثر وقف إطلاق النار، أي خلال شهر أفريل 1962، ويضيف الميلي أنه كان الوحيد الذي دخل الجزائر من

_ (1) المجاهد، 25 ديسبر، 1961، 30 أبريل، 1962.

اضطهاد المثقفين

هيئة تحرير القسم العربي في الجريدة، وكان معه علي علية المكلف بالإخراج، أما الآخرون فلم يلتحقوا خوفا - بناء عليه - من إرهاب منظمة الجيش السري (O. A. S). (1). اضطهاد المثقفين مع ثورة التحرير ازداد اضطهاد المثقفين الجزائريين ضراوة وقوة، وشمل الاضطهاد كل أنواع التعذيب والقمع بل وصل الأمر إلى الاغتيال بطرق شنيعة، وقد حدث ذلك للمناضلين السياسيين والقادة أيضا، وقد شاعت قصص اغتيال الدكتور بن زرجب، والمحامي ولد عودية، والمحامي علي بومنجل، وقاسم زيدون، والأمين العمودي، وأحمد رضا حوحو، والسعيد الزاهري، والعربي التبسي، والربيع بوشامة، وعبد الكريم العقون، ومولود فرعون ... إن مطاردة المثقفين والقادة كان سياسة منظمة قامت بها عدة أطراف بعد اندلاع الثورة، وقد شملت المطاردة النساء والرجال، فقد ألقي القبض على فتيات في عمر الزهور أمثال زهرة ظريف، ووريدة مداد، وفضيلة سعدان، وقتلت حسيبة بنت بوعلي، وحكم بالإعدام على جميلة بوحيرد وجميلة بوباشا، والسيدة أحريز ... عند انطلاقة الثورة عبرت جريدة البصائر الأسبوعية عن الحدث بأسلوبها الخاص فقالت في افتتاحيتها بتاريخ 5 نوفمبر (حوادث الليلة الليلاء ... فوجئت البلاد الجزائرية بعدد عظيم من الحوادث المزعجة، وقعت كلها ما بين الساعة الواحدة والساعة الخامسة من صبيحة الاثنين غرة نوفمبر، وهو عيد ذكرى الأموات، ولقد بلغ عدد تلك الحوادث ما يزيد عن الثلاثين ما بين الحدود التونسية وشرقي عمالة (مقاطعة) وهران، ثم ذكرت أبرز الأحداث وأماكنها

_ (1) جريدة الشروق اليومي، السبت 22 أكتوبر، 2005، 19 رمضان 1426، ولا شك أن هذه الإضافة تفسر لماذا توقفت الجريدة عن نشر ترجمة كتاب فرانز فانون (معذبو الأرض).

على المنحة الأولى وأكملتها في الصفحات الداخلية (1) وفي هذا النص عدد من العبارات الرمزية للتضخيم والتهويل ولكنها لم تصل إلى تسمية ما حدث (ثورة)، أو حتى (تمرد)، بل تفادت البصائر العبارات المباشرة ولجأت إلى عبارات التلميح مثل (الليلة الليلاء) بدل الخطب الجلل أو الحدث العظيم، و (العدد العظيم من الحوادث المزعجة) بدل العدد الكبير والحوادث المثيرة، وتحتمل كلمة (المزعجة) عدة معان، من بينها الخطرة، ثم ذكرت زمان ومكان الحوادث، فالخبر في نظرنا غير محايد رغم أن البعض قد فهمه كذلك، والجريدة لم تكتب الافتتاحية إلا ربما في اليوم الثالث للثورة. وقد اعتادت البصائر أن تنقل لقرائها أخبار الثورة في أسبوع سواء عن المعارك التي جرت أو عن الأشخاص الذين اعتقلوا أو التصريحات السياسية من الجزائريين والفرنسيين حول الثورة، وقد استمرت لهجتها في تصاعد وحدة إلى أن أعلنت صراحة أنها تدعم الثورة بنشرها بيان المجلس الإداري لجمعية العلماء، ومن بين الحوادث التي كتبت عنها بلهجة حادة: اعتقال الشاعر محمد العيد آل خليفة واعتقال رابح بيطاط أحد قادة الثورة، ومساعده ياسف سعدي، واغتيال الطبيب ابن زرجب، وغيرهم (2). المعروف أن الفرنسيين كانوا قد خصصوا سجونا معينة لكل فئة اجتماعية، وفي كتاب (أحداث ومواقف) لمحمد صالح بن عتيق و (ذكريات المعتقلين)

_ (1) البصائر، 292، وربيع الأول، 1374، و 5 نوفمبر 1954. (2) عن بيطاط أوردت في عدد أول أبريل، 1955 نبأ اعتقاله ومثوله أمام المحكمة والتهمة الموجهة إليه، وهي كونه مسؤول منطقة ويحمل السلاح، وله واسطة تربطه بكريم بلقاسم، كما أوردت خبر القبض على ياسف سعدي الذي كان البحث جاريا عنه منذ 1950، وقد أطالت النقل عن سعدي من الصحف الفرنسية وجاءت بأخبار عنه لا تكاد تصدق، ومن جهة أخرى أشارت البصائر إلى مثول مولاي مرباح أمام المحكمة لأنه وجه رسالة إلى وزير الداخلية ميتران ونشرها في جريدة صوت الشعب والجزائر الحرة، وقد حوكم معه غيابيا أحمد مزغنة وعيسى عبدلي، للتفصيل انظر البصائر 3 يوليو 1955.

لمحمد الطاهر عزوي وغيرهما أخبار مفيدة في هذا الصدد، يقول ابن عتيق إن الفرنسيين نقلوهم من سجن البرواقية إلى سجن بودي ثم ثنية الحد، ثم توجهوا بهم عبر السرسو إلى سوقر، وواصلوا السير إلى آفلو حيث جمع معتقلها نخبة من جمعية العلماء وحزب الشعب وحزب البيان، وكانت إدارة السجن العسكرية تعامل الجميع بالشدة، فكانت تطلق سراح البعض ثم يقتلونهم في الطريق غدرا، كما جاءوا بجماعة من طلبة إحدى زوايا آفلو، ثم نقلوهم منها إلى معتقل آركول إحدى ضواحي وهران، ثم ذكر سجن بوسوي الذي كان يضم حوالي ألف شخص، وقد انضم إليهم معتقلو الشحمي وسان لو، وحين رفضوا تحية العلم الفرنسي عاقبوهم بشدة، وبعد بقاء ابن عتيق ثمانية وعشرين شهرا في معتقل بوسوي غادره متأسفا على فراق بعض زملائه مثل الشيخ عبد القادر الياجوري الذي ودعه (أي الياجوري) بأبيات: غيض بحر العروض يا ابن عتيق ... ودموعي تسيل سيل العقيق ليت شعري يفيض مثل دموعي ... فيعيننا على وداع الصديق ولو أن الدموع تغرق ناري ... فأكون الغريق وسط الحريق ضاع شعري، وضاع عمري وأنتم ... يا زميلي أدرى بكل رفيق وسلام عليكم ما أقمتم ... أو ذهبتم سلام داع شفيق (1) لقد قصدنا ذكر المعتقلات والسجون التي أوردها ابن عتيق في الناحية الغربية، (كما أن عزوي ذكر عددا منها في الناحية الشرقية)، لندرك أن الجزائر خلال الثورة كانت تضم أعدادا كبيرة من السجون، وأن هذه السجون كانت غاصة بالمعتقلين مما جعل السلطات تلجأ إلى إقامة المحتشدات، وكانت السجون مصنفة حسب الفئات التي تقاد إليها، وكانت بعض الأفكار والمناقشات تجري فيها، بالإضافة إلى التعلم لمختلف المعارف والعلوم، ومنها اللغة العربية والدين الإسلامي، فكل من كان يعرف مهنة أو يتقن علما أو لغة كان يتبادله مع

_ (1) انظر ابن عتيق، أحداث ومواقف ص 136.

زملائه، فكان هناك نظام تعاوني تعليمي حميم، تزيده المحنة المشتركة والآمال الواحدة تلاحما ورضا، كما أننا ذكرنا هذا العدد من السجون لنشير إلي أن عامة الناس كانوا يؤخذون إلى المحتشدات الجماعية وليس إلى هذه السجون المنظمة والمصنفة، وأخيرا نذكر أن الحياة في السجن هي إحدى خطوات العقاب والتعذيب النفسي والبدني. أما أنوع التعذيب الحقيقي فقد روتها الكتب والشهادات وعاشها الرجال والنساء من أجل استنطاق سجين أو متهم بالانتماء للثورة أو بتقديم المساعدة لها أو أسير أثناء معركة ... وقد صدرت أيضا كتب وشهادات تستنكر ما ارتكبته الفرق المتخصصة في الجيش والمخابرات والقوات الخاصة من فظائع في حق المعتقلين، وقد فصل البعض ألوان العذاب الذي صب عليهم أثناء الاستنطاق، وهذه الأنواع هي: التعذيب بالكهرباء - تشريب الماء - دفن الأحياء - الإجلاس على القناني - تحريش الكلاب الضارية - نزع الأظافر وقلع الأسنان - إطلاق النار وإشهار السلاح - التعليق منكسا - الجلد والركل والضرب بمؤخرات البنادق - الموت البطيء - الإعدام (1). ومن الكتب التي صدرت في هذا المجال كتاب عنوانه (ضد التعذيب) لهنري سيمون الذي ترجم إلى العربية، وكتاب جول روا (حرب الجزائر) وقد ترجم أيضا إلى العربية وصدر سنة 1961، وكتاب هنري أليغ (الاستجواب) الذي وصف فيه التعذيب كما عاناه شخصيا من جنود المظلات سنة 1958، إضافة إلى قصة موريس أودان الشهيرة، وقد أسهم جان بول سارتر في الموضوع بعارنا في الجزائر، والجلادون (وكلاهما سنة 1958) وسارجان شرايبر (ليطنان في الجزائر) الصادر سنة 1957، وكل هذه الكتب وجدت طريقها إلى

_ (1) أبو القاسم كرو، كتاب البعث: صوت الجزائر، ط، 2، مارس، 1958، تونس ص 89 - 98.

العربية حين صدورها بالفرنسية. فيما يخص هنري أليغ صاحب كتاب الاستجواب المذكور نشير إلى أنه كان عضوا في الحزب الشيوعي الجزائري ومديرا لجريدة (الجزائر الجمهورية) بين 1950 - 1955، وهي الجريدة التي منعت من الصدور في سبتمبر من هذه السنة، وفي سنة نوفمبر 1956 دخل أليغ في السرية هروبا من الاعتقال لكن قبض عليه في 12 يونيو 1957 واحتجز في الأبيار مدة شهر، وخلال هذه المدة تعرض لما وصفه في كتابه الاستجواب، وأنهى الكتاب في اللحظة التي كان سينقل فيها إلى معتقل (لودي)، ومن هناك سرب أليغ إلى فرنسا نص الشكوى التي سجلها في آخر يوليو بين يدي المدعي العام بالجزائر وهي الشكوى التي استنكر فيها التعذيب الذي كان هو من ضحاياه، وقد أحدثت الشكوى هزة عنيفة في الأوساط الفرنسية والعالمية، ومنذ ذلك التاريخ راحت الإشاعات تتحدث عن اختفاء أو خطف أو موت هنري أليغ، ثم ظهر في شهر أغسطس وقدم أمام القاضي، فحكم عليه بالسجن المدني بالجزائر. وقد فتحت محاكمته المجال أمام الآخرين ليقدموا أيضا شكاواهم للمحكمة، ويقول إنه فعل ما فعل دفاعا عن فرسا لأن اللجوء إلى التعذيب يضر بسمعتها، وقد ذكر من الأشخاص الذين (اختفوا) الشيخ العربي التبسي، والدكتور الشريف الزهار وموريس أودان الذي اعتقل وعذب مثله (1). في مذكرات محمد الصالح بن عتيق حديث عن (الشيوخ) الذين التقوا في سجن واحد أحيانا وهم: عبد القادر الياجوري، وعلي بن سعد، والسعيد صالحي، ومحمد الشبوكي، وأحمد سحنون، والبجيلالي الفارسي، وحمزة بوكوشة، ومصباح الحويذق، وجميعهم أعضاء بارزون في جمعية العلماء.

_ (1) ظهرت الطبعة الأولى من الاستجواب عند مينوي في باريس مع مقدمة لجون بول سارتر، 1958، أما الطبعة الثانية فظهرت عند رحمة في الجزائر 1992، أنظر المقدمة وص 15.

وفيهم الأديب والشاعر والخطب والواعظ ... كان ذلك سنوات 1956 - 1959، وقد ذكر الشيخ ابن عتيق أن هناك شخصيات أخرى سياسية وعلمية مثل: د. رابح كربوس، د. أحمد عروة، د. ابن خليل، د. بوعياد، ود. جناس، ود. ابن عربية، ود. ماطي (أو معطي؟)، ود. بلوزادا، والسيد محمود زرطال، والمحامي ابن تومي، والسيد بن ملحة، وأحمد خطاب، وعلاوة السعيد، ومحمد بن تفنة، وعبد القادر عابد، وعلي يحياوي، وسعيد ماموش والعربي رولة، إلى جانب هؤلاء كان هناك مجموعة من طلبة الزوايا قال إنهم كانوا تحت التعذيب يصرخون وهم يعذبون بالماء والكهرباء وقطع الأظافر، فكان صراخهم (تصطك منه الأبدان)، وقد فكروا في الهروب عبر قناة، وكانوا على اتصال بالمجاهدين. وأمام هذه المحن كان الشيوخ وغيرهم يعقدون مجالس يروحون بها عن أنفسهم وعن المعتقلين عموما، وذلك بالقصص والنوادر لكي يخففوا بها من تصرفات الحراس الأجلاف ومزعجات الإدارة (1). وكلما تقدم قطار الثورة اشتدت السلطات الفرنسية في القمع واستعمال وسائل التعذيب للحصول على الأخبار، وسرعان ما بدأت تتكشف الفظائع التي كان يستعملها رجال متخصصون في التعذيب الذي طبق على الطلبة والقادة والشيوخ والشباب المثقف والمواطنين العاديين، بل حتى على النساء والأطفال، وقد صودرت عدة كتب تنعى على (زبانية) الإدارة استعمالهم الوسائل المحرمة، ولكن الضمير العالمي ومنظمات حقوق الإنسان عندئذ كانت في غيبوبة ... وكأن ما كان يمارس في الجزائر لا يجري على الأرض بل في كوكب آخر، وكانت الأخبار التي لا تكاد تصدق تتسرب من بعض أفراد الجيش الفرنسي الهاربين أو المسرحين، ومنهم أفراد فروا من فرقة اللفيف الأجنبي، وكذلك من بعض الجزائريين الناجين، ومن الذين استيقظت ضمائرهم من رجال

_ (1) ابن عتيق، ص 158.

الجرح المتعفن

الكنيسة وبعض السياسيين الذين كانوا يريدون أن يحتفظوا لهم بمكانة في المجتمع والسياسة، وأخيرا صدرت أخبار التعذيب عن بعض المحامين عن جزائريين وجزائريات في المعتقلات والمحاكم، وبعض المثقفين الذين دفعهم وخز الضمير الإنساني إلى التصريح والاستنكار، وسنذكر بعض هذه المؤلفات والتصريحات التي حاولت الحكومة الفرنسية إخفاءها والسكوت عنها في أول الأمر. الجرح المتعفن صدر كتاب سنة 1959 بعنوان (الجرح المتعفن) في باريس احتوى على سرد وقائع التعذيب للطلبة الجزائريين، وقد وصف الكتاب عمليات التعذيب (أنظر سابقا) بدقة، وهي العمليات التي قامت بها الشرطة الفرنسية، وهناك أربعة طلاب هم الذين شهدوا بمحتوى هذا الكتاب، وكانوا من بين الطلبة الذين أوقفتهم الشرطة في ديسمبر 1958 في باريس، بتهمة المساس بأمن الدولة وهم: البشير بومعزة وموسى قبائلي وابن عيسى سواحي، ومصطفى فرنسيس شقيق أحمد فرنسيس السياسي المعروف، وقامت السلطات بمصادرة الكتاب بعد ظهوره بدعوى أنه يسيء إلى سمعة الشرطة باتهام غير ثابت، وهو الأمر الذي لم يقنع الصحافة الفرنسية فكتبت عنه تعاليق، وقد ظلت المجاهد تنشر تعاليق الصحف الفرنسية حول الكتاب وموقف السلطة منه، على أساس أن التعذيب لا يضر بالمعذب فقط ولكن بالفاعل أيضا، وأشارت إلى أن بومعزة قد نقل إلى سجن مجهول، وفي عدد لاحق أوردت شهادة من بعض الطلبة تؤكد استعمال وسائل التعذيب كما نص عليها الكتاب (1). وتحت عنوان (وحشية المتمدنين) نقلت المجاهد مقالة لأحد الأطباء الجزائريين كان قد نشرها بالفرنسية في جريدة (الطليعة) المغربية، صور الطبيب

_ (1) المجاهد 45, 29 يونيو، 1959، و 46، 13 يوليو 1959، و 48، 15 أغسطس 1959، و 50، 21 سبتمبر 1959، و 51، 21 سبتمبر 1959.

كيف يعذب الفرنسيون المثقفين وغير المثقفين في المعتقلات التي أقاموها لهم، أما المثقف فقد كان يدعى إلى التعاون معهم والبحث له عن مبررات، وبذلك يصبح مجبرا على أداء أحد دورين: التخلي عن الوطنية ومهاجمة قناعاته الفكرية، ويكون المطلوب منه التحدث (بحرية) مع المعارضين للوطنية وتقديم أبحاث عن إنجازات فرنسا وفضائل الاستعمار، وفي هذه الحالة يحيطونه بضباط الشؤون الأهلية (المخابرات) والنفسانيين المختصين، أما الدور الثاني فهو مساءلة أطروحة الثورة والتنكر لوجود أمة جزائرية أو شعب جزائري، وكذلك التنكر للوطنية، ومن ثمة يصبح الثوار أناسا مجرمين في نظره. بذلك يصبح المثقف أداة في يد السلطة الاستعمارية تستعملها لصالحها ويصبح المثقفون ممثلين مسرحيين بطريقة مقنعة، كما على المثقف في هذه الحالة أن يبرهن بأبحاثه على طريقة مقنعة أيضا، وهو لا يترك وحده بل يكون محاطا بالمستشارين الذين يعطونه نقاطا على أبحاثه وأهميتها، ولا يترك في عزلة بل يكون دائما في جماعة، وقد يعدونه بالخروج من المعتقل إذا أحسن التعامل معهم، ولكنه يواجه وخز الضمير ويصبح متوجسا من نفسه ومن الآخرين: ماذا سيقول عنه إخوانه الذين سيتركهم وراءه يعانون وهو طليق، وقد تراوده أفكار أخرى: ماذا لو التحق بعد ذلك بالمجاهدين، من سيصدقه منهم؟ وما الوصمة التي سيصمونه بها، وهل قام بدور حقيقي أو كان مجرد ممثل؟ (1). كانت وسائل إعلام جبهة التحرير دائمة الحديث عن تعذيب واغتيال المثقفين العاملين في صفوفها، من ذلك ما حدث للمحامي علي بومنجل، والأديب أحمد رضا حوحو، والشيخ العربي التبسي نائب رئيس جمعية العلماء، كما تحدثت عن بلاغات لاتحاد الطلبة المسلمين الجزائريين حول مسائل سياسية ونقابية تتعلق باضطهاد الطلبة. وكان اغتيال الدكتور ابن عودة بن زرجب حادثا بارزا في تاريخ اغتيال

_ (1) المجاهد 81، أول يناير، 1960.

المثقفين مما جعل (البصائر) تقدم العزاء فيه وتنشر الخبر باهتمام كبير وتعلق عليه وتشارك أهالي تلمسان حزنهم عليه، وتشيد بموقفه الوطني، وقد روت ذلك بلهجة متأثرة ومؤثرة فقالت: اغتيل ابن زرجب قريبا من قرية سبدو، حسبما جاء في جريدة (لوموند)، وكان يداوي جرحى الثوار ويمدهم بالأدوية والضمادات، وكان قد اشترى آلة نسخ، ورفضت الرواية الرسمية التي تقول إنه قتل لأنه حاول الفرار واعتبرت ذلك حديث خرافة (1). وفي العدد الموالي رجعت البصائر إلى الموضوع ففندت نفس الرواية الرسمية وقالت إنه رجل ضعيف الجسم وضعيف النظر ولا يكاد يرى الأوراق من وراء نظاراته السميكة، ولا يسير في الطريق إلا بمشقة لإصابته في حادث سيارة في عهد قريب، فكيف يفلت من قبضة ثلاثة من الدرك ويفر حتى يقتلونه؟ (2). وبعد فترة أصبحنا نملك معلومات وافية عن الطبيب ابن زرجب لم تكن متوفرة عند اغتياله، فهو من مواليد تلمسان في 9 فبراير سنة 1921، ومن عائلة غنية، وكان والده يتاجر في السجائر، وتحصل الابن على الثانوية العامة (الباكلوريا)، وعلى شهادة عليا في الفيزياء والكيمياء والبيولوجيا، ثم التحق بجامعة الجزائر، ثم بجامعة مونبلييه لدراسة الطب، بدأ نشاطه السياسي الوطني في باريس، عندما أصبح كاتبا عاما لجمعية الطلبة المسلمين بشمال إفريقيا التي كان مقرها 15 شارع سان ميشال، سنة 1942 - 1943، كما ناضل في اللجنة الفلسطينية العربية، وفي سنة 1945 رجع إلى الجزائر ولكنه لم يلبث أن عاد إلى فرنسا سنة 1948 ليواصل نشاطه الدراسي والسياسي، وقد حصل في نفس السنة على الدكتوراه في الطب في تخصص سرطان الدم، وفتح عيادته في تلمسان. وبعد اندلاع الثورة انخرط في جبهة التحرير الوطني، فكان يجمع الأدوية

_ (1) البصائر 351، 27 يناير، 1956. (2) البصائر، 352، 3 فبراير، 1956.

ويرسلها إلى الثوار، وكان يداوي المرضى ليلا في الجبال المجاورة، وخلال النهار كان يقوم بعلاج مرضاه العاديين في عيادته، وكذلك جرحى الثوار، جرى اتصال بينه وبين هواري بومدين عندما كان هذا مسؤولا على الولاية الخامسة، واتفقا على شراء آلة نسخ (رونيو) بتكليف من جبهة التحرير من أجل طباعة الإعلانات والبلاغات، وكان شراء هذه الآلة ممنوعا إلا برخصة خاصة من الشرطة. وقدم ابن زرجب وصلا مزيفا بالثمن إلى البائع بوهران ورجعا (هو وبومدين) إلى تلمسان، وافترقا في الرمشي التي تبعد حوالي 25 ك، م شمال تلمسان، كان ذلك يوم 13 يناير 1956، ومنذ ذلك الحين اختفت أخباره، فقد قبض عليه بعد أن وشى به البائع الفرنسي، ثم أطلق سراحه لمعرفة الجهة التي يتعامل معها، وكان تحت الرقابة المشددة، ورافقه ضابطان إلى عيادته، وقد زاره أحد المناضلين (وهو قويدر دالي يوسف) في عيادته وأخبره بالموضوع واستحالة الهروب، لقد أخضعوه للتعذيب فأقر بأن الآلة موجودة في سبدو فنقلوه على متن سيارة (جيب)، وعندما وصلوا إلى دوار ولد حليمة الذي يبعد 4 ك، م من سبدو، حاول الهرب فأطلقت عليه الشرطة النار في 17 يناير 1956، وعندما شاع خبر اغتياله ضج الناس في تلمسان وخرجوا في جنازته بالآلاف (12 ألف حسب التقرير)، فكان لحادث اغتياله رد فعل شعبي منقطع النظير، فأفاد الثورة شهيدا كما أفادها طبيبا (1). أما ولد عودية (واسمه مقران أومقران) فقد تلقى تهديدا بالقتل لأنه كان يحامي على أعضاء جبهة التحرير في فرنسا، وبعد تسعة أيام من اتصاله بالتهديد جرى اغتياله فعلا في باريس في 13 مايو 1959، وقد اتهمت المجاهد منظمة فرنسية إرهابية بقتله لأن القاتل ينتمي إليها، وهذه المنظمة مستعدة في رأيها لاغتيال كل من يحامي على أعضاء الجبهة سواء كانوا جزائريين أو فرنسيين.

_ (1) أنظر مجلة الراصد، العدد الأول، يناير - فبراير، 2002، ص 33.

وقد غطت (المجاهد) حادثة اغتيال ولد عودية وجاءت بأخبار مفصلة عن التعذيب أيضا. كان ولد عودية عندئذ يحامي على مجموعة من الطلبة اعتقلتهم السلطات الفرنسية (وعددهم خمسة عشر) بتهمة الإضرار بأمن الدولة الخارجي وببعث تنظيم منحل، وكانت محاكمتهم مقررة يوم 23 مايو 1959 في باريس، وعشية المحاكمة وجد المحامي ولد عودية مقتولا عند باب مكتبه، وقد تأجلت المحاكمة شهرا ولكن لم يطلق سراح الطلبة (1). وقد أخطرت اللجنة التنفيذية لاتحاد الطلبة المسلمين الجزائريين (UGEMA) المنظمات الطلابية في العالم، فكان للخبر ردود فعل حاضرة مما جعل السلطات الفرنسية تأخذ بعين الاعتبار هذه الاحتجاجات، وقد أوردت (المجاهد) أسماء عدد من هذه المنظمات الطلابية الدولية. ويمثل اغتيال علي بومنحل ومقران ولد عودية والدكتور ابن زرجب وأمثالهم صفحة من عمليات التصفيات الجسدية التي قامت بها تنظيمات إرهابية أو أجهزة الشرطة والمخابرات الخاصة الفرنسية ضد عناصر المثقفين الجزائريين، وقد أشارت المجاهد (بالفرنسية) في مقالة طويلة إلى ظروف اغتيال ولد عودية وآيت الحسن في بون (ألمانيا)، وظروف اغتيال علي بومنجل في مدينة الجزائر، ولكنها لم تشر - حسب علمنا - إلى اغتيال الشيخ العربي التبسي ولا أحمد رضا حوحو ولا عبد الكريم العقون ولا الربيع بوشامة وأمثالهم. ولكنها هاجمت الصحافة الفرنسية والطريقة التي عالجت بها موضوع الاغتيالات مثل تسمية ولد عودية بـ (محامي جبهة التحرير)، وفي نفس الوقت أشارت المجاهد إلى جميلة بوحيرد وإلى محاميها فيرجيس وإلى المحامية جيزيل حليمي التي حامت عن جميلة بوباشا، وإلى موريس أودان الذي قتل تحت التعذيب لتقديمه خدمات إلى الثورة حسب قناعته الإيديولوجية (الشيوعية). كما

_ (1) المجاهد 43، أول يونيو، 1959، و 48، 10 أغسطس 1959.

أدباء اللغة الفرنسية

أشارت إلى توفيني Thuveny الذي اغتيل في الرباط (1). إن عمليات الاغتيال ضد المثقفين الجزائريين بلغت مرحلة مكثفة ومعقدة كلما اقترب الاستقلال، ومن أواخر ضحاياها الأديب مولود فرعون، فقد اغتيل مع رفاق له بعد وقف إطلاق النار أثناء اجتماع تربوي في إحدى المدارس، وكانت الدعاوى الفرنسية كثيرة وغير مقنعة، ويظهر أنه كانت هناك انفعالات وسوء تنسيق بين السلطة الرسمية وأجهزتها العاملة في الميدان سواء في الجزائر أو في فرنسا نفسها أو خارجهما. أدباء اللغة الفرنسية مقدمات عندما كنت في القاهرة أيام الثورة سألت الحاج يعلى (محمد يعلى) عن أدباء الجزائر بالفرنسية، وهو نفسه أديب وسياسي، وكان ذلك في منتصف الخمسينات، فقد كنت أسمع عن بعضهم من خلال الدوريات العربية التي أخذت تترجم وتنشر أخبارهم لعلاقة أدبهم بالثورة الجزائرية، ولأن النقاد الفرنسيين كانوا يتحدثون عنهم في شيء من الاعتزاز أحيانا باعتبار أدبهم ما هو إلا نتاج (مدرسة الجزائر) الأدبية الفرنسية، وأحيانا كانت تتحدث عنهم في شيء من الدهشة والاستغراب باعتبار أدبهم أدبا هجينا مركبا من زيجة عربية - فرنسية، وكانت الصحف والدوريات العربية ولوعة بالأدب الأجنبي ولو كان من أتفه الإنتاج إذا كان منتجوه من العرب أنفسهم كحالة الأدب الجزائري الذي اكتشفته تلك الدوريات من خلال اللغة الأجنبية، فكانت (عقدة الخواجة) وراء العناية بأدب محمد ديب وكاتب ياسين ومولود معمري ومولود فرعون ومالك حداد، فانهالوا عليه ترجمة وتعريفا وتنويها بأصحابه الذين كانوا يدافعون عن قضية بلادهم بالقلم لا بالسلاح وبالكلمة لا بالبندقية وبالحوار لا بالعراك.

_ (1) المجاهد، 43 (بالفرنسية)، 8 يونيو، 1959.

وبصوت المستضعفين لا صوت الثوار الأقوياء، وصوت التسامح والحيرة لا صوت الصمود والثقة في النفس. سألت حينئذ الحاج يعلى عن جيله من الأدباء فأعطاني قائمة، منها من ذكرتهم سابقا ومضافا إليها: آية جعفر، نور الدين التدافي، الشريف بن حبيلس (أول من كتب القصة في نظره)، وعبد القادر حاج حمو، والشريف الساحلي (الذي تخصص في التاريخ وكتب كتابا بعنوان رسالة يوغرطة وكتابا آخر بعنوان فارس العقيدة عن الأمير عبد القادر)، وسفير البودالي (الذي نظم الشعر وكتب المقالات عن الموسيقى العربية)، وسعد الدين بن شنب (الذي اهتم بالدراسات الأدبية والنقدية ونال شهادة الدكتوراه عن الشعر العربي المعاصر)، وقريبع النبهاني (الذي تخصص في فلسفة الجمال)، وعبد الله نقلي (الذي ألف مسرحية عن الكاهنة)، ومالك واري (الأديب والصحفي)، كما نبهني الحاج يعلى أن هناك أدباء فرنسيين من الجزائر وهم ألبير كامو، وإيمانويل روبلس، وجان سيناك. ولا أدري لماذا لم يذكر لي الحاج يعلى عندئذ مصطفى الأشرف، ربما لأنه ليس شاعرا ولا قصاصا، ولكنه لم يذكر لي بشير حاج علي وهو شاعر وأديب وعضو في الحزب الشيوعي الجزائري، ولا محمد حربي المعروف باتجاهه الماركسي، ولا الصادق لهجرس الكاتب والطبيب والعضو أيضا في الحزب الشيوعي الجزائري، ولا عبد الحميد بن زين الأديب الصحفي الاشتراكي أيضا (وهؤلاء جميعا كانوا من أسرة تحرير جريدة - الجزائر الجمهورية - المعروفة باتجاهها اليساري والمشتلة التي نمت فيها معظم الأسماء السابقة، كما لم يذكر لي الحاج يعلى آسيا جبار التي كان نجمها آخذا في الصعود (1).

_ (1) حديث مع الحاج يعلى في جلسات عديدة في القاهرة سنة 1956 أو 1957.

أما سعد الدين بن شنب فكان من كتاب الدراسات الأدبية والنقدية، كما سبق، وقد نشر عدة مقالات في مجلة (هنا الجزائر) ومجلة (الأديب) البيروتية، و (المجلة الإفريقية)، وبعض الموسوعات، وكان يساهم في الكتابة باللغتين العربية والفرنسية، ومن كتاباته في هذا المجال التي لم يسبق لنا الحديث عنها (كتاب التعبير الفرنسي) في مجلة الجزائر والصحراء Algérie - Sahara المجلد 2، باريس، وكذلك الموسوعة الاستعمارية والبحرية (موسوعة الإمبراطورية الفرنسية) سنة 1948، ص 252 - 253، (أما الصفحات من 248 - 253 فمخصصة للأدب باللغة العربية)، وفي فبراير سنة 1957 أصدرت مجلة الجزائر (Algérie) عددا خاصا تضمن أخبارا عن الأدباء والكتاب الآتية أسماؤهم: محمد حربي، مصطفى الأشرف وكاتب ياسين وآخرين من كتاب اللغة الفرنسية، بالإضافة إلى عدد من كتاب اللغة العربية، كما أسهم ابن شنب أيضا في كتاب بعنوان (المدخل إلى معرفة الجزائر) تعاون عليه عدد من الكتاب الفرنسيين، واختص هو بكتابة فصل عن أدباء الجزائر باللغة العربية الفصحى (1). أنتج كتاب الجزائر بالفرنسية في ميدان الشعر والنشر، لا سيما في القصة والرواية، وفيهم من كتب في النقد الأدبي والدراسة والمقالة الصحفية والفنية، وغلب على بعضهم الشعر كما غلبت على آخرين القصة، ونتناول أولا بعض القضايا التي اتفقوا فيها والخصائص المشتركة بينهم حين اكتشف مثقفو الوطن العربي أن في الجزائر عربا يكتبون أدبهم باللغة الفرنسية فاهتموا بهم وما كادوا يصدقون، وكانت أحداث الثورة تلفت النظر إلى كل ما هو جزائري، وكان الإعلام الفرنسي يسلط الأضواء على مبدعي الأدب الفرنسي في الجزائر معتبرا بعضهم دليلا على نجاح مهمة فرنسا الحضارية التي كانت عنوان احتلالها للجزائر. وزاد من التركيز على هذا الاهتمام غير المسبوق غياب أي تعريف بالأدب

_ (1) أنظر جان ديجو، بيبلوغرافيا الجزائر، 1977، ص 15.

محمد ديب

العربي خارج الجزائر، ماضيا وحاضرا، فيما عدا الشيخ البشير الإبراهيمي الذي لم يكن يعرفه في المشرق إلا جيل قديم محدود من اللغويين ودعاة السلفية والإصلاح، وهكذا فإن جيلا من المثقفين الفاعلين في المشرق العربي لا يكاد يعرف شيئا عن محمد العيد آل خليفة ولا مفدي زكرياء، ولا حتى ابن باديس صاحب الشهاب والدعوة الإصلاحية التي هزت الجزائر، وبذلك انحصر الاهتمام بالأدب الجزائري في إنتاج جيل من الشباب يكتب بالفرنسية وما تقدمه عنه الصحف الأدبية والنوادي الفرنسية من شهرة ونقد وتعريف وجوائز وتعاليق، وهذا الجيل هو الذي سنقدم بعض أعلامه وإنتاجهم بعد قليل، (عن شعراء هذا الجيل انظر فصل الشعر). محمد ديب بلا منازع هو أبو الرواية الجزائرية المعاصرة، هكذا بدأت إحدى البيانات الأجنبية المطبوعة عن محمد ديب، اشتغرق عهده نصف قرن من العطاء الأدبي، ولد في تلمسان 21 يوليو 1920 من عائلة برجوازية محطمة، تابع دراسته الابتدائية والثانوية في تلمسان ثم في وجدة، بدأ يكتب الشعر ويرسم عندما بلغ خمسة عشر عاما، سمي معلما في وجدة ثم محاسبا في مكاتب الجيش أثناء الحرب العالمية الثانية ومترجما عند جيش الحلفاء, وبعد الحرب رجع إلى تلمسان وأصبح مصمما للزرابي، وابتداء من الخمسينات عمل صحفيا في جريدة الجزائر الجمهورية الشيوعية كما كتب في جريدة الحرية، وهي لسان حال الحزب الشيوعي الجزائري، وفي 1952 أصدر أولى رواياته وهي الدار الكبيرة ثم تلتها الحريق ثم النول، وهي ثلاثيته الشهيرة. بدأ ديب بالقصص والشعر السريالي، وإنما الظروف التي كانت تعيشها الجزائر هي التي دفعته إلى الواقعية، فأصبح روائيا (وطنيا) كما قال (أراغون) الذي اعتبر ذلك من محمد ديب جرأة لكونه غامر في دخول عالم الرواية الوطنية الجزائرية، وبعد الاستقلال رجع ديب إلى السريالية والأسطورية

(الميثيولوجيا)، وأصبحت روايته أكثر نضجا، فإلى جانب الإلياذة نجد عنده عالم كافكا الجهنمي. كان ديب كاتبا إنسانيا يتشرف مستقبل الكائن البشري ويشعر بما هو أبعد من الحدود والحواجز، وله أعمال كثيرة وصلت إلى أربعة وعشرين عنوانا بين رواية وقصة وشعر، ومن أعماله المؤلفة بين 1952 - 1962 الثلاثية المذكورة، وفي المقهى، والظل الحارس (شعر)، وض يتذكر البحر، وبابا فكران (رواية). بالقياس إلى زملائه حظي محمد ديب بدراسات تحليلية أكثر وأعمق، فقد ترجمت له جريدة (المجاهد) بعض قصصه ونشرتها في وقت مبكر، واهتم به النقاد الفرنسيون والنقاد العرب على السواء، ففي مقالة كتبها أبو سيف يوسف نشرها في جريدة (المساء) المصرية نقرأ العنوان التالي: (محمد ديب كاتب الجزائر المؤمن بشعبه)، جاء فيها: هناك أدب جزائري فرنسي، وهناك أدب جزائري بالفرنسية، وهو يعني بالتعبير الأول الأدب الذي كتبه مستوطنون فرنسيون في الجزائر، ويعني بالتعبير الثاني موضوع حديثنا وهو الأدب الجزائري المكتوب بالفرنسية، أما الأدب الجزائري العربي أو المكتوب بالعربية فهو غائب في هذه المعادلة. يقول الكاتب أبو سيف إن الأدب الجزائري بالفرنسية كتبه مسلمون، وهذا هو وجه الدهشة عنده، وهو يمثل أدبا جديدا ويتحدث بصوت قوي وناصع، صوت الحق والبلاد، وهو أدب يبحث عن حلول لمشكلات الشعب، في هذا الجو كتب مولود معمري رواية (التل المنسي) أو (الربوة المنسية) وكتب مولود فرعون رواية (الأرض والدم)، وكتب محمد ديب جزئين من ثلاثيته (الجزائر) وهما البيت الكبير والحريق، إن كتابات هؤلاء ليست صفحات من الدعاية السياسية بل هي أعمال فنية ممتازة يستغرقها شعور وطني (دافق) ورغم الفروق بين الأدباء الثلاثة (لاحظ أنه لم يشر إلى كاتب ياسين) فإن محمد ديب يقف على رأس هؤلاء لأنه يمثل الاتجاه الأدبي الجديد (لتفاؤله العميق بمستقبل

شعبه)، وهو يؤمن بالتطور الذي يطرأ على الشعب ليخرج من عبودية الاستعمار إلى الحرية، وهو يعبر عن حياة الغالبية العظمى من الجزائريين، وهم الفلاحون. لماذا تميز محمد ديب عن زملائه في نظر هذا الكاتب؟ إن نشأته الفقيرة (والواقع أن ديب لم يكن كذلك تماما كما نعرف من سيرته) قد ساعدته على تشكيل تفكيره في المستقبل، فهو أصيل شعبه، وهو يؤمن بأن الشعب (يكافح من أجل حقه في الحياة، ففي الجزء الأول من روايته وهي (البيت الكبير) يصور أسرة أرهقها الجوع، فهناك أرملة معدمة وعليها أن تدبر معاش أولادها لإنقاذهم من الموت، وفي الجزء الثاني (الحريق) يكبر عمر (وهو شخصية ممتدة في أعمال ديب) ويذهب للعمل مع الفلاحين، وهنا تبرز أيضا مشكلة الجوع. لكن الفرنسيين يحرقون أكواخ الفلاحين ويطردون عمر فيرجع إلى أمه التي عليها أن تدبر الخبز لإطعام أبنائها الثلاثة. لكن الرواية تروي قصة الطفولة الشهيدة في الجزائر، أي مصير الأطفال العرب، وهو الحرمان منذ نعومة أظفارهم، لقد هرب عمر من جحيم البيت لأنه يأكل ما هو لأمه وأختيه، وعمره أحد عشر عاما، وعندما هرب وجد أطفالا مثله يمتلى بهم الشارع وهم يهيمون على وجوههم، يلعبون ثم يكونون مستعدين للهروب أمام الشرطة المدنية ... وكانوا يمارسون التسول والنظر في النساء الأوروبيات وأطفالهن المرفهين، ويقارنون بين وقعهم وبين هؤلاء الأطفال، ثم كانوا ينطفئون على إدمان الخمر والسجون، لكن التفاؤل لا يفارق محمد ديب، فقد قال أحد الفلاحين لجاره: إننا نشهد عصرا جديدا ... لكن إلى أين؟ فقال له الفلاح الآخر: خيرا يا جارنا محمد، صدقني، لن يكون إلا خيرا، فإن روح شعبنا قد تزلزلت (1). وكتب الناقد المصري رجاء النقاش مقالة عنوانها (صاحب البيت الكبير) تحدث فيها عن محمد ديب ودوره في الحركة الأدبية رغم أن سنه عندئذ لا

_ (1) جريدة المساء المصرية، 27 مارس، 1957.

تتجاوز السابعة والثلاثين، واعتبره النقاش أبرز كتاب جيله، وأنه بدأ الكتابة بالفرنسية مبكرا، ونظم الشعر وعمره خمس عشرة سنة، وكان يقيم عندئذ في تلمسان بعد أن كان غادرها إلى فرنسا ثم رجع إليها، وقال إن له ثلاثة أولاد لا يعرفون أيضا غير الفرنسية، وهو الأمر الذي جعل ديب حزينا وساخطا على هذا الوضع غير الطبيعي حتى أنه قال لأحد الفرنسيين ذات مرة، وهو يحاوره (وكان هذا الفرنسي متحمسا للاستعمار، واسمه روبير كامب): (هل تظن أنه سواء لدي أن يعرف أولادي لغتهم العربية أو لا يعرفوا سوى اللغة الفرنسية التي بها أكتب؟ وأضاف النقاش أن لمحمد ديب إنتاجا خصبا، فله رواية كبيرة عن الجزائر تتألف من ثلاثة أجزاء هي: البيت الكبير والحريق و (النول) أو المنسج، كما له مجموعة قصص بعنوان (في المقهى)، ومقالات وقصائد عديدة، وكان ذلك بالطبع قبل أن ينشر محمد ديب أعمالا أخرى أصبحت الآن معروفة. وعند رجاء النقاش أن الظاهرة البارزة في أدب محمد ديب هي أن أعماله مصبوغة إلى حد العنف بالمأساة التي تعيشها الجزائر تحت الاستعمار، ونماذجه منتقاة من واقع الحياة التي جربها مع أبناء وطنه، ثم إن الجزائر فريدة في الاستعمار، فكل فرد فيها ذاق وبال الاستعمار بنفسه، والاستعمار هنا ليس قوة عسكرية واقتصادية فقط، ولكنه هو كل ذلك زيادة على القوة الثقافية، واضطهاد الحياة اليومية المتمثل في الإدارة والمدارس والمتاجر، فالجزائري يعيش هذه المواجهة يوميا وفي مختلف المجالات، ورغم القتل والحرق والضحايا فإن ديب احتفظ بمستواه الفني في رواياته إلى الحد الذي وصل به إلى العالمية، كما أن له روحا شعرية خصبة، وهو يتحدث على لسان أبطال واثقين بالنصر رغم المعاناة، وليس هناك غرابة في لغة محمد ديب فقد بدأ حياته بنظم الشعر وله في ذلك ديوان، كما كان أدبه نابعا من حضارة عريقة كانت تمثلها تلمسان التي حافظت على طابعها الحضاري رغم الفقر والحرمان (1).

_ (1) رجاء النقاش، مجلة الإذاعة المصرية، 29 مارس 1958.

وعلى نفس النسق كتب الأديب والصحفي كامل زهيري أيضا مقالة عن (البيت الكبير: قصة جزائرية للكاتب محمد ديب) مع صورة مرسومة لصاحب القصة، ورسومات أخرى معبرة عن روح صاحب القصة بريشة الفنان حسن فؤاد، وقد حلل زهيري ثلاثية ديبب بأجزائها فقال إن (البيت الكبير) تبدأ قبل الحرب العالمية الثانية وتنتهي بإعلان الحرب، وتصور (الحريق) أيام الحرب، أما النول (المنسج) فتصور الجزائر ما بعد الحرب، أما بطل الثلاثة فهو عمر الذي يظهر في الجزء الأول صبيا يافعا، وفي الجزء الثاني بالغا من الرشد، وفي الجزء الثالث شابا قويا، ويعتبر البيت الكبير باكورة محمد ديب الذي بلغ عند تأليفه الثلاثين من عمره، وقد تفرغ للأدب، بعد أن مارس مهنا كثيرة، فقد عمل صحفيا، وعامل نسيج، ومحاسبا، ومدرسا ابتدائيا، وتعتبر كتاباته بسيطة إلى حد السذاجة (؟) ولكنها (تخفي دهاء وذكاء وفطنة وفهما عميقا للجزائر والجزائريين) (1). أما الكاتب الأمريكي جورج جوايو فقد عبر عن رأيه في إنتاج محمد ديب في دراسة قام بها لأدبه وأدب زملائه الجزائريين الذين يكتبون أدبهم باللغة الفرنسية، فقد ألف ديب ثلاثيته وقصصه القصيرة (في المقهى) عندما قام جوايو بدراسته، قال جوايو إن الثلاثية تذكر المرء برواية (أمريكا) لدوس باسوس، فهي لوحة للجزائر عشية الحرب العالمية الثانية، من خلال الأرملة (عيني) وابنها عمر، وهو (أي عمر) يمثل النموذج (البطل؟) والوحدة في الثلاثية بمغامراته .. وتهدف القصة كاملة إلى ميلاد ضمير جزائري متلهف للاعتراف به مع الإصرار عليه، ظهرت البيت الكبير سنة 1952، وفيها وصف لحالة الفقر المدني في المدينة للعمال الذين لم يقدروا على العيش المحترم أخلاقيا وماديا، فالثلاثية في الواقع ترجمة شخصية (أوتوغرافيا): تشتمل على مغامرات عمرها هو عمر

_ (1) كامل زهيري، مجلة صباح الخير، 27 فبراير 1958، و 6 مارس 1958، وما بعدها ومما يذكر أن البيت الكبير نشرت مسلسلة في المجلة المذكورة.

مغامرات محمد ديب نفسه، كما تمثل الرواية الطبقة العاملة، ورواية الاحتجاج لباسوس وشتاينبك. أما (الحريق) فقد ظهرت سنة 1954، وفيها نقل محمد ديب فتاه إلى عالم الريف ليكون شاهدا على حالة الفقر لدى الفلاحين أيضا، إن عمر قد شهد في نهاية المطاف بداية الحريق (الثورة) الذي عم البلاد كلها، فالنار قد بدأت ولن تتوقف أبدا، أما (المنسج) فقد ظهرت سنة 1957، وفيها رجع ديب إلى المدينة، وقد أصبح عمر شابا وبدأ يشتغل في نسيج الزرابي، ولكن الحريق انتشر إلى المدينة حيث نزح إليها الفلاحون وهم جائعون عراة، وفي نهاية الثلاثية أصبح عمر رجلا واقفا متمردا يرمز إلى الإنسان الجزائري الجديد، وقد تعلم عمر المعنى الحقيقي للاحترام الإنساني، وقرر ألا يستريح حتى يحقق لنفسه وللبشرية وعيا واحتراما. لقد ركز ديب على استرجاع الشعب الجزائري حقه في الكرامة أكثر من أي شيء آخر، فهو يقول على لسان الإنسان الجديد: إن الخوف والإهانة والشرف قد أنهكت قوانا، فلم نعد نبدو كبني آدم، وهو يلوم الاستعمار عامة على هذه الحالة، لأن الاستعمار يريد أن يمتلك عمل الفلاح وكذلك ملك الفلاح نفسه، ولابد من إعادة النظر في العلاقة بين المستعمر والمستعمر، فالمسؤول المباشر ليس الأقلية الأوروبية المستوطنة فقط، ولكن الأغلبية المسلمة أيضا لسكوتها، رغم مروءتها، أي أن فرنسا كلها مسؤولة عما حدث (1). من أعمال محمد ديب الأخرى مجموعة قصص بعنوان (في المقهى)، وقد ترجمها محمد البخاري، ضمن سلسلة كتب ثقافية (الكتاب 13) وتحتوي المجموعة على سبع قصص هي في المقهى، والأرض المحرمة، وابنة العم. الصغيرة، وليلة عرس، والصاحب، والانتظار، والوريث السعيد، وسنعود إليها

_ (1) بحث جورج جوايو مترجم ومنشور في كتابنا: دراسات في الأدب الجزائري الحديث.

بالتعريف والنقد في مناسبة لاحقة (1). نشرت المجاهد لمحمد ديب عدة قصص عندما كانت الثورة على أشدها. من ذلك قصة التمشيط (راتيساج)، وهي تصور عملية قام بها الجيش الفرنسي في تلمسان ونواحيها في بداية الثورة، كما تصور الحياة في تلمسان أثناء العملية، والقصة أخذتها المجاهد من مجموعة (صيف إفريقي) لمحمد ديب، وقد قدمت لها الجريدة بمقدمة طويلة عن الأدب الذي لم يعد صالحا اليوم، و (هو أدب القصور والطبقات المترفة البعيدة عن مشاكل الشعب، لأن العهد الذي يقتصر فيه الأدب على تصور ونقل المشاكل الغريبة ... قد انتهى، كما انتهى الترف الفكري والخيالات المريضة ... إننا في عهد ثوري أصيل لا يجوز فيه أن يبقى الأدب بمعزل عن حياة الجماهير، لذلك يجب أن تخرج من ثورتنا تجارب تسد هذا النقص). وهكذا وجهت المجاهد دعوتها إلى الأدباء أن يكتبوا أدبا ملتزما وليس أدب القصور والترف، ودعت إلى أدب يصور حياة الشعب ويعبر عن مطامحه، ومن أجل ذلك أنشأت الجريدة ركنا أسمته (ركن الأدب الثوري) وفتحته لقصص من الصين وأخرى من الفيتنام ... وكذلك فعلت مع قصة محمد ديب التي نحن بصددها، إذ جعلتها تحت العنوان نفسه (من الأدب الثوري) بينما نشرت قصائد ابن تومرت (مفدي زكرياء) تحت عنوان آخر قريب منه وهو (من أدب الثورة)، ومن الملاحظ أن الجريدة لم تذكر ما إذا قامت بترجمة القصة عن الفرنسية، كما لم تذكر أمامها اسم المترجم، والقصة تصور بدقة حياة الناس في الريف أمام عمليات التفتيش المهينة الدقيقة والمخيفة والقبض على الرجال (2) .. أما قصة (فراق) لمحمد ديب أيضا فقد وضعت لها الجريدة عنوانا فرعيا هو (من الأدب الجزائري)، وهي مكتوبة في شكل حوار بين البطل وزوجته.

_ (1) نشر الدار القومية، القاهرة، 1959. (2) المجاهد، 70، 13 يونيو 1960.

وكان البطل (جمال) مستلقيا على فراشه في دار كبيرة وهو يحلم ويصف السكان كما يظهرون له، وهو يريد أن يتحرر، وأن يفارق هذا النمط من الحياة، وفي مساء يوم حار من شهر أغسطس خرج وشعر بالتحرر وبأنه إنسان، لكن أين ذهب؟ يفهم من الموقف أنه انضم للثورة، ولكن القصة لا تخبرنا بذلك، لقد كان عمر البطل 28 سنة، والملاحظ أن جريدة (المجاهد) لم تقدم للقصة بأية مقدمة تساعد على فهمها وتشير إلى محتواها ورموزها وهدفها (1). وهناك قصة (مصرع خائن) التي قدمتها المجاهد أيضا لقرائها بمقدمة جاء فيها: هذا هو القسم الثاني والأخير من الفصل الذي عربناه من قصة (صيف إفريقي) التي صدرت بالفرنسية للكاتب الجزائري محمد ديب، وهي قصة تصور كيف فقد باساحلي ابنه وأخذ الفرنسيون آخرين لإعدامهم بسبب (وشاية أو بيع) العياشي لهم، لذلك قتل باساحلي العياشي بمساعدة ابنه (عابد)، ثم رجع إلى مكانه، لقد قتله بفأس في رحبة خاصة بدرس القمح (2). تناول إذن عدد من الكتاب، العرب والأجانب، حياة محمد أديب وأدبه، وأعجبوا به، ومنهم من انتقده، ورأى فيه آخرون الأديب المتفائل المحب للإنسانية والفقراء، ورأى فيه آخرون الأديب المتشائم الهارب من الحياة. وسنعرض هنا لرأيين آخرين في الموضوع، رأي لويس عوض ورأي أحد الصحفيين الفرنسيين، وسنحاول أن نخرج بصورة واضحة عنه باعتباره أحد رموز هذا الأدب الجزائري المكتوب بلغة المستعمر. حاول لويس عوض أن يدرس حياة محمد ديب من خلال أعماله لأنه كما قال لم يجد له ترجمة وافية، وكانت أعمال ديب عندئذ خمسة: البيت الكبير والحريق، والمنسج، ومن ذا يذكر البحر وصيف إفريقي، والبيت الكبير هو أشهرها ويأتي بعده في الشهرة: من ذا يذكر البحر؟، أما الأعمال الأخرى

_ (1) المجاهد 77، 19 سبتمبر 1960. (2) المجاهد 71، 27 يونيو 1960.

لمحمد ديب وهي في المقهى، وبابا فكران فقد كانت ما تزال بصدد النشر في فرنسا، كما أن لمحمد ديب ديوان شعر بعنوان الظل الحارس، لقد بدأ حياته شاعرا قبل أن يختار القصة ميدانا لنشاطه الأدبي، أما ثقافته فهي فرنسية حيث درس في تلمسان التعليم الابتدائي والثانوي، ومن ثمة كانت كتاباته كلها بالفرنسية. نشأ محمد ديب في مدينة عريقة هي تلمسان ولكنه عاش طفولة بائسة. أثناء دراسته الابتدائية وقع له حادث وهو مشاهدة طفل فقير في حاجة إلى قطعة خبز، فحز ذلك في نفسه، فأسقط خبزا بالقرب منه وذهب في حال سبيله حتى لا يجرح شعور الطفل بمناولته الخبز، كانت طفولة محمد ديب تعبر عن طفولة كل الأطفال الجزائريين الذين عاشوا حياة البؤس، لذلك فإن الكبار يجدون في روايات محمد ديب ماضيهم وصورة لأنفسهم، وقد واصل ديب تعليمه الثانوي وهو من القلائل الذين أسعفهم الحظ بالدراسة في هذا المستوى، واكتشف وهو في هذه السن اهتمامه بالأدب، فأخذ يقرأ لنوابغ الأدب الفرنسي وغيرهم، واعترف ديب أنه تأثر بروايات (فرجينيا وولف) وبقي تحت تأثيرها إلى بلوغه سن العشرين، وفي الخامسة والعشرين حرر نفسه من تأثير هذه الكاتبة الانجليزية ليستقل بأسلوبه الخاص وبأفكاره، وكان هواه الأول أن يكون شاعرا موهوبا، فأخرج ديوانه (الظل الخارس)، ولكنه تحول من الشعر إلى النثر وخصوصا القصة، فكان (البيت الكبير) أول عمل له في هذا الميدان، ثم واصل نشر أعماله الروائية تباعا بعد أن اكتشف نفسه واكتشف فيه النقاد روائيا موهوبا أيضا (1). كانت مجلة (الليترير فرنسيز) قد طرحت على محمد ديب أسئلة عن قضايا متعددة مثل الحب والمرأة ومستقبل الأدب الجزائري بالفرنسية، فقال عن الحب: إنه بالمعنى الغربي قوة غامضة تمتلك في الإنسان كل جوارحه وهو بهذا

_ (1) لويس عوض، الأهرام، 16 أغسطس، 1963.

المعنى عاطفة غريبة عن الجزائريين، ولكنها عاطفة بدأت تنبث في تربة بلادهم منذ بدأوا كفاحهم من أجل وطنهم، فكأن ديب بذلك يربط بين الحب والحرية ويجعل بينهما علاقة طردية، حسب تعبير لويس عوضى، إن الرجل الذي يستعبد المرأة هو في نفس الوقت غير حر، ويقول ديب إنه بمجرد ما اشتد الكفاح الوطني ولدت روايات الحب الحقيقية في الحياة ... فالنساء بدأ وجودهن عنده منذ اشتراكهن في المعركة. وقارن ديب بين شعوره وشعور زملائه الأدباء في موضوع الحب والمرأة. فقال إن كاتب ياسين استشعر (هو وبعض الروائيين الآخرين) موجة دور المرأة قبل حدوثها، أما هو (محمد ديب) ومولود معمري ومولود فرعون فقد كان من المستحيل عليهم التفكير في كتابة رواية غرامية أو التفكير في الكلام عن عاطفة الحب ... وهو لا يرى في أدب الحب المتوارث منذ قرون تعبيرا صادقا على حد تعبير لويس عوض، فهو مجرد صيغ بلاغية عن الحب والمحبين، ويرى ديب أن شخصية المرأة قوية رغم ما يحيط بها من ظروف تمنع انطلاقها، وأن شخصيتها لا تقل قوة عن شخصية الرجل، بل قد تفوقه، ويبقى ديب يربط دائما بين المرأة ودورها في الكفاح، ويذهب إلى أن الحجاب أعد المرأة الجزائرية إعدادا مسبقا لحياة المقاومة السرية، ولا شك أن بعض الآراء حول الحب والمرأة تمثل هنا وجهة نظر الناقد وليس الكاتب. أما بالنسبة إلى الأدب الجزائري بالفرنسية فيذهب محمد ديب إلى أنه بعد مرحلة التحرر والدخول في معركة البناء لم يعد أمام هذا الأدب سوى اقتحام مواقع الأدب العالمي، ومن رأيه أن صوت الكاتب سيخفت بعد الاستقلال ولن يبقى هو لسان الحال المعبر لأن الإقبال سيكون على ترتيب البيت وإعادة البناء، وهذه أمور سوف لا تسمح للكاتب بأن يصرخ كما كان يصرخ أغلب كتاب الجزائر، إنهم سيدخلون مرحلة يهتمون فيها بترسيخ وتعميق موضوعات أكثر إنسانية وفردية وستتقلص عندهم الإقليمية، وسيدخل الأدب الجزائري في حركة الفكر العالمي، ومنه الرؤى التي رصدها محمد

ديب قد تحقق الكثير منها بعد الاستقلال، وقد ثنى على رأيه لويس عوض مستشهدا بحركة التاريخ، ذلك أن محمد ديب وأصحابه يعترفون أن أدبهم هو أدب معركة وأدب إقليمي يتعرض لأوضاع لها ما يبررها في زمن معين من أجل إثارة الضمير الإنساني، لكن كتاب الجزائر بالفرنسية - في رأيه - لن يستمروا على هذا المنوال، بل سيصبحون كتابا تهيم أرواحهم بدون جسد تسكته، أي كتابا عالميين بحكم اللغة التي يكتبون بها (1). والحقيقة أنه لم يستمر في الكتابة بعد الاستقلال إلا محمد ديب وكاتب ياسين وآسيا جبار، ولكن جيلا جديدا من الكتاب بالفرنسية أخذ في الظهور بعد 1962 أيضا، فإلى أي حد اقتحموا مواقع الأدب العالمي؟ وإلى أي حد ساهموا في ترتيب البيت الداخلي؟ الواقع أنهم وقعوا في حيرة أكبر من التي كانوا فيها بحكم ارتباطهم بالعالمية، فقد ازداد بعضهم بعدا عن شعبهم، وحاول آخرون الاقتراب منه عن طريق العيش داخله كما فعل كاتب ياسين حين استعمل اللغة الدارجة كوسيلة اتصال. وعلى ذكر الجيل الجديد من الكتاب نشير إلى أن محمد ديب قال عبارة حيرت بعض النقاد، وهي (نحن الجيل الأخير) أي هو وزملاؤه من كتاب اللغة الفرنسية، أما لويس عوض فقد علق على هذه المقولة بأن صاحبها متشائم لأنه يعبر ربما عن موقف أناني، وقال إن هؤلاء الكتاب لن يكونوا الجيل الأخير إلا إذا عزلوا أنفسهم عن بيئتهم وقوميتهم واقتلعوا بأيديهم جذورهم، وفروا من معركة الحياة الجديدة، بعد أن صمدوا ضد أخطر عدو للحياة وهو الاستعمار. والحق أن دراسة مصير جيل محمد ديب تفيد الكثير هنا، فهم قد اضطربوا ووهنت قواهم بعد استقلال بلادهم، وبدلوا آراءهم أو عزلوا أنفسهم عن مجتمعهم، فقد أحس بعضهم أن دوره قد انتهى بعد أن أطلق آخر صيحة.

_ (1) لويس عوض، مرجع سابق.

كاتب ياسين

وانحرف بعضهم فأصبحوا من دعاة الإقليمية الضيقة والمحلية الجغرافية أو اللغوية وحتى العرقية، وهام بعضهم على وجهه بحثا عن العالمية صعبة الدروب والأشواك، واختفى فرعون لأنه كان ضحية الجرائم الأخيرة للاستعمار، وتأكد مالك حداد بأنه أصبح غريبا في وطنه منفيا في لغة أجنبية فألقى السلاح، ونشط ياسين فترة في معمعة الشيوعية ولكنه اجتهد واستعان بنخبة بلاده اليسارية إلى أن احترق واختفى، واختار محمد ديب المنفي العالمي فكان ربما الوحيد الصادق مع نفسه حين أعلن أنه يمثل الجيل الأخير، أما مولود معمري فقد ارتمى في حبائل الحاقدين على وحدة الجزائر فعزف معهم سمفونية الفصل العرقي واللغوي بين العرب والقبائل، وتحول من أدب رقيق إلى داعية ثقافتينفي الجزائر الواحدة وداس على التراث الإسلامي واللغة العربية وحضارة الأجداد من أجل اللغة والثقافة الفرنسية (العالمية). كاتب ياسين لعلنا لا نعدو الصواب إذا قلنا إن كاتب ياسين يأتي في الدرجة الثانية في الأهمية الأدبية بعد محمد ديب، رغم أن بعض المعجبين به وأنصاره الإيديولوجيين قد يجعلونه في الدرجة الأولى، فهو في الحقيقة الثاني ظهورا والثاني سنا والثاني سمعة، ولكن الأديبين (ديب وياسين) يلتقيان في الفترة الزمنية (الخمسينات) التي تعتبر فترة اليقظة والثورة والتحرر، وكلاهما تخرج من المدرسة الفرنسية، ونبت في مدينة عريقة من مدن الجزائر التاريخية: محمد ديب من تلمسان عاصمة بني زيان وكاتب ياسين من قسنطينة العاصمة العلمية والمركز السياسي لبني حفص، لكن ديب درس فيما يبدو دراسة منتظمة ونشأ في أسرة مستقرة ولو لم تكن مترفة، بينما ياسين عاش في حالة اضطراب دراسي وشهد وهو فتى أحداث الناس مايو 1945 التي جرت قريبا من مدينته، وتأثر بالمدرسة اليسارية التي يبدو أن ديب لم يتأثر بها كثيرا، ولكن كليهما كان ناقما على الاستعمار الذي جاء بالتمييز العنصري وبالفقر

والجهل لهما ولمواطنيهم، ولذلك اجتمع الاثنان على الثورة ضد الاستعمار ولكن طريقتهما في ذلك كانت مختلفة، فكان ديب يخاطب العقل والضمير الإنساني ويستعمل طريقة الإيحاء بينما استعمل ياسين العاطفة المشبوبة ولغة الشعر والرمز والأسطورة، وقد حافظ كل منهما على مكانته في المدرسة الأدبية الجزائرية ذات التعبير الفرنسي. ولد ياسين في السمندو القريبة من مدينة قسنطينة سنة 1929، وبعد الدراسة في هذه المدينة شارك مبكرا في النضال السياسي وعانى من أحداث الثامن مايو، وبدأ نشاطه الأدبي كزميله بالشعر أيضا، وقد نشر في البداية عملا نثريا عن حياة الأمير عبد القادر عبر فيه عن ميوله الوطنية والأدبية المبكرة، ثم نشرت له تمثيلية بعنوان (الجثة المطوقة) أو المحاصرة، ولكنه لم يلفت نظر النقاد والرأي العام الأدبي إلا بروايته الغريبة (نجمة) التي نشرت في فرنسا سنة 1956، فقد اعتبرها النقاد أحسن شاهد على ميلاد الجزائر الجديدة التي كانت تخوض معركة التحرر، ويبدو أن ثقافة ياسين اللغوية كانت محدودة، ولذلك قيل إن محمد ديب هو الذي قرأ نص نجمة وهو الذي صحح لغته المتوترة قبل أن يرى النور في شكل رواية، ومهما كان الأمر فإن النقاد اعتبروا كاتب ياسين عندئذ أحسن من يمثل أدباء شمال إفريقيا من غير الأوروبيين، وكان قد سبقه إلى هذه الشهرة محمد ديب، ومولود معمري، ومولود فرعون ومالك حداد، لقد فهم النقاد أن (نجمة) الهاربة أبدا هي بطلة الرواية الخيالية، وهي تمثل الجزائر المكافحة نفسها كما تصورها ياسين، فهي ابنة امرأة فرنسية وأب جزائري مجهول. ولنا أن نفهم من هذه الشخصية الغريبة التي اختارها ياسين بطلة لروايته أن ياسين قد تصور الجزائر على غير حقيقتها، فهي ليست امرأة فرنسية إلا إذا اعتبرنا ما كان يشاع من باب التهكم السياسي والدعابة الاجتماعية أن الجزائر (ابنة فرنسا)، وأن مدينة الجزائر هي (باريس الضغرى،) وهل نعتبر إذن الاستعمار هو أبو الجزائر؟ من هنا يظهر أن تصور ياسين للجزائر - إذا صح أنه

كان يعنيها بروايته - تصور خاطى من أساسه، وهو تصور يخلخل حقيقة الجزائر التي هي عند السياسيين الوطنيين والمصلحين معلومة الأم والأب ومعروفة الهوية وأن ميلادها لم يبدأ من الاستعمار الفرنسي بل هي أمة قائمة الذات منذ حقب التاريخ، وأن يد الاستعمار قد عملت بالعكس على تشويهها وليس على إعطائها هوية: (أما) فرنسية وأبا جزائريا مجهولين، وقد سئل ياسين نفسه في إحدى المقابلات عن مغزى روايته (نجمة) فأجاب بأنها هي روح الجزائر الممزقة منذ البداية بشتى التوترات الداخلية، فإذا صح هذا النقل عنه فإنه يكون قد تبنى تصور فرحات عباس للأمة الجزائرية حين قال إنه بحث عنها في التاريخ ولم يجدها، أما كاتب ياسين فقد وجدها ولكنها كانت ممزقة ومتوترة ومشوهة لا تكاد تعرف نفسها أو يهتدي إليها الناس. وقد خاض النقاد في رواية نجمة وتفسير حضورها وغيابها، وفي الأبطال الذين يبحثون عنها فتمرق من بينهم دون أن يظفروا بها، إن الأبطال الأربعة (الأخضر ورشيد ومصطفى ومراد) كانوا يطاردونها فتنفلت منهم، وكانوا يخوضون من أجلها المغامرات للبحث عنها وهي المغامرات التي تشكل إطار الرواية، وبالإضافة إلى الحديث عن هؤلاء وعن نجمة هناك حديث عن الظلم السياسي والاقتصادي في الجزائر ووصف لمعاناة الشعب، ويلوم ياسين الفرنسيين وكذلك أهل بلاده على مصير الجزائر، وقد قلنا إن الرواية كتبت شعرا منثورا، وقد قيل إن كاتب ياسين دخل بذلك إلى مدرسة القصة الجديدة أمثال ناثالي ساروت وميشيل بوثور ... وتناول الباحث جورج جوايو طريقة ياسين في كتابة الرواية قائلا إنها طريقة ويليام فولكنر الذي اشتهر بالعودة إلى الماضي بصفة متتابعة، اهتماما منه بالمنابع الأولى للإنسان، كما نقل جوايو رأي الناقد الفرنسي موريس نادو الذي سنعود إليه. ويذهب جوايو أيضا إلى أن أصل الرواية عربي، ويظهر ذلك عنده في مواجهة الإنسان للزمن، أي اختلاط الأزمنة، فالمستقبل يختلط مع الماضي في ديمومة الحاضر، وفي الرواية قدر كبير من الخطابية العربية رغم أن ياسين

يستعمل اللغة الفرنسية كأداة للتعبير، وهو، كما يقول جوايو، يتحدث العربية في حياته اليومية، وهذه إحدى خصائص هذا الأدب الجديد في إفريقيا الشمالية، وقد أوضح جوايو المشكلة الأساسية التي كان يعاني منها أدباء العهد الاستعماري في فرنسا والمتمثلة في كونهم يعيشون في عالمين (العالم الفرنسي والعالم العربي)، لا يريدان أن يفترقا وفي نفس الوقت لا يقران تعاملهما معاملة السيد والعبد، كما أنهم يبحثون على الاعتراف بأدبهم وبشخصيتهم، ويعتبرون أدبهم أدب معاناة لأصحابه لأنهم لا يريدون الانفصال عن العالم الغربي (الفرنسي) (1). ومن جهتها نشرت مجلة الآداب البيروتية مقالة ترجمتها عن مجلة (إيسبري) الفرنسية، تذهب إلى أن كاتب ياسين جذب إليه الأنظار بنشر تمثيليته (الجثة المحاصرة)، فهو أديب شاب مسلم (جزائري) اقتحم عالم النشر والأدب سنة 1956، ثم نشرت له رواية بعنوان (نجمة) أثارت اهتماما كبيرا ورشحت صاحبها للجوائز الأدبية، سيما وهو يكتب باللغة الفرنسية، ولكنه يختلف عن الكتاب الفرنسيين في تقاليدهم الأدبية، فهو لا يلتقي معهم إلا بوسيلة التعبير ماعدا ذلك، كالأسلوب والإيديولوجية وطريقة علاج القصة فكلها تفصله عنهم، وهو يعرف أنه قدم عملا يتميز به عن غيره من كتاب إفريقيا الشمالية، حتى أنه قال عندما سئل بأنه من الخطأ أن يجمع النقاد هؤلاء الكتاب تحت سقف واحد، فالكتاب الفرنسيون أمثال: ألبير كامو وإمانويل روبليس، وجول روى، يختلفون عن مولود معمري ومولود فرعون ومحمد ديب ومالك واري لأن هؤلاء (الجزائريين) يعبرون بالفرنسية عن مشاعرهم وأفكارهم العربية. ومن رأي الناقد موريس نادو، أن ياسين قد أدخل قارى نجمة في عالم لا عهد للكتاب الجزائريين بدخوله، إنه عالم غريب وغامض، لذلك يجد فيه

_ (1) جورج جوايو في كتابنا دراسات في الأدب الجزائري الحديث، مرجع سابق.

القارى الغربي صعوبة كبيرة في الفهم والمتابعة، لأن الرواية تخلو من علاقة الزمان بالمكان، وليس لها شخصيات محددة تعود إلى القصة الموحدة في نهاية المطاف، لقد أهمل ياسين أصول الرواية وجاء بطريقة مغايرة، وإليك الصورة التي رأى (نادو) أن ياسين قد بنى عليها روايته، فهو قد بنى عالما كوكبيا أقام في وسطه شمسا هي نجمة يدور حولها عدد من الكواكب الكبيرة والصغيرة، ولكل منها نجمه الخاص، ولئن كانت الشمس ثابتة وكانت تلتمع دائما بالكثافة نفسها فنحن لا نعرفها إلا بانعكاساتها على الكواكب التي تحيط بها والتي تبعدها حركتها أو تقربها من نورها، وكذلك الأمر في شأن النجوم، ولما كانت هذه الكواكب سجينة الحركة نفسها التي تجعلها حاضرة، فإنه ينتج عن ذلك اختلاط تام بين الماضي والحاضر والمستقبل، فهل ذلك هو فعلا ما أراده الكاتب أو هو فقط ما تخليه الناقد؟ وقد رأينا أن إجابة ياسين عندما سئل عن عالمه لا تضيف توضيحا ولا تحدد إطارا حين قال إن نجمة تمثل روح الجزائر (1). لقد رسمت نجمة على أنها فتاة ثابتة لا تتحرك وإنما تبدو ذات شعر ناري وجمال فتان ونسب خفي أو مجهول، ثم إنها تمثل الأهمية السعيدة أو المنحوسة التي يعلقها عليها الأشخاص الذين يطاردونها، إن الأشخاص الآخرين يمرون بجميع أطوار الحياة، من شباب إلى شيخوخة، ومن طفولة إلى بلوغ، ولكن أربعة من هؤلاء الأشخاص ينتمون إلى جيل واحد، ويعيشون تجارب مختلفة ولكن حبهم لنجمة يجمع بينهم، وهم يطوفون أنحاء الجزائر، وقد جمعتهم المدرسة، ثم طردوا منها وسقطوا في الدرك الأسفل الاجتماعي، ومارسوا الأعمال اليدوية، كما عانوا من التسكع ثم التقوا كعمال في ورشة كان يديرها فرنسي، وكان هذا يهينهم فانتقموا منه، وقتلوا فرنسيا آخر كان يتولى وكالة نقل لأنه أيضا كان يهين المسلمين (الجزائريين) ويتلذذ برؤيتهم يتعذبون.

_ (1) الآداب، مارس 1957، ص 240، نقلا عن جريدة فرانس أوبسيرفاتور.

مولود معمري

فسجنوا، ولكن أحدهم تمكن من الفرار بينما بقي الثلاثة الآخرون في السجن، فكانوا يقضون وقتهم في تذكر نجمة، لقد اكتشفوها بالتدرج ووقعوا في حبها جميعا، وهو الأمر الذي كان يشدهم إلى بعضهم، وكل منهم كان يجتهد في التعرف على نسبها الغامض، فابنة من هي؟ ومن أبوها؟ وهل أمها فرنسية حقا؟ إن عشاقها كثيرون، وإذا كنا قد عرفنا بعضهم، فمن هم الباقون؟ ومن أية سلالة هم؟ ولعل ياسين يشير بذلك إلى ادعاء الفرنسيين أن الغزاة كانوا يتداولون على الجزائر عبر مراحل التاريخ، فهي عشيقة الجميع، وليس لها أب واحد في هذه الحالة (1). ولكن هذا الرأي لا نجده عند من انتقدوا نجمة، ونحن نرى ذلك قد يكون صحيحا لأن ياسين، بخلاف زملائه الأدباء، كانت له ثقافة تاريخية عبر عنها بكتابه المبكر عن الأمير عبد القادر واستقلال الجزائر. مولود معمري لم ينل مولود معمري حظه من الكتابة والتعريف مثلما نال زميلاه محمد ديب وكاتب ياسين، رغم أنه نشر إنتاجه مبكرا وكان أكبر منهما سنا، وهو بالنسبة إليهما من منطقة جبلية من قرية توريرت ميمون البعيدة عن الحواضر، ولد في 2 ديسبر 1917 وتعلم في قريته، ربما على يدي الآباء البيض الذين كانوا منتشرين في المنطقة، وأدى الخدمة العسكرية الإجبارية في الجيش الفرنسي خلال الحرب العالمية الثانية، فحارب الألمان والإيطاليين، ولا ندري إن كان قد أكمل دراسته الثانوية بطريقة منتظمة ولكننا نعلم أنه تولى التدريس في ثانوية ابن عكنون خلال الأربعينات، وبعد اندلاع الثورة تعرض للاضطهاد، وكاد يقتل لولا تدخل من بعض المثقفين الفرنسيين ومن السلطات نفسها فنفته سنة 1957 أو تركته يذهب إلى المغرب الذي نال استقلاله حديثا حيث عاش في كنف عمه محمد المعمري الوزير المقرب من ملك المغرب، وقد يكون مولود

_ (1) الآداب، مرجع سابق، ص 241.

قد درس أيضا في المغرب أثناء إقامته، وعلى كل حال فنحن لا ندري ما نشاطه الأدبي والسياسي أثناء هذه الإقامة، وهل عمل في مصالح جبهة التحرير هناك. ومهما كان الأمر فقد رجع إلى الجزائر بعد استقلالها، وتولى قسم الدراسات الإثتية والأنثروبوليجية وتدريس البربرية في جامعة الجزائر متطوعا، ونشط في خدمة الثقافة البربرية حتى أصبح من رموزها المدافعين عنها وعن إحيائها، ومعظم نشاطه كان في مركز البحث الأنثروبولوجي والأثري الذي كان تابعا لوزارة التربية ثم الثقافة، وكان هذا المركز بؤرة يجتمع فيها دعاة وهواة الثقافة البربرية وأنصار الثقافة الفرنسية وأعداء استعادة الهوية العربية الإسلامية للجزائر، بمن فيها بعض الأجانب، وكان إلغاء أو تأجيل إحدى محاضرات معمري في جامعة تيزي وزو سنة 1982 سببا في أزمة بين السلطة وأتباعه، وفي سنة 1989 توفي في حادث وهو عائد من المغرب الأقصى أثناء عاصفة هوجاء، وقد عرفناه خلال الستينات والسبعينات بالجامعة فكان أديبا لبقا رقيق الحاشية كثير الحياء، ولكنه كان لا يرتاح للإسلام الذي يعتبره مسؤولا على تعريب البربر وفصلهم عن أوروبا، كما كان لا يتحدث إلا بالفرنسية رغم دفاعه الظاهر عن البربرية (القبائلية). لمولود معمري أعمال أدبية قبل وبعد الثورة، ويهمنا هنا ما كتبه عشيتها وأثناءها، فقد نشر أول رواية وهي (الربوة المنسية) في باريس سنة 1953، ثم أردفها برواية (نوم الرجل العادل)، ولا ندري إن كان قد بدأ بقرض الشعر كما فعل زملاؤه، ولا محاولاته الأولى لكتابة القصة، ونعرف من اطلاعنا أن طه حسين كان من أوائل من كتب بالعربية عن الربوة المنسية، وهي القصة التي أثارت ضجتين: الضجة الأولى استقبال النقاد الفرنسيين لها ولصاحبها، خصوصا أنها لا تمس الاستعمار في الصميم وإنما تمس المجتمع الجزائري التقليدي المتمثل في شيخ القرية كرمز للتقاليد وللتراث الإسلامي والمجتمع الجديد المتمثل في الجيل الثائر على الأوضاع وعلى البطالة والأفكار القديمة، ولا ندري إن كان معمري قد اكتفى بذلك أو مس أيضا مسألة المرابطين ومسائل

أخرى حساسة في مجتمع القبائل كالعرف والمرأة والزوايا، ومهما كان الأمر فإن النقاد الفرنسيين رشحوا قصة معمري لجائزة لجان التحكيم الأدبية لسنة 1953 (سنة صدور القصة) احتفاء بهذا اللون من الأدب. أما الضجة الثانية التي أثارتها رواية معمري فهي موقفه من الوطنية، فقد سببت له هذه الرواية الاتهام بخيانة القضية الوطنية وتلقى عليها العبارات الجارحة لكونه أساء بها في نظر النقاد إلى الوطن وأدان فيها المجتمع الأهلي دون أن يدين فيها الاستعمار الفرنسي، وسنتحدث عن ذلك بعد قليل. تعرض الأديب والمفكر المصري أنور عبد المالك إلى حادث اختطاف وتغييب مولود معمري في الجزائر سنة 1957، فكتب مقالة في جريدة (المساء) المصرية تحت عنوان (كتاب الجزائر لن يخضعوا لإرهاب الاستعمار: مولود مامري (كذا) من الثورة الفردية إلى الكفاح الشعبي)، افتتح مقالته بقوله: منذ أيام قلائل كان مولود معمري (يكتبه مامري) مهددا في حياته، ففي 5 أبريل 1957 هاجمت إحدى الدوريات المسلحة منزله بمدينة الجزائر واختطفته، ولم يعرف مصيره، فاجتمعت لجنة من الكتاب الفرنسيين في فرنسا، وفيها أراغون، وسارتر، وروا وأرسلت برقية احتجاج إلى الحكومة الفرنسية، ثم مرت الأيام، واعتقد الناس أنه قتل ... ثم وردت الأخبار أنه غادر الجزائر إلى الرباط وأنه هناك يعيش في دار عمه سي معمري الوزير بالحكومة المراكشية، ويرى أنور عبد المالك أن الإبعاد قد يكون تم بقرار من السلطات الفرنسية نفسها، وما يلفت النظر هنا أن الأدباء الفرنسيين والسلطات الفرنسية لم تتحرك حين خطف وقتل، في نفس الفترة، أدباء وعلماء جزائريون آخرون أمثال أحمد رضا حوحو والشيخ العربي التبسي والربيع بوشامة، وعبد الكريم العقون. ويرى أنور عبد المالك أن مولود معمري قد أتم دراسته في مراكش وباريس، وأصبح مدرسا للأدب في ثانوية ابن عكنون (الجزائر)، وأن روايته (الربوة المنسية) قد عبر فيها عن سخط أبناء الأسر الكبيرة نتيجة أعمال

الاستعمار (؟)، ولكن الرواية لم تتجاوز مجال الخط ولم تصل إلى درجة الثورة أو القيام بعمل إيجابي، إنها تمثل الصراع بين القديم والجديد في القرية وعلى مستواها فقط ولا تتجاوزها إلى الوطن الجزائري، ويمثل النموذج القديم شيخ القرية الذي كان يصرخ دائما في الشباب بأنه جيل ملعون، أما الجديد فيمثله شباب القرية، وفيهم هذه الأسماء التي يبدو أن بعضها غير إسلامي وهي: مدور، ومناخ، ووالي ومقران ورافع وموك، فقد كان هؤلاء كلهم ساخطين على الفقر والضعف والركود، فثاروا على آبائهم، كان هؤلاء الآباء هم المسؤولين على ما حدث لهم وللجزائر من بؤس، وكأن الاستعمار غير موجود في المنطقة ولا يتحمل أية مسؤولية، ويقول عبد المالك إن حدوث الثورة هو الذي فجر الدموع والحزن لدى الأمهات على أولادهن، ثم تنتهي بذلك الرواية نهاية سوداء لأنها ليست رواية ثورية وإنما هي رواية سخط، فقد انفض الشباب وتشتتوا ورضخ مقران لضغط التقاليد فانفصل عن زوجته لأنها لم تنجب له ولدا ذكرا وعاد الغبار إلى القرية. فكيف يصح هذا الحكم على نهاية الرواية مع أنها نشرت عشية الثورة، هل تنبأت الرواية بحدوث الثورة؟ هل هناك خطأ في تصور الناقد أنور عبد المالك، إن المرجح هو أن هذا الكاتب إنما خلط بين الربوة والرجل العادل أي بعد أن سخط الوطنيون على معمري واتهموه بالانحراف وربما حتى بالخيانة فعاد في (نوم الرجل العادل) ليهاجم الاستعمار مباشرة ويجعله هو المسؤول عما حل بالجزائر من مآس، وبذلك اقترب معمري من الخط الوطني وأدرك أن هناك وطنية جزائرية، وأن الجيل القديم ليس هو المسؤول عما حدث للجزائر، إن هذه الأفكار وما يماثلها موجودة في رواية (نوم الرجل العادل) الصادرة سنة 1957 وليس في الربوة المنسية الصادرة سنة 1953. اكتشف معمري - كما قيل - الوطنية الجزائرية إذن في روايته الثانية، وقد جعل أحد أبطاله فيها يجيب كلما سئل عن سبب تصرفاته (أنا جزائري)، كما اكتشف معمري أن الوطن هو وطن الشعب العامل، وليس الراكد الخامل، وأن

الأغنياء قد تنكروا للوطن ووالوا الاستعمار، واكتشف أيضا أن الاستعمار يقوم على نظام سياسي مدروس وعلى فلسفة معادية للإنسان والأخلاق، وأن الماضي والحاضر يمثلان خطا واحدا متصلا، وأن الجيل القديم هو الذي مهد الطريق للجيل الجديد وأنه هو الذي ربط بين نضال الأجداد ضد الاحتلال في القرن التاسع عشر وبين الثورة الأخيرة وأن الجميع في سجن كبير يسمى الجزائر، وقد خاطب معمري قومه بأن يضعوا ثقتهم في الكفاح الشعبي لأن شعارات 1789 ما هي إلا شعارات مزيفة. ولنعد قليلا إلى نوفمبر 1956 فقد بعث معمري برسالة من الرباط إلى أحد أصدقائه يقول فيها: إنه لم يعد يكتب منذ أكثر من سنة وإنه لا يوجد ما يستحق الكتابة عدا المأساة الكبرى والدموع ودم الأبرياء، وقال له إن المجرم الحقيقي والوحيد هو الاستعمار، ولكنه هو لا يدين الرجال وإنما يدين النظام، وإنه يعتبر الرجال الذين يزدهرون في ظل الاستعمار هم المنافقون والخونة (1)، والظاهر أن معمري الذي أصبح تحت حماية عمه في المغرب، وجد الفرصة مواتية ليواصل تعلمه، لأنه عندما رجع إلى الجزائر بعد الاستقلال باشر التعليم في إحدى الثانويات، كما رأينا. وبعد أكثر من عشر سنوات من نشر الرواية الثانية لمعمري وخمس عشرة سنة من نشر الرواية الأولى، كتب الأديب محمد الصالح دمبري مقالة موثقة بالفرنسية عنوانها (مجادلات حول الربوة المنسية) عن قصة ظهور الربوة المنسية لمولود معمري وردود الفعل الوطنية عليها، والظروف المحيطة بموضوعها، وقد ترجم المقالة إلى العربية حنفي بن عيسى ونشر الترجمة في مجلة الثقافة.

_ (1) هناك خطأ في التواريخ أيضا، فقد سبق لعبد المالك أن قال إن معمري قد نفي إلى الرباط سنة 1957، والآن يتحدث عن مراسلة معمري من الرباط سنة 1956، فكيف نوفق بين هذا وذاك؟ أنور عبد الملك، جريدة المساء المصرية، 12 مايو، 1957.

مولود فرعون

وبناء على المقالة فإن معمري وقع فيما وقع فيه عبد القادر حاج حمو (الاسم الحقيقي لعبد القادر فكري) حين مجد هو وأمثاله عمل الشاب معمري، وكادت تلك الكتابة (التمجيد) تقضي على مستقبل معمري باتهامه بالخيانة للوطن، إذ وصلته تهديدات وتساؤلات من الأوساط الوطنية الجزائرية (1). مولود فرعون ولد مولود فرعون في تيزي هيبل سنة 1913، وهو ابن فلاح فقير، درس في بلدت، ويغلب على الظن أنه درس على الآباء البيض في المنطقة، ثم في مدرسة ترشيح المعلمين ببوزريعة، وقد أهله ذلك لتولي وظيفة مدرس في الأربعاء ناثيراثن وإدارة إكمالية فيها، ثم مديرا لإكمالية بالمدنية في العاصمة، كما تولى وظائف إدارية محلية باعتباره (منتخبا بلديا) بالأربعاء، وقد زار فرنسا عدة مرات، وكان انتماؤه للحركة الوطنية (كانتماء مولود معمري) غير واضح ولا حاسم، ولكنه كان يشعر بإهانة الفرنسيين له وللأهالي عموما رغم أنه درس بلغتهم وكان يتكلمها بطلاقة ويكتب بها. وفي يومياته تحدث عن شؤون الجزائر العامة كإضراب 1957، وحالة المنتخبين البلديين الذين هددتهم الجبهة بالقتل فاستقالوا، وعن مسألة الاندماج مع الفرنسيين وعن الجزأرة، ووقع على بيان يطالب الجنرال ديجول بوقف إعدام 150 جزائريا، ولكنه كان يعتبر الثورة ضربا من العبث، اختلف مع كامو حول استقلال الجزائر فقد كان كامو يخشى أن تستقل الجزائر فلا يزورها إلا بجواز سفر فقال له فرعون إن المسلم الجزائري كان يسافر إلى فرنسا بجواز سفر، رغم أن المسلم الجزائري لم يعتبر نفسه في يوم من الأيام فرنسيا، اغتيل فرعون من

_ (1) أنظر المقالة في مجلة كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة الجزائر، العدد الأول، 1969، ص 166 - 174، أما ترجمة حنفي بن عيسى فقد نشرت في مجلة الثقافة، 102، 1989.

مالك حداد

قبل منظمة الجيش السري، في ضاحية بن عكنون الجزائر، عشية الاستقلال، مع معلمين آخرين (1). لفرعون أعمال أدبية نشرها أثناء الثورة أو قبلها بقليل، وهو أكبر زملائه الأدباء سنا، ولم يكتسب شهرة كأديب مثل الآخرين، ويبدو أنه كان متفرغا للتعليم وإدارة المدارس والأعمال التربوية أكثر من التفرغ للأدب والنقاش الفكري، خلافا لزملائه، ورغم أنه كان يتردد على فرنسا فإنه لم يستقر فيها وربما لم يدرس فيها أيضا، ومن أعماله الأدبية قصة (الطرق الصاعدة) وهي مترجمة إلى العربية و (الأرض والدم)، بالإضافة إلى اليوميات التي كان يحتفظ بها. وقد ركز فرعون في أدبه على المحلية مصورا عيشة القبائل، مثل زميله مولود معمري، فلم يتناول الوطن الجزائري ولم تظهر في كتاباته الهوية الوطنية ولا الإيمان بالأمة الجزائرية، وإنما ركز اهتمامه على عادات وتقاليد التي تميزت بها القبائل. مالك حداد ولد مالك حداد بقسنطينة في 5 يوليو 1927، ودرس فيها الابتدائي والثانوي ثم تجول كثيرا حول العالم، لا سيما زمن الثورة، سافر إلى فرسا ليتابع دراسته في القانون (جامعة إيكس) وتونس ونيودلهي وموسكو وسوريا وغيرها. بدأ نشاطه الأدبي بنظم الشعر وصدر له منه ديوان، ثم كتب الرواية أيضا، ولكنه كان غير مكثر، رأيناه واجتمعنا به في عدة مناسبات فكان نعم الإنسان خلقا، وقد جلس إلى جانبي الأيسر في المنصة يوم ألقيت أول محاضرة عامة في قسنطينة سنة 1967، ثم عملنا معا فترة في اتحاد الكتاب يوم أن كان هو رئيسه.

_ (1) محمد عباس، الشروق اليومي، 7 فبراير 2005، عن يوميات فرعون الصادرة سنة 1962.

ترجمت أعماله إلى العربية على يد حنفي بن عيسى وكذلك ملك أبيض زوجة الشاعر السوري سليمان العيسى. منذ الاستقلال تخلى مالك حداد عن الكتابة لأنه عانى أزمة نفسية، معتبرا اللغة الفرنسية منفاه، فعاد إلى أحضان الثقافة الوطنية دون أن يبذل جهدا في تعلم اللغة العربية فضلا عن الكتابة بها، وقد انقطع عن الكتابة بالفرنسية منذ الاستقلال، وتولى إدارة الثقافة في وزارة الأخبار في الستينات فقدم خدمات ورؤى للثقافة بالتعاون مع عناصر هامة في الدولة تتفق معه في المشرب والهدف مثل محمد الصديق بن يحيى ومصطفى كاتب ومحمد سعيدي، وقد أثرت عليه هو أيضا أحداث 8 مايو 1945 واعتبرها مائة ألف جريمة، أشرف على الصفحة الأدبية في جريدة النصر التي كانت تصدر في قسنطينة بالفرنسية سنوات 1968 - 1972. خلافا لبعض زملائه الذين كتبوا باللغة الفرنسية نجد مالك حداد قد عاش الثورة الجزائرية بكل جوارحه ولم يشك أو يطالب التفاهم بين الضفتين أو بين الشعبين كما فعلوا، وإنما وقف مع الثورة إلى نهايتها المنتصرة رغم أنه هو القائل: إن وطنه هو الإنسان، بعد اندلاع الثورة تعرض منزله للاعتداء فغادر الجزائر إلى فرنسا وأوروبا وأخذ يدافع عن الجزائر العربية ويدعم الثورة، أدركته الوفاة في الجزائر في شهر يونيو 1978 ونقل جثمانه إلى قسنطينة حيث ووري التراب، توقف عن الكتابة سنة 1961 مفضلا الصمت على الكتابة بلغة يعتبرها منفاه، وقد قيل إنه علم ولده العربية انتقاما من الفرنسية، كما يروى ذلك بعض الأدباء، ولعل مالك حداد بالغ في ذلك الموقف، فلو أنه تعلم العربية وأبقى على الفرنسية كما فعل مالك بن نبي وغيره لكان أجدى على الثقافة والأدب على ما نعتقد (1).

_ (1) أحمد دوغان، شيخصيات من الأدب الجزائري المعاصر، ص 69 - 75، انظر أيضا عبد الحميد بن هدوقة، الجمهورية، 22 جوان 1970.

آسيا جبار

ولمالك حداد مؤلفات قبل الثورة وأثناءها نذكر منها: الشقاء في خطر (شعر)، واسمع وسأناديك (شعر)، والانطباع الأخير (رواية)، وسأهبك غزالة (رواية)، والتلميذ والدرس (رواية)، ورصيف الأزهار لا يجيب (رواية)، وكلها صدرت بين 1956 و 1960، وله كتاب بعنوان (الحرية ومأساة التعبير لدى كتاب الجزائر)، دمشق 1960. اعتبر مالك حداد اللغة الفرنسية هي منفاه في وطنه فانقطع عن الكتابة منذ الاستقلال، أما زميله كاتب ياسين فاعتبر اللغة الفرنسية عصا حرب واستمر يكتب بها، وكذلك فعل محمد ديب، قد تكون (التلميذ والدرس) أهم أعمال حداد لأن فيها رمزية عن الحياة والحلم ونهاية كل حي، فالبطل قد أضاع حلمه، وقد يكون هو الكاتب يرمز به إلى نفسه، فالرواية نوع من السيرة الذاتية، وربما اعتبر الحياة كلها نوعا من الزيف والحماقة، لقد قال حداد بعد الاستقلال إنه مفصول عن وطنه بالبحر الأبيض المتوسط وباللغة الفرنسية، وهو موقف احترمه من أجله أناس واستخف به آخرون. آسيا جبار نوهت هنا الجزائر بالكاتبة الناشئة آسيا جبار، فخصصت لها افتتاحية العدد وتحدثت عن حياتها فقالت إنها تبيع 22 سنة وإنها متخرجة من مدرسة ترشيح المعلمين (النورمال)، وقارنتها في أدبها الجديد بالكاتبة الفرنسية الصاعدة عندئذ (فرنسوا ساغان) (1)، وفي مقال آخر تعرضت المجلة إلى رواية (العطش) التي نشرتها آسيا جبار عندئذ، كما تحدثت عنها الصحافة الفرنسية الأدبية. كانت العطش أول رواية جلبت الشهرة لآسيا جبار ونالت بها سمعة مبكرة وتقديرا واستحسانا بين المعاصرين، كب أحدهم عنها (وهو فرنسي يدعى

_ (1) هنا الجزائر 70 نوفمبر 1958، ص 48، وأيضا 71، ديسمبر 1958.

F - L. Benos) مقالة نوه فيها بهذه الفتاة البالغة من العمر الثانية والعشرين، وقال إنها درست في شرشال في المدارس الابتدائية والثانوية، وشاركت في مسابقة صعبة في فرنسا، ومع ذلك نجحت فيها وهي المسابقة التي تؤدي إلى دخول مدرسة المعلمات العليا، ونعلم من هذا التنويه أن آسيا جبار كتبت القصة الأولى تحت عنوان (العطش) والثانية بعنوان (المستعجلون)، وفي العدد المذكور من المجلة تعريف روايتها (العطش) (1). ومهما كان الأمر فإن آسيا جبار ليست هي الأولى من ذلك الجيل الذي أخذ يكتب عن الموضوع نفسه، ففترة الخمسينات فترة حرجة بالنسبة لتطور الأدب الجزائري المكتوب بالفرنسية، فهي فترة ظهور كتاب الجزائر بالفرنسية الذين لحقت بهم الثورة. ولدت في شرشال باسم فاطمة الزهراء إيمالين في الرابع من أغسطس سنة 1936، ودرست في مدينتها الأثرية المطلة على البحر، وأظهرت نبوغا مبكرا غير عادي، ودخلت المدرسة العليا للأساتذة ربما لكي تكون أستاذة في التعليم الثانوي، وانتقلت بسكناها إلى البليدة الأقرب إلى العاصمة وإلى المدرسة العليا، والبليدة هي عاصمة سهل متيجة الجميل، وهي واقعة في أسفل الأطلس البحري، وقريبة من القصبة وعمق الحياة العربية الشعبية ومن التاريخ البعيد الذي يرجع إلى عصر المرابطين والعثمانيين والتاريخ القريب حيث أثر الاحتلال الفرنسي بنماذجه الهندسية ومظاهر حضارته ونمط معيشة المستوطنين الأوروبيين الذين ينظرون نظرة دنيا للجزائريين أهل البلاد ويطلقون عليهم اسم (الاندجين) تحقيرا لهم. في هذا الجو نشأت فاطمة الزهراء إيمالين وبدأت منذ الخمسينات تتعاطى الكتابة باللغة الفرنسية، وهي ما تزال تتردد على المدرسة العليا في الجزائر وفي فرنسا حيث فازت في مسابقة لفتت إليها الأنظار.

_ (1) هنا الجزائر 72 يناير و 1959.

كان عمرها حوالي اثنتين وعشرين عاما عندما نشرت أول قصة لها، وقد اختارت اسمها القلمي (آسيا جبار) واختارت (العطش) عنوانا لقصتها، ومنذ ذلك التاريخ (1957) والاسم والوصف متلازمان: آسيا جبار والعطش من أجل الأدب والصعود فيه إلى القمة التي بلغتها في نهاية المطاف بفضل مثابرتها وتواضعها واختيارها لموضوعات أهملها الرجال والنساء السابقون وهي الموضوعات المتعلقة بالمرأة والمطبخ والحريم والتقاليد الاجتماعية والأطفال. وفي الوقت الذي كانت فيه فتيات جزائريات أخريات يقمن بأعمال فدائية في القصبة ومدن الجزائر الأخرى وفي الجبال كانت آسيا جبار تشق طريقها في ميدان الأدب وتبحث في التاريخ حيث سجلت نفسها في جامعة الجزائر، فاستقبل النقاد قصة العطش استقبالا مرحبا فزاد ذلك من دفعها إلى الأمام، وكتبت عنها الصحف، وكانت "نجمة) من نجوم الجزائر الذين ظهروا عندئذ يتقدمهم محمد ديب وكاتب ياسين ومولود فرعون ... وعرفت أن مكان الأدب المكتوب بالفرنسية هو باريس فرحلت إليها، وربما ظلت تتردد عليها وعلى عاصمة بلادها طيلة عهد الثورة، وقبل نهاية الثورة تزوجت وأصدرت قصة أخرى هي (فاقدو الصبر) عن بنات جنسها المتعجلات في تغيير واقع الحال الثقافي في الجزائر والطامحات إلى تبني الثقافة الغربية (الفرنسية) بسرعة، وفي سنة 1962 أصدرت قصة جديدة وهي (أطفال العالم الجديد)، وكانت طيلة هذا العهد ما تزال في العشرينات من عمرها، وكانت غير مستعجلة في خطواتها نحو القمة، وربما يمكن القول إنها كانت تعمل في صمت وتأن كأنها تعد مواقع قدميها، وها هي اليوم قد بلغت رواياتها ومسرحياتها حوالي ثلاثة عشر، وفي هذه الأعمال مسرحيات وأشعار، ومنها (أشعار من أجل جزائر سعيدة). ويهمنا هنا أعمالها المنشورة قبل 1962، يبدو أن آسيا جبار قد تأثرت بالبيئة الاجتماعية والبيئة التاريخية، فأعمالها تتناول تاريخ الجزائر الاجتماعي بشكل جديد، فهي توظف أحداث الماضي، بما في ذلك الأساطير والرموز.

لبناء الحاضر، ولا تتناول ذلك بطريقة مباشرة شأن السياسيين والمؤرخين الأكاديميين، ولكنها تتناول ذلك بالأسلوب الأدبي الشفاف وبطريقة الإيحاء وبعاطفة هادئة لا تجرح ولا تقدح، رغم أنها تضع أصبعها على الجرح، وهي وإن عاشت زمن الثورة، فإنها لم تكتب عن الثورة مباشرة - حسب علمنا - ولكنها وصفت الظروف والأسباب التي أدت إلى الثورة، كما تحدثت عن معاناة المرأة والأطفال، والإنسان الجزائري عامة، نتيجة حرب التحرير، فهي لم تكن غائبة عن المشهد ولكنها كانت تصفه بأسلوبها الخاص، وقد ظهرت معظم أعمالها بعد الاستقلال. نعم صعدت آسيا جبار (العالمية) بعد الستينات، وحظيت بالجوائز الفرنسية وغيرها، وترجمت أعمالها إلى عدد من اللغات التي منها الإنجليزية، وللأسف لم نعرف حتى الآن أن أعمالها قد ترجمت إلى العربية، رغم أنها تتحدث عن عالم عربي وإنسان عربي وتقدمه للقارى (العالمي) ولاسيما الفرنسي، ولم تبذل هي جهدا في إتقان اللغة العربية والكتابة بها على غرار ما فعل رشيد بوجدرة ومالك بن نبي، وكأنها استمرأت الحياة (الخارجية) مطلقة شعبها وأهلها، غير مبالية بهم فهموا دورها ورسالتها أو لم يفهموا، إنها أديبة ومؤرخة لأناس آخرين وليس لشعبها، وقد أعطاها هذا الخارج ما تريد وأكثر، ربما لأسباب معلومة وأخرى مجهولة، ولكن شعبها بقي يجهلها إلا القليل ممن يلفون لفها ويغزلون غزلها، والغريب أن الأدباء من أمثالها يطيلون ألسنتهم ويبرون أقلامهم للحديث عن (دور الأديب) في مجتمعه وشعبه، ولكنهم عندما يجد الجد نجدهم ينفضون من حوله ويختارون الاختباء وراء العالمية والشهرة ويهربون من التخلف وينسون (التزاماتهم) نحو أنفسهم وبلادهم، ولا نعتقد أن رأينا هذا يعد من باب الخطابية والوطنية الخشبية، بل أنه رأي يدين به أهل البلاد المتقدمة أنفسهم، فهم بالتحديد أدباء بلدانهم وليسوا أدباء بلدان أجنبية، ومن آخر أخبار آسيا جبار أنها انتخبت لعضوية الأكاديمية الفرنسية.

شعراء بغير العربية

شعراء بغير العربية حدثت الثورة في وقت كان فيه جيل من الشباب الجزائري يتفتح نحو الأدب باللغة الفرنسية أيضا، سواء في ميدان القصة أو الرواية أو المسرح (وقد درسنا ذلك في محله) أو الشعر، ولذلك عرف عقد الخمسينات بأنه عقد شهد فيه الإنتاج الأدبي خصوبة غير معهودة لاعتبارين الأول أن التعليم المحدود بالفرنسية الذي سمح به الفرنسيون للجزائريين منذ سنة 1945 قد بدأ يؤتي ثماره، كما أن طلاب جمعية العلماء، ولا سيما طلاب معهد ابن باديس، أخذوا يتخرجون وينتجون، أما الاعتبار الثاني فهو وجود الحافز الوطني الذي هو الثورة، فقد فتحت المجال أمام الشباب المثقف/ المتعلم لكي يعبر عن طاقته الأدبية في الحرية والاستقلال، ومن ثمة حدث ذلك التحرك الطلابي الذي عرفته الجزائر منذ 1954 والمتمثل في ميلاد التنظيمات كاتحاد الطلبة ورابطة الطلبة والإضراب عن الدروس والامتحانات ونحوها، وكان الأدب أحد جوانب هذا النشاط، وكان الشعر هو لسان الشباب المتحفز. ليس غرضنا أن ندرس شعراء الجزائر بالفرنسية حالة بحالة وفردا فردا، والذي يهمنا منهم هو الشعر الذي قالوه في الثورة وليس شعرهم بصفة عامة، والمعروف أن منهم من نشر مجموعات شعرية ومن نشر قصائد في دوريات، ومنهم من جمع أشعارا بالعربية أو البربرية دون أن يكون هو قائلها، ومنهم من قال شعرا ثوريا، ومن اكتفى بالتعبير عن الحرية والطبيعة والمرأة والظواهر الاجتماعية كالفقر والحرمان، ومنهم من يعود شعره إلى الأربعينات ومن تجاوز عهد الخمسينات إلى الستينات وما بعدها. فهذا السيد محمد بكوشة قد أصدر سنة 1946 مجموعة من الشعر الموزون في تلمسان بعنوان (أشعار حرة)، وهي ذات موضوعات مختلفة، من بينها الاضطهاد الذي عاشه الشعب بعد أحداث 8 مايو 1945، وقد أصدر نفس الشاعر مجموعة بعنوان (آمال) في الرباط، سنة 1958، بينما أصدر أحمد

الشامي (رياح الصحراء) من سعيدة سنة 1951 و (أنشودة الجزائر الشهيدة) 1960 ربما في المغرب، و (الغرق) سنة 1961، ومن جهة أخرى أصدر النبهاني قريبع مجموعات من الأشعار في سنوات مختلفة منها مجموعة (شكاوى العربي) سنة 1954، وأشعار النبهاني تنم عن روح فلسفية إنسانية وليست سياسية، وكان السيد محمد حداد ينشر شعره تحت اسم مستعار، ومنه (النبرة الحادة) سنة 1954 الذي أصدره في مونتكارلو، ونفس الشيء فعله الطاهر باقي الذي نشر تحت اسم مستعار مجموعته (أنا جزائري) وهي تشتمل على أشعار وحكايات، الرباط، 1958، وهو الذي أصدر أيضا (عن الحب والموت) سنة 1959 في الرباط، وقد علق الكاهن جان ديجو على أشعاره وحكاياته بأنها ساذجة. ومن شعراء هذه المرحلة إسماعيل آية جعفر الذي يبدو أنه كان متقدما في صناعة الشعر، فله (شكوى العرب في القصبة وشكوى الطفلة ياسمينة التي قتلها والدها)، سنة 1951، وقد نشر هذا العمل في الجزائر سنة 1953، وهو الشعر الذي حاز على اهتمام الأدباء والنقاد في لغات أخرى، فنشر في مجلة (الأزمنة الحديثة) الفرنسية، كما ترجم إلى الإنجليزية في أمريكا ونشر سنة 1973، وهو شعر طويل ومثير للحزن والألم نظرا للموضوعات التي تناولها حول القصبة، وحديثه عن الفقر والفقراء، وللشاعر آية جعفر مجموعتان أخريان لم تطبعا وهما (مفترق الشر) و (المخاوف الصغيرة). ومن هذا الرعيل الهادي فليسي في مجموعته (الرغبة الإنسانية)، باريس 1959، وحسين بوزاهر الذي نشر في باريس أيضا سنة 1960 مجموعة بعنوان (أشعار) وهي أشعار عن الثورة وعن الحرية والشعب والمجاهدين، بالإضافة إلى بوعلام خليفة الذي نشر (يقينيات) في باريس 1961، ونور الدين التيدافي الذي غنى لحرب التحرير في مجموعته (الوطن دائما) ونشرها في تونس 1962، ثم محمد حدادي في مجموعته (لابد من طلوع النهار) سنة 1961.

ولكن هناك شعراء (كبار) ظهروا خلال الخمسينات وارتبطوا بأدب الثورة نشرا وشعرا، منهم مالك حداد، وكاتب ياسين ومحمد ديب ... فقد نشر مالك حداد ديوانه (الشقاء في خطر) في باريس 1956، تغنى فيه بالمقاومة الوطنية، وقد نوه به النقاد، ويقال إنه تأثر في شعره عندئذ بأدب إيلوار وأراغون، وفي وقت لاحق نشر مالك حداد مجموعة (أستمع إلي أناديك) في باريس 1961، وقد سبقت أشعاره هذه مقالة عنوانها (الأصفار تصبح مدورة)، وأشعار مالك حداد تعبر عن الجزائر وهي تخوض حرب التحرير وتكافح من أجل الحرية. أما كاتب ياسين فقد دخل ميدان الأدب بمجموعة شعرية سنة 1946 من عنابة حيث نشر مجموعته (موليلوك)، وأعلن مرات عن مجموعات شعرية أخرى ولكنها لم تظهر في الواقع، منها (قصائد الجزائر المضطهدة) 1948، ومجموعة (مائة ألف مخدر) 1958. ونشر محمد ديب مجموعة شعرية بعنوان (الظل الحارس) في باريس 1961، وهي المجموعة التي كتب له مقدمتها أراغون، وقد أصبحت أشعاره معروفة في عالم الأدباء، وهي تتحدث عن الجزائر الأم وعن المنفى الحديث وعن الغربة الفعلية كما كان يعيشها عندئذ والغربة الرمزية الداخلية، ومحمد ديب تحدث في مجموعته عن ذاته في هذا العالم القلق. ومن الذين برزوا في ميدان الشعر محمد الحاج يعلى الذي نشرت له (المجاهد) قطعا معبرة عن روح الثورة، فقد احتوت الصفحة الأخيرة من جريدة المجاهد وفي ركن بعنوان (ركن الشعراء المقاومين) قطعة بعنوان (الحرب والتهدئة) وبتوقع، M. Y الذي قرأناه (محمد يعلى)، وقد أهدى هذا الشعر إلى أولئك المعروفين أو المجهولين الذين استشهدوا لكي تعيش الجزائر حرة، وختم القطعة بعبارة الحرية أو الموت، وقد وجدنا للشاعر محمد يعلى قطعا أخرى، واحدة بعنوان (فقراء مدينتي) الذين يقول عنهم إنهم (عند بزوغ كل فجر تراهم على اختلاف أعمارهم يعلو وجوههم الشحوب ... همهم هو

التسكع خلال الديار، بحثا في القمامة، يدفعهم إلى ذلك الإملاق المرسوم على وجوههم ... أمام كل باب وتحت الأقواس يقضون ليلهم ... الخالي من الأمل ... المشحون بالضجر، ما أكثر هؤلاء في مدينتي الجميلة! ولمحمد يعلى قطعة أخرى بعنوان (دماء أهل الحق) يقول فيها: (ألواح الحرب القائمة ... من يقدر على وصفك بالكلمات .. الحرب جحافل من البشر لا يملكون سكنا ولا خبزا، نجوا بمعجزة من الخراب، وذهبوا ينتظرون الموت على قارعة الطريق ... الحرب ... آلاف الزوجات والأمهات يسفحون وابلا من الدمع .. الحرب .. سيل من الدماء!) إن قطعة (فقراء مدينتي) منشورة أيضا في L'Echo بتاريخ 20 أكتوبر 1957، ولمحمد يعلى قطعة أخرى موجودة في أوراقي بالفرنسية عنوانها Aboublie تبدأ هكذا: (قلت لقلبي مع من أتقاسم المرأة غير المخلصة) .... وهي قصيدة تعود إلى ما قبل الثورة فهي ترجع إلى مايو 1949. وأثناء وجود محمد يعلى في القاهرة أيام الثورة كنا نلتقي رفقة التارزي الشرفي وحسن الصائم ونتبادل الحديث حول الأدب الجزائري، وأذكر أنني نشرت له قطعة قصيرة في مجلة (الرسالة الجديدة) المصرية بعد أن ترجمتها إلى العربية بمساعدته، وطالما أمدني بمعلومات عن الأدب الجزائري المكتوب بالفرنسية ... ويبدو أنه لم يستمر في التعاطي مع الأدب لأنه غرق في السياسة إلى الأذقان، ولا نشعر بضرورة الترجمة لحياته هنا - على غرار ما فعلناه مع زملائه - لأن الرجل معروف الآن، وقد تولى بعد الاستقلال مسؤوليات كبيرة في الدولة، وهو الآن متقاعد، ونلتقي من وقت لآخر فى المناسبات الثقافية. بالإضافة إلى المجموعات الشعرية المنسوبة لأصحابها أو القصائد الفردية المنشورة - في المجلات والجرائد، هناك مجموعات أو مختارات قام غير الشعراء بجمعها وتقديمها للقراء، من ذلك (أشعار بربرية قبائلية) جمعها جان عمروش وطبعت في تونس، 1947، وقد قام مولود فرعون بجمع بعض (أشعار سي

محند) ونشرها في باريس 1960، ولكن مولود معمري هو الذي جمع ديوان سي محند ونشره كله سنة 1969 بعنوان (إيسفرة سي محند)، ولكن جهد معمري خارج عن التاريخ الذي حددناه (1). وما دمنا نتحدث عن نشر المجاميع فلنشر إلى أن مصطفى الأشرف قد نشر سنة 1953 (أغاني الفتيات العربيات) في باريس، وقد ترجمها من العربية إلى الفرنسية، وهي تتعلق بالحياة اليومية، والغزل، والعمل، مع مقارنة بالشعر الأندلسي، أما دنيس باريه D. Barret فقد نشر مجموعة من الشعر المعاصر تحت عنوان (الأمل والخطاب) Espoir et Parole باريس 1963، وهي وإن ظهرت بعد الاستقلال إلا أنها تحمل تواريخ عهد الثورة وتتعلق بحرب التحرير. ويجب أن نذكر أنه إلى جانب المجاميع الشعرية (الدواوين) التي نشرها أصحابها هناك القصائد التي نشرت في الدوريات، ومن الذين فعلوا ذلك قبل وأثناء الثورة، نذكر نور الدين عبه، ورشيد عبد الجليل، ومحمد أبركان، وإسماعيل آية جعفر، وبشير الحاج علي، وقدور محمصاجي ومصطفى الأشرف، ومالك واري، وقد احتوى العدد الخاص من مجلة (النقد الجديد) الصادرة سنة 1960 على مجموعة من الشعر الموضوع والمترجم. ومن الملفت للنظر في الشعر المكتوب بالفرنسية أن هناك شعراء من الجنس اللطيف بخلاف زميلاتهن اللائي يكتبن بالعربية، ففي الوقت الذي لا نكاد نجد فيه امرأة كتبت شعرا بالعربية في فترة الثورة وجدنا عددا من النساء كتبن الشعر بالفرنسية، وهي ظاهرة تستحق الدراسة من النقاد وعلماء الاجتماع، وإليك بعض الأسماء: ليلى الجبالي، وآسيا جبار، ومليكة أو

_ (1) عرض فيلم (المتمرد) الذي يقدم حياة محند أو محند سنة 2004، وعرضت جريدة الشروق اليومي نبذة وافية عن حياة سي محند (1840 - 1905) ومغامراته العاطفية والوطنية، أنظر عدد 22 نوفمبر، 2004.

جريدة المجاهد والقومية العربية

الحسن، وجميلة دبيش، وزهرة زراري. وأخيرا نشير إلى أن هناك أسماء فرنسية ساهمت في حركة الشعر بالجزائر وارتبطت بعهد الثورة وما بعده وتعتبر مساهمة أصحابها أحيانا مساهمة في حركة التحرير الوطني الجزائري، ومن هؤلاء هنري كريا، وجان سيناك، وجان عمروش، وأنا غريكي (1). ومن جهة أخرى نشرت (المجاهد) قطعا شعرية أخرى لجزائريين مجهولين، ولكنها كانت عاطلة من الأسماء، فقد نشرت قطعة لشاعر قالت إنه من ضباط جيش التحرير الشباب، وعنوان قطعته (تحيا الحرية) التي أهداها إلى مقران وعبد المالك وكل الرفاق الذين سقطوا في ميدان الشرف، بالإضافة إلى شاعر شاب آخر من جيش التحرير كتب قطعة عنوانها (الغضب المشروع)، فهو شاعر ضد الظلم، لأن الظلم يقود إلى الغضب، ولعله يقصد بالغضب هنا الحرب ومن ثمة فهو ضد الحرب التي دفع إليها دفعا بسبب القهر والظلم (2). جريدة المجاهد والقومية العربية جريدة المجاهد جريدة خبرية وإعلامية وسياسية كانت تدافع عن قضايا الثورة وترد على الإعلام الفرنسي، وكانت إيديولوجيتها هي الإيديولوجية الوطنية الموجهة نحو اليسار، وقد ظلت على هذه الصفة فترة طويلة، ثم أخذت تعالج مسائل الدين والأدب والتاريخ ونحوها ربما باعتبار هذه العناوين جزءا من القيم الوطنية وسلاحا لتعبئة الجماهير وراء الثورة. وكان الاحتلال الفرنسي قد انتهك الدين الإسلامي فلم يحترم التزاماته

_ (1) رجعنا فيما يتعلق بالشعر بالفرنسية إلى البيبلوغرافيا التي أعدها الكاهن جان ديجو 19775 - 1945 J. Dejeux ونشرتها الشركة الوطنية ... الجزائر، 1979، ص 63 وما بعدها. (2) المجاهد، عدد 2، د، ت.

النصوص عليها في اتفاق يوليو 1830 والمتعلقة بالإسلام والمرأة والممارسات الدينية والأملاك الوقفية والهيئة القضائية ورجال الدين والزهد في مساجدهم ونواياهم، ولكن حين أثار ديجول شروعا لتعديل القضاء الإسلامي والتشريعات الخاصة بالمرأة تدخلت المجاهد وكتبت عن هذا المشروع الذي سمته حرب ديجول الصليبية في الجزائر، كما تناولت القضاء الإسلامي والسيطرة الفرنسية عليه، وبهذه المناسبة تعرضت المجاهد إلى سجل فرنسا في اضطهاد الإسلام في الجزائر، ودور الكنيسة ورجالها من منظمة الآباء البيض إلى حالة الأيمة المسلمين وكيف تعامل الاستعمار مع الإسلام والأديان الأخرى، ولاسيما موقف فرنسا من قضية فصل الدين عن الدولة (1). ومما يلفت النظر بهذا الصدد أن عدد 89 من المجاهد بالفرنسية قد احتوى مقالة مطولة (ربما هي مترجمة أيضا في الطبعة العربية) عنوانها (الأمة العربية والثورة الجزائرية)، وللمقالة هامش أحال على دراسات أخرى حول نفس الموضوع، ويلاحظ القارى أن المقالة لا تحمل توقيعا وأن الإحالات هي: الثورة العربية، رقم 27، وعلى طريق الوحدة رقم 28، وغدا، الأمة العربية رقم 29، ثم تطور المجتمع الإسلامي والتجربة الجزائرية رقم 35. وبالإضافة إلى المسألة القومية كتبت المجاهد عن التاريخ الجزائري برؤية غير تقليدية، ومن ذلك حديثها عن ثورة المقراني وثورة أولاد سيدي الشيخ، ولا يكاد يخلو عدد من المجاهد بالفرنسية من حديث عن الاتحاد العام للطلبة المسلمين الجزائريين ونشاطه النقابي والوطني والقومي (2). أما المجاهد بالعربية فلم ترجع إلى تاريخ الجزائر البعيد واكتفت بتاريخها مع الاستعمار الفرنسي في أغلب الأحيان، فلم تتناول التاريخ القديم

_ (1) عواطف عبد الرحمن، الصحافة العربية، ص 129 - 130، انظر أيضا الشؤون الإسلامية في فصل الكتب. (2) المجاهد - بالفرنسية -، ص 570 من المجلد المطبوع في يوغسلافيا بعد الاستقلال.

ولا الحركة الوطنية الحديثة وإنما تناولت شخصيات من زعماء المقاومة مثل الأمير عبد القادر الذي اهتمت به في عدة مناسبات، وابن باديس، والحاج المقراني، وبوعمامة، وبوشوشة ... وقد كتبت مرة خلاصة لتاريخ الجزائر منذ العهد العثماني الأخير فتعرضت لتاريخ الأسطول والديون المعروفة بين الجزائر وفرنسا كمقدمة للحديث عن مقاومة الاحتلال الفرنسي، مع صور بريشة فنانين فرنسيين يبدو أنها صور ترجع إلى عهد الأمير عبد القادر، وقد جعلت عنوان المقالة (خصائص النضال الجزائري عبر التاريخ، 1830 - 1954) وهي تمتد على ثلاث صفحات، ويلاحظ أنها لم تذكر شيئا عن فترة 1900 - 1954 ربما حتى لا تأتي على ذكر مصالي الحاج ودوره في الحركة الوطنية (1). وفي فاتح السنة الأخيرة من عمر الثورة كتبت المجاهد مقالة عنوانها (الثورة الجزائرية والقومية العربية)، وهي مقالة تحليلية طويلة وبدون توقيع، ومن عناوينها الفرعية ما يذكرنا بالمقالة السابقة التي نشرتها المجاهد بالفرنسية، وهي الأمة العربية وحدة لا تتجزأ، وعوامل الوحدة، وعوامل التجزئة وطرق تجاوزها، وطريق الوحدة، ودور الثورة الجزائرية في بناء الوحدة العربية، ونلاحظ أن المقالة كتبت عشية تقدم المفاوضات في إيفيان بين جبهة التحرير والحكومة الفرنسية وتباشير نجاح الثورة التي كانت الجماهير العربية مأخوذة بها، فهذا التناول ينسجم مع الجو المفعم بالآمال في تحقيق الوحدة العربية التي تلعب فيها الجزائر دور المحرك، ذلك أن قارى المقال يلاحظ أن هناك صورة لجيش لتحرير بسلاحه وتحت الصورة كتب: جيش التحرير الوطني الجزائري، مفخرة العروبة (2).

_ (1) المجاهد، عدد خاص رقم 107 بتاريخ أول نوفمبر 1961. (2) المجاهد، عدد 113، بتاريخ 22 يناير، 1962.

الفصل الرابع الإعلام في الثورة

الفصل الرابع الإعلام في الثورة بالإضافة إلى الصحف الفرنسية الناطقة في أغلبها باسم الكولون (الأوربيين) في الجزائر هناك صحف ونشرات كانت ناطقة باسم الأحزاب والهيئات، وأحيانا باسم أشخاص مستقلين أو تابعين لتيار معين، ويهمنا الآن الصحف والمجلات والنشرات التي أصدرها الجزائريون، سواء كانت بالعربية أو بالفرنسية، وننبه إلى أننا كنا تناولنا هذه الصحف في الأجزاء الأخرى من كتابنا في الفترة السابقة للثورة. الصحافة صحف جمعية العلماء أصدرت جمعية العلماء جريدة البصائر في سلسلتها الثانية سنة 1947، وهي صحيفة جامعة تعبر عن الاتجاه الإصلاحي السلفي الذي تتبناه الجمعية، وهي تتناول مواضيع ثقافية وعلمية وأدبية وسياسية، وغالبا ما يحمل كل عدد منها افتتاحية بقلم رئيس تحريرها وصاحب امتيازها (الشيخ محمد البشير الإبراهيمي) الذي هو في نفس الوقت رئيس جمعية العلماء، وقد وصفت بأنها كانت محل إعجاب في المشرق والمغرب والأمريكيتين لتنوع مواضيعها ورقي أسلوبها، ووصفها الإبراهيمي وصفا جامعا فقال إنها (سيف من سيوف الإسلام، وقبس من روح الشرق، ومنبر للعربية، وهي شجى في حلق

صحف حزب الشعب

الاستعمار، وهي ترجمان أفكار جمعية العلماء)، وقد استمرت البصائر في الصدور إلى أبريل سنة 1956، كما سنرى (1). وفي وقت لاحق (1952) أصدرت جمعية العلماء أيضا جريدة بالفرنسية أسمتها الشاب المسلم فكانت صورة لما تنشره البصائر في المواضع والاتجاه، فاستقطبت نخبة من كتاب الجزائر المتنورين والمتحررين فتناولوا على صفحاتها موضوعات مستقلة ذات اتجاه إصلاحي - تجديدي وطني - أمثال مالك بن نبي، وعمار أوزقان، والشريف ساحلي، وكانت الجمعية تصدرها نصف شهرية من العاصمة وتوجهها إلى الشباب الجزائري المثقف بالفرنسية، وعند صدورها حيتها (المنار) فقالت إنها لسان حال شباب جمعية العلماء المسلمين الجزائريين باللغة الفرنسية لربط الصلة بين المثقفين بالعربية والمثقفين بالفرنسية، وتمنت لها النجاح في خدمة التعاليم الإسلامية الخالدة (2). وفي سنة 1949 أصدر بعض أعضاء جمعية العلماء جريدة شعبية باسم (الشعلة)، وكان الهدف منها تعرية الفئة الجزائرية المتعاونة مع الفرنسيين ونقدها سواء كانوا من رجال الدين الرسميين أو من الموظفين أو من النواب في المجالس النيابية الفرنسية، صدرت الشعلة بإشراف الأديب أحمد رضا حوحو والشيخ الصادق حماني، وكانت تكتب بأسلوب ساخر وأحيانا بالدارجة وبنبرة حادة ومباشرة تحرك الصخر. صحف حزب الشعب كما كان لحزب الشعب/ حركة الانتصار صحفه أيضا، ومنها الجزائر الحرة التي صدرت باللغة الفرنسية بالعاصمة ولكن السلطة الفرنسية صادرتها وهي ما تزال تحت الطبع في عددها الأول، فانتقلت إلى باريس، لأن قانون الصحافة يختلف فيها عن الجزائر - ففي باريس حرية في تعبير لا توجد في

_ (1) المنار 5 أكتوبر، 1951. (2) المنار 20 يونيو، 1952.

الجزائر، فصدر منها بعض الأعداد، ثم لحقها الأذى هناك أيضا، فتشكلت لجنة للدفاع عن حرية التعبير وأعلنت في المنبر الحر من جريدة (الجزائر الجمهورية) عن استيائها من مضايقة السلطات لجريدة الجزائر الحرة، وعادت الجريدة للصدور بالجزائر مرة أخرى فصدر منها ثلاثة أعداد، ثم تعرضت للمنع من جديد، فاحتجت عن منعها (جبهة الدفاع عن الحرية واحترامها) التي سبق الحديث عنها، وكما هو متوقع فإن مواضع الجزائر الحرة سياسية في معظمها وتصف حالة الشعب وآماله وتعكس برنامج الحزب في التحرر والاستقلال (1). وقد رجعت الجريدة إلى باريس مرة أخرى فرارا من الاضطهاد المسلط عليها في الجزائر ولكنها لم تسلم أيضا من المصادرة حين تناولت في أحد أعدادها الشهداء الجزائريين الذين سقطوا يوم 14 يوليو 1953 بمناسبة الاحتفال بعيد الحرية في فرنسا (2). أما الجريدة الثانية التي أصدرها حزب الشعب/ حركة الانتصار فهي (الجزائر الجديدة)، وهي جريدة صدرت بالعربية بإدارة مصطفى فروخي، النائب عن حركة الانتصار في المجلس الجزائري، وكانت مواضيعها متنوعة. وبالإضافة إلى الصحيفتين المذكورتين صدرت صحيفتان أخريان قريبتان من حزب الشعب وهما المنار التي ظهرت سنة 1951، وقد كان يرأس تحرير المنار محمود بوزوزو، صاحب القلم الوطني المثقف والفكر النهضوي العربي الإسلامي القريب من تيار جمعية العلماء، وكانت المنار تغطي أخبار الجزائر وتونس والمغرب والمشرق العربي والإسلامي وتكتب عن الأخبار الفنية والاجتماعية، وتتابع أخبار زعيم حزب الشعب مصالي الحاج، وكانت من الجرائد الناجحة ومع ذلك توقفت بسبب الأزمة المالية، فلم يطل عهدها، وهكذا توقفت عن الصدور في فاتح سنة 1954 معلنة عن (أزمة المنار) وقالت

_ (1) المنار 30 يوليو، 1951 وكذلك 31 أوت، 1951. (2) المنار 7 أوت، 1953.

صحافة الحزب الشيوعي وحزب البيان

إنها احتجبت قبل ذلك مدة شهرين لأسباب مادية، وتأسفت أن للأوروبيين أكثر من عشر صحف يومية وعددهم حوالي مليون بينما الجزائريون ليس لهم صحيفة يومية وعددهم حوالي عشرة ملايين، أما الصحف الأسبوعية - مثل النار - فمهددة بالموت في كل شهر. أما الصحيفة الأخرى التي دعمت اتجاه حزب الشعب فهي جريدة المغرب العربي التي أدارها الشيخ محمد العيد الزاهري، وهو أديب واسع الاطلاع تقلب بين عدة تيارات دينية وسياسية، أصدر الجريدة سنة 1948، وكانت جريدة أسبوعية ومساندة لحركة الانتصار، ثم اختفت فترة، وعادت إلى الظهور بالعاصمة في 17 مارس، 1956 ودامت حوالي شهرين، ثم توقفت بعد اغتيال صاحبها في ظروف غامضة (1). صحافة الحزب الشيوعي وحزب البيان وكان للحزب الشيوعي جريدة (الجزائر الجمهورية) التي كان لها تأثير بارز على النخبة اليسارية عموما، وكان كتابها من المثقفين المسلمين (الأهالي) والمثقفين الفرنسيين، وقد كتب فيها في بداية حياتهم كل من محمد ديب وكاتب ياسين وألبير كامو ... ومن كتابها الجزائريين أيضا الصادق هجرس، والبشير حاج علي، وعبد الحميد بن زين، وكانت صحيفة (الجزائر الجمهورية) أسبوعية ثم يومية، وقد أوقفتها السلطات الفرنسية سنة 1957، كما أصدر الحزب نفسه جريد باسم (الحرية). وكان لحزب البيان الديموقراطي جريدة (الجمهورية الجزائرية) التي كانت تصدر بالفرنسية، ثم جريدة (الوطن) التي قد تكون باللغة العربية، ولكن لم يصدر منها سوى أعداد قليلة، ومن بين كتاب جريدة الحزب فرحات عباس ونخبة مؤمنة بمبادى الحزب في الحرية والمساواة والاستقلال الذاتي للجزائر في

_ (1) صالح خرفي، محمد السعيد الزاهري، سلسلة شعراء من الجزائر.

صحف أخرى

نطاق الاتحاد الفرنسي، كما كان المفكر مالك بن نبي يكتب فيها. صحف أخرى واصلت جريدة (النجاح) مسيرتها منذ أوائل العشرينات، وقد بدأت جريدة عربية أسبوعية مستقلة تصدر في قسنطينة برئاسة مامي إسماعيل، ثم تحولت من أسبوعية إلى يومية موالية للإدارة الفرنسية أو محايدة، ولم تتوقف عن الصدور إلا سنة 1956 (1). مجلة هنا الجزائر ظهرت مجلة (هنا الجزائر) في مايو سنة 1952 واستمرت على الأقل إلى سنة 1960 إذ اطلعنا منها على عدد 89 وهو صادر في مايو من السنة الأخيرة، ولا ندري إن كانت قد استمرت بعد ذلك فنحن لم نطلع على ما بعد التاريخ المذكور، وكانت تصدر شهريا في قسمين (عربي / فرنسي) في مجلد واحد، وكل قسم فيها مستقل عن الآخر ولكن بعض المواد من هذا أو ذاك كانت تترجم أو تلخص في القسم الآخر، وكان الغلاف يحمل عادة صورا تراثية أو فنية أو صورة لمدينة جزائرية معينة أو منظرا طبيعيا من إحدى جهات الجزائر، وليس بالضرورة أن يكون في الغلاف المقابل نفس المنظر بل ربما العكس هو الصحيح فكل جهة من الغلاف مستقلة عادة بصورها، وبعد دخول (الصحراء) كعامل في الحرب بين الجزائر وفرنسا أضافت المجلة هذه الكلمة إلى تعريف نفسها فأصبح التعريف ابتداء من أول يناير 1960 هكذا: (هنا الجزائر، مجلة الراديو والتلفزيون الفرنسية بالجزائر والصحراء للقسمين العربي والقبائلي)، والملاحظ أن هذا العنوان الطويل غير موجود في الغلاف الفرنسي من المجلة. حين صدرت مجلة هنا الجزائر أعلنت من خطتها فقالت إنها تهتم بنشرات الأخبار والمحاضرات والمسامرات العلمية والأدبية والفنية والمنوعات الثقافية

_ (1) عن خلفيات الصحف المذكورة أنظر أيضا كتابنا تاريخ الجزائر الثقافي.

جريدة الباتريوت (الوطني)

والأخلاقية والاجتماعية والطبية والفلاحية والرياضة، كما تهتم بإذاعة المسرحيات والحصص الفكاهية والحفلات الغنائية، ووعدت قراءها بأن صبغتها أدبية، ولذلك أخبرت أنها تعنى بتقديم فصول من الأدب العربي عامة والجزائر خاصة وألوان جديدة من الأدب الغربي (بما يعربه الأدباء من إنتاج الكتاب والشعراء الفرنسيين)، وهي تغطي شؤون الحضارة الإسلامية وما يحدث في العالم من تيارات أدبية واتجاهات فكرية، كما اهتمت بنشاط المسرح والموسيقى والسينما والغناء والرياضة، كما سترى (1). صدرت مجلة (هنا الجزائر) باللغتين العربية والفرنسية عن مؤسسة الإذاعة والتلفزة الفرنسية، وقد تولى رئاسة تحريرها الشاعر المزدوج الثقافة الطاهر البوشوشي، وكان يحررها نخبة من المثقفين الدائمين منهم عبد القادر نور الدين والأخضر السائحي وأحمد بن ذياب والمولود الطياب وأحمد الأكحل، وكانت مجلة جامعة تهتم بالأدب والشعر والعلم والترجمة والتراجم والتاريخ والفن والدين ... كما كانت تهتم بأعلام الأدب العربي في مختلف العصور، ولا سيما أعلام العصر الحديث، فأنت تجد فيها أخبار وترجمات جبران خليل جبران وعبد القادر المازني وميخائيل نعيمة وأحمد زكي أبو شادي وعلي محمود طه ... وهي تعرف نفسها بأنها (مجلة الإذاعتين العربية والقبائلية للراديو والتلفزيون الفرنسية بالجزائر، أسست لنشر العلوم والآداب والفنون)، ونلاحظ أنها لم تذكر شيئا عن اللغة الفرنسية التي تشكل القسم الثاني منها، كما نلاحظ أنها توحي بأنها مجلة ذات رسالة حضارية (2). جريدة الباتريوت (الوطني) وعشية الثورة أيضا ظهرت نشرة بعنوان الوطني أو (الباتريوت) المنسوبة

_ (1) هنا الجزائر، مايو 1960، من الافتتاحية، ورغم أنني رجعت إلى كل الأعداد المتوفرة من هذه المجلة فإني لم ألاحظ أنها تعرضت للثورة بطريقة مباشرة. (2) مقرها 10 نهج هوش، الجزائر، انظر عدد 87 من المجلة، مايو 1960.

جريدة الجزائر العربية

للجنة الثورية للوحدة والعمل، وقد قيل إن محمد بوضياف هو الذي كان يشرف عليها، وذكر أحد الكتاب أن (الباتريوت) كان يطبعها محمد العيشاوي مدير مكتب حركة الانتصار في العاصمة، وظهر منها عددان (الثاني والثالث) في شهر مايو، 1954، وكانت تطبع على الحجر (ميموغراف)، أما العدد الأول منها فقد ظهر مع ظهور اللجنة الثورية للوحدة والعمل (1). جريدة الجزائر العربية في ربيع سنة 1955 ظهر السيد مسعود مجاهد في مراسلتين تتعلقان بإنشاء جريدة عربية لصالح الثورة، المراسلة الأولى إلى الرئيس جمال عبد الناصر والمراسلة الثانية إلى محمد خيضر مدير المكتب السياسي لجبهة التحرير في القاهرة، واسم الجريدة الذي اقترحه مسعود مجاهد هو (الجزائر) أو (الجزائر العربية)، وقد عرف نفسه بأنه عضو جمعية أحباس الحرمين الشريفين، والقاضي الشرفي بقسنطينة، وحامل وسام الاحترام المراكشي من رتبة فارس، ووسام الاحترام التونسي من رتبة ضابط كبير، ومدير جريدة الجزائر العربية التي مقرها في نهج نافاران رقم 8، باريس، القسم التاسع. في رسالته إلى الرئيس عبد الناصر (مؤرخة في الخامس من أبريل سنة 1955 وتقع في صفحتين كبيرتين) إشادة بزعامته منذ مؤتمر باندونج، وحديث عن تبعية المغرب العربي لمصر وعن علاقة الجزائر بمصر منذ حملة نابليون ومعركة نافارينو، وعن سياسة فرنسا في التدجين والتجهيل وشنها حربا على خيضر وابن بلة وآيت أحمد وزائدي (كذا، ولعله يقصد محمد يزيد) والأحول، وتحدثت الرسالة أيضا عن أن الثورة عملية شعبية من أجل الاستقلال التام وليس الاستقلال الذاتي الذي يشبه التجنس، وقال مسعود مجاهد إن لجنة تحرير الجزائر (لعله يقصد جبهة التحرير؟) طلبت منه التخلي عن منصبه فامتثل وإنه أنشأ جريدة (الجزائر العربية) التي أصدرها في باريس ثم حولها إلى طرابلس

_ (1) ميكال كلارك: الجزائر المضطربة، ط 2، 1961، ص 114.

بعد أن حصل على الإذن بذلك من سلطانها (كذا)، وكان سيطلب من عبد الناصر الإذن بإصدارها من مصر ولكن وجودها بطرابلس في رأيه سيجعلها أقرب إلى المغرب العربي، وقد أيد هذا المشروع (وهو إنشاء الجريدة) في رأيه زعماء العرب في مصر، ومنهم شيخ الأزهر ووزير الأوقاف والشعب المصري ونبغاء القاهرة، وهو لا يطلب من عبد الناصر أكثر من الدعاء له لأنه مستجاب الدعاء لشبهه بعمر بن الخطاب. أما الأمر الثاني الذي يطلبه من عبد الناصر فهو أن يهديه صورته ليضعها في مكتب إدارة الجريدة حاملا علم مصر باليد اليمنى قبل أن يحمل علم الجزائر باليسرى، وكتب اسمه هكذا: مجاهد مسعود رئيس مجلس قضاء الجزائر، ومدير جريدة الجزائر العربية، طرابلس، ليبيا، مع الختمين المذكورين لاحقا، وكتب عليها بخط يده (نسخة للجنة تحرير المغرب العربي) (1). أما رسالته إلى محمد خيضر (المؤرخة في 21 يونيو 1955)، فبدأها بالحمد لله وحده، وخاطبه بالأخ خيدر (كذا)، والإخوة المكلفين بإدارة شؤون لجنة التحرير (جبهة التحرير؟) بالقطر الجزائري العزيز، السلام عليكم .. وهو يعلن له وظائفه وأوسمته التي أشرنا إليها التي حصل عليها من مراكش وتونس، وتحمل الرسالة ختمين، الأول بالعربية وعليه المجاهد مسعود، قاضي محكمة الخروب سنة 1911 (هكذا قرآناه)، أما الختم المكتوب بالفرنسية فهو عبارة (الجمهورية الفرنسية، قاضي محكمة الخروب)، أما الختم الثاني فمكتوب فقط بالفرنسية؟ وعليه عبارة إدارة الجريدة العربية (الجزائر). وتقول الرسالة لخيضر إنهم إذا وافقوا فإنه يريد أن يصدر الجريدة في طرابلس لقربها من المشرق والمغرب، وإنه قابل لأي مكان آخر، فهو يريد إنشاء جريدة لحساب الحركة أي الجبهة، وقد سماها (عربية) لأنها ليست (فرنسية)، وهي تخدم القضية الوطنية (والأمر يكون لكم لا لي).

_ (1) الأرشف الوطني، علبه 2.

الصحافة المدرسية

والرسالة مرفقة بمذكرة قصيرة بالفرنسية عليها الختمان أيضا لكن الختم الفرنسي شطبت منه الكلمة الفرنسية من (الجمهورية الفرنسية) واستبدلت بالجزائرية فأصبحت العبارة (الجمهورية الجزائرية)، وتقول المذكرة لخيضر إن جريدة (الجزائر العربية) ستكون تحت تصرفهم بشكل كامل، مع توقيعه على أنه (مجاهد) المدير، وفي أعلى الورقة مجاهد مسعود، عضو جمعية الأحباس والرئيس الأول للمحكمة الإسلامية بالخروب (شرفي)، ومدير جريدة (الجزائر)، دون إضافة كلمة العربية (1). الصحافة المدرسية ظهرت أيضا صحافة من نوع خاص، وهي الصحافة المدرسية التي تصدر عادة عن مدارس جمعية العلماء، وربما يعود ظهورها إلى ما سبقت الإشارة إليه من أن الجزائريين رغم كثرتهم لا يستطيعون إنشاء الصحف والاستمرار فيها لضعف حالتهم المادية، فعوظوها بالصحافة المدرسية، ولكن هذه الصحافة لا تهتم إلا بشؤون التلاميذ والمعلمين والتربية والأخلاق والتوجيه العام والمحيط، ولا تهتم بأخبار العالم ولا بالأحداث السياسية والاقتصادية. تنتشر أخبار الصحافة المدرسية في الصحف العادية، ولكن الذي اهتم بها وجمع المعلومات عنها هو الشيخ محمد الحسن فضلاء في كتابه عن معلمي المدارس الحرة (2)، وفي أوراق خاصة سلمني إياها خلال التسعينات من القرن الماضي، والشيخ فضلاء يؤرخ للصحافة المدرسية بدقة ويذكر أسماءها ومن أنشأها، وإذا كان هناك من درس نستخلصه من هذا النشاط التربوي فهو الشعور بأهمية الصحافة والاتصال بين أبناء الحركة الواحدة والإيمان بدور الإعلام المبكر. يذكر الشيخ فضلاء أنهم كانوا - كمعلمين ومفتشين - يجتمعون في عدة

_ (1) الأرشيف الوطني، مسرح سابق، العلبة 2. (2) محمد الحسن فضلاء، المسيرة الرائدة للتعليم العربي الحر بالجزائر، دار الأمة، 1999.

مدارس، مثلا وهران وما جاورها، وقد يتوسعون فتنضم إليهم مدارس مستغانم وسيق وغيليزان، كما أن التلاميذ كانوا يكتبون في النشرة الواحدة مهما تباعدوا، فهم يتواصلون مع بعضهم ولو كانوا من غير نفس المقاطعة، من هذه النشرات مجلة الفلاح التي صدر عددها الأول في 30 أكتور 1953 عن دار الفلاح بوهران، وهي مجلة باسم التلاميذ، وقد صدر منها اثنا عشر عددا، واستمرت تصدر مدة عام، كما أصدرت نفس الدار مجلة مصورة أخرى في يناير 1954 للتلاميذ الصغار، بعنوان (اقرأ واكتب)، وقد صدر منها سنة أعداد كان آخرها في 20 يوليو من نفس السنة. وأصدرت مدرسة غيليزان مجلة باسم (الفتح) صدر منها ستة أعداد. وكان مديرها هو الشيخ السنوسي دلاي، وأصدر العربي سعدوني بالحمري سبعة أعداد من مجلة أسماها (أقلام الناشئة)، ومن دار الحديث بتلمسان أصدر محمد با أحمد مجلة باسم (الروضة) وصدر منها ثلاثة أعداد، كما أصدر الحسين كرايمية مجلة في عين تموشنت باسم (الإصلاح) صدر منها عددان، ومن تازمالت أصدر عبد الملك فضلاء مجلة باسم (التربية والتعليم)، صدر منها سبعة أعداد، وفي سطيف أصدر بوعلام باقي مجلة (الفتح) فصدر منها خمسة أعداد، أما علي شنتير فقد أصدر مجلة (المدرسة) في سللتين الأولى صدر منها أحد عشر عددا بين 1952 - 1953 والثانية صدر منها أربعة وعشرون عددا ولكن عن المدرسة الرشيدية بشرشال، وهي مجلة طال عهدها، ويقول الشيخ محمد الحسن فضلاء إنه يملك شخصيا مجموعات هذه المجلات أو النشرات المدرسية. وربما كانت أطول المجلات المدرسية عمرا هي مجلة (التهذيب) التي كان يشرف عليها الشيخ فضلاء نفسه عندما كان مديرا لمدرسة التهذيب بالأبيار، وقد بدأت التهذيب في الصدور في ديسمبر 1954 واستمرت إلى شهر مايو سنة 1962 (1).

_ (1) هذه المعلومات قدمها لي الشيخ فضلاء بنفسه ضمن أوراق للاطلاع عليها، وربما هي موجودة في كتب عن المدارس الحرة.

الصحافة أثناء الثورة

وقد ساق فضلاء مسيرة مجلة (الفلاح) فقال إنه جاء في عددها الثاني الصادر في 15 نوفمبر 1953 ما يلي: الفلاح مجلة مدرسية قديمة ظهرت في 25 يونيو 1947 تحت اسم الشبيبة الإسلامية، وفي السنة الثانية ظهرت بعنوان (أطفال العرب)، وفي الثالثة ظهرت باسم (الأحداث)، ثم اختفت سنتين، واستيقظت بشرشال تحت اسم (المدرسة)، ودامت سنة كاملة، ثم ظهرت في وهران باسم (الفلاح)، وقد نوه بمجلة الفلاح بعض المفتشين والشعراء، فكتب إليها الشيخ إبراهيم مزهودي مفتش مدارس جمعية العلماء في زيارته العملية لوهران منوها فيها بمعلمي مدرسة الفلاح، كما أتحفها الشيخ سعيد الزموشي معتمد جمعية العلماء بوهران بقوله: أفلحت يا دار الفلاح ... بمجلة للعلم والإصلاح عربت ألسنة ويراعة ... ببيان محمد ورباح ورغمت أنف المستبد ... بحكمة وبغير سلاح فأكرم بالمدير ونخبة ... مختارة للعلا والكفاح. ولكن الفلاح (المجلة والمدرسة) أغلقت سنة 1956، وكذلك المدارس الأخرى بمنطقة وهران، وسجن معلموها ومديروها (1). الصحافة أثناء الثورة بعد توقيف صحف المركزيين من حركة الانتصار لم يبق من الصحف الوطنية إلا البصائر التي بقيبت تصدر إلى أبريل سنة 1956 كما سيأتي، ورغم أنها أسبوعية فإنها بقيت تمد الرأي العام بأخبار الثورة بافتتاحياتها السائرة في خط الثورة وبفتحها بابا جديدا أطلقت عليه عنوان (يوميات الأزمة الجزائرية)، وهي تقصد بالأزمة الثورة، ولكن التحايل الإعلامي كان ضروريا لأنها لو استعملت كلمة الثورة أو ما شابهها لأوقفتها السلطة الاستعمارية فورا، كما

_ (1) نفس المصدر: أوراق فضلاء.

أن الباب الذي كان يحرره أحمد توفيق المدني باسم (منبر السياسة, العالمية) كان يتحدث عما يجري من ردود أفعال نتيجة الوضع في الجزائر. وبقطع النظر عن المضايقات التي تعرضت لها البصائر وافتتاحياتها الوطنية الواضحة فإن علاقتها بالإدارة الفرنسية، بعد البلاغ الإداري لجمعية العلماء الذي نشرته في 13 يناير 1956 لم تعد كما كانت، فقد تحول التوتر إلى استفزاز وتحول الاستفزاز إلى قمع، ولنذكر هنا أن البلاغ كان صريحا في دعم الثورة والخروج إلى السياسة من الباب الواسع بالنسبة لجمعية تقول لوائحها إنها لا تشتغل بالسياسة وإنما تشتغل بنشر التعليم الحر وترشد الناس إلى شؤون دينهم. لقد صدر البلاغ بعد الاجتماع العام للجمعية، وتناول (الحالة الحاضرة في القطر الجزائري وموقف الجمعية منها) وكان الاجتماع قد انعقد في مدينة الجزائر بمركز الجمعية يوم السبت 23 جمادى الأولى 1375 و 7 يناير 1956، وتضمن نقاطا عديدة أهمها: تهنئة تونس والمغرب باستقلالهما، والتنديد بما كان يجري في الجزائر من فظائع، وإلقاء المسؤولية على النظام الاستعماري عما عاشه الجزائريون منذ 130 من عنصرية وتفقير وتجهيل وحرمان ومحاربة للإسلام والتعليم العربي القرآني ومحق الجنسية وفرض سياسة الاندماج. كما احتج المجلس على ما يرتكب في مختلف جهات الوطن من موبقات باسم القضاء على الثورة وعلى مدارس جمعية العلماء، وهو يتعاطف مع أحرار الأمة الذين سجنوا أو ألقي بهم في المحتشدات، ويثمن مواقف أحرار العالم وجميع الصحف النزيهة والحكومات الحرة التي أيدت نضال الجزائر، ويعلن أن كل سياسة تقوم على ترقيع الماضي وإجراء (إصلاحات) إنما هي عبث وتيئيس يؤدي إلى الانفجار. وبهذه اللغة أعلن المجلس بكل صراحة أنه لا يمكن حل القضية الجزائرية إلا بالاعتراف العلني والصريح بكيان الأمة الجزائرية الحر وجنسيتها وحكومتها القومية ومجلسها التشريعي، ويؤكد أنه لا يمكن وضع حد لحالة الحرب

الحاضرة والإقدام على بناء نظام حر جديد إلا بالتفاهم الصريح مع سائر الممثلن الحقيقيين للشعب الجزائري الذين أظهرهم الكفاح. وقد وقع على هذا البلاغ القوي الشيخ العربي التبسي النائب الأول لرئيس جمعية العلماء (الغائب في القاهرة)، كما وقعه أحمد توفيق المدني (كاتب عام الجمعية)، والغالب أن صياغة البلاغ كانت بقلم الأستاذ المدني (1). ويبدو أن السلطة الفرنسية لم تستطع صبرا على لهجة هذا البلاغ فبادرت بحجز العدد التالي من البصائر وافتكته من الباعة فلم يصل إلى قراء الجريدة في عدد من جهات البلاد، ولكن الجريدة صمدت ووعدت بقول الحقيقة مهما كلفها ذلك من عنت (2). أما آخر عدد صدر من البصائر فهو بتاريخ السادس من أبريل سنة 1956. وهو العدد 361 الذي تضمن افتتاحية تحدثت عن دخولها السنة التاسعة، ومما جاء فيها: (والبصائر في سنتها هذه التاسعة تدخل في مرحلة جديدة من مراحل النضال .. سائرة إلى الأمام في خوض هذه المعركة الحاسمة التي يخوضها الشعب الجزائري المكافح لكسر قيوده وأغلاله واسترداد حريته واستقلاله، ولن تحيد البصائر عن طريقها ولن ترجع قيد شعرة عما عاهدت الله عليه حتى تفوز بإحدى الحسنيين، حسنى السيادة أو حسنى الشهادة)، فهذه لهجة من أشهر السلاح في وجه الاستعمار وعزم علي اللاعودة بدون رأس عدوه، ومن الصدف أن آخر قصيدة نشرتها لي البصائر كانت في هذا العدد الأخير (361) وهي قصيدة (الطين)، ومهما كان الأمر فإنه بعد توقف البصائر تفرقت هيئة تحريرها إما باللجوء إلى الخارج وإما بالاعتقال في الداخل، وانصهر الجميع في بوتقة الثورة تحت راية جبهة التحرير الوطني.

_ (1) البصائر، 13 يناير، 1956. (2) البصائر 27 يناير، 1956.

صحافة جبهة التحرير

صحافة جبهة التحرير ذكرنا الصحف الحزبية التي سبقت الثورة، وقد استمر بعضها في الصدور أثناء فترة غير قصيرة بعد الثورة أيضا، فحزب البيان والحزب الشيوعي استمرت صحفهما في الصدور فترة بعد الثورة، كما ظهرت صحف جديدة تدعو إلى التفاهم بين الجزائريين والفرنسيين أصدرها أفراد وراءهم اتجاهات معينة مثل جريدة (المغرب العربي) التي سبق ذكرها والتي اتهمت بخدمة الحركة المصالية. ومثل جريدة (الجزائر أولا) التي أصدرها عمار أوزقان وكانت تعبر عن اتجاه شيوعي ولكن خارج الحزب. ويبدو أن الثورة نفسها لم تهتم في البداية بالإعلام كوسيلة ناجحة في ربح المعركة وعزل العدو، ولكن إعلام الدوائر الاسعمارية والحاجة إلى كسب الرأي العام الداخلي والخارجي جعلت قادة الثورة يولون اهتماما خاصا للإعلام الوطني لتوضيح أهداف الثورة والرد على الإعلام المضاد، ولم يظهر إعلام الثورة في شكل ناضج من أول مرة وإنما ظهر في شكل يمكن تسميته بالبدائي، فقد تمثل أولا في الكتابات الحائطية، والمناشير المحلية والاتصالات الفردية، بل حتى في وضع قصاصات على جثث الخونة بعد إعدامهم. يتفق معظم الذين درسوا إعلام الثورة أن البدء كان بالصحافة ثم لحقت بها الإذاعة ثم الوسائل الأخرى من سينما ومؤتمرات ونشرات ومسرح ورياضة ومنظمات وغيرها من وسائل الدعاية والتبليغ، ويمكن القول إنه لم تظهر صحيفة رسمية ناطقة باسم جبهة التحرير قبل مضي سنة على الأقل من اندلاع الثورة. وأول عدد من جريدة (المقاومة الجزائرية) ظهر في آخر سنة 1955، وقد طبعت في فرنسا أولا، وفي أوائل السنة الموالية بدأت طبعة في المغرب وهي تختلف في أسلوبها وفي تحريرها عن طبعة باريس، وفي منتصف السنة (1956) ظهرت منها طبعة في توس أيضا، ولم تكن هي نفسها طبعة باريس ولا المغرب

رأي زهير إيحدادن

مما يدل على عدم التنسيق بين هيئات التحرير في الأماكن الثلاثة ربما لصعوبة الاتصال، وكانت جريدة المقاومة تدخل إلى الجزائر بطريقة التهرب والتسريب، وكانت تصلنا في القاهرة في طبعة تونس على الأغلب وهي الطبعة العربية، وربما كانت طبعة باريس الفرنسية موجهة للجالية بالدرجة الأولى ثم للرأي العام الأوروبي (1). ولكن مؤتمر الصومام وضع برنامجا جديدا للإعلام نتج عنه تغيير اسم (المقاومة) إلى (المجاهد)، كما جعل جبهة التحرير هي التي تشرف على الإعلام تحت قيادة (لجنة التنسيق والتنفيذ) شعورا منه بأهمية الإعلام وضرورة توحيد مصدره وأسلوبه وتحديد جمهوره، كما قرر المؤتمر إلغاء طبعات جريدة المقاومة المستمد اسمها فيما يظهر من المقاومة الفرنسية أيام الحكم الألماني، بينما اسم (المجاهد) له معنى إسلامي ويعتبر من تراث المقاومة الوطنية الجزائرية عبر فترة الاحتلال الفرنسي، كما أن اسم المجاهد له نداء خاص لدى الجماهير التي طلب منها الانضمام للثورة (2). رأي زهير إيحدادن يقول زهير إيحدادن الذي درس إعلام الثورة بتوسع إن هذه ظلت بدون إعلام خاص إلى يونيو 1956، فهي لم تول اهتماما خاصا للإعلام في بداية أمرها وليس لها وسيلة رسمية تعبر من خلالها عن برنامجها وترد بها على خصومها أو على الدعاية المضادة، أما في منذ يونيو فقد صدرت (المجاهد)، وهي جريدة إخبارية سياسية دعائية، ولم تذكر في عددها الأول تاريخ صدورها رغم حديثها عن أحداث وقعت قبل يونيو 1956، بينما جاء في العدد الثالث من

_ (1) لاحظ أن التسمية - المقاومة - الجزائرية ربما كانت مستوحاة من - المقاومة - الفرنسية أثناء حكم فيشي في فرنسا ومقاومة حركة فرنسا الحرة له وللاحتلال النازي. (2) للمزيد عن ظروف التغيير من المقاومة إلى المجاهد انظر فقرات القضاء زمن الثورة في فصل آخر.

(المقاومة الجزائرية) التي كانت تصدر في تطوان المغربية أن المجاهد قد صدر منها العدد الأول، وعلى هذا يكون العدد الأول من المجاهد قد صدر في يونيو أو يوليو من نفس السنة، وهي المدة التي بدأ فيها التحضير لمؤتمر الصومام، ولكن مصادر أخرى تقول إن (المجاهد) لم تظهر إلا بعد مؤتمر الصومام، وهو المؤتمر الذي قرر إنشاءها وتوقيف (المقاومة الجزائرية). ومهما كان الأمر فقد مرت المجاهد بثلاث مراحل، في المرحلة الأولى صدر منها ستة أعداد بالعاصمة حيث كانت تطبع على الرونيو في شكل كراسة أو منشور بإشراف لجنة التنسيق والتنفيذ، وكانت تفتقر إلى مقر ثابت وهو مما صعب الحصول على مادتها وتوزيعها. وفي المرحلة الثانية طبعت المجاهد في تطوان المغربية بإشراف لجنة التنسيق والتنفيذ أيضا، أي بعد خروج اللجنة من العاصمة نتيجة إضراب فبراير 1957، ويرى البعض أنه في صيف هذه السنة فقط اتخذ القرار بوقف المقاومة الجزائرية والاكتفاء بالمجاهد التي أصبحت هي اللسان المركزي لجبهة التحرير الوطني، كانت المجاهد تطبع حوالي 5000 نسخة في مطبعة إسبانية في شكل جريدة هذه المرة وعلى ورق شفاف، كما كانت تطبع كمية أخرى لتوزيعها في الخارج، وبهذه الطريقة ظهر منها ثلاثة أعداد هي الثامن والتاسع والعاشر، أما السابع فيبدو أنه طبع أثناء إضراب فبراير المشار إليه ولكنه لم يوزع بطريقة عادية، ثم قررت لجنة التنسيق والتنفيذ الانتقال بالمجاهد من تطوان إلى تونس حيث يتوفر الإعلام الأجنبي ووسائل الطباعة الحديثة، كما أن اللجنة نفسها قد اتخذت من تونس مقرا دائما لها، وبذلك تبدأ المرحلة الثالثة من جريدة المجاهد، وهي الأطول والأكثر استقرارا، وهي تبدأ من نوفمبر 1957 إلى الاستقلال 1962 (1).

_ (1) يروي محمد الميلي أنه هو وبعض زملائه جاؤوا إلى العاصمة لإصدار المجاهد في شهر أفريل 1962، أنظر سابقا.

وخلال هذه المرحلة صدرت المجاهد في طبعتين تونسية ومغربية (تطوان ثم الرباط)، وكانت طبعة تونس هي الأصلية، أما المغربية فقد كانت مصورة على التونسية، وفي تونس أصبح للمجاهد مكانة صحفية وإعلامية مرموقة في الأوساط السياسية سواء منها الداخلية أو الخارجية، ومن حيث المبدأ كانت تصدر نصف شهرية غير أنها لم تكن منتظمة، وكانت تصدر في طبعتين فرنسية وعربية، وإذا كان الخط العام واحدا في الطبعتين فإن المحتوى لم يكن دائما طبق الأصل لاختلاف الجمهور في الحالتين، وكان المسؤول على الطبعتين هو رضا مالك، بينما كان محمد الميلي ومنور مروش مسؤولين على النسخة العربية، وفرانز فانون مسؤولا على النسخة الفرنسية (1). أشرنا إلى أن الإعلام أثناء الثورة بدأ في أغلبه كرد فعل على الإعلام المضاد الفرنسي الذي قاده المعمرون في عاصمة الجزائر وفي غيرها، فقد نشطت الصحف الاستعمارية والإذاعة الفرنسية ضد الثورة باتهامها بالشيوعية أحيانا والفاشية أحيانا أخرى، ووصف رجالها بقطاع طرق همهم السلب والنهب والعدوان، وقد تورطت بعض الصحف الأهلية وحتى بعض الزوايا فدعت إلى المؤاخاة والحوار لحقن الدماء، وأمام ذلك كان على جبهة التحرير أن تتحرك ضد هذه الهجمة التي تهدف إلى النيل من الثورة نفسها. فباسم الدعوة إلى التفاهم أصدر عمار أوزقان في 18 يوليو 1955 جريدة باسم (الجزائر أولا) دعا فيها إلى الحوار وحقن الدماء، غير أنه لم يظهر من هذه الجريدة سوى عددين، ومما يذكر هنا أن عمار أوزقان المولود في العاصمة سنة 1910 كان كاتبا عاما للفرع الجزائري للحزب الشيوعي الفرنسي سنة 1934، كما كان عضوا في اللجنة المركزية لهذا الحزب سنة 1936)، وكان قد تحصل على الشهادة الأهلية ثم بدأ يحفظ القرآن الكريم، ومنذ كان عمره 13 بدأ يعمل

_ (1) زهير إيحدادن (الإعلام الجزائري أثناء الثورة التحريرية)، في مجلة حوليات جامعة الجزائر، عدد 5، 1990 - 1991، ص 87 - 88.

كبائع لجريدة (صدى الجزائر) ثم (بريد الجزائر) اللتين تصدران عن الدوائر الاستعمارية في الجزائر. انخرط أوزقان في الحياة النقابية منذ 1926، وفي 1930 دخل تنظيم الشباب الشيوعي، وفي 1934 رقي إلى كاتب عام لفرع الجزائر للحزب الشيوعي الفرسي عوضا عن ابن علي بوقرط الذي اغتيل في سبتمبر من نفس العام، ثم أصبح رئيسا لتحرير جريدة (الصراع الاجتماعي)، ونائبا في المؤتمر السابع للكومنتيرن صيف 1935، كان أوزقان معارضا للنجم ثم لحزب الشعب، وقد انفصل عن الحزب الشيوعي الفرنسي ثم رجع إليه، وأصبح نائبا شيوعيا عن العاصمة سنة 1945، وقد اصطدم مع قيادة الحزب الشيوعي الجزائري فطرد منه سنة 1948 لأفكاره الوطنية، وفي سنة 1955 انخرط في جبهة التحرير الوطني وساهم في كتابة محضر برنامج الصومام قبل أن يعتقل بالعاصمة بداية 1958 (1). كما أعاد محمد السعيد الزاهري إصدار جريدته (المغرب العربي) المشار إليها، في 17 مارس 1956 وظهر منها سبعة أعداد ودعا فيها إلى الوحدة بين الوطنيين مما فهم منه مساندة الحركة المصالية، ويذهب إيحدادن إلى أن الجبهة طلبت من الرجلين (أوزقان والزاهري) التوقف عن أسلوب الدعوة للحوار مع السلطة الفرنسية وترك ذلك إلى الجبهة نفسها لأن ذلك الأسلوب لم يعد يفيد وقد فات وقته فامتثل أوزقان وخالف الزاهري فكان جزاءه القتل، وقد صدر آخر عدد من جريدته في 19 مايو 1956 (2). وهكذا توقفت الجرائد المخالفة لجبهة التحرير أو الداعية للحوار، فتوقفت (الجمهورية الجزائرية) حوالي يناير سنة 1956 و (البصائر) في أبريل، وأوقفت السلطة الاستعمارية صحيفة (الحرية) الشيوعية، كما توقفت جريدة

_ (1) بنجامين ستورا: قاموس ... ط، بارس، 1985، 349 - 350. (2) إيحدادن، مرجع سابق، ص 83 - 84.

(النجاح) من تلقاء نفسها في نفس السنة، وبذلك لم تبق إلا الصحف الاستعمارية. كان الإعلام الاستعماري قويا بإمكاناته وأجهزته، وقد اتخذ أسلوبين من الجبهة: الأول عدم الاكتراث بها على أساس أنها ضعيفة وما تقوم به سيرجع عليها سلبا وسيجعلها تفقد قواعدها، والثاني اتهام الجبهة بإراقة الدماء وارتكاب الفظائع، وكانت مقاومة الجبهة للأسلوب الاستعماري قد تمثلت في منع انتشار هذا النوع من الإعلام بين الجزائريين، فعاقبت من يقرأ الصحف الفرنسية كما حرضت على عدم سماع الإذاعة الفرنسية، ثم تبين للجبهة أن المواطنين يستطيعون التمييز بين الحق والباطل، بين ما هو وطني وما هو استعماري، وتأكدت أنه لا بد من إعلام مضاد، ولكن الوسائل كانت ضعيفة بحيث لا تكاد تتعدى الاتصال الشخصي وتوزيع المناشير، كما أن الصحافة الاستعمارية قد تكون مفيدة للثورة لأنها تتحدث عن الثوار وأنشطتهم وعددهم وأسلحتهم وتصريحاتهم، ولذلك شجعت الجبهة صحافة الفرنسيين الأحرار، كالصحف الكاثوليكية أو ما يعرف بصحف الأستاذ (مندوز). ومع أهمية هذه الإستراتيجية الإعلامية فإنها لم تكن كافية، لأن الصحافة الاستعمارية كانت قوية، ولذلك قررت الجبهة إنشاء إعلام خاص بها له كل مواصفات الإعلام الحديث، وذلك بدخول سوق المنافسة لكسب الرأي العام في الداخل والخارج، فكان أول الغيث هو إنشاء جريدة المقاومة الجزائرية، ثم المجاهد والإذاعة، ثم وكالة الأنباء، وهي الوسائل التي درسناها في مكانها من الكتاب. كما أنشأت الجبهة وسائل إعلامية أخرى لا تقل أهمية، منها المسرح والسينما والفرقة الفنية وشجعت نشر القصة والشعر والرياضة، وحضور المؤتمرات والندوات والمهرجانات الثقافية والشبابية، بالإضافة إلى إعطائها أهمية للمحافظ السياسي في الولايات الذي كان يلعب دورا إعلاميا فعالا (1).

_ (1) إيحدادن، مرجع سابق، ص 85.

جريدة المجاهد

جريدة المجاهد كانت المجاهد تصدر أول مرة في مدينة الجزائر في شكل نشرة بحجم الكراسة تقريبا قبل أن تصبح جريدة، وقد ظهرت أول مرة في يونيو 1956 وكانت تطبع على الرونيو، وكانت تصدر بالفرنسية ثم تترجم إلى العربية في حوالي ست صفحات، وقد دمر مقرها ومعداتها وأتلفت وثائقها أثناء معركة الجزائر الشهيرة وإضراب 1957، كما تشتت أعضاء هيئة التحرير لأن لجنة التنسيق والتنفيذ نفسها لجأت إلى تونس بعد المعركة، كما سبق، وأول عدد من المجاهد صدر في شكل صحيفة هو العدد الثامن الذي صدر حوالي الخامس من أغسطس، وقد أضيف إلى عنوانها أنها اللسان المركزي لجبهة التحرير الوطني مما يعني أن الإعلام فعلا أصبح مركزيا في يد جبهة التحرير المتمثلة في لجنة التنسيق والتنفيذ، وقد أصبحت المجاهد تصدر في طبعة واحدة في الجزائر وتونس وفرنسا، واستمرت تصدر في تطوان المغربية إلى سبتمبر 1957، ولم تنقل منها إلى تونس إلا بعد انعقاد المجلس الوطني للثورة الجزائرية في القاهرة في أغسطس، في نفس السنة. تولى رمضان عبان الإشراف على جريدة المجاهد بطبعتيها العربية والفرنسية، وقد فصل عبان الطبعتين عن بعضهما لاختلاف جمهور الإعلام بين الغرب والشرق وبين الداخل والخارج، وابتداء من العدد 23 الصادر في 7 مايو 1957 تولى أحمد بومنجل الذي كان نائبا لعبان، الإشراف على الطبعة الفرنسية لجريدة المجاهد. ومنذ تكوين الحكومة المؤقتة في 19 سبتمبر 1958، أي ابتداء من العدد 29 أصبحت المجاهد تابعة مباشرة إلى وزارة الأخبار التي تولاها محمد يزيد واستمرت على ذلك الحال إلى الاستقلال (1). لقد أصبحت الوزارة مسؤولة على الإعلام المتعلق بالثورة، سواء أكان

_ (1) عواطف عبد الرحمن، الصحافة العربية، ص 51 - 55.

النشرات الداخلية

صحفا أو نشرات سياسية أو مكاتب إعلامية في الخارج، أو إذاعة أو غيرها من الوسائل. ومما يذكر أن المصالح الفرنسية قد عمدت إلى تزييف المجاهد كجزء من الحرب ضد الثورة، وقد وزعتها في الخارج، وفي الجزائر أيضا، بهدف عزل الشعب عن الجبهة، وأخبرت (المجاهد) أن جريدة (الطليعة) المغربية قد نددت بهذا العمل المشين وطالبت بالتحقيق في النشاط الفرنسي في المغرب (1). ومهما كان الأمر فإن المجاهد أصبحت مدرسة في الصحافة الوطنية زمن الثورة، فقد تابعت تطور كفاح الجزائر عبر السنوات الصعبة وتعاملت مع الإعلام الصديق والعدو وأوضحت مواقف الثورة في مدها وجزرها وفي تعرجاتها داخليا وخارجيا، وشهدت تطورا أيضا في الفن الصحفي عن طريق الممارسة والتجربة، وقاومت الدعاية الفرنسية المضادة بنجاح سيما أثناء سوء التفاهم أو حتى الأزمات مع الجيران والأشقاء، أو حرب الإيديولوجيات، أو سير المفاوضات السرية والعلنية. النشرات الداخلية بالإضافة إلى الصحافة لجأت الجبهة إلى إصدار نشرات ولائية للإعلام المحلي، ولم تكن النشرات في مستوى واحد من الجودة والانتشار، فقد صدرت في المنطقة الأولى (الأوراس) صحيفة بالفرنسية باسم (الوطن) سنة 1955 مطبوعة على الرونيو، وكانت تحتوي على أخبار الولاية والرد على الصحف الأجنبية، كما نشرت المناطق الأخرى نشرات خاصة، فصدرت عن المنطقة الثالثة نشرة (الجبل) وربما هي صوت الجبل، وعن المنطقة الرابعة نشرة (حرب العصابات)، وقد بلغ عدد النشرات خمسا، وكانت كلها نصف شهرية، وكانت المناطق (الولايات فيما بعد) تتبادل الأخبار عن طريق اللاسلكي.

_ (1) المجاهد عدد 68، تاريخ 16 مايو، 1960.

وكانت النشرات تطبع بالعربية والفرنسية وتفتقر إلى الخبرة الصحفية، أما وصولها إلى تونس والمغرب فكان عن طريق القوافل والتسريب الخاص (1). كما صدرت عن المنظمات التابعة لجبهة التحرير صحف ومجلات ونشرات، من ذلك (العامل الجزائري) التي صدرت عن الاتحاد العام للعمال الجزائريين، و (الشباب الجزائري) المعبرة عن نشاط شباب جبهة التحرير، وكذلك نشرات فروع الاتحاد العام للطلبة المسلمين الجزائريين، ونشرات وزارة الأخبار، وكان بعض هذه الوسائل الإعلامية يصدر بالعربية، وبعضها يصدر بالفرنسية، أو يصدر باللغتين، بل فيها ما كان يصدر بالفرنسية والإنجليزية كالنشرة التي كان يصدرها فرع الاتحاد بأمريكا بعنوان (معرفة الجزائر). أصدرت وزارة الأخبار نشرة سياسية نصف شهرية تقع في اثنتي عشرة صفحة وتصدر بالعربية والفرنسية وتوزع على السفارات والصحفيين الأجانب والإعلاميين، وكانت لها افتتاحية وتعليق، وللوزارة نفسها نشرة أخرى شهرية تحتوي على ما يذاع في صوت الجزائر من إذاعة تونس خلال شهور مارس وأبريل ومايو 1960 ثم توقفت، وأصدرت نفس الوزارة نشرات أخرى حول مواضيع معينة ذات صلة بالثورة مثل تحرير الجزائر، وافريقيا تتحرر، وإفريقيا في طريقها إلى الوحدة (وهذه كلها طبعت في يناير، 1960 بمناسبة انعقاد مؤتمر الشعوب الآسيوية - الإفريقية)، كما نشرت الوزارة ما يلي: - النابالم في الجزائر، أغسطس، 1960. معسكرات التعذيب، أكتوبر، 1960. عبر ولايات الجزائر، مارس، 1960. الجميع جزائريون، مارس، 1961. صحراء الجزائر، أغسطس، 1961.

_ (1) عواطف، مرجع سابق، ص 54.

أصوات الجزائر

وكل نشرة كانت تقع في 30 و 50 صفحة (1). ومن النشرات العائدة لاتحاد الطلبة نذكر مجلة (الشباب الجزائري) التي كانت تصدر في تونس والتي أصدرت عددا خاصا بالمؤتمر الرابع لاتحاد الطلبة الذي انعقد سنة 1960، ولفرع اتحاد الطلبة في أمريكا نشرة سبق التنويه بها وقد صدر منها ثمانية أعداد على الأقل في أبريل سنة 1962، وأصدر فرع دمشق نشرة ثقافية في يناير سنة 1960، وفي سوريا أيضا صدرت مجلة (كفاح المغرب العربي) بالتعاون بين فرع دمشق ورابطة طلاب المغرب العربي في سوريا، وقد صدر منها عدة أعداد، كما كان لفرع القاهرة نشرة ثقافية بعنوان الطالب الجزائري، وكانت تضم مقالات وقصائد وقصصا حول الجزائر بأقلام الطلبة (2). أصوات الجزائر صوت الجزائر الحرة المجاهدة إلى جانب الصحافة كان على الثورة أن تدخل بابا آخر للإعلام وهو باب الإذاعة لتسمع صوت الثورة للشعب وللعالم، ولكن دخول الباب الجديد لم يكن سهلا، فقد كان الأمر في حاجة إلى خبرة وإلى أمن وتقنية، وكلها كانت مفقودة في المرحلة الأولى من الثورة، ولكن بالتدرج وتحت ضغط الحاجة نجحت التجربة وأصبح صوت الجزائر مسموعا بل محترما حتى لدى العدو لصدقية الخبر وجدية العمل. كان إنشاء الإذاعة الجزائرية السرية من قرارات مؤتمر الصومام، وكان أول ظهور لها في 16 ديسمبر 1956 عشية التحضير للإضراب الذي قررته لجنة التنسيق والتنفيذ في الأسبوع الأول من فبراير 1957، بدأت الإذاعة بجهاز إرسال محمول فوق شاحنة من نوع ج، م، س استجلب من القاعدة الأمريكية

_ (1) عواطف، الصحانة العربية، ص 56. (2) هلال، نشاط الطلبة .... ص 103.

بالقنيطرة المغربية، وهو بقوة 400 وات، وكان مستعملا من قبل الجيش الأمريكي خلال الحرب العالمية الثانية، ثم استعملت الإذاعة جهازا آخر من نوع (ت. أ. ب، t. e. b مرينا) اقتنته من البحرية الأمريكية، قوته 15 كيلو وات، وهو يبث على الموجات القصيرة: 25، 31، 49 م، وكانت مدة البث ست ساعات يوميا، أما البرنامج فكان يقدم بالعربية أخبارا عسكرية وسياسية وتعاليق بالفصحى وبالعامية، مع نصف ساعة بالقبائلية ونصف ساعة أخرى بالفرنسية. تبدأ الإذاعة الجزائرية السرية لحنها المميز بقولها: (هنا صوت الجزائر الحرة المكافحة، أو صوت جبهة التحرير وجيش التحرير يخاطبكم من قلب الجزائر،) وقد تولى التعاليق والبث والتقنيات في هذه الإذاعة مجموعة من ثلاثة عشر عضوا من بينهم عبد المجيد مزيان، والهاشمي التجاني، وعبد السلام بلعيد، ومدني حواس، ورشيد النجار، والشيخ رضا بن الشيخ الحسين، وقد تعرضت الإذاعة السرية في أول أمرها إلى أخطار عندما اكتشفتها السلطات الفرنسية، ولحمايتها نقلت إلى مكان آمن ومستقر في الناظور بالمغرب ثم تطوان ثم الرباط، وفي تطوان كان المشرف عليها هو علي مرحوم بمساعدة زهير إيحدادن وعلي عسول، أما في الرباط فقد أشرف عليها سي الدراجي وموساوي زروق وعبد القادر قريصات وإسماعيل حمداني وإيحدادن، وفي 15 أكتوبر 1961 بدأت تبث إذاعة طنجة التي عمل فيها إبراهيم غافر (غافة) ومحمد بوزيدي وعلي نساخ ... وقبل أن نترك المغرب نقول إن الإذاعة السرية عندما كانت في الناظور قد افتتحها سعد دحلب وعيسى مسعودي في 12 يناير 1959، وتولى التحرير فيها والتعليق والبث والهندسة عدد من المناضلين منهم محمد السوفي، ومدني حواس، ومحمد بوزيدي، وعبد العزيز شكيري، ودحو ولد قابلية. وأصل الإذاعة السرية سيارة متنقلة على ظهرها معدات إذاعية يديرها حوالي عشرة مناضلين ليس لهم خبرة في ميدان البث الإذاعي، وكان الإرسال

صوت الجزائر من الإذاعات العربية

يستغرق ساعتين مساء، وفي اليوم التالي يعاد نفس البرنامج، وبالإضافة إلى الإذاعة باللغات الثلاث المشار إليها هناك اللهجة العربية الدارجة، كما كان لها برنامج أسبوعي خاص موجه إلى العمال الجرائريين بفرنسا. أما المشاكل التي واجهتها هذه الإذاعة السرية فلا حصر لها، ومن أهمها العزلة، فهي مقطوعة عن جبهات القتال وعن أخبار الثورة في الخارج، كما أنها كانت تفتقر إلى المواد الخبرية، وكانت تعاني من تشويش العدو وخطره المتواصل عليها، وحين اكتشفت سنة 1958 أوقفها المشرفون عليها، وهو ما أنقذ حياتهم أيضا، وفي عام 1959 توقفت هذه الإذاعة مدة أربعة أشهر حين أصر عمالها على ضرورة إنشاء إذاعة ثابتة وعلى توفير الحماية لهم فنقلوا إلى داخل الحدود المغربية تحت حماية جيش التحرير (1). وفي الأخير نقول إن الإذاعة السرية قد لعبت دورا رئيسيا كوسيلة إعلامية مؤثرة لجبهة التحرير بتوعية الشعب وبث الثقة في النفس، وتجنيد الجماهير وراء الثورة ومنحها الأمل في النصر، وإذا كانت الإذاعة السرية وصوت الجزائر من تونس ومن المغرب قد نجحت في أداء رسالة جبهة التحرير في الداخل فإن إذاعات القاهرة ودمشق والكويت وغيرها من الإذاعات العربية قد نجحت في تبليغ رسالتها إلى الخارج. صوت الجزائر من الإذاعات العربية كذلك شهدت سنة 1956 انطلاقة (صوت الجزائر) من تونس أيضا، وقد تميز بصوت عيسى مسعودي الذي لفت إليه الأنظار وأصبح الناس ينتظرون سماع صوته بشوق، وكانت مدة البث نصف ساعة فقط، وبالإضافة إلى مسعودي

_ (1) عواطف، الصحافة العربية، مرجع سابق، ص 61، وتقول هذه الباحثة إن قلة المادة الخبرية جعلت القائمين عليها يختلقون أحيانا حتى معارك وهمية (ص 60) وهكذا تطورت الإذاعة واستقرت منذ بدأت تذيع من الحدود المغربية في 12 يوليو 1959.

والبوزيدي والأمين بشيشي والعربي سعدوني، هناك سيرج ميشال الذي كان مكلفا بالحصة الفرنسية. وفي القاهرة كان صوت العرب يتولى البث للجزائر، وكان له برامجه الموجهة إلى المغرب العربي منذ نشأته، ولكنه غير من عناوينها وحجمها مع تقدم الكفاح ومع استقلال المغرب وتونس، كان برنامج الجزائر محصورا في ركن محدود فأصبح بعد تأليف الحكومة المؤقتة يسمى صوت الجمهورية الجزائرية، كما أضيف إليه ركن المغرب العربي الذي كان يحرره الطلبة بإشراف محمود أبو الفتوح أحد الساهرين على برنامج المغرب العربي في إذاعة صوت العرب، وكان صوت الجمهورية الجزائرية المذاع من صوت العرب ناطقا بالعربية، وكان يشرف عليه أحمد توفيق المدني ويذيع فيه عثمان سعدي، ومحمد قصوري، ورشيد النجار، وعلي مفتاحي، والتركي رابح، وعبد القادر بن قاسي، وعبد القادر نور، وغيرهم، وكان هناك برنامج آخر عنوانه (جزائري يخاطب الفرنسيين من القاهرة) يذاع بالفرنسية، ثم تحول إلى صوت ج. ج. وكان يحرره عدة بن قطاط، وغافة، ومبروك نافع، وعبد الرحمن كيوان. وفي سنة 1960 - 1961 أنشئ برنامج آخر باسم (إذاعة الجزائر اليوم)، وكانت مدته ساعة واحدة ويذاع من البرنامج الدولي بإذاعة القاهرة، ويقول عبد القادر نور إنه يحتوى على أخبار عسكرية وتعاليق وأناشيد، وإنه كان من العاملين فيه مع محمد مفتاحي، وعبود عليوش، وآخرين ... وكان البرنامج تحت إشراف جمال السنهوري أحد أعضاء هيئة إذاعة صوت العرب. هذا بالنسبة لانطلاقه صوت الجزائر سنة 1956 وما تلاها في المغرب العربي والقاهرة، أما انطلاقة سنة 1958 فقد عم صوت الجزائر خلالها العواصم العربية، فكان يغطي أيضا طرابلس حيث افتتحه فيها الدكتور الأمين دباغين، وعمل فيه رابح مجحود، وم، الصالح الصديق، وحسين يامي، وبشير القاضي، وأحمد بودة، وعبد الحفيظ أمقران، كما عمل في صوت الجزائر في بنغازي عبد الرحمن الشريف.

كانت رابطة المغرب العربي في دمشق تذيع من وقت إلى آخر برنامجا عن قضايا المغرب العربي من إذاعة دمشق، وفي سنة 1958 أيضا، والوحدة بين مصر وسورية قائمة، جرى اتصال بين مكتب جبهة التحرير وإذاعة دمشق من أجل تخصيص حصة عن الثورة الجزائرية فيها، ويخبرنا محمد مهري أنه اتصل بالشيخ محمد الغسيري ممثل الجبهة وحصل منه على رسالة بهذا المعنى إلى مدير الإذاعة بينما تولى المكتب الجبهة الاتصال بوزارة الإعلام السورية، ونتيجة هذا الاتصال وافق السوريون على فتح ركن في الإذاعة بعنوان (صوت الجزائر من دمشق)، وقد تجند له عدد من الطلبة فكونوا منهم مكتبا إعلاميا داخل مكتب جبهة التحرير، يتألف من الهاشمي قدوري ومحمد بوعروج وأبو القاسم خمار، والمنور الصم، وبوعبد الله غلام الله، وكان هذا المكتب هو الذي يشرف على حصة صوت الجزائر في دمشق، وهي حصة تدوم حوالي نصف ساعة يوميا من حوالي الساعة السادسة والنصف مساء، وكان برنامجها يشمل الأخبار والتعاليق وتزيد الرأي العام العربي بأخبار الثورة، وكانت لهم كامل الحرية والاستقلالية فيما يذيعون، وكانوا يعتمدون في مصادر الخبر على جرائد ومنشورات جبهة التحرير والقراءة فيما ينشره الإعلام العربي، لكن صوت الجزائر من دمشق توقف بعد انفصال سورية عن مصر (1). أما صوت الجزائر من بغداد فقد تولاه أولا أحمد بودة ثم محمد الربعي. وعلى الرياحي، وحامد روابحية، وكذلك صوت الجزائر من الكويت فقد كان يشرف عليه عثمان سعدي، ثم صوت الجزائر من عمان الذي كان بإشراف عبد الرحمن العقون، وصوت الجزائر من جدة بإشراف عبد الرحمن زلاقي (2).

_ (1) محمد مهري، ومضات من دروب الحياة، الجزائر، 2005، ص 81. (2) بعض هذه المعلومات أخذناها من عمل جمعه وقدم له عبد القادر نور الذي عايش تطورات إذاعة الجزائر أثناء الثورة وعمل في برامجها من القاهرة وعرف عددا ممن ساهموا فيها، ثم تولى إدارة الإذاعة الوطنية الأولى بعد الاستقلال لفترة طويلة، والعمل المشار إليه يقع في خمس وعشرين صفحة، وعنوانه: الإعلام عبر الأثير في ثورة =

محتوى صوت الجزائر (صوت الجمهورية الجزائرية)

وهكذا كانت معظم العواصم العربية تفسح المجال في إذاعاتها لصوت الجزائر لكي يذيع منها رسالته إلى المستمعين العرب والجزائريين وغيرهم بتوجيهات جبهة التحرير وجيش التحرير. محتوى صوت الجزائر (صوت الجمهورية الجزائرية) كان (صوت الجزائر) يقدم المعلومات العسكرية والسياسية ويعلق على الأخبار في أغلب الأحيان باللغتين العربية والفرنسية، وله برامج تتناول التاريخ والأدب والثقافة العامة التي تخدم أهداف الثورة، كما كان يذيع الأخبار النقابية والمؤتمرات الدولية التي تهتم بمسيرة الثورة وتحركات وفودها في الخارج، وكانت جريدة المجاهد تطلب من قرائها أن يستمعوا (لصوت الجمهورية الجزائرية) - كما أصبح يدعى - كل يوم من الساعة الثامنة مساء إلى الساعة الثامنة والنصف ج م ت على الموجة القصيرة 49 مترا (1). من البداية نعرف أن صوت الإذاعة الوطنية السرية انطلق تحت اسم (صوت الجزائر الحرة المجاهدة) استعدادا لتنفيذ الإضراب الأسبوعي الذي أشرنا إليه، وفي أتون هذه المعركة كتبت المجاهد في منتصف ديسمبر 1956 مقالة تحت عنوان (ماذا تعرف عن إذاعتنا الوطنية)، وقد لخصت ذلك في قولها: إن العبارة التي تدوي كل يوم عدة مرات هي (هنا صوت الجزائر الحرة المكافحة)، وهي العبارة التي دوت فعلا لأول مرة وفاجأت كل جزائري في ليلة 16 ديسمبر 1956، ثم أصبحت نغمة تلك العبارة مألوفة ينتظرها السامعون المتلهفون لسماع ما تحمل من أخبار وما تزفه من انتصار، وأضافت المجاهد قائلة إن الذين حاولوا التشويش على صوت الجزائر ومنع وصوله إلى الشعب قد فشلوا كما فشل الذين حاولوا تزييفه بالتقليد والتضليل.

_ = التحرير، ولم نتمكن من التأكد من هذه المعلومات والتدقيق فيها بالرجوع إلى مصادر أخرى. (1) المجاهد - بالفرنسية - عدد 62، 31 مارس 1960.

وقد اعترفت المجاهد، وهي تقدم صوت الجزائر لقرائها، بأن إذاعة صوت الجزائر لا تملك كل مؤهلات الإذاعة الوطنية، ومع ذلك كانت تؤدي مهمتها النضالية، إن الأسماء عديدة ولكن المهمة واحدة، فهناك صوت الجزائر، والإذاعة الوطنية الجزائرية، وإذاعة الجزائر الحرة .. ولكن إذاعة الجزائر ليست مثل الإذاعات الأخرى الرسمية في العالم، فليست لها مبان ضخمة ولا وسائل فنية عالية، ومع ذلك فقد كانت حلما فأصبحت حقيقة، خطط لها أول الأمر خفية في أحد مراكز قيادة الثورة ثم أصبحت مؤسسة وطنية تقدم للثورة خدمة جليلة وتساهم في توعية الشعب وإعداده لنضال طويل وتفضح أكاذيب العدو، لقد بدأت الإذاعة من الصفر بإشراف فنيين من مواصلات جيش التحرير الوطني، وواجهت خطر اكتشاف محطة إرسالها، مما يعرضها لقنابل العدو، لذلك كان على هذه الإذاعة الناشئة أن تكون دائما في حالة تنقل وارتحال. بدأت الإذاعة ببرنامج يومي قصير المدة والمدى يذاع بـ (اللغة العربية واللهجة القبائلية واللغة الفرنسية) على طول موجة واحدة، ويشمل الأخبار السياسية والعسكرية وتعليقا عسكريا، ثم توسع وتعززت إمكانيات البث مع الأيام والشهور، ومنذ 12 يوليو 1959 أصبحت الإذاعة تذيع على ثلاثة أطوال ثلاث مرات في اليوم من الساعة الرابعة إلى السادسة صباحا ومن الحادية عشرة إلى الثالثة عشرة بعد الظهر ومن الثامنة إلى العاشرة مساء، وكانت تقدم أربع عشرة حصة أسبوعيا إضافة إلى الحصص اليومية، أي بمعدل حصتين أسبوعيتين في كل يوم، وفي هذه الحصص الأسبوعية كان الجزائري يستمع إلى برامج عن تاريخ الثورات وتاريخ الجزائر وحصة عن المرأة وأخرى عن نضال إفريقيا، بالإضافة إلى تحقيقات عسكرية يكتبها مراسلو الإذاعة، وتمثيلية قصيرة ... هذه البرامج كانت تذاع باللغات الثلاث المتقدمة، يضاف إليها برامج باللغة العربية فقط، مثل صدى الجزائر في العالم، ومن أدب الثورة، وفي طريق

تطورات جديدة

النصر، ثم برامج باللهجة القبائلية فقط تشمل قصائد شعرية وأناشيد وطنية، بالإضافة إلى برنامج بالفرنسية، وهكذا فنحن أمام إذاعة ثورية سرية ذات برامج متنوعة لها إمكانات تغلبت بها على عراقيل العدو، إنها صوت الثورة وصوت جبهة التحرير وصوت جيش التحرير بل صوت الكفاح المقدس (1). تطورات جديدة ثم تطورت الإذاعة الوطنية تطورا ملحوظا فلم يحن فاتح عام 1962 حتى ازدادت الحصص والموجات مع تعاظم الثقة بالنفس مع مفاوضات إيفيان التي كانت قد قطعت مراحل هامة ومع تعاظم الصعوبات في الداخل أمام الثورة، ففي برنامج (صوت جبهة وجيش التحرير الوطني) أكد محمد يزيد وزير الأخبار، على الدور الذي تلعبه الإذاعة الوطنية في التعريف بالثورة، فهي بحق صوت الشعب الجزائري، وأعلن الوزير عن مشاركة المكلفين بالإذاعة في مؤتمر الإذاعات الإفريقية وفي ندوة الإذاعات التي انعقدت بالرباط، وقال إن الهدف من الإذاعة هو تبليغ قرارات الحكومة الجزائرية وتوضيح المواقف إلى الرأي العام العالمي وإلى الفرنسيين أيضا بأصوات عربية وأصوات أوروبية، وأضاف محمد يزيد أن وزارته شرعت في تكوين الفنيين الذين سيتولون تسيير الإذاعة والتلفزة الجزائرية الحرة، وأنه سيأتي يوم يذيع فيه صوت الجزائر من العاصمة نفسها. وبعد نشرها هذا التصريح أعطت المجاهد مواعيد البث الإذاعي في إذاعة الجزائر الحرة، فقد أصبحت تبث من الخامسة إلى السابعة صباحا، ومن الحادية عشرة إلى الواحدة ظهرا، ثم من السادسة إلى الثامنة مساء، وكلها بتوقيت الجزائر، وهذه البرامج تذع كما قلنا بالعربية والقبائلية والفرنسية على الموجات القصيرة ثم المتوسطة (2).

_ (1) المجاهد، 13 مارس 1962، و 18 أبريل سنة 1960. (2) الجاهد، 22 يناير 1962، لمعرفة أرقام الموجات القصيرة والمتوسطة راجع هذا المصدر.

فضل الإذاعات العربية

ولكن البحث وجمع المعلومات والشهادات أدت إلى معلومات إضافية تلقي مزيدا من الضوء على تطور الإذاعة، فإذا كانت لم تبدأ إلا في شهر ديسمبر 1956 فكيف كان صوت الثورة قبل ذلك يصل إلى الشعب وإلى العالم؟ فضل الإذاعات العربية الواقع أن الإذاعات العربية، ولا سيما إذاعة مصر ثم تونس بعد استقلالها، هي التي ملأت الفراغ وأوصلت أخبار الثورة الجزائرية إلى المستمعين، ومن الطبيعي أن تكون إذاعة مصر هي الأولى في هذا الميدان لعدة أسباب منها أن إذاعة صوت العرب بدأت تذيع من القاهرة سنة 1953 وأن الثورة المصرية قد وجهت اهتمامها لتحرير الشعوب العربية الرازحة تحت الاستعمار، ومنها شعوب المغرب العربي، وقد عرفنا متى بدأت الإذاعات العربية الأخرى تفتح قنواتها الإذاعية لبرامج الثورة الجزائرية. خصصت القاهرة في نهاية عام 1955 ثلاثة برامج أسبوعية للجزائر مدة كل منها عشر دقائق، وهي برنامج (وفد جبهة التحرير يخاطبكم من القاهرة) الذي أصبح فيما بعد يسمى (صوت الجمهورية الجزائرية يخاطبكم)، وهو يذاع باللغة العربية من إذاعة صوت العرب في شكل تعليق سياسي، والثاني هو برنامج (هنا صوت الجمهورية الجزائرية) الذي كان يذاع بالفرنسية من البرنامج الثقافي المصري المعروف بـ (البرنامج الثاني)، أما البرنامج الثالث فعنوانه (جزائري يخاطب الفرنسيين) وكان يذاع أيضا بالفرنسية من البرامج المصرية الموجهة. أما إذاعة تونس فقد بدأت تذاي برنامج (هنا صوت الجزائر المجاهدة الشقيقة) ربما في نهاية سنة 1956، وكان هذا البرنامج يذاع ثلاث مرات أسبوعيا ولمدة ربع ساعة، وكان يقدم أخبارا عسكرية وتعليقات سياسية، ويبدأ بالتعليق وينتهي بالنشيد الوطني الجزائري.

الإعلام الفرنسي أثناء الثورة

الإعلام الفرنسي أثناء الثورة كان للفرنسيين إعلامهم الموجه خلال الثورة، فقد كانت لهم صحفهم ونشراتهم ومجلاتهم وكتبهم بشكل أوسع وأكثر إتقانا وتقدما من الإعلام الجزائري، وقد حاولوا توظيف هذه الإمكانات للتأثير على الثورة وفصل الشعب عنها واستعملوا لذلك شتى الوسائل، ونحن لا نريد أن نتعرض إلى كل تلك الوسائل هنا، ولكن يكفي الإشارة إلى بعض ما هو موجه خاصة للجزائريين، مثل مجلة (هنا الجزائر) التي كانت لسان الإذاعة والتلفزة الفرنسية بالجزائر خلال مرحلة طويلة من عهد الثورة (1). أثناء حرب الإعلام التي دارت بين الجهة والفرنسيين حاول هؤلاء أن يشوشوا على صوت الجزائر كما حاولوا تزييف المجاهد، فقد أنشأوا مركزا بإحدى مقاطعات فرنسا أسموه مركز كليبر أو دار سوستيل، وأطلقوا على الإذاعة التي تنطلق منه (إذاعة صوت العرب من القاهرة) حسبما ذكرت جريدة المجاهد، وكان المركز تحت إدارة أشخاص متخصصين في الشؤون الأهلية أو ممن سبق لهم العمل في تونس والمغرب، وكان يساعدهم بعض العرب القادمين من المشرق. أما الأعمال التي قام بها المركز فتتمثل في بث حصص بالعربية على قناة باريس الثانية مساء كل يوم، وبتوجيه من الشرطة والمخابرات الفرنسية كان المركز يبث حصصا أخرى باسم (صوت الجزائر) للدعاية للحركة المحالية ولتضليل الجزائريين المقيمين في فرنسا، كما خصص برامج مزيفة تذاع تحت اسم (صوت العرب من القاهرة) على نفس موجات صوت العرب الأصلية

_ (1) عن الصراع الإعلامي بين الجزائر وفرنسا أيام الثورة أنظر بحث (حرب الكلمات الجزائرية: البث الإذاعي والثورة، 1954 - 1962)، بقلم: روبرت، بوكميلر في مغرب روفيو Robert J. Bookmiller, The Algerian War of words, Broadcasting and Révolution, 1954 - 1962, In Maghreb Review, vol. 14, 3 - 4, 1989, pp. 197 - 213.

وبنفس الأسلوب الذي اعتاد عليه مستمعو برامجه ولكن بلهجة أهل المغرب العربي، ومن مهمة مركز كليبر أيضا التشويش على (صوت الجزائر) الذي كان يذيع من إذاعة تونس. وبالإضافة إلى تزييف البرامج الإذاعية قام المركز بتزوير وتزيف البلاغات العسكرية المنسوبة إلى قيادة جيش التحرير، وهي بلاغات كانت ترسل إلى قيادة الجيش الفرنسي في الجزائر فيلتقطها ضابط تاح لـ (المكتب الخامس) المختص في شؤون الدعاية النفسية والذي يقوم بإذاعتها بجهاز إرسال خاص متنقل على كامل خط موريس. كما كان المركز يتولى تحرير عدة نشرات بالعربية ومنها النشرات التالية: (المجلة العربية) التي كانت تصدر من باريس، وجريدة (البرق) التي كان يتولاها عقيد تساعده عناصر مختصة في الشؤون الأهلية، و (الجزائر) وهي مجلة كان يشرف عليها ضابط برتبة رائد من ضباط الشؤون الأهلية في المغرب. أما ميزانية المركز فقد قدرت سنة 1958 بخمسين مليون فرنك، وتساهم فيها أطراف عديدة منها وزارة الخارجية الفرنسية، وإدارة الشؤون الجزائرية بخمسة عشر مليونا، وفي نفس السنة افتتح قرض قدره مائة وعشرون مليونا لمقاومة الجاسوسية (1). ولم يتورع مركز كليبر حتى من استخدام بعض المغنين الجزائريين لتحقيق مآربه، ففي شهر أغسطس 1959 قدم إلى المركز سليمان عازم الذي وصفته المجاهد بالمطرب الفاشل، وسجل نشيدا لحنه بنفسه وسماه (نشيد الحركي)، وقد تساءلت الجريدة عن سخرية الاستعمار من الحركى وبلاهة رجال الدعاية الفرنسية الذين لا يتورعون عن استخدام كل الأساليب لتحقيق أغراضهم الدعائية (2).

_ (1) المجاهد 60، 25 يناير 1960. (2) المجاهد، نفس المرجع، كتب محمد أرزقي فراد مقالة عن سليمان عازم (1919 - =

تطور الإذاعة الفرنسية في الجزائر

وتمشيا مع هذا الخط أشاع الفرنسيون أن الثورة الجزائرية شيوعية وأن الإسلام بريء منها، وحثوا الشعب على أن يتبرأ منها ومن القائمين عليها، وقاموا بحملة دعاية في هذا المجال سيما بعد زيارة وفد جزائري إلى الصين، فقد سجلوا اسطوانة وجعلوا منها نسخا ووزعوها بحرية، ومما جاء فيها أن الحكومة المؤقتة خائنة لأنها تفاهمت مع الصين وجاءت منها بالطائرات وبمختلف أنواع الأسلحة، ولذلك طلبوا من الجزائريين الاتحاد مع الفرنسيين لمحاربة الحكومة المؤقتة ومقاومة الشيوعية عدوة الإسلام (1). تطور الإذاعة الفرنسية في الجزائر ذكرنا في التاريخ الثقافي السابق بدايات الإذاعة الفرنسية في الجزائر، وقلنا إنها ترجع إلى العشرينات من القرن العشرين، ونضيف هنا بعض التفاصيل التي كانت مفقودة، فقد بدأ الإرسال منها سنة 1926 بجهاز يبلغ 150 واط. يقع في البريد المركزي، ثم انتقل إلى ربوة الحامة (جاردن ديسي) - ولكي يرفعوا من مستواه أرسلوا بالفنيين إلى باريس للتدرب، وفي نوفمبر 1929 (عشية الاحتفال المئوي بالاحتلال) احتفلوا بجهاز إرسال قوي جديد، ثم تطورت الإذاعة فأصبحت تعم القطر الجزائري كله، بحيث نصبوا بين 1943 و 1945 أجهزة صغيرة في تلمسان وقسنطينة وعنابة، كما وضعوا شبكة مؤقتة تطورت مع الأيام، فشهدت 1947 - 1948 إقامة جهاز إرسال بـ 20 ثم 25 ك

_ = 1983) تقدمه على أنه إنسان عاش في فرنسا عيشة مضطربة وأنه كان من كوادر حزب الشعب، وقد غنى أغاني مجونية استوجبت توبته وطلب الغفران، وكان ماهرا في الغناء، ومن أغانيه (أخرج أيها الجراد من بلدي) التي رمز فيها إلى الاستعمار، ولكن أغانيه كانت ممنوعة في الإذاعة الجزائرية بعد الاستقلال، وقد مات في الغربة وفي قلبه حسرة، انظر الشروق اليومي، 29 يناير، 2006. (1) المجاهد 38، 8 رمضان، 1378، ولم تذكر الجريدة التاريخ الميلادي هذه المرة، أنظر أيضا بحث حرب الكلمات الجزائرية: الإذاعة والثورة 1954 - 1962 بقلم روبرت بوكميلر R. Boookmiller في مغرب ريفيو، 1989، 14 (3 - 4)، 196 - 213.

واط في ناحية الكاليتوس على الأمواج القصيرة، ثم تحولت إلى أمواج متوسطة بـ 50 ك واط، واستحضروا جهاز إرسال بهذه الموجة سنة 1951، كما أقيمت أجهزة إضافية في كل من قسنطينة ووهران بين 1953 - 1954، وفي عين الحمام (ميشلي) وفي بجاية سنة 1955، وفي مارس من سنة 1958 انتقل مركز الإرسال من الدار البيضاء إلى أولاد فايت. إن هذا التطور حدث بعد مرور حوالي ثلاثين سنة على ميلاد الإذاعة الفرنسية في الجزائر، وهو تطور يعني تدشين مركز الإرسال اللاسلكي الجديد في 21 فبراير 1958، ففد أقيمت بناية تأوي أجهزة الإذاعة وحولها أعمدة الإرسال الصاعدة، وهو ما كان موجودا قرب مطار الجزائر، وكان الضيق هو الذي أدى إلى الانتقال من الدار البيضاء إلى أولاد فايت، وقد أعلن (شوصاد) المسؤول الفرنسي الذي افتتح الموقع في السنة المذكورة أمام الشيخصيات الإدارية والصناعية التي رافقته من فرنسا إلى الجزائر: إن دور الإذاعة خطير في سبيل نشر الأخوة والوئام بين سكان هذه البلاد وإظهار الحقائق الجزائرية ومحاربة الأحقاد والنعرات العصبية، وقال إن الجهاز الجديد يقوي (صوت الجزائر) في داخل البلاد وخارجها (1). كان للإذاعة (ستوديوهات) في وهران وقسنطينة وتلمسان وبجاية على أساس أن لكل مدينة فنها وذوقها الخاص، كما يتعذر على أجواقها الانتقال منها إلى العاصمة لإحياء حفلة أو حفلتين في الأسبوع، وحتى لو حصل هذا الانتقال لحرم أهل كل بلدة من أجواقها وفنانيها ولتمركز الفن في العاصمة فقط، هكذا برر الكاتب هذه الاستراتيجية في توزيع خارطة الفن والفنانين في القطر الجزائري. بالنسبة لأستوديو بجاية مثلا نعرف أنه تأسس سنة 1947 وكانت تذاع منه أربع حفلات أسبوعيا، بالعربية والقبائلية، وكان المشرفون على الحفلات قد

_ (1) هنا الجزائر 63، مارس 1958، ص 3.

التلفزيون

واجهوا صعوبات كثيرة في تنظيم استوديو بجاية لأن الناس كانوا يفضلون الحفلات الخاصة لعدم إيلافهم الغناء أمام المذياع في البداية، ولكن المذياع نجح في الترويج للفن والشهرة، ويرجع الفضل في تنشيط هذا الاستوديو إلى الشيخ الصادق البجائي (البجاوي) صاحب الجوق المؤلف من تسعة أفراد، فهو الذي كونهم بإشرافه على (جمعية الشباب الفني)، وقد لحن الشيخ الصادق ما يزيد على عشرين مقطوعة، ومعظم الأغاني التي كانت تذاع تشمل الفن الشعبي والأندلسي والعصري (1). كانت الإذاعة الفرنسية في الجزائر تنشر برنامجها كل شهر في مجلتها هنا الجزائر، وفي سنة 1959 كان البرنامج شهر مارس مثلا يتضمن الأبواب التالية: القرآن الكريم، الحديث الديني، الأخبار التي كانت تذاع من (صوت البلاد) ضد الثورة، الأحاديث التربوية والرياضة، الإذاعات المسرحية والأدبية والتاريخية والتهذيبية، ثم برنامج صندوق الأفكار، وآخر بعنوان الجزائر تخاطبكم، بالإضافة إلى حفلتين موسيقيتين عربيتين إحداهما بقيادة العنقاء والثانية بقيادة عبد الكريم دالي (2). التلفزيون دخل التلفزيون إلى الجزائر سنة 1956، وخصص له جهاز بخمسين ك واط، وكان مقره في تامنفوست، ثم ارتفعت طاقته سنة 1957 إلى 500 ك واط، والواقع أن تاريخ التلفزيون يرجع إلى سنة 1952 عندما منح مؤتمر ستكهولم لإذاعة وتلفزيون الجزائر خمس محطات لإرسال البرنامج التلفزيوني في الجزائر العاصمة ووهران وقسنطينة وعنابة وتلمسان، على أن تجرى تجارب بعد سنتين (1954) لإقامة جهاز في العاصمة أولا، وقد خصص له ما يزيد على 600 مليون فرنك، وجاء المهندسون والأخصائيون من فرنسا لاختيار الموقع المناسب، ثم أورد مقالا حول التلفزيون باعتباره جهازا للتربية والتسلية

_ (1) هنا الجزائر 22، مارس 1954، ص 10. (2) صورتا العنقاء وابن دالي مرفقتان بالمقال - أنظر هنا الجزائر 74، مارس 1959، ص (31)، انظر أيضا مقالة حرب الكلمات.

التلفزيون بين لاكوست وسوستيل

والتثقيف، ثم ما يسببه من حيرة قول من يقول إنه جهاز المستقبل، أي أن هناك مشاكل تترتب على إدخال التلفزيون في كل المجتمعات بين الفائدة والمضرة (1). ولكن التلفزيون لم يبدأ عمليا إلا سنة 1956 كما ذكرنا، وقد جاء في العدد 44 من مجلة (هنا الجزائر) أن هناك عددا من الأفلام سيشرع في عرضها، وكلها من إخراج فرنسي يدعى (راميتر) ما عدا فيلما واحدا أخرجه مصطفى بديع وهو فيلم المطاردة، أما باقي الأفلام وعددها أحد عشر فيلما، فمن عمل جزائريين، وهي: العجائز - علي عبدون، الدجالون - غريبي، والجائزة الكبرى - مصطفى بديع، والخادم المحتال - التوري، اللص والعساس - بوعلام رايس، وموسيقى ساحرة - بوعلام رايس أيضا، والبطل - التوري، وتلمسان - بوعلام رايس، والبخيل - الطاهر رحاب، وفداء الشتاء، والدابة - تمثيل حسن الحسني (2). التلفزيون بين لاكوست وسوستيل وفي نهاية 1956 أقامت السلطات الفرنسية معرضا للتلفزيون هو الأول من نوعه في مدينة الجزائر حيث قيل إن آلاف الكيلوات من الأفلام والصور قد عرضت على الجمهور الزائر الذي بلغ أربعين ألف نسمة، وقد دام المعرض تسعة أيام، وشارك فيه فنانون جاؤوا من باريس، لقد كان التلفزيون حدثا جديدا مما جعل الناس، حتى أهل الريف يقبلون على زيارته لمشاهدة هذه البدعة المبتكرة، على حد تعبير مجلة (هنا الجزائر)، ومن الملفت للنظر أن الذي رأس الحفل هو روبير لاكوست الوزير الفرنسي المقيم في الجزائر والذي استغل أجهزة الإعلام لمهاجمة الثورة والكذب على الفرنسين بأن النصر على الأبواب.

_ (1) هنا الجزائر 22، مارس 1954، ص 2 - 3، وفي العدد الموالي من هذه المجلة أن التلفزيون سيبدأ في الجزائر آخر سنة 1955، وكتبت المجلة افتتاحية عن ذلك وأعطت تفاصيل عن قوة الموجات بالعربية فيه. (2) هنا الجزائر 44، مارس 1956.

وقد أعلن بهذه المناسبة بأن يكون عهد التلفزيون في الجزائر عهدا يعود فيه التفاهم والوئام والسلام للجزائر (1). فهو يبحث في دور الإذاعة والتلفزيون خلال الثورة في فرنسا، وفيه بحثان أحدهما كيف تستمع جبهة التحرير للإذاعة، ص ص 109 - 113، والثاني الإخراج في الجزائر، ص ص 225 - 235. تولى جاك سوستيل حاكم الجزائر السابق، وزارة الأخبار في حكومة ديجول الجديدة، وبهذه الصفة جاء إلى الجزائر ليفتتح فيها دار الإذاعة والتلفزيون في 19 سبتمبر 1958 على إثر محاولة اغتياله في باريس، وبعد شكر مستقبليه قال إن الاستوديوهات والمؤسسات والمكاتب والآلات والأجهزة ... تشكل مجموعة نادرة في إفريقيا وإن فرنسا تستطيع أن تقوم في هذه البلاد بهذه الإنجازات التي تسمو بالإنسان إلى المراتب العليا من الرقي والتمدن، وهو الأمر الذي يدعو إلى التقدم والرجاء والتفاؤل، ثم كرر نفس العبارات تقريبا بعد توجهه إلى مدينة بشار لتدشين محطة تزود الصحراء وإفريقيا بالأخبار وتحمل إليها في نظره رسالة الرقي والسلام والوئام (2). وهذه اللغة الحضارية في ظاهرها تعبر عن نظرة سوستيل أستاذ الفلسفة في عصر الاستعمار الآفل، فالرجل كان يتحدث عن التفاؤل والرقي والتقدم والسلام والوئام على يد فرنسا التي لطخت ثوبها بدم الشعوب المستعمرة، فكيف يوفق سوستيل بين ما جاء به من أجهزة ومعدات تلفزيونية لبث الحضارة وبين ما يقوم به الجيش الفرنسي في هذه البلاد (الجزائر)؟ وبدخول التلفزيون عامه الثالث في الجزائر تطورت برامجه وتنوعت وتكاثرت، وكان بالطبع جهازا فرنسيا لتلميع صورة فرنسا طبقا لما صرح به.

_ (1) هنا الجزائر 51، ديسمبر 1956، ص 1، انظر أيضا , de Bussierre, Michèle et AL., Radios et Télévision au temps des évènements d Algérie 1954 - 1962. (2) تقرير عن الزيارة بالصور في هنا الجزائر 69، أكتوبر 1958، ص 14 - 15.

التلفزيون والسينما

سوستيل للجزائريين، فهو جهاز إعلامي جديد وخطير - لقد تحدث أحدهم (يونس فرحات؟) عن أن من برامج التلفزيون: الجريدة المصورة والأفلام والرياضة والحصص الموسيقية والاستطلاعات ومطالعات الكتب ومعارض الطيران والسيارات. هذا عن برامج التلفزيون العامة، أما برامجه باللغة العربية فبعضها إخباري وعلمي وبعضها فني وأدبي، فهناك جريدة العالم التي تبرز أهم الحوادث، وهناك تقديم الكتاب والشعراء الغربيين والشرقيين مثل لامرتين وقصيدته البحيرة، وملاحظات فرومنتان عن مناظر الجزائر، ونظرات على قصص مولود فرعون، وإذا صدقنا المعلومات الواردة في هذا المقال فإن هذه البرامج الأدبية كانت تخدم الأدب الفرنسي ولا علاقة لها بالأدب الجزائري أو العربي ولا التاريخ الإسلامي حتى فيما يترجم أو يقدم أحيانا على أنه نتاج عربي حديث، والملاحظ أن من بين الأسماء التي وردت مع صور أصحابها في التلفزيون: يحيى الضيف، وسعيد حايف، والطيب أبو الحسن (1). التلفزيون والسينما: هذه الوسيلة الإعلامية الخطيرة كان التنافس عليها شديدا بين الجزائريين والفرنسيين (أنظر بحث حرب الكلمات)، فقد كانت لا تكتفي بنشر الخبر بل تقدم الفيلم والتحقيق والصورة وغيرها، فبالإضافة إلى أصوات الجزائر المنطلقة من الجزائر والقاهرة وتونس والرباط ودمشق ... أنشأت الحكومة المؤقتة مصالح خاصة بالسينما والمسرح والرياضة ونحوها، وقد أرسلت الحكومة بعض الشباب ليتكونوا في ميدان السينما في الدول الاشتراكية مثل محمد الأخضر حمينة وعلي يحيى اللذين أرسلا إلى تشكوسلوفاكيا، كما أرسل عدد آخر إلى

_ (1) هنا الجزائر 73، فبراير 1959، ص 1 - 2، ومما يذكر أن مدير التلفزيون عندئذ هو المهندس مالان، وفي فبراير 1960 تولى جان أودينو الذي انتقل إلى الجزائر من باريس حيث كان مسؤولا على إذاعة ما وراء البحار، هنا الجزائر 86، أبريل 1960.

برلين ويوغسلافيا، وقد عرفنا أن أول فيلم جزائري صور في ميدان المعركة نفسها هو (الجزائر الملتهبة/ المشتعلة)، الذي أخرجه روني فوتييه، ثم تليه أفلام: (لاجئون) لبيير كليمون، والهجوم على مناجم الونزة لمجموعة من الطلبة، وساقية سيدي يوسف لكليمون المذكور، ولأول مرة عرض سنة 1960 فيلم جزائري في الأمم المتحدة وهو (جزائرنا) الذي أنجزه ثلاثة هم: د. شولي وجمال شندرلي وحمينة، ثم فيلم (ياسمينة) لشندرلي وحمينة، لإطلاع الرأي العام عما كان يجري في الجزائر. ويعتبر فوتييه من الشيوعيين الفرنسيين الذين تخلوا عن حزبهم (الحزب, الشيوعي الفرنسي) والتحفوا بجبهة التحرير الوطني - وكان قبل ذلك مصورا للأحوال الاجتماعية في فرنسا كالاضطرابات العمالية، وقد التحق بالولاية الأولى (أنظر سابقا)، ومثله الدكتور شولي وكليمون، وأما جمال شندرلي فقد كان شابا جزائريا ويعتبر الأول من جيله الذي باشر الكاميرا أثناء الثورة في المنطقة الشرقية، ويرى بعضهم، مثل المخرج عمار العسكري، أن ميلاد السينما الجزائرية كان رد فعل على الدعاية الفرنسية التي تريد توجيه ولاء الشعب ضد الثورة (1). ومن الجانب الفرنسي كانت محطة الإذاعة التلفزيون الفرنسية في الجزائر تعمل على تطوير أجهزتها وتوسيع شبكتها لكي تصل إلى الرأي العام من مستوطنين (كولون) وجزائريين، فكانت تنتج أفلاما ومسرحيات وتمررها على الأثير أو الشاشة، فمنذ أكتوبر 1956 أعلنت هنا الجزائر أن الجمهور سيشاهد قريبا قصة فكاهية للفنان رويشد عنوانها (وجه الخروف معروف)، كما أعلنت عن فيلم عنوانه (بنتي) من إخراج مصطفى بديع، ومع الخبر صور لمجموعة من الفنانين الجزائريين، وإعلان يقول إن هذا الإنتاج سيعرض على شاشة

_ (1) يوم دراسي حول السينما والثورة .. إعداد المركز الوطني لدراسة تاريخ الحركة الوطنية ... 1997.

تنظيم المكاتب الإعلامية للجبهة

التلفزيون الجديدة (1). وقد وعد مدير الإذاعة والتلفزة الفرنسية في الجزائر (بيير مالان) في ندوة صحفية بتحسين برامج الإذاعة بأقسامها لتناسب أذواق الجميع، وقال إن برنامج التلفزيون سيتوسع إلى أربعين ساعة أسبوعيا، كما ستقوى أجهزته في وهران، وإن سكان الوسط سيتفيدون من جهاز إرسال آخر لأنهم إلى ذلك الوقت لم يشاهدوا التلفزيون، أما ناحية الشرق وقسنطينة بالخصوص فقد وعد المدير بأنها ستحصل على جهاز إرسال قريبا، وكل ذلك لدعم شبكة التلفزيون، وقد توقع أن عدد المشاهدين للشاشة سيبلغ حوالي خمسائة ألف نسمة، وهو سيعمل على أن يبلغوا مليونا ونصفا (2). تنظيم المكاتب الإعلامية للجبهة خضع تنظيم المكاتب الإعلامية لجبهة التحرير منذ اندلاع الثورة وإلى حين تأليف الحكومة المؤقتة إلى مراحل وتغييرات اقتضتها ظروف الحرب وقلة التجربة والحاجة إلى العناصر المؤهلة، ولعل أول مكتب إعلامي تأسس في الخارج هو مكتب القاهرة سنة 1955، وكان ذلك منطقيا لموقف مصر المعروف من الثورة، ولوجود وفد من قادة الجبهة فيها، ولأسيقية مكتب المغرب العربي فيها بقيادة الأمير عبد الكريم الخطابي، كان أول مكتب إعلامي تحت إشراف أحمد بن بلة ومحمد خيضر وحسين آيت أحمد، ولكننا لا ندري كيف كانوا يتوزعون المهام فيما بينهم، والظاهر أن خيضر كان يمسك بزمام الشؤون السياسية بينما كان ابن بلة يتولى الشؤون العسكرية وآيت أحمد العلاقات العامة والإعلام، وربما بقيت الأمور على هذا النحو إلى أن وقع اختطاف الطائرة في أكتوبر 1956 وكان فيها الثلاثة المذكورون، عندئذ تولى أحمد توفيق المدني شؤون المكتب فترة انتقالية بتكليف من خيضر إلى

_ (1) هنا الجزائر، أكتوبر 1956. (2) هنا الجزائر 81، نوفمبر 1959.

أن حل بالقاهرة الدكتور محمد الأمين دباغين وتولى فيها رئاسة مكتب الوفد الخارجي بتكليف من لجنة التنسيق والتنفيذ. عندئذ توزعت المهام في المكتب على النحو التالي: الرئيس: محمد الأمين دباغين السكرتارية والتنسيق مع المكاتب الإعلامية الأخرى (انظر لاحقا): محمد الصديق بن يحيى ويساعده عدة بن قطاط. مكتب القاهرة: أحمد توفيق المدني، وهو يتولى التوجيه، وشؤون الجامعة العربية. والهيئة الدبلوماسية والحكومة والمنظمات المصرية. ومعه فريق عمل يتكون من: حامد روابحية - السكرتارية عمر دردور - المالية والمحاسبة الطيب الثعالبي - الصحافة والإذاعة مصطفى بن با أحمد - الهلال الأحمر أوعمران وابن عودة - المكتب العسكري مكتب الصحافة والإذاعة: الطيب الثعالبي - مسؤول رابح التركي، محمد قصوري - النصوص العربية لإذاعة صوت العرب. وكل نص يجب أن يحمل توقيع أحمد توفيق المدني قبل إذاعته. عبد القادر معاشو - النصوص الفرنسية، وكل النصوص الموجهة لإذاعة صوت العرب يجب أن يوقعها ابن يحيى مسبقا.

محمد الحاج حمو، نافعة رباني، أرزقي بوزيدة - النصوص الفرنسية الموجهة لأوروبا وفرنسا وإذاعة القاهرة، مع وجوب توقيع ابن يحيى على هذه النصوص مسبقا. فرنسيسكو ديلاجي، F.Delagis - النصوص الأسبانية والبرتغالية. أحمد توفيق المدني - النصوص العربية الموجهة لأمريكا اللاتينية والنصوص التي تترجم لإيران. إبراهيم بولكرم - الشؤون الإدارية. إسماعيل بورغيدة - مكلف بالبريد (1). انتشرت بعد ذلك المكاتب الإعلامية في العالم باسم بعثة جبهة التحرير الوطني، وكل بعثة كانت تقوم بالعمل السياسي والدبلوماسي والإعلامي، فبعد مكتب القاهرة افتتحت مكاتب في العواصم العربية منها: طرابلس ودمشق وبيروت وعمان وجدة، وكذلك تونس والرباط بعد استقلالهما، وبغداد بعد الثورة، كما افتتحت مكاتب في كثير من البلدان الغربية والآسيوية والإفريقية. فكان هناك مكتب في نيويورك ولندن واستكهولم وروما وبون وجنيف، ثم في العواصم الآسيوية مثل جاكرتا ونيودلهي وكراتشي، ثم في عواصم بعض الدول الاشتراكية مثل موسكو وبكين وبلغراد وبراغ، إضافة إلى بعض عواصم بلدان أمريكا اللاتينية كالأرجنتين والبرازيل، وأخيرا في بعض عواصم الدول الإفريقية المتنقلة مثل أكرا وكوناكري وبماكو، مع زيارات إعلامية لدار السلام ونيروبي وكمبالا. كل هذا النشاط كان قبل الإعلان عن ميلاد الحكومة المؤقتة، أما ابتداء من خريف 1958 فقد تحولت معظم البعثات أو المكاتب إلى سفارات في

_ (1) الأرشيف الوطني، علبة 3، من تقرير يقع في أحد عشر صفحة مرقونة بالفرنسية، بتاريخ أغسطس 1957.

العواصم التي اعترفت حكوماتها بالحكومة المؤقتة، ولكن اسم بعثة جبهة التحرير بقي يطلق على المكتب الإعلامي في العواصم التي لم تعترف بالحكومة، بقي أن نقول إن هناك دولا لم يكن فيها للجبهة أي تمثيل لا في شكل بعثة ولا في شكل سفارة، فكان الحل هو العمل من داخل السفارات العربية في هذه الدول. كانت البعثات أو السفارات تقوم بأعمال متعددة لصالح القضية الجزائرية في النطاق الذي تسمح به الأعراف الدولية، ومن أبرز تلك الأعمال إصدار النشرات والتصريحات وتوزيع جريدة المجاهد والاتصال بوسائل الإعلام المحلية وتقديم البيانات في الصحف والإذاعات المحلية وتصحيح الصورة عن الحرب الدائرة ضد الاستعمار ومقاومة الدعاية الفرنسية، كما كانت تتلقى الأخبار العسكرية وغيرها وتعمل كصلة وصل بين أجهزة الثورة والبلد المضيف، ومعظم البعثات كانت تصدر نشرات يومية تحمل أخبار الثورة وتوزعها على السفارات الأجنبية (1). ولسائل أن يسأل: هل نجحت الجبهة في تقديم صورة حقيقية عن الثورة في الخارج؟ وقبل الإجابة عن ذلك دعنا نذكر بالصعوبات التي واجهها الإعلام الجزائري، سيما في أول أمره، كما ذكرنا من قبل، لقد كانت فرنسا معروفة في العالم بأنها بلد الحرية وحقوق الإنسان، وكانت تملك من الوسائل الدعائية ما لا يقارن بما عند الجزائريين على الإطلاق، وكان معظم العالم يعتد أن الجزائر فعلا جزء من فرنسا، قانونيا وعرفيا، وكان تضامن الإعلام الغربي مع بعضه واضحا كما هو حاله إذا تعلق الإمر بثورات يعتبرها وطنية أو يسارية أو إسلامية، كما أن الغرب كان يخشى أن تكون الجزائر المستقلة عن فرنسا موطى قدم للمعسكر الاشتراكي، والمعروف أن الجيش الفرنسي - رغم هزيمته في الفيتتام - كان قويا وكثير العدد والعتاد في الجزائر وأنه كان يتلقى المدد من

_ (1) عواطف عبد الرحمن، الصحف العربية، مرجع سابق، ص 58.

ترسانة الحلف الأطلسي، كما أن فرنسا قد تفرغت للجزائر بكل إمكاناتها بعد أن فاوضت تونس والمغرب على استقلالهما. ورغم أن الكثير من بعوثي الجبهة كانوا يحسنون الفرنسية وبعض اللغات الأجنبية الأخرى فإن مسألة اللغة ظلت عائقا للاتصال الناجح مع الشعوب والحكومات في العالم، كما كان بعض القادة الجزائريين لا يحسنون التخاطب بالعربية مع إخوانهم في البلاد العربية حيث كان مركز الثقل للإعلام الجزائري، فكان على هذا الإعلام أن يحسن مخاطبة المعسكرين الغربي والشرقي لكيلا يخسر أحدهما، ومن جهة أخرى كان وجود الإعلام الجزائري في بلدان ذات سيادة يسبب لها حرجا أحيانا لأن خط الحرية المتاح قد لا يكون كافيا لأداء مهمة إعلامية ناجحة، وقد عمد الفرنسيون إلى أسلوب المناورة والمبادأة في محاصرة الجبهة إعلاميا بإطلاق شعارات براقة مثل: سلام الشجعان، والاستعداد لوقف القتال، والاعتراف بالشخصية الجزائرية دون الاستقلال .. وأخيرا نذكر أن إعلام الثورة كان يفتقر، ولاسيما في بادى الأمر، للاحترافية والتقتيات والخبرة، فهو إعلام قام به مناضلون استطاعوا أن يكشفوا للعالم عن واقع الدمار الذي خلفه العدو وراءه والمعاملة اللاإنسانية التي عامل بها الجيش الفرنسي الشعب في المحتشدات والسجون وأثناء التهجير. لكن بعض الباحثين رأى أن الإعلام الجزائري قد حقق مع ذلك نجاحا لتوفر عدة أبعاد: الأول قوة الكفاح المسلح، والثاني العمل السياسي والدبلوماسي الحكيم، والثالث الإعلام المثابر بالشكل الذي وصفناه، ومن جهة أخرى كان الإعلام معتمدا على أعمال ميدانية يستطيع أي كان أن يشاهدها ويعرف عنها وليست أمرا مغيبا أو أدعاء أجوف، ثم إن الوضع الدولي كان مواتيا إلى حد كبير لطرح الإعلام الجزائري أمام الرأي العام العربي والعالمي، ففرنسا كانت في حالة جزر بعد هزيمة فيتنام والسيطرة الأمريكية على أوروبا واستقلال عدد من شعوب آسيا وإفريقيا وقوة الدفع العربي بقيادة مصر، فهذه العوامل وغيرها قد ساعدت الإعلام الجزائري على أن يشق طريقه

إنشاء وكالة الأنباء الجزائرية

بنجاح (1). إنشاء وكالة الأنباء الجزائرية أنشئت أول وكالة جزائرية للأنباء في شهر ديسمبر سنة 1961 في تونس. وقد أعلنت في أول منشور لها أنها ستكون في خدمة الشعب والثورة وأنها ستكون الوجه الحقيقي للجزائر في العالم وأنها ستعرف الرأي العام بالنشاط الحكومي، وأنها ستهتم بأخبار المدن والقرى والدواوير البعيدة، وقد تمثل نشاطها في إصدار نشرة يومية بالعربية والفرنسية في حجم ملزمة تتضمن أخبار الجزائر الداخلية سواء كانت سياسية أو عسكرية أو اجتماعية، كما تتضمن الأخبار الدولية، وكانت هذه النشرة توزع على الوكالات واسعة الانتشار كما توزع على المنظمات الوطنية، وكانت الوكالة مدرسة لتكوين إعلاميين شباب ليتولوا قيادة الإعلام مستقبلا، وبهذه الطريقة أصبحت الوكالة ركنا أساسيا من أركان الكفاح الوطني رغم أنها أنشئت متأخرة (2). ومن صلاحيات الوكالة عقد الاتفاقيات مع الوكالات الأجنبية لتتبادل معها الأخبار، أما قبل إنشائها فقد كانت الجبهة تتعامل مع وكالة أنباء الشرق الأوسط فيما يتعلق بالأخبار في الدول العربية، بينما تتعامل مع وكالة أنباء تشيكية فيما يتعلق بأخبار المعسكر الاشتراكي، أما بعد إنشاء الوكالة الوطنية فقد أصبحت هي مصدر أخبار الثورة والمصحح لصورتها عند تشويهها من قبل بعض الوكالات الأجنبية. وهكذا أصبح للثورة أجهزة إعلامية حساسة وفعالة، من صحافة وإذاعة وسينما ومسرح وفرق رياضية ومكاتب إعلامية في الخارج، بالإضافة إلى وكالة الأنباء.

_ (1) عبد الرحمن، الصحف العربية، مرجع سابق، ص 63. (2) المجاهد - بالفرنسية - 88، 31 ديسمبر 1961.

الندوات والمؤتمرات والمحاضرات

الندوات والمؤتمرات والمحاضرات يدخل في باب الإعلام أيضا الندوات والمحاضرات التي قامت بها المنظمات التابعة للجبهة في مختلف أنحاء العالم، ولا سيما الوطن العربي، ويشمل ذلك أيضا المهرجانات والأمسيات الشعرية والمشاركات في الأنشطة الطلابية والشبابية باسم الجزائر، كما يشمل استضافه شخصيات مرموقة لإلقاء محاضرات وأحاديث، وإقامة معارض وعرض أفلام حول الجزائر، وقد أصدر عدد من المثقفين والأدباء والإعلاميين كتبا ودواوين ومطبوعات تصب كلها في خدمة الثورة، ونشر بعضهم البحوث والمقالات والقصص في المجلات، العربية بالخصوص، حول الثقافة الجزائرية والتعريف بشخصياتها في مختلف الميادين والعهود، وأذكر أن فرع القاهرة استضاف محاضرين من الجزائر وغيرها، وأقام ندوات شعرية وأدبية وأنشأ جريدة حائطية، ومن المحاضرين في نادي الطلبة مالك بن نبي وأحمد توفيق المدني وأبو القاسم سعد الله وإبراهيم غافة أبو مدين الشافعي ويحيى بوعزيز وعبد القادر القط ... وقد ذكرنا مواضيعهم في مكان آخر من الكتاب. كثيرة هي المؤتمرات التي اشترك فيها الوفد الخارجي والتنظيمات التابعة لجبهة التحرير (الطلبة، العمال، والمثقفون، والفنانون ...) من أجل التعريف بالقضية الجزائرية، وهي مؤتمرات متنوعة المواضيع سياسيا وثقافيا وأدبيا، وهناك مؤتمرات مهنية وأخرى علمية، ومؤتمرات عربية وأخرى إقليمية أو دولية، وكثيرا ما كانت الوفود تعود بدعم كبير لأن المرحلة كان فيها الاستعمار في موقف الدفاع، وسنسوق نماذج فقط من هذه المؤتمرات. ولعل أول ظهور للجزائر في مرحلة الخمسينات كان حضورها مؤتمر باندونخ، ثم تسجيل القضية الجزائرية في الأمم المتحدة، وهناك مؤتمرات الدول والشعوب الآسيوية - الإفريقية، ثم مؤتمر طنجة حول وحدة الأحزاب في المغرب العربي، ومؤتمر أكرا، والمؤتمرات الطلابية العربية والدولية، ولقاءات

النقابات العمالية في العالم على اختلاف انتماءاتها الفكرية، ومن المؤتمرات الأدبية والفنية نشير إلى مؤتمر الكتاب الإفريقيين - الآسيويين، ومؤتمر الكتاب السود، ففد أسهم الكتاب الجزائريون (مسلمون وأوروبيون) في هذا المؤتمر بوفد ضم كاتب ياسين ومولود معمري ومصطفى الأشرف وآيت جعفر والشريف ساحلي ومالك حداد ونور الدين تيدافي، إضافة إلى جان سيناك وهنري كرية (1). وفي 22 يوليو 1959 بعث السيد بوقادوم من القاهرة بصفته كاتبا عاما للخارجية إلى رئيس الحكومة المؤقتة ونائبه ووزارة الاتصالات العامة يخبرهم أن الخارجية تلقت من ممثلها في بيروت مولود بوقرموح، رسالة تتضمن دعوة للمشاركة في مؤتمر عن الهندسة المعمارية العربية الذي سيعقد في أغسطس من نفس السنة في بيروت، وفي الرسالة يسأل بوقرموح ما إذا كانت الحكومة المؤقتة ستشارك في المؤتمر وهل سترسل وفدا يمثلها، مع العلم أن عنوان المؤتمر هو (التخطيط العمراني في البلاد العربية)، ولكن المصدر لم يتضمن الرد على رسالة بوقرموح، فلا ندري هل شاركت الحكومة المؤقتة في المؤتمر أو لم تشارك، والغالب أنها فعلت لأنها كانت لا تترك فرصة للمشاركة، ولو رمزية، إلا اغتنمتها (2). انعقدت ندوة ثقافية في حوض البحر الأبيض المتوسط تحدثت عنها المجاهد ولكنها لم تخبر أين، وبناء عليها فقد انعقدت بين 19 و 24 مايو وحضرتها حوالي تسعين شخصية إفريقية وأوروبية، من بينهم بعض الجزائريين، ولكن الجريدة لم تذكر أسماءهم، أما الأفكار المدرجة في جدول الأعمال فهي:

_ (1) جان دي جو، بيبلوغرافيا، ص 18، نقلا عن مجلة الحضور الإفريقي لسنة 1956، وكان المؤتمر قد انعقد من 19 إلى 22 سبتمبر 1956. (2) الأرشيف الوطني، علبة (21 - 50)، والغريب أن رسالة بوقادوم لم توجه إلى وزارة الثقافة وهي المعنية بهذه المشاركة.

1 - السيادة والاستقلال أو من القبيلة إلى الأمة. 2 - الثورة الإفريقية ونطاقها الاقتصادي والاجتماعي. ونعرف من الجريدة نفسها أن الوفد الجزائري قام بنشاط مكثف في الندوة، وأنه حاول (التدقيق) في مغزى حضارة البحر الأبيض والحضارة الإفريقية، وأكد على تضامن الشعوب الإفريقية ضد الاستعمار لأن بعض الدول (خانت) تضامن البحر الأبيض، حسب تعبير المجاهد، وهذا طبعا كلام غامض ومختصر حول هذه الندوة، فهل هي مثلا حكومية أو نشطتها منظمات مدنية؟ ومهما كان الأمر فلا بد من الرجوع إلى مصادر أخرى لمعرفة المزيد عن هذه الندوة (1). ولم يكن معروفا في ذلك الحين أن مالك بن نبي قد شارك في مؤتمر ضم كتابا من آسيا وإفريقيا، ولكن الدراسات كشفت عن أنه قدم مداخلة في المؤتمر الثاني للكتاب والفنانين السود الذي انعقد في روما من 26 مارس إلى أول أفريل 1959، ولا ندري موضوع مداخلته، وهل حضر المؤتمر بصفته الشخصية أو باسم جبهة التحرير، كما شاركت الجزائر في مؤتمر كتاب إفريقيا وآسيا الذي انعقد في طوكيو خلال شهر مارس 1961 (2) .. وفي يونيو 1960 تأسس في الرباط الاتحاد العام لكتاب المغرب الكبير برئاسة الدكتور عبد العزيز الحبابي، ولكننا لا ندري من مثل الجزائر فيه، وأذكر أنه في السنة الموالية أحضر السيد محمد سحنون لوائح ذلك المؤتمر إلى اجتماع فرع اتحاد الطلبة المسلمين الجزائريين بأمريكا ليطلع عليها الطلبة، وكنت من بينهم. من الاجتماعات الأخيرة التي حضرتها الجزائر قبل إعلان استقلالها

_ (1) المجاهد، 5 يونيو 1961. (2) عن مؤتمر الكتاب السود انظر مجلة الحضور الإفريقي المجلد 24 - 25، الجزء الأول، ص (266 - 291)، أما عن مؤتمر طوكيو فانظر المجاهد، 12 مايو 1961.

الفريق الوطني لكرة القدم

اجتماع المكتب التنفيذي للجنة الثقافية لمؤتمر دول الدار البيضاء، وهو الاجتماع الذي انعقد في القاهرة وحضره عن الجزائر أحمد توفيق المدني بصفته المندوب الدائم لدى الجامعة العربية، وعبد القادر بن قاسي، وأرزقي صالحي، وقد قدم توفيق المدني تقريرا مفصلا من خمس صفحات عما جرى في الاجتماع الذي انعقد بين 20 و 23 مارس 1962، أي فترة توقيع اتفاقيات إيفيان، ولذلك تحدث التقرير عن تهنئة الوفود العربية والافريقية لوفد الجزائر بنجاح المفاوضات المفضية إلى الاستقلال، ومن التوصيات التي حملها الوفد تقديم الحكومة المؤقتة خلال أيام مذكرة عن الطلبة الجزائريين والحاجة المالية لدراستهم لسنة 1962 - 1963، وكانت مهمة اللجنة المذكورة هي تنسيق البرامج والنظر في المعادلات، والتعاون الثقافي والعلمي والفني والإداري بين الدول الموقعة على اتفاقيات اجتماع دول الدار البيضاء (1). وهكذا نرى أن المؤتمرات والندوات وأمثالها كانت وسائل إعلامية فعالة استفادت منها جبهة التحرير لتبليغ صوت الثورة، وهذه الأنشطة كانت لا تقل فعالية عن الصحف والإذاعة والنشرات والفرق الفنية والمسرحية والرياضة التي احتضنت الثورة أيضا وحملت أفكارها إلى الجماهير في العالم العربي والدولي. الفريق الوطني لكرة القدم عقب تأليف الحكومة المؤقتة تكون فريق رياضي وطني لكرة القدم، وقد وجد في تأليفه وتدريبه وتنقلاته عناء كبيرا، وسبب للحكومة عناء أيضا ولكن فصل اللاعبين الجزائريين عن الفرق الفرنسية وإنشاء فريق يلعب تحت العلم الوطني الجزائري في الملاعب الدولية كان انتصارا كبيرا للثورة على المستوى الإعلامي ثم على المستوى المالي أيضا. جاء في تقرير مرقون بالفرنسية ومكتوب في فاتح سنة 1959 أن الفريق

_ (1) الارشيف الوطني، علبة 38.

الرياضي الجزائري واجه مشاكل منذ تكوينه في تونس، أبرزها موقف (الفيفا) من أعضائه ومسألة شراء الأعضاء من الفرق التي يلعبون فيها، مذكرا بأن معاقبة الفريق المغربي على لعبه مع الفريق الجزائري ما تزال ماثلة للعيان، ولذلك أرسلت الخارجية الجزائرية جمال دردور ليفاوض عن الفريق الجزائري مع الفرق الفرنسية، وقد تقدم دردور قي مفاوضاته ولكن أسبابا عائلية جعلته يعود إلى تونس قبل إتمام الصفقة. كما أن تبعية الفريق كانت محل شد وجذب بين الوزارات، فالداخلية قالت إن تبعية الفريق الرياضي ترجع إليها مثل الفرقة المسرحية التي كانت بصدد التكوين والتي اعتبرتها الوزارة من اختصاصها، ولاحظ التقرير أن (الفيفا) تستعمل حق (الفيتو) إذا أراد الفريق الجزائري اللعب مع فرق أخرى، لذلك أصبح أعضاء الفريق يعانون الإحباط والبطالة حتى لقد فكر بعضهم في التخلي عن الجبهة وفريقها، وقد لاحظ التقرير أن شراء أعضاء الفريق أصبح أمرا محتما وأن هذه العملية تكلف حوالي مائة مليون فرنك كحد أقصى، وهو مبلغ يمكن استعادته بسهولة قياسا على مقابلة المغرب التي جلبت حوالي اثني عشر مليونا (1). كما أن الجهة التي من حقها إيرادات الفريق الرياضي كانت محل خلاف. فوزارة المالية الجزائرية اقترحت ضرورة صب إيرادات الفريق الرياضي في حسابها في البنك العربي المحلي لاستعمال المال بالعملة المحلية، وقد بررت ذلك بأن نقل النقود من بلد إلى آخر يشكل مغامرة، كما أن تحويل النقود من عملة إلى أخرى يترتب عليه خسازة فروق العملة، ومن الملاحظ أن رسالة وزارة المالية قد سلمت إلى الشيخ محمد الغسيري لكي يوزعها على المكاتب العربية، هذه الرسالة أو المذكرة كانت صادرة من وزير المالية أحمد فرنسيس. وفي أدناها ذكر أنها مترجمة من العربية وموجهة إلى رئيس الوزراء والداخلية

_ (1) الأرشيف الوطني، علبة 21 - 50 من تقرير بدون توقيع تاريخه 5 يناير سنة 1959.

والخارجية، مع نسخة للاحتفاظ بها في الأرشيف (1). وهناك رسالة أخرى بخصوص الفريق الرياضي أيضا وهي صادرة هذه المرة من وزارة الخارجية إلى وزارة الداخلية لتخبرها أن مستشار سفارة الصين بالقاهرة أبدى استعداد بلاده لاستقبال الفريق الجزائري الرياضي في الصين لمدة شهر، وأن المستشار يرغب في مقابلة الداخلية لمناقشة سفر الفريق إلى الصين، ورسالة الخارجية موقعة من بوقادوم (2). ولا ندري كيف تمت المفاوضابت بين الطرفين حول السفر إلى الصين. أما الذي حصل فعلا فهو سفر الفريق إلى الصين وإجراؤه عدة مقابلات مع فرقها، لقد غادر الفريق تونس يوم 8 أكتوبر 1959 متوجها إلى الصين الشعبية بدعوة من الفريق الرياضي الصيني، وبعد توقف في طرابلس حيث أجرى مقابلة كروية مع الفريق الليبي، واصل سفره إلى بيكين عبر القاهرة وموسكو، وقد وصل إلى الصين يوم الخامس عشر من أكتوبر، وقام بعدة مقابلات نجح في بعضها وخسر في أخرى، حسب جريدة المجاهد، وفي هذه الأثناء شارك الفريق في (طريق الصداقة الصيني - الجزائري)، وفي الخامس من نوفمبر سافر أعضاء الفريق إلى الفيتنام الشمالية حيث أجرى عدة مقابلات وأقام في البلاد إلى 25 نوفمبر (3). وفي ربيع 1959 قام الفريق الرياضي المؤلف الآن من 21 عضوا تحت مسؤولية الدراجي زغلاش، بسلسلة من المقابلات الكروية في سبع دول من أوروبا الشرقية هي: بلغاريا، رومانيا، روسيا (الاتحاد السوفياتي)، بولندا، ألمانيا الشرقية، تشيكوسلوفاكيا، المجر، وفي مراسلة من الأمين العام للفيدرالية التي تضم الديموقراطيات الشعبية جدول عملي للفريق بحيث يقيم في

_ (1) الأرشف الوطني علبة 20 - 50، والرسالة بتاريخ 15 فبراير 1959. (2) الأرشف الوطني علبة 21 - 50، والرسالة صادرة من القاهرة بتاريخ 20 أبريل 1959. (3) المجاهد - بالفرنسية - 5 يناير، 1960.

كل بلد مدة محددة تصل في الغالب إلى عشرة أيام تبدأ من نهاية أبريل وتنتهي في 25 يوليو، وكان بإمكان الفريق أن يلعب مقابلتين أو ثلاثة خلال المدة المحددة له في كل بلد، كما يمكنه الاتصال بمنظمات الشباب والعمال من أجل الدعاية لنضال الشعب الجزائري، وقد نصت المراسلة على أن الفريق سيتوجه بعد الجولات الرياضية المذكورة إلى فيينا للمشاركة في المهرجان السابع الدولي للشباب. قامت الفيدرالية بإرسال التذاكر إلى عبد السلام بلعيد في القاهرة، وقد جاء في المراسلة أن البلد المضيف للفريق سيتولى تذاكر السفر والإقامة والغذاء وكذلك مصروف الجيب، إضافة إلى تأشيرة دخول، ووعدت الرسالة أيضا بتوفير مساعدة مادية للشعب الجزائري (1). وكان على الفريق أن يمر بالقاهرة ليسافر منها إلى أوروبا الشرقية - ولكي يحصل على تأشيرة لدخول القاهرة استنجدت الخارجية الجزائرية بالسيد فتحي الديب لتسهيل مهمة الفريق الذي كان ينتظر التأشيرة في ليبيا، ويبدو أن التأشيرة المنتظرة كانت للعبور فقط، وجاء في مراسلة الخارجية الجزائرية أن هناك مدة ضرورية لمثل هذه الحالة وأن الفريق قد اتفق مع عدة أندية في أوروبا الشرقية (2). لقد تكون الفريق في ربيع سنة 1958 (قبل تكوين الحكومة المؤقتة) حين انسحب حوالي ثلاثين جزائريا من النوادي الرياضية الفرنسية فسببوا بذلك إرباكا لتلك النوادي التي كانت تستعد لمباريات دولية هامة في صيف ذلك العام، وكان صدى هذا الانسحاب كبيرا في عالم الرياضيين والسياسيين، وكانت

_ (1) الأرشيف الوطني، علبة 21 - 50، وتاريخ الرسالة هو 23 أبريل 1959، وهي موقعة من كريستيان إيشار Christian Eshard . (2) الأرشيف الوطني، علبة 21 - 50، والرسالة مكتوبة بالعربية من بوقادوم ومؤرخة في 28 أبريل 1958.

المجاهد تطلق على الفريق اسم (فريق جيش التحرير لكرة القدم)، وقد نشرت صورة لمن وصل من أعضائه إلى تونس، وقالت إن الفريق يعتزم القيام بدورات أخوية و (التعرف والتصادق مع شباب العرب الأشقاء)، وكان عنوان مقالة المجاهد هو (فريق الجيش لكرة القدم يزور الأقطار الشقيقة، وبلفتة إعلامية ذكية أخبرت أن اللاعبين قدموا من أرض الوطن، وما داموا سيتطلقون من تونس إلى ليبيا فإن الجالية الليبية والغارة الليبية في تونس قد أقامت للفريق حفلات تكريمية، وكان يصحب الفريق مدربه السعيد صالح والمسؤول الإداري أحمد معاش، وأضافت المجاهد أن (كل لاعب كان مجاهدا في جيش التحرير الوطني). وفي رسالة موقعة من الدكتور الأمين دباغين مسؤول الشؤون الخارجية في قاعدة تونس أن عدد الأعضاء الذين التحقوا بتونس حتى تاريخ 12 يوليو 1958 هم أحد عشر لاعبا فقط بينما يلزم بين أربعة وخمسة احتياطيين، لذلك اقترحوا إرسال رسالة إلى اتحادية فرنسا لتجنيد لاعبين أكفاء وتوجيههم إلى تونس في أقرب وقت، وحثت الرسالة على الكفاءة والسرعة في تكوين الفريق لأنه سيلعب قريبا مباراة دولية، وبرفقة هذه الرسالة توجد مذكرة مرسلة إلى اتحادية فرنسا تضمن أسماء الفريق الموجود في تونس (1). وصفت المجاهد ما حل بالملاعب عندما لعب الفريق الرياضي الجزائري في البلاد العربية، وركزت على ما حدث في بغداد خاصة، فقالت إن الشخصيات السامية كانت تجلس في الصفوف الأمامية حيث تصف الكراسي الشرفية في مختلف الملاعب العربية، وكل مباراة كانت تحول إلى مظاهرة، كما حدث في بغداد حين خرج الجمهور يهتف بحياة الجزائر وثورتها. كان الفريق الوطني يدخل الملعب في ظل العلم الوطني، وهو يردد نشيد (جزائرنا يا بلاد الجدود)، وقد حدث في بغداد أن دخل الجمهور الملعب قبل

_ (1) الأرشيف الوطني، علبة 3.

انتهاء المباراة وحملوا أفراد الفريق على الأكتاف، ولاحظت المجاهد أنه في كل المباريات كان الجمهور عادة يهتف للفريق المحلي أما بالنسبة للفريق الجزائري فإن الجمهور كان يهتف للفريق الضيف، وقد أجرى الفريق عدة مباريات في ليبيا وتونس والمغرب ومصر وسوريا والعراق، وأذكر أنني حضرت شيخصيا إحداها في القاهرة، والتقيت عندئذ بالشاعر أحمد معاش الذي كان مسؤولا إداريا على الفريق، وكان الفريق يقيم في فندق (ناسيونال) وسط القاهرة (1). وعلقت المجاهد على مدى أثر اختفاء أشهر اللاعبين الجزائريين على النوادي الفرنسية، فقالت إنها عانت صدمة عنيفة خصوصا وأنها كانت تستعد لمباراة عالمية يوم 16 أبريل من نفس العام، كما قالت إن خروج ثلاثة وثلاثين لاعبا من فرنسا وقرارهم عدم اللعب في النوادي الفرنسية كان له وقع الصاعقة (2). لقد اهتمت الثورة بالرياضة لا باعتبارها فنا من فنون الحرب فقط ولكن باعتبارها وسيلة من وسائل الإعلام زمن الحرب أيضا، ولذلك جندت فريقا كاملا من الرياضيين، كان هذا الفريق يرفع شعارات جبهة وجيش التحرير ويحمل العلم الوطني وينشد الأناشيد في الملاعب ويصرح للصحافة الدولية تصريحات معادية للاستعمار ولصالح استقلال الجزائر أسوة بكل الشعوب، كما كان الفريق قد سبب إحراجا للفرق الفرنسية التي كانت تعتمد على العناصر الجزائرية في اللعب في صنوفها، ومن جهة أخرى كان الفريق مصدرا من مصادر الدخل المالي للحكومة المؤقتة، كما سبقت الإشارة. يروي الشيخ محمد الصالح بن عتيق في مذكراته أنهم في السجون كانوا يتعلمون كل ما يفيد من بعضعهم البعض، بما في ذلك كرة القدم والمصارعة اليابانية، فهذا عبد الرحمن يبرير وهو من سكان العاصمة، كان يعلمهم في

_ (1) المجاهد، 15 مارس 1959. (2) المجاهد، 15 أبرل 1958.

أعمال الوفد الخارجي للجبهة

السجن لعبة كرة القدم حتى نال إعجاب السجناء، كما كان آيت يحيى الوناس، وهو رياضي من حي المدنية ومن تلاميذ ابن عتيق نفسه في مدارس جمعية العلماء، يعلمهم قواعد المصارعة اليابانية، إن الرياضة في عهد الثورة لم تعد للتسلية واللهو وإنما أصبحت ممارسة ثورية تهدف إلى تحرير الإنسان والوطن (1). أعمال الوفد الخارجي للجبهة قلنا إن مكتب الوفد الخارجي في القاهرة كلف بتسييره الشيخ أحمد توفيق المدني أثناء سفر محمد خيضر وأحمد بن بلة إلى مدريد فالرباط سنة 1956، فعند اختطاف الطائرة المغربية المتوجهة إلى تونس من قبل قراصنة الجو الفرنسيين كان فرحات عباس وعبد الرحمن كيوان يدعوان للثورة في أمريكا اللاتينية، والدكتور أحمد فرنسيس والدكتور الأمين دباغين في تركيا لنفس الغرض، وقد كان على المدني أن يقوم بملء الفراغ ريثما يعود هؤلاء جميعا إلى القاهرة ويتدارسوا ماذا يفعلون في ضوء التعليمات التي ستأتيهم من لجنة التنسيق والتنفيذ حديثة النشأة. وتثبت الوقائع أن أعضاء الوفد الخارجي الذين لم يحضروا مؤتمر الصومام كانوا يجهلون كل شيء عنه، فقد انعقد في 20 أغطس 1956 وهم الآن في 22 أكتوبر وما تزال أخبار ذلك المؤتمر لم تصل إلى المعنيين بها في الخارج إلا في شكل إشاعات، فهم لا يعرفون بدقة برنامج الصومام ولا تكوين المجلس الوطني ولا لجنة التنسيق والتنفيذ ولا علاقة الخارج بالداخل، وفي ظل الوضع المتأزم على المستوى الشعبي والرسمي، العربي والدولي، كان على أحمد توفيق المدني أن يؤكد للحكومة المصرية والحكومات العربية وغيرها استمرار الكفاح، وأن يواجه الدعاية الفرنسية التي كانت تقول إن الجبهة قد

_ (1) مذكرات ابن عتيق، واسم يبرير موجود في قائمة الفريق الرياضي لكرة القدم أيضا.

انتهت وإن الثورة قد فشلت، كما كان عليه أن ينشط المكتبين السياسي والعسكري، وخاصة استمرار تدفق السلاح إلى المجاهدين، وهذا الجهد قد استمر بفضل التصريحات في إذاعة القاهرة وصوت العرب والمقابلات الصحفية وإصدار البرقيات الاحتجاجية للبلاد العربية ودول باندونج واستقبال مثلها، لقد كانت لحظة حرجة ووقتا عصيبا عاشته الثورة الجزائرية وبعض رجالها على الأقل. وفي يوم 27 أكتوبر جرى اجتماع في القارة كلف فيه الدكتور الأمين برئاسة الوفد الخارجي نتيجة برقية وردت من رمضان عبان تاريخها سابق لاختطاف الطائرة، وبعد هذا الاجتماع بأيام وصلت معلومات أكثر تفصيلا عن مؤتمر الصومام وبرنامجه وعن تكوين المجلس الوطني ولجنة التنسيق والتنفيذ. في هذه الأثناء حضر أحمد (علي) محساس إلى القارة وأعلن، كما فعل في تونس، معارضته لقرارات مؤتمر الصومام، وأن ابن بلة يقف أيضا ضد هذا المؤتمر لأنه مؤتمر (خان) مبادى الثورة والعروبة والإسلام، وكان محساس يحمل رسالة موقعة من ابن بلة يعينه فيها ممثلا له، لذلك كان على الوفد الخارجي أن يحل عدة مشاكل مستعجلة قبل أن يستفحل الأمر فيؤثر على الوضع في الداخل، وهي: 1 - الاعتراف بمؤتمر الصومام ونتائجه. 2 - مكافحة حملة الانشقاق (الإجرامية) التي يقودها أحمد محساس. 3 - تأمين السلاح وتوصيله من مكتب طرابلس إلى تونس (1). بعد التغلب على الأزمة المزدوجة (اختطاف الطائرة وانشقاق محساس) انطلق الوفد في تحقيق الأهداف التي حددها، وأهمها تأمين السلاح للثوار

_ (1) الأرشيف الوطني، علبة 3، من تقرير هام يحتوي على إحدى عشرة صفحة مرقونة، تاريخها من 22 أكتوبر 1956 إلى 20 أغسطس 1957.

وتكثيف الإعلام للثورة، انطلقت الوفود في مختلف الاتجاهات، وبالأخص داخل البلاد العربية حيث المال والسلاح والضغوط الدبلوماسية على فرنسا، وقد أصبح الدكتور الأمين دباغين هو قائد السفينة خارج الجزائر وكان عليه أن يعود إلى مبدأ القيادة الجماعية التي سارت عليها الثورة حتى ذلك الحين بحيث لا تتأثر الثورة بموت أو اعتقال أحد من قادتها، وكان الأمين (وهو طبيب بالمهنة) سياسيا من الحرس القديم في حزب الشعب يعمل أكثر مما يتكلم، وله شخصية تفضل الانطواء والعمل السري على الظهور والزعامة، وهو إذا قوبل بابن بلة يقف منه على طرفي نقيض في هذه الأمور الشخصية. توجه وفد من جبهة التحرير إلى موسم الحج لعام 1957 ضم أحمد توفيق المدني والشيخ العباس بن الشيخ الحسين وعمر دردور، كان هذا التجمع الكبير للمسلمين فرصة للوفد لتوزيع أكثر من 3500 نسخة من كتيب يحتوي على معلومات أساسية عن الثورة، كما أذاع الوفد كلمات ست مرات في الإذاعة السعودية وعقد اجتماعات مع وفود عديدة وقام باتصالات، وخلال هذا الموسم أعلن الملك سعود بكل صراحة أنه يقف مع استقلال الجزائر ولن يتخلى عن دعمه إلى أن يتحقق هذا الاستقلال (1). وقد عثرنا على رسالة من الوفد الذي توجه إلى باكستان موجهة إلى (حضرات الإخوان) بتاريخ 27 يوليو 1957 تصف اجتماعا حماسيا لصالح الثورة جرى في لاهور، وفي كراتشي وفي حيدر آباد عاصمة السند، وتحدثت الرسالة عن الحماس والتزاحم على الوفد الجزائري الذي اعتبره الناس كأنه من المسلمين الفاتحين الأولين، والغالب أن يكون الشيخ محمد البشير الإبراهيمي هو الذي كان يقود الوفد في باكستان لأن المصدر الذي رجعنا إليه يتحدث عن (الشيخ) دون الإفصاح عن اسمه، والمعروف أن الشيخ الإبراهيمي كان في

_ (1) الارشيف الوطني، علبة 3.

باكستان في تلك الفترة (1). كما زار وفد جزائري السودان في فاتح سنة 1958، ومن بين أعضائه الهاشمي الطود والتارزي الشرفي، وقد تحدث التقرير عن الحماس الشديد الذي استقبل به الوفد في السودان من الحكومة والشعب، والتعلق بالقضية الجزائرية، وقد ركز التقرير أو الرسالة على شكر السودان على دعمه للقضية الوطنية مع رجاء المزيد منه دبلوماسيا وماديا وسياسيا ... وفي رسالة من الدكتور دباغين إلى ابن يوسف بن خدة شكوى من كون اثنين من أعضاء الوفد، وهما الطود والشرفي، قد رجعا إلى القاهرة دون علم الوفد في السودان، والمعروف أنه كان للثورة مكتب أيضا في السودان، وقد تكررت الزيارات لهذا البلد الشقيق (2). وهناك وفد آخر توجه إلى الكويت بقيادة الشيخ حامد روابحية في شهر مايو 1958، وجاء في التقرير الذي كتبه الوفد أنه جمع من الكويت تبرعات بلغت 937، 690 دولارا صبت كلها في البنك العربي بدمشق لحساب الجبهة. وكان هناك تعاون بين الحكومة المؤقتة والحكومات العربية والإسلامية في مجالات أخرى أيضا غير المال والسلاح، ففي رسالة كتبها أحمد توفيق المدني وزير الثقافة إلى الخارجية الجزائرية أن الحقيبة الدبلوماسية الليبية والإندونيسية مستعدة لحمل بريد الحكومة المؤقتة إلى مختلف الاتجاهات (3).

_ (1) الرسالة ضمن ملف عن عمر بلعيد ممثل اتحاد الطلبة الجزائريين في جامعة كولونيا بألمانيا، الأرشيف الوطني، علبة 1 - 20. (2) تاريخ الرسالة 8 يناير 1958 وهي تحمل عبارة من وفد جبهة التحرير الوطنية الجزائرية، مكتب القاهرة، وهي مطبوعة بالعربية، مع إضافة ثلاثة أسطر باليد يبدو أنها بخط الشيخ أحمد توفيق المدني، وموقعة من الأمين دباغين رئيس الوفد الخارجي، انظر الأرشيف الوطني، علبة رقم 3، وأذكر بهذه المناسبة أن الشيخ العباس بن الشيخ الحسين قد أخبرني ونحن في القاهرة عندئذ بعد عودته من زيارة للسودان أن الشباب السوداني كانوا يرددون أمام الوفد مقاطع من شعري المنشور حديثا في مجموعة النصر للجزائر، وكان مندهشا من رواج المجموعة وسرعة حفظهم. (3) نفس المصدر، علبة 21 - 50، وتاريخ الرسالة 19 يناير 1959.

كان الدكتور دباغين هو الذي يعين الوفد ورئيسه لأي بلد أو لأي مؤتمر. ففي دمشق مثلا لاحظنا أن الدكتور دباغين قد عين الشيخ الإبراهيمي تحت مسؤولية عبد الحميد مهري الذي كان مسؤولا على مكتب دمشق، وذلك بتاريخ 13 يوليو 1957، وفي مذكرة تحمل حرفي M.Y) والتي قرأنا أنها ترمز إلى اسم محمد الصديق بن يحيى مدير مكتب دباغين) أن أحمد توفيق المدني قد تعين ضمن الوفد الذي سيتوجه من دمشق إلى العراق لتهنئته بقيام الجمهورية. وتاريخ المذكرة هو 24 يوليو 1958، وكان الشيخ المدني قد شارك في مؤتمر الخريجين العرب وانتخب من المشاركين في الوفد الذي سيتوجه إلى العراق للغرض المذكور أيضا، وكان الشيخ المدني قد حضر في دمشق (المؤتمر الشعبي العربي) الذي حضره بعض قادة الحركة العربية القومية، منهم ميشيل عفلق وصلاح البيطار وشفيق إرشيدات وفؤاد جلال ... (1). ولا نريد هنا تقديم إحصاء بالوفود المنطلقة في اتجاهات مختلفة للدعوة للثورة سواء كان في عهد الجبهة أو في عهد الحكومة المؤقة، فقد كانت الدبلوماسية الجزائرية قد نجحت في كسب الرأي العام العالمي ضد الاستعمار الفرنسي بوسائل ذكية أصبحت اليوم محل دراسة الباحثين. وكانت هذه الدبلوماسية قد تعززت بالإعلام المتزن أيضا، وقد تعرضنا له، سواء في جريدة المجاهد أو في النشرات المختلفة، أو في الإذاعة الجزائرية أو في الندوات والمحاضرات وأخبار النقابات ذات الإيديولوجيات المختلفة، وقد كان للوفد الخارجي قبل أكتوبر 1956 نشرة إعلامية يوزعها على الصحف والوكالات الصحفية والدوائر الرسمية. وفي أغطس من سنة 1957 أصبح الوفد يتلقى الأخبار من الداخل ليصدر النشرة من جديد ويوزعها على الصحافة والوكالات، كذلك نشر الوفد

_ (1) الأرشيف الوطني، علبة 3، من مذكرة تقع في ثلاث صفحات بتوقيع أحمد توفيق المدني بتاريخ 28 يوليو 1958 وهي بالفرنسية.

المسؤول السياسي

كتيبات وكتبا بالعربية والإنكليزية والفرنسية والإسبانية عن الوضع بالجزائر ومسيرة الثورة وشجب فظاعة الاستعمار وحرب الإبادة، ومن حين لآخر كان الوفد الخارجي يعقد مؤتمرات صحفية سواء في تونس (مارس 1957) أو القاهرة (يوليو من نفس العام) ليجيب على الأسئلة ويوضح المواقف إزاء عدد من القضايا الحيوية ذات العلاقة بمصير الثورة (1). أما دور اتحاد الطلبة المسلمين الجزائريين (لوجيما) في الحياة الدبلوماسية للثورة فقد تناولناه على حدة في الفصل الخاص بالمنظمات الطلابية، وقد كان هذا الدور رديفا لنشاط وفود جبهة التحرير في الخارج، وأحيانا موازيا له. المسؤول السياسي كما أن المسؤول السياسي على مستوى الولايات في الداخل قد لعب دورا إعلاميا هاما، فقد كان موكلا بالتوعية والإرشاد ومحاربة الآفات الاجتماعية وإصلاح ذات البين بين المواطنين، وكان يشرف على تسجيل عقود الزواج والطلاق والميراث والمواليد والوفيات، أي أنه كان يقوم بتعويض درو المحاكم التي كانت تحت السلطة الاستعمارية، وبالإضافة إلى ذلك كان المحافظ السياسي يشرف على مسائل التربية والتعليم، وجمع التبرعات والاشتراكات والعشور والزكاة، ومن جهة أخرى كان يقوم بتقديم المساعدات للمحتاجين وعائلات الشهداء والمجاهدين والمعتقلين، وكان له دور إداري أيضا يتمثل في تنظيم القرية والعرش والدوار، وكان يعد تقريرا شهريا عن أعماله، كما كان يستقبل تقارير شهرية من مسؤولي النظام في القرى، ومن أهم ما كان يقوم به في هذا المجال هو الدعاية والدعاية المضادة للاستعمار (2).

_ (1) الأرشيف الوطني، علبة 3، من تقرير عن وضع الوفد الخارجي بين أكتوبر 1956 وأغسطس 1957. (2) وثائق ملتقى سنة 1983 لتاريخ الثورة، ولايات الوسط.

الفصل الخامس التعليم والتنظيمات الطلابية

الفصل الخامس التعليم والتنظيمات الطلابية يمكن القول إن من أسباب الثورة تكريس سياسة التجهيل التي اتبعتها السلطة الفرنسية نحو الشعب، فقد كانت سياسة تقليدية اتبعها الخلف الفرنسيون عن السلف، وهي أن تعليم الجزائريين أو ترك الحرية لهم يتعلمون بوسائلهم الخاصة سيؤدي إلى يقظتهم والمطالبة بحقوقهم، لذلك كانت الأمية في الجزائر بعد قرن وربع من الاحتلال قد تجاوزت التسعين في المائة، وقد صدق فرحات عباس عندما خاطب الطلبة سنة 1960 بقوله (في ظرف ست سنوات فقط استطاعت الثورة أن تخرج من صفوفكم عددا من الخبراء والفنيين أكبر من العدد الذي كونه الاستعمار خلال 130 سنة من الاحتلال) (1). استمر التعليم في الجزائر متعدد الأنواع، فهناك على الأقل تعليم فرنسي وتعليم مختلط وتعليم عربي حر، والتعليم الفرنسي الرسمي تشرف عليه الدولة الفرنسية عن طريق مؤسساتها وممثليها وهو ما تسميه المراجع عندنا بالتعليم العمومي أو التعليم العام، وهذا النوع من التعليم فيه المستويات الثلاثة وهي الابتدائي والمتوسط والعالي، والتعليم حسب القانون الفرنسي، إجباري ومجاني، ولكننا نجد أكثر من مليون ونصف المليون من الأطفال الجزائريين كانوا سنة 1952 خارج المدارس.

_ (1) مجلة الشباب الجزائري، تونس، عدد خاص بالمؤتمر الرابع لاتحاد الطلبة المسلمين الجزائريين، أغسطس - سبتمبر 1960، عدد 14 - 15.

التعليم: إحصاءات متنوعة

وهناك تعليم عربي/ فرنسي، وهو الموجه للجزائريين (المدرسة الأهلية/ الأندجين) والذي دخلته العربية كلهجة أو لغة دارجة، وهو لا يستوعب كل الأطفال وليس إجباريا كالتعليم المخصص لأبناء الفرنسيين، إضافة إلى ذلك هناك التعليم الفرنسي - الإسلامي أو (الفرنكو - ميزولمان) الذي عرف تطورا مع بداية الثورة حين حولت المدارس القديمة الثلاث إلى ثانويات للذكور مع استحداث ثانوية رابعة للإناث، أما التعليم العربي فهو خارج نطاق النظام التربوي الذي تشرفه عليه الحكومة الفرنسية، , وهو إما تحت إشرافه الزوايا ويسمى تقليديا أو أصليا وإما تحت إشرافه جمعية العلماء (وأحيانا حزب الشعب) ويسمى التعليم الحر، وقد سبق التنويه بتطورات التعليم عشية الثورة في الفصل الأول. التعليم: إحصاءات متنوعة نشرت الحكومة العامة في الجزائر سنة 1959 نشرة أسمتها (الجزائر - تنمية، 1959 أو الجزائر والتنمية) تتعلق بمجالات التعليم في العهد الجديد وانطلاق الجزائر إلى عصر التنمية، وفي هذه النشرة تفصيل عن كون التعليم هو أساس كل تنمية، فهناك التعليم الشامل والتعليم الثانوي والتعليم العالي، والمقصود بالتعليم الشامل هو التعليم الابتدائي وما في مستواه، ومما جاء في النشرة أن التعليم الشامل قد حقق تقدما ملحوظا، ففي 1948، كان هناك طفل مسلم (جزائري) يتعلم من بين تسعة أطفال لا يتعلمون، وبعد عشر سنوات أصبح هناك حوالي أربعة أطفال يتعلمون من كل تسعة لا يتعلمون، وهذا تقدم كبير في نظر الحكومة العامة. وفي فاتح أكتوبر 1958 سجل 612 ألف طفل في المدارس الابتدائية، منهم 473 ألف طفل من المسلمين (الجزائريين) من بينهم 171 ألف تلميذة، وفي 30 يناير 1959 زاد عدد التلاميذ المسلمين بخمسين ألف طفل جرى تسجيلهم خلال السنة الدراسية حين افتتحت أقسام جديدة، ويضافه إلى هذه

الأرقام 69 ألف تلميذ (مسلم) يزاولون التعليم في المدارس التي فتحها الجيش الفرنسي في المناطق النائية عن المدن والقرى، وهناك بضعة آلاف من الأطفال (المسلمين) الذين يتلقون تعليما في المدارس الحرة، دون تقديم إحصاء عنهم (والمعتقد أن المقصود بهم تلاميذ مدارس جمعية العلماء). وتتحدث نشرة الحكومة العامة المتفائلة جدا بمستقبل التعليم في الجزائر. عن التعليم الثانوي أيضا خلال نفس الفترة (1958 - 1959)، فقد مجل سبعة وأربعون ثانوية ومعهد (كوليج) في القطر الجزائري 42 (اثنين وأربعين) ألف تلميذ، منهم 7800 فقط من المسلمين، من بينهم ألفان من البنات المسلمات، أي 22% حسب هذا الإحصاء، وكان هذا العدد لا يتجاوز 10% فقط منذ عشر سنوات (أي سنة 1948). أما التعليم العالي فالإحصاء الرسمي متفائل به أيضا، بل إنه أعطى الرقم الإجمالي الذي يشمل الطلبة الأوروبيين وسكت عن التفاصيل لأنها تكشف عن حقيقة فاضحة بالنسبة للعدد الخاص بالجزائريين، فالجامعة الجزائرية في الواقع جامعة فرنسية رغم الحديث عن كونها ذات طابع إفريقي - إسلامي متميز، فهي تضم 5400 طالب ليس بينهم سوى حوالي 400 طالب مسلم (جزائري)، وقد صدقت النشرة عندما وصفتها بأنها إحدى كبريات الجامعات الفرنسية، ومع ذلك تبجحت النشرة وقالت إن للجامعة مهمة يفرضها عليها موقعها الجغرافي في إفريقيا وصلتها بالعالم الإسلامي، وللجامعة أربع كليات واثنا عشر معهدا متخصصا، منها معهد الدراسات الإسلامية، ومعهد الدراسات الشرعية في وهران وقسنطينة، وقد شرع في بناء معهد للدراسات النووية وفي بناء كلية للطب، وهي كلية جديدة رغم أن للطب كلية قديمة (1). أما جريدة (المقاومة الجزائرية) فقد أوردت إحصاء بعدد الطلبة الجامعيين في الجزائر سنة 1954 فكان كما يلي: هناك 557 طالبا جزائريا في جامعة

_ (1) هنا الجزائر، نوفمبر 1959.

الجزائر مقابل 7146 طالبا أوروبيا، ولا شك أن هذا الرقم فيه مبالغة لأن رقم طلاب الجامعة عندئذ لم يتجاوز 5500 طالبا من جميع الطوائف، وعلقت الجريدة على ذلك بقولها: لو كانت الأمور طبيعية لكان في الجامعة 37000 (كذا) طالب مسلما حسب إحصاء السكان، كما قالت إن الأطفال الجزائريين الذين لم يجدوا مكانا لهم في المدارس يبلغو 2، 400، 000 وبدلا من ذلك فإن هؤلاء الأطفال مشردون في الشواع (1). وهناك تقرير حول التعليم في الجزائر يرجع إلى سنة 1961 ويعرف بتقرير غورجو Gorgeu، و، قد فصل الإحصاءات بشكل ملحوظ، ولا نعرف أنه منشور، فنحن قد اطلعنا عليه في الوثائق (الأرشيف) الوطنية، كان الأطفال بين سن السادسة والرابعة عشرة في الوسط الأوروبي يمثلون 16% من السكان بينما ترتفع نسبتهم إلى 35% في الوسط المسلم، وحسب مصادر الحكومة العامة سنة 1957 فإن عدد الأطفال الأوروبيين في التعليم الابتدائي وصل إلى 135، 200 أما لدى الجزائريين فالعدد حوالي 400، 000، (مع فارق عدد السكان دائما)، أما عدد التلاميذ الأوروبيين في الثانويات فيصل إلى 200، 35، بينما عدد الجزائريين، 7860. فإذا رجعنا إلى التعليم العالي نجد جامعة الجزائر تضم، حسب التقرير المذكور، حوالي 5000 طالب فقط، منهم حوالي 500 طالب جزائري، فنسبة الأوروبيين فيها 4، 5% بينما نسبة الجزائريين هي 0، 000055 أو 54 طالبا أوروبيا لكل 1000 ساكن، وطالب واحد جزائري لكل 18000 ساكن. وإليك الآن بعض التفاصيل الأخرى المستخرجة من هذا التقرير حسب مستويات التعليم وجنس الطلبة وأصل السكان: ففي التعليم الابتدائي نجد عدد التلاميذ المسلمين: 625، 469 (منهم 236، 695 إناث و 388، 774 ذكور)، أما غير المسلمين فالتلاميذ كاكالي:

_ (1) المقاومة الجزائرية، ط 3، 11 مارس 1957.

التعليم الحر

147، 458 (منهم 71، 444 إناث و 014، 76 ذكور). وفي التعليم الثانوي نلاحظ أن عدد التلاميذ المسلمين 10، 283 (دون تفصيل في الإناث والذكور)، أما التلاميذ غير المسلمين فعددهم 34، 413 (دون تفصيل)، ولكن جملة التلاميذ هي 44، 696. وبالإضافة إلى ذلك هناك التعليم العمومي الذي يشمل حوالي خمسين (50) ثانوية ومعهدا ثانويا في الجزائر، ومن بين أساتذة التعليم الثانوي يوجد 105 أساتذة بالعربية (الدارجة؟)، ومن 150 إلى 200 أستاذ مسلم بالثانوي من بين 1434 أستاذا وأستاذه. أما بالنسبة للتعليم التقني، والمهني فعدد التلاميذ فيه موزع كما يلي: 11، 753 من المسلمين، 1، 336 من غير المسلمين، ومجموعهم: 21، 086. بينما لاحظ التقرير فيما يتعلق بالتعليم الخاص وجود تعليم ابتدائي يتوزع فيه المسلمون وغير المسلمين كما يلي: المسلمون: 4، 154 (بين أمومة 9841 وابتدائي 3، 173)، غير المسلمين: 10، 841 (أمومة: 4375 وابتدائي 6، 466). أما الثانوي الخاص فلم يفصله التقرير تفصيلا طائفيا كما فعل سابقا. ولكنه قسمه حسب جنس التلميذ: الذكور 3، 322 والإناث: 2، 887، والمجموع: 6، 209 (1). التعليم الحر أما التعليم الحر أو التعليم المدعوم من التبرعات الشعبية والذي تشرف عليه غالبا جمعية العلماء المسلمين الجزائريين فله إحصاء غير مفصل، على هذا النحو: سنة 1955 كان عدد التلاميذ 35، 190، وعدد المدارس 193، وعدد المعلمين 511، من بين العدد الإجمالي هناك 1200 طالب في معهد عبد

_ (1) الأرشيف الوطني، علبة 27.

الحميد بن باديس بقسنطينة، وهي المؤسسة الوحيدة للتعليم المتوسط لجمعية العلماء، ولكن منذ 1955 أغلقت السلطات الفرنسية معظم المدارس في وجه التعليم واحتلها الجيش الفرنسي الذي استعملها لأغراض مختلفة مقلدا ما قام به سلفه سنة 1830 نحو المؤسسات التعليمية والدينية. وهناك مؤسسات أخرى كانت تمارس التعليم الحر مثل المدارس التابعة لحزب الشعب والمدرسة الكتانية التي كانت تتولاها الزاوية الرحمانية (فرع ابن الحملاوي)، وغيرها، ويقول التقرير الذي رجعنا إليه إن مدارس التعليم الحر (غير التابع لجمعية العلماء) كانت تتولاه مؤسسات خاصة قبلت بتطبيق مرسوم 27 نوفمبر 1944 الذي ينص على التعليم الإسلامي الخاص والقاضي بتدريس خمسة عشرة ساعة للغة الفرنسية في الأسبوع لتلاميذها مع قبولها بمراقبة فرنسية لسير التعليم فيها، ولاحظ التقرير أن عدد التلاميذ في هذه المدارس قليل، دون إعطاء أرقام (1). بالإضافة إلى التعليم الرسمي بمستوياته المختلفة والتعليم الخاص والحر. هناك المدرسة الفلاحية الجزائرية التي تطورت عن المعهد الفلاحي الجزائري سنة 1946، ويعود تاريخ هذا المعهد إلى سنة 1918، كانت المدرسة ملحقة بوزارة الفلاحة، وتقبل التلاميذ بمسابقة، وتمنح دبلوم مهندس فلاحي، وغايتها تكوين كبار المسيرين في الفلاحة لشمال إفريقيا والبحر الأبيض المتوسط، وتكوين خبراء في الاقتصاد والتعمير في أقطار ما وراء البحار، وهذا النوع يسمى تعليما عاليا، وللمدرسة رسالة أخرى وهي البحث والدراسة، فهي تضم مخابر وتجهيزات تجري أبحاثا في مركز الحراش للأبحاث الزراعية، وينشر الأساتذة والباحثون نتائج بحوثهم في منشورات المعهد الفلاحي، أما، التعليم الفلاحي فهو في الجزائر على ثلاثة أنواع: ابتدائي ومتوسط وعالي، وللتعليم المتوسط مثلا خمس مدارس، وقد أشار مصدرنا إلى وجود المعهد

_ (1) الأرشيف الوطني، العلبة 27.

التعليم في إحصاءات جبهة التحرير

الجزائري للأبحاث الاقتصادية والاجتماعية. ولاشك أن كل هذه المؤسسات على تواضعها تقدم خدمة للشباب، ولكن ساسة التجهيل والتمييز العنصري التي أشرنا إليها جعلت الجزائري يشعر بأنه كان في درجة دنيا، رغم أنه حاول أكثر من مرة أن يكون في درجة عليا (1). التعليم في إحصاءات جبهة التحرير في حديث مع الشيخ أحمد توفيق المدني، وزير الثقافة في الحكومة المؤقتة سنة 1958 نشرته المجاهد عن (وضعية الطلبة الجزائريين في الخارج) جاء فيه أن عددهم عندئذ أكثر من ألف طالب موزعين على النحو التالي: تونس: 650 (دون تحديد المستوى) ومصر: 100 في الجامعات المصرية، وسورية: 65 في جامعة دمشق، والعراق: 65 في جامعة بغداد، والكويت: 30 (دون تحديد المستوى)، والمغرب: 100 (دون تحديد المستوى). أما في أوروبا والولايات المتحدة فهناك: 170 طالبا في جامعات غير فرنسية (تشمل سويسرا، يوغسلافيا، الاتحاد السوفياتي، ألمانيا الشرقية، أسبانيا). وجملة الطلبة في الخارج 1200، يضاف إليهم طلبة يواصلون العلوم العسكرية والطيران والبحرية في معاهد المشرق، ولم يذكر الحديث الجامعات أو الكليات التي يدرسون فيها. أما حالة الطلبة فقد وصفها الشيخ المدني كما يلي: إنهم يتقاضون منحا من الحكومات العربية، ولكنها لا تفي بحاجاتهم، لذلك فإن الحكومة الجزائرية تقدم لهم معونة إضافية، ما عدا طلبة الكويت فإن إمارة الكويت تكفيهم

_ (1) هنا الجزائر، 38، أغطس 1955، في هذا المصدر أيضا مقالة عن إنتاج البترول في الجزائر.

حاجاتهم، أما بالنسبة للطلبة الذين يدرسون في البلدان الأوروبية فإن أغلبهم يتمتعون بمنح كافية، وهذه المنح تدفعها حكومات تونس والمغرب وغيرهما، أما المشكل الحقيقي فيكمن في طلبة تونس، فهم يعانون من الفقر، والقليل منهم يحصل على إعانة عائلية، والغالبية من الطلبة لا تعيش إلا على ما تقدمه هيئة الإغاثة الجزائرية، وهو قليل (1). وفي نفس الحديث ذكر الشيخ المدني مختلف التخصصات التي كان يدرسها الطلبة الجزائريون، فطلبة تونس يدرسون في أغلبهم برنامج التعليم الزيتوني والمواد التي تدرس في المدرسة الخلدونية، أي أنهم يدرسون العلوم العربية والإسلامية التقليدية مع تطعيم حديث، أما الطلبة في أوروبا فيتلقون تعليما عصريا (أي العلوم والتكنولوجيا)، والواقع أن بعض هؤلاء الطلاب كانوا يدرسون أيضا علوما تقليدية ومواد أدبية، وأما طلبة المشرق العربي فأغلبهم يدرس المواد الأدبية والتاريخ والحقوق والتربية، وأضاف الشيخ بأن الحكومة المؤقتة جادة في توجيه هؤلاء الطلبة (طلبة المشرق) إلى العلوم العصرية والمتخصصة. وقد أبدى الشيخ المدني مجموعة من الملاحظات عن حالة الطلبة، ولا سيما طلبة تونس، إن سيرة الطلبة الجزائريين عموما سيرة حسنة في كل مكان يدرسون فيه، والوزارة منشغلة بدراسة حالة الخريجين لسنة 1958 - 1959 (أول سنة من عمر الوزارة) لتوزيعهم على معاهد التخصص (لأننا نريد علماء كاملين متبحرين في كل علم وفي كل فن)، ولاحظ أن الطلبة أنفسهم يسيرون في الخط المرسوم لهم، وهو أن يكونوا بناة الجزائر المستقلة، وإن المجالات التي يتوجه إليها الطلبة حتى الآن هي المجالات العلمية (البيولوجيا، والتعدين، والهندسة بأنواعها، والكيمياء، والفيزياء ...) وابتداء من هذه السنة (1959) بدأت, الوزارة توجه الطلبة لدراسة التخصصات المذكورة سواء في أوروبا أو في المشرق.

_ (1) المجاهد، 33، 8 ديسمبر 1958.

ملاحظات على التعليم والجبهة

أما عن طلبة تونس بالذات، فإلى جانب مسألة الفقر هناك الناجحون الذين لا يحصلون إلا على درجة (القريب من الحسن)، وبعض الطلبة لا ينالون الباكلوريا، وليس للطالب في تونس سكن يسمح له بالدراسة والتفوق، وتمنى الوزير لطلبة تونس التوجه أيضا نحو الشعب العصرية الخاصة حتى يمكنهم دخول الجامعات فيما بعد. وحول سؤال عن توجيه الطلبة إلى الصين للدراسة العلمية والتجربة الثورية أجاب الشيخ بأنه تناول ذلك مع سفير الصين بالقاهرة، وأن للحكومة الآن وفد في الصين سيتذاكر مع حكومتها حول الموضوع، وقال إنه يجب الاستفادة من تجربة الصين الاقتصادية والصناعية والعلمية (وكذلك غير الصين)، ولاحظ أنه يتمنى أن يرى خريجي الجزائر في مختلف جامعات العالم لأن ذلك أكثر فائدة للبلاد، ولكنه لاحظ أن الأولوية لتوفير السلاح للثورة، وأنه تمكن من حل مشاكل الطلبة في تونس (المطعم والسكن، وسد الضرورات) (1). ملاحظات على التعليم والجبهة كان على الثورة أن تعمل على جبهتين جبهة التحرير وجبهة التعليم، وكان الطلبة قد خرجوا من الجزائر، بعد أن جف فيها معين العلم، إلى مختلف الاتجاهات، فمنهم من قصد تونس والمغرب، ومنهم من قصد المشرق العربي، ومنهم من قصد أوروبا وأمريكا، وهناك التحاق فردي بالمؤسسات التعليمية وبعثات منظمة أشرفت عليها مثلا جمعية العلماء قبيل الثورة وفي عهدها الأول، وهناك منح كانت تمنح من قبل بعض الدول أو المنظمات الدولية للطلبة الجزائريين إما لأنهم في حالة تشرذم بعد إضرابهم الشهير عن التعليم سنة 1956، وإما لأسباب ايديولوجية، وإما لأن بعض الدول شعرت أن الجزائر في طريقها إلى الاستقلال وعليها أن تأخذ مكانا لها في هذا البلد الواعد بكل خير.

_ (1) المجاهد، 33، 8 ديسمبر 1958.

لذلك تكاثر عدد الطلبة الجزائريين في الخارج بالتدرج أثناء الثورة وتعددت تخصصاتهم، فكان المشرق العربي مثلا لتكوين المدرسين في اللغة العربية والثقافة الإسلامية في معظم الحالات، وكانت أوروبا لإعداد إطارات في مختلف العلوم والتكنولوجيا. وهناك ملاحظات نريد أن نبديها هنا قبل الدخول في التفاصيل وهي أن تشتت الطلبة الجزائريين جعلهم يلتحقون بالمعاهد العلمية في المشرق وفي أوروبا على أساس العطف والاستثناء وليس على أساس الكفاءة والدراسة المنتظمة، ولولا ذكاء الطالب الجزائري الفطري وحماسه للعلم المفقود في بلاده ولولا روح الثورة والطموح الوطني والشخصي لما نجح منهم إلا عدد ضئيل في الجامعات والمعاهد التي التحقوا بها. وتثبت الأرقام التي سنوردها أن عدد البلدان المستقبلة للطلبة الجزائريين كان يزداد مع الأيام وكذلك عدد الطلبة الدارسين، وهناك إحصاءات نعتبرها رسمية لأنها صادرة عن مؤسسة عامة للثورة هي وزارة الثقافة عندئذ، وهناك إحصاءات صادرة عن جهات أخرى كالجرائد والمجلات والأفراد نستعين بها أو نذكرها للتأكيد وتقديم وجهة نظر مخالفة أو مصححة، وليس لدينا إحصاء شمل كل سنوات الثورة لنستدل به على عنايتها بهذا الموضوع، فقد يكون هناك إحصاء من سنة كذا إلى سنة كذا وإحصاء آخر لا يشمل إلا المرحلة النهائية للثورة (1). رسم وزير التربية الجديد بعد الاستقلال صورة متشائمة لحالة التربية والتعليم في فاتح سنة 1962 - 1963، وهي السنة التي بدأت فيها الجزائر تمارس سيادتها على مؤسساتها التعليمية، فمن ناحية هناك تعليم كان في خدمة الاستعمار سواء في شكله العام أو في شكله التقني، فهو تعليم لا يخرج من

_ (1) انظر فقرة التعليم في إحصاءات جبهة التحرير، وحديث وزير الثقافة أحمد توفيق المدني، سابقا.

التعليم والسكان

المتعلمين إلا بالقدر الذي تحتاجه الإدارة، وكان حظ اللغة العربية حظا بائسا في بلاد لغتها العربية ودينها الإسلام حتى أن الوزير انتهى إلى أن أقل من 3؟ من ميزانية التعليم كان يصرق على العربية، وهكذا عرفت الجزائر في خريف 1962 مليوني طفل غير قادر على التمدرس، وزادت حرب التحرير من حدة الوضع، ولا يأخذ التعليم في الجزائر في العهد الاستعماري في الاعتبار مسألة الشخصية الوطنية (الهوية) بل بالعكس كان يعمل على إقبار هذه الهوية وطمسها بطريقة منظمة، ومن حيث الإحصاء فإن سنة 1961 - 1962 مثلا لم يمارس التعليم التقني فيها سوى 1400 من مجموع 14000 تلميذ، بينما بلغ سكان الجزائر عندئذ عشرة ملايين، وإذن فإن التعليم كان في خدمة الاستعمار والاندماج (1). التعليم والسكان بلغ سكان الجزائر (القطر): 1948 = 8، 681، 785 (مسلمون وأوروبيون). وفي سنة 1954 بلغ عدد السكان 9، 529، 726 نسمة، وقد ازداد هذا الرقم الأخير قد ازداد سنة 1958. أما سكان مدينة الجزائر فقد بلغوا 308، 321 نسمة سنة 1948، وفي سنة 1954 بلغوا 355، 040 ولكنهم قد بلغوا سنة 1958 بين 400، 000 و 420، 000. إذا أضيفت الضواحي إلى سكان العاصمة (حسين داي، الحراش، القبة. بئر مراد رايس، بوزريعة، بولوغين، فإن سكان العاصمة سنة 1954 قد وصلوا إلى 570، 086 ولكنهم قد يصلون سنة 1958 بين 650، 000 و 675، 000. هذا النمو السكاني يقابله نمو في عدد المتعلمين، وقد نص البرنامج التعليمي لسنة 1958 على أن الهدف من التعليم هو تخريج التلاميذ حتى يصل عددهم إلى (2):

_ (1) التعليم والثقافة في الجزائر 1963، ص 8، (Enseignement et Culture en Algérie) (2) كتب هذا الإحصاء أمام ما ستقدمه المكتبة الوطنية الجديدة للسكان والطلبة =

مستوى التعليم .......... السنة .......... العدد الابتدائي .......... 1953 .......... 991، 397 / .......... 1958 .......... 886، 486 / .......... 1965 .......... 000، 300، 1 / .......... 1953 .......... 128، 11 التقني .......... 1958 .......... 460، 17 / .......... 1965 .......... 300، 42 / .......... 1953 .......... 585، 32 الثانوي .......... 1958 .......... 000، 41 / .......... 1965 .......... 700، 58 / .......... 1953 .......... 4913 العالي .......... 1958 .......... 815، 4 (كذا) / .......... 1965 .......... بياض بالأصل وقد ذكر الإحصاء أن إصلاح التعليم لسنة 1958 سيؤدي إلى تخرج كذا وكذا سنة 1965 فأهملناه هنا، ثم إنه لا يذكر التعليم العالي في هذه السنة، كما يلاحظ المرء أن عدد طلاب الجامعة لسنة 1958 كان أخفض من العدد المسجل لسنة 1953 ربما بسبب إضراب الطلبة الجزائريين (1).

_ = والمتعلمين على وجه العموم، أنظر نشرة المكتبات 1958، أكتوير، رقم 10، ص 692 - 693. (1) أنظر كلمة السيد وزير التربية عن التعليم والثقافة، مرجع سابق، ص 32, 34.

إحصاءات مجلة جون أفريك

إحصاءات مجلة جون أفريك ولدينا إحصاء آخر أوردته مجلة (جوف أفريك) في نهاية الفترة التي أشرنا إليها، أي بين 1961 - 1962، وهي أيضا سنة الاستقلال، فكانت النتيجة أن عدد الطلبة في مختلف البلدان لم يزد كثيرا، ولكننا عرفنا من خلالها ما تقدمه كل دولة على حدة سواء في البلاد العربية أو غيرها، وهذا الإحصاء قد نشرته - كما قالت المجلة - وزارة الداخلية الجزائرية في الحكومة المؤقتة: البلاد .......... العدد شمال إفريقيا المغرب .......... 49 تونس (عربي) .......... 160 تونس (فرنسي) .......... 929 البلاد العربية العراق .......... 122 الأردن .......... 14 الكويت .......... 51 ليبيا .......... 20 مصر .......... 123 سورية .......... 91 البلاد الغربية ألمانا الاتحادية .......... 77 بلجيكا .......... 24 كندا .......... 1 إسبانيا .......... 1 (غير واضح) إيطاليا .......... 5 النرويج .......... 3 السويد .......... 1 سويسرا .......... 43 أمريكا الشمالية .......... 44 البلاد .......... العدد البلاد الاشتراكية ألبانيا .......... 3 بولغاريا .......... 23 ألمانيا الشرقية .......... 64 المجر .......... 9 بولندا .......... 4 رومانيا .......... 9 تشيكوسلوفاكيا .......... 45 الاتحاد السوفياتي .......... 48 يوغسالافيا .......... 63 المجاميع شمال إفريقيا .......... 1138 البلاد العربية .......... 421 البلاد الغربية .......... 309 البلاد الاشتراكية .......... 268 المجموع الكلي .......... 2130

* الجزائر (حوالي) 700. * فرنسا (حوالي) 1200. ملاحظة هامة: يبدو أن هذه الإحصاءات تشمل طلبة الجامعات والثانويات كما تشمل مختلف التخصصات، أما بالنسبة للتخصصات فقد نشرت نفس المجلة (جون أفريك) إحصاء بذلك يرجع إلى نفس الفترة (1961 - 1962). وإليك هذا الإحصاء الهام الذي جاء عشية الاستقلال، وهو يبين حصيلة الخبرة التي دخل بها الطلبة ميدان العمل في الجزائر المستقلة، فهل هي فعلا خبرة مدروسة ومفيدة؟ الآداب: 243 الحقوق والاقتصاد: 206 العلوم: 53 الطب والصيدلة: 146 المهندسون التقنيون: 270 فنون مختلفة: 8 طلبة ثانويات: 1210 (1) ورغم التحري والتدقيق فإننا وجدنا بعض الأرقام التي لا تدل على الصحة المطلقة إذا قورنت بغيرها، مثلا وجدنا أن جامعة الجزائر كان بها 814 طالبا سنة 1960، منهم 117 طالبة، وأن الجامعة تضم 6553 طالبا منهم 5739 أوروبيا (غير مسلم)، أما عدد الموظفين في ميدان التعليم سنة 1958 فالأساتذة بلغوا 171 أستاذا، والمساعدون بلغوا 136 ومجموعهم 307 موظفين، وفي المدرسة الوطنية للهندسة (بوليتكنيك؟) سنة 1958 - 1959 جزائريان فقط من

_ (1) جون أفريك، مايو، 12 - 19، 1962، أنظر أيضا عمار هلال: نشاط الطلبة الجزائريين، الجزائر، 1986، ص 80, 144 - 146.

إحصاءات أخرى

بين 115 دارس غير مسلمين، أما المدرسة العليا للتجارة فليس فيها جزائري واحد، وكل طلابها، وعددهم 73 طالبا، غير مسلمين (1). إحصاءات أخرى وفي وثيقة ترجع إلى سنة 1959 - 1961 وجدنا عدد الطلبة الجزائريين في التعليم العالي خارج الوطن موزعين على النحو التالي: - في بلدان المغرب العربي (المغرب وتونس وليبيا) حيث يدرسون بالعربية والفرنسية،: 1959 - 1960: 110 طلاب، 1960 - 1961: 180 طالبا. - في المشرق العربي (يشمل العراق وسوريا ومصر والكويت والأردن): سنة 1959 - 1960: 318 طالبا، 1960 - 1961: 378 طالبا. - في أمريكا الشمالية (الولايات المتحدة وكندا) 1959 - 1960: 21 طالبا، 1960 - 1961: 39 طالبا. - في أوروبا الغربية (ألمانيا الاتحادية، بلجيكا، بريطانيا، النرويج، السويد) 1960 - 1959: 140 طالبا، 1960 - 1961: 218 طالبا. - في أوروبا الشرقية (ألبانيا، بلغاريا، ألمانيا الشرقية، المجر، بولندا، رومانيا، تشيكلوفاكيا، الاتحاد السوفياتي، يوغسلافيا)، 1959 - 1960: 203 طلبة، 1960 - 196: 244 طالبا. المجموع: 1959 - 1960: 792 طالبا، 1960 - 1961: 1، 059 طالبا. ملاحظة: سيضاف إلى ذلك العدد التقريبي للطلبة الجزائريين في فرنسا نفسها (بما فيها جامعة الجزائر؟) وهو حوالي 900 طالب، وبذلك يكون مجموع طلبة الجامعات الجزائريين خلال المدة المذكورة هو 1059، 900 = 959، 1

_ (1) الأرشيف الوطني، علبة 27، لاحظ أن تعبير مسلم، غير مسلم، من محتويات التقارير، وهو مصطلح كان شائعا في تلك الفترة لتفريق بين أهل البلاد وبين المستوطنين.

التعليم العسكري

(أي حوالي ألفي طالب) (1). (الأرشيف الوطني، العلبة 27). ونلاحظ أن هذا الإحصاء جاء بعد مرور أكثر من سنتين على ميلاد الحكومة المؤقتة ووجود وزارة للشؤون الثقافية، ثانيا رجوع الطلبة المضربين إلى الدراسة، ثالثا توفر بعض المنح الإضافية من الدول والمنظمات المانحة أو المتعاطفة مع الثورة الجزائرية، ومع ذلك نلاحظ أن النسبة في زيادة عدد الطلبة غير عالية. بعض الملاحظين قرأوا في سياسة الجبهة منذ 1959 أن هناك خطة لإعداد إطارات المستقبل في الجزائر ليس فقط من الناحية العددية ولكن من الناحية الإيديولوجية أيضا، فقد نشرت جريدة (سالو بوبليك) التي تصدر في سويسرا مقالا طويلا عن الطلبة الجزائريين في التاريخ المذكور مستدلة على توجههم من الرقم الذي سجله الاتحاد السويسري لعدد الطلبة الجزائريين الذين مروا من هناك، وقد نقلت المعلومة عن نشرة تصدر في باريس وجاء في خاتمة مقالها أن أكثر من 800 طالب جزائري مروا بمكتب الاتحاد بسويسرا، وأن قادة الاتحاد يتوقعون أن يرتفع العدد خلال السنة القادمة (1960؟) إلى 1500 أو 2000 طالب، وفسرت الجريدة ذلك التطور أن جبهة التحرير من جهة تستعد لكفاح طويل ولبناء الجزائر مستقبلا، ومن جهة أخرى فإنها هي الجهة الوحيدة التي تبذل جهدا لتأطير الطلبة، ذلك أن (تسعة أعشار الضباط الإداريين والسياسيين الجزائريين يتلقون تكوينا شيوعيا أو ماركسيا في الجامعات الأوروبية). التعليم العسكري وما دمنا نتحدث عن المدارس والبرامج فلنذكر أن الثورة أنشأت أيضا مدارس عسكرية خاصة بها في مختلف أنحاء القطر لتكوين ضباط جيش التحرير، وقد أجرت (المجاهد) تحقيقا صحفيا لأول مرة لكي ينشر في الصحافة

_ (1) المجاهد 40، 16 أبريل، 1959.

العالمية، لأن الذين كتبوا عن الثورة لم يتمكنوا من دخول مدارسها، بصفتهم من الأجانب، ولو أنهم تمكنوا من كتابة تحقيقات عن جيش التحرير من الداخل، وأهم شيء يتعلمه (الطالب) في هذه المدارس العسكرية هو التدريب على استعمال السلاح، وللمدرسة ضابط مسؤول هو الذي تولى شرح البرنامج لمراسل المجاهد: عندهم جوالي ثلاثمائة (300) شاب بين العشرين والثانية والعشرين سنة، وقد قضوا سنتين أو ثلاثة في ميدان القتال، والهدف هو أن يكونوا ضباطا لجيش التحرير يتمتعون بتكوين عسكري حديث، ويقتضي برنامج التدريب أن يقضوا بين سبعة وثمانية أسابيع كجنود يعملون تسع ساعات يوميا، فيتعلمون مختلف الأسلحة الفردية التي تغنم من العدو، والجنود الطلبة كلهم من المتطوعة، وهم يتعلمون الزحف على البطون مسافة 800 متر، والقفز على الجدران، واجتياز الأسلاك الشائكة، واللوحة ذات الخمسة أمتار للسير المتوازن، وقد أضيفت مادة أخرى هي العوائق المكهربة. تستقبل المدرسة التي زارها مراسل المجاهد الرجال من ثلاث ولايات. وفيها ممرضون ممتازون يتعلمون في قاعة بنفس المدرسة، وكانوا عندئذ حوالي أربعين طالبا، وفي القاعة صور للتشريح الطبي، وهيكل عظمي وأدوات للجراحة وأنواع الأدوية (سمتها الجريدة مكتبة جامعية طبية)، وقد وجد المحقق - المراسل طبيبا يلقي محاضرة عن أولئك الطلبة، فروى له أن طلبته قد انتهوا من دروسهم العسكرية، وهم الآن في مرحلة التخصص في التمريض، وهم يعرفون الاتفاقيات الدولية وقواعد معاملة الأسرى في الحرب، وقد أوردت المجاهد صورة لمجموعة من الطلبة أثناء تكوينهم السريع لإسعاف جرحى المجاهدين. ولا شك أن هذا النوع من المدارس الذي يشمل التدريب العسكري والتعليم الطبي قد تكاثر كلما ازداد عدد الملتحقين به من جيش التحرير (1).

_ (1) المجاهد 35، 15 يناير، 1959.

أنشطة الطلبة في تونس والمغرب

ولم تكتف الثورة بإنشاء المدارس العسكرية بل بادرت إلى تنظيم دروس محو الأمية في كل مكان يرجع إليها، بما في ذلك السجون التي نظم فيها المساجين أنفسهم - كما سبق القول - وقاموا بتلقين بعضهم البعض دروسا في اللغة العربية والفرنسية، ومبادى العلوم والقرآن الكريم، وغيرها، وكل من يعرف كان يعلم من لا يعرف، وبالتدرج تحولت الدروس إلى مدارس متنقلة أحيانا وتحتوي على تجهيزات ومعلمين وإدارة، وقد اشترك في الدروس جنود جيش التحرير والمدنيون، وقد قيل إن عدد المدارس في الولاية الرابعة وحدها بلغ سنة 1956، 120 مدرسة. ولم تكن هذه المدارس للدروس التقليدية فقط بل كانت للتوعية السياسية والتربية المدنية والإسلامية والوطنية، وقد أسهم الطلبة في هذه المدارس بعد انضمامهم للثورة، وقيل أيضا أن نسبة المتعلمين في الولاية الثالثة بين أعضاء جيش التحرير بلغت 8؟ فكانوا هم الذين يسهرون على مختلف الأنشطة الثقافية والإدارية والسياسية (1). أنشطة الطلبة في تونس والمغرب أغلب الطلبة الجزائريين خارج بلادهم كانوا متمركزين في تونس حيث كان فيهم طلبة الزيتونة وطلبة المعاهد الأخرى، كما كان هناك طلبة في حالة انتظار لتوزيعهم على المشرق أو على أوروبا، سيما بعد الإضراب عن الدراسة في فرنسا والجزائر، وربما يأتي المغرب بعد تونس من حيث العدد، ثم مصر إذا أخذنا المشرق فقط بعين الاعتبار، وقد قيل إن حوالي 400 طالب جزائري كانوا في الزيتونة عشية الثورة بينما كان في القرويين حوالي 186 وحوالي 50 في مكذاس بين 1960 - 1961 (2).

_ (1) هلال، نشاط ... ص 66 - 68, 106. (2) هلال: نشاط ... ص 22 - 24، سبق أن التقديرات الفرنسية تضع الأرقام: حوالي ألف في الزيتونة، و 120 في القرويين، وحوالي 150 في الأزهر، أنظر سابقا.

وكان طلبة المغرب العربي يتحركون داخل محيطهم أيضا، فبالإضافة إلى الرابطة التي تكونت بالقاهرة والتي كانت تستمد أفكارها من رؤية عبد الكريم الخطابي في وحدة كفاح المغرب العربي وعدم التفاوض مع الفرنسيين بلدا بلدا، فإن طلاب المنطقة كانوا يتجاوبون عبر قنوات متعددة حتى بعد استقلال البلدين الجارين للجزائر، ففي سنة 1957 نظم اتحاد الطلبة الجزائريين واتحاد طلبة تونس ومنظمات ثقافية وقومية تونسية أخرى أسبوعا للتضامن مع الجزائر، وقام الطلبة الجزائريون في تونس بإضراب عن الطعام وتحصنوا بجامع الزيتونة، وزارت وفود الطلبة مقبرة الجلاز حيث أضرحة شهداء الجزائر وقرأوا عليهم فاتحة الكتاب، وألقى الشيخ الفاضل بن عاشور محاضرة تحت عنوان (حياة الجزائر في القومية الإسلامية)، كما حاضر في مناسبة أخرى الزعيم علي البلهوان، وتحدث الشيخ البشير العريبي (وهو من أصل جزائري ومن شيوخ الزيتونة) عن دعائم الوحدة بين أقطار المغرب العربي، كما تحدث في هذه المناسبة ممثل جبهة التحرير ولكن اسمه غير متوفر (1). وفي إحدى المظاهرات التي قام بها طلبة الجزائر في تونس رفعوا العلم الوطني بمناسية عيد الشباب التونس (مارس 1956) وأنشدوا فيها نشيد شعب الجزائر مسلم، وفداء الجزائر، ومن جبالنا .. وحين وصلوا إلى وسط العاصمة حاولت الشرطة (الفرنسية) انتزاع العلم منهم لأنه علم (الفلاقة) فوقعت مصادمات بين الشرطة والجنود وتحولت المشاركة في عيد الشباب إلى مظاهرة استعملت خلالها فرنسا المدافع والرشاشات وغيرها من الأسلحة (2). وخلال شهر أغسطس 1958 انعقد مؤتمر بتونس يضم الاتحادات الطلابية الثلاثة (الجزائر وتونس والمغرب)، وقد صدرت عن المؤتمر لوائح من بينها

_ (1) المجاهد، 12، 15 نوفمبر 1957. (2) البصائر، 6 أبريل 1956، قد يكون هذا آخر عدد صدر من البصائر قبل توقفها النهائي، وقبل استكمال تونس شروط السيادة، بما فيها استلام الشرطة.

لائحة سياسية تؤكد على وحدة الطلبة وتعلن عن تعلقهم بمبدأ توحيد المغرب العربي والعمل من أجله، كما أعلنوا أن بناء المغرب العربي يمر حتما باستقلال الجزائر، لذلك طلبت اللائحة من حكومتي تونس والمغرب العمل من أجل استقلال الجزائر، ومن أجل تشكيل جبهة مغاربية (1) ... وهناك مناسبات عديدة أخرى قام فيها طلبة الجزائر بتونس بأنشطة تدخل ضمن خدمة القضية الوطنية، من ذلك إحياء جمعية الطلبة الجزائريين لذكرى الشيخ عبد الحميد بن باديس، وقد صدرت نشرة بهذا العنوان تضم وقائع الذكرى، ثم ذكرى الأمير عبد القادر، وقع الحفل الأخير تحت إشراف مندوب عن جيش التحرير وجبهة التحرير وبحضور سفراء الدول العربية والمنظمات التونسية، ومندوب عن الحكومة التونسية، وتناول الكلمة مندوب الجيش والجبهة، وعيسى مسعودي كاتب عام جمعية الطلبة، والشيخ الفاضل بن عاشور والباحث عثمان الكعاك، وكلاهما من المتصلين على الدوام بالقضية الجزائرية، والشاعر أبو عبد الله صالح (صالح الخرفي)، وقد اقترح السيد الكعاك بهذه المناسبة إعادة رفات الأمير عبد القادر للجزائر المستقلة ودفنه في جامع كتشاوة الذي هو - كما قال - الآن كاتدرالية وإقامة تمثال للأمير في ساحة الشهداء حاليا (2). وإثر تحطم طائرة روسية بثلاثة من الطلبة المغاربة أقام الطلبة اجتماع حداد على أرواحهم، ويبدو أن الطلبة الضحايا كانوا يمثلون الاتحادات، الثلاثة أو المكتب التنفيذي لجامعة طلبة شمال إفريقيا، ومهما يكن من شيء فقد تحطمت بهم الطائرة التي كانت عائدة بهم من بكين بعد حضورهم أحد

_ (1) المجاهد، 28 أغسطس 1958، وقع اجتماع الاتحادات الثلاثة، أيام 20 - 23 أوت 1958. (2) في جريدة الصباح وصف طويل للحفل بتاريخ 8 مارس 1957، أنظر أيضا يحيى بوعزيز: حياة الأمير عبد القادر، تونس، 1958، ص 180 - 185.

المؤتمرات، وهم: مزور، والجعيدي، والشرقاوي (1). وبالإضافة إلى التطوع في جيش التحرير والعمل في المجال السياسي، كان للطلبة دورهم في إحياء الذكريات، والتضامن مع المضطهدين من إخوانهم، والمشاركة في المؤتمرات المحلية والمغاربية والعربية والدولية، والإسهام في الأسابيع التي تقام لجمع التبرعات لفائدة الثورة، وإلقاء المحاضرات وإقامة الندوات بإشراك أعيان كل بلد فيها لتوسيع التعريف بالقضية الجزائرية، وإنشاء الجرائد الحائطية والنشرات والمجلات الثقافية والإعلامية، والمشاركة بالكتابة فيها شعرا ونثرا، كما كان لهم في (صوت الجزائر) الوقع المجلجل والكلمات المدوية، فكان صوت عيسى مسعودي في تونس يهز السامعين ويقض مضاجع المستعمرين، وكان له إخوان يساعدونه ويمدونه بالمادة الخبرية، وكانت هناك أصوات أخرى مماثلة تنطلق من الرباط وطرابلس والقاهرة ودمشق وبغداد وعمان وغيرها من العواصم العربية، وتذيع بالعربية والفرنسية، وتقدم بالإضافة إلى الأخبار والتعاليق مواد في التاريخ والثقافة والأدب الذي يخدم القضية، وكانت الصحف والمجلات العربية تتحلى بكتاباتهم، وقد ظهرت لبعضهم تآليف حول شخصيات جزائرية تاريخية ودراسات عن الأدب الجزائري ورموزه إلى أن جاء الفتح وفاز الشعب بالشهادة والنصر. أما من طلبة الجزائر في المغرب فلا نملك إحصاء وافيا لعددهم ولا نمط معيشتهم ولا تعدد مراكزهم ولا من نشاطهم في الثورة إلا ابتداء من سنة 1959، ففي مارس من هذه السنة زار المغرب وزير الثقافة عندئذ، الشيخ أحمد توفيق المدني لحل مشاكل الطلبة، ولم يفصل الشيخ المدني في حديثه عدد، الطلبة في جامع القرويين وخارجه، وإنما قال إنه التقى بطلبة القرويين الذين قدر عددهم بنحو ثلاث مائة (300) طالب، واستمع لشكاواهم التي وصفها

_ (1) المجاهد، 31 نوفمبر 1958.

الطلبة في المشرق العربي

بالمرة، وانتهى إلى وجود حل لها، كما قال، لكن ماذا عن طلبة المدارس والمعاهد الأخرى؟ أما عن ممثل الوزارة في المغرب فهو السيد محمد الفرجاني خطاب، وعندما عقد الوزير جلسة عمل مع لجنة الطلبة حضرها أيضا ممثل جبهة التحرير، الشيخ محمد خير الدين، ورتب للطلبة شؤونهم المالية وخصص لهم منحا شهرية ... وقد ذكر الوزير أن مكتب اتحاد الطلبة الجزائريين قد خصص له مبلغا قدره ثلاثة آلاف فرنك (3000)، أي منحة ألف فرنك لـ 26 طالبا بمدرسة الاتحاد المغربي للشغل، أما الباقون من طلبة القرويين الذين لم يدفع لهم فعددهم 134، وهكذا يفهم من توزيع المنح أن هناك طلبة جزائريين: 1 - في القرويين (يأخذون أكبر قسط من المنحة). 2 - معهد مكناس. 3 - مكتب الاتحاد العام في الرباط. 4 - مدرسة الاتحاد المغربي للشغل (عددهم 26 طالبا) (1). الطلبة في المشرق العربي عاش الطلبة الجزائريون عموما في شتات مستمر، فرغم انتمائهم إلى بلد واحد فإنهم كانوا لا يلتقون في جامعة أو اتحاد أو رابطة، كانت تفصلهم حواجز عديدة، لغوية وذهنية وجغرافية، فطلبة الجزائر في فرنسا مثلا ربما يشعرون بأنهم أقرب إلى زملائهم التونسيين والمغاربة في فرنسا من مواطنيهم الذين يدرسون في تونس أو المغرب (مراكش) أو مصر، لذلك نشأت جمعية لطلبة شمال إفريقيا في فرنسا تضم طلبة المغرب العربي منذ العشرينات من القرن العشرين، ولكنها لم تشمل طلبة الجزائر في تونس ومصر ومراكش، ونشأت جمعية الطلبة الجزائريين في تونس منذ الثلاثينات من القرن العشرين ولكنها لم تشمل طلبة الجزائر في فرنسا ونحوها، وقد تأسست كذلك جمعية طلبة الجزائر في العاصمة في العشرينات أيضا ولم تشمل طلبة الجزائر في البلدان المجاورة.

_ (1) أنظر أحمد توفيق المدني، حياة كفاح، الجزائر، ج 3، ص ج 46.

وبعد الحرب العالمية الثانية تكاثر عدد الطلبة الجزائريين في البلدان العربية، ومنها تونس ومصر، فكان في تونس جمعية للطلبة الجزائريين معظم أعضائها من طلبة ابن باديس أو بتأثير من حركته ومن طلبة الزوايا وغيرهم، وقد سعى حزب الشعب إلى جذب الطلبة إلى صفوفه فانضم بعضهم إليه بينما بقي آخرون على حيادهم أو على ولائهم للحركة الإصلاحية، وقد نشط بعض طلبة الحزب سياسيا مما أثر أحيانا على تفرغهم للدراسة، وكانوا يعبرون عن ولائهم للحزب بالاجتماعات والأناشيد وتوزيع المنشورات والهتاف باسم مصالي الحاج، وأمام ذلك، وحتى لا تفقد جمعية العلماء تأثيرها على الطلبة الذين يمثلون جنودها في نشر التعليم العربي الحر، سعى قادتها إلى تكوين جمعية موازية شعارها الابتعاد عن السياسة والتفرغ للدراسة ثم الرجوع إلى الجزائر لنشر التعليم وفاء لروح ابن باديس، وكانت هذه الجمعية تدعى (جعية البعثة الزيتونية)، وكانت تتلقى التوجيهات والزيارات من أعضاء جمعية العلماء، وكان الذين يتخرجون من طلبتها من الزيتونة يجدون مكانهم في التعليم في مدارس الجمعية. إذا كان طلبة الجزائر في الجامعة والمعاهد العلمية الفرنسية (الجزائر وفرنسا) ينتمون غالبا إلى أبناء الفئة الموظفة في إدارة الاحتلال أو المتعاملة معها (القضاة والقياد والتجار والبرجوازية الصغيرة ...) فإن طلبة الجزائر في تونس والمغرب (ومن وصل منهم إلى المشرق) كانوا عادة من أبناء الفقراء، وهم أبناء أهل الزوايا والفلاحين وبعض العائلات التقليدية، كان الصنف الأول من الطلبة يدرسون لكي يتوظفوا مكان آبائهم أو يدخلوا ميدان السياسة والإعلام والتعليم الرسمي والمهن الحرة، أما زملاؤهم في تونس ومصر ومراكش فكانوا يدرسون غالبا وهم يعرفون أنه لا مكان لهم داخل إدارة الاحتلال، وأن دراستهم كانت حبا للثقافة العربية الإسلامية لذاتها وتعبيرا عن الانتماء إليها، فكانت الدراسة تعني لهم الهجرة والاغتراب، (من أجل العلم) وليس من أجل الخبز. فإذا جاء الخبز مع الهجرة لم يرفضوه وإذا لم يأت لم يتأسفوا عليه لأنهم لم يهاجروا من أجله أصلا، هذه الرؤيا العامة هي التي كانت سائدة في الطلبة

من نشاط الطلبة في المشرق العربي

الجزائريين عشية الثورة: جناحان لطائر واحد ولكنهما لا يلتقيان ولا يصفقان معا للوصول إلى غصن واحد (1). جاء في مصدر فرنسي موثق أن عدد الطلبة الجزائريين في الزيتونة بتونس حوالي ألف (1000) وأن عددهم في القرويين بالمغرب حوالي 120 (مائة وعشرين)، وحوالي 150 (مائة وخمسين) في الأزهر بمصر، وأضاف المصدر إن هؤلاء الطلبة ينحدرون من عائلات أرستقراطية أو برجوازية، وأنهم درسوا في البداية في الكتاتيب القرآنية و (المدارس) التقليدية، وأنهم يدرسون بالعربية المختلفة عن العربية الشائعة في الجزائر ويتولون الوظائف القضائية التي تشرف عليها فرنسا، وهذه المعلومات كلها غير دقيقة ما عدا ربما ما يتعلق بالإحصاء (2)، ذلك أن الوظائف القضائية لم تكن مفتوحة أمام المتخرجين من المعاهد الإسلامية، كما أنه من الخطأ أن نقول إن أبناء الكتاتيب والزوايا والفلاحين يمثلون البرجوازية أو ينحدرون من عائلات أرستقراطية. من نشاط الطلبة في المشرق العربي وإليك عينة مما قام به طلبة القاهرة من نشاط ثقافي وإعلامي، ضمن سلسلة من المحاضرات والندوات، في مقرهم بالقاهرة: الديموقراطية في الإسلام قدمها مالك بن نبي، محمد العيد آل خليفة قدمها أبو القاسم سعد الله، الثقافة الوطنية قدمها إبراهيم غافة، سياسة ديغول في الجزائر وموقف الثورة قدمها عدة بن قطاط، رسالة الطالب قدمها إبراهيم مزهودي، أحمد رضا حوحو ونضال الكلمة قدمها أبو القاسم سعد الله، دور المرأة الجزائرية في الثورة قدمها بوعلام الصديق، نظرية الحضارة قدمها مالك بن نبي، نظرات في تاريخ الجزائر العثمانية قدمها أحمد توفيق المدني، الكفاح النفسي قدمها أبو مدين الشافعي.

_ (1) عن وضع الطلبة الدارسين في الجامعات والمعاهد الفرنسية انظر تعليق المجاهد على إضراب 1956 وكذلك كتاب غي بيرفييه، الطلبة الجزائريون في الجامعات الفرنسية ... (2) انظر روبير هارون، وآخرين: أصول حرب الجزائر، باريس 1962، ص 297.

رابطة طلبة المغرب العربي

وهناك مساهمات تاريخية وأدبية أخرى شارك فيها يحيى بوعزيز وصالح الخرفي والشيخ الإبراهيمي وعبد الله الركيبي والجنيدي خليفة ... كما كانت اللجنة الثقافية تستضيف أعلاما في الفكر والثقافة إلى ناديهم. منهم الناقد الدكتور عبد القادر القط الذي أشرف على ندوة لشعراء الطلبة الجزائريين، والشاعر أحمد عبد المعطي حجازي الذي ألقى قصيدته الشهيرة (أوراس)، وغير ذلك من الضيوف والأنشطة التي كانت تخدم الثورة في أبعادها الثقافية والفكرية والإسلامية (1). رابطة طلبة المغرب العربي بالإضافة إلى رابطة الطلبة الجزائريين في المشرق العربي فقد كانت هناك رابطة أخرى تسمى رابطة طلبة المغرب العربي، وهي كما يدل اسمها أوسع وأشمل من الأولى، وكانت قد أنشئت في القاهرة حوالي 1957، أي بعد استقلال كل من تونس والمغرب، كان مقر هذه الرابطة في البداية هو 36 شارع عبد الخالق ثروت، وهو مقر مكتب المغرب العربي السابق، ثم تحولت إلى مقر قريب منه وهو 6 شارع بنك مصر، وقد وجدنا أن الحكومتين المصرية والسورية قد أعطت موافقتهما على قيام هذه الرابطة التي من أهدافها: خدمة القضية المغربية ... وإطلاع الرأي العام العربي عن الحالة في المغرب العربي ومحاربة الانتهازيين والاستغلاليين باسم جبهة التحرير، والسعي إلى توحيد القيادة السياسية والعسكرية في المغرب العربي، وخدمة الطلبة المغاربيين الذين يدرسون في المشرق، والابتعاد عن الحزبية والإيمان بوحدة المغرب العربي ومصيره والاستعداد لفدائه وتنفيذ أي عمل تطلبه الرابطة (2) ...

_ (1) هلال: نشاط ... ص 88. (2) هذه الوثيقة - ليس لها تاريخ، وتوجد منها عدة نسخ منقولة عن بعضها تحت عنوان: (منهاج رابطة طلبة المغرب العربي) الأرشيف الوطني، علبة 21 - 50 والغالب أن الرابطة تكونت من العناصر الساخطة على قبول استقلال تونس والمغرب دون الجزائر، وهو =

رابطة الطلبة الجزائريين في القاهرة

أما في دمشق فقد - تكونت أيضا رابطة لطلبة المغرب العربي خلال السنة الدراسية 1956 - 1957، وهي تتألف من خمسة طلاب عن كل بلد وبذلك كانت الهيئة المشرفة على الرابطة تتألف من خمسة عشر طالبا، اجتمع هؤلاء وانتخبوا من بينهم أمينا عاما وكاتبا وأمينا للمال، وتولى أحد الطلبة التونسيين الأمانة العامة ولكنها لم تلبث أن آلت إلى محمد برادة من المغرب، وابتداء من 1957 - 1958 تولى النيابة محمد مهري من الجزائر لمدة سنة، كان مقر هذه الرابطة في ضاحية المزرعة بدمشق، وكان لها نشاط ثقافي واجتماعي يتناسب مع دورها كمنظمة طلابية فكانت تشارك الطلبة العرب نشاطهم وتدعوهم لنشاطها في مقرها حيث كانت تعقد الندوات والمحاضرات وتحضر رحلات السياحية والترفيهية، كما كان للرابطة أحيانا برنامج إذاعي في ركن المغرب العربي بالإذاعة السورية (1). رابطة الطلبة الجزائريين في القاهرة بعد اندلاع الثورة كانت استجابة فئة الطبة بالمشرق أسرع من استجابة زملائهم في فرنسا بحكم كره الأولين للاستعمار والبحث عن الهوية التي دمرها الاحتلال، وبحكم الاستعداد الفطري للنضال لعدم وجود ما يخسرونه من انضمامهم للثورة، وكانت ربما وسائل التعبئة أكثر تأثيرا في تونس ومصر مثلا، لأن سيطرة الإعلام الفرنسي لم يترك لطبة الجزائر الآخرين منفذا يرون فيه أنفسهم بينما وسائل التعبئة العربية والإسلامية كانت متوفرة لدى طلبة البلدان المجاورة والمشرق، يضاف إلى ذلك أن الطلبة الجزائريين في المشرق (والمغرب العربي) كانوا يعيشون أزمة فلسطين بروح لا يعيشها زملاؤهم في الجزائر وفرنسا، كما كانوا يعيشون ثورات وانتفاضات مصر وسوريا والعراق

_ = مذهب مصر وسوريا عندئذ. (1) محمد مهري، ومضات من دروب الحياة، مؤسسة الشروق للإعلام والنشر، الجزائر، 2005، ص 75 - 76.

ونحوها بذهنية وتحليل ليس هو التحليل الذي يؤمن به الطلبة الآخرون، يضاف إلى ذلك بدء الثورة في المغرب وتونس قبل بدئها في الجزائر، ثم أحداث الفيتنام والهند وإيران، وكان وجود مكتب المغرب العربي بقيادة الأمير عبد الكريم الخطابي، ومكتب جمعية العلماء، ومكتب جبهة التحرير في القاهرة، قد فجر وضعا جديدا بين طلبة المشرق أنفسهم. ذلك ان الثورة قد أحدثت انشقاقا في صفوف طلبة البعثات التي بادرت جمعية العلماء إلى إرسالها قبل الثورة إلى كل من مصر والعراق وسوريا والكويت، وقد عمل مكتب جبهة التحرير في القاهرة على توسيع الخلاف بين الطلبة ومكتب جمعية العلماء ليجند الطلبة في الثورة بدل الدراسة عكس ما كان يعمل له مكتب الجمعية الذي كان على رأسه الشيخان الإبراهيمي والورتلاني، ويمكن القول إن المنافسة بين جمعية العلماء وحزب الشعب من أجل التأثير على الطلبة قد انتقلت إلى القاهرة، كما ساهم وقوف السلطات المصرية إلى جانب مكتب جبهة التحرير (مع ابن بلة بالخصوص) واتهام الشيخين بالانتماء إلى حركة الإخوان المسلمين المتهمة بدورها بمعاداة النظام المصري - قلنا ساهم في توسيع الشقة بين المكتبين وأحدث ذبذبة في الأوساط الطلابية. وأمام ذلك كان من الطبيعي أن يحاول الطلبة عموما تأليف جمعية أو رابطة بصفتهم الجزائرية أو كجزء من تنظيم يجمعهم أيضا بطلبة المغرب وتونس الذين يدرسون في مصر، وكانت مختلف الأطراف التي ذكرناها تتجاذب الطلبة، وأهمها الجذب الثوري، فقد جند مكتب جبهة التحرير عددا منهم سنة 1955، فوصل عدد المتطوعين في هذه السنة وحدها سبعة وعشرين طالبا، ولحقت بهم مجموعة الباخرة (دينا) التي كان من ضمنها محمد بوخروبة (بومدين)، ثم مجموعة الباخرة (أطوس) التي كان من ضمنها الهادي حمدادو ومحمد صباغ ومحمد الطاهر شرفي (1).

_ (1) وثلاثة آخرون هم زروق محمد الصالح، وريغي محمد، وإيغرونة محمد واعلي، وتطوع =

وعلى مستوى آخر شارك طلبة المشرق في مهرجان الشبيبة العالمي الذي انعقد في فارصوفيا (وارسو) في السنة المذكورة أيضا، كما شاركوا في مهرجان الشباب العربي الذي انعقد في الإسكندرية بمصر سنة 1956 (1). وفي هذا التاريخ كان طلبة المشرق قد قطعوا مراحل في تجميع أنفسهم داخل تنظيم يتولى شؤونهم، ولعل بعضهم كان يرى أن إخوانهم طلبة الجزائر وفرنسا كانوا غير أحرار في اتخاذ قرارهم، أو كانوا غير مهتمين بغير أنفسهم، أو أن مستقبلهم مضمون، لأنهم - بالنسبة إلى طلبة المشرق المتقدمين عادة في السن - ما يزالون أغرارا يعيشون نوعا من المراهقة الفكرية، ولكن الأيام أن هذه النظرة كانت خاطئة وأن الإضراب وما تلاه قد برهنا على نضج فكري لدى طلبة الجامعات الفرنسية، وعلى إدخال الطالب إلى معترك الحياة والفصل بينه وبين الحياة الناعمة التي اعتاد عليها. ورغم نضج طلبة المشرق النسبي وانضمامهم المبكر إلى صفوف الثورة. كما لاحظنا، ورغم لعب طلبة تونس والمغرب دورا مبكرا في الكفاح وتهريب السلاح والعمل السري الخطير فإن تنظيم طلبة القاهرة في رابطة قد تأخر إلى

_ = فوج آخر من الطلبة فكان منهم المدني حواس وعلي عسول ورشيد النجار، ثم تطوع أكثر من ثلاثين طالبا وزعوا على ثلاثة أفواج ولكن ملابسات صحبت هذه العملية جعلت بعض قياديي الثورة كالدكتور الأمين دباغين، يعارضون تطوع الطلبة لا خوفا على حياتهم من العدو ولكن خوفا من العبث بهم نتيجة خلفيات أخرى تتعلق بمعارضي مقررات مؤتمر الصومام الذين كانوا يعتبرون (مشاغبين)، وكان من بين هؤلاء منور مروش وعبد القادر بن قاسي، وهما على التوالي رئيس رابطة الطلبة الجزائريين في القاهرة والأمين العام لها، كانت عملية التطوع الأخيرة قد جرت سنة 1957 بطلب من العقيد أوعمران الذي حضر إلى القاهرة والتقى الطلبة، هذه الأفكار استفدت بها من ورقة كتبها محمد بلعيد عن رابطة الطلبة الجزائريين في المشرق العربي. (1) في المهرجان الأول شارك عثمان سعدي ومحمد شيروف وتخلف منور مروش بسبب جواز السفر، وفي المهرجان الثاني شارك حوالي عشرة طلاب منهم منور مروش وأبو القاسم سعد الله.

من نشاط الطلبة في القاهرة

يوليو سنة 1956، ففي هذا التاريخ اجتمع الطلبة جامعيين وأزهريين، في مقر رابطة الطلبة الفلسطينيين وأعلنوا عن تأسيس الرابطة وانتخبوا مكتبا برئاسة منور مروش والكاتب العام عبد القادر بن قاسي، وقامت الرابطة بالتزاماتها نحو الطلبة والثورة إلى أن حان موعد التطوع المشار إليه، أي بعد سنة من تكوين الرابطة، فاجتمعت الجمعية وانتخبت مكتبا جديدا برئاسة بشير كعسيس، ومنذ 1957 أصبح للرابطة مقر دائم وسط القاهرة وهو المقر الذي احتضن كل أنشطة الطلبة إلى ما بعد الاستقلال، ومنه انطلقت الرابطة أيضا للمشاركة في المهرجانات والتظاهرات والندوات مع الهيئات الفاعلة من أجل دعم الثورة بالتنسيق مع وفد جبهة التحرير بالقاهرة، وفي المقر نفسه كانت الرابطة تستقبل الطلبة الجزائريين الذين يفدون من تونس والمغرب أو من بلدان المشرق العربي حيث يدرسون، كما كانت تنسق نشاطها مع طلبة تونس والمغرب الذين يدرسون في القاهرة. من نشاط الطلبة في القاهرة جاء في ورقة محمد بلعيد عن نشاط رابطة الطلبة الجزائريين في القاهرة ما يلي: (وتطبيقا لما جاء في البرنامج كونت الرابطة لجنة ثقافية أسندت رئاستها إلى الأخ أبو القاسم سعد الله الذي بذل جهدا معتبرا في تنفيذ أجندة ثرية اشتملت على دعوة محاضرين وتنظيم ندوات وإحياء أمسيات شعرية تتمحور جميعها حول الجزائر وثقافتها، وقد حرصت اللجنة على أن يكون في مقدمة المدعوين لإلقاء المحاضرات مناضلون جزائريون كثر عددهم بمصر بعد تشكيل الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية، فكان من بين الذين أغنوا هذا النشاط بمساهماتهم الإخوة أحمد توفيق المدني، ومالك بن نبي، وإبراهيم مزهودي، وعباس بن الشيخ الحسين، وإبراهيم غافة، وعدة بن قطاط، وبوعلام أوصديق، كما شارك في ذلك الطلبة أنفسهم، وأذكر منهم أبو القاسم سعد الله ويحيى بوعزيز والجديدي خليفة، وأحيت اللجنة أمسيات شعرية نشطها شعراء عرب

وجزائريون، وفي واحدة من تلك الأمسيات ألقى الشاعر المصري الكبير أحمد معطي حجازي ولأول مرة قصيدته الرائعة الأوراس، وشارك من الجزائريين الشاعران أبو القاسم سعد الله وحسن الصائم، وتشجيعا للطلبة على ممارسة فن الكتابة أصدرت اللجنة جريدة حائط تحولت إلى نشرة مطبوعة، كما نظمت دروسا باللغتين الفرنسية والانجليزية للمبتدئين وتطوع للقيام بهذه المهمة الأساتذة مصطفى هني (جزائري)، ومحمد الأمين غيطة (سنيغالي)، وعزمي لبيب (مصري)) (1). وإليك عينة مما قامت به رابطة الطلبة من نشاط ثقافي وإعلامي، ضمن سلسلة من المحاضرات والندوات، في مقر الرابطة بالقاهرة، مع عناوين محاضراتهم: الديموقراطية في الإسلام قدمها مالك بن نبي، محمد العيد آل خليفة قدمها أبو القاسم سعد الله، الثقافة الوطنية قدمها إبراهيم غافة، سياسة ديغول في الجزائر وموقف الثورة قدمها عدة بن قطاط، رسالة الطالب قدمها إبراهيم مزهودي، أحمد رضا حوحو ونضال الكلمة قدمها أبو القاسم سعد الله، دور المرأة الجزائرية في الثورة قدمها بوعلام الصديق، نظرية الحضارة قدمها مالك بن نبي، نظرات في تاريخ الجزائر العثمانية قدمها أحمد توفيق المدني، الكفاح النفسي قدمها أبو مدين الشافعي، وهناك مساهمات تاريخية وأدبية أخرى شارك فيها يحيى بوعزيز وحسن الصائم ... ثم في مرحلة لاحقة ساهم في هذا النشاط صالح الخرفي وعبد الله الركيبي والجنيدي خليفة سيما بعد أن تحولت الرابطة إلى فرع للاتحاد العام للطلبة المسلمين الجزائريين الذي سيأتي الحديث عنه. كما كانت اللجنة الثقافية تستضيف أعلاما في الفكر والثقافة إلى نادي

_ (1) النص السابق مأخوذ من ورقة محمد بلعيد، مرجع سابق، ونشير إلى أن الورقة قد سهت عن بعض الأسماء ومنها أبو مدين الشافعي، وسهت أيضا عن الندوة التي ترأسها الناقد المصري عبد القادر القط، كما ذكرت اسم الجنيدي الذي ربما حاضر بعد مغادرتي القاهرة.

رابطة الطلبة الجزائريين في المشرق العربي

الطلبة، منهم الناقد الدكتور عبد القادر القط الذي أشرف على ندوة لشعراء الطلبة الجزائريين، والشاعر أحمد عبد المعطي حجازي الذي ألقى قصيدته الشهيرة (أوراس)، وغير ذلك من الضيوف والأنشطة التي كانت تخدم الثورة في أبعادها الثقافية والفكرية والإعلامية (1)، ومن الأنشطة دعوة قادة الثورة وأعضاء الحكومة المؤقتة لزيارة النادي، وأذكر أن من بين الزائرين كريم بلقاسم وأحمد توفيق المدني والرائد رابح نوار وعبد السلام بلعيد، وللطلبة صور جماعية مشتركة معهم. وفي نفس الوقت كانت هناك لجنة تضم الطلبة الجزائريين في دمشق، ومعلوماتنا عنها قليلة رغم أنها واردة في عدة مصادر، منها كتابة محمد مهري - الذي شارك في تكوينها وقيادتها، وقد أورد الحديث عنها وهو بصدد الحديث عن تكوين رابطة الطلبة الجزائريين في المشرق العربي، فقد كان رئيسا لهذه اللجنة عندما دعوا لعقد اجتماع لتأسيس الرابطة العامة، ونحن نفهم من كلامه أنه كانت هناك روابط في القاهرة والكويت والعراق أيضا، بخلاف دمشق التي كان التنظيم فيها يسمى لجنة. رابطة الطلبة الجزائريين في المشرق العربي أما رابطة الطلبة الجزائريين في المشرق العربي فقد تأسست في دمشق وحضر اجتماعها التأسيسي ممثلون عن مختلف الروابط الطلابية في مصر وسورية والعراق والكويت، ولماذا الاجتماع في سورية؟ يجيب الطلبة الذين حضروا الاجتماع بأن سورية واقعة في الوسط بالنسبة للعواصم العربية المذكورة، ويفسر بعضهم ذلك بالأسباب المادية، وبعضهم يفسره بأسباب سياسية لأن قوانين مصر أكثر تعقيدا في إنشاء الجمعيات من قوانين سورية، كما أن هذه كانت مفتوحة فكريا وقوميا أكثر من مصر، ولسورية استعداد خاص لتبني المبادرات الجزائرية لأسباب تاريخية معروفة، ولكن الذي يجب أن يذكر

_ (1) هلال: نشاط ... ص 88.

هنا هو أن سورية ومصر في وقت تكوين الرابطة (سبتمبر 1958) كانتا في وحدة تتشكل منها الجمهورية العربية المتحدة. ومهما كان الأمر فإن ممثلي الروابط شعروا بضرورة إنشاء تنظيم يوحدهم ويمدهم بالمعلومات عن الثورة وينسق نشاطهم إزاء جبهة التحرير الوطني، فاتفقوا على أن يحمل التنظيم الجديد اسم (رابطة الطلبة الجزائريين في المشرق العربي)، ويبدو أن العلاقة مع الاتحاد لم تكن في أجندة المجتمعين عندئذ، وقد وضع المجتمعون خطة عمل تتضمن المراحل والأهداف، كما وضعوا مشروع القانون الأساسي للرابطة وهو ينص على أن يكون للرابطة مجلس إداري من اثني عشر عضوا بمعدل ثلاثة عن كل رابطة، ولجنة تنفيذية من ثلاثة أعضاء هم مندوبو رابطة القاهرة وينتخبهم المجلس الإداري، وهم الرئيس والأمين العام وأمين المال، كما كتبوا إلى مكاتب الفروع لتعين ثلاثة يمثلونها في المجلس الإداري. وجهت لجنة دمشق الدعوة للروابط في مصر والعراق والكويت لحضور الاجتماع التأسيسي للرابطة التي هدفها توحيد الطلبة في المنطقة العربية ووضع حد لسياسة التهميش التي سلكها اتحاد الطلبة الجزائريين وبعض الجهات الأخرى نحو طلبة المشرق، دام الاجتماع ثلاثة أيام في مقر رابطة طلبة المغرب العربي، وقد أعلنوا بعده عن ميلاد الرابطة، على أن يكون مقرها القاهرة، ويذكر محمد مهري أنهم اتفقوا على أن يتولى علي مفتاحي رئاسة الرابطة، ولكن مهري لم يتحدث عن أعضاء مكتب الرابطة (1). وبناء على ما تم في دمشق اجتمع أعضاء رابطة القاهرة (التي أصبحت فرعا) يوم 31 أكتوبر 1958 في القاهرة وانتخبوا منهم ثلاثة هم: علي مفتاحي، وسعد الدين نويوات ومحمد الأخضر بلعيد بصفتهم ممثلين في المجلس الإداري للرابطة الجديدة، كما انتخبوا هيئة فرع القاهرة فكانت كالتالي: بشير

_ (1) مهري، ومضات، مرجع سابق ص 88.

كعسيس رئيسا، وأرزقي صالحي نائبا له، ونور عبد القادر كاتبا، ومحمد بن عقيلة أمينا للمال، وأحمد فرجاج للشؤون الاجتماعية، وقد حصل مثل ذلك في مختلف الفروع، فقد تحولت كلها من روابط إلى فروع للرابطة الأم، وانتخب كل فرع هيئته المسيرة من جهة ومندوبيه الثلاثة في المجلس الإداري للرابطة من جهة أخرى. وطبقا لما كان مقررا فقد اجتمع المجلس الإداري للرابطة في دمشق في شهر مارس 1959، وحضره المنتخبون الثلاثة من القاهرة (مفتاحي ونويوات وبلعيد)، وحضره ثلاثة من سورية (الهاشمي قدوري، وعبد العزيز سعد، وعبد الرحمن شطيطح)، كما حضره ثلاثة من الكويت (محمد عرباجي، وعبد العزيز يعقوبي، ومهدي الغوثي)، أما عن بغداد فقد حضر محمد الصالح شيروف فقط، وقد أقروا القانون الأساسي، ودرسوا وسائل التلاحم بين الطلبة وتبادل المعلومات وتحسين ظروف الطلبة الاجتماعية وطرق المشاركة في دعم الثورة، كما قرروا المشاركة في مؤتمر الطلبة العرب الذي كان يحضر له في القاهرة في نفس الشهر (مارس)، وفعلا انعقد المؤتمر في القاعة الكبرى بجامعة القاهرة وكلف علي مفتاحي بإلقاء كلمة الرابطة في الجلسة الافتتاحية، فكانت هذه المشاركة أول ظهور للرابطة على المستوى الإقليمي، ومن بين الجزائريين الذين حضروا في القاعة عبد السلام بلعيد وبوزيان التلمساني ورابح التركي، وكان عبد السلام بلعيد هو مدير مكتب وزير الثقافة عندئذ، وبعد الخروج من القاعة انتقد عبد السلام بلعيد مستوى وعي الطلبة العرب مما جعل النقاش يحتد بينه وبين رابح التركي إلى درجة العنف. ويبدو أن وزارة الثقافة المسؤولة على الطلبة لن تسكت عن وجود تنظيمين طلابيين في وقت تتوحد فيه الجهود لتوحيد الصفوف دفاعا عن الوطن، لذلك استدعى الوزير أحمد توفيق المدني مسؤولي الرابطة وطلب منهم حلها لأنها جلبت الكثير من ردود الفعل غير الحسنة، فطلبوا منه عقد مؤتمر يجمع جميع الطلبة فوعدهم بتحقيق ذلك في القريب وبدعم علاقاتهم باللجنة التنفيذية

للاتحاد العام، كما وعدهم بحظ أوفر من المشاركة في كل أنشطة الاتحاد، ولكنهم لم يعطوه وعدا صريحا بشأن مستقبل الرابطة متذرعين بمسألة قانونية وهي أن عليهم الرجوع في أي قرار إلى الجمعيات العامة في كل فرع من فروع الرابطة، ومع ذلك ظل يلح عليهم بضرورة حل الرابطة. ولعل هذه النهاية التي انتهت إليها مقابلة الوزير هي التي تفسر محتوى التقرير الذي كتبته اللجنة التنفيذية للاتحاد عن الرابطة وعن طلبة القاهرة خصوصا وطلبة المشرق العربي عموما، فهو تقرير لو نفذت توصياته لكانت له عواقب وخيمة، ولكن من حسن الحظ أنه وضع على الرف حال وصوله إلى مكتب وزيري الداخلية والثقافة، وسنعود إلى هذا التقرير بالعرض والتحليل، (انظر لاحقا)، والشيء المؤكد هو أن انعقاد المؤتمر الرابع للاتحاد في تونس بعد سنة وانتقال اللجنة التنفيذية من لوزان إلى تونس كان نتيجة هذه (الأزمة) بين الرابطة واللجنة التنفيذية للاتحاد، ويغلب على الظن أن مصالح بوصوف لها دور في التعجيل بعقد المؤتمر الرابع. لقد تضافرت الجهود لتحقيق وحدة الطلبة، وكان منها لقاء عبد الحفيظ بوصوف في القاهرة برئيس الرابطة وكاتبها العام وكلامه المبطن بالوعد والوعيد، كما ضغط عليهم وزير الثقافة، وانهالت عليه ضغوطات أخرى من مختلف الجهات لكي تقرر الرابطة حل نفسها وتنضم إلى الاتحاد مع الوعد الرسمي بعقد المؤتمر الجامع، وهكذا اجتمعت الرابطة في القاهرة يوم 15 يونيو 1959، أي بعد حوالي ثلاثة أشهر ونصف فقط من تأسيسها وقررت دعوة الجمعية العامة يوم 20 منه للانعقاد، وبعد شرح وتوضيح تقرر حل الرابطة وتحويل فرعها في القاهرة إلى فرع للاتحاد، وكذلك فعلت الفروع الأخرى في سورية والعراق والكويت، وبذلك انتصرت الإرادة الثورية وتأجلت القضايا التي كانت محل شكوى إلى المؤتمر الرابع أو بعد تحرير الجزائر نفسها، وبعد سنة انعقد المؤتمر الرابع في تونس وحضرته فروع الاتحاد في عواصم العالم ومنها فروع القاهرة ودمشق والعراق والكويت، وكان عددها ينوف على

العشرين فرعا، (انظر لاحقا). علق محمد مهري على المفاوضات التي أدت إلى حل الرابطة بقوله: كان هناك عدم ثقة بين طلبة المشرق والاتحاد ترتب عليه نشوء توتر بين الطرفين، بل إن مسؤولي الثورة لم يتخلصوا من هذه النظرة الاستعلائية والمتحيزة نحو طلبة المشرق، وكانوا يجهلون دور هؤلاء، ويعتقد أعضاء الاتحاد أن الرابطة هي صدى للأحزاب المشرقية، أما الحكومة المؤقتة فقد مالت إلى الاتحاد لأنها تحمل ذات ميول الاتحاد، لذلك ضغطت على وزير الثقافة أحمد توفيق المدني من أجل حل الرابطة وانضمام طلبتها للاتحاد، وقد طمأن الطلبة في القاهرة فوافقوا على حلها بشرط قبول طلبة دمشق، فأرسل إليهم الوزير ممثله بوزيان التلمساني الذي اتفق معهم على عقد مؤتمر يضم كافة الطلبة سنة 1960 وعلى أن يصلهم التعهد الرسمي قبل حل الرابطة، وفعلا وصلتهم البرقية بذلك، وعندئذ أصبحوا فرعا للاتحاد (وكذلك فعل زملاؤهم في الروابط الأخرى (1). كان طلبة الرابطة يرون أنفسهم أحق بالقيادة لأنهم سباقون إلى الثورة ولأنهم يمثلون الوجه الحضاري للجزائر العربية المسلمة، فهم الذين اتخذوا المبادرات الثورية وضحوا براحتهم حين تطوعوا للثورة وهاجروا من أجل تعلم لغة وثقافة الوطن، وأنهم هم الأعداء الحقيقيون للاستعمار، وأنهم كانوا يعانون البؤس والشقاء في المشرق حيث يعيشون على موارد ضئيلة شهد الجميع على أنها أقرب إلى الصدقات والإحسان منها إلى المنح والتكفل. أما زملاؤهم الذين أنشأوا الاتحاد (أنظر لاحقا) فكانوا ينظرون إلى أنفسهم على أنهم ربما الأحق بانضمام زملائهم في المشرق إليهم، لأنهم هم

_ (1) مهري، ومضات، مرجع سابق، ص 89 - 90، وفي رأي هذا المرجع أن عدد الطلبة الذين تطوعوا في الثورة سنة 1955 بلغ خمسة وثلاثين طالبا، دخلوا فعلا إلى الجزائر كمقاتلين لا كسياسيين، كما التحق عدد آخر بالكليات العسكرية وبعد تخرجهم التحقوا بوحدات الجيش، وقدر محمد مهري عدد الطلبة في دمشق بحوالي سبعين طالبا.

الذين يعيشون تحت رعب الشرطة الفرنسية وينشطون في السرية بعد حل الاتحاد، وهم الذين أضربوا عن الدروس تضحية منهم من أجل الثورة، وأنهم منذ مؤتمر الصومام أخذوا مكانهم في صفوف الثورة سواء في داخل الجزائر أو خارجها، كما أنهم هم الذين يمثلون الطلبة الجزائريين على المستوى الدولي، وأنهم يعيشون كالمشردين في عواصم العالم، ولاسيما باريس ولوزان. إننا لا نعتقد أن هناك خلفيات أخرى للتوتر الذي حدث بين طلبة الجزائر شرقا وغربا، حقا لقد كان هناك خلفية مؤتمر الصومام التي وجهت دفة الثورة نحو الداخل وليس نحو الخارج، وربما نحو الغرب وليس نحو الشرق، ولكن تأثير تلك الخلفية لم يكن واضحا إلا ربما في تونس والقاهرة، وإلى حد ما في باريس ولوزان، وهناك خلفية التيار العروبي والإسلامي الذي يريد أن يحتفظ بالطلبة الجزائريين كورقة ضغط، فمصر تعرف أن قيادة الشباب لها المستقبل وأن التيار الموالي لابن بلة قد ضرب بقوة بتغييبه عن مؤتمر الصومام ثم باعتقاله مع زملائه، وكانت القاهرة، ولا سيما بعد تحقيق الوحدة مع سوريا (فبراير 1958) قد أصبحت محجة للشباب العربي النشيط أو المنشط، ممثلا في اتحادات الطلبة غير المعترف بها حتى في بلدانها، كاتحاد طلاب الأردن واتحاد طلاب فلسطين، ثم اتحاد الطلبة العرب وغيره من التنظيمات الطلابية الغاضبة على نظمها، كالتنظيم الطلابي التونسي الموالي لصالح بن يوسف، والاتحاد الطلابي المغربي الموالي للأمير الخطابي. أخذ هؤلاء الطلبة (في سوريا والعراق) ينسقون مع طلبة الكويت الذين أنشأوا رابطة لهم في سنة 1955، أما طلبة سوريا فقد أنشأوا في نفس السنة لجنة الطلبة الجزائريين وهي اللجنة التي استمرت نظريا إلى قيام الرابطة في 22 سبتمبر 1958، وقد أثبتت اللجنة وجودها حين أرسلت برقية احتجاج إلى السلطات الفرنسية تعلن فيها تضامنها مع إخوانهم الطلاب في فرنسا والجزائر الذين كانوا يواجهون الاضطهاد والتعسف لإعلانهم الإضراب عن الطعام احتجاجا على سوء المعاملة، ونددت اللجنة بتدخل الطلبة الفرنسيين الحاقدين

ضد الطلبة المضربين، وطلبت تدخل الرأي العام العربي والإسلامي والدولي لإطلاق سراح الطلبة والمعتقلين السياسيين، كما طالبت الحكومة الفرنسية بوقف خرافة (الجزائر فرنسية)، والتفاهم مع الممثلين الحقيقيين للجزائر على أساس الاستقلال (1) إن هذا بلا شك موقف ناضج أبدته لجنة الطلبة في سوريا بقطع النظر عن خلفية التوتر مع الاتحاد، فقد انتهت اللجنة بتكوين الرابطة التي أصبح مقرها الدائم في القاهرة بينما بقيت دمشق هي المقر الدائم للاجتماع (2). والواقع أن طلبة سوريا كانوا مبكرين في اتخاذ المواقف السياسية، ففي يونيو 1955 وجدنا أحدهم، وهو علي عمار الذي كان يدرس في اللاذقية، يكتب رسالة إلى محمد خيضر طالبا معلومات وافية عن الجزائر لكي يقدمها إلى السوريين ليعرفهم بالثورة وبالجزائر المجهولة في المشرق عموما، وقال علي عمار إنه يعرف أحمد بن بلة منذ مروره بالقاهرة، أما خيضر فلم يره ولكنه سمع عن نضاله ووطنيته، وفي إجابته شكره خيضر وأحاله على عبد الحميد مهري في دمشق ليزوده بما يريد (3). وقبل أن نتحدث عن طلبة القاهرة والتقرير الخاص عن الرابطة نقول إن أخبار طلبة العراق ليست كثيرة في الوثائق التي اطلعنا عليها، وقد لاحظنا أنهم كانوا مشاركين في نشاط لجنة طلبة سوريا، ومن أخبارهم أنه كان في العراق قبل سنة 1959 ثمانية وثلاثون طالبا، وقد طلب ممثل الجبهة في بغداد من الخارجية الجزائرية اتخاذ الإجراءات اللازمة لكي يمنح الأمن العراقي التأشيرة للطلبة لأنه لا بد من تحديد الجنسية على الجوازات، كما طلب ممثل الجبهة إعطاءه اسمي الطالبين الحاملين لورقة مرور مغربية (4).

_ (1) انظر البصائر، 355، 24 فبراير، 1956. (2) هلال، نشاط ... 1986، ص 96، انظر سابقا. (3) أنظر الأرشيف الوطني، علبة 2، وهناك في الواقع أكثر من رسالة بالفرنسية واثنتان بالعربية، أما رد خيضر فتاريخه 27 يونيو 1955. (4) من أخبار الطلبة في العراق أن هناك برقية تقول إن وزارة التربية العراقية قد أعلنت =

نشأة الاتحاد العام للطلبة المسلمين الجزائريين (لوجيما)

وهناك طالب آخر يدعى (م، م) طلبت الخارجية الجزائرية من وزارة الثقافة اتخاذ إجراءات ضده لارتكابه أعمالا غير منسجمة مع سمعة الجزائر ومهمته العلمية، وقد أمر الطالب فعلا بالخروج من العراق والرجوع إلى القاهرة (1). وضمن الملف السابق توجد حالة الطالب (ع، ب) الذي كان يدرس في بغداد والذي قيل إنه كان يجمع التبرعات باسم الرابطة، فقد كتب السيد سامي شعار إلى السيد أحمد (؟) عن هذه الحالة وطلب منه توضيحا للموقف والاهتمام بالموضوع مع كل من عبد الحمد مهري ومحمد الغسيري، وليس في هذه الرسالة مكان ولا تاريخ، ولكن مهري كتب ردا بشأنها إلى ممثل جبهة التحرير في سوريا عليها الختم الرسمي للجبهة، وهي موجهة إلى رئيس رابطة الطلاب الجزائريين بالقاهرة ومؤرخة من دمشق في 25 سبتمبر 1957، وتتناول موضوع الطالب المذكور على أنه كان يجمع التبرعات في لبنان ويقدم للمتبرعين وصولات، وتطلب من رئيس الرابطة العمل فورا لاتخاذ اللازم (2). نشأة الاتحاد العام للطلبة المسلمين الجزائريين (لوجيما) سبق القول أن الطلبة الجزائريين في جامعة الجزائر والجامعات الفرنسية كانوا قد توحدوا في تنظيم خاص بهم منذ العشرينات من القرن العشرين، وكان فرحات، عباس رئيسا لهذا التنظيم فترة من الوقت، وكانت له نشرة تسمى (التلميذ) ثم تكونت جمعية لطلبة المغرب العربي (شمال افريقيا) فيها تونسيون

_ = رفضها قبول أي طالب بعد نهاية شهر نوفمبر، كما رفضت جامعة بغداد والوزارة قبول طالبين هما العمراوي ومحمد الحبيب الموجودان آنذاك في دمشق، وهذا القرار جاء من غير تبرير، لكن يبدو أن الأمر يتعلق بالتوقيت، لأن الرسالة مؤرخة في 9 ديسمبر 1959، (الأرشيف الوطني، العلبة 21 - 50، تاريخ 14 أكتوبر، 1959 و 17 أكتوبر 1959. (1) الأرشيف الوطني، علبة 21 - 50، 20 أبريل، 1959 و 8 أغسطس، 1959. (2) الأرشيف الوطني، علبة 21 - 50، وتوجد نسخة لأحد الوصولات ضمن الرسالة.

ومراكشيون من أمثال الحبيب ثامر والمنجي سليم (تونس) وأحمد بلافريج ومحمد الفاسي وعلال الفاسي (مراكش)، وكانت الجمعية الأخيرة تضم الطلبة المغاربة في الجامعات الفرنسية بما فيها جامعة الجزائر التي كانت تعتبر جامعة فرنسية بحيث يسجل فيها طلبة المغرب وتونس أيضا في الطب والقانون والأدب ... وقد اختارت الجمعية أن تجتمع في حاضرة من حواضر الأقطار الثلاثة كل سنة تقريبا، كالجزائر وتلمسان والرباط وتونس، وحين اجتمعت في تلمسان كانت جلساتها برعاية الشيخ الإبراهيمي، ولهذه الجمعية نشرة تعرضنا إليها في أحد كتبنا (1). إلى أي حد كانت الثورة تشكل دافعا للطلبة الجزائريين في الجامعات الفرنسية إلى إنشاء الاتحاد؟ هل كان وراء ذلك فكرة قديمة طالما راودت طلائع الطلبة وهي ضرورة إنشاء تجمع طلابي جزائري خارج اتحاد الطلبة الفرنسيين؟ هل كان الدافع هو التميز عن الطلبة الفرنسيين كما فعل - الكشافة والرياضيون والعمال؟ إلى أي مدى أيضا ساهمت الأحزاب وجمعية العلماء في بعث الوعي الوطني لدى الطلاب لكي ينفصلوا عن التنظيمات الفرنسية؟ فنحن إذا عدنا، مثلا - إلى جريدة (الشاب المسلم) نجدها تتميز بخطاب مختلف عن خطاب المنظمات والجرائد الأخرى، فهي جريدة تدعو إلى الوطنية والإصلاح وإلى العروبة والإسلام على غرار ما كانت تدعو إليه البصائر والمنار والجزائر الحرة ... وكان الشيوعيون الجزائريون قد حاولوا إنشاء تنظيم طلابي ولكنه لم يكن فعالا، وأثناء ذلك كان في تونس أكثر من جمعية للطلبة الجزائريين كما كان طلبة المشرق يتململون ويحاولون تكوين تنظيم يمثلهم. لا شك أن مرور ثمانية أشهر على الثورة قد جعل الشباب الواعي في

_ (1) الحركة الوطنية ج 3، أنظر أيضا محمد بلقاسم: التجربة الوحدوية في المغرب العربي، جامعة الجزائر، رسالة ماجستير.

الجزائر وخارجها يفكر في إنشاء تنظيم طلابي يساير الروح الجديدة ويعطي للثورة صوتا إضافيا في المحافل الطلابية ويكون صوتا تجتمع من حوله الشبيبة المثقفة المؤهلة لخدمة الثورة، وقد بدأت الأمور تسير سيرا طبيعيا فأنشئت لجنة تحضيرية ثم انعقد مؤتمر انبثق عنه (الاتحاد العام للطلبة المسلمين الجزائريين)، وعشية انعقاد هذا المؤتمر كتبت جريدة (البصائر) عن أهداف الاتحاد ما يلي: أولا: تقريب الطلبة من بعضهم (في المشرق، في المغرب، في الجزائر. في فرنسا) لأن هناك تباعدا بينهم بسبب اللغة، بحيث هناك طلبة يدرسون بالعربية، وطلبة يدرسون بالفرنسية، والهدف من ذلك هو الوصول إلى توحيد مناهج التعليم مستقبلا في الجزائر. ثانيا: وضع توجيه عام تسير عليه الجمعيات الطلابية الجزائرية في أي مكان، ومساندة بعضهم بعضا، وبذلك يتحاور الطلبة مع بعضهم سواء كانوا في السوربون أو في القرويين أو في الزيتونة أو في أي معهد أو جامعة أخرى. ثالثا خلق جو يقرب الطلبة من مطالب الأمة (السياسية؟) والهيئة المثقفة من الشعب، فالاتحاد سيفتح أبوابه لجميع الطلبة بشرط إيمان الطالب: (بفكرة الجزائر كوطن إسلامي العقيدة، عربي الثقافة، شرقي الاتجاه،) وقد أعلنت البصائر أن الاجتماع الأول للاتحاد سينعقد في النصف الأول من شهر يوليو 1955، أما من يرغب في مساندة المؤتمر ماديا فعليه الاتصال بجمعية الطلبة المسلمين الجزائريين بالجزائر (1). وهكذا انعقد الاجتماع (سرا) كما تقول بعض الروايات في باريس بين 8 و 14 يوليو 1955، ومن بين أهداف الاتحاد غير المعلنة خدمة الثورة وخدمة اللغة العربية أساس الثقافة العربية، وإشراك الاتحاد في الحياة السياسية وعدم البقاء على الحياد في القضايا المصيرية، وأول رئيس للاتحاد هو أحمد طالب بن

_ (1) البصائر، 326، 8 يوليو 1955.

الشيخ الإبراهيمي (1). ويتحدث كل من حضر أو شارك في إنشاء الاتحاد عن (المعركة) الحامية التي دارت من أجل كلمة (المسلمين) في عنوان الاتحاد، فقد اعترض عليها، - كما قيل - الشيوعيون والعلمانيون وتمسك بها الوطنيون والإصلاحيون، ولكن ما الفرق؟ يرى الوطنيون أن كلمة المسلمين تمثل الإيديولوجية الوطنية القائمة على الثلاثي (الجزائر - الإسلام - اللغة العربية)، ولولا ذلك لما كان الطلبة في حاجة إلى اتحاد خاص بهم إذ يمكنهم أن يكونوا ضمن الاتحاد العام للطلبة الفرسيين، فالجنسية الفرنسية محفوظة ومعترف بها للطلبة، سواء كانوا فرنسيين أو مسلمين، أما كلمة الجزائريين فهي التي لا يعترف بها الفرنسيون لهم وكان الشيوعيون يرون أن كلمة (المسلمين) تميز الطلبة الجزائريين عن بقية المجتمع بينما الأوروبيون هم جزء من نسيج الأمة الجزائرية التي هي بصدد الميلاد، في نظرهم. ركز الاتحاد في أول نشرة على المسألة الثقافية قائلا (لقد جرد الطالب الجزائري من ثقافته العربية الإسلامية، ومن لغته التي هي اللغة العربية، وعليه أولا وقبل كل شيء أن يفرض شخصيته الجزائرية، وأن يطالب ويدافع عن تراثه الثقافي الذي ورثه عن الحضارة العربية) (2). ولقائل أن يقول لماذا لم ترد كلمة العرب في عنوان الاتحاد، وقد كان الفرنسيون أنفسهم يعترفون بهذا الاستعمال ويقرونه إذ أن الكلمة الشائعة عندهم للجزائري هي العربي والمسلم، ونرى أن ذلك السكوت عن كلمة العرب جاء لخدمة الوحدة الوطنية لأن المسألة البربرية كانت حية على مستوى حزب الشعب، وإلى حد ما على مستوى جمعية العلماء، وكان الحزب الشيوعي يستعملها ويغذيها قصدا للدلالة على أن هوية الجزائر لم تكتمل وأنها تتألف من

_ (1) هلال، نشاط الطلبة الجزائريين، 1989، ص 30. (2) هلال مرجع سابق، ص 27.

اضطهاد طلبة الاتحاد

عناصر العرب والبربر والفرنسيين (بمن فيهم اليهود)، وليس العرب وحدهم في مقابل الفرنسيين. اضطهاد طلبة الاتحاد تعرضت مكاتب اتحاد الطلبة في باريس وغيرها إلى التفتيش، واعتقلت الشرطة مسؤولي الاتحاد، وهم بين الخمسة والستة، وقادت هذه العملية إلى حركة احتجاج من فرع الاتحاد في تونس ومن الاتحادات الوطنية الأجنبية المؤيدة له، بما فيها اتحاد طلاب تونس، كما احتج الطلبة على حل الاتحاد وطالبوا بإطلاق سراح رئيسه عندئذ محمد خميستي، أما السلطات الفرنسية فقد اتهمت الاتحاد بأنه كان يعمل لصالح جبهة التحرير (1). وفي نفس الفترة قتل الفرنسيون - حسب المجاهد - طالبة اسمها حميدو في تلمسان، مما أثار غضب أهل تلمسان فقاموا بمظاهرات احتجاجية، وقد فضح (صوت الجزائر) في حصة له بالإذاعة التونسية ما حدث للطالبة، وعندئذ فقط سارعت القيادة الفرنسية إلى الإعلان على أن الطالبة قتلت لأنها حاولت الفرار، وقد تساءلت المجاهد عن السبب في أن الفرنسيين لم يعلنوا عن قتلها إلا بعد إذاعة صوت الجزائر، ولماذا لم يعلنوا عن تقرير الطبيب الشرعي (2). إزاء حملة الاعتقالات لجأ الاتحاد إلى توجيه نداء إلى اتحاد الطلبة الفرنسيين وغيرهم للتدخل لصالحه والمساندة، فقد أوقفت الشرطة أحمد طالب الرئيس السابق للاتحاد والرئيس الشرفي له، والعياشي ياكر نائبه السابق، وكانت الاعتقالات قد توالت في صفوف الطلبة منذ مقتل الشهيد بلقاسم زدور في نوفمبر 1954، وهو الذي كان يدرس في كلية دار العلوم بمصر والتحق بالثورة

_ (1) المجاهد، 17، فبراير، 1958، و 18، 15 فبراير 1958، كان خميستي يطرس الطب في جامعة مونبلييه ورئيس فرع الاتحاد في هذه الجامعة، انظر عنها جمال الدين بن سالم، إليكم أسلحتنا .. إليكم أطباءنا، م، و، ك، الجزائر، 1985. (2) أنظر المجاهد 43، فاتح يونيو، 1959.

مبكرا، فقد ذكرت اللجنة التنفيذية في ندائها إلى اتحاد الطلبة الفرنسيين: باعتقال تسعة طلبة في تولوز، وآخر في ليل، وبالمعاملة السيئة للطلبة لتوزيعهم منشورات في بوردو وباريس، ووضع بعض الطلبة تحت الإقامة الجبرية، أما في الجزائر فقد اقتحمت الشرطة ثانوية بوجو (الأمير عبد القادر حاليا) في العاشرة ليلا واختطفت الطالب معيزة مصطفى وهو ناظر بالمدرسة وطالب في كلية الحقوق، ثم لم يعرف مصيره بعد ذلك، وطالب النداء اتحاد الطلبة الفرنسيين بالتنديد بهذه الأعمال التي (ستجعل التفاهم بين الشعبين مستحيلا) لأنها أعمال ضد حقوق الإنسان (1). لخصت المجاهد أعمال الاتحاد منذ قيامه حتى سنة 1959 فيما يلي: أصبح الطالب المثقف في أتون المعركة، فهو الطبيب والمنسق والمفوض السياسي، والممرض والكاتب وصانع القنابل، كان الإضراب وما تلاه دليلا على فشل الدعاية الفرنسية التي تدعي أن الثوار لا يمثلون إلا أنفسهم وأن الثورة من عمل أناس طائشين، كما كثف الاتحاد جهوده في الخارج لتحقيق: 1 - إعداد الإطارات للمستقبل بإرسال البعثات إلى أوروبا الشرقية والغربية والصين وأمريكا والمشرق العربي، إضافة إلى الطلبة الكثيرين في المغرب وتونس. 2 - نشر الدعاية والعمل مع الاتحادات الأخرى على كسب الأنصار للثورة والاتصال بالأوساط النقابية والثقافية. 3 - تحضير طلبة الاتحاد للقيام بدور رئيسي في توجيه التعليم والحياة الثقافية في الجزائر المستقلة على أساس أن الثقافة العربية الإسلامية التي أعلن الاتحاد عنها منذ نشأته هي التي ستكون ثقافة الشعب الجزائري (2).

_ (1) المقاومة الجزائرية، 8، 11 مارس، 1957، عن اضطهاد بعض الطلبة أيضا، أنظر الفصل الثالث فقرة اضطهاد المثقفين. (2) المجاهد، عدد خاص، أول نوفمبر، 1959.

ظروف إضراب الطلبة، 1956

ظروف إضراب الطلبة، 1956 تعرض الاتحاد إلى اضطهاد السلطات الفرنسية في فرنسا والجزائر، فصدر قرار بحله ولاحقت الشرطة مسؤوليه فسجنت بعضهم وخرج آخرون خارج الحدود الفرنسية، وانضم بعضهم إلى صفوف الثورة في الجزائر أو إلى وفد جبهة التحرير في الخارج، لذلك قرر الاتحاد الدعوة إلى الإضراب عن الدروس في الجامعات والثانويات في فرنسا والجزائر يوم 19 مايو 1956 وكان ذلك تصعيدا واضحا في الدفع الثوري إذ حرم الفرنسيون من حجة كانوا يستعملونها وهي أن الفئة المثقفة من الجزائريين لم تلتحق بالثورة وأن الثوار ما هم إلا (فلاقة) أو جماعة من المشردين وقطاع الطرق ثاروا بسبب الجوع والبطالة، لقد كان الإضراب في حد ذاته ضربة قوية للإعلام والدبلوماسية الفرنسية في العالم، كما كان نصرا كبيرا للجبهة في صراعها من أجل افتكاك المبادرة ليس من فرنسا وحسب ولكن من منظمات مناوئة أو موازية كالحركة الوطنية التي أسسها مصالي الحاج وجماعة مكافحي الحرية التي أسسها الشيوعيون، وهكذا انضم طلاب الجزائر في المعاهد الفرنسية إلى إخوانهم الثوار - المجاهدين، أو توزعوا على جامعات ومعاهد أوروبا لمواصلة الدراسة. منذ فبراير 1956 أعلنت البصائر أن وفدا من الطلاب المسلمين بالجامعة صرح بأنهم التقوا بأحد معاوني رئيس الحكومة (الفرنسية) وأنهم صارحوه بأنه لا يمكن وقف الحرب إلا بالاعتراف بالمبدئين الأساسيين وهما (وحدة الأمة الجزائرية وتكوين الدولة الجزائرية) (1). والغالب أن يكون هذا الوفد الطلابي مبعوثا - إذا ثبتت اتصالاته - من قادة الجبهة في الجزائر، فهل كان رمضان عبان أحد هؤلاء القادة؟ إننا لا نملك دليلا على ذلك، وعلى كل حال فإن الجبهة كانت تمثل مستقبل الجزائر في نظر الطلاب.

_ (1) البصائر، 355, 24 فبراير، 1956.

لخصت جريدة (المقاومة الجزائرية) الخطوات التي قطعها الاتحاد حتى وصل إلى قرار الإضراب عن الدروس، فتحت عنوان (طلبتنا في ميدان الكفاح) قالت إنه في السادس من فبراير 1956 ضرب الطلبة الفرنسيون رئيس وزرائهم بالطماطم (إشارة إلى الهجوم على جي موليه عند زيارته الأولى للجزائر) وحاولوا اغتيال الأستاذ أندري مندوز في رحاب جامعة الجزائر (لولا وفاء الطلبة الجزائريين للحرية والحوار الذين افتكوه منهم وأحاطوه بسور من صدورهم وسواعدهم)، ومن جهة أخرى فوت الطلبة الجزائريون الفرصة على الطلبة الفرنسيين عندما أعلنوا لائحة في 31 مارس صمموا فيها على عقد اجتماع لهم بفرنسا، وفي هذه اللائحة استنكر الطلبة الاستعمار ودعموا الكفاح الوطني، كما طالبوا باستغلال الجزائر وسيادتها وبتحرير المساجين والتفاوض مع جبهة التحرير، ونتيجة لذلك قامت السلطة الاستعمارية بإلقاء القبض على قادة الطلبة، ولكن طلبة العالم هرعوا لنجدتهم والمطالبة بإطلاق سراحهم. الخطوة الأخرى التي اتخذها الاتحاد (لوجيما) هي توزيعهم منشورا في الجزائر العاصمة (مايو 1956) تساءلوا فيه: لأي شيء تصلح هذه الشهادات التي تمنح لنا في الوقت الذي يكافح فيه شعبنا ببطولة؟) كان ذلك كافيا لقدح النار في الهشيم وإدانة الاستعمار وتعبئة الطلبة لأمر قادم، فقد شككوا في قيمة الشهادات التي يعملون من أجلها واعتبروها وسيلة لهدف مزيف، فهم مستهدفون للتمويه والتزوير، وأعلنوا أن هناك أولويات توجب عليهم تحمل المسؤولية، بل أعلنوا التمسك (بالإضراب العاجل عن الدروس والامتحانات لمدة غير محدودة) وطلبوا من زملائهم إخلاء مقاعد الدراسة في الجامعة والالتحاق بجيش التحرير وجبهة التحرير، ليكونوا جنودا وأطباء في صفوف الثورة، وأضافت جريدة المقاومة: لقد ناقش البعض حكمة هذا القرار، هل الجزائر في حاجة إلى طلابها وجنودها، كل في ميدانه، أو أن شعار الكل للمعركة) هو الذي له الأولوية.

وهنا نذكر أن النقاش قد احتد بين الطلبة في المشرق أيضا: هل هم معنيون بالإضراب أيضا؟ كان بعضهم قد نادى بوقف الدروس في المشرق تضامنا مع زملائهم وتمشيا مع الشعار المذكور (الكل للمعركة)، ولكن تعليمات الجبهة أوضحت أن الإضراب غير شامل، وأن من أراد التطوع فله ذلك ولكن وقف الدراسة في معاهد المشرق غير وارد (1). وقد أكدت جريدة المجاهد، من جهتها، بيان الطلبة في الدعوة إلى الإضراب والالتحاق بالجيش والجبهة، فقد تضمن العدد الأول منها النداء الذي وجهه الاتحاد (لوجيما) إلى الإضراب مبررا ذلك بأسماء عدد من الطلبة المعتقلين أو الشهداء ومنهم محمد الونيس الطالب - حسب المجاهد - بمعهد الدروس الإسلامية والذي مات مجاهدا، وزدور بلقاسم الذي سبق ذكره، والطبيب ابن زرجب، والأديب رضا حوحو، والتنكيل بالطبيب التجاني هدام بقسنطينة، والطبيبين با أحمد وطبال بتلمسان، والقبض على آخرين من أعضاء الاتحاد، واختطاف وذبح رفيقهم الطالب فرحات حجاج في ضاحية بن عكنون، وفي هذا المجال وتجديدا للتعبئة النفسية أشارت المجاهد إلى إضراب الطلبة يوم العشرين يناير 1956، وكررت العبارات المثيرة السابقة وهي أن الشهادات لن تفيد الطلبة بينما شعبهم يئن تحت براثن الاستعمار، فهم رجال الغد، وماذا سيفعلون بالشهادات إذا قضى الاستعمار على الشعب؟ إن هناك أمورا مستعجلة تنتظرهم وهي أن يكونوا مع المكافحين، وعليهم الآن القيام بالإضراب عن الدراسة والامتحانات لأجل غير مسمى، ودعت إلى هجر المقاعد في الجامعات والتوجه إلى الجبال والالتحاق بجيش التحرير قائلة: (أيها الطلبة والمثقفون الجزائريون) إن العالم ينظر إلينا والوطن ينادينا، فإلى حياة العز والبطولة والمجد)، تلك هي دعوة الاتحاد الصريحة إلى الإضراب والهدف منه ومبرراته (2).

_ (1) المقاومة الجزائرية، 3, 8 ديسبر 1956. (2) المجاهد 1، 1956، ص 19 - 20، وقد صدرت في شكل نشرة.

دام الإضراب بالنسبة للجامعيين حوالي سبعة عشر شهرا، وكان قراره قد اتخذ لأسباب سياسية ونفسية وعسكرية، كما لاحظنا، وقد حقق الآن أهدافه، وكانت له نتائج هامة منها الصدمة الاجتماعية والسياسية للطالب والأسرة الجزائرية عامة، ومنها انضمام عدد من الطلبة ذوي الكفاءات العلمية والسياسية والطبية إلى الثورة، والالتحاق بالدراسة في جامعات ومعاهد غير فرنسية مما أدى إلى تنوع الدراسات وتعدد الأفكار عند الطلبة والخروج من الاحتكار العلمي واللغوي الفرنسي، لقد كان على الجبهة (جبهة التحرير الوطني) أن تواجه مشكلة بضع مئات من الجزائريين خارج الوطن، وكذلك معالجة عودة الطلبة الجزائريين إلى الجامعات الفرنسية بعد حل الإضراب. لماذا أضرب الطلبة؟ وهل حققوا الهدف منه؟ لقد أثار قرار الإضراب جدالا متوترا بين المسؤولين الجزائريين، فمنهم من رآه خطوة إيجابية في الاتجاه الصحيح ومنهم من اعترض عليه ورآه خطوة في الاتجاه الخاطى وأن الخاسر فيه هو الجزائر وثورتها على المدى البعيد، تقول المجاهد إن الطلبة ليسوا ضد التعليم في الجامعات الفرنسية في حد ذاتها، وليسوا ضد العلم والمعرفة، لقد قام الطلبة المسؤولون على الإضراب بإطلاع الطلبة الفرنسيين على ما ارتكبه جيشهم في الجزائر من موبقات وأعمال وحشية تذكر بما فعله (الجستابو) الألماني مع الفرنسيين، كما أفهموهم العقيدة الوطنية والمقاومة من أجلها التي يقوم بها الشعب الجزائري، وهو ما يعرفه الفرنسيون أثناء مقاومتهم للنازية والاحتلال الألماني، كما عقد الطلبة الجزائريون خلال الإضراب ندوات ونظموا محاضرات للتعريف بالثورة، وجمعوا لها التبرعات في العلم الجزائري مما جعل الشرطة تعتقل بعضهم بدعوى أنهم رفعوا علم (الفلاقة). وفي هذه الأثناء ظهرت في فرنسا جماعات تندد بالمقارنة بين المقاومة الجزائرية والمقاومة الفرنسية، وتيقن الطلبة أنه لا مكان لهم في فرنسا وفي جامعاتها بالخصوص، وأن عليهم أن يضعوا أنفسهم تحت تصرف جبهة التحرير

وأن يقرروا الإضراب غير المحدود، ولا شك أن هذا تبرير واه لاستمرار الإضراب لأن بعض الطلبة استمروا في الدراسة، ولأن السلطات الفرنسية كان يهمها سياسا أن يرجع الطلبة للدراسة، ولكن التحاق العديد من الطلبة بالثورة مباشرة كان أمرا مرغربا فيه من قيادة الثورة نفسها كما قلنا، وكان من أهداف الإضراب زعزعة العلاقة بين الطالب وحالة الجمود التي كان فيها، فكان لابد من تسييسه وإحداث صدمة لديه يستيقظ على صوت الوطن والوطنية. دخل الطالب صفوف الثورة إما كجندي في الجبال وإما مسؤول سياسي وإما مدرس أو ممرض، وإما دبلوماسي يجوب بلدان العالم للتعريف بقضية بلاده، وهكذا أصبحت القضية معروفة بعد أن قام الطالب بدوره المذكور في الداخل والخارج، وأصبت القضية الجزائرية معروفة على مستوى عالمي، ومنها الكتابات الصحفية عنها في الجرائد الكبرى، وأصبح انتصار الجزائر في حربها على الاستعمار هو انتصار للملايين المضطهدة في العالم والطامحة إلى الحرية والعدالة والديمقراطية، فقد حقق الكفاح بالإضراب أهدافه في النهاية وحان وقت بناء الأساس للمستقبل على العلم والاختصاص ومن ثمة جاء القرار بحل الإضراب في 14 أكتوبر 1957 وعودة الطلبة الجامعيين للدراسة، أما طلبة الثانويات فقد سمح لهم باستئناف الدراسة قبل هذا التاريخ (1). شارك الطلبة في تدويل القضية الوطنية، وكان للاتحاد موقف واضح من الإيديولوجيات المتصارعة في العالم عندئذ، فقد كان كل منها يريد الاستحواذ على الثورة ونسبتها إليه، فكان شعار الاتحاد أن من هو معنا فهو صديقنا وأن الثورة في حاجة إلى مساندة الجميع، وكانت تعليمات الثورة عدم انضمام الطلبة إلى أي حزب أو تنظيم خارج تنظيم الثورة سواء كان التنظيم جزائريا أو أجنبيا.

_ (1) المجاهد 11، فاتح نوفمبر 1957، وكذلك المقاومة الجزائرية، 4، 24 ديسمبر، 1956، وتذكر المقاومة أن عددا من الطلبة قد استشهدوا من بينهم عمارة والونيس، وكلاهما من القادة.

تقرير عن طلبة المشرق العربي، 1959

كما كانت تمنع تبني إيديولوجية الشرق أو الغرب، لذلك كان موقف الاتحاد حياديا بين المنظمتين الطلابيتين الدوليتين اللتين كانتا تتنازعان الحركات الطلابية في العالم، والتمسك بالمبدأ القائم على التعاون مع كل المنظمات الطلابية الدولية والحركات الطلابية الوطنية لفائدة الثورة (1). استأنف الطلبة الدراسة في مختلف الجامعات الفرنسية، ولكنهم استثنوا جامعة الجزائر لموقفها المتصلب من الثورة حسب صحيفة (لاكسيون) التونسية (21 أكتوبر، 1957)، وانعقد المؤتمر الثالث للاتحاد سرا في باريس برئاسة مسعود آيت شعلال، خلال ديسمبر 1957، لكن السلطات الفرنسية قامت بحل الاتحاد في 27 يناير 1958، فلم يبق أمام الطلبة إلا التوجه نحو البلدان الأوروبية لمواصلة دراستهم، رغم بقاء فرع سري للاتحاد في باريس (2). تقرير عن طلبة المشرق العربي، 1959 حصد طلبة القاهرة الحظ الأوفر من اللوم والاتهام في التقرير الذي كتب عن رابطة الطلبة الجزائريين في المشرق العربي سنة 1959 على إثر توترات تعرضنا إليها سابقا، وإلى الآن لا يعرف من هو الذي حرر التقرير الطويل الذي يقع في إحدى عشر صفحة، لأنه غير موقع من أحد، فهل هو الكاتب العام للاتحاد بعد زيارته للقاهرة وفشله في جمع كلمة طلبة المشرق تحت راية الاتحاد؟ أو كتبه شخص آخر من أجهزة الحكومة المؤقتة؟ على كل حال فإن التقرير مؤرخ بشهر أغسطس 1959 أي بعد حوالي شهر من اتخاذ الرابطة القرار بحل نفسها والانضمام للاتحاد (انظر سابقا)، وهو مكتوب بالفرنسية ومرقون، ويتعرض بالتفصيل لحالة الطلبة في المشرق عموما وطلبة القاهرة خصوصا، ويختم بتوصيات محددة وقاسية تكاد تصل إلى الاتهام بالتخريب والخروج عن الجماعة في وقت كان يكفي فيه تهمة واحدة لكي يقاد صاحبها إلى مقصلة الثورة.

_ (1) عواطف عبد الرحمن، الصحافة العربية ... ص 122. (2) هلال، نشاط ... ص 140 وهنا وهناك.

جاء في هذا التقرير أن عدد طلبة القاهرة عندئذ بلغ مائة وعشرين (120) طالبا، وهم ينتمون إلى مختلف أنحاء الجزائر ويدرسون في كليات ومعاهد، وكان هؤلاء (سبق أن المصادر الفرنسية قدرتهم بمائة وخمسين دارسا في الأزهر)، وتشير المعلومات إلى أن كل الطلبة قبل الثورة كانوا يعيشون على مساعدات من عائلاتهم، ولكن منذ الثورة انقطعت بهم السبل ولم يعودوا يتلقون شيئا من بلادهم، فساء حالهم رغم أنهم أصبحوا يتلقون إعانات من الإدارة المصرية ومن مكتب جمعية العلماء بالقاهرة، وهي إعانات غير كافية، لذلك أصبح هؤلاء الطلبة هم الأكثر فقرا وبؤسا بين الطلاب العرب في القاهرة، مما عرضهم للمرض والفاقة، وقد جرى اجتماع في مكتب جمعية العلماء برئاسة أحمد توفيق المدني المكلف بالشؤون الثقافية في الوفد الخارجي لجبهة التحرير الوطني، فقررت منح الطلبة مساعدة تضمن الحد الأدنى للمعيشة وهي تتحدد حسب المستوى الدراسي للطالب، على أن تتوقف المساعدة حالما تصل الطالب مساعدة من أهله، أو دعي الطالب لخدمة الثورة، وقد أرسل المكتب العسكري منهم ثمانية عشر مجندا إلى الجزائر، وهناك آخرون كانوا يستعدون للسفر، هذه هي بداية محتوى التقرير (1). واتهم التقرير الموجه إلى وزيري الداخلية والثقافة في الحكومة المؤقتة الطلبة بالانفصال عن الجماعة (اتحاد الطلبة) قائلا: في الوقت الذي يجد الطلاب الجزائريون أنفسهم منتمين في مختلف البلدان إلى الاتحاد (لوجيما) نجد طلبة المشرق العربي ما يزالون خارجين عنه، والأكثر خطورة في نظر صاحب التقرير هو أنهم أنشأوا تنظيما موازيا أسموه (رابطة الطلبة الجزائريين في المشرق العربي)، ولماذا طلبة القاهرة بالذات؟ يذهب التقرير إلى أن هؤلاء كانوا على علم بتفصيل نشأة الاتحاد في فرنسا سنة 1955 وأن معظم الطلبة في المشرق كانوا متواجدين في القاهرة، وادعى أن الدعوة لحضور المؤتمر قد

_ (1) انظر الأرشيف الوطني علبة 3.

وجهت إليهم ولكن ظروفهم المادية والأمنية لم تسمح لهم بالسفر إلى باريس لحضور الاجتماع، فاكتفوا بإرسال رسالة مشاركة وانتماء قرئت (كذا) على الحاضرين مما جعلهم من المؤسسين للاتحاد، وهو ما ينفيه مسؤولو الرابطة ويقولون إنهم لم يتصلوا بأي دعوة ومن ثمة لم يرسلوا أية رسالة، ويعترف التقرير أن نفس الصعوبات (المادية والبوليسية) واجهت طلاب القاهرة أيضا سنتي 1956 و 1957 وعاقهم عن الحضور. يشكو التقرير من كون طلاب، القاهرة قد أسسوا سنة 1956 رابطة خاصة بهم، ثم تلاهم طلبة دمشق وبغداد والكويت فأسسوا أيضا تنظيمات محلية، وبينما تجاهلت رابطة القاهرة الاتحاد في دستورها فإن طلبة بغداد ودمشق اعتبروا أنفسهم في دستورهم فروعا للاتحاد، ورغم أن لجنة التنسيق والتنفيذ قد أنشأت مصالح للطلبة ضمن إدارة الشؤون الاجتماعية والثقافية، فإن ذلك قد هيأ الساعة التي ينظم فيها الطلاب في المشرق أنفسهم في فروع للاتحاد، ولا يتعدى الأمر إذن في نظره إعادة تسمية رابطة القاهرة أو غيرها باسم فرع (لوجيما) في ... ولا حاجة إلى شروط أو سوء فهم، ولهذا الغرض جاء رئيس الاتحاد (آيت شعلال) ونائبه والكاتب العام (عبد اللاوي) إلى القاهرة في أوقات مختلفة لإعطاء الموضوع الصفة الرسمية، غير أن هناك روحا انفصالية ظهرت بين طلبة المشرق منعت من تحقيق ذلك، فقد عقدوا اجتماعا (انفصاليا) في دمشق، سبتمبر 1958، (تاريخ تأسيس الرابطة الجامعة) حضره طلبة القاهرة، لتكوين رابطة مشتركة، وحضرت وفود من مختلف روابط الطلبة الجزائريين في البلدان العربية. وبعد رجوع وفد القاهرة من دمشق طلب منهم تقديم تقرير مكتوب عن الاجتماع يشمل المحضر واللوائح، ولكنهم لم يفعلوا واكتفوا بتقرير شفوي مفاده أنهم قرروا الانضمام إلى الاتحاد بعد تمكين فروعهم من تكوين فيدرالية داخل الاتحاد، فقيل لهم إن ذلك غير ممكن الآن لأنه غير موجود في دستور الاتحاد الذي لا يمكن تغييره إلا في المؤتمر، وإنه لم يبق أمامهم سوى تحويل

روابطهم إلى فروعهم للاتحاد، وكان آيت شعلال (رئيس الاتحاد,) قد جاء إلى القاهرة لمعالجة الوضع ولكنه لم يستطع فعل أي شيء لوجود الطلبة في فترة امتحان، فعينت اللجنة التنفيذية للاتحاد رئيسي فرعي رابطة بغداد والقاهرة عضوين مع عبد اللاوي غير أن الرئيسين المذكورين تساءلا عن حق اللجنة في التعيين، وقد رأى عبد اللاوي أن ذلك دعوة صريحة لعدم الاندماج في الاتحاد، وهكذا عاد هذا التقرير إلى نقطة الصفر، نقطة الاتهام وطلب الانتقام الجماعي من طلبة المشرق، فأوصى وبلهجة حادة وحاسمة بما يلي: أولا: وقف إرسال الطلبة إلى المشرق العربي، خصوصا الجامعات المصرية إلى أن يتحول الطلبة إلى المبادى الايديولوجية والتنظيمية التي تقود الثورة. ثانيا: تجميد أية علاقة مع الروابط الطلابية المذكورة من قبل الحكومة ومن الجبهة والتنظيمات المتصلة بها وقطع الصلة معها وتعويضها بلجان من داخل الروابط لتقوم اللجان بدل الروابط بتوزيع المساعدات الشهرية للمنح الآتية من الحكومة المؤقتة. ثالثا: قطع الثلاثين جنيها الشهرية عن رابطة القاهرة التي سلمت لها كإعانة من الحكومة المؤقتة. رابعا: تأجيل إنشاء فروع للاتحاد في المشرق العربي إلى وقت لاحق. خامسا: استثناء طلبة المشرق العربي من كل مشاركة على المستوى الدولي. سادسا: إدخال التنظيم السياسي من قبل الجبهة وسط طلبة المشرق. العربي بالاعتماد على (العناصر النظيفة) التي بقي منها الكثير بينهم. سابعا: اتخاذ عقوبات صارمة (مثالية) ضد العناصر التي لعبت دورا رئيسيا في الحركة الانفصالية.

المؤتمر الرابع للاتحاد

ومن سوء حظ صاحب التقرير أن توصياته بقيت حبرا على ورق وأن الوزارتين المعنيتين قد وضعتا التقرير على الرف لأنه فيما يبدو غير موضوعي ولأنه مفعم بروح الانتقام المجاني، فكيف تقوم الحكومة المؤقتة، وهي وسط المعمعة بمنع الطلبة في المشرق العربي من الدراسة ومن حق العيش بقطع العلاقة مع نخبة من أبناء الجزائر؟ فهل كانت جبهة التحرير تعمل في غابة منعزلة بعيدا عن الأنظار والأسماع؟ على كل حال فإن التقرير قد احتوى على تفاصيل عن نشأة الاتحاد وظروفه، ونشأة رابطة القاهرة وتنظيمات الطلبة في العراق وسوريا والكويت، ثم الرابطة الأم، وحق تمثيل الاتحاد في المؤتمرات الطلابية العربية والخطط المعلنة والمضمرة، وهو مقسم إلى فصول وعناوين وأرقام، وله خاتمة وتوصيات (1). المؤتمر الرابع للاتحاد للمؤتمر الرابع لاتحاد الطلبة المسلمين الجزائريين أهمية خاصة، فقد انعقد لأول مرة خارج أوروبا (فرنسا)، انعقد في بلاد عربية نالت استقلالها حديثا وجارة للجزائر هي تونس، وانعقد بعد تأسيس الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزايرية، وقد أصبح لها شأن في القضايا الدولية واعترفت بها دول عديدة على رأسها البلاد العربية، وكذلك بعد إعلان الرئيس الفرنسي استعداد بلاده لتطبيق مبدأ تقرير المصير للشعب الجزائري مما جعل فكرة استقلال الوطن على الأبواب وأصبح ذلك مسألة وقت فكانت لغة المؤتمر الرابع السائدة هي الإعداد للجزائر المستقلة، كما أن التوازن الدولي جعل الاتحاد ينجح في مخاطبة الاتحادات العالمية والوطنية من موقع الحياد والقوة والاستقلالية، وقد

_ (1) انظر الأرشيف الوطني، علبة 21 - 50، بدون تاريخ، ولكنه مكتوب بعد سبتمبر 1958، وعنوانه الكامل هو: تقرير إلى السيدين وزيري الداخلية والشؤون الثقافية عن أداء الطلبة الجزائريين في البلدان العربية.

فهم الجميع أن دخول الجزائر المسرح الدولي أصبح قاب قوسين أو أدنى. ومن جهة أخرى فإن الاتحاد قد استطاع أن يجمع الطلبة الجزائريين في فروع تابعة له بلغت عندئذ عشرين فرعا وهي الفروع التي حضرت جميعا من أوروبا وأمريكا والمشرق العربي والمغرب العربي، وهكذا فلأول مرة يجتمع الطلبة الجزائريون - مهما تعددت اختصاصاتهم واللغات التي يدرسون بها والبلدان التي يقيمون فيها - اجتمعوا على صعيد واحد يتداولون في مصير بلادهم ويعدون العدة للجهد المشترك في بناء وطنهم الموحد، ومن حسن حظي أنني كنت حاضرا هذا المؤتمر ممثلا - مع آخرين - لطلبة فرع القاهرة، فكانت المشاركة فيه صفحة جديدة في حياتي النضالية، ولا شك أن الطلبة الآخرين قد شعروا بمثل ما شعرت. على هذه الخلفية نريد أن نبرز أهمية المؤتمر الرابع للاتحاد، فقد انعقد على أرض عربية، بحضور كافة الفروع والوفود الأجنبية التي وجهت إليها الدعوة وعددها حوالي 120 منظمة طلابية وشبابية. أما القضايا التي طرحت على المؤتمر الرابع فهي قضايا تمس جوهر المستقبل الوطني، وقد ظهر قادة الاتحاد عندئذ وكأنهم قطاع كبير من الدولة الناشئة، وكانت القضايا المثارة هي: 1 - الثورة والتحرر الإفريقي، 2 - العلاقات مع الحركات الطلابية العالمية والوطنية، ما الموقف منها وكيفية الانخراط فيها، ومن ضمنها التضامن والتعاون والوحدة بين الحركات الطلابية، ومنها اتحاد الطلبة العرب واتحادات طلاب المغرب العربي، 3 - الوضع الثقافي والنقابي للاتحاد كالدراسة في الجزائر والخارج، والمنح، والتوجيه، وما إلى ذلك. والمبادئ العامة التي ركز عليها المؤتمر هي: 1 - مكافحة الاستعمار. 2 - استقلال الاتحاد بالنسبة للمنظمات الطلابية العالمية المنتمية إلى المعسكر الشرقي أو الغربي، ولاسيما الاتحاد العالمي للطلاب والندوة العالمية للطلاب.

والمبدأ هو مد يد الصداقة للجميع، والتعاون مع الجميع (1). ولأهمية الحدث خصصت المجاهد له عددا ضمنته الوقائع: من كلمة رئيس الحكومة المؤقتة عندئذ السيد فرحات عباس إلى كلمة عبد الحميد مهري وزير الشؤون الثقافية، إلى كلمة رئيس الاتحاد نفسه، ثم كلمات الوفود الطلابية العربية والأجنبية، وكان السيد عبد الرحمن شريط رئيس فرع تونس هو رئيس المؤتمر، وقد وصفت المجاهد جلسات المؤتمر يوما بيوم على مدار سبعة أيام (الثلاثاء 26 يوليو إلى الاثنين أول أغسطس، 1960)، وقالت إن عدد الوفود الأجنبية التي حضرت بلغ 29 وفدا، وأن فروع الاتحاد بلغت 20 فرعا، جاء ممثلوها من مختلف أنحاء العالم، وقد نشرت الجريدة صورا لبعض الحاضرين والقادة والجلسات، ومما ذكرته أيضا أن الاتحاد قرر الرجوع إلى الدراسة وفك الإضراب (بالنسبة لجامعة الجزائر؟) بالاتفاق مع قادة الثورة نظرا لحاجة البلاد إلى إطارات، وربما مواجهة البلاد عجزا فظيعا في الإطارات لأن الطلبة المتخرجين هم الذين سيعوضون الموظفين الأوروبيين في جزائر الغد. وهذه هي عناوين الجريدة المستقاة من محاضر المؤتمر ومن كلمات الوفود وشعارات الاجتماع: أهمية المؤتمر الرابع، كيف عاش المؤتمر أسبوعه الخالد، التقرير الأدبي، ومقولة رئيس الحكومة: إن مشاركتكم في الكفاح التحريري تجعل منكم طليعة الثورة، ومقولة وزير الشؤون الثقافية: الثورة ربطت المثقف الجزائري بروح الأمة وضمته إلى أحضان الشعب، وأهم مقررات المؤتمر وتوصياته، والمؤتمر يثير إعجاب طلاب العالم ... (2). ولاحظت المجاهد أن الطلبة بقوا محافظين على شخصيتهم القومية والروح الوطنية والعربية، كما برهنوا على ذلك في المؤتمر، رغم أنهم يعيشون

_ (1) المجاهد، 73، 25 يوليو، 1960. (2) المجاهد 74، 8 أغسطس، 1960، وقد صدرت نشرة خاصة عن المؤتمر بالفرنسية تضمنت الكلمات والتقارير وبعض الصور للحاضرين.

في بلدان وبيئات مختلفة وداخل عادات وتقاليد مغايرة لعاداتهم وتقاليدهم، وكان المؤتمر قد انتخب المجلس الإداري الذي يتألف من 21 عضوا، منهم سبعة أعضاء يكونون اللجنة التنفيذية، ثم اجتمع المجلس لانتخاب اللجنة وهي التي أعادت انتخاب مسعود آيت شعلال الذي عقد مؤتمرا صحفيا، ولكن مقررات المؤتمر لم تنشر كلها، فهناك ما كان يمكن نشره وما كان يعتبر قرارات سرية تتعلق بمسائل داخلية حساسة لا يجوز نشرها عندئذ، أما اللوائح التي سمح بنشرها فهي المتعلقة بإفريقيا، والسياسة العامة بالجزائر، والمتعلقة بالوطن العربي، ولائحة (الطلبة الفرنسيين العاملين في صفوف جيش التحرير الوطني)، ثم لائحة شكر الاتحاد العالمي للطلبة، ولائحة شكر لحكومتي تونس والمغرب، ولائحة حول جامعة (ودادية؟) شمال إفريقية، ولائحة شكر البلدان العربية، وأخيرا لائحة حول المغرب العربي، ومن الوفود التي حضرت وفود الصين والاتحاد السوفياتي وفلسطين. بالنسبة للائحة الخاصة بالحركة الطلابية العربية نشير إلى أنها قد نوهت بالشخصية العربية للجزائر وركزت على الكفاح المشترك وأهمية الثقافة العربية، ومما يلاحظ أن الدول الإسلامية غير مذكورة ولم تأخذ أي حيز في المؤتمر، كما أن الحديث عن الإسلام وحضارته لم يرد لهم ذكر في اللوائح والخطب، فالاتجاه العلماني كان واضحا في المؤتمر، وكأن الأمر يتعلق بمؤتمر لا يتحدث عن الثورة الجزائرية التي اتخذت رموزا إسلامية ودينية واضحة في مسيرتها وتعبئتها للشعب، فإطار المبادى الإسلامية المعلن في بيان أول نوفمبر ومصطلحات: المجاهد، والشهيد، والمسبل، والمحافظة على القيم الإسلامية في القضاء والأحكام، والممارسات الدينية كالصلاة، والتكبير عند الهجوم أو عند الإعدام ... كلها غابت من قاموس المؤتمر الرابع، أما الافتتاح أو الاختتام بالقرآن فلا مجال للحديث عنه. لقد جاء في اللائحة الموجهة للحركة الطلابية العربية: إن الاستعمار الفرنسي حاول القضاء على الشخصية العربية للجزائر بمحاربة الثقافة العربية

وتشويه التاريخ القومي للجزائر) وقالت إن الكفاح والثورة من أجل (عودة الجزائر إلى حضنها الطبيعي الذي تربطها به الثقافة والتاريخ والمصدر المشترك وهو المجموعة العربية)، ولما كان النهوض بالثقافة العربية هو مسؤولية كل الأقطار العربية، ولما كان الطلبة هم الطليعة التي تتحمل (عبء النهوض بالثقافة العربية في المستقبل) وحيث أن (توحيد الحركات الطلابية العربية يخدم قضية الثقافة العربية) فإن المؤتمر الرابع: - يؤكد على وجوب العمل على الاتصال بجميع الاتحادات الطلابية العربية لعقد مؤتمر عام خلال هذه السنة (1960) من أجل تحقيق وحدة الطلاب العرب. - مناصرة القضايا العربية ولاسيما الطلابية منها. - يحي الاتحادات الطلابية العربية الجديدة، (يعني طلاب فلسطين وطلاب الأردن بالخصوص) (1). إن هذه اللائحة لا تدع المجال مفتوحا أمام الرؤية الحقيقية لاتحاد الطلبة المسلمين الجزائريين، فقد اختفت منه عبارة (المسلمين) التي أثارت زوبعة ايديولوجية عند إنشاء الاتحاد، لقد أصبح اتحاد طليعة ثورية يريد تغيير المسار إلى ما هو أفضل من أجل خدمة الثقافة والأمة العربية، ولكن الاتحادات العربية كانت تنوء بأحمال من التبعية وليست أبدا حرة في اتخاذ قراراتها وعلاقاتها، فقد كانت الحكومات والأحزاب المحلية هي التي تسيطر على الاتحادات وتوجهها وفق رغباتها السياسية الضيقة. ومن جهة أخرى بعث الرئيس الجديد للاتحاد مذكرة إلى اتحادات الطلاب في الأقطار التابعة لمنظمة الحلف الأطلسي يدعوهم فيها للقيام بعمل ما لحمل حكوماتهم على التخلي عن دعم (جريمة الحرب) الاستعمارية التي يشاركون

_ (1) المجاهد، 75، 22 أغسطس، 1960.

المنح والاتحاد والجبهة

فرنسا فيها ضد الشعب الجزائري، ولم تكتف المجاهد بهذا الخبر بل وجهت نص المذكرة (إلى الطلاب العرب) ودعتهم إلى أن يقوموا من جانبهم بما قام به اتحاد طلبة الجزائر من مراسلة اتحادات الطلاب في البلدان المنضوية تحت لواء الحلف الأطلسي (1). المنح والاتحاد والجبهة وفي نطاق هذا الاستعداد كانت الجهة ترسل فعلا بعثات طلابية دراسية وعسكرية إلى مختلف البلدان والجامعات، وليس بالضرورة لتلقي المبادى الشيوعية أو الماركسية، صحيح أن بعض البعثات توجهت في معظمها (عدا البلاد العربية) إلى ما كان يعرف بالدول الاشتراكية، وكانت هذه الدول تقوم (بأدلجة) الطلبة الجزائريين (وبعضهم انسحب من هذه البلدان هروبا من هذه الوجبات الإيديولوجية الدسمة)، وقد توجه آخرون إلى دول غربية، ومنها أمريكا، زعيمة العالم الحر عندئذ والتي لا مجال فيها للشيوعية أو الماركسية، ولكن التخويف من هذا البعبع كان قائما في الإعلام الغربي ضد الثورة الجزائرية، من الشارع إلى هيئة الأمم المتحدة والحلف الأطلسي، وهي دعاية مكشوفة سرعان ما سقط عنها القناع وتبين للناس جميعا أن الثورة كانت للتحرر من الاستعمار وليس لإقامة صرح لماركس أو لينين أو لليبرالية المتوحشة. كانت الجبهة ثم الحكومة المؤقتة تتلقى المنح وهي تعطيها للطلبة ليوزعوها على المستحقين، وأحيانا كانت تقع بين الطرفين مجادلة حول من يستحقها من الطلبة، وكانت هناك خشية من أن تتحول المنح إلى ابتزاز من قبل بعض الدول والمنظمات ويؤدي ذلك إلى فشل مهمة الطلبة العلمية وإلى استعمالهم لأغراض أخرى لا ترضى عنها الثورة، كما أن اتحاد الطلبة (لوجيما)، كان يحابي أحيانا أعضاءه المقربين أو أصحاب نفوذ لغوي أو ثقافي معين ضد المصلحة العامة، لذلك حاولت المخابرات الجزائرية والوزارة المعنية السيطرة

_ (1) المجاهد، 10 أكتوبر، 1960.

على الاتحاد ووضعه تحت مراقبتها ابتداء ربما من سنة 1959. اشتكى السيد شريف ساحلي من سوء تصرف مسؤولي الاتحاد (لوجيما) في تعاملهم مع السويد والبلدان الاسكندنافية عموما، وموقفهم من عادات وتقاليد البلاد ولغتها، وذكر آيت شعلال (رئيس الاتحاد) بالاسم، وكونه طلب منه الاتصال بممثل الأمم المتمحدة الذي وعده بمنح، وقبل أن يتلقى الجواب كتب شعلال رسالة تدل على عدم صبره، واستغرب كون المسألة لا تسير على ما يرام، وقال الساحلي إن الاتحاد يعتقد أن لديه (لدى الساحلي) كيسا من المنح لا ينتظر إلا أن يوضع تحت تصرفه، وقد اقترح الساحلي على ممثلي الاتحاد الاتصال بالاتحاد الطلابي السويدي في قضايا المنح (1). كما أن السيد محمد يعلى ممثل الجبهة في برلين وجد الألمان هناك غير مرتاحين لسلوك الطلبة (لوجيما)، ومع ذلك فإن المنح لم تنقطع عنهم، وقد طلب محمد يعلى من الخارجية الجزائرية التدخل عن طريق البعثة الألمانية في القاهرة، وقامت السلطات الألمانية بمعاقبة الطلبة لضبطهم وذلك في شهر سبتمبر 1959، ومن رأي السلطات الألمانية أن (لوجيما) ليس لها الحق في دعوة الطلبة ولا في الاتصال بأية حكومة (2). يبدو أن الحساسية بين الخارجية وبين اتحاد الطلبة (لوجيما) ظلت قائمة وتسببت في توترات عديدة، ومن الأمثلة الكثيرة على ذلك، بالإضافة إلى ما ذكرناه، الرسالة التي بعث بها السيد بوقادوم كاتب عام الخارجية الجزائرية إلى وزير الثقافة عن الوفد الطلابي الذي زار أمريكا الجنوبية وقابل المسؤولين هناك

_ (1) الأرشيف الوطني، علبة 21 - 50، التقرير من صفحتين، تاريخه استكهولم، مايو، 1959، والتقرير موجه إلى الخارجية الجزائرية من الشريف ساحلي ممثل الحكومة لدى الدول الإسكندينافية. (2) رسالة من الخارجية الجزائرية، القاهرة، 9 يناير 1960 إلى الوزير المكلف بالشؤون الثقافية بطرابلس، الأرشيف الوطني، العلبة 21 - 50، (ديسمبر 1959 - ديسمبر 1960) ورقم المراسلة 454 / CAB .

(خارج النطاق الجامعي والثقافي)، وصرح هذا الوفد الطلابي تصريحات سياسية خارجة عن مسؤوليته بل هي من صميم عمل الوزارة، وهناك اثنان من الاتحاد معنيان بهذه الزيارة، ومن البلدان المزارة كوبا وفنزويلا ... تقول الخارجية للثقافة إنها لا تمانع في قيام الاتحاد بالنشاط السياسي، ولكن بالتنسيق والتعاون مع الخارجية، والغريب في الأمر أن الخارجية اشتكت من أنها لم تعلم عن نشاط الاتحاد (لوجيما) إلا من خلال البعثات الدبلوماسية الأجنبية مما سبب لها حرجا، ونضيف هنا ملاحظة وهي أن ممثل الجزائر في نيويورك قدم لوفد الاتحاد أقصى المساعدات الممكنة أثناء زيارة الوفد (غير المتوقعة) ورحب بهما (عضوي الوفد) أجمل ترحيب، لذلك طلبت الخارجية من الثقافة وقف هذا الموضوع الذي يثير الأسف، واللجوء إلى التنسيق مع الخارجية والحصول على تعاون أفضل من ممثلي الاتحاد (1). كان الاتحاد يشارك الاتحادات الطلابية العالمية نشاطها في أوروبا وأمريكا، وكانت القضية الجزائرية والدعوة إليها والدفاع عنها والحصول على منح للطلبة الجزائريين وتكوين فروعهم هي في الظاهر، المجالات التي ينشط فيها الاتحاد أو ممثلوه، وكانت هذه الأنشطة تتعارض أو تتقاطع أحيانا مع أنشطة وزارة الخارجية، وقبلها كانت وفود جبهة التحرير التي بقيت هي الأساس بالنسبة للبلدان التي لم تعترف بالحكومة واعترفت بالجبهة، من ذلك حضور وفد الاتحاد (لوجيما) لندوة طلابية عالمية (وهي الندوة التي نظمها اتحاد الطلبة العالمي (غربي أوروبا وأمريكا)، وقد انعقدت الندوة في لندن في 17 و 18 أبريل 1958، وهي ندوة فوق العادة من أجل مساندة اتحاد الطلبة الجزائريين والوقوف ضد قرار حله من قبل السلطات الفرنسية. وقد أصدرت الندوة لائحتين:

_ (1) بوقادم، 27 يونيو، 1959، والتقرير من صفحتين، الأرشيف الوطني، العلبة 21 - 50 رقم، 193 / CAB.

الأولى: جاء فيها (1) (أن تعليم الشعب الجزائري قد تعطل مما جعل المرء يعتقد أن هناك تمييزا عنصريا تمارسه السلطات الفرنسية، (2) أن اللغة العربية، وهي اللغة الوطنية للشعب الجزائري تعتبرها فرنسا رسميا لغة أجنبية لا تدرس في المدارس العمومية. أما اللائحة الثانية فقد نصت على (1) أن حالة الطلبة الجزائريين قد ازدادت سوءا بعد المؤتمر العالمي السابع للطلبة (2) أن طلبة (لوجيما) قد تعرضوا للقمع والحرمان من أبسط الحريات والحقوق، ويدل على ذلك توقيف محمد خميستي الكاتب العام للاتحاد، وكذلك أحكام الإعدام الصادرة ضد طالب عبد الرحمن وجميلة بوحيرد وجميلة بوعزة. لذلك استنكرت الندوة الخارقة للعادة قرار حل الاتحاد واعتبرته غير شرعي مع إبداء عطفها على طلبة الجزائر والتضامن معهم، وأكدت على سوء أحوال طلبة الجزائر وطلبت من لجنة حقوق الإنسان ومجلس الأمن الانتباه للقضية، كما أن الندوة طلبت من الاتحادات الوطنية تخصيص منح مالية لمساعدة الطلبة الجزائريين على دراستهم وتأسيس صندوق لإسعاف الطلبة الجزائريين الذين لجأوا إلى تونس والمغرب، وقد تعهدت لجنة التنسيق بين الاتحادات الغربية بنشر كتاب أبيض عن المشروع وإبلاغ السلطات الفرنسية بالقرارات ... (1). وفي السنة الموالية توجه وفد من اتحاد الطلبة (لوجيما) إلى أمريكا الشمالية ثم الجنوبية لحضور أنشطة الاتحادات الأخرى والدعاية للقضية الجزائرية، وجاء في رسالة من وزارة الثقافة إلى وزارة الخارجية أن الوفد الشبابي الجزائري كان يتألف من ثلاثة هم: بوديسة الصافي ممثلا لاتحاد العمال ومسعود آيت شعلال رئيس اتحاد الطلبة، ومحفوظ عوفي رئيس فرع لوزان لاتحاد الطلبة، وقد توجه الوفد - بناء على الرسالة - إلى الولايات المتحدة حيث

_ (1) المجاهد، 23، 7 مايو 1958.

ألف وفدا واحدا مع وفد المغرب ووفد تونس، على أن تدوم الزيارة من 15 أكتوبر إلى 5 ديسمبر 1959، وكانت الدعوة قد وجهتها اللجنة الأمريكية الوطنية والمجلس العالمي للشباب، أما الهدف من المشاركة فهو دراسة وضع اتحاد الطلبة (لوجيما) مع الشباب الأمريكي وربط العلاقة معه، وبناء على الرسالة فإن آيت شعلال كان سيتوجه أولا إلى كندا لتمثيل الاتحاد في مؤتمر اتحاد الطلبة الكنديين الذي دعاه للحضور. وكانت رسالة وزارة الثقافة موقعة من أحمد توفيق المدني وهي باللغة الفرنسية، ومما جاء فيها أيضا أن الخارجية ستجد ضمن الرسالة التعليمات المعطاة إلى السيد آيت شعلال حول جولته (غير أن نص هذه التعليمات مفقود من الأرشيف) (1). لقد أثمرت جهود اتحاد الطلبة مع الروابط، والاتحادات العالمية والوطنية فحصل (لوجيما) على منح دراسية في كل من أمريكا وكندا وغيرهما، فنحن نجد تقريرا من خمس صفحات وضعه واضعه (من الاتحاد نفسه؟) بعد جولة في كندا وأمريكا، ويشير التقرير إلى خطة التوجيهات الصادرة في نوفمبر 1958، ومنها أن السيد محمد سحنون هو المندوب الطلابي عندئذ، وأن هناك صعوبات تتعلق بتوفير شروط القبول في الجامعات بكل من أمريكا وكندا، ومنها استكمال الأوراق، ومكان الميلاد، وتحويل الملفات من الجامعة الأصلية (إذا رفضت الجامعة الأصلية تحويل الملف؟)، وهل تكفي شهادة مدرسية؟ ثم مسألة التذاكر والتكفل بالطلبة اللاجئين ومسألة منح الملابس والكتب وإحضار الفاتورات، وقد طلب صاحب التقرير - فيما يخص أمريكا - ضرورة مراجعة التعليمات الخاصة، ومحاولة التوصل إلى مشروع كامل، ودراسة العلاقة مع مؤسسة (فورد)، أما فيما يتعلق بالمنح الأوروبية فاقترح توسيعها لتشمل أوروبا الغربية

_ (1) الأرشيف الوطني، علبة 21 - 50، تاريخ الرسالة 11 أكتوبر 1959، لكن ليس لها مكان.

بما فيها البلاد الاسكندنافية، بالإضافة إلى المشكل الصحي والتعويضات، وهو تقرير له أهمية خاصة (1). يبدو أن الولايات المتحدة بدأت بإعطاء منح للطلبة الجزائريين بطريق غير مباشر منذ 1958، ونعني بذلك أن المنح كانت تسلمها مؤسسة (فورد) أو مؤسسة (روكفلر)، أو اتحاد الطلبة الأمريكي قبل أن تقدمها الحكومة الأمريكية نفسها، ففي برقية أرسلها السيد عبد القادر شندرلي (ممثل جبهة التحرير في نيويورك) إلى السيد بوقادوم (أمين عام الخارجية في القاهرة) أن مؤسسة روكفلر قد عرضت منحتين لجزائريين يتعلمان الإنجليزية ومؤهلين لمواصلة التعليم العالي على غرار ما فعلت مؤسسة فورد، وقد قام بوقادوم بتوجيه البرقية إلى وزير الثقافة بالقاهرة، في 17 سبتمبر 1959 وعليها عبارة (مستعجل) لأن مقابلة المترشحين ستكون إما في مدريد وإما في الرباط، ويبدو أن مؤسسة فورد كانت هي السباقة إلى تقديم المنح الدراسية للجزائريين (2). وقبل هذا أرسل مندوب الجزائر في نيويورك (شندرلي) إلى الخارجية بالقاهرة أنه بالتعاون مع جمال يعلى ممثل اتحاد الطلبة (لوجيما) في أمريكا استطاعا الحصول على منحتين جديدتين (كذا) من الجمعية الوطنية لطلبة أمريكا (USNSA) تحت غطاء مشروع يسمى (قادة الطلبة الأجانب)، وقد حصل على المنحتين المذكورتين كل من عبروس عبد النور وسعيد آيت شعلال (أخو مسعود)، وقد تقدم الطالبان المذكوران إلى السيد جمال يعلى مرسولين من الاتحاد (لوجيما)، وذكر شندرلي الخارجية بأن هناك طالبين جزائريين آخرين يدرسان في أمريكا هما: نور الدين جودي الذي كان يدرس الأدب وحسن إدريس الذي كان يقوم بدورة طبية متخصصة في الجزاحة (3).

_ (1) الأرشيف الوطني، العلبة 21 - 50، بدون تاريخ. (2) الأرشيف الوطني، علبة، 21 - 50. (3) الأرشيف الوطني، علبة 3، الورقة بدون توقيع وفي أعلاها (مكتب نيويورك)، أما تاريخها فهو 21 يوليو، 1958.

ولكن قائمة أسماء فرع أمريكا لاتحاد الطلبة (سنة 1958 - 1959) تثبت وجود عشرة طلاب كانوا أعضاء في الفرع برئاسة محمد سحنون، فيما يبدو، لوجوده على رأس الأعضاء العشرة، وليس من بينهم جودي ولا إدريس المذكوران سابقا. والملاحظ أن كل فروع الاتحاد وعددها 18، لم يذكر معها إلا رئيسها ما عدا فرع أمريكا، فالرئيس والأعضاء مذكورون وهم: محمد سحنون، عبروس عبد النور، وسعيد آيت شعلال، ولد رويس بشير، ابن عمار محمد، أركان محمد، فيضي الشريف، بنو عمر رشيد، براح غلام، بستاني رشيد (1). وبعد أن كانت كندا من أواخر المانحين للطلبة الجزائريين دخلت هي أيضا الميدان وأعلن مسؤول اتحاد طلابها أن الجامعات الكندية ستستقبل الشباب الجزائري للدراسة، بل أعلن أن الاتحاد سيفتتح اكتتابا خلال يناير 1960 لفائدة الطلبة الجزائريين الذين استأنفوا دراستهم في الجامعات الأجنبية (ومنها كندا؟). ومن جهة أخرى صرح مسعود آيت شعلال الذي كان قد زار كندا (أنظر سابقا) باعتباره رئيس اتحاد الطلبة (لوجيما) أن عدد الطلبة الجزائريين الذين يقيمون في مختلف الدول الأجنبية ينيف على خمسة آلاف طالب (وهو عدد ضخم لا نجد من تحدث عنه فيما مضى) من بينهم خمسمائة في الجامعات الأوروبية، وأضاف شعلال أنه من الضروري تكاثر عدد الطلبة الجزائريين في الجامعات الأجنبية واستعدادهم لتولي المسؤوليات بعد استقلال الجزائر التي ستكون في حاجة إلى كثير من المدرسين والأطباء والاختصاصين في جميع المرافق (2). وما دمنا نتكلم عن المنح فقد وجدنا في وثائق الحكومة المؤقتة أن بولندا

_ (1) أنظر الأرشيف الوطني علبة 21 - 50. (2) المجاهد 59، 11 يناير 1960.

دور الاتحاد في الخارج

قد رصدت عشر منح للطلبة الجزائريين بناء على رسالة من الخارجية الجزائرية كتبها السيد بوقادوم إلى وزير الثقافة، بالقاهرة في 26 يناير 1959 (1). في رسالة بعث بها من القاهرة عبد السلام بلعيد عن وزارة الثقافة إلى الخارجية بتاريخ 14 يناير 1960، أخبار عن وضع الطلبة في يوغسلافيا، والممنوحين الجدد، وعن بعثة السيد يعلى إلى يوغسلافيا وتأخر وصول المنح، وتدخل يعلي بصفته ممثل الخارجية لدى اللجنة الثقافية اليوغسلافية، وعن نقل ملفات الطلبة المعنيين (وعددهم عشرة) من القاهرة إلى يوغسلافيا، وفي سوريا منحت الجبهة مكتبها 500 ليرة لكل طالب لإنشاء مكتبة لمقررات الطلبة في الجامعة، وعددهم 18 طالبا، وقد كان للجبهة مكتبة خاصة بها في القاهرة (2). دور الاتحاد في الخارج قام الاتحاد على المستوى الداخلي والخارجي بدور فعال، وإذا كنا قد ركزنا حتى الآن على دوره الداخلي وصراعه مع السلطات الفرنسية في فرنسا والجزائر، فلنتحدث قليلا عن دوره الخارجي أيضا، إن مؤتمر باندونج قد جعل من يوم 21 فبراير من كل عام يوم الكفاح الطلابي، فكان الاتحاد يشارك في هذه الذكرى بالمظاهرات والاحتجاجات والاجتماعات في الجامعات، وخاصة في باريس، وقد قابلت الحكومة الفرنسية هذا النشاط بالقمع متهمة أعضاء الاتحاد بأنهم يعملون على إحياء منظمة منحلة، وأنهم يشتغلون بالسياسة والنشاط

_ (1) انظر الأرشيف الوطني، 21، 1، 1 علبة 21 - 50، نشير هنا إلى طلب السيد الهاشمي الطود المناضل المغربي، منحة له ولزوجته في أمريكا اللاتينية حيث يمكنه أن يخدم القضية الجزائرية، عبر عن هذا الرأي السيد بوقادوم في رسالة بتاريخ 9 سبتمبر، 1959 إلى وزير الثقافة، من القاهرة، 399 / CAB، العلبة 21 - 50، الملف 21، 1، 1 والملاحظ أن هناك حديثا في هذا المصدر عن السيد الطود وأمثاله ممن يشك في أنهم يمارسون الجوسسة على الجبهة، ولم نتتبع المسألة، فلم نعرف هل حصل السيد الطود فعلا على المنحة. (2) انظر الأرشيف الوطني 21 - 50.

مذكرة الاتحاد إلى هيئة الأمم

الهدام، وواجهتهم بالاعتقال والتعذيب، وهناك قائمة بأسماء الطلبة الذين اعتقلوا في فرنسا والجزائر بين ديسمبر 1958 ويناير 1959 مع ذكر الجامعات التي ينتمون إليها، وهم حوالي 25 طالبا وطالبة، وكلهم من الجامعات الفرنسية، أما جامعة الجزائر فغير مذكورة في هذه السنة (1). وقد نجح اتحاد الطلبة في توصيل صوت الطالب وصوت الثورة إلى المحافل الدولية، وذلك بالوقوف على الحياد بين المنظمتين الدوليتين الكبيرتين، كما سبق، ظهر ذلك في مؤتمر البيرو، فبراير 1959، بفضل التعاون مع اتحاداث المغرب العربي بحيث اتبعت الاتحادات الثلاثة خطة الحياد بين (المنظمة العالمية الغربية) و (المنظمة العالمية الشيوعية)، وكان ذلك انتصارا في نظر جريدة المجاهد أحرزه طلبة المغرب العربي، فقد أصدر المؤتمرون لائحة (جريئة) تخص القضية الجزائرية رغم انتماء المؤتمرين إلى الاتحادات الغربية (بريطانيا، أمريكا، أستراليا، هولندا ...)، وإليك بنود هذه اللائحة: وصف سوء أحوال الطلبة الجزائريين باعتبارهم مشردين ولاجئين، وسوء حالة التعليم الابتدائي والعالي في الجزائر، وأضافت اللائحة: لقد أصبح من المتعذر مواصلة الدراسة على الطلبة في الجامعات الفرنسية نظرا للقمع الذي يتعرضون له، مع التنديد بحل الاتحاد، وقد استنكر المؤتمر سياسة (الإدماج) لوجود ثقافة وطنية متطابقة مع تراث الجزائر وتقاليدها (2). مذكرة الاتحاد إلى هيئة الأمم وتعتبر مذكرة اتحاد الطلبة (لوجيما) إلى هيئة الأمم المتحدة بمناسبة عرض قضية الجزائر، حول اضطهاد الثقافة في الجزائر إدانة قوية للاستعمار. فهي تروي ما يلي:

_ (1) المجاهد، 37، 25 فبراير، 1959. (2) المجاهد، 38، 17 مارس 1959.

التعليم الابتدائي

- أن الاستعمار عمل على نشر مبادى ثقافية مفروضة وإدخال قيم أجنبية على الشعب الجزائري بعد تجريده من حضارته الأساسية، والملاحظ أن المذكرة لا تذكر ما هذه الحضارة الأساسية التي جردت فرنسا منها الجزائر. - صارت لغة الجزائر الوطنية (لاحظ أن المذكرة لم تسمها أيضا) التي هي المعبر الوحيد للجزائري عن فكرته والتي هي الوعاء لحضارته، لغة أجنبية، وأصبح تعليمها محصورا في نطاق ضيق جدا، وهو تصرف يرمي إلى محو الشخصية الجزائرية. - أن الجزائر جزء من المغرب (يعني المغرب العربي) وبذلك نمت في مهد الحضارة الإسلامية واحتضنت جانبا من أزهى جوانب هذه الحضارة. - أن فرنسا عند احتلالها للجزائر لم تجد شعبا أميا لا ماضي له، بل إنها اصطدمت بشعب له حضارته العريقة، وله ماض تاريخي وقيم وطنية. - أسفرت حروب الاحتلال على هدم المدارس والجامعات وخلو المراكز الثقافية من رجال العلم والأدب، وقد اغتصبت الحكومة الفرنسية الأوقاف التي كانت في خدمة الثقافة والعبادة. - كان التعليم الفرنسي للجزائريين متطابقا مع التعليم في فرنسا، ليس له خصوصية بالجزائر لأنه كان يهدف إلى إدماج الجزائريين، ثم إنه كان وقفا على الفرنسيين، أما الجزائريون الذين استفادوا منه فهم قلة، وإليكم إحصاءات رسمية صادرة سنة 1953. التعليم الابتدائي: - جميع أبناء السكان الأوروبيين متمدرسون وعددهم 135000. - أطفال المسلمين الذين في سن التعليم عددهم 196900، ولكن عدد الذين يزاولون التعليم منهم لا يتجاوز 26600، وبذلك تكون نسبة الباقين في حالة أمية 5، 86%.

التعليم الثانوي

التعليم الثانوي: - للأوروبيين 24000 طالب ثانوي، وللمسلمين 4156 طالب ثانوي فقط. التعليم العالي: - للأوروبيين في جامعة الجزائر: 5132 طالبا، وللمسلمين في نفس الجامعة: 507 طلاب فقط. فنسبة الأمية في الجزائر 80%. التعليم العربي: أما التعليم العربي فيقوم على جهود خاصة سيما منذ 1930، رغم اضطهاد المعلمين وإغلاق المدارس ... (المقصود التعليم العربي الحر الذي تشرف عليه جمعية العلماء) (1).

_ (1) المصدر: جريدة المقاومة الجزائرية 9، 18 مارس، 1957، ولكن نسبة الأمية في الشعب كله أعلى مما ذكر هنا.

الفصل السادس المسرح والموسيقى والغناء

الفصل السادس المسرح والموسيقى والغناء وصلنا في كتابنا تاريخ الجزائر الثقافي فيما يتعلق بالمسرح والفنون إلى مشارف عهد الثورة، ولكننا لم ندرسه، وها نحن اليوم نريد مواصلة المسيرة بدراسة ذلك العهد وتتبع تطورات ما حدث خلال الثورة فنعثر على إنتاج مهم، سيما بعد أن دعمت الثورة نفسها هذا الإنتاج بإنشاء الفرقة المسرحية وصعود ممثلين ارتبطوا بالفكر الثوري وظهور مسرحيات جديدة تتبنى قضية الجزائر على المستوى الوطني والعربي والعالمي، وقد حدث مثل ذلك في الموسيقى والسينما والتصوير والخطاطة ... ولكن هناك جوانب لم نجد عنها معلومات جديدة هامة كالمكتبات والمتاحف، فقد ظلت المكتبة الوطنية والمكتبة الجامعية والمكتبات الولائية والبلدية تنمو وتضاف إليها الفهارس والكاتلوغات والدوريات ونحوها، ولكننا لم نعثر على دراسات أو رصد لهذه المؤسسات والأعمال، خلافا للعهد السابق للثورة، ويبدو أن تأثير الأحداث على المسؤولين الفرنسيين، ولا سيما المثقفون قد جعلهم يغادرون الجزائر بطريقة ارتجالية تاركين أوراقهم وتقاريرهم وراءهم بدون حماية ولا نظام أو أنهم أخذوها معهم فظلت بدون متابعة، كما أن إرهاب المنظمة السرية ضد المؤسسات التعليمية والعلمية وضد المثقفين ترك جانب المكتبات والمتاحف وغيرها في حالة فوضى وربما في حالة بؤس واندثار. ومع ذلك فقد أقمنا هذا الفصل على قواعد سابقه، كما قلنا، من خلال

المسرح عشية الثورة

الإنتاج المتوفر من مصادره كما عرضنا حياة أصحاب الفنون المدروسة، وقدرنا جهدهم لأنهم أنتجوا في ظرف صعب للغاية، مما أدى بعدد منهم إلى التشرد والعيش في حالة خوف، وهي ظروف غير ملائمة للأعمال الفنية بطبيعتها. المسرح عشية الثورة بالنسبة للمسرح هناك روايات عديدة مثلت عشية الثورة، وكان المسرح نشطا بممثلين لهم تجربة ترجع إلى بداية العشرينات من القرن الماضي. تعرضنا في مكان آخر لتاريخ المسرح في الجزائر وكونه يرجع إلى العشرينات من القرن الماضي، وزيارة فرقة جورج أبيض المصرية سنة 1921، كما تعرضنا إلى مشكلة اللغة (هل هي الفصحى أو العامية، وهي على كل حال مشكلة ليست خاصة بالجزائر إذ تناولها كتاب معروفون مثل ميخائيل نعيمة وأحمد حسن الزيات، ومجاراة الجمهور في رغبته أو الارتفاع بذوقه، والمواضيع: هل تكون تاريخية أو اجتماعية أو للتسلية، ثم محاولات علالو ودحمون ورشيد القسنطيني وباش تارزي، وهل مهمة الممثل تنتهي عند إرضاء الجمهور وإضحاكه أو تبليغ رسالة له، وكيف سيطر القسنطيني على المسرح حتى اعتقد الناس أن وجود المسرح مرهون به، وقد بقي تأثيره إلى أوائل الخمسينات، كما ظهرت مشكلة التأليف المسرحي وغياب النصوص وجهل الممثلين وعدم أهليتهم لأداء دور المبلغ المثقف، وعقيدة الناس في أن الممثل ما هو إلا إنسان ساقط اجتماعيا وأخلاقيا، وغياب المرأة في المراحل الأولى من تطور المسرح (1). وقد عرفنا أيضا من ثقافة هذا العصر أن اللذين قاما بدراسة تاريخ المسرح الجزائري بالفرنسية هما الأخوان سعد الدين ورشيد بن شنب، وأخبرنا أحد كتاب المنار أن عثمان الكعاك قد ترجم بحث معد الدين بن شنب عن المسرح

_ (1) ارجع إلى كتابنا التاريخ الثقافي، والمنار 10، 22 أكتوبر، 1951.

الجزائري إلى العربية ونشره في حلقات في مجلة (الثريا) التونسية، ويرى الكاتب أن التدخل السياسي قد منع المسرح من التطور وأن الاستبداد، كما قال، هو الذي أبقى المسرح في دائرة دار المهابل، وتاج العروسة، وفاطمة المقرونة، وأمثالها، وهي روايات في نظره لا تقدم شيئا مفيدا للمجتمع، وأرجع هذا الكاتب عدم تطور المسرح أيضا إلى عدم تطوير لغة الأداء، ورأى أنه إذا كان لا يمكن تقديم المسرحيات باللغة الفصحى فعلى الأقل بلغة تقرب منها، وأخبرنا أن يوسف وهبي قد حبذ هذا المنحى، ومع ذلك تبقى مشكلة التأليف المسرحي لأنه لا أحد قدم مسرحية في مستوى عالمي باستثناء (المولد) لعبد الرحمن الجيلالي، (وبلال) لمحمد العيد آل خليفة، و (حنبعل) لأحمد توفيق المدني، وأخبرنا هذا الكاتب أيضا أن رواية المولد قد مثلت في أهم الإذاعات العربية في العالم بما فيها إذاعات لندن ونيويورك وباكستان ومصر ... وإذا عجزنا عن التأليف فعلينا أن نعرب الإنتاج الأجنبي رغم أن هذا المنحى قد يضعف دور المسرح عندنا (1). إن عدم وجود النصوص هو الذي جعل أهل المسرح يلجأون إلى وسائل أخرى مثل الاقتباس أو الترجمة أو الرجوع إلى التراث، فهذه رواية (عائشة القادرة) اقتبسها عبد الرزاق كرباكة التونسي من ألف ليلة وليلة، وخلاصتها أن فتاة يتيمة خدعها الخادعون واغتصبوا منها تركتها من العقار والمتاع فقررت الانتقام من المجتمع، وخصوصا الرجال، حتى أصبحوا لها طائعين كالخاتم في الإصبع، مثلت دور البطولة فيها شافية رشدي ومعها الموسيقي صالح المهدي ومعهما كوكبة من الفنانين جاءوا ضمن الفرقة التونسية إلى الجزائر. ويبدو أن هذه الفرقة التونية كانت تتردد على الجزائر حتى أن أحد كتاب المنار تمنى أن تعمم التجربة ويصبح هناك تبادل للفرق الفنية بين البلدين (2).

_ (1) المنار 11، 8 ديسمبر، 1951. (2) المنار 1، 11 أبريل 1952.

كما اقتبست رواية (ولد الليل) من ألف ليلة وليلة أيضا، ولا ندري ما رسالتها السياسية والاجتماعية، فهي تمثل ملكا جائرا عاث فسادا في رعيته لكن ابنه انقلب عليه وخلص الناس من شره، وقد انتقد بعض النقاد طريقة التمثيل لأن الملك الجائر لا يظهر إلا في الفصل الأخير، أما قبل ذلك فالناس كانوا غاضبين عليه وكانوا يتحدثون عن ظلمه ولكنهم لا يرونه شخصيا، وفي الرواية موسيقى وطرب، وهي من اقتباس محيي الدين باش تارزي، كما أنها خليط من المأساة والملهاة والدراما (1). أما مسرحية (عائشة بوزبايل) فقد قيل إنها من صميم الأدب الخيالي الجزائري، وليس لها أصل في التاريخ ولا مؤلف، وموضوعها هو محاولة هروب عائشة وزوجها من سجن الملك وانتباه الحراس لهما، ثم إنعام الملك عليهما بالعفو مما أدخل السرور عليهما، ويبدو أنها مسرحية ملهاة أثارت كثيرا من الضحك والتسلية على يد محمد التوري وكلثوم وحبيب رضا، وقد نصح الناقد بعدم اللجوء إلى التقليد الأعمى للموسيقى المصرية وتمنى أن يبدع الجزائريون موسيقى خاصة بهم (2). قدم المسرح أيضا مسرحيتين أخريين الأولى بعنوان (منيب) المترجمة عن الفرنسية، ولم تقدم جديدا حسب بعض النقاد، أما المسرحية التي جاءت بالجديد فهي (كيد النساء) التي أبدع باش تارزي في تأليفها وجعلها تتلاءم مع الذوق الجزائري ووصف فيها أخلاق النساء اللائي يخربن البيوت كما أخرجن آدم من الجنة، والشخصيات التي مثلت الرواية جديدة أيضا بمن فيهم المرأة التي كادت للرجال وأتقنت دورها، وهي نورية، ومن رأي هذا الناقد أن المسرحية جعلت المسرح الجزائري يقفز من طور الصبا إلى طور الشباب والفتوة (3).

_ (1) من مقال كتبه ابن البشير، المنار 2، 25 أبريل 1952. (2) لمنار 3، 9 مايو 1952. (3) لمنار 12، 28 نوفمبر 1952.

وهناك رواية تمثل حالة اجتماعية متداولة وهي صراع تقليد الأجانب (الفرنسيين) أو التمسك بالتقاليد الاجتماعية الإسلامية، فالبطل هنا ابن باشاغا كان متزوجا من امرأة مسلمة من بيئته، ثم وقع في شرك امرأة إفرنجية مستهترة غيرت مجرى حياته، ودخل في الانتخابات والسياسة، ولكنه في نهاية المطاف طلق هذه المرأة وهرب إلى زوجته الأولى التي بقيت محافظة على تعاليم الإسلام، وقد اعتبرت الرواية من أفضل ما أنتجته القريحة الجزائرية عندئذ، رغم أننا لا نعرف مؤلفها، ولا شك أن كون الموضوع اجتماعيا/ سياسيا هو الذي أعطاها هذه الأهمية، فهو يتعرض للعلاقة بين المعمرين والمتعاملين الجزائريين معهم (1). في فاتح سنة 1953 مثلت على خشبة المسرح رواية (تحيا الأخوة) من تأليف الشيخ بودية مرسلي الذي قال عنه أحد النقاد إنه لم يدرس الأدب المسرحي، رغم أنه سبق له التأليف فيه، ومن رواياته (أجبذ يماهم)، وهي رواية فاشلة حسب بعض النقاد، أما رواية تحيا الأخوة فقد مثلها باش تارزي ومحمد التوري، ويبدو أنها تعرضت إلى أشخاص بأعيانهم وربما كانت أنجح من أختها (2). وتأتي بعد ذلك رواية سوفكليس (أنتيقون)، وهي الرواية التي ترجمها طه حسين عن الأدب اليوناني القديم، ومن تعاليق النقاد عليها أن الرواية مليئة بالعواطف والمشاعر المتصارعة والجياشة لشخصيات ذات وزن، ومن الصعب على العامية أن تعبر عن هذه العواطف التي تعتمل في شخصيات الرواية مما يدل ربما على أن الممثلين قد أدوها بالعامية وليس بالفصحى، وقد مثلتها كوكبة من الممثلين والممثلات (3). ومن الروايات التي لفتت الأنظار رواية (الآغا مزغيش)، وقد قيل إن

_ (1) المنار 14، 26 ديسمبر 1952. (2) المنار 18, 27 فبراير 1953. (3) المنار 27 فبراير 1953.

موضوعها غير جديد لأن أناتول فرانس قد عالجه من قبل، ومن ثمة يكون موضعها مقتبسا، وعلى كل حال فإن بطلها قد مثله حسن الحسني، فالبطل قد اتهم بإهانة مارشال فأدخلوه السجن وحين خرج من السجن هتف يحيا المارشال فأعادوه إلى السجن، فاحتار البطل في أمره: هل يمدح المرشال أو يذمه (1)). ولم تكن المسرحيات كلها اجتماعية أو للتسلية بل كان منها ما هو احتفالي بالمناسبات الدينية والتاريخية، فبمناسبة المولد النبوي الشريف أقام باش تارزي حفلة، مثلت أثناءها رواية بطل قريش لمحمد الطاهر فضلاء، وبعد التمثيل أقيمت حفلة طرب المدائح الدينية شارك فيها منشدون أمثال عبد الرحمن عزيز وعلي معاشي (2). من الروايات التي لفتت انتباه النقاد وأثارت كتابات في الصحافة رواية (الصحراء)، وهي رواية تمثل كفاح ليبيا ضد إيطاليا، وقد قام فيها محمد الطاهر فضلاء بالدور الرئيسي وامتدح على أدائه الجيد، وقد سبق له أن مثل رواية أخرى بنجاح وهي (ليلى بنت الكرامة) ورواية (بطل قريش) التي تحمل رسائل للشعب عن تراثه وانتمائه، كما سبق له أن مثل المولد للجيلالي، ويبدو أن رواية الصحراء قد مثلها يوسف وهبي من قبل. وما يلفت النظر بهذه المناسبة هو ما أثاره تمثيل الرواية مجددا من حديث حول الأداء بالفصحى أو بالعامية، فرواية الصحراء مثلت بالفصحى، ومع ذلك تجاوب معها الجمهور وصفق لها في الأماكن التي تستحق التصفيق، وأرجع أنصار الفصحى الدعوة إلى العامية إلى العجز عن التأليف بالفصحى وعدم التدرب عليها عند القيام بالتمثيل، ومن الذين انتقدوا تمثيلها بالفصحى مصطفى غريبي في جريدة (ليكو دالجي) فقد قال إن العامية تجعل فائدتها أكثر (3).

_ (1) المنار 1، 9 يناير 1953. (2) المنار 15 يناير 1953. (3) المنار 16، 23 يناير 1953.

ويبدو أن العناية بالتمثيل والمسرح بلغ درجة متقدمة من الاهتمام عشية الثورة، فبالإضافة إلى التمثيل ظهرت جمعيات وفرق في العاصمة وغيرها مثل قسنطينة، كما أعلن عن بعض المسابقات لتشجيع المواهب في هذا الميدان، من ذلك فرقة هواة المسرح التي أنشأها محمد الطاهر فضلاء بالعاصمة والتي كان هدفها هو الارتقاء بالتمثيل العربي لكي يؤدي رسالته على خير وجه، وقد أعلنت فرقة الهواة أن بداية موسمها سيكون نهاية ديسمبر 1953 بسينما الجمال وأنها ستفتتحه بتمثيل مسرحية (بيومي أفندي) ليوسف وهبي، كما أعلنت لجنة تسمى لجنة تنظيم مسابقة الجائزة المسرحية بشمال إفريقيا لمن يؤلف مسرحية بالعربية أو بالفرنسية في موضوع يتصل بشمال إفريقيا، ولكننا لم نطلع على شروط المسابقة ولا على من تقدم لها بعد ذلك (1). ولا ندري إلى أي مدى كان هناك تعاون بين المسرح الجزائري والمسرح الفرنسي فيما يتعلق بالتمثيل والاقتباس والترجمة والقيام بجولات داخل الجزائر أو خارجها، فالمسرح الجزائري لا يملك مكانا خاصا به، وهو يعتمد في نشاطه على تسهيلات المسرح الفرنسي (الأوبرا في العاصمة والمسارح الجهوية في قسنطينة ووهران وعنابة ...)، وقد وجدنا من يكتب عن المسرح الفرنسي على أنه هو الجزائري عندما تحدث أحدهم (مصطفى غريبي) عن أول مهرجان جزائري للمسرح (2). وبالإضافة إلى المسرحيات التي أتينا على ذكرها عرضت في الجزائر المسرحيات التالية التي ظهر بعضها على شاشة التلفزيون أو مثلت على الأثير في الإذاعة الفرنسية: منها تمثيلية إذاعية بعنوان (الأمير السعيد)، وهي قطعة فكاهية كتبها فؤاد سليم، ثم مسرحية القديس أوغسطين ومسرحية غوستاف فلوبير، وكلاهما مثلت في الإذاعة، ولمحمد الطاهر فضلاء وغيره مسرحيات عديدة

_ (1) المنار 51، أول يناير 1954. (2) هنا الجزائر، 26، يوليو 1954، أنظر لاحقا.

المسرح أثناء الثورة: باش تارزي

مثلت في الإذاعة، أضف إلى ذلك ما كان يقدمه مسرح الهواة في مستغانم ومسرح سيدي بلعباس من مسرحيات (1). المسرح أثناء الثورة: باش تارزي خص أبو العيد دودو مسيرة المسرح الجزائري بدراسة منذ الأربعينات فقال: ظل المسرح بيد رشيد القسنطيني، ثم محيي الدين باش تارزي الذي نهض بالمسرح الاجتماعي والذي بقي مديرا للمسرح حوالي عشر سنوات، وقدم خلالها مسرحيات عربية وأوروبية مترجمة، وطور المسرح الشعبي، ثم اختفت جهوده سنة 1956 في ظروف غامضة، وخلال الثورة أنشئت فرقة مسرحية قادها مصطفى كاتب ساهمت في التعريف بالقضية الوطنية في البلدان العربية (2). حقيقة أن محيي الدين باش تارزي التزم بالمسرح الاجتماعي وطوره وأخضعه لمقاييس شعبية في لغته وموضوعاته، ولكن مصطفى كاتب خدم المسرح أيضا ولكنه انضم إلى جبهة التحرير في تونس وساهم في تطوير المسرح بجعله يهتم بالقضية الوطنية، أي (بأدلجته) وإدخاله عالم الفكر والعقيدة السياسية، فأصبح مسرحا ملتزما بلغة الاشتراكيين والتقدميين في ذلك الوقت، ومع ذلك يجب الاعتراف بأن باش تارزي قد لعب دورا كبيرا في تطوير المسرح تمثيلا وإدارة وتأليفا وترجمة وتخطيطا كما كشفت، عن ذلك مذكراته وبعض المصادر الأخرى (3). ويبدو أن باش تارزي كان محترما بين زملائه في المسرح لماضيه في خدمة المسرح منذ العشرينات من القرن الماضي ولكفاءته الفنية والثقافي، وها هو الآن يضع برنامجا لتطوير وتنشيط المسرح بالتعاون الداخلي مع الإدارة الفرنسية والتعاقد الخارجي مع البلاد العربية وخصوصا مصر، وكانت له رؤية

_ (1) انظر مثلا هنا الجزائر، عدد 33. (2) مجلة القبس 5، مارس 1969، ص 96. (3) مذكرات محيي الدين باش تارزي (بالفرنسية)، الجزانر، 1984، في جزئين ....

بعيدة في جعل المسرح يخدم أهدافا اجتماعية وأخلاقية معينة. عند افتتاح موسم 1954 - 1955 عقد باش تارزي ندوة صحفية ألقى فيها خطبة بالفرنسية لخص فيها خططه وأهدافه، وقد دأب على ذلك في كل سنة منذ أن تولى إدارة المسرح، ففي السنة المذكورة عرض زميله عثمان بوقطاية أفكاره التي وردت في خطابه الأخير فقال إن باش تارزي مدير الأوبرا (المسرح) بالجزائر ووهران وقسنطينة وعنابة وإنه التقى مندوبي الصحف والإذاعة ورجال الفكر والقلم والمنظمات المعنية، وكان من بين الحاضرين أيضا مندوب شيخ بلدية الجزائر ومدير إدارة الفنون الجميلة، كما لبى الدعوة بعض الممثلين والممثلات، كان خطاب باش تارزي طويلا تحدث فيه عن ماضي المسرح الجزائري والأطوار التي عرفها وكيف تغلب على العراقيل التي اعترضته، وقال إن الصحافة التونسية والمغربية والمصرية تكتب عن المسرح الجزائري وعن الفن الجزائري وتتحدث عنه المجالس والمنتديات، ونوه بالإعانات التي تلقاها المسرح من الإدارات المسؤولة الفرنسية وقال بفضلها سيتمكن من التغلب على الصعوبات ويبلغ بالمسرح المكانة المرموقة، وذكر أسماء المطربات والمطربين الذين سيزورون الجزائر خلال الموسم، وهم من مختلف الأقطار العربية (1). وقد كشف باش تارزي لسامعيه عن عدد الروايات المتنوعة التي سيمثلها المسرح خلال الموسم، كما أخبرهم عن التعاقد الذي حصل بينه وبين أفراد وفرق من تونس والمشرق لزيارة الجزائر، ومنهم يوسف وهبي وبعض أعضاء فرقته (2).

_ (1) فمن تونس محمد الجاموسي، وعلي الرياحي، والكحلاوي، وفتحية خيري، وشافية رشدي، وحسيبة رشدي، ومن المغرب آقومي، ومن الجزائر الحسناوي، وسليمان عازم، والفتاة وردة، وأحمد وهبي ... (2) كان يوسف وهبي قد زار الجزائر في نفس السنة 1954 ولقي نجاحا كبيرا، أنظر سابقا.

وأضاف باش تارزي أنه تعاقد أيضا مع مجموعة من أعلام الفكاهة والفن المصري لزيارة الجزائر، منهم الراقصات والمضحكون والمضحكات ... ثم قدم نصائح للممثلين على خشبة المسرح وحثهم على العمل والجد. وعد باش تارزي بتمثيل عدة روايات خلال الموسم، كلها ذات موضوع اجتماعي، وبعضها مترجم إلى العربية، منها دون جوان لموليير، وهارون الرشيد والبرامكة، وبنات الهوى ليوسف وهبي، وغادة الكاميليا للإسكندر دوما، وكيد النساء، ودولة النساء لمصطفى كشكول، ويوم الحساب لعامر التونسي، وورش علي، ومدرسة النساء لموليير، وليلة خير من ألف ليلة وليلة لصالح الزواوي، وصالح باي لحسن دردور، وفاطمة البدوية لمحمد الجاموسي، هذه كلها روايات تعرض لأول مرة حسبما كتب بوقطاية الذي لخص وعود باش تارزي، أما الروايات التي سيعاد تمثيلها لإعجاب الناس بها فمنها البنت الوحشية، وولد الليل، وبوقرنونة، واللصوص الثلاثة، وأذان الفجر، والمولد ... (ربما هي المولد النبوي للجيلالي). وقد افتتح الموسم المسرحي برواية دون جوان لموليير، واختار لها المعرب عنوانا ملفتا هو (الكافر بأمر الله)، فكانت محل إعجاب الجمهور (1). وإذا تأملتا في تاريخ افتتاح الموسم المسرحي فسنعرف أنه أيضا هو تاريخ افتتاح الثورة، ولكن الثورة ظلت غير مؤثرة على مستوى العاصمة إلى سنة 1956 حين تغيرت الأمور وشملت الأحداث مختلف جهات ومدن الوطن، ولذلك قال أبو العيد دودو إن باش تارزي قد اختفت جهوده سنة 1956 بطريقة غامضة، فهل غادر، الجزائر؟ وعلى كل حال فنحن لا نعرف كيف انتهى موسم 1954 - 1955، أما الموسم التالي فهو الذي يبدو قد تأثر بالأحداث، فلم تبق العاصمة والمدن الأخرى على هدوئها، ولم يبق الممثلون في أماكنهم، كما أن

_ (1) هنا الجزائر، 29 نوفمبر، 1954، في نفس العدد مقالة هامة بالفرنسية لغير البودالي عن المسرح العربي.

الفرق والأفراد الزائرين للجزائر قد انقطعت بهم السبل أو لم يغادروا بلدانهم أصلا. حقا إن الموسم 1955 - 1956 قد بدأ بدايات مشجعة، فقد تعين باش تارزي من جديد مديرا للمسرح للمرة التاسعة، وكذلك مديرا لفرقة المسرح العربي الجزائري، وعقد أيضا مؤتمرا صحفيا شرح فيه برنامجه الفني للسنة الجديدة، وعلى إثر عودته من رحلة قادته إلى تونس ومصر، كانت له فرصة التعاقد والتعاهد مع الفنانين والفرق المسرحية لزيارة الجزائر، ولذلك جاء بحزمة من الوعود إلى مؤتمره الصحفي ليبرهن على نجاح سفرته وعلى النشاط الذي تحمله الأيام إلى المسرح وأهله، وقد ذكر أنه في مصر تعاقد مع ثلاث فرق هي فرقة يوسف وهبي وفرقة نجيب الريحاني وفرقة فاضل شوا، وتأسف على أن الظروف الراهنة لم تساعد الفرق المذكورة على زيارة الجزائر وتقديم عروضها فيها، وهو يشير بذلك إلى تطور أحداث الثورة مما أدى إلى تأخير افتتاح الموسم المسرحي إلى 25 أكتوبر 1955، ولكن الوضع قد ازداد توترا بالنسبة لسكان المدن، فإذا كانوا ينتظرون الهدوء، فإن ذلك كان أضغاث أحلام، ومن ثمة اضطرب برنامج الموسم الثقافي، ومنه المسرح. وعلى كل حال فلندع الآن باش تارزي يقدم نشاطه الموعود في الموسم الجديد رغم أسفه، فقد وعد سامعيه بأن فرقته ستحاول إرضاء جميع الأذواق على الرغم من عدم وصول الفرق الزائرة، وشكر رجال بلدية الجزائر على حضورهم وعلى الدعم الذي قدموه لفرقته ماديا وأدبيا، وأصر على أنه تعاقد مع نفس الفرق التي تعاقد معها في الموسم الماضي، ثم وزع الأدوار على أعوانه فقال إن رئاسة الجوق الموسيقي ستبقى في يد مصطفى اسكندراني وإن قدور الصرارفي (من تونس) سيكون سندا أيضا لزميله اسكندراني في قيادة الجوق الموسيقي، ووعدهم بأنه سيوجه المسرح وجهة جديدة فيكون الاهتمام بالدراما والميلودراما أكثر من الاهتمام بالمسرحيات الفكاهية وحفلات الرقص والاستعراض، وربما نلاحظ أن هذا التغيير في التركيز على الدراما ونحوها

ينسجم مع جدية الوضع الجديد. أما الروايات التي وعد بتمثيلها فهي مغتصب التاج، وسيدي المقدم. والطلاق، وجميعها من تأليف جزائريين، وستمثل بعض الروايات بالفصحى أيضا مثل سر الحاكم بأمر الله، والحجاج بن يوسف، وسر شهرزاد، وهي روايات تاريخية عربية نذات نكهة أدبية من تأليف كتاب من المشرق، ويشترك في تمثيلها محمد الطاهر فضلاء الذي تخصص في التمثيل بالفصحى والذي أضاف إلى خبرته القديمة في المسرح خبرة جديدة بعد زيارته الأخيرة إلى المشرق العربي، وبالإضافة إلى ذلك هناك روايات جديدة من نوع الأوبريت، منها رواية علي بابا والأربعون لصا، وليلة خير المقتبسة من ألف ليلة وليلة، والأميرة الأندلسية، كما أن هناك روايات سيعاد تمثيلها لأن الجمهور استحسنها في الموسم السابق. والملاحظ أن عبد الرحمن كيوان (عضو حركة الانتصار) نائب شيخ البلدية، كان من الحاضرين، وهو الذي نوه باسم البلدية بجهود باش تارزي في خدمة المسرح العربي الجزائري، على إثر انتهاء باش تارزي من إلقاء كلمته في المؤتمر الصحفي، وللإشارة نقول إن شيخ البلدية المنوه به هو (جاك شوفالبيه) السياسي الفرنسي الليبيرالي الذي تقرب من الساسة الجزائريين، ومنهم منتخبو حزب الشعب، ومما يذكر بهذا الصدد أن السيد كيوان لم يلبث أن غادر الجزائر وانضم إلى الوفد الجزائري (جبهة التحرير) في الخارج، وقد التقينا به وتحادثنا معه عدة مرات في مكتب المغرب العربي بالقاهرة (1). كانت زيارة باش تارزي الأخيرة إلى المشرق في شهر فبراير 1955، وقد أشرنا إلى أنه لم يكتب عن رحلته إلى المشرق بنفسه وإنما ساق رحلته في كلمته التي لخصها عثمان بوقطاية، فقال هذا إن باش تارزي له أكثر من ثلاثين سنة في خدمة المسرح الجزائري، وإنه بدأ رحلته بتونس وانتهى بمصر وسوريا

_ (1) هنا الجزائر 40، نوفمبر 1955.

مجلة مصرية تكتب عن المسرح الجزائري

ولبنان، وإنه تعرف على الأوساط الفنية والتقى بالمطربين والمطربات وأخذ معهم الصور، كما التقى بالمخرجين والممثلين، كما حضر حفلات عديدة وشاهد مسرحيات وأقلاما، وعقد مع أشهر الفرق اتفاقات، وهذه العقود كانت فيما يبدو الهدف من الرحلة، بل حدد معهم تواريخ وجداول، واختار الروايات التي شاهدها في مصر لتمثل في الجزائر أيضا، وبذلك يكون قد قام بخدمة جليلة للمسرح الجزائري (1). مجلة مصرية تكتب عن المسرح الجزائري. وبمناسبة زيارة باش تارزي لمصر كتبت (مجلة الفن المصرية) عنه وأسمته (والد المسرح الجزائري)، وقد تحدثت عن موهبته الفنية ونشاطه وحبه للفن والمسرح، وقارنت بين ما يقدمه المسرح الجزائري والمسرح المصري من روايات لجمهورهما، والمعلومات التي ساقتها المجلة ربما تكون معلومات نادرة عن باش تارزي لأنه قد يكون خصها بها، ومهما كان الأمر فإن المجلة كتبت مقدمة عن أوليات الرجل وموهبته وصوته العذب وبدايته بترتيل القرآن الكريم في شبابه بالجامع الكبير بالعاصمة، ثم عن تعلمه الموسيقى وهو شاب وتدربه على الغناء طبقا للأصول الفنية على أستاذ أوروبي (كذا)، ثم أخذ يلحن أغنيات من تأليفه، فهو - حسب المجلة - شاعر مطبوع، وقد سجلت له شركات الاسطوانات بين 1920 - 1929، أكثر من خمسمائة (500) أسطوانة. وأضافت المجلة المصرية أن الشاب باش تارزي هوى التمثيل فجأة. ونجح فيه مما جعله ينشئ فرقة خاصة به، ثم أصبح مديرا إداريا للأوبرا في الجزائر ووهران، كما عين مديرا للفرقة البلدية الجزائرية التي كانت تضم 72 فردا من أشهر الممثلين والمطربين، وقد طاف هؤلاء الجزائر وشمال إفريقيا لتقديم حفلاتهم، ولا شك أن هذه الأرقام والصفات وإن كان فيها الكثير من

_ (1) هنا الجزائر 35، مايو 1955، ص 12 - 13 مع صورة لباش تارزي إلى جانب نجيب الريحاني في مصر.

الصحة فإن فيها أيضا الكثير من المبالغة، لأن الفن المسرحي وغيره من الفنون لم يكن من أولويات أهل الجزائر. واعترفت المجلة أن باش تارزي كان يحسن استقبال الفرق المصرية الزائرة للجزائر ويحب الفن المصري وأهله، وفي رأيها أن باش تارزي أصبح منذ 1920 صديقا للفنانين المصريين، مثل فرقة جورج أبيض التي زارت الجزائر في تلك الفترة، رفقة فاطمة رشدي وبديعة مصابني ونجيب الريحاني وبابا عز الدين، ولا تنسى له هذه الفرق ترحيبه بها، على أن باش تارزي جاء هذه المرة إلى مصر ضيفا، وتعاقد مع يوسف وهبي لزيارة الجزائر (في يونيو 1955)، والمعروف أن يوسف وهبي كان قد زار الجزائر على رأس فرقته القومية سنة 1954 فوجد ترحيبا كبيرا وأحرز نجاحا عظيما فنيا وسياسيا وإعلاميا من مختلف التيارات الجزائرية، واحتفت به جمعية العلماء وتبادلوا معه الخطب والمشاعر كما احتفى به شيخ بلدية الجزائر الفرنسي جاك شوفالييه. شمل حديث المجلة مع باش تارزي سؤاله عن المنحة السنوية التي تمنحها الدولة (الفرنسية) للفرقة الجزائرية على يدي بلديتي العاصمة ووهران، فقدرها بخمسة وعشرين مليونا من الفرنكات 25 ألف جنيه)، إضافة إلى تمكين الفرقة من المسارح مجانا طيلة أيام التمثيل، أما عن منح البلديات الأخرى فهي قليلة، وهي تتمثل في تخليها لهم عن المسارح مجانا عندما يذهبون للتمثيل عندها، ويبلغ عدد المسارح في الجزائر كلها 42 (اثتين وأربعين) مسرحا، كل منها يضارع (دار الأوبرا) المصرية، ربما في الحجم والأثاث. أما موسم التمثيل فيمتد عبر سبعة أشهر، والتمثيل ليس يوميا ولكنه يتم في يوم واحد في كل بلدة أي بمعدل حفلتين في اليوم الواحد، مثلا في مدينة الجزائر يقدمون حفلتين كل يوم اثنين، وفي وهران حفلتين كل يوم جمعة، وإذا كانت الروايات جديدة فإن القاعة تغص بالجمهور أيام التمثيل، والمسرحية لا تعاد إلا بعد عام، وقال باش تارزي للمجلة المصرية إن عدد المؤلفين في

الجزائر يقاربون المائة، وفيهم الجيدون، وهذا قول يخالف الواقع لأن الشكوى كانت دائما منصبة على عدم توفر النصوص، أما بالنسبة للروايات الناجحة فقد ذكر منها روايات يوسف وهبي مثل أولاد الشوارع، وأولاد الفقراء، ورجل الساعة، والخيانة العظمى، ثم روايات مسرح الريحاني، وأخبرها أن اللهجة المصرية ليست عائقا لأن الجمهور الجزائري يفهمها، بل يفضلها على الفصحى، والفضل في رواج اللهجة المصرية يرجع إلى السينما المصرية. بالنسبة لهذا القطاع (السينما) فإن أحب الأفلام المصرية لدى الجزائريين هي الأفلام الغنائية، حسب قوله، خصوصا أفلام فريد الأطرش وعبد الوهاب، أما ما أسمته المجلة الرقم الجديد (عبد الحليم حافظ) فستصل إيرادات أفلامه في الجزائر إلى أرقام قياسية، وكان باش تارزي صريحا مع المجلة حين لاحظ لها أن الجزائريين ينتقدون الأفلام المصرية على ما فيها من الرقص الخليع لأنهم ينظرون إلى مصر على أنها حافظة التراث العربي الإسلامي. وفي الجزائر يتقاضى الممثل المسرحي شهريا ما يعادل مائة وعشرين (120) جنيها مصريا عدا عمله في الإذاعة والتلفزيون، وقد لاحظت المجلة أن الجزائر هي أول قطر عربي دخله التلفزيون، ويبدو أن المجلة قد تأثرت بما رواه لها باش تارزي عن رعاية السلطات الفرنسية للمسرح العربي في الجزائر فطلبت من المسؤولين المصريين أن يقرءوا هذا الحديث الصريح مع باش تارزي وأن يأخذوا منه العبرة، ولا سيما فيما يتعلق بعدد المسارح والمنح (1). ورغم ما في هذا الحديث من مبالغة أحيانا فإنه مفيد في إعطائنا صورة مفصلة عن وضع المسرح وعلاقته بالمسؤولين الفرنسيين ورسالته ودور الممثلين وعددهم والمؤلفات وعلاقة الفن الجزائري بالفن العربي، وقد قدم لنا الحديث أيضا صورة دقيقة عن الذوق العام بالنسبة للسينما وسمو الذوق الجزائري.

_ (1) هنا الجزائر 35، مايو 1955، والملاحظ أن نفس الحديث مترجم أيضا إلى الفرنسية في القسم الفرنسي في مجلة هنا الجزائر، مع صورة لباش تارزي.

من شهرزاد إلى أبناء القصبة

والتمسك باحترام القيم الإسلامية، وقد كنا سنشير إلى جزء من هذا الحديث في فقرة السينما ولكننا فضلنا إيراده هنا لأنه لا يخص السينما الجزائرية ولأنه يتحدث عن الذوق العام إزاء اللهجة الدارجة وإزاء الموضوعات المطروقة في الأفلام المصرية، ونلاحظ كذلك أن افتتاح التلفزيون في الجزائر كان في سنة 1956 وليس قبل ذلك. من شهرزاد إلى أبناء القصبة ولا ندري في هذا المقام أين يقع تمثيل الجزائريين بعض المسرحيات أمام جمهور فرنسي، فالسيد باش تارزي لم يحدثنا عن ذلك، ولكننا وجدنا تنويها بتمثيل مسرحيتين باللغة الفرنسية أمام جمهور فرسي في قاعة النفق الجامعي بالعاصمة (الدكتور دودو حاليا)، إحداهما سرحية شهرزاد التي رجع إلى الفن العربي الإسلامي والأخرى مسرحية (أمفيتريون) Amphitrion التي رجع إلى التراث الروماني، وتعتمد الأولى على القص الشرقي المستخرج من ألف ليلة وليلة كما هو متمثل في الحديث الذي دار بين (شهرزاد وشهريار)، ومن أبرز الممثلين في المسرحيتين هو مصطفى كاتب وعلال المحب، بالإضافة إلى بعض الفرنسيات، وقد ظهر في العملين المقارنة بين ثقافتين، فمن جهة هناك مأساة شهرزاد وصراع الروح والمادة واللذة والضعف الإنساني أمام سحر المرأة، ومن جهة أخرى هناك التطلع إلى المادة ونيل الجاه والعظمة في رواية (أمفيتريون)، فهي رواية ضاحكة وتعتمد على القصص الخيالي في عالم الآلهة، وتمثل عشق الإله جوبيتر، كبير الآلهة عند الرومان، لامرأة هي زوج قائد روماني ترك الأهل والوطن ليحارب من أجل الشهرة والمجد، وفي غيابه جاء جوبيتر متنكرا في صورة الزوج القائد إلى المرأة المهجورة صحبة (ساتورن) رسول الآلهة الذي تنكر هو أيضا في زي خادم، ولكن الزوج الحقيقي رجع فجأة واتهم زوجته بالخيانة (1).

_ (1) هنا الجزائر 35، مايو 1955، وليس للمقالة توقيع.

من نشاط الفرقة الوطنية الفنية

وقد يستغرب المرء قيام جزائريين، وفي سنة 1955، بتمثيل موضوعات على هذه الشاكلة وأمام جمهور فرنسي وبلغة فرنسية، هل من هدف؟ قد ينظر الناظر إلى شهرزاد على أنها كانت تؤدي وظيفة الجزائر عندئذ التي اخترع لها كاتب ياسين (نجمة) في نفس الفترة، فبينما كان الشبان الأربعة يصارعون - حسب رؤية ياسين - من أجل الظفر بنجمة كان شهريار - ولنقل إنه الاستعمار الفرنسي - يعمل على الفوز بشهرزاد (الجزائر) بمختلف حيله وقواه، ولكن ما الهدف من وراء (أمفيتريون) وخيانة الجميع حتى الإله جوبيتر .. والقائد الذي يبحث عن المجد في الجزائر التي تهرب من بين أصابع الاستعمار؟ لا ندري إن كان هذا التحليل مناسبا، ولكن من الأكيد أن تمثيل هذه المشاهد سنة 1955 كان غير مناسب، ولذلك سنجد طائفة من الممثلين يغادرون الجزائر ليبحثوا لهم عن المجد في ظل الوطنية وعن نجمة في غمرة الملحمة الثورية الحقيقية. من نشاط الفرقة الوطنية الفنية بمناسبة عرض مسرحية (أبناء القصبة) سجلت المجاهد (بالفرنسية) الحديث التالي مع رئيس الفرقة الفنية، مصطفى كاتب ومؤلف المسرحية عبد الحليم رايس، وقبل أن نلم بالحديث نقول إننا سنتكلم على الفرقة الجديدة التي أنشئت في تونس خلال الثورة، وعن بعض أعضائها، ولكننا الآن نريد أن نعرف أن تجربة باش تارزي مع المسرح إلى منتصف الخمسينات قد تطورت على يد مصطفى كاتب إلى لون آخر من المشاركة العملية الفنية في الثورة، أو كما قال صاحب الحديث إن المسرح أصبح واقعيا وملتزما، فهو مسرح الشعب ومسرح جبهة التحرير في موضوعه ولغته وأدائه، دعنا الآن نتابع الحديث الذي جرى في إحدى الفيلات بضواحي تونس العاصمة، خلال شهر مايو 1959، وقد حضره بالإضافة إلى كاتب ورايس، أعضاء الفرقة الفنية الجديدة. كتبت مسرحية أبناء القصبة (أحيانا تسمى أطفال القصبة) في ظرف خمسة عشر يوما، وقامت الفرقة بالتدرب عليها بحماس، وهي التي اختارت لها

الديكور المناسب من الطاولة الرئيسية إلى الفوارة داخل البيت الجزائري ذي الطراز الأندلسي، والمدخل الممتد للمنزل، كما مثلت قصة القنبلة التي عاشها اثنان من أعضاء الفرقة والتي أبطل مفعولها طالب (هل هو طالب عبد الرحمن؟) نفسه قبل خمس دقائق من انفجارها، إن كل ما في المسرحية تقريبا عاشه أفرادها في الجزائر، ولم يكن الهدف من كتابتها وإخراجها على ذلك النحو وتمثيلها للدعاية أو الكتابة حسب الطلب، كما قد يظن البعض، بل لقد كتبت المسرحية نفسها بنفسها، إن المؤلف قد أعطى نبذة عن نشاط الثورة في القصبة آخر 1956 وأوائل 1957، وهي في الواقع تصدق على كل قصة في الجزائر، وبالإضافة إلى ذلك هناك قصة عائلية داخل الثورة، فهناك إذن تداخل بين القصبة والثورة والعائلة. لقد أعطت المسرحية أهمية خاصة للمرأة المكافحة، فشخصية ميمي كانت تعبر عن صلة الوصل مع الثوار، إنها شخصية هادئة ودقيقة، إنها تمثل (جميلة بوحيرد) كما عرفها المتحدث أثناء العمل، وكذلك الفتاة مريم والأم يمينة، فكلهن عرفهن المؤلف، وهن بمثلن في المسرحية آلاف النساء الجزائريات، أما أدوار الرجال فقد قام بها الشاب عمر المنحرف الذي أصبح مكافحا، ثم توفيق الذي كان مسؤولا وبقي لا يحب الظهور، وكان ذلك يجري وسط الفرنسيين الذين يمثلون مختلف الشرائح: الزواف، والمخبرين، والمرتزقة. بالنسبة للغة لاحظ مصطفى كاتب أنهم استعملوا دارجة القصبة باعتبار المسرحية في نظره واقعية، والواقع يفرض ذلك، إنها لغة الشعب في الشوارع والأسواق، لقد اختاروا الواقعية في الشكل، أي لغة أهل العاصمة بكل نبراتها الخاصة وتعبيراتها، إن العائلة التي تتحدث عنها المسرحية من الشعب فهي تتكلم لغة الشعب، بينما الفرنسيون في المسرحية يتحدثون لغتهم، وليس من الواقعية في شيء - في نظره - استعمال العربية الفصحى (الكلاسيكية - حسب تعبيره)، ولو تكلم الممثلون بالفصحى لنزعوا عن المسرحية نكهتها.

وعندما سئل عن محدودية الجمهور عند استعمال اللغة الواقعية إذ تفقد مثلا جمهور البلاد العربية، اعترف كاتب بأن ذلك حق، لأن هذه المسرحية لا يمكن فهمها إلا من الرباط إلى بني غازي، ورأى أنه إذا كان لابد من توجه المسرحية إلى جمهور أبعد من هذه الرقعة فيجب أن يكون هناك كتاب يحتوي على النص العربي الفصيح، واعترف بأن ذلك من مشاكل المسرح الجزائري منذ نشأته، (بل هي من مشاكل المسرح العربي في جميع الأقطار) أما هو شخصيا فهو يفضل استعمال لغة الأم ولغة (سوق الخضرة)، وتمنى أن يأتي اليوم الذي يصبح فيه استعمال العربية الفصحى ممكنا، أما الآن فالذي يهم هو أن يكون هناك جمهور يفهم ويشارك، ولكي يتحقق ذلك لا بد من استعمال اللغة المتداولة، لأن استعمال العربية الفصحى يفقدنا جمهورا عريضا، وفي نظره أن اللغة العربية الفصحى تصلح للتراجيديات. ثم إن مشكل المسرح لا يتمثل في اللغة وحدها ولكن في الموضوع أيضا، إن (أبناء القصبة) لا تمثل توجيها جديدا وإنما تمثل تطورا، فمنذ ظهور المسرح الجزائري رسم الطريق، وهو طريق الواقعية، ولكي يعيش المسرح الجزائري ويخاطب الجمهور يجب معالجة الموضوعات التي تهم الشعب سواء في حياته مع الاستعمار أو في حياته الإنسانية العامة، فقبل الثورة كانوا يستعملون لغة الرموز ويقومون بأدوار ملتوية للهروب من الرقابة سواء بالنسبة للمسرح أو للإذاعة، ولكن المتفرجين كانوا يفهمون المقصود ويتابعون الممثلين، ويبدو أن مواضيع الحياة الاجتماعية هي التي كان يفضلها الشعب فقلد المؤلفون، وأحيانا اقتبسوا، مسرحيات أجنبية تنسجم مع هذا الذوق، فمثلا مسرحية (البرجوازي المهذب) حولوها إلى (أغنياء السوق السوداء) مع عدد من الشخصيات المناسبة، لقد كان المسرح الجزائري دائما واقعيا بل رائدا في الواقعية ولكنه كان أحيانا رمزيا موجها إلى جمهور محدود بينما الفنانون يريدون جمهورا عريضا، وهكذا مثلت (أبناء القصبة) خطوة إلى الأمام في تطور المسرح، ذلك أن الممثلين لم يهاجموا الاستعمار وإنما أصبحوا يتحدثون عن

الشعب في حاضره، فكان المسرح هو وسيلة الفنانين في المقاومة، فهو مسرح ملتزم، مسرح شعب في حرب، مسرح جبهة التحرير، واعترف مصطفى كاتب بأن الاستقلال سيأتي بمشاكل جديدة للمسرح وعليه أن يواجهها، ومنها المواضيع الجديدة والطرق الجديدة للتعبير، وبالفعل عاش مصطفى كاتب نفسه بعد الاستقلال وتولى شؤون المسرح في وزارة الثقافة والإعلام وواجه هذا التحدي الجديد (1). أما الفرقة الفنية الجزائرية الجديدة فقد ظهرت سنة 1958 في تونس، ومثلت في 24 مايو أمام الجمهور التونسي والجزائري لوحات من الغناء والرقص مما يمثل واقع الجزائر في مختلف المناطق كما يمثل آمال الشعب، ثم مثلت الفرقة أيضا مسرحية ألفها أحدهم وهو (زينات) بعنوان (آخر القومية goumier) خلال شهري, يونيو ويوليو 1958، واستمرت إلى سبتمبر في تقديم عروض عن (التضحية) ومسرحية بعنوان (مونتسيرا) مثلتها في تونس أيضا، ثم مثلت منظرين الأول أمام صحفية أمريكية، والثاني أمام صحفي ألماني جاء من أجل تأليف قطعة موسيقية، بالتعاون مع طلبة جزائريين كانوا يدرسون في ألمانيا، كما مثلت في ليبيا مسرحية بعنوان (نحو النور) في أكتوبر ونوفمبر من نفس السنة، وابتداء من 13 ديسمبر 1958 توجهت الفرقة إلى يوغسلافيا حيث استقبلت بحفاوة كبيرة وزارت جمهوريات (كرواتيا، والبوسنة وصربيا، ومقدونيا)، ثم رجعت إلى تونس، في 6 يناير 1959 واستقرت في مقرها الجديد. وفي هذه الأثناء وجه السيد مصطفى كاتب مذكرة إلى ممثل الحكومة المؤقتة في مدريد حول المسرح الجزائري، فقد وجدنا هذه المذكرة عند السيد بوقادوم بوزارة الخارجية الذي قام بتحويلها إلى وزير الداخلية، من القاهرة بتاريخ 7 مايو، 1959، إن نص المذكرة مفقود، ولكن الإشارة إليها موجودة

_ (1) المجاهد - بالفرنسية - 42، 25 مايو 1959.

استمرار النشاط المسرحي

في مراسلة بوقادوم المذكورة، ولا ندري ماذا كانت تقول أو تطلب بالضبط، وقد تكون ذات فائدة كبيرة في هذا المجال، لو عثر عليها الباحثون (1). استمرار النشاط المسرحي وفي داخل الجزائر استمر المسرح الاجتماعي والغنائي يعمل عمله رغم اختفاء عدد من عناصره البارزة، ففي سنة 1956 توجهت فرقة الجزائر للرقص والغناء إلى إيطاليا وشاركت في مهرجان فولكلوري في إيطاليا، كان ضمن الفرقة عدد من الفنانين والفنانات، منهم رحاب الطاهر ونجاة وهاجر بالي وأحمد سري، وقد روى هذه الرحلة الفنية رحاب الطاهر بالشعر الملحون، واستوحى فيها جزيرة صقلية التي زارها واستعاد منها تاريخ أمجاده العرب والمسلمين، وقد استغرقت رحلة الفرقة اثني عشر يوما، وشاركت في المؤتمر ثماني دول، منها الجزائر كما قيل، رغم أنها لم تكن عندئذ دولة (2). وفي سنة 1960 تحدثت وسائل الإعلام عن فرقة مستغانم للمسرح، وهي التي قامت بتمثيل مسرحية (الخيمة) فأحسنت تمثيلها، وأشاد بها النقاد ونالت حظا من الشهرة والرواج عندما مثلت في قاعة (بيير بورد) بالعاصمة، حتى أن أحد النقال قال إنها قد أثرت على الجمهور وشدت أنفاسه إذ اجتمع فيها حسن التمثيل مع جمال الزخرفة المناظر والموسيقى التصويرية، كما مثلت نفس الفرقة مسرحية قصيرة باسم (المصور)، ولكننا لا نعرف من هذه الفرقة إلا اسمها، فليس هناك أسماء لمخرج ولا لمؤلف ولا للممثلين، وفي عدد لاحق من مجلة (هنا الجزائر) نوه الممثل والناقد محمد الطاهر فضلاء بفرقة مسرح مستغانم قائلا إنها (درة في جبين الجزائر،) كما أشادت بها مجلة (المناظر) التي كانت تصدر بفرنسا وجاءت بصورة فرقتها ولخصت بعض نشاطها، وهكذا تعددت الفرق

_ (1) الأرشيف الوطني، علبة 21 - 50. (2) هنا الجزائر، 44، مارس 1956.

الفنية رغم أن الثورة كانت على أشدها (1). وغداة الاستقلال صرح مصطفى كاتب الذي عاصر المسرح قبل وأثناء الثورة بأن الفرنسيين كانوا قد أوقفوا (مسرح الظل) ومسرح (التريتو) سنة 1943، فلم يبق للجزائر سوى الحكواتية والمنشدين (المداحين؟) والشعراء الشعبيين لمواصلة التقاليد المسرحية، أما الفن المسرحي بالمعنى الدقيق فلم يعد إلى الظهور إلا مع الجمعيات ذات التوجه السياسي، مثل جمعية الطلبة المسلمين الجزائريين، فقد جلب الفن المسرحي الشباب إليه، ولكن الإدارة الاستعمارية ضاعفت من المثبطات والعراقيل فأرجعت العمل بقانون الرقابة الصادر سنة 1934، ولجأت إلى نقل المعلمين من أماكنهم وأجبرتهم على طلب الرخصة من رؤساء الدوائر ونوابهم وحتى من الشرطة، إضافة إلى ضرورة الحصول على رخصة خاصة في المناطق الجنوبية، ولا شك أن مصطفى كاتب يعني معلمي جمعية العلماء بالخصوص الذين طالهم قانون (ميشيل) ثم قانون (رينييه) في فترة الثلاثينات، ومن الممكن أن نتصور كم كانت حياة الممثلين ضنكة بين 1927 - 1954، وهم يتخذون المسرح هواية وليس حرفة. ومع ذلك فقد كان للمسرح نقاط ضعف أيضا، حسب رأي كاتب، فقد كانت تسود البعض روح (مركانتية) أو تجارية ربحية، وهي روح لا تقود إلا إلى الهبوط الفني، ومع ذلك فإن المسرح قد استمر محافظا على (لغتنا وهويتنا وثقافتنا،) وخلال حرب التحرير كان المسرح سلاحا في المعركة، فقد ساهم في كشف الغامضين والمؤثرين سلبا على الشعب، كما أنه حمل إلى الأشقاء والأصدقاء رسالة الشعب الجزائري المحب للسلام والحرية، وبعد الاستقلال أصبح المسرح، بناء على رأيه، في خدمة الجزائر الاشتراكية، وقد أممت

_ (1) هنا الجزائر، مايو 1960 ويوليو 1960، ومجلة المناظر عدد 3، السنة الثانية، فبراير 1961.

الحكومة المسرح وجعلته في خدمة الشعب وتابعا لوزارة التربية (1). وللتذكير فإن السيد كاتب أصبح من أعمدة الحياة الثفافية بعد الاستقلال، فقد تولى على ما نعتقد إدارة المسرح بعد تأميمه، وكانت له ميول اشتراكية واضحة مسايرة للموجة الضاربة في ذلك الوقت، ولا ندري هل هي اشتراكية عقائدية (ماركسية) راسخة أو اشتراكية يسارية معادية للاستعمار كان التيار الوطني عموما يتغطى بها، وهو التيار الذي سيطر على توجه الجزائر بعد الاستقلال. ومن (نجوم) المسرح خلال الثورة وما بعدها حسن الحسني المعروف بوبقرة، وهو حسن بن الشيخ المولود، ولد في 25 سبتمبر 1916، ببلدة بوغار جنوب المدية، وكان أول اتصال له بالمسرح سنة 1936، بفضل والده الذي كان معلما، وفي سنة 1945 التقى بمحيي الدين باش تارزي عندما نزل بفرفته مدينة البرواقية القريبة من مسقط رأسه، ودخل بوبقرة فرقة باش تارزي وأدى أدوارا هامة قبل أن يستقل بعرض مسرحي خاص به عنوانه (أحلام حسان)، وهو العض الذي قيل إنه أغضب السلطات الاستعمارية، وقد انضم بوبقرة إلى حزب الشعب ثم حركة الانتصار المنبثقة عن هذا الحزب، ودخل السجن من أجل نشاطه في هذه الحركة، وبعد خروجه منه سنة 1950 مثل مسرحية بعنوان (المؤامرة) وأسس فرقة (الفن الجزائري) مع الطيب أبو الحسن، ثم التحق بالتلفزة وأدى دورا في مسرحية (المطاردة) لمصطفى بديع، وبعد الاستقلال تفرغ حسن الحسني للمسرح في فرقة المسرح الوطني، ثم تخلى عنه وأسس فرقة خاصة به أسماها (مسرح الفصول الأربعة)، كما دخل ميدان السينما وشارك في حوالي خمسة وثلاثين فيلما (2).

_ (1) تصريح لمصطفى كاتب حول المسرح الجزائري في - الثورة الثقافية في عامها الأول - وزارة التربية الوطنية، 1962 - 1963، الجزائر، ص 37، والتاريخ الذي ذكره كاتب على أنه سنة 1943 ربما يقصد به سنة 1843. (2) جريدة الشروق اليومي، 20 سبتمبر 2004.

المسرح الثوري

وكان حسن الحسني قد دخل السجن أيضا خلال الثورة ومع ذلك لم تغب عنه الفكاهة حتى في هذه الظروف العابسة، وقد تحدث الشيخ محمد الصالح بن عتيق في مذكراته عن تمثيل بعض المساجين رواية (تكول، تكول با) التي جرت حوادثها في معتقل (أركول) بضاحية وهران سنة 1957 عند إضراب المعتقلين عن الطعام، فجاءت إدارة السجن وأرغمتهم على تناول الطعام بإدخال قطع الخبز في أفواههم قسرا: (تأكل أو لا تأكل؟)، وقد تقلد بوبقرة شخصية الرائد (دوفير) الذي كان يقوم بدور إرغامهم على تناول الطعام. ومنها رواية (كردافو = استعدوا) التي تعني أداء التحية العسكرية والتي جرت حوادثها في يونيو 1959 عندما فرضت الإدارة على المساجين أداء التحية للجنود الفرنسيين، فتارة يقال لهم: استعدوا وتارة استريحوا، فحدثت فوضى لدى غير المدربين، وقد مثل بوبقرة هذا الدور مع آخرين، فكان هؤلاء يعزفون الموسيقى على طريقتهم (1). المسرح الثوري: والذي يرجع إلى أعداد المجاهد سيلاحظ اهتمامها بالنشاط المسرحي من عرض وتمثيل وموضوع، فكانت تتابع نشاط الفرقة الفنية الجزائرية، وتبدي ملاحظاتها على تنقل أعضاء الفرقة بين البلاد العربية وأوروبا، وقد تحدثت عن مسرحية جديدة عنوانها (الخالدون) على أنها ستمثل يومي 12، 24 أبريل 1960 من قبل الفرقة الفنية الجزائرية على المسرح البلدي في تونس، وتتألف المسرحية من أربعة فصول، وهي من عمل الجزائريين، وأنها تعكس المظاهر المختلفة للمعركة في الجزائر ضد القوات الفرنسية الغازية، وتصور الثوار في علاقتهم بالشعب ومعاناتهم وآمالهم ومشاكلهم، وتنبأت الجريدة للمسرحية بالنجاح لأنها تأتي بعد مسرحية أبناء القصبة.

_ (1) ابن عتيق، ص 158.

ومن رأيها أن (الخالدون) ستعجب الجمهور الذي أعجب بتمثيل (أبناء القصبة)، وأن (الخالدون) تمثل ما سجله أبطال الكفاح في الجزائر من تضحيات جسام في سبيل بلوغ الهدف المنشود وهو الحرية والسيادة الوطنية (1). لكن يلاحظ أن الجريدة لم ترجع إلى موضوع (الخالدون)، فهل مثلت فعلا؟ إن الإعلان عنها يمثل صورة لعنوان المسرحية، وتمثل الصورة المسرح البلدي التونسي من الأعلى، وفي الوسط تظهر الفرقة الفنية الجزائرية، وفي الأسفل عنوان (الخالدون)، ثم في الأعلى على اليمين رقم 12 وعلى اليسار رقم 24، وهما التاريخان اللذان ستمثل خلالها المسرحية وفي نهاية الإعلان وبخط صغير عبارة: إخراج مصطفى كاتب وتأليف عبد الحليم رايس. لكن عناية إعلام الثورة بالمسرح لم يتوقف عند: الخالدون وأبناء القصبة ... فقد أصدر حسين بوزاهر كتابا/ مسرحية في باريس بعنوان (أصوات من القصبة)، وهو في الواقع يتألف من مسرحيتين، وبوزاهر هذا قدمته المجاهد على أنه شاب مناضل في صفوف جبهة التحرير، وقد اعتبر المؤلف المسرح سلاحا، وعملا نضاليا - حسبما نقله عن اليونانيين - ولكن الشاعر لا يعوض الشعب، والشعب يحب أن يسمع صوته في الشاعر، وهو ما جاء به هذا الكتاب، ويروي صاحبه أنه في 13 مارس اعتقل الفرنسيون حوالي مائة من القرويين بالقرب من جزيرة يسر ورموا بهم في كهف ثم قتلوهم خنقا، ولكن الفرنسيين لا يمكنهم القبض على الشمس ... إن الجريدة قدمت عرضا وافيا للمسرحيتين على لسان الممثلين، وتنتهي المسرحية بلحن وطني عظيم يردده الممثلون والمشاهدون معا (2). إذا كانت أبناء القصية التي مثلت سنة 1959 قد (قدمت بأمانة وحيوية

_ (1) المجاهد / بالفرنسية 62، 31 مارس، 1962، وكذلك المجاهد / العربية 65، 7 أبريل، 1960. (2) انظر المجاهد / بالفرنسية، 77، 29، يناير، 1961.

صورا من المرحلة الأولى للثورة) عند انتشارها في المدن بعد أن تغلبت على قوى الشر في الأرياف، فإن مسرحية (دم الأحرار) قد عكست مرحلة أخرى من الثورة، ونقلتها إلى الريف حيث تجري حوادثها، ولكن موضوعها ليس هو الريف فهي ترجع إلى ما بعد مارس 1959 إذ تشير إلى خط (شال) حيث تجري أحداث الرواية، لذلك فموضوعها ليس هو الشعب الذي يفترض فيه أنه أصبح كله إلى جانب الثورة، لكنه هو المجند الجزائري، ذلك أن الاستعمار يحاول أن يستعمل المجندين ضد الثورة، بينما الثورة تحاول تجنيدهم وكسبهم إلى جانبها، وهنا يصبح الصراع صراع المجند مع نفسه، صراعا ذاتيا، وقد نجح الممثلون في تجسيد هذا الموقف، وكانت الرواية محبوكة، ولها عقدة قوية وتتمتع بنفس المفاجأة التي مثلتها مسرحية أبناء القصبة، إن (دم الأحرار) هنا ليس دم التضحية الذي يسيل عند الكفاح، ولكنه دم الأجداد الذين هزموا، وظلوا يتطلعون إلى يوم الانتقام والثورة. وقد تابع الجمهور - حسب الجريدة - مسرحية (دم الأحرار) بشغف متأثرا بمناظر التعذيب، وقامت الفرقة الفنية الجزائرية بتمثيل المسرحية فأحسنت التمثيل، وهنأت الجريدة الفرقة، ولا سيما مصطفى كاتب الذي أبدع في دوره، كما قالت، كما أجاد المؤلف موضوعه الدقيق وحوادثه المثيرة. وقد مثلت دم الأحرار يومي 29، و 31 ديسمبر 1961 على المسرح البلدي التونسي أيضا، فبعد أبناء القصبة سنة 1959، والخالدون سنة 1960، جائت دم الأحرار لتنتهي بها سنة 1961، في محاولة مسرحية جديدة مستوحاة من معركة التضحية والوطنية (1). ويبدو أن السلطات الاستعمارية قد كشفت النشاط الفني الشعبي للتغطية على ما يقوم به

_ (1) المجاهد، 112، 8 يناير، 1962، والمجاهد / بالفرنسية 89، 16 يناير، 1962، انظر أيضا تاريخ الصحافة في الجزائر للزبير سيف الإسلام، الجزائر، 1982، ج 2؟

الحاجز الأخير

جنودها في الأرياف والجبال ضد المواطنين في السنتين الأوليين من الثورة، فقد نشطت الإذاعة وجيء بالتلفزيون وبدأ نقل النشاط الفني عبر هذه القنوات، وكانت مجلة (هنا الجزائر) تعكس هذا النشاط شهريا، وكان مقر هذا النشاط عادة يجري في قاعة (بيير بورد) بالعاصمة (ابن خلدون حاليا)، ففي فاتح نوفمبر 1959 افتتحت السلطات الموسم الفني (1959 - 1960) وأعدت برنامجا حافلا كإذاعة المسرحيات والحفلات الغنائية والمقطوعات الموسيقية من كل نوع من الأنواع الخمسة المعروفة (أندلسي، شعبي، صحراوي، قبائلي، عصري)، وقد أشاد الواصف لهذه الحفلات بالجمهور الذي جاء من نقاط أبعد من العاصمة وضواحيها، مع تسهيل وسائل النقل، لحضور هذه الحفلات، وركز الواصف على سعادة الجمهور وظهوره بمظهر المبتسم المتفائل، ومن الفنانين البارزين من هذه الأثناء مصطفى بديع، وهو مخرج تلفزيوني، وقزدارلي، والعماري، وعلي عبدون ... (1). الحاجز الأخير أصدرت مجلة الفكر التونسية سنة 1955 ترجمة لمسرحية كتبها مصطفى الأشرف أسماها (الحاجز الأخير) أو الباب الأخير، ويبدو أنه كتبها في ديسمبر 1954 أي في بداية العهد الثوري، وهي مسرحية ليس لها بطل واحد، وربما رمز فيها الأشرف إلى أن البطل هو الشعب نفسه، وقد أدارها على ثلاثة فصول: تحدث في الفصل الأول عن جماعة من النسوة تجمعن أمام سجن سركاجي (سجن بربروس) لزيارة أزواجهن وأبنائهن وهن يحملن سلال الطعام لهم، ودار بينهن نقاش حول دورهن في غياب رجالهن، وحول الحواجز المقامة بينهن وبينهم، وهي حواجز وهمية لأن القدر يربط بين الجميع، وقد تعلمن كيف يتغلبن من الآن فصاعدا على الصعوبات لأن العالم غير مكترث بمن يعاني من

_ (1) هنا الجزائر 82، ديسمبر 1959.

القيود والأغلال، وعليهن الاعتماد على أنفسهن. وفي الفصل الثاني عرض الكاتب لوحة أخرى، ففي سجن قبيح المنظر جلس خمسة رجال مسندين ظهورهم إلى الحائط ومعهم رجل قوي العقيدة يحدثهم عن التعذيب الذي خضع له وعزيمته التي واجه بها الجلادين، وهو يرمز إلى الإصرار الذي يميز العهد الجديد والذي يمثله الرجل الذي ظهر في شخص (طالب) كان يحاول أن يبعث الأمل واليقظة في زملائه الشباب الذين يمثلون نصف سكان البلاد. أما الفصل الثالث فقد خصصه لحوار جرى بين سيدتين ريفيتين جلستا تقارنان بين زوج حليمة المجاهد مرزوق وزوج مريم السجين، ومن الحوار نعرف أن حياة مرزوق في الجبل أفضل من حياة زوج مريم القابع في السجن الذي قد ينسونه فيه، أما مرزوق فيتمتع بالحرية، وفجأة ظهر مرزوق أمام الكوخ ليطمئن على زوجته وابنه لأنه كان في معركة قريبة من الكوخ، وقد قالت حليمة في حوارها إننا نحن الأمهات نمشي وأبناؤنا ينبتون كالأشجار الباسقة دائما إلى الأعلى (1). تحدث الناقد الفني والشاعر الشعبي محمد الحبيب حشلاف عن تمثيلية كانت في حاجة - كما قال أحد النقاد الفرنسيين أيضا (وهو فيرنندان دوفان) - إلى موسيقى تصويرية توضح أفكار مؤلفها، والمقصود بالتمثيلية هنا (الخادمة الشريفة) التي أشار إليها باش تارزي في تدخله أمام الصحافة (أنظر سابقا)، ولا ندري إن كان مقال الناقد الفرسي قد ترجم إلى العربية، كما طرح حشلاف مسألة لغة المسرح: الدارجة أو الفصحى، وقد عرف حشلاف بأنه شاعر الملحون وصاحب برنامج (من كل فن شوية) الإذاعي (2).

_ (1) عن هذه المسرحية انظر كتابنا دراسات في الأدب الجزائري الحديث، دار الآداب، بيروت، 1966، ص 66 - 68. (2) هنا الجزائر، 85، مارس 1960، فهرس المجلة انتزعت منه صفحات فلم نتمكن من =

مصرع الطغاة

إن الاهتمام بلغة المسرح والأدب المسرحي جعل مجلة (الشباب الجزائري) التي كانت تصدر في تونس عن فرع اتحاد الطلبة (لوجيما) تعلن عن مسابقة لأحسن مسرحية تعالج مشكلة من الواقع الثوري، ومدة المسابقة هي خمسة أشهر ابتداء من يناير 1962، وقد اشترطت أن تكون المسرحية مكتوبة بالعربية الفصحى أو الدارجة أو حتى بالفرنسية، وليس في ذلك من شرط في الواقع ما دام المشارك يستطيع أن يكتب المسرحية بإحدى هذه اللغات، وعلى كل حال فإن المسابقة كانت مفتوحة لكل عربي، ومدتها خمسة أشهر ابتداء من يناير 1962، وقد وعدت المجلة بإن الفرقة الفنية الجزائرية ستقوم بتمثيل المسرحيات الفائزة، ونحن لم نقرأ بعد ذلك ما إذا نفذت المسابقة ففاز فيها من فاز وخسر من خسر، وربما غطت أحداث الثورة سنة 1962 على المسابقات والجوائز والمسرحيات خصوصا بعد إعلان وقف إطلاق النار (1). مصرع الطغاة مسرحية سياسية كتبها عبد الله ركيبي تتألف من أربعة فصول هي يقظة الضمير الثوري والشعور بالواجب الوطني، وإفلاس الأحزاب السياسية، ويأس الجيل الجديد والشعب من الأحزاب، والتضحية من أجل حب الوطن والحبيبة، وأخيرا فشل الاستعمار الفرنسي في وضع حد للثورة، وفي المسرحية لوحات فنية جميلة وتعبير صادق، رغم الخطابية أحيانا، عن المرحلة الجديدة التي أصبحت تعيشها الجزائر. رمز المؤلف للجزائر القديمة بشيخ مريض يودع الحياة، وهو والد البطل، والشخص النقيض للبطل رجل أحدب مشوه رمز به للخيانة وكان مصيره الموت برصاص الثورة، وهناك رمز آخر وهو الكاهنة العربية (رحمة) التي تقمصت التاريخ كله في شخصها لكي تعجن تاريخ العروبة والإسلام، ولقاء أحمد المناضل بحبيبته حسم حب الوطن والحبيبة، بينما غادر شاب مقعد الدراسة في

_ = الاطلاع على عدد سليم منها، وقد قيل إن الخادمة الشريفة من وضع السيد الخشاني. (1) المجاهد 112، 8 يناير، 1962.

الموسيقى والغناء

المدرسة الفرنسية ولازم الخمر والقمار انتقاما من واقع الاستعمار، وقد أعلن البطل (البشير) أن الثورة قامت باسم عروبة الجزائر، والمسرحية تنتهي بانتصار الثورة قبل الأوان استباقا للأحداث. ولا شك أن هذه المسرحية تعبر عن تطور تاريخي ووطني عاشه المؤلف نفسه فهو ابن البيئة التي انطلقت منها الثورة (الأوراس)، وقد عاشها من سنواتها الأولى مناضلا وسجينا ومثقفا (1). الموسيقى والغناء لم يطرأ على الموسيقى والموسيقيين تطور كبير بعد 1954 - وربما يأتي في طليعة التغيير انقسامهم إلى تقليديين ومتحررين، ونقصد بالصنف الأول أولئك الذين استمروا في عطائهم التقليدي ماكثين في الجزائر رغم المضايقات وحجم الأحداث، ووسيلتهم في ذلك الظهور في الحفلات الشعبية والإذاعة المحلية وتسجيل الأسطوانات، وبعد ظهور التلفزيون أخذوا أيضا يقدمون له مادة جديدة تصلح به وبجمهوره، كما استمر تصنيف الفن الموسيقى والغنائي إلى أندلسي وشعبي وحوزي وبدوي وعصري، وهلم جرا من هذه التصنيفات الاستعمارية التي كانت تهدف إلى تغييب عوامل الوحدة الفنية لأنها من عناصر الهوية الوطنية. أما المتحررون فنقصد بهم أولئك الذين خرجوا من النطاق السابق، وتمردوا عليه، وأخذوا يظهرون في سجالات أخرى كإنشاد الأناشيد للثورة وإقامة الحفلات للمهاجرين واللاجئين والوفود الأجنبية والشعوب الشقيقة والصديقة، وقد ألف هذا الصنف أجواقا وفرقا كما ألف الصنف الأول أجواقا، وفرقا، وتبنت بعض الفرق العربية في تونس وسوريا ومصر الفنانين الجزائريين المتحررين وأعطتهم المجال للظهور، كما تبناهم صوت العرب وأصوات

_ (1) بعض التفاصيل عن هذه المسرحية في كتابنا تجارب في الأدب والرحلة، ص 123 - 125.

آراء في الموسيقى

الجزائر التي كانت تنطلق من العواصم العربية وأتاحت لهم تسجيل ألحانهم وأغانيهم وأناشيدهم على اسطوانات لترويجها. وفي الجزائر استمرت عدة أجواق في أداء دورها الموسيقي منها جوق الحاج العربي بن صاري الذي كان يقدم حفلات في التلفزيون، وتحدثت الصحافة عن جوق شعبي كان يديره الشاب محمد الطاهر (؟) قال عنه أحد الكتاب إنه (أطربهم بألحانه الواردة وبموسيقاه العصرية التي نستطيع أن نفاخر بها أية موسيقى شرقية) (1). وظهر جوق بقيادة الصادق البجائي، وآخر بقيادة عبد الكريم دالي، وكاد يصبح لكل مطرب معروف جوق يحمل اسمه، مثل محمد العنقاء ومحمد فخارجي وأحمد خليفي، كما ظهرت فرقة باسم (حفلة الوالعين) كان يشترك فيها هواة الفن والغناء والطرب أمثال رابح درياسة الذي كان يؤلف لها الأغاني أيضا، وازداد اسم عبد الرحمن عزيز شهرة فألف أيضا فرقة للفن العصري، ويمكننا أن نواصل ذكر الفرق والأجواق التي كان عمرها يطول أو يقصر، وقد ترتفع بالفن وقد تهبط به (2). آراء في الموسيقى نشير في البداية إلى رأي غريب يعود بالطالع في الموسيقى إلى عهد بعيد. عهد بني هلال، وقد جاء رأيه في مراسلة من مجهول بعث بها من تقرت أحد المتذوقين أو المطلعين على تطور الموسيقى، فقد لاحظ هذا المراسل أن الموسيقى والشعر الملحون في تلمسان وقسنطينة، وأن أصل الغناء الحوزي والعروبي ... أو ما أسماه بالصياح أو الطالع في الموسيقى إنما هو مصري الأصل ورد إلى الجزائر مع بني هلال عبر تونس، ولكن هذا المراسل ربما لم

_ (1) هنا الجزائر 75، أبريل 1959، مع صورة، وكذلك نفس المرجع 87، مايو 1960. (2) هنا الجزائر 72، يناير 1959.

يعرف أن بني هلال ليسوا مصريين وإنما عبروا مصر فقط (1). كان الفنان التونسي قدور الصرارفي يتعاون في الجزائر مع فرقة الفن العربي بقيادة محيي الدين باش تارزي، وقد أدلى بتصريح إلى جريدة (تونس سوار) قارن فيه الوضع الفني في الجزائر بالوضع الفني في تونس، بعد أن قضى في الجزائر ثلاث سنوات، فنوه بالنهضة الفنية فيها وبتأثيرها على النهضة الفنية في شمال إفريقيا، وصنف الفن الجزائري ثلاثة أصناف أو أقسام: 1 - الكلاسيكي الذي تقدره - كما قال - إذاعة الجزائر تقديرا خاصا لكي يبلغ درجة عالية، وهو يقصد به الأندلسي أو الموسيقى العربية القديمة. 2 - المحلي (الشعبي؟)، وهو في نظره الصنف الوحيد الذي يحرز على تقدير جميع الطبقات، ويمثل الطابع الوطني الجزائري سواء كان يعتمد الأسلوب القديم أو الحديث، وهو في نظره يسير نحو التطور، ولا ندري كيف وصل الصرارفي إلى هذا القرار، مع أن الشعبي خاص بالعاصمة، بل بفئة ربما بفئة واحدة من أهل العاصمة وليس له طابع (وطني) يرضى جميع الطبقات والأذواق عبر القطر الجزائري. 3 - العصري، وله مكانته أيضا في المجتمع، ولا تعني كلمة العصري أن أصحابه يعتمدون الموسيقى الغربية أو المقلدة، وأفضل أنواعه عنده هو الممزوج بالطابع الوطني. ولم يخبرنا الصرارفي عن قادة كل صنف وموضوعاته، فهل كل هذه الأصناف من النوع (المحلي) أو الجهوي؟ والملاحظ أن الصرارفي قد أشاد بدور الإذاعة الجزائرية (الفرنسية) في تشجيع الفن والارتفاع به إلى المستوى الذي يحصنه من السرقات أو الاقتباس والتقليد، وهو يفضل برامج إذاعة الجزائر على برامج إذاعة تونس، لأن إذاعة الجزائر تتعاون مع فرقة المسرح

_ (1) هنا الجزائر 71، ص 14.

العربي التي يديرها باش تارزي (عميد النهضة الفنية)، حسب تعبيره (1). رأينا في محتوى أحد أعداد (هنا الجزائر) مقالة بعنوان (الموسيقى بين الأداء والتسجيل) فأغرانا الموضوع بالقراءة لنعرف مدى تقدم فن الموسيقى، ولكننا للأسف وجدنا المقالة مقتطعة وليس لها اسم لكاتب، ولم ننجح في الاطلاع على المقالة المفقودة (2). لكن الكاتب الذي درس الموسيقى الأندلسية دراسة وافية من موقع المختص والمثقف هو سفير البودالي الذي زود مجلة هنا الجزائر وغيرها بمقالات قيمة عن هذا الفن، وقد تعرفنا عليه سنة 1967 حين سافرنا معا على نفس الطائرة إلى قسنطينة لنسهم في النشاط الثقافي في هذه المدينة، وقد لاحظنا عليه التواضع وحب التأمل وقلة الكلام، وكان فيما بدا لي عميق الثقافة، وسنتتبع هنا بعض نشاطه وآثاره، من ذلك ما كتبه عن الموسيقى العربية في مجلة (الوثائق الجزائرية) الصادرة بالفرنسية عن الولاية العامة (3). بعد وقوع زلزال الأصنام سنة 1954، توجهت الفرقة الفنية الجزائرية إلى فرنسا بقيادة مديرها باش تارزي لتحيي حفلة تجمع خلالها التبرعات للمنكوبين، قدمت الفرقة حفلات شارك فيها جيش من الفنانين قوامه تسعون فنانا، ركب هؤلاء ثلاث طائرات عسكرية حملتهم إلى العاصمة الفرنسية التي وصلوها بعد أربع ساعات، وبعد الاحتفاء بهم في المطار (لوبورجي) توجهوا إلى مسجد باريس حيث تناولوا الغداء، ثم توجهوا إلى الفندق الذي سكنوه مجانا مشاركة من أصحابه في التبرع، كان ذلك في أول نوفمبر 1954، ويالها من مصادفة! فقد ثارت الجزائر في غياب فنانيها.

_ (1) هنا الجزائر 39، أكتوبر 1955. (2) هنا الجزائر 75، أبريل 1959، ص 53. (3) هنا الجزائر 89، يوليو 1960، كما أخذتها من الوثاتق الجزائرية (Documents Algériens)، السلسلة الثفافية، من الفنون، 36, 20 جوان 1949.

وفي الثاني من الشهر انتقلوا إلى دار الأوبرا ليشرعوا في التدريبات، وكان قد رافقهم الطاهر بوشوشي رئيس تحرير مجلة هنا الجزائر، ذهب بعضهم إلى نادي الأدباء والكتاب ولعل بوشوشي والبودالي كانا منهم فكلاهما من الأدباء البارزين، ومن الذين حضروا الحفل الرئيسي بدار الأوبرا رئيس الجمهورية ووزير الداخلية (ميتران) وغيرهما، وقد رفع الستار على منظر من ألف ليلة وليلة يتصدره هارون الرشيد في مجلس أنس وشراب .. وهو محاط بالجواري والشعراء والمطربين ... ذلك هو الشرق وتلك هي الجزائر الشرقية في عرف الفرنسيين، وفي هذه اللحظة تقدم سفير البودالي، بصفته مديرا للقسم العربي في الإذاعة الجزائرية (الفرنسية) وألقى كلمة شكر فيها لجنة الاحتفال، وأشاد بالفن الجزائري في ظل البنادق المشرعة ... وبعد ذلك بدأ التمثيل. كانت هناك ترجمة مرافقة تساعد المتفرجين على فهم ما يجري، وكان البودالي نفسه يقوم بشرح مختصر باللغة الفرنسية، وقد مثل مصطفى كاتب دور الخليفة هارون الرشيد، ومن بطانته الفكاهي محمد التوري، وقامت بعض الفتيات بدور الجواري المغنيات، أما المنشدون فكان منهم عبد الرحمن عزيز ومحمد فؤاد ومحمد بن يحيى، وكان الجوق الفني يتكون من 32 عازفا بإدارة مصطفى اسكندراني، وفي لحظة سريعة مفاجئة دخل بوعلام تيتيش وفرقته وهي تضرب الطبل وتصدح بالزرنة، فاستقبلتهم الجواري بالزغاريد. لقد كان منظرا مؤثرا هذا الذي يجري على مسرح الأوبرا بباريس، وكان إعجاب الحاضرين واضحا من التصفيق وتتبع تفاصيل الحدث والموسيقى والمكونات الأخرى لهذه اللوحة الفنية، وختمت الفنانة هاجر المشهد برقصة الموت (؟)، وكان مصطفى بديع هو صاحب هذا السيناريو الذي يدل على موهبة بارعه، بينما قام البودالي بتفسير السيناريو للجمهور، أما الإخراج فقد قام به الحبيب رضا بمساعدة مصطفى بديع، هذا هو محتوى القسم العربي من الحفل الذي جاء، فيما يبدو، في غير زمنه.

رأي باربيس في الموسيقى

ثم جاء دور القسم الفرنسي من الحفل، والمفهوم أن نفس الفرقة هي التي قامت بالدورين معا، ومهما كان الأمر فإن حصيلة ما جمعته الفرقة من التبرعات بلغ عشرين مليون فرنك سلمت - كما قال كاتب المقال - إلى شيخ بلدية الأصنام (الفرنسي) بعد طرح المصاريف وهي غير مذكورة، فكم بقي للمنكوبين؟ وبعد هذه الليلة الليلاء طارت الفرقة عائدة إلى الجزائر، إنها سهرة عربية - فرنسية، كما قال الواصف عثمان بوقطاية، تجلى فيها التضامن في الظاهر على الأقل، أما الباطن فقد عبرت عنه الثورة التي أخذت تشتعل في هشيم الاستعمار (1). رأي باربيس في الموسيقى كان هناك اهتمام خاص بالموسيقى العربية - الأندلسية كما لاحظ الصرارفي، سواء من الجزائريين أو من بعض الباحثين الفرنسيين، فهذه مجلة (هنا الجزائر) لا تكاد تصدر عددا إلا وفيه مقالة بالعربية أو بالفرنسية عن هذه الموسيقى، وقد حفل عددها السادس والعشرون بمقالة كتبها ليو - لويس باربيس، وقامت المجلة بتلخيصها دون ذكر من قام بالتلخيص. بدأ باربيس دراسته بقوله إن هناك موسيقى في الجزائر لا يهتم بها أهلها ولا الأوروبيون، ولكنها تلفت نظر الزائر الغربي الذي يعتقد عند سماعها أنها رتيبة، تكرر نفسها، وأنها حزينة إلى درجة الإزعاج، وأنها فقيرة في الألحان، ومنذ أمد قصير أخذ بعض الخبراء في هذا الفن يحاولون التعريف بأشرف فقرة من هذا التراث الذي بقي مجهولا، ثم عدد أنواع الموسيقى في الجزائر فإذا بها لا تخرج في رأيه عن: - الموسيقى الشعبية البربرية (موسيقى أهل جرجرة، التوارق، الشلوح فيالأطلس المغربي) وهو يسميها جميعا موسيقى قبائلية وليس بربرية. - الموسيقى الشعبية العربية القديمة في النواحي الناطقة بالعربية في الجزائر.

_ (1) هنا الجزائر 31، يناير 1955.

- الموسيقى البدوية بأراضي القبلة والهضاب العليا. - الموسيقى العصرية المتأثرة بـ (الميزكهول) الأوروبي والجاز الأمريكي والأوبريت المصرية، وهي موسيقى تظهر في أغانيها الكلمات العربية مشوهة بالفرنسية والإنجليزية وغيرهما. - الموسيقى الكلاسيكية المعروفة بالأندلسية، وهي التي نقلها المهاجرون العرب من الأندلس إلى بلاد المغرب بعد القرن الحادي عشر، وهي تشمل الأراضي الممتدة من فاس إلى الجزائر، وتتوسطها تلمسان التي يمكن اعتبارها مركزا للبلاد المغربية، وهي موسيقي تختلف عن الأخريات لأصالتها وقيمتها، وكانت هذه الموسيقى مهملة في الجزائر منذ حوالي خمسين سنة (انظر رأي عمر راسم لاحقا)، وتكاد تكون منسية إلا في وسط نخبة برجوازية بالمدن الكبرى، وهي في ذات الوقت تكاد تكون مجهولة في الدوائر الغربية. إن هذا التقييم الذي اعتمده باربيس لم يرد عليه، حسب علمنا، ولكنه تقييم قائم، فيما يبدو على القاعدة اللغوية وليس على أصول الفن، فليس هناك أصل واحد لهذه الأنواع من الموسيقى، بل هناك أصل لكل فرع من فروعها تبعا لنطق أهلها وألفاظهم، وهذا لا يساعد كثيرا على موضوعية صاحب المقالة، ورغم أنه ركز دراسته على الموسيقى الأندلسية (الكلاسيكية) فإنه لا يجعلها أصلا تفرعت عنه أنواع أخرى من الموسيقى شأن البلدان صاحبة الحضارة المتطورة والمتأصلة، أليس تقسيم باربيس للموسيقى يتماشى مع النظرية الاستعمارية القائمة على تنوع (سكان) الجزائر أيضا؟ على كل حال دعنا نواصل معه الموضوع (1). أثار باربيس مشكلة ثم رد عليها وهي مدى صلة الموسيقى الأندلسية بالموسيقى الإغريقية، ذلك أن البعض يزعم أن هناك صلة بين الاثنين، ولكن

_ (1) قارن رأي باربيس برأي عمر راسم حول نفس الموضوع، أنظر لاحقا.

باربيس نفي ذلك، أو بالأحرى قال إن المسألة ليست بهذه البساطة، والمحقق عنده أن الموسيقى الأندلسية أخذت في الازدهار في القرنين الثالث عشر والرابع عشر في قرطبة وغرناطة، أثناء ازدهار الحضارة هناك أكثر من أوروبا لأن الأندلس كانت تتمتع بازدهار العلوم والفنون ومنها الموسيقى، وكان الشعر الغنائي الغربي يرجع بأصله إلى الشعر الغنائي العربي، فقد شاع ديوان ابن قزمان وكتاب طوق الحمامة الذي كان من مصادر الشعراء الفرنسيين الجوالين، فكانت الموسيقى الأندلسية وسيلة من وسائل الترفيه لمجتمع بلغ درجة عالية من التقدم المادي والفني، مجتمع القرنين الرابع عشر والخامس عشر في الأندلس، وكانت هذه الروح الفنية المزدهرة تظهر في الزخارف والألوان المنتشرة ذات المباني والأشكال الهندسية المتمثلة في قصر الحمراء وجنة العريف بغرناطة وجامع قرطبة وقصر أشبيلية، وهو فن قائم على الخطوط الأنيقة المضاهية لرسوم ونحوت تلك المآثر العظيمة الخالدة. إن السيد باربيس يربط بين الحضارة الأندلسية وبين موسيقاها الباقية في بلاد المغرب، ومنها الجزائر، فهي في نظره تعبير عما وصلت إليه الفنون والآداب والشعر خاصة، وما وصلت إليه الفئات الاجتماعية من بذخ احتاج إلى ترفيه وتسلية تتلاءم مع الذوق الناعم والحياة البورجوازية الراقية، فهل هذا صحيح؟ إن الكاتب يقول (إن الموسيقى الأندلسية تعزف على لحن واحد أساسي خالص وجميع الآلات المعبرة عنه والأصوات التي تشاركه ... تكون في تآلف واتحاد كاملين)، ولهذه الموسيقى أربعة مقامات أساسية هي: العراق ويمثل الجد والغلظة، والمزموم ويمثل اللطافة والحزن، والديل ويمثل القوة والحيوية، والجاركة وتمثل الروح الدينية، وقد قام باربيس بمقازنة هذه المقامات بما يقابلها في الموسيقى الإغريقية، وتبين له أنهما مختلفان وأن لكل منهما خصائصه المميزة. كما قابل المقامات الأساسية الأربعة المذكورة بمقامات ثانوية هي: الحسين والصيكة والماية والرصد، ثم قارنها بمقامات أخرى فرعية تتمثل في:

رأي عمر راسم في الموسيقى

الرمل، والرمل ماية، ورصد الديل، والغريب، والزيدان، والمجنبة، إن كل مقام من هذه المقامات يشتمل على (النوبة) وهي قطعة أو مجموعة من القطع تعزف وتغنى، إنها نوع من السنفونية المشتملة على عدة حركات متناغمة (1). رأي عمر راسم في الموسيقى من الذين اهتموا بالموسيقى عن دراية وعلم عمر راسم، فقد عاصرها ومارسها وكتب عنها، وهو يعتبر عمدة فيها، وكان يحب الموسيقى ويغار عليها بحكم أنه فنان من جهة وبحكم أنه باحث في أصولها وتطورها من جهة أخرى، وقد كنا عرضنا لبعض آرائه وكتاباته في كتابنا الثقافي، وها نحن نختم بما قاله عنها في آخر حياته، وإذا كان أخوه محمد راسم قد ختم حياته وهو غارق في متحف الرسم والمنمنمات فإن عمر راسم قد ختم حياته وهو يدافع عن الموسيقى الأندلسية الأصيلة. في شهر الثورة (نوفمبر) كتب عمر راسم مقالة عنوانها (الموسيقى الأندلسية: صفحة من تاريخها بالجزائر) تحدث فيها عن أصول هذه الموسيقى في مدينة الجزائر وعن شيوخها وميزاتها وبعض تاريخها إلى زمنه، بدأ مقالته بتعريف الموسيقى وكونها مؤثرة في الإنسان وأنها من علامات الرقي الحضاري، وضرب لذلك مثلا بـ (أمة الأندلس العربية) التي نبغت في هذا الفن مما جعل ملوك أوروبا، في نظره، يتنافسون على ألحانها أو على ملحن عربي أندلسي يزين مجالسهم، ثم هاجرت الأمة الأندلسية إلى بلاد المغرب، ومنها الجزائر، فانتشرت الموسيقى في هذه الأقطار وحدث للموسيقى في موطنها الجديد ما ليس منه بد، فحرفت نغماتها وتغيرت تراتيبها ونظامها، أي تغلب عليها ما يسميه هو (الطابع الملي البلدي)، وهذه الظاهرة نجدها بالخصوص في تونس والمغرب، ومن ثمة تغيرت طرق الأداء الفني الموسيقي، وضرب لذلك مثلا

_ (1) هنا الجزائر 26، يوليو 1957، ص 12 - 13، أنظر أيضا ما كتبناه في التاريخ الثقافي عن نفس الموضوع، ج / 5 410 - 468، ج 485/ 8.

وهو تغير الموسيقى في مصر والعراق بتداخل الألحان البدوية فيها ثم الألحان الأوروبية والأمريكية. ويقف عمر راسم ضد التقليد ولذلك تعوذ من (الهجانة والمسخ!) والغريب أنه يقول إن الموسيقى الأندلسية هذه لم يطرأ عليها تغيير في الجزائر فلم تنحرف عن طابعها الأصيل، وهو رأي مخالف إلى حد كبير لرأي باربيس السابق، ذلك أن أهل الجزائر العاصمة بالذات كانوا ولوعين (بالتقليد للفن تقليدا دينيا)، فلم يتغير - كما قال - من الموسيقى حرف واحد ولا صوت واحد مما ورثته عن المهاجرين الأندلسيين بل نقلت عنهم ألحانهم ونغماتهم وأناشيدهم نقلا دقيقا، كما رويت أسانيد الحديث، لقد كانت الجزائر أيام شبابها وعزها - في نظره - هي غرناطة إفريقيا الشمالية، ولذلك قال عمر راسم إن ما بقي من الموسيقى، على قلته، ما هو إلا صورة صادقة مما كانت تتغنى به غرناطة وأشبيلية ومالقة وطليطلة وغيرها من المدن الأندلسية، وذلك عن طريق التواتر الصحيح. نلاحظ مما سبق إصرار عمر راسم على عذرية الموسيقى الأندلسية في الجزائر - وهو يربط عذريتها بأيام العز التي لم يحددها، فهل كان ذلك زمن المرابطين أو زمن الموحدين، أو العثمانيين الذي شهد هجرة الموسيقى الأندلسية من موطنها إلى مهجرها الحصين؟ ولماذا تغيرت في تونس والمغرب، وهما جناحا المغرب العربي وموطنا الحضارة فيه، ثم تبقى الجزائر (الوسطى) محافظة على الموسيقى بدون تحريف؟ كما نلاحظ الربط عنده بين تطور الموسيقى وتطور ووصول الحديث الشريف، فهو يتكلم هنا عن التواتر، وللتذكير نقول إن عمر راسم كان من القراء المشهورين في الجامع الكبير، ومن ثمة كانت صلته بالموسيقى الأندلسية والقرآن الكريم والحديث الشريف وإنشاد المدائح. كما نلاحظ إصراره على أنه هو نفسه شاهد على ثبات الموسيقى مدة

خمسين سنة (انظر رأي باربيس، سابقا) على أمر واحد، فلم يشاهد أو يسمع طيلة المدة المذكورة، ولم يقف على فرق، فيما سمع، ولو في مد أو قصر بين من عرفت من معلم ومتعلم، ومن أخطأ في نداء أو زاد نصف نقطة في غير محلها عد عليه نقص يسفه به عند أهل الفن، فالموسيقى الأندلسية مبنية على قواعد علمية، وعلى الأصوات المطلقة والممتزجة، فهي مركبة من (نوبات) ومرتبة على قواعد الإنشاء، وهي: الاستهلال فمقصود ثم خاتمة، والنوبة تبدأ بالتوشية ضربا من دون غناء، وكرسي مثلها، وهما مغفتاحا الآلة، ويكونان على نقر الوتر، ثم يجهر بالمصدر ثقيلا، ويليه البطاحي أثقل منه في الغالب، ثم يليهما الدرج وهو أخف منهما، ثم يأتي الانصراف خفيفا، ثم الخلاص أخف، وقد يزيدون على ذلك الانقلابات (النقلبات؟) واحدها الانقلاب، وهو يتبع الصياح دائما، أو الاستخبار المناسب لصناعة النوبة، فإن كانت نوبة الزيدان يصيحون زيدانا أو يستخبرون سيكة، وهكذا، ولكل صناعة نوبة أو نوبات، ويقال إن الشيخ محمد المنيمش أستاذ السيد محمد سفينجة كان يعرف في الصنعة الواحدة عشرات النوبات بأصواتها. وبعد هذه المعلومات الفنية والعملية يقدم عمر راسم معلومات تاريخية. فهو لا يستغرب مما روي عن الشيخ المنيمش مثلا، لأنه رأي بنفسه ديوانا بخط إمام الجامع الكبير الشيخ عبد الرحمن بن الأمين، جد شيخه قدور الأمين إمام مسجد سيدي عبد الرحمن الثعالبي، فإذا في هذا الديوان أربع وعشرون صناعة أو لحنا، ولكل صناعة نوبات كثيرة منها ما يزيد عدد مصدراتها على العشرين. وكان الشخ عبد الرحمن بن الأمين يتقن الفن (الموسيقى) ويحسن تلك النوبات كلها، وكان في عصره هو رئيس القصادين، (باش قصاد)، وهي وظيفة تشريفية، كان يتقلدها من يتقن الفن ويحسن تأدية تلك النوبات كلها، ويتولى بها إدارة جماعة من القصادين أو الفنانين الذين يتغنون بمدح الرسول (صلى الله عليه وسلم) بالأناشيد أيام المولد النبوي في المساجد والأضرحة والزوايا، ويأسف الشيخ عمر راسم على أن الديوان الذي سبق أن رآه قد ضاع، كما ضاع في الجزائر كل

ما كان ينبغي أن تفاخر به ... ولم يبق لأهلها في هذا الباب إلاقليل، لكن هذا القليل الذي بقي يعتبر أصح في نظره مما بقي عند المغاربة والتوانسة ... وكذلك اللبنانيين لأن في نطقهم رقة تضعف قيمة اللحن الفنية، كما أنهم اخترعوا زيادة على الأصل أنفاسا غير موافقة لميزان الصنعة ونسبة الأصوات في الغالب. وهكذا اهتمت الجزائر بالمحافظة على الموسيقى الأندلسية، كما اهتم أهل الحديث بصحة الرواية، فكان أعيانها وعلماؤها يتنافسون في حفظها في الصدور وإتقانها ... وأشدهم حفاظا على ذلك الشعراء العلماء الذين تنافسوا في إنشاد (المولديات) وقياسها على نظام الأنغام الأندلسية، ويكفي دليلا على ذلك أن الذي أدخل الألحان الموسيقية، ثقيلها وخفيفها، حسب القواعد العلمية في الأناشيد والموشحات هو الشاعر أحمد بن عمار ... (1). وكان يشارك ابن عمار في الإنشاد الأئمة والفقهاء، وقد سار الكثير منهم على منواله من بعده، ومنهم أحمد بن القبطان إمام الجامع الجديد، وآخر فنان من ذلك السلف هو الشيخ محمد سفينجة المتوفى عام 1908، وهو تلميذ الشيخ محمد المنيمش. لقد كان سفينجة حسن الصوت (وهذا مما يقل وجوده في الفنانين في الجزائر)، وبهذه المناسبة ذكر عمر راسم قصة جرت عند زيارة الشيخ محمد عبده للجزائر (1903)، فقد أقام له الأعيان وليمة حضرها الشيخ سفينجة فأراد الشيخ مصطفى الكمال أن يعتذر للشيخ عبده عن لحن المغني وتحريفه للعربية فأجاب الشيخ عبده (بأن جميع المغنين يلحنون)، وأضاف أنه يستحسن نظام موسيقى الجزائر وأثنى على الشيخ سفينجة، وقال إن غناء الجزائر يشبه غناء

_ (1) انظر عن أحمد بن عمار ما كتبناه عنه في تاريخ الجزائر الثقافي، ج 2، وكذلك بحث محمد الحاج صادق عنه بعنوان المولد عند ابن عمار.

تعليق على الموسيقى والغناء

الأتراك وأنهما عنده أحسن بكثير من الغناء المصري، هذه هي خلاصة رواية عمر راسم. وكانت هناك - حسب عمر راسم - مغتيات محترفات يتقن الموسيقى الأندلسية الصحيحة، وخاتمتهن في نظره، هي المعلمة أمينة بنت الحاج المهدي، وما يزال من بنات العائلات الكبيرة من يعزفن بالقيثارة والرباب والقانون ... وتأسف الشيخ راسم على أن من يرى ذلك العهد الذي يشبه عهد إسحاق النديم وإبراهيم بن المهدي، ثم يرى الحالة الحاضرة وضياع تلك الآثار الجليلة واستبدالها بتقاليد المنحطين خلقا وخلقا للأغاني الأجنبية الفظيعة ونغمات النواح، فمن حقه أن يتأسف بشدة على ما آلت إليه الأحوال، بهذا الأسف والأسى ختم عمر راسم مقاله عن الموسيقى الذي هو ربما آخر صيحة له في هذه الدنيا (1). تعليق على الموسيقى والغناء هناك جيل من الموسيقيين الجزائريين ومن المغنين نشأ بعد الحرب العالمية الأولى وأعطى ثماره قبل الثورة، ثم لما حلت سنة 1954 كان هذا الجيل يرحل عن الدنيا تاركا وراءه ثروة من التقاليد والأشرطة والتلاميذ الذين واصلوا المهمة، ولم نستطع أن نجمع سير كل هؤلاء فهي متفرقة في الصحف وبعض الكتب والمذكرات والكنانيش، وهي موجودة لدى العائلات والأقارب، وقد نجح السيد محمد الحبيب حشلاف في تسجيل نبذة عن بعض الفنانين مع صور لمعظمهم، ونعم ما فعل. ومما يلاحظ أن معظم الموسيقيين والمطربين كانوا قليلي الثقافة أو أميين، لم يدرسوا الموسيقى في معاهد متخصصة، ولم يتقنوا لغة الأداء بقراءة

_ (1) هنا الجزائر 29 نوفمبر 1954 + صورته، وهو يسجل حصة فنية في الإذاعة، في مجلة المناظر وصف لحفلة طرب أقامها جوق الفنانة فضيلة التي قال عنها الكاتب إنها وارثة الفنانة أمينة، أنظر المناظر، السنة الثانية، فبراير 1961، ص 40.

القرآن الكريم وترتيله، ولم يخضعوا لمدرسة نقدية صارمة تقيم أعمالهم وتضعهم على المحك والطريق الذي يستحقونه، وإنما هي الموهبة والهواية، وبعضهم انضم إلى المغنين والملحنين بالصدفة ولم يخضع لتدريب ولا لمعاناة، حقا لقد كان بعضهم موهوبا فاعتمد على نفسه ولم يخضع للدربة والمران. وبدأوا هواة مغامرين حتى وصلوا إلى مستوى اعتقدوا أنه يؤهلهم للجلوس على عرش الفن، ومعظمهم اعتمد على الموسيقى الأندلسية والشعبية يدندن أو يرطن بهما، وكلاهما نوع من الموسيقى التي تستر عيوبهم عن عيون النقاد والمتذوقين، فهذه الموسيقى أصبحت - رغم رأي عمر راسم فيها - هي حمار الموسيقيين على غرار حمار الشعراء (بحر الرجز) يتسلقها كل غاو وكل طاو وكل عاو، ولكن لا بد من استثناء من لا يستحقون هذا الحكم وهم الذين درسوا وتعلموا وعانوا حتى وصلوا إلى مرحلة الجودة والإتقان والإبداع مثل محمد إيقربوشن. عشت فترة في العاصمة في مرحلة الثورة، قادما إليها من تونس بعد التخرج من الزيتونة، وسكنت غرفة على سطح حمام شعبي بضاحية الحراش، وفي كل صباح كنت وصاحبي ننزل من السطح إلى بهو الحمام حيث نسمع ونحن نعبره الحاج محمد العنقاء وزملاءه يدندنون بكلام غير مفهوم لنا وبموسيقي ليس فيها - في نظرنا - سوى نقر العود وبعض الأنغام الرتيبة، نتوقف وننصت محاولين جهدنا فهم ما يغنى وموضوع الأغنية فلا نفهم شيئا، فنواصل سيرنا إلى هدفنا وهو المدرسة، وقد تكرر ذلك منا إلى أن صرنا نسمع فتقبل آذاننا وذوقنا ذلك النغم الرتيب والدندنة المملة، وكنا نكتفي بالقول لبعضنا إنه فن العاصمة ونحن فيها وعلينا أن نتأقلم ونقبل ما يقدم لنا على أنه فن وموسيقى وشعر جزائري. وبعد حوالي عام كنت في القاهرة حيث أسمع - كما في تونس - الموسيقى والطرب الشرقي والشعر الفصيح والشعر الملحون (الزجل)، ومختلف الألحان الشرقية دون دندنة ولا كلام مغموم، وذات يوم كنا في نادي

الأخوان فخارجي

الطلبة، وقد فرضت الثورة الوحدة الوطنية على الجميع وقبول فن الآخر على أنه وإن اختلف نغما ولفظا فهو فن وطني، كما فرضت على الجميع التحدث وطنيا لا جهويا حتى في الفن والموسيقى، ومع ذلك حدث نقاش حاد بين طالبين حول ما إذا كان ما يسمى الموسيقي الأندلسية مفهومة جزائريا أم لا وما إذا كان فعلا فنا وطنيا، وكذلك جرى النقاش حول ما يسمى بالموسيقى الشعبية ودندنة العنقاء التي يرددها في أغنيته (لحمام اللي ربيت مشى عليا) وقد انتهى النقاش بين الطالبين على أن هذا النوع من الفن قد انتهى عهده وأن على المغنين أن يفصحوا بألسنتهم عما في قلوبهم وعقولهم لأن ما ينطقون به غير مفهوم إلا لهم ولحوارييهم. الأخوان فخارجي من أقدم الموسيقيين عشية الثورة الأخوان فخارجي، كانت شهرة محمد فخارجي قد غطت على عدد من زملائه، وقد وصل إلى رئاسة جوق المحطة للموسيقى الأندلسية براديو الجزائر، وكان يعتبر من النابغين فيها، وهو يظهر بطربوشه العثماني وصورته المهيبة من القادة البارزين في هذا الفن، إلى أن توفاه الله سنة 1956، فترك فراغا في مجاله لم يملأه إلا أخوه عبد الرزاق فخارجي الذي تولى بعده رئاسة الجوق، وهو أيضا فنان موهوب، ولد حوالي 1912 واهتم بالموسيقى الأندلسية التي يبدو أنها كانت متوارثة في العائلة، ولعل العائلة نفسها كانت من أصول أندلسية، ورغم أن سفينجة وجيله قد انتهوا فإن عبد الرزاق ظل يستمع إلى أشرطة سفينجة على الخصوص، ثم بدأ يعزف بنفسه رفقة أخيه الآخر حميدو الذي كان يكبره، كما عزف على آلة (الماندولين) أوائل العشرينات، ثم تخلى عبد الرزاق عن الموسيقى فترة بعد وفاة أخيه حميدو (1925) ولكنه رجع إليها بعد أربع سنوات، وفي هذه الأثناء أنشئت جمعية باسم (الأندلسية) فنودي على محمد فخارجي ليتولى أمرها كأستاذ، مع السيد مخيلف، فاشترك معهم عبد الرزاق كعازف على آلات غربية، وهكذا أصبح عبد

الرزاق يرافق أخاه في الحفلات. وفي سنة 1930، أنشأ محمد جمعية باسم (الجزائرية) فانضم إليها محمد تفاحي فتعلم عليه عبد الرزاق الكثير من الأغاني، وكانت الحفلات التي يشترك فيها مع أخيه وتفاحي حفلات اجتماعية مثل الأعراس، وبعد أدائه الخدمة العسكرية أصبح أستاذا في الموسيقى الأندلسية، وفي هذا العهد اندمجت جمعية (الجزائرية) في جمعية (الغرناطية) فواصل العمل فيها كأستاذ مع تفاحي، وقد تخرج على يديه عدد من العازفين الذين أصبحوا من عناصر (الأوركسترا)، ومنذ 1950 سمي عبد الرزاق أستاذا في المعهد البلدي للموسيقى بالجزائر، ولما نشأت الإذاعة سنة 1930 خصصت ساعتين للموسيقى العربية فكانت الأوركسترا الجزائرية هي التي قدمت أول مسابقة، وكانت تؤدي دور المخفف لما عليه الناس من حزن وبؤس، ومن ثم نفهم أن عبد الرزاق فخارجي لم يتلق أية ثقافة رسمية في حياته، وأنه لم يخرج من الجزائر للمشاركة والتدريب والتعلم، وأن مجاله هو الموسيقى الأندلسية التي ورثها عن العائلة وعن الشيخ سفينجة بالأثر لا بالتتلمذ، ومع ذلك وصل إلى رئاسة جوق المحطة (الإذاعة) وقيادة الأوركسترا، مثل أخيه محمد (1). إضافة إلى ما سبق عن محمد فخارجي نذكر أن أحمد سري، وهو من الموسيقيين المشهود لهم، كتب عنه كلمة تأبين، فقال إنه مرض مرضا دام عشر سنوات، ومنه إلى الموت، قبل الأوان، وله تلاميذ في الموسيقى الأندلسية، وأضاف سري أن محمدا كان من أتباع زرياب (2). كما أن تقسيم أنواع الموسيقى العربية في الجزائر إلى مدارس حسب

_ (1) هنا الجزائر 49، أكتوبر 1956، وكذلك نفس المرجع، 51، ديسمبر 1956. (2) هنا الجزائر 49، أكتوبر 1956، وقد توفي محمد فخارجي في 4 يوليو 1956، وقد اهتمت هنا الجزائر به باعتباره رئيس جوقة المحطة للأغاني الأندلسية، ونشرت صورته وصورة جوقته، انظر هنا الجزائر، فبراير 1960، ص 13.

الجهات أو حسب والطبوع قد تبلور في الخمسينات، فقد صنفت الموسيقى إلى: أندلسية وشعبية وعصرية ونحوها، كما صنفت أحيانا إلى الفن الصحراوي والقبائلي والوهراني والقسنطيني والتلمساني ... ونعتقد أن هذا التصنيف كان مقصودا ومدروسا، وهو من صنع وتكريس الفرنسيين حتى يبقى الجزائريون بعيدين عن الوحدة في تذوق فنهم والشعور بجمال طبيعتهم. وللأسف فإن الجيل الذي تولى مقاليد الاستقلال من الجزائريين قد أبقوا على هذا التصنيف دون التفطن إلى ما وراءه من حبائل وفخاخ، بالعكس لقد تكرس هذا التصنيف اليوم بإنشاء إذاعات محلية تحافظ على خصوصيات كل ولاية وتغيب كل ما له علاقة بالروابط الوطنية من تراث مشترك وثقافة دينية ولغوية وشعور بالانتماء الحضاري الواحد، وقد أصبح لكل صنف جوقة أو فرقة فنية تعزفه وتختص به، ولكل جوقة فنانها الماهر الظاهر المتميز، فللأندلسي مثلا محمد فخارجي وعبد الكريم دالي ودحمان بن عاشور وللمالوف محمد الفرقاني، وللشعبي محمد العنقاء وتلاميذه، وللعصري عبد الرحمن عزيز ومحمد العماري، وقد ظهر متخصصون من الجزائريين ومن الأوروبيين (خصوصا اليهود) في دراسة كل صنف وتحديد معالمه وأصوله، وللوهراني أحمد وهبي والبلاوي الهواري، وللصحراوي أحمد خليفي ورابح درياسة وعبد الحميد عبابسة، وللقبائلي سليمان عازم. وأشار أحد الكتاب إلى وجود جمعية جزائرية للموسيقى الأندلسية. وانتقد مؤتمر القاهرة لسنة 1932 الذي لم يحقق في نظره شيئا، كما عرفنا بوجود بحث كتبه جول رواني الفرنسي ونشره في دائرة المعارف الموسيقية، وقام السيد إسكندر شلفون بنقله إلى العربية وأظهر بعض هفواته، وهو البحث الذي استفدنا منه في الأجزاء السابقة من التاريخ الثقافي، وهناك مقال آخر عن الموسيقى الأندلسية عرض رأيين، رأي من يقول بتطوير هذه الموسيقى عن طريق استعمال الآلات الأوروبية ورأي من يقول ببقائها دون تطوير، أي على أصالتها، ودليل من يقول بالتطوير هو أن صاحب العمامة والجبة وغيرهما

يستطيع أن يقود السيارة ... فلماذا لا يستعمل أيضا الآلات الأوروبية للموسيقى الأندلسية (1). وفي أوائل الخمسينات برز محمد العنقاء بعد أن مر بمراحل في حياته جديرة بالاعتبار حتى وصل إلى رئيس جوقة الموسيقى الشعبية، كتب عنه عثمان بوقطاية مقالة تتبع فيها مراحل حياته منذ ميلاده سنة 1907 وسماه صاحب مدرسة في الفن الشعبي، وفي سنة 1919 كان الفن الشعبي في الجزائر يحتكره الشيخ مصطفى الناظور وكان العنقاء من تلاميذه المواظبين على حضور مجلسه وجوقته بل حتى في تنقلاته، ولما توفي الشيخ الناظور سنة 1926 تملكت العنقاء مشاعر اليأس خوفا على ضياع ما تعلمه. توقف العنقاء فترة عن تعاطي الفن الشعبي والتحق بضريح الشيخ عبد الرحمن الثعالبي وعاش أجواء المدائح النبوية وحياة الحضرة الصوفية والأناشيد فانتعشت روحه ووجد ضالته ولازم هناك الشيخ علي الأكحل الذي أخذ عليه العنقاء قواعد الفن الشعبي، وبعد أن أجازه هذا الشيخ على طريقة القدماء أخذ العنقاء يحيي الحفلات ويسجل الاسطوانات، كما عمل في الإذاعة وتخرج على يديه عدد من الفنانين الشعبيين، وفي سنة 1954 - وهو العهد الذي يهمنا - أصبح العنقاء رئيسا للجوقة الشعبية الرسمية للإذاعة (2). بالنسبة للموسيقى أيضا نجد الفنانين الجدد يقلدون من سبقهم، فقد قيل إن الربيع بوعلام كان يقلد رشيد القسنطيني، وسمي عبد الرحمن عزيز بمطرب الشباب، وقيل عن محمد العماري إنه كان يقلد عزيز، ومن جهتها كانت الإذاعة تقيم حفلات فنية باسم (الميزكول العربي) تارة في سينما الجمال

_ (1) المنار 9، 5 فبراير 1951 وعدد 10، 22 أكتوبر 1951. (2) هنا الجزائر 21، فبراير 1954، يحتوي هذا العدد صورة للعنقاء، ولا ندري ما موقفه بعد ذلك من الثورة ومن النشاط الفني، هل تأثر أو لم يتأثر بالمعطيات الجديدة.

بعض الموسيقيين والمغنين

وأخرى في سينما دنيازاد، كما كانت تقيم حفلات في المسارح (1). بعض الموسيقيين والمغنين كنا درسنا حياة ونشاط محمد إيقربوشن في كتابنا التاريخ الثقافي، ج 8. وهو من الذين درسوا الفن ونالوا جوائز وشهرة عالمية، ومع ذلك لم تغره هذه الأمور ورجع إلى الجزائر في وقت صعب وفضل الإقامة بها إلى وفاته سنة 1966، قيل عنه إنه كان رجلا متواضعا حييا، بدأ حياته الفنية عازفا على الجواق (الناي) شأنه في ذلك شأن الفتيان الجبليين والصحراويين الذين يندمجون في الطبيعة ويبتهلون إلى الأرض والسماء في لحظات من التجلي، وبالصدفة زار المنطقة زائر من اسكتلندا يعشق الفن ويدرس البيئة فأعجب بقدرة محمد إيقربوشن على العزف فأخذه معه إلى لندن فتعلم فيها وفي العواصم الأوروبية الأخرى الموسيقى حسب أصولها، حتى وصل إلى أعلى السلم. كان راديو وتلفزيون الجزائر يذيع مسرحياته ونشاطه الموسيقي، وقد فاز أحد الأفلام التي وضع لها الموسيقى بالجائزة الثانية في مهرجان بروكسل الدولي سنة 1949. استوحي محمد إيقربوشن فنه من الفولكلور، كما أنه الوحيد تقريبا من الموسيقيين المسلمين الذين درسوا الموسيقى الكلاسيكية (الأوروبية) دراسة عميقة، وقد أصبح عضوا شرفيا في عدة جمعيات، وطلبته عدة شركات دولية صانعة للأفلام لوضع موسيقى أفلامها الشرقية، ومع ذلك فضل الرجوع إلى الجزائر والإقامة بها حيث كان يكتب قصة تارة ويعزف لحنا تارة أخرى، ويتعاون مع راديو وتلفزيون الجزائر إلى أن وافاه أجله (2).

_ (1) هنا الجزائر 71، ص 10. (2) هنا الجزائر 54، مارس - أبريل، 1957، مع صورته، وتاريخ الجزائر الثقافي، ج 8، فصل 3، ص 473، وحشلاف: المجموعة الموسيقية، ص 222.

هناك فريق من الموسيقيين والمغنيين شاركوا في الحياة العامة كأصحاب مواهب وهواية فنية وعملوا في وسائل الإعلام المتاحة في ذلك الوقت، بما فيها العمل داخل الإذاعة والتلفزيون الفرنسية (بالجزائر أساسا)، ثم كان لهم نشاط لفائدة الثورة أيضا سواء داخل الجزائر أو خارجها. ومن هؤلاء أحمد وهبي الذي قضى حوالي عشر سنوات (1947 - 1957) في فرنسا، وهو التاريخ الذي انتقل فيه إلى تونس، وبادر بإنشاء فرقة المسرح الوطني لجبهة التحرير باقتراح من بعض القادة، ولكنه لم يستطع أن يبدأ جولاته خارج تونس إلا بنهاية 1958، لأنه كان في حاجة إلى ممثلين آخرين من الجزائر وفرنسا، وقد شارك حتى سنة 1962 في جولات فنية للدعاية لقضية الجزائر، وخلال هذه الفترة ألف وغنى عدة أغاني، ثورية، ومنذ الاستقلال اختار الإقامة في وهران، ولم يغادرها إلا لزيارة المغرب أو فرنسا حيث كان مولده سنة 1921، وفي سنة 1971 تولى الإشراف على المسرح الجهوي لوهران، ونال الجائزة الأولى في مهرجان أبي ظبي على تلحين أغنية دينية بكلمات الشاعر السوري علي صالح، كان أحمد وهبي معجبا بمحمد عبد الوهاب، ولكنه لم يتلق الفن دراسة، وشارك في فرق محلية ووطنية وفي الكشافة، وله صوت بدوي عميق، وشخصية فنية متميزة (1). ولد عبد الحميد عبابسة في بريكة سنة 1918، وتلقى تعليمه الابتدائي في المدرسة القرآنية، ثم درس على الشاعر محمد العيد آل خليفة في مدرسة الشبيبة الإسلامية بالحزائر العاصمة، وقد لحن في هذه الفترة للكشافة الإسلامية نشيدا جميلا هو (عليك مني سلام يا أرض أجدادي) وهو نشيد وطني ربما كان يتردد المشرق (؟)، كان عبابسة مهتما بالأغنية والشعر والموسيقى، وقيل إنه كان من الشعراء المتصلين بحزب الشعب الذي أوعز إليه بالاتصال بالجماهير وتوعيتها وطنيا وسياسيا وحثها على جمع التبرعات،

_ (1) حشلاف، مرجع سابق 229 - 230.

وله أشعار في مذبحة 8 مايو قادته إلى السجن، حسب رواية حشلاف، وقد خرج منه سنة 1946 بعد العفو العام. ذهب عبابسة إلى باريس وغنى هناك للجالية العربية، وسجن من جديد مع المغني الحسناوي الذي اتهم بالتعاون مع (راديو مونديال) خلال احتلال باريس، وعندما اندلعت الثورة كان عبابسة مع فرقته في خراطة فتفرقت الفرقة وألغيت حفلاتها، ثم رجع إلى فرنسا سنة 1956، وفيها تعاون مع محمد بوضياف، وواصل حثه لأعضاء الجالية على الرجوع للوطن والانضمام للثورة، ومن أبرز أعماله بعد الاستقلال قصة (حيزية) التي وضعها في شكل أوبريت للتلفزيون الجزائري، وله أكثر من 350 قصيدة وأغنية، ويعتبر من شعراء الملحون التقليديين (1). ومن هذا الفريق علي معاشي الذي كان واعدا بتقدم كبير في ميدان الفن ولكن حياته اقتطفت قبل الأوان. ولد علي معاشي في تيارت، وشارك في الكشافة الإسلامية، وأنشأ سنة 1952 فرقة موسيقية داخل الكشافة سماها (سفير الطرب)، وكانت الكشافة هي المدخل للحركة الوطنية لعدد كبير من الشباب، كان معاشي يعزف الناي ويغني اللحن الوهراني العصري، وكان من المعجبين بفريد الأطرش وبأغتيته (بساط الريح)، فقلدها بأغنيته (أنغام الجزائر) التي وضع فيها ألحانا من مختلف أنحاء الوطن، كما كان معجبا بعلي الرياحي التونسي، وفي 1953 أدى الخدمة العسكرية في البحرية، وتخصص في اللاسلكي، فتعلم مبادى الإرسال الإذاعي، وعين بعد ذلك مساعدا لمهندس البث الإذاعي الصوتي وعمل في الحصص العربية، وسجل عدة أغاني في هذه الفترة (1954)، منها (وصية القومري) التي عبر فيها عن مشاعره الوطنية، وربما ألف ذلك الشعر واللحن حين كان بحارا بعيدا عن الوطن.

_ (1) حشلاف، مرجع سابق، ص 234 - 235.

كان معاشي على اتصال بجبهة التحرير التي كلفته بعدة مهام، ومنها - كما قيل - تسجيل نشيد (قسما) لأول مرة، وقد بقيت هذه المسألة - حسب السيد حشلاف - غامضة ودفينة أرشيف الثورة، ورغم أنها كانت مهمة محفوفة بالأخطار فقد نالت حظا من الشهرة والنجاح، فقد قررت الجبهة تسجيل النشيد من نسخة وردت إليها من تونس، وكان الهدف هو توزيعها عبر الوطن، ولم يكن من السهل القيام بتسجيل من هذا النوع دون آلات متقدمة، ولذلك قرر علي معاشي القيام بالنسخ مع السرية داخل الإذاعة نفسها مع جماعة كانوا يعملون معه، وكانت الإدارة الاستعمارية تراقبه بدقة، وفي سنة 1958 رجع معاشي إلى تيارت فاعتقلوه وأخذ الجيش الفرنسي أقواله، وعذبوه في غابة مع زميلين له، ثم شنقوهم وسط المدينة في الثامن يونيو 1958، وهذا العمل الفظيع ينسب إلى الضابط (ماركان) وجنوده السكارى (1). عاش ميسوم العمراوي في الجزائر وفرنسا، ومنذ 1957 أصبح من أبرز الملحنين المحدثين، وهو من مواليد القصبة سنة 1921، وقد عرف اليتم منذ صغره، ومارس مختلف المهن، منها ماسح أحذية ليدفع ثمن دراسته، ثم أنشأ في العاصمة أول (أوركسترا) للفن الشعبي، متخصصة في الحفلات العائلية، وقام بجولات ناجحة عبر القطر، ومنها حفلات لصالح حزب الشعب وحركة الانتصار، وفي 1947 سافر إلى فرنسا بهدف بث نشاط هذه الحركة داخل الجالية الجزائرية، وفي فرنسا لحن أغنية (القصبة) و (يا فلاح) بالتعاون مع أخيه غير الشقيق: الحاج عمر الذي كان مخرجا وممثلا في المسرح الجزائري، وغنى العمراوي أغنيته (أنا العربي) بنفس اللحن الذي غنى به اليهودي راؤول جورنو (أنا التارقي)، فنالت نجاحا كبيرا. وتعلم العمراوي في باريس أنواعا جديدة من الآلات، وواصل نشاطه السياسي أيضا وسط المهاجرين إلى 1958، ودخل السجن خلال هذه الفترة

_ (1) حشلاف، مرجع سابق، ص 213 - 232.

في غرونوبل لأنه غنى نشيد (فداء الجزائر) إضافة إلى (أنا العربي)، وفداء الجزائر هو النشيد الوطني الذي غنته معه القاعة، وقيل إنه سبب له مشكلا مع جبهة التحرير أيضا فاتهمته بأنه ذو نزعة مصالية، كما غنى نشيد (من جبالنا) الذي أعطاه إياه حشلاف بصفته كشافا، وكذلك نقل إليه نشيد (شعب الجزائر مسلم): كل ذلك قبل أن يمكنه حشلاف من نشيد (قسما) الذي وصلت نسخة منه عن طريق إذاعة المغرب سنة 1958. عادت الأمور إلى مجراها بين جبهة التحرير والعمراوي، ولكنه لم يجد الكلمات المناسبة للغناء والإنشاد رغم كونه ملحنا، فدخل مع محمد الجاموسي وغيره في عمل مشترك، وفي سنة 1960 دخل أحمد حشلاف إلى الجزائر وعاد له منها بعدد من القصائد التي نظمها أخوه محمد الحبيب حشلاف المعروف بأنه (قوال) وصاحب قصائد على طريقة مصطفى بن إبراهيم وعبد الله بن كريو وابن سماية وابن سهلة، وقد استمر العمراوي في عمله الفني إلى وفاته سنة 1969 في باريس إثر عملية جراحية، ويذهب حشلاف إلى أن كل أعمال ميسوم العمراوي مسجلة ما عدا تلك التي سجلها وهو على فراش الموت، وله تلاميذ غنوا ألحانه (1). وشبيهة بسيرة العمراوي سيرة حسن العربي المعروف (حسيسن)، فقد غنى الشعبي الذي يأتي إسهامه فيه بعد إسهام العنقاء والحاج مريزق وخليفة بلقاسم، وحسن العربي من مواليد العاصمة أيضا سنة 1920، عاش طفولة غير مستقرة مثل جيله من أبناء القصبة، وكان ظهوره قد تمثل في العزف المنفرد على آلة القيثارة لكي يطرب شباب الحي، ثم شارك في الفرق التي أنشأها من هم أكبر منه سنا، فأظهر موهبة فائقة وأصبح يؤلف وحده بعد أن جمع الأشعار، وكان حسيسن يمزج الفن بالسياسة، فكان - كما قيل - مغني حركة الانتصار، وقد واصل مسيرته على ذلك النحو إلى أن وقعت معركة الجزائر

_ (1) حشلاف، المجموعة الموسيقية العربية، ص 222 - 223.

(1957) فشعر بالخطر فذهب إلى فرنسا حيث بقي مدة يغني للمهاجرين، وأدى هو ورفيقه ميسوم العمراوي بعض الأغاني، وغنى بالقبائلية أشعارا أخلاقية ودينية، وكانت حصته تعرف بـ (ليالي حسيسن) في مقصف (المروك)، ثم التحق بتونس وانضم إلى الفرقة المسرحية التابعة للجبهة وشارك في عدة حفلات لصالح قضية الجزائر، لكن صحته تدهورت بسرعة وتوفي بتونس سنة 1959 ولما يبلغ الأربعين من عمره (1). أما محمد التوري فقد ولد في البليدة سنة 1918، ودرس في المدارس القرآنية ودخل مدرسة جمعية العلماء في البليدة، ثم أصبح بدوره مدرسا في المدارس الحرة، وتحول إلى دهان، وبدأ خلال ذلك يهتم بالغناء وتطوير الكشافة الإسلامية، وكانت حياته مع إخوته ضنكة، فاختار الأغاني الساخرة، وكان اسمه الحقيقي محمد بسناسي، وقد تولى عدة بعض الوظائف، ثم ترك ذلك وتفرغ للمسرح والغناء وأنشأ أول فرقة سنة 1936، ولا نجد من تحدث عن مشاركته في الثورة في الجزائر أو في فرنسا، ولكن أدواره المسرحية والسينمائية كانت تجسد نقدا للاستعمار والمجتمع وتعبر عن أحوال الثورة التي كان الشعب مندمجا فيها، فقد كان التوري قريبا جدا من الجمهور المضطهد، وله تفكير عميق يعبر عن ثورته ضد الظلم والاضطهاد، ولعل حالة الفقر التي عاشها هو وإخوته وقسوة الحياة لها دخل في اختياره هذا الاتجاه الذي يسميه كتاب ذلك الوقت بالواقعي (2). غنت فضيلة لمنكوبي زلزال الأصنام في باريس (أنظر سابقا) سنة 1954، وشاركت بفنها في الإذاعة والتلفزة الفرنسية بالجزائر أيام الاستعمار، ورغم نشاطها الفني فقد قيل إنها شاركت في الثورة بجمع التبرعات مع أختها، فاعتقلت وسجنت في سجن سركاجي دون أن يذكر المصدر متى كان

_ (1) حشلاف، مرجع سابق، ص 209. (2) حشلاف، مرجع سابق، ص 273 - 274.

ذلك، وبعد خروجها من السجن شكلت فرقة موسيقية خاصة مع أختها ووالدتها وعدد آخر من النسوة، وأعدت لكل واحدة منهن آلة تعزف عليها، وهو عمل يثير الدهشة من فرقة لم يتعلم أعضاؤها الموسيقى في مدرسة أو معهد، وقد تحدثت (المناظر) عن فرقتها، واعتبرت فضيلة مجددة في الفن الأندلسي العصري (كذا)، وقالت إن باش تارزي قد ساعدها على شق طريقها في التمثيل وعلى نيل الشهرة في باريس، وأنها كانت معجبة بالطرب التونسي الشعبي والغناء العصري، واعتبرتها هذه المجلة، مع أحمد سري، باعثي النهضة الموسيقية الجزائرية العتيقة بين الشباب العصري (1). من الفنانين الذين اشتهروا وكان له جمهوره الخاص وتعبير مفهوم وحكم مأثورة، عبد الرحمن العمراني المعروف بدحمان الحراشي، فقد كان والده (العمراني) مؤذنا بالجامع الكبير بالعاصمة، ففضل ابنه عبد الرحمن ألا يسى إلى اسم العائلة بذكرها مقرونة بالغناء الذي لا يرضاه كل الناس، ولد عبد الرحمن سنة 1926 في الأبيار، ثم انتقل أهله إلى الحراش وهو صغير فأطال الإقامة في هذه الضاحية الشعبية فنسب نفسه إليها (الحراشي)، فهو من عائلة محافظة متدينة، درس في المدرسة القرآنية وكذلك في المدرسة الفرنسية، ونال الشهادة الابتدائية، ثم مارس مختلف المهن، فهو إسكافي ومستخلص (التراموي) لمدة سبع سنوات بين الحراش وباب الواد، بدأ حياته الفنية مع فرقة الحاج المنور وغيره وقام بجولات فنية بدأها ببسكرة التي يقال إن أصله منها، وعنابة سنة 1949، ثم سافر إلى فرنسا لينشط حياة المهاجرين، وقد حقق نجاحا وأصبح مؤلفا وملحنا، وغنى أغنية أكسبته شهرة بعنوان (بلاد الخير)، يمتاز دحمان الحراشي بصوت فريد، وفنه يأتي بين الشعبي والعصري، فهو لا يشبه الآخرين في مجال الغناء، ومن الصعب تصنيفه، وركز في أغانيه على الحنين إلى الوطن وإسداء النصح وسوق الحكمة وتنبيه الغافلين.

_ (1) مجلة المناظر، السنة الثانية، فبراير 1961، ص 40، وحشلاف، مرجع سابق، ص 189.

وهو الذي شبه في أغانيه المرأة بالحجلة والحمامة، وقيل عنه إنه كان مسلما ملتزما، وتوفي في حادث سيارة سنة 1980 (1). المطربة وردة من مواليد 1940 بفرنسا، وبدأت تاريخها الفني وعمرها أحد عشر سنة إذ كانت تقدم أسبوعيا حصة أطفال يشرف عليها حشلاف في الإذاعة والتلفزة الفرنسية سنة 1951، وكانت تغني أغنية لمشاهديها الصغار، فنالت نجاحا كبيرا واهتم بها المؤلفون وأعطوها أغاني تلائم سنها، فوضع لها زكي خريف (يا مروح لبلادي)، والجاموسي (بلادي يا بلادي)، ورضا القلعي (يا حبيب القلب)، وهكذا، كان والدها من أقدم المهاجرين الجزائريين إلى فرنسا، وكان يدير مقصفا (فواييه) للعمال، وكان المقصف منذ 1936 مكانا لنشاط نجم شمال إفريقيا، ثم أصبح والدها مالكا لمقصف (تام، تام) حيث بدأ نجم وردة في الظهور، ثم أصبح نفس المكان موئلا لنشاط جبهة التحرير إلى أن تم غلقه سنة 1958، وهو تاريخ نفي العائلة كلها، أم وردة لبنانية مسلمة فعلمتها الأغاني اللبنانية، وبذلك تكون وردة قد تعلمت الفن الشرقي الأصيل، كانت وردة منذ صغرها تقلد أم كلثوم وعبد الوهاب وفريد الأطرش، أما غناؤها في طفولتها في الإذاعة والتلفزة الفرنسية فقد ربطها بالأغنية المغاربية، ولاسيما التونسية. سنة 1954 كان عمر وردة أربع عشرة سنة، بدأت تغني للثورة، فغنت (يا حبيبي يا مجاهد) و (يا عمي يا مناضل) و (بلادي يا بلادي) و (يا مروح لبلادي) السابقتين، وفي 1958، اتفقت عائلتها كلها على الهجرة إلى بيروت حيث ظلت وردة تواصل غناءها للثورة، فغنت (جميلة) و (أنا من الجزائر أنا عربية)، وقد لحن لها رياض السنباطي أغنية (نداء الضمير) لصالح خرفي بعد أن سمع السنباطي صوتها من إذاعة معرض دمشق، ووصلت القاهرة سنة 1960 فوجدت السنباطي مستعدا لمساعدتها، فلحن لها كلمات من شاعر

_ (1) حشلاف، مرجع سابق، ص 226 - 227.

مصري (يا حرية أنا بندهلك)، كما غنت لفلسطين، وفي 1961 شاركت في لحنين وضعهما محمد عبد الوهاب وهما (الوطن الأكبر) و (الجيل الصاعد)، وقد عرفت في المشرق باسم وردة الجزائرية (1). كان يمكننا أن نواصل الحديث عن الفنانين وألحانهم وتقلبات الحياة معهم، ولكننا رأينا أن نكتفي بهذا القدر لأن الهدف هو معرفة مدى علاقة الفن بالثورة، ولا شك أن هناك مغنين وموسيقيين وشعراء شعبيين، كما كان هناك رسامون ونحاتون، لم ينضموا للثورة أو ناضلوا في صفوفها سرا، ونظن أن النماذج التي أتينا عليها تلقي الضوء على الموضوع بشقيه.

_ (1) حشلاف، مرجع سابق، ص 43 - 45، أول مرة أشارت هنا الجزائر إلى اسم وصورة وردة كانت في العدد 31، يناير، 1955، ص 14.

الفصل السابع السينما والرسم والمكتبات والخطاطة والمتاحف

الفصل السابع السينما والرسم والمكتبات والخطاطة والمتاحف السينما السينما من الفنون الجديدة التي عرفتها الجزائر، وقد بدأ الفرنسيون في إنتاجها منذ وقت مبكر، ثم طوروها حتى وصلت، مع الإذاعة والتلفزيون، إلى مرحلة متقدمة، وعندما نتكلم عن التلفزيون فإننا نتكلم عن مرحلة الثورة لأنه بدأ، كما سبقت الإشارة، يعمل أثناءها، فالجزائر هي البلد العربي الأول الذي دخله التلفزيون، ورغم أنه مؤسسة فرنسية النشأة والتوجيه والإنتاج فإن الجزائريين سرعان ما استفادوا منه وظهر من بينهم من أخذ ينتج له أفلاما وبرامج وتمثيليات بالعربية الدارجة (1). أما السينما فقد كانت الفن الأصعب تنفيذا لاحتياجه إلى خبرات وتقنيات دقيقة لكي تخدم الثورة والمجتمع، ولذلك تأخر ميلادها عند الجزائريين إلى عهد الثورة، ويقال إن أول فيلم جزائري أنتجته الثورة كان سنة 1960، أي بعد حوالي ست سنوات من تقدم الكفاح، ولكن كيف سارت الخطوات وكيف أنجزت الأعمال، ومن فعلها أول مرة، هل هم الجزائريون وحدهم أو بمساعدة الأجانب؟ لنستمع إلى مختلف الآراء والروايات، ومصادرنا رغم أنها شحيحة، فإنها تكرر نفسها وتأخذ عن بعضها، ولا تعطي في معظمها إلا صورة غير كاملة لما حدث بالفعل.

_ (1) من أوليات السينما انظر كتابنا تاريخ الجزائر الثقافي، الجزء 5/ 305.

بكل حماس وفخر قدمت (المجاهد) ما اعتبرته أول فيلم جزائري أنتجته الثورة، وهو فيلم (جزائرنا) الذي خرجت به الجريدة على قرائها مع صورة لانفجار من الشريط نفسه علقت عليه بقولها: (من واقع الثورة الحي)، ولم تذكر المجاهد شيئا عن هذا الفيلم القنبلة ولا عن الممثلين ولا مكان التصوير ولا زمنه أو مدته، لقد اكتفت بقصته، بموضوعه وبكونه يصور أثر الحرب المدمرة على القرى والأرياف وسط مناظر الأطفال وهم في حالة رعب من جنود مسلحين بالحقد والكراهية، على حد تعبيرها، إنهم جنود يحملون الموت والخراب في كل مكان، تلك هي (جزائرنا)، البؤرة الوحيدة المشتعلة بالحرب في العالم، إن قصة الفيلم تمتد 130 سنة من الاضطهاد والنهب واغتصاب الأرض والاحتكار، وطرد السكان إلى الأكواخ والبطالة والذل، إنهم ملايين النساء والأطفال والرجال الذين أصبحوا بلا مستقبل، بلا وطن، وهو (جزائرنا). ولكن الشعب المطرود من أرضه المغتصبة لم يستسلم، إنه يتمتع بإرادة النضال والثورة على الظلم والاستعمار من أجل أن تعود (جزائرنا) المغتصبة، كما أن المستعمرين صمموا على الاحتفاظ بالجزائر وقابلوا المقاومة بالحديد والنار وبجيش مدجج بالسلاح العصري يحمل معه (النابالم) والقنابل الحارقة وأدوات التعذيب ليقمع بها (جزائرنا) التي ظلت رافعة الرأس شامخة الذرى، لقد فتح العالم عينيه على الفاجعة، بينما فتح الممثلون الجزائريون ملف (جزائرنا) أمام هذا العالم فأصبحت مثالا للصمود والدفاع عن الحرية، هذا الصمود والكفاح قام بهما شعب مصمم على انتزاع حقه وهويته التي سرقها منه الاستعمار سنة 1830. إن شريط (جزائرنا) فيلم وطني أنتجته وزارة الأخبار في الحكومة المؤقة، وقد عرض يوم 6 نوفمبر 1960 على إطارات الحركة الوطنية بتونس، ثم على الصحفيين يوم 8 من نفس الشهر، وقد تساءلت المجاهد: هل هو فيلم جميل؟ وقد ردت على السؤال بنفسها فقالت: من يسأل عن الجمال في الأفلام

الحربية؟ يكفيه أنه شريط مفيد .. مهول، إنه سلاح جديد في يد الثورة الجزائرية، من أجل حرية (جزائرنا)! (1). ولا ندري هل هذه النهاية لمقال المجاهد تشكل تبريرا لكون الفيلم غير جميل فنيا أو غير جميل من حيث التأثير النفسي واختيار المناظر واللقطات الخاطفة للأبصار والقلوب، أو هو اعتذار مسبق للقراء والمشاهدين عن كونه لم يبلغ في أداء رسالته ما هو متوقع منه، والحق أننا شاهدنا مع غيرنا هذا الفيلم في مناسبتين ونحن طلاب في القاهرة وأمريكا فكان له وقع كبير علينا وعلى غيرنا من المشاهدين، فقد شد أنظارنا وأبكى قلوبنا قبل عيوننا واختلط عندنا الإعجاب بالبطولة والمقاومة الشرسة بالمناظر الطبيعية الخلابة، وعادت (جزائرنا) فعلا إلينا بعد أن كنا نعيش الواقع الاستعماري الذي حاول أن ينزع منا هويتنا، فكنا نحس بالتلاحم ووحدة الحاضر والمستقبل، وقد طلبنا نسخا من هذا الفيلم عدة مرات من المكتب الإعلامي لجبهة التحرير ليعرض في مناسبات عديدة على مشاهدين يريدون أن يعرفوا حقيقة ثورة الجزائر التي يجهلونها، وفي كل مرة كانوا يخرجون مشدوهين من التناقض الصاعق الذي أمامهم: أين مبادى فرنسا المعلنة مما يمارسه جيشها في الجزائر؟ وكيف صبر الجزائريون مائة وثلاثين عاما على استعمار وحشي من هذا النوع؟ إن (جزائرنا) فيلم وثائقي قصير لا يتجاوز عرضه 25 دقيقة، وهو من عيار 35 ملم، وناطق بالعربية، وساهم في إخراجه جمال شندرلي، والأخضر حمينة، والدكتور شولي، ويعتبر محاولة أولى توجه إلى الرأي العام العالمي قامت بها الحكومة المؤقتة، تناول الفيلم وقائع المقاومة الجزائرية ماضيا وحاضرا في لقطات سريعة (2).

_ (1) المجاهد 82، 14 نوفمبر 1960. (2) يوم دراسي حول السينما والثورة، إعداد المركز الوطني لدراسة الحركة الوطنية وثورة أول نوفمبر، 1997.

ومع الأيام تأكد أن فيلم (جزائرنا) من عمل جمال شندرلي، والأخضر حمينة، وهو فيلم تحول بالتدرج إلى (صوت الشعب)، وهو يعرض تاريخ الجزائر من خلال تركيب حديث، كما أنه يتابع الأعمال العسكرية والسياسية لجيش التحرير، ومظاهرات ديسمبر 1960، والهجوم على قلعة فرنسية محصنة على الحدود الجزائرية التونسية. والملاحظ أن لطفي محرزي جعل الفيلم من إنتاج سنة 1959، بينما تقول عواطف عبد الرحمن إنه عرض في نوفمبر 1960 في مهرجان ليبزيج بألمانيا الشرقية، وحصل على جائزة المهرجان، فكيف يتعرض لأحداث ديسمبر 1960 وقد عرض في شهر نوفمبر من نفس السنة؟ (1). فإذا أخذنا الموضوع من الزاوية التاريخية وجدنا أن إنتاج الجزائريين في ميدان السينما كان ضئيلا قبل الثورة وحتى في سنواتها الأولى، فقد كان الميدان حكرا على الفرنسيين واكتفى الجزائريون بدور ثانوي، ربما لعدم الخبرة وربما لوجود سياسة عنصرية متعمدة، وقد رأينا ذلك واضحا فيما درسناه من نماذج لما يسمى بالسينما الاستعمارية أو سينما الحريم والمناظر الخاصة بالجزائر والمثيرة أحيانا لغرابتها (2). إن سينما الثورة ميدان جديد في الإبداع والإعلام، تولاه الجزائريون وأصدقاؤهم، في ظروف صعبة تتميز بقلة الخبرة ونقص المال وغياب الأمن وندرة التأليف، أما الموضوع فهو دائما واحد تقريبا وهو الثورة بكل جوانبها وأبعادها وخلفياتها الميدانية والإنسانية، ومن الملاحظ أن بعض الأفلام كانت قد وضعت على أساس إيديولوجي، وأن معظمها كان أسود وأبيض، وأنها أفلام وثائقية بدرجة أولى كان الهدف منها خدمة الثورة كوسيلة إعلامية أو إعلامية

_ (1) لطفي محرزي، السينما الجزائرية، ص 64 - 65 وعواطف عبد الرحمن، الصحافة العربية ... ص 62. (2) تاريخ الجزائر الثقافي، جزء 302/ 5.

مضادة للدعاية الفرنسية، ويبدو أن الجزائريين لم يكتشفوا أهمية السينما كوسيلة إعلامية إلا بعد مضي وقت طويل على تقدم الثورة، فهل ذلك راجع إلى (تأخر) انضمام الأشخاص المؤهلين إلى الثورة، أو إلى قلتهم من حيث العدد، أو إلى تأخر جبهة التحرير في تحضير طاقم وجهاز للسينما إلا سنة 1959 أو 1960؟ ففي 1959 أنشأت وزارة الأخبار قسما خاصا بالسينما، فتولى التصوير ورصد حرائق القرى والمدن وإعداد الأفلام الوثائقية عن المعارك، لإبراز معاناة الشعب في صراعه اليومي مع السلطات الفرنسية، وقد أعد قسم السينما ستة أفلام وثائقية عن الثورة، واتفق مع بعض الشركات العالمية على توزيعها على محطات التلفزة، وفي نفس الوقت أنشأت الوزارة قسما للاسطوانات مهمته تسجيل الأناشيد والموسيقى الوطنية والخطب والمحاضرات، وكانت الوزارة ترسل بهذا الإنتاج إلى مكاتب الإعلام المنتشرة في العالم، وقد أنتج هذا القسم، بناء على السيد محمد يزيد، واحدا وعشرين أسطوانة (1). هذه تقريبا خلاصة ما قامت به الوزارة في ميدان معين، وهو الاسطوانات، فماذا عن الأفلام؟ لقد لاحظنا أن الأفلام الأولى كانت وثائقية قصيرة، وسنشير إلى طولها قريبا، ومعظمها كانت ترصد الواقع الجزائري وأحداث التاريخ وتقدم عنه صورة للرأي العام العالمي، هذه الأفلام كانت تعتمد على الشهود، وعلى ما حدث للاجئين، وما قام به جيش التحرير من عمليات وغيرها، ومعاناة الشعب الجزائري ماضيا وحاضرا، وأفلام من هذا النوع لا يتوقع منها توخي الجمالية والفن، كما لاحظت المجاهد من قبل، ولم يهتم المصورون لهذه الأفلام إلا بالصورة المباشرة وابتعدوا عن الرموز والغموض، إن السينما الجزائرية الثورية ولدت في الجبال وجسدت أحداث الثورة.

_ (1) عواطف عبد الرحمن، الصحافة العربية، ص 62.

منذ سنة 1955 بدأ الاهتمام بهذا القطاع ولكنه لم يتقدم بالسرعة المتوقعة لسد الفراغ الإعلامي لدى الرأي العام، فقد قيل إن الجبهة اتصلت بالشاب جمال شندرلي الذي كان مصورا في مجلة (الأحداث الفرنسية) وكلفته بمهمة الدعاية خارج الوطن والتعريف بالقضية، وقد تعاون شندرلي سنة 1956 مع بعض الجزائريين والأجانب لإنتاج أفلام وثائقية تخدم ذلك الغرض، منهم بعض الفرنسيين، مثل ريني فوتييه، وفي السنة الموالية فتح مركز للتكوين السينمائي بالولاية الأولى وكان يشرف عليه (فوتييه)، وهو صاحب فيلم (عشرون سنة في الأوراس) وغيره، وكان الطلبة الذين يدرسون في المركز جنودا، ولم تدم الدراسة في المركز أكثر من أربعة أشهر، وقد قيل إن فوتييه أنتج حصصا تلفزيونية وزعت على البلدان الاشتراكية، وهي حصص خاصة بممرضات جيش التحرير، ومنها صور عن منجم الونزة (1). وإليك بعض الأفلام التي أنتجها قسم السينما سواء قبل تأسيس الحكومة أو بعد تأسيسها: - في سنة 1957 - 1958 أنتج فوتييه فيلم (الجزائر الملتهبة) أو المشتعلة، وهو فيلم بالألوان، طوله 35 ملم ومدته 23 دقيقة، ويعتبر فيلما وثائقيا أو تسجيليا ناطقا بالفرنسية، وقد ركبت صوره في برلين الشرقية وعرض في الدول الأوروبية فعرف الناس عن الثورة من خلال صور هذا الفيلم. - الهجوم على مناجم الونزة، وهو من إخراج طلبة مركز التكوين السينمائي، وهو فيلم تسجيلي أسود أبيض، ولا يدوم أكثر من ست دقائق، في 16 ملم. وهو يصور إحدى عمليات جيش التحرير على مناجم الحديد والصلب، ويعطي فكرة عن الحرب التي يقوم بها جيش التحرير ضد اقتصاد العدو. - ممرضات جيش التحرير الوطني، وهو فيلم لا يدوم أكثر من ست دقائق.

_ (1) يوم دراسي حول السينما والثورة، مرجع سابقه 1997.

أسود وأبيض، وطوله 16 ملم، ويقوم على إخراج جماعي، ويمثل دور المرأة في الثورة. - لاجئون: أنتجته مصلحة السينما التابعة لجبهة التحرير، أسود وأبيض، مدته 15 دقيقة، وطوله 35 ملم، ناطق بالفرنسية والإنجليزية من إخراج وتصوير (بيير كليمون)، وموضوعه المعاناة اليومية للاجئين الجزائريين. - ساقية سيدي يوسف، فيلم أنتجته مصلحة السينما لجبهة التحرير، أسود وأبيض، يستغرق 15 دقيقة، 35 ملم، وهو بالفرنسية والإنجليزية، وأخرجه المخرج السابق (كليمون)، ويصور قصف الطيران الفرنسي لساقية سيدي يوسف وما نتج عنه من تدمير وضحايا وخرق للقانون الدولي - ومن الملاحظ أن مخرج هذا الفيلم قد قبض عليه في الجزائر وسجن بضع سنوات (1). - جزائرنا (2). - بنادق الحرية: فيلم بالألوان من إنتاج مصلحة السينما للحكومة المؤقتة، مدته 20 دقيقة، وطوله 35 ملم، جمع بين التوثيق والخيال، وقد أخرجه جمال شندرلي، والأخضر حمينة، وموضوعه تهريب السلاح من ليبيا وتونس عبر الصحراء وعلى ظهور الجمال. - عمري ثماني سنوات: أنتجته لجنة (موريس أودان)، ومدته ثماني دقائق، أخرجه يان Yann وأولغا لوماسون Le Masson، وكله من تصوير وتركيب غير جزائري، مرجعه الرسوم التي قام بها الأطفال في مخيمات اللاجئين بتونس. - صوت الشعب: أنتجته مصلحة السينما التابعة للحكومة المؤقتة، وهو من النوع التوثيقي، أسود وأبيض، ومدته 20 دقيقة، وطوله 35 ملم - وهو من

_ (1) يوم دراسي، مرجع سابقه 1997. (2) انظر عنه أيضا.

إخراج شندرلي وحمينة، وقد أدمجت مادته مع مادة فيلم (جزائرنا) ليصبح فيلما باسم الشعب، وليقول إن المعركة بدأت قبل 1954، فهو كما سبق القول عن (جزائرنا) ويمثل عرضا تاريخيا من خلال تركيب حديث ويصور النشاط السياسي والعسكري لجيش التحرير. - ياسمينة: وهو الفيلم الوحيد، حسب النقاد - الذي اعتمد على قصة، ولكنه لم يبتعد عن ميزات الوثيقة، وهو - كما قيل - يمثل بداية الفيلم الروائي الجزائري في عهد الثورة، وقد أخرجه الأخضر حمينة بناء على قصة لطفلة جزائرية يتيمة فقدت أبويها بعد انفجار قنبلة، ومن خلال قصتها نعرف قصة جميع اللاجئين الجزائريين الذين أرغموا على مغادرة بلادهم للعيش في معسكرات داخل الحدود التونسية، وهو أسود وأبيض ويرجع إلى الفترة 1960 - 1961، ومدته 20 دقيقة، وطوله 35 ملم، وقد جمع بين الحقيقة والخيال، وتمثل ياسمينة فيه رمزا لكل الأطفال الجزائريين. - خمسة رجال وشعب، فيلم بالألوان، ومدته 43 دقيقة، وطوله 16 ملم، وهو من النوع الوثائقي، أخرجه وصوره وركبه (فوتييه) وقد صورت الكاميرا الزعماء الخمسة: ابن بلة، بوضياف، آيت أحمد، خيضر، بيطاط، بعد إطلاق سراحهم عند وقف القتال 19 مارس 1962. - الطالب: وهو فيلم أسود وأبيض من إنتاج المركز الوطني للسينما؟ ومدته 17 دقيقة، وطوله 16 ملم، ويعتبر خياليا، أخرجه عبد الحليم ناصف (؟) ووضع له السيناريو يوسف فرحي، وصوره سرية علي، وركبه رابح ديوز، وهو يصور حياة (طالب) أو مؤدب في كتاب قرآني. وقد أشار لطفي محرزي إلى نماذج أخرى كنا قد نبهنا إلى بعضها مثل ساقية سيدي يوسف، وهي من عمل مصورين فرنسيين أمثال فوتييه وكليمون اللذين تعتبر مساهمتهما السينمائية مساهمة هامة في وقتها، سيما فوتيية الذي أسهم أيضا في تكوين فوج من الجزائريين في فن السينما!

- الجزائر تشتعل، وهو فيلم بالألوان يرجع إلى 1956 - 1957 يدوم عرضه 25 دقيقة، وطوله 16 ملم، أنتجته الجبهة، وأخرجه فوتيية، وهو يصور الحياة اليومية في المخابى السرية والدخول في معارك ضد جيش العدو ويرافقه صوت يعلق على سير الأحداث ويبين أبعاد حرب التحرير. - اللاجئون الجزائريون، وساقية سيدي يوسف كلاهما أخرج سنة 1958، إضافة إلى ثلاثة تحقيقات (ريبورتاج) قام بها كليمون (1). وقد حاول محرزي أن يؤرخ لأوليات السينما أثناء الثورة، فرأى أن المعنيين بالأمر قد تنبهوا إلى أن السينما كانت كالمنشور الإعلامي تؤدي دورا مباشرا وفعالا، وبدأ ذلك الوعي منذ 1956، أي إلى مؤتمر الصومام الذي نصت وثائقه على ضرورة الاهتمام بالعمل الإعلامي، دون تحديد للسينما، ويرى محرزي أن الخطوة الأولى كانت في سنة 1957 حين التقت في منطقة تبسة جماعة من المهتمين الجزائريين وأصبحت نواة لوحدة تصوير الأفلام مطلقة على نفسها اسم (مجموعة فريد) group Farid دون تفسير لهذه التسمية، وكانت تتبع الولاية الأولى، وقد ضمت ستة أفراد هم محمد قنز، وعلي الجناوي، ورينيه فوتييه، وجمال شندرلي، ثم انضم إليهم أحمد راشدي (ولم نعثر على اسم الخامس). ورغم قلة الإمكانيات فقد سار المشروع، وكانت مساهمته الرئيسية تتمثل في جمع الوثاثق لخدمة معركة التحرير، ولم يكن الهدف عندئذ هو إنشاء سينما تعتمد الفن والجمال، ومن كان يأمل عندئذ في إنتاج عمل سينمائي متقن في ظل الخوف والسرية؟ لقد كان يكفي عندئذ تسجيل ما ترتكبه السلطات الاستعمارية من فظائع ضد السكان المجردين من السلاح، وكانت هذه الخطوة استجابة لتعليمه (النظام) التي أطلقها سنة 1956 خدمة لبرنامج الثورة، وقد

_ (1) يوم دراسي حول السينما والثورة، مرجع سابق، ولطفي محرزي: السينما الجزائرية، ص 63 - 65.

نصت وثائق الصومام على أن كل منشور أو تصريح أو مقابلة أو إعلان من جبهة التحرير اليوم له وقع عالمي، لذلك علينا أن نتصرف بمسؤولية محافظة على الجزائر في الساحة الدولية، الجزائر الزاحفة إلى الحرية والاستقلال) (1). وهكذا فإنه منذ 1956 دخل كل من علي الجناوي وفوتييه وغيرهما في العمل السري تصحبهم الكاميرا وصوروا المناظر والمشاهدات لفعاليات الثورة المسلحة، ولم يعش من هذه الجماعة بعد الثورة إلا القليل، ولكن ما جمعوه من وثائق وصور ومناظر يعتبر أول إنتاج سينمائي جزائري، وكان الأسلوب الذي سجلت به الأحداث وركبت به الصور يعتمد الرؤية (الفكرة) اليسارية ويلاحظ عليه عدم الدقة والإتقان حسب تعبير السيد محرزي، غير أن ذلك لم يفقده القيمة الوثائقية. وفي سنة 1958 اشتدت المعركة المسلحة فأصبح من الصعب الحصول على شحن المصورة بالأشرطة (البيليكول)، مما اضطر مصلحة السينما إلى الانتقال إلى تونس، تاركة تبسة خلفها، وعندئذ ألحقت (مصلحة السينما الوطنية) بوزارة الداخلية في الحكومة المؤقتة، وفي نفس الوقت وانطلاقا من الصور التي التقطها سرا رينيه فوتييه وعلي الجناوي أخرج فيلم (الجزائر تلتهب) على يد فوتييه، وعندما تأكدت الحكومة المؤقتة من فائدة الرسالة الثورية للعمل السينمائي قررت إرسال بعثة إلى البلاد الاشتراكية ليتكونوا فيها، وكان على الحكومة أيضا أن توفر الوثائق الدامغة والصور المعبرة لتقنع وتكسب الرأي العام لصالح القضية الجزائرية، وتقاوم بها الدعاية الاستعمارية، وأغلب الصور التي أصبحت متوفرة عندئذ كانت قد أخذت على الحدود الجزائرية التونسية، أي من قواعد جيش التحرير، ومنها خرجب مجموعة من الأفلام التي أتينا على ذكرها، ويؤكد الباحثون على أن فترة 1957 وما بعدها قد شهدت ميلادا ثقافيا حقيقيا

_ (1) محرزي، السينما الجزائرية، ص 62، وقد اقتبس النص من مندوز: الثورة الجزائرية بالنصوص.

للجزائر، موازاة مع التقدم السياسي والعسكري، فبالإضافة إلى السينما انطلقت الأعمال الأدبية والرسم والمسرح وغيرها مما يدل على أن الثورة قد انغرست في تربة الشعب في مختلف المجالات، فكان الشعر والرواية واللوحة والمسرحية. وخلافا للوثائق الاستعمارية التي كانت تخاطب الفرد وتحاول التأثير عليه لكي يترك الثورة ويقبل بهوية غير هويته، كانت وثائق الثورة الجزائرية التي أخذها شهود عيان تخاطب الشعب والرأي العام، وتظهر أن الشعب كله كان في المعركة، وقد انضم إليها بكل قواه، إنها حرب شعبية، لعب فيها جيش التحرير الدور الرئيسي في كونه جيش الشعب، فهو الذي يحميه من الغارات، كما يشهد بذلك فيلم (الجزائر تلتهب)، وقد تأسف السيد محرزي - وهو على حق - على أن الوثائق السينمائية التي تعالج حرب التحرير لم تسترجع ولم ترتب ولم تصنف، وكان ذلك سنة 1971، فأين هي الآن ونحن في سنة 2005 (1). ومنذ عدة شهور حضر السيد فوتييه إلى الجزائر وأجرت معه إحدى الصحف حديثا جاء فيه أنه هو الذي أنتج أفلاما عن الثورة الجزائرية في إبانها مع جمال شندرلي، وقد زار قسنطينة رفقة فرقة للتصوير، وتوقف فيها لإنتاج فيلم وثائقي كان يعده حول حياته الشخصية وعنوانه: (رينيه فوتييه ضد الرياح والأمواج)، وأثناء تلك الأيام التي نظمتها بلدية قسنطينة بمناسبة الذكرى الخمسين للثورة، ومن الوثائق التي أظهرتها البلدية بهذه المناسبة: عشرون سنة في الأوراس، وشعب زاحف، والجزائر الملتهبة، وقال محمد حزرولي المكلف بالسينما في بلدية قسنطينة إن حضور فوتييه في هذه المناسبة تصادف مع فتح ورشة للفن السمعي البصري في (الكونسرفتوار) البلدي، وفي هذه الورشة سيلتقي الشباب بفوتييه الذي اعتبره حزرولي (رائدا للسينما الجزائرية الشخصية المهمة جدا فيها)، وقد أوردت الصحيفة صورة للسيد فوتييه، أما دور شندرلي

_ (1) رشيد بوجدرة: ميلاد السينما الجزائرية، ماسبيرو، باريس، 1971، نقلا عن لطفي محرزي: السينما الجزائرية ص 62، هامش 2، أنظر كذلك يوم دراسي .... 1997.

والآخرين فقد نسيه الناس فيما يبدو، على هذا العهد (1). إن الذين درسوا علاقة الجزائريين بالسينما في العهد الاستعماري خرجوا بنتيجة وهي أن الأفلام الفرنسية كانت تجعل من الجزائر موضوعا فقط باعتبارها إقليما فرنسيا يتميز بطبيعة خاصة فيها النخيل والفروسية، وفيها حي القصبة والإنسان الأهلي .. وكلها تشكل عناصر لديكور غريب وجميل، فكان الفيلم نفسه يمرر الفكرة التي يريد الاستعماريون الترويج لها، وقد ذكروا لذلك نماذج من الأفلام مثل (نداء البلاد) لموريس قليز، و (البلاد) لجان رينوار، و (عطش الرجال) لسيرجي وليني، ولكننا لا ندري الآن متى أنتجت هذه الأفلام، قبل الثورة أو أثناءها. كان الجزائري في هذه الأفلام إنسانا محددا، فهو متوحش يجب تخليصه مما هو فيه من رذائل، وعملية التحرير هذه جزء من الديكور نفسه، وإذا حضر ففي مشهد للخيانة ضد المهمة الحضارية الفرنسية، وفيما يخص التوزيع والإنتاج فالجزائري غائب عن الكاميرا باستثناء شخصين هما مصطفى قريبي والطاهر حناش اللذان أنتجا أفلاما للتلفزيون، كما أن إنتاج الأفلام الفرنسية مليء بالدعاية العنصرية ضد العرب، فهذا سيرجي وليني يقول على لسان بطل فيلمه عطش الرجال: (لم يعد هناك سارق عربي بعد اليوم، ولا مرابي يهودي، بل مسلحون مستعمرون فقط، هذا فقط! هذا فقط!) (2). من الذين اهتموا بترقية الإذاعة والتلفزيون وأنتجوا أفلاما السيد سفير البودالي، فقد كان مسؤولا عن الإذاعات الفنية والأدبية قبل بدء التلفزيون، أي من سنة 1943 إلى 1958، وفي هذا التاريخ نقل إلى التفتيش في وزارة التهذيب القومي، وكانت شهرته تقوم على ثقافته الواسعة بالفرنسية وخبرته

_ (1) جريدة الوطن - بالفرنسية - 14 ديسمبر 2004، وكان البرنامج الذي أعدته البلدية تحت عنوان (السينما والثورة اعترافا بفضل فوتييه، بين 11 - 13 ديسمبر 2004. (2) لطفي محرزي، السينما الجزائرية، سابق، ص 59 - 60.

الرسم والمعارض الفنية

بالتراث الأندلسي ولاسيما الموسيقي منه، وقد كتب عن هذا التراث بحوثا عديدة وروج لروائعه، ويهمنا هنا أنه أسهم أيضا في صنع الأفلام العربية الأولى للتلفزيون الفرنسي في الجزائر (1). والواقع أن إذاعة الجزائر الفرنسية شرعت في إخراج أفلام عربية للتلفزيون منذ شهر يناير 1955، فهناك قصة ألفها عبد الحليم رايس باسم (هدية الشيطان) ومثلها محمد التوري ولطيفة، وقد ساقت مجلة (هنا الجزائر) بعض المناظر من هذا الفيلم على صفحاتها، وأخبرت أن أول فيلم طويل أنتج للتلفزيون كان عنوانه (اليتيم) وأن قصته كتبها أيضا عبد الحليم رايس، وهو الفيلم الذي أخرجه فرنسي يدعى نويل رافتر (2). الرسم والمعارض الفنية تعرضنا للرسم والرسامين والخط والخطاطين في كتاب التاريخ الثقافي، وحاولنا الوصول بدراسة هذا الإنتاج إلى مشارف الثورة، وأثناء إعدادنا لهذا الكتاب اكتشفنا أن هناك جوانب لم نتناولها من حياة الرسامين لأنهم أضافوا أثناء حياتهم خلال الثورة نشاطا جديدا، ووصلتهم الدعوة للتحرر والحرية كما وصلت جميع المواطنين فاهتزت مشاعر بعضهم وتبدلت أساليبهم وأنتجوا لوحات جميلة معبرة وأشكالا فنية جديدة تشير إلى العهد الجديد، ومن الطبيعي أن هذا الحكم لا ينطبق على كل واحد منهم، ولكن علينا أن ندرس حياتهم وإنتاجهم ونقيم مساهمتهم حسب المستطاع. من الأمور المتعلقة بالثورة والإعلام إقامة المعارض كجزء من الدعاية ضد الوحشية الاستعمارية، فقد جمع المصور الإيطالي فيتيريغو كونتينو مثلا حوالي ستين صورة كان قد أخذها في الجزائر سنة 1959 بالأسود والأبيض، وهي تمثل عينات فقط من معاناة الشعب الجزائري تحت القمع، وهي صور

_ (1) هنا الجزائر 63، مارس 1958، وكذلك 61، يناير 1958. (2) هنا الجزائر 37، يوليو 1955، وكذلك 43، فبراير 1956.

تمثل الحياة في المحتشدات (الكازمات)، والأطفال داخل الأسلاك الشائكة، وحياة اللاجئين حيث اقتلع جنود الاحتلال المواطنين من ديارهم فهاموا على وجوههم. عرض المصور الإيطالي حديثا صوره في معرض بالمكتبة الوطنية الجزائرية بالحامة، في ديسمبر 2004، وقال بأنه كان يشعر منذ التقط الصور أنه سيصبح شاهدا على ما ارتكبه الاستعمار، لذلك احتفظ بصوره كل هذه المدة، ويقول إنه عندما رجع إلى روما سنة 1959 تحدث إلى مواطنه المخرج السينمائي بونتيكورفو عما رأى في الجزائر، وعندما حانت سنة 1966 أنجز المخرج المذكور فيلمه (معركة الجزائر) الذي أخذ شهرة عالمية، وقد نشرت جريدة (الوطن) هذا الخبر مع صورة لمجموعة من الأطفال مكتوب تحتها (أطفال المدارس سنة 1959)، ويظهر الأطفال في الصورة مختلطين، بنات وبنين، لكن صور البنات تأتي في المقدمة وخلفهن وجوه أطفال ذكور لا تكاد ملامحهم تظهر بينما عيون البنات جاحظات وهن في حيرة على مصيرهن، ولا يدري المرء هل هن ينظرن بدهشة إلى المعلم أو إلى المصور (1). وكانت المكاتب الإعلامية لجبهة التحرير في العالم تعرض صور اللاجئين وحياة الطلبة والمحتشدات والسجون وآثار النابالم، وغيرها وترسل بها إلى الطلبة الجزائريين ليعرضها في الأحياء الجامعية وفي الأوساط الاجتماعية والدينية، وقد كنت من بين الذين تلقوا، خريف 1961، مجموعة من الصور من مكتب جبهة التحرير بنيويورك (وعددها اثنتا عشر صورة) فقمت بعرضها في مهرجان طلابي دولي بجامعة منيسوتا بالتعاون مع أخوين من المغرب أحدهما هو محمد بن عيسى (وزير الخارجية الحالي) والآخر هو الفنان محمد المليحي. شارك عدد من الرسامين الجزائريين في معرض باريس (قاعة ليليان. أبريل 1955) وكلهم كانوا، رغم اختلاف اتجاهاتهم الفنية، أصلاء في فنهم.

_ (1) جريدة الوطن - بالفرنسية - 14 ديسمبر 2004.

محمد راسم

حيث تظهر على أعمالهم الروح الشرقية، فهذا بشير بن يلس عرف كيف يتخلص من الطابع الفرنسي الباريسي ويخرج - كما قال أحد النقاد - من الألوان الرمادية إلى الألوان الزاهية التي تعبر عن صفاء الجزائر وضوئها، ورغم أنه تأثر بمحمد راسم صاحب الأسلوب الشرقي في المنمنمات، فإنه قد تخرج أيضا من مدرسة الفنون الجميلة بباريس، وزار مدريد، وأطال المكث في أوروبا مما جعله يتأثر بجوها في فنه، ولقد قدم إلى المعرض ثمرة جهد كبير مشفوع بمشاعر تلقائية متدفقة، وتعبر لوحاته عن ألوانه المختارة والمنسجمة مع بعضها، ومن لوحاته مناظر من الأبيار، ورسم الأستاذ جورج مارسيه، ولوحة لفتاة جميلة (1). محمد راسم تركنا في كتاب التاريخ الثقافي رسالة الرسم في يد الفنان محمد راسم وأخيه عمر راسم، ومعهما كوكبة من الفنانين الذين بلغوا درجة عالية من إبداعاتهم، ومنهم حسن بن عبورة، وبشير بن يلس، وأزواو معمري وآخرون، ونريد أن نواصل الحديث عن محمد راسم ثم نعود إلى تلاميذه ورفاقه في دروب الفن الأصيل ونجمع بين حياة الفنان ونشاطه في المعارض التي لم تكن بالضرورة معارض لصالح الثورة مباشرة لأن الفنان كان يهدف منها بالأساس إلى المنافسة وإظهار تقدمه في فنه. كانت مجلة (هنا الجزائر) تتحف قراءها من وقت لآخر بلوحة من لوحات محمد راسم تضعها على غلافها الذي يمثل القسم العربي وأحيانا القسم الفرنسي أيضا، ومن المعروف أن محمد راسم من مواليد 24 يونيو 1896 بالجزائر العاصمة وقد صدر سنة 1936 كاتلوغ بلوحات الفنانين والنحاتين الجزائريين، فكان حظ محمد راسم فيه أربع لوحات عظيمة اقتنتها مصلحة الفنون الجميلة، منها صفحة من القرآن الكريم، والخليفة مع جنوده، وأسطول بربروس، والصيد (2).

_ (1) هنا الجزائر 35، مايو 1955، سورة ابن يلس أيضا موجودة في هذه المجلة. (2) جان أليزار: كاتلوغ الرسم والنحت، باريس، 1936.

وفي سنة 1956، نشرت هنا الجزائر لوحة تمثل صورة للطبيب أبو علي (كذا) بن سينا كما تخيله محمد راسم، كما نشرت له لوحة أخرى هي (تصديرة العروسة) على غلاف العدد 50، وتظهر في التصديرة العروس والعريس، تحيط بهما مجموعة من النسوة وهن في حالة طرب وفرح، مع تقديم الشاي، كما تظهر العروس والعريس باللباس التقليدي في دار عربية أندلسية أصيلة (موريسكية) فيها زخارف وثريا جميلة تتدلى (1). وفي عدد لاحق من هنا الجزائر ظهرت لوحة أخرى تمثل منظرا لمدينة الجزائر والقصبة والبحر كما تظهر النساء وهن في سهرة وفي جو اجتماعي تقليدي حميم (2). وفي عدد آخر نشرت نفس المجلة لوحة لمحمد راسم على غلافها اسمها (شارع سيدي عبد الله) المزدحم في القصبة: فهناك الباعة والمتسوقون، أطفالا ورجالا ونساء باللباس التقليدي، والدكاكين المفتوحة على ما فيها، وتظهر حولها أبواب المنازل، وصومعة أحد المساجد، وزخارف وآثار عربية - إسلامية (موريسكية) وأباريق الماء، وفي سنة 1960 نشرت هنا الجزائر أيضا لوحة بعنوان (قصر رفيع في رياض بديع) تمثل نساء عند حوض ماء في حديقة قصر كبير رائع الأشجار والمدرجات والزهور (3). وهناك لوحة لمحمد راسم تمثل شراعا حربيا يرجع إلى العهد العثماني. وفي أعلى اللوحة عن اليمين عبارة: الفوز ثمرة الشجاعة، وعن الشمال كتبت الآية الكريمة: {وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم}، وفي أسفل اللوحة عن اليمين الآية الكريمة: {إن تنصروا الله ينصركم}، وعن الشمال كتبت عبارة الجنة في ظلال السيوف، ويقف الشراع أمام مدينة الجزائر البيضاء، إلى جانب مجموعة

_ (1) هنا الجزائر 50، نوفمبر 1954. (2) هنا الجزائر، 74، مارس 1959. (3) هنا الجزائر 77، يونيو 1959، وكذلك غلاف هنا الجزائر 86، أبريل 1960.

من السفن الحربية، فالمنظر يمثل أسطول الجزائر في العهد العثماني، ومن الخلف تطل صومعة أحد المساجد العتيقة، أما التوقيع فهو: محمد راسم، الجزائر. كنا قد لخصنا حياة محمد راسم من مقال هام لمؤرخ الفن الإسلامي جورج مارسيه، ونريد هنا أن نستفيد من مقال لكاتب فرنسي آخر له دراية واسعة بالموضوع وهو لويس أوجين أنجلي L.E.Angel وعنوانه (قادة الرسم الجزائري: فن المنمنمات ومحمد راسم)، والمقال أوردته (هنا الجزائر) في القسم الفرنسي ولخصته في القسم العربي، وبناء عليه فإن محمد راسم هو الذي بعث فن المنمنمات بعد أن نسيه أهله، وكان أسلافه يتعاطون فن الزخرفة فهو وارثه عنهم، وكذلك فن الخط، فقد كان والده، (علي بن سعيد) وعمه (محمد بن سعيد) يملكان دكانا في العاصمة يقصده أعيان المدينة وأدباؤها، تلك هي بداية محمد راسم، ولكنه لم يتوقف عندها بل اتجه أيضا نحو الفنون الأوروبية، عندما كان عمره أربع عشرة سنة كان محمد يستعد لدخول المدرسة الثانوية ولكن السيد ريكار مفتش الفنون الأهلية رأى دفتره في معرض بروكسل فأعجب به وعرض عليه أن يكون مساعده في التصوير الموجه إلى المدارس الأهلية. فكان عمل محمد راسم هو نقل الزخارف إلى مراكز الطرز ونسج الزرابي. اطلع راسم على الفن الفارسي (المنمنمات) من كتاب هنري دالماني، فأخذ يقلده، ثم برع فيه وتأثر بالخصوص بالألوان الذهبية، وتعرف عليه إيتيان دينيه في مكتب ريكار، وكان دينيه يبحث عمن يرسم له رسومات يحلي بها كتابه (حياة محمد) فوجد ضالته في محمد راسم، كما كان الناشر (بيازا) في باربس قد نشر عدة كتب عن الإسلام والمسلمين، منها الإسلام تحت الرماد، وبابا عروج، وبستان سعدي، وعمر الخيام، وسعى إلى أن يجلب إليه محمد راسم، فاتفق معه على العمل، ومن ثم غادر محمد راسم الجزائر إلى باريس، وفيها تعاقد مع (بيازا) لكي يزخرف له كتاب ألف ليلة وليلة، وقد استغرق ذلك ثماني سنوات مضنية، ولكنها جعلته يسافر إلى بلدان أخرى ليطلع على ما فيها من تراث إيراني وإسلامي وشرقي.

زار محمد راسم الأندلس أيضا على نفقة الولاية العامة بالجزائر، وامتلأت مشاعره بمشاهدات الآثار الإسلامية والتحف والزخارف في مدن قرطبة وغرناطة وإشبيلية وغيرها، وأخذت شهرته تزداد بين المختصين، وعرض إنتاجه في المعارض الدولية في مدن القاهرة وباريس وروما وفيينا وأستكهولم ... وتردد على السويد بالخصوص عدة مرات، فرحبت بفنه وتزوج منها، وقد اهتم النقاد بلوحاته ونوهوا بها، وأعجبوا بدقة صنعته وجمال تعبيره وسلامة ذوقه، وعندما رجع إلى الجزائر سنة 1933 عرض لوحاته، واقتنيت أربعة منها، ونال الجائزة الفنية الكبرى، وعين أستاذا في معهد الفنون الجميلة حيث بقي إلى سنة 1955 يلقن الشباب أصول الفن الإسلامي الأصيل. ورغم أنه تأثر بالفن الإيراني فإن موضعاته كانت مستوحاة من التاريخ الجزائري كما لاحظنا في اللوحات التي ذكرنا بعضها، ففي لوحاته تظهر الروابي المحيطة بخليج الجزائر، والمنازل الأندلسية (الموريسكية) والبساتين والملابس والوجوه والتقاليد، ولمحمد راسم الفضل في بعث فن المنمنمات، حسب السيد (أنجلي) بعد أن اختفى قرونا في طي النسيان، واشتهر اسم راسم في العالم وحظي بتقدير عظيم حتى أنه انتخب عضوا شرفيا في الجمعية الملكية الإنجليزية للتصوير سنة 1950، ومن تأثيره أن بعض الفنانين في المشرق رجعوا إلى فن المنمنمات بعد أن أهملوه زمنا، رغم أنه فن أجدادهم، وأصبح فن راسم يدرس لذاته مما يدل على تأثيره في النهضة الفنية المعاصرة، لقد رفع رأس الجزائر عاليا في الشرق والغرب. وقد اشتمل مقال (أنجلي) على لوحتين كنا أشرنا إليهما وهما: 1 - شارع (سوق) في مدينة الجزائر مليء بالحركة واختلاط الرجال والنساء والأطفال، وهم في حديث وانسجام، وفي حالة بيع وشراء، وتطل مباني القصبة على المكان في انسجام مع زخرفة السوق، وتظهر اللوحة في المقال بدون ألوان.

عمر راسم

2 - سطوح الجزائر، وهي لوحة تمثل مجموعة من النساء على أحد سطوح القصبة، وتظهر في الصورة الصوامع والمرسى، بينما النسوة يشربن الشاي في حالة استرخاء وحديث هادى، ومن حولهن قناني الماء والمزهريات، وليس هناك أطفال ولكن هناك قطة تضفي الأنس والهدوء على الجلسة. وفي المقال إشادة بلوحات أشرنا إليها وهي: سفن حربية جزائرية. ومدينة الجزائر، وفي حديقة إحدى الفيلات، وخير الدين بربروس (مؤسس الدولة الجزائرية)، وقد ضمت النسخة الفرنسية من المقال تفاصيل وعناوين لم تشملها الخلاصة العربية (1). لا ندري ما الذي فعل أو حدث لمحمد راسم بعد 1955، وقد بلغ الستين سنة تقريبا، ولا ما إذا تركت الثورة بصماتها على لوحة من لوحاته، سواء أثناءها أو بعدها، فقد عاش إلى السبعينات على ما نعرف، ومات موتة عنيفة لا يستحقها فنان وشيخ طاعن في السن مثله، فقد قيل إن لصوصا مختصين قدموا من أوروبا واعتدوا عليه وعلى زوجته العجوز أيضا، وسرقوا مجموعة من لوحاته، وهربوا، ما الذي حدث بالضبط؟ وما مصير القضية؟ لقد اختفت آثار الجريمة، فمتى تظهر الحقيقة؟ ولم يكن محمد راسم وحده في عدم وجود آثار الثورة في إنتاجه المعروف حتى الآن، فكثير من الفناتين عاشوا في الجزائر أو في فرنسا ومع ذلك لم نجد له التزاما نحوها، رغم أن المرحلة كانت مرحلة الفن والأدب الملتزمين، ومع ذلك عاد بعضهم إلى الجزائر من الخارج وظهروا بصفة الأبطال والمناضلين. عمر راسم أما عمر راسم فقد اكتسب سمعة وطنية عالية ولكنه لم يكتسب شهرة أخيه العالمية، كان عمر وفيا أيضا لتراث الأسرة الجزائر، ولكن في مجال

_ (1) هنا الجزائر 34، أفريل 1955، ص 25 - 30، القسم الفرنسي.

مختلف عن مجال أخيه، فترك ثروة من الدراسات عن الرسم والموسيقى والخط، وله دروس في نشأة الصحافة العربية الوطنية، وترك تلاميذ وتأثيرا واسعا، وإذا كان محمد قد التصق اسمه بأوروبا وفنانيها وجوائزها ومعارضها، فإن عمر ترك بصماته على العالم الفني الجزائري بما رسم من لوحات ودبج من مقالات عن الموسيقى وخطط من كتب وعزف من ألحان، وقد كنا ترجمنا له، أو بالأحرى عرفنا به في كتابنا السابق (الجزء 5)، ونود هتا أن نضيف بعض المعلومات عنه مما أتيح لنا الإطلاع عليه بعد طبع كتابنا بما قدم بين 1954 و 1959، فقد ظل يسهم في الحياة الأدبية والفتية إلى آخر لحظة من حياته. أبنته مجلة (هنا الجزائر) التي كان أحد كتابها فقالت إنه توفي في 13 فبراير 1959، عن 75 سنة، ودفن في مقبرة الشيخ عبد الرحمن الثعالبي، وإنه من عباقرة فن الرسم والخط العربي والخط الأندلسي والخط الكوفي، وهو وأخوه محمد يعتبران فارسي رهان في ميدان الفنون الجميلة، فحين أنشأت إدارة الفنون الجميلة بالولاية العامة، (سنة 1931) مدرسة لتعليم فن التصوير (الرسم) والزخرفة العربية الشرقية في العاصمة اختارت الأخوين الفنانين محمد راسم وعمر راسم، للتدريس فيها فن الخط العربي والزخرفة الشرقية، وقد باشرا التعليم فيها، وتخرجت على أيديهما نخبة من الشباب ... لم يتخرج عمر من مدرسة فنية معينة ولكنه بالموهبة والمثابرة والتتلمذ على والده، علي بن سعيد راسم، استطاع عمر أن يشق طريقه وسط المبدعين والتابعين في الفن والزخرفة، وقد ابتكر أشياء جميلة أدت إلى إقبال دور النشر عليه لطلب زخرفة مطبوعاتها، وكان عمر أديبا ذواقة أيضا وكاتبا ناقدا، وكان من قدماء المحاضرين والمقرئين في محطة الإذاعة، وكان يلقي حديثه الأسبوعي بنفسه في الإذاعة في موضوع فن الرسم والتصوير والموسيقى، ونشرت له مجلة (هنا الجزائر) مقالات في الفنون التي اختارها، ولعمر راسم اطلاع واسع ومهارة في فن الموسيقى العربية الأندلسية، ويعتبر من المحافظين على تراثها، وقد كتب عنها مقالات نشرت في هنا الجزائر وفي دوريات أخرى.

لقد بدأ عمر حياته في مجال الصحافة العربية، فأصدر أوائل القرن الماضي مجلة (الجزائر) وجريدة (ذو الفقار)، وكان يقوم برسم الصور بنفسه، ومن آثاره كتابات أسماء شوارع القصبة القديمة في مدينة الجزائر على لافتات باللغة العربية إلى جانب اللغة الفرنسية، وهي كتابات بلون أبيض على أرضية زرقاء بحروف تبدو لنا اليوم معقدة ومتداخلة، كما كان يضع تحت كل اسم ما يوضح مسماه وتاريخه أو الحدث الملتصق به (1). وقبل أن نتحدث عن رأي عمر راسم في الموسيقى، نشير إلى مقاله (التقليد والفن) الذي كتبه سنة 1957 والذي ربما كان أحد أحاديثه الإذاعية أيضا، في هذا المقال نقد لاذع للتقليد في الفن وهجوم كبير على المقلدين لأنهم بالتقليد يفقدون في نظره شخصيتهم، وفي هذا المقال كلام عام عن الفرق بين المبدع والمقلد، والموهوب في نظره هو الذي يتفرغ لفنه لأنه يحبه ويلتزم به، (أما المقلد (فهو) كالطماع والمحتكر الذي يريد أن ينال الأرباح الطائلة من دون تعب، إن ناسخ الكتب لا يعد مؤلفا، ولا الملحن شاعرا، ولا الراوي محدثا) (2). رغم أن الأخوين محمد وعمر راسم قد أسهما في الثقافة الجزائرية إسهاما كبيرا بالموهبة والإبداع فإنهما كانا متوسطي الثقافة فيما يبدو من آثارهما، ونقصد هنا الثقافة الأكاديمية أو المنتظمة، وقد رأينا أن محمد راسم قد حيل بينه وبين مواصلة دراسته الثانوية فاكتشف الفن وظهرت موهبته فيه فتفرغ لإنتاجه يشبع رغبته في الإبدع في فن المنمنمات، ولم يكمل قاعدته الثقافية إلا بطريقة شخصية، ويبدو أن محمدا كان محافظا في ثقافته لأننا وجدنا له اطلاعا واسعا على التاريخ والآثار والحياة الاجتماعية لبلاده كما تظهرها لوحاته، ذلك أن موضوعاته جزائرية إسلامية عربية، ترجع إلى أعماق التاريخ، كما أنه كفنان كان

_ (1) هنا الجزائر 74، مارس 1959، أنظر أيضا ما كتبناه عنه في مجال الصحافة في التاريخ الثقافي، ج 282/ 5. (2) هنا الجزائر 59، نوفمبر 1957.

يستمد من البيئة والأسرة والقصبة التي يبدو أنه من مواليدها، وهي آخر حصن من حصون الثقافة الوطنية الباقية في العاصمة بعد أن كادت تزول جميع معالم الثقافة الأخرى على يد الاستعمار، كما عرفنا أنه زار وتأثر تأثرا عظيما بمعالم الأندلس وتراثها الحضاري، ولا نعلم أنه زار الشرق أو أدى فريضة الحج. وقد لاحظنا أن محمد راسم كان كذلك يوقع دائما لوحاته بالحروف العربية حتى تلك التي كانت تعرض في أوربا أو تنشر في الكتب المتعلقة بالإسلام وثقافته لمؤلفين أوروبيين، ومن جهة أخرى نلاحظ أن المرأة كانت أيضا من موضوعاته الرئيسية، ولا ندري بأي إيعاز كان يفعل ذلك، والغالب أنه إيعاز ذاتي أي أنه كان يرى المرأة جزءا من حياة القصبة ورمزا للجزائر التي بقيت وراء الجدران العالية لهذا الحصن، فالمرأة في الحديقة والشرفة، وهي في المقصورات الوثيرة الأثاث والسطوح الشفافة، وهي العروس المخضبة بالحناء في ثياب الزفاف، وهي تشرب الشاي وتتحدث إلى صويحباتها، وهي طربة نشوانة، وهي تتزين بالأزياء التقليدية .. كل ذلك يتمثل في لوحاته الجميلة المليئة بالرموز التاريخية والاجتماعية. أما أخوه عمر راسم فنعلم أنه بدأ بالاهتمام بالسياسة فأصدر الصحف بمعاناة شديدة، عندما كان الإعلام الوطني في درجة الصفر، ثم سافر إلى المشرق، وشاهد التيارات الموالية والرافضة للتبعية العثمانية والنهضة الإسلامية، وعرف الحركات الساخطة على الاستعمار والمنادية بالوطنية، واعتنق المذهب الاشتراكي في صورته المثالية الإنسانية، وكان رائدا في التحذير من التغلغل الصهيوني، وكان من المعجبين بحركة الأمير خالد، ثم خاب أمله في بعض الرموز الوطنية التي كانت تطفو ثم يغرقها الاستعمار بأدواته المعهودة، وعاد عمر إلى الرسم والخط والموسيقى، وكان يعيش عيشة ربما يجوز أن

رسامون آخرون

نسيها (بوهيمية) في بلاده المعذبة، ولم يكن وحده في ذلك، فقد تحطمت شخصيات وطنية كثيرة على صخرة التقلبات السياسية الفرنسية، كانت بقافة عمر راسم متوسطة كثقافة أخيه ولكنها كانت ميالة أكثر إلى ثقافة المشرق المتحركة أي ثقافة عهد النهضة، فكتمها في نفسه وتعاشر مع الإمكانات المتوفرة، فوجدناه في الإذاعة (وهي فرنسية) وفي مجلتها هنا الجزائر، يذيع ويكتب ويوجه، ووجدناه مدرسا في مدرسة الفنون الجميلة يساهم في تكوين الجيل الجديد إلى أن أدركه الموت وهو وراء المذياع، وهو أمام السبورة، وهو يمسك القلم، وهنا يبقى السؤال ما دمنا نكتب عن عهد الثورة: ما علاقة عمر راسم بالثورة؟ وهو السؤال الذي سيبقى بدون جواب، كما هو الحال بالنسبة لعدد كبير من الفنانين، إلى أن نعرف أكثر عن نهاية الرجل الذي يكون قد بلغ السبعين سنة عند اندلاعها. بقي أن نسجل أن عمر راسم كان عميدا لمدرسة في فن التذهيب في الخط، وكذلك المنمنمات، وكان نشطا في هذا الميدان منذ 1937، وقد كان مشاركا في اتحاد فناني شمال إفريقيا، وكان يعرض أعماله في صالونات خاصة، وقد عين معلما في مدرسة الفنون الجميلة بالجزائر، كما أشرنا، متفرغا لتذهيب القرآن الكريم على الخصوص (1). رسامون آخرون قائمة الفناتين طويلة خلال عهد الثورة، ولا يمكننا تغطية حياتهم ونشاطهم كلها في هذا الكتاب الذي يعتمد على مصادر قليلة وما تزال متفرقة، ثم إن بعض الفنانين قد تناولناهم في التاريخ الثقافي ولم يجد جديد عنهم منذ ظهور كتابنا المذكور، فهذا مثلا أزواو معمري كتبنا عنه في الجزء الثامن/ 434 ولم نر داعيا للرجوع إليه إلا عند الضرورة.

_ (1) مدينة الجزائر ورساموها، ص 277.

إن معظم لوحات أزواو تمثل الحياة المغربية التي تأثر بها كثيرا، ومنها الحداد المغربي، ووادي بورقراق، وسوق مراكش، والقصابون في جامع الفناء، والمكتب القرآني، وقد عرض أزواو لوحاته في المعارض الجزائرية والدولية، وكان يحب الموسيقى الأندلسية، وزار الأندلس وأعجب بالفن الإسلامي في غرناطة وقرطبة وإشبيليا، وأحب الفنون الشعبية المغربية وله صورة باللباس المغربي وهو يذيع من إذاعة مراكش وحوله الفرقة الموسيقية المغربية التي أنشأها، وبعد وفاته كتب عنه مالك واري مقالة في القسم الفرنسي من مجلة (هنا الجزائر) وضم إليها لوحة لآزواو عنوانها (سيدي علي أو يحيى بتاوريرت ميمون) (1). وللبشير بن يلس عدة لوحات ربما لم نشر إليها في دراستنا السابقة عنه. منها (زفاف في تلمسان) وهي مرسومة على غلاف القسم الفرنسي من مجلة (هنا الجزائر)، وتمثل اللوحة فرقة موسيقية ومجمع المستمعين وهم في حالة انسجام واستغراق بملابسهم التقليدية الجميلة (2). أما ما يمكن أن نضيفه عن ابن يلس فهو تتلمذه على محمد راسم ثم ابتعاده عنه، وقد درس في مدرسة الفنون الجميلة بالجزائر العاصمة، ومنها ذهب لحضور أشغال أساتذة الرسم الحديث في باريس ومدريد، وفي عهد الاستقلال أصبح مديرا للمدرسة الوطنية للفنون الجميلة ورئيسا لاتحاد الفن البلاستيكي، وشارك في معارض مشتركة في بلدان المغرب العربي وأوروبا ونيويورك (2). وخلال الثورة أبدع حسن بن عبورة بعض اللوحات وأحرز على الجائزة الفنية الكبرى للجزائر للعام 1957 - 1958، وهو أيضا من تلاميذ محمد راسم

_ (1) هنا الجزائر 29، نوفمبر 1954، توفي أزوار بالمغرب في السابع من سبتمبر 1954، انظر عنه أيضا كتاب مدينة الجزائر ورساموها، ص 273. (2) هنا الجزائر 33، مارس 1955. (3) مدينة الجزائر ورساموها، ص 283.

في فن المنمنمات، وتمتاز لوحاته بالبساطة وحتى بالسذاجة، وهو يفصل مناظره بدقة تدهش الناظر، ومنها القطار، وشواع بلكور، وميناء الجزائر ... وكلها تعبر عن شاعريته الرقيقة والمؤثرة، وقد وردت عليه التهاني من أصحابه عندما نال الجائزة في شهر يناير 1958 أي في أتون الثورة (1). ومما يذكر أن ابن عبورة ولد بالعاصمة (الجزائر) سنة 1898 وتوفي بها سنة 1961، وحصل على جوائز كثيرة، واقتنت إدارة الفنون الجميلة بالجزائر عددا من أعماله، وقد عشق رسم الأحياء الشعبية وشواطى مدينة الجزائر، وآخر معرض له أقامه سنة 1960، وجعل شعاره فيه (الفن الأصيل لأحد أبناء مدينة الجزائر) (2). وابن عبورة معروف عند الرسامين في الجزائر بأنه الفنان الساذج، فهو يرسم مشاعره بكل أمانة وبساطة، وهو يأخذ بتلابيب المشاهدين للوحاته بمناظره الجذابة للقطار ومرسى الجزائر وشوارع بلكور، ففنه، كما قال أحد النقاد، كأنه قصيدة يتغنى بها، وهو أسلوب خاص به (3). أما رابح درياسة فقد اشتهر بالشعر واللحن والغناء ولم يشتهر بالرسم. ولكن هنا الجزائر أوردت له نماذج من الرسم تدل على موهبة متميزة على الأقل عندما كان في أول الطريق، من ذلك لوحته (حرب على الجهل)، وهي لوحة تحمل توقيعه نشرها سنة 1957، ويمكن اتخاذها نموذجا أيضا بالنسبة لتعليم المرأة، وله لوحة أخرى كتبت لها هنا الجزائر مقدمة، وهي جزء من حصة (من كل فن شوية) التي كان يشرف عليها محمد الحبيب حشلاف، ومن هذا المصدر نعرف أن درياسة من تلاميذ محمد راسم أيضا (4).

_ (1) هنا الجزائر 62، فبراير 1958. (2) مدينة الجزائر ورساموها، ص 249، وقد نال ابن عبورة، بالإضافة إلى ما ذكرنا، جوائز سنوات 1954، 1955، 1957. (3) هنا الجزائر 62، فبراير 1958. (4) هنا الجزائر 62، فبراير 1958، و 63 مارس 1958.

ولد محمد بوزيد في الأخضرية سنة 1929، وبدأ حياته العلمية معلما في مسقط رأسه، وابتداء من 1953 كرس نفسه لفن الرسم، فحصل على منحة سنة 1956، وأخرى بعدها بسنتين، ولفت الأنظار إلى رسوماته عندما شارك في معرض الفن الجزائري بباريس سنة 1957، فقد عرض فن زخرفة الجدران في تيزي وزو والجزائر، ثم شارك في معارض عقدت بفرنسا وبلجيكا وفي غيرهما، وفي سنة 1960 حصل على ما يسمى (الجائزة الجزائرية الفنية الكبرى). وبعد الاستقلال كلف بتصميم الختم والدرع الرسمي للجمهورية الجزائرية، وسمي مستشارا بوزارة الثقافة، وهو الذي قام بزخرفة بواخر الشركة الجزائرية للملاحة، كما وضع الصميم (الديكور) لزخرفة المسرح الجزائري والنادي الوطني للسينما، وقام المعهد الوطني للفنون الجميلة بتكريمه سنة 1999، وقد قيل عنه إنه كان متشبثا بكل قواه بالموضوع واللون، وإنه يستطع التخلص من كل التناقضات عندما يتفرغ للرسم، وإنه ينتمي إلى المدرسة الواقعية، ولذلك كانت موضوعاته مشبعة بالتعبير الحي (1). أما باية محيي الدين فقد ولدت في برج الكيفان (شرقي مدينة الجزائر) سنة 1931، وعاشت يتيمة منذ كان عمرها خمس سنوات، وكانت جدتها تعيش في العاصمة فجاءت تنشد الدفء والحنان عندها. لاحظ السيد (فرنك ماكوين) مدير المجلس البريطاني وزوجته (مارغريت) رسوماتها الفخارية سنة 1942 فأخذاها على ذمتهما وشجعاها على الاستمرار وتطوير فن الرسم، ولم تلبث أن عرضت بعض أعمالها (1947) في باريس، وقام الكاتب (أندري بريتون) بكتابة مقدمة لمجموعتها، ثم اشتغلت في ورشة تعمل في الفخار، وهناك التقت بالفنان العالمي بيكاسو، وأوائل الخمسينات تزوجت بالمغني والملحن الحاج محيي الدين المحفوظ (1953) وأنجيت ستة أطفال، وعاشت معهم في البليدة، وبعد عشر سنوات عرض متحف الفنون

_ (1) مدينة الجزائر ورساموها، ص 252.

الجميلة في العاصمة أعمالها القديمة واقتنى بعضها، وفي هذه الأثناء استأنفت الرسم بعد توقف طويل، وقد شاركت في معارض جماعية على مستوى المغرب العربي وفرنسا وبلجيكا (1). الغالب أن مولود بوكرش من مواليد سيدي بلعباس، فنحن لا نعرف الكثير في هذه المرحلة عن أولياته ولا عن نهاية حياته، بدأ بوكرش حياته الفنية رساما في مدينة الجزائر، ثم توجه إلى مدرسة الفنون الجميلة بباريس، وأقام ورشته في هذه المدينة، أول معرض أقامه في الجزائر كان في النادي الفرنسي - الإسلامي عام 1947، وقد تخصص في رسم مناظر الحياة العربية، كالمراعي والأرياف، وكذلك الأشخاص مثل العازف على الناي، والمتسول، والأعمى، ولأزواج المتحابين، والنساء في محيط صحراوي، ومن أعماله أيضا لوحة الحائك الأبيض الذي تلتف به امرأة ريفية ذات وشم (2). عبد الحليم حميش من مواليد تلمسان سنة 1908، وقد تتلمذ على كوفي Couvy في الفنون الجميلة بالجزائر، أما ميدان اهتمامه فهو رسم المناظر الطبيعية والعادات الشعبية، شارك حميش في المعرض العالمي الذي انعقد في باريس سنة 1937 بلوحة تمثل مقهى عربية، وفي سنة 1945 شارك في معرض خصص للرسوم والمنمنمات الجزائرية، وبتوالي الأيام أصبح معلما للرسم في مدرسة الفنون الجميلة بباريس، ولكننا لا نعرف متى بدأ ومتى انتهى من ذلك، أما وفاته فكانت بتلمسان سنة 1979 (3). ولد قارة أحمد أحمد في العاصمة سنة 1923، كانت أسرته تتعاطى الوظائف الدينية والأعمال الخيرية، وقد درس النحت والفنون الجميلة في مدرسة الجميلة، ويعتبر من الفنانين ذوي الاهتمامات المتنوعة، أما أعماله فقد

_ (1) مدينة الجزائر ورساموها، ص 248، وتوفيت الفنانة باية سنة 1998. (2) مدينة الجزائر ورساموها، ص 251. (3) نفس المرجع، ص 268.

عرضها في عدة عواصم أوروبية مثل باريس واستوكهولم، وهلسنكي وروما. وكذلك في المغرب والعراق ولبنان، شارك قارة أحمد في تأسيس المتحف الوطني للفنون والتقاليد الشعبية بالجزائر، وكان هو المحافظ لهذا المتحف سنوات طويلة، وهو ينتمي إلى مدرسة الفن التجريدي (1). يعتبر محمد خدة من الجيل الأحدث بين زملائه الرسامين، فقد ولد سنة 1930 بمستغانم، وبدأ الرسم وهو في السابعة عشرة من عمره، ثم جاء إلى باربس سنة 1953 رفقة زميله ابن عنتر، وأنجز أول لوحاته سنة 1955، وقد اعتمد في رسوماته على العناصر البلاستيكية والخطوط العربية، ويبدو أنه لم ينتج كثيرا من اللوحات قبل الاستقلال، ولعله كان ذا صلة بالثورة سواء في فرنسا أو في الجزائر لأنه نشط منذ 1963، وشارك في معارض الرسم الجزائري وكان مشاركا في معارض باريس وليون، وفي هذه الفترة أنجز أعمالا جدارية ومنحوتات ورسومات في الكتب والنقائش ... ولكن نشاطه هذا وما بعده لا يهمنا الآن، ومهما كان الأمر فقد التقينا بالفنان محمد خدة عدة مرات في الجزائر بعد الاستقلال، وكان انطباعنا عنه أنه فنان متواضع وموضوعي، وقد توفي سنة 1991 (2). ولد عبن الله بن عنتر في مستغانم أيضا سنة 1931، ودرس الرسم والنحت في معهد الفنون الجميلة بوهران، ثم استقر نهائيا في باريس سنة 1953 حيث تحول إلى التشكيل، وفي سنة 1957 أقام معرضا شخصيا، وواصل عرض فنه في باريس بانتظام، وكذلك في ألمانيا والدنمارك، وقد اشترك في عدة تظاهرات جماعية للفنانين في أوروبا والمغرب العربي، وابتداء من 1962 أخذ ابن عنتر يشترك في معارض النقش المرفقة بأبيات شعرية من جان سيناك، ثم واصل إنتاجه في عهد الاستقلال، وقد أصبح معلما في مدرسة الفنون الجميلة

_ (1) نفس المرجع، ص 269. (2) نفس المرجع، ص 269، انظر عنه أيضا كتابنا تاريخ الجزائر الثقافي.

في باريس خلال السبعينات (1). محمد تمام كان أحد التلاميذ الأذكياء للأخوين راسم (محمد وعمر)، ولد بالجزائر العاصمة سنة 1915، وبعد المرحلة الأولى من حياته أدخلاه عالم فن التذهيب، وفي سنة 1936 غادر الجزائر إلى فرنسا ليتعلم فن الديكور في مدرسة فن الزخرفة، ثم اشتغل في بعض المصانع بالقطع الصغيرة الدقيقة، وبعد سنة أقام أول معرض شيخصي له، أما في سنة 1944 فقد شارك في معرض التذهيب والمنمنمات الجزائرية، كما اشترك مع أستاذه محمد راسم في معارض في البلاد الإسكندنافية بين 1946 - 1957، وعرض أيضا في بلدان المغرب العربي، وبعد الاستقلال رجع إلى الجزائر وعين محافظا لمتحف الآثار حيث بقي إلى وفاته سنة 1988 (2). أما محمد غانم فقد ولد بالعاصمة سنة 1925 وتتلمذ أيضا على يد عمر راسم، وقد ظهر سنة 1944 في المعرض الذي خصصه محمد راسم للفنانين المسلمين الشباب، ثم أصبح أستاذا لفن التذهيب في المدرسة الوطنية للفنون الجميلة بالجزائر، وكان يعرض أعماله في أماكن خاصة أو في التظاهرات الجماعية سواء في البلاد العربية أو في أوروبا (3). ينتمي الفنان محمد أكسوح إلى جيل حديث، فقد ولد سنة 1934 في العاصمة، وبدأ منذ 1959 ينجز منحوتاته على المرمر أو المعادن، وكان يرسم يميل إلى التجريد، فكان من مؤسسي الرسم الجزائري الحديث، وبعد الاستقلال شارك أكسوح في المعارض الجماعية، ثم استقر به المقام في باريس منذ 1965 مثل عدد من زملائه، وشارك منها في عدة معارض وأنشطة، كما

_ (1) مدينة الجزائر ورساموها، ص 249. (2) نفس المرجع، ص 281. (3) نفس المرجع، ص 277.

فنانون أوروبيون

شارك في عدة تظاهرات خارج فرنسا أيضا (1). ولد علي خوجة علي بالعاصمة سنة 1923 ودرس الخط وفن التذهيب في مدرسة الفنون الجميلة بالعاصمة على يد عمر راسم، كما واصل دراسة الفن على محمد راسم وأندري دي باك .. Pac وفي سنة 1942 عرض رسوماته في قاعة الفنانين الجزائريين وحصل على منحة مدينة الجزائر، أما بين 1943 - 1950 فقد اشتغل بالمنمنمات وبالحياة اليومية في قصبة العاصمة، وشارك في عدة معارض للرسم الإسلامي / الجزائري من إنتاج الشباب، كما أصبح عضوا في جمعية الفنانين الجزائريين والمستشرقين، ورساما في مكتب الفنون التقليدية، لقد تحول علي خوجة من المنمنمات إلى الرسم، وفي سنة 1961 ألحقته مدرسة الفنون الجميلة في الجزائر بها كمعلم لفن الزخرفة (2) décoration. فنانون أوروبيون بالإضافة إلى المبدعين الجزائريين في فن الرسم هناك أسماء أخرى ذات صلة وثيقة بهذا الفن منهم: جان ألازار الذي كان من أبرز الوجوه في الحركة الفنية سواء في التأليف فيها أو إدارة مؤسساتها وتوجيهها، ولد ألازار J.Alazar سنة 1887، وتخرج من مدرسة ترشيح المعلمين في التاريخ بالحصول على درجة التبريز ثم على الدكتوراه في فن النهضة الإيطالية، وأصبح مواطنا شرفيا لمدينة فلورنسا العريقة في إبداع فنون عصر النهضة والتي قضى فيها ردحا من الزمن أستاذا في المعهد الفرنسي، وفي 1923 عين أستاذا في تاريخ الفن بجامعة الجزائر، ثم تولى عمادة الجامعة سنة 1948، وسعى إلى إنشاء متحف وطني جديد للفنون الجميلة، وهو المتحف الذي تولى إدارته ثلاثين سنة كما سنذكر، وقد طوره ووسعه وأضاف إلى محتوياته، سيما المتعلقة منها بشمال

_ (1) نفس المرجع، ص 247، وقد أشرنا إلى أكسوح في الأجزاء السابقة من تاريخ الجزائر الثقافي. (2) مدينة الجزائر ورساموها، ص 247.

إفريقيا، كما أنشأ فيه مكتبة غنية متخصصة ورواقا للنحت الخاص بالقرن العشرين. وكذلك تولى تحرير مجلة الفن التي غيرت اسمها إلى مجلة البحر الأبيض المتوسط، وأنشأ أيضا المعهد الحضري لمدينة الجزائر، وكان المشرف على فيلا عبد اللطيف التي كان يسهر على تلامذتها الموهوبين الممنوحين (1). ومنهم جان برون J.Brune الذي ولد بالجزائر سنة 1912 ومات سنة 1973 منفيا في نوميا، وهو من الكتاب الصحفيين الملتزمين سياسيا من أجل الجزائر الفرنسية، وكان من أنصار الملكية في فرنسا، وهو أيضا رسام ماهر بحيث كان يزود الصحف بمختلف المناظر الجزائرية، وكان مغرما بالفن الذي يعتمد المناظر الطبيعية، كما كان يكتب بتوثيق دقيق عن الرسم ويحلله، تحليلا يدل على مهارة وذوق، وبالأخص خلال سنوات 1950 - 1960 عندما كان يدير جريدة هنا الجزائر (2) (Ici Alger). أما ألبير كامو فقد عرف في ميدان الأدب والنقد وحب الفن وصداقة الفنانين، لذلك أقام هؤلاء له معرضا فنيا يحمل اسمه سنة 1994، وكان ماكس فوشيه M.Fouchet قد عاش في الجزائر بين 1913 و 1944 ثم غادرها في هذه السنة ليتولى (الحوليات الأدبية)، وكان يتعامل مع فن الرسم، كما كان والده رساما (3). والمعروف عن جان سيناك أنه شاعر وأديب ومن مواليد بني صاف سنة 1926، وقد أنشأ مجلة (الشمس Soleil) سنة 1950، وكان مهتما بالرسم. وله في ذلك أصدقاء فرنسيون وجزائريون، أمثال ابن عنتر وبوزيد وأكسوح، وبين 1955 - 1960 نشر سيناك (مذكرات الفن) أو ملاحظات فنية Notes dArt

_ (1) من مؤلفات جان ألازار: الشرق والرسم الفرنسي في القرن التاسع عشر: من يوجبن دى لاكروا إلى أوغست رونوار، باريس، بلون، 1930، انظر مدية الجزائر ورساموها، ص 245. (2) مدينة الجزائر ورساموها، ص 246. (3) نفس المرجع، 246.

نوه فيها بالرسم الجزائري، وبعد نفي سياسي خلال الثورة رجع إلى الجزائر بعد الاستقلال وتحصل على الجنسية الجزائرية وأصبح مستشارا في وزارة التربية، ولكنه لم يتخل عن اهتمامه بفن الرسم (1). والخلاصة أن الجيل الجديد من الفنانين كان يعبر عن التحرر من المراسيم، بل كان يعبر عن قلق حقيقي، ويريد التخلص من القيود التي فرضتها الحياة الاجتماعية والهروب من الإطار التقليدي، فقد كانوا يعتقدون أنهم قادرون أيضا على إنتاج مناظر وآفاق تشهد على تصور رائع للفن الجميل، وذلك بتجاوز حدود المحرمات الايديولوجية، وهناك لوحتان وردتا مع المقال الذي رجعنا إليه في هذا الصدد، الأولى: لوحة مرسى الجزائر وخلفية الحياة بالمدينة لابن عبورة، كما أوردت مجلة (هنا الجزائر) على غلافها الفرنسي لوحة لبوزيد عنوانها (الموسيقار) وهو يمسك بالعود (2). ومما يلاحظه المرء عندما يدرس حياة هؤلاء الفنانين الجزائريين أنهم في جملتهم انتقلوا إلى فرنسا قبل الثورة أو أثناءها واستقروا فيها، وأنهم كانوا يمارسون هناك عملهم الفني وربما وظائف أخرى عادية، ولم تؤثر الثورة - فيما يبدو - في مسيرة حياتهم، وعندما تحقق الاستقلال بقي بعضهم في فرنسا، وأدركت الشيخوخة أو الموت بعضهم، كما أن بعضهم رجع إلى الجزائر وتولى فيها وظائف بارزة، مديرين ومستشارين، فهل كانوا على صلة سرية بالثورة فكافأتهم على نضالهم؟ أو كانوا يحملون معهم جواز السفر الإيديولوجي المتمثل في الواقعية والالتزام، وهو أكبر مؤهل في تلك الفترة؟ أو هي مجرد عمليات ملء الفراغ التي دأبت عليها مصالح جزائرية بإيعاز من البعثة الثقافية الفرنسية حفاظا على (الجزائر الفرنسية) في شكلها الثقافي؟

_ (1) نفس المرجع، ص 246. (2) هنا الجزائر 35، 1955.

معارض أخرى

معارض أخرى أثناء حرب التحرير أسهم الأطفال أيضا في فن الرسم، من ذلك إقامة معرض لرسومات الأطفال التي كانت كلها تقريبا تعبر عن الحرب التي عاشوها، فقد طلب منهم أن يرسموا ما يخطر ببالهم فرسموا الطائرات المحترقة والمنازل المهدمة، كما رسموا مختلف أنواع الأسلحة المستعملة كالرشاشات والبنادق والمدافع والدبابات والعلم الوطني على هامة الجبال، والجندي وهو يحمل رشاشا، فكانت الحصيلة ثلاثة وثلاثين صورة (33)، إحدى وثلاثون منها عن حالة الحرب، وهناك صورة تجمع الأطفال وهم يتلقون درسا في ورشة، بينما أحدهم كان مصابا بالرصاص (1). ومن جهة أخرى استمرت فيلا عبد اللطيف مفتوحة للعمل إلى حوالي 1960، وقد تعاقب على نشاطها ومعارضها عدد من الفنانين الجزائريين، منهم حسن بن عبورة ومحمد بوزيد اللذان حصلا على جوائر فنية كبيرة كما أشرنا، كما أن إدارة الفنون الجميلة التابعة لوزارة الجزائر قد نظمت، ربيع 1958، معرضا في قاعة (بورد) يدعى معرض الجوائز الكبرى، وتحدث المتكلم باسمها عن مرور ثلاثين سنة على إنتاج (مدرسة الجزائر)، ومن جهة أخرى نشير إلى أن ابن عبورة قد استفاد من جداريات رينيه فاما Famin، وهي عبارة عن أروقة المنارة الواقعة اليوم في شارع مراد ديدوش بالعاصمة، وكانت هذه الأروقة تستقبل الفنانين والأدباء أمثال ألبير كامو وجان سيناك (2). أنشئت المدرسة الوطنية للفنون الجميلة في نوفمبر 1881، وخصص لها في البداية مسجد مهجور - كما قيل - في حي البحرية، بشارع القناصل في القصبة، أما مدير المدرسة فكان العقيد ليون كوفيه L.Cauvy الذي قضى في المدرسة سنوات طويلة (1909 - 1933)، ثم أنشئت مدرسة جديدة في شارع

_ (1) المجاهد 44، 14 يونيو 1958. (2) مدينة الجزائر ورساموها، ص 243 - 244.

رسوم الطاسيلي

التالملي، وكان فيها سنوات 1950 - 1954 أكثر من ثلاثمائة تلميذ وأحد عشر أستاذا من حملة الشهادات، إضافة إلى ستة مكلفين بالدروس، ومن أساتذتها محمد راسم وأخوه عمر راسم وبشير بن يلس، ومصدرنا في هذه المعلومات لم يتحدث عن المدرسة خلال الثورة، ومما يذكر أن الأستاذ الذي تولى فيها ورشة النحت هو جان بيرسييه Bersier، خلال 1947 - 1958، وبيرسييه كان قد تخرج من فيلا عبد اللطيف، وقد تخرج على يديه في النحت عدد من الأوروبيين، وأما المسلمون (الجزائريون) فمنهم: محمد إسياخم، وبشير بن يلس، ومن الأساتذة الذين درسوا في الورشة كزائرين يوجين كورنو Corneau الذي كان يزور الورشة كل ثلاثة أشهر لينشر علمه منها، بين 1953 - 1962 (1). كما أنشئت معارض عديدة وهامة للفن ذات طابع مغاربي - إفريقي مع لمسة فرنسية، وقد استمرت في النشاط إلى سنة 1956 على الأقل، هذه المعارض كانت تستقبل إنتاج الفنانين من بلدان المغرب العربي، وكانت تعقد كل مرة دورة في إحدى مدن المغرب العربي، فانعقد أول معرض في تونس سنة 1928، ثم في الدار البيضاء سنة 1929، وفي الجزائر سنة 1930، وهكذا ... أما المعارض الأخيرة فقد انعقدت بعيدا عن المغرب العربي، إما لاستقلال تونس والمغرب أو لاشتداد الثورة الجزائرية، فقد انتظم مثلا معرض للفن المغاربي بلمسات فرنسية في مونتكارلو سنة 1951، ثم في بوردو سنة 1956 (2). رسوم الطاسيلي كان لاكتشاف رسوم الطاسيلي وفنون أخرى صحراوية ردود فعل من النقاد والكتاب المهتمين بالتراث الفني، فقد كان الشائع أن الصحراء خالية من الفنون في ماضيها وحاضرها فإذا بالباحثين يتوصلون إلى اكتشاف، في منطقة

_ (1) مدينة الجزائر ورساموها، ص 241. (2) نفس المرجع، ص 240.

الطاسيلي، أبهر العالم، سنة 1956، إن هناك عدة لوحات اكتشفت واستخرجت من قبضة الرمال، وكانت اللوحة لفنانين صحراويين رسموها بريشة من شعر حيوان وحشي، ويرجع تاريخ بعض الصور إلى آلاف السنين قبل الميلاد، وكان مع الإنسان عندئذ سلاحه وآلته، وقد أثبت وجود الزرافة والدب البحري والفيلة (وكلها مرسومة على اللوحة) أن الصحراء كانت عامرة بالأعشاب الكثيفة، كما أن وجود الفرس المائي والتماسيح والأسماك قد دل على أن ما هو صحراء اليوم كانت تغمره المياه. إن مكتشفات الطاسيلي تعبر عن فنون ما قبل التاريخ، وعصورها المختلفة: ظهور الإنسان، ثم الحصان ثم الجمل، مرورا بعصر الإنسان الذي له شكل رأس مكورة، إلى صور للإنسان في شكل عملاق له طول يصل إلى ستة أمتار، وفي العصر الثاني رسم الصحراويون حياتهم اليومية كالأعراس والرقص والغناء والرعي والحروب والفلاحة والنساء ... وفي هذا العصر ظهر الحصان، ولعله العصر الذي شهد آخر سكان الصحراء قبل اختفائهم نتيجة الجفاف، بحيث لم يبق في الصحراء سوى جماعات من البدو، وبذلك دخل عصر الجمل الذي يعتير آخر العصور لأن الجمل جاء من آسيا وهو الحيوان الوحيد الذي استطاع أن يتكيف مع البيئة الصحراوية (1). أما الرسوم التي عثر عليها الباحثون وعرضوها على الناس فهي: رسم لفتاتين زنجيتين طول كل منهما أكثر من متر، لهما جيد طويل وثياب بيضاء، وعلى إحداهما رسم حصان، وهناك صورة أخرى تمثل أحد الرماة وزوجته، وفلاحا يمسك بحبل لصيد الحيوانات، وصورا لزنوج، ثم صورة لقناع يرجع إلى عشرة آلاف سنة، وهو في شكل وجه لثور له قرنان، أما آخر الصور فلراقصين وراقصات بأقنعتهم التي يتخذونها للتنكر، ويظهر على الرسوم التأثير

_ (1) محمد الميلي: صحراؤنا، تونس، ص 26 - 28.

المصري الفرعوني (1). وقد درس أحد المهتمين ما قامت به بعثة هنري لوط في الطاسيلي سنة 1956، وبناء عليه فهي بعثة ضمت رسامين ومصورين كلفوا برسم الفنون المنقوشة على الأحجار في الطاسيلي، فكانت النتيجة باهرة إن لم نقل إنها تعبر عن معجزة، حيث استطاع الرسامون والمصورون نقل ما عثروا عليه من رسوم وصور ونقوش سنة 1957، لقد كانت الفكرة شائعة عن وجود رسوم في الصحراء ولكن دون تحديد إلى أن اكتشفت في شمال شرق الهقار بقيادة علماء الآثار والتاريخ، كان هنري لوط يريد نقل الرسوم قبل هذا التاريخ، ولكنه لم يتمكن من ذلك سابقا، لأنه كان في حاجة إلى رجال ومعدات، وقد استطاعت بعثته أن تنقل ما يزيد على الألف متر مربع من الرسوم المنقوشة والمطابقة للأصل بألوانها وأحجامها، ويرجع تاريخ هذه الرسوم إلى 7 أو 8 آلاف سنة، وهي تثير تساؤلات حول ترتيب الحضارات في الظهور، وإعادة النظر في القيم التاريخية والفنية والعلمية، مما يجعل هذه الرسوم نادرة المثال، فهي تمثل وجود أمة أو أمم عمرت بها الصحراء قبل التاريخ، وانتهت إلى درجة متقدمة من الرقي الاجتماعي وإقامة النظم الحضارية. فهل هذه المكتشفات سابقة للحضارة المصرية القديمة، وهل تأثر المصريون القدماء بحضارة الصحراء أو العكس هو الصحيح؟ إن هذه المكتشفات الجديدة دلت على وجود حضارة صحراوية متقدمة للإنسان بحيواناته، وهي البقر والغزلان والفيلة والحمر الوحشية وغيرها، بل أن هناك رسوما تمثل الحروب والحياة الدينية والفنية، وقد بلغت بعض الرسوم درجة عالية من الكمال والإتقان الفني، أما ما أقدمت عليه البعثة من كشف ما عثرت عليه للجمهور والعلماء فهو جزء فقط من خطتها الشاملة، فقد نظمت البعثة معرضا لبعض الرسوم المنقولة، وهو معرض مفتوح أقيم في قاعة (بورد) وتردد

_ (1) الميلي، مرجع سابق، ص 32 - 33.

المكتبات

عليه المعجبون والمهتمون بهذا الاكتشاف النادر (1). لقد كانت المعارض وسيلة للفنانين لعرض إنتاجهم والتعريف بأعمالهم، عرض محمد راسم إنتاجه في مختلف أنحاء العالم، كما عرض أزواو معمري وحسن بن عبورة، فالفنان أزواو مثلا اقتنت المتاحف الكبرى بعض لوحاته مثل متحف كليفلان في أمريكا، ومتحف لوكسبورغ في فرنسا، كما وضع رسومات لمؤلفات العديد من الكتاب، وكذلك فعل عمر راسم، كما عرفنا، والواقع أن معظم الفنانين الذين ذكرناهم عرضوا أعمالهم في معارض أوروبية وجزائرية وعربية، سواء بطريقة فردية أو جماعية، فكان لمساهماتهم أصداء واسعة على المستوى المحلي والعالمي، ونالوا عليها الجوائز والمنح، وأتيح لهم أن يبدعوا بطريقة غير مسبوقة (2). المكتبات عندما نتحدث عن الخمسينات من القرن العشرين يتبادر إلى الذهن عهد نهضة علمية ذات دوافع كثيرة من أهمها التحرر من الاستعمار، فقد أقبل العالم على غزو الفضاء وتطور التسلح النووي وبدأ عصر الاتصال السريع والتكنولوجيا، وتحررت بحلول الستينات كثير من المستعمرات واحتلت مكانها في الأمم المتحدة، وبدأت حدة الحرب الباردة تخف نظرا لميلاد قوة ثالثة أحدثت شيئا من التوازن هي كتلة عدم الانحياز، وكنا نتوقع أن تدخل الجزائر هذا العصر الجديد بأبنائها وعلومها ورصيدها النضالي، ولكن الذي كان ينقصها هو التحرر الكامل من الاستعمار والتخلص من التبعية، والقضاء على الأمية، فماذا حصل؟ لقد انشغلت الجزائر عن نفسها بقضايا هامشية وأدخلوها في دوامة من

_ (1) مولود الطياب، هنا الجزائر 54، مارس - أبريل، 1957، ص 7. (2) هنا الجزائر 29، نوفمبر 1954.

سوء الظن وفقدان الثقة بالنفس وأدخلوها دائرة العنف حش فقدت السيطرة على مقاليدها وأسلمت زمام أمورها لغيرها، وخسرت ما ربحته من رصيد معنوي أيام الثورة. ومن علامات هذه الظاهرة المرضية إصابة الجزائر في هويتها الثقافية، فقد جعلوها لعبة في أيدي العابثين، فأصبح أبناؤها يتنابزون بالألفاظ النابية في سبيل لغة الغير وثقافة الغير وتاريخ الغير، ونسي الجزائريون أن لهم وحدة يجب الالتفاف حولها، ولهم هوية مات أجدادهم من أجلها ولهم ثقافة عربية إسلامية هي التي حمتهم من الذوبان في الغير وحافظت على وجودهم كأمة بعد أن تعرضوا لأقسى امتحان في التاريخ وهو التخلي عن شخصيتهم والاندماج في أمة ليسوا منها في شيء. وكانت الكتب والمكتبات هي الضمانة لتاريخهم وكيانهم، ولكنها كانت في يد المستعمرين يفعلون بها ما يريدون ويوفرون منها لأنفسهم ما يشاؤون بينما يحرمون منها أصحاب الأرض، كانت في الجزائر مكتبة عمومية (وطنية) ومكتبة جامعية ومكتبات ولائية وأخرى بلدية، بالإضافة إلى مكتبات عسكرية حيث ينشط القطاع العسكري الفرنسي، وكلها مكتبات في الواقع تخدم المصالح الفرنسية، كما تخدم الاستشراق في أوسع معانيه، أما المسؤولون عنها فكلهم فرنسيون، وقد يكون من بينهم عون جزائري في درجة ثانوية تقضي المصلحة وجوده كالترجمة وقراءة الخطوط والعناوين العربية. بالإضافة إلى ذلك كان هناك مكتبات لبيع الكتب المستوردة أو المطبوعة في عين المكان أو في فرنسا، مثلا هناك مكتبة النهضة الجزائرية بالعاصمة التي كانت متخصمة في بيع كتب المشرق على العموم، ولكنها تبيع أيضا الكتب الفرنسية، وهناك دار الكتب التي تشبه الأولى في أهميتها، وهي تبيع مختلف أنواع الكتب ومنها الكتب الجزائرية، فهي في الحقيقة دار طبع وبيع وتوزيع، وهناك مكتبة الشباب بقسنطينة، إضافة إلى المكتبة الجزائرية التي لها أصل في

العاصمة وفرع في قسنطينة، وكان على رأس مكتبة النهضة السيد ميموني، وعلى رأس المكتبة الجزائرية السيد شريفي، ولا ننسى هنا مكتبة رودوسي التي استمرت في نشاطها والتي تخصصت، كما ذكرنا في التاريخ الثقافي، في طبع المصاحف وبعض كتب التراث، وكانت هذه المكتبات تساهم في توريد ونشر وبيع الكتب، كما كانت تساهم في ترقية الحياة الثقافية عموما. في يناير 1955 كتب السيد عبد المجيد الشافعي كلمة غمز فيها من قناة أصحاب المكتبات فاتهمهم بأنهم لا يرحبون إلا بكتب الشرق ويهملون كتب الجزائريين، وقال إنهم لا يشجعون نشر كتب أمثاله من الشباب، ويرى الشافعي أن جلب الكتب من المشرق جناية على الثقافة العربية في الجزائر، فأخذه صاحب مكتبة النهضة على لسان زملائه، على (غروره) وصحح له قوله إنهم يستوردون الكتب من (الخارج) لأن الاستيراد من البلاد العربية ليس خارجا، وتساءل كيف يمكن مواكبة الثقافة، العالمية بكتاب مثل (خواطر مجموعة) للشافعي، وإن الوطن العربي واحد، وإن رأي الشافعي يعبر عن وجهة نظر محلية ضيقة، وقال إن أي دار للنشر لا تنشر أي شى بل لا بد لها أن تختار، وإن عليه أن يفرق بين مهمة المكتبة ومهمة دار النشر. لقد جعل الشافعي عنوان كلمته (مناهضة المكتبة الجزائرية لحركتنا الإنتاجية) قائلا إن الأديب تنهك قواه المطبعة وإذا أخذ كتابه إلى دار النشر تثبطه، وبذلك يزهد في التأليف والإنتاج وتصبح المكتبة مساهمة في محاربة الكتاب، واستعدى الشافعي القراء على أصحاب المكتبات لأنهم يجلبون الكتب التافهة من الخارج ويهملون الإنتاج الوطني، فالقراء هم الذين شجعوا بذلك صاحب المكتبة على دفن التراث، وليس صاحب المكتبة سوى تاجر قبل كل شيء وليس له غيرة على الكتاب والثقافة (1). كانت الصحف إلى وقت اختفاء معظمها سنة 1956 تنشر الإعلانات عن

_ (1) البصائر 302، 21 يناير 1955 وكذلك 304، فبراير 1955.

صدور بعض الكتب، كما كانت تعرف ببعضها عند صدوره، ففي المنار والبصائر وهنا الجزائر مثلا كمية من العناوين الصادرة حديثا أو التي ستصدر، أو الكتب المشرقية الموردة إلى الجزائر، فكتب أحمد رضا حوحو، ومحمد الصالح الصديق وعبد الرحمن الجيلالي وسليمان الصيد ومحمد علي دبوز ومحمد الصالح رمضان وعبد الرحمن الحفاف والشريف الساحلي، وغيرهم وجدت طريقها إلى الإعلان للقراء، كما قام بعضهم (محمد منيع) بمراجعة (كتاب البربر لعثمان الكعاك) وكتاب صرخة القلب للحبيب بناسي، وأعلنت البصائر عن ورود موسوعة لسان العرب، وتاريخ ابن خلدون للبيع في مكتبة النهضة بالعاصمة، وأما هنا الجزائر فقد خصصت بابا شهريا تراجع فيه الكتب الصادرة حديثا باللغتين، وقام محمد منيع أيضا بعرض كتاب (ثورة الخيام) لمؤلف اسمه عبد الحق (؟)، وحمزة بوكوشة بعرض (ألحان الفتوة) لمحمد الصالح رمضان وغيره من (ثمرات المطابع)، حسب التعبير المستعمل عندئذ. أما المكتبة الوطنية والمكتبة الجامعية وغيرهما من المكتبات الولائية والبلدية، فإننا لم نجد تقارير تتحدث عن تطورها وغناها خلال مرحلة الثورة، ولعل ذلك راجع إلى عدم استقرار الموظفين فيها نتيجة الأحداث، أو إلى الرحيل المفاجى للمسؤولين عليها، وأخذ ما يمكن أخذه إلى فرنسا بعد التيقن من حصول الجزائر على استقلالها عند الاستفتاء، والتدمير المنظم الذي قامت به منظمة الجيش السري منذ 1961، ومهما كان الأمر فإننا لم نعثر على قوائم المقتنيات الجديدة من كتب ودوريات ومخطوطات، ولم نجد أسماء الموظفين الذين تداولوا على هذه المؤسسات خلال الخمسينات أو على الأقل بعد رحيل غبريال إسكير آخر المحافظين البارزين للمكتبة العمومية. وعلى كل حال فعند الاستقلال كانت المكتبة الوطنية تحتوي على ما يلي: - القسم العربي: يحتوي على حوالي ثلاثة آلاف كتاب (3000) مطبوع باللغة العربية، دخلت إلى المكتبة بالشراء والهدايا من البلدان العربية والهند وأوروبا.

- المخطوطات الشرقية: تبلغ أكثر من ثلاثمائة (300) مخطوط باللغات العربية والتركية والفارسية، وهي مجموعة قيل إنها غنية بصورها وقدمها، إذ يرجع بعضها إلى القرون 12، و 13، و 14 الميلادية. - مجموعة الدوريات: وهي تبلغ حوالي 1400 جريدة يومية وأسبوعية ومجلات، ترد إلى المكتبة عن طريق الاشتراك والهدايا أو بعنوان الإيداع القانوني. - المجموعة الموسيقية والشريطية (ديسكوتيك)، وهي تمكن المهتمين من الاستماع إلى التسجيلات الموسيقية التي يحتوي عليها 2400 شريط، وهي تضم أشرطة للموسيقى الكلاسيكية والحديثة والأوبرا والمسرح والقطع الأدبية، كما أنها وسيلة لتعلم اللغات (1). أما بناء المكتبة التي أصبحت وطنية قرب فندق الأوراسي فيرجع إلى سنة 1954، فبعد حديث طويل ومناقشات حول المكان والتكاليف والأبعاد وقعت الموافقة على مشروع بناء مكتبة جديدة ووضع الحجر الأول يوم عشرين أبريل 1954، بحضور شخصيات رسمية، منهم جوليان كان J.Cain مدير المكتبات بفرنسا ممثلا لوزير التربية، والحاكم العام للجزائر وهو ليونارد Leonard، إن بناية المكتبة الجديدة التي تتربع على ربوة الثغريين في إطار عام ضخم يطل على ساحة الفوروم (إفريقيا حاليا) وعلى مقر الولاية العامة (قصر الحكومة حاليا)، وعلى مرسى المدينة في شكله المتدرج كان من مغريات هذا المشروع، كما تقع خلف بناية المكتبة حدائق الثغريين والمباني الرياضية، إن هذا الحي كان مخططا له أن يكون امتدادا لجامعة الجزائر، فقد كانت الأعمال تجري فيه لبناء كلية الحقوق ومعهد الدراسات النووية، ومعهد الدراسات الصحراوية، ودار المهندس ... وما يزال بعض هذه المعاهد موجودا في هذا الحي، مثل معهد الدراسات النووية.

_ (1) الثورة الثقافية في عامها الأول، وزارة التربية، 1963، الجزائر، ص 23 - 29.

تبلغ المكتبة 122 م طولا على 17 م ارتفاعا، وهي تشمل: مكتبة شمال إفريقيا التي تحتوي على كل ما يهم هذه المنطقة ويهم الإسلام، وهي مكتبة للتوثيق العام، بطريقة موسوعية، وتمثل التفكير الفرنسي في إفريقيا، كما أنها تمثل مركز الإيداع القانوني، ومكتبة الإعارة وخدمات المطالعة، وألحقت بها المكتبة الموسيقية والشريطية والأشرطة (الميكروفيلم) والنسخ والمعارض، أما الرصيد العربي فيحتوي على حوالي 3000 مخطوط، كما ذكرنا، وهي مخطوطات ذات قيمة عالية لندرتها وقدمها، ومنها كتاب الموطأ للإمام مالك، وصحيح البخاري في الحديث، وهناك نماذج كتبت لأبي يوسف يعقوب الموحدي، وفقه اللغة للجوهري ونسخة من القرآن الكريم مكتوبة سنة 768 (1367) بالفارسية، كما يوجد في المكتبة قسم للكتب الفارسية (1). وبالإضافة إلى المخطوطات هناك الكتب المشتراة بالعربية، وهناك اشتراك في المجلات العربية والجرائد، وهكذا فإنه يمكن للمثقفين الجزائريين أن يجدوا في المكتبة الوطنية ما يتطلعون إليه حول الإسلام والفلسفة والأدب والتاريخ الإسلامي. وهناك الرصيد الفرنسي، وهو الأكثر غنى في المكتبة، فهو يضم كتبا في التاريخ وحضارة شمال إفريقيا، ومخطوطات تتعلق بتاريخ الجزائر بعد 1830، كما أن هناك مشتريات حديثة لمخطوطات خاصة سمحت بالحصول على معلومات ثمينة تتعلق بتاريخ الجزائر في القرنين 17 و 18، وكذلك أعمالا أخرى مثل الدفاتر والرحلات، كرحلة الأب دي فوكو. أما المطبوعات فشملت الكتب التي ترجع إلى القرون 17، 18، 19 الخاصة بالأسرى المسيحيين وتاريخ الجزائر قبل 1830، كما شملت كتبا نادرة ترجع إلى ما بعد هذا العهد، مثل مجموعة طابلو Tableau، ووضع المؤسسات الفرنسية في الجزائر من 1838 إلى 1868، والاكتشاف العلمي للجزائر الذي

_ (1) مستلة من نشرة المكتبات الفرنسية، رقم 10، ص 693، 696.

يقع في اثنين وثلاثين (32) مجلدا، من 1844 إلى 1854، وكذلك حوليات الاستعمار في الجزائر من 1852 إلى 1855، ومجموعة جرائد المونيتور والأخبار. وفيما يتعلق بالفترة المعاصرة فإن مقتنيات المكتبة لا تتوقف عند الجزائر بل تمتد إلى شمال إفريقيا وإلى القارة الإفريقية، ولكن القسم الجزائري هو الأكثر غنى بفضل الإيداع القانوني، كما أن قسم شمال إفريقيا قد توسع بمكتبة ستيفان غزال الغنية بالوثائق والكتب الأثرية، بالإضافة إلى مكتبة المكتشف (دي برازا) (1). كانت المكتبة تضم كتبا للثقافة العامة، وكتبا أخرى في مختلف الاختصاصات، ومنها الكتب الأدبية والكتب العلمية، ويتردد عليها الأساتذة والطلبة، وهي تلبي حاجتهم في مختلف التخصصات، وفي كل سنة هناك ميزانية مخصصة لشراء كتب نادرة أو نفيسة، كما أن هناك مجلات ترتبط بالاختصاص، وأسبوعيات ويوميات عامة، إضافة إلى الصحف الإقليمية، والمكتبة مفتوحة للإعارة العامة من رصيد خاص بذلك، وهناك مشروع تمت المصادقة عليه نهاية سنة 1955 بإنشاء مكتبة مركزية للإعارة في مدينة الجزائر، وهو مشروع المطالعة العامة الذي يغطي حوالي 300 مركز عبر القطر كله، والمكتبة تتعامل أيضا مع المكتبات البلدية ومكتبات النوادي الريفية ومكتبات المدارس ومكتبات المستشفيات، والإعارة مجانية، كما استحدثت مكتبات صغيرة في مراكز صحراوية بلغت خمسا وعشرين مكتبة (في الأغواط، والبيض، وغرداية ...). لقد بلغ رصيد المكتبة المخصص للإعارة 45000 كتاب، وهي تحتوي على الروايات والتراجم والدراسات الأدبية والتاريخ والجغرافيا والرحلات والطب الشعبي والفنون الجميلة وكتب خاصة بالمراهقين وأخرى بالأطفال.

_ (1) المسرح نفسه، أكتوبر 1958، ص 697.

المكتبة الجامعية

إضافة إلى كتب باللغة العربية (1). المكتبة الجامعية أما المكتبة الجامعية فقد تضررت كثيرا بسبب الحريق الذي عانت منه سنة 1962 (يونيو) على يد منظمة الجيش السري الإرهابية، وتظهر إحدى الصور المكتبة وهي تحترق والنوافذ مفتوحة والزجاج مهشم، وفي ديسمبر 1962 قامت لجنة دولية برئاسة وزير التربية بحملة لإعادة إعمار المكتبة، وقد وصلتها ردود مشجعة، وأذكر أنني كنت عندئذ الجزائري الوحيد في جامعة مينسوتا فاسدعتني الجامعة واستلمت من رئيسها الدكتور ميريدت ويلسون رمزا لهدية الكتب التي قدمتها الجامعة لمكتبة جامعة الجزائر، وقد جرى ذلك في حفل كبير سلطت عليه أضواء باهرة. أما المكتبة الوطنية فلكي تمنع ضياع الكتب أو تلفها قامت بتصوير المخطوطات بواسطة الميكروفيلم (الأشرطة)، بما في ذلك مكتبات المساجد والزوايا والخاصة، وتسجيل الموسيقى الوطنية في أشرطة لحمايتها من الضياع، ويلاحظ أن إحصاء الكتب والمخطوطات سنة 1962 فيه شيء من المبالغة إذ جاء فيه أن عدد الكتب في المكتبة الوطنية بلغ خمسمائة ألف (500 ألف) كتاب مطبوع، وأن المخطوطات بلغت 3500 بالعربية وحدها، وأنها المكتبة الأولى في إفريقيا (2). مكتبات جهوية وقد اطلعنا على كاتلوغ الكتب التي يحتويها أرشيف ولاية التيطري (دائرة المدية) لسنة 1961 (من أكتوبر 1960 إلى فبراير 1961)، فوجدناه يضم عددا

_ (1) نفس المرجع، ص 697 - 698 كاتب المقال هو جيرمان لوبيل Germaine Lebel محافظ ومدير المكتبة الوطنية (الجزائر)، في نشرة المكتبات ... رقم 10، 13، أكتوبر 1958. (2) انظر إحصاء سابقا.

من الكتب العامة والدوريات، وفي مقدمة الكاتلوغ تنبيه على أن الهدف من وضعه هو تسهيل المطالعة والبحث، وقد صنف حسب مادة الاختصاص فهو يبدأ بالعموميات والقواميس ثم يمر إلى الفلسفة وعلم النفس والتربية والأديان والعلوم السياسية والقانون والعدل والعلوم الاقتصادية والعلوم الاجتماعية، وفقه اللغة، واللغات، والعلوم التطبيقية والفنون الجميلة والمسرح والسينما ... هذا الكاتلوغ موجود في المكتبة الوطنية (بالحامة). وفي كاتلوغ آخر لنفس الدائرة (المدية) قائمة بالكتب التي دخلت المكتبة من مارس إلى نوفمبر 1961، وهو يسير على نفس النسق الذي سار عليه الكاتلوغ الأول، وكذلك نفس التصنيف (1). كما اطلعنا على كاتلوغ دائرة القبائل فوجدناه يشتمل على الكتب التي دخلت المكتبة إلى ديسمبر 1961، ولها مجموعتان: الأولى الكتب المشتراة من قبل السيد حداد قبل وصول السيد (بران) Parrain، وقد سجلت بعناية في المكتبة، والمجموعة الثانية الكتب التي وضعها السيد حداد جانبا ولم يسجلها، كما لم يسجل المجلات القديمة، وقد أكد السيد بران على وجود الكتب التي سبق أن صنفت ودخلت المكتبة وتلك التي تم شراؤها ولم تسجل، إلى حلول 15 يوليو 1961، فبلغت 1271 كتابا، وكانوا يعدون بطاقات خاصة بالمؤلفين وأخرى بالمواضيع. صنفت الكتب ثلاثة أصاف: أ - المؤلفات العامة، ب - مؤلفات خاصة بشمال إفريقيا، ج - مؤلفات عن الإدارة والقانون، ووعد المصنف أن المؤلفات الجديدة ستنشر في نهاية كل سنة، وإذا كان الصنف الثاني هو الذي يهمنا هنا بالدرجة الأولى فإن ما فيه من مؤلفات عن الإسلام لا يعدو سبعة عناوين، منها (مساهمة في دراسة الطرق الصوفية، وترجمة للقرآن الكريم قام بها إدوارد

_ (1) الأرشيف الولائي للتيطري، دائرة المدية، المجلد 1 ويحتوي على 27 صفحة، أما المجلد 2 فيحتوي على 45 صفحة، نوفمبر 1961.

مونتاي، والمرأة المسلمة، والإسلام في الغد، والحضارة العربية، والإسلام والمسلمون اليوم، وعرف وتقاليد المسلمين، وكذلك مجلة الدراسات الإسلامية ... (المكتبات: ولاية القبائل، الوثائق الولاية، مركز التوثيق بالمكتبة الوطنية (بالحامة). وهناك نموذج ثالث نمثل له (بعد التيطري والقبائل) بكتب تعود إلى جبهة التحرير، لقد كان للجبهة مكتبتها في مبنى الحكومة المؤقة بالقاهرة، وربما في مختلف مكاتبها الإعلامية وسفاراتها، وكانت مكتبة القاهرة تضم عددا من الكتب المهداة في أغلب الأحيان، وهي المكتبة التي عملت فيها شخصيا بعض الوقت لجردها وتصنيفها في دفتر ضخم، وبعد سفري من القاهرة وانتقال وزارة الثقافة إلى تونس لا أدري ماذا جرى لتلك المكتبة، كما كان لجيش التحرير مكتبته، وأظن أنها كانت في مقر قيادة الأركان يتونس، لأن ممثل جيش التجرير (أو ممثل قيادة الأركان) في القاهرة كان غالبا ما يشتري الكتب ويرسلها إلى تونس. اطلعنا على المجلد الثاني من كاتلوغ الكتب المنسوبة إلى جبهة التحرير فإذا به يضم 689 عنوانا بما في ذلك المجلات، وعنوانه: كاتلوغ كتب المكتبة المجلد 2، الكتب من 320 إلى 689، أي أن المجلد الأول يحتوي على الأرقام من 1 إلى 319، ويذكر أن صفحة العنوان تحتوي على اسم جبهة التحرير الوطني، المكتب السياسي، مصلحة الدراسات والتوثيق، تاريخ 12/ 3/ 1968 وتقع الوثيقة في 13 صفحة، فهل هذه الكتب قديمة ترجع إلى عهد الثورة؟ يبدو ذلك، كما يبدو أنها كتب تجمعت من الهدايا أثناء الثورة لأنها كتب سياسية واقتصادية وثورية وتتعلق بتاريخ المنظمات وتراجم الرجال، ونحو ذلك، ولعل الجزء الأول (الذي لم نطلع عليه) فيه وصف لها في مقدمته، وهذا الكاتلوغ يوجد أيضا في المكتبة الوطنية (بالحامة).

الخطاطة

الخطاطة بالنسبة للخطاطة أشرنا إلى أن عمر راسم كان مولعا بمختلف الخطوط العربية، ولا سيما الكوفي والنسخي والعثماني، وكان قد خط ذلك على لوحات أسماء الشوارع في القصبة وزخرفة الكتب وعلى لوحات خطية رغم أنها قليلة، وقد درس الخطاط الموهوب محمد شريفي في رسالته للدكتوراه اللوحات الخطية في الفن العربي ... وخاصة المغربية والجزائرية، ومن بينها لوحات عمر راسم، كما ظهر خطاطون وقت الثورة منهم محمد شريفي نفسه الذي درس الخط في مصر وبرع فيه، وكان أستاذه فيه (وأستاذنا أيضا) هو سيد إبراهيم صاحب الشهرة الواسعة والمدرسة - المتميزة في مصر والشرق في زمنه، ويعتبر محمد شريفي من الذين درسوا وطبقوا الخطوط العربية حتى أصبح اليوم أحد أبرز المحكمين والمستشارين فيها على مستوى العالم الإسلامي، وإليك بعض الأضواء على حياته في هذا المجال. محمد سعيد شريفي ولد محمد بن سعيد شريفي بالقرارة (بني ميزاب) بجنوب الجزائر سنة 1935، ودخل المدرسة فحفظ فيها القرآن الكريم، ثم درس في معهد الحياة بنفس المدينة إلى أن تخرج منه حاصلا على الشهادة الثانوية سنة 1956، ولا ندري إن كان قد درس أيضا في تونس، ولكنه التحق بالقاهرة التي حصل منها على شهادة خطاط من مدرسة تحسين الخطوط العربية بعد أن قضى فيها أربع سنوات (تخرج 1962)، وفي هذه السنة حصل من الأستاذ سيد إبراهيم على إجازة في الخط العربي، كما حصل على بكالوريوس كلية الفنون الجميلة (قسم الحفر) بالقاهرة حيث قضى خمس سنوات، وكان موضوع تخرجه سنة 1963 بعنوان مساجد القاهرة. وبعد رجوعه للجزائر تولى تدريس الخط في المدرسة الوطنية للفنون

الجملة، وغيرها، وواصل رسالته إلى أن حصل على عدة إجازات في الخط منها إجازة حامد الآمدي باسطنبول في رمضان من عام 1389 (1969 م)، وعلى شهادة في الخط والتذهيب من مدرسة تحسين الخطوط العربية بالقاهرة حيث قضى من جديد سنتين، عام 1970، أما من جامعة الجزائر فقد تحصل سنة 1971 على دبلوم في الفن الحديث، وعلى دكتوراه الحلقة الثالثة في تاريخ الفن الإسلامي بعنوان (خطوط المصاحف عند المشارقة والمغاربة من القرن الرابع إلى العاشر الهجري)، ومن جامعة الجزائر أيضا نال دكتوراه الدولة في التاريخ الإسلامي في موضوع (اللوحات الخطية في الفن العربي بخط الثلث الجلي) سنة 1997، وهذه الأطروحة طبعت سنة 1998 في دشمق. لمحمد شريفي مجموعة من المصاحف بخط يده، وبعض أجزاء من القرآن الكريم برواية ورش، وبعضها برواية حفص عن عاصم، هذه المصاحف منشورة في الجزائر وكذلك بدار الغرب، وقد اشترك شريفي في ملتقيات جرت بعدة عواصم وحواضر منها تلمسان وبغداد والرباط، وكلها ملتقيات تناولت الخطوط والآثار والزخرفة الإسلامية، وهو عضو في لجنة التحكيم للمسابقة الدولية لفن الخط، وقد علم الخط، كما قلنا، في المدرسة العليا للفنون الجميلة للجزائر منذ 1964، وطبع كراريس بأنواع الخطوط: الثلث، الفارسي، النسخي، الرقعي، الديواني ... وله بحوث في الفنون التشكيلية وسبل تطويرها، وفي الخط العربي وأصالته وفنونه وحاضره وتاريخه. وقد صمم شريفي عملة العشرة دنانير الجزائرية النحاسية ذات الأضلاع العشرة، وأعد الخطوط للحروف العربية واللاتينية لأوراق النقد الجزائرية، كما صمم ورسم شهادات التعليم العالي، وقد منح عدة جوائز وحظي بالتكريم في الجزائر وبغداد والشارقة، وأشرف على عدة معارض فنية وطنية في عدة بلدان عربية (1).

_ (1) معلومات مأخوذة من سيرته الذاتية.

عبد الحميد اسكندر

عبد الحميد اسكندر ولد عبد الحميد اسكندر بالجزائر العاصمة، ودرس الابتدائي في المدية. ثم درس في مدرسة الشبيبة الإسلامية بالعاصمة، ثم التحق بالزيتونة في تونس 1955. تعرف اسكندر على محمد الخماسي وأعجب به، وأصبح من تلاميذه وأشركه الخماسي معه في يومية الحائط ويومية الجيب اللتين كان يصممهما ويكتبهما بالخط الجميل، وفي سنة 1959 التحق بالقاهرة حيث درس بمدرسة تحسين الخطوط العربية، ومن أساتذته فيها سيد إبراهيم ومحمد علي مكاوي والشيخ رضوان، إلخ، ونال منها الدبلوم العالي في الخط والزخرفة. رجع بعد الاستقلال إلى الجزائر ومارس كتابة الكتب المدرسية للمرحلة الابتدائية، وتعاطى التدريس في المدرسة الوطنية للفنون الجميلة، وشارك في العديد من المعارض في داخل وخارج الجزائر، وحصل على عدة جوائز وشهادات تقدير، ومنها أنه حاز على الميدالية الذهبية في مهرجان الخط العربي، 1993، 1995. عمل اسكندر في رئاسة الجمهورية حيث أنجز لوحات التدشين الرسمي مثل مقام الشهيد، والمتحف المركزي للجيش، ومجمع الفنون، كما صمم عدة كتب وخططها وكذلك بعض المجلات الوطنية، وقد كرم عدة مرات، آخرها كان بمناسبة الذكرى 50 للثورة مع زميله محمد بن سعيد شريفي (2004)، ومما يحتفظ به اسكندر رسالة من مدير مدرسته في القاهرة سنة 1964 عند انتهاء الدراسة ومغادرة مصر إلى الجزائر، وهي رسالة من ثلاث صفحات بخط يد ناظر المدرسة المعروفة بمدرسة خليل آغا الثانوية، وقد أطلعني على هذه الرسالة التي تعبر له عن مكانه في المدرسة واستقامة سلوكه وأخلاقه، وقد تفصل اسكندر بتخطيط وتصميم بعض كتبنا منها ديوان الزمن الأخضر وكتاب

سعدي حكار

محمد العيد عندما كان مخطوطا والذي تركناه أمانة لدى الشيخ محمد البشير الإبراهيمي سنة 1960، أما محمد سعيد شريفي فقد خطط لنا عنوان كتاب هموم حضارية (1). سعدي حكار كان سعدي حكار من أبرز الخطاطين وقت الثورة وقبلها، ورأينا له نماذج في البصائر والمنار، وهو الذي خطط عناوين هنا الجزائر التي وصفته بالفنان، وكان حكار يقدم أحاديث فنية في الإذاعة كل خميس وله كلمة قصيرة بعنوان (نظرة في الفنون) مع صورته، وهو يقصد بالفنون: الزخرفة والتخطيط والنقش والتصوير، كما قال، وطالب بالرجوع إلى الكتب للاطلاع على معاني هذه الفنون على مدى العصور وما أحدثته في الإنسان من الحزن والفرح واليأس والألم ... وهذه المشاعر لا يعبر عنها إلا الفنان الملهم خلافا للمؤرخ والكاتب والشاعر الذين يعبرون بالقلم (2)، وعناوين لبعض كتب حوحو، وبعض الكتب الأخرى، ويبدو أنه وضع أيضا يوميات أو تقويمات، وغير ذلك من الأنشطة الفنية. وقد مدحه الشاعر محمد العيد آل خليفة بما هو أهل له عندما زاره حكار، فقال الشاعر مقارنا له بالخطاط الشهير ابن مقلة: هذا فتى الخط والتصوير حكار ... هذا (ابن مقلتنا) ما فيه إنكار أعد للخط مولانا أنا مله ... كما تعد لحلو اللحن أوتار أنظر إطاراته تزدان فاتنة ... كأنها في اختلاف اللون أزهار إن الجزائر أحرى أن تكرمه ... فخطه من خطوط الجيل مختار يا زائرا قد طوى للفن مرحلة ... يرجى له شرف فيها ومقدار

_ (1) معلومات مأخوذة من سيرته الذاتية ومن أوراقه الشخصية. (2) هنا الجزائر 86، أفريل 1906، ص 15.

المتاحف

أقم على الرحب محفوفا بتكرمة ... وإن رحلت فهذا الشعر تذكار (1). المتاحف اطلعت على الكتلوغ الدولي للمتاحف الخاص بإفريقيا فوجدت فيه أكثر من 25 متحفا في الجزائر، ولا شك أن عددها قد زاد بعد أن سجلت تلك الأعداد، فالجزائر كانت تحتوي على متاحف معظمها أثري، لأن لكل مدينة تراثا تريد أن تبديه وتحفظه، ولكننا لا ندري مدى تطور كل متحف خلال الثورة بالخصوص: من تولاه؟ ما مقتنياته السنوية أو الفصلية؟ ما ميزانيته؟ ما عدد زواره؟ الخ. وفي كتاب (مدينة الجزائر ورساموها 1830 - 1960) الصادر سنة 2000 يوجد قسم عن المتاحف في مدينة الجزائر فقط، كما أن في كتاب (من دولاكروا إلى رينوار أو جزائر الرسامين) الصادر سنة 2004 عن المعهد العربي في باريس مقال عن المتحف الوطني للفنون الجميلة إلى حين تخريبه من قبل منظمة الجيش السري الإرهابية في نوفمبر 1961، وهو الحادث الذي أجبر إدارة المتحف - حسب الكاتب - على نقل محتويات المتحف إلى فرنسا. وقد عرفنا أن عددا من الفنانين (الرسامين) الجزائريين كانوا أيضا نحاتين مثل عائشة حداد المولودة سنة 1905 وحسن بن عبورة وأزواو، وقد كان بالعاصمة ساعة الاستقلال عدد من المتاحف سلمت من تدمير منظمة الجيش السري ولكنها لم تسلم من تخريب الضمائر، منها متحف ستيفان غزال الخاص بالأشياء القديمة والإسلامية، ومتحف باردو الخاص بأشياء ما قبل التاريخ وبالأنثروبولوجيا.

_ (1) هذه الأبيات منشورة في جريدة المغرب العربي، لصاحبها محمد السعيد الزاهري، 11 رمضان 1366، 29 يوليو، 1947، العدد 5، س 1، وهي أبيات قد لا تكون موجودة في ديوان محمد العيد المطبوع، ولا ندري مصير الخطاط سعدي حكار رغم حرصنا على الحصول على معلومات أخرى عنه.

المتحف الوطني للفنون الجميلة

وقد حاولنا إحصاء المتاحف التي كانت موجودة زمن الثورة في الجزائر فواجهتنا صعوبة، ويمكننا أن نقول إن منها الوطني ومنها المحلي، وهي على النحو التالي: المتحف الوطني للفنون والتقاليد الشعبية بالقصبة (العاصمة) وهو يضم المجموعة الإثنية (الإثنوغرافية)، وهو موجود منذ 1947، وفي سنة 1961 أصبح اسمه متحف الفنون الشعبية، وفي سنة 1987 أصبح اسمه المتحف الوطني. وهناك متحف وادي سوف الذي افتتح سنة 1954، ويضم آثار منطقة سوف لما قبل التاريخ والسلالات، والحرف اليدوية والنباتات والحيوانات. ثم متحف الآثار القديمة بتبازة ويضم مجموعة من الآثار، وقد بني سنة 1955، وهو يحتوي على غرفتين وباحة، ويطل على ميناء المدينة. ورغم بحثنا فإننا لم نجد معلومات مفيدة عن تطور المتاحف أثناء الثورة. وإنما وجدنا أسماءها، إما القديمة وإما المستحدثة (بعد الاستقلال)، وكلاهما لا يهمنا هنا. المتحف الوطني للفنون الجميلة كان مديره هو جان ألازار مدة ثلاثين سنة (1930 - 1960)، ويحتل المتحف موقعا جميلا يطل على حديقة التجارب في مواجهة البحر، بينما تظهر مدينة الجزائر على يسار الرائي، صدر قرار إنشائه رسميا في 22 يناير 1930، وافتتحه رئيس الجمهورية الفرنسية بنفسه (غاستون دوميرغ)، في شهر مايو 1930 أما الجمهور فلم يفتح له إلا بعد سنة من تاريخه. كان المتحف يضم مجموعة كبيرة من لوحات وتماثيل منحوتة وطوابع بريد وأختاما ورسومات، وهي ترجع إلى القرن الرابع عشر مع التركيز على الفن الفرنسي الحديث والمعاصر، كما ركز المتحف على الأشخاص الذين قدموا إلى

شمال إفريقيا الشرقي أو من الشرق، ومن بين التماثيل مائة وخمسون برونزية حديثة، كما يضم مكتبة متخصصة فيها تسعة آلاف كتاب. وبعد استقلال الجزائر تولى ميزوسيل Maisonceul إدارة المتحف تحت عنوان (التعاون الفرنسي)، طبقا لمعاهدة إيفيان (1).

_ (1) مدينة الجزائر ورساموها، ص 240.

الفصل الثامن أنواع النثر

الفصل الثامن أنواع النثر نتناول في هذا الفصل أنواع النثر من مقالة وقصة ورواية ومسرحية وخطبة وترجمة، بعض هذه الأنواع قد حظي بإنتاج طيب، ولاسيما القصة والرواية باللغة الفرنسية والمقالة باللغة العربية، وبعضها كان له إنتاج ضعيف إلى حد كبير كالخطابة، كما أننا لم نعثر على أية مقامة، وقد انتعشت المسرحية فترة ولكن باللهجة العامية في معظم الأحيان، ولعل السبب في انتشارها يرجع إلى الإذاعة والتلفزيون وظهور ممثلين وممثلات استطاعوا أن يروضوا أنفسهم بعد عقدين أو ثلاثة من التجارب على فن المسرح، وقد تناولنا المسرحيات في الفصل الخاص بالمسرح. أما الخطابة بالعربية الفصحى فقد كانت محدودة لقلة مناسباتها وضعف جمهورها المثقف، ومع ذلك وجدنا خطباء سياسيين أيام الانتخابات المسموح بها وأيام فتح المدارس ودروس الوعظ والإرشاد، أما الخطب السياسية بالعربية أيام الثورة فلم تكن شائعة داخل الجزائر عموما ولا سيما في الأرياف حيث قادة الثورة، فالعمل السري كان ميزة من ميزات الفترة التي نتناولها، ولكن الخطابة انطلقت من عقالها حين حل عدد من قادة الجزائر في البلدان العربية، فكان الفضيل الورثلاني والبشير الإبراهيمي وأحمد توفيق المدني قد أثروا في جماهير سوريا ولبنان ومصر والعراق والسودان، وربما جماهير ليبيا وتونس أيضا، وكان عبد الحميد مهري يخطب ولكن في هدوء، وكان فرحات عباس يخطب ولكن

المصادر

بالفرنسية، وكان عيسى مسعودي مؤثرا ولكن في الإذاعة، وكان الشيخ عبد القادر الياجوري خطيبا بارعا ولكن قيده السجن، كما كان الشيخ الطيب العقبي خطيبا مفوها ولكن أقعدته التقلبات السياسية والمرض. قبل الثورة كان الورثلاني خطيبا مؤثرا في المحافل العربية والإسلامية. ويقال إنه كان يتفوق على بعض خطباء الإخوان المسلمين الذين كان يشاركهم منهجهم وفكرهم أيضا، أما الشيخ الإبراهيمي فقد عرف بالخطابة الأدبية في الجزائر حيث جمهورها يختلف عن جمهور المشرق في المستوى الثقافي والاستجابة، ومن خطبه النادرة بعد خروجه من الجزائر تلك التي ألقاها في مؤتمر اليونسكو بباريس عام 1952، وقد قيل إنه ارتجلها ارتجالا ولخصها للبصائر أحد الحاضرين. وحين رحل إلى المشرق شارك الإبراهيمي خطباء جمعية الشبان المسلمين ومهرجانات الدعوة للثورة الجزائرية، ولكن ذلك الدور قام به على الكبر والمرض، فكانت قواه البدنية لا تطاوعه، وزاده الأمر سوءا سقوطه وهو في زيارة باكتسان حيث أصيب برضوض في عموده الفقري، وقد سمعته يخطب في طلبة كلية دار العلوم بالقاهرة فلم أكد أصدق أنه هو الشيخ الإبراهيمي الذي سمعت عن لسانه الذرب، وقرأت إنتاج قلمه العذب. المصادر هناك عدة مصادر تتحدث عن الأدب في عهد الثورة كتبت في شكل مقالات أو مؤلفات حرة في شكل تأريخ للأدب العربي في الجزائر أو في شكل رسائل أكاديمية قدمها باحثون شباب لنيل درجات علمية، ولكنها أعمال قليلة على ما نعرف، ومنها كتابات عبد الله ركيبي وأبو العيد دودو وعبد الملك مرتاض وأحمد منور ومحمد ناصر وصالح خرفي، وقد حاولنا من جهتنا أن نرصد تطور النثر في بعض البحوث التي كتبناها زمن الثورة مثل الأدب الجزائري: مؤثراته وتياراته، ورضا حوحو ونضال الكلمة، والجمعيات

والنوادي في الأدب في الجزائر وغيرها، ثم ظهرت عدة ترجمات لروايات وقصص جزائرية من اللغة الفرنسية إلى العربية وبعض المسرحيات، مع دراسات عن هويتها وروحها ومصادرها التراثية وقيمتها الأدبية، وظهرت سير ومذكرات لكتاب آخرين سواء بالعربية أو الفرنسية، مثل حياة الشخ عبد الحميد بن باديس وآثار الشيخ الإبراهيمي ومذكرات مالك بن نبي ومذكرات محيي الدين باش تارزي التي لم تترجم حتى الآن. وهكذا فإن مصادر النثر الأدبي تكاد تنحصر في جريدة المنار (التي توقفت عن الصدور عشية الثورة) وجريدة البصائر و (النجاح) و (المغرب العربي) التي توقفت ثلاثتها سنة 1956، وجرائد أخرى مثل (المقاومة الجزائرية) و (المجاهد) اللتين ظهرتا غداة توقف الصحف المذكورة، وقد حاول مسعود مجاهد أن يصدر جريدة باسم (الجزائر العربية) لدعم الثورة والفكر القومي العربي، ولكن محاولته لم تنجح، حسب علمنا. ويجب أن نذكر في هذا المجال أيضا مجلة (هنا الجزائر) التي كانت تصدرها الإذاعة الفرنسية بالجزائر، فقد كانت تستكتب عددا من الكتاب والشعراء باللغتين، وكان بعض الكتاب لا يكتفون بالكتابة في الصحف المحلية ولا ينشرون كتبهم في الجزائر بل يراسلون بإنتاجهم صحفا تونسية ومشرقية، ومن جهتنا سنتناول الكتب في فصل خاص بالمؤلفات والدراسات، أما دار الوثائق أو الأرشيف فلا تمدنا إلا بالتقارير والمراسلات الرسمية، وهي عادة جافة مكتوبة بأسلوب إداري مقتضب وبلغة فرنسية في أغلبها، ومن ثمة فهي غير داخلة في موضعنا على كل حال (1). لم يصدر من كتب الأدب والدراسات الأدبية والدواوين إلا القليل خلال

_ (1) انظر عنوان الكتاب بالانجليزية عن الرواية بالعربية، السياسات واللغة والجنس في الرواية الجزائرية العربية، ديبي كوكس، سلسلة الدراسات الشمال إفريقية، مجلد 2، المملكة المتحدة، Politics, Language, and Gender in the Algerian Arabic .2002 Novel, Debbie Cox.

الثورة، وأغلب ما صدر عندئذ كان في نطاق القصة والرواية والمسرحية، وسنكتفي هنا بذكر بعض العناوين فقط، ونريد أن نوضح أولا أننا لن نعيد هنا ذكر القصص والروايات والدواوين التي وردت مع أصحابها في الفصول المعنية سواء كتبها أصحابها بالعربية مثل كتب الطاهر وطار وعبد الحميد بن هدوقة ... أو كتبوها بالفرنسية مثل مؤلفات محمد ديب وكاتب ياسين ومولود معمري .. ونذكر في مجال الدراسات الأدبية النقدية كتاب (محمد العيد آل خليفة رائد الشعر الجزائري الحديث) لأبي القاسم سعد الله الذي صدر سنة 1961، وقد نشر نفس الكاتب مجموعة من البحوث حول الشعر والنقد والقصة في مجلة الآداب اللبنانية وغيرها بين 1956 و 1960 ثم جمعها ونشرها بعد الاستقلال تحت عنوان (دراسات في الأدب الجزائري الحديث)، ونشر عبد الله ركيبي كتابه (دراسات في الشعر الجزائري العربي الحديث) سنة 1961 تناول فيه تطور الشعر منذ الحرب العالمية الأولى، وناقش شعر مفدي زكرياء وصالح خرفي في التجربة النووية الفرنسية، وقارن بين قصيدتي (نداء الضمير) لصالح خرفي و (ثائر وحب) لأبي القاسم سعد الله. وفي ميدان النشر أيضا صدرت للشيخ الإبراهيمي بعض المقالات التي تحمل طابع قلمه المتميز، ولكن طابع النثر الإعلامي والسياسي أخذ يطغى على أسلوب الإبراهيمي بتقدم الثورة ومطالبها في التبليغ السريع والمباشر، وهذه الكتابات هي التي ضمها الجزء الخامس من آثاره، كما كتب الشيخ أحمد توفيق المدني مقالات إنشائية ساخنة عن مواضيع سياسية في عهد الثورة في شكل افتتاحيات للبصائر قبل احتجابها، وكذلك أمد الشيخ حمزة بوكوشة البصائر بتعاليقه عن بعض الكتب الصادرة حديثا بأسلوبه الأدبي الخفيف، وإذا توسعنا في هذا الباب فإننا سنجد كتابات أحمد بن ذياب وأحمد رضا حوحو ومولود الطياب النقدية تغذي هذا التيار الجديد الذي أخذ يكتسح الساحة أثناء الثورة، وقد تعرضنا إلى هذا الإنتاج في محله من أنواع النشر.

المقالة

وقبل اغتياله زود أحمد رضا حوحو المكتبة بمجموعة قصصية سماها (نماذج بشرية) أصدرها له كتاب البعث في تونس سنة 1955 ونالت حظا كبيرا من الرضى، ولكنها قصص لا تتناول مواضيع ثورية بل اجتماعية وأدبية شأن قصص حوحو الأخرى، رغم أنها قصص واقعية، وسنذكرها في مكانها، وقد سبق الحديث عن إنتاج كتاب القصة والرواية بالفرنسية أمثال محمد ديب وكاتب ياسين ومالك حداد وآسيا جبار (1). المقالة دعنا نبدأ بالمقالة التي هي الفن الأدبي المميز للحركة الأدبية في الجزائر. ربما أكثر من الشعر، فالمقالة من أقدم أنواع الفنون الأدبية عندنا، ويهمنا منها بالدرجة الأولى المقالة خلال الثورة، أين ظهرت، ومن فرسانها؟ نعتقد أن أبرز من تخصص في المقالة الأدبية هو الشيخ البشير الإبراهيمي وأن أبرز من تفنن في المقالة السياسية هو أحمد توفيق المدني، وأن أشهر من كتب المقالة الدينية هو الشيخ أحمد سحنون، وأن أحسن من عبر بالمقالة الاجتماعية هو الشيخ باعزيز بن عمر، ويأتي مجليا بعد هؤلاء في المقالة الأدبية حمزة بوكوشة وأحمد رضا حوحو والحفناوي هالي، أما المقالة التاريخية فكتابها متعددون منهم محمد علي دبوز وعبد الوهاب بن منصور، وهؤلاء جميعا ميدانهم غالبا هو جريدة البصائر، وخلال الثورة ظهر جيل جديد مارسوا أدب المقالة بالعربية في المشرق ونشروا إنتاجهم في مجلاته، منهم عثمان سعدي وأبو القاسم سعد الله وعبد الله ركيبي والجنيدي خليفة، أما في تونس فقد كتب المقالة بالعربية عبد الله شريط ومحمد الميلي. لم تحتكر البصائر ميدان المقالة، فقد ظهر على صفحات هنا الجزائر كتاب مقالة جيدين في الأدب والتاريخ والاجتماع والدين، ومن فرسان هذا

_ (1) انظر الفصل الذي فيه الحديث من الأدباء بالفرنسية.

الميدان أحمد بن ذياب وعبد القادر نور الدين وأحمد الأكحل والسعيد بوزار، ومولود الطياب. اشتمل الجزء الخامس من آثار الشيخ محمد البشير الإبراهيمي على إنتاجه خلال الثورة وما قبلها بقليل، ويهمنا من هذا الإنتاج ما كان خلال الثورة: مقالات ونداءات ورسائل ومحاضرات وأحاديث إذاعية، وقد تناول الشيخ في إنتاجه موضوعات تتعلق بالثورة كدعوة الشعب الجزائري للانضمام إليها ودعمها وخوض الحرب ضد فرنسا، ومخاطبة العرب والمسلمين في المشرق والحكومات العربية والإسلامية لمساندة الثورة، كما تناول الإبراهيمي في جولاته في الشرق للتعريف بالقضية الجزائرية، ومحاضراته عن تاريخ الجزائر، بعض هذه المقالات من النشر المرسل السهل الذي لا تكلف فيه، وبعضه فيه اهتمام باللفظ والبديع والتراكيب اللغوية التراثية، وكان الإبراهيمي قد تجاوز الستين عندما كتب محتوى الجزء الخامس فثقلت عليه المجاملات والرسميات في مجتمع تقليدي يخضع فيه كل شيء للمراسيم وتكاثرت عليه الضغوط السياسية فكانت بعض معاني الإبراهيمي في هذه المرحلة تكرارا لما كتبه في السابق، سيما فيما يتعلق بفرنسا واستعمارها للجزائر ومعاملتها السيئة للأهالي وحرمانها لهم من الحق في الحياة والحرية، ومن الطبيعي أن نشير إلى أن أسلوب الإبراهيمي أسلوب خطابي وأدبي يهز ضمير القارى والسامع بألفاط مشحونة بمعاني النخوة والكرامة باسم الإسلام والعروبة. اهتمت (البصائر) بأنواع المقالة: فنحن نجد فيها الافتتاحيات ذات الموضوعات المختلفة، حسب حوادث الأسبوع، وأغلبها موضوعات اجتماعية أو سياسية أو تربوية، وغالبا ما يتولى كتابة المقالة الافتتاحية الشيخ الإبراهيمي نفسه، وأمام تأزم الوضع في الجزائر وغياب الشيخ الإبراهيمي في المشرق أصبح توفيق المدني هو الذي يكتب الافتتاحيات مشحونة بالعاطفة حول الأوضاع العامة بعناوين مزلزلة كهذه: الجزائر على كف عفريت، يريدون كل شيء فسيخسرون كل شيء، فأخذتهم الصيحة ... كما فتح الشيخ المدني بابا

للمقالة السياسية في باب (منبر السياسة العالمية) تحت اسم (أتم)، وقد أضاف المدني بابا جديدا للمقالة العلمية هو (العلوم والاختراع) كان يتحدث فيه عما وصل إليه العلم من تقدم، وغالبا ما يكون هذا الباب ترجمات من الأخبار العلمية التي يراعى فيها الفائدة العامة، مسايرة للعصر وربطا للقارى بالتحولات التي تجري في العالم. وفي البصائر أيضا كلمات ساخنة في التعزية في مقتل الشهيد الدكتور ابن زرجب بناحية تلمسان، فقد كتبت (والغالب أن الكاتب هو أحمد توفيق المدني) معبرة عن الحزن الذي أصاب (الأمة التلمسانية) والشعب الجزائري من نبأ اغتيال الرجل الكامل العامل الشهيد المبرور .... فخرجت تلمسان كاملة لوداعه بمظاهرات صاخبة، ونقلت عن (لوموند) أن اغتيال ابن زرجب جرى عن بعد سبعة ك م من سبدو وأن الشرطة اكتشفت أن الدكتور كان يداوي جرحى الثوار ويمدهم بالأدوية والضمادات (1). وفي كل عدد تقريبا كان الشيخ أحمد سحنون يخرج بمقالة وعظية تناغي القلوب ويربط فيها بين واقع المجتمع والتاريخ الإسلامي ويتحدث فيها عن شخصيات من الرجال والنساء الذين لهم دور في مسيرة التاريخ بأسلوب هادى يخاطب الأعماق الروحية في الإنسان، وكان لصفحته عنوان هو: (منبر الوعظ والإرشاد). كما كان باعزيز بن عمر يطل على القارى أسبوعيا بمقالة اجتماعية يتناول فيها حدثا أو تشريعا أو ظاهرة مما يجري في المجتمع الجزائري بالقياس إلى ما يجري في المجتمعين الفرنسي والعالمي، والشيخ باعزيز كان يكتب بأسلوب بسيط ومباشر ولكن بروح تعكس الاتجاه الإصلاحي كما تجسده جمعية العلماء، أما عنوان الباب الذي يكتب تحته فهو (في مجتمعنا الجديد). أما بقية الجريدة فهي خليط من المساهمات فيها المقالة الأدبية، والمقالة

_ (1) أنظر فقرة اضطهاد المثقفين في الفصل الثالث.

النقدية، والمقالة التاريخية، وما يمكن أن نسميه المقالة الفكاهية، وهناك عدد من الكتاب غير الدائمين كانوا يقدمون مساهماتهم وتجاربهم حول التعليم والثقافة والمدن والتاريخ والشخصيات، منهم (بالإضافة إلى من ذكرنا) محمد منيع، وعبد المجيد الشافعي ورابح بونار، كما ساهم فيها من المشرق بطريقة غير منتظمة عبد المنعم الجبالي، وسيد قطب، ومحيي الدين القليبي، وعمر بهاء الأمير ... وكذلك بعض علماء المغرب، وعندما تقدمت الثورة أضافت البصائر بابا أخذ يكبر ويتضخم حتى استولى على صفحتين منها على الأقل، وهو باب (يوميات الأزمة الجزائرية) الذي كانت تستعرض وتترجم فيه أحداث الأسبوع العسكرية والسياسية بتواريخها المحددة، ولكن ليس في هذا البابا مجال للمقالة لأنه عبارة عن شريط للأخبار المترجمة من وكالات الأنباء والصحف. في هذه الأثناء كانت مجلة (هنا الجزائر) تهتم بأدب المقالة أيضا ولكن بأسلوب مختلف عن أسلوب أدب المقالة في البصائر والمنار، ويمكن تصنيف مقالات (هنا الجزائر) على النحو التالي: المقالة التاريخية وقد برز فيها عبد القادر نور الدين سواء في تراجمه الشخصية أو في الأحداث العامة كحديثه عن المستعرب إدمون فانيون (مع صورته) الذي نشر فهرسة مخطوطات الجزائر واهتم بالتراث المكتوب ونشر منه عدة نصوص، كما اهتم نور الدين بحياة ابن أبي أصيبعة مؤرخ الأطباء المسلمين، وحياة الشيخ أبي القاسم القالمي كاتب الموحدين، وأبي الصلت الأندلسي، وأحمد بن البنا الرياضي المغربي، وابن رشد الفيلسوف شارح أرسطو، وأحمد المقري مؤرخ الأندلس ورجالها، وابن خلدون خلال إقامته في تونس، كما ترجم نور الدين للأديب المغربي محمد بن أكنسوس، وله مقالات مترجمة تتعلق بمستشرقين فرنسيين، كما تناول مسائل هامة منها: لغز أبي الهول في الأدب العربي، ونظرة تاريخية في دولة بني حماد، ويمين أبقراط عند الأطباء العرب، وقصيدة الفجيجي في الصيد، وقصة الجازية الهلالية ... وكل هذه المقالات كتبت بين 1954 - 1958.

المقالة الأدبية: في نطاق المقالة الأدبية النقدية نجد مولود الطياب يعرف ويعلق على عدد من الكتب والكتاب أمثال إدريس الشرايبي الأديب المغربي، مع نبذة من حياته في المغرب وفي فرنسا حيث ألف بالفرنسية روايته (الأكباش) أو التيوس، ثم أدباء وكتاب من إفريقيا السوداء، ومهنة الكاتب، ومعرض فني لعهود ما قبل التاريخ في الطاسيلي، ولمولود الطياب مقالات في التعريف بمقاصد القرآن لمحمد الصالح الصديق، ومع حمار الحكيم وصاحبة الوحي لأحمد رضا حوحو، وكتاب منابع الحضارة العالمية لعبد الرحمن بن الحفاف، فكان بابا غنيا يسلط الضوء على الإنتاج الذي تخرجه المطابع سواء كان صادرا في الجزائر أو في غيرها. ويبدو أن فرنسا كانت تتبادل مجلة هنا الجزائر مع مثيلاتها في المشرق العربي عن طريق سفاراتها، وقد وجدنا أصداء ذلك في المجلة نفسها حيث اتهمت بعض المجلات العربية بالأخذ عنها أو الاقتباس منها بدون استشارتها مما اعتبر اعتداء أو سطوا. أما أحمد بن ذياب فقد جمع بين المقالة الأدبية والتاريخية، وكان أميل إلى تاريخ الأدب منه إلى التاريخ، فمن مقالاته في (هنا الجزائر): حفصة بنت عمر بن الخطاب، وهي مقالة جعلها في (باب الأدب العربي)، وكذلك أم سلمة (أم المؤمتين)، ورابعة العدوية، وكلها، كما نلاحظ، شخصيات نسائية من التراث العربي الإسلامي، وله أيضا مقالات أدبية محض مثل معرض الشعراء في الربيع حين ساق وحلل نماذج شعرية لعدد منهم، مقدما كل نص بعباراته الخاصة، وله مقالة في الحب والبهجة والجمال في شعر أبي ماضي، ثم المرأة والحجاب في القرآن الكريم، والربيع في الشعر الجزائري (1).

_ (1) وهي مقالة عن كيف انفعلت مجموعة من الشعراء المعاصرين إزاء فصل الربيع: محمد العيد، أحمد سحنون، أحمد الأكحل، الأخضر السائحي، الهادي السنوسي، عثمان بن الحاج، عبد الكريم العقون.

وله مقالة أخرى ربما تدخل في باب الدعاية في ذلك الوقت وهي أثر الأدب الفرنسي في بعث الأدب العربي الحديث (في حلقتين) تحدث فيها عن بعض أدباء المشرق وتأثرهم بالأدب الفرنسي ومدارسه المختلفة، وهي تشترك في أكثر من منحي مع مقالة لسعد الدين بن شنب عن أثر الثقافة الفرنسية على الأدب العربي الحديث (أنظرها في مكانها)، ومن المواضيع الطريفة التي تناولها أحمد بن ذياب: الأعياد ومطالع الأعوام في الثقافة العربية، ومن الملاحظ أنه كان يجمع بين الكتابة في هنا الجزائر وفي البصائر، وهو ما لم يكن يفعله أغلب زملائه في المجلة، وقد اختلف مع كتاب البصائر الذين كانوا يقاطعون هنا الجزائر لصلتها بالإدارة الفرنسية وسياستها المعادية للدين الإسلامي والهوية الوطنية، ولكن ابن ذياب شذ عن زملائه وقاطع فيما يبدو البصائر أو قاطعته، وربما كانت الأسباب المادية هي التي ألجأته، كما ألجأت غيره، إلى التعامل مع هنا الجزائر. وتميز كتاب آخرون بإنتاج هام في أدب المقالة ولكنهم كانوا مقلين قياسا بزملائهم السابقين، كما أن بعضهم كان يجمع بين النثر والشعر، ومن هؤلاء الطاهر بوشوشي الذي اهتم بأدب الترجمة، كما سنرى، كما أنه كتب مقالات بالعربية كافتتاحيات للمجلة أو التأبين أو الوصف، وكان الشيخ عبد الرحمن الجيلالي يساهم في هنا الجزائر بمقالات قصيرة وتعاليق مطولة، مثل كتابته عن أبي حامد الغزالي، وعن الحج عند العرب في الجاهلية، وعما يسميه قضايا وتحقيقات أدبية. وساهم أحمد الأكحل بمقالة عن الشاعر ابن علي الجزائري (شاعر العهد العثماني - القرن 18)، وعن مؤرخ الحضارة عبد الرحمن بن الحفاف، ومن جهته كتب جلول البدوي عن ديوان أحمد الخلوف (شاعر العهد الحفصي)، وسليمان عناني عن الجغرافيا في القرن الثالث الهجري، أما السعيد بوزار فقد تخصص في المقالة الدينية كالكتابة عن الزوايا في القبائل، وفي القصص

الإسلامية، وفي علم القراءات، ولم نعثر لسعد الدين بن أبي شنب في مجلة هنا الجزائر سوى على مقالة واحدة تتعلق باللغة العربية والأدب العربي في الجزائر، وهي المقالة التي نشرتها له أيضا مجلة (الأديب) اللبنانية والتي تحدث فيها عن الأدب العربي الجزائري ورجاله، شعراء وكتابا وحتى مؤرخين، لأنه استعمل كلمة (الأدب) في معناها الواسع. وإذا كان كتاب المقالة في هنا الجزائر هادئين مهتمين بالتاريخ وبتاريخ الأدب وبالشخصيات المبدعة التراثية أو المعاصرة فإن كتاب المقالة في المنار والبصائر كانوا كما لاحظنا، متوترين مهتمين بالأدب السياسي والمقالة الدينية الإصلاحية والمقالة السياسية الصريحة أو المباشرة، فهم نقاد لأوضاع كانوا يرونها غير طبيعية، وهم يطمحوف إلى التغيير غير قابلين بالوضع القائم إلا على مضض، فكانت مقالات محمود بوزوزو ومحمد محفوظي مثلا في المنار ناقدة حادة العبارة وشاملة للوضع بالجزائر والمغرب العربي والمشرق العربي، بما في ذلك التطور السياسي والأحداث التي تكون الدول الكبرى هي أطرافها اللاعبة وتكون الزعامات على نطاق هذه الرقعة الجغرافية الممتدة، كما كانت الجريدة تستقطب كتابا آخرين وقضايا أخرى ذات بعد عربي إسلامي أو وحدوي مغاربي، ومن ذلك المقالات المتعلقة باستفتاء الوحدة الوطنية. أما الجرائد الأخرى (غير البصائر والمنار) فلم يطل عمرها حتى تقدم نماذج نستدل بها على اتجاه معين لكتابها، باستثناء جريدة النجاح التي لم نطلع عليها لنصدر حكما على نوعية مقالاتها وتصنيفها، وقد رأينا أعدادا من جريدة المغرب العربي فكانت مقالاتها سياسية على الأغلب. ومن الممكن تلخيص أنواع المقالة في هذه الفترة على النحو التالي: المقالة السياسية، المقالة العلمية، المقالة الأدبية - القومية، المقالة الأدبية الفنية، المقالة الاجتماعية، المقالة التاريخية، المقالة الوصفية أو أدب الرحلة، المقالة الدينية - الإصلاحية، المقالة التحليلية النقدية.

ومن المقالات الأدبية الوصفية ما كتبه حمزة بوكوشة عن الحفل التكريمي الذي أقيم للشيخ أحمد توفيق المدني بمناسبة مرور ثلاثين سنة على نفيه من تونس إلى الجزائر، كان ذلك في العدد 331 من البصائر، فقد وصف الحفل باختصار وبدقة وتحدث عن المكان والزمان والمشاركين من شعراء وخطباء ولم يغفل الجو المرح الذي ساد الحفل رغم أن الجزائر كانت تعيش في طرف استثنائي (يونيو، 1955) كما كتب بوكوشة نفسه مقالة أدبية نقدية حول تاريخ وظروف نشيد (من جبالنا) في العدد 358 من البصائر. وفي هذا النطاق نشرت البصائر (عدد 353) مقالة أدبية لأبي القاسم خمار من دمشق، أيد فيها عمار النجار الذي أثار مسألة حساسة عندما كتب عن (أرستقراطية الكتب) في البصائر عدد 12 يناير 1956، وكلتا المقالتين من النوع الأدبي النقدي. وكان الحفناوي هالي يغذي البصائر بمقالاته الأدبية والنقدية الاجتماعية. من ذلك مقالته (فجر الحياة أو الشابي الصغير) وهي عن ديوان الشاعر التونسي منور صمادح، وقد نشرها على أكثر من حلقة، (البصائر، 311)، كما كتب الشيخ هالي عددا من المقالات القصيرة والمرصعة أحيانا بالشعر مثل (أحب عيشة الحرية)، وهو يلجأ في ذلك إلى الأسلوب الفكاهي الرمزي (1). ومن أدب المقالة السياحية ما كتبه الشيخ محمد الغسيري بعنوان (عدت من الشرق)، ابتداء من العدد 250 من جريدة البصائر، وهي سلسلة مقالات

_ (1) البصائر 306، 10 فبراير 1955، ومن مقالاته التي تتميز بالدعابة الأدبية تعليقه على سلسلة شخصيات في الميزان لحوحو. خرج الشيخ هالي من الزيتونة سنة 1934 وهو العام الذي بدأ فيه التلقيب العائلي في منطقة سوف فأصبح لقب عائلته - هالي - أما قبل ذلك فكان اسمه محمد الحفناوي بن الأخضر السوفي، وأثناء الاحتفال بتأسيس جمعية الطلبة الزيتونيين الجزائريين ألقى الشيخ هالي قصيدة نشرت في جريدة الصراط العدد الأول يناير، 1934، انظر الجابري: النشاط العلمي، الدار العربية، 1903، ص 115 هامش 6.

مسألة الفصحى والعامية والفرنسية

أحسن فيها وصف المشاهدات وعبر فيها عن مشاعره الدينية والتاريخية والسياسية في المشرق، وآخر عدد غطى فيه الرحلة هو 276 (1)، وسنعود إليها في باب الرحلات. مسألة الفصحى والعامية والفرنسية في افتتاحية من (هنا الجزائر) طرح الكاتب موضوع الفصحى والعامية وملاءمة اللغة للعصر وحاجات الناس، قال الكاتب المجهول الذي قد يكون هو رئيس التحرير نفسه (الطاهر بوشوشي)، إن موضوع اللغة قد أثير في الإذاعة عندئذ وهي العربية والقبائلية والفرنسية، مضيفا أن اللغة الأولى يفهمها أهل القطر الجزائري كله، وتستعمل الدارجة (العامية) ليسرها وفائدتها، بينما القبائلية المنطوقة فقط تستعمل بمنطقة القبائل الكبرى والصغرى، أما اللغة الفرنسية فهي موجهة إلى الأوربيين والأهالي الذين يفهمونها. ودافع الكاتب على العامية لأنها مستعملة في مختلف البرامج الإذاعية. أما الفصحى فهي لغة (السبح في الأجواء الرفيعة) حب تعبيره، وهي ذات ثروة فنية، وهي أم اللغات، ولغة القرآن، ولغة المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، ولكل من اللغتين (الفصحى والعامية) أنصار، فماذا اختارت الإذاعة الجزائرية الفرنسية؟ لقد اختارت حلا وسطا أملته التجربة والحكمة في نظر الكاتب، فهي تخاطب أهل الاختصاص بالفصحى (وذكر البرامج التي تستعمل فيها وهي العلم، والفن، والأدب، والأخبار) بينما العامية لها أيضا برامجها (وهي الأحاديث الطبية والأخبار المحلية والزراعة ...)، والأسلوب الذي كتبت به المقالة سهل مرسل ليس فيه تزويق ولا تكلف (2). في المقالة التي كتبها بوشوشي عن افتتاح مدرسة بن عكنون سنة 1954

_ (1) انظر فصل كتب وكتابات - الرحلات. (2) هنا الجزائر 65، مايو 1958.

نجد أسلوبا جيدا ووصفا حيا، ونعني بذلك تدشين المدرسة المزدوجة التي خلفت الثعالبية التي خصصت للبنات المسلمات بينما خصصت المدرسة الجديدة للفتيات (عمارة رشيد حاليا) وقد افتتحت بحوالي أربعمائة طالب، وبناء على بوشوشي فقد افتتح المدرسة الوالي العام (روجي ليونار) بحضور المدير الجديد وهو أحمد بن زكري وحضور عبد الرحمن فارس رئيس المجلس الجزائري (البرلمان المحلي) والمفتي محمد بابا عمر، وهي مدرسة تجمع بين الذوق الشرقي والعصري (الأوروبي). وقد تداول الخطباء بالفرنسية على المنصة فأشادوا بحضارة الشرق الإسلامية وحضارة الغرب الفرنسية - المسيحية والتقائهما في طراز وأداء رسالة هذه المدرسة، ومن الخطباء المترجم والباحث محمد الحاج صادق، فقد نوه بالثقافة المزدوجة العربية - الفرنسية لأنها في نظره وسيلة لمسايرة ركب الحضارة في العصر الحديث، قائلا إن المسلمين مع ذلك يتمسكون أيضا بحضارتهم الإسلامية ويعتزون بها لأنها إحدى مقومات حياتهم الفكرية والروحية، كما خطب الشيخ أحمد بن زكري وعميد الأكاديمية السيد (قو Gau) الذي ذكر المسلمين بإصلاح التعليم الإسلامي الذي انطلق سنة 1950، وهو الإصلاح الذي جمع بين الدروس العربية والمواد العصرية في برنامج الثانويات الفرنسية، ونادى عبد الرحمن فارس بضرورة تعلم البنات المسلمات والجمع بين الثقافتين، ولم يفت الوالي العام الإشادة بكتابات طه حسين ومصطفى عبد الرازق اللذين تخرجا من فرنسا وأثار كل منهما ضجة في مصر في موضوع معين الأول حول الشعر الجاهلي ومستقبل الثقافة في مصر، والثاني حول أصول الحكم ومسألة الخلافة والسلطة في الإسلام (1). ومن الطبيعي أن تهتم جريدة (المجاهد) بالمقالة السياسية التحليلية والافتتاحيات التي تعالج وضع الثورة واتجاهاتها وبعض مواقف الأشقاء

_ (1) هنا الجزائر، مايو 1954 + صورة للمدرسة الجديدة وصورة أخرى للثعالبية القديمة.

بعض كتاب المقالة

والأصدقاء، أما المقالات الأدبية فهي قليلة فيها، من ذلك مقالة لابن تومرت (مفدي زكرياء؟) الذي اعتادت الجريدة أن تنشر له قصائده الثورية، والمقالة أرسلها، كما جاء في الجريدة، من سجن سركاجي (بربروس) وهي عن السجن نفسه ومن فيه من السجناء والحكم عليهم بالإعدام وردود الفعل الشجاعة من هؤلاء، وعلى تنفيذ الإعدام الساعة الثالثة صباحا وتهليل وتكبير السجناء الآخرين الذين يشاركون زملاءهم حتى بالزغاريد وهم يقادون إلى المقصلة، وجوابهم عندما يطلب منهم الجلادون التعلق بأي شيء في آخر لحظة، فكانوا يكبرون الله ويهتفوف بحياة الجزائر ثم ينشد الجمع نشيد: اعصفي يا رياح! وعنوان مقالة ابن تمورت (كيف نتحدى الموت أمام المقصلة). ولا شك أن هذه شهادة حية على ما حدث على أيدي الجلادين لعدد من السجناء الشهداء، وقد تخلل المقالة (نشيد الشهيد) الذي يختم بقفلة: - لا نمل الكفاح، لا نمل الجهاد، في سبيل الله -، وهي مقالة أدبية حماسية وطويلة تعبر عن الظروف الحاسمة للثورة وعن تجربة حية، لأن صاحبها يذكر تفاصيل ما كان يحدث وما عاشه فعلا، بما في ذلك ذكر أسماء الحراس وأرقام بعض الزنزانات (1). بعض كتاب المقالة وهناك جيل من الكتاب وجدوا في الصحف والدوريات التونسية مجالا واسعا للكتابة عن المقاومة والثورة، بعض مقالاتهم كانت إنشائية أدبية، وبعضها تتناول شخصية أو حادثة ... وكان أصحاب المقالات يربطون بين كفاح الجزائر وكفاح المغرب العربي وكفاح فلسطين والأمة العربية، وقد يلتفتون إلى الموضوعات التاريخية والنقدية والتعريفية. والصحف والدوريات التونسية المقصودة هي: الصباح، والعمل والفكر

_ (1) المجاهد، 15 أغسطس 1959 وربما كتبت المقالة بعد خروج ابن تومرت من السجن لأنه قد خرج منه في شهر مارس وتوجه إلى المغرب.

الشيخ الإبراهيمي

والندوة واللغات، ولكن معظم المقالات ظهرت في الجريدة الأولى، فقد نشر فيها أحمد بوروح خواطر حول الثورة، والذكرى الرابعة للثورة، وحول صور من البطولة، وأسبوع الجزائر بليبيا، وكلها بين 1958 - 1959، ونشر الجنيدي خليفة سلسلة من المقالات بعنوان (معركة اللائحة) في أربعين حلقة، وهي من المشاكسات الأدبية والفكرية القليلة في ذلك الوقت، ويبدو أنه اتخذ فيها موقفا ممن سماهم (الرجعيين)، كان ذلك سنة 1958، وقد ظهرت آثار هذه المعركة أيضا في كتاب الجنيدي (من وحي الثورة الجزائرية) الذي جمع مادته ونشره سنة 1963، (سنعود إليه في فصل آخر)، ونشر عبد الله الركيبي ست مقالات على الأقل في نفس الجريدة حول تأخر الفكر في المغرب العربي، سنة 1958، ومن مقالات أبو العيد دودو في الدوريات التونسية تناوله لكتابنا محمد العيد آل خليفة رائد الشعر الجزائري الحديث، وكتاب الجنيدي خليفة من وحي الثورة الجزائرية. ويبدو أن الثورة حركت هذا الجيل نحو التقدم والتطلع إلى العلم بدل اجترار الماضي، فساهم عبد الرحمن شيبان بعدد من المقالات في الصباح أيضا، سنة 1957، عالج فيها قضايا متعددة في الأدب والبطولة، ومنها الجانب الأدبي عند الأمير عبد القادر، والتنويه بصديقه الشهيد أحمد رضا حوحو، وكانت مساهمة محمد الصالح الصديق كزملائه بمقالات أدبية تحليلية فيها صور قصصية ثورية، كتبها أيضا سنة 1957، وشاركهم يحيى بوعزيز في الجريدة نفسها بمقالات تدور حول الثورة وأعمالها وظروفها السياسية، وكان بوعزيز ميالا بطبعه إلى التاريخ فصبغ مقالاته بلونه، ونشر ذلك في الصباح والفكر بين 1957 - 1958. الشيخ الإبراهيمي في اختيارنا لنماذج من كتاب أدب المقالة كان يمكن أن نختار أي كاتب له في هذا المجال براعة وشهرة، ولعل الذهن يتصرف تلقائيا إلى الشيخ

أحمد رضا حوحو

الإبراهيمي الذي عرف بالنثر لا بالشعر وبالأسلوب المتميز في أدب المقالة، كما أشرنا، وقد تناول أسلوبه الفني عدد من النقاد، منهم عبد المالك مرتاض، كما تناولناه في كتابنا التاريخ الثقافي وغيره، ولا نريد أن نزيد على ذلك هنا إلا بشأن ما قرأناه له أثناء الثورة، كالنداءات والخطب والرسائل والمداخلات والمحاضرات ... وكلها تقريبا أنواع حديثة من أنواع النثر، وهي متوفرة في كتابه (1). ويبدو لنا أن أسلوب الشيخ قد تغير نوعا ما في المرحلة الأخيرة من عمره، فقد تقدمت به السن وتغيرت عليه الظروف فلم يعد يكتب في الجو الهادى الذي كان يكتب فيه وهو في الجزائر، لأن الثورة فرضت نوعا من الآنية والاستجابة السريعة للضغوط، وهو لم يعد يخاطب جمهور الجزائر المحدود ثقافة وسياسة لأن جمهوره الآن هو جمهور الشرق على اتساعه بنخبه وطلابه وطوائفه ومسؤوليه، أما الموضوع فهو باستمرار الجزائر الثائرة حتى ولو عالج موضوعا دينيا مثل غزوة من الغزوات أو الهجرة النبوية أو صيام رمضان. أحمد رضا حوحو ومن كتاب المقالة والقصة أحمد رضا حوحو، ونحن لا نترجم له هنا ولكننا نذكر الموضوعات التي عالج فيها المقالة الأدبية - الاجتماعية، وقد أصبحت مصادر الحديث عن حوحو متوفرة إلى حد كبير اليوم، فقد ظهرت سيرته في كتاب البعث (الشهيد أحمد رضا حوحو) (2). وقد تناولته في مقالتي (في ظلال النقد) وفي محاضرتي (حوحو ونضال الكلمة)، وكتب عنه صالح خرفي (حوحو في الحجاز)، وأحمد دوغان (شخصيات ..) ولكن الباحث الذي تخصص فيه ودرسه دراسة علمية وأدبية

_ (1) آثار الإمام البشير الإبراهيمي، ج 5، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1997. (2) سلسلة كتاب البعث، رقم 4، بقلم أبو القاسم كرو.

وفهم أغوار حياته وألف فيه كتبا وبحوثا هو أحمد منور الذي نقب عن آثاره حتى كشف عنها واكتشف منها الكثير، وآخرها (مسرح الفرجة والنضال في الجزائر، دراسة في أعمال أحمد رضا حوحو)، وهي الدراسة التي قامت على رسالته الجامعية حوله، وقد علمنا أخيرا أن هناك باحثا في معهد التاريخ أنجز عن حوحو رسالة ماجستير لم تناقش بعد، وتوجد صورة لحوحو في البصائر، وفي كتابه نماذج بشرية (كتاب البعث، 3، 1955) وغيرهما، وقد رسم له الفنان السعدي حكار رسما ظل يظهر به في بعض الصحف والآثار. لحوحو مقالات عديدة منها سلسلة (في الميزان) التي نشرها في البصائر و (خواطر حائر) التي رأيت منها الحلقة الثالثة في البصائر أيضا، ومقالاته في الرد على منتقديه، وكان وهو في الحجاز قد ترجم لمجلة (المنهل) السعودية أعمالا فرنسية عديدة أشار أحمد منور إلى بعضها فكانت أحد عشر عملا بين مقالة وقصة ومسرحية ودراسة، ويعتبر حوحو من رواد القصة القصيرة والمسرحية ومن هواة الموسيقى أيضا. وقبل استشهاده برصاص العدو في 29 مارس 1956 نشر في البصائر (3 فبراير 1956) مقالة هي عبارة عن مشروع ثقافي كان ينوي القيام به بواسطة نشر سلسلة من الكتب يحمل كل كتاب منها ترجمة ونماذج لمجموعة من الكتاب والأدباء، وقد قال إن في الجزائر ثقافة وأدبا، وشيوخا وشبانا، لهم مواهب وأفكار وإنتاج، ولكنهم مغمورون وإنتاجهم مغمور، لا يعرفها الشعب ولا ينتفع بها، ثم إن وسائل النشر تكاد تكون معدومة في بلادهم، وأمام هذا الوضع كان حوحو مستعدا أن يغامر بفتح المشروع، وقد طلب من الأدباء والكتاب أن يراسلوه بترجماتهم وصورهم وإنتاجهم ونصائحهم، آملا أن يؤدي ذلك إلى التفكير في وسائل الطبع والنشر أيضا، واضعا أمامهم عنوانه الشخصي للمراسلة (1).

_ (1) لحوحو حوالي عشر مسرحيات منها عنبسة - بائعه الورد - البخيل ... انظر ذلك في كتاب أحمد منور، مسرح الفرجة والنضال في الجزائر: دراسة في أعمال أحمد رضا =

إن البيئة الطبيعية والبشرية التي ولد وتريى فيها حوحو (سيدي عقبة / بسكرة) والبيئة التي هاجر إليها (الحجاز) متشابهة وذات أصول بشرية وجغرافية واحدة تقريبا، وكانت السنوات التي قضاها في سكيكدة مختلفة إلى حد كبير وكأنها كانت تهيئه لمهمة قادمة، فقد مكنته من معرفة أجواء الحياة الأوربية ومعرفة اللغة الفرنسية، ومن ثمة جمع بين بيئتين ولغتين وهو الأمر الذي مكنه من التحرر الفكري مع المحافظة على أصالته ومكنه من المقارنة بين هويتين، فساهم في السعودية بالترجمة من الآداب الفرنسية، وساهم في الجزائر في الرقي باللغة العربية بإدخال الأساليب الشرقية في التعبير، وبتناول موضوعات بأساليب لم تكن شائعة من قبل. وكان اهتمامه المرتكز على الأدب والثقافة قد ميزه عن زملائه في الحركة الإصلاحية حين رجع من الحجاز، فهم كانوا مهتمين بالفقه والثقافة الإسلامية لأنهم يواجهون جمهورا محافظا، بينما كان حوحو لا يهمه ذلك كثيرا ما دام منسجما مع أفكاره ومتجاوبا مع قادة الإصلاح على المدى الإستراتيجي، بالإضافة إلى أنه كان يختلف عنهم في تحرره الفكري، فهو قد درس الفرنسية وآدابها، وعرف البيئة الشرقية المحافظة والمتحررة، كما تجول في أوربا وخالط أفكارها قبل رجوعه إلى الجزائر في وقت كانت فيه الحرب الباردة على أشدها بين المعسكرين، وكان ذلك في وقت يصنف فيه الأفراد والجماعات والدول على أساس إيديولوجي. حتى عناوين مؤلفاته كانت تدل على اتجاه جديد لم يألفه الأدب العربي الجزائري، فلعل حوحو هو أول أديب نشر كتابا عنوانه ورمزه المرأة مثل (غادة أم الغرى)، و (صاحبة الوحي) على غرار عناوين قصص جورجي زيدان: فتاة القيروان، وعروس فرغانة. وكان حوحو يعلن عن هوايته بدون حرج، فقد هوى الموسيقى وأسس

_ = حوحو، دار هومة، الجزائر، ص 65.

عثمان سعدي

جمعية (جوقة) المزهر القسنطيني سنة 1949 وظل يرعاه إلى سنة 1954، وكان يعزف على بعض الآلات الموسيقية في الجوقة، وكان من القلائل المنتمين لجمعية العلماء ممن يمكن تسميتهم بالمثقفين الأحرار، مثل الأمين العمودي في الثلاثينات وإسماعيل العربي في الأربعينات، لذلك لا نستغرب أن يكتب حوحو مقالاته بالأسلوب المتحرر المتجدد الذي كتب به، فهو في الناثرين كشعراء في الشعر الحر .. وكان حوحو في نشره ناقدا اجتماعيا، بسخرية لاذعة، مستعملا القصة غطاء والصحافة وسيلة، فكتب في المنهل والرابطة العربية (بالمشرق) وكتب في البصائر والشعلة والمنار أيضا، وكان حوحو جريئا في نقده للأدب الروماني لأنه كان يؤمن بأدب الواقعية الجديدة، وربما بالأدب الملتزم الذي كثر عشاقه مع موجة الاشتراكية في الخمسينات والستينات (1). وكان بإمكان حوحو أن يكتب في مجلة (هنا الجزائر) ولكنه لم يفعل. حسب علمنا، وربما قدم بعض أعماله لإذاعة الجزائر (الفرنسية) فذكره زملاؤه من العلماء بموقعه فتوقف؟ وربما كانت قسوة مولود الطياب في نقده له نابعة من موقفه هذا لأن الطياب كان من كتاب هنا الجزائر الملتزمين. عثمان سعدي كان عثمان سعدي طالبا في جامعة القاهرة حين قامت الثورة في الجزائر. وكان من النشطين في المجالين الأدبي والسياسي لأنه كان على صلة بمكتب المغرب العربي حيث مقر جبهة التحرير الوطني، ويبدو أن صلته بمكتب جمعية العلماء لم تكن على ما يرام رغم أنه كان من تلاميذ معهد عبد الحميد بن باديس وربما جاء إلى القاهرة ضمن بعثات جمعية العلماء، ويهمنا هنا نشاطه الأدبي خلال مرحلة الثورة. فقد نشر عثمان سعدي في مجلة الآداب اللبنانية المقالات الآتية: مشكلة

_ (1) انظر أحمد دوغان، شخصيات ... الخ.

عبد الله شريط وآخرونه

الثقافة في الجزائر، والفن الشعبي في الجزائر، وزبدون الشهيد، ومأساة شعب وتبلد ضمير، والأدب الشعبي والمقاومة الجزائرية، والفلاح والثورة الجزائرية، ورسالة إلى مناضل، ومولود معمري، كما أذكر أنه كتب عن موقف ألبير كامو من الثورة الجزائرية ولكني نسيت أين رأيت له ذلك، وهي مقالات تدل على تنوع ثقافته والتزامه بالخط الثقافي الوطني، وتعبر عن اتجاه جديد في الأدب الجزائري الذي كان قبل الثورة يعاني من القيود والضغوط، وبالإضافة إلى أدب المقالة كان سعدي يكتب القصة القصيرة كما سنرى. عبد الله شريط وآخرونه عاش عبد الله شريط مرحلة الثورة في عهد النضج خلافا لعدد من الشباب الذين ولدوا شعريا، في الثورة نفسها، فهو من الجيل الذي سبق الثورة، وكان بتونس عند اندلاعها، فقد عرفته وأنا طالب في السنتين الأخيرتين في الزيتونة وهو يومئذ من شيوخها الجدد، بل وحضرت عليه محاضرتين أو أكثر من باب الفضول فقط. ولد في مسكيانة سنة 1921، وتعلم فيها وفي تبسة، ثم سافر إلى تونس ودرس بها ثم قصد سورية وحصل منها على شهادة ليسانس في الفلسفة سنة 1951، وبعد العمل في تونس، كما ذكرنا، قبيل الثورة وأثناءها، رجع إلى الجزائر ودخل جامعتها مدرسا، وواصل أبحاثه الصحفية والسياسية والفلسفية إلى أن حصل على الدكتوراه سنة 1972 عن الفكر الأخلاقي عند ابن خلدون، وله ديوان بعنوان (الرماد) نشره في الجزائر، سنة 1969، ولكنه انقطع عن الشعر منذ عاد من الشرق، وواصل كتابة المقالة في القضايا الاجتماعية، وألف عدة كتب في هذا المجال، وهو في شعره ينحو منحى رومانسيا لأن شعره ذاتي جميل، ويعتبر من المحافظين على الشعر العمودي (1).

_ (1) محمد ناصر، الشعر الجزائري، مرجع سابق، ص 680، وكذلك مجلة الثقافة، عدد 11 نوفمبر 1972، ص 120.

انحصر نشاط شريط الأدبي وهو في تونس في المقالة الصحفية التي تناول فيها القضايا الوطنية والقومية والدولية، وحسب ما جاء في كتاب (النشاط العلمي) للجابري فإن شريط نشر بعض المقالات الثقافية عن ابن باديس والتضحية، ومستقبل المغرب العربي، والثورة ومفاهيمها، ومن الواضح أن هذه المقالات من بنات الواقع الذي كانت تعيشه المنطقة، ولكنه كتب أيصا عن الشابي، وعن التعليم الزيتوني .. وقد نشر في الصباح والفكر، أما الشعر فليس في ديوانه الرماد ما يدل على أنه نظم في الثورة، ولذلك فإن حياته تهمنا في النثر أكثر من الشعر. أساس مقالاته عن الاستعمار والثقافة والحركة الوطنية التونسية والجزائرية، كما عالج مسألة الأرض والثورة، وكان يحرر ركنا عنوانه (ما رأيك؟) يتحدث فيه عن القضايا العربية والسياسية والدولية، وربما هذه هي المقالات التي جمعها في السنوات الأخيرة في عدة مجلدات ونشرتها له وزارة المجاهدين باعتبار هذا العمل جزءا من تراث الثورة، وكان شريط يلخص ويترجم ما تنشره الصحف والمجلات الأجنبية عن الجزائر فاجتمعت له من ذلك ثروة إعلامية وفكرية كبيرة. ومن الملاحظ أن لشريط مرحلتين في الكتابة بتونس: مرحلة ما قبل الثورة ومرحلة ما بعد اندلاعها، فإذا كان قبل الثورة مهتما بقضايا العرب والثقافة والتعليم الزيتوني، وابن خلدون، فإنه بعد انطلاق الثورة، قد ركز على موضوعات جزائرية نضالية مثل حياة ابن باديس والتضحية التي نجدها في نشرة جمعية الطلبة الجزائريين بتونس، وفي مقالة أخرى نشرها في مجلة الفكر تحدث عن مستقبل المغرب العربي (1957) أي بعد استقلال تونس والمغرب، وهو من القلائل الذين حاولوا إعطاء الثورة بعدا سياسيا وإيديلوجيا، فنجده كتب مقالة بعنوان (حول الثورة ومفاهيمها) في مجلة الفكر أيضا، وقد ظهر على كتاباته الطابع الفلسفي الإصلاحي في ذلك الوقت المبكر، سواء في تناوله مفاهيم الثورة أو المسألة الثقافية والهوية عموما.

وكتب محمد الميلي في جريدة الصباح مقالات عديدة تناول فيها القضايا الوطنية والاستعمار وكفاح الشعوب، وهي موضوعات كان يعالجها أيضا في (المجاهد) لكن بدون توقيع، وبعد خروج الشاعر مفدي زكرياء من السجن وانتقاله إلى تونس كتب أيضا في جريدة الصباح، ونشر الطاهر وطار ببعض المقالات والقصص، ثم أخذ نجمه الأدبي في الصعود حتى أصدر بعض المؤلفات وهو ما يزال في تونس (انظر لاحقا)، ونشر عثمان شبوب مقالات في الصباح واللغات وساهم في الإذاعة، وكان مهتما بالأدب والمسرح والتراجم الأدبية، بمن فيها الشاعرة الفلسطينية فدوى طوقان (1). ومن جهتي نشرت - كما سبقت، الإشارة - مقالات في البصائر عشية الثورة وخلالها، مثل أمة المجد في الميدان، وابن الرومي، وفي ظلال النقد، ومع أديب الخلود، وما لهم لا ينطقون، وأرض الملاحم، وشعرنا يمثلنا، وعندما لبست العمامة، وبعد الثورة راسلت البصائر بـ (رسالة القاهرة)، وخلال الثورة أيضا نشرت من القاهرة عدة مقالات عن الأدب الجزائري في مجلة (الآداب) اللبنانية مثل: تصميم للشعر الجزائرى الحديث، والبطولة في الأدب الجزائري، والغزل في الشعر الجزائري، ومحاولاتنا في النقد الأدبي ورضا حوحو ونضال الكلمة، أما في غير الآداب فقد نشرت مقالة عن محمد العيد في جريدة (الجمهورية) المصرية، والأدب الجزائري مؤثراته وتياراته في مجلة الرسالة العراقية، وحررت في باب المغرب العربي في مرآة التاريخ في مجلة (العالم العربي) المصرية، وهو باب تضمن مقالات قصيرة وأخبارا، ودخلت في ردود ومناقشات مع بعض الأدباء منهم رابح بونار على صفحات البصائر، وعلي الحلي وصلاح عبد الصبور وهنري صعب الخوري على صفحات مجلة الآداب ... وكل هذه الكتابات صيغت بأسلوب أدبي حماسي بقلم شاب لم

_ (1) عن مساهمة هذا الجيل انظر الجابري: النشاط العلمي، مرجع سابق، ص 370 وهنا وهناك.

الخطابة

يتمرس بعد على فن الكتابة (1). الخطابة أشرنا إلى أن الخطابة غير جديدة، ولكنها غير شائعة لمحدودية مجالها في الجزائر، فالأعمال الوطنية كانت كلها سرية تقريبا، والمناضلون كانوا يجتمعون سرا ويتداولون همسا، ولا يتصلون بالجمهور في معظم الأحيان إلا بطرق غير مباشرة كالمناشير والرسائل والنداءات، ورغم وجود تنظيمات سياسية منذ الحرب العالمية الأولى فإن ميدان الخطابة أمامها بقي محدودا، وقد عالجنا ذلك في محله من كتابنا. كما أشرنا إلى أن الخطابة الدينية لم تكن كسالف عهدها، ذلك أن رجال الدين الرسميين كانوا لا يتجاوزون الخطوط الحمراء المحددة لهم في قرار التوظيف أو قرار الرضى عنهم، فمكانهم هو المساجد والزوايا وجمهورهم عامة الناس الذين يغلب عليهم الجهل والأمية، فلا مجال لرجال الدين إذن في الخطابة كفن من فنون الأدب والبلاغة والجهر بالقول. حقيقة أن زعماء الحركة الإصلاحية استعملوا الخطابة المرتجلة إلى حد ما، وكانت صلتهم بالعامة أكثر حرية من زملائهم السياسيين ورجال الدين الرسميين، وكانوا يسمون خطبهم (دروسا) في الوعظ والإرشاد، وإذا بالغوا في دروسهم وذهبوا إلى الإثارة فإن مآلهم التوقيف عن التدريس وربما الاتهام بالإساءة إلى النظام العام كما فعلوا، مع الشيخ العقبي خلال الثلاثينات، وكان العلماء حتى في عهد الثورة الأول يستعملون شهر رمضان لبث الأفكار الدينية في قالب وعظي، ويدعون إلى المبادى الإصلاحية والاجتماعية التي يؤمنون بها، وكانوا يوزعون أنفسهم على مراكز عبر القطر فيستفيد من (دروسهم)

_ (1) بعض هذه الدراسات والمقالات نشر في كتابنا دراسات في الأدب الجزائري الحديث، وفي تجارب في الأدب والرحلة.

جمهور غفير، ولكن لا يمكن أن نسمي هذا النوع من الإعلام خطابة بالمعنى الفني (1). أتيح لحزب الشعب / حركة الانتصار أن يتصل بالشعب سياسيا منذ أن قبل بالمشاركة في الإنتخابات المحلية والبرلمانية، ولكن هذه الفرصة لم تؤد إلى ظهور خطباء سياسيين إلا على نطاق محدود، وكان عبد الحميد مهري وعبد الرحمن العقون من المثقفين بالعربية والمنتمين للحزب، ولكننا نجهل قيامهما بجهد في هذا المجال قبل خروجهما من الجزائر بعد نشوب الثورة، وأذكر أنني رأيت شخصيا السيد مهري خطيبا في الطلبة بتونس قبيل الثورة، ولكني لا أستطيع الحكم على خطابته عندئذ رغم أنني رأيته يرتجل خطابه ارتجالا، كما حضرت له خطبته المرتجلة في المؤتمر الرابع للاتحاد العام للطلبة المسلمين الجزائريين بتونس (1960)، وهو عندئذ وزير، ولا شك أن وجود الرجلين (مهري والعقون) في دمشق والأردن أيام الثورة، قد أفسح لهما المجال لمخاطبة الجماهير العربية المتعطشة لأخبار الجزائر وتوصيل صوت الثورة إليها عن طريق الكلمة المباشرة في المناسبات العامة كإحياء أسابيع الجزائر. ومن الجانب الإصلاحي نشير إلى أن الذين اشتهروا بالخطابة في عهد الثورة هم: الشمخ الإبراهيمي في قضايا الإصلاح وآثار الاستعمار على الأمة العربية والإسلامية، ومنها الجزائر، والفضيل الورتلاني الذي أشرنا إلى دوره في المشرق قبل وفاته سنة 1957، وهو متميز في المجال الدعوي والفكر السلفي والحركات الوطنية، وأحمد توفيق المدني الذي جمع بين الخطابة في القضايا

_ (1) البصائر، توزيع الشيوخ على المراكز خلال رمضان زمن الثورة، نظرا لحالة الحرب فإن لجنة الدعوة برئاسة محمد الصالح بن عتيق اكتفت سنة 1956 بالبيان التالي: مركز الجمعية بالعاصمة يتولاه الشيخ العربي التبسي، والجامع الكبير بقسنطينة يتولاه الشيخ نعيم النعيمي، والجامع الأخضر بنفس المدينة يتولاه الشيخ محمد العدوي، وجامع سيدي مبروك يتولاه الشيخان أحمد حماني وعبد الرحمن شيبان، أما بقية الشيوخ فيتولون الوعظ والإرشاد كل في مكانه كالعادة، البصائر، 6 أبريل 1956.

الدينية والسياسية ولا سيما ثورة الشعوب المضطهدة في آسيا وإفريقيا، وكانت له فرص عديدة في الخطابة في منتديات جمعية الشبان المسلمين وجمعية الخريجين العرب والمؤتمرات الآسيوية الإفريقية وحتى في أروقة الجامعة العربية، وكان يتميز بالفصاحة والشجاعة الأدبية والتمرس على الجمهور وحضور البديهة والثقافة السياسية الواسعة، وكان يرتجل خطبه ولا يتلعثم ولا يمل، وكنا قد سمعناه في باتنة أثناء افتتاح إحدى مدارسها، ثم سمعناه في جمعية الشبان المسلمين بمصر، وفي الجامع الأزهر حيث كانت تتاح مناسبات إحياء ذكرى الثورة أو إقامة أسبوع للجزائر أو عند حادث اختطاف طائرة قادة الثورة ... فكان الشيخ المدني يهز الحاضرين بفخامة أسلوبه ونبرات صوته وهيئته الثابتة، فكان في الخطابة كمفدي زكرياء في الشعر السياسي لا يدانيهما أحد من الجزائريين فيما عرفت، وقد استمعت أيضا إلى الشيخ الإبراهيمي خطيبا ولكني لم أسمع الشيخ الورتلاني، ويقال إن الشيخ العربي التبسي كان في خطبه مؤثرا أيضا ولكني لم أره خطيبا، أما الشيخ الطيب العقبي فقد اختفى من الميدان في المرحلة التي نعالجها، رغم أنه محسوب على الخطباء المثورين في الماضي. وقد سمعت السيد فرحات عباس يخطب بالفرنسية، فظهر لي أنه سياسي عقلاني محنك، سمعته وهو يلقي أول بيان للحكومة المؤقة في القاهرة، فكان يقرأ من ورقة أمام وسائل الإعلام وجمهور محدود، فلم يكن هناك مجال للخطابة المرتجلة بالمعنى الفني، ولكن شخصيته كانت قوية وصوته كان موزونا معبرا عن فكر نير، ثم سمعته في المؤتمر الرابع لاتحاد الطلبة المسلمين الجزائريين بتونس (1960) وكنت واحدا من الجمهور الذي غصت به القاعة من السياسيين والطلبة والإعلاميين، فكان عباس مع ذلك هادئا يخاطب العقل لا العاطفة، ويزن كلامه بدقة متناهية رغم أن الموقف كان يسمح له بالخروج عن التزمت الدبلوماسي إلى الخطابية والتوتر ومخاطبة الخصم بما لا تهوى نفسه. وكان فيما أذكر يلقي خطابه من أوراق وليس مرتجلا.

الترجمة

من النماذج التي نشير إليها أن السلطات الفرنسية قد احتجزت العدد 350 من جريدة البصائر الذي كان فيه خطاب الشيخ العربي التبسي نائب رئيس جمعية العلماء، وفي نفس هذا العدد كلمة عنوانها (هل الهدنة ممكنة)، كان ذلك بتاريخ 20 يناير 1956، والواقع أن هذا العدد من البصائر كان فيه أيضا البلاغ الرسمي الصادر عن الاجتماع العام لجمعية العلماء وكيف تناولته الدوائر السياسية والصحافة الفرنسية النافذة، ولا شك أن الذين حضروا اجتماع المجلس الإداري قد سمعوا خطبة الشيخ العربي التبسي الذي نعتقد أنه ألقاه ارتجالا وليس من الورق، كما هي عادته. الترجمة كانت الجزائر تتوفر على عدد لا بأس به من المترجمين، من الفرنسية إلى العربية، خلال الخمسينات، ويبدو أن الاتجاه الآخر من الترجمة كان ضعيفا، أي من العربية إلى الفرنسية شفويا وحتى كتابيا بغير اللغة الأدبية أو الفصحى باعتبارها لغة حضارة أولا ولغة اتصال ثانيا، وأنتج الإستشراق الفرنسي والكنيسة رجالا على درجة هامة من المعرفة والثقافة باللغة العربية، فنقلوا منها مصادر عديدة ونشروا بها أعمالا تشهد لهم بالباع الطويل، ونعني بذلك النقل من العربية إلى الفرنسية (1). وهناك أسماء جزائرية تركت بصماتها على الترجمة الأدبية، من أبرز أصحابها الطاهر بوشوشي، والمولود الطياب والعربي أولخيار (بالولاية العامة) والهاشمي العربي، وإسماعيل العربي، والحاج حمدان (وهو مترجم شرعي) وسعد الدين بن أبي شنب.

_ (1) انظر الدراسات العربية في الجزائر لهنري ماصي وقد ترجمه إسماعيل العربي ثم ظهرت ترجمة أخرى له قام بها محمد يحياتن ونشرها المجلس الأعلى للغة العربية، الجزائر، 2005.

ويمكننا أن نعمم فنقول إن معظم الموظفين في ميدان التدريس والقضاء والإدارة التعليمية ونحوها كانوا يتعاطون الترجمة بشكل أو بآخر، لأنهم قبل كل شيء قد تخرجوا من المدرسة الفرنسية - الإسلامية التي كانت تعلم اللغة الفرنسية لفترة طويلة ومؤكدة، ولكن هناك من تخرج من هذه المدارس وهو لا يكاد يترجم ولا يكتب بالعربية رغم أنه يفهمها، ولدينا مثال على ذلك مالك بن نبي الذي تخرج من مدرسة قسنطينة (الفرنسية - الإسلامية) وهو لا يكتب بالعربية إلا قليلا ولم تتحسن لغته العربية وترقى إلى درجة اللغة الأدبية المكتوبة إلا بعد إقامته في المشرق إذ استطاع أن يكتب بعض كتبه لاحقا بالعربية مباشرة، دون مترجم، وكان أحمد رضا حوحو استثناء لأنه رغم دراسته في مدرسة فرنسية بسكيكدة فإنه تعاطى الترجمة في الحجاز ثم كان يترجم من الفرنسية إلى العربية بعد رجوعه إلى الجزائر، ولا شك أن رجلا مثل محمود بوزوزو رئيس تحرير جريدة المنار، كان يعرف العربية والفرنسية بشكل متميز، ومهما كان الأمر فإن مجلة هنا الجزائر قد ضمت مجموعة طيبة من المترجمين الجزائريين، في الميدان الأدبي. منذ نوفمبر 1956 نشرت هنا الجزائر مقالة بعنوان (الترجمة من أكبر الوسائل لدعم التفاهم بين الشعوب)، ولكن كاتب المقالة أخفى اسمه، ونحن نرجح أنه هو الطاهر بوشوشي نفسه، ومما جاء في المقالة أن جماعة المترجمين الدولية، وهي تضم اثنتي عشرة دولة، تستعين بمنظمة اليونسكو التابعة للأمم المتحدة وتعقد أن الترجمة قد أسهمت عبر العصور في نقل الأفكار، وأعلنت الجماعة المذكورة أنها أنشأت مجلة باسم (بابل)، وهو رمز له دلالته الحضارية، وجاء في المقالة أيضا ذكر لعدد من الأعمال التي ترجمت من الآداب الروسية والإسلامية (العربية) واليونانية (1). ومن المقالات التي ترجمت إلى العربية لحاجة في نفس الموعزين بذلك

_ (1) هنا الجزائر 50، نوفمبر 1956.

محاضرة القاضي ابن حورة وعنوانها (هل أهل شمال إفريقيا مشارقة؟)، ورغم أن كاتبها الأصلي مسلم ومن رجال القضاء فيما يبدو وكان ربما بإمكانه أن يترجم محاضرته بنفسه فقد قام شخص اسمه محمد الحاكم (؟) بترجمتها، وقد تفلسف ابن حورة بعض التفلسف واستنجد بالتاريخ وبنظرية (غوتييه) المعروف بمعاداته للحضارة العربية الإسلامية وانتصاره للرومان والفرنسيين، يقول ابن حورة إن الإسلام مادة وروح، وأن الإسلام قديم وجديد (شاب وشيخ)، وأن المدنية الرومانية قد انقرضت من شمال إفريقيا، بينما المدنية العربية بقي منها شيء (كذا) وأن الحضارة الرومانية مع ذلك تركت عظماء بينما الحضارة العربية لم تترك عظماء عدا ابن خلدون، (هذا هو رأي غوتييه، ولكنه يشكك حتى في قدرة ابن خلدون، وهو ربما ما لم يدركه ابن حورة). وقد كرر ابن حورة نظرية الجغرافي الفرنسي (غوتييه) في الاعتماد على الطابع الروحي للحضارة وليس الطابع المادي فقط، واستدل هذا الفيلسوف الجديد (ابن حورة) بنظرية طه حسين في كتابه (مستقبل الثقافة في مصر) من كون المصريين أوربيين في توجههم رغم أنهم يعيشون في المشرق، أي أنهم ليسوا مشارقة بل هم أوروبيون وضعتهم الجغرافيا في المشرق، كما استدل ابن حورة بكون الإسلام يعلو على القوميات، والمقصود بالذات هو أن أهل شمال إفريقيا أوروبيون وإن كانوا يعيشون في إفريقيا على بقايا الحضارة العربية الإسلامية، تمهيدا للاندماج في الفرنسيين وطعنا في ظهر الحركة الوطنية ودعاة الاستقلال (1). ولا شك أن فكرة ابن حورة هذه تتماشى مع تيار فرنسي يقول بأن أهل شمال إفريقيا (البرر؟) أوربيو الأصل، دون الإلتفات إلى كون مؤرخي اليونان والعرب لا يعتبرونهم كذلك، ومهما كان الأمر فإن هذه الأفكار انطلقت مع الثورة لإضعاف قوتها وشل أهدافها وخدمة فكرة الاندماج التي أصبحت

_ (1) هنا الجزائر، يونيو، 1955.

مرفوضة حتى عند الفرنسيين أنفسهم، وإذا كان أهالي شمال إفريقيا غير مشارقة كما انتهى ابن حورة وبعض النخبة الاندماجية - فلماذا لم يعاملهم الفرنسيون على أنهم أوربيون أو على أنهم رومان؟ والذي يهمنا من هذا النص ليس هو الأفكار التي حملها، ولكن الترجمة التي نقلته من لغة فرنسية إلى لغة عربية. ومن لغة الفرنسيين الأوربية إلى لغة الأهالي الشرقية. برع الطاهر بوشوشي الذي كان يوقع اسمه (ابن جلا) في الترجمة من الفرنسية إلى العربية، وأيضا من العربية إلى الفرنسية، ولنذكر الآن بعض العناوين التي ترجمها: - بحيرة لامارتين في الأدب العربي، ترجمة لحياة هذا الشاعر الفرنسي، هنا الجزائر 30، ديسمبر 1954. - حياة وأفكار جان جاك روسو، في حلقتين من الفرنسية إلى العربية، هنا الجزائر 70 - 71، ديسمبر 1958. - نشر أعمالا يبدو أنه نقلها من الفرنسية مثل: (قبر الرومية،) هنا الجزائر 21، فبراير 1954. - ترجم أغنية/ قصيدة الجندول لعلي محمود طه، فقد قام بترجمتها إلى الفرنسية ونشرها وأشاد بها، وهي تنسجم مع هواه في الشعر الرومانسي، وعلق على حياة وشعر علي محمود طه قائلا إنه تلميذ شوقي، وأن أغنية الجندول من أجمل أشعاره، وأتى على ديوانه الملاح التائه، وشبه الشاعر المصري بالشاعر الفرنسي موسوي والشاعر الإنجليزي شيلي، هنا الجزائر 20، يناير 1954. ومن المترجمين نور الدين عبد القادر الذي أسهم في الترجمة لعدد من الأدباء والمفكرين الفرنسيين أمثال المستشرق إتيان كاترمير (هنا الجزائر، يونيو 1954)، وسيلفستر دي ساسي مع التركيز على حياته وآثاره وتأثيره، هنا الجزائر، أبريل 1954، وادمون فانيان، وغير هؤلاء.

أما الهاشمي العربي فهو بالرغم من أنه من أبرز المترجمين في هذه الفترة فإننا لم نجد له في هنا الجزائر سوى القليل، وهو لا يعدو عملين أولهما (آخر درس) وهي قصة مترجمة عن الفرنسية بقلم ألفونس دوديه، هنا الجزائر، أوت 1958. وثانيهما (ليلة في أورشاليم) وهي مسرحية جرت حوادثها ليلة ميلاد المسيح (عليه السلام)، هنا الجزائر، يناير 1955. وتوجد أعمال مترجمة أخرى بعضها يذكر المترجم إلى جانبها مثل (تأسيس مدينة غرداية) وهي بحث ترجمه أبو الحسن (؟) عن المستعرب الفرنسي إيميل ديرمنغام، هنا الجزائر، مارس 1954. وهناك أعمال قدمها أحمد شقار الثعالبي ولها صلة بالأدب الغربي، كالخداع والحب عند شيلر الألماني، وقصة الفنجان العاشق، وهي تمثيلية إذاعية ذات شخوص من المسلمين والنصارى، هنا الجزائر، يونيو 1956، وهناك مقالة عن مدينة الزهراء لمحمد بكوشة، هنا الجزائر، أوت 1957. كما ترجمت بعض قصص مالك واري بدون اسم المترجم، مثل عيشوش الجلابية أو دهاء امرأة. ولمالك واري بعض القصص المتخيلة مترجمة إلى العربية أيضا. وفي عدد سابق من هنا الجزائر (عدد 70) ترجم السيد محمود الجيلالي قصة (عديمو الصبر) أو (المستعجلون) إلى العربية، وهي قصة أذيعت من إذاعة الجزائر (الفرنسية) وشارك في ذلك عدد من الأدباء الذين مثلوا الأسماء الواردة في النص، والقصة تتحدث عن الفتيان والفتيات المستعجلات للأخذ بالثقافة الفرنسية الذين كانوا يعيشون حيرة ثقافية، كما تناولت مشكلة الفتاة المسلمة أمام الفتاة المسيحية (الغربية)، أي صراع الثقافات والتقاليد في مجتمع متخلف. وهكذا نلاحظ أن مجلة هنا الجزائر قد خدمت حركة الترجمة، ولكن في نطاق خدمة اللغة الفرنسية، أي نقل الأدب والفكر والآراء الفرنسية إلى

الجزائريين، أما نقل الثقافة العربية إلى الفرنسيين فيكاد يكون غائبا، وقد لاحظنا أيضا أن أعمالا جادة كتبت بالفرنسية، ومع ذلك لم تنقل إلى العربية مثل دراسات سفير البودالي عن الموسيقى العربية والموسيقى الأندلسية، وبعض الدراسات الأخرى التي حفل بها القسم الفرنسي من المجلة، والملاحظة الأخيرة هي أن بعض الدراسات تناولت تأثير الأدب الفرنسي في الفكر والأدب العربي، وقد عالج هذا الموضوع كل من سعد الدين بن أبي شنب وأحمد بن ذياب، وتعتبر مقالات ابن أبي شنب عميقة في بابها، ولكنها تحمل طابع الدعاية أحيانا، أي التعريف بأثر الأدب الفرنسي خارج بيئته. أما وسائل الإعلام الأخرى فقد استخدمت الترجمة أيضا ولكن في نطاق ضيق، ولا سيما في نطاق الأدب، فالبصائر مثلا نشرت بعض المترجمات في العلوم والآراء السياسية، ولكنها كانت مقلة في ذلك، وكذلك فعلت جريدة المنار. بينما اهتمت جريدة المجاهد بالأدب والدراسات المترجمة في مرحلة متأخرة من عمرها، فقدمت لقرائها أعمالا لأدباء فيتناميين، وبعض الأعمال لفرانز فانون، وقطعا شعرية لبعض الجزائريين، ونماذج لمثقفين فرنسيين، وربما لبعض اليساريين الآخرين أيضا، أما مترجماتها الأخرى فكانت لا تخرج عن الأخبار والوثائق الإعلامية. وقد ترجم مولود الطياب أعمالا عديدة في شكل تعريف بالكتب كما فعل مع مؤلف إدريس الشرايبي المغربي، كما ترجم قصة (الفيلسوف ودماغه) لهيلين برملان (1). ومن الواجب أن نشير هنا إلى دخول أبي العيد دودو وحنفي بن عيسى ساحة الترجمة إلى العربية ابتداء من مرحلة الثورة، الأول من الألمانية والثاني من الفرنسية، وقد نشر حنفي بن عيسى في بعض المجلات الشرقية، منها

_ (1) هنا الجزائر، مارس 1958.

القصة والرواية

الآداب، أما دودو فقد نشر في دوريات تونسية، وكل منهما أسهم بغزارة بعد الاستقلال في حركة الترجمة وأثرى اللغة والأدب العربي (1). ويجب ألا نغفل مساهمة أحمد رضا حوحو في ميدان الترجمة أيضا، فقد ترجم وهو في الحجاز أعمالا لمجلة المنهل السعودية، وعندما رجع إلى الجزائر استمر في الترجمة أيضا ولكن على نطاق ضيق فيما يبدو، وربما تحت اسم مستعار، مثلا وجدنا له ترجمة من الفرنسية في البصائر لمقالة عن النقط في الخليج وتنافس الشركات البريطانية والأمريكية في المنطقة وعنوانها (دم ونفط) مع ذكر اسمه واضحا (2). القصة والرواية حوحو ونماذجه البشرية تكلمنا عن حوحو كاتبا وناقدا أدبيا منذ ما قبل الثورة، وقد نشر أيضا عددا من القصص وألف مسرحيات، وذكرنا بعض أعماله المنشورة ومنها نماذج بشرية التي كانت آخر أعماله قبل اغتياله سنة 1956، هذه المجموعة نشرتها له دار كتاب البعث في تونس التي كان يشرف عليها الأديب القومي أبو القاسم كرو. يقول حوحو عن مجموعته هذه إن (الذي يعنينا هنا هو عرض وتصوير مجموعة من الطباع البشرية، في مجموعة من البشر منتقاة من صميم المجتمع)، وهذه الطباع ليست واحدة وإلا لخضعت لتأثير البيئة والنشأة والتعليم فتسيرها طبقا لهذه التأثيرات، وحوحو يؤمن بأن هذه النماذج تتمرد على القيود (تأثير البيئة والنشأة والتعليم)، فضحايا الاستعمار وغيره يكسرون القيود

_ (1) نذكر أن دودو ترجم أيضا من الأدب العربي إلى اللغة الألمانية عندما كان في ألمانيا والنمسا، انظر عن ترجماته إلى العربية كلمتنا عنه في كتابنا خارج السرب، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 2005. (2) البصائر 217، 13 فبراير 1953.

عبد الله ركيبي

الاجتماعية والإدارية والبيئية وهي (تتخذ من الوطنية دينا يهديها سواء السبيل)، وضرب مثلا آخر بالفقيه الذي تمرد على تعليمه وأصبح تاجرا يبيع متخذا شرع الله حانوتا. إن نماذج حوحو ليست خيالية، فهو كاتب واقعي كما عرفنا، ولكنه لم يلجأ فيها إلى التحليل النفسي فيسخره لإثبات فكرة ورد أخرى، لقد التجأ إلى المجتمع متخذا منه نماذج من مختلف طبقاته (عشت مع بعضها، وسمعت عن بعضها)، ولذلك جاءت نماذجه خليطا من الجزائريين والأوربيين، فهناك يحي الضيف، وفقاقيع الأدب، وسيدي الحاج (جزائري جاء مكة على نفقة الحكومة الفرنسية)، وسي زعرور وأمثاله من الأشخاص ذوي الظلال المتعددة المستوحون من أوروبا (1). عبد الله ركيبي ولد عبد الله ركيبي في جمورة، (ولاية بسكرة) ودرس التعليم الابتدائي في مسقط رأسه والإعدادي والثانوي في جامع الزيتونة بتونس حيث نال شهادة التحصيل سنة 1954، التحق بالثورة ودخل السجن في آفلو سنة 1956، وبعد إقامة جبرية في بسكرة فر إلى الأوراس ومنه توجه إلى تونس ثم مصر، التحق بجامعة القاهرة وحصل منها على الماجستير في (القصة الجزائرية القصيرة)، والدكتوراه في (الشعر الديني الجزائري الحديث)، وخلال إقامته في القاهرة ترأس فرع اتحاد الطلبة المسلمين الجزائريين. بعد التدريس في التعليم الثانوي، التحق بجامعة الجزائر سنة 1967 حيث بقي إلى سنة 1994 عندما شغل منصبا دبلوماسيا وظل يتنقل في الوظائف السامية إلى أن تقاعد منها ومن الجامعة منذ سنوات قليلة، وخلال حياته الطلابية

_ (1) سلسلة كتاب البعث، رقم 3، تونس، 1956، والسيد يحيى الضيف شخصية فريدة تعرفنا عليها في مركز جمعية العلماء بالعاصمة حيث كان الحارس الأمين والقيم المتعلم، وله كتابات أحيانا في البصائر.

نفوس ثائرة

والجامعية تصدى لخصوم التعريب ودافع عن الثقافة العربية وأشرف على عدة برامج في الصحف والإذاعة والتلفزيون والحزب (جبهة التحرير) لها صلة بالفكر والثقافة، وقد أقام سنتين في لندن متفرغا، كما زار عدة عواصم عربية وأوروبية مدرسا وممثلا لاتحاد الكتاب ومدعوا لندوات، وكرم عدة مرات، وأشرف على مجموعة كبيرة من الرسائل في الجامعة تتناول الأدب الجزائري الحديث، وهناك جيل من الباحثين يعترفون له بالفضل في ميدان البحث. أسهم الركيبي في مجال التأليف فأصدر حوالي عشرين كتابا في الأدب والثقافة والدراسة، يهمنا منها ثلاثة صدرت أيام الثورة: - مصرع الطغاة (مسرحية) دار بوسلامة، تونس، 1959. - دراسات في الشعر الجزائري الحديث، الدار القومية، مصر، 1961. - نفوس ثائرة، (قصص)، الدار المصرية، ط 1، 1962. نفوس ثائرة هي مجموعة قصصية كتبها عبد الله ركيبي وقدم لها شكري عياد بدراسة نقدية، وقد أهداها المؤلف إلى روح صديقه الشهيد بشير بن رابح، في المقدمة قال المؤلف إن القصة العربية القصيرة في الجزائر ما تزال في طفولتها، وأنها لم تظهر إلا قبل مدة قصيرة لأسباب منها: أن النزعة الوعظية هي التي كانت سائدة في النشر وليس القصة، فكانت المقالة هي الوسيلة المباشرة للتعبير عن الدعوة الإصلاحية التي كانت تعد للثورة، ففيها الحماسة والفخر والتقرير وكأنها قصيدة شعرية، ثانيا أن اللغة العربية نفسها لم تكن أداة للتعبير. ومع ذلك بدأت العربية تدخل ميدان التعبير، فظهر أدباء آمنوا بفعالية القصة الأدبية والاجتماعية، فكتبوا منها صورا للأحداث وليس قصصا متكاملة الأدوات، وذلك كانت تفتقر إلى عناصر أساسية، ولكن طغى عليها طابع الدعاية والوعظ، وكان رائد القصة القصيرة العربية بدون منازع هو أحمد رضا حوحو، فقد فهم دورها في التأثير على المجتمع بعيدا عن التعبير الأجوف

والتصنع، ومن آخر أعماله (نماذج بشرية) الذي صدر في تونس عن كتاب البعث، وجاء بعده قصاصون شباب أمثال عبد الحميد بن هدوقة والطاهر وطار وعثمان سعدي وأبو العيد دودو، وما يزال هؤلاء لم يحددوا تياراتهم الفكرية بعد، فمنهم من ينحو نحو الثورية الواقعية كسعدي ومن اختار الذاتية كوطار. ومن الواضح أن الركيبي يدعو إلى القصة الواقعية، (يجب أن تتجه (القصة) اتجاها ثوريا في التعبير والمضمون، في الشكل والمحتوى لأن الواقع يفرض هذا الاتجاه علينا) كما تفرضه القصة نفسها باعتبارها أداة للتعبير عن التجارب الشخصية، وقد أطال الركيبي في مدح الاتجاه الواقعي والقدح في الاتجاه الرومانسي أو الذاتي الذي يعتبره غير ثوري، ولأن رسالة القصة في نظره رسالة إنسانية، تفتح العيون على عالم الخير والحق والجمال، وتبعث الأمل والحياة، وقد صنف الركيبي قصصه في نفوس ثائرة بأنها قصص واقعية، بل من صميم الواقع و (واقع شعب في حرب دخل السنة الثامنة من كفاحه من أجل الحرية والكرامة الإنسانية). تحتوي المجموعة على إحدى عشر قصة هي: نوارة الصغيرة، وجود. ولكن، راعي الغنم، في المغارة، قصة لم تتم، وجد نفسه، اختار الطريق، الإنسان والجبل، صرخة في الليل، الواد الكبير، إلى البئر، وهناك قيم وخصائص مشتركة بين هذه القصص وهي كونها تعبر عن حياة منطقة أهل بسكرة، ومنهم المؤلف، فحياته الريفية واضحة في عدد من القصص، أما القيمة الأخرى المشتركة بين القصص فهي أنها - كما يقول المؤلف - قصص تعبر عن الواقع الثوري الذي تعيشه الجزائر، وهو واقع جديد طالما انتظره الشعب، وقد اتضحت أمامه معالم الطريق، طريق الحرية والاستقلال، والملاحظ أن القصص نشرت عشية الاستفتاء على الاستقلال وبعد وقف إطلاق النار (1).

_ (1) الدار المصرية، ط 1، شهر مايو، 1962.

الركيبي عن تطور القصة

الركيبي عن تطور القصة والركيبي من أبرز من اهتم بالقصة القصيرة، تاريخا ودراسة ونقدا أيضا. فقد جعلها موضوع رسالته للماجستير، وتناولها في مقالات ومداخلات في مناسبات مختلفة، وظل يتابعها في محاضراته ودراساته النقدية حتى بعد أن مال عنها إلى التخصص فى الشعر الدينى، ومن رأيه أن هناك مراحل مرت بها القصة الجزائرية بالعربية قبل أن تنضج وتستقر، فهي مثل كل فن جديد عرفت تطورا قادها من المقالة إلى الصورة إلى القصة الكاملة، ثم من القصة الرومانسية إلى القصة الاجتماعية والثورية أو الواقعية. ومن رأيه أيضا أن التيار الواقعي في القصة ظهر في عهد الثورة سواء كانت مكتوبة بالعربية أو بالفرنسية، غير أنها لم تتخلص نهائيا من الرومانسية حتى في العهد الأخير، والفرق في نظره بين القصة العربية والفرنسية يكمن في الشكل فقط، والمقصود بالشكل هنا هو اللغة المكتوبة التي كتبت بها القصة، أما المحتوى فهو واحد تقريبا، فالجميع يخاطبون الاستعمار، ويصورون آمال الشعب، ولعل الفرق أن القصة بالفرنسية توجه خطابها إلى الفرنسيين وإلى الخارج بينما تتحدث القصة بالعربية إلى القارى الجزائري والعربي على العموم، وقد حلل الركيبي مجموعة من الأعمال التي كتبها جيله في ميدان القصة وعبروا بها عن التيار الواقعي، كالجنيدي خليفة، وأبو العيد دودو، والطاهر وطار، وعبد الحميد بن هدوقة (1). وهذا التحليل لبدايات القصة وممثليها ومحتواها يظهر أكثر عند الركيبي في الدراسة التي خص بها مؤتمر كتاب المغرب العربي الذي انعقد في طرابلس (ليبيا) في مارس سنة 1969، وهي الدراسة التي نشرها في مجلة (القبس)

_ (1) الركيبي: القصة القصيرة في الأدب الجزائري المعاصر، دار الكتاب العربي، القاهرة، 1969، كتبنا عن هذه الدراسة في المجاهد الثقافي، عدد 5، ثم نشرنا ما كتبناه في (تجارب في الأدب والرحلة)، الجزائر، ط، 2، 2005، ص 127 - 128.

وتحدث فيها أيضا عن (القصة القعيرة الجزائرية وأثر الثورة فيها)، ومن رأيه أن القصة تطورت إلى أن وصلت إلى مرحلة النضج أو مرحلة الواقعية الثورية التي يبدو أن الركيبي من أنصارها، على الأقل عندما كتب بحثه، فقد نشأت القصة أواخر العقد الثالث من القرن العشرين، ولا نعرف من الذي دشن هذا العهد الحاسم في حياة فن هام من فنون الأدب الجزائري، غير أن هناك دواعي دفعت إلى اختيار هذا اللون من الأدب، منها السياسي ويعني به الاحتفال بمرور مائة سنة على الاحتلال، والوطني ويعني به ظهور الحركة الإصلاحية على يد ابن باديس ورفاقه العلماء، كما كان للإحساس بانتماء الجزائر العربي (العروبي) دور في دخول ميدان الواقعية، ومن رأى الركيبي أن وجود الازدواجية اللغوية في الجزائر قد عجل بظهور القصة العربية، كما أن الصراع بين الاستعمار والثقافة القومية (الإسلام واللغة العربية) كان له دور في التعجيل بظهور هذا اللون الأدبي الجديد. لقد ظهرت القصة عندئذ على يد أعضاء من الحركة الإصلاحية، ولكنها لم تظهر في شكل متكامل، بل ظهرت أولا في شكل مقالة أدبية أو اجتماعية فيها بذور القصة أو الحكاية، ثم تطورت إلى شكل لوحة أو صورة يطبع فيها القصاص فكرته بالقلم المصور للواقع دون تكلف ولا مراعاة للأصول والقواعد، فهذه الألوان كانت تمثل ما يشبه القصة ولكنها ليست قصة لها مقوماتها وأركانها وشخوصها، لقد كان اهتمام الأدباء عندئذ منصبا على الشعر وليس على القصة أو حتى المقالة السيارة أو الخبرية فما بالك بالقصة الفنية، وقد شجع الاتصال بالمشرق العربي عن طريق زيارته والدراسة فيه وقراءة أدبه في المجلات الشهيرة وتتبع معاركه القلمية - شجع على اكتشاف الجزائريين للقصة فدخلت حياتهم الأدبية ولكن بالتدرج. من رواد هذه المرحلة المبكرة (أو المتأخرة بالنسبة للقصة في أوروبا والمشرق العربي) محمد بن العابد الجلالي، وأحمد رضا حوحو وعبد المجيد الشافعي والحفناوي هالي وأحمد بن عاشور والهاشمي التجاني ومحمد الشريف

الحسيني، فهؤلاء الكتاب هم الذين مهدوا - حسب الركيبي - لظهور القصة الفنية وتمثلوا علل الشعب وأمراضه الاجتماعية. ويبدو أن هذا العهد قد طال، فتحن نجد الركيبي لا يذكر مرحلة أخرى بعده إلا أوائل الخمسينات من القرن العشرين أي أن المرحلة الأولى قد استغرقت ثلاثة عقود تقريبا، لأن الأسماء التي ذكرها كلها تقريبا أعطت ما عندها خلال هذه العقود. أما خلال الخمسينات، وبالخصوص منذ بداية الثورة، فقد ظهر تيار رومانسي جديد شمل الشعر والقصة وبعض الألوان الأدبية الأخرى، ولكنه ما لبث أن ترك الساحة إلى تيار جديد، وهو التيار الواقعي، وخصوصا منذ اندلاع الثورة التحريرية، وهكذا فإن الفضل في رأي الركيبي في ظهور القصة الفنية الواقعية يرجع إلى الثورة التي أحدثت طفرة ونقلت القصة من الموضوعات (المادية المستهلكة إلى المضامين الثورية المعبرة عن الواقع الجديد،) ولا ندري ما المقصود بالمادية هنا؟ وعلى كل حال فإنه في هذه المرحلة استكملت القصة أدواتها وأشكالها وعناصرها الفنية، فاهتمت بالإنسان ونضاله ضد قوى الشر وأصبح لها رسالة إنسانية ووطنية واضحة، وقد حقق القصاص الجديد هذا الهدف عن طريق (الفن المهموس لا بالصراخ، وبالإيحاء لا بالتصرح ....) وببساطة أصبح الجبل بطلا رئيسيا في قصص الثورة، ينطق وينفعل وليس مجرد حجارة صماء. ولعل الركيبي يشير بالواقعية الجديدة إلى الظاهرة الأدبية التي شاعت في الخمسينات في الأدب الاشتراكي أو التقدمي، وهي ظاهرة الالتزام، ومن ثمة تناولت القصة العربية الجزائرية موضوعات مثل: الاغتراب، والهجرة، والقهر الاستعماري، وصورت معاناة الفلاحين ومشاركة المرأة في الحياة العامة، كما تناولت الجندي الذي فر من جيش العدو إلى جيش التحرير الوطني، ونحوها من الموضوعات الجديدة، كما تبلورت في هذه القصة مفاهيم الوطنية والفداء

والتضحية والتوق إلى الحرية، وأصبح بطل القصة هو الإنسان العادي، وعبرت القصة عن التفكير الجماعي وعن روح التفاؤل بالانتصار، وتعددت أشكال القصة فهي تارة رسالة، وتارة حوار داخلي أو ما يعبر عنه أحيانا بتيار الوعي، واستعملت الرمز والإيحاء، والوحدة العضوية. وضرب الركيبي على ذلك مثلا بالقصص التالية التي توفرت في رأيه على المقومات الفنية المطلوبة، ونلاحظ أن هذه القصص كتبت كلها أثناء الثورة وطبعت خارج الجزائر، وأنها صورت نضال الشعب الجزائري في الموضوع والمضمون والشكل تصويرا واقعيا، في نظره، من ذلك الأشعة السبعة لعبد الحميد بن هدوقة، ودخان من قلبي للطاهر وطار، وبحيرة الزيتون لأبي العيد دودو، ونفوس ثائرة لعبد الله ركيبي ... ورغم الحماس الذي أبداه الركيبي للتحول الجديد الذي شهدته القصة. فإنه استدرك قائلا إن ما سبق لا يعني توفر القصة في العهد المقصود على كل الخصائص الفنية، ولكنها قد خطت خطوات جديدة نحو الكمال واقتربت من النضج، فالنماذج التي ذكرها لم تتخلص نهائيا من الخطابية ومن التعبير المباشر، ومن جهة أخرى رد على بعض الدوائر العربية في المشرق التي تدعي أن القصة الجزائرية لم تظهر إلا في الأدب المكتوب بالفرنسية متناسية أن للجزائر أدبها المكتوب بالعربية والمتوفر على جميع العناصر الفنية. أما بالنسبة للأدب الجزائري المكتوب بالفرنسية فإن الركيبي يرى أن التعبير السائد فيه هو الرواية وليس القصة، أو بتعبير آخر طغت فيه الرواية على القصة، ومن رأيه أن القصة عند الكتاب بالفرنسية بقيت غير واضحة المعالم باستثناء مجموعة (في المقهى) وبعض الأعمال الأخرى لمحمد ديب (1).

_ (1) الركيبي، مجلة القبس، عدد 5، مارس، 1969، ص 83 - 91 وكذلك فصل عن الأدباء الذين كتبوا بالفرنسية في هذا الكتاب.

تجارب في القصة

تجارب في القصة والواقع أن الشعور بالحاجة إلى أدب قصصي له مقوماته قد ظهر مبكرا. ربما قبل الثورة نفسها، وقد كتبت شخصيا تجربة قصصية بعنوان (سعفة خضراء)، وأعلنت أن أدب القصة فن جديد وأنه مفقود في بلادنا وأنه قد آن الأوان لطرقه. وقد رحب النقاد بهذه التجربة، ومنهم الركيبي نفسه، ولا شك أن غيري ربما قد حاول ذلك أيضا دون أن ينشره، ولكن قصة واحدة لا تدل على تيار أو على ظاهرة كاملة (1). أما عمار النجار فقد تقدم خطوة أخرى حين أعلن سنة 1956 أن في الجزائر (بذور قصصية في مقالات) بعد أن قرأ (جناية أب) لزهور ونيسي و (مشروع في مقهى) لمحمد شهرة، (فقد لاحظ أن كلا العملين يحتوي على (بذور) القصة ولكنهما كتبا في شكل مقال رغم أنهما يمثلان قصة قصيرة، دعا السيد عمار النجار، مستفيدا من كتابة حسين مروة اللبناني الذي عالج خصائص القصة القصيرة وتحدث عن أشخاصها، فقال إنهم يتحركون ويتحدثون معنا وأمام أعيننا وأن الكتابة الجيدة تجعلنا نحس كأن هؤلاء الأشخاص هم جزء منا ويتعايشون معنا، لذلك دعا النجار إلى الاهتمام بالقصة في الجزائر وبأشخاصها وفنياتها، أما ما قرأه النجار في هذا الشأن بالجزائر فلا يعدو أن يكون مقالات قصصية، وقد خاب ظنه حين اعتقد أنه سيجد في المقالين المذكورين قصتين لهما خصائصهما الفنية (2). زهور ونيسي ورصيفها النائم توفر لزهور ونيسي ما لم يتوفر لغيرها من النساء والرجال، فهي بنت حاضرة قسنطينة محتدا وثقافة ومعاصرة، ولدت فيها سنة 1936، في حي من

_ (1) انظر قصة سعفة خضراء في البصائر 21 مايو، 1954. (2) البصائر 351، 27 يناير 1956.

أحياءها الفقيرة ولكنه حي غني بالتقاليد والإرث الحضاري العربي الإسلامي. كان بزوغ نجمها أيام شروق شمس ابن باديس وحركة الإصلاح في قلب قسنطينة، فكان تعلمها حسب هذه الشحنات التي تلقتها وهي صغيرة فصادفت قلبا فارغا فتمكنت وظلت معها إلى اليوم، وما كادت تبلغ الرابعة حتى أفلت شمس ابن باديس، وركعت فرنسا على ركبتيها أمام النازية، وعندما أخذت تعي أوليات الحياة جرت بإقليم قسنطينة حوادث الثامن مايو فتركت ندوبا في كل بيت، وقد وجدتها الثورة بنتا في مرحلة المراهقة، ومع ذلك ظهر قلمها مبكرا على جريدة البصائر التابعة لجمعية العلماء. بدأت زهور ونيسي تكتب في هذه الجريدة مقالات اجتماعية وصورا قصصية من واقع الحياة الذي كانت تعيشه أو تشاهده في الشارع والمدرسة والسوق وبيوت الفقراء والأغنياء على السواء، وكانت قسنطينة أوائل الخمسينات تعيش حركة ثقافية وتعليمية لم تشهدها مدينة أخرى في الجزائر، ففيها مدرسة التربية والتعليم، ومعهد ابن باديس، والمعهد الكتاني، والمدرسة الفرنسية - الإسلامية، وفيها صحيفة (النجاح) و (الشعلة)، إلى جانب عدد من الصحف والمدارس والنوادي الأوروبية، وفي قسنطينة أيضا كان هناك نادي الاتحاد الإسلامي باتجاهه الوطني الإصلاحي، ونادي صالح باي العتيق، وجمعية المزهر القسنطيني بقيادة أحمد رضا حوحو ... وكل هذه المراكز قد أثرت على الفتاة زهور ونيسي، وهي تستقبل ربيع الحياة وربيع الثورة والحرية. وكان عملها (الرسمي) هو التعليم الذي صعدت منه إلى الكتابة وإلى المجتمع ثم إلى السياسة والقيادة. بعد الاستقلال جمعت ما عندها من قصص وقدمتها للنشر، فكانت أول امرأة تشق طريقها، وبخطى سريعة، نحو النشر ومزاحمة الرجال في إنتاج القصة والرواية والمذكرات، فصدر لها الرصيف النائم، وعلى الشاطى الآخر، ومن يوميات مدرسة حرة، وغيرها، كما زاحمت الرجال في الوزارة والنيابة في البرلمان، وعضوية اتحاد الكتاب وغير ذلك من المناصب العليا، دون الحديث

عن الاتحاد النسائي وإدارة مجلة المرأة الجزائرية، وحين نشرت بعض أعمالها الأدبية وجدت من قدما لها تقديما يليق بها كامرأة جزائرية دخلت ميدانا خاليا من النساء، فقد نوهت بأعمالها الدكتورة سهير القلماوني الأكاديمية المصرية المعروفة، وتلميذه طه حسين المدللة، ونوهت بها كذلك الدكتورة بنت الشاطى (فاطمة عبد الرحمن) المؤلفة والأستاذة المصرية المعروفة أيضا، فكان هناك نوع من الحلف النسائي الجزائري - المصري وراء ظهور الرجال، ولعل الأستاذتين المصريتين كان في ذهنيهما أن زهور ونيسي هي هدى شعراوي الجزائرية، أما الرجل الذي دخل على الخط وقدم زهور ونيسي إلى القراء فهو الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي الذي أشاد بمذكراتها كمعلمة في إحدى المدارس الحرة أيام الثورة، وما قامت به من خدمة للجزائر وآدابها وحركتها الوطنية (1). دعنا نستعر هنا ما كتبناه عن مجموعة (الرصيف النائم) سنة 1968، فمنذ البداية ذكرت زهور ونسي أنها لا تريد إعطاء تعريف للقصة، وكأنها كانت تتهرب من ذلك لتترك الأمر للنقاد والدارسين، وقد اعترفت أنها بدأت الكتابة بالمقالة قبل القصة، كان ذلك نتيجة علاقتها بالتربية والتعليم ومعرفة النفس البشرية، وهكذا تسلحت ثم بدأت تخوض الميدان، وهي لا تكتم القارى أنها بنت محيطها الاجتماعي والثقافي وأنها متأثرة بمبادى الحركة الوطنية والحركة الإصلاحية، كما أنها تعلمت من الثورة النشاط ومشاركة الآخر، وكيف تكون - مع كل تلك المعطيات - مع المتمسكين بالتقاليد أو المؤمنين بالبرجوازية، وهي تعيش عصرا جديدا تميز بالإيثار والعمل الجماعي لتحرير الوطن. أما عن قصصها فتصفها بالبسيطة بساطة الشعب، وأنها (قطع نابضة وصور حية تبرز بعض جوانب ملحمة الثورة .. وتجسمها بكل ما فيها من أبعاد وإعجاز وأساطير)، وتصف قصتها (عقيدة الإيمان) بأنها (أول محاولة لي

_ (1) من يوميات مدرسة حرة، سنيد، الجزائر 1978.

الحبيب بناسي

وضعت بأسلوب قصصي)، وهي قصة واقعية تروي حوادث حقيقية وقعت لأناس (ما زالوا يجترون الحياة)، أما قصة (فاطمة) (فهي قصة كل امرأة جزائرية .. المرأة التي عاشت حقا ثورة أول نوفمبر بكل ما فيها من أبعاد)، وهكذا تصف زهور ونيسي قصصها الواحدة تلو الأخرى، وهي تتساءل مع قصة (الرصيف النائم) (أصحيح يوجد ... في أرض الجزائر على مدى خمسة أجيال رصيف نائم) والجواب هو: لا، إن أرصفة الجزائر لم تعرف إلا (الضجيج والصراخ والعويل والانفجارات) (1). الحبيب بناسي ولعل (صرخة القلب) للحبيب بناسي تدخل ضمن هذا القصص السردي أو المقالة القصصية، فقد نوه محمد منيع بالصرخة وعرضها على القراء وقال إن المؤلف بذل جهودا شاقة، وبكى وحن إلى الوطن وواجه الحيرة والألم، لأنه جاء من غربة وحل بوطن مضطرب وتألم لأمته المعذبة، ولكن السيد منيع لم يصف لنا الكتاب ولا محتواه فبقي محتواه غامضا على من لم يقرأه، كما أنه لم يتحدث عن حجمه ولا مكان صدوره (2). وقد واصل الحبيب بناسي فنشر قصصه الحيوية الجميلة في تونس بعد اختفاء البصائر وتفرق قراؤها وكتابها على الصحف الأخرى، ومنها الصحف التونسية أيام الثورة، فنشر بناسي ثلاث قصص في جريدة الزيتونة بتونس سنة 1956، ومنها مأساة أسرة، وشهيد بلا قبر، والدكتور الشهيد، ولا ندري الآن مواضيع هذه القصص التي يبدو أنها من وحي الثورة، كما أننا لا ندري ما مصير

_ (1) أصل هذه الكلمة منشور في مجلة القبس، عدد 9 - 10، أفريل - مايو 1968، وأيضا في كتابنا تجارب في الأدب والرحلة، ط 2، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 2005، ص 143 - 144. (2) البصائر 334، 23 سبتمبر 1953.

عثمان سعدي وابن عيسى

الأديب بناسي نفسه، فقد تلاشت أخباره وسط ضباب المعركة (1). وقد وجدنا لبناسي قصة في مجلة هنا الجزائر عنوانها طويل وعاطفي وهو: صراع بين العاطفة والعقل أو دمعة القلب الجريح، وهي قصة غرامية حزينة ذات حب أفلاطوني، تنتهي بمأساة (2). وكان نقد القصة ما يزال في أوله كما كانت كتابة القصة نفسها ما تزال في أولها، فالشيخ حمزة بوكوشة قدم مجموعة (صاحبة الوحي وقصص أخرى) لأحمد رضا حوحو تقديما محبذا مستحسنا، قائلا إنها تحتوي على تسع قصص وإنه قرأها كلها وأعجب بها، وإن القراء في حاجة إلى قراءة فن القصة لقلتها عتد الجزائريين، وقد سبق هذا الكلام الإعلان عن قرب صدور هذه المجموعة القصصية التي تضم قصصا اجتماعية وأدبية مزينة بالرسوم (3)، ونفس المجموعة نقدها وقدمها للقراء مولود الطياب في مجلة هنا الجزائر؟ ونشرت المجاهد قصة دون أن تنسبها إلى أديب بعينه، وعنوان هذه القصة (ما بين الزنزانة والمقصلة) مع عنوان فرعي لها هو (من أعماق بربروس) مما يوحي بأن القصة مرسلة أو كتبت في سجن بربروس، ولا نعرف حتى الآن اسم (الكاتب الجزائري) المسكوت عنه، ويبدو أن القصة غير مترجمة عن الفرنسية وأنها أصلا مكتوبة بالعربية (4). عثمان سعدي وابن عيسى عثمان سعدي من الأدباء المبكرين في ميدان القصة القصيرة، فمنذ الخمسينات نشر عدة قصص في مجلة الآداب، وكانت قصصا تدل على نضج

_ (1) الجابري، النشاط العلمي، ص 369، جاء في موسوعة العلماء أن بناسي قد مات شهيدا. (2) هنا الجزائر 58، أكتوبر 1957. (3) البصائر 297، وأيضا البصائر 285. (4) المجاهد 32، 8 ديسمبر 1958.

أبو العيد دودو

وامتلاك لأدوات الكتابة في هذا الفن الأدبي الجديد، وهو من الذين عاصروا تطور القصة في المشرق، وكان أديبا واعدا في هذا الميدان لولا انجذابه إلى السياسة والدبلوماسية، فقد نشر عندئذ قصصا منها: اثنتان وثلاثون طلقة، والشيخ حداد، والثلج والشرف، وتحت الجسر المعلق، والأخيرة هي نفسها القصة التي جعلها عنوانا لمجموعته القصصية التي نشرها بعد الاستقلال، وهي مجموعة تضم سبع قصص، وقد أشرت إلى ما نشر منها خلال الثورة في دراستي عن (الثورة الجزائرية في مجلة الآداب) التي نشرتها هذه المجلة في الذكرى العاشرة لاستقلال الجزائر على ما أذكر، ولعثمان سعدي لغة واضحة وقوية، وموضوع قصصه هو الواقع الجزائري أثناء الثورة وخلفيات الفقر والحرمان الذي خلفه الاستعمار الفرنسي، فقصصه تمثل صفحة هامة من الأدب الواقعي الهادف بلغة ذلك العهد، وهي تعبر أحيانا عن تجارب شخصية عاشها المؤلف نفسه، وكدلالة على ذلك كتب العنوان الفرعي للمجموعة: قصص مستوحاة من واقع الثورة الجزائرية (1). أما حنفي بن عيسى فقد نشر في مجلة الآداب خلال الثورة القصص التالية: في حي القصبة، وعائدون، والشمس لا تشرق من باريس (2). أبو العيد دودو حل أبو العيد دودو بالنمسا بعد أن انتهى من دراسته في بغداد، ومن النمسا أخذ يكتب القصة والمقالة ويرسل بإنتاجه إلى صحف تونس لأنه لم يبق في ساحة الجزائر غير الصحف الموالية للإدارة الاستعمارية أو الصادرة عنها، واستمر دودو ينشر إنتاجه على قلته - من تونس، فنشر في الندوة والفكر والصباح، إلى يناير 1965، حسبما ذكر الباحث الجابري، وبذلك قدم دودو

_ (1) عثمان سعدي، تحت الجسر المعلق، ش، و، ن، ت، الجزائر، 1982. (2) عن هذه القصص انظر دراستنا المشار إليها في مجلة الآداب، وكذلك في كتابنا تجارب في الأدب والرحلة، ويغلب على الظن أن القصة من كتابة ابن تومرت (مفدي زكرياء).

الطاهر وطار

إلى الصحافة التونية قصصا ومقالات وترجمات، كما نشر بعض إنتاجه في مجلة الآداب اللبنانية، ويهمنا هنا إنتاجه القصصي ومنه: نضال، والعودة، وجاء دورك، وانتظار، والحلم، والفجر الجديد، والحبيبة المنسية، والغالب أن بعض هذه القصص ظهر في مجموعته الأولى (بحيرة الزيتون) (1). الطاهر وطار من رواد القصة والرواية بلا منازع الطاهر وطار الذي قطع بهذا الفن الجسر الصعب، وقد نضجتا على يديه حتى تفوق إنتاجه في هذا الميدان على إنتاج معاصريه حتى المكتوب باللغة الفرنسية، بدأ الطاهر وطار مشواره الأدبي أيضا من تونس حوالي سنة 1956 حيث تجمعت نخبة جزائرية مثقفة بالعربية والفرنسية وتبارت في الإنتاج الوطني الثوري، فتخلف من تخلف إما عجزا وإما موالاة للإدارة الفرنسية لأن المرحلة فرضت هذا التمايز والفرز، فكان وطار في الضفة اليسرى من النخبة الثورية، وقد استمر في العطاء والإبداع إلى حوالي 1962، ولكن الذين تابعوا إنتاجه بعد الاستقلال يعرفون أن معظم رواياته ظهرت في هذه المرحلة (بعد الاستقلال) وأن عهده الأول تميز بكتابة القصة القصيرة والمسرحية والمقالة، فقد نشر عدة مقالات وقصص في جريدة الصباح التونسية بين 1956 و 1962، وظهرت له بعض المسرحيات في مجلة الفكر سنة 1960، كما نشر في جريدة العمل مسرحيات أخرى، وحسب الجابري فإن وطار نشر ما يقارب خمس مسرحيات في مجلة الفكر وحدها، منها: الأميرة، والهارب، وعلى الضفة الأخرى وكل منها في حلقتين أو ثلاث (2). وإذا عدنا إلى أوليات وطار وجدناه من مواليد مداوروش (بلد أبوليوس أو مضور كما سماها الطياب)، أثناء دراسته في معهد عبد الحميد بن باديس، تأثر بمجتمع قسنطينة المختلط الطبقات والنفوذ، فشعر فيه بالاغتراب سيما

_ (1) الجابري، النشاط العلمي ص 387 - 388. (2) الجابري، النشاط العلمي ص 423 - 425.

صور من البطولة في الجزائر

عندما وجد نفسه أمام الجاليات الأجنبية (المستوطنين)، وربما لم يكن هو بدعا في ذلك بل كان يشاركه كل أبناء الجزائر القادمين من الريف، فكلهم كانوا يشعرون بالغربة في وطنهم، وهو الأمر الذي دفعه إلى أن يتجه إلى تونس حيث الحياة الأدبية مزدهرة نسبيا وحيث المجتمع عربي اللسان والطبع في منسجم مغ بعضه ولا يحس معه الجزائري ابن الريف بالغربة، وفي تلك الأثناء نشرت له أول قصة لا نعرف ما هي، ولكننا نعرف أن تونس كانت تتوفر على وسائل النشر بالعربية أكثر من الجزائر، كما كانت تتوفر على الصحف والمجلات المحلية أو الوطنية وعلى الدوريات القادمة من المشرق العربي والتي كانت الجزائر محرومة منها، ويعترف الطاهر وطار أن الثورة الجزائرية هي التي فجرت فيه شرارة الإبداع الأبي والروائي بصفة خاصة، وقد قال إنه لولا الثورة لما خرج من قريته ولما كتب ربما حرفا ولما أصبح مناضلا برؤية جديدة يطغى عليها الأمل في المستقبل، ولعله في هذه المشاعر يعبر عن جيل كامل من المثقفين الجزائريين (1). صور من البطولة في الجزائر مجموعة قصص كتبها فاضل المسعودي ومحمد الصالح الصديق من وحي الثورة التحريرية ومحيطها وصدرت سنة 1957 بطرابلس (ليبيا)، ومعظم القصص مكتوبة خلال السنة التي قبلها، وهي مهداة إلى أرواح الشهداء، والشرفاء و (المناضلين من أجل السلم والخبز والحرية (وإلى (رافعي السلاح والقلم والريشة،) ولذلك قلنا إنها من وحي الواقع بكل جدارة، بما في ذلك معاداة الغرب المعتدي والاستعمار وترديد شعارات اليسار، وقد قدم للمجموعة السيد يوسف القويري فقال إن الأدب يقاوم كما يقاوم الإنسان وإنه يقف إلى جانب القاعدة الشعبية، ولذلك فإن القصص التي يقدمها تفوح رائحة البارود أيضا.

_ (1) الشروق اليومي، 10 مارس 2005.

عبد الحميد بن هدوقة

كتب محمد الصالح الصديق بعض القصص من المجموعة منها امرأة من آيت خلفون، وهي امرأة تنتزع الحب والعطف لبطولتها، فهي أم فدائية التحقت بزوجها في الجبل وأما قصة الساعة الخامسة فتجعلك تؤمن بأن للثورة إرادة لا تهزم أبدا وأن الاستعمار لا يمكنه أن يحمي الخونة إذا قررت الثورة تصفيتهم في ساعة محددة (الساعة الخامسة) ولو اختبأ الخائن منهم وراء قضبان السجن الفرنسي. أما المسعودي فقد استعمل طريقة المونولوج الداخلي في قصة مليكة ورسم له أدق الظلال، وفي بعض القصص تبدو المشاهد قاسية حيث تقتل الأخت أخاها الخائن لأنها تفضل الشعب والوطن عليه، وتضم المجموعة إحدى عشرة قصة، سبعة منها كتبها الصديق وأربعة كتبها المسعودي (1). عبد الحميد بن هدوقة عبد الحميد بن هدوقة أحد أبرز كتاب القصة والرواية في عهد الثورة وما بعده، بدأ نشاطه في مسقط رأسه (المنصورة) حيث ولد سنة 1929 ثم انتقل إلى قسنطينة فدرس في معهد الكتانية التابع للطريقة الحملاوية (الرحمانية)، وبذلك يكون قد نشأ نشأة ريفية صافية، وهو ابن الهضاب العليا الطيبة بهوائها وجمالها واتساعها، وقد سجل أحداث تلك المنطقة في أدبه فكان أدبه أدبا أصيلا .. سافر إلى فرنسا وأقام في مرسيليا فترة عندما كان عمره سبع عشر سنة. فتأثر بالبيئة الفرنسية عن قرب وعاشر المهاجرين الجزائريين وشاركهم معاناتهم قبل الثورة، وقد بقي في مرسيليا إلى سنة 1949 بحيث قضى سنوات الحرب هناك، ولعله اختزن من تلك الفترة آثار سقوط النظام الفرنسي وحكم فيشي

_ (1) ط، طرابلس، المطبعة الحكومية، 1957، وجدت على غلاف النسخة التي عندي أن الشيخ م، ص، الصديق قد أهداني إياها في 21 أوت 1960، ولكن المكان غير مذكور، وهو قد يكون تونس حيث حضرت انعقاد المؤتمر الرابع لاتحاد الطلبة، أو طرابلس حيث كان الشيخ الصديق يعمل في مكتب الجبهة.

واحتلال الألمان لباريس، وقارن ذلك بما كان يجري في بلاده على يد الاستعماريين .. وبعد رجوعه إلى الجزائر التحق بالكتانية حيث بقي عاما، قبل أن يلتحق بجامع الزيتونة بتونس، هذه التحركات التي قام بها بين البلدان الثلاثة ما زلنا لا نعرف دوافعها، فهل هي دوافع مادية أو تعليمية أو هي مجرد صدفة ومغامرة؟ بقي ابن هدوقة أربع سنوات في تونس حيث درس الأدب والفنون الدرامية في المعهد الخاص بذلك، وربما كان في هذه الأثناء عضوا في حزب الشعب. وعلى كل حال فقد ترأس جمعية الطلبة الجزائريين في تونس، ثم رجع إلى الجزائر عام الثورة وفي قسنطينة قام بتدريس الأدب في المعهد الكتاني، ولما كان عضوا في الحركة النضالية فقد أحس بيد الاستعمار تتبعه، فسافر إلى فرنسا من جديد في نوفمبر 1954، واهتم فيها بالأدب والإنتاج الدرامي، فأخذ يكتب المسرحيات التي كانت تذاع في المحطات المتوفرة التي ربما منها الإذاعة الفرنسية بالعربية، ويقال إنه عمل مخرجا في هذه الإذاعة أيضا، وفي سنة 1958 التحق بتونس من جديد وتفرغ للأدب وكتب تمثيليات عديدة وعمل في الإذاعة التونسية. ومن نتائج عمله في هذه الأثناء كتابة المجموعة القصصية (الكاتب وقصص أخرى) التي عبر فيها عن معاناته، وبعد الاستقلال رجع إلى الجزائر واشتغل في الإذاعة الوطنية، وتابع العمل الأدبي فصدرت له المجموعات القصصية التالية: ظلال جزائرية، والأشعة السبعة، وأهم أعماله الروائية: ريح الجنوب، ونهاية الأمس، وبان الصبح، وظهر له في الشعر (الأرواح الشاغرة) التي تذكرنا بكتابات جبران والتي تحتوي على الشعر المنثور. وله في النثر (الجزائر بين الأمس واليوم)، ومن الملاحظ أن ما صدر له في عهد الثورة هو مجموعاته القصصية، أما رواياته فقد صدرت بعد الاستقلال، ولذلك فهي خارج موضوعنا هنا (1).

_ (1) أحمد دوغان، شخصيات من الأدب الجزائري .. م، و، ك، الجزائر، 1989، ص 118 =

ويذكر الجابري أن ابن هدوقة نشر في تونس بعض المقالات والقصص. فمن قصصه: هبهاب الكذاب في أربع حلقات في مجلة الإذاعة التونسية ابتداء من مايو 1959، كما نشر في نفس المجلة: بائع التذاكر، وزيتونه الحب، والضفدع والثعبان، ولن أبني للخراب، من 30 مايو، 1959 إلى 2 أكتوبر 1961 - كما نشر مقالات في جريدة الصباح (1). إن حياة عبد الحميد بن هدوقة حياة أديب قضى عمره في البحث عن وسيلة يثبت بها هوية الجزائر، وقد وجدها في الأدب عامة والقصة والرواية خاصة، ولا ننسى أن ابن هدوقة شارك في الحياة الثقافية بتوجيه الإنتاج الأدبي، بما فيه الإذاعي، وتولى عدة مسؤوليات، منها مدير الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، وربما كان مسؤولا على فرز الإنتاج الإذاعي والتلفزيوني بعض الوقت، ويبدو أنه كان يعاني من أمراض عديدة، ولكنه كان مثل أبو العيد دودو، يعمل في صمت إلى أن رحل كل منهما في صمت أيضا، وأشهد أنني تعرفت عليه في تونس أيام الطلب وكنا ننتمي إلى جمعية الطلبة، ولكننا لم نحتلط كثيرا، ثم عرفته عن كثب بعد الاستقلال مسؤولا وكاتبا، فكان نعم الإنسان والأديب. بقي أن نقول عن القصة والقصاصين إن تونس كانت المشتلة التي أنبتت شجيرات هذا النوع الأدبي الجميل، وهو القصة .. بدأ بعض الأدباء الجزائريين حياتهم فيها وواصلوها حتى بلغوا شأوا عظيما في القصة والرواية مثل وطار وابن هدوقة ورشيد بوجدرة، وبعضهم بدأ هذه الحرفة النبيلة ثم مال عنها إلى

_ = - 120، بعض المعلومات عن حياة ابن هدوقة ما تزال غير دقيقة: ففي مصدر آخر أنه ولد 1925، ودرس العربية على والده والفرنسية في المدرسة الابتدائية الفرنسية وأنه درس في الكتانية أولا، ثم في سنة 1949 سافر إلى مرسيليا ونال شهادة الإخراج الإذاعي هناك، وأن أول عمل أدبي له هو (حامل الأزهار) - وهو عمل شعري صدر سنة 1952، أين؟ وقد توفي 12 أكتوبر 1996، راجع الشروق اليومي، 22 نوفمبر 2004. (1) الجابري: النشاط العلمي ص 369 - 370.

قصاصون آخرون

الدراسة والمقالة مثل عبد الله ركيبي والجنيدي خليفة، وهناك من بدأها ثم توقف لأسباب طبيعية كالوفاة مثل عبد الملك بوصبيع، فهذا الرجل (الطالب) قد نشر قصتين في جريدة الصباح التونسية، ربما سنة 1956 أو سنة 1957 قبل أن يتلقفه الموت فجأة (1). قصاصون آخرون وفي هذه الفترة نشرت جريدة (المجاهد) قصة قصيرة - على غير عادتها - بعنوان (الضفدعة الشهيدة) وردت فيها رموز عديدة ترجع إلى سنة 1830، منها أن الجنود الفرنسيين قتلوا الضفدعة ليلا لأنها كانت تقلقهم بنقيقها المتواصل، كما قتلوا الحارس، وهو حارسهم، ليلا أيضا خوفا ورعبا منه، كانوا يستريحون بالمكان أثناء إحدى الغارات، ومن الرموز التي أوردتها قصة الضفدعة الشهيدة المسجد والضريح الواقع فوق ربوة، وهو ضريح أحد الأولياء، والولي هنا هو الضفدعة نفسها التي أصبح السكان يعتقدون أنها مقدسة وولية صالحة قتلها الكفار، لكن والد الفتاة، وهي صديقة الجندي الثوري، حكى لها أصل الحكاية أي أنها ضفدعة وليست ولية، وتقدم هذه القصة مشهدا للصداقة والشعور بالحب المتبادل بين الجندي والفتاة كما تقدم أسلوبا جميلا في القصص الأدبي، وقد أخذت القصة صفحة كاملة من المجاهد، كما أنها نشرت بدون توقيع ولا إشارة إلى أنها موضوعة أو مترجمة (2). كما نشرت المجاهد قصة عنوانها (من الأدب الثوري)، وهي ليست قصة جزائرية على كل حال، وكان الهدف من نشرها هو إعطاء نموذج من الأدب الصيني أو الفيتنامي الثوري، وكانت تنشر أحيانا قصصا معربة من الأدب الجزائري المكتوب باللغة الفرنسية، أما لجوءها إلى نشر قصص من الأدب الأجنبي فهي عادة تريد به نموذجا من الأدب الريفي يخدم الثورة لأنه يتحدث

_ (1) الجابري، النشاط العلمي ... ص 370. (2) المجاهد 51, 21 سبتمبر 1956.

اضطهاد أدباء العربية

عن المعاناة ثم اختيار الثورة طريقا للخلاص من الاحتلال والظلم، كما حدث في الصين والفيتنام (1). في مجلة هنا الجزائر ظهرت عدة قصص بعض أصحابها معروف والآخر يبدو أنه كان يحمل أسماء مستعارة، كانت القصص عادة اجتماعية أو دينية بعيدة عن السياسة والثورة، من ذلك قصة مالك واري (أضحية العيد) التي يبدو أنها مترجمة عن الفرنسية لأن كاتبها لا يكتب بالعربية (2). ومن جهتها نشرت فتيحة مازيغي قصة موجهة للأطفال باسم (الزبير أو الطفل الرشيد)، سنة 1956، وظهر اسم هذه الكاتبة مع عدة قصص في نفس المجلة، ولكن هل هذا هو اسمها الحقيقي؟ ومن جهة أخرى نشر الباهي فضلاء قصة بعنوان (اليتيم) (3). وأسهم الطاهر فضلاء في القصة إلى جانب المسرح، وكانت مساهمته في القصة تتمثل في كتابتها على أصول تدخلها عالم الصنعة، من ذلك قصة (راشد القافلة)، وهي قصة رمزية تصور نوم الجزائر سياسيا واجتماعيا وظهور ابن باديس وحركته باعتباره موقظا وهاديا وقائدا للقافلة (4). اضطهاد أدباء العربية وفي هذه الأجواء لم يكن أدباء اللغة العربية أسعد حظا من زملائهم، فقد تعرضوا لمختلف أنواع الاضطهاد البدني والنفسي، دخل مفدي زكرياء السجن ثم هرب منه ورضي بالمنفى والغناء لقادة المغرب وتونس تحت راية وحدة المغرب العربي، وكاد يصمت محمد العيد وأحمد سحنون عن الشعر لأن

_ (1) عواطف عبد الرحمن، الصحف العربية، ص 140 - 141، وكذلك المجاهد 33، ديسمبر 1958. (2) هنا الجزائر 88، يونيو 1960. (3) هنا الجزائر 43 - 44، فبراير / مارس 1956. (4) هنا الجزائر 54، مارس - أبريل 1957.

كليهما كان خاضعا للقمع الأول تحت الإقامة الجبرية والثاني في غياهب السجن، واغتيل الأدباء حوحو وبوشامة والعقون والعمودي والزاهري ... ولكن الساحة لم تبق فارغة فقد حل بها جيل جديد في قامة من كنا نصفهم والذين رفعوا الراية في الشعر والقصة والرواية والمقالة في محافل تونس والمغرب والمشرق العربي .. ومع ذلك فأغلبهم بقي يدور في فلك النظام الجديد الذي قام بعد الاستقلال بأطيافه المختلفة، ولم يصعد إلى العالمية منهم سوى اثنين أو ثلاثة، أما الآخرون فقد جنى عليهم الحزب الواحد الذي انتموا إليه عن خوف أو طمع، فظلوا يدورون في فلكه ويتنفسون برئتيه، والحزبية والتحزب قيد للفكر والأدب، وهو القيد الذي تخلص منه أغلب أدباء التعبير بالفرنسية.

الفصل التاسع الشعر

الفصل التاسع الشعر المصادر في العدد الخاص من مجلة آمال التي كانت تصدر عن وزارة الثقافة عدد عنوانه نماذج من الشعر الجزائري المعاصر، شمل مجموعة من الشعراء المخضرمين ومن الجيل الجديد، وتطول القائمة لو ذكرناهم جميعا بأسمائهم هنا، ولكن ميزتهم أن منهم من عاش حتى شهد نيران الثورة ومن عاش حتى ذاق حلاوة الاستقلال. ومن المصادر أيضا كتاب أناشيد للوطن الذي جمعه ودرس نصوصه الأمين بشيشي، ثم الثورة في الأدب الجزائري لصالح مؤيد، وشخصيات من الأدب الجزائري لأحمد دوغان، والشعر الجزائري الحديث لصالح خرفي، والشعر الجزائري الحديث لمحمد ناصر، وحديث الشبوكي عن نشيده (جزائرنا) في جريدة المجاهد الأسبوعي (30/ 11/ 1979)، ودراسات في الشعر الجزائري الحديث لعبد الله الركيبي، وروحي لكم لمحمد الأخضر عبد القادر السائحي، ونماذج من الشعر الجزائري المعاصر لعبد العالي رزاقي، ومحمد العيد آل خليفة تأليف أبي القاسم سعد الله، ولصالح خرفي دراستين مستقلتين عن رمضان حمود ومحمد سعيد الزاهري، ولابد من ذكر مقدمة مفدي زكرياء لديوانه اللهب المقدس وتعليق نذير مصمودي عن ديوان ابن رحمون، وما كتبه النقال والمعقبون على ديوان محمد العيد آل خليفة، بالإضافة إلى المجموعة

الكلاسيكية المعروفة (شعراء الجزائر في العصر الحاضر) لمحمد الهادي السنوسي التي ما تزال تشكل خلفية لدارسي شعر المرحلة الثورية أيضا. وفي مقال نشره سعد الدين بن شنب عن (اللغة العربية والأدب العربي في الجزائر) في مجلة الأديب اللبنانية نوه بالشاعرين محمد العيد وأحمد سحنون معتبرا الشاعر الأول بأنه أعظم شعراء العصر (1). وكان أحمد بن ذياب قد نشر مقالة عن الربيع في الشعر الجزائري وذكر نماذج من الشعراء، منهم محمد العيد وأحمد سحنون وأحمد الأكحل والسائحي والسنوسي وعثمان بلحاج وعبد الكريم العقون (2). وفي سنة 1961 أنجزت وزارة الأخبار الجزائرية اسطوانتين تشتملان على مجموعة من الأناشيد والأغاني الوطنية، وجرى التسجيل في يوغسلافيا برعاية الفرقة الفنية الجزائرية، وتستغرق إذاعة الاسطوانتين ساعين، ومع هذا الخبر نشرت (المجاهد) صورتين: صورة لفتاة صغيرة كتب إزاءها بالخط الكبير (Algérie) بالفرنسية، وصورة أخرى لفرقة من الجنود المسلحين وهم في حالة سير وقد كتب إزاءها عبارة (الجزائر) بالعربية، ولم تذكر الجريدة نوع الأغاني والأناشيد ولا عددها (3)، من الأعمال التي ظهرت أثناء الثورة عن الشعر الجزائري كتاب عبد الله ركيبي: دراسات في الشعر العربي الجزائري الحديث (4). في البحث الذي عنوانه (تصميم للشعر الجزائري الحديث) تحدثنا عن شعر الثورة، وهو منشور في مجلة الآداب اللبنانية، كما أنه منشور في كتابنا دراسات في الأدب الجزائري الحديث، في هذه الدراسة إشارات إلى شعر عبد السلام حبيب وصالح باوية وصالح خرفي وعبد الرحمن الزناقي وأحمد معاش

_ (1) الأديب عدد 20، يناير 1954. (2) هنا الجزائر 46، مايو 1956. (3) المجاهد 106، 9 أكتوبر 1961. (4) الدار القومية، سلسلة كتب ثقافية، القاهرة، 1966، تقديم صالح جودت.

وأبي القاسم خمار، مع نماذج من شعرهم، كما أشرنا في بحث (البطل في الأدب الجزائري) إلى أن شعر الثورة يعتبر من شعر الملاحم وأنه سيكون موضع دراسات متخصصة في عهد الاستقلال، وقد تحقق ذلك. ومن ناحية أخرى صدرت دراسات متعددة عن الشعراء أنفسهم أو عن موضوع معين من الشعر أو في مكان محدد زمن الثورة، بما في ذلك الشعر الشعبي، وهي دراسات مفيدة في هذا المجال، وهناك أيضا ألوان من الدراسات عن شعر الثورة باللغة الفرنسية سجل بعضها الكاهن جان ديجو في كتابه (بيبليوغرافيا الجزائر). ولعل من أواخر ما صدر عن الأدب الجزائري أثناء المقاومة والثورة كتاب عبد الملك مرتاض الذي سماه (أدب المقاومة الوطنية في الجزائر: 1830 - 1962)، ومن الواضح أن الكتاب ليس كله عن أدب الثورة ولا عن شعرها، ولكنه يتناول هذا الشعر في جزء منه، وهذا هو ما يهمنا الآن. ومما تناوله مرتاض من شعر الثورة تحليل بعض النصوص لشعراء كانوا شبانا يتفجرون حماسا وغيرة على الوطن أمثال باوية وخرفي أو من المخضرمين أمثال مفدي زكرياء ومحمد العيد، وكانت دراسته لنماذجه مطولة وخاضعة لمقاييس نقدية حديثة، ومن هذه النماذج قصيدة ساعة الصفر لباوية التي حللها في الفصل الثامن من الجزء الأول، ص 393 - 423، كما خصص في نفس الجزء دراسة تحليلية للثورة في شعر مفدي زكرياء، ص 426 - 487، أما صورة الثورة في شعر الخرفي فقد تناولها على صفحات 491 - 519 من نفس الجزء أيضا، بقي أن نقول إنه خصص الصفحات 523 - 556 من نفس الجزء لقصيدة أبي بشير لمحمد العيد، وكل نص من هذه النصوص خصص له مرتاض فصلا بذاته (1).

_ (1) يقع الكتاب في مجلدين، منشورات المركز الوطني للدراسات والبحث في تاريخ الحركة الوطية، الجزائر، 2003.

حالة الشعر والشعراء عشية الثورة

حالة الشعر والشعراء عشية الثورة يمكن القول إن ساحة الشعر كانت خالية من الفرسان عشية الثورة، فقد أدى شعراء ما بين الحربين دورهم وانتهوا بالانطواء على أنفسهم، فلم نعد نقرأ لمحمد العيد وجيله سوى قطع في مناسبات محدودة ينشرونها في البصائر أو المنار أو النجاح أو هنا الجزائر وأمثالها من الصحف القليلة ذات المشارب المختلفة. وخلت الساحة من أبي اليقظان (إبراهيم بن عيسى) ومحمد اللقاني والعمودي، بل حتى من الهادي السنوسي ومفدي زكرياء وأمثالهم ممن ضمهم كتاب (شعراء الجزائر في العصر الحاضر)، كانت القضايا التي ناضلوا من أجلها قد نضجت وبدأت تأتي أكلها في الأحزاب السياسية والجمعيات الوطنية ودخلت في صراع غير متكافى مع الاستعمار منذ الحرب العالمية الثانية، وهو الصراع الذي انتهى بمجزرة الثامن مايو التي أذهلت كل شاعر وكل مثقف وكل سياسي. لم يكن جيل الشعراء الذين ظهروا بين 1945 - 1954 متفرغا للشعر. كان يعيش الحركة الوطنية في أبعادها المختلفة، بل لقد توزع في اتجاهاته بين الطرفية والوطنية والرومانسية، لم يكن كله من أنصار هذا التيار أو ذاك، كما برد الحماس للسياسة الحزبية لأنها لم تنتج قيادة مقنعة ولم تعبر عن طموحات الشعب أو تحقق الآمال التي وعدت بها، فسكت مفدي زكرياء شاعر حزب الشعب واشتغل بالتجارة، وانزوى محمد العيد مرددا: وجنحت للحرم الذي فارقته ... زمنا جنوح الطير للأوكار وفضل أحمد سحنون أداء رسالته في شعر الوعظ والإرشاد وتوجيه. الشباب الجديد، فكان يخاطب المعلم بهذه الأبيات الحية المتفائلة بمستقبل الوطن والأمة: هات من نشء الحمى خير عتاد ... وادخرهم لغد جند جهاد

هات نشئا صالحا يبنى العلا ... ويفك الضاد من أسر الأعادي هاته جندا قريا باسلا ... إن دجى خطب يكن أول فاد حطه بالإسلام من كل أذى ... واحمه بالخلق من كل فساد اهده بالعلم فالعلم سنى ... ومن القرآن زوده بزاد صغه للإسلام سيفا صارما ... ومثالا من ذكاء واجتهاد قد إلى العلياء أشبال الحمى ... وإلى تحريرهم كن خير حاد لا تقل شمس بني الضاد اختفت ... وطوت أيامهم سود عواد إن ذوى النبت فإن البذر في ... باطن الأرض لينمو في ازدياد لا تضق ذرعا ولا تهلك أسى ... أمة الضاد ستحظى بالمراد وبنفس اللهجة المتفائلة خاطب أحمد سحنون التلميذ الذي رمز به إلى الجيل الجديد، الجيل الذي رفع راية الجهاد في النهاية وقاد الثورة، فهو يخاطب التلميذ قائلا: لك في كل حشا نبع وداد ... يا رجاء الضاد يا ذخر البلاد شعبك الموثق لم يبق له ... من عتاد فلتكن خير عتاد لج الاستعمار في طغيانه ... كل يوم منه ألوان اضطهاد لغة الضاد التي ما برحت ... لغة الإعجاز سيمت بكساد دينك الإسلام في أوطانه ... ناله المكروه من أيدي الأعادي وليكن حاديك تحرير الحمى ... إن تحرير الحمى للحر حاد (1). ولم يستطع شعر عبد الكريم العقون ولا شعر الربيع بوشامة ولا شعر أبي بكر بن رحمون أن يخرج عن نموذج شعراء الإصلاح في باكورته خلال

_ (1) من لوحة خطية عنوانها - هدية البصائر للمدارس العربية -، في الجانب الأيمن من اللوحة قصيدة إلى المعلم، وفي الجانب الأيسر قصيدة إلى التلميذ، واللوحة تقع داخل إطار أخضر اللون برسوم وزخرفة عرية جميلة، وفي أسفلها اسم الشاعر: أحمد سحنون بخط نسخ متفنن.

الثلاثينات رغم تداعيات الأحداث في الجزائر والبلاد العربية. ولكن تيارا موازيا بدأ يظهر في الضفة الأخرى معبرا عن هموم المشاعر العاطفية والدينية والاجتماعية، وقد تمثل هذا التيار في الشعراء الذين احتضنتهم مجلة (هنا الجزائر) أمثال الأخضر السائحي والطاهر البوشوشي وأحمد الأكحل، والواقع أن هذا التيار قد استمر في تموجاته وعطائه حتى خلال الثورة. لم يظهر أي أثر لنقد الشعر قبل الثورة، إذا استثنينا ملاحظات الإعجاب التي كان يبديها بعض الشيوخ عند سماعهم لقصيدة نظمها زميلهم الشاعر أو المعلم، لذلك كان الميدان خاليا من أصوات النقاد ومن محاسبة الشاعر على إنتاجه، فهو في ذلك ينظم الشعر في منتهى الحرية دون مراعاة الناقدين والمتذوقين. عاش الشعراء الأزمة السياسية التي عرفتها البلاد عشية الثورة كما عرفها السياسيون، فقد أحسوا أن الجزائر قد فاتها ركب الثورة في تونس ومراكش وأن عليها اللحاق به، وكانوا غير راضين عن تصرف القادة مما جعلهم ينزعون ثقتهم منهم ويدعون إلى الوحدة الوطنية وتجاوز الأزمة، كما دعوا إلى عدم التحزب وتقديم المصلحة العليا للبلاد، ظهر ذلك في الشعر الذي قيل في جبهة الدفاع عن الحرية واحترامها (1951) على لسان محمد العيد مثل قصيدة (يا قوم هبوا) وقصيدة الصادق نساخ (اجمعوا الشعب)، كما ظهر في الشعر الذي نظم حول الاستفتاء على الوحدة الذي نظمته جريدة المنار سنة 1953 والذي اشترك فيه الشعراء والكتاب والسياسيون والعلماء، لقد كان الشعراء يحسون ربما أكثر من غيرهم بجمود الوضع، لذلك كانوا يتحدثون عن البديل ويبشرون بغد جميل، كما في شعر أحمد سحنون سابق الذكر، ولمحمد العيد بالذات رأي مكتوب نثرا حول الوحدة المنشودة، ومن الملاحظ أن مفدي زكرياء لم يشارك في هذا الاستفتاء.

الأناشيد الوطنية

وفي تحقيق حول إنجازات الاتحاد العمالي في تونس تحدث المحقق عن زيارة قاموا بها لمركز تعليم الأطفال، وقد جاء في التحقيق أن الأطفال وقفوا ينشدون نشيد (أرض الجزائر يا أمنا)، وكان لهذا النشيد معنى خاص لأن معظم الأطفال المشار إليهم فقدوا أمهاتهم في حرب التحرير، ومن إنجازات الاتحاد نشر التعليم المهني كالنجارة وتربية النحل والكهرباء، ولم تذكر المجاهد التي أوردت الخبر نص النشيد، ربما لأن المناسبة هي نقل معلومات عن المركز المهني أكثر من الحديث عن الأناشيد (1). وفي العدد الثالث من جريدة المقاومة الجزائرية نجد كلمة بعنوان (المرأة الجزائرية عبر التاريخ)، وقد جاء فيها الكاتب على ذكر الكاهنة وكيف أوصت أبناءها بدخول الإسلام مما أهلهم لتولي قيادة جيوش الفتح، ثم جاء على ذكر نساء قبيلة رياح ومقاومتهن ضد الأتراك، حسب قوله، ونساء منطقة غريس في عهد الأمير عبد القادر ضد الفرنسيين، ثم الأميرة عائشة (كذا) التي تصدت للفرنسيين سنة 1857 (ولعل الكاتب يقصد فاطمة نسومر؟) والتي ابتكرت - كما قال - نظام المسبلين. والظاهر من المعلومات المذكورة أن الكاتب إما جاهل بالتاريخ أو أنه أراد توظيف أحداثه لخدمة الثورة في ذلك الوقت العصيب، أما الحقائق التاريخية المتعلقة بالأشخاص المذكورين فهي معروفة ولا تحتمل كل هذا التمحل ولي العنق والذراع. الأناشيد الوطنية الأناشيد من فنون النظم التي انتشرت عشية الثورة وهي على أنواع، منها التعليمي الذي شاع في المدارس والذي يعتمد التوجيه والتأثير في الفتيان والشباب، بنفخ فيهم الروح الوطنية والإسلامية والأخلاق الفاضلة، ومنها

_ (1) المجاهد 44، 14 يونيو 1959.

الأناشيد الكشفية التي تربي الاعتماد على النفس والشجاعة والإيثار والصحة البدنية، وبعد قيام الثورة أصبحت الأناشيد سياسية - وطتية تنمي الاعتزاز بالوطن وأهله وتحث على الالتفاف حول الثورة وخدمة الأهداف البعيدة التي تعمل الثورة على تحقيقها مثل الاستقلال والحرية وإقامة الدولة الحديثة. وقصيدة إلى المعلم ثم قصيدة إلى التلميذ للشاعر أحمد سحنون اللتان سقناهما منذ حين تدخلان في الأناشيد التربوية التي قيلت قبل الثورة، وقد عرف الطاهر التليلي بنظم لأناشيد تربوية كثيرة ضمها إلى ديوانه الدموع السوداء، ومنها الأبيات التالية: قد رأينا ما رأينا ... لعبة فيها عجب قطة فوق حمار ... قد تولاها الطرب رقصت وهي تموء ... وتصيح وتخب (1) وهناك غير هذين الشاعرين، لأن المفترض أن كل معلم يحسن نظم أناشيد ينشط بها أذهان تلاميذه ويقوي الملكة اللغوية والأدبية عندهم، أو يحسن اختيار أناشيد نظمها شعراء آخرون سواء كانوا من الجزائر أو من المشرق العربي، وأذكر أنني عندما كنت أعلم في مدرسة التهذيب بالعاصمة، كنت أحضر لتلاميذي الصغار أناشيد من بينها: عليك مني السلام يا أرض أجدادي .. ومن الأناشيد الكشفية مجموعة محمد الصالح رمضان (ألحان الفتوة). وهي أناشيد تمجد البطولة والإقدام والتضحية في سبيل الوطن وحب الطبيعة وخدمة المجتمع، وهي تشبه شعر أحمد سحنون الذي سقناه منذ قليل. أما الأناشيد السياسية والوحدوية فقد ظهرت مع الثورة، وهناك أناشيد ثورية لم تدون في وقتها وربما لن تدون أبدا لأنها قيلت في أول الثورة حين لم يكن هناك إلا الذاكرة، وربما يكون (جزائرنا) لمحمد الشبوكي أول نشيد مسجل

_ (1) عادل محلو، الشيخ الطاهر التليلي شاعر الأطفال، دراسة في كتاب العلامة المصلح محمد الطاهر التليلي، 1910 - 2003، ص 143 - 153.

ألحان الفتوة

وملحن تم إنشاده في مناسبات عديدة وشاع لحنه بين الثوار، وهو نشيد يرجع إلى سنة 1955 أي بعد معركة الجرف الشهيرة التي تعتبر من أوائل المعارك الكبيرة بين الثوار وقوات الاستعمار، وقد سافر نشيد (جزائرنا) عبر الحدود ووصل إلى الحركات الطلابية وتجمعات الجالية الجزائرية وأنصار الثورة عبر العالم، وهو نشيد قوي في معناه ولغته ومحتواه، وقد لحن لحنا حماسيا مؤثرا يرفع معنويات الجنود ويدفع بالشباب إلى الانضمام إلى الثورة والاعتزاز بها، فهو نشيد محارب بألفاظه ولحنه ومعانيه الوطنية ومعلوماته التاريخية التي تجعل الاستعمار في قفص الاتهام. ألحان الفتوة صدرت مجموعة أناشيد ألحان الفتوة لمحمد الصالح رمضان سنة 1953، وقد كتب عنها عدد من الكتاب ورحبوا بها لأنها لون من ألوان الأدب من جهة ولأنها نافذة جديدة للتعبير عن الوطنية والموقف السياسي، كتب عنها في جريدة البصائر الشيخ حمزة بوكوشة ومحمد الأكحل شرفاء وأبو القاسم سعد الله، وربما كتب عنه أيضا مولود الطياب في هنا الجزائر، أما كلمتي فقد نشرت بتاريخ 12/ 13/ 1954 بعنوان (اعزفوا ألحان الفتوة)، وقد أعاد الشيخ رمضان طبع ألحانه سنة 1964 وقدم لها هذه المرة الشيخ علي مرحوم، وكانت كلمتي عنها متميزة بأسلوب أدبي - شعري، بينما كانت كلمة شرفاء عنها أكثر التصاقا بالواقع فتحدث عن صدق الناظم وجودة أناشيده الكشفية وعن النهضة الجزائرية على يد الإمام ابن باديس، أما كلمة الشيخ بوكوشة فكانت أدق تعبيرا عن ألحان الفتوة وأهميتها الأدبية والتربوية في إطار الحركة الوطنية والإصلاحية، فهي قبل كل شيء قصائد تربوية وطنية في إطار الرياضة والصحة الذهنية والبدنية، وقد كان صاحبها رمضان مرشدا كشفيا عدة سنوات. الشبوكي ونشيد جزائرنا وحياة الشيخ محمد الشبوكي لم تكتب بتفصيل حتى الآن حسب علمنا.

أناشيد مفدي زكرياء (ابن تومرت)

وتوجد بعض المعلومات عنه في عدة مراجع، منها: حديثه عن نشيد (جزائرنا) في جريدة المجاهد الأسبوعي المنشور في 30 نوفمبر سنة 1979، وأناشيد للوطن للأمين بشيشي. ولد الشيخ الشبوكي في الثليجات بلدية الشريعة ولاية تبسة سنة 1916، حفظ القرآن العظيم صغيرا وواصل تعليمه في جامع الزيتونة إلى أن حصل على شهادة التطويع سنة 1942، ومنذئذ دخل ميدان التعليم عند جمعية العلماء، كما تولى إدارة المدرسة التي كان يعلم فيها، وفي سنة 1955 انضم إلى للثورة التي كلفته بالتوجيه والإعلام، وقد قبض عليه العدو أوائل السنة الموالية وتنقل على يديه بين عدة معتقلات سجون. وقد تحدث بنفسه عن ظروف نظمه لنشيد (جزائرنا) في المسرح المشار إليه، وبناء عليه فقد كان قريبا من جبل الجرف الذي وقعت فيه المعركة ورأى الكثير من الجيش الفرنسي الذي جاء لسحق الثوار بعدته وعتاده، ولكن النصر كان حليف الثوار على قلتهم وضعف معداتهم، فكان هذا الانتصار دافعا للشاعر لنظم هذا النشيد الوطني الذي يفيض حماسة واعتزازا، وقد روى أن أحد الثوار اتصل به وطلب منه نظم نشيد يتغنون به في الميدان ويعتزون بمعانيه ولحنه، فسهر ليلته على هذا النشيد الخالد الذي شبه فيه معركة الجرف بمعركة بدر الكبرى. أناشيد مفدي زكرياء (ابن تومرت) نشرت جريدة (المقاومة الجزائرية) نشيدا من نوع جديد عنوانه (بنت الجزائر)، وهو في تمجيد دور المرأة واستنهاض همتها وهمة الشباب للتضحية من أجل الجزائر وربطهم بماضيهم العربي والجهادي، فيقول الشاعر الثوري (ابن تومرت) على لسان إحدى المجاهدات: أنا بنت الجزائر ... أنا بنت العرب

يوم نادى المنادي ... ودعا للكفاح قد هجرت سهادي ... وتركت المزاح وبدأت جهادي ... وغدوت الجناح أنبري ولأعادي ... وأداوي الجراح أنا بنت الجزائر ... أنا بنت العرب (1) وفي نفس الفترة صدر (نشيد بربروس) لمفدي زكرياء أيضا، أي النشيد الذي نظمه في سجن سركاجي، كما يعرف محليا، وقد نشر النشيد في جريدة المجاهد التي حلت محل المقاومة الجزائرية ولكن دون ذكر اسم الشاعر، العدد 2، سنة 1956، ومطلع هذا النشيد: يا ليل خيم، واعصفي يا رياح ... يا أفق دمدم، واقصفي يا رعود يا دم شرشر، واثخني يا جراح ... يا غل صرصر، واحدقي يا قيود ويتألف هذا النشيد من عدة مقاطع، وهو أيضا بدون توقيع، وكل مقطع منه ينتهي بعبارة: أنت يا بربروس (2). وفي نفس العدد الثاني من (المجاهد) نشيد يبدو أنه لمفدي زكرياء ولكنه نشر بدون توقيع أيضا وعنوانه (أرض الجزائر في إفريقيا قدس)، يقول فيه: سيان عندي مفتوح ومنغلق ... يا سجن بابك أم شدت به الحلق

_ (1) جريدة المقاومة الجزائرية، عدد 3، 3 ديسمبر 1956، انظر اللهب المقدس، مرجع سابق، ص 93، مع ملاحظة أن هناك فرقا في بعض الأبيات بين المنشور في المقاومة والمنشور في الديوان، وقد أعادت المقاومة نشر هذا النشيد في عدد 16، 3 يونيو 1957 مع اختصار لازمته، ويبدو أن الشاعر قد راجع قصائده المنشورة في المجاهد قبل طبع ديوانه، لذلك يلاحظ القارى المقارن أن هناك فرقا في بعض الكلمات والتعابير بين المنشور في الجريدة والمنشور في الديوان، مثلا في قصيدة اقرأ كتابك نجد كلمة بالنار أصبحت بالحق في قوله: إني رأيت الكون يسجد خاشعا ... للنار للرشاش إن نطقا معا، ص 67، والمجاهد 31 بمناسبة أول نوفمبر 1958. (2) اللهب المقدس، مرجع سابق، ص 88.

وهو نشيد متوسط الطول موحد القافية يخاطب الشاعر فيه السجن الذي طالما هد كيان الوطنيين وكان رمزا للطغيان والتعسف. أما قصيدة (أنا ثائر) لابن تومرت، فقد أضافت لها جريدة المجاهد عنوانا فرعيا هو (من أدب الثورة)، وجاء فيها: ظلموني، واستباحوا الحرما ... صحت وامعتصما لطموني، لم يراعوا الكرما وقد انتهى النشيد بهذا المصراع: أنا ثار في الجزائر أنا ثائر ... إن أمت: تحيا الجزائر (1). ولابن تومرت أناشيد أخرى منها تحية العلم الوطني، ونشيد العمال. ونشيد الطلبة، وغيرها ومجموعها حوالي عشرة أناشيد. كما حظي الطلبة بنشيد خاص من ابن تومرت، وهو نشيد يتألف من أربع قفلات، ويبدو أن الشاعر أعده بمناسبة انعقاد المؤتمر الرابع للطلبة المسلمين الجزائريين في تونس (1960)، فقد جاء فيه تمجيد قوي لدور الطلبة في الثورة وفي بناء الجزائر المستقلة: نحن طلاب الجزائر ... نحن للمجد بناة نحن آمال الجزائر ... في الليالي الحالكات كم غرقنا في دماها ... واحترقنا في حماها وعبقنا في سماها ... بعبير المهجات (2) وعقب نشيد من جبالنا ظهر نشيد (قسما) الذي وضعه مفدي زكرياء سنة

_ (1) المجاهد 44، 14 يونيو 1959، ويذهب الجابري إلى أن اسم ابن تومرت كان يوقع به أحد الأدباء الجزائريين في تونس، وهو محمد العريبي، وبعد وفاته أصبح يوقع به مفدي زكرياء، الجابري، النشاط الثقافي والعلمي ... في تونس. (2) المجاهد 74، 8 أغسطس 1960.

1955 على الأغلب، وهو نشيد نموذجي تمثل مبادى الشاعر فيه الثورة وعظمتها فعبر عن أهدافها بلغة قوية وحماس مزلزل مستوحى من حب الوطن وتجربة الشاعر السياسية وبغضه للاستعمار. ذلك أن مفدي زكرياء كان قد دخل ميدان السياسة ومارسها مبكرا وانتصر لحزب الشعب وزعيمه مصالي الحاج، وله صلات بالقادة السياسيين في المغرب العربي عموما، وقد دخل السجن وتعرض للقمع في سبيل هدفه الوطني، فلا غرابة أن ينفجر حماسه للثورة وأن يتميز تعبيره عنها بالصدق والتلقائية والقوة والفخامة، ومنه هذا المقطع: نحن جند في سبيل الحق ثرنا ... وإلى استقلالنا بالحرب قمنا لم يكن يصغى لنا لما نهضنا ... فاتخذنا رنة البارود وزنا وعزفنا نغمة الرشاش لحنا ... وعقدنا العزم أن تحيا الجزائر فاشهدوا ... وهو نشيد من عدة مقاطع ينتهي كل مقطع منها بعبارة: فاشهدوا ... وقد جاء في مقدمة النشيد أنه النشيد الرسمي للثورة الجزائرية وأنه من تلحين الفنان المصري محمد فوزي (1)، وبعد الاستقلال صادق الجزائريون على أن يكون (قسما) هو النشيد الرسمي للدولة. وقد بقي ميدان الأناشيد مفتوحا في وجه الشعراء الشباب أيضا، فنظم عدد منهم أناشيد لا تقل حماسة وقوة عن الشعراء المخضرمين، وكان الموضوع دائما هو الثورة أو حدث من أحداثها أو بطل من أبطالها، وتختلف أناشيد الشعراء الشباب قوة وضعفا حسب نضج التجربة الشعرية عتد كل منهم، أما الحماس والصدق فكلهم كانوا مدفوعين برغبة صادقة في التعبير عن الثورة

_ (1) مفدي زكرياء، ديوان اللهب المقدس، المكتب التجاري، ط 1، بيروت، 1961، ص 71، أنظر عن تاريخ قسما وظروف نظمه وتلحينه كتاب أناشيد للوطن للأمين بشيشي، الجزائر، 1998، ص 343 - 357، جاء في الديوان أنه نظم في سجن سركاجي في 25 أبريل 1955 في الزنزانة رقم 69.

الشعر الثوري

والاعتزاز بها وكأنهم اكتشفوا فيها وطنهم، بل هم في الواقع اكتشفوا فيها أنفسهم، ومن هؤلاء عبد السلام حبيب وأبو القاسم خمار ومحمد الصالح باوية وصالح الخرفي وأبو القاسم سعد الله ... الشعر الثوري نقصد بالشعر الثوري كل الشعر الذي يمجد الثورة ويحيي مآثرها ويتحدث عن المجاهدين ومعاركهم ضد العدو، ويصف ما حل بالشعب من تشريد واضطهاد، كما يتحدث أصحابه عن إنجازات الثورة على المستويين الداخلي والخارجي، والواقع أن القصائد الثورية والأناشيد الوطنية قد حلت منذ الثورة، محل الشعر السياسي والإصلاحي والوطني بالمعنى القديم، وقد تحدثنا عن الشعر الثوري في شعرائه أنفسهم، أي في تراجم الشعراء الذين احتضنوا الثورة سواء كانوا من الجيل المخضرم أو من الجيل الجديد. محمد الشبوكي عاش الشبوكي الثورة بكل جوارحه فأوحت إليه بعدد من القصائد التي تفيض فخرا ووطنية، ومنها لبيك يا ثورة الشعب، كما احتفل بميلاد الحكومة المؤقتة بقصيدة أخرى سماها دولة الشعب، وله قصيدة في الشباب والمستقبل، وأناشيد أخرى غير التي ذكرناها (1). وبعد الاستقلال تولى الشيخ الشبوكي رئاسة بلدية الشريعة، كما تولى وظائف أخرى في الدولة، ولم ينشر شعره في ديوان على حد علمنا، ويبدو أنه مقل في الشعر وزاهد في الشهرة، كما أنه ملتزم بالشعر الوطني (2). للشبوكي شعره رقيق ينحو منحى الرومانسية ويبعث على التأمل في الحياة

_ (1) أحمد دوغان، شخصيات ... ص 141 - 148. (2) محمد ناصر، الشعر الجزائري الحديث، ص 679، وقد أشار هذا المرجع أيضا إلى جريدة النصر بتاريخ 16 أكتوبر 1982.

والناس، وهو يهتم بالمعاني والجزالة، ويسجل الحدث وما يستبعه من المكان والظروف والنتائج، كما أنه شعر متفائل بالمستقبل، ولا سيما بالشباب والثورة، وإليك أبياتا من قصيدته في الشباب المحب للحرية وإباء الضيم والثورة على القيود: فهو يبغي الحياة حرا ويأبى ... ذلة العيش تحت عبء القيود ثائر يملأ الوجود كفاحا ... وينير الحياة بالتجديد صادح يملأ الفضاء لحونا ... ويهز الحياة بالتغريد قلبه خافق يؤججه الشعر ... فيهفو إلى جمال الوجود عزمات الشباب فيض من النـ ... ـور وموج من الكفاح الشديد يتحدى الأحداث مهما ادلهمت ... ويلاقي الردى بقلب صمود أما ميلاد الحكومة المؤقتة (1958) فقد استقبله بقصيدة جاء فيها: فرح القلب بعد طول اكتئاب ... وحداني في الهوى وعاد شبابي فدعوني لنشوني يا رفاقي ... واعذروني في صبوتي يا صحابي دولة الشعر يا بشائر فجر ... قدسي بدا وراء السحاب فارفعي الراية الحبيبة في القطر ... فإنا لنجمها فى ارتقاب وفي قصيدة (لبيك يا ثورة الشعب) يذكر الشبوكي عددا من الأمكنة التي شهدت أحداث الثورة، فيقول: لبيك يا ثورة الشعب التي زحفت ... تطهر الأرض من رجس المناوينا تلك الدماء الزاكيات سقت ... (عدوان والجرف والزرقا ونقرينا) جادت بها نخبة باعوا نفوسهم ... لله والوطن المحبوب راضينا دوت بنادقهم ني كل ناحية ... فارتاع من هول لقياهم أعادينا (1)

_ (1) أحمد دوغان، شخصيات .... ص 140 - 141، البيت الأول من قصيدة الحكومة المؤقتة فيه خلل لم نستطع إصلاحه، وعدوان والجرف ونقرين والزرقا أسماء لأماكن في ناحية تبسة، وقد توفي محمد الشبوكي سنة 2005.

مفدي زكرياء (ابن تومرت)

مفدي زكرياء (ابن تومرت) يعد مفدي زكرياء بحق أبرز الشعراء في عهد الثورة وأقواهم صوتا من الجيل المخضرم، فبعد سكوت طويل ما تزال أسبابه مجهولة ظهر في صحافة الثورة وفي نشيد (قسما) على أمواج الأثير، وفي المحافل الأدبية في المشرق والمغرب العربي، باسم ابن تومرت (وهو لقب محمد بن تومرت مؤسس دولة الموحدين)، والواقع أن عودة ظهور مفدي زكرياء بدأ بقصيدة دار الطلبة (1953) ثم بقصيدة الاحتفاء بذكرى نفي أحمد توفيق المدني (1955)، ولكن ظهوره على مسرح الثورة بدأ بنشيد (قسما) عشية مؤتمر الصومام حين التقى به بعض قادة الثورة وطلبوا منه وضع نشيد يتغنى به المجاهدون وتردده الإذاعات التابعة لجبهة التحرير ليكون محرضا على خوض المعارك وتحمل المشقة في سبيل الهدف الوطني النبيل وهو تحرير الجزائر (1). ومهما كان الأمر فإن حياة مفدي زكرياء الاجتماعية والحزبية قبل الثورة موجودة في عدة دراسات فلا حاجة إلى تكرارها هنا، وحتى الآن لا نعلم بالضبط متى انضم إلى الثورة ومع من كانت مشاعره في البداية، هل عاش مثل كثير من الحزبيين مرحلة المساءلة أو اندفع إلى الميدان بدون تردد، هل كان مصاليا وتحول، أو كان مركزيا وتحول أيضا، أو كان ثوريا وكفى منذ البداية؟ لم نجد من أجاب على هذه الأسئلة عند الذين تناولوا حياته الأدبية، فهم يبدءون بالقول بأنه اعتنق الثورة ونظم لها نشيد (قسما) وقصد القصائد في أبطالها وأحداثها، وعلى كل حال فقد تبنت المقاومة ثم المجاهد نشر قصائده الثورية. والواقع أن (المقاومة الجزائرية) هي التي سبقت إلى نشر قصائده، ومنها قصيدته الصادرة في 15 نوفمبر 1956 في رثاء أحمد زبانة الذي أعدمته

_ (1) يذكر الشاعر في ديوانه اللهب المقدس أنه نظم قسما في السجن سنة 1955، ولكننا نجده قد شارك بنفسه في إلقاء قصيدته في حفل توفيق المدني في شهر يونيو من السنة المذكورة، ولعل الخطأ وقع في السنة فبدلا من 1956 كتبت 1955.

السلطات الفرنسية بالمقصلة، وقد نشرت القصيدة غير موقعة لا باسمه الحقيقي ولا باسمه المستعار، وهي القصيدة التي احتلت صفحة كاملة من الجريدة، ومطلعها: قام يختال كالمسيح وئيدا ... يتهادى نشوان يتلو النشيدا وهي من عيون شعر مفدي زكرياء في الثورة بل من عيون الشعر العربي الثوري التي سارت بها الركبان، وبقدر ما أثارته القصيدة من مشاعر الفخر والعطف والشفقة على زبانة بقدر ما فجرته من مشاعر الغضب والانتقام في نفوس الثوار والشباب، وكنا قد قرأنا هذه القصيدة في القاهرة فاشتعل الطلبة سخطا على الاستعمار، وأصبحت من محفوظاتنا ومن أحاديث مجالسنا. قبض الفرنسيون على زبانة يوم 8 نوفمبر 1954 بعد إصابته بجروح وأودعوه سجن بربروس (سركاجي) بالعاصمة، ثم أصدروا ضده حكما عسكريا بالإعدام يوم 18 يونيو 1956، وقد أعدم فجر اليوم التالي رغم نداءات مفتي الجزائر والحبر الإسرائيلي وأسقف الجزائر ورئيس الكنيسة الإصلاحية، حسبما جاء في جريدة المقاومة، وكان زبانة يردد، وهو يقاد إلى المقصلة، نشيد (أعصفي يا رياح) الذي كان يردده معه 3000 سجين من المناضلين في نفس السجن، وقد قدمت الجريدة للقصيدة بمقدمة طويلة ختمتها بقولها: (وهاكم قراء (المقاومة) هذا القصيد العظيم الذي اتصلنا به أخيرا من شاعر جزائري تسجيلا لاستشهاد هذا البطل الخالد، ألا في سبيل التحرير يطيب الفداء، وفي تمجيد التضحية والبطولة يحلو النغم ويسمو النشيد). ثم توالت قصائد ابن تومرت في جريدة المجاهد بعد اختفاء جريدة المقاومة، فنشرت له الأولى قصيدة (وتكلم الرشاش ..) وجعلت لها عنوانا فرعيا هو (من وحي ذكرى 5 جويلية)، وتعني به ذكرى احتلال الجزائر سنة 1830، وهي أيضا من القصائد الطوال ومن عيون شعر الثورة، وقد أورد فيها الشاعر إشارات تاريخية كحادثة المروحة، واليهودي المرابي بوشناق، ومسألة

الحبوب، والديون التي كانت من بين أسباب الاحتلال الفرنسي للجزائر، ومطلع القصيدة: أكباد من؟ هذي التي تتفطر ... ودماء من؟ هذي التي تقطر وقلوب من؟ هذي التي أنفاسها ... فوق المذابح للسما تتعطر (1) وفي آخر هذا العام نشرت لابن تومرت قصيدة أخرى بعنوان (أهدافنا في العالمين صريحة)، وتحتها (قصيدة للشاعر الجزائري ابن تومرت) بدايتها: ديغول يعلم ما نريد ويفهم ... ما باله حيران لا يتكلم فقد الصراحة أم أضاع فصاحة ... أم أن تقرير المصير توهم وهي ليست من القصائد الطوال، أما موضوعها فواضح من البيت الثاني (2). كما أضافت المجاهد عنوانا فرعيا وهو (من أدب الثورة) لقصيدة أخرى (للمثاعر الثائر ابن تومرت) حسب تقرير المجاهد، وبداية هذه القصيدة القوية التي جاءت على غرار قصيدة رثاء أحمد زبانة السابقة: نطق الرصاص فما يباح كلام ... وجرى القصاص فما يتاح ملام وقضى الزمان فلا مرد لحكمه ... وجرى القضاء وتمت الأحكام وسعت فرنسا للقيامة وانطوى ... يوم النشور وجفت الأقلام وهكذا استمر الشاعر على هذا الوزن والقافية بألفاظ محكمة مستمدة من معاني القرآن وأحكام الشريعة وبأسلوب فيه تهديد ووعيد كأن صاحبه جبار مقدم على تنفيذ عقوبة صارمة ضد مجرم يستحق العقاب الأليم، فالقصيدة، كما ترى، من عيون الشعر الثوري المعاصر، ومن وحي الثورة التي كانت تتقدم بخطى ثابتة نحو هدفها رغم العراقيل وجبروت العدو (3).

_ (1) المجاهد 29 يونيو 1959. (2) المجاهد 5، 15 ديسمبر 1959. (3) المجاهد أول نوفمبر 1959، عدد خاص بذكرى الثورة.

وختم ابن تومرت سنة 1959 بقعيدة نحى فيها باللائمة على هيئة الأمم المتحدة لخذلانها القضية الجزائرية حين عرضت عليها أرضاء لفرنسا وخضوعا لأمريكا والغرب، قائلا (لا نرتجي العدل من قوم سماسرة)، ومضيفا: أكذوبة العصر أم سخرية القدر ... هذي التي أسست في صالح البشر أم أن (لوزان) في الأحياء قد بعثت ... بحفل (نويورك) ما أفضى إلى سقر (1) وحين حل عام 1960 خاطبه ابن تومرت بقصيدة متسائلة عما يخبئه للجزائر ومستقبلها، وعنوانها: (ماذا تخبؤه يا عام ستينا)؟ (2). وله قصيدة عبر فيها عن خيبة أمله في السياسة واعتبر السياسيين لصوصا. ودعا فيها إلى الكفاح في ساحة الشرف لأن السياسة قد تتفع مع أناس متحضرين، أما السياسيون الذين تتعامل معهم الثورة فهم في نظره لصوص لا يستحقون إلا الحرب إلى آخر رمق، ولذلك دعا المغترين بالسياسة (ويقصد بها في الغالب المفاوضات مع الفرنسيين) إلى التخلي عن هذا النهج لأنه من أضغاث الأحلام، حتى أنه اختار عنوان القصيدة (ذروا الأحلام) وخاطب فيها قلبه أو عقله قائلا: أضر به معذبه فثارا ... وأرهقه مسخره فطارا رأى طرق السياسة شائكات ... ففضل ساحة الشرف اختصارا ولا تجدي السياسة مع لصوص ... تستر بالدجى تخشى النهارا (3) وحين فجرت فرنسا القنبلة الذرية في صحراء الجزائر سارع ابن تومرت

_ (1) المجاهد 58، 28 ديسمبر 1959، وهو يشير بالبيت الثاني إلى أن مآل هيئة الأمم قد يكون هو مصير عصبة الأمم في لوزان والتي انهارت بعد أن داس عليها هتلر وموسولني. (2) المجاهد 59، 11 يناير 1960. (3) المجاهد 60، 25 يناير 1960.

بتسجيل الحدث الخطير كما سارعت المجاهد بنشر القصيدة السباعية الأبيات ذات الأغصان والقفلات، وقد تحدث فيها عن أثر القنبلة على الأطفال، خصوصا أولئك الذين قد يولدون عميانا، وعنوانها يدل على ذلك وهو (ابن القنبلة الذرية): ما دهاه ويل أمه ما دهاه ... ويلتاه من جيله ويلتاه ما له في الحياة يولد أعمى ... لم تر الكون باسما مقلتاه (1) كان الشاعر مفدي زكرياء يتابع أحداث الثورة بتفاصيلها وينفعل معها بكل جوارحه فإذا بالمستوطنين في العاصمة، وهم أنصار (الجزائر فرنسية)، قد تمردوا على حكومتهم ونادوا بسقوط رؤسائهم، فاستغرب كيف يتمرد (العصاة على العتاة) ورأى أن رؤوس العتاة قد طأطأت لهذه العصابة فقال: ما للعصابة في الجزائر مالها ... ما للجبابر ساجدون حيالها ما للعصاة على العتاة تمردت ... فغدت تصب على الرؤوس نكالها (2) خرج مفدي زكرياء من الجزائر في شهر مارس سنة 1959، ومنذ فبراير 1960 لم نعد نقرأ له شعرا في المجاهد، يقول بعض الباحثين إن له قصائد في المجلات والجرائد التونسية، مثل الصباح، والفكر، والإلهام، والإذاعة ... ويبدو أنه استمر في هذا النشاط إلى 25 نوفمبر 1961 (3). ويمكن القول إنه بعد خروجه من الجزائر ومروره بتونس توجه إلى المشرق العربي، وهناك أصبح معروفا بشاعر الثورة ووجد سمعته قد سبقته إلى المشرق، وقد انفتحت أمامه أبواب الشهرة والظهور على منصات الشعر في المهرجانات الأدبية، فغنى لها قصائد وضرب على أوتارها اسم الجزائر حتى

_ (1) انظر المجاهد 62، 22 فبراير 1960، انظر ركيبي، دراسات في الشعر الجزائري الحديث فقد درس هذه القصيدة وقارنها بأختها لصالح خرفي. (2) المجاهد 61، 8 فبراير 1960، وقد وقع التمرد يوم 24 يناير. (3) الجابري، النشاط العلمي، مرجع سابق، ص 393.

مواضيع أخرى لمفدي زكرياء

ثمل. وفي بيروت نشر ديوانه اللهب المقدس عام 1961 وهو في تمام النشوة والمجد الأدبي (1). مواضيع أخرى لمفدي زكرياء وفي نفس الوقت تناولت المجاهد موضوع الأدب، وهو الموضوع الذي بقي مهملا منذ سنة 1958 تقريبا، ولا غرابة أن تهتم المجاهد بالشعر السياسي الثوري بالدرجة الأولى لأنه يخلد الشهداء ويسجل البطولات ويرفع المعنويات بالتحميس والتحريض على النضال، وقد فتحت صفحاتها لهذا اللون من الشعر سواء قاله جزائريون أو عرب المشرق (2). وبعد الاستقلال عاش مفدي زكرياء للتجارة وشعر المدح لزعيم تونس بورقيبة وملك المغرب محمد الخامس وابنه الحسن الثاني، فأصبح يلقب بشاعر المغرب العربي، كما نظم ملحمة نضال الشعب الجزائري التي أسماها (إلياذة الجزائر)، ولم يكن مفدي على وفاق مع النظام الجزائري دون سبب واضح، هل هو الإيديولوجية السياسية أو النقمة الشخصية لكون النظام لم يقدر مكانته حق قدرها، وقد توفي بتونس في 17 أغسطس 1977، ودفن في مسغقط رأسه (بني يسجن). ساهم شعراء الجزائر أيضا في انتصار الشعوب الأخرى على الاستعمار وغنوا لها وشاركوها فرحتها بالحرية والنصر ووعدوها بلحاق الجزائر بركبها، فعند حصول تونس على استقلالها هنأ الشاعر مفدي زكرياء شعب تونس بانتصارها واعتبر استقلالها مقدمة لوحدة المغرب العربي الذي سيتحقق بعد استقلال الجزائر أيضا، والقصيدة قالها بمناسبة الذكرى الرابعة لاستقلال تونس، وجاء فيها:

_ (1) انظر أيضا الأمين بشيشي، أناشيد للوطن، ومحمد ناصر، الشعر الجزائري الحديث، وصالح الخرفي، الشعر الجزائري الحديث. (2) عواطف عبد الرحمن، الصحافة العربية، مرجع سابق، ص 140 - 141.

في مثل يومك تكرم الأعياد ... وبيوم عيدك يعذب الإنشاد المغرب العربي أنت جناحه ... حرك جناحك يصعد المنطاد ولتشهد الدنيا هنالك وحدة ... جبارة تفتح لها الآباد شعب الجزائر قام يبني صرحها ... بدمائه، والحادثات شداد (1) كما شارك مفدي زكرياء أهل المغرب الأقصى في استقلالهم وهنأ الملك بالنصر، وحين تعرض المغرب للزلزال عزى أهله، وقد وقع الزلزال في أغادير عام 1960، وعنوان قصيدته (أغادير الشهيدة)، وقد نوع قوافيها وعزى بها من أسماهم (حماة المغرب): اضطرب يا بحر واخفق يا فضا ... واحتدم يا خطب وانزل يا قضا وارجفي يا أرض أو لا ترجفي ... أنا في المحنة لا أدري البكا ويظهر الشاعر في هذه القصيدة ناظما فقط، لأن عنصر الصدق يعوزها كما أن عاطفتها ضعيفة ولغتها تقليدية ولا ترقى إلى شعره المعروف بالتوتر والشحنات المتفجرة كما في قصائده الثورية ولا حتى في مستوى شعره الذي قاله في الملكين محمد الخاس والحسن الثاني (2). يقول مفدي زكرياء في مقدمة ديوانه اللهب المقدس إنه لم يكن يهتم بالصنعة والجمالية بل كان يهتم بالتعبئة الثورية وتصوير وجه الجزائر الثائرة كما هي، (أنظر مقدمة الديوان)، وترى أنيسة بركات أن أبرز الممثلين للحياة الاجتماعية بكل مآسيها هم مفدي زكرياء والخرفي وخمار، ولعلها تقصد تصويرهم لحالة التشريد والقمع الذي عاشته الجزائر أيام الثورة. لقد كان مفدي زكرياء في سجن البرواقية سنة 1957، وله قصيدة قالها عندئذ في الذكرى الثالثة للثورة مطلعها:

_ (1) المجاهد 64، 21 مارس 1960، لاحظ أنه لم يأت فيها على ذكر الرئيس بورقيبة، كما أنها من قصائده القصار. (2) المجاهد 63، 7 مارس 1960.

محمد الصالح باوية

دعا التاريخ ليلك فاستجابا ... (نوفمبر)، هل وفيت لنا النصابا ويقول خرفي في ديوانه أطلس المعجزات: بايعت من بين الشهور نوفمبرا ... ورفعت منه لصوت شعبي منبرا ومن الشعراء الذين التزموا بالثورة منذ انطلاقتها وأشادوا بالمجاهدين عبد السلام حبيب وصالح باوية وأحمد معاش وبلقاسم خمار وسعد الله الذي قال في استقبال نوفمبر: كان حلما واختمار كان لحنا في السنين أن نرى الأرض تثور وقد نشر سعد الله أيضا نشيد (بربروس) في مجموعته (النصر للجزائر) الصادرة سنة 1957 بالقاهرة، وتوقع له نفس مصير الباستيل. ولمعاش قصيدة في معركة (تارشوين) جاء فيها: خلدي المجد واحفظي الشهداء ... واذكري النار والردى والدماء (1) محمد الصالح باوية ولد في بلدة المغير، ولاية الوادي، سنة 1930، وبعد حفظ القرآن والدراسة الابتدائية في مسقط رأسه توجه إلى معهد عبد الحميد بن باديس بقسنطينة حيث حصل على الشهادة الأهلية 1952، ومنه انتقل للدراسة في جامع الزيتونة بعض الوقت، ثم توجه في بعثة جمعية العلماء إلى الدراسة في الكويت حيث قضى أربع سنوات وتحصل على الثانوية سنة 1957 في العلوم، وفي السنة الموالية التحق بكلية العلوم في سورية. وبعد حصوله على الليسانس ذهب

_ (1) أنيسة بركات، محاضرات ودراسات ... ص 69 - 70، انظر كذلك سعد الله، النصر للجزائر، القاهرة، 1957.

للدراسة في يوغسلافيا حيث التحق بجامعة بلغراد ودرس الطب وحصل على الدكتوراه 1968، وارتبط بسيدة يوغسلافية، وكان باوية ينشط ضمن اتحاد الطلبة وجبهة التحرير طيلة مرحلة الدراسة في الكويت وسورية ويوغلافيا، وفي الجزائر درس الجراحة ودخل عضوا في اتحاد الكتاب، وقد مارس طب العظام في مستشفى الدويرة ثم البليدة وانفصل عن السيدة اليوغسلافية التي أنجب منها بنتين، وتزوج من جزائرية، وقد عاش محنة الجزائر في التسعينات من القرن الماضي فاختطف ولم يعرف مصيره، وله ديوان بعنوان (أغنيات نضالية) قدمه له صديقنا الدكتور محمود الربيعي، 1971، ومنه قصائد ثورية. في سنة 1957 كنت في القاهرة أعد مادة بحثي عن الشعر الجزائري الحديث فاستكتبت عددا من الشعراء ومنهم الشباب الذين عرفت أو سمعت أنهم كتبوا شعرا عن الثورة، وكان باوية من الذين راسلتهم، فأرسل إلي الرد من سورية بتاريخ 8 أوت 1957، وقد تضمنت أسئلتي الموجهة له ولغيره هذه النقاط: متى بدأ قول الشعر، ما منابع شعره، رأيه في الشعر الحديث، موضوعات شعره، إحساسه نحو الجزائر. وفي رده على هذه النقاط أورد باوية سيرته ونماذج من شعره الثوري. ومن هذا الشعر ما هو قومي عربي مثل قصيدته (أتحدى ...) التي قالها في معركة قناة السويس، وقد شجب فيها مواقف بعض القادة العرب مثل نوري السعيد وكميل شمعون، وهي قصيدة طويلة متنوعة القافية، كما أن له قصيدة قومية أخرى وهي عن فلسطين والقضية العربية عامة وهي من الشعر الحر وعنوانها (الصدى - إلى طفلة ...). أما قصيدته (الثائر) فقد ألقاها في سورية في يوم إضراب لنصرة الجزائر. يوم 28 أكتوبر 1956، وتقول:

دمدم الرعد وهزتنا الرياح ... حطموا الأغلال وامضوا للسلاح وفي المراسلة قال لي باوية إنه بدأ نظم الشعر سنة 1950 في مسقط رأسه (المغير)، وإنه مقل في قول الشعر حتى أنه لم ينظم سوى اثنتي عشرة قصيدة خلال ست سنوات، نصفها غير صالح للنشر، حسب قوله. لباوية ديوان شعر كما قلنا، وأذكر أنه قصدني مع الأستاذ عبد الرزاق قسوم، لكتابة المقدمة لديوانه (أغنيات نضالية) فاعتذرت له لأسباب، فكان من حسن حظه أن قدمه له الدكتور محمود الربيعي الناقد المصري المعروف، وهو زميل لي وصديق عريق تخرجنا معا من كلية دار العلوم بالقاهرة، وقد تضمن ديوان باوية شعرا عموديا وشعرا حرا، ويبدو أنه توقف عن قرض الشعر كما توقفت، وتفرغ لمهنة الطب والعائلة، وكان باوية دمث الأخلاق متواضعا أديبا بالطبع إنساني المشاعر جميل الدعابة، وكان الدكتور أبو العيد دودو من أصدقائه فإذا اجتمعا فالسمر معهما يتشعب ويحلو. حلل عبد الملك مرتاض قصيدة (ساعة الصفر) لباوية تحليلا لغويا وجماليا ونفسيا، وأبدى إعجابه بالقصيدة لأنها في نظره موفقة كل التوفيق في وصف انفجار الثورة التحريرية حتى كأن صاحبها كان شاهد عيان لما حدث وكان متفاعلا معها ومنفعلا بها رغم أنه كتبها بعد مرور أربع سنوات عليها، لقد خصص لها مرتاض الفصل الثامن كله من الجزء الأول، وهي من الشعر الحر: الصمت والمدى والريح ... تذري رهبة الأجيال في تلك الدقيقه قطرات العرق الباني: نداء وسلال مثقلات بالحقيقه الأسارير أخاديد مطيره ثورة خرساء، أهوال مغيره

عبد السلام حبيب

لون عمق يتحدى في جزيره ... وهكذا تستمر القصيدة في التصعيد حتى تصل إلى لحظة الصفر وميلاد الحقيقة (1). عبد السلام حبيب يمكن أن نعد عبد السلام حبيب من شعراء الجزائر في المهجر - سورية. كان في عنف شبابه حين انطلقت الثورة، هاجر جداه لأبيه وأمه مع الأمير عبد القادر إلى بلاد الشام، وولد هو سنة 1918 لأبيه محمد الحبيب المهر، وأمه زينب بنت البشير بن يخلف، وكلاهما من معسكر، ودرس الثانوية في دمشق واهتم بقضية الجزائر منذ حوادث الثامن مايو 1945، ولما انطلقت الثورة اندمج فيها بعاطفة جياشة كما اندفع ينظم فيها الشعر ويتعاطى الخطابة، فأسس جمعية دار الجزائر وأدار بواسطتها المظاهرات الداعمة للثورة والاحتفالات والأسابيع الخاصة بنصرة الجزائر. وبعد الاستقلال عبر الشاعر عن فرحته في أشعار أخرى، وزار بلاد أجداده سنة 1966 ضمن وفد من الجزائريين الشاميين ساعة إعادة رفات الأمير عبد القادر من دمشق إلى الجزائر، ثم رجع إلى دمشق حيث توفي، فاتح مايو 1980 وترك ابنين أكبرهم اسمه (أوراس). شعر عبد السلام حبيب تميز بالحماس والصدق والوطنية والروح القومية والوجدانية، له ديوان صغير عن الثورة عنوانه (اذكريني يا جزائر)، سجل في شعره وقائع الثورة وتابع احداثها وتشوق إلى بلاده الأصلية التي لم يكن قد رآها

_ (1) عبد الملك مرتاض، أدب القاومة الوطنية في الجزائر: 1830 - 1962، رصد لصور المقاومة في الشعر الجزائري، ج 1، منشورات المركز الوطني للدراسات والبحث في الحركة الوطنية وثورة أول نوفمبر 1954، دار هومة، الجزائر، 2003، ص 393 - 423، وكذلك محمد ناصر، الشعر الجزائري الحديث، ص 670، وهناك، مراجع أخرى لا تضيف الكثير عن حياة باوية وشعره.

وإنما سمع عنها من المهاجرين، واعتبر ذلك أضعف الأيمان (1). كنت التقيت بالشاعر عبد السلام حبيب عدة مرات في القاهرة وأنا طالب فيها خلال الخمسينات، وأول لقاء لي به كان في مسكن الأخ رابح التركي، وقد تهادينا الإنتاج، أهداني هو قصيدته (نداء الدم) التي طبعها على حدة، وأهديته مجموعتي (النصر للجزائر) فأشاد بها في مراسلة وصلتني منه من دمشق، كما أشاد بوفد جبهة التحرير بدمشق، والغالب أنه كان يعمل لصالح الثورة بالتنسيق مع الوفد الذي كان على رأسه عبد الحميد مهري، وقد أجابني على الأسئلة التي وجهتها إليه عندما عزمت على الكتابة عن الشعر الجزائري وهي: متى بدأ قرض الشعر؟ وما منابع شعره؟ ورأيه في مسألة التأثر والتأثير؟ ورأيه في الشعر الحر؟ ومواضيع شعره؟ وكانت إجابته هامة لأنه تعرض فيها إلى ثروة أدبية لم تأت في إجابات الشعراء الشباب الآخرين، وصلني كتابه بتاريخ 21 مايو، 1957، كما وردت علي منه مراسلة أخرى بتاريخ 4 سبتمبر من نفس العام علق فيها على قصيدتي (ربيع الجزائر) التي نشرتها مجلة (الهدف) اللبنانية، ووعدني بإرسال أشعار لمحمد صالح باوية وأبي القاسم خمار وعبد الرحمن العقون، كما تحدث فيها عن شعره هو. أرسل إلي مجفوعة من الأشعار التي نشرها في الجرائد السورية في موضوعات مختلفة، وهي مصر وفلسطين والجزائر، وكذلك مجموعة من الأناشيد، بعض هذه الأشعار عبارة عن قصائد طوال ومقفاة قيلت في مهرجانات، منها واحدة ألقيت في مهرجان عن الجزائر في جامعة دمشق، لكن القصائد بدون تواريخ، كما لا توجد معها عناوين الجرائد التي نشرت فيها ما عدا واحدة نشرت في جريدة (الرأي).

_ (1) مقالة عنه لمحمد بن سمينة الذي عرفه في دمشق، مجلة الراصد العدد الأول، يناير - فبراير 2002، منشورات المركز الوطني للدراسات والبحث في الحركة الوطنية وثورة أول نوفمبر، الجزائر، ص 46 - 47، وكذلك في البصائر، 17 - 24 أكتوبر، 2005.

أبو القاسم خمار

وأما قصيدته الهامة (نداء الدم)، فهي التي أهداها إلى أرواح الشهداء الأبرار .. إلى (ابطالنا .. الرابضين على قمم أوراس ومعاقل قسنطينة ومشارف وهران وعلى كل بقعة من أرضنا العربية الطاهرة: الجزائر)، وقد أهدى إلي بقلمه هذه القصيدة قائلا بأسلوب أهل الشام: (أخي أبا القاسم، ولدت بعيدا عنها، عن الجزائر الحبيبة، ولم تكتحل عيناي بمرآها، ولكني باسمها أهزج وأشدو، وباسمها عربية حرة مستقلة أقدم لك نداء دمي)، (1) وأضاف عن القصيدة نفسها بأنها ألقيت على مدرج الجامعة السورية في حفل افتتاح أسبوع الجزائر في 25 آب/ أوت 1956 وبدايتها: إلى ساح الكرامة يا جزائر ... مضوا فمناضل في إثر ثائر (2) وهناك مراسلة أخرى منه بتاريخ 4 سبتمبر، 1957 وصف فيها حضور الجزائر في معرض دمشق، وقد جاء فيها: (تحية طيبة .. وبعد، فإني اكتب إليك وقلبي مفعم بالغبطة والفخر .. فلقد نجح الجناح الجزائري في معرض دمشق نجاحا منقطع النظير .. ليتك كنت بينيا لترى ألوف الزوار من عرب وأجانب من مختلف البلدان يتزاحمون على مدخل الجناح للدخول .. (3). أبو القاسم خمار عندما راسلت أبا القاسم خمار ليرسل إلي نبذة من حياته وبعض شعره لأستعين بها على دراستي عن الشعر الجزائري الحديث، كاتبني من شمال سوريا وهو في طريقه - كما قال - للتدريس، وقال إن قصائده طويلة ومملة وليس له القدرة الآن على كتابتها من جديد وأن بعضها مهمل في الأوراق. كان عمر خمار اثني عشر عاما عندما نطق بالشعر (ولد سنة 1931 في

_ (1) المراسلة بتاريخ 23 مايو 1957. (2) يقع المطبوع من القصيدة في كراس من 16 صفحة، مطبعة الوعد، بدمشق. (3) أوراقي - مراسلات الشاعر عبد السلام حبيب، 1957.

بسكرة) على حد تعبيره، دون معرفة ما إذا كان ما نطق به شعرا، كان قد مل الدراسة في المساجد (دخل الجامع وعمره ست سنوات) وأراد الدخول إلى المدرسة بدل المسجد، التقى بأحد أبناء المدارس وكان ينشد نشيدا وطنيا فسأله فعرف منه أنه تلميذ في مدرسة لجمعية العلماء، وأخبره عن حياة المدرسة وما فيها من علم وجلوس على الكراسي والكتابة على الدفاتر، فتاقت نفسه إلى الدخول إلى المدرسة أيضا ليكون كصاحبه، وكان سكان بسكرة - حسب قول خمار - لا يتجاوزون الأربعين ألف نسمة، فاتح أباه في دخول المدرسة ولكن والده، وكان شيخا يحفظ القرآن الكريم ومبادى الدين، لم يأذن له في دخول المدرسة عندئذ، وكان عليه أن ينتظر ثلاث سنوات. بدأ خمار بنظم القصائد النبوية على غرار البردة والهمزية للإمام البوصيري، وبعد نيله الشهادة الابتدائية في بسكرة في مدرسة تابعة لجمعية العلماء توجه إلى معهد ابن باديس، وكان طلاب المعهد يتدربون على النشاط الأدبي بالانتماء إلى لجان محددة حسب ميول كل طالب، فدخل خمار اللجنة الخطابية، فكان ينظم القصيدة ويلقيها أمام الطلاب، فاجتمع له من ذلك حوالي عشرين قصيدة، وهذه القصائد بقيت كلها في قسنطينة، كما قال، وبعد أربع سنوات في المعهد توجه إلى جامع الزيتونة بتونس ودرس فيه سنة واحدا، وفي تونس نظم الشعر في الغزل والرثاء، ومن ذلك رثاؤه للزعيم العمالي التونسي فرحات حشاد ... سافر خمار إلى سورية ضمن البعثة الثانية لجمعية العلماء، ودخل دار المعلمين الابتدائية بحلب، وتخرج منها بعد ثلاث سنوات، ثم دخل كلية التربية بالجامعة السورية وحصل على الإجازة في الفلسفة وعلم النفس، وعلم لدى الحكومة السورية في المدارس الابتدائية. عاصر خمار عدة ثورات وانقلابات في المغرب والمشرق، ففي تونس عاش الثورة على الاستعمار الفرسي، وفي سورية حضر الانقلاب ضد أديب

الشيشكلي، وفي مراكش عاش الثورة من أجل الاستقلال واسترجاع العرش، ثم كانت ثورة الجزائر، شعر خمار صورة لهذه الأحداث وليس شعرا ممحصا كما يريده هو، حسب قوله، فهو يعبر به عن حالة العرب القومية بسرعة دون تنضيج، وهو لا يقول الشعر إلا في المناسبات العنيفة، ولذلك قال إنه إذا لم يكتب يصاب بالصداع، وقد ذكر نماذج من شعره في تونس وسوريا (1). كما أرسل إلي الشاعر خمار مجموعة من قصائده الحرة والمقيدة، منها قصيدة (نداء الاتحاد) التي نشرتها له جريدة المنار والتي كان قد أرسلها إليها من تونس، 4 أبريل، 1953 ولعلها من أوائل قصائده المنشورة، ومنها قصيدة (الجريمة)، وهي عن اغتيال فرحات حشاد الزعيم التونسي المشار إليه، وأخريات من تونس أيضا نظمها في حدود 1953، وهناك قصيدة (أصداء من الثالوث العربي) طالعها: صاح مهلا لقد تهلهل زادي ... ولقد أنهك المسير جوادي افتخر فيها بأنه من المغرب العربي وبأمجاد المنطقة وطبيعتها، وهي قصيدة طويلة تقع في عدة صفحات، وقد ربط فيها بين أحداث المغرب العربي والمشرق، وتاريخها أول يناير، 1957، ومنها قصيدة (الانفجار) وهي من مطولاته وتقع في ثلاث صفحات من الشعر الحر، وقد بدأها بهذه الفاتحة الحائرة: أين ربي .. قد صبرنا .. يا فرنسا .. إن شعبي لا يهاب ... لا يخاف الموت، لا يخشى العذاب سوف يبقى كالسعير، ثائرا كالنمهرير وغدا يجني الأمل، زهرة النصر الكبير ... ومن قصائده العمودية الوطنية التي أرسلها إلي قصيدة (حق ودماء):

_ (1) مراسلته إلي من دمشق، يتاريخ 8 أوت 1957.

محمد العيد آل خليفة

بالحق يا جبهة التحرير نعتصم ... وبالجنود التي غصت بها القمم سيري إلى النصر واجتاحي عواقبه ... فقد رنا لك كالعشاق يبتسم كما أرسل إلي بعض القطع المكتوبة بقلم مغاير، وتاريخها جميعا هو جوان / يونيو، 1957 (1). عمل خمار خلال دراسته في سورية في مصالح الثورة، كما كان نشيطا في الحركة الطلابية. وبعد الاستقلال رجع إلى الجزائر وعمل في وزارة الشبيبة، كما عمل في مجلة (ألوان) التي كانت تصدرها وزارة الثقافة، وترأس اتحاد الكتاب الجزائريين، وشارك في عدة مؤتمرات أدبية وثقافية، وطنية وعربية، وقد نشر عدة دواوين منها ربيعي الجريح، وألوان من الجزائر، وظلال وأصداء، وأوراق، والحرف الضوء، وله غير هذه الأعمال، وهو ينظم الشعر العمودي والشعر الحر، ويتميز شعره بالطابع الرومانسي، وهو متمكن من اللغة والقدرة على تصريف إبداعاته الشعرية الأصيلة (2). وقد كتب خمار رسالة ذات فائدة خاصة إلى صاحب كتاب الثورة في الأدب الجزائري صالح مؤيد سنة 1963، كما مكنه من بعض قصائده في الثورة، منها من وحي الذكرى وهي عن جميلة بوحيرد وأخواتها، والموتورة، ونهاية الصنم، وقد تطور شعره مع الأيام، وفيه نظرات عميقة في الناس والحياة، ولا غرابة في ذلك فقد ذكرنا أن خمار قد درس الفلسفة وعلم النفس. محمد العيد آل خليفة ترجمنا لحياة محمد العيد في كتابنا عنه (انظر سابقا) ثم كتبنا عما وصلنا من أخباره وأشعاره أثناء الثورة، فقد اختفت أخباره عن الساحة الأدبية منذ

_ (1) المراسلة في أوراقي، دمشق، 1957. (2) محمد ناصر، الشعر الجزائري الحديث، ص 674، والسائحي، روحي لكم ...

1955 لأنه أصبح تحت الإقامة الجبرية في بسكرة بعد أن ألقي عليه القبض وسيق إلى حيث يعدم، لولا تدخل من جهة ما زلنا نجهلها، وربما هي الزاوية التجانية (1)، ومع ذلك وجدنا له قصيدة في تهنئة السودان باستقلاله منشورة في البصائر سنة 1956، فهل كان ينظم الشعر رغم الإقامة الجبرية؟ ويبدو أن محمد العيد لم يكتب شعرا كثيرا أثناء إقامته الجبرية، وعلى كل حال فهو لم ينشر شعرا أثناء هذه الإقامة التي نجهل حتى الآن متى بدأت، ولم يهرب قصائده الثورية إلى الخارج، كما فعل مثلا مفدي زكرياء، وهناك من يقول إنه قد نظم (ملحمة الثورة) أثناء اعتقاله ولكنه لم ينشرها إلا بعد الاستقلال، وهي الملحمة التي نشرتها مجلة (المعرفة) في سنواتها الأولى على حلقات. نشرت جريدة البصائر في العاشر من يونيو (جوان) 1955، خبرا مفاده أن (أمير شعراء الجزائر التقي الورع الشيخ محمد العيد) قد قبض عليه في عين مليلة، ومع هذا الخبر صورة تذكارية للشاعر وهو يلقي إحدى قصائده وخلفه صورة لابن باديس، ولكن الصورة نشرت بعيدة عن الخبر. وحسب البصائر فإن هناك تهمة ملفقة وجهت إلى الشاعر (سداها النذالة ولحمتها الخسة)، وزج به في السجن رهن التحقيق، و (قد ضجت البلاد الجزائرية كلها من هذا الحادث المؤلم .. وقام مكتب جمعية العلماء فورا بواجبه حيال هذا العدوان الصارخ .. واحتج .. وطالب بالإفراج على الشاعر الإسلامي العظيم ...) وأشارت إلى أن عددا من النواب والشيوخ (لعلها تقصد شيخ النواب) والشخصيات الإسلامية وبعض العقلاء من رجال الإدارة العليا طالبوا بغاية الإلحاح بسراح الشاعر. تعرضنا إلى حياة محمد العيد في أكثر من مكان من كتبنا، فمن أراد أن يرجع إليها فليفعل، أما هنا فيهمنا شعره روما طرأ على حياته خلال الثورة. هنأ

_ (1) انظر سابقا.

محمد العيد المغرب بعودة السلطان ظافرا وبالوعد بالاستقلال، ونشر قصيدته الجميلة في البصائر سنة 1955، وهي التي مطلعها: أطل البدر وضاح الجبين ... فعم الأفق بالنور المبين وعاد إلى مطالعه مشعا ... كأن لم ينأ عتها منذ حين فقل لقوافل الأحزاب سيري ... على إشعاعه وبه استعيني وقل للمغرب الأقصى هنيئا ... لقد شرفت بالعلق الثمين بدا استقلالك الموعود فاحمل ... وظائفه وخذها باليمين كما عرفنا أنه نشر قصيدة نجهل موضوعها في يناير 1955 أي بعد شهرين فقط من انطلاق الثورة دون أن نعرف موضوعها (1). وأثناء إقامته الجبرية في بسكرة نظم قصيدتين غير منشورتين إلا في ديوانه بعد الاستقلال، وفيهما قليل من السياسة وكثير من المناجاة الحزينة والشكوى من حاله، مع الأمل الذي لا يفارقه في حصول بلاده على حريتها، الأولى مناجاة الطائر أبي بشير والثانية مناجاة جبل أبي منقوش، وقد نظم هذه في سنة 1959، أما الأولى التي لا نعرف لها تاريخا فقد توقع فيها قرب إطلاق سراحه وتحرير الشعب رغم الضحايا والشهداء: جزمت بقرب إطلاق الأسير ... غداة سمعت صوت (أبي بشير) أناجيه بآمالي وحالي ... وأستفتيه عن شعبي الكسير كما ناجى الأمير أبو فراس ... حمامته بشعر مستثير فقال لقد أتيتك من بعيد ... فاصغ إلي وأرو عن خبير كما أصغى سليمان قديما ... إلى أنباء هدهده الصغير سيحمد شعبك العقبى قريبا ... ويحرز نصره بيد القدير ويشهد بعث دولته فيرض ... ويحظى بالهلالي المنير

_ (1) الجابري، النشاط العلمي ... يقول الجابري إن القصيدة منشورة في مجلة الندوة التونسية.

فليس لأمة بالحق ثارت ... مصير غير تقرير المصير والقصيدة بدون تاريخ ولكن يبدو أنها نظمت في الأيام الأخيرة للثورة، وهي منشورة في الديوان. ومهما كان الأمر فإنه أثناء الإقامة الجبرية سمع الشاعر صوت طائر يدعى (أبا البشير) فناجاه الشاعر وطارحه أحواله على غرار ما فعل أبو فراس الحمداني مع حمامته، وتوقع الشاعر قرب إطلاق سراحه تفاؤلا بصوت هذا الطائر الذي يتفاءل به المتفائلون كما تفاءل بقرب انتصار الثورة وتحرير الشعب الجزائري كله، رغم الضحايا والشهداء، وقد قارن الشاعر أبا البشير بالهدهد وتخيل نفسه سليمان، ورغم ما فيها من مقارنات وإشارات تاريخية وتفاؤل ورقة في التعبير فإنها دون شعر محمد العيد الإصلاحي، فما بالك بالشعر الثوري، فقد اكتفى فيها بالرموز والكنايات واللغة البسيطة (1). ولكن هل نشر محمد العيد بعض القصائد السياسية وهو في الإقامة الجبرية؟ يبدو ذلك، فإذا كان قد دخل الإقامة الجبرية في سنة 1955 فإن قصيدته في تهنئة السودان بالاستقلال تكون قد نظمت وهو في بسكرة سنة 1956، ولم يفته التبشير فيها بحرية الجزائر واستقلالها، ومما جاء فيها بالخصوص: فوز سرت بحديثه الركبان ... فالشرق مغتبط به جذلان ما أسعد السودان باستقلاله ... فاليوم يرفع رأسه السودان من مبلغ السودان عنا أننا ... شيع له بشعورنا خلان نتبادل القبلات باستقلاله ... فرحا وإن طافت بها الأحزان متسائلين عن الجزائر هل دنا ... تحريرها أم حظها الحرمان

_ (1) القصيدة في الديوان، وفي صلاح مؤيد، الثورة في الأدب الجزائري، مرجع سابق، وقد خصها عبد الملك مرتاض بفصل من كتابه، أدب المقاومة في الحركة الوطنية، 2004، انظر أيضا محمد ناصر، الشعر الجزائري الحديث، ص 666.

صالح الخرفي

ومتى تقرر كالشعوب مصيرها ... فقد اقتضى تقريره الإبان ومتى تفوز بنعمة استقلالها ... فقد استقلت دونها الأوطان (1) صالح الخرفي أبو عبد الله صالح أو صالح الخرفي كما هو اسمه، بدأ في الظهور كشاعر في تونس عام 1956 حسبما يدل تاريخ الشعر عنده، وقد قرأت أنه نشر عدة قصائد في الجرائد والمجلات التونسية كالصباح والندوة واللغات ابتداء من أبريل سنة 1956، ومن المؤكد أنه نشر في جريدة المقاومة الجزائرية في 6 ديسمبر 1957 قطعة من تسعة أبيات حيا فيها هذه الجريدة بقوله: برزت تحمل اليراع سلاحا ... ومضى طرسها المقاوم ساحا وسطورا يزفها الحق والعدل ... سيوفا على العدا ورماحا إنها للبلاد واجهة الطرس ... عن السيف لا يقل كفاحا ولتر حب بها العروبة فهي ... المنبر الحر بالحقيقة لاحا هذ 5 صفحة (المقاومة) الحرة ... تلقى إليك حقا صراحا ولد صالح الخرفي في القرارة بالجنوب الجزائري سنة 1932، وتابع دراسته الابتدائية والثانوية بمعهد الحياة في مسقط رأسه، ثم قصد جامع الزيتونة بتونس وكذلك الخلدونية، 1953، وفي 1957 طلب العلم في المشرق والتحق بقسم اللغة العربية بجامعة القاهرة حيث حصل على ليسانس الآداب، 1961. ويبدو أنه رجع إلى تونس وقام بمحاضرات في التعبئة للشباب والجنود، وعاد بعد الاستقلال إلى الجزائر ولكنه واصل دراسة الماجستير ثم الدكتوراه بالقاهرة، وفي الجزائر عمل في مصالح وزارة التربية، ثم في جامعة الجزائر أستاذا ورئيسا لقسم اللغة العربية وآدابها. تلاقينا أول مرة في نادي الطلبة الجزائريين في القاهرة، ثم تكررت لقاءاتنا

_ (1) البصائر 355، 24 فبراير 1956.

في النادي وفي بعض المؤتمرات الأدبية، وكان الخرفي يساهم باسم الجزائر في المهرجانات والمؤتمرات، وكان يحسن إلقاء شعره العمودي وكان يتمتع بصوت رنان ومؤثر وبشجاعة أدبية فائقة، وكان موضوعه غالبا هو الثورة الجزائرية التي كانت تثير الجماهير العربية في مصر وسوريا والكويت وغيرها بحيث كان الخرفي مع مفدي زكرياء سفيري الشعر الجزائري في المشرق أيام الثورة. نشر صالح الخرفي عدة دواوين تحتوي على قصائد كثيرة في الثورة. وكان الخرفي يختار المناسبات الساخنة التي مرت بها الثورة مثل تفجير القنبلة الذرية في الصحراء الجزائرية وإعلان تقرير المصير، فيحيلها إلى مشاعر متأججة تثير حماس السامعين، وشعر الخرفي شعر إلقاء وتدفق صوتي وموسيقي غليظة وليس شعر تأمل وصور جمالية، أما لغته فتتشكل من قوالب محفوظة ومرصوفة عليها مسحة البداوة والصحراء والخشونة، وهي تفتقد إلى الرقة والنعومة واللحن المهموس، وكان مع ذلك يحب بل يسعى إلى أن يتغنى شعره بحناجر المغنين والمغنيات ويلحنه الملحنون من أجل الشهرة، وقد نجح في ذلك دون زملائه شعراء الثورة، فكانت بعض قصائده كأنها أناشيد وطنية حماسة وإثارة، فهو من هذه الناحية قد ساهم في نشر الشعر الفصيح على ألسنة الشباب والجمهور عامة بعد أن تعودوا على سماع الشعر الملحون ذي الطابع الأندلسي والشعبي غير المتطور وغير المفهوم أيضا. من قصائد الخرفي الثورية التي راجت نذكر هذه النماذج: نداء الضمير. وأدعوك يا أملي، الأولى من تلحين رياض السنباطي والثانية من تلحين بليغ حمدي، وكلاهما من غناء وردة، الأولى أثناء الثورة والثانية بعد الثورة، ومن دواوينه: أنت ليلاي، وأطلس المعجزات، ومن شعره الثوري قصيدة (يا فرنسا) التي جاء فيها، وقد جاء فيها عن الثورة: سنوات وجباه الطغاة للنار تعنو ... ثورة ودمار على الذي منه يدنو كم أطاحت بقائد ووزير ... وتداعى بها إلى الأرض ركن

عبد الرحمن الزناقي

وفي نفس الوقت أشرف الخرفي في الجزائر على مجلة الثقافة التي تصدرها وزارة الثقافة، وقل إنتاجه الشعري منذ تولى المسؤوليات الإدارية وأصبح رب أسرة، وألف عدة كتب في مجاله الأكاديمي وهو الشعر الجزائري الحديث، وفي أيام عطائه رشح ليكون مديرا للثقافة في المنظمة العربية للتربية والعلوم والثقافة فانقطع عن الجامعة والتعليم وتفرغ لعمله الجديد الذي خدم به الأمة العربية كافة، وقد أدركه الموت وهو متقاعد ويواصل التأليف والبحث الحر، توفي في تونس ونقل جثمانه إلى مسقط رأسه. عبد الرحمن الزناقي أشدت في يومياتي وأنا في القاهرة بعبد الرحمن الزناقي الذي اعتقدت أنه سيكون شاعرا وجدانيا رقيقا على مستوى وطني وعربي، ولكن بعد رحلتي الدراسية لم أسمع ماذا حدث له ولا ما إذا واصل الشعر ولم ينشره أو أنه توقف نهائيا عن الشعر بعد رجوعه إلى الجزائر، وأثناء كتابتي هذه السطور بلغني أن له أكثر من ديوان مطبوع، وأنه يعيش في البليدة متقاعدا بعد أن اشتغل بالتعليم سنوات طويلة. لم أكن قد عرفت الزناقي أو قرأت له قبل أن يراسلني من سوريا سنة 1957، ولذلك لم استكتبه حين عزمت على كتابة بحثي عن الشعر الجزائري المشار إليه، ولكنه فاجأني بالكتابة من حلب في 13 سبتمبر، 1957 قائلا إنه رأى إنتاجي في (البصائر)، كما طالع قصائدي وردي على نقد أحد النقاد في مجلة الآداب، وإنه لم يحصل على نسخة من ديواني الصغير (النصر للجزائر) الذي قرأ مقدمته بقلم الأستاذ أحمد توفيق المدني في جريدة سورية (لم يذكرها وربما هي كفاح المغرب العربي)، ومن خلال المقدمة تعرف على بعض المقطوعات من شعري. فكيف عرف الزناقي مشروعي ومن أخبره به؟ قال في مراسلته المذكورة إنه في نفس اليوم التقى بالشاعر أبي القاسم خمار (الذي كان أيضا في سوريا)

فطلب منه أن يرسل إلي بعض شعره وصورته ونبذة من حياته، ولاحظ الزناقي في رسالته أن الجزائريين منطوون على أنفسهم ولذلك فأنا قد فعلت خيرا في نظره، حين عزمت على الكتابة عن أدبهم، ثم ذكر نبذة من حياته هو، فقال إنه من مواليد تلمسان عام 1934 وإنه دخل مدرسة دار الحديث ودرس فيها على عبد الوهاب بن منصور، وبعدها توجه إلى معهد ابن بادس بقسنطينة حيث بقي أربع سنوات حصل بعدها على الشهادة الأهلية من الزيتونة بتونس، ثم وفد إلى المشرق العربي، دون أن يقول كيف حصل ذلك، ودرس بدار المعلمين الابتدائية بحلب (1). أما عن الشعر فقد قال الزناقي إنه لم يجربه إلا منذ ثلاث سنوات، وإنه قد تأثر بعدد من الشعراء الرومانسيين والاجتماعيين أمثال الشابي، وعلي محمود طه، وحافظ إبراهيم ... وإن له عدة قصائد منها ما هو في صميم الثورة وما هو حول القضية العربية، ومن قصائده في الثورة تلك التي أسماها (منبع الثورة) والتي جاء فيها: من نسيم الصبح من نبع الضياء ... من عيون الفجر من دمع السماء من ظلام الليل من زوبعة ... تلفح الأيام من صوت البكاء من سكون الكوخ من مقبرة ... فوق أرض الله ملأى بالشقاء نبعت ثورتنا جارفة ... تربة الظلم وأوحال الشتاء ولدت يوم ولدنا وأتت ... أرضنا تلبسها ثوب الإباء وللزناقي حسب ما جاء في مراسلته، قصيدة في مدينة بور سعيد بعد العدوان عليها سنة 1956 شارك بها في مهرجان عقد بحلب ونوه فيها بدور جمال عبد الناصر وأشاد بالأمة العربية، وله قصيدة في الخمرة الصوفية على شكل موشح.

_ (1) مدرسة دار الحديث في تلمسان أنشئت سنة 1937، وكانت الحركة الحركة الإصلاحية في تلمسان بقيادة الشيخ الإبراهيمي بين 1932 و 1940، وبعد الإبراهيمي تولى إدارتها الشيخ محمد الصالح رمضان.

الربيع بوشامة

وأثناء مظاهرات جرت في سورية لدعم نضال الجزائر ألقى الزناقي قصيدة مجد فيها الثورة وقال: في كل يوم ثررة للثار ... في أرضنا كالرعد كالإعصار في كل يوم ثورة وقادة ... ترمي الطغاة بأسهم من نار وقد تحدث فيها عن بطولة الثوار وأبدى إعجابه بالثورة وبمعقلها الأول، الأوراس، وتناول فيها أحداث المغرب العربي ومساندة المشرق للثورة: أوراس قد أرغى وأزبد ثائرا شدوا على القيثار للثوار ومن شعره الهادى قصيدة في الحنين إلى الذكريات، وهي قصيدة ناعمة ترجع بالذاكرة إلى الماضي بكل ما فيه (1). الربيع بوشامة عرفت الربيع بوشامة أثناء الثورة عندما بدأت التعليم في مدرسة الثبات في الحراش، إحدى ضواحي عاصمة الجزائر، وكان عندئذ هو مدير المدرسة التابعة لجمعية العلماء، كان ذلك في نهاية شهر نوفمبر 1954، عرفت فيه الحزم والإخلاص، وقد حدثني عن رحلته إلى باريس لتنشيط حركة جمعية العلماء وسط العمال الجزائريين في غربتهم حتى يظلوا مرتبطين بوطنهم ولغتهم وإسلامهم، كما كان يحدثني عن أستاذه ابن باديس وعن شخصيات الجيل السابق له من المعلمين والمصلحين وما جرى له معهم ومع الإدارة المدرسية والسلطات الفرنسية، وكيف تحمل الصعوبات والمضايقات التي كانت تضعها هذه السلطات في طريقهم، ومع ذلك كانوا مصرين على النجاح وبلوغ الهدف، وكان ينتقد بعض قادة جمعية العلماة في الجزائر نفسها وسلوك بعض معلميها، وكنت عندئذ معلما مبتدئا وصغير السن نسبيا وقليل التجربة، فلم أكن أشاركه

_ (1) مراسلة الزناقي وصلتني مكتوبة على ست أوراق زرقاء غير مرقمة، وقد أرسلها إلي من دار المعلمين الابتدائية في حلب بتاريخ 13 سبتمبر، 1957.

في أحكامه وإنما كنت أستمع إليه باهتمام. أما عن شعره فقد عرفته على صفحات البصائر قبل سنوات من لقائي بالشاعر، فقد كان الربيع بوشامة ينظم الشعر في مواضيع وطنية وعربية وأخرى تتعلق بالطبيعة والعلاقات الإنسانية، شعره نظم وقلما يحلق به في أجواء المعاني والصور البيانية أو يبحث فيه عن جمال التعبير وفن القول، ولا شك أنه كان يتذوق الشعر بما حفظ من دواوينه وقرأ لفطاحله، ويبدو أنه كان يميل إلى المدرسة الرومانسية الاجتماعية ولكن بيئة الجزائر الثقافية الخالية عندئذ من النقد الأدبي جعلت توجيه وتقويم الشعراء أمرا غير وارد، وكنت أتبادل معه الرأي في الشعر العمودي الذي يلازمه والشعر الحر الذي بدأت أحاوله وأميل إليه. ولد الربيع بوشامة في ديسمبر عام 1916 في قنزات في بني يعلى ولاية سطيف، ومنذ العام السابع من عمره دخل المدرسة القرآنية (الكتاب) والمدرسة الفرنسية، فحفظ القرآن الكريم واحتفل به والده كما جرت عادة أهل المنطقة تيمنا بأن يكون شيخ فقه وعلم، أما في المدرسة الفرنسية فقد أكمل دراسته إلى السنة الأخيرة من المرحلة الابتدائية، ثم تفرغ لدراسة العلوم العربية والإسلامية فدرسها على شيوخ بني يعلى الذين منهم الشيخ سعيد صالحي أحد أعضاء جمعية العلماء البارزين، في هذه الأثناء درس بوشامة النحو والقراءات والتجويد والفقه والتوحيد .. وخلال الثلاثينات من القرن العشرين وصل إلى بني يعلى إشعاع الحركة الإصلاحية من رافد آخر وهو الفضيل الورثلاني كما وصلتهم مجلة الشهاب وتأثير حركة ابن باديس، وقد بدأ الربيع بوشامة نشاطه بمساعدة شيخه صالحي على التدريس في جامع البلدة، ثم انضم إلى جمعية العلماء واعتنق مبدأها الإصلاحي، وفي سنة 1938 أوفدته الجمعية إلى باريس رفقة سعيد صالحي لبث أفكارها في أوساط العمال الجزائريين بعد التحاق الورتلاني بالقاهرة، وقبل

أن يتم سنة في فرنسا استدعي للخدمة العسكرية ولكنه أعفي منها لضعف بصره، فالتحق بالشيخ ابن باديس في قسنطينة وتتلمذ عليه. بقي في قسنطينة بضعة أشهر فقط لأن ابن باديس نصحه بالدراسة في الزيتونة، ولكن حالته المادية حالت دون ذلك، تأثر الربيع بوشامة بابن باديس فسار على هداه في حياته وبعد وفاته، وفي سنة 1942 التحق بخراطة لينشر فيها التعليم العربي الحر على الطريقة الباديسية، ولكن خراطة تعرضت إلى ما تعرضت له قالمة وسطيف أثناء حوادث الثامن مايو فاعتقل بوشامة ورمي به في السجن، ووجهت له تهمة التحريض على الجهاد، وصدر الحكم بإعدامه ولكن الحكم لم ينفذ، ولما خرج من السجن في فبراير 1946 على إثر العفو العام توجه إلى العاصمة وتعاطى التعليم في مدرسة (الهداية) بحي العناصر، وهناك اتصل بإدارة جمعية العلماء واتفق مع الشيخ الإبراهيمي على العمل في نطاق مدرسة الهداية، ثم تحول إلى مدرسة الثبات بالحراش ابتداء من سنة 1948، وبعد عدة سنوات انتدبته الجمعية لتمثيلها في باريس (أغسطس، 1952) حيث أصبح معتمدها ورئيس شعبتها، والمعروف أن الإبراهيمي قد زار باريس في طريقه إلى المشرق في يناير من السنة المذكورة. رجع الشاعر إلى مدرسة الثبات بالجزائر حيث تعرفت عليه، وبقي يديرها ويدرس فيها إلى يناير 1959 حين أوقفته السلطات الفرنسية، كان الشاعر يحب مهنته وخدمة اللغة العربية والإسلام في الجزائر وهذا هو شعار الحركة الإصلاحية، وطالما أشاد بوشامة بالعروبة والإسلام في شعره وأحاديثه، وبالإضافة إلى ذلك هناك موضوع الحرية والوطنية وأحداث الثامن مايو وقضايا فلسطين وليبيا ومصر، ولم ينضم بوشامة إلى أي حزب سياسي حسب علمنا وإنما كان قريبا من اتجاه حزب الشعب مثل العديد من معلمي الجمعية. له ديوان مطبوع الآن بعد أن جمع شعره وقدم له قريبه جمال قنان، ويبدو أن الديوان لا يضم كل شعره، وهو الشعر الذي نظمه قبل وأثناء الثورة، وقد

عبد الكريم العقون

قال جامع الديوان إن الشاعر كان ينظم القصائد أثناء الثورة ثم يبعث بها إلى جيش التحرير اعتقادا منه أنها ستظهر بعد الاستقلال، وقبل اعتقاله جمع شعره في كراس وكتب عليه (هذه مجموعة شعرية من نظم الربيع بن الصديق بوشامة، أتقدم بها كأعز أثر وألطف تحية إلى أبناء العروبة والإسلام وحماة الجزائر خاصة)، ورغم ذلك فقد عرفنا أنه لم يكتب في الكراس سوى أربع قصائد (1). كان الشاعر بوشامة يعرف المناضل عميروش قبل اندلاع الثورة، منذ كانا معا في باريس، وكان عميروش يجمع بين النضال في حزب الشعب والعضوية في نادي جمعية العلماء في عهد بوشامة لاعتقاده أن الجمعية والحزب يتكاملان في رسالتهما الوطنية، وهذه الصلة بين الرجلين هي التي جعلت عميروش، وقد أصبح مسؤولا عسكريا في الثورة، يهيى للشاعر، منذ 1957، أوراق الخروج من الجزائر قبل إلقاء القبض عليه، ولكن الاعتقال حصل أثناء وجود الشاعر في مدرسة الثبات ووجهت إليه تهمة تمزيق العلم الفرنسي، وفي 14 مايو، 1959 وجد مقتولا أمام بلدية بودواو بعد عذاب أليم (2). عبد الكريم العقون المعلومات عن حياة الشاعر عبد الكريم العقون شحيحة، فهو من مواليد برج الغدير (ولاية سطيف) سنة 1918، تلقى تعليمه الابتدائي على يد الشيخ موسى الأحمدي ثم الشيخ عبد الحميد بن باديس ابتداء من 1933، ولعل ابن باديس هو الذي وجهه إلى جامع الزيتونة حيث حصل على شهادة التطويع، ثم عمل في مدارس جمعية العلماء مدة خمس عشرة سنة، وقد التقيته عدة مرات في مركز الجمعية بالقصبة سنة 1955 قبل سفري إلى الشرق. كان هادئا دمث

_ (1) جمال قنان، ديوان الشهيد الربيع بوشامة، المتحف الوطني للمجاهد، الجزائر، 1994، ص 34. (2) ديوان الشهيد الربيع بوشامة، مرجع سابق، ص 23 - 29.

عبد الرحمن العقون (بلعقون)

الأخلاق متأنقا في لباسه، ولكننا لم نجلس للتحدث، كان أبيض البشرة، ويلبس نظارة طبية، ولا أدري متى بدأ العقون نضاله في صفوف جبهة التحرير. قبض عليه العدو في مسجد المرادية حيث كان يلقي درسه يوم 15 يناير، 1959، وهو تقريبا نفس التاريخ الذي قبض فيه على الشيخ الربيع بوشامة، ولعل العقون كان من سكان حي المرادية، وقد ذهب محمد ناصر إلى أن منظمة الجيش السري الإرهابية هي التي اختطفته واغتالته في نفس السنة، وسواء اغتالته هذه المنظمة أو منظمة اليد الحمراء، فإن الاسعمار كالأخطبوط له أكثر من ذراع يبطش بها، فقد قتلوه بعد التعذيب في الثالث عشر من مايو في الدويرة (من ضواحي العاصمة). الشاعر عبد الكريم العقون مقل في شعره ويتميز بالعاطفية والوطنية والإصلاح، وهو في شعره أقرب إلى التيار الرومانسي، وأسلوبه تجديدي ويميل إلى الرقة في العبارة والنغم في الألفاط، وهو أقرب جيله إلى التيار الرومانسي الذي كان يمثله الطاهر بوشوشي، وقد نشر معظم شعره على حد علمنا، في جريدة البصائر من السلسلة الثانية، وربما نشر أيضا في صحف أخرى، وله ديوان يبدو أنه ما يزال مخطوطا (1). عبد الرحمن العقون (بلعقون) يبدو أنه لا صلة عائلية بين الشاعرين العقونين، أما من حيث الأدب والمهنة والفكر فالقرابة ثابتة، فكلاهما تعاطى التعليم وخدم الثورة، وكلاهما انتمى إلى التيار الوطني غير أن عبد الرحمن قد انتمى إلى حزب الشعب/ حركة الانتصار بينما انتمى زميله إلى الحركة الباديسية الإصلاحية، وإذا كان عبد الكريم قد عرف بالشعر فإن عبد الرحمن عرف بالنثر والشعر معا، وكان نثره أفضل من شعره، ومع ذلك فإن لعبد الرحمن ديوان شعر مطبوع بينما ما يزال

_ (1) محمد ناصر، الشعر الجزائري الحديث، مرجع سابق، ص 681، ويقول ناصر إنه استقى معلوماته عن العقون من الشيخ حمزة بوكوشة الذي كان صديقا للشاعر.

شعر عبد الكريم مخطوطا، كما أن عبد الكريم لم يخرج من الجزائر أيام الثورة أما عبد الرحمن فقد هرب وخدم الثورة في الوفد الخارجي في سورية والأردن، وقد أطال المكث في البلد الأخير (1958 - 1964). ولد عبد الرحمن في وادي الزناتي سنة 1908، ودرس الابتدائي في مسقط رأسه على يد شيخه عمار مهري والد المناضل عبد الحميد مهري، واستغرق ذلك، حوالي سبع سنوات (1926 - 1933)، وانضم إلى حزب الشعب مبكرا، فكان عضوا في لجنة المدارس الحرة التي أنشأها الحزب، واشتغل بالتعليم ولكنه لم يقتصر عليه بل مارس أيضا التجارة والفلاحة من أجل العيش، وقد اعتقل وسجن إبان الثورة، وبعد الإفراج عنه رحل إلى المشرق وعمل في مكاتب جبهة التحرير كما ذكرنا. له عدة تآليف صدرت بعد الاستقلال، منها: من وراء القضبان وهو كتاب في شكل قصة، وديوان شعر بعنوان (أطوار)، والكفاح السياسي والقومي، وهو نوع من المذكرات في الحياة السياسية والحزبية في الجزائر، ويقع في ثلاثة أجزاء (1). عندما عزمت على كتابة بحثي عن الشعر الجزائري سنة 1957 سمع عبد الرحمن العقون بالمشروع فراسلني بمجموعة من شعره ونبذة من حياته، مثل كل الزملاء الذين راسلتهم، وكان عندئذ في دمشق، ولما صدر بحثي في مجلة الآداب بدا أن العقون قد خاب ظنه ربما لأني لم أكتب عنه كما كان يتوقع، فراسلني بغضب واستعاد مني إنتاجه فأعدته إليه، وقد ندمت على ذلك لأنه لو كان معي ذلك الإنتاج الآن لاستفدت منه في هذا البحث، وعلى كل حال فشعره على ما أذكر شعر سياسي تعليمي هادى العاطفة، وقد قلت إن نثره أفضل من شعره. أما علاقة العقون بالثورة فهو من الرعيل الأول الذي انضم إليها وكان

_ (1) محمد ناصر، الشعر الجزائري الحديث، مرجع سابق، ص 668.

أحمد معاش الباتني

متحمسا لها ومؤمنا بها وقد ساعدته ثقافته العربية على التعليم في الجزائر وعلى القراءة والاتصال بالمشرق في وقت كان المشارقة فيه يدعمون الثورة وأدباءها، ويبدو أن الشاعر قد تأثر بالحياة الثقافية في المشرق كما يظهر ذلك من كتابه الكفاح السياسي. ويقول من درس شعره دراسة دقيقة إن له فيه مرحلتين: الأولى تتميز بكونها باكورة إنتاجه وله في ذلك عذره في عدم الوضوح والكمال، والمرحلة الثانية تتميز بوضوح الشعر وحرارة العاطفة مع عمق التفكير، ويعتبر شعره من هذه الزاوية سجلا حافلا للكفاح السياسي منذ الحرب العلمية الأولى، وقد بلغ درجة عالية فيه منذ ثورة أول نوفمبر، يضاف إلى ذلك أنه كان يعبر من داخل الحركة الوطنية وليس من خارجها لأنه تحمل مسؤوليات فيها واعتنق مذهب الحرية والوطنية. أكثر شعر العقون مكتوب بالقصيد العمودي وله بعض الموشحات، وبالإضافة إلى الشعر السياسي الوطني له أشعار في المجاملات مثل المساجلات وبعض المراثي، كما له بعض الشعر الذاتي والغزلي الديني، وشعره قديم في أسلوبه وجديد في أغراضه وتفكيره، كما قال من كتب التصدير لديوانه (أطوار) وهو زميله مولود مهري بن عمار، ولكن هذا الكلام لا يدلنا على متى يبدأ ومتى ينتهي شعر الثورة عنده (1). أحمد معاش الباتني من أوائل الشعراء الذين تحدثوا عن الثورة وأرهص لها، بدأ ينشر أوائل الخمسينات في البصائر وكانت قصائده بمثابة مقدمات لشعره الثوري ومشاركته

_ (1) مختارات: عبد الرحمن بن العقون، نشرها تلميذه محمد الصالح رحاب، بمناسبة مرور عشر سنوات على وفاته، 1995 - 2005، أما الاقتباس فمن تصدير مولود مهري لديوان (أطوار) الصادر سنة 1980، وليس في المختارات شعر يدل على أنه قيل زمن الثورة. أما الديوان فلم نطلع عليه، أنظر كذلك البصائر، 21 - 28 نوفمبر، 2005.

الفعلية في الثورة، ومن أبرزها قصيدة (مشبوه) التي نشرها خلال السنة الأولى للثورة، وقد جاء فيها: قالوا خذوه فإنه مشبوه ... ومضوا لما في البيت فانتبهوه ما ناله بالكدح قد سلبوه ... وإذا تأبى للردى وهبوه لن يرحموه فإنه مشبوه (1) أحمد معاش لم يشترك في الثورة بشعره فقط بل اشترك فيها بحياته وبعائلته (أبوه وإخوته وأقاربه ...) واستشهد عدد من إخوته وكاد هو يقتل أيضا سواء وهو مسلح في الجبل أو هو متسلل من الجزائر إلى تونس، ولكن البغل الذي كانوا يحملون عليه أثقالهم (استشهد) فرثاه أحمد معاش بقصيدة تدل على رقة إحساسه وإنسانيته وعلى انغماسه في الثورة وعلاقته بتراب وحتى حيوانات بلاده. بعد خروج الشاعر إلى تونس أخذ يعمل في مصالح جبهة التحرير، ثم انتقل منها إلى المشرق أولا لإدارة الفريق الوطني لكرة القدم الذي تكون في تونس لإبلاغ صوت الثورة للبلدان المشقيقة والصديقة، ثانيا للعمل الإعلامي والدبلوماسي الذي انطلق فيه من دمشق والأردن، وأثناء مروره بالقاهرة سنة 1958 التقينا لأول مرة وتعارفنا وتبادلنا الآراء، وكنا قبل ذلك قد تعارفنا على صفحات البصائر حيث كتبت عن بعض قصائده التي اعتبرتها ملحمية، وارتبطت بيننا علاقات حميمة ظلت وفية إلى أن توفاه الله عام 2005 رغم اختلاف أماكن عملنا واهتمامات كل منا، ومن بين ما أذكره له هنا (وهو مذكور في يومياتي) أنه أنجدني عندما كان سفيرا للجزائر في طرابلس (1969) بقرض احتجته لمواصلة نشر كتابي الحركة الوطنية الجزائرية عند سهيل إدريس في بيروت، ولولا قرض معاش لتعطل الكتاب في الصدور، واتفقنا على تسديد المبلغ

_ (1) البصائر، أول أول 1955.

بالعملة الجزائرية بواسطة صديقه الشاعر عبد الرحمن العقون (1). عمل أحمد معاش في السلك الدبلوماسي في المشرق (سورية والأردن) أثناء الثورة وبعد الثورة عمل في طرابلس، ثم حدثت جفوة مع وزارة الخارجية فدخل المعارضة الصامتة، وانتقل إلى أوروبا وعمل في الصحافة العربية بالخارج، وعاش حياة ليس عندي تفصيلها ولكنها حياة غاضب على الأوضاع في بلاده، ولم يرجع إلى السلك الدبلوماسي وإنما تقاعد وتفرغ للكتابة شعرا ونثرا فظهرت له بعض الدواوين، منها (التراويح وأغاني الخيام)، وكنت أظن أنه ترك الشعر ولكنه رجع إليه في السنوات الأخيرة من حياته، بل أكثر منه، وكان نجيه في غربته ومؤنسه في وحدته ومنسيه آلامه الجسمية والوطنية، فقد كان يعاني المرض الذي طال به، ويعاني مما أصاب الجزائر من أزمة وتمزق خلال التسعينات، فكان الشعر مرجعه وهو بلسمه يبثه أحزانه، وقد نتج عن ذلك ديوان جديد نشر في آخر أيامه، ولعله لم يطلع عليه، وقد صدر ببعض كلمات مني أبى إلا أن يحليه بها. كتبت عن شعر أحمد معاش وعن حياته في مناسبات أخرى، وهو يستحق دراسة شاملة، ولا يعنيني هنا شعره في الأزمة الجزائرية (التسعينات) ولا إخوانياته التي قالها بعد الثورة والتي أكثر منها، خصوصا التهاني والمراثي، ولكن الذي يهمني هنا هو شعره في الثورة، ويبدو أنه قليل بالقياس لما قاله قبلها وبعدها، والظاهر أنه صرف همته أثناء الثورة إلى العمل الدبلوماسي، ومن شعره في زمن الثورة قصيدة قالها سنة 1956 وقصيدة بني العرب سنة 1958 وقصيدة ذكرى الثورة التي قالها وهو في دمشق سنة 1959 (2). بالإضافة إلى قصيدة (مشبوه) نشر معاش في البصائر أيضا قصيدة (لحن

_ (1) عن رأيي في شعره الملحمي انظر كتابنا دراسات في الأدب الجزائري الحديث، وقد نشر أيضا في البصائر وفي مجلة الآداب اللبنانية. (2) صلاح مؤيد، الثورة بي الأدب الجزائري، مرجع سابق.

الصحراء) التي تغنى فيها بجمال الصحراء وطبيعتها وصفائها، مع التذكير أنه كان عندئذ يعلم في بسكرة التي تعتبر بوابة الصحراء، ومما جاء فيها: بسط الرمل راحتيه وحيا وحبا ... النخل طيبه القدسيا واستوى في الفضاء يرفع جيدا ... مستطيلا يضوع مسكا زكيا فكأن النخيل في البيد بحر ... ذو سوار يخوض بحرا حييا (1) شعر أحمد معاش الأول أجمل من شعره الأخير لسببين: أنه في البداية كان مفعما بالشباب ويحاول أن يجود الشعر ويرققه ويتخير له الألفاظ المناسبة والصور الجميلة، وكان مهتما بالطبيعة والإنسان، أما شعره الأخير فقد تميز بالارتجال، وقلة المراجعة، والاندفاع بحيث يقرأ عن الحادثة في الصحف أو يسمع عن وفاة مجاهد أو زعيم فيصوغ الخبر قصيدة طويلة أحيانا، ولم يعد يكترث بالأسلوب والصور وإنما أصبح مهتما بتوصيل صوته والتعبير عن رأيه في الحدث نفسه، وقد حاولت في مراسلاتي معه أن أثنيه عن هذه الطريقة، واقترحت عليه ذات مرة التوقف عن قول الشعر برهة، أو مراجعته ونقده الذاتي قبل نشره، ولا أدري ماذا كانت دوافعه في الإسراع بنشر شعره: هل هي المادة (وكان في حاجة إليها) أو هي الشهرة، أو التخلص فقط من الشحنة الثقيلة التي دفعت به إلى نظم القصيدة. نظم معاش القصيدة العمودية في الأغلب ولكنه نظم أيضا الموشح، والقصائد متعددة القوافي والأجزاء، وحاول الشعر الحر، وكان متدفق المشاعر تواتيه الألفاظ ويسيل به القلم حتى يعتقد قارئه من سرعة ردوده أنه يشعر ولا يفكر، يكتب ولا يتأمل. أما حياته فقد لخصها محمد ناصر في كونه ولد في باتنة سنة 1928. ودرس في مدارس جمعية العلماء في باتنة وقسنطينة، ثم في جامع الزيتونة

_ (1) البصائر 353

صالح خباشة

بتونس، ومن شيوخه في باتنة محمد العيد آل خليفة الذي تتلمذ عليه في العلم والشعر، ويضيف محمد ناصر أن شعره فيه نزعة إصلاحية ووطنية، وبالإضافة إلى دواوينه نشر كتابا بعنوان كلمات متقاطعة، وقصص وأشعار للأطفال (1). صالح خباشة وهو المعروف بابن بابا صالح، شاعر من الجنوب (بني ميزاب)، له شعر في الثورة، منه: مأساة القصبة، ربما هي معركة الجزائر، وأيام الإضراب الشعبي العام الذي دعت إليه جبهة التحرير وأراد الفرنسيون منعه، وله قصيدة عن إضراب الطلبة عن الدراسة والتحاقهم بالثورة، وأخرى عن التجارب النووية الفرنسية في الصحراء الجزائرية، ومن ذلك قصيدة عن الثائر الذي قتل المعمر (فروجي)، رئيس بلدية بوفاريك الفرنسي، وله غير ذلك من القصائد. ولد خباشة في القرارة سنة 1933، ودرس الابتدائي والثانوي في هذه البلدة العلمية النائية التي اشتهرت بشيخها إبراهيم بيوض مدير معهد الحياة، ثم توجه الشاعر إلى تونس للدراسة في جامع الزيتونة، وبعد تخرجه التحق بكلية الآداب، جامعة بغداد وتخرج منها سنة 1961، وكان على صلة بالثورة ورجالها واللاجئين في تونس، وشارك - كما يذهب محمد ناصر - في تثقيف شباب جبهة التحرير في تونس، كما شارك في الإذاعة والصحافة التونسية، ومنذ الاستقلال التحق بالتعليم كشأن معظم جيله من الجزائريين الذين درسوا في المشرق العربي أيام الثورة، ولا ندري كم هي القصائد التي نظمها في الثورة، ولكن ديوانه (الروابي الحمر) يرمز إلى الثورة، وهو يتجه نحو التقليد في شعره ولكنه يمتاز بجزالة الألفاظ وصدق العاطفة، وقد عد الجابري له سبع قصائد نشرها في جرائد تونس بين سنوات 1956 و 1961 (2).

_ (1) محمد ناصر، الشعر الجزائري، مرجع سابق، ص 67. (2) محمد ناصر، الشعر الجزائري، مرجع سابق، ص 673، والجابري، النشاط العلمي، الملحق.

الشعر الرومانسي

ومن شعر خباشة قصيدته (صرخة في الصحراء) التي قالها سنة 1957 وجاء فيها: أفي صحرائنا اتخذوا الديارا ... إليكم، لن تطيب لكم قرارا سماواتي عليكم ثائرات ... وتحرق بالصواعق من أغارا وأرضي متكم تتشق غيظا ... فكم جيش لكم فيها توارى الشعر الرومانسي وبينما الثورة تسير وشعراؤها يتغنون بها ويتحمسون لها ويدعون إليها كان هناك شعراء فضلوا تناول موضوعات أخرى في شعرهم لا علاقة لها بالثورة ولا بالسياسة، لقد كانوا يتناولون الشعر الديني والشعر السجالي والشعر الوصفي أو المثالي (الرومانسي) وشعر الرثاء، بل والشعر التاريخي في شكل دراسات لقدماء الشعراء أو تاريخ الأدب. فإذا رجعنا إلى مجلة هنا الجزائر مثلا (وهي من المصادر العربية الباقية التي غطت فترة الثورة بأسلوب آخر) نجد فيها قصائد دينية للأخضر السائحي تناول فيها الهجرة النبوية ودخول الأعوام الهجرية وشهر رمضان، وأحيانا أشعارا وصفية وإخوانية، كما نجد مساجلة غرامية كتبها محمد حقي السائح (وهي من الشعر الملحون الذي أكثرت منه مجلة هنا الجزائر وفي أغراضه المختلفة)، أما أحمد الأكحل فقد كتب مقالة عن الشاعر سيدي محمد بن علي، شاعر العاصمة الجزائرية ومفتيها في القرن الثامن عشر الميلادي، كما كتب الطاهر بوشوشي الذي كان يوقع شعره باسم (ابن جلا) دراسة لشعر أبي القاسم الشابي وتأثيره في جيل الشباب وخصائص شعر 5 (1).

_ (1) عن ابن علي تنظر كتابنا مختارات من الشعر العربي، وعن السائحي وحقي والأكحل انظر مجلة هنا الجزائر، أوت 1957، أما مقالة بوشوشي عن الشابي فانظرها في نفس المصدر، ديسمبر 1957، أنظر لاحقا.

الطاهر بوشوشي

نشرت مجلة هنا الجزائر قصائد في أغراض متنوعة ولكن لا علاقة لها بالثورة، منهم شعراء الحركة الرومانسية كالطاهر البوشوشي والأخضر السائحي. الطاهر بوشوشي كان بوشوشي من الشعراء الرومانسيين البارزين في هذه الفترة، وكان يوقع أغلب قصائده باسم (ابن جلا)، وكان أيضا يكتب النثر ويترجم من الأدب الفرنسي، فهو من الأدباء المزدوجي اللغة المتميزين، ولد في بجاية سنة 1916، ودرس بها الفرنسية وتابع أيضا دروس اللغة العربية في مدرسة الشبيبة بالعاصمة، فكان فيها من تلاميذ محمد العيد آل خليفة، وقيل إنه درس أيضا في جامعة الجزائر وحصل منها على الليسانس سنة 1939، كما جند في الحرب العالمية الثانية، عمل في الإذاعة الفرنسية بالجزائر وترأس تحرير مجلة (هنا الجزائر) المزدوجة اللغة (عربية - فرنسية)، وجمع من حوله كوكبة من الأدباء ذوي الأقلام العربية أمثال نور الدين عبد القادر وأحمد الأكحل والأخضر السائحي والهادي السنوسي وأحمد بن ذياب والمولود الطياب، وقد استمرت المجلة في الصدور إلى سنة ستين، ولا نتوقع أن المجلة المذكورة ستتناول الشعر الثوري، ويكفي أنها ركزت على الشعر الديني والتراثي والرومانسي سواء المنقول أو المبدع، وكان بوشوشي من الذين أبدعوا القصائد الجميلة وترجموا عن شعراء فرنسا أمثال فيكتور هوغو ولامرتين وبودلير. سافر بوشوشي إلى فرنسا في نهاية الخمسينات واستقر بها ولم يرجع إلى الجزائر إلا ربما أوائل السبعينات، وقد رأيناه في الجامعة حيث كان قليل الظهور وكان يعمل في الترجمة، كما رأيناه في ملتقى الفكر الإسلامي بالعاصمة سنة 1972 عندما كان ملازما لمولود قاسم ومفدي زكرياء وعثمان الكعاك أثناء ترجمته إلياذة الجزائر للشاعر الثوري (مفدي زكرياء) ربما بإيعاز وإلحاح من مولود قاسم.

كنت قد عرفت بوشوشي قبل ذلك التاريخ، أي سنة 1955 عندما كنت أعلم في مدرسة التهذيب التابعة لجمعية العلماء في الأبيار، وكان القسم (الفصل) الذي ألتقي فيه بالأطفال عبارة عن مرأب (قراج) ملتصق بمنزل بوشوشي، وربما هو جزء منه والمتبرع به، وكان منزله في أعالي الربوة المطلة على البحر وجبل بوزريعة وباب الواد على يمين الصاعد في شارع (ريشار ماغي) بالعين الباردة، وقد تعارفنا ولكننا لم نتخالط، وشعرت أنه كان لطيف المعشر متواضعا، وكان يعرف أنني أكتب الشعر أيضا، وكان إذاك رئيسا لتحرير مجلة هنا الجزائر، ولكنه لم يفاتحني في موضوع الكتابة، فكنا نتبادل السلام والمصافحة وبعض كلمات المجاملة إذا تصادف ذلك مع استراحة الأطفال، ويقول محمد ناصر إن بوشوشي نشر شعره أيضا في البصائر والشهاب والثقافة، ولكن شعره يظل قليلا بالنسبة لموهبته، ولعله لم ينشره كله، توفي في فرنسا في يونيو 1978، عن 77 سنة (1). نشر الطاهر بوشوشي (ابن جلا) قصيدة تحدث فيها على لسان المذيع: أنا المذيع ناء لا تراني ... وتسمع ما يفوه به لساني وهي قصيدة تأملية طويلة استوعبت صفحتين من المجلة (2). وقد نشر ابن جلا نفسه قصيدة أخرى حزينة ربما من وحي الواقع الجزائري عنوانها يدل عليها وهي (قدوم المساء) رغم أنها نشرت في فصل الربيع الزاهي، ولبوشوشي قصيدة أخرى بعنوان السماء، وهي من الشعر الحر طويلة ومتعددة الفقرات (3)، وله أيضا قصيدة صادقة في رثاء شيخه أحمد بن

_ (1) محمد ناصر، الشعر الجزائري الحديث، حسب معلومات قدمها له الشاعر نفسه، ص 672، انظر أيضا جريدة (ليبرتي) عدد 17، يونيو 1978، وكذلك مجموعة هنا الجزائر. (2) هنا الجزائر 61، يناير 1958. (3) هنا الجزائر 52، يناير 1957، ص 23.

الشعر والربيع والحزن

زكري عنوانها (إلى رحمة الله) (1). الشعر والربيع والحزن وعلى غرار (مساء) بوشوشي تقريبا نشر أحمد الأكحل قصيده ربيعية حزينة أيضا عنوانها (عند الغروب)، فيها فلسفة وتأمل، بينما كتب ابن ذياب عن الشعر التفاؤلي عند إيليا أبي ماضي تحت عنوان (الحب والبهجة والجمال في شعر أبي ماضي) (2). وهل يصح أن نقول هنا إن الشعراء الذين بقوا داخل الجزائر كانوا يعيشون في حالة تردد وحزن بينما زملاؤهم الذين تمكنوا من الخروج تحرروا من الخوف وآمنوا بأن طريق الحرية هو الطريق الأمثل؟ من الملفت للنظر أن أحمد بن ذياب الذي جمع بين النثر والشعر أيضا خص مجلة هنا الجزائر بمختارات مما قاله الشعراء في فصل الربيع تحت عنوان (معرض للشعراء في الربيع) (3). إن قصيدة (قدوم المساء) لابن جلا قصيدة متحررة، وقد ظهرت إلى جانبها قصيدة (الشاعر المحتضر) للشاعر الفرنسي الرومانسي لامرتين (4). وقد سبق القول بأن الطاهر بوشوشي ترجم قصيدة (الجندول) للشاعر المصري علي محمود طه إلى الفرنسية، وهي القصيدة التي غناها محمد عبد الوهاب وأطرب بها الفئة الأدبية، وعلق بوشوشي على حياة وشعر محمود طه، باعتباره شاعرا رومانسيا متميزا (توفي سنة 1950)، ورأى بوشوشي أن قصيدة الجندول من أجمل ما نظم علي محمود طه، ونوه بديوانه الملاح التائه وليالي الملاح التائه، وشبه علي محمود طه بالشاعر الفرنسي موسوي Mussuet

_ (1) نفس المصدر 64، أفريل 1958. (2) نفس المصدر 65، مايو 1959، نفس المصدر 45، أبريل 1956. (3) نفس المصدر 65، مايو 1958. (4) هنا الجزائر 52، يناير 1957.

محمد الأخضر السائحي

والشاعر الأنجليزي شيللي Shelley (1). كما تحدث ابن جلا عن بحيرة لامرتين في الأدب العربي، وخصص مقالا طويلا في ترجمة حياة هذا الشاعر الفرنسي الشهير والتعريف بدوره في الحركة الرومانسية، كما تناول (بوشوشي) بالتعريف والترجمة الشعراء إبراهيم ناجي ونقولا فياض وابن زيدون، وغيرهم من أعلام الشعر الذاتي (2). ومن هذا الشعر الرومانسي نشير إلى وصف جولة على زورق في بحيرة كومو بإيطاليا لمصطفى بن يلس (وهو مدرس بالجامع الكبير بالعاصمة) يقول فيها من قطعة: ركبنا على متن البحيرة ساعة ... وأمواج أنس النفس عفوا تدفق (3). محمد الأخضر السائحي ولد في بلدة (العلية) نواحي تقرت سنة 1918 وفيها درس الابتدائي، ثم انتقل إلى القرارة حيث درس سنتين على الشيخ إبراهيم بيوض مدير معهد الحياة وعالم المنطقة، ثم توجه إلى جامع الزيتونة بتونس سنة 1935 وتخرج منها بعد أربع سنوات، وشارك في الصحافة التونسية والحياة الطلابية، ولما رجع إلى الجزائر تعاطى التعليم الحر ربما في مدرسة النجاح بتماسين، وقد عمل في القسم العربي بالإذاعة الفرنسية بالجزائر ابتداء من سنة 1952، وظل ينتح فيها إلى الاستقلال، كما علم في الثانوي، وأسهم في تحرير مجلة (هنا الجزائر) التي كانت تصدرها الإذاعة المذكورة، نشر شعرا كثيرا في الوصف والدين والأخلاق، وبدأ النثر في الصحف التونسية، وكان هو وبوشوشي وأحمد الأكحل وعبد الكريم العقون يمثلون تيار الشعر الوجداني في الجزائر، وشعره

_ (1) هنا الجزائر 20، يناير 1954. (2) هنا الجزائر 30، ديسمبر 1954. (3) هنا الجزائر 69، نوفمبر 1958.

عمودي رفيع، من دواوينه همسات وصرخات، وجمر ورماد. وربما اشترك، وهو في تونس، في الحياة السياسية أيضا، فقد مدح بورقيبة مبكرا (سنة 1938)، وكانت تونس تعيش عهدا من التوتر السياسي فتأثر به، ويبدو أنه لم ينظم شعرا في الثورة، فقد تتبعنا معظم شعره في مجلة (هنا الجزائر) فلم نجد له سوى القصائد التي تتفق مع التيار الذي أشرنا إليه، ومن الطبيعي أن يحدث ذلك لأن المجلة تصدر عن مؤسسة فرنسية رسمية (1). نشر السائحي قصيدة بعنوان (العمياء)، وهي ربما تعد من الشعر الواقعي الجديد، كما ألقى قصيدة في الحفلة التي أعدتها بلدية الجزائر لتكريم الممثل يوسف وهبي وفرقته بعنوان (تحية الجزائر لضيوفها)، وهي قصيدة جميلة معنى ولفظا تحدث فيها عن العلاقة بين الجزائر ومصر وعن الفن والأدب، كما نشر قصيدة حول العام الميلادي الجديد، وهي قصيدة جميلة تدعو إلى التأمل، ونشر أخرى عن ليلة المعراج (2). ولكن الشعر الرومانسي لم يكن حكرا على بوشوشي والسائحي أو شعراء مجلة هنا الجزائر، فقد كانت تغلب على الشاعر عبد الكريم العقون النزعة الرومانسية، وبدأ عدد من الشعراء الشباب مسيرتهم في قطار الرومانسية مثل عبد الرحمن الزناقي ومحمد الأخضر عبد القادر السائحي، وقد تأثر أبو القاسم سعد الله منذ البداية بهذه المدرسة الأدبية ثم ظل تحت سلطانها حتى خلال الثورة، ويشهد ديوانه الزمن الأخضر على ذلك.

_ (1) محمد ناصر، الشعر الجزائري، مرجع سابق، ص 676، ومجلة آمال عدد خاص بالشعر الجزائري المعاصر، والمجاهد الأسبوعي 12 يوليو 1970، وصلاح مؤيد. الثورة في الشعر الجزائري، 1963. (2) هنا الجزائر 26، يوليو 1954، وقد انعقدت الحفلة يوم الأحد 13 يونيو، أنظر أيضا نفس المصدر، 62، فبراير 1958.

الشعر المحايد

الشعر المحايد بالإضافة إلى الشعر الرومانسي نشرت هنا الجزائر شعرا آخر ينتمي إلى التيار الإصلاحي أو الإخواني والاجتماعي والديني والوصفي، ومن الشعراء الذين تعاطوا هذه كل هذه الأنوع أو بعضها الهادي السنوسي وابن ذياب والأكحل، ويمكننا وصف هذا النوع من الشعر المنشور في هنا الجزائر بالشعر المحايد أو غير المنحاز، فهو يتناول الدين والرثاء والطبيعة والمخترعات ولكنه ظل بعيدا كل البعد عن السياسة والوطنية والثورة. وإذا ما نقل كابت عن شاعر أو درسه فإن الأشعار المنقولة تظل بعيدة عن ساحة السياسة، سواء كان التقل من الأدباء العرب أو الفرنسيين، فقد احتفلت (هنا الجزائر) بجبران خليل جبران، وأحمد زكي أبو شادي، وأبي القاسم الشابي، وعلي محمود طه، وإبراهيم ناجي، بل اهتمت بأعمال الشعراء في مؤلفات أخرى مثل ما فعل السائحي مع الشعراء الذين ضمتهم رسالة الغفران للمعري، وحديث ابن ذياب عن رابعة العدوية، وحديث جلول البدوي عن ديوان أحمد الخلوف، وهذا الحياد في المختارات الأدبية حصل في النثر أيضا. الشعر الشعبي احتوت (هنا الجزائر) على قطع من الشعر الملحون لابن التريكي، وابن الشاهد، وابن إسماعيل، والدحاوي، ورحاب الطاهر ... في أغراض شتى، ولكن ليس منها الشعر السياسي أو الوطني، كما قلنا. عاصر الشعر الشعبي الثورة وتغنى بها مثل ما تغنى بها الشعر الفصيح. وبقدر ما كان الشعر الفصيح قد احتضن الثورة باعتبارها حدثا وطنيا ضخما له مدلوله التاريخي والمستقبلي وله مغزاه في تثبيت الهوية واسترجاع الاستقلال بقدر ما كان الشعر الشعبي قد نظر إلى الثورة على أنها حدث كبير للتحرر من ربقة الاستعمار البغيض ومن قمع القوانين الاستثنائية الجائرة (الانديجينا)

والانتقام من عهد الإهانة والمذلة وسلب الأرض والاعتداء على العرض، وإذا كانت نصوص الشعر الفصيح مدونة في أغلبها فإن نصوص الشعر الشعبي لم تدون في أغلبها، ولذلك حفظ الفصيح وضاع الشعبي لأنه اعتمد على الرواية الشفوية والذاكرة، وهذه تذهب مع أصحابها ولا تحفظ في أوراقها. ومن حسن الحظ أن بعض الباحثين قد اعتنوا بالشعر الشعبي واستخرجوه من ذاكرات أصحابه أو من رواته ودونوه ودرسوه فأصبح مرجعا للباحثين في تراث الثورة الأدبي، والشعر الشعبي قد دون بلهجة صاحبه وقومه، والجزائر وطن واسع الأرجاء مترامي الأطراف، وقد تعددت لهجاته بتنوع سكانه وتعدد جهاته، ورغم أن اللهجة العامية العربية أقرب إلى أن تكون هي اللهجة المشتركة التي يفهمها الجميع فإن لهجة الشعر الشعبي في كل منطقة تبقى ذات خصوصية لا يفهمها ويتعمق معناها إلا أهل تلك المنطقة أو البلدة، فنحن عند تدويننا للشعر الشعبي يجب أن نقول إنه منطوق بلهجة أهل كذا، ويجب أيضا أن نأتي بباحث أو حتى عارف من أهل هذه المنطقة ليحل بعض غوامضه ويكشف عن أسرار معانيه وتراكيبه. وهكذا فعل بعض الباحثين كالعربي دحو الذي جمع ودرس الشعر الشعبي في منطقة الأوراس، وهي منطقة شاسعة غزيرة الإنتاج، خصص العربي دحو الجزء الأول من مدونته لدراسة الشعر وخصائصه اللغوية والفنية، والثاني للنصوص مع إخضاعها لمقاييس الفهم والتذوق، وقد لاحظ الباحث أن هذا الشعر قد اعتنى بالأسماء العربية والفرنسية الشائعة زمن الثورة مثل الجهاد والشبان وأوليدات (أبناء) العرب والشهداء والجنود والحزب الوطني (الوطنيون)، ومن الأسماء الفرنسية التي راجت في الشعر الشعبي: فرنسا وديغول والقومية (مصطلح يعني الجنود الجزائريين الاحتياطيين في الجيش الفرنسي) ... كما مجل الشعر الشعبي حماس الشاعر والجماهير للثورة ووصف المعارك وتحركات جيش التحرير وهزائم العدو، واهتم بالأعلام والأماكن والعتاد الحربي المستعمل عند الطرفين، وسير المعارك، والسجون ومعاناة

المساجين واللاجئين والمحتشدات والمسؤولين، والبريد، ومساهمة الأشقاء من المغاربة والمشارقة والأصدقاء في دعم الثورة (1). وفي هذا النطاق نشير إلى عمل الأستاذين جلول بن يلس وأمقران الحفناوي، وهو المقاومة الجزائرية في الشعر الملحون (الشعبي)، هذا الكتاب يتناول - كما يدل اسمه - شعر المقاومة والثورة، أي تدوين ما حفظته الذاكرة الشعبية من أشعار في الانتفاضات الوطنية التي حدثت عبر فترة الاحتلال، وهي فترة طويلة ولا يمكن الإحاطة بها لتعدد الانتفاضات من جهة والاعتماد على الذاكرة وحدها من جهة أخرى، ولا شك أن كثيرا من الشعر الشعبي قد ضاع مع أصحابه لأنه لم يدون أصلا. أما ما يتعلق بثورة أول نوفمبر فإن الكتاب يتناولها بداية من صفحة 119. ولا شك أن الشاعر الشعبي قد فاضت قريحته وانطلقت عاطفته منذ فابتح نوفمبر ولكن التدوين هو الذي خانه، ومهما كان الأمر فإن المؤلفين المذكورين قد دونا قصائد تتعلق بمعارك محددة أو بثورة التحرير، وهي: - معركة النسنيسة للشاعر المدني رحمون. - ثورة التحرير للشاعر بوزيان (؟). - ثورة التحرير للشاعر الحاج أحمد ولد البشير. - ثورة التحرير للشاعر بلعباس محمد (ابن القائد). - ثورة التحرير للشاعر عبد القادر المعسكري (العوفي). - سجل معارك عديدة وقعت إبان ثورة التحرير للشاعر محمد بلماحي. - ثورة التحرير للشاعر قزول الميلود. - ثورة التحرير للشاعر عبد القادر بن شهرة.

_ (1) العربي دحو، الشعر الشعبي ودوره في الثورة التحريرية الكبرى بمنطقة الأوراس ج 1 - 2، م، و، ك، 1989، انظر أيضا كتابنا أبحاث وآراء في تاريخ الجزائر ج 3، شعر الشيخ ابن رحومة في معركة غوط شيكة.

الشعر الإخواني والاجتماعي والإصلاحي

تلك هي النماذج التي دونها المؤلفان، فحفظاها من الضياع، ولا شك أن ثورة التحرير قد أنطقت شعراء شعبيين كثيرين، معروفين ومجهولين، ولكن التدوين خانهم كما قلنا، ولم يمجدوا من يجمع آثارهم ويحفظها، ونحن نتوقع أن بعض مراكز البحث والمتلقيات والندوات التاريخية قد سجلت لبعض هؤلاء الشعراء إنتاجهم (1). لم يكن الشعر الشعبي كله شعر جد وحرب بل كان هناك شعر شعبي إخواني أو غزلي أيضا، فقد نشرت مجلة هنا الجزائر مساجلة غرامية بالشعر الملحون بعثها الشاعر محمد حقي السائح من تماسين، وهي مساجلة دارت بين فتى وفتاة جرت في فزان (ليبيا) حسب النص، وللمساجلة مقدمة نثرية (2). وتضمنت المجلة نفسها قصيدة عنوانها (قمر الليل) لابن كريو، وقصيدة (مخدع مغنية) التي لم يذكر معها اسم قائلها في الفهرس، وقد نشرت هذه المجلة أشعارا تراثية لشعراء الملحون من أمثال ابن التريكي وابن الشاهد وابن اسماعيل، وغير التراثية كأشعار الدحاوي ورحاب الطاهر، ويكاد كل عدد من المجلة يتضمن بعض هذا الشعر، وفي باب الدراسات عن الشعر الملحون كتب بالسائح بوعلام دراسة في حلقتين عنوانها: الشعر الجزائري الملحون: اتجاهاته وضروبه (3). الشعر الإخواني والاجتماعي والإصلاحي نقصد بالشعر الإخواني ما يدور بين شاعرين أو أكثر أو بين شاعر وكاتب من مناجاة أو مساجلات أو تظرف ونحو ذلك، وفي الفترة التي نعالجها وجدنا شعرا غير كثير دار بين الأخضر السائحي وزميل له في هنا الجزائر، ونعتقد أن

_ (1) المكتبة الوطنية، الجزائر، 1975. (2) هنا الجزائر 57، أوت 1957. (3) هنا الجزائر 20، يناير 1954، ونفس المصدر 48، يوليو 1956.

هذا اللون لا يخلو منه زمان ولا مكان، رغم أن الثورة قد شغلت الشعراء عنه، كما قلنا، ويدخل في الشعر الإخواني التقاريظ أو تصدير الكتب الجديدة من قبل بعض الشعراء. بمناسبة حفل التكريم الذي أقامه بعض الأدباء للشيخ أحمد توفيق المدني في شهر يونيو 1955 ألقى عدد من الشعراء قصائد بالمناسبة شارك فيها الشعراء: مفدي زكرياء الذي ألقى (قصيدة عصماء) حسب تعبير حمزة بوكوشة الذي نشر وصفا للحفل، وعبد الكريم العقون الذي ألقى (قصيدة بليغة)، بينما شارك أبو القاسم سعد الله الذي كان متغيبا عن الحفل، بقصبدة (بديعة ... أخذت بمجامع القلوب)، (ألقاها نيابة عنه عبد السلام مرجان)، ثم ألقى الشيخ أحمد سحنون (قطعة شعرية رائعة) (1). وفي حصة (نادي القريض) التي كان ينشطها الأخضر السائحي في الإذاعة الجزائرية خصص حصة عن محمد العيد وشارك فيها الشاعر أحمد الأكحل بقصيدة يبدو أنه أهداها إلى شيخه محمد العيد، فقام السائحي بإرسال قصيدة الأكحل إلى محمد العيد بعين مليلة فأجابه عنها بقصيدة على وزنها وقافيتها، قال الأكحل: ذكرى ملاك الشعر حم العيد ... ملكت شعوري مثل ذكرى العيد وهي من أربعة عشر بيتا، فأجابه محمد العيد: يا شعر أنت رسالتي وبريدي ... أبلغ لأحمد أبلغ التمجيد وهي من خمسة عشر بيتا (2). هذا النوع من الشعر كان سائدا بين الحربين واستمر إلى أوائل الثورة. وكان فرسانه هم أحمد سحنون ومحمد العيد والربيع بوشامة ... وكانت

_ (1) انظر البصائر، عدد 331، كلمة وصف الحفل كتبها الشيخ حمزة بوكوشة. (2) هنا الجزائر 21، فبراير 1954.

شعراء آخرون

مواضيعه تتناول بالخصوص افتتاح المدارس وتشييد المساجد، والدعوة إلى نبذ البدع والرجوع إلى الدين الصحيح وسيرة السلف الصالح، وإحياء التراث والتاريخ الوطني. بمناسبة العام الجديد (1960) نظم أحمد بن ذياب قصيدة في المحبة والتسامح بين أصحاب الأديان الثلاثة في الجزائر وتمنى فيها أن يعود التآخي بين المسلمين والنصارى واليهود، حيث يقول: فجميع الخلق لله ... وإن ضلوا، عبيد حنفاء الدين كانوا ... أو نصارى أو يهود واجمع الشمل على الود ... وبارك في المزيد في ظلال من إخاء ... شامل الأنس وطيد في اتحاد ووئام ... صادق العون أكيد (1) ويمكن القول إن الشعراء الذين التفوا حول مجلة هنا الجزائر قد انتحلوا هذا اللون من الشعر، وهو ما أسميناه بالشعر المحايد. شعراء آخرون الحفناوي هالي كان هالي ناثرا وشاعرا، ولكنه مقل في النثر والشعر، ومقالاته قصيرة وشعره عمودي خفيف أو متعدد القوافي، لم ينظم شعرا في الثورة على ما نعرف ولكنه نظم الشعر في الإصلاح والوطنية، وكان يميل إلى الشعر الرمزي الاجتماعي، عمل زمن الثورة كاتبا عاما للجنة التعليم العليا لجمعية العلماء، وهي اللجنة المسؤولة على البرمجة وتوظيف المعلمين وتحديد الامتحانات والشهادات وما إلى ذلك، وكان يرأس اللجنة الشيخ العربي التبسي، تخرج هالي من الزيتونة حوالي 1934 وعمل في التجارة والتعليم، قبل أن ينضم إلى

_ (1) هنا الجزائر 83، يناير 1960.

أبو بكر بن رحمون

جمعية العلماء، فعلم بمعهد ابن باديس، وفي زمن الثورة علم في مدرسة التهذيب بالأبيار (العاصمة) إلى أن قبض عليه وبقي في السجن إلى عشية الاستقلال، كان قبل سجنه يحرر في (البصائر) ركنا بعنوان (ندوتي) يكتب فيه مقالات اجتماعية وأدبية قصيرة وأحيانا مرصعة بالشعر أحيانا. وبعد الاستقلال التحق بوزارة الأوقاف فكان مديرا للنشاط الديني والعلمي، وفي طريقه إلى المسيلة لافتتاح أحد المساجد قتل في حادث سيارة، وقد كتب أحدهم في جريدة الشعب كلمة عنه بمناسبة ذكرى وفاته (توفي في يناير 1965) دعا فيها إلى جمع تراث الشيخ هالي والتعريف به وإظهار مكانته في العلم والأدب والثقافة، ولكن أحدا لم يستجب حتى الآن سوى صديقه محمد الصالح رمضان الذي نوه به في عدة مناسبات (1). أبو بكر بن رحمون من مواليد ليانة (ولاية بسكرة) سنة 1921، حفظ القرآن في مسقط رأسه ودرس على ابن باديس سنة 1936، وعمل في جريدة الوفاق مع ابن عمه، السعيد الزاهري في وهران سنة 1940، ولكنه لم يطل الإقامة أكثر من سنة، وتعاطى التعليم في عدة أماكن منها عين زعطوط بالأوراس، ومدرسة الشبيبة بالعاصمة، واعتنق مبادى الإصلاح، وبعد الاستقلال مال إلى التصوف ورجع إلى بسكرة، ويقال إنه عاش مرحلة صعبة بحيث أصبح يبيت على الأرصفة، وله ديوان شعر نشر - كما قيل - بدون تقديم ولا تعريف بالشاعر، وكان شعره قد نشر في البصائر وفي بعض جرائد تونس ومصر، وتوفي بمستشفى الحكيم سعدان في بسكرة سنة 1984، ويبدو أن شعره وجداني قوي وجميل، ولم نطلع

_ (1) صلاح مؤيد، الثورة في الأدب الجزائري، مرجع سابق، ومحمد الصالح رمضان، سوانح وارتسامات، الجزائر 2004، انظر أيضا ع. ر. جريدة الشعب، 28 يناير، 1966.

أحمد سحنون

على كل شعره، ولم نعرف ما إذا نظم في الثورة أم لا (1). أحمد سحنون شاعر وواعظ وكاتب، شعره ديني وإصلاحي ووطني، وجدته الثورة في كهولته، فكان يكتب النثر أكثر من الشعر، وله ديوان يحتوي على نماذج من القصائد الجميلة، وقد علمنا أنه ألقى قصيدة في حفل تكريم صديقه أحمد توفيق المدني، يونيو 1955، ولكنها تعتبر قصيدة إخوانية تعبر عن الوفاء والتقدير لا السياسة، دخل سحنون السجن مثله مثل العديد من أعضاء جمعية العلماء، وكان قبل ذلك يعمل في جريدة البصائر ضمن هيئة تحريرها، وكان يراجع فيها مادة الشعر ويحرر باب الوعظ والإرشاد، وقد جمعتني به بعض المناسبات خلال السنة التي قضيتها في العاصمة (1954 - 1955)، إحداها حين زرتهم في مقر جريدة البصائر في باب الوادي وصحح لي بيتا في قصيدة (أطياف) التي نشرتها لي الجريدة، كما التقيت به عدة مرات بعد الاستقلال أثناء قيادته لرابطة الدعوة الإسلامية. ولد أحمد سحنون في ليشانة (ولاية بسكرة) سنة 1907، ودرس على والده وعلى الشيخ محمد خير الدين، وقد اتصل بابن باديس ولكن يبدو أنه لم يتتلمذ عليه، ولا نعرف أنه درس في جامع الزيتونة، فثقافته ثقافة رجل عصامي، حل بالعاصمة سنة 1936 وأصبح مديرا لمدرسة التهذيب في حي بولوغين (سانت أوجين سابقا)، ونشر شعره في صحف الجمعية، اعتقل أيام الثورة وعانى من القمع ثلاث سنوات (من 56 إلى 59)، وكتب الشعر في السجن، وقد مثل (حصاد السجن) جزءا هاما من ديوانه الذي صدر سنة 1977، وفي سنة 1981، صدر له (دراسات وتوجيهات إسلامية)، وبعد الاستقلال رجع إلى الكتابة والحديث في الوعظ والإرشاد، وتور الإمامة بالجامع الكبير، وكان

_ (1) محمد ناصر، الشعر الجزائري، مرجع سابق، ص 667، وجريدة الشعب، 6 أكتوبر 1980، وجريدة النصر، 19 أكتوبر 1980، وفي المرجع الأخير مقالة لنذير مصمودي عنه بعنوان (ديوان شعر ومأساة شاعر).

جلول البدوي

خطيبا ولكنه غير حماسي، فهو بطبعه هادى يميل إلى المخاطبة بالحكمة والموعظة الحسنة، ونظرا لمواقفه من النظام السياسي فقد واجه امتحانات عسيرة منها محاولة اغتياله، وكان مرجعا وله مقام معلوم في الحركة الإسلامية التي عاشتها الجزائر خلال الثمانينات والتسعينات (1). جلول البدوي ولد في البليدة سنة 1906 وتلقى فيها تعليمه وكذلك في العاصمة، ثم علم في مدرسة الشبيبة الإسلامية بالعاصمة أثناء إدارة الشاعر محمد العيد لها، أي من 1931 إلى 1942، ورجع إلى البليدة وعلم بها أيضا وأدار المدرسة إلى 1956 حين انتقل إلى المغرب حيث نشر شعره في جرائده مثل الرأي العام والعلم، وكان قبل ذلك قد نشر في جرائد جمعية العلماء كالبصائر، وكذلك في غير جرائد الجمعية كالثبات والمرصاد، ولا ندري إن كان بعض هذا الشعر (في المغرب) في الثورة، وبعد الاستقلال رجع وتعاطى التعليم في بعض الثانويات بالعاصمة إلى أن تقاعد سنة 1971، له ديوان أعلن عنه ولكنه لم ينشره حسب علمنا، وهو (وابل وطل) (2). محمد الأمين العمودي من أبرز عناصر المثقفين والسياسيين في القرن العشرين بالجزائر، ولكن حظه كان عاثرا فلم يبلغ مراده في الحياة ولا في الآداب، وقد اشتكى ذلك في مراسلته لمؤلف (شعراء الجزائر) محمد الهادي السنوسي، ولد في مدينة الوادي سنة 1890، ودخل التعليم الرسمي، وواصله في مدرسة قسنطينة المزدوجة وتخرج في التوثيق والترجمة، وقد استفادت منه جمعية العلماء عند تأسيسها

_ (1) محمد ناصر، الشعر الجزائري، مرجع سابق، ص 678، والسائحي، روحي لكم، ص 81، والبصائر التي صدرت بعد وفاته. (2) محمد ناصر، الشعر الجزائري، ص 671، والشعر الجزائري المعاصر في مجلة آمال، ص 67، والسائحي روحي لكم، ص 73.

محمد الهادي السنوسي

فكان من أعضائها، اختارته كاتبا عاما لها، وأنشأ جريدة (الدفاع) بالفرنسية للدفاع عن الجمعية ومبادئها والمدافعة عن المصالح الأهلية (الوطنية)، وعمل وكيلا شرعيا في بسكرة، أدبه فكه خفيف وعليه سمة من الحزن والتشاؤم، وهو ينتمي إلى الجيل المتقدم في السن وفي الإنتاج الشعري، وما كان لنا أن نورده هنا لولا أنه كان من شهداء الثورة، فقد اغتالته اليد الحمراء (منظمة إرهابية فرنسية) في أكتوبر 1957 ويقال إن جثته وجدت عند قضبان السكة الحديدية قرب مدينة البويرة، ودفن في مقرة بولوغين بالعاصمة قريبا من مقر سكناه، ولا نظن أنه قال شعرا في الثورة، ويبدو أن اغتياله كان عملا إرهابيا هدفه تصفية المثقفين الوطنيين وليس لدوره في الثورة تحديدا لأنه كان عند اختطافه قد بلغ السابعة والستين (1). محمد الهادي السنوسي أحد المثقفين المبكرين في القرن العشرين الذين خدموا الثقافة العربية الإسلامية بنشره لمجموعة (شعراء الجزائر) في جزئين، خلال العشرينات، وبأناشيده الوطنية وشعره الإصلاحي ويبدو أنه لم يبق على نفس الحماس والاتجاه بعد تقدم السن وتبدل ألوان الحياة، فقد خفت صوته الشعري منذ الثلاثينات، ولازم التعليم بين 1945 - 1962، وأثناء الثورة وجدناه محاضرا ومتحدثا في إذاعة الجزائر الفرنسية، ومساهما في مجلة هنا الجزائر. والسنوسي من مواليد ليانة التي قدمت للجزائر عددا من الأدباء والشعراء، ولد سنة 1902 وعاش إلى سنة 1974، درس على والده في مسقط رأسه ثم على الشيخ عبد الحميد بن باديس، ثم عمل في الصحافة الإصلاحية من المنتقد إلى الشهاب، وكان صوت الشباب المجلجل المفعم بالأمل والوطنية، وسافر إلى فرنسا للوعظ باسم جمعية العلماء، وبعد الاستقلال رجع إلى ميدان التعليم إلى أن تقاعد سنة 1971، وكان شعره الذي رأيناه في مجلة هنا الجزائر لا علاقة

_ (1) محمد ناصر، الشعر الجزائري، ص 681، والسائحي، روحي لكم، ص 17، ومقالة حمزة بوكوشة عنه في مجلة الثقافة، يناير 1972.

محمد الأخضر عبد القادر السائحي

له بالثورة، وربما له شعر فيها لم نطلع عليه (1). محمد الأخضر عبد القادر السائحي يعد محمد الأخضر عبد القادر السائحي من أغزر الشعراء المعاصرين للثورة إنتاجا، ومن الذين ارتبط ظهررهم الأدبي بانطلاقة الثورة، عاش في تونس خلال الخمسينات، ولذلك كان على صلة بتطور الأحداث، وقد درس وعمل في عدة مصالح تونسية كالصحافة والإذاعة، وشارك في الحفلات والندوات، كما عمل في صوت الجزائر أثناء الثورة، وانعكس كل ذلك على نشاطه وإنتاجه الشعري، وأصدر ربما أكثر من غيره دواوين، وراوح بين الشعر العمودي والطليق، ولكن يبدو أنه كان لا ينضج شعره ولا يعود إليه بالنقد والمراجعة، ولذلك كان للنقاد رأي خاص في شعره. ولد في العالية (العلية) قرب تقرت سنة 1933 ودرس بها وفي باتنة، ثم قصد جامع الزيتونة سنة 1949 حيث نال شهادة التحصيل 1956، وهي السنة التي استقلت فيها تونس ودخلت فيها الثورة الجزائرية مرحلة جديدة وانطلقت خلالها موهبته الشعرية، ومن الدواوين التي أصدرها أثناء الثورة: ألحان من قلبي، والكهوف المضيئة، وواحة الهوى، ويقول بعض النقاد إن شعره (متفاوت الجودة)، كان في تونس نشيطا في اتحاد الطلبة، وفي العمل الإذاعي والأدبي مثل تقديم التمثيليات والقصص، وقد نشر إنتاجه في الصحف التونسية، وبعد الاستقلال درس في جامعة الجزائر، وعمل في وزارة الشباب وفي اتحاد الكتاب ووزارة الإعلام والثقافة، ونشط الحياة الثقافية على مستويات مختلفة، خصص جانبا كبيرا من شعره لفلسطين أيضا (2).

_ (1) مجلة الثقافة عدد 24 يناير 1975 ومجلة هنا الجزائر في أعداد مختلفة. (2) محمد ناصر، الشعر الجزائري، مرجع سابق، ص 677، وآفاق عربية عدد 12، أوت 1981، ص 114، وكذلك نماذج من الشعر الجزائري المعاصر، والجابري، النشاط العلمي، مرجع سابق، ص 396.

الفصل العاشر كتب وكتابات

الفصل العاشر كتب وكتابات نحاول في هذا الفصل تصنيف ودراسة المؤلفات والأعمال الفكرية والأدبية والإعلامية التي تركها الجزائريون أثناء فترة الثورة سواء كانت عن الثورة وتفاعلاتها مباشرة أو كانت خارجها، ونلاحظ في البداية أن الإنتاج الفكري على العموم كان أقل بكثير من حجم الثورة كما ونوعا. وكأني بالكتاب - على اختلاف مشاربهم ولغتهم - كانوا يعيشون الثورة عملا وهما أكثر مما كانوا يعيشون الفكر والقلم، ولا شك أن انعدام المطابع أو قلتها والشعور بالخوف وعدم الاستقرار ساهم في شح الإنتاج الفكري، وربما كان الضعف المادي عاملا مساعدا على هذا الفراغ، لقد كدنا نجد أن الذين كتبوا عن الثورة الجزائرية كانوا من الأجانب، وهذه ظاهرة غريبة، فلو أحصينا الكتب والمقالات التي كتبها الأجانب لتفوقت على تلك التي ألفها جزائريون، على أن هناك بعض الجزائريين الذين كانت حظوظهم أفضل من زملائهم في ميدان المساهمة والشهرة، فهم ليسوا سواء في ميدان الإنتاج، فمفدي زكريا وصالح خرفي في ميدان الشعر مثلا كانا أكثر شهرة وإنتاجا من محمد العيد وصالح باوية، وكانت شهرة مالك بن نبي في المشرق أوسع من شهرة الشيخ الإبراهيمي رغم أن كليهما كان يكتب النثر ولكن الأول يكتب بالفرنسية والثاني بالعربية.

أما الإنتاج باللغة الفرنسية وفي فرنسا بالذات، فقد وفرته مجموعة من الكتاب اخترقوا حاجز الاستعمار وخرجوا بأدبهم - ولاسيما الرواية والشعر والقصة - إلى العالم من حولهم، فكانت مؤلفات مالك حداد، وكاتب ياسين، ومولود معمري، ومولود فرعون ومحمد ديب وآسيا جبار قد لفتت الأنظار إلى ظاهرة تسمى الأدب الجزائري بلغة المستعمر. ولكن هذه الكوكبة من الأدباء سطعت ثم انطفأت بسرعة أو كادت، فقد أبدعت خلال الخمسينات ثم توارت بالحجاب وكادت تترك ساحة الإنتاج بدون فارس، لماذا؟ لقد أشرقوا فجأة وأفلوا فجأة أيضا، مع بعض الاستثناء، ربما لأن استمرار الثورة، ولا سيما بعد 1959، خيب آمالهم في استجابة السلطات الاستعمارية لمطلبهم وهو إيجاد حل مناسب يرضي الطرفين: الجزائري والفرنسي، فقد كان أغلبهم يؤمن بأن على البلدين ألا يفترقا، وإلا ستحل الكارثة، وقد زاد ظهور التطرف من جانب منظمة الجيش السري وتقاتل الإخوة في فرنسا (الجمهويون والمصاليون) وإصرار الجبهة على رفض المفاوضات إلا على أساس الاستقلال الكامل، زاد كل ذلك من مخاوف الكتاب باللغة الفرنسية من شبح المستقبل، كما أن بعضهم، مثل مالك حداد، قد دخل جبهة التحرير ميدانيا وأصبح متحدثا باسمها في مؤتمرات الكتاب الدولية، بينما بقي آخرون يرضعون من ثدي غيض حليبه وجفت عروقه، فالتزموا الصمت أو عاتبوا التطرف والتعصب اللذين سيحرمانهم من مستقبل سعيد للجميع، حسب رؤيتهم. وقد حاولنا أن نستعمل نفس التصنيف الذي استعملناه في كتاب التاريخ الثقافي السابق، غير أن ضعف الإنتاج قد حرمنا من كمال الصورة، لذلك اضطررنا إلى وضع عدة تخصصات تحت عنوان واحد، وهناك مواد وتخصصات ليس لها وجود أصلا تقريبا في هذه الفترة، كالكتب الدينية والعقائد وكتب اللغة، ونحن نريد أن ندرس ما تركه الجزائريون وليس ما تركه غيرهم، وكان

الدراسات التاريخية

من الممكن أن نفرد المسرحيات والتمثيليات والمجموعات الفنية كاللوحات والرسوم والصور تحت عناوين معينة في هذا الفصل، ولكننا فضلنا عدم اللجوء إلى ذلك بعد أن أثبتنا هذه الأعمال في أماكنها في الفصول الأخرى، كما ننبه إلى أننا لم نكرر هنا الكتب التي ذكرناها - بالعربية والفرنسية - مع أصحابها في الفصول الأخرى، ونرجو أن نكون قد وفقنا فيما لجأنا إليه. الدراسات التاريخية لم يكتب الكثير في التاريخ خلال الفترة التي ندرسها، وقد اختلطت كتابته بالدعاية السياسية عند البعض، مثل كتابات مسعود مجاهد وأحمد توفيق المدني، فكان هذان وأمثالهما يكتبان ردودا وانفعالات مع الأحداث أكثر مما كانا يكتبان التاريخ، وكان الجمهور العربي على العموم يريد أن يقرأ ويعرف عن ثورة الجزائر المزيد وعن علاقة الجزائر بفرنسا وبالعالم العربي والإسلامي، ولعل أقرب الأعمال للتاريخ في هذا الوقت هو كتاب تاريخ الجزائر العام للشيخ عبد الرحمن الجيلالي، ولكن يلاحظ أن الجزء الأول من هذا الكتاب ظهر قبل الثورة، ولم يصل جزؤه الثالي إلى الفترة الاستعمارية أصلا، والكتاب الذي تناول الفترة الاستعمارية وظهرت فيه روح الثورة هو كتاب الأمير عبد القادر ليحيى بوعزيز، وهو أيضا كتاب ظهرت عليه مسحة الدعاية والخطابية، وأما كتاب (الجزائر الثائرة) للشيخ الفضيل الورتلاني وكتاب (ليل الاستعمار) لفرحات عباس فقد كانا عبارة عن وثائق إدانة للاستعمار وليسا كتابين في التاريخ عموما، ومثلهما في ذلك محاضرات الشيخ الإبراهيمي على طلبة معهد البحوث والدراسات العربية بالقاهرة، فقد كان أيضا قد تناول مواضيع تاريخية ولكن بروح ثورية وأدبية. كتابات ابن نبي عن التاريخ ولا يبعد موقف مالك بن نبي من التاريخ عن موقف الإبراهيمي، فهما

كتابات الأشرف عن التاريخ

متقاربان، ولكن ابن نبي أعطى التاريخ معنى أعمق وأوسع، فهو يقول: (كل شعب يجب أن يصنع تاريخه برسائله الخاصة، وبأيديه ذاتها،) والتاريخ في أي مستوى من الحضارة يتم إنجازه إنما يمثل النشاط المشترك للأشياء والأشخاص والأفكار المتاحة في ذلك الحين بالذات، أي في نفس الأوان الذي يواكب عملية إنجازه ... من هنا يجب أن نحلل التاريخ إلى أجزائه الذرية: فالنشاط الفردي يمثل ضمن بعض الشروط المعينة (ذرة) من التاريخ، ويمكننا أن نمثله ضمن أكثر أشكاله بساطة، في صورة نشاط الصانع اليدوي المنكب على عمله والمقص في يمناه، أو في صورة نشاط الجندي المسلح ببندقيته في ميدان القتال، فهذان الآدميان يصنعان التاريخ إذا تحقق لهما توفر الشروط العادية (الإنسان وأدواته) (وكيف يكون ذلك؟ ... ولماذا يكون؟ ...) وإلا يكون العمل عبثا أو مستحيلا (1). حقيقة إن ابن نبي تحدث عن صنع التاريخ وليس كتابته أو منهجه، ولكنه في النهاية جعل الأشياء والأفراد كلهم يشتركون في صنع (ذرات) التاريخ في نفس الوقت، وفي لحظة ما من نبض الزمن، وبذلك يكون التاريخ هو حقيقة أمة بأسرها، كيف تحس به، كيف تتمثله، كيف تلده؟ ذلك هو سر التاريخ لكل أمة، ولن تنوب عنها في إعطائه الحياة أية أمة أخرى. كتابات الأشرف عن التاريخ خلال الثورة كتب مصطفى الأشرف فصولا عن الحركة الوطنية وتطور المجتمع الجزائري ونشرها في مجلات فرنسية منها (الأزمنة الحديثة) و (الحضور الإفريقي)، وهذه البحوث لم تطبع عندئذ في كتاب، وهي في علم الاجتماع أكثر منها في علم التاريخ، وقد كتب الأشرف بحوثه بروح وطنية، وكان يبحث، في ركام التاريخ الاستعماري على عناصر الهوية في المجتمع الجزائري في القرن التاسع عشر، فوجدها في عدة معالم ومقومات منها حركة العرائض التي تقدم

_ (1) ابن نبي، آفاق جزائرية، القاهرة، ط 2، 1971.

تاريخ الجزائر

بها أعيان المدن، وفي المشاعر التي عبرت عنها الصحافة والكتابات الفردية والمذكرات، وأبرزها جميعا هي روح المقاومة التي لم تخمد ولم تعترف بالهزيمة، ولم يكن الأشرف مهتما عندئذ بالثورات لأنها كانت تنبع من الريف وهو يبحث عن دور المدينة، ومهما كان الأمر فلا مناص من أن نعد كتابات الأشرف في باب الدراسات الإنسانية والتاريخية، وهي كتابات لم تجمع وتطبع بالفرنسية إلا بعد الاستقلال، وربما ترجم ونشر بعضها في مجلات تونسية أثناء الثورة، وإليك الآن عناوين البحوث كما ظهرت في الترجمة العربية للكتاب الذي سماه مؤلفه، الجزائر: الأمة والمجتمع. تاريخ الجزائر كنا ونحن طلاب في القاهرة نسمع باسم ونشاط مسعود مجاهد في مجال الكتابة ضد الاستعمار، وقد أصدر عدة كتب يغلب على الظن أنها كانت تنطلق من العاصمة الأردنية عمان، كان مكثرا من الكتابة، وكان يضيف إلى اسمه لقب (القاضي)، ولا ندري كيف استقبل الجمهور العربي المتعطش لأخبار الجزائر كتبه عن الاستعمار الفرنسي لأن العلاقات بين مصر (حيث كنت) والأردن (حيث كان) لم تكن على ما يرام، ولم يكن القاضي مجاهد - حسب علمي - يتولى أية مهمة لجبهة التحرير رغم الحاجة إلى أمثاله ممن خدموا في الإدارة الفرنسية في منصب عال، وقد كان هو قاضيا في الخروب قرب مدينة قسنطينة، وكان الحديث بين الطلاب حول دوره في المشرق لا يستطيع أحد أن يمنعه، فالإنسان أثناء الثورة متهم إلى أن يثبت العكس، خلافا للقانون الذي يقول بعكس ذلك. والواقع أن قصة مسعود مجاهد في هذه الفترة تبدأ من البداية، من سنة 1955 حين وجدناه قد أعد مشروعا لإنشاء جريدة سماها (الجزائر العربية)، واقترح أن تكون ليبيا كبلد تتوسط بين المشرق والمغرب هي مقرها، لكي تصل إلى القراء هنا وهناك بسهولة، وفي هذا الصدد، ورغم وجود الوسائط المعروفة في فترة الثورة، فإنه كتب مباشرة إلى الرئيس عبد الناصر رسالة يطلب فيها

المساندة لتحقيق مشروعه، وإذا كنا قد رأينا نسخة من رسالته فإننا لم نطلع على رد السلطات المصرية عليها، وقد امتلأت رسالته بالوعود والحماس ومدح الزعيم المصري والأمة العربية والضرب على وتر المرحلة (1). أما كتبه في التاريخ فقد ظهرت بعد هذا المشروع الذي يبدو أنه لم ينجح فيه، ونبادر إلى القول إننا رأينا بعض كتبه ونحن طلاب ستوات الخمسينات في طبعتها الأولى، ثم رأينا بعضها حديثا في مكتبة الجامعة الأردنية، ولكننا لم نر منها في الجزائر سوى الطبعة الثانية، أي طبعات ما بعد الاسقلال، وهذا قد يكون طبيعيا، لأن كتبه لم تدخل الجزائر أثناء الثورة لحدة لهجتها ضد الاستعمار، ولكتبه عناوين متقاربة ومحتويات مكررة وأسلوب بعيد عن روح التاريخ، كما أشرنا. فهذا كتاب: الجزائر عبر الأجيال، ظهر في طبعته الثانية سنة 1963 بالجزائر، وهو يحمل على غلافه عبارة مسعود مجاهد، القاضي المتقاعد، وقد ركز فيه على فكرة النقابات ودورها مثل الاتحاد الفرنسي للعمال المسيحيين، والاتحاد العام للعمال الكادحين ... ويقول إن اندماج العمال الجزائريين في النقابة الأخيرة قد أفاد الثورة وإن هذا (الكفاح جزء لا يتجزأ من تاريخ الجزائر) (ص 74)، وبعد الإهداء جاء تقديم الكتاب من قبل السيد أسعد بيوض التميمي مدير دار الأيتام الإسلامية الصناعية في القدس الشريف، وقد قال فيه إن مجاهد قد ساهم في كتابة تاريخ الجزائر وإنه مسجل في نقابة المحامين الأردنيين، وإن كتابه (الجزائر عبر الأجيال) قد أوضح تاريخ الجزائر (من أيام الأمير عبد القادر إلى يومنا هذا) وهو كتاب مرجع للمؤرخ وحريق للظالم. أما منهج السيد مجاهد في هذا الكتاب وغيره من كتبه فلم يعتمد على الفصول والأبواب، وقد بدأه من الفتخ الإسلامي إلى ما بعد الاستقلال (ونحن هنا نتكلم عن الطبعة الثانية)، وألم فيه بخصائص الشعب الجزائري، ومن

_ (1) انظر عن هذا الموضوع فقرة الصحافة في فصل الإعلام.

عناوين هذه الفقرة: مجتمع من الناس يتكون (كذا؟)، ومجتمع له لغة واحدة، ومجتمع له وطن واحد، ومجتمع له وحدة اقتصادية، ومجتمع له عادات وتقاليد واحدة وثقافة واحدة (ص 20)، وهو يؤكد أن الشعب الجزائري استكمل العناصر المذكورة بعد الفتح العربي، وهي العناصر التي تأكدت بعد (الفتح التركي)، ثم تحدث مجاهد عن مسيرة الجزائر عبر العصور، ولكن الكتاب ركز على مرحلة الاستعمار والثورة، وسار فيه صاحبه على عناوين مختلفة غير متناسقة مثل مساندة الغرب لفرنسا، دور الغرب في حرب الجزائر، موقف الدول الأوروبية، معارك الأمير، هجرة الجزائريين للمشرق، ثروة الجزائر عبث بها الاستعمار ... وختم هذه العناوين بعبارة الجزائر عربية، ويحتوي الكتاب على 735 صفحة، وهو مكتوب بأسلوب دعائي، كما قلنا، وله مراجع لكن بعضها لا معنى لذكره مثل: إبراهيم الجزائري (؟)، والزعيم زغلول (؟) وإبراهيم بن سهل ... وليس للمراجع تاريخ ولا مكان للنشر. إن كتابا من هذا النوع وإن كان يتحدث عن الجزائر فإنه لا يفيد القارى الذي يريد أن يعرف الحقيقة عن الثورة وتاريخ المقاومة، وهو كتاب للإعلان عن صاحبه أكثر من الإعلان عن موضوعه، وربما لذلك قلما يعود إليه الباحثون في مراجع الكتابة التاريخية عن الجزائر. ولمجاهد مسعود كتاب آخر عنوانه (الجزائر الحرة) أهداه في أربع صفحات إلى أرواح الشهداء، والشهداء هنا هم شهداء الجزائر وشهداء القدس مما يجعلنا نرى أنه قد يكون كتب الإهداء بعد هزيمة 1967، وبعد كلمة للمؤلف جاء تقديم أسعد بيوض التميمي من جديد، وهو تقديم طويل بلغ بضع صفحات، وهناك مقدمة أخرى يبدو أنها كتبت في عهد الثورة إذ يذكر فيها مرور ست سنوات عليها، والكتاب في 464 صفحة، وقد اتبع فيه نفس المنهج الذي اتبعه في الكتاب السابق، أما عناوينه فمنها: الجزائر في العهد الجاهلي، الجزائر في العهد الإسلامي، الجزائر قبل الاحتلال، حرب العقيدة، الأمير عبد القادر، صمود اللغة العربية، ثورة الجزائر ... وللكتاب مراجع ليست دقيقة أيضا.

فعندما جاء ذكر مصطفى الأشرف مثلا قال أمامه: عدة كتب عن الجزائر (كذا)، ومحمد بن تومرت: الجزائر (كذا)، ومادة الكتاب متداخلة مع مواد الكتاب السابق، وهو مكتوب بأسلوب دعائي مكشوف، وليس فيه هوامش ولا تعاليق، ويبدو أنه أضاف أشياء إلى هذه الطبعة لأنه تحدث عن الجزائر بعد الاستقلال أيضا، (ص 387)، وقد صدرت طبعته الثانية بمناسبة الذكرى العشرين للاستقلال. ولمسعود مجاهد كتاب بعنوان (تاريخ الجزائر) ولعله هو (الجزائر الحرة) سابق الذكر، وقد جاء ذكر الكتاب كاملا في رسالة شكر بعث بها إليه السيد محمود بوعياد مدير المكتبة الوطنية بعد تلقيه إهداء المؤلف له مجموعة من كتبه، ومنها: الجزائر عبر الأجيال، وتاريخ الجزائر الحرة (كذا)، وانهيار خطط الاستعمار الفرنسي في الجزائر، وأضواء على الاستعمار الفرنسي للجزائر (1). ويبدو أن نفس الكتاب قد تكرر عنوانه، إذ نجد (تاريخ الجزائر) يحمل أيضا تقديم أسعد بيوض التميمي مثل الكتابين السابقين، وهو يشبههما في العناوين الداخلية وفي المنهج، مع إضافة عناوين مثل: تفاعل العرب مع الأمازيغ، ودور الأساطيل الإسلامية في البحر الأبيض المتوسط، ومقاومة الشعب الجزائري للأتراك ... وتخبط الغزو الفرنسي، وعهد الأمير إلى التسليم ... ونلاحظ أنه أخذ معلومات غزيرة من كتاب (تحفة الزائر) لمحمد بن الأمير، ومن كتاب (المرآة) لحمدان خوجة، وعن أحمد توفيق المدني، وقد قال مجاهد عن خوجة ما يلي: (وترك وثيقة من أغرب وأثرى وثائق التاريخ الجزائري الحديث ... كتابا ضخما أسماه مرآة الأحوال نقله إلى الفرنسية أحد الكتاب اللبنانيين وطبع في مجلد ضخم سنة 1873 بمدينة باريس .. (وهذا كله

_ (1) تاريخ رسالة بوعياد هو 10 مايو، 1966، وفي وقت لاحق 11 يناير 1971 أرسل السيد مجاهد رسالة إلى وزير العدل عندئذ، بوعلام بن حمودة، طالبا منه الإذن بنشر كتاب تاريخ الجزائر (كذا)، وهذا طلب غريب، فهل كان المؤلفون الجزائريون يستأذنون في طبع أو إعادة طبع كتبهم؟ ومهما كان الأمر فإن الوزير قد أذن له برسالة تاريخها 19 يناير 1971، وفي الرسالة أن السيد مجاهد (المدافع القضائي، الحراش).

الجزائر الثارة

خلط في المعلومات سواء من الناقل أو من المنقول عنه، فالكتاب اسمه (كتاب المرآة)، وليس (مرآة الجزائر) الذي هو لعلي رضا بن حمدان خوجة، وليس هو مرآة الأحوال ... والمترجم للمرآة هو حسونة دغيز الليبي الطرابلسي وليس اللبناني ... وأن سنة طبع النسخة الفرنسية لكتاب المرآة هي 1833 وليس 1873 ... ترى ما مصير القاضي مسعود مجاهد؟ لا شك أن له تجربة عميقة ووثائق دامغة في القضاء الشرعي في الجزائر في العهد الفرنسي، وكم كنا نتمنى لو أنه ترك التاريخ لأهله وكتب كتابا مرجعا عن القضاء، ولاسيما القضاء الإسلامي الذي كان ضحية الاستعمار، فهل ترك مجاهد في وثائقه مخطوطا في شؤون القضاء والقضاة في الجزائر؟ الجزائر الثائرة يعتبر صاحب هذا الكتاب الشيخ الفضيل الورتلاني، من زعماء العالم الإسلامي وربما كان يعد نفسه لخلافة ابن باديس، الذي تتلمذ عليه وأخذ منه العلم وروح القيادة، ولكن عوامل غير متوقعة صدمت إرادته وطموحه وجعلته مثل الأفغاني، ينجو بجلده في كل مرة حوصر فيها إلى أن دخل القفص في بيروت ثم تركيا كما دخل الأفغاني القفص في اسطانبول، كلاهما كان حيا ولكنه مشلول الحركة وحتى اللسان، وهذا أعظم ما يصيب الزعيم. بدأ الورتلاني نشاطه في الجزائر معلما وداعية، وحلال مشاكل، على صغر سنه، ثم أرسل به أستاذه إلى فرنسا ليسابق حزب الشعب للفوز بالجالية الجزائرية في المهجر باسم جمعية العلماء وليدخل هذه الجالية في حظيرة العروبة والإسلام حتى لا تضيع في عش الإهمال والغزو الفكري المصبوب عليها من جميع الاتجاهات، وفي دورة ما تزال غامضة ترك الورتلاني فرنسا والتحق بالقاهرة، ويبدو أن هذه النقلة كانت بتوجيه من حركة الإخوان المسلمين الباحثين عن القيادات الشابة والفعالة في العالم الإسلامي، رغم أن

البعض يقول إن سبب انتقاله يرجع إلى بوادر الحرب العالمية بين فرنسا وألمانيا، في القاهرة التحق الورتلاني بالأزهر الذي وفر له الغطاء كما فعل مع العديد من قيادات العالم الإسلامي سابقا، فأصبح الورتلاني ينشط في حركة الإخوان، ووجد في الشرق مجاله في الخطابة والأضواء، كما وجد الميدان المغاربي فارغا فملأه. لم يكن هناك أي زعيم سياسي بعد من المغرب العربي في مصر، فلا الخطابي، ولا الفاسي، ولا بورقيبة، ولا الثعالبي، ولا المكي ولا الإبراهيمي كان في القاهرة عندما حل بها الورثلاني، كان الشيخ الثعالبي يملأ الساحة المشرقية خلال الثلاثينات ولكنه رجع من مصر إلى تونس سنة 1937، أي سنة واحدة قبل حلول الورتلاني بمصر، ولم يكن الشيخ أطفيش الرجل المناسب للقيادة عندئذ، ولا حتى الشيخ محمد الخضر حسين الذي جمع بين الأصول الجزائرية والأرومة التونسية، والذي كان رجلا متفرغا للعلم أكثر من السياسة، فكان مجال القيادة في الشؤون المغاربية مفتوحا أمام الورتلاني وحده تقريبا، فأسس هو والشيخ الحسين جبهة الدفاع عن شمال إفريقيا (1942) وهي التي مهدت لميلاد مكتب المغرب العربي بزعامة الخطابي سنة 1947، كما مهدت أيضا لالتحاق قيادات المغرب العربي بالقاهرة. لم يكتف الورتلاتي بهذا النشاط الذي شمل التعامل مع الجامعة العربية الجديدة (1945)، ونشاط جمعية الشبان المسلمين وحركة الإخوان وإنما صعد سلم الزعامة كخطيب شجاع ومتحدث مؤثر وسياسي داهية، فأرسله الإخوان في مهمة حساسة وخطرة إلى اليمن وغيره، ونتج عن ذلك الشروع في إصلاح الأحوال باليمن ثم حدوث الثورة على الإمام يحيى حميد الدين، وهي الأحداث التي مهدت للثورة اليمنية سنة (1962)، وعندما التحق الشيخ الإبراهيمي بالمشرق سنة 1952 نسق مع الورتلاتي ما يتعلق بالبعثات الطلابية والعلاقة مع حركة الإخوان، والنهضة الإسلامية، وهي أمور ما زلنا إلى الآن نعرف ظواهرها ولا نعرف بواطنها.

ولكن كتاب (الجزائر الثائرة) إذا قرئ بتأن يجيب على أسئلة عديدة تلح على الباحثين، فهو كتاب يضم وثائق هامة من الناحية التاريخية تبدأ من ميلاد جبهة الدفاع عن شمال إفريقيا إلى ظهور الكتاب نفسه سنة 1956، مرورا بأحداث الثورة المصرية والجزائرية، وكان اسم الفضيل الورتلاني يظهر إلى جانب اسم الشيخ الإبراهيمي في الوثائق الصادرة عن مكتب جمعية العلماء والمتعلقة بتبني الثورة ودعمها شعبيا، ودعوة العالم العربي الإسلامي إلى مساندتها، كما كان اسمه يظهر في المراسلات كالبرقيات والرسائل التي تصدر عن مكتب الجمعية بالقاهرة، وإذا كان الشيخ الإبراهيمي قد جاء إلى مصر عندئذ على كبر وعلى مرض فإن الورتلاني وجد في الإبراهيمي مفتاحا يدير به سياسة الجمعية في المشرق مع الحكومات والمنظمات والشخصيات، ومن الطبيعي أن تثير هذه الشخصية النافذة والمؤثرة حساسية زملائه الذين التحقوا بالقاهرة هاربين من الجزائر بعد حادث بريد وهران واكتشاف المنظمة الخاصة، مثل محمد خيضر وأحمد بن بيلا وحسين آيت أحمد، وأن تتقاطع أحيانا مع نشاط الشاذلي المكي، وأحمد بيوض، وبوجملين هناك، فمن الذي يمثل الجزائر. ومن له الصوت العالي والسمعة الرفيعة، ومن القادر على التأثير في جماهير الشرق وأعيان الشرق، ولولا الثورة المصرية وضباطها الأحرار وإعلان جمال عبد الناصر في (فلسفة الثورة) عن دوائره الثلاث لما استطاع زعيم آخر أن يبز الورتلاني أو يزعزع مكانته كمتحدث باسم الجزائر وجمعية العلماء في المشرق، بل كزعيم من زعماء حركة الإخوان المسلمين. إن كتاب (الجزائر الثائرة) مجموعة من الوثائق والتصريحات والبيانات والمراسلات غير المنظمة، فهو يشمل مقالات كتبها صاحبه في الصحف، خصوصا: بيروت، المساء، والمنار ... كما يشمل البيانات التي أصدرها مع الإبراهيمي في الثورة وحول الثورة، أو أصدرها وحده، وللكتاب تصدير من عشر صفحات مكتوبة في بيروت في رجب 1375 /فبراير 1956 وعنوانه (التعاون مقدس والتعارف أقدس) وهو يعني تعارف العرب جميعا، قال

الورتلاني في التصدير إن جماعة عباد الرحمن (وهي من الإخوان المسلمين التي سهرت على طبع الكتاب) طلبوا منه جمع المقالات التي كتبها في الأيام القريبة ونشرها في الصحف السورية واللبنانية ... فأذن لهم بجمعها ونشرها في كتاب، وقال إنها (بضاعة مطبوخة على عجل) كما طلبوا منه كتابة التصدير لها، وبعد التصدير يأتي مقال عن دوره في انقلاب اليمن ثم مقال: الجزائر تجاهد منذ خمسة قرون ... (1). وقد قدم للكتاب محمد عمر الداعوق، رائد جماعة عباد الرحمن، وكتب فاتحته رفيق سنو، واشتمل الكتاب على مقابلات تتعلق بالجزائر والمغرب العربي، وهو في بيروت، كما نشر عدة مقابلات ومقالات في جريدتي: الجريدة وبيروت، ويقول في إحدى هذه المقالات إنه (لا وجود للبربر في المغرب العربي لأن البرر تعربوا) وهو رأي يكاد يكون هو رأي الإبراهيمي وابن باديس. ومن مقالاته المنشورة في الكتاب (محنة اللغة العربية في الجزائر)، والورتلاني يحدثنا عن الدين والفرق (جمع فرقة) في المغرب العربي، ومحاربة فرنسا الإسلام علنا في الجزائر، ونريد أسابيع التسلح للجزائر، وبرقيات إلى زعماء المغرب والمشرق العربيين، ودور جمعية العلماء، ونص خطاب الشيخ العربي التبسي في مركز جمعية العلماء يوم 7 يناير 1956، وكتب مفتوحة إلى .. ويقع ما صدر من وثائق عن مكتب جمعية العلماء بالقاهرة من صفحة 169 إلى صفحة 211 ثم بيان جمعية العلماء عن الجزائر في المؤتمر السنوي يوم 7 يناير 1956، بتوقيع الكاتب العام أحمد توفيق المدني ونائب الرئيس العربي التبسي، وهو البيان التاريخي الذي أعلنت فيه الجمعية دعمها الصريح لجبهة التحرير الوطني. فكتاب (الجزائر الثائرة) ليس كتابا في التاريخ أو عن التاريخ (رغم ما فيه من إشارات تاريخية) ولكنه كتاب يحتوي على مادة أساسية للمؤرخ، وهي الوثائق، ولا غنى عنه عند كتابة تاريخ الجزائر المعاضر والثورة بالخصوص

_ (1) جريدة الحياة، بيروت، عدد 2894.

تاريخ الجزائر العام

وتاريخ المغرب العربي في المشرق، وعندما كثر التساؤل في الجزائر عن الشيخ الورتلاني ودوره بعد نفيه من مصر على إثر الهمس بالارتباط بالإخوان الذين أصبحوا في نفور مع جمال عبد الناصر، أجابت جريدة البصائر إجابة مقتضبة وغامضة، قالت: إنه في بيروت يدعو للجزائر وقضايا المغرب (العربي) وإنه في صحة جيدة، وهو مستقر هناك، وينشر في أغلب صحف سوريا ولبنان، ويراسل رجال السياسة والحكم (1). وعندما زار الشيخ العباس بن الشيخ الحسين رئيس جمعية العلماء الشيخ الإبراهيمي في القاهرة ليطلعه على جلية الأمور في الجزائر ويأخذ رأيه في الموقف الذي على الجمعية أن تتخذه من الثورة وما يتصل بها، عرج الشيخ العباس على بيروت والتقى الورتلاني للمشاورة أيضا، ويبدو أن الورتلاني عندئذ (1956) كان يعاني من الغربة والنفي والمرض، لأنه قد توفي في تركيا خلال السنة الموالية، وكان ممنوعا من دخول مصر (2). تاريخ الجزائر العام ألف هذا الكتاب الشيخ عبد الرحمن الجيلاني، ولعله هو الكتاب الوحيد الذي اهتم بالتاريخ وسار على منهج تاريخي وانطلق من دافع تاريخي، الشيخ الجيلالي ابن مدرسة الشبيبة الإسلامية، وابن التقاليد الجزائرية العريقة في القصبة وما حولها، سيما تقاليد شيوخ المدرسة الثعالبية من أمثال عبد الحليم بن سماية ومحمد بن شنب، وشيوخ القراءات في الجامع الكبير بالعاصمة، وقد علم وربى أثناء إدارة الشاعر محمد العيد لمدرسة الشبيبة، وظل بعده، وكان كل ما حوله في العين الزرقاء (فونتين بلو) يعبق بالتاريخ عند أبواب مدينة الجزائر القديمة (باب عزون، باب الواد، الباب الجديد ... قصر الجنينة، قصر مصطفى باشا، وحصون المرسى ... وعندما قرر كتابة تاريخ للجزائر كلها كان

_ (1) البصائر، 3 فبراير 1956 عدد 352. (2) انظر لاحقا.

مستوعبا لكل هذه الأماكن وأمثالها في القطر الجزائري كله، فهو لم يكتب تاريخ مدينة ولكنه كتب تاريخ قطر في ضوء التاريخ العربي الإسلامي. وللشيخ الجيلالي ثقافة عربية وفرنسية وإسلامية عميقة، وله (تفقه) في الدين والدنيا، عمل بالإضافة إلى التعليم في التأليف ومحطة الإذاعة والتلفزيون الفرنسية في الجزائر، وفي مجلة (هنا الجزائر) كما نشر في مجلة الشهاب، وكان يتابع الحركة الإصلاحية ولكنه لم يندمج فيها حسبما نعلم، وله من التآليف غير الكتاب الذي نتناوله ما هو مطبوع مثل (ذكرى الدكتور ابن شنب)، ومسرحية (المولد) النبوي الشريف التي مثلت عدت مرات في وقتها (الخمسينات) في الجزائر وفي غيرها، أما الكتب المخطوطة فمنها (تاريخ الموسيقى العربية) وهو كتاب يبدو هاما في بابه خصوصا وأن المؤلف قد وصفه بأنه (دراسة تاريخية مفصلة في جميع أطوارها وتطوراتها)، ثم مخطوط في (الاستشراق الغربي والثقافة الإسلامية)، ويظهر من عنوانه أنه كتاب ذو قيمة جليلة خصوصا وأن الجيلالي قد عرف نماذج من المستشرقين الفرنسيين في الجزائر، هذه هي المؤلفات المذكورة له عند ظهور الجزء الثاني من تاريخ الجزائر العام (سنة 1955)، وقد نشر الشيخ الجيلالي كتبا أخرى ومع ذلك لم ينشر الكتب المعلن عنها، كما أنه توسع في تاريخه بعد ذلك حتى شمل مختلف العصور بما في ذلك فترة الاحتلال الفرنسي، فأصبح الكتاب الآن في عدة أجزاء بدل جزئين. جاء في الاستهلال أن القطر الجزائري هو (واسطة عقد المغرب العربي منذ العصر الحجري والقديم فيما قبل التاريخ، ثم منذ وجد التاريخ وانتظمه في سلكه ورصفه في ديوانه إلى قرب نهاية القرون الوسطى، أي منتهى دولة الموحدين)، إذن فقد غطى في الجزء الأول العصور السابقة لعصر الموحدين وتوقف عند نهاية هذا العصر، أما الجزء الثاني فقد وصل فيه إلى العصر العثماني ولكنه توقف في وسطه فلا هو انتهى عنده ولا هو انتهى منه، لماذا؟ هل حجم الكتاب هو السبب؟ هل لأنه إذا انتهى منه سيتعرض إلى الحملة الفرنسية

وأسباب الاحتلال وهو لا يريد ذلك عندئذ؟ لقد انتهى في الجزء الثاني بنهاية عصر الباشوات (1657)، وهو يقول عن هذا الجزء إنه جعله (لهواة التاريخ ورواد العلم والمعرفة، وسار فيه على منهج الجزء الأول من وضوح التعبير وسهولة الأسلوب واطراد الفصول وانتظام العرض واستيعاب الجمع وإحكام الوضع وصراحة الحكم، متحاشيا كل انحياز) (1). ويصف الجيلالى انتقال السلطة من الباشا إلى الآغا على يد الديوان الإنكشاري بطريقة تفهمك أن الحكم العثماني في الجزائر كله قائم على مسألة المال، وهو التفكير الذي يقرره المؤرخون الفرنسيون منذ احتلال الجزائر، فالولاة العثمانيون (الباشوات) وخلفاؤهم من بعدهم لا هم لهم إلا جمع المال من كل وجوهه ثم الرجوع به إلى اسطنبول في نهاية الفترة التي يقضونها في الجزائر، يقول الجيلالي إن الباشا شعر بالاستقلال فاشتغل بشؤونه وجمع الأموال بوسائل الرشوة والسرقة، وكانت السلطة في مجلس الشورى للإنكشارية، فحملوه المسؤولية على الإسراف وسوء استعمال السلطة والتعدي على السفن، لأنه كان يرسل السفن لتعتدي (على من؟) ولتقوم بأعمال القرصنة (ضد من؟)، بل كان الباشا يدفع الأهالي إلى ذلك دفعا، ولم تكن اسطنبول تحس بما يجري في الجزائر، وربما حاول الباشا إخضاع الإنكشارية بالاستعانة عليهم بقبائل البلاد مما أدى إلى الحروب، وأخيرا قرر الديوان سحب رعاية الأموال من الباشا وكلف بها أحد الأغوات، بمساعدة الديوان، وكان ذلك يعني نزع السلطة الفعلية من الباشا، وقد انتهى الجيلالي في هذا الجزء بإبراهيم باشا وهو الذي أخذ منه الأغوات زمام الحكم (2). يشتمل الجزء الثاني على خريطتين وأربع لوحات مصورة وبعض

_ (1) كتب هذه العبارات في العين الزرقاء، حيث منزله، في 16 جمادى الأول 1375 الموافق 31 ديسمبر 1955، وقد طبع الكتاب في المطبعة العربية بالعاصمة، ويبدو أنه قد طبعه على حسابه، فالكتاب ظهر إذن سنة 1956. (2) الجيلالي، تاريخ الجزائر العام، ج 2، ص 381.

الجداول، وقد سار فيه على منهج الجزء الأول من تقسيمه إلى فصول ودول، وهو يتناول التاريخ في شكله الشمولي: السياسة والاقتصاد والعسكرية والثقافة والعمران، ويذكر لكل فترة مشاهيرها من العلماء وغيرهم، ولكن فهرسه يدل على أنه تناول الدول الآتية: الدولة الحفصية ومشاهيرها في الجزائر، والدولة المرينية ومشاهيرها، والدولة الزيانية ومشاهيرها، ثم القسم الثالث: أي العهد العثماني ومشاهيره، ويفهم من ذلك أن القسمين الأول والثاني قد عالجهما المؤلف في الجزء الأول، ومن الملاحظ أنه جعل عنوان القسم الثالث: الجزائر (المكافحة)، وهو تعبير عصري لم يكن شائعا في العصر العثماني، أما التعبير الشائع عندئذ فهو الجزائر المحروسة، والجزائر المجاهدة ... وقد ظهر هذا (الكفاح) في الحرب بين إسبانيا والأتراك، وكانت الجزائر في نظر الجيلالي (مكافحة) ضد الأسبان، وقد درس بالطبع الدولة التركية - العثمانية، وعصر البايلرباي، وعصر الباشوات. ومن أراد أن يعرف رأي الجيلالي في التاريخ عموما وفي تاريخ الجزائر خصوصا فعليه بالرجوع إلى الحديث الذي أعطاه إلى جريدة (المنار) عند صدور الجزء الأول من كتابه (1953)، فقد جاء فيه أن دافعه لكتابة تاريخ الجزائر هو غموضه وتشعبه وتشتته، وأنه لم يدرس إلى الآن دراسة واضحة، وأنه أراد تطهيره من هذه العيوب، وأن يظهر أن لهذه الأمة تاريخا ماجدا تفتخر به، وقد شرع في كتابة كتابه مع الحرب العالمية الثانية، أي عند انشغال التاس بالحرب، وكان يعتقد أن حالة الطوارى التي فرضتها الحرب سينتج عنها تغيير في الحياة الاجتماعية، فرغب في التعريف بالجزائر في الغابر والحاضر، أما عن مصادره فقال إنه رجع إلى المخطوطات، كما رجع إلى الكتب الأجنبية فيما قبل الإسلام وإلى الكتب العربية فيما بعد الإسلام، ويبدو أنه قد غير رأيه في تقسيم الكتاب لأنه كان سيضع الجزء الأول في مجلدين ثم ضمه إلى بعضه وجعله مجلدا واحدا، وتوقع للكتاب رواجا واسعا يسدد نفقاته، واعتبر قلة القراء هي السبب في خلو الساحة من حركة التأليف والنشر، ووصف طريقته في التأليف

الأمير عبد القادر رائد الكفاح الجزائري

بأنها تمتاز بالوضوح والتفاصيل والجمع والتنسيق وهو يعتقد بأنه لم يسبق إليه فيما ألف الباحثون في تاريخ الجزائر (1). والخلاصة أن الجيلالي كتب فعلا تاريخا للجزائر، وأن منهجه فيه وصفي تاريخي، وقد سار فيه حسب الدول، وأسلوبه فيه واضح وحكيم، ولكن مبرراته غير مقنعة أحيانا، وقد سبقه غيره مثل الميلي والمدني ومحمد بن الأمير عبد القادر، والأخير غطى تاريخ الجزائر في (تحفة الزائر) ولكن باختصار، والمدني كذلك في (كتاب الجزائر)، ووصل الميلي في (تاريخ الجزائر) أيضا إلى العهد العثماني، فما الذي يميز كتاب الجيلالي عن هؤلاء؟ ولماذا لم يبدأ من حيث انتهى بعضهم؟ والحق أن كتاب الجيلالي بعد أن انتهى من أجزائه وتوسع فيه قد تفوق على ما سبقه، ولكنه تضخم في عهد الاستعمار بينما بقي نحيفا بالنسبة للعهود الأخرى، فاختل توازنه بعض الشيء لأنه كتب على مراحل وحسب ظروف سياسية ووطنية متقلبة وليس بناء على مخطط علمي دقيق وصارم منذ البداية. الأمير عبد القادر رائد الكفاح الجزائري ظهرت الطبعة الأولى لكتاب الأمير عبد القادر ليحيى بوعزيز في تونس سنة 1957، وكان بوعزيز آنذاك طالبا بها، وقد ظهر ميله إلى التاريخ وانتماؤه الوطني بهذا العمل المبكر، الذي جاء وسط المعمعة ليسد فراغا كانت الثورة في حاجة إلى ملئه من باب الدعاية لها والتعريف بشخصية وبطولة الأمير التي كانت عنوانا لبطولة الجزائر، وبالفعل أدى الكتاب دوره المتوقع منه رغم خطابيته وعدم إحاطته بالموضوع، وعند طبعه للمرة الثانية غداة الاستقلال عدل فيه مؤلفه بما رآه صالحا بعد حوالي سبع سنوات من صدوره، أهدى بوعزيز كتابه إلى روح الأمير الذي كافح الفرنسيين سبع عشرة سنة، وإلى الشعب الجزائري

_ (1) المنار 45، 10 يوليو 1953.

حفيد الأمير عبد القادر المكافح في سبيل العزة والحرية والإخاء والمساواة والسلام ... وفي مقدمة الطبعة الثانية أيضا ذكر بوعزيز أن الكتاب يمثل دراسة مبسطة لحياة هذا البطل وكفاحه وأحداثه التاريخية ... قائلا إنه أدخل عليه بعض التعديل وحذف منه ما رآه غير لازم، ولم يسعه الوقت حتى في الطبعة الثانية للتوسع والمزيد (1). لقد كتب بوعزيز الكتاب بمناسبة الذكرى السادسة والسبعين لوفاة الأمير وذكرى ميلاده السادسة والخمسين بعد المائة، وذكرى مبايعته بالإمارة، ووصف الكتاب بأنه جهد متواضع وعرض موجز لتاريخ الأمير الحربي وسيرته القلمية، كما أنه محاولة لعرض حياته في مختلف مراحلها وأطوارها، وقد شبهه في القيادة والقدرة السياسية بشخصية جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، لكنه اختلف عئهما في أنه قام بالكفاح المسلح، وهو ما لم يفعله الشيخان، واعتبر الأمير من أبطال التاريخ وعظماء الرجال وقادة الفكر، واعترف أن دراسته عنه لم يتوفر لها الوقت الكافي لكي تنضج إذ أنه أعدها في حوالي عشرين يوما فقط! وكان دافعه إلى التأليف في هذا المجال هو إهمال الدارسين لشخصية الأمير (أبو الثورات التحريرية الجزائرية) ومنها ثورة أول نوفمبر 1954 التي تعتبر امتدادا لثورته المسلحة، لأن الشعب هو الذي واصلها، وهو عاقد العزم على التخلص من الاستعمار (ص 11)، ويعود الفضل للأمير في وضع أول دستور لدولة حديثة دامت سبعة عشر عاما، وهي دولة لم يعرف التاريخ العربي الحديث مثلها. قلنا إن إعداد الدراسة قد تصادف مع إحياء ذكرى وفاة الأمير، كان ذلك على يد جمعية الطلبة الجزائريين التي أحيت الذكرى بالمسرح البلدي في تونس، في مارس 1957 وقد حضرت هذه المناسبة شخصيات من جبهة التحرير والعالم العربي، والأمير هو صاحب المقولة (وغايتي القصرى اتحاد الملة المحمدية)

_ (1) ط، الجزائر الثانية، 1964، ص 9.

هذه هي الجزائر

مما يعني في نظر المؤلف أن الأمير من دعاة وحدة الأمة الإسلامية. والمنهج الذي اتبعه بوعزيز هو المنهج التاريخي الوصفي، فقد قسم الكتاب إلى أربعة أقسام: الأمير الفتى، وهو في هذا يسرد حياته ونشاطه الفكري، والأمير البطل فيحلل دوره من إنشاء الدولة والسهر عليها، والأمير العالم فيذكر ثقافته وعلمه ومؤلفاته، ثم الأمير الشاعر وفيه يعرض لشاعريته وشعره ويذكر نماذج من هذا الشعر الذي تميز بالفروسية والوصف والزهد، وفي الكتاب قائمة مراجع وبعض الصور. منذ ألف محمد بن الأمير كتابه (تحفة الزائر) لم يهتم الجزائريون بالأمير وأهملوه تقريبا مدة خمسين سنة أو تزيد، ولم يقتحم ميدان الكتابة عنه إلا اثنان، وكلاهما تناوله باللغة الفرنسية، الأول هو كاتب ياسين الذي كتب عنه دراسة صدرت في كتيب صغير حوالي 1948 والشريف ساحلي الذي جعل لكتابه عنوانا فكريا وهو (فارس العقيدة) حوالي 1955، والكتاب الأخير من الكتب التي سلطت الضوء على دور الأمير في الفكر والدين والثقافة، ودافعت عن بعض الشائعات التي ألصقت به كدخوله الماسونية، والاستسلام دون مواصلة الكفاح حتى النهاية، وفي تلك الفترة ظهر عن الأمير أيضا كتاب بالإنجليزية عنوانه (صقر الصحراء)، لذلك كان كتاب يحيى بوعزيز أول عمل فيما نعتقد ألف باللغة العربية منذ نشر محمد بن الأمير (تحفة الزائر) سنة 1913، ورغم اشتغال بوعزيز بالتاريخ دراسة وبحثا وتعليما فإننا لا نعرف أنه قد رجع إلى الأمير ووفاه حقه في كتاب يليق بجهاده الطويل (1). هذه هي الجزائر من يعرف الشخ أحمد توفيق المدني يعرف أنه ألف في تاريخ الجزائر قبل الثورة، وكان (معلما) في هذا الباب بحيث أحدث تيارا وطنيا قويا وسط

_ (1) نشر بوعزيز مذكرات الأمير، كما تناوله في كتاباته المختلفة، ولكننا هنا نتحدث عن إفراد الأمير بتأليف متكامل.

الجزائريين منذ نفيه من تونس إلى موطن أجداده سنة 1925، فهو صاحب تقويم المنصور، وكتاب الجزائر، والمسلمون في صقلية، وحنبعل، وقرطاجنة، وغيرها، وقد ذكرنا بعضا من هذه التآليف في كتابنا التاريخ الثقافي (جزء 7). وحين التحق المدني بالجبهة واستقر في القاهرة سنة 1956، كان مقره هو مكتب جمعية العلماء الذي كان الشيخ الإبراهيمي والفضيل الورتلاني يشغلانه، والظاهر أن هذا المكتب قد أصبح منذ 1956 مقرا أيضا لجبهة التحرير إذ طالما كان هو وليس مكتب المغرب العربي، محل اجتماع قادة الجبهة واستقبال ضيوفهم، وفيه التقيت شخصيا بعدد منهم، كالشيخ الإبراهيمي، وفرحات عباس، وأحمد فرنسيس، والأمين دباغين .... كما التقيت فيه بالمؤلف نفسه عدة مرات، لقد كنت آتيه فأجده معتكفا على تحرير (هذه هي الجزائر)، أو يتخير له الصور والخرائط، أو يصحح تجاربه (البروفات)، إن توفيق المدني قد ألف هذا الكتاب بطلب من زملائه في الجبهة ومن مؤتمر الخريجين العرب وغيرهم الذين كانوا يريدون معرفة مختصر تاريخ الجزائر من مصدر موثوق ومطلع وبأسلوب عربي سهل يسمح بالإطلاع السريع دون أن يمل قارئه. انتهى المدني منه في يوليو وصدر عن مكتبة النهضة المصرية سنة 1956. وكان الشيخ قد التحق بالقاهرة في شهر أبريل، فيكون قد ألف الكتاب في ظرف شهرين ونصف تقريبا، وقد أهداه (إلى ضحايا الحرية في الجزائر ... إلى الشهداء،) ويظهر هدف التأليف من قول أحمد توفيق المدني: (الأمة الجزائرية والقطر الجزائري اسمان خالدان مقدسان توارثهما الجزائريون الحاليون) وهم عشرة ملايين، ألف الله بين قلوبهم في الكفاح، ومع ذلك فإن العالم العربي والعالم عموما لا يعرف عن الجزائر الشيء الكثير)، ذلك أن الاستعمار الفرنسي قد أقام بينهم وبين العالم الإسلامي والعالم العربي والأمم الحرة حواجز وعراقيل، ومع ذلك لم يستطع فرض إرادته، بل إن الشعب الجزائري هو الذي فرض إرادته، لذلك فإن العالم العربي يريد أن يعرف عن الجزائر وشعبها، وهذا ما يقوم به المؤلف.

ورغم هذا الهدف الواضح من الكتاب فإن المدني ينفي أن يكون كتابه للدعاية، وإنما هو (تسجيل للواقع وتعريف علمي بالفطر والشعب الجزائري)، فهو يعتمد على الصادق من أنباء التاريخ وعلى الثابت من أرقام الإحصاء، ويصف الحالة الحقيقية كأنها الصورة طبق الأصل فلا مبالغة ولا تهويل) (ص 7)، وقد ذكر في المقدمة رغبة مؤتمر الخريجين أيضا فقال إن الأستاذ محمد فؤاد جلال رئيس المؤتمر قد أبدى رغبته في تأليف عن الجزائر يستجيب لرغبة عربية وطنية، وتجدر الإشارة إلى أن فؤاد جلال وبعض الأعضاء من مؤتمر الخريجين العرب قد زاروا الجزائر سنة 1955 والتقوا فيها بأحمد توفيق المدني وبعدد من أعضاء جمعية العلماء بالجزائر العاصمة (1). منذ البداية أوضح المدني منهجه فقال إن الكتاب يخدم الثورة موضوعيا دون دعاية ولا تهويل، ومع ذلك فأسلوب الشيخ المدني أسلوب سياسي حماسي، وهو يعتمد المنهج التاريخي في تناوله للمعلومات والإحصاء، وقد بناه على ثلاث مراحل هي: التعريف الجغرافي بالقطر الجزائري، وسكان الجزائر، وتاريخ القطر الجزائري إلى الاحتلال الفرنسي، ثم تحطيم أمة أو سياسة فرنسا الاستعمارية تجاه الجزائر، وبعد ذلك تأتي المقاومة ثم (الثورة الكبرى)، ويتضح من ذلك أن جل الكتاب عن الاحتلال والمقاومة والثورة، وأن ما سبق ذلك هو تعريفات ومداخل وليس دراسات، أي أن هدف الكتاب هو الكشف عن أعمال الاحتلال بالجزائر وكيف ردت الجزائر الفعل، في الكتاب معلومات هامة شخصية، لاسيما تلك التي عاشها المؤلف نفسه في الجزائر، فهي معلومات من نوع المذكرات، وفيها آراء ومواقف بعض المجاهدين، ويبلغ الكتاب 247 صفحة من الحجم المتوسط، ومنه نحو 51 صفحة عن الثورة، كما يضم بعض المصطلحات مثل التربيعة، وأسماء السلاح، وفيه أول منشور للثورة.

_ (1) انظر لاحقا.

محاضرات عن تاريخ الجزائر

ساهم الشيخ المدني في تاريخ الثورة بالخطابة والكتابة، عضوا في مؤسسات الثورة ووزيرا وسفيرا لها وممثلا للجزائر في الجامعة العربية، وقد عبر عن ذلك في كتبه اللاحقة، خصوصا مذكراته التي اختار لها عنوان (حياة كفاح)، وقد خصص الجزء الثالث من هذه المذكرات لمرحلة الثورة، ولكن هذا الكتاب خارج عن نطاقنا، كما خص تاريخ الجزائر بعدد من الكتب الهامة سواء عن العهد العثماني أو مرحلة الاستعمار الفرنسي، وهكذا لم يظهر بين الجزائريين مؤرخ يتمثل الثورة ويكتب عنها في هذه الفترة، فباستثناء تاريخ الجزائر للجيلالي وإلى حد ما هذه هي الجزائر للمدني لم يكتب عن الجزائر تاريخ بقلم أحد أبنائها عندئذ. محاضرات عن تاريخ الجزائر خلال الثورة ألقى الشيخ البشير الإبراهيمي محاضرات عن تاريخ الجزائر على طلبة معهد البحوث والدراسات العربية بالقاهرة، وقد فصله على مراحل وحلله بأسلوبه الأدبي الراقي الرصين، وأخبرنا فيما بعد أنه جمع تلك المحاضرات وقدمها لمعهد البحوث لطبعها في كتاب وتوزيعها على الطلاب وغيرهم من المهتمين، ولكننا لم نعثر على المحاضرات مطبوعة ولا مخطوطة وإنما رأينا منها صفحات نشرت في الجزء الخامس من آثاره، ولم يذكر أي مصدر حتى الآن أنها قد طبعت في كتاب، والإبراهيمي نفسه هو الذي تمنى في هذه المحاضرات أن يقيض الله للجزائر مؤرخا من أبنائها ليكتب تاريخها الحقيقي بمشاعر المواطن لا بمشاعر الغريب عن الوطن ولو كان متعاطفا مع أهله (1).

_ (1) آثار الإبراهيمي، ج 5، وكذلك مداخلتنا في ندوة الشيخ الإبراهيمي بعنوان (الثقافة التاريخية عند الشيخ الإبراهيمي) الجزائر، مايو 2005.

الرحلات

الرحلات ليس لدينا خلال الثورة رحلة مكتوبة على الطريقة التقليدية التي يتحدث فيها صاحبها عن مشاهداته وملاقاته وما وقع له خلالها كما كان يفعل العلماء المغاربة قديما، فالرحلة بالأسلوب القديم لم يكتبها أي جزائري خلال المراحلة الثورية رغم تنقل الكثير من الأفراد من أجل العمل للثورة نفسها، في إفريقيا والبلاد العربية وآسيا والأمريكيتين وأوربا، لقد حج جزائريون واعتمروا وحضروا مؤتمرات وندوات ودعوا لقضية بلادهم هنا وهناك، ولكننا لم نجد من اغتنم الفرصة وكتب رحلته، ولذلك فإن حديثنا عن (الرحلات) هنا فيه تمحل وتعسف، فنحن نشير فقط إلى تقاييد وإلى مدونات لا تدخل في باب الرحلة إلا تجاوزا، ومن ذلك: رحلة الشيخ الغسيري المقصود بها سفرة الشيخ محمد الغسيري إلى المشرق العربي عشية الثورة وهي الرحلة التي عنونها بـ (عدت من الشرق) ونشرها في جريدة البصائر على حلقات بلغت حوالي عشرين حلقة (1). وأساس هذه الرحلة أن دعوة وجهت إلى الكشافة الإسلامية الجزائرية من الكشافة المصرية فتألف وفد برئاسة الشيخ محمد الغسيري فيه أعضاء من جمعية العلماء ومن حزب البيان وربما غيرهم أيضا، ومنهم فرحات عباس وأحمد فرنسيس، ثم توجهوا إلى مصر، فحضروا الاحتفالات واشتركوا في مختلف الأنشطة والتقوا بعدد من الشخصيات الإسلامية والعربية، ومنهم الشيخان البشير الإبراهيمي والفضيل الورتيلاني، عندما وصل وفد الكشافة إلى القاهرة جاء الإبراهيمي من بيروت لتحيتهم وأقام لهم حفل شاي دعا إليه شخصيات عديدة مذكورة في الرحلة، وخطب فيهم كعادته، وكذلك فعل الورتلاني، كما خطب

_ (1) خاتمتها هي الحلفة 20، البصائر 276، 25 يونيو 1954.

فيهم بعض زعماء الإخوان المسلمين، منهم عبد المعز عبد الستار، وانتهى الحفل بنشيد (شعب الجزائر مسلم) الذي نظمه ابن باديس، وهو النشيد الرسمي لجمعية العلماء، وبعد أن وصف الغسيري أحداث الرحلة ومراحلها بالتفصيل انتهت المهمة ورجع الوفد إلى الجزائر، أما الغسيري فقد اغتنم الفرصة وذهب لأداء فريضة الحج مع الشيخ الإبراهيمي فزاد في وصف رحلته إلى السعودية وأداء مناسك الحج ولقاء شخصيات إسلامية أخرى، وتحدث عن توقفهم في بيروت ونشاطهم السياسي والدعوى والفكري ثم عودته إلى مصر، فالجزائر (1). فيما يخص مرحلة القاهرة فمكة فبيروت ذكر الغسيري أن الإبراهيمي قد تلقى دعوة من الأمير مسعود الذي أصبح هو نفسه الملك سعود، توجه الغسيري من القاهرة إلى جدة، فكان رفيق الإبراهيمي وتلميذه وكاتبه الخاص، خرجا من مكتب جمعية العلماء بالقاهرة محرمين وودعهم في المطار شباب البعثة الطلابية الجزائرية ومدرسوهم، ثم وصف مناسك الحج والاحتفالات المرافقة في مكة ورجوعه إلى القاهرة، ومما يلاحظ أن الغسيري الذي كان يحس بالاضطهاد والقمع الاستعماري في بلاده اغتنم فرصة وجوده في المدينة المنورة وشكا للرسول (صلى الله عليه وسلم) حاله وحال الإسلام مع النصرانية وضعف المسلمين إزاء الأوربيين في بلاده، شكا له من ضياع الأوقاف وادعاء فرنسا أنها دولة إسلامية ومن انعدام التعليم الديني ... حتى بعد قانون 1947 أو ما سمي بدستور الجزائر، وهي مناجاة سياسية مقصودة. لقد انتهت الرحلة بزيارة الرئيس المصري الجديد اللواء محمد نجيب الذي أحسن استقبالهم وأخذوا معه الصور، وأهداهم صورته، بينما هم أهدوه شعار الكشافة الإسلامية الجزائرية، وأخيرا توجهوا إلى دار الإذاعة المصرية وسجلوا كلمات وأناشيد أذيعت في حينها، تحدث الغسيري عن درس الثلاثاء

_ (1) نشرت الرحلة في أعداد مختلفة من البصائر، منها 240، 241، 242، 252، 256، 257 إلخ.

الذي ألقاه الإبراهيمي في نادي الإخوان المسلمين، وعن نشاط مكتب جمعية العلماء بمصر وزواره الذين لا يكاد ينقطع سيلهم، ولاسيما حجاج المغرب العربي، وأعيان الشرق أمثال الحاج أمين الحسيني ومحيي الدين القليبي، وللوفد صور مع الإبراهيمي والحسيني والورتلاني وبعض شيوخ الأزهر، وأخيرا حيا الغسيري من استقبلهم وقدم لهم النصائح وهم في الطريق من قسنطينة إلى المشرق، كما حيا مصر ورجالها ومواقفها في الدفاع عن العروبة والإسلام، ولم تتحدث الرحلة - في الأجزاء التي اطلعنا عليها - عن شخصيات من أمثال الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي ولا عن زعماء مكتب المغرب العربي من أمثال محمد خيضر وأحمد بن بلة والحسين آيت أحمد، فهل كان لعلاقة هؤلاء الباردة بالشيخ الإبراهيمي دخل في السكوت عنهم أو أن نشاطهم كان ما يزال محدودا؟ (1) في رحلة الغسيري لقطات هامة جديرة برحالة دقيق النظر يتمتع بحاسة لاقطة للناس والأشياء، ولا نستطيع أن نلم بها جميعا هنا ولكننا نذكر هذه المقارنات الموحية، ففي إحدى الحلقات قارن الغسيري بين أهل جبل لبنان وأهل جبل الأطلس: فلاحظ أن الطفل يجد المدرسة في الأول ولا يجدها في الثاني بينما الطبيعة جميلة في الجبلين، واشتكى من أن المسافر المسلم بعد قيام دولة إسرائيل لم يعد يستطيع حتى التحليق فوق فلسطين، بينما اكتفى العرب برفع قضيتها إلى الأمم المتحدة. وجد الوفد العائد من الحج مع الشيخ الإبراهيمي في استقباله في مطار القاهرة عبد الله الجابر الصباح وزير المعارف الكويتي والجالية الجزائرية وعلى رأسها الورتلاني وطلبة البعثة وأحمد طالب نجل الإبراهيمي وجماعة من علماء الأزهر، وبعد استراحة في مكتب جمعية العلماء توجهوا إلى منزل عبد العزيز العلي، أحد أعيان الكويت، ضيوفا على مائدته، وظلوا أسبوعا في مصر وهم

_ (1) البصار، في حلقات، 1953 - 1954.

رحلة الشيخ الإبراهيمي

من ضيافة إلى أخرى، ولم يسع الغسيري سوى دعوة من استضافوهم لزيارة الجزائر باسم جمعية العلماء وبالخصوص باسم الشيخين العربي التبسي ومحمد خير الدين، نائبي الشيخ الإبراهيمي، اللذين بقيا في الجزائر. طار الغسيري عائدا من مصر إلى تونس عبر ليبيا (بني غازي فطرابلس ثم إلى مطار العوينة)، ومن تونس أخذ القطار إلى الجزائر فوصل قسنطينة حيث استقبل فيها ضيوفه وأعضاء الكشافة، وقد دامت رحلته شهرين، وهي رحلة يرجع الفضل فيها إلى الكشافة وجمعية العلماء وحكومة الثورة في مصر ثم إلى الملك سعود، لذلك شكر الغسيري هؤلاء جميعا كما شكر الإبراهيمي والورتلاني، أما نص الرحلة فقد كتبه من سكيكدة بعد استقراره بها حيث كان يعلم ويدير مدرسة (1). رحلة الشيخ الإبراهيمي رحل الإبراهيمي إلى المشرق في يناير 1952 واستمر فيه إلى ما بعد الاستقلال، وخلال أكثر من عشر سنوات تجول في مختلف البلاد العربية وباكستان، وكان نشطا رغم تقدم السن به، كما كان محل عرفان وتقدير من بعض الحكومات العربية والإسلامية ومن علمائها ورجالات الثقافة فيها، وكان نشاطه محصورا في مجالين: الحصول على منح دراسية للطلاب الجزائريين والتعريف بالقضية الجزائرية، ورغم النقد الذي وجه إليه في إهمال شؤون جمعية العلماء بالجزائر (باعتباره رئيسا لها) طول غيابه فإنه استطاع أن يكسب مكانة للجزائر وأن يكسب منحا لطلابها. كما كان الإبراهيمي نشطا في حركة الإخوان المسلمين الذين كانوا يدعمون قضية الجزائر باعتبارها قضية إسلامية حساسة، كما كان بعض أهل القلم من الإخوان يكتبون في جريدة البصائر التي يشرف عليها الشيخ نفسه، وقد

_ (1) البصائر 276، 25 يونيو 1954.

رحلة الشيخ التبسي

ترأس الإبراهيمي عدة مؤتمرات وشارك في بعضها سواء في باكستان أو في غيرها، من ذلك رئاسته المؤتمر الإسلامي أوائل ديسمبر 1953، وفي يناير 1954 كان في عمان (الأردن) حيث كان من أعضاء لجنة المؤتمر الأخير، وهي لجنة تضم رجالا من أمثال سعيد رمضان أحد زعماء الإخوان وصاحب مجلة (المسلمون)، والشيخ القليببي التونسي وسيد قطب، والورتلاني، وبعض السعوديين، وقابلوا الملك حسين، وكان الإبراهيمي هو الذي تكلم أمامه باسمهم، رغم أننا نعلم من مصادر أخرى أن الإبراهيمي كان لاذع النقد للفرع الهاشمي بالأردن، كما تجول الإبراهيمي والورتلاني في الكويت ودمشق وبغداد، وعنوان هذه الجولة هو (تفقد البعثات الطلابية الجزائرية والعمل لصالح الدعوة الإسلامية) (1). أما خلال الثورة فقد تجول الإبراهيمي في عواصم عربية وإسلامية عديدة داعيا للقضية الجزائرية، ولكننا لا نجد جولاته مسجلة ما عدا بعض الخطب والبرقيات والرسائل، وهي مذكورة في الجزء الخامس من آثاره، ولو أنه سجل انطباعاته ودون مشاهداته ونشاطه لحصلنا من ذلك على رحلة ضخمة ذات فوائد جمة، ويجب أن نقول إن مقالاته في البصائر تحت عنوان (من نفحات المشرق) تحمل بذورا طيبة من نوع الرحلة المنشود (2). رحلة الشيخ التبسي الشيخ العربي التبسي هو النائب الأول للشيخ الإبراهيمي في جمعية العلماء، وأحد الأعضاء الخطباء والفقهاء العاملين فيها بكل تفان وصدق، وكان قد درس وتخرج من الأزهر سنة 1927 تقريبا، وأدى فريضة الحج عشية الثورة

_ (1) للإبراهيمي عدة زيارات وأنشطة سابقة في باريس، بدأها عضوا في وفد المؤتمر الإسلامي الجزائري سنة 1936، وانتهى منها في فاتح 1952، وكلها على ما نعلم. غير مدونة بقلمه في شكل رحلة، البصائر 255، 22 يناير 1954، مقال افتتاحي. (2) انظر نشاط الوفد الخارجي لجبهة التحرير الوطني في فصل آخر.

ومكث في المشرق عدة أسابيع وتجول في مدنه وبعض عواصمه، ولكنه لم يسجل رحلة، حسب علمنا، وقد شارك خلال انتقاله إلى مصر فالحجاز في أنشطة هامة دونها بعض الطلبة، ولو دونها بنفسه لكانت ربما ذات قيمة خاصة، سيما ونحن نعلم أنه عاش في مصر سابقا وله مجال واسع للمقارنة بين ما عرفه في العشرينات وبين ما وجده بعد نحو ثلاثة عقود. وعلى كل حال فإنه أثناء غياب الإبراهيمي كان التبسي هو الذي يدير شؤون جمعية العلماء في الجزائر وفي أوقات حرجة، وقد اندلعت الثورة وهو الرئيس الفعلي للجمعية، فكان عليه أن يسيرها وسط زعاع وهزات عنيفة، انتهت باستشهاده سنة 1957. سافر الشيخ التبسي إلى مصر بالجو في 8 يوليو 1954، فوجد في استقباله بالقاهرة الشيخين الإبراهيمي والورتلاني والسيد أحمد بيوض (ممثل حزب البيان) والشاذلي المكي (ممثل حزب الشعب)، وجمعا من أعضاء الجالية الجزائرية والبعثة الطلابية وبعض علماء الأزهر، وربما بعض أعضاء الإخوان المسلمين أيضا، وللأسف لا يوجد وصف مفصل عن تنقلاته ومقابلاته ومشاهداته ما عدا ما كتبه السيد البشير كاشة الذي لخص نشاط الشيخ في المدينة المنورة (1). كان البشير كاشة من طلاب البعثة الجزائرية، فرصد نشاط الشيخ التبسي في المدينة المنورة، فقال إنه اجتمع مع الشيخ عبد العزيز بن باز (أحد القضاة عندئذ وقد أصبح مفتي المملكة) والأمير سعود الفيصل، وكان السيد أحمد بوشمال (أحد أعيان قسنطينة) مرافقا للشيخ التبسي في أداء فريضة الحج، قضى الشيخ تسعة أيام بالمدينة مقيما في فندق التيسير، وبعد زيارة الأماكن الإسلامية، استقبله الملك سعود في قصره بجدة، وفي مكة تعرف على شخصية بارزة من الإخوان المسلمين وهو سعيد رمضان الذي طلب منه المشاركة في المكتب

_ (1) البصائر عدد 281، أما التاريخ فهو مبتور.

الدائم للمؤتمر الإسلامي العالمي الذي انعقد حديثا بالقدس فقبل الشيخ الدعوة - حب الراوي - وفي الحفل السنوي الذي أقامه الإخوان المسلمون حضر الشيخ التبسي، وتكلم علماء مصريون وسعوديون، وفي مناسبة أخرى نظمها الإخوان أيضا تكلم الشيخ التبسي، وبعد الانتهاء من مناسك الحج غادر الشيخ مكة متوجها إلى لبنان للقاء الشيخ الإبراهيمي فكانت جملة أيامه في الأماكن المقدسة شهرا (1). عاد الشيخ التبسي إلى الجزائر وجاءت الوفود المهنئة إلى مركز الجمعية بالعاصمة، وقد تحدث عن رحلته الناجحة معربا عن رأيه أن الحكومات العربية سائرة في طريق النمو في الحجاز والشام ومصر، وأهم ما روته البصائر بهذه المناسبة هو حديثه عن الشيخين الإبراهيمي والورتلاني، فقد قال عن الأول إنه في الجزائر معروف بالأدب ورجاحة الفكر ... أما في المشرق فقد وجد من يفهمه، وهو في طليعة رجال العلم والدين والاجتماع .. فهو (أي الإبراهيمي) مستشار المراجع الإسلامية والعربية، أما الورتلاني فقد قال عنه كلاما غامضا وهو أنه منشغل بحل مشاكل الشعوب الإسلامية، فأنت لا تدري هل هذا الكلام يعني المدح أو القدح، وقد نوه التبسي بدور كل منهما وبجهودهما في رعاية البعثات الطلابية، فهما نعم السفيران للجزائر. وأذكر بهذا الصدد أن الشيخ التبسي قد راسلني برسالتين على الأقل أوائل سنة 1956 عندما كنت في القاهرة، انتقد فيهما زميله ورئيسه الشيخ الإبراهيمي على تصرفاته مع البعثات الطلابية وعلى تفضيله البقاء في المشرق على الرجوع إلى الجزائر في ذلك الظرف العصيب. ونحن نعرف أن الشيخ التبسي قد استقبل في مصر من قبل رجال الدولة وكان محل رعاية أهل الفكر والسياسة والدين، ولكن الأيام برهنت على أنه كان متفائلا كثيرا في رأيه، فالحكومات العربية لم تكن رشيدة كما وصفها ولا

_ (1) البصائر عدد 285.

رحلة الباهي فضلاء

الشعوب الإسلامية كانت يقظة عارفة بحقوقها وواجباتها، ولا حتى العلاقة مع الشيخين الإبراهيمي والورتلاني كانت على ما يرام بسبب موقفهما من البعثات الطلابية وربما بسبب الوضع في الجزائر عندئذ وحتى بعض التنافس أيضا (1). رحلة الباهي فضلاء في العام الأول للثورة سافرت جماعة من أهل الفن إلى القاهرة بقيادة الباهي فضلاء واتصلت بالأوساط المسرحية والسينمائية، كانوا كبقية الفنانين الجزائريين في ذلك الوقت، يحلمون بزيارة مصر لأنها بلغت درجة كبيرة في عالم الفن، ولكن هذه الرحلة خيبت أحلام الجماعة، بدأت المبادرة منذ حلت الفرقة المصرية بقيادة يوسف وهبي في الجزائر قبل عام تقريبا (1954)، فقد عرضوا على هذا الفنان الكبير فكرة زيارة مصر فوافقهم على ذلك ووعدهم بتسهيل المهمة، وقد سافر معهم محمد الطاهر فضلاء أحد المعجبين بيوسف وهبي. كانت الرحلة بالسيارة، مرورا بتونس وطرابلس، وقد سجلت الفرقة بعض الانطباعات والمشاهدات واللقاءات في كل مكان حلت به، ولكنها لم تدون ذلك بالتفصيل، وعندما حلوا بطرابلس التقوا بفرقة ليبية هاوية جديدة بقيادة مصطفى الأمير، رحب بهم الليبيون واستضافوهم، بل طلبوا منهم الاشتراك في تمثيل إحدى المسرحيات فلبوا الطلب، وقدموا رواية (الصحراء) ليوسف وهبي، وهي الرواية التي سبق أن مثلت على مسارح الجزائر، وأحرزت نجاحا باهرا، حسب الراوي. واصلوا السير نحو القاهرة التي حلوا بها آخر شهر نوفمبر 1955 ونزلوا ضيوفا على يوسف وهبي، وقد أتاح لهم فرصة حضور التدريبات الجارية يوميا

_ (1) البصائر 289، أنظر أيضا محضر جمعية العلماء في كتابنا أبحاث وآراء في تاريخ الجزائر ج 2.

في مركز فرقته، وطلب من ممدوح أباظة - عميد المعهد العالي للتمثيل - أن يسمح لهم بحضور المحاضرات التي كانت تلقى على الرجال والنساء، انتقد الباهي فضلاء نظام المعهد، ذلك أنهم كانوا يعتقدون أن المعهد مثل الكونسرفتوار الفرنسي، فثبت له أنه لا مقارنة بين الاثنين، ولكنه استثنى من هذا الحكم القاسي بعض الأساتذة المحافظين في نظره، على قيمة الفن في مصر مثل جورج أبيض وأحمد البدوي وأحمد علام وفتوح نشاطي وعبد الرحيم الزرقاني، ولاحظ أيضا أن مستوى الدروس غير رفيع وأن الطلبة يتغيبون عن الدروس، وأن شروط الالتحاق بالمعهد صعبة، وقد أفهمهم جورج أبيض أن الفنانين (شيوخ الفن) قد انصرفوا عنه إلى المادة، وجلس معهم طويلا وشرح لهم سبب تخليه عن إدارة الفرقة المصرية (لأن الفن في مصر يحتضر) ... وحضر ثلاثة منهم (الباهي وكشرود ونظيرة) تمثيل رواية (عطيل) ورحب بهم أحمد البدوي المشرف على التمثيل. ومن الذين قابلوهم أيضا زكي طليمات الذي نصحهم بالرجوع إلى وطنهم والعمل فيه لأن المعهد العالي لا يفيدهم في شيء، ويبدو واضحا أن أفراد الرحلة كانوا ربما يسعون إلى التسجيل في الدراسة في المعهد المذكور ولكنهم وجدوا الشروط غير متوفرة، كذلك قابلوا المخرج صلاح أبو سيف وسعوا لديه إلى المشاركة في بعض الأفلام فرحب بالفكرة ولكنه اشترط عليهم ضمان بيع فيلمه في شمال إفريقيا، وبعد ذلك رجع الفنانون (المغامرون) إلى الجزائر خائبين من شروط صلاح أبو سيف ومن هبوط الفن، واكتفوا بآراء الفنانين الناقمين على الوضع الفني في مصر، وقد اتضح لهم أنهم كانوا يبنون آمالهم على الرمال (1).

_ (1) هنا الجزائر 36، يونيو 1955، من الممكن أن نضيف إلى هذا النوع من الرحلات رحلة محيي الدين باش تارزي إلى تونس والقاهرة وسوريا سنة 1955 - 1956، أنظر فصل المسرح.

رحلة الشيخ العباس

رحلة الشيخ العباس عندما اشتدت الثورة واختلط الأمر على القادة والسياسيين بالنسبة لاتخاذ المواقف كان على جمعية العلماء أيضا أن تتشاور وأن تنتهي إلى قرار، فأرسلت الشيخ العباس بن الشيخ الحسين الرجل الفقيه والسياسي فيها تحت غطاء الحج يحمل إلى الشيخ الإبراهيمي بعض التفاصيل عن الوضع في الجزائر، وليرجع منه برأي بصفته رئيسا لها، كان الشيخ العباس، معروفا بالجمع بين عضوية الجمعية والتعاطف مع حزب الشعب وأنه رجل زاوية ودهاء سياسي، وقد نشرت البصائر خبرا مختصرا عن عودته إلى الجزائر ومقابلته لرئيس الجمعية في القاهرة ولقائه بالشيخ الورتلاني في بيروت التي كان منفيا إليها لصلته بالإخوان المسلمين، كما سبق، وقابل الشيخ العباس أيضا البعثة الطلابية في مصر واسمتع إلى شكواها مما حصل بينها وبين الشيخ الإبراهيمي، ومن سوء تفاهم وشد وجذب بين مكتب الجمعية (بقيادة الإبراهيمي) ومكتب المغرب العربي (بقيادة خيضر) (1). ومما يذكر أن الشيخ العباس رجع إلى القاهرة في نفس السنة وانضم إلى الوفد الخارجي لجبهة التحرير، وسافر إلى السودان والسعودية وغيرهما لأداء مهمات وطنية، وكان من النشطين المخلصين للقضية، وقد زارني في بيتي في المعادي، والتقينا عدة مرات في القاهرة. رحلة المختار اسكندر محمد مختار اسكندر من مواليد المدية سنة 1923، وله رحلة سماها (رحلة إلى الشرق أو ثلاثين يوما في الحرية)، وسبب سفره إلى سورية حضوره لمؤتمر كشفي عربي، وقد سجل في رحلته انطباعه وقال إنه يعتبرها وثيقة هامة، وهي ما تزال مكتوبة بقلم الرصاص، ولم يدخل عليها أي تغيير، كما قال، كان

_ (1) البصائر 355، 24 فبراير 1956.

رحلة محمد الصالح رمضان

الشيخ اسكندر مدرسا واعظا في نادي الترقي بالعاصمة عشر سنوات (1946 1956)، ومهما كان الأمر فإن الرحلة كانت (قبل اندلاع الثورة)، وليته حرر رحلته ونشرها لتعرف وتعم فائدتها (1). رحلة محمد الصالح رمضان هذه رحلة ينطبق عليها وصف الرحلات السياحية والاستطلاعية، وهي من رحلات العرب والمسلمين إلى الغرب، وكان سببها المشاركة في ندوة عالمية للشباب جرت في عاصمة بولندا، (وارسو = فارصوفيا) سنة 1955، وقد رجع محمد الصالح رمضان الذي كان من رجال جمعية العلماء ومن تلاميذ الشيخ عبد الحميد بن باديس، رجع من الرحلة وهو مبهور بالحرية رغم أنه كان في بلاد كانت تعيش وراء الستار الحديدي بمفهوم ذلك الوقت. ولد الشيخ رمضان سنة 1914 بالقنطرة إحدى بوابات الصحراء، ولا ندري كتف وصلت الدعوة إلى أمثاله من رجال الإصلاح، ولكن يبدو أن المشاركة كانت واسعة وكانت في نطاق الكشافة، وكان الشيخ رمضان احد قادة الأفواج الكشفية في الجزائر وله في ذلك أناشيد ومشاركات في المخيمات، وكان الوفد الجزائري كبيرا وممثلا لمختلف الاتجاهات السياسية، ولا ندري هل كانت المشاركة منسقة او أن كل حزب أو جماعة اتصلت بالدعوة على حدة، ونحن نعرف ان من بين المشاركين في هذه التظاهرة الشيخ الحفناوي هالي، صديق الشيخ رمضان وأحد اعضاء جمعية العلماء أيضا، وأحد المذكورين المنوه بهم في ارحلة، وله مع صديقه مساجلات وحوارات، كما علمنا أن من بين المشاركين مصطفى الأشرف والممثل مصطفى كاتب، وقد استغرقت الرحلة حوالي عشرين يوما. العنوان الذي اختاره رمضان رحلته هو (سوانح وارتسامات عابر سبيل)

_ (1) البصائر، السلسلة الثالثة، 262، 14 - 21 نوفمبر 2005.

وتعنى خواطر ومشاهدات عابر سبيل، وقد قسمها إلى ثلاثة أقسام: الرحلة إلى بولونيا، وفرصوفيا مدينة المهرجان، وأخيرا من وحي الرحلة، أطلق الشيخ رمضان فيها العنان لقلمه الرومانسي عندئذ ليصف الناس والطبيعة وآثار الحرب العالمية الثانية على بولندا، ونهضتها بعد كل ما جرى لها، مع الحلم بأن تستقل الجزائر أيضا وتنهض وتتمع بالحرية، ولذلك فإن في الرحلة ربطا بين أحداث الثورة (1955) وبين مشاعر عابر السبيل وهو في أوروبا يلتقي بشباب العالم المتحرر، وصف رمضان الرحلة بحرا من الجزائر ثم برا إلى بولونيا ابتداء من 25 يوليو 1955، وقد سحرته الأجواء الأوروبية من ربيع وشباب وحرية، ومر بأجزاء من إيطاليا والنمسا وبراغ، وخص سويسرا أثناء الرجوع، بوصف جغرافي وتاريخي وكأنها هي المقصودة بالرحلة، وقد دخل منها إلى ليون (فرنسا) ثم توجهوا إلى مرسيليا حيث أخذوا الطائرة عائدين إلى الجزائر، يوم 14 أغسطس 1955. اهتم رمضان بالآثار والمعالم، فوصف ما حدث للعاصمة فرصرفيا على يد ستالين وهتلر، ووصف نهر الفستول، وقصر الثقافة ومتحفه وصوره، وفي الرحلة بعض القصائد الجميلة التي تحرك المشاعر ساجل بها صديقه الشيخ هالي، بعض القصائد يحتوي على 102 بيتا، والظاهر أن رمضان سجل انطباعاته حين كان يقوم بالرحلة ثم حين رجع منها، ولم يحررها إلا خلال السبعينات، ثم نشرها على حلقات في جريدة (الشعب) ابتداء من أول أغسطس 1987. والشيخ رمضان مثقف بالعربية والفرنسية، وله أسلوب عربي متين وجميل، وله عدة مؤلفات شعرا ونثرا، منها ألحان الفتوة، والناشئة المهاجرة (مسرحية)، وقد اهتم بآثار ابن باديس، وبالأدب العربي، وتولى التعليم والتفتيش وتوجيه التعليم في الحركة الإصلاحية، كما تولى إدارة مدرسة دار الحديث في تلمسان سنوات طويلة قبل الثورة، وبعد الاستقلال تولى إدارة التعليم الديني في وزارة الأوقاف، ولا ندري لماذا تأخر في نشر (ارتساماته)

الدراسات الفلسفية

عن رحلته إلى سنة 1987 (1). بهذا يتبين أنه رغم تعدد الأماكن التي اختلف إليها الجزائريون وتعدد الأهداف من زيارتهم لها فإنهم (باستثناء النادر) لم يتركوا، حسب علمنا، رحلة مكتوبة نرجع إليها اليوم أو نسجلها في قائمة الرحلات. الدراسات الفلسفية مالك بن نبي جاء في غلاف أحد كتب مالك بن نبي أنه ولد في قسنطينة سنة 1905 من عائلة بقيت فيها المعاني الدينية حية بينما مالت بعض العائلات الأخرى إلى الحداثة، وابن نبي يضع عائلته في هذا الصف، ولم يغادره هذا الشعور سواء في دراسته الإسلامية العالية أو في دراسته التقنية العلمية، ويبدو أن الحداثة التي قصدها ابن نبي تختلف عن تلك التي تشيع اليوم بين جيل من المثقفين، فهي ببساطة تعني عنده مفهوم التقدم والإيمان بالتطور والتغيير. عندما تسأل مالك بن نبي عن بعض القضايا الاجتماعية والتاريخية قد لا يفصح عن رأيه بكل وضوح، ولكن تأكد من أنه عندما يحلل الاستعمار والفقر فسيكون فصيحا كل الفصاحة، وكل من ابن نبي وفرانز فانون وجد في الاستعمار والفقر موضعا للبحث في الإنسان الجزائري وحالة المسلمين المحرومين، وكما قلنا إن الثورة لم تلد أديبا عبقريا فكذلك نقول إنها لم تلد فيلسوفا نابغة، فهي لم تنتج فلاسفة ومحللين لتطور الحضارة، ولكنها بالقياس إلى ما أنتجت في التاريخ والأخلاق والسياسة، تفوقت في ميدان الفلسفة، وربما الأدب أيضا، ويكفي أنها فجرت عبقرية مالك بن نبي في الفلسفة ومفدي زكرياء في الشعر، وإن كان كل منهما قد ظهر أثناء المخاض الذي سبق الثورة. لقد سئل ابن نبي سنة 1953 عن الاتحاد بين الجزائريين في وجه العبث

_ (1) محمد الصالح رمضان، سوانح وارتسامات عابر سبيل، ط، 2، الجزائر 2004.

الإداري الاستعماري، كان ذلك في الاستفتاء الذي طرحته جريدة (لمنار)، فقال إنه بإمكانه الجواب على السؤال مباشرة، وهو يبقى على هامش المقصود، وإن الشيء الذي يهم هنا هو إدراك الدستور الذي من شأنه أن يرفع نصب الحياة من الحضيض الذي نشاهده اليوم إلى المستوى الذي يطمح إليه الفرد أو الجمع بطبيعة الشيء المسطر في غريزة بني الإنسان، وفي نظره (أن المشكل قبل كل شيء عائد إلى أصول اجتماعية عامة لا تخص طورا من الحياة البشرية دون الأطوار الأخرى، ولا عنصرا منها دون العناصر الأخرى بل تشملها وتهمها كلها في جميع مراحلها تارة من حضيض إلى حظ وتارة من حظ إلى حضيض) (1). ألف مالك بن نبي عددا من الكتب قبل الثورة وأخرى أثناء الثورة، والباقي بعدها، فمن الصنف الأول: الظاهرة القرآنية، ولبيك، وشروظ النهضة، ومن الصنف الثاني: الآسيوية - الإفريقية (1955) الذي كتبه بالفرنسية ثم ترجم إلى العربية، وفي البناء الجديد (1958) الذي طبع بالعربية في بيروت ولا ندري ما إذا كان قد كتب هذا الكتاب أصلا بالفرنسية، وهو الغالب، ومشكل الثقافة (1957)، لكن الغالب أنه مترجم عن الفرنسية، وصراع الأفكار في البلدان المستعمرة (1958)، وقد يكون كتبه أصلا بالفرنسية، وفكرة كومونويلث إسلامي (1959)، ولعله بالفرنسية أصلا، وميلاد مجتمع (1960)، وفي مهب المعركة (1961)، وهناك كتيب بعنوان استعاثة الجزائر (1957) SOS. وله من الكتب بعد الاستقلال عدد شبيه بما ذكرنا، وربما يكون ابن نبي أكثر المؤلفين الجزائريين إنتاجا فكريا خلال الثورة، في مجال يتضاءل فيه عادة الإنتاج الفكري وتكثر فيه الحركة والكلام، والملاحظ أن كل الكتب التي ألفها خلال الثورة طبعت في القاهرة ما عدا كتاب في البناء الجديد، كما أن استغاثة الجزائر طبع بالعربية والفرنسية (2).

_ (1) المنار 17, 6 فبراير 1953، في الأصل من حظ إلى حظيظ. (2) عن مؤلفات ابن نبي خلال الثورة انظر قائمة مذكرات شاهد القرن!)، المطبوعات الوطنية الجزائرية، الجزائر، 1965.

من مؤلفات مالك بن نبي التي ظهرت مع الثورة كتابه (هوية الإسلام) الذي نشر في باريس 1954، وهو الكتاب الذي كان قد فرغ من تحريره سنة 1950، ولكن مقدمته مكتوبة في يونيو 1954، ويبدو أنه لم يدخل عليه تعديلات رغم الحوادث التي جرت بعد تحريره، ولا سيما حوادث فلسطين، وجاء فيه أن ما يصنع تاريخ العالم الإسلامي اليوم ليس المؤامرات الخارجية التي تشل نهضته مؤقتا ولكن العمل الخفي والمستميت لحركيته العميقة، وقد خصص مالك بن نبي هذا الكتاب للعمل من أجل توجيه هذه الحركية، وأعجب بما قام به المستشرق الإنجليزي هارولد جيب في كتابه (الاتجاهات الحديثة للإسلام) حتى أنه أحال عليه الفصلين الثاني والثالث من هوية الإسلام، ولكنه لم يتابعه في الأفكار، واختار طريقه الخاص في التفكير، فرد عليه مثلا فيما يتعلق (بالأوتوميزم) وقال إنها ليست خاصة بالعقل العربي، كما ذهب إلى ذلك جيب، بل هي ظاهرة بشرية عامة، كما أنه لم يتفق مع جيب في القول بـ (الاتجاه الإنساني) للحداثة العربية، وهو الاتجاه الذي استعاره جيب من الثقافة الغربية، وأحال ابن نبي على كتابه (الظاهرة القرآنية)، ولا سيما فصل العلاقة بين القرآن والإنجيل، واتهم الأوربيين بوصف الدول الإسلامية بالمتأخرة دون أن يقولوا إنهم هم الذين تسببوا في تأخرها، وتساءل لماذا كان على المثقفين المسلمين أن يبحثوا عن (الإنسانية) في أوروبا مثلا وفي استطاعتهم أن يجدوها في ثقافتهم وتقاليدهم. قسم ابن نبي كتابه هوية الإسلام إلى فصول هي: مجتمع ما بعد الموحدين (أو ظاهرة الدورة التاريخية)، والنهضة (أو الحركة الإصلاحية أو الحداثية)، وفوضى العالم الإسلامي الحديث (العوامل الداخلية والخارجية)، وفوضى العالم الغربي، والطرق الجديدة، وإرهاصات العالم الإسلامي، وفي الخاتمة عالج ما أسماه (المستقبل الروحي للإسلام)، وفي غلاف الكتاب جاء أن ابن نبي لا ينتمي إلى أي حزب، وأنه يتعاون بانتظام مع جريدة (الجمهورية الجزائرية) لسان حال حزب البيان، كما أنه تعاون مع جريدة (الشاب المسلم)

وهي جريدة الشباب المنتمي إلى الحركة الإصلاحية (جمعية العلماء) والمتعاطفين معها، وجاء في الغلاف أيضا أن هدف الكتاب هو جعل الأوربي يفهم العالم الإسلامي فهما حقيقيا، وقد طلب ابن نبي من القارى المسلم أن يعي مؤهلاته التقليدية والأوضاع الحاضرة لعصره. استقبل القراء (هوية الإسلام) استقبالا يليق به، فقد جاء في وقت تستعد فيه الأمة كلها لنفض غبار اليأس، وحمل السلاح لاسترجاع الحرية والاستقلال .. فكان الكتاب إدانة منطقية واعية للاستعمار وتبشيرا بإرهاصات نهضة شاملة للإسلام والجزائر، فكتب عنه أحمد توفيق المدني في البصائر، والمولود الطياب في هنا الجزائر، ونوها به أيما تنويه، واعتبرا المؤلف فيلسوفا عالما ومؤرخا دقيقا للحضارة ومنظرا واعيا لمسيرة الإسلام، وانطلاقا من دولة الموحدين التي كانت آخر الحصون الصلبة في نظر المؤلف، وترجم المدني عنوان الكتاب (هوية الإسلام) بينما ترجمه الطياب (رسالة الإسلام)، وأطلق عليه ثالث وجهة الإسلام، ولكن المعنى واحد تقريبا: فقال المدني إن المؤلف متضلع في الهندسة والرياضيات وأنه يحسن الفرنسية أكثر من أبنائها، وإن الكتاب فلسفي علمي يدرس حالة العالم الإسلامي بعد سقوط دولة الموحدين وسقوط العالم الإسلامي تحت الاستعمار ودخوله في حالة جمود وتخلف، وقال إن المؤلف قد أشاد بالنهضة الإسلامية الحديثة التي من آثارها ظهور جماعة الشبان المسلمين والإخوان المسلمين (1). أما مولود الطياب فقد كان أكثر غمزا لابن نبي حين قال إنه سبق له أن أخرج كتبا عن الإسلام وهي معروفة وإن كانت غير مفهومة، أما في كتابه هذا (رسالة الإسلام) فهو يقدم آراء بطريقة واضحة شافية، وأنه يمتاز بفهم دقيق ولا يصدره إلا بعد تجربة ودراية، وأنه يدقق في مكانة الثقافة ومعناها (وهو أمر نادر عند المفكرين المشارقة)، ومالك ابن نبي أكثر فهما للإسلام من الغربيين

_ (1) البصائر 322، والتاريخ غير متوفر الآن.

أصول الحضارة العالمية

باعتباره يكتب عنه من الداخل (وهذا رأي ابن نبي في فرانز فانون - انظر سابقا)، فهو من أهل الدين نفسه، واقترح الطياب ترجمة رسالة الإسلام إلى العربية، وهو ما حصل فعلا بعد حين، إنه كتاب في نظره يتناول قضية التجديد والتقليد ويقدم نظرة شاملة لنهضة الإسلام (1). ومن الواضح أن رسالة الإسلام أو هوية الإسلام جاء في وقته، لأن الثورة كانت تبحث عن إيديولوجية تقودها، وهي تفتقر، إلى ذلك الحين، إلى مرجعية تعتمد عليها في صياغة قوانينها وسير حركتها، ولا ندري الآن مدى رواج ومقروئية مالك ابن نبي في أوساط نخبة الثورة حتى نعرف مدى تأثيره على سير شؤونها وتفكير رجالها، غير أن هناك دلائل تدل على أن فكر مالك بن نبي لم يؤثر على نخبة الثورة بقدر ما أثر عليها الفكر الماركسي ممثلا في كتابات فرانز فانون وأمثاله. وبعد 1962 أصدر ابن نبي كتابا آخر سماه (آفاق جزائرية) ناقش فيه قضايا هامة كانت ما تزال تشغل أهل الفكر الثوري عامة ... ويهمنا أنه ناقش فيه قضايا الحرية والمفهومية وميراث الجزائر من الاستعمار، وعالج فيه مسألة الإنسان الجزائري وكيف خلقت منه الثورة إنسانا جديدا، غير أنه رجع إلى أصله بمجرد وقف القتال وإعلان نهاية الثورة، كما تناول الفرق بين (البوليتيك) (احتراف العمل السياسي) والسياسة، إنه كتاب يعبر عن الروح الثورية التي لم تصمد أمام التهافت على الكسب ورأس المال والسباق إلى المناصب ابتداء من أعضاء الحكومة المؤقتة، حسب تعبيره (2). أصول الحضارة العالمية لقد سبق لنا أن تناولنا بعض أعمال عبد الرحمن بن الحفاف في كتابنا التاريخ الثقافي، ولا نود أن نطيل الحديث عنها الآن وإنما نريد أن نذكر ما عثرنا

_ (1) هنا الجزائر 32، فبراير 1955. (2) طبع هذا الكتاب في القاهرة، في ط 2 سنة 1971، ولا ندري متى ظهرت طبعته الأولى.

عليه من معلومات حول المؤلف حتى تكتمل الصورة بعض الشيء، (والمختصر المفيد) عنه هو الذي كتبه أحمد الأكحل في صورة تأبين أو خبر وفاة للشيخ ابن الحفاف سنة 1957 (1376 هـ) فهو عبد الرحمن بن الحفاف حفيد الشيخ علي بن الحفاف مفتي المالكية في القرن الثالث عشر الهجري والمتوفى سنة 1307، أما عبد الرحمن فقد توفي عن أكثر من ثمانين سنة، قضى معظمها في المطالعة، وهو من قدماء المدرسة الثعالبية بالعاصمة، وقد دخل سلك القضاء وترقى فيه إلى أن أصبح (باش عدل) أو رئيس العدول في المحكمة المالكية، ولكنه استقال من المنصب وتفرغ للعلم في وضع شبيه بما فعل بعد مالك بن نبي حين تخلى عن وظيفة القضاء وتوجه إلى فرنسا لدراسة الهندسة الكهربائية، كان ابن الحفاف عارفا بالفرنسية والعربية، وكان كثير البحث في الآداب والفلسفة والدين وعلم الاجتماع، وله بالفرنسية عدة كتب. من مؤلفاته تمهيد لدراسة الإسلام الذي وضعه ليكون دليلا لمن لا يعرف العربية وتاريخ الإسلام من أبناء جلدته، فهو كتاب صغير الحجم في حضارة الإسلام وتاريخه، وقد رد فيه على بعض الشبهات حول الرسول (صلى الله عليه وسلم) وحول الشريعة، ومن مؤلفاته أيضا تاريخ الحروف الهجائية أو تاريخ الأبجدية، ومنها كتاب أصول المدنية (الحضارة) الذي نحن بصدده (1). هذا الكتاب تتبع فيه المؤلف تاريخ الحضارات القديمة، ومنها الحضارة الفينيقية والحضارة البابلية، وقدم الرأيين القائلين باتصال أو انفصال الحضارات بعضها عن بعض، وانتهى إلى أن الحضارات متصلة وغير مستقلة عن بعضها، مستدلا بما انتهى إليه غوساف لوبون من تواصل الحضارات، فقد كان ابن الحفاف يبحث عن أم الحضارات ما دامت الفروع والامتدادات واحدة، إن الذين يقولون باستقلال كل حضارة راعوا الخصائص المميزة لكل منها، أما الذين يقولون بتواصل الحضارات فنظروا إلى أخذ بعضها عن بعض والخصائص

_ (1) أحمد الأكحل، هنا الجزائر 54، مارس - أبريل 1957 / شعبان - رمضان 1376.

من وحي الثورة الجزائرية

المشتركة التي تتضح في مختلف الحضارات مهما تباعدت في الزمان أو المكان، وفي نظره أن الاكتشافات الأثرية المتأخرة تؤكد الرأي القائل بعدم استقلالية كل الحضارة عن الأخرى. وتعرض ابن الحفاف أيضا إلى أصول مكان شمال إفريقيا وهي المسألة الشائكة التي لم يبت فيها، في نظره، (أكثرية المؤرخين)، وقد انتهى حولها إلى الرأي القائل بأن سكان شمال إفريقيا عرب قدموا من المشرق في إحدى موجات الهجرات القديمة، ووافقه على ذلك الناقد مولود الطياب، لكنه اختلف معه في الاعتماد على دليل اللغة وحدها بالنسبة إلى أهل شمال إفريقيا، والدليل على ذلك أن بعض اللهجات، كالقبائلية (حدث عليها من التطورات ما جعل الكثير من مصادرها عربية) (1). ولو بحثنا في آثار عبد الرحمن بن الحفاف لوجدنا ربما تراثا هاما ومعلومات مكتوبة تفيد هذا البحث وأمثاله في مرحلة الثورة، فالرجل كان متقدما في السن عندما طبع كتابه أصول الحضارة (1955)، وقد عاش حوالي سنتين فقط بعد ذلك، وتناولت البصائر وغيرها هذا الكتاب وأشاد الكتاب بصاحبه على أنه كان يحمل رسالة وفكرة إلى قرائه في وقت اشتدت فيه قوة الاستعمار واختلطت مفاهيم الحضارات ونكران حق الشعوب الأخرى في التقدم والازدهار، ومن الملفت للنظر أن كتب ابن الحفاف المذكورة قد نشرت في العقد الأخير من حياته، لماذا؟ وهل له كتب أخرى مخطوطة؟ من وحي الثورة الجزائرية الجنيدي خليفة من جيل الثورة، تولى مسؤوليات على المستوى الطلابي في تونس والقاهرة خلال الخمسينات، وكان عندئذ طالبا في الفلسفة بجامعة القاهرة، وقد عرفناه في جامع الزيتونة فكان كثير المطالعة متحرر الفكر غير ملتزم بما تقدمه البرامج الزيتونية من معارف في التوجه والمعلومات، وهو من

_ (1) هنا الجزائر 37، يوليو 1955.

طلبة حزب الشعب النشطين في تونس قبل الثورة وطلبة جبهة التحرير الفاعلين أثناء الثورة، وقد اعتقل وسجن أثناء الثورة قبل استقلال تونس، ونشر بعض أعماله الفكرية والنقدية في جرائد تونس قبل رحيله إلى القاهرة، وأثناء وجوده في تونس والقاهرة كتب فصولا في شكل رسومات (كما عبر عنها) أو يوميات وقصصا ورسائل وتأملات فلسفية بين 1954 و 1962، وسجل مع بعضها مكان الكتابة وهو تونس، والباقي سكت عنه، والغاب أنه كتبه في القاهرة، استعمل الجنيدي الأسلوب الفلسفي وطرق مواضيع تتصل بالثورة كتهريب السلاح ودور الطلبة وحياتهم أثناءها والتفجيرات الذرية الفرنسية في الصحراء الجزائرية التي أعطاها عنوانا هو (خلاصة علمية)، وبعض هذه المواضيع نشره في مجلة الآداب البيروتية مثل رسالة من سجين جزائري (1958)، وتمثال الحقد (1962)، كما نشر في مجلة الفكر التونسية (1959). يقول الجنيدي عن عمله إنه كتبه في شكل يوميات ليست بصيغة الماضي بعد أن فصلت بينه وبين هذا الماضي حقبة طويلة، ومناسبة هذه اليوميات كانت إحدى السهرات بين الراوي - وهو المؤلف - وصديق قديم له، بدأها يوم أول نوفمبر 1954 حين دخوله الامتحان في تونس وكيف فوجى بخبر الثورة في الجزائر على صفحات إحدى الجرائد بعد أن طال العهد على ترديد الناس مقولة تقول إن هناك شيئا ما سيحدث في الجزائر، وها قد حدث، وعاش الراوي ردود الفعل الآنية واللاحقة لدى الشباب وهم يتهيأون للانضمام إلى الثورة لأنها قد أرجعت لهم شيئا مفقودا منذ أجيال وهو الكرامة، وتوالت اليوميات في أسلوب قصصي مباشر، وروى فيها كيف التحق بالحرب وكيف تردد بين تونس والمشرق للدراسة، إن أجزاء هامة من كتاب (من وحي الثورة الجزائرية) متصلة اتصالا مباشرا بالثورة، وقد صاغها مؤلفها كما قلنا صياغة فلسفية، ولذلك أدرجناها هنا (1).

_ (1) من وحي الثورة ... دار الثقافة، بيروت، 1963، وكذلك دراستنا عن هذا الكتاب في كتابنا منطلقات فكرية، دار الغرب الإسلامي، بيروت، ط، 3، 2005، من مؤلفات =

كتب فرانز فانون

لقد عاش الجنيدي في القاهرة حتى نال الليسانس من ثم رجع إلى الجزائر وفيها حصل على الدكتوراه في علم النفس والفلسفة، وساهم في أنشطة اتحاد الكتاب الجزائريين ودراسة أفكار الثورة وتولى عدة مسؤوليات جامعية، وقد أدركه الموت سنة 1993 تاركا عدة بحوث ودراسات في تخصصه ولكن آثاره لم تجمع ولم تدرس حتى الآن دراسة تليق بدور صاحبها في الثورة والثقافة. كتب فرانز فانون اعتبر بعض الجزائريين الطبيب النفساني فرانز فانون فيلسوف الثورة الجزائرية وصنفوه ضمن أبنائها المخلصين وأعطوه لقب الأخ والرفيق والمناضل، ولكنهم توقفوا عن وصفه (بالمجاهد) لأنه كان ومات نصرانيا أو ملحدا، وفانون أصبح بعد أن اختار الجزائر وطنا له، مواطنا له نفس حقوق وواجبات الجزائريين، وقد دفن بعد وفاته داخل الحدود الجزائرية، وكان قبل وفاته يداوي المجاهدين واللاجئين، ثم تولى وظائف سامية في الثورة، منها ممثل (سفير؟) الجزائر في أكرا عاصمة غانا، وبهذه الصفة أصبح صلة وصل بين الجزائر وإفريقيا بل و (الكادحين) على وجه الأرض، ولد فانون في جزر المارتينيك حيث يرجع إلى أصول إفريقية وفرنسية، فهو شبيه بسلفه (توماس أوربان)، رجل هجين، أبوه فرنسي وأمه زنجية، وبعد ثقافة طبية ونفسية عميقة جاء الجزائر ومارس فيها الطب النفسي وانضم للثورة سرا لأنه أعجب بها وبأسلوبها في الكفاح وعلق عليها آمالا عراضا في تحرير الإنسان عموما والإنسان الإفريقي خصوصا، فكتب عنها بعض الكتب، منها: - السنة الخامسة للثورة الجزائرية. - الكادحون (أو المعذبون) في الأرض، وها نحن نتناولهما باختصار على الترتيب.

_ = الجنيدي أيضا تمارين على التوبة، وفي انتظار نوفمبر جديد ....

السنة الخامسة للثورة

السنة الخامسة للثورة عندما صدر هذا الكتاب اعتبر وثيقة دامغة ضد الاستعمار، ووثيقة أخرى تكشف عن تطور المجتمع الجزائري بسبب الثورة، ووثيقة ثالثة لتحرير الإنسان المضطهد حيثما كان، وقد كشف فيه فانون عن أوجه العلاقة المستورة التي كانت بين المستعمر والمستعمر، فتخاطفه الناس وترجموه إلى عدد من اللغات وحللوا آراء صاحبه وصوبه البعض وخطأه آخرون، ودون أن نرجع إلى ما قاله هؤلاء أو أولئك دعنا نذكر ما قالته جريدة (المجاهد) التي كانت سباقة إلى تبني آراء فانون ونقلها إلى قرائها. تعرض كما قلنا، لما طرأ على المجتمع الجزائري من تطور بعد الثورة مثل علاقة الابن بالأب، وفي هذا المقال عناوين اهتمت جريدة المجاهد بإبرازها مثل: التناقضات التي نشأت داخل الأسرة وداخل الأمة في نظر فانون الذي جاء على لسانه ذات مرة: هذا أول نوفمبر 1954 وعليك أن تختار ... أما عنوان مقال المجاهد كله فهو: (الأسرة الجزائرية في الثورة) (1). وفي المقال الثاني حللت المجاهد مسألة المرأة في الكتاب: كيف تطورت نتيجة للثورة، لقد كانت البنت، في نظر فانون، دائما خلف الابن، مثل كل المجتمعات التي تقوم على خدمة الأرض بحيث يصبح ميلاد الولد عندها أكثر احتفاء من ميلاد البنت، ذلك أن الأب يرى الطفل رفيقا له في خدمة الأرض وخليفة له بعد وفاته، فالولد هو الذي يصبح الحامي أو الولي على أمه وعلى إخوته، أما البنت فتبقى ثانوية لأخيها، ومن محتويات هذا المقال: الثورة تحرر المرأة، وتجربة المقاومة السرية، وعندما تكون زوجة مناضل مناضلة، والزوجان الجديدان، وغيرها من المواضيع، وعلقت الجريدة على هذا التحليل للواقع الجزائري سنة 1959 بقولها إنه هو الواقع الناتج مباشرة عن الثورة، وافتخرت الجريدة بأنها تنشر منه هذه الصفحات عشية ظهوره، وهي تحاول أن

_ (1) منشورات ماسبيرو، باريس، 1959.

الكادحون في الأرض

(تتبع المغامرة المعاشة من العائلات الجزائرية في أتون الكفاح). وقد صدقت المجاهد في ذلك، فقد تتبعت (مغامرة) لا تدري مداها ولا عواقبها، مغامرة فجرتها الثورة التي كانت في حاجة إلى جميع أبئنائها، ذكورا وإناثا، مغامرة هوت على التقاليد بفأس من صلب فكسرت أصولا وفروعا وخلقت بذلك واقعا جديدا للجزائر الجديدة، ولم يزد فانون على رصد هذا الوقع، بحكم مهنته، وقدرته على التحليل والصياغة لكتاب يتداوله الناس، وإذا عدنا إلى هذه المغامرة وحديث فانوق عن تحرر المرأة الجزائرية عرفنا لماذا وجه المفكر مالك بن نبي نقده اللاذع لفانون باعتباره لم يعش ذاتية الشعب الجزائري - حسب تعبير ابن نبي - ولم يحس بشخصيته الدينية والتاريخية، رغم تخصصه في التحليل النفسي الحديث (1). الكادحون في الأرض هكذا ترجمت المجاهد كتاب فانون الثاني والأخير الذي ألفه في السنة الأخيرة من حياته، وقد تصدت المجاهد لترجمة هذا الكتاب وقدمته لقرائها عزاء لهم في وفاة صاحبه قائلة إنه لم يمت ولن يموت، واصفة المؤلف بأنه (فقيدنا العظيم) وصاحب مقولة: (هيا بنا يا إخواني ... يجب أن نخلق إنسانا جديدا)، في حديث ضمنه (كل حرارة إيمانه الملتهب وعمق فكره النفاذ، وسمو روحه المشرقة، وغزارة تجربته الثورية الفذة) حسب قولها. لقد كان فانون يعرف - حسب المجاهد - بأن الموت يترصده، وأنه كان يشعر بأن رسالته الثورية لم تكتمل ولن تكتمل إلا إذا أنهاها بعمل يخلد به حياته ومجده يضم خلاصة تجربته ورأيه في بناء المجتمع الجديد بواسطة الكفاح الثوري، فكتب كتابه (الكادحون في الأرض)، ورأت في لحظة من المبالغة المفرطة أن الثوار فقدوا فيه أخا ورفيقا، ومناضلا كبيرا ومفكرا عظيما، وانه

_ (1) المجاهد - بالفرنسية - 53 - 54، أول نوفمبر 1959، وأيضا عدد 55، 16 نوفمبر 1959.

سيبقى حيا بين الجزائريين إلى الأبد، لأنه ترك وراءه هذه الثروة الفكرية الثمينة التي ستفيد العالم الثالث في سيرته نحو حياة أفضل. لقد قامت المجاهد بترجمة الكتاب إلى العربية خدمة لقرائها لأنه أحدث دويا في أوربا لم يحدثه كتاب من قبل منذ وثيقة ماركس وأنجلز (تقصد البيان الشيوعي سنة 1848)، وقد تولت أسرة المجاهد الترجمة وحفظ الحقوق والنشر حتى في اللغات الأخرى غير العربية، وافتتحت نشر الكتاب بنشر المقدمة التي كتبها له جان بول سارتر الذي وصفته المجاهد بأنه (الفيلسوف الفرنسي الكبير)، ثم بعد ترجمة ونشر المقدمة والفصل الأول في جملة من الأعداد بدأت تنشر الفصل الثاني ... ولكنها توقفت فجأة عن ذلك دون أن ندري هل ظهرت ترجمة الكتاب كاملة في نطاق آخر، إن آخر ما نشر من الكتاب موجود في العدد 120 من المجاهد، وهو الفصل الثاني الذي انتهى بعبارة (يتبع)، ولكن شيئا من ذلك لم يتبع (1). ويبدو أن فانون قد حظي عند الجزائريين بقسط كبير من الاحترام والتبجيل لأنه نصرهم بالفكر والطب عندما نصرهم الناس بالسلاح والمؤونة، وأنه فهمهم من داخل مجتمعهم بعد أن حلل نفسياتهم وتأكد من آمالهم، وهاجم الاستعمار بقلمه كما هاجموه ببنادقهم، ومن عادة الجزائريين أنهم يعطفون على المغبونين، وقد كان فانون مغبونا، وعلى المستضعفين وقد كان مستضعفا، وإذا أحبوا أحدا أو شيئا أحبوه بكل ما يملكون وإذا نفروا منه أبغضوه بكل ما يملكون أيضا، فلا توسط عندهم في المدح أو في القدح، وقد كان الإنصاف يقتضيهم أن يقدموا عنه معاصره ومواطنهم مالك بن نبي، ولكنهم ربما كانوا يشعرون بالأمن إذا مدحوا أجنبيا أو قدحوا فيه بينما يشعرون بالخوف إذا مدحوا واحدا منهم أو قدحوا فيه، كما كان لسيطرة اليسار على الثورة في وسائل الإعلام بالخصوص نصيبه في رفع فانون إلى سدة الفكر الماركسي بينما ابن نبي كان

_ (1) المجاهد 111، 25 ديسمبر 1961، والمجاهد 120، 30 أبريل 1962.

الدراسات الإسلامية والاجتماعية والسياسية والفانونية

يرى أن مرجعية الثورة تتمثل في الإسلام وليس في الشيوعية أو حتى السانسيمونية، وما تزال معظم وسائل الإعلام والتأثير في يد اليسار عندنا إلى اليوم. الدراسات الإسلامية والاجتماعية والسياسية والفانونية الشؤون الإسلامية رغم علمانية الثورة، كما ظهرت في تصرفات وتصريحات قادتها، فإنها أعطت للشؤون الإسلامية اهتماما خاصا، وأهم هذه الشؤون هي التاريخ الإسلامي والقضاء الإسلامي والأوقاف الإسلامية. التاريخ الإسلامي فتحت جريدة المقاومة الجزائرية بابا أسمته (صفحات خالدة من الإسلام) نشرت تحته حياة أسماء بنت أبي بكر الصديق (أول مجاهدة عربية)، و (سيف الله خالد بن الوليد)، و (السلام والإسلام) بمناسبة ذكرى مولد السيد المسيح عليه السلام، (وطارق بن زياد)، وذكرى (الأمير عبد القادر) بمناسبة مرور 57 عاما على وفاته، و (كفاح الجزائريين بين الماضي والحاضر) , و (مرحبا بك يا رمضان)، و (البطل الخالد الإمام ابن باديس)، ومن (غزوة بدر إلى الكفاح الجزائري)، و (لست أبالي حين أقتل مسلما) (مقارنة بين دور الصحابي خبيب بن عدي وأحمد زبانة)، و (أم الأبطال: تماضر الخنساء)، و (خولة بنت الأزور). وسنكتفي هنا بذكر أعداد جريدة المقاومة الجزائرية التي تناولت المواضيع السابقة، دون ذكر تواريخها، فالأعداد هي: 3، 4، 6، 8، 9، 11، 13، 15، 16، 17، وكلها بين سنتي 1956 - 1957 ومعظمها تحمل الطبعة الثالثة من الجريدة، إن ربط الثورة الجزائرية بوقاشع التاريخ الإسلامي ومواقف رجاله ونسائه البطولية كانت تخدم هدفين الأول إعطاء البعد الروحي للثورة تشجيعا

موقف الطرق الصوفية

للثوار والجماهير، والثاني اعتبار الثورة امتدادا للتاريخ العربي الإسلامي وأنها جزء من معركة متصلة الحلقات، فالهدف ليس هو فقط التحرير الوطني بل هو أيضا تحقيق انتصار الإسلام. موقف الطرق الصوفية يتساءل الدارسون لتاريخ الثورة عن موقف رجال الطرق الصوفية، والعلماء منها، سواء في أولها كرد فعل منهم، أو بعد تمكنها واتضاح برنامجها ومعرفة قادتها، ونحن إلى الآن لم ندرس هذا الموضوع دراسة علمية تاريخية ولم نجد من سلط عليه الأضواء الكافية، ولكننا وجدنا بعض المواقف المتحمسة أو المحسوبة على الاتجاه الإيجابي. فبعد مرور سنتين على الثورة نشرت البصائر أن ثلاث زوايا وجهت إلى رئيس الحكومة الفرنسية برقية تطلب الاعتراف بالجنسية الجزائرية، وهذه الزوايا هي: الزاوية السحنونية في بني وغليس وشيخها هو محمد السعيد الشريف أمقران، وزاوية تومليكين في تغزيرت وشيخها محمد الطاهر آيت عيسى، وزاوية سيدي منصور في أزفون وشيخها محمد الشريف الضاوي، وجميع هذه الزوايا ترجع إلى الطريقة الرحمانية، وكلها أيضا في القبائل، وقالت الجريدة إن هؤلاء الشيوخ طالبوا رئيس الحكومة (جي موليه) بوجوب استعمال الرحمة والمساواة والتسامح مع سائر (المتساكنين) قائلين إن سياسة الاندماج لا يقبلها المسلمون لأن لهم دينهم وتاريمخهم وذاتيتهم ... أما الحل فيكمن في الاعتراف بالجنسية الجزائرية لمصلحة الجميع، وفي نظرهم أن هذا لا يتنافى مع الصداقة بين الجزائر وفرنسا. والملاحظ أن هذه البرقية أرسلت بعد اشتداد الثورة، وبعد إعلان جمعية العلماء عن موقفها في يناير من نفس العام ببيان صادر عن مجلسها الإداري، وكذلك حزب البيان، والنواب، وبعد أن طلبت الجبهة من الجميع اتخاذ مواقف

صريحة وواضحة، أثناء التحضير لعقد مؤتمر الصومام (1). وصاحب الزاوية السحنونية هو محمد السعيد الشريف السحنوني، كما قلنا، وهو من زعماء الطريقة الرحمانية، ووالد أخينا علي مقران السحنوني، وقد اشتهرت هذه الزاوية بالعلم والكفاح في حوض الصومام، وجد العائلة هو السعيد أمقران الذي قاوم الاحتلال أثناء ثورة 1871 واستشهد في بني يراثن (نات يراثن)، ومن هذه العائلة محمد وعلي السحنوني الذي شارك في الثورة المقرانية وحكم عليه بالنفي من الجزائر، ثم هرب إلى الحجاز (المدينة المنورة) وفيها تزوج وتوفي (2). أما الشيخ محمد الشريف السحنوني المعاصر لثورة نوفمبر فقد فكر عند اشتداد الضغط عليه، في الهجرة بعائلته إلى الحجاز، وتعرض للتعذيب والإهانة والتشريد ولم يجتمع شمله بأسرته إلا بعد الاستقلال، فدخل السجن عدة مرات، آخرها سنة 1958 حين القوا عليه القبض في منزله بسطيف، وتعرضت زاويته في (تغراست) لهجوم عسكري خرب الزاوية وما فيها، وكان عدد طلابها حوالي خمسين (50) طالبا فساقوهم إلى السجن حيث عذبوا وأهينوا. تخرج محمد الشريف من الزيتونة، وانتصب للتدريس في زاويتيه (السحنونية والوغليسية)، ولم يكن وحده في ذلك، فقد انضم إلى هيئة تدريس الزاويتين عدد من الأساتذة، وجاءهم من تونس الشيخ محمد الحبيب والشيخ الفرشيشي للمساعدة على التدريس، وقد بلغ عدد طلاب الزاويتين خمسمائة وخمسين طالبا (550) وكان فيهما أبناء الجزائر والمغرب وجيبوتي وليبيا. وجمع الشيخ محمد الشريف مكتبة غنية بالمطبوعات والمخطوطات بحيث بلغت المخطوطات حوالي ثلاثمائة (300) كان قد اقتنى معظمها من تونس من مكتبات الشيوخ المتوفين والتي تباع عادة في المزاد، كما اشترى

_ (1) البصائر 357، ومارس 1956. (2) انظر عنه كتابنا التاريخ الثقافي، والحركة الوطنية.

بعضها من المشرق أثناء رحلاته، وكان يتردد على المكتبات المعروفة عندئذ مثل مكتبة رودوسي في الجزائر، والثميني والعسلي والأمين في تونس. وبالإضافة إلى ذلك هناك الدوريات التي كان الشيخ يجتهد في اقتنائها والاشتراك فيها، هذه المكتبة الغنية كان مصيرها مصير الزاوية، فقد نهبت وأتلفت ولم ينقذ منها إلا النادر، فغضب الاستعمار على صاحب الزاوية يطال الزاوية ومكتبتها أيضا (1). ومن جهة أخرى نعرف أن الطريقة التجانية تدخلت بطريقة غير معلنة لإنقاذ حياة الشاعر محمد العيد آل خليفة الذي ألقت عليه السلطات الفرنسية القبض، وكان على وشك تنفيذ القتل فيه، مع آخرين، وبفضل تدخلها تغير الموقف وفرض الفرنسيون على الشاعر الإقامة الجبرية في بسكرة طيلة عهد الثورة، ولكننا إلى الآن لا نملك دليلا قاطعا على تدخل الطريقة التجانية. إذا سألت اليوم قادة الطرق الصوفية وأتباعها المتحمسين ورجال الزوايا عن موقف طريقتهم أو زاويتهم من الثورة فإنهم لا يترددون في وضع محورة براقة أمامك من التضحية والفداء والقيام بالأعمال السرية والعلنية لصالح الثورة والتعرض من أجل ذلك لأخطار لا تعد ولا تحصى، وهم في ذلك لا يختلفون كثيرا عن إخوانهم المنتمين إلى الأحزاب السياسية حماسة وولاء، وفي غمرة هذا السيل من (الأعمال) الباهرة ينسون علاقتهم السابقة واللاحقة بالسلطات الفرنسية عن رضى ومصلحة أو عن كره وتقية، وأمام ذلك لا يستطيع المؤرخ أن يصل إلى الحقيقة عن دور الطرق الصوفية والزوايا من الثورة، ومن ثمة نكتفي هنا بإيراد بعض الأقوال التي نشك منذ البداية في أصالتها إلا إذا دعمتها الوثائق (رسائل، بيانات، تصريحات، محاضر، مذكرات معاصرة للأحداث ...)، والواقع أن هذا المنهج يجب أن يطبق على كل الشخصيات والمؤسسات والتنظيمات التي كان وجودها يكتسي طابعا عاما وله صلة بالجماهير من جهة

_ (1) محمد الصالح الصديق، البصائر 24 - 31 أكتوبر، 2005.

وبالإدرة من جهة أخرى. كنت أطالع عملا قدمه صاحبه إلى ندوة عقدت هذه السنة (2005) عن دور الزوايا والطرق الصوفية في الثورة، فوجدت صاحب الكلمة، يذكر أسماء أشخاص وتضحيات كثيرة منسوبة إلى بعض رجال الطرق الصوفية، بل إنه جعل عدة رؤساء تولوا حكم الجزائر من أتباع هذه الطرق، (ابن بلة وابن جديد وبوتفليقة، وغيرهم كمصالي وآيت احمد)، قد انتموا إلى طرق صوفية كالهبرية أو الرحمانية أو الدرقاوية، وقد فهمنا من البحث أن الثورة صادفت مشيخة محمد عبد اللطيف للطريقة الهبرية، ففي عهده قدمت الطريقة عددا من المجاهدين تطول قائمتهم، وربما يقال إن مشاركة المريدين في الثورة لم تعد ذات قيمة في حد ذاتها لأن الثورة جندت الجميع، وقد انضموا للثورة كمواطنين لا كمريدين، وإنما نحن نبحث في هذا المقام عما فعلت وقالت وكتبت مشيخة الطرق نفسها كحث الناس على الجهاد أو إعلان مطالبها للسلطات الفرنسية وليس تبني أعمال الآخرين ولو كانوا من المريدين. ومهما كان الأمر فقد نسب صاحب الكلمة أعمالا للشخ محمد عبد اللطيف شخصيا مثل جمع السلاح وتحضير الاستفتاء (؟) سنة 1962 وفرز أسماء المرشحين لتولي المهام الجديدة في الجزائر المستقلة، ولا شك أن ذلك - إذا صح - كان بعد وقف إطلاق النار. كما جاء الكاتب على ذكر الشيخ محمد المدني، من زاوية سيدي عبد الباقي المنتشرة في وهران وغيليزان، وبناء عليه فإن الشيخ المدني تعرض للتعذيب بعد إلقاء القبض عليه سنة 1956، وكان قد انضم إلى منظمة فدائية بوهران، ولم يطلق سراحه إلا سنة 1960، كما طال السجن عددا من أقارب الشيخ المدني (وهو أيضا من الطريقة الهبرية) كانوا من المجاهدين في المنظمة الخاصة (1).

_ (1) كلمة السيد الحبيب بن عدة، التي أعدها تمت إشراف الشيخ محمد عبد اللطيف بلقايد =

الأوقاف الإسلامية

وعلمنا من مصادر شفوية أن الشيخ عبد العزيز بن الهاشمي مقدم الطريقة القادرية في سوف قد أهدى محلات يملكها في تونس إلى جبهة التحرير الوطني، ومنها قصر جعلت فيه مكاتبها، والشيخ عبد العزيز بن الهاشمي هو الذي كان قد (تمرد) على فرنسا سنة 1938 في سوف ورحب بوفد جمعية العلماء برئاسة ابن باديس، وأعلن انضمامه إلى هذه الجمعية، فألقت السلطات الفرنسية القبض عليه وعلى من سانده من العلماء وزجت بهم في سجن الكدية بقسنطينة، وقد توفي الشيخ عبد العزيز في تونس بعد الاستقلال. الأوقاف الإسلامية أشرنا في البداية إلى أن استيلاء إدارة الاحتلال على الأوقاف الإسلامية بقي مشكلة حية في ذاكرة الجزائريين طيلة العهد الاستعماري، وقد كتبت جريدة البصائر بتاريخ يونيو 1955 خلاصة عن الوقف المعروف بوقف عبد الرحمن القينعي الذي يرجع إلى 1864، والقينعي من المحسنين الجزائريين الأثرياء، ترك للمكتب الخيري الإسلامي وقفا لفائدة الفقراء المسلمين في مدينة الجزائر الذين مسهم الضر بعد مصادرة الفرنسيين للأوقاف الإسلامية، وكان مبلغ الوقف أربعة ملايين فرنك سنويا، وهو مع ذلك غير كاف لأن عدد الفقراء كان يتجاوز العشرين ألفا في العاصمة وحدها، وكان للأوروبيين أوقافهم ومكتبهم الخيري أيضا، وكانوا يفرضون ضريبة على الملاهي لفائدة هذا المكتب بينما لا يستفيد المسلمون من هذه الضريبة شيئا رغم أنهم كانوا يدفعون القسط الأكبر منها بحكم دخولهم للملاهي، وتقدر الضريبة بخمسة وتسعين مليون فرنك ونصف المليون، فطالب المسلمون بتقسيم ضريبة الملاهي بينهم وبين الأوروبيين خصوصا وأنه لا يكاد يوجد عند هؤلاء فقراء، ولكن المسألة جاءت معكوسة فقد كان الأوروبيون هم الذين يطالبون بدمج وقف القينعي في رصيدهم الخيري ليستفيدوا أيضا منه، وقد اتهم المسلمون إدارة بلدية العاصمة بأنها تريد

_ = وقدمها في ملتقى: دور الزوايا والطرق الصوفية أثناء الثورة، وهران، مايو 2005.

الاستيلاء على ما بقي من الأوقاف الإسلامية في الوقت الذي يطالب فيه المسلمون بإرجاعها كلها إلى جماعة المسلمين، وفي الوقت الذي أعلن فيه الحاكم العام أن إدارته سترجعها إليهم حسب دستور سنة 1947. وبعد مشادات بين عمر بوضربة رئيس المكتب الخيري الإسلامي والحكومة. وبعد تدخل أطراف فرنسية، رضيت الحكومة بمنح قسط من الضريبة إلى المكتب الخيري الإسلامي، لكن الإدارة الاستعمارية طبقت سياسة التمييز فمنحت المكتب الإسلامي الثلث فقط من تلك الضريبة، أي ثلاثين في المائة من المبلغ المذكور بينما المكتب الأوروبي الذي لا يكاد يوجد له فقراء يأخذ منها سبعين في المائة، وقد علقت البصائر على ذلك بقولها: لو قسمت الضريبة مناصفة بين المكتبين لنال المسلمين منها 47 مليونا بدل أربعة (1). أما مقالة نور الدين عبد القادر عن أصل وقف القينعي فقد نشرت سنة 1960 واحتوت على معلومات هامة لم نكن قد اطلعنا عليها عندما كتبنا عن الأوقاف في كتابنا السابق، اعتمد نور الدين على عدة وثائق وعلى ثلاثة معاصرين ممن عرفوا القينعي شخصيا وكانوا من المتقدمين في السن. ولد القينعي - بناء على أغلب التقدير - في مدينة البليدة في عهد الداي مصطفى باشا (أوائل القرن التاسع عشر) وهو من قبيلة (بني قينع) القاطنة بين بوينان وتابلاط، وبعد رشده اشتغل بالتجارة، قبل الاحتلال، وكان يتردد على العاصمة، فتكفل بعد الاحتلال بصنع السراويل والبرانيس والشواشي للجند الفرنسي - وهي بضاعة عادة تصنع من الملف الملون المطرز، كما تكفل لهم بصنع المصنوعات الجلدية التي يحتاجها فرسانهم ومشاتهم، فوظف القينعي عمالا وراجت تجارته وكثرت أملاكه وماله، واشترى الأراضي في متيجة كما اشترى العقارات، وكان يتعامل بالربا، ويتابع من يستدين منه أو يتأخر في الرد. على يد الحاكم، وكان حريصا كل الحرص على المال، وحين وفاته لم يمش

_ (1) البصائر 324، و 2 يونيو 1955.

في جنازته إلا عدد قليل، وقد سموا عليه شارعا في حارة الجبل بالعاصمة. كان القينعي يلبس قفطانا، ولا يهتم باللباس إلا في حالات نادرة، ولكنه كان دائما نقي اللباس، وقد أصبح صاحب ثروة ضخمة، وينزل عند صديقه قائد الشمع في البليدة، وكان متواضعا يعيش عيشة بسيطة، ويتصدق على المحتاجين بلا رياء، وكان هدفه هو فعل الخير، وفي كل خميس يذهب إلى ضريح سيدي عبد الرحمن الثعالبي ويحضر قراءة بعض الأحزاب، ويعطي لكل قارى مالا وهو ما يسمى (بحزب القينعي) الذي ما يزال منتظما إلى سنة 1960، كما كان يزور ضريح سيدي أحمد الكبير في البليدة. أوقف القينعي أملاكه على فقراء المسلمين بمقتضى رسم مسجل بالمحكمة المالكية بالجزائر بتاريخ 29 مارس 1860، وبناء عليه فان كل أملاك القينعي وما سيملكه من عقار ودور ومصوغ وأثاث ينتفع به مادام على قيد الحياة، وبعده يؤول إلى فقراء مدينة الجزائر، وقد أوصى لابنه الوحيد الحاج محمود القينعي بمائة وخمسين فرنكا كل شهر وبالسكنى بلا كراء، كما أوصى لأخته الشقيقة عائشة بخمسة وسبعين فرنكا وبالسكنى بلا كراء في دار قرب جامع سفير، وأخيرا أوصى لزوجته عائشة بنت إسماعيل بخمسة وسبعين فرنكا شهريا، وتكفلت (دار الصدقة) بهذا الوقف عوضا عن مفتي وقاضي المالكية، وكلاهما مذكور في رسم الوقف (1). وهناك معلومات إضافية أوردها نور الدين عن حياة السيد القينعي، منها أنه كان يسكن في زقاق قرب (ضريح) ابن ميمون بحارة الجبل بالجزائر، وأنه توفي في البليدة يوم 9 يناير 1868 وهو في الخامسة والتسعين، وربما كان عمره أقل من ذلك، حسب نور الدين، أما ابنه الحاج محمود فقد توفي قبله بسنوات، وفي سنة 1934 جدد قبر القينعي وأحيت (دار الصدقة) ذكراه بهذه المناسبة.

_ (1) دار الصدقة مؤسسة خيرية أنشئت سنة 1857 في عهد نابليون الثالث، أنظر عنها كتابنا التاريخ الثقافي، ج 3.

وبناء على استنتاج الشيخ نور الدين فإن القينعي كان رجلا حكيما بحيث لم يترك ثروته تتبدد وتضيع في أيدي الورثة، وكانت له خبرة بأمور الدنيا والدين، وهو الذي بنى حمام سيدي عبد الله، وجعل له دكاكين للكراء، وهو الحمام الذي ما يزال موجودا إلى عهد الكاتب نور الدين (1). وقد اشتركت جريدة المقاومة الجزائرية وجريدة المجاهد - بالفرنسية - في نقد سياسة الاستعمار إزاء الأوقاف الإسلامية أيضا، فالجريدة الأولى قالت إنه إلى سنة 1954 كانت فرنسا تستحوذ على المؤسسات الدينية وتتصرف في رجال الدين وتستولي على الأحباس (الأوقاف) (2). أما المجاهد فقد نشرت مقالة مطولة استعرضت فيها تاريخ الأوقاف خلال الاحتلال وجعلت عنوان المقالة ملفتا للتظر وهو (استغلال الأحباس (أملاك الحبس) من قبل الاستعمار الفرنسي)، بدأت ذلك من تاريخ تشريع الوقف على عهد الرسول (صلى الله عليه وسلم) وعهد الصحابة وصولا إلى أوقاف مكة والمدينة في الجزائر، وأوقاف المساجد، مستشهدة بأقوال المستشرق الفرنسي شيربونو وسوتيرا Sautayra، الفقيه فرنسي الذي عمل في الجزائر طويلا، عن أعمال الخير التي يخدمها الوقف مثل المستشفيات والملاجى والأضرحة وبيوت الغرباء والسابلة، والمؤسسات الدينية كالمساجد والزوايا والمدارس القرآنية، وأشارت المجاهد أيضا في الجانب التاريخي إلى قرار الحاكم العام كلوزيل في السابع من ديسمبر 1830، وهو القرار الذي وضع أملاك الوقف تحت نظر الدولة المحتلة (الدومين)، ثم ما تلاه من قوانين حول هذا الموضوع، مثل قانون 9 ديسمبر 1905 في فرنسا الذي قضى بفصل الدين عن الدولة والذي طبق في الجزائر على الديانتين اليهودية والمسيحية فقط واستثنيت منه الديانة الإسلامية.

_ (1) هنا الجزائر 87، مايو 1960. (2) المقاومة الجزائرية، عدد 8، 11 مارس 1957.

واستعرض صاحب المقال موقف المقاومة الوطنية من إبقاء الأوقاف في أيدي الفرنسيين، حتى وصل إلى القانون المعروف بقانون ميشيل (سنة 1933) الذي سحب دور المساجد من الديانة الإسلامية في العاصمة وأعطى رئاسة المجلس الاستشاري الإسلامي في الولاية إلى أحد الفرنسيين، لقد ظل الجزائريون يطالبون بحقهم في الأوقاف إلى سنة 1947 حين صدر ما يعرف (بدستور الجزائر) الذي لم يجب على مسألة الوقف بأسلوب واضح أيضا، فقد نصت مادته رقم 56 على أن المجلس الجزائري (البرلمان المحلي) هو المخول للنظر والإعلان عن إدارة الأوقاف وتطبيق مبدأ استقلال الديانة الإسلامية عن الدولة، ولكن الحكومة والمجلس عملا على تأخير البت في هذا الموضوع إلى اندلاع الثورة. ومن رأي صاحب المقال أيضا أن جمعية العلماء تقدمت منذ 1950 إلى المجلس بمشروع لفصل شؤون الدين الإسلامي عن الدولة الفرنسية يعكس تصورها، وقدمت للمشروع بمقدمة تاريخية، واقترحت الجمعية تكوين مجلس إسلامي مؤقت مهمته الاتصال بالإدارة إلى أن تتخلى عن أملاك الوقف للمسلمين، لكن المشروع لم يلفت نظر أعضاء المجلس الجزائري لتعارض ذلك مع رغبة الإدارة الاستعمارية ومع (رغبة الشيوخ المأجورين) عندها ورؤساء الزوايا المتعاملين معها إقطاعيا، وأوضح صاحب المقال أن كل الجزائريين متفقون على عدم المساس بمؤسساتهم الخاصة، كما أنهم عازمون على المحافظة عليها بقوة روحهم الوطنية، إن (استعادة أملاك الأوقاف أصبحت من المطالب المبدئية للثورة الجزائرية التي ستسمح للشعب الجزائري، وقد تحرر وطنه، من اختيار مؤسساته). ويلاحظ الباحث أن المقال انتهى بالربط بين الثورة والأوقاف ولكن لم يقل كيف سينتهي الأمر هل باستعادة العمل بالوقف أو بإلغائه في سبيل الاشتراكية كما حدث في السنوات الأولى للاستقلال؟ لقد ترك صاحب المقال الباب مفتوحا للاجتهاد والتفكير، كما أن اللحظة لم تكن مواتية للحديث عن

عن القضاء الإسلامي

مستقبل المؤسسات الوطنية قبل أن تضع حرب الاستقلال أوزارها (1). عن القضاء الإسلامي عندما أصدرت فرنسا تشريعا تزيد فيه من القيود على الإسلام والمسلمين بادرت جريدة المجاهد إلى استنكاره، فقد كتبت مقالا طويل الذيل انطلاقا من المرسوم الذي أصدره رئيس الجمهورية الفرنسية في الرابع من فبراير 1959 يتعلق بإصلاح القواعد الإسلامية في الزواج والطلاق، وقعه الجنرال ديغول ثم رئيس الحكومة ميشال دوبري والوزير المفوض في الجزائر جاك سوستيل. ووزير العدل إدمون ميشليه، قالت المجاهد في لهجة غاضبة: هكذا يقوم فرنسيون، بقناعات نصرانية ويهودية، بفرض القوانين اللائكية الفرنسية على المسلمين الجزائريين فيما يتعلق بالمجال الأكثر قداسة، وهو الحالة المدنية، وفي ذلك طعنة للقرآن بطريقة مبيتة، ولا شك أن المجاهد قد بالغت في ذلك عن قصد لأنها تعرف أن ردود الفعل الشعبية ستكون قوية على التشريع الفرنسي، وهي تريد أن تجند الرأي العام لا ضد التشريع نفسه ولكن ضد الاستعمار. وفي نظر المجاهد أن ذلك التشريع الفرنسي ليس هو الأول من نوعه في المساس بالشريعة الإسلامية على يد الاستعمار الفرنسي، وقد ختمت مقالها

_ (1) ثم سردت القوانين الجائرة والخاصة بالمحاكم الإسلامية والقضاة المسلمين، وإخضاع القضاء الإسلامي لقضاة الصلح الفرنسيين (جوج دي بي) ابتداء من سنة 1834 وهو تاريخ قرار الاحتفاظ بالجزائر كبلد مستعمر، كما ردت تواريخ هامة تتعلق يتقليص صلاحيات القضاة المسلمين سنة 1873 و 1887، وتواريخ مصادرة الأوقاف الإسلامية ابتداء من الثامن سبتمبر 1830 مرورا بسنوات: 1844، 1851، 1858، مع الإشارة إلى الظهير البربري في المغرب سنة 1930 الذي هز المغرب حين ميز بين مواطنيه، فجعل بعضهم يحتكم إلى الشريعة الإسلامية وبعضهم يحتكم إلى العرف المحلي، المجاهد - بالفرنسية - 57، 15 ديسمبر 1959، عن مذكرة جمعية العلماء حول الأوقاف انظر أيضا عبد الحميد زوزو، محطات في تاريخ الجزائر، 2005.

القضاء والثورة

بقولها إن الجزائريين ليس لهم ما ينتظرونه من الحكومات الفرنسية وإن حريتهم ستكون بأيديهم، وإن هذه ضربة جديدة يتلقاها الإسلام من فرنسا لن تثير ضدها العالم الإسلامي كله فحسب ولكن ستثير ضدها كل المؤمنين بالحرية والمؤمنين بأن الدين ميدان تقرره جماعة المؤمنين نفسها. ولنلاحظ هنا أن الخاتمة لا تنسجم مع سياق المقال، فقد كان المنتظر أن تنهي الجريدة مقالها بالتأكيد على أن الإسلام وشريعته على رأس الهوية الوطنية، ومن ثمة ينسجم رد الفعل الذي تنشده مع الفعل الذي تستنكره، فمن الواضح أن الذين كتبوا المقال كانوا من العلمانيين الذين يرون أن قضايا الدين يقررها أهل ذلك الدين، وهم الممارسون لطقوسه، وأن المسألة كلها مسألة تحرر وعبودية (1). القضاء والثورة إلى الآن لم يدرس القضاء في وقت الثورة دراسة شاملة ومعمقة، وقد صدرت كتب ودراسات عن بعض المجاهدين مثل كتاب سعيد بن عبد الله (العدل عند جبهة التحرير - الوطني) وكتاب الصادق مزهود حول المحاكم في وقت الثورة، كما انعقدت بعض الملتقيات حول تاريخ القضاء وشروطه وقت الثورة، منها الملتقى الذي انعقد في قسنطينة، مارس 2005، وهناك بعض الدوريات التي تناولت هذا الموضوع من قرب أو من بعيد، وفي هذا الصدد نشير إلى كتاب محمد بجاوي (الثورة الجزائرية والقانون) الذي ظهر في بروكسل عن الجمعية الدولية للقانونيين الديموقراطيين، سنة 1961، وقد ترجم إلى العربية، وهو كتاب هام لدراسة نصوص الثورة ومؤسساتها مثل المجلس الوطني، والحكومة المؤقتة، وجبهة التحرير، كما تناول مبدأ تقرير المصير وبعض المؤسسات الثورية الأخرى، وفي كتاب فرحات عباس (ليل الاستعمار) الذي

_ (1) المجاهد - النسخة الفرنسية - 45، 6 يوليو 1959.

العدل عند جبهة التحرير الوطني

ظهر في فرنسا سنة 1962 معلومات قانونية هامة أثناء الصراع مع الإدارة الفرنسية الاسعمارية. العدل عند جبهة التحرير الوطني يذهب السيد سعيد بن عبد الله إلى أن الشريعة الإسلامية هي القاعدة الأساسية للإجراءات القانونية بين الجزائريين، إشارة إلى دور الدين الإسلامي في القضاء في عهد الثورة، فالشريعة تتناول حياة الإنسان من المهد إلى اللحد بكل تفاصيلها الاجتماعية والمدنية والعائلية والمعاملات، وكل هذه المسائل لها حلولها، ويوجد في النصوص القرآنية ما يجيب على مختلف التساؤلات والإجراءات، ومن الصعب عند المسلم الفصل بين الروحي والزمني، (إن الإسلام يكون الإنسان الثوري)، وكان الواجب الأول للمناضل في جبهة التحرير هو تطبيق الإسلام لأنه هو الذي يعلمه الإيمان والانضباط، ثم إن النضال يعني الجهاد، ومن ثمة يصبح المناضل مجاهدا كما أن الإسلام هو الذي يجند الشعب الجزائري وراء الثورة، وهو المكون الأساسي للحضارة الجزائرية (1). لقد أنشأ جيش التحرير جهازا قضائيا داخل البلاد، فأخذ القضاء مجراه بالتوازي مع الشؤون العسكرية والسياسية للثورة، وقد انتظم ذلك وعمم بعد مؤتمر الصومام 1956، وبذلك تخلى الشعب الجزائري تدريجيا عن اللجوء إلى القضاء الفرنسي وفضل عليه القضاء الإسلامي الذي تطبقه الجبهة، حتى في داخل السجون والمحتشدات، كما كان من عواقب إحداث ذلك الجهاز المحافظة والتمسك بالشخصية العربية الإسلامية للجزائر، ومع ذلك فقد واجه القضاء في عهد الثورة صعوبة في التوثيق لأنه كان يجري في ظروف خاصة وسرية، وكان تاريخه هو تاريخ المناضلين أنفسهم، ذلك أن المداولات لم تسجل إلا نادرا، وكانت الوثائق أحيانا تتعرض للتلف تفاديا للمتابعة، ولا يستطيع أي باحث معرفة حقيقة ما جرى إلا بالرجوع إلى الشهادات الشيخصية

_ (1) سعيد بن عبد الله، العدل عند جبهة التحرير الوطني، ص 72 - 74.

وإلى بعض الوثائق التي قد تكون قد بقيت في حوزة بعض المناضلين (1). كان تنظيم القضاء خاضعا لسلم الجبهة في الإيديولوجية والمستوى والممارسة، فقد كان خاضعا للوصايا العشر التي يعتمد عليها جيش التحرير، وذلك يعني حل الجزائريين مشاكلهم بأنفسهم، وعليهم مقاطعة المؤسسات الاستعمارية وعلى رأسها مؤمة القضاء، وقد أنشأ مؤتمر الصومام المجالس الشعبية لتحل النوازل القضائية، وكانت الثورة دائما خاضعة لمبدأ العمل الجماعي، وكان الإخلاص والنفاد من سمات هذه الإيديولوجية، كما أن تطبيق العدالة يجب أن يكون على كل المستويات دون استثناء طبقا للتفصيل التنظيمي الإداري وطبقا للسلم الذي وضعته الجبهة، كما أن إسناد القضاء إلى ذوي الكفاءة والقدرة كان من سمات هذا العهد، أما مصدر هذا القضاء فهو الشريعة الإسلامية ومصلحة الثورة (2). حددت الجبهة أنواع العقوبات على الجرائم التي يعاقب عليها القانون، وهي عقوبات متدرجة حسب الجرم، فالأخطاء إما بسيطة وإما خطيرة وإما خطيرة فادحة، ومن الأخطاء البسيطة: عدم دفع الاشتراك، وعدم الاستجابة لدعوة جبهة وجيش التحرير، وقطع الأشجار بدون رخصة، وعدم إبلاغ الجبهة والجيش عن الزواج والميلاد والوفاة، والاستماع إلى صوت البلاد (الإذاعة الفرنسية الموجهة) والتدخين، إلخ، ومن الأخطاء الكبيرة أو الخطيرة: محاولة القتل، وإشعال النيران، والكذب، وتقديم شهادة مزورة، ورفض تقديم المساعدة، والتنقل بدون إذن مسبق من الجبهة أو الجيش، والتغيب عن الاجتماع، والسرقة، والاغتصاب، والزنى، واللواط، والسكر، إلخ، أما الأخطاء الفادحة فمنها الخيانة، وإقامة علاقة مع العدو، والتمرد والعصيان.

_ (1) نفس المرجع، الجزائر، 1981، ص 14 - 15. (2) نفس المرجع: من الوصايا العشر لجيش التحرير، ص 64، وكذلك برنامج طرابلس في المجاهد.

وعدم الانضباط، والجهوية (الفتنة)، وإشاعة روح الهزيمة، والفرار من الزحف، وترك الخدمة، وإفشاء الأسرار، والتخريب المقصود للمعدات، إلخ (1). هناك نوعان من المناشير: منشور أساسي لا يحتمل التأخير، فهو منشور عام ودائم كالذي يتعلق بالخيانة، ومنشور ظرفي كمنع التدخين سنوات 1955، 1956، 1957 لأن التدخين يجلب الربح للعدو، (نفسه ص 65)، ويصف أحمد توفيق المدني القضاء في عهد الثورة (وقد كان يكتب عنه سنة 1956) بأنه يتولاه أحد الشيوخ (العلماء أو الطلبة) حسب أهمية السكان ليحكم بين الناس بما أنزل الله، وكان القاضي غالبا ممن تخرج من المدارس الحرة، والغالب هو اختفاء المنازعات لأن الناس اندمجوا في الثورة وتركوا الشجار، وإذا حدث شجار فالقاضي يحله بالإقناع والتراضي (2). ومن ثمة يظهر أن الجبهة أسست قضاء شرعيا وطنيا لأنه جزء من الشخصية ومقدمة للسيادة المتتظرة، لقد كان الشعب الجزائري حريصا بنفسه على العمل بالشريعة واللجوء إلى العدالة الحقة لأنه عانى من الظلم والجبروت الاستعماري، وكان القضاء شفافا ومعروفا للجميع ومحل احترام من الجميع، بما في ذلك احترام اللغة والعرض، وكان اهتمام الناس بالقضاء المدني أكثر من الجنائي لحاجتهم الماسة إلى القضاء الأول، إن القضاء في وقت الثورة كان أيضا مدرسة للتربية الوطنية ومدرسة لتربية المناضين وترقية الحياة الاجتماعية بين المواطنين، وأهمها المساواة بين الجميع أمام القانون (3). وقد استفدنا من تجارب المناطلين ودراسات المختصين أن القضاء في وقت الثورة كان قائما أيضا - (بالإطافة إلى تعليمات الشريعة الإسلامية وممارسات القضاة في دولة الأمير عبد القادر، ومعاملات الفرنسيين) - على

_ (1) نفس المرجع، ص 71. (2) أحمد توفيق المدني: هذه هي الجزائر، ص 226. (3) المدني، مرجع سابق، ص 37، 55، أنظر أيضا مداخلة الصادق مزهود في ملتقى قسنطيتنة، مارس 2005.

الترغيب والترهيب، إن القاضي كان يعين من قبل المسؤول السياسي ويخضع له، وكان يقوم بعدة وظائف كالتوثيق والتعليم والتفتيش وإصلاح ذات البين والإمامة والإفتاء والتوعية وجمع الزكاة ... وفي التطبيق لم يكن هناك مصطلح واحد معتمد، فهناك مصطلح لجنة العدل في بعض الولايات، ولجنة العدالة، واللجنة الشرعية، والمجلس الخماسي ... فكل ولاية كانت تتصرف حسب إمكاناتها واجتهاداتها في هذا الميدان، بل وحسب العرف والقضية المطروحة، ولكن ما يميز القضاء هو السرعة في تنفيذ الأحكام خلافا للقضاء الاستعماري الذي كان يترك القضية تنام سنوات طويلة في أدراج المحاكم، وقد رجع القبائل إلى حكم الشريعة بدل العرف، كما منع الحبس لأن الشريعة لا تلجأ إليه لعرمانه رب العائلة من أداء مهمته. كان القضاء في البداية في شكل تعليمات وأوامر تصدر عن جيش التحرير ولكن مؤتمر الصومام هو الذي أسس قواعد للقضاء وأعطاه بعدا وطنيا شاملا، بينما يرى البعض أن سنة 1958 (بداية الحكومة الؤقتة) هي سنة تأسيس القضاء. وكان القاضي يعين من بين المتخرجين من جامعي الزيتونة والقرويين ومن معهد ابن باديس وبعض الزوايا (والقاضي هو الذي يشرف على الأحوال الشخصية أيضا)، ومما يذكر أنه كان يوجد أكثر من 150 متخرجا من كلية الحقوق، ومع ذلك لم يول أي منهم على القضاء، ومما يذكر أن الولاية الأولى هي التي بدأت تتعامل بالقضاء سنة 1958 حسب (تعليمة)، وكانت تقيم المجالس القضائية ذات الخمسة أعضاء: فمجلس القسمة من خمسة، ومجلس المنطقة من خمسة، ومجلس الناحية من خمسة، ومجلس الولاية من خمسة، والخامس هو دائما القاضي نفسه، وهو رجل مدني، وكانت العقوبات تتمثل في الغرامات المالية، والتعزير وحتى الجلد، وليس هناك طعن في الأحكام، ومن الناحية الإحصائية فقد ذكر أن حوالي 300 شخص حكم عليهم بالقتل، وقد ذكر الباحثون أن بعض التجاوزات في الأحكام قد وقعت (1).

_ (1) الصادق مزهود، مداخلة ملتقى قسنطينة، مرجع سابق، ويبدو أن عدد 150 من خريجي كلية الحقوق عدد مبالغ فيه إذا كان المقصود هم خريجو كلية حقوق الجزائر فقط.

الثورة الجزائرية والقانون

الثورة الجزائرية والقانون عالج محمد بجاوي مسألة القضاء زمن الثورة وأعطاها أهميتها القانونية، فقد جاء في كتابه (الثورة الجزائرية والقانون) أن جبهة التحرير أنشأت في المناطق المحررة عدة مؤسسات منها: جمعية الشعب، وهي نواة لبنيان سياسي إداري كان مؤتمر الصومام قد وضع أسسه وحدد دوره، فقد حلت الجمعية محل الإدارة الفرنسية ومحل الحاكم الفرنسي، وبذلك أصبح الجزائريون في المناطق المختلفة يديرون شؤونهم بأنفسهم، وقد أعلنت قاعدة المؤتمر أن المجالس العمومية والبلدية والجماعات قد انتهت وهي جميعا من رموز الإدارة الفرنسية، وزادت استقالة عدد من الموظفين ومساعدي السلطات الفرنسية مثل القياد وحراس الغابات والمزارع ... الفراغ السياسي والإداري، لأنه لم يتقدم أحد ليخلف المستقيلين، وبذلك تلاشت الإدارة الفرنسية فتخلى عنها الشعب، ونشأ حكم ثناني يشمل جباية الضرائب والتموين وإقامة العدل وتجنيد المجاهدين والسهر على الأمن والتعليم. أما من حيث التطبيق فقد انتخب كل دوار جمعيته المنصوص عليها المؤلفة من خمسة أفراد، وهي الخلية التنظيمية للدوار، ولهذه الجمعية لجنة اتصال بالسلطات المركزية للجبهة، مؤلفة من ثلاثة أفراد، وهي (اللجنة) المسؤولة على المستوى المحلي على إحصاء السكان واستقبال المجاهدين وجباية الضرائب وتوفير الأمن وحفظ السجلات المدنية وإقامة مخازن أو مستودعات لتخزين المحاصيل وبناء المدارس والسهر على مصادر المياه وافتتاح الورشات، بالإضافة إلى لجان أخرى تسمى اللجان المختصة على مستوى القطاع في الأرياف، ولجان التموين ومهمتها شراء الغذاء والكساء وتوزيع المؤونة ... ولجان المعونة لإغاثة المحتاجين والمنكوبين بسبب الحرب، وكذلك اللجان المدرسية لمكافحة الأمية وتعليم الأطفال بين السادسة والعاشرة، فكان في كل دوار مدرسة بالإضافة إلى دروس مسائية للبالغين.

دراسة الصادق مزهود

ويهمنا هنا اللجان القضائية التي كانت تتألف من أربعة أشخاص وهي لجان مكلفة بإقامة العدل في سائر القطاع التابع لها، وكانت هناك الشرطة الريفية التابعة للجمعية الشعبية على مستوى الدوار، وهي تتكون من ثلاثة أفراد، وكذلك حراس الغابات من الحرائق وحماية مصادر المياه، أما مصالح الأمن في القطاع فكان يشرف عليها المسؤول السياسي، بحيث هناك شرطيان أو ثلاثة في كل دوار، وهم يختارون من قدماء المجاهدين في جيش التحرير، وكانوا يضيفون إلى مهمتهم التقاط الأخبار والمعلومات (1). دراسة الصادق مزهود لقد كان الهدف من إقامة القضاء في الثورة هو منع الشعب من التقاضي أمام القضاء الفرنسي، وقد استجاب الناس لهذا التحول وفهموا مغزاه وأهميته، فكانت قضاياهم البسيطة تحل عن طريق الأقارب والأصهار، أما قضايا العقار ونحوها فقد أجلت، لقد ظهر التشريع الخاص بالقضاء العسكري في 12 أبريل 1958 عن طريق لجنة التنسيق والتنفيذ، وكان القضاء قبل ذلك يمارس عن طريق لجان العدل الثورية، وهي اللجان التي طرحت عليها مسائل بسيطة ومسائل متوسطة وأخرى خطيرة، فحمل البريد والحراسة ودفع الاشتراك عد من المسائل البسيطة، وعدم التوقف عن التدخين والإهمال والتراخي في قتل الكلاب عد من المسائل المتوسطة، أما عدم الاستقالة بعد توجيه الإنذار وإفشاء الأسرار للعدو ... فقد عد من المسائل الخطيرة. ويتبين من الدراسة أن هناك مرحلتين لإقامة العدل زمن الثورة: مرحلة 1954 - 1956 ومرحلة 1958 وما بعدها، ففي المرحلة الأولى كانت الثورة منشغلة بالعمل العسكري ولم تعط الجانب السياسي أهمية كبيرة، أما من حيث الهيكلة فالقضاء عرف المنازعات التي يكون المجاهد طرفا فيها، وهذه تحال

_ (1) محمد بجاوي، الثورة الجزائرية والقانون، ترجمة علي الخش، دار اليقظة العربية، دشمق، 1965، ص 74 - 75.

مقاصد القرآن

على القائد مسؤول الفوج، والمنازعات بين المواطنين أنفسهم وهذه وجدت حلها بين مسؤول الفوج ومسؤول الدشرة، أما القضاء في المرحلة الثانية فقد انتظم، كما سبق، بعد مؤتمر الصومام في شكل مجالس شعبية منتخبة مهمتها التموين والسياسة والإعلام والأمن، بالإضافة إلى لجان شعبية أخرى تهتم بمختلف النواحي، وهذا كله كان قبل التشريع الذي صدر عن لجنة التنسيق والتنفيذ في أبريل 1958 (1). مقاصد القرآن كتاب لمحمد الصالح الصديق صدر عشية الثورة، وتناول مقاصد الشريعة، وفيه ثقافة دينية واجتماعية عميقة، وقد تولى صاحبه مهمات حساسة في الثورة سواء داخل الجزائر أو خارجها، ووقع ما جاء في كتابه على واقع الأمور، وقد استقبل النقاد والمراجعون الكتاب بالثناء على صاحبه وبالتنويه بفائدته، والشيخ الصديق من الذين تخرجوا من الزيتونة وتمتعوا بثقافة أدبية ودينية وتاريخية عالية، وقبل المقاصد كان قد أصدر (أدباء التحصيل)، طبع المقاصد في المطبعة العربية بالعاصمة سنة 1956، وكتب عنه الشيخ حمزة بوكوشة في البصائر بالعدد 359 على أنه الجزء الأول من كتاب قيم، وعرف به أيضا الشيخ محمد منيع فمدحه بإتقان التحقيق والتدقيق في البحث واعتبر الكتاب مفخرة للجزائر، وأنه كتاب يدرس القرآن الكريم ويستخرج أحكامه، وأنه خدم به الوطن والأمة (2). وفي نظر مولود الطياب أن المؤلف قد يكون سبقه السلف في الموضوع ولكن الاجتهاد وارد، غير أن الطياب استدرك بأنه لا اجتهاد مع العقائد ومعنى الدين، وأن ما يحمد للصديق أنه عالج مواضيع بأسلوب شيق، وجمع بين

_ (1) الصادق مزهود، ندوة قسنطينة، مارس 2005، أنظر أيضا كلمة إبراهيم لونيسي في نفس الندوة. (2) البصائر 359، 361.

آيات وأحاديث

الثقافة الدينية والأدبية، وتمنى أن يتناول المؤلف مستقبلا الحياة اليومية لأن فيها مجالا للحديث عن رسالة الإسلام الإنسانية وعدالته الديموةراطية (1). آيات وأحاديث كتاب صنفه جلول البدوي، وقيل عنه إنه كتاب ديني مدرسي. ويبدو من عنوانه أنه كتاب تعليمي موجه إلى تلاميذ المغرب في عهد الاستقلال (2). تفسير الشيخ بيوض حياة الشيخ إبراهيم بيوض مبسوطة في عدد من المؤلفات العامة، وأهمها ما كتبه عنه محمد ناصر، ولد بالقرارة (بني ميزاب) سنة 1899 وأنشأ معهد الحياة فيها ومارس التعليم فيه وأداره، وقام بإرسال البعثات الطلابية إلى تونس وغيرها، وتولى القيادة الروحية في المنطقة برئاسته لمجلس العزابة ثم لمجلس عمي سعيد، كما تولى القيادة العلمية والثقافية ودخل عضوا في جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، وغرضنا هو النظر في إنتاجه الديني في عهد الثورة، فقد كان للشيخ باع في التأليف أيضا، ابتدأ الشيخ منذ 1935 يفسر القرآن الكريم بطريقة علمية إصلاحية متأثرا، كما قال محمد ناصر بمنهج الشيخ محمد عبده في تفسير المنار، وقد كرس الشيخ بيوض حياته لهذا التفسير حتى أتمه سنة 1980، ويمتاز أسلوبه بالتحليل وتبسيط المسائل اقترابا من عقل القارى المعاصر، قائلا عن منهجه (جعلت كتاب الله عمدتي في الدعوة إلى الله، وكنت حربا على الاستعمار) (3). وبالإضافة إلى تفسير القرآن شرح الشيخ كتاب (فتح الباري) في الحديث

_ (1) هنا الجزائر 46، مايو 1956. (2) السائحي، روحي لكم، ص 73، وهو مطبوع سنة 1961 في المغرب. (3) محمد ناصر، البصائر 14 - 15 فبراير 2005.

في طريق الهجرة

الشريف لابن حجر الذي ابتدأه سنة 1931، وانتهى منه سنة 1945 - وقد احتفل بختمه للقرآن الكريم احتفالا رسميا، وأدركته الوفاة 14 يناير 1981. وللشيخ بيوض جولات مع الاستعمار تحدث عنها بالتفصيل محمد ناصر. ومما يذكر أن الشيخ كان أحد أعضاء الهيئة التنفيذية التي تولت تسيير شؤون الجزائر بين إعلان وقف إطلاق النار وإعلان الاستقلال، متوليا فيها الشؤون الثقافية والتعليمية، وربما يكون الشيخ بيوض هو الوحيد بين علماء الجزائر الذي استطاع أن يواصل تفسير القرآن وقت الثورة، وربما يذكرنا نضاله في إتمام تفسيره نضال سلفه محمد بن يوسف أطفيش (القطب) قبله بأقل من قرن (1). في طريق الهجرة عرفنا أن مالك وارى أديب وصحفي من أدباء فترة الخمسينات، وله إنتاج شعري وقصصي، فقد كان من المساهمين المواظبين في مجلة هنا الجزائر، قام ومرافقه محرر القسم العربي بالإذاعة بزيارة لعدد من المدن الفرنسية واللقاء مع المغتربين الجزائريين، وبعد شهرين كتبا تحقيقا أذيع في الإذاعة الفرنسية بالجزائر، ثم قرر مالك واري نشر التحقيق في كتاب بعنوان (في مسالك الهجرة) تعميما للفائدة وإطلاع من يهمه شأن هجرة الجزائريين إلى فرنسا، في الكتاب حديث عن الحالة النفسية للمغتربين وعن آمالهم ونجاح بعضهم وخيبة آمال الآخرين منهم، وذكاء البعض وسذاجة الباقي، وهو كتاب يذكرنا بأكباش إدريس الشرايبي وغيره من أدباء شمال إفريقيا الذين تناولوا قضية وربما مأساة المهاجرين، وللتحقيق قيمة أدبية أيضا فهو غير مكتوب بأسلوب صحفي فقط بل فيه لمسات شعرية وفلسفية وإنسانية، وكان صاحبه دقيقا في تعبيره، حسب الناقد مولود الطياب. ولا غرو في ذلك فمالك واري من مثقفي مرحلته، تلقى تعليمه الأبتدائي

_ (1) محمد ناصر، الشيخ إبراهيم بن عمر بيوض مصلحا وزعيما، مكتبة الريام، الجزائر، 1426 هجرية.

رسائل من السجن

في مسقط رأسه إيغيل علي، ثم تعليمه الثانوي والعالي في العاصمة، وجمع أشعارا وقصصا شعبية قبائلية وترجمها إلى الفرنسية ونشرها في بعض المجلات، ومنها (هنا الجزائر)، وبعد الحرب العالمية الثانية دخل الإذاعة العربية التابعة لإذاعة فرنسا، وأصبح فيها من المحررين كما كان من المعتمدين، في المجلس الجزائري، وله كما قلنا أعمال أدبية منها قصة بعنوان (الحب في الرحا) و (عيشوش الجلابية أميرة تقرت)، وكل أعماله كتبت بالفرنسية، وقد راجع أحدهم كتاب مالك واري في القسم الفرنسي من مجلة هنا الجزائر، وهذه المراجعة تحتوي على تفصيل محتوى الكتاب، مع صورة للمؤلف (1). أما أحمد توفيق المدني فقد راجع الكتاب في البصائر بعد إهداء المؤلف كتابه إليها، ومن رأي المدني أن واري خبير في شؤون الهجرة وأنه انتبه إليها منذ الصغر عندما كان ما يزال في سقط رأسه حين لاحظ أن زملاءه في الدراسة يغادرون قريتهم إلى فرنسا للعمل، ولذلك عول على زيارتهم والاطلاع على أحوال غربتهم وأسباب هجرتهم، وهكذا زارهم سنة 1953 في أهم المدن التي يتواجدون فيها بفرنسا وخرج بكتابه المذكور عنهم، وقد لاحظ واري أن الهجرة أثرت في عدد كبير من الأمر حتى اضطرت إلى الالتحاق بعائليها لكي تعيش في الغربة أيضا، وكان المدني يعرف واري شخصيا وقد أسماه (الكاتب القدير والصحافي الشهير وصديقنا) (2). رسائل من السجن كتب أحمد طالب الإبراهيمي هذه الرسائل بالفرنسية وهو في السجن ثم ترجمت إلى العربية بأسلوب راق بقلم الصادق مازيغ وتقديم رينيه حبشي أحد الذين راسلهم المؤلف، كما أن أحمد طالب كتب مقدمة للترجمة العربية سنة 1966 عندما كان على رأس وزارة التربية الوطنية، أي بعد انقلاب 1965

_ (1) هنا الجزائر؟ انظر أوراقا أخرى عن مالك واري وقصصه في القسم الفرنسي؟ (2) البصائر 315، 22 أبريل 1955.

بحوالي ستة أشهر، ومحتوى الكتاب عبارة عن رسائل كتبها المؤلف أثناء سجنه بفرنسا، حيث تنقل على الأقل بين سجنين من أول مارس 1957 إلى 2 سبتمبر 1961، والمعروف أن أحمد طالب كان طالبا في فرنسا عندما قامت الثورة في الجزائر، وكان من مؤسسي (الاتحاد العام للطلبة المسلمين الجزائريين) في 1955 وأسندت إليه رئاسته لمدة عام على حد علمنا، وكان وهو طالب يساهم في تحرير جريدة (الشاب المسلم) التي أنشأتها جمعية العلماء باللغة الفرنسية لمخاطبة المثقفين الجزائريين بهذه اللغة. بدأ الكاتب رسائله بأخيه ثم انصرف إلى المناضلين الجزائريين بدون تحديد، مستعملا عبارة (إلى مناضل جزائري)، ومنها رسائل إلى أعلام معروفين، وإلى علماء وكتاب ورجال دين وفلاسفة وقادة، مثل ريني حبشي. وماكسيم رودنسون، وجاك بيرك، وألبير كامو، وحيدر بمات، وهكذا فالرسائل تشمل الإفريقي والأوروبي والآسيوي، والجزائري والفرنسي، وأثناء تصفحي للكتاب لفتت نظري رسالة بتاريخ 6 أغسطس 1960، أي عقب انتهاء المؤتمر الرابع للطلبة المسلمين الجزائريين في تونس (بئر الباي)، وهو المؤتمر الذي حضرته ممثلا لفرع الاتحاد بالقاهرة، والرسالة موجهة إلى حرف (م) الذي لعله مسعود آيت شعلال الذي أعاد المؤتمر انتخابه رئيسا، ومهما كان الأمر فقد هنأه أحمد طالب بنجاح المؤتمر بناء على مقال قرأه في جريدة (لوموند) يوم 4 أغسطس، واستغرب كيف لم يتعرص المؤتمر إلى انتساب الجزائر إلى العروبة والإسلام (وهو التعبير العزيز على والده) بينما تعرض كريم بلقاسم إلى ذلك في تصريح صرح به أصالة عن الحكومة المؤقتة. واستمر أحمد طالب في نقده لبعض نتائج المؤتمر فقال إنه ليس من حق الاتحاد ملازمة الصمت إزاء هذه القضية لأن الثقافة هي مجال نشاط الاتحاد و (لا مفر من أن يكون لعروبتنا محتوى ثقافي في جوهره)، وأضاف أنه يسلم أن الصمت لم يكن شاملا، ونصح أحمد طالب الاتحاد في هذه المرحلة بالاهتمام بأمرين الأول تكوين الإطارات (وهو ما تفعلونه) وضبط محتوى

ليل الاستعمار

للثقافة الجزائرية، وهو ما يحتاج إلى المزيد من جهودكم، ومما يؤسف أنكم تتركون المبادرة لسواكم) (1). ليل الاستعمار هذا الكتاب ألفه فرحات عباس في سبتمبر 1960 أو ربما بعد عزله عن الحكومة المؤقتة، ولكنه لم ينشره في حينه ربما لأنه كان يعكس وجهة نظر شخصية بينما الثورة كانت تسير وفق الروح الجماعية، أما نشره فقد حصل بعد وقف القتال، وكان الجرح في نظره قد التأم، والكتاب عبارة عن عجالة تاريخية ضد الاستعمار الفرنسي في الجزائر ابتداء من سنة 1830، ألفه كما قال إنسان مستعمر، ومع ذلك بقي متمسكا بأصوله وأجداده، ولكنه لا ينكر (فضل) فرنسا وأوروبا في بث الحضارة، كما أنه لا يعتبر كتابه تاريخا لأن ذلك من اختصاص المؤرخين - إذن ماذا؟ إنه صفحة إدانة وعرض لما جرى من علاقات ومعاملات غير متساوية (عنصرية) بين الجزائريين والفرنسيين، إنه (شهادة في نظر صاحبه، نزيهة مجردة من كل حقد وضغينة فيما يهم وطنه)، ولذلك لم نتناوله في كتب التاريخ. وقد تعهد المؤلف أن يشرح لأبناء وطنه من الشباب الأسباب التي حدت به وبأمثاله إلى الثورة المسلحة بدل الوسائل السلمية والسياسية، للقضاء على (خرافة الجزائر فرنسية)، وهو يعتبر أن ذلك يخدم البلدين (الجزائر وفرنسا) معا، مستشهدا بمقولة (جان جوريس): إن الشجاعة هي البحث عن الحقيقة والجهر بها، وقد نوه عباس بفضل الثورة الجزائرية على المستعمرات الأخرى لأنها تحملت العبء الأكبر من التضحيات لتحطيم التنين الاستعماري، ولا سيما المغرب وتونس، ولولا الثورة الجزائرية لما تلفظ مسؤول فرنسي بكلمة استقلال. من أقسام كتاب (ليل الاستعمار) هذه العناوين: ما وراء الحركة الفرنسية.

_ (1) أحمد طالب، رسائل من السجن، تعريب الصادق مازيغ، الدار التونسية للنشر، تونس 1973، ص 145 - 146.

صحراؤنا

مائة وثلاثون سنة من التقتيل والقوانين العنصرية في الجزائر، الثورة بالقانون أمر مستحيل أو تجربة جيل المؤلف، وأخيرا من العمل السري إلى تكوين جبهة التحرير الوطني إلى الجهاد في سبيل الاستقلال. صحراؤنا في غمرة التجارب النووية الفرنسية في الصحراء الجزائرية، وعقب استقلال تونس والمغرب، وعند بدء الحديث عن البترول وجمهورية الصحراء ونحو ذلك من المشاريع الاستعمارية الضخمة وأطماع الطامعين - قام محمد الميلي الذي كان من أبرز إعلاميي الثورة عندئذ، بتأليف كتاب صغير الحجم كبير الفائدة في وقته، كتبه بأسلوب صحفي شيق عنوانه (صحراؤنا) تحدث فيه عن الصحراء تاريخا وسكانا وآثارا، ثم عن المشاريع الاقتصادية الفرنسية والأجنبية عموما وعن الشركات الطامعة في استغلال بترول الصحراء ومشتقاته وتعقيداته في الوقت الذي كانت فيه الثورة على أشدها، والفكرة الرئيسية في الكتاب هي كشف المخططات الاستعمارية، والدعوة إلى الاستفادة من ثروات الصحراء في نطاق المغرب العربي وإفريقيا (1). الجزائر: الأمة والمجتمع (2) كتاب ملي بالأفكار ألفه مصطفى الأشرف من مجموع بحوث نشرها خلال الخمسينات ما عدا بعضا نشره خلال الفترة الانتقالية أو بعد الاستقلال، وقد قامت بحوث الأشرف على استنطاق التاريخ من كتب ووثائق الفرنسيين أنفسهم، كما تتبع تفاعل البيئة الوطنية مع الاحتلال في المدن والأرياف، فكان كل بحث يثير الكثير من الجدل كما يثير المقارنات مع ما يجري اليوم في العالم من انتهاكات تقوم بها الدول الكبرى لا لشيء إلا لأنها كبرى، أما تفسير الأشرف

_ (1) محمد الميلي، صحراؤنا، سلسلة كتاب البعث، تونس، فبراير 1958. (2) ترجمة حنفي بن عيسى، م. و. ك. الجزائر 1983.

الطب والصحة العامة

للأحداث التاريخية والعلاقات الاجتماعية فهو التفسير الماركسي - الوطني. وهذه عناوين البحوث الرئيسية (ولا نرى داعيا لذكر تواريخ نشرها): بين الاستعمار والإقطاعية، والوطنية في البوادي والأرياف، والجوانب النفسية في الغزو الاستعماري، ومسيرة الجزائر إلى الحرية، ومسيرة القومية التحريرية إلى الوحدة، والاتجاه الثوري في المدن، وتنظيم المقاومة والكفاح، والخط الثابت في سلوك الاستعمار سياسيا وعسكريا، 1830 - 1960، والجوانب المجهولة من الثورة الجزائرية، والجزائر المستقلة من النكسة إلى الوحدة، ووقائع وآفاق ثورية، ونظرات اجتماعية حول الحركة القومية والثقافة في الجزائر، ومعظم البحوث منشورة في الأزمنة الحديثة التي يصدرها جان بول سارتر، وهناك بحث منشور في مجلة الحضور الإفريقي. الطب والصحة العامة لم تظهر كتب في علمنا عن الصحة العامة والنشاط الطبي خلال الثورة. حقيقة أن هناك دراسات طبية وصحية سواء في الأرشيف أو المجلات، وهناك أطباء جزائريون انضموا للثورة وساهموا فيها وهم أصحاب اختصاص أو هم طلاب، ومنهم الدكتور ابن زرجب والدكتور دباغين والدكتور فرنسيس والدكتور هدام وأحمد طالب والأمين خان والعقيد حسن، وعشرات غيرهم كانوا في الميدان السياسي أو في ميدان المعركة نفسها، ولا نعرف أن هؤلاء أو بعضهم كتبوا تجاربهم بعد الثورة أيضا ما عدا جمال الدين بن سالم. انظروا أسلحتنا! انظروا أطباءنا! هذا كتاب جمع فيه مؤلفه تجربته كطبيب مناضل في جيش التحرير في الولاية الثالثة خلال الثورة، نشأ جمال بن سالم في بوسعادة وسطيف حيث تلقى التعليم الابتدائي والثانوي، ثم واصل دراسته في الطب بجامعة مونبلييه في فرنسا، وكانت له ثقافة سياسية قبل التحاقه بفرنسا لأن والده الدكتور عيسى بن

سالم، كان عضوا في حزب البيان ونائبا في المجلس الجزائري، وكان من النواب الواحد والستين الذين استقالوا دفعة واحدة من المجلس بعد أن لم يعودوا يمثلون إلا أنفسهم، وقد التحق الوالد بعد ذلك بتونس حيث مارس الطب في مستشفى الحبيب تامر إلى انتهاء الثورة. في الصيف كان جمال يأتي إلى الجزائر لزيارة الأهل فيخوض فيما يخوضون ويتبادل الرأي معهم فيما يجري في الجزائر وفرنسا، كان الطلبة في الواجهة، وخصوصا بعد 1955، وعليهم أن يقرروا موقفهم من الثورة، فقد أسسوا الاتحاد العام، ثم قرروا الإضراب عن الدراسة والامتحانات في مايو 1956، ماذا يفعلون بعد ذلك؟ التحق بعضهم بالثورة مباشرة، وآخرون بتونس أو المغرب أو البلدان الأوروبية لمواصلة الدراسة، ولكن آخرين كان عليهم أن يلتحقوا بجيش التحرير ويصبحوا من الكوادر الطبية. كان جمال عندئذ في السنة الثانية رفقة محمد خميستي رئيس فرع الاتحاد العام للطلبة في مونبلييه ورئيس الاتحاد قبل اعتقاله، تعلم جمال مبادى الجراحة في البرج صيف 1955 عند زيارته العائلية، وبنصيحة من والده سمح له الطبيب الجراح (قرانج) بممارسة مبادى الجراحة، وفي هذا الصيف أيضا حدثت أحداث شهر أغسطس (أوت) المعروفة في سكيكدة فكانت موضع الحديث بينه وبين زملائه، وقد انضم إليهم المسؤول السياسي في البرج، وكانت الشائعات تروج حول أعمال الجبهة وحاجتها إلى الممرضين والأطباء، وعن الحركة المصالية، وجماعة مكافحي الحرية الشيوعية، جاء جمال إلى تونس على ظهر سفينة من مرسيليا، كان ذلك في نهاية شهر ديسمبر 1956 بعد أن تبين أن دورة أكتوبر قد انتهت بدون امتحانات، التحق بأبويه اللذين سكنا في سيدي بوسعيد، وانضم إلى جبهة وجيش التحرير، كان أحمد محاس هو ممثل الجبهة في تونس، أما ما يتعلق بالطب فقد كان تحت إشراف الدكتور محمد نقاش، في تونس عوضت الكوادر الطبية الجزائرية عندئذ الكوادر الفرنسية، وقد وجد الجزائريون ترحيبا خاصا من أهل تونس.

وأثناء وجوده في تونس كان جمال يمارس الطب مع الدكتور العقبي في مستشفى سوسة، بعض الوقت، وفي تونس العاصمة التقى بالعقيد عميروش، ووقع تعيينه في الولاية الثالثة، فدخلها في سيارة مغطاة، مع ستة من الطلبة خمسة منهم في الطب وسادسهم في الرياضيات، فمروا بساقية سيدي يوسف ثم سوق أهراس ومنها إلى قلعة بني عباس. في الولاية الثالثة اشتغل جمال بن سالم في المنطقة الأولى مع الضابط سي حميمي، كان ذلك بطلب من القائد عميروش نفسه، استعان ابن سالم لاستحضار ذكرياته بعناصر من جيش التحرير الأحياء خصوصا سي حميمي (حامد دهيل)، وهو يعتبر كتابه هذا من نوع (الكرونيك) أو ثبتا بالأحداث التي عاشها بين 1954 - 1962، وأهداه إلى زملائه المكافحين، تلاميذ الثانويات، وطلاب الجامعات الذين التحقوا - رغم أنهم لم يكملوا دراستهم وكانوا يجهلون الأمكنة وظروف العيش في الجبال - ليكافحوا إلى جانب أهل الريف ضد عدو يفوقهم عددا وعدة، وبعض هؤلاء الطلاب - مثل ابن سالم نفسه - كانوا قبل ذلك منعمين يعيشون عيشة راضية، وكان أبوه متزوجا من عائلة تامزالي الغنية. لا شك أنه لم يكن وحده عندما شعر وهو في الميدان أنه خير وريث للحضارة العربية الإسلامية وخير معبر عن صوت الأجداد، وأنه هو وزملاؤه قد رفعوا التحدي في وجه الاستعمار باسم: المفاوضات هي الحرب، وقد ذكر أنه عندما كان في مونبلييه كان يعرف أنه في كلية أنشئت أصلا من أجل الطب العربي حيث كان يتردد عدد من طلاب العالم، واعتبر ذلك تكريما للإسلام، وكان عدد الطلبة الجزائريين في جامعة مونبلييه كبيرا نسبيا حتى أن اثنين منهم أصبحا عضوين في مكتب الجمعية العامة للطلبة. أما محتوى الكتاب فهو مقسم إلى قسمين: الأول فيه هذه أسلحتنا وهؤلاء أطباؤنا، والثاني قمة سي حميمي، والواقع أن القسم الأول هو الأكبر حجما (ص 7 - 247)، أما القسم الثاني فيضم من (ص 249 - 289)، ومن

عن تاريخ الطب

فصول القسم الأول المواضيع التالية: طبيب جيش التحرير، كوكبة من السلاح والأطباء، مجلس المنطقة، مجلس الولاية، أسرى الحرب، معسكرات الاعتقال (1). عن تاريخ الطب أما إذا رجعنا إلى الجانب التاريخي فإننا نجد نور الدين عبد القادر قد ترجم لحياة عمر الخيام (الجانب الطبي منه)، وأرجوزة ابن سينا في الطب مع الطبيب الفرنسي هنري جاهيي H.Jahier وقد نشرت الدراسة عن الأرجوزة في باريس 1954، ثم قدمها نور الدين في مجلة هنا الجزائر (2). وفي هنا الجزائر أيضا قام نور الدين بترجمة (الطبيب الشيخ ابن حمادوش) كما سماه، وهو عبد الرزاق صاحب رحلة لسان المقال التي حققنا جزأها الثاني، وقاموس العقاقير إلخ، وقد رجع نور الدين في هذه الترجمة لعدة مصادر، منها ابن سينا والأنطاكي والحفناوي وابن البيطار، وذكر من كتب ابن حمادوش كتاب تعديل المزاج وكشف الرموز أيضا، وقال إن الأول يقع في نحو أربعين صفحة، وأما الثاني فهو مطبوع متداول، وإن ابن حمادوش قد توفي في آخر القرن الثاني عشر للهجرة عن نحو ثمانين سنة، ولاحظ نور الدين أن الأدوية التي دونها ابن حمادوش هي التي كان يتداوى بها أهل الجزائر، وأنها معروفة اليوم (وقته) عند العشابين، وإن ابن حمادوش كان يداوي الناس من الحمى، وسمع أن له رحلة إلى الأقطار المشرقية ولكن نسخها قليلة جدا، وإن له تقاييد عن تاريخ مدينة الجزائر، ولا ندري مدى اسفادة الناس في الميدان من قاموس ابن حمادوش وأعشابه وأدويته أثناء الثورة (3).

_ (1) طبع الكتاب في الجزائر، م، و، ك .. 1985. (2) هنا الجزائر 42، يناير 1956. (3) هنا الجزائر 56، يوليو 1957، أنظر أيضا كتابنا الطبيب الرحالة: ابن حمادوش، وكذلك تحقيقنا لرحلته لسان المقال.

وثائق عن الطب في الأرشيف

شارك أحد الجزائريين، وهو الشيخ أحمد بن حمودة في مؤتمر عن ابن سينا بطهران سنة 1955، وقدم هذا الجزائري (وهو مدرس سابق بمعهد الدراسات الإسلامية بالجزائر) بحثا عنوانه (مختصر علم الهيئة) لابن سينا، وقد شارك ابن حمودة (باسم الجزائر) رغم أن الجزائر ليست دولة، وكان عدد الدول المشاركة في المؤتمر 26 دولة، بيتما تحدث آخرون عن ابن سينا الفيلسوف والطبيب والأديب بمناسبة ذكراه الألفية، وقد أخبر ابن حمودة أن لمختصر علم الهيئة نسختين إحداهما في الجزائر والأخرى في المتحف البريطاني، وتحصل على نسخة من كل منهما، ثم حلل الكتاب بناء على الرسوم الثمانية التي رسمها ابن سينا للعالم بناء على أن الأفلاك تسعة، وأكد ابن حمودة أن الكتاب رغم عنوانه، غير مختص بعلم الهيئة بل يشمل أخبار الفلسفة والطب والهندمة والجغرافيا الطبيعية، وكان ابن سينا قد اعتمد فيه على كتاب المجسطي (بطليموس)، وجاء ابن حمودة بخلاصة كتاب بطليموس وهي تقول بنظرية مركزية الشمس وبرأي كوبرنيك التي تقول إن للشمس حركات عديدة منها الحركة الدورانية الدائمة واليومين والحركة الانتقالية السنوية، ومهما كان الأمر فإن هذا النشاط العلمي كان خارج نطاق الثورة عندئذ (1). وثائق عن الطب في الأرشيف عثرنا في الأرشيف عن دراسة موثقة عن الصحة العامة بناء على مصادر مختلفة، منها تقارير الأمم المتحدة، ونعني بذلك الوضع الصحي في الجزائر سنة 1957: المستشفيات وأنواع المرض الشائعة، وأدويتها، والصيدليات، وتناولت الدراسة وضع خطة وطنية للصحة، وإعداد قاعدة مبادئها وتنظيمها ووسائلها وموظفيها، ولكن التقرير لا يتحدث عن الثورة والأطباء فيها إلا قليلا، من ذلك قوله: نظمت الأمور الصحية بالتدرج من قبل مصالح جيش التحرير بالتنسيق مع وضع شبكة سياسية وعسكرية وإدارية في كل الولايات، وفي سنة

_ (1) هنا الجزائر 32، فبراير 1955.

1956 كانت مصلحة الصحة للثورة تستطيع معالجة المناضلين في المستشفيات، ومن بين ما أشارت إليه الدراسة هو التقرير الطبي للمؤتمر الذي انعقد في مدينة تيارت سنة 1959، ويبدو أن هناك لبسا في التاريخيين المذكورين (1). بمناسبة إحياء الذكرى 32 لميلاد العالم الفرنسي (باستور) قامت مجلة هنا الجزائر بتلخيص ما قام به المعهد من أعمال في الجزائر، ولهذه الخلاصة جانب تاريخي نتركه الآن، وأما الجانب العملي فإنه تمثل فيما يلي: 1 - اكتشاف نقل القمل للأمراض ولا سيما الحمى المزمنة، وإن التيفوس موجود في القملة نفسها، وبداية استعمال غبار د، د، ت لقتل القمل. 2 - النجاح في علاج مرض السل عن طريق ب. س. ج. 3 - عرف مرض (القرع) وأسبابه. 4 - أمراض العين. 5 - اختراع مصل لعلاج سم العقرب. 6 - أمراض الإبل من الذباب والماشية، وكذلك مرض بيوض النخلة وتأثير الحشرات والبعوض على النباتات، وعلاج ذلك. وقام معهد باستور بمحاضرات عن حمى المستنقعات (2). وحول النشاط الطبي أيضا انعقد المؤتمر السابع والعشرون للأطباء العرب في دمشق سنة 1959 وشارك فيه وفد جزائري برئاسة الدكتور علي مرداسي، وقدم الوفد تقريرا عن وضع اللاجئين الجزائريين في المحتشدات وحرمانهم من وسائل الصحة، وفي النهاية أصدر المؤتمر لائحة حول الجزائر طالبت منظمات الصليب الأحمر والهلال الأحمر في العالم بالسعي لوضع حد لمعسكرات الاحتشاد والعمل على احترام ميثاق جنيف لإطلاق سراح الأطباء والصيادلة

_ (1) الأرشيف الوطني، علبة 31، ص 23 من التقرير العام. (2) المقالة موجودة بنصيها العربي والفرنسي في مجلة هنا الجزائر، 32، فبراير 1955، وهما بقلم مدير المعهد إدوارد سيرجان E.Sergent

والممرضين الجزائريين الموقوفين، وإبداء تضامن الأطباء المجتمعين مع الشعب الجزائري، وقد أشادت المجاهد بدور سوريا في مساندة الجزائر ودور الروح العربية والعروبة وسخاء سوريا نحو الجزائر سيما عند انعقاد أسبوع التضامن مع الجزائر (1). اقترح برنامج الصومام خطة لتنظيم المصالح الصحية تشمل: - جراحين وأطباء وصيادلة ليكونوا على اتصال بعمال المستشفيات. - تنظيم العلاج والحصول على الأدوية والضمادات. - إقامة عيادات في الأرياف للإشراف على معالجة المرضى أو من كانوا في دور النقاهة (2). في تقرير طويل كتب عن الوضع الصحي في الجزائر خلال الثورة جاء وصف لحالة المستشفيات الريفية التي أقامتها الثورة والحاجة إلى الممرضات والنواحي الإيجابية والسلبية في المنظومة الصحية للثورة، فعندما بدأت الثورة عملية فصل السكان عن الإدارة الاستعمارية في مختلف المجالات بدأ طلب السكان للممرضات والممرضين لأنهم أصبحوا نادرين، كانت الممرضات يعملن في المستشفيات الريفية، وكن يمثلن الاحتياطات في التطبيب، فضاعفن من عملهن بالوسائل المتوفرة مع السكان المدنيين الذين رحبوا بهن كنساء لأن التطبب سابقا كان يقوم به الرجال، لقد لعب ممرضات جيش التحرير دورا حاسما في العمل الصحي، ولا سيما في الأرياف، ونتيجة ذلك النشاط ظهر في مختلف الولايات مشكل إقامة المستشفيات في الأرياف للمدنيين، سيما في الولايتين الثالثة والرابعة. وهكذا وضعت ميزانية خاصة لدى الجيش للمساعدات الطبية الاجتماعية تخص السكان المدنيين، وبدأت تنظيمات الثورة تدفع أثمان الدواء والإجلاء

_ (1) المجاهد 45، 29 يونيو 1959. (2) النصوص الأساسية لجبهة التحرير الوطني، وزارة الإعلام واليقافة، الجزائر، 1979.

عن المدن أو عن المستشفيات الفرنسية المدنية، وكان على المصلحة الطبية للجيش أن تعيد تنظيم نفسها من جميع الوجوه، فتأتي بالمتطوعين في التمريض والممرضات السابقات والمعاونات التقنيات، والفتيات، والطلبة الذين أضربوا عن الدروس، فكان هؤلاء جميعا يمثلون الإطارات الجديدة في ميدان الطب والتمريض، وهكذا جاء طلبة الطب والأسنان والصيدلة فكانوا هم المؤطرين والمعلمين في نفس الوقت، وتسهيلا لمهمتهم أنشى منصب (مسؤول الصحة في المنطقة)، وأصبح هناك لا مركزية ومواصلات سريعة في حالة الطوارى من نقطة إلى أخرى بعينها، وكان من مهمة مسؤول الصحة نشر وتقديم النصائح الصحية على مستوى جيش التحرير، وفي المجتمع المدني كان كل مسؤول على الدوار أو المجموعة الريفية من السكان أن يطبق النصائح الطبية لجيش التحرير، وكان أكبر نقص عاناه هذا القطاع هو النقص في المواد الطبية نظرا لحالة الحرب، مثلا هناك فقر في سيارات الإسعاف أو المروحيات لإجلاء مستشفيات تقع في عمق الريف حيث من الصعب ممارسة العمليات الجراحية المستعجلة، بحيث لا توجد إلا الوسائل البدائية (1). وتشير بعض المصادر إلى وجود مستشفيات ودور نقاهة لجيش التحرير خارج الحدود الجزائرية أيضا، فقد روى الشيخ أحمد توفيق المدني أنه كان للجبهة مستشفى في العرائش (المغرب)، وأنه زار المستشفى شخصيا عندما كان وزيرا للثقافة، كما زار دار النقاهة المخصصة لمرضى جيش التحرير بطنجة، وقال إنه كان حول الدار سبعة عشر هكتارا من الأشجار الباسقة (2). وقد تطوع بعض الطلبة الذين كانوا يدرسون الطب وجعلوا أنفسهم تحت تصرف النظام، فهناك رسالة بعث بها علي بسطة الذي كان طالبا في الطب في

_ (1) الأرشيف الوطني علبة 31، ص 24. (2) المدني، حياة كفاح، ج 3، ص 417، حدثت زيارته في مارس 1959.

جامعة باريس أعلن فيها وضع نفسه تحت تصرف جبهة التحرير (1). وقد انعقد مؤتمر طبي في المغرب المستقل سنة 1959، ولعله هو الأول من نوعه، حضره أطباء من مختلف أقطار المغرب العربي وافتتحه الملك محمد الخامس، ولا ندري من مثل الجزائر فيه، ولكن يبدو أن الأطباء الجزائريين أخذوا منه درسا في التعامل مستقبلا، وهذه الفكرة طرحتها جريدة المجاهد التي نقلت أخبار المؤتمر. كما انعقد في تونس قريبا من ذلك التاريخ مؤتمر مغاربي خاص بأطباء العيون حضره الدكتور شوقي مصطفاي الذي خطب في جلسة الاختتام، وقال إنه يحمل إلى الأطباء تحيات زملائهم أطباء الجزائر عامة وأطباء العيون خاصة. ولا ندري أيضا هل كان في الوفد الجزائري أعضاء آخرون ومن هم. وهكذا كانت الجزائر حاضرة في الميدان الصحي في داخل الولايات وحاضرة في المؤتمرات والندوات التي تتعلق بالطب على المستوى الخارجي (2).

_ (1) الأرشيف الوطني، 1 - 20 - رمز 2، والرسالة بتاريخ 1956 ولكن دون ذكر الشهر. (2) المجاهد - بالفرنسية - 42، 25 مايو 1959.

الفهارس العامة

الفهارس العامة 1 - فهرس الأشخاص 2 - فهرس الأماكن 3 - فهرس الكتب والمجلات والجرائد 4 - فهرس الجمعيات والروابط ... 5 - محتوى الكتاب

فهرس الأشخاص

1 - فهرس الأشخاص

_ (أ) آسيا جبار: 185، 170، 184 - 187, 192، 441، 558 آيت الحسن: 156 آيت يحيى الوناس: 252 إبراهيم أبو اليقظان: 494 إبراهيم أطفيش: 39، 566 إبراهيم باشا: 571 إبراهيم بو الكرم،: 239 إبراهيم بيوض: 45، 539، 544، 622، 623 إبراهيم عبد الحليم: 661 إبراهيم بن المهدي: 368 إبراهيم غافة: 220، 22، 243، 282. 287، 288 إبراهيم طوبال: 82 إبراهيم الكيلاني: 664، 665، 666 إبراهيم مزهودي: 23، 35، 113، 207، 282، 288 إبراهيم ناجي: 544، 546 أبو بكر بن رحمون: 71، 491، 495، 552 أبو بكر جابر: 43، 44، 667، 668 أبو العيد دودو: 343، 336، 438، 452، 468، 472، 473، 764، 482، 487، 515 أبو القاسم البوجليلي: 47 أبو القاسم الحفناوي: 69 أبو القاسم خمار: 223، 448، 493، 504 - 521 أبو القاسم سعد الله: 70، 243، 282، 287، 288، 440، 441، 459، 491، 499، 545، 550 أبو القاسم الشابي: 540، 546 أبو القاسم الشافعي: 282 أبو القاسم كرو: 469 أبو مدين الشافعي: 243، 288 أبو الحسن: 467

_ أبو فراس الحمداني: 523 أبو يعلى الزواوي: 35، 50 أبو يوسف يعقوب: 424 أبو يوسف يوسف: 161 أبي نصر الفارابي: 645 ابن إسماعيل: 546، 549 ابن البيطار: 631 ابن التركي: 546، 549 ابن تومي: 151 ابن تومي (سيدة): 98 ابن حجر: 623 ابن الحملاوي: 56، 246 ابن حورة: 466 ابن خليل: 151 ابن الدين: 58 ابن سهلة: 378 ابن سينا: 398، 631، 632 ابن صالح الزرقاني: 47 ابن قزمان: 363 ابن عدة بن زرجب: 146، 147، 153 - 155، 304، 443، 628 ابن عربية: 151 ابن عيسى سواحي: 152 ابن كريو: 549 ابن مقلة: 432 ابن ملحة: 151 ابن مليح: 82 ابن ونيش (سيدة): 41 ابن يوسف بن خدة: 104، 109، 110، 115، 119، 122، 141، 255 أحريز (سيدة): 146 أحمد بوروح: 35 أحمد بوده: 71، 222، 223 أحمد بيوض: 567، 584 أحمد البدوي: 587 أحمد بومنجل: 122، 216 أحمد بوشمال: 584، 638 أحمد أمين: 645 أحمد الأخضر: 96 أحمد بوضربة: 131 أحمد بلا فريج: 297 أحمد بن ذياب: 202، 440، 442، 445، 468، 492، 541، 543، 446، 551 أحمد بن زكري: 56، 450، 542 أحمد بن عمار: 49، 367 أحمد بن القبطان: 367 أحمد توفيق المدني: 23، 24، 52، 54، 70، 72، 90، 91، 92، 93، 130، 131، 208، 209، 222، 237، 238، 239، 243، 246، 252، 254، 255، 256، 265، 266، 279، 282، 287، 289، 291، 293، 308، 320، 329، 437، 438، 440، 441، 442، 448، 461، 506، 527، 550، 553، 559، 564، 573، 575، 578، 594، 624، 635، 639، 668

_ أحمد بن بللا: 203، 237، 252، 253، 637، 254، 567، 281، 285، 295، 390 أحمد بن خلوف: 546 أحمد بن عاشور: 474 أحمد الأكحل: 69، 202، 442، 446، 496، 492، 540، 541، 543، 544، 546، 550، 596، 645 أحمد حماني: 35، 39 أحمد خطاب: 151 أحمد خليفي: 357، 372 أحمد دوغان: 491 أحمد راشدي: 391 أحمد رضا حوحو: 41، 65، 68، 146، 153، 156، 178، 198، 282، 288، 304، 422، 432، 438، 440، 441، 445، 452، 453، 464، 469، 471، 474، 481، 490 أحمد زبانة: 328، 506، 507، 603 أحمد زكي أبو شادي: 202، 546 أحمد سحنون: 23، 54، 73، 170، 441، 443، 4، 89، 492، 494، 550، 553 أحمد السقاف: 660 أحمد سري: 347، 371، 380 أحمد السرحاني: 72 أحمد سعيد: 82، 83 أحمد الشامي: 189 أحمد شقار الثعالبي: 467 أحمد الشقيري: 20 أحمد المعطي حجازي: 283، 288. 289، 660، 661 أحمد عروة: 151 أحمد عوات: 40 أحمد علام: 587 أحمد الغزاوي: 661 أحمد فرجاج: 291 أحمد فرنسيس: 122، 152، 247، 252، 576، 628، 638، 647 أحمد فكراش: 27 أحمد وهبي: 372، 375 أحمد طالب الإبراهيمي: 108، 109، 298. 300، 479، 581، 624، 626، 628 أحمد معاش: 250، 251، 492، 513، 535، 539 أحمد محساس: 113، 253، 629 أحمد مظهر: 658 أحمد منور: 438، 454 الأخضر السائحي: 39، 202، 492، 549، 550 الأخضر بن طوبال: 126، 130 إدريس الشرايبي: 445، 468، 623 إدمون ميشليه: 612 أديب الشيشكلي: 520 أراغون: 160، 178، 190 أرزقي بوزيدة: 239 أرزني صالحي: 246، 291 أزواو معمري: 397، 405، 406، 419، 433 إسحاق النديم: 368 أسعد بيوض التميمي: 562، 563، 564

_ أسماء بنت أبي بكر: 603 إسماعيل آيت جعفر: 158، 189، 192، 244 إسماعيل بورغيدة: 239 إسماعيل حمداني: 220 إسماعيل العربي: 456، 463 اسكندر دوما: 336 اسكندر شلفون: 372 اسكندر نور الدين: 33 أشياري (شرطي): 27 ألان سفاري: 652 ألبير كامو: 581، 174، 181، 413، 415، 457، 625، 645، 646، 648، 656 أم كلثوم: 381، 661 الأمير خالد: 11، 404 الأمير عبد القادر: 71، 75، 81، 172، 176، 195، 278، 301، 497، 452، 559، 516، 562، 603 الأمين بشيشي: 222، 491، 500 الأمين خام: 628 أمين الحسيني: 20، 581 أمينة بنت المهدي: 368 أمينة رزق: 643 الأمين العمودي: 146، 456، 490 أنا غريكي: 193 أندري بريتون: 408، 646 أندري دي باك: 412 Pac أندري صاروي: 64 Sarrouy أندري ماندوز: 215، 309، 647، 652، 653 أنور عبد المالك: 178، 179، 664 أنور العطار: 660 أنيسة بركات: 512 أوبريت: 658 أوديزيو: 655 أوعمران (عقيد): 130، 238 إيف لاكوست: 652 أولغا لوماسون: 389 Le Masson إتيان ديني: 399 إيلوار: 190 إيليا أبو ماضي: 445، 543 إيمانويل روبلس: 158، 174 إيميل غوتييه: 465 (ب) با أحمد: 304 بابا عروج: 399 بابا عز الدين: 340 باعزيز بن عمر: 441، 443 باستور: 633 باسوس: 165 بالمر مورتيز: 655 الباهي فضلاء: 489، 585 باية محيي الدين: 408 بدر شاكر السياب: 660 بديعة مصابني: 340 براح بوعلام: 322 بران: 427 البشير بن رابح: 40، 471 البشير حاج علي: 140، 141، 192، 200 البشير بن يلس: 406، 416، 397

_ البشير بو معزة: 152 البشير العريبي: 277 البشير قاضي: 222 البشير كاشة: 584 البشير كعسيس: 287، 290 البشير ولد رويس: 322 البلاوي الهواري: 372 بلحاج محيي الدين: 33 بلقاسم زدور: 300، 304 بلند الحيدري: 660 بلوزداد: 151 بنت الشاطئ: 479 بوجملين: 567 بوجو: 301 بودلير: 541 بودية مرسلي: 331 بوزيان التلمساني: 131، 291، 293 بوشوشة: 195 البوصيري: 519 بو عبد الله غلام الله: 223 بوعلام أوصديق: 287 بوعلام باقي: 206 بوعلام بالسائح: 549 بوعلام تتيش: 360 بوعلام خليفة: 189 بوعلام رايس: 233 بوعلام الصديق: 282، 288 بوعلام طايبي: 141 بوعلام ولد رويس: 56 بوعمامة: 195 بوعياد (د،) 151 بوقادوم: 244، 248، 317، 321، 323، 346 بولعراس: 82 بولوغين: 555 بونتيكورفو: 396 بيازا: 399 بيكاسو: 408، 659 بينوس (ف، ل،)، 185: Benos، F، L بيير بورد: 353، 418 بيير كليمون: 236، 389 بيير مالان: 237 بيير كوت: 647 (ت) التارزي الشرفي: 191، 255 تامزالي: 630 تامزالي (سيدة): 41 التجاني زغودة: 37، 38 التجاني هدام: 304، 628 تماضر الخنساء: 603 توماس أوبرمان: 652 توماس أوربان: 599 التومي بوعلام: 28 توفيتي: 157 Thuveney (ج) جاك بيرك: 625، 647 جاك سوستيل: 88، 233، 234 جاك شوفالييه: 338، 340، 643 جاك فيرجي: 658 جان ألازار: 412، 413، 434

_ جان برون: 411 جان بول سارتر: 145، 136، 178، 228، 602، 612، 628، 646، 647، 650، 651 جان بيرسييه: 416 جان جوريس: 626 جان دي جو: 189، 493 جان رينوار: 394 جان سيناك: 158، 193، 244، 410، 413، 415 جان سيل: 646 جان سرفييه: 652 جان عمروش: 191، 193، 649، 651 جان كاسو: 646 جبران خليل جبران: 202، 486، 546، 645 الجعيدي: 279 جلول البدوي: 446، 546، 554، 622 جلول بن يلس: 548 جمال الدين الأفغاني: 565، 642، 652 جمال بن سالم: 628 جمال دردور: 247 جمال السنهوري: 222 جمال شندرلي: 236، 385 - 389، 393 جمال عبد الناصر: 92، 203، 204. 528، 561، 567، 569 جمال قنان: 531 جمال يعلى: 321 جميلة بوباشا: 146، 156، 659 جميلة بوحيرد: 156، 319، 344. 521، 658، 659، 660، 664 جميلة بوعزة: 319، 659 جميلة دبيش: 193 جناس: 151 الجنيدي خليفة: 38، 283، 287، 441، 452، 473، 488، 597، 599 جورج آرنو: 658 جورج أبيض: 328، 340، 875 جورج باتاي: 646 جورج جوايو: 164، 173، 174، 656 جورج مارسيه: 397، 399 جورجي زيدان: 455 جوليان كان: 423 جورنو؟ جول روا: 149، 174، 178، 647، 652 جي موليه: 33، 604 جيلسباي: 652 جيزيل حليمي: 156، 659 جيلي عبد الرحمن: 662 الجيلالي الفارسي: 150 (ح) الحاج حمدان: 463 الحاج عمر: 377 الحاج محيي الدين المحفوظ: 408 الحاج مريزق: 378 الحاج المنور: 380 الحاج يعلى: 157، 158، 190، 191، 317، 323

_ حامد الآمدي: 430 حامد دهيل: 360 حامد روابحية: 223، 238، 255 حافظ إبراهيم: 528 الحبيب بورقيبة: 511، 545، 566، 638 الحبيب بناسي: 30، 422، 480 الحبيب ثامر: 297، و 62 الحبيب رضا: 330، 360 حداد: 427 حسين (عقيد): 628 حسن إدريس: 321، 322 حسن بن عبورة: 397، 406، 407. 414، 415، 419، 433 حسن البنا: 645 الحسن الثاني: 511، 512 حسن الحسني: 233، 332، 349 حسن الصائم: 191، 288 حسن العربي (حسيسن): 378 حسن فتح الباب: 660، 661 حسن فؤاد: 164 حسن كامل الصيرفي: 660 الحسناوي: 376 حسونة دغيز: 565 حسيبة بن بو علي: 56، 146 حسين آيت أحمد: 203، 237، 390. 567، 581، 637 حسين الأحول: 203 حسين بن طلال: 583 حسين بوزاهر: 189، 351 حسين مروة: 477 الحسين كرايمية: 206 حسين يامي: 222 الحفناوي أمقران: 548 الحفناوي هالي: 61، 66، 441، 448, 474، 501، 958، 590 حمدان بن عبد الوهاب: 28، 29 حمدان خوجة: 137، 564 حمزة بوكوشة: 150، 422، 440، 448, 481، 499، 550، 621 حمود (سيدة): 41 حميدو (طالبة): 300، 370 حنفي بن عيسى: 180، 183، 468, 481، 482 حيدر بمات: 625 (خ) خالد بن الوليد: 603 خبيب بن عدي: 603 خضارة محمد الصالح: 40 خليفة بلقاسم: 378 خولة بنت الأزور: 603 خير الدين بربروس: 401 الأخضر السائحي: 643 (د) داود الإنطاكي: 631 الدحاوي: 546، 549 دحمان بن عاشور: 372 دحمان الحراشي: 380 - 381 دحمون: 328

_ دحو ولد قابلية: 220 الدراجي زغلاش: 248 دماغ العتروس العربي: 23 دنيس باريه: 192 دوس باسوس: 164 دوماسيل: 27 دي برازا: 425 (ر) رابح بونار: 65، 289، 444، 459 رابح بيطاط: 126، 147، 390 رابح التركي: 222، 228، 291، 517 رابح دبوز: 390 رابح درياسة: 357، 372، 407 رابح كربوس: 151 رابح مجحودة: 222 رابعة العدوية: 546 راميتر (مخرج): 233 الربيع بوشامة: 22، 28، 127، 146، 156، 178، 490، 495 - 553، 550 الربيع بوعلام: 373 رجاء النقاش: 162 - 163، 667 رزيق قاسم: 34 الرشيد إدريس: 82 رشيد بن شنب: 328 رشيد بنو عمر: 322 رشيد سحري: 40 رشيد بستاني: 322 رشيد بوجدرة: 187، 487 رشيد عبد الجليل: 192 رشيد القسنطيني: 328، 373 رشيد النجار: 220، 222 رشيد رضا: 645 رضا بن الشيخ الحسين: 220 رضا القلعي: 381 رضا مالك: 114، 145، 213 رفيق سنو: 568 رمضان حمود: 491 رمضان عبان: 113، 122، 131 - 133، 141، 216، 253، 302 روبير كامب: 163 روبير لاكوست: 88، 233 روجي ليونار: 15، 423، 450 روجيه مارتان دوغان: 646 رودوسي: 421 روني مايير: 641 رويشد: 236 رياض السنباطي: 381، 526 رينيه حبشي: 624، 625 رينيه فاما: 415 رينيه فوتييه: 236، 388، 390، 391، 392 - 393 رينيه كابيتان: 647 ريمون أرون: 647 ريكار: 399 (ز) الزروقي (معلم): 58 زكي خريف: 381 زكي طليمات: 387 زهرة زراري

_ زهرة ظريف: 659 زهور ونيسي: 477، 478 زهير إيحدادن: 211، 220 زينات: 32، 346، 371 زينب يخلف: 516 زرياب البغدادي: 645 (س) سامي شعار: 296 ستيفان غزال: 433 سرية علي: 390 سعد دحلب: 122، 220 سعد الدين بن شنب: 158، 159، 328، 447، 463، 468، 492 سعد الدين نويوات: 290 السعدي حكار: 432، 454 سعيد آيت شعلال: 321 سعيد بن عبد الله: 614، 615 سعيد بوزار: 442، 446 سعيد حايف: 235 سعيد رمضان: 583، 584 سعيد الزموشي: 207 سعيد صالحي: 22، 150، 250، 530 سعيد ماموش: 151 سعود بن عبد العزيز: 254، 580، 582 سفير البودالي: 158، 359، 360، 394. 468، 661 سليمان الرشدان: 660 سليمان الصيد: 422 سليمان عازم: 229، 372 سليمان عناني: 446 سليمان العيسى: 183، 660 سليمان إدريس: 536 السنباطي: 661 سهير القلماوي: 479 سوتيرا: 611 سوفكيس: 331 سيد إبراهيم: 429، 431 سيد قطب: 69، 444، 583 سيدي أحمد الكبير: 610 سيدي بومدين: 49 سيدي محمد بن علي: 540 سيدي محمد السعدي: 47 سيدي منصور: 46، 48 سي الدراجي: 220 سي حميمي: 630 سيرج ميشل: 222 سيرجي وليني: 394 (ش) شارل دي فوكو: 424 شارل دي غول: 140، 181، 194، 234، 282، 288، 352، 613 شارل روبير آجرون: 26 شافية رشدي: 329 الشاذلي زوكار: 38 الشاذلي المكي: 35، 39، 82، 566. 567، 584، 637 شتاينبك: 165 شرايبر: 149، 647

_ الشرقاوي (مغربي): 279، 658، 661 الشريف بن حبيلس: 158 الشريف الزهار: 150، 648 الشريف ساحلي: 71، 158، 198، 244، 317، 422، 575 الشريف سعدان: 552 الشريف فيضي: 322 شفيق أرشيدات: 256 شكري عياد: 471، 662، 663 شوصاد: 231 شوطان: 53 شوقي مصطفاوي: 636 شولي: 236، 385 الشيخ رضوان: 431 شيربونو: 611 شيللي: Shelley 544 (صلى الله عليه وسلم) صابر صادق الشريف: 33 الصادق البجائي: 232، 357 الصادق بن الحاج: 81 الصادق حماني: 198 الصادق مازيغ: 614، 620، 624 الصادق نساخ: 70، 496 الصادق هجرس: 95، 138 - 139، 140، 141، 158، 200 الصافي بوديسة: 319 صالح باوية: 492، 493، 504 - 510، 557 صالح بن يوسف: 294 صالح خباشة: 539 صالح خرفي: 278، 283، 288، 381، 438، 440، 453، 492، 493، 512 - 527، 557 صالح مؤيد: 491، 521 صالح المهدي: 329 صالح الونشي: 28 صلاح جاهني: 661 صلاح جودت: 663 صلاح أبو سيف: 587 صلاح البيطار: 256 صلاح عبد الصبور: 459، 660 (ط) طارق بن زياد: 603 طالب عبد الرحمن: 319، 344 الطاهر البوشوشي: 202، 360، 449، 463، 464، 466، 496، 540، 541، 544، 445، 533 الطاهر باقي: 189 الطاهر التجيني: 28 الطاهر الجنادي: 47 الطاهر التليلي: 61، 498 الطاهر الحركاتي: 72 الطاهر حناش: 394 الطاهر زرهوني: 33 الطاهر رحاب: 233، 347، 546، 549 الطاهر محمد: 34 الطاهر وطار: 440، 459، 472، 473 طبال (طبيب): 304

_ طه حسين: 450، 465، 479، 483، 487، 641، 661، 664 الطيب أبو الحسن: 235، 349 الطيب الثعالبي: 238 الطيب العقبي: 438، 460، 462 (ع) عائشة حداد: 433 عاثشة القينعي: 610 العباس بن الشيخ الحسين: 254، 287، 569، 638، 668، 669 عباس لغرور: 129 عبد الحميد اسكندر: 431 عبد الحميد بن باديس: 021 30، 35، 39، 55، 57، 60، 72، 81، 160، 195، 264، 278، 280، 439، 456، 474، 478، 483، 489، 499، 513، 522، 531، 532، 552، 565، 568، 580، 589، 603، 608، 618 عبد الحميد بن زين: 138، 139، 140، 158، 200 ابن سالم عبد الحميد: 23 عبد الحميد الضيف: 34 عبد الحميد عبابسة: 372، 375، 376 عبد الحميد مهري: 90، 92، 95، 122، 256، 295، 296، 313، 437، 441، 517، 534 عبد الحميد بن هدوقة: 140، 440، 472، 473، 476، 485، 487 عبد الحفيظ أمقران: 222 عبد الحفيظ بوصوف: 130، 292 عبد الحق: 422 عبد الحليم بن سماية: 378، 569 عبد الحليم حافظ: 341 عبد الحليم حميش: 409 عبد الحليم رايس: 343، 351، 395 عبد الحليم ناصف: 390 عبد الخالق ثروت: 283 عبد الرحمن بن الأمين: 366 عبد الرحمن بن الحفاف: 421، 445، 595، 596 عبد الرحمن بن خلدون: 353، 465 عبد الرحمن الثعالبي: 373، 402، 610 عبد الرحمن الجيلالي: 69، 329، 422. 446، 559 - 572 عبد الرحمن خليفي: 661 عبد الرحمن زلاقي: 223 عبد الرحمن الزناقي: 492، 527، 545 عبد الرحمن الشريف: 222 عبد الرحمن شريط: 131، 313 عبد الرحمن شطيطح: 291 عبد الرحمن شيبان: 35، 452 عبد الرحمن الخميس: 660 عبد الرحمن عزام: 20 عبد الرحمن عزيز: 41، 332، 357، 360، 372، 373 عبد الرحمن العقون: 223، 461، 490. 517، 533، 537 عبد الرحمن العمراوي: 380 عبد الرحمن فارس: 450، 662

_ عبد الرحمن الفاسي: 47 عبد الرحمن القينعي: 608 - 611 عبد الرحمن كيوان: 222، 252، 338 عبد الرحمن المجذوب: 68 عبد الرحمن يبرير: 251 عبد الرحمن اليعلاوي: 22 عبد الرحمن اليلولي: 46، 47، 56 عبد الرحيم الزرقاني: 587 عبد الرزاق الأشرف: 69 عبد الرزاق بن حمادوش: 631 عبد الرزاق فخارجي: 370 عبد الرزاق قسوم: 515 عبد الرزاق كرباكه: 329 عبد السلام؟: 32، 33 عبد السلام بلعيد: 220، 249، 291، 289، 323 عبد السلام حبيب: 492، 504 - 518 عبد السلام مرجان: 550 عبد العالي رزاقي: 491 عبد العزيز آل سعود: 70 عبد العزيز بن الهاشمي: 608 عبد العزيز الثعالبي: 566 عبد العزيز الحبابي: 245 عبد العزيز سعد: 291 عبد العزيز شكيري: 220 عبد العزيز العلي: 581 عبد العزيز يعقوبي: 291 عبد القادر بن قاسي: 222، 246، 287 عبد القادر بوسلهام: 96 عبد القادر الحاج حمو: 158، 181 عبد القادر شندرلي: 321 عبد القادر عابد: 151 عبد القادر عيساوي: 40 عبد القادر فكري: 181 عبد القادر قريصات: 220 عبد القادر القط: 243، 283، 289 عبد القادر المازني: 202 عبد القادر المجاوي: 69 عبد القادر معاشو: 238 عبد القادر نور: 222، 291 عبد القادر نور الدين: 56، 202، 242، 444، 466، 541، 609، 610، 631 عبد القادر الياجوري: 148 عبد المجيد بن جلول: 82 عبد المجيد الشافعي: 66، 67، 68، 421، 444، 474 عبد المجيد مزيان: 220 عبد المالك مرتاض: 438، 453، 493، 515 عبد الملك بوصبيع: 488 عبد الملك فضلاء: 206 عبد المنعم الجبالي: 444 عبد الكريم دالي: 232، 357، 372 عبد الكريم عباس: 129 عبد الكريم غلاب: 82 عبد الكريم العقون: 146، 156، 178، 492، 495، 500، 532، 544، 550 عبد الكريم محمد: 20

_ عبد الكريم الخطابي: 637 عبد اللاوي: 309، 310 عبد اللطيف دراز: 20 عبد الله بن أباض: 51 عبد الله بن باز: 584 عبد الله بن حبيلس: 32 عبد الله بن خراط: 47 عبد الله بن عنتر: 410، 413 عبد الله بن كريو: 378 عبد الله الجابر الصباح: 581 عبد الله ركيبي: 36، 283، 288، 438. 440، 441، 470، 488، 491، 663 عبد الله شريط: 38، 137، 441، 457 عبد الله نقلي: 158 عبد الواحد بن عاشر: 47 عبد الوارث الصوفي: 660 عبد الوهاب بن منصور: 65، 440، 528 عبده بدوي: 660 عبروس عبد النور: 321، 322 عبود عليوش: 222 عثمان بلحاج: 492 عثمان بوقطاية: 335، 338، 361، 373 عثمان سعدي: 222، 223، 399، 441. 456، 472، 481، 482، 659 عثمان شبوب: 459 عثمان الكعاك: 328، 422، 541 عجول عجول: 129 عدة بن قطاط: 222، 238، 287، 288 عزمي لبيب: 288 العربي أولخيار: 463 العربي بن الجودي: 47 العربي بن صاري: 357 العربي بن مهيدي: 81 العربي التبسي: 23، 24، 54، 66، 146، 150، 153، 156، 178، 209، 462، 463، 551، 568، 582، 638، 648 العربي دحو: 547 العربي رولة: 151 العربي سعدون: 222 العفبي (طبيب): 630 علال الثعالبي: 131 علال سعدون: 96 علال الفاسي: 566، 638 علال المحب: 342 علالة: 36 علالو: 328 علاوة السعيد: 151 علي الأكحل: 373 علي بسطة: 635 علي البلهوان: 277 علي بن سعد: 150، 399 علي بومنجل: 146، 153، 156 علي الجناوي: 391 علي الحلي: 660 علي الحوماني: 660 علي خوجة: 412 علي رضا: 565 علي الرفاعي: 660 علي الرفيعي: 660

_ علي الرياحي: 223، 376 علي شكيري: 130 علي شنتير: 206 علي صالح: 375 علي عبدون: 353 علي عسول: 220 علي الغاياتي: 20 علي كافي: 40 علي النساخ: 220 علي النشار: 640 علي النيفر: 54 علي محساس: 113 (انظر أحمد محساس) علي محمود طه: 202، 528، 543، 546 علي مرحوم: 63، 220، 499 علي مرداسي: 633 علي معاشي: 332، 376، 377 علي مفتاحي: 222، 292 علي يحياوي: 151 علي يحيى: 235 عمارة رشيد: 55 عمار أوزقان: 84، 89، 198، 210، 213، 214 عمار العسكري: 236 عمار النجار: 35، 66، 448، 477 عمار مهري: 534 عمر الآغا: 28 عمر بن الخطاب: 204، 445 عمر بن عبد العزيز: 238 عمر بهاء الدين: 444 عمر بوضربة: 689 عمر الشريف: 661 عمر الخيام: 399، 631 عمر دردور: 238، 254 عمر الدسوقي: 659 عمر راسم: 364 - 369، 401 - 405، 412، 416، 419، 429 عميروش (عقيد): 127، 128، 131، 532، 630 العياشي ياكر: 300 العيد العمراني: 654 عواطف عبد الرحمن: 386 عويسي مشري: 56 عيسى بن سالم: 628 عيسى مسعودي: 220، 221، 279، 438 (غ) غاندي: 134 غدور حروز: 667، 668، 669 غور جو: 262 Gorgeau غوستاف دوميرج: 434 غوستاف فلوبير: 333 (ف) فاتن حمامة: 661 فؤاد أباظة: 20

_ فؤاد جلال: 256، 577، 639 الفاضل بن عاشور: 277 فاضل المسعودي: 464 فاطمة الزهراء إيمالين: 185 (انظر آسيا جبار) فاطمة رشدي: 340 فاطمة نسومر: 497 فتوح نشاطي: 587 فتيحة مازيغي: 489 فتحي الديب: 249 فدوى الطوقان: 660 فرانز فانون: 8، 131، 134، 141، 143، 213، 468، 595، 599، 647، 652 فرحات حشاد: 519، 520 فرحات حجاج: 304 فرحات عباس: 62، 80، 90، 91، 92، 94، 96، 104، 122، 128، 129، 133، 173، 200، 252، 313، 437، 462، 559، 579، 614، 626، 638 فرنسوا مورياك: 646، 649 فرنسيس جونسون: 649، 650، 652 الفرشيشي: 605 فريد الأطرش: 341، 376، 381 الفضيل الورتلاني: 22، 23، 24، 54، 59، 285، 437، 438، 461، 462، 530، 559، 565، 576، 579، 581، 582، 588، 637 فضيلة الجزائرية: 379، 380 فضيلة سعدان: 146 فدوى طوقان: 459 فريدريك أنجلز: 145 فرانسوا ساغان: 184 فرانسوا ميتران: 360 فرنسيسكو ديلاجي: 239 فرنك ماكوين: 408 فروجي: 539 فرومانتان: 235 فلتان (كاردينال): 88 فيرجينيا وولف: 168 فيرجيس: 156 فيكتور هيجو: 541 (ق) قارة أحمد أحمد: 409 قارة بوطارين: 96 قاسم رزيق: 40 قاسم زيدون: 60، 146، 457 قاش الزين: 37 قدور الأمين: 366 قدور الصرارفي: 337، 357، 361 قدور محمصاجي: 192 قرانج (طبيب): 629 قروج: 653 قريبع النبهاني: 158، 189 قزدارلي: 353 قو: 450 قويدر دالى يوسف: 155

_ (ك) كاتب ياسين: 157، 159، 161، 170 - 176، 184، 186، 190، 200، 244، 343، 440، 441، 558، 575، 655، 664 كافكا: 161 كامل زهيري: 164، 661 الكاهنة: 158، 497 كريم بلقاسم: 81، 82، 109، 130. 289، 625 كشرود: 587 كلثوم: 330 كلوزيل: 611 كليبر: 228، 229 كوبرنيك: 632 كوفي: 409 Couvy كونتينو (ف): 39 كوليت جونسون: 647 (ل) لاسيب: 654 لافونتين: 64 لامارتين: 235، 541، 543، 544 لطفي محرزي: 386، 390، 391، 393 لويس أنجلي: 399، 400 Angeli لويس عوض: 167 - 170، 664 لويس ماسينيون: 14، 646 ليو - لويس باريس: 361 - 364، 366 ليون كوفي: Cauvy 415 ليلي الجبالي: 192 لينين: 316 (م) ماجدة: 658 ماركن (ضابط): 377 مارسيل إيمريت: 645، 646 مارسيل إيغريتو: 652 مارسيل نيجلان: 12 مارغريت: 408 ماركس: 145، 316 ماطي: 151 ماكس فوشيه: 413 ماكسيم رودنسون: 625 مالك بن أنس: 424 مالك بن نبي: 8، 66، 131 - 134 141، 197، 198، 200، 243، 245 282، 287، 288، 439، 557، 559, 560، 591، 601، 667 مالك حداد: 157، 172، 182 - 182, 190، 244، 441، 558 مالك واري: 158، 174، 192، 467, 489، 623، 624 مأمون الشناوي: 661 مامي إسماعيل: 201 مايو: 653 مبارك الميلي: 35، 573

_ مبروك نافع: 222 محفوظ عوفي: 319 محفوظ قداش: 28 (م) + أ محمد أبركان: 192، 322 محمد الأخضر حمينة: 235، 236، 389، 385 - 387، 390 محمد الأخضر السائحي: 35، 496. 540، 541، 544، 545، 556 محمد الأخضر عبد القادر السائحي: 491 محمد أدراعو: 58 محمد الأكحل شرفاء: 499 محمد أكسوح: 411، 413 محمد أمزيان الحداد: 81 محمد أمير: 34 محمد الأمين دباغين: 122، 222، 238، 250، 252، 253، 254، 255، 256، 628، 668 محمد الأمين العمودي: 494، 554 محمد الأمين غيطة: 288 محمد إيسياخم: 416 محمد إيقربوشن: 369، 374 محمد با أحمد: 206 محمد بابا عمر: 450 محمد البجاوي: 92، 614، 619، 647 محمد البخاري: 165 محمد برادة: 284 محمد البشير الإبراهيمي: 21، 23، 24، 26، 43، 54، 58، 59، 61، 65، 69، 72، 82، 83، 125، 160، 197، 254، 256، 283، 285، 297، 432، 437، 438، 439، 441، 442، 452، 461، 531، 557، 559، 566، 568، 576، 578، 582، 588، 637، 668، 669 محمد البغدادي: 36 محمد بكوشة: 188، 467 محمد بلحسن: 38 محمد بلعيد: 287، 290 محمد بن الأمير: 573 محمد بن تفنة: 151 محمد تومرت: 451، 564 محمد بن زاكور: 69 محمد بن سبع: 47 محمد بن سعيد: 399 محمد بن الشاهد: 546، 549 محمد بن شنب: 446، 569 محمد بن العابد الجلالي: 474 محمد بن عبد الكريم الخطابي: 20، 237، 277، 285، 294، 566، 581 محمد بن عقيلة: 291 محمد بن علي بن مالك: 47 محمد بن عمار: 322 محمد بن عنتر: 47 محمد بن عيسى: 397

_ محمد بن يحيى: 114، 360 محمد بن يحيى اليراتني: 47 محمد بن يوسف أطفيش: 623 محمد بوخروبة: 285 محمد بوراس: 27 محمد بوزيد: 408، 413 محمد البوزيدي: 220، 222 محمد بوشارب: 27 محمد بوصبيعات: 40 محمد بوضياف: 82، 126، 203، 376، 390 محمد بوقندورة: 69 محمد بوعروج: 223 محمد تفاحي: 571 محمد تمام: 411 محمد التوري: 233، 330، 360، 379، 395 محمد الجاموسي: 336، 378، 381 محمد الحاج حمو: 239 محمد الحاج صادق: 56، 450 محمد الحاكم؟: 465 محمد الحبيب: 36، 605 محمد الحبيب حشلاف: 354، 368. 378، 381، 407 محمد حبيب المهر: 516 محمد حداد: 189 محمد حدادي (حداد): 189 محمد حربي: 114، 158، 159 محمد حزورلي: 393 محمد الحسن فضلاء: 205، 206 محمد حقي السائح: 549 محمد الدريدي: 36 محمد الخامس: 511، 512، 636 محمد خدة: 410 محمد الخضر حسين: 237، 566 محمد خير الدين: 24، 54، 59، 72، 280، 553 محمد خيضر: 44، 82، 203 - 205، 252، 295، 390، 567، 581، 588، 637، 669 محمد الطاهر آيت عيسى: 604 محمد الطاهر زعروري: 129 محمد الطاهر شرفي: 289 محمد الطاهر عزوي: 148 محمد الطاهر فضلاء: 332، 333، 338، 473، 586 محمد عبده: 69، 367، 642، 645 محمد عبد اللطيف: 607 محمد عبد الوهاب: 341، 375، 381، 382، 543 محمد عرباجي: 291 محمد العريبي: 39 محمد العساكر: 131 محمد علي دبوز: 35، 422 محمد علي كرام: 38 محمد علي مكاوي: 431

_ محمد العماري: 353، 372، 373 محمد عمر الذاعوق: 568 محمد العنقاء: 232، 357، 372، 373 محمد غانم: 411 محمد العيد (آل خليفة): 54، 70، 71، 72، 73، 147، 160، 282، 288، 329، 375، 489، 491، 492، 493 - 525، 539، 541، 550، 554، 557، 569، 606 محمد العيد الجباري: 39 محمد العيد الخطراوي: 38 محمد العيشاوي: 203 محمد الغسيري: 223، 247، 448، 296، 579، 582، 638 محمد فؤاد: 360، 639 محمد الفاسي: 297 محمد فخارجي: 357، 370، 372 محمد الفرقاني: 131، 280، 372 محمد الفيلالي: 68 محمد قايد علي: 69 محمد القباطي: 30 محمد قصوري: 222، 238 محمد قنز: 391 محمد اللقاني: 494 محمد الليشاني: 96 محمد محفوظي: 447 محمد محمودي: 27 محمد المدني: 607 محمد مرازقة: 35 محمد المعمري: 176 محمد مفتاحي: 222 محمد المقراني (الحاج): 81، 195 محمد الخماسي: 431 محمد خميستي: 300، 319، 629 محمد ديب: 157، 160 - 171، 184، 186، 190، 200، 440، 441، 446، 558 محمد راسم: 397 - 401، 401 - 405، 407، 411، 412، 416، 419 محمد الربعي: 223 محمد الشابي: 38 محمد سحنون: 245، 320، 322 محمد سفنجة (سفيتجة): 366، 367، 371 محمد السعيد أبوزار: 46، 47، 48 محمد السعيد أمقران: 604 محمد السعيد السحنوني: 605 محمد السعيد الشريفي: 421، 429، 431، 432 محمد السعيد موالكي: 40 محمد سعيدي: 183 محمد السوفي: 220 محمد الشبوكي: 35، 150، 491، 498، 504، 505 محمد الشريف الحسيني: 474 محمد الشريف الضاوي: 604 محمد شهرة: 477

_ محمد الصالح بن جلول: 11 محمد الصالح بن عتيق: 147، 148، 150، 151، 251، 252، 350 محمد الصالح الجابري: 458، 482، 487, 539 محمد الصالح دمبري: 180 محمد الصالح رمضان: 421، 498، 499، 552، 589 محمد الصالح شيرف: 291 محمد الصالح الصديق: 222، 422، 445، 452، 484، 621 محمد الصباغ: 285 محمد الصديق بن يحيى: 183، 238، 239، 256 محمد منيع: 66، 70، 422، 444، 180، 621 محمد المنيمش: 366، 367 محمد الميلي: 145، 213، 396، 441، 459، 627 محمد مهري: 223، 284، 289، 290، 293 محمد ناصر: 438، 491، 538، 539. 622، 623 محمد نجيب: 580 محمد نقاش: 629 محمد الهادي السنوسي: 492، 494، 541، 546، 555 محمد وعلي السحنوني: 605 محمد الونيس: 304 محمد يزيد: 82، 83، 111، 122، 145، 203، 216، 226، 387، 415 محمد بوزوزو: 28، 53، 199، 447، 464 محمود بوعياد: 564 محمود الجيلالي: 467 محمود الربيعي: 514، 515 محمود زرطال: 151 محمود القينعي: 610 محيي الدين باش تارزي: 64، 328، 336، 338 - 342، 349، 354، 358 - 359، 380، 439 محيي الدين القليبي: 444، 581، 583 المختار اسكندر: 588، 589 مخيلف اسكندر: 588، 589 مدني حواس: 220 مراد علي: 33 مزور: 279 مسعود آيت شعلال: 109، 110, 307، 309، 317، 319، 320، 322، 625 مسعود مجاهد: 203، 204، 205، 559، 561، 565 المسيح (عليه السلام): 603 مصالي الحاج: 637، 638 مصطفى بن إبراهيم: 378 مصطفى بن باأحمد: 238 مصطفى بن عودة: 113، 238 مصطفى يلس: 544

_ مصطفى الأكحل: 69 مصطفى الأمير: 586 مصطفى بديع: 233، 236، 353، 360 مصطفى بحري: 662 مصطفى صادق الرافعي: 645 مصطفى عبد الرازق: 450 مصطفى غريبي: 332، 333، 394 مصطفى فروخي: 199 مصطفى فرنسيس: 152 مصطفى كاتب: 183، 334، 342، 343، 346، 348، 351، 352، 589، 360 معروف الرصافي: 645 مصطفى معيزة: 301 مصطفى الناظور: 373 مصطفى هني: 288 مصطفى كشكول: 336 مصطفى الكمال: 367 المعري: 134، 546 معيزة الطاهر: 34 مفدي زكرياء: 35، 39، 54، 72، 160، 291، 440، 459، 462، 489، 491، 493، 494، 522، 526، 541، 550، 557، 591 مقران ولد عودية: 146، 155، 156 مالك أبيض: 183 مليكة أولحسن: 193 ممدوح أباظة: 587 المنجي سليم: 297 منصور فهمي: 20 منور الصم: 223 منور صمادح: 38، 448، 662 منور مروش: 213، 287 موريس: 229 موريس أودان: 149، 150، 156، 389. 648، 653 موريس قليز: 394 موريس نادو: 173، 174، 175 موسى زغلاش: 40 موسى قبائلي: 152 موساوي زروق: 220 موسوي: 543 Mussuet مولاي مرباح: 669 مولود بوقرموح: 244 مولود بوكروش: 405 مولود الطياب: 65، 68، 202، 440، 442، 455، 456، 463، 468، 481، 499، 541، 594، 595، 597، 621، 623 مولود فرعون: 146، 157، 161، 171، 172، 174، 181، 182، 191، 235، 558، 664، 667 مولود قاسم: 541 مولود قايد (رشيد): 113 مولود معمري: 157، 161، 171، 172، 174، 176 - 181، 192، 244، 440، 457، 558، 667 مولود مهري: 535

_ مولير: 336، 649 ميخائيل نعيمة: 202، 328 ميريدت ولسون: 426 ميزونسيل: 435 ميسوم صبيح: 96، 97، 98 ميسوم العمراوي: 377، 379 ميشيل: 612 ميشيل برثور: 173 ميشيل دوبري: 612 ميشيل عفلق: 256 ميموني: 421 (ن) نابليون: 203 ناثالي ساروت: 173 نافعة رباني: 239 نازك الملائكة: 660 نجيب الريحاني: 337، 340 نجيب محفوظ: 661 نذير مصمودي: 491 نظيرة: 587, نزار قباني: 660 نعيم النعيمي: 72 نور الدين تيدافي: 158، 189، 244 نور الدين جودي: 321، 322 نور الدين صمود: 38 نور الدين عبه: 192 نويل رافتر: 395 (ض) هاجر بالي: 347، 360 الهادي حمدادو: 285 الهادي فليسي: 189 هارولد حبيب: 593 هارون الرشيد: 360 الهاشمي التجاني: 220، 474 الهاشمي الطود: 255 الهاشمي العربي: 463، 467 الهاشمي قدوري: 223، 291 هدى شعراوي: 479 هنري أليغ: 149، 150، 647، 648. 653، 655 هنري بيريز: 36 هنري جاهييي: 631 هنري دالماني: 399 هنري سيمون: 149 هنري كريا: 193، 244 هنري لوط: 418 هواري بومدين: 155 هيلين برملان: 468 (و) وردة: 381، 382، 526 ورش: 430 وريدة مداد: 146 ويليام فولكنر: 173، 657

_ (ي) ياسف سعدي: 147 ياسمينة: 659 يان: 389 Yann يحيى بوعزيز: 243، 283، 287، 288، 452، 573، 559 - 575 يحيى الخشاب: 640، 641، 642 يحيى حقي: 661 يحيى حميد الدين: 566 يحيى الضيف: 235 يوجين كورنو: 416: Corneau يوسف بن سماية: 69 يوسف عز الدين: 660 يوسف فرحي: 390 يوسف القويري: 484 يوسف وهبي: 329، 332، 333، 335، 337، 340، 341، 545، 586، 643، 644 يونس فرحات: 235 يونس كوش: 23

فهرس الأماكن

2 - فهرس الأماكن

_ (أ) أفريقيا الشمالية: 646، 656، 657، 664 آفلو: 148 أبو ظبي: 375 الاتحاد السوفياتي: 248، 265، 314 الأخضرية: 408 الدار البيضاء: 416 الأرجنتين: 239 الأردن: 461، 534، 536، 537، 583 أزفون: 48، 604 إسبانيا: 29، 265، 651 استكهولم: 232، 239، 324، 400، 410 إسرائيل: 581 إسطانبول: 430، 565 الإسكندرية: 286 إسكتلندا: 374 إشبيليا: 363، 365، 400، 406 الأصنام: 41، 359، 379 الأغواط: 41، 425 أكرا: 239 المارتنيك: 142، 599 ألمانيا: 43، 156، 410، 566 ألمانيا الشرقية: 248، 265 أمريكا: 143، 189، 318، 321، 322، 324، 419، 641، 650، 651، 656، 657 أندونيسيا: 53 الأوراس: 29، 529 إيران: 239 إيطاليا: 29، 43، 332، 347، 544، 643 إيغيل علي: 624 أوروبا: 638، 656 إيفيان: 96، 101، 106، 109، 114، 195، 226، 246، 435 (ب) باتنة: 36، 72، 462، 538، 556 باريس: 22، 23، 26، 95، 127، 152، 155، 156، 159، 177، 178، 186، 189، 190، 192، 198، 199، 203.

_ 210، 211، 228، 233، 234، 274، 294، 298، 300، 301، 307، 351، 359، 360، 376، 377، 379، 396، 397، 399، 400، 406، 408، 409، 410، 411، 433، 438، 482، 486، 529، 564، 593، 639، 648 باكستان: 23، 53، 59، 62، 92، 123، 254، 255، 329، 583، 637 باندونج: 253 بجاية: 51، 231، 232 بسكرة: 42، 380، 455، 470، 519، 522، 523، 524، 538، 522، 555، 606 بشار: 234 البرازيل: 239 براغ: 29، 239 برج الغدير: 532 برلين: 29، 236، 317، 388 البرواقية: 148، 349، 512 بروكسل: 374، 399، 614 بريطانيا: 324 بريكة: 375 بغداد: 61، 223، 239، 250، 265، 279، 291، 295، 309، 310، 430، 539، 583 بلجيكا: 101، 137، 408، 409 بلغاريا: 248 بلغراد: 239 البليدة: 32، 41، 143، 185، 379. 408، 514، 554، 609، 610 بماكو: 239 بنغازي: 222، 345 بني راثن: 27، 605 بني صاف: 413 بني ميزاب: 35، 45، 539 بني يسجن: 511 بني يعلى: 530 بني وغليس: 604 بودابست: 29 بوردو: 20، 301، 416 بورسعيد: 528 بوسعادة: 628 البوسنة: 346 بوغار: 349 بوفاريك: 539 بولندا: 137، 248، 322، 580، 590 بون: 156، 239 البويرة: 555 بوينان: 609 بيروت: 239، 244، 381، 536، 565، 567، 579، 588، 592 البيض: 425 بيكين: 239، 248

_ (ت) تابلاط: 609 تازمالت: 206 تافيلالت: 48 تامنفوست: 232 تاوريرت: 406 تبسة: 457 تركيا: 252، 565، 569 تشيكوسلوفاكيا: 235، 248 تطوان: 69، 212، 213، 220 تغرست: 605 تقرت: 15، 624 تماسين: 544، 549 تلمسان: 29، 49، 55، 154، 155، 160، 163، 166، 168، 171، 188، 206، 230، 231، 232، 237، 300، 304، 357، 406، 409، 443، 590، 655 توريرت ميمون: 176 تولوز: 301 توملكين: 604 تونس: 19، 33، 34، 35، 38، 37، 38، 39، 54، 60، 83، 85، 91، 93، 97، 108، 127، 122، 128، 129، 130، 131، 182، 189، 191، 199، 204، 208، 210، 212، 213، 216، 218، 222، 227، 229، 235، 239، 241، 242، 247، 248، 250، 251، 252، 253، 257، 265، 266، 267، 278، 280، 282، 283، 301، 311، 314، 319، 334، 337، 343، 346، 350، 355، 356، 365، 369، 375، 377، 379، 384، 389، 392، 416، 428، 431، 437، 441، 452، 457، 461، 470، 480، 483، 486، 502، 519، 523، 527، 539، 545، 573، 576، 586، 597، 598، 608، 622، 525، 629، 642، 662 تيارت: 377 تيبازة: 434 تيديكلت: 15 تيزي هييل: 181 تيزي وزو: 51، 177، 408 التيطري: 426، 428 تيقزيرت: 47، 604 (ج) جاكرتا: 376، 531 جانت: 15 جدة: 223، 239، 580، 584 جرجرة: 361 الجمهورية العربية المتحدة: 92، 290 جمورة: 470 جنيف: 20، 97، 239، 669 جيبوتي: 605 جيجل: 36

_ (ح) الحجاز: 43، 455، 469، 484، 486 605، 637 حلب: 519، 527 حيدرآباد: 254 (خ) خراطة: 376، 531 (د) دار السلام: 239 دمشق: 219، 221، 223، 235، 239، 255، 256، 276، 284، 289، 290، 291، 293، 295، 309، 381، 430، 448، 461، 516، 534، 536، 633 الدنمارك: 410 الدورة: 514 (ر) الرباط: 96، 98، 157، 178، 180، 188، 189، 213، 220، 226، 235، 239، 252، 279، 321، 345 الرمشي: 155 روسيا: 44 روما: 239، 396، 400، 400 رومانيا: 248 (س) الساقية الحمراء: 48 ساقية سيدي يوسف: 236، 389، 630 سبدو: 154، 443 السرسو: 148 سطيف: 31، 206، 530، 605، 628 السعودية: 20، 44، 59، 70، 588. 637، 662، 667، 668 سعيدة: 189 سكيكدة: 455، 464 السمندو: 172 السند: 154 السودان: 255، 437، 522، 588، 662 سوريا: 19، 59، 61، 123، 182، 219، 223، 251، 265، 284، 289، 310، 317، 323، 338، 356، 437، 490، 513، 519، 520، 526، 5، 27، 529، 534، 537، 588، 634، 637، 660، 668 سوسة: 630 سوق أهراس: 630 سويسرا: 19، 20، 82، 265، 274 سوف: 37، 608 سوقر: 148 السويد: 400 سيدي بلعباس: 30, 334، 409 سيق: 206

_ (ش) الشارقة: 430 شرشال: 185، 206، 207 الشريعة: 500 الشلف: 84 الشام: 637 (صلى الله عليه وسلم) صربيا: 346 الصين: 116، 230، 248، 267، 314، 489 (ط) الطاسيلي: 416، 418 طرابلس: 113، 115، 144، 203، 204، 222، 239، 248، 253، 279، 473، 484، 536، 537، 586 طليطلة: 365 طنجة: 220، 635 طوكيو: 245 طولقة: 34، 46 طهران: 632 (ع) العراثش: 635 العراق: 59، 61، 92، 251، 256، 284، 289، 290، 295، 296، 311، 365، 437، 637، 660 العلية: 544، 556 عمان: 223، 239، 279، 561، 583 عنابة: 230، 333، 335، 380 عين الحمام: 231 عين تيموشنت: 206 عين زعطوط: 552 عين الصفراء: 15 عين مليلة: 522، 550 (غ) غرداية: 15، 425 غرناطة: 363، 365، 400، 406 غرونوبل: 378 غريس: 477 غيليزان: 206، 607 (ف) فاس: 34 فزان: 130، 549 فلسطين: 20، 22، 87، 314، 318، 331، 382، 451، 517، 556، 581، 593، 660، 626 فنزويلا: 318 فيتنام: 166، 248، 489 فيينا: 249، 400 (ق) القاهرة: 23، 24، 43، 44، 54، 60، 61، 82، 114، 122، 125، 129.

_ 130، 131، 191، 203، 209، 211، 219، 221، 222، 227، 228، 235، 237، 238، 239، 244، 246، 248، 249، 251، 253، 255، 257، 267، 277، 279، 282، 289، 290، 291، 295، 296، 307، 308، 309، 310 323، 338، 369، 381، 400، 428 429، 430، 431، 456، 470، 507 513، 514، 525، 530، 536، 561 565، 567، 576، 578، 580، 586 588، 592، 597، 598، 599، 625 637، 638، 641 القدس الشريف: 526 القرارة: 429، 525، 539، 622 قرطبة: 363، 40 , 406 قسنطينة: 21، 22، 29، 34، 36، 50، 51، 52، 54، 55، 57، 71، 72، 171، 172، 182، 183، 201، 203، 237، 132 - 230، 264، 304، 333، 335، 357، 359، 393، 420، 421، 464، 478، 483، 485، 513، 519، 528، 531، 538، 554، 561، 581، 582، 591، 614، 608 قلعة بني حماد: 630 قمار: 37 قنزات: 127 القنطرة: 589 القنيطرة: 220 (ك) كامبالا: 239 كراتشي: 239، 254 كرواتيا: 346 كندا: 101، 320، 322 كوبا: 318 كوناكري: 239 الكويت: 59، 61، 221، 223، 255، 265، 285، 286، 289، 290، 294، 311، 514، 526، 581، 660 (ل) لاهور: 254 لبنان: 296، 339، 437، 637، 660، 662 لندن: 229، 239، 318، 643 لوزان: 294، 319 لوكسبورغ: 29، 419 ليانة: 552، 555 لبزيج: 386 ليبيا: 19، 92، 113، 249، 250، 251، 332، 346، 389، 437، 452، 531، 582، 605، 553، 637، 642، 660، 662 ليشانا: 553 ليل: 301 ليون: 127، 410، 590 (م) مالاقا: 365 متيجة: 185

_ المجر: 248 مداوروش: 483 مدريد: 252، 321، 346، 397، 406 المدية: 27، 349، 426، 397، 406 المدينة المنورة: 44، 580، 584، 605، 667 مراكش: 85، 178، 204، 280، 406، 520، 641، 642 مرسيليا: 69، 127، 485، 590، 629 مستغانم: 58، 206، 334، 347، 410 مسكيانة: 457 المسيلة: 552 المشرق العربي: 637، 642، 644، 661، 663، 667 مصر: 19، 20، 23، 41، 53، 59، 60، 61، 70، 88، 123، 203، 204، 223، 227، 241، 251، 265، 276، 280، 282، 284، 287، 289، 290، 294، 300، 329، 334، 337، 338، 340، 341، 356، 365، 429، 431، 437، 450، 462، 470، 517، 526، 531، 552، 566، 569، 581، 584، 585، 587، 637، 639، 640، 641، 642، 644، 645، 659، 660، 661. 662، 668 المعادي: 588 معسكر: 516، 51 المغرب: 33، 39، 70، 83، 91، 93، 96، 131، 176، 177، 180، 189، 199، 208، 210، 222، 241، 251، 265 .. 266، 276، 278، 282، 283 301، 314، 319، 365، 396، 416، 605، 629، 640، 655، 662 مغنية: 29، 58 المغير: 513، 515 مقدونيا: 346 مكة المكرمة: 585، 668 مكناس: 276 الملايو: 123 مليانة: 27 المهجر: 651 المنصورة: 485 موسكو: 182، 239، 248 مونبيلييه: 629، 630 مونتكارلو: 416، 189 ميزاب: 37، 51، 56 ميلانو: 655 (ن) الناظور: 220 نافارينو: 203 النمسا: 482 نوميا: 413 نيروبي: 239 نيودلهي: 182، 239 نيويورك: 239، 318، 321، 329، 396، 406

_ (هـ) الهامل: 46، 56 الهقار: 15، 418 هلسنكي: 410 الهند: 123، 135، 422 هولندا: 324 (و) وادي سوف: 434، 554، 654، 655 وادي الزناتي: 534 وارسو: 286، 589 وجدة: 160 الونزة: 388 وهران: 29، 34، 41، 50، 52، 71، 146، 206، 207، 231، 232، 237، 333، 335، 340، 350، 375، 410، 552، 607 (ي) اليمن: 92، 566، 637، 662 يوغسلافيا: 137، 236، 265، 323، 346، 514، 492 اليونان: 137

فهرس الكتب والمجلات والجرائد

3 - فهرس الكتب والمجلات والجرائد

_ (أ) الآداب: 168، 74، 440، و 045 481، 482، 483، 492، 527، 598، 659 الآسيوية، الإفريقية: 592 آفاق جزائرية: 595 آمال (ديوان): 188 أمال (مجلة): 491 الاتجاهات الحديثة للإسلام: 593 إتحاد الطلبة: 83 أحداث ومواقف: 147، 425 أدباء التحصيل: 621 أدباء من الجزائر: 664 أدب المقاومة الوطنية: 493 الأديب: 159، 447، 492 الإذاعة: 510 أذكريني يا جزائر: 516 الأرض والدم: 161، 182 الأرواح الشاغرة: 486 الأزمنة الحديثة: 136، 137، 189، 560 الاستجواب: 149، 150 الاستشراق الغربي ... 570 اسمع .. وسأناديك: 184 أشعار حرة: 188 الأشعة السبعة: 476، 486 أصول المدنية: 596 أطلس المعجزات: 513، 526 أطوار (ديوان): 534، 535 أغنيات نضالية: 515، 514 ألحان الفتوة: 422 ألحان من قلبي: 556 الإلهام: 510 ألوان: 521 ألوان من الجزائر: 521 الإلياذة: 161 إلياذة الجزائر: 511 أمريكا (رواية): 164 الأمير عبد القادر رائد الكفاح: 573 أناشيد للوطن: 491 أنت ليلاي: 526 أنشودة الجزائر الشهيدة: 189

_ الانطباع الأخير: 184 أنظروا .. أنظروا أطباءنا: 628 أوراق: 521 إيسبري: 174 (ب) بابل (مجلة): 464 بابا فكران: 161 الباتريوت: 202، 203 بان الصبح: 486 بحيرة الزيتون: 476، 483 البصائر: 22، 24، 27، 37، 61، 63، 65، 66، 68، 69، 70، 72، 164، 147، 154، 198، 207، 208، 209، 214، 297، 298، 302، 422، 432، 439، 442، 444، 447، 463، 478، 499، 522، 530، 536، 552، 553، 569، 582، 594، 597، 608، 621، 639، 645 البرق: 229 بريد الجزائر: 214 بلال (رواية): 329 البيت الكبير = الدار الكبيرة بيبلوغرافيا الجزائر: 493 بيروت (جريدة): 567، 568 (ت) تاريخ الأبجدية: 596 تاريخ ابن خلدون: 422 تاريخ الجزائر: 564، 573 تاريخ الجزائر الثقافي: 576 تاريخ الجزائر العام: 578 تاريخ الموسيقى العربية: 570 التبصرة في القراءات: 47 تحفة الزائر: 564، 572، 575 التراويح وأغاني الخيام: 537 تفسير المنار: 622 تقويم المنصور: 576 التلميذ (مجلة): 296 التلميذ والدرس: 184 تمهيد لدراسة الإسلام: 596 التهذيب: 206 تونس سوار: 358 (ث) الثبات: 554 الثريا: 329 الثقافة: 180، 527، 642 الثمرة الأولى: 35 الثمرة الثانية: 35 الثورة الجزائرية والقانون: 614، 619 ثورة الخيام: 422 الثورة في الأدب الجزائري: 491، 521 (ج) الجرح المتعفن: 152

_ الجريدة: 568 الجزائر (جريدة): 640، 403 الجزائر أولا: 210، 213، 644، 645 الجزائر الأمة والمجتمع: 561، 627 الجزائر بين الأمس واليوم: 486 الجزائر الثائرة: 559، 565، 567 الجزائر الجديدة: 199 الجزائر الجمهورية: 150، 158، 160، 199، 200 الجزائر الحرة: 199، 297، 563، 564 الجزائر - الصحراء: 159 الجزائر عبر الأجيال: 562 الجزائر العربية (جريدة): 203، 204. 439، 561 الجلادون: 149 جمر ورماد: 545 الجمهورية: 459 الجمهورية الجزائرية: 200، 214، 593، 643 جميلة: 660، 661 جون أفريك: 271، 272 (ح) الحاجز الأخير: 353 حرب الجزائر: 149 الحرف والضوء: 521 الحرية: 160، 214، 200 الحرية ومأساة التعبير: 184 الحريق: 160، 162، 164، 165 الحضور الإفريقي: 560، 628 حنبعل: 329، 576 الحوليات الأدبية: 413 حياة كفاح: 578 حياة محمد: 399 (خ) خواطر مجموعة: 67، 421 (د) الدار الكبيرة: 160، 162، 164، 168 دخان من قلبي: 476 دراسات في الأدب الجزائري .. : 492 دراسات في الشعر الجزائري: 471، 491 دراسات وتوجيهات إسلامية: 553 درر ابن بري: 47 الدفاع: 555 ديوان بوشامة: 532 ديوان محمد العيد: 491 (ذ) ذكرى الدكتور ابن شنب: 570 ذكريات المعتقلين: 147 ذو الفقار: 403 (ر) الرأي: 517

_ الربوة المنسية: 178، 177، 161 ربيعي الجريح: 521 رحلة الإبراهيمي: 582 رحلة إلى الشرق: 588 رحلة الباهي فضلاء: 582 رحلة التبسي: 583 رحلة رمضان: 589 رحلة العباس: 588 رحلة الغسيري: 579 رسائل من السجن: 624 الرسالة الجديدة: 642، 191 رسالة الغفران: 546 رسالة يوغرطة: 158 رصيف الأزهار: 184 الرصيف النائم: 477، 479 روحي لكم: 491 رياح الصحراء: 189 ريح الجنوب: 486 الرواية: 642 (ز) الزمن الأخضر: 431، 545 الزهرة: 38 الزهو: 38 الزيتونة: 480 (س) سالو بوبليك: 274 سأهبك غزالة: 184 السنة الخامسة للثورة .. : 143، 599 600 سوانح وارتسامات .. : 589 (ش) الشاب المسلم: 69، 198، 297، 593, 625 الشباب الجزائري: 218، 355 شخصيات من الأدب الجزائري: 491 شروط النهضة: 66، 592 الشعلة: 198، 456، 478 الشعب: 552، 590 شعراء الجزائر: 492، 494، 554، 555 الشعر الجزائري الحديث: 491 الشقاء في خطر: 184 شكاوى العربي (ديوان): 189 الشهاب: 160 (صلى الله عليه وسلم) صاحبة الوحي: 481 الصباح: 451، 452، 458، 482، 483, 488، 510 صحيح البخاري: 424 صحراؤنا: 627 صدى الجزائر: 214، 643 الصراع الاجتماعي: 214 صرخة قلب: 422، 480

_ صقر الصحراء: 575 صور من البطولة: 484 (ض) ضد التعذيب: 149 (ط) الطالب المنكوب: 67 الطرق الصاعدة: 182 الطليعة: 152، 217 طوق الحمامة: 363 (ظ) الظاهرة القرآنية: 592، 593 ظلال جزائرية: 486 ظلال وأصداء: 521 الظل الحارس: 161، 168 (ع) عارنا في الجزائر: 149 العالم العربي: 459 العامل الجزائري: 218 العدل عند جبهة التحرير: 614 العطش: 184، 185، 186 على الشاطئ الآخر: 478 العمل: 451 (غ) الغرق: 189 (ف) فارس العقيدة: 71، 158، 575 فتح الباري: 622 الفكر: 136، 137، 353، 451، 452، 458، 482، 510، 483، 598 فلسفة الثورة: 567 في البناء الجديد: 592 في مسالك الهجرة: 623 في المقهى: 164، 161، 476، 165 فرانس أوبسورفاتور: 649 (ق) القبس: 473 قرطاجة: 576 قافلة الأبطال: 660 (ك) الكاتب وقصص أخرى: 486 كتاب البربر: 422 كتاب الجزائر: 573 الكفاح السياسي والقومي: 534 كفاح المغرب العربي: 219، 527 الكهوف المضيئة: 556 (ل) لاكسيون: 307 لبيك: 592 لسان العرب: 422

_ لسان المقال: 631 اللهب المقدس: 491، 511، 512 لوموند: 154، 625 ليطنان في الجزائر: 149 ليكو دالجي: 332 الليترير فرنسيز: 168 ليل الاستعمار: 559، 614، 626، 627 ليكسبريس: 649 (م) مأساة جميلة: 658 المباحث: 136 المجاهد: 81، 82، 111، 114، 137، 141، 144، 152، 155، 156، 161، 167، 166، 194، 217، 211، 195، 224، 225، 226، 228، 240، 245، 248، 250، 256، 265، 274، 275، 300، 301، 304، 305، 313، 316، 324، 343، 350، 384، 387، 439، 450، 468، 488، 491، 492، 497، 600، 602، 611، 634، 636، 650، 651، 653، 658، 659، 660، 661 محاضرات في تاريخ الجزائر: 578 المجلة العربية: 229 المجلة الإفريقية: 159 مجلة البحر الأبيض المتوسط: 413 مجلة الشمس: 413 مجلة الفن: 413 مجلة الفن المصرية: 339 مجلة المرأة الجزائرية: 479 محمد العيد آل خليفة (كتاب): 432، 440 المدخل إلى معرفة الجزائر: 159 مدينة الجزائر ورساموها: 433 مذكرات الفن: 413 المرآة: 137، 564، 565 مرآة الجزائر: 565 المرصاد: 554 المساء: 567 المساء (مصر): 178، 161 المستعجلون: 185، 186 المسلمون: 583 المسلمون في جزيرة صقلية: 576 مصرع الطغاة: 355، 471 مع حمار الحكيم: 65، 68 معذبو الأرض: 142، 143، 144، 145، 599، 601 المعرفة: 522 المغرب العربي: 37، 200، 210، 214، 439، 644 المقاومة الجزائرية: 143، 210، 214، 261، 303، 439، 497، 500، 507، 603، 611 المنار: 17، 27، 29، 32، 39، 49، 60، 63، 65، 66، 68، 70، 71، 123، 125، 198، 199، 297، 328، 329.

_ 422، 431 .. 432، 447، 464، 468، 520، 572، 592، 640، 642، 644 المنار (لبنان): 567 المناظر: 347، 380 من ديلاكروا إلى رينوار: 433 منبر الشرق: 20 المنسج = النول المنهل: 454، 456 من وحي الثورة الجزائرية: 597، 598 من وراء القضبان: 534 من يوميات مدرسة حرة: 478 من يتذكر البحر؟: 161 موردا، الظمآن: 47 الموسوعة الاستعمارية والبحرية: 159 الموطآ: 424 المولد (رواية): 329، 570 المونيتور: 425 (ن) النجاح: 201، 215، 438، 447، 478 نجمة: 172، 343 نداء الدم: 517، 518 الندوة: 482 النصر: 183 النصر للجزائر: 513، 517، 527 نفوس ثائرة: 471، 476، 663 نماذج بشرية: 472، 441 نماذج من الشعر الجزائري: 491 النقد الجديد: 140، 192 النول: 160، 163، 165 نوم الرجل العادل: 177، 179 نهاية الأمس: 486 (د) الهدف: 517 هذه هي الجزائر: 576 همسات وصرخات: 545 هموم حضارية: 432 هنا الجزائر: 65، 67، 68، 159، 184، 201، 202، 228، 232، 233، 247، 253، 359، 360، 395، 397، 399، 402، 406، 413، 414، 422، 432، 439، 441، 444، 445، 449، 456، 466، 467، 481، 489، 496، 499، 540، 541، 544، 546، 549، 555، 570، 575، 594، 623، 624، 631، 633 هوية الإسلام: 593، 594 (و) وابل وطل: 554 واحة الهوى: 556 الوثائق الجزائرية: 64، 359 الوطن: 200، 396 الوفاق: 552

فهرس الجمعيات والروابط

4 - فهرس الجمعيات والروابط ...

_ (أ) الاتحاد الإسلامي للطلبة المغاربة: 34 إتحاد الشبيبة الديمقراطية الجزائرية: 29 إتحاد طلاب الأردن: 294 إتحاد طلبة أمريكا: 331 إتحاد الطلبة المسلمين الجزائريين: 108، 141، 156، 245، 257، 288، 292، 296، 298، 303، 308، 312، 315، 317، 319، 320، 322، 323، 324، 462 إتحاد طلبة العرب: 294 الاتحاد العام للطلبة: 625 الاتحاد العام: 94 إتحاد الطلبة الفرنسيين: 300، 301 إتحاد طلاب فلسطين: 294 إتحاد العمال: 218، 83 إتحاد الكتاب: 182، 521 إتحاد النساء الجزائريات: 83 أحباب البيان: 11، 75 الإخوان المسلمون: 11، 24، 43، 423، 285، 565، 567، 580، 582، 584، 588 الأمم المتحدة: 20، 88، 107، 236، 317، 632 (ب) برنامج طرابلس: 75، 104، 105، 109، 119، 118، 116، 114، 113، 112 (ت) التيار العربي الإسلامي: 642 (ج) الجامعة العربية: 20، 238، 246، 566، 578 جامعة الكشافة الإسلامية: 28 جبهة التحرير الوطني: 17، 44، 55، 71، 79، 82، 83، 84، 86، 93، 110، 113، 111، 133، 140، 143، 144، 153، 154، 156، 177، 195، 203، 209، 212، 213، 214، 216، 220.

_ 221، 223، 224، 226، 234، 236، 239، 240، 245، 251، 254، 257، 274، 277 .. 278، 283، 296، 300، 302، 305، 308، 311، 318، 321، 323، 334، 338، 346، 349، 375، 377، 378، 387، 396، 428، 471، 496، 514، 517، 533، 536، 539، 558، 561، 568، 574، 608، 614، 615، 619، 627، 629، 636 جبهة الدفاع عن الحرية: 23، 199، 566 جماعة عباد الرحمن: 568 جمعية العلماء المسلمين الجزائريين: 17، 16، 21، 23، 25، 28، 30، 35، 36، 39، 43، 54، 56، 57، 59، 60، 61، 63، 70، 72، 75، 83، 88، 91، 114، 122، 125، 126، 127، 131، 147، 148، 150، 152، 153، 188، 197، 198، 205، 208، 209، 260، 261، 263، 297، 299، 308، 326، 348، 456، 519، 538، 542، 553، 568، 576، 577، 589، 594، 612، 622، 637، 639، 644، 653 جمعية البعثة الزيتونية: 36، 60، 281 جمعية الرابطة القمارية: 37 جمعية الطلبة الجزائريين (تونس): 36، 39، 281 جمعية الطلبة الجزائريين (القرويين): 34 جمعية الطلبة الجزائريين (العاصمة): 280، 486، 574 جمعية الطلبة المسلمين الزيتونيين: 34 جمعية طلبة شمال إفريقيا المسلمين: 33، 40، 141 جمعية الشبان المسلمين: 438، 462 جمعية الطلبة المسلمين: 32 جمعية الكشافة الإسلامية: 83 جمعية الكشافة الإسلامية الجزائرية الحرة: 30 جمعية الطلبة المسلمين .. : 95، 154 جمعية المزهر القسنطيني: 41، 456، 478 جمعية الودادية الجزائرية الإسلامية: 37 جمعية الوفاق: 37 (ح) حركة الانتصار: 18، 23، 126، 127، 198، 199، 200، 203، 207، 338، 377 حزب الاستقلال: 82، 91 الحزب الإسلامي: 123 حزب الشعب الجزائري: 11، 16، 17، 23، 24، 34، 35، 36، 39، 58، 59، 75، 79، 109، 121، 122، 148، 198، 254، 260، 285، 338، 349، 377، 461، 486، 531، 533، 584، 598، 637

_ الحزب الشيوعي: 11، 16، 19، 84، 89، 140، 150، 158، 160، 200، 236، 214، 213، 299، 647، 653 حزب البيان: 11، 16، 23، 28، 75، 83، 126، 148، 200، 579، 593، 629، 638، 643 حزب الدستور: 82، 91 (ر) الرابطة الإسلامية: 123 رابطة الدعوة الإسلامية: 553 رابطة الطلبة الجزائريين: 284، 287 رابطة الطلبة الجزائريين في المشرق العربي: 289، 290، 307 رابطة المغرب العربي: 223، 283، 284 رابطة الطلبة الفلسطينيين: 287 رابطة القلم الجديد: 38 الرابطة القلمية: 70 (ش) شبيبة الكشافة الإسلامية: 27، 638 شباب الحركة الوطنية: 641 (ط) طلبة شمال إفريقيا المسلمين (باريس): 34 (ك) الكشافة الإسلامية: 27، 30، 31، 141، 638 (ل) لجنة التنسيق والتنفيذ: 91، 113، 130، 232، 211، 253، 309، 621 اللجنة الثورية للوحدة والعمل: 203 لجنة حقوق الإنسان: 319 لجنة الطلبة الجزائريين: 294 اللجنة المركزية: 18، 19 (م) مؤتمر آكرا: 243 المؤتمر الإسلامي: 75 مؤتمر الأطباء العرب: 623 مؤتمر باندونج: 87، 203، 323 مؤتمر البيرو: 324 مؤتمر تونس الطبي: 636 المؤتمر الثالث لإتحاد الطلبة (باريس): 307 مؤتمر الجزائر: 115 مؤتمر الخرجين العرب: 256، 576، 577 مؤتمر الدار البيضاء: 246 المؤتمر الرابع لإتحاد الطلبة: 108، 219، 160، 293، 311، 502، 625 المؤتمر الشعبي العربي: 256 مؤتمر الصومام: 83، 84، 88، 89، 90، 107، 112، 113، 211، 212، 252، 253، 294، 391، 438، 506، 605، 619، 618، 615، 621

_ مؤتمر القاهرة: 372 مؤتمر كتاب آسيا وإفريقيا: 245 مؤتمر الكتاب السود: 244 مؤتمر الكومنتيرن: 214 مؤتمر المغرب الطبي: 636 مؤتمر اليونيسكو: 433 مؤسسة روكفلر: 321 مؤسسة فورد: 320، 321 المجلس الجزائري: 16، 24، 43، 612، 629 المجلس العالمي للسلام: 330 مجلس العزابة: 622 مجلس عمي سعيد: 322 المجلس الوطني للثورة: 91، 109، 614، 216، 113 مكافحو الحرية: 84، 302، 629 مكتب جبهة التحرير: 285 مكتب جمعية العلماء (القاهرة): 285 مكتب المغرب العربي (القاهرة): 24، 566 منظمة الجيش السري: 422، 426، 558 المنظمة الخاصة: 18، 19 المنظمة العربية: 527 منظمة اليد الحمراء: 555 مهرجان الشباب العالمي: 286 (ن) نادي صالح باي: 478 النجم (شمال إفريقيا): 11، 75 (هـ) هيئة النواب: 11 (و) ودادية الجزائريين: 95 وكالة الأنباء الجزائرية: 111، 242 وكالة الأخبار الفرنسية: 101 (ي) اليونيسكو: 26، 62، 464

محتوى الكتاب

محتوى الكتاب

_ الفصل الأول عشية الثورة ...................... 11 الحالة الاقتصادية والإدارية والسياسية ........... 14 جمعية العلماء المسلمين ........................ 21 الحالة الاجتماعية .............................. 26 الكشافة الإسلامية والجمعيات ................... 27 الشؤون الإسلامية .............................. 42 الحالة الثقافية .................................. 51 التعليم ......................................... 51 بعثات جمعية العلماء ........................... 59 اللغة العربية .................................... 61 الفصل الثاني الثقافة في نصوص الثورة .......... 75 الثقافة في بيان أول نوفمبر ...................... 76 الثقافة في مؤتمر الصومام ....................... 83 الثقافة والحكومة المؤقتة ......................... 90 الثقافة في تقرير لجنة صبيح .................... 96 الثقافة في اتفاقيات إيفيان ....................... 101 الثقافة في نصوص الطلبة ...................... 107 هل للثورة إيديولوجيتها الخاصة؟ ................ 109

_ الثقافة في الإعلام الرسعي ......................................... 111 الثقافة في برنامج طرابلس ......................................... 113 الفصل الثالث الهوية الثقافية، الأدباء بالفرنسية ..................... 121 النظام التربوي والإسلام وتعليم التاريخ .............................. 123 أبعاد الهوية الثقافية ................................................ 126 ابن نبي عن رمضان عبان وفانون ................................. 131 اضطهاد المثقفين .................................................. 146 جريدة المجاهد والقومية العربية ..................................... 193 أدباء اللغة الفرنسية (ديب، ياسين، معمري، فرعون، جبار) .......... 157 الفصل الرابع الإعلام في الثورة ..................................... 197 الصحافة .......................................................... 197 صوت الجزائر الحرة المجاهدة ...................................... 219 أصوات الجزائر من الإذاعات العربية ............................... 221 الإعلام الفرنسي ................................................... 228 الإذاعة والتلفزيون .................................................. 232 تنظيم المكاتب الإعلامية للجبهة .................................... 237 الفريق الوطني لكرة القدم ............................................ 246 أعمال الوفد الخارجي للجبهة ........................................ 252 المسؤول السياسي .................................................. 257 الفصل الخامس التعليم والتنظيمات الطلابية ......................... 259 التعليم: إحصاءات متنوعة .......................................... 260 أنواع التعليم ........................................................ 261 أنشطة الطلبة في تونس والمغرب ................................... 276 الطلبة في المشرق العربي .......................................... 280

_ نشأة الاتحاد العام للطلبة المسلمين الجزائريين (لوجيما) ................ 296 إضراب الطلبة عام 1956 وملابساته ................................ 302 المؤتمر الرابع لإتحاد الطلبة ......................................... 311 المنح والبعثات ...................................................... 316 الفصل السادس المسرح والموسيقى والغناء ............................ 327 المسرح .............................................................. 328 المسرحيات .......................................................... 347 الموسيقى والغناء ..................................................... 356 آراء في الموسيقى .................................................... 357 حياة بعض الموسيقيين والمغنين ...................................... 374 الفصل السابع السينما والرسم والمكتبات والخطاطة والمتاحف .......... 383 السينما .............................................................. 383 الرسم والمعارض الفنية ............................................... 395 فنانون أوروبيون ..................................................... 412 رسوم الطاسيلي ...................................................... 416 المكتبات ............................................................ 419 الخطاطة ............................................................ 429 المتاحف ............................................................ 433 الفصل الثامن أنواع النثر ............................................ 437 المصادر ........................................................... 438 المقالة ............................................................. 441 مسألة الفصحى والعامية والفرنسية .................................. 449 بعض كتاب المقالة ................................................ 451 الخطابة ........................................................... 460

_ الترجمة .................................................... 463 القصة والرواية ............................................. 469 اضطهاد أدباء العربية ...................................... 489 الفصل التاسع الشعر ....................................... 491 المصادر ................................................... 491 حالة الشعر والشعراء ........................................ 494 الأناشيد .................................................... 497 الشعر الرومانسي ........................................... 540 الشعر المحايد .............................................. 546 الشعر الشعبي .............................................. 546 الشعر الثوري ............................................... 547 الشعر الإخواني والاجتماعي والإصلاحي ..................... 549 نماذج من الشعراء ........................................... 551 الفصل العاشر كتب وكتابات ................................ 557 الدراسات التاريخية .......................................... 559 الدراسات الفلسقية ........................................... 560 الرحلات .................................................... 579 الدراسات الإسلامية والاجتماعية والسياسية والقانونية .......... 603 الشؤون الإسلامية ........................................... 603 الطب والصحة العامة ....................................... 628 الفصل الحادي عشر مواقف وآراء ........................... 637 الحج والسياسة والشباب ..................................... 637 زيارة وفود عربية للجزائر .................................... 639 معهد فاروق ................................................ 639

_ استقبال فرقة يوشف وهبي ....................... 643 من مواقف المثقفين الفرنسيين إزاء الثورة .......... 645 الثورة في بعض المؤلفات الأوروبية ............... 651 جميلة بوحيرد في السينما والأدب ................. 657 الثورة في الشعر العربي .......................... 659 النقاد العرب والأدب الجزائري .................... 662 النقاد العرب ومسألة الأدب الجزائري ............. 664 مسألة اللغة العربية .............................. 666 رسائل ووثائق ................................... 667 الفهارس العامة 1 - فهرس الأشخاص .......................... 673 2 - فهرس الأماكن ............................. 696 3 - فهرس الكتب والمجلات والجرائد ............ 704 4 - فهرس الجمعيات والروابط .................. 711 5 - محتوى الكتاب ............................ 715

§1/1