تاريخ الأدب الأندلسي (عصر سيادة قرطبة)

إحسان عباس

تاريخ الأدب الأندلسي (عصر سيادة قرطبة)

تصدير هذه فترة من تاريخ الأدب الأندلسي لا يكاد الدارسون يقفون عندها حتى يتجاوزوها عابرين أحببت أن أطيل اللبث في دراستها وان أجلو بعض الغموض عن نواحيها لعلي أضع في أيدي قراء الأدب صورة منظمة لفترة هامة من فترات الأدب الأندلسي حقيقة بالدرس والعناية والتوضيح. وأنا موقن أن الخوض في كبريات المسائل لا يسلم من النقص ولا يبرأ من الخطأ، غير أني أرى انه لا بد للدارسين من أن يكتبوا في الموضوعات العامة مثلما يتوفرون على الموضوعات الدقيقة الخاصة، بل أني لأعتقد أن أخطائي قد تكون حافزا للتصحيح والتوجيه وبذلك تكون الفائدة المرجوة أكبر من الخطأ. على أني فيما حاولته لم أشأ أن أطلق العنان للأحكام الواهمة بل قيدت نفسي بالنصوص جهد المستطاع، وحكمت على ما بين يدي دون مغالاة، حسبما تسمح به المصادر المتيسرة. وقد أصبحت هذه المصادر تسمح بشيء من الحكم الصائب بعد ان أبرزت من مكامنها ونشرت على الناس، لما تلقاه المكتبة الأندلسية اليوم من عناية الناشرين والمحققين سواء ببعث ما لم ينشر من قبل أو بإعادة نشر ما نشر منذ زمن بعيد. وقد كان إخراج طبقات الزبيدي والجذوة والمغرب؟ مثلا - خير معين على الكتابة في هذه الفترة، كما أن تقريب

المخطوطات للدارسين وجمعها في صعيد واحد بهمة معهد المخطوطات التابع للجامعة العربية يسر للدارسين فرصا لم تكن متيسرة من قبل وذلل لهم عقبات لم يكن تذليلها سهلا عليهم. وسيجد القارئ أني صدرت هذا الكتاب بمقدمة تاريخية عرضت فيها لبعض الحقائق التي يجب ان يلم بها من يقرأ الأدب الأندلسي، دون أن أوغل في النواحي التاريخية فهي متشعبة مستقصاة في المصادر. ثم حاولت أن أصور كيف نشأ الشعر الأندلسي في حضن ثلاثة أبعاد: مجالس المؤدبين ومجالس الغناء والبيئة الثقافية، وكيف اتجه الشعر في تيارين: طريقة العرب وطريقة المحدثين، وكيف تضاءلت الطريقة الأولى إلى جانب الثانية، ووقفت عند تبلور الشخصية من الداخل برغم ذلك الاتجاه الشديد نحو المشرق، ورسمت ظلالا صغيرة لتطور الشعر حتى قيام الفتنة البربرية ثم صورة ذلك الشعر في مظاهره الكبرى وفي تقليد الشعر المشرقي المحدث. ثم ميزت بعض طبقات الشعراء حسب الزمن، وترجمت لبعضهم مستقصيا حيث أسعفت المصادر على الاستقصاء، واستكثرت أحيانا من حشد الأمثلة الشعرية، دون تحليل، لكي أقرب هذه الأمثلة على القارئ وهي متناثرة متباعدة في المصادر، ولكي لا أستقل في الحكم على شيء لا يملك القارئ شواهده، وهو صنيع ما كنت لألجأ إليه لو توفرت لدينا دواوين أولئك الشعراء. وبعد ذلك تعرضت لدراسة الفتنة البربرية وأثرها في الأدب وتوزيع الثقافة ونشأة فن التراجم الذاتية وتقوية حركة النقد وترجمت للشعراء الذين تأثروا بها، ثم عقدت فصلا تحدثت فيه عن الكتابة في الأندلس، وهو فصل موجز، لان صورة الكتابة لم تتضح تماما إلا في العصر التالي. وألحقت بهذه الدراسة ملحقات ثلاثة تتصل بها اتصالا وثيقا وهي: (1) مجموعة من شعر الغزال لم تنشر من قبل (2) رسالة ابن حزم فيفضل الأندلس (3) قطعة من ديوان ابن حزم لم تنشر من قبل.

وإني لأحس أحياناً أن لابن حزم صورة طاغية على جنبات هذا الكتاب، وهذا أمر طبيعي قي رأيي وأنا أؤرخ هذا العصر لان ابن حزم قد أرخ هذا العصر نفسه على نحو موجز متقطع حين كتب في تاريخ أمرائه وعلمائه ومؤلفاته وأنساب أهله، وهو علم أندلسي لا يستطيع الدارس أن يغفله أو يغفل أحكامه، وهو حجة عند الأندلسيين في الخبر، وهو إلى ذلك كله صورة الأندلس نفسها حين أرادت لذاتها شخصية مستقلة. ولما تحدثت بأمر الكتاب إلى بعض العارفين لقيت منهم تشجيعا كثيرا على المضي فيه وأنا أشكر لهم ثقتهم في وتفضلهم علي، وأخص بالذكر منهم أستاذي وصديقي: الدكتور حسين مؤنس والدكتور شوقي ضيف، فقد أبديا عطفا مخلصا على هذه الدراسة. أما أخي الدكتور محمد يوسف نجم فأني أعجز عن أن أقدر العون الذي يبذله حق قدره، حتى ليتضاءل في جانبه جهدي الأصيل ومن حق الصديق ألا تحجب صداقته وجه فضله، حفظه الله ورعاه. هذا ويطيب لي أن أقدم شكري الجزيل للأستاذ الدكتور صلاح الدين المنجد مدير معهد المخطوطات والأستاذ فؤاد السيد أمين المخطوطات بدار الكتب على مساعدتهما القيمة لي في تسهيل وصولي إلى ما أحتاجه من الأصول. وأني لأرجو أن يجد هذا الكتاب قبولا وان يمنحني ذلك الثقة التي تدفعني إلى تتبع أدوار الأدب الأندلسي بالتاريخ والنقد، ليكون هذا الكتاب حلقة أولى في سلسلة من عدة حلقات، والله الموفق. إحسان عباس جامعة الخرطوم؟ كانون الأول [ديسمبر] 1959

اسم الحاكم التاريخ الهجري التاريخ الميلادي عبد الرحمن الداخل 138 - 172 756 - 788 هشام بن عبد الرحمن 172 - 180 788 - 796 الحكم بن هشام 180 - 206 796 - 822 عبد الرحمن الثاني 206 - 238 822 - 852 محمد بن عبد الرحمن 238 - 273 852 - 886 المنذر بن محمد 273 - 275 886 - 888 عبد الله بن محمد 275 - 300 888 - 912 عبد الرحمن الناصر 300 - 350 912 - 961 الحكم المستنصر 350 - 360 961 - 976 هشام المؤيد 366 - 406 976 - 1009 اسم الحاجب التاريخ الميلادي التاريخ الهجري المنصور بن أبي عامر 392 - 977 - 1002 المظفر بن المنصور 392 - 399 1002 - 1088 عبد الرحمن شنجول 399 - 1008 - 1009 الفتنة البربرية ثم محاولات إرجاع الحكم الأموي 399 - 418

المقدمة

المقدمة يستغرق هذا الجزء الحديث عن الأدب الأندلسي، شعره ونثره، إبان سيادة قرطبة، حين كانت الأندلس ولاية تابعة لدمشق (92 - 138) ثم حين أصبحت دولة مستقلة عن خلافة المشرق يحكمها أمراء فخلفاء من بني أمية (138 - 399) . وفي عهد الخليفة هشام المؤيد أصبح صاحب السلطان الفعلي هو الحاجب، وذلك ما يسمى في التاريخ الأندلسي باسم " الدولة العامرية " ثم تكون الفتنة البربرية ومحاولات متكررة لاسترداد السادة الأموية؛ وكلها تبوء بالإخفاق ويقتسم الطامحون مدن الأندلس ويحكمونها باسم ملوك الطوائف وتضيع سيادة قرطبة بذهاب الخلافة الأموية. 1 - كان الفاتحون الأول الذين دخلوا الأندلس مع طارق ومغيث وموسى ابن نصير من البربر والعرب، وكان استيطانهم في البلاد قائما على استحسان ما يلائمهم من المناطق ولذلك آثر العرب البوادي والمفاوز (1) ، وقد اتخذوا زوجات لهم من أهل البلاد الذين يدعوهم العرب باسم " عجم الأندلس " فان قسما كبيرا منهم دخل الإسلام وهم الذين يدعون " المسالمة "، وقد

_ (1) النفح 1: 131.

نشأ الصراع أولاً بين العرب والبربر وبين اليمنية والمضرية من العرب أنفسهم، ثم دخل بلج بن بشر بن عياض القشيري الأندلسي وفي صحبته عشرة آلاف، ألفان من الموالي والباقي من بيوت العرب، ويسمى هؤلاء الطالعة الأولى من الشاميين، أما الطالعة الثانية فهي العدد وقد وصلت بصحبة أبي الخطار الكلبي. وقد أضاف هؤلاء الشاميون عنصرا جديدا إلى عناصر الخصومة في الأندلس، إذ اتحد ضدهم البلديون من العرب والبربر، وأخذوا يحاربونهم ويقولون: بلدنا يضيق بنا فاخرجوا عنا (1) ويبدو انهم يعنون ببلدهم مدينة قرطبة وحدها، لان أبا الخطار حين قدم الأندلس فرق الشاميين في الكور فأنزل أهل دمشق بالبيرة وأهل الأردن برية وأهل فلسطين بشذونة وأهل حمص بأشبيلية وأهل قنسرين بجيان وأهل مصر بباجة وقطيعا بتدمير، وكان إنزالهم على أموال أهل الذمة من العجم (2) ولعل هؤلاء هم الذين يسميهم ابن حزم: " الأجناد الستة "، في قوله في رسالة فضل الأندلس: " ومنها كتب مؤلفة في أصحاب المعاقل والأجناد الستة بالأندلس "، وهذه هي الأقسام التي أصبحت تسمى أيضا " كورا " (3) وأضيفت إليها غيرها من الكور، فاستعمال ابن حزم لكلمة الأجناد قد يشير إلى أن الكلمتين مترادفتان في معناهما. وهؤلاء الشاميون كونوا مع الأمويين عصبية واحدة، وقد تضم كلمة " الأمويين " في هذه القرينة من كان أمويا صليبية ومن كان من موالي الأمويين، ولهؤلاء الموالي مركز اجتماعي رفيع ومنهم بيوت مشهورة بالأندلس مثل بني أبي عبدة وبني شهيد وبني حدير وغيرهم، وقد نالوا مقام الحظوة عند أمراء بني أمية، ودونهم في المنزلة " الخلفاء " وهم فتيان القصر في العهد الأموي، وهم أول من تؤخذ منهم البيعة (4) وكان

_ (1) ابن القوطية: 17. (2) ابن القوطية: 19. (3) الإحاطة 1: 109. (4) النفح 1: 182.

الشاميون يسمون " السادة " ويرجع هذا التمييز إلى وضعهم في الجندية. إذ كان الواحد من الشاميين يرزق بعد انقضاء الغزاة عشرة دنانير ان كان من بيوتات العقد، فان لم يكن منها رزق خمسة دنانير، وللواء الغازي من الشاميين مائتا دينار، وللواء الغازي من البلديين مائة. ولم يكن الديوان والكتبة إلا من الشاميين وكانوا أحرارا من العشر، أما العرب البلديون فيؤدون العشر (1) . وبالإضافة إلى هذه العناصر من بلديين ومولدين ومسالمة وشاميين وأمويين كان هناك عنصران آخران من أهل الذمة هما: اليهود والنصارى الذين لم يسلموا، أما اليهود فقد وثق المسلمون عند الفتح وضمهم في كل بلد مفتوح مع حامية إسلامية، وقد تركوا لهم حرية العقيدة وحرية التنظيم الداخلي للجماعة اليهودية، وأما أهل الذمة من النصارى فقد ذكرنا كيف ان العرب الشاميين نزلوا على أموالهم، وكان لهم قضاتهم كما كان لهم مطران مركزه طليلة، وحفظ العرب لهم أديرتهم وأكثر كنائسهم، غير انه لم يطل بهم حتى استعربوا لسانا وزيا. وكان بعض رجالهم مثل أرطباس مقدما في عهد الولاة يستشيرونه في كثير من الأمور وقد ولاه عبد الرحمن القماسة أي جعله قومسا (2) وهو الذي نصح أبا الخطار بتفريق الشاميين على الكور. وعلى وجه الإجمال كان التسامح مع أهل الذمة هو الطابع العام للسياسة بالأندلس الا حين كان الذميون يوالون العناصر المعادية للحكم العربي. أما تملك الفاتحين للأرض في الأندلس فقد جرى على وجهتين: أ - اعتبر العرب ما فتحوه من الأرض غنيمة وهذا ما يدل عليه نص فريد لابن حزم في رسالة " التلخيص لوجوه التلخيص " حيث قال: " هذا مع ما لم نزل نسمعه سماع استفاضة موجب للعلم الضروري ان الأندلس لم تخمس وتقسم كما فعل رسول الله فيما فتح ولا استطيبت أنفس

_ (1) الإحاطة 1: 110. (2) ابن القوطية: 38.

المستفتحين وأقرت لجميع المسلمين كما فعل عمر رضي الله عنه فيما فتح، بل نفذ الحكم فيها بأن لكل يد ما أخذت. ووقعت فيها غلبة بعد غلبة البربر والأفارقة والمصريين فغلبوا على كثير من القرى دون قسمة ثم دخل الشاميون في طالعة بلج بن بشر بن عياض فأخرجوا أكثر العرب والبربر المعروفين بالبلديين عما كان بأيديهم " (1) . وهذا النص دقيق بعض الدقة في القول بعدم تخمس الارض، ولكنه غير دقيق فيما يتعلق بإخراج البلديين عن أرضهم، لأن أبا الخطار أنزل الشاميين على أموال أهل الذمة، إلا قلة منهم كانت قد سكنت مع البلديين ولم ترتحل من منازل استطابتها. ب - ثم اعتبرت بقية الأرض التي تؤخذ عنوة أرض صلح تؤدي عنها الجزية. وإلى ابن حزم نرجع مرة أخرى حين نريد ان نتصور توزيع القبائل العربية في الأندلس، حيث نثر المعلومات المتصلة بهذه المسألة في كتاب الجمهرة. ويتجلى من كلام ابن حزم شدة اختلاط القبائل في المدن الكبيرة أمثال قرطبة وأشبيلية، وانما نذكر ثبتا ببعض القبائل على سبيل التمثيل لا الإقصاء ليتصور القارئ صلة هذا التوزيع بالحياة الأندلسية عامة (2) : بنو صخر من غطفان بناحية قرمونة. بنو مرة بالبيرة ولهم بأشبيلية بيت واحد وهم بنو عوف بن مرة. بنو منذر بن الحارث من ثقيف بباجة. بنو سلول جماعة منهم بالموسطة من عمل لبلة. بنو نمير بالبراجلة. بنو قشير بجيان ومنهم بالبيرة عدد.

_ (1) رسائل ابن حزم الورقة: 250. (2) أخذت هذه الجريدة من موطن متفرقة في كتاب الجمهرة لابن حزم، ويمكن مقارنتها بما في نفح الطيب 1: 138.

بنو عقيل بمنتيشة وجيان ووادي آش. النمر بن قاسط بحصن وضاح من عمل ريه. عك في الجوف شمالي قرطبة. دوس بتدمير. بجيلة بجهة أربونة. خثعم بشذونة ومنهم بالبيرة قوم. همدان: بالبيرة. بنو الأشعر: بريه. طيء: ببسطة وتاجلة وغليار. عنس: بجهة قلعة يحصب. خولان: بقرطبة والبيرة. المعافر: ببلنسية وجيان ومنهم العامريون بقرطبة. جذام: بشذبونة والجزيرة وتدمير وأشبيلية. لخم: بشذبونة والجزيرة وأشبيلية ومنهم بنو عباد وبنو نمارة. ذو رعين: بالفحص المنسوب إليهم بريه. بنو هوازن: بالقريتين المذكورتين بهما بأشبيلية. بلي: شمال قرطبة. بنو عذرة: بدلاية وبجيان منهم، وبالثغر منهم بنو فوارتش ولهم عدد بسرقسطة. بنو قين: بريه عدد عظيم منهم. بنو خشين: بجيان واعمال البيرة ومنهم بلبلة عدد. وبين ابن حزم كذلك أهم بيوتات البربر ومنازلهم بالأندلس (1) وهم بالثغر اكثر من العرب كما ان بعض مواطنهم تكاد تكون مستقلة منعزلة عن مساكن القبائل العربية، ومنهم اسماء البيوت المشهورة التي سيكون

_ (1) الجمهرة: 463 وما بعدها.

لها دور في التاريخ الأندلسي بعد انقضاء الدولة الأموية مثل: بني رزين وبني ذي النون وبني مضا وبني عميرة ومنهم بنو الزجالي الذين تميزوا أيام الحكم الأموي وغيرهم (1) . 2 - وفي عهد الخلافة الأموية ظل ما نسميه " سيادة قرطبة " شيئا نسبيا، لان الحكام لم يستطيعوا ان يضبطوا جميع الجهات الأندلسية ولا انتهت بهم الحروب الخارجية إلى استقرار، ولذلك كانت تلك السيادة تنبسط حينا على رقعة واسعة ويتقلص ظلها حينا آخر. واذا كان عهد الولاة قد مضى في توسيع الحدود وفي الحروب القائمة على العصبيات فان عهد الدولة الأموية شغل كثيرا بتثبيت الحدود وبالقضاء على الفتن التي يثيرها الطامحون في الداخل. وقد جاء كثير من الثائرين من المولدين والمسالمة، كما تجددت العصبية بين العرب والمولدين. وفي أيام الأمير عبد الله كانت الأحوال تنذر بتفكك الأندلس إلى دويلات صغيرة، إذ نجم الثوار وذر قرن العصبية في كثير من النواحي. وقد بقيت قطعة من كتاب المقتبس لابن خاصة بحكم الأمير عبد الله تصور هذه الناحية من إسهاب (2) . فثار من المولدين عبد الرحمن بن الجليقي واتخذ بطليموس دار مملكته وكان يدعو لعصبية المولدين على العرب، واقتعد بكر بن يحيى بن بكر مدينة شنت مرية بكورة أشكونية يدعو بمثل دعوة ابن الجليقي وكان جده زدلف عجميا، وثار محمد من بني قسي المولدين أمراء الثغر وبلغ به الحال ان تملك طليطلة. وثار كذلك السرنباقي صاحب ابن الجليقي ونظيره في التمرد؛ وكان أشد الثوار شوكة عمر

_ (1) من شاء التوسيع في دراسة الحياة الاجتماعية في عصر الولاة فليراجع كتاب " فجر الأندلس " للدكتور حسين مؤنس، فهو المؤرخ الحجة في التاريخ الأندلسي. (2) أنظر ثبت المراجع.

ابن حفصون وهو أيضاً من المسالمة، هذا إلى ثوار آخرين من بيوتات البربر والعرب. واشتعلت الفتنة بين العرب والمولدين بكورة البيرة واجتمع العرب إلى زعامة سوار بن حمدون القيسي ثم إلى سعيد بن جودي من بعده، وترأس المولدين رجل يدعى " نابل " ونشبت بين العرب والمولدين ثورة أخرى بأشبيلية وهكذا حتى كان كل شيء ينذر بتصدع أمر الأندلس. ومن هنا نرى ان نواة الانقسام الذي تم بعد الفتنة البربرية كانت موجودة في تكوين الدولة نفسها. ولقد استطاع الناصر ان يحقق للدولة شيئا من النصر في الداخل والخارج، وان ينعم ابنه الحكم بثمرات السلم وينصرف إلى الاهتمام بالعلوم، ولكن ما كاد المنصور بن أبي عامر يقبض على زمام الأمور حتى صرف همه من جديد إلى تحقيق السيادة بالغزو المتواصل، ومشى ابنه المظفر في آثاره، ثم عاد الأمر ابان الفتنة إلى الفوضى واشرأبت الميول الانفصالية من جديد. هل كانت طبيعة التفكك ناشئة عن الخلل في الإدارة الأموية؟ هل كانت من كثرة الأعداء الخارجيين؟ هل نشأت عن عدم الانصهار بين الأجناس المتباينة في الداخل؟ هل للوضع الجغرافي أثر في كل ذلك؟ هذه وغيرها أسئلة من حق المؤرخ ان يجد الأجوبة عليها ولكن هذه المقدمة الصغيرة تضيق عنها. على أنا يجب ان ننصف هؤلاء الأمويين في أشخاصهم وفي مدى إخلاصهم غير المصطنع ليمثلوا دور الحكام المسؤولين، العارفين بحدود ما يجب عليهم نحو رعاياهم. فربما كانوا في جملتهم خير مثل للحكام الذين يعملون لخير الرعية دون أثره واستبداد، ويغلبون الجانب الديمقراطي على جانب الحكم المطلق، وينظرون إلى الأمور؟ في الأكثر - من خلال العدالة والتقوى أكثر من نظرهم إلى المصالح الذاتية، ويقدمون جانب الشورى على رأي الفرد. وإذا استثنينا الحكم الربضي الذي ساءت سيرته في نظر الأتقياء لأنه أوقع بأهل الربض حين ثاروا عليه، فإنا نجد المصادر

تفيض بالثناء على خصائص العدل في أولئك الحكام، فكانوا يتحررون أحوال الرعية ويجلسون للمظالم، ويقدسون حكم القضاء، ويحاربون في أنفسهم ما قد يجدونه من هوى جامح؟ كان عبد الرحمن الداخل على سيرة جميلة من العدل (1) وكان هشام ابنه حسن السيرة متحيزا للعدل (2) يحاول التشبه بعمر بن عبد العزيز في سياسته (3) . وكان يبعث إلى الكور قوما عدولا يسألون الناس عن سير العمال (4) . وكان الأمير محمد عظيم الأناة متنزها عن القبيح، يؤثر الحق وأهله ولا يسمع من باغ ولا يلتفت إلى قول زائغ، محبوبا في جميع البلدان مراقبا لمصالح الرعية. أما عبد الله فكان مقتصدا في ملبسه وشكله وجميع أحواله، مشيعا للصدقات، محبا للخير وأهله، كثير الصلاة دائم الخشوع، شديد الوطأة على أهل الظلم والجور، وقد خصص يوما في الأسبوع يقعد فيه على باب قصره للنظر الظلامات (5) . ومن خلال هذه الأوصاف لهؤلاء الأمراء وغيرهم، نستشف البساطة في تناول الأمور، وقلة الانغماس في نعيم الدنيا، أو إهمال أمور الرعية، وقد ظل الأمر كذلك على درجات متفاوتة حتى انقضى عهد الأمويين والعامريين بقرطبة. 3 - ومع تردد السيادة السياسية بين الامتداد والتقلص، كان هناك شيئان آخذان بالنمو المطرد، وهما مدينة قرطبة نفسها في عمرانها وأبهتها، والطابع الحضاري العام للبلاد الأندلسية. وقد ساعدت طبيعة الأندلس وكثرة خيراتها الزراعية والمعدنية ونشاط تجارتها على ذلك، كما ساعد

_ (1) الجذوة: 10. (2) الجذوة: 11. (3) النفح 1: 160. (4) ابن عذاري 2: 98. (5) ابن عذاري 2: 228 - 229.

عليه الاستمداد من المشرق في شؤون العلم والأدب والحضارة المادية. فكان التجار ينقلون مواد الحضارة المشرقية إلى الأندلس دون انقطاع. وفي أيام عبد الرحمن الثاني دخل الأندلس نفيس الوطاء وغرائب الأشياء من بغداد وغيرها. وعندما قتل محمد الأمين وانتهب ملكه سيق إلى الأندلس كل نفيس غريب وجوهر نفيس من متاعه (1) . وبقدوم زرياب دخلت الأندلس الموسيقى والأغاني المشرقية كما دخلها كثير من صور الحضارة وتقاليدها والتقت هذه الحضارة مع الثراء ورخص الأسعار والشغف بالعمران فأصبحت قرطبة في هذا العصر تنافس المشرق في روعة عمرانها وفي طمأنينة الحياة في ربوعها، وبلغت الأوج في الاتساع والتحضير أيام عبد الرحمن وابنه الحكم حتى قال ابن حوقل حين زارها في خلافة الناصر (337) : " وهي أعظم مدينة بالأندلس، وليس بجميع المغرب لها عندي شبه ولا بالجزيرة والشام ومصر ما يدانيها في كثرة أهل وسعة رقعة وفسحة أسواق ونظافة محال وعمارة مساجد وكثرة حمامات وفنادق " (2) . واشتهرت بمسجدها الجامع، وبساتينها الكثيرة، وكان لها من الأرباض واحد وعشرون. كما عرفت بكثرة علمائها ومكتباتها ورغبة أهلها في العلوم واقتناء الكتب، وهي بهذا تتميز على سائر المدن الأندلسية. وأخذت الموجة الحضارية تمتد إلى نواحي الأندلس، ومع أن اكثر المدن الأندلسية كان موجودا قبل دخول العرب، فان اكثر المدن قد اتسع بقدوم المهاجرين واخذ بحظ من الانتعاش الاقتصادي، وبنى المهاجرون بعض المدن كالمرية وغرناطة وكثيرا من القلاع، ولذلك فان دور هذه المدن في الناحية الأدبية كان أقل من دور قرطبة لأن موجة التفاعل الحضاري كانت تسير وئيدة، ولم تتسع بحيث تكون عامة، هذا إلى

_ (1) المغرب 1: 46. (2) ابن حوقل 1: 111.

انجذاب بعض الناس إلى قرطبة لأنها دار الخلافة. ولما زار ابن حوقل بلاد الأندلس ذكر ان بها غير ضيعة فيها الألوف من الناس لم تمدن، وهم على دين النصرانية، روم، وربما عصوا في بعض الأوقات ولجأ بعضهم إلى حصن، فطال جهادهم لأنهم في غاية العتو والتمرد (1) . ونشط المستوطنون في التعلق بالزراعة، وجلبوا إلى الأندلس أنواعا من المزروعات والفواكه المشرقية، ومع الزمن أصبحت بلاد الأندلس كأنها بستان واحد متصل، كثيرة المبنى والثمار؛ وإذا سافر المرء من مدينة إلى أخرى، سار ي مناطق عامرة مأهولة تتخللها قرى كثيرة نظيفة مبيضة الدور من الخارج، ولم يحتج المسافر أن يحمل معه زادا أو ماء وربما في اليوم الواحد على أربع مدائن كبيرة عدا القرى والحصون (2) . وهذا جعل المنتوجات المحلية والمستهلكات اليومية رخيصة الأسعار. ولولا سنوات من القحط والمجاعات لما شاب هذا الرخاء الأندلسي ما يعكره. وقد نوه ابن حوقل بالرخص والسعة والتملك الفاشي في الخاصة والعامة (3) . وأطنبت كتب الجغرافيا في تمييز كل بلد أندلسي بما فيه من الحاصلات النباتية والمعدنية والمصنوعات، وكلها يدل علة ما يفيض عن حاجة أهلها. 4 - والى جانب هذا النمو الحضاري في المجتمع كان هنالك مظهر آخذ بالتقلص، ذلك هو الروح العسكرية العربية. ولهذا سببان: الأول: محاولة الحاكمين أن يتخلصوا من العصبية التي كان يثيرها الجنس العربي على مر الزمن. وقد كانت تلك العصبية بين مضر ويمن في عهد الولاة (92 - 138)

_ (1) ابن حوقل: 1: 111. (2) النفح 1: 97 - 98. (3) ابن حوقل 1: 108.

من أسباب ضعف الحكم العربي حينئذ، فلما جاء عبد الرحمن الداخل، وقاومته اليمنية وأوقع بها، استوحش من العرب قاطبة، وعلم انهم على وغل وحقد، فانحرف عنهم إلى اتخاذ المماليك، واخذ يشتري الموالي من كل ناحية واستعان بالبربر، واستجلبهم من بر العدوة واستكثر منهم ومن العبيد حتى كون جيشا كبيرا (1) . ثم كان الحكم الربضي، فاستكثر أيضاً من الخدم والحشم حتى بلغ مماليكه خمسة آلاف، ثلاثة آلاف منهم فرسان يسمون " الخرس " لعجمتهم (2) . غير أن العصبية لم تمت، إذ كانت نواة الأجناد ما تزال قبلية، وكانت الحاجة ماسة إلى إيقاظ هذه العصبية لمقاومة ابن حفصون الذي كان يمثل الانتفاضة " العجمية " بالأندلس. وفي عهد الناصر والحكم الصقالبة، وأصبحوا الحرس الخاص للخليفة حتى إذا جاء المنصور نكبهم وقضى على نفوذهم. ولكنه من ناحية أخرى أراد أن يضعف العصبية العربية فجزأ القبائل وجعل في الهند الواحدة فرقا من كل قبيلة، فخفت الفتن القائمة على العصبية (3) . وأسقط المنصور زعماء العرب لئلا ينازعوه السلطة وجند البرابرة والمماليك واستكثر من العبيد وأسرى الحرب واستدعى البربر ورتب من هؤلاء جميعا جنده (4) . غير ان حكام الأندلس في محاولتهم القضاء على العصبية العربية أوجدوا عيوبا جديدة تسببت في القضاء على السيادة العامة في الأندلس وفي اشتعال الفتنة بين أجناس متنافرة من البرابرة والمولدين وبقايا العرب والأفريقيين السود والصقالبة، وعلى يد البربر جربت قرطبة في الفتنة. أما السبب الثاني الذي أدى إلى ضعف الروح العسكرية فهو طبيعة الاستقرار الزراعي وحاجة السكان إلى الابتعاد عن الحرب للانصراف

_ (1) النفح 2: 706. (2) المغرب 1: 39. (3) النفح 1ك 139. (4) النفح 1: 188.

إلى الأعمال العمرانية، بينما كان الحكام في الأندلس بحاجة إلى جيش قوي على قدم الاستعداد دائما، ولذلك ابتعد الأندلسيين عن الحرب، مما حدا بالخلفاء إلى اتخاذ جيش من العبيد والمرتزقة. 5 - وقبل ان تنمو قرطبة نموا بالغا في أيام عبد الرحمن الناصر ومن بعده كان المظهر الغالب على حياة المدن الأندلسية هو الطابع الريفي. ومن مظاهر هذه الحياة الريفية: البساطة والخشونة والطيبة وعدم التصنع في المعاملات بين الناس، والنبر بالألقاب من الجهد اليدوي والزراعي، وكان الكسب الحلال من الزراعة يجتذب إليه كثيرا من العلماء والأتقياء، ولذلك كثيرا ما نرى المحدثين والفقهاء في هذه الفترة يؤثرون حياة القرية، وكان من شأن الخلفاء ان يرسلوا في القرى من يستطلع أحوال الناس ويكشف عن أهل العلم والخير منهم، فإذا احتاجوا إلى رجل في بعض المناصب أرسلوا في طلبه (1) . فمثلا أرسل هشام ابن عبد الرحمن في طلب مصعب بن عمران أحد الفقهاء الأتقياء ليوليه القضاء فوجده الرسول في ضيعته يعين زوجته على عمل الوشائع وهي تنسج في منسج لها (2) . وكان محمد بن سلمة الذي أصبح قاضيا في قرطبة متنزها عن الناس ملتزما للبادية (3) . وكان طلاب الحديث إذا سمعوا بهذا النوع من العلماء رحلوا إليه في قريته ليسمعوا منه ويكتبوا عنه؟ كان احمد بن هشام القرطبي المحدث مستوطنا قرية اختبانة من عمل قبرة فكان طلاب الحديث أمثال ابن بشكوال والفرضي وابن المصعب يسافرون إليه لأخذ الحديث عنه (4) . وحكى أحدهم انه كان يختلف

_ (1) قضاة قرطبة: 39. (2) قضاة قرطبة: 43. (3) قضاة قرطبة: 139. (4) الصلة: 19.

مع أصحابه إلى إبراهيم بن محمد بن باز إلى المنية فيقرأون عليه وهو يزرع والقفيفة في ذراعه (1) . وكان بعض علماء اللغة كالهواري وخصيب يسكن الأرياف، ويرسل الخلفاء لهؤلاء المبتدين يسألونهم في اللغة أو في شيء من أمور العلم والدين (2) . 6 - وتميزت الحياة الاجتماعية في هذا المجتمع منذ البدء بالفهم الصحيح للمسؤولية الاقتصادية وتقدير الكسب في موازنة الدخل والخرج، على نحو قد يعده المشارقة بخلا. ولكن هذا الوعي الجيد قد حمى البيئة الأندلسية من الكدية، لسقوط الاتكال في نظرهم، كما أبعد عنهم الإغراق في التصوف الاتكالي أو استحداث الدويرات والتكايا. نعم أنشأ الحكم المستنصر دارا سماها دار الصدقة، ولكن يبدو ان التعرض للصدقات في الأندلس كان قاصرا على كل محتاج معذور. أما القادر على الكسب فكان يتجه إلى حرفة تكفيه وتعينه على الحياة. ولذلك انتعشت روح التعاون هنالك. وهذه هي الروح التي يمثلها ابن الكتاني أستاذ ابن حزم حين كان يقول لتلامذته: " ان من العجب من يبقى في هذا العالم دون معاونة لنوعه على مصلحة. أما يرى الحراث يحرث له، والطحان يطحن له، والنساج ينسج له، والخياط يخيط له، والجزار يجزر له، والبناء يبني له، وسائر الناس كل متول شغلا له فيه مصلحة به إليه ضرورة، أفما يستحي أن يكون عيالا على كل العالم، لا يعين هو أيضاً من المصلحة؟ " (3) . ويعلق ابن حزم على هذا بقوله: " ولقد صدق ولعمري أن في كلامه من الحكم لما يستثير الهمم الساكنة

_ (1) الصلة: 33. (2) الزبيدي: 281 والصلة: 34. (3) رسائل ابن حزم: 83.

إلى ما هيئت له، وأي كلام في نوع هذا أحسن من كلامه في تعاون الناس " (1) . ولذلك الأندلسيون يبعدون عن كثير من الأمور التي يصبغها المشارقة بلون مثالي. خذ مثلا حال المؤدب وأخذه للأجر المسمى " الحذقة " فقد كان المشارقة يختلفون حول أخذ الأجر على التعليم، أما في الأندلس فلم يقفوا عند المسألة، لأن المؤدب كان يرى ان التعليم وسيلة من وسائل العيش، يكفيه الاعتماد على بدوات الكرماء أو تقلبات الظروف (2) . 7 - وفي ظل هذا المجتمع كانت المرأة الأندلسية واسعة النفوذ بقسط كبير من الحرية. ولا تقل المرأة الأندلسية عن المشرقية في مدى النفوذ السياسي، فكانت " عجب " ذات سلطان واسع في أيام هشام ابن عبد الرحمن وظلت تسيطر كثيرا في أيام عبد الرحمن ابنه، وكان لطروب جارية عبد الرحمن ادلال كثيرة عليه ولكنا لا ندري مدى أثرها في الحياة السياسية. وقد نقم الناس على القاضي محمد بن زياد خضوعه لامرأته كفات (3) ، لا لأن هذا الخضوع كان مستهجنا في حد ذاته، بل لأن القاضي يجب ان يكون فوق هذا المستوى. وفي أيام عبد الرحمن الناصر كانت رسيس مقربة إليه حتى انه جعلها تخرج معه في موكبه وهي لبس قلنسوة وتتقلد سيفا، وشق قرطبة على هذه الحال حتى بلغ الزهراء (4) ولا ننس ما كان لصبح من النفوذ في أيام الحكم وفي عهد ابن أبي عامر.

_ (1) رسائل ابن حزم: 83. (2) الزبيدي: 278. (3) قضاة قرطبة: 91. (4) نقط العروس: 73 - 74.

وتولت المرأة المناصب أيضاً. فكانت لبنى كاتبة للخليفة الحكم بن عبد الرحمن وهي نحوية شاعرة بصيرة بالحساب عروضية خطاطة (1) . وكانت كزنة كاتبة الخليفة الناصر لدين الله حاذقة في الخط (2) . وشارك بعضهن في رواية الحديث فكانت غالبة بنت محمد المعلمة تروي الحديث، وكذلك كانت فاطمة، وشارك أخريات في الشعر: ومنهن عائشة بنت احمد بن محمد ابن قادم القرطبية وكانت تمدح ملوك زمانها وتخاطبهم بما يعرض لها من حاجاتها، وقد جمعت لنفسها مكتبة قيمة. وصفية بنت عبد الله الربي ومريم بنت أبي يعقوب الفيصولي، والغسانية الشاعرة التي كانت تمدح الملوك، وعارضت ابن دراج في إحدى قصائده حين مدحت خيران العامري (3) . ولعل هذه المكانة التي بلغتها المرأة هي التي نبهت الأندلسيين إلى التساؤل حول علاقة المرأة بالنبوة وأوقعت الجدل بين الفقهاء القرطبيين في هذه المسألة. وكان من اوائل الذين أثاروا القول في هذه المسألة محمد بن موهب القبر يجد أبي الوليد الباجي لأمه، في الأيام العامرية، فشنع الناس عليه في ذلك (4) . وقال ابن حزم في الإشارة إلى الجدل حول هذه المشكلة: " هذا فصل لا نعلمه حدث التنازع العظيم فيه إلا عندنا بقرطبة، وفي زماننا، فان طائفة ذهبت إلى إبطال كون النبوة بالنساء جملة، وبدعت من قال ذلك وذهبت طائفة إلى القول بأنه قد كانت في النساء نبوة وذهبت طائفة إلى التوقف في ذلك " (5) . وقد أبى ابن حزم نفسه أن يقبل إطلاق الحديث القائل بنقص الدين والعقل في المرأة، في كل الأحوال، وقصره على نقصان حظها في الشهادة وعند الحيض (6) " إذ

_ (1) الصلة: 653. (2) الصلة: 653. (3) الصلة " 653 - 658، والجذوة: 388، وما بعدها. (4) الجذوة: 85. (5) الفصل 5: 17. (6) الفصل 4: 131.

بالضرورة ندري ان في النساء من هن أفضل من كثير من الرجال وأتم دينا وعقلا غير الوجوه التي ذكر النبي (ص) " (1) . 8 - إن كثيرا مما تقدم يمنح المجتمع الأندلسي لونا قد يكون فارقا إلى حد ما، ويقربنا كثيرا من الشعور بالتسامح إزاء الحياة ومظاهر النمو الحضاري ولكنا ما نكاد نقترب من الدائرة المذهبية والعلمية حتى نصطدم بروح بالغة من التشدد والتزمت؛ لقد دخلت المذاهب إلى الأندلس ثم اندحرت أمام مذهب مالك، فكان أهل الأندلس على مذهب الاوزاعي قبل دخول بني أمية (2) ، ويقال ان الذي ادخله هو صعصعة بن سلام (- 292) وكان زهير بن مالك البلوي فقيها على مذهب الاوزاعي حتى حين اخذ الناس يتحولون عنه (3) . ثم غلب مذهب مالك مع الزمن لسببين ذكر أحدهما ابن حزم وذكر الثاني ابن خلدون. أما ابن حزم فيقول: مذهبان انتشرا في بدء أمرهما بالرياسة والسلطان مذهب أبي حنيفة؟ ومذهب مالك عندنا بالأندلس فان يحيى بن يحيى كان مكينا عند السلطان مقبول القول في القضاة وكان لا يلي قاض في أقطار الأندلس إلا بمشورته واختياره ولا يشير إلا بأصحابه ومن كان على مذهبه والناس سراع إلى الدنيا (4) ، ويقول ابن خلدون: أن البداوة كانت غالبة على أهل المغرب والأندلس ولم يكونوا يعانون الحضارة التي لأهل العراق فكانوا إلى أهل الحجاز أميل لمناسبة البداوة (5) . ومن الصعب ان نحدد من هو أول من أدخل مذهب مالك إلى الأندلس، فمن قائل انه زياد

_ (1) الفصل 4: 132. (2) ابن الفرضي 1: 181. (3) المصدر نفسه. (4) النفح 1: 332. (5) المقدمة: 449 (ط. المكتبة التجارية بمصر) .

ابن عبد الرحمن المعروف بشبطون لأنه أول من أدخل الموطأ إلى بلده (1) ومن قائل ان الغازي بن قيس دخل الأندلس بالموطأ في أيام عبد الرحمن (2) وفي ذلك الزمان رحل جماعة من أمثال شبطون كقرعوس بن العباس وعيس بن دينار وسعيد بن أبي هند وغيرهم ممن رحل إلى الحج في أيام هشام ابن عبد الرحمن فلما رجعوا وصفوا من فضل مالك وسعة علمه وجلالة قدره ما عظم به صيته بالأندلس فانتشر فيها رأيه وعلمه (3) . وانتشر الفقهاء ببلاد الأندلس على مذهب مالك وكان بالبيرة سبعة سمعوا كلهم من سحنون في زمان واحد (4) ، وأصبح الفقهاء يدورون حول المدونة وكتاب آخر ألفه العتبي الأندلسي ويسمى العتبية أو " المستخرجة "، وضاقت الدائرة فأصبحوا يكرهون الحديث مع أن الحديث أصل في مذهب أستاذهم إلا أنهم شغلوا بالتفريعات والرأي، وكان أكثرهم لا يتجاوز رأي مالك وابن القاسم أو أشهب، وأخذ بعضهم يتنقصون أهل الحديث. وبمثل بقي مخلد التحول إلى الحديث حينئذ فقد ملأ الأندلس حديثا ورواية وانفرد بإدخال مصنف ابن أبي شيبة وكتاب الفقه للشافعي وغير ذلك فأنكر عليه أصحابه الأندلسيون ما أدخله من كتاب الاختلاف وغرائب الحديث وأغروا السلطان به. غير أن السلطان أيده في موقفه، ومن روايته انتشر الحديث بالأندلس. ثم تلاه ابن وضاح فصارت الأندلس دار حديث وإسناد (5) ونشأ بها حفاظ مقدمون منهم خالد بن سعد القرطبي الذي كان المستنصر يقول فيه إذا فاخرنا أهل المشرق بيحيى بن معين فاخرناهم بخالد بن سعد (6) .

_ (1) النفح 1: 349 (2) ابن القوطية: 34 (3) النفح 1: 350 (4) ابن الفرضي 1: 139 (5) ابن الفرضي 1 108، 109 (6) ابن الفرضي 1: 154 - 155

وتمذهب بعض الأندلسيين بمذهب الشافعي وبعضهم بمذهب داود الظاهري، وجاء المذهب الخارجي مع بعض المهاجرين من أفريقية وكان النكارية هم الغالبين على خوارج الأندلس (1) وعرف الاعتزال ومن أوائل القائلين به احمد بن موسى بن حدير السكة الذي كان يقول: ان الله عاقل (2) ، وكان ابن مسرة يخلط مذهبه بآراء المعتزلة ويقول بالقدر، كما كان منذر بن سعيد يتهم بالميل إلى هذا المذهب، وكان حكم ابنه رأس المعتزلة بالأندلس وكبيرهم وأستاذهم ومتكلمهم وناسكهم (3) . وقد واجه فقهاء الأندلس هذا المذهب باستنكار شديد ولما مات خليل بن عبد الله بن كليب وكان مشهورا بالقدر لا يتيسر به أتى أبو مروان بن عيسى وجماعة من الفقهاء واخرجوا كتبه وأحرقت بالنار الا ما كان فيها من كتب المسائل (4) . وكذلك كان منهم من اتبع المذهب الأشعري ومن زعماء هذا المذهب أبو الوليد الباجي الذي ناظر ابن حزم؟ كل هذه المذاهب لم تكن تنافس مذهب مالك حتى قام ابن حزم يناوئ المذاهب جميعا وينشر بالظاهر. غير ان الأندلسيين من وجهة عامة كانوا يعادون كل جديد عليهم حتى انهم ثاروا على بقي بن مخلد؟ كما تقدم - ونسبوه إلى البدعة ورموه بالإلحاد والزندقه وخاطبوا الأمير محمدا في شأنه، واضطر بقي إلى أن يتيسر خوفا على دمه (5) . ووسم الفقهاء الأندلسيون كل من درس الفلسفة والمنطق وكتاب المجسطي بالزندقة وحرضوا عليه العامة. وتعقبوا أهل القدر من اتباع ابن مسرة واحرقوا كتبهم واستتابوهم وقد أراد ابن حزم؟ وهو الفقيه العالم - ان يحطم الحاجز القائم دون دراسة

_ (1) الفصل 4: 191. (2) الفصل 4: 202. (3) طوق الحمامة: 45. (4) ابن الفرضي 1: 165. (5) ابن عذاري 2: 163.

المنطق والفلسفة، فعرض نفسه لهجوم الخصوم، ولكن ابن حزم نفسه أدركه نوع من التدين جعله يقلل من قيمة كل علم لا يقرب المرء من الله تعالى وحث في رسالتيه " التوقيف على شارع النجاة " و " مراتب العلوم " على الانصراف لدراسة الشريعة. ولقي ابن حزم نفسه اضطهادا كثيرا أدى إلى حرق كتبه. ووقع الطلمنكي الفقيه في محنة أخرى (سنة 425) إذ شهد عليه خمسة عشر فقيها من فقهاء سرقسطة بانه حروري سفاك للدماء يرى وضع السيف على صالحي المسلمين ويعمل بخلاف السنة ولم ينقذه إلا القاضي ابن فرتون الذي أسقط الشهادات وقمع تلك الجماعة (1) . وكان الحسد بين رجال الدين من الأسباب التي تضيق الحرية العلمية. ومع الزمن تعدى الجدل أهل المذاهب الإسلامية وأصبح يقوم بين علماء المسلمين ورجال الدين من أهل الملل الأخرى. 9 - ولم تنشأ عند الأندلسيين مدارس خاصة بل ظل المسجد هو المكان المخصص للدراسة. فان لم يكن المسجد، فبيت الأستاذ نفسه. وقد حدثنا ابن بشكوال عن أستاذ كان يقصده الطلبة في داره وهم نيف على أربعين تلميذا، وانهم كانوا يدخلون داره في شهر نونبر ودجنبر وينير في مجلس قد فرش ببسط الصوف مبطنات والحيطان باللبود ووسائد الصوف، وفي وسط المجلس كانون في طول قامة الإنسان مملوءا فحما يأخذ دفئه كل من في المجلس، فإذا فرغ من تدريسهم قدم لهم الموائد عليها ثرائد بلحوم الخرفان بالزيت العذب أو ثرائد اللبن بالسمن أو الزبد (2) . وكان تدريس الفقه والحديث والعربية هو الشيء الغالب على جماهير المدرسين والمؤدبين، وهم في تدريسهم يعتمدون الكتاب المشرقي في الغالب،

_ (1) التكملة: 385. (2) الصلة 1: 41.

وكذلك هاجرت كتب المشارقة إلى الأندلس بكثرة، وكرت رحلة الأندلسيين إلى المشرق في طلب العلم وكان الواحد منهم يشرف بين بني قومه حين يروى عن شيوخ مصر وبغداد وغيرهما من بلدان المشرق. وكتاب ابن الفرضي والصلة والتكملة وما أشبهها معرض لهذه الهجرات الأندلسية على مر الزمن. كما ان فيها صورة لما كان يهاجر من الكتب إلى البلاد الأندلسية تباعا، وتستفيض هذه الناحية حتى نعز على الحصر، وتجد النشاط إلى جمع الكتب المصححة المحررة عاما بين المسلمين في اسبانية، ولم تكن قرطبة وحدها مركزا للمكتبات الكثيرة وان تميزت عما عداها في ذلك بل كانت تلك المكتبات في المدن الأخرى مثل طليطلة واشبيلية وفي القرى الصغيرة أيضاً. وقد ترك ابن خير في فهرسته أيضاً صورة أخرى للكتب التي هاجرت إلى الأندلس، ويحسن بنا هنا أن نشير إلى رسالة ابن حزم التي قارن فيها بين بعض المؤلفات الأندلسية والمشرقية في بعض الفنون، وكلها مما أطلع ووقع في يديه (1) . ولذلك وسمت الحياة الثقافية منذ البدء بالاعتماد على المشرق والتقليد لأهله. لأنه كان أرقى حضارة وأوسع ثقافة، واليه يلفت الأندلسيون في تجارتهم ويرونه منبع العلم والدين وموطن القداسة والحج. وقد تنمو روح المنافسة مع الزمن بين المشرق والمغرب ولكنها لن تستطيع ان تكفل استقلال الأندلس في شؤون الحضارة والأدب بل أنها ساعدت على توسيع دائرة التقليد. وقد حاول المستنصر ثم ابن حزم أن يرسما للأندلس حدودا ثقافية، وان يقفا بها على مستوى المشرق، ولكن تقديس الثقافة والأدب المشرقي ظل حادا ساطعا. ومن الخطأ الكبير ألا يخايلنا عند دراسة الأدب الأندلسي إلا هذا الاستقلال في الشخصية الأندلسية لأننا ندرس أدبا يستند إلى حضارة مشتركة في الشرق والغرب،

_ (1) انظر عن اهتمام الأندلسيين بالمكتبات مقالة للأستاذ خوليان رييرا بمجلة معهد المخطوطات المجلد 4 الجزء الأول والثاني.

فلو لم يكن التقليد مقصودا لكان التشابه أيضا محتوما. نعم كان الشعور " بالأندلسية " أو " المغربية " ينمو مع الايام، وكانت البيئة تعمق خصائصها في الخلق وطرق الحياة، وكان الاختلاط بأمم بعيدة يدعو إلى الابتعاد عن المشرق في الزي وروح الفروسية والعادات واللهجة والأمثال. ولكن التعبير؟ لكن صورة الأدب الذي ندرسه ظلت أوثق شيء صلة بالمشرق. وإذا كان من الخطأ ان نقف أبصارنا على صورة الاستقلال الذاتي في الشخصية الأندلسية، فمن الخطأ أيضاً ألا نرى في الإنتاج الأندلسي إلا صورة مشوهة من أدب المشارقة. وفي حلقات المؤدبين بدأت تتكون نواة ذلك الأدب فلننصرف إلى دراسته في دور التكوين.

فراغ

فصول في الشعر الأندلسي

فصول في الشعر الأندلسي 1 - نشأة الشعر وتطوره. 2 - الشعر الأندلسي في مظاهره الكبرى. 3 - الشعر الأندلسي والتقليد لشعر المحدثين المشارقة. 4 - طبقات الشعراء.

فراغ

1 - نشأة الشعر الأندلسي وتطوره في معرض الحديث عن فضل الأندلس في الشعر بين سائر المظاهر الأدبية والثقافية قال ابن حزم يذكر أقدم شعراء الأندلس: " ونحن إذا ذكرنا أبا الأجرب جعونة بن الصمة الكلابي في الشعر لم نباه به الا جيرا والفرزدق لكونه في عصرهما، ولو أنصف لاستشهد بشعره فهو جار على مذهب الأوائل لا على طريقة المحدثين " (1) . وجعونة هذا الذي ذكره كان من العرب الطارئين على الأندلس، مداحا للصميل وزير يوسف بن عبد الرحمن الفهري في عهد الولاة، وكان فارسا شجاعا يسمونه عنترة الأندلس، ولم يبق من شعره إلا أبيات يسيرة لا تدل على هذا الذي قاله ابن حزم، محاولا في كلمته أن يجعل للشعر الأندلسي موروثا أندلسيا قديما، في موضع المباهاة، وهو من أعرف الناس بقيمة الموروث ومن أكثرهم تعلقا به. وتتبقى أمامنا، بعد ذلك، حقيقة هامة في نشأة الشعر الأندلسي، وفي النماذج التي احتذاها، والمجالات التي

_ (1) النفح 2: 775 وانظر في ترجمة جعونة هذا، جذوة المقتبس: 177 والمغرب 1: 131 ورسالة ابن حزم في فضل الأندلس.

كان يرودها، وهي انه يتكون حين كان الشعر المشرقي يشهد تجديد بشار وأبي نواس، ويقف على مفترق الطريق بين مذهبي أبي تمام والبحتري، ولما كان سكان الأندلس يلتفتون في كل شيء إلى المشرق، فقد اتخذوا من شعر المشارقة المحدثين مثالا يقلدونه، ونورا يهتدون به، أي انهم جعلوا المحدث؟ لا شعر العرب الأوائل - موروثا لهم ينسجون على منواله، ويستوحون ما فيه، وهذه الحقيقة كفيلة بتفسير جانب كبير من مظاهر الشعر الأندلسي في هذا الدور. المؤدبون؟ أثرهم في نشأة الأدب والمقاييس النقدية وقد كان القائم بأمر هذا الشعر المحدث وتقريبه إلى دارسي الأدب طبقة من المؤدبين، ارتحل أكثرهم إلى المشرق، واعترف مما فيه من علم وأدب، وعاد يدرس في جامع قرطبة، وقرطبة يومئذ " دار القوم "، فإلى هؤلاء وإلى المهاجرين من طلاب الحاجات، والى تشجيع الحاكمين يومئذ، يعزى في إدخال ضروب الثقافة المشرقية بلاد الأندلس، من حديث وفقه ولغة وشعر وسير. وكان من أوائل الكتب اللغوية التي هاجرت بصحبتهم كتب الأصمعي والكسائي والفراء والرياشي وأبي حاتم وابن الأعرابي وكتابا الفرش والمثال في العروض للخليل بن احمد وكتاب يعقوب بن السكيت في إصلاح المنطق ومؤلفات ابن قتيبة وأبي عبيد القاسم بن سلام، كما كان النحوي وابن قاسم أول من ادخلا كتاب العين للخليل (1) أما في الشعر فان محمد بن عبد الله الغازي (- 269) جلب الأشعار المشروحات كلها (2) ، وهاجر عباس بن ناصح لما سمع بنجوم أبي نواس، وروى شعره (3) . ويجب ان ننوه هنا بمقدار ما أحرزه شعر

_ (1) راجع في هذا صفحات مختلفة من طبقات الزبيدي: 275 - 331 وابن الفرضي 1: 74، 393، 403، 407، 2: 31. (2) طبقات الزبيدي: 289 وابن الفرضي 2: 24. (3) طبقات الزبيدي: 284 - 285.

أبي تمام من قبول في البيئة الأندلسية، فقد توفر على نقله اثنان من المؤدبين هاجرا إلى المشرق وروياه عن صاحبه واقرءاه بالأندلس وهما عثمان ابن المثنى النحوي (1) ، ومؤمن بن سعيد (2) وللأول منهما قصة طريفة: فيقال انه اجتمع مع أبي تمام في مركب ببحر القزم فأنشده أبو تمام شعره الذي يقول فيه: الله أكبر جاء اكبر من مشى ... فتعثرت في كنهه الأوهام وكان هذا البيت مبتدأ الشعر فقال له ابن المثنى: شعر حسن لولا انه لا ابتداء له فوقذت في نفس حبيب وابتدأ الشعر بقوله: دمن ألم بها فقال سلام ... كم حل عقدة صبره الإلمام ثم أنشده في اليوم الثاني بهذا الابتداء إلى تمامه، فقال له ابن المثنى: أنت أشعر الناس، فمعظم في نفس حبيب، ثن لقيه حبيب في انصرافه وحبيب قد عظم قدره وجل خطره فكان يؤثره ويعرف له فضله، وكان اول من ادخل شعره (3) وأقرأ أبو عبد الله الغابي ديوان أبي تمام وعنه أخذه أبو العباس الطبيخي (4) وهذا الثاني شرحه كما شرح شعر صريع الغواني (5) وأمر الخليفة عبد الرحمن الناصر بانتساخ شعر حبيب وجمع لذلك جماعة من أدباء الأندلس يومئذ، لتحقيق ذلك (6) ، وإزاء هذه العصبية لأبي تمام وجد أيضاً من يتعصب للبحتري ويدين بتفصيله. وهذا كله ينبئ عما كان للشعر من مقام بين عرب الأندلس، ولم يمض وقت طويل حتى كان الذوق الأندلسي قد ألف هذا النوع من الشعر، وجعله مقياسا للجودة، ولم يألف ما عداه كثيرا، واصبح

_ (1) طبقات الزبيدي: 288 وابن الفرضي 1ك 346. (2) المغرب 1: 132. (3) التكملة: 10 - 11. (4) طبقات الزبيدي: 315. (5) المصدر السابق: 329 وابن الفرضي 2: 159. (6) طبقات الزبيدي: 306 - 307.

المتأدبون هنالك يضعون خطأ فاصلا بين طريقتين في الشعر: طريقة العرب وطريقة المحدثين، فيقولون مثلا أن فلانا الشاعر كان اكثر أشعاره على مذاهب العرب (1) ، وكانوا هم أميل إلى تفضيل ما جرى على مثال الشعر المحدث، حتى أن الرياحي الشاعر (- 358) حين نظم قصيدة في الرثاء، وبناها على مذاهب العرب، وخرج فيها على مذاهب المحدثين، لم يرضها العامة ولم يجد من يعجب بها إلا أبا علي القالي (2) ومن يذهب في طريقته. فعلى أيدي هؤلاء المؤدبين تم، أذن، شيء من تبلور الذوق الأندلسي، بقبول ما يقبل ورفض ما يرفض، وفي مجالس تدريسهم تكونت نواة حركة نقدية ساذجة، فهم الذين كانوا يشرحون الشعر لطلبتهم ويتكلمون في معانيه ويقربونها ويضربون الأمثال فيها، ويتتبعون ما فيها من المآخذ اللغوية والنحوية، ومما يلفت النظر انهم كانوا يتدارسون شعر شعرائهم كما يتدارسون شعر المشارقة. فكان عباس بن ناصح، وهو أحد هؤلاء المؤدبين، ومذهبه في شعره مذهب العرب الأول ي أشعارهم، كما ورد قرطبة، جلس في جامعها يقرأ على الطلبة ما كان نظمه من شعر. ووفد مرة على قرطبة فجاء أدباؤها للأخذ عنه فمرت عليهم قصيدته: لعمرك ما البلوى بعار ولا العدم ... إذا المرء لم يعدم تقى الله والكرم حتى انتهى إلى قوله: تجاف عن الدنيا فما لمعجز ... ولا حازم إلا الذي خط بالقلم فاعترضه يحبى الغزال وقال: وما الذي يصنع مفعل مع فاعل. قال: فكيف تقول أنت، قال: تجاف عن الدنيا فليس لعاجز، فاستحسن عباس ذلك منه وقال " والله لقد طلبها عمك ليالي فما وجدها " (3) .

_ (1) طبقات الزبيدي: 331. (2) المصدر نفسه: 339. (3) المغرب 1: 324.

وأنكر على عباس أيضا في مجلس أحد النحويين أنه خفف ياء النسب في قوله (1) : يشهد بالإخلاص نوتيها ... لله فيها وهو نصراني فاحتج عباس على المنكرين، بقول عمران بن حطان: يوما يمان إذا لاقيت ذا يمن ... وان لقيت معديا فعدناني وكاد الذوق في هذه البيئة يجمع على ان الشعر إنما يتقدم غرابته وحسن معناه، وان من خير الشعر وصف أبي تمام للقلم (2) لما فيه من غرابة. على أننا يجب ألا نغلو في تقدير ما كان يحسنه هؤلاء المؤدبين، فانهم؟ في الأكثر - كانوا سطحيين حتى في ميدانهم من لغة ونحو، قال الزبيدي يصفهم: " وذلك ان المؤدبين إنما كانوا يعانون إقامة الصناعة في تلقين تلاميذهم العوامل وما شاكلها، وتقريب المعاني لهم في ذلك، ولم يأخذوا أنفسهم بعلم دقائق العربية وغوامضها، والاعتدال لمسائلها، ثم كانوا لا ينظرون في إمالة ولا إدغام ولا تصريف ولا ابنية " (3) ، وهذا كلام يصدق عليهم حتى منتصف القرن الرابع، على وجه التقريب. وقد ساعد بعض المهاجرين من غير الأندلسيين على ترسيخ اثر المحدثين في البيئة الأندلسية مثل إبراهيم بن سليمان الشامي الذي دخل الأندلس في أخريات أيام الحكم بن هشام، وكان قد أدرك بالمشرق كبار المحدثين كأبي العتاهية (4) ، ومثل أبي اليسر إبراهيم بن احمد الشيباني الذي لقي من الشعراء أبا تمام والبحتري ودعبلا وابن الجهم، وقدم الأندلس في إمارة محمد عبد الرحمن، وعنه رواية لشعر أبي تمام بالأندلس (5) .

_ (1) طبقات الزبيدي: 278 - 279. (2) المصدر السابق: 307 ووصفه للقلم من قصيدة يمدح بها ابن الزيات وأوله: لك القلم الأعلى الذي بشباته ... تصاب من الأمر الكلى والمفاصل (3) طبقات الزبيدي: 336 - 337. (4) النفح 2: 748. (5) المصدر السابق 2: 755 - 756.

الغناء ونشأة الأدب وكان الغناء من أكبر العوامل التي مكنت للنماذج المشرقية في البيئة الأندلسية، فان التفاعل بين الموسيقى والشعر ذو قدرة على توجيه الشعر وتحديد قوالبه، وقد كاد اعتماد الأندلس يكون كليا على التلاحين المشرقية، وكان أمراؤهم يؤمنون بتفوق الجواري المشرقيات في هذه الناحية، ويبذلون في استقدامهن الأموال الكثيرة فابتاع عبد الرحمن الداخل جارية تسمى العجفاء وكانت تغني بالمدينة عند أحد موالي بني زهرة، كما اشترى عبد الرحمن جاريتين مدنيتين أيضا هما فضل وعلم وأضاف إليهن جارية ثالثة بشكنسية اسمها قلم، وكان يؤثرهن لجودة غنائهن لجودة غنائهن ورقة أدبهن. واشترى. إبراهيم بن حجاج اللخمي صاحب اشبيلية جاريته قمر وكانت بغدادية ذات فصاحة وبيان ومعرفة بصوغ الألحان وهاجر في أيام الحكم بن هشام اثنان من مغني المشرق هما علون وزرقون (1) . ويروي ابن حزم عن أحد أساتذته أن رجلا من أهل المشرق دخل الأندلس فسكن قرطبة على شاطئ الوادي بالعيون وانه كانت لديه جارية مدنية طيبة الصوت، تقرأ القرآن وتغني وانه دعا قاضي المدينة حينئذ فأسمعه من قرائتها وغنائها (2) . ثم دخل زرياب الأندلس هو وأبناؤه وجواريه فعفى على آثار من سبه بتجديداته وبدعه في الغناء والآداب العامة. وكان زرياب تلميذا لاسحق الموصلي فأبعده حسد أستاذه له عن بغداد، فطلب حظ نفسه في بلاد بعيدة. وكاتب الحكم بن هشام بالقدوم عليه، فسر الحكم بذلك وأرسل لتلقيه مغنيا يهوديا كان عنده اسمه منصور ولكن الحكم توفي قبل ان يصل زرياب، ولم يكن خليفته عبد الرحمن بأقل ميلا منه إلى هذا المغني الجديد فحثه على القدوم، وأجرى عليه راتبا شهريا مقداره مائتا دينار، وجعل

_ (1) المصدر السابق: 753. (2) الجذوة: 41.

له وظيفة سنوية أخرى ورسما في كل عيد، وكان كلما غناه وأطربه وهبه مالا غير الذي فرضه له، وأقطعه أيضاً من الدور والمستغلات والضياع ما يقوم بأربعين ألف دينار. وزاد زرياب في أوتار عودة وترا خامسا، واختراع له مضرابا أتخذه من قوادم النسر معتاضا به من مرهف الخشب. وجعل للغناء مراسيم، فكل مغن لا بد ان يبدأ بالنشيد أول شدوه، بأي نقر كان، ويأتي إثره بالبسيط، ويختم بالمحركات والأهازيج؛ واخذ في تعليم الغناء واختبار صلاحية الأصوات، وتلقف أبناؤه وبناته وجواريه صناعته وأشاعوها في الأندلس، وكان ابنه عبد الله خير أبنائه صوتا، ويتلوه عبد الرحمن، أما قاسم فكان احذقهم غناء، وعلم جارية له تسمى منفعة احسن أغانيه ثم أهداها لعبد الرحمن بن الحكم، أما حمدونة ابنته فكانت محسنة لصناعتها متقدمة فيها على أختها علية. وممن خرجهن أيضاً مصابيح جارية الكاتب أبي حفص عمر بن قهليل (1) . وقد تعلم بعض رجال الأندلس أصول هذا الغناء المشرقي فكان عباس بن فرناس الشاعر مجيدا له، وكان لعقيل بن نصر الشاعر أغان يجري فيها مجرى الموصلي (2) . وألف اسلم بن احمد بن سعيد كتابا في أغاني زرياب (3) إذ أصبح لزرياب طرائق مخصوصة في هذا الفن يتناقلها الناس، وكان المطرف بن الأمير محمد عالما بالغناء وكان له أخوان آخران عارفين بالغناء جدا (4) . وتلقاه في هذه الفترة أيضاً شخصية الزامر، وهو رجل لا يستغنى عنه في الحفلات والأعراس، وقد كان من مشهوري الزامرين النكوري الذي كان يزمر لعبد الرحمن الناصر، ومن زيه ان يلبس قلنسوة وشي

_ (1) انظر ترجمة زرياب في النفح 2: 749 وما بعدها، ويجد القارئ ما استحدثه زرياب في الآداب العامة والأزياء هنالك مفصلا. (2) الجذوة: 304. (3) الجذوة: 137، 162. (4) الجمهرة: 91.

وثوبا من الخز، وموضعه من الناس في وسط الحفل (1) ومنهم ابن مقيم الزامر وكان طيب المجلس صاحب نوادر (2) ومن الطنبوريين زربوط الطنبوري الذي قتل هو وقنبوط الملهي في وقعة قنتيش (قنطيش) أيام فتنة البربر مع سليمان المستعين (3) ، وقد كان هؤلاء الزامرون ينغمون الألحان السائرة في أحداث مشهورة لأنها تجد إقبالاً من الجماهير، وفي تلاحين زرياب قد نجد الأساس الذي انبثق عنه الموشح من بعد، وفي التنغمات الشعبية التي يرددها الزامرون قد نجد أصول الأزجال. وقد وجد الغناء بالأندلس قبولا يكاد يكون شاملا ولم يتحرج فيه قوم، ومن العسير أن نثبت أن رجال الدين هنالك كانوا يكرهون الغناء، أو يشددون النكير على أهله، بل لعلهم كانوا في هذه الناحية أقرب الناس شبها بفقهاء أهل المدينة ونساكها، ومن الحكايات الدالة في هذا الباب قصة قاضي الجماعة محمد بن أبي عيسى وكان عند رجل من بني حدير وجارية للحديري تغنيهم هذه الأبيات: طابت بطيب لثاتك الأقداح ... وزهت بحمرة خدك التفاح وإذا الربيع تنسمت أرواحه ... طابت بطيب نسيمك الأرواح وإذا الحنادس ألبست ظلماءها ... فضياء وجهك في الدجى مصباح فكتب القاضي هذه الأبيات في يده، وخرج للصلاة على جنازة، والأبيات مكتوبة على باطن كفه (4) . وكان ابن عبد ربه؟ وهو ذو الديانة والصيانة - مارا ذات يوم ببعض الأحياء فسمع مصابيح تغني، فاستماله غناؤها ووقف تحت الروشن منصتا، ثم مال إلى بعض المساجد وأخذ لوحا لبعض الصبية وكتب عليه:

_ (1) الجذوة: 134. (2) الجذوة: 374. (3) الذخيرة 1/1: 31. (4) الجذوة: 70.

يا من يضن الطائر الغرد ... ما كنت أحسب هذا البخل من أحد لو أن أسماع أهل الأرض قاطبة ... أصغت إلى الصوت لم ينقص ولم يزد فلما قرأ سيدها الأبيات، خرج إليه مسرعا، وادخله بيته ورحب به (1) . ويصف لنا الإمام ابن حزم مجالس الغناء ويذكر الشعر الذي كان يغنى به ويصور شدة تأثره بما يسمع (2) . وكلفته حفنى العامرية إحدى كرائم المظفر عبد الملك بن أبي عامر صنع أبيات تلحنها، ففعل، وذكر ان لها فيها صنعة في طريقة النشيد والبسيط رائقة جدا (3) وتناول ابن حزم الغناء من الناحية الفقهية في رسالته " الغناء الملهي وهل هو مباح أو محظور "، ورد الأحاديث التي تقوم بحظرة جميعا (4) ، ألا أن هذا الميل ليس عاما فقد وجد بين الناس من ينكر هذا المذهب، ولما شاء ابن حيان ان يثلب أحد الفقهاء قال فيه: " من رجل مرخص في السماع، صب بإنشاد الأغاني الفاتنة " (5) فجعل ذلك بعض عيوبه. ومهما يكن من شيء فقد شاع الغناء في البلاد الأندلسية عامة، ولم يقتصر احتفال الناس به على قرطبة، بل لعل المدن الأخرى بذتها في هذا الشأن، وأحرزت اشبيلية بعد هذا العصر الذي نتحدث عنه قصب السبق في كثرة الإقبال على اللهو وآلات الضرب والغناء، حتى لقد قال فيها ابن رشد: " إذا مات عالم باشبيلية فأريد بيع كتبه حملت إلى قرطبة حتى تباع فيها، وان مات مطرب بقرطبة فأريد بيع آلاته حملت على اشبيلية " (6) وفي سنة 406 كان التجيبي شارح المختار من شعر بشار مريضا بمدينة مالقة فقال يصف حاله في تلك المدينة " وكنت إذا جنني

_ (1) الجذوة: 95. (2) طوق الحمامة: 31، 110. (3) طوق الحمامة: 114. (4) رسائل ابن حزم: 93 وما بعدها. (5) الذخيرة ½: 100. (6) النفح 1: 76.

الليل اشتد سهري وخفقت حولي أوتار العيدان والطنابير والمعازف من كل ناحية "، وقد اعجب بغناء جارية كانت تغني أبياتاً منها: ما بال أنجم هذا الليل حائرة ... أضلت القصد أم ليست على فلك عادت سواريه وقفا لا حراك لها ... كأنها جثث صرعى بمعترك فلما سأل عنها عرف إنها جارية بغدادية، من جواري المنصور بن أبي عامر، صارت إلى أحد الوزراء (1) . الحياة الثقافية والأدب وفي هذا الجو من الإيمان بالشعر المحدث، ومن القياس على الطرائق الغنائية المشرقية، كان الشعر لا يزال في حاجة إلى ثالث هذه الأبعاد، اعني إلى العمق الثقافي، لكي ينأى؟ ولو قليلا - عن روح التقليد وعن سطحية الغناء وخفقه. وقد قام أولو الأمر بتشجيع الثقافة وتقريب أصحابها من المقيمين والوافدين، وهيأوا الأسباب التي تكفل تقدمها ونماءها، فرعوا أمر الفقه واللغة والطب والتنجيم، وشجعوا المؤلفين على التأليف. فوجه الأمير عبد الرحمن إلى المشرق عباس بن ناصح الجزيري في التماس الكتب القديمة فجاءه بالسند هند وغيره منها، وهو أول من ادخلها الأندلس، وعرف أهلها بها ونظر هو فيها (2) . وفي وسط المائة الثالثة، أيام الأمير محمد ابنه تحرك أفراد من الناس إلى طلب العلوم ولم يوالوا يظهرون ظهورا غير شائع إلى أواسط المائة الرابعة (3) وممن اشتهر بطلب العلوم في هذه الفترة أبو عبيدة البلنسي المعروف بصاحب القبلة وكان فلكيا دارسا للجغرافيا وقد هاجمه ابن عبد ربه واتهمه بانه ينسب الرزق إلى الكواكب، وانه يقول بكروية الأرض وتخالف الفصول في نصفيها الجنوبي والشمالي. واهتم بالمنطق والحساب

_ (1) شرح المختار: 15 - 16. (2) المغرب 1: 45. (3) طبقات الأمم: 73.

محمد بن إسماعيل الملقب بالحكيم، صديق القلفاط الشاعر النحوي. إلا أن الأندلسيين ظلوا ينظرون في ريبة إلى من يشتغل بعلوم الفلسفة والمنطق والجدل، ولا يتقلبون من علوم الأوائل إلا الطب والحساب حتى مضت عدة سنوات من حكم الناصر، ونصب ابنه الحكم نفسه لتشجيع العلوم دون تفرقة. واليه يعود الفضل في ظهور نهضة علمية بالأندلس. النهضة الثقافية أيام الحكم كان الحكم شابا مثقفا واسع الاطلاع ذا لذة في شهود مجالس العلماء والسماع منهم والرواية عنهم سمع من قاسم بن اصبغ واحمد بن رحيم ومحمد بن عبد السلام الخشبي وزكريا بن خطاب اكثر عنه وأجاز له ثابت بن قاسم وكتب عن خلق كثير سوى هؤلاء، وكان نظارا في الكتب كثير التعليق عليها، وقلما تجد كتابا في خزانته إلا وفيه قراءاته وتعليقاته عليه، ويكتب فيه بخطه إما في أوله أو آخره أو في تضاعيفه نسب المؤلف ومولده ووفاته والتعريف به ويذكر انساب الرواة له ويأتي من ذلك بغرائب لا تكاد توجد إلا عنده لكثرة مطالعته وعنايته بهذا الفن وكان موثوقا به مأمونا عليه حتى صار كل ما كتبه حجة عند شيوخ أهل الأندلس وأئمتهم بنقلونه من خطه (1) . قال الحميدي في ترجمة ابن عبد ربه: " توفي أبو عمر احمد بن عبد ربه سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة [وعين اليوم والعمر بالسنوات والأشهر والأيام] ومدح الأمير محمدا والمنذر وعبد الله وعبد الرحمن الناصر، هذا آخر ما رأيت بخط الحكم المستنصر، وخطه حجة عند أهل العلم عندنا " (2) ، وذكر ابن الأبار انه اجتمع له جزء مفيد مما وجده بخطه وانه وجده يشتمل على فوائد جمة في أنواع شتى، وكان قد قيد كثيرا من انساب أهل

_ (1) الحلة السيراء، الورقة: 48. (2) الجذوة: 94.

بلده (1) ومن تقييداته أمثلة منقولة في طبقات الزبيدي والمرقبة العليا للنباهي وغيرهما (2) . وقد كانت خطة الحكم فيما يتأتى له من نهضة علمية، تمتد إلى أمور متشابكة منها إغراء العلماء بالقدوم إلى الأندلس أو التأليف من اجل خزائن الكتب الأندلسية، ونقل الكتب من الخارج، وتشجيع الثقافات المختلفة من أدبية ودينية وفلسفية، ودفع الملكات الأندلسية إلى جمع التراث الأندلسي، قبل ان يتطاول عليه الزمن ويتحيفه النسيان. فمن إغرائه للعلماء والأدباء ان قدم عليه كثير من المشارقة، تميز من بينهم أبو علي القالي اللغوي، ولا يستبعد ان يكون الحكم هو الذي كتب إليه ورغبه في الوفود عليه، فتلقاه مرحبا وبالغ في إكرامه، وهو يومئذ ولي عهد إذ كان قدوم القالي في خلافة الناصر سنة 330هـ، وظل على تعهده له وتشجيعه بعد ان أصبحت الخلافة إليه، وكان ينشطه بواسع العطاء ويشرح صدره بالإفراط في الإكرام (3) وباسمه طرز أبو علي كتاب الأمالي وهو المسمى بكتاب النوادر وقد رواه عنه جماعة من العلماء منهم الزبيدي وحكم بن منذر بن سعيد واحمد بن ابان بن سعيد والقزاز والقاضي ابن مغيث وغيرهم، وكان أبو علي يمليه على طلبته من بني ملول وغيرهم بالزهراء كل يوم خميس، ثم زاد فيه فجعله ستة عشر جزءا للعامة، ثم زاد فيه فبلغه عشرين جزءا للحكم المستنصر (4) . ولا ريب في ان قدوم القالي إلى الأندلس كلن يمثل نهضة في الدراسات اللغوية والأدبية وعنه تلقى الأندلسيين واتخذوه حجة، ولم يكن قبله لديهم إلا ابن القوطية وثابت وابنه قاسم والا الزبيدي وهذا الأخير على علمه، تتلمذ على القالي وأفاد

_ (1) الحلة، الورقة: 48. (2) انظر المرقبة: 65 وابن أبي أصيبعة 2: 42 وابن الفرضي 1: 151، 266، 367، 2: 14. (3) الجذوة: 156. (4) الفهرسة: 325.

منه علما جما. وأثر القالي في الأندلس بحاجة إلى دراسة مستقلة، ليس هذا مكانها، ولكن يكفي ان أشير هنا إلى كثرة ما هاجر معه من كتب إلى الأندلس، فيها من الدواوين عدد جم وبخاصة دواوين الجاهليين والأمويين والمجموعات الشعرية الهامة كالمفضليات وشعر الهذليين والنقائض فمهما أدخله من دواوين الشعر: شعر ذي الرمة، وعمرو بن قميئة والحطيئة وجميل وأبي النجم والنابغة الذبياني وعلقمة بن عبدة والشماخ والاعشى وعروة بن الورد والنابغة الجعدي والمغيرة بن حبناء وكثير عزة وأوس ابن حجر والقطامي والأخطل، وغير هؤلاء كثير، كما انه نقل معه كتبا من الأخبار والفنون المختلفة (1) ، وكل هذا يشير إلى قوة التيار الثقافي الذي اخذ يتجه بالمثقفين إلى التعمق في الداسات القديمة والتقليل من الإعجاب بالمحدثين. ومن العلماء الذين أغراهم كرم الحكم وتشجيعه محمد ابن يوسف أبو عبد الله التاريخي الوراق الذي ألف كتابا ضخما في " مسالك افريقيا وممالكها " وألف في " أخبار ملوكها وحروبهم والغالبين " كتبا جمة (2) ومنهم أيضاً أبو الحسين محمد بن العباس مولى هشام بن عبد الملك وقد أجرى عليه المستنصر رزقا موسعا، فقرأ عليه الناس كثيرا شيوخا وشبابا ومن تلامذته الزبيدي، وأهم ما رواه عنه الأندلسيون ديوان الصنوبري (3) . وكذلك أكرم الحكم أندلسيا من الذين هاجروا إلى المشرق هو أبو سليمان الهواري وأنزله بالزهراء ووسع عليه وقرأ ناس كثيرون (4) . وأغدق الحكم العطايا على البعيدين من العلماء والأدباء والفقهاء لكي يؤلفوا من اجل خزائنه أو يضيفوا كتبهم إلى ما فيها، فمعن وصلتهم صلاته أبو إسحاق محمد بن القاسم بن شعبان بمصر وأبو عمر محمد بن يوسف ابن يعقوب الكندي فيلسوف العرب وأبو الفرج الأصبهاني، وهذا الأخير

_ (1) الفهرسة: 395 - 400. (2) الجذوة: 90 والنفح 2: 769. (3) الفهرسة: 408. (4) الفهرسة: 358.

تلقى منه، فيما يقال، ألف دينار ذهبا عينا ليرسل إليه نسخة من كتابه الذي ألفه في الأغاني، فأرسل أبو الفرج من كتابه هذا إلى الأندلس نسخة منقحة، قبل أن يظهر الكتاب لأهل العراق أو ينسه أحد منهم، وألف له أيضاً أنساب قومه بني أمية موشحة بمناقبهم وأسماء رجالهم، وأنفذ معه قصيدة يمدحه بها ويذكر مجد قومه بني أمية وفخرهم علة سائر قريش فحدد له عليه الصلة الجزيلة (1) . أما في جمع الكتب من الأمصار فكان شأنه في ذلك عجيبا، إذ اتخذ له وراقين بأقطار البلاد ينتخبون له غرائب التواليف، ووجه رجالا إلى الآفاق بحثا عن الكتب، وكان من وراقيه ببغداد محمد بن طرخان، وكان يدفع فيها أثماناً عالية، فحملت إليه من كل جهة حتى غصت بها بيوته وضاقت عنها خزائنه وحتى جمع ما لم يجمعه أحد قبله، وكاد يضاهي ما جمعته ملوك بني العباس في الأزمان الطويلة وكان عدد فهارس مكتبته أربعا وأربعين فهرسة في كل واحد خمسون ورقة (2) وربما بلغ عدد الكتب أربعمائة ألف مجلد. ولم يكن يفضل علما على آخر، ولذلك امتلأت خزائنه بكتب الحكمة والفلسفة والمنطق والطب، وأقبل الناس على قراءة علوم الأوائل (3) ، وكانوا من قبل ينفرون منها، وأصاب العمل في هذه الناحية العلمية شيء من التنظيم منذ أن وصلت الأندلس هدية رومانوس إمبراطور البيزنطيين (337) وفيها كتاب ديسقوريدس في النبات مصورا، مكتوبا بالإغريقية، ولم يكن يومئذ بقرطبة من نصارى الأندلس من يقرأ هذه اللغة، فسأل الناصر؟ وهو الخليفة يومئذ - إمبراطور القسطنطينية ان يبعث إليه برجل يتكلم الإغريقية واللاتينية ليعلم له عبيدا يكونون مترجمين فبعث براهب يدعى

_ (1) الحلة السيراء: الورقة: 48. (2) هذا هو ما جاء في الحلة: 59 وكذلك جمهرة الأنساب: 92 والرقم يختلف في مصادر أخرى، انظر المغرب 1: 181. (3) طبقات صاعد: 75.

نقولا (سنة 340) تولى مع نفر من الأطباء بالأندلس البحث عن أسماء عقاقير ذلك الكتاب، والوقوف على أشخاصها، وتصحيح النطق بأسمائها، وعاش نقولا الراهب حتى صدر دولة الحكم (1) . وكان في هدية الإمبراطور كتاب آخر في التاريخ هو كتاب " هروسيس " أو هروشيوش (Paulus Orosius) واسم الكتاب: Historia adversus Paganus وقد قال الإمبراطور حين أرسله مخاطبا عبد الرحمن " أما كتاب هروسيس فيبلدك من اللطينيين من يقرأ بالسان اللطيني وان كاشفتهم عنه نقلوه لك من اللطيني إلى اللسان العربي ". ويقول ابن خلدون ان هذا الكتاب ترجم للحكم المستنصر، ترجمه قاضي النصارى وقاسم بن اصبغ (2) . وقاضي النصارى بقرطبة المعروف في أيام الحكم هو وليد ابن حبزون الذي كان ترجمانا للحكم عند وفود أردون ابن اذفونش (3) . ومما يلحق بهذا النشاط العلمي كثرة الأطباء وعلماء التنجيم الذين تجمعوا حول الناصر والمستنصر، وكان الأسقف القرطبي ابن زيد مختصا بالمستنصر وله ألف كتاب:تفضيل الأزمان ومصالح الأبدان " (4) أما الطبيب حسداي ابن إسحاق اليهودي فقد استغل حظوته عند الحكم وتوصل من ذلك إلى استجلاب ما شاء من تآليف اليهود بالمشرق ففتح بذلك يهود الأندلس باب علمهم من الفقه والتاريخ وغير ذلك، وكانوا من قبل يعتمدون في فقه دينهم وسني تاريخهم ومواقيت أعيادهم على يهود بغداد (5) . وخصص الحكم جانبا من دار الملك يجلس فيه العلماء للتأليف، أو

_ (1) ابن أبي أصيبعة 2: 47. (2) انظر مقدمة طبقات ابن جلجل، وانظر ترجمة قاسم بن اصبغ في الجذوة: 312 وكانت وفاته سنة 340 أي في خلافة الناصر، ومن هذا يستبعد اشتراكه في الترجمة إلا أن تكون ترجمة كتاب هروسيس قد تمت قبل مجيء نقولا الراهب. (3) النفح 1: 184، وهناك يذكر مطران طليطلة باسم عبيد الله بن قاسم. (4) النفح 2: 778. (5) ابن أبي أصيبعة 2: 50.

الترجمة أو مقارنة النسخ الوافدة، وفي هذه الدار جمع مرة علماء اللغة وهم محمد بن أبي الحسين وأبو علي القالي وابنا سيد وطلب إليهم أن يقابلوا نسخ كتاب " العين " للخليل بن احمد، واحضر من الكتاب نسخا كثيرة، كان فيها النسخة التي كتبها القاضي منذر بن سعيد البلوطي رواية عن ابن ولاد بمصر (1) . ولعل ابرز ما أداه الحكم في تاريخ الثقافة الأندلسية هو حفزه الملكات الأندلسية على التأليف وجمع التراث الأندلسي، فجمعت له كتب كثيرة في أخبار شعراء الأندلس، رأى منها ابن حزم أخبار شعراء البيرة في نحو عشرة أجزاء (2) ، وأمر بجمع شعر ابن عبد ربه وقد رأى منه الحميدي نيفا وعشرين جزءا مما جمع للحكم (3) وأمر إسحاق بن سلمة وكان حافظا لأخبار الأندلس ان يجمع كتابا في أخبارها (4) وألف له ابن فرج كتاب الحدائق وضمنه شعر الأندلسيين فقط معارضا فيه كتاب الزهرة لمحمد بن داود، مربيا عليه في عدد الأبواب والأبيات (5) وألف له أيضاً خالد بن سعد كتابا في رجال الأندلس، اتخذه ابن الفرضي مصدرا له في تاريخه (6) وطلب إلى محمد بن الحارث الخشني (- 361) وكان الحكم ما يزال وليا للعهد، أن يؤلف كتابا في قضاة الحاضرة العظمى - قرطبة فكتب كتابه المعروف ب " قضاة قرطبة " وأوضح في مقدمة ذلك الكتاب مدى رغبة الحكم في التذكير بالمنسي من الأنباء والإشارة للسالف من القصص وبخاصة ما كان في الأندلس قديما وفي عصر الحكم حديثا، قال الخشني حاكيا عن غيره أيضاً " فتحرك أهل العلوم بما حركهم إليه

_ (1) الجذوة: 47. (2) النفح 2: 773. (3) الجذوة: 94. (4) ابن الفرضي 1: 89. (5) الجذوة: 97 والمغرب 2: 56. (6) ابن الفرضي 1: 155 - 156.

الأمير الموفق، فاستحفظوا ما أضاعوا من غرر وقيدوا ما أهملوا من عيون المعارف " (1) وللخشني كتب كثيرة الفها للحكم (2) . ولم يكن الحكم يدع فرصة تفوته، إذا أمكنته، في تشجيع التأليف، وله في هذا الباب أخبار تدل على استغراق شديد واندماج نفسي في هذا الأمر، من ذلك انه أراد الغزو مرة (352 هـ) فاعتذر عن مصاحبته في تلك الغزوة ابن الصفار لضعف جسمه، فأرسل إليه احمد بن نصير وقال: قل له ان ضمن لي ان يؤلف في أشعار خلفائنا بالمشرق والأندلس مثل الصولي في أشعار خلفاء بني العباس أعفيته من الغزاة، من الغزاة، فلما اختار ابن الصفار التأليف على الغزو خيره بين ان يكتب الكتاب فيؤبيته أو في دار الملك، فاختار ان يكتبه في دار الملك ليكفل الانقطاع والوحدة وينفرد دون الزائرين والمترددين إلى بيته. ولما كمل الكتاب في مجلد واحد لم يبقه احمد بن نصر إلى حين عودة الحاكم من غزاته بل حمل إليه ليسره، فلقيه بطليطلة عائدا، وتلقى الحاكم الكتاب مسرورا (3) . وليس بمستعبد ان يكون الحكم هو الذي شجع الشطجيري على جمع شعر الغزال الشاعر الأندلسي وترتيبه على الحروف، لأن الشطجيري هذا أدرك خلافة الحكم وتوفي قريبا من الثلاثين وأربعمائة عن سن عالية (4) . وكثيرا ما كان الحكم لا يقف عند حد اقتراح الموضوع على المؤلف بل يشاركه أو يرسم له تقسيمه، كما فعل مع الزبيدي عندما طلب إليه أن يكتب كتابا في طبقات النحويين، وعرفه المنهج الذي يريده في تأليف الكتاب، قال الزبيدي في مقدمته: " وان أمير المؤمنين الحكم المستنصر بالله؟ رضي الله عنه - لما اختصه الله به ومنحه الفضيلة

_ (1) قضاة قرطبة: 10 - 11. (2) ابن الفوضي 2: 115. (3) الجذوة: 186 - 187 (4) الجذوة: 235.

فيه من العناية بضروب العلوم أو الإحاطة بصنوف الفنون، امرني بتأليف كتاب يشتمل على ذكر من سلف من النحويين واللغويين في صدر الإسلام، ثم من تلاهم من بعد إلى هلم جرا إلى زماننا هذا وان اطبقهم على ازمانهم وبلادهم حسب مذاهبهم في العلم ومراتبهم؟ فألفت هذا الكتاب على والوجه الذي امرني به؟ وأقمته على الشكل الذي حده، وأمدني رضي الله عنه في ذلك بعنايته وعلمه، وأوسعني من روايته وحفظه، إذ هو الذي لا تعبر أواذيه وتدرك سواحله ولا ينزح غمره ولا تنصب مادته " (1) ولم ينس الحكم ان يفرد للنحويين واللغويين الأندلسيين قسما خاصا في ذلك الكتاب. وحرص الحكم على الزبيدي الذي هاجر إليه من اشبيلية، عندما استأذنه في العودة إلى أهله، يدل على مدى تعلقه بالعلماء، وفي ظل الحكم وربما بوحي منه كتب الزبيدي كتاب " لحن العامة " إذ يقول في مقدمة هذا الكتاب " وكان الذي دعانا إلى تأليف هذا الكتاب ما أملناه إلى المولى الإمام الفاضل والخليفة العادل الذي لا إمام في الأرض غيره، ولا خليفة لله على الخلق سواه، الحكم المستنصر أمير المؤمنين وسيد المسلمين محيي العلم وراعيه، الراسخ في فنونه، الموفي على دقيقه وجليله، المشرف له ولحامليه، الحافظ لهم والذاب عنهم " (2) . وقد شجع الحكم أيضاً التأليف في الفقه والحديث، فعهد إلى يعيش ابن سعيد بن محمد الوراق بتأليف مسند حديث ابن الأحمر وكان قد سمعه من صاحبه (3) وجمع له ابن المكوي بالتعاون مع المعيطي كتابا سمياه " الاستيعاب " من مائة جزء، جمعا فيه رأي مالك وأقاويله، فسر بذلك ووصلهما وقدمهما إلى الشورى في أيام القاضي محمد بن إسحاق السليم (4)

_ (1) طبقات الزبيدي: 9 - 10. (2) لحن العامة: الورقة 3. (3) الجذوة: 364. (4) الصلة: 38، وانظر الجذوة: 124. فان الحميدي يذهب إلى انهما كتباه للمنصور ابن أبي عامر.

وأمر من بوب له مستخرجة العتبي، في الحديث، وهي مجموعة كثر فيها مؤلفها من الروايات المطروحة والمسائل الغريبة الشاذة (1) ولم ينس أمر التعليم فاتخذ المؤدبين ليعلموا أولاد الضعفاء والمساكين القرآن وانشأ لذلك حول المسجد الجامع وفي ارباض قرطبة سبعة وعشرين مكتبا وأجرى عليهم المرتبات، وعهد إليهم الاجتهاد والنصح ابتغاء وجه الله العظيم (2) . وفي ظل هذا التسامح الذي أشاعه الحكم استطاع الأندلسيين ان يدرسوا الفلسفة والمنطق، وكان كل من درسهما قبل عهد الحكم مذموما ملحدا خارجا عن الملة في نظر الناس وممن اتجه إلى هذا النوع من الدراسة ملحان الذي كان ذا نظر في حد المنطق كثير المطالعة لكتب الفلسفة (3) وكذلك كان ادريس بن ميتم بصيرا بحد المنطق كثير المطالعة لكتب الأوائل حاذقا بعلم الحساب والتنجيم (4) . أما محمد بن يحيى الرباحي فانه كان طالع كتب أهل الكلام ونظر في المنطقيات فأحكمها الا انه كان لا يتقلد مذهبا من مذاهب المتكلمين ولا يقود أصلا من أصولهم، إنما كان يقول على ما يميل إليه في الوقت ويؤثر في الحضرة (5) وممن عرف بالدراسات المنطقية والفلسفية في هذه الفترة ابن حفصون (6) ومحمد بن عبدون الجبلي الذي درس على أبي سليمان المنطقي ببغداد، وغيرهما. ولكنا لا نرى أحدا من هؤلاء يؤلف في المنطق أو في الفلسفة، وكل جهدهم فيها هو الاطلاع والنظر، على عكس الحال في الطب والهندسة والفلك والحساب، وهي التي كان الأندلسيين لا يستنكرونها، ففيها

_ (1) ابن الفرضي 2: 76، 8. (2) ابن عذاري 2ك 358. (3) الزبيدي: 327. (4) الزبيدي: 332. (5) الزبيدي: 336. (6) ابن أبي أصيبعة 2: 46.

تقدم ومشاركة في التأليف وبخاصة الهندسة على يد أبي القاسم المرجيطي (- 398) الذي كان إمام الرياضيين في وقته واعلم من كان قبله بعلم الأفلاك، وشغف بتفهم كتاب المجسطي وعلم العدد، وعلى يده تخرج كثير من التلامذة، ومنهم ابن السمح وابن الصفار والزهراوي والكرماني، ولكل منهم مؤلفات ذكرها القاضي صاعد وابن أبي اصيبعة، وليس من خطة كتابنا هذا ان نقف للحديث عنها في هذا المقام. مذهب ابن مسرة وربما مد التسامح ظله أيضاً على الناحية المذهبية، ولم يتسع صدر الأندلس من قبل لغير مذاهب أهل السنة وخاصة مذهب مالك، ولشيء يسير من القول بالقدر، ولكن في أوائل القرن الرابع كان هناك مذهب جديد آخذ بالتكون في شيء من السرية والحذر، ولعل هذا التسامح الذي جاء به الحكم قد شجعه على الاستعلان، وشجع معتنقيه على الظهور، ذلك هو مذهب ابن مسرة؟ فمن هو منشئ هذا المذهب وما حدوده وما مدى انتشاره في الأندلس؟ مؤسس هذا المذهب هو أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن مسرة بن نجيح الجبلي، قرطبي ولد سنة 299هـ وتتلمذ على أبيه ومحمد بن وضاح الخشبي. وفي أواخر أيام الأمير عبد الله؟ أي سنة 311 على التحديد - خرج إلى المشرق فارا بنفسه، لأنه اتهم بالزندقة، ودخل القيروان فلبث فيها مدة، وهناك رآه الخثني في مجلس أستاذه أبي جعفر احمد بن نصر أحد تلامذة سحنون، قال الخشبي: " فسلم وجلس جانبا، وأنا لا اعرفه، ولا أحد من المجلس، فرأيته يقلب بصره في وجوه المتكلمين، ويديل النظر فيما بينهم، فعل من قد رسخ في الصنعة، وعرف ما نحن فيه، فلم اشك انه من أهل العلم. وما فطن بذلك منه غيري، وغير فتى من أصحابي يعرف بربيع القطان، وطال المجلس بنا على تلك الحال

حتى اظهر الشيخ التحرك، وأومأ إلى القيام، وتداعى أهل المجلس إلى النهوض، فكرهت أنا أن أقوم حتى اعرف آخرا من الرجل الداخل علينا، فثبت. فلما خف المجلس، تحول إليه احمد بن نصر فقال له: يا شاب، جلست منذ اليوم فهل من حاجة تذكرها؟ فاندفع محمد بن مسرة بكلام مصنوع إلا انه من الكلام جيد فقال: أتيتك مقتبسا من نورك، ومستمدا بعلمك؟ إلى ما يشبه هذا من القول، واتى به شبيها بخطبة موجزة، ولا عهد لأحمد بن نصر بمن يخاطبه بهذا الضرب من الخطاب، فجعل الشيخ ينظر إليه ويفهم عنه حتى أتى ابن مسرة على ما أحب ان يتكلم به ثم سكت. فكان جواب احمد بن نصر له في ذلك كله أن قال له: يا شاب هذه الصفة هي في القبور رحم الله من كانت هذه صفته. فوضع ابن مسرة يديه في الأرض ثم قام وقمنا في إثره " (1) . وذهب بعد ذلك إلى الحجاز فحج غير مرة وزار قبر النبي عليه السلام بالمدينة، وأقام فيها مدة يتتبع آثار الرسول فدله بعض أهل المدينة على دار مارية أم إبراهيم فقصد إليها، فإذا دويرة لطيفة بين البساتين بشرقي المدينة عرضها وطولها واحد، قد شق في وسطها بحائط، وفرش على حائطها خشب غليظ يرتقي إلى ذلك الفرش على خارج لطيف، وفي أعلى ذلك بيتان وسقيفة كانت مقعد النبي (ص) في الصيف، فصلى ابن مسرة في البيتين والسقيفة ثم قاس بشبره تلك الدار، وبنى مثلها لسكناه، لما عاد إلى الجبل بقرطبة (2) . وكان يصحبه في رحلته هذه إلى الحج اثنان من معتقدي مذهبه وهما محمد بن حزم بن بكر التنوخي من أهل طليطلة ويعرف بابن المديني (3)

_ (1) علماء إفريقية: 211 - 212. (2) التكملة: 365. (3) التكملة: 365.

وأيوب بن فتح (1) ، ومعهم احمد بن غانم وكان من ابن مسرة وحج معه مرتين (2) ورافقه أيضاً محمد بن وهب المعروف بابن الصيقل وكان اصغر منه سنا (3) . ويروى انه اشتغل في الشرق بملاقاة أهل الجدل وأصحاب الكلام والمعتزلة، ثم انصرف إلى الأندلس، فاظهر نسكا وررعا، فاختلف إليه الناس وسمعوا منه وانقسموا فيه فريقين، فريق رآه إماماً في علمه وزهده وفريق طعن عليه ووصف مذهبه بالقبح وسوء المعتقد (4) . على أي شيء يقوم مذهب ابن مسرة؟ يبدو من الأخبار القليلة التي تبقت لدينا عنه انه كان يجمع بين بعض مبادئ المتصوفة وبين بعض أصول الاعتزال، فلم يكن معتزليا خالصا ولا باطنيا خالصا، فأما المبادئ الاعتزالية التي يقول بها فهي بالاستطاعة والوعد والوعيد ورؤية الله (5) . ويقول ابن حزم: أن ابن مسرة شارك المعتزلة في القول بالقدر، وكان يقول ان علم الله وقدرته صفتان محدثتان مخلوقتان وان لله تعالى علمين أحدهما أحدثه جملة وهو علم الكتاب؟ وهو علم الكتاب - وهو علم الغيب - كعلمه انه سيكون كفار ومؤمنون بالقيامة والجزاء ونحو ذلك، والثاني علم الجزئيات، وهو علم الشهادة، وهو كفر زيد وإيمان عمرو ونحو ذلك فانه لا يعلم الله تعالى من ذلك شيئا حتى يكون، واستشهد على ذلك بقوله تعالى " عالم الغيب والشهادة " (6) . وأما المبادئ الباطنية فانه بناها على آراء منسوبة لانبذوقليس، وليست له، وإنما هي بعض آراء فيلون الإسكندري وافلوطين، ومن هذه الآراء المنسوبة لانبذوقليس

_ (1) التكملة: 199. (2) التكملة: 11. (3) التكملة: 321. (4) ابن الفرضي 2: 41. (5) ابن الفرضي 2: 41. (6) الفصل 4: 198.

الجمع بين معاني صفات الله وأنها كلها تؤدي إلى شيء واحد وانه ان وصف بالعلم والجود والقدرة فليس هو ذا معان متميزة تختص بهذه الأسماء المختلفة، بل هو الواحد بالحقيقة الذي لا يتكثر بوجه.. وتزعم الفرقة الباطنية ان لانبذوقليس رموزا قلما يوقف عليها (1) . وقد يستنتج مما جاء في كتب ابن مسرة ان النبوة اكتساب لا اختصاص وانه قد يحرزها من بلغ الغاية من الصلاح وطهارة النفس، وان أنكر بعض أصحابه نسبة هذا القول له (2) . وقد ابرز مذهب ابن مسرة نظرية ثانوية موجودة في تاسوعات افلوطين وهي القول بوجود مادة روحانية يشترك فيها جميع الكائنات عدا الذات الإلهية. واعتبرت هذه المادة أول صورة برزت للعالم العقلي يتألف من الجواهر الخمسة الروحانية. وقد دافع ابن مسرة عن هذا المذهب تحت ستار إسلامي من آراء المعتزلة والباطنية (3) . واستطاع ابن مسرة ان يجتذب إليه تلامذة كثيرين وعاش معهم في عزلة، وكان كما تصوره الروايات، ذا قدرة ساحرة مؤثرة في النفوس، كما انه ألف بعض الكتب في مذهبه منها كتاب الحروف، وكتاب التبصرة، ويقول ابن الأبار أن ابن مسرة لم يكن يخرج كتابا إلا بعد أن يتعقبه حولا كاملا، فلما ألف التبصرة احتال صاحبه حي بن عبد الملك الذي كان يسكن معه في متعبده بالجبل فاستخرج كتاب التبصرة وانتسخ منه نسخة لنفسه ورد الأصل، ثم أرى النسخة لابن مسرة وقال له: تعرف هذا الكتاب؟ فلما تصفحه قال له: لا نفعك الله به، ولم يخرج كتاب التبصرة بعد ذلك إلى أحد (4) . غير ان بعض كتبه كان معروفا في الأندلس، وقد رأى ابن حزم عددا منها.

_ (1) القفطي: 13. (2) الفصل 4: 199. (3) بالنثيا: 330. (4) التكملة 284 - 285.

وأثار ابن مسرة حوله بعض الخصومات الجدلية في المشرق وفي الأندلس فممن ألف في الرد عليه من المشارقة: احمد بن محمد بن زياد الأعرابي واحمد بن محمد بن سالم التستري، وممن رد عليه من الأندلسيين ابن ابيض، وقد جمع في الرد عليه كتابا كبيرا حفيلا أكثر فيه من الحديث والشواهد (1) . وللزبيدي أيضاً كتاب في الرد عليه (2) وللقاضي ابن زرب كتاب آخر قرئ عليه واخذ عنه عدة مرات بقرطبة (3) . ولم يقتصر تأثيره على تلامذته الذين لقوه واستمعوا إليه بل ان هناك أناسا انحازوا إلى مذهبه دون ان يلقوه، منهم طريف الروطي وأضحى بن سعيد وكانا من أهل الزهد والخير (4) وقد ألف بعضهم كتابا في أخباره وأخبار أصحابه ينقل منه ابن الأبار في تكملته (5) . أما أشهر تلامذته الذين صحبوه أو آمنوا بمذهبه دون صحبة؟ عدا الذين تقدمت الاشارة إليهم فهم: 1 - أيوب بن سليمان إسماعيل الطليطلي (- 343) وكان قديم الجوار لابن مسرة طويل الملازمة له (6) . 2 - 3 - الياس بن يوسف الطليطلي (- 321) وأخوه عون. 4 - خليل بن عبد الملك (- 323) تفقه بكتب ابن مسرة وضبطها وكان غاية في الزهد والورع وكان معلنا بالاستطاعة، مشهورا بالقول بالقدر وربما كانت تأويلاته تفسر لنا تأويلات ابن مسرة كقوله ان الصراط هو الطريق أي الإسلام والميزان هو عدل الله (7) .

_ (1) الصلة: 244. (2) الصلة: 465. (3) ابن الفرضي 2: 97. (4) التكملة: 346. (5) التكملة: 11. (6) التكملة: 199. (7) ابن الفرضي 1: 165.

5 - 6 - 7 - محمد بن فضل الله بن سعيد، وحكم وسعيد ابنا منذر بن سعيد القاضي وكلهم تفقه بكتب ابن مسرة. وعن حكم يروي ابن حزم ويصفه بالصدق (1) . 8 - احمد بن وليد (- 376) من أهل بجانة يعرف بابن اخت عبدون وهو أحد النفر الذين استتابهم محمد بن يبقى (2) . 9 - رشيد بن فتح الدجاج) - 376) قرطبي، صلى عليه محمد بن يبقى ويظهر انه استتابه (3) . 10 - ابان بن عثمان (- 377) من أهل شذونة (4) . 11 - عبد العزيز حكم الأموي (- 387) كان مائلا إلى الكلام والنظر وقد غض منه انتحاله لمذهب ابن مسرة. 12 - محمد بن مفرج المعافري ويعرف بالفتى (- 371) وكان يدعو إلى المذهب ولا يقف عند حد الاعتقاد به (5) . 13 - ابن الإمام (- 380) وكان لا يتستر في اعتقاده، مولعا بالتشريق في صلاته (6) . 14 - محمد بن عبد الله بن عمر بن خير القيسي (- 382) واصله من جيان، أشهد على نفسه؟ في النهاية - انه غير معتقد لشيء من مذهب ابن مسرة (7) . وبعض الجيل الثاني من هؤلاء التلامذة هم الذين تعرضوا من جديد للمحاكمة، وأغلب الظن ان هذا بعد وفاة الحكم المستنصر، أي حوالي سنة 370 هـ،

_ (1) التكملة: 378. (2) ابن الفرضي 1: 66. (3) ابن الفرضي 1: 175. (4) ابن الفرضي 1: 31. (5) ابن الفرضي 2: 84. (6) ابن الفرضي 2: 95. (7) ابن الفرضي 2: 98.

عندما كان ابن زرب قاضيا. فقد اهتم هذا القاضي بالكشف عن اتباع ابن مسرة واستتابة من علم انه يعتقد ذلك المذهب، وتاب على يديه منهم جملة. ثم خرج ابن زرب إلى جانب الجامع الشرقي وقعد هناك وأحرق ما وجده من كتبهم وهم ينظرون إليه في سائر الحاضرين (1) . وآخر من نعرفه من أصحاب ابن مسرة هو إسماعيل بن عبد الله الرعيني وهو متأخر عن الجيل الثاني منهم، وقد أدركه ابن حزم ولم يلقه " وكان من المجتهدين في العبادة، المنقطعين في الزهد ". وقد أحدث في المذهب أقوالا سبعة فنفر عنه سائر المسرية وكفروه، إلا قليل منهم. ومما أحدثه قوله أن الأجساد لا تبعث أبدا، وإنما تبعث الأرواح، وكان يقول: إن الإنسان حين يموت، تلقى روحه الحساب، ويصير إما إلى الجنة وإما إلى النار، وانه لا بعث إلا على هذا الوجه أبدا، وكان يقول: العالم لا يفنى أبدا، وكان لا ينسب الفعل إلى الله وينزهه عن ذلك، ويرى ان العرش هو الذي يدبر العالم وينسب قوله إلى ابن مسرة ويستشهد على ذلك بقوال في كتبه، قال ابن حزم: ليس فيها لعمري دليل على هذا القول. ولما برئ منه المسرية بقيت تتبعه ابنته متكلمة ناسكة مجتهدة. وقال ابن حزم انه (أي ابن حزم) عرض هذه الأقوال على ابن لإسماعيل فأنكر كل ذلك. قال: ورأيت أنا من أصحاب إسماعيل من يصفه بفهم منطق الطير وبأنه كان ينذر بأشياء قبل أن تكون فتكون. وهناك أمور لا شك فيها وهي انه كان عند فرقته إماما واجبة طاعته يؤدون إليه زكاة أموالهم. وكان يذهب إلى أن الحرام قد عم الأرض وانه فرق بين ما يكتسبه المرء من صناعة أو تجارة أو ميراث أو بين ما يكتسبه من الرفاق. وان الذي يحل للمسلم من كل ذلك قوته كيفما أخذه؟ هذا أمر صحيح عندنا عنه يقينا، وأخبرنا عنه بعض من عرف باطن أمورهم انه كان يرى الدار دار كفر مباحة دماؤهم وأموالهم إلا أصحابه فقط، وصح انه كان يقول بنكاح المتعة (2) .

_ (1) النباهي: 78 ويذكر ان ذلك حدث عام 350 وفي التأريخ خطأ لان ابن زرب أصبح قاضيا سنة 367. (2) الفصل 4: 199 - 200.

الحالة الثقافية والأدبية أيام المنصور وابنه واستمر الجانب الأدبي من هذه النهضة التي انتعشت في عهد الحكم فظل على انتعاشه أيام المنصور بن أبي عامر؛ أما جانبها العلمي فقد أصابه شيء من ركود، وذلك ان المنصور أول توليه أمر الحجابة عمد إلى خزائن الحكم فاستخرج جملة ما فيها من كتب بمحضر خواص من أهل الفقه، ثم ميز من بينها الكتب التي تتعلق بعلوم الأوائل مستثنيا ما كان منها في الطب والحساب، وأمر بإحراقها وإفسادها فأحرق بعضها وطرح بعضها في آبار القصر وهيل عليها التراب والحجارة ولم ينج منها إلا القليل، فعل ذلك تحببا إلى العامة واستئلافا لقلوبهم (1) ، ومحاولة للغض من شهرة الحكم في نفوسهم، وقيل ان ذلك لم يكن الا على أعين الناس، أما في حقيقة الأمر فقد ظل المنصور يشجع التوفر على هذه العلوم 2، وفيما عدا هذه الحادثة استمر تشجيع المنصور للدراسة والتأليف، في العلوم الدينية واللغوية والادبية، وكان يقرب العلماء والأدباء ويفرط في تكريمهم، وكان له مجلس معروف في الأسبوع يجتمع فيه أهل العلوم، كلما كان مقيما بقرطبة، لأن غزواته كانت تبعده عن قرطبة كثيرا (3) ، وله كتب زيادة الله ابن علي كتاب " الحمام " (4) ، وضمنت دولته عددا كبيرا من الفقهاء والعلماء والشعراء والأطباء والمنجمين فلم يكونوا أوفر عددا ولا أسنى أرزاقا منهم في أيامه (5) وربما كانوا اكثر حرية في تصرفهم منهم في عهد الحكم المستنصر لأن المنصور انصرف كثيرا إلى التجنيد والعمل بالسلاح حفظا للرسوم والتماسا لجميل الذكر (6) .

_ (1) طبقات الأمم: 75. (3) الجذوة: 73 والمغرب 1: 194. (4) الجذو: 205. (5) اعمال الاعلام: 84. (6) المصدر نفسه.

ودخل الحياة الأدبية في عهد المنصور شيء من تنظيم لم نسمع به قبل عهده، فقد جعل للشعراء ديوان، قيدت فيه أسماؤهم، وقدرت أعطياتهم بحسب مراتبهم من الشعر، وكان أمر الديوان موكولا إلى واحد من النقاد، هو عبد الله بن مسلمة، فعلى يديه كانت تخرج الصلات وعلى حسب ترتيبه كانت تجري أمور الشعراء (1) ، ومن السهل ان يتخيل المرء كيف كان هذا التنظيم مثيرا للتنافس مؤرثا لنار الحسد بين الأدباء انفسهم، مشيعا لروح التذمر بينهم، ولكن الرزق المنظم خير من ذلك الذي يجيء حسب البواعث والظروف، غير انه من الصعب علينا ان نتخيل المقاييس النقدية التي كانت تحكم لهذا الشاعر بالتقدم وعلى ذاك بالتأخر، ويبدو ان المحاكاة أو المعارضة كانت تؤخر صاحبها أو تحرمه أحياناً من التسجيل في الديوان، وحادثة ابن دراج قد تكون شاهدا على ذلك، فانه عندما تقدم بأول قصيدة له في مدح المنصور وعارض بها صاعدا، اتهم بالتقصير والانتحال والسرقة ولم يثبت اسمه في ديوان العطاء (2) ويقوي هذا الظن أيضاً حال الشاعر أبي المطرف عبد الرحمن ابن أبي الفهد كان شغوفا بالمعارضة والمناقضة حتى انه لم يكد يبقي شعرا جاهليا ولا إسلاميا إلا عارضه وناقضه، وكانت مرتبته في الشعراء دون مرتبة عبادة في الزمام (3) . وتشاء الأقدار أن يفد على قرطبة صاعد بن الحسين البغدادي في أيام المنصور فيحاول المنصور أن يخمل به ذكر القالي، وكانت هذه المحاولة مخفقة لسببين: الأول ان صاعدا كان نديما حسنا ذا نوادر وحكايات وشعر ومعرفة بالموسيقى ولم يكن من طبقة أبي علي، والثاني: أن القالي كان قد أحرز في قرطبة مكانة لا يستطاع طمسها أو التقليل منها،

_ (1) الجذوة: 239، 103. (2) الجذوة: 103. (3) الجذوة: 258 - 259.

وبخاصة أن صاعدا وقع بين تلامذة أبي علي ومحبيه وعارفي فضله، ولذلك " دفعوه بالجملة عن العلم باللغة وأبعدوه عن الثقة في علمه وعقله ودينه، ولذلك ما رضيه أحد من أهلها أيام دخوله إليها ولا رأوه أهلا للأخذ عنه والاقتدار به " (1) ، ولم يخفق صاعد في تلمس دنياه، ولكنه أخفق من الناحية اللغوية، وفي محاولته أن يحاكي كتاب النوادر للقالي، ومن هذا الوجه اتهم بالكذب، ولم يصحح القرطبيون كلمة واحدة مما ضمنه كتاب النصوص، ومن يتتبع النوادر التي تقال عن كذبه يجدها منسوجة على غرار واحد لتدل على الجهل باللغة وعلى دعوى العلم (2) . ولا تخلوا المسألة من قياس النادرة على النادرة، ولكن من المستبعد أن نصدق احتفاء المنصور بأمره بعد ان يتكرر منه الكذب مرارا، ألا أن سكون صاعد قد عرف ذلك وجرى فيه مجرى التندر، ليسر صاحبه، ولقد حاول الأندلسيون أن يدعوا عليه سرقة الشعر، فما أفلحوا في إسقاطه من هذه الناحية، ولكن تهمة السرقة في الشعر لم تفارقه. ومقطع القول في وصفه انه كان " بديع الجواب حاضره طيب المعاشرة فكه المجالسة ممتعا محسنا للسؤال حاذقا في استخراج الأموال " (3) ، وقد عرف المنصور حسن ندامته فأضافه إلى مجلس الندماء، وكتب؟ عدا النصوص - اثنين من كتب الأسمار وهما أشبه بطريقته وقوة خياله وأولهما " كتاب الهجفجف بن غدقان بن بثربي مع الخنوت بنت مخرمة ابن انيف " والثاني " كتاب الجواس بن قعطل المذحجي مع ابنة عمه عفراء "، وكان المنصور شديد الشغف بالكتاب الثاني حتى رتب له من يخرجه أمامه في كل ليلة (4) . ويبدو ان المنصور كان يجد ارتياحا في قراءة كتب الأسمار وانه كان يعجب

_ (1) من كلام ابن حيان في الذخيرة 4/1: 2 - 3. (2) أمثلة ذلك منثورة في الذخيرة، والنفح والجذوة في ترجمة صاعد. (3) الذخيرة 4/1: 16. (4) الجذوة: 223.

بكتاب أبي السري الذي ألف في أيام هارون الرشيد، ودخل عليه حسان بن أبي عبدة ذات يوم فلما رأى إعجابه بكتاب السري ألف له كتابا سماه " ربيعة وعقيل " وصفه ابن حزم بقوله " وهو من أملح ما ألف في هذا المعنى " (1) . ولم يكن عبد الملك كأبيه ولا مقاربا له بأي حال في تذوق الأدب وتقديره وتمييز جيده من رديئه، فقرب إليه الجلالقة والبرابرة، قال ابن حيان: " إلا انه مع زهده في الأدب تمسك بمن كان استخلصه أبوه من طبقات أهل المعرفة من خطيب وشاعر ونديم وشطرنجي ومعدل وتاريخي وغيرهم حفظا لصنائع والده وقياما برسومه، فقررهم على مراتبهم، ولم ينقصهم سوى الفوز بخصوصيته، وكانت ترفع إليه بطائق أهل الشعر ويصلهم، على تساهلهم في مديحه لأمانتهم من نظره فيها، وأحرز لهم مع الفائدة عفو القريحة، وذلك بين لمن تأمله في أشعار مادحيه لفتورها " (2) والحق ان الشعر من حيث الإنشاد كانوا في أيامه فريقين: فريق رسمه إنشاد الشعر بين يديه وفريق يرفع إليه القصائد ولا ينشدها (3) وكلهم ينال من جوائزه ولكن يبدو ان منزلة الشعراء في أيامه كانت متأخرة عن طبقات معينة. ففي ترتيب الدخول عليه كان يدخل المروانيون ثم القضاة والحكام والفقهاء والعدول ثم وجوه أهل الارباض والأسواق من أهل قرطبة ثم الشعراء والأدباء (4) . وقد شجع المظفر وصف الأزهار لإعجابه بهذا الفن كثيرا حتى كان يقترح على الشعراء أن ينظموا فيه لكي تغني فيه القيان، وقدم إليه الشعراء كثيرا من المقطعات في وصف مختلف الأزاهير (5) . الاتجاه نحو الشعور بالقومية الأندلسية ويستشف من كل ما تقدم في وصف هذه النهضة العلمية الأدبية أن الأندلس

_ (1) الجذوة: 184 (2) الذخيرة: 4/1: 60 (3) ابن عذاري 3: 9 (4) المصدر السابق (5) ابن عذاري 3: 18

في الفترة الواقعة بين عبد الرحمن الناصر أخر الدولة العامرية على وجه التقريب، وجدت ذاتها، والتفتت لماضيها واهتمت بحاضرها، وأدركها شئ يشبه الشعور القومي، ودفعها الحكم المستنصر في هذه السبل دفعة قومية، فإذا المكتبة الأندلسية تذخر بالمؤلفات عن الأندلس بأقلام اهلها، وهكذا وجدت الأندلس بأقلام اهلها، وهكذا وجدت الأندلس رجالها وتاريخها وعلمها وأدبها، فتحدثت عنه وخلدته، ولنترك جانبا ما كتب في التاريخ والتنجيم والطب وطبقات العلماء والقضاة والنحويين، وما ألف في اللغة، ونتناول من الكتب ما يمس الأدب شعره ونثره وسير الأدباء والنقد الأدبي، فنجد الكتب التالية من إنتاج تلك الفترة: 1 - طبقات الشعراء بالأندلس لعثمان بن ربيعة (- 310) . 2 - طبقات الكتاب بالأندلس للافشتين (- 309) . 3 - أخبار شعراء الأندلس لمحمد بن هشام الأموي (أيام الناصر) . 4 - اللفظ المختلس من بلاغة الكتاب بالأندلس لعبيديس الجياني. 5 - طبقات الكتاب بالأندلس لسكن بن سعيد. 6 - الحدائق لابن فرج الجياني. 7 - كتاب التشبيهات من أشعار أهل الأندلس لعلي بن أبي الحسين. 8 - أخبار شعراء الأندلس (أو كتاب طبقات الشعراء) لابن الفرضي. 9 - حانوت عطار لابن شهيد. 10 - أخبار شعراء الأندلس لعبادة بن ماء السماء. 11 - كتاب في شعراء الأندلس لعثمان بن سعيد الكناني (- 320) . 12 - كتاب في شعراء الأندلس لمحمد بن عبد الرؤوف الازدي (- 343) . 13 - كتاب في شعراء البيرة لمطرف بن عيسى الغساني (- 357) . 14 - كتاب الشعراء من الفقهاء بالأندلس لقاسم بن نصير (- 338) . هذا عدا الدواوين الشعرية المجموعة حينئذ، كشعر ابن عبد ربه وديوان الغزال وديوان يحيى بن هذيل وديوان قاسم بن نصير واكثر شعره في الزهد وذم

الدنيا وفي شواهد الحكم والتذكير والوعظ (1) ، وديوان النصائح وهو أيضاً مجموعة من الأشعار الزهدية لابن أبي زنين، وغير ذلك من الدواوين والمجموعات الشعرية، غير ان هذه المآثر كلها تشير إلى تبلور الشعور " بالأندلسية " كثرهما تشير إلى استقلال ما في طبيعة الأدب وموضوعاته. الأمثال الأندلسية ومن حقنا ان نضيف هذه الظاهرة في استقلال الشخصية الأندلسية الأدبية إلى ظاهرتين أصليتين كانتا آخذتين في تمييز حدود تلك الشخصية؟ بطريقة طبيعية - مع الزمن، وأعني بهما استقلال الأندلس في أمثالها، وفي طبيعة لهجتها ولغتها. وكلما تقدمنا في الزمن، كان وضوح هاتين الظاهرين أقوى وأشد. وقد وصلنا قليل من امثالهم، وهو يدل على انه نتاج بيئتهم، لاتصاله بأشخاص وأحداث ومظاهر منها فمن ذلك انهم كانوا يقولون حين يضربون المثل في الفصاحة: " ما هذا إلا أبو حرشن " و " أفصح من بكر الكناني " و " أفصح من الرشاش " (2) وكل هؤلاء من لغويي الأندلس وقدامى المؤدبين. ويقولون في تصوير اختلاف ما تجيء به الحال: " سنة عفص وسنة بلوط " (3) . ومن سائر أمثالهم: " شتان بين خلة وسعاد " (4) . وكانت خلة زوجة أحد القضاة وهي قبيحة الشكل بينما كانت خادمتها واسمها سعاد فائقة الحسن. وجاء في أمثالهم " ومن ثور حي لا يلبس هراكيس " (5) أي انه لا يمكن ان يستفاد من جلد الثور إلا بعد أن يذبح. وبعض أمثالهم يبين مميزات مدنهم كقولهم " من دخل شريش ولم يأكل بها المجبنات فهو محروم " (6) . ومن أمثالهم أيضاً

_ (1) ابن الفرضي 1: 406. (2) الزبيدي: 281، 283، 284 (3) قضاة قرطبة: 77 (4) قضاة قرطبة: 35 (5) التبيان: 61، اما كلمة " هراكيس " فأظنها مصحفة عن كلمة " مراكيب " (6) النفح 1: 87

" غررت بي يا إسحاق " وكان إسحاق من رجال ابن حفصون فغلب مع صاحب له، فقال صاحبه له هذه الكلمة وهما يرفعان على الخشبة فذهبت مثلا (1) . الاستقلال اللغوي: أما ظاهرة الاستقلال اللغوي فلست أعني بها فحسي تميز اللهجة الأندلسية الدارجة ونموها مع الزمن وإنما اعني أيضاً ما نبت في البيئة الأندلسية عامة من تعبيرات ومصطلحات لو سمعها أهل المشرق لما عرفوا مدلولها، وهذا شيء وان لم يكن خاصا بالأندلس فانه يستحق التمييز والتنويه، وتشمل تلك المصطلحات والتعبيرات، شئون الإدارة والمال، والمسميات الجديدة، وأسماء النباتات، بل وما يدل على الأدوات والأمور اليومية. ويكفي ان يقرأ المرء كتابا مثل " قضاة قرطبة " للخشبي، حتى يجد أن هناك تعبيرات تختص بالبيئة الأندلسية في الأحوال والهيئات والحركات، وأنها غامضة على القارئ المشرقي، وقد أدرج دوزي في " ملحق المعاجم العربية " من تأليفه عددا كبيرا من هذه الألفاظ والتعبيرات وهذه نماذج منها: المسدد: هو القاضي أو الحاكم الذي يتولى شئون بلدة صغيرة (2) . الداربون: هم الطوافون بالليل للعسس، وإنما سمعوا بذلك لان بلاد الأندلس لها دروب بإغلاق بعد العتمة، ولكل زقاق فيه " دراب " له سراج معلق، وكلب يسهر، وسلاح معد (3) . الاقروف والغفارة: قال الخشبي يصف أحد القضاة: " فجلس للحكم.. وفي رأسه أقروف ابيض وغفارة بيضاء " (4) ويبدو أن الاقروف

_ (1) ابن عذاري 2: 211. (2) النفح 1: 103. (3) النفح 1: 103. (4) قضاة قرطبة: 94.

مخروطي الشكل. أما الغفارة فالأرجح أنها نوع من الكوفيات. وكانوا يلبسون غفائر الصوف حمرا وخضرا واصفر مخصوصة باليهود. الهزيب: الرقيب العتيد في كلام أهل الأندلس (1) . الفقيه المقلص: هو الذي يضع رأسه القالص (2) ، وهو " القالس " ويعرفها المشارقة باسم " القلنسوة " ولذلك يسمى القضاة في المشرق بذوي القلانس، اما في المغرب فيسمونهم " المقلصين " ولا يكون الفقيه مقلصا إلا إذا حفظ الموطأ أو عشرة آلاف حديث وحفظ المدونة. الخطارة: قال الخشبي: " فنظر بعض خواص الأمير إلى يحيى بن معمر وهو في جنان له يستقي الماء بخطارة ويسقي بقل الجنان " (3) . وقد عرفها المقري بأنها الاسم الذي يطلقه الأندلسيون على صنف من الدواليب يستقون به من الأودية. خطة الرد: وهم يطلقون الخطة على ولاية الأمر فهناك خطة القضاء وخطة السوق وخطة الشورى وما إلى ذلك، فأما الرد، فأنها تعني رد المظالم على اصحابها، أي انصافهم، وهي تقابل عند المشارقة " النظر في المظالم "، قال الخشبي في أحدهم: ولاه الأمير الشرطة والرد (4) . المجشر: في اللسان ان الجشر هم القوم يخرجون بدوابهم إلى المرعى ويبيتون مكانهم ولا يأوون البيوت، فهم يعزبون بدوابهم، ولعل المجشر في استعمال الأندلسيين هو المرعى: قال الخشبي " حكم عمرو بن عبد الله على هاشم بن عبد العزيز

_ (1) النفح 2: 889. (2) النفح 1: 216. (3) قضاة قرطبة: 76، وانظر النفح 2: 912. (4) قضاة قرطبة: 137.

في مجشر كان في يده بجانب جيان " (1) وفي النفح " سلم إليه المجشر الذي لنا على وادي شوش بما لنا فيه من العبيد والدواب والبقر وغير ذلك " (2) وقال ابن حزم: ان المجشرة عندهم هي ما يعرف بالدسكرة عند المشارقة (3) . القطيع: الضريبة التي يؤديها المسلمون في بلاد الأندلس، وبخاصة بعد الفتنة. قال ابن حزم: " وأما في زماننا هذا وبلادنا هذه؟ غانما هي جزية رؤوس المسلمين يسمونها القطيع ويؤدونها مشاهرة " (4) ويفهم من كلام ابن حزم انها ضريبة على رؤوس وانها شيء آخر غير الضرائب على الأموال من الغنم والبقر والدواب والنحل. والأمثلة كثيرة لمن شاء ان يتتبعها، وهي حقيقة بالدرس والجمع (5) . ويضاف إلى هذه المصطلحات توسعهم في الاستعمال، كتسميتهم البريد " ركاضا "، وتسميتهم أعيان الناس " بياض البلد "؟ قال الخشبي: " وتشاهد عليه بياض البلد وشيوخ المصر عازمين على سفك دمه وقطع أثره " (6) . وقولهم " خلف إلى هنا " يعني اقدم متجاوزا الناس (7) ، وإطلاقهم على الفدان من الثيران اسم " زوج " قال الخشبي: فوافقه وهو يقف على " أزواج " له تحرث البلوط (8) ، وتسميتهم المحصول بتسم " الرفع "

_ (1) قضاة قرطبة: 102. (2) النفح 1: 127. (3) الاحكام 5: 122. (4) رسائل ابن حزم: الورقة: 250. (5) هناك قائمة بالألفاظ الأندلسية وهي تمثل عهودا متباعدة استخرجها الدكتور عبد العزيز الاهواني من كتاب لحن العامة لابن هشام ونشرها بمجلة معهد المخطوطات (المجلد الثالث الجزء الأول والثاني) . (6) قضاة قرطبة: 107. (7) قضاة قرطبة: 156. (8) قضاة قرطبة: 93.

أي لأنه هو ما يرتفع إليهم من الأرض " ثم سألني عن رفعه في ذلك العام فقلت له: رفع القاضي سبعة إمداد من شعير وثلاثة إمداد من قمح " (1) ، وهكذا. أما اللغة المحكية فقد ظلت مزدوجة إلى عهد طويل، وكان الناس في قرطبة يتكلمون اللغة اللاتينية في أحد أشكالها الرومانية إلى جانب العربية. والعرب يطلقون على اللغة السائدة في الأندلس اسم " الأعجمية "، ومنها ثلاث لهجات كبرى وهي الارغونية والبلنسية والقشالية، كما كانت اللهجة البشقية لغة الأكثرية من أهالي بنبلونة والمنطقة الجبلية من حولها (2) . ولم تقض العربية على هذه اللهجات، بل ظلت هي الغالبة في بعض الأرياف والبوادي، ويحدثنا ابن حزم في الجمهرة ان قبائل بلي لا تحسن الكلام باللطينية لكن بالعربية فقط نساؤهم ورجالهم (3) ، كأن شيوع اللاتينية بين القبائل الأخرى كان أمراً طبيعيا. وتعلم لغة السكان الأصليين كثير من العرب، حتى كان بعض القضاة يتكلمونها. حكى الخشنى عن رجل من الشهود يدعى ابن عمار كانت له بغلة هزيلة تلوك لجامها طول النهار على باب المسجد فتقدمت امرأة إلى القاضي فقالت له بالعجمية: يا قاضي أنظر لشقيقتك هذه (تعني نفسها) ؟ فقال لها بالعجمية: لست أنت شقيقي إنما شقيقي بغلة ابن عمار التي تلوك لجامها على باب المسجد طول النهار (4) . ونقيض هذا أن والد نصر الفتى صاح بالعجمية على القاضي وهو منصرف ليقف، فقال القاضي قولوا له بالعجمية أن القاضي قد أدركته الملالة والسآمة (5) . فقوله: قولوا له، يعني انه لا يعرف العجمية. وكان بقرطبة شيخ أعجمي اللسان مقدما عند القضاة مقبول

_ (1) قضاة قرطبة: 93. (2) انظر نكل: 3، والروض: 56. (3) الجمهرة: 415. (4) قضاة قرطبة: 118. (5) المصدر نفسه: 96.

الشهادة (1) ، وعلى الرغم من تعرب السكان الأصليين تدريجا فقد بقيت الألقاب اللاتينية والأسماء تلحقهم بعض أبناء العرب أنفسهم مثل لقب: شنجول ويوانش وبطرة شقة (أي الحجر الصلب) وغيرها. وظهر اثر الاختلاط بين العرب الفاتحين والسكان الأصليين في الشكل الجديد الذي اتخذته لهجة عرب الأندلس، وكان أكثرهم ابتعادا عن العربية الصحيحة أقربهم إلى المناطق التي تغلب فيها غير العربية، ومع الزمن، أصبحت لغة التخاطب تمثل هذه التأثيرات المتباينة قوة وضعفا. وأخذت الفصحى تنكمش فلا تمثل إلا الجانب الرسمي في الدولة، وغدت لغة أدبية لا يتذوقها إلا الطبقات المثقفة، إلا في جزائر صغيرة وسط هذا البحر من الاتجاه إلى اللغة الدارجة، كما كانت الحال في شلب فان سكانها وسكان قراها وأكثرهم من عرب اليمن ظلوا يحافظون على اللغة العربية الصريحة إلى عهود متأخرة (2) . وقال ابن حزم يصف لهجة أهل فحص البلوط: " ونحن نجد من سمع لغة أهل فحص البلوط وهي على ليلة واحدة من قرطبة كاد يقول أنها لغة أخرى غير لغة أهل قرطبة، وهكذا في كثير من البلاد، فانه بمجاورة أهل البلدة بأمة أخرى تتبدل لغتها تبديلا لا يخفى على من تأمله " (3) . وقد سجل ابن حزم أيضاً شيئا من تبديل العامة للغة الأصلية، فقال (4) : " ونحن العامة قد بدلت الألفاظ في اللغة العربية تبديلا، وهو في البعد عن اصل تلك الكلمة كلغة أخرى ولا فرق، فنجدهم يقولون في العنب: العنيب، وفي السوط: اسوطوط، وفي ثلاثة دنانير: ثلثدا. وإذا تعرب البربري فأرراد ان يقول الشجرة قال: السجرة

_ (1) قضاة قرطبة: 84. (2) الروض: 106. (3) الاحكام 1: 31. (4) الاحكام 1: 32.

وإذا تعرب الجليقي أبدل من العين والحاء هاء فيقول: مهمدا، إذا أراد أن يقول محمدا ". وقد حاول المتمسكون بصحة اللغة ان يقفوا في وجه هذا التطور اللغوي، فألف الزبيدي كتابه " لحن العامة " ليوقف الناس على الصواب والخطأ، وربما تحمس لذلك لأنه رأى هذا اللحن يدخل في المكتوب. وهاجم ابن شهيد الأندلسيين فيما يكتبون وقال ان كتابتهم ليس للفراهيدي فيها عمل ولا لسيبويه إليها طريق، وحاول الناثرون ان يلتزموا حدود الصحة والفصاحة ما أمكنهم في النثر الفني، غير ان شيوع الأزجال بعد هذا الدور الذي نؤرخه، جعل اللهجة المحكية في الأندلس مقياسا أدبيا، وان لم يعرف بها اكثر المتعلقين بأسباب الأدب الفصيح. وربما كان مجال الإفاضة عن مظاهر اللهجة الأندلسية وخصائصها العامة حين نأخذ في الحديث عن الأزجال في غير هذا الجزء. ويكفي ان أضرب أمثلة قليلة في هذا المقام، نقل صاحب تثقيف اللسان عن الزبيدي ان الأندلسيين يقولون في التين: تين وفي النوتي: نوتي، وفي القبيط: قبيد، وقال ان مثل هذا لا يخطئ فيه الناس في صقلية (1) ، وذكر أبو حيان الجياني في تفسيره البحر المحيط، في موضع شذ عني الآن، ان أهل بلدهم أي الأندلسيين عامة يرقون القاف حتى تلحق بالكاف (2) . ومن الطريف ان نعلم ان بعض مدرسي اللغة والنحو؟ في عصر متأخر - كانوا يشرحون الدروس لطلبتهم باللهجة الدارجة. نشأة الموشحات وكانت الصورة الأدبية لهذا التبلور في الشخصية الأندلسية هي

_ (1) تثقيف اللسان، الورقة: 4. (2) انظر النفح 1: 601 ووصف فيه ابا حيان بقوله: عبارته فصيحة بلغة أهل الأندلس يعقد القاف قريبا من الكاف.. وسمعته يقول: ما في هذه البلاد من يعقد حرف القاف.

الموشحات التي منحت الأندلس تميزا خاصا على الشعر المشرقي، ففي هذا العصر نبتت اصولها على نحو غامض، ولا يزال النص أورده ابن بسام عن نشأتها في حاجة إلى توضيح. إذ قال: " وأول من صنع أوزان هذه الموشحات بأفقنا واختراع طريقتها؟ فيما بلغني محمد بن محمود القبري الضرير، وكان يصنعها على أشطار غير أن أكثرها على الأعاريض المهلة غير المستعملة، يأخذ اللفظ العامي والعجمي ويسميه المركز ويضع عليه الموشحة دون تضمين فيها ولا أغصان. وقيل ان ابن عبد ربه صاحب كتاب العقد أول من سبق إلى هذا النوع من الموشحات عندنا. ثم نشأ يوسف بن هارون الرمادي فكان أول من أكثر فيها من التضمين في المراكيز يضمن كل موقف يقف عليه في المركز خاصة؟ ثم نشأ عبادة هذا [ابن ماء السماء] فأحدث التغيير وذلك انه اعتمد مواضع الوقف في الأغصان فيضمنها، كما اعتمد الرمادي مواضع الوقف في المركز " (1) . ويحتاج هذا الكلام المغلق حلا، ويزيد من صعوبة الموقف أننا لا نملك أمثلة من موشحات القبري والرمادي، ولما كانت الموشحات مما استفاض بعد هذا العصر فمن الأنسب إرجاء الحديث عنها إلى جزء تال. ولكن الدارس لا يملك الا ان يشك في هذه النشأة المبكرة للموشحات، غير انه لا يستبعد ان يكون الرمادي قد حاولها أولا كما طور من تأليفها عبادة بن ماء السماء.

_ (1) الذخيرة ½: 1 - 2.

فراغ

2 - الشعر الأندلسي في مظاهره الكبرى إذا عدنا إلى تلك القائمة من الكتب التي ألفت في أدب هذا العصر لفت نظرنا من بينها كتاب الحدائق لابن فرج وكتاب التشبيهات من أشعار أهل الأندلس، وكتاب الشعراء من الفقهاء، فإذا أضفنا إليها كتابين آخرين يقعان في أعقاب هذه الفترة وهما: البديع في فصل الربيع والارتياح بوصف الراح لأبي عامر بم مسلمة؟ وهو كتاب تضمن ما قيل في الراح والرياحين والبساتين والنواوير - تبين لنا بوضوح أي الموضوعات الشعرية هي التي كانت تستأثر باهتمام الأندلسيين، وهي على التحديد: شعر الخمر ووصف الطبيعة والغزل والزهد. وليس لدينا صور مكتملة لهذه الموضوعات ولكن يبدو مما وصلنا من شعر غزلي ان هذا الموضوع لم يتفرد بشيء واضح وكذلك شعر الخمر. أما شعر الزهد في الأندلس فقد ولد في أحضان الثورة على الحكم الربضي إذا كان الأتقياء ينظمون أشعار الزهد ويتغنون بها في الليل ويضمنونها التعريض به ثم أخذ هذا الأدب يقوى ردا على الحياة اللاهية

في المدن أو انقيادا لداعي التقوى في النفس أيام الشيخوخة كما في زهديات الغزال وممحصات ابن عبد ربه وهي قصائد تكفيرية نظمها لينقض القصائد اللاهية التي قالها في أيام الشباب. ووجد من الأتقياء من تخصص في هذا النوع من الشعر مثل ابن أبي زمنين صاحب ديوان " النصائح " وقاسم ابن نصير، الذي ألف أيضاً كتابا في الشعراء من الفقهاء تكملة لهذا الاتجاه الذي كان قد أنتجه في شعره. ويقابل هذا المظهر العابس الباكي ناحية فكهة ضاحكة ولكنها أضعف ظهورا تميزا وان قال صاحب النفح: " ولأهل الأندلس دعابة وحلاوة في محاوراتهم وأجوبة بديهية مسكتة والظرف فيهم والأدب كالغريزة " (1) ، وقد يكون في هذا الكلام عن الأندلس عامة قسط من الحق غير قابل، إلا أننا نتحدث في هذه الفترة عن قرطبة، ولم تشتهر قرطبة كثيرا بهذه الروح مثلما اشتهرت اشبيلية مثلا (2) . وتشير النوادر الأندلسية إلى الحدة وشيء من البذاءة اللفظية وكثير منها يعتمد على أساس عملي حركي لا لفظي وهي تبليغ في حدتها منطقة الهجاء نفسه، وكان يمزجها بالهجاء كل من القلفاط والغزال ومؤمن بن سعيد وابن الشمر، وهم أظهر الشعراء ميلا إلى الدعابة في هذا العصر. وكان القلفاظ وهو أحد المعلمين ذا ولوع بالمؤدبين يعبث بهم، وكان الغزال ومؤمن بن سعيد لا يدعان فرصة من العبث تفوتهما وكثيرا ما تكون ضحاياهما من القضاة أنفسهم، غير ان النادرة المروية سردا أقوى مما هي في الشعر. ومن أمثلتها ان ابن الشمر طرح ذات يوم بين سحيات القاضي يخامر الشعباني سحاءة مكتوب فيها: يونس متى والمسيح بن مريم، فخرجت السحاءة إلى يخامر فأمر ان يدعى بهما إلى مسجد القضاء، فهتف الهاتف: يونس بن متى والمسيح ن مريم، فصاح ابن الشمر: نزولهما من اشراط الساعة؛ ثم أخذ سحاءة وكتب فيها:

_ (1) النفح 2: 876 وقد عرفت هذه الصورة الفكهة للأندلس عند المشارقة في عصور متأخرة. (2) النفح 2: 791.

يخامر ما تنفك تأتي بفضحة ... دعوت ابن متى والمسيح بن مريما قفاك قفا ضرب ووجهك مظلم ... وعقلك ما يسوى من البعر درهما فلا عشت مودودا ولا عشت سالما ... (1) ولا مت معفوا ولا مت مسلما ومن نوادر مؤمن بن سعيد مع قاض آخر يلقب " قبعة " ان رجلا أتى إلى مؤمن وسأله ان يكتب له اسمه في رقعة فسأله عن اسمه فقال " عقبة " فاستولى حب النادرة على مؤمن وكتب: " قبعة " وأعطاها للرجل، فقدمها هذا إلى القاضي، فجعل القاضي يقدم غيرها من الرقاع ويؤخرها، فلما خف الناس نادى من عقبة؟ فجاءه الرجل، فقال له: من يكتب اسمك؟ فوصف له صفة مؤمن فقال له: لا تقعد إليه ثانية (2) . ومن الحكايات المروية في مداعباتهم ان الناصر مازج وزيره لبا أبا القاسم وقال له: يا لب، اهج الوزير بن جهور، فأبى، فقال لابن جهور فاهجه أنت فتوقى، فبدأ الناصر يهجوه بقوله: لب أبو القاسم ذو لحية ... طويلة في طولها ميل ثم طلب إلى ابن جهور أن يزيد فقال: وعرضها ميلان إن كسرت ... والعقل مأفون ومدخول لو أنه احتاج إلى غسلها ... لم يكفه في غسلها النيل ثم قال الناصر للب: انه قد سبب لك القول فقل، فقال لب: قال امين الله في خلقه ... لي لحية أزرى بها الطول وابن عمير قال قول الذي ... مأكوله القرطيل والفول لولا حيائي من إمام الهدى ... نخست بالمنخس شو؟ فلما بلغ إلى قوله شو سكت فقال الناصر: قولوا، فأتم له على نحو ما أضمر، فقال له انت هجوته يا مولاي (3) .

_ (1) قضاة قرطبة: 83. (2) المصدر السابق: 103. (3) ابن عذاري 2: 339 - 340، وانظر النفح 2: 992 ففيه تخريج خاص لمعنى هذه النادرة.

وتدل هذه الحكايات على توفر الروح الفكاهية، ولكن يبدو ان الشعر كان من أقل مجالاتها، وان العبث كان ينقلب إلى سباب إذا وضع في قالب شعري. غير ان الشعر الأندلسي في هذه الفترة كان مستغرقا قس شؤون الدولة استغراقا بعيد المدى فهو يسجل انتصاراتها في الخارج والداخل، ومن نظر إليه في مجموعه لم يخطئ رؤية مظاهر كبرى نجملها فيما يلي، محاولين الاجتزاء ببعض الأمثلة دون تحليلها، لئلا يخرج بنا الموضوع إلى الاستطراد: وهذه هي أهم المظاهر في الشعر: 1 - الشعر في الطبقات العليا فلقد كان كثير من الحكام الأمويين والأمراء بالأندلس شعراء ومنهم المتفوق المكثر ومنهم المقل، ولكنك قلما تجد من بين الأفراد المشهورين من لا يمارس قرض الشعر، ابتداء من عبد الرحمن الداخل حتى آخر العهد الأموي. ويعد كتاب " الحلة السيراء " معرضا واسعا لهذا النشاط، وقد فعل مثل ذلك ابن فرج؟ من قبل - في كتاب " الحدائق "، ومر بنا ان الحكم المستنصر قد طلب إلى أحدهم أن يؤلف كتابا في شعر الأمويين بالمشرق والأندلس، وزعم ابن فرج بعد ان أورد جملة من أشعار الخلفاء الأموية ان منهم " من يجلون عن الشعر في أقدارهم كما يرتفعون عن أن يروى عنهم أو يؤخذ من أفواههم، وإنما ينبسطون في سرائرهم فليس يظهر عليهم منه إلا الشيء القليل ولعل ما سقط عنا افضل مما سقط إلينا " (1) ، ويبدو أن ابن فرج كان يمهد بهذا للاعتذار عن أمير المؤمنين الناصر وعن قلة ما يعرفه هو من أشعاره. وتتراوح أشعار هؤلاء الأمراء بين الغزل بجواريهم والشعر الحماسي، ويتميز منهم الشريف الطليق والمستعين، وهذا الثاني كان قبل ان يطمح إلى

_ (1) الحلة السيراء، الورقة: 59.

لخلافة، شاعرا يمدح الخلفاء والكبراء، وذكر ابن أبي الفياض ان له قصائد طويلة في فنون كثيرة مع المعاني والألفاظ الغريبة؟ قال: " وكأني أراه قائما بين يدي ابن عمه المهدي القائم على بني أبي عامر، والمهدي جالس على مقعد الخلافة، وهو امامه، قد لبس ثوب خز، وعليه طاق خز ملون وأقروف وشي، وقد رمى بثيابه على عاتقه، وبيده سيف، وهو ينشد شعرا طويلا يهنئه فيه بالخلافة " (1) ، وكثير من أشعار هؤلاء الأمراء يتضاءل في صدق العاطفة إزاء مقطوعتين نظمهما عبد الرحمن الداخل في التشوق إلى معاهده والحنين إلى أوطانه واولاهما: أيها الراكب الميمم أرضي ... اقر من بعضي السلام لبعضي ان جسمي كما علمت بأرض ... وفؤادي ومالكيه بأرض قدر البين بيننا فافترقنا ... وطوى البين عن جفوني غمضي قد قضى الله بالفراق علينا ... فعسى باجتماعنا سوف يقضي والثانية قالها لما نزل بمنية الرصافة من قرطبة ونظر فيها إلى نخلة ذكرته وطنه: تبدت لنا وسط الرصافة نخلة ... تناءت بأرض الغرب عن بلد النخل فقلت شبيهي في التغرب والنوى ... وطول التنائي عن بني وعن أهلي نشأت بأرض أنتِ فيها غريبة ... فمثلك في الإقصاء والمنتأى مثلي ولم يكن سائر الأمراء والوزراء والحجاب بأقل من الأمراء الأمويين في هذه الناحية، كهاشم بن عبد العزيز حاجب الأمير محمد، وسعيد بن جودي أمير العرب الذي عرف في زمانه بعشر خصال لا يدفع عنها: الجود والشجاعة والفروسية والجمال والشعر والخطابة والشدة والطعن والضرب والرماية، وله شعر كثير، وأكثره في جارية سمعها بقرطبة تغني الأمير عبد الله بن محمد فهام بها، واشترى جارية سماها " جيجان " باسمها،

_ (1) الحلة السيراء، الورقة: 139.

فلم يسله ذلك عنها وهام بها دهرا (1) ، ومنهم أيضاً الوزير احمد بن عبد الملك بن شهيد، وجهور بن عبيد الله بن أبي عبدة وكان شاعرا مكثرا (2) وجعفر بن عثمان المصحفي، والمنصور بن أبي عامر، وغيرهم مما يقصر دونهم العد. ولسنا نميزهم بشيء في هذا المقام، فان مراكزهم الاجتماعية ومنازلهم السياسية، وان كانت ذات اثر في شعرهم، وفي تقدير الناس له، لا تقوم بينهم مقام الرابطة الفنية، إذ ليسوا هم أهل مدرسة أو مذهب خاص، ولكن هكذا نظر الأندلسيون إلى شعرهم حين صنفوه، واهتموا؟ كما فعل ابن سعيد في المغرب - بتدريج الشعراء حسب المقامات الاجتماعية. على أن الإشارة إليهم في هذا السياق قد توضح مدى التجاوب بين الشعراء والطبقات الحاكمة بما ينتج أثرا في التحمس للشعر والتهيؤ له، وقد تدل على أن الشعر كان من العناصر التي تقدم المرء في الحياة السياسية، وترقى به إلى المناصب الرفيعة. 2ا - لشعر يمثل آلام السجن وصدر جانب كبير من الشعر عما قد نسميه " مشاعر السجناء "؛ فان عقوبة السجن قد طبقت على جم غفير من هؤلاء الشعراء، في هذه الفترة، وربما لم يكن هذا وليد جور شاذ، ولكنه نتيجة للصراع السياسي، واشتراك الشاعر في الحياة السياسية وتقلباتها، وامتزاج السياسة والشعر في شخصية واحدة، واضطراب حبل الأهواء من حال إلى حال، في فترات متقاربة، والأمثلة على ذلك كثيرة، ولكن استعراض بعضها يوضح جانبا هاما من الدوافع النفسية الصادقة في إنشاء هذا الشعر الأندلسي: حبس هاشم بن عبد العزيز لأشياء حقدها المنذر بن محمد عليه، بعد ان كان الحاجب المقدم في زمان أبيه، ثم اخرج بعد زمن وضرب

_ (1) الحلة، الورقة: 45. (2) الحلة: 120.

وهدمت داره وقتل، ومن شعره وكتب به من محبسه إلى جاريته عاج (1) : وأني عداني أن أزورك مطبق ... وباب منيع بالحديد مضبب فان تعجبي يا عاج مما أصابني ... ففي ريب هذا الدهر ما يتعجب وفي النفس أشياء أبيت بغمها ... كأني على جمر الغضا أتقلب تركت رشاد الأمر إذ كنت قادرا ... عليه فلاقيت الذي كنت أرهب وكم قائل قال انج ويحك سالما ... ففي الأرض عنهم مستراد ومذهب فقلت له: إن الفرار مذلة ... ونفسي على الأسواء أحلى وأطيب سأرضى بحكم الله فيما ينوبني ... وما من قضاء الله للمرء مهرب فمن يك مسرورا بحالي فانه ... سينهل في كأسي وشيكا ويشرب وحبس يحيى الغزال بعد ان ولاه الأمير عبد الرحمن قبض الأعشار، فلم يتصرف في ذلك تصرفا مرضيا، كما سنوضح في ترجمة الغزال (2) . وسجن مروان بن عبد الرحمن الملقب بالطليق، قيل لأنه كان يهوى جارية رباها أبوه معه، ثم استأثر الأب بها فاشتدت غيرته، فقتل أباه، وكان عمره ست عشرة سنة، وطال سجنه إذ مكث في السجن ست عشرة سنة أخرى، وكان أديبا شاعرا مكثرا (3) ومن شعره في معتقله: ألا إن دهرا هادما كل ما نبني ... سيبلى كما يبلي ويفنى كما يفني وما الفوز في الدنيا هو الفوز إنما ... يفوز الفتى بالربح فيها مع الغبن يجازى ببؤس عن نعيمها ... ويجني الردى مما غدت كفه تجني ولا شك ان الحزن يجري لغاية ... ولكن نفس المرء سيئة الظن وله أيضاً يصف السجن: في منزل كاليل أسود فاحم ... داجي النواحي مظلم الأشباج يسود والزهراء تشرق حوله ... كالحبر أودع في ذوات العاج

_ (1) الحلة: 40. (2) انظر أيضاً المطرب: 128. (3) انظر الجذوة: 321، والحلة: 111 وما بعدها.

وسجن احمد بن محمد بن فرج الجياني صاحب كتاب الحدائق لكلمة عامية نطق بها نقلت عنه وأقام في السجن بجيان أعواما سبعة أو أزيد منها وكانت له أشعار ورسائل في محبسه إلى الحكم إلا أنها لم تكن تصل إليه فلما توفي الحكم أطلق من سجنه، وكان أهل الطلب يدخلون إليه في السجن ويقرأون عليه اللغة وغيرها، ولم تصلنا أشعاره ورسائله أو شيء منها (1) . ودخل السجن أيضاً الشاعر يوسف بن هارون الرمادي، وقد لقي هذا المصير لأنه كان ينتقد السلطان، وعمل وهو محبوس كتابا سماه " كتاب الطير " من شعره مستشفعا (2) - وسنوفي القول عند الترجمة له - ويكفي أن أقول هنا، أن السجن قد صبغ شعره بصبغة الحزن، بعد أن كان التفاؤل في نظرته إلى الحياة أغلب على شعره، وجعله يحس بأنه شخص ضائع، وانه قد لا يتاح له أن يحس بطعم الحرية أبدا. على أن أشد الناس خورا عندما سجن، الحاجب جعفر بن عثمان المصحفي، الذي أذله ابن أبي عامر، ورماه بالمطبق لمنافسة بينهما، وأحداثه مشهورة مشروحة في كتب التاريخ (3) وقد استشفع كثيرا فلم ينل شفاعة، من قوله يخاطب المنصور ابن أبي عامر: عفا الله عنك ألا رحمة ... تجود بعفوك إن أبعدا لئن جل ذنب ولم أعتمده ... فأنت أجل وأعلى يدا ألم تر عبدا عدا طوره ... ومولى عفا ورشيدا هدى أقلني أقالك من لم يزل ... يقيك ويصرف عنك الردى وله أشعار كثيرة تتقلب به بين اليأس والأمل ومن قوله في ذلك: صبرت على الأيام لما تولت ... وألزمت نفسي صبرها فاستمرت فيا عجبا للقلب كيف اصطباره ... وللنفس بعد العز كيف استذلت

_ (1) الصلة: 11. (2) الجذوة: 346، والمطمح: 69. (3) انظر ابن عذاري 2: 399 وما بعدها، والحلة: 123.

وما للنفس إلا حيث يجعلها الفتى ... فان طمعت تاقت وإلا تسلت وكانت على الأيام نفسي عزيزة ... فلما رأت صبري على الذل ذلت وقلت لها يا نفس موتي كريمة ... فقد كانت الدنيا لنا ثم ولت وحبس عبد الملك بن إدريس الجزيري الكاتب الشاعر، ومن مشهور ما صدر عنه وهو في السجن قصيدة له في الآداب والسنة، كتب بها إلى بنيه (أو إلى ابنه عبد الرحمن) (1) ، مطلعها: ألوى بعزم تجلدي وتصبري ... نأي الأحبة واعتياد تذكري ويذكر فيها كيف فقد صبره، وذهب سروره وتلذذه بالعيش ويتشوق إلى ابنه الأصغر، ويتذكر ساعة فراقه فيقول: عجبا لقلبي يوم راعتنا النوى ... ودنا وداعك كيف لم يتفطر ما خلتني أبقى خلافك ساعة ... لولا السكون إلى أخيك الأكبر ومنها في النصائح والأمور التعليمية: واعلم بأن العلم أرفع رتبة ... وأجل مكتسب وأسنى مفخر فاسلك سبيل المقتنين له تسد ... ان السيادة تقتنى بالدفتر والعالم المدعو حبرا إنما ... سماه باسم الحبر حمل المحبر والعلم ليس بنافع أربابه ... ما لم يفد عملا وحسن تصبر ومنها أيضاً: واخزن لسانك واحترس من نطقه ... واحذر بوادر غيه ثم احذر واصفح عن العوراء ان قيلت وعد ... بالحلم منك على السفيه المعور وكل المسيء إلى أساءته ولا ... تتعقب الباغي ببغيء، تنصر واذا سئلت فجد وان قل الجدى ... جهد المقل إزاء جهد المكثر وانما أعرض هذه الأمثلة لأنها تدل على الجوانب التي أيقظها السجن

_ (1) انظر الجذوة: 261، ويتيمة الدهر 1: 437. وقد وجدت هذه القصيدة إقبالاً كثيرا من الأندلسيين وميزها بعضهم بأنها من مروياته. انظر التكملة: 231 وفهرسة ابن خير: 410.

في حياة الشعر الأندلسي، فإلى جانب الحزن العميق، والتشوق إلى الانطلاق، والبكاء على الحياة، نجد تعميق المشاعر بالحياة، وقيمتها مع شيء من نغمة زهدية، وفلسفة مستمدة من القلق والحيرة، وأثارة من الحكمة التعليمية كالذي نراه في قصيدة الجزيري، وقد نجد ان الصبر أقوى من الثورة في هذا الشعر، وان الاستشفاع المتذلل أشيع من العزيمة العزيزة، وان الجزع من الموت أقوى من القدرة على استقباله، وكل هذا يشير إلى صورة حزينة، قلقة باكية، تجعلها نحس بقيمة المظهر الثالث على وجه أوضح وأظهر: 3 - الارتياح إلى الطبيعة الارتياح إلى الطبيعة، من الموضوعات الكبرى التي سيطرت على الشعر في هذه الفترة، ومن الخطأ ان ننظر فحسب في هذا الموضوع إلى شعر المشهورين فيه كابن خفاجة من بعد، فان شيوعه في الفترة الأموية، يكاد يجعله اقرب أنواع الشعر إلى نفوس الأندلسيين، ومعرضه كتاب " الحدائق " لابن فرج، وكتاب البديع في فصل الربيع لحبيب، والارتياح بوصف الراح لابن مسلمة، وكلها كتب لم تصلنا؟ ما عدا كتاب البديع - وإنما تأدى إلينا بعض ما فيها، في مقتطفات، ويلحق بها كتاب الفرائد في التشبيهات لعلي بن الحسين القرطبي فانه أيضاً حافل بصور الطبيعة في الشعر الأندلسي، وربما كان وصف الخمر والغناء أقل نزلة في هذا الشعر من وصف الطبيعة وبخاصة وصف الربيع عامة، والغيم والمطر والبرد والخمائل، والنواعير، والأزهار جملة وتفصيلا؛ ومما اكثروا من وصفه أزهار الرد والبهار والياسمين والنيلوفر. واذا ميزنا هذا النوع من الشعر بالكثرة فليس معنى هذا أننا نميزه بالجودة، فان الغرام فيه " بالصورة " قد صرف الأندلسيين عن حب الموضوع نفسه، أما الصورة فيه فأنها شبيهة بأختها المشرقية في نواحي جمودها، وحديثها عن الزهو الحي

بالتشبيهات الجامدة المستمدة من الوشي والأحجار الكريمة وما أشبه من ذلك قول ابن النظام (1) : وقد بدت للبهار ألوية ... تعبق مسكا طلوعها عجب رءوسها فضة مورقة ... تشرق نورا، عيونها ذهب فهو أمير الرياض حف به ... من سائر النور عسكر لجب أو كقول ابن القوطية (2) : وكأنما الروض الأنيق وقد بدت ... متلونات غضة أنواره بيضا وصفرا فاقعات، صائغ ... لم ينأ درهمه ولا ديناره سبك الخميلة عسجدا ووذيلة ... لما غدت شمس الظهيرة ناره وربما أدى الشغف بالصورة لديهم إلى استخراج صور غريبة، كقول المصحفي في وصف سوسنة (3) : يا رب سوسنة قد بت ألثمها ... وما لها غير طعم المسك من ريق مصفرة الوسط مبيض جوانبها ... كأنها عاشق في حجر معشوق وقد تضرب بعض الأشعار بسهم في الحيوية كقول ابن حصن في النيلوفر (4) : كلما أقبل الظلام عليه ... غمضت أنجم السما عينيه فإذا عاد للصباح ضياء ... عاد روح الحياة منه إليه وتزداد هذه الحيوية كلما اتصلت بفكرة زوال الورد سريعا، لاتصال ذلك بفكرة زوال الربيع وانتهاب اللذائذ، من ذلك قول الوزير أبي عثمان ابن إدريس (5) :

_ (1) الجذوة: 267. (2) الجذوة: 369. (3) الحلة: 124. (4) الجذوة: 371. (5) الجذوة: 251.

أقام كرجع الطرف يشف غلة ... ولم يرو مشتاق الجوانح شائقه فما كان إلا الطيف زار مسلما ... فسر ملاقيه وسيء مفارقه على الورد من إلف التصابي تحية ... وان صرمت إلف التصابي علائقه وقد يستعيضون عن طلب الاستطراف في الصور بتصوير المبالغة في حب الزهور كقول احدهم (1) : صاحبي إن كنت ترغب حجا ... طف بعرش الياسمين مليا واستلم أركانه فهو حج ... ليس يخطيه القبول لديا أو كقول آخر في وصف الياسمين ومبلغ حبه له (2) : ولو سقيته من ماء وجهي ... لما وفيته ما يستحق ولا يخطئ الناظر في هذا الفن ... كيف أكثر الأندلسيون من وصف الطبيعة في مقدمات قصائدهم مستعيضين به عن الغزل، وكيف أن إعلاءهم من شأن الورد بين الأزهار يلفت النظر حقا. وقد ذكرت من قبل كيف ان شعراء الأندلس أكثروا من القول في الأزهار في أيام عبد الملك المظفر باقتراح منه، فوصفوا الآس والريحان والنرجس والبنفسج والخيري والورد والسوسن، فقال صاعد في الخيري: قد نعمنا في دولة المنثور ... ووصلنا صغيرنا بالكبير وسألناه لم تضوعت ليلا ... قال: فتك الشجعان بالديجور وقرنا احمراره باصفرار ... فعجبنا من لطف صنع القدير ما علمنا الياقوت للشم حتى ... نفحتنا روائح المنثور حاجب الملك لا عداك بشير ... بفتوح أو قام بسرور وقال ابن دراج في الورد: ضحك الزمان لنا فهاك وهاته ... أو ما رأيت الورد في شجراته وقد جاء بالنارنج من أغصانه ... وبخجلة المعشوق من وجناته

_ (1) الجذوة: 84. (2) الجذوة: 119.

وكساه مولانا غلائل سندس ... (1) يوما يسر بله دماء عداته الشعر والتاريخ ومن المظاهر الكبرى في شعر في هذه الفترة صلته بالتاريخ لإحساس الناس حاكمين ومحكومين انهم يصنعون تاريخا يستحق التخليد، وما ذلك الا من طبيعة أوضاع الأندلس نفسها الممثلة في صراع مستمر، داخلي وخارجي، فأما الصراع الخارجي، فهو الغزوات والمرابطة والجهاد في الثغور، وأما الصراع الداخلي فهو ما يسمى بالفتن وثورات الطامحين والمنشقين عن طاعة قرطبة، ويكفي أن يراجع القارئ كتابا في التاريخ الأندلسي حتى يجد فيه التاريخ مرتبا على حسب سنوات الغزو، وقد أربى المنصور بن أبي عامر في هذا على كل مجاهد قبله حين غزا نيفا وخمسين غزوة، وذهب ابنه عبد الملك في سبع غزوات وهكذا. ومن أوليات صور هذا التخليد اتجاه الشعراء؟ منذ عهد مبكر - إلى نظم الأراجيز التاريخية، ومن ذلك أن يحيى بن حكم الغزال نظم في فتح الأندلس أرجوزة حسنة مطولة ذكر فيها السبب في غزوها وتفصيل الوقائع بين المسلمين وأهلها وعداد الأمراء عليها وأسماءهم (2) ولتمام بن عامر الثقفي أرجوزة في ذكر افتتاح الأندلس وتسميته ولاتها والخلفاء فيها ووصف حروبها من وقت دخول طارق بن زياد إلى آخر أيام الأمير عبد الرحمن بن الحكم (3) . ونظم ابن عبد ربه أرجوزة في غزوات الإمام عبد الرحمن الناصر من سنة 301 - 322 (4) وهي مدرجة في كتاب العقد. وفي أيام المنصور بن أبي عامر، اصبح نظم التاريخ وظيفة لها قيم خاص،

_ (1) ابن عذاري 3: 18 - 21. (2) النفح 1: 133، 2: 777. (3) الحلة السيراء: 41. (4) ابن عذاري 2: 336.

وقد قلد هذه الوظيفة حينئذ ابن المشاط الرعيني القرطبي فجمع في نظم التاريخ كتاب " الباهر "، وهو كتاب هلك في النهب في نكبة العامريين (1) . وكان الشاعر رفيق الأمير أو الخليفة في الجهاد، وبلغ الأمر بالمنذر أنه كان يستمع إلى الشعراء ينشدونه غازيا وراجعا (2) . وإذا تصورنا كثرة الغزوات في مدى هذه الفترة لاح لنا مبلغ الشعر الذي مزج بين المدح ووصف المعارك والإشادة بالانتصارات وتبرير الانكسارات، والتمثيل على هذا الفن هو نوع من الاستئناس ببعض النماذج الأندلسية. فمن ذلك غزوة وادي سليط وهي من أمهات الوقائع في أيام الأمير محمد وفيها يقول عباس بن فرناس (3) : ومؤتلف الأصوات مختلف الزحف ... لهوم الفلا عبل القبائل ملتف إذا أومضت فيه الصوارم خلتها ... بروقا تراءى في الغمام وتستخفي كأن ذرى الأعلام في ميلانها ... قراقير قي يم عجزن عن القذف وفيها يقول العتبي (4) : سائل عن الثغر الصوارم تصدق ... واستنطق السمر العوالي تنطق تركت وقائع في الثغور وقد غدت ... مثلا بكل مغرب ومشرق وأداخ أهل المشركين بوقعة ... تركتهم مثل الأشاء المحرق جاءت عليهم حربه بصواعق ... تركتهم مثل الرماد الأزرق

_ (1) الصلة: 296، وقد تكون كلمة " نظم " هنا بمعنى " تنظيم " وترتيب وحينئذ فلا قيمة لهذا الاستنتاج المثبت هنا. (2) ابن عذاري 2: 180. (3) ابن عذاري 2: 166. (4) ابن عذاري 2: 169.

ويقول صاعد مهنئا المنصور وقد غزا سنة 390 في صائفة، وكانت من أشد غزواته وأصعبها مقاما، وتعرف بغزوة جربيرة (1) : جددت شكري للهوى المتجدد ... وعهدت عندك منه ما لم يعهد اليوم عاش الدين وابتدأ الهدى ... غضا وعاد الملك عذب المورد ووقفت في ثاني حنين وقفة ... فرأيت صنع الله يؤخذ باليد من وفاته بدر وأدرك عمره ... جربير فهو من الرعيل الأسعد فوددت لو حتم القضاء بأنني ... في القوم أول طالع مستشهد ما أستكين لروعة، ومحمد ... وبنوه أنصار النبي محمد عهدي به، والله ينظر صبره ... والموت بين مصوب ومصعد غطى عليه المشركون فلم يكن ... في القوم إلا صخرة في فدفد حتى تحصن بالملائكة التي ... حفته بين معفر ومردد ويلحق بهذا اللون من الشعر وصف القلاع الحصينة والحرب البحرية ضد المجوس، ووصف الاحتفالات الباهرة عند استقبال الوفود والرسل، وكثير مما يتصل بحياة البلاط. أما الأحداث الداخلية فالمشهورة منها كثير، والشعر الذي أثارته غزير كذلك، فمنها وقعة الربض التي أوقع الحكم بناس من أهل قرطبة ثاروا عليه (189) و (202) وللحكم نفسه في هذه الواقعة شعر كثير يبرر به ما قام به من قتل وتشريد، كقوله: ولما تساقينا سجال حروبنا ... سقيتهم سما من الموت ناقعا وهل زدت ان وفيتهم صاع قرضهم ... فوافوا منايا قدرت ومصارعا فهاك بلادي إنني قد تركتها ... مهادا ولم أترك عليها منازعا واكبر ثائر كاد يعجز الأمويين هو عمر بن حفصون زعيم العجم، وقد دامت فتنته هو وابناؤه اثنين وخمسين سنة، وكان يتحصن بمدينة

_ (1) أعمال الأعلام: 72 - 73.

ببشتر وأطاعه اكثر بلاد الموسطة بين رية والخضراء والبيرة، وخرجت جيوش قرطبة لإخضاعه مرات عديدة، ولم يتمكن الأمويون من القضاء عليه، إلا في زمن عبد الرحمن الناصر، وقد غزاه الأمير عبد الله في إحدى المرات وانتصر عليه فقال في ذلك ابن عبد ربه: رام ابن حفصون النجاة فلم يسر ... والسيف طالبه فليس بناج ما زال يلقح كل حرب حائل ... فالآن أنتجها بشر نتاج ركبوا الفرار بعصبة قد جربوا ... غب السرى وخوافت الإدراج وإذا سألتهم موالي من هم ... قالوا: موالي كل ليل داج وهذا باب متسع، تخصص فيه الشعراء الملتصقون بالخلفاء والأمراء، كإبن عبد ربه والعتبي والعكي وابن الشمر وعباس بن فرناس وكثير من الملتقين حول المنصور بن أبي عامر، وكانت فتنة المستعين التي انقضت بها الخلافة الأموية من أشد هذه الأحداث الداخلية أثرا في الأدب، وسنفرد لها فصلا خاصا. 5 - وقفة الشعر مع العصبية وهذا اللون من الشعر صورة من النقائض المشرقية وهو يمثل الصراع الأدبي بين العرب والمولدين، إلى جانب الصراع السياسي، وفيه في الجانب العربي الفخر بالقبيلة، وكان شعراء العرب هم قادتهم مثل سوار بن حمدون القيسي الثائر بناحية البراجلة، وقد انتضمت إليه بيوتات العرب من كورة البيرة وجيان ورية وغيرها فتغلب على المولدين، وافتخر بنصره وامتداد سلطانه وبقومه قيس في قصيدة طويلة أولها: حرم الغواني يا هنيد مودتي ... إذ شاب مفرق لمتي وقذالي ثم وجه سوار همته إلى محاربة ابن حفصون واتباعه وانتصر عليهم في وقعة المدينة، وكان صاحب سعيد بن جودي أحد الشعراء الذين تمدحوا بذلك الانتصار فقال:

يقول بنو الحمراء لو أن جنحنا ... يطير لغشاكم بشؤبوب وابل وفيها يصف انهزام المولدين بقوله: ولما رأونا زاحفين إليهم ... تولوا سراعا خوف وقع المناصل فصرنا إليهم والرماح تنوشهم ... كوقع الصياصي تحت وهج القساطل فلم يبق منهم غير عان مصفد ... يقاد أسيرا موثقا في السلاسل ولسعيد قصائد أخرى في وصف تلك المعارك وفي مدح سوار. وكان للمولدين شاعرهم المحامي عنهم ويعرف بالعبلي، واسمه عبد الرحمن بن احمد، وينسب إلى قرية عبلة، ويناظره الشاعر الاسدي واسمه محمد بن سعيد ابن مخلوق الاسدي، أسد بني خزيمة، وكان كل منهما يحرض قومه ويناضل عن مذهبه ويصف ما يجري لقومه على اضدادهم من الوقائع المخزية، ولهما في ذلك أشعار كثيرة، فمن شعر العبلي يذكر أحد الانتصارات: قد انقصفت قناتهم وذلوا ... وزعزع ركن عزهم الأذل فأجابه الأسدي: قد احتمل الأحبة واستقلوا ... لطيتهم بليل واحزألوا فظل الدمع من جزع عليهم ... إذ احتملوا يسح ويستهل سأصرف همتي عنهم وأسلو ... بهجوي معشرا كفروا وضلوا وقصيدة العبلي ناقضها شاعر عربي آخر بقصيدة مطلعها: لسوار على الأعداء سيف ... أباد ذوي العداوة فاستقلوا وتمخضت هذه العصبيات عن قصائد في التحريض والإثارة وقصائد في رثاء السادات الذين قتلوا في تلك الحروب، وقد رثى الأسدي سعيد ابن جودي أمير العرب بقصيدة منها: لا ساغت الراح لي من كف ساقيها ... حتى تقرب نفسي من تمنيها وأن أرى الخيل تردي في أعنتها ... لثأر من كان قبل اليوم يرضيها يا قاسم بن عياض دعوة فلقت ... صم الصخور فلم يسمع مناديها أبلغ ربيعة والحيين من مضر ... وآل عك إذا أحللت واديها

وآل سعد فقد أضحت وليس لها ... راع يحيط فضاها بعد راعيها ورثى سعيدا الشاعر مقدم بن معافي بقصيدة مطلعها: من ذا الذي يطعم أو يكسو ... وقد حوى حلف الندى رمس (1) وهذا الشعر مؤسس على القوة والجزالة، وهو يتميز بذلك عن كثير من ضروب الشعر الأندلسي لأن البداوة فيه أظهر. 6 - ثورة على الثقافات الجديدة في هذا المظهر كان الشعر يمثل روح المحافظة، ويقوم بدور الخصم العنيد للعناصر العلمية أو ما كان حينئذ يعد ضربا من الثقافة العلمية، كالجغرافيا واقليدس والمجسمي وعلم النجوم والفلسفة، ويمثل ابن عبد ربه هذا الاتجاه خير تمثيل، فقد أعلن سخطه على الذين يقولون بكروية الأرض، وباختلاف الفصول حسب المنطق المناخية المختلفة، فمن ذلك قوله يسخر بمسلم بن احمد بن أبي عبيدة واصحابه: والأرض كرية حف السماء بها ... فوقا وتحتا وصارت نقطة مثلا صيف الجنوب شتاء للشمال بها ... قد صار بينهما هذا وذا دولا وقال ابن عبد ربه أيضاً في مهاجمة المشتغلين بالفلك والحساب: أين الزيج والقانون ... والأركند والكمه وأين السند هند البطل ... والجدول هل ثمه سوى الإفك على الله ... تعالى منشر الرمه إذا كان أخو النجم ... يرى الغيب بما ضمه إلى أن يطلب الرزق ... طلاب العاجز الهمه وهذي الأرض قد وارت ... كنوزا عدة جمه فلا والله ما لله ... خلق يحتوي علمه

_ (1) انظر المقتبس: 54 - 66.

ودخل ابن عبد ربه ذات يوم على الوزير جهور بن الضيف، وكان القحط قد ألح والغيث قد احتبس، واغتنم الناس لذلك. وتحدث المنجمون بتأخير الغيث مدة طويلة، ومن هؤلاء ابن عذراء وأصحابه، فقال ابن عبد ربه للوزير: هذا من أمور الله المغيبة، ورجا الله ان يخلف حساب المنجمين، فما كان الا قليل حتى نزل الماء ليلا، فأفاق ابن عبد ربه وقرب المصباح ودعا بالدواة والقلم وكتب للوزير: ما قدر الله هو الغالب ... ليس الذي يحسبه الحاسب قد صدق الله رجاء الورى ... وما رجاء عبده خائب وأنزل الغيث على راغب ... رحمته إذ قنط الراغب قل لابن عذراء السخيف الحجى ... زرى عليك الكوكب الثاقب ما يعلم الشاهد من حكمنا ... كيف بحكم حكمه غائب فقل لعباس وأشياعه ... كيف ترى قولكم الكاذب خانكم كيوان في فرسه ... وغركم في لونه الكاتب فكلكم يكذب في علمه ... وكلكم في أصله كاذب ما انتم شيء ولا علمكم ... قد ضعف المطلوب والطالب تغالبون الله في حكمه ... والله لا يغلبه غالب ولم ينفرد ابن عبد ربه بهذا الموقف من الثقافة الجديدة بل شاركه فيه غيره من الشعراء، وكان اكثر هجومهم موجها إلى علم النجوم فمن ذلك قول عيسى بن قزمان: لو كان عند النجوم السابحات بما ... يجري على الخلق من أبنائهم خبر لم يحتلل بذراهم ريب حادثة ... بل كان ينجيهم الإنذار والحذر ما كان ينجل منهم عالم ولدا ... في ساعة ما بها نحس ولا كدر ويقول سعيد بن العاص المرادي: مستحيل أن تدرك الأوهام ... علم غيب تغيب عنه الأنام كل من قال إن للنجم حكما ... لم يجز، فاعلمن، عليه السلام

سطروا الأولون فيه أساطير ... ولم يلهموا الرشاد فهاموا إذ أرادوا بالسند هند وبالأر ... كند والزيج روم ما لا يرام خبطوا في أمورها خبط عشوا ... ء حين ضلت في كنهها الأوهام ليس يقضي كيوان أمرا كما قا ... لوا ولا المشتري ولا البهرام إنما الأمر للذي خلق الخلق وتمضي بعزمه الأحكام (1) ...

_ (1) هذه الأمثلة مستخرجة من كتاب " بهجة المجالس " لابن عبد البر، مخطوطة دار الكتب المصرية.

3 - الشعر الأندلسي والتقليد لشعر المحدثين المشارقة رأي الأستاذ اميلو غرسية غومس لا أرى الأستاذ غرسية غومس مصيبا حين يقول: " وكذلك المحدثون لم يكن لهم عند شعراء الأندلس أثر بعيد فيما خلا بدورات نلمحها بين الحين والحين " (1) . فقد أشرت من قبل إلى ان الذوق الأندلسي قد تربى على تقدير شعر المشارقة المحدثين، حتى ميز نقاد الأندلس بين طريقتين في الشعر: طريقة العرب وطريقة المحدثين، ومالوا إلى الثانية وحاكوها، ومثلت كيف شغلوا انفسهم بتدارس ديوان أبي تمام ومسلم بن الوليد والبحتري، وكيف كان ديوان أبي تمام على وجه الخصوص محط اهتمامهم الأكبر. فمن الخير هنا أن أتلمس جوانب هذا التأثير الذي تلقاه الشعر الأندلسي من شعر المشارقة المحدثين. وأقول أن الأثر يمتد في اتجاهين: الأول أثر في الموضوع والثاني أثر في الشكل والطريقة الشعرية، أما الأول فتبيانه ليس بالأمر الميسور، وأما الثاني فانه على صعوبة تمييزه أظهر من الأول.

_ (1) الشعر الأندلسي: 5، بالنثيا: 42.

صلته بالزهد المشرقي لقد كان أهم المحدثين في نظر الأندلسيين هم: أبو نواس وأبو العتاهية وأبو تمام وابن الرومي وابن المعتز، ثم وفد ديوان المتنبي على الأندلس، فلم يلبث ان احدث بعض الأثر الملموس. ونجد في الأشعار الأندلسية من هذه الفترة نزعة زهد واضحة عند ابن أبي زمنين والغزال وابن عبد ربه وأبي بكر الزبيدي وغيرهم، ونحس فيها حقا بشخصية أبي العتاهية وأفكاره ونظراته في الحياة والموت، ولكن هذا الموضوع مشترك بين أناس ينظرون إلى الحياة الدنيا من خلال نظرهم إلى الموت والحياة الخالدة. ومن العسير ان يحكم المرء بان الأندلسيين استعاروا هذا الموضوع من أبي العتاهية أو اقتبسوا تماما فنه الشعري، لأن الزهد نزعة لها أصولها الاجتماعية وليست تجيء كلها اقتباسا، ولكن أثر أبي العتاهية في تقوية النزعة والاتجاه الشعري لا يمكن إنكاره، وإذا شمعنا الزبيدي يقول (1) : لقد فاز الموفق للصواب ... وعاتب نفسه قبل العتاب ومن شغل الفؤاد بحب مولى ... يجازى بالجزيل من الثواب فذاك ينال عوا كعز ... من الدنيا يصير إلى ذهاب تفكر في الممات فعن قريب ... ينادى بالرحيل إلى الحساب وقدم ما ترجي النفع منه ... لدار الخلد واعمل بالكتاب ولا تغتر بالدنيا فعما ... قريب سوف تؤذن بالخراب إذا سمعنا هذا الشعر وجدنا الموضوع والشكل قد اتفقا على النظر معا إلى أبي العتاهية في مثل قوله: لدوا للموت وابنوا للخراب ... فكلكم يصير إلى تباب وإذا راجعنا قول ابن أبي زمنين (2) :

_ (1) يتيمة الدهر 1: 410. (2) المصدر السابق نفسه.

أيها المرء إن دنياك بحر ... طامح موجه فلا تأمننها وسبيل النجاة فيها مبين ... وهو أخذ الكفاف والقوت منها على أشعار أبي العتاهية أدركنا فرقا بينهما، وان اتفق الموضوع، وهذا الفرق إنما ينتج عن صورة الدنيا عند كليهما، فأبو العتاهية يتصور الدنيا دارا أو ظلا متقلصا أو مرعى أو سرابا وقلما يتصورها بحرا في مثل قوله (1) : كل أهل الدنيا تعوم على الغفلة منها في غمر بحر عميق ... يتبارون في السباح فهم من ... بين ناج منهم وبين غريق فالصورة التي يرسمها ابن أبي زمنين للدنيا اقرب إلى ان تكون صورة أندلسية أصيلة من تلك الصور التي عرضها لنا الزبيدي في زهديته السابقة. وصف الخمر ومثل ذلك أيضاً الحال في وصف الخمر، إلا ان هذا الموضوع أدق من سابقه وأبين حدودا، وبخاصة وانه عند أبي نواس زعيم هذا الفن ينقسم من حيث شكله في صورتين: الوصف للخمر وما يتصل بها، وقصة المغامرة مع الندمان في زيارة الحان، وفي الأول من هذين القسمين يستأثر أبو نواس بمعان وتوليدات إذا اقتبسها غيره أعلنت عن نفسها، كقول الشريف الطليق (2) : رب كاس كست جنح الدجى ... ثوب برد من سناها يققا قام يسقيها رشا في جفنه ... سنة تورث عيني أرقا أشرقت في ناصع من كفه ... كشعاع الشمس وافى الفلقا خفيت للعين حتى خلتها ... تتقي من لحظه ما يتقى أصبحت شمسا وفوه مغربا ... ويد الساقي المحيي مشرقا

_ (1) ديوان أبي العتاهية: 171. (2) اليتيمة 1: 402.

فإذا ما غربت في فمه ... تركت في الخد منه شفقا فان نورانية هذه الخمر، وسرية " روحانيتها " التي خفيت وهي ظاهرة، ثم هذه الصورة التي تجعل منها شمسا تغرب في الفم بعد ان تطلع من المشرق؟ الذي هو يد الساقي - لا تزال تستمد من شعر أبي نواس الشيء الكثير. وأبين من هذا حكمنا على قصة المغامرة في الحانات، فهذا اتجاه نواسي لا ينازع فيه صاحبه متقدم عليه، فاذا قرأنا قصيدة يحيى الغزال (1) : ولما رأيت الشرب أكدت سماؤهم ... تأبطت زقي واحتسبت عنائي فلما أتيت الحان ناديت ربه ... فهب خفيف الروح نحو ندائي قليل هجوع العين الا تعلة ... على وجل مني ومن نظرائي فقلت أذقنيها فلما أذاقني ... طرحت إليه ريطتي وردائي وقلت أعرني بذلة أستتر بها ... بذلت له فيها طلاق نسائي فوالله ما برت يميني ولا فت ... له غير أني ضامن بوفائي وأبت إلى صحبي ولم أك آيبا ... فكل يفديني وحق فدائي وجدنا محاكاة متعمدة لأبي نواس، وان لم تقلل هذه المحاكاة من إجادة يحيى الغزال وتنفرده ببعض الجزئيات. أثر أبي نواس وافتتان الأندلسيين بأبي نواس قد يقوي القول بعمق أثره في الشعر الأندلسي، فقد رأينا كيف ان رواياتهم تنسب إلى عباس بن ناصح الرحلة للمشرق من اجل أن يلقاه حين سمع بنجومه، وهذا هو الغزال يحاكيه، ويرى الأندلسيون في محاكاته شيئا لا يقل مستواه عن شعر أبي نواس، ومن الحكايات الدالة على افتتانهم به، قول ابن شبلاق الاشبيلي: رأيت في النوم كأني في مقبرة ذات أزاهير ونواوير، وفيها قبر حواليه الريحان

_ (1) المطرب: 138 والجذوة: 212 والريحان والريعان: 155.

الكثير، وقوم يشربون فكنت أقول لهم: والله ما زجرتكم الموعظة ولا وقرتم المقبرة، قال: فكانوا يقولون لي: أو ما تعرف قبر من هو؟ فكنت أقول لهم: لا. قال: فقالوا لي قبر أبي علي الحكمي الحسن ابن هانئ. قال فكنت أولي، فيقولون والله لا تبرح أو ترثيه قال: فكنت أقول: جادك يا قبر نشاص الغمام ... وعاد بالعفو عليك السلام ففيك أضحى الظرف مستودعا ... (1) واستترت عنا عيون الكلام فاستعاروا بعض معانيه في الغزل بالمذكر وفي وصف الخمر، فمن المعاني التي اقتبسوها: ان الكأس تكون ثقيلة فإذا صبت فيها الخمر خفت، قال إدريس بن اليمان (2) : ثقلت زجاجات أتتنا فرغا ... حتى إذا ملئت بصرف الراح خفت فكادت ان تطير بما حوت ... إن الجسوم تخف بالأرواح ومنها قول آخر في وصف كأس (3) : هواء صيغ من ضد الهواء ... وشكل ماثل في شكل ماء إذا عاينته ملآن أخفى ... عليك إناؤه ما في الإناء وان مزجت به كأس تبدى ... كنوز الشمس في ثوب الهواء غير أن ما وصلنا من خمريات هذه الفترة ليس كثيرا، بحيث يكشف عن مدى أثر أبي نواس بدقة. أبو تمام أما أبو تمام فانه أعمق المحدثين أثرا في الشعر الأندلسي من حيث المبنى الشعري والشكل، ومن تأمل الشعر الأندلسي؟ في هذا العصر -

_ (1) الجذوة: 255. (2) الجذوة: 160. (3) الجذوة: 243.

حق التأمل وجد مبدأ " حب الغرابة " أو الاستطراف هو الدافع القوي فيه، ثم يجيء المبنى بعد ذلك شديد الاعتماد على المطابقة ورسم المتقابلات المتضادة، وبلوغ درجه الإحالة في تصيد المعنى ومتفرعاته وظلاله، والاغراب بالاستعارة وان لم يكن هذا شائعا كثيرا، واستعارة النبت والماء في صور بعيدة عن حياة الطبيعة، وهذه الأخيرة من أشيع الصور عند أبي تمام. ومنها في الشعر الأندلسي قول محمد بن احمد بن قادم (1) : قف بربع البلى وربع الهموم ... واسفح الدمع فيه سفح الغيوم غيرت آية صروف الليالي ... ومحاها الغمام محو الرقيم ساء ما اعتاض بالسحائب من ... نبت المعالي بمنبت القيصوم فالأسى حين يعدم الشيء محمول ... على قدر جوهر المعلوم فقوله " نبت المعالي " استعارة تمامية، والبيت الأخير أحجية ذهنية كالأشياء التي يعرضها أبو تمام من هذا القبيل. وصورة واحدة هي:تعمم صلع هامات الربى "، قد أصبحت في هذا الشعر الأندلسي تدور دورانا غير قابل. ومن اغرب الأمور ان يكون شعر أبي تمام محركا في وصف الطبيعة الأندلسية، وأنموذجا للأندلسيين في هذا المقام، وبخاصة قصيدته التي يصف فيها الربيع ومطلعها: رقت حواشي الدهر فهي تمرمر ... وغدا الثرى في حلية يتكسر من ذلك قول أبي بكر ابن نصر الكاتب (2) : انظر نسيم الزهر رق فوجهه ... لك عن أسرته السرية يسفر خضل بريعان الربيع وقد غدا ... للعين وهو من النضارة منظر وكأنما تلك الرياض عرائس ... ملبوسهن معصفر ومزعفر أو كالقيان لبسن موشي الحلى ... فلهن من وشي اللباس تبختر فالمشاركة ليست في المعارضة وحسب وإنما هي أيضاً في جزئيات

_ (1) يتيمة الدهر: 377. (2) الجذوة: 369.

القصيدة كقوله " وقد غدا للعين وهو من النضارة منظر " فإنما هو ناظر فيه إلى قول أبي تمام: دنيا معاش للورى حتى إذا ... جلي الربيع فإنما هي منظر وشتان بين ما ذهب إليه أبو تمام من فهم لطبيعة الحياة وترجح الإنسان بين العمل والمتعة، وبين وصف الشاعر للربيع بأنه منظر. وكذلك تشبيهه الرياض بعرائس ذوات ملبوس معصفر أو مزعفر، يذكر بقول أبي تمام: مصفرة محمرة فكأنها ... عصب تيمن في الوغى وتمضر وكلام الشاعر الأندلسي أرق، وصورة أبي تمام أغرب. ولابن قلبيل البجاني أبيات يعارض بها قصيدة أبي تمام وهي (1) : ضحك الربيع بروضه وسميه ... وافتر عن نور أنيق يزهر فكأنه زهر النجوم إذا بدت ... وكأنها في الترب وشي أخضر وكأن عرف نسميها عند الصبا ... عرف العبير يفوح فيه العنبر ابن الرومي وفي وصف الطبيعة يلتقي أثر الرومي بأثر أبي تمام، وتبرز في الشعر الأندلسي تلك الفكرة التي ألح عليها ابن الرومي كثيرا، واستغل قضاياه المنطقية في إبرازها، أعني التناظر بين الأزهار وحجة بعضها في الفخر على البعض الآخر. من ذلك قول شاعر أندلسي (2) : تعاير السوسان والجلنار ... والأقحوان الغض بين البهار مبتسما ذاك وذا موضحا ... عن حسن توريد بدا واستثار واستحكم الورد ببرهانه ... وانتحل الفضل معا والفخار ولسعيد بن محمد بن فرج أخي صاحب " الحدائق " قصيدة طويلة يرد

_ (1) الجذوة: 366. (2) الجذوة: 363.

فيها على ابن في تفضيله النرجس جاء فيها (1) : عني إليك فما القياس الفاسد ... إلا الذي رد العيان الشاهد أزعمت أن الورد من تفضيله ... خجل وناحله الفضيلة عاند إن كان يستحيي لفضل جماله ... فحياؤه فيه جمال زائد والنرجس المصفر أعظم ريبة ... من أن يحول عليه لون واحد لبس البياض بصفرة في وجهه ... صفة كما وصف الحزين الفاقد وقد برزت روح المفاضلة والمناظرة بين الأزهار عندما شجع المظفر الشعراء على الإكثار من القول في أنواعها المختلفة ليطرح أشعارهم فيها للغناء، فمن قول صاعد البغدادي يفاضل بين البهار والنرجس (2) : جمل الفضيلة للبهار بسبقه ... ولطالما خلف البهار النرجس أربى عليه طيبه ونسيمه ... لكنه عن نشره يتنفس كالحاجب الميمون شبه في العلا ... بابيه لكن فعل هذا أنفس ومن طريف الأمور ان المنصور كان قد سمى بناته بأسماء الزهور، فنظم الشعراء في وصف الأزهار قصائد تبين فضيلة كل نوع منها، وهم في هذا يحكون خصائص بنات المنصور نفسه (3) . وأثر ابن الرومي أيضاً في طريقته التحليلية إلى حد كما نرى في قول احمد بن محمد بن فرج (4) : بنفسي من يصد بغير ذنب ... سوى إدلاله ثقة بحبي عجبت لقلبه قاس كجسمي ... ويحكي جسمه في اللين قلبي فهلا بالتشاكل كان قاس ... لقاس، واغتدى رطب لرطب وان لم ينعطف باللين فظ ... فقولي بالقساوة: قلب صب

_ (1) الجذوة: 212. (2) ابن عذاري 3: 19. (3) الذخيرة 4/1: 32 - 33، والنفح 3: 1034. (4) يتيمة الدهر 1: 368.

ابن المعتز أما ابن المعتز فان صوره المستمدة من الجواهر والأحجار الكريمة قد تغلغلت أكثر شيء في شعر الطبيعة الأندلسية، ونكتفي منها؟ وهي كثيرة - بهذا المثل الذي لحظه الثعالبي: وهو قول سعيد بن محمد بن العاص المرواني (1) : والبدر في جو السماء قد انطوى ... طرفاه حتى عاد مثل الزورق فتراه من تحت المحاق كأنه ... غرق الكثير وبعضه لم يغرق وانه مأخوذ من قول ابن المعتز: انظر إليه كزورق من فضة ... قد أثقلته حمولة من عنبر وصورة الشاعر الأندلسي فيها زيادة لطيفة، وهي أدق وأجمل موقعا من صورة ابن المعتز. وأضعف الشعراء تأثيرا في البيئة الأندلسية هو المتنبي، لشموخه في الطريقة الشعرية وفي حكمته الفلسفية، ولذلك قلما نجد محاولات واضحة للحاق بها مثل بعض معارضات ابن دراج القسطلي له في قصيدته الرائية (2) : لبيك أسمعنا نداك ودوننا ... نوء الكواكب مخويا أو ممطرا وفيها نسج على منوال قصيدة أبي الطيب في مدح ابن العميد: باد هواك صبرت أم لم تصبرا ... وبكاك إن لم يجر دمعك أو جرى فإذا تذكرنا أن هؤلاء ليسوا كل المحدثين وان أشعارا كثيرة أخرى دخلت الأندلس وتأثر بها الأندلسيون فحاكوها أو تغنوا بها ملحنة أدركنا أن تأثير الشعر المحدث في الشعر الأندلسي لم يكن مظهرا عابرا أو قليلا، ولكن هذا التأثير لم يكن خيرا كله، فان ربقة التقليد خانقة تحول القابليات عن طريق الابتكار، ولو أن الأندلسيين نظروا من خلال

_ (1) يتيمة الدهر 1: 398. (2) الذخيرة 1: 1/56.

أنفسهم مثلا إلى شعر الطبيعة لاستغنوا عن مناظرات ابن الرومي وتشبيهات ابن المعتز الجامدة، ولاستوحوا بيئتهم في وصف الخمر، وهكذا. مجمل خصائص الشعر في هذه الفترة غير ان الأدب الأندلسي، قبل كل شيء، وليد البيئة الأندلسية، عنها تكون وتبلور وبها تعلق، وعليها دار، فإذا عز تبين الشخصية الأندلسية فيه، فما ذلك إلا لأن المتكأ الحضاري له كان مشابها للمتكأ الحضاري للأدب المشرقي، وهذه حقيقة كبرى تقرب بين الأدبين، تقريبا يكاد يطمس كثيرا من الفروق، أو يحجبها عن أعيننا. ويمكننا ان نجمل خصائص الشعر ومميزاته في الأمور الآتية: 1 - ظل الشعر في شكله العام طوال الفترة الأموية جافيا غير مصقول، يفقد كثيرا من الحلاوة التي يحسها القارئ في موسيقى الشعر المشرقي الجيد. 2 - لم يتصل بثقافة عميقة لأن النهضة العلمية فيه لم تعش طويلا ولم تعمق جذورها في البيئة الأندلسية ولذلك ظلت السطحية تغلب على معانيه وموضوعاته التي يعالجها. 3 - حاول ان يعمق الصورة؟ مقتفيا خطى أبي تمام - وقد نجح بعض الشيء ولكنه في كثير من الأحيان خرج بها إلى الإحالة. 4 - اتكأ على نماذج من الأدب المشرقي - في أحوال كثيرة - فشغل بالمحاكاة عن الإنتاج الأصيل المبتكر.

4 - طبقات الشعراء في هذا العصر ان من يقرأ كتاب تاريخ علماء الأندلس للفرضي أو الصلة لابن بشكوال يستطيع ان يرى كل عالم أندلسي منسوبا لبلده، وان يلمس كيف كانت البلاد الأندلسية مليئة بالمحدثين والقراء والفقهاء، وكثير منهم يستحق أن يرحل إليه ويؤخذ عنه. ولكن الأمر في الشعر غير واضح على هذا النحو: صحيح أننا نجد بين الشعراء الجياني والقبري والجزيري والريي والموروري ولكن هؤلاء كانت تجذبهم قرطبة إليها للاستيطان فيها اكثر من جذبها للعلماء، لان قرطبة منتجع رزق للشعر وموطن لظهور مواهبه. ويبدو انه كان من الممكن ان نتصور انتشار الشعر على مدى واسع في المدن الأندلسية حين نتذكر ان أحد المؤلفين كتب أخبار شعراء البيرة وحدها في عشرة أجزاء - كما يقول ابن حزم - وما نظن البيرة وحدها كانت تتميز بذلك! غير ان الشعر في تلك العصور مقترن بالعطاء ومراكز السيادة ولم يكن في ذلك العصر من مراكز السيادة ما ينافس قرطبة، إلا في فترات قليلة. وفي تلك الفترات كانت هناك " بحيرات " صغيرة أو جزائر من النشاط الشعري في بعض المدن الأندلسية.

ففي أيام الأمير عبد الله كان إبراهيم بن حجاج شخصية واسعة النفوذ باشبيلية حتى حاول الاستقلال عن الدولة، وأصبحت تلك المدينة تنافس قرطبة في اجتذاب الشعراء إليها، فقصدوه من كل وجه، وكان منهم ابن عبد ربه والقلفاط، ولكنا لا نعرف شيئا عن شعراء من اشبيلية نفسها. وفي تلك الأيام أيضاً ذلك النشاط الواضح للشعر في الصراع بين المولدين والعرب بمنطقة البيرة. وفي جبل شمنتان (سمنتان في المغرب) أقام عبيد الله بن أمية بن الشالية (الشمالية في المغرب) إمارة مستقلة أيام الأمير عبد الله أيضاً، وكان عبيديس بن محمد الشاعر مكثرا من مدحه واصفا لمبانيه ومغازيه ومن ذلك قصيدته التي هنأه فيها ببعض الفتوح وأولها (1) : جاء البشير بما عم السرور به ... عن الأمير أبي مروان في السفر قال ابن حيان في ذكر ابن الشالية: له أفضال على الشعراء والأدباء فلهم فيه مديح سائر وكان من أحمدهم لانتجاعه وأنطقهم بشكره عبيديس ابن محمود الشاعر، وشعره فيه كثير مستحسن (2) . وكان عبيديس في أول أمره من جملة كتاب القصر بقرطبة وفي اول عهده كان مداحا للأمير عبد الله نفسه ثم هاجر إلى جوار ابن الشالية وفارقه حين أحسن بتغيره عليه ولجأ إلى ابن حفصون (3) وله انتجاع إلى سعيد بن جودي أمير العرب ومدائح فيه (4) . ذلك هو الأمر من حيث الرقعة المكانية. أما من حيث الزمن فيمكن أن نقسم شعراء هذا العصر في أربع طبقات (مع السماح بشيء من التداخل والمشاركة) : الطبقة الأولى: قدامى الشعراء من الذين عاشوا في عصر الولاة وأوائل

_ (1) المقتبس: 10 وانظر ترجمة عيديس في المغرب 2: 69 والجذوة: 278، والبغية رقم: 1135، والمقتبس في صفحات متفرقة، والحلة، الورقة: 115. (2) المقتبس: 9. (3) انظر المقتبس: 45، والمغرب 2: 69. (4) المقتبس: 125.

الدولة الأموية، ونميز من بينهم ثلاثة من المشهورين هم: جعونة بن الصمة أبو الأجرب الكلابي (1) ، شاعر فارس من العرب الطارئين على الأندلس كان يرحل ويحل بأكناف قرطبة وشعره بدوي الطابع ومن نماذجه قوله: ولقد أراني من هواي بمنزل ... عال، ورأسي ذو غدائر أفرع والعيش أغيد ساقط أفنانه ... والماء طيبه لنا والمرتع وكان أولا يهجو الصميل، فلما ظفر به الصميل عفا عنه، فأصبح مداحا له. وأقسم ممدوحه على نفسه ألا يراه إلا أعطاه ما حضره فكان أبو الأجرب يعتمد إغباب لقائه وكان لا يزوره لذلك الا في العيدين. وتوفي قبل حلول الدولة الأموية. وثانيهم أبو المخشي (2) عاصم بن زيد، وهو أيضاً طارئ غريب من العباد، وهم نصارى الحيرة، ولذلك كان الشعراء يعيرونه بالنصرانية في هجائهم له. وقد أدرك الدولة الأموية ومدح سليمان بن عبد الرحمن الداخل فظن هشام بن عبد الرحمن انه يعرض به في بعض شعره فعاقبه عقابا شديدا، قيل انه قطع لسانه، والأصح انه سمل عينيه، ودليل ذلك انه يذكر العمى في شعره. وقد دفع له الأمير عبد الرحمن دية عينيه مضاعفة وأجازه بألفي دينار وعنف ابنه على فعلته، وعطف عليه هشام نفسه ودفع له دية أخرى مضاعفة. اما شعره في العمى فهو قوله: خضعت أم بناتي للعدا ... أن قضى الله قضاء فمضى ورأت أعمى ضريرا إنما ... مشيه في الأرض لمس بالعصا فاستكانت ثم قالت قولة ... - وهي حرى - بلغت مني المدى ففؤادي قرح من قولها: ... ما من الأدواء داء كالعمى وشعره من النسق البدوي ومن نماذجه الواضحة قوله: وهم ضافني في جوف يم ... كلا موجيهما عندي كبير

_ (1) ترجمة في الجذوة: 177 والمغرب 1: 131 ورسالة ابن حزم. (2) ترجمة في المغرب 2: 123 والجذوة: 377 وابن القوطية: 35.

فبتنا والقلوب معلقات ... وأجنحة الرياح بنا تطير وقد مات أبو المخشي أيام الحكم به هشام وآخر شعره قوله: أم بنيات الضعيف حويلها ... تعول امرءا مثلي وكان يعولها إذا ذكرت ما حال بيني وبينها ... بكت تستقيل الدهر مالا يقيلها وثالث هؤلاء هو غربيب الطليطلي (1) وكان ذا حكمة ودهاء مشهورا بالفضل والخير ولذلك أسند إليه أهل طليطلة أمرهم، وكانوا ذوي أشر وطغيان واستخفاف بالعمال، فلم يكن الأمير الحكم يطمح فيهم وغربيب بينهم، حتى إذا مات أرسل إليهم فأوقع بهم، وكان الناس يتداولون من شعر غربيب هذه الأبيات: يهددني بمخلوق ضعيف ... يهاب من المنية ما أهاب وليس إليه محيا ذي حياة ... وليس إليه مهلك من يصاب له أجل ولي أجل وكل ... سيبلغ حيث يبلغه الكتاب وواضح من هذه الأبيات لم وصف غربيب بالفضل والخير يومئذ. الطبقة الثانية: شعراء عهد الأمارة (200 - 300) وأكثرهم من شعراء المؤدبين مثل عباس بن ناصح والقلفاط وعبيديس الكاتب ومؤمن بن سعيد. ومنهم من يقع الشعر لديه موقعا ثانويا كابن الشمر المنجم وعباس بن فرناس التاكرني (- 274) وكان متفلسفا منجما صاحب نيرنجات واختراعات كمحاولته الطيران واتخاذه الزجاج من الحجارة وفك الموسيقى والعروض (2) . ومع ان يحيى الغزال كان " عرافا " أيضاً فان الشعر أبرز أدواته، وهو أعلى من هؤلاء مرتبة. وقد أثبتنا له والمؤمن بن سعيد والقلفاط ترجمات في هذا الكتاب متخذين من هؤلاء الثلاثة ممثلين لعهد الأمارة. وفي هذه الفترة أيضاً تميز ابن عبد ربه وأدرك عصر الخلافة. وقد عد ابن حيان في المقتبس الشعراء الذين كانوا في عصر الأمير

_ (1) ترجمة في الجذوة: 307، وابن القوطية: 46. (2) انظر المغرب 1: 333 والجذوة: 300.

عبد الله فذكر ابن عبد ربه ثم قال: وكان المصلي في حلبة الشعراء أيام الأمير عبد ربه بعد احمد بن عبد ربه، عبيد الله بعد احمد بن عبد ربه، عبيد الله بن يحيى بن إدريس الخالدي أحد بيوتات الشرف الموالين في هذه الدولة المروانية، وكان من سراة الناس وأدبائهم وعلمائهم، مال به طبيعه إلى صوغ القريض فأبدع فيه جدا، وجارى ابن عبد ربه فلم يبعد عن تجويده وكان يعارضه كثيرا في حسان قصائده ولا يقصر عن مداه (1) . وأدرك عبيد الله هذا عهد الناصر والحكم وله شعر كثير لم يصلنا. وعد ابن حيان أيضاً القلفاط وابن قلزم ومقدم بن معافي القبري وقاسم بن عبد الواحد العجلي وسعيد ابن عبد ربه وإسحاق المنادي وزيد بن ربيع الحجري وعفير بن مسعود راوية شعر عباس بن ناصح وغيرهم. واكثر هؤلاء أدرك عصر الخلافة أيضاً. الطبقة الثالثة: شعراء عصر الخلافة (300 - 366) وهم الذين علا نجمهم أيام الناصر والمستنصر. في هذا العصر كان يعيش احمد بن فرج الجياني صاحب كتاب الحدائق، وقد ذكر في كتابه هذا مختارات لمعاصريه ولمن كان قبلهم. ويمكن ان نستعيد جزءا من هذا الكتاب المفقود مما استخلصه منه الحميدي في الجذوة وابن سعيد في المغرب وابن الأبار في الحلة السيراء. وقد صرح الحميدي بنقله عن " الحدائق " في اكثر من تسع عشرة مرة في كتابه. ومن الشعراء الذين ذكرهم من عاش في زمن الناصر والمستنصر أخوان لأحمد بن فرج نفسه، وعبيد الله بن يحيى بن إدريس المتقدم الذكر، وعبيد الله بن إسماعيل بن بدر وإسماعيل بن بدر وإدريس بن الهيثم ومحمد بن قاسم بن وهب ومحمد بن قادم ومحمد ابن مسرور وألمه ماله (أي ذو النفس الرديئة) ومقدم بن معافي القبري. ومن يراجع ما أورده الثعالبي في اليتيمة من مختارات غزلية للشعراء الأندلسيين يدرك صلة هذه المختارات وصلة الشعراء الذين ذكرهم الثعالبي

_ (1) المقتبس: 44

بكتاب الحدائق، مما قد يدل على أن الثعالبي استغل هذا المصدر أو استغله له من أنشده هذا الشعر. ويلحق بهؤلاء المتقدم ذكرهم شعراء كثيرون منهم الرمادي وأستاذه أبو بكر بن هذيل. الطبقة الرابعة: شعراء الدولة العامرية وهم كثيرون ومن أشهرهم عبد الرحمن بن أبي الفهد وعبد الملك بن إدريس الجزيري والطليق والمصحفي والشبانسي وابن شخيص ومحمد بن مسعود الغساني ومحمد بن الحسين الطبني وعشرات غيرهم. وممن أدرك الدولة العامرية وجاز عهد الفتنة من أكابر الشعراء الأندلسيين: ابن دراج وابن شهيد وعبادة بم ماء السماء وابن الحناط وأبو المغيرة بن حزم وابن عمه الفقيه أبو محمد. وقد ترجمت لبعض هؤلاء الشعراء فيما يلي، إذ الترجمة لهم جميعا أمر غير عملي، وإنما أقدم نماذج فحسب.

تراجم الشعراء 1 - يحيى بن حكم الجياني الملقب بالغزال 2 - مؤمن بن سعيد 3 - القلفاظ 4 - ابن عبد ربه 5 - الرمادي

فراغ

1 - يحيى بن حكم الجياني الملقب بالغزال 156 - 25هـ المطرب 125 - 141، والجذوة: 351، والنفح 1: 449، والمغرب 2: 57، وبغية الملتمس رقم: 1467. كان عمره حين توفي عبد الرحمن الداخل ستة عشر عاما، ثم شهد عهد هشام بن عبد الرحمن (172 - 180) والحكم ابنه (180 - 206) وعبد الرحمن الحكم (206 - 238) وصدرا من خلافة محمد بن عبد الرحمن، ويبدو انه ذكر في أرجوزته التاريخية فقال (1) : أدركت بالمصر ملوكا أربعه ... وخامسا هذا الذي نحن معه ومعنى ذلك انه عاصر كثيرا من أحداث الأندلس، وربما تمرس ببعض الحوادث، وكان عمره يوم الهيج الثاني لأهل الربض (202) ستا وأربعين سنة، ولكن الأخبار عنه قبل مجيء عبد الرحمن بن الحكم إلى الحكم مجهولة على نحو غريب يبعث على الدهشة، وفي مطلع إمارة عبد الرحمن

_ (1) النفح 1: 449.

عبد الرحمن زرياب إلى الأندلس وتقول الروايات ان الغزال لم يرتح إلى هذا القادم فهجاه هجاء مقذعا، لسبب لا ندريه، فغضب منه عبد الرحمن عندما شكاه إليه زرياب فأمر بنفيه عن الأندلس فكلمه فيه أكابر دولته فعفا عنه، وتضيف إحدى الروايات انه لم يطب نفسا بالمقام في بلده فهاجر إلى المشرق، بعيد وفاة أبي نواس، وانه أقام مدة يتجول في البلاد المشرقية ثم حن إلى وطنه فعاد وهو قد شارف الستين. ولكن ليس هناك من الأسباب المقنعة ما يجعلنا نعتقد صحة هذه الرواية أو أن الغزال رأى المشرق أبدا. وولاه الأمير عبد الرحمن قبض الأعشار ببلاط مروان واختزالها في الأهراء استجابة لرغبة عبر عنها في إحدى قصائده (1) . وفي ذلك العام ارتفعت الأسعار فباع الغزال كل ما لديه من مخزون، ثم نزل المطر ورخص الطعام، فلما علم الأمير بما فعله الغزال أنكره وقال: " إنما تعد الأعشار لنفقات الجند والحاجة إليها في الجهد فماذا صنع الخبيث؟ خذوه بأداء ما باع من أثمانها واشتروا به طعاما "، وأبى الغزال ان يدفع ثمن ما باعه وقال: " إنما اشتري لكم من الطعام عدد ما بعت من الإمداد " فأمر الأمير بحمله مقيدا وسجنه بقرطبة، ومن السجن رفع الغزال إلى الأمير قصيدته التي مطلعها: بعض تصابيك على زينب ... لا خير من الصبوة للأشيب وقد مدح فيها الأمير بالعدالة والهيبة فقال: من مبلغ عني إمام الهدى ... الوارث المجد أبا عن أب إني إذا أطنب مداحه ... قصدت في القول فلم أطنب لا فك عني الله إن لم تكن ... أذكرتنا من عمر الطيب وأصبح المشرق من شوقه ... إليك قد حن إلى المغرب

_ (1) راجع المطرب: 128 وفيه أيضاً تفصيل لفارة الغزال عند ملك النورمانديين 130 - 136.

منبره يهتف من شوقه ... إليك بالسهل وبالمرحب أطربه الوقت الذي قد دنا ... وكان من قبلك لم يطرب هفا الوجد فلو منبر ... طار لوافى خطفة الكوكب إلى جميل الوجه ذي هيبة ... ليست لحامي الغابة المغضب لا يمكن الناظر من رؤية ... إلا التماح الخائف المذنب ثم تعرض لذكر الطعام وبيعه والمال الذي قبضه فقال: إن ترد المال فإني امرؤ ... لم أجمع المال ولم أكسب إذا أخذت الحق مني فلا ... تلتمس الربح ولا ترغب قد أحسن الله إلينا معا ... أن كان رأس المال لم يذهب وواضح من هذا كيف ان الغزال لا يستعمل التذلل للاستشفاع، وإنما يعتمد على شاعريته في المدح وعلى روحه الفكاهية. غير أن تأريخ هذه القصة بأنها حدثت في أيام عبد الرحمن مما يستدعي شيئا من التوقف، فإنا لا نعلم قحطا حدث في أيامه، لكن هناك مجاعة حدثت سنة 199هـ في أيام الحكم والد عبد الرحمن، فلعل للحكاية صلة بها، أو لعل هناك قحطا حدث في أيام عبد الرحمن نفسه ولم تحدثنا عنه كتب التاريخ، التي وصلت إلينا. ومن أخباره في أيام عبد الرحمن صلته بقاضيين أخوين من بلده جيان، وهما يخامر الشعباني وأخوه معاذ، أما الأول فقد ولي القضاء سنة 220هـ، فعامل الناس بخلق صعب ومذهب وعر فانبرى له الغزال يهجوه ويصفه بالبله والجهل، ومن شعره يشير إليه (1) : فسبحان من أعطاك بطشا وقوة ... وسبحان من ولى القضاء يخامرا ثم ولي معاذ القضاء سنة 232 وكان طيبا ولى أحباس قرطبة رجلا ظن فيه خيرا فخاب ظنه فقال الغزال (2) :

_ (1) قضاة قرطبة: 83. (2) قضاة قرطبة: 86 والتكملة: 732 والعقد 1: 393 (ط. 1293هـ) .

يقول لي القاضي معاذ مشاورا ... وولى امرءا؟ فيما يرى - من ذوي الفضل فديتك ماذا تحسب المرء صانعا ... فقلت وماذا يصنع الدب بالنحل يدق خلاياها ويأكل شهدها ... ويترك للذبان ما كان من فضل كان الغزال حينئذ قد تجاوز الخامسة والسبعين وتهكمه بالقاضي وصاحب الاحباس ممزوج بالحكمة. وفي هذه السن أو في قريب منها كان ما يزال يروح ويجيء إلى عبد الرحمن في قصره، وذات يوم دخل على الأمير فحياه هذا بقوله (1) : جاء الغزال بحسنه وجماله ... فطلب إليه ان يجيز فقال: قال الأمير مداعبا بمقاله ... جاء الغزال بحسنه وجماله أين الجمال من امرئ أربى على ... متعدد السبعين من أحواله أين الجمال له، الجمال من امرئ ... ألقاه ريب الدهر في أغلاله وأعاره من بعد جدته بلى ... وأحال رونق وجهه عن حاله وهي قصيدة طويلة، لم تبق منها إلا هذه الأبيات التي تدل على نسق جميل. سفارة الغزال إلى بلاد النورمان (أو إلى القسطنطينية) ومن أبرز الحوادث في حياة الغزال سفارته عن الأمير الأندلسي وقد قال ابن سعيد انه ذهب إلى ملك القسطنطينية (2) ، وأول من دون خبر هذه الرحلة هو تمام بن علقمة، معاصر الغزال، في تاريخ له ألفه، وذكرها ابن حيان في كتاب المقتبس، وعن أحدهما، فيما يبدو، نقل ابن دحية شيئا من خبر تلك الرحلة مفصلا في كتاب المطرب ولكنه جعل

_ (1) ابن عذاري 2: 139. (2) المغرب 2: 57.

أحداث الرحلة تتصل بسفارة الغزال إلى بلاد المجوس (النورمان) واستغرقت هذه الرحلة بين سفر وإقامة مدة عشرين شهرا. ففي سنة 230هـ هاجم النورمانديون في نحو ثمانين مركبا شبه جزيرة البيرة سالكين الطريق البحرية من اشبونة إلى قادس ثم إلى شذونة ثم توغلوا حتى اشبيلية قسرا وقتلوا كثيرا من أهلها واستمروا على ذلك سبعة أيام فلما سمع الأمير عبد الرحمن بذلك بعث بالجيوش لمهاجمتهم، وتزايدت قوة المجوس بمقدوم عدد جديد من السفن، وتغلغلوا إلى قرى أخرى في عمالة اشبيلية، وبعد ان فتكوا بالناس فتكا ذريعا عاد قسم كبير منهم إلى شذونة ثم إلى قادس. وفي أواخر صفر استطاعت جيوش عبد الرحمن ان تصيب في من بقي منهم مقتلا عند قرية طلياطة، وقتل قائد أسطولهم وصلب بعض من أخذ منهم على جذوع النخل باشبيلية، كل ذلك حدث في خلال اثنين وأربعين يوما، ويبدو انهم أحبوا الصلح بعد هذه المعارك فوفد رسول منهم على عبد الرحمن، فوافق هذا على الصلح وانتدب الغزال ليذهب إلى بلادهم، وبعث معه بهدية ثمينة، وهيء له مركب حاذى به مركب الرسول، وذهبوا جميعا إلى بلاد المجوس. وفي عودته، مر بشنت يعقوب، ثم صدر علة قشالة؛ ومنها إلى طليطلة ومنها إلى قرطبة. إذن فان هذه الرحلة قد تمت بعيد سنة 230 هـ وعمر الغزال يومئذ إذا حسبنا انه ولد سنة 156هـ كان يناهز الخامسة والسبعين، الا ان تمام بن علقمة الذي سج تاريخ هذه الرحلة يقول انه كان قد شارف الخمسين، وعلى هذا فهناك خطأ ما في هذا الموقف، إما في حقيقة سن الغزال أو في التاريخ الذي ذهب فيه إلى بلاد المجوس؛ وللخروج من هذا الاضطراب علينا أن نفترض أن هناك سفارتين السفارة الأولى كانت إلى القسطنطينية وعمر الغزال خمسون سنة والثانية كانت إلى بلاد المجوس وعمره قد تجاوز السبعين.

والرحلة كما وصفها صاحب المطرب تتلخص في ان الغزال ذهب مع جماعة لم تذكر منهم المصادر الا واحدا هو يحيى بن حبيب، وهيأت له رحلته تجارب جديدة في الحياة، واستخرجت كثيرا من الشعر، ففي البحر قابلته العواصف، فوصفها الغزال ووصف تعلقهم بين الحياة والموت، وقدم لذلك بمطلع غزلي ثم قال: قال لي يحيى وصرنا ... بين موج كالجبال وتولتنا رياح ... من دبور وشمال شقت القلعين وانبتت ... عرى تلك الجبال وتمطى ملك المو ... ت إلينا عن حيال فرأينا الموت رأي العين ... حالا بعد حال لم يكن للقوم فينا ... يا صديقي رأس مال وفي هذه القطعة التحليلية الرقيقة تجد الغزال لا يزال في أشد حالات الكرب تشف نفسه عن الفكاهة العذبة في قوله: " لم يكن للقوم فينا يا صديقي رأس مال "، وعرفته هذه الرحلات على بلاد غريبة وناس غرباء وعادات يراها لأول مرة، والحكايات التي تروى في هذه الرحلة ليست كلها من نسج الخيال وبخاصة رفض الغزال أن يسجد لملك المجوس، ثم إعجاب ملك المجوس برأيه وحكمته، ومجادلته للعلماء والحكماء هنالك، ألا أن العنصر النسائي غالب على قصص تلك الرحلة، وافتتان الغزال بزوجة الملك واسمها تود أو نود (1) - تصنعا لا حقيقة - يدل على دهائه في التقرب إلى القلوب، وإجادته السفارة السياسية، وقد سئل الغزال هل كانت الملكة من الجمال بالقدر الذي أطنبت فيه فقال لمحدثه تمام بن علقمة نفسه: " وأبيك لقد كان فيها حلاوة ولكني اجتلبت بهذا القول محبتها ونلت منها فوق ما أردت ". وقد خشي أصحاب الغزال عليه من كثرة تردده إلى الملكة أن يثير هذا الغيرة في نفس زوجها فلما قيل

_ (1) يعتقد الأستاذ بروفنسال أنها هيTheodora زوج توفلس وابنها هو الأمير الطفل ميشيل.

لها في ذلك قالت: " ليس في ديننا نحن هذا ولا عندنا غيرة ولا نساؤنا مع رجالنا الا باختيارهن تقيم المرأة معه ما أحببت وتفارقه إذا كرهت ". ونوادره مع الملكة مبنية على خفة ظله وميله إلى الدعابة، كأن تسأله عن سنه فيقول لها: عشرون، فإذا أبدت دهشتها قال لها وما تنكرين من هذا؟ ألم تري مهرا ينتج وهو أشهب، وربما تدخل في هذه الحكايات شيء من الخيال المشرقي عن الختان والخضاب وما أشبه. ويروى ابن سعيد أنها قد جاءته ذات مرة بخمر، وطلبت إليه ان يشربها، فأنى لأن ذلك لا يجوز في دينه ثم أدركته ندامة فقال من قصيدة يعبر عن ذلك (1) : فقلت حماقة مني ونوكا ... فديتك لست من أهل الشمول فأية غرة سبحان ربي ... لو اني كنت من أهل العقول شخصيته وخلقه كان يحيى بن الحكم في صباه جميلا ومن اجل جماله لقب بالغزال، ويبدو انه كان فارع الطول، قوي البنية، وقد احتفظ بقوة بنيته هذه وهو في سن عالية، وقد وصفه معاصره تمام بن علقمة لأنه كان في اكتهاله وسيما، وانه حين سفر إلى بلاد المجوس كان ما يزال مجتمع الأشد ضرب الجسم حسن الصورة، وانه كان قد وخطه الشيب، وفي شيخوخته ما يزال الأمير عبد الرحمن يداعبه بذكر جماله، فينكر هذا ويؤكد أن الزمن قد غيره، وأحاله عن الحال الأولى، ولا ريب في أن اختياره للسفارة في بلاد أجنبية كان يشير إلى الجانبين البارزين من شخصيته: خلقه وخلقه، فأما الخلق فهو موصوف بحدة الخاطر وبديهة الرأي وحسن الجواب والنجدة والإقدام والحنكة السياسية، هذا إلى ثقافة جيدة، وبخاصة معرفته بعلم النجوم، كمعاصرة ابن الشمر منجم الأمير عبد الرحمن،

_ (1) المغرب 2: 58.

وقد شهد الحميدي بأنه كان جليلا في نفسه وعلمه، وسماه المقري " عرافا ". ويشهد معاصروه انه كان قليل المال مهملا في الأمور المادية، وتدل حادثة بيعه للطعام أيام المجاعة حين ولي قبض الأعشار على انتهاز الفرص ليجد المال، وعلى تصرفه بما ليس له، وعلى تبديده المال الذي قبضه في وقت سريع. ويقولون انه كان مقبلا على اللهو ثم أقلع عن شرب الخمر بعد عودته من المشرق وكانت يومئذ قد علت به السن وشارف الستين، واتجه إلى الزهد عملا وقولا. وقد أورد له ابن عبد ربه قصيدة تدل على انه كان بعيدا من اللهو وانه لم ينقد للذاته أبدا، مطلعها (1) : لعمري ما ملكت مقودي الصبا ... فأمطو للذات في السهل والوعر وفيما يتحدث عن قناعته بشربة ماء وبخبز وبقل دون لحم وانه لو عمر تسعين حجة؟ وقد عمر - ما اشتاق إلى الخمر والمزاهر، بل انه سمع من الناس ان الخمر مرة، ولم يذق لها طعما: وبالله لو عمرت تسعين حجة ... إلى مثلها ما اشتقت فيها إلى خمر ولا طربت نفسي إلى مزهر ولا ... تحنن قلبي نحو عود ولا زمر وقد حدثوني أن فيها مرارة ... وما حاجة الإنسان في الشرب للمر فان كانت هذه القصيدة للغزال حقا، فأنها قد تغير النظرة إلى سيرته، وإلا فأنها مما قاله بعد ان نسك، على أننا نراه في رحلته يتعذر للملكة بان الخمر حرام في دينه، ولا يعتذر بكبر السن أو بما يقارب ذلك، ولا بد من ان نذكر دائما انه كان ميالا للمداعبة والفكاهة في كل أدوار حياته. شعره شاعر الأندلس المقدم؟ في نظري - على جميع شعراء هذه الفترة، وربما كان ابن شهيد أعمق منه ثقافة وأبصر بالنقد، وكلامه أشد أسرا

_ (1) العقد 5: 352 (ط. اللجنة) .

وأجزل جزالة، ولكن الغزال أقرب إلى الطبع وأبعد عن التكلف، وأعمق تجربة وأنفذ نظرا، وأغور حكمة، ومن قلة احتفاله بصقل المبنى الشعري تجد على شعره آثار الجفاء وقلة التحلية اللفظية، وطلب المعنى في قالب مستو وان لم يكن شديد الرصانة، وهو ميال إلى الجانب التحليلي أكثر من ميله إلى التركيز، ولذلك اعتقد أن إتقانه للقصص الشعري كان من سماته الشعرية البارزة كما في قطعته التي وصف فيها ركوب البحر مع يحيى بن حبيب، وكما في تصويره لهذه المشكلة القديمة الحديثة، تخيير الفتاة بين شيخ غني أو شاب فقير، إذ يقول (1) : وخيرها أبوها بين شيخ ... كثير المال أو حدث فقير فقالت خطتا خسف وما إن ... أرى من خطوة للمستجير ولكن إن عزمت فكل شيء ... أحب إلي من وجه الكبير لأن المرء الفقر يثري ... وهذا لا يصير إلى صغير ومما يميزه بين شعراء الأندلس ميزتان كبيرتان الأولى: قيام شعره على النظرة الساخرة، ووضوح نظراته الفلسفية القائمة على تجربيته، وهما خاصيتان عزيزتان في الشعر الأندلسي. فأما السخرية فأنها القاعدة الصلبة المتصلة بروحه الفكاهية، وهي لا تفارقه في أحرج المواقف أو في أشدها جدية، حتى في الغزل، في مثل قوله: وهي أدرى فلماذا ... دافعتني بمحال أترى أنا اقتضينا ... بعد شيئا من نوال وقد ترفع هذه السخرية إلى مستوى المرارة في النظر إلى حقائق الحياة كقوله: قالت: أحبك، قلت: كاذبة ... غري بذا من ليس ينتقد هذا كلام لست أقبله ... الشيخ ليس أحد سيان قولك ذا وقولك ... إن الريح نعقدها فتنعقد

_ (1) الجذوة: 252.

أو أن تقولي: النار باردة ... أو أن تقولي: الماء يتقد وحين تبلغ سخريته هذا المستوى تلتقى بفلسفته الشكية الجانحة إلى التشاؤم وسوء الظن، وهذا هو حصاد تجربة طويلة جعلته يقول (1) : إذا أخبرت عن رجل بريء ... من الآفات ظاهرة صحيح فسلهم عنه هل هو آدمي ... فان قالوا نعم، فالقول ريح ولكن بعضنا أهل استتار ... وعند الله أجمعنا جريح ومن إنعام خالقنا علينا ... بأن ذنوبنا ليست تفوح فلو فاحت لأصبحنا هروبا ... فرادى بالفلا ما نستريح وضاق بكل منتحل صلاحا ... لنتن ذنوبه البلد الفسيح وهذه الفلسفة هي التي جعلته يرى العلاقة الاجتماعية شيئا شبيها بعلاقة القط والفأر والثعلب والدجاج في قولة: لا ومن أعمل المطايا إليه ... كل من يرتجي إليه نصيبا ما أرى ها هنا من الناس إلا ... ثعلبا يطلب الدجاج وذيبا أو شبيها بالقط ألقى بعينيه إلى فأرة يريد الوثوبا ... ويغرق في هذه النظرة الشكية الكافرة بالخير إذا هو استحضر ذكر المرأة، فالمرأة سرج للتداول، أو خان يتعاقب عليه النازلون أو ثمرة يأكلها أول مار بها (2) : إن النساء لكالسروج حقيقة ... فالسرج ريثما لا تنزل فإذا نزلت فان غيرك نازل ... ذاك المكان وفاعل ما تفعل أو منزل المجتاز أصبح غاديا ... عنه، وينزل بعده من ينزل أو كالثمار مباحة أغصانها ... تدنو لأول من يمر فيأكل وخلاصة فلسفة الغزال أن الناس جميعا متساوون لأنهم يتساوون في

_ (1) الجذوة: 252. (2) المطرب: 136.

العيوب ولا يتفاوتون في الفضائل، وكل واحد يرى عيب أخيه ولو كان صغيرا ويعمى عن عيب نفسه: يستثقل اللمم الخفيف بغيره ... وعليه من أمثال ذاك جبال ويبدو أن الشيخوخة فعلت فعلها في نفس الغزال ومزجت نظرته إلى الحياة بمرارة شديدة وبعد أن كانت سخريته تريحه، ثقلت عليه وطأة السنين، وكان من جراء ذلك ان امتزج شعره بالموعظة، واتجه اتجاها زهديا فأخذ ينعى على أهل اليسار احتفالهم ببناء قبورهم كأنهم غافلون عما خرب من مدائن وقصور ويذكر الموت، وانه لم يفرق بين من يلبس الصوف ومن يلبس الحرير: إذا أكل الثرى هذا وهذا ... فما فضل الكبير على الحقير وأخذ يرثي نفسه ويستشعر الغربة بين أجيال لا تعرفه، بل ربما حسدته على طول عمره (1) : أصبحت والله محسودا على أمد ... من الحياة قصير غير ممتد حتى بقيت بحمد الله في خلف ... كأنني بينهم من خشية وحدي وما أفارق يوما من أفارقه ... إلا حسبت فراقي آخر العهد أنظر إلي إذا أدرجت في كفن ... وانظر إلي إذا أدرجت في اللحد واقعد قليلا وعاين من يقيم معي ... ممن يشيع نعشي من ذوي ودي هيهات كلهم في شأنه لعب ... يرمي التراب ويحثوه على خدي وحتى في هذا الفن لا نحس أن الغزال كان يصطنع هذه الحكمة، ليقال انه مجرب، وإنما هي تفيض عن نفسه طبيعية معقولة؟ وان كانت مريرة - وفي بعض أشعار الزهد هذه تصح له ابتكارات المستغرق في ذات موضوعه كقوله (2) :

_ (1) العقد 3: 58، 190 (ط. اللجنة) . (2) المطرب: 141.

ولو كانت الأسماء يدخلها البلى ... لقد بلي اسمي لامتداد زماني وما لي لا أبلى لسبعين حجة ... وسبع أتت من بعدها سنتان إذا عن لي شخص تخيل دونه ... شبيه ضباب أو شبيه دخان تلك هي النهاية التي انتهى إليها الغزال في الشعر، أما بدايته فكانت بصرا نافذا بالنقد في شبابه أيام كان يدرس في مسجد قرطبة، وعبثا لاذعا بمن حوله من الأشخاص الذين لا يعجبونه، ومحاكاة لأبي نواس في خمرياته ومجونياته، وهجاء مقذعا، وغزلا لا يتميز بالرقة، وربما كان اضعف فنونه، ثم حكمة قائمة على السخرية تنتهي إلى فلسفة شكلية مريرة متشائمة، ورثاء لشيخوخته وضعفه.

2 - أبو مروان مؤمن بن سعيد بن إبراهيم بن قيس 267هـ - المغرب 1: 132 - 134 الجذوة: 330 المقتبس: 138 الخشني: 103 - 105، 121 النفح2 - 873 ابن القوطية: 72، 85 اليتيمة1: 371 - 372 جده إبراهيم بن قيس من موالي الأمير عبد الرحمن الداخل اتخذ قرطبة موطنا له، وفيها ولد مؤمن ونشأ وعلا نجمه في الشعر أيام الأمير محمد (238 - 273) واختص بمدحه مسلمة ابن الأمير المذكور (1) والقائد هاشم بن عبد العزيز، ولكنه كان كثير التندر والتهكم حاد الجواب لاذع التعليقات، يتتبع زلات الناس ويكثر من الهجاء وينبز خصومه بالألقاب التي تدور على الألسنة بسرعة، وهذا جر عليه عداوات كثيرة ولعله خرج عن قرطبة في رحلة إلى المشرق لكي يغيب عن ارض لم تعد تطيق

_ (1) المغرب1: 134.

وجوده، وفي رحلته هذه لقي أبا تمام وروى عنه شعره، وعاد إلى الأندلس بعد ذلك يقرئ شعر أبي تمام ويدرس الأحداث بجامع قرطبة (1) ، وعلى مقربة منه مجلس القاضي، ولذلك كان مؤمن عارفا بما يجري من أمور في مجلس القضاء فكان كثير العبث بالقضاء وقد مرت بنا مداعبته للقاضي قبعة عمرو بن عبد الله وتعريضه به وإضحاك الناس بذلك (2) ، وكان لهذا القاضي ابن يدعى أبا عمرو كثرت فيه القالة ونسب إلى اختيان بعض المال المستودع فهجاه مؤمن ومدح أباه (3) فلما بلغت الأبيات سمع الأمير محمد قال: قد أكثر الناس في عمرو وفي ولده وعزل الأب عن القضاء (4) . وكان مؤمن لا يدع موقع نادرة أبدا حتى مع الطالب الذين يقرأون عليه. سأله مرة أحدهم بعد ان قرأ بيت أبي تمام: أرض خلعت اللهو خلعي خاتمي ... فيها وطلقت السرور ثلاثا من سرور هذه أصلحك الله؟ فقال مؤمن: هي امرأة حبيب وقد رأيتها ببغداد (5) . وكانت تعليقاته تشيع بين الناس فيرددونها فتكون سببا لتنكر الناس له وحقدهم عليه وتربصهم به. قبل له مرة: مالك لا تسامر الوزير حامدا (الزجالي) حسبما نراك تفعله مع الوزراء من اصحابه مع قديم اتصالك به فقال: ذاك جنازة غريب لا يصحبها من صحبها إلا الله. فبلغت كلمته حامدا فحقدها عليه. وبعد أيام ذهب مؤمن يشيعه وهو ذاهب من قصر السلطان إلى داره فلما اراد مؤمن الانصراف قال له حامد: أعظم الله أجرك أبا مروان وكتب خطاك

_ (1) قضاة قرطبة: 104 (2) قضاة قرطبة: 105 (3) قضاة قرطبة: 121 وابن القوطية: 72 (4) قضاة قرطبة: 121 (5) المغرب1: 132.

(وهو دعاء يقال لمن يشيع الموتى) (1) ، هذا كله مع سابق صحبه ومسامرة، حتى ان مؤمنا كان من مداحي حامد ولما ولي الكتابة مدحه بقصيدة مطلعها (2) : أي الأمور برأي حامد ... لم تنتظم نظم القلائد واذا كان حامد قد اكتفى بمعاتبته على هذا النحو فان غيره لم تكن تهدأ ثائرته الا بالانتقام. وكانت نقطة التحول في حياة مؤمن حين فسد ما بينه وبين القائد هاشم بن عزيز. ففي سنة 262هـ توجه هاشم في غزو في ناحية ابن مروان الجلقي الثائر ببطليموس، وتقدم مبعدا عن معظم عسكره في فئة قليلة فأخذت عليه المضايق وقتل جماعة من اصحابه ووقع هو في الأسر (3) فشمت به مؤمن وتوجه بعواطفه صوب عمر بن عم هاشم وعدوه وقال يخاطبه في قصيدة صنعها سرا: تصبح أبا حفص على أسر هاشم ... ثلاث زجاجات وخمس رواطم وبح بالذي قد كنت تخفيه خفية ... فقد قطع الرحمن دولة هاشم وصنع على وزن هذه القصيدة قصيدة أخرى يمدح بها هاشما لكي يظهر البرئ من الشماتة به. وفي سنة 264 خلص هاشم من الأسر، وبلغته شماتة مؤمن وتغيرت عليه نفسه فأخذ يكيد له عند الأمير محمد. ومن السهل إيقاع شخص مثل مؤمن منطلق اللسان لا يحتفظ في اقواله. ويبدو أن هاشما نجح في سعايته، وكان من ذلك ان ألقي مؤمن في السجن، فأخذ يرسل القصائد والرسائل المطولات من حبسه إلى هاشم لعله يعطف عليه، وتشفع لديه بجده محمد بن جهور فما أفاده ذلك شيئا، فلما يئس من عطفه اخذ يهجوه بالمقذعات (4) .

_ (1) المغرب 1: 331 (2) ابن القوطية: 85 (3) ابن عذاري: 154 (4) المغرب 1: 133

ولبث مؤمن في سجنه حتى عام 267. ثم أن أهل السجن ذات يوم كسروا السجن وفروا منه، وربما كان سبب ذلك مجاعة حدثت حينئذ وتطاول فيها المفسدون وكثرت السرقات والتعديات (1) ، وأبى مؤمن أن يفر حين سمع أن هاشما قدم لمعاينة السجن ظنا منه ان ذلك قد يرقق قلبه عليه، ولما دخل هاشم قام إليه مؤمن واستعطفه فلم يلتفت إليه بل أوصى السجان أن يوصد عليه، فأدركه كمد ويأس لم يمهلاه اكثر من ستة أيام، وتوفي ليلة الثلاثاء لأربع خلون من رجب سنة 267 (2) . شعره قال فيه ابن حيان: انه فحل شعراء قرطبة، ولقبه الحجازي " دعبل الأندلس " لأنه تميز في الهجاء حتى كان يهاجي ثمانية عشر شاعرا ويتفوق عليهم، وممن كان يهاجيه ديك تيس الجن احمد بن محمد الكتاني (الجياني) (3) والعتبي المختص بمدح الأمير القاسم بن محمد (4) وعباس بن فرناس، وكان مؤمن يتندر عليه في محاولته الطيران ويقول: يطم على العنقاء في طيرانها ... إذا ما كسا جثمانه ريش قشعم وصنع عباس في بيته هيئة السماء وخيل للناظر فيها النجوم والغيوم والبروق فهجاه مؤمن عابثا. وكان أيضاً يتعقبه في شعره فلما أنشد قول عباس في مدح الأمير محمد: رأيت أمير المؤمنين محمدا ... وفي وجهه بذر المحبة يثمر قال له مؤمن: قبحا لما ارتكبته، جعلت وجه الخليفه محرثا يثمر فيه البذر، فخجل عباس وسبه (5) .

_ (1) قضاة قرطبة: 151 (2) المغرب 1: 133 (3) المغرب 2: 158 (4) المغرب 1: 134 (5) النفح 2: 873

وقد قال الحميدي انه كثير الشعر ولكن لم يصلنا الا مقطعات قليلة منه وأقل ما تبقى من شعره هو الهجاء، فنه الذي كان فيه ظاهرا على معاصريه من الشعراء، ووردت له مقطعات في الغزل لان ابن فرج ذكره في الحدائق وأورد له أمثلة من شعره الغزلي. وذكر له ابن حيان في المقتبس قطعة من الغزل بالمذكر (1) . ومن أصدق شعره تصويرا لحاله قطعة يصور فيها نظرة الناس إليه واستثقالهم له وتحاميهم لقائه وفيها يقول (2) : إنما أزرى بقدري أنني ... لست من بابه أهل البلد ليس منهم غير ذي مقلية ... لذوي الألباب أو ذي حسد يتحامون لقائي مثلما ... يتحامون لقاء الأسد طلعتي أثقل في أعينهم ... وعلى أنفسهم من أحد لو رأوني قعر بحر لم يكن ... أحد يأخذ منهم بيدي وكان الأمر شبيها بما قال. وهو والقلفاظ مثلان من أمثلة الشعراء المؤدبين، وصورتان من صور الهجاء في هذا العصر.

_ (1) المقتبس: 138 (2) اليتيمة 1: 372

فراغ

3 - محمد بن يحيى القلفاظ 302هـ - طبقات النحويين: 301 واليتيمة 1: 395 والجذوة: 91 وبغية الملتمس: 134 والنفح 2:832 والمغرب 1: 111 أنباء الرواة3: 231 بغية الوعاة: 114 ابن عذاري 2: 193 الحلة: 193 المقتبس: 42،48 قرطبي كنيته أبو عبد اله، سكتت جميع المصادر عن تعيين ميلاده، ولكنا نعلم انه كان حيا في أيام الأمير عبد الله (275 - 300) وأيام عبد الرحمن الناصر ورجح الحميدي انه عاش إلى أيام الحكم المستنصر، وهذا مستبعد. وكان سلطان الأمويين أيام عبد الله قد تقلص فهناك ابن حفصون كبير الثوار بالأندلس، وابن حجاج الذي استقل باشبيلية وسعيد ابن جودي بغرناطة وغيرهم كثيرون، وكل واحد منهم يتصرف في شئون منطقته، وكل شيء ينذر بانتكاس، وفي هذه الغمرة من الفوضى نسمع القلفاط يهجو الأمير عبد الله نفسه بقوله من قصيدة (1) :

_ (1) المغرب 1: 111

ما يرتجي العاقل في مدة ... ألرجل فيها موضع الراس ولما نجم إبراهيم بن حجاج باشبيلية قصده القلفاط، كما قصده غيره من الشعراء، ومدحه بقصيدة أولها: أرقت رحلتي فأهمت جفونا ... وفي تلك القصيدة أنحى بالهجاء على أهل بلده قرطبة، وأفحش في ذكر كبرائها وعظماء دولتها، فتوجس منه إبراهيم ريبة ولم يرق في عينه، وأبغضه لذلك وصرفه دون نوال، فعاد إلى قرطبة محنقا وأخذ يهجو إبراهيم بن حجاج، وقال فيه قصيدة مطلعها: لا تنكري للبين طول بكائي ... ومنها البيت: أبغي نوال الأكرمين معا ولا ... أبغي نوال البومة البكماء وبلغت القصيدة مسامع إبراهيم فغضب وحلف ان عاد القلفاط إلى الهجاء انه سيرسل إليه من يأخذ رأسه بقرطبة على فراشه، ودس إليه من يعلمه ذلك، فخاف القلفاط على نفسه وسكت، وحمد الناس بقرطبة لإبراهيم هذه الفعلة لشدة ما كان يلحقهم من هجاء القلفاط (1) ، ومعنى ذلك انه هدده إذا لم يكف عن الهجاء جملة. هكذا هجاؤه أن يجني عليه وكذلك كان ميله إلى العبث سببا في مآزق كادت تودي بحياته، ذلك انه كان يحب التهكم بالمودبين ويحتال بصنوف الحيل ليعبث بهم؟ تنكر ذات مرة ودخل على مؤدب اسمه صالح بن معافى وأظهر له انه يريد أن يلقى العلم على يديه وانتسب له إلى البادية، فاجتهد صالح في تأديبه وتبصيره ثم دل على حقيقته فلما جاءه ذات يوم أمر تلاميذه بربطه إلى أحد أعمدة المسجد وضربه وتداول تلامذته ضربه كذلك حتى كادوا يأتون عليه (2) .

_ (1) ابن عذاري 2: 193 والمغرب 1: 111 قال إبراهيم بن حجاج: " والله الذي لا اله غيره لئن لم تكف عما أخذت فيه لآمرن من يأخذ رأسك فوق فراشك ". (2) طبقات الزبيدي: 299

وتعرض مرة أخرى للموت بسبب الهجاء فقد كان في قرطبة رجل اسمه حرقوص وعد القلفاط ان يصحبه إلى كرم له بالجبل، وطالت المدة وحرقوص لا يفي بوعده، فلج القلفاط في هجائه، فلما سمع بذلك والد حرقوص لاطفه وأخذه إلى الكرم وجنى له من فواكهه شيئا حمله إلى منزله، ولكن القلفاظ لم يسكت عن الهجاء عندئذ ضاق حرقوص به ذرعا، واخذ سكينا؟ وقد عرف انه في داره - وتسور عليه الدار، فلحظه القلفاظ وأدرك الشر، فعمد إلى مصلاه واستقبل القبلة ودخل في الصلاة، فأمسك عنه حرقوص وقال: يا فاسق والله لولا انك عذت بمعاذ للقيت الله بدمك فانك زنديق حلال الدم (1) . ولم تكن حاله مع الشعراء خيرا من هذا لأنه كان شديد التعرض كثير المهاجاة لهم (2) ، حتى أن أصدقاءه منهم لم يسلموا من لسانه، وكان بينه وبين ابن عبد ربه سبب من صداقة ثم تغيرت الحال وتهاجيا هجاء مقذعا، كان من جملته قول القلفاط يهجوه (3) : يا عرس أحمد إني نزمع سفرا ... فودعيني سرا من أبي عمرا ومن أصدقائه أبو عبد الله محمد بن إسماعيل الملقب بالحكيم وكان الغاية في علم العربية والحساب، بات عنده القلفاط مرة حتى تبلج الصبح وكادت الشمس تطلع عليهما فانتبه القلفاظ فقال للحكيم: يا ديك مالك لم تصرخ لتنبهنا ... لقد أسأت بنا ديك الدجاجات يا آكلا للقذى يا سالحا عبثا ... على الحصير بهيمي البهيمات فأجابه الحكيم: لقد صرخت مرارا جمة عددا ... قبل الصباح وبعد الصبح تارات لكن علمتك نواما وذا كسل ... (4) قليل ذكر لجبار السماوات

_ (1) طبقات الزبيدي: 303 - 304 (2) المصدر السابق: 303 (3) النفح 2: 832 والمقتبس: 42 (4) طبقات الزبيدي: 300

وممن تولع بهم وآذاهم بهجائه أبو زيد الأديب (1) . ومن كل هذا يتجلى لنا أن الإسراع إلى الهجاء والذم كان طبعا متأصلا في القلفاط لا ينفك عنه. وكان القلفاط من حيث مظهره وسخ الثياب رذل الهيئة. وكان يجمع إلى قدرته في الشعر، قدرة فائقة في اللغة، ولم يكن أحد يقارن الحكيم؟ صديقه - في علمه وثقابة ذهنه في نظره غيره، ولذلك عد القلفاط في النحويين، وأورد له الزبيدي قصيدة جمع فيها بعض المسائل والأحاجي النحوية (2) ، ويبدو انه لم يؤلف في النحو وإنما اكتفى بالإقراء والتدريس، وقد دلل الزبيدي على اطلاعه اللغوي بحديث رواه أحدهم " لا يسجي المسلم في عرض أخيه " فاعترضه آخر وقال " لا يسحي المسلم.. " بمعنى يقشر، فلما عرضت الكلمة على القلفاط قال: بل صوابها " لا يشحي " أي يفتح فاه بسبه من قولهم: " شحا الحمار فاه بالنهيق " (3) ، وكان محمد ابن يحيى في النفر الذين جمعهم عبد الرحمن الناصر لانتساخ شعر أبي تمام وترتيبه (4) . شعره قال الزبيدي في القلفاط: كان شاعرا مجودا مطبوعا، وكان يقصد فيطيل ويحسن، وعده ابن حيان من شعراء المعلمين (5) ولكن لم يصلنا من شعره قصيدة واحدة بطولها، حتى هجاؤه الذي كان سيفا مسلولا في وجوه الناس بقرطبة لا نعرف منه إلا أبياتا. على أن غلبة الهجاء عليه لم تحرمه من المشاركة في موضوعات شعرية أخرى، وبخاصة الغزل،

_ (1) التكملة: 332 (2) طبقات الزبيدي: 304 (3) طبقات الزبيدي: 302 (4) طبقات الزبيدي: 306 (5) المقتبس: 48

وغزله رقيق سهل الانسياب، من ذلك قوله: يا غزالا عن لي فابتز قلبي ثم ولى ... أنت مني بفؤادي ... يا منى نفسي أولى وقد أشد أحد الأندلسيين قصيدته هذه لأحد البغداديين فأعجب بها وفضلها على ما سمعه من شعر ابن عبد ربه وقال: " هذا الشعر بختمه، لا ما أنشدتني به آنفا " (1) . وأورد له الثعالبي في اليتيمة قطعتين في الغزل لعلهما من قصيدة واحدة، والأولى منهما (2) : طوى عني مودته غزال ... طوى قلبي على الأحزان طيا إذا ما قلت يسلاه فؤادي ... تجدد حبه فازددت غيا أحييه وأفديه بنفسي ... وذاك الوجه أهل أن يحيا والثانية: أيا طيفا سما وهفا إلينا ... لقد جددت لوعاتي عليا ألم مواصلا كأخي غرام ... سيذكر وصله ما دام حيا غزال لو رأى غيلان يوما ... محاسنه إذن أنساه ميا وذكره أبو عامر بن مسلمة في كتاب " الارتياح بوصف الراح " ونقل عنه الحميدي له شعرا في الرياض: مزن تغنيه الصبا فإذا همى ... لبت حياه روضة غناء فالأرض من ذاك الحيا موشية ... والروض من تلك السماء سماء ما ان وشت كفا صناع ما وشى ... ذاك الغناء بها وذاك الماء زهر لها مقل جواحظ تارة ... ترنو، وتارات لها إغضاء وشعره في الغزل رقيق حقا، وفيه من الحيوية والحرارة ما يفقد في هذه المقطوعة التي يصف فيها الروض. على انه بعد ذلك أنموذج فذ للشاعر الأندلسي الهجاء، المثقف بثقافة لغوية نحوية، البعيد بعض الشيء عن حياة البلاط، الملابس لحياة الناس في قرطبة.

_ (1) طبقات الزبيدي: 302 (2) اليتيمة1: 395

فراغ

4 - أبو عمر احمد بن محمد بن عبد ربه 10 - رمضان 246 هـ - 18 جمادي الأولى 328هـ المطمح: 51 والجذوة: 94 وبغية الملتمس رقم: 327 ومعجم الأدباء 2: 67 وابن خلكان: رقم 45 والرايات: 47 والمطرب: 141 وابن الفرضي 1: 49 وأشعار في العقد واليتيمة 1: (360، 412) ، والنفح، والشريشي وابن عذاري وتاريخ الناصر والمقتبس: 41 وصفحات أخرى، وابن عبد ربه وعقدة للدكتور جبرائيل جبور. كان سالم؟ أحد أجداده - مولى من موالي الأمويين، وقد نشأ احمد حفيده بقرطبة، وكان في نشأته فقيرا خاملا، فطلب العلم على شيوخ عصره في جامع المدينة، ومن أهم شيوخه بقي بن مخلد وابن وضاح والخشبي. وأول هؤلاء كان ذا فضل كبير على الثقافة الأندلسية الفقهية لأنه بالاضافة إلى سعة علمه وكثرة تواليفه، أدخل إلى الأندلس كثيرا

من كتب المشارقة كمصنف ابن أبي شيبة وفقه الشافعي والتاريخ لخليفة ابن جياط، والطبقات له أيضاً وكتاب سيرة عمر بن عبد العزيز للدورقي ونسخة من كتاب العين سمعها على ابن ولاد بمصر. وأما ابن وضاح فانه كان عالما بالحديث بصيرا بطرقه، متكلما على علله، وأما الخشبي فانه لقي لغويي المشرق في رحلته فأخذ عنهم كثيرا من كتب اللغة، رواية الأصمعي، ودخل بغداد وكتب بها كتب أبي عبيد القاسم بن سلام، وأدخل الأندلس كثيرا من حديث الأئمة وكثيرا من اللغة والشعر الجاهلي رواية. فالثقافة التي تلقاها ابن عبد ربه عن هؤلاء الأعلام تشمل الفقه والحديث واللغة والسير والأخبار. ومعرض هذه الثقافة كتاب " العقد "، لأن فيه نقولا من كتب المشارقة وفي رأسها كتب ابن قتيبة وكتب ابن سلام وبخاصة كتاب " الأمثال " فانه قد اقتبسه في كتاب العقد، بشيء من الاختصار، هذا عدا اطلاعه الواسع على دواوين شعراء المشرق ومؤلفات اللغويين. ولهذه الثقافة أثرها في شهره، كما سأبين من بعد. وقد اكتسب ابن عبد ربه بعلمه أولاً وبشعره ثانيا مكانة كبيرة بين علماء الأندلس وادبائها وفي بلاط امرائها، واغتنى بعد فقر وساد بعد خمول حيث اتفقت له أيام كان للعلم فيها نفاق (1) ، إلا انه جنح إلى الشعر فغلب عليه. وكان متصاونا متدينا آخذا بحظه من المتع المباحة، وقد مر بنا كيف كان مغرما بالغناء يدافع عنه ويرى اباحته، اما الخمر فلا أظنه كان يشربها وان اكثر من ذكرها في شعره. على انه قد يستشف من ندمه عندما كبر انه كان مقبلا على اللذات، ولكني اعتقد ان توبته كانت توبة الفقيه المتحرج لا توبة اللاهي العابث، واعني بالفقيه المتحرج من يدركه الخوف من صغائر الذنوب في شيخوخته ومن ينظر إلى الغزل أو القول في الخمر أو إلى استماع الغناء والنظر إلى الجواري الجميلات

_ (1) الجذوة: 94

نظرة مخالفة لما كان يستبيحه من ذلك في شبابه، ولعله ان يتوهم ذنوبا لم يقترفها. وربما بدا لي ان ابن عبد ربه كان اقرب إلى التزمت منه إلى الانطلاق، فقد أورثته ثقافته الفقهية نظرة محافظة متشددة تنفر من كل جديد وتعادي العلوم الدنيوية؟ إذا صحت التسمية - ويكفي ان نذكر صلته بمسلم بن احمد بن أبي عبيدة الليثي الذي كان عالما بالحساب والنجوم وكيف عابه لاهتمامه بهذه العلوم ووصفه بأنه شاذ عن رأي الجماعة وتهكم بمعارفه الفلكية والجغرافية، واعلمه بأنه لا يصدق ما تضمنته علومه، في قوله (1) : زعمت بهرام أو بيدخت يرزقنا ... لا بل عطارد أو مريخ أو زحلا وقلت إن جميع الخلق في فلك ... بهم يحيط وفيهم يقسم الأجلا والأرض كورية حف السماء بها ... فوقا وتحتا وصارت نقطة مثلا صيف الجنوب شتاء للشمال بها ... قد صار بينهما هذا وذا دولا كما استمر ابن موسى في غوايته ... فوعر السهل حتى خلته جبلا أبلغ معاوية المصغي لقولها ... أني كفرت بما قالا وما فعلا وابن موسى هو الافشتين ومعاوية هو ابن الشبانسي. ومن صور العداء بينه وبين العلوم الجديدة انه ربما كره ابن أخيه سعيدا من أجلها، لا لأن هذا كان ثقيل الظل، كما يقول صاحب المغرب (2) . وعلى الرغم مما بلغه من مكانه، لما شهر عنه من تقوى وديانة، فقد كان، فيما يبدو، ضيق العطن حاد الطبع سريعا إلى الهجاء، متبرما بالناس، كثير الشكوى من الزمان، سيء الظن بالمجتمع، مسرعا إلى رؤية السيئات دون الحسنات في زمانه وأهله، وإذا عادى صديقا اندفع في هجائه، وقصته مع القلفاط الشاعر الذي كان من اقرب أصدقائه إليه

_ (1) طبقات صاعد: 74 وابن الفرضي 2: 126 (2) انظر المغرب 1: 120، وطبقات صاعد: 121، وابن أبي أصيبعة 2: 44، واليتمة 1: 404، والتكملة: 710

قد تصور حدته وسلاطة لسانه إذا هجا، على ان علاقته بغير القلفاظ من شعراء عصره كانت طيبة، فكان بينه وبين محمد بن عبيد الله بن أبي عبدة الليثي مقارضات شعرية، كتب إليه ابن أبي عبدة يقول (1) : أعدها في تصابيها جذاعا ... فقد فضت خواتمها نزاعا قلوب يستخف بها التصابي ... إذا سكبت لها طارت شعاعا فأجابه ابن عبد ربه بأبيات قال فيها: متى يمشي الصديق إلي فترا ... مشيت إليه من كرم ذراعا ومن هذه الاخوانيات ما حكاه الحميدي أيضاً عن صديق له أرسل إليه طبقا فيه أنابيب من قصب السكر، فكتب ابن عبد ربه إليه، مرفقا قصيدته بهدية (2) : بعثت يا سيدي حلو الأنابيب ... عذب المذاقة مخضر الجلابيب وهو يخاطب في بعض أشعاره صديقا له يكنى بأبي صالح وينعى إليه الكرم وانعدام الكرام في عصره. ولا نعرف شيئا أدق عن علاقته أو عن حياته الخاصة إلا أنه فقد اثنين من أبنائه وكان أحدهما طفلا والآخر كبيرا يكنى بأبي يكر ويسمى يحيى ورثاهما بقصائد كثيرة منها (3) : بليت عظامك والأسى يتجدد ... والصبر ينفذ والبكا لا ينفد يا غائبا لا يرتجى لإيابه ... ولقائه دون القيامة موعد ما كان أحسن ملحدا ضمنته ... لو كان ضم أباك ذاك الملحد باليأس أسلو عنك لا بتجلدي ... هيهات أين من الحزين تجلد ومنها: واكبدا قد تقطعت كبدي ... وحرقتها لواعج الكمد ما مات حي لميت أسفا ... أعذر من والد على ولد

_ (1) الجذوة: 62 (2) الجذوة: 376 (3) العقد: 250 - 253

ومن قصائده في رثاء ابنه الطفل (1) : على مثلها من فجعة خانني الصبر ... فراق حبيب دون أو بته الحشر ولي كبد مشطورة في يد الأسى ... فتحت الثرى شطر وفوق الثرى شطر يقولون لي صبر فؤادك بعده ... فقلت لهم: ما لي فؤاد ولا صبر فريخ من الحمر الحواصل ما اكتسى ... من الريش حتى ضمه الموت والقبر إذا قلت أسلو عنه هاجت بلابل ... يجددها فكر يجدده ذكر وانظر حولي لا أرى غير قبره ... كأن جميع الأرض عندي له قبر وفي أواخر عمره أصيب بالفالج، ولما توفي سنة 328هـ (قبل قدوم القالي بعامين) تجمع في جنازته جمع عظيم وتكاثر الناس تكاثرا راع يحيى بن هذيل، وكان يومئذ صغير السن، فسأل: لمن هذه الجنازة؟ فقيل له لشاعر البلد، (2) وفي هذا دليل بين على ما كان يتمتع به هذا الشاعر من مكانة في قرطبة، وقد أثر ذلك في نفسية اليافع يحيى بن هذيل، فاتجه إلى دراسة الأدب، ليحرز مثل مكانة ابن عبد ربه. صلته بأمراء عصره (3) كان عمره حين توفي الأمير محمد (273) سبعة وعشرين عاما، ويبدو أن صلته به لم تكن وثيقة، لأنه يروي صفاته عن أستاذه بقي بن مخلد، فلما تولى المنذر إمارة الأندلس أصبح من شعرائه المقربين، وله فيه قصيدة طويلة بقي منها البيتان (4) :

_ (1) العقد 3: 258 (2) الجذوة: 358 (3) في هذه الفقرة عرض لبعض مدائح ابن عبد ربه، جاءت متفرقة في المصادر، وليس فيها إلا هذا، فيستطيع القارئ أن يغفلها إذا شاء. (4) ابن خلكان (ترجمة رقم: 45)

بالمنذر بن محمد ... شرفت بلاد الأندلس فالطير فيها ساكن ... والوحش فيها قد أنس وكأنه في هذا القول كان ما يزال يتعلق بأهداب المشهورين من شعراء المنذر كالعكي الذي يقول (1) : بالمنذر المأمون طاب زماننا ... وبطيب دولته تطيب الأنفس ولم يطل العهد بالمنذر حتى توفي وخلفه عبد الله (275 - 300) فطل ابن عبد ربه يسير في ركابه ويقول في خلافته (2) : خلافة عبد الله حج على الورى ... فلا رفث في عصره وفسوق تجلت دياجي الحيف عن نور عدله ... كما ذر في جنح الظلام شروق وثقف سهم الدين بالعدل والتقى ... فهذا له نصل وذلك فوق ومدح من قواد هذا الأمير، عبد الله بن محمد بن أبي عبدة، ولا ريب في انه أيضاً تتبع في شعره انتصارات عبد الله وقواده على المنتزلين الثائرين في نواحي الأندلس وبخاصة ابن حفصون. فلما نجم ابن حجاج باشبيلية شد إليه الرحال ومدحه بقصائد كثيرة، ولا يعد تحرمه بابن حجاج خيانة لمواليه الأمويين لأن ابن حجاج لم يباطن ابن حفصون إلا مدة يسيرة ثم عاد إلى مهادنة الأمير الأموي، ومن مدائحه في إبراهيم ابن حجاج (3) : كتاب الشوق يطويه الفؤاد ... ومن يفيض الدموع له مداد تخط يد البكاء به سطورا ... على كبدي ويميلها السهاد وكيف وبي فؤاد مستطير ... بمن لا يستطار له فؤاد أمن يمن يكون الجود خلوا ... وإبراهيم حاتمها الجواد وباركه بمن يأتيه حج ... ومدحته رباط أو جهاد

_ (1) ابن عذاري 2: 180 (2) ابن عذاري 2: 183 (3) ابن عذاري 2: 192

ومالي في التخلف عنه عذر ... ولي في الأرض راحلة وزاد ومضى في عهد عبد الله يشيد بكفاحه ضد الثائر ابن حفصون، ومن اشهر الرجال الذين مدحهم في أيام عبد اله وصدر الخلافة الناصر القائد أبو العباس احمد بن محمد بن أبي عبدة، ومن مدائحه فيه (1) : نفسي فداؤك والأبطال واقفة ... والموت يقسم في أرواحها النقما شاركت صرف المنايا في نفوسهم ... حتى تحكمت فيها مثلما احتكما لو تستطيع العلا جاءتك خاضعة ... حتى تقبل منك الكف والقدما ومنها قوله (2) : الله جرد للندى الباس ... سيفا فقلده أبا العباس ملك إذا استقبلت غرة وجهه ... قبض الرجاء اليك روح الياس وجه عليه من الحياء سكينة ... ومحبة تجري مع الأنفاس وإذا أحب الله يوما عبده ... ألقى عليه محبة للناس وقد اتصل أيضاً من رجال الأمير عبد الله بالوزير الكاتب عبد الله ابن محمد الزجالي، وكان هذا محببا إلى الناس، إلا أن الأمير عزله مدة ثم أعاده إلى خطته، ففرح الناس لرجوعه، وعبر ابن عبد ربه عن فرحة في قوله (3) : يا ملكا يزدهي به المنبر والمسجد الجامع الذي عمر ... خليفة الله في بريته ... يسر للناس مثلما يجهر يا قمر الأرض إن تغيب فلقد ... أقمت لناس كوكبا يزهر ما فرح الناس مثل فرحتهم ... لما أقيل الأديب واستوزر وابتهج الملك حين دبره ... عين الإمام التي بها يبصر وقال أيضاً في تلك الحادثة:

_ (1) العقد 1: 129 (2) العقد 1: 312 (3) أعتاب الكتاب: 60

تجددت الدنيا وأبدت جمالها ... وردت إلينا شمسها وهلالها عشية يوم السبت جاءت ببيعة ... من الله لا يرجو العدو زوالها بها جبر الله الكسير من العلا ... وأدرك منه عثرة فأقالها فأشرقت الآفاق نورا وبهجة ... ومدت علينا بالنعيم ظلالها بتجديد عبد الله أعظم دولة ... لمولاه عبد الله كان أزالها ولما تولت نضرة العيش ردها ... فآلت إلى العبد القويم مآلها وعاش في أيام الناصر ثمانية وعشرين عاما لم يتوقف فيها عن الإنتاج حتى آخر عمره، وهي اكثر فترات حياته غنى بالشعر واهتماما به، فقد افتتح عهد الناصر بقوله له يوم البيعة (1) : يا من عليه رداء البأس والجود ... من جود كفك يجري الماء في العود لما تطلعت في يوم الخميس لنا ... والناس حولك في عيد بلا عيد وبادرت نحوك الأبصار واكتحلت ... بحسن يوسف في محراب داود وقال في تلك المناسبة أيضاً (2) : بدا الهلال جديدا ... والملك غض جديد يا نعمة الله زيدي ... ما كان فيك مزيد إمام عدل عليه ... تاجان: بأس وجود يوم الخميس تبدى ... لنا الهلال السعيد فكل يوم خميس ... يكون للناس عيد وتابع انتصاراته المتتالية وبخاصة الغزوة الأولى (300) وهي غزوة المنتلون وقد أكثر ابن عبد ربه من ذكرها، ومن أولى قصائده فيها، وقد فصل لناصر لها (3) : فصلت والنصر والتأييد جنداكا ... والعز أولاك والتمكين أخراكا

_ (1) تاريخ الناصر: 40 (2) تاريخ الناصر: 40 - 41 وابن عذاري 2: 236 (3) تاريخ الناصر: 34 - 35

ورحمة الله في الآفاق قد نشرت ... والأرض تبدي تباشيرا لمبداكا قد اكتست حللا من وشي زهرتها ... كأن زخرفها في الحسن حاكاكا طلعت بين الندى والبأس مبتهجا ... هذا بيمناك بل هذا بيسراكا ضدان في قبضتي كفيك قد جمعا ... لولاهما لم يطب عيش ولولاكا يمضي أمامك نصر الله منصلتا ... بالفتح يقصم من في الأرض ناواكا والناس يدعون والآمال راغبة ... والطوع برجوك والعصيان يخشاكا وانتهت فتوح الناصر في هذه الغزوة إلى ان ملك سبعين حصنا من أمهات الحصون وقد ذكر ابن عبد ربه ذلك فقال (1) : في غزوة مائتا حصن ظفرت بها ... في كل حصن غزاة للعناجيج ما كان منك سليمان ليدركه ... والمبتني سد ياجوج وماجوج وقضى الناصر أيضاً على ثورة مدينة استجة (300) وفي ذلك يقول (2) : ألا إنه فتح يقر له الفتح ... فأوله سعد وآخره نجح سرى القائد الميمون خير سرية ... تقدمها نصر وتابعها فتح ألم تره أردى باستجة العدا ... فلقوا عذابا كان موعده الصبح فلا عهد للمراق من بعد هذه ... يتم له عند الإمام ولا صلح فولوا عباديدا بكل ثنية ... وقد مسهم قرح وما مسنا قرح ونظم في غزوات الناصر أرجوزة انتهى بها إلى سنة 322 ولا ندري لم توقف عند هذه السنة (3) ، ولعل لمرضه أثرا في ذلك، إلا انه لم يتوقف عن الشعر، لأن له قصيدة قالها قبل وفاته بأحد عشر يوما، بين

_ (1) تاريخ الناصر: 38 (2) الروض المعطار: 15 (3) جاء في التكملة: 293 ما يدل على أن لابن عبد ربه أرجوزة في خلفاء الإسلام وانه جعل فيها معاوية الخليفة الرابع ولم يذكر عليا. وهذا أمر مستبعد، ولم يقل أحد بوجود أرجوزة لابن عبد ربه في غير غزوات الناصر.

فيها مبلغ سنه (1) : كلاني لما بي عاذلي كفاني ... طويت زماني برهة وطواني بليت وأبلتني الليالي وكرها ... وصرفان للأيام معتوران وما لي لا أبلى لسبعين حجة ... وعشر أتت من بعدها سنتان وله في الناصر مدائح كثيرة، منها قوله في ذكر غزاة المنتلون (2) ، وهي أول غزاة له: غادرت في عقوتي جيان ملحمة ... أبكيت منها بأرض الشرك أعلاجا في نصف شهر تركت الأرض ساكنة ... من بعد ما كان فيها الجور قد ماجا وجدت في الخبر المأثور منصلتا ... من الخلائف خراجا وولاجا تملا بك الأرض عدلا مثلما ملئت ... جورا وتوضح للمعروف منهاجا يا بدر ظلمتها يا شمس صحبتها ... يا ليث حومتها إن هائج هاجا إن الخلافة لن ترضى ولا رضيت ... حتى عقدت لها في رأسك التاجا وإلى هذه الغزوة نفسها أشار في أرجوزته بقوله (3) : ثم انتحى جيان في غزاته ... بعسكر يسعر من حماته فاستنزل الوحش من الهضاب ... كأنما حطت من السحاب فأذعنت مراقها سراعا ... وأقبلت حصونها تداعى

_ (1) الجذوة: 96 (2) العقد 4: 499 وتاريخ الناصر: 39 (3) العقد 4: 503

لما رماها بسيوف العزم ... مشحوذة على دروع الحزم كادت لها أنفسهم تجود ... وكادت الأرض بهم تميد لولا الاله زلزلت زلزالها ... وأخرجت من رهبة أثقالها ولما رزق الناصر بتبنه الحكم (302) هنأه الشعراء، ومما قاله ابن عبد ربه قصيدته (1) : هلال نماه المجد واختاره الفخر ... تلقت به شمس وأنجبه بدر على وجهه سيما المكارم والعلا ... فضاءت به الآمال وابتهج الشعر سلالة أملاك ربيب خلائف ... أكفهم بر العليا ونائلهم غمر بدا لصلاة الظهر نجم مكارم ... تحف به العليا ويكنفه الفجر وشعره يقع شعره بين قطبين ويشغل مرحلتين: أما القطبان فهما البديهة والكد الذهني، ففي كثير من اخباره ما يدل على انه كان ينظم على البديهة، ويتناول أقرب سحاية إليه ويكتب عليها دون تنقيح، كذلك فعل حين سمع غناء الجارية مصابيح، وكذلك فعل أيضاً حين دخل على القائد أبي العباس ابن أبي عبدة يتنجزه حاجة، فكتب إليه (2) : ما ضر عندك حاجتي ما ضرها ... عذرا إذا أعطيت نفسك قدرها أنظر إلى عرض البلاد وطولها ... أو لست أكرم أهلها وأبرها حاشا لجودك ان يوعر حاجتي ... ثقتي بجودك سهلت لي وعرها ولكن ليس كل شعره يحمل طابع الخفة الارتجالية، ففيه ما يدل على انه كان يتعب في حوكه، ويتعمد فيه الإعمال ليحصل على الطرافة والغرابة، ولكني اعتقد انه مرن على النظم حتى اصبح لا يعيبه القول،

_ (1) تاريخ الناصر: 49 (2) العقد 1: 312.

اعني اصبح النظم يطاوعه على نحو لا يحتاج فيه إلى استشارة عاطفية عميقة أو شديدة، ولذلك تراه غسيل الشعر، لا من حيث انه لا يعنى بالمبنى الشعري وما يحتاجه أحياناً من بديع، ولكن من حيث ان التيار العاطفي في شعره مفقود أو مختنق، حتى في أشد الحالات التي يمكن ان تثور فيها عاطفة، كموت أبنائه، وقد يجيء شعره رقيقا في الظاهر، ولكن الجفاء اغلب عليه، ومن عجب ان الأندلسيين سموه مليح الأندلس، ونسبوا إلى المتنبي الإعجاب به، فهذا أمر مستغرب، وبخاصة وان النوع الذي انشدوه له نموذجا للملاحة ليس فيه ملاحة ولا عليه طلاوة. وأما المرحلتان فهما مرحلة الشباب ومرحلة الشيخوخة، وقد شاء هو ان يحدث هذه القسمة في شعره، فأكثر في المرحلة الأولى من الشعر الغزلي، ثم عاد ينقض على نفسه ما قاله بأشعار يقولها في الزهد والتذكير بالموت وذم الحياة الدنيا، وهذا النوع الثاني سماه " المحصات "، فقد يقول في الشباب مثلا ذاكرا بعض صبوته (1) : هلا ابتكرت لبين أنت مبتكر ... هيهات يأبى عليك الله والقدر ما زلت أبكي حذار البين ملتهفا ... حتى رثى لي فيك الريح والمطر (وذكر الريح والمطر لأن السماء أمطرت وهبت الريح فحالت بين محبوبة وبين الرحيل) ، فيمحص هذه القطعة بقوله: يا عاجزا ليس يعفو حين يقتدر ... ولا يقضى له من عيشة وطر عاين بقلبك إن العين غافلة ... عن الحقيقة واعلم أنها سقر فإذا عرفنا انه عارض كل قطعة قالها في صباه بقطعة من الممحصات، وجدنا كيف انه ضاعف كمية شعره، في المرحلتين. فهما مرحلتان تمثلان نزعتين طبيعيتين، ولكني لا أرى فرقا بينهما من وجهة النظر الفنية، لأن ابن عبد ربه لم ينتشل نفسه في المرحلة الثانية من ذنوب وآثام أقضت مضجعه في المرحلة الأولى، أعني ان تجربته في الحالتين كانت تجربة كلامية،

_ (1) الجذوة: 94 - 95 والمطمح: 51، 33

وكانت صورتها هذا الفيض الكثير من النظم، ونقرأ شعره في الزهد وذم الحياة فلا نجد إحساساً حقيقيا بمعنى الخوف، ولا تشف إلا قطع قليلة عن الصدق العاطفي في هذه الناحية كقوله (1) : ألا إنما الدنيا غضارة أيكة ... إذا اخضر منها جانب جف جانب هي الدار ما الآمال إلا فجائع ... عليها ولا اللذات إلا مصائب وكم سخنت بالأمس عين قريرة ... وقرت عيون دمعها اليوم ساكب فلا تكتحل عيناك فيها بعبرة ... على ذاهب منها، فانك ذاهب وبين هاتين المرحلتين تقع مرحلة البكاء على الشباب ووصف المشيب، وربما كان شعره في هذه الناحية أصدق وأحفل بالشعور كما في قوله (2) : قالوا شبابك قد مضت أيامه ... بالعيش قلت وقد مضت أيامي لله أية نعمة كان الصبا ... لو أنها وصلت بطول دوام حسر المشيب قناعه عن رأسه ... وصحا العواذل بعد طول ملام فكأن ذاك العيش ظل غمامة ... وكأن ذاك اللهو طيف منام ومن ثم لا نجد لابن عبد ربه فلسفة في الحياة، عدا نظرته إلى الأشياء من الزاوية الدينية، أو مما قد يستوحيه من خلقية أساسها الدين نفسه؟ لقد حالت روحه المحافظة بينه وبين كثير من العمق، ومبلغ ما لديه من هذا مستمد من طبيعته المتشائمة المشمولة بسوء الظن، الناظرة إلى الدنيا من طرف الموت والآخرة، فالحياة مزارع والناس إنما يقاس فضلهم بما يخلفونه من ذكر (3) : إن الحياة مزارع ... فازرع بها ما شئت تحصد والناس لا يبقى سوى ... آثارهم، والعين تفقد وهذه الحياة لا يغنى فيها إلا اللئيم (4) :

_ (1) الجذوة: 96 والعقد 3: 175 (2) العقد 3: 47 (3) العقد 1: 270 (4) العقد 3: 35

أرى كل فدم قد تبجح في الغنى ... وذو الظرف لا تلقاه غير عديم والحياة تنتقل من سيء إلى أسوأ، ولا يتبقى فيها إلا حثالة تضم أهل اللؤم والبخل أما الكرماء فقد ذهب عصرهم الذهبي (1) : أبا صالح جاءت على الناس غفلة ... على غفلة بانت بكل كريم فليت الألى بانوا يفادون بالألى ... أقاموا، فيفدى ظاعن بمقيم ويا ليتها الكبرى فتطوى سماؤها ... لها وتمد الأرض مد أديم فما الموت إلا عيش كل مبخل ... وما العيش إلا موت كل ذميم وأعذر ما أدمى الجفون من البكا ... كريم رأى الدنيا بكف لئيم حتى الله يرزق الأنوك ويحرم العاقل (2) : رزق من الله أرضاهم وأسخطني ... والله للأنوك المعتوه رزاق إذن فالحياة ليس فيها اخوان، - وقيمتك فيها إنما هي بما تملك، فمالك وحده أخوك (3) : قالوا نأيت عن الإخوان قلت لهم ... مالي أخ غير ما تطوى عليه يدي وهذا غير مستغرب من ابن عبد ربه، وان مال به قليلا عن مثله العليا الدينية، لما في نفسيته من استعداد لرؤية السيئات، فهو سريع الغضب، حاد الطبع، ميال ابى الذم، وحسبك ان تجده حين مطله أحد الناس قد تخصص في هجائه لتلك الحادثة وحدها، وقال فيها قطعا كثيرة من الشعر أثبتها في العقد (4) ، فتلك النفسية هي التي كان يرى بها الحياة خالية من كل خير وان من فيها كلاب (5) : وأيام خلت من كل خير ... ودنيا قد توزعها الكلاب كلاب لو سألتهم ترابا ... لقالوا عندنا انقطع التراب

_ (1) العقد 2: 349 (2) العقد 2: 350 (3) العقد 3: 31 (4) انظر 1: 292 وما بعدها. (5) العقد 2: 342

وصواب الناس الغالبة انهم صم كلاب، وتتدخل عصا موسى في الصورة فلا تفلح في ان تفجر منهم شيئا (1) : حجارة بخل ما تجود وربما ... تفجر من صم الحجارة ماء ولو أن موسى جاء يضرب بالعصا ... لما انبجست من ضربه البخلاء والصورة نفسها مرة أخرى (2) : يراعه غرني منها وميض سنا ... حتى مددت إليها الكف مقتبسا فصادفت حجرا لو كنت تضربه ... من لؤمه بعصا موسى لما انبجسا فالهجاء هو الموضوع الذي كان ابن عبد ربه مهيأ له بطبعه، وغايته الفنية فيه أن تولد معنى جديدا، أما الموضوع الذي راض طبعه عليه واسرف فيه ولم يقصر عن بلوغ الإجادة فيه، فذلك هو وصف المعارك والحروب، وقد أورد له أمثلة كثيرة منه في العقد، وما تزال غايته فيه أيضاً التجديد في المعاني. قال (3) : وقد وصفنا الحروب بتشبيه عجيب لم يتقدم إليه ومعنى بديع لا نظير له وذلك قولنا: وجيش كظهر اليم تنفحه الصبا ... يعب عبابا من قنا وقنابل فتنزل أولاه وليس بنازل ... وترحل أخراه وليس براحل وعلى أن هذا معنى فيه شيء من الابتكار والتوجيه فان وصفه للحروب حين يجيء في نغمة قوية منحدرة خير من تطلبه المعنى والاحتفال به. وأبرز ما في شعر ابن عبد ربه انه مجلى لثقافته واطلاعه في نواحي متعددة، فثقافته الفقهية تجعله يقول؟ مثلا - (4) : وما بعث الهوى بيعا بشرط ... ولا استثنيت فيه بالخيار واطلاعه الواسع في الأمثال هو الذي يدفعه لتحويل كل بيت أحياناً

_ (1) العقد 1: 292 (2) العقد 1: 131 (3) العقد 3: 43 (4) العقد 3: 137 - 138

إلى مثل، أو ليضمن شعره امثالا، كقوله (1) : قد صرح الأعداء بالبين ... وأشرق الصبح لذي عين ومنها وجعل في كل بيت مثلا: وعاد من أهواء بعد القلى ... شقيق روح بين جسمين وأصبح الداخل في بيننا ... كساقط بين فراشين قد ألبس البغضة هذا وذا ... لا يصلح الغمد لسيفين والنحو يملي عليه ان يقول (2) : أضحى لك التدبير مطردا ... مثل اطراد الفعل للإسم وهذه أمور ظاهرة على السطح، غير ان من تدبر تأثير ثقافته وجد روحها متغلغلا في شعره، متدخلا في كيانه، وشعره مبني على أمثال سابقة، ويتضح هذا في محاولته أن ينظم أمثلة العروض، فهو يختار بيتا من المحفوظ ويجعله أساس بضعة أبيات من نظمه، فعلى هذا البيت (3) : " رب نار بت أرمقها ... تقصم الهندي والغارا " يبني مقطوعته: زادني لومك إصرارا ... إن لي في الحب أنصارا طار قلبي من هوى رشأ ... لو دنا للقلب ما طارا خذ بكفي لا أمت غرقا ... إن بحر الحب قد فارا أنضجت نار الهوى كبدي ... ودموعي تطفئ النارا رب نار. . . . . . . . . . . . . . . (البيت) ... ومن هذا يتضح مدى انشغاله بالمعارضة حتى انه حين شبع من معارضة الآخرين اخذ يعارض نفسه بالمحصات. فهو يعارض قصيدة مسلم بن وليد:

_ (1) العقد 1: 46 (2) العقد 1: 46 (3) انظر العقد 5: 447

أديرا علي الراح لا تشربا قبلي ... ولا تطلبا من عند قاتلتي ذحلي بقصيدة مطلعها: أتقتلني ظلما وتجحدني قتلي ... وقد قام من عينيك لي شاهدا عدل وطريقته في المعارضة التزام المعاني الأصلية ومحاولة عكسها أو الزيادة فيها، فاذا قال مسلم: لا تطلب ذحلي قال ابن عبد ربه: أطلاب ذحلي ليس بي غير شادن ... بعينيه سحر فاطلبوا عنده ذحلي فعكس المعنى عند صريع الغواني. وإذا تحدث مسلم انه كتم الحب عن عاذله فاستراح من العذل قال ابن عبد ربه انه يحب العذل لكي يذكر اسمها ولا شيء أحب إليه من العذل، وانه حقا كتم الحب كما كتمه مسلم ولكن الأسى هو الذي أخذ يعلنه بماء البكاء: وأحببت فيها العذل حبا لذكرها ... فلا شيء أشهى في فؤادي من العذل كتمت الهوى جهدي فجرده الأسى ... بماء البكا، هذا يخط وذا يملي ويزهى بهذا الذي فعله ويقول مفتخرا: " فمن نظر إلى سهولة هذا الشعر مع بديع معناه ورقة طبعه لم يفضله شعر صريع الغواني عنده إلا بفضل التقدم " (1) . وتعجبه صورة يعثر عليها فيفتخر بانه جاء بالغريب الذي لم يسبق إليه في مثل قوله: حوراء داعبها الهوى في أحور ... حكمت لواحظها على المقدور نظرت الي بمقلتي أدمانة ... وتلفتت بسوالف اليعفور فكأنما غاص الأسى بجفونها ... حتى أتاك بلؤلوء منثور والصورة التي يعنيها هي في البيت الثالث حين رأى في الأسى صورة صائد اللؤلؤء منثورا هو دموعها، والصورة بالنسبة لأذواقنا اليوم قد تكون نابية وبخاصة اقتران الغوص بالعين، ولكنها كانت مما يعجب الأندلسيين حتى تداولها من بعد ابن عبد ربه غير واحد منهم. والحق ان هذه الأبيات تدل جيدا على مذهب

_ (1) العقد 4: 398 وما بعدها.

ابن عبد ربه في الشعر، وان كانت كل الأبيات التي أوردها لنفسه في العقد هي فيما كان يراه من مختار شعره، ولكن يرى في هذه الأبيات ونظائر لها " رقة التشبيب وحسن التشبيه البديع الغريب الذي لم يسبق إليه " وهذا هو مقياسه الفني لما يستحسنه من شعره. وهناك معارضة لا تلتزم روي القصيدة التي يعارضها وإنما هو ينظر فيها إلى معاني قصيدة سابقة ثم ينشئ قصيدة تتضمن هذه المعاني مع شيء من التقليب والتغيير والعكس والإسهاب. وأبرز مثل على ذلك قصيدة له يصف فيها القلم، فانه قد نسخ فيها بعض معاني أبي تمام في وصف القلم، ذلك الوصف الذي أدهش الأندلسيين، ومن المعاني التي استعارها قوله: ينطق في عجمه بلفظته ... تصم عنها وتسمع البصرا إذا امتطى الخنصرين أذكر من ... سحبان فيما أطال واختصرا شخت ضئيل لفعله خطر ... أعظم به في ملمة خطرا تمج فكاه ريقة صغرت ... وخطبها في القلوب قد كبرا وهذا شيء أخفى من المعارضة التي تتم مع الاحتفاظ بالوزن والروي. وهناك نقطة جديرة بالنظر وهي ان ابن عبد ربه خلد بعض شعره في العقد، ووقف في بعض المواطن معجبا وهو يضع أشعاره إزاء أشعار المشارقة، ولكنه؟ فيما يبدو - لم يكن يعترف للأندلسيين بكثير من الحظ في الإجادة، وكانت الموضوعات المتنوعة التي طرقها كفيلة ان تجعله يستشهد عليها بشعر أهل بلده؟ لم يعترف إلا للغزال بأنه يستحق أن يوضع في صف المشارقة - بعد اعترافه الكبير بنفسه - والا عرضا لشاعر أو لآخر، مثل مؤمن بن سعيد، ثم انه لم يختر للغزال أجود قطعة، أتراه كان يحس إحساسا خفيا بأنه لا يتنازل عن مرتبة التقدم في الشعر للغزال أو لغيره؟ اكبر الظن أن تقديره لنفسه قد حجب عنه حقيقة

من تقدمه من الشعراء، وربما لم يحاول ان يبرز مكانة الغزال في أخباره، لئلا يقلل من شأن الصورة الأندلسية التي رسمها لنفسه. وقد كان ابن عبد ربه محط إعجاب الناس في عصره وبعده، ويقول فيه ابن شرف: " وأما ابن عبد ربه القرطبي، وان بعدت عنا دياره فقد صاقبتنا أشعاره، ووقفنا على أشعار صبوته الأنيقة ومكفرات توبته الصدوقة ومدائحه المروانية، ومطاعنه في العباسية، وهو في كل ذلك فارس ممارس وطاعن مداعس. واطلعنا في شعره على علم واسع ومادة فهم مضيء ناصع ومن تلك الجواهر نظم عقده وتركه لمن تجمل بعده ". (1) وتفيدنا هذه الكلمات حقيقة جديدة واحدة نضيفها إلى ما تقدم وهي ان هناك مطاعن لابن عبد ربه في الدولة العباسية، ولكن هذا الشعر لم يصلنا، وما وصلنا من شعر ابن عبد ربه، على انه نسبيا كثير، ليس شيئا بالنسبة لمجموع شعره كله، فقد كان شعره كثيرا بشهادة الحميدي وقد رأى منه نيفا وعشرين جزءا مما جمع للحكم المستنصر (2) . وخلاصة القول فيه ان المتقدمين من النقاد والمتذوقين كانوا يعجبون به، وبخاصة قدرته على النظم، ومحاولته الاهتداء إلى المعاني الجديدة، وكانوا يطربون إذا سمعوه يقول (3) : يا ذا الذي خط العذار بخده ... خطين هاجا لوعة وبلابلا ما كنت أعلم أن لحظك صارم ... حتى لبست بعارضيك حمائلا يطربون لموضوع وللصورة التي ولدها فيه، وكانوا يتناقلون قوله (4) : الجسم في بلد والروح في بلد ... يا وحشة الروح بل يا غربة الجسد ان تبك عيناك لي يا من كلفت به ... من رحمة فهما سهماك في كبدي

_ (1) الذخيرة 4/1: 164 (2) الجذوة: 94 (3) المطمح: 52 (4) الجذوة: 95

كانت تعجبهم الأناقة في التفسير والتبرير، والطرافة في التلاعب بالصور والمعاني، اعني كانوا مأخوذين بالحيلة الفنية اكثر من إعجابهم بالكيان الفني. ولكن تغير نظرتنا إلى الشعر في جانب من موضوعاته وفي الطريقة الفنية لا يجعل من ابن عبد ربه شاعرا مقدما.

5 - أبو عمر يوسف بن هارون الرمادي الكندي 403هـ - الجذوة: 346 وبغية الملتمس رقم: 1451 والصلة: 637 والمطرب: 4 والنفح 2: 440 والمغرب 1: 392 ومسالك الأبصار 11: 175 والمطمح: 69 وابن خلكان رقم: 719 واليتيمة 1: 435 في تلقيه بالرمادي رأيان أحدهما انه كان يلقب بالأسبانية بأبي جنيش؟ كما يقول ابن بشكوال - فعرب هذا اللقب إلى الرمادي، والثاني ان هناك قرية تسمى رمادة عدها ابن سعيد من قرى شلب، وعدها الحميدي من بلاد المغرب؟ دون تحديد - وقطع ابن سعيد بنسبته إليها ورجح الحميدي ان يكون أحد آبائه منها. عاش اكثر أيامه في قرطبة، ويبدو انه قصدها للدراسة ثم اصبح مدرسا فيها، قال ابن سعيد في ترجمة الأمير أرقم بن عبد الرحمن من بني

ذي النون: انه قرأ في قرطبة على الرمادي الشاعر (1) . كذلك روى عنه مصعب بن الفرضي (2) ، وأخذ عنه ابن عبد البر قطعة من شعره وضمنها بعض كتبه، أما هو فقد اكتسب صناعة الأدب عن شيخه أبي بكر ابن هذيل الكفيف عالم أدباء الأندلس في عصره، ويمثل ابن هذيل الحلقة التي تصل بين ابن عبد ربه والرمادي لأنه تأثر بالأول وأثر في الثاني، في المذهب الشعري. ولما ورد القالي (330) في أيام عبد الرحمن الناصر تلقاه الرمادي ومدحه بقصيدة مطلعها (3) : من حاكم بيني وبين عذولي ... الشجو شجوي والعويل عويلي ثم انضم إلى جماعة المستفيدين منه، فقرأ عليه كتاب النوادر. وارتفع شأن الرمادي في أيام الحكم واصبح مقدما على سائر الشعراء، وربما غادر قرطبة بعض الوقت في هذه الفترة من حياته وقصد عبد الرحمن بن محمد التجيبي صاحب سرقسطة ومدحه بقصيدة أولها (4) : قفوا تشهدوا بثي وإنكار لائمي ... علي بكائي في الديار الطواسم ووراء هذه الرحلة قصة حب، فقد رأى الرمادي ذات يوم، وهو يتنزه في رياض بني مروان امرأة جميلة غلقها قلبه، وحادثته وحادثها واخبرته انها امة، وان ثمنها على صاحبها ثلاثمائة. فلما قصد الرمادي ممدوحه التجيبي بسرقسطة ذكر له حاله وشبب في القصيدة بخلوة؟ وهو اسمها - فأعطاه الممدوح ثلاثمائة دينار ذهبا سوى ما زوده به من نفقة الطريق مقبلا وراجعا. وعاد الشاعر إلى قرطبة يبحث عن هواه في كل مكان حتى كاد ييأس، وذات يوم دعاه بعض إخوانه لزيارته، فلبى الدعوة، ولما دخل عليه أجلسه في صدر مجلسه، ثم قام لبعض شأنه،

_ (1) المغرب 2: 14 (2) الجذوة: 347، 348 (3) الجذوة: 347 والقصيدة مثبت أكثرها في اليتيمة 1: 435 وبعضها في المعجب: 16 والنفح 2: 726 (4) الجذوة: 348

فلم يشعر الرمادي إلا بالستارة المقابلة له قد رفعت، وإذا هي خلوة أمامه، فقال لها أأنت مملوكة أبي فلان؟ (يعني صديقه) قالت: لا والله ولكني أخته. قال الرمادي: فكأن الله تعالى محا محبتها من قلبي، وقمت من فوري واعتذرت إلى صاحب المنزل بعارض طرقني وانصرفت (1) . ولما أمر الحكم الأندلسي بإراقة الخمر في سائر جهات الأندلس، أبدى الرمادي أسفه لذلك وتوجع لشاربيها، وذكر الحكم بقصة أبي حنيفة الذي شفع في جار له سكير، وقال (2) : بخطب الشاربين يضيق صدري ... وترمضني بليتهم لعمري وهل هم غير عشاق أصيبوا ... بفقد حبائب ومنوا بهجر ثم تقلبت الأحوال بالرمادي، فانهم في أيام الحكم أيضا مع جماعة من الشعراء بشعر في ذم السلطان، ومنه هذا البيت: يولي يعزل من بومه ... فلا ذا يتم ولا ذا يتم قال صاحب المطمح (3) : " وعاشت عنه أشعار في دولة الخليفة وأهلها، سدد إليهم صائبات نبلها، وسقاهم كؤوس مهلها، أوغرت عليه الصدور، وفغرت عليه المنايا ولكن لم يساعدها المقدور، فسجنه الخليفة دهرا، وأسلكه من وعرا ". واخذ الرمادي في سجنه ينظم الأشعار الكثيرة متشوقا إلى التحرر والخلاص حينا مستشفعا به إلى الخليفة، وعمل وهو مسجون كتابا سماه " كتاب الطير " في أجزاء، وكله من شعره، وصف فيه كل طائر معروف، وذكر خواصه، وذيل كل قطعة بمدح ولي العهد هشام بن الحكم، ليشفع فيه لدى أبيه (4) ، وقد رأى الحميدي هذا الكتاب بخط الرمادي ونسخ منه شيئا من الشعر،

_ (1) الجذوة: 347، وطوق الحمامة: 22 - 23 (2) الجذوة: 14 والمعجب: 14 (3) المطمح: 72 (4) الجذوة: 349

ويبدو أن الحكم لم يصغ إليه ولا عطفته أشعاره عليه، وانه ربما أطلق بعد وفاته. وغادر قرطبة إلى شنترين بغرب الأندلس، وواليها يومئذ فرحون ابن عبد الله بن عبد الواحد، فأمر بإنزاله فقصر به متولي ذلك، فكتب إليه الرمادي (1) : أيها العارض والمهدي لمستسقيه وبلا ... حين لا يهدي إذا ما استسقي العارض طلا ... قائدا اجنت مغازيه العدى سبيا وقتلا ... ان ضيفا قاصدا قلت له أهلا وسهلا ... ما له فرش على الأرض سوى وجه مصلى ... فأنا لولا [] الوعد سهلا ... لم تجد عيني لنوم بمبيت السوء كحلا ... فوردت الأبيات على فرحون وهو خارج إلى الغزو، فخجل من ذلك وأمر له بما طلب، وقرن بذلك جارية وكتب إليه معتذرا مما حدث. وكان من ممدوحيه في هذه الفترة ابن القرشية وهو عبد العزيز بن منذر أخي الحكم المستنصر، وله فيه قصيدة ذكرها حبيب العامري في كتابه " البديع في فصل الربيع " لأنه وصف فيها الأزهار، ومنها (2) : تأمل بإثر الغيم من زهرة الثرى ... حياة عيون متن قبل التغيم كأن الربيع الطلق أقبل معربا ... بطلعة معشوق إلى عين مغرم تعجب من غوص الحيا في حشا الثرى ... فأفشى الذي فيه ولم يتكلم

_ (1) الحلة: 129 (2) الحلة: 60

كأن الذي يسقي الثرى صرف قهوة ... تنم عليه بالضمير المكتم أرى حسنا في صفحة قد تغيرت ... كبشر بدا في الوجه بعد التجهم ألا يا سماء الأرض أعطيت بهجة ... تطالعنا منها بوجه مقسم وان قالت الأرض المنعم روضها ... لي الفضل في فخري عليك فسلمي فخضرة ما فيها تفوقك خضرة ... ونوارها فيها ثواقب أنجم وان جئتها بالشمس والبدر والحيا ... مفاخرة جاءت بأسنى وأكرم بعبد العزيز ابن الخلائف والذي ... جميع المعالي تنتمي حيث ينتمي واصبح الرمادي في أيام المنصور بن أبي عامر من الشعراء الذين يترددون إليه، ولم تصلنا أمداحه فيه، ولكن مما يدلنا على قرب منزلته منه ما حدثنا به المقري فقد روى أن المنصور قال له يوما: كيف ترى حالك معي؟ فقال الرمادي: " فوق قدري ودون قدرك " فأطرق المنصور كالغضبان، وانسل الرمادي خارجا وقد استشعر الندامة، وأخذ يونب نفسه ويقول: أخطأت، لا والله ما يفلح مع الملوك من يعاملهم بالحق، ما كان ضرني لو قلت " إني بلغت السماء وتمنطقت بالجوزاء "؟ " لا حول ولا قوة إلا بالله ". وانتهز هذه الفرصة بعض حساده فاخذ يغري به المنصور ويقول: " هذا الصنف صنف زور وهذيان، لا يشركون نعمة، ولا يرعون إلا ولا ذمة، كلاب من غلب وأصحاب من أخصب، وأعداء من أجدب "

فاستاء المنصور من هذا الحسود الباغي وألقى عليه درسا خلقيا قاسيا، وافهمه انه ما أطرق غضبا وإنما أطرق تعجبا من كلام الرمادي " لأنه رأى كلاما يجل عن الأقدار الجليلة " ثم أمر بالرمادي فرد إلى المجلس وقال له: أعد علي كلامك فارتاع، فطمأنه المنصور وقال له: الأمر على خلاف ما قدرت، الثواب أولى بكلامك من العقاب، ثم أجازه بمال وخلع وموضع يتعيش منه (1) . ويذهب صاحب المعجب (2) إلى أن هذه العلاقة الطيبة ساءت بعد نكبة المصحفي، لان الرمادي، فيما يزعمه، كان مشايعا للمصحفي وأعراه هذا بهجاء المنصور، فلما حدثت نكبة المصحفي، واستصفيت أمواله التفت المنصور إلى الرمادي وأوسعه عقوبة ونكالا، وأمر بتغريبه ثم شفع له عنده، كما شفع للغزال عند عبد الرحمن، فأقره في بلده، ولكنه بدله بالتغريب عقوبة أنكى واشد حين أمر الناس ألا يكلموه، وطاف بذلك مناد في جميع جهات قرطبة، فأقام أبو عمر هذا كالميت إلى أن أدركته منيته في أواخر أيام المنصور بن أبي عامر. وهذا كلام يستحق التوقف والنظر ذلك لأن نكبة المصحفي تمت في سنة 367 أي بعد سنة من وفاة الحكم تقريبا، فعلاقة الرمادي بالمصحفي لا تؤهله ليكون مقربا من ابن أبي عامر كما تقول الروايات الأخرى، ولا تجعل ابن سعيد يقول في وصف له: انه كان مداح المنصور ابن أبي عامر (3) . ثم لو فرضنا ان المنصور غضب فعلا على الرمادي، فلا يزال هناك خطان واضحان في هذه الرواية: الأول انه من غير المعقول ان يظل الحرمان ساريا على الرمادي حتى حوالي سنة 393 أي أن تظل الصلة بينه وبين الناس مقطوعة طوال هذه المدة، وكان من الخير له لو

_ (1) باختصار عن النفح 2: 868 (2) المعجب: 16 (3) المغرب 1: 392

نفي أو هاجر من قرطبة، فشفاعة الناس فيه كانت ضررا وبيلا عليه. والثاني ان الرمادي لم يمت في أواخر أيام المنصور بل من المؤكد ان العمر امتد به، فشهد عهد المظفر وحضر الفتنة، قال صاحب المطمح في أسجاعه: " وتمادى بأبي عمر طلق العمر، حتى افرده صاحبه ونديمه، وهريق شبابه واستشن أديمه، ففارق تلك الأيام وبهجتها، وأدرك الفتنة فخاض لجتها، وأقام فرقا من هيجانها، شرقا بأشجانها، لحقته فيها فاقة نهكته، وبعدت عنه الإفاقة حتى أهلكته " (1) . ومعنى هذا الكلام انه كبرت سنه، وأدرك عام 400هـ وافتقر في أواخر أيامه، وهذا يصدقه قول ابن بشكوال انه توفي يوم عيد العنصرة (4حزيران) سنة 403، وكان حينئذ فقيرا معدما، ودفن بمقبرة كلع (2) . شعره شعره كثير، متعدد الفنون، كسب له شهرة عامة في عصره بين الخاصة والعامة، ونفق به عند الكل حتى كان كثير من شيوخ الأدب في وقته يقولون فتح الشعر بكندة وختم بكندة، يعنون امرأ القيس والمتنبي والرمادي (3) ، لأن الرمادي كندي النسبة أيضاً، ومعاصر للمتنبي. وليس لدينا خبر يفيد ان شعره كان مجموعا في ديوان، ولكن نقل بعضهم عن الرمادي عددا من قصائده مباشرة، منها ما نقله ابن عبد البر؟ كما تقدم - ومنها سبع قصائد انشدها أبو بكر بن الفرضي رواية عن الرمادي، هذا عدا ما ضمنه من شعره كتاب " الطير " الذي رآه الحميدي.

_ (1) المطمح: 70 (2) الصلة: 638، وانظر المطرب أيضاً: 4 وذكرت المصادر ابنين من أبناء الرمادي هما احمد وعلي وكلاهما شاعر إلا أن الثاني اشهر من الأول (انظر التكملة: 18 - 19) . (3) الجذوة: 346

ويقول الحميدي أيضاً انه سريع القول (1) ، كأنه يعني انه يعتمد على ما يشبه البديهة، ولكن الناظر في كثير مما بقي من شعره يحس بالجهد والتروي، والغوص والتعمق. وقد انتهى إليه الموروث الشعري كما يمثله الغزال من ناحية وابن عبد ربه، من ناحية أخرى، من خلال أستاذه ابن هذيل، فنزع فيه وأغرق وتجاوز حدود هؤلاء الثلاثة الكبار خطوة جديدة في المغالاة والإغراق، وقد أقام ابن هذيل شعره على الصنعة المنحوتة وطل الصورة الغربية مجانيا طريقة الغزال في قلة الاحتفال بالصقال، فمما يلتزم ابن هذيل فيه المطابقات وحب التصوير قوله (2) : فأنا الطائع المشوق لمن صا ... ر يريني الهوان في عصيانه مر بي خاطرا يكاد من العجب به أن يراع في ريعانه ... في ملاء كأنه وهو فيها ... ورد خديه في جنى سوسانه يتشكى الفتور من كسل المشي ولا يشتكيه من أجفانه ... فمقابلة الطاعة بالعصيان واشتكاء الفتور في المشي دون الفتور في الأجفان، ثم هذه الصور الغريبة: صورة الذي يكاد ان يراع من عجبه وصورة المحبوب في ملاءة كالورد الذي قد التف من حوله السوسن، كل ذلك يدل على هذه الصنعة الشعرية المشوبة بطلب الأغراب، ثم هنالك الإغراق الذي يشارف حدود الإحالة، كقوله (3) : يكاد يضيق الجو من عظم زفرتي ... وتهفو نجوم الليل من فرط إعوالي أبى غير تعذيبي ولو أمر الردى ... أطاع، ولكن فعله هو إنكالي ومن شغفه بالرسم المستغرب المستطرف نجده يقول (4) :

_ (1) الجذوة: 346 (2) اليتيمة 1: 366 (3) المصدر نفسه: 367 (4) المصدر نفسه: 367

والثريا دنت من البدر حتى ... خلتها دارعا يدير مجنا وهي من أغرب الصور التي يرسمها شخص أعمى، ولذلك فان كثيرا من تصويره مبني على نوع من الوهم الغريب، كتصويره أحبته يرحلون وقد بلهم الرذاذ والندى فلما تحركت جمالهم تساقطت القطرات على الارض، وبكى هو فاختلطت دموعه بتلك القطرات، فما عاد تمييزها ميسورا (1) : لم يرحلوا إلا وفوق رحالهم ... غيم حكى غبش الظلام المقبل وعلت مطارفهم مجاجات الندى ... فكأنما مطرت بدر مرسل لما تحركت الحمول تناثرت ... من فوقهم في الأرض تحت الأرجل فبكيت لو عرفوا دموعي بينها ... لكنها اختلطت بشكل مشكل فلما تأدت هذه الطريقة الشعرية إلى الرمادي تقدم بها خطوة، فاعتمد كثيرا على الاحالة في المبالغة ومحاولة الايهام، واتكأ على طلب المعنى المبتكر، وانفق فيه جهدا عظيما، وتردد بين الأطراف الجدلية للموضوع يلحمها ويسديها، فمن إحالاته المجتلبة قوله: لا تنكروا غرر الدموع فكل ما ... ينحل من جسمي يصير دموعا وقوله في العاذل: أيأمن أن يغدو حريق تنفسي ... وإلا غريقا في الدموع السواجم فهذا حمام الأيك يبكي هديله ... بكائي فليفزع للوم الحمائم وله قطعة كاملة نحا فيها هذا المنحى فقال (2) : غدا يرحلون فيا يوم رسلك ... كن بالظلام بطيء اللحاق ويا دمع عيني سد الطريق ... وأفرغ عليهم نجيع المآقي

_ (1) الجذوة: 358 (2) الجذوة: 165

ويا نفسي جئتهم من أمام ... وقابلتهم بنسيم احتراق ويا هم نفسي كن ظلاما ... وقيدهم عن نوى وانطلاق ويا ليل من بعد ذا إن ظفرت ... بالصبح فاقذف به في وثاق سيدرون كيف يبينون عني ... إلا على جهة الإستراق فهو يريد من اليوم ان يتمهل فلا يلحق بالظلام سريعا، ويطلب إلى دمع عينه أن يكون بحرا من دم يسد على الراحلين الطريق، والى نفسه ان يكون هبوة نار، والى همه أن يصبح ظلاما يقيدهم عن السفر، والى الليل ان الصبح فلا يريم، عندئذ تتضافر عليهم كل هذه المعوقات، فلا يستطيعون السفر العمد، وإنما قد يفارقون استراقا. والشأن في هذه الإحالة كلها الاستطراف، إلا ان عنصر الإغراق يضيف إلى هذه الأبيات من ناحية الطرافة لينقصها من الناحية المعقولة الداخلة في حدود الإمكان. واستبقى الرمادي من مذهب الغزال الأثر النواسي في الخمر، وشيئا من السخرية، إلا انه نقل السخرية من حقائق الحياة ومتناقضاتها إلى العبث بالموضوعات الدينية والاجتماعية، ولا ريب في ان فزعه من إراقة الخمور في أيام الحكم يدل على ان شعره كان ينبع من نزعته اللاهية اول الأمر، وأشعاره في الخمر تذكرنا بروح التحدي عند أبي نواس وبإصراره ومجاهرته في شربها، من ذلك قوله (1) : أفي الخمر لامت خلتي مستهامها ... كفرت بكأسي إن أطعت ملامها لمحمولة في الفلك في جنة المنى ... قد أوحى نوح غرسها وضمامها فخادعه إبليس عنها لعلمه ... بها فرأى كتمانها واغتنامها ففاز بثلثيها ونوح بثلثها ... ولولا مضي عنه لم يك رامها له حظ أنثى وهو حظ مذكر ... قليل لعيني أن أطيل انسجامها فقوله كفرت بكأسي، ونسبته الخمر إلى القدم، والخصومة عليها بين

_ (1) الشريشي 2: 21 - 22

إبليس ونوح وفوز إبليس بثلثيها وهو حظ الذكر، وفوز نوح بثلثها، يرينا مبلغ فنائه في الخمر، كما تشير أبياته في روحها الأسطورية إلى الميل القصصي الأصيل عنده، ذلك الميل كان يبعد به عن الإغراب ويسلمه إلى السرد والتحليل، كما في قصيدته الرائية التي قالها في حادثة إراقة الخمر، وفيها يقول مخاطبا الآمرين بإراقتها: تحريتم بذاك العدل فيها ... بزعمكم فان يك عن تحري فإن أبا حنيفة وهو عدل ... وفر عن القضاء مسير شهر فقيه لا يدانيه فقيه ... إذا جاء القياس أتى بدر وكان من الصلاة طويل ليل ... يقطعه بلا تغميض شفر وكان له من الشراب جار ... يواصل مغربا فيها بفجر وكان إذا انتشى غنى بصوت المضاع بسجنه من آل عمرو ... " أضاعوني وأي فتى أضاعوا ... ليوم كريهة وسداد ثغر " فغيب صوت ذاك الجار سجن ... ولم يكن الفقيه بذاك يدري فقال وقد مضى ليل وثان ... ولم يسمعه غنى: ليت شعري! أجاري المؤنسي ليلا غناء ... لخير قطع ذلك أم لشر فقالوا إنه في سجن عيسى ... أتاه به المحارس وهو يسري وهكذا إلى نهاية القصة، وهو نفس قصصي جيد يذكرنا بالغزال، وميله إلى البسط والتحليل. اما سخريته التي نقلها إلى الهزء بالموضوعات العامة فتدل على انه كان فقيرا إلى النظرة الشاملة، وانه لم تكن لديه التجربة العميقة التي كانت للغزال، وإنما تشير إلى استهتار وانخلاع مجوني عابث، جاءه من تهالكه على الخمر، ولذلك استعمل صور القداسة، ساخرا، حتى تحدث عن الخمر، فقال: تسرع الناس نحوها بازدحام ... كازدحام الحجيج في عرفات

وقال: فإذا ما انقضى دنان على الله؟ ... واعتمدنا مواضع الصلوات وانفق كثيرا من طاقته الشعرية في التغزل بالغلمان، حتى ان السجن لم يشغله عن هذا الموضوع، بل ظل سادرا فيه، ومن الإنصاف له أن نسجل له مزجة بين التهتك والتعفف في مقام واحد، ذهابا مع ما يسميه هو المروة أو الفتوة. ومع ذلك فان السجن كان من أقوى الدوافع التي كادت أن تحطم عليه طريقته الشعرية، التي قامت على المجانة واللهو في الموضوع وعلى الإغراق والإحالة في تعقب الصور والمعاني، وانطلقت أشعاره في السجن من خلجات الحزن العميق ودوافعه، ورده وضعه إلى شيء من التأمل في نفسه وفي نهايته، وملأ أبياته بالبكاء حينا وبالتشوق إلى الانطلاق حينا آخر، وحلت العاطفة الجياشة في شعره محل التصنيع الذهني، ومن أمثلة ذلك قوله (1) : وقالت تظن الدهر سيجمع بيننا ... فقلت لها من بظن محقق ولكنني فيما زجرت بمقلتي ... زجرت اجتماع الشمل بعد التفرق أباكية يوما ولم يأن وقته ... سينفد قبل اليوم دمعك فارفقي ومن قصائده التي انبعثت من المحبس أيضاً (2) : على كبري تهمي السحاب وتذرف ... وعن جزعي تبكي الحمام وتهتف كأن السحاب الواكفات غواسلي ... وتلك على فقدي نوائح هتف ولو أنا قارنا هذه الانطلاقات العاطفية بأبياته التي أوردتها من قبل في وصف الأزهار والربيع لتبين لنا الفرق واضحا، فهنالك اهتدى إلى معنيين جميلين بعد الكد والاجتهاد، حين زعم اولا ان الماء قد غاص

_ (1) المطمح: 72 (2) المطمح: 73

في حشا الثرى فأظهر أسراره، كأنه ليس ماء على التحقيق، بل خمرة تخرج المكنون في النفوس ثم توهم أن السماء افتخرت على الأرض، فنصر الأرض عليها وقال: ان خضرة السماء والنوار يقوم مقام النجوم، أما الشمس والبدر والغيث فكلها قد تجمعت في شخص واحد هو شخص الممدوح، ولكن حكايته عن عواطفه الحزينة في أيام السجن أقل احتفالا بالاستطراف في المعنى واكثر اتصالا بالحال النفسية، على وجهها الطبيعي. ومن الخطأ ان نظن ان الرمادي كان دائما شديد الغوص كثير الكد في استخراج المعاني وتوليدها، فان له شعرا تلمح عليه رونق الطبع كقوله (1) : صد عني وليس يعلم أني ... كنت في كربة ففرج عني وتجنى علي من غير ذنب ... فتجنى على كثير التجني حسن ظني قضى علي بهذا ... حكم الله لي على حسن ظني وبينا نقرأ له هذا اللون السهل، المنساب نراه يمعن في التكلف حين يقول (2) : عزمت على قتلي بغير تحرج ... شجى بك حتى تقتل الهائم الشجي ولم يبد سري فيك رأيي وإنما ... تبدى فرارا من حشى متوهج نحولي ودمعي دبجا وجنتي بما ... رأت مقلتي من خدك المتدبج بهارا ودرا هبت الريح فوقه ... بقرو فغطت وردة بالبنفسج فهو على هذا يتعاوره تياران؟ كابن عبد ربه - ولكنه إلى الثاني اميل، وبه عرفه قومه، وقدموه، وشهدوا له بالتفوق. ولو وصلنا من شعره الكثير لاستطعنا أن نستكشف فيه على وجه أوضح مدى دينه لأستاذيه ابن عبد ربه؟ وابن هذيل، وقد ذهب ابن

_ (1) الجذوة: 349 (2) اليتيمة 1: 436

بسام إلى أن قوله (1) : ولم أر أحلى من تبسم أعين ... غداة النوى عن لؤلؤ كان كامنا مأخوذ من قول ابن عبد ربه: وكأنما غاص الأسى بجفونها ... حتى أتاك بلؤلؤ منثور فاحتال الرمادي حتى أتى باللؤلؤ وعوض من الغائص التبسم، ووقعت له استعارة التبسم موقعا لطيفا. ويبدو انه نشأ، معجبا بطريقة أستاذه ابن هذيل، وانه في أوائل عهده بالشعر، كان يعارضه أو يناقضه. وهو يحكي عن نفسه انه بكر ذات يوم إلى باب أبي المطرف بقرطبة، فلقى يحيى بن هذيل قد بكر قبله، فسأله ابن هذيل عما جد له من شعر فقال له: ليس عندي كبير معنى ولكن ما عندك انت؟ فأخرج ابن هذيل قصيدة منها: ومرنة والدجن ينسج فوقها ... بردين من حلك ونوء باكي مالت على طي الجناح وإنما ... جعلت أريكتها قضيب أراك وترنمت لحنين قد خلتهما ... كغناء مسمعه وأنة شاكي ففقدت من نفسي لفرط صبابتي ... نفس الحياة وقلت: من أبكاك فأعجب بها الرمادي، فقال له ابن هذيل: انصرف إلى المكتب وتأدب حتى تحسن مثل هذا. قال الرمادي، فحركني كلامه، ثم بكر إليه وانشده: أحمامة فوق الأراكة بيني ... بحياة من أبكاك ما أبكاك أما أنا فبكيت من حرق الهوى ... وفراق من أهوى. أأنت كذاك؟ فلما سمعها ابن هذيل قال له: أعارضتني، فقال لا، إنما ناقضتك. فقال ابن هذيل اذهب فقد أخرجتك من المكتب (2) .

_ (1) الذخيرة 1/1: 276 (2) نثار الأزهار: 82 وبعض أبيات ابن هذيل في اليتيمة 1: 367 كما أن بيتي الرمادي في المطرب: 6

ويختلط البيتان التاليان لهما فبعضهم ينسبهما لابن هذيل وبعضهم للرمادي (1) : لا تلمني على الوقوف بدار ... أهلها صيروا السقام ضجيعي جعلوا أي إلى هواهم طريقا ... ثم سدوا علي باب الرجوع وهما يربطان بين الطريقتين، وتصح نسبتهما لكل من الرجلين.

_ (1) النفح 2: 1008

فراغ

الفتنة البربرية والشعراء المتأثرون بها 1 - الفتنة واثرها في الشعر والنقد 2 - ابن دراج القسطلي 3 - ابن شهيد 3 - أبو محمد ابن حزم

فراغ

1 - الفتنة وأثرها في الشعر نظرة تاريخية أراد محمد بن هشام بن عبد الجبار الأموي الملقب بالمهدي ان يتخلص من الدولة العامرية، وكان العامريين قد تسلموا زمام السلطة الفعلية طوال أيام الخليفة المستضعف هشام المؤيد، ونجح المهدي نجاحا مؤقتا، وقتل عبد الرحمن بن أبي عامر، وتسلم السلطة ولكن لم يمهله فيها أموي آخر هو سليمان؟ المستعين - الذي تزعم البرابرة، وقصد ان ينتزع الخلافة من المهدي، واجتمع البرابرة مع سليمان لمحاربة قرطبة ونزلوا في سفح الجبل بها وبشرقيها (11 ربيع الأول سنة 400هـ) ، واحتشد إليها الناس من الكور والبادية فعسكروا بجموع كثيرة، وتدانى الزحفان في الثالث عشر من الشهر المذكور، واندفع أهل قرطبة نحو البربر فاستدرجهم البربر ثم عطفوا عليهم وأخذوا في تقتيلهم، فانهزموا ليدخلوا المدينة من مسالك كانوا ضيقوها ضد عدوهم، فأصبحت حاجزا دون هربهم بسهولة، وكان البرابرة قد تحالفوا مع النصارى فأبادوا كثيرا من أهل قرطبة، وتسمى

هذه الوقعة قنتيش، وهرب المهدي بعد الوقعة إلى طليطلة، مستعينا بالإفرنجة وعساكر الثغور، وجمع منهم جموعا وعاد في شهر شوال من العام نفسه، فانهزم سليمان ودخل المهدي قرطبة من جديد، ولكن جيشه لم يتحمل بقاءه، ونصبوا هشاما المؤيد، ثم عاد سليمان فملك قرطبة، وكتب إلى المدن الأخرى يذكر فتحه المدينة وكيف قهر الناس وقتل من عصاه، فازداد نفور أهل المدن الأخرى منه بدلا من ان يتألفهم. وقد أقام سليمان حوالي سبع سنوات وصفها ابن حيان بانها " كانت كلها شدادا نكدات صعابا مشئومات، كريهات المبدأ والفاتحة، قبيحة المنتهى والخاتمة لم يعد فيها حيف، ولا فورق خوف، ولا تم سرور، ولا فقد محذور، مع تغير السيرة وخرق الهيبة واشتعال الفتنة واعتلاء المعصية وطعن الأمن وحلول المخافة: دولة كفاها ذما أن أنشأها شانجة فقشعها ارمنقد وثبتتها ومزقتها الفرنجة، ودبرها فاجر شقي ووزر لها خب دني، فتمخضت عن الفاقرة الكبرى وآلت بمن أتى بعدها إلى ما كان أعضل وأدهى مما طوى بساط الدنيا، وعفى رسمها وأهلك أهلها " (1) . وتوفي المؤيد في بعض تلك الايام، واستقر الأمر لسليمان المستعين، فانتقل إلى الزهراء وعين الولاة على الجهات فأعطى البيرة لبني زيري بن مناد وأعطى سرقسطة لمنذر بن يحيى وولى علي بن حمود على سبتة، وقسم المدن الأخرى بين زعماء البربر الآخرين. وأخذ الفتيان العامريون يجددون المحاولات لاستعادة دولتهم، وعملوا على تقويض ملك سليمان المستعين، فكاتبوا علي بن حمود صاحب سبتة وذكروا له ان المؤيد هشاما قد ترك له عهدا بالخلافة، فانتشق ابن حمود على صاحبه المستعين، واجتاز سنة 404 إلى الأندلس وانضم إليه خيران العامري وحبوس الصنهاجي، والتقت جيوشهم بالمستعين أوائل سنة 407 فهزم سليمان وقبض عليه وقتل، وصارت الدولة بقرطبة إلى علي بن حمود

_ (1) الذخيرة 1/1: 25

" فقهر البربر وأمضى الأحكام، وأقام العدل؟ وكان مرفوع الحجاب يقيم الحدود ويقرب المتظلمين، ثم ساء في الناس رأيه فألزمهم المغارم وانتزع منهم السلاح " ثم قتله خدمه الصقالبة سنة 408 وخلفه أخوه. في تلك الأثناء كان الموالي العامريون لا يزالون يطمعون في استعادة الدولة الأموية، فنصبوا المرتضى خليفة) وهو عبد الرحمن بن محمد من نسل الناصر) ونزلوا به بغرناطة فهزمهم زاوي بن زيري صاحبها، وخذل المرتضى أنصاره وقتل هو (409) " وبعد هذه الوقعة ركدت ريح المروانية وتقطعوا في الأرض واستهينوا فلم تقم لهم قائمة "، ولم ينجح الظافر بالله الذي بويع سنة 414 ولا المستكفي الذي جاء بعده في رد الخلافة الأموية، وأخرج المستكفي من قرطبة متنقبا في زي النساء، (416) وانتظم الأمر في قرطبة لبني حمود طوال تلك الفترة. أما من تبقى من الفتيان العامريين فنجمل أمرهم فيما يلي: س 1 - كان خيران العامري زعيم الصقالبة في بلاط هشام المؤيد، فاستولى على مرسية والمرية، وكان داهية شجاعا حسن التدبير، وتسمى لحيانا بالخليفة وبالفتى الكبير. وخلفه على المرية أخوه زهير العامري سنة 419. 2 - استولى مجاهد العامري على دانية والجزائر الشرقية، وكان ميالا للعلم مكرما للعلماء، فقصده كثيرون منهم ابن عبد البر وابن سيده وكان فارسا لا ضريب له في الحذق بمعاني الفروسية، وتردد بين النسك والمذاكرة وبين البطالة واللهو. 3 - استقل مبارك ومظفر العامريان ببلنسية، بعد ان كانا وكيلين للساقية، وتآلفا على اختلاف في طبعهما إذ كان مبارك صارما ومظفر دمثا متواضعا. ذلك باختصار هو الوضع الذي كان بعد انقضاء الدولة الأموية وزوال العامريين، ولذلك تعد الفتنة، وفترة الانتقال التي تلتها، نقطة تحول في

التاريخ والأدب الأندلسي. ومعنى ذلك ان سيادة قرطبة قد اضمحلت وارتخت الأسباب التي كانت تمسك جوانب البلاد الأندلسية إلى مركز واحد، وانتهى تمركز الحياة الأدبية في العاصمة، وكانت الفترة التي تلت الفتنة تمهيدا لقيام أمراء الطوائف واتساع النهضة الأدبية في مدن الأندلس الأخرى. آثار الفتنة في عمران قرطبة وحياة أهلها ومن الآثار المباشرة للفتنة التخريب والدمار الذي أصيبت به قرطبة وقد وصف ابن حيان كيف أن أحدهم كان يتولى الإشراف على هدم قصور الأمويين فقال: " بيده بادت قصور بني أمية الرفيعة ودرست آثارهم البديعة، وحطت أعلامهم المنيعة، قدمه ابن السقاء مدبر قرطبة لجمع آلات ما تهدم من القصور المعطلة فاغتدى عليها اعظم آفة يبيع أشياء جليلة القدر رفيعة القيمة في طريق الأمانة؟ فعاث فيها عياث النار في يبيس العرفج، وباع آلاتها من رفيع المرمر ومثمن العمد ونضار الخشب وخالص النحاس وصافي الحديد والرصاص بيع الأدباء " (1) ، وكذلك كان من آثارها الهلع الذي أصيبت به النفوس من تغلب البرابرة، وترصدهم الحرم والدور بالهتك والسلب، ولقد بلغ من إشفاق الناس يومئذ انهم استفتوا شيوخ المالكية في تعجيل صلاة العتمة قبل وقتها خوفا من القتل، إذ كان متلصصة البرابرة يقفون لهم في الظلام، في طرق المسجد فربما آذوا أذى شديدا (2) . وقضت الفتنة على كثير من العلماء والأدباء بالموت والتشريد، ويكفي ان يراجع القارئ كتاب الصلة حتى يجد فيه كثيرا ممن ترجم لهم ابن بشكوال أما قتلوا في الفتنة أو آثروا الهجرة إلى إحدى المدن الأندلسية، ومنهم من أبعد النجعة فبلغ مصر

_ (1) الذخيرة ½: 111 وما بعدها. (2) الأحكام 3: 67

وغيرها. ومن أعلام الذين قتلوا أبو الوليد الفرضي صاحب كتاب " تاريخ العلماء والرواة للعلم بالأندلس ". واضطربت موازين الأمور فاخملت الفتنة كثيرا من المشهورين ورفعت كثيرا من المغمورين، وقد أرخ ابن حيان هذه الناحية بتفصيل مثلما أرخ الفتنة كلها، وان كانت قد منعته في أثنائها من الاستمرار فعطل كتابه التاريخ إلى ان مضى صدر منها. وهو يخبرنا انه أصيب في رقعة قنتيش نيف على ستين من المؤدبين خاصة " أعريت سقافهم في غداة واحدة منهم، وتعطل صبيانهم " (1) ؟ وربما كانت بشاعة الفتنة ترجع إلى التفصيل الشديد الذي سجله مؤرخ الأندلس لاحدائها. على أنها كانت حدثا جللا في نفوس الناس يومئذ؟ لقضائها على عمران قرطبة أولا ثم لقضائها على ما ألفه الناس من أمر الخلافة الأموية. أثر الفتنة في النهضة العلمية والأدبية وقد هزت الفتنة قواعد النهضة العلمية الأدبية التي ازدهرت على عهد المستنصر والمنصور، ولكن هذا لم يلبث طويلا، بل استعاد الناس ثقتهم في أنفسهم واقبلوا على الإنتاج. ومن الضار النافع ان تكون الفتنة سببا في بيع الكتب التي كانت بقرطبة وبخاصة ما كان منها في مكتبة الحكم، وكان بيعها سببا في تسهيل انتشار العلوم، وفيها عثر طلاب العلم على كتب لم يكونوا يستطيعون الحصول عليها، وكان ذلك عاملا في انتعاش الحركة العلمية، والفلسفية على وجه الخصوص. وعرضت مكتبات أخرى للبيع، منها مكتبة الإمام ابن فطيس، وكان قد جمع من الكتب في أنواع العلم ما لم يجمعه أحد من أهل عصره بالأندلس وقيل أن كتبه بقيت تباع مدة عام كامل في مسجده وان ثمنها بلغ أربعين ألف دينار قاسمية. وليس هذا كثيرا على رجل كان قد وظف ستة وراقين ينسخون له دائما

_ (1) الذخيرة 1/1: 31

براتب مقرر (1) وكان الشعراء قبيل الفتنة وفي أثنائها على حال سيئة، ولا ابلغ من وصف ابن حيان لحالهم حين جاء سليمان المستعين إذ يقول: " واغتنمته شعراء العامرية والدولة الأموية وقد نسجت على أفواههم ومحاربهم العناكب أيام الحرب والفتنة، واشتدت فاقتهم، وجمعت طباعهم، وكانوا كالبواة الفذة الجياع، انقضت لفرط الضرورة على الجرادة، فلم يبل صداهم، ولا سد خلتهم لاشتغاله بشأنه، واشتداد حاجة سلطانه " (2) . واصبح الشعراء موالي كل من تولى سلطة، يمجدون اليوم هذا، ثم يمجدون غدا قاهره، رغدوا جوابين على أبواب أولئك الأمراء أمثال منذر وخيران ومظفر ومبارك، وأصبحت مدائحهم جزافا من القول في سبيل القوت. ولم تعد هناك انتصارات المنصور أو المظفر ليتغنوا بها، فانصرفوا إلى ذكر المكايد الصغيرة والخلافات الداخلية. البكاء على قرطبة والتفت الشعراء إلى معالم قرطبة، فرأوا كيف حالت عن حالها، وخربت دورها، وانقضت معاهد صبوتهم فيها، وانطفأت فيها شمس بني أمية والنجوم العامرية، فندبوها بمراثيهم وممن رثاها الوزير أبو عامر ابن شهيد، فقال (3) : ما في الطلول من الأحبة مخبر ... فمن الذي عن حالها نستخبر لا تسألن سوى الفراق فأنه ... ينبيك عنهم أنجدوا أم أغوروا ويصف حال أهلها فيقول: فلمثل قرطبة يقل بكاء من ... يبكي بعين دمعها متفجر

_ (1) الصلة: 298 وما بعدها. (2) أعمال الأعلام: 122 (3) أعمال الأعلام: 105

دار أقال الله عثرة أهلها ... فتبربروا وتغربوا وتمصروا في كل ناحية فريق منهم ... متفطر لفراقها متحير عهدي بها والشمل فيها جامع ... من أهلها والعيش فيها أخضر ورياح زهرتها تفوح عليهم ... بروائح يفتر منها العنبر يا طيبهم بقصورها وخدورها ... وبدورها بقصورها تتخدر والقصر قصر بني أمية وافر ... من كل أمر والخلافة أوفر والزاهدية بالمراكب تزهر ... والعامرية بالكواكب تعمر والجامع الأعلى يغص بكل من ... يتلو ويسمع ما يشاء وينظر مسالك الأسواق تشهد أنها ... لا يستقل بسالكها المحشر يا جنة عصفت بها وبأهلها ... ريح النوى فتدمرت وتدمروا آسى عليك من الممات وحق لي ... إذ نزل بك في حياتك نفخر ورثاها ابن حزم نثرا وشعرا حين وقف على منازل أهله ورآها: " وقد طمست أعلامها وخفيت معاهدها وغيرها البلى فصارت صحارى مجدبة بعد العمران وفيافي موحشة بعد الأنس "، فمن شعره فيها (1) : سلام على دار رحلنا وغودرت ... خلاء من الأهلين موحشة قفرا تراها كأن لم تغن بالأمس بلقعا ... ولا عمرت من أهلها قبلنا دهرا فيا دار لم يقفرك منا اختيارنا ... ولو أننا نستطيع كنت لنا قبرا ولكن أقدارا من الله أنفذت ... تدمرنا طوعا لما حل أو قهرا فيا خير دار قد تركت حميدة ... سقتك الغوادي ما أجل وما أسرى ويا دهرنا فيها متى أنت عائد ... فنحمد منك العود ان عدت والكرا سأندب ذاك العهد ما قامت الخضرا ... على الناس سقفا بنا الغبرا

_ (1) أعمال الأعلام: 107

ورثاها آخر بقصيدة منها (1) : بك على قرطبة الزين ... فقد دهتها نظرة العين أنظرها الدهر بأسلافه ... ثم تقاضى جملة الدين كانت على الغاية من حسنها ... وعيشها المستعذب اللين فانعكس الأمر فما إن ترى ... بها سرورا بين إثنين فاغد وودعها وسر سالما ... ان كنت أزمعت على البين ولابن عصفور الحضرمي في رثائها قصائد كثيرة (2) ، ورثاها آخر وجعل خرابها مسببا عن تهاون أهلها وتقصيرهم في تدبير أمرهم فقال (3) : أضعتم الحزم في تدبير أمركم ... ستعلمون معا عقبى البوار غدا لكن العمى أعمت بصائركم ... فألبستكم ثيابا للبلى جددا يا أمة هتكت مستور سوءتها ... ما كل من ذل أعطى بالصغار يدا نمو النقد الأدبي بعيد الفتنة وربما لم يكن من البعيد عن الصواب ان نجعل زوال مجد قرطبة في هذه الفتنة مسئولا عن نمو ظاهرتين أدبيتين، الأولى: الميل إلى التراجم الذاتية، فان هذه التراجم إنما انبثقت من الشعور بجمال الماضي، وتغير الحاضر، وتقلب الأحوال في قرطبة، ويمثل هذه الناحية كتاب " طوق الحمامة " لابن حزم ورسالة كتبها ابن شهيد إلى المؤتمن عبد العزيز بن عبد الرحمن بن أبي عامر، عن ذكرياته في ظل الدولة العامرية (4) وكلاهما من اجمل الأدب الأندلسي الأصيل. والظاهرة الثانية هي استقواء النزعة النقدية بعيد الفتنة، لتخلخل المقاييس واضطرابها في الحياة الاجتماعية

_ (1) تعليق منتقى من فرحة الأنفس لابن غالب الورقة: 117 وابن عذاري 3: 110 (2) الصلة 1: 35 (3) ابن عذاري 3: 110 (4) الذخيرة 1/1: 163 وانظر الفصل الخاص بترجمة ابن شهيد في هذا الكتاب.

والأدبية معا، ومن الطريف أن الاثنين اللذين أبديا شيئا من الوعي الذاتي في تراجمها الذاتية هما اللذان ابرزا حركة النقد، اعني ابن شهيد وابن حزم، وقد مر النقد قبلهما بحلقات المؤدبين، وردت بعض النظرات النقدية في " العقد " لابن عبد ربه، ثم اصبح الناقد الأول في الدولة أيام المنصور هو الحكم الذي ينزل الشعراء منازلهم ويصنفهم في مراتبهم، وعاد النقد من جديد بعد الفتنة إلى حلقات المؤدبين أيضاً، فحاول ابن شهيد بخاصة انتزاعه من تلك البيئة وكانت جهوده وجهود صديقه ابن حزم في هذه جوابا على مشكلتين: مشكلة عامة، ومشكلة خاصة. أما العامة فهي: ما موقف الأندلس عامة من الحياة الأدبية وهل فيها من يمكن يوضع إزاء شعراء المشرق؟ وكان جواب هذا السؤال ان كتب ابن حزم رسالة في فضل الأندلس، وميز في جملة ما ميزه من أسباب فضلها الشعر والشعراء فيها، وحكم على الشعراء أحكاما متباينة، وقدم من اعتقد انه يستحق التقديم، وكتب ابن شهيد كتابه " حانوت عطار "، وترجم فيه، مستغلا مقدرته النقدية، لشعراء معاصرين، ولا تخلو نظراته في هذا الكتاب من بصر نافذ بالشعر، حسب مقاييسه النقدية. وأما المشكلة الخاصة فهي مشكلة ابن شهيد نفسه، ما منزلته بين أدباء بلده وأدباء المشرق؟ وهل من الضروري لأديب مثله التوسع في القراءة أو هناك ما يغني عن ذلك؟ وكانت هذه المشكلة هي التي دفعته إلى كتابة رسالة " التوابع والزوابع " ورسائل أخرى، وربما كان كتابه " كشف الدك وإيضاح الشك " منبثقا عن هذه المشكلة أيضاً. ابن شهيد والنقد على ان العنصر النقدي في " التوابع والزوابع " محدود لا يتعدى مجال ما استحسنه ابن شهيد من شعر هذا الشاعر أو ذاك، ثم نماذج يعتقد تقديمها من شعره هو نفسه ومن نثره، ويقارن بين بعض المعاني

المتشابهة عند الشعراء ويضع في رسالته قاعدة للأخذ فيقول: " إذا اعتمدت معنى قد سبقك إليه غيرك فأحسن تركيبه وأرق حاشيته فأضرب عنه جملة وان لم يكن بد ففي غير العروض التي تقدم إليها ذلك المحسن تنشط طبيعتك وتقوى منتك " (1) . وقد كانت مشكلة الأخذ هذه؟ فيما يبدو - من اكبر المسائل التي شغلت ابن شهيد، لأنها أساس من الأسس التي تعتمد عليها طريقته الشعرية، فليس عجيبا اذن ان يمدح أبا المطرف عبد الرحمن بن أبي الفهد بقوله: " وهو غزير المادة واسع الصدر حتى انه لم يكد يبقى شعرا جاهليا ولا إسلاميا إلا عارضه وناقضه، وفي كل ذلك تراه مثل الجواد إذا استولى على الأمد، لا يني ولا يقصر، وكان مرتبته في الشعراء أيام بني أبي عامر دون مرتبة عبادة في الزمام، فاعجب " (2) . وكان أيضاً شديد الإعجاب بالبديهة إلى جانب إعجابه بالمعارضة ولذلك وقف في " حانوت عطار " وقفات خاصة عند الشعراء الذين ينظمون الشعر على البديهة. وما ذلك الا لقدرته هو أيضاً على هذا الفرع من الشعر ومن ثم نسمعه يقول: " وإنما يتبين تقصير المقصر وفضل السابق المبرز إذا اصطكت الركب وازدحمت الحلق واستعجل المقال ولم توجد فسحة لفكرة ولا امكنت نظرة لروية " (3) . والمشكلة الكبرى عند ابن شهيد هي: هل من الميسور ان يعلم الناس البيان؟ وإذا كان ذلك مستطاعا، فلم يتفاوت الناس فيما يتلقونه منه. وموقف ابن شهيد من هذه المشكلة غير واضح، فهو حينا يرى البيان موهبة من الله، ويعلي من قدر الموهبة ويجعلها تعويضا عن الاطلاع، وينشيء رسالة التوابع ليدل على قيمة هذه الموهبة ويتهكم بالمؤدبين ويدل على افتقارهم إليها. وحينا آخر يزعم ان البيان قد يعلم وان كان ذلك

_ (1) الذخيرة 1/1: 244 (2) الجذوة: 258 - 259 (3) الذخيرة 1/1: 209

أمراً صعبا، ويشترط أن يكون تلامذته من أهل النجابة والمثابرة، وحد هؤلاء عنده قابلية الطبع، وطبع الإنسان متركب من نفس وجسم فغلبه الأولى على الثاني تجعل المرء مطبوعا روحانيا، وغلبة الجسم على النفس تضيق الفرصة في تعلم البيان. وكل امرئ محتاج في تعلم البيان إلى شيئين: الطبيعة والآلة، وقد تكون الآلة متيسرة؟ كما هي عند المؤدبين - فإذا اختلت الطبيعة ظهر الاختلال في اصل البيان. وها هنا مقياس للروحانية التي يفترضها ابن شهيد، وهو ان كل ما يصدر عنها يكون موشحا بالحسن وان يكن مبنيا على غرابة بل هذه هي الغرابة بعينها أي " أن يتركب الحسن من غير حسن " كقول امرئ القيس: تنورتها من اذرعات واهلها ... بيثرب أدنى دارها نظر عالي وكأن ابن شهيد ينظر هنا إلى حسن التأليف والتعبير، وهذا؟ في رأيه - يعتمد على القرابة بين الحروف، والمناسبة بين الكلمات، فإذا راعى الأديب هذه الصلات فانه يستطيع ان يأتي بشعر حسن المنظر والمخبر، وعليه ألا يتهيب استعمال الغريب من الألفاظ، وإنما يتجافى عن الغريب النافر، فإذا احسن وضع الغريب في مواضعه اللائقة به تم به الكلام، وكل هذا محتاج إلى تذوق ودربة. ولا يحسبن أحد ان تعليم البيان هذا كله يصبح سهلا، إذ المدار على الفهم بعد الاستعداد النفسي هند المتعلم، هذا ان يكون المعلم نفسه قادرا على " تفجير صفاة غيره " وذلك بفهمه التبيين والتبين وان يكون واعيا بمدى الاستعداد عند كل تلميذ من تلامذته، عارفا بخصائص كل واحد فيهم. ويعتقد ابن شهيد أن الأنموذج الواحد من الشعر أو من النثر لا يصلح ان يتخذ لكل العصور فأهل كل فترة يهشون إلى نوع من الأنواع. ومن الملاحظ أن الصنعة تزايدت على مر العصور حتى إذا كان عصر ابن شهيد، اصبح الناس يتعشقون التجنيس كثيرا ويمجون

كل ما عداه، أما هو فيرى ضرورة الاعتدال والتوسط والأخذ من طريقة العرب وطريقة المحدثين معا دون انحياز إلى إحداهما. ويجعل المنشئين أصنافا ثلاثة ومن خرج عن نطاقهم لا يعد أديبا: الأول: الذين يستطيعون توليد المعاني وابتكارها ثم يعجزهم الشكل فيسيئون التعبير ويقصرون دون إدراك " بهاء البهجة ". الثاني: أصحاب الحدة البيانية الذين يبنون الكلام على الاندفاع والانصباب وهم يلائمون بين الفكرة الصعبة ومائية الشكل ويجترئون على ضرب هذه بتلك، ويخلقون من امتزاجهما شيئا عجبا. الثالث: صنف ماهر في التلفيق والتلزيق، ذو صنعة مقبولة وقريحة متحيلة تغطي على نقص الفكرة وتسد الخلل. ولا ريب في ان ابن شهيد وضع هذه القواعد والمقاييس من نظره إلى قدرته وطريقته، وهو يخرج كثيرا عن حدود الناقد النزيه إلى السخرية والذم وبخاصة انه منقوص الحظ في عصره، فيغمز هذا وذاك، ويعيب أهل بلده جملة بقوله " ولكني عدمت ببلدي فرسان الكلام، ودهيت بغباوة أهل الزمان " (1) . ابن حزم والنقد وقد كانت أسباب النقد النزيه متوفرة عند ابن حزم اكثر من توفرها عند ابن شهيد، لتحريه وجه العدالة ودقته في الحكم وسعة اطلاعه وغزارة معارفه، الا ان ثمة أمرين حدا من وجوده في هذه الناحية: الاول، مذهبه في الشعر جملة، فهو وان كان يميز فيه الجيد من الرديء، الا انه لا يضع له حدودا، فالشعر لديه يستطيع أن

_ (1) الذخيرة 1/1: 229

يستوعب كل شيء، حتى شرح مذهبه الفقهي، وتعاليمه الخلقية، ومثل هذا الاتجاه لا يمكنه من تبين الحدود الجمالية له. والثاني: ان اشتغاله بالفقه والحديث والجدل والانساب والتاريخ، ابعده عن دائرة الأدب، وخضع في نظرته للشعر إلى عوامل التوجيه الاخلاقي، والى فلسفته الدينية، التي كانت تقوم العلوم بحسب تقريبها لصاحبها من الله، فذلك هو مقياسه في النظرة إلى الأشياء والأعمال. وكان من اثر العامل الأول أن اصبح ابن حزم غير جاد في بناء منهج نقدي واضح، كالذي فعله ابن شهيد، بل كان يتلقى بعض النظرات النقدية بالقبول، دون محاكمتها، مثال ذلك: إيمانه بان الإكثار من عدد التشبيهات في البيت الواحد أمر يستحق أن يعنى به المتفنن، فهو يقول على هذا البيت من شعره: فكأنها والليل نيران الجوى ... قد أضرمت في فكرتي من حندس " وقع لي في هذه الأبيات تشبيه شيئين بشيئين، وهذا مستغرب في الشعر، ولي ما هو اكمل منه، وهو تشبيه ثلاثة أشياء في بيت واحد وتشبيه أربعة أشياء في بيت واحد؟ الخ " (1) وكان من اثر العامل الثاني ان اخضع الشعر للمقياس الخلقي، وحكم عليه بغايته ونوع الاستثارة الصادرة عنه. فقال في رسالته مراتب العلوم: " وان كان مع ما ذكرنا رواية شيء من الشعر فلا يكن إلا من الأشعار التي فيها الحكم والخير، كأشعار حسان بن ثابت وكعب ابن مالك، وعبد الله بن رواحة، رضي الله عنهم، وكشعر صالح بن عبد القدوس ونحو فانها نعم العون على تنبيه النفس، وينبغي ان يتجنب من الشعر أربعة اضرب: أحدهما: الاغزال والرقيق فأنها تحث على الصبابة وتدعو إلى الفتنة

_ (1) الطوق: 16

وتحض على الفتوة، وتصرف النفس إلى الخلاعة واللذات وتسهل الانهماك في الشطارة والعشق وتنهي عن الحقائق حتى ربما أدى ذلك إلى الهلاك والفساد في الدين وتبذير المال في الوجوه الذميمة وأخلاق العرض واذهاب المروءة وتضييع الواجبات. وان سماع شعر رقيق لينقض بنية الرائض لنفسه حتى يحتاج إلى إصلاحها ومعاناتها برهة، لا سيما ما كان يعني بالمذكر وصفة الخمر والخلاعة، فان هذا النوع يسهل الفسوق ويهون المعاصي ويردي جملة. والضرب الثاني: الأشعار المقولة في التصعلك وذكر الحروب مشعر عنترة وعروة بن الورد وسعد بن ناشب وما هنالك، فان هذه أشعار تثير النفوس وتهيج الطبيعة وتسهل على المرء موارد التلف في غير حق وربما أدته إلى هلاك نفسه في غير حق والى خسارة الآخرة مع اثارة الفتن وتهوين الجنايات والأحوال الشنيعة والشره إلى الظلم وسفك الدماء. والضرب الثالث: أشعار التغرب وصفات المفاوز والبيد المهامه فأنها تسهل التحول والتغرب وتنشب المرء فيما ربما صعب عليه التخلص منه بلا معنى. والضرب الرابع: الهجاء فان هذا الضرب أفسد الضروب لطالبه فانه يهون على المرء الكون في حالة أهل السفه من كناسي الحشوش والمعاناة لصنعة الزمير المتكسبين بالسفاهة والنذالة والخساسة وتمزيق الأعراض وذكر العورات وانتهاك حرم الآبار والأمهات وفي هذا حلول الدمار في الدنيا والآخرة. ثم صنفان من الشعر لا بنهي عنهما نهيا تاما ولا يحض عليها بل هما عندنا من المباح المكروه وهما: المدح والرثاء، فأما إباحتهما فلأن فيهما ذكر فضائل الموت والممدوح وهذا يقتضي للراوي ذلك الشعر الرغبة في مثل ذلك الحال، وأما كراهتنا لهما فان اكثر ما في هذين

النوعين الكذب ولا خير في الكذب " (1) . ومع إعجابنا بهذا الكلام الصريح والتقسيم الواضح، نرانا في دهشة لهذا الوضع الذي أحل فيه الشعر، وهذا التقييد الذي الزمه فنونه، ومما يكمل موقف ابن حزم في النقد فقرتان وردتا في كتاب " التقريب لحد المنطق " تحدث فيهما عن البلاغة والشعر فقال في تحديد البلاغة: " قد تكلم ارسطوطاليس في هذا الباب، وتكلم الناس فيه كثيرا، وقد احكم فيه قدامة بن جعفر الكاتب كتابا حسنا وبلغنا حين تأليفنا هذا (الكتاب) ان صديقنا احمد بن عبد الملك بن شهيد ألف في ذلك كتابا، وهو من المتمكنين من علم البلاغة والأقوياء فيه جدا، وقد كتب إلينا يخبرنا بذلك، إلا اننا لم نر الكتاب بعد، فغنينا بالكتب التي ذكرنا عن الإيغال في الكلام في هذا الشأن، ولكنا نتكلم فيه بإيجاز جامع فنقول، وبالله تعالى نتأيد، البلاغة قد تختلف في اللغات على قدر ما يستحسن أهل كل لغة من مواقع ألفاظها على المعاني التي تتفق في كل لغة، وقد تكون معدودة في البلاغة ألفاظ مستغربة، فإذا كثر استعمالهم لها لم تعد في البلاغة ولا استحسنت، ونقول: البلاغة ما فهمه العامي كفهم الخاصي وكان بلفظ يتنبه له العامي لأنه لا عهد له بمثل نظمه ومعناه؟ وهذا الذي ذكرنا ينقسم قسمين. أحدهما مائل إلى الألفاظ المعهودة عند العامة كبلاغة عمرو بن بحر الجاحظ وقسم مائل إلى الألفاظ غير المعهودة عند العامة كبلاغة الحسن البصري وسهل بن هارون ثم يحدث بينهما قسم ثالث آخذ من كلا الوجهين كبلاغة صاحب ترجمة كليلة ودمنة؟ ابن المقفع كان أو غيره - وأما نظم القرآن فان منزله تعالى منع من القدرة على مثله وحال بين البلغاء وبين المجيء بما يشبهه، وقد كان احدث ابن دراج عندنا نوعا من البلاغة ما بين الخطب

_ (1) رسائل ابن حزم: 65 - 67

والرسائل. وأما المتأخرون فأنا نقول انهم مبعدون عن البلاغة ومقربون من الصلف والتزيد، حاشا الحاتمي وبديع الزمان، فهما مائلان إلى طريقة سهل بن هارون ". ويقول في الشعر: " الشعر ينقسم ثلاثة أقسام: صناعة وطبع وبراعة. فالصناعة هي التأليف الجامع للاستعارة بالأشياء والتحليق على المعاني والكتابة عنها، ورب هذا الباب من المتقدمين زهير بن أبي سلمى ومن المحدثين حبيب ابن أوس. والطبع هو ما لم يقع فيه تكلف وكان لفظه عاميا لا فضل فيه عن معناه حتى لو اردت التعبير عن ذلك المعنى بمنثور لم تأت بأسهل ولا أوجز من ذلك اللفظ. ورب هذا الباب من المتقدمين جرير ومن المحدثين الحسن (بن هانئ) ، والبراعة هي التصرف في دقيق المعاني وبعيدها، والإكثار فيما لا عهد للناس بالقول فيه، وإصابة التشبيه وتحسين المعنى اللطيف، ورب هذا الباب من المتقدمين امرؤ القيس ومن المتأخرين علي بن عباس الرومي؟ ومن أراد التمهر في أقسام الشعر ومختاره وافانين التصرف في محاسنه، فلينظر في كتاب قدامة بن جعفر في نقد الشعر، وفي كتب أبي علي الحاتمي " (1) . وهذه الاحكام على ما فيها من بساطة وإيجاز لا تخلو من نظرات نقدية دقيقة، فان التفرقة بين بلاغة الجاحظ والحسن والاهتداء إلى السر في ذلك، واشتقاق أسلوب ثالث من اجتماعهما مما لا يدركه إلا الناقد البصير، ومن المدهش أيضاً الجمع بين امرئ القيس وابن الرومي، وإغفال المتنبي من الأقسام الثلاثة. ولابن حزم رأي أيضاً في اتفاق الشعراء في المعنى الواحد اتفاقا لفظيا، قال: " والذي شاهدناه اتفاق شاعرين في نصف بيت، شاهدناه ذلك

_ (1) التقريب: 204 - 208

مرتين من عمرنا فقط واخبرني من لا أثق به أن خاطره وافق خاطر شاعر آخر في بيت كامل واحد ولست اعلم ذلك صحيحا؟ والشعر نوع من أنواع الكلام ولكل كلام تأليف ما، والذي ذكره المتكلمون في الأشعار من الفضل الذي سموه " المواردة " وذكروا أن خواطر الشعراء اتفقت في عدة أبيات فأحاديث مفتعلة لا تصح أصلا ولا تتصل، وما هي إلا سرقات وغارات من بعض الشعراء على بعض " (1) ولكن من هذا يتجلى لنا كيف أخطأ النقد طريقه مرتين: مرة حين كان مقياسا ذاتيا، ومرة حين اتخذ مقياسا عاما، ولا علينا من هذا الخطأ، فنحن إنما ننظر إلى قواعد نقدية، تمخضت عنها الأندلس بعيد الفتنة وزوال سيادة قرطبة، وهي حركة أوسع من تلك النظرات النقدية العابرة التي كانت تمر بنا فيما سبق. وغني عن القول ان ابن شهيد كان أقوى أثراً من ابن حزم في توجيه الحياة الأدبية، لأن الثاني جاء بمقاييس غير عملية، تعدم اكثر فنون الشعر، ولا تبقي إلا على الشعر التعليمي. ومع ذلك فان ابن حزم كان قوة جديدة في تحقيق الشخصية الأندلسية مرتين: مرة بتسجيله لنواحي التمييز الأدبي فيها، ومرة بإعطائها مذهبا يجعلها تماما عن المشرق، فهو أقوى من تمم الاتجاه الذي بدأه الحكم المستنصر. هذا وقد تركت الفتنة آثارها في شعر ثلاثة من مشاهير شعراء الأندلس، وهم ابن دراج القسطلي وابن شهيد وابن حزم فلنتقدم إلى دراسة كل واحد منهم في الفصول التالية.

_ (1) الأحكام 1: 108

فراغ

2 - أبو عمر احمد بن محمد بن دراج القسطلي المحرم 347 - 421 مارس 958 - 21 يونيه 1030 الذخيرة 1/1: 43 - 78 والجذوة: 102 والصلة: 44 والنجوم الزاهرة 4: 272 والمطرب: 145 ومسالك الابصار 11: 201 وشذوات الذهب 3: 217 والمغرب 2: 60 واليتيمة 1: 438 والنفح 2: 782، 800، 856، 906 والروض المعطار: 115، 160 والرايات: 73 واعمال الاعلام: 123، 197، 212، 223 والشريشي 1: 43، 132، 383 وابن خلكان رقم: 55 كان قد تجاوز الخمسين عندما نشبت الفتنة، ولكن تلك الحادثة أثرت في نفسيته وشعره، وتحولت به تحولا لم تستطع ان تحدثه تلك السنوات الطوال التي عاشها قبلها.

وأول ما نرى احمد بن محمد هذا المنتسب إلى بني دراج وهم فرع من صنهاجة (1) ، المنسوب لقسطلة دراج من أعمال جيان (2) ، كاتبا من كتاب الإنشاء في أيام المنصور بن أبي عامر، ولعل الحظوة التي نالها صاعد عند المنصور بشعره قد أثرت في نفسه فأراد لنفسه شيئا شبيها بها، فنظم قصيدة عارض فيها صاعدا، ومنها (3) : أضاء لها فجر النهى فنهاها ... عن الدنف المضنى بحر هواها وضللها صبح جلا ليله الدجى ... وقد كان يهديها الي دجاها وأراد ان يكون له بها اسم مقيد في ديوان الشعراء، فتألب عليه النقاد فيما يبدو، ودفعوه عن مرتبة الإجادة، وربما اتهموه بأنه لا يستطيع إلا المعارضة، وادعوا عند المنصور انه منتحل سارق لا يستحق ان يكون له عطاء منظم، وفي نفس المنصور من ذلك شيء لأنه لم يغب عنه ان القصيدة جيدة، ومع ذلك عقد له مجلس امتحان في 3شوال سنة 382 (وسن ابن دراج يومئذ لا تقل عن 35 سنة) واقترح عليه النظم في موضوع معين، فنظم ما اعجب المنصور، فأعطاه مائة دينار وأجرى عليه الرزق، وكتب اسمه في ديوان العطاء، واتعظ ابن دراج بهذه الحادثة، فأخذ يدأب على تجويد الشعر ويسهر في حوكه، وفي ذلك المجلس نفسه عبر للمنصور عن المعنى الذي استحضر من اجله، وكذب دعوى الذين اتهموه بالسرقة، ودافع عن نفسه بقصيدة مشهورة عند الأندلسيين مطلعها (4) : حسبي رضاك من الدهر الذي عتبا ... وعطف نعماك للحظ الذي انقلبا

_ (1) جمهرة الأنساب: 466 (2) تسمى اليوم Cacella وهي في البرتغال (انظر نكل: 56) - (3) الجذوة: 103 (4) الجذوة: 103

ومنها يذكر كيف ان الناس قد اعتادوا اتهام أجود المجيدين من الشعراء: ولست أول من أعيت بدائعه ... فاستدعت القول ممن ظن أو حسبا ان امرأ القيس في بعض لمتهم ... وفي يديه لواء الشعر إن ركبا والشعر قد أسر الأعشى وقيده ... دهرا وقد قيل: والأعشى إذا شربا وكيف أظما وبحري زاخر فطنا ... إلى خيال من الضحضاح قد نضبا مشيرا بذلك إلى القول الشائع " أشعر الناس امرؤ القيس إذا ركب، والأعشى إذا شرب " دافعا عن نفسه تهمة الأخذ لأن خياله واسع، وخيال من يتهم بالأخذ عنهم ضحضاح قد قارب النضوب، ثم يمضى طلقا في الثقة بنفسه مستمدا ذلك من تعصب المنصور له وانحيازه لجانبه: عبد لنعماك في فكيه نجم هدى ... سار بمدحك يجلو الشك والريبا إن شئت أملى بديع الشعر أو كتبا ... أو شئت خاطب بالمنثور أو خطبا كروضة الحزن أهدى الوشي منظرها ... والماء والزهر والأنوار والعشبا أو سابق الخيل أعطى الحضر متئدا ... والشد والكر والتقريب والخببا وظل في ظل المنصور على هذه الحال من التقديم، فأطنب في مدحه، بطوال القصائد، معترفا بالجميل شاكرا لذلك الرضى فمن مدائحه فيه (1) : ما كفر نعماك من شاني فيثنيني ... عمن توالى لنصر الملك والدين ولا ثنائي وشكري بالوفاء بما ... أوليتني دون بذل النفس يكفيني حق على النفس أن تبلى ولو فنيت ... في شكر أيسر ما أضحيت توليني ها إنها نعمة ما زال كوكبها ... إليك في ظلمات الخطب يهديني واكثر القصيدة في ذكر حاله وشكره ورضى المنصور عنه لا في مدح المنصور مباشرة وربما استوقفنا منها قوله:

_ (1) اليتيمة 1: 438

وحاش للخيل أن تزهى علي بها ... والبيض والسمر أن تحظى بها دوني وربما كنت أمضي في مكارهها ... قدما وأثبت في أهوالها الجون لكن سهام من الأقدار ما برحت ... على مراصد ذاك الماء ترميني فما هي سهام الأقدار التي كانت تحول بينه وبين المشاركة في الحرب، أكان لديه جز جسماني عن ذلك، اكبر الظن ان هذا هو الذي يعنيه، وإلا فانه كان أحيانا يصاحب المنصور إلى الغزو، دون ان يكون في المحاربين، ونراه في غزوة شنت ياقب (392) مع المنصور، ثم يكتب رسالة إلى هشام المؤيد ليخبره بالفتح، ويذكر الوقعة ويصف الكنيسة وصفا دقيقا، ويقول صاحب الروض المعطار (1) ان له في هذه الوقعة قصيدة مشهورة ولكنها؟ فيما يبدو - لم تصل مع ما وصلنا من شعره. ومن مدائحه في المنصور أيضاً (2) : أصخ نحوي لدعوة مستقيل ... ينادي من غيابات الخمول رهينة كل هم مستكن ... ونهزة كل خطب مستطيل ومن الغريب ان يجدد فيها القول بأنه مهمل ملقى في غيابات الخمول، ويعود إلى النغمة القديمة من طلب الرضى: لعل رضاك يا منصور يوما ... يحل بساحتي عما قليل وان كان يبدو من النغمة العامة في هذه القصيدة أنها جاءت قبل تحقق الرضى، وربما كانت من أوائل قصائده في المنصور، قبل إدراج اسمه في ديوان العطاء. وتحدثنا بعض الروايات أن المنصور هو الذي طلب إليه ان يعارض قصيدة أبي نواس الرائية في مدح الخصيب (3) ، ويهمنا منها في هذا المقام انه ما يزال يلح على صاحبه ان يمنحه كل ثقته،

_ (1) الروض المعطار: 116 (2) اليتيمة 1: 440 (3) ابن خلكان: (الترجمة رقم: 55)

وان لا يأخذه بجريرة ظروفه القاسية (1) : أثرني لخطب الدهر، والدهر معضل ... وكلني لليث الغاب وهو هصور فقد تخفض الأسماء وهي سواكن ... ويعمل في الفعل الصحيح ضمير وتنبو الردينيات والطول وافر ... ويبعد وقع السهم وهو قصير وفي هذه التلميحات ما يشير إلى ان سكونه قد يجر عليه الانخفاض، فهو يريد استثارة ودفعا، وثقة تجعله يقابل الدهر ويقتل الليث، وهو أيضا يشبه نفسه بالسهم القصير، الذي إذا استغله صاحبه واحسن استغلاله أبعد وقعه وأثره حيث تعجز الردينيات الطويلة، ومرة أخرى تستوقفنا هذه التلميحات: أهي تدل على عجز جسماني؟ أم هي تدل على مجرد حالة نفسية؟ أم هي حكمة ليس لها مدلول وراءها اكثر منها؟ وينتظم في هذا السلك قصيدة لا ندري في من قالها، ولكن ما يزال يتحدث فيها عن الرضى، ويعلن عن ارتياحه إليه (2) : وشملتني بشمائل أذكرتني ... في طيبها طوبى وحسن مآب ورضاك رد لي الرضى في أوجه ... من جوز أيام علي غضاب وهداك أشرق لي وليلي مظلم ... وسناك أبرق لي وزندي كابي وان لم يكن من المستبعد ان تصور نفسيته بعد الفتنة، فان كانت مما انتجه قبلها فانها تضيف إلى الحاحه على فكرة " الرضى " الحاحا جديدا، وتعزز ما يمكن ان نستشفه من نفسيته، وهي نفسية رجل لم تنضج ذاته، فهو دائما إلى شبه الخوف من تغير صاحبه عليه، شديد الظن كثير التحسب، يعتمد كثيرا على معاني القسمات وملامح الوجه في تقدير العلاقة بينه وبين رؤسائه. وإذا عدينا عن هذا القلق النفسي الذي نجهل دواعيه وجدناه ما يزال مقربا إلى سيف الدولة المظفر بن المنصور، يمدحه، فمن قصائده فيه

_ (1) اليتيمة 1: 448 والذخيرة 1/1: 66 والنفح 2: 800 (2) اليتيمة 1: 449

قصيدة مطلعها (1) : دعيت فأصغ لداعي الطرب ... وطاب لك الدهر واشرب وطب وهنأه بانتصاره في غزاة سنة 393 بقصيدة منها (2) : تبدى أريج السعد واستقبل النجح ... فبالله فاستفتح فقد جاءك الفتح وقد قدم النصر العزيز لواءه ... وقبل طلوع الشمس ينبلج الصبح فقد في سبيل الله جيشا كأنه ... من الليل قطع طبق الأرض أو جنح كتائب في إقدامها الحق والتقى ... وألوية في عقدها اليمن والنجح وشارك أيام المظفر في وصف الأزهار، باقتراح من الحاجب نفسه وكان مما قاله في السوسن (3) : إن كان وجه الربيع مبتسما ... فالسوسن المجتلى ثناياه ورثى صبح أم هشام المؤيد بهذه القصيدة (4) : بقاء الخلائق رهن الفناء ... وقصر التداني وشيك الفناء ومدح من رجال الدولة العامرية، الوزير المشهور أبا الأصبغ عيسى ابن سعيد بن القطاع " قيم دولة ابن أبي عامر وحامل لوائها والمستقل بأعبائها ومالك زمام إعادتها وإبدائها " بقصيدة مطلعها (5) : أفي مثلها تنبو أياديك عن مثلي ... وهذي الأماني فيك جامعة الشمل ولعله مدحه بها في أيام المظفر لا في أيام المنصور، أي حين " تناهى عيسى في الاكتساب بالحضرة وجميع أقطار الأندلس ضياعا ودورا فات الناس احصاؤها، واشتمل على الملك هو وولده وصنائعه ". وهو يشكو

_ (1) اليتيمة 1: 442 (2) ابن عذاري 3: 9 (3) ابن عذاري 3: 20 (4) اليتيمة 1: 443 (5) الذخيرة 1/1: 60 وانظر الخبر عن مقتل ابن القطاع: 102 من الجزء المذكور.

إلى أبي الأصبغ فقرة وحاجته إلى مركب، مع أن الركبان إنما يحقبون غرائب شعره، وينتقلون بدائعه على شرابهم ولا شراب له، ويستغيئه بقوله: أبا الأصبغ المعني هل أنت مصرخي ... وهل أنت لي مغن وهل أنت لي معلي وقد قتل هذا الوزير في أيام عبد الملك المظفر، لأنه فيما يقول، اخذ يميل إلى الأموية على العامرية، ومن المواقف المؤسفة ان يجد ابن دراج نفسه مهنئا المظفر بالتخلص من وزيره عيسى بن سعيد، في قصيدة له مطلعها (1) : شكرا لمن أعطاك ما أعطاكا ... ملك أذل لملكك الأملاكا حتى إذا هبت ريح الفتنة على قرطبة وعصفت بدورها وقصورها وشردت أدباءها وعلماءها، وقضت بالموت على فريق منهم، بقي ابن دراج مع فريق الشعراء الذين " نسجت على أفواههم ومحاريبهم العناكب " كما يقول ابن حيان، فقيرا معدما منكوبا، معيلا كبيرا المسؤولية تجاه الأهل والأولاد، حائرا مبلسا في امره، ولقد ظن ان انتصار المستعين يحقق له عودة الحياة الطيبة التي كان يحياها في ظل العامريين، فما كاد المستعين يدخل قرطبة حتى خف إليه ابن دراج، يهنئه بالملك بل يهنيء الملك به، ويشمت بالمهدي ويسميه قعيد الخزي (2) : هنيئا لهذا الملك روح وريحان ... وللدين والدنيا أمان وإيمان فأن قعيد الخزي قد ثل عرشه ... وإن أمير المؤمنين سليمان ودخل عليه أول مجلس له بالقصر فأنشده (3) : شهدت لك الأيام انك عيدها ... لك حن موحشها وآب بعيدها وأضاء مظلمها وأفرخ روعها ... وأطاع عاصيها ولان شديدها

_ (1) ابن عذاري 3: 25 (2) أعمال الأعلام: 123 والذخيرة 1/1: 35 (3) الذخيرة 1/1: 51

وأطنب في وصف المعارك التي انتصر فيها، وفي وصف رجال حربه، وباء من سليمان بالاخفاق، فان سليمان كان مشغولا عن الشعر والشعراء، لم يجبر لهم عثرة، ولا عطف عليهم بنظرة، فعزم ابن دراج على الرحيل في طلب الرزق، وكتب في ذلك سليمان يستأذنه (1) : " حاشا لله ان استشف الحسي قبل جمومه، واستكره الدر قبل حفوله، أو أتعامى عن سراج المعذرة، وارغب عن ادب الله في نظرة إلى ميسرة، ولكن: " ماذا تقول لأفراخٍ بذي مرخ ... حمر الحواصل لا ماء ولا شجر " ما أوضح العقد لي لو أنهم عذروا ... وأجمل الصبر بي لو أنهم صبروا لكنهم صغروا عن أزمة كبرت ... فما اعتذاري عمن عذره الصغر وقد قلبت لهم الأمور، وميزت بين المعسور والميسور، فما وجدت احسن بدءا ولا احمد عودا مما أذن الله فيه لعباده الذين اعمرهم أرضه وسخر لهم بره وبحره، أن يمشوا في مناكبها ويأكلوا من رزقه، وحيث نتقلب ففي كرمك وأين نأمن ففي حرمك ". وليس ببعيد ان يكون قد كتب هذه الرسالة إلى المستعين ليذكره بنفسه، رجاء ان يجد لديه ما يعوضه الرحلة والمشي في مناكب الأرض، ولكن النتيجة تدل على ان المستعين لم يلتفت إليه، وهنا تبدأ سلسلة من التجوال وقرع الأبواب، والوقوف على الأمراء الذين اقتسموا الأندلس بعد الفتنة، قال ابن حيان " فاستقرى ملوكها أجمعين ما بين الجزيرة الخضراء فسرقسطة من الثغر الأعلى يهز كلا بمدحه ويستعينهم على نكبته وليس منهم من يصغي له ولا يحفظ ما أضيع من حقه وأرخص من علقه " (2) . 1 - فأول من قصد منهم خيران العامري صاحب المرية، ومدحه

_ (1) الذخيرة 1/1: 46 (2) الذخيرة 1/1: 44

صدر سنة 407 بقصيدة عارض فيها قصيدته النونية التي قالها في المستعين (1) : لك الخير قد أوفى بعهدك خيران ... وبشراك قد آواك عز وسلطان وكان قد ركب البحر مع أهله وبنيه فوصف في هذه القصيدة سيره والأهوال التي لاقاها في البحر: إليك شحنا الفلك تهوي كأنها ... قد ذعرت من مغرب الشمس غربان على لجج خضر إذا هبت الصبا ... ترامى بنا فيها ثبير وثهلان وفي طي أسمال الغريب غرائب ... سكن شغاف القلب، شيب وولدان إذا غيض ماء البحر منها مددنه ... بدمع عيون تمتريهن أشجان يقلن وموج البحر والهم والدجى ... تموج بنا فيها عيون وآذان ألا هل إلى الدنيا معاد وهل لنا ... سوى البحر قبر أو سوى الماء اكفان وهبنا رأينا معلم الأرض هل لنا ... من الأرض مأوى أو من الإنس عرفان ويأسى في القصيدة على أن بلاد الغرب قد ضيعته، ويزعم ان بغداد ترحب بمقدمه، ويقدر قيمة نفسه وهو يستعطف الملوك لأولاده: فان غربت أرض المغارب موطني ... وانكرني فيها خليط وخلان فكم رحبت أرض العراق بمقدمي ... وأجزلت البشرى علي خراسان فان بلادا أخرجتني لعطل ... وان زمانا خان عهدي لخوان ويتذكر أصدقائه وأهله الذين طواهم الموت، ثم يمني أولاده بالخير حين ينزلون قصر المرية لأنهم ينزلون " ببحر ندى يمناه در ومرجان "، ويطنب في مدح هذا البحر، وقد شهرت هذه القصيدة حتى عارضتها إحدى شواعر الأندلس عندما مدحت خيران العامري نفسه (2) :

_ (1) أعمال الأعلام: 212 والذخيرة 1/1: 74 (2) الجذوة: 389

أتجزع أن قالوا ستظعن أظعان ... وكيف تطيق الصبر ويحك إن بانوا ولم يكافئ خيران هذا النفس الطويل بما يستحق فبخسه حظه في الجائزة، وسمع بذلك طبيب فاضل اسمه أبو جعفر بن جواد فقصد ابن دراج بخمسة عشر مثقالا ودفعها إليه وقال له: اعذر أخاك فانه في دار غربة (1) . 2 - ثم مدح المرتضى الذي حاول فتيان العامريين ان يعيدوا بيعته سلطان الدولة الأموية، بقصيدة (2) : جهادك حكم الله من ذا يرده ... وعزمك أمر الله من ذا يصده وطائرك اليمن الذي أنت يمنه ... وطالعك السعد الذي أنت سعده وما بقي من هذه القصيدة ليس فيه استعطاف للأهل والأولاد. 3 - وقصد مظفرا ومباركا العامريين صاحبي بلنسية، وجمع مدحهما في قصيدة كاجتماع سلطانهما (3) : أنورك أم أوقدت في الليل نارك ... لباغي قراك أم لباغي جوارك ورياك أم عرف المجامر أشتعلت ... بعود الكباء والألوة نارك ومبسمك الوضاح أم ضوء بارق ... حداه دعائي ان يجود ديارك وطرة صبح أم جبينك سافرا ... اعرت الصباح نوره أم أعارك وبعد مقدمة غزلية طويلة انتقل إلى مدح مظفر ومبارك فقال: وأرضي سيول من خيول مظفر ... وليل نجوم من سيوف مبارك فحيث وجدت الأمن يهتف بالمنى ... هلمي إلى غيثين جادا سرارك هلمي إلى سيفين والحد واحد ... يجيران من صف الحوادث جارك هلمي إلى طرفي رهان تقدما ... إلى الأمد الجالي عليك اختياك هلمي إلى قطبي نجوم كتائب ... تنادي نجوم التعس غوري مغارك

_ (1) الجذوة: 370 (2) الذخيرة 1/1: 64 (3) أعمال الأعلام: 223

ويحاول أن يقنع نفسه، كما بشرها حين وفد على خيران، بان الأمل لا بعد متحقق ببلنسية، ولكن ارتحاله عنهما إلى غيرهما يدل على ان الحفاروة التي لقيها لم تكن لترضيه بالبقاء. 4 - ويبدو انه عاد في بعض تلك الأيام إلى قرطبة، مجددا العهد بها، لعله يجد عند ابن حمود صاحبها الجديد ما يغنيه عن الضرب في الارض وربما زاره قبل زيارته لمبارك ومظفر، ومدحه بقصيدة مطلعها (1) : لعلك يا شمس عند الأصيل ... شجيت لشجو الغريب الذليل وذكر ابن حمود بما لقيته قرطبة من عناء وشدة: ومن دوننا آنسات الديار ... نهاب الحمى موحشات الطلول مغاني السرور لبسن الحداد ... على لابسات ثياب الذهول خطيبات خطب النوى والمهور ... مهارى عليها رحال الرحيل فمن حرة جليت بالجلاء ... وعذراء نصت بنص الذميل ولا حلي إلا جمان الدموع ... تسيل على كل خد أسيل ثم أطنب في مدح ابن حمود، وخاصة بنسبه العلوي. 5 - واخيرا استقر به المطاف عند منذر بن يحيى صاحب سرقسطة الملقب بذي الرياستين وبشر نفسه في رحابه بانتهاء عهد الفقر والتعاسة، ولدينا من قصائده في منذر اربع قصائد، الأولى (2) : بشراك من طول الترحل والسرى ... صبح بروح السفر لاح فأسفرا وفيها تعرض لذكر أبنائه وللصعوبات الجمة التي لقيها قبل أن يصل إلى منذر: فلئن صفا ماء الحياء لديك لي ... فبما شرقت إليك بالماء الصرى ولئن خلعت علي بردا اخضرا ... فلقد لبست إليك عيشا أغبرا ولئن مددت علي ظلا باردا ... فلكم صليت إليك حرا مسعرا

_ (1) الذخيرة 1/1: 70 وابن عذاري 3: 124 (2) اعمال الاعلام: 198

وهو في هذا يعارض المتنبي في قصيدة مدح بها ابن العميد ابا الفضل، ويتتبع سياق القصيدة في مثل قوله: ولتعلم الأملاك أني بعدهم ... ألفيت كل الصيد في جوف الفرا؟؟؟؟. كلا وقد آنست من هود هدى ... ولقيت يعرب في القبول وحميرا والحارث الجفني ممنوع الحمى ... بالخيل والآساد مبذول القرى وحططت رحلي بين ناري حاتم ... أيام يقري موسرا أو معسرا ولقيت زيد الخيل تحت عجاجة ... تكسو غلائلها الجياد الضمرا والثانية قالها فيه حين ورد عليه صاعد اللغوي، ومنها (1) : علا فحوى ميراث عاد وتبع ... بهيمته العليا ونسبنه الدنيا ومدح فيها صاعدا وقارن بين نفسه وبين منذر في قوله: وقد لاذ أبطال الجلاد بعطفه ... كما لاذ أطفال الجلاء بعطفيا وقد قصرت عنهم رماح عداته ... كما قصرت عنهم رياش جناحيا وبكى ضياعه وتأسف لمصيره، وانه مدفون في الحياة: فيا لك من ذكرى سناء ورفعة ... إذا وضعوا في الترب أيمن شقيا وفاحت ليالي الدهر مني ميتا ... فأخزين اياما دفنت بها حيا؟؟؟؟؟؟. فيا عبرتي سحي لعلي مبلل ... بجريك ما انزفت من ماء خديا ويا خلتي ان سوف الغوث بالمنى ... ويا غلتي إن أبطأ الغيث بالسقيا فقوما إلى رب السماء فأسعدا ... تقلب وجهي في السماء وكفيا فهو يحس في أسى انه أنزف ماء وجهه، وان خلته لم تسد وغلته لم ترو، وانه لا يزال يدعو الله ان ينزل عليه الرحمة، ومعنى هذا انه في ظل منذر لا يزال يحس بالفقر، دع عنك إحساسه بالغربة.

_ (1) الذخيرة 1/1: 54

والثالثة عدها الحميدي من مذهبات أشعاره في منذر وهي (1) : قل للربيع اسحب ملاء سحائبي ... واجرر ذيولك في مجر ذوائبي وفيها يتشوق إلى قرطبة ويقول مخاطبا الربيع أيضاً: واجنح لقرطبة فعانق تربها ... عني بمثل جوانحي وترائبي وانشر على تلك الأباطح والربى ... زهرا يخبر عنك أنك كاتبي وهذا التشوق يدل على ان شيئا من الاستقرار قد اخذ يصرفه عن بكاء نفسه والاستجداء لأولاده، واخذ يستعيد ذكرياته في الوطن، ويلتفت عن حاضره إلى ماضيه وكان كثير الانهماك في تصوير ذلك الحاضر. أما الرابعة فقد بقي منها قوله (2) : يا عاكفين على المدام تنبهوا ... وسلوا لساني عن مكارم منذر ملك لو استنبهت حبة قلبه ... كرما لجاء بها ولم يتعذر ومن ممدحي ابن دراج في هذه الفترة شخص يدعى ابن ازرق (أو ابن ارزق) واظنه ابا عامر بن ارزق أحد من استكتبهم منذر بن يحيى (3) ، ومدحه لأحد الكتاب، معناه ان شيخوخته حالت بينه وبين العمل في الكتابة عند منذر، وظل يتكسب بشعره من منذر ورجاله. ومن قصيدته لابن ارزق يذكر حاله وحال اطفاله أيضاً (4) : اخو ظمأ يمص حشاه سبع ... وأربعة وكلهم ظماء كأنهم يوسف عددا ولكن ... برؤيا هذه برح الخفاء خطوب خاطبتهم من دواه ... يموت الحزم فيها والدهاء وفي سرقسطة روى عنه أناس منهم محمد بن ميمون القرشي وهو من أهل العلم بالأدب والعربية ومظفر الكاتب السرقسطي (5) . ونقل صاحب

_ (1) الجذوة: 105 (2) الجذوة: 105 والمطرب: 106 (3) انظر الذخيرة 1/1: 154 (4) الذخيرة 1/1: 67 (5) التكملة: 396، 713

الذخيرة عن ابن حيان (1) أن ابن دراج وجد ترحيبا عند منذر وانه لم يزل عنده، وعند ابنه من بعد مادحا لهما مثنيا عليهما رافعا من ذكرهما غير باغ بدلا بجوارهما، ولكن هذا كلام يستوقف النظر حقا، فالحميدي يقول ان ابن دراج مات قريبا من العشرين وأربعمائة (2) ، أما منذر نفسه فقد قتل سنة ثلاثين وأربعمائة على يد أحد أقربائه المسمى عبد الله بن حكم فاذا صح قول الحميدي فلا يعقل ان يكون ابن دراج قد أدرك زمان ابن منذر ثم ان ابن حيان نفسه الذي يقول ان يحيى تسلم أمور سرقسطة بعد مقتل أبيه هو نفسه الذي يروي ان القاتل عبد الله بن حكم بقي صاحب الأمر والنهي في البلد، حتى عجل سليمان بن هود (431) وجاء فتملكها (3) ، فأين دور يحيى في ولاية سرقسطة (4) وأين منه ابن دراج؟ مهما يكن من شيء، فان رواية ابن حيان تدلنا على أن ابن دراج ظل في سرقسطة حتى آخر أيامه وفيها توفي. من كل ما تقدم يتجلى لنا كيف وقع ابن دراج ضحية للفتنة، كما وقعت قرطبة نفسها ضحية لها، وكيف تدهورت نفسيته إلى حد ان اصبح شعره مترددا بين الاستبشار والخيبة، بين شكوى الحال والتكفف الضارع، بين تصوير حال الأطفال وحال الممدوحين، وقد سخرت الأيام سخرية غير رفيقة بابن دراج، فقد بدأ مذهبه الشعري بالاتكاء على تصوير فراقه لزوجه وأطفاله، وتعلقهم به، ورقته عليهم في حال الفراق المتخيل، ثم انتهى إلى التحدث عن هؤلاء الأطفال 0او الأبناء - حديثا مستمدا من الواقع لا من الخيال، وأضرعته النكبة من أجلهم في الواقع لا في الخيال أيضاً. كان غير راض بالنعمة دون رضى، فأصبح يرضى بالرزق من أي كف

_ (1) الذخيرة 1/1: 44 (2) الجذوة: 106 (3) انظر تفصيل الخبر عن منذر ومقتله في الذخيرة 1/1: 152 - 158 (4) انظر اعمال الاعلام: 200 حيث أثار إشكالاً حول حقيقة يحيى بن منذر نفسه.

جاءه، وتلك حال من الانهيار النفسي الذي تلمح بذوره في المرحلة الأولى ولكنه لم يكن ليحقق سريعا لولا اجتماع النكبة والشيخوخة معا. ويبدو من السياق العام لشعره انه كان جادا في اكثر شئونه، محبا لأطفاله، قيما بالمسؤلية العائلية، مترفعا عن كثير من صغائر الأمور وتوافه المشاغل، أرسل إليه أحد الأدباء لغزا وسأله ان يفسره فلم يتعب فكره في ذلك بل كتب إلى السائل على ظهر رقعته بديهة (1) : إذا شذت عن العرب المعاني ... فليس إلى تعرفها سبيل واستنشد المطرف المرواني بعض شعر له يقول فيه: إلى ان دهاني إذ أمنت غروره ... سفاها، وأداني لما ليس يذكر فأعجب بالشعر، إلا انه انتقد عليه قوله: " وأداني لما ليس يذكر " لأنه وجد في هذا التعبير إيحاءات غير مستساغة، فاغتاظ الأموي منه وقال له: يا أبا عمر من اين جرت العادة بان تمزح معي في هذا الشأن؟ فتراجع أبو عمر وسكن غضبته بان قال: حلم بني مروان يحملنا على ان نخرق العادة في الحمل على مكارمهم (2) . وشعره وكتابته يدلان على انه كان ذا حظ طيب من الثقافة وسعة الاطلاع. آراء النقاد في شعره نال كثيرا من تقدير الأندلسيين وغيرهم، فقال فيه ابن حزم: " لو قلت انه لم يكن بالأندلس أشعر من ابن دراج لم ابعد " وقال مرة أخرى " لو لم يكن لنا من فحول الشعراء إلا احمد ابن دراج لما تأخر عن شأو حبيب والمتنبي (3) " وعده ابن حيان " سباق حلبة الشعراء

_ (1) الجذوة: 105 (2) النفح 2: 856 - 857 (3) الجذوة: 105 - 106

العامريين وخاتمة محسني أهل الأندلس اجمعين " (1) وبتقريب من هذا قال ابن بسام نفسه، وقال فيه الثعالبي " بلغني ان أبا عمر القسطلي كان عندهم بصقع الأندلس كالمتنبي بصقع الشام؟ وكان يجيد ما ينظم " (2) وقد افتخر الأندلسيون بذكر الثعالبي له، وسموا ابن دراج متنبي المغرب. ووصف ابن شرف بأنه " شاعر ماهر عالم بما يقول؟ حاذق بوضع الكلام في مواضعه لا سيما إذا ذكر ما أصابه في الفتنة وشكا ما دهاه في أيام المحنة، وبالجملة فهو أشعر أهل مغربه، في ابعد الزمان وأقربه " (3) وقال ابن شهيد: " والفرق بين أبي عمر وغيره ان أبا عمر مطبوع النظام، شديد أسر الكلام، ثم زاد بما في أشعاره من الدليل على العلم بالخبر واللغة والنسب وما تراه من حوكه للكلام، وملكه لأحرار الألفاظ، وسعة صدره وجيشة بحره، وصحة قدرته على البديع وطول طلقه في الوصف وبغيته للمعنى وترديده وتلاعبه وتكريره وراحته بما يتعب الناس وسعة نفسه فيما يضيق الأنفاس " (4) . وافتخر به الشقندي واختار له قصيدته الرائية في معارضته أبي نواس ثم شفع ذلك بقوله (5) : " وأنا اقسم بما حازته هذه الأبيات من غرائب الآيات لو سمع هذا المدح سيد بني حمدان لسلا به عن مدح شاعره الذي ساد كل شاعر، ورأى ان هذه الطريقة أولى بمدح الملوك من كل ما تفنن فيه كل ناظم وناثر ". شعره إليه انتهت الطريقة التي اختارها الأندلسيون وارتضوها بعد الغزال

_ (1) الذخيرة 1/1: 43 (2) اليتيمة 1: 38/4 والذخيرة 11: 44 (3) الذخيرة 4/1: 165 (4) الذخيرة 1/1: 45 (5) النفح 2: 782 - 783

وعنده بلغت آخر الشوط في تطورها، وتعقدها والتوائها لأنه جمع بين أبي تمام والمتنبي، وحاول أن يبذ كل من تقدمه، في المعاني والصياغة، مازجا كل ذلك بجلبة ابن هانيء، مطيلا اطالة ابن الرومي، معتمدا في اكثر شعره على الكد والمصابرة والنحت، ولقد أصاب ابن شهيد من بين النقاد الذين تقدمت الإشارة إليهم في النص على أكثر مميزاته حين وصفه: أ - بشدة الأسر في الشعر والصبر على حوك الكلام. ب - بالاقتدار على البديع إذا قورن بمن تقدمه من الأندلسيين. ج - بطول النفس في قصائده وبخاصة في الوصف. د - بتعقب المعاني والتلاعب بها وترديدها. هـ؟ - بالغموض؟ نتيجة لذلك - حتى تنبهر أنفاس القارئ وهو يحاول فهم شعره وإدراك حدوده ومعانيه. ونسي ابن شهيد انه يتميز بقريحة تعتمد المقايسة، لأنه يكون على خير أحواله في الشعر إذا هو عارض غيره، إلا أن في أبحره ثقلا كثيرا وفي كثير من قوافيه شذوذ عن طبيعة الموضوع، وعن الموسيقى العامة، ولقد عارض صاعدا والمتنبي وأبا نواس، ولكن شعره يظهر انه كان يقيس على امثلة من أشعار غيره، ثم يطنب في استغلال هذه المقايسة ويبالغ ليظهر تفرده، فبسمع المتنبي مثلا يقول: أريقك أم ماء الغمامة أم خمر ... فيطلع بقصيدة على هذا التشكيك ويكثر من ذلك.. فيقول: أنورك أم أوقدت بالليل نارك ... لباغي قراك أم لباغي جوارك ورياك أم عرف المجامر اشتعلت ... بعود الكباء والألوة نازك ومبسمك الوضاح أم ضوء بارق ... حداه دعائي أن يجود ديارك وطرة صبح ام جبينك سافرا ... اعرت الصباح نوره أم أعارك وأنت أجرت الليل إذ هزم الضحى ... كتائبه والصبح لما استجارك

فللصبح فيما بين قرطيك مطلع ... وقد سكن الليل البهيم خمارك فيا لنهار لا يغيظ ظلامه ... ويا لظلام لا يغيظ نهارك ونجم الثريا أم لآل تقسمت ... يمينك إذ ضمنتها أم يسارك ولعله ان لا يكون ناظرا في هذا إلى المتنبي، فانه يحب شعر ابن هانيء الأندلسي في قوله: فتكات لحظك أم سيوف أبيك ... وكؤوس خمر أم مراشف فيك حتى لتجده ناظرا إلى هذه القصيدة نفسها حين يقول (1) : ان كان واديك ممنوعا فموعدنا ... وادي الكرى فلعلي فيه ألقاك فهذا من قول ابن هانيء: عيناك أم مغناك موعدنا وفي ... وادي الكرى تلقاك أم واديك بل لعله ان يكون متأثرا لا بالمتنبي ولا بابن هانيء، فهذه الطريقة من التمويه التشكيكي موجودة عند كثير من الشعراء، والمهم أن ابن دراج إذا جرى فيها ابعد الغاية، وأسهب، وقد أطلت الاقتباسة من القصيدة المتقدمة لدلالتها على هذا الإسهاب، ولدلالتها على شيء آخر من شعر ابن دراج وهو تعلقه بالصورة الواحدة مسافة طويلة في شعره، وإلحاحه على جوانبها بشدة فترى الصورة في الأبيات السابقة هي النار أو النور وما يكتنف ذلك من ليل، وتستمر هذه الصورة في كل الأبيات المتقدمة دون ملل، وهذا ان دل في هذا المقام على شيء فإنما يدل على الاسترسال وحب الاطالة، لا على تحقيق وحدة ما، أو على شغف بالصورة نفسها، ولكن كلما وجد ابن دراج سبيلا لكي يمد في عمر المعنى؟ وفي عمر الصورة تبعا لذلك - فانه لا يتردد عن أن يسلكه، وهذا شيء ينتظم شعره ونثره، ويخرج أحيانا إلى حد الإملال، فمن ذلك انه قد يشبه أبناءه بيوسف واخوته والأحد عشر كوكبا فيسترسل

_ (1) اليتيمة 1: 440

مستخرجا كل الملابسات التي تليق بالموضوع من قصة يوسف واخوته، فيقول (1) : أخو ظمأ يمص حشاه سبع ... وأربعة وكلهم ظماء كأنجم يوسف عددا ولكن ... برؤيا هذه برح الخفاء خطوب خاطبتهم من دواه ... يموت الحزم فيها والدهاء وكلهم كيوسف إذ فداه ... من القتل التغرب والجلاء وان سجن حواه فكم حواهم ... بطون الفلك والقفر القواء وان أقوت مغاني العز منهم ... فكم عمرت بهم بئر خلاء فانظر إليه كيف استخرج من قصة يوسف كل ما ينطبق على بنيه أو وجه المعاني التي في قصة يوسف، ليمنحها لهم، فذكر انهم أحد عشر كأنجم يوسف، وكل واحد فيهم هو يوسف الذي نجته الغربة من القتل، وإذا كان يوسف قد سجن فكل واحد فيهم قد مر في سجن السفينة أو وجد في القفر سجنا، وكل واحد منهم لجأ إلى بئر خلاء بعد مغاني العز الواسعة، وهذا تشقيق للمعنى وإسهاب فيه، والأصل فيه التوليد المصاحب للمعنى النثري، وابن دراج بدأ كاتبا وانتهى كاتبا شاعرا، غير انه يبني شعره على النهج الفكري في النثر، ويحاول ان يوشحه بالبديع والقوة اللفظية. وتسيطر على ابن دراج الصور الحربية في نثره وشعره، وإذا اخذ في هذا النوع من الصور أسرف فيه كثيرا، وإذا تذكرنا انه صرح بعجزه أحيانا عن المشاركة في الحرب عرفنا في شغفه بالصور الحربية نوعا من التعويض، فمن ذلك في شعره:

_ (1) 1/1: 67

أوجفت خيلي في الهوى وركابي ... وقذفت نبلي في الصبا وحرابي وسللت في سبل الغواية صارما ... عضبا ترقرق فيه ماء شبابي ورفعت للشوق المبرح راية ... خفاقة بهزائج الأطراب ولبست للوام لأمة خالع ... مسرودة بصبابة وتصابي وبرزت للشكوى بشكة معلم ... نكص الملام بها على الأعقاب فاسأل كمي الوجد كيف أثرته ... بغروب دمع صائب التساكب واسأل جنود العذل كيف لقيتها ... في جحفل البرحاء والأوصاب ولقد كررت على الملام بزفرة ... ذهل العتاب بها عن الأعتاب حتى تركت العاذلين لما بهم ... شغفا بحب التاركي لما بي من كل ممنوع اللقاء اغتاله ... صرف النوى فنأى به ودنا بي حتى افتتحت عن الأحبة معقلا ... وعر المسالك مقفل الأبواب ووقفت موقف عاشق حلت له ... فيه غنيمة كاعب وكعاب وكل ذلك تلحظ أدوات القتال وفنون الحرب، حتى يصل الشاعر إلى الغنيمة، وهكذا تحول بمنظر الحب إلى منظر الموقعة الحربية، وازجى فيه من الصور ما شاء. وجمع إلى هذا كله في طريقته الشعرية فنون البديع فأكثر في هذا الموقف من الجناس " لبست للوام لأمة "؟ برزت للشكوى بشكة "، وهو في غير هذا الموطن شديد الغرام بالمطابقات، وأحيانا بالإشارات على مثال أبي تمام في كثرة إشاراته التاريخية، كقوله: وما شكر النخعي شكري ولا وفى ... وفائي؟ إذ عز الوفاء - قصير وكالإشارات الكثيرة في قصيدته الرائية التي مدح بها صاحب سرقسطة منذر بن يحيى، ومنها: وأصبت في سبأ مورث ملكها ... يسبي الملوك ولا يدب لها الضرا والحارث الجفني ممنوع الحمى ... بالخيل والآساد، مبذول القرى وحططت رحلي بين ناري حاتم ... أيام يقري موسرا أو معسرا

ثم تضيق هذه الحلقة بين الكلف بالمعنى والكلف بالفنون البديعية، فإذا معاني ابن دراج الغاز عسرة الحل تتطلب من القارئ تحيلا في الفهم وشرودا في التصور. فإذا أراد استخراج صورة جديدة يصور فيها غرام ممدوحه بجمال الحبوسين وقتالها واعلامها قال: وأجناده في موقف الروع روضة ... وأعلامه في مورد الموت ورده والتلاعب اللفظي في هذه الصورة، يزيد إلى عسر التلاعب المعنوي. ومن معمياته قوله: والطرف مرآة عيني أستدل بها ... على الصباح إذا ما خيف ساطعه جونا أزيد به ليل الرقيب دجى ... ويستنير لي الإصباح لامعه ويبعد في استعاراته حين يتحدث عن الإبل التي أوصلته إلى الممدوح فيقول: بدن فدت منا دماء نحورها ... ببقائها في كل أفق منحرا نحرت بنا صدر الدبور فأنبطت ... قلق المضاجع تحت جو أكدرا [خوض تفحن بنا البرى حتى انثنت ... أشلاؤهن كمثل أنصاف البرى] وصبت إلى نحر الصبا فاستخلصت ... سكن الليالي والنهار المبصرا والمعنى أن هذه الجمال؟ وشبهها بالهدي الذي ينحر في عرفات - قد استنفذت منا دماء نحورها حين ظلت منحرا في كل وجه، أي ما عاشت إلا لتموت، فواجهت الدبور فأثارت مضاجع قلقة في جو اغبر، ثم مالت إلى نحر الصبا فلما قتلت الصبا استخلصت هدوء الليالي والنهار المبصر، وانما جاءه هذا التكلف من طلب المعنى، ومن الإلحاح على صورة النحر والفداء. ويقول في قصيدة أخرى: في وقعة قامت بعذر سيوفهم ... لو ذاب من حر الجلاد حديدها ويضيق فيها العذر عن خطية ... سمراء لم يورق بكفك عودها والمعنى أن السيوف لو ذاب حديدها في أيدي أولئك الأبطال من حر المعركة لكان في ذلك عذر لهم، أما الرمح الذي كنت تحمله ايها

الممدوح فلا عذر لأنه لم يورق من ندى كفك، وهذا غاية في الصنعة والإحالة، وتقليب المعاني التي تتردد عند الشعراء الآخرين ومزج أحدها بالآخر لإخراج معنى جديد. وقد يقف المرء حائرا إزاء قوله: وتلك مراتب الأخطار مني ... حمائم ينتحين على هديل وربما عنى ان مراتب الأخطار ثاكلات كالحمائم اللواتي فقدن الهديل منذ القدم فهن ينحن عليه، وكذلك المراتب العليا، انها تتطلع إليه ولا تجده، ومن حق ممدوحه ان يرفعه إلى تلك المراتب. وليس المقصود من ذلك أن نشرح معقدات ابن دراج وإنما هذه أمثلة تشير إلى مقدار العناء في توضيح ما يقصده الشاعر في شعر هو اقرب أنواع الشعر إلى اللون المتافيزيقي المغرب الملتوي، عن تعمد، وصدق ابن شهيد في قوله: " وراحته بما يتعب الناس وسعة نفسه فيما يضيق الأنفاس ". وما وصلنا من شعر ابن دراج ليس قليلا؟ نسبيا - (1) إلا أن كل القصائد موضوعها المدح إلا قصيدة رثاء صبح أم المؤيد، والا قطعتان غزليتان لا اشك في انهما مقدمتان لقصيدتين طويلتين في المدح، وإحداهما صريحة في ذلك لأنها تقف عند بيت التخلص إلى مدح المنصور، ولذلك لا نستطيع ان نحكم عليه في فنون أخرى من الشعر، ولكنه منذ البدء يشير إلى إتقانه ما يتصل بحياة أطفاله وأبنائه، وقد أضفى على منظر الوداع في معارضته لأبي نواس لفتات شعرية مؤثرة وهو يتحدث عن ابنه الصغير:

_ (1) جمع شعره على حروف المعجم محمد بن إبراهيم القيسي من أهل وشقة وسكن سرقسطة وزاد فيه كثيرا على ما بأيدي الناس في سنة 467 ورآه ابن الأبار بخطه في بلنسية سنة 635، ولعل سكناه لسرقسطة أعانته على جمع ما زاده من شعر (التكملة: 403) وأجاز ابن حزم رواية شعره، وعن ابن حزم رواه الحميدي وشريح بن محمد المقرئ (فهرسة ابن خبر 414 - 415) ورأى ابن خلكان ديوانه ونقل منه وقال انه في جزأين. وقد نمي الي أن ديوانه قد وجد كاملا ولكني لم اطلع عليه.

تناشدني عهد المودة والهوى ... وفي المهد مبغوم النداء صغير عيي بمرجوع الخطاب ولفظة ... بموقع أهواء النفوس خبير تبوأ ممنوع القلوب ومهدت ... له أذرع محفوفة ونحور فكل مفداة الترائب مرضع ... وكل محياة المحاسن ظير عصيت شفيع النفس فيه وقادني ... رواح بتدآب السرى وبكور ثم اصبح موضوع الأطفال بعد النكبة؟ كما قدمت - هو المحرك العاطفي في شعره إلى جانب هذا تعلقه بالتنجيم وزجر الطالع، كما ان صوره في الطبيعة وهي صور عرضية لا تختلف كثيرا عن سائر هذا اللون من الصور في الشعر الأندلسي، فمن أمثلة ذلك مما كان يعجب الذوق الأندلسي قوله: لمعاقل من سوسن قد شيدت ... أيدي الربيع بناءها فوق القضب شرفاتها من فضة وحماتها ... حول الأمير لهم سيوف من ذهب فمزج الطبيعة ومنظر الحرب في تصويره. غير انه ليس فيما تبقى من شعره ما ينقل الينا شيئا من نظرته إلى الحياة في أحوال هدوئه ورضاه، فهو دائما ثائر منفعل أو مضطرب باك حتى في استبشاره، والجلبة في شعره قد تقلل من قيمة الأثر الثقافي فيه، فهو وان حاول العمق أقرب إلى ابن هانيء منه إلى أبي تمام لو المتنبي.

فراغ

3 - ابن شهيد أبو عامر أحمد بن عبد الملك الذخيرة 1/1: 161 الجذوة: 124 بغية الملتمس رقم: 437 المغرب 1: 78 المطمح:16 اليتيمة: 382 الخريدة 12: 201 المطرب: 147 الشذوات 3: 230 اعتاب الكتاب: 74 المسالك 11: 206 معجم الادباء 2: 218 وانظر صفحات متفرقة في النفح والشربشي. بيت بني شهيد من بيوتات الشعر في الأندلس، وهم اشجعيون من ولد الوضاح بن رزاح الذي كان مع الضحاك بن قيس يوم مرج راهط. وكان عبد الملك أبو مروان والد أبي عامر الذي نترجم له من شيوخ الوزراء في الدولة العامرية، مقربا عند المنصور بن أبي عامر، وقد استعمله المنصور واليا على الجهات الشرقية، جهات بلنسية وتدمير، فبقي هنالك تسعة أعوام، ثم سئم العمل فكتب إلى المنصور يقول: " ان كبير حق المولى لا يذهب بصغير حق العبد، ولي حرمة ادل بها، وذمة انبسط

لها، وقد طالت علي الغربة، وسئمت الخدمة، ومللت من النعمة فالادالة الادالة " (1) . وقد أعفاه المنصور من الخدمة حسب رغبته، فعاد إلى قرطبة وقد أثرى، إذ كان معه حين عودته أربعمائة ألف دينار ناضة ومائة ألف من ذهب آنية، ومائتان من رقيق الصقلب، ولم يحاسبه المنصور على هذا الثراء، بل انه صرف له فوق ذلك الفي مدي من قمح وشعير مناصفة، لان السعر كان عاليا، وكانت نفقته الشهرية من القمح سبعين مديا ومن الشعير علف ثمانين دابة. وفي قرطبة اصبح أبو مروان من ندامى المنصور ومستشاريه. وكان من الناحية الثقافية كثير الاهتمام بالتاريخ والخبر واللغة والأشعار، مع سعة روايته للحديث والآثار. وقد ألف كتاب " التاريخ الكبير في الأخبار " ورتبه على السنين؟ بدأ به من عام الجماعة سنة أربعين وانتهى إلى أخبار زمانه (2) . وأصيب بالنقرس في شيخوخته، فأهداه ابن أبي عامر محفة من خيزران ليحمل فيها، وكان في مرضه يحضر مجالس الانس ويسخفه الطرب فيرقص إذا اخذ منه الشراب، ويرتجل الشعر، ومما ارتجله في بعض تلك المواقف (3) : هاك شيخ قاده عذر لكا ... قام في رقصته مستهلكا لم يطق يرقصها مستثبتا ... فانثنى يرقصها مستمسكا عاقه من هزها معتدلا ... نقرس أنحى عليه فاتكا أنا لو كنت كما تعرفني ... قمت إجلالا على رأسي لكا قهقهة الإبريق مني ضحكا ... ورأى رعشة فبكى وفي شيخوخته كان ما يزال قوي الشهوات، منطلق النفس وراء لذاته، إلا انه نسك في أخريات أيامه، وتوجه إلى الآخرة، وعزف عن

_ (1) الذخيرة 1/1: 167 (2) الصلة: 338 (3) الذخيرة 4/1: 17

الدنيا، ثم أدركته منيته من ذبحة أصابته، وقبيل وفاته كان المنصور قد نقله من منية المغيرة إلى منية النعمان ليكون قريبا منه (1) . وفي الحي المسمى منية المغيرة وفي الدار المعروفة بدار ابن النعمان، بين تضاعيف هذا النعيم، ولد احمد بن عبد الملك، وشهد عز أبيه في ظل العامريين، بل فتنة مجد العامريين وثراؤهم وقصورهم، وكان طفلا شديد الحساسية، فانطبعت في ذاكرته منذ الصغر ذكريات لم تنطمس من بعد، نلمس فيها الثورة الخبيئة على أبيه، والتشوف إلى الثراء، وحب الظهور، واستشعار السيادة في ذلك الدور المبكر من حياته. فقد ظل يذكر كيف دخل وهو في الخامسة من عمره على المنصور ابن أبي عامر، فرأى بين يديه تفاحة كبيرة، فأخذ يتأملها تأمل الشره، فأمره المنصور ان يأخذها ويأكلها، فلما اطبق على بعضها فمه لم يستطع ان يقطع منها شيئا، بل إن يده ضاقت عنها، فتناولها المنصور منه، وأخذ يقطع له بفمه ويطعمه، وكأن هذا العطف كان يذكره بانه حرم شيئا كثيرا من عطف أبيه الذي كان مشغولا بمجالسه وبأمور الدولة اكثر من النظر إلى أبنائه. ثم سلمه المنصور إلى من حمله إلى بيت المنصور، حيث السيدة زوجه، ولم ينس الطفل احمد ما استقبل به من حفاوة من النساء، وكيف غمرنه بالهدايا، وقدمت له زوج لمنصور ألف دينار عن نفسها وثلاثة آلاف عن زوجها، وظن الطفل انه حر التصرف فيما اهدي إليه لأنه يملكه، ولكنه ما كاد يعود إلى البيت حتى استولى ابوه على كل شيء، فوزع منه ما وزع، واستبقى منه ما شاء. وتلك حادثة أثرت في نفسية احمد تأثيرا عميقا يشبه الحقد، ذلك انه كان يرجو ان يشبع رغبته من تلك الالوف، لا بشراء اللعب فحسب، " والخيل إذ ذاك نخب من قصب، والدرق قشور من خشب " (2) بل ليفرق ما

_ (1) الصلة: 339 (2) الذخيرة 1/1: 165

يريد تفريقه من ذلك المال على الخدم والجواري وأطفال الحي. وقد نقل إلى المنصور ان هذا الطفل غضب مما فعله ابوه، ولعله بكى لديه، فمنحه خمسمائة دينار واقسم على ان يبيح له التصرف التام بها، فبددها على لعبة كثيرا منها على لذاته. وحادثة ثانية كانت أعمق أثرا من الأولى، وهو يقول إنها كانت أفدح نازلة نزلت بصبوته (1) ، ذلك أن أباه حين نسك، نسي حق الطفولة في اللهو، فطرح ذيل نسكه وتقشفه على أبنائه، وعمد إلى ابنه احمد وكان يومئذ في الثامنة، فحلق لمته، وانتزع ما عليه من ثياب الخز والوشي، وألبسه بدلا منها ثيابا بسيطة، فتلقى الطفل هذه بألم شديد، ومر به الوزير ابن مسلمة ذات مرة، فسأله عن حاله، فأجابه بالنشيج والعجيج، - مظهر من مظاهر الحساسية الشديدة والنشأة المدللة - فما كان من الوزير إلا أن حكى الأمر إلى المظفر ابن المنصور - وكان المنصور غائبا - فاستقدم الغلام إليه وألبسه ثياب الحرير، وحمله على فرس بسرجه ولجامه، وأعطاه الف دينار، وعقد له؟ عقدا صوريا - على الشرطة، فأرضى في نفسه الصغيرة تشوفها إلى المراكز العالية الكبيرة، وتطلعها إلى جديد من الثياب والوافر من الأموال. من اجل ذلك نكبة قرطبة حادثا جللا بالنسبة له لأنها هوت بالمجد العامري، وقضت على الأيام السعيدة في ظل العامريين، وكانت نشأة أبي عامر لا تقويه على الكفاح والمغامرة من جديد، لنعومتها أولا، ولفرقه الشديد من تقلبات الأيام في المهاجرة، فبقي في قرطبة ينظر إلى معاهدها في أسى، ويبكي قصورها ومتنزهاتها، ويعلل عجزه عن مفارقتها بحبه للوطن، بحبه لقرطبة وان كانت عجوزا متغيرة الريح ساقطة الأسنان، زانية بالرجال " طاب له الموت على هواها " (2) .

_ (1) انظر الذخيرة 1/1: 164 (2) الذخيرة 1/1: 175

عجوز لعمر الصبا فانيه ... لها في الحشا صورة الغانيه زنت بالرجال على سنها ... فيا حبذا هي من زانيه تقاصر عن طولها قونكة ... وتبعد عن غنجها دانيه ترديت من حزن عيشي بها ... غراما فيا طول أحزانيه وكان أبو عامر عند النكبة في ريعان الشباب، وفورة الهوى، تجاوز العشرين بقليل وقد تعود حياة اللهو التي تهيئها المدينة الكبيرة، ولكنه أيضا شعر، بحكم سنه وما يحيط به من مثالية في النظر إلى الامور، أن الفتنة غيرت المقاييس وزعزعت القيم، فرفعت وخفضت دون معيار صحيح، " وان الفتنة نسخ للأشياء من العلوم والأهواء ترى الفهم فيها بائر السلعة، خاسر الصفقة يلمح بأعين الشنآن، ويستقل بكل مكان " (1) . حقا ان الفتنة لم تتركه منطويا على نفسه ولكنها أيضاً قتلت فيه طموح الطفولة والصبا إلى السيادة، فأخذت الحاجة وحدها تدفعه؟ كما دفعت ابن دراج - إلى مدح هذا أو ذاك ممن تعاقبوا على حكم المدينة، مع شعور عميق بان العامريين وحدهم، هم الذين كانوا يستطيعون ان يفردوه ويميزوا مكانته بين ذوي الفهوم. وكما ان الفتنة قوت في نفسه حب السلامة في تلك الفترة المتقلبة، فانها أضافت شيئا إلى المرارة التي كان يحسها نحو الأشياء والناس وأذكت من نار النقمة عنده على بعض معاصريه، حتى لتحس من بعض رسائله انه كان يرى من حوله يكيدون له، حبا في الكيد أو حسدا لعبقري مثله. ومما زاد في نقمته انه رأى بعض من كان يعاشرهم من فتيان العامريين، قد صاروا سادة في شتى جهات الأندلس، فأخذ يحس، محققا أو ظانا، أن أصدقاءه تنكروا له، ومن هؤلاء مجاهد العامري أبو الجيش، الذي كان رفيق صباه، فلما حدثت النكبة وهبت على مجاهد ريح السعد " وجاءت المنى من تهامة ونجد " حاص عن الوفاء، فانقطع عن مراسلة

_ (1) الذخيرة 1/1: 179

صديقه القديم، فدفعت الحاجة بابن شهي ان يقصده ثم انصرف؟ كما يقول - " بين الحالتين، لا قرب ولا شحط ولا رضى ولا سخط " (1) وهو موقف أشبه بخيبة الأمل منه بفوز الرجاء. ومع ان أبا عامر يقول: " فما سقطنا على سوقة يهش إلينا، ولا دفعنا إلى ملك يصبو بنا "، فانه أحرق قسما من جهوده الفنية بخورا على أعتاب المستولين على قرطبة، فمدح المستعين لما تم له الأمر بقصيدة مطلعها: بكى أسفا للبين يوم التفرق ... وقد هون التوديع بعض الذي لقي وهي قصيدة لم يبق منها الا مقدمتها الغزلية، ولما اصبح أمر قرطبة في يد بني حمود (407) ، وصل أبو عامر بهم أسبابه، غير أنه " دبت إليه عقارب، برئت منها أباعد وأقارب، واجهه بها صرف قطوب وانبرت إليه منه خطوب؟ وأقام مرتهنا ولقي وهنا " (2) وفقد ماله في تلك الأيام فكتب إلى ابن حمود رسالة في صفة السجن والمسجون (3) وألحق بها قصيدة يمكن ان يستنتج منها انه كان يعاني الضيق الشديد من الفقر والانحباس في السجن، إذ يقول: فراق وسجن واشتياق وذلة ... وجبار حفاظ على عتيد فمن مبلغ الفتيان أني بعدهم ... مقيم بدار الظالمين وحيد مقيم بدار ساكنوها من الأذى ... قيام على جمر الحمام قعود ويسمع للجنان في جنباتها ... بسيط كترجيع الصبا ونشيد ثم يستعطف المعتلي بن حمود صاحب مالقة واشبيلية بقوله: وراضت صعابي سطوة علوية ... لها بارق نحو الندى ورعود تقول التي من بيتها مركبي: ... أقربك دان أم نواك بعيد

_ (1) الذخيرة 1/1: 192 وما بعدها (2) المطمح: 20 (3) اعتاب الكتاب: 74

فقلت لها: امري الي من سمت به ... إلى المجد آباء له وجدود وفيها يقول مصرخا بذكر المعتلي: إلى المعتلي عاليت همي طالبا ... لكرته إن الكريم يعود همام أراه جوده سبل العلا ... وعلمه الأحسان كيف يسود ومنها: حنانيك إن الماء قد بلغ الزبى ... وأنحت رزايا ما لهن عديد ظمئت إلى صافي الهواء وطلقه ... فهل لي يوما في رضاك ورود غير أن علاقته بالمعتلي تحسنت حين استجاب هذا الوالي لرجائه وأطلقه، فأخذ يمدحه ويبعث إليه بالمدائح من قرطبة، من ذلك أن المعتلي لما اوقع بالفرقة الزنجية في اشبيلية كتب أبو عامر إليه يمدحه ويقول (1) : غناك سعدك في ظل الصبا وسقى ... " فاشرب هنيئا عليك التاج مرتفقا " ومنها: أجريت للزنج فوق النهر نهر دم ... حتى استحال جللت شفقا وساعد الفلك الأعلى بقتلهم ... حتى غدا الفلك بالناجي به غرقا ولما انتصر المعتلي على ابن الشرب، أنشده الشعراء قصائدهم فلم تعجب أبا عامر وأنشده يومئذ (2) : فريق العدا من حد عزمك يفرق ... وبالدهر مما خاف بطشك أولق عجبت لمن يعتد دونك جنة ... وسهمك سعد والقضاء مفوق وما شرب ابن الشرب قبلك خمرة ... من الذل بالعجز الصريح تصفق وقد يكون أبو عامر أنشد هذه القصيدة في قرطبة أو في مالقة، لان المعتلي هذا لما رأى ضعف القاسم بن حمود بقرطبة زحف عليها من مالقة، ودخلها دون قتال وهرب منها القاسم، وظل يحيى المعتلي فيها

_ (1) الذخيرة 1/1: 268 (2) الذخيرة 1/1: 273

حتى سنة 413 حين عاد القاسم بجيش من البربر فأخرجه عنها، وهرب المعتلي إلى مالقة، ويبدو أن ابن شهيد كان ميالا للمعتلي، ولذلك فانه فكر في اللحاق به إلى مالقة، ولا ندري هل نفذ هذا العزم أو رجع عنه، ولكن له قصيدة قالها وقد أزمع الخروج عن قرطبة لاحقا بيحيى وهو يذكر فيها أنه محسود ببلده، وأن أمية هضموا حقه، وان هاشما (أي العلوي يحيى) سيرد له حقوقه، يقول (1) : أرى أعينا ترنو إلي كأنما ... تساور منها جانبي أراقم أدور فلا أعتام غير محارب ... وأسعى فلا ألقى امرءا لي يسالم ويجلب لي فهمي ضروبا من الأذى ... وأشقى امرئ في قرية الجهل عالم سلام عليكم لا تحية شاكر ... ولكن شجى تنسد منه الحلاقم عليكم بداري فاهدموها دعائما ... ففي الأرض بناءون لي ودعائم لئن أخرجتني عنكم شر عصبة ... ففي الأرض إخوان علي أكارم وان هشمت حقي أمية عندها ... فهاتا على ظهر المحجة هاشم وأراد أهل قرطبة بعد خروج يحيى أن يبايعوا واحدا من بني أمية فقدموا عليهم عبد الرحمن بن هشام بن عبد الجبار الذي تلقب بالمستظهر (414) ووزر له ابن حزم أبو محمد فلم يمكث في الخلافة اكثر من شهر ونصف، وخلفه الذي ثار عليه ولقب بالمستكفي، فحكم ستة اشهر وأياما، ثم عاد يحيى الحموي، فلما انقضت أيامه بايع أهل قرطبة أمويا جديدا هو هشام بن محمد، من نسل الناصر (418) ، فتلقب المعتد بالله، وبقي يتنقل في الثغور ثلاثة أعوام دون استقرار، ثم سار إلى قرطبة فدخلها في الثامن من ذي الحجة سنة 430، فلم يقم بها إلا يسيرا حتى خلعه الجند، وبخلعه انقطعت الدعوة لبني أمية بتاتا. ولا ندري شيئا من أمر ابن شهيد في هذه الفترة المتقلبة غير انه وزر أولا للمستظهر مع صديقه

_ (1) الذخيرة 1/1: 275

ابن حزم ثم اصبح جليا لهشام المعتد (1) ، وقد زها مرة حين تفوق في تلك المجالس على أصحابه أنفسهم، وشمت بانخذالهم لأنهم لا يعرفون بعبقريته ولا ينصفونه (2) ورثا المعتد حين خلع بقوله (3) : أحللتني بمحلة الجوزاء ... ورويت عندك من دم الأعداء وحملتني كالصقر فوق معاشر ... تحتي كأنهم بنات الماء وظلت صلة ابن شهيد طوال هذه المدة وثيقة باثنين من العامريين هما المؤتمن عبد العزيز الذي كان أبو عامر يراسله كثيرا ويمدحه (4) ، وأبو عامر ابن المظفر الذي ظل في قرطبة، في عيشة راضية حتى خاف المعتد على نفسه، فهرب منها ولجأ إلى مواليه العامريين بالثغور فخذلوه، ولما يئس من عودته إلى قرطبة استولى على أملاكه، وجعل يتطلب ودائعه عند الناس فوقع من ذلك بلاء عظيم على بعض أهل قرطبة، واضطر بعضهم إلى الجلاء عنها بسبب بحث المعتد عن ودائع العامريين (5) . ومن أوائل التقارب بين ابن شهيد وابن المظفر هذا أن الثاني طلب مرة ان يستعمل حمام ابن شهيد لان حمام بيته تحت التصليح في يد البنائين (6) ، ثم تقاربا وتصادفا وامتد بينهما حبل الصداقة، حتى لنرى ابن شهيد يسهر عند ابن المظفر ويشرب، وقد سهر ذات ليلة، وفي مجلسهم طفيلة صغيرة تسقيهم تسمى أسماء فعجبوا من مكابدتها السهر على صغر سنها وطلب ابن المظفر إلى ابن شهيد وصفها فقال (7) :

_ (1) المغرب 1: 85، 1/123 (2) الذخيرة 1/1: 210 (3) المغرب 1: 85 (4) انظر الذخيرة 1/1: 163 - 171، 173 - 180 (5) الذخيرة 1/1: 260 - 261 (6) الذخيرة 1/1: 257 (7) الذخيرة 1/1: 260 والنفح 2: 806

أفدي أسيماء من نديم ... ملازم للكؤوس راتب قد عجبوا في السهاد منها ... وهي لعمري من العجائب قالوا تجافى الرقاد عنها ... فقلت: لا ترقد الكواكب ومن مدائحه في ابن المظفر: جمعت بطاعة حبك الأضداد ... وتألف الأفصاح والأعياد كتب القضاء بأن جدك صاعد ... والصبح رق والظلام مداد ومرت اكثر أيام ابن شهيد وهو في قرطبة، في مناقضات ومماحكات بينه وبين معاصريه من الأدباء والشعراء، فتصدى له من الشعراء خصمه وصديقه ابن الحناط الأعمى الذي كان مغرى بالكيد له، وجرت بينه وبين ابن شهيد " مناقضات في عدة رسائل وقصائد أشرقت أبا عامر بالماء وأخذت عليه بفروج الهواء " (1) ، ومن رسائله التي أنحى فيها على طريقة ابن شهيد في النظم والنثر: " الإسهاب كلفة، والإيجاز حكمة، وخواطر الألباب سهام، يصاب بها اغراض الكلام، وأخونا أبو عامر يسهب نثرا ويطيل نظما، شامخا بأنفه ثانيا من عطفه، متخيلا انه قد أحرز السباق في الآداب، وأوتي فصل الخطاب، فهو يستقصر أساتيذ الأدباء، ويستجهل شيوخ العلماء. " وابن اللبون إذا ما لز في قرن ... لم يستطع صولة البزل القناعيس (2) " ومع ذلك فانا نجد ابن الحناط هذا يمدح أبا عامر في قصيدة، منها (3) : أما الفراق فلي في يومه فرق ... وقد أرقت له لو ينفع الأرق أظعانهم عيني التي انهملت ... أم الدموع مع الأظعان تستبق عاق العقيق عن السلوان واتضحت ... في توضح لي من نهج الهوى طرق بل أن الحناط لما نعي إليه أبو عامر بكى ورثاه بديهة بقوله (4) :

_ (1) الذخيرة 1/1: 383 (2) الذخيرة 1/1: 385 (3) الجذوة 3: 54 (4) الجذوة: 54 والنفح 2: 816

لما نعى الناعي أبا عامر ... أيقنت أني لست بالصابر أودى فتى الظرف وترب الندى ... وسيد الأول والآخر وهو في رسائله يهاجم اثنين ممن كانا يكيدان له، أحدهما يسمى ابن فتح والآخر أبا عبد الله الفرضي أحد المشتغلين بالكيمياء، ويقول إن الثاني كاد له أيام المستظهر (415) ، وصنع على لسانه شعرا في هجاء القائم بالأمر يومئذ (1) : يا كسرة دهمتنا ليس تنجبر ... وسبة لحقتنا ما لها عذر ويزعم ان ابن فتح أفسد عليه نية ابن عباس وزير زهير الفتى الصقلبي المرية، وربما كان شيء من ذلك، ولكن التنافر بين ابن شهيد وابن عباس كان يتم دون حاجة إلى تدخل الآخرين ودسائسهم، فقد كان كل منهما معجبا بنفسه وبقدرته الأدبية، ثم ان ابن شهيد هجا ابن عباس فأقذع حينما ورد مرة على قرطبة، وذلك ان ابن عباس هذا، في قدمته تلك، جمع لمة من الأدباء من أصحاب ابن شهيد وهم: ابن برد وأبو بكر المرواني وابن الحناط والطبني وسألغم عن ابن شهيد وأمرهم ان يوجهوا في استدعائه، قال ابن شهيد (2) " فوافاني رسوله مع دابة له بسرج محلى ثقيل، فسرت إليه ودخلت المجلس وأبو جعفر غائب، فتحرك المجلس لدخولي وقاموا جميعا لي حتى طلع أبو جعفر علينا ساحبا لذيل لم ير أحد سحبه قبله وهو يترنم، فسلمت عليه سلام من يعرف حق الرجال فرد ردا لطيفا، فعلمت أن في أنفه نعرة لا تخرج إلا بسعوط الكلام؟ فرأيت أصحابي يصيخون إلى ترنمه فسألتهم عن ذلك، فقال لي الحناطي، وكان كثير الانحاء علي، جالبا في المحافل ما يسوء الأولياء الي، ان الوزير حضره قسيم من شعره، وهو

_ (1) الذخيرة 1/1: 189 (2) الذخيرة 1/1: 262 والنفح 2: 989

يسألنا إجازته فعلمت اني المراد ". ومن الجدير بالملاحظة هنا نظرة ابن شهيد إلى نفسه اولا، وكيف لم يغب عن باله ان يذكر قيام الأصحاب في المجلس له، ثم نظرته إلى ابن عباس وكبريائه ورأيه في طبيعة العلاقة بينه وبين الحناطي. ثم انه أخذ قلما وأجاز القسيم بديهة وانصرف، وبعد قليل لحق به أصحابه وأنبأوه ان ابن عباس لم يعجب بما جاءت به بديهته ولم يرتضه، وسألوه هجاءه، فهجاه مقذعا، فلا غرابة إذا لم يكن بين الرجلين شيء من الانسجام. ومع ذلك فبينه وبين ابن عباس مراسلات يقول في بعضها " إلى وزير كان لي وزرا، رقرق شرابي وأخصب به جنابي " (1) ويعده ابن عباس بصرف ضيعة له كانت بجهة تدمير من أملاك أبيه لما كان واليا بتلك الناحية (2) ويقول ابن حيان في وصف ما صنعه ابن عباس حين قدم قرطبة: " ومن عجبه انه دخل قرطبة؟ ومنها منتهاه - وهم بقية الناس - فحجب كبيرهم الشيخ أبا عمر بن أبي عبدة من غير عذر؟ وتنقص أديبهم أبا عامر بن شهيد، ولم يك يحسن مستمليا له، ثم أجمل وصف جماعتهم وقد سئل عنهم فقال: ما رأيت بقرطبة الا سائلا أو جاهلا " (3) . وكان أشد ما يغيظ ابن شهيد إلصاق العيب بإنشائه وشعره ولذلك صب سوط عذاب على أبي بكر المعروف باشكمياط لأنه زعم ان ابن شهيد ينتحل ما لغيره، وتعقب ابن الافليلي أحد معلمي اللغة في قرطبة بشدة وتهكم به كلما سنحت الفرصة، وبسببه جرد قلمه لكتابة " رسالة التوابع والزوابع " وهاجم من أجله طبقة المعلمين جملة بعنف وشدة، فمما قاله فيهم " وقوم من المعلمين بقرطبتنا ممن أتى على أجزاء من النحو، وحفظ كلمات من اللغة، يحنون على اكباد غليظة، وقلوب كقلوب

_ (1) الذخيرة 1/1: 182 (2) المصدر نفسه 1/1: 166 (3) الذخيرة ½: 186

البعران، ويرجعون إلى فطن حمئة، وأذهان صدئة " (1) . وكان ابن الافليلي هذا حجة في علم اللسان والضبط لغريب اللغة في ألفاظ الأشعار الجاهلية والإسلامية وقد نال جاها عند بني حمود، ثم استكتبه المستكفي بعد ابن برد فوقع بعيدا من البلاغة لأنه على طريقة المعلمين المتكلفين، وفي أيام هشام المعتد لحقته تهمة في دينه فسجن في المطبق مع من سجن من الأطباء كابن عاصم والبسباسي، ثم أطلق. غير ان ابن شهيد أنشأ في قرطبة أيضاً علاقات اخوانية طيبة، فكان أبو المغيرة بن حزم من أقرب أصدقائه إليه حتى كانا كما قال الفتح: " لا ينفصلان في رواح ولا مقيل، ولا يفترقان كمالك وعقيل، فكانا بقرطبة رافعي ألوية الصبوة، وعامري أندية السلوة " (2) . وكان من أصدقائه أيضاً الفقيه أبو محمد بن حزم نفسه، لأنهما نشأا معا في الدولة العامرية وسناهما متقاربتان، ولما مرض ابن شهيد كتب إلى ابن حزم بأبيات يذكر فيها اخوته وصداقته، ويطلب إليه ان يؤبنه، ويشيع ذكره ويدعو له الله أن يغفر ذنبه (3) : فمن مبلغ عني ابن حزم وكان لي ... يدا في ملماتي وعند مضايقي عليك سلام الله إني مفارق ... " وحسبك زادا من حبيب مفارق " فلا تنس تأبيني إذا فقدتني ... وتذكار أيامي وفضل خلائقي فلي في أذكاري بعد موتي راحة ... فلا تمنعونيها علالة زاهق فأجابه ابن حزم بقوله: أبا عامر ناديت خلا مصافيا ... يفديك من دهم الخطوب الطوارق وآلمت قلبا مخلصا لك ممحضا ... بودك موصول العرى والعلائق

_ (1) الذخيرة 1/1: 205 (2) المطمح: 22 (3) الجذوة: 125

ثم يهدئ من جزعه ويتمنى له بعد الشدة رخاء، ويتفجع لفقده، ان حدث. وقد كتب ابن حزم لابن شهيد أيضاً رسالة مستقصاة بين له فيها أن القرآن خارج عن نوع بلاغة المخلوقين وانه على رتبة قد منع الله تعالى جميع الخلق عن ان يأتوا بمثله (1) . وهنالك شخص ثالث من أصدقائه يدعى أبا بكر بن حزم واسمه يحيى ولا يمت بالقرابة للاثنين الأولين، وقد وجه إليه ابن شهيد رسالة " التوابع والزوابع " التي سماها أيضاً " شجرة الفكاهة " (2) ، وكانت بينه وبين القاضي ابن ذكوان علاقة طيبة، وفي أحد مجالسه عنده جيء بباكورة باقلاء فارتجل ابن شهيد ابياتا في وصفها (3) ، ولما توفي هذا القاضي رثاه ابن شهيد فقال (4) : ظننا الذي نادى محقا بموته ... لعظم الذي أنحى من الرزء كاذبا وخلنا الصباح الطلق ليلا وأننا ... هبطنا خداريا من الحزن كاربا ثكلنا الدنا لما استقل وانما ... فقدناك يا خير البرية ناعبا وما ذهبت اذحل في القبر نفسه ... ولكنما الاسلام أدبر ذابا ومن أصدقائه الخلص أبو جعفر بن اللمائي (5) أحد أئمة الكتاب في وقته، وقد شق على ابن شهيد موته لأنه نعي له وابن شهيد طريح الفراش، فكان في فقده، على انه صديق عزيز، انذار لابن شهيد بسطوة الموت، فرثاه بقصيدة حزينة مطلعها (6) : أمن جنابهم النفح الجنوبي ... أسرى فصاك به في الغور غاري وقد تخيل فيها كيف مر به الليل، فسأله أذاك النفح الزاكي من

_ (1) الفصل 1: 107 (2) انظر في ترجمة يحيى هذا كتاب الجذوة: 351 (3) النفح 2: 806 (4) النفح 2: 865 (5) انظر ترجمته في الذخيرة ½: 132 والمطمح: 25 (6) الذخيرة 1/1: 283 والنفح 2: 960

أزهار فكرة اللمائي فأخبره أن اللمائي مات: فقلت: والسقم منشور على جسدي ... يحدو الردى ورداء العيش مطوي أهدى اللمائي من أزهار فكرته ... نشرا فقال الدجى مر اللمائي فقيل: مات فقال الليل: قارب ذا ... فانهل من مقلتي نوء سماكي وبت فردا أنادي مقلتي شغفا ... كأنني في نقوب الدار جني لا عشت إن مت لي يا واحدي أبدا ... وموتنا واحد ر شك مرئي ان الكريم إذا ما مات صاحبه ... أودى به الوجد والثكل الطبيعي ورثى ابن شهيد أيضاً حسان بن مالك بن أبي عبدة الوزير (- 420) وهو من الائمة في اللغة والادب في أيام الدولة العامرية (1) ، وممن لهم علاقة وكيدة بالقاضي ابن ذكوان، واحسب ان ابن شهيد لم يرثه لصداقة بينهما، فقد توفي الرجل عن سن عالية، ولكنه رثاه اعترافا بفضله وأدبه، فقال: أفي كل عام مصرع لعظيم ... أصاب المنايا حادثي وقديمي وكيف اهتدائي في الخطوب إذا دجت ... وقد فقدت عيناي ضوء نجوم مضى السلف الوضاح الا بقية ... كغرة مسود القميص بهيم فان ركبت مني الليالي هضيمة ... فقبلي ما كان اهتضام تميم وفيها يذكر فضله وفوائده في العلم والادب: كأنك لم تلقح بريح من الحجا ... عقائم أفكار بغير عقيم ولم نعتمد مغناك غدوا ولم نزل ... نؤم لفضل الحكم دار حكيم ومن اوثق العلاقات ما كان بينه وبين عبد العزيز بن أبي عامر، فإليه وجه ابن شهيد كثيرا من رسائله ومدحه بقصائد جمة، وذكره دالته على العامريين، وتحرم بفضله، ولم يستنكف من ان يشكو إليه حاجته أحيانا وضيق ذات يده، وربما كان يشير إلى أيامهما معا

_ (1) انظر ترجمته في الجذوة: 183 والمطمح: 26

في قوله (1) : سقيا لطيب زماننا وسروره ... وعزيز عيش مسعف بغزيره ومن أجمل مدائحه فيه واطولها قصيدته التي مطلعها (2) : هاتيك دارهم فقف بمعانها ... تجد الدموع تجد في هملانها ويطول بنا القول لو أردنا أن نحصر طبيعة العلاقات بين ابن شهيد والمقربين إليه، فهو يخاطب في مرض موته صديقا له يدعى ابا عمرو، ولا شك أيضا في انه كان على صلة بالكاتب أبي حفص بن برد مولى الشهيديين، ولما مات محمد بن ربيب كان ابن شهيد هو الذي اقترح على ابن برد رثاءه، ولم يرثه بنفسه؟ فيما يبدو - (3) وابن برد رثى ابن شهيد أيضاً كما رثاه أبو الاصبغ القرشي وكثيرون غيرهما (4) وكان من اصدقائه الذين قبله أيضاً أبو الوليد الزجالي. علته ووفاته (5) : بدأ مرض ابن شهيد في مستهل ذي القعدة سنة 425، ولازمه حتى قضى نحبه، ومعنى هذا أنه ظل مريضا سبعة اشهر كاملة، قاسى فيها العذاب الشديد، ويقول ابن بسام ان الفالج غلب عليه، ولكنه لم يقض على حركته تماما فكان يمشي إلى حاجته على عصا مرة، واعتمادا على إنسان مرة، وفي العشرين يوما الأخيرة صار حجرا لا يبرح ولا يتقلب، ولا يحتمل ان يحرك لعظيم الأوجاع، اما الحميدي فيقول؟ نقلا عن ابن حزم - ان علته هي ضيق النفس والنفخ، ويبدو انهما اجتمعتا عليه معا، وأن إصابته بالعلة الثانية ترجع إلى ما قبل أصابته بالفالج،

_ (1) الذخيرة 1/1: 176 والشريشي 1: 194، 230 (2) الذخيرة 1/1: 173 (3) الذخيرة ½: 51 (4) الذخيرة 1/1: 288 (5) راجع الذخيرة 1/1: 281 - 289

وان هذا المرض أي الفالج هو الذي استمر سبعة اشهر، ولما بلغت منه الأوجاع مبلغا شديدا هم بقتل نفسه، ثم آثر الرضى بقضاء الله، وفي ذلك يقول: أنوح على نفسي وأندب نبلها ... إذا انا في الضراء أزمعت قتلها رضيت قضاء الله في كل حالة ... علي وأحكاما تيقنت عدلها وعلى ما أصاب جسمه من وهن، بقي ذهنه متفتحا، وقريحته متوقدة، وان الشعر الذي صدر عنه في فترة المرض وان صدر عن نفس يائسة متألمة، ليدل على حيوية شعرية غير مادية، ففي علته رثى ابن اللمائي؟ كما تقدم - وكتب قصيدة إلى ابن حزم، تقدمت الإشارة إليها كذلك، وفيها كتب إلى صديق له اسمه عمرو يقول: اقر السلام على الأصحاب اجمعهم ... وخص عمرا بأزكى نور تسليم وقل له يا أعز الناس كلهم ... شخصا علي وأولادهم بتكريم الله جارك من ذي منعة ظفرت ... منه الليالي بعلق غير مذموم وكتب إلى جماعة من إخوانه يقول: هذا كتابي وكف الموت تزعجني ... عن الحياة وفي قلبي لكم ذكر إن أقضكم حقكم من قلة عمري ... إني الي الله لا حق ولا عمر ومن الجدير بالذكر انه يقرأ في هذه الأبيات الوداعية السلام على المنصور أفضل من سعى لثأر بني الإسلام وعلى ابنه المظفر، فلا تزال صورة المجد العامري تخايل عينيه وهو على فراش المرض. وفي علته قال أيضاً: تأملت ما أفنيت من طول مدتي ... فلم أره الا كلمحة ناظر وحصلت ما أدركت من طول لذتي ... فلم ألفه الا كصفقة خاسر وما انا الا رهن ما قدمت يدي ... إذا غادروني بين أهل المقابر وتحدث في الأبيات عن أصدقائه الذين سيذكرونه بعد موته، فقد كان يرتاح للذكر بعد الموت، ثم وصف سطوة الموت نفسه، وفي كل

أشعار تلمح هذا الأسى على فراق أصدقائه، وموقفه منهم موقف المودع الذي يعرف ان نهايته اقتربت، على انه لا يشير في الظاهر إلى خوفه من الموت، ولكنه يتجلد في الغالب، ولآخر ما قاله مودعا لأصدقائه: أستودع الله إخواني وعشرتهم ... وكل خرق إلى العلياء سباق وفتية كنجوم القذف نيرهم ... يهدي، وصائبهم يودي بإحراق ثم يقول مشيرا إلى صديق حميم: وكوكبا لي منهم كان مغرية ... قلبي ومشرقه ما بين أطواقي الله يعلم أني ما أفارقه ... إلا وفي الصدر مني حر مشتاق كنا ألفين خان الدهر ألفتنا ... وأي حر على صرف الردى باقي وقد أوصى قبل وفاته بهذه الوصايا: أ - ان يصلي عليه الرجل الصالح أبو عمر الحصار (فتغيب إذ دعي وصلى عليه جهور أبو الحزم صاحب قرطبة حينئذ) . ب - ان يسن التراب عليه دون لبن أو خشب (فلم ينفذ هذا أيضاً) . ج - ان يدفن بجنب صديقه أبي الوليد الزجالي. د - ان تكتب هذه الكلمات على قبره: بسم الله الرحمن الرحيم قل هو نبأ عظيم أنتم عنه معرضون. هذا قبر احمد بن عبد الملك بن شهيد المذنب، مات وهو يشهد ان لا اله الا الله وحده لا شريك له، وان محمدا عبده ورسوله وان الجنة حق وان النار حق وان البعث حق وأن الساعة آتية لا ريب فيها وان الله يبعث من في القبور [ثم تاريخ الوفاة بالشهر والسنة] ويكتب تحت النثر هذا النظم: يا صاحبي قم فقد أطلنا ... أنحن طول المدى هجود فقال لي: لن نقوم منها ... ما دام من فوقنا الصعيد تذكر كم مرة لهونا ... في ظلها، والزمان عيد وكم سرور همى علينا ... سحابة ثرة تجود

كل كأن لم يكن تقضى ... وشؤمه حاضر عتيد حصله كاتب حفيظ ... وضمه صادق شهيد يا ويلنا إن تنكبتنا ... رحمة من بطشه شديد يا رب عفوا فأنت مولى ... قصر في أمرك العبيد وكان أبو عامر شديد الخوف من الموت، ومن شدة السوق، فأخذ يدعو الله عز وجل ويشهد شهادة التوحيد، ويرغب إلى الله ان يرفق به، حتى أسلم الروح ضحى يوم الجمعة آخر يوم من جمادى الأولى سنة 426هـ ودفن يوم السبت ثاني يوم وفاته في مقبرة أم سلمة، ولا عقب له، وتكاثر الناس في جنازته، وكثر البكاء والعويل عند قبره، وأنشدت جملة من المراثي. صفته وأخلاقه وثقافته: كان ابن شهيد أصم، ومن فكاهات ابن الحناط أنه حين سئل: كيف كان هشام المعتد؟ قال: يكفي من الدلالة على اختياره انه استكتبني واتخذ ابن شهيد جليسا، وكان ابن الحناط أعمى، وابن شهيد أصم (1) ، ولما كان ابن عباس يترنم بقسيم من الشعر لم يسمع ابن شهيد ما كان يقول واضطر ان يسأل أحد الجماعة ليسمعه ما كان يترنم به. وكان أيضاً أطلس والدليل على ذلك قوله في رسالة التوابع والزوابع على لسان صاحب عبد الحميد الكاتب " أهكذا أنت يا أطيلس، تركب لكل نهجه، وتعج إليه عجه؟ فقلت: الذئب أطلس وان التيس ما علمت " (2) . وهذا كل ما نعرفه من صفاته الجسمانية، وربما كان لصممه أثر بعيد في تكييف علاقاته بالناس، ومحاولته الترفع عن نظراته ومعاصريه، وإساءة الظن فيهم.

_ (1) المغرب 1: 123 (2) الذخيرة 1/1: 230

وقد اشتهر بين معاصريه بخلال أربع: الأولى: ميله إلى اللهو والبطالة " فلم يحفل في آثارها بضياع دين ولا مروءة، فحط في هواه حتى أسقط شرفه ووهم نفسه راضيا في ذلك بما يلذه، فلم يقصر عن مصيبة ولا ارتكاب قبيحة " (1) ، وقال الحجاري في وصفه " كان ألزم للكأس من الأطيار بالأغصان، وأولع بها من خيال الواصل بالهجران " (2) . الثانية: إسرافه في الكرم حتى كان لا يليق شيئا، وأشرف أواخر أيامه على الإملاق، وكانت عند أهل قرطبة قصص مشهورة عن جوده وسخائه تلحق بالأساطير، من ذلك تلك القصة التي رواها صاحب المطرب عن رجل من طليطلة قصد أبا عامر فألفى لديه صنوف الإكرام، بل وهبه أبو عامر دارا في قرطبة ومركبا وخادما ونعما كثيرة وفرشا وثيرة (3) . الثالثة: عزة النفس المصحوبة بالعجب، وقد تنازل عن عزة النفس في حالات اعساره، ولكنه كان يقهر نفسه بحيث لا تستشعر الندم على فائت، وكثيرا ما يمتدح بعزته النفسية في شعره تمدحه بالكرم فيقول: والنفس نفس من شهيد سنخها ... يسنخ غذت منه العلا بلبانها ومصدر عجبه شيئان: نسبه الشهيدي الأشجعي: من شهيد في سرها ثم من أشجع في السر من لباب اللباب ... واقتداره على النثر والشعر، اقتدارا يرى كل معاصريه وكثيرا من غير معاصريه دونه، وقد قال له أصحابه ذات مرة:انك لآت بالعجائب وجاذب بذوائب الغرائب، ولكنك شديد الإعجاب بما يأتي منك " (4) .

_ (1) الذخيرة 1/1: 162 (2) المغرب 1: 85 (3) المطرب: 147 - 148 (4) الذخيرة 4/1: 27 والنفح 2: 807

الرابعة: الفكاهة، والميل إلى الهزل، واكثر ما بقي له من هذا يشير إلى حدة في الطبع، وحرارة في الأجوبة، وهجوم على التعريض الكاوي، والألفاظ المقذعة، وهو شيء تبرزه رسائله لا أشعاره فان الفكاهة في شعره قليلة أو معدومة، وخصوماته الأدبية كثيرة، وهي معرض لهذه الحدة الممزوجة بالتندر، إلا انه كان؟ على إعجابه وحدته - محببا إلى نفوس أصدقائه، يأنسون بمجلسه ويغترفون من كرمه، ويقضون الوقت في داره طاعمين شاربين أو متنزهين في البساتين أو متحدثين في جامع قرطبة. على انه بعد ذلك دائم التبرم من الزمان لأنه لم ينصفه وقدم غيره، محقر لأكثر الملكات الأدبية في بلده، زار على النشاط الثقافي فيه، ولعل انصرافه إلى اللذة وتبطله مقترن أولا بيأسه من أحوال قرطبة بعد الفتنة، متصل أيضاً بفرقه الشديد من الموت، وقد كان يؤمن بأنه عبقري، وانه لا يعمر طويلا، وقد قال فيه جني أبي الطيب (1) : " ان امتد به طلق العمر فلا بد ان ينفث بدرر، وما أراد الا سيحتضر، بين قريحة كالجمر، وهمة تضع أخمصه على مفرق البدر ". ولعل نقمته على الحياة وقلة احتفاله بجد الأمور ازدادا حينما انه لا يعيش له أبناء، ولا ندري كم رزق منهم، ولكنه رثى بنيه له ماتت صغيرة، بقصيدة منها (2) : أيها المعتد في أهل النهى ... لا تذوب إثر فقيد ولها وفيها يقول: وإذا الأسد حمت أغيالها ... لم يضر الخيس صرعات المها وغريب يا ابن أقمار العلا ... أن يراع البدر من فقد السها وجل اعتماده في شعره على شحذ قريحته، لأن ثقافته لم تكن عميقة ولا واسعة الأطراف، وقد قرأ وحفظ كثيرا من شعر المشارقة ونثرهم،

_ (1) الذخيرة 1/1: 228 (2) الذخيرة 1/1: 224

فعرف بشارا وأبا نواس وصريع الغواني وأبا تمام والمتنبي وعبد الحميد وابن المقفع والجاحظ وسهل بن هارون وقابوس بن وشمكير وبديع الزمان، وقرأ كثيرا من آثارهم، ولم يزد إلى ذلك ثقافة في فنون أخرى علمية سوى ثقافته الأدبية الخالصة، ولما توفي لم توجد لديه كتب إلا القليل (1) وقد قال في التوابع والزوابع: انه جلس في صغره إلى الاساتيذ، غير انه لم يسم أحداً منهم ولكنه افتخر إلى جانب ذلك بأن " يسير المطالعة من الكتب " يفيده، وتهكم بسعة الاطلاع في الرسالة المذكورة حين سأله تابع ابن الأفليلي: على من قرأ ولما قال له: فطارحني كتاب الخليل قال له: هو عندي في زنبيل (2) . شعره: ليس في الأندلسيين الذين درسنا شعرهم حق عصر ابن شهيد، من كان اكثر منه توقدا في القريحة، وأنفذ بصرا في نقد الشعر، وقد يدانيه ابن حزم وابن حيان المؤرخ في الحدة الذهنية، ثم تفترق السبيل بهؤلاء فيذهب كل في طريقه، وهو؟ في الشعر - خير ثمرة لمدرسة القالي التي جنحت إلى القوة والجزالة البدوية، بينما هو في النثر تلميذ نابه للجاحظ وبديع الزمان، وقد استطاع ان يفصل بين شعره ونثره، فلم يكن كابن دراج الذي بنى القصيدة على طريقته الكتابية، ولم يجمع ابن شهيد بين الطريقتين إلا في القليل النادر، وذلك في بعض الموضوعات التي استحسنها له معاصروه في النثر، كوصف النحلة وصفة البرغوث، فانه عاد يعالج مثل هذه الموضوعات في شعره (3) ، وهو اقل شعره قيمة. وقد أثرت فيه نظرته النقدية لأنها جعلته على وعي بما يريد ان يصنعه في

_ (1) الذخيرة 1/1: 162 والمغرب 1: 78 (2) الذخيرة 1/1: 234 (3) انظر أمثلة من ذلك الذخيرة 1/1: 185

الشعر؟ كان يعرف التطور الذي أصاب الشعر بعد صريع الغواني وبشار وأبي نواس وكيف أسرف أبو تمام في التجنيس " وطاب ذلك منه امتثله الناس، فكل شعر لا يكون اليوم تجنيسا أو ما يشبهه تمجه الآذان، والتوسط في الأمر أعدل " (1) ، وهذا قد يدل على الطريقة التي انتهجها في نظرته إلى البديع، وانه سلك في شعره مسلكا متوسطا، في هذا الاتجاه. بل ان قارئ شعره ليحس انه يصف مذهبه حين يقول: " ومنهم الكارع في بحر الغزارة القادح بشعاع البراعة، الذي بمر مر السيل في اندفاعه، والشؤبوب في انصبابه، ولا يشكو الفشل ولا يكل على طول العمل " (2) ، وابن شهيد قد بنى شعره في أكثره على هذا الاندفاع الجامح، والحدة العارمة، حتى ليجد من يقرأ شعره انه في حدة غاضبة لا تكاد تهدأ. وهو يقر انه يعتمد استعمال وحشي الكلام غير انه لا يجعله نابيا في شعره لأنه يحس وضعه في مواضعه (3) بل ان ابن شهيد الناقد هو الذي اختار للناس روائع شعره ووضعها في أيديهم ليشهدوا له أو عليه، وذلك في رسالة " التوابع والزوابع " فبالإضافة إلى ما تحتويه هذه الرسالة من فكاهة وتندر بابن الافليلي وبعض خصوم ابن شهيد في قرطبة، وما تثيره من تخيلات في عالم الجن، تعرض محاسن شعر ابن شهيد التي يراها خير ما يقدم من الشعر، ازاء شعر المشرق، وتكشف هذه الرسالة أيضاً عن سر ابن شهيد نفسه في مذهبه حين تقف به عند شاعر، محاولا التفوق على مشاهيرهم، ما عدا المتنبي. فهو يعارض عمر بن أبي ربيعة في رائيته، وطرفة في قصيدة له لامية، وقيس بن الخطيم في قصيدته الحماسية التي يقول فيها: طعنت ابن عبد القيس طعنة ثائر ... لها نفذ لولا الشعاع أضاءها

_ (1) الذخيرة 1/1: 203 (2) الذخيرة 1/1: 204 (3) الذخيرة 1/1: 200

ثم يعارض المحدثين كالبحتري وأبي نواس، ويتهيب ان ينشد المتنبي ثم يسمعه عددا من قصائده؟ دع ذكر الناثرين -، ثم تطلعنا كيف كان المعنى هؤلاء المتقدمين يذهب ويجيء في نفسه، ويدهشه أحياناً لا ثم لا يلبث أن ينشق خاطره عن معنى مولد منه، فقد ملك إعجابه؟ مثلا - قول امرئ القيس: سموت إليها بعد ما نام أهلها ... سمو حباب الماء حالا على حال وافتتن به، ورأى عمر بن أبي ربيعة قد حاوله فقصر عنه حين قال: ونفضت عني النوم أقبلت مشية الحباب وركني خيفة القوم أزور ... وظل يتأمل هذا المعنى حتى بدا له من وجوهه ما ان يقول: ولما تملأ من سكره ... فنام ونامت عيون العسس دنوت إليه على بعده ... دنو رفيق درى ما التمس أدب إليه دبيب الكرى ... وأسمو إليه سمو النفس وظل معنى أبي الطيب: أأخلع المجد عن كتفي ولأطلبه ... وأترك الغيث في غمدي وأنتجع - ظل يحيك في نفسك حتى استطاع أن يقول: ومن تحت حضني ابيض ذو سفاسق ... وفي الكف من عسالة الخط أسمر فذا جدول في الغمد تسقى به المنى ... وذا غصن في الكف يجنى فيثمر واقلقه بيت أبي الطيب: وأظما فلا أبدي إلى الماء حاجة ... وللشمس فوق اليعملات لعاب حتى قال، وأعجب بقوله: إذا الشمس رامت فيه أكل لحومنا ... جرى جشعنا فوق الجياد لعابها ويستشف من رسالته هذه ان المتنبي هو الرمز الكبير الذي كان يأسره ويملك إعجابه ويدفعه إلى المحاكاة وتوليد المعاني. وقد أدى ابن شهيد

كل ذلك ولم يضعف لأنه بنى شعره كما تقدم على الاندفاع والعنف والغضب، ولم تقصر به المحاكاة، وابرز توليد المعاني منه شاعرا متوقد القريحة، لماحا مجددا للصور؟ كان عيبه الكبير هو ميزته الكبرى أعني شعوره بأنه متفوق على كل شاعر، وانه يستطيع ان يساوي المتنبي ان لم يتفوق عليه، وكثرت عليه الروافد من هنا وهناك، فمضى يروض قريحته على الاضطلاع بهذا العبء الكبير، بل انه لا يطيق ان يثني الناس على قطعة شعرية لأبيه فبعد ان روى القطعة السابقة التي منها " قهقه الإبريق مني ضحكا؟ " قال (1) : " فان استهل الطاعن صارخا، وقال: هكذا الشعر وهكذا الطبع وهكذا الماء رقة وعذوبة والهواء لطافة وسهولة؟ قلنا له: أذن الديك فثب أو ثوب ... وانضح القلب بماء العنب " ومضى يروي قصيدة له، يرى أنها لا تقصر عن مقطوعة أبيه. ومن رياضة القريحة وكدها، أطاعة القول واسمح، وليس هناك من كان يجمع بين الميزتين كابن شهيد اعني بين التعب الذي يتكلفه في الإحاطة بالمعاني وانتقاء الألفاظ، وبين سرعة البديهة والقدرة على الارتجال، وقد عرف فيه أصحابه ذلك فكانوا يعتقدون له المجالس ويمتحنونه في القول على البديهة؟ ذلك ما فعله الوزير ابن عباس حين قدم قرطبة، ومثل ذلك أيضاً قام به جماعة من أصحابه، حين طلبوا إليه ان يصف مجلسا سمجا ردئ الهيئة فيه باب غريب معرض، ولبد احمر مبسوط على الأرض وقد خلعوا نعالهم على إحدى حواشيه، فقال بديهة قطعته التي مطلعها (2) : وفتية كالنجوم حسنا ... كلهم شاعر نبيل ومنها في صفة المجلس:

_ (1) الذخيرة 1/1: 177 (2) الذخيرة 4/1: 27

في مجلس شابه التصابي ... وطاردت وصفه العقول كأنما بابه أسير ... قد عرضت وسطه نصول ينظر من لبده لدينا ... بحر دم تحته يسيل كأن أخفافنا عليه ... مراكب ما لها دليل واجتاز يوما بحانوت بعض معارفه من الطرائفيين وبين يديه رامشنة جميلة في زنبيل ملآن حرشفا فجعل الطرائفي يده في لجام دابة ابن شهيد وقال: صف هذا أبا عامر فان صاعدا رام وصفه فلم يأت بشيء، فقال ابن شهيد وهو على ظهر دابته (1) : هل أبصرت عيناك يا خليلي ... قنافذا تباع في زنبيل من حرشف معتمد جليل ... ذي إبر تنفذ جلد الفيل كأنما أنياب بنت الغول ... نقل السخيف المائق الجهول إلى آخر الأرجوزة. وارتجل مرة أخرى وصف طبق من الباقلاء في مجلس ابن ذكوان. وامتحان أصدقائه له لا يدل على إعجابهم بقدرته فحسب، بل ربما أشار إلى شيء من ريبتهم؟ أول الأمر - فيما ينتجه من شعره، حتى كان بعضهم يقول إذا سمع شعره أو نثره: انه ليس له، وقوله التالي يشير إلى هذا الاتهام (2) : وبلغت أقواما تجيش صدورهم ... علي واني منهم فارغ الصدر أصاخوا إلى قولي فأسمعت معجزا ... وغاصوا على سري فأعياهم أمري فقال فريق: ليس ذا الشعر شعره ... وقال فريق: أيمن الله ما ندري ولا ريب في ان اتهامهم له بالانتحال مبني على الحسد، وان كان اتهاما لا يعدم حظا ضئيلا من الصواب. وقد غطى على محاكاته وأخذه بعض المعاني من غيره، انه يحاول دائما ان يكون مبتكرا مجددا، يضيف إلى ما يأخذه، أو يبتكر معنى أو صورة جديدة. وربما لم يكن من

_ (1) الذخيرة 4/1: 28 (2) الذخيرة 1/1: 233 والشريشي 1: 46

الغلو أن أميزه بكثرة الصور المبتكرة، لا بين شعراء الأندلس فحسب بل بين شعراء المشارقة أيضاً، ومن ذلك: فكأن النجوم في الليل جيش ... دخلوا للكمون في جوف غاب وكأن الصباح طير ... قبضت كفه برجل غراب ففي البيتين صورتان هما الغاية في الطرافة، وصورة الصباح منهما تدل على دقة عجيبة في الرسم والتجسيم معا. ومن صوره أيضاً: ورعيت من وجه السماء خميلة ... خضراء لاح البدر من غدرانها وكأن نثر النجم ضأن وسطها ... وكأنما الجوزاء راعي ضانها فتصور القمر غديرا من تخيلات ابن شهيد الخاصة، أما رؤية النجوم في شكل ضأن أو صوار فهي متوفرة في الشعر القديم، كشعر ذي الرمة، وقد أضاف إليها ابن شهيد الجوزاء راعيا وجمع بين البيتين لتمام منظر واحد. ومن غرائب ذلك قوله في الغزل: فمشت نحوي وقد ملكتها ... مشية العصفور نحو الثعلب وتتساند الموسيقى الهادرة مع الصور المنظورة في شعره ولكنه إلى الثانية اكثر ميلا، فإذا تحدث عن الأصوات كانت مدوية أو مزجرة، أي قوية شديدة، ولعل لذلك صلة بثقل سمعه، ولذلك أيضاً؟ فيما اعتقده - يرتاح إلى المرئيات اكثر، ولا يستطيع ان يبعث في شعره موسيقى خفيفة إلا نادرا، وان كان يتحدث عن التذاذه بالغناء وصوت المزاهر والكيثار وغيرها، ومن الطريف في هذا؟ وهو الأصم - ميله في الشعر إلى الحوار (راجع قصيدته في رثاء ابن اللمائي) ومن ذلك قوله: قلت: هب لي يا حبيبي قبلة ... تشف من عمك تبريح الصدى فانثنى يهتز من منكبه ... قائلا: لا، ثم أعطاني اليدا؟؟.

قال لي يلعب، خذ لي طائرا ... فتراني الدهر أجرى بالكدا وإذا استنجزت يوما وعده ... قال لي يمطل: ذكرني غدا ولكن حديثه كثيرا ما يكون مناجاة بينه وبين نفسه أو حكاية على لسان أشياء لا تعقل كهذا الحوار بينه وبين الغمام: وغمام باركتنا عينه ... تترع الأفق بدمع صيب فسألناه وقد أعجبنا ... حشوة العين بمرأى عجب أنت ماذا؟ قال: مزن علمت ... كفه النجعة كفا درب سامني بالشرق ان أسقيكم ... رحمة منه بأقصى المغرب فسألناه: أبن ذاك لنا ... قال: هل يخفى ضياء الكوكب؟ وأكثر شغفه بالصور السابحة المعتلية عن مستوى الأرض المقترنة بالجو أو بالنجوم أو بالطيور أو بظهور الخيل، وهو يتصور نفسه على ارتفاع، ومرد هذا كله إلى شعوره بالاستعلاء بالنسبة لمن حوله، والى خوفه من الموت، حتى انه حين تصور قدوم الموت تمنى قائلا: تمنيت أني ساكن في غيابه ... بأعلى مهب الريح في رأس شاهق وقد كان في حياته؟ لا شعوريا - يعيش في رأس شاهق، والرياح تجأر من حوله، كان جوادا والناس حمر، فإذا أحس أن زمانه لم ينصفه أسي لذلك الجواد الذي كبا فنهقت الحمير تضحك منه: وكبوت طرفا في العلا فاستضحكت ... حمر الأنام فما تريم نهاقها إلا ان همته في السماء رغم تقصير حظه: همة في السماء تسحب ذيلا ... من ذيول العلا وجد كابي وهو يأسى كثيرا على المعتد، ويقول: وحملتني كالصقر فوق معاشر ... تحتي كأنهم بنات الماء بل إن بحر بيانه إذا طما، بلغ جدول منه في مده قرن الشمس: ولما طمى بحر البيان بفكرتي ... وأغرق قرن الشمس بعض جداولي

وتشيع هذه الصور السابحة المعتلية في شعره، فتنقله عن الأرض، وتبعده عن القبر، وعن الناس، وهذا الطيران هو الذي طاف به على ديار الجن " وسار كالطائر يجتاب الجو فالجو "، وهذه هي صورة الأديب الحق لديه؟ " كاللقوة في المرقب، سام نظرة قد ضم جناحيه ووقف على مخلبه لا تتاح له جارحة إلا اقتصها ولا تنازله طائرة إلا اختطفها، جرأته كشفرته، وبديهة كفكرته ". ومن ثم تعجبه صور النجوم في حيرتها أو تعلقها وصورة الليل: تراه كملك الزنج في فرط كبره ... إذا رام مشيا في تبختره أبطا مطلا على الآفاق والبدر تاجه ... وقد علق الجوزاء في أذنه قرطا فإذا ترك هذه الصور، بقيت الموسيقى العامة في شعره تصور التحدر والاندفاع، مستعينا على ذلك ببعض الجناس، كقوله: قضت النوى بذياد رجح عينيهم ... ظلما وكان الدهر من أعوانها زجروا اغترابا من نعيب غرابهم ... وقضوا ببين من مغرد بأنها ويصبح شغفه بالجناس أحيانا ضربا من التكلف خارجا عن حد الاعتدال، كما ان شغفه بالموسيقى الصاخبة يتملكه احيانا فنسى كل ما عداه كما في قوله: وتكفيري برداء وصل مقرطق ... كتبوا بنفس المسك في كافوره متلفع بحريره متضمخ ... بعبيره، مترنح بفتوره وسنان ناولني مدامة طرفه ... فشربتها وسمعت من طنبوره يدعو بلكنة بربري لم يزل ... يستف بالصحراء حب بريره متقدم بمضائه متلفع ... بردائه متكلم في عيره ومع ذلك فان وراء هذا الثوب من الصنعة، روحا بدوية، تجعل ابن شهيد اقرب الأندلسيين شبها بشعراء المشرق، الذين ينسجون في عالمهم الحضاري على نماذج الجاهلية وصدر الإسلام، وتحس مثل ذلك في قوله:

يا صاحبي إذا ونى حاديكما ... فتنشقا النفحات من ظيانها وخذا لمرتبع الحسان فربما ... شفع الشباب فكنت إلف حسانها عاودت ذكر العيش فيه وما انقضى ... من صبوتي وطويت من أزمانها فبكيت من زمن قطعت مراحلا ... وشبيبه أخلقت من ريعانها وابن شهيد غير مقصر في موضوعات لمدح والرثاء متفوق في الأوصاف والخمريات والمجونيات والاهاجي، إلا انه يفتقد العمق الذي تجده عند الغزال كما انه من الغموض العسر الذي شاب أشعار ابن دراج، وتفوق في الحدة والاندفاع في الشعر على كل من سبقه من شعراء الأندلس. وقد عابه معاصروه بشيئين: الانتحال والتطويل، وكان هذان الاثنان بالمعنى الذي يفهمه ابن شهيد من مصادر تفوقه.

4 - ابن حزم أبو محمد علي بن احمد بن سعيد 384 - 456هـ الجذوة: 290 البغية رقم: 1204 الصلة: 395 طبقات الأمم: 86 المغرب 1: 354 الذخيرة 1/1: 140 المجب: 30 النفح 1: 364 تذكرة الحفاظ 3: 241 النجوم الزاهرة 5: 75 شذوات الذهب 3: 299 تاريخ الحكماء للقفطي: 156 كان اكثر الثلاثة تأثرا بالفتنة، وأعمقهم إحساسا بالتغير الذي أحدثته، لأنها فاجأته وهو شاب في ظل النعيم وحياة القصور، وأخرجته من نعمته وثرائه ووطنه، وغيرت مجرى حياته، حتى ان الناظر إلى حال ابن حزن في نشأته الأولى وحاله بعد خراب قرطبة، ليدهش لما أصاب خط حياته من انكسار، غير انه لم يتخاذل للانقلاب، فاستنقذ نفسه من إسار الماضي، وتجلد بقوة وهو ينظر إلى المجد الزائل، وإذا ابن

حزم الشاب المترف شخصية جديدة، قوية جبارة، تمزج القوة بالمرارة، وإذا هو يولد من جديد، ليفني ملكاته المدهشة في خدمة مجتمعه، بعد ان كان هشا في عهد الشباب يعيش لنفسه. ان حياة ابن حزم صورة للإرادة التي لا تعرف التردد والضعف، وصورة لليقظة النفسية التي أثارتها الفتنة. اختلف الباحثون المحدثون في نسبه: فذهب دوزي وجولد تسيهر إلى القول بان جده أو والد جده لم يكن عربيا ولم يولد مسلما، وإنما اعتنق الإسلام، ومثل هذا الرأي يعتمد على إشارة لابن حيان قال فيها " فقد عهده الناس خامل الأبوة، مولد الأرومة، من عجم لبلة، جده الأدنى حديث عهد بالإسلام " (1) ، أما تلميذه الحميدي فيقول أن اصله من الفرس وجده الأقصى في الإسلام اسمه يزيد مولى ليزيد بن أبي سفيان (2) وقد رددت اكثر المصادر هذا الرأي، وسخر معاصره ابن حيان من هذه الدعوى، وذهب إلى أن والده احمد بن سعيد مؤسس مجد يغنيه عن النسب والسابقة " ولم يكن إلا كلا ولا حتى تخطى علي هذا رابية لبلة، فارتقى قلعة اصخر من ارض فارس، فالله أعلم كيف ترقاها، إذ لم يكن يؤتى من خطل ولا جهالة " (3) . وقد ذكر ابن حزم نفسه نسبته إلى الفرس، وافتخر بها في إحدى قصائده كما افتخر بولائه لبني أمية، فقال (4) : سما بي ساسان ودارا وبعدهم ... قريش العلى أعياصها والعنابس فما أخرت حرب مراتب سؤددي ... ولا قعدت بي عن ذرى المجد فارس وكلا النسبين لا يدعيان النسبة إلى العرب، ولكن الفرق بينهما ان الثاني يمنح ابن حزم عددا كثيرا من الأدباء المسلمين ويعل لأسرته جذورا

_ (1) الذخيرة 1/1: 142 (2) الجذوة: 290 (3) الذخيرة 1/1: 142 - 143 (4) انظر الملحق من ديوان ابن حزم.

راسخة في الإسلام، أما الأول فيقصر علاقته بالإسلام على جده الأدنى، أو والد جده؟ على الأكثر -. وقد مال لهذا الرأي عدد من الباحثين لأنه يصل ابن حزم بالمسيحية أو بالأسبانية عموما، رغبة منهم في ان يدرسوه على ضوء الوراثة القريبة، ولكني أميل إلى ترجيح النسبة الفارسية، لأن اتهام ابن حزم في نسبه الفارسي إنما صدر عن رجل ميال للذم والثلب، هو ابن حيان المؤرخ، ولا يبعد أن يكون انعدام السابقة والأولية قبل صعود نجم احمد بن سعيد والد أبي محمد، هو الذي أوحى بهذا الاعتقاد، ثم ان ابن حزم أتقى لله من ان يلفق لنفسه نسبا غير نسبه، وليست وراء هذا التلفيق غاية كبيرة لرجل يرى ان الناس يتفاضلون بأعمالهم لا بأنسابهم. وقد نسب نفسه إلى الولاء، وكان هو وأبوه كلاهما ميالا لبني أمية في عهد العامريين، ولم يكن هذا الميل ليكسب لهم رضى العامريين، ولا بد ان يكون في صدق الولاء القديم ما يدفعهما إلى مثل ذلك، وقد دهش ابن حيان نفسه من هذه الموالاة، كما دهش من ان يكون ابن حزم مدعيا في نفسه، إذ لا يعرف عليه خطل أو جهالة. وايا كان الأمر فان والد علي ولد بقرية من عمل لبلة تسمى منت لشم ويقول آثن بلاسيوس انها تقابل ما يسمى اليوم كاسا مونتيخا Casa Montija (1) ، ثم هاجر منها إلى قرطبة، ليتثقف، فنال من الثقافة ما أدهش معاصريه، وكان زميلا لابن أبي عامر وبينهما بعض المنافسة، إلا ان هذه المنافسة لم تمنع الحاجب من الاستفادة من مواهب احمد بن سعيد، فاتخذه أول وزير له سنة 381، " واستخلفه أوقات مغيبه على المملكة، وصير في يده خاتمه، فلما تناهت حاله في الجلالة وأملته الخاصة والعامة اتهمه المنصور بأنه قد زها عليه برأيه وآنس منه عجبا بشأنه. فصرفه عن الوزارة، وأقصاه عن الخدمة، دون ان يغير عليه نعمة. وكان

_ (1) انظر نكل: 75

يقول: والله ان ابن حزم للنصيح جيبا، الأمين غيبا. ولكنه زها برأيه وظن أن سلطاني مضطر إلى تدبيره. فتردد في نكبته. ثم أخرجه لينظر في كور الغرب باسم الإقامة فرئم العزلة وتبرأ من الدالة. فلما زكن المنصور ذلك منه أعاده إلى حسن رأيه فيه وصرفه إلى خطته " (1) . وكان يجمع إلى سعة العلم قوة في البلاغة، ومما يدل على مذهبه الكتابي قوله في بعض المناسبات: " اني لأعجب ممن يلحن في مخاطبة، أو يجيء بلفظة قلقة في مكاتبة، لأنه ينبغي إذا شك في شيء ان يتركه ويطلب غيره، فالكلام أوسع من هذا " (2) . وقد تأثر علي بشخصية والده، وظلت له في نفسه صورة جميلة لم تطمسها الأيام. لأنه فقده وهو في أول شبابه، يوم كان محتاجا إلى رأيه وتوجيهه. ولذلك ظل وفيا لما سمعه من إرشاداته ونصائحه. وظل يذكر قوله له (3) : إذا شئت أن تحيا غنيا فلا تكن ... على حالة إلا رضيت بدونها وفي مجلس والده تعرف على كثير من الرجال كأبي عمر احمد بن حبرون (4) وروى عنهم، وأفاد مما كان يسمعه منهم. ومن الوصايا التي أثرت في نفسه وظل يكيف حياته بمقتضاها قولة لابي عبد الله محمد بن إسحاق الزاهد، كان يقولها لأبيه الوزير على سبيل الوعظ وهي: " احرص على ان لا تعمل شيئا إلا بنية فانك تؤخر في جميع أعمالك. فإذا أكلت فانو بذلك التقوى لطاعة الله، وكذلك في نومك وتفرجك وسائر أعمالك، فانك ترى ذلك في ميزان حسناتك " (5) .

_ (1) أعتاب الكتاب: 69 (2) الجذوة: 118، وانظر ترجمته أيضاً في الصلة: 30 (3) الصلة: 31 (4) الجذوة: 59 (5) الجذوة: 41

وفي مجلس أبيه كان يسمع إلى الشعراء الذين يمدحون الوزير ويحفظ ما يستجيده من أشعارهم (1) . وقد كان والده أيضاً أحد مصادره الشفوية في التاريخ لأنه كان يقص بعض الأحداث التي شهدها في وزارته للمنصور بن أبي عامر كما ان والده كتب كتابا ضخما في التاريخ أيضا. ولذلك كان ابن حزم؟ عن طريقه - مطلعا على كثير من دقائق الامور التي تجري في بلاط المنصور أو في معاركه (2) وهذه الثقافة هي التي حببت إليه الاستكثار من الرواية التاريخية. وميزته بالمعرفة الدقيقة للأخبار. ولكن قبل هذا كله قضى علي فترة طفولته وصباه حتى بلغ حد الشباب بين الجواري. فهن اللواتي علمنه القرآن وروينه كثيرا من الأشعار ودربنه في الخط فلم يجالس الرجال الا وهو في حد الشباب (3) . وقد جعلته هذه النشأة رقيقا في شبابه، حييا من مجالس الرجال، كما طبعته على سوء الظن بالمرأة لأنه شاهد من أسرار النساء ما لا يكاد يعلمه غيره. وكان همه الوقوف على ما يجري بينهن، والترقيب لما يفعلنه. وأورطته أيضاً نشأته هذه في علاقات عاطفية مبكرة، فأحب في صباه جارية شقراء الشعر. ومنذ ذلك الحين لم يكن يستحسن من النساء الا الشقر، وظل على ذلك طوال حياته. وهذا ما عرض لأبيه نفسه وعلى هذا جرى إلى ان وافاه أجله (4) . واحب جارية اسمها " نعم "، وتزوجها وهو دون العشرين وكان هو أبا عذرتها. ثم اختطفها الموت منه، فحزن عليها ابلغ الحزن وأعجبه. حتى انه ظل سبعة اشهر كاملة لا يغير ثيابه بعد وفاتها (5) . وقد حدثنا علي بشيء عن علاقاته

_ (1) الجذوة: 242 (2) نقط العروس: 77، 81، والجذوة: 118 (3) الطوق: 50 (4) الطوق: 28 (5) الطوق: 91

العاطفية في الطوق. وكان صريحا في تذكر هذه الفترة من حياته في قصور قرطبة، وفي التحدث عن شؤون قلبه، وعن حبه لجارية أخرى ألفها في أيام صباه (1) . واول تجاربه في المجتمع؟ خارج هذا النطاق - ان نراه في مجلس المظفر عبد الملك بن المنصور سنة 396هـ وسنه يومئذ حوالي أربعة عشر عاما (ولد ليلة الفطر قبل طلوع الشمس وبعد سلام الإمام من صلاة الصبح آخر ليلة الأربعاء، آخر يوم من شهر رمضان المعظم وهو اليوم السابع من نونبر سنة 384) (2) وفي ذلك المجلس كان صاعد ينشد المظفر في يوم عيد الفطر قصيدته التي مطلعها: إليك حدوت ناجية الركاب ... محملة أماني كالهضاب فأخذ علي يستحسنها ويصغي إليها مما حدا بصاعد ان يكتبها له بخطه وينفذها إليه (3) . ثم تقوى صلته بوالده بعد ذلك ويصبح من شهود مجلسه. وبقي احمد وابناؤه يعيشون في الجانب الشرقي من قرطبة في دورهم المحدثة بربض الزاهرة، على مقربة من المنصور اولا والمظفر ثانيا، إلى ان قام المهدي يحاول اخذ الخلافة. فانتقلوا من الجانب الشرقي إلى الغربي حيث دورهم ببلاط مغيث، وهي مساكنهم القديمة، في جمادى الآخر سنة 399هـ. ويدل هذا الانتقال على ان الوزير ابن حزم كان يميل إلى إعادة السيادة الأموية، وانه نفض يده من الولاء العامري ومن الرضى بخلافة هشام المؤيد معا. وفي تلك الأثناء أشيع أن هشاما المؤيد توفي، فحضر على والده الوزير جنازته " المزورة " (4) . غير ان

_ (1) الطوق: 115 (2) الصلة: 395 (3) الجذوة: 224 (4) الفصل 1: 59

المؤيد لم يلبث ان عاد (7 ذي الحجة سنة 400) فاتهمهم بأنهم المحركون للمهدي " وامتحنا بالاعتقال والترقيب والاغرام الفادح والاستتار. وأرزمت الفتنة وألقت باعها وعمت الناس وخصتنا " (1) . وفي أثناء الفتنة توفي أبوه السبت لليلتين بقيتا من ذي القعدة سنة 402هـ. واصبح علي يواجه الأزمة مع أهله دون أن تكون شخصية الوزير المحبوب إلى جانبهم، فأجلوا عن منازلهم وتغلب عليهم جند البربر ونهبوا منازلهم الغربية، واستوطنوها. وخرج ابن حزم عن قرطبة اول عام سنة 404هـ (2) . وتكاد هذه الحادثة ان ترسم خطا فاصلا في حياته. ولكنه لم ييأس من العودة إلى الوطن وانتهز كل فرصة لذلك. وكان يحسب أن إعادة الخلافة الأموية كفيلة بإرجاعه، وإرجاع دوره وقصوره. فلذلك شايع من قام منهم للمطالبة بالخلافة. ذلك انه بعد رحيله عن قرطبة لجأ إلى المرية، وحاكمها يومئذ خيران العامري فنقل الوشاة إلى خيران أن ابن حزم وصديقه محمد بن إسحاق يسعيان في القيام بدعوة الأموية. فاعتقلهما أشهرا ثم غربهما عن المرية، فصارا إلى حصن القصر ونزلا على عبد الله بن هذيل التجيبي، فأقاما عنده شهورا مكرمين. ثم ركبا البحر قاصدين بلنسية عندما سمعنا بظهور المرتضى عبد الرحمن بن محمد الأموي فساكناه ببلنسية (3) ، وسارا معه في محاصرته لغرناطة وفيها زاوي بن زيري الصنهاجي. غير أن آماله عادت فتحطمت لاخفاق المرتضى. ومع ذلك نجده يعود إلى قرطبة سنة 408 وواليها يومئذ القاسم بن حمود. وهناك تحسس معاهده ودياره وبكاها بحرقة وتفقد أصدقاءه فوجدهم قد تفرقوا ومات بعضهم كصديقه الحميم ابن الطبني. وانصرف في قرطبة إلى تلقي العلم، لأنه أحس بنفسه ضائعا لم ينل دنيا، وتكاد الآخرة تفلت من يده. وقبل ان نتحدث عن نشاطه العلمي نتم الحديث عن

_ (1) الطوق: 111 (2) الطوق: 112 (3) الطوق: 118

نشاطه السياسي، فنجده بعد ست سنوات (سنة 414) عندما فر القاسم بن حمود وبويع المستظهر الأموي، يعود إلى التشبث بالآمال الأموية. فضمه المستظهر إلى حاشيته واصبح له وزيرا. قال المقري في المستظهر: واشتغل مع ابن شهيد وابني حزم بالمباحثة في الآداب ونظم الشعر والتمسك بتلك الأهداب والناس في ذلك الوقت اجهل ما يكون (1) . وكانت آخر تجاربه السياسية ان سجنه المستكفي هو وابن عمه أبو المغيرة (2) . وبعدها أدركه اليأس من النجاح في السياسة. وعرف ان العلم هو ميدانه الحقيقي، فانصرف إلى نشر مذهبه الجديد، والى التأليف. وهذا هو الدور الثاني من حياته، حين عزف عن التعلق بالأسباب التي تصله بالثروة والمجد الدنيوي، وعاش يكف أساة إلى الماضي ولذائذه، متنقلا في البلاد الأندلسية. فحينا نراه يسكن شاطبة، ومرة أخرى نجده في مالقة يودع صديقه أبا عامر محمد بن عامر في سفرته إلى المشرق، ومعهما صديقهما أبو بكر محمد بن إسحاق (3) وكان في تطوافه يلقى العلماء ويجادلهم، كما يجادل الملحدين والذين لا يقرون بالنبوة، ويجادل زعماء الأديان الأخرى مثل ابن النغرالة اليهودي وزير صاحب غرناطة (4) . وهذه المجادلات العنيفة هي التي كونت له خصوما كثيرين، كانوا يكيدون له عند ملوك الطوائف. حتى جمع المعتضد بن عباد كتبه وأحرقها. وأعتقد انه فعل ذلك بعد المناظرة التي قامت بين ابن حزم والباجي. فبعد سنة 452 ذهب ابن حزم إلى ميروقة، وكان فيها الفقيه محمد بن سعيد الميورقي يدرس الفقه والاصول. فلما وردها ابن حزم كتب محمد هذا إلى أبي الوليد الباجي يخبره بقدوم ابن حزم، فسافر الباجي

_ (1) النفح 1: 231 (2) المغرب 1: 55، والتقريب: 199 بشيء من التفصيل. (3) انظر الطوق: 41، 18 (4) الفصل 1: 17، 25، 65 - 67، 99، 110، 135 وغيرها من الصفحات.

إلى ميرورقة من بعض الأندلس. وهناك تضافرا على ابن حزم وناظراه وأخرجاه منها. وكان الميورقي سبب العداوة بين الباجي وابي محمد (1) . قال القاضي عياض في الباجي: " ووجد عند وروده بالأندلس لابن حزم الداوودي صيتا عاليا وظاهريات منكرة. وكان لكلامه طلاوة قد أخذت قلوب الناس، وله تصرف في فنون تقصر عنها ألسنة فقهاء الأندلس في ذلك الوقت، لقلة استعمالهم النظر وعدم تحققهم به. فلم يكن يقوم أحد بمناظرته. فعلا شأنه وسلموا الكلام له على اغتنامهم فحادوا عن مكالمته. فلما ورد أبو الوليد الأندلس، وعنده من الإتقان والتحقيق والمعرفة لطرق الجدل والمناظرة ما حصله في رحلته، أمله الناس فجرت له معه مجالس كانت سبب فضيحة ابن حزم وخروجه من ميورقة " (2) وقد شهد ابن حزم للباجي بالتفوق في المذهب المالكي (3) . ومما جرى بينهما في بعض المناظرات، ان قال الباجي: أنا أعظم منك همة في طلب العلم لأنك طلبته وأنت معان عليه تسهر بمشكاة من الذهب، وطلبته وأنا أسهر بقنديل بائت السوق. فقال ابن حزم: هذا الكلام عليك لا لك لانك إنما طلبت العلم وأنت في تلك الحال رجاء تبديلها بمثل حالي. وأنا طلبته في حين ما تعلمه وماذكرته، فلم أرج به إلا علو القدر العلمي في الدنيا والآخرة، فأفحمه (4) . وكثر أعداء ابن حزم في مدن الأندلس. وأخذوا يؤلبون عليه امراءها، ويستصرخون ضده علماء الأمصار الإسلامية " فطفق الملوك يقصونه عن قربهم ويسيرونه عن بلادهم إلى ان انتهوا به إلى منقطع أثره

_ (1) التكملة: 391 (2) ترتيب المدارك ج 2 الورقة: 158 (نسخة دار الكتب المصرية) ، وانظر النفح 1: 309 (3) النفح 1: 360 (4) النفح 1: 364

بتربة بلده من بادية لبلة " (1) . وهنالك كان يختلف إليه الطلبة، فيحدثهم ويفقههم. وواظب هو على التأليف والإكثار من التصنيف ولكن الناس أحجموا عن كتبه، إذ حاربها الفقهاء، وأحرق بعضها بأشبيلية ومزق علانية. غير انه مضى في سبيله، لا يثنيه شيء، حتى وافته منيته عشية يوم الأحد لليلتين بقيتا من شعبان سنة ست وخمسين وأربعمائة. وعمره إحدى وسبعون سنة وعشرة اشهر وتسعة وعشرون يوما (2) . ثقافته وأساتذته ومؤلفاته: حصل ابن حزم في صباه شيئا من الثقافة الأولية على يد الجواري، ثم أخذ يطلب العلم في قرطبة قبل الأربعمائة بقليل، وظل مثابرا على طلب العلم أثناء الفتنة حتى انه كان في سنة 401 يتلقى الحديث على أستاذه الهمداني في مسجد القبري بالجانب الغربي من قرطبة (3) ، وبعد خروجه من قرطبة أفاد من تجواله في البلاد ومن لقاء بعض العلماء، ولكنه لما عاد إليها أدرك أن محصوله من العلم ما يزال قاصرا، فأكب على الطلب، حتى وحصل في مدة قصيرة ما لا يحصله غيره في العمر الطويل. وتمذهب أولا للشافعي، ثم اختار مذهب الظاهر. ووضعه موقف المنافح عنه موضع من لا بد له من ثقافة واسعة. وكان يأسه من الحياة السياسية سببا في تعميق حياته العلمية، ومن اشهر أساتذته: 1 - أبو الخيار مسعود بن سليمان بن مفلت وهو فقيه عالم زاهد، اثر في ابن حزم لميله إلى القول بالظاهر، وقد سمع منه بعض الأخبار والفوائد اللغوية (4) .

_ (1) الذخيرة 1/1: 141 - 142 (2) الصلة: 396 (3) الطوق: 135 (4) انظر الجذوة: 328، 226، والطوق: 105

2 - أبو القاسم عبد الرحمن بن أبي يزيد المصري، كان مجلسه بالرصافة وهو أستاذه في الجدل والكلام. وكان من زملائه في الطلب عليه أبو عبد الله ابن الطبني صديقه الحميم. وفي مجلسه صادق أيضاً أبا علي بن الحسين بن علي الفاسي. وكان هذا عاملا ممن تقدم في الصلاح والنسك الصحيح في الزهد في الدنيا والاجتهاد بالآخرة. وقد انتفع به ابن حزم وبتأثيره عرف قبح المعصية (1) . 3 - أبو سعيد الفتى الجعفري وهو يذكر انه قرأ عليه معلقة طرفة (2) . 4 - وقد روى ابن حزم الحديث عن علماء كثيرين منهم محمد بن سعيد بن نبات ومحمد بن سعيد بن جرج الفقيه وعبد الرحمن بن سلمة الكتاني واحمد بن قاسم البياتي ويونس بن مغيث المعروف بابن الصفار قاضي الجماعة بقرطبة وعن أبي الوليد الفرضي والد المصعب ومحمد بن الحسن المذحجي المعروف بابن الكتاني وعن كثيرين غيرهم (3) . 5 - احمد بن محمد بن احمد بن سعيد المعروف بابن الجسور الأموي. روى التاريخ للطبري وعنه حدث ابن حزم بهذا الكتاب. وهو أول شيخ سمع منه قبل الأربعمائة (4) . 6 - أبو عبدة حسان بن مالك وصفه ابن حزم بأنه كان أذكر من لقيهم للغة مع شدة عنايته بها وثقته وتحريه في نقلها (5) . وقد عمل حسان كتابا على مثال كتاب ربيعة وعقيل للمنصور بن أبي عامر. وهو من العلماء الذين اخملتهم الفتنة (6) .

_ (1) الطوق: 72، 117، 126 والجذوة: 181 (2) الطوق: 70 (3) انظر صفحات متفرقة من الجذوة والطوق، والتكملة: 383 (4) الجذوة 99 - 100 (5) الاحكام 4: 12 (6) الجذوة: 184

7 - احمد بن محمد بن عبد الوارث أبو عمر المعروف بابن اخي الزاهد. وهو مؤدبه في النحو (1) . 8 - أبو محمد عبد الله بن ربيع بن بنوش التميمي القاضي وهذا أحد تلامذة أبي علي القالي وعنه ابن حزم بعض مؤلفات القالي مثل " فعلت وافعلت " وكتاب " النوادر " كما روى عنه كتاب حديث أبي خليفة الفضل بن الحباب الجمحي (2) . ومن العسير ان يصور الدارس مدى ثقافة ابن حزم لتشعب هذه الثقافة وشمولها لجميع أنواع المعرفة في عصره؟ ما عدا الحساب والهندسة - وهذا هو الجانب المدهش حقا: فهو متعمق للفقه والحديث عارف بآراء أهل المذاهب الأخرى، مطلع على كتب أهل الأديان يناقش مادة التوراة والإنجيل مناقشة تفصيلية، ويجمع إلى ذلك كله اطلاعا واسعا في اللغة والنحو والأدب والتاريخ، وقد قرأ كثيرا من مؤلفات أهل بلده في هذه العلوم، كما انه درس الفلسفة والمنطق والفلك، وقد عابه خصومه المتزمتون بالمنطق واقليدس والمجسطى، ولما شاء ان يضع منهجا كافيا للدارس في بعض العلوم اقترح الواضح في النحو للزبيدي والموجز لابن السراج، واقترح في اللغة كتاب الغريب المصنف لأبي عبيد ومختصر العين للزبيدي، وعد من التوغل في اللغة ان يدرس المرء كتاب خلق الإنسان وكتاب الفرق لثابت والمذكر والمؤنث لابن الانباري والممدود والمقصور والمهموز لأبي علي القالي والنبات لأبي حنيفة الدنيوري، ونصح بدراسة كتاب المجسطى لمعرفة الكسوفات وعروض البلاد وأطوالها وحث على النظر في المنطق ليقف الدارس على الحقائق من الأباطيل، وعلى النظر في الطبيعيات وعوارض الجو وتركيب العناصر وفي الحيوان والنبات والمعادن، وعلى قراءة كتب التشريح وقراءة التواريخ القديمة

_ (1) التكملة: 790 (2) انظر صفحات متفرقة من فهرسة ابن خير

والحديثة وعلى النظر في الكلام والحديث والفقه أو علم الشريعة جملة، وما وصف ابن حزم هذا كله إلا وهو مطلع عليه وعلى اكثر منه بكثير، وتدل رسالته في فضل الأندلس على تقديره لثقافة أهل بلده، وعلى سعة باعه في معرفة اكثر ما يتصل بأخبار رجالها وتاريخها، ومؤلفاتها وأدبها وشعرها، فقد كان يحفظ كثيرا من شعر ابن عبد ربه وابن دراج وصاعد وابن هذيل والمصحفي والطليق والغزال وكثير غيرهم، وكتاب الجذوة معرض لمعرفة ابن حزم بشئون الأندلس أيضاً، فأكثر ما فيه إنما يرويه الحميدي عن أستاذه، هذا إلى قدرة فائقة في التجريح والتعديل، ومعرفة الأنساب، وكل ذلك يدل على ذاكرة عجيبة وحيوية عقلية فذة. وقد صدق القاضي صاعد في قوله عنه: " كان ابن حزم اجمع أهل الأندلس قاطبة لعلوم الإسلام وأوسعهم معرفة مع توسعه في علم اللسان والبلاغة والشعر والسير والأخبار " (1) . وكان جماعا للكتب، جمع منها في علم الحديث والمصنفات والمسندات شيئا كثيرا (2) . كما كان كثير التقييد لا يدع شيئا يفوته من سماع أو قراءة أو مشاهدة. وبنسبة هذا الاطلاع الواسع كثرت مؤلفاته، حتى بلغ مجموع ما ألفه في الفقه والحديث والأصول والنحل والملل والتأريخ والنسب وكتب الأدب والرد على المعارضين نحو أربعمائة مجلد [بين كتاب ورسالة] تشتمل على قريب من ثمانين الف ورقة (3) . ومع ان كثيرا من مؤلفاته قد ضاع، فقد بقي قدر صالح منها. منها في الفقه والأصول: المحلى والأحكام ومراتب الإجماع وحجة الوداع وقسم من كتاب الابطال، ومنها في العقائد والمذاهب: الفصل

_ (1) نقله المقري في النفح 1: 364، أما ما ورد في كتاب صاعد فهو " ولأبي محمد بن حزم بعد هذا نصيب وافر في علم النحو واللغة وقسم صالح من قرض الشعر وصناعة الخطابة " (طبقات الأمم: 87) . (2) الجذوة: 290 (3) طبقات الأمم: 87

وكتاب الأصول ولفروع (مخطوط) وهو صورة مختصرة من الفصل. وفي المنطق: كتاب التقريب، وفي الأنساب والأخبار: كتاب الجمهرة وجوامع السيرة، وفي الأدب: طوق الحمامة وقطعة من ديوانه. كما وصلتنا له رسائل كثيرة من أهمها رسالته في مراتب العلوم ورسالة في مداواة النفوس ورسالة في فصل الأندلس ورسالة التلخيص لوجوه التخليص وغيرها. شخصيته وأخلاقه: كان ابن حزم ذكيا سريع الحفظ واسع الاطلاع متفانيا في طلب العلم ونشره. وكان في شخصه متواضعا عاملا بعلمه زاهدا في الدنيا متدينا كريم النفس، وقد اتهمه ابن حيان بأنه يجهل " سياسة العلم " لحدة فيه وشدة عارضته في الرد على الخصوم، وعدم الاعتماد على التلميح والتعريض والأناة في التوجيه، وربما كان بعض ما يشوب هجماته من مرارة راجعا إلى فيض عاطفي أصيل احتبسه التدين في نفسه، حتى أننا لنسمعه يقول: أن من مات في ساعة الوداع في ساعة الوداع كان معذورا (1) ، ولما نعي إليه من يحب فر إلى المقابر. ولما ماتت جارية كان يحبها مكث اشهرا والحزن عليه غالب، وصرح بظمأ دائم إلى الألفة والمحبة فقال انه لم يرو من ماء الوصل قط. هذا إلى أن تربيته الأولى بين الجواري قد غرست في نفسه سوء الظن بالعلاقات بين الرجال والنساء وع غيرة شديدة وجدت في طبعه. وكان أصدقاؤه يتهمونه بأنه مذل بالأسرار لا يكاد يحفظ سرا، غير ان ذلك لم ينقض فيه خلتين لازمتاه طوال حياته وهما: الوفاء وعزة النفس، وهذه الثانية هي التي منحته صلابة عجيبة في مواقفه من الآراء ومن حكام عصره. وقد طبع كذلك على التأني والتربص

_ (1) الطوق: 88

وعلى حب المسالمة وعدم التعرض لأذى أحد من جل أدنى معرفة ناشئة. غير ان علاقاته لم تكن لتقوم إلا بعد التجربة الطويلة ولا تصح محبته إلا بعد التمادي في الأنس فما دخل عسيرا لم يخرج يسيرا (1) . وكانت الشقرة في الجمال اكثر تأثيرا من غيرها في نفسه. وقد تعاورت عليه علل غيرت من قواه الجسمانية، أصيب مرة بعلة أفقدته ما كان يحفظ وما عاوده حفظه إلا بعد أعوام، وكان يكثر أكل الكندر مقاومة لما أصابه من خفقان القلب وهو يعزو إلى ذلك جمود دمعه في اشد المواقف العاطفية. وأصيب مرة بالرمد، ومرة بمرض ولد عليه ربوا في الطحال وهو يقول ان ذلك استلب منه الشعور بالفرح والبهجة وأورثه الضجر والضيق وقلة الصبر (2) . وهذا يفصح عن سبب المرارة وحدة الخطاب في مناظراته ومجادلاته لمخالفيه. وعلى شدة ضعفه أما الجمال فانه لم يتورط في المحرمات حتى قال، " يعلم الله أني بريء الساحة سليم الأديم صحيح البشرة نقي الحجزة. واني اقسم بالله اجل الأقسام ما حللت مئزري على فرج حرام قط " (3) . وكان يرى ان استكمال الظرف إنما يتم لمن تختم بالعقيق وقرأ لأبي عمرو وتفقه للشافعي وحفظ قصيدة ابن زريق (4) . وزعم أبو الخطاب ابن دحية ان ابن حزم برص من أكل اللبان وأصابته زمانة. وعلى الجملة فان رسم صورة كاملة لشخصية ابن حزم مما تضيق عنه هذه الترجمة، فقد كان نسيج وحده فيمن أنجبتهم الأندلس.

_ (1) الطوق: 24 (2) الرسائل: 155 (3) الطوق: 126 (4) الغيث: 104

شعره: كان يقول الشعر بسرعة على البديهة ولذلك كثر شعره، وجمعه تلميذه الحميدي على حروف المعجم. ولم يصلنا منه إلا قطعة صغيرة وإلا اشعاره في الطوق وبعض متفرقات منه في شرح الشريشي على المقامات وفي الغيث المنسجم للصفدي وما اشبه، وفي الكتب التي اوردت له ترجمة. وقد رأى له ابن الابار شعرا في رثاء أبي محمد جابر المعروف بالعطار وكان محدثا على مذهب أهل الظاهر (1) . وبعض شعره قاله قبل بلوغ الحلم، وأكثر ما نظمه دون العشرين إنما كان تغزلا ثم رثاء لجاريته " نعم " التي فقدها فحزن على فقدها. وكان إخوانه يسومونه القول في ما يعرض لهم على طرائقهم ومذاهبهم فيقول ما يناسب حالهم ومقصودهم، وكان أحيانا يصنع الشعر بتكليف فقد كلفته إحدى كرائم المظفر ان يصنع لها اغنية لتلحنها ففعل (2) . ولم يكن له وقت معين لقول الشعر فأحيانا يقول شعرا وهو نائم ويختار أحيانا أخرى ان ينظم بع صلاة الصبح (3) ، وكان بينه وبين ابن عمه أبي المغيرة مراسلات بالشعر وبينه وبين ابن شهيد مقارضات شعرية أيضا، وله مدح في هشام المعتد (4) . وقد حال بين ابن حزم وبين التجويد الشعري أمور كثيرة منها: 1 - كثاره من القول على البديهة. 2 - دم إيمانه بقيمة الشعر في باب العلوم المقربة من الله تعالى. 3 - دم تدقيقه في اختيار الألفاظ ذات الموقع الجميل في النفس.

_ (1) التكملة: 247 (2) الطوق: 114 (3) الطوق: 108، 146 (4) الطوق: 77

4 - اعتقاده أن الشعر ميدان يصلح لكل موضوع. 5 - استبحاره في الفقه والجدل والحديث وغلبة طرائقه في هذه العلوم على الشعر. ولذلك قل التعبير الجميل في شعره، وإن كان شعرا زاخرا بالمعاني، وكثرت المؤثرات الثقافية والإشارات إلى العلوم والعقائد والتعليلات والبناء الجدلي وأثر الفقه الظاهري واستعمال الألفاظ المتصلة بكل ذلك، فمن أمثلة ذلك قوله: كذب المدعي هوى اثنين حتما ... مثلما في الأصول أكذب ماني وقوله: فآثرت أن يبقى وداد وينمحي ... مداد فان الفرع الأصل تابع وقوله: فهم أبدا في اختلاع الشكوك ... بظن كقطع وقطع كظن ويلجأ إلى التقسيم والتفريع على نحو يذكر بابن الرومي في قوله: معهود أخلاقك قسمان ... والدهر فيك اليوم صنفان فانك النعمان فيما مضى ... وكان للنعمان يومان يوم نعيم فيه سعد الورى ... ويوم بأساء وعدوان فيوم نعماك لغيري ويومي ... منك ذو بؤس وهجران أليس حبي لك مستأهلا ... لأن تجازيه بإحسان ويغمض أحيانا كأنما يضع أمامنا قضية فلسفية في مثل قوله: أليس يحيط الروح فينا بكل ما ... دنا وتناءى وهو في حجب الصدر كذا الدهر جسم وهو في الدهر روحه ... محيط بما فيه وان شئت فاستقر ولا يفتأ يرسل التلميحات ويشقق المعاني منها، ومن أبرز ذلك قوله: فكل تراب واقع فيه رجله ... فذاك صعيد طيب ليس يجحد كذلك فعل السامري وقد بدا ... لعينيه من جبريل إثر ممجد

فصير جوف العجل من ذلك الثرى ... فقام له منه خوار ممدد وتمتليء بعض قصائده بالحكمة وبعضها يتجه إلى تمجيد الزهد، وبعضها في تسبيح الله وتمجيده واثبات حدوث العالم كالقصيدة التي مطلعها: لك الحمد يا رب والشكر ثم ... لك الحمد ما باح بالشكر فم وشهرت بين الأندلسيين قصيدته التي قالها في الرد على قصيدة شاعر نقفور، وبعض قصائده تعليم خالص في الحث على طلب الحديث وفي نظم بعض الآراء الفلسفية، وله قصيدة يعارض بها قصيدة ابن زريق البغدادي لإعجابه بها. وأحفل شعره بالعناصر الشعرية الصحيحة هي القصائد الذاتية التي ينافح بها عن موقفه ويدافع عن غاياته ويذكر تكالب الناس على إيذائه والحط من قدره، لأنها قائمة على القوة والجزالة والحدة وليست معرضا للتفنن في الرأي وإبراز المعاني من حجبها، من ذلك قصيدته التي يقول فيها: أما لهم شغل عني فيشغلهم ... أو كلهم بي مشغول ومرتهن كأن ذكري تسبيح به أمروا ... فليس يغفل عني منهم لسن ان غبت عن لحظهم هاجوا بغيظهم ... حتى إذا ما رأوني طالعا سكنوا وأقوى ما وردنا في هذا الباب من شعره قصيدته البائية التي خاطب بها قاضي الجماعة بقرطبة عبد الرحمن بن احمد بن بشر وفيها (1) : أنا الشمس في جو العلوم منيرة ... ولكن عيبي أن مطلعي الغرب ولو أنني من جانب الشرق طالع ... لجد على ما ضاع من ذكري النهب ولي نحو اكناف العراق صبابة ... ولا غرو أن يستوحش الكلف الصب فإن ينزل الرحمن رحلي بينهم ... فحينئذ يبدو التأسف والكرب

_ (1) الجذوة: 292

فكم قائل أغفلته وهو حاضر ... وأطلب ما عنه تجيء به الكتب هنالك يدرى ان للعبد قصة ... وان كساد العلم آفته القرب وفي هذه الأبيات تبدو حسرة أبي محمد على إنكار أهل الأندلس لفضله، وتوقعه الرحلة إلى العراق، وهي أماني جاشت في نفسه في لحظة ثم صرفته الأيام عن كل ذلك. وفي شعر أبي محمد جانب دقيق نسميه " الجانب الباطني " كان يهرب إليه أحيانا من قسوة الظاهر وحدة صلابته، وينقل إليه معاني التنزيه والتوحيد ويتأول الأشياء على غير ظاهرها، حتى كان بعض أصدقائه يسمي قصيدة له " الإدراك المتوهم " وهي التي يقول فيها: ترى كل ضد به قائما ... فكيف تحد اختلاف المعاني فيا أيها الجسم لا ذا الجهات ... ويا عرضا ثابتا غير فان نقضت علينا وجوه الكلام ... فما هو مذ لحت بالمستبان وتجده؟ وهو المتمسك بأشد ألوان التنزيه - يقول: أمن عالم الأملاك أنت أم انسي ... أبن لي فقد أزرى بتمييزي العي أرى هيئة إنسية غير أنه ... أذا أعمل التفكير فالجرم علوي ولا شك عندي انك الروح ساقه ... إلينا مثال في النفوس اتصالي ولولا وقوع العين في الكون لم نقل ... سوى أنك العقل الرفيع الحقيقي فهو في كل هذا المنزع يذهب إلى التجريد المحض كقوله أيضاً: كأنما هو توحيد تضيق به ... نفس الكفور فتأبى حين تودعه ومن تأمل هذا اللون من الشعر في موضوع الحب خاصة وجد ان ابن حزم الظاهري المتشدد قد بلغ فيه مشارف التصوف " الباطني "، وكأنما كانت نفسه تأنس بهذه الروحانية الغيبية كلما وجدت قلقا من التشدد في الأخذ بالظاهر، وهو في هذا الجانب الواهم متأثر بطريقة

النظام، إلا ان هذا اللون ليس أكثر شعره. ولقد يشق علينا ان نعرف التيارات الشعرية التي أثرت في ابن حزم لان حفظه لشعر المشارقة والأندلسيين لا يكاد يحصر، وهو معجب بشعراء مختلفي الطرق والاتجاهات الشعرية، وهو أيضاً حصيف في النقد عارف بجيد الشعر مميز له، ولكن المرء رهن بظروفه وقد كان ابن حزم في ظروف تبعد به الشعر ولا تهيئ له تجويده أو الانقطاع المتفرغ له.

النثر الأندلسي في هذا العصر

فراغ

النثر الأندلسي في هذا العصر كانت لفظة الكاتب في الأندلس تطلق على طبقتين من الناس: كتاب الرسائل وكتاب الزمام. أما كاتب الرسائل " فله حظ في القلوب والعيون عند أهل الأندلس وأشرف أسمائه الكاتب وبهذه السمة يخصه من يعظمه في رسالة، وأهل الأندلس كثيرو الانتقاد على صاحب هذه السمة، لا يكادون يغفلون عن عثراته لحظة، فان كان ناقصا عن درجات الكمال لم ينفعه جاهه ولا مكانه من سلطانه من تسلط الألسن في المحافل والطعن عليه وعلى صاحبه ". وأما كاتب الزمام فهو المسئول عن شئون الخراج (1) . وهذا الكلام عن الكتابة ينطبق على عهد متأخر ولكن الحال ربما لم يختلف كثيرا عن ذلك في عهد بني أمية. وهناك أيضاً من يسمى الكاتب الخاص، ولدى كل أمير مثل هذا الكاتب كما ان هيئة الكتابة عامة يطلق عليها " الكتابة العليا " (2) . وجودة الخط أمر مشترك بين كتاب الإنشاء وكتاب الزمام، وكان المنصور بن أبي عامر يتشدد في النص على جودة الخط حتى لقد أصدر عهدا يوبخ فيه العمال لاستكتابهم الجهلة الذين لم يبلغوا ان يحكموا الخط ويميزوا أنواع الرق والمداد، وهدد المنصور بان من كتب كتاب اعتراض

_ (1) النفح 1: 102 - 103 (2) الحلة: 192

أو عمل في رق ردي أو بمداد دني أو خط خفي فيه لحن أو بشر فانه معزول ومطالبه باطلة وسيغرم المال الذي ذكره في ذلك القنداق (1) ، وهذا التشدد يوحي بالخوف من الخطأ والبشر في المسائل الخراجية. وهكذا فان من يلحقهم اسم كاتب في هذا العصر كثيرون جدا، ولكن الكتابة الإنشائية الفنية المستقلة غير واضحة إلا في أواخر هذا العصر لان الكتابة الديوانية قد غلبت عليها، وكان هذا النوع من الكتابة هو ميدان فرسان البلاغة حينئذ. وكم نسمع ان هذا أو ذاك كاتب بليغ مثل يوسف بن سليمان الكاتب فانه كاتبا بليغا عالما بحدود الكتابة بصيرا بأعمالها (2) والرازي كان كاتبا بليغا (3) وأبو عبد الله محمد بن عبد الرؤوف كان بليغا مترسلا (4) ، ولكنا لا نملك شواهد ذلك كله، فقد ضاعت الكتب التي الفت في كتاب تلك الفترة مثل: طبقات الكتاب بالأندلس للافشتين كتاب آخر لسكن بن سعيد وكتاب ثالث لعبيديس الجياني بعنوان " اللفظ المختلس من بلاغة الكتاب بالأندلس " وكلها الفت في دور مبكر. ولذلك خفيت علينا صورة الكتابة الاخوانية والرسائل المستقلة فيما خلا خبرا عن رسالة لابن الجرز ألفها في مناقصة رسالة اليتيمة لعبد الله بن المقفع (5) ، غير ان وجود مثل هذه الكتب التي تعرض للكتاب والكتابة الأندلسية يدل على اهتمام بالكتابة وتقدير لها وربما دل أيضا على وفرتها. وتدل الكتابة الرسمية في هذه المرحلة على تفصيل الإيجاز والقصد في التعبير وإيثار المعنى، وأصحاب التوقيعات المقتضبة هم المشهود لهم

_ (1) الذخيرة 1/1: 87 (2) طبقات الزبيدي: 320 (3) المصدر نفسه: 327 (4) المصدر نفسه: 334 (5) طبقات الزبيدي: 326

بالبلاغة في هذا الشأن، وفضل الكتابة كلما انتحلت طبيعة التوقيعات. ومن أقدم نماذج هذا النوع ما أملاه عبد الرحمن الأول إلى سليمان بن الاعرابي: " أما بعد فدعني من معاريض المعاذير والتعسف عن جادة الطريق، لتمدن يدا إلى الطاعة والاعتصام بحبل الجماعة أو لالقين بنانها على رضف المعصية نكالا بما قدمت يداك، وما الله بظلام للعبيد " (1) . وهذه صورة إنشائية ذات حظ كبير من الفصاحة والقوة، وهي لا تفترق عن بعض أنواع الإنشاء في العصر الأموي بالمشرق. وهذا نموذج آخر كتبه أمية بن زيد كاتب عبد الرحمن إلى بعض عماله يستقصره فيما فرط من عمله: " اما بعد فان يكن التقصير لك مقدما فعند الاكتفاء يكون لك مؤخرا، وقد علمت بما قدمت، فاعتمد على أيهما احببت " (2) . وقد اقتضت مثل هذه المناسبات هذا الإيجاز والإيماء والقصد في القول والحدة في الخطاب، غير ان ذلك لم يكن سمة عامة الإنشاء، وفي العهد الذي أصدره الناصر عندما رغب في ان يلقب بالخلافة جانب من التطويل وشيء من الازدواج دون ان تدخله صنعة مقصودة (3) . وهذا ما نجده أيضاً في كتاب أنشأه الحكم لما كان وليا للعهد بأمر من أبيه إلى المشاور أبي إبراهيم حين تخلف عن حضور الإعذار الذي صنعه الناصر لأولاده، وقد جاء فيه: " بسم الله الرحمن الرحيم؟ حفظك الله وتولاك وسددك ورعاك - لما امتحن امير المؤمنين، مولاي وسيدي؟ ابقاه الله - الأولياء الذين يستعد بهم وجدك متقدما في الولاية متأخرا عن الصلة. على انه قد أنذرك، أبقاه الله، خصوصا للمشاركة في السرور الذي كان عنده، لا اعدمه الله توالي المسرة، ثم أنذرت من قبل إبلاغا في التكرمة، فكان منك على ذلك كله من التخلف ما

_ (1) ابن عذاري 2: 76 (2) المصدر نفسه (3) ابن عذاري 2: 297

ضاقت عليك فيه المعذرة، واستبلغ أمير المؤمنين في إنكاره ومعاتبتك عليه فأعيت عليه عنك الحجة، فعرفني أكرمك الله ما العذر الذي أوجب توقفك؟ " فرد أبو إبراهيم بقوله: " قرأت أبقى الله الأمير سيدي هذا الكتاب وفهمته ولم يكن توقفي لنفسي، إنما كان لأمير المؤمنين سيدنا، أبقى الله سلكانه، لعلمي بمذهبه وسكوني إلى تقواه واقتفائه لأثر أسلافه رضوان الله عليهم فانهم يستبقون من هذه الطبقة بقية لا يمتهنونها بما يشينها ولا بما يغض منها ويطرق إلى تنقيصها، يستعدون بها لدينهم ويتزينون بها عند رعاياهم ومن يفد عليهم من فصادهم فلهذا تختلف ولعلمي بمذهبه توقفت ان شاء الله تعالى " (1) . وكلتا الرسالتين في غاية البساطة والبعد عن التعمل، وقد ظل أمر الكتابة بسيطا لا تحلية فيه حتى أواخر أيام المستنصر وكان السجع يجيء في الرسائل عفوا دون تعمد، حتى مقدمات الكتب كمقدمة قضاة قرطبة للخشني ظلت عارية من السجع إلا فيما ندر. ومن الشاذ في انتحال بعض السجع حينئذ رسالة ليزيد بن طلحة (في خلافة الأمير عبد الله) كتبها إلى أهل قرمونة يحضهم فيها على الطاعة، ومنها: " ان احق ما رجع إليه الغالون وألحق به التالون وآثره المؤمنون وتعاطاه بينهم المسلمون مما ساء وسر ونفع وضر ما اصبح به الشمل ملتئما والأمر منتظما والسيف مغمودا ورواق الأمن ممدودا " (2) ثم تستمر الرسالة بعد ذلك دون سجع. تلك هي المرحلة الأولى من الكتابة في هذا العصر. أما المرحلة الثانية فتشغل عهد الدولة العامرية وفترة الفتنة وفيها ظهر أكابر الكتاب الناثرين ومنهم:

_ (1) النفح 1: 177 (2) طبقات الزبيدي: 294

1 - ابن برد الأكبر 2 - عبد الملك بن إدريس الجزيري 3 - ابن دراج القسطلي 4 - ابن شهيد 5 - 6 - ابنا حزم 7 - الحناط 8 - ابن حيان المؤرخ 9 - ابن زيدون. وتمتاز هذه المرحلة عن سابقتها بمميزات كثيرة منها تغير المؤثرات التي اخذ يتلقاها هؤلاء الكتاب، إذ تغيرت النماذج المشرقية التي يحتذونها وأصبحت طريقة سهل بن هارون والجاحظ أولا ثم طريقة بديع الزمان ثانيا هما النموذج الأعلى للمنشئين بالأندلس. ومنها احتفال الأندلسيين بالآثار الكتابية وإقبالهم عليها فكان لبعض الرسائل بينهم شهرة خاصة كرسالة ألفها بعضهم فاشتهرت عند أهل الثغر لبلاغتها (1) ورسائل لابن دراج كان الناس يتناقلونها ويعجبون بها (2) . وتمتاز هذه المرحلة أيضاً بالثورة على التقصير في الكتابة، ويمثل هذه الثورة قول والد الفقيه ابن حزم؟ وهو من الكتاب الوزراء المقدمين في الدولة العامرية وكانت له في البلاغة يد قوية -: " اني لأعجب ممن يلحن في مخاطبة أو يجيء بلفظة قلقة في مكاتبة لأنه ينبغي له إذا شك في شيء ان يتركه ويطلب غيره فالكلام أوسع من هذا " (3) ، وتبلغ هذه الثورة ذروتها عند ابن شهيد ضد المعلمين وعجزهم عن تعليم البيان، بل هو يعيب الأندلسيين عامة لتقصيرهم في شئون البلاغة وكلامه صادر عن العجب ولكن فيه دلالة على ما كان

_ (1) الحلة: 191 (2) الجذوة: 104 (3) الجذوة: 118

يطمح إليه من رفعة لشأن الكتابة. وأكبر ما يميز الكتابة في هذه المرحلة تمييز أصولها وطرائقها وأساليبها وهذا راجع إلى قوة حركة النقد التي وصفناها من قبل، فلم يكن اخذ طرق المشارقة تقليدا فحسي، بل كان مبنيا على فهم لتنوع الأساليب النثرية وإدراك مميزاتها، وقد كان ابن حزم ذا نظر ثاقب في نقد الأساليب وتمييز المذاهب النثرية، كما ان لابن شهيد في هذا الباب بصيرة الناقد الحصيف إذ يقول: " ألا ترى أن الزمان لما دار كيف أحال بعض الرسم الأول في هذا الفن إلى طريقة عبد الحميد وابن المقفع وسهل ابن هارون وغيرهم من أهل البيان؟ ثم دار الزمان دورانا فكانت إحالة أخرى إلى طريقة إبراهيم بن العباس ومحمد بن الزيات وابني وهب؟ ثم دار الزمان فاعترى أهله بالطائف صلف، وبرقة الكلام كلف فكانت إحالة أخرى إلى طريقة البديع وشمس المعالي وأصحابهما " (1) . ويفاضل ابن شهيد بين سهل والجاحظ فيذهب إلى ان سهلا عالم والجاحظ كاتب وانهما إذا ذكر ميدان الكتابة مختلفا الطريقة وكلاهما محسن في بابه (2) . ولا نزال نسمع من يفضل الإيجاز على الإطالة مثل ابن الحناط الذي يقول: " الإسهاب كلفة والإيجاز حكمة وخواطر الألباب سهام يصاب بها اغراض الكلام " (3) . وفي هذه المرحلة يستقل النثر الفني في بعض أحواله عن الكتابة الديوانية، ويتخذ له موضوعات من الحياة تشبه الموضوعات التي يدور حولها الشعر وبخاصة الوصف، وأصبح يعتمد الخيال كما في رسائل ابن شهيد وبعض رسائل ابن الأصغر كرسالة بين السيف والقلم. ويبرز كذلك التنوع في الأساليب بحيث يمكن لقارئ النماذج النثرية أن

_ (1) الذخيرة 1/1: 203 (2) الذخيرة 1/1: 207 - 208 (3) الذخيرة 1/1: 385

يفرد لابن دراج ولابن شهيد ولابن زيدون خصائص اسلوبية واضحة. وفي طليعة هذه الطبقة من الناثرين يقف ابن الجزيري وابن برد الأكبر وابن دراج وهم المتأثرون بإنشاء ابن المقفع وسهل بن هارون والجاحظ، وهم متقاربون في طبيعة الأسلوب بعض التقارب، إلا ان ابن دراج اختط لنفسه طريقة حددها ابن حزم بقوله: " وقد كان احدث ابن دراج عندنا نوعا من البلاغة ما بين الخطب والرسائل " (1) ، وهذا أدق حكم على أسلوب ابن دراج فكأن هذا الكاتب قد مزج الموروث الأندلسي النثر بين بلاغة منذر بن سعيد البلوطي في خطبه وبين أعلى صور الرسائل الأندلسية ومسح كل ذلك ببعض التأثير المشرقي في الصنعة، فكان في أسلوبه خارجا عن المألوف العام من الأساليب في الأندلس وكان يتردد بين السجع والازدواج، ومن امثلة نثره قوله: " يا سيدي ومن أبقاه الله كوكب سعد في سماء مجد، وطائر يمن في أفناء أمن، مرجوا لدفع الأسواء مؤملا في اللأواء، وكنت قد نشأت في معقل من الأمن والوفر، محدقا بسور من الأمن والستر، حتى أرسل الي سلطان الفقر رسولا من نوب الدهر يريد استنزالي إليه وخضوعي بين يديه.. " (2) . والفرق بين ابن دراج والجزيري هو ما ينتجه التباعد بين الروية والسرعة، فقد كان ابن دراج مرويا لا ينشيء إلا بعد الجهد والكد، وكان الجزيري على عكس ذلك، وشاهد هذا قول الحميدي: " ان ابن أبي عامر لما فتح شنت ياقب أو غيرها استدعى كاتبيه هذين وأمر بإنشاء كتب الفتح إلى الحضرة فأما ابن الجزيري فقال سمعا وطاعة، وأما ابن دراج فقال: لا يتم لي ذلك في أقل من يومين أو ثلاثة، وكان معروفا بالتنقيح والتجويد والتؤدة " (3) . ويستطيع القارئ ان يقارن بسهولة بين ما مر من أسلوب

_ (1) التقريب: 205 (2) الذخيرة 1/1: 45 - 46 (3) الجذوة: 104

ابن دراج وبين قول الجزيري في كتاب كتبه عن المنصور يعاقب فيه جنده لنكوصهم عن المحاربة في بعض غزواته: " وكثيرا ما فرط من قولكم أنكم تجهلون قتال المعاقل والحصون وتشتاقون ملاقاة الفحول، فحين جاءكم شانجه Sancho بالأمنية وقاتلكم بالشريطة أنطرتم ما عرفتم ونافرتم ما ألفتم حتى فررتم فرار اليعافير من آساد الغيل وأجفلتم إجفال الرئال من المقتنصين، ولولا رجال منكم رحضوا عنكم العار وحرروا رقابكم من الذل لبرئت من جماعتكم وشملت بالموجدة كافتكم " (1) . وهذا الأسلوب في رأيي أليق بالمقام، ولكن التنوق في الكتابة غلب حتى على الرسائل الديوانية، وابتليت الكتابة الأندلسية بشدة الزخرف بعد هذا العصر حتى أصبح التعبد للمحسنات أمرا بارزا. ويقف ابن برد وسطا بين هذين الكاتبين في اسلوبه فليس لديه استرسال الجزيري ولا حوك ابن دراج وإنما لديه تعمل وازدواج، وما وصلنا من رسائله فكله من نماذج الرسائل الديوانية (2) . وجاءت بعد هؤلاء طبقه ابن شهيد ومن أدرك زمان الفتنة وحضر جانبا من العصر التالي، وتميزت طرائق هؤلاء الكتاب، فكان ابن زيدون مكثرا من الاقتباسات والتلميحات والإشارات، يبني الرسالة؟ كالرسالة الهزلية - من محفوظه. وكان ابن حيان خير من يمثل النثر الأندلسي لاعتماده على نفسه في حوك العبارة وبنائها على الحدة والعنف وكثرة التعاطفات وترتيبها على نحو خاص والاغراب في الاشتقاقات. وظل ابن حزم الفقيه يعتمد البساطة في التعبير ويبعد عن الزينة اللفظية والسجع ولا يتهم بتطرية الأسلوب بل يرسله إرسالا دون التفات إلى حلاوة الجرس. أما ابن شهيد فلم يلتزم أسلوبا واحدا فهو حينا يحاكي عبد الحميد وحينا آخر يذكرنا بالجاحظ، غير انه شديد الإعجاب بطريقة البديع وكأنما

_ (1) اعمال الاعلام: 72 (2) الذخيرة 1/1: 84 وما بعدها.

أنشأ رسالته في صفة البرد والنار والحطب ورسالته في الحلواء ليحاكي المقامات. وهو مفتون بقدرة البديع على الوصف، كما هي الحال في وصف الدينار، فهو يسرف في محاكاة هذا اللون كثيرا كقوله في الثعلب: " أدهى من عمرو، وأفتك من قائل حذيفة بن بدر، كثير الوقائع في المسلمين، مغرى باراقة دماء المؤذنين، إذا رأى فرصة انهزها، وإذا طلبته الكماة أعجزها، وهو مع ذلك بقراط في إدامة، وجالينوس في اعتدال طعامه، غذاؤه حمام أو دجاج، وعشاؤه تدرج أو دراج " (1) ومن هذه البابة وصف البرغوث ووصف الفالوذج وغير ذلك.. وقد أثر بديع الزمان أيضاً في نثر أبي المغيرة بن حزم فله رسالة يعارض فيها إحدى رسائل البديع (2) . وأبو المغيرة من اسمح كتاب الأندلس طبعا في النثر، هذا على انه يقيد نفسه بالسجع في اكثر رسائله. ولا ريب في ان الرسائل المتبادلة بينه وبين ابن عمه الفقيه في أمر شجر بينهما إنما هي على حظ عال من البلاغة (3) . وأكثر هؤلاء الكتاب يوشحون رسائلهم بالشعر ويحلون فيها الأبيات، ويقتبسون الأمثال، كما أن أكثرهم يلحق بالعصر التالي، عصر ملوك الطوائف. أهم الآثار النثرية في هذا العصر اكثر الكتب التي تتصل بهذا العصر إنما هي في التراجم. فإذا الكتب الأدبية فأهمها ثلاثة: العقد لابن عبد ربه ورسالة التوابع والزوابع لابن شهيد وطوق الحمامة لابن حزم، فأما الأول فالصورة الأندلسية فيه باهتة

_ (1) الذخيرة 1/1: 235 (2) الذخيرة 1/1: 117 (3) انظر الذخيرة 1/1:136

كما انه يقوم على الجمع، ويتبقى الكتابان الآخران وهما يستحقان منا وقفة في هذا المقام: 1 - رسالة التوابع والزوابع اسمها أيضاً " شجرة الفكاهة "، ولم تصلنا كاملة وإنما وصلتنا منها مقتطفات أوردها ابن بسام في الذخيرة، وقد خاطب بها كاتبها صديقه أبا بكر بن حزم حينما تساءل معجبا ببلاغة صديقه: " كيف أوتي الحكم صبيا وهو بجذع الكلام فاساقط عليه رطبا جنيا ". وحاول ابن شهيد ان يعلل ذلك في مطلع الرسالة بأنه، وان كان قليل الاطلاع، ذو موهبة طبيعية. وسمى هذه الموهبة، كما كان قدماء العرب يسمون شياطين الشعر، جنيا تابعا له كان يلهمه ويثير القول على لسانه ويخدمه في كل حال ويعينه إذا ارتج عليه. وكانت " كلمة السر " بينهما ان ينشد: والي زهير الحب يا عز إنه ... إذا ذكرته الذاكرات أتاها إذا جرت الأفواه يوما بذكرها ... يخيل لي أني أقبل فاها فأغشى ديار الذاكرين وإن نأت ... أجارع من داري هوى لهواها فيحضر عندئذ صاحبه زهير بن نمير، وهو مثله أشجعي، ومعنى هذا أن كل قبيلة في الإنس لها ما يقابلها عند الجن، وهؤلاء الجن؟ حسب وصف ابن شهيد - ليسوا جميعا قباح الصور، بل هم ربما كانوا مخلوقين على حسب الصور التي يمثلونها من بني الإنس، ولذلك كان فيهم من هو على شكل لحمار والبغل والإوزة لان الإنس في طبائعهم هذه الأشكال نفسها. ولما تنقل هو في ارض الجن مصاحبا لزهير لقي التابعين للأموات كما لقي التابعين لبعض الأحياء. اما ارض الجن فانه يقول أنها ليست كأرضنا، وجوها ليس كجونا، ومع ذلك فانه لا يميزها بشيء خاص، بل نرى فيها أشجارا متفرعة وأزهارا عطرة وأكثر

مناطقها كذلك من حيث المناظر وليس فيها ما يفردها عن ديار الأنس، بل ان المشابهة بين كل شاعر وتابعه تجعل المشابهة متوفرة بين بيئتيهما، فهناك مثلا ذات الاكيراح في دار الإنس وهناك واحدة مثلها في ديار الجن. ولما سأله زهير بمن يريد ان يبدأ عند زيارة تلك الديار أجاب بان الخطباء أولى بالتقديم ولكنه إلى الشعراء أشوق، وهذا حكم عجيب يدل على أن الخطباء في رأي ابن شهيد الناقد مقدمون على الشعراء وكلمة " الخطباء " هذه تعني الناثرين لأنه حين يتقدم للقاء من يسميهم الخطباء يلقى تابعي عبد الحميد وابن المقفع والجاحظ وبديع الزمان. وقد لقي من الشعراء صاحب امرئ القيس وطرفة بن الخطيم. أما امرؤ القيس؟ أو صاحبه - فظهر على فرس شقراء كأنها تلتهب، وأما صاحب طرفة فانه كان عند منظر طبيعي متميز: " وركضنا حتى انتهينا إلى غيضة شجرها شجران: سام يفوح بهارا وشجر يعبق هنديا وغارا، فرأينا عينا معينة تسيل ويدور ماؤها فلكيا ولا يحول.. فبدا الينا راكب جميل الوجه قد توشح السيف واشتمل عليه كساء خز وبيده خطي ". ويرسم ابن شهيد لكل شاعر صورة حسبما تخيله أو تأثر به من شعره. وقد اكتفى بمقابلة ثلاثة من شعراء الجاهلية وانتقل من بعدهم إلى لقاء المحدثين ولم يأبه بالوقوف على واحد من شعراء صدر الإسلام والدولة الأموية وأغلب الظن انه لا يقابل إلا من تربطهم به رابطة من محاكاة أو معارضة. وبدأ من المحدثين بأبي تمام فصوره صورة عجيبة حين جعل صاحبه يسكن تحت الماء، وانه إنما يفعل ذلك حياء من التحسن باسم الشعر وهو لا يحسنه، وهذا حكم عجيب. وقد زعم ابن شهيد أن أبا تمام اشتنشده فلم ينشده إجلالا، ثم أنشده فأكثر، وأوصاه أبو تمام وصية جيدة، كما كان يوصي تلميذه البحتري ذات يوم، فقال: " فإذا دعتك

نفسك إلى القول فلا تكد قريحتك فإذا أكملت فجمام ثلاثة لا أقل ونقح بعد ذلك ". وأيضا من العجيب أن تصدر مثل الوصية عن أبي تمام، وشعره يقوم على كد القريحة والتحيل عليها بشتى الوسائل. وفي مقابلته للبحتري نرى هذا الشاعر وقد امتلأ حسدا لابن شهيد، وهي إشارة إلى ان الشاعر الأندلسي تفوق على " أبي الطبع " المشرقي. أما الصورة التي وجد عليها أبا نواس فهي مشتقة من شعره، وتمثل بيئة مسيحية فيها النواقيس والرهابين والكنائس والأديرة والحانات وأبو نواس سكران منذ أيام عشرة " ونزلنا وجاءوا بنا إلى بيت قد اصطفت دنانه وعكفت غزلانه وفي فرجته شيخ طويل الوجه والسبلة قد افترش أضغاث زهر واتكأ على زق خمر وبيده طرجهارة وحواليه صبية كأظب تعطو إلى عرارة ". وقد نوع ابن شهيد الإنشاء أمام أبي نواس فأنشده خمرية ومرثية في ابنته ومرثية في ابن ذكوان وقصيدة من قصائد السجن وقطعة مجونية، وأقر له عند سماع المجونية بقوله " هذا والله شيء لم نلهمه نحن ". وأخيرا انتهى من الشعراء إلى أبي الطيب " وهو صاحب قنص؟ فارس على فرس بيضاء كأنه قضيب على كثيب وبيده قناة قد اسندها إلى عنقه، وعلى رأسه عمامة حمراء قد أرخى لها عذبة صفراء "، واتهمه أبو الطيب بأنه يستعير من غيره " يتأول "، وأكبر أبا الطيب ان ينشده واخذ هو يعرض عليه شعره فتنبأ له أبو الطيب بأنه ستتفجر عبقريته ولكنه سيموت مبكرا. ويجدر بنا ان نتأمل موقفه أمام كل واحد من هؤلاء الشعراء وكيف أقروا له ومنهم الجاهلي والمحدث، وكيف أنشدهم هو شعرا من معارضاته وشعرا مستقلا غير مبني على المعارضة. وإذا كان قد مر بالشعراء واحدا اثر واحد، كل في بيئته الخاصة وعلى هيئته التي تصورها؟ وفي هذ1 ما فيه من حركة تخليلية - فانه لقي من يسميهم الخطباء مجتمعين في مرج واحد سماه " مرج دهمان ". وقد

بدأه صاحب الجاحظ بأن كلامه النثري نظم لأنه مغرى بالسجع فاعتذر عن ذلك بانه لا يجهل فضل المماثلة والمقابلة، ولكنه عدم ببلده فرسان الكلام، وهنا تصدى للنثر الأندلسي والناثرين فعابهم جملة وذكر ان كلامهم ليس لسيبويه فيه عمل ولا للفراهيدي إليه طريق ولا للبيان عليه سمة إنما هي لكنة أعجمية يؤدون بها المعاني تأدية المجوس والنبط. وقد رد على صاحب الجاحظ بكلام فيه مماثلة؟ أي على طريقة الجاحظ - فتنبه لذلك صاحب عبد الحميد ورماه بالتقصير لو أطال، فرد عليه بكلام ماثل به طريقة عبد الحميد أيضاً وقرأ لهم رسالته في الحلواء على طريقة البديع فاستحسنا سجعه فيها. وبعد ان جاز الامتحان بنجاح امام صاحب عبد الحميد وصاحب الجاحظ انتقل يوميء إلى معاصريه الذين يعيبونه فعد منهم ثلاثة أشدهم عليه أبو القاسم ابن الافليلي، فاستدعى جنيه إلى الحضرة ورسم له صورة كاريكاتيرية: " جني أشمط ربعة وارم الأنف يتظالع في مشيته كاسرا بطرفه وزاويا لأنفه ". وهنا يعرض علينا ما كان بينه وبين الافليلي من خصومه إذ يتهمه ابن الافليلي بقلة الاطلاع ويريد مناظرته في كتاب سيبويه وشرح ابن درستويه فيسخر ابن شهيد من هذه الكتب. فيتصدى له ابن الافليلي زاعما انه أبو البيان أي الصفة التي يدعيها الشهيدي لنفسه، فيفهمه ابن شهيد ان البيان شيء لا يعلمه المؤدبون وانما يعلمه الله الناس وانه لن يكون ذا شأن في البيان إلا حتى يقول نثرا مثل وصف ابن شهيد للبرغوث والثعلب. ثم يعرض له صاحب بديع الزمان فيقترح عليه ممتحنا ان يصف جارية فيصفها، ويطلب إليه ابن شهيد ان يسمعه البديع وصفه للماء فيقول البديع متحديا: ذاك من العقم (أي يعجز عنه ابن شهيد) فيثور ابن شهيد ويولد للماء وصفا جديدا فيغتاظ صاحب البديع، ويضرب الأرض برجله فتنفرج عن هوة واسعة يتدهدى فيها حتى يغيب

أثره. ويستمر هو في تحدي ابن الافليلي بالشعر بعد النثر فتظهر عليه الكآبة. ويحاول بعض الجن ان يصلح بينهما فيلج ابن شهيد ويزعم ان ابن الافليلي يتعقبه كثيرا ويجعله موضعا للتندر في مجالس الطلب. وأخيرا يقول له صاحب الجاحظ وصاحب عبد الحميد انهما في حيرة من أمره، أيعدانه شاعرا أم خطيبا ثم يجيزانه بأنه شاعر خطيب، ويزدهي أبو عامر حتى يقول في هذا الموقف: " وانفض الجمع والابصار الي ناظرة والأعناق نحوي مائلة ". ذلك هو القسم الأول الذي وصلنا من هذه الرسالة، وغاية أبي عامر فيه ان يعرض محاسن شعره ونثره مقيسة إلى روائع بعض الجاهليين والمحدثين وكبار الناثرين حتى بديع الزمان، وان يبرز هنالك تميزه على أهل بلده، ويكيد ابن الافليلي الذي كان التهكم به غاية من غايات هذه الرسالة. وقد غفل ابن شهيد أثناء ذلك عن كثير من مقتضيات الحال، فلا نراه الا على ظهر فرسه يقابل هذا أو ذاك فلا هو يستريح ولا يشعر بشيء من الظمأ، ولا يدعى إلى طعام أو شرب (ولعل ديار الجن خالية منهما) وتتمثل له دنيا الجن على نحو ناقص لا تعمل فيه القوة الخيالية الخلافة، بل انه ليصدم أذواقنا بشدة إعجابه بنفسه وازدهائه كلما أنشد قريضا أو قرأ نثرا، وليس في هذا القسم أي شيء من شجرة الفكاهة. أما القسم الثاني الذي احتفظ به ابن بسام فانه يدور أيضاً حول مشكلة اخذ المعنى الواحد وتداوله بين الشعراء، مثلما كانت المشكلة الأولى تدور حول المقارنة بين المعارضات. ويورد ابن شهيد أولا معنى تداوله كل من الأفوه والنابغة وأبي نواس وصريع وحبيب والمتنبي وذلك هو معنى ان الطير ترافق الممدوح لعلمها بانتصاره فتشبع من لحوم القتلى. وتدور محاورة حول المفاضلة بين هؤلاء الشعراء في ذلك المعنى عينه، وهنا تتفق قريحة ابن شهيد فيتخذ لنفسه تابعا آخر؟ عدا زهير - يسميه فاتك بن الصقعب ثم يستعرض معنى آخر أورده امرؤ القيس في قوله:

سموت إليها بعد ما نام أهلها ... سمو حباب الماء حالا على حال وكيف حاول عمر بن أبي ربيعة فأخفق، وهنا يستمع ابن شهيد إلى نصيحة غالية تقول: " إذا اعتمدت معنى قد سبقك إليه غيرك فأحسن تركيبه وأرق حاشيته فاضرب عنه جملة وان لم يكن بد ففي غير العروض التي تقدم إليها ذلك المحسن لتنشط طبيعتك وتقوى منتك ". ثم يقدم لنا نماذج من شعره جاذب بها المتنبي وهو معجب بكل ما صنع، ويسمعه شخص آخر من الجن فيسأله محقرا: " على من أخذت هذا الزمير؟ " ويتحداه بأمثلة أخرى من شعر أبي الطيب فيرد عليه ابن شهيد بقصائد له معارضا فإذا عرف الجني انه من أسرة أكثرها شعراء حلف ان لا يعرض له ابدا، وقل واضمحل. أما هذا الجني فاسمه فرعون بن الجون وهو تابع رجل كبير في قرطبة. وعند هذه المرحلة يبلغ إعجاب الشهيدي بنفسه ذروته، فمن قبل كان تلميذا للمتنبي يتهيب الإنشاد بين يديه، أما وقد غاب المتنبي فلم يعجبه ان يتعصب أحد من أهل بلده للمتنبي ويفضله عليه بل يرى في نفسه شاعرا لا يقع دون أبي الطيب في احسن معانيه وأسيرها. وإذا كان الشعر هو إجادة المعارضة وإجادة الأخذ فقد حاز ابن شهيد في المرتين قصب السبق، وظن أن ذلك يغنيه عن الإطالة بل ظن ان طريقه تلك هي الأصالة عينها، وبذلك ينتهي القسم الثاني. وفي القسم الثالث؟ وهو ما تبقى من الرسالة - منظران أولهما مفاضلة بين شعرين لحمار وبغل من عشاق الجن، والثاني منظر إوزة تسمى العاقلة، والمنظران قائمان على التندر بشخصين معروفين عند أبي عامر مجهولين عندنا وهما من أهل بلده، أما في المنظر الأول فهناك بغلة ترضى بحكم أبي عامر في المفاضلة بين شعر البغل والحمار ثم تقترب لتعرفه بنفسها وتقول له: أنها بغلة أبي عيسى، وتسأله ماذا فعل الأحبة بعدي فيقول لها: " شب الغلمان وشاخ الفتيان وتنكرت الخلان ومن إخوانك من بلغ الإمارة وانتهى إلى الوزارة " ولا يخفى ما في هذا

الكلام من تهكم بطبقة من اللذات عرفها أبو عامر بقرطبة: وأما الإوزة فأنها أيضاً تابعة شيخ من شيوخ قرطبة وقد رمز له بالإوزة لأنها صغيرة الرأس مشهورة بالحمق محرومة من عقل الطبيعة وقد وصفها بالكبر وادعى انها اتهمته بأنه لا يحسن شيئا من النحو والغريب، ومرة أخرى نعود إلى مثل موقف ابن الافليلي إذ يطلب إليها ابن شهيد ان تحاوره فيما يحسنه من البيان لا فيما ليس يحسنه. وفي هذه الرسالة كشف أبو عامر عن كثير من آرائه في النقد وصور الصراع بين الموهبة وسعة الاطلاع، وقدم خير ما يختاره من نظمه ونثره مبنيا في أكثره على المعارضة والأخذ ومزج كل ذلك بشيء من التخيل وقسط قليل من الفكاهة وكمية كبيرة من العجب والعنف. 2 - طوق الحمامة اجتمعت لهذا الكتاب فنون من العناصر ميزته بين غيره من الكتب الأندلسية، منها انه كتاب في الحب يكتبه فقيه من فقهاء الأندلس كان شديد العارضة في المدافعة عن الدين، وقد صرف حياته في المجادلات الفقهية العنيفة، فتخصيصه شيئا من وقته للحديث في هذا الموضوع مما يستوقف النظر. وقد كان يحس وهو يكتبه ان بعض المتعصبين سينكرون عليه تأليفه ويقولون انه خالف طريقته وتجافى عن وجهته فقال: وما أحل لأحد أن يظن في غير ما قصدته، قال الله عز وجل " يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم ". وصرح انه لا يحب المراءاة ولا ان ينسك نسكا أعجميا. ومنها الطريقة التي أتبعها ابن حزم في هذا الكتاب، فقد ألف شيخه ابن داود الأصفهاني كتاب الزهرة وجمع فيه أشعار الحب وخلط ذلك بشيء من أشعاره الخاصة، أما حزم فقد تقدم أستاذه خطوات كثيرة، حقا نه استغل هذا الكتاب ليعرض فيه أشعاره الغزلية في مواقف متنوعة، كما فعل

صديقه ابن شهيد في التوابع والزوابع ولكن ذلك لم يكن هو غايته الأولى من الكتاب بل كانت غايته الكبرى هي رسم صورة واقعية من حياته هو ومن حياة الناس ببلده حول موضوع واحد هو " الحب "، مخفيا أسماء بعض الأشخاص حينا مصرعا بها في أحيان كثيرة، وهذه الناحية من الكتاب هي أقوى ما فيه، لأنها تضمنت اعترافاته الذاتية، وتجاربه وتجارب من حوله في شئون عاطفية، فكان ذلك من اجمل ما سجلته كتب التراجم العربية في هذا الباب، فالكتاب من بعض نواحيه " ترجمة ذاتية " تصور شجاعة صاحبها في الحديث عن نفسه وعن مجتمعه، كما تدل على نوع دقيق من الاستيطان النفسي، ومن دراسة عارضة لنفسيات الآخرين. ثم ان هذا الكتاب يحتوي نظرة في الحب تشبه ان تكون مفلسفة افلاطونية، وهي نوع من الحب العذري لم يكن كثير الشيوع في الشعر الأندلسي من قبل، فشرح الحب على هذه الطريقة حدث هام في الأدب الأندلسي جعل بعض الباحثين من المستشرقين يعقد الصلة بين هذه النظرة الأندلسية، وما طرأ من تغير على شعر الحب في أوربة في القرن الثاني عشر، والى كتاب طوق الحمامة يشير المشيرون حين يتحدثون عن هذا الأثر. ولا نستطيع ان نعين بالضبط متى كتب ابن حزم كتاب الطوق، ولكنه ألفه فيما يبدو بعد خروجه من قرطبة بوقت غير طويل، إذ لا تزال حسرته على دياره ومعاهده التي خربها البربر حية قوية، كما انه يتحدث فيه عن مشاهداته في مدن الأندلس المختلفة، مما يدل على انه ربما بدأ بكتابته بعيد استقراره النهائي واعتزاله الحياة السياسية، وهذا لم يتم قبل سنة 419، ويفصح انه حين كتبه كان يسكن شاطبة وان كتابا لأحد أصدقائه وصلة من المرية، ثم جاءه صديقه زائرا وكلفه أن يصنف له رسالة في صفة الحب ومعانيه وأسبابه وأغراضه، فتكلف التأليف إرضاء لصديقه، وأخذ على نفسه ألا يقص قصص الأعراب

والمتقدمين " فسبيلهم غير سبيلنا وقد كثرت الأخبار عنهم، وما مذهبي أن أنضي مطية سواي ولا أتحلى بحلي مستعار ". وقسم ابن حزم رسالته هذه على ثلاثين بابا: عشرة منها في أصول الحب، كعلاماته والحب في النوم والحب بالوصف والحب من نظرة واحدة والتعريض بالقول والإشارة بالعين والمراسلة بالكتاب والسفير؟ وفي هذا الترتيب نلمح التدرج من أخف أصول الحب - كالحب في النوم - إلى أقواها صلة في الواقع، ثم كيف يتدرج من التعريض إلى الإشارة إلى المراسلة إلى السفارة. إثنا عشر في اعراض الحب وصفاته محمودها ومذمومها؟ وهو يقرن كل صفة بما يناقضها فإذا تحدث عن كتمان السر شفعه بالحديث عن الكشف والإذاعة وإذا تحدث عن الطاعة ألحقها بالكلام في المخالفة وشفع الوفاء بالحديث عن الغدر وهكذا. ستة أبواب في الآفات الداخلة على الحب وهي العاذل والرقيب والواشي؟ هؤلاء كلهم ذوات - ثم الهجر والبين والسلو - ومرة أخرى نجد هذا التدرج المتصاعد في تصوير هذه الآفات. خاتمة في بابين تحدث فيهما عن قبح المعصية وعن فضل التعفف لكي يقرن الحب بروح التدين ويكون كلامه فيه داخلا في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فالرسالة من حيث البناء، ولكن ابن حزم يوسع فيها من مدلول الحب، وفي معرض الاستشهاد يقص قصصا عن الصداقة مثلا، وقد يحكي في بعض الأحايين من الأدب المكشوف، وهي قليلة في الكتاب، ثم هو يبالغ في استطراف شعره، وربطه بالأحداث التي يقصها، وفي كثير من الأحيان لا يكون شعره إلا كلاما منظوما

فيصنع مقارنة غير ملائمة مع الحكايات المروية. ويتبسط أحياناً في الشرح والتفصيل حتى يخرج إلى تقرير أمور بديهية مستغنى عنها. ومع ذلك كله فان العيوب لا تغض كثيرا من قيمة الكتاب، وقد كتبه مؤلفه في أسلوب حي دون أن يلجأ إلى التزويق اللفظي أو التصنيع، ولو قارناه بالتوابع والزوابع لفضلناه لسهولة طبيعته، وجريان أسلوبه المسترسل، ولم نجد فيه جلبة لفظية، هذا إلى ما فيه من خصائص الكاتب المتأمل في الحياة والناس وهو شيء لا يحسنه امرؤ معجب بذاته مثل ابن شهيد.

فراغ

ملحقات

فراغ

- 1 - أشعار للغزال مستخرجة من كتاب بهجة المجالس لابن عبد البر - 1 1 - وإن رجائي في الإياب اليكم ... وان أنا اظهرت العزاء قصير 2 - وان كنت تبغين الوداع فبالغي ... فدونك أحوال؟ أرى - وشهور - 2 - 1 - يعرف عقل المرء في أربع ... مشيته أولها والحرك 2 - ونور عينيه وألفاظه ... بعد عليهن يدور الفلك - 3 - 1 - إن الفتاة وإن بدا لك حبها ... فبقبلها داء عليك دفين واذا ادعين هوى الكبير فانما ... هو للكبير خديعة وقرون وإذا رأيت الشيخ يهوى كاعبا ... فعليه من درك القرون زبون - 4 - 1 - أنا شيخ وقلت في الشيخ شيئا ... يعلمه كل أبله وذهين [كذا] 2 - كل شيخ تراه يكثر من كسب الجواري فخذه لي بالقرون ...

- 5 - 1 - ومراء أخذ النا ... س بسمت وقطوب 2 - وخشوع يشبه السقم وضعف في الدبيب ... 3 - قلت: هل تألم شيئا ... قال: أثقال الذنوب 4 - قلت: لا تعن بشيء ... أنت في قالب ذيب 5 - إنما تبني على الوث ... بة في حين الوثوب 6 - ليس من يخفى عليه ... منك هذا بلبيب - 6 - 1 - تسألني عن حالتي أم عمر ... 2 - وهي ترى ما حل بي من العبر ... 3 - وما الذي يسأل عنه من خبر ... 4 - وقد كفاه الكشف عن ذاك النظر ... 5 - وما تكون حالتي مع الكبر ... 6 - اربد مني الوجه وابيض الشعر ... 7 - وصار رأسي شهره من الشهر ... 8 - ويبست نضرة وجهي واقشعر ... 9 - ونقص السمع بنقصان البصر ... 10 - وصرت لا أنهض إلا بعد شر ... 11 - لو ضامني من ضامني لم أنتصر ... 12 - فانظر الي واعتبر ثم اعتبر ... 13 - فإن للحليم في معتبر ... - 7 - 1 - لقد فسدت فما تلقى ... بها من ليس ذا شجن 2 - وصار الحي منا يغ ... بط الملفوف في الكفن

- 2 - رسالة في فضل الأندلس وذكر رجالها لابن حزم " هكذا سماها ابن خير في فهرسته: 226 وسميت احيانا " بيان الأندلس وذكر علمائه ". أوردها المقري في النفح 2: 767 وذكر ان الحسن بن محمد التميمي القيرواني كتب إلى أبي المغيرة بن حزم رسالة يذكر فيها تقصير أهل الأندلس في تخليد أخبار علمائهم ومآثرهم فضلائهم وسير ملوكهم، واطلع أبو محمد على هذه الرسالة فرد عليها بعد وفاة القيرواني، ويفهم من كلام ابن الابار في التكملة: 388 انه كتبها بطلب من محمد بن عبد الله الفهري يمن الدولة رئيس قلعة البونت من أعمال بلنسية، وذكر الحميدي انه خاطب بها أبا بكر بن إسحاق صديقه الحميم (الجذوة: 42) وتدل مقدمة الرسالة على انه قام بالأمرين معا فاستجاب لطلب يمن الدولة وخاطب أبا بكر ".

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد عبده ورسوله وعلى أصحابه الأكرمين، وأزواجه امهات المؤمنين، وذريته الفاضلين الطيبين. 1 - أما بعد يا أخي يا أبا بكر (1) سلام عليك، سلام أخ مشوق طالت بينه وبينك الأميال والفراسخ، وكثرت الأيام والليالي، ثم لقيك في حال سفر ونقلة، ووادك في خلال جولة ورحلة، فلم يقض من محاورتك أربا، ولا بلغ في مجاورتك مطلبا، واني لما احتللت بك، وجالت يدي في مكنون كتبك، ومضمون دواوينك، لمحت عيني في تضاعيفها درجا فتأمله، فإذا فيه خطاب لبعض الكتاب من مصاقبينا (2) في الدار، أهل افريقية، ثم ممن ضمته حضرة قيروانهم، إلى رجل أندلسي لم يعينه باسمه، ولا ذكره بنسبه (3) ، يذكر له فيها ان

_ (1) هو أبو بكر محمد بن إسحاق صديق ابن حزم، والمتنقل معه في الأندلس، والمعتقل معه على يد خيران، (انظر الجذوة: 42 وطوق الحمامة في صفحات متفرقة) . (2) النفح: مصافينا (3) هذا عجيب فقد صرح ابن بسام أن أبا علي بن الربيب القروي كتب إلى أبي المغيرة بن حزم رسالة بهذا المعنى وان أبا المغيرة رد عليه برسالة أطال فيها القول وختمها بذكر جملة من تواليف أهل الأندلس. الذخيرة 1/1: 111 - 116، وهذا هو عين ما قاله صاحب النفح 2: 766.

علماء بلدنا بالأندلس، وان كانوا على الذروة العليا من التمكن بأفانين العلوم، وفي الغاية القصوى من التحكم على وجوه المعارف، فان همهم قد قصرت عند تخليد مآثر بلدهم، ومكارم ملوكهم، ومحاسن فقهائهم، ومناقب قضاتهم، ومفاخر كتابهم، وفضائل علمائهم، ثم تعدى ذلك إلى ان أخلى أرباب العلوم منا من ان يكون لهم تأليف يحيي ذكرهم، ويبقي علمهم، بل قطع على ان كل واحد منهم قد مات فدفن علمه معه، وحقق ظنه في ذلك، واستدل على صحته عند نفسه، بأن شيئا من هذه التآليف لو كان موجودا لكان إليهم منقولا، وعندهم ظاهرا، لقرب المزار وكثرة السفار، وترددنا (1) إليهم، وتكررهم علينا. 2 - ثم لما ضمنا المجلس الحافل بأصناف الآداب، والمشهد الآهل بأنواع العلوم، والقصر المعمور بأنواع الفضائل، والمنزل المحفوف بكل لطيفة وسيعة من دقيق المعاني، قرارة المجد ومحل السؤدد، ومحط رحال الخائفين، وملقى عصا التيار، عند الرئيس الأجل الشريف قديمة وحسبه، الرفيع حديثه ومكتسبه، الذي أجله عن كل خطة يشركه فيها من لا توازي قومته نومته، ولا ينال حضره هويناه (2) ، وأربي به عن كل مرتبة يلحقه فيها من لا يسمو إلى المكارم سموه، ولا يدنو من المعالي دنوه، ولا يعلو في حميد الخلال علوه، بل أكتفي من مدحه باسمه المشهور، وأجتزئ من الإطالة في تقريظه بمنتماه المذكور، فحسبي بذينك العلمين دليلا على سعيه المشكور وفضله المشهور، أبي عبد الله محمد بن عبد الله بن قاسم صاحب البونت (3) ، أطال الله بقاءه،

_ (1) النفح: وترددهم (2) الحضر: سرعة الجري (3) البونت: قرية من أعمال بلنسية، استقل فيها بنو قاسم بعد الفتنة وأولهم عبد الله بن قاسم الذي توفي سنة 421 وخلفه ابنه محمد الملقب بيمن الدولة، وبقي فيها واليا حتى سنة 434 (أعمال الأعلام: 208) .

وأدام اعتلاءه، ولا عطل الحامدين من تحليهم بحلاه، ولا أخلى الأيام من تزينها بعلاه، فرأيته اعزه الله تعالى حريصا على ان يجاوب هذا المخاطب وراغبا في ان يبين له قد رآه فنسي، أو بعد عنه فخفي، فتناولت الجواب المذكور، بعد ان بلغني ان ذلك المخاطب قد مات، رحمنا الله تعالى وإياه، فلم يكن لقصده بالجواب معنى، وقد صارت المقابر له مغنى، فلسنا بمسمعين من في القبور، فصرفت عنان الخطاب إليك، إذ من قبلك صرت إلى الكتاب المجاوب عنه، ومن لدنك وصلت إلي الرسالة المعارضة، وفي وصول كتابي على هذه الهيئة حيثما وصل كناية لمن غاب من اخبار تآليف أهل بلدنا، مثلما غاب عن هذا الباحث الاول، ولله الأمر من قبل ومن بعد، وان كنت في إخباري إياك بما أرسمه في كتابي هذا " كمهد إلى البركان نار الحباحب "، وباني رضوى في مهيع القصد اللاحب، فانك وان كنت المقصود والمواجه فإنما المراد من أهل تلك الناحية، من نأى عنهم علم ما استجلبه السائل الماضي، وما توفيقي إلا بالله سبحانه. 3 - فأما مآثر بلدنا فقد ألف في ذلك احمد بن محمد الرازي (1) التاريخي كتبا جمة منها كتاب ضخم ذكر فيه مسالك الأندلس ومراسيها وأمهات مدنها وأجنادها الستة (2) ، وخواص كل بلد منها، وما فيه مما ليس في غيره، وهو كتاب مريح مليح. وأنا اقول لو لم يكن لأندلسنا إلا ما رسول الله صلى الله عليه وسلم بشر به، ووصف أسرفنا المجاهدين فيه، بصفات الملوك على الأسرة، في الحديث الذي رويناه من طريق أبي حمزة أنس بن مالك ان خالته ام حرام بنت ملحان، زوج أبي الوليد عبادة بن الصامت، رضي الله تعالى عنه وعنهم اجمعين، حدثته عن

_ (1) الجذوة 96 - 97 وطبقات الزبيدي: 327 (2) لعله يعني الأجناد التي نزلت الأندلس في طالعة بلج القشيري وفرقها أبو الخطار على الكور. انظر النفح 1: 112 والإحاطة 1: 109

النبي صلى الله عليه وسلم انه اخبرها بذلك لكفى شرفا بذلك، يسر عاجله ويغبط آجله. فان قال قائل: لعله صلوات الله تعالى عليه إنما عنى بذلك الحديث أهل صقلية واقريطش، وما الدليل على ما ادعيته من انه، صلى الله عليه وسلم، عنى الأندلس حتما، ومثل هذا من التأويل لا يتساهل فيه ذو ورع دون برهان واضح وبيان لائح، لا يحتمل التوجيه، ولا يقبل التجريح. فالجواب، وبالله التوفيق، انه صلى الله عليه وسلم قد أوتي جوامع الكلم وفصل الخطاب، وأمر بالبيان لما أوحي إليه، وقد اخبر في ذلك الحديث المتصل سنده بالعدول عن العدول بطائفتين من أمته يركبون ثبج البحر غزاة واحدة بعد واحدة، فسألته ام حرام ان يدعو ربه تعالى ان يجعلها منهم، فأخبرها صلى الله عليه وسلم، وخبره الحق، بأنها من الأولين، وهذا من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم، وهو إخباره بالشيء قبل كونه، وصح البرهان على رسالته بذلك، وكانت من الغزاة إلى قبرس، وخرت عن بغلتها هناك، فتوفيت رحمها الله تعالى، وهي أول غزاة ركب فيها المسلمون البحر، فثبت يقينا ان الغزاة إلى قبرس هم الأولون الذين بشر بهم النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت أم حرام منهم، كما اخبر صلوات الله تعالى وسلامه عليه، ولا سبيل ان يظن به، وقد أوتي ما أوتي من البلاغة والبيان، انه يذكر طائفتين قد سمى إحداهما أولى، إلا والتالية لها ثانية، فهذا من باب الإضافة وتركيب العدد، وهذا مقتضى طبيعة صناعة المنطق، إذ لا تكون الأولى أولى إلا لثانية، ولا الثانية ثانية إلا لأولى، فلا سبيل إلى ذكر ثالث إلا بعد ثان ضرورة، وهو صلى الله عليه وسلم إنما ذكر طائفتين، وبشر بفئتين، وسمى تحداهما الأولين، فاقتضى ذلك بالقضاء الصدق آخرين، والآخر من الأول هو الثاني الذي اخبر صلى الله عليه وسلم انه خير القرون بعد قرنه، وأولى القرون بكل فضل بشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه خير من كل قرن بعده. ثم ركب

البحر بعد ذلك أيام سليمان بن عبد الملك إلى القسطنطينية، وكان الأمير بها في تلك السفن هبيرة الفزاري، واما صقلية فانها فتحت صدر أيام الاغالبة سنة 212، أيام قاد إليها السفن غازيا أسد بن الفرات الغازي، صاحب أبي يوسف رحمه الله تعالى، وبها مات، وأما اقريطش فانها فتحت بعد الثلاث والمائتين (1) ، افتتحها أبو حفص عمر بن شعيب (2) ، المعروف بابن الغليظ (3) ، ومن أهل قرية بطروج (4) ، من عمل فحص البلوط، المجاور لقرطبة من بلاد الأندلس، وكان من فل الربضين، وتداولها بنوه بعده إلى ان كان آخرهم عبد العزيز بن شعيب الذي غنمها أيام ارمانوس بن قسطنطين ملك الروم سنة 350، وكان اكثر المفتتحين لها أهل الأندلس. 4 - واما في قسم الأقاليم فان قرطبة مسقط رءوسنا، ومعق تمائمنا مع سر من رأى في إقليم واحد، فلنا من الفهم والذكاء ما اقتضاه اقليمنا، وان كانت الأنوار لا تأتينا إلا مغربة عن مطالعها على الجزء المعمور. وذلك عند المحسنين للاحكام التي تدل عليها الكواكب ناقص من قوى دلائلها، فلها من ذلك، على كل حال، حظ يفوق حظ اكثر البلاد، بارتفاع أحد النيرين بها تسعين درجة، وذلك من أدلة التمكن في العلوم، والنفاذ فيها عند من ذكرنا، وقد صدق ذلك الخبر، وأبانته التجربة، فكان أهلها من التمكن في علوم القراءات والروايات، وحفظ كثير من الفقه، والبصر بالنحو والشعر واللغة والخبر والطب والحساب والنجوم، بمكان رحب الفناء، واسع العطن، متنائي الأقطار، فسيح المجال. 5 - والذي نعاه علينا الكاتب المذكور، لو كان كما ذكر، لكنا فيه

_ (1) الجذوة: بعد الثلاثين والمائتين، ومن هنا اصح لان هذا هو تاريخ فتنة الربض. (2) ترجمته في الجذوة: 282 وقد نقل الحميدي ما قاله ابن حزم. (3) الجذوة: المعروف بالغليظ. (4) ويقال: بطروش، وهو حصن شامخ الحصانة من أعمال قرطبة ويحيط البلوط بجباله وسهوله، وأهلها يحفظونه، ويستعينون به على لغذاء في أيام الشدة.

شركاء لأكثر أمهات الحواضر، وجلائل البلاد، ومتسعات الأعمال، فهذه القيروان بلد المخاطب لنا، ما أذكر اني رأيت في أخبارها تأليفا غير " المعرب عن أخبار المغرب " وحاشا تآليف محمد بن يوسف الوراق (1) ، فانه الف للمستنصر رحمه الله تعالى، في مسالك أفريقية وممالكها ديوانا ضخما، وفي أخبار ملوكهم وحروبهم والقائمين عليهم (2) كتبا جمة، وكذلك ألف أيضا في أخبار تيهرت ووهران وتونس (3) وسجلماسة ونكور والبصرة (4) غيرها تآليف حسانا. ومحمد هذا أندلسي الأصل والفرع، آباؤه من وادي الحجارة (5) ومدفنه بقرطبة، وهجرته إليها، وان كانت نشأته بالقيروان. 6 - ولا بد من إقامة الدليل على ما أشرت إليه هنا، إذ مرادنا أن نأتي منه بالمطلوب، فيما يستأنف، إن شاء الله تعالى، وذلك ان جميع المؤرخين من أئمتنا السالفين والباقين، دون محاشاة أحد، بل قد تيقنا إجماعهم على ذلك، متفقون على أن ينسبوا الرجل إلى مكان هجرته التي استقر بها، ولم يرحل عنها رحيل ترك لسكناها إلى أن مات، فان ذكروا الكوفيين من الصحابة، رضي الله تعالى عنهم، صدروا بعلي وابن مسعود وحذيفة رضي الله تعالى عنهم، وإنما سكن علي الكوفة خمسة أعوام واشهرا (6) ، وقد بقي 58 عاما وأشهرا بمكة والمدينة شرفهما الله تعالى، وكذلك أيضا اكثر أعمار من ذكرنا، وان ذكروا البصريين بدأوا بعمران بن حصين، وأنس بن مالك، وهشام بن عامر، وأبي

_ (1) الجذوة: 90 (2) الجذوة: والغالبين عليهم. (3) الجذوة: وتنس. (4) نكور مدينة في مراكش على ساحل البحر الأبيض والبصرة المعنية هنا موضع ببلاد المغرب أيضاً. (5) تعرف أيضاً بمدينة الفرج بينهما وبين طليطلة خمسة وستون ميلا (الروض: 193) . (6) علق ابن حجر على هذا بقوله، صوابه أربعة أعوام (النفح 2: 775) .

بكرة، وهؤلاء: مواليدهم وعامة زمن أكثرهم وأكثر مقامهم بالحجاز وتهامة والطائف، وجمهرة أعمارهم خلت هناك. وان ذكروا الشاميين نوهوا بعبادة بن الصامت وأبي الدرداء وأبي عبيدة بن الجراح ومعاذ ومعاوية، والأمر في هؤلاء كالأمر فيمن قبلهم. وكذلك في المصريين: عمرو بن العاص وخارجة بن حذافة العدوي، وفي المكيين: عبد الله ابن عباس، وعبد الله بن الزبير (1) ، والحكم في هلاء كالحكم فيمن قصصنا، فيمن هاجر إلينا من سائر البلاد، فنحن أحق به، وهو منا بحكم جميع أولي الأمر منا، الذين إجماعهم فرض اتباعه، وخلافه محرم اقترافه، ومن هاجر منا إلى غيرنا فلا حظ لنا فيه، والمكان الذي اختاره أسعد به، فكما لا ندع إسماعيل بن القاسم، فكذلك لا ننازع في محمد بن هانيء سوانا، والعدل أولى ما حرص عليه، والنصف أفضل ما دعي إليه، بعد التفصيل الذي ليس هذا موضعه، وعلى ما ذكرنا من الإنصاف تراضى الكل. 7 - وهذه بغداد حاضرة الدنيا، ومعدن كل فضيلة، والمحلة التي سبق أهلها إلى حمل ألوية المعارف، والتدقيق في تصريف العلوم، ورقة الأخلاق والنباهة والذكاء وحدة الأفكار ونفاذ الخواطر، وهذه البرة وهي عين المعمور في كل ما ذكرنا: وما أعلم في أخبار بغداد تأليفا غير كتاب أحمد بن أبي طاهر (2) . وأما سائر التواريخ التي ألفها أهلها، فلم يخصوا بها بلدتهم دون سائر البلاد، ولا اعلم في أخبار البصرة، غير

_ (1) هذا هو النظام الذي جرى عليه ابن سعد في الطبقات، ولكن الأمر في ذلك يختلف عما يذهب إليه ابن حزم، فليس هناك من مترجم مثلا يقول: ان عليا كوفي أو أن عمرا مصري. (2) أبو الفضل احمد بن أبي طاهر طيفور (- 280) : ترجمته في معجم الأدباء 1: 152 وتاريخ بغداد والفهرست، وقد بقيت قطعة من كتاب تاريخ بغداد نشرها المستشرق هنسي كلر بالزنكوغراف: 1908 وأعيد طبعها بمصر 1368هـ وبقي من كتاب " المنظوم والمنشور " جزءان (القاهرة أدب 587) .

كتاب عمر بن شبة (1) وكتاب لرجل من ولد الربيع بن زياد المنسوب إلى أبي سفيان، في خطط البصرة وقطائعها، وكتابين لرجلين من أهلها يسمى أحدهما عبد القاهر، كريزي النسب، وصفاها وذكرا اسواقها ومحالها وشوارعها، ولا أعلم في أخبار الكوفه غير كتاب عمر ابن شبة (2) وأما الجبال وخراسان وطبرستان وجرجان وكرمان وسجستان والسند والري وأرمينية وأذربيجان وتلك الممالك الكثيرة الضخمة فلا أعلم في شيء منها تأليفا قصد به أخبار ملوك تلك النواحي وعلمائها وشعرائها وأطبائها (3) ولقد تتاقت النفوس إلى ان يتصل بها تأليف في اخبار فقهاء بغداد، وما علمناه علم على انهم العلية الرؤساء والأكابر العظماء. ولو كان في شيء من ذلك تأليف لكان الحكم في الأغلب ان يبلغنا كما بلغ سائر تآليفهم، وكما بلغنا كتاب حمزة بن الحسن الاصبهاني في أخبار اصبهان (4) ، وكتاب الموصلي وغيره في أخبار مصر، وكما بلغنا سائر تآليفهم في أنحاء العلوم. وقد بلغنا تأليف القاضي أبي العباس محمد بن عبدون القيرواني في الشروط واعتراضه على الشافعي رحمه

_ (1) انظر ترجمة عمر بن شبة في معجم الأدباء 6: 481، والتهذيب 7: 460، وبغية الوعاة: 361. والكتاب الذي يشير إليه ابن حزم هو: أخبار أهل البصرة. (2) ذكر السخاوي فيمن ألف في الكومة: ابن مجالد، وعمر بن شبة، وأبا الحسين محمد بن جعفر التميمي الكوفي النحوي (الإعلان: 128) . (3) استفاض التاريخ للبلدان بعد ابن حزم، انظر الإحاطة 1: 90 وما بعدها، وانظر الإعلان بالتوبيخ للسخاوي 121 - 135 (4) حمزة بن الحسن الاصبهاني: ترجم له أبو نعيم في تاريخ اصبهان 1: 300 وقد وصلنا من كتبه تواريخ سني ملوك الأرض والأنبياء، والدرة الفاخرة، وهي الأمثال التي جاءت على وزن افعل التفضيل (ميونخ: 642 والفاتيكان: 526 وداماد إبراهيم: 963) ، وشرح ديوان أبي نواس (نشر معه الجزء الأول بعناية فاغتر) . ولم يوجد كتابه في أخبار اصبهان.

الله تعالى (1) ، وكذلك بلغنا رد القاضي (عبد الله بن) احمد بن طالب التميمي على أبي حنيفة وتشنيعه على الشافعي (2) ، وكتب ابن عبدوس ومحمد بن سحنون (3) وغير ذلك من خوامل تآلفهم دون مشهورها. 8 - وأما جهتنا فالحكم في ذلك ما جرى به المثل السائر " أزهد الناس في عالم أهله " وقرأت في الإنجيل ان عيسى عليه السلام قال: " لا يفقد النبي حرمته إلا في بلده ". وقد تيقنا ذلك بما لقي النبي صلى الله عليه وسلم من قريش، وهم أوفر الناس احلاما، وأصحهم عقولا، وأشدهم تثبيتا، مع ما خصوا به من سكناهم افضل البقاع، وتغذيتهم باكرم المياه، حتى خص الله الاوس والخزرج بالفضيلة التي أبانهم بها عن جميع الناس، والله يؤتي فضله من يشاء. ولا سيما أندلسنا، فانها خصت من حسد أهلها للعالم الظاهر فيهم، الماهر منهم، واستقلالهم كثير ما يأتي به، واستهجانهم حسناته، وتتبعهم سقطاته وعثراته، واكثر ذلك مدة حياته، بأضعاف ما في سائر البلاد. إن أجاد قالوا: سارق مغير، ومنتحل مدع، وإن توسط قالوا: غث بارد وضعيف ساقط، وان باكر الحيازة لقصب السبق قالوا: متى كان هذا؟ ومتى تعلم؟ وفي أي زمان قرأ، ولأمه الهبل. وبعد ذلك ان ولجت به الأقدار أحد طريقين أما شفوعا دائما يعليه على نظرائه، أو سلوكا في غير السبيل التي عهدوها، فهنالك حمي الوطيس على البائس، وصار غرضا للأقوال، وهدفا للمطالب، ونصبا للتسبب إليه، ونهبا للألسنة، وعرضة للتطرق إلى عرضه، وربما نحل ما لم يقل، وطوق ما لم يتقلد، وألحق به ما لم يفه به ولا

_ (1) انظر الخشني: 306، وكان ابن عبدون قاضيا، وكذلك: 242 قال: وكان موثقا كاتبا للشروط والوثائق. (2) انظر المالكي: 375، 504 قال: وله كتب يرد فيها على الشافعي لا بأس بها. (3) انظر الخشني: 182، 178، والمالكي: 360، 345 حيث ترجمة كل من ابن عبدوس وابن سحنون.

اعتقده قلبه. وبالحري، وهو السابق المبرز ان لم يتعلق من السلطان بحظ، أن لا يسلم من المتالف، وينجو من المخالف. فان تعرض لتأليف غمز ولمز، وتعرض وهمز، واشتط عليه وعظم يسير خطبه، واستشنع هين سقطه، وذهبت محاسنه، وسترت فضائله، وهتف ونودي بما اغفل، فتنكر لذلك همته، وتكل نفسه وتبرد حمته، وهذا عندنا يصيب من ابتدأ يحول شعرا، أو يعمل رياسة، فانه لا يفلت من هذه الحبائل، ولا يتخلص من هذه النصب، إلا الناهض الفائت، والمطفف المستولي على الأمد. 9 - وعلى ذلك، فقد جمع ما ظنه الظان غير مجموع، وألفت عندنا تآليف في غاية الحسن، لنا خطر السبق في بعضها، فمنها: كتاب " الهداية " لعيسى بن دينار (1) ، وهي أرفع كتب جمعت في معناها على مذهب مالك وابن القاسم، واجمعها للمعاني الفقهية على المذهب فمنها كتاب الصلاة، وكتاب البيوع وكتاب الجدار في الاقضية وكتاب النكاح والطلاق. ومن كتب المالكية التي ألفت بالأندلس: كتاب القطني مالك ابن علي (2) ، وهو رجل قرشي من بني فهر، لقي أصحاب مالك، وأصحاب أصحابه، وهو حسن فيه غرائب ومستحسنات من الرسائل المولدات. ومنها كتاب أبي إسحاق إبراهيم بن مزين (3) في تفسير الموطأ، والكتب المستقصية لمعاني الموطأ وتوصيل مقطوعاته من تآليف ابن مزين أيضاً، وكتابه في رجال الموطأ وما لمالك عن كل واحد منهم من الآثار في موطأه.

_ (1) الجذوة: 279، توفي (212هـ) كان يعجبه ترك الرأي والأخذ بالحديث، ولم يورد الحميدي أسماء كتبه. (2) في النفح: القصي والتصويب عن الجذوة: 324، وهو من نسل عبد الملك بن قطن الفهري والي الأندلس (توفي 268) بعد ان كف بصره. (3) الجذوة: 148

10 - وفي تفسير القرآن: كتاب أبي عبد الرحمن بقي بن مخلد (1) فهو الكتاب الذي أقطع قطعا لا استثني فيه أنه لم يؤلف في الإسلام تفسير مثله، ولا تفسير محمد بن جرير الطبري ولا غيره. ومنها في الحديث مصنفه الكبير الذي رتبه على أسماء الصحابة رضي الله عنهم، فروى فيه عن ألف وثلاثمائة صاحب ونيف. ثم رتب حديث كل صاحب على أسماء الفقه وأبواب الاحكام، فهو مصنف ومسند، وما أعلم هذه الرتبة لأحد قبله، مع ثقته وضبطه وإتقانه واحتفاله في الحديث وجودة شيوخه، فانه روى عن مائتي رجل و84 رجلا ليس فيهم عشرة ضعفاء، وسائرهم أعلام مشاهير. ومنها مصنفه في فضل (2) الصحابة والتابعين ومن دونهم، الذي أربى فيه على مصنف أبي بكر بن أبي شيبة ومصنف عبد الرزاق بن همام ومصنف سعيد بن منصور وغيرها، وانتظم علما عظيما، لم يقع في شيء من هذه، فصارت تآليف هذا الإمام الفاضل قواعد للإسلام لا نظير لها. وكان متخيرا لا يقلد أحدا، وكان ذا خاصة من احمد بن حمبل رضي الله عنه. ومنها في أحكام القرآن: كتاب ابن آمنة الحجازي (3) ، وكان شافعي المذهب بصيرا بالكلام على اختياره، وكتاب القاضي أبي الحكم منذر ابن سعيد (4) وكان داودي المذهب، قويا على الانتصار له، وكلاهما في احكام القرآن غاية، ولمنذر مصنفات: منها " كتاب الإبانة عن حقائق أصول الديانة ". ومنها في الحديث: مصنف أبي محمد قاسم

_ (1) الجذوة: 167 وهو ينقل النص الموجود هنا، وانظر ترجمته في الصلة 1: 118 (2) الجذوة: فتاوى. (3) في النفح: ابن أمية، والتصحيح عن الجذوة: 380 (4) كان قاضي الجماعة في حياة الحكم المستنصر، وهو خطيب الأندلس وفقيهها، انظر الجذوة: 326، وطبقات الزبيدي: 319، وابن الفرضي 2: 142. ومن مصنفاته: الانباه على استنباط الاحكام من كتاب الله.

ابن اصبغ بن يوسف بن ناصح (1) ، ومصنف محمد بن عبد الملك بن ايمن (2) ، وهما مصنفان رفيعان احتويا من صحيح وغريبه على ما ليس في كثير من المصنفات، ولقاسم بن اصبغ هذه تآليف حسان جدا، منها أحكام القرآن على أبواب كتاب إسماعيل (3) وكلامه، ومنها كتاب " المجتبى " على أبواب كتاب ابن الجارود " المنتقى " وهو خير منه [انتقاء] (4) وانتقى حديثا وأعلى سندا واكثر فائدة. ومنها كتاب في فضائل قريش وكنانة، وكتابه في الناسخ والمنسوخ، وكتاب غرائب حديث مالك بن أنس مما ليس في الموطأ، ومنها " كتاب التمهيد " لصاحبنا أبي عمر يوسف بن عبد البر (5) ، وهو الآن بعد في الحياة، لم يبلغ سن الشيخوخة، وهو كتاب لا أعلم في الكلام على فقه الحديث مثله أصلا، فكيف احسن منه. ومنها كتاب " الاستذكار " وهو اختصار التمهيد المذكور ولصاحبنا أبي عمر بن عبد البر المذكور كتب لا مثل لها منها كتابه المسمى بالكافي في الفقه على مذهب مالك وأصحابه خمسة عشر كتابا (6) اقتصر فيه على ما بالمفتي الحاجة إليه وبوبه وقربه فصار مغنيا عن التصنيفات الطوال في معناه. ومنها كتابه في الصحابة ليس لأحد من المتقدمين مثله، على كثرة ما صنفوا في ذلك، ومنها كتاب " الاكتفاء " في قراءة نافع وأبي عمرو بن العلاء والحجة لكل منهما. ومنها كتاب " بهجة المجالس وانس المجالس " مما يجري في المذاكرات من غرر الأبيات ونوادر الحكايات، ومنها كتاب " جامع بيان العلم وفضله، وما ينبغي

_ (1) الجذوة: 311، وتوفي ابن أصبغ سنة 340 (2) الجذوة: 63، وتوفي ابن ايمن سنة 330هـ (3) هو إسماعيل بن إسحاق القاضي. (4) زيادة من الجذوة. (5) الجذوة: 344، والصلة: 640، توفي ابن عبد البر سنة 463هـ (6) الجذوة: ستة عشر جزءا.

في روايته " (1) . ومنها كتاب شيخنا القاضي أبي الوليد عبد الله بن محمد بن يوسف بن الفرضي (2) في " المختلف والمؤتلف في أسماء الرجال "، - ولم يبلغ عبد الغني الحافظ البصري، إلا كتابين، وبلغ أبو الوليد رحمه الله تعالى، نحو الثلاثين - لا أعلم مثله في فنه البتة. ومنها تاريخ احمد بن سعيد (3) . ما وضع في الرجال أحد مثله، إلا ما بلغنا من تاريخ محمد بن موسى العقيلي البغدادي، ولم أره. وأحمد بن سعيد هو المتقدم في التأليف القائم في ذلك. ومنها كتب محمد بن (احمد بن) يحيى بن مفرج القاضي (4) وهي كثيرة. منها أسفار سبعة جمع فيها فقه الحسن البصري. وكتب كثيرة جمع فيها فقه الزهري. ومما يتعلق بذلك " شرح الحديث " لقاسم بن ثابت السرقسطي (5) فما شآه أبو عبيد إلا بتقدم العصر فقط. ومنها في الفقه " الواضحة " والمالكيون لا تمانع بينهم في فضلها واستحسانهم إياها. ومنها " المستخرجة من الاسمعة " وهي المعروفة ب " العتبية " (6) ولها عند أهل أفريقية القدر العالي والطيران

_ (1) اغفل ذكر الدرر في اختصار المغازي ولسير. وكتاب الشواهد في إثبات خبر الواحد وكتاب البيان عن تلاوة القرآن وكتاب التجويد والمدخل إلى العلم بالتجويد، وكتاب العقل والعقلاء وكتاب أخبار أئمة الأنصار. أما كتاب جامع بيان العلم فقد طبع في جزئين (إدارة الطباعة المنيرية 1346هـ) وطبع مجردا من الإسناد باسم مختصر جامع بيان العلم في جزء واحد. (2) ابن الفرضي أبو الوليد هو الحافظ الرواية قتل في الفتنة 403، انظر الجذوة: 237 وقد وصلنا من كتبه كتاب في تاريخ العلماء والرواة للعلم بالأندلس. (3) الجذوة: 117 واحمد بن سعيد هو الصدفي ألف في تاريخ الرجال كتابا كبيرا جمع فيه جميع ما أمكنه من أقوال الناس في العدالة والتجريح. توفي سنة 350 (4) الجذوة: 38 (5) في النفح: عامر بن حلف السرقسطي، والتصويب من الجذوة: 322 وقد نقل تعليق ابن حزم هنالك. (6) الواضحة لعبد الملك بن حبيب والعتبية لتلميذه العتبي (الجذوة 264، 37) وها هنا يذكر ابن حزم ما تفتخر به الأندلس بقطع النظر عن رأيه هو فيه، لأنه لا يرى عبد الملك أو تلميذه من ثقات أهل الحديث، وفي الكتابين من غرائب الحديث ما لا يقبله مثل ابن حزم.

لحثيث. والكتاب الذي جمعه أبو عمر احمد بن عبد الملك بن هشام (1) الاشبيلي المعروف بابن المكوي (2) ، والقرشي أبو مروان المعيطي (3) ، في جمع اقاويل مالك، كلها على نحو الكتاب " الباهر " الذي جمع فيه القاضي أبو بكر محمد بن احمد بن الحداد المصري (4) أقاويل الشافعي كلها. ومنها كتاب " المنتخب " الذي ألفه القاضي محمد بن يحيى بن عمر بن لبابة، وما رأيت لمالكي قط كتابا أنبل منه في جمع روايات المذهب وشرح مستغلقها، وتفريع وجوهها. وتآلف قاسم بن محمد (5) المعروف بصاحب الوثائق، وكلها حسن في معناه، وكان شافعي المذهب نظارا، جاريا في ميدان البغداديين. 11 - ومنها في اللغة الكتاب " البارع " (6) الذي ألفه اسماعيل بن القاسم يحتوي على لغة، وكتابه في " المقصور والممدود والمهموز " لم يؤلف مثله في بابه، وكتاب " الأفعال " لمحمد بن عمر بن عبد العزيز المعروف بابن القوطية (7) ، بزيادات ابن طريف (8) ، مولى العبديين، فلم يوضع في فنه مثله، وكتاب جمعه أبو غالب تمام بن غالب المعروف بابن التياني في اللغة (9) ، لم يؤلف مثله اختصارا وإكثارا وثقة نقل، وهو أظن في

_ (1) الجذوة: هاشم. (2) في النفح: الكوي. (3) في النفح: البصري. (4) ترجمة ابن المكوي في الجذوة: 123، الصلة: 28، واسم المعيطي: محمد بن عبيد الله القرشي، وقد قال ابن بشكوال انهما جمعا الكتاب للمستنصر، أما الحميدي فذكر انهما جمعاه بامر المنصور بن أبي عامر. واسم الكتاب المجموع " الاستيعاب " - توفي ابن المكوي سنة 401. (5) الجذوة: 310 توفي قاسم سنة 278 وله كتاب " الإيضاح في الرد على المقلدين ". (6) بقيت من هذا الكتاب قطعة أخرجها Fulton بالزنكوغراف، لندن 1933. (7) في النفح: محمد بن عامر العزي والتصويب عن الجذوة: 71، وقد وصلنا من كتبه كتاب الأفعال وكتاب افتتاح الأندلس. (8) انظر ترجمة ابن طريف في الجذوة: 381 (9) الجذوة: 172 وقد نقل الحكاية عن مجاهد العامري وابن التياني. وانظر أيضاً الصلة 1: 122

الحياة بعد. وها هنا قصة لا ينبغي ان تخلوا رسالتنا عنها، وهي: ان أبا الوليد عبد الله بن محمد بن عبد الله المعروف بابن الفرضي حدثني ان أبا الجيش مجاهدا صاحب الجزائر ودانية وجه إلى أبي غالب أيام غلبته على مرسية، وابو غالب ساكن بها، ألف دينار أندلسية، على ان يزيد في ترجمة الكتاب المذكور " مما ألفه تمام بن غالب لأبي الجيش مجاهد " فرد الدنانير وابي من ذلك، ولم يفتح في هذا بابا البتة وقال: والله لو بذل لي الدنيا على ذلك ما فعلت، ولا استجزت الكذب، لأني لم اجمعه له خاصة، بل لكل طالب [عامة] (1) . فأعجب لهمة هذا الرئيس وعلوها، واعجب لنفس هذا العالم ونزاهتها. ومنها كتاب احمد بن أبان ابن سيد (2) في اللغة المعروف بكتاب " العالم " نحو مائة سفر على الأجناس، في غاية الايعاب، بدأ بالفلك، وختم بالذرة، وكتاب " النوادر " (3) لأبي علي إسماعيل بن القاسم وهو مبار لكتاب " الكامل " لأبي العباس المبرد، ولعمري لئن كان كتاب أبي العباس اكثر نحوا وخبرا، فان كتاب أبي علي لأكثر لغة وشعرا. وكتاب " الفصوص " لصاعد بن الحسن الربعي (4) وهو جار في مضمار الكتابين المذكورين. ومن الانحاء تفسير الجرفي (5) لكتاب الكسائي حسن في معناه، وكتاب ابن سيده في ذلك المنبوز ب " العالم والمتعلم " وشرح له لكتاب الأخفش (6) .

_ (1) زيادة من الجذوة. (2) الجذوة: 110، والصلة: 14 وكان صاحب الشرطة بقرطبة، أخذ عن القالي كتاب النوادر، وتوفي سنة 382 وترجم له صاحب الجذوة مرة أخرى تحت " ابن سيد ": 381 ونقل ما قاله ابن حزم هنا. (3) هو المشهور باسم " كتاب الامالي ". (4) ترجمة صاعد في الجذوة: 223، والبغية رقم: 852 (5) في النفح: الحوفي والتصحيح عن الجذوة: 384 وضبطه بالجيم وضمها، وهو في البغية رقم: 1576 (6) ترجمة ابن سيده، رقم 892 في الصلة (2: 396) ، وهو صاحب المخصص والمحكم وغيرهما، توفي سنة 458، وقد ذكر الحميدي كتاب العالم والمتعلم وشرح كتاب الأخفش عند الكلام على ابن سيد المتقدم الذكر، ويبدو ان المصادر اضطربت في نسبة هذين الكتابين لتشابه الاسمين ولكن من الغريب ان يذكر ابن حزم مؤلفات ابن سيد في مكانين.

12 - ومما ألف في الشعر: كتاب عبادة بن ماء السماء في أخبار شعراء الأندلس (1) ، كتاب حسن، وكتاب " الحدائق " لأبي عمر احمد بن فرج (2) ، عارض به كتاب الزهرة، لأبي محمد داود، رحمه الله تعالى، إلا أن أبا بكر إنما ادخل مائة باب، في كل باب مائة بيت، وابو عمر اورد مائتي باب في كل باب مائة بيت، ليس منها باب تكرر اسمه لأبي بكر، ولم يورد فيه لغير أندلسي شيئا، وأحسن الاختبار ما شاء واجاد، فبلغ الغاية، وأتى الكتاب فردا في معناه. ومنها كتاب " التشبيهات من أشعار أهل الأندلسيين " جمعه أبو الحسن علي بن محمد بن أبي الحسين الكاتب (3) وهو حي بعد. ومما يتعلق بذلك: شرح أبي القاسم إبراهيم ابن محمد الافليلي لشعر المتنبي، وهو حسن جدا. 13 - ومن الأخبار: تواريخ احمد بن محمد بن موسى الرازي في أخبار ملوك الأندلس وخدمتهم وغزواتهم ونكباتهم وذلك كثير جدا وكتاب له في صفة قرطبة وخططها ومنازل الأعيان بها، على نحو ما بدأ به ابن طاهر في أخبار بغداد، ويذكر صحابة أبي جعفر المنصور بها. وتواريخ متفرقة رأيت منها: " أخبار عمرو بن حفصون " القائم برية ووقائعه وسيره وحروبه. وتاريخ آخر في أخبار عبد الرحمن بن مروان الجليقي القائم بالجوف (4) . وفي أخبار بني قيس والتجيبيين وبني

_ (1) عبادة بن ماء السماء: ترجم له في الجذوة: 274 والصلة: 426 والذخيرة، ولابن حيان في المقتبس نقول عن كتاب لعبادة، وكذلك ينقل ابن سعيد في المغرب عن كتابه في طبقات الشعراء (انظر المغرب 1: 115، 125) . (2) احمد بن فرج: الجذوة: 97 والصلة 1: 12 والمغرب 2: 56 واليتيمة 1: 368 وقلائد العقيان: 79، ولم يصلنا كتاب الحدائق ولكن الحميدي وابن الأبار في الحلية وابن سعيد في المغرب نقلوا عنه كثيرا. (3) علي بن محمد بن أبي الحسين الكاتب: الجذوة: 290 قال الحميدي: كان في الدولة العامرية وعاش إلى أيام الفتنة. (4) انظر المقتبس: 15

الطويل بالثغر (1) . وقد رأيت من ذلك كتبا مصنفة في غاية الحسن، وكتاب مجزأ في أجزاء كثيرة في اخبر رية وحصونها وحروبها وفقهائها وشعرائها تأليف إسحاق بن سلمة بن إسحاق القيني (2) . وكتاب محمد بن الحارث الخشني في أخبار القضاة بقرطبة وسائر بلاد الأندلس، وكتاب في أخبار الفقهاء بها (3) . وكتاب لأحمد بن محمد بن موسى في انساب مشاهير أهل الأندلس، في خمسة أسفار ضخمة من أحسن كتاب في الأنساب وأوسعها، وكتاب قاسم بن أصبغ في الأنساب في غاية الحسن والايعاب والإيجاز. وكتابه في فضائل بني أمية. وكان من الثقة والجلالة بحيث اشتهر أمره وانتشر ذكره، ومنها كتب مؤلفة في أصحاب المعاقل والأجناد الستة بالأندلس. ومنها كتب كثيرة جمعت فيها أخبار شعراء الأندلس للمستنصر رحمه الله تعالى، رأيت منها " أخبار شعراء البيرة " في نحو عشرة أجزاء ومنها كتاب " الطوالع " في أنساب أهل الأندلس، ومنها " كتاب التاريخ الكبير " في أخبار أهل الأندلس، تأليف أبي مروان بن حيان نحو عشرة أسفار، من اجل كتاب ألف في هذا المعنى،

_ (1) من أخبار هؤلاء الثائرين طرف في المقتبس وابن عذاري، وانظر في التعريف بهم وبأنسابهم كتاب الجمهرة: 464، اما التجيبيون فهم من العرب، وأما بنو قسي وبنو الطويل وهم بنو شبراط فانهم من المولدين. (2) في النفح: الليثي، وترجمته في الجذوة: 159 ومعجم البلدان (رية) . (3) توفي الخشني 361هـ، وترجمته في الجذوة: 49، وقد وصلنا كتابه في أخبار قضاة الأندلس الذي ألفه بطلب من الحكم المستنصر ونشره ريبيرا 1914 ونشر بمصر 1372 وكذلك وصلنا كتابه " علماء أفريقية " وهو مطبوع مع الكتاب الأول، وقول ابن حزم " بها " يدل على ان للخشني كتابا في علماء الأندلس وفقهائها وهو غير الكتاب السابق.

وهو في الحياة بعد، لم يتجاوز الاكتهال (1) ، وكتاب " المآثر العامرية " لحسين بن عاصم (2) في سير ابن أبي عامر وأخباره، وكتاب الأفشتين محمد بن عاصم النحوي في طبقات الكتاب بالأندلس (3) . وكتاب سكن بن سعيد في ذلك (4) . وكتاب احمد بن فرج في المنتزين والقائمين بالأندلس وأخبارهم. وكتاب أخبار أطباء الأندلس لسليمان بن جلجل (5) . 14 - وأما الطب: فكتب الوزير يحيى بن إسحاق وهي كتب حسان رفيعة (6) . وكتب محمد بن الحسن المذحجي أستاذنا رحمه الله تعالى، وهو المعروف بابن الكتاني، وهي كتب رفيعة حسان (7) . وكتب " التصريف " لأبي القاسم خلف بن عباس الزهراوي، وقد أدركناه وشاهدناه ولئن قلنا انه لم يؤلف في الطب اجمع منه ولا احسن للقول

_ (1) مؤرخ الأندلس المشهور حيان بن خلف أبو مروان انظر ترجمته في الصلة 1: 150 والذخيرة ½: 84 - 114، وانظر ملحق بروكلمان 1:578 بأسماء كتبه، وقد نشرت قطعة من المقتبس بعناية الأب ملثور انونية بباريس 1937 ومن تواريخ ابن حيان نقول كثير في الكتب الأندلسية وبخاصة في الذخيرة. (2) حسين بن عاصم: الجذوة: 181 (3) الافشتين ترجمته في الجذوة: 74 والبغية رقم: 243 (4) سكن بن سعيد ترجمته في الجذوة: 219 والبغية رقم: 834 (5) ألف ابن جلجل هذا الكتاب سنة 377 وقد نشر نشرة محققة جيدة بعناية الأستاذ فؤاد السيد (مطبعة المعهد الفرنسي بالقاهرة 1955) ، مع مقدمة ضافية في التعريف بالكتاب ومؤلفه. (6) يحيى بن إسحاق: ترجمته في ابن جلجل: 100 وابن أبي أصيبعة 3: 68 والجذوة: 351 والبغية رقم 1460 (7) محمد بن الحسن المذحجي: (يكتب ابن الحسين في طبقات صاعد وابن أبي أصيبعة، ويكتب ابن الحسن حيث ورد في مؤلفات ابن حزم من مطبوع ومخطوط) . ترجمته في ابن أبي أصيبعة 3: 73 والجذوة: 45 والبغية رقم: 81

والعمل، في الطبائع، لنصدقن (1) . وكتب ابن الهيثم (2) في الخواص والسموم والعقاقير من اجل الكتب وانفعها. 15 - وأما الفلسفة: فاني رأيت فيها رسائل مجموعة وعيونا مؤلفة لسعيد بن فتحون السرقسطي المعروف بالحمار، دالة علة تمكنه من هذه الصناعة (3) ، وأما رسائل استاذنا أبي عبد الله محمد بن الحسن المذحجي في ذلك فمشهورة متداولة وتامة الحسن فائقة الجودة عظيمة المنفعة. 16 - وأما العدد والهندسة فلم يقسم لنا في هذا العلم نفاذ، ولا تحققنا به، فلسنا نثق بأنفسنا في تميز المحسن من المقصر في المؤلفين فيه من أهل بلدنا، إلا اني سمعت من اثق بعقله ودينه من أهل العلم ممن اتفق على رسوخه فيه يقول: انه لم يؤلف في الازياج مثل زيج مسلمة (4) وزيج ابن السمح (5) ، وهما من أهل بلدنا. وكذلك كتاب لأحمد بن نصر فما تقدم إلى مثله في معناه. 17 - وإنما ذكرنا التآليف المستحقة للذكر، والتي تدخل تحت

_ (1) خلف بن عباس (في النفح: عياش) الزهراوي: ترجمته في ابن أبي أصيبعة 3: 85 والجذوة: 195 والبغية رقم: 715 ومن كتابه التصريف نسخ مخطوطة في برلين وباريس وولي الدين وغيرها (راجع ملحق بروكلمان 1: 425) (2) اسمه عبد الرحمن بن اسحاق وترجمته في ابن أبي اصيبعة: 74 (3) سعيد بن فتحون السرقسطي: الجذوة 216 والبغية رقم: 813 وطبقات الأمم: 78 وله تأليف في الموسيقى ورسالة في المدخل إلى علوم الفلسفة سماها " شجرة الحكمة " ورسالة في تعديل العلوم. نالته منحة أيام المنصور بن أبي عامر فهاجر إلى صقلية وبها توفي. (4) مسلمة: هو أبو القاسم مسلمة بن احمد من أهل قرطبة توفي 398 وله تعديل زيج البتاني ولعله الذي يشير إليه ابن حزم (ابن أبي اصيبعة 3: 62 وطبقات الأمم: 78 وابن القفطي: 316 وانظر مؤلفاته التي وصلتنا في بروكلمان الملحق 1: 431) . (5) ابن السمح: أبو القاسم اصبغ بن محمد بن السمح المندس الغرناطي كان في زمن الحكم ومن كتبه زيجه الذي ألفه على أحد مذاهب الهند توفي سنة 426 (ابن أبي اصيبعة 3: 62 وطبقات الأمم: 79 وانظر مؤلفاته التي وصلتنا في تاريخ بروكلمان 1: 472 والملحق 1: 861) .

الأقسام السبعة التي لا يؤلف عاقل عالم إلا في أحدها (1) ، وهي إما شيء يخترعه لم يسبق إليه أو شيء ناقص يتمه مستغلق يشرحه أو شيء طويل يختصره دون ان يخل بشيء من معانيه أو شيء متفرق يجمعه أو شيء مختلط يرتبه، أو شيء أخطأ فيه صاحبه يصلحه. وأما التآليف المقصرة عن مراتب غيرها فلم نلتفت إلى ذكرها، وهي عندنا من تأليف أهل بلدنا اكثر من ان يحاط بعلمها. 18 - وأما علم الكلام فان بلادنا وان كانت لم تتجاذب فيها الخصوم، ولا اختلفت فيها النحل، فقل لذلك تصرفهم في هذا الباب، فهي على كل حال غير عرية عنه، وقد كان فيهم قوم يذهبون إلى الاعتزال، نظار على اصوله، ولهم فيه تآليف منهم: خليل بن إسحاق (2) ويحيى بن السمينة (3) والحاجب موسى بن حدير (4) وأخوه الوزير صاحب المظالم، وكان داعية إلى الاعتزال لا يستتر بذلك. 19 - ولنا على مذهبنا الذي تخيرناه من مذاهب أصحاب الحديث كتاب في هذا المعنى، وهو وان كان صغير الجرم، قليل عدد الورق، يزيد على المائتين زيادة يسيرة، فعظيم الفائدة، لانا أسقطنا فيه المشاغب كلها، وأضربنا عن التطويل جملة، واقتصرنا على البراهين المنتخبة من المقدمات الصحاح الراجعة إلى شهادة الحس وبديهة العقل بالصحة، ولنا فيما تحققنا به تآليف جمة، منها ما قد تم، ومنها ما شارف التمام، ومنها ما قد مضى منه صدر، ويعين الله تعالى على بقيه، لم نقصد به قصد مباهاة، فنذكرها، ولا أردنا السمعة فنسميها، والمراد بها ربنا

_ (1) التواليف السبعة: قابل بين ما جاء هنا وما ذكره ابن حزم في كتاب التقريب: 10 (2) خليل بن إسحاق: لعل صوابه خليل بن عبد الملك (ابن الفرضي 1: 165 والتكملة 1: 309) وهو ممن صحب ابن مسرة وكان يقول بالاستطاعة وتتلمذ له ابن السمينة. (3) يحيى بن السمينة توفي سنة 315، ترجمته في طبقات الأمم: 74 وابن الفرضي 2: 185 (4) موسى بن محمد بن حدير: ترجمته في الجذوة 316 والبغية رقم: 1320 وأخوه احمد بن محمد ابن حدير ولي أيضاً الوزارة والقيادة لعبد الرحمن الناصر.

جل وجهه، وهو ولي العون فيها، والملي بالمجازاة عليها، وما كان لله تعالى فسيبدو، وحسبنا الله ونعم الوكيل. 20 - وبلدنا هذا على بعد من ينبوع العلم، ونأيه من محلة العلماء فقد ذكرنا من تآليف أهله ما إن طلب مثلها بفارس والأهواز وديار مضر وديار ربيعة واليمن والشام، أعوز وجود ذلك، على قرب المسافة في هذه البلاد من العراق التي هي دار هجرة الفهم وذويه ومراد المعارف وأربابها. 21 - ونحن إذا ذكرنا أبا الأجرب جعونة بن الصمة الكلابي (1) في الشعر، لم نباه به إلا جريرا والفرزدق لكونه في عصرهما، ولو أنصف لاستشهد بشعره، فهو جار على مذهب الاوائل لا على طريقة المحدثين. وإذا سمينا بقي بم مخلد لم نسابق به إلا محمد بن إسماعيل البخاري ومسلم ابن الحجاج النيسابوري وسليمان بن الأشعث السجستاني وأحمد بن شعيب النسائي، وإذا ذكرنا قاسم بن محمد لم نباه به إلا القفال ومحمد بن عقيل الفريابي، وهو شريكهما في صحبته المزني بن إبراهيم (2) والتتلمذ له، وإذا نعتنا عبد الله بن قاسم بن هلال ومنذر بن سعيد لم نجار بهما الا أبا الحسن بن المفلس والخلال والديباجي ورويم بن احمد وقد شاركهم عبد الله في أبي سليمان وصحبته. وإذا أشرنا إلى محمد بن عمر بن لبابة (3) وعمه محمد بن عيسى وفضل بن سلمة (4) لم نناطح بهم الا محمد بن عبد الله ابن عبد الحكم ومحمد بن سحنون ومحمد بن عبدوس. وإذا صرحنا بذكر محمد بن يحيى الرباحي (5) وأبي عبد الله محمد بن عاصم لن يقصرا عن أكابر

_ (1) ترجمة جعونة: في الجذوة 177 والبغية رقم 626 والمغرب 1: 131 (2) الجذوة: أبي إبراهيم المزني (3) الجذوة: 71 والبغية رقم 222 (4) فضل بن سلمة الجهني مولاهم توفي سنة 317 أو 319 انظر الجذوة: 308 والبغية رقم 1283 (5) محمد بن يحيى الرباحي ترجمته في الجذوة: 91 والبغية رقم 312

أصحاب محمد بن يزيد المبرد. ولو لم يكن لنا من فحول الشعراء إلا احمد بن دراج القسطلي لما تأخر عن شأو بشار وحبيب والمتنبي، فكيف ولنا معه جعفر بن عثمان الحاجب واحمد بن عبد الملك بن مروان واغلب بن شعيب ومحمد بن شخيص واحمد بن فرج وعبد الملك بن سعيد المرادي، وكل هؤلاء فحل يهاب جانبه، وحصان ممسوح الغرة. ولنا من البلغاء احمد بن عبد الملك بن شهيد صديقنا وصاحبنا وهو حي بعد، لم يبلغ سن الاكتهال، وله من التصرف في وجوه البلاغة وشعابها مقدارا يكاد ينطق فيه بلسان مركب من لساني عمرو وسهل. ومحمد بن عبد الله بن مسرة في طريقه التي سلك فيها وان كنا لا نرضى مذهبه، في جماعة يكثر تعدادهم. وقد انتهى ما اقتضاه خطاب الكاتب، رحمه الله تعالى، من البيان، ولم يتزيد فيما رغب فيه إلا ما دعت الضرورة إلى ذكره لتعلقه بجوابه، والحمد لله الموفق لعلمه، والهادي إلى الشريعة المزلفة منه والموصلة، وصلى الله على سيدنا محمد عبده ورسوله وعلى آله وصحبه وسلم وشرف وكرم. انتهت الرسالة

فراغ

قطعة من شعر ابن حزم بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آل محمد وسلم قال الفقيه الإمام الأوحد أبو محمد بن احمد بن سعيد بن حزم الأندلسي رضي الله عنه (1) : - 1 - 1 - لك الحمد يا رب والشكر ثم ... لك الحمد ما باح بالشكر فم 2 - لك الحمد في كل ما حالة ... فقد خصني منك فضل وعم 3 - من الماء أنشأتني نطفة ... ومن بعد ذلك لحم ودم 4 - وأسكنت في جسدي روحه ... وأجعلتها في طباق الرحم 5 - وأخرجتني بعد في عالمي ... وبلغتني درجات الفهم 6 - فمنك لي البصر المقتفي ... وسمع وذوق ونطق وشم 7 - وحس صحيح وتميز ما ... خلقت بأنواعه من أمم 8 - ومكنتني من فنون العلوم ... ببادي الكلام وخط القلم 9 - وعلمتني الحكم في هل وما ... (2) وأطلعتني طلع كيف ولم

_ (1) قال بن خير في فهرسته: 417 ان هذه القصيدة 73 بيتا، وقد بلغت هنا ثمانين. (2) انظر أقسام السؤال في كتاب التقريب: 182، والأبيات 9 - 12 فيها حمد لله تعالى على ما علمه من أصول منطقية.

10 - وحد الحقائق ميزت لي ... من الباطل المتقى في الكلم 11 - ببرهان صدق يليح اليقين ... وينفي المحال ويبدي الحكم 12 - ويوفي بيان اسمه ... ويحتد بالوصف ما لم يسم 13 - ومن هيئة الفلك المستدير ... وقفت على حده المنتظم 14 - وما فيه من فلك دائر ... ومن كوكب قاطع كالعلم 15 - فأكبرها قاصدا مغربا ... وسائرها جهة الشرق أم 16 - إدارة رب لها منشيء ... يصرفها أمره حيث حم 17 - يخالف ما بين أدوارها ... على سنن راتب مستتم 18 - ليعلم أهل النهى أنها ... مدبرة لحكيم حكم 19 - وأن ليس تختار شيئا ولا ... لها الحكم بل إلالاه الأمم 20 - يدير بأزمانها دهرها ... فيثبت مبدؤها للفهم 21 - وتشهد أن الذي صاغها ... هو الواحد الحق باري النسيم 22 - هو الأول المبتدي خاقها ... كما شاء إذ شاء فرق وضم 23 - فأبدى الزمان وأبدى المكان ... وما فيهما صاغ بدءا ولم 24 - هواء وماء وأرض ونار ... ومشرق أنوارها والظلم 25 - نهار مضيء وليل أحم ... وبحر عميق وطود أشم 26 - وركب لاميها كيف شاء ... سكان بر وسكان يم 27 - ونبت يقوم على ساقه ... وآخر لا ساق يعليه ثم 28 - بلا فيم قطعا ولا لم ولا ... هنالك مم ولا فيه كم 29 - ولا كان شيء سواء له ... مثالا ولا مخربا ما نظم 30 - فصاغ العقول كما شاءها ... فمن شاء أذكى ومن شا أصم 31 - وركبها في النفوس التي ... كما شاء أنشأها ربكم 32 - وما كان من قبل عقل ولا ... سفاه ولا كان مدح وذم 33 - ولا كان عدل ولا حكمة ... ولا كان ظلم ولا من ظلم 34 - ولو كان ذلك لم يعتدل ... وجود الأمور ولم يستقم

35 - لأن الكثير له عدة ... تعد وتحصره إذ تعم 36 - وما حصرته حدود الكلام ... فوجدانه صح بعد العدم 37 - نهاياته جامعات له ... فقد صح مبدؤه وانتظم 38 - ولكن مبدعها واحد ... هو الأول الحق أفنى إرم 39 - وليس بمعجزة ما يقوم ... بوهم إليه وما لم يقم 40 - ولا شيء يشبهه جملة ... تحقق ذلك من قد علم 41 - فأبدى اللغات وأعطى العلوم ... وأفشى الصناعات والكل زم 42 - ولولا التعاليم لم ندرها ... ولا عاش حي ولم تغذ أم 43 - فصح بذلك إرسال من ... به علم الناس ما قد علم 44 - فيا لك برهان حق بدا ... فجلى من الجهل ما قد أهم 45 - بصدق النبوة والمبتدي ... لخلق الجميع ومنشي النعم 46 - فأرسل مرسله بالهدى ... على ما قضاه وما قد حتم 47 - محمد المصطفى بالكتاب ... به أنبياء الهدى قد ختم 48 - فشق له القمر المستنير ... بحضرة راضين أو من رغم 49 - وأبدى الينابيع من كفه ... فأروى به الجيش والجيش جم 50 - وأعجز في نظم قرآنه ... أولي حضر وبداة الخيم 51 - ودان الملوك لآياته ... خلاف التكاذيب ممن زعم 52 - على غير خوف له يتقى ... ولا رغبة عنده تغتنم 53 - فحلوا له عقد تيجانهم ... وخلوا له ملكهم فانهدم 54 - بطب النفوس بلا سل سيف ... ولا بذل مال له يقتسم 55 - كباذان في اليمن المتقي ... وأهل عمان وضاحي قدم 56 - إلى ذي الكلاع وذي زودة ... إلى ابن ظليم فأقصى إرم 57 - وصح لنا نقل أعلامه ... وأحكامه باتصال سلم 58 - فما فيه معترض يتقى ... بأطباق عرب ونقل العجم 59 - وقد ظهر الحق فيما به ... أتى لا كنقل كثير السقم

60 - كنقل النصارى ونقل اليهود ... ونقل المجوس لأخبار جم 61 - أحاديث لم تك في أصلها ... تباح ولكنها تكتتم 62 - ولم تأت إلا بنقل أتى ... به كل منتحل متهم 63 - ولم تأت إلا بنقل أتى ... به كل منتحل متهم 63 - مناقضة بعضها بعضها ... تكاذيبها باديات تنم 64 - فشتان بين الهدى والعمى ... وشتان نور الضحى والعتم 65 - فما جاء من عند رب الجميع ... على يد مرسله قل نعم 66 - ولا تعده واطرح غيره ... وإن لام فيه أخ وابن عم 67 - تفز بالحقيقة مستعجلا ... وتسلم إذا مت من كل غم 68 - ولا تلتفت لدعاء وانت ... لقوم براهينها لم تقم 69 - ولا تشتغل بالذي نفعه ... لدنيا لها أمد منصرم 70 - فما هذه الدار إن حصلت ... حقيقتها غير طيف ألم 71 - سيفنى العزيز ويفنى الذليل ... وتفنى القوى وسيفنى الألم 72 - يبيد الجميع فلا تغترر ... بما لا يدوم لمن لم يدم 73 - فأين الذين بنوا تدمرا ... وباني البرابي وباني الهرم 74 - وأين الألى أحكموا قادسا ... وعقد قناطرها والصنم 75 - أولئك أهل القوى قد مضوا ... كما قد مضى سد سيل العرم 76 - فمن حال طفل إلى صبوة ... وشرخ شباب ويأتي الهرم 77 - وتأتي المنية لا بد أن ... يطيف بنا حكمها الملتزم 78 - ومن بعد ذلك دار الجزاء ... وما قد مضى فكماضي الحلم 79 - فدار النعيم لأهل الفلاح ... ونار لمن قد عصى تضطرم 80 - فبادر قبيل حلول الردى ... فتندم إذ ليس يغني الندم هذه القصيدة في إثبات حدوث العالم وصحة نبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وفيها وعظ حسن، ارتجلها الفقيه في مجلس الخلافة دون إعمال روية، رحمه الله.

- 2 - ذكر في صلة الصلة وهو التاريخ المعروف بتاريخ الفرغاني ان النقفور ملك النصارى أرسل بقصيدة نظمها كاتب مرتد وأرسلها إلى أمير المؤمنين المطيع رضي الله عنه وذلك إذ أخذت النصارى بعض ثغور الإسلام فلما وصلت إلى مجلس الخلافة وقرئت بين يدي أمير المؤمنين المعتد بالله تعالى بالأندلس، ولم يقصد بها المعتد وإنما وردت من بلاد المشرق، اهتز الفقيه الإمام أبو محمد رضي الله عنه سماعها غضبا لله عز وجل ولرسوله ولدينه وارتجل قصيدة على البديهة ولم يثبت فيها لشدة غضبه وهمه رضي الله عنه، فقال، رحمه الله (1) : 1 - من المحتمي لله رب العوالم ... ودين رسول من آل هاشم 2 - محمد الهادي إلى الناس (2) بالتقى ... (3) وبالرشد والإسلام أفضل قادم

_ (1) وردت هذه القصيدة في طبقات الشافعية للسبكي 2: 184 والبداية والنهاية لابن كثير 11: 247 وهي كثيرة التصحيف والتحريف في هذين المصدرين ولذلك لم اشر إلى فروق القراءات إلا عند الضرورة. وقال ابن خير إنها 139 بيتا، ولم يكن ابن حزم هو الوحيد الذي رد على قصيدة شاعر نقفور بل هناك قصيدتان أيضاً في الرد عليها إحداهما لأبي بكر القفال الشاشي والثانية للفقيه أبي الاصبغ عيسى بن موسى ابن زروال الغرناطي انظر فهرست ابن خير: 409 (س السبكي، ب البداية والنهاية) . (2) س: الله. (3) س ب: قائم

3 - عليه من الله السلام مرددا ... إلى أن يوافي البعث (1) كل العوالم 4 - إلى قائل بالإفك جهلا وضلة ... عن النقفور المنتزي في الأعاجم 5 - دعوت إماما ليس من أمر آله ... بكفيه الا كالرسوم الطواسم 6 - دهته الدواهي في خلافته كما ... دهت قبله الأملاك دهم الدواهم 7 - ولا عجب من نكبة أو ملمة ... تصيب الكريم الحر وابن الأكارم 8 - ولو أنه في حال ماضي جدوده ... لجرعتم منه سموم الأراقم 9 - عسى عطفة لله في أهل دينه ... تجدد منهم دراسات المعالم 10 - فخرتم بما لو كان فهم يريكم ... (2) حقائق دين أحكم حاكم 11 - إذن لعرتكم خجلة عند ذكره ... وأخرس منكم كل قيل مخاصم 12 - سلبناكم دهرا فلذتم بكرة ... من الدهر أفعال الضعاف العزائم 13 - فطرتم سرورا عند ذاك ونخوة ... كفعل المهين الناقص المتعاظم 14 - وما ذاك إلا في تضاعيف غفلة ... عرتنا وصرف الدهر جم الملاحم 15 - ولما تنازعنا الأمور تخاذلا ... ودالت لأهل الجهل دولة ظالم 16 - وقد شغلت فينا الخلائف فتنة ... لعبدانهم من تركهم والديالم 17 - بكفر أياديهم وجحد حقوقهم ... لمن رفعوه من حضيض التهائم 18 - ألم ننتزع منكم بأيد (3) وقوة ... جميع بلاد الشام ضربة لازم 19 - ومصر وأرض القيروان بأسرها ... وأندلسا قسرا بضرب الجماجم 20 - ألم تنتصف منكم على ضعف حالها ... صقلية في بحرها المتلاطم

_ (1) ب: الحشر. (2) البيت مختلف الرواية في ب. (3) ب: باعظم قوة.

22 - أحلت بقسطنطينة كل نكبة ... (1) وسامتكم سوء العذاب الملازم 23 - مشاهد تقديساتهم وبيوتها ... لنا وبأيدينا على رغم راغم 24 - أما بيت لحم والقمامة بعدها ... بأيدي رجال المسلمين الأعاظم 25 - وكرسيكم في أرض إسكندرية ... وكرسيكم في القدس في أورشالم 26 - ضممناهم قسرا برغم أنوفكم ... كما ضمت الساقين سود الأداهم 27 - وكرسي كان برهة ... ودهرا بأيدينا بذل الملاغم 28 - فليس سوى كرسي رومة فيكم ... وكرسي قسطنطينة في المقاوم 29 - ولا بد من عود الجميع بأسره ... الينا بعزم قاهر متعاظم 30 - أليس يزيد حل وسط دياركم ... على باب قسطنطينة بالصوارم 31 - ومسلمة قد داسها بعد ذاكم ... بجيش لهام كالليوث الضراغم 32 - وأخدمكم بالذل مسجد نا الذي ... بنى فيكم في عصرنا المتقادم 33 - إلى جنب قصر الملك في دار (2) ملككم ... ألا هذه حقا صريمة (3) صارم 34 - وأدى لهرون الرشيد مليككم ... إتاوة (4) مغلوب وجزية غارم 35 - سلبناكم (5) مسرى شهورا بقوة ... حبانا بها الرحمن أرحم راحم 36 - إلى ارض يعقوب وأرياف دومة ... إلى لجة البحر البعيد المخارم 37 - فهل سرتم في أرضنا قط جمعة ... أبى الله ذاكم يا بقاة الهزائم 38 - فما لكن إلا الأماني وحدها ... (6) بضائع نوكى تلك أضغاث حالم

_ (1) البيت سقط من ب. (2) س: ارض. (3) ب: صرامة. (4) ب: رفادة. (5) ب: مصر. (6) ب: أحلام نائم.

39 - رويدا يعد نحو الخلافة نورها ... ويكشف مغبر الوجوه السواهم 40 - وحينئذ تدرون كيف فراركم ... إذا صدمتكم خيل جيش مصادم 41 - على سلف العادات منا ومنكم ... ليالي أنتم في عداد الغنائم 42 - سبيتم سبايا ليس يكثر (1) عدها ... وسبيكم فينا كقطر الغمائم 43 - فلو رام خلق عدها رام معجزا ... وأنى بتعداد لريش الحمائم 44 - بابناء حمدان وكافور صلتم ... أراذل انجاس قصار المعاصم 45 - دعي وحجام أتوكم فتهتم ... (2) وما قدر مصاص دماء المحاجم 46 - ليالي قدناكم كما اقتاد جازر ... جماعة أتياس لحز الحلاقم 47 - وسقنا على رسل بنات ملوككم ... سبايا كما سيقت ظباء الصرائم 48 - ولكن سلوا عنا هرقلا ومن خلالكم ... من ملوك مكرمين قماقم 49 - يخبركم عنا المتوج منكم ... (3) وقيصركم عن سبينا كل آيم 50 - وعن ما فتحنا من منيع بلادكم ... وعن ما أقمنا فيكن من مآتم 51 - ودع كل نذل ينتمي لا تعده ... إماما ولا من محكمات الدعائم 52 - فهيهات سامرا وتكريت منكم ... إلى جبلا تلكم أماني هائم 53 - منى يتمناها الضعيف ودونها ... تطاير هامات وحز الغلاصم 54 - ومن دون بغداد سيوف حديدة ... متيسرة للحرب من آل هاشم 55 - محلة أهل الزهد والخير والتقى ... ومنزلة يحتلها (4) كل عالم

_ (1) ب: يحصر العد دونها. (2) بعد هذا البيت في ب بيت مضطرب. (3) البيت مختلف الرواية في ب. (4) ب: يختارها.

56 - دعوا الرملة الدمثاء (1) عنكم فدونها ... (2) من المسلمين الصيد كل مخاصم 57 - ودون دمشق كل جيش كأنه ... سحائب طير تنتحى بالقوادم 58 - وضرب يلقي الروم كل مذلة ... كما ضرب السكي بيض الدراهم 59 - ومن دون أكناف الحجاز جحافل ... كقطر الغيوث الهاملات السواجم 60 - بها من بني عدنان كل سميدع ... ومن حي قحطان كرام العمائم 61 - ولو قد لقيتم من قضاعة (3) عصبة ... لقيتم ضراما في يبيس الهشائم 62 - إذا صبحوكم ذكروكم بما خلا ... لهم معكم من مأزق متلاحم 63 - زمان يقودون الصوافن نحوكم ... ليبغوا يسارا منكم في المغانم 64 - سيأتيكم منهم قريبا عصائب ... تنسيكم تذكارا أخذ العواصم 65 - وأموالكم فيء (4) لهم ودماؤكم ... بها يشتفي حر النفوس (5) الحوائم 66 - وأرضكم حقا سيقتسمونها ... كما فعلوا دهرا بعدل المقاسم 67 - ولو طرقتكم من خراسان عصبة ... وشيراز والري القلاع القوائم 68 - لما كان منكم عند ذلك غير ما ... عهدنا بكم خل (6) وعض الأباهم 69 - فقد طالما زاروكم في دياركم ... مسيرة عام بالخيول الصلادم 70 - وأما سجستان وكرمان والألى ... بكابل حلوا في ديار البراهم 71 - فمغزاهم في الهند لا يعرفونكم ... (7) بغير احاديث كذكر البهاذم

_ (1) س: الغراء. (2) ب: الغر كل مخاصم، س: كل ملازم. (3) ب: كبة. (4) س: حل لنا. (5) ب: الصدور. (6) ب: ذل. (7) س: لذكر التهازم والبيت ساقط من ب.

72 - وفي فارس والسوس جمع عرموم ... وفي أصبهان كل أروع عازم 73 - فلو قد أتاكم جمعهم لغدوتم ... فرائس للآساد مثل البهائم 74 - وبالبصرة الزهراء (1) والكوفة التي ... سمت وبأدنى واسط والكظائم 75 - جموع تسامي الرمل جم (2) عديدهم ... (3) فما أحد ينوي لقاهم بغانم 76 - ومن دون بيت الله مكة التي ... حباها بمجد للثريا مزاحم 77 - محل جميع الأرض منها تيقنا ... محلة سفل الخف من فص خاتم 78 - دفاع من الرحمن عنها يحفها ... فما هو عنها كر طرف برائم 77 - بها دفع الأحبوش (4) عنها وقبلهم ... بحصباء طير من ذرى الجو حائم 80 - وجمع كموج البحر عرموم ... حمى سرة البطحاء ذات المحارم 81 - ومن دون قبر المصطفى وسط طيبة ... جموع كمسود من الليل فاحم 82 - تقودهم جيش الملائكة العلى ... كفاحا ودفعا عن مصل وصائم 83 - فلو قد لقيناكم اعدتم رمائما ... (5) بمن في أعالي نجدنا والحضارم (6) 84 - وباليمن الممنوع فتيان غارم ... إذا ما لقوكم كنتم كالمطاعم 85 - وفي جلهتي أرض اليمامة عصبة ... مغاور أنجاد طوال البراجم

_ (1) ب: الغراء. (2) ب: عدا وكثرة. (3) ب: بسالم. (4) ب: وقع الاحبوش هلكى. (5) الشطر الثاني في ب مختلف تماما. (6) س: غارة.

86 - ستفنيكم والقرمطيين دولة ... تعود لميمون النقيبة حازم 87 - خليفة حق ينصر الدين حكمه ... ولا يتقي في الله لومة لائم 88 - إلى ولد العباس تنمى جدوده ... بفخر عميم أو لزهر العباشم 89 - ملوك جرى بالنصر طائر سعدهم ... فأهلا بماض منهم وبقادم 90 - محلتهم في مسجد القدس أو لدى ... منازل بغداد محل الأكارم 91 - وان كان من عليا عدي وتيمها ... ومن أسد أهل الصلاح الخضارم 92 - فأهلا وسهلا ثم نعمى ومرحبا ... بهم من خيار سالفين أقادم 93 - هم نصروا الإسلام نصرا مؤزرا ... وهم فتحوا البلدان فتح المراغم 94 - رويدا فوعد الله بالصدق وارد ... بتجريع أهل الكفر طعم العلاقم 95 - سنفتح قسطنطينة وذواتها ... ونجعلهم قوت النسور القشاعم 96 - ونملك أقصى أرضكم وبلادكم ... ونلزمكم ذل الجزى والمغارم 97 - ونفتح أرض الصين والهند عنوة ... بجيش لأرض الترك والخزر حاطم 98 - مواعيد للرحمن فينا صحيحة ... وليست كأمثال العقول السقائم 99 - إلى أن نرى الإسلام قد عم حكمه ... جميع البلاد بالجيوش الصوادم 100 - أيقرن يا مخذول دين مثلث ... بعيد عن المعقول بادي المآثم 101 - يدين لمخلوق بدين (1) عبادة ... (2) فيا لك سخفا ليس يخفى لكاتم (3) 102 - أناجيلكم مصنوعة متكاذب ... كلام الألى فيما أتوا بالعظائم 103 - وعود صليب لا تزالون سجدا ... له يا عقول الهاملات السوائم

_ (1) س: بدين لمخلوق يدين عباده. (2) ب: لعالم. (3) ب: قد تشابهت.

104 - تدينون تضلالا بصلب إلاهكم ... بأيدي يهود أرذلين ألائم 105 - إلى ملة الإسلام توحيد ربنا ... فما دين ذي دين لنا بمقاوم 106 - وصدق رسالات الذي جاء بالهدى ... محمد الآتي بدفع المظالم 107 - وأذعنت الأملاك طوعا لدينه ... ببرهان صدق ظاهر في المواسم 108 - (1) كباذان في صنعاء مالك دولة ... وأهل عمان حيث رهط الجهاضم 109 - وسائر أملاك اليمانيين أسلموا ... ومن بلد البحرين قوم اللهازم 110 - أجابوا لدين الله دون مخافة ... ولا رغبة تحظى بها كف عادم 111 - فحلوا عرى التيجان طوعا ورغبة ... (2) لحق مبين بالبراهين قائم 112 - وحاباه بالنصر (3) المليك إلاهه ... وصير من عاداه تحت المناسم 113 - فقير وحيد لم تعنه عشيرة ... ولا دفعوا عنه شتيمة شاتم 114 - ولا عنده مال عتيد لناصر ... ولا دفع مرهوب ولا لمسالم 115 - ولا وعد الأنصار دنيا تخصهم ... بلى، كان معصوما لأقدر عاصم 116 - فلم تمتهنه قط قوة آسر ... (4) ولا مكنت من جسمه يد لاطم 117 - كما يفتري زورا ولإفكا وضلة ... (5) على وجه عيسى منكم كل آثم 118 - على انكم قد قلتموا هو ربكم ... فيا لضلال في الحماقة جاثم 119 - أبى الله أن يدعى له ابن وصاحب ... سيلقى دعاة الكفر حالة نادم

_ (1) ب: كما دان. (2) ح: ناجم. (3) ب: المكين. (4) ب: ظالم. (5) ب: لاطم.

120 - ولكنه عبد (1) نبي مكرم ... من الناس مخلوق، ولا قول زاعم 121 - أيلطم وجه الرب تبا لجهلكم ... لقد فتموا (2) في ظلمكم كل ظالم 122 - وكم آية أبدى النبي محمد ... وكم علم أبداه للشرك حاطم 123 - تساوى جميع الناس في نصر حقه ... فللكل من إعظامه حال خادم 124 - فعرب وأحبوش وترك وبربر ... وكرد (3) بهم قد فاز قدح المساهم 125 - وقبط وأنباط وخزر وديلم ... وروم رموكم دونه بالقواصم 126 - أبوا كفر أسلاف لهم فتحنفوا ... فأبوا بحظ في السعادة جاثم 127 - به دخلوا في ملة الحق كلهم ... ودانوا لأحكام الإله اللوازم 128 - به صح تفسير المنام الذي أتى ... به دانيال قبله حتم حاتم 129 - وسند أسلموا وتدينوا ... بدين الهدى في رفض دين الأعاجم 130 - وشق لنا بدر السموات آية ... وأشبع من صاع له كل طاعم 131 - وسالت عيون الماء في (4) سبط كفه ... فأروى به جيشا كثير القماقم 132 - وجاء بما تقضي العقول بصدقه ... ولا كدعاو غير ذات قوائم 133 - عليه سلام الله ما ذر شارق ... (5) يعاقبه ظلماء أسحم غائم

_ (1) ب: رسول. (2) ب س: فقتم. (3) س: وفرس. (4) س: وسط. (5) س: عاتم.

134 - براهينه كالشمس لا مثل قولكم ... وتخليطكم في جوهر وأقانم 135 - لنا كل علم من قديم ومحدث ... وأنتم حمير داميات المحازم 136 - أتيتم بشعر بارد متخاذل ... ضعيف معاني النظم جم البلاغم 137 - فدونكها كالعقد فيه زمرد ... ودر ياقوت بإحكام حاكم رضي الله عن قائلها وأثابه الجنة بمنه ورحمته، انه هو الغفور الرحيم. - 3 - وقال رضي الله عنه إذ أكثر الناس في عذله وتأنيبه: 1 - قالوا تحفظ فإن الناس قد كثرت ... أقوالهم وأقاويل العدا محن 2 - فقلت: هل عيبهم لي غير أني لا ... أقول بالرأي إذ في رأيهم فتن 3 - وأنني مولع بالنص لست إلى ... سواه أنحو ولا في نصره أهن 4 - لا أنثي نحو آراء يقال بها ... في الدين بل حسبي القرآن والسنن 5 - يا برد ذا القول في قلبي وفي كبدي ... ويا سروري به لو أنهم فطنوا 6 - دعهم يعضوا على صم الحصى كمدا ... من مات من قوله عندي له كفن 7 - إني لأعجب من شأني وشأنهم ... واحسرتا إنني بالناس ممتحن 8 - ما ان قصدت لأمر قط أطلبه ... إلا وطارت به الأظعان والسفن 9 - أما لهم شغل عني فيشغلهم ... أو كلهم بي مشغول ومرتهن 10 - كأن ذكري تسبيح به أمروا ... فليس يغفل عني منهم لسن 11 - إن غبت عن لحظهم هاجوا بغيظهم ... حتى إذا ما رأوني طالعا سكنوا

12 - دعوا الفضول وهبوا للبيان لكي ... يدرى مقيم على الحسنى ومفتتن 13 - وحسبي الله في بدء وفي عقب ... بذكره تدفع الغماء والإحن - 4 - وقال رحمه الله في مدح كتب الحديث والحث على طلبه: 1 - أنائم أنت عن كتب الحديث وما ... أتى عن المصطفى فيها من الدين 2 - لمسلم والبخاري اللذين هما ... شدا عرى الدين في نقل وتبين 3 - أولى بأجر وتعظيم ومحمدة ... من كل قول أتى من رأي سحنون 4 - يا من هدى بهما اجعلني كمثلهما ... في نصر دينك محضا غير مفتون 5 - لا تجعلني رب العرش دونهما ... يوم الحساب وفي وضع الموازين - 5 - وقال رضي الله عنه: 1 - أجل هو ربع قد عفته الروامس ... فهل أنت فيه ويب غيرك حابس 2 - لقل له أن تحبس العيس ساعة ... عليه فتبكيك الرسوم الطوامس 3 - على أربع قد كان دهرا بطوله ... للهوك فيه مربع ومجالس 4 - عسى يستجيب الربع إذ أنا سائل ... وهل ترجع اللفظ الطلول الدوارس 5 - فعجت عليه ناقتي وهو سبسب ... سقته وجادته الغمام الرواجس 6 - وقلت ودمعي ساكب متحدر ... وانسان عيني في هواميه غامس

7 - لقد كان عيشي فيك لو دام مونقا ... ولكن أبت ذاك الحظوظ الأباخس 8 - ليالي من أهواء يمسي كأنه ... من العفر ظبي بالصريمة كانس 9 - وإذ شملنا باق جميع محسد ... ولم تقتطع ذاك الدهور الدهارس 10 - فكان جواب الربع إذ أنا سائل ... وهل تفهم القول الربوع الأخارس 11 - كذلك حكم الدهر آت وذاهب ... وفي الدهر أصناف مدوس ودائس 12 - فعرجت عنه موجع القلب ثاكلا ... وبين الحشا لذع من الحزن ناخس 13 - وفي طي مثني الصفيح على الثرى ... ؟؟ (1) للشكل والحسن لابس 14 - غريب صفات الحسن إن تبغ حسنه ... فأمنع معدوم هناك المجانس 15 - إذا حد لم تحو الحدود جهاته ... وان قيس يوما ضل فيه المقايس 16 - فديناه من ظبي يلوح ضياؤه ... على مثله حقا أصاب المنافس 17 - عجبت لدهر لا يني وهو طالبي ... بثأر ولا ينفك دأبا يمارس 18 - إذا ما اصطرعنا فالتداول بيننا ... عراك فمنهوس هناك وناهس 19 - فتسع وعشرون أتيحت سهامها ... لرأسي فغضت منه فالرأس هارس 20 - كأن بياض الرأس ينفي سواده ... صباح تعرى عنه ليل عكامس 21 - فأهلا بوفد الشيب إذ جاءوا فدا ... وكنت، وقلبي قبل ذا منه واجس 22 - ولما أتى ردت نفوس بغيظها ... ولم تنبسط نحوي اللحاظ النواعس 23 - ولم أر مثل الشيب أوفى وفية ... ليذعره بازي (2) النهار المؤانس 24 - وكنا نجوما طالعات مضيئة ... تنير بأدناها الخطوب الحنادس 25 - لقد كان لي في بعض ذلك واعظ ... وما اختلستنيه الصروف الخوالس 26 - تناءين عني كالغصون وأعرضت ... ضواحك أقمار وهن عوابس 27 - وقد طالما ارتاحت وهزت غصونها ... بقربي أحقاف الرمال الأواعس

_ (1) غير واضحة في ص. (2) غير واضح في ص.

28 - ظباء إذا قيس الظباء بحسنها ... فان يعافير الظباء خفافس 29 - زمان يسود المرء فيه محقد ... ولا كزمان ساد فيه الفلافس 30 - زعيمون أن يقضى لنا دون غيرنا ... إذا ازدحمت عند الملوك القلانس 31 - سمونا فما في دهرنا غير حاسد ... وطلعنا فلم ندرك فما ثم نابس 32 - إذا ما تراميني مفاخر معشر ... فأيسر فخري للمفاخر هارس 33 - واني بعرضي دون ديني متق ... واني بعرضي دون روحي متارس 34 - سما بي ساسان ودارا وبعدهم ... قريش العلى اعياصها والعنابس 35 - فما أخرت حرب مراتب سؤددي ... ولا قعدت بي عن ذرى المجد فارس 36 - هنالك مجد الدهر طالت فروعه ... فهن مواض صعد لا نواكس 37 - ملكنا ملوك الأرض في كل جانب ... فحد مناوينا الحدود الأواكس 38 - إذا شبت الحرب العوان فبأسنا ... لكل منيع النيل في الناس فارس 39 - أباحوا بيوت النار كل ذخيرة ... حمتها شياطين الردى والأبالس 40 - فلما أتى الاسلام بالحق والهدى ... أقروا لنور حولته الأحامس 41 - فشدت عرى الاسلام فيهم وعطلت ... بأسيافهم للمشتركين مدارس 42 - وأعلن دين الله في الأرض بأسهم ... وذلت بهم للمسلمين الكنائس 43 - فسائل بسلمان وبالحسن الرضى ... وزارا وفيروز هداة أشاوس - 6 - وقال رضي الله عنه إذ حبس يتشوق إلى اهله وولده وتروى لغيره: 1 - مسهد القلب في خديه أدمعه ... قد طالما شرقت بالوجد أضلعه 2 - داني الهموم بعيد الدار نازحها ... رجع الأنين سكيب الدمع مفزعه 3 - يأوي إلى زفرات لو يباشرها ... قاسي الحديد فواقا ذاب أجمعه

4 - إذا تخلل في أرجائها فرحا ... ظلت قواصفها باليأس تقرعه 5 - وان ونت لوعة عن كنه صولتها ... هبت له لوعة رقشاء تلسعه 6 - تاهت به في بحار الحزن فكرته ... حتى رمته سحيقا ضل مرجعه 7 - كم فكرة داهمته في مسارحها ... تسقيه سما نقيعا بات يجرعه 8 - ذكرى أفيراخه في كل ناحية ... توحي إلى القلب أسرارا تقطعه 9 - كم قد تحمل من أعباء نأيهم ... نضوا نبا بلذيذ النوم مضجعه 10 - قد عاند الحزن حتى عاد يرحمه ... وسادر الدمع حتى جف مدمعه 11 - وصار يرحمه من كان يعذله ... لما اصطفاه من الأعواز أشنعه 12 - تجول حلته في ذاته فترى ... آثار ما الدهر بالأحرار يصنعه 13 - جسم تخونت الأيام جثته ... فعاد كالشن مرآه ومسمعه 14 - تناهيت نوب الدنيا محاسنه ... فالضيم ملبسه والسجن موضعه 15 - يشكو إلى القيد ما يلقاه من ألم ... فبالأنين لدى شكواه يرجعه 16 - يا هاجعا والرزايا لا تؤرقه ... قل كيف يهجع من في الكبل مهجعه 17 - أم كيف حالة حي ساكن جدثا ... يرنو بعين أسير عز مطمعه 18 - قد طال في هاويات السجن محبسه ... وانشت من شمله ما كان يجمعه 19 - فكم زفير يقد الصخر أيسره ... وكم أنين بنار الوجد يشفعه 20 - ما رجعت سجعها حينا مطوقة ... إلا ومن فضل شجوي ما ترجعه 21 - ولا تجرع كأس الوجد من أحد ... إلا ومن فضل وجدي ما تجرعه 22 - يا راحلا عند حي عنده رمقي ... اقرا السلام على من لم أوادعه 23 - وسله بالله عن عهدي أيحفظه ... فعهده بمكان لا أضيعه

24 - وكيف عني وعن أنسي تصبره ... أم كيف بعد بعادي عنه أربعه 25 - تجهمت نوب الدنيا لعامرها ... فلا يد عن يد الضراء تمنعه 26 - وأطول شوقاه ما جد البعاد بهم ... إليهم منذ سعوا للبين أفظعه 27 - لئن تباعد جثماني فلم أرهم ... فعندهم وأبيك القلب أجمعه 28 - أقول والدهر قد غالت غوائله ... وحط مني مكانا كان يرفعه 29 - عسى لطائف من لا شيء يعجزه ... تنحو على شملنا يوما فتجمعه 30 - بمنتني المجد مذ حلت تمائمه ... بحيث لا نوب الدنيا تضعضعه 31 - بحيث يشجر الخطي في صفد ... ويفطم السيف ذا بأس ويرضعه 32 - بالحاجب المرتجى السامي أرومته ... إلى هلال الذي بالسعد مطلعه 33 - سما إلى غاية في المجد سامية ... فنال غاية ما قد كان يزمعه 34 - فأصبحت قلل السامين خاضعة ... لعزه وسماه المجد موضعه 35 - وارتاح للعزف والحاجات يسألها ... فغص بالوفد والآمال مصنعه 36 - نعم الشفيع لمن ضاقت مذاهبه ... لدى الخليفة أسمى من يشفعه 37 - وكل زارع خير عند مضطهد ... فسوف يحصد ما قد كان يزرعه 38 - فعش عزيزا على الأيام محتكما ... ما هز ذيل الصبا غصنا يزعزعه

§1/1