تأملات قرآنية - المغامسي

صالح المغامسي

سلسلة تأملات قرآنية [1]

سلسلة تأملات قرآنية [1] القرآن الكريم كلام الله تعالى الذي تفيء إليه العلوم كلها، وفي آياته الهدى والرشاد، فمما جاءت الآيات القرآنية من الهدى دعوة الله عباده إلى تقواه واجتناب الشرك به، وبيان عظيم منة الله تعالى عليهم، وبيان انتفاع المؤمنين بضرب الأمثال وشقاء الكافرين مع حصول بيان الهدى بذلك، والإنكار على الخلق في كفرهم بربهم وهو الذي أحياهم بعد موت ويبعثهم بعد موت، مع قدرته على إيجاد ما سواهم مما هو أعظم منهم.

القرآن جامع العلوم

القرآن جامع العلوم الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجاً وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خلق فسوى وقدر فهدى، وأخرج المرعى فجعله غثاء أحوى، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد: فإن هناك أموراً نذكر بها، ومنها: أن القرآن أم العلوم كلها، وأن الإنسان إذا قدر له أن يفقه كتاب الله فقد أصبح بيده مقاليد العلم كلها، ذلك أن جميع العلوم تفيء إلى القرآن، على أننا -ونحن نشرح- قد نطيل الوقوف عند آية ونتجاوز آية أخرى على هيئة أسرع، والمقصود أن الآيات تتفاوت فيما نريد إيصاله إليك لكونك طالب علم في المقام الأول. وقد نقل الشيخ عطية محمد سالم رحمه الله تعالى عن شيخه الإمام الشنقيطي صاحب أضواء البيان أنه سأله عندما كان يفسر القرآن في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: له إنك رجل ذو باع عظيم في العلم، فلماذا اخترت التفسير دون سائر العلوم مع قدرتك على إتيان كثير من المسائل وشرحها؟! فقال الشيخ رحمه الله تعالى -وهو العارف بكتاب الله-: إن العلوم كلها تفيء إلى القرآن. أو نحو ذلك من المعنى. والمقصود أن هناك مسائل في العقيدة ومسائل في الفقه ومسائل في التربية ومسائل في الدعوة متنوعة متعددة سنقف عند كل منها بقدر المستطاع، وسنحاول أن نكثر من بعضها ونقلل من بعضها بحسب ما يمليه الموقف وبحسب ما تمليه الآية. كما أننا نخاطب في المقام الأول طلبة العلم، فلذلك قد لا يغلب الوعظ على الدرس كله وإن كان لا بد منه، لكن فمما يعين طالب العلم على طلب العلم -بعد استعانته بالله- أن يجد مادة علمية يعقد عليها خنصره وبنصره، فإذا وجد شيئاً يعقد عليه أصابعه وازداد الكم الذي يأخذه مع مراجعته إياه استمر في الطريق، ولكن إن وجد طالب العلم نفسه يكرر مسائل بعينها فتغدو عليه الشهور والأيام وهو ما زال رهين مسائل معدودة، أصابه سآمة وملل من العلم نفسه، وهذا ما نحاول بقدر الإمكان تلافيه.

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم)

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم)

براهين البعث والنشور

براهين البعث والنشور قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:21 - 22]. لما ذكر الله أصناف الخلق الثلاثة خاطبهم أجمعين بقوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا} [البقرة:21 - 22]، إلى آخر الآيتين. وأراد الله من هذا أن يبين حقيقة البعث والنشور، وذكر في هاتين الآيتين ثلاثة براهين على وجود البعث والنشور. البرهان الأول: هو الإيجاد والخلق الأول، وقد بينه بقوله: {اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة:21]. ومعلوم قطعاً أن من قدر على الخلق الأول فهو قادر على الخلق الثاني، وهذا قد بينه الله في غير سورة، قال الله جل وعلا: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ} [يس:78]، وقال الله جل وعلا: {فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الإسراء:51]، فالاتكاء في الدليل على الإيجاد الأول أول البراهين على أن هناك بعثاً ونشورا. الدليل الثاني: ذكر ما هو أعظم من خلق الإنسان، وفائدة الذكر أن من قدر على خلق الأعلى قادر على أن يخلق ما هو دونه، والله جل وعلا خلق السماوات والأرض، فمن باب أولى أن يكون قادراً على أن يحيي الناس بعد موتهم، ودليل هذا في القرآن قال الله جل وعلا: {لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} [غافر:57]، وقال جل وعلا: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ} [يس:81]، فهنا برهانان: البرهان الأول: الإيجاد والخلق، البرهان الثاني: ذكر خلق أعظم من خلق الناس، وهو هنا خلق السماوات والأرض. البرهان الثالث: القياس، لأن الله جل وعلا قال: {وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ} [البقرة:22]، فكون الأرض ميتة فينزل عليها من السحاب مطر فتحيا يدل على أن من أحياها قادر على أن يكون على يديه البعث والنشور، وهذا ما ذكره القرآن، قال الله جل وعلا: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [فصلت:39]. فبين سبحانه أن القادر على أن يحيي الأرض بعد موتها قادر بقدرته وعظمته وجبروته ورحمته وعزته وسلطانه على أن يحيي الناس ويعيدهم بعثاً ونشوراً بعد أن كانوا أمواتاً، فاجتمعت في هاتين الآيتين ثلاثة براهين على إثبات حقيقة البعث والنشور، فهذا هو التفسير المجمل للآيتين.

التلازم بين العبادة والتقوى

التلازم بين العبادة والتقوى أما التفسير التفصيلي فإن قول الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:21]، فيه تلازم بين العبادة والتقوى. فالعبد إذا عبد الله اتقاه وإذا اتقاه فقد عبده.

فضل الله على عباده في بسط الأرض وإنزال المطر

فضل الله على عباده في بسط الأرض وإنزال المطر وقوله تعالى: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا} [البقرة:22]، أي: تطئون عليها ممهدة ميسرة، وهذا ظاهر لكل ذي عينين. وقوله تعالى: {وَالسَّمَاءَ بِنَاءً} [البقرة:22]، السماء في اللغة: كل ما أظلك، كما قال القائل: وأرضك كل مكرمة بنتها بنو تيم وأنت لها سماء أي: وأنت لها سقف، فكل ما أظلك فهو سماء، ولكن المقصود بالآية هنا: السماوات السبع وسيأتي تفصيلها في آيات أخر. وقوله تعالى: {وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ} [البقرة:22]، السماء هنا ليس المقصود بها السماوات السبع، بل المقصود بها السحاب بالقرينة الموجودة، وهي أن المطر ينزل من السحاب. قوله تعالى: {وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ} [البقرة:22]، الباء هنا سببية، أي: فأخرج لكم بسبب الماء، {مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:22].

تحريم الشرك بالله تعالى

تحريم الشرك بالله تعالى ولما ذكر الله جل وعلا هذه البراهين الثلاثة التي تدل على قدرته، وعلى ربوبيته، وعلى أنه لا رب غيره ولا إله سواه قال مطالباً عباده بقوله: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا} [البقرة:22]. والند: هو الشريك والمثيل والنظير، ولا يوجد لله شريك، ولا ند، ولا مثيل، ولا نظير {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]، ولذلك ما بني الدين إلا على أنه لا يعبد إلا الله، وما أرسلت الرسل وما أنزل الكتب وما أقيمت الموازين ولا نصبت البراهين إلا ليعبد الله وحده دون سواه، فمن أجل هذا خلق الله جل وعلا الخلق كلهم، قال سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:56 - 58]. يقول تعالى: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:22]، ولا تفهم أن جملة (وأنتم تعلمون) متعلقة بقول تعالى: (فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا) لأنك إذا علقتها بها ونسيت أن هناك محذوفاً يصبح مفهوم الآية في ذهنك: لا تجعل لله أنداداً وأنت تعلم. فكأنك تقول: يجوز أن تجعل لله نداً وأنت لا تعلم. وليس هذا مقصود القرآن، ولكن المعنى: فلا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون يقيناً أنه ليس له أنداد. فهناك مفعول به للفعل (تعملون) حذف لدلالة المعنى عليه، وهذا كثير في القرآن، أي: فلا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون يقيناً أنه ليس لله جل وعلا ند، ولا شريك، ولا ظهير، ولا نصير ولا أي شيء من ذلك أبداً، بل الله واحد أحد فرد صمد ليس له شريك ولا ند {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:4]. ويفهم من هذا أن الشرك -والعياذ بالله- أعظم الكبائر، وهو الذنب الذي لا يغفر أبداً. وقد يعبد المرء هواه، وقد يعبد المرء شيئاً آخر بحيث يتعلق به القلب حتى يصرفه عن طاعة الله جل وعلا، فهذا قد جعل لله ندا، سواء علم أو لم يعلم، لكن لا يقال بكفره كفرا أكبر؛ لأن مسألة التكفير أمر يحتاج إلى تفصيل وإلى تأن وإلى تبين.

تفسير قوله تعالى: (وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا)

تفسير قوله تعالى: (وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا)

ذكر آيات التحدي

ذكر آيات التحدي ثم قال سبحانه: {وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة:23 - 24]. هذه الآية تسمى في لغة القرآن: آية التحدي، وهي أول آيات التحدي في القرآن حسب ترتيب المصحف، وآيات التحدي في القرآن خمس، ومعنى آيات التحدي: أن الله جل وعلا تحدى العرب -على فصاحتهم وبلاغتهم- في أن يأتوا بمثل هذا القرآن. وآيات التحدي في القرآن خمس: هذه الآية من سورة البقرة، والآية الثامنة والثلاثون من سورة يونس، وهي قوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ} [يونس:38]، والآية الثالثة عشرة من سورة هود، وهي قول الله جل وعلا: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} [هود:13]، والآية الثامنة والثمانون من سورة الإسراء، وهي قول الله جل وعلا: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء:88]. والتحدي الخامس جاء في سورة الطور في الآيتين الثالثة والثلاثين والرابعة والثلاثين، حيث قال الله جل وعلا: {أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لا يُؤْمِنُونَ * فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ} [الطور:33 - 34]، فاجتمع بهذا خمس آيات حسب ترتيب المصحف في تحدي كفار قريش. وتقول في مسألة التحدي: إن العرب كان ليس لهم هم ولا بضاعة إلا بضاعة الكلام، نصبت على ذلك أسواقهم، وقامت على ذلك أنديتهم، وكانوا أهل بلاغة وفصاحة وشعر وخطابة، فليس لهم تبار ولا تنافس ولا نقد إلا في الشعر والخطابة، وعلى هذا قامت حياتهم. فجاء نبينا صلى الله عليه وسلم بالقرآن من عند ربه وهو يقول: إن هذا القرآن من الله، وهذا الكلام كلام الله، فكذبوه قائلين: إن هذا من عندك {إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} [الأنعام:25]، فلما كذبوه أخبره الله جل وعلا بأنه إن كان هذا القرآن من عندي -كما تقولون- فأنا بشر مثلكم وعربي مثلكم، وأنتم أهل فصاحة وأهل بلاغة فأتوا بمثله إن كنت صادقين، واستفزهم الله جل وعلا أيما استفزاز وتحداهم أيما تحد، فقال الله: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا} [البقرة:24]، ثم قال: {وَلَنْ تَفْعَلُوا} [البقرة:24]، ثم ساواهم بالحجارة قال: {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [آل عمران:131]. وأخبر بأن وقودها الناس والحجارة، كل ذلك ليلهب مشاعرهم ويوقظ الهمم فيهم حتى يتحدوا القرآن، ومع ذلك أثبتوا عجزهم وأنهم غير قادرين على أن يأتوا بآية ولا بجزء من آية فضلاً عن سور أو عشر سور أو عن القرآن كله، فهذا معنى التحدي في الآيات.

ذكر حقيقة التحدي في القرآن الكريم

ذكر حقيقة التحدي في القرآن الكريم واختلف الناس في كون العرب لم تستطع أن تأتي بمثل هذا القرآن؟ فقيل: لإعجازه في ذاته، وهذا هو الذي لا ينبغي أن يقال بغيره. وقيل: لمفهوم الصرفة، والصرفة مسألة بلاغية لا نحب أن نطيل فيها، ولكن نقول: قالها رجل معتزلي اسمه: إبراهيم بن سيار النظام، قال: إن العرب كانوا قادرين على أن يأتوا بمثل هذا القرآن، لكن الله صرفهم -لحكمة أرادها- عن أن يأتوا بمثله. وهذا قول باطل خالفه فيه العلماء حتى مشايخ المعتزلة، فقد أجمع المسلمون على أن العرب عجزت على أن تأتي بمثل هذا القرآن لنظمه لأمور عديدة لا تحصى، ومن أراد أن يرجع إلى هذه المسألة فليرجع إلى كتاب اسمه: (النبأ عظيم) لرجل عالم اسمه: محمد عبد الله دراز، من أئمة الدنيا له قدرة بلاغية عظيمة، ولكنه مات قبل أن يكمل الكتاب، ولكن الكتاب يطبع ويباع كثيراً. وهذا الكتاب مزيته الكبرى أن الرجل أعطاه الله جل وعلا بلاغة وفصاحة عز نظيرها وقل مثيلها، فمن أراد أن يستزيد في البيان والقدرة على الكتابة والقدرة على الخطابة فليكثر من القراءة في هذا الكتاب، فهذا الكتاب ألهم الله جل وعلا كاتبه رحمه الله تعالى قدرة بيانية يعجز الناس في هذا القرن كثيراً عن أن يأتوا بمثلها، وله أسلوب غريب وعجيب في أنه يتأسى بالقرآن كثيراً، فلما ذكر قضية الإعجاز قال: فما كان جوابهم إلا أن ركبوا متن الحتوف واستنطقوا السيوف بدل الحروف لما عجزوا عن الإتيان بالبرهان، وهذه حيلة كل عاجز يعجز عن دفاعه عن نفسه بالقلم أو اللسان، إلى غير ذلك مما قال.

مقام العبودية وذكر أنواعها

مقام العبودية وذكر أنواعها ذلك هو أول ما دلت عليه الآيات، وقد دلت الآيات أيضاً على صدق رسالة نبينا صلى الله عليه وسلم، كما أن في قوله جل وعلا: {وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} [البقرة:23] بيان أن مقام العبودية أرفع مكان وأجل منزلة، وكلمة (عبد) تأتي في الشرع لثلاثة معان: الأول: العبودية بمعنى القهر، وهذا يستوي فيه المؤمن والكافر، فكل الناس المؤمنون والكافرون عبيد لله، والدليل: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم:93]، هذه عبودية مطلقة يستوي فيها المؤمن والكافر والملائكة والجن والإنس. الثاني: العبودية في الشرع، وهي ضد كلمة: (حر) قال الله جل وعلا: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} [البقرة:178]، وهذا الذي يُستَرقُ في الجهاد ويؤخذ كأسير بصرف النظر عن لونه، فيسمى عبداً في الشرع، الثالث: العبودية بالطاعة والاتباع، وتنقسم إلى قسمين: الأول: طاعة لله، وهذا الأمر الذي يتنافس فيه عباد الله الصالحون. الثاني: عبودية لغير الله أعاذنا الله، وهذا الأمر بابه واسع، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (تعس عبد الدينار تعس عبد الدرهم)، أي: الذي يطيع هواه، ويطيع ديناره، ويطيع درهمه. فتحرر أن العبد ثلاثة أقسام عبد مقهور، فكل الناس في هذه العبودية سواء، ودليلها قوله تعالى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم:93]، وعبد بالشرع، ودليل ذلك قوله تعالى: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} [البقرة:178]، وعبد طاعة وتنقسم إلى قسمين: طاعة لله، وهذا هو الأمر الواجب شرعاً، وهو الذي يتنافس فيه عباد الله الصالحون، وعبد لغير الله عياذاً بالله، وهو عبد الهوى، وعبد الدينار، وعبد الجمال، وعبد الدرهم، وعبد لأي شيء، وهذا مصيره الضلالة والخسران.

بيان المراد بالحجارة التي توقد بها النار

بيان المراد بالحجارة التي توقد بها النار قال الله تعالى: {وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا} [البقرة:23 - 24]، هذا قمة الإعجاز، وهو أنه لم يستطع أحد أن يأتي بالقرآن، فقال تعالى: {وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [البقرة:24]، أما قوله: (وقودها الناس) فمعروف، وأما قوله: (والحجارة) فللعلماء فيه قولان: فقيل: أن الحجارة هنا حجارة من كبريت في النار، وهذا عليه الأكثرون، وهو -فيما نرى- رأي مرجوح. وقيل: إن الحجارة هنا هي الأصنام التي كانوا يعبدونها في الجاهلية، فتقرن معهم في النار، وهذا هو الراجح إن شاء الله، ودليله من القرآن: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [الأنبياء:98].

معنى قوله تعالى (أعدت للكافرين)

معنى قوله تعالى (أعدت للكافرين) ثم قال جل وعلا: {أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [آل عمران:131]، قال العلماء في قول الله جل وعلا: (أعدت للكافرين) دليل على أنه لا يخلد في النار أحد من أهل التوحيد، فمن مات على (لا إله إلا الله محمد رسول الله) وجاء بأركان الإيمان الستة من؟ فهو موحد، ولا يخلد في النار أحد من أهل التوحيد ممن مات على (لا إله إلا الله محمد رسول الله)، وجاء بالأركان الإيمان الستة. قال العلامة السفاريني وغيره: وتحقيق المقال أن خلود أهل التوحيد في النار محال، فمن مات على التوحيد فإنه مهما عذب في النار على قدر ذنبه مصيره أن يخرج منها؛ لأن الله قال: {أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة:24]، والموحد غير كافر، والله جل وعلا قال: {لا يَصْلاهَا إِلَّا الأَشْقَى * الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [الليل:15 - 16]، فما دام أن من كذب وتولى كافر، فإن من لم يكذب ولم يتول يعذب في النار -إن كان عاصياً ولم تداركه رحمة الله من قبل- أمداً محدوداً، ثم يخرج منها إلى الجنة، أعاذنا الله وإياكم من النار.

تفسير قوله تعالى: (وبشر الذي آمنوا وعملوا الصالحات)

تفسير قوله تعالى: (وبشر الذي آمنوا وعملوا الصالحات) ومن أسلوب القرآن أنه يجمع بين الترغيب والترهيب والوعد والوعيد، فبعد أن ذكر ربنا جل جلاله أهل النار قال جل وعلا: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:25]، هذه الآية فيها مبشِّر وفيها مبشَّر وفيها مبشر به، وفيها سبب للبشارة. أما المبشِّر فهو النبي صلى الله عليه وسلم ومن يقوم مقامه بعده من أمته في الدعوة إلى الدين وأما المبشَّر فهم المؤمنون، وأما المبشر به فهو الجنات على ما وصفها الله جل وعلا به. وأما أسباب البشارة فالإيمان والعمل الصالح، كما قال تعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [البقرة:25]. فهذه الإشارة -يا أخي- تأخذ طرائق ومسالك من أعظمها: أن الإنسان إذا وفق في الدنيا -وهو حي- للخيرات فهذه أول البشارات بأن الله جل وعلا جعله أهلاً لأن يدخله الجنة. وثاني البشارة تكون عند الموت عندما تأتي الملائكة تبشر المؤمنين بما سيصيرون إليه، وأما تحقيق البشارة فيكون بعد الموت.

وصف الجنات

وصف الجنات يقول تعالى: {وَبَشِّرِ} [البقرة:25] أي: يا نبينا صلى الله عليه وسلم، {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ} [البقرة:25]، وجاءت (جنات) مجرورة؛ لأنها جمع مؤنث سالم منصوب بالكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه وقع اسماً للحرف الناسخ (أن) وأصل الكلام: أن جنات لهم. ثم ذكر الله جل وعلا وصف الجنات فقال في أول وصفها: {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} [البقرة:25]، ولم يذكر الله جل وعلا هنا ما هية الأنهار، والقرآن يفسر بالقرآن، فذكر تعالى الأنهار في سورة محمد، وهي أنها أنهار من ماء، وأنهار من لبن، وأنهار من خمر، وأنهار من عسل مصفى، فقوله تعالى: {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} [البقرة:25] أي: أنهار الماء، وأنهار اللبن، وأنهار الخمر، وأنهار العسل. ثم إنه جل وعلا ذكر أن جريان الأنهار من تحتها أول صفاتها؛ لأن والقاعدة أن الشيء كلما كان ملتصقاً بذات الشيء كان تقديمه أولى، فالله تعالى حين قال بعدها: {كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ} [البقرة:25] فهو يتكلم عن أهلها، ولكن لما قال: {مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} [البقرة:25]، كان الكلام عن الجنة نفسها، فقدم هذه الصفة؛ لأنها متعلقة بالجنة. وتطبيق أصل هذه في باب العبادات في الطواف حول الكعبة، فهو عبادة، فكلما اقترب الإنسان من الكعبة كان ذلك أفضل، ولكن حين يأتي الإنسان في طواف القدوم فإن طواف القدوم من سننه الرمل، وهو أن يسرع الإنسان في الخطوات، فإذا اقترب الإنسان من الكعبة يفوت عليه أن يرمل، فقول هنا: ابتعد عن الكعبة وائت بالرمل خير من أن تقترب من الكعبة دون أن ترمل؛ لأن الرمل من ذات العبادة، أما القرب من الكعبة فليس من ذات العبادة، فهو أمر منفك عن العبادة. وكذلك لو أن إنساناً يسكن في حي بعيد عن الحرم، فأقيمت الصلاة فحرك سيارته ليدرك الصلاة في الحرم، فإنا نقول: إن إدراكك تكبيرة الإحرام مع الإمام في حيك أفضل من إدراك بعض الصلاة في الحرم؛ لأن إدراك تكبيرة الإحرام فضل يتعلق بذات الصلاة، ولكن إدراكك الصلاة في الحرم يتعلق بمكانها لا بذاتها، وكلما كان الفضل يتعلق بذات العبادة كان أكمل وأفضل وأولى. ولذلك قدم الله جل وعلا ذكر الأنهار على ذكر غيرها من الصفات؛ لأن ذكر الأنهار يتعلق بذات الجنة، فقال جل وعلا {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا} [البقرة:25].

بيان معنى قوله تعالى (قالوا هذا الذي رزقنا من قبل)

بيان معنى قوله تعالى (قالوا هذا الذي رزقنا من قبل) وكلمة (كلما) لا تكرر كما هو مشهور كلام الناس، حيث يقولون: كلما أتيتني كلما أطعمتك. فهذا خطأ، بل يؤتى (كلما) في أول الكلام ولا تكرر، كما قال الله: {كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ} [البقرة:25]، ولم يقل: كلما قالوا. فهذا من ناحية نحوية. وأما من ناحية المعنى فللعلماء في معنى هذه الآية ثلاثة أقوال: القول الأول: أن قوله تعالى: (قالوا هذا الذي رزقنا من قبل) أي: في الدنيا. لأن (قبل) جاءت مضمومة منقطعة عن الإضافة، فلم يذكر الله جل وعلا المضاف إليه فوجب إحرازه بقدر الإمكان، فيصبح المعنى أن هؤلاء المؤمنين -جعلنا الله وإياكم منهم- يرون ثمار الجنة، فإذا رأوها قالوا: هذه الثمار تشبه الثمار التي كنا نأكلها في الدنيا. القول الثاني: أن الثمار إذا قطفوا منها تبدل بغيرها، فإذا رأوا الثاني قالوا: هذا مثل الأول الذي قطفناه من قبل؛ لتشابه ثمار الجنة. وبين هذين القولين يدور أكثر المفسرين، ولكننا نقول -والله أعلم-: إن المعنى: أن أهل الجنة إذا قطفوا ثمرة في أول النهار تبدل بغيرها تشبهها في آخر النهار، فإذا جاءوا يقطفونها قالوا: هذا الذي رزقنا من قبل. أي: هذا مثل طعام الصباح، فإذا أكلوها وجدوها تختلف في الطعم الأولى وأظن الشوكاني رحمه الله في (فتح القدير) مال إلى هذا القول.

وصف نساء الجنة

وصف نساء الجنة يقول تعالى: {وَلَهُمْ فِيهَا} [البقرة:25] واللام هنا للملكية، أي: لهم في الجنة {أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ} [البقرة:25]، ولم يقل الله مطهرة من كذا وكذا؛ لفائدة عظيمة وهي أنهن مطهرات من كل شيء، ومطهرات في خلقهن، ومطهرات في أخلاقهن، ومطهرات من كل عيب ونقص لا يشينهن شيء.

الخلود في الجنة

الخلود في الجنة قال تعالى: {وَهُمْ فِيهَا} [البقرة:25] أي: في الجنة {خَالِدُونَ} [البقرة:25]، وهذا الخلود خلود أبدي لا انقطاع له أبداً، دل عليه القرآن والسنة، فقد قال الله جل وعلا في أكثر من سورة: ((خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا))، وأما ما دلت عليه السنة ففي الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه: (إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار أتي بالموت على صورة كبش أملح، فينادى: يا أهل الجنة! هل تعرفون هذا؟ فينظرون فزعين خوفاً أن يقال لهم: اخرجوا منها، وينادى! يا أهل النار! هل تعرفون هذا؟ فينظرون فرحين لعلهم أن يقال لهم: اخرجوا منها. فيقولون جميعاً: نعم هذا الموت، فيذبح بين الجنة والنار، وينادى! يا أهل الجنة خلود بلا موت، ويا أهل النار خلود بلا موت. قالت عائشة: فلو أن أحداً مات فرحاً لمات أهل الجنة فرحاً، ولو أن أحداً مات حسرة لمات أهل النار حسرة)، وفي رواية البخاري: (أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا بعدها: {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} [مريم:39 - 40]).

عظم نعيم الجنة وبعث تذكره على العمل

عظم نعيم الجنة وبعث تذكره على العمل فتحرر من هذا أن دخول الجنة أعظم الأماني وأجل الغايات، وأن ما ينال الإنسان من نصب أو تعب أو جهد أو إنفاق من ماله أو من وقته أو من بدنه في سبيل تحقيق الإيمان والعمل الصالح إذا دخل الجنة ينساه، فينسى كل بؤس وجده في الدنيا، وقد قيل للإمام أحمد رحمه الله تعالى: متى يستريح المؤمن؟ قال: إذا خلف صراط جهنم وراء ظهره. وفي رواية أخرى أنه سئل فقال: إذا وضع قدمه في الجنة. والمقصود أن أهل الجنة لا يبيدون، وقال النبي عليه الصلاة والسلام عنهم (لا يفنى شبابهم ولا تبلى ثيابهم)، والإنسان إذا أراد أن يقوم من الليل فأضجعته نفسه ودعته نفسه الأمارة بالسوء إلى أن يخلد إلى الفراش فليتذكر يوم الحشر ويوم الحساب ويوم يقال لأهل الجنة: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة:24]. ويتذكر يوم أن يطرق النبي صلى الله عليه وسلم أبواب الجنة فيقول الخازن: من أنت؟ فيقول: (أنا محمد)، فيقول: أمرت ألا أفتح لأحد قبلك. فيدخلها عليه الصلاة والسلام، ثم يدخلها بعده الأخيار المؤمنون الأتقياء الأبرار من أمته، وليتذكر المؤمن وهو يرى ما يثبطه عن العمل الصالح ويدعوه إلى الشهوات ويدعوه إلى أن يعصى الله جل وعلا، ليتذكر خروج الناس من قبورهم حفاة عراة غرلاً بهما أشد ما يكونون إلى ماء يروي ظمأهم، فإذا خرجوا وجدوا النبي عليه الصلاة والسلام على حوض يسمى: الحوض المورود، فيقبل عليه -صلى الله عليه وسلم- المؤمنون الأتقياء من أمته فيردون من حوضه ويشربون من يده شربة لا يعطشون بعدها أبداً. فإذا تذكر الإنسان حال أهل الجنة وما فيها من نعيم، وتذكر حال أهل النار -عياذاً بالله- وما فيها من جحيم دعاه ذلك إلى زيادة الإيمان في قلبه والمسارعة في الخيرات وعمل الصالحات، ولن تلقى الله جل وعلا بشيء أعظم من سريرة صالحة، وإخلاص في قلب، ومحبة للمؤمنين وعدم بغض لهم، فليس في قلبك حسد ولا غل على مؤمن كائناً من كان؛ ترى من ترى من تفضل الله جل وعلا عليه فتسأل الله جل وعلا من فضله، ولا يخلو إنسان من عثرة ولا من زلل ولا من خطأ، ولكن المؤمن إذا آب إلى الله فرح الله جل وعلا به، قال الله جل وعلا في نعت خليله إبراهيم: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} [التوبة:114]، وقال الله جل وعلا عنه في آية أخرى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ} [هود:75]، أي: كثير الرجعة إلى الله، فكثرة التوبة والاستغفار والإنابة إلى الله مع الإيمان والعمل الصالح كل ذلك يهيئ للمؤمن أن يدخل جنات النعيم، رزقنا الله وإياكم إياها بأمن وعفو وعافية.

تفسير قوله تعالى: (إن الله لا يستحي أن يضرب مثلا ما بعوضة)

تفسير قوله تعالى: (إن الله لا يستحي أن يضرب مثلاً ما بعوضة) ثم قال جل وعلا: {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ} [البقرة:26]. لما ذكر الله جل وعلا الأمثال السابقة عن المنافقين استنكروا أن يضرب الله أمثالاً بتلك الصورة، فرد الله جل وعلا عليهم بقوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} [البقرة:26]، من شيء عظم أم حقر؛ لأن العبرة بما ينجم عن المثل لا بعين المثل، فالعبرة بما ينجم من فائدة من المثل لا بعين المثل، والناس في تلقيهم للمثل القرآني فريقان) كما قال الله: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ} [البقرة:26] أي: المثل، هو {الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة:26]، فيعلمون أنه الحق من ربهم؛ لأن قلوبهم مؤمنة تتلقى ما عند الله جل وعلا. قال تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا} [البقرة:26]، وهو أسلوب التشكيك، فالظلمات التي في قلوبهم تظهر على ألسنتهم كما هي موغلة في قلوبهم.

انتفاع المؤمنين بالأمثال المضروبة دون غيرهم

انتفاع المؤمنين بالأمثال المضروبة دون غيرهم ثم أخبر الله أن المثل كالقرآن فقال تعالى: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا} [البقرة:26]. والقرآن كالمطر، والمطر لا يُنبِت في كل أرض ينزل عليها، وقد قال الله: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ} [الإسراء:82]، لمن؟ {لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} [الإسراء:82]، وقال: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ} [فصلت:44]، وذكر الذين كفروا فقال: {وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى} [فصلت:44]، وكذلك الأمثال التي يضربها الله جل وعلا في القرآن ينتفع بها المؤمنون ولا ينتفع بها أهل الفسق والكفر والفجور. ثم قال الله: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ} [البقرة:26]، والفسق يأتي على معنيين: الأول: الكفر، ويكون مخرجاً من الملة، ومنه قول الله جل وعلا: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لا يَسْتَوُونَ} [السجدة:18]، ويأتي بمعنى الكبيرة أو العصيان الذي لا يخرج من الملة، ومنه قول الله جل وعلا: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات:6]، فهذا فسق لا يخرج من الملة، وأصل الفسق: الخروج، فكل من خرج عن طاعة الله فهو فاسق، والناس في هذا -بلا شك- على درجات عدة.

صفات الفاسقين الضالين عن الانتفاع بالهدى

صفات الفاسقين الضالين عن الانتفاع بالهدى ثم ذكر الله صفات الفاسقين فقال تعالى: {الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ} [البقرة:27]، وأعظم عهد لله توحيده والإيمان وبه، {وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ} [البقرة:27]، والذي أمر الله به أن يوصل كثير، ولكن أعظمه: صلة الرحم، {وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ} [البقرة:27]، أي: بالمعاصي، وإني أجمل أحياناً في التفسير لأن القرآن مثاني، أي: يتكرر، فأطنب في مواضع وأتوقف في مواضع عمداً حتى يأتي البيان في سورة ثانية.

تفسير قوله تعالى: (كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم)

تفسير قوله تعالى: (كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً فأحياكم) ثم ذكر الله جل وعلا خطاباً موجهاً لأهل الكفر خاصة على هيئة أسلوب استفهامي إنكاري توبيخي فقال سبحانه: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} [البقرة:28]. ويتحرر من هذا أن الموت موتان، والحياة حياتان، فالموت الأول المقصود به العدم قبل الخلق، قال الله تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} [الإنسان:1]، والحياة الأولى: هي نفخ الروح في الجنين في بطن أمه، وهي الحياة التي نعيشها الآن، والموت الثاني: مفارقة الروح للجسد، والحياة الثانية: عودة الروح إلى الجسد، وهذا ينجم منه أن الروح لا تموت، وإنما موتها خروجها من الجسد، فالروح تخرج من الجسد بعد أن تكون قد دخلت فيه، ودخول الروح إلى الجسد ليس وضعاً اختيارياً لها، فلا يوجد إنسان اختار جسده، ولا جسده اختار روحه، ولكن يحصل مع الأيام تآلف بين الجسد والروح، فإذا جاء نزع الروح يكون ذلك صعباً على الإنسان لما وجد من تآلف بين البدن والروح، ولذا قيل: هبطت إليك من المحل الأرفع ورقاء ذات تعزز وتمنع هبطت على كره إليك وربما كرهت فراقك وهي ذات توجع يعني: يصيبها توجع وتمنع عندما تريد أن تفارقك. فقول الله: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة:28] المقصود به أن من كان ولي هذا وربه وهو القادر عليه وجب ألا يكفر به، فمن كفر به استحق التوبيخ والإنكار.

تفسير قوله تعالى: (هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا)

تفسير قوله تعالى: (هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً) ثم قال الله جل وعلا: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة:29]، هذه الآية -كما يقول عنها الأصوليون- دلت على أن الأصل في الأشياء الإباحة والطهارة، وأكدها الله جل وعلا بقوله: {جَمِيعًا} [البقرة:29]. فالأصل في المخلوقات الطهارة والإباحة إلا ما دل الدليل على نجاسته أو دل الدليل على حرمته، فالناقل عن الأصل هو الذي يحتاج إلى دليل، فالأصل في البيوع -مثلاً- الحل، قال الله جل وعلا: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة:275]، فمن قال: هات دليلاً على أن هذا البيع حلال، قلنا له: لا نحتاج إلى دليل، بل تحتاج إليه أنت إن قلت: إنه حرام والعبادات الأصل فيها المنع إلا ما دل الدليل على شرعيته، قال الله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى:21].

بيان معنى قوله تعالى (ثم استوى إلى السماء)

بيان معنى قوله تعالى (ثم استوى إلى السماء) قال الله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ} [البقرة:29]، قبل الحديث عن الفعل (استوى) نقول: هناك فعل لازم وآخر متعدٍ، فتقول مثلاً: أكل الرجل الطعام. ف (أكل) فعل، والرجل فاعل، فهذا الفعل (أكل) تعدى إلى مفعول به، وهو الطعام. والمتعدي يتعدى بأحد طريقين: فإما أن يتعدى بنفسه، نحو (أكل الرجل الطعام) وإما أن يتعدى بحرف جر، فتقول: جلس الرجل على الكرسي. فـ (جلس) فعل والرجل فاعل و (على الكرسي) جار ومجرور، فتعدى بـ (على). في فعل في اللغة اسمه: فالفعل (استوى)، جاء في القرآن على ثلاثة أحوال: جاء لازماً غير متعد، وجاء متعدياً بحرف الجر (على)، وجاء متعدياً بحرف الجر إلى، أعيد جاء ماذا؟ لازماً غير متعدي وجاء متعدياً بحرف الجر على وجاء متعدياً بحرف الجر (إلى). وفي كل حال له معنى. فقد قال الله جل وعلا عن كليمه موسى: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى} [القصص:14]، فلم يذكر بعد (استوى) شيء، فإذا جاءت الفعل (استوى) وليس بعده شيء فمعناه الكمال والتمام، أي أن موسى تم وكمل عقله ورجولته. وأما التعدي بـ (على) فقد ذكره تعالى في استوائه على العرش في سبعة مواضع من القرآن، منها قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، فإذا تعدى بحرف الجر على يكون معناه العلو والارتفاع، ومنه قوله تعالى: {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ} [الزخرف:13]، أي: علوتموه وارتفعتم عليه وأما إذا تعدى بحرف الجر (إلى) فإن معناه القصد، أي قصد شيء آخر بعد شيء قبله، وهو الذي بين أيدينا، قال الله جل وعلا: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} [البقرة:29]، فالله تعالى خلق الأرض قبل قبل السماء، فخلق الأرض في يومين، وقبل أن يتمها جل وعلا -وهو القادر- قصد السماء فخلقها في يومين، كما قال تعالى: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ * ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ * فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [فصلت:9 - 12] وبعد أن خلق الأرض في يومين عاد جل وعلا -وهو القادر على كل شيء- فأكمل خلق الأرض، فأصبح خلق السماوات والأرض جملة في ستة أيام، ولكن السماء خلقت في يومين والأرض خلقت في أربعة أيام، فقوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} [فصلت:11] أي: قصد السماء. لأنه تعدى بحرف الجر (إلى) ثم لما أكمل خلق السماء عاد جل وعلا فأكمل خلق الأرض، ولذلك قال جل وعلا في النازعات: قال: {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا * وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا * وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} [النازعات:27 - 30]، ولم يقل: والأرض بعد ذلك خلقها؛ لأنه تعالى خلقها من قبل، ولكن تركها جل وعلا غير منتهية لحكمة أرادها، ثم أكمل خلقها.

عدد السماوات وعدد الأرضين

عدد السماوات وعدد الأرضين ذكر الله في القرآن أن السماوات سبع، ولم يذكر في القرآن نصاً صريحاً كلمة سبع أرضين، ولكنها جاءت في السنة، ودل عليها القرآن في سورة الطلاق في قوله جل وعلا في آخر الآية: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ} [الطلاق:12] وجاء في السنة أن من اغتصب شبراً طوقه يوم القيامة من سبع أرضين، ولا يوجد جواب شاف في عدم ذكر لماذا الله كلمة (أرضين) في القرآن فيما نعلم. فهذه السماوات السبع بعضها فوق بعض، وأدنى سماء إلينا تسمى السماء الدنيا، وأعلى سماء تسمى السماء السابعة، ولكل خزنة وأبواب وسكان، أما الأبواب فإن الله يقول فيها: {لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ} [الأعراف:40]، وأما السكان فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (أطت السماء وحق لها أن تئط، والله ما من موضع أربعة أصابع إلا وملك واضع جبهته ساجداً لله تعالى)، وأما خزنتها فإنه جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام في حديث المعراج أن جبرائيل كان يستفتح فيسأله الخزنة: من أنت؟ فيقول: أنا جبريل ومعي محمد. وهؤلاء هم القائمون على شئون السماوات. وهذه السماوات تفتح لأقوام وتسد في وجه أقوام، تفتح للإيمان، والعمل الصالح، والدعوات الصالحات، ودعوة المظلوم، فهذه الأعمال كلها تفتح لها أبواب السماء، قال الله جل وعلا: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر:10]، وتسد عياذاً بالله في وجه أرواح أهل الكفر وأهل الفسق، كما قال تعالى: {لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ} [الأعراف:40]، وتسد في وجه الأعمال التي يخل بها الإنسان، كمن ضيع الصلاة أو فرط فيها، وفي الدعوات بقطيعة الرحم والبغي، وكل ما نهى الله جل وعلا عنه لا تفتح له أبواب السماء، فتح الله لنا ولكم أبواب السماء. ثم قال جل وعلا: {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة:29]، والباء هنا: للإلصاق، و (عليم): اسم من أسمائه الحسنى. هذا ما تيسر إيراده، والفضل لله في أوله وآخرة، سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.

سلسلة تأملات قرآنية [2]

سلسلة تأملات قرآنية [2] ذكر الله في بعض آي القرآن بيان فضل الأنبياء والرسل عامة، وتفضيل الله بعضهم على بعض خاصة، ورفع الله بعضهم درجات، وبيان قدرة الله تعالى على تعطيل الأسباب وإيجاد المسببات دونها، وفيها الدعوة إلى تقديم العمل الصالح في الدنيا قبل فقد القدرة عليه بأي طريق في الآخرة، وفيها بيان كمال حياة الله وقيوميته وسعة علمه وعظيم قدرته، وبيان ولاية الله لعباده المؤمنين وإشقائه للكافرين، وبيان عظيم قدرة الله تعالى في تصريف الكون وتدبيره أمراً ونهياً وإيجاداً وإعداماً، وموتاً وبعثاً.

تفسير قوله تعالى: (تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض)

تفسير قوله تعالى: (تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض) الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجاً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له خلق فسوى وقدر فهدى وأخرج المرعى فجعله غثاء أحوى، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد: فيقول الله جل وعلا: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [البقرة:253] هذه الآية جاءت بعد قول الله لنبينا صلى الله عليه وسلم: {تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} [البقرة:252]، فناسب بعد أن ذكر المرسلين في ختام الجزء الثاني أن يبدأ الله بالرسل، وقال الله: (تلك) ولم يقل: هؤلاء -كما قال في أول القرآن: {ذَلِكَ الْكِتَابُ} [البقرة:2]- بياناً لعلو قدرهم، ورفيع مكانتهم، وجليل منازلهم. والرسل جم غفير أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم ثلاث مائة وبضعة عشر رجلاً أرسلهم الله جل وعلا.

ذكر الفرق بين النبي والرسول

ذكر الفرق بين النبي والرسول ويتنزل على هذه الآية التي ذكرناها مسائل عدة: أولها: الفرق بين النبي والرسول، فأكثر المصنفين في كتب العقيدة وغيرها يقولون: إن بين النبي والرسول فرقاً، فكل رسول نبي وليس كل نبي رسولاً، ويقولون: إن الفرق بينهما هو إن الرسول من أوحي إليه بشرع وأمر بتبليغه، والنبي من أوحي إليه بوحي ولم يؤمر بتبليغه، وهذا عليه أكثر من صنف، ولكنه خلاف الصحيح؛ فإن الله جل وعلا أعز وأجل من أن يوحي إلى عبد علماً ويجعل هذا العلم سرير الكتمان في صدر ذلك الرجل يموت بموته ولا يؤمر ببلاغه، فهذا أمر يتنافى مع الشرع. فهذا التعريف غير مستقيم، ولا بد من تعريف مستقيم، فنقول: إن التعريف المستقيم هو أن الرسول من أوحي إليه شرع جديد، وأما النبي فمن بعث على تقرير شرع من قبله، ومثال ذلك موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام، فموسى جاء بالتوراة، وجاءت بعده أنبياء لا يسمون رسلاً؛ لأنهم كانوا يحتكمون إلى التوراة، فهم أنبياء وليسوا رسلاً، ولما جاء عيسى عليه الصلاة والسلام جاء بالإنجيل، فخرج عن كونه نبياً إلى كونه نبياً رسولاً؛ لأن الإنجيل فيه شريعة غير الشريعة التي جاء بها موسى عن ربه ودونت في التوراة، مع اتفاقهم أجمعين -عليهم الصلاة والسلام- على أنهم بعثوا بالتوحيد والإيمان بالبعث والنشور واليوم الآخر، فهذا أمر اتفقت عليه كلمة النبيين، وإنما كان الاختلاف في الشرائع، فإذا جاء النبي وقرر الشرع الذي قبله فهو نبي، وإذا جاء بشرع جديد فهو رسول.

خصائص الأنبياء والرسل

خصائص الأنبياء والرسل المسألة الثانية: أن الرسل بشر، ولكنهم تميزوا عن البشر بخصائص، فأولها وأعظمها الوحي. وثانيها: أنهم يخيرون عند الموت، وثالثها: أنهم يدفنون حيث يموتون، ولذلك خير النبي صلى الله عليه وسلم، وسمعته عائشة وهو يقول: (بل الرفيق الأعل)؛ لأنه كان يخير، ودفن عليه الصلاة والسلام في نفس موطن موته في حجرة عائشة؛ لأن الأنبياء يدفنون حيث يموتون. ورابعها: أن الأنبياء لا تأكل الأرض أجسادهم، فقد قال الصحابة: يا رسول الله! كيف نصلي عليك وقد أرمت؟! فقال: (إن الله أوحى إلى الأرض ألا تأكل أجساد الأنبياء) فالأنبياء لا تأكل الأرض أجسادهم. الخصيصة الخامسة: أنهم أحياء في قبورهم حياة برزخية الله أعلم بها، وقد مر النبي عليه الصلاة والسلام في ليلة الإسراء على موسى وهو قائم يصلي في قبره كما أخبر صلوات الله وسلامه عليه.

حكم المفاضلة بين الأنبياء

حكم المفاضلة بين الأنبياء قال الله في الآية: {فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [البقرة:253]، فهي آية محكمة صريحة واضحة في أن التفضيل قائم بين الأنبياء، ولكنه ثبت عن نبينا صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيحين من حديث أبي سعيد وغيره- أنه قال: (لا تفاضلوا بين الأنبياء)، وقال عليه الصلاة والسلام: (لا تخيروا بين الأنبياء)، فهنا إشكال، ولا بد من حل ذلك الإشكال، وهذا الإشكال قائم بين منطوق الآية، في قوله تعالى: {فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [البقرة:253]، وبين منطوق الحديث، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تخيروا بين الأنبياء). وقد أجاب العلماء رحمهم الله عن هذا بأجوبة من أشهرها: أن هذا كان قبل أن يعلم عليه الصلاة والسلام بأن هناك تفاضلاً، وهذا أضعف الأقوال في حل الإشكال. القول الثاني: قال بعض العلماء: إن التفاضل يكون ممنوعاً في حالة أن يكون معتمداً على عصبة وحمية، أي: أن يأتي كل مسلم فيفضل الرسول الذي من الأمة التي هو منها أو ينتسب إليها عرقاً أو غير ذلك، قالوا: إذا كان التفاضل مبنياً على حمية وعصبية فهو ممنوع، ويجوز فيما سوى ذلك. وهذا القول مال إليه كثير من العلماء، ومعنى الكثير لا يعني الغلبة، ولكن قال به عدد غير محدود. وممن أجاب عن هذا من العلماء الشيخ الإمام الشنقيطي في أضواء البيان، حيث قال: إن حل الإشكال أن يقال: إن الأنبياء يتساوون في أصل النبوة، ويكون التفاضل في الأعطيات التي خص الله بها بعضهم دون بعض. والقول الرابع قول ابن عطية رحمه الله، كما نقله عنه القرطبي، وهو أصوب الآراء فيما نعتقد، فقال رحمه الله: إن التفاضل يكون ممنوعاً إذا كان مخصوصاً بين نبي بعينه ونبي آخر، فيكون ممنوعاً إذا كان بين مخصوصين، كأن يكون بين موسى وعيسى، أو بين محمد وإبراهيم، أو بين موسى ونوح، لأن هذا يورث شيئاً في الصدور، ولكن أن تبين فضل الله على نبي بخلاف ما عليه غيره من الأنبياء هو الذي أراده الله في قوله: {فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [البقرة:253] وإلى هذا الرأي نميل، والله تعالى أعلم، فهذه هي أجوبة العلماء على الإشكال القائم بين الآية وبين قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تفضلوا -وفي رواية كما في الصحيحين: لا تخيروا بين الأنبيا).

الأنبياء المكلمون

الأنبياء المكلمون قال الله: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ} [البقرة:253]، قوله: (منهم) عائد على الرسل، وإذا أطلق التكليم ينصرف إلى موسى؛ لأن الله قال له: {إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي} [الأعراف:144] وقال الله: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء:164]، ولكن الذين كلموا أكثر من واحد، فالثابت أن الذين كلمهم الله ثلاثة، أولهم آدم عليه الصلاة والسلام؛ فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم بسند صحيح أنه سئل عن آدم أنبي هو؟ قال: (نعم، نبي مكلم) وهذا نص في المسألة نفسها، وموسى كلم بنص القرآن، ومحمد صلى الله عليه وسلم كلم في ليلة الإسراء والمعراج، فهؤلاء الثلاثة منصوص على أن الله جل وعلا كلمهم، والتكليم من أرفع المنازل وأجل العطايا وأسخى الهبات من الرب سبحانه وتعالى.

رفع الله درجات الأنبياء وتفضيله أولي العزم منهم

رفع الله درجات الأنبياء وتفضيله أولي العزم منهم قال تعالى: {وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} [البقرة:253]، فالله جل وعلا رفع الأنبياء، وميّز بعضهم على بعض، فكلم موسى، وقال في إدريس: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} [مريم:57] وأعطى داود الزبور، وكان ندي الصوت به، وجعل نوحاً أول الرسل إلى الأرض، وجعل إبراهيم خليلاً، فكل واحد منهم صلوات الله وسلامه عليهم وهبه الله جل وعلا مزية أو فضيلة، مع الاتفاق على أن نبينا صلى الله عليه وسلم أفضل الأنبياء جميعاً، بل أفضل الخلق كلهم جناً وإنساً صلوات الله وسلامه عليه. ويتحرر من المسألة أن أفضل الأنبياء جملة أولو العزم قال الله تعالى: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف:35]، وأولو العزم من الرسل خمسة، وأكثر العلماء على أنهم: نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ونبينا صلى الله عليه وسلم، ورتبتهم بحسب ظهورهم، وهؤلاء قال الله جل وعلا عنهم: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} [الأحزاب:7] فهذا نص على أنهم أولو العزم صلوات الله وسلامه عليهم، وهم أرفع الأنبياء مقاماً. أهل السنة متفقون على أن الأنبياء جملة أفضل البشر، وأنه لا يوجد أحد من البشر، فـ أبو بكر فمن دونه لا يرقون أبداً إلى درجة أي نبي من الأنبياء، فالنبوة منزلة لا تعدلها منزلة ولا يعدلها شيء. وذهب الشيعة الإمامية إلى أن أئمتهم أفضل من الأنبياء غير أولي العزم من الرسل على قول، وعلى قول آخر أنهم أفضل من أولي العزم إلا نبينا صلى الله عليه وسلم، وهذا قول نذكره من باب العلم، وإلا فهو قول باطل بلا شك، ولا يحتاج إلى دليل لنقضه؛ لأن النبوة مسألة ثابتة بالكتاب، وأما تلك الإمامة التي يزعمونها فلم تثبت بأي شيء من كتاب ولا من سنة.

حكم تخصيص عيسى عليه السلام بالذكر

حكم تخصيص عيسى عليه السلام بالذكر قال الله جل وعلا: {وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ} [البقرة:253] ذكر عيسى بن مريم بعد الأنبياء يسمى ذكر خاص بعد عام؛ لأن عيسى بن مريم يندرج في قوله تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ} [البقرة:253]، ولكن الله جل وعلا خصه بالذكر هنا لحكمة، وهي أن أهل الكتاب، من اليهود والنصارى اختلفوا فيه عليه الصلاة والسلام بين إفراط وتفريط، فالنصارى بالغت فيه حتى جعلته إلهاً مع الله، واليهود ذموه حتى حاولوا قتله، وكلا الفريقين أخطأ السبيل، ولذلك حدد الله جل وعلا ذكره فهنا قال سبحانه: {وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ} [البقرة:253] والبينات: جمع بينة، وهي الأمارة والدلالة والمعجزة والبرهان، وقد من الله على عيسى بن مريم ببينات عدة، من أشهرها: أنه تكلم في المهد، وأنه كان يبرئ الأكمه والأبرص بإذن الله، وأنه كان يحيي الموتى بإذن الله، وأنه كان ينفخ في هيئة الطير فيكون طيراً بإذن الله، فهذا بعض ما من الله به على عيسى.

بيان المراد بروح القدس

بيان المراد بروح القدس قال تعالى: {وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ} [البقرة:253]، وجمهور العلماء على أن روح القدس المقصود به هنا جبرائيل، ويؤيده من السنة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ حسان: (اهجهم وروح القدس معك) أي جبرائيل. وذهب بعض العلماء -كـ ابن سعدي رحمه الله تعالى في تفسيره- إلى أن المقصود بروح القدس الإيمان واليقين في قلب عيسى بن مريم.

بيان معنى قوله تعالى (ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم)

بيان معنى قوله تعالى (ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم) ثم قال الله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ} [البقرة:253] فالأنبياء لما أتوا بالحق كان من البداهة أن يختصم الناس فيما جاء به الأنبياء، فلما اختصم كل قوم فيما جاء به النبي انقسموا إلى فريقين: مؤمن وكافر، ولكونهم مختلفين كان بينهم الحرب والاقتتال. فلما جاء الأنبياء والرسل بالعلم من الله وبالوحي وبالتوحيد وبالإسلام أثار ذلك الناس فانقسموا إلى فريقين، فصار بين الفريقين اقتتال لعلة الاختلاف، فسبب القتال وجود الاختلاف. ثم أخبر الله جل وعلا بأن منهم من آمن ومنهم من كفر، ثم أراد الله أن يبين أن السبب قد يوجد أحياناً ولا يعمل، حتى لا تنصرف أذهان الناس إلى أن السبب قد ينفع ويضر من غير مشيئة الله، فقال الله بعدها: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [البقرة:253] فهذا التكرار فهمه بعضهم على أنه توكيد، وقد نتنازل فنقول: إنه توكيد، ولكنه ليس توكيداً لمجرد التكرار، وإنما المقصود من الآية البيان التالي، وهو أن الله أخبر بأن وجود الاختلاف؟ سبب للقتال، ثم كرر وقال: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا} [البقرة:253] ليبين أنه قد يوجد اختلاف ولا يوجد قتال؟ بإذن من الله، بمعنى أن الله يلغي السبب، كالنار، فقد جعلها الله سبباً للإحراق، وقد يدخل إنسان النار ويخرج منها -كما حصل لإبراهيم- دون أن تؤثر فيه؛ لأن الله لم يرد للنار أن تحرق. وقد حصل ذلك لأبي مسلم الخولاني، وهو تابعي أدرك عمر رضي الله عنه، ولما ظهر الأسود العنسي في اليمن أمر بنار ليحرق أبا مسلم الخولاني، وهو رجل تابعي من أهل اليمن، فأدخله في النار فخرج منها دون أن يصيبه شيء، مع أن الأصل أن النار سبب للإحراق، ولكن الذي جعلها لا تعمل وعطّل سببها هو الرب سبحانه. ولذلك كرر الله قوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [البقرة:253] فنحن -المؤمنين- نأخذ بالأسباب مع علمنا بأن الذي بيده كل شيء هو الله، فنحن -وإن أخذنا بها لأننا مأمورون بأن نسلكها- متفقون على أنها لا تنفع ولا تضر إلا بإذن الله، وقد يسقي الإنسان زرعاً طوال دهره فيحصده غيره، وقد يجمع إنسان المال ليأكله فيموت ويأكله غيره. وهذا أمر يدركه كل عاقل ليلاً ونهاراً بكرة وعشياً فيما يراه وينظر إليه ومن هذا الباب ما يروى ومن هذا الباب ما يروى من إن هارون الرشيد الخليفة العباسي أوكل الخلافة من بعده لابنه الأمين والمأمون وثالث لهما، وترك المعتصم، وكان له أكثر من أربعة عشر ابناً، وكان المعتصم ثامن أولاده أو تاسعهم، ثم أخذ وثيقة فعلقها على الكعبة وأخذ العهد من العلماء والمسلمين على أن الخلافة من بعده لـ لأمين ثم المأمون ثم الثالث، وحجبها عن المعتصم لأن أمه لم تكن عربية، فشاء الله أن يقتتل الأمين والمأمون، فيقتل المأمون الأمين على يد عبد الله بن طاهر، ويرث المأمون الحكم، ثم يموت الثالث في خلافة أخيه المأمون، ثم يطول عمر المأمون قليلاً فيموت من بين المأمون والمعتصم، ثم في ذروة مجده يموت المأمون، ثم تأتي الخلافة منقادة إلى المعتصم على خلاف ما أراده أبوه، ولم يأت خليفة عباسي بعد المعتصم إلا وهو من نسل المعتصم، فلم يبق لـ لأمين ولا لـ لمأمون ولا لغيرهما أبناء يتولون حكماً، فلا أبناؤهم ولا أحفادهم، فانصبت الولاية كلها محصورة في المعتصم، فأنت تريد وهذا يريد، ويفعل الله ما يريد. والعاقل لا يعطِّل الأخذ بالأسباب، ولكنه يتوكل على الملك الغلاب، وهذه أمور تجري بقدر الله، فالملك ملكه والأمر أمره، يحكم ما يشاء ويفعل ما يريد.

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم)

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم) ثم قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة:254]. قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة:254] يسميه بعض العلماء نداء كرامة؛ لأن الله نعت الله عباده بوصف الإيمان أحب نعت إلى قلوبهم، ثم طالبهم بالإنفاق وجعله مبهماً؛ لأن المقصود منه الإنفاق الفرضي وإنفاق ائتنفل على الصحيح، ومجرد الإنفاق إن كان فرضاً أو نفلاً تفسره السنة، ويفسر في كتب الفقهاء، ولكن الله بين هنا السبب في الإنفاق، وهو أن الإنسان ينفق في الدنيا ليهون عليه الموقف يوم القيامة، فقال سبحانه: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ} [البقرة:254]، وضرب الأمثال من الواقع يقرب المسائل، فبيان هذه الآية بضرب هذا المثل، فلو أنه كان عليك حق تريد أن تسدده لغيرك فإنك لن تتخلص منه إلا بواحدة من ثلاث: الأولى: أن تشتريه فتدفع ثمنه وينتهي الحق، كما لو كان عليك ألف ريال لفلان لأنك صدمت سيارته، فإما أن تبيع شيئاً أو تشتري منه هذا الخلل، فتقول بكم تقدر العطل؟ فيقول: بألف ريال، فتعطيه ألف ريال وتنتهي القضية. الثانية: أن تعجز عن الألف فتعمد إلى صديق يعينك على دفع الألف أو قريب أو أي إنسان آخر. الثالثة: ألا تجد من يعينك أو يعطيك، ولكن تعرف شخصاً ذا وجاهة يعرف هذا الرجل، فيذهب كشفيع يشفع عنده ليتنازل عن الحق، ولا يوجد حل ثالث. فهذه الثلاث كلها منتفية يوم القيامة، فأنت لا تستطيع أن تشتري ذنوبك بأي ثمن، ولا تستطيع أن تذهب إلى أحد ليحملها عنك، ولا يوجد شفيع ذو وجاهة غير الله يستطيع أن يلغي أو يذهب أو يزيل عنك ذنوبك، فهو الأمور كلها لله، فلا ينفع يومئذ إلا ما أذن الله جل وعلا به أن ينفع، ولذلك ذكر الله البيع، ويفسر بالشراء، وذكر الخلة، وهي الصداقة والمعرفة، وذكر الشفاعة، وهي الوجاهة، وكلها منتفية، إلا الشفاعة المثبتة شرعاً، وسيأتي بيانها. قال الله تعالى: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة:254] لأنهم عدلوا مع الله غيره، وهذا من أعظم الظلم.

تفسير آية الكرسي

تفسير آية الكرسي

بيان فضلها

بيان فضلها ثم ذكر الله جل وعلا الآية الشهيرة المعروفة بآية الكرسي، وهي أعظم آية في كتاب الله، فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه سأل أُبي بن كعب الصحابي المعروف فقال: (يا أُبي! أي آية في القرآن أعظم؟) فقال أبي: الله لا إله إلا هو الحي القيوم، فضرب النبي عليه الصلاة والسلام على صدر أُبي قائلاً: (ليهنك العلم أبا المنذر) فيتحرر من الحديث أن آية الكرسي أعظم آية في كتاب الله، وهذا لا خلاف فيه بين العلماء، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم -كما روى ابن حبان بسند صحيح-: (من قرأ آية الكرسي دبر كل صلاة لم يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت) فهذا ما جاء في فضلها.

بيان معنى (الحي القيوم)

بيان معنى (الحي القيوم) أما معناها فإننا نقول: لقد صدّرها الله بلفظ الجلالة (الله)، وهو علم على الرب سبحانه وتعالى، ولم يطلق على غيره، ثم نعت الله جل وعلا نفسه باسمين من أعظم أسمائه الحسنى في قوله جل وعلا: {الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة:255] قال أهل العلم: كل أسماء الله الحسنى مردها إلى معنى هذين الاسمين العظيمين، ويقال في معنى الحي: إن حياة الله حياة تامة كاملة لم يسبقها عدم ولا يلحقها زوال. ومعنى ((الْقَيُّومُ)) أنه جل وعلا مستغن عن كل أحد، وكل أحد مفتقر إليه، فهو أنه جل وعلا مستغن عن كل أحد، قائم بنفسه وقائم بغيره، بمعنى أن كل مخلوق مفتقر إلى الله جل وعلا، فلا قوام لأحد إلا بالله، والله جل وعلا غني كل الغنى عن جميع خلقه.

بيان معنى قوله تعالى (لا تأخذه سنة ولا نوم)

بيان معنى قوله تعالى (لا تأخذه سنة ولا نوم) ثم قال سبحانه: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة:255] فبما أنه جل وعلا قائم على كل أحد؛ فإن من كمال قيوميته على كل أحد أنه لا تأخذه سنة ولا يأخذه نوم، قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور -أو النار- لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه)، فكل ما خطر ببالك فالله غير ذلك {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11].

بيان ملك الله تعالى العام

بيان ملك الله تعالى العام قال تعالى: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [البقرة:255] هذه اللام لام الملكية المطلقة، وهناك ملك حقيقي وملك صوري، فهذه اللام لام الملكية، أي أن جميع من في السماوات والأرض عبيد مقهورون للرب تبارك وتعالى.

نفي الشفاعة بغير إذن الله، وبيان سعة علمه تعالى

نفي الشفاعة بغير إذن الله، وبيان سعة علمه تعالى قال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:255] هذا استفهام إنكاري، أي: لا أحد يشفع عنده إلا بإذنه؟! قال الله تعالى: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} [البقرة:255]. والعلوم أربعة: علم ماض، وعلم حاضر، وعلم مستقبل، وعلم لا يكن كيف يتصور كونه، فهذه العلوم الأربعة يعلمها الرب تبارك وتعالى، قال الله في هذه الآية: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} [البقرة:255] وهذا يشمل كل علم، وأما العلم الرابع -وهو أنه يعلم ما لم يكن لو كان كيف يكون- فيدل عليه نحو قول الله جل وعلا: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا} [التوبة:47]، فالله يتكلم عن المنافقين، فهؤلاء المنافقون لو خرجوا لم يزيدوا المسلمين إلا خبالاً مع أن المنافقين لم يخرجوا، ولكن الله أخبر بأنه لو كان منهم خروج لكان حالهم ذلك، وقال الله عن أهل النار عياذاً بالله: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} [الأنعام:28]، ومعلوم لكل مسلم أن أهل النار لن يخرجوا من النار ولن يعودوا إلى الدنيا، لكن الله يخبر بأنهم لو عادوا فعلى أي حال سيكونون، فهذا معنى قولنا: إن الله يعلم ما لم يكن لو كان كيف يكون. قال الله تعالى: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} [البقرة:255]، فكل من لديه علم فالذي علمه هو الله، ولا يمكن لأحد أن يأتي بعلم لم يشأ الله له أن يعلمه، قال تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا} [النحل:78] فأول طرائق طلب العلم أن تطلبه منه سبحانه وتعالى، ولا يأتي العلم بمداد ولا بصحيفة ولا بالتتلمذ، ولا يأتي بشيء أكثر مما يأتي بالاستعانة بالرب عز وجل، فمن أخلص لله النية واستعان بربه على الوجه الأتم عَلَّمه الله جل وعلا وساق إليه العلم ماء زلالاً، ومن ساءت نيته -والعياذ بالله- أو اعتمد على قلم ومحبرة وصحيفة ومداد وزيد وعمرو وشريط وشيخ اعتماداً كلياً وأغفل جانب الاعتماد على الله لم ينل من العلم إلا بقدر ما يريده الله جل وعلا، فمن قرت عينه بالله قرت به كل عين، ومن لم تقر عينه بالله تقطعت نفسه على الدنيا حسرات، أعاذنا الله وإياكم من ذلك.

بيان المراد بالكرسي

بيان المراد بالكرسي قال الله تعالى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا} [البقرة:255] اختلف في معنى الكرسي، فقيل: إنه العرش، وهذا بعيد، وهو قول الحسن البصري، وقيل: إنه موضع القدمين للرب عز وجل. وهذا فيه حديث صححه بعض العلماء، وقيل: إن الكرسي معناه العلم، فيصبح معنى الآية: وسع علمه السماوات والأرض. وهذا هو المشهور عن ابن عباس، واختاره الإمام ابن جرير الطبري رحمه الله في تفسيره. وبعض العلماء يقول: إن الكرسي شيء ولا تقتحم لجج معرفة الكرسي، فالشيخ الإمام الشنقيطي في أضواء البيان تجاوز الآية، والعلامة ابن سعدي لم يعرج عليها تعريجاً يبين معنى الكرسي، وابن جرير الطبري قول ابن عباس: إنه العلم، وبعض العلماء -كـ ابن كثير وغيره- مالوا إلى تصحيح الحديث، وقالوا: إن الكرسي موضع القدمين للرب عز وجل، وقال بعض العلماء- وهذا منسوب إلى أبي هريرة رضي الله تعالى عنه-: أنه موضع أمام الرب سبحانه وتعالى، وقيل غير ذلك، وهذا مجمل ما تبناه أهل السنة سلك الله بنا وبكم سبيلهم. والذي نريد أن نفهمه هو أن الكرسي شيء عظيم، وعظمة المخلوق تدل على عظمة الخالق، وهذا هو الأمر المهم، كما قيل: تأمل في نبات الأرض وانظر إلى آثار ما صنع المليك عيون من لجين شاخصات على ورق هو الذهب السبيك على قضب الزبرجد شاهدات بأن الله ليس له شريك

بيان عظيم قدرة الله وعلوه وعظمته

بيان عظيم قدرة الله وعلوه وعظمته ثم قال تعالى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلا يَئُودُهُ} [البقرة:255] أي لا يعجزه ولا يثقله {حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة:255]، والعلي العظيم اسمان من أسماء الله الحسنى، فالله جل وعلا علي في ذاته، وعلي في مكانه، وعلي بقهره لسائر خلقه: وله العلو من الوجوه جميعها ذاتاً وقهراً مع علو الشان قال تعالى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة:255]. فهذه آية الكرسي على وجه الإجمال، وهي من أعظم آيات كتاب الله كما صح الخبر وبينا عن رسولنا صلى الله عليه وسلم، ولا أظن مسلماً لا يحفظها، فلتحفظ لأبنائنا، ولأمهاتنا الكبار اللاتي لا يقرأن ولا يكتبن، ولينبهن على أنها تقرأ بعد دبر كل صلاة، حتى ندخل في قوله صلى الله عليه وسلم: (من قرأ آية الكرسي دبر كل صلاة لم يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت)، وجاء في الصحيح من حديث أبي هريرة عند البخاري وغيره أنها حفظ وحرز من الشيطان يقرؤها المؤمن صباحاً ومساءاً، غدواً ورواحاً، فهي من أعظم آيات كتاب الله المبين.

تفسير قوله تعالى: (لا إكراه في الدين)

تفسير قوله تعالى: (لا إكراه في الدين) ثم قال سبحانه: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:256]. إن العقائد والأمور القلبية لا تأتي بالقوة، فأنت إذا أردت تجبر إنساناً على أن يأكل فإنك تستطيع ذلك من خلال الضرب، ومن خلال العقاب، وإذا أردت أن تسقيه شيئاً لا يريد أن يشربه فبالعقاب تستطيع أن تجعله يشرب، ولكن الشيء القلبي لا يمكن أن يأتي بالإكراه؛ لأنك لا تدري أوقع في قلبه أم لم يقع في قلبه، كمعلم -مثلاً- يأتي بعصاً ويجبر طلابه على أن يحبوه، فلو قال أحد الطلاب: أنا أحبك فإنه لا يستطيع أن يثبت هذا؛ لأن هذا شيء قلبي، فلا يمكن الأكراه في المسائل القلبية، ولو تظاهر الإنسان أمامك بأنه يفعل ذلك، فالله يقول: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة:256] فالعقائد لا تأتي بالإكراه.

الإسلام دين الفطرة

الإسلام دين الفطرة ومن معنى الآية كذلك أن دين الإسلام دين فطرة لا يحتاج إلى أن يكره الناس عليه، وما يحصل في بغداد أعظم شاهد، فقد كانت بغداد رهينة الحكم البعثي وعقائده الكافرة، ثم جاء الأمريكان -وهم أسوأ حالاً- بعقائدهم الضالة وتجبرهم على المسلمين، فلما لم يستطع أهل بغداد أن يتكلموا أيام حاكمهم الأول، وجاء هؤلاء المغفلون فأعطوهم الحرية خرجوا بعد صلاة الجمعة يطلبون الإسلام، وهذا لا شك فيه، فالفطر لا تريد إلا الإسلام، وكم من بلد عربي مقهور تحت سلطانه يمنع فيه الكثير من الطاعات لو قدر لشعوبه أن تتكلم لطالبت بالإسلام، فالإسلام دين الفطرة، ولذلك كان الأنبياء يقولون لكل متجبر: لا نريدك أن تسلم، ولكن خل بيننا وبين الناس، فنحن إذا دعونا الناس فإننا واثقون بأن الناس سيدخلون في الإسلام، فموسى عليه السلام يقول: {أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ} [الدخان:18] ولذلك لم يحارب النبي صلى الله عليه وسلم أبا جهل وأمثاله لأنهم كفار، ولكن حاربهم لأنهم كانوا يمنعونه من أن يبلغ رسالة ربه، فهؤلاء الطغاة المعاندون في كل زمان ومكان مهما فعلوا لو تركوا كونهم حائلاً بين الدعاة وبين الناس لآمن الناس، وقبلوا دين الله جل وعلا، ولكن الطغاة والكفرة والظلمة على اختلاف منازلهم في كل عصر يحولون بين العلماء والدعاة وبين عباد الله، فتصبح الدعوة مخنوقة فلا يهتدي الناس؛ لأنهم حائل بينهم وبين الدعوة، وبلادنا أمثل شاهد على النقيض، فحين لا يوجد منع للدعوة يأتي الناس طواعية، فلماذا لا يوجد ذلك في تونس أو في غيرها من الدول العربية؟ والجواب أنه لسنا أحسن منهم، ولكن حيل بينهم وبين دعوة ربهم جل وعلا، وإلا فلو ترك الناس على حالهم لما ابتغوا غير صراط الله، والله يقول: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ} [البقرة:256] والرشد: هو الإيمان، والغي: هو الكفر والباطل. وقال بعض العلماء -كما نقل عن الشعبي -: إن تفسير الآية مخصوص بالنصارى واليهود أهل الكتاب، والمعنى أنهم لا يكرهون على الدين إذا دفعوا الجزية، ولكن الأول أظهر وأشمل، والله تعالى أعلم.

بيان المراد بالطاغوت والعروة الوثقى

بيان المراد بالطاغوت والعروة الوثقى ثم قال سبحانه: {قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انفِصَامَ لَهَا} [البقرة:256]. العروة الوثقى قيل: هي (لا إله إلا الله)، وقيل: الإسلام، ولا تعارض بينهما. والطاغوت: كل ضال يدعو إلى غير دين الله، وكل ما عبد برضاه من دون الله، والإيمان بالله واضح، فمن كفر بالطاغوت وآمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى المؤدية إلى جنات النعيم التي هي مطلب كل مؤمن. ثم قال الله بعد ذلك: {لا انفِصَامَ لَهَا} [البقرة:256] وهناك (فصم) و (قصم)، وكلاهما يعني النزع، والفرق بينهما نمثله بشيء محسوس، فلو أخرجنا شيئاً من شيء آخر بالكلية فهذا يسمى قصماً؛ لأنه بان بالكلية، ولكن لو أخرجناه وبقي شيء يسير منه معلق بالأصل فإن هذا يسمى انفصاماً. فالله يقول: إن الذي يفعل هذا قد استمسك بالعروة دون انفصام، فإذا نفي الانفصام فمن باب أولى أن ينفى القصم بالكلية. قال تعالى: {وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:256] سميع للأقوال عليم بالأفعال.

تفسير قوله تعالى: (الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور)

تفسير قوله تعالى: (الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور) ثم قال سبحانه: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:257]. ففي اللغة إفراد وجمع، وغالب استعمال القرآن إذا وجد مفرد مقابل جمع أن يقابل بين فاضل ومفضول، أو بين حق وباطل، وتأمل القرآن، فالله يقول: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ} [الأنعام:1] فجمع الظلمات وأفرد النور، وقال في النحل: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ} [النحل:48] فأفرد اليمين وجمع الشمائل؛ لأن اليمين أفضل من الشمائل، وهنا قال: {يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [البقرة:257] فجمع الظلمات وأفرد النور، وقال سبحانه: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام:153] فجمع السبل، وأفرد صراط الله، ذلك أن الحق واحد والكفر أجناس متعددة يجمعها الباطل.

الصلة بالله طريق إلى الولاية

الصلة بالله طريق إلى الولاية فالله يقول في هذه الآية: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:257]. فالله يجيب من سأله، ويعطي من طلبه، ويأوي من التجأ إليه، ومن حسن الظن بالله أن تعلم أن الله لا يضيع من لجأ إليه بالإكثار من صلاة الليل، والدعاء في ثلث الليل الآخر، والتضرع بين يدي رب العالمين، والتماس رحمة الله تبارك وتعالى، مع عدم اليأس والقنوط والإلحاح على الله جل وعلا، فذلك أعظم ما ينال به الإنسان خيري الدنيا والآخرة؛ فإن جعلت الله وليك بحق تولاك الله تبارك وتعالى، ومن تولاه الله لا يضيع، فعندما تردد مع أئمتك أو مع نفسك قول المؤمنين في دعائهم: (اللهم إنه لا يعز من عاديت، ولا يذل من واليت)، عندما تردد ذلك ردده وأنت تفقه معناه ولا يعجبك آخر التاءات والسجع فتنشغل به، بل انشغل بالكلام. فحين تقول: (اللهم إنه لا يعز من عاديت)، تعلم أن من عادى الله لا يمكن أن تكتب له العزة مهما بلغ، ومن تولى الله جل وعلا فهو العزيز ولو أراد أن يذله الناس. فقل ذلك في وترك وفي سجودك وفي أدبار الصلوات وأنت موقن به، والتمس من الله الرحمة والغفران وأن يكون وليك؛ فإن كان الله وليك فاعلم أنه لا يقدر على غلبتك أحد، وليس غلبتك أن تظهر منتصراً على أقرانك، ولكن العبرة بالمآل، والعبرة بالعاقبة، والعبرة بالوقوف بين يدي الله تبارك وتعالى، والعبرة ألا تعض يديك يوم القيامة، يقول الله: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ} [الفرقان:27] فزوال الحسرة يوم القيامة أعظم المكاسب وأعظم المفاوز وأعظم الهبات وأعظم العطايا، وهذه لا يعطاها إلا من تولاه الله ممن {يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [البقرة:257] فالإنسان منهم حيران قد يكون مشكلاً عليه الأمر، فإذا لجأ إلى الله أنار الله له الطريق وأظهر الله جل وعلا له السبيل، وأنت لا تعلم الغيب، فقد يختار الله لك شيئاً لا تريده، ولكنه يتبين لك مع مرور الأيام وتوالي الأعوام أن ما اختاره لله لك خير مما اخترته لنفسك.

تفسير قوله تعالى: (ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه)

تفسير قوله تعالى: (ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه) يقول الله جل وعلا: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّي الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنْ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنْ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [البقرة:258]. إبراهيم عليه الصلاة والسلام إمام الحنفاء وإليه تنسب الملة، قال الله جل وعلا {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج:78]، فإبراهيم عليه السلام كان ضيفاً، وكلمة حنيف في اللغة معناها: المايل، فكيف يوسم الدين بأنه مائل، وكيف يوسم رجل كإبراهيم بأنه يميل؟ والجواب عن هذا: هو أن الرسل عليهم الصلاة والسلام بعثوا والناس قد جادوا عن الطريق ومالوا عن الحق، فلما جاء إبراهيم وكل رسول بعده جاءوا والناس في عوج فلو سار الرسول معهم سيصبح معوجاً، فلما اعوجّ عنهم أصبح مستقيماً؛ إذ الميل عن الميل استقامة، فبان من هذا أن مخالفة المعوجّين اعتدال واستقامة.

ذكر خبر النمرود مع إبراهيم عليه السلام

ذكر خبر النمرود مع إبراهيم عليه السلام والرجل المذكور في الآية قال عنه العلماء: إن اسمه النمروذ بالذال، وقيل: النمرود -بالدال- بن كنعان، ولا يهمنا اسمه. وقد نقل المؤرخون نقلاً عن مجاهد أن الذين حكموا الدنيا من المشرق إلى المغرب أربعة: اثنان مؤمنان واثنان كافران، فالمؤمنان سليمان بن داود عليه السلام، وذو القرنين، والكافران بختنصر والنمرود بن كنعان. وكان من خبر النمرود أن الناس كانوا يأتونه أيام الجدب يأخذون منه الميرة، أي: المؤنة، فكلما أتاه شخص سأله: من ربك؟ فيقول ذلك الضال: أنت! فيعطيه المؤنة، فلما أتاه عليه إبراهيم قال النمرود لإبراهيم: من ربك؟ قال: ربي الذي يحيي ويميت، وإبراهيم يقصد الذي أحيا الناس من موتهم ويفنيهم إذا شاء، فقال النمرود فراراً من الإجابة: أنا أحيي وأميت، وفي رواية أنه أتي باثنين كلاهما محكوم عليه بالإعدام، فقال لأحدهما: اذهبا، ثم قال: هذا أحييته؛ إذ هو محكوم عليه بالإعدام، وقتل الآخر، وقال: هذا أمته. وإبراهيم لم يقصد هذا، والنمرود يعرف أن إبراهيم ما قصد هذا، ولكن أراد أن يفر من الإجابة، فبقي إبراهيم على نفس المجادلة حتى يأتيه بما هو أعظم، وقلت من يتولى الله يتولاه، قال تعالى: {قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} [البقرة:258] ولم يقل الله: فبهت الكافر، بل قال: {فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} [البقرة:258] ولو قال: (فبهت الكافر) لأصبح ذلك مجرد نعت عام للرجل الذي مر ذكره، ولكن لما قال: {فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} [البقرة:258] بيّن أن خذلانه في الإجابة كان بسبب كفره، ولذلك فإن المسلم يصلي الفجر في جماعة، ثم يخرج وهو مستعين بالله، ويردد (لا إله إلا الله ولا حول ولا قوة إلا بالله)، فقد جاء في الحديث أنه إذا قال الإنسان: لا إله إلا الله يقول الرب عز وجل صدق عبدي لا إله إلا أنا، وإذا قال: لا حول ولا قوة إلا بالله يقول الرب عز وجل: صدق عبدي لا حول ولا قوة إلا بي. فإذا خرج الإنسان في حياته اليومية وهو يردد (لا إله إلا الله ولا حول ولا قوة إلا بالله) ويعقد عليها أصابعه فإنه قد يأتيه موقف مفاجئ لم يستعد له فيلهم إجابة لو جلس عشرين سنة يستعين بالناس لا يعطاها، ويأتي إنسان لا يصلي فجر ولا يعرف ربه إلا قليلاً ولا يذكره، فيأتي موقف يجيب عنه الطفل الصغير فيبهت ولا يستطيع الإجابة ويغلب لعدم الاستعانة بالله، فهذا الرجل ما بهت لأن إبراهيم كان أفصح، وإنما غلب إبراهيم لأنه موحد وهذا كافر، قال الله: {فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} [البقرة:258] والدليل أن الله قال بعدها: {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [البقرة:258] فمن ظلم وجعل لله نداً ولم يجعل لله تبارك وتعالى قدراً ولا معرفة ولا مكانة، فلا يمكن أن يوفقه الله جل وعلا، وإنما التوفيق والهداية مردهما إلى الإيمان والعمل الصالح.

تفسير قوله تعالى: (أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها)

تفسير قوله تعالى: (أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها) {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} [البقرة:259] القرية: هي بيت المقدس، والذي هدمها وخربها بختنصر، والذي مر عليها اختلف فيه، قيل: إنه عزير، وهو بعيد، وقيل غيره، والشاهد أن رجلاً مر على تلك القرية وقد خربت، فلما رآها قد خربت وسقطت سقوفها {قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا} [البقرة:259]، وقد فهم البعض أن مقصود هذا الرجل أن الله يعيد هذه البلاد مرة أخرى، وهذا بعيد؛ إذ كم ديار -على ما ترى وأنت سفرك- تمر عليها خربة ثم تعود ثانية، وكم من ديار مبنية عظيمة تعود خربة كما هو حاصل في بغداد، فهو لم يقصد بنيان القرية، وإنما قصد أهل القرية كيف يحيون بعد أن يموتوا؟ فقال: {أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا} [البقرة:259] فالله جل وعلا رحمة به ورحمة بالناس بعده جعله هو آية {فَأَمَاتَهُ اللَّهُ} [البقرة:259] أي: بعث إليه ملك الموت فقبض روحه، فمكث مائة عام ميتاً، ثم عاد إليه ملك الموت فأحياه، فلما أحياه سأله ملك الموت {كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا} [البقرة:259] فلما رأى الشمس لم تغب قال: {أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} [البقرة:259]، فأخبره الملك قائلاً: {بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ} [البقرة:259] أي: لم يتغير، وقد قلنا: إن الله قد يعطِّل السبب؛ فمرور الأيام سبب في تغيير الطعام بالعقل، ولكن الله أبقاه وعطل الله السبب. قال تعالى: {وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ} [البقرة:259] فقد كان ميتاً فأحياه الله {وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً} [البقرة:259] وقرئت (ننشرها) ولا خلاف في المعنى؛ لأن النشر هو الإحياء والإنشاز هو الرفع، والمشهور هو القراءة التي بين أيدينا (ننشزها).

بيان قدرة الله تعالى على كل شيء

بيان قدرة الله تعالى على كل شيء قال تعالى: ((فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ)) أي: قال الكلمة التي يقولها كل مؤمن {أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:259] ولو أن الناس وثقوا بهذه الآية جل وعلا من عجائب قدرته، فقد قيل: إن المنصور بن أبي عامر أحد ملوك الطوائف في الأندلس كان حمَّاراً يسوق الحمير، ومعه اثنان على نفس مهنته، فقال لهما ذات يوم: ما تطلبان مني لو أصبحت أميراً للمؤمنين؟ يعني: في تلك المنطقة، فأخذا يسخروا منه، فقال: تمنيا. فقال أحدهم وكان عاقلاً: أنا أريد قصوراً وجواري. وقال الثاني: تحملني على حمار وتجعل وجهي إلى عجز الحمار ويطاف بي على القرية ويقال: إني مجنون. فترك هذه الصنعة وصار جندياً، ثم ما زال يرتقي حتى أصبح حاجب الخليفة، أي: الذي يجلس على الباب، مثل قائد الحرس الملكي في عصرنا، وكان لهذا المكان منزلة عند الناس، ثم إن الخليفة مات وترك ابناً صغيراً لا يصلح أن يكون ملكاً، فأعطي ولاية العهد، فصنع له مجلس وصاية من مجموعة منهم الوزير، والأمير، وفلان، والحاجب المنصور بن أبي عامر، ومع الأيام استطاع بقدرته وبشطارته بإرادة الله أن يتغلب على الجميع، وأصبح هو الأمير، فقال ائتوني برفيقي فوجدوهم في نفس المكان، فقال للأول: ماذا طلبت؟ قال: طلبت قصوراً وجواري، فقال: أعطوه قصوراً وجواري، وقال الثاني: أنا نسيت، أعفني يا أمير المؤمنين، فألح عليه، فلما ألح عليه أخبره فأمر بأن يوضع على حمار ويطاف به في البلدة، فشفع الناس فقالوا: لقد حقق الله لك أمنيتك، فماذا تستفيد من حمله على حمار بتلك الريقة؟! قال: أفعل ذلك لشيء واحد: ليعلم أن الله على كل شيء قدير. فاعلم -يا أخي- أن الله على كل شيء قدير، فهؤلاء الأمريكيون في أرض بغداد أو في غيرها ظاهرهم الطغيان، فما جاءوا إلا ليفسدوا في الأرض، ولا يمكن أن يبيت بوش وأقرانه خيراً لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، ولكن هذا الذي يريدونه هم، والذي يريده الله بهذه الأمة من خير عظيم لا يمكن أن يرده بوش ولا غيره، قال الله عز وجل: {أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ} [الطور:42] فنصر الله قادم شاءوا أم أبوا، رضوا أم غضبوا، ولا نعلم كيف سيكون، لكن الذي نعلمه يقيناً أنه سيكون، وأرجو الله أن يكون قريباً، وثقوا بأنه كم من محنة في طيها منحة، وعطية من الله، وكلما ضاقت الأمر دل ذلك على أول الفرج، قال الشاعر: وراء مضيق الخوف متسع الأمن وأول مفروح به غاية الحزن فلا تيأسن فالله ملك يوسف خزائنه بعد الخلاص من السجن سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين، والله تعالى أعلم، وصلى الله على محمد وعلى آله.

سلسلة تأملات قرآنية [3]

سلسلة تأملات قرآنية [3] قد ضمن الله تعالى كتابه الكريم الرد على مشركي أهل الكتاب في غير ما قضية، ومن جملة تلك القضايا زعم النصارى بأن عيسى ابن الله، فقد دفع الله تعالى قولهم وأبطله، وأمر نبيه بدعوتهم إلى المباهلة في شأنه بياناً للحق وكشفاً للباطل، وأمره تعالى بدعوتهم جميعاً إلى عبادة الله وتوحيده وترك عبادة المخلوقين، وكما أن من جملة تلك القضايا بيان ما كان عليه إبراهيم عليه السلام من الحنفية والإسلام، وبيان أولى الناس به دون اليهود والنصارى من أهل الكتاب.

تفسير قوله تعالى: (إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم)

تفسير قوله تعالى: (إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم)

دفع القرآن شبه الظالمين والمعاندين

دفع القرآن شُبه الظالمين والمعاندين الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد: فقد كنا بدأنا بسورة الفاتحة، ثم بدأنا بسورة البقرة، وبعد أن أخذنا مقاطع من آيات منها انتقلنا إلى الجزء الثالث في قول الله تعالى: (تلك الرسل). والسبب في هذا الانتقاء هو المرور بأهم ما في السورة حتى نخرج جميعا بفائدة جمة، فيكون القارئ قد مر على شيء من سورة البقرة، وعلى شيء من سورة آل عمران، وعلى شيء من النساء، وهكذا. وبعد أن اتضح المنهج نقول: إن الآيات المختارة في هذا الدرس من سورة آل عمران هي من قول الله عز وجل: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [آل عمران:60] إلى قول الله عز وجل: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران:68]. قال العلماء: إن من أعظم علوم القرآن أن يعلم أن القرآن نزل لدفع شبه الظالمين، وإبطال عناد المعاندين، وإثبات البراهين العقلية الموافقة للأدلة النقلية، فهذا من أعظم علوم القرآن. وقالوا: إن هذا الفن لا يدركه إلا الجهابذة العلماء المستبصرون الذين من الله جل وعلا عليهم بإدراك مغازي كتابه، جعلنا الله وإياكم منهم وألحقنا بهم وإن لم نكن لذلك بأهل.

بيان مناسبة الآيات لما قبلها

بيان مناسبة الآيات لما قبلها وأما مناسبة الآيات لما قبلها فهي أن الله جل وعلا ذكر قبلها قصة عيسى ابن مريم عبد الله ورسوله عليه الصلاة والسلام، فذكر جل وعلا قصة الصديقة مريم، وكيف أنها حملت بعيسى، وكيف وضعت، وما كان له من آيات وبراهين، وكيف أنه دعا قومه، وكيف أن الله جل وعلا آتاه المعجزات الظاهرة والبراهين التي تدل على نبوته حتى رفعه الله جل وعلا إليه، وسينزل في آخر الزمان. وبعد أن ذكر ذلك جل وعلا ذكر قوله: {ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَليْكَ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ} [آل عمران:59]، فهذه مناسبة الآيات لما قبلها.

سبب نزول الآيات

سبب نزول الآيات أما سبب نزول الآيات فالمشهور عند العلماء أنه في العام التاسع للهجرة -عام الوفود- بعد أن فتح الله لنبينا صلى الله عليه وسلم مكة أسلمت ثقيف، وانتهت غزوة تبوك، فأتى الناس على هيئة وفود من كل شق إلى نبينا صلى الله عليه وسلم. ومن جملة الوفود التي حضرت وفد نجران، وكانوا على الديانة المسيحية، ومنهم السيد والعاقب وهما من رءوسهم، فهؤلاء النفر لما قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم قالوا له: ما لك تشتم صاحبنا؟ فقال: وما ذاك؟ قالوا: تقول: إن عيسى عبد الله ورسوله. قال: نعم هو عبد الله ورسوله، فجادلته النصارى بأن عيسى لا أب له فقالوا: فقل لنا من هو أبو عيسى؟ فاستمهلهم حتى ينزل القرآن عليه في شأن عيسى، فأنزل الله جل وعلا على نبينا قوله: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران:59]، فأنزل الله جل وعلا عليه هذا العلم البين ليرد به على غيره.

الرد على النصارى في زعمهم بنبوة عيسى عليه السلام

الرد على النصارى في زعمهم بنبوة عيسى عليه السلام قوله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ} [آل عمران:59]، ليس كلمة (مثل) هنا مقصود بها المثل المعروف الذي يضرب للأشياء، وإنما كلمة (مثل) هنا بمعنى (حالة) أو (صفة)، فيصبح معنى الكلام أن حال وصفة عيسى عند الله كحال آدم، فما حال آدم عليه السلام؟ قال الله: {خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران:59]. فالنصارى تقول: إن من أدلة أن عيسى ابن الله أنه لا أب له باتفاق بأهل الأرض، ومن علوم القرآن الرد على شبه الظالمين، فرد الله عليهم بأن آدم عليه الصلاة والسلام لا أب له ولا أم، زيادة على عيسى، فإذا كان عيسى لا أب له فآدم لا أب له ولا أم، وإذا كان عيسى خلق بكلمة (كن) بعد أن نفخ جبرائيل في رحم الصديقة مريم وكان بأمر الله، فإن آدم كذلك قال الله له: (كن)، فكان كما أخبر الله به في كتابه. فمقارنة عيسى بآدم ضربها الله جل وعلا دليلا على بطلان حجج النصارى؛ لأنه لو صح قولهم: إن كون عيسى لا أب له دليل على أنه ابن الله وكان آدم أولى بالبنوة؛ لأنه لا أب له ولا أم، والنصارى وغير النصارى وكل أهل الأرض لا يقولون: إن آدم ابن الله، فدمغت حجة النصارى. فالنصارى تقول: إن عيسى ابن الله، بدليل أنه لا أب له، فالله يقول لهم: لئن كان الذي تقولونه حقا فإن آدم أولى بهذه البنوة التي تزعمونها ولا أصل لها؛ لأن آدم لا أب له ولا أم، وخلق بكلمة (كن) كما خلق عيسى عليه الصلاة والسلام، فلما اعترفتم بأن آدم ليس ابن الله وجب عليكم أن تعترفوا بأن عيسى ليس ابنا لله، وأن الله جل وعلا لم يلد ولم يولد.

ذكر فائدة التعبير بـ (يكون)

ذكر فائدة التعبير بـ (يكون) قال تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ} [آل عمران:59] والهاء في (خلقه) عائدة على آدم، {خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ} [آل عمران:59] أي قال لآدم {كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران:59] أي كن فكان. واختلف العلماء: لماذا عبر الله بالمضارع بدلا من الماضي؟ إذ كان الأولى أن يقال: خلقه من تراب ثم قال له كن فكان. فقال بعضهم: إن العرب تجري المضارع مقام الماضي إذا عرف معنى الحال، وهذا جواب فيه شيء من الركاكة. وقال بعضهم -ولعل هذا أظهر-: إن الله أراد أن يبين تمثل المعنى لمن يسمع، بمعنى أن عيسى عليه الصلاة والسلام حتى عندما نفخ جبرائيل روحه في رحم مريم لم يخرج مباشرة يمشي على قدميه، وإنما تكون لحما وعظاما وحملت به تسعة أشهر على الصحيح ثم ولدته صبيا رضيعا، ثم كان عيسى ابن مريم، فلم يقل الله كن فكان مباشرة، وإنما قال: {كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران:59] ليبين التدرج الذي مر به خلق عيسى ابن مريم.

بيان معنى قوله تعالى: (الحق من ربك فلا تكن من الممترين)

بيان معنى قوله تعالى: (الحق من ربك فلا تكن من الممترين) قال الله تبارك وتعالى: {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} [البقرة:147] يعني: هذا هو الحق الذي أتاك من ربك، وإضافة الرب إلى النبي صلى الله عليه وسلم تشريف له صلوات الله وسلامه عليه، {فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [البقرة:147] أي: لا تكن من الشاكين. وينبغي أن يعلم أنه ليس المقصود من الآية أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ممترياً أو شاكاً، فهذا منتف أبدا، وإنما المقصود من هذا الأسلوب إثارة الأريحية فيه صلى الله عليه وسلم لأن يقبل الحق من ربه، ويعض عليه بالنواجذ، وهذا تخريج. وقال بعض العلماء تخريجاً آخر؛ وهو أن المخاطب الحق هو أمته -وإن كان المخاطب النبي صلى الله عليه وسلم- وكل من يسمع القرآن، ولا تعارض بين هذين التخريجين.

ذكر خبر المباهلة

ذكر خبر المباهلة قال تعالى: {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ * فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ} [آل عمران:60 - 61] الهاء عائدة على عيسى وخلقه {مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} [آل عمران:61] أي: البيان الذي أظهره الله لك في شأن عيسى ابن مريم {فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} [آل عمران:61]. ولما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم وفد نصارى نجران بالأمر لم يقبلوا وقالوا: نحن مسلمون من قبل، فقال صلى الله عليه وسلم: (يمنعكم من الإسلام ثلاث: أكلكم الخنزير، وسجودكم للصليب، وزعمكم أن لله ولداً)، فهذه الثلاث منعت ما يزعمونه من أنهم مسلمون، فلما طال الأمر بينهم وبينه صلى الله عليه وسلم احتكم إلى المباهلة، والمباهلة مأخوذة من الابتهال، وهو الدعاء، وتكون غالباً لإظهار الحجة، وقد تخصص -كما في الآية- لنزول اللعنة. وأصل المسألة أنه لما طال الجدال، فلا هم اقتنعوا، ولا هم قادرون على أن يقنعوا؛ لأنهم على باطل؛ احتكم صلى الله عليه وسلم إلى الابتهال قائلا لهم كما أمر الله: {تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ} [آل عمران:61] أي ندعو فنقول: اللهم العن الكاذب منا في شأن عيسى ابن مريم، فلما كان من الغد قدم صلى الله عليه وسلم ومعه علي وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم أجمعين وقال لـ علي وفاطمة والحسن والحسين: (إذا أنا دعوت فأمنوا). وقبل أن يكمل اعترض النصارى وخافوا من المباهلة، وخوفهم من المباهلة دليل على أنهم يعلمون أنه رسول الله حقا؛ لأنهم لو كانوا على يقين لقبلوا المباهلة، وكون النبي عليه الصلاة والسلام يأتي بابنته وعلي والحسن والحسين دليل على ثقته فيما يدعو إليه؛ لأنه كان بالإمكان أن يباهلهم لوحده، ويقول: أنا وأنتم ندعو فأهلك أنا أو تهلكون أنتم، فلما أتى بابنته وأحب بناته إليه، وزوجها علي والحسن والحسين ليدعو على الجميع؛ كان ذلك دلالة على أنه صلى الله عليه وسلم كان واثقا من حفظ الله له، وكان على برهان ويقين بأن ما عند الله هو الحق.

دلالة آية المباهلة على فضل آل البيت

دلالة آية المباهلة على فضل آل البيت وآية المباهلة تدل على أمور عدة: أولها: فضل آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم دعا علياً وفاطمة والحسن والحسين، وهؤلاء الأربعة مع النبي عليه الصلاة والسلام يسمون أصحاب الكساء؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام جللهم -أي: غطاهم- ذات مرة بكساء وقال: (اللهم هؤلاء بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا) فهؤلاء آل بيته صلى الله عليه وسلم، وعلي ابن عمه نسبا، وهو زوج ابنته فاطمة، تزوجها بعد منقلب النبي صلى الله عليه وسلم من معركة بدر، في السنة الثانية من الهجرة، قيل: تزوجها في شوال وقيل: تزوجها في أول ذي القعدة، وتعيين التاريخ هنا تحديدا لا يهم، وأنجب منها الحسن والحسين، وأراد علي أن يسمي ابنه الأول حرباً فقال صلى الله عليه وسلم: بل هو الحسن، ولما ولد الحسين أرادوا أن يسموه حربا فقال عليه الصلاة والسلام: بل هو الحسين. فالذي سمى الحسن والحسين رسولنا صلى الله عليه وسلم، وقد عاش الحسن حتى صار خليفة بعد أبيه، فتنازل عنها لـ معاوية ليحقن دماء المسلمين، ثم سكن المدينة ومات فيها أيام معاوية. أما الحسين فامتد به العمر حتى مات معاوية رضي الله عنه وولي من بعده ابنه يزيد، فخرج من مكة إلى العراق حتى وصل إلى كربلاء المدينة العراقية المشهورة، فلما وصل إليها سأل عنها فقيل له: كربلاء، فقال: بل كرب وبلاء، فأخذ ذلك من اسمها، فكان ما كان، فقتل رضي الله تعالى عنه في يوم عاشوراء في العاشر من محرم؛ ولذلك يحيي الشيعة هذا اليوم كما هو معلوم. وإحياؤهم لهذا اليوم: باطل بالنقل وباطل بالعقل، فهو باطل بالنقل لأن النبي عليه الصلاة والسلام لم يشرعه، ولا يقوم دين إلا إذا شرعه الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنه أعلم الخلق بشرع الله وباطل بالعقل لأنهم لو كانوا صادقين لكانوا أقاموا مأتما على مقتل علي أبي الحسين، وهم يقولون: إن علياً أول أئمتهم، والحسين الثالث، فلو كانوا صادقين لأقاموا مأتما على قتل علي، فكما قتل الحسين فقد قتل من قبله علي، فهم يمرون على مناسبة علي دون ذكر، مع أنه مات مقتولاً كما قتل ابنه الحسين، ثم يأتون عند مقتل الحسين فيقيمون ما يقيمونه، وهذا من الدلائل العقلية، والأول دليل نقلي على بطلان ما يصنعه الشيعة في يوم عاشوراء. والذي يعنينا أن الحسين رضي الله تعالى عنه قتل في يوم عاشوراء، قتل ومعه أكثر من ثمانين من آل بيته، ولم ينجُ إلا النساء وابنه علي الملقب بـ زين العابدين، فقتل ابنه علي الأكبر، وقتل ابنه عبد الله معه وإخوانه الأربعة وبعض آل بيته، وبقي ابنه علي، وكان مريضاً فلم يستطع أن يحارب مع أبيه، فأبقى الله جل وعلا ذرية الحسين بنجاة علي هذا الصغير المريض، فكل من ينتسب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من جهة الحسين فهو من ولد علي زين العابدين، فكل الحسينيين ينتسبون إلى علي الملقب بـ زين العابدين بن الحسين بن علي ابن فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم، وهؤلاء -كما قلت- آله صلى الله عليه وسلم، ولهم في الشرع حق عظيم، فلا إفراط فيه ولا تفريط {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى:23]. وقال عليه الصلاة والسلام لما شكا إليه العباس أن بعض قريش يجفو بني هاشم: (والله لا يؤمنوا حتى يحبوكم لله ثم لقرابتي). ولذلك يروى أن المعتصم الخليفة العباسي -أي: من نسل العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم وليس من نسل النبي- يروى عنه أنه سجن العالم السني المشهور الإمام أحمد بن حنبل، ثم أخرج أحمد بعد موت المعتصم، فكان أحمد بعد خروجه يجتهد في الدعاء للمعتصم، ويسأل الله أن يعفو عنه، فلما كلمه الناس قال رضي الله عنه ورحمه: لا أحب أن أقف بين يدي الله وبيني وبين أحد من قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم خصومة. وهذا من فقه الدين، وهو أن الإنسان يتجنب أن يكون بينه وبين قرابة النبي صلى الله عليه وسلم خصومة، كما في قصة الإمام أحمد.

دلالة الآية على إنزال أولاد البنات منزلة أولاد البنين

دلالة الآية على إنزال أولاد البنات منزلة أولاد البنين الفائدة الثانية في الآية: أن الله جل وعلا قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} [آل عمران:61] ومعلوم أن النبي عليه الصلاة والسلام لم يكن له بعد هجرته ابن من صلبه، أي: ليس ابن ذكر من صلبه، ومع ذلك قدم الحسن والحسين. فاستدل بها فريق من العلماء على أن أولاد البنات في منزلة أولاد الأبناء. ومثال ذلك لو أن رجلا اسمه محمد، وله بنت اسمها سلمى، وله ولد اسمه خالد، فأولاد خالد أولاده باتفاق الناس، لم يخالف في هذا أحد، لكن الخلاف في أولاد البنت، هل يعتبرون أبناء أو لا يعتبرون؟ إن المسألة خلافية، إلا أن من أدلة القائلين بأن أولاد البنت يعتبرون أبناء هذه الآية، فإن الله قال: {فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ} [آل عمران:61] والنبي صلى الله عليه وسلم دعا الحسن والحسين، وقال في حديث آخر: (إن ابني هذا سيد، وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين دعواهما واحدة) يقصد الحسن رضي الله عنه وأرضاه. وهذه المسألة بالنسبة لطالب العلم تظهر في الميراث وتظهر في الوقف، فمن يقول: إن ابن البنت ابن يعتبر الجد كالأب، وعندما يوقف الإنسان حديقة أو مزرعة أو بيتا فيقول: هذه لأبنائي وأبناء أبنائي ولا يحدد؛ فإنه بمقتضى الآية يدخل في ذلك أولاد الأبناء وأولاد البنات، وهذه مسائل تنظر في المحاكم، ولكن أردت أن أبين كيف يستنبط طالب العلم الأدلة من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.

ذكر ما حصل من النصارى بعد طلب المباهلة

ذكر ما حصل من النصارى بعد طلب المباهلة قال تعالى: {فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} [آل عمران:61] أي: نقول: اللهم العن الكاذب منا في أمر عيسى ابن مريم. والذي حصل هو أن النصارى خافوا من المباهلة، فتشاوروا ثم تراجعوا، فقال قائلهم: والله إنكم لتعلمون أنه نبي، ولو باهلتموه لاضطرم عليكم الوادي نارا، فقالوا: ما الأمر بيننا وبينك؟ فقال صلى الله عليه وسلم: (واحدة من ثلاث: الإسلام) أي: أن تدخلوا في الإسلام، (أو الحرب أو الجزية) فاختاروا الجزية، فصالحوا النبي عليه الصلاة والسلام على ألف حلة تقدم له في صفر، وألف حلة تقدم له في رجب، فقالوا: ابعث لنا رجلا أمينا من أصحابك، فقال عليه الصلاة والسلام: (لأبعثن معكم أمينا حق أمين) فاستشرف لها أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فقال عليه الصلاة والسلام: (قم يا أبا عبيدة) ثم قال: (لكل أمة أمين، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة) رضي الله عنه وأرضاه. ولذلك ورد أن عمر رضي الله عنه لما طعن وطلب منه أن يستخلف قال: لو كان أبو عبيدة حيا لوليته هذا الأمر، فإذا سألني الله عن ذلك قلت له: سمعت نبيك صلى الله عليه وسلم يقول: (إن لكل أمة أميناً، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة).

تفسير قوله تعالى: (فإن تولوا فإن الله عليم بالمفسدين)

تفسير قوله تعالى: (فإن تولوا فإن الله عليم بالمفسدين) ثم قال الله عز وجل بعدها: {فَإِنْ تَوَلَّوْا} -أي فإن لم يقبلوا قولك، وأعرضوا عن الدخول في الإسلام- {فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ} [آل عمران:63]، وقوله جل وعلا: {فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ} [آل عمران:63] يجري مجرى التهديد؛ لأنه إذا كان الله عليما بهم -وهو قطعا عليم بهم-، فإنه سيعاقبهم جل وعلا، وهذا معنى قول الله: {فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ} [آل عمران:63].

تفسير قوله تعالى: (قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء)

تفسير قوله تعالى: (قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء) ثم قال الله عز وجل: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران:64]، هذه الآية يتعلق بها فائدتان: الأولى منهما: أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يكتبها في كتبه التي يبعثها إلى ملوك العرب والعجم وهو يدعوهم إلى الإسلام، كما ثبت ذلك في الصحيحين وغيرهما في كتابه صلى الله عليه وسلم إلى هرقل عظيم الروم. والفائدة الثانية في حياتنا العملية جميعا، وهي أن النبي عليه الصلاة والسلام -كما أخرج مسلم في الصحيح- كان يقرأ بهذه الآية في ركعة الصبح الأخيرة من سنة الفجر، ومعلوم أن لصلاة الفجر سنة قبلية، والسنة فيها أن تخفف، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ فيها بفاتحة الكتاب وبقول الله جل وعلا في سورة البقرة: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة:136] ويقرأ في الثانية بهذه الآية {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران:64]. فيتحرر من هذا من الناحية العملية أن هذه الآية كان النبي عليه الصلاة والسلام يقرأ بها في الركعة الأخيرة من سنة الفجر ويقرأ بغيرها، ولو قرأ أي مسلم بأي سوره من القرآن أو آية من آياته جاز، ولكن الوفاق للسنة أن تقرأ هاتان الآيتان.

بيان المراد بالكلمة السواء

بيان المراد بالكلمة السواء يقول تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ} [آل عمران:64] وأهل الكتاب يندرج فيهم اليهود والنصارى؛ لأنه أنزل على اليهود التوراة المنزلة على موسى، وعلى النصارى الإنجيل المنزل على عيسى. قال تعالى: {تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ} [آل عمران:64] سواء هنا بمعنى: عدل وإنصاف {تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} [آل عمران:64] وهذا إجمال، وهذا الإجمال فسره ما بعده، وهو قوله تعالى: {تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ} [آل عمران:64]، فما الكلمة السواء هي {أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا} [آل عمران:64]، فقول ربنا جل وعلا: {أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [آل عمران:64] هي الكلمة السواء التي دعا النبي صلى الله عليه وسلم أهل الكتاب من اليهود والنصارى إليها. فاليهود يقولون: عزير ابن الله، والنصارى تقول: المسيح ابن الله، وكلا الفريقين على خطأ معلوم، فدعاهم نبينا صلى الله عليه وسلم إلى كلمة يتفق الجميع عليها، وهذه الكلمة لا بد من أن تكون كلمة عدل، وهي (لا إله إلا الله). وقوله تعالى: {وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا} [آل عمران:64]، تأكيد لقوله: {أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ} [آل عمران:64] لأن المعنى واحد، فقوله: (ألا نعبد إلا الله) أسلوب حصر، فيه نفي واستثناء، فـ (لا نعبد) نفي، و (إلا الله) استثناء، وقوله: (ولا نشرك به شيئا) تأكيد لما قبله.

بيان المراد باتخاذ الأرباب من دون الله

بيان المراد باتخاذ الأرباب من دون الله وقوله تعالى: {وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [آل عمران:64] هذا من بديع أسلوب القرآن؛ لأنه قوله: {وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا} [آل عمران:64] دلالة على أننا كلنا من جنس واحد، فكيف يعقل -ونحن متفقون على أننا من جنس واحد- أن يصبح بعضنا آلهة خالقة وبعضنا مخلوقي، نف هذا لا يستقيم بالعقل ولا بالنقل. ولم يقع أنهم كان يعبد بعضهم بعضا بالسجود والركوع والصلاة، وإنما كان يعبد بعضهم بعضا بطريقة أخرى، وهي أن أحبارهم ورهبانهم يحرمون ما أحل الله فيحرمه الأتباع، ويحلون ما حرمه الله فيحله الأتباع، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (فتلك عبادتهم) قال سبحانه: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة:31] فقال النبي عليه الصلاة والسلام لـ عدي بن حاتم (أليسوا يحرمون ما أحل الله فتحرمونه؟! قال: بلى، قال: أو ليسوا يحلون ما حرم الله فتحلونه؟! قال: بلى. قال: فتلك عبادتهم)، فهذا معنى قول الله: {وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [آل عمران:64]. ومن هنا نعلم أن التشريع لله تعالى وحده، وأنه صلوات الله وسلامه عليه إنما هو مجرد مبلغ، فمن الله التشريع وعلى الرسول البلاغ، وعلينا السمع والطاعة؛ لأننا عبيد مخلوقون لله تبارك وتعالى.

موقف المسلمين عند إعراض أهل الكتاب

موقف المسلمين عند إعراض أهل الكتاب قال تعالى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا} [آل عمران:64] أي: فإن لم يقبلوا هذا الذي عرضته عليهم {فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران:64] أي: نحن باقون على ما نحن عليه من الإسلام واتخاذ الله جل وعلا إلها واحدا، لا رب غيره ولا إله سواه.

تفسير قوله تعالى: (يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم)

تفسير قوله تعالى: (يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم) ثم قال الله جل وعلا: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالإِنجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ * هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [آل عمران:65 - 66]، مناسبة الآيات عموما هي أن الإنسان إذا كان متقنا لشيء ما فإن الجميع ينتسبون إليه، وكلٌ ينسبه إلى نفسه، فإذا كان الشخص محسناً متقناً في أمره فإن كل من حوله يتبناه وينتسب إليه ويقول إنه مني وأنا منه؛ لأنه مصدر فخر. وإبراهيم عليه الصلاة والسلام كان أمة كما أخبر الله جل وعلا، فاليهود تقول: إن إبراهيم منا، والنصارى تقول: إن إبراهيم على ملتنا، بل إن كفار قريش كانوا يقولون: إنه منا، والمسلمون يقولون: هو منا. ففي أول الآية الله حين اختصمت اليهود والنصارى في إبراهيم قال الله لليهود وللنصارى: ((يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ)) أي: لم تجادلون وتخاصمون- {فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالإِنجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ} [آل عمران:65]، فبين إبراهيم وموسى مئات السنين، وبين إبراهيم وعيسى أكثر؛ لأن عيسى بعد موسى، وكان عند اليهود والنصارى خبر من نبينا محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنه مذكور في التوراة ومذكور في الإنجيل فكون اليهود والنصارى عندهم خبر عن نبينا صلى الله عليه وسلم هو حق، والحق أيضا أنه ليس عندهم علم بإبراهيم؛ لأنهم جاءوا بعده، وما أسست اليهودية -وهي محرفة من شريعة موسى- ولا أسست النصرانية -وهي محرفة من شريعة عيسى- إلا بعد إبراهيم، فكيف يكون عندهم علم عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام؟! فهذا لا يمكن عقلا، ولذلك قال الله: {هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [آل عمران:66] أي: يعلم حال إبراهيم وأنتم لا تعلمون عن إبراهيم شيئاً. وفي هذا دليل على أن الإنسان ينبغي عليه أن يستخدم عقله، وقد يقول قائل: إن العقل ليس له علاقة بالنقل! و A أنه يجب أن تفهم ملحظاً دقيقاً يميز من يتبع منهج العقل عن غيره، فالمسلمون من أهل السنة يدركون أنه لا يمكن للعقل أن ينشئ دليلا، إذ الدليل في النقل، ولكن العقل يكتشف الدليل، فالعقل لا ينشئ دليلاً ولكنه يكتشف الدليل، بمعنى أن تأتي بالمصحف إلى رجل ذي باع في العلم، وأعطاه الله عقلاً، فهو إذا قرأ في المصحف يستنبط الأدلة من المصحف، ولا يأتي بدليل من عقله، ولكن قدرته العقلية تمكنه من أن يستنبط الأدلة من القرآن. وتأتي إلى إنسان آخر ليس له حظ في العقل فتجده إذا نظر في المصحف لا يستطيع أن يأتي بأدلة من المصحف. فالوحي هو الذي يسير الناس، ولكن العقل يكتشف الدليل الموجود الذي في الوحي، ولذلك قال الله للنصارى ولليهود: (أفلا تعقلون) أي: لو عرضتم هذا الأمر على عقولكم الحقة لما قبلته، ولكن ليس لديكم عقول تقول بغير هذا. ويروى الشافعي رحمه الله تعالى وهو صبي في السادسة عشرة -وكان من أذكى الناس- مر في السوق، فوجد رجلين يختصمان فدخل بينهما لثقته برأيه، فقال: ما بلكما؟ قال أحدهما: هذا كان يبيع طير ببغاء، ويقول وهو يبيعه: هذا الطائر لا يسكت، بل يتكلم الليل والنهار، فاشتريته بناء على هذا الشرط، فلما ذهبت به إلى المنزل إذا هو يتكلم أكثر الوقت، ولكنه يسكت أحياناً، فأنا أريد أن أرده، وكان الذي باع يقول: لن أرده، فأنا لم أقصد أنه يتكلم الليل والنهار ولا يسكت، فقال الإمام الشافعي للمشتري: ليس لك حجة عليه، فاستصغره، فقال: من أين لك هذا؟! قال: لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لإحدى نساء المؤمنين لما أخبرته أن فلاناًَ خطبها: (أما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه) وهي كناية عن الضرب، أو عن كثرة السفر، ولكن لا يوجد إنسان يضرب طيلة اليوم والليلة، ولا يوجد إنسان يسافر أربعاًَ وعشرين ساعة، وإنما المقصود غلبة الأمر والكثرة، فاقتنع المشتري وأخذ الطائر وذهب. فـ الشافعي هنا لم يأت بدليل من عقله، ولكن عقله مكنه من أن ينظر في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذا الذي ينبغي أن يكون عليه طالب العلم؛ لأنه إن لم تكن لديه آلة عقلية في النظر في كتاب الله لا يمكن أن يكون قادرا على أن يفقه أو يفهم أو يستنبط من كتاب الله عز وجل شيئاً كثيرا.

تفسير قوله تعالى: (ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا)

تفسير قوله تعالى: (ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً) قال سبحانه: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا} [آل عمران:67] إن إبراهيم عليه الصلاة والسلام كان إماما، وإليه تنسب الملة، وهو أعظم النبيين بعد نبينا صلى الله عليه وسلم، فاليهود تقول: إننا على ملة إبراهيم، وقالوا لنبينا صلى الله عليه وسلم: إنك تعلم أن اليهود أولى بإبراهيم، ولكن الحسد منعك أن تجهر بهذا، والنصارى تقول نفس العبارة، حتى عباد الأوثان وعباد النار يقولون: إن إبراهيم منا؛ لأن إبراهيم يشرف كل إنسان حين ينتسب إليه، والمسلمون يقولون: إبراهيم منا، ولذلك لما دخل النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة فنظر إلى الكعبة قبل أن يدخلها وجد كفار قريش على كفرهم قد وضعوا صورة لإبراهيم وهو يستقسم بالأزلام صنعوها من عقولهم، وهي الطريقة التي كانوا يفعلونها مع آلهتهم إذا خرج أحدهم لسفر أو لغيره، فلما رآها عليه الصلاة والسلام (قاتلهم الله؛ والله ما كان إبراهيم يستقسم بالأزلام) وفي رواية أنه قال: (ما لشيخنا وللاستقسام بالأزلام؟). والمقصود أن عباد الوثن نسبوا إبراهيم إلى أنفسهم، فلما كانت المسألة كذلك نزل الحكم من الله، والله عليم، فقال تعالى: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا} [آل عمران:67] كما تزعم اليهود {وَلا نَصْرَانِيًّا} [آل عمران:67] كما تزعم النصارى {وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا} [آل عمران:67] كما يقول محمد صلى الله عليه وسلم وأتباعه {وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [آل عمران:67] كما يزعم عبدة الأوثان.

تفسير قوله تعالى: (إن أولى الناس بإبراهيم للذين ابتعوه)

تفسير قوله تعالى: (إن أولى الناس بإبراهيم للذين ابتعوه) ثم بعد أن بين الله جل وعلا منهج إبراهيم بين من الذي هو أولى بإبراهيم فقال: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران:68]، فذكر ثلاث فئات بحسب الترتيب الزمني؛ لأن الذين اتبعوا إبراهيم من قومه كان ظهورهم قبل النبي عليه الصلاة والسلام، فالله يقول: إن أحق الناس بإبراهيم حسب تسلسلهم الزمني الذين آمنوا به وقت نبوته ورسالته صلوات الله وسلامه عليه، (وهذا النبي) ذكره مفرداً، قال العلماء: هذا تعظيم وتشريف لنبينا صلى الله عليه وسلم {وَالَّذِينَ آمَنُوا} [آل عمران:68] من أمة محمد صلى الله عليه وسلم على الصحيح من أقوال العلماء. فإبراهيم عليه الصلاة والسلام يتولاه ثلاثة: المؤمنون الذين معه، ونبينا صلى الله عليه وسلم، والمؤمنون من هذه الأمة، ولكن أفرد النبي تعظيماً له، ولأنه عليه الصلاة والسلام أولى بإبراهيم من جهتين: الأولى: لأنه من ذريته، والثانية: لأنه موافق له في شريعته، وموافق له في ملته. ومن إكرام الله لإبراهيم عليه السلام لم يبعث نبياً بعده إلا وهو من ذريته، كما قال الله في آية حصر: {وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ} [العنكبوت:27]، فما بُعث نبي ولا رسول بعده صلوات الله وسلامه عليه إلا وهو من ذريته.

قوة رابطة العقيدة الإسلامية

قوة رابطة العقيدة الإسلامية وفي قوله تعالى: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران:68] قال العلماء: دلت الآية أيضا على أن المؤمنين مهما تباينت أقطارهم المكانية، وتفاوت ظهورهم الزمني، فإن بعضهم أولياء لبعض؛ لأنهم جميعا يفيئون إلى ملة واحدة هي ملة إبراهيم القائمة على توحيد الله تبارك وتعالى. واليوم لا يحاول أعداء المسلمين أن يثيروا شيئاً بين المسلمين أكثر من تفريق الكلمة وإثارة النعرات القائم على عرق أو على مذهب أو على مكان أو على ظهور زمني حتى يتشتت شمل الأمة، فإذا تشتت شملها انشغل بعضها ببعض وأرادت كل فئة منها أن تقيم لواءها، فاقتتلوا وكفوا غيرهم مهمة القتال، فأصبح غيرهم قادراً على أن يحتلهم بيسر وسهولة. وفي مواضع الفتن العظمى كما هي في عصرنا هذا، وفي الأحداث الأخيرة في العراق يكون جمع الكلمة وتوحيد الصف وغض الطرف عن كثير من الخلافات مقدماً على أكثر الأمور؛ لأن الدين قائم على جلب المصالح ودرء المفاسد، ولكل مرحلة من مراحل عمر الأمة ما يتفق مع أوامر ونواه وتطبيقات وأحكام شرعية تختلف من حال إلى حال، ومن زمان إلى زمان، والمعيار في ذلك كله مصلحة الأمة، وعدم تمكين عدوها منها.

تفسير قوله تعالى: (ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم)

تفسير قوله تعالى: (ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم) قال تعالى: {وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [آل عمران:69] الطائفة تطلق على الجماعة من الناس، والود هنا بمعنى: الرغبة. فقوله تعالى: {وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ} [آل عمران:69] يعني: كان مراد بعض اليهود وبعض النصارى أن يردوكم عن إسلامكم؛ لأنهم يعلمون أن الإسلام حق، ولكن الإنسان إذا حسد غيره لا يتمنى له الخير، فقد جرت سنة الله في خلقه أن الهالك يتمنى أن يهلك الناس معه، فالواقع في سلك المخدرات، والواقع في سلك النساء، والواقع في سلك كذا وكذا من المعاصي والجرائم لا يريدك أن تكون معه حبا فيك، ولكن يدفعه إلى ذلك أن كثرة الناس في الشر تهون الشر على نفسه، ومثال ذلك أنه لو أخبرك ابنك بأن نتيجته في الامتحان غير موفقة للمته كثيرا، ولكن لو أن هذا الابن أخبرك بأن الفصل كله على هذا النحو لخف لومك على ابنك، وهذه من سنة الله في خلقه، ولذلك لما ضل إبليس وتمت عليه اللعنة هم بأن يعصي بني آدم كلهم، حتى لا يقع في الهلاك لوحده، وأهل الإشراك أهل الكفر من أهل الكتاب لما وقعوا فيما وقعوا فيه ومنعهم الحسد أن يتبعوا نبينا صلى الله عليه وسلم رغبوا في أن يضلوا المؤمنين، والله جل وعلا يقول {وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [آل عمران:69]؛ لأن الله تبارك وتعالى يحمي أولياءه، وينصرهم ويمنع عنهم كيد الأعداء. ثم قال الله جل وعلا: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ} [آل عمران:70] و (تشهدون) مفعولها هنا محذوف، والمعنى أنكم تشهدون البراهين العقلية والنقلية التي تدل على أن الله جل وعلا حق، وكفركم مع كونكم تشهدون الآيات من أعظم الدلالات على العناد والمرض المستقر في قلوبكم، لأن كون الإنسان يكفر ولما تظهر له الأدلة بعد أمر هين، ولكن إذا ظهرت له الأدلة وتتابعت وتظاهرت ومع ذلك أصر على كفره فذلك دلالة على الران الذي في قلبه، وعلى أنه أقرب إلى الحق منه إلى الباطل. نسأل الله جل وعلا أن يتقبل منا ومنكم صالح الأعمال، وأن يوفقنا وإياكم لما يحبه ويرضاه، وصلى على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

سلسلة تأملات قرآنية [4]

سلسلة تأملات قرآنية [4] في آيات القرآن يذكر الله تعالى طرفاً مما يتعلق بأهل الكتاب، فقد ذكر تعالى أخلاق بعض اليهود في أداء الأمانة، وقول بعضهم الكذب على الله تعالى، كما ذكر تعالى الرد على النصارى في دعواهم ربوبية عيسى عليه السلام. كما ذكر تعالى في آيات القرآن أخذه العهد على النبيين في إيمانهم بمحمد صلى الله عليه وسلم إن ظهر بينهم، وتلك منقبة له صلى الله عليه وسلم فهو حظنا من النبيين، ونحن حظه من الأمم.

تسمية السور

تسمية السور بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشدا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه، وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: ففي هذا الدرس -يسر الله إتمامه- نواصل تفسير كتاب ربنا جل وعلا واقفين عند قول الله جل وعلا في سورة آل عمران: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:75] إلى قوله جل وعلا: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} [آل عمران:83]. إن سورة آل عمران سورة مدنية، وإن من أساليب تسمية سور القرآن تسمية الشيء باسم بعضه، وهذا أمر كانت العرب تستخدمه في كثير من الأمور، فسميت سورة البقرة بسورة البقرة لأنه جاء ذكر قصة البقرة فيها، وسميت سورة آل عمران بسورة آل عمران لأن الله جل وعلا ذكر فيها عمران وآله. وعلى هذا يقاس كثير مما في كتاب الله جل وعلا، وهو ظاهر بين، وإنما الخلاف بين العلماء في كون تسمية سور القرآن كانت من النبي صلى الله عليه وسلم أو من أصحابه أو من غيرهم. والذي يظهر -والله جل وعلا أعلم- أن تسمية سور القرآن تسمية توقيفية، بمعنى أن الصحابة سموها بإشارة وأمر وإرشاد من النبي صلى الله عليه وسلم.

بيان علة كثرة ذكر أهل الكتاب في سورة آل عمران

بيان علة كثرة ذكر أهل الكتاب في سورة آل عمران وقد تكلمت سورة آل عمران كثيراً عن أهل الكتاب من اليهود والنصارى، وسبب ذلك أمران: الأمر الأول: قدوم وفد نصارى نجران إلى النبي صلى الله عليه وسلم وما حصل بينه وبينهم من مجادلة انتهت إلى الإقرار بالصلح بينهما، فكانت تلك الأسئلة التي طرحها وفد نجران سبباً في كثير من آيات سورة آل عمران. الأمر الثاني: ما كان من أحداث من أهل الكتاب من اليهود المجاورين للنبي عليه الصلاة والسلام في المدينة فكان القرآن ينزل ليبين كثيراً من أمورهم ومعايبهم وما يكون بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم من أحداث فجل ما في السورة من ذكر أهل الكتاب كان هذا سببه. وفي السورة آيات أخر لا علاقة لها بأهل الكتاب، كذكر أحداث غزوة بدر وغزوة أحد وغيرهما مما هو معروف في مظانه، ولعل الله جل وعلا أن ييسر شرحها.

تفسير قوله تعالى: (ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك)

تفسير قوله تعالى: (ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك) أما الآية التي بين أيدينا فإن الله يقول: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ} [آل عمران:75]. إن حب المال أمر مفطور في النفوس، قال سبحانه: {وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا} [الفجر:20]، وقال جل وعلا عن بني آدم: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} [العاديات:8]، والأمانة في إنفاذها وفي إعطائها لا علاقة لها بالإيمان والكفر إلا شيئاً يسيراً، فقد روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (كذب أعداء الله -يقصد اليهود- كل أمور الجاهلية تحت قدمي هاتين إلا الأمانة، فإنها مؤداة إلى البر والفاجر)، فلو قدر أن لأحد من الناس أمانة عندك وكان فاجراً فإن فجوره لا يمنعك من تأدية الأمانة إليه، فكونه كافراً أو فاجراً أو فاسقاً لا علاقة له بأحقية الأمانة التي له عندك.

بيان إنصاف الله تعالى وعدله

بيان إنصاف الله تعالى وعدله والآية فيها وقفات عدة، منها: إنصاف الرب تبارك وتعالى، وأن الله جل وعلا حكم عدل، فاليهود قوم بهت نعتوا ربهم بأقبح المعايب تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً، ومع ذلك يقرر الله في هذه الآية أن اليهود على ما فيهم من معايب منهم من لو أمنته فوضعت عنده قنطاراً -والقنطار: الآلاف من الدنانير- ثم طلبتها منه لردها إليك، رغم أنه يهودي، وإخبار الله بهذا دلالة على إنصاف الرب جل وعلا وأن الله لا يظلم الناس مثقال ذرة. فقول الله: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} [آل عمران:75] أي: إن وضعت عنده قنطاراً أمانة رده إليك تاماً كما هو رغم أنه كتابي، يهودي وإما نصراني، فكفره لم يمنعه من تأدية الأمانة.

بيان معنى (من) في الآية الكريمة

بيان معنى (من) في الآية الكريمة ثم قال سبحانه: {وَمِنْهُمْ} [آل عمران:75]، و (من) في الحالتين تبعيضية، وهنا (من) أخرى بيانية، فلو جاء إنسان فأعطاك فاكهة فاكهة متنوعة ثم غاب عنك، ثم جاء يسألك: من أي الفاكهة أكلت؟ فقلت: من البرتقال، فإن (من) هنا بيانية؛ لأنك بينت أي نوع من الفاكهة أكلت. أما (من) التي في الآية: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} [آل عمران:75]، نهي تبعيضية، أي: بعض من أهل الكتاب وليس الكل.

بيان خيانة اليهود وعلتها

بيان خيانة اليهود وعلتها قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ} [آل عمران:75] لا يساوي شيئاً: {لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا َ} [آل عمران:75]. قوله تعالى: {مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا} [آل عمران:75] كناية عن الإلحاح والمواجهة وشدة الطلب، فأنت تعقبه من مكان إلى آخر حتى يؤدي إليك ماذا؟ الدينار، والذي قبله يؤدي إليك القنطار رغم أنه أكبر من الدينار وأكنز، ولكن الأول أمين، والثاني خائن. والأمانة تؤدى لكل أحد يستحقها إن كان براً وإن كان فاجراً. {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ} [آل عمران:75] هذه جملة تعليلية، فينجم عن الآية أن في اليهود قوماً مؤتمنين وهم قلة، وقوماً خائنين، وهم كثرة، وهؤلاء الخائنون علتهم في الخيانة هي أنه إذا قيل لهم: لماذا لا تؤدون الأمانات؟! قالوا: {لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ} [آل عمران:75]، و (الأميين): جمع أمي، وهو في اللغة: من لا يقرأ ولا يكتب، وأما المقصود بهم هنا فهم أمة العرب من يقرأ منهم ومن لا يقرأ، قال الله عز وجل: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ} [الجمعة:2] فـ (الأميين) هم أمة العرب، فقول اليهود: {لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ} [آل عمران:75] أي: إن هؤلاء العرب قوم أميون لا دين لهم، ولا يرونهم شيئاً؛ لأن اليهود يرون أنفسهم شعب الله المختار، ويقسمون الناس غيرهم إلى طبقات، فلا يرون العرب شيئاً، ويقولون: إن المال الذي في أيدي العرب أصله لنا، فإن حصل بيننا وبينهم تقاض وبيع وشراء وأمانة فلا حاجة إلى أن نرد إليهم المال؛ لأن المال لنا، فالمعنى الحرفي لقول الله: {لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ} [آل عمران:75] أي: ليس علينا إثم ولا حرج ولا وزر في أن نأكل أموال الأميين، فما من طريق تصل إلينا بها المحاسبة.

حكمة بعث الله نبيه أميا

حكمة بعث الله نبيه أمياً وقلنا: إن لفظ (الأميين) يطلق على العرب؛ لأن الأصل أن العرب أمة لا تقرأ ولا تكتب، قال صلى الله عليه وسلم: (إننا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب الشهر، هكذا)، وأخذ صلى الله عليه وسلم يشير بأصابع يديه ليفهم من حوله. والنبي عليه الصلاة والسلام قد نعت في القرآن بأنه نبي أمي، قال شوقي: يا أيها الأمي حسبك رتبة في العلم أن دانت بك العلماء وبُعِثَ النبي صلى الله عليه وسلم أمياً ليقطع الله جل وعلا ألسنة المشككين وشبه المعاندين، فإن النبي صلى الله عليه وسلم جاء بالقرآن من عند ربه بأبلغ وأعظم عبارة وأجل كلام، فلو كان عليه الصلاة والسلام يكتب من قبل لقال عنه الكفار: إن هذا الكتاب الذي جاء به قد أخذه عن غيره؛ لأنه يقرأ ويكتب، فما زال يطالع أربعين سنة ثم بعد أربعين سنة من المطالعة والقراءة والكتابة والاستكتاب خرج إلينا بهذا القرآن، فبعث الله جل وعلا نبيه أمياً لا يقرأ ولا يكتب، وقال الله سبحانه: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا} [العنكبوت:48] يعني: لو كنت تقرأ وتكتب {لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} [العنكبوت:48]، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم كان أمياً لا يقرأ ولا يكتب، وهذا من فضل الله جل وعلا عليه. فالأمية في حقه صلى الله عليه وسلم منقبة، وفي حق غيره مثلبة، إذ يحسن بالرجل أن يقرأ ويكتب، ولذلك قال الله: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق:1]، فلا يأتي إنسان ويقول: نحن ننتسب إلى أمة أمية فلا حاجة بنا إلى أن نقرأ وأن نكتب، لا يقال ذلك لأن النبي عليه الصلاة والسلام جعله الله أمياً ليقطع على يديه ألسنة المعاندين، أما نحن ففي حاجة ملحة إلى أن نقرأ ونكتب ونزداد علماً. وليس الأمية المقصود بها النبي عليه الصلاة والسلام عدم العلم، وإنما هي القراءة والكتابة، وأما العلم فشيء آخر، فقد يكون من العلماء من لا يقرأ ولا يكتب يأخذ علمه بالتحصيل ويعطيه بالتلقين. ثم قال سبحانه: {وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:75]، أي: يعلمون أنه لهم وعليهم في الأميين سبيل.

رد الله تعالى على كذب اليهود في خيانتهم

رد الله تعالى على كذب اليهود في خيانتهم ثم قال سبحانه: {بَلَى} [آل عمران:76]، وهي جواب من الرب سبحانه على دعوى أهل الكتاب، ليصبح المعنى: بلى عليكم في الأميين سبيل، قال سبحانه: {بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [آل عمران:76]، وجملة: {مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ} [آل عمران:76] جملة استئنافية، و (بلى) منقطعة عنها جواب من الرب سبحانه لما قبلها. فقول الله: {بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [آل عمران:76] أي: من عاهد إنساناً على الأمانة وردها وأتم العهد فإنه قد أتم الشيء الذي عليه واتقى ربه، وهذا من أسباب حصول محبة الله سبحانه، كما قال الله جل وعلا: {فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [آل عمران:76].

دلالة الآية على أهمية اجتناب ألفاظ العموم في الخطاب

دلالة الآية على أهمية اجتناب ألفاظ العموم في الخطاب وينجم عن الآيات كلها فوائد عدة؛ لأن القرآن إنما أنزل ليكون منهجاً يسير عليه الناس: الأولى: ينبغي أن تفر في عباراتك وكلامك من ألفاظ العموم؛ لأن ألفاظ العموم تجمع بين البر والفاجر والمخطئ والمصيب، وليس هذا من العدل في شيء، فهؤلاء يهود، ومع ذلك لما تكلم الله عنهم سبحانه فصل، ولم يقل جل وعلا: إن اليهود كلهم لا يؤتمنون، وهذا أسلوب قرآني يعرفه كل من تدبر القرآن، وسيأتي في آل عمران أن الله قال: {لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ} [آل عمران:113]، فالإنسان العاقل عندما يتكلم أو يحكم على قوم، أو على جماعة، أو على دار، أو على مدرسة، أو على أي شيء، أو على أمة لا يحكم حكماً عاماً ولا حكماً جماعياً، وإنما يفر من ألفاظ العموم على منهج القرآن الذي بينه الله جل وعلا للناس.

دلالة الآية على قبول الحق من قائله

دلالة الآية على قبول الحق من قائله الثانية: أن الحق من قول أو فعل يقبل من أي أحد، دل على هذا هذه الآية عن طريق التلميح عن طريق التصريح، ودلت آيات أخر عليه بطريق التصريح. فـ بلقيس كانت تحكم اليمن، وكانت تعبد الشمس، كما قال الهدهد: {وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [النمل:24]، فلما حصل ما حصل من بعث سليمان الخطاب لها وأخذت تستشير قومها قالت لهم: {قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً} [النمل:34]، فهذا كلام بلقيس في كتاب الله، وقال الله بعدها: {وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} [النمل:34]، فالله جل وعلا صدقها على قولها رغم أنها عابدة شمس. والكفار القرشيون قال الله عنهم: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا} [الأعراف:28]، فذكروا سببين لفعل الفاحشة، {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا} [الأعراف:28]، فلما رد الله عليهم رد على الثاني دون الأول، رغم أنهم عباد وثن يعبدون اللات والعزى، ولكن الله أقر قولهم بأنهم وجدوا عليها آباءهم، فلم يرده عليهم، فجاءت الآية: {قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ} [الأعراف:28]؛ لأنهم كذبوا في قولهم: إن الله أمرهم بها، ولكنهم عندما قالوا: وجدنا عليها آباءنا كانوا صادقين، فلما كانوا صادقين في كونهم ورثوا هذا الشيء عن آبائهم لم يرده الله جل وعلا عليهم. فالحق -يا أُخي- يقبل بصرف النظر عن قائله، وأما الخطأ فإنه يرد بصرف النظر عن قائله، فالخطأ يرد، ولكن إن كان قائله معروفاً بالعلم والصلاح والتقوى فإنه يعتذر له ولست ملزماً بقبول القول، ولكن لا تقع في عرضه.

دلالة الآية على وجوب أداء الأمانات إلى أهلها

دلالة الآية على وجوب أداء الأمانات إلى أهلها الفائدة الثالثة: أنه يجب تأدية الأمانات إلى أهلها، فالدين شأنه عظيم عند الله تبارك وتعالى، ومن يستدن ليأكل أموال الناس فإن الله جل وعلا يضيعه كما يريد هو أن يضيع أموال خلقه، ومن استدان ليسد ثغرة، وإنما منعه العجز عن رد الدين فهذا يسدد الله جل وعلا عنه ولا يأثم. وكيف نعرف أن فلاناً يستدين من أجل تضييع أموال الناس أو من أجل الرد؟ هذا يظهر من طبيعة المعاملة، فلو أن إنساناً تاجراً احتاج إلى مائة ألف ثم اقترض من رجل ما مائة ألف وقامت تجارته ثم انكسرت، ثم لم يبق في يديه إلا أموال يسيرة كألف أو ألفين أو ثلاثة، فجاء فاشترى بالألف أو الألفين شيئاً لبيته فلا نقول له: يجب عليك أن تسدد المائة الألف؛ لأن هذه الألف والخمسمائة ريال مثلاً لا تنفع صاحبها الأول وإنما تنفع الرجل في بيته؛ لأن المبلغ زائد عن قدرة هذا المستدين. ولكن إذا كان الإنسان ينفق في شيء زائد عن حاجته بمقدار أكثر أو أقل مما هو مستدين له فإنه يدخل في من لم يف بحق الأمانة بينه وبين الناس. وأداء الديون من أهم الأمور، فالشهادة يُرفع بها كل إثم إلا الدين، كما قال صلى الله عليه وسلم: (أخبرني به جبريل آنفا) فهذا يبين أن الأمانات بين الناس شأنها عظيم، ومن حاول وجاهد في تأدية الدين عن نفسه أدى الله جل وعلا عنه وأعانه ربه تبارك وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (وإن منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب)

تفسير قوله تعالى: (وإن منهم لفريقاً يلوون ألسنتهم بالكتاب) ثم قال الله سبحانه في الآية التي تليها: {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:78]. المناسبة بين الآيتين السابقة واللاحقة أن الآية السابقة بيان للمعايب المالية في الخيانة عند اليهود، وأما الآية التي بعدها بيان للمعايب الدينية في عقائدهم. قال الله جل وعلا: {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ} [آل عمران:78] اللي: هو الميل، تقول: لوى فلان يد فلان، أي: أمالها، فقوله تعالى: {يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ} [آل عمران:78]، أي: يحرفون كلام الله لفظاً ومعنىً، وينطقونه على هيئة من يغررك أنه من كلام الله. وقوله تعالى: {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ} [آل عمران:78] اللام للتعليل، والفعل بعدها منصوب وعلامته نصبه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، وأصل الكلام (تحسبونه) بالنون، فحذفت النون لدخول لام التعليل. قال تعالى: {وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ} [آل عمران:78] (ما) هنا نافية، قال تعالى: {وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [آل عمران:78] والمعنى: أنهم لم يكتفوا بأنهم يحرفون في الكلم حتى يلبسوا على الناس في أن ما يقولونه من عند الله، بل زادوا على ذلك إثماً، فلم يكفيهم التلميح وإنما لجئوا إلى التصريح وصرحوا كفراً وكذباً بأن ما يقولونه من عند الله، وهم يعلمون يقيناً بأنه ليس من عند الله. قال سبحانه: {وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:78]، أي: يفعلون ما يفعلون من كذب وخداع وتمويه على الناس وهم يعلمون حقيقة أنهم يأتون الباطل بعينه، فلا يرتدعون، وهذه نعت مما نعت الله جل وعلا به اليهود. فتحصل من الآيتين عيبان: الأول مالي، والثاني ديني.

تفسير قوله تعالى: (إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا)

تفسير قوله تعالى: (إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمناً قليلاً) ثم قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُوْلَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [آل عمران:77]. إن الناس يتعاملون بالمال، فحب الدنيا العاجل يدفع البعض -والعياذ بالله- إلى أن يحلف كذباً حتى ينال شيئاً من حطام الدنيا الزائل، وهذا أكثر ما يكون في التجار، وهو -وإن كان في اليهود أظهر- ليس مختصاً بهم وحدهم، وإنما يكون في كل صاحب سلعة في الغالب يريد أن ينفقها، ويكون في غير أصحاب السلع. والمعنى: أن الحلف بالله شيء عظيم، وإعطاء العهد بالله تبارك وتعالى شيء أعظم، فإذا كان الإنسان يبيع هذين -العهد والحلف بالله- من أجل أن يشتري شيئا من الدنيا يعلم أنه زائل كذباً وميناً وزوراً فقد توعده الله جل وعلا بروادع وزواجر عدة، من أهمها أن الله جل وعلا لا يجعل له في الآخرة حظاً ولا نصيباً، وهذا معنى قول الله: {لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ} [آل عمران:77]، فالخلاق هنا بمعنى: الحظ والنصيب، فلا حظ لهم ولا نصيب {وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ} [آل عمران:77]، وهذا -والعياذ بالله- منتهى الحرمان {وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران:77]، وهذا أشد {وَلا يُزَكِّيهِمْ} [آل عمران:77]، أي: ولا يطهرهم، وتطهير الله لعباده يكون بغفران ذنوبهم وستر معايبهم {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [آل عمران:77].

ذكر أنواع اليمين

ذكر أنواع اليمين ويتحصل من هذا فقهياً ما يلي: أن الأيمان ثلاث: يمين لغو تجري على ألسنة الناس لا يتعمدونها ولا يقصدونها، فهذه قال الله جل وعلا عنها: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} [البقرة:225]، يقول الرجل: بلى والله، كلا والله، اجلس والله، فهذه تجري على اللسان دون أن يتعمدها العبد، فهذه سماها الله لغواً، وأخبر جل وعلا أنه لا يؤاخذ عليها. اليمين الثانية: تسمى اليمين المنعقدة، وهي التي قال الله جل وعلا عنها: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة:225]، وهذه تكون في الأمور المستقبلية، بحيث تقسم على أن تفعل أو لا تفعل، أو تترك أو لا تترك، فهذه إن وقعت على خلاف ما قلت يلزم منها كفارة اليمين، وكفارة اليمين واحدة من ثلاث على التخيير: تحرير رقبة، أو إطعام عشرة مساكين، أو كسوتهم، فإن أعتق رقبة أو أطعم عشرة مساكين أو كسا إنساناً ما يكفيه لأن تقام بلباسه الصلاة فقد كفر يمينه، وهذه الثلاث على التخيير، فإن لم يستطع أن يحرر رقبة، ولم يستطع أن يطعم عشرة مساكين، ولم يستطع أن يكسوهم ينتقل في حالة العجز عن هذه الثلاثة بالتخيير إلى الصيام، والمشهور عند العامة أن الصيام مواز لهذه الثلاث، وهذا خطأ، فإن هذه الثلاث على التخيير، قال الله جل وعلا: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ} [المائدة:89] أي: واحداً من هذه الثلاثة {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ} [المائدة:89]، فلا ينتقل إلى الصيام إلا إذا عجز عن واحدة من هذه الثلاث. اليمين الثالثة: اليمين التي يحلفها الإنسان على شيء قد مضى، فيحلف على شيء لم يكن على أنه كان، وعلى شيء قد كان على أنه لم يكن، وهذه تسمى يميناً غموساً؛ لأنها من كبائر الذنوب، ولم يجعل الله جل وعلا لها كفارة، فتسمى يميناً غموساً ويميناً فاجرة، ويلزم منها التوبة النصوح والتخلص من المظالم والأوبة إلى الله جل وعلا، قال صلى الله عليه وسلم -كما عند الستة من حديث عبد الله بن مسعود -: (من حلف على يمين فاجرة وهو كاذب ليقتطع مال امرئ مسلم لقي الله جل وعلا وهو عليه غضبان)، عياذاً بالله، وكفى بالمرء إثماً أن يلقى الله جل وعلا وهو عليه غضبان. وبالاستقراء -أي: بالنظر في أحوال الناس- عبر التاريخ علم أن كل من يحلف على يمين كاذبة يعاقبه الله جل وعلا قبل أن يموت، خاصةً إذا كان في قسمه وأيمانه مضرة على إنسان مسلم، كشهادة الزور التي تودي بأخيه المسلم وتضره به في الدنيا، فهذه اليمين تبقى ملتحقة به وينتقم الله جل وعلا منه -كما عليه دل الاستقراء- قبل أن يموت. فـ سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه كان أحد العشرة المبشرين، فبعثه عمر رضي الله عنه أميراً على الكوفة، فمكث فيها ما شاء الله ثم جاء وفد من الكوفة فسألهم عمر عن سعد، فكأن بعضهم ألمح على أنه لا يريده، فبعث عمر رضي الله عنه -وكان حاكماً عادلاً- من يسمى في أيامنا هذه بلجنة تقصي الحقائق، فجاءت هذه اللجنة إلى الكوفة فأخذت تسأل الناس عن سعد في المساجد فيأتون المسجد فيقولون كيف أميركم سعد؟ فيدلي الناس بإجاباتهم، حتى دخلوا مسجدا لبني عبس الذين سكنوا الكوفة، فلما سألوهم عن سعد قام رجل فقال: أما وقد سألتنا عنه فإنه لا يقسم بالسوية، ولا يعدل في القضية وقال كلمة أخرى يذكر عيوباً في سعد، وكان سعد حاضراً مع اللجنة، فلما سمعه سعد وكان يعلم أنه كاذب وقد حلف، قال: اللهم إن كان عبدك هذا قد قال ما قال كذباً ورياءً فأطل عمره وعرضه للفتن. فعاش هذا الرجل ما شاء الله له أن يعيش حتى طال عمره وأصبح رجلاً أبيض الحواجب مع بياض الشعر وسقط حاجباه على عينيه من شدة الهرم وكبر السن، وفي هذه السن التي يعقل فيها كل ذي خبل كان يقف في شوارع الكوفة وأحيائها وأسواقها يتعرض للنساء ويغمزهن ويلمزهن، وهو قد تجاوز المائة، فإذا قال له الناس: اتق الله! يقول: شيخ مفتون أصابته دعوة سعد. فلا يجد في نفسه قدرة على أن يمتنع عن هذا. وموضع الشاهد أن اليمين الفاجرة من أعظم ما حرمه الله ومن كبائر الذنوب، وقد دلت الآية عليها: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُوْلَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [آل عمران:77].

تفسير قوله تعالى: (ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول)

تفسير قوله تعالى: (ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول) ثم قال سبحانه: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ} [آل عمران:79]. هذا عود على بدء، فقد قلنا: إن آية المباهلة نزلت بسبب وفد نصارى نجران، وقلنا: إن وفد نصارى نجران كانوا يقولون: إن المسيح ابن الله، فيعبد كما يعبد الله حسب زعمهم. فهنا يقول الله جل وعلا رداً عليهم: إنه لا يمكن أن يقع ولا ينبغي أن يقع أن الله جل وعلا يعطي بشراً الحكم -أي: الحكمة والكتاب- المنزل ويجعله نبياً ثم يقول هذا العبد للناس: اجعلوني رباً من دون الله. فهذا لا يمكن أن يقع شرعاً ولا قدراً، لسبب يسير، وهو أن الله أعلم حيث يجعل رسالته. فهؤلاء الأنبياء علم الله جل وعلا قبل أن يبعثهم ما في قلوبهم، ولذلك لا يمكن أن يقع منهم خلاف ما أراد الله جل وعلا أن يكونوا عليه، لا من الناحية الشرعية ولا من الناحية القدرية، فكل الناس في هذا سواء، ولكن لا يقع ذلك منهم شرعاً ولا قدراً، ولذلك قال الله: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ} [آل عمران:79]، فإن قيل: فما الذي يقوله؟! و A (( وَلَكِنْ)) أي: الذي يقع والذي يقوله النبي: {كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ} [آل عمران:79].

بيان معنى الرباني

بيان معنى الرباني وكلمة (رباني) نسبة إلى الرب، وزعم بعض العرب أنها لفظ غير عربي، وأنها غير مسموعة في لغة العرب، الأكثرون على أنها عربية. وقد اختلف العلماء في معنى (ربانيين)، وجميع ألفاظ العلماء تدل على معنى متقارب، ومجملها أن يقال: إن الرباني هو العالم الفقيه الذي يستطيع أن يسوس الناس بعقل وحكمة ويربي طلبته على صغار العلم قبل كباره، فإن جمع الإنسان هذا كله قدر له أن يكون من الربانيين في العلم. والحوادث المعاصرة ميزت كثيراً من الربانيين عن غيرهم، فالربانيون من العلماء لا يلقون الناس في المهالك، وقد بين الشاطبي رحمه الله تعالى في (الاعتصام) وفي (الموافقات) -وهما كتابان في التأصيل العلمي- بين كثيراًَ في معنى الربانية، وتكلم عما ينبغي أن يكون عليه العالم الحق الذي يسوس الناس في أيام الفتن، فالعالم الذي يسوس الناس في أيام الفتن لا يهمه أن يجيب على السؤال، وإنما يهمه أن ينظر في المآل قبل أن يتكلم، فينظر إلى مآل قوله ومآل فتواه وعاقبتها على عامة الناس قبل أن يتفوه بها، حتى يكون الناس على بينة من أمرهم في دين الله جل وعلا، وتلك منازل الكل يطلبها، وقليل من يحصل عليها، بلغنا الله وإياكم إياها. قال تعالى: {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ} [آل عمران:79] الباء في الحالتين سببية، والمعنى: بما أنكم رزقتم الكتاب تعلمونه وتدرسونه وتدرِّسونه فإنه ينبغي عليكم أن تكونوا ربانيين وأنتم تسوسون الناس.

تفسير قوله تعالى: (ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا)

تفسير قوله تعالى: (ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أرباباً) {وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:80]، الواو هنا عاطفة على الصحيح، والمعنى: أن هذا النبي يقول لقومه: إن الله لا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أرباباً، ذلك أن لب دعوة الرسل هي إقامة التوحيد، فلو جاء نبي وطلب من الناس أن يعبدوا الملائكة ويعبدوا النبيين لخالف هذا جوهر الرسالة التي بعث من أجلها، فما أنزل الله الكتب ولا بعث الله الرسل ولا نصب الله الموازين ولا أقام البراهين إلا ليعبد وحده دون سواه، فهذا كان بدهياً أن الأنبياء والمرسلين يأمرون الناس بأن يفروا من العبودية إلى أن يعبدوا الله جل وعلا لا رب غيره ولا إله سواه. والناس إذا علموا الكتاب وعلموا الحكمة تحركت الفطرة التي في أنفسهم وأصبحت مقبلة على الله، فكيف يعقل من هذا النبي بعد أن أسلم الناس وأصبحوا مقبلين على ربهم جل وعلا أن يطلب منهم أن يعبدوا الملائكة أو أن يعبدوا النبيين؟! فهذا لا يمكن أن يقع، كما قال الله: {مَا كَانَ} [آل عمران:79] أي: ما ينبغي ولا يمكن أن يقع {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ * وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:79 - 80].

تفسير قوله تعالى: (وإذ أخذ الله ميثاق النبيين)

تفسير قوله تعالى: (وإذ أخذ الله ميثاق النبيين) ثم قال سبحانه: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران:81]. اختلف العلماء في تفسير هذه الآية فانقسموا إلى فريقين: فريق يرى -وهم الأقل من العلماء- أن هذه الآية شاملة لجميع الأنبياء، والمعنى عندهم أن الله جل وعلا بعث النبيين بغاية واحدة هي عبادته سبحانه، فيأخذ الله جل وعلا من كل نبي أن يبين هذا للناس وأن يُعينه مَنْ بعده على هذا الطريق. والأكثرون من العلماء -وهو المحفوظ المنقول عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - أن هذه الآية منقبة لنبينا صلى الله عليه وسلم، فيصبح معنى الآية أن هناك ميثاقاً، وهناك من أخذ الميثاق، وهناك من أُخذ عليهم الميثاق. فأما الذي أخذ الميثاق فهو الرب جل وعلا، وهذا واضح في قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ} [آل عمران:81]، والذين أخذ منهم الميثاق هم النبيون وأتباعهم، وإنما ذكر الله النبيين؛ لأن الأنبياء رءوس الناس والذي أخذه الله منهم هو متى ظهر نبينا صلى الله عليه وسلم في زمانهم وجب عليهم أن يتبعوه، كما قال تعالى: {ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ} [آل عمران:81] والمقصود به نبينا صلى الله عليه وسلم {مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي} [آل عمران:81]، والإصر بمعنى: العهد {قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران:81].

خصائص النبي صلى الله عليه وسلم

خصائص النبي صلى الله عليه وسلم فينجم عن هذا درس أن النبي عليه الصلاة والسلام حظنا من النبيين ونحن حظه من الأمم، ولا نبي بعده ولا أمة بعدنا. وهذا النبي خصه الله جل وعلا بأمور منها ما يشترك فيه مع إخوانه من النبيين، ومنها ما هو خصيصة له صلوات الله وسلامه عليه، فمما يشترك فيه مع النبيين أنه تنام عينه ولا ينام قلبه، وأنه يخير عند الموت، وأنه يدفن حيث مات، وأنه مؤيد بالوحي، فهذا كله يشترك فيه النبي عليه الصلاة والسلام مع غيره من الأنبياء. ثم خصه الله جل وعلا بخصائص عدة صلوات الله وسلامه عليه، منها هذه الخصيصة، وهي أن الله جل وعلا أخذ العهد والميثاق من النبيين من قبل أنه متى ظهر صلوات الله وسلامه عليه في زمانهم فعليهم أن يتبعوه، وقد ظهر عليه الصلاة والسلام وليس هناك نبي، وآخر الأنبياء قبله عليه الصلاة والسلام هو عيسى ابن مريم، وبين عيسى ونبينا عليه الصلاة والسلام قرابة ستة قرون. يقول عليه الصلاة والسلام: (لو كان موسى بن عمران حيا لما وسعه إلا أن يتبعني)، ولذلك فإن الذين قالوا: إن الخضر صاحب موسى المعروف حي نرد عليهم بأن من أعظم الأدلة على أن الخضر غير حي أن النبي عليه الصلاة والسلام وقف في لواء يوم بدر، ويوم بدر جمع الله جل وعلا فيه على أرض بدر خيرة خلقه، وذلك اللواء كان تحته النبي عليه الصلاة والسلام وجبرائيل، فلو أن الإنسان صنع ما صنع من الدين والمناقب والعطايا والإمامة وغير ذلك فإنه لا يمكن أن يصل إلى الدرجة التي أعطاها الله جل وعلا أهل بدر يوم بدر، فإن الله جل وعلا أخرجهم من بيوتهم ليكونوا مع نبيه صلى الله عليه وسلم، وقد قال حسان بن ثابت مفتخراً في شطر بيت لم تعرف العرب فخرا أعظم منه: جبريل تحت لوائنا ومحمد فلو كان الخضر حيا لوجب عليه شرعاً أن يكون مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام كان يومها في أعظم الحاجة إلى النصرة، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام وهو ينظر إلى أهل بدر من أصحابه: (اللهم إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض أبدا) وقال عليه الصلاة والسلام لـ عمر في قصة حاطب: (لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فإني قد غفرت لكم) فلا يعدل مقام النبي عليه الصلاة والسلام في يوم بدر وأصحابه أي مقام لأي أحد بعدهم من أهل الدنيا، لا من الصحابة ولا من غير الصحابة، فمن باب أولى أن كل ما يصنعه الناس بعد جيل الصحابة لا يمكن أن يرقى إلى صنيع المسلمين الثلاثمائة والأربعة عشر الذين كانوا مع النبي عليه الصلاة والسلام يوم بدر. ومن خصائصه عليه الصلاة والسلام: أن الرسول يبعث إلى قومه خاصة وهو عليه الصلاة والسلام بعث إلى الناس عامة. ومن خصائصه عليه الصلاة والسلام بعث إلى الجن ولما كان عليه الصلاة والسلام في وادي نخلة بعد خروجه من الطائف وأخذ يقرأ القرآن ويقوم الليل يتلو آيات ربه جاء الجن فاجتمعوا عليه، قال الله جل وعلا: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ} [الجن:19]، يعني أن نبينا صلى الله عليه وسلم يدعو ربه {كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا} [الجن:19]، واللبد: الشيء إذا تجمع. فالجن لما سمعت قراءته صلى الله عليه وسلم وتوسله إلى ربه في ظلمة الليل في وادي نخلة أقبلت رغم شدة جبروتها فأحاطت به صلى الله عليه وسلم وأخذت تسمع ما يتلوه ويقرؤه صلى الله عليه وسلم في ظلمة الليل رغم أنه عليه الصلاة والسلام لم يكن يعلم ولم ير الجن وهم يستمعون إليه، ولذلك قال الله له: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ} [الجن:1]، أي: أنا لا أدري {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا} [الجن:1]، فاجتمعوا حوله وسمعوا قراءته وتلاوته وتهجده وتعبده لربه ودعاءه لله وهو لا يعلم عنهم شيء فلما مضى صلوات الله وسلامه عليه أخبره ربه بأن الجن كانت تستمع إليه. ومن خصائصه صلى الله عليه وسلم: رحلة الإسراء والمعراج، وهذه أشهر من أن تعرف. ومن خصائصه صلوات الله وسلامه عليه أن الله يعطيه يوم القيامة مقام الوسيلة، وهو المقام المحمود قال عليه الصلاة والسلام: (إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثلما يقول، ثم صلوا علي، ثم سلوا الله لي الوسيلة، فإنها منزلة في الجنة لا ينبغي أن تكون إلا لعبد صالح، وأرجو أن أكون أنا هو)، صلوات الله وسلامه عليه، فالوسيلة حق له صلوات الله وسلامه عليه من ربه، وهذا من خصائصه عليه الصلاة والسلام. والمقام يطول، ولكن الذي يعنينا أن يكون الفرد محباً متبعاً لنبيه صلى الله عليه وسلم.

حد محبة الناس وتعظيمهم

حد محبة الناس وتعظيمهم وفي عصرنا هذا كثر المشاهير من أهل الحق ومن أهل الباطل، وبالغ الناس فيهم، خاصة مبالغات في أهل الباطل، والمؤمن التقي العاقل الذي يعلم ويتلو كتاب الله حقاً لا يقبل أن يعظم في قلبه إلا الله، فالقلب -يا أخي- مثل الكعبة، فالكعبة لا يليق بأن يكون عليها صور؛ لأنها بيت الله، وقلب المؤمن لا ينبغي أن يعلق بأحد إلا بربه جل وعلا أو من أمرنا الله جل وعلا بأن نحبه، كنبينا صلى الله عليه وسلم، فنحن نحبه صلوات الله وسلامه عليه؛ لأن الله جل وعلا أمرنا بحبه، ولا يمكن أن يرقى حبنا له إلى درجة حبنا لربنا تبارك وتعالى، كما أن المبالغة في مدح أهل الحق قد يدخلهم في الفتن، وهذا حاصل في عصرنا، فإن الإنسان من طلبة العلم يحمد له حبه للعلماء وحبه للدعاة، وهذا شيء من فضائل الأمور، ولكن لا تحسن المبالغة في تعظيم الدعاة ولا العلماء ولا المدرسين ولا غيرهم مبالغة يتجاوزون بها عن الحد؛ لأن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن، وربما أعجبت الإنسان نفسه من كثرة مبالغة الناس في تعظيمهم له وثنائهم عليه وتقبيلهم لرأسه يوما بعد يوم ومرحلة بعد مرحلة، فيدخله -والعياذ بالله- ما يدخله مما يكون سبباً في هدم دينه وهدم دين أتباعه. وقد ذكر بعض العلماء الثقات رحمهم الله تعالى أن رجلاً دخل مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يظن نفسه أنه من أولياء الله وهو من أصحاب الطرائق المذمومة، فرآه رجل من العامة كان يجلس بجانب هذا العالم المتوفى الذي كتب هذا بيده، فلما جاء هذا الرجل قام هذا العامي وأجلس هذا الرجل مكانه، فلما فرغت الصلاة -وكان هذا في الحرم النبوي- قال هذا العالم وهو من أساطين العلماء: يا هذا! لا تقم مرة أخرى من مقامك في الحرم لأحد ولو كان القادم أبا بكر وعمر. قالها للعامي والرجل يسمع، فقال العامي هذا أفضل ممن ذكرت! أي: أفضل من أبي بكر وعمر! وكان ذلك الرجل يسمع ولا ينكر شيئاً عياذا بالله، فهذا الذي قال عامي جاهل، وهذا الذي قبل هذا إنما قبله لمبالغات الناس وثنائهم حتى وصل إلى هذه المرحلة فصدق كذب الناس. ومن هذا يفهم أنه أحياناً بعد الدرس يقوم بعض الطلاب جزاهم الله خيراً يسلمون ويقبلون رأس العالم، وهذا لا داعي إليه، فإذا كان ولا بد من أن تسلم على الشيخ فصافحه، إلا إذا قدم الإنسان من سفر فلا بأس، لكن أن يقبل كل شيخ بعد كل درس على رأسه أو على غير ذلك فهذا لا يحسن، فهو فتنة للمحاضر وذلة للمتبوع، والعاقل من حرر نفسه وحرر الناس من الرق لأحد سوى الله جل وعلا.

محبة رسول الله سلوك لا دعوى

محبة رسول الله سلوك لا دعوى ثم أن محبتنا لنبينا صلى الله عليه وسلم ينبغي أن تنقلب إلى سلوك، فكما ينبغي أن تستقر في القلب ينبغي أن تنقلب إلى سلوك، وذلك أن الإنسان ينظر أين هديه من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس الدين أن تأخذ من الشرع ما يناسبك وتترك ما لا يناسبك، ولكن الدين أن تعلم أنه مبني على قاعدة واحدة قالها صلى الله عليه وسلم، وهي قوله: (إذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإن أمرتكم بشيء فائتوا منه ما استطعتم)، فالقدرات تختلف، وأما النهي الذي نهى عنه صلى الله عليه وسلم فإنه يجب أن تنتهي عنه، فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الزنا فعن شرب الخمر وعن إيذاء المؤمنات وعن أمور عدة من المحرمات، فهذه لا مجال للأخذ والعطاء فيها، بل ينتهي المؤمن فيها إلى أمر الشرع. أما ما أمرنا الله به فالناس يختلفون فيه، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (فائتوا منه ما استطعتم)، فصيام ثلاثة أيام من كل شهر وصيام يوم وإفطار يوم أمر محمود، ولكن ليس كل الناس يطيق الصيام، والأمر بالإنفاق أمر محمود، ولكن ليس كل الناس يملك المال، وعلى هذا قس أمورك، فما أمرك به النبي عليه الصلاة والسلام افعل منه ما تستطيع أن تفعله، وأما ما نهاك النبي عليه الصلاة والسلام عنه فانته عنه بالكلية حتى يكون اتباعك لنبينا صلى الله عليه وسلم طريقا لك إلى رحمة الله جل وعلا ومغفرته في جناته جنات النعيم.

بيان معنى قوله تعالى (فمن تولى بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون)

بيان معنى قوله تعالى (فمن تولى بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون) يقول تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ * فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [آل عمران:81 - 82]. قوله تعالى: {فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [آل عمران:82] معناه أنه بعد أن بين الله الحجج وأوضح الله تلك الطرائق وأقام الله جل وعلا تلك البراهين إذا جاء من الناس من أعرض وتولى ولم يقبل نداء الله تعالى له فلا ريب في أنه من الفاسقين. وقد قلنا في درس سابق: إن الفسق ينقسم إلى قسمين: فسق يخرج من الملة، كقول الله: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا} [السجدة:18]، وفسق غير مخرج من الملة، كما قال الله جل وعلا: {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ} [الحجرات:7]، ومن القواعد العلمية أن العطف يقتضي المغايرة، والله عطف الكفر والفسوق والعصيان بعضها على بعض، فدل على أن الكفر غير الفسوق والفسوق غير العصيان.

تفسير قوله تعالى: (أفغير دين الله يبغون)

تفسير قوله تعالى: (أفغير دين الله يبغون) ثم قال سبحانه: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} [آل عمران:83]. قوله تعالى: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ} [آل عمران:83] الهمزة للاستفهام، والاستفهام هنا استفهام إنكاري، والمعنى: كيف يبغون ديناً غير دين الله؟! فمن عرف هذه الحجج وعرف هذه البراهين واستبانت له لا يمكن أن يقبل دينا غير دين الله تبارك وتعالى. ثم ذكر الله جل وعلا ما يدلهم على أنه ينبغي أن يعبدوا الله فقال: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} [آل عمران:83]، اللام هنا للملكية، والملك قسمان: ملك حقيقي وملك صوري، وما يجري في الدنيا اليوم هو ملك صوري، وأما الملك الحقيقي فهو لله، فما تملكه اليوم إما أن تذهب عنه وإما أن يذهب عنك، ولذلك قال الله جل وعلا: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ} [الفرقان:26]، مع أن الملك يومئذ واليوم لله، وقال الله جل وعلا في آخر الانفطار: {وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [الانفطار:19]، ولا شك في أن الأمر كل يوم لله، ولكنه المقصود أن ملك الصورة يغيب ويذهب يومها.

بيان معنى قوله تعالى (وله أسلم من في السموات والأرض طوعا وكرها)

بيان معنى قوله تعالى (وله أسلم من في السموات والأرض طوعاً وكرها) وقوله تعالى: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} [آل عمران:83]، أي: انقاد وخضع واستسلم لله تبارك وتعالى (طَوْعًا وَكَرْهًا)، هذا من الأضداد، ويسميه البلاغيون طباقاً، فإذا جاءت الكلمتان متضادان سمي البلاغيون ذلك طباقاً، ومنه الليل النهار، وقوله: (طوعاً) معرف، وكذلك كرهاً، ونفرق بين (كَرهاً) بفتح الكاف و (كُرهاً) بضم الكاف بأن الكَره هو المشقة الخارجة عنك التي لا تريدها، أي: الأمر الذي تجبر عليه وأنت لا تريده. وأما (الكُره) -بضم الكاف- فهو المشقة التي تريدها رغم أن فيها مشقة؛ لأن فيها منفعة رغم مشقتها. وبالأمثال يتضح الحال، فالكره جاء في مثل قول لله تبارك وتعالى: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} [آل عمران:83]، وقول الله تبارك وتعالى: {لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا} [النساء:19]، أي: وهن غير راضيات. وأما (الكُره) فإن الله كتب الحمل على بنات حواء، وقال سبحانه وتعالى: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا} [الأحقاف:15]، فمشقة التي تأتي للمرأة مشقة مرغوبة، فما من امرأة إلا وهي تريد أن تلد وتحمل، فهي مشقة مرغوبة، ولذلك عبر الله جل وعلا عنها بالكُره. قال الله جل وعلا عن الجهاد في سبيله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} [البقرة:216]، بضم الكاف، والجهاد فيه مشقة؛ لأنه فيه ذهاب أرواح وذهاب أبدان وذهاب أموال، وينال الناس فيه من العناء والمشقة الشيء العظيم، ولكن ما فيه من أجر وما يتعلق به من ثواب وما ينال المسلم به من قربات عند الله يجعله محبوباً إلى النفوس، ولذلك عبر الله جل وعلا عنه بضم الكاف. ثم بين سبحانه وتعالى دلالة ملكه وعظيم عطائه فقال جل ذكره: {وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} [آل عمران:83]، أي: أن مآبهم ومردهم إلى الله تبارك وتعالى، وهذه آية من مثاني القرآن سيأتي عنها الحديث تفصيلاً. هذا ما أردنا بيانه، ونسأل الله جل وعلا لنا ولكم التوفيق، وصلى الله على محمد وعلى آله والحمد لله رب العالمين.

سلسلة تأملات قرآنية [5]

سلسلة تأملات قرآنية [5] من هدي القرآن الكريم بيان أعمال الخير للعباد، وقد ذكر الله تعالى في كتابه طريق نيل البر، وهو الإنفاق في سبيله، وذكر من ذلك الحج إلى بيته الحرام لمن استطاع إليه سبيلاً. كما أن من هدي القرآن بيان كذب اليهود فيما حرمه الله تعالى على بني إسرائيل، ليتحقق المرء من صدق رسول الله، فإذا ظهر الصدق لم يبق إلا وجوب الاتباع.

تفسير قوله تعالى: (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون)

تفسير قوله تعالى: (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون)

نيل معالي الأمور بالإنفاق في سبيل الله

نيل معالي الأمور بالإنفاق في سبيل الله الحمد لله خالق الكون بما فيه، وجامع الناس ليوم لا ريب فيه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد: فهذا درس في تفسير كتاب الله جل وعلا، وما زلنا في سورة آل عمران، وتفسير هذا الدرس سيكون حول قول الله عز وجل: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران:92] إلى قوله جل وعلا: {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران:97]. فنقول مستعينين بالله عز وجل: قال ربنا تباركت أسماؤه وجل ثناؤه: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} [آل عمران:92]. المعنى الإجمالي للآية: أن الله جل وعلا يخبر أن معالي الأمور، والجوامع لكل خير التي هي رأس كل غاية، وأمل كل مؤمن، لا تنال إلا بإنفاق الإنسان لأشياء يحبها، والله جل وعلا جبل القلوب على حب المال، كما قال سبحانه: {وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا} [الفجر:20]، وقال جل ذكره: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} [العاديات:8]. والمال هنا ليس حصراً على النقدين الذهب والفضة، وإنما المال كل ما يتموله الإنسان ويملكه من نقدين، أو أراض، أو عقار، أو غير ذلك، كعروض التجارة، فهذا كله يدخل تحت مسمى المال. فالله جل وعلا يقول: إن النفوس جبلت على حب المال، فإذا بلغ الإنسان مرتبة يتخلى فيها عما يحب لشيء أعظم -وهو حبه لله جل وعلا- كان ذلك موصلاً لطريق الخير والبر. يقول تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ} [آل عمران:92] أي: لن تحصلوا عليه, ولن تدركوه {حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران:92] أي: لكي يتخلى الإنسان عن محبة الدنيا والتعلق بها ولكي يصل بنفسه إلى مرحلة عليا عليه أن يتخلى عما يحب من أجل ما عند الله جل وعلا من ثواب وعطاء وجزاء. ثم قال سبحانه: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} [آل عمران:92]، فكل ما ينفقه الإنسان مما عظم أو حقر يعلمه الله جل وعلا ويكتبه له، إن خيراً فخير، وإن كان غير ذلك فغير ذلك.

مسارعة الصحابة في الإنفاق من المحبوب

مسارعة الصحابة في الإنفاق من المحبوب ولما نزلت هذه الآية كان جيل الصحابة رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم أعظم جيل بلا شك، فقد ناصروا نبينا صلى الله عليه وسلم وأيدوه ووقفوا معه، فهم شامة في جبين الأيام، وتاج في مفرق الأعوام رضي الله عنهم وأرضاهم. فلما نزلت هذه الآية تسابقوا رضوان الله تبارك وتعالى عليهم في الإنفاق مما يحبون. ومما نقل نقلاً صحيحاً ما في الصحيحين من حديث أبي طلحة الأنصاري رضي الله عنه كما روى عنه أنس، وذلك أن أبا طلحة الصحابي الجليل كان له نخل في مقدمة المسجد النبوي تسمى: بيرحاء، وكانت في مقدمة المسجد، وكان ماؤها عذباً طيباً، فكان النبي عليه الصلاة والسلام يدخل ذلك النخل فيشرب من ذلك الماء الطيب، فلما نزلت هذه الآية عمد هذا الصحابي الجليل رضي الله عنه وأرضاه فأشهد النبي صلى الله عليه وسلم على أن هذا النخل صدقة في سبيل الله، فقبلها عليه الصلاة والسلام وقال له من باب الإرشاد: (اجعلها في أقربائك) فجعلها أبو طلحة بأمر النبي عليه الصلاة والسلام وإرشاده في اثنين من الأنصار هما: حسان بن ثابت وأبي بن كعب، وكانا من ذوي قرابة أبي طلحة رضي الله عنه وأرضاه. كما نقل من وجه آخر أن زيد بن حارثة الذي جاء ذكره في القرآن، وهو أحد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانت له فرس تسمى سبل، وكانت أثيرة عنده مقربة لديه، فلما أنزل الله جل وعلا قوله: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران:92] جاء زيد رضي الله عنه إلى نبينا صلى الله عليه وسلم وقال: يا نبي الله! إن فرسي (سبل) أحب مالي إلي، وقد أشهدتك أني جعلتها صدقة في سبيل الله، وأعطاها النبي عليه الصلاة والسلام ليتصدق بها، فدعا النبي عليه الصلاة والسلام أسامة بن زيد وأعطاه الفرس، فلما أعطاه الفرس قال: (اقبضه يا أسامة) فتغير وجه زيد؛ لأنه ما كان يريد أن يأخذها ولده، حتى يشعر أنه أنفق في جهة بعيدة، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم تغير وجه زيد قال: (يا زيد! إن الله جل وعلا قد قبل صدقتك منك). فالمقصود هو إخراج حب المال من القلوب.

بيان أهمية الوسع في الإنفاق

بيان أهمية الوسع في الإنفاق وموقع المال مسألة لا تهم، إذا اجتهد الإنسان وبذل جهده، فقد يقع في قرابة وقد يقع في غير قرابة، فهو مأمور بأن يجتهد في وضع ماله، والمهم هو إخراج الدنيا من القلوب، وليس معنى ذلك أن يأتي الإنسان إلى شيء يقتات به وعياله ثم ينفقه كما نسمع بين الحين والآخر، فإن هذا قد يكون في بعض الأحايين مخالفاً للصواب، قال الله جل وعلا {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا * إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا} [الإسراء:29 - 30]. فالإنفاق هو أن ينفق الإنسان من أحب ما لديه، ولكن ينظر الإنسان نظرة توازن في أهله وذويه وأبنائه والذين لهم حق عليه، والناس في هذا يختلفون اختلافاً جذرياً، فمنهم من يستطيع أن يعوض، ومنهم من لا يستطيع أن يعوض، بمعنى أن هناك من لو أنفق ماله وذهب يقترض لا يقرضه أحد، فهذا لو أنفق ماله كله لأصبح أشد ممن أنفق عليهم، ولا يقول بهذا عاقل. ولكن قد يوجد إنسان له جاه وله قدرة على أن يستدين، إذ يحبه الناس لكونه معروفاً كإمام مسجد أو خطيب أو مدير أو موظف كبير، فهذا لو أعطى ماله كله فإنه يستطيع أن يعوضه، فلو أنفق اليوم ماله كله غداً فإنه قد يكسب شيئا آخر، وعلى هذا يحمل ما فعله الصحابة. ولا يأتي إنسان ليقول: إنَّ أبا بكر أنفق ماله كله! فـ أبو بكر قد أنفق ماله كله، ولكن أبا بكر كان تاجراً، فما ينفقه اليوم يعوضه غداً. وقد نسمع أحياناً في بعض الحملات كالحملة للانتفاضة أو غيرها بأن إنساناً لا يملك إلا السيارة التي ينقل عليها الماء، ويسميها العامة الوايت، فلما تبرع بها قال: يعلم الله أنني لا أملك غيرها، وبها أقتات لأبنائي، ثم قال: جعلتها في سبيل الله! فهذا ليس بحق وليس برشد وليس بعقل، فنسأل الله أن يتقبل منه، ولكن هذا أمر لا يقبل؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقوت). فهذا الرجل إذا أمسى وأبناؤه لا يجدون طعاماً في ظل هذا الزمن الذي يحتاج الناس فيه إلى الدينار والدرهم، كره أبناؤه الدين؛ لأنهم يشعرون أن الدين هو السبب في إنفاق المال كله. والمقصود أن الإنسان يتبع السنة بفهم للسنة، لا بفهمه هو، فـ أبو طلحة رضي الله عنه رجل غني رجل ثري، وكان من ماله بستان بجوار المسجد هو أحب ماله إليه، فماله كثير، ولكن هذا كان أحب ماله إليه، كإنسان عنده مزرعة وعنده قصر أفراح وعنده عمارات، فأحب ماله إليه هو المزرعة أو قصر الأفراح، فإن تصدق بقصر الأفراح، أو تصدق بعمارة، أو تصدق بالمزرعة فقد طبق السنة. أما أن يأتي إنسان لا يملك شيئاً، أو لا يملك إلا راتبه، وقد لا يأتيه الراتب أحياناً، أو كان موظفاً في شركة فمرة يُثَبتَّ ومرة لا يُثَبتَّ، ثم يأتي فيقول: أنفقت مالي كله لمؤسسة كذا أو لجمعية كذا أو لسبب كذا، فهذا غير صحيح، فالإنسان إذا كان راشداً عاقلاً لا يتكلف مفقوداً ولا يرد موجوداً، ويمشي بخطى، والله أعلم بما في صدور العالمين، ولا حاجة إلى أن يري الناس ما تصنع. فنقول عموماً: إن الإنفاق من أعظم أسباب حصول الخير، ولكن بضوابطه الشرعية، وكلما كان في السر كان أبلغ وأعظم، فقد قال عليه الصلاة والسلام لما ذكر السبعة: (ورجل تصدق بصدقة فأخفاها، حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه). وليست العبرة بالكثرة، بل العبرة بأن يصيب مال الإنسان ذا فاقة، وإذا كان ذا قرابة كان أولى وأحرى؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام أمر أبا طلحة بأن يضع ماله في قرابته، فوضعها -كما بينا- في حسان وأبي بن كعب رضي الله عنهم أجمعين. هذا هو المعنى الإجمالي للآية.

فوائد نحوية

فوائد نحوية و (لن) حرف ناصب يفيد نفي المستقبل، كما أن (لم) حرف جازم يفيد نفي الزمن الماضي، وكلاهما يؤثر في الفعل بعدها، فـ (لن): تنصبه، و (لم): تجزمه. فالله يقول: {لَنْ تَنَالُوا} [آل عمران:92] وأصل الفعل (تنالون) بنون زائدة في آخر الفعل تسمى نون الرفع للأفعال الخمسة، فلما دخلت (لن) حذفت النون فأصبحت {لَنْ تَنَالُوا} [آل عمران:92] بدون نون، وتوضع ألف للدلالة على أن الواو واو جماعة.

بيان المقصود بالبر

بيان المقصود بالبر قال تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ} [آل عمران:92] واختلف العلماء في المقصود بالبر: فقيل: إنه الجنة، وهذا رأي ابن مسعود وابن عباس والسدي وغيرهم من أئمة التفسير. إذا قلنا: إنه الجنة فإنه يصبح تقدير الآية {لَنْ تَنَالُوا} [آل عمران:92] أي: ثواب البر الذي هو الجنة، فوضع المقدر مكان ما قدر به. وقيل: إن البر اسم جامع لكل خير، واختاره ابن سعدي في تفسيره، فالمعنى: أن يصل الإنسان إلى الاسم الجامع لكل خير. والصحيح أن يقال: المعنى متقارب؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام لما ذكر الصدق قال: (وإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة).

ذكر معاني (حتى) في النحو

ذكر معاني (حتى) في النحو ونلحظ في قوله تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران:92] وجود (حتى)، وقد قال أحد النحاة قبل أن يموت: أموت وفي نفسي شيء من (حتى)، والمعنى: أن حتى حرف غريب في تأثيره فيما بعده، وذلك أنهم لما نظروا إلى الأحرف وجدوا أن عملها واضح جلي، فبعضها ينصب، وبعضها يجزم، وبعضها عاطف، وبعضها استئنافي، وأما (حتى) فوجدوا أنها تقبل الجميع، كقولك: أكلت السمكة. فـ (أكلت) فعل وفاعل، و (السمكة) مفعول به، ويقال بعد ذلك: (حتى رأسها) قالوا: إن قلت: أكلت السمكة حتى رأسُها بالرفع صح، وإن قلت أكلت السمكة حتى رأسَها بالنصب صح، وإن قلت أكلت السمكة حتى رأسِها بالجر صح، وهذا الذي أشكل على النحاة، فقولك: (أكلت السمكة حتى رأسُها)، تصبح فيه (حتى) حرف استئناف، فيصبح المعنى: أكلت السكة حتى رأسها أكلت، فتعرب (رأسها) مبتدأ، و (أكلت) المقدر المحذوف خبراً. وإن قلت: (أكلت السمكة حتى رأسَها) بالنصب تكون قد جعلت (حتى) حرف عطف، فعطفت كلمة (رأس) على السمكة. وإن قلت: (أكلت السمكة حتى رأسِها) بالجر تكون قد جعلت (حتى) حرف جر، وما بعدها اسم مجرور.

بيان معنى قوله تعالى (وما تنفقوا من شيء فإن الله به عليم)

بيان معنى قوله تعالى (وما تنفقوا من شيء فإن الله به عليم) يقول تعالى: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} [آل عمران:92] (ما) تأتي نافية، وتأتي استفهامية، وهنا أتت شرطية، فالجملة جملة شرط، وأداة الشرط (ما) وفعل الشرط (تنفقوا) وجواب الشرط الجملة الاسمية {فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} [آل عمران:92] فالفاء في قول الله {فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} [آل عمران:92] واقعة في جواب الشرط.

تفسير قوله تعالى: (كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل)

تفسير قوله تعالى: (كل الطعام كان حلاً لبني إسرائيل) ثم قال سبحانه: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [آل عمران:93]. إن إبراهيم عليه الصلاة والسلام هو أبو الأنبياء، وقد رزقه الله بعدما كبر ذرية، نص الله على اثنين من هذه الذرية، وهما الأكبران الأجلان إسماعيل وإسحاق. فإسماعيل من هاجر، وإسحاق من سارة، ومن إسماعيل جاء نبينا صلى الله عليه وسلم، ومن إسحاق جاء يعقوب، إلا أن يعقوب كان -في الأظهر- توأماً لأخ له يقال له: العيص، فلما ولدتهما أمهما -على ما يقول جمهرة المؤرخين- ولدت العيص أولاً ثم أعقبه يعقوب، فسمي يعقوب لأنه جاء عقب أخيه. فـ العيص أكبر من يعقوب، وكان العيص محبباً إلى إسحاق أكثر من يعقوب، وكان يعقوب محبباً إلى أمه أكثر من العيص. فيعقوب بعدما كبر بفترة قابله ملك، وهذا الملك هو الذي سمى يعقوب إسرائيل، ومعنى (إسرائيل): عابد الرب، ككلمة عبد الله أو نحوها. فيعقوب له اسمان: يعقوب الاسم الذي سماه به أبوه، والاسم الآخر: إسرائيل، وبهما جاء القرآن، قال الله عز وجل: {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ} [الصافات:112] أي: إبراهيم {وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} [هود:71]. وقال الله جل وعلا: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} [آل عمران:93]. ومن إسرائيل جاء بنو إسرائيل الذين من هم اليهود، ومن ذرية إسماعيل جاء العرب العاربة، فمن ذرية العيص جاء الروم الذين هم الأوربيون والأمريكيون اليوم. فالأمريكيون والأوربيون واليهود والعرب أبوهم كلهم إبراهيم. فصار الثلاثة كلهم يفيئون إلى إبراهيم عليه الصلاة والسلام، إلا أن إسحاق وإسماعيل كانا نبيين بنص القرآن، وكذلك يعقوب, وأما العيص فلم يكن نبياً، بل كان محبباً إلى والده، فدعا له -كما يقولون- بأن يملكه الله غلاظ الأرض وأن يرزقه من الثمرات، وهذا حاصل, فكل من يرى ما هم فيه من الثمرات يذكر دعوة إسحاق لابنه العيص. والذي يعنينا أنه من ذرية إسحاق جاء يعقوب الذي اسمه إسرائيل، فعندما يقال: بنو إسرائيل فإنهم ينسبون إلى جدهم يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم جميعاً أفضل الصلاة والسلام. ويقال: إن يعقوب اختصم مع أخيه العيص، فخرج بعد أن اختصم مع أخيه ولم يكن له ذرية، ثم رزقه الله الذرية، ولما رزقه الله الذرية بارك له في تلك الذرية حتى حصل ما حصل من قصة نبي الله يوسف، ولم يكن يوسف وحيداً ليعقوب، بل كان له جملة إخوة، ثم تاب الله على إخوة يوسف. والصحيح أن إخوة يوسف هم الأسباط، فالأسباط في بني إسرائيل كالقبائل في العرب، قال الله جل وعلا: {وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا} [الأعراف:160] أي: قبائل متفرقة كلهم يفيئون إلى الأسباط الاثني عشر الذين هم ذرية إسرائيل. ومن هذه الذرية جاء أنبياء لا يعدون ولا يحصون، فمنهم أيوب، واليسع، وذو الكفل، وسليمان، وداود، ومن بعدهم إلى موسى عليه الصلاة والسلام، فبين موسى وإسرائيل نفسه أمم لا تعد ولا تحصى، وفترة زمنية طويلة. وموسى عليه الصلاة والسلام هو الذي خرج ببني إسرائيل من أرض مصر بعد أن سكنوا أرض مصر عندما جاء يعقوب إلى ابنه يوسف، كما قال تعالى: {وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ} [يوسف:100]. فهناك مسافة زمنية طويلة بين إسرائيل وبين موسى، والتوراة أنزلت على موسى.

ذكر سبب نزول الآية

ذكر سبب نزول الآية يقول تعالى: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ} [آل عمران:93]. وقد اختلف في سببها، ولكن يقال في الجملة: إن اليهود كانت تقول للنبي صلى الله عليه وسلم: إن النسخ شيء باطل، فليس معقولاً أن تأتي فتنسخ شريعة موسى وشريعة عيسى، وتقول: أنا أتيت بشريعة جديدة. وقالوا: إنك تقول: إن الله جل وعلا حرم علينا أشياء؛ لأن الله قال في القرآن {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا} [النساء:160]، وقال تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} [الأنعام:146]. فقالوا لنبينا صلى الله عليه وسلم: قولك هذا كذب! فهذه الأشياء محرمة علينا منذ زمن إسرائيل، بل هي محرمة منذ نوح وإبراهيم هذا زعم اليهود، فقال الله جل وعلا القول الفصل: {قُلْ صَدَقَ اللَّهُ} [آل عمران:95]، فالله يقول لهم: إن الطعام كله كان مباحاً طيباً ليعقوب إلا شيئاً يسيراً منه لم يحرمه الله، بل حرمه يعقوب على نفسه. ولم يذكر الله عله تحريمه له، ولكن ورد في السنن وفي الآثار أن يعقوب عليه السلام اشتكى عرق النسا -مرض معروف-، فلما اشتكى عرق النسا نذر إن شفاه الله من عرق النسا أن يحرم على نفسه أحب شيء إليه، فكان يحب لحوم الإبل وألبانها، فلما شفاه الله حرم على نفسه لحوم الإبل وألبانها. فتحريم يعقوب على نفسه لحوم الإبل وألبانها كان باجتهاد منه، ولم يحرم الله على إسرائيل ولا من بعدهم شيئاً من الطعام، وإنما حرم على قوم موسى لما بغوا ما ذكره الله جل وعلا لنبيه. فالله تعالى يقول: {كُلُّ} [آل عمران:93] وهي من ألفاظ العموم في القرآن {كُلُّ الطَّعَامِ} [آل عمران:93] أي: كل مطعوم {كَانَ حِلًّا} [آل عمران:93] أي: حلالاً، وجاء منصوباً، لأنه خبر كان، {كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} [آل عمران:93] فقد كذبتم فيما تزعمون {إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ} [آل عمران:93] وهو ألبان الإبل ولحومها لأمر عارض. قال تعالى: {قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا} [آل عمران:93] فإذا أتيتم بالتوراة ستجدون فيها أن الله لم يحرم على إسرائيل شيئاً؛ لأن التوراة أنزلت على موسى، وإنما المحرم فيها ما حرمه الله على بني إسرائيل وفق ما نصه الله جل وعلا في كتابه. قال الله تعالى: {قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [آل عمران:93] وهذا منتهى التحدي، ولم يأتوا بالتوراة، وإنما بهتوا وألجموا، ولم يقبلوا أن يعرضوها على النبي صلى الله عليه وسلم.

تفسير قوله تعالى: (فمن افترى على الله الكذب من بعد ذلك)

تفسير قوله تعالى: (فمن افترى على الله الكذب من بعد ذلك) ثم قال الله جل وعلا -وقوله الفصل الذي لا يقبل الرد-: {فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} [آل عمران:94] أي: من قال وزعم كذباً بعد أن بينه الله {فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [آل عمران:94] لأنه قد ظلم نفسه وجاوز حده وافترى على الله، حين رد على الله جل وعلا كلامه وكذب قوله.

تفسير قوله تعالى: (قل صدق الله)

تفسير قوله تعالى: (قل صدق الله) قال الله بعدها: {قُلْ صَدَقَ اللَّهُ} [آل عمران:95]. وهنا يرد سؤال، وهو لماذا قرأها الرسول صلى الله عليه وسلم: {قُلْ صَدَقَ اللَّهُ} [آل عمران:95] وكان المفروض أن يقول: (صدق الله)؟ بغير (قل)، وكذلك {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:1] لماذا لم يقرأها (يا أيها الكافرون)؟ وكذلك {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] لم يقرأها (هو الله أحد)، فهذا سؤال يرد -بلا شك- على الذهن، والجواب أن هذا فيه بيان عظيم لبشرية النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه لا يأتي بشيء من عنده، بل هو مجرد مبلغ. ومثال ذلك -ولله المثل الأعلى- أن يبعث شخص ولداً له إلى قوم لدعوتهم إلى طعام الغداء، فأيهما أوقع في نفس المدعو: أن يأتي هذا فيقول: تفضلوا إلى الغداء، أو أن يقول: يقول والدي: تفضلوا إلى الغداء؟! إنه لا شك في أن الصفة الثانية أبلغ؛ إذ بها يعرف أن هذا الابن ليس له إلا البلاغ، وقد بلغ كما أمر. فعندما يقول الله جل وعلا: {قُلْ صَدَقَ اللَّهُ} [آل عمران:95] وينقلها النبي صلى الله عليه وسلم ففي ذلك بيان أن النبي بشر لا علاقة له بالأمر والنهي، الأمر والنهي والبلاغ من عند الله، وإنما النبي صلى الله عليه وسلم مبلغ وبشير ونذير لقوم يؤمنون. وقوله تعالى: {قُلْ صَدَقَ اللَّهُ} [آل عمران:95] تُبنى على خصوص وعموم، فيبنى على خصوص كما هو هنا، أي: {قُلْ صَدَقَ اللَّهُ} [آل عمران:95] في قوله {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} [آل عمران:93]. ويبنى على العموم في أن الله صادق في كل ما يقول، ولذلك كان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه إذا حدث يقول في الغالب: أخبرني الصادق المصدوق. أو يقول: سمعت الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، كما في الصحيحين في حديث خلق النطفة والعلقة، فقوله صادق، وهو مصدوق فيما يقال له, فالنبي عليه الصلاة والسلام صادق فيما يقول, مصدوق فيما يقول له ربه. ولما بعث عليه الصلاة والسلام علياً ومن معه من الصحابة إلى روضة خاخ للإتيان بالخطاب الذي بعثه حاطب بن أبي بلتعة مع المرأة لتبعث به إلى كفار مكة، قال: (ائتوا روضة خاخ، فستجدون فيها ضعينة معها كتاب من حاطب إلى قريش، ائتوني بالكتا). فلما ذهب علي رضي الله عنه وقبض على المرأة أنكرت، فقال علي: والله ما كذبنا ولا كُذِّبنا. يعني: نحن ما افترينا على الرسول بأنَّه قال هذا الكلام، والرسول لا يمكن أن يكذب علينا ويقول لنا: إن معك كتاباً وليس معك كتاب. قال تعالى: {قُلْ صَدَقَ اللَّهُ} [آل عمران:95] فلما ظهر الصدق لم يبق إلا الاتباع، فقال الله جل وعلا: {قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [آل عمران:95]، والخطاب لليهود على وجه الخصوص، ولكل من يقرأ القرآن ويصله البلاغ على وجه العموم. وقوله تعالى: {وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [آل عمران:95] عائد على إبراهيم. وقد قلنا في سياق سابق: إن الله جل وعلا نزه إبراهيم عن كل إثم؛ لأن كل الأمم ادعت أن إبراهيم منها وانتسبت إليه، ولذلك قال الله: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [آل عمران:67] كما جاء هنا: {قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [آل عمران:95].

دلالات في سورة آل عمران

دلالات في سورة آل عمران فيتحقق من هذا كله أمور بيناها فيما سبق ونربطها بما لحق، وهي أن هذه السورة -سورة آل عمران- لها علاقة قوية بذكر اليهود، فأغلبها رد على مزاعم اليهود، فكل ما زعمه اليهود يفنده الله جل وعلا ويبين لنبيه صلى الله عليه وسلم مكمن الصواب فيه. وتحرر من هذا كله أن بني إسرائيل وبني إسماعيل وبني العيص كلهم يفيئون إلى رجل واحد هو إبراهيم. ثم يلتقون في سام أو حام أو يافث من أبناء نوح، ثم يلتقون في نوح، ثم يلتقون في أبيهم آدم، ولهذا كان عنصر التفضيل الَقَبلِيّ مرفوضاً، قال الله جل وعلا: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] , وقال صلى الله عليه وسلم: (كلكم لآدم وآدم من تراب).

تفسير قوله تعالى: (إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة)

تفسير قوله تعالى: (إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة) ثم قال جل ذكره: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران:96 - 97]. قوله تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ} [آل عمران:96] أي: وضع للعبادة، وإلا فالبيوت قديمة، وليس الكلام عنها، سواء أكانت قديمة أم حديثة، وإنما يتكلم الله جل وعلا عن أول بيت وضع للعبادة.

ذكر المدة الزمنية بين بناء المسجد الحرام وبيت المقدس

ذكر المدة الزمنية بين بناء المسجد الحرام وبيت المقدس وهاتان الآيتان فيهما كلام طويل سنحاول بقدر الإمكان أن نجمله، فنقول: إن المسجد الحرام أول مسجد وضع في الأرض للعبادة، كما قال صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيحين- لـ أبي ذر لما سأله: يا رسول الله! أي بيت وضع في الأرض أول؟ قال: (المسجد الحرام, قال: ثم أي؟ قال: المسجد الأقصى, أو بيت المقدس, قال: كم بينهما؟ قال: أربعون سنة). والمشهور أن الذي بنى بيت المقدس هو سليمان بن داود، والمشهور أن الذي بنى البيت الحرام هو إبراهيم، فإذا أخذنا بهذا المشهور فهل يتفق الحديث مع الآية؟ والجواب أنه لا يمكن أن يتفق مع ما بينا؛ لأن بين إبراهيم وسليمان ثلاثة قرون تقريباً، والنبي صلى الله عليه وسلم يذكر أن بينهما أربعين سنة. والصحيح -إن شاء الله- أن أول من وضع البيتين هو آدم عليه السلام، فهو الذي وضع الكعبة، وهو الذي وضع بيت المقدس، ولا يمكن أن ينطبق الحديث إلا على آدم، أو أن الله جل وعلا أمر ملائكة قبله بأن تبني الكعبة، ثم أمره بعد أربعين سنة بأن يبني بيت المقدس، ثم بين الله لإبراهيم مكان الكعبة، ولذلك قال الله: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ} [الحج:26] أي: مكان الكعبة، فأعاد بنيانها، وبين لداود وسليمان عليهما السلام مكان بيت المقدس فأعادا بنيانه. والمسجد الحرام والمسجد والنبوي والمسجد الأقصى هي الثلاثة المساجد التي تشد إليها الرحال.

قصة بناء قبة الصخرة

قصة بناء قبة الصخرة وهناك صور تنقل كثيراً مسجد قبة الصخرة، وهناك مسجد اسمه المسجد الأقصى، فالمسجد الأقصى هو الذي صلى النبي صلى الله عليه وسلم فيه وربط فيه دابته وهي البراق. أما قبة الصخرة، فالصخرة كانت تعظمها اليهود وتصلي إليها في غابر الأزمان، والذي أهلك اليهود هو بختنصر، جاء من بابل من العراق، فأهلك اليهود، وأعان على إهلاك اليهود النصارى، فالعداوة بين اليهود والنصارى عداوة قديمة. فالصخرة كانت تعظمها اليهود، في حين أن النصارى يعظمون كنيسة القيامة وما حولها ببيت المقدس عموماً، فبيت المقدس اتفق اليهود والنصارى والمسلمون على أنه أرض مباركة، وكل له غاية فيه. ولما فتح عمر رضي الله عنه بيت المقدس أيام خلافته وخرج من المدينة صلحاً وسلمت إليه مفاتيح بيت المقدس كانت النصارى مسيطرة على المدينة، وكان اليهود أذلة. فهذه الصخرة كان عليها قمامة كثيرة جداً، حيث جعلها النصارى مجمع نفايات نكاية في اليهود، وكان مع عمر كعب الأحبار، وهو يهودي أسلم في المدينة، فسأل عمر كعب الأحبار فقال: أين تراني أصلي؟ وقد أسلم كعب الأحبار، لكن بقي فيه شيء من اليهودية، فقال: أرى أن تصلي خلف الصخرة. وإذا صلى عمر خلف الصخرة يصبح مستقبل الصخرة عقلاً، وإن كان سيستقبل مكة، فقال له عمر: ما فارقتك يهوديتك، تريدني أن أستقبل الصخرة حتى يرتفع شأن اليهود؟! فتقدم وجعل الصخرة خلفه، وهو يعلم أن الصخرة معظمة، وأخذ يزيل النفايات عنها، ولكنه لم يرد أن يصلي إليها حتى لا تفتخر بها اليهود، فالصخرة في بيت المقدس، وبيت المقدس كله مبارك بلا شك، ولكن عمر لم يرد أن يجعل للصخرة خصوصية تزيد على خصوصية المسجد، فتقدم وصلى وجعل الصخرة خلفه. وبقيت الصخرة على هذا الحال حتى كان عبد الملك بن مروان الخليفة الأموي، والذي نازع عبد الملك الخلافة هو عبد الله بن الزبير، وكان عبد الله بن الزبير في مكة. وكانت العرب تحج إلى مكة، فكانوا يلتقون بـ ابن الزبير، والسياسة لا تدخل في شيء إلا أفسدته، ولذلك فإن العاقل يترك آراء السياسيين ولو كان أتقى خلق الله، فلا تكن إمعة، بحيث ترى كل من يحمل راية سياسية فتعتقد أنها راية دينية، فالسياسة: لا تدخل في شيء إلا أفسدته، فكان الناس يأتون عبد الله بن الزبير خصيم عبد الملك بن مروان ثم يذهب بعضهم راجعين إلى الشام، فجاءوا إلى عبد الملك فقالوا له: ليس عندك أحد، فأمراء القبائل يحجون ويقابلون ابن الزبير، فقام عبد الملك بن مروان فبنى على الصخرة قبة، وكساها مثلما تكسى الكعبة وزينها لعل الناس أن يأتوها، وذلك لسبب سياسي واحد، وهو أن ينصرفوا عن ابن الزبير. والسياسة فيها شيء اسمه المراحل، فالورقة هذه تنفع اليوم ولا تنفع غداً، ولذلك لما انتهت القضية وقتل عبد الله بن الزبير على يد الحجاج بن يوسف لم يبال عبد الملك بقبة الصخرة، وما عاد يكسوها، ولكنه لم يهدمها، فبقيت على حالها إلى اليوم، فجاء بعده ملوك لا يفهمون لماذا بناها، وأخذوا يزينونها! فهذه قصة قبة الصخرة.

بيان معنى (بكة)

بيان معنى (بكة) يقول الله تعالى: {لَلَّذِي بِبَكَّةَ} [آل عمران:96] والاسم الآخر هو (مكة)، فهل (بكة) و (مكة) بمعنى واحد أم هما اسمان مختلفان في المعنى؟! قال بعض العلماء: إن الباء والميم في اللغة يكثر الإبدال بينهما، فيقال: هذا طين لازب وطين لازم بالميم، والمعنى واحد. وعلى هذا القول تكون (بكة) و (مكة) بمعنى واحد. القول الثاني: أن بكة المقصود بها المسجد نفسه، ومكة المقصود بها الحرم كله. ولكن القولين لا يمكن أن يكون بينهما تنافٍ ولا يتعلق بهما كبير اختلاف.

بيان بركة البيت الحرام

بيان بركة البيت الحرام يقول الله تعالى: {لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا} [آل عمران:96] ولا شك في أنه مبارك، بدليل أن الله جل وعلا يضاعف فيه الحسنات، وأن (من حج البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه)، وأن الله شرع الطواف به ولا يشرع إلا به، في أمور لا تعد ولا تحصى تدل على بركة هذا البيت.

الآيات الموجودة في البيت الحرام

الآيات الموجودة في البيت الحرام قال تعالى: {فِيهِ} [آل عمران:97] أي: في المسجد الحرام {آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ} [آل عمران:97]، ولم يذكر الله الآيات البينات، بل ذكر واحدة منها فقال: {مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ} [آل عمران:97] فيصبح تقدير الكلام: فيه آيات بينات كثيرة، منها مقام إبراهيم، وهذا أرجح ما قيل في إعراب (مقامُ) وهو أنها مبتدأ لخبر محذوف مقدم تقديره (منها مقام إبراهيم)، وقيل غير ذلك، لكن هذا الذي نراه، والله أعلم. فمن هذه الآيات الموجودة في الحرم المكي مقام إبراهيم، وذلك أن إبراهيم عليه السلام هو الذي رفع جدار الكعبة، وساعده وعاونه ابنه إسماعيل، وهذا مشهور، فلما ارتفع البنيان قدم إسماعيل حجراً لأبيه ليرتقي عليه، فلما وطئ عليه كان رطباً، فبقيت آثار قدم إبراهيم عليه الصلاة والسلام في الصخر ظاهرة بينة، والصخر لا يؤثر فيه الوقوف، ولكن الله جعلها رطبة فأصبحت آثار قدمي إبراهيم ظاهرة وبقيت على مر الأزمان. وكان هناك قبيلة في العرب مشهور أهلها بالقيافة، أي: يعرفون آثار الأقدام والأرجل، وكانوا هم يطوفون بالبيت يرون أقدام إبراهيم، وفي ذات يوم لما كان النبي صلى الله عليه وسلم صغيراً في حجر جده عبد المطلب خرج يلعب، فلما خرج يلعب جاء إلى قوم من بني مدلج المشهورين بالقيافة، فلما رأوا قدمي نبينا عليه الصلاة والسلام -وهو يومئذ صبي- حملوه إلى جده قالوا لـ عبد المطلب: من هذا منك؟ أي: ما هي القرابة بينكما؟ فقال: هذا ابني، فقالوا احرص عليه؛ فإن قدميه من نفس قدمي من في المقام، يقصدون إبراهيم. ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لما عرج به إلى سدرة المنتهى: (ما رأيت أحدا أشبه بصاحبكم منه ولا منه بصاحبكم) يقصد نفسه صلى الله عليه وسلم. والمقصود أن مقام إبراهيم حجر وطئ عليه إبراهيم لما أراد أن يبني الكعبة بعد أن ارتفع بنيانها، فبقيت آثار قدميه إلى يومنا هذا، وهو المعروف الآن بمقام إبراهيم. وهذا المقام شرع الله الصلاة عنده، قال الله جل وعلا {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة:125].

بيان معنى قوله تعالى (ومن دخله كان آمنا)

بيان معنى قوله تعالى (ومن دخله كان آمناً) ثم قال سبحانه: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران:97] قوله: (دخله) عائد على حرم مكة، إما على المسجد أو على مكة عموماً. واختلف العلماء في معنى قول الله جل وعلا: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران:97]، ومكمن الخلاف في أنه قد يدخل الحرم الإنسان الآن ويؤذى، فقد يأتي مجرم فيخرج خنجراً أو مسدساً ويقتل الناس في الحرم، وهذا مر عبر التاريخ كله. فالتوفيق بين الآية وبين الواقع مشكل؛ لأن الله قال: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران:97]، ولذلك اختلفت كلمة العلماء في المعنى: فقال فريق من العلماء: إن هذا خبر عن الماضي، بمعنى أن أهل الجاهلية قديماً كانوا يدخلون الحرم فلا يؤذي بعضهم بعضاً لحرمة البيت التي وضعها الله في قلوبهم، وهذا معروف وإن كان ليس بصحيح على إطلاقه؛ لأنه قد وقع في الجاهلية أذى وسط الحرم، والنبي صلى الله عليه وسلم أوذي وسط الحرم. القول الثاني: قول ابن عباس، واختاره الإمام ابن جرير الطبري إمام المفسرين وغيره، وهو أن الإنسان إذا جنى جناية خارج الحرم ثم استجار بالحرم فإنه لا يقام عليه الحد ولا يقبض عليه، وإنما يضيق عليه في المعاملة، فلا يبتاع منه ولا يباع له ولا يطعم، حتى يضطر إلى الخروج فيقام عليه الحد، وهو مذهب أبي حنيفة رحمه الله تعالى. وقال فريق من العلماء: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران:97] أي: آمناً من عذاب النار، لأن الحج والعمرة سبب في النجاة من النار. وقال فريق من العلماء -وهو اختيار ابن المظفر السمعاني -: إن المعنى أن الله جل وعلا أمن قريش في جاهليتها لأنهم أهل الحرم، قال الله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} [العنكبوت:67] فلم يكونوا يؤذون لأنهم أهل حرم الله، وكل من رامهم بأذى قصمه الله، كما حصل لأبرهة وجنده، وهذا -في ظني- أقرب الأقوال إلى الصحة، واختاره الإمام أبو المظفر السمعاني كما قلت في تفسيره، والله تعالى أعلم.

الأمر بحج البيت

الأمر بحج البيت ثم قال جل وعلا: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران:97]. لقد قالت اليهود لنبينا عليه الصلاة والسلام: إنك كنت تصلي إلى بيت المقدس. ومعلوم أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يصلي إلى بيت المقدس وهو في مكة, وصلى إلى بيت المقدس وهو في المدينة. أما في مكة فكان عليه الصلاة والسلام يجعل الكعبة بينه وبين بيت المقدس، فيصلي في جهة بحيث تكون الكعبة أمامه وبيت المقدس وراءها، فيكون قد استقبل بيت المقدس والكعبة في آن واحد، وهذا المشهور عن ابن عباس. وأما في المدينة فلا يمكن ذلك؛ لأن الكعبة في الجنوب وبيت المقدس في الشمال، فكان صلى الله عليه وسلم يصلي إلى بيت المقدس ستة عشر أو سبعة عشر شهراً كما في رواية البراء بن عازب عند البخاري وغيره. ثم أنزل الله {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة:144]، فأخذ النبي عليه الصلاة والسلام يصلي إلى الكعبة، وبقي الحال إلى يومنا هذا. فقال اليهود: هذا أكبر دليل على أنك مضطرب في عبادتك، فبين الله جل وعلا لهم في جواب قرآني فقال تعالى: {قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} [البقرة:142]، فكل الجهات ملك لله، والله جل وعلا يختص منها ما يشاء ويتعبد عباده بما يريد، ولو تعبدهم كل شهر بجهة فهو ربهم وهم عبيده، والجهات جهاته والملك ملكه، وليس لليهود ولا لغيرهم قول ولا برهان. فالله جل وعلا أمر نبيه أن يصلي إلى بيت المقدس ابتلاءً واختباراً وهو يعلم جل وعلا أزلاً أنه سينقلهم إلى الكعبة، ففي هذه الفترة يمحص الله جل وعلا عباده، ويبتلي خلقه ليعلم من يثبت ممن لا يثبت، كما قال الله جل وعلا: {وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} [البقرة:143] أي: هذا الأمر عظيم إلا على من يسره الله جل وعلا عليه. والمقصود أن بيت المقدس كان معظماً والمبالغة في تعظيم الكعبة أمر الله جل وعلا في رده على اليهود بأن يكون الحج إلى الكعبة. ولما كانت الكعبة تفضل على بيت المقدس بوجوه كثيرة، كان اختيارها مكاناً للحج أمراً لا مناص منه، فقال الله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران:97] واللام في {وَلِلَّهِ} [آل عمران:97] حرف جر، ومعناها للإيجاب والإلزام. فأوجب الله وألزم عباده بحج البيت، ولم يكتف الله بقوله {وَلِلَّهِ} [آل عمران:97]، بل أتى بحرف (على)، فقال: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران:97]، فأتى بمؤكدين: اللام و (على). وكلاهما يدل على الإيجاب والإلزام، تقول: لفلان عندي كذا، وعلي لفلان كذا، أي: يجب علي له.

حد الاستطاعة لحج البيت الحرام

حد الاستطاعة لحج البيت الحرام يقول تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران:97] وكلمة ((النَّاسِ)) عامة، ثم جاء التخصيص {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران:97]، فمن لم يستطع الوصول إلى البيت سقط عنه فريضة الحج. والله جل وعلا لم يحدد كيفية الاستطاعة، وهذا من بلاغة القرآن، لأنه لا يمكن عقلاً تحديد الاستطاعة بشيء واحد في كل الأزمنة، ومن قال من العلماء رحمهم الله: إن الاستطاعة الزاد والراحلة، فقوله قول مرجوح، ولا يمكن أن يكون صحيحاً؛ لأنه قد يقع عارض أشد من الأول. ومثال ذلك: لو أن المرض المعروف بـ (سارز) -كفانا الله وإياكم شره- انتشر في أمة مسلمة في بلاد ما حتى أهلكهم، ثم رغب أناس من هذه الأمة في أن يحجوا إلى البيت، وكانوا يملكون الزاد والرواحل، فهل من الحكمة أن يؤذن لهم في الحج؟ A لا؛ لأنه قد يأتي منهم من يحمل المرض فيفتك بالحجاج كلهم، فلذلك من الحكمة منعه، والحج يعتبر ساقطاً عنه، وهو معذور شرعاً؛ لأنه لا يستطيع الوصول إلى البيت، فهذا المنع لا علاقة له بالزاد ولا بالراحلة، فتبقى جملة {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران:97] واسعة، فكل من يستطيع الوصول إلى البيت يجب عليه الحج، ومن لم يستطع فقد أعذره الله جل وعلا في كتابه. وقوله تعالى: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران:97] أي: طريقاً.

بيان معنى قوله تعالى (ومن كفر فإن الله غني عن العالمين)

بيان معنى قوله تعالى (ومن كفر فإن الله غني عن العالمين) قال تعالى: {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران:97]، للعلماء في هذه الجملة ثلاثة أوجه: الوجه الأول: أن الآية على ظاهرها، والمعنى: أن من لم يحج وهو قادر فهو كافر لظاهر الآية، وهذا مذهب الحسن البصري رحمه الله، ووافقه عليه بعض العلماء. الوجه الثاني: أن من أنكر فريضة الحج فهو كافر، وهذا قول ابن عباس رضي الله عنه، وعليه جماهير العلماء. الوجه الثالث: أن الآية جرت مجرى التغليظ والتهديد والوعيد والزجر في بيان أهمية الحج إلى بيت الله جل وعلا، وأن تاركه كالكافر، وهذا القول اختاره بعض العلماء، وهو الذي إليه نميل، والله أعلم, فالآية تجري مجرى التهديد والتغليظ والوعيد، وهذا له قرائن في كتاب الله وفي السنة. أما له قرائنه في القرآن فإن الله جل وعلا قال: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء:93] مع اتفاقنا على أن هذه الآية تحمل على أنها مبالغة في التهديد، وإلا فإن من قتل نفساً ومات على التوحيد لا يخلد في النار. ومن السنة قوله النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه عز وجل: (عبد بادرني بنفسه، حرمت عليه الجنة، وقاتل نفسه في النار) وما إلى ذلك مما جاء في قصة الانتحار. والصحيح أن من مات منتحراً ولم يأت بناقض شرعي، ومات على (لا إله إلا الله) فإنه لا يخلد في النار، وتحمل هذه الأحاديث وغيرها على المبالغة في التهديد والزجر والوعيد. فقاتل نفسه لا يخلد في النار، وإنما يسن لإمام المسلمين أو نائبه ألا يصلي عليه، فقد روى مسلم في الصحيح أن رجلاً من الصحابة اشتد عليه مرض ما، فعمد إلى عروقه فقطعها فسال الدم، فلما سال الدم أخذ ينزف حتى مات، فرآه ابن عم له في المنام وعليه ثياب بيض وقد غلت يداه، فقال: ما صنع بك ربك؟ قال: عفا عني، قال: فما بال يديك؟ قال: إن الله قال لي: إننا لا نصلح منك ما أفسدته من نفسك؛ لأنه قطع يديه. ولما استيقظ قص الرؤيا على النبي عليه الصلاة والسلام، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (اللهم وليديه فاغفر، اللهم وليديه فاغفر، اللهم وليديه فاغفر) قالها ثلاثا. قال النووي رحمه الله تعالى في شرح مسلم وغيره من العلماء: في ذلك دليل واضح على أن قاتل نفسه لا يخلد في النار. ولكن هذا يخاطب به طلبة العلم فقط، ولا يقال للعامة حتى لا يستهينوا بقتل غيرهم ولا بقتل أنفسهم، وطالب العلم ينبغي له أن يفرق بين الخطاب إلى العامة والخطاب إلى طلبة العلم.

الفرق بين أسلوب ذكر الأحكام وأسلوب الوعظ

الفرق بين أسلوب ذكر الأحكام وأسلوب الوعظ وبيان الحكم الشرعي غير الوعظ، ولذلك لما تقرأ في كتب ابن قدامة وغيره من أئمة الدين الفقهاء تجدهم لا يتكلمون مع بعضهم بقولهم: اتق الله، وخاف الله، واخش الله، فهذا كلام وعظ وليس له علاقة بالأحكام الشرعية، وعندما يتكلم المرء في الوعظ لا يتكلم عن تفصيلات اختلافات العلماء، فلا يأتي إنسان في مسألة يخالف فيها آخر فيقول له: اتق الله، فكيف تقول بهذا!. فالكلام العلمي لا يقال لقائله: اتق الله، إذ لا يقول هذا الكلام إلا لأنه يعتقد أنه صحيح، فلكونه يتقي الله قال هذا الكلام؛ لأنه هو يعتقد أن هذا صحيح، فهو يقوله لأنه يتقي الله، فليس هناك موضع مجال لكلمة (اتق الله) و (خاف الله). وأما من كان في معصية فإنك تقول له: اتق الله؛ لأنه يعلم أنها معصية ويعصي الله جل وعلا. ولذلك إذا قرأت مناظرات العلماء وكلام ابن قدامة وغيره من أئمة العلم لا تجد فيها الأسلوب الوعظي ولا ذكر الجنة والنار؛ لأن كل فريق يعتقد صحة ما يقول، وإنما يبنى الكلام على الأدلة، وكل يحاج الآخر بالأدلة. وبعض صغار طلبة العلم تقول له: ما رأيك في فلان؟ فيقول: هذا لا يخاف الله؛ لأنه يفتي بكذا وكذا، ويقول بكذا. وهذا ليس بكلام رجل عاقل؛ لأنه يخاف الله فقال ما يعتقده، ولو طبق هذا الكلام الذي يتناقله اليوم البعض على الصحابة لهلكنا جميعاً؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يتبادلون الرأي، ويقول كل منهم بقول، ولا يقول واحد لآخر: اتق الله؛ لأن كل واحد منهم يقول ما يعتقد أنه صواب، وكل منهم يقارع الآخر بالحجة وبالنظر وبالدليل، وإذا استبانت لك المسألة فقد لا تستبين لأخيك، والعكس صحيح. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

سلسلة تأملات قرآنية [6]

سلسلة تأملات قرآنية [6] يبين الله تعالى في سورة النساء جملة من الأعمال الإجرامية التي استحق بها اليهود غضب الله تعالى، ومن جملة تلك الأعمال اتخاذهم العجل، وقتلهم الأنبياء، وكفرهم بآيات الله، ورميهم مريم عليها السلام بالفاحشة، ومحاولتهم قتل عيسى عليه السلام، وأكلهم الربا، والعجيب أن اليهود قد استحوذوا على النصارى في شأن عيسى فلبسوا عليهم الباطل فتبعهم النصارى في الإيمان بصلب عيسى، وما ذلك إلا لخبث اليهود وضلال النصارى.

مناسبة تفسير الآيات من سورة النساء

مناسبة تفسير الآيات من سورة النساء بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد: ففي هذا الدرس -بعون الله وتوفيقه- سننتقل إلى سورة النساء، بعد أن أنهينا وقفات ثلاث مع سورة آل عمران، والمناسب في الانتقال واختيار الآيات من سورة النساء هو أننا قد تحدثنا في سورة آل عمران عن بعض جرائم اليهود، وتكلمنا عن مسجد الصخرة، وما إلى ذلك. وهنا ننتقل إلى إتمام الحديث من سورة أخرى هي سورة النساء؛ وللعلم ببعض عقائد النصارى بعد أن بينا شيئا من عقائد اليهود، ثم نعرج على بعض الأحكام الفقهية التي يستلزم الحديث عنها في الآيات. فنقول مستعينين بالله عز وجل: سورة النساء سورة مدنية جاءت متنوعة الأغراض كأكثر سور القرآن، حيث ذكر الله جل وعلا فيها جملة من العقائد، وجملة من الآداب، وجملة من الأحكام، ولأن السورة من أكثر سور القرآن حديثا عن أحكام النساء نعتت بسورة النساء، وقد سبق أن بينا أن تسمية سور القرآن الراجح فيها أنها توقيفية فعلها الصحابة بإذن من النبي صلى الله عليه وسلم. وهناك سورة أخرى تنعت بأنها سورة النساء الصغرى، وهي سورة الطلاق، لأن السورتين تحدثتا كثيراً عن أحكام النساء وما يتعلق بهن.

تفسير قوله تعالى: (يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا)

تفسير قوله تعالى: (يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتاباً)

بيان عنت اليهود

بيان عنت اليهود أما الآيات التي سنتكلم عنها تفصيلا فهي قول الله جل وعلا: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا} [النساء:153]، إلى قول الله عز وجل: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} [النساء:163]. فنقول مستعينين بالله عز وجل: سبق أن بينا شيئاً من جرائم اليهود في سورة آل عمران، وفي هذا السياق يخبر الله جل وعلا عن تاريخ اليهود إجمالاً، فلا يختص هذا السياق بمرحلة دون غيرها، فالجرائم التي سيذكرها القرآن الآن وسنفسرها إجمالاً لا تتعلق بمرحلة زمنية معينة، فمنذ بعثة موسى عليه الصلاة والسلام وإنزال التوراة إلى عهد نبينا محمد عليه الصلاة والسلام مضى أكثر من ألف عام، وخلال ذلك كان اليهود يعيشون، فبعث إليهم بين موسى وعيسى أنبياء، ثم بعث إليهم عيسى عليه الصلاة والسلام وأعطاه الله الإنجيل، ولم يبعث أحد بعد عيسى إلا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فعبر هذا التاريخ يذكر الله جل وعلا جملة من الخبث الملازم لليهود في تعاملهم مع أنبياء الله ورسله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. فالله يقول لنبيه: هؤلاء المعشر الذين يعاصرونك الآن من اليهود يطلبون منك كتاباً ينزل جملة، حيث قالوا: إن موسى جاءته التوراة جملة واحدة، فنحن -يا محمد- لن نؤمن بك حتى تنزل علينا كتاباً جملة واحدة، كما أنزلت التوراة على موسى جملة، فرد الله جل وعلا عليهم فقال لنبيه من باب التعزية: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ} [النساء:153]، فلا تعجب -يا نبينا- ولا تستغرب من هذا الطلب؛ لأنهم قد طلبوا طلبا أكبر منه، وهو طلبهم من موسى يوم قالوا له: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} [البقرة:55]، وهذا والقرآن يفسر بعضه بعضاً، فهذا الطلب ذكره الله مفصلاً في سورة البقرة، حيث قال الله جل وعلا: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ * ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة:55 - 56]، فهذا أول وأعظم طلبهم، وفيه من الجرأة على الله جل وعلا ما لا يخفى. قال تعالى: {فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ} [النساء:153]، فلما طلبوا هذا الطلب أهلكهم الله بالموت، ثم رحمهم تبارك وتعالى وأحياهم بعدما أماتهم، كما قال جل وعلا في سورة البقرة: {ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة:56]، وهذا صريح في أن الله أماتهم ثم أحياهم، وقد قال بعض العلماء من المفسرين: إن إماتتهم وإحياءهم كانا في يوم وليلة.

بيان معنى قوله تعالى (ثم اتخذوا العجل من بعدما جاءتهم البينات)

بيان معنى قوله تعالى (ثم اتخذوا العجل من بعدما جاءتهم البينات) قال تعالى: {ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ} [النساء:153] (اتخذ) تنصب مفعولين، ذكر الله واحداً منهما، ولم يذكر الآخر؛ لدلالة المعنى عليه، حيث قال تعالى: {ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ} [النساء:153]، ويظهر من السياق أنهم اتخذوا العجل إلهاً، فـ (إلهاً) هي المفعول الثاني الذي لم يذكره الله، وهذا هو سبب نقمة الله عليهم، وإلا لو أنهم اتخذوا العجل كدابة يركبونها أو ينحرونها ليأكلوها أو لشيء آخر لكان هذا أمراً مشروعاً. وقد اتخذوا العجل في الفترة التي ذهب فيها موسى عليه الصلاة والسلام ليكلم ربه، وجعل عليهم أخاه هارون، ففي تلك الفترة لما أبطأ عليهم موسى -لأن الله واعده ثلاثين ليلة ثم جعلها الله أربعين- ملوا، فصنع لهم السامري عجلاً من ذهب، وجعل له منفذين يدخل منهما الهواء، فجعلت الريح إذا دخلت من القبل وخرجت من الدبر تحدث صوتا، فخدعهم بقوله: {هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى} [طه:88] كما أخبر الله. فهذان من جملة ما نقم الله عليهم، فالأول: أنهم سألوا موسى أن يروا الله جهرة، والثاني: أنهم اتخذوا العجل إلها من بعدما جاءتهم البينات.

تفسير قوله تعالى: (ورفعنا فوقهم الطور بميثاقهم)

تفسير قوله تعالى: (ورفعنا فوقهم الطور بميثاقهم) ثم قال سبحانه: {وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ} [النساء:154]، فهذه ثلاث مسائل وقعوا فيها. والطور، يطلق على الجبل الذي به نبات، فإن لم يكن عليه نبات فإنه يسمى جبلاً فقط ولا يطلق عليه أنه طور. وهل هو الطور الذي كلم الله عنده موسى أم هو جبل آخر؟ كلا الأمرين محتمل. فلما أعطاهم الله التوراة رفضوا أن يقبلوها، فرفع الله عليهم الجبل تهديدا بأن يلقيه عليهم فقبلوا، قال الله تعالى: {وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ} [الأعراف:171]، فهذا من جملة ما اعترضوا عليه، ثم أمرهم أن يدخلوا باب المدينة سجداً معترفين لله بالفضل وطلب المغفرة، فدخلوا يزحفون أعجازهم كما أخبر الله جل وعلا، وهذه هي النقيصة الرابعة.

بيان معنى قوله تعالى (وقلنا لهم لا تعدوا في السبت)

بيان معنى قوله تعالى (وقلنا لهم لا تعدوا في السبت) والنقيصة الخامسة ما ذكره الله في قوله: {وَقُلْنَا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ} [النساء:154]، والسبت المقصود به يوم السبت، وهذه هي قصة القرية التي كانت على الشاطئ، وعبر الله عنها بقوله: {حَاضِرَةَ الْبَحْرِ} [الأعراف:163]، وقد ذكرها الله في سورة الأعراف، وبين أنه كانت هناك قرية من قرى بني إسرائيل حاضرة البحر، فأمرهم الله ألا يصطادوا يوم السبت، فكانت الحيتان تأتيهم شرعاً ظاهرة تدعوهم فتنة لهم يوم السبت، ويوم لا يسبتون لا تأتيهم، فكانوا يلقون شباكهم يوم الجمعة، ويأتون يوم الأحد فيجمعون ما وقع فيها، فيحتالون على الله جل وعلا، وبئس ما فعلوا. وهذا كله حدث في فترات زمنية متفاوتة، وفي أماكن متفرقة، وعبر تاريخ طويل، ولكن المقصود سياق بعض جرائم اليهود بياناً وشفاء لقلب نبينا صلى الله عليه وسلم.

تفسير قوله تعالى: (فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله)

تفسير قوله تعالى: (فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله) قال الله سبحانه: {وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} [النساء:154]. ثم قال: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا * وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا} [النساء:155 - 156]، هنا يبين السياق القرآني ما نجم عن هذه المعاصي، فيذكر القرآن المعصية إجمالاً ثم يأتي بها تفصيلا. قال تعالى: ((فَبِمَا نَقْضِهِمْ)) الباء للسببية، أي: بسبب نقضهم للميثاق، وهو ما أخذه الله عليهم عن طريق أنبيائه ورسله من مواثيق وعهود فنقضوها، وهذا دأبهم في كل آن وحين. قال تعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ} [النساء:155]، وهذا يسميه البلاغيون مجازاً مرسلاً، ومعلوم أن اليهود لم يقتلوا الأنبياء كلهم، ولكنهم لما استباحوا دم واحد منهم كانوا كأنهم استباحوا دم الجميع، وأي إنسان يستبيح دم شخص واحد فإنه يستبيح الدماء التي تساويه، فالله عبر عن قتلهم لنبيهم -حيث هم قتلوا يحيى وقتلوا زكريا- بقتل الأنبياء جميعا؛ لأن الأنبياء جميعا يجمعهم دين واحد. قال تعالى: ((وَقَوْلِهِمْ)) أي: لنبينا، {قُلُوبُنَا غُلْفٌ} [النساء:155] جمع أغلف، وهو الشيء المطبوع المختوم الذي فيه حجاب يحول بينه وبين وصول المعرفة إليه. قال تعالى: {بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء:155]، وفي تفسير هذه الجملة لها وجهان: الوجه الأول: أنه أسلوب تستخدمه العرب في كلامها، بمعنى أنهم عديمو الإيمان. الوجه الثاني: أنهم لم يؤمنوا إلا بقليل من أنبيائهم، فلما لم يؤمنوا بالكل كانوا كأنهم لم يؤمنوا؛ لأن الشرع يوجب الإيمان بالأنبياء جميعاً بلا استثناء، ولعل هذا أظهر.

تفسير قوله تعالى: (وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما)

تفسير قوله تعالى: (وبكفرهم وقولهم على مريم بهتاناً عظيماً) ثم قال تعالى: {وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا} [النساء:156] كرر الله الكفر، ثم ذكر شيئا من جرائمهم، والقول الذي قالوه في مريم هو أنهم قالوا: إنها زانية، وقد برأها الله جل وعلا -كما هو معلوم- في كتابه. والبهتان: الكذب والإفك، والقول بلا علم ولا بينة. أما مريم فهي سيدة نساء العالمين، ولم يذكر الله جل وعلا في القرآن امرأة باسمها الصريح إلا هي عليها الصلاة والسلام، مع أنها ليست بنبيه؛ لأن الله قال: ((وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا))، فما بعث الله جل وعلا امرأة قط، ولكنها الوحيدة من النساء عبر التاريخ كله التي ذكرت باسمهما الصريح في القرآن، وهي سيدة نساء العالمين، كما جاء ذلك في صحيح السنة، وهي مريم البتول العذراء، واسمها مريم، بمعنى: عابدة -أو خادمة- الرب، وقصتها أشهر من أن تذكر، فقد خرجت فانتبذت من أهلها مكاناً شرقي بيت المقدس، فجاءها روح القدس جبرائيل فنفخ في جيب درعها فحملت بعيسى، وبعد أن وضعته أتت به إلى قومها فاختلفوا فيها، فمنهم من صدقها ومنهم من كذبها، وكان مولد المسيح عيسى ابن مريم.

تفسير قوله تعالى: (وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم)

تفسير قوله تعالى: (وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم)

بيان تآمر اليهود على قتل عيسى عليه السلام

بيان تآمر اليهود على قتل عيسى عليه السلام قال الله تعالى: {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا * بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء:157 - 158]. هذه الآية تقودنا إلى الحديث عن النصارى كما تحدثنا عن اليهود، وتفصيل ذلك أن نقول: ولد عيسى ابن مريم، فحملته أمه وأتت به الملأ من بني إسرائيل فأنكروه {قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا} [مريم:27]، فأشارت إليه فأنطقه الله في المهد {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا} [مريم:30]، وما اختلف الناس في رجل كما اختلفوا في عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام، وبعد النبوة أخذ يدعو إلى ربه، فأسلم على يديه أقوام سموا في القرآن بالحواريين، وهم خاصة أصحابه عليه الصلاة والسلام، ثم لما ظهر أمره خاف خصومه وأعداؤه من اليهود فتآمروا على قتله، فبعضهم كان يعرفه بعينه، وبعضهم كان يعرفه باسمه، فلما أجمعوا أمرهم على قتله أخذوا معهم شخصاً يدلهم على مكانه، فلما دخلوا عليه ليقتلوه رفعه الله جل وعلا إليه، وألقى شبهه على غيره، مع اختلاف بين العلماء فيمن ألقي عليه الشبه، فقيل: إنه عبد من الحواريين صالح ألقى الله عليه الشبه، وقيل: إن الرجل الذي دلهم عليه -وهو يهوذا عند بعض المفسرين- هو الذي ألقى الله عليه شبه عيسى، فقتله اليهود ظناً منهم أنه عيسى. وجملة الأمر أن الله جل وعلا شبه لهم شخصا غير عيسى، ورفع عيسى إلى السماء كما قال ربنا في صريح القرآن: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [النساء:158]، واختلف اليهود في هذا الذي شبه، فلما أخذوه قالوا: إن كان هذا عيسى فأين صاحبنا؟! وإن كان هذا صاحبنا فأين عيسى؟! فأخذوه وصلبوه وقتلوه اعتقاداً منهم أنهم ينتقمون منه! وكان هذا في بيت المقدس في المكان المسمى اليوم كنيسة القيامة التي تعظمها النصارى، ثم رفع عيسى إلى السماء. فالله جل وعلا يقول: إن اليهود تزعم أنها قتلت عيسى، فأنكر الله ورد على اليهود قولهم: إن عيسى قتل أو صلب بأن الله رفعه إليه، فهو حي جسداً وروحاً في السماء الثانية، كما قابله النبي صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج، وسينزل أمارة وعلامة من علامات الساعة.

موقف النصارى من دعوى اليهود قتل عيسى عليه السلام

موقف النصارى من دعوى اليهود قتل عيسى عليه السلام وبعد رفعه صدق النصارى اليهود في أن عيسى صلب وقتل، وقالوا: إن الله جل وعلا عدل، ومن عدله ألا يترك الخطيئة بلا عقوبة، فيقولون: إن آدم أكل من الشجرة فارتكب الخطيئة، فلما أكل من الشجرة وارتكب الخطيئة وأهبطه الله ورثت كل ذريته خطيئته. فقالوا: لا بد من أن تكفر الخطايا عن الذرية، ولما كان الله من صفاته مع العدل الرحمة -تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً- بعث ابنه الذي هو عيسى، وأنزله إلى الأرض وأحله في الناسوت بدل اللاهوت، أي: في إنسي، وصلب وقتل حتى يكفر عن البشر كلهم خطيئة أبيهم آدم، فمن آمن بأن عيسى ضحى من أجل البشر أصبح مؤمناً وسينجو يوم القيامة، ومن لم يؤمن بأن عيسى ضحى من أجل البشر فإنه لا يعتبر مؤمنا! وعندهم ما يسمى بالتعميد، والتعميد صفته بأن يأتوا بالطفل -على خلاف في المذاهب عندهم- فيضعوه في مكان فيه ماء كحوض أو يرشوا عليه الماء، ويقولون: باسم الأب والابن وروح القدس! فإذا قالوا هذه الثلاثة اعتقدوا أن هذا الابن عُمد، وإذا عُمد طهر من الذنوب والخطايا، فأصبح قابلا للنجاة يوم القيامة، وعندهم جنة ونار وحساب بناء على هذا الاعتقاد.

ذكر مذاهب النصارى

ذكر مذاهب النصارى وينقسم النصارى إلى ثلاث طوائف رئيسية: الأولى: الأرثوذكس، وهؤلاء انفصلوا في عام (1054م) عن الكاثوليك، والكاثوليك هي الكنيسة الأم، والبروتستانت الكنيسة الثالثة. الثانية: الكاثوليك، وهي راعية الكنيسة التي في روما اليوم، التي تتبع البابا يوحنا بولس الثاني المالك وخليفته الباب بنديكيت السادس عشر وجل كنائس العالم تابعة للكاثوليك. وأما الأرثوذكس فأقل منهم، ومعناها: (مستقيمي المعتقد) - وقد انفصلت عن الكنيسة الأم، ويتبعها بعض الكنائس، كالتي في مصر التابعة للبابا شنودة. الثالثة: حركة إصلاحية انفصلت عن الكاثوليك في القرن الثامن عشر الميلادي تقريباً على يد مارثن لوثر، وهي الكنيسة البروتستانتية، وهذه تؤمن بأن لليهود منة على النصارى، والبروتستانتية هي المذهب الذي يدين به الرئيس الأمريكي المعاصر، ورئيس الوزراء البريطاني المعاصر توني بلير، فالذي يجمع بينهما ارتباطهما حاليا بهذه الكنيسة، وأما الكنيسة التي في روما فهي منفكة عنهما ولا علاقة لها بهما. فالنصارى فرق شتى، ولكن هذه الفرق الثلاث هي الأم، ويجتمعون في أمور ويختلفون في أمور أقل منها، فيتفقون على أن الأقانيم ثلاثة: الأب والابن وروح القدس، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً، وقد رد الله على الجميع في كتابه.

كيفية ظهور الصليب

كيفية ظهور الصليب النصرانية والأصل أن عيسى بعث إلى بني إسرائيل مثل موسى، وقد قلنا: إن بني إسرائيل يعودون إلى إسرائيل الذي هو يعقوب، ويعقوب عليه السلام له أخ اسمه العيص، ومن ذرية العيص الروم، وكان العيص فيه صفرة، فلذلك يسمى الروم بني الأصفر، ولذلك فإن أبا سفيان لما رأى هرقل يخشى النبي صلى الله عليه وسلم قال: لقد أصبح ملك محمد عظيماً، تخافه بني الأصفر. فالروم في الأصل ليس لهم علاقة بعيسى، والدين النصراني اليوم أكثر أتباعه الروم في أوروبا وفي أمريكا، فهم أكثر من اليهود. وسبب ذلك أنه بعد ثلاثة قرون من رفع عيسى حدثت حروب بين الرومان وأشياعهم، فآمن ثلة من الرومان بما بقي من دين عيسى عليه الصلاة والسلام. وكانت اليهود تزعم أنها قتلته، ولذلك يأتون إلى كنيسة القيامة -وهي الموطن الذي زعموا أنهم قتلوا فيه عيسى عليه السلام- فيرمون فيه الزبالات، والقاذورات، والقمامة حتى تجمعت. فجاء قسطنطين الثالث فآمن بدين عيسى السلام مع التحريف، بعد أن جاء رجل يبحث في تلك القمامات حتى وصل إلى الصليب، حيث يزعمون أنه وصل إلى الخشبة التي صلب فيها من يعتقد اليهود أنه عيسى، فالصلب وقع، ولكنه ما وقع على عيسى، فاليهود صلبوا رجلاً وقتلوه. فهذا الرجل وجد خشبة على هيئة الصليب المعروفة الآن بعد عيسى بثلاثة قرون، ولما أخذها زعم أنه كان مريضاً، فلما تمسح بها برئ، فلما علم الناس ذلك أخذوا يصنعون الصليب ويتبركون به ويعتقدون فيه ذلك إلى يومنا هذا، فهذا أصل فكرة ظهور الصليب للناس. فلما علمت أم قسطنطين -واسمها هيلانا بهذا أمرت بمحو القاذورات وبنت عليها كنيسة أسمتها كنيسة القيامة، وذلك أنهم يعتقدون جهلا أن عيسى يبعث منها، فبما أنه مات فسيبعث من هذه الكنيسة، والكنيسة موجودة اليوم في بيت المقدس، وإن لم أنس فإن السادات لما زار إسرائيل تكلم وألقى خطابا في هذه الكنيسة، فهذه الكنيسة قائمة تعظم إلى اليوم. وتسمى أحياناً كنيسة القمامة بالنسبة لما كان عليها، ثم بعد ذلك كان النصارى يضعون القمامة على الصخرة التي تعظمها اليهود، وكان يصلي إليها موسى عليه السلام. وهذه الصخرة محا القامة عنها أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، ولكنه صلى أمامها وجعلها خلفه. فأصبح بيت المقدس يضم الكنيسة التي يعظمها النصارى، ويضم الصخرة التي تعظمها اليهود، ويضم المسجد الأقصى الذي يعظمه المسلمون. فهذا مجمل ما يمكن أن يقال عن عقيدة النصارى، وهي: قائمة على سر التعميد، والإيمان بأن الله كَفّّر عن البشر خطاياهم بقتله ابنه، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا.

بيان معنى قوله تعالى (وما قتلوه وما صلبوه)

بيان معنى قوله تعالى (وما قتلوه وما صلبوه) يقول الله تعالى: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا * بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء:157 - 158] أي: عزيزاً عن أن يقتل نبي من أنبيائه وهو جل وعلا غير مريد، حكيماً في سبب رفعه إلى السماء الثانية. والمحفوظ عندنا في سنة نبينا صلى الله عليه وسلم وفي ظاهر القرآن أن عيسى عليه الصلاة والسلام سينزل في آخر الزمان واضعاً يديه على أجنحة ملك يخرج منه مثل بقايا الوضوء، ويقتل الدجال بحربة تكون معه، قال الله جل وعلا: {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [الزخرف:61].

تفسير قوله تعالى: (وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته)

تفسير قوله تعالى: (وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته) ثم قال الله جل وعلا بعدها: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا} [النساء:159]، هذه الآيات إحدى معضلات القرآن؛ لأن تفسيرها غير واضح، فهذه الآية تحتمل عدة تفاسير، وإلى الآن لم أقف على تفسير مقنع، ولكن نقول جملة ما قاله أهل العلم، فالله تعالى يقول: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} [النساء:159] والمعنى: لا أحد من أهل الكتاب {إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} [النساء:159]، فهنا ضميران، الهاء في (به) والهاء في (موته)، فعلى من يعود كل منهما؟! إن هذا هو موضع الإشكال، فتحتمل الآية أن يكون المعنى: ما من أحد من أهل الكتاب إلا يؤمن به -أي: بعيسى- قبل موته، أي: قبل موت الكتابي، فيكون الضمير في (به) عائداً على عيسى، والضمير في (موته) على عائداً على الكتابي. فيصبح معنى الآية: أنه ما من يهودي ولا نصراني تغرغر روحه إلا وهو يؤمن بأن عيسى عبد الله ورسوله، إلا أنه يؤمن ساعة الاحتضار، فلا يقبل منه، وهذا مروي عن ابن عباس، وقال به كثير من العلماء، ولكن يصعب تصوره. ويحتمل أن المعنى: ليس من أحد من أهل الكتاب إلا يؤمن بعيسى قبل موت عيسى، أي: ينزل مرة أخرى فيؤمنون به، ولكن يأتي الإشكال في قول الله: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} [النساء:159] أي: لا أحد من أهل الكتاب، وقد مات جم غفير من أهل الكتاب قبل أن يروا عيسى، وقد نموت نحن قبل أن ينزل عيسى، فهذا هو الإشكال على التفسير الثاني. وبقي تفسير لعله أقربها إلى الصواب، وهو أن معنى الآية: ما من كتابي يبقى حياً إلى يوم نزول عيسى إلا ويؤمن به. وهذا فيه إشكالية أخرى، وهي أن اليهود من أهل الكتاب، ولا يؤمنون بعيسى حتى بعد نزوله، فيبقى تفسير الآية إلى يومنا هذا -في علمنا- غير واضح، وإنما نقلنا ما ذكره أهل التفسير، وإذا أوقفنا الله جل وعلا على شيء آخر سنخبر به في حينه.

تفسير قوله تعالى: (فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات)

تفسير قوله تعالى: (فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات)

أعظم أسباب الحرمان

أعظم أسباب الحرمان ثم قال جل وعلا: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا * وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [النساء:160 - 161]، الكلام في هذه الآيات لوجوه عدة: أولها: أن المعاصي من أعظم أسباب الحرمان، ولذلك قال الله: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} [النساء:160]، فإذا كانت المعاصي من أعظم أسباب الحرمان فإن من أعظم أسباب العطاء الطاعات، قال الله جل وعلا: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق:2 - 3]، فالله يخبر أن ما حل على اليهود من تحريم كثير من الطيبات إنما كان بسبب معاصيهم، قال تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا * وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ} [النساء:160 - 161]، فالآية تتكلم عن بعض من مظالم اليهود، ومنها الصد عن سبيل الله، ومنها أكل أموال الناس بالباطل، ومنها أكل الربا.

بيان معنى قوله تعالى (وأخذهم الربا وقد نهو عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل)

بيان معنى قوله تعالى (وأخذهم الربا وقد نهو عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل) وقول الله جل وعلا: {وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ} [النساء:161] هذا عطف عام على خاص؛ لأن أكل الناس بالباطل يدخل فيه الربا، والله يقول: {وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ} [النساء:161]، فعطف عاماً على خاص. والربا محرم بالكتاب والسنة وإجماع المسلمين، ومن الفوائد أن يقال: إن هناك معصيتين حرمهما الله على جميع الأمم، ولم يبحهما الله في أي شريعة قط هما: الربا والزنا، فلم يحل الله لأي أمة من الأمم الزنا، ولم يحل لأي أمة من الأمم الربا.

أقسام الربا

أقسام الربا والربا ينقسم إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: ربا الفضل. والقسم الثاني: ربا النسيئة. والقسم الثالث: ربا القرض. فالفضل في اللغة: الزيادة، وقد حدد النبي صلى الله عليه وسلم الأصناف الربوية، فقال عليه الصلاة والسلام -كما في الصحيحين وغيرهما-: (الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، سواء بسواء، يداً بيد، فإذا اختلفت الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد). ومعنى الحديث أن هذه الأصناف الربوية من مكيل وموزون ما كان منها مطعوماً يدخله الربا. ومثال ذلك أن يأتي إنسان بثلاثة كيلو من التمر, وآخر معه أربعة كيلو من التمر، والتمر صنف ربوي، أي: يدخله الربا، وليس معنى أنه ربوي أنه محرم. فهذه الأربعة الكيلو زيادة على الثلاثة، فلا يصح التبادل بأن يقول: أعطني هذه وأعطيك هذه، ولو كان أحدهما أفضل من الآخر، فهذا لا يجوز، وإذا وقع فهو ربا فضل، أي: زيادة؛ لأنهما اتفقا في الصنف واختلفا في الزيادة، فهذا معنى ربا الفضل، وهو محرم. وأما ربا النسيئة، فإن معنى النسيئة: التأجيل والتأخير، قال سبحانه: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} [التوبة:37] أي: التأجيل زيادة في الكفر. ويقع ربا النسيئة بأن يكون هناك صنف ربوي مع صنف ربوي آخر، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (فإذا اختلفت الأصناف فبيعوا كيف شئتم)، ولكنه قال: (يداً بيد)، وفي ربا النسيئة يلغى قوله: (يداً بيد) فيؤخر واحد عن الآخر. ومثال ذلك في الدولار والريال السعودي، فالمائة الدولار تساوي ثلاثمائة وخمسة وسبعين ريالاً سعودياً. فالدولار يعتبر صنفاً، والريال يعتبر صنفاً، فلو قايضتهما ببعضهما فإنه يجوز لك الزيادة؛ لأن الصنفين مختلفين، فالدولار غير الريال، ولكن كلاهما صنفان ربوي. ويدخل ذلك ربا النسيئة حين تأتي إلى الصراف فتقول: سأبيعك خمسمائة ريال سعودي، ولكني أريد أن أسافر، فأعطني مائة دولار أمريكي، فيعطيك مائة دولار، ولا تعطيه الخمسمائة، فهذا ربا النسيئة، وهو محرم. ولكن إذا أخذت المائة وأعطيته الخمسمائة، أو دونها أو فوقها -كيفما اتفقتما في الحال- يداً بيد فليس هذا رباً؛ لأن نبينا صلى الله عليه وسلم قال: (فإذا اختلفت الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بي) يعني: كله ناجز ولا يباع ناجز بغائب واضح والقسم الثالث: وربا القرض، وهو أصل الربا، وهو الذي كانت تتعامل به العرب في الجاهلية، وهو داخل في ربا الفضل والنسيئة، ولكن ميزناه ليتضح، كأن يأتي إنسان فيقرض إنساناً شيئاً، ثم يشترط عليه منفعة مقابل هذا القرض، وأكثر ما يقع في الأموال، كشخص يأتي إنسان يطلب منه مالاً فيعطيه عشرة آلاف ريال إلى ثلاثة شهور، فتنتهي المدة فيأتي الدائن إلى المدين يطلب دينه فيقول: لا أملك، فيقول: إما أن تأتي بها في الحال، وإما أن أؤخرها إلى شهر على أن تردها لي أكثر من عشرة آلاف ريال ولو ريالاً واحداً، فهذا يسمى ربا قرض، وهو الذي قال الله فيه: {لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} [آل عمران:130]، وهو الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم: (لعن الله آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه)، وقال (هم سواء) أي: هم في الإثم سواء، أخرجه مسلم من حديث جابر، وأخرجه البخاري من طريق آخر، ولكن المعنى في الصحيحين. وينجم عن ربا القرض مسألة تسمى عند العلماء قلب الدين، وهو من كبائر الذنوب، وقلب الدَّين مثاله في إنسان يعطي إنسانا قرضا ألف ريال، ويقول إلى شهر، ثم جاء بعد شهر وليس عند مدينه ألف ريال، وهو رجل مستور الحال، والذي يجده شيء لا ينفك عن قوته تقوم به حياته، كسيارة يذهب بها ويغدو على قدر مستواه الاجتماعي، وبيت صغير يسكنه، في أشياء خاصة لا يمكن أن يستغني عنها فقير ولا غني، فيأتي هذا الذي له المال إليه ويقول له: بعني هذا لشيء خاص عند هذا الرجل يحتاجه، فيأخذ الشيء الخاص، ويعطيه ألفاً، ثم يقول له: الآن رد لي الألف الذي لي عندك. فهذا يسمى قلب الدين، وهو من كبائر الذنوب كما نص عليه العلماء، ونقل عن العلامة عبد الله بن بسام رحمه الله تعالى عن شيخه عبد الرحمن بن سعدي القول بأنه من كبائر الذنوب. فهذه أصناف الربا، وكلها محرمة، ولا يوجد أحد - ولله الحمد - فيما نعلم من علماء المسلمين أباح الربا في أي قطر كان، وحين تسمع أن أحداً أباح الربا من علماء المسلمين فلا تصدق، فهذا ليس بعالم، فلا يوجد أحد يتجرأ على أن يبيح الربا، وقد تفهم أنت المسألة خطأ، والربا لا يحتاج إلى أن تقول فيه: مسألة خلافية، بل الربا محرم بالكتاب والسنة وإجماع المسلمين.

حكم التعامل مع المرابي بيعا وشراء

حكم التعامل مع المرابي بيعاً وشراءً وينجم عن الآية مسألة لها وضع خاص في عصرنا، وهو أن اليهود أكلة ربا بنص القرآن، قال تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا * وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا} [النساء:160 - 161]، وهذا كلام رب العالمين، ومع ذلك ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى شعيراً من يهودي وليس عنده مال، فرهن درعه صلوات الله وسلامه عليه عند اليهودي بعد أن اشترى منه. فالنبي عليه الصلاة والسلام تعامل مع اليهود بيعاً وشراء رغم أنهم أكلة ربا، فينجم عن هذا أنك إذا سئلت: هل يجوز التعامل مع البنوك الربوية بيعاً وشراء؟! فتجيب بأن: نعم؛ لأن اليهود كانوا أكلة ربا، والنبي صلى الله عليه وسلم اشترى منهم وباع منهم وقبل هداياهم، ما لم تعلم أن عين ما تتعامل به محرم، فلو رأيت إنساناً يسرق سيارة أمام عينيك ثم أراد أن يبيعك إياها فلا يجوز لك شراؤها. ولكن لو أن إنساناً اشترى من أي بنك بماله شراء شرعياً فالبيع جائز باتفاق المسلمين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى من اليهود، ولأن الله قال في كتابه -وهو يعلم أن اليهود حرفوا والنصارى كذلك-: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة:5]، ولن يكون طعامهم حل لنا إلا بالشراء؛ لأن طعامهم لا يؤتى به لنا على شكل هدايا، فلا بد من أن تشتريه، فأباح الله لنا أكله، فإذا أباح لنا أكله فمن باب أولى أن يبيح شراءه. وهذه المسألة نحتاج إليها كثيرا في العصر، وقد عنون الإمام البخاري في الصحيح (باب الشراء والبيع مع المشركين وأهل الحرب)، وساق حديثا فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم في سفر له اشترى قطيع غنم من رجل مشرك، فهو عليه الصلاة والسلام كان خارج المدينة في حرب مع أهل الشرك. فلو جئنا إلى ما يسمى اليوم المقاطعة فلا شك في أن المقاطعة -إذا أراد بها الإنسان قطيعة من يعين أهل الباطل وتعبد الله- بها قربة يثاب عليها بلا شك، ونحن لا نتكلم عن القربة، وإنما نتكلم عن صحة البيع وصحة الشراء، والأشياء تنزل على منازلها، ولكن الكلام بالحل أو بالحرمة توقيع عن رب العالمين، قال ابن القيم، والكلام عن رب العالمين بالحل والحرمة لا بد فيه من أن يكون على بينة، وهدي من الكتاب والسنة، ولا علاقة للعواطف به، ولن تكون أعظم ورعاً من رسولنا صلى الله عليه وسلم، فاليهود يقول الله عنهم: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ} [التوبة:30]، ويذهب النبي صلى الله عليه وسلم ليشتري من يهودي رغم أن أسواق المدينة مليئة بمن يبيعون الشعير، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يبين للأمة جواز البيع. وإذا جرنا الكلام إلى قضايا العصر فيحسن تناول قضية الاقتراض من البنوك، فالاقتراض بفائدة لا يحتاج إلى دليل؛ لأنه حرام بإجماع المسلمين، ولكن البنوك أحياناً تقول: إذا اقترضت إلى ثلاثة أشهر ورددت القرض فإنا لا نطلب منك فائدة، فإذا لم تستطع ردها أخذنا منك فائدة، وهذا حكمه كالأول سواء بسواء، فمجرد توقيع العقد -ولو كنت قادراً على السداد قبل نهاية العقد- يعتبر عقداً ربوياً يدخل في اللعن الذي لعن النبي صلى الله عليه وسلم صاحبه. فالتعامل مع البنوك بقرض أو إيداع الأموال عندهم لتعود إليك بفائدة هو من الربا الملعون صاحبه على لسان نبينا صلى الله عليه وسلم، والمحرم في كتاب الله وسنة نبيه وإجماع المسلمين.

عموم حرمة كل مال باطل

عموم حرمة كل مال باطل قال تعالى: {وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ} [النساء:161]، أكل أموال الناس بالباطل عام، وقلنا: إن هذا من باب عطف عام على خاص، فكل شيء تتوصل إليه بالباطل محرم، سواء أوصلت إليه بالرشوة أو بالسرقة أو بالاختلاس أو بالنهب، أو بأي طريق من طرائق الباطل، فإنه يعتبر محرماً.

تفسير قوله تعالى: (لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون)

تفسير قوله تعالى: (لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون) ثم قال سبحانه: {لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أُوْلَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء:162]، (لَكِنِ) -عند النحويين- حرف ينصب الاسم ويرفع الخبر، ولكنها هنا خففت، والأصل أنها مشددة، فلما خففت جاز فيها عدم الإعمال، فأصبحت تعني الانتقال من جملة إلى جملة، أي: تفيد الإضراب، وهو الانتقال من حال إلى حال، فلا تعمل ولا تؤثر فيما بعدها عملا، فـ (الراسخون) مبتدأ. وقوله تعالى: (منهم) أي: من أهل الكتاب، وهذا يدخل فيه عبد الله بن سلام ومن آمن من اليهود والنصارى، ((وَالْمُؤْمِنُونَ)) المقصود: به المهاجرون والأنصار أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ((يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ)) أي: القرآن {وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} [النساء:162] أي: جميع الكتب {وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ} [النساء:162] المتباد إلى الذهن أن تكون (والمقيمون) مثل (المؤتون) و (المؤمنون) بعدها، ولكنها جاءت {وَالْمُقِيمِينَ} [النساء:162]، وفي قراءة (والمقيمون)، ولكن الكلام هنا عن القراءة التي بين أيدينا {وَالْمُقِيمِينَ} [النساء:162]، وللعلماء فيها ستة تخريجات، وأحد هذه التخريجات أنها منصوبة على الاختصاص لبيان التعظيم والتفخيم، فيصبح المعنى: وأخص المقيمين الصلاة، ليبين أهميتها في الدين وأنها أمر عظيم، وهذا تخريج إمام النحاة سيبويه وعليه أكثر العلماء. قال تعالى: {أُوْلَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء:162]، نكر الله كلمة (أجر) هنا لبيان التفخيم؛ لأنه لا يعلم ما لهم من أجر إلا الله، قال سبحانه: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17]. هذا ما أردنا الوقوف عنده، وحاصل ما ذكرنا أنا تكلمنا عن اليهود، وتكلمنا عن النصارى في سورتي آل عمران وسورة النساء. وقلنا إجمالاً: إن اليهود يزعمون أنهم قتلوا المسيح ابن مريم، ويفخرون بذلك، والنصارى وتدعيه، ولكنها تقول: إن هذا خلاص للبشرية، وكلا الفريقين ضال، فإن عيسى ابن مريم لم يقتل ولم يصلب؛ بل رفعه جل وعلا إليه {وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء:158]، وسينزل آخر الزمان حكما عدلا مقسطا. هذا ما انتهى إليه الدرس، والله تعالى أعز وأعلى وأعلم، وصلى الله على محمد وعلى آله.

سلسلة تأملات قرآنية [7]

سلسلة تأملات قرآنية [7] النبوة اصطفاء واختيار من الله تعالى، يمن بها على من يشاء من عباده، وقد ذكر الله تعالى جملة من الأنبياء والرسل الذين منّ الله عليهم بهداه، واصطفاهم لحمل رسالته، وسماهم بأعيانهم، وفي حياتهم ذكرى للذاكرين وعبرة وعظة للمتقين.

حاجة السائر إلى الله إلى المنهج والقدوة

حاجة السائر إلى الله إلى المنهج والقدوة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خلق فسوى وقدر فهدى وأخرج المرعى فجعله غثاء أحوى، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، بلغ عن الله رسالاته ونصح له في برياته، فجزاه الله بأفضل ما جزى به نبينا عن أمته، وصلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد: فحديثنا في هذا الدرس إكمال لما فسرناه من كتاب ربنا في الدرس الماضي، وقد وقفنا عند قول الله عز وجل: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا * وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا * رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء:163 - 165]. فهذه الثلاث الآيات هي التي سيدور عليها الحديث في هذا اللقاء المبارك إن شاء الله تعالى. فنقول مستعينين بالله تعالى: إن الإنسان وهو يسير إلى ربه لا بد له من منهج يسير عليه، ولا بد له في نفس الوقت من أئمة يقتدي بهم، وحتى يكون المسير إلى الله جل وعلا حقاً على بينة وعلى صراط مستقيم لا بد من أن يكون المنهج الذي نسير به من لدن ربنا، وإلا فلن نستقيم في السير على صراطه ولا في الطريق إليه. الأمر الثاني: ينبغي أن يكون القدوة والإمام الذي نضعه نصب أعيننا أن يكون معصوماً حتى لا تختلف علينا الأهواء، ولا معصوم إلا أنبياء الله ورسله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، ولذلك عندما يحتج الإنسان وهو يتحدث أو يعمل بفعل الأنبياء والمرسلين لا تجد لأحد طريقاً عليه؛ لأن الله جل وعلا عصم الأنبياء والمرسلين من الزيغ ومن الضلال، فهم عليهم الصلاة والسلام لا يصدرون عن آرائهم، إنما يصدرون عن وحي الله جل وعلا إليهم، فإذا اجتهدوا في أمر ليس فيه وحي فإن الله جل وعلا لا يقرهم على خطأ إذا أخطئوا، فإن نبينا عليه الصلاة والسلام أعرض عن عبد الله بن أم مكتوم، فنزل القرآن يعاتبه: {عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى} [عبس:1 - 2] وأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون له أسرى يوم بدر واستشار أصحابه، فأنزل الله: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ} [الأنفال:67] إلى غير ذلك من الدلائل التي لا تحتاج إلى كثير شواهد وعظيم قرائن. والمقصود أن الله جل وعلا قص في كتابه الكريم بعضاً من أخبار رسله وطوى بعضها عن نبينا صلى الله عليه وسلم وعنا.

تفسير قوله تعالى: (إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده)

تفسير قوله تعالى: (إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده)

الفارق بين الأنبياء والمصلحين

الفارق بين الأنبياء والمصلحين وفي الآيات التي بين أيدينا يتكلم الله جل وعلا عن جملة من أنبياء الله ورسله ممن اصطفاهم الله، وكل المذكورين في هذه الآية هم رسل وليسوا أنبياء فقط، أي: بعثوا إلى أقوام ودعوا إلى الله جل وعلا بشرع جديد، فهؤلاء الرسل أوحى الله جل وعلا إليهم، فقال سبحانه: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} [النساء:163]، والوحي هو الفارق الأعظم بين الأنبياء وبين المصلحين من البشر، فنحن نعترف بأن البشرية شهدت علماء ومصلحين وقادة عبر تاريخها الطويل في كل الأمم، ولكن هؤلاء القادة والمصلحين والأئمة في أي ملة لن يسلموا من خطأ؛ لأنهم غير موحى إليهم وليسوا بمعصومين. وأما أنبياء الله ورسله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين فإن الوحي كفل لهم العصمة فهذا هو الفارق العظيم بين أنبياء الله ورسله وبين من شهدتهم البشرية عبر تاريخها الطويل، فنحن نسمع بـ سقراط وأرسطو، وأفلاطون في الحضارة اليونانية وغيرهم، وكان كثير منهم ذوي عقول وحكمة، فأسسوا حضارة، ولكنها لم تسلم -ولن تسلم- من زلل ما دامت جهداً بشرياً، أما جهد أنبياء الله ورسله فهو فرقان ووحي ينزل من الله لا يقبل أنصاف الحلول لأنه من لدن حكيم خبير. قال الله جل وعلا في حق نبيه صلى الله عليه وسلم {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3 - 4]. والآن نأتي لذكر الأنبياء، وسنقف على مجمل سيرتهم عبر ما ذكره الله جل وعلا، فمنهم من مر معنا في دروس سابقة، فلا حاجة إلى التكرار، ومن لم يمر معنا سنقف عنده لنتبين بعض سيرة حياته وكيف نقتدي به، مع البيان الشافي في أنهم جملة بعثوا بدين واحد، وهذه أهم قضية، ولذلك قال الله: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [البقرة:285].

بيان معنى قوله تعالى (إنا أوحينا إليك)

بيان معنى قوله تعالى (إنا أوحينا إليك) يقول تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} [النساء:163]. قوله: (إنا) هذا كلام رب العزة، والنون لتعظيم الرب جل جلاله، كما تسمع في الأوامر الملكية قول الملك: نحن فهد بن عبد العزيز ملك المملكة العربية السعودية، ثم يأتي الأمر، فـ (نحن) للجماعة، ولكنها تقال في السياق اللغوي للتعظيم، ويجوز إطلاقها على البشر، ويجوز إطلاقها على الله، ولكنها في حق الله -بلا شك- أعظم منها في حق البشر، كما يقال: فلان حكيم، والله جل وعلا حكيم، ولكن هناك فرق بين حكمة العباد وحكمة رب العباد جل جلاله، فإن اتفقا في المسمى فإنهما لا يتفقان في دقائق الوصف. وقوله تعالى: (وأوحينا) أسند فيه الفعل (أوحى) إلى نا الدالة على الفاعلين لبيان العظمة لأهلها. وقوله تعالى: {أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} [النساء:163] المخاطب هنا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، مع اليقين بأنه صلى الله عليه وسلم آخر الأنبياء، ولكنه قدم هنا لعلو شرفه، وجليل منزلته، ولأنه أفضل الأنبياء بلا شك، ولأنه سيد الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. والفائدة من هذا تتعلق بمن خطب أو ألقى محاضرة أو أراد أن يقول درساً، فإنه يقول: وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله آخر الأنبياء في الدنيا عصراً وأولهم يوم القيامة شأناً وذكراً. فهو آخر الأنبياء في الدنيا عصراً من حيث الزمن، وفي الحديث: (أنا آخر النبيين وأنتم آخر الأمم) وهو أولهم يوم القيامة وأرفعهم شأناً وذكراً صلوات الله وسلامه عليه. يقول تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} [النساء:163]، ثم جاء بكاف التشبيه فقال تعالى: (كما) أي: كالذي (أوحينا).

نبوة نوح عليه السلام

نبوة نوح عليه السلام ثم ذكر الله جملة من الأنبياء سيأتي بيانهم على التفصيل فقال تعالى: {كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} [النساء:163] فنوح أول رسل الله جل وعلا إلى الأرض، وقد أثنى الله جل وعلا عليه في القرآن وأسماه عبداً شكوراً. والأصل أن الله خلق الناس على فطرة واحدة منذ أن كان أبوهم آدم عليه السلام، فمكثوا على هذا الحال -كما يقول ابن عباس وجمهرة المؤرخين- عشرة قرون، ثم اجتالتهم الشياطين فصرفتهم عن طاعة الله، فبعث الله جل وعلا أول رسول، وهو نوح، والدليل على أنه أول الرسل ثابت في السنة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر قيام الناس وحديث الشفاعة قال: (إن الناس يأتون نوحاً فيقولون: يا نوح! أنت أول رسل الله إلى الأرض، وسماك الله في كتابه عبدا شكوراً) فهو أول رسل الله بالاتفاق، وهو أطول الأنبياء عمراً، عاش ألفاً وتزيد، قيل: ألف ومائة وخمسون، وما ذكره الله جل وعلا في كتابه في قوله: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا} [العنكبوت:14] فهو العمر الدعوي وليس عمر حياته كلها، فقول الله: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا} [العنكبوت:14] أي: يدعو إلى الله، بدليل أن الله قال بعدها: {فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ * فَأَنجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ} [العنكبوت:14 - 15] فهذه دلالة على أن نوحاً عاش بعد هذه المدة، ويحسب معها المدة التي كانت قبل أن ينبأ صلوات الله وسلامه عليه، والمقصود أنه شيخ المرسلين، وهو الأب الثاني للبشر، والأب الأول للأنبياء بعد آدم صلوات الله وسلامه عليهم.

نبوة إبراهيم عليه السلام

نبوة إبراهيم عليه السلام ولم يذكر الله جل وعلا النبيين بعد نوح، ثم قال: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ} [النساء:163]. فذكر الله إبراهيم، وقد مرت معنا سيرته، وهو الأب الثاني للأنبياء، ويطلق عليه (أبو الأنبياء) من باب التجوز، فإذا قيل: (أبو الأنبياء) أريد بها إبراهيم، وإذا قيل: (شيخ الأنبياء) أريد بها نوح، وإذا قيل: (كليم الله) أريد بها موسى، مع أن الله كلم محمداً وكلم آدم، وإذا قيل: (شيخ المرسلين) انصرف ذلك إلى نوح؛ لأنه الأب الأول للأنبياء، ولأنه أطولهم عمراً، وإذا قيل: (أبو الأنبياء) انصرف ذلك إلى إبراهيم؛ لأن جميع الأنبياء بعده كانوا من ذريته، قال الله تعالى: {وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ} [العنكبوت:27] وهذا يفيد الحصر، إلا أنه يشكل عليه أن لوطاً ابن أخي إبراهيم.

ذكر نبوة إسماعيل وبعض خبره

ذكر نبوة إسماعيل وبعض خبره قال تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ} [النساء:163] وإسماعيل هو الابن الأكبر لإبراهيم من زوجته هاجر، وهاجر كانت جارية عند سارة، فجارية أمة وسارية حرة، وحين لم تنجب سارة أهدت إبراهيم هاجر، فلما ولدت إسماعيل أصابها ما يصيب النساء من الغيرة، فما طاقت أن تمكث هي وهاجر في مكان واحد، فهاجر إبراهيم بزوجته هاجر وابنه إسماعيل إلى واد غير ذي زرع، أي: إلى مكة، ووضعهما في مكة بأمر الله كما في القصة المشهورة، وتركها ورجع إلى مصر إلى زوجته سارة، فلما رجع إلى سارة أنجبت له سارة إسحاق، وجاء في الآية: {وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} [النساء:163] فصار إسحاق الابن الثاني لإبراهيم. ولما ترك إبراهيم إسماعيل وأمه في واد غير ذي زرع -وهو مكة اليوم- لم يترك معهما إلا شيئاً يسيراً من زاد وماء، ثم فني الاثنان، فلما فني الاثنان بعثت ماء زمزم من تحت قدمي إسماعيل. ووجود الماء يجلب القبائل، فجاءت قبيلة جرهم، وهي قبيلة قحطانية من العرب العاربة، فتزوج منهم إسماعيل بعدما شب وبلغ مبلغ الرجال، وبعدما تزوج منهم ماتت أمه قبل أن يأتي أبوه، ثم مكث ما شاء الله فجاء إبراهيم يبحث عن زوجته وابنه، فلما جاء عرف أن الأم توفيت، أي: والدة إسماعيل، فسأل عن ابنه، وكان إسماعيل وقتها في الصيد، فلما دخل على المرأة الجرهمية التي تزوجها إسماعيل في أول الأمر سألها عن إسماعيل فقالت: خرج يصطاد لنا، فسألها عن حالهم فذكرت عسراً ولم تحسن الخطاب وقالت: نحن في ضيق وشدة وكرب، ولم تذكر شيئاً حسناً. فقال لها: إذا جاء إسماعيل فاقرئيه مني السلام وقولي له: غيّر عتبة بابك. فجاء إسماعيل من الصيد فكأنه آنس شيئاً فقال لزوجته: هل من خبر؟ فأخبرته القصة، وأخذت تصف إبراهيم وهي لا تدري أنه والد إسماعيل، فقال: أخبرك بشيء؟ فأخبرته بالقصة فقال: ذاك أبي، وقد أمرني أن أطلقك، فالحقي بأهلك، ثم تزوج امرأة أخرى من جرهم؛ لأنه ما كان هناك قبيلة إلا جرهم، فلما تزوج جاء إبراهيم بعدها بفترة، وكان إسماعيل في الصيد، فقابل الزوجة الجديدة فقال لها: أين إسماعيل؟ قالت: في الصيد، فسألها عن حالهم فأخبرته بأنهم بأحسن حال، فدعا لهم بالبركة وقال: إذا جاء زوجك فأقرئيه مني السلام وقولي له: ثبِّت عتبة بابك، لما جاء إسماعيل سأل زوجته؟ أخبرته الخبر، فقال: ذاك أبي وقد أمرني أن أبقي عليك، ثم جاء في المرة الثالثة وحصل ما حصل من بناء الكعبة. وقد نعت إسماعيل في القرآن بأنه كان {يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ} [مريم:55] وأنه كان صادق الوعد. فإسماعيل كان يحث أهله على الصلاة، وهذا أعظم الفوائد في هدي الأنبياء، فحث الأبناء على الصلاة هدي الأنبياء. فالإنسان وهو يوقظ أهل بيته يتذكر هذه الآية ويتلوها: {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ} [مريم:55] ويأمر أهله بالصلاة وينادي عل الملكين أن يكتباها له.

بيان المراد بالأسباط

بيان المراد بالأسباط قال تعالى: {وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ} [النساء:163]. الأسباط: جمع سبط، والأظهر أنهم أولاد يعقوب عليه الصلاة والسلام، وإذا قلنا: إنهم أولاد يعقوب فهم إخوة يوسف عليه السلام، وقيل: إن الأسباط في بني إسرائيل كالقبائل في العرب، وهذا أظهر ما قيل في الأسباط، فهم إخوة يوسف، وقد تاب الله جل وعلا عليهم، وهناك أقوال غير ذلك.

فائدة تقديم ذكر عيسى عليه السلام

فائدة تقديم ذكر عيسى عليه السلام قال تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى} [النساء:163] والأصل أن عيسى في الترتيب ليس بعد يعقوب والأسباط، وإنما هو آخر الأنبياء قبل نبينا صلى الله عليه وسلم، وفي هذا فائدتان: الفائدة الأولى: أن الله ذكر عيسى مقدماً هنا لأن الخطاب موجه للنبي عليه الصلاة والسلام وهو يخاطب بني إسرائيل، وقد سبق أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجادل نصارى نجران، والآيات قريبة مما قبلها، فتقديم عيسى هنا لمناسبة الآية لما قبلها. الفائدة الثانية: أن عيسى عليه السلام إذا لم يكن الأول فهذا دليل على أن الواو العاطفة لا تفيد الترتيب، وإن كان في المسألة أقوال للعلماء.

ذكر خبر أيوب عليه السلام

ذكر خبر أيوب عليه السلام قال جل وعلا: {وَعِيسَى وَأَيُّوبَ} [النساء:163] وأيوب من ذرية يعقوب، أي من بني إسرائيل، وقد جعله الله جل وعلا قدوة ومثالاً وموعظة للصابرين، وهو عبد صالح ونبي مرسل بنص القرآن كما في هذه الآية. فهذا النبي ابتلاه الله جل وعلا بعد أن كان حسن الخلقة بمرض في الظاهر والباطن، ومكث في المرض عليه الصلاة والسلام ثمانية عشر عاماً هو صابر محتسب، حتى كان ذات يوم فقد أبناءه، وفي هذه الفترة فقد بعض أهله، وتخلى الناس عنه، ولم يبق له إلا صاحبان وزوجته، وكانت بارة به، فغضب عليها مرة فحلف بالله أن يضربها -إن شفاه الله- مائة جلدة، والإنسان مع المرض يحدث منه أشياء عاجلة. فبقي له صاحبان فخرجا من عنده ذات يوم وأخذا يتحدثان فيه، كما رواه أبو يعلى والحاكم في مستدركه بسند صحيح، وصححه العلامة الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، فخرجا من عنده ثم أخذا يتحدثان عنه، فقال أحدهما للآخر: ألا ترى أن أيوب قد أذنب ذنباً عظيماً؟! وإلا فكيف يمكث ثمانية عشر عاماً ولم يشفه الله؟! لتعرف أن الناس في تقبلها للآخرين يبقى تصورها ضيقاً، والأمور مردها إلى الله، ولا يمكن أن يعطى إنسان العلم كله. فهذا صاحبان حميمان ومع ذلك يقولان عنه هذا القول وهو نبي مرسل، فلما رجعا إليه ما صبرا، فأخبراه فقالا: إنا تحدثنا في شأنك وقلنا: إنك أذنبت ذنباً عظيماً، وإلا فإنه لا يعقل أن تمكث في البلاء ثمانية عشر عاماً ولا يشفيك الله. فقال عليه السلام: لا أدري ما تقولان، إلا أنني أمر على الرجلين يتنازعان فيحلف الاثنان بالله، فأعلم أن أحدهما كاذب؛ لأنه لا يعقل أن يصدق الاثنان وهما متنازعان، فأذهب إلى بيتي فأكفِّر عن أحدهما كراهية أن يذكر الله إلا بحق، فخرجا من عنده. وكان إذا أراد أن يقضي حاجته تذهب معه زوجته، فأخذته مرة ليقضي الحاجة وأوصلته إلى منتهى المكان الذي يريد أن يقضي فيه الحاجة وتركته، ثم انتظرته كالعادة، وفي الطريق أصابه ما أصابه من الهم، فسأل الله جل وعلا، كما قال الله: {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء:83] وفي آية (ص) {أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} [ص:41] ففجر الله من تحته عيناً وقال له: اشرب واغتسل، كما قال تعالى: {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ} [ص:42] فركض {هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} [ص:42] فشرب فبرئ باطنه، وكل وجع داخلي انتهى، واغتسل فبرئ ظاهره، فأصبح تام الخلقة حسن الوجه، فرجع معافى إلى زوجته، ولكنها لم تعرفه، فقالت: يا فلان! أمر بك هذا النبي المبتلى، فوالله إنه عندما كان غير مريض كان من أشبه الناس بك! فقال لها: أنا نبي الله أيوب، ورجع معها صلوات الله وسلامه عليه. فمكثه ثمانية عشر عاماً من أعظم وأجل أنواع الصبر، ولذلك لما نعته الله جل وعلا في القرآن قال: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص:44] قال العلماء والربانيون: إن {نِعْمَ} [ص:44] ثناء من الله ليس بالأمر الهين، فلا يقول الرب الجليل جل جلاله عن أحد عباده: (نعم العبد) إلا لعلم الله بسريرة ذلك العبد وأنه أهل لهذا الثناء والمدح الإلهي، وقد من الله على أيوب عليه الصلاة والسلام بهذا العطاء، وزيادة في الخير له كان له أندران -أي: بيادر كبيرة- فيها قمح وشعير، فجاءت سحابتان، فأفرغت إحداهما على مكان القمح ذهباً، وأفرغت الأخرى على مكان الشعير فضة فضلاً من الله جل وعلا عليه وإكراماً لصبره صلوات الله وسلامه عليه. ومن مات من ذريته وأولاده وأهله أحياهم الله جل وعلا إكراماً له، فالله إذا أعطى لا يسأله أحد عما يفعل، قال سبحانه: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا} [الأنبياء:83 - 84] فهذه لأيوب {وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ} [الأنبياء:84] أي: لمن صنع في صبره صنيع أيوب.

ذكر خبر يونس عليه السلام

ذكر خبر يونس عليه السلام ثم قال الله تعالى: {وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ} [النساء:163]. ويونس هو يونس بن متى عليه الصلاة والسلام، بعثه الله جل وعلا إلى أرض نينوى من أهل الموصل، وبلاد الموصل في أرض العراق حالياً، فهذا النبي خرج مغاضباً في قصة مشهورة، قال الله جل وعلا عنه: {وَذَا النُّونِ} [الأنبياء:87] أي: وصاحب الحوت {إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:87]، وجاء في السنة -كما في البخاري وغيره- أنه صلى الله عليه وسلم قال: (لا يقل أحدكم: أنا خير من يونس بن متى). وهذا الحديث مشكل؛ لأن له مفهومين: المفهوم الأول: أن تكون (أنا) في قوله عليه الصلاة: (لا يقل أحدكم: أنا) عائدة على النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا قلنا يصبح المعنى: لا يفضِّل أحد بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين غيره من الأنبياء. وهذا بعيد في ظني؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام أفضل من كل الأنبياء، ولا حاجة لذكر يونس وحده. والرأي الثاني -وهو الأرجح- أن معناه: لا يقل أحد من الناس عن نفسه حين يرى صلاحه وتقواه وصلاته وصيامه: إنه أفضل من يونس. والذي يدفع الناس لأن يقول أحدهم: أنا أفضل من يونس هو ما ذكره الله جل وعلا عن يونس من نوع عتاب؛ فإن الله قال في كتابه: {وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ} [القلم:48]، فقالوا: هذه الآية تشعر بأن يونس ليس بذلك الكمال، فيأتي إنسان يرى في نفسه الكمال العظيم فيظن أنه خير من يونس، فقال عليه الصلاة والسلام حسماً للباب: (لا يقل أحدكم: أنا خير من يونس بن متى) فيونس نبي مرسل أرسله الله إلى أهل نينوى من أرض الموصل في العراق اليوم.

ذكر نبوة هارون عليه السلام

ذكر نبوة هارون عليه السلام ثم قال سبحانه: {وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ} [النساء:163]. هارون هو الأخ الأكبر لموسى، وكان فرعون قد أمر بقتل الذكور المواليد من بني إسرائيل، فاشتكى إليه الأقباط أنه إذا أفنى بني إسرائيل لا يبقى لهم خدم، فأصبح يقتلهم عاماً ويبقيهم عاماً، فولد هارون في العام الذي لا قتل فيه، وولد موسى في العام الذي فيه قتل، فهارون كان أكبر من موسى، وجعله الله جل وعلا رسولاً نبياً بشفاعة موسى، قال الله: {وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا} [مريم:53]، وقال الله عن موسى: {وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا} [الأحزاب:69] وجاء في حديث الإسراء والمعراج أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ورأيت رجلاً تكاد تلامس لحيته سرته، قلت: من هذا يا جبرائيل؟ قال: هذا المحبب في قومه، هارون بن عمران) وكان هارون سمحاً ليناً، ولذلك كان محبباً في بني إسرائيل، وافترقت بنو إسرائيل على ولايته لما ذهب موسى يكلم ربه كما سيأتي.

ذكر نبوة سليمان عليه السلام

ذكر نبوة سليمان عليه السلام ثم قال الله: {وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ} [النساء:163]. سليمان عليه السلام هو ابن داود، وسيأتي ذكر داود عليه السلام. وأما سليمان قد من الله جل وعلا على سليمان بأن استجاب دعاءه عندما قال: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [ص:35]، فإذا جئت تسأل الله فلا تسأله على قدر ما تظنه في الناس، ولكن اسأل الله على قدر ما تظنه في ربك، فالله جل وعلا أعظم مسئول، فسليمان عليه السلام كان يفقه هذا جيداً، فلما سأل ربه سأله على قدر ما يعلمه عنه تعالى، فنحن نسأل الله على قدر علمنا بعظمة ربنا وجلال قدرته، وعلمنا أن خزائنه لا تنفد سبحانه وتعالى، فهذا النبي الصالح قال: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [ص:35] فمنَّ الله جل وعلا عليه وأعطاه ما سأل، قال تعالى: {فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ} [ص:36] حتى أصبح في الأمثال يقال: (ملك سليمان)، كناية عن الملك العظيم الذي لا يعطى لأي أحد، وهذا فضل من الله جل وعلا عليه.

ذكر نبوة داود عليه السلام وعبادته

ذكر نبوة داود عليه السلام وعبادته ثم قال سبحانه: {وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا} [النساء:163] وداود هو والد سليمان عليهما السلام، وهذا دلالة كذلك على أن الواو لا تعني الترتيب، وإن كانت هنا قد تكون واواً استئنافية. وداود أحد أنبياء بني إسرائيل، وهو الذي يسمى عند النصارى اليوم (ديفيد) فـ (كامب ديفيد) معناها (مخيم داود)، وهو أحد أعظم أنبياء بني إسرائيل، وعلى يديه قتل جالوت، وآتاه الله الكتاب والحكم والنبوة كما قال جل وعلا. ولما مسح الله جل وعلا -كما عند الترمذي بسند صحيح- على ظهر آدم، وخرج من ظهر آدم ذريته رأى آدم كل نسمة كائنة من ذريته إلى يوم القيامة، فرأى فيهم غلاماً أزهر فيه وبيص، أي: نور بين عينيه، فقال: يا رب! من هذا؟ فقال له ربه: هذا رجل من ذريتك يكون في آخر الزمان يقال له: داود، فقال: كم جعلت عمره؟ قال: ستين عاماً، فقال: يا رب! زده أربعين. فقال الله: لا إلا أن يكون من عمرك. فوافق آدم، وكان الله قد جعل عمر آدم ألف عام، فلما جاء ملك الموت ليقبض آدم نسي آدم أنه أعطى ابنه داود أربعين عاماً، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فنسي آدم فنسيت ذريته، وجحد آدم فجحدت ذريته) فأتم الله الألف لآدم والمائة لداود. قال الله تعالى عن دود: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص:17] أي: جمع الله له قوة القلب وقوة البدن في الطاعة، فالإنسان أحياناً يكون عنده رغبة في الطاعة، ولكن الكسل يكون بدنياً كمهدود، أو رجل كبير، أو شاب مريض، أو قادم من عمل مظن متعب، فالرغبة لا يطيقها البدن. وأحياناً يكون الإنسان في عافية وقدرة ولكن ليس له عنده قلب يريد أن يقوم الليل. فاجتمع في داود قوة القلب على الطاعة وقوة البدن، وهذا من أفضال الله جل وعلا على عباده. وقد من الله عليه بخصلتين: حسن الصلاة وحسن الصيام، قال النبي صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيحين-: (أحب الصلاة إلى الله صلاة داود: كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه). فإذا كان أذان المغرب في السادسة وكان أذان الفجر في الرابعة فإن مقدار الليل هو تسع ساعات، فإذا أراد أحد تطبيق سنة داود عليه السلام فإنه إن نام بعد العشاء بعد ساعتين من دخول المغرب سينام ثلاث ساعات ونصفاً، فسيقوم في الساعة الثانية عشرة والنصف، فيصلي إلى الساعة الثالثة وخمس وعشرين دقيقة، وهذه قلما يطيقها أو يفعلها أحد في عصرنا مرة في العمر، وكان النبي يفعل ذلك كل ليلة. وقال صلى الله عليه وسلم: (وأحب الصيام إلى الله صيام داود: كان يصوم يوماً ويفطر يوماً) وتمام الحديث -وهو في الصحيحين-: (وكان لا يفر إذا لاقى) أي: أنه كان يجاهد في سبيل الله ولا يفر صلوات الله وسلامه عليه. وقد أعطاه الله جل وعلا حسن الصوت، ولذلك لما سمع النبي عليه الصلاة والسلام أبا موسى الأشعري قال: (أُعطي مزماراً من مزامير آل داود) إذا قرأ الزبور، والزبور هو الكتاب الذي أعطى الله داود، والزبور كله مواعظ، وقال بعض العلماء: ليس فيه حكم شرعي، وإنما هو كله رقائق ومواعظ تذكر بالله، فكان يتلوه بصوت حسن فتجتمع الطير لصوته وقراءته للزبور، وبعضها قد يموت جوعاً وينسى الأكل وهو مؤتلف منسجم مع ترتيل داود عليه السلام.

بيان معنى قوله تعالى (وآتينا داود زبورا)

بيان معنى قوله تعالى (وآتينا داود زبوراً) قال الله تعالى: {وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا} [النساء:163]، والزبور في اللغة: الكتاب المجموع بعضه إلى بعضه، وهو الكتاب الذي أنزله الله جل وعلا على داود، وقلنا: إنه مواعظ وحكم. وأذكر هنا فائدة أدبية لأريك الفرق بين الناس، وهي أن الفرزدق أبو فراس الشاعر الأموي كان من أهل الفسق، فجاء ذات يوم إلى مسجد يقال له: مسجد بني زريق في الكوفة، وهذا المسجد كان يجلس عنده الشعراء ينشدون الشعر، فذكر رجل شعراً لـ لبيد بن ربيعة، لبيد له معلقة يقول فيها: عفت الديار محلها فمقامها بمنى تأبد غولها فرجامها وفيها بيت يقول: وجلا السيول عن الطلول كأنها زبر تجد متونها أقلامها أي: أن السيل عندما يأتي يمسح الوادي، فكأنه يعيد كتابته من جديد، فهذا الشاعر كان واقفاً يتكلم، فمر الفرزدق فسمعه يقول: وجلا السيول عن الطلول كأنها زبر تجد متونها أقلامها فسجد الفرزدق، فلما رفع رأسه قالوا: ما هذا يا أبا فراس؟ قال: أنتم تعرفون جيد القرآن فتسجدون وأنا أعرف جيد الشعر فأسجد له. فهذا أمر يبين لك أن عقلية الناس تختلف من شخص إلى شخص، فـ الفرزدق لا ينقصه ذكاء، وإلا فلن يقول ذلك الشعر، ولكن لا يوجد له قلب يتعلق بالآخرة. وكلما كان قلبك أخروياً ربطته بالآخرة، فقد روي أن سليمان بن عبد الملك خرج ومعه عمر بن عبد العزيز واضعاً يده في يد أمير المؤمنين سليمان يمشيان فحصل رعد وبرق، فانتفض سليمان، فلما رأى البرق والرعد قال عمر: يا أمير المؤمنين! هذا صوت رحمته، فكيف بصوت عذابه؟! فربط -رحمه الله تعالى- المسألة بالآخرة مباشرة. فأنت تلقي الكلام وتلقي الخطاب ويختلف حال السامعين من زيد إلى عمرو؛ لأن الناس يتفاوتون في إدراك الأشياء بحسب قلوبهم.

تفسير قوله تعالى: (ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل)

تفسير قوله تعالى: (ورسلاً قد قصصناهم عليك من قبل) ثم قال سبحانه: {وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء:164]. يقول الله لنبيه: هؤلاء رسل قصصناهم عليك، وممن قصهم الله جل وعلا: صالح وشعيب وهود، وهم غير مذكورين في هذه الآية: {وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ} [النساء:164] فلم نعرفهم؛ لأن الله لم يقصهم على نبيه.

بيان معنى قوله تعالى (وكلم الله موسى تكليما)

بيان معنى قوله تعالى (وكلم الله موسى تكليماً) قال تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء:164] وإفراد موسى هنا بالذكر تشريف له صلوات الله وسلامه عليه، فموسى أعظم أنبياء بني إسرائيل، وهو كليم الله وصفيه، قال الله عنه: {إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي} [الأعراف:144] وفي اللغة شيء يسمى مفعولاً مطلقاً، ويأتي على ثلاثة أنواع: إما مبيناً للعدد، وتقول: ضربت فلاناً ستاً، أي: ست ضربات، وإما مبيناً للنوع، فتقول: أكرمت زيداً إكراماً كثيراً، وإما أن يأتي مؤكداً حدوث الفعل، كما في هذه الآية: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء:164] فهذا تأكيد أن الله كلم موسى، أما كيف كلمه فلا ندري، ولكن كلمه بلا شك، وهناك فِرَقاً حادت عن الصواب وقالت: إن الله لم يكلم موسى. وكلم الله موسى في بدء النبوة عندما خرج من أرض مدين، فكلمه الله عند جبل الطور، وكان لا يدري أنه نبي ولا يدري أنه رسول. وكلمه الله جل وعلا عندما واعده تبارك وتعالى، قال تعالى: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ * وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي} [الأعراف:142 - 143].

ذكر اعتقاد المعتزلة في الرؤية

ذكر اعتقاد المعتزلة في الرؤية وقوله: {لَنْ تَرَانِي} [الأعراف:143] فيه فوائد مهمة، و (لن) للنفي، وقد ظهرت فرقة يقال لها: المعتزلة تقول: إن الله جل وعلا لا يرى في الآخرة! ومن حججهم هذه الآية، يقولون: إن الله قال لموسى: {لَنْ تَرَانِي} [الأعراف:143] بمعنى: لن تراني أبداً. فقالوا: يستحيل أن يُرى الله في الآخرة، ونحن -معشر أهل السنة- نؤمن بأن الله جل وعلا يُرى في الآخرة؛ لدلالة الكتاب ودلالة السنة، قال الله جل وعلا: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23]، وقال صلى الله عليه وسلم: (إنكم سترون ربكم يوم القيامة كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته) والحديث في الصحيحين وفي غيرهما. والمعتزلة فرقة ظهرت في أواخر القرن الأموي، وعظم قولها وسلطانها في عصر بني العباس أيام المأمون والمعتصم. قلنا المعتزلة ماذا؟ فرقة ويقوم مذهب المعتزلة على خمسة بنود: التوحيد، والعدل، والوعد والوعيد، والمنزلة بين المنزلتين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حسب فهمهم.

ذكر سبب تسميتهم بالمعتزلة

ذكر سبب تسميتهم بالمعتزلة وقد قيل في تسميتهم بالمعتزلة: إن الحسن البصري كان يدرس في حلقة، فجاءه رجل يسأله فقال: يا أبا سعيد! ما تقول في مرتكب الكبيرة؟ وكان الناس يومها في جدال صراع في كون مرتكب الكبيرة يكفر أو لا يكفر؟ فكان الخوارج يقولون: إن مرتكب الكبيرة يكفر كفراً أكبر مخرجاً من الملة، فيستبيحون قتله، وأهل السنة يقولون: إن مرتكب الكبيرة فاسق، ولكن الكبيرة لا تخرجه من الملة، ولذلك لا يستبيحون قتله. فجاء رجل يسأل الحسن البصري وكان من أعلام الناس، فأجاب الحسن، فانبرى رجل في الحلقة اسمه واصل بن عطاء -وهو أعظم من أسس مذهب الاعتزال- فقال: هو في منزلة بين المنزلتين. وقام وجلس بجوار سارية ليشرح معنى المنزلة بين المنزلتين، وأي إنسان يقوم ليشرح شيئاً بعد عضبه من أحد فإنه لا بد أن يتجه إليه واحد أو اثنان ليعلموا تصرفه، فقال الحسن: اعتزلنا واصل. فسموا بالمعتزلة.

ضلال واصل بن عطاء في تقريرات معتقده

ضلال واصل بن عطاء في تقريرات معتقده فقرر واصل مذهب الاعتزال، من أفصح خلق الله رغم أنه كان فيه لثغة فلا يستطيع نطق الراء، فكان يجلس يتكلم الساعات ولا أحد يعرف أنه فيه لثغة في الراء، فكان لا يأتي بكلمة فيها راء فيقول: الحمد لله القديم بلا ابتداء، الباقي بلا انتهاء، ويذكر الله ويصف ويشرح ويتكلم ويخرج وأنت لا تدري أنه لا يأتي بالراء؛ لأنه ما قال كلمة بالراء لقوة بلاغته، ومع ذلك أضله عقله؛ أضله عقله؛ لأنه حكم على الناس بأن الفاسق ترد شهادته وأنه في منزلة بين المنزلتين، ومن أعظم ضلاله أنه قال -وبئس ما قال- يقول: إن علياً رضي الله عنه والحسن والحسين وعمار حاربوا عائشة وطلحة والزبير، فرد كل النصوص التي جاءت في فضل هؤلاء رضي الله عنهم وأرضاهم، وقال بالعقل: واحد فيهم فاسق، وواحد ظالم، وواحد مظلوم، وقال: وأنا لا أدري من الظالم من المظلوم! أي: لا أدري من الفاسق، فقال: لو شهد عندي علي والحسن والحسين وعائشة وطلحة والزبير وعمار لما قبلت شهادتهم في بقل ولا بصل؛ لأنهم فساق ترد شهادتهم! وهو يزعم أن مذهبه قام على العقل، وسنبين بالعقل أن مذهبه باطل، فقد قيل له: اشرح لنا معنى منزلة بين المنزلتين؟ فقال: أنا لا أقول مثل الخوارج إنهم كفار يقتلون في الدنيا، ولا أقول مثل ما تقولون يا أهل السنة: إنهم مسلمون أمرهم إلى الله إن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم، بل أقول: في الدنيا تجري عليهم أحكام أهل الإسلام فهم مسلمون، وفي الآخرة كفار مخلدون في النار تجري عليهم أحكام أهل الكفر؛ لأنهم لم يتوبوا، هو معنى الوعد والوعيد عندهم، فيقول: إنه لازم على الله أن يعذبهم؛ لأن الله عدل لا يترك أحداً لا يعذبه وهو قد عصاه، فمعنى المنزلة بين المنزلتين أنه تجري عليه في الدنيا أحكام أهل الإسلام، لا ما مثل قول الخوارج: إنه يقتل وفي الآخرة كافر يدخل جهنم ويخلد فيها ولا يدخل الجنة أبداً. والرد عليهم سيكون بالعقل دون الآيات والأحاديث، فعندما نجري عليه أحكام الدنيا فإنه إذا مات يغسل ويكفن ويصلى عليه، فهذه أحكام الدنيا على المسلم، فإذا صلينا عليه وهو مرتكب كبيرة فإننا نقول في الدعاء: اللهم اغفر له وارحمه وعافه، فهل نقول ذلك ونحن نعرف أنه كافر داخل النار؟! فبذلك يكون الدعاء للمسلمين باطلاً وعبثاً، وهذا أكبر دليل على أن المذهب كله باطل. ومن أئمتهم جار الله الزمخشري، يقول: إن الله لن يُرى في الآخرة، وله تفسير (الكشاف)، موجود في المكتبات، وهذا التفسير آية في البيان، فقد كان الزمخشري فصيحاً، ولكنه ضيعه بما فيه من مذهب الاعتزال والدعوة إليه. فهذا المذهب كان في عصر بني أمية، ثم انتشر في عهد بني العباس وتبناه المأمون ومات، ثم كتب لأخيه المعتصم أن يتبنى المذهب فتبناه المعتصم، وبسببه أوذي وعذب الإمام أحمد حتى جاء المتوكل فألغى مذهب الاعتزال وتبرأ منه وأعاد مذهب أهل السنة بعد أربعة عشر عاماً من انتصار المعتزلة، ثم بعد ذلك ظهر المذهب كرة أخرى في دولة بني بويه الشيعية عام 334 هـ، وجعلوا القاضي عبد الجبار أحد أئمة المعتزلة قاضي القضاة في ذلك العصر.

تفسير قوله تعالى: (رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة

تفسير قوله تعالى: (رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة ثم قال الله سبحانه: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء:165] أي: هؤلاء الرسل يبشرون الناس بالجنة وينذرونهم من النار، وهذه هي الغاية الأساسية للأنبياء والمرسلين؛ {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء:165]. فموضع الشاهد أن الله لا يعذب من لم تقم الحجة عليه؛ لأن الله قال: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء:165]. فهذا مجمل ما أردنا بيانه، ونسأل الله أن يبارك فيما قلناه، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه.

سلسلة تأملات قرآنية [8]

سلسلة تأملات قرآنية [8] لقد أخبر الله تعالى في كتابه الكريم بحال نبيه عيسى عليه السلام وحوارييه، ومن جملة خبرهم سؤالهم الله تعالى أن ينزل عليهم مائدة من السماء لتكون عيداً لهم وآية ورزقاً. كما أخبرنا تعالى بحقيقة عيسى عليه السلام رداً على النصارى، فإنه تعالى يظهر يوم القيامة عبودية عيسى وعجزه وبشريته، وتفويضه أمره إلى الله تعالى خالقه وخالق من سواه.

تفسير قوله تعالى: (وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي)

تفسير قوله تعالى: (وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي) الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله الأولين وإله الآخرين، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فهذا -بعون الله وتوفيقه- الدرس الثاني حول تفسير سورة المائدة، وبه نختم -إن شاء الله تعالى- هذه السورة، وقد بينا غير مرة أن منهجنا في التفسير هو أننا ننتقي ونختار آيات من السورة التي نعنى بتفسيرها، وما كان من الآيات معنياً كثيراً بالفقهيات نحاول أن نبتعد عنه؛ لأن هذا له موطن آخر. والآيات التي نستعين بالله جل وعلا على تفسيرها هي من قول الله تبارك وتعالى: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ} [المائدة:111] إلى آخر السورة. فنقول مستعينين بالله تبارك وتعالى: هذه الآيات تتكلم عن نبي الله عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام، وقد جرت سنة الله تبارك وتعالى في خلقه أنه ما بعث رسولاً إلا ويؤيده في الغالب بأنصار وأصحاب يعضدونه، كما قال الله في حق نبينا صلى الله عليه وسلم: {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال:62]، كما يجعل فريقاً آخر يعاند ذلك النبي ويعاديه، قال الله جل وعلا: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا} [الفرقان:31].

أنواع الإيحاء في القرآن الكريم

أنواع الإيحاء في القرآن الكريم وفي هذه الآيات يخبر الله جل وعلا أنه ألهم قلوب الحواريين الذين هم أنصار عيسى ابن مريم، وقذف جل وعلا في قلوبهم محبة عيسى، والإيمان بالله جل وعلا من قبل، ونصرة ذلك النبي الكريم صلوات الله عليه وعلى نبينا، فقال الله جل وعلا: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ} [المائدة:111] و (أوحى) في القرآن تأتي على ثلاثة أضرب: فتأتي بمعنى الإرسال، وهو الذي يختص بالنبيين، فالوحي الذي يكون به الإنسان نبياً يسمى إرسالاً، ويأتي على عدة هيئات، منها: أن يكلم الله جل وعلا العبد من وراء حجاب، أو يرسل جبرائيل بذاته، أو أن يقذف شيئاً في قلب ذلك النبي، وهذا النوع هو الذي يميز به النبيون عن غيرهم. والضرب الثاني: وحي بمعنى الإلهام، قال الله جل وعلا: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ} [النحل:68]، وقال الله تبارك وتعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} [القصص:7] فوحي الله جل وعلا إلى النحل ووحي الله تبارك وتعالى إلى أم موسى لا يجعل من النحل ولا من أم موسى أنبياء، ولكن المقصود الإلهام الذي ألهمه الله جل وعلا النحل وألهمه الله جل وعلا أم موسى، وهذا هو الذي قصده الله بقوله: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي} [المائدة:111] أي: ألهمتهم الإيمان بالله والإيمان برسوله صلى الله عليه وسلم. الضرب الثالث: الوحي بمعنى الأمر، قال الله جل وعلا: {إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الإِنسَانُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} [الزلزلة:1 - 5] فقوله: {بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} [الزلزلة:5] أي: بأن الله أمرها. فينجلي عن هذا أن الوحي في القرآن على ثلاثة أضرب: وحي بمعنى الإرسال، ووحي بمعنى الإلهام، ووحي بمعنى الأمر. وقول الله جل وعلا: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ} [المائدة:111] أي: ألهمت الحواريين أن يؤمنوا بي وبرسولي. قال الله تعالى: {قَالُوا} [المائدة:111] أي: الحواريون {آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ} [المائدة:111] واختلف في المخاطب بـ (اشهد) هل هو الله أو عيسى؟ وقواعد القرآن لا تنافي أن يراد الاثنان، أي: أشهدوا الله وأشهدوا عيسى على أنهم مسلمون.

تفسير قوله تعالى: (إذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك)

تفسير قوله تعالى: (إذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك) وبعد أن ذكر الله جل وعلا أن الحواريين كانوا أنصاراً لعيسى ابن مريم -أي: خلصاء وأصحاباً وأصفياء ويعضدونه ويؤمنون بالله- قال جل وعلا: {إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة:112]. هذه الآية فيها قراءتان: القراءة الأولى المشهورة التي بين أيدينا: {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا} [المائدة:112]، والقراءة الثانية: (هل تستطيع ربَّك) بالتاء بدلاً من الياء، وبنصب (رب) بدلاً من رفعها, وهي قراءة الكسائي ومن وافقه من القراء، ومعنى الآية مع تقدير المحذوف: هل تستطيع أن تسأل ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء؟ فهذه القراءة قرأ بها الكسائي، وكانت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنه تختارها. وعلى القراءة الأولى -وهي قراءتنا في المصحف الذي بين أيدينا- يصبح معنى الآية: {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ} [المائدة:112] الاستطاعة المعروفة، وليس المقصود إظهار عجز الله كما سيأتي.

بيان مراد الحواريين بقولهم (هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة)

بيان مراد الحواريين بقولهم (هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة) قال تعالى: {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة:112] وعندما يتكلم الإنسان المفسر أو غيره عن أمر لابد له من أن يستصحب واقع الحال، فهؤلاء الذين يتكلمون ويسألون عيسى هم أنصاره وحواريون وأصفياؤه، فلا يعقل أبداً أن يكون الحواريون يشكون في قدرة الله، ولو كانوا يشكون في قدرة الله لما كانوا مؤمنين فضلاً عن أن يكونوا حواريين لعيسى ابن مريم. فالمقصود: أنهم أرادوا أمراً زيادة في اليقين، كما قال إبراهيم عليه الصلاة والسلام: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة:260] فالذي يظهر -خروجاً من خلاف المفسرين- أن سؤال الحواريين هنا من نوع سؤال إبراهيم عليه الصلاة والسلام.

بيان معنى المائدة

بيان معنى المائدة وقوله تعالى: {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ} [المائدة:112] المائدة: الطعام الموجود في مكانه المعد للأكل، وهو لا يخلو من أن يكون على أحد حالين: فإن كان على خوان -وهو الذي يسمى اليوم طاولة الطعام- يسمى مائدة، ولا يسمى مائدة إن لم يكن عليها طعام. وإن كان على ما يسمى اليوم بالسفرة -وهي كلمة فصحى- سمي كذلك مائدة، فإن كانت السفرة خالية من الطعام لا تسمى مائدة. فالمقصود أن الحواريين طلبوا طعاماً. وإذا عرجنا على الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام فقد ثبت عنه -كما عند البخاري من حديث أنس - أنه (لم يأكل على خوان قط) أي: ما يسميه اليوم الناس طاولة طعام، نقله أنس رضي الله عنه وهو خادم نبينا صلى الله عليه وسلم، ولا يعني هذا التحريم قطعاً؛ لأن الفعل المجرد لا يدل على حكم، ولكنه عليه الصلاة والسلام كان نبياً عبداً ولم يكن نبياً ملكاً، وكان الأكل على الخوان من دأب الملوك، فكان عليه الصلاة والسلام لا يأكل حتى يكون أقرب إلى العبودية، والحديث رواه البخاري عن أنس، ولكن الذي روى الحديث عن أنس هو قتادة بن دعامة السدوسي المشهور، فقال: حدثني أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر الحديث وفيه ثلاثة أشياء، ومنها: (وما أكل على خوان قط)، فقيل لـ قتادة: على أي شيء كانوا يأكلون؟ فقال: على السفرة. والسفرة في القديم كان لها معاليق، فيجمع بعضها مع بعض وتعلق، ويوضع فيها الطعام أحياناً؛ لأن طعامهم كان غالباً ليس مما يحفظ في الثلاجات اليوم، وإنما غالب الطعام تمر أو شيء يحفظ، فكان يوضع بعضه في السفرة فتعلق، فإذا وضعت بين أيدي الناس مدت، فإذا مدت أسفرت عما فيها، فلما كانت تسفر عما فيها سميت سفرة، وقيل: إن السفرة اسم للطعام، ولكن الأول أقرب فيما نعلم. فهذا هو الطلب الذي تقدم به الحواريون إلى عيسى، فقال لهم عيسى: {اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة:112] وكأنه عليه السلام استعظم الطلب.

تفسير قوله تعالى: (قالوا نريد أن نأكل منها)

تفسير قوله تعالى: (قالوا نريد أن نأكل منها)

بيان الحواريين أسباب طلبهم المائدة

بيان الحواريين أسباب طلبهم المائدة فلما استعظم الطلب أدلى الحواريون بحجتهم في بيان سبب أنهم طلبوا هذه المائدة، فقالوا: {نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ} [المائدة:113]، فذكروا أربعة تعليلات، وقبل أن نعرج على التعليلات التي ذكرها الحواريون نقول: إن الحوار والأخذ والعطاء أمر محمود، ولا يوجد أحد منزه عن الخطأ إلا الأنبياء لما عصمهم الله جل وعلا به، فكون الإنسان يناقش ويأخذ ويعطي ويقبل أن يعترض عليه ويعترض على غيره ويقدم أدلة هذا أمر محمود، فهذا نبي يطلب منه أنصاره مائدة فيقول: {اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة:112] فيردون عليه بذكر السبب قائلين: {نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا} [المائدة:113] إلى آخر الآية، ففيه أخذ وعطاء. فالرجل المعصوم الذي يجلس على كرسي ولا يقول إلا الحق لا يوجد، ولا تبحث عنه، فإن العصمة خصها الله جل وعلا بأنبيائه ورسله، وذلك هو المشهور من أقوال العلماء، فقد قال مالك: ما منا إلا راد ومردود عليه، وقال الشافعي رحمه الله تعالى: ما أعلم أحدا حفظ السنة كلها. فلا يوجد أحد تحارب وتعادي وتوالي وتخاصم من أجل أن قول الحق غير نبينا صلى الله عليه وسلم، أما غيره فإنه -مهما بلغ- يعرض قوله على الكتاب والسنة، فيقبل ما هو حق ويعتذر له عما أخطأ فيه. فواجب عند اختلاف الفهم إحساننا الظن بأهل العلم فتعتذر له، ولكنك لست ملزماً بقوله، والناس منذ القديم كانوا يأخذون ويعطون ويقبلون، ومن دلالة علو كعب العالم أنه يناقش ويأخذ ويعطي، والمهم أن يكون المراد من المناقشة والأخذ والحوار الوصول إلى الحق، لا المجادلة وإظهار علو الصوت ونبز الأقران والتعالي على الناس، {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:83]. قال تعالى: {قَالُوا} [المائدة:113] أي: الحواريون {نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ} [المائدة:113]. قولهم: (نَأْكُلَ مِنْهَا) إما لحاجتهم من الفقر الذي كانوا عليه، وإما لكونها منزلة من السماء بإذن من الله وفضل منه، فتكون مباركة طيبة، فيحسن -بلا شك- الأكل منها. وقولهم: {وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا} [المائدة:113] انتقال إلى مرحلة تسمى عين اليقين؛ لأن الإنسان إذا حدثه أحد من الصادقين بشيء فهو يقين، ولكنه إذا رأى الشيء بعينه انتقل من اليقين إلى عين اليقين. ومن أظهر الأدلة ما حصل لموسى عليه السلام، فإن الله جل وعلا أخبر موسى بأن قومه عبدوا العجل من بعده، فلما أخبره الله جل وعلا اشتاط غضباً ورجع، فلما رجع إلى قومه رآهم بعينه يعبدون العجل، فكان هذا أعظم في عينه وأوقع أثراً في نفسه، وليس الخبر كالمعاينة، فألقى الألواح؛ لأن الشيء الذي تراه بعينك ليس كما يقال لك. فالحواريون أرادوا أن يصلوا إلى مرحلة عين اليقين؛ لأنهم يرون المائدة تنزل، فيكون إيمانهم أرفع، وقد قال العلماء: من الفوائد في ذلك: أن الإنسان يجدد إيمانه فيبحث عن وسائل تزيد من إيمانه بين الفينة والفينة، وبين الحين والحين الآخر، وأما ما يزيد به إيمانه فهذا باب واسع. ثم قال سبحانه عنهم: {وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا} [المائدة:113] والخطاب لعيسى {وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ} [المائدة:113] أي: نخبر من بعدنا أن هناك مائدة نزلت، فيصبح في ذلك فوائد دنيوية وفوائد دينية، فالدينية: أن نخبر الناس ونشهد على صدقك، والدنيوية: أننا نأكل ونطعم ونسد جوعنا {وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ} [المائدة:113].

تفسير قوله تعالى: (قال عيسى ابن مريم اللهم ربنا أنزل علينا مائدة)

تفسير قوله تعالى: (قال عيسى ابن مريم اللهم ربنا أنزل علينا مائدة) فاقتنع عيسى بقولهم، وجاء في بعض الآثار أنه أمرهم أن يصوموا ثلاثين يوماً، فصاموا فدعا ربه، قال الله جل وعلا بعدها: {قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيرُ الرَّازِقِينَ} [المائدة:114]. قوله تعالى: {قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ} [المائدة:114] أي: النبي (اللَّهُمَّ) أصلها (يا الله)، والعرب تحذف أحياناً حرف النداء، فلما حذفت حرف النداء في (يا الله) عوضت بدلاً منه بالميم. ولا يقال: (يا اللهم) بالميم والياء، فلا يجمع بين البدل والمبدل منه إلا عند الضرورة الشعرية، كما نقل سيبويه وغيره عن الراجز أنه قال: إني إذا ما خطب ألما أقول يا اللهم يا اللهم فهذا شاهد نحوي المقصود به الجمع بين البدل والمبدل منه، ولكن لا يقاس عليه، لأن الأصل أن الياء حذفت وأبدلت عنها الميم. وقوله تعالى: {قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا} [المائدة:114] الأصل: (يا ربنا)، وحذف حرف النداء، فأصبح (رب) منادى، ولأنه مضاف نصب مباشرة، فلذلك جاءت الفتحة على الباء. قال تعالى: {قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ} [المائدة:114] ثم نعت تلك المائدة فذكر بعض أوصافها وتعليلات لذلك الطلب فقال: {أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيرُ الرَّازِقِينَ} [المائدة:114] فذكر عيسى عليه الصلاة والسلام في دعائه لربه مصلحتين: المصلحة الدنيوية في قوله: {وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيرُ الرَّازِقِينَ} [المائدة:114] وقوله: {تَكُونُ لَنَا عِيدًا} [المائدة:114]، والمصلحة الدينية في قوله: {وَآيَةً مِنْكَ} [المائدة:114] أي: علامة وأمارة على أنك قبلت دعاءنا، فيكون ذلك سبباً في أن يدخل الناس في الدين بعد ذلك أفواجاً. وقوله: {تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا} [المائدة:114] العيد الشيء الذي يعود ويتكرر، ولكن لا ينبغي أن يكون ثمة عيد إلا بإذن شرعي، أما أن يتخذ الإنسان من أي مناسبة دينية أو غير دينية عيداً فهذا أمر -إذا ربطه بالدين- لا يجوز شرعاً، أما إذا جعله من باب العادات فهذا باب واسع لا يحسن تفصيله الآن، ولكن نقول: الأشياء الشرعية لا تثبت إلا بشيء شرعي، فالله جل وعلا على مر العصور يجعل من بعض عبادات أنبيائه ورسله وعباده سنناً يجتمع الناس عليه، فكلنا في الطواف والسعي نمر على الصفا والمروة لنحيي سنة هاجر، ولكن هذا الإحياء لم يكن من أنفسنا، إنما كان بإذن من الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، فنطوف بالبيت كما طاف به إبراهيم عليه الصلاة والسلام من قبل، ونرمي الجمار كما رماها إبراهيم من قبل، فنحيي ملة إبراهيم، ولكن هذا أمر لم نجتهد فيه نحن من أنفسنا، وإنما شرعه الله تبارك وتعالى لنا، والدين لا يكون باجتهاد شخصي أبداً، قال الله جل وعلا: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى:21].

تفسير قوله تعالى: (قال الله إني منزلها عليكم)

تفسير قوله تعالى: (قال الله إني منزلها عليكم) ثم قال سبحانه: {قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ} [المائدة:115]. اختلف العلماء: هل أنزل الله جل وعلا المائدة أو لم ينزلها، وذلك لأن الله قال: {إِنِّي مُنَزِّلُهَا} [المائدة:115] وليس في القرآن أن الله أنزلها. فجمهور العلماء من المفسرين على أنها أنزلت، وقالوا: إن هذا وعد من الله لنبيه، والله لا يخلف الميعاد، وهو الذي نختاره. وذهب مجاهد رحمه الله تعالى المفسر المعروف تلميذ ابن عباس إلى أن الله لم ينزلها؛ لأنه مجرد مثل ضربه الله في كتابه، وهذا أبعد الأقوال عن الصواب في ظننا. والقول الثالث قاله الحسن البصري رحمه الله تعالى وتبعه عليه بعض المفسرين، وهو: أن الله لما قال لهم: (فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِّنَ الْعَالَمِينَ) خافوا وطلبوا الإعفاء من نزولها واستغفروا الله ولم تنزل المائدة. والذين قالوا بهذا الرأي من أدلتهم: أن هذه المائدة لم تذكر في الإنجيل الذي بين أيدينا، والنصارى لا يعرفون قصتها إلا من القرآن. فرد جمهور العلماء على هذا القول بأن كونها لم تذكر في الإنجيل من الشيء الذي نسوه، كما قال الله جل وعلا عنهم: {فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} [المائدة:14]، فهذا من الحظ الذي أنساهم الله جل وعلا إياه. والذي نختاره -والله أعلم- من هذه الأقوال أن الله جل وعلا أنزلها، وهو مذهب جماهير العلماء.

انقطاع العذر سبب في نزول العذاب عند الكفر

انقطاع العذر سبب في نزول العذاب عند الكفر يقول تعالى: {قَالَ اللهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِّنَ الْعَالَمِينَ} [المائدة:115]. إن الآية إذا كانت ظاهرة وأقيمت الحجة ينقطع العذر، فإذا انقطع العذر لا يقبل عند الله إلا الإيمان، فإما إيمان وإما كفر أو ينزل العذاب. ولنرجع في بيان هذا إلى سيرة نبينا صلى الله عليه وسلم، ففيها أن النبي عليه الصلاة والسلام -كما في مسند أحمد من طريقين كلاهما جيد- طلبت منه قريش أن يجعل لهم الصفا ذهباً فقالوا: إن جعلت الصفا ذهباً آمنا بك. فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو أن يجعل الله الصفا ذهباً حتى يؤمنوا، فبعث الله إليه جبرائيل أو ملكاً غيره فأخبره بأنه لو جعل الله الصفا ذهباً ولم يؤمنوا فإن الله سيهلكهم عن بكرة أبيهم. وإذا هلكوا عن بكرة أبيهم فلن يكون منهم مؤمنون، ولكن إذا بقوا ولم يهلكهم الله فهناك أمل في أنهم يؤمنون أو يأتي من ظهورهم من يؤمن. فاختار النبي صلى الله عليه وسلم أن يبقوا على حالهم حتى يؤمن منهم من يؤمن أو يخرج الله من ظهورهم من يؤمن بالله ومن يعبد الله ولا يشرك به شيئاً، ولذلك قال الله في سورة الإسراء: {وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفًا} [الإسراء:59]. والله إذا أراد أن يرحم أمة أمات نبيها قبل إهلاكها، فيكون النبي فرطاً سابقاً لأمته، وإذا أراد الله أن يهلك أمة أبقى نبيها حياً وأهلكها ونبيها ينظر؛ ليكون ذلك أقر لعينه، كما هو دأب الله في سنن الأنبياء الذين قبلنا، فقوم صالح، وقوم نوح، وقوم لوط كلهم أهلكوا وأنبياؤهم ينظرون إليهم، قال الله جل وعلا عن قوم صالح: {وَأَنجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [النمل:53] بعد أن أخبر أنه أهلك قومه، وكذلك قال الله عن شعيب، وكذلك الله قال عن عاد وغيرهم من الأمم، وهذا ظاهر.

بيان أشد الناس عذابا يوم القيامة

بيان أشد الناس عذاباً يوم القيامة يقول تعالى: {فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِّنَ الْعَالَمِينَ} [المائدة:115] أخذ بعض العلماء من هذه الآية أن أعظم الناس عذاباً ثلاثة: أتباع فرعون، قال الله جل وعلا: {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:46]، والذين كفروا بالمائدة بعد نزولها من قوم عيسى، قال الله جل وعلا: {فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِّنَ الْعَالَمِينَ} [المائدة:115]، والمنافقون الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الله جل وعلا: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء:145] ويظهر لي أن هؤلاء المنافقين هم أشد خلق الله جل وعلا عذاباً.

تفسير قوله تعالى: (وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين)

تفسير قوله تعالى: (وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين) ثم قال الله جل وعلا: {وَإِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ} [المائدة:116] إلى آخر السورة. هذا الموقف موقف في الآخرة، أما موقف المائدة فكان في الدنيا، فهذا موقف في الآخرة وإن قال بعض العلماء: إنه موقف دنيوي، وقولهم بعيد، فكونه جاء بصيغة الماضي لا ينفي أنه سيكون يوم القيامة. قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللهِ} [المائدة:116] ونحن نعلم أن الله يعلم أن عيسى ابن مريم لم يقل هذا للناس، والله ما أراد بهذا السؤال توبيخ عيسى، وإنما أراد الله تقريع النصارى وتوبيخهم في يوم العرض الأكبر على ما اتهموا به نبيهم كذباً أنه دعاهم إلى عبادة نفسه وإلى عبادة أمه، وقالوا بالأقانيم الثلاثة، وزعموا أن المسيح ابن الله، فأراد الله جل وعلا أن يبطل كيدهم ويظهر كذبهم على ملأ من الأشهاد بنطق عيسى نفسه، وذلك في يوم حشر العباد، ويوم الحشر يوم عظيم، وفي حديث الشفاعة أن الأنبياء يقولون جميعاً: (إن الله غضب غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله) فيتدافعون الشفاعة حتى تصل إلى نبينا صلى الله عليه وسلم، فالموقف موقف جليل وخطب عظيم ودعاء النبيين يومئذ: (اللهم سلم سلم)، ففي هذا الموقف يسأل الله جل وعلا عيسى: (أَأَنتَ) والهمزة الأولى للاستفهام، والهمزة الثانية من أصل الكلمة، {أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [المائدة:116]. والمتبادر إلى الذهن أن المفروض يقول عيسى: لا، أو يقول: لم أقله.

ذكر سبب تقديم عيسى عليه السلام الجواب بـ (سبحانك)

ذكر سبب تقديم عيسى عليه السلام الجواب بـ (سبحانك) ولكن عيسى في هذه الآيات ضرب أروع الأمثلة في الأدب مع الرب جل وعلا، فبدأ جوابه بقوله: {سُبْحَانَكَ} [المائدة:116]، وقد قال بعض العلماء: إن عيسى عليه السلام قدم الجواب بكلمة (سبحانك) لسببين: الأول منهما: تنزيه الله عما أضافته النصارى إليه. الثاني: الخضوع لعزة الله والخوف من سطوته. فمن أجل ذلك قال هذا النبي الكريم: (سبحانك).

ملك العباد محدود

ملك العباد محدود ثم دخل في الجواب فقال: {سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} [المائدة:116] فهناك أشياء -يا أخي- تملكها وأشياء لا تملكها، ومن أعظم ما لا نملكه: أننا عبيد، وإذا كنا عبيداً فإننا لا نملك أن نتكلم كما يتكلم الرب سبحانه وتعالى، ولا نطالب بحق الإلهية؛ لأننا لسنا آلهة، فلا إله إلا الله، وكل أحد سوى الله مربوب وعبد، والله جل وعلا وحده هو الإله وهو الرب لا رب غيره ولا إله سواه، فلا يصح أن يأتي أحد لا يملك هذا الحق فيطلبه لنفسه، فعيسى يقول: أنا مربوب وعبد ولا أملك أن أطلب من الناس أن يعبدوني من دونك؛ لأن هذا ليس لي فيه حق، فمقام الإلهية غير مقام العبودية.

بيان معنى قوله تعالى (إن كنت قلته فقد علمته)

بيان معنى قوله تعالى (إن كنت قلته فقد علمته) ولم يقل: أنا لم أقله، بل قال تأدباً مع ربه: {إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} [المائدة:116]، وهذا الجواب لا يكون إلا مع الله، فلا يصح أن تجيب أحداً من الناس بهذا الجواب، فهذا الجواب لا يمكن أن يكون إلا مع الله، وأما مع الناس فتقول: لم أقله، أو تقول: قلته، وتقول: ذهبت إلى مكان كذا أو: لم أذهب لمن سألك: ذهبت أو لم تذهب؟ ولا يعقل أن تقول له: إن كنت ذهبت فأنت تعلم أني ذهبت! فهذا جواب لا يقال إلا لله. قال تعالى عنه: {إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [المائدة:116] وهذه واضحة لا تحتاج إلى بيان، {إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} [المائدة:116]، فما من غيب إلا والله جل وعلا يعلمه، كما قال لقمان لابنه: {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} [لقمان:16].

تفسير قوله تعالى: (ما قلت لهم إلا ما أمرتني به)

تفسير قوله تعالى: (ما قلت لهم إلا ما أمرتني به) ثم أخذ يبرئ ساحته أمام النصارى، فقال: {مَا قُلْتُ لَهُمْ} [المائدة:117] و (ما) نافية (إِلاَّ) للاستثناء {مَا أَمَرْتَنِي بِهِ} [المائدة:117] فأنا عبد أنفذ أوامرك، وأؤدي ما أوكلته إلي، ولا أستطيع أن أخرج عن أمرك مثقال ذرة. قال تعالى: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} [المائدة:117] (أن) حرف تفسير لا محل له من الإعراب، فجملة: (أَنِ اعْبُدُواْ اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ) مفسرة لقوله: (إلا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ) يعني: الذي أمرتني به هو (أَنِ اعْبُدُواْ اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ)، وقد مر بنا نحو هذا في سورة البقرة، ومنه قول الله جل وعلا: {وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ} [الحجر:66]، فقوله: {أَنَّ دَابِرَ هَؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ} [الحجر:66] مفسر لقول الله جل وعلا: {ذَلِكَ الأَمْرَ} [الحجر:66]. وكذلك قول الله تبارك وتعالى: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} [المائدة:117] مفسر لقول الله تبارك وتعالى: {إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ} [المائدة:117]، فعيسى عليه السلام قبل أن يقرر أن الله رب لهم قرر أن الله رب له هو فقال: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} [المائدة:117] وهذا هو التوحيد الذي بعث الله جل وعلا به الرسل من نوح إلى محمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، والذي لا يقبل الله من أحد صرفاً ولا عدلاً إلا بتحقيقه.

بيان معنى قوله تعالى (وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم)

بيان معنى قوله تعالى (وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم) ثم قال تعالى عنه: {وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ} [المائدة:117]. قوله: (مَّا دُمْتُ فِيهِمْ) أي: أنه عبد، فمتى ما وضع أو رفع لا يعلم شيئاً، ولا يوجد عاقل يدعي أنه يفهم كل شيء أو يعلم كل شيء، فالنبي عليه الصلاة والسلام كان يعيش في المدينة، وحوله في المدينة مهاجرون وأنصار ويهود ومنافقون، فالله يقول لنبيه: {وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ} [التوبة:101] قال العلماء: إذا جاز على سيد الخلق صلى الله عليه وسلم أن يكون له جيران يسكنون مدينته ولا يعلم أنهم يكيدون له وأنهم منافقون؛ فمن باب أولى أن يخفى ذلك على من دونه، وكل الناس دونه صلوات الله وسلامه عليه. قال تعالى: {وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ} [المائدة:117] أي: وأنا بينهم أعيش كنت أقول لهم: اعبدوا الله، فهذا يوافق وهذا لا يوافق، فأنا شهيد عليهم بأن هذا وافق وهذا لم يوافق، وهذا قبل وهذا لم يقبل، وهذا رضي بك رباً وهذا لم يرض.

بيان معنى الوفاة

بيان معنى الوفاة قال تعالى: {فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [المائدة:117]. قوله: (توفيتني) فيه نوع من الإشكال؛ لأن عيسى عليه السلام ليس بميت، وإنما رفع إلى السماء، قال الله جل وعلا: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [النساء:158]، وعندما تريد أن تفسر أمسك أصلك، فإذا جاء شيء يعارض الأصل فرد العارض وابق على الأصل، ولا تنتقل عنه إلا بعارض يفوق الأصل، وفي حياتك في أمر دين أو في أمر دنيا أمسك أصلك، ولا تترك الأصل لأي عارض أو لأي شبهة، ولو لم تفهم العارض. فالله جل وعلا تكلم عن عيسى في سورة النساء وقال: إن اليهود زعمت أنها قتلته، وقال جل وعلا: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ} [النساء:157] ثم قال: {وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا * بَل رَّفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ} [النساء:157 - 158]، فالله يقول في كتابه: إنه رفع عيسى، فلما تأتي آية فيها أنه توفى والله يقول: إنه رفع لا تجتمع وفاة مع رفع، فنبقي على الأصل الذي هو الرفع، ونقول: إن الوفاة هنا بمعنى الرفع، فقوله: (توفيتني) يعني: استوفيت بقائي معهم ثم رفعتني، لكي نبقي على الأصل، ومن أخذ بهذه القاعدة فإنه يسلم في أمر دينه وأمر دنياه؛ لأنه ليس كل شبهة تستطيع أن تردها، فلو وجدت شبهة لا تستطيع أن تردها فابق على الأصل حتى يمن الله عليك بعالم تسأله عن هذه الشبهة فيردها، أما أن تمسك بكل شبهة تأتيك فتأخذ بها فإن الشبه لا تنتهي، وستصل إلى ما لا نهاية، فتتخبط بك الطرق كما هو حاصل في بعض ممن ينتسبون إلى العلم، فيتخبط أحدهم ميمنة وميسرة لأنه لا يوجد أصل يقبض عليه ويمسك به. فالأصل -مثلاً- في المؤمن أنه من قال: (لا إله إلا الله)، فإخراجه من الملة يحتاج إلى أصل أعظم من هذا، ولا يوجد ذلك حتى يفرح هو بالكفر، فإذا قال: أنا كافر فقوله يهدم الأصل، لكن إذا فعل أفعالاً خلاف في أنها كفر ولم يرض بها فليس لك ولا لغيرك أن يكفره بمثل هذه الشبهات. وهذا الذي وقع فيه من وقع في أيام الصحابة لما كفر علياً وكفر عثمان وكفر غيرهما فضل بهذا الطريق، فلا يمسك أصلاً، فكلما جاءته شبهة طبقها على الناس. ويروى عن الذين خاصموا علياً أنهم مروا على شجرة ليهودي فيها بلح وهم جياع، فقالوا: هذه شجرة يهودي، وهو ذمي مستأمن، فلا يجوز لنا أن نأخذ منها. وبعد قليل جاء عبد الله بن خباب بن الأرت فقالوا: تقول في عثمان وعلي؟ فقال: صحابة أخطئوا في أشياء وأصابوا في أشياء، وهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومردهم إلى الله، فقالوا: إن هذا الذي في صدرك -يعنون القرآن- يأمرنا بقتلك؛ لأنك ما قلت الحق! وعلي حكم الرجال في دين الله، والله يقول: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [الأنعام:57] فأصبح علي كافراً وأنت لا ترى أن علياً كافر، فأنت كافر؛ لأن من لم ير كفر الكافر فهو كافر. فانزلوه من فوق ظهر ناقته ومعه زوجته وابنه، ثم ذهبوا به إلى نهر دجلة الذي في العراق وذبحوه على النهر وسال دمه على النهر واليهودي ينظر، فقال: والله ما رأيت أجهل منكم! أتمتنعون عن التمر وتقولون: أكله حرام وإنما هو شيء من بلح ثم تأتون إلى رجل من أتباع دينكم يقول: لا إله إلا الله فتذبحونه كما تذبح الشاة وتقولون: هذا يجوز؟! فالعاقل في كل شئون حياته يمسك الأصل ويتمسك به، وليس سهلاً أن تهدم الأصل؛ لأن هذا الباب لو دخلت فيه لا تنتهي. وأذكر أنني تأخرت يوماً عن الصلاة، فصلى شخص بدلاً عني، فدخل رجل فرأى رجلاً ساجداً على أمشاط أصابعه لا على الأطراف، فرآه رجل فأخذ بيدي وقال: انظر كيف يصلي! فالسجود على الأعضاء السبعة، وهذا ما سجد على الأعضاء السبعة! فهذه الفتوى المركبة معناها أن السجود غير صحيح، والسجود ركن من أركان الصلاة، فصلاته غير صحيحة، فكأنه ما صلى، والرسول يقول: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر)، فصار بذلك كافراً، وقعد يقول: سبحان ربي الأعلى سبحان ربي الأعلى، اللهم اغفر لي! فعقلك لا تعطيه لغيرك، واحفظ لسانك عن أعراض المسلمين من عالم أو حاكم أو أمير أو وزير أو صغير أو كبير، ففي النقاش العلمي ناقش كما تشاء، فالعلم حق مشاع، ولكن الإخراج من الملة والإدخال في الملة ليس لأحد، فالله يقول: {وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا} [النحل:106]. يقول تعالى عن عيسى عليه السلام: {فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي} [المائدة:117]، وقلنا: إن الوفاة هنا بمعنى الرفع، والوفاة في كتاب الله تأتي بمعنى الموت وانقضاء الأجل، ومنه قول الله تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} [الزمر:42] أي: حين انقضاء أجلها، وتأتي بمعنى النوم، قال الله جل وعلا: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ} [الأنعام:60]، وتأتي بمعنى الرفع، كما في الآية التي بين أيدينا: (فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي) أي: رفعتني {كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [المائدة:117]، ولا ريب في أن الله على كل شيء شهيد.

تفسير قوله تعالى: (إن تعذبهم فإنهم عبادك)

تفسير قوله تعالى: (إن تعذبهم فإنهم عبادك) ثم قال الله جل وعلا عن عيسى عليه السلام: {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة:118] وهذه من أعظم آيات القرآن في المعاني، فالله جل وعلا أرحم بعباده من أنفسهم، فإذا ألحق العذاب بأحد فمعنى ذلك قطعاً أنه مستحق للعذاب، ولو لم يكن عبدا متمرداً مستحقاً للعذاب لما عذبه الله؛ لأن الله أرحم بنا من أنفسنا وأرحم بالعبد من الوالدة بولدها. فقوله: (إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ) يعني: لو لم يستحقوا العذاب لما عذبتهم، والأصل أنهم عبادك مملوكون لك تفعل وتحكم فيهم ما تشاء. قال تعالى: {وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة:118].

بيان حكم ذكر العزة والحكمة مع المغفرة

بيان حكم ذكر العزة والحكمة مع المغفرة ولم يقل عيسى هنا: وإن تغفر لهم فإنك أنت الغفور الرحيم وهذا مرده إلى أن الموقف موقف عظمة وخطب جليل، ولا يريد عيسى أن يظهر بمظهر من يملي على ربه ما يفعل، ولذلك قال بما يناسب واقع الحال: {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة:118] بمعنى: أنك لو غفرت غفرت وأنت قادر على أن تعذب، ولكن لحكمة لم تعذبهم، وإلا فليس عفو الله عمن يعفو عنه لضعف أو عجز كما يفعل بعض أهل الدنيا، كمدير ضعيف شخصية يتأخر عنده المدرس في الحضور وله قرابات وشفاعات، فيقول: هذه المرة لن نكتب تأخرك ولن نعاقبك، فهذا عفو ولكنه ناجم عن ضعف، وأما عفو الله جل وعلا عمن يعفو عنه فناتج عن عزة وقدرة، وإلا فإن الله قادر على أن يعذبهم، ولذلك قال عيسى: {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة:118]. وهذه الآية ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم قام ليلة يرددها، وثبت عند مسلم وغيره من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص: (أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا قول الله جل وعلا عن إبراهيم: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [إبراهيم:36]، وقول الله في هذه الآية عن عيسى: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة:118]، ثم بكى صلى الله عليه وسلم، فلما بكى جاءه جبرائيل بعد أن بعثه الله وقال له: سل محمداً علام يبكي؟ والله أعلم بذلك، فجاءه جبرائيل فسأله فقال: أمتي أمتي. فقال الله جل وعلا: إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوؤك)، ولهذا قال العلماء: إن أمة محمد صلى الله عليه وسلم أمة مرحومة، أخذاً من هذا الحديث، فالله جل وعلا وعد نبيه أنه لن يسوءه في أمته، والله جل وعلا لا يخلف الميعاد، والنبي صلى الله عليه وسلم يسوؤه ألا ترحم أمته، والله قد وعده ألا يسوءه.

تفسير قوله تعالى: (قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم)

تفسير قوله تعالى: (قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم) وينتهي الموقف بقول الله تبارك وتعالى: {قَالَ اللهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ} [المائدة:119] أي: صدقوا في النيات، وصدقوا في الأقوال، وصدقوا في الأعمال، فكان صدقهم نافعاً لهم بين يدي ربهم، والجزاء من جنس العمل، قال تعالى: {هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} [الرحمن:60]، فلما صدقوا مع الله قال الله جل وعلا عنهم: {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ} [القمر:55]. قال الله تعالى: {قَالَ اللهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [المائدة:119] فهذه أتم نعمة، ولا توجد نعمة بعد رؤية وجه الله أعظم من رضوان الله، وهي آخر ما يعطاه أهل الجنة، بلغنا الله وإياكم رضوانه.

تفسير قوله تعالى: (لله ملك السموات والأرض وما فيهن)

تفسير قوله تعالى: (لله ملك السموات والأرض وما فيهن) ثم ختم الله جل وعلا السورة كلها بقوله: {لِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [المائدة:120]، وتقديم الخبر نوع من أنواع الحصر، والمعنى: أن الله جل وعلا المالك وحده لما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما فيهما، وهو تبارك وتعالى على كل شيء قادر، يحكم ما يشاء، ويفعل ما يريد، يقدم من يشاء بفضله، ويؤخر من يشاء بعدله، ولا يسأله مخلوق عن علة فعله، ولا يعترض عليه ذو عقل بعقله. هذا ما تيسر إيراده من سورة المائدة، فلله الحمد على توفيقه وإحسانه، ونسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما قلنا، والله تعالى أعلم، وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.

سلسلة تأملات قرآنية [9]

سلسلة تأملات قرآنية [9] يقرر الله تعالى في سورة الأنعام حقيقة التوحيد بأعظم بيان وأوضح برهان، حيث يأمر نبيه صلى الله عليه وسلم بإظهار عدم علمه الغيب، وكون خزائن الرزق ليست بيده، وإذا كان هذا حاله صلى الله عليه وسلم فغيره من باب أولى أن يكون أعجز وأفقر. كما يبين تبارك وتعالى سبق علمه، وتوليه قبض أرواح عباده، وإنجاءهم من المهالك، ويذكر تعالى غير ذلك مما لا يقدر عليه سواه.

إشارات مجملة في تفسير سورة الأنعام

إشارات مجملة في تفسير سورة الأنعام الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خلق فسوى، وقدر فهدى، وأخرج المرعى، فجعله غثاء أحوى، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فإن هذا الدرس سيكون حول سورة الأنعام، وكنا قد استفتحنا تفسيرها في درس ماض، وذكرنا أن من المقدمات المهمة في تفسيرها أن هذه السورة سورة مكية، وأن أكثر أهل العلم يقول إنها نزلت جملة واحدة، كما روي ذلك عن ابن عباس، وأنه نزل معها سبعون ألف ملك يشيعونها، وقلنا: إن هذه السورة أصل في إثبات الحجة على المشركين، وإنها اعتمدت على أسلوبين هما: أسلوب التقرير وأسلوب التلقين، وبينا هذا في موطنه.

تفسير قوله تعالى: (قل لا أقول لكم عندي خزائن الله)

تفسير قوله تعالى: (قل لا أقول لكم عندي خزائن الله) وفي هذا الدرس سيكون لنا وقفات مع آيات من هذه السورة المباركة، سائلين الله فيها التوفيق والسداد. قال الله عز وجل: {قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ} [الأنعام:50]. إن التفسير الحقيقي ليس بيانا للمفردات والمعاني، فهذا أمر متيسر، ولكن التفسير الحقيقي أن تفهم المراد من كتاب الله في سياقه العام، وأن تفقه الآية من السورة والسورة من القرآن، زمانا ومكانا ومناسبة حتى يتضح لك المقصود من كلام الرب تبارك وتعالى.

الرد على عناد المشركين

الرد على عناد المشركين إن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعث عانده الكفار من قريش، فتارة كانوا يطالبونه بحجج، ومنها أن يقسم الأرزاق بينهم، وهذا لا يقدر عليه إلا الله، وتارة يسألونه عن أمور غيبية لا يعلمها إلا الله، وتارة يعيبون عليه أنه يمشي في الأسواق ويأكل الطعام ويشرب الشراب، محتجين بأن هذا ليس من شأن الرسل. وتارة يقولون له: إنك بدينك هذا إنما تريد أن تدعي الإلهية، وهذا هو الشق الثاني من الحجج. فهذان الضربان هما اللذان يجمعان نقمة كفار قريش على رسولنا صلى الله عليه وسلم. فهذه الآية التي أنزلها الله من باب أسلوب التلقين رد على مزاعم أولئك الكفار، حيث قال تعالى: {قُلْ} [الأنعام:50]. أي يا محمد: {لا أَقُولُ لَكُمْ} [الأنعام:50] أي: يا كفار قريش {عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ} [الأنعام:50]. فالنبي صلى الله عليه وسلم يأمره ربه بأن يبين للناس، بأن غاية المراد من دعوته أنه بشر يبلغ رسالة ربه، ولا يملك قدرة جبربة على التغيير، كما قال تعالى: {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} [الغاشية:22]. ويخبرهم بأن خزائن الله لا يملكها ولا يدعي أنه يملكها؛ لأن ملك خزائن الله أمر من خصائص الرب وحده جل وعلا، وهذا مقام الإلهية والربوبية. والنبي صلى الله عليه وسلم ليس له من مقام الإلهية والربوبية شيء، فلا يمكن له أن يقسم الأرزاق، ولا الرحمة، ولا الخيرات، ولا العطاء بين الناس؛ لأن هذا من خصائص الرب، ولم يدع يوماً النبي صلى الله عليه وسلم أنه إله.

بيان ضعف الأنبياء ممن دونهم في علم الغيب

بيان ضعف الأنبياء ممن دونهم في علم الغيب وقوله تعالى: {وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ} [الأنعام:50]. يخبر نبينا صلى الله عليه وسلم بأمر ربه كفار قريش بأنه لا يعلم الغيب، والغيب: ضد الشهادة، فيخبر صلوات الله وسلامه عليه بأن ربه يأمره بأن يبلغ الناس بأنه لا يعلم الغيب، فإذا بان ضعف الرسول في علم الغيب ظهر كمال الله في العلم، وهذا أمر هو المقصود من السورة كلها، أي: أن يظهر الله للناس ضعفهم وعجزهم حتى يظهر لهم كمال خالقهم وعظمته جل وعلا، وأنه منزه من كل عيب ونقص، ولذلك قال الله لما ذكر خلق السماوات والأرض: {وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [ق:38]. أي لم يمسه جل وعلا إعياء؛ لأن ذاته غير ذات المخلوقين، فصفاته غير صفات المخلوقين. وهذا الأمر الذي قرره النبي صلى الله عليه وسلم وقع حالا ومعنى عليه، وعلى الملائكة وعلى الأنبياء والرسل من قبله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. فالملائكة بين يدي ربهم لما علم الله آدم الأسماء وقال: {أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [البقرة:31 - 32]. وخليل الله إبراهيم -وهو أبو الأنبياء، وثاني الرسل من أولي العزم صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين- يأتيه الملائكة في صورة ضيوف، فيذهب عجلا إلى بيته، فيأخذ العجل ويذبحه ويشويه ويقدمه، كل هذا وهو لا يعلم أن الضيوف ملائكة لا يأكلون الطعام. فلو كان يعلم لما فعل هذا كله، ولكن ليبين الله لك وأنت تقرأ كتابه ضعف المخلوقين أيا كانوا وعظمة الرب جل جلاله وحده. ونبي الله يعقوب عليه الصلاة والسلام كان ابنه يوسف في أرض مصر عزيزا على كرسي الوزارة يأمر وينهى ويأتيه الناس من كل مكان، ويعقوب في أرض كنعان في بادية الشام قد ابيضت عيناه من الحزن على فقد ولده، وهو نبي يوحى إليه، ومع ذلك كان عليه السلام يجهل أن ابنه في مقام عزيز ومكان رفيع، ولو كان يعلم لما دمعت عيناه، لكنه شيء من الغيب الذي أخفاه الله جل وعلا عن هذا النبي الكريم. ورسولنا صلى الله عليه وسلم كان في المدينة وحوله من يكيد له الكيد، ويحيق به الدوائر، وربه يقول له: {وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} [التوبة:101]. وسليمان يعطى الملك، وسخرت له الريح والجن والشياطين، تأتمر بأمره وتذعن لخبره، وتنفذ ما يطلب وتفعل ما يأمرها به، ومع ذلك كله يخفى عليه أن بلقيس كانت تعبد الشمس، ثم يأتي طائر لا ينطق ليقول له: {أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} [النمل:22]. فهذا ما جرى لأنبياء الله ورسله وأخذنا منهم بعض الأمثلة، وما يقال عنا من باب أولى، وهذا يدل على أن علم الغيب أمر اختص الله جل وعلا به وحده، وسيأتي الحديث عن مفاتيحه.

بيان حقيقة النبي صلى الله عليه وسلم

بيان حقيقة النبي صلى الله عليه وسلم يقول تعالى: {وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ} [الأنعام:50]. أي: أتستنكرون علي أن أمشي في الأسواق، وأن آكل الطعام والشراب؟! فهذا لن يكون إلا للملائكة، وأنا لم أقل يوما من الدهر: إني ملك، {إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} [الأنعام:50]. فهو صلى الله عليه وسلم يأتيه الوحي من السماء يأمره بالنذارة والبشارة، فيفعل ما أمره الله جل وعلا به، قال الله تعالى عنه: {إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} [الأنعام:50].

بيان معنى قوله تعالى (قل هل يستوي الأعمى والبصير)

بيان معنى قوله تعالى (قل هل يستوي الأعمى والبصير) ثم بعد بيان أنه رسول، يدعو إلى رب بيده خزائن كل شيء، ويعلم الغيب والشهادة، ويستحق العبادة، قال تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ} [الأنعام:50]. وهذا استفهام إنكاري؛ لأن (هل) أداة استفهام، بمعنى: لا يستوي الأعمى والبصير. والمقصود بالأعمى والبصير هنا الضال والمهتدي، والعالم والجاهل، والموحد والمشرك، فكلها يمكن أن تدخل في تفسير قول الله جل وعلا: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ} [الأنعام:50]. وقول الله جل وعلا: {أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ} [الأنعام:50] دلالة على أن العقول مخاطبة بشرع الله تبارك وتعالى، وهنا مسألة وهي دخول العقل في الشريعة، وهذه مسألة تذكر كثيرا بين طلاب العلم، وفصل الخطاب فيها أن تعلم أن العقل مكتشف للدليل وليس منشئاً له. فالدليل وضعه الله في كتابه وفي سنة رسوله، وأصحاب العقول يكتشفون تلك الأدلة ويتوصلون إليها بعد أن وضعها الله لهم في كتابه وفي سنة رسوله، أو في آية من الآيات العامة المنثورة في الخلق.

تفسير قوله تعالى: (وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو)

تفسير قوله تعالى: (وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو) ثم تلا تلك الآية آيات ست آيات مسترسلات بعضها بعد بعض، فقال الله تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ * وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ * ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ * قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ * قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ} [الأنعام:59 - 65]. قوله تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ} [الأنعام:59] هذا أسلوب حصر، ومن أساليب الحصر في اللغة: تقديم ما حقه التأخير، وأصل الآية: مفاتح الغيب عنده. فقدم الله الخبر على المبتدأ ليصبح المقام مقام حصر، أي: ليست عند أحد غيره مفاتح الغيب، ولو قال: ومفاتح الغيب عنده فإن المعنى يحتمل أن مفاتح الغيب عنده وعند غيره، ولكنه قال {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ} [الأنعام:59] فجعل الأمر محصوراً؛ لأنه قدم الخبر على المبتدأ، وتقديم ما حقه التأخير أسلوب من أساليب الحصر في بلاغة العرب. وقوله تعالى: {وَعِنْدَهُ} [الأنعام:59] أي: عند الله {مَفَاتِحُ الْغَيْبِ} [الأنعام:59]. و (مفاتح): جمع مفتاح، وهي عند النحويين اسم ممنوع من الصرف لأنه على وزن مفاعل. يقول الله: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} [الأنعام:59]. والنفي مع الاستثناء كذلك أسلوب من أساليب الحصر.

بيان المراد بمفاتح الغيب

بيان المراد بمفاتح الغيب ولم يذكر الله في هذه الآية مفاتح الغيب، ولكن السنة فسرت القرآن، فقال صلى الله عليه وسلم -كما في حديث ابن عمر -: (مفاتح الغيب خمس لا يعلمهن إلا الله، ثم تلا: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [لقمان:34]). فنقول: إن مفاتح الغيب أمر لا يعلمه إلا الله، ولا يعطى لأحد، أما غير ذلك من الغيب فيمكن أن يطلع الله جل وعلا عليه بعض عباده، قال الله: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [الجن:26 - 27]. فقد يطلع الله بعض عباده على بعض غيبه، ولكن مفاتح الغيب اختص الله جل وعلا بها، فلا يطلع عليها أحدا كائنا من كان إلا وقت المراد من الغيب نفسه. وبناء على آية لقمان أصبح أعظم الغيبيات علم الساعة، وهي أعظم الغيبيات بدلالة القرآن والسنة، فجبرائيل سيد الملائكة يسأل نبينا صلى الله عليه وسلم: (أخبرني عن الساعة؟ فقال: ما المسؤول عنها بأعلم من السائل) أي علمي وعلمك فيها سواء. والله يقول: {لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ} [الأعراف:187]. بل إن إسرافيل الموكل بالنفخ في الصور لتقوم الساعة، يقول عنه النبي صلى الله عليه وسلم: (إنه قد أحنى جبهته وأصغى أذنه والتقم القرن ينتظر متى يؤمر بالنفخ فينفخ) فإسرافيل لا يعلم متى ينفخ، فمن باب أولى ألا يعلم الناس ذلك، فالساعة أعظم الغيبيات. يقول تعالى: {وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ} [لقمان:34]. وإنزال المطر لا يعلم تحديد وقته إلا الله، أما ما تراه من إرهاصات فهو مقدمات تصيب وتخطئ، ولا يجزم بها أحد، وقد نقل القرطبي رحمه الله عن بعض علماء المسلمين أن من جزم بنزول المطر، فقال: غداً سيكون مطر، فإنه يكفر؛ لأنه خالف صريح القرآن في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ} [لقمان:34]. وقوله تعالى: {وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ} [لقمان:34] (ما) هنا موصولة تدل على العموم، أي: يعلم ما في الأرحام، فإن كان ما في الرحم سقطا سينزل، أو سيتم خلقه فإنه يعلمه، ويعلم الله جل وعلا إن كان شقيا أو سعيدا، ويعلم الرب تبارك وتعالى إن كان سيعمر أو لا يعمر، في أمور شتى تتعلق به، ويعلم أنه سيكون ذكراً أو أنثى، وغير ذلك مما يتعلق به ولا يعلمه إلا الرب تبارك وتعالى. يقول تعالى: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا} [لقمان:34]. إن هناك فرقاً بين جدول العمل وبين ما تحصل عليه من العمل، فإن المعلم يعلم جدول حصصه قبل العام، وكذلك كثير من الناس ممن لهم أمور مرتبة وجداول وأعمال، ولكن هل يحصل هذا العمل الذي يسمى في اللغة كسبا؟! إن هذا لا يعلمه إلا الرب تبارك وتعالى، فقد يحول الله بين المرء وبين ما يريد قبل أن يقع الأمر بلحظات. ثم قال سبحانه: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} [لقمان:34] وفي المسند أن من أراد الله أن يقبض روحه في أرض جعل له حاجة إليها. ومن جهل المكان فمن باب أولى أن يجهل الزمان. والمقصود من هذا كله إجمالا أن مفاتح الغيب خمس لا يعلمهن إلا الرب تبارك وتعالى.

سعة علم الله تعالى

سعة علم الله تعالى يقول تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام:59]. فهذه من أعظم آيات الربوبية في القرآن، يخبر الله جل وعلا فيها عن سعة علمه، وعظيم إحاطته بخلقه، وأن ما تراه العيون، وما لا تراه، ومثاقيل الجبال، ومكاييل البحار، وورق الأشجار على كثرته واتساعه وعظيم عدده، لا يعلمه إلا الرب تبارك وتعالى، فكل تلك الأمور أينما كانت، وأينما غابت عن عيوننا، الغيب وغياهب البحار، ومفاوز البر، وكل ما يقع فيه، وما يكون في ليل أو في نهار أو في أي مكان قد اطلع، الله جل وعلا عليه وقد علمه وكتبه وأراده وشاءه، قال الله تعالى: {وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [الأنعام:59] ثم تتناقلها الرياح ميمنة وميسرة، وشمالاً وجنوباً، ثم تهوي، كل ذلك يعلمه الله جل وعلا، لا يخفى عليه من خلقه خافية أينما كانت، قال تعالى عن لقمان: {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} [لقمان:16]. والإنسان -ستره الظلام أو كان في الضوء- قد اطلع الله جل وعلا عليه، سواء أسر في نفسه أم أعلن، فالله جل وعلا يعلم ذلك كله، فالقلوب له مفضية، والسر عنده علانية، ولا تخفى عليه من خلقه خافية. يقول تعالى: {وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ} [الأنعام:59] أي: ولا حبة تسقط {فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ} [الأنعام:59]. وقوله تعالى: {وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ} [الأنعام:59] أسلوب قرآني يسمى عطف عام على خاص؛ لأن كل ما سلف لا يخلو من كونه رطباً أو يابساً، وحياً أو ميتاً. قال تعالى: {وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ} [الأنعام:59] من كل ذلك {إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام:59] أي: في اللوح المحفوظ، فالله أول ما خلق القلم، قال له: اكتب، فقال: ما أكتب؟ فقال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة. فما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، جفت الأقلام وطويت الصحف، فأنت تسعى وراء رزق سيأتي إليك، أو تطلب شيئا لن يأتيك أبدا. فالعاقل من أحسن صلته بربه جل وعلا، وأهل والفضل العلم يقولون: من خسر مع الله جل وعلا فماذا ربح؟ ومن ربح مع الله تبارك وتعالى فماذا خسر؟ فمن ربح مع الله لم يخسر شيئا، ومن خسر مع الله لم يربح شيئا ولو أوتيت له الدنيا بحذافيرها.

تفسير قوله تعالى: (وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار)

تفسير قوله تعالى: (وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار) ثم قال جل شأنه: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى} [الأنعام:60]. نسب الله جل وعلا هنا الوفاة إلى ذاته العلية، ونسبها إلى الملائكة في آيات آخر، فيقال: إن نسبة الأمر إلى الله نسبة حقيقية، ونسبة الأمر إلى غير الله نسبة تكليف، أي كلف الله أحدا ليقوم بها، كما كلف الملائكة. وقول الرب: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ} [الأنعام:60].

معاني الوفاة في القرآن

معاني الوفاة في القرآن المقصود به المنام، وليس المقصود به الوفاة الحقيقية. والوفاة في القرآن تأتي على ثلاثة معان: تأتي بمعنى الموت، ومن ذلك قول الله تعالى: {ثُمَّ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا} [الأنعام:61]. وتأتي بمعنى النوم، كقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ} [الأنعام:60]، وقول الله في سورة الزمر {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} [الزمر:42]. وتأتي بمعنى الرفع، ومنه قول الله لعيسى: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [آل عمران:55]. والمقصود من هذا كله أن الوفاة هنا بمعنى النوم، والنبي صلى الله عليه وسلم كان إذا استيقظ قال (الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور) فسمى النوم موتة صغرى.

علاقة الروح بالجسد

علاقة الروح بالجسد وصفوة القول أن يقال: إن للروح علاقة مع الجسد تختلف من حال إلى حال، فبينهما علاقة قبل أن يوجد الجسد، يوم كانت أرواحنا في ظهر أبينا آدم، وعلاقة يوم كنا أجنة في بطون أمهاتنا فنفخ فينا الروح، وعلاقة شبه كمال، وهي علاقة الروح بالجسد في حال اليقظة، وعلاقة أقل منها، وهي علاقة الروح بالجسد في حال النوم، وعلاقة لا نعلم كنهها، وهي علاقة الروح بالجسد في حياة البرزخ، فإن الإنسان ينعم ويعذب في حياة البرزخ، وعلاقة هي علاقة الكمال والتمام تكون بعد البعث والنشور؛ لأنه لا موت بعدها. فنجم عن هذا ست علاقات: علاقة في عالم الأرواح، وعلاقة في عالم الأجنة، وعلاقة في عالم اليقظة، وعلاقة في عالم النوم، وعلاقة في عالم البرزخ، وعلاقة بعد البعث والنشور.

بيان معنى قوله تعالى (ويعلم ما جرحتم بالنهار)

بيان معنى قوله تعالى (ويعلم ما جرحتم بالنهار) يقول تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ} [الأنعام:60]. فقد جرت سنة الله في خلقه أن النهار للمعاش، فلما كان الإنسان في النهار يعمل ويكد من أجل عيشه بجوارحه، قال الله: {وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ} [الأنعام:60]. أي: ما كسبتم، فعبر بما تسببت به الآلة. وقوله تعالى: {ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ} [الأنعام:60] أي: يوقظكم من منامكم، أي: في النهار {لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى} [الأنعام:60]. وهذا باعتبار الأفراد، لا باعتبار الجماعات، بمعنى أن كل فرد له أجل مسمى كتبه الله جل وعلا عليه.

تفسير قوله تعالى: (وهو القاهر فوق عباده)

تفسير قوله تعالى: (وهو القاهر فوق عباده) ثم قال جل ذكره: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام:18]. وقد قلنا: إن السورة حجة في إثبات توحيد الربوبية والإلهية، فإذا كان الله جل وعلا قاهراً مالكاً لجميع الخلق، فإنه يفعل في خلقه ما يشاء، فهو تبارك وتعالى خلقهم ورزقهم، وجعل لهم طريقا موصلا إليه، وقال: {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} [الانشقاق:19] أي أن الخلق خلقوا أطواراً، حيث كانوا في ظهر أبيهم، ثم في بطون أمهاتهم، حتى أصبحوا ينامون بالليل ثم يبعثون بالنهار.

بيان معنى قوله تعالى (حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا)

بيان معنى قوله تعالى (حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا) وبعد ذلك بقي المرد إلى الله، فقال الله جل وعلا: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام:18] فلما كان قاهرا مالكا ملكا حقيقيا متصرفا قال: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ} [الأنعام:61]. و (إذا) في اللغة تأتي قبل التلبس بالفعل، فتقول: إذا قمت إلى الصلاة فتوضأ، أي: قبل أن تقوم إلى الصلاة تتوضأ. وكذلك: إذا وقفت بين يدي الله فكبر، و: إذا صليت فاقرأ القرآن، أي: بعد دخولك في الصلاة. فقوله تعالى هنا: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} [الأنعام:61] أي: حتى إذا قرب الموت وجاءت علاماته ودنت ساعته، {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ} [الأنعام:61]. والرسل هنا هم الملائكة، وينبغي أن تعلم أن قرب الله من خلقه نوعان: قرب بذاته، وقرب بملائكته، فالقرب بالملائكة منه قول الله جل وعلا في سورة الواقعة: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ} [الواقعة:85]. فليس المراد قرب الله بذاته، إنما هو قرب الله بملائكته، كما قال تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا} [الأنعام:61]. والأصل أن الموكل بقبض الأرواح ملك، ولكن هذا الملك له أعوان، ومفهوم الآية لا يخلو من أحد أمرين، وبهما قال العلماء: فإما أن تكون الملائكة هي التي تخرج الروح، حتى إذا دنت من الحلقوم تركتها لملك الموت، فهو الذي يقبضها، كما قال الله تعالى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} [السجدة:11]. فالله يقول في آية الأنعام: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا} [الأنعام:61]، وقال في السجدة: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ} [السجدة:11]. فقال بعض العلماء: إن الملائكة تقبض الروح، فتستلها من الجسم كله استلالا يختلف بين روح المؤمن وروح الكافر ليس هذا موضع بيانه، فإذا دنت الروح من الحلقوم قام ملك الموت بالنزع الأخير. وقال بعضهم: إن ملك الموت هو الذي ينزع الروح، وقد جعل الله له العالم كالمأدبة بين يدي من يريد أن يأكل، فيأخذ منها كيفما يشاء، فإذا كثر عليه في يوم قبض الأرواح فإنه يناديها فتأتي، وكل ذلك بأمر الله، وسواء صح هذا أو لم يصح فإن العقل لا يرده والشرع لا ينافيه. والمقصود هذا أمر الأمر الثاني أن يكون ملك الموت هو الذي يقبض الروح وحده، ولا يعينه غيره من الملائكة، ثم إذا قبضها لا تلبث في يده حتى يعطيها ملائكة آخرين، فإذا كانت روحا مؤمنة أعطاها لملائكة الرحمة، جعل الله جل وعلا أرواحكم كذلك. وإن كانت روحا كافرة أعطاها ملائكة العذاب، وهذا الرأي الثاني هو الذي تميل النفس إليه، والله أعلم. وقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ} [الأنعام:61]. أي: لا يضيعون في قبض الأرواح، ولا يتقدمون قبل الأجل ولا يتأخرون بعد الأجل، فحيثما أمرهم الله زمانا ومكانا يفعلون عليهم السلام.

تفسير قوله تعالى: (ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق)

تفسير قوله تعالى: (ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق) قال تعالى: {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ} [الأنعام:62]. (ثم) حرف عطف يفيد التراخي، والتعقيب، فهناك فترة زمنية بين قبض الروح، ورجوع العباد إلى الله ليحكم بينهم، وهي التي تسمى حياة البرزخ. فقوله تعالى: {ثُمَّ رُدُّوا} [الأنعام:62] أي الخلق {إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ} [الأنعام:62]، بكسر القاف؛ لأنها صفة للفظ الجلالة. وهنا مسألة، وهي أن الله هنا يتكلم عن جميع الأرواح مؤمنها وكافرها، فكل الأرواح مردها إلى الله، وقال الله في نعت ذاته العلية هنا: {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ} [الأنعام:62] مع أنه قال في سورة محمد: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ} [محمد:11]. {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ} [محمد:11]. فكيف يستقيم الجمع بين قول الله في كتابه: {وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ} [محمد:11] وقوله في آية عامة {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ} [الأنعام:62]. والجواب عن هذا أن يقال: إن كلمة (مولى) لفظ مشترك لعدة معان، فيأتي بمعنى المعتِق، ويأتي بمعنى المعتَق، فيقال للسيد الذي أعتق: مولى، ويقال للعبد الذي أُعتق: مولى. ويقال (مولى) بمعنى: مالك الملك، وهو هو المراد بالآية هنا، فقول الله جل وعلا {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ} [الأنعام:62] أي: ملكهم. وأما قول الله في سورة محمد: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا} [محمد:11] أي: ناصرهم، وقول الله {وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ} [محمد:11] أي: لا ناصر لهم، وإلا فالكفار والمؤمنون ملك لله. فمعنى (مولى) في سورة محمد: ناصر، ومعنى (مولى) في سورة الأنعام: مالك الملك، والله مالك أهل الكفر وأهل الإيمان، أما أن الله ناصر لأهل الإيمان فلا شك في ذلك، وليس الله بنصير لأهل الكفر. ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من كنت مولاه فعلي مولاه) أي: من كنت ناصره وحاميه فعلي ناصره وحاميه، فهذا معنى (مولى) في هذا الحديث الشريف. فيتحرر من هذا أن (مولى) لفظ مشترك لعدة معان، وهو في سورة الأنعام بمعنى مالك الملك، ولا شك في أن الله مالك للعباد كلهم.

بيان معنى قوله تعالى (ألا له الحكم وهو أسرع الحاسبين)

بيان معنى قوله تعالى (ألا له الحكم وهو أسرع الحاسبين) ثم قال تعالى: {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} [الأنعام:62]. قول الله: {أَلا لَهُ الْحُكْمُ} [الأنعام:62] فيه إشارة خفية إلى أنه ليس لأحد أمر لازم على الله، وإنما الله يحكم بما شاء، فيدخل من يشاء برحمته، ويعذب من يشاء بعدله. قال تعالى: {وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} [الأنعام:62]. فالله جل وعلا ليست ذاته كذوات المخلوقين، فلا يقاس حساب الله على ما نعلمه من محاسبة المخلوقين بعضهم لبعض، فالله جل وعلا -كما أنه خلق خلقه خلقا واحدا، فهو قادر على أن يخلقهم جملة، وقادر على أن يميتهم جملة، وقادر على أن يبعثهم جملة- قادر سبحانه وتعالى على أن يحاسبهم جملة، فهو جل وعلا له الحكم وهو أسرع الحاسبين.

تفسير قوله تعالى: (قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر)

تفسير قوله تعالى: (قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر) ثم قال الله جل وعلا: {قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ} [الأنعام:63 - 64]. ما زال السياق يبين أن السورة مكية، والمقصود منها في المقام الأول إثبات توحيد الإلهية، ولكن إثبات توحيد الألهية، لا يقوم إلا إذا ثبت توحيد الربوبية. وقلنا إن هنا أسلوبين: أسلوب تقرير وأسلوب تلقين. وبيان ذلك أن الله جل وعلا يخاطب أهل الإشراك الذين يشركون مع الله بأرض الواقع، ويقول لهم جل وعلا: إنكم تسافرون في البر وتسافرون في البحر، ويصيبكم من المشاق والكوارث والمصائب ما يجعلكم -وأنتم مشركون في حال الرخاء- توحدون الله، ولا تسألون معه غيره، كما أخبر الله جل وعلا في عدة سور بأنهم يلجئون إلى ربهم وحده دون سواه، كقوله تعالى: {دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [يونس:22]. والله تبارك وتعالى يبتلي عباده، ويدلل جل وعلا في خلقه المنثور وكتابه المسطور في الأرض على أنه الرب الأوحد، والمالك الذي لا يقدر على النفع ولا على الضر إلا هو، فلا يكشف بلوى ولا يدفع ضرا إلا هو، ولا يعطي عطاء ولا يمنح رحمة إلا هو. يقول تعالى: {قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [الأنعام:63]. وليس المقصود عين الظلمة، وإنما المقصود ما في البر والبحر من مشاق، ومن أمور تصيب الرجل والمرأة والجماعة والفرد على السواء، فإذا أصابهم الأمر وتيقنوا بالهلاك وعظم عليهم الأمر، واشتد عليهم الكرب، علموا أن لا ملجأ من الله إلا إليه، فلجئوا إلى الله جل وعلا مخلصين، يتضرعون بالدعاء سرا وإعلانا، أفرادا وجماعات، خفية وتضرعا، فإذا نجاهم الله واستجاب دعاءهم، ونقلهم من حال الخوف إلى حال الأمن، ومن حال الضراء إلى حال السراء، نسوا -عياذاً بالله- كل ذلك الأمر، ورجعوا إلى شركهم، قال الله: {وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ} [يونس:12]. وهذا أمر يتحقق في القريب والبعيد في الزمن الماضي وفي الزمن الحاضر وفي الزمن المستقبل، فكم من تاجر خاف على تجارته، وأيقن بغرقها، أو بتسلط غيره عليها، أو أيقن بالخسران، ففزع إلى الله في ظلمات الليل يسأل الله ويدعوه، فلما نجى الله له تجارته وأنعم عليه ورزقه، أخذ تلك الأموال التي اكتسبها فأنفقها في غير طاعة الله، وربما سافر بها سفر معصية، وهذه مرحلة أدنى، والمرحلة التي عناها الله في هذه السورة هي أن أهل الإشراك يرون الموت عيانا، فيفزعون إلى الله بقلوبهم وجوارحهم وألسنتهم، ويصرون على الدعاء ويلحون، ثم إن الله لعظمته وحلمه وكمال رحمته ينعم عليهم وينجيهم، فإذا شعروا بالأمان والرخاء رجعوا إلى أصنامهم وأوثانهم يعبدونها ويسألونها من دون الله، لكي تعلم أنه لا شيء أعظم من أن تشرك مع الله جل وعلا غيره، وأن يكون قلبك الذي فطره الله وخلقه وسواه وجبله على التوحيد وعلى إخلاص العبادة له قد اتجه إلى غير الله، وأن يلهج لسانك لأي فرد، ملكا أو أميرا أو سلطانا أو عالما أو داعية أو والدا أو ولدا أو زوجة أو ابنا أو محبا تحبه فتجعله مقدما على حبك لله جل وعلا. ومن أراد ما عند الله من النعيم، وخاف ما عند الله من الجحيم لم يقدم على ذات الله أحدا كائنا من كان، لا والدا ولا ولدا ولا أما ولا زوجة ولا أحداً كائنا من كان، ولا يتعلق قلبه بممثل ولا بلاعب، ولا بمعلم ولا بطالب، وإنما يجعل فؤاده وقلبه للرب تبارك وتعالى، فهذا هو التوحيد الذي بعث الله من أجله الرسل، وأنزل الله من أجله الكتب، وأقام النبي صلى الله عليه وسلم من أجله الجهاد. وكلما نقص حظ الله منك نقص حظك من الله، وكلما ابتعدت عن الله في توحيده وذكره وإجلاله ومحبته: كنت من رحمة الله أبعد، وإلى عذابه أدنى.

تفسير قوله تعالى: (قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب)

تفسير قوله تعالى: (قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب) ثم قال الله جل وعلا: {قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا} [الأنعام:64] أي: من هذا الكرب المخصوص الذي تسألونه، بل إن الله لا ينجيكم من كرب مخصوص تدعونه بعينه فحسب، بل {وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ} [الأنعام:64]، أي: ومن كل كرب عام علمته أو لم تعلمه، وقد ينجيك الله من كرب لم تدعه، بأن ينجيك منه، فلا تعلم أن ذلك الكرب في طريقه إليك، ولكن الله جل وعلا يزيله عنك من غير أن تعلم.

بيان شرك المشركين بعد النجاة من المهالك

بيان شرك المشركين بعد النجاة من المهالك ثم يقول الله جل وعلا بعد ذلك: {قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ} [الأنعام:64]. أي: مع تلك النجاة وتلك الرحمة وذلك الحلم من الرب تعودون -كما كنتم- تشركون مع الله جل وعلا غيره. والمقصود من هذا كله أنه لا يعقل أن نفسر سورة الأنعام، وقد جعلها الله في أغلب آياتها مخصصة للتوحيد، ودعوة إلى الإيمان به، ونبذا للشرك، ثم لا يخرج الإنسان منها بثمرة تجعله يسير في سائر أيامه حتى يلقى الله وليس في قلبه أحد يحب ويوالي ويبغض ويعادي من أجله غير الرب تبارك وتعالى، جعل الله قلوبنا وقلوبكم على تلك الفطرة السليمة.

تفسير قوله تعالى: (قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم)

تفسير قوله تعالى: (قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم) ثم قال الله: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} [الأنعام:65]. مناسبة الآية لما قبلها هي أن الله قد بين أنه قادر على أن ينجي من المهالك، فبين هنا أنه قادر على أن يلقي فيها، فالله بين في الآيتين قبلها أن الله قادر على أن ينجي عباده من المهالك، ويبين لهم هنا أنه قادر على أن يضعهم في المهالك، فقال تعالى: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ} [الأنعام:65] مثل الرجم {أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} [الأنعام:65] مثل الخسف {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} [الأنعام:65].

بيان ما دفعه الله عن هذه الأمة وما ابتلاها به مما ذكر في الآية

بيان ما دفعه الله عن هذه الأمة وما ابتلاها به مما ذكر في الآية وهذه الآية لا تحتاج إلى كلفة في الشرح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم -كما روى البخاري وغيره- لما نزلت هذه الآية فتلاها جبرائيل على النبي صلى الله عليه وسلم فقرأ: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ} [الأنعام:65] قال صلى الله عليه وسلم: (أعوذ بوجهه) فالنبي صلى الله عليه وسلم استعاذ بوجه الله، فلما استعاذ النبي بوجه ربه أعاذه الله، ومن هذا تعلم أن هذه الأمة لا يمكن أن تهلك بعذاب عام من السماء، فقرأ جبرائيل: {أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} [الأنعام:65] فقال صلى الله عليه وسلم: (أعوذ بوجهه)، ومن هنا تعلم أن هذه الأمة لا يمكن أن تهلك كلها بخسف من الأرض. ثم قرأ جبرائيل: {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} [الأنعام:65] فلم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: (أعوذ بوجهه)، ليمضي قدر الله، بل قال صلى الله عليه وسلم: (هذه أهون) وفي رواية: (أيسر) وفي رواية أخرى: (هاتان أهون وأيسر) ولم يستعذ بالله ليمضي قدر الله، وهذا أمر مشاهد واضح جلي، وهو أن الأمة ذاق بعضها بأس بعض، فمنذ أن قتل عثمان رضي الله عنه إلى يومنا هذا والأمة يذيق بعضها بأس بعض. وآخر ما حصل من ذلك في قمع الدولة للإرهابيين، فالذين ماتوا من هذه الطائفة مسلمون، والذين ماتوا من هذه الطائفة مسلمون. صحيح أنهم خارجون عن طاعة ولي الأمر، وأن ما فعلوه خطأ محض، ولا يجوز شرعا، ولكن هذا لا يخرجهم عن دائرة الإسلام، وكذلك الذين ماتوا ممن كانوا تحت طاعة ولي الأمر مسلمون، فهذا معنى قول الله {وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} [الأنعام:65]. وقوله تعالى: {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا} [الأنعام:65] الشيع: الفرق والأحزاب. والأمة منذ مقتل عثمان رضي الله عنه في أكثر أزمنتها وهي متفرقة أهواء وفرقا وشيعا. واعلم أن نبينا صلى الله عليه وسلم زويت له الأرض وقال (إن ملك أمتي سيبلغ ما زوي لي منها، وأعطيت الكنزين الأحمر والأبيض) أي ملك فارس وملك الروم. ثم دعا صلى الله عليه وسلم ربه بألا يهلك أمته غرقا، فاستجاب الله جل وعلا له، فالأمة لا تخاف من موتها كلها غرقاً؛ لأن هذا أمر سأله النبي صلى الله عليه وسلم ربه فأعطاه الله إياه. ثم سأله ألا يسلط عليها عدوا يستبيح بيضتها، و (بيضتها) مركزها وأصلها، والعصبة الرئيسة، فاستجاب الله جل وعلا لنبيه صلى الله عليه وسلم. وسأله ألا يذيق بعضهم بأس بعض، فمنعه الله جل وعلا ذلك، وقال: (أنني إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد). فتفهم من هذا أموراً، وذلك أنه لما حصل غزو العراق من قبل أمريكا خاف الناس، وبعضهم أرجف بأن تسلط أمريكا على دولة الحرمين، وتهلك مكة والمدينة، ولا شك في أن الذين خافوا قوم غيورون يريدون الخير للأمة، ولكن من كان لديه بضاعة قوية من العلم كان يعلم أن هذا لا يمكن أن يقع قدراً ولا شرعاً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه ربه وعداً بأنه لا يسلط عدوا على أمة الإسلام يستبيح بيضتها، ومن كان منصفا يعلم أن بيضة الإسلام اليوم هي دولة الحرمين، فهي بيضة الإسلام اليوم، ولا يمكن أن يُمكن لأمريكا ولا لغيرها أن تسلط تسلطا عسكريا على أرض الحرمين فتستبيح بيضتها وتهلك من فيها بالكلية، فهذا أمر لا يمكن أن يقع، لا على يد أمريكا ولا على يد غيرها؛ لأن هذا أمر سأله نبينا صلى الله عليه وسلم ربه فأعطاه الله إياه. ولكن الله منع النبي صلى الله عليه وسلم -لأمره وقضائه وحكمته- لما سأله ألا يسلط بعضهم على بعض، فقال الله جل وعلا: (إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد) وهذا أمر مشاهد، فإن الأمة تفرقت فرقا وأحزابا وشيعا منذ مقتل عثمان وحرب علي ومعاوية رضي الله عنهما.

الملجأ من الفتن

الملجأ من الفتن والمفر من هذا كله أن يعتصم الإنسان بكلمة المسلمين، وأن يلزم طاعة ولي الأمر، وأن يعلم أن يد الله جل وعلا مع الجماعة، وأنه من خرج عن الإمام قيد شبر مات ميتة جاهلية، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالصبر، وأمر بأمور عدة تقوى بها شوكة الإسلام. والتفاف بعض الناس على بعض وكونهم متحدين متفقين على إمام واحد، أغيض للعدو، وأعظم لإقامة شرائع الله وحدوده، والكمال عزيز، والنقص موجود، لكن لا يسدد مثل ذلك إلا بالتناصح والتشاور والسمع والطاعة في غير معصية الله تبارك وتعالى. والمقصود من هذا بيان أن الله جل وعلا في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم بين كثيراً من الأمور التي يسترشد بها العاقل، ويستنير بها المؤمن، ويتقي بها البصير، ويعرف بها الجميع الطريق الموصل إلى الله، وهذه مزية أهل العلم على غيرهم، وهي أنهم يعلمون من كتاب الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم ما يثبت الله جل وعلا به أفئدتهم، ويهديهم به إلى صراط مستقيم. لذلك قال الله بعد هذا كله {انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ} [الأنعام:65]. ولا ريب في أن الله فصل الآيات، وأبان لعباده طرائق الحق والطريق المستقيم، وأوضح ما يقرب منه، وما يدل عليه، وما يرشد في أمر الدين وأمر الدنيا، ولكن الناس يتفاوتون في مقدار العلم، وأهل العلم يتفاوتون في مقدار الأخذ بالعلم، والسمع والطاعة لله، والعمل بما يعملون، فكم من إنسان حافظ للقرآن متدبر له، ويعلم معانيه ومواطن نزوله وناسخه ومنسوخه، ولكن لا يعمل به، ومنهم من أضله الله على علم، فيقرأ ويأخذ، ولكنه لا يستفيد منه في واقع الحياة شيئا، وهذه رحمة من الله وفضل يؤتيه الله من يشاء، ومن أخلص لله النية، وصدق مع الله بلغه الله مناله، وأعطاه مراده، فنسأل الله جل وعلا لنا ولكم التوفيق، وصلى الله على محمد وعلى آله.

سلسلة تأملات قرآنية [10]

سلسلة تأملات قرآنية [10] في سورة الأنعام يقرر الله تعالى حقائق التوحيد بذكر قصة إمام الموحدين سيدنا إبراهيم عليه السلام، فقد ذكر تعالى عنه محاجته قومه في إثبات ضلال عبادتهم للأصنام والكواكب وخشيتهم منها، وإعلانه توجهه إلى الله تعالى فاطر السماوات والأرض، الأمر الذي أسبغ عليه فيه الله، فجعل النبوة في ذريته، وأفضل عليه بصلاحهم وصلاح آبائهم وذرياتهم وإخوانهم.

تفسير قوله تعالى: (وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناما آلهة)

تفسير قوله تعالى: (وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناماً آلهة)

ذكر مكانة إبراهيم عليه السلام

ذكر مكانة إبراهيم عليه السلام الحمد لله الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله الأولين وإله الآخرين، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله آخر الأنبياء في الدنيا عصراً وأرفعهم وأجلهم يوم القيامة شأناً وذكراً، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فإن الآيات التي سنقف عندها هي قول الله عز وجل: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ * وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} [الأنعام:47 - 75]، إلى ما بعدها من آيات، ثم ننتقل إلى قول الله عز وجل: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ} [الأنعام:93]. فنقول مستعينين بالله عز وجل: إنه لما كانت سورة الأنعام تتكلم عن عن عقيدة التوحيد التي بها بعث الله الرسل ومن أجلها أنزل الكتب ذكر الله جل وعلا في هذه السورة إمام الموحدين خليل الله إبراهيم عليه الصلاة والسلام. فإبراهيم عليه الصلاة والسلام أبو الأنبياء وشيخ الحنفاء، نسب الله جل وعلا الملة إليه في كتابه فقال الله جل وعلا: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج:78]، وهذا النبي الكريم يذكر كثيراً الثناء والمدح عليه من الله جل وعلا، وهو أهل لكل مدح، فهو أرفع الأنبياء قدراً بعد نبينا صلى الله عليه وسلم. ومع اتفاق المسلمين على أن إبراهيم بعد نبينا عليه الصلاة والسلام، وعلى أن نبينا صلى الله عليه وسلم أرفع العباد قدراً؛ مع ذلك ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه لما دخل مكة عام الفتح أمر بأن يخرج ما في الكعبة من صور، فكان مما أخرج صورة فيها إبراهيم وهو يستقسم بالأزلام، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (قاتلهم الله -يقصد كفار قريش- قاتلهم الله، والله لقد علموا ما استقسم شيخنا بها قط). وموضع الشاهد أن النبي صلى الله عليه وسلم سمى إبراهيم شيخه، ولم يسم النبي صلى الله عليه وسلم أحداً من الأنبياء بأنه شيخه إلا إبراهيم، وهذه المسألة يجب أن تحفظ وتحرر، فهي من فرائد العلم الذي يستبينه طالب العلم لنفسه، وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم سمى هذا النبي الصالح شيخه، مع الاتفاق على أن النبي عليه الصلاة والسلام أفضل من إبراهيم. وفي ليلة المعراج لما عرج به صلى الله عليه وسلم قابله إخوانه من النبيين، فلما مر على إبراهيم قال إبراهيم لنبينا: (السلام عليك أيها النبي الصالح والابن الصالح)؛ لأن الله جل وعلا جعل كل نبي بعد إبراهيم من ذرية إبراهيم، قال العلماء: ما أنزل كتاب بعد إبراهيم من السماء على نبي من الأنبياء إلا وذلك النبي من ذرية إبراهيم، وسيأتي بيان هذا إن شاء الله تعالى. والمقصود أن هذا هو جملة ما يمكن أن يقال عن إمام الحنفاء أبينا إبراهيم عليه السلام.

دعوة إبراهيم لأبيه آزر

دعوة إبراهيم لأبيه آزر يخبر الله جل وعلا هنا أن إبراهيم كان يدعو الناس جميعاً مِن أهل عصره الذين بعث فيهم وفي مقدمتهم أبوه، وهو هنا يدعو أباه، قال الله: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ} [الأنعام:74]، وأهل التاريخ يقولون: إن اسم أبي إبراهيم (تارح) وليس (آزر)، وحجتهم في هذا اتفاق كثير من النسابة على أن والد إبراهيم اسمه: (تارح) وعلى أن هذا المذكور في التوراة. ولكن هناك مثل يقول: إذا جاء نهر الله بطل نهر معقل، وقد قلنا: إن الإنسان عليه أن يستمسك بأصل، فإذا جاءت شبهات وعوارض على هذا الأصل فإنه يبقي على الأصل ويترك العوارض، فلو أجمع أهل النسب على أن اسم والد إبراهيم: (تارح) فإجماعهم مردود؛ لأن الآية لا تحتمل أكثر من النص الصريح، فالله يقول: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً} [الأنعام:74] فالله أسماه (آزر) فلا معدل عما سماه الله جل وعلا به. فقالوا: هذا عمه، وقالوا: هذا لقب لأبيه، وقالوا عدة أمور يخرجون بها المقصود. يقول تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً} [الأنعام:74]، (اتخذ): فعل يتعدى إلى مفعولين: فمفعوله الأول هنا: (أصناماً)، ومفعوله الثاني: (آلهة). ويمكن أن تقول: معنى الآية: تتخذ آلهة أصناماً. وكلا المعنيين صحيح، لكن القرآن نزل بقوله تعالى: {أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً} [الأنعام:74]. فإبراهيم يعيب على أبيه أن يعبد الأصنام ويترك عبادة الله الواحد القهار. وهذا الخطاب الذي قاله إبراهيم عليه الصلاة والسلام لأبيه جاء مبيناً في سور عدة، ففي آيات أخر بين الله جل وعلا الأسلوب الدعوي الذي كان يخاطب به إبراهيم أباه، حيث يقول: {سَلامٌ عَلَيْكَ} [مريم:47] كما جاء في سورة مريم، وهو دلالة على أن الإنسان يجب أن يعلم أننا -نحن المسلمين- ندعو إلى شيء واحد هو توحيد الله ودين الإسلام، فلا يختلف ما ندعو إليه، ولكن الذي يختلف هو طرائق الدعوة. فالإنسان يدعو ويتغير أسلوبه بحسب حال المدعو، أما ما تدعو إليه فشيء ثابت لا يتغير، ونحن ندعو إلى الله وإلى ما أمر الله به وما أمر به رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذه هي دعوة الأنبياء، ونحن متبعون. وقد تنوعت طرائق دعوة الأنبياء، فخطاب إبراهيم لأبيه ليس كخطابه لقومه كما سيأتي.

تفسير قوله تعالى: (وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض)

تفسير قوله تعالى: (وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض) ثم قال الله جل وعلا: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} [الأنعام:75]. إن فضل الله جل وعلا على هذا العبد الصالح لا يعد ولا يحصى، ومنه أن الله أراه ملكوت السماوات والأرض. (ملكوت) التاء فيها زائدة للمبالغة، والمعنى: أن هناك مُلكاً وهناك ملكوتاً، فالملك: ما تشاهده بعينك، والملكوت: ما وراء ما تشاهده بعينك. فالله جل وعلا من على إبراهيم بأن أراه ملكوت السماوات والأرض، وقد يكون ذلك برؤية بصرية تؤدي إلى يقين قلبي، وقد تكون مجرد يقين قلبي في صدر إبراهيم. والمقصود أن الإنسان ينظر إلى ما حوله، والناظرون إلى ما حولهم ينقسمون إلى قسمين: قوم ينظرون نظر إبصار، وقوم ينظرون نظر اعتبار، ونظر الاعتبار خير من نظر الإبصار؛ لأن الإبصار يشترك فيه كل من يبصر، ولكن نظر الاعتبار يختلف عن نظر الإبصار، وليس كل من نظر نظر اعتبار يوفق إلى المقصود، فالذين ينظرون نظر اعتبار منهم مهتدون ومنهم غير مهتدين، فيوجد من النصارى من يتأملون في السماوات، ويتأملون في الأرض، ويتأملون في الناس ويكتبون ويدونون، فهم ينظرون نظر اعتبار، ولكنهم لم يحصلوا على المقصود. فهؤلاء -وإن نظروا نظر اعتبار- لم يحصلوا على المقصود، والهداية من الله. ونظر الاعتبار لا يتعدى كونه وسيلة من وسائل الحصول على الهداية، وإلا فالهداية من الله، فمن رام شيئاً فإنه يطلبه من ربه الله جل وعلا. والله تعالى يقول: {أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الأعراف:185]، وهنا يقول الله: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} [الأنعام:75]. واليقين درجة عالية من أحوال المؤمنين، ولا شك في أن إبراهيم عليه السلام من أعظم الموقنين، فقوله تعالى: (وليكون من الموقنين) أصل؛ لأن الله قاله نصاً.

تفسير قوله تعالى: (فلما جن عليه الليل رأى كوكبا)

تفسير قوله تعالى: (فلما جن عليه الليل رأى كوكباً) ثم قال الله جل وعلا بعدها: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} [الأنعام:76 - 78]. وقبل أن نشرع في التفسير نقول: لا يمكن أبداً أن يصدق قول من قال من المفسرين: إن إبراهيم قال هذا على الحقيقة، وإنه قاله في طفولته، فهذا أمر لا يمكن أن يعقل؛ لأن الله وصف إبراهيم في كتابه بأنه إمام للحنفاء، وقال عنه: إنه من الموقنين، وقد دل القرآن وتواترت السنة على أن هذا العبد الصالح من أعظم من تيقن بالله، فكيف ينسب إليه الشرك في مرحلة من مراحل عمره؟! والحق أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام قال هذا كله في موضع المناظرة والمحاجة مع قومه. قال تعالى: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي} [الأنعام:76]، كان كوكب الزهرة، ولم يقصد أن يقول: إنه ربه يقيناً، فيستحيل أن يطبق هذا على إبراهيم، وقد قلنا: إن من القواعد أن تأخذ الأصل، وما جاء من شبهات وعوارض تفندها بثباتك على الأصل، فالتفنيد يكون بأن نقول: إن إبراهيم قال هذا في موضع المناظرة والمحاجة مع قومه. وقد قلنا: إن طرائق الدعوة تختلف مع الناس، فكان ثلة من قومه لا يعبدون الأصنام، بل يعبدون الكواكب، فيعبدون المشتري، والشمس، والقمر، وفريق منهم يعبدون الأصنام، فتعامل مع كل فريق بطريقة معينة، وأهل الأصنام ذهب إلى أصنامهم وهدمها، وأما الكواكب فليس له عليها حتى يهدمها، فتعامل معهم بالعقل. قال الله تعالى: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ} [الأنعام:76]، قوله: (جن عليه) بمعنى: غشيه، ولذلك سميت الجنة جنة، وسمي الطفل في بطن أمه جنيناً، وسميت الجن جناً؛ لأنها لا ترى بالأعين، فكل ما غاب واستتر وتغطى يدخل في مادة (جنة). فالله يقول: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا} [الأنعام:76]، والكواكب لا ترى في النهار، فلما رأى كوكباً قال لمن حوله بأسلوب يبين لهم به أنه يريد أن يصل معهم إلى الحق: {هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ} [الأنعام:76]. وإبراهيم قد رأى الكواكب قبل هذا اليوم، ففي كل يوم يرى الكواكب تأفل، ويرى القمر يأفل، ويرى الشمس تأفل، ولكنه الآن يتعامل مع أناس كانوا على تلك العقول. يقول تعالى: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي} [الأنعام:76] يقال: إنه الزهرة. والذي يعنينا أنه كوكب. قال تعالى: {فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ} [الأنعام:76]، يقول لهم: لا يصلح أن يكون رباً وهو يُسَيَّر ويُؤمر ويُحرك من مكان إلى مكان.

تفسير قوله تعالى: (فلما رأى القمر بازغا)

تفسير قوله تعالى: (فلما رأى القمر بازغا) قال تعالى: {فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا} [الأنعام:77] في اليوم التالي، فهو يريد أن يشعرهم بأنه واحد منهم يبحث عن الحق حتى يشعروا أنه غير متسلط عليهم، قال تعالى: {قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ} [الأنعام:77]، فما قال: لا أحب الآفلين. لأن هذا جواب قد سبق، فقال: {لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ} [الأنعام:77] حتى يبين لهم أنه في أعظم العطش والظمأ إلى الهداية.

تفسير قوله تعالى: (فلما رأى الشمس بازغة)

تفسير قوله تعالى: (فلما رأى الشمس بازغة) ثم جاء اليوم الثالث، ومع الصبح ظهرت الشمس، قال تعالى: {فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ} [الأنعام:78] حتى يهيئهم للجواب {فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} [الأنعام:78]، ولم يقل: ابرءوا مما تشركون. بل قال: {إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} [الأنعام:78]، أن الإنسان لا يقبل الناس منه الشيء في الغالب حتى يطبقه على نفسه. فالناس يأخذون علم من يرونه يأخذ بالعلم، وإن كان هذا ليس فيه حجة للناس، ولكن الناس إنما يتبعون في الغالب من يرون أنه يطبق ما يدعوهم إليه، كما قال العبد الصالح شعيب عليه السلام: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} [هود:88].

تفسير قوله تعالى: (إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض)

تفسير قوله تعالى: (إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض) فلما برئ مما يشرك به قومه أصبح الناس ينتظرون منه ما سيعبده، فقال: {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام:79]. ولم يقل عليه السلام: وجهت وجهي لمن خلق الشمس والقمر والنجوم التي كان يحاجج بها، وإنما أدرج في ذلك كل المخلوقات؛ لأن الله رب المخلوقات جميعاً، فقال: {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام:79]، فهو عليه السلام -إمام الحنفاء، وشيخ الأنبياء، وإليه تنسب الملة، وكان شيخ الحنفاء لأربعة أمور: أولها: أنه جعل ماله للضيفان. والثاني: أنه جعل بدنه للنيران. والثالث: أنه جعل ولده للقربان. والرابع: أنه جعل قلبه للرحمن.

تفسير قوله تعالى: (وحاجه قومه)

تفسير قوله تعالى: (وحاجه قومه) ومع ذلك كله لم يقتنع قومه، قال الله جل وعلا: {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ} [الأنعام:80]، أخذوا يحاجونه فيما يقول، فرد عليهم: {قَالَ أَتُحَاجُّونِي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ} [الأنعام:80]، أي: كيف يعقل أن أقبل أقوالكم الباطلة وآراءكم الفاسدة والله جل وعلا قد من علي بالهداية؟! والعاقل لا يترك الحق من أجل الباطل، ولا يترك الشيء البين الواضح من أجل الشيء المختلط الفاسد، فهذا لا يفعله صغار العقلاء، فما بالك بشيخ الأنبياء عليه السلام؟! قال الله: {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ} [الأنعام:80].

توحيد الله فطرة في النفوس

توحيد الله فطرة في النفوس وقوله: {أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ} [الأنعام:80] يدل على بلاغة القرآن، فحين تقول لإنسان: تذكر، فمعنى ذلك أن الشيء المطلوب كان يعرفه، وأما الأمر بتعلم شيء فمعناه معرفة شيء لم يكن يعرفه. فتوحيد الله جل وعلا شيء مفطور في النفوس، فقال لهم صلوات الله وسلامه عليه: {أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ} [الأنعام:80]، يعني: لو رجعتم إلى أنفسكم قليلاً لتذكرتم الشيء الذي فطره الله في قلوبكم، ولعرفتم أنه لا رب غيره ولا إله سواه. فهذا يدل على أن عقيدة التوحيد أمر مفطور في النفوس يعرفه كل أحد إذا من الله جل وعلا عليه بالهداية.

تفسير قوله تعالى: (وكيف أخاف ما أشركتم)

تفسير قوله تعالى: (وكيف أخاف ما أشركتم) ثم قال: {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:81 - 82]. ومجمل الآية أن إبراهيم يقول: اتبعت وعبدت من بيده الضر والنفع، وأنتم تعبدون من ليس بيده ضر ولا نفع، فمن الذي يخاف؟! وذلك أنهم لما عبد الله قالوا: نخاف عليك من آلهتنا ومن أصنامنا، ونخاف عليك من الشمس، ونخاف عليك من القمر، ونخشى عليك من النجوم. فالله يعلمه أن يقول لهم: {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ} [الأنعام:81]، يعني: كيف أخاف من الذين أشركتم بهم من أصنامكم وأنتم لا تخافون من الله؟! مع أن الأصل أن الذي يخشى منه هو الله؛ لأن بيده الضر والنفع، أما أصنامكم هذه فلا تضر ولا تنفع ولا تقدم ولا تؤخر، وكل من عبد من غير الله لا يقدم ولا يؤخر ولا يضر ولا ينفع، فهذه الأمور كلها بيد الله. قال تعالى: {فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ} [الأنعام:81]، وهذا استفهام استنكاري {إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنعام:81].

المراد بالظلم في قوله تعالى (ولم يلبسوا إيمانهم بظلم)

المراد بالظلم في قوله تعالى (ولم يلبسوا إيمانهم بظلم) ثم جاء A { الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:82]. هذه الآية لما نزلت شق ذلك على الصحابة كما روى البخاري وغيره، فقالوا: يا نبي الله! وأينا لم يظلم نفسه قط؟! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس بالأمر الذي تعنون، إنما هوكما قال العبد الصالح: إن الشرك لظلم عظي)، فيصبح معنى قول الله جل وعلا: {وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام:82]، ولم يلبسوا إيمانهم بشرك.

تلازم الأمان والخوف

تلازم الأمان والخوف قال تعالى: {أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:82]. وقد جرت سنة الله في خلقه بأن من خاف الله في الدنيا أمن يوم القيامة، ومن لم يخف الله في الدنيا خاف يوم القيامة، فلا يجمع الله على عبد خوفين ولا يعطي عبداً أمنين، وإنما الأمن الموجود في الدنيا السكينة والرضا بالله، ولا يعني ذلك عدم الخوف من الله، فالله جل وعلا لما ذكر الساعة ذكر عن المؤمنين أنهم: {مُشْفِقُونَ مِنْهَا} [الشورى:18] أي: خائفون من الساعة، فالخوف لا بد منه في الحياة الدنيا.

تفسير قوله تعالى: (وتلك حجتنا آتينا إبراهيم)

تفسير قوله تعالى: (وتلك حجتنا آتينا إبراهيم) ثم قال جل ذكره: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} [الأنعام:83]. أي: هذه الحجج التي أعطيناها إبراهيم ليرد بها على قومه فضل من الله على هذا العبد الصالح، ولذا قال تعالى: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا} [الأنعام:83]، فلما كانت من الله كانت فضلاً منه. ثم قال الله: {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ} [الأنعام:83]، وإبراهيم من أعظم من رفعهم الله جل وعلا درجات.

تفسير قوله تعالى: (ووهبنا له إسحاق ويعقوب)

تفسير قوله تعالى: (ووهبنا له إسحاق ويعقوب) وبعد أن من الله عليه بالعطاء من النبوة والرسالة من الله عليه بالذرية فقال الله: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [الأنعام:84]، {وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ} [الأنعام:85 - 86]. إن الأنبياء المذكورين في القرآن خمسة وعشرون نبياً، فهذه الآية في الأنعام ذكر الله فيها ثمانية عشر نبياً، وبقي منهم سبعة لم يذكروا في سورة الأنعام. وهؤلاء السبعة هم شعيب، وإدريس، وصالح، وهود، ومحمد صلى الله عليه وسلم وآدم، ويونس، وقد نظم الجميع في بيت شعر، فقيل: في تلك حجتنا منهم ثمانية من بعد عشر ويبقى سبعة وهمو إدريس هود شعيب صالح وكذا ذو الكفل آدم بالمختار قد ختموا وهؤلاء الذين ذكروا في القرآن في غير هذه الآيات، فذكر الله ذا الكفل، وذكر آدم، وذكر محمداً صلى الله عليه وسلم، وذكر شعيباً، وهوداً، وإدريس، وصالحاً

إكرام الله تعالى لإبراهيم بيعقوب نافلة

إكرام الله تعالى لإبراهيم بيعقوب نافلة يقول تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ} [الأنعام:84] أي: لإبراهيم {إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} [الأنعام:84]، وقد ذكر تعالى أنه وهب له يعقوب نافلة في آية أخرى، والنافلة: هي الزيادة على الأصل، وهي تختلف، فكل شيء زاد عن الأصل يسمى نافلة، فقيام الليل يسمى نافلة لأنه زيادة على الصلوات المكتوبة، ولذا قال الله: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ} [الإسراء:79]. والناس عندما يغزون يريدون النصر، عندما يحصل النصر وتحصل غنائم يكون الزائد هو الغنائم، فلذلك قال الله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ} [الأنفال:1]. ففي يعقوب قال الله: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً} [الأنبياء:72]، فذكر الله جل وعلا أنه رزقه إسماعيل، ثم رزقه بعد إسماعيل إسحاق، ثم زيادة على الأبناء رزقه أبناء الأبناء، فسمى يعقوب نافلة؛ لأنه زيادة على الأصل وهو الولد.

بيان معنى قوله تعالى (ونوحا هدينا من قبل)

بيان معنى قوله تعالى (ونوحاً هدينا من قبل) يقول تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ} [الأنعام:84]، أي: من قبل إبراهيم، وهذا يسمى إضافة منقطعة، و (قبل) و (بعد) إذا أضيفتا تجران، وإذا لم تضافا تبنيان على الضم، كما قال تعالى: {مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ} [النور:58] فلما أضيفت إلى صلاة كسرت، وقال: {لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} [الروم:4]، فحذف المضاف إليه فضمتا. وهنا يقول الله: {وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ} [الأنعام:84] أي: من قبل هداية إبراهيم زمنياً، وإن كان إبراهيم أفضل من نوح. ونوح يسمى شيخ الأنبياء؛ لأنه أطولهم عمراً، وإبراهيم يسمى أبا الأنبياء؛ لأن كل الأنبياء بعده من سلالته وذريته.

بيان مرجع الضمير في قوله تعالى (ومن ذريته)

بيان مرجع الضمير في قوله تعالى (ومن ذريته) قال تعالى: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ} [الأنعام:84]، وهذا موضع إشكال؛ لأنه لا يدرى أيعود الضمير على نوح أو على إبراهيم. فإذا قلنا: إنه يعود على نوح فذلك يؤيده أمران: الأول: أن قواعد اللغة تقول: إن الضمير يعود إلى أقرب مذكور، وأقرب مذكور هو نوح. والأمر الثاني: أن الله قال: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ} [الأنعام:84 - 85]، في الآية الثالثة هي {وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ} [الأنعام:86]، ولوط بالاتفاق ليس من ذرية إبراهيم، بل ابن أخيه، فلوط هو ابن هاران، وهاران أخو إبراهيم، فمن حيث النسب الصريح ليس لوط ابناً لإبراهيم، وإنما هو ابن أخيه. فقالوا: هذان دليلان على أن المقصود نوح. والذين قالوا: إن الضمير في قوله تعالى: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ} [الأنعام:84]، وعائد على إبراهيم قالوا: إن الآيات في مقام الثناء على إبراهيم، وهذا واضح، فالله تكلم عن إبراهيم، وقوله: {وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ} [الأنعام:84] جملة اعتراضية. الأمر الثاني: قالوا: إن الله سمى في القرآن العم أبا، وذلك في سورة البقرة حيث قال تعالى: {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} [البقرة:133]، فأبناء يعقوب يقولون لأبيهم: {نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} [البقرة:133]، فإبراهيم أبو يعقوب لأنه جده، وإسحاق أبو يعقوب مباشرة، ولكن إسماعيل ليس أباً ليعقوب، وإنما هو عم له، فقالوا: هذا من الأدلة على أن الله سمى في كتابه العم أباً ولا يوجد راجح؛ لأنه لا يوجد مرجح، فلا يكون القول راجحاً حتى يكون هناك مرجح، ولا يوجد مرجح، فهذان قولان متكافئان، فنقول: تحتمل الآية الأمرين، والله أعلم بمراده منها، تأدباً مع كتاب الله.

ذكر سبب تقديم داود عليه السلام في الذرية

ذكر سبب تقديم داود عليه السلام في الذرية قال تعالى: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وهَارُون} [الأنعام:84]، وكلهم سبق ذكرهم، وقدم الله داود وسليمان؛ لأن الله أعطاهم الملك والنبوة.

ذكر خبر يحيى عليه السلام

ذكر خبر يحيى عليه السلام ثم قال تعالى: {وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى} [الأنعام:85]، ويحيى ابن لزكريا، وقد مات يحيى عليه السلام في حياة أبيه مقتولاً، وقد سمى الله تعالى ابن زكريا يحيى، ولم يكن أحد يسمى يحيى قبل هذا الاسم، كما قال الله: {لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا} [مريم:7]. فأسماه يحيى لأنه مات شهيداً، فناسب الاسم المسمى، فالشهداء أحياء عند ربهم يرزقون. قال تعالى: {وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى} [الأنعام:85]، وما القرابة بين عيسى ويحيى هي أنهما ابنا خالة، وقد ورد حديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه: (ما من أحد من ولد آدم إلا وقد عصى الله طرفة عين، ليس يحيى بن زكريا)، فلم يعصي الله هذا الرجل طرفة عين، ويظهر من نصوص التواريخ أنه مات صغيراً عليه السلام.

ذكر مبعث إلياس عليه السلام

ذكر مبعث إلياس عليه السلام قال تعالى: {وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ} [الأنعام:85] وإلياس ذكره لله ست مرات في القرآن، وبعثه الله جل وعلا إلى أهل بعلبك شرقي دمشق في لبنان حالياً، وقد قال الله جل وعلا في كتابه: {وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ * أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ} [الصافات:123 - 125].

تفسير قوله تعالى: (وإسماعيل واليسع ويونس ولوطا)

تفسير قوله تعالى: (وإسماعيل واليسع ويونس ولوطاً) ثم قال تعالى: {وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ} [الأنعام:86]. وقد قلنا: إن لوطاً بالاتفاق ليس ابنا لإبراهيم، ولكنه ابن لـ هاران وهاران أخ لإبراهيم، فإبراهيم عم له، والله قد سمى العم أباً في كتابه، والاحتجاج بالقرآن ليس بعده احتجاج. ويفهم من السياق الذي سلف أن مراتب التفضيل أربع: النبوة، والصديقية، والشهادة، والصلاح، قال الله تبارك وتعالى: {فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا} [النساء:69].

ذكر نعمه على إبراهيم بالتفضل والصلاح في ذريته وآبائهم وأبنائهم وإخوانهم

ذكر نعمه على إبراهيم بالتفضل والصلاح في ذريته وآبائهم وأبنائهم وإخوانهم قال جل وعلا: {وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ} [الأنعام:86]، أي: فضلناهم بالنبوة {وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأنعام:87]، قوله تعالى: {آبَائِهِمْ} [الأنعام:87] يعني الأصول، ثم قال: {وَذُرِّيَّاتِهِمْ} [الأنعام:87]، ولم يقدم ذكر الإخوة، بل قدم الأبناء لأنهم فروع، فما دام أنه ذكر الأصول فسيذكر الفروع، ثم قال: {وَإِخْوَانِهِمْ} [الأنعام:87]، والإخوان ليسوا أصولاً وليسوا فروعاً، وإنما حواش، فترتيب القرآن ترتيب منطقي، حيث ذكر الله أولاً الأصول، ثم ذكر الفروع، ثم ذكر الحواشي. فالله يريد أن يقول: إن نعمة الله على إبراهيم ليست محصورة في هؤلاء الصالحين في أنفسهم، وإنما في أصولهم وفروعهم وحواشيهم.

الهداية بيد الله

الهداية بيد الله قال تعالى: {وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأنعام:87]، والذي اجتباهم هو الله، {وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأنعام:87]، ولأجل ذلك قال بعدها: {ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:88]. فكل من يلتمس شيئاً لن يلتمس شيئاً أعظم من الهداية، والهداية إنما تطلب من الله، وسيأتي بيان هذا بعد قليل، فلا شيء يطلب في الدنيا أعظم من الهداية، والهداية إنما تطلب من الله. ولذلك قال الله: {ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ} [الأنعام:88] فنسبه وأضافه إلى نفسه، {يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [الأنعام:88].

حبوط الأعمال بالشرك

حبوط الأعمال بالشرك ثم قال تعالى: {وَلَوْ أَشْرَكُوا} [الأنعام:88] على الفرض، وإلا فلا يعقل أنهم سيشركون {لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:88]، ونستفيد منها إجمالاً: أن الشرك يحبط كل عمل.

تفسير قوله تعالى: (ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا)

تفسير قوله تعالى: (ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً) قال الله جل وعلا: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} [الأنعام:93]. لا شيء أعظم من أن يفتري الإنسان على الله الكذب، ولذا قال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} [الأنعام:93]، أي: لا أحد أعظم جرماً ممن يفتري الكذب على الله، وليس بمعقول أن يأتي إنسان ينتسب إلى الملة ويفتري على الله الكذب، فحاشاكم من ذلك بإذن الله. والمقصود ترك الجرأة والقول على الله بلا علم، كما قال تعالى: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ} [النحل:116]، فهذا الذي يعنينا، ولكن الآية المخاطب بها في الأصل كفار قريش، وكانوا يكذبون على الله ويفترون على الله الكذب، وينسبون إلى الله جل وعلا ما لم يقله الله ولم ينزله على أحد. فأخبرهم الرب جل وعلا بأن هذا ظلم شنيع، وأنه لا أحد أعظم فرية من ذلك، فقال: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ} [الأنعام:93]، ويدخل في هذا مسيلمة ويدخل فيه الأسود العنسي.

ذكر خبر عبد الله بن أبي السرح

ذكر خبر عبد الله بن أبي السرح وهنا تذكر قصة، وهي قصة رجل من الذين أسلموا قديماً اسمه: عبد الله بن سعد بن أبي السرح. وهذا الرجل أرضعته أم عثمان رضي الله عنه، فهو أخ عثمان من الرضاعة، ولما أسلم كان يحسن الكتابة، فجعله النبي صلى الله عليه وسلم كاتباً للوحي. فلما أنزل الله سورة المؤمنون وفيها: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ} [المؤمنون:12 - 13]، كان الرسول يتلوها وهذا الرجل يكتب، حتى وصل إلى قول الله جل وعلا: {ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ} [المؤمنون:14]، قال قبل أن يملي عليه الرسول: تبارك الله أحسن الخالقين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (هكذا أنزلت علي). فاغتر بنفسه، فترك كتابة الوحي وقال: إن كان محمد صادقاً فيما يقول فأنا يوحى إلي كما يوحى إليه، وإن كان محمد كاذباً فيما يقول فأنا أقول كما يقول. وترك الإسلام والتحق بكفار قريش، ولذلك قال الله: {وَمَنْ قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ} [الأنعام:93]، ولكن كان الله يعلم أزلاً أنه سيتوب، فلم يسمه باسمه الصريح في القرآن، فلما ذهب إلى مكة وحصل فتح مكة في العام الثامن ودخلها النبي صلى الله عليه وسلم بقتل عبد الله بن خطل وعبد الله بن سعد وعكرمة ولو كانوا متعلقين بأستار الكعبة، فأما عبد الله بن خطل فتعلق بأستار الكعبة فلم تنجه وقتل، ورجل آخر يقال له: ابن يسار قتل في السوق. وأما عكرمة وعبد الله بن سعد ففرا، فذهب عثمان رضي الله عنه إلى أخيه من الرضاعة الذي هو عبد الله وطلب منه أن يدخل معه ليؤمنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدخل عثمان رضي الله عنه وأرضاه بأخيه عبد الله على النبي صلى الله عليه وسلم ورسول الله كاره لتوبته؛ لأنه قال ما قال، فطلب عثمان الأمان لـ عبد الله، فسكت صلى الله عليه وسلم طويلاً قبل أن يعطيه الأمان رجاء أن يقوم أحد فيقتله، فلم يقم أحد، ولم يفطن الصحابة لهذا؛ ليمضي قدر الله، ثم قال صلى الله عليه وسلم: (نعم)، فأعطى عثمان الأمان. فلما خرج قال عليه الصلاة والسلام: (لقد أطلت الصمت رجاء أن يقوم أحدكم فيقتله)، فقال رجل من الأنصار: هلا أومأت إلي يا رسول الله؟! فقال: (إنه لا ينبغي لنبي أن تكون له خائنة أعين)، صلوات الله وسلامه عليه. فالله تعالى يقول: {ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ} [الأنعام:88]، حتى تعلم أن القلوب كلها بيد الله يفعل بها ما يشاء، فهذا الذي ارتد أسلم بعد ذلك وحسن إسلامه، فلما كانت خلافة عثمان رضي الله تعالى عنه فأصبح أميراً للمؤمنين جعل عبد الله بن سعد والياً على مصر، وهو الذي قاد معركة ذات الصواري، وهي أول معركة حربية في الإسلام، وتم كثير من فتح بلدان إفريقيا على يديه، ثم لما رجع حصلت الفتنة بين علي ومعاوية، فاعتزلها ولم يبايع لـ علي ولا لـ معاوية، وسكن في الرملة المدينة المعروفة في فلسطين، ثم مكث فيها ما شاء الله إلى قبل انتهاء ولاية علي، ثم إنه ذات يوم قال: اللهم اقبضني إليك في صلاة الصبح. فصلى بالناس صلاة الصبح فقرأ في الأولى الفاتحة والعاديات، وقرأ في الثانية، ثم سلم التسليمة الأولى، ومات قبل أن يسلم التسليمة الثانية. فهذا كله يدل على أن القلوب بيد الله، وقد يكون الإنسان متلبساً بالمعصية، وهو يحب أن يهتدي، وأنا أرى اليوم شباباً مباركين أسأل الله أن يهدينا وإياهم إلى سواء السبيل. ولو استطعت أن تدخل إلى قصر أمير لاستحيا الأمير أن يردك بدون شيء، وهو بشر، فكيف وقد دخلنا أجمعين بيت أرحم الراحمين؟! ففي صلاتك هنا وفي دعائك وفي استغفارك ليكن قلبك متعلقاً بالله، فتطلب من الله الهداية، وتطلب من الله غنى النفس، وتطلب من الله الرحمة، وتطلب من الله التوفيق، وتطلب الله أن يرزقك حسن الخاتمة، وتطلب من الله أن يقيك عذاب القبر، وأن يقيك عذاب النار، وتطلب من الله دخول الجنة. والمقصود أنه كلما آمن الإنسان بأن الهداية والرحمة والفضل والإحسان بيد الله وطلبها بقلبه قبل أن يطلبها بلسانه أعطاه الله جل وعلا إياها، ولكن لا تستعجل، وكن صادقاً مع ربك يصدقك الله تبارك وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت)

تفسير قوله تعالى: (ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت) ثم قال الله جل وعلا: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ} [الأنعام:93]، هذا تصوير لكيفية نزع أرواح أهل الإشراك، وقبض الأرواح موكل به ملائكة، والنفس إما أن تكون مؤمنة وإما أن تكون كافرة، ولأن الكفر والإيمان لا يستويان كان من البداهة ألا يستوي قبض روح المؤمن وقبض روح الكافر، والله يصور هنا قبض أرواح الكفار. والغمرة في اللغة: لجج الماء التي تغطي صاحبها، فالإنسان حين يضربه الموج تنقله وغمرات الماء من مكان إلى مكان يصيبه الخوف الشديد والرعب، فالله جل وعلا يقول: إن هؤلاء الكفار تتخبط روحهم في أجسادهم قبل أن تخرج، والملائكة تضربهم وتقول لهم {أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ} [الأنعام:93] أي: أوجدوا لأنفسكم خلاصاً ومنجى ومخرجاً إن استطعتم. قال تعالى: {أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ} [الأنعام:93]، وليس المقصود أنه ليس بعده عذاب، ولكن هذا أول مراحل العذاب. وقوله: {الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ} [الأنعام:93]، أي: عذاب الذلة، وعذاب الصغار. ثم ذكر السبب فقال تعالى: {عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} [الأنعام:93]. والاستكبار عن آيات الله أعظم الطرائق الموصلة إلى الضلالة، كما أن انقياد القلب للرب تبارك وتعالى واللين فيه أعظم ما يجعله سبباً في أن ينال الإنسان به رحمة الله تبارك وتعالى. اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى ورحمتك التي وسعت كل شيء أن تهدينا أجمعين سواء السبيل، وأن تختم لنا بخير، وأن تجعل الجنة دارنا وقرارنا؛ إنك سميع مجيب. وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.

تأملات في سورة الأعراف

سلسلة تأملات قرآنية - تأملات في سورة الأعراف من سور القرآن الكريم العظيمة التي جمعت عدة مواضيع مهمة: سورة الأعراف، ولقد تكلم الله فيها عن بداية خلق الإنسان، وقصة نزوله إلى الأرض، وتناسله بعد ذلك، فذكر الله فيها قصة أبي البشر آدم عليه السلام، وكيف استطاع الشيطان بخبثه أن يزين لهم الوقوع في المعصية، وكيف أن الله أهبطه إلى الأرض، ثم تاب عليه وهدى، ثم ذكر الله منادياً بني آدم ألا يتبعوا خطوات هذا اللعين المطرود من رحمة الله، وأن يحذروا الانجرار وراء رغباته الدنيئة، وذكرهم بما أعده للمتقين، وبما أعده للكافرين، ثم ذكر أصحاب الأعراف، وحال أهل النار وكيف أنهم يستغيثون فلا يغاثون، ويصرخون فلا يجابون.

بين يدي سورة الأعراف

بين يدي سورة الأعراف إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون: فهذا هو اللقاء الأول في هذا المسجد المبارك حول تفسير كلام ربنا جل وعلا، وقبل أن نشرع فيما نود تفسيره نبين أموراً: أولاً: أن هذه التفسيرات هي أشبه بالتأملات والتعليقات على كتاب رب العالمين جل جلاله، والمقصود الأسمى منها: الناحية العلمية، وتبقى الناحية الوعظية فيها تبعاً للناحية العلمية؛ فالمخاطب بهذا الدرس طلبة العلم في المقام الأول، ولهذا فإن التفصيل في بعض القضايا أمر ملح، فليس المقصود بها الوعظ المحض، وإنما المقصود: إيجاد جيل علمي يفقه كلام الرب تبارك وتعالى، ومتى وجد هذا الجيل تبوأ الصدارة في الأمة ونفع الناس؛ لأنه لا يعقل أن يتصدر إنسان لتعليم الناس وهو يجهل ما جاء في الكتاب العظيم من آيات بينات، وعظات بالغات، يهذب الله بها خلقه، ويرشد الله جل وعلا بها عباده، ولقد قال الله جل وعلا في كتابه: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:17]، قال العلماء: إن من تفسيرها: أن علم التفسير علم يعان عليه صاحبه، بل هو أجل العلوم، وقد بينا هذا كثيراً في دروس سابقة نشرت، وإنما أجدد التذكير بها، على -أننا ونحن نفسر- سنقف عند آيات معينة نختارها من السورة التي نفسرها، وربما تستغرق السورة الواحدة عدة دروس، وربما تستغرق السورة درساً واحداً بحسب ما فيها، والله جل وعلا ذكر أن كتابه (مثاني) أي: يفصل ما كان فيه إجمال، ويبين ما كان فيه مبهم، ويبسط الله جل وعلا الحديث عن موضوع، ثم يقوله باختصار في سورة أخرى وهكذا، فعلى هذا سنقف عندما نرى أن الوقوف عنده ملزم، وما كان غير مكرر في القرآن فسنقف عنده. فمثلاً: في (سورة يوسف) لم تتكرر قصة يوسف إلا في سورة واحدة، فلا ينبغي تجاوزها بخلاف غيرها كقصة موسى مثلاً، فقد وردت في عدة سور من القرآن الكريم. هذه مقدمة يظهر أنه من الواجب التذكير بها، أما السورة التي سنبدأ بها هذه الدروس فهي (سورة الأعراف)، ونبدأ بسورة الأعراف لأننا كنا قد انتهينا إلى سورة الأنعام، فنستهل هنا سورة الأعراف وإن كنت قد بدأت في المدينة قبل أسبوع بتفسير الجزء السابع والعشرين وأنهيناه، والآن نبدأ بسورة الأعراف في هذا المسجد المبارك ونمضي بها إلى ما شاء الله تبارك وتعالى. وقبل أن نشرع في اختيار الآيات من السورة يجب أن تعلم أنه حتى تفقه القرآن فإنه يجب عليك أن تبدأ به بنظرة كلية، ثم تصغر هذه النظرة حتى تصل إلى الزبدة التي تريدها، وسورة الأعراف من حيث الجملة سورة مكية، إلا بضع آيات منها وهي قول الله تبارك وتعالى: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ} [الأعراف:163]، فهذه القصة ذكر أنها نزلت في المدينة، أما السورة إجمالاً فهي سورة مكية. والقرآن المكي له خصائص تختلف عن القرآن المدني؛ لأن القرآن المكي يهتم بقضايا ثلاث: إثبات التوحيد والربوبية والألوهية لله، وذكر صدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، والبعث والنشور وأهوال اليوم الآخر، فهذه هي قضايا القرآن المكي على وجه الإجمال، وتندرج تحتها قضايا أخرى؛ كتذكير الله بنعمه على خلقه، وهذا يندرج في إثبات التوحيد. أما القرآن المدني، فإن أكثره: تشريع، وأحكام، وفقهيات، كما في البقرة وآل عمران، وحديث عن السير والغزوات التي كانت في أيامه صلوات الله وسلامه عليه في المدينة. وقد بينا في دروس سابقة أن القرآن المكي والقرآن المدني في تسميتهما هذه خلاف طويل بين العلماء، لكن أرجح الأقوال -إن شاء الله- أن المقصود بالمكي: ما نزل قبل الهجرة. والمقصود بالمدني: ما نزل بعد الهجرة. وعلى هذا فقد قلنا مراراً: إن قول الله جل وعلا: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء:58]، آية مدنية رغم أنها نزلت في جوف الكعبة، والرسول آخذ بمصراعي باب الكعبة، فخرج إلى الناس ونادى بني شيبة وأعطاهم مفتاح الكعبة تنفيذاً للآية، فالآية نزلت في مكة بل في الكعبة لكنها تسمى: آية مدنية؛ لأنها نزلت بعد الهجرة. فسورة الأعراف من حيث الجملة سورة مكية، وهي من أطول سور القرآن المكي، وعدد آيها كما هو معلوم 206 آيات. هذه السورة بدأها الله جل وعلا بإثبات صدق هذا الكتاب وما فيه من خير عظيم، وختمها بقوله تبارك وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ} [الأعراف:206]، فختمها بآية سجدة، وبحسب ترتيب المصحف فآية السجدة في الأعراف جاءت آخر آية في السورة، لكنها من حيث ترتيب المصحف هي أول سجدة في القرآن، وهذا يعني: أن مابين فاتحة السورة وما بين خاتمتها جملة من القضايا منها: خلق آدم عليه الصلاة والسلام أبو البشر، وما ذكر الله جل وعلا فيها من قصته مع إبليس، ثم بعد ذلك خاطب الله جل وعلا بني آدم بصفة أن آدم أبوهم، وناداهم بأربع نداءات: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا} [الأعراف:26] {يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ} [الأعراف:27] {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف:31] {يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي} [الأعراف:35] إلى آخر الآيات. ثم إنه جل وعلا فصل ما أجمله في الأنعام، لكن هذا التفصيل ليس على ترتيب النزول، فأنا أتكلم على ترتيب المصحف، فعلى هذا سورة الأعراف جاء فيها ما أجمله الله في الأنعام، فقد ذكر الله في سورة الأنعام الرسل جملة فقال: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ} [الأنعام:83 - 86]، ثم جاء في الأعراف بحسب ترتيب المصحف فبدأ يفصل، فإنه لم يذكر في الأنعام قصة نوح ولا موسى ولا غيرهما، ثم بدأ يفصل في الأعراف، ففصل فيها قصة نوح، وقصة هود، وقصة صالح، وقصة لوط، وقصة شعيب، وقصة موسى، فهؤلاء ستة من الأنبياء ذكر الله جل وعلا خبرهم تفصيلاً، ثم ذكر الله جل وعلا في السورة بعضاً من آياته الدالة على عظيم خلقه، وأعاد فيها أن أحداً لا يملك نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء الله تأكيداً للتوحيد. بعد هذا التصور الكامل عن السورة ننتقل إلى اختيار بعض الآيات المتعلقة بتفسيرها، وأنا قلت: إن المخاطب الأول من تدريسنا طلبة العلم، على أنه ينبغي أن نعلم أن العلم لا يظهر بجلاء إلا إذا اجتمع بعضه إلى بعض، فإذا جمعت أشتات العلم واكتمل لديك مع الإلحاح والتدوين والحفظ وسؤال الله التوفيق كان العلم لديك، تراه في أول أمره صعباً كالبحر لكنه يسير على من يسره الله جل وعلا عليه، كالبناء عندما يريد أن يبنيه صاحبه يراه متوسع الأطراف بعيداً، فلا يرى إلا حديداً وما أشبه ذلك، حتى إذا اكتمل بعضه إلى بعض قام بنياناً، كذلك العلم يعجب لمن تصدر للتدريس أن يعين من يطلب العلم على يديه في فقه العلم، وأنه يعطيه أشتات العلم حتى يجتمع عنده شيئاً فشيئاً، أعاننا الله وإياكم بتوفيق من الله وفضل، والأمر كله مبدؤه ومنتهاه وأوسطه فضل من الله تبارك وتعالى يهبه جل وعلا لمن يشاء.

تفسير قوله تعالى: (المص) إلى قوله: (ولنسألن المرسلين)

تفسير قوله تعالى: (المص) إلى قوله: (ولنسألن المرسلين) قال الله جل وعلا: بسم الله الرحمن الرحيم. {المص * كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف:1 - 2]. هذا أول السورة، وأنا لا أبدأ تفسيراً قبل أن أفسر أول آية في السورة نفسها وقد نتجاوز بعض الآيات، لكن أول آية في السورة لا بد من تفسيرها؛ لأنها مدخل. (المص): هذه من الحروف المتقطعة، وقد مرت معنا في دروس سابقة، وأنا أتكلم إجمالاً باعتبار التدريس العام، فقد مر معنا أنها من الذي اختص الله جل وعلا بعلمه، هذا قول جمهور العلماء وهو الأظهر. ثم قال تعالى: {كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف:2]، أي: هذا كتاب، فحذف المبتدأ لدلالة الخبر عليه على قول الكسائي ومن تبعه، والمعنى: أن هذا الكتاب المقصود به: القرآن، وقد نكرت هنا: (كتاب) لدلالة التعظيم، أي: أن هذا الكتاب أعظم من أن يعرف، فإذا عرف في آية أخرى فباعتبار علميته واشتهاره، (أنزل إليك) والمخاطب في المقام الأول هنا: النبي صلى الله عليه وسلم. قال: ((فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ)) فسر الحرج بأحد تفسيرين: التفسير الأول: الشك. فيصبح معنى الآية: هذا كتاب من الله فلا يكن في قلبك شك منه، وإذا قلنا بهذا التفسير أصبح لهذه الآية لها قرائن كقوله تبارك وتعالى: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ} [يونس:94]، لكن اختار جمهور العلماء أن المراد بالحرج هنا: الضيق. فيصبح معنى الآية: فلا يكن في صدرك ضيق منه، ولا يفهم أن النبي صلى الله عليه وسلم جُبل على ضيق الصدر فهذا محال؛ لأن الله هيأه صلى الله عليه وسلم لئن يختم به النبوات، ويتم به الرسالات، وليس في القرآن أصلاً ما يدعو للضيق في المؤمنين. إذاً: ينجم الضيق من أن هذا القرآن آياته واضحة ظاهرة بينة لا تحتاج إلى دليل، ولا تحتاج إلى إثبات أنها من عند الله، فالعرب أفصح البلغاء، وأبلغ الفصحاء، ومع ذلك عجزوا أن يأتوا بمثل هذا القرآن، فينجم الضيق من هذا، وهذا كالطالب تعلمه ولا يصيبك الضيق ولا الحرج ولا الغضب على طالب لم يفقه مسألة صعبة، وإنما يصيبك الحرج والضيق على الطالب الذي لا يفهم المسألة الواضحة، فالمسألة الواضحة البينة الظاهرة لا تحتاج إلى علم، فالضيق الذي يصيبه صلى الله عليه وسلم من أن دلائل نبوته قاهرة ومعجزاته ظاهرة، ومع ذلك لم يؤمنوا به! فنجم عن هذا ضيق في صدره، فالله يقول له: فليكن صدرك منشرحاً بهذا القرآن؛ لأنه أجل كتاب، وأعظم منزل، به الهداية والرحمة لكل أحد أراد أن ينتفع به، وإن لم ينتفع به قومك وكذبوه وردوه عليك. ثم ذكر العلة من إنزاله، فاللام هنا لام التعليل (لِتُنذِرَ) ولذلك جاء الفعل بعدها منصوباً (لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ) ولم يقل الله من المنذَر بالقرآن، بل قال: (لِتُنذِرَ بِهِ) لكن لما ذكر الذكرى قال: (وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ). إذاًَ: من المنذَر بالقرآن؟ أعظم قواعد العلم أن القرآن يفسر بالقرآن، والله يقول: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا} [مريم:97]. إذاً: المحذوف هنا هو الموجود في سورة مريم: ((وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا))، يعني: الكفار، أي لتنذر به الكافرين، والإنذار في اللغة: هو الإعلام المقرون بالتهديد، وعلى هذا تنجم قاعدة: أن كل إنذار إعلام، وليس كل إعلام إنذار. قال: (لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ) فإن قال قائل: إن الله قال في آية أخرى: إنه ينذر بالقرآن المؤمنين، قال جل وعلا: {إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ} [يس:11]، فيجاب عن هذا: بأن الإنذار على قسمين: إنذار عام، وإنذار انتفاع. فالإنذار العام ينصرف للكفار، أما إنذار الانتفاع فينصرف إلى المؤمنين. ثم قال الله جل وعلا: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} [الأعراف:6]، فأخبر الله جل وعلا أن اثنين يُسألان يوم القيامة: المرسلون والمرسل إليهم، لكن الله لم يقل هنا: ماذا يسأل هؤلاء، ولا ماذا يسأل أولئك، و A أن الله قال في الأول: ((فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ)) قال موضحاً: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} [القصص:65]، فيكون السؤال للأمم (مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ) وهذا ليس من تفسير صالح ولا زيد ولا عمرو، بل هو تفسير القرآن بالقرآن. قال الله في القصص: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} [القصص:65]، هذا حل الإشكال الأول: (فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ). والإشكال الثاني قال الله: ((وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ)) ماذا يسأل المرسلون؟ قال الله في المائدة: {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ} [المائدة:109]، فالإشكال متضمن في الإجمال الذي في سورة الأعراف، وقد فصل في موضعين: فصل في القصص، وفصل في المائدة، وهذا من تفسير القرآن بالقرآن.

تفسير قوله تعالى: (والوزن يومئذ الحق)

تفسير قوله تعالى: (والوزن يومئذٍ الحق) ثم قال تعالى: {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ} [الأعراف:8 - 9]، الله جل وعلا حكم عدل، ويوم القيامة يحشر الناس على أرض بيضاء نقية لم يعص الله جل وعلا فيها قط، وليس في تلك الأرض معلم لأحد، الآن أنت تتفق مع زميلك مع جارك مع أخيك على أن تلتقي به في مكان ما فتجعل له أمارة، مستشفى، إشارة، علامة، دار، مبنى، محل تجاري، فتذهب إليه، فهذا هو المكان المعلم، وهو سبب التقائكما، لكن يوم القيامة يحشر الناس على أرض بيضاء نقية ليس فيها معلم لأحد، ليس فيها شيء بارز يجتمع عنده الناس، والناس يحشرون حفاةً عراةً غرلاً بهماً ليس معهم شيء، فإذا كنت في الدنيا مالكاً لشيء صوري تملكه بيديك، كثيابك ودابتك، فيوم القيامة يخرج الناس لا يعلمون شيئاً، يقول الله في القرآن: {يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ} [القارعة:4]، وقال في سورة أخرى: {كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنتَشِرٌ} [القمر:7]، ولا يستقيم الجراد مع الفراش؛ لأن الجراد منتظم، والفراش يموج بعضه في بعض، فالجمع بينهما: أن الناس عندما يخرجون يخرجون أول الأمر كالفراش لا يعرفون أين يذهبون! فإذا تقدمهم إسرافيل وهو الداعي، قال الله: {يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ} [طه:108]، انتظموا خلف إسرافيل، فانتقلوا من حالة الفراش إلى حالة الجراد، هذا كله يكون يوم القيامة، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لـ ابن عباس: (مع أنني على ما قلت عني لو أن لي ملء الأرض ذهباً لافتديت به من هول المطلع)، ومما يكون في يوم القيامة: الميزان، وأهل السنة يقولون -سلك الله بنا وبكم سبيلهم-: إنه ميزان حقيقي له كفتان وله لسان، والله جل وعلا يقول: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء:47]، ويقول هنا: {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ} [الأعراف:8]، والمقصود بكلمة الحق: أنه لا جور فيه ولا ظلم ولا بخس ولا رهق، فهو ميزان حق، ويكفي أن الله جل وعلا قائم عليه، فهو تبارك وتعالى أعدل الحاكمين وأحكم العادلين. وعلى هذا اختلف العلماء في الذي يوزن، مع اتفاقهم جملة على أنه يوجد ميزان له كفتان، لكن اختلفوا في الذي يوزن على أقوال أشهرها: القول الأول: أن الذي يوزن: العمل نفسه، والذين قالوا بهذا القول احتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم: (الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان)، فموضع الشاهد: أنه قال: أن (الحمد لله) تملأ الميزان، وقال صلى الله عليه وسلم: (اقرءوا الزهراوين: البقرة وآل عمران، فإنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غيايتان أو غمامتان أو فرقان من طير صواف تحاج عن أصحابها) فهذا من أدلة من قال: إن الذي يوزن هو العمل. وقال آخرون: إنما الذي يوزن: صحائف العمل، وهؤلاء احتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم كما عند الترمذي بسند صحيح: (إن الله سيخلص رجلاً من أمتي يوم القيامة على رؤوس الخلائق ينشر له تسعة وتسعون سجلاً، كل سجل مد البصر فيقول له ربه: أتنكر مما رأيت شيئاً؟ فيقول: لا يا رب! فيقول الله جل وعلا له: أظلمك كتبتي الحافظون؟ فيقول: لا يا رب! فيقول الله: إن لك عندنا بطاقة فيها: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، فيقول: يا رب! وما تغني هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فتوضع البطاقة في كفة والسجلات في كفة، قال صلى الله عليه وسلم: فطاشت السجلات، ورجحت البطاقة) وفي زيادة عند الترمذي: (ولا يثقل مع اسم الله شيء). فهذه أدلة من قال: إن الذي يوزن: صحائف العمل. القول الثالث: إنه يوزن صاحب العمل، وهؤلاء احتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: (يؤتى بالرجل السمين يوم القيامة -المقصود: الكافر- فلا يزن عند الله جناح بعوضة، ثم قرأ عليه الصلاة والسلام {فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} [الكهف:105]). هذه أحد أدلة من قال: إن الذي يوزن: صاحب العمل، واحتجوا كذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم لما ضحك الصحابة من رجل عبد الله بن مسعود قال صلى الله عليه وسلم: (أتعجبون من دقة ساقيه، فلهما أثقل في الميزان من جبل أحد) أي: رجلا عبد الله بن مسعود أثقل في الميزان من جبل أحد. قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى جمعاً بين الأدلة: ولا يبعد أن يوزن هذا تارة وهذا تارة وهذا تارة، والأظهر -والله تعالى أعلم- أنه يوزن العمل وصاحبه وصحائف الأعمال جمعاً بين الأحاديث، وجمعاً بين الآثار، وهذا هو الذي تستقيم به الآيات والله تعالى أعلم. قال تعالى: {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف:8]، والذي يعنينا هنا كخطاب قرآني: أن يعنى الإنسان بأعماله الصالحة، وأن يسعى فيما يثقل به الميزان، ومن أعظم ما يثقل به الميزان: حسن الخلق الذي تتعامل به مع الناس، قال عليه الصلاة والسلام: (الدين المعاملة)، ولم يكن صلوات الله وسلامه عليه فظاً ولا غليظاً في خطابه، فليس الدين مجرد ركعات تؤدى في المساجد، وإن كانت الصلاة في الذروة الأعلى من الدين، ولكن الدين جملة معاملة، مع إخوانك المؤمنين، مع والديك، مع أبنائك، مع زوجاتك، مع جيرانك، مع عامة المسلمين، تحب لهم ما تحب لنفسك، تؤثرهم على نفسك، تقبل اعتذارهم، وتقيل عثراتهم، وتقدم الصورة المثلى لما أمر الله به في كتابه، وما أمر به رسوله صلى الله عليه وسلم، كما سئلت أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها وأرضاها عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: (كان خلقه القرآن)، أي: أنه يطبق القرآن صلوات الله وسلامه عليه، ومن الخطأ العظيم الذي نقع فيه أن نعتقد أن اتصالنا بالدين وقف على أشهر معينة كرمضان، أو أماكن معينة كالمساجد، وإنما يعبد الله جل وعلا بكل لسان وفي كل مكان، وأخوة الإسلام تفرض علينا مطالب شتى في تعاملنا نكون بها -إن شاء الله- عباداً لله إخوانا، كما أمر نبينا صلى الله عليه وسلم.

ذكر بعض من قصة خلق آدم وغواية إبليس له

ذكر بعض من قصة خلق آدم وغواية إبليس له ثم قال الله جل وعلا: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ} [الأعراف:11]، خلق الله جل وعلا أبانا آدم من قبضة قبضت من الأرض، وورد أن الله بعث ملكاً يقبض هذه القبضة، فلما جاء الملك ليقبضها قالت له الأرض: أعوذ بالله منك، فرجع الملك إلى ربه، فقال له ربه: ما صنعت؟ وهو أعلم، قال يا رب! استجارت بك فأجرتها، فبعث الله ملكاً آخر وهو أعلم، فلما جاء ليقبض قبضة من الأرض قالت الأرض: أعوذ بالله منك، فرجع إلى ربه فسأله ربه كما سأل الأول فأجاب كما أجاب الأول، فبعث الله ملكاً آخر وهذا الفرق في العلم، فلما جاء ليقبض من الأرض قبضة قالت له الأرض: أعوذ بالله منك، كما قالت لأخويه، فقال لها الملك: وأنا أعوذ بالله ألا أنفذ أمره؛ لأن الله أمرني أن أقبض قبضة، فقبض قبضة من الأرض مجتمعة مختلطة؛ فلذلك تفاوتت طبائع الناس، فحملها إلى الله تبارك وتعالى، ومن هذه القبضة الترابية خلق أبونا آدم، لكن هذه القبضة الترابية مزجت مع ماء فأصبحت طيناً، ثم تركت مدة فأصبحت كالصلصال الفخار، وكلها ذكرها الله جل وعلا في القرآن قال: {خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ} [الحج:5]، وقال: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ} [الأنعام:2] وقال: {مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ} [الرحمن:14]، فذكر الله في القرآن المراحل الثلاثة التي مر بها خلق أبينا آدم، ثم أكرم الله جل وعلا آدم بأن نفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، وعلمه أسماء كل شيء، كما هو نص القرآن، وقد بينا هذا مفصلاً في موضعه.

نداءات الله تبارك وتعالى لبني آدم ورحمته بهم ونصحه لهم

نداءات الله تبارك وتعالى لبني آدم ورحمته بهم ونصحه لهم ثم قال الله جل وعلا هنا: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ} [الأعراف:11]، لكن الله لم يقل في الأعراف هل صور آدم على هيئة حسنة أم على هيئة غير حسنة؟ لكن الله أثبت حسن خلق آدم في التين، قال تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين:4]، ولهذا قال بعض الفقهاء: لو أن رجلاً قال لامرأته: أنت طالق إن لم يكن وجهك أحسن من القمر، فإنها لا تطلق، ولو كانت من أقبح الناس وجهاً؛ لأن الله يقول: ((لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ))، ثم وقع من أبينا آدم المعصية بالأكل من الشجرة، وأهبط إلى الأرض، فلما أهبط إلى الأرض جاءت النداءات الربانية الإلهية لبني آدم، فناداهم الله في الأعراف بأربع نداءات: - قال في الأولى: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} [الأعراف:26]، هذه الآية مسوقة في سياق الامتنان، واللباس: هو اللباس الضروري الذي تستر به العورة. والريش: هو اللباس الزائد عن الضروري الذي يتجمل به الإنسان. قال تعالى: ((قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ)) أي: عوراتكم، وسميت العورة سوءة؛ لأن العاقل يسوؤه أن تظهر عورته للناس، فالله يقول في باب الامتنان على عباده: ((يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا)) لباساً ضرورياً، ولباساً زائداً تتزينون به، فلما ذكر الله اللباس الحسي ذكر اللباس المعنوي فقال جل وعلا: ((وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ)) أي: خير من كل شيء، خير من كل لباس، ولباس التقوى: أن يكون الإنسان مكتسياً بتقوى الرب تبارك وتعالى في قلبه، يخشى الله تبارك وتعالى ويخافه، ويجتنب نواهيه ويأتي أوامره، فهذا هو المؤمن حقاً الذي ارتدى خير لباس: ليس الجمال بمئزر فاعلم وإن رديت برداً إن الجمال معادن ومناقب أورثن حمداً فاللباس الحسي يبلى ويبيد ولا ينفعك في الآخرة، بل تستر به عورتك في الدنيا فقط، أما لباس التقوى فهو الذي عليه معيار العقاب والحساب والثواب يوم القيامة. ثم قال الله: {يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف:27]، (يَا بَنِي آدَمَ) هذا خطاب، ويسمى: نداء علامة، فمتى يسمى النداء نداء كرامة؟ إذا قال الله في القرآن ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ)) هذا نداء كرامة، وإذا قال ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ)) أو ((يَا بَنِي آدَمَ)) فهذا نداء علامة، لأنه يشترك فيه المؤمن والكافر، وإنما علموا بنسبتهم إلى أبيهم. قال: ((يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ)) وهو العدو الأول، ((كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ)) الأبوان هنا: آدم وحواء، وإنما سميا أبوان رغم أن حواء امرأة من باب التغليب، وقد قلنا في دروس عدة مكررة: إن العرب إذا تكلمت عن اثنين وأرادت أن تثني فإنها تغلب، لكن معيار التغليب يختلف من مثنى إلى مثنى، فقالوا في الأبوين: الأبوان، فغلبوا الرجل على المرأة؛ لأن الرجل أفضل من المرأة عموماً، وقالوا في المدينة ومكة: المكتان؛ لأن مكة عند الجمهور أفضل من المدينة، وقالوا في الحسن والحسين: الحسنان؛ لأن الحسن أكبر، وقالوا في الشمس والقمر: القمران؛ لأن القمر مذكر والشمس مؤنث: وما التأنيث لاسم الشمس عيب ولا التذكير فخر للهلال فلو كان النساء كمن فقدنا لفضلت النساء على الرجال فهنا قول الله جل وعلا: ((لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا)) لما ذاقا من الشجرة بدت السوءتان لآدم وحواء، فعلما أنهما وقعا في أمر عظيم. ومن هنا تعلم أن هذا القرآن أنزله الله هداية للناس، فأول طريق للمعاصي هو نزع الحياء من قلب المؤمن، فأول ما أراده إبليس حتى يغوي آدم وزوجته وذريته أن لجأ إلى أول قضية وهي أن يريهما عوراتهما، فإذا كشفت السوءتان في مكان ظاهر، واستمرأ النظر إليها فإن النفس والعياذ بالله يهين عليها ما ترى، فتستمرئ كل الفواحش وتنساق بعد ذلك إلى المعاصي من غير أن تعلم، ولهذا تعلم أن ما صنعه الشيطان قديماً يصنعه شياطين الإنس حديثاً، فأكثر ما يسعى إليه القائمون على القنوات الفاجرة أن يبثوا أشياء تكشف من خلالها العورات حتى تعتاد الأسرة المسلمة أباً وأماً وأحفاداً وأبناءً على النظر إلى تلك العورات، وأن يصبح أمراً بدهياً مستساغاً لدى الأسرة ككل أن تنظر إلى الفواحش والإغراءات وما يكون من اتصالات محرمة وكشف للعورات، إما عن طريق رقص أو غناء أو تمثيل أو غير ذلك، فتصبح الأسرة -والعياذ بالله- بعد ذلك هينة عليها المعاصي، سهلة على الجميع، ويصبح أمر الله جل وعلا عياذاً بالله هيناً على تلك القلوب، فمن أراد الله جل وعلا أن يعصمه أول ما يعظم فيه يعظم فيه مسألة الحياء في قلبه، والإنسان إذا جبل على الحياء يقول عليه الصلاة والسلام: (الحياء لا يأتي إلا بخير) وقد ترى أنت بعض الناس على مسألة تستغرب كيف يصنعونها، والفرق بينك وبينه ليس العلم، فهو يعلم وأنت تعلم، لكن الفرق بينك وبينه أن مسألة الحياء شجرة نابتة في قلبك، والحياء في قلبه غير موجود، فلما ذهب الحياء من قلبه سهل عليه أن يأتي المعاصي، قال صلى الله عليه وسلم: (كل أمتي معافى إلا المجاهرين! يبيت أحدهم يستره ربه -أي: على معصية- فإذا أصبح قال: يا فلان! أما علمت أن البارحة فعلت كذا وكذا وكذا!) يقول صلى الله عليه وسلم: (يمسي يستره الله ويصبح يكشف ستر الله عنه) نعوذ بالله من فجأة نقمته، وزوال نعمته. والذي يصل إلى هذه المرحلة طبع على قلبه تماماً، كمن يذهب إلى حانات الغرب وبارات الشرق فيقع في المعاصي والفجور، وبنات الزنا وأشباه ذلك، ثم والعياذ بالله -مع أن الله قد ستر عليه- يصور نفسه ثم يأتي بتلك الصور ويجمع أقرانه وخلطاءه وأمثاله ليعرض عليهم تلك الصور ويريهم إياها، وهذا قد يصل إلى حد الكفر؛ لأنه في الغالب لا يصنع امرؤ مثل هذا إلا وهو يستحل ما حرم الله، وإن كنا لا نكفر أحداً بعينه لكن نقول: إن هذا من أعظم الدلائل على ذهاب الخشية من القلب، واستيلاء الشيطان على تلك القلوب، يقول صلى الله عليه وسلم: (من ابتلي من هذه القاذورات بشيء فليستتر بستر الله عليه)، والمؤمن يسأل الله دائما الستر والعافية ومحو الذنوب في الدنيا والآخرة، لكن المقصود من الآية: أن نبين أن من أعظم طرائق إبليس لإغواء الناس: أن ينزع عنهم لباسهما كما قال الله: ((لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ))، فالله كتب أن الإنس لا ترى الجن، والجن ترى الإنس، وقد قلنا في دروس سابقة: إن العرب تسمي الجن خمسة أسماء أو ستة، وأنا مضطر للكلام العلمي؛ فبعضهم يسمون الجني العادي: جني، فإذا كان ممن يسكن البيوت سموه: عُمَّاراً، وإذا كان ممن يتعرض للصبيان سموه: أرواحاً، فإذا كان فيه شيء من التمرد سموه شيطاناً، فإذا ازداد تمرده سموه: عفريتاً، وقد ذكر هذا الإمام ابن عبد البر رحمه الله تعالى. قال: ((إنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ))، يستنبط من هذه الآية: أن عقد الولاية ما بين الإنس والجن قائم على عدم الإيمان؛ لأن الله قال: ((أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ)) فعدم الإيمان بالله عقد ما بين الإنسي والشيطان.

تفسير قوله تعالى: (إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط)

تفسير قوله تعالى: (إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط) ثم قال تبارك وتعالى: {يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الأعراف:35 - 36]. حتى قال الله جل وعلا بعد ذلك بآيات: {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ} [الأعراف:40]، ((كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا)) أي: لم يصدقوا الرسل. ((وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا)) أي: لم ينقادوا لها. قال: ((لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ))، الإنسان تخرج روحه من جسده بعد أن تكون هذه الروح قد ألفت الجسد، فإذا خرجت كانت روحاً مؤمنة تفتح لها أبواب السماء، وإن كانت روحاً كافرة أو منافقة أغلقت في وجهها أبواب السماء عياذاً بالله. فالله يقول هنا: ((لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ)) هذا الجزاء الأول قبل البعث. ثم قال: ((وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ)) يعني: بعد البعث، وهذه الآية نص على أن الكافر لا يدخل الجنة. قال: ((حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ)) الجمل: الحيوان المعروف، وسم الخياط: الخرم الذي في الإبرة، فالخرم الذي في الإبرة من أضيق الأشياء، والجمل من أعظم المخلوقات جسماً، والمقصود من الآية: تعليق على الاستحالة: فكما أنه محال أن يدخل الجمل بهذه الخلقة العظيمة في سم الخياط، فمحال أن يدخل الكافر الجنة، ولن يلج الجمل في سم الخياط. قال: {لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} [الأعراف:41]، لما ذكر الله حال أهل الكفر ذكر حال أهل الإيمان، والأصل في القرآن: أنه يبدأ بالكفار ويختم بالمؤمنين. قال سبحانه: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الأعراف:42]، جعلنا الله وإياكم منهم. ذكر الله جل وعلا هنا: ((لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا)) وقد استنبط العلماء من هذه الآية وأمثالها قاعدة فقهية تقول: لا واجب مع العجز، ولا محرم مع الضرورة. فمثلاً: الله جل وعلا جعل من واجبات الوضوء: غسل اليدين إلى المرفقين، فلو أن أحد الناس قطعت يده فهذا ليس عنده يد، فماذا نصنع بواجب الوضوء؟ يسقط عنه للعجز، فلا توجد يد أصلاً، وقد يكون العجز أقل من ذلك، والإنسان يجب عليه أولاً: أن يتوضأ بالماء، فإذا عجز عن الوصول للماء أو أضره الماء رغم وجوده سقط عنه الواجب، وانتقل إلى مسألة أخرى وهي التيمم، حتى قد يصل أحياناً أنه يصلي بدون وضوء وبدون تيمم إذا كان عاجزاً، فلا واجب مع العجز، ولا محرم مع الضرورة، وهذا معنى قول الله: {لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الأعراف:42].

تفسير قوله تعالى: (ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين)

تفسير قوله تعالى: (ونزعنا ما في صدورهم من غل إخواناً على سرر متقابلين) ثم قال سبحانه: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأعراف:43]. الناس يبقون بشراً مهما بلغوا في الارتفاع في الطاعات، والنبي صلى الله عليه وسلم في الذروة من البشر، وهو يقول عليه الصلاة والسلام: (أنا أغضب كما تغضبون)، ولما قيل له إن إحدى أمهات المؤمنين حاضت في الحج غضب وقال: (حلقاء عقراء) تغير كلامه صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر نقل عنه أنه يغضب، وعمر كذلك، فالإنسان مهما بلغ يبقى بشراً؛ إلا أن نبينا صلى الله عليه وسلم معصوم، وغيره من الناس غير معصوم، وعلى هذا أحياناً يبقى في الصدر شيء ولو كان خفيفاً، فالله من إكرامه لأهل الجنة أنهم يحبسون على قنطرة بين الجنة والنار، لينزع هذا الغل الباقي في القلوب قبل أن يدخلوا الجنة، قال صلى الله عليه وسلم: (يحبسون على قنطرة بين الجنة والنار فتقتص بينهم المظالم التي كانت بينهم في الدنيا). وقد حصل بين علي رضي الله عنه أمير المؤمنين وبين الزبير بن العوام شيء من سوء التفاهم، فكادا يقتتلان في المعركة، فذكر علي الزبير بقول للنبي صلى الله عليه وسلم، فترك الزبير أرض المعركة قناعة منه بقول رسول صلى الله عليه وسلم، فتبعه رجل يقال له: ابن جرموز فقتله، وممن نازع علياً طلحة بن عبيد الله، وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة، وقد أحنى ظهره يوم أحد حتى يرقى النبي عليه الصلاة والسلام على ظهره، فقال عليه الصلاة والسلام: (أوجب طلحة) يعني: وجبت له الجنة، ومع ذلك كان هناك سوء تفاهم بسيط بين طلحة والزبير وعلي، كل منهم يرى أن الصواب معه، وكلهم في المحل الأعلى من الصحابة، قال علي رضي الله عنه: إني لأرجو أن أكون أنا وطلحة والزبير ممن قال الله فيهم: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ} [الأعراف:43]، فالكمال عزيز، والصحابة رضي الله عنهم أصحاب نبينا صلى الله عليه وسلم، والله رضي عنهم وشهد برضاه عنهم في كتابه، ولا ينبغي لعاقل أن يخوض فيما كان بينهم، فكلهم مجتهد رضي الله عنهم وأرضاهم، نسأل الله أن يرزقنا جوارهم مع نبينا صلى الله عليه وسلم في جنات النعيم. قال تعالى: ((وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ وَقَالُواْ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللهُ))، هذا الكلام يقوله أهل الجنة اعترافاً منهم بأن الهداية من الله -جعلني الله وإياكم برحمته ممن يقولها في الجنة-، وهذا يؤكد على أمر عظيم وهو أنه ينبغي لمن يطلب الهداية أن يطلبها من الله، ولذلك كان من دعائه صلى الله عليه وسلم: (اللهم يا مقلب القلوب! ثبت قلبي على دينك)، ولا يشمت الإنسان بأحد خوفاً من أن ينتكس كما انتكس غيره، وإنما المؤمن يسأل الله السلامة ولا يشمت بأحد، ويسأل الله غفران الذنوب، وستر العيوب، ورحمته حتى نلقاه. قال: ((وَقَالُواْ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللهُ لَقَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُواْ)) أي: هؤلاء المؤمنون: ((أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ))، توجد باء تختص بالعوض، وباء تختص بالسبب، مثلاً: لو ذهبت إلى المتجر وسألت صاحب المتجر: بكم هذا القلم؟ فقال لك: بريال؛ فأعطيته ريالاً، فأعطاك القلم، فهذا الريال عوض عن القلم بمعنى: مكافئ له، ولو كان هذا القلم أحسن الأنواع لكان بعشرة مثلاً، فهذه باء عوض، يسألك إنسان: بكم اشتريت هذا القلم؟ فتقول له: بريال هذه الباء باء العوض. وهناك باء اسمها: باء السبب، مثلاً: تأتي لصاحب متجر فيسألك: من أين أنت؟ فتقول له مثلاً: من جدة، ويكون هو قد سكن جدة قديماً فتسأله: من أي حي؟ يقول: من النزلة مثلاً، ويكون هو ساكن النزلة قديماً، فتطلب ماء؟ فيقول: خذ هذا الماء؛ لأننا أنا وأنت كنا نسكن في حي واحد، فسكنك الحي الذي سكن فيه صاحب المتجر سبب في الحصول على الماء. مثال آخر: تعفو عن إنسان؛ لأنه صاحب أخيك، يأتي إنسان يصدم سيارتك فتنزل غاضباً فعندما ترى من صدمك، تعرف أنه صاحب لأخيك فتعفو عنه، أنت عفوت عنه لا لأنه أعطاك عوضاً، بل لأن صداقته لأخيك سبب في عفوك عنه. يقول الله جل وعلا: ((أُورِثْتُمُوهَا)) أي: الجنة ((بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ)) هذه الباء: باء سبب، أعمالكم سبب في دخول الجنة، وإلا فالأعمال لا يمكن أن تكون عوضاً عن الجنة؛ لأن الجنة أكبر من أعمالنا، لكن قال بعض العلماء من السلف كلمة جميلة في هذا الباب فقال: إن المؤمنين ينجون من النار بعفو الله، ويدخلون الجنة برحمة الله، ويرثون منازل غيرهم بأعمالهم الصالحة.

التصوير القرآني لحال الكافرين والمؤمنين يوم المحشر وفي الجنة أو النار

التصوير القرآني لحال الكافرين والمؤمنين يوم المحشر وفي الجنة أو النار ثم ذكر الله جل وعلا ما يكون يوم القيامة وذكر تبارك وتعالى عدة نداءات: النداء الأول: نداء أصحاب الجنة أصحاب النار، والنداء الثاني: نداء أصحاب الأعراف أصحاب الجنة، ونداء أصحاب الأعراف لأصحاب النار، ونداء أصحاب النار لأصحاب الجنة، وهذا كله في هذه السورة التي سميت: بسورة الأعراف؛ لأن الله ذكر فيها الأعراف، ولم يرد ذكر أصحاب الأعراف في القرآن إلا في هذه السورة. قال الله: {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [الأعراف:44] هذا النداء الأول: ويكون من أصحاب الجنة لأصحاب النار، فأصحاب الجنة يفتخرون على أصحاب النار بأنهم وجدوا ما وعدهم الله من النعيم حقاً، فيسألونهم: هل وجدتم ما وعدكم الله من الجحيم حقاً؟ فيقولون: نعم، فيستمع الفريقان بعد ذلك إلى مؤذن يؤذن ويقول: ((أَن لَّعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ)) قال طاوس بن كيسان رحمه الله لـ هشام بن عبد الملك الخليفة الأموي المعروف: يا أمير المؤمنين! اذكر يوم الأذان، قال: وما يوم الأذان؟ قال: إن الله يقول: ((فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ)) فصعق هشام رحمه الله، فقال طاوس بن كيسان: سبحان الله! هذا ذل الصفة، فكيف بذل المعاينة؟! أي: أنك صعقت وأنا أصف لك هول هذا اليوم وصفت فقط، فكيف لو رأيته بعينيك؟! ثم قال تعالى: {وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ} [الأعراف:46]، يقول جل وعلا: ((وَبَيْنَهُمَا)) أي: بين الجنة والنار. ((حِجَابٌ)) هذا الحجاب جاء مفسراً في سورة الحديد: {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} [الحديد:13]. قال الله جل وعلا: ((وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأَعْرَافِ)) مكان مرتفع. ((رِجَالٌ)) الله أعلم بهم، قيل: إنهم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم، وهذا قول حذيفة، واختاره أكثر المفسرين، وقيل: إنهم أنبياء، وقيل: إنهم ملائكة، ولا يوجد نص نجزم به ونفيء إليه قال: ((وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ)) يعني: يعرفون أهل الجنة ويعرفون أهل النار. ((بِسِيمَاهُمْ)) أي: بعلاماتهم، فإن الله قال عن أهل الجنة: {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ} [المطففين:24]، وقال عن أهل الكفر: {وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا} [طه:102]، أي: زرق العيون، فيعرف المجرمون بزرقة أعينهم، ويعرف المؤمنون -جعلني الله وإياكم منهم- بما عليهم من نضرة النعيم، وهؤلاء أصحاب الأعراف عندما يقفون عليها يكون معهم نور، هذا النور يجعلهم يطمعون في دخول الجنة، فيقفون حكماً بين الفريقين، قال الله: ((وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْاْ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ))، المنادي: أصحاب الأعراف، والمنادى: أصحاب الجنة ((أَن سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ)) ثم ينقطع الكلام: ((لَمْ يَدْخُلُوهَا)) والمعنى: أن أصحاب الأعراف لم يدخلوها في أظهر الأقوال. ((وَهُمْ يَطْمَعُونَ)) أي: ويطمعون في دخولها، وهذا الطمع وهذه الرغبة في دخولها حث عليها أنهم ما زالوا يملكون النور ولم ينقطع. ثم بعد أن يرون أهل الجنة تصرف أبصارهم من غير إرادة منهم إلى أهل النار، قال الله: {وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأعراف:47]، إذا رأوا أهل النار وما هم فيه من عظيم الجحيم والنكال والحميم تعوذوا بالله واستجاروا به: ((قَالُواْ رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)). ثم قال الله جل وعلا: {وَنَادَى أَصْحَابُ الأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ} [الأعراف:48] أي: رجالاً كانوا في الدنيا على الكفر يصدون عن سبيل الله. ((قَالُواْ مَا أَغْنَى عَنكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ)). {أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ} [الأعراف:49] ((أَهَؤُلاءِ)) أي: الضعفاء الفقراء المساكين. ((الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لاَ يَنَالُهُمُ اللهُ بِرَحْمَةٍ)) كنتم تقسمون في الدنيا أنهم لن ينالوا رحمة ولا مغفرة! قال تعالى: ((ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ)).

تفسير قوله تعالى: (إن الله حرمهما على الكافرين)

تفسير قوله تعالى: (إن الله حرمهما على الكافرين) ثم قال الله جل وعلا: {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ} [الأعراف:50]. ((وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ)) جعلنا الله وإياكم في هذه الحالة ممن ينادى لا ممن ينادي، فإن الله جل وعلا بقدرته يجعل لأهل النار اطلاعاً على أهل الجنة، فإذا رأوها كان أحوج ما يكون إليه أهل النار الماء، قال الله جل وعلا: ((وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَاء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ)). فيجيبهم أهل الإيمان: ((قَالُواْ إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُمَا)) أي: الماء والرزق. ((إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ)) فلا يوجد شيء يحتاجه أهل النار أول أمر أكثر من احتياجهم إلى الماء؛ لأنهم إذا استسقوا في النار سقوا ماء حميماً -كما قال الله: {فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ} [محمد:15]، وقد أخذ العلماء من هذه الآية: أن من أفضل القربات إلى الله سقي الماء، وقد قال العلماء: إنه ثبت في الصحيح: (أن الله جل وعلا غفر لرجل؛ لأنه سقى كلباً) فكيف بمن سقى مؤمناً يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، ولما قيل لـ ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: يا ابن عم رسول الله! ما أفضل الصدقة؟ قال: أن تسقي الماء، أين أنت من قول الله: ((أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَاء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ قَالُواْ إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ)) {الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} [الأعراف:51] ثم ذكر الله بعضاً من نعوت الكافرين فقال: ((الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَاء يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ))، وليس الله جل وعلا ينسى أبداً، قال سبحانه: {قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى} [طه:52]، ولكن هذا في لغة العرب يسمى: المشاكلة في الكلام، وإنما يتركهم الله جل وعلا من غير نصرة ومن غير معين حتى يتساقطوا في جهنم.

انقطاع السبل الموصلة إلى رحمة الله عند الكافرين

انقطاع السبل الموصلة إلى رحمة الله عند الكافرين ثم بين الله جل وعلا عظمة كتابه فقال: {وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [الأعراف:52 - 53]. قوله: ((مِنْ قَبْلُ)) أي: في الدنيا. وقوله: ((قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ)) فيتمنون أمرين: ((فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاء فَيَشْفَعُواْ لَنَا)) وهذه قطعها الله بقوله: ((فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ)). وطلبوا أمراً ثانياً: ((أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ)) وهذه قطعها الله جل وعلا عنهم، فلن يخرجهم الله من النار أبداً، قال: ((أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ)). فلما ذكر الله تبارك وتعالى حال الفريقين وذكر الحالة الثالثة وهي حال أهل الأعراف عرف الله جل وعلا بذاته العلية، والقرآن -أيها المؤمن- كله فاضل، لكن آياته فيها فاضل وفيها مفضول، أما كونه فاضلاً فلأن القرآن كله من عند الله، وأما كونه فاضلاً ومفضولاً فلأن من آيات الله ما تتكلم عن الله فجمعت الفضل من وجهتين: الوجهة الأولى: أنها كلام الله. والوجهة الثانية: أنها تتحدث عن الله، وليس هناك أحد أعلم بالله من الله، ولذلك من أراد أن يرقق قلبه وتدمع عينه، فليقرأ ما تكلم الله جل وعلا به عن ذاته العلية كخواتم سورة الحشر، وأوائل سورة الحديد، وهذه الآيات التي في الأعراف، وفي الفرقان، أو آية الكرسي، فكل آية تحدث الله فيها عن ذاته العلية فإن الله جل وعلا لا أحد أعلم به منه قال الله جل وعلا: {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه:110]. وقال: {أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ} [البقرة:140]، فالآيات التي يتحدث فيها الرب جل وعلا عن ذاته العلية هي أعظم آيات القرآن قدراً؛ لأنها جمعت المجد من طرفيه: كونها من الله، وكونها تتحدث عنه جل جلاله. هذا مجمل ما تكلم الله جل وعلا به عن ذاته العلية.

تأملات في سورة الأنفال

سلسلة تأملات قرآنية - تأملات في سورة الأنفال يذكر الله تعالى في سورة الأنفال جملة من صفات عباده المؤمنين خاتماً ذلك بذكر عظيم جزائهم عنده تعالى. كما يذكر تعالى فيها أهمية إصلاح ذات البين تأديباً لجيل الصحابة حين تنازعوا -وهم الأفاضل- في قسمة غنائم بدر، وهو تأديب لمن بعدهم. وبين الله تعالى فيها كذلك قسمة الغنائم مؤخراً جوابها إلى بعد حين، تربية للنفوس على الإيمان وتهذيباً لها من أوضار الدنيا.

خلاصة ما ذكر في تفسير بعض آيات سورة الأعراف

خلاصة ما ذكر في تفسير بعض آيات سورة الأعراف

شذوذ قوم لوط وانتكاس فطرهم

شذوذ قوم لوط وانتكاس فطرهم الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فإننا نستعين الله جل وعلا في تفسير كلامه جل وعلا، وكنا قد انتهينا في الدرس الماضي إلى سورة الأعراف، وسنشرع في هذا الدرس -إن شاء الله- في تفسير سورة الأنفال. وقبل أن نشرع فيها نذكر بعض ما كنا قد تأملناه حول سورة الأعراف التي تمت دراستها عبر درسين. فكنا قد ذكرنا أن الله جل وعلا ذكر ثلة من أنبيائه ورسله في سورة الأعراف بدءاً بنوح وانتهاءً بموسى عليهم السلام، ووقفنا عند اثنين منهم هما لوط وموسى عليهما الصلاة السلام، وذكرنا عن قوم لوط أن الفطرة انتكست عندهم، فكانوا يأتون الذكران من العالمين، ولذلك لم يكن بينهم وبين رسولهم أخذ ولا عطاء؛ فإن الله جل وعلا ذكر أن الأنبياء تحاوروا مع من بعثوا إليهم من الأمم، فقوم ثمود قالوا لصالح: {قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا} [هود:32]، وقالوا له: {قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا} [هود:62]. وقال قوم شعيب لشعيب قريباً من ذلك، وغير ذلك مما ذكره الله من محاورات الرسل لأممهم. وأما قوم لوط فإنهم لما انتكست الفطرة عندهم لم يبق لهم عقول يحاورون بها، قال الله عنهم: {وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} [الأعراف:82]، فعاملهم الله جل وعلا بالمثل، فقال الله تبارك وتعالى: {جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ} [هود:82].

آيات موسى عليه السلام التسع

آيات موسى عليه السلام التسع ثم ذكرنا بعضاً من خبر نبي الله موسى مع فرعون وملئه. وذكرنا أن الله جل وعلا قال عنهم: {وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ * فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ} [الأعراف:132 - 133]. فهذه خمس آيات من التسع التي بعث الله بها موسى عليه السلام. وقال جل وعلا: {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ} [الأعراف:130]، فهذه اثنتان، وبقيت اثنتان هما العصا واليد، فهذه تسع آيات قال الله جل وعلا عنها: إنه بعث بها موسى إلى فرعون وملئه، والقرآن ينظر إليه جملة واحدة، ويفسر بعضه بعضاً، ويصدق بعضه بعضا، فكله كلام رب العالمين جل جلاله. كما ذكرنا في قول ربنا جل وعلا: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ} [الأعراف:133]، أن كلاً من كلمتي (آيات) و (مفصلات) أعطت معنى، فكلمة (آيَاتٍ) دلت على أمر خارج عن المألوف؛ لأن الجراد والقمل والضفادع يوجد في كل زمان ومكان، ولكن الله جل وعلا جعل وجودها في زمن موسى آية له خارجة عن المألوف. وقوله تبارك وتعالى: {مُفَصَّلاتٍ} [الأعراف:133] يدل على أنها لم تكن جملة واحدة، وإنما كان يتبع بعضها بعضا.

ما يتعلق بحساب الأيام والليالي

ما يتعلق بحساب الأيام والليالي ثم قلنا: إن الله جل وعلا قال: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً} [الأعراف:142]، وقلنا: إن القاعدة في ذكر الأيام والليالي أن الأيام تحسب بها المنافع الدنيوية، فالمزارعون -مثلاً- إنما يحصدون بناء على البروج الشمسية، وليس لهم علاقة بالأهلة، وأما الأهلة والليالي فإنما يحسب بها المناسك الدينية، قال الله جل وعلا: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة:189]، وهذه فيها فائدة كبرى، وهي أن يعرف الإنسان أن ما يتعلق بالأيام فيه المنافع الدنيوية، وما يتعلق بالليالي فيه المنافع والمناسك الدينية.

الميقات الزماني والمكاني الذي جعله الله لموسى عليه السلام

الميقات الزماني والمكاني الذي جعله الله لموسى عليه السلام ثم قلنا: إن الرب تبارك وتعالى قال: {وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ * وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا} [الأعراف:142 - 143]، فكان هناك ميقاتان: ميقات مكاني وميقات زماني. فالميقات المكاني: الوادي المقدس، أو جبل الطور، قال الله جل وعلا: {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الأَمْرَ وَمَا كُنتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [القصص:44]، فجبل الطور هو الجبل الذي كلم الله عنده موسى مرتين: المرة الأولى: في أول أيام الوحي، والمرة الثانية: في وقت الميقات الذي وعده الله جل وعلا إياه، فهذا هو الميقات المكاني. وأما الميقات الزماني فإن الله كلم عبده موسى بن عمران بعد أربعين يوماً، فوافق ذلك يوم عشر ذي الحجة، فإن الله وعده ثلاثين يوماً، وعند جماهير العلماء هي شهر ذي القعدة، ثم زاده الله عشراً، قال الله: {فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} [الأعراف:142]، فاليوم الأربعون هو اليوم العاشر من ذي الحجة المتمم للثلاثين ذي القعدة وعشر ذي الحجة.

سؤال موسى ربه أن ينظر إليه

سؤال موسى ربه أن ينظر إليه ثم قلنا في قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ} [الأعراف:143]، رغب عليه السلام في مقام الرؤية بعد أن أعطي مقام التكليم, فقال الله جل وعلا له: {لَنْ تَرَانِي} [الأعراف:143]، وقلنا: إن رؤية العبد المؤمن للرب جل وعلا في الدنيا جائزة عقلاً ممتنعة شرعاً، ومعنى قولنا: (جائزة عقلاً): أنه يمكن بقدرة الله أن يعطي الله عباده قدرة على أن يروا ربهم في الدنيا؛ لأن الله على كل شيء قدير، فهذا لا ينافي العقل، ولكن الله أخبر في كتابه بأن هذا لن يقع؛ إذ قال لكليمه موسى: {لَنْ تَرَانِي} [الأعراف:143]، فقلنا: إنها -وإن كانت جائزة عقلاً- ممتنعة شرعاً في الدنيا. وإذا كانت جائزة عقلاً في الدنيا فمن باب أولى أن تكون جائزة عقلاً في الآخرة؛ لأن الأبصار في الآخرة أقوى منها في الدنيا، قال الله جل وعلا: {فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق:22]، وإذا كانت في الدنيا ممتنعة شرعاً، فإنها في الآخرة واقعة شرعاً للمؤمنين في الجنة، وقد نص القرآن والسنة على هذا، قال الله جل وعلا في سورة القيامة: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} [القيامة:22] بالضاد، والمعنى: تعلوها النضرة {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:23]، أي: تبصر ربها من غير إحاطة؛ لأن الله يقول: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الأنعام:103]، فالله جل وعلا لا تدركه أبصار خلقه. وقلنا: إن من العلماء من قال إنها ممتنعة في الدنيا والآخرة، وهذا قول المعتزلة، نص عليه جار الله الزمخشري في تفسيره المشهور بـ (تفسير الكشاف)، فإنه قال: إن العباد لا يرون ربهم في الدنيا ولا في الآخرة. واحتج بحرف النفي (لن). والجواب العلمي أن يقال: إن الله جل وعلا أخبر عن اليهود بأنهم لا يتمنون الموت، فقال عنهم: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} [البقرة:95]، أي: الموت، ومع ذلك قال الله عن أهل النار -واليهود قطعاً من أهل النار-: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف:77]، فيتمنون الموت، فدل على أن (لن) هنا تجري على أحكام الدنيا ولا تجري على أحكام الآخرة. ثم إن النصوص الصريحة في رؤية المؤمنين لوجه ربهم لا يمكن تأويلها ولا دفعها بحال في رؤية وجه ربهم تبارك وتعالى، منها آية القيامة، ومنها قول النبي صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيحين وغيرهما-: (إنكم سترون ربكم يوم القيامة كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته) منَّ الله علينا وعليكم برؤية وجهه الكريم.

المراد باصطفاء الله موسى على الناس

المراد باصطفاء الله موسى على الناس ثم قلنا بعد ذلك: إن الله جل وعلا قال لموسى عليه السلام: {قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الأعراف:144]، وقلنا: إن هذه الكلمة ((عَلَى النَّاسِ)) ليست على إطلاقها، وإن من الآلة العلمية في تفسير كلام الله أن يكون الإنسان مطلعاً على اللغة مطلعاً على الأحاديث مطلعاً على التاريخ، فقول الله جل وعلا لموسى: {إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ} [الأعراف:144] لا يمكن أن يكون على إطلاقه لعموم الناس؛ لأن نبينا صلى الله عليه وسلم أفضل من موسى بالاتفاق، فموسى عليه السلام أفضل أهل زمانه، وأما من قبله فإبراهيم أفضل منه، بل إن موسى من ذرية إبراهيم، وجميع الأنبياء الذين من بعد إبراهيم من ذرية إبراهيم باستثناء لوط على الخلاف في أنه ابن أخيه؛ لأن الله قال: {وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ} [العنكبوت:27]، فما بعث نبي من الأنبياء، ولا أُنزل كتاب من السماء إلا على رجل من ذرية إبراهيم. والمقصود أن موسى عليه السلام أفضل أهل زمانه، ولكنه ليس أفضل ممن كان من قبل، فإبراهيم أفضل منه، ولا هو أفضل ممن بعده؛ لأن نبينا صلى الله عليه وسلم أفضل الرسل كلهم. هذا ما انتهينا إليه حول سورة الأعراف.

ذكر نسبة سورة الأنفال وموضوعها

ذكر نسبة سورة الأنفال وموضوعها ونشرع في هذا الدرس -إن شاء الله تعالى- في تأمل خمس آيات من سورة الأنفال، وقد جرت العادة بأننا نقدم للسورة قبل أن نشرع في تفسيرها. فسورة الأنفال سورة مدنية، ونقل عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: إن قول الله جل وعلا: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ} [الأنفال:30] مكي، والله أعلم. ولكن السورة في جملتها سورة مدنية، وهي من أوائل السور المدنية التي نزلت، ومن أواخر السور المدنية سورة التوبة، وكلتا السورتين عنيتا بالغزوات، خاصة سورة الأنفال، فسورة الأنفال تكلمت عن بدر، ولذلك يقول بعض العلماء: إنها سورة مدنية بدرية. أما التوبة فتكلمت عن غزوة تبوك، وجيش العسرة، وهذا كان في السنة التاسعة، والنبي صلى الله عليه وسلم مات في العاشرة، وعلى هذا فالتوبة من آخر ما نزلَ جملة من السور المدنية، والأنفال من أوائل ما نزل من السور المدنية، فهي مدنية بدرية.

ذكر الحادثة التي نزلت بعدها سورة الأنفال

ذكر الحادثة التي نزلت بعدها سورة الأنفال وهذه السورة نزلت بعد اختصام المسلمين في غنائم بدر، فإن النبي عليه الصلاة والسلام خرج بأصحابه إلى بدر، وكان أول أمره يريد عير قريش، وقال لأصحابه: (لعل الله أن ينفلكموها) أي: يهبها لكم، فلما نجا أبو سفيان بالعير، وجاءت قريش تحاد الله ورسوله التقى الجمعان في يوم الفرقان في بدر في الموضع المعروف بين مكة والمدينة، وهو إلى المدينة أقرب، وهي أول معركة وقعت في الإسلام يمكن أن يطلق عليها أنها غزوة بالمعنى الحقيقي، وكان قبلها بدر الصغرى، ولم يقع فيها قتال فوقعت تلك المعركة، وأعلى الله فيها كلمة الإسلام، ونصر الله جل وعلا محمداً صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ورد الله القرشيين على أدبارهم، فغنم المسلمون غنائم. ثم إن الجيش في آخر الغزوة انقسم إلى ثلاثة أقسام: قسم أخذ يحرس النبي صلى الله عليه وسلم خوفاً عليه من أن يأتيه أحد من المشركين. وقسم أخذ يجهز على من بقي ويتبع فلول أهل الإشراك. وقسم أخذ يجمع الغنائم. فلما انتهى الأمر، ووقع من وقع من القرشيين في الأسر، وقتل منهم من قتل، وفر منهم من فر، ووضعت الحرب أوزارها؛ اختصم المسلمون في الغنائم، فهل الأولى بها من حرس النبي عليه الصلاة والسلام، أم من جمعها، أم من تبع فلول أهل الإشراك؟ فلما اختصموا فيها لجئوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسألونه، فقال الله جل وعلا: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ} [الأنفال:1]. والنفل هو: الزيادة على الأصل، فالغنيمة زيادة على النصر في المعركة؛ لأن المطلوب الأول في المعركة النصر، فالغنيمة زيادة عليه، وولد الولد زيادة على الولد، ولذلك قال الله عن إبراهيم: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً} [الأنبياء:72] أي: زيادة على إسحاق؛ لأن إسحاق ابن إبراهيم، فوهب الله يعقوب زيادة لإبراهيم على إسحاق الذي هو ولده. وصلاة التطوع زيادة على الفريضة، ولذلك تسمى الأولى فريضة ويسمى ما يزاد عليها نافلة، قال الله تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء:79]. والغنيمة: ما يناله المسلمون من عدوهم بسعي وإيجاف خيل وركاب. وما ناله المسلمون من عدوهم من غير سعي ولا إيجاف خيل ولا ركاب -كخراج الأراضي أو الجزية- فإنه يسمى فيئاً. وقد أجمع العلماء على أن قول الله جل وعلا: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ} [الأنفال:1] يراد به ما غنمه المسلمون يوم بدر.

بيان ما قيل في اقتران (يسألونك) بالواو وخلوها منها

بيان ما قيل في اقتران (يسألونك) بالواو وخلوها منها وكلمة ((يَسْأَلُونَكَ))، وردت في القرآن مراراً بدون واو وبالواو، قال الله جل وعلا في البقرة: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ} [البقرة:189]، وقال جل وعلا في البقرة أيضاً: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ} [البقرة:217]، وقال جل وعلا: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} [البقرة:219]، وقال جل وعلا: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ} [المائدة:4]، وقال تبارك وتعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ} [الأعراف:187]، وقال جل ذكره: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ} [الأنفال:1]، وقال تبارك وتعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ} [الإسراء:85]، وقال جل وعلا: {يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ} [الأحزاب:63]، وقال تبارك اسمه: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ} [النازعات:42]. فهذه سؤالات وردت من الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم من غير واو. وجاء في القرآن لفظ (يسألونك) مقروناً بالواو، قال الله تعالى: {ويَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ} [البقرة:215]، وقال جل وعلا: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى} [البقرة:220]، وقال جل ذكره: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ} [البقرة:222]، وقال جل ذكره: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ} [الكهف:83]، وقال تبارك وتعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا} [طه:105]. قال بعض العلماء: إن (يسألونك) إذا لم تكن مقترنة بواو يكون السؤال قد وقع من الصحابة، وأما إذا كان مقترنة بالواو فإن الله يخبر به لعلمه جل وعلا أنه سيقع. وأقول: إن الأمر لم يثبت لدينا فيه بيان شاف، والله أعلم.

ذكر حكمة تأخير جواب قسمة الغنائم في سورة الأنفال

ذكر حكمة تأخير جواب قسمة الغنائم في سورة الأنفال ويلحظ في كلمة: ((يَسْأَلُونَكَ)) أن الله يأتي بالجواب بعدها، كقوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ} [البقرة:189]، حيث قال تعالى بعدها: {قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة:189]، وقال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} [البقرة:215]، وقال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا} [طه:105] , وقال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء:85]. ولكن هنا قال الله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ} [الأنفال:1]، ولم يأت جواب، وإنما جاء الجواب بعد أربعين آية، حيث قال الله: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الأنفال:41]. وهذا من تربية الله للصحابة؛ لأن الخطأ من الرجل العظيم ليس كالخطأ ممن هو أقل منه. كما ترى شاباً يلعب بالكرة والمؤذن يؤذن، فهذا الفعل لا يجوز، ولكن لأنه شاب تأتيه بيسر؛ لأنك تعرف عين القدر وعين الشرع، فتأتيه باللين. ولكن لا يقبل منك اللين حين تأتي إلى إمام مسجد يلعب بالكرة وقت الأذان، فيكون تأنيبك للإمام ليس كتأنيبك للشاب. وصفوة الأمة هم أهل بدر، والنبي صلى الله عليه وسلم قال لـ عمر رضي الله عنه: (لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم). والبدريون هم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار. والمهاجرون: هم الذين تركوا ديارهم وأهليهم في مكة من أجل نصرة الدين. والأنصار: هم الذين قبلوا أن يأتي هؤلاء من مكة ليؤووهم ويحموهم ويقاسموهم، الأموال، والله يقول: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر:9]. فهؤلاء رضي الله عنهم وأرضاهم من المهاجرين والأنصار أعظم أصحاب النبيين على الإطلاق، وهم صفوة الأمة, وقد قال الرسول في ليلة بدر هو ينظر إليهم: (اللهم إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض أبداً). فهم رضي الله عنهم وأرضاهم خير أهل الأرض بعد النبيين والمرسلين. فهؤلاء الصفوة ما إن انتهت المعركة حتى اختصموا فيما بينهم على الغنائم، وهذا أمر لا يقبل، فرباهم الله جل وعلا، وعاتبهم عتاباً شديداً، فقال سبحانه: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ} [الأنفال:1]، ولم يقل هي كذا وكذا وكذا، بل قال: {قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} [الأنفال:1] أي: ليس لكم فيها اختصاص. والصحابة يعلمون أن كل شيء أمره لله وللرسول عليه الصلاة والسلام يحكم فيه، ولكن أراد الله أن يؤدبهم فقال: {قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ} [الأنفال:1]. فإذا علمت أن الله قال في حق أهل بدر: ((فَاتَّقُوا اللَّهَ))، وقال في حق نبيه صلى الله عليه وسلم في سورة الأحزاب: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ} [الأحزاب:1]، فاعلم أنه لا ينبغي أن يستكبر أحد عن كلمة (اتق الله)، ولا يوجد أحد فوق مستوى النقد، فكل إنسان عرضة للخطأ، وكل إنسان يخطئ يُنقد، ويقال له: أخطأت، ولو كانت منزلته عالية. ولكن النقد يختلف، فلا تأتي إلى إمام مسجد أمام عشرات الناس الذين يصلون وراءه وتقف تنقده أمام الناس، فهذا ليس من النصيحة في شيء. ولا تأتي إلى معلم وتوبخه أو تنهره أمام طلابه، ولا تأتي إلى أمير أو حاكم فتنقده لتذهب هيبته في خطبة جمعه عند الناس، ولا تأتي إلى أب فتنقده أمام أولاده، ولا إلى أم أمام بناتها، ومن أخلص النية في النقد فسيوفق في الطريقة السليمة التي ينقد بها. ولكن هنا اختلف الأمر لأن المعاتب هنا هو الله تعالى، فالمسألة تختلف جذرياً، وليست نقد كفؤ لكفؤ، وإنما هذا عتاب من الله لأهل بدر، فقال الله جل وعلا لهم: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} [الأنفال:1]. أي: انتصرتم على المشركين، والأهم أن تنتصروا على ما في النفوس، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب)، فانتصار الإنسان على هوى نفسه، وعلى شهواته، وعلى حبه للمال وحبه لأن يكون أفضل من غيره، وما يدفعه إلى الاستئثار بالشيء، هذا الذي ينبغي أن ينتصر عليه، فإذا انتصر الإنسان على شهواته وحبه للكبر والاستعلاء على غيره حقق الانتصار العظيم.

تفسير قوله تعالى: (فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم)

تفسير قوله تعالى: (فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم) يقول الله تعالى لنبيه ولأصحابه: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} [الأنفال:1] والصلح وصفه الله جل وعلا بأنه خير، ويقع على عدة طرائق: فيقع بين أهل الإيمان وأهل الكفر، ودليله قوله تعالى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [الأنفال:61]، وهذا مرده إلى ولي أمر المسلمين. وهناك صلح يقع بين فئتين من أهل الإسلام تتقاتلان، فيسعى بينهما بالصلح، قال الله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات:9]. وهناك صلح يقع بين الزوج والزوجة قال الله فيه: {فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النساء:35]. وهناك صلح يقع بين الرجل والرجل في خصومات ماليه، وهذا لابد فيه من التنازل، وأي صلح لا بد فيه من التنازل، فإن لم يتنازل كلا الطرفين فلا يسمى ذلك صلحاً. والسعي بين الناس في الصلح من أعظم طرائق الخير، قال الله جل وعلا: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء:114]، بل إنه مما يجوز الكذب فيه شرعا. فقول ربنا جل وعلا: {وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} [الأنفال:1] أي: كونوا أمة متحابة متآلفة لا تفرق بينكم الدنيا ولا الغنائم، وهذا تربية لصفوة الأمة -وهم أهل بدر- من لدن العليم الخبير جل جلاله.

بيان قسمة الغنائم

بيان قسمة الغنائم وقد بين الله جل وعلا قسمة الغنائم فقال: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الأنفال:41]. إن حب المال أمر فطرت عليه النفوس، فالله يقول: {وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا} [الفجر:20]، وقال سبحانه: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} [العاديات:8]، والخير هنا هو المال؛ إذ الكلام هنا عن الإنسان، ولا يعقل أن كل الناس تحب الخير والمعروف الذي هو ضد الشر. ولذلك لما علم الرب جلا وعلا أن النفوس جبلت على حب المال، وكان المال الذي يأتي للمسلمين على ثلاث طرق تولى الله جل وعلا بنفسه تقسيمها ولم يكلها إلى أحد، ولا إلى نبيه صلى الله عليه وسلم: وتلك الطرق هي الميراث، والغنيمة في الحرب، والصدقات التي هي الزكاة، وأما الجزية والنفل فيدخلان في الغنيمة. فهذه كلها تولى رب العالمين تقسيمها، فقسم جل وعلا المواريث وأعطى كل ذي حق حقه، وقسم جل وعلا الغنائم فقال: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ} [الأنفال:41] إلى آخر الآية، وجاء إلى الزكاة الشرعية فقال: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة:60]. فهذه الثلاث هي: المصادر المالية، ولم يكل الله تقسيمها إلى أحد، وتولى جل وعلا تقسيمها بنفسه؛ لعلمه تبارك وتعالى بحب الناس للمال، جعلنا الله وإياكم ممن كان المال في يده وليس في قلبه. والذي يعنينا أن الله جل جلاله تولى قسمة الغنائم، فجعل الخمس لله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل، وقد اختلف العلماء في التقسيم، ونختار قول مالك رحمه، وهو أنه يُسنَد أمرها إلى الإمام فيعطي القرابة ما يراه مناسباً لهم، ويقسم الباقي، فيجعل للمجاهدين الذين معه بحسب ما يراه مناسباً، وقال: إن هذا فعل الخلفاء الأربعة من بعده صلى الله عليه وسلم.

بيان المراد بذوي القربى في قوله تعالى: (واعلموا أن ما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى)

بيان المراد بذوي القربى في قوله تعالى: (واعلموا أن ما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى) والمقصود بذوي القربى قرابة النبي صلى الله عليه وسلم، فقول الله جل وعلا: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى} [الأنفال:41] أي: قرابة النبي صلى الله عليه وسلم، واختلف العلماء في قرابة النبي صلى الله عليه وسلم الذين يتم تقسيم خمس الغنائم عليهم على ثلاثة أقوال: الأول: أنهم قريش كلها، باعتبار أن النبي صلى الله عليه وسلم من قريش، وهذا أضعف الأقوال. الثاني: أنهم بنو هاشم فقط، وهذا قول مالك والأوزاعي رحمهما الله ومن تبعهما من العلماء. وذهب الإمام أحمد والشافعي وكثير من العلماء -وهو الصحيح إن شاء الله- إلى أن المقصود به بنو هاشم وبنو المطلب. ودليل هذا القول أن النبي عليه الصلاة والسلام اسمه محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، فـ هاشم هو ابن عبد مناف، وقد ترك عبد مناف أربعة أبناء؛ فترك هاشماً وعبد شمس ونوفلاً والمطلب. فالنبي صلى الله عليه وسلم جاء من هاشم، فبنو هاشم يستحقون الخمس لأنهم آل النبي صلى الله عليه وسلم آله. ولما جاءت قريش وحاصرت في شعب أبي طالب النبي صلى الله عليه وسلم وآل بيته من بني هاشم في الشعب دخل بنو المطلب مع بني هاشم في الشعب يناصرونهم، فحفظها النبي صلى الله عليه وسلم لهم، فلما جاء يقسم الغنائم بعد خيبر جاءه من ذرية عبد شمس عثمان بن عفان، وجاءه من ذرية نوفل جبير بن مطعم وقالا في معنى كلامهما: يا رسول الله! إن كونك تعطي بني هاشم لا نعترض عليه؛ لأن الله أعزهم بك، ولكنك أعطيت إخواننا من بني المطلب، ونحن وبنو المطلب شيء واحد، فلماذا فرقت بيننا؟! فقال صلى الله عليه وسلم: (إن بني المطلب لم يفارقونا في جاهلية ولا في إسلام)؛ لأنهم دخلوا معه في الشعب، ثم شبك بين أصابعه وقال: (إنما بنو المطلب وبنو هاشم شيء واحد). فأصبح هذا الحديث حجه ظاهره على أنهم يعطون من الخمس كما يعطى بنو هاشم. وهناك مثل يقول: (إذا جاء نهر الله بطل نهر معقل)، فهذا الحديث نص في الموضوع، ويعتذر للعلماء الذين قالوا: إنها محصورة في بني هاشم أو عامة في قريش كلها.

حقيقة سماع أهل قليب بدر لكلام النبي

حقيقة سماع أهل قليب بدر لكلام النبي قلنا: إن معركة بدر هي أول معركة بين المسلمين وبين الكفار، وقد وقف النبي صلى الله عليه وسلم على قليب بدر بعد أن ألقي فيه الجمع منهم وأخذ يسألهم: (هل وجدتم ما وعد ربكم حقاً؟ فأني قد وجدت ما وعدني ربي حقا)، فجاءه عمر وقال: يا رسول الله! كيف تكلم أقوام قد جيفوا؟! فقال: (يا عمر! ما أنت بأسمع لما أقول منهم، ولكنهم لا يملكون جوابا). قال حسان: فما نطقوا ولو نطقوا لقالوا أصبت وكنت ذا رأي مصيب لكن كتب الله عليهم ما كتب، عياذاً بالله. فهذه معركة بدر، وهذه سورة الأنفال التي نزلت تبين الموقعة، وتذكر جهاد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في تلك المعركة.

تفسير قوله تعالى: (إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم

تفسير قوله تعالى: (إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم

الخوف صفة المؤمنين

الخوف صفة المؤمنين ثم قال الله جل وعلا بعد أن ذكر هذه القضية يربي عباده الصالحين على الإيمان: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال:2 - 4]. فذكر الله جل وعلا هنا أصحاب المنازل العالية من أهل الإيمان الحق الذين اصطفاهم واجتباهم، سواء من النبيين أو من أتباعهم إلى يوم الدين، فلم يذكر الله أعياناًًًًًًًًًًًًً بأسمائها، وإنما ذكر صفات يتحلون بها جعلتهم مؤمنين حقاً. فقال في أولها: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال:2]، والوجل هو الخوف، والمعنى: أنهم يصيبهم من الخوف والوجل والطمع والرغبة فيما عند الله ما تقشعر له الأبدان، وترتجف له القلوب، ثم لا تلبث قلوبهم أن تسكن، وجوارحهم أن تهدأ بعد ذكر الرب تبارك وتعالى، وهذا من أعظم دلائل الإيمان، أي: أن يوجل قلب المؤمن إذا ذكر الله تبارك وتعالى، فإذا خوف بالله خاف، وإذا ذكر بالله ذكر، وإذا اتعظ بالله اتعظ، وإذا قيل له اتق الله لم تأخذه العزة بالإثم.

زيادة الإيمان بتلاوة كلام الله تعالى

زيادة الإيمان بتلاوة كلام الله تعالى ثم قال تعالى: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [الأنفال:2]، فالإيمان يزيد وينقص، ينقص بالمعاصي ويزيد بالطاعات، وإن مما يزيد إيمان المؤمن تلاوة كلام الرب جل وعلا، بل هذا من أعظم ما يزيد الإيمان، قال الله تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} [الإسراء:82]. والمؤمن ينبغي عليه أن يكون يومه خيراً من أمسه، وغده خيراً من يومه، فيزداد إيماناً كلما تلا هذا الكتاب العظيم وعلم أن هذا القول قول الله جل وعلا. وهذه مناقب ذكرها الله جلا وعلا في الأنبياء وذكرها الله جل وعلا في الرسل وذكرها الله جل وعلا في العامة، فقال الله في الأنبياء: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} [مريم:58]. وقال جل وعلا عن أهل العلم: {قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا * وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} [الإسراء:107 - 109]. وقال الله عن عامة من الناس: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ * وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ * فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ} [المائدة:83 - 85]. فالمؤمن يحاول بقدر الإمكان أن يرقى بنفسه إلى مستوى من وصفهم الله ونعتهم من أهل الدرجات العالية ممن وعدهم الله جنانه ومغفرته والرزق الكريم، جعلني الله وإياكم منهم.

التوكل وصلته بالإيمان

التوكل وصلته بالإيمان ثم قال جل ذكره: ((وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ))، وهذا متصل بما قبله، فإن من رزق الإيمان ومعرفة الله، وما لله من كمال الرحمة، وكمال القدرة وجليل العطاء، وأن الله جل وعلا لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، وأنه يجيب من دعاه ويؤي من لجأ إليه، وأنه لا ملجأ ولا منجى منه تبارك وتعالى إلا إليه؛ صدق توكله على الله. فالله جل وعلا ذكر في هذه الآية ثلاث من صفات القلوب، وهي: الوجل، أي: الخوف، وزيادة الإيمان، والتوكل، وكلها من أعمال قلوب.

تفسير قوله تعالى: (الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون)

تفسير قوله تعالى: (الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون)

بيان أوقات الصلاة وحال الناس فيها

بيان أوقات الصلاة وحال الناس فيها ثم ذكر جل وعلا أعمال الجوارح فقال جل ذكره: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [الأنفال:3]، والصلاة أعظم ما افترضه الله جل وعلا على عباده وخلقه بعد الشهادتين، فبها يتقرب العبد إلى ربه، ولذلك فرضت الصلاة في رحلة الإسراء والمعراج، فلما كان صبيحتها -كما قال سعيد بن جبير وغيره- بعد أن زالت الشمس -أي: عند حلول وقت الظهر- نزل جبريل من السماء فأم النبي صلى الله عليه وسلم عند البيت، فكانت أول صلاة صليت من الصلوات الخمس صلاة الظهر، وأم جبريل نبينا صلى الله عليه وسلم يومين متتالين، فصلى به الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء، والفجر في أول وقتها، ثم صلى به كرة أخرى الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء، والفجر في آخر وقتها، وقال له بعد ذلك -وهو يعلمه الصلاة-: ما بين هذين الوقتين، أي: ما بين هذين الوقتين وقت الصلوات. والمؤمنون في الصلاة يختلفون، فمن الناس -والعياذ بالله- من لا يصليها، وهذا من المحال أن يطلق عليه أنه مؤمن ومن الناس -والعياذ بالله- من يصليها في بيته من غير عذر، ومنهم من يأتي إلى الجماعة، ومنهم من هو أرقى درجة وأرفع منزلة، يسابق إلى التكبيرة الأولى، فقد قال صلى الله عليه وسلم -كما عند الترمذي بسند حسنه العلامة الألباني رحمه الله-: (من صلى لله أربعين يوماً يدرك التكبيرة الأولى ـ أي: تكبيرة الإحرام ـ كتبت له براءتان: براءة من النار وبراءة من النفاق)، وفقنا الله وإياكم لهذا العمل.

بيان فضيلة الإنفاق في سبيل الله

بيان فضيلة الإنفاق في سبيل الله ثم قال جل وعلا يختم أعمالهم قال: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [الأنفال:3]، فالإنفاق مما آتاك الله حسن ظن بالرب جل وعلا، وأن الله قادر على أن يعوضك، وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم السبعة الذين يظلهم الله تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله فقال: (ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه).

ذكر جزاء المؤمنين في الآخرة

ذكر جزاء المؤمنين في الآخرة ثم لما ذكر الرب تبارك وتعالى صفاتهم، ونعوتهم -والسرائر أمرها إلى الله- ذكر الله جل وعلا ما أعد لهم، فقال عنهم: ((أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا))، ولا يعني ذلك أن من لم يبك من خشية الله ليس بمؤمن؛ لأن الله يتكلم هنا عن أهل المنازل العالية، ولا يتكلم عن الإيمان الذي يفرق به بين الإيمان والكفر، فربما اجتمع في رجل بعض هذه الخمس فيه كلها، فلا يقال عنه: إنه ليس بمؤمن، فكل من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ورضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا فالأصل فيه أنه مؤمن، وأهل الإيمان يتفاوتون، والأعمال قرينة الإيمان، فلا انفكاك بين الإيمان والعمل الصالح. ثم قال الله: {لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [الأنفال:4] أي: لهم درجات عالية في الجنة، والجنة لها ثمانية أبواب في صورة أفقية، ويأتي عليها يوم وهي كظيظ من الزحام، وفي داخل الجنة درجات متفاوتة، ولقد سأل موسى عليه الصلاة والسلام ربه عن أهل الدرجات العلى، فقال الله جل وعلا -كما في الحديث القدسي-: (أولئك الذين أردت، غرست كرامتهم بيدي، فلم تسمع أذن، ولم تر عين، ولم يخطر على قلب بشر)، وقال الله في سورة السجدة: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17]. ولو أن ملكاً من ملوك الدنيا أجرى مسابقة، وقال: من يفوز بها سأعطيه جائزة لا يتوقعها؛ لتسابق الناس إليه لعلمهم أن هذا الملك لا يمكن أن يعطي جائزة وضيعة يُعَيَّر بها، وأن هذا الفائز سينال أعظم شيء ما دام الملك قد أخفاه؛ لأن الملك سيعطي على قدر ملكه. فكيف إذا كان المانح والمعطي ومخفي الجائزة رب العالمين جل جلاله وهو الذي بيده خزائن السماوات والأرض، وله جل وعلا السماوات والأرض وما بينهما وما تحت الثرى؟! قال تعالى: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17].

ذكر ما يدل عليه قوله تعالى (ومغفرة)

ذكر ما يدل عليه قوله تعالى (ومغفرة) قال تعالى: {أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ} [الأنفال:4] وهذا دلالة على أن هؤلاء الذين هم المؤمنون حقاً لا يمكن أن يكونوا قد خلوا من الذنوب كلها، فهذا محال؛ إذ لا يمكن أن يخلو أحد من الذنوب كلها، فكلنا ومن قبلنا ومن بعدنا ذوو خطأ، ولن ندخل الجنة بأعمالنا، ولكن المؤمن قد شبهه النبي صلى الله عليه وسلم بالفرس المعقود حبله في مكان ثابت، فمهما بعد فإنه يعود إلى مكانه، فالمسلم مهما نأت به المعصية فإنه يفيء إلى ربه، ويرجع إلى مولاه، ويجدد التوبة، ويسأل الله غفران الذنوب، ويأتي بالحسنات علَّ الله أن يكفر بها ما سلف من الخطايا، قال الله: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود:114]. وإن كنت قد ابتليت بنوع من المعاصي فليس الحل أن تبقى على تلك المعاصي، وتداهن أهلها، وتبقى معهم، بل الحل أن تتوب وترجع، ولأن تلقى الله وقد خلطت عملاً صالحاً وآخر سيئاً خير لك من أن تلقى الله وليس لك من العمل الصالح شيء، والمؤمن حصيف عاقل يعلم أن الله يغفر الذنوب ويقبل التوبة، والله جل وعلا يقول في الحديث القدسي: (يا عبادي! إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاًً فاستغفروني أغفر لكم). فالله جل وعلا وسعت رحمته كل شيء، وباب توبته مفتوح، وهو -جل وعلا- يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، فلا انفكاك من التوبة والأوبة والرجوع إلى الله جل وعلا.

بيان معنى قوله تعالى (ورزق كريم)

بيان معنى قوله تعالى (ورزق كريم) ثم قال سبحانه: {وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال:4]، وهذا الرزق جاء بعضه دلالة في القرآن، قال الله عن أهل الجنة: {كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ} [البقرة:25]، فيقطف أحدهم الثمرة، فما أن يقطفها وتقع في يده حتى تحل محلها أخرى مثلها تماما، فإذا أخذوا الثانية ورجعوا إلى الثالثة قالوا: {هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا} [البقرة:25]، كما قال الله: {وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:25]. اللهم إنا نسألك بأنك أنت الله لا إله إلا أنت الواحد الأحد الفرد الصمد الحي القيوم الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، أنت ربنا لا إله إلا أنت، لا رب لنا غيرك، ولا إله سواك، أنت خالقنا ورازقنا وولي نعمتنا وملاذنا عند كربتنا، نسألك -اللهم- أن تصلي على محمد وعلى آله وتسلم عليهم تسليماً كثيرا، وأن تغفر لنا ذنوبنا كلها، دقها وجلها، سرها وعلانيتها، أولها وآخرها، اللهم تب على من تاب منا يا رب العالمين، اللهم تب علينا جميعاً يا ذا الجلال والإكرام، اللهم من قرأ درسنا هذا يريد أن يتقرب إليك ويزدلف إليك فتب عليه، وأعنه على نفسه يا ذا الجلال والإكرام، وأكرم مجيئه يا حي يا قيوم، وارزقه التوبة النصوح الصادقة إليك يا ذا الجلال والإكرام، اللهم إن لنا من الذنوب والخطايا ما لا يعلمه غيرك، ولا يعرفه سواك، فاغفر اللهم لنا ذنوبنا أجمعين يا ذا الجلال والإكرام، واجعلنا -اللهم- مباركين أينما كنا، لا إله إلا أنت، اغفر لنا ولوالدينا ولمن له حق علينا، وارزقنا -اللهم- من فضلك وأغننا بفضلك عمن سواك، واجعلنا -اللهم- من أفقر خلقك إليك، وأغنى عبادك بك، لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا من الظالمين. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

تأملات في سورة الذاريات

سلسلة تأملات قرآنية - تأملات في سورة الذاريات يقسم الله تعالى في سورة الذاريات بجملة من مخلوقاته على وقوع يوم القيامة، ويقسم مرة أخرى على مجيء قول جديد لم يعهده كفار قريش، هو أمر الوحي والنذارة، وذلك دعوة إلى توحيد الله تعالى وإفراده بالعبادة مبيناً في ذلك فضيلة عباده الصالحين الموحدين القائمين ليلهم المنفقين أموالهم في سبيله، وعاقبة المكذبين المخالفين بهلاكهم، داعياً نبيه إلى استمراره في الذكرى النافعة للمؤمنين.

بيان جملة أمور في التأملات القرآني

بيان جملة أمور في التأملات القرآني بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خلق فسوى وقدر فهدى وأخرج المرعى فجعله غثاءً أحوى، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله نبي الأميين ورسول رب العالمين، آخر الأنبياء في الدنيا عصراً وأرفعهم وأجلهم يوم القيامة شأناً وذكراً، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فإن السور التي سنشرع في تفسيرها -بإذن الله تعالى- هي في الجزء السابع والعشرين من كتاب الله تبارك وتعالى، ومعلوم أن الجزء السابع والعشرين يبدأ من آخر سورة الذاريات، وسنشرع -إن شاء الله تعالى- في تفسير سورة الذاريات كاملة، وسنقف في كل درس -إن شاء الله تعالى- مع سورة من هذا الجزء، بدءاً بالذاريات ثم نثني بالطور، وهكذا بحسب ترتيب المصحف. الأمر الثاني: أننا لا نقف عند كل آية؛ لأن الله جل وعلا أخبر أن كتابه مثاني، بمعنى: أنه يثنى ويكرر، بل سنقف وقفات معينة. الأمر الثالث: أن الغاية من الدرس كله تأملات في كتاب الله، واطلاع على المسائل العلمية، وقليلاً ما يكون الوعظ؛ لأن المخاطب بالدرس أولاً طلبة العلم، وإن كان الوعظ لا يستغني عنه أحد، ولكنه لا يكون هو قوام الدرس في الغالب. الأمر الرابع: أننا لا نعذر أنفسنا في أننا لم نترك قضية إلا ونحاول قدر الإمكان الإشباع العلمي فيها، بمعنى أننا نتكلم في المقام الأول مع طلاب العلم، فما لا يحسن كتمه عنهم وينبغي أن يعرفوه سنعرج عليه ونعرض له بحول الله تبارك وتعالى وقوته، سائلين الله جل وعلا أن يجعلنا أعمالنا خالصة لوجهه الكريم؛ إنه سميع مجيب.

ذكر نسبة سورة الذاريات وموضوعها

ذكر نسبة سورة الذاريات وموضوعها ثم إن السورة هي سورة الذاريات وهي سورة مكية تعنى كغالب السور المكية -بشأن مسائل العقيدة، وذكر دعائم التوحيد، فعلى هذا أكثر سور القرآن المكية، وقد بينا في دروس سلفت الفرق بين القرآن المكي والقرآن المدني، وذكرنا الخلاف في ذلك، واخترنا أن السور المكية هي التي نزلت قبل الهجرة بصرف النظر عن موطن نزولها، وأن السور المدنية: هي التي نزلت بعد الهجرة بصرف النظر عن موطن نزولها. وقلنا: إن قول الله تبارك وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء:58] نزل على النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة وهو عليه الصلاة والسلام داخل الكعبة يهم بالخروج منها، ومع ذلك نقول: إن هذه الآية مدنية؛ لأنها نزلت بعد الهجرة.

تفسير قوله تعالى: (والذاريات ذروا)

تفسير قوله تعالى: (والذاريات ذرواً) قال الله جل وعلا وهو أصدق القائلين: {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا * فَالْحَامِلاتِ وِقْرًا * فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا * فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا * إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ * وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ * وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ * إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ} [الذاريات:1 - 8]. صدر الله جل وعلا هذه السورة بقسمين: قسم متتابع، وقسم منفرد. فالقسم المتتابع هو قوله تبارك وتعالى: {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا * فَالْحَامِلاتِ وِقْرًا * فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا * فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا} [الذاريات:1 - 4]، فالفاء هنا عاطفة على ما قبلها، وجواب القسم هنا هو قوله جل وعلا: {إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ * وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ} [الذاريات:5 - 6]. ثم أقسم تبارك وتعالى قسماً منفرداً عن الأول غير متصل به فقال جل وعلا: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ * إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ} [الذاريات:7 - 8].

بيان المراد بالذاريات والحاملات والجاريات والمقسمات

بيان المراد بالذاريات والحاملات والجاريات والمقسمات أما تفسير الآيات فإن العلماء رحمهم الله اختلفوا في معنى: (الذاريات)، و (الحاملات)، و (الجاريات)، و (المقسمات)، وجمهور المفسرين على أن المقصود بـ (الذاريات) الريح، ويؤيده من القرآن قول الله جل وعلا: {تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ} [الكهف:45]. وأن المقصود بقوله تعالى: {فَالْحَامِلاتِ وِقْرًا} [الذاريات:2] السحب، والذي تحمله هو الماء. وأن المقصود بقوله تعالى: {فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا} [الذاريات:3] السفن، تجري بيسر وسهولة في البحر، ويؤيده من القرآن قوله تعالى: {وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلامِ} [الرحمن:24]. وأن المقصود بقوله تعالى: {فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا} [الذاريات:4] الملائكة، ولكنهم يقولون: ليس المقصود جميع الملائكة، وإنما المقصود أربعة منهم: وهم جبريل للوحي والحرب، وميكال للرحمة والغيث والرياح، وإسرافيل للنفخ في الصور، وملك الموت لقبض الأرواح، وإن قدمت ملك الموت على إسرافيل كان ذلك أليق في الخطاب، فملك الموت لقبض الأرواح، وإسرافيل للنفخ في الصور. فهؤلاء الأربعة من مخلوقات الله، وأقسم الله جل وعلا بهم، وأداة القسم هنا هي (الواو)، فمعناها القسم، وعملها جر ما بعدها ولذلك قال تعالى: {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا * فَالْحَامِلاتِ وِقْرًا * فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا * فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا * إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ * وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ} [الذاريات:1 - 6]، فالجواب هنا جواب القسم، لتأكيد ما كان القرشيون ينكرونه من قبل، فالسور المكية نزلت على قوم ينكرون البعث والنشور، فأهم قضية عالجتها السور المكية هي قضية الإيمان بالله واليوم الآخر. ومن جملة الآثار التي تدل على صحة هذا التفسير -أي أن (الجاريات) هي السفن، (والحاملات) هي السحب، (والذاريات) هي الريح، (والمقسمات) هي الملائكة- ما روي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه وأرضاه أنه صعد المنبر ثم قال في أول من خلافته أيها الناس! اسألوني قبل أن تفقدوني؛ فإنكم لن تسألوا بعدي من هو مثلي. فقام إليه رجل يقال له ابن الكواء، فقال: يا أمير المؤمنين! ما (الذاريات ذرواً)؟ فقال: الريح، قال: فما (الحاملات وقراً)؟ قال: السحب. قال ما (الجاريات يسراً)؟ قال: السفن، قال فما (المقسمات أمراً)؟ قال: الملائكة. فهذا الأثر يدل على صحة قول جمهور المفسرين بما ذكرناه. وبعض العلماء يقول: إن (الذاريات ذرواً) هي المرأة عندما تحمل، وبعضهم حملو على غير ذلك، ولكننا نقف هنا عند قول جماهير العلماء؛ لأن الأثر يدل عليه، وكذلك يدل عليه كلام الرب جل وعلا كما بينا في ذكرنا لما يدل على الجاريات وعلى الذاريات.

تفسير قوله تعالى: (إنما توعدون لصادق)

تفسير قوله تعالى: (إنما توعدون لصادق) وقلنا: إن جواب القسم: {إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ * وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ} [الذاريات:5 - 6]، فقوله تعالى: (ما توعدون) أي: البعث، والدين المقصود به هنا: الجزاء والحساب. وكون الرب جل وعلا يقسم بأربعة من مخلوقاته فيه شرف لمن أقسم الله بهم، وفي نفس فيه دلالة على أهمية القضية، ولذلك جعل الله الإيمان باليوم الآخر أمراً يترتب عليه الكفر والإيمان، فمن آمن بالله بوجود الله ولم يؤمن باليوم الآخر بالبعث والنشور لا يعتبر مؤمناً، ولكن ليس كل من آمن باليوم الآخر يعتبر مؤمناً حتى يؤمن بالحساب والعقاب الذي أخبر به الرسل، فاليهود والنصارى يؤمنون باليوم الآخر، ويؤمنون بأن هناك جنة وناراً، ولكنهم يزعمون أن الجنة لهم والنار لغيرهم، قال الله جل وعلا: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ} [البقرة:113]، وقال الله جل وعلا: {وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا} [البقرة:135]، وقالوا: لن ندخل النار إلا أياماً معدودات. وهذا كله إخبار منهم بأن هناك بعثاً ونشوراً، وهم مؤمنون بالبعث والنشور، ولكنهم يؤمنون بأمور أخر، منها: أنهم يجعلون مع الله آلهة أخرى، فقد زعمت اليهود أن عزيراً ابن الله، وزعمت النصارى أن المسيح ابن الله، فأركان الإيمان المنصوص عليه في حديث جبريل عليه السلام لابد من الإتيان بها كلها، حتى يحكم على أي رجل بأنه مؤمن.

تفسير قوله تعالى: (والسماء ذات الحبك)

تفسير قوله تعالى: (والسماء ذات الحبك) ثم قال تبارك وتعالى: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ * إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ * يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ} [الذاريات:7 - 9]، هذا قسم آخر غير متتابع جاء لوحده. وجملة ما يقال في معنى قول الرب جل وعلا: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ} [الذاريات:7] أي: والسماء ذات الخلق الحسن، وأقوال المفسرين فيها تصب في نهر واحد، حيث اختلفوا -رحمهم الله- في معنى الحبك؛ لأن الكلمة تحتمل هنا أكثر من معنى في اللغة: فمنهم من قال: إن المقصود: والسماء ذات النجوم. من باب قولهم: (حبكت الشيء) بمعنى: زينته، والنجوم زينة للسماء. ومنهم من قال: إن الحبك هنا بمعنى الطرائق، وهذا يؤيده القرآن في قوله تعالى: {فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ} [المؤمنون:17]. ومنهم من قال: (ذات الحبك) أي: الشيء المحبوك، وهذا يؤيده إخبار الرب عن السماء بأنه جعلها سقفاً محفوظاً. وهذه الأقوال كلها يجمعها أن المراد: السماء ذات الخلق الحسن وهذا اختيار ابن جرير الطبري رحمه الله، وكل من قال من المفسرين قولاً غير هذا فإنه لا يبعد عنه ويصيب فيه.

تفسير قوله تعالى: (إنكم لفي قول مختلف يؤفك عنه من أفك)

تفسير قوله تعالى: (إنكم لفي قول مختلف يؤفك عنه من أفك) ثم قال جل وعلا: {إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ * يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ} [الذاريات:8 - 9]. قوله تعالى: {إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ} [الذاريات:8] قال فيه بعض العلماء: (في قول مختلف) أي: مصدق ومكذب. فإن قلنا بهذا تكون الآية قد خوطب بها جميع الناس؛ لأن الكفار منهم لا يصدقون بالبعث. وقال الأكثر (في قول مختلف) أي: اختلفتم في النبي صلى الله عليه وسلم، فمنكم من قال: إنه شاعر، ومنكم من قال: إنه كاهن، ومنكم من قال: إنه ساحر، ومنكم من قال: إنه مجنون. وعلى هذا القول يصبح عائداً على الكفار، وكفار قريش في المقام الأول. وقوله تعالى: {يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ} [الذاريات:9]، المعنى: يصرف عنه من يصرف، ويدفع عنه من يدفع بقدر الله. و (عن) هنا جارة، والهاء ضمير يعود على النبوة، ويعود على القرآن، ويعود على البعث والنشور، فالإيمان بذلك يصرف عنه من صرفه الله جل وعلا عن الإيمان، هذا قول علماء التفسير في هذه الآية ونقول غير متجرئين -والله تعالى أعلم-: إن هذا القول في نظرنا لا يستقيم؛ لأنه لا يمكن أن يقسم الرب على شيء لم ينكره أحد. فالله تعالى قال: {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا} [الذاريات:1]، ثم قال: {إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ * وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ} [الذاريات:5 - 6]، أقسم الله لأنهم أنكروا البعث والنشور ولكن إذا أخذنا بقول المفسرين في قوله تعالى: {إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ} [الذاريات:8] فمعنى الآية أن هؤلاء القرشيين اختلفوا في النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا لا يحتاج إلى قسم؛ لأنهم لم ينكروا اختلافهم في النبي صلى الله عليه وسلم. ثم إننا إذا أخذنا قوله تعالى: (يؤفك عنه)، وجئنا بالضمير؛ فإن الضمير لا يمكن أن يعود على (قول مختلف)، فيعود على القرآن، ويعود على النبوة، ويعود على البعث والنشور كما قال العلماء، وهذا تكلف في الخطاب. فالصحيح -فيما نظن والله أعلم- أن معنى قول ربنا جل وعلا: {إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ} [الذاريات:8] أي: هذا القول الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم مختلف مغاير لما عهدتموه من الأقوال، ومغاير لما عهدتموه من الأساطير والأقوال، وهذا القول الذي هو الإيمان جملة يصرف عنه من يريد الله جل وعلا صرفه عنه. فقوله تعالى: {إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ} [الذاريات:8] أي في نبأ جديد مختلف عما عهدتموه مما ينقل لكم من أساطير الأولين {يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ} [الذاريات:9] أي: يقبله من يريد الله، ويصرف عنه ويدفع عنه من يريد الله تبارك وتعالى أن يصرفه ممن لم يكتب الله جل وعلا له الهداية. ولا أعلم أحداً قال بهذا القول قبل، ولكننا في مجلس علم، ولا يلزمك شيء من قبوله.

تفسير قوله تعالى: (إن المتقين في جنات وعيون)

تفسير قوله تعالى: (إن المتقين في جنات وعيون) الوقفة الثانية في قول الرب تبارك وتعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ * كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات:15 - 18].

بيان معنى قوله تعالى (آخرين)

بيان معنى قوله تعالى (آخرين) قوله تعالى: (آخذين) يحتمل معنين: فإما أن يكون المقصود: (آخذين) وقت دخولهم الجنة، فيصبح المعنى: آخذين ما هم فيه من النعيم. والمعنى الآخر: أن يكون ذلك في حال كونهم في الدنيا، فالله تعالى يصف حال المحسنين عندما كانوا في الدنيا، فيقول: {آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ} [الذاريات:16]. فإذا قلنا بهذا يصبح المعنى: كانوا راضين عن الله؛ ولأنهم رضوا عن الله أخذوا عنه الأمر بتنفيذه، والنهي باجتنابه، والمصائب بالصبر عليها، والنعماء بالشكر. وإن قلنا: إنها حال لهم في الآخرة؛ إن قوله تعالى: {آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ} [الذاريات:16] هذه ظاهرة لا تحتاج إلى تفسير، أي: أنهم يتقلبون في نعم الرب تبارك وتعالى {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ} [الذاريات:16].

بيان معنى قوله تعالى (كانوا قليلا من الليل ما يهجعون)

بيان معنى قوله تعالى (كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون) ثم ذكر الله جل وعلا صفتين من صفاتهم، وسنقف عندهما وقفة علمية لا وقفة وعظية. قال تعالى: {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات:17 - 18]، فالله جل وعلا هنا يخبر عن حال أهل النعيم، فالآية في سيقال المدح، وحين تفسر لابد لك من أن تستحضر سياق الآية حتى لا تقع في حواجز اللغة. فـ (ما) في قوله تعالى: (كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون) معنيين: المعنى الأول: أن تكون نافية، والمعنى الثاني: أن تكون موصولة. فإذا قلنا: إنها نافية يصبح معنى الآية: كانوا قليلاً من الليل لا يهجعون. أي: أن قيامهم في الليل قليل بالنسبة إلى النوم. وإن قلنا: إنها موصولة يصبح المعنى: كانوا أكثر الليل قائمين بين يدي ربهم، وقليلاً ما ينامون. فمن حيث اللغة العربية تحتمل الآية معنيين؛ لأن (ما) في اللغة تأتي موصولة، وتأتي نافية، ولا يعرف المرجح إلا من السياق العام، والسياق العام في معرض المدح والثناء، وأنا كنت في معرض المدح والثناء، فإنه لا يمكن أن تكون (ما) نافية، فلا يُعقل أن الله يثني على خلق من خلقه وعدهم الجنان، وأعطاهم ما يشاءون بأنهم كانوا أكثر الليل نائمين. فحواجز اللغة هنا أخرجها السياق القرآني؛ لأنه سياق مدح وثناء على تلك الفئة.

بيان معنى قوله تعالى (وبالأسحار هم يستغفرون)

بيان معنى قوله تعالى (وبالأسحار هم يستغفرون) ثم قال تعالى: {وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات:18]، والسحر: آخر الليل، وهو موطن التنزل الإلهي، وهو موطن إجابة الدعاء، وقد قال العلماء رحمهم الله: إن يعقوب لما قال لبنيه (سوف أستغفر لكم ربي): إنما كان ينتظر ساعة السحر؛ لأنها أقرب إجابة وكان طاوس بن كيسان رحمه الله لا ينام السحر، فذهب إلى رجل يسأله عن مسألة وقت السحر، فلما طرق الباب ردت عليه الجارية أو الغلام فقالت: إن مولاي نائم، فقال: سبحان الله! ما ظننت أن مؤمناً ينام السحر؛ لأنه موطن وقت عظيم، فيه يتقرب الصالحون إلى ربهم جل وعلا، وقد النبي صلى الله عليه وسلم لـ معاذ في بيان بعض الأعمال الفاضلة: (وصلاة الرجل في جوف الليل الآخر، ثم تلا: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [السجدة:16]).

تفسير قوله تعالى: (هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين)

تفسير قوله تعالى: (هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين) الوقفة الثالثة مع قول الرب تبارك وتعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنكَرُونَ} [الذاريات:24 - 25]. هنا يخبر الله جل وعلا نبيه صلى الله عليه وسلم بنبأ ضيف إبراهيم المكرمين، وهم ملائكة كرام، قيل: إنهم جبريل وإسرافيل وميكال نزلوا من السماء، وأصل مهمتهم أن يعذبوا قوم لوط، ولوط عليه الصلاة والسلام ابن أخ لإبراهيم، كانا يسكنان بأرض بابل في العراق، فلما تآمر القوم على إبراهيم وأدخلوه النار هاجر لوط بزوجته وابنتيه، وكذلك إبراهيم، فتركوا أرض العراق، فنزل لوط عليه الصلاة والسلام في أرض سدوم جهة الأردن حالياً في الضفة الشرقية من الأردن، ونزل إبراهيم عليه الصلاة والسلام في بيت المقدس في أرض فلسطين، فكانا بعيدين. فلما جاءت الملائكة مرسلة لتعذب قوم لوط لأنهم أنكروا نبوة نبيهم وجاءوا بالفاحشة العظيمة مرت وهي في طريقها على إبراهيم، وكان إبراهيم آنذاك متزوجاً من سارة الحرة، ولم تكن تحته هاجر الأمة، وكان إبراهيم يفتح بيته للضيفان، فلذلك لم تستأذن الملائكة، فدخلت البيت على إبراهيم عليه الصلاة والسلام في صور رجال غير معروفين، فاستقبلهم وهو منكر لهم؛ لأنه لا يعرفهم، ولما حيوه كأنهم سلموا بطريقة غير معهودة قال تعالى: {فَقَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنكَرُونَ} [الذاريات:25]، فدخلوا عليه، فبادر عليه الصلاة والسلام فعمد إلى عجل سمين فقربه إليهم وقدمه لهم على أنه طعام لضيفه، وكان عامة النعم التي يملكها البقر، ولكن الملائكة لا تأكل ولا تشرب ولا توصف بذكورة ولا بأنوثة فلم تقرب أيديهم الطعام، فازداد خوفه، قال تعالى: {فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً} [الذاريات:28]، فلما شعر بالخوف طمأنته الملائكة وأخبروه بأنهم رسل من الله، فلما زال عنه الخوف بشروه، قال الله تعالى: {وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ} [الذاريات:28]، وقال في آية أخرى: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ} [الصافات:101]، وكان الذي يتولى خدمة الضيوف إبراهيم بنفسه ومعه زوجته سارة. فلما قالوا ذلك بدر من الزوجة ردة فعل، حيث تعجبت فأظهرت صوتاً، قال الله جل وعلا: {فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ} [الذاريات:29] و (أقبلت) هنا ليس بمعنى (مشت)، وإنما أخذت في الفعل، فهو نظير قول الله: {وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ} [طه:121] أي: أخذا يخصفان عليهما من ورق الجنة، وقوله تعالى: (في صرة) يعني: -ظهرت صوتاً- يقال: صرير الباب، أي: صوته، فصكت وجهها تعجباً {وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ} [الذاريات:29]، فذكرت سببين من أسباب منع الحمل، فقالت: (عجوز عقيم)، فأخبرتها الملائكة بأن هذا أمر الله: {قَالُوا كَذَلِك قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ} [الذاريات:30]، فاطمأن إبراهيم وقبل البشارة، فلما ذهب عنه الروع والخوف سألهم: لماذا قدمتم؟ فأخبروه بأنهم قدموا ليعذبوا قوم لوط، فأدركته العاطفة والشفقة على ابن أخيه لوط، فقال: ((إِنَّ فِيهَا لُوطًا)) قالت الملائكة: {قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ} [العنكبوت:32]، وأخبرته الملائكة بأنهم معهم حجارة مسومة -أي: معلمة- عقاباً لأولئك المجرمين، هذا ما تدل عليه الآية جملة.

بيان كرامة الملائكة

بيان كرامة الملائكة يقول الرب جل وعلا: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ} [الذاريات:24]، هذا يسمى أسلوب تفخيم، حتى يتهيأ النبي صلى الله عليه وسلم ليسمع الخطاب. وكلمة (ضيف) تطلق على المذكر وعلى المؤنث، وعلى المفرد وعلى المثنى وعلى الجمع، وقوله تعالى: (المكرمين) معناه أنهم مكرمون أصلاً، ومكرمون عارضاً. فهم مكرمون أصلاً؛ لأنهم ملائكة، والدليل قوله تعالى: {كِرَامًا كَاتِبِينَ} [الانفطار:11] وأوضح منها قوله تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} [الأنبياء:26]، فهذا نعت للملائكة بأنهم مكرمون أصلاً. وهم مكرمون عارضاً لأنهم ضيوف، ومن شدة كرمه عليه السلام باشر بإكرامهم بنفسه، فهو الذي قدم الطعام، وهو الذي أدخلهم، وهو الذي دعاهم فقال: (ألا تأكلون) ومن عناية الرجل بضيفه أن يباشر هو بنفسه إكرام الضيف، فهذا معنى قول ربنا: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنكَرُونَ} [الذاريات:24 - 25].

بيان حصول الأنس بالمؤاكلة

بيان حصول الأنس بالمؤاكلة والعامة تقول (بينك وبين فلان عيش وملح) في التقاليد الموروثة إنسانياً شيء اسمه حرمة المؤاكلة، وهو معنى قول العامة: (عيش وملح)، فالإنسان إذا جلست معه على طعام واحد يصبح بينكما شيء من الحرمة، وليست الحرمة أن ترى زوجته ويرى زوجتك، ليس المقصود هذا، ولكن المقصود أنك تغير تعاملك معه؛ لأن هذا الأمر يغير فيك، وهذه جبلة إنسانية موجودة عبر التاريخ، وإذا أردنا أن نخوض في هذا إنسانياً نقول: إن موسى عليه الصلاة والسلام كان ذكياً في الصغر، فلما أراد فرعون أن يقتله ائتمر بأمر آسية فقدم له جمراً وتمراً، فعمد موسى إلى التمر يريد أن يأكله، فجاء جبريل ووضع يد موسى على الجمر، حتى يفهم فرعون أن موسى لا يفقه، فلا يعمد إلى قتله، ولأن تحرق يد موسى قليلاً خير من أن يقتل ولما أصابت يد موسى الحرق أصبح غير قادر على أن يأكل في الصبا بنفسه، فلا يستطيع أن يأكل مع فرعون، بل يحتاج إلى وقت حتى يأكل معه، فيضطر إلى أن لا يأكل مع فرعون، فحين يضطر موسى إلى أن لا يأكل مع فرعون لا تكون بينه وبين فرعون حرمة مؤاكلة، فإذا قدر الله بعد ذلك أن يزيل ملك فرعون على يد موسى لم تكن لفرعون يد على موسى حتى في باب حرمة المؤاكلة. فحين تريد أن يكون بينك وبين امرئ نوع من الحرمة فتقدم له الطعام يصيبك الخوف، لذا قال إبراهيم عليه السلام: {قَوْمٌ مُنكَرُونَ} [الذاريات:25]، بعد أن قال الله: {فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ * فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ} [الذاريات:26 - 27]، وقلنا: إن الملائكة لا تأكل ولا تشرب ولا تتناسل ولا تتناكح، ولا توصف بذكورة ولا بأنوثة، بل هم كما نعتهم ربهم وخالقهم: {عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} [الأنبياء:26].

بيان بشارة الملائكة لزوج إبراهيم

بيان بشارة الملائكة لزوج إبراهيم يقول تعالى: {وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ} [الذاريات:28]، {فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ} [الذاريات:29]. إذا أردت أن تفسر القرآن فاجمع الآيات كاملة، ولا تأخذ القرآن مجزأ، لأنه كله كلام الله، فليس بعضه بأولى من بعض. فسارة ذكرت سببين لمنع الحمل، وهما أنها عجوز وعقيم و (عجوز) على وزن فعول يجتمع فيها المذكر والمؤنث، فيقال للرجل: عجوز، وللمرأة عجوز، و (عقيم) معناها أنها امرأة لا تأتي بالولد، فهذان سببان، وبقي سبب ثالث ذكره الله جل وعلا في هود، وهو قوله تعالى عنها: {وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا} [هود:72]، فالله جل وعلا ذكر هذه الأسباب متفرقة.

ذكر ما قيل في تعيين الذبيح

ذكر ما قيل في تعيين الذبيح يقول الله تعالى: {وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ} [الذاريات:28]. إن هناك أموراً لا ينبغي لطالب العلم أن يجهلها، فأهل كل الملل من اليهود والنصارى والمسلمين متفقون على أن إبراهيم الخليل أمر بذبح ابنه، وأن الله جل وعلا فدى ذلك الذبيح، ولكن السؤال من هو الابن الذي أمر إبراهيم بذبحه ثم فداه الله جل وعلا بكبش عظيم. فقول على إنه إسماعيل، وقول على إنه إسحاق. وجمهور العلماء على أنه إسحاق، واختاره ابن جرير الطبري شيخ المفسرين رحمه الله، وهو المروي الثابت عن عبد الله بن مسعود، والرواية الصحيحة عن عبد الله بن عباس، وهو قول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، وعن جملة من الصحابة، وروي عن أكثر من عشرة من سادات التابعين. وذهب بعض العلماء -وهي الرواية الثانية عن ابن عباس، وقول الإمام أحمد -إلى أن الذبيح هو إسماعيل، وكل منهم له أدلة. وقال الزجاج رحمه الله: الله أعلم أيهما هو الذبيح، لكثرة الاختلاف في المسألة. وأما أنا فلا أدري أيهما الذبيح، فكلما ترجح قول صُدم بشيء، وقد يقول قائل: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أنا ابن الذبيحين) و A أن الحديث رواه الحاكم في المستدرك، وقال عنه الذهبي: إن سنده واهٍ جداً، فلا يقبل في مسألة كهذه. أما اختلاف أقوال العلماء فسنحاول الإجمال فيه لتتبين. فالله تعالى: ذكر أن قوم إبراهيم أرادوا أن يحرقوه، ثم ذكر عنه أنه قال: {إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الصافات:99]، ثم دعا ربه: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} [الصافات:100]، قال الله: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ * فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} [الصافات:101 - 102]، والذي بلغ معه السعي هو، الغلام الذي بشر به، وذلك عند خروجه من أرض العراق، فدعا ربه أن يهب له من الصالحين، ثم قال الله عنه: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} [الصافات:102]. فالذين قالوا: إنه إسحاق قالوا: ليس في القرآن دليل واحد على أن الله بشر إبراهيم بإسماعيل، بل المبشر به في القرآن هو إسحاق، كقوله تعالى: {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا} [الصافات:112]، فكل القرآن يدل على أن الذي بشر به بشارة هو إسحاق، فقالوا: إن الذبيح هو المبشر به؛ لأن الله قال: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ * فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ} [الصافات:101 - 102]. فهذا هو الذي دفع العلماء إلى القول بأنه هو إسحاق. ومن أدلتهم أنهم قالوا: إن الله يقول: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ} [الصافات:102] أي أنه كان يعيش في كنف من؟ في كنف أبيه، وإسماعيل لم يعش في كنف أبيه، بل كان مع أمه في مكة، فإسحاق هو الذي كان مع أبيه يخدمه، وأما إسماعيل فكان مع أمه، وإبراهيم قد جاء إلى مكة ثلاث مرات، فمرتان لم يجد فيهما إسماعيل، وفي المرأة الثالثة وجده. وممن قالوا: إنه إسماعيل وانتصروا لهذا الرأي العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى صاحب (أضواء البيان)، فقد قال: إنه لا يسوغ القول بأنه إسحاق، وإن ظاهر القرآن يدل على أنه إسماعيل، واحتج بآيتين: الآية الأولى: قوله تعالى في الصافات: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ * فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ} [الصافات:101 - 102] وذكر الله قصة الذبح كلها، ثم قال الله بعد أن ذكر الذبح: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ * سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ * كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ * وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} [الصافات:106 - 112]. يقول الشنقيطي رحمه الله: إن قواعد القرآن تقتضي أنه لا يمكن أن يعيد الله البشارة مرة ثانية، فالمبشر به الأول غير المبشر به بالثاني؛ لأن الله قال: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ} [الصافات:101] ولم يسمّ، ثم قال بعد الحدث، قال: {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا} [الصافات:112]، فـ (الواو) واو عطف، والعطف يقتضي المغايرة. ويجاب عنه بأنه لا يلزم أن تكون الواو واو العطف، فيمكن أن تكون الواو واو استئناف، فتكون الآية قد نزلت منفكة عن الأولى وقال رحمه الله تعالى: والدليل الثاني على أن الذبيح هو إسماعيل: أن الله قال: {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} [هود:71] ووجه الدلالة هو أنه لا يعقل أن يبتلي الله إبراهيم بذبح إسحاق وقد أخبره بأن من ذرية إسحاق يكون يعقوب، فليس هناك معنى للابتلاء؛ لأن إبراهيم يعرف أنه لن يموت؛ لأن الله قال: {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} [هود:71]، فلن يأتي يعقوب إلا بحياة إسحاق. ويجاب عن هذا بأن العرب تكرر حرف الجر في نحو قولك: مررت بصالح ثم مررت بعده بخالد، ولا يستقيم أن تقول إذا أردت العطف: مررت بصالح ثم مررت بعده خالد. فالله هنا قال: {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} [هود:71] فلو كان المقصود العطف -أي أنها بشارة واحدة -لكان لفظ الآية: (ومن وراء إسحاق بيعقوب)، فلما حذفت الباء دل حذفها على أن الآية منفكة، بمعنى أن البشارة كانت بإسحاق فقط، وأما جملة (ومن وراء إسحاق يعقوب)، فغير داخلة في البشارة. ومن المعلوم أنه لا يتعلق بمعرفة أحد الذبيحين عمل في حياتك اليومية، والذي أردته من إثارة القضية أن تعرف أولاً أنها مسألة خلاف، وأن كثيراً من العلماء قالوا بأنه إسحاق، وكثيراً منهم قالوا بأنه إسماعيل، والمهم أن تعرف أن لكل قوم دليلاً، وأشهر من قال من المفسرين أنه إسحاق ابن جرير أمام المفسرين، وأشهر من قال من المفسرين أنه إسماعيل الحافظ ابن كثير رحمه الله، والعلامة الشنقيطي رحمه الله ورحم الله جميع علماء المسلمين.

ذكر خبر عاد

ذكر خبر عاد وقد ذكر الله بعد ذلك أخبار الأمم والرسل، ونقف إجمالاً مع قول الله تعالى: {وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ} [الذاريات:41] والريح العقيم هي التي لا تلقح شجراً ولا تثير سحاباً. قال تعالى: {مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ} [الذاريات:42]، وهذا لا يعني العموم، فليس كل شيء أتت عليه جعلته كالرميم؛ لأن الله قال: {فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ} [الأحقاف:25]، فأثبت وجود المساكن.

تفسير قوله تعالى: (فتول عنهم فما أنت بملوم)

تفسير قوله تعالى: (فتول عنهم فما أنت بملوم) ثم قال تعالى لنبيه: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ} [الذاريات:54]، فقول الله جل وعلا لنبيه: {فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ} [الذاريات:54] يشعر بأن الله أعذر نبيه في عدوة أولئك الناس. فهو لفظ يشعر بأن الأمور انتهت، فقد فعلت ما عليك، ودعوت وأنذرت وبلغت، (فتولّ عنهم) أي: اتركهم، فالمؤمنون الذين كانوا آنذاك أحياء، ونزلت هذه الآية وهم موجودون أخذوا ينتظرون العذاب على الكفار وانقطع الوحي؛ لأن الله أعذر نبيه وأمره أن يتولى فقال: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ} [الذاريات:54]، فلما أصابهم هذا الخوف أخبر الله أن الوحي ما زال مستمراً، فقال بعدها: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:55] يعني: لا تترك البلاغ، واستمر في تذكيرك، فهذا يدل على أن الوحي آنذاك غير منقطع، فأصبحت هذه الآية -كما قال علي رضي الله عنه وغيره- نوعاً من البشارة للمؤمنين. هذا ما تهيأ إيراده، وتيسر قوله حول هذه السورة، وأسأل الله جل وعلا أن يتقبل منا ومنكم.

تأملات في سورة الطور

سلسلة تأملات قرآنية - تأملات في سورة الطور يقسم الله تعالى في صدر سورة الطور بجملة من مخلوقاته لبيان أن البعث والجزاء حق، وأن عذاب الكافرين كائن لا محالة، مردفاً ذلك بذكره تعالى بعض مشاهد أهوال يوم القيامة، وما أعده للمكذبين من العذاب الأليم وما هيأه لعباده الصالحين من النعيم المقيم، آمراً رسوله صلى الله عليه وسلم بالاستمرار في الذكرى، ومبيناً لجملة من الاعتراضات الصادرة عن المشركين وتفنيدها، وقد توعدهم الله تعالى بالإمهال إلى يوم يبعثون، وأمر نبيه بالصبر والفزع إلى تسبيح الله.

تفسير قوله تعالى: (والطور)

تفسير قوله تعالى: (والطور) الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شعار ودثار ولواء أهل التقوى، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله صفيه من خلقه وأمينه على وحيه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فهذا الدرس خاص بتأملات في سورة الطور، وهي سورة مكية تناولت أصول العقيدة الثلاثة: الوحدانية، وإثبات الرسالة، والبعث والجزاء. وهذه السورة بدأت بقسم على صدق البعث والجزاء وانتهت بالأمر لنبينا صلى الله عليه وسلم بأن يصبر وأن يقرن ذلك الصبر بالتسبيح، كما أن هذه السورة الكريمة ثبت فيها أنه صلى الله عليه وسلم قرأ بها في صلاة المغرب، كما في حديث جبير بن مطعم رضي الله تعالى عنه وأرضاه لما قدم المدينة يسأل النبي صلى الله عليه وسلم في أسارى بدر، فسمع النبي عليه الصلاة والسلام يقرأ بها -أي: بسورة الطور- في صلاة المغرب، فكاد أن ينصدع قلبه كما أخبر بعد ذلك رضي الله عنه وأرضاه. أما تفسيرها فإننا نقول ومن الله نستمد العون، ونستدفع نقمته ونستجدي رحمته قال ربنا جل جلاله: {وَالطُّورِ * وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ * فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ * وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ * وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ * وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ * إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ * مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ} [الطور:1 - 8] هذا قسم من الله جل وعلا ببعض مخلوقاته، فأقسم ربنا جل وعلا في هذه السورة بالطور، والطور في اللغة: هو الجبل الذي فيه نبت وشجر، فكل جبل أنبت فهو طور، وكل جبل لم ينبت فليس بطور. و (أل) في الطور إما أن تكون للجنس، وإما أن تكون للعهد، فإذا قلنا: إنها للجنس فهي شاملة لجميع الجبال التي عليها نبت وشجر، وإن قلنا: إنها للعهد فإن المعهود هنا معهود ذهني وليس معهوداً لفظياً؛ لأنه ليس قبل هذه الآية شيء، وإنما هو معهود ذهني مستقر في الأذهان، والمعهود الذهني المستقر في الأذهان المتعلق بالطور هو الجبل الذي كلم الله جل وعلا عنده عبده ونبيه وصفيه موسى بن عمران عليه السلام، قال الله جل وعلا: {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} [مريم:52]، وقال الله تبارك وتعالى: {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الأَمْرَ} [القصص:44]، وفي آيات أخر سماه الله جل وعلا البقعة المباركة، وسمى تبارك وتعالى الوادي الذي فيه هذا الجبل، قال الله جل وعلا: {فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى} [طه:12]، فهذا كله إخبار بأن الأرض التي فيها الجبل أرض مقدسة، وهي طور سيناء، وأن الجبل نفسه جبل مبارك؛ لأنه عند هذا الجبل نزل الوحي على رسول من أولي العزم من الرسل هو موسى بن عمران، وكلمه الله جل وعلا، ونال موسى في ذلك المكان المبارك ما نال من فيض الله جل وعلا ورحمته وبركاته عليه وهو النبي والصفي والكليم الكريم صلوات الله وسلامه عليه. فيتحرر من هذا أن الطور في قول أكثر العلماء المقصود به الجبل الذي كلم الله عنده موسى.

تفسير قوله تعالى: (وكتاب مسطور في رق منشور)

تفسير قوله تعالى: (وكتاب مسطور في رق منشور) ثم قال جل وعلا: {وَالطُّورِ * وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ * فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ} [الطور:1 - 3]. جاءت كلمة (كتاب) منكرة، فليست معرفة بـ (أل) حتى نقول: هل هي للعهد أم هي للجنس. ولذلك اختلف العلماء رحمهم الله في المقصود بالكتاب هنا، وأظهر الأقوال ينصرف إلى قولين: قول أن المقصود بالكتاب اللوح المحفظ، والقول الثاني -وهو الأشهر- أن المقصود به كتاب الله القرآن الكريم الذي بين أيدينا. قال تعالى: {وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ} [الطور:2] أي: مكتوب، يقال: سطر بمعنى: كتب. قال تعالى: {فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ} [الطور:3] الرق -بفتح الراء- ما يكتب عليه، وكل شيء كتبت عليه من الصحف أو الورق يسمى رقاً، أما الرِق -بكسر الراء- فهو العبودية، ويتناول عند الفقهاء في قضية الرقيق وما أشبه ذلك. وسواء قلنا: إنه اللوح المحفوظ، أو قلنا: إنه القرآن الكريم، فكلاهما مكتوب، كما هو معلوم أن الله أول ما خلق القلم قال له: اكتب كما في الحديث الصحيح. والأظهر أن المقسم به هنا هو كلام الله.

تفسير قوله تعالى: (والبيت المعمور)

تفسير قوله تعالى: (والبيت المعمور) ثم قال جل وعلا: {وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ} [الطور:4] وهذا القسم الثالث، والبيت المعمور: هو بيت في السماء السابعة على أظهر الأقوال، قال العلماء فيما نقل من آثار يعضد بعضها بعضاً: إن هذا البيت في السماء السابعة فوق الكعبة، فلو سقط منه شيء لسقط على الكعبة. ومن العلماء من يقول إن البيت المعمور المقصود به هنا الكعبة نفسها؛ لأنها تعمر بالطائفين، والعباد، والراكعين، والساجدين. ولكن في هذا السياق نرجح أنه البيت المعمور الذي في السماء السابعة؛ لأن البيت المعمور وردت تسميته بذلك في الحديث، حيث قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح في الإسراء والمعراج: (فإذا أنا برجل قد أسند ظهره إلى البيت المعمور) يقصد خليل الله إبراهيم، فلما ورد في السنة أن البيت المعمور هو بيت في السماء السابعة، وجاء في أثر آخر أنه يدخله كل يوم سبعون ألف ملك يسبحون الله لا يعودون إليه إلى يوم القيامة؛ قلنا: إن الأرجح أن يكون المقصود بالبيت المعمور هو البيت الذي في السماء السابعة. وقلنا: ثمة رأي يقول: إن البيت المعمور المقصود به الكعبة، وكلا القولين وجيه، ولكن الأول -فيما نعلم والله أعلم- هو أرجح، وهو قول أكثر المفسرين رحمهم الله. والذي يعنينا أن الرب تبارك وتعالى -لا رب غيره ولا إله سواه- يُعبد في الأرض ويُعبد في السماء، وهذا معنى قول الله جل وعلا: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ} [الزخرف:84] أي هو إله من في السماء وإله من في الأرض، وأنت إذا قرأت مثل هذه الآيات وعلمت أن الله يقسم بالبيت المعمور، وأن هذا البيت يدخله كل يوم سبعون ألف ملك، وأنه في السماء السابعة، وأن الله جل وعلا يُعبد؛ تعلم يقيناً أنه كم من عبد صالح غيرك يعبد الله، وليس لك ولا لغيرك، فالله جل وعلا غني عن كل خلقه بلا استثناء، وكل خلقه بلا استثناء فقراء إليه شاءوا أم أبوا، فكل الخلق فقراء إلى ربهم تبارك وتعالى، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر:15] وهذا الذي يتركه أثر القرآن في نفوسنا إذا تلوناه وقرأناه.

تفسير قوله تعالى: (والسقف المرفوع)

تفسير قوله تعالى: (والسقف المرفوع) قال تعالى: {وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ} [الطور:5] السقف المرفوع في أظهر الأقوال المقصود به السماء، وهي مرفوعة عن الأرض، وقد زينها الله جل وعلا بالنجوم، وقد جعل الله لها أبواباً وجعل لها طرائق، وجعل لها خزنة، قال عليه الصلاة والسلام: (أطت السماء وحق لها أن تئط، ما فيها موضع أربعة أصابع إلا وملك واضع جبهته ساجداً لله تعالى، ولو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله) جعلنا الله ممن يخافونه رغباً ورهباً. فالمقصود أن السقف المرفوع هو السماء، وقد قال الله جل وعلا في آية أخرى: {وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا} [الأنبياء:32]، وإذا أردت أن تفسر الآية فوجدت لها قرائن تعضدها في كتاب الله كان ذلك دلالة وقرينة على أنك أقرب إلى الصواب، ولكننا لا نجزم بشيء في الغالب إلا بما ثبت عن رسولنا صلى الله عليه وسلم، أو أجمع عليه الصحابة، أو أجمعت عليه الأمة.

تفسير قوله تعالى: (والبحر المسجور)

تفسير قوله تعالى: (والبحر المسجور) قال تعالى: {وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ} [الطور:6] أقسم الله تبارك وتعالى بخلق عظيم من خلقه هو البحر، والبحر من أعظم مخلوقات الله تبارك وتعالى بلا شك، فإذا رآه الرائي يتذكر عظيم قدرة الجبار تبارك وتعالى، وقد نعت البحر هنا بأنه مسجور، وكلمة (مسجور) تحتمل معنيين: المعنى الأول: أنه المملوء ماء، وهذا ظاهر لا ارتياب فيه. والمعنى الثاني: أن يكون بمعنى الموقد الذي يشتعل ناراً، فإذا اخترنا الرأي الثاني -وقد اختاره كثير من العلماء- يكون المعنى أنه مسجور يوم القيامة؛ لأنه الآن ليس بمسجور فيما نرى، وقد قال الله جل وعلا: {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ} [التكوير:6] أي: أوقدت، وقول الله جل وعلا: {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ} [التكوير:6] قرينة على أن المقصود بالبحر المسجور البحر الموقد، ولكن لا نجزم به، واللغة تحتمل المعنيين.

ذكر فائدة القسم وأثره

ذكر فائدة القسم وأثره والمقصود أن هذا كله قسم من الرب تبارك وتعالى ببعض مخلوقاته لبيان أن البعث والجزاء حق، ولبيان أن ما وعد به الكفار من العذاب كائن لا محالة، ولهذا كان كثير من العصاة يخوّف المرء منهم ويرقق قلبه ويدعى إلى الله بقراءة سورة الطور عليه؛ لأن الله يقول: {وَالطُّورِ * وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ * فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ * وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ * وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ * وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ * إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ * مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ} [الطور:1 - 8]، فأي أحد يعصي الله لن يحول بينه وبين عذاب الله شيء إلا أن تتداركه رحمة الرب تبارك وتعالى، ولذلك فإن جبير بن مطعم لم يكن مسلماً، بل كان كافراً في أول الأمر، فلما قدم إلى المدينة للنظر في أسرى بدر والتفاوض دخل المدينة فسمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ بالطور، وكان النبي عليه الصلاة والسلام أندى الناس صوتاً بقراءة القرآن، فاجتمع صوت النبي مع ما يتلوه، فلما قرأ: {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ} [الطور:7] قال: خفت أن ينصدع قلبي وآمنت خوفاً من أن يقع عليَّ العذاب. والمؤمن يعلم أن وعد الله حق، فمن عصى الله يبقى في خوف، فإذا كان الله قد نعت المؤمنين بأنهم خائفون من ربهم، فما بالك بالعصاة؟! أعاذنا الله وإياكم من ذلك كله. قال تعالى: {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ * مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ} [الطور:7 - 8] والعصاة يوم القيامة لا يمكن أن يدفع عنهم عذاب الله جل وعلا أحد كائناً من كان، لا شفيع ولا قريب ولا ذو مال ولا ذو سلطان.

تفسير قوله تعالى: (يوم تمور السماء مورا وتسير الجبال سيرا)

تفسير قوله تعالى: (يوم تمور السماء موراً وتسير الجبال سيراً) ولما كانت آيات القرآن يمهد بعضها لبعض قال الله جل وعلا في بيان وقت حصول العذاب: {يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا * وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا} [الطور:9 - 10]. قوله تعالى: (تمور السماء) أي: تضطرب، وتموج، وتتحرك، فالسماء يوم القيامة تضطرب تتحرك، ثم بعد ذلك يموج بعضها في بعض، ثم بعد ذلك تتبدل، كما قال الله جل وعلا: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ} [إبراهيم:48] وكذلك الجبال، فإنها أول الأمر تسير كما يسير السحاب، قال الله جل وعلا: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} [النمل:88] وأخبر الله جل وعلا أنها تصبح كالعهن المنفوش، ثم بعد ذلك تصبح منبثة، كما قال الله جل وعلا: {فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا} [الواقعة:6] فتضمحل وتنتهي وتندك، كما قال تبارك وتعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا * فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا * لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا} [طه:105 - 107]، وهذه الأحداث تقديم بين يدي يوم عظيم يجيء فيه الجبار جل جلاله مجيئاً يليق بجلاله وعظمته، ويحشر الناس على أرض بيضاء نقية لم يُعص الله جل وعلا فيها طرفة عين، ويخرج الناس من قبورهم حفاة عراة غرلاً بهماً لا يملكون من متاع الدنياء شيئاً، فيلجمهم العرق، وتدنو منهم الشمس، ويزدحم بعضهم ببعض، ومنهم من يخصه الله بأن يظله تحت ظل عرشه جعلني الله وإياكم من أهل ذلك. فذلك كله أخبر الله جل وعلا عنه بالتمهيد الذي كان ينكره المشركون فقال: {يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا * وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا} [الطور:9 - 10].

بيان ما أعده الله للمكذبين وتفسير قوله تعالى: (أفسحر هذا)

بيان ما أعده الله للمكذبين وتفسير قوله تعالى: (أفسحر هذا) ثم أخبر الله جل وعلا في آيات متتابعة أن الويل لأهل التكذيب، وأنهم يساقون إلى جهنم في آيات ظاهرة البيان، حتى قال الله جل وعلا بأسلوب تهكم بهم: {أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ} [الطور:15] والحق أنه ليس بسحر، وأنهم يبصرون، فلما انتفى الاثنان بقي الثالث، وهو أن ما يرونه حق، فعندما يواجه الكفار النار يوم القيامة يقال لهم: {أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ} [الطور:15] وكلا الأمرين منتف، فلا النار سحر ولا هم لا يبصرون، بل يبصرون النار، ولذلك بقي الأمر الثالث، وهو أنهم يبصرون النار -عياذاً بالله- فيصيبهم من الكرب ما الله به عليم وأجارنا الله وإياكم من حرها وشررها.

تفسير قوله تعالى: (اصلوها فاصبروا أو لا تصبروا)

تفسير قوله تعالى: (اصلوها فاصبروا أو لا تصبروا) ثم يقال لهم: ((اصْلَوْهَا)) أي: ذوقوا حرها {فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الطور:16] واستوى الصبر والجزع هنا لأنه قد تقرر عقلاً ونقلاً وشرعاً أن الإنسان إذا ابتلي بشيء فهو إما أن يصبر وإما أن يجزع، فإذا جزع خسر العاقبة، وإذا صبر نال العاقبة والخير؛ هذا إذا كان مؤمناً، وإن كان كافراً فإنه إذا جزع خسر، وإذا صبر فإن صبره يهون عليه الأمر، حتى إن أعداءه لا يستطيعون أن يشمتوا به إذا كان صابراً؛ لأنهم يرون أن هذا الكرب لم يغير فيه. فالصبر إذا تحلى به الإنسان -مؤمناً أو كافراً- فإنه يعينه على قهر ما أصابه من بلاء ولو نسبياً، فالصبر ذو فضل على الجزع. ولكن في يوم القيامة إذا دخل أولئك النار كان الصبر والجزع بالنسبة لهم سواء، فلا هم يخرجون إن صبروا، ولا يخفف عنهم العذاب إن جزعوا، ولذلك قال الله عنهم في آية أخرى: {سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ} [إبراهيم:21] فلا يوجد مفر ولا مخرج، ولا يوجد لهم ملجأ، فالصبر والجزع يستويان في نار جهنم أعاذنا الله وإياكم منها.

تفسير قوله تعالى: (والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان)

تفسير قوله تعالى: (والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان) ثم ذكر الله تبارك وتعالى بعدها ما يكون لأهل الطاعة والنعيم، ثم قال جل وعلا: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور:21] وللعلماء رحمهم الله في معنى هذه الآية قولان: القول الأول -وهو الأظهر وعليه الجمهور-: أن يكون المعنى أن الله جل وعلا يكرم من علت درجاتهم من أهل الجنة بأن يلحق بهم من ذريتهم من نزلت درجتهم عنهم، فيرفع الله درجة الأدنى -وليس في الجنة دان- إلى درجة الأعلى؛ لتقر عينه دون أن يُبخس من درجة الأعلى شيء. فلو أن إنساناً دخل هو وأبناؤه الجنة وكانت درجة الوالد أعلى من درجة الولد؛ فإن الله يرفع الولد إلى مقام أبيه لتقر عين الوالد بولده دون أن يُبخس شيء من حق الوالد، قال الله: {وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [الطور:21]، وإذا كان الابن في الأعلى والأب في الأدنى فكذلك يرفع الأب إلى الابن، فهذا هو القول الأول، وهو الأظهر. القول الثاني: أن معنى الآية أن من المؤمنين من كان لهم أبناء ماتوا قبل البلوغ، فليس لهم أعمال إلا الإيمان، فلكي تقر بهم أعين والديهم يُرفعون إلى درجات آبائهم وأمهاتهم. وليس أحد القولين عن الآخر ببعيد، ويمكن أن تحتوي الآية كلا المعنيين. والذي نريد أن نصل إليه إن من أعظم السعادة أن تدخل أنت وأهلك الجنة ممن تحبهم في الدنيا، وأن الله جل وعلا ليس بينه وبين أحد من خلقه نسب، وإنما هي الأعمال، فالرجل، وزوجته، وأبناؤه، وأمه، وأبوه، وإخوته، وعماته، وخالاته، ومن حوله إذا كان بعضهم يحب بعضاً وتمنوا أن يكونوا مجتمعين في الجنة كما هم مجتمعون في الدنيا؛ فإن من أعظم ما ينال به ذلك تقوى الرب تبارك وتعالى، فالذي يسعى في حيه، أو في أسرته، أو في مجتمعه الخاص لهدايتهم إنما يسعى لأن يجتمع بهم في الجنة، ولقد قال الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} [التحريم:6]، فكون الإنسان يجتهد أولاً في نجاة نفسه ثم في نجاة من يحب من أعظم القربات التي يتوصل بها إلى رحمة الرب تبارك وتعالى.

بيان المراد بقوله تعالى: (كل امرئ بما كسب رهين)

بيان المراد بقوله تعالى: (كل امرئ بما كسب رهين) قال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [الطور:21] وبعض العلماء يقول تقف هنا، ثم تقرأ: {كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور:21] قال بعضهم: هذه الجملة {كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور:21] ليست خاصة بأهل الإيمان، وإنما المقصود بها أهل الكفر، ومعنى الآية عند من قال هذا من العلماء أن الإنسان قد يقرأ هذه الآية فيتوهم أن ما يجري من أحكام على أهل الجنة يجري على أهل النار، فقول الرب تبارك وتعالى: {كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور:21] يدفع هذا الوهم، والمعنى أن أهل الجنة لا يُبخسون شيئاً، ولكن ينالهم فضل الله، فقد يعطى الرجل من أهل الجنة ما لا يستحقه بعمله، كأن يرفع الولد إلى منزلة والده، أو يرفع الوالد إلى منزلة ولده، ولكن في النار لا يجري هذا الحكم، فلا يعذب أحد إلا بمقدار ما يستحق، وهذا معنى قول الله: {كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور:21] أي: مرتهن بعمله، وقالوا: إن الرهن لا يكون للمؤمنين، والدليل أن الله جل وعلا قال: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ * إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ * فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ} [المدثر:38 - 40] وأياً كان المعنى فإنه معنى قوي يقصد به أن هذه التذييل أريد به دفع الوهم.

ذكر ما يتذاكر به أهل الجنة في الجنة

ذكر ما يتذاكر به أهل الجنة في الجنة ثم قال الرب تبارك وتعالى عن أهل جنته: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ * فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ * إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ} [الطور:25 - 28]. يخبر الله بأن أهل الجنة يتذاكرون مجالسهم التي كانت في الدنيا، وإنني أسأل الله بكمال جماله وعز جلاله أن يجعلنا وإياكم ممن يتذكر هذا المجلس في جنات نعيم. فالله يقول: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} [الطور:25] فهؤلاء مؤمنون قد كساهم الله جل وعلا أعظم الحلل، وأنزلهم الله جل وعلا أجل المنازل، وأفاء الله تبارك وتعالى عليهم من رحمته، ودفع الله جل وعلا عنهم كل نقمة، يجلس بعضهم إلى بعض فيتخاطبون، فإذا جلسوا في مجلس لا لغو فيه ولا تأثيم تذاكروا برحمة من الله وفضل ما من الله به عليهم في الدنيا، فنقل الله جل وعلا -وهو أصدق القائلين- كلامهم الذي سيكون يوم القيامة جعلني الله وإياكم منهم، فقال عنهم: ((وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ)) وهذا إقبال فرح {عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} [الطور:25].

ذكرهم خوفهم من الله تعالى في الدنيا

ذكرهم خوفهم من الله تعالى في الدنيا فمما تذاكروه من الدنيا قولهم: ((إِنَّا كُنَّا قَبْلُ)) أي: في الزمن الماضي {فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ} [الطور:26] أي: خائفين وجلين من عذاب الله تبارك وتعالى، والله جل وعلا لا يأمن مكره إلا القوم الخاسرون، ولا يقنط من رحمته إلا الضالون، فالمؤمن يجعل الخوف والرجاء كجناح الطائر، فالله جل وعلا لو أوكلنا إلى أعمالنا لهلكنا، ولكننا نسأل الله أن يكلنا إلى رحمته وفضله وعفوه؛ فإن الدنيا لا تطيب إلا بذكره جل وعلا، والآخرة لا تطيب إلا بعفوه، والجنة لا تطيب إلا برؤيته سبحانه وتعالى، فالله يخبر عنهم بأنهم يقولون: {إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ} [الطور:26]، فهذا الخوف الذي يعتري قلبك في الدنيا هو سبب الأمن يوم القيامة، أما من انكب على ظهره ومشى يبحث عن الشهوات ويقلب في الشبهات، ويؤذي هذا ويحارب هذا، ويكفر بالله، ويخرج من بار إلى بار، ومن شاطئ عراة إلى مثله، ومن قناة إلى قناة، ومن فضائيات إلى فضائيات، ويتلبس بالزنا واللواط والفواحش وغيبة العلماء أو غيبة الحكام، أو أذية المسلمين أو أخذ الرشوة، أو السرقة، أو ما شابه ذلك من المعاصي، ولا يخشى أحداً ولا يخاف ولا يرهب، وهو مطمئن بأنه لن يتسلط عليه أحداً، فلا يمكن أن يأمن عند الرب تبارك وتعالى. وقد قام الربيع بن خثيم رضي الله عنه الليل كله يتلوا آية واحدة هي قوله تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية:21]، وثبت في حديث صحيح عن نبينا صلى الله عليه وسلم أنه قام ليلة يقرأ آية واحدة من كتاب الله: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة:118]. فما زال نبينا صلى الله عليه وسلم يقرؤها حتى طلع الفجر صلوات الله وسلامه عليه. فهذا الخوف الذي يملأ قلوبنا نفرح به؛ لأن الخوف من الله جل وعلا أعظم وسائل نيل الأمن يوم القيامة، قال سبحانه: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن:46] وقال جل ذكره: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} [النازعات:40]، وذكر تعالى الجنة ونعيمها ثم قال: {ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ} [إبراهيم:14] أسأل الله أن يجعلني وإياكم ممن يخافه سراً وعلانية وغيباً وشهادة.

ذكرهم منة الله تعالى عليهم

ذكرهم منة الله تعالى عليهم قال تعالى: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ * فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا} [الطور:25 - 27] أي: رحمة منه وفضلاً وإحساناً ليس لنا فيه نصيب {وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ * إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ} [الطور:27 - 28] فدلت الآية على أن الدعاء من أرجى الأعمال عند الرب تبارك وتعالى، وكانت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وعن أبيها وعن أمها تتأول القرآن فتدعو فتقول: اللهم قنا برحمتك عذاب السموم؛ إنك أنت البر الرحيم؛ لأن الله قال عن أولياءه: {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ * إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ} [الطور:27 - 28].

تفسير قوله تعالى: (فذكر فما أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون)

تفسير قوله تعالى: (فذكر فما أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون) ولما ذكر الرب جل وعلا في هذه السورة الكريمة إثبات التوحيد والبعث والنشور ذكر جل وعلا إثبات الرسالة، فقال الله لنبيه صلوات الله وسلامه عليه: {فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ} [الطور:29] وهذا بيان لتناقض الكفار، فالمجنون هو الذي لا يفكر أبداً، والكهانة صنعة تحتاج إلى نوع من الذكاء وإلى دقة وفطنة، وهي كفر بالله، ولا يجتمع في إنسان الجنون والكهانة، فمن تناقض أهل الكفر أنهم نعتوا النبي صلى الله عليه وسلم بأنه كاهن ومجنون؛ وهذان ضدان لا يمكن أن يجتمعا في إنسان واحد، ولهذا قال الله جل وعلا لنبيه: ((فَذَكِّرْ)) أي: استمر في الدعوة إلى ربك والتذكير بآيات ربك، ولا تلتفت إلى ما يقوله هؤلاء الكفار عنك {فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ} [الطور:29] أي: بفضل الله عليك، ونعمته وإحسانه عليك بكاهن ولا بمجنون، وكيف يكون كاهناً أو مجنوناً من يدعو إلى الواحد الأحد جل جلاله؟! فهذا يستحيل عقلاً ونقلاً.

تفسير قوله تعالى: (أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون)

تفسير قوله تعالى: (أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون) قال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ} [الطور:30]، وكل كلمة: (ريب) وردت في القرآن هي بمعنى الشك، إلا في هذه الآية، فهي بمعنى حوادث الدهر، ومنه قول أبي ذؤيب الهذلي: أمن المنون وريبها تتوجع والدهر ليس بمعتب من يجزع وقول الأعشى: أأن رأت رجلاً أعشى أضر به ريب المنون ودهر مفند خبل فجملة من القرشيين كانوا يقولون هذا شاعر، والحل فيه أن نصبر عليه ونتربص به حوادث الأيام، فإما أن يموت، وإما أن يهلك، وإما أن يصيبه تلف فيعجز كما عجز من قبله من الشعراء. ثم أخذ القرآن يحاكم أهل الإشراك بأسلوب منطقي عقلي، قال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ * قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ * أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} [الطور:30 - 32]، فبدأ الله جل وعلا بسوق الاعتراضات ثم فندها واحدة واحدة. وهناك فرق بين العقل وبين الذهن، فهناك شيء اسمه ذهن وشيء اسمه عقل، فالذهن: الشيء الذي تفهم به، والعقل: هو الشيء الذي تتصرف من خلاله. فقد يكون هناك إنسان تقول له العامة: ذهين، بمعنى: ذكي فطين، فيستطيع أن يسرق دون أن يكتشفه أحد، فهذا يدل على ذكائه، ولا يدل على عقله؛ لأنه لو كان عاقلاً لم يعص الله ولم يرم نفسه في المهالك. فيوجد من الكفار من هم أذكياء، ولكن لا يمكن أن يكون هناك كافر يوصف بأنه عاقل؛ لأن من أعظم دلائل عدم عقله أنه كافر بالله، ولو كان له عقل لآمن بالله.

تفسير قوله تعالى: (أم تأمرهم أحلامهم بهذا)

تفسير قوله تعالى: (أم تأمرهم أحلامهم بهذا) فالله هنا يقول: {أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهَذَا} [الطور:32] والأحلام هنا بمعنى العقول، ومنه قول حسان رضي الله عنه وأرضاه: لا بأس بالقوم من طول ومن عظم جسم البغال وأحلام العصافير فقوله: أحلام العصافير: أي: عقول العصافير، فالله يقول إن كانت عقولهم تأمرهم بهذا فبئست العقول عقولهم إن كانوا يجعلون من يؤمن بالله واليوم الآخر ويدعو إلى التوحيد شاعراً أو كاهناً أو مجنون. قال تعالى: {أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} [الطور:32] قيل: إن (أم) هنا بمعنى (بل)، يعني: بل هم طاغون طغوا وتجاوزوا الحد فيما يقولونه.

تفسير قوله تعالى: (أم يقولون تقوله)

تفسير قوله تعالى: (أم يقولون تقوله) ثم قال جل وعلا: {أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لا يُؤْمِنُونَ} [الطور:33]. قوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ} [الطور:33] أي: إن قالوا: إن هذا الحديث الذي جئت به يا محمد أتيت به من نفسك، كان الرد عليهم بأنه إن كان هذا القول جاء به نبينا صلى الله عليه وسلم من عنده فأنتم أبناء عمومته، وكلكم عرب، وكلكم فصحاء بلغاء، فإن كنتم تزعمون أن محمداً جاء به من عنده فأتوا أنتم بمثله من عندكم، ولذلك قال جل وعلا: {أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لا يُؤْمِنُونَ * فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ} [الطور:33 - 34] فلو كان جهداً بشرياً لأمكنكم أن تأتوا بمثله.

تفسير قوله تعالى: (أم خلقوا من غير شيء)

تفسير قوله تعالى: (أم خلقوا من غير شيء) وللرد على إنكارهم قوله صلى الله عليه وسلم لا إله إلا الله ولا رب سواه قال تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور:35]؛ فإنه ليس ثمة إلا افتراضات ثلاثة: أن يكونوا خلقوا من غير شيء، أو أن يكونوا خلقوا أنفسهم، أو أن يكون خلقهم خالق هو الله، فاسألهم: هل خلقوا أنفسهم؟! فيعترفون بأنهم لم يخلقوا أنفسهم، وسيعترفون بأنهم ما وجدوا أنفسهم أحياء في الشوارع والطرقات والمدن، وإنما نشئوا عن خلق من بعد خلق من آباء وأمهات. إذاً: لم يبق من حيث التقسيم إلا الثالث، وهو أن الله جل وعلا خالقهم.

تفسير قوله تعالى: (أم خلقوا السموات والأرض)

تفسير قوله تعالى: (أم خلقوا السموات والأرض) ثم قال تعالى: {أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لا يُوقِنُونَ} [الطور:36] معنى الآية: هل هم خلقوا السماوات والأرض؟! فإذا كانوا خلقوا السماوات والأرض كان لهم الحق في أن يمنعوا النبوة عنه؛ لأنهم أصبحوا شركاء لله، ولكنهم يعترفون بأنهم لم يخلقوا أرضاً ولا سماء.

تفسير قوله تعالى: (أم عندهم خزائن ربك)

تفسير قوله تعالى: (أم عندهم خزائن ربك) ثم ذكر الله افتراضاً بعده فقال: {أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ} [الطور:37]. أي: هل يملكون خزائن الله التي ينفق منها جل وعلا على عباده، فيمنعونك -يا محمد- ما أعطيناك من النبوة؟! وهذا أيضاً ينكرونه، هم يعلمون أنهم لا يملكون خزائن الرب جل وعلا. ثم قال تعالى: {أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ} [الطور:37] أي هل هم جبارون حيث يتسلطون على رحمة الله فيصرفونها كيف يشاءون؟! وهذا أيضاً غير واقع.

تفسير قوله تعالى: (أم لهم سلم يستمعون فيه)

تفسير قوله تعالى: (أم لهم سلم يستمعون فيه) قال تعالى: {أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} [الطور:38]، فبقيت هنا فرضية، وهي أن يكون لديهم طريق، وسبب إلى السماء، فصعدوا إلى السماء فثبت لهم الذي أنك لست بنبي، فلذلك ينكرون عليك الأمر.

تفسير قوله تعالى: (أم له البنات ولكم البنون)

تفسير قوله تعالى: (أم له البنات ولكم البنون) قال تعالى: {أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ} [الطور:39] وذلك لأن الكفار نسبوا إلى الله البنات، فارتكبوا بذلك محذورين: المحذور الأول: أنهم نسبوا إلى الله الولد، والولد يطلق على الذكر والأنثى، والله منزه عن الولد. والمحذور الثاني: أنهم مع إجرامهم وإفكهم في نسبتهم إلى الله الولد لم ينسبوا إلى الله أفضل الولدين، بل نسبوا إلى الله أدناهما، فخصوا أنفسهم بالبنين وخصوا الله جل وعلا بالبنات.

تفسير قوله تعالى: (أم تسألهم أجرا)

تفسير قوله تعالى: (أم تسألهم أجراً) قال تعالى: {أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ} [الطور:40]. أي: أنت لا تطلب أجراً على دعوتك ولا على تبليغ رسالة الله حتى يصبح ذلك عائقاً لهم عن استجابة الدعوة إلى الله.

تفسير قوله تعالى: (أم عندهم الغيب)

تفسير قوله تعالى: (أم عندهم الغيب) قال تعالى: {أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ} [الطور:41] أي: هل اطلعوا على اللوح المحفوظ فعلموا أنك لست بنبي؟! وهذا -أيضاً- محال.

تفسير قوله تعالى: (أم يريدون كيدا)

تفسير قوله تعالى: (أم يريدون كيداً) قال تعالى: {أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا} [الطور:42] أي: هل يريدون بذلك أن يكيدوا لك؟! فإن فعلوا فإن الله يقول: {وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} [فاطر:43]، ولذلك قال الله جل وعلا: {أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ} [الطور:42] وقد وقع هذا، حيث كادوا للنبي فقُتلوا يوم بدر.

تفسير قوله تعالى: (أم لهم إله غير الله)

تفسير قوله تعالى: (أم لهم إله غير الله) قال تعالى: {أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ} [الطور:43] وهذه الجملة أجاب الله تبارك وتعالى عنها، ونزه الله تبارك وتعالى ذاته العلية عن أن يكون له شريك أو أن يكون له ند، أو أن يكون له نظير، أو أن يكون هناك من يدبر الأمر ويصرفه غيره جل وعلا، فقال تبارك وتعالى: {أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الطور:43] والمؤمن لا يفزع قلبه لشيء أعظم من فزعه من أحد يُتَّخذ من دون الله تبارك وتعالى إلهاً ورباً، ويُدعى أو يُرجى أو يُهاب أو يُخاف من غير الله، أو من شخص يتوسل إلى أحد يظن أن بيديه نفعاً وضراً، أو أن يكون في قلبه رجاء أناس يحب أن يكثروا ويجعلهم أحب إلى قلبه من حب ربه تبارك وتعالى، أو خوف قوم لبطشتهم أو همزهم أو لمزهم أكثر من الله. فالمؤمن الحق ليس في قلبه أحد يهابه، ويخافه، ويرجوه، ويؤمل فيه، ويعتمد عليه، ويتوكل عليه، ويؤمن به، ويستعين به، ويستغفره ويرجوه لرهبته ويرجوه لرغبته غير ربه تبارك وتعالى، فالله لما ذكر هنا في رده على أهل الإشراك في قوله: {أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ} [الطور:43] لم يقل الله: ليس لهم، بل جاء بإجابة أعظم، فقال الله تبارك وتعالى: {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الطور:43] فنزّه الله ذاته العلية عن أن يكون له شريك، ولهذا كان التوحيد من أعظم ما ينجي العبد يوم القيامة، فمن عظم توحيده عظمت نجاته يوم القيامة، قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله سيخلص رجلاً من أمتي يوم القيامة على رءوس الخلائق يُنشَر له تسعة وتسعون سجلاً كل سجل مد البصر، فيقول له الرب: أظلمك كتبتي الحافظون؟ فيقول: لا يا رب، فيقول الله له: أتنكر مما ترى شيئاً؟ فيقول: لا يا رب، فيقول الله جل وعلا: إن لك عندنا بطاقة، فيها أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، فيقول: يا رب! وما تغني هذه البطاقة أمام هذه السجلات؟! فتوضع البطاقة في كفة والسجلات في كفة) قال صلى الله عليه وسلم: (فرجحت البطاقة وطاشت السجلات، ولا يثقل مع اسم الله جل وعلا شيء). قال العلماء: وهذا عبد ملئ قلبه توحيداً لله وخوفاً ورجاءاً ومحبة منه مع معاصيه، جعلنا الله وإياكم ممن يملأ قلبه بتوحيد ربه تبارك وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (وإن يروا كسفا من السماء ساقطا)

تفسير قوله تعالى: (وإن يروا كسفاً من السماء ساقطاً) وبعد هذه القضايا التي أخبر عنها ربنا جل وعلا قال الله تعالى في ختام الآية: {وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ} [الطور:44] فمن كتبت عليه الضلالة لا يمكن أن يهتدي، والشخص إذا طبع على العناد لا يقبل الحق وإن كان جلياً والعياذ بالله؛ لأن من الناس من يسأل وهو يريد إجابة معينة قبل أن يسألك، فإذا أجبته بخلاف ما يريد لم يقبل، فالله جل وعلا يقول عن أمثال هؤلاء: {وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا} [الطور:44] أي: قطعة من العذاب نازلة عليهم يخرجونها ويؤولونها ميمنة وميسرة {يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ} [الطور:44] أي: هذا سحاب تراكم بعضه على بعض فنزل إلى الأرض؛ لأنهم طبعوا على العناد.

تفسير قوله تعالى: (فذرهم حتى يلاقوا يومهم الذي فيه يصعقون)

تفسير قوله تعالى: (فذرهم حتى يلاقوا يومهم الذي فيه يصعقون) قال الله لنبيه: {فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ} [الطور:45] وهذه الآية منسوخة بآية السيف في براءة. قال تعالى: {فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ * يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا} [الطور:45 - 46]، فكيدهم في الدنيا قد يغني عنهم شيئاً بأن يمتعوا إلى أن يأتي العذاب، ولكن في يوم القيامة {لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلا هُمْ يُنصَرُونَ} [الطور:46].

تفسير قوله تعالى: (وإن للذين ظلموا عذابا دون ذلك)

تفسير قوله تعالى: (وإن للذين ظلموا عذاباً دون ذلك) ثم قال سبحانه: {وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ} [الطور:47]. كلمة (دون) تحتمل فقوله تعالى: (دون ذلك) يعني: قبل ذلك، أي: قبل يوم الآخرة، وأقل من ذلك، أي: أقل من عذاب الآخرة، ويقع هذا زمناً قبل الموت بعذاب القبر، وحين تصيبهم الأوجاع والأسقام وتشريد المؤمنين لهم في الدنيا، فهذا كله يقع زمناً قبل القيامة، وهو في نفس الوقت أقل من عذاب يوم القيامة.

أمر الله تعالى نبيه بالصبر والتسبيح

أمر الله تعالى نبيه بالصبر والتسبيح فلما أنهى الله جل وعلا دمغ حجج أهل الكفر بشّر نبيه وأمره بالاستعانة بأمرين، فقال له: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ * وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ} [الطور:48 - 49] فأمر الله نبيه بأمرين حتى يعان على الدعوة: الأول منهما الصبر، والثاني التسبيح بحمد الله. فأما الصبر فإنه لا يمكن أن يدعو أحد إلى الله حتى يؤذى، فأمره الله جل وعلا بالصبر على ما يناله من أذى المشركين، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم صابراً، ولذلك عد من أول أولي العزم من الرسل الذين كانت لهم مواقف صبر دون غيرهم من الأنبياء عليهم السلام جميعاً، وقد أوذي عليه الصلاة والسلام فقال: (رحم الله أخي موسى، لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر) وأراد الله أن يبين لنبيه قربه منه ونصرته إياه فقال: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور:48]. أي: على منظر ومرأى من الله؛ فإن الله يراك ويسمعك ويؤيدك وينصرك ويحفظك ويحرسك ويعينك ويوفقك. ثم قال تعالى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ * وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ} [الطور:48 - 49] ذكر الله للتسبيح ثلاثة مواضع: الأول: إدبار النجوم، والثاني: (ومن الليل) أي: بعض الليل، والثالث: (وحين تقوم). أما (حين تقوم) فاختلف العلماء فيها، فذهب ابن مسعود رضي الله عنه إلى أن المراد عندما تقوم من مجلسك، وبعضهم قال: عندما تقوم من النوم، ويؤيده أنه روى البخاري في صحيحه عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من تعار من الليل) أي: أوقض إما بصوت أو بغيره فقام من الليل، (من تعار من الليل فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، الله أكبر، وسبحان الله، والحمد لله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال: اللهم اغفر لي أو دعا استجيب له، فإذا توضأ وصلى قلبت صلاته). وإدبار النجوم اختلف العلماء فيه وأظهر الأقوال أن المقصود به ركعتا الصبح القبلية التي قال النبي صلى الله عليه وسلم فيهما: (ركعتا الفجر -أي: سنة الفجر- خير من الدنيا وما فيها). هذا ما تهيأ إيراده وقوله حول سورة الطور، نفعنا الله وإياكم بما قلناه، وجعلنا الله وإياكم ممن يستمع القول فيتبع أحسنه، سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

تأملات في سورة القمر

سلسلة تأملات قرآنية - تأملات في سورة القمر تتعرض سورة القمر لعرض قضايا العقيدة ببيان عنت المشركين ومشاقتهم بعد رؤيتهم دلائل القدرة بانشقاق القمر، كما تعرض طرفاً من أخبار الأمم السابقة المكذبة ومآلها، خاتمة ذلك بذكر ما يمتلك كفار قريش من أسباب القوة المادية التي أعلن الله تعالى أنها لن تنفع أصحابها حين تنزل بهم الهزيمة وينزل بهم قضاء الله في نصرة عباده الموحدين.

ذكر نسبة سورة القمر وآيها وموضوعها

ذكر نسبة سورة القمر وآيها وموضوعها بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله الأولين وإله الآخرين، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد: فهذا -بحمد الله- هو الدرس الرابع، وسنقف خلاله مع سورة مكية، وهي سورة القمر، وعدد آيها خمس وخمسون آية، وهي سورة مكية تعنى بما تعنى به السورة المكية عادة من الكلام في أصول العقيدة الثلاثة: إثبات الإلهية للرب جل وعلا، وإثبات الرسالة لنبينا صلى الله عليه وسلم، وذكر البعث والنشور. فالقضايا التي تتناولها السور المكية التي نحن بصدد الوقوف معها في تفسير الجزء السابع والعشرين من كتاب الله الكريم تتشابه تشابهاً كثيراً؛ لأنها تعنى بقضايا واحدة، وعلى ذلك سبقت دروس مشابهة لها، وقد جرت العادة في الدرس بترك ذكر ما اشتهرت معرفته وكثر الحديث عنه؛ لاشتهاره ولعلم الطالب به، وسنحاول أن نذكر ما ليس بظاهر بقدر الإمكان، ونبقى مقصرين كيفما حاولنا، والله المستعان على أن ينفع بهذا القليل وأن يبارك فيه، وأن يكتب لنا ولكم العون والتوفيق والسداد، والإخلاص من قبل ومن بعد. هذه السورة اسمها سورة القمر، وسميت بهذا الاسم لذكر القمر فيها، قال الله جل وعلا في صدرها: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر:1]، والقمر آية من آيات الله، ويقال له مع الشمس: القمران للتغليب؛ لأن العرب إذا ثنت اختارت أحد ما ثنتهما ثم تذكرهما باسم يجمعهما، فتقول: القمران للشمس والقمر؛ لأن القمر مذكر والشمس لفظها مؤنث، فلا يقولون: الشمسان، ولكن يقولون: القمران، ويقولون: المكتان لمكة والمدينة؛ لأن مكة عند الجمهور أفضل من المدينة. ويقولون: العمران في حق الصديق رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما؛ لأن (عمر) اسم مفرد تمكن تثنيته و (أبو بكر) مركب تركيباً إضافياً، فلا تمكن تثنيته، فلذلك قالوا: العمران للشيخين الجليلين: أبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما وأرضاهما.

ذكر ما ورد في القراءة بالقمر في الجمع والأعياد

ذكر ما ورد في القراءة بالقمر في الجمع والأعياد وهذه السورة هي إحدى السور التي كان يصلي بها النبي صلى الله عليه وسلم مع أخرى في بعض المناسبات، وقد اشتهر في الصحيح والسنن من ذلك ثلاث: الأولى: قرن عليه الصلاة والسلام بين (سبح) والغاشية، وكان يقرأ بهما في الجمع والأعياد، وقد وافق يوم جمعة في حياته صلى الله عليه وسلم يوم عيد، فصلى بهم العيد بـ (سبح) والغاشية، ثم لما جاءت صلاة الجمعة صلى بهم بـ (سبح) والغاشية، ولم يكن بينهما صلاة. الثانية: كان يقرن عليه الصلاة والسلام في فجر الجمعة غالباً بين (ألم تنزيل) السجدة، وبين سورة الإنسان. الثالثة: كان يقرن في الجمع والأعياد عليه الصلاة السلام، بـ (ق) و (اقتربت)، كما روى مسلم في الصحيح وأصحاب السنن من حديث أبي واقد الليثي رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرن بين سورة {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} [ق:1]، وبين سورة: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر:1]). وبهذا يتضح أن سورة القمر إحدى القرائن الثلاث لنبينا عليه الصلاة والسلام التي قرن بها في صلواته. وقد قال العلماء: إن النبي عليه الصلاة والسلام كان يقرن بين (ق) و (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ) في الجمع والأعياد والمحافل الكبار. فهذا ما يتعلق بما تقتضيه فضيلة السور أولاً.

تفسير قوله تعالى: (اقتربت الساعة وانشق القمر)

تفسير قوله تعالى: (اقتربت الساعة وانشق القمر) قال الله جل وعلا: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ * وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ * وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ * وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ * حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ} [القمر:1 - 5]. الخطاب هنا في الأصل لكفار مكة، والقضية المراد إثباتها هي قضية البعث والنشور، ولن يكون بعث ونشور حتى تكون القيامة، ولن تكون قيامة كبرى حتى تكون قيامة صغرى، والقيامة الصغرى بالنسبة للفرد الواحد هي موته، فمن مات قامت قيامته، ثم القيامة الكبرى، ثم الساعة، والساعة تطلق على قيام الناس مرة أخرى. فالله جل وعلا يخبر بقرب الساعة، حيث قال تبارك وتعالى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر:1]. فالله جل وعلا هو الذي خلق الساعة، وهو الذي خلق القيامة، وإذا كان -جل وعلا- هو الذي خلقها، وهو أعلم بها متى تكون، فقد أخبر جل وعلا بأنها اقتربت، فهذا من أعظم الأدلة -وكفى به دليلاً- على أن الساعة اقتربت، ولا يلجأ لدليل خارج القرآن إلا من باب الاستئناس، فأعظم الأدلة على أن الساعة اقتربت قول الله: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ}. وطالب العلم منظم في أدلته، يسرد من القرآن ما هو ظاهر، ثم ينتقل إلى سرد السنة، ثم ينتقل إلى أقوال الصحابة وإجماع الأمة، وهكذا، ولكن يبدأ بالأصل العظيم وهو القرآن، ولذلك نقول: إن الساعة اقتربت بدليل أن الله قال: ((اقْتَرَبَتِ)). وأما الأدلة غير هذا الدليل فهي كثيرة، فمن الأدلة العقلية على ذلك أن هذه الأمة هي آخر الأمم ونبينا صلى الله عليه وسلم آخر الأنبياء، فليس بعد ذلك إلا أن تقوم الساعة، قال صلى الله عليه وسلم: (بعثت أنا والساعة كهاتين) وأشار بأصبعيه السبابة والوسطى. والمقصود من هذا المثال أننا لو فرضنا أن هذين الإصبعين يشيران إلى الجدول الزمني؛ فإن الفارق بين مبعثه صلى الله عليه وسلم وبين الساعة من الزمن كالفارق بين أعلى السبابة وأعلى الوسطى، فهما يكادان يتقاربان في الطول، وهذا كله يدل على اقتراب الساعة، ولذلك عبر عنها القرآن بقوله: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ} [الأنبياء:1]، وقال في آية أوضح: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ} [النحل:1]، فعبر الله بـ (أتى) لتحقق وقوعه، وهذا شيء، ولقرب وقوعه، وهذا شيء آخر.

أشراط الساعة

أشراط الساعة وللساعة أشراط مع أنه أخفى الله تبارك وتعالى وقتها، قال الله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الأعراف:187]. والمقطوع به أنها لا تقوم إلا يوم جمعة، ولكن الله جل وعلا جعل لها أشراطاً وعلامات، وأعلم النبي صلى الله عليه وسلم الناس بهذه الأشراط والعلامات، وقد سأل جبريل نبينا عليه الصلاة والسلام فقال: (أخبرني عن الساعة؟) وجبريل يعلم أن النبي عليه الصلاة والسلام لا يعلم وقت الساعة، ولكن هذا من باب تعليم الناس، فقال: (أخبرني عن الساعة؟) والرسول صلى الله عليه وسلم يعلم أن جبريل لا يعلم، ويعلم أن هذا هو جبريل، وإن كان في غير هيئته التي خلقه الله عليها، فلذلك قال له: (ما المسئول عنها بأعلم من السائل) أي: علمي وعلمك فيها سواء، فلا أنا ولا أنت نعلم متى تكون الساعة. ولكن الله جعل لها أشراطاً وعلامات، قال الله في كتابه: {فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا} [محمد:18]، أي: علاماتها. فالعلماء رحمهم الله تقصوا القرآن، وتقصوا السنة والآثار الصحيحة، فتبين لهم أن هناك أشراطاً اصطلح على تسميتها بعلامات صغرى، وأخرى اصطلح على تسميتها بعلامات كبرى، والعلامات الكبرى تأتي منتظمة بعضها وراء بعض، وتبدأ من ظهور المهدي حتى قيام الساعة، وما قبل ذلك قد يكون بطيئاً، والله جل وعلا أعلم. فمن العلامات التي تدل على قرب الساعة مبعثه صلى الله عليه وسلم كما بينا في الحديث، وقد ذكر عليه الصلاة السلام أحاديث تدل على قرب الساعة، منها فتح بيت المقدس، وهذا قد وقع، ومنها مقتل أمير المؤمنين عثمان رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وفتح باب الفتنة، ومنها قوله عليه الصلاة السلام -كما في الصحيحين-: (لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من أرض الحجار تضيء لها أعناق الإبل ببصرى) وبصرى هي الآن محافظة حوران في سوريا غير بعيدة عن دمشق، والنار التي أخبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم وقعت عام (654هـ) أي في أواسط القرن السابع، حيث خرجت نار من المدينة من جهة الحرة الشرقية عند حرة بني قريظة، فرآها من كان في مدينة حوران في سوريا، ووقع صدق ما أخبر به نبينا صلى الله عليه وسلم. ولذلك حرص العلماء على تدوين هذه الحادثة؛ لأن فيها دليلاً على صدق نبينا صلى الله عليه وسلم، وقد ذكر العلماء -كما ذكر الحافظ ابن كثير رحمه الله في البداية والنهاية وغيره- أن كثيراً من طلبة العلم آنذاك ممن هم في القرى النائية حول المدينة كانوا يكتبون ويحررون الكتب ويقرءون على ضوء تلك النار، وقد سبقها رجفات وزلزلة شديدة، قال بعض من شهد تلك النار: إن ارتفاعها في أول ظهورها كان كعلو ثلاث منارات، ولا ندري كيف كانت المنارة آنذاك، ولا شك في أن فيها شيئاً من الارتفاع، ثم أخذت تزيد، واستمرت أياماً عديدة. والذي نقصده ونعنيه في سياق هذا الخبر ما أخبر به صلى الله عليه وسلم من قرب قيام الساعة، وهو -عليه الصلاة والسلام- عندنا وعند كل مؤمن صادق مصدوق لا شك في ذلك، صادق فيما يقول، مصدوق فيما يقال له صلوات الله وسلامه عليه. ومن أشراط الساعة أيضاً، ما أخبر به عليه الصلاة والسلام من أن الساعة لن تقوم حتى تكلم السباع الإنس، وأصل الحديث -فيما رواه الإمام أحمد من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه بسند صحيح- (أن أعرابياً كان يرعى الغنم، وبينما هو يرعاها جاء ذئب فانتزع شاة منه، فتبعه الراعي واستطاع أن يأخذ الشاة، فأقعى الذئب على ذنبه وقال: اتق الله، رزق ساقه الله إلي تنزعه مني! فتعجب الأعرابي وقال: سبحان الله! ذئب مقع على ذنبه يكلمني كلام الإنس! فقال الذئب: أعجب منه محمد صلى الله عليه وسلم في يثرب يحدث الناس بأخبار من سبقه، فقام الأعرابي وأخذ غنمه فقدم المدينة، ثم وضع غنمه في زاوية من زواياها، ثم دخل المسجد وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم، فنودي في الناس بأن الصلاة جامعة، فلما اجتمع الناس أمر النبي عليه الصلاة والسلام الأعرابي أن يقول لهم القصة كلها، فقالها الأعرابي، فقال صلى الله عليه وسلم: صدقت والذي نفسي بيده لا تقوم الساعة حتى تكلم السباع الإنس، ويكلم الرجل عذبة سوطه). وهذا سيقع كما أخبر نبينا صلى الله عليه وسلم، إن متنا قبله أو شهدناه، فأياً كان الأمر فنحن نؤمن بكل خبر صح عن رسولنا صلوات الله وسلامه عليه. فهذه الأشراط كلها قد تكون ممهدة للساعة، أما أعظم الأشراط الذي يؤذن بقرب الساعة حقاً فهو خروج المهدي، والمهدي رجل من ذرية نبينا صلى الله عليه وسلم يخرج في آخر الزمان، واسمه على اسم رسول الله محمد بن عبد الله الحسني العلوي الفاطمي الهاشمي، فهو حسني لأنه من ذرية الحسن، وعلوي لأنه من ذرية علي، وفاطمي نسبة إلى فاطمة، وهاشمي لأن علياً من بني هاشم، وجده لأمه النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الحسن من فاطمة، وفاطمة أبوها رسولنا صلوات الله وسلامه عليه. فهذا الرجل يخرج في آخر الزمان يملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً، وفي زمنه يخرج الدجال فيقتتلان، وفي قمة الصراع بينهما ينزل عيسى ابن مريم فيصبح ثاني الأشراط الكبرى بعد خروج المهدي، والدجال شاب قطط أعور العين اليمنى أحمر كأن عينه عنبة طافية، كتب الله له شيئاً من السلطان فتنة للناس، قال عليه الصلاة والسلام: (ما من فتنة من خلق آدم إلى أن تقوم الساعة أعظم من الدجال) وقال عليه الصلاة والسلام: (أنا آخر الأنبياء وأنتم آخر الأمم، وإنه لا محالة خارج فيكم، فإن يخرج وأنا بين أظهركم فأنا حجيجه دونكم، وإن يخرج وأنا ميت فكل حجيج نفسه)، ثم أوصى صلى الله عليه وسلم بقراءة أوائل سورة الكهف؛ لأن الله أخبر في أوائل سورة الكهف بأن أولئك الفتية عصمهم الله من الطاغية في زمانهم، فمن يقرأ هذه السورة ويحفظ أولها يعصم من الطاغية الدجال. وفي حياة الدجال ينزل عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام مطأطئاً رأسه كأنه تنزل منه قطرات ماء، وليست قطرات ماء، ولكن يظهر لمن رآه أنه توضأ لتوه، فينزل ومعه حربه فيقتل الدجال، فإذا قتل الدجال أسلم الناس، فيمكث عليه الصلاة والسلام لا يقبل الجزية، ولا يقبل إلا الإسلام، ويكسر الصليب ويقتل الخنزير، قال نبينا عليه الصلاة والسلام: (طوبى للناس العيش بعد عيسى ابن مريم؛ فإنه في حياته ينزع الله حمة كل ذي حمة) أي: شر كل ذي شر، ثم يمكث عيسى ما شاء الله، وقد ورد أنه يمكث سبع سنين، وورد غير ذلك، ثم بعد ذلك يبدأ الأمر في النقصان حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت لا يقبل الله جل وعلا توبة أحد كائناً من كان، قال الله جل وعلا: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} [الأنعام:158]، ثم يبدأ الناس يتناقصون دينيناً، حتى يأتي ذو السويقتين من أرض الحبشة فيهدم الكعبة وينزعها حجراً حجراً، ويسلبها كنوزها، ثم بعد ذلك يأخذ الإيمان في التلاشي، ويرفع القرآن في ليلة، ثم يبقى شرار خلق الله أعاذنا الله وإياكم من تلك الحقبة، ثم يأمر الله ملكاً يقال له: إسرافيل أن ينفخ فينفخ، فهذه نفخة الصعق الأولى، وهي الساعة التي حذر الله جل وعلا عباده. فهذا معنى قول الله: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ} [القمر:1].

ذكر حادثة انشقاق القمر

ذكر حادثة انشقاق القمر قال تعالى: {وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر:1]، والقمر آية من آيات الله، وهو مسير بأمر الله في غدوه ورواحه، وشروقه وغروبه، وطلوعه ومغيبه، وفي عهد النبي صلى الله عليه وسلم في الفترة المكية طلب القرشيون منه آية، فأشار صلى الله عليه وسلم إلى القمر، فانفلق القمر بأمر الله فلقتين حتى رأى الناس حراء الجبل المعروف في مكة بين الفلقتين، وفي بعض الروايات أنهم كانوا في منى، وفي بعضها أنهم كانوا في مكة، فقال صلى الله عليه وسلم، وكان بجواره أبو بكر: (اشهدوا) فهذه حجة أقامها الله على القرشيين على قرب قيام الساعة، وعلى صدق رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، فقال بعض القرشيين لبعض: لا يغرنكم سحر ابن أبي كبشة، إنما سحر أعينكم، فإذا كان السفار -أي: المسافرون- في غير مكة، فاسألوهم إن كانوا رأوا القمر، فإنه إن قدر على سحركم لا يقدر على سحر غيركم، فلما أقبل السفار من كل وجه سألوهم فقالوا: نعم، شهدنا القمر قد انفلق فلقتين، مع ذلك كله لم يؤمنوا، ولم يؤمن إلا من كتب الله الإيمان، ولذلك الله جل وعلا قال: {حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ} [القمر:5]، وقولهم: سحركم ابن أبي كبشة؛ لأن أبا كبشة هو زوج حليمة، فهو أب للنبي عليه الصلاة والسلام من الرضاعة، فقول القرشيين: لا يغرنكم سحر ابن أبي كبشة يقصدون النبي عليه الصلاة والسلام، ولكن نسبوه إلى أبيه من الرضاعة، ولم ينسبوه إلى أبيه من النسب. وهذه الآية إحدى معجزاته صلوات الله وسلامه عليه، ولا شك في أن للنبي عليه الصلاة والسلام معجزات كثيرة لا تعد ولا تحصى، بل قال الإمام الشافعي رحمه الله: إنه ما أعطي نبي نوعاً من المعجزات إلا وأعطي النبي صلى الله عليه وسلم مثله. قال شوقي: أخوك عيسى دعا ميتاً فقام له وأنت أحييت أجيالاً من الرمم أي: إذا كان عيسى كلم ميتاً، فإنك أحييت أمة من الموت. ونجد العلماء عند معجزة عيسى وإحيائه للموتى يقولون: إذا كان عيسى قد أحيا الموتى فإن نبينا صلى الله عليه وسلم قد حن له الجذع، وموات الجذع في الأصل أعظم من موات الميت، وأياً كان فلا يحسن التفضيل بين الرسل بهذه الطريقة.

بيان عنت المشركين

بيان عنت المشركين ثم قال تعالى: {وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} [القمر:2]، فلما قال لهم السفار: إننا رأينا القمر منفلقاً، قالوا: ما زاد الأمر شيئاً؛ هذا سحر محمد مستمر علينا وعليكم، وما زالت الأمور عندهم في لبس وظنون؛ لأنهم لا يريدون أن يؤمنوا. ثم قال جل وعلا: {وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ} [القمر:3]. معنى قوله تعالى: ((وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ))، أي: كل أمر في الدنيا سيكشف، وسينتهي إلى جلاء، قال طرفة بن العبد: ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً ويأتيك بالأخبار من لم تزود فمهما حاول الإنسان أن يخفي شيئاً فإنه سيتضح، وكل الأمور إذا صبرت عليها ستنتهي بك إلى خير أو إلى شر، هذا إذا أخذت الآية بعمومها. أما إذا أخذت الآية بخصوصها، فإن المعنى كما -قال العلماء-: ((وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ)) أي: أن أمر المسلمين إلى الجنة، وأمر الكفار إلى النار، فأمر أهل الخير إلى خير، وأمر أهل الشر إلى شر. والآية تحتمل المعنيين، وفي قواعد التفسير أن الآية إذا احتملت معنيين ينزل المعنى على كلا المعنيين. ثم قال تعالى: {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ} [القمر:4]. قلنا: إن هؤلاء القرشيين جاءتهم من الآيات الكثيرة، ولكن الله لم يكتب لهم الهداية، فما تغني عنهم الآيات، كما قال الله: {وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ} [يونس:101]، وقد كان عبد الله بن أبي بن سلول يحضر الجمعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، والرسول أخلص الناس وأصفح الناس وأعلم الناس، فيستمع الخطبة كلها، ثم يخرج من المسجد كما دخل لم يتعظ بكلام سيد الخلق صلوات الله وسلامه عليه، فاحمد الله تبارك وتعالى على نعمة الهداية؛ وإذ لا توجد نعمة أعظم من نعمة الهداية أبداً؛ لأن النعم قسمان: نعمة خلق وإيجاد، ونعمة هداية وإرشاد. يقول الله عز وجل: {حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ} [القمر:5].

تفسير قوله تعالى: (فتول عنهم)

تفسير قوله تعالى: (فتول عنهم) ثم قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ} [القمر:6]. أي: أعرض عنهم إعراضاً رفيقاً، وبعض العلماء يقول: إن مثل هذه الآيات منسوخ بآية السيف، وآية السيف في سورة التوبة: {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة:5]. ويبدأ خطاب جديد: {يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ * خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنتَشِرٌ} [القمر:6 - 7]. والداعي هنا هو إسرافيل.

بيان معنى النكر والنكر والمنكر

بيان معنى النُكْر والنُكُر والمنكر (نُكُر)، و (نُكْر)، و (منكر). فأما نكُر -بضم الكاف- فلم ترد في القرآن إلا في هذه السورة: ((يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ)). وأما (نُكْر) فقد وردت ثلاث مرات بسكون الكاف. وأما (منكر) فقد وردت تقريباً ثلاث عشرة مرة. والفرق بينها أن (نُكُر) و (نُكْر) بالضم والسكون بمعنى واحد، وإذا كان التغيير في قلب الكلمة فغالباً لا يضير ذلك، ويضير أحياناً. والمنكر ضد المعروف، وهو الباطل الذي هو ضد الحق، أي: الشيء غير المشروع الذي لم يأذن به الله، والذي لم يأذن به الله شرعاً يسمى منكراً، قال الله عن هذه الأمة: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} [آل عمران:110]، وقال الله: {وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا} [المجادلة:2] أي: باطلاً. أما النُكْر فهو الشيء العظيم الذي تفزغ منه الأنفس، ولا يلزم أن يكون باطلاً، وقد يكون عين الحق، وسنأخذ الآيات التي ورد فيها النُكُر والنُكْر. فأولها: الآية التي بين أيدينا: ((يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ)) أي: إلى شيء عظيم، وهو الحشر، والحشر حق ليس بباطل، ولكنه أمر يشيب له الغلمان، ويشيب له الصبيان، {وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا} [الحج:2]، فهو أمر مهول، فعبر الله عنه بنُكُر. و (نُكْر) إذا جاءت بالسكون تكون أخف، ومثال ذلك في القرآن أن الله ذكر قصة موسى مع الخضر، فلما قتل الخضر الصبي الغلام قال له موسى: {أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا} [الكهف:74]، فمعنى (نُكْر): شيء مهول يتعجب منه الإنسان، ولكن فعل الخضر كان حقا؛ لأنه قال {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} [الكهف:82]، أي: فعله عن أمر الله. وأخبر الله جل وعلا عن الملك الصالح ذي القرنين بأنه قال جل وعلا له: {يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا * قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا} [الكهف:86 - 87]، أي: عذاباً مهولاً مخوفاً، وتعذيب الله لأهل الكفر حق وليس بباطل.

تفسير قوله تعالى: (خشعا أبصارهم)

تفسير قوله تعالى: (خشعاً أبصارهم) ثم قال تعالى: {خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنتَشِرٌ} [القمر:7]. (الأَجْدَاثِ) هي القبور. وقوله تعالى: (كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنتَشِرٌ) هذه آية القمر، ولكن الله قال في القارعة: {يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ} [القارعة:4]، فيكون الناس كالفراش المبثوث يوم القيامة، فشبههم الله مرة بالجراد ومرة بالفراش، والفراش والجراد ضدان؛ لأن الجراد منتظم في سيره، أما الفراش فطائش يموج بعضه في بعض حول النار حتى يتساقط فيها، ففرق بين الجراد وبين الفراش، ولكن الله جل وعلا قال عنهم: إنهم فراش، وقال عنهم: إنهم جراد، ووظيفة العالِم هنا أن يجمع بين الآيتين؛ لأنه ينبغي تصديق الآيتين، ولكن العلم أن تجمع بينهما، ويجمع بينهما بأن نقول: إن الناس أول ما يخرجون يخرجون كالفراش لا يدرون أين يذهبون؛ لأنهم لم يبعثوا من قبل، فيموج بعضهم في بعض كما قال الله جل وعلا، لا يدرون أين يذهبون، فإذا تكلم إسرافيل ونادى تركوا هذا الموج وانتظموا وتبعوا الداعي الذي هو إسرافيل، فانتقلوا من حالة كونهم كالفراش، إلى حالة كونهم كالجراد، فحالتهم كالجراد المقصود بها الكثرة والانتظام، وحالتهم كالفراش المقصود بها الاضطراب، قال الله تعالى: {يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ} [طه:108]، يعني: لا أحد يزيغ ميمنة ولا ميسرة. والجراد يأتي منتظماً إلى أرض خضراء، وتسمى مجموعة الجراد عند العرب الرجل، يقولون: رجل جراد، أي: مجموعة جراد، وقد جاء في الحديث: (إن الله أنزل على أيوب رجل جراد من ذهب)، فالجراد المجتمع يسمى رجلاً، والطير المجتمع يسمى سرباً.

تفسير قوله تعالى: (مهطعين إلى الداع)

تفسير قوله تعالى: (مهطعين إلى الداع) ثم قال تعالى: {مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ} [القمر:8]، مفهوم الآية أنه على المؤمنين يوم يسير. وهذا مفهوم وليس منطوقاً؛ لأن المنطوق هو أن الكافرين يقولون: هذا يوم عسر. فهذا كله ذكره الله لإثبات أمر عقدي، وهو البعث والنشور، والمخاطب به في الأصل كفار مكة.

ذكر خبر نوح عليه السلام وقومه

ذكر خبر نوح عليه السلام وقومه

ذكر ما قاله وفعله قوم نوح

ذكر ما قاله وفعله قوم نوح ثم بعد ذلك ضرب الله جل وعلا لهم أمثلة في أربع أمم سابقة: قوم نوح، وقوم عاد، وقوم صالح، وقوم لوط. فهؤلاء أمم سبقت، وذكر الله بعد ذلك قوم فرعون، فأصبحوا خمس أمم. ثم قال تعالى: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ} [القمر:9]. قوله تعالى: (عَبْدَنَا) مركب من كلمتين: (عبد) و (نا) الدالة على الفاعلين، ويراد بها التعظيم، والمقصود بها هنا الله، فالإضافة هنا إضافة تشريف، وكلمة (عَبْدَنَا) أرفع مقام إضافة في القرآن؛ وذلك لأن العبودية أعظم مطلوب من العبد، وإذا أضيفت هذه العبودية إلى الله؛ فقد وصل الإنسان إلى الشرف العظيم، وقد نعت بها بصورة الإفراد نوح، وذكر الله بها أيوب فقال: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ} [ص:41]، وذكر بها النبي صلى الله عليه وسلم، حيث قال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} [الإسراء:1]، وقال تعالى: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ} [ص:45]، والذي يعنينا أنها من أرفع المقامات. قال تعالى: {وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ} [القمر:9] إنك إذا كنت تقرأ القرآن بالعربية الصحيحة فإنك تقف على كلمة (مجنون) ثم تقول: (وازدجر)؛ لأن كفار قوم نوح ما قالوا: مجنون وازدجر، بل قالوا: مجنون، ولم يقولوا كلمة (ازدجر). فالواو في (وَازْدُجِرَ) عاطفة على (قالوا) لا على (مجنون)، أي: قالوا مجنون بألسنتهم، وازدجروه بفعلهم، والذي يتأمل قراءة الشيخ سعود الشريم وفقه الله يجده يقرأ هكذا: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ} [القمر:9] ويقف، ثم يقول: {وَازْدُجِرَ} [القمر:9]، وهذا من العلم بكلام الله تبارك وتعالى، وأنا لا أقول إن الوصل لا يجوز، ولكنني أتكلم عن مراسي العلم العالية، ولا أتكلم عما هو جائز وغير جائز؛ لأنهم ازدجروه بفعلهم، وقالوا: مجنون بألسنتهم؛ حتى لا يفهم أن (ازدجر) معطوفة على (مجنون).

ذكر دعوة نوح عليه السلام على قومه

ذكر دعوة نوح عليه السلام على قومه قال تعالى: {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ} [القمر:10]. قوله تعالى: (مَغْلُوبٌ) أي: مضطهد. (فَانْتَصِرْ) سأل الله النصرة، وكانت له دعوة، فقالها مرة واحدة، ولذلك جاء في حديث الشفاعة أنه لما يقول له الناس يوم القيامة: اشفع لنا عند ربك، فيقول: قد كانت لي دعوة فقلتها، فعجلت بها على قومي. وينبغي أن تفهم جيداً أن الله جل وعلا لما خلق آدم خلقه وذريته على الفطرة، فبقي الناس مؤمنين إلى أن جاء قوم نوح فاتخذوا الأصنام، فبعث الله إليهم نوحاً، فكان نوح أول الرسل. فالناس من آدم إلى نوح لم يكونوا كفاراً ومؤمنين، بل كانوا كلهم مؤمنين، قال الله: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} [البقرة:213] أي: على دين واحد، وتقدير الآية: (فاختلفوا) {فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ} [البقرة:213]. وعندما غُلِب نوح وآذاه قومه دعا الله، فلما دعا الله أنزل الله الماء من السماء فأغرق أهل الأرض، فلما أغرق أهل الأرض حمل نوح المؤمنين الذين معه في السفينة، فمات كل من على ظهر الأرض، إلا من كان على ظهر السفينة مع نوح. وهذا هو التطهير الثاني، لأن التطهير الأول كان في بداية الخلق، والتطهير الثاني كان بدعوة نوح، حيث قال: {رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا} [نوح:26 - 27]، فلو أتى الآن إنسان وقال: سأدعو الله بألا يذر على الأرض كافراً، فهذا لا يجوز؛ لأن الأحاديث دلت على أن الكفر والإيمان يبقيان إلى قيام الساعة، فأنت تسأل الله مالا يكون، لكن الله أخبر نوحاً بأنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن، فهو يعرف أنه لن يؤمن أحد، فدعا عليهم، فأهلك الله الكفار، والذين كانوا مع نوح في السفينة هم المؤمنون، فكل من على ظهر الأرض اليوم من ذرية نوح ومن كان معه على السفينة، قال الله جل وعلا: {وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} [يس:41]، و (ذرية) هنا ليست بمعنى الأبناء، وإنما بمعنى الآباء والأجداد؛ لأن الذين حُمِلوا مع نوح ليسوا أبناءنا، لأننا نحن المخاطبون بالقرآن، وإنما الذين حملوا مع نوح هم آباؤنا، والله يقول لكفار قريش ولمن يقرأ القرآن: {وَآيَةٌ لَهُمْ} [يس:41] أي: لكل من يقرأ القرآن {أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} [يس:41]، و (الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) سفينة نوح. فقوله: (ذُرِّيَّتَهُمْ) يعني: آباءنا وأجدادنا الذين كانوا مع نوح في السفينة، و (ذرية) تأتي بمعنى الأبناء، وهو الأكثر، وتأتي بمعنى الآباء، وهذا من دلائلها في القرآن.

ذكر إنجاء الله نوحا ومن معه

ذكر إنجاء الله نوحاً ومن معه قال الله تعالى: {وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ} [القمر:12] لما دعا نوح ربه أنزل الله الماء من السماء، ونكاية بقوم نوح أمر الله الأرض بأن تخرج ما فيها من ماء، فانفجرت الأرض أربعين يوماً تخرج عيونها، والسماء تمطر. (فَالْتَقَى الْمَاءُ) أي: جنس الماء، أي: ماء السماء وماء الأرض. قال تعالى: {وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ} [القمر:13]. قوله تعالى: (ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ) يحتمل عشرات المعاني، والمراد هنا السفينة؛ لأن الله قال في آية أخرى: {فَأَنجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ} [العنكبوت:15]. وأيسر شيء تفسر به القرآن أن تفسر القرآن بالقرآن، فلما قال الله تعالى: {فَأَنجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ} [العنكبوت:15] عرفنا أن ذات الألواح والدسر هي السفينة. قال تعالى: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ} [القمر:14]. قوله تعالى: (تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا) أي: على مرأى منا ومنظر ورعاية. وقوله: (جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ) ببناء لما لم يسم فاعله، والذي (كُفِرَ) هو نوح، والذين كفروا هم قومه، والذي كذب هو نوح، والذين كذبوا هم قوم نوح، فالله قال: (جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ) أي: جزاء للمكذوب وللمغلوب وللذي دعا، وهو نوح عليه الصلاة والسلام. ثم يقول بعض المؤرخين: إنه لما هبطت به السفينة أراد أن يتأكد، فأرسل حمامة تخبره عن الحياة في الأرض، فذهبت الحمامة ورجعت ومعها غصن زيتون؛ لتثبت له أن الحياة كائنة في الأرض، فلذلك جعلت جميع الأمم اليوم من الحمامة وغصن الزيتون رمزاً للسلام، فهذا هو المعنى السياسي لما تراه اليوم من الغصن والزيتون، وسواء صح الخبر أو لم يصح فهذا أمر لا يتعلق به كفر ولا إيمان ولا جنة ولا نار.

ذكر خبر عاد

ذكر خبر عاد ثم ذكر الله جل وعلا بعد ذلك خبر عاد فقال جل وعلا: {كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ * إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ} [القمر:18 - 19]، هذا اليوم النحس كان يوم أربعاء بالنسبة لهم، ووصفه الله جل وعلا هنا بأنه مستمر، ولكن لم يذكر مدة استمراره، وقد ذكر تعالى مدة استمراره في الحاقة، قال تعالى: {سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا} [الحاقة:7]. قال تعالى: {تَنزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ} [القمر:20]، قوله تعالى: (تَنزِعُ النَّاسَ) المراد بها الريح. وقوله: (كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ) وقال في سورة الحاقة: {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} [الحاقة:7]، ففي الحاقة جاء بالتأنيث، وهنا ذكر النخل بالتذكير، فقال: (مُنْقَعِرٍ) ولم يقل: منقعرة. والنخل جمع يذكر ويؤنث، وهذا تخريج، ولكن التخريج الأصح أن يقال: إن كلمة (نخل) فيها لفظ ومعنى، فلفظها مذكر ومعناها مؤنث، فلما قال الله: {أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ} [القمر:20] عمد إلى اللفظ، ولما قال في الحاقة: {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} [الحاقة:7] عمد إلى المعنى.

ذكر خبر ثمود

ذكر خبر ثمود ثم ذكر الله جل وعلا قوم صالح، وقوم صالح وقوم عاد يتفقان في كونهم عرباً، فعاد وثمود كانوا عرباً، وكذلك قوم شعيب وقوم محمد صلى الله عليه وسلم، ولا يوجد نبي عربي غير هؤلاء الأربعة: صالح، وقد أرسل إلى قوم ثمود، وشعيب، وقد أرسل إلى أصحاب الأيكة إلى مدين، وهود، وقد أرسل إلى عاد، ومحمد صلى الله عليه وسلم، وقد أرسل إلى الناس كافة، وهؤلاء الأربعة هم الأنبياء من العرب فقط، أما غيرهم فليسوا من العرب. وقوم صالح كانوا يسكنون الحجر، والله يقول: {وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ} [الحجر:76]، يعني: في طريق ظاهرة إلى الآن باقية. قال تعالى: {فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ} [القمر:24]. وقالوا عنه أنه: {أَؤُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ} [القمر:25]. قوله تعالى عنهم: (كذاب أشر)، أي: أن هناك كذاباً يكذب ليفر من معضلة، وهناك كذاباً أشراً، وهو الذي يكذب لينال أمراً عظيماً يترفع به على الناس. ومثال الأول أن تدخل الدار فتجد في الفناء رجلاً غريباً، فتقبض عليه فتسأله: ماذا تريد؟ ويكون قد أراد السرقة، فلما رآك خاف، فيقول لك: أنا صديق لابنك، أو يقول: أنا ممن يوصلون فواتير الكهرباء أتيت لأضع هنا فواتير الكهرباء، أو يقول أي شيء يتخلص به منك، فهذا كذب ليخلص نفسه؛ لأن هناك شيئاً يدعوه للكذب، حتى يخرج من مأزق وقع فيه. فقوم ثمود يقولون عن نبي الله صالح نحن نحترمك ونقدرك، كما قال تعالى عنهم: {قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا} [هود:62]، فهم يقولون: نحترمك ونجلك ونقدرك، ولم تكن في معضلة حتى تكذب علينا وتزعم أنك رسول؛ فإنك لا تزعم أنك رسول إلا لأنك تريد أن تتصدر وتعلو علينا، فأنت -بزعمهم- كذاب أشر، قال الله: {سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنَ الْكَذَّابُ الأَشِرُ} [القمر:26]، والسين في قوله (سَيَعْلَمُونَ) للمستقبل القريب. قال تعالى: {إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ} [القمر:27]. قوله تعالى: (فِتْنَةً لَهُمْ) أي: اختبار. وقد طلب قوم صالح آية فأعطاهم الله الناقة، وقال لهم صالح: {هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} [الشعراء:155]، فكانت هذه الناقة تظهر وتغيب، فإذا ظهرت شربت البئر كله، وإذا غابت أتى قوم ثمود فشربوا الماء، ويذهبون إلى الناقة فيحلبونها، قال تعالى: {وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ} [القمر:28]، فقوله: (مُحْتَضَرٌ) بالضاد، بمعنى أن كل قوم يحضرونه. وقوله تعالى: (كُلُّ شِرْبٍ) أي: كل حظ وقسمة من الماء يحضرها صاحبها إن كانت للناقة وإن كانت لهم. قال تعالى: {فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ} [القمر:29]. قوله تعالى: (فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ) هو قدار بن سالف، وقد قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: إنه أشقى الأولين، والحديث صحيح، ولكن هل كان عقره للناقة برضا منهم أو بعدم رضا؟ والجواب أنه كان برضا منهم؛ لقوله تعالى (فنادوا). وفي سورة الشمس: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا * إِذْ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا * فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا * فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا} [الشمس:11 - 14]، فأسند الفعل إلى الجماعة ولم يسنده إلى الفرد، وأخبر تعالى في سورة القمر بأن الذي عقرها واحد، فقال: ((فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ))، والجمع بين الآيتين أنه عقرها برضاً منهم، وبهذا تستقيم الأدلة. وأقول: استحضار الآيات عند التفسير مهم، ولذلك يروى أن الحجاج بن يوسف على طغيانه كان يقدر على استحضار القرآن، فقد جاءته امرأة ذات يوم فقالت له: أيها الأمير! اعف عن ولدي؛ فالذي حذف (كلا) من النصف الأول من القرآن إنه لبريء، فمكث دقيقتين يستحضر القرآن، ثم قال: اطلقوا ابنها. فالقرآن ثلاثون جزءاً، وليس في الخمسة عشر جزءاً الأولى كلها حرف (كلا)، والجزء السادس عشر يبدأ بسورة الكهف، وفي قصة الخضر مع موسى في قوله تعالى: {قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} [الكهف:67] يبدأ الجزء السادس عشر، وبعدها في مريم، يقول تعالى: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا * أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا * كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ} [مريم:77 - 79]، ثم تأتي (كلا) كثير في الأجزاء الأخيرة من القرآن. فالحجاج استحضر القرآن كله، وهذا فضل من الله، وهذا من أعظم ما يعينك على تفسير الآيات، فإذا جاء معنى اجمع ما يناسبه من القرآن حتى تستطيع الحكم على الآية. فالله هنا عبر بالمفرد وعبر في الشمس بالجمع، والجمع بينهما أن يكون القوم اختاروا هذا الرجل فقام بما يريدون أن يعملوا به، {فَتَعَاطَى فَعَقَرَ} [القمر:29].

ذكر خبر قوم لوط

ذكر خبر قوم لوط ثم ذكر الله جل وعلا قوم لوط، والذي يعنينا في قوم لوط أن الله عذبهم بأن جعل قريتهم عاليها سافلها؛ لأن الله يعذب بجنس العمل، ففرعون قال: {وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} [الزخرف:51]، فمات غرقاً في الأنهار التي يزعم أنه يملكها. وقوم لوط مع الشرك بالله جاءوا بالفاحشة العظيمة، وهي إتيان الذكران من العالمين، وإتيان الذكران قلب للفطرة، فعاملهم الله في العذاب بجنس المعصية، فقلب عليهم الديار، والأمم التي قبلهم مثل عاد وثمود عذبت بالصيحة، ولم تعذب بالقلب، قال الله: {فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا} [الحجر:74]، فقلب الله عليهم الأرض التي كانوا يسكنونها بجنس المعصية التي كانوا عليها عياذاً بالله، وهي إتيان الذكران من العالمين. وقال الله في قصة لوط: {إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ} [القمر:34]، وقد أخذ العلماء من هذه الآية فضيلة السحر، وهي واردة كثيراً، والسحر من أفضل الأوقات.

ذكر خبر آل فرعون

ذكر خبر آل فرعون ثم قال الله جل وعلا: {وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ * كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر:41 - 42]، والعرب أحياناً تطلق الجمع وتريد المثنى، فـ (النُّذُرُ) وهم موسى وهارون، فلو جاء إنسان وقال إن الله يقول: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء:105]، وما جاءهم إلا رسول، فإنه يجاب بأن التكذيب بواحد كالتكذيب بالكل. فإن قال: كيف تقول في قوله تعالى: {وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ} [القمر:41]: إن المقصود بـ (النذر) موسى وهارون، فلماذا لا يكون المقصود الرسل كلهم؟ فالجواب أن الله تعالى قال: (وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ) والذين حصل منهم المجيء إليه هما اثنان فقط، ولو قال تعالى: كذبت قوم فرعون النذر، لقلنا: المراد جميع الرسل. {كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر:42] وقوله تعالى: ((كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا)) هذه الآيات هي تسع، والله يقول: {فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ} [النمل:12]. وهي على النحو الآتي: قال الله: {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ} [الأعراف:130] فهذه واحدة، {وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} [الأعراف:130] وهذه الثانية. وقال تعالى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ} [الأعراف:133]، وهذه خمس، فصارت سبعاً. ويد موسى والآية الكبرى، وهي العصا، فهذه تسع آيات.

تفسير قوله تعالى: (أكفاركم خير من أولئكم)

تفسير قوله تعالى: (أكفاركم خير من أولئكم) ثم قال الله عوداً على بدء يخاطب كفار قريش: {أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُوْلَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ} [القمر:43]. قوله تعالى: (أُوْلَئِكُمْ) يعود على جميع الأمم التي ذكرها الله في السورة. فالله الآن يقول للقرشيين: إما أن تقولوا: نحن كفار أفضل من أولئك الأقوام، فلذلك لا يعذبنا الله. وإما أن تقولوا بأن لكم براءة في الزبر، والزبر: جمع زبور، وهو الكتاب، والمراد اللوح المحفوظ. والمقصود أن عندكم شهادة بأن الله لن يعذبكم، وأنه لكم براءة من الله. والحالة الثانية: {أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ} [القمر:44]، وهذه هي التي اتكئوا عليها، حيث كانوا يعتزون بقوتهم. فالاثنتين الأوليين باطلتان، ولم يقلهما القرشيون، فلم يقولوا: نحن أفضل، ولم يقولوا: عندنا براءة، ولكن كانوا يعتزون بجمعهم، فقال الله: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} [القمر:45]. ولما أنزلت هذه الآية جعل الصحابة يقول بعضهم لبعض: أي جمع وأي دبر؟! حتى جاء يوم بدر، وهذا خطاب لكل من يتعجل من الشباب، فالدين يحتاج إلى صبر، والله لا يعجل لعجلة أحد من خلقه، ولا يوجد بناء يقوم في يوم وليلة، فالصحابة عندما أنزل الله {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} [القمر:45]، جعلوا وهم في مكة يقولون: أي جمع وأي حرب؟! لا يوجد دلالة على أي شيء. ثم هاجر النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت بدر، فخرج عليه الصلاة والسلام في درع يثب فيها ويقول: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} [القمر:45]، فقال سعد بن أبي وقاص وعمر وغيرهما من الصحابة: فعرفنا تأويلها يومئذ. فهزم الجمع وولوا الدبر كما أخبر نبينا صلى الله عليه وسلم.

بيان أنواع الغيب الذي أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم

بيان أنواع الغيب الذي أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم ويتفرع على هذا أن الغيب الذي أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم ينقسم إلى ثلاثة أقسام: الأول: غيب يتعلّق بالأمم السابقة وقع من قبل، وإنما أخبر عنه، كإخباره عن أهل الكهف ويوسف عليه السالم وغيرهم. الثاني: غيب أخبر عنه ووقع في حياته، مثل إخباره بأنه: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} [القمر:45]، فقد وقع في حياته. الثالث: غيب أخبر عنه ووقعَ بعد وفاته، كإخباره عليه الصلاة ولسلام عن فتح بيت المقدس، وهلاك كِسرى وهلاك قيصر وغير ذلك. هذا ما تيسر إيراده حول كتاب ربنا جل وعلا في سورة القمر، أسأل الله جل وعلا لنا ولكم التوفيق والعون والهداية. وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تأملات في سورة الرحمن

سلسلة تأملات قرآنية - تأملات في سورة الرحمن إن رحمة الله سبحانه بعباده لا منتهى لها، وأعظم رحمة رحمهم بها هي تعليمهم القرآن، وتعليمهم البيان في الكلام. وهناك نعم عديدة وردت في سورة الرحمن كرفع السماء، وبسط الأرض، وإقامة العدل بين الخلق إلى آخر تلك النعم التي يستفيد منه الإنسان في دنياه وأخراه، فلا يشكر هذه النعم إلا من وفقه الله وهداه من الجن والإنس، مع أنه سبحانه لا تنفعه طاعة الطائع، ولا تضره معصية العاصي، فله من المخلوقات العلوية كالملائكة والنجوم، والأرضية كالشجر والدواب ما يسبح بحمده، ويذكره بشكل دائم لا انقطاع فيه.

تفسير قوله تعالى: (الرحمن)

تفسير قوله تعالى: (الرحمن) إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خلق فسوى، وقدر فهدى، وأخرج المرعى، فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى. وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، بلغ عن الله رسالاته، ونصح له في برياته، فجزاه الله بأفضل ما جزى به نبياً عن أمته، اللهم صل وسلم وبارك وأنعم عليه، وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره، واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: أيها المؤمنون! فإننا نستعين الرب تبارك وتعالى في تفسيرنا هذا كما استعناه من قبل في تفسير ووقفات مع بعض كلامه جل وعلا، والسورة التي نحن بصدد تفسيرها هي سورة الرحمن. إن المؤمنين يدركون بلا شك أن لهم رباً لا رب غيره ولا إله سواه، إليه يفزعون في الشدائد، وإياه يشكرون في السراء، فيعبدونه تبارك وتعالى ليلاً ونهاراً، يعبدونه بقلوبهم وجوارحهم، ويعلمون أن من أعظم الجور والظلم أن يجعلوا لله تبارك وتعالى نداً. ثم إن هؤلاء المؤمنين -سلك الله بنا وبكم سبيلهم، وجعلنا وإياكم منهم- يعلمون يقيناً أن لربهم تبارك وتعالى أسماء حسنى وصفات علا، قال الله جل وعلا: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} [الأعراف:180]، والرب تبارك وتعالى كما أن وجهه أكرم الوجوه، فإن أسماءه أعظم الأسماء وأحسنها وأكملها، وتدل على صفات عظيمة وجليلة لا يلحقها نقص له أبداً تبارك وتعالى. ومن أسمائه الحسنى تبارك وتعالى الرحمن، ومن صفاته العليا جل وعلا: الرحمة، وهذه السورة الكريمة التي بين أيديكم صدرها الله جل وعلا بقوله: {الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الإِنسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ * الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ * وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ * وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ * أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ * وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ} [الرحمن:1 - 9] إلى آخر ما ذكره الله من آيات عظيمة تدل على عظيم قدرته، وكمال رحمته، وجليل فضله تبارك وتعالى. والرحمن اسم من أسماء الله الحسنى، وبعض أسماء الله الحسنى قد يشترك معه المخلوق في إطلاقها عليه، مع الفارق بين إطلاقها على المخلوق وإطلاقها على الخالق، فيقال: إن الله رحيم، ويقال عن أحد الناس: إنه رحيم، كما قال الله جل وعلا في نعت نبينا صلى الله عليه وسلم: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128]. ويقال: فلان راحم، ويقال: إن الرب تبارك وتعالى راحم لخلقه، لكن الرحمن: اسم مختص بالرب تبارك وتعالى، فلا يسمى به ولا يطلق على أحد من خلقه أبداً. والرحمن يدل على كمال اتساع رحمته، وجليل فضله، وإحسانه تبارك وتعالى على خلقه، فقد أوجدهم من العدم، ورباهم بالنعم، وهداهم النجدين، وأبان الله لهم تبارك وتعالى معالم الحق والهدى، وأظهر لهم على الوجه الآخر معالم الضلالة والزيغ والفساد، قال الله جل وعلا: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:10].

أنواع الرحمة الإلهية

أنواع الرحمة الإلهية وليس لرحمة الله جل وعلا حد تنتهي إليه، قال الرب تبارك وتعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} [الأعراف:156]، وهذه الرحمة العظيمة بها يعيش الخلائق أجمعون. ورحمة الله تبارك وتعالى منها ما هو عام ومنها ما هو خاص، فأما رحمته تبارك وتعالى العامة فهذه ينالها المؤمن والكافر، والبر والفاجر، ومن مظاهر هذه الرحمة التي لا تختص بإيمان أو كفر إنزال الغيث، فإن الغيث وإنزاله من أعظم مظاهر رحمة الرب تبارك وتعالى، ويستفيد منه البر والفاجر، والمؤمن والكافر، والذكر والأنثى، والعربي والأعجمي، وغير ذلك مما هو معروف، قال الله جل وعلا عن الرياح التي تحمله: {يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} [الأعراف:57]، وقال الله تبارك وتعالى عن النبت الذي ينبت والأرض عندما تخضر بعد نزول رحمته: {فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتَى} [الروم:50]. ومن مظاهر رحمته تبارك وتعالى: إطعامه للجائع، وجاء في الحديث القدسي: (إني والجن والإنس في نبأ عظيم؛ خيري إليهم نازل وشرهم إلي صاعد، أتقرب إليهم بالنعم ويتقربون إلي بالمعاصي، أخلق ويعبد غيري، وأرزق ويشكر غيري). فنسأل الله جل وعلا أن يجعلنا ممن يعبده وحده دون سواه، ويشكره تبارك وتعالى آناء الليل وأطراف النهار على فضله وإنعامه. وأما مظاهر رحمته الخاصة جل وعلا فهذه نصيب المؤمنين المتقين الذين يعرفون ربهم تبارك وتعالى، فتأتيهم رحمة الله الخاصة بهم، وهذه الرحمة واسعة الأرجاء، متعددة المظاهر. فمن مظاهر هذه الرحمة: ستره تبارك وتعالى على من يعصيه، وفي الحديث: (إن الله حيي ستير)، كما أن من مظاهر رحمته جل وعلا لعباده قبول التوبة، وقد جاء في الحديث القدسي: (يا عبادي! إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً؛ فاستغفروني أغفر لكم)، نستغفر الله العظيم ونتوب إليه. كما أن من مظاهر رحمته الخاصة توفيقه تبارك وتعالى لعباده للعمل الصالح والعلم النافع، فإن هذا من رحمة الرب جل وعلا لعبده. كما أن من رحمته ومعيته الخاصة لبعض عباده استجابته لدعائهم، وغوثهم عند النوازل، وقد ذكر الله جل وعلا جماً غفيراً ممن عبدوه ولجأوا إليه واستغاثوا به كيف أعطاهم، وأغاثهم وأعانهم، وأكرم سؤلهم جل وعلا، قال الله جل وعلا: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ * وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} [الأنبياء:83 - 88]. فاختلفت حوائجهم ولم يختلف أنهم لا يسألون إلا الله، ثم قال جل وعلا: {وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء:89 - 90]، وغير ذلك مما قصه الله في كتابه، فإن الناظر بعين البصيرة والإنصاف إلى ما حوله يرى من مظاهر رحمة الله جل وعلا بخلقه ما لا يمكن أن يحصى أو يعد، ورحمة الله جل وعلا أعظم مما تراه بعينك، فإن الله جل وعلا كتب كتاباً عنده فوق العرش: (إن رحمتي غلبت غضبي). وكان رجل من الصالحين يقال له: حاتم يسكن في خراسان، فكلما عزم على الحج خاف على بناته من بعده، فقالت له ابنته الكبرى: يا أبت! إنما الرازق الله فحج، فعزم على الحج، وترك الصغار في عهدة أختهم الكبرى فرعتهم، فلما أمسى الليل إذا بهم يتضاغون عند قدميها ويسألونها الطعام، ولم يكن في البيت شيء، فبينما هم على تلك الحال إذا بأمير يدخل القرية ويطرق الباب ومعه حشمه وخدمه وماله ويسألهم الماء فليس معه ماء، والماء يوجد في بيوت الأغنياء كما يوجد في بيوت الفقراء، فلما سألهم الماء أخرجوا له جرة ماء كانت عندهم، ولما شربها جال بطرفه في البيت فعرف رقة حالهم ومسكنتهم وفقرهم. فلما هم بالخروج أخرج لهم صرة فيها مئات الدنانير، فقالت المرأة العارفة بربها: هذا مخلوق نظر إلينا فاستغنينا، فكيف بنظر أرحم الراحمين إلينا؟ نسأل الله أن يكلنا وإياكم إلى رحمته.

تفسير قوله تعالى: (علم القرآن، خلق الإنسان)

تفسير قوله تعالى: (علم القرآن، خلق الإنسان) إن من أعظم رحمة الله: الهداية، ولما كانت الهداية لا تتم إلا بالوحي؛ لأنها لا بد أن تكون على بينة عن طريق الرسول، والرسول يكون موحى إليه، وأعظم الوحي الكتب السماوية، وأعظم الكتب السماوية القرآن، وقد ذكر الله بعد ذكره اسمه الكريم: {الرَّحْمَنُ} [الرحمن:1] أعظم رحمة أعطاها الله جل وعلا لخلقه فقال: {عَلَّمَ الْقُرْآنَ} [الرحمن:2]. فالقرآن أعظم رحمة موجودة في الأرض؛ لأن من سلك منهج القرآن قاده القرآن برحمة الله إلى جنات النعيم، ورضوان رب العالمين جل جلاله، وكان القرشيون يزعمون أن ما يقوله النبي صلى الله عليه وسلم وما يتلوه عليهم إنما هي أمور اكتتبها، قال الله حكاية عنهم: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الفرقان:5]، فأجابهم الله: {قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الفرقان:6]، وهذه السورة -أي: سورة الرحمن- هي أحد الأجوبة على كفار قريش بأن القرآن من عند الله. فلذلك قال الله جل وعلا: {الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ} [الرحمن:1 - 2]، وقد قلنا في درس سابق: إن النعم يمكن تقسيم أعلاها إلى قسمين: نعمة خلق وإيجاد، ونعمة هداية وإرشاد، ونعمة الهداية والإرشاد أعظم من نعمة الخلق والإيجاد؛ لأن نعمة الخلق والإيجاد يشترك فيها بنو آدم مع البهائم، فكلهم مخلوقون موجودون، لكن نعمة الهداية والإرشاد اختص الله بها المؤمنين المتقين الأصفياء الأولياء الصالحين من عباده. فهذه إنما خص الله جل وعلا بها بعضاً من خلقه من بني آدم، ولم تؤت لكل أحد، أسأل الله أن يثبتنا وإياكم على دينه. لذلك قال الرب جل وعلا: {الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ} [الرحمن:1 - 2]، واتفق النحاة على أن (علم) تأخذ مفعولين، وقد ذكر الله جل وعلا أحدهما هنا، والصواب: أن المفعول المحذوف هو المفعول الأول، وأما تقديره فاختلف العلماء فيه، لكن أظهر الأقوال أن يقال: {الرَّحْمَنُ} [الرحمن:1]: علم نبيه القرآن. فيكون في هذا المعنى رد على من قال: إن محمداً جاء بالقرآن من عنده. وقلنا: إن هذا القرآن هو الطريق إلى جنة عدن، قال عليه الصلاة والسلام: (تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً كتاب الله وسنتي)، وقال كما في صحيح مسلم: (تركت فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي). فالمقصود من هذا: أن كتاب الله جل وعلا هو الطريق الوحيد إلى رضوان الله، وهو متضمن الأمر باتباع نبينا صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا} [الإسراء:9]. وهذه السورة تضمنت مواقف إيمانية عظيمة، نبدأ بها على هيئة قضايا كالآتي: القضية الأولى: تكرر في هذه السورة قول الرب جل وعلا: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:13]، والمخاطب بهذه الآية الثقلان: الجن والأنس. وقد وردت هذه الآية مكررة في السورة نفسها (31) مرة، وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم -كما روى الترمذي من حديث جابر رضي الله تعالى عنه- أنه لما: (خرج على الصحابة قرأ عليهم سورة الرحمن من أولها إلى آخرها، فلما قضى سكتوا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لقد قرأتها على إخوانكم من الجن فكانوا أحسن مردوداً منكم، قالوا: وما ذاك يا رسول الله؟! قال: إنني لما قرأتها على الجن كنت كلما تلوت: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:13] قال الجن: لا نكذب بأي من نعم ربنا، فلربنا الحمد)، فهذا الحديث حسنه الألباني رحمه الله في الصحيح الجامع، وقلت من قبل: رواه الترمذي من حديث جابر. والمقصود: أن فيه دلالة على أدب الجن مع ربهم تبارك وتعالى. إذاً من السنة أن الإنسان إذا تليت عليه هذه السورة في غير الصلاة أن يقول: ولا نكذب بأي من آلاء ربنا ولربنا الحمد، أو يقول ما يقرب من هذه العبارة. وهذه السورة -كما قلت- تزخر بالكثير من القضايا الإيمانية، أولها: معنى كلمة الرحمن، وقلنا: إنها مختصة بالرب تبارك وتعالى، ولا يصح إطلاقها على كل أحد.

علة تقديم ذكر تعليم القرآن على الخلق

علة تقديم ذكر تعليم القرآن على الخلق قال الله تعالى: {الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الإِنسَانَ} [الرحمن:1 - 3]. تأمل أن الله قدم نعمة الهداية على نعمة الإيجاد، فلم يقل: {الرَّحْمَنُ} [الرحمن:1]، خلق الإنسان، علم القرآن؛ لأن نعمة الهداية والإرشاد -كما بينا مراراً- أعظم من نعمة الخلق والإيجاد.

تفسير قوله تعالى: (الشمس والقمر بحسبان)

تفسير قوله تعالى: (الشمس والقمر بحسبان) قال الله تعالى: {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} [الرحمن:5]، الألف والنون زائدتان، والمعنى: بحساب متقن، وعلى ذلك جريانهما، قال الله جل وعلا: {لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس:40]، وفي ذلك من المصالح الدنيوية والدينية ما الله به عليم، قال الله جل وعلا: {فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا} [الإسراء:12]. فبعد أن ذكر الله نعمة الإنسان وهدايته ذكر جل وعلا آلاءه وفضله، وما أعطاه للخلق؛ حتى يستدلوا بتلك الآيات على عظمة الرب جل وعلا، قال بعضهم: تأمل في نبات الأرض وانظر إلى آثار ما صنع المليك عيون من لجين شاخصات على ورق هو الذهب السبيك على كثب الزبرجد شاهدات بأن الله ليس له شريك فكل ما هو مخلوق فهو يدل على عظمة الخالق جل جلاله، يراه من يراه ويغيب عمن يغيب عنه. وليس يصح في الأذهان شيء إذا احتاج النهار إلى دليل.

تفسير قوله تعالى: (والنجم والشجر يسجدان)

تفسير قوله تعالى: (والنجم والشجر يسجدان) قال الله تعالى: {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} [الرحمن:6]، في هذه الآية مباحث: المبحث الأول: اختلف العلماء في المقصود بالنجم في هذه الآية على قولين: الأول: أن النجم قرين الشجر، فالشجر هو النبات الذي له ساق، والنجم هو النبات الذي لا ساق له، فيصبح المعنى: أن النبات الذي له ساق والنبات الذي ليس له ساق كلاهما يسجدان لله. والحجة لمن قال بهذا: هو أن الله عطف النجم على الشجر، والشجر بالاتفاق: هو النبات الذي له ساق، فكان النجم خلافه. القول الثاني: أن النجم هنا هو النجم المعروف، أي: الذي في السماء، قالوا: ووجه القران ما بين النجم والشجر: أن المزارعين الذين يزرعون الشجر إنما يزرعون توقيتاً على مطالع البروج والنجوم، فشيء يزرع في الخريف، شيء يزرع في الشتاء، وشيء يزرع في الصيف، بحسب أحوال كل زرع، وهذا أمر يعرفه المزارعون بالاتفاق، فقالوا: إن النجم هنا هو النجم الذي في السماء، ولهم حجة في القرآن: وهي أن الله جل وعلا ذكر السجود فقرن ما بين سجود النجم وسجود الشجر، وذلك في قوله جل وعلا في سورة الحج: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ} [الحج:18]. فقالوا: إن الله هنا أثبت في هذه الآية سجود النجم الذي في السماء، وسجود الشجر، وقالوا: هذه قرينة على أن المقصود بقول ربنا جل وعلا: {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} [الرحمن:6]: النجم الذي في السماء. والله أعلم بالصواب. وقد سقنا كلا القولين اللذين قالهما العلماء، والذي يهمنا بصورة أكبر هو أن الله جل وعلا فطر الخلق على السجود له، والسجود للرب تبارك وتعالى من أعظم القربات، ومن يوم أن تلدك أمك إلى أن تحمل على النعش لن تكون في حال أنت فيها أقرب إلى الله من هيئتك وأنت ساجد، وقال عليه الصلاة والسلام: (أما السجود فأكثروا فيه من الدعاء)؛ لأن العبد أقرب ما يكون من ربه وهو ساجد، ثم قال عليه الصلاة والسلام: (فقمن أن يستجاب لكم) أي: جدير أن يستجاب لكم. ومن كرامة السجود على الله أن حرم على النار أن تأكل من ابن آدم أعضاء السجود، وهذا إذا كان مؤمناً، والشفعاء يوم القيامة عندما يأتون ليخرجوا عصاة المؤمنين من النار بإذن الله يجدون أن النار قد أحرقت منهم كل شيء إلا مواضع السجود. وقد قال الله جل وعلا في سورة الرعد: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ} [الرعد:15]، وقال جل وعلا في سورة النحل: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ * وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ} [النحل:48 - 49]. والمقصود من هذا: أن نبين مفهوم قوله تعالى: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ} [الرعد:15]، وأن الكافر يسجد، ونحن نرى أنه لا يسجد، فتحمل الآية على أنه وإن لم يسجد بذاته فهو يسجد بظله. فكأن الله جل وعلا يقول للعلماء: إن الله يهب الظل -أي: ظل العبد- إدراكاً يسجد من خلاله، فإذا انتفى سجود الكافر ذاته فإن ظله يسجد لله تحقيقاً للآية. قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا} [الرعد:15] هذا سجود المؤمنين، {وَكَرْهًا} [الرعد:15] وهذا سجود الكافرين، {وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ} [الرعد:15]. والمقصود من هذا كله: عظيم فضيلة السجود في قوله تعالى: {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} [الرحمن:6].

تفسير قوله تعالى: (والسماء رفعها ووضع الميزان)

تفسير قوله تعالى: (والسماء رفعها ووضع الميزان) قال الله جل وعلا: {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ * أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ * وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ * وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ} [الرحمن:7 - 10]. هذه دعوة للعدل بين العباد، والله جل وعلا حرم الظلم على نفسه وجعله بين عباده محرماً، ومن أعظم صفات المتقين: العدل، وقد قيل: بالعدل قامت السماوات والأرض، ولا يجوز للحاكم أن يظلم ويجور في رعيته، ولا يجوز للزوج ألا يعدل بين زوجاته، ولا يجوز للمعلم ألا يعدل بين طلابه، ولا يجوز للأب ألا يعدل بين أبنائه، ومن صفات من يخاف الله ويراقبه ويطمئن إلى الوقوف بين يديه أن يعدل فيما ولاه الله تبارك وتعالى عليه. ولهذا نهى الله عن الطغيان وعن الخسران، فقال جل وعلا: {أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ} [الرحمن:8] أي: لا تزد فيه إذا كان الكيل لك. ثم قال: {وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ} [الرحمن:9] أي: لا تنقصوا منه إذا كان الكيل عليكم لغيركم، ولا تطغوا فيه إذا كان الكيل لكم. وكما يزن الإنسان في بيعه وشرائه فيجب أن يعدل في بيعه وشرائه، وأن يعدل حتى في قوله، فلا يقل ما يعلم أنه جور وظلم كغيبة أو نميمة أو قدح في الغير أو ما أشبه ذلك، فهذا كله من عدم إقامة العدل بين الناس، وفي ذات الإنسان نفسه، قال الله جل وعلا: {فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [الأنعام:152]، فالمؤمن الحق الذي يرجو ما عند الله يعدل في كل ما ولاه الله تبارك وتعالى إياه.

تفسير قوله تعالى: (والأرض وضعها للأنام)

تفسير قوله تعالى: (والأرض وضعها للأنام) قال الله جل وعلا: {وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ * فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الأَكْمَامِ} [الرحمن:10 - 11]. هذا كله ذكر لبعض نعم الله تبارك وتعالى على عباده، وقد مر معنا كثير من هذا في سور سابقة. ثم قال جل وعلا: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ} [الرحمن:19 - 20]. المقصود: الأنهار والبحار، العذب والمالح، فلا يطغى بعضهما على بعض، أي: لا يختلطان، ففرق الله جل وعلا بين مجرى البحار ومجرى الأنهار. وهذا الذي ذكره الله في الرحمن بينه جل وعلا في سورة الفرقان، فقال تبارك وتعالى: {وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا} [الفرقان:53]، أي: مانعاً، وهذا كله من دلائل كمال قدرته ورحمته تبارك وتعالى لعباده.

تفسير قوله تعالى: (كل من عليها فان والإكرام)

تفسير قوله تعالى: (كل من عليها فان والإكرام) ثم ذكر الله جل وعلا بعد ذلك القضية التي لا مفر منها وهي قضية الموت، وأن هؤلاء الخلق أجمعين كلهم يموت، كما قال تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:30]، وكما قال سبحانه: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران:185]. والله جل وعلا أذل بالموت القياصرة، والملوك، والأكاسرة، والأمراء، والأغنياء، والجبابرة، والفقراء، فلا يسلم فيما نعلم من الموت أحد؛ فقال الله جل وعلا: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:26 - 27]. ولا ريب أن وجه ربنا تبارك وتعالى كما قلنا مراراً أعظم الوجوه وأكرمها، وقد نعت الله وجهه هنا جل وعلا بأنه ذو جلال إكرام، أي: هو جل وعلا أجل من أن يعصى وأكرم من أن يخالف، ولا يلجأ إلى ذلك إلا من غلبت عليه الضلالة، وظهرت عليه الشقاوة، وحاد عن صراط الله المستقيم، قال صلى الله عليه وسلم -فيما صح عنه-: (ألظوا -أي: الزموا- بيا ذا الجلال والإكرام) أي: في دعائكم، أكثروا من قول: يا ذا الجلال والإكرام. ووجه الله تبارك وتعالى يثبته أهل السنة على ما يليق بجلاله وعظمته، دلت على ذلك نصوص الكتاب والسنة، وهو مقصد المؤمنين ومبتغى عباد الله الصالحين، قال الله عن الأخيار من عباده: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا} [الإنسان:8 - 9]، وقال الله جل وعلا -يحث نبيه ويؤدبه-: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف:28]. ورؤية وجه الله الأكرم متحققة برحمة الله وإذنه للمؤمنين في جنة عدن كما قلنا مراراً، فالدنيا لا تطيب إلا بذكر الله ولا تطيب الآخرة إلا بعفوه، ولا تطيب الجنة إلا برؤية وجهه سبحانه، وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم كما عند مسلم في الصحيح أنه قال عليه الصلاة والسلام: (إذا دخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، نادى مناد: يا أهل الجنة! إن لكم عند الله موعداً يريد أن ينجزكموه، فيقولون: وما هو؟ ألم يثقل موازيننا؟ ألم يبيض وجوهنا؟ ألم يدخلنا الجنة ويجرنا من النار؟)، فيكشف الحجاب فيرون وجه ربهم تبارك وتعالى، فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم هو أعظم ولا أجل من رؤية وجه الله، قال الله جل وعلا: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} [القيامة:22]، أي: أحاطت بها النضرة من كل مكان، ثم ذكر سبب أنها نضرة فقال: {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:23]، أي: تنظر بعينيها التي يعطيها الله التمكين آن ذاك أن ترى وجه العلي الأعلى جل جلاله، اللهم إنا نسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك، في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة.

تفسير قوله تعالى: (يسأله من في السماوات شأن)

تفسير قوله تعالى: (يسأله من في السماوات شأن) ثم ذكر الرب جل وعلا بعد هذه القضية قضية أخرى وهي حقيقة العبودية، فقال سبحانه: {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن:29]. فمن كمال ربوبيته، وكمال ألوهيته، وكمال أسمائه وصفاته أنه ما من عبد في السماء والأرض إلا وهو فقير إلى الله جل وعلا كل الفقر، ويسأل الله جل وعلا حوائجه ومقتضيات أمره، سواء كان يسألها بلسان حاله أو بلسان مقاله، فكل الناس فقراء إلى الله تبارك وتعالى. فترى الشاب لا يعرف المسجد ولا يعرف الصلاة، فإذا أراد أن يدخل قاعة الامتحان يجد نفسه دون أن يشعر مضطراً إلى أن يرفع بصره إلى السماء، ويرفع يديه إليها؛ لأنه يعلم بالفطرة أن هناك رباً، قال تعالى: {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن:29]، وفي قوله: (يسأله) إشارة إلى أهمية الدعاء، فهو من أعظم العبادة، قال عليه الصلاة والسلام: (الدعاء هو العبادة). فالإنسان الذي يكثر من دعاء الرب جل وعلا وحده، ويلجأ إليه في كل أمر يصير إليه، فهذا من دلائل كمال محبة الله ومعرفته جل وعلا، وكان موسى عليه السلام يستحيي أن يسأل الله بعض حاجته، فأوحى الرب جل وعلا إليه: يا موسى! سلني ملح عجينتك، يا موسى! سلني شسع نعلك، يا موسى! سلني وسلني. فإن الله جل وعلى يحب أن يسأله العبد، قال بعضهم: لا تسألن بني آدم حاجة وسل الذي أبوابه لا تغلق فالله يغضب إن تركت سؤاله وبني آدم حين يسأل يغضب فالمقصود: أن سؤال الرب جل وعلا من أعظم ما من الله به عليك، حتى جاء في الحديث: (أن الله يوحي إلى جبريل: يا جبريل! أخر حاجة عبدي؛ فإني أحب أن أسمع صوته) ومن ذلك السعيد الذي يحب الرب جل وعلا أن يسمع دعاءه، وخشوعه وتضرعه ومسكنته بين يدي ربه جل وعلا؟ فهذه من أعظم النعم وأجل العطايا، ولكن بني آدم طبعوا على العجل، وعلى حب الأشياء العاجلة، كما قال ربنا: {خُلِقَ الإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ} [الأنبياء:37]. ثم قال الله جل وعلا: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن:29] أي: يغفر ذنباً، ويفرج كرباً، ويفك أسيراً، ويغني فقيراً، ويشفي مريضاً، ويطعم جائعاً، إلى غير ذلك مما لا يحصى، فيقيم دولاً ويذهب أخرى، ويقيم ملكاً وينزع آخر، ويفعل تبارك وتعالى ما يشاء، لكن قوله تعالى: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن:29] الأحسن أن تفهمه بالإيمان وبالقضاء والقدر، فإن الرب جل وعلا في أمور يبديها لا في أمور يبتدئها. جاء الوليد بن عبادة إلى أبيه عبادة بن الصامت رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وعبادة في مرض الموت، فقال الابن لأبيه: يا أبت! أوصني واجتهد لي، أي: ابحث لي عن وصية عظيمة، فقال: يا بني! إنك لن تبلغ العلم، ولن تجد طعم الإيمان، ولن تعرف حقيقة العلم حتى تؤمن بالقدر خيره وشره، قال: يا أبت! وكيف أدري خيره من شره؟ قال: يا بني! أن تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، ثم قال: يا بني! إنني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله أول ما خلق القلم قال له: اكتب، فجرى بما هو كائن إلى يوم القيامة)، ثم قال له: يا بني! إنك إن مت على غير ذلك دخلت النار، أي: إن مت على غير الإيمان بالقدر خيره وشره. والرضا بقضاء الله خيره وشره من أعظم مناقب الصالحين، قال الله عنهم: {فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل:97]، فالحياة الطيبة مدارها على الرضا بقضاء الله تبارك وتعالى وقدره.

تفسير قوله تعالى: (يا معشر الجن والإنس)

تفسير قوله تعالى: (يا معشر الجن والإنس) قال تبارك وتعالى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُوا لا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ} [الرحمن:33]. هذه الآية ربما توسع العلماء فيها كثيراً، والصواب إن شاء الله في تفسيرها أن يقال: إن هذه الآية تتكلم عن أهوال يوم القيامة، وعن أهوال يوم الآخرة. وحتى تفقه معناها نقول: اعلم أن الناس يحشرون من القبور على أرض بيضاء نقية، فإذا كان ذلك تشققت السموات، قال الله جل وعلا: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنزِيلًا} [الفرقان:25]، فإذا رأى الكفار تشقق السماء وتنزل الملائكة أحاط بهم الخوف، فإذا أحاط بهم الخوف فروا، فإذا فروا ورأوا الملائكة على الجانبين رجعوا على ما هم عليه. فالله يقول هنا: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنفُذُوا} [الرحمن:33] أي: أن تخترقوا، {مِنْ أَقْطَارِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُوا} [الرحمن:33] أي: الأمر متروك لكم إن كانت لديكم قدرة على ذلك. ثم قال جل وعلا: {لا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ} [الرحمن:33] أي: بقوة وقدرة تغلبون بها قهرنا وقدرتنا، ومعلوم أن هذا من تعليق الأمر بالمحال؛ لأنه لا أحد له قدرة على الله، ودليل هذا التفسير قول الله جل وعلا على لسان العبد الصالح مؤمن آل فرعون: {وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ * يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ} [غافر:32 - 33]، متى يولون مدبرين؟ في يوم التناد، {مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [غافر:33]، فهذا من شواهد تفسير الآية كما قلناه. إذاً: فهذا من تعليق الأمر بالمحال.

تفسير قوله تعالى: (فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان)

تفسير قوله تعالى: (فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان) قال الله جل وعلا: {فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنسٌ وَلا جَانٌّ} [الرحمن:39]. وهنا يرد إشكال لطالب العلم ولمن يقرأ القرآن وهو أن الله قال في هذه السورة: {فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنسٌ وَلا جَانٌّ} [الرحمن:39]، وقال تبارك وتعالى في سورة أخرى: {وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} [القصص:78]، فنفى تبارك وتعالى هنا السؤال، وأثبته في مواطن أخرى، فقال الله جل وعلا: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} [الأعراف:6]، وقال جل وعلا: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ} [الصافات:24]. وهذا وارد كثيراً في القرآن، قال الله تعالى: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ} [التكوير:8]، والجواب عن هذا علمياً أن يقال: قال بعض العلماء: إن القيامة مواطن ومواقف متعددة، فموطن يسأل فيه وآخر لا يسأل، وهذا وإن قال به بعض العلماء الأجلاء إلا أنه في ظننا بعيد. والصواب -إن شاء الله- أن يقال: إن السؤال قسمان: قسم أثبته الله، وقسم نفاه الله. فالقسم الذي أثبته الله هو سؤال التقريع والتوبيخ، أي: أن يسألوا لم فعلتم هذا؟ وأما السؤال المنفي في قوله تعالى: {فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنسٌ وَلا جَانٌّ} [الرحمن:39] فهو سؤال الاستعلام والاستفهام، أي: لا يسأل الناس: هل فعلتم أم لم تفعلوا؛ لأن الله أعلم بما فعل الناس من أنفسهم، قال الله عز وجل: {أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ} [المجادلة:6]. إذاً: تحرر من هذا أن هناك سؤالاً منفياً وسؤالاً مثبتاً، وقد يأتي على هذا الإشكال إشكال آخر، وهو أن يقال: إذا كان السؤال المثبت هو سؤال التقريع والتوبيخ، فكيف يسأل المرسلون؟ وكيف تسأل الموءودة؟ فالجواب عن هذا أن يقال: إن سؤال الموءودة تقريع وتوبيخ لقاتلها، وسؤال الرسل تقريع وتوبيخ لأممهم الذين كذبوا بهم، وبهذا يجتمع ما جاء في القرآن من نفي السؤال وما جاء في القرآن من إثباته.

تفسير قوله تعالى: (يعرف المجرمون بسيماهم)

تفسير قوله تعالى: (يعرف المجرمون بسيماهم) قال الله جل وعلا بعد ذلك عن المجرمين: {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأَقْدَامِ} [الرحمن:41]. أي: يعرفون بعلامات المجرمين ومنها زرقة العيون، كما قال الله جل وعلا: {وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا} [طه:102]، وهذا عند البلاغيين إيجاز حذف، ومعنى الآية: {وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ} [طه:102] أي: أعينهم زرق، وهو كقول الله جل وعلا: {وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً} [الإسراء:59]، فليس المقصود: أن الناقة ترى وتبصر، لكن المقصود والمعنى: وآتينا ثمود الناقة آية مبصرة، أي: آية واضحة، وهذا بعض ما يعرف به المجرمون. وأما المؤمنون فيعرفون بأثر الوضوء، أي: بالغر والتحجيل الناجم عن أثر الوضوء، وأنا أقول: بعض ما يعرف به الكفار وبعض ما يعرف به المؤمنون؛ لأن الآيات لم تأت على سبيل الحصر.

تفسير قوله تعالى: (ولمن خاف مقام ربه جنتان)

تفسير قوله تعالى: (ولمن خاف مقام ربه جنتان) قال الله جل وعلا: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:46 - 47]، وهذه الآية مر معنا بعض تفسيرها لكن نفسرها إجمالاً: ذكر الله هنا أربع جنان وجعلهما قسمين، فقال في الأولى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن:46]، ثم قال بعدها: {وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ} [الرحمن:62]، وهنا من دونهما يعني: أقل منهما، وليس في الجنة أقل، فيقال: أقل منهما ثم يقال تأدباً: وليس في الجنة أقل. ثم قال عن الأولى: {ذَوَاتَا أَفْنَانٍ} [الرحمن:48]، وقال عن الثانية: {مُدْهَامَّتَانِ} [الرحمن:64] أي: أنهما خضراوان تميلان إلى السواد، وأما {ذَوَاتَا أَفْنَانٍ} [الرحمن:48] فمعناها: أنهما متنوعتا الأفانين، والأفضل هي المتنوعة. ثم قال جل وعلا في الأولى: {فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ} [الرحمن:50]، وقال في الثانية: {فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ} [الرحمن:66]، وجري الماء أعظم من كونه ينضخ ويفور شيئاً يسيراً. وقال في الأولى: {فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ} [الرحمن:52]، وقال في الثانية جل وعلا: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} [الرحمن:68]، ففي الأولى أطلق وفي الثانية قيد. وقال جل وعلا في الثانية: {فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ} [الرحمن:70]، وقال في الأولى: {مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ} [الرحمن:54]، والجنى هو الثمار، وجان بمعنى: قريب، بحيث إن الإنسان لا يتكلف أي كلفة حتى يصل إليها، بل ورد أنه إذا قطفها جاءت أختها بدلاً منها، فلا يدري أهو قطفها أو لا، قال الله جل وعلا: {كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:25].

تفسير قوله تعالى: (فيهن قاصرات الطرف)

تفسير قوله تعالى: (فيهن قاصرات الطرف) ثم ذكر الله بعض ما من به على أهل الجنة فقال: {فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ} [الرحمن:56]. قوله تعالى: {فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ} [الرحمن:56]، فأفضل خصلة في المرأة أن يكون طرفها مقصوراً على زوجها، فلا تتشوف إلى غيره من الرجال، وهذه أعظم خصلة في النساء، ولأنها أعظم خصلة في النساء فإنها يحبها الأزواج جميعاً، وجعلها الله جل وعلا أول نعت للحور العين فقال: {فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ} [الرحمن:56] أي: تقصر طرفها وعينها ورؤيتها وتشوفها على زوجها فقط، ولا تتعداه إلى غيره. وقوله تعالى: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ} [الرحمن:56] فيه إشارة واضحة إلى أن مؤمني الجن يدخلون الجنة. وفي الآية تحذير لما وقع فيه بعض النساء اليوم -عياذاً بالله- من كثرة النظر الناجم عن كثرة الخروج، إما نظر إلى الشاشات إذا كن بالبيوت، أو نظر إلى الرجال إذا كن في الأسواق، أو في دور الملاهي وما شابه ذلك، فهذا إثم ومعصية، وفي نفس الوقت هو منقصة في المرأة في حيائها وفي دينها، ومنقصة في تشوف الرجال إليها. فإن الرجل الحر الأبي عادة لا يمكن أن يتعلق قلبه بامرأة فيها هذا الوصف، ولو وافقها في زمن غفلته فإنه لا يمكن أن يقبلها في زمن أوبته ويقظته وإدراكه، وهذا ظاهر لكل من يعقل العلاقة بين الرجال والنساء. ثم قال جل وعلا في الأولى: {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ} [الرحمن:60]. وهذه من قواعد القرآن، وقد أفرد لها العلامة ابن سعدي قاعدة خاصة في كتابه القواعد الحسان في فهم القرآن، وهو أن القرآن قد دل على أن الجزاء من جنس العمل. وفسر الإحسان هنا بأنه: لا إله إلا الله، وفسر بأنه كل عمل صالح، والأفضل أن يفسر بأن المقصود به الإيمان والعمل الصالح، فجزاؤه الإحسان من الله، وأعظم إحسان من الله هو الجنة، وأعظم ما في الجنة رؤية وجه رب العالمين تبارك وتعالى. ثم ختم الله جل وعلا هذه السورة الكريمة بقوله: {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:78]، وقد مر معنا أن (تبارك) فعل جامد لا يتصرف، فلا يأتي منه مضارع ولا أمر، وأعظم ما فيه أنه لا يقال لغير الله، فلا يقال لأحد غير الله: (تبارك) كائناً من كان، فهو من الأفعال الخاصة بالتعامل بالنعت به للرب العظيم جل جلاه. ثم قال تعالى: {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:78]، فبدأها الله باسم عظيم وهو: {الرَّحْمَنُ} [الرحمن:1]، وختمها بوصف عظيم وهو: {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:78]. هذا ما تيسر إيراده، وتهيأ إعداده، سائلين الله جل وعلا أن يرزقنا وإياكم العمل بما نقول. والحمد لله رب العالمين.

تأملات في سورة الجن

سلسلة تأملات قرآنية - تأملات في سورة الجن في سورة الجن تقرير عظيم لحقيقة التوحيد العظيمة، حيث أنطق الله تعالى الجن بعد سماعهم آيات القرآن بتوحيده وإعلانهم تركهم الشرك به تعالى، وبيانهم ما كانوا عليه من الضلال في اتباع سفهائهم فيما يقولونه على الله تعالى، كما قرر الله تعالى ذلك بإعلان رسوله حفظ الله تعالى له وحمايته من السوء والأذى، وبيان حقه تعالى في أن يعظم في المساجد، فلا يدعى معه فيها غيره ولا يشرك به سواه.

تفسير قوله تعالى: (قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن)

تفسير قوله تعالى: (قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن)

ذكر حادثة نزول الآيات الأول من سورة الجن

ذكر حادثة نزول الآيات الأول من سورة الجن الحمد لله الذي خلق خلقه أطواراً، وصرفهم كيف ما شاء عزة واقتداراً. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لا رب غيره ولا إله سواه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع هداه. أما بعد: فإن الكاتب في مثل هذه الدروس العلمية يتنازعه في الغالب أمران: الأمر الأول: الجنوح إلى الوعظ. الأمر الثاني: الإبقاء على نفعية الدرس العلمي. وتفصيلاً للقول يقال: إنه لا يمكن التفريق التام والانفكاك بين الوعظ والعلم؛ لأنه لا يحسن أن يعظ الناس من ليس بعالم، وإذا كان الدرس العلمي يغلب عليه الوعظ الذي يخاطب به معشر العصاة غالباً فهذا يحرم طالب العلم من النتف العلمية، والفوائد التي جاء من أجلها في المقام الأول. وسنشرع بإذن الله تعالى في تفسير سورة الجن، فنقول مستعينين بالله تعالى: قال الله تعالى: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا * وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَدًا} [الجن:1 - 3]. جمهور المفسرين على أن سورة الجن سورة مكية، نزلت بعد سورة الأعراف. ومما يذكر في نزولها أن نبينا صلى الله عليه وسلم خرج إلى الطائف، فنزلت في منقلبه عليه الصلاة والسلام من الطائف، وهذا هو الأظهر. وقيل إنه صلى الله عليه وسلم خارج عامداً مع نفر من أصحابه إلى سوق عكاظ، فصلى صلى الله عليه وسلم الفجر أو قام الليل، وأياً كان الأمر فإنه كان يقرأ القرآن، وكانت الجن من قبل لها مقاعد في السماء، من خلال هذه المقاعد تسترق السمع، فتسمع الكلمة من الحق فتزيدها من الباطل أضعافاً مضاعفة، ثم تلقيها إلى الكهنة من الأنس، فهذا نوع من التعامل بين الجن وكهنة الأنس. فتعود الجن على هذا، وكانوا يرجمون رجماً يسيراً، كما قال الله جل وعلا في سورة تبارك عن النجوم: {رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ} [الملك:5]، فكانوا يسترقون السمع فينالون حظاً فيعطونه الكهنة، فبينما هم في أيام بعثته الأولى صلى الله عليه وسلم يسترقون السمع وجدوا أنه قد حيل بينهم وبين خبر السماء، فعلموا فطنةً أن هناك شيئاً وقع أو سيقع، فأخذوا يتساءلون، ثم انقسموا إلى فرق، فذهبت كل فرقة تبحث عن السبب الذي من أجله حيل بينهم وبين خبر السماء. فذهبت فرقة منهم إلى وادي نخلة فسمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ القرآن، فاستمعوا إليه صلى الله عليه وسلم، فلما استمعوا إليه كتب الله لهم الإيمان باستماعهم لقراءة نبينا صلوات الله وسلامه عليه، حيث وقع القرآن في قلوبهم موقعاً عظيماً، وهذا يدل على عظمة القرآن؛ إذ الجن الذين خلقوا من نار السموم تفطرت قلوبهم لما سمعوا كلام رب العزة جل جلاله. وأجمل شيء أنهم سمعوه من في رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاجتمعت حلاوة التلاوة مع عظمة التنزيل، فلما قدموا إليه اجتمعوا ينادي بعضاهم بعضاً -في أظهر الأقوال- ليستمعوا القرآن من النبي صلى الله عليه وسلم.

دعوة الجن قومهم إلى التوحيد والإسلام

دعوة الجن قومهم إلى التوحيد والإسلام فلما فرغ عليه الصلاة والسلام من القراءة انصرفوا يدعون قومهم إلى دعوة نبينا عليه الصلاة والسلام، وهذا ما قاله الله في سورة الأحقاف: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ * يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ} [الأحقاف:29 - 31]. فهؤلاء مؤمنوا الجن الذين سمعوا القرآن من النبي صلى الله عليه وسلم، وقد حدث هذا كله والنبي صلى الله عليه وسلم -على ما تدل عليه ظاهر الآية- لم يرهم، وهو عليه الصلاة والسلام بشر لا يعلم الغيب، فأوحى الله إليه بعد انصرافهم أن الجن استمعت إليه، وهذا الوحي من الله جاء مرتين: المرة الأولى في قوله جل وعلا: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ} [الأحقاف:29]. والمرة الثانية في قوله تبارك وتعالى: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا} [الجن:1]، فهذا مدخل لمفهوم سورة الجن، وهذا هو أصل القصة ومبناها، ومعنى قول ربنا تبارك وتعالى: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ} [الأحقاف:29].

فوائد من نزول سورة الجن

فوائد من نزول سورة الجن وفي ذلك جملة من الفوائد: الفائدة الأولى: أن الجن موجودون، وهذا رد على كل من أنكر وجود الجن من الملاحدة أو بعض الفلاسفة، والدليل على وجودهم ظاهر بين، فقد حكى الله جل وعلا عنهم أنهم يستمعون القرآن، وأن الله تعالى صرفهم لاستماع القرآن إلى نبينا صلى الله عليه وسلم، وأن الله خاطبهم بالقرآن في قوله تعالى: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:13]. الفائدة الثانية: حفظ الله لوحي نبيه صلوات الله وسلامه عليه، فإن هذا الوحي الذي أنزل على خير نبي صلوات الله وسلامه عليه كان من إرهاصاته العظمى أن مقاعد الجن التي كانت لهم في السماء قد حبسوا عنها وحيل بينهم وبينها، حيث قالت الجن: {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا} [الجن:9]. فقولهم: {يَسْتَمِعِ الآنَ} [الجن:9] يدل على أن الوقتين متغايران، ففي الوقت الأول كان بإمكانهم أن يسمعوا، أما بعد بعثته صلى الله عليه وسلم فقد حيل بينهم وبين السماء، كما قال تعالى عنهم: {فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا} [الجن:9]، وهذا من عناية الله تبارك وتعالى برسولنا صلوات الله وسلامه عليه. الفائدة الثالثة: دلت السورة جملة على أن الجن منهم مؤمنون ومنهم كفار، ودليلها من السورة نفسها، وهو أنهم قالوا: {وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا} [الجن:11]. وكلمة (طريق) إذا جمعتها وأنت تقصد الطريق المعبد الذي تمشي عليه فإنك تجمعها على (طرق)، وإن جمعتها وأنت تقصد الطريق المعنوي، كطريق الخير وطريق الشر، وطريق الهدى وطريق الضلالة -فإنك تجمعها على (طرائق). وهنا قالت الجن: {كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا} [الجن:11] أي: كنا جماعات وأهواء وأحزاباً وفرقاً ومللاً ونحلاً متفرقة، ولا يسلم منها إلا فرقة واحدة، وهي التي أرادت الحق، كما قال تعالى عنهم: (وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ). وكل أمة فيها الصالحون وفيها غير صالحين، فتتفاوت أحوالهم ودرجاتهم ومكانهم عند الرب تبارك وتعالى. الفائدة الرابعة: أن الجن يسمون جناً لاستتارهم، بمعنى أنهم لا يرون بالعين، والجذر اللغوي لكلمة (جن) يدل على الاستتار، ولذلك يسمى الطفل في بطن أمه جنيناً، وسميت جنة عدن -أدخلنا الله وإياكم إياها- بذلك لأنا لم نرها، قال الله عن خليله إبراهيم: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا} [الأنعام:76] يعني: أظلم عليه الليل ولم يعد يرى. فالجن مأخوذ اسمهم من هذه المادة؛ لأنهم لا يرون بالعين بقدرة الله، كما قال تعالى عن الشيطان: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف:27].

تسمية الجن عند العرب وبيان وجودهم قبل الآدميين

تسمية الجن عند العرب وبيان وجودهم قبل الآدميين وقد اتفق على أن الجن مخلوقون من نار، واختلف في أيهما أقدم خلقاً الجن أم الإنس؟ والصحيح أنهم الجن بنص القرآن، حيث قال تعالى: {وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ} [الحجر:27] أي: من قبل خلقكم. فلما قطعت الإضافة بنيت (قبلُ) على الضم. والعرب في لسانها تسمي الجني بخمسة أسماء، فإذا كانوا يقصدون أصل الخلقة يقولون: جني، فإذا كان مما يسكن البيوت فإنهم يسمونه عامراً، ويجمع على (عمار)، وإذا كان مما يتعرض للصبيان ويفزعهم فإنهم يسمونه أرواحاً، وإذا كان ذا قوة وخبث وتمرد فإنهم يسمونه شيطاناً، فإذا زادت قوته وتمرده فإنهم يسمونه عفريتاً، قال ذلك الإمام ابن عبد البر رحمه الله تعالى. وابن عبد البر إمام مالكي شهير، وهو من أكثر علماء الأمة قدراً، وله كتابان في العلم شهيران جداً: الأول: التمهيد، والثاني: الاستيعاب، وله الاستذكار، فرحمه الله تعالى. فالعماد منهم يسكنون البيوت، وقد جاء في موطأ مالك بسند صحيح أن رجلاً من الصحابة كان حديث عهد بعرس، فخرج مع النبي صلى الله عليه وسلم في الخندق، فكان يستأذن النبي عليه الصلاة والسلام ليرجع إلى بيته، ولا يرابط في الخندق؛ لأنه حديث عهد بعرس. وفي ذات مرة استأذن فرجع، فوجد زوجته خارج البيت، فأصابته الغيرة فسل السيف، فأشارت إليه أن: ادخل الدار. فلما دخل الدار وجد حية عظيمة قد التفت على فراشه، فأخرج رمحاً أو سيفاً فضربها به، قال أبو سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه راوي الحديث، فلا يدرى أيهما أسبق موتاً؟ أي: ماتت الحية التي قتلها ومات الشاب في نفس الوقت، فلما علم صلى الله عليه وسلم قال: (إن في المدينة عماراً)، أي: إخواناً لكم من الجن يعمرونها، وشرع لهم صلى الله عليه وسلم التحريج، أي: أن يحرج على الجني إذا وجده في البيت أو غلب على الظن وجوده، فيحرج عليه أن يخرج ثلاثاً، ثم بعد ذلك إن لم يخرج فإن له قتله.

أصل الجن وأصل إبليس

أصل الجن وأصل إبليس واختلف العلماء في أصل الجن، فالأكثرون -واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله- على أن الجن من نسل إبليس. وإبليس نفسه اختلف فيه هل هو من الملائكة أم هو من الجن؟ والقرآن يدل صراحة على أنه من الجن، قال الله تعالى في سورة الكهف: {إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا} [الكهف:50]. والذين قالوا: إنه من الملائكة يخرجون قول الله جل وعلا: ((إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ)) على أن المراد بالجن هنا الملائكة. ولهم دليل على أن الجن يراد بهم الملائكة، وهذا هو العلم؛ إذ المعلوم ثلاثة أقسام: محكم، ومنزل، ومؤول، ومضمار العلماء الذين يجرون فيه هو المؤول. فقوله تعالى: ((إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ))، قلنا فيه: إن الجن بمعنى الاستتار، وهؤلاء قالوا: إن الجن هنا المقصود بهم الملائكة، أي: كان من الملائكة. والدليل على أن كلمة الجن تطلق على الملائكة قوله تعالى: {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ} [الصافات:158] والجنة هنا هم الملائكة؛ لأن الكفار ما قالوا: إن بين الله وبين الجن الأرضيين نسبة، وإنما ادعوا النسبة للملائكة، فنسبوا لله البنات، فقالوا: إن الملائكة بنات الله. فالنسبة التي ادعاها الكفار هي أنهم نسبوا الملائكة بأنهم بنات الله، كما قال تعالى: {لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الأُنْثَى} [النجم:27].

إرشاد لطالب العلم في التأني في الحكم على الأقوال

إرشاد لطالب العلم في التأني في الحكم على الأقوال وإنما أوردت هذا لتتأنى، حتى إذا سمعت قولاً لأحد العلماء لم تسارع في ذمه حتى تعلم دليله، ولا تستعجل في الحكم؛ إذ يظهر لك العلم من وجه، ويظهر للعالم من وجه آخر، وهذا الذي ينبغي لطالب العلم أن يعرفه. وفي ذلك يروى أن أبا حنيفة رحمه الله كان له تلاميذ، فكان في كل فترة يعطي أحد التلاميذ إذناً بأن يدرس، فيقول: قم يا فلان فدرس. وكان له تلميذ من أنجب طلابه، وهو أبو يوسف قاضي القضاة رحمه الله، يوسف فكان أبو يوسف يجلس في الحلقة وهو أفضل ممن يأذن لهم أبو حنيفة، فكان يتعجب من الإمام حين يأذن لغيره أن يدرس ولا يأذن له. وفي ذات مرة مرض أبو يوسف، فزاره أبو حنيفة في بيته، فوافقت زيارة أبي حنيفة شدة مرض أبي يوسف، فظن أبو حنيفة أن أبا يوسف سيموت، فلما خرج قال للطلاب: لئن مات أبو يوسف ليفقدن العلم أحد رجالاته، والله لقد كنت أعده للناس من بعدي. فرجع الطلاب يجرون جبلة إلى أبي يوسف فقالوا: الإمام قال وقال وقال، فطاب بذلك أبو يوسف، فجلس أبو حنيفة في الحلقة يوماً فقال: ما فعل الله بـ أبي يوسف؟ فقالوا: لقد برئ. فقال: أين هو؟ فقالوا: أقام حلقة للعلم. وذلك لأن الإمام قال: إنني أعده للناس من بعدي. وجلس يدرس. وهنا أراد أبو حنيفة أن يؤدبه، ويبين له العلم، فقال أبو حنيفة لأحد الطلاب اذهب إلى أبي يوسف وقل له: إن رجلاً أخذ ثوبه وأعطاه الغسال ليغسله له، فلما رجع ليأخذ الثوب أنكر الغسال أنه أخذ ثوباً، ولم يكن عند صاحب الثوب دليل، فذهب ثم إن الغسال بعد فترة تاب، فأراد أن يرد الثوب لصاحبه، وقد غسّله، فهل له أجرة أم ليس له أجرة؟ وقال للطالب الذي بعثه: إن قال لك: له أجرة فقل له: أخطأت، وإن قال: ليس له أجرة فقل له: أخطأت. فخرج الرجل وذهب إلى أبي يوسف فجلس في الحلقة، فلما انتهى الدرس بدأ بالأسئلة، فقام الطالب ورفع يده وقال السؤال، فتفكر أبو يوسف رحمه الله قليلاً ثم قال: ليس له أجرة فقال: أخطأت، فتفكر مرة أخرى ثم قال: نعم له أجرة، فقال الطالب: أخطأت، ورجع، فلما خرج فطن أبو يوسف أن الذي بعثه أبو حنيفة، فرجع وجلس في الحلقة مرة ثانية، فبدأ أبو حنيفة بالدرس ثم نظر إليه وقال: يا أبا يوسف! أعادتك إلينا مسألة الغسال؟! ثم قال له: كان ينبغي لك أن تسأل من سألك، فإن كان الغسال سرق الثوب قبل أن يغسله فليس له أجرة؛ لأنه عندما غسله غسله لنفسه، وإن كان غسل الثوب، ثم بعد أن غسله نظر إليه فأعجبه فنوى سرقته فله أجرة؛ لأنه غسله لصاحب الثوب. ثم قال رحمه الله: شاب لا يحسن مسألة في الإجارة يريد أن يجلس ليعلم المسلمين! والمقصود من هذا أنك لا تدري حجة من قال، ولذلك قال العلماء: كلما كان الإنسان أكثر علماً كان أقل إنكاراً؛ لأنه يعرف أن للمسألة عدة أوجه، فيقل إنكاره على الناس، أما الذي لا يعرف إلا شيئاً واحداً فإنه ينكر كل شيء يراه، وأنا لا أتكلم فيما اتفق العلماء على أنه منكر، بل أتكلم في المسائل التي يخوض فيها الناس.

بيان معنى قوله تعالى (وأنه تعالى جد ربنا)

بيان معنى قوله تعالى (وأنه تعالى جد ربنا) قال تعالى: {وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَدًا} [الجن:3] الجد هنا بمعنى الجلال والعظمة، وهو أحد معانيها، ومن معاني الجد الحظ والغنى، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: (ولا ينفع ذا الجد منك الجد)، يعني: ولا ينفع ذا الحظ العظيم منك الحظ؛ لأن الأمور بين الله وبين عباده بحسب الأعمال الصالحة.

بيان قول السفهاء من الجن على الله تصديق الآخرين لهم

بيان قول السفهاء من الجن على الله تصديق الآخرين لهم وقول الله جل وعلا: {وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا} [الجن:4] أي: أن الجن تقول: إن السفهاء منا كانوا يقولون جوراً على الله. وقوله تعالى: {وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} [الجن:5] معناه أن هؤلاء المؤمنين من الجن يقولون: كنا نصدق من يقول: إن لله صاحبه وولداً، فلما سمعنا القرآن من محمد صلى الله عليه وسلم تبين لنا ضلال قومنا، ولكن الذي جعلنا نتبعهم هو أننا لم نكن نتوقع أن يتجرأ أحد على الله، وهذا معنى قولهم: {وَأَنَّا ظَنَنَّا} [الجن:5] والظن بمعنى العلم. {أَنْ لَنْ تَقُولَ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} [الجن:5].

بيان معنى قوله تعالى (وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن)

بيان معنى قوله تعالى (وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن) وقولهم: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} [الجن:6] أي: اجتراء وطغياناً؛ لأن بعض الإنس من العرب كانوا يستغيثون بزعماء الجن، فأكبر ذلك في أنفس الجن وتعاظموا، وزادوا طغياناً على ما هم فيه، وهو أظهر الأقوال في الآية.

تفسير قوله تعالى: (وأن المساجد لله)

تفسير قوله تعالى: (وأن المساجد لله)

بيان المراد بإضافة المساجد إلى الله وإضافتها إلى غيره

بيان المراد بإضافة المساجد إلى الله وإضافتها إلى غيره وقد دلت السورة كذلك على أن المساجد لله، حيث قال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن:18]، ومن اليقين أن هذه الآية من كلام الله، وليست من كلام الجن. وهنا مسألة، وهي أنه لو قال لك قائل: ما اسم هذا المسجد، فقلت له: اسمه مسجد فلان، فقال لك: كيف والله يقول: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ} [الجن:18] وأنت تقول: مسجد فلان؟ والجواب أن يقال: إن المساجد تضاف إلى لله تشريفاً، وتضاف إلى غيره تعريفاً، والدليل من السنة على أن المساجد تضاف إلى غير الله قوله صلى الله عليه وسلم: (وصلاة في مسجدي هذا)، وقوله: (من أتى مسجد قباء)، وفي الصحيح أنه أجرى الخيل من ثنية الوداع إلى مسجد بني زريق. فهذا كله أدلة على أن المساجد تضاف إلى غير الله، ولكن تضاف إلى الله تشريفاً، وتضاف إلى غير الله تعريفاً. وقد ذكروا أن هارون الرشيد الخليفة العباسي المعروف غضب يوماً على أحد حرسه أو أحد خدمه، فأقسم بالله على أن امرأته طالق إن بات هذا الرجل في ملكه، وخلافة هارون الرشيد كانت خلافة عامرة، فكل البلاد الإسلامية تبع لـ هارون الرشيد، فسأل أحد العلماء: أين يبيت هذا وأنا قد حلفت على أنه لا يبيت الليلة في ملكي، وأنا أملك من المشرق إلى المغرب، فأشار إليه بأن يبيت الرجل في المسجد؛ لأن الله يقول: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن:18].

حكم القبر الكائن في المسجد

حكم القبر الكائن في المسجد وهنا مسألة، وهي وجود القبور داخل المساجد، فقد قال عليه الصلاة والسلام: (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)، والواقع أنه إما أن يبنى القبر أولاً ثم يبنى عليه المسجد، وإما أن يبنى المسجد ثم يُدخل فيه القبر، وإما أن يبنى المسجد دون أن يوجد فيه قبر، ولكن يصل بتوسعته إلى القبر. فإذا بني القبر أولاً فلا يجوز بأي حال من الأحوال بناء مسجد عليه، فإن بني مسجد عليه فإنه لا تجوز الصلاة فيه؛ لأن الأصل أنه قبر. وإن بني المسجد ثم وضع فيه القبر فهذا يختلف بحسب القدرة، فإن كنت تقدر على إزالة القبر بحسب جاهك فإنه يجب أن يزال القبر، وإن كنت لا تقدر فإن الصلاة تجوز، وتركها أولى. وإذا كان هناك مسجد وسع حتى وصل إلى قبر، فلاُ يدخل في المسجد دخولاً كلياً، ولكن يبقى محجوزاً، كحال قبر نبينا صلى الله عليه وسلم في مسجده، ولا شك في أن الصلاة في مسجده لا يقول عنها مؤمن: إنها لا تجوز، وقد أدخلت حجرات أمهات المؤمنين في عهد الوليد بن عبد الملك حين كان عامله على المدينة عمر بن عبد العزيز.

تعظيم المساجد بالتوحيد

تعظيم المساجد بالتوحيد والمساجد مكان تعظيم، ولا يعظم فيها إلا الله، فلا يجوز لأحد أن يجعل من المساجد طريقاً لتعظيم أحد كائناً من كان، ومن تعظيم الله فيها أن يقرأ القرآن ويقال الدعاء وذكر الله والصلاة في المقام الأول، وحضور الجمعة، وحضور الجماعات، فهذا هو المعنى الحرفي لقول الله تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن:18]. وقال عليه الصلاة والسلام: (لعن الله اليهود؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)، وقد شاع في الأمة -عياذاً بالله- اتخاذ بعض القبور مساجد، فتؤم وتقصد كما تؤم المساجد. فنحن نسمع في هذه الأيام بما يسمى بالنجف الأشرف، والنجف أرض خارجة عن الكوفة، الكوفة، وكانت الكوفة معقلاً لـ علي رضي الله تعالى عنه وأرضاه، حين ترك المدينة إلى الكوفة، وقتل علي رضي الله عنه شهيداً على يد عبد الرحمن بن ملجم المرادي في الكوفة. لا يوجد ثبت تاريخي يؤكد مكان دفن علي، ولكن من الروايات التي نُقلت أنه دفن بظاهر الكوفة، وهذا منقول عند أهل السنة، ولم يكن يعلم قبره رضي الله عنه وأرضاه مدة من الزمن. ثم: إن هارون الرشيد الخليفة العباسي -كما قيل- خرج للصيد، وكانت عاصمة هارون بغداد، وبغداد في العراق فك الله أسرها، فخرج هذا الخليفة -فيما يزعمون- حتى وصل إلى ظاهر الكوفة، وهناك اكتشف قبر علي بظاهر الكوفة في المنطقة التي تسمى النجف، فأخذ يتردد عليه ويزوره، ثم كان أحفاد علي رضي الله عنه من الأئمة عند الشيعة - مثل موسى الكاظم وجعفر الصادق - يدفنون غير بعيدين عنه، أي: في العراق. ثم مع الأيام جاءت دول فيها وزراء يتبنون المذهب الشيعي، فبني على القبر قبة، ثم بعد ذلك بني مسجد، ثم ما زال الأمر يتطور تاريخياً بحسب قوة نفوذ الشيعة، ثم بني بناء يحيط بالقبر أشبه بالبناء الذي بنته الدولة على الحرم المكي، فما بين الكعبة وبين المسجد يسمى صحن الكعبة، فأنت حين تذهب إلى مكة تقول: أريد أن أصلي في السطح، أو: أريد أن أصلي في الصحن. ويقصد بالصحن المسافة التي بين الكعبة وبين البناء. وهذا البناء لم يكن موجوداً في أيام النبي صلى الله عليه وسلم، ولا في عهد أبي بكر، وإنما بني في عهد عمر، وأول من أحاط المسجد بالبناء هو عمر رضي الله عنه. فالشيعة بنو على قبر علي مثل الحائط، وجعلوه على دورين، فجعلوا الدور الأعلى حوزة علمية يدرسون فيها، فأصبحت المساحة التي بين القبر نفسه وبين البناء أرضية صحن، فسموها بالصحن، ثم سميت بالصحن الحيدري نسبة إلى علي رضي الله عنه؛ لأن علياً من أسمائه حيدر، وهو القائل يوم خيبر: أنا الذي سمتني أمي حيدرة ليث غابات كريه المنظرة ثم جاءت كلمة الأشرف اعتقاداً منهم أن هذا المكان يشرف بوجود علي رضي الله تعالى عنه، فمع الأيام أصبح يسمى بالنجف الأشرف، وأقول هذا حتى تفقه الحال حين تسمع أخبارهم، بصرف النظر عما يكون، فالأمريكيون عدو ظاهر لا جدال فيه، فلا يفرقون بين سنة وشيعة، وليس هذا مجال الكلام، ولكن الذي أريد أن أقوله هو أن الأمة ينبغي عليها أن توحد ربها، ولا تعظم إلا خالقها، ولو قدر أن علياً رضي الله عنه وأرضاه وحشرنا وإياه مع نبينا صلى الله عليه وسلم قام من قبره؛ لكان أول من ينكر هذا الصنيع على قبره. وهذا مقصودنا من قول الله تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن:18].

تفسير قوله تعالى: (قل إني لن يجيرني من الله أحد)

تفسير قوله تعالى: (قل إني لن يجيرني من الله أحد) ثم قال الله تبارك وتعالى: {قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا} [الجن:22]. اختلف في سبب النزول، فقيل: إن جمعاً من الجن أو من أهل الإشراك قالوا لنبينا صلى الله عليه وسلم: اترك الدعوة ونحن نجيرك. فقال عليه الصلاة والسلام: {قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا * إِلَّا بَلاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ} [الجن:22 - 23]. ومعنى الآية: إنني إذا بلغت رسالة الله يجيرني الله، وقد بلغ النبي صلى الله عليه وسلم الأمانة وأداها على أكمل وجه، واستشهد أصحابه على هذا، فقال عليه الصلاة والسلام: (أما وإنكم ستسألون عني فما أنتم قائلون؟ فقالوا: نشد أنك قد بلغت الرسالة وأديت الأمانة).

نصائح وإرشادات للمرء المسلم

نصائح وإرشادات للمرء المسلم إنه لا نعمة أعظم من الهداية، ولا موقف أخوف من الوقوف بين يدي الرب تبارك وتعالى، ولا منصرف أعظم من الانصراف بين يدي الله فريق في الجنة وفريق في السعير، ولا زحام أمتع من الزحام على أبواب الجنة، ولا نعيم تقر به العين أعظم من نعيم الجنة، ولا عطاء أعظم من رؤية وجه الله تبارك وتعالى، وهذه كلها تتحقق إذا رحمك الله جل وعلا ويسر لك الأمر. وتحقيق هذه الرحمة بقول ربنا: {إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف:56]، وأعظم درجات الإحسان أن تعظم الله جل وعلا في قلبك تعظيماً جليلاً، ولا تجعل لله نداً كائناً من كان.

حفظ القلب من التعلق بغير الله

حفظ القلب من التعلق بغير الله ومعلوم أن مثلك لن يدعو غير الله فيما نحسب، ولكن قد يتعلق القلب بأحد تعلقاً يوازي تعلقه بالله، والعلماء يقولون: إن قلب المؤمن ينبغي أن يكون كالكعبة، فالكعبة لا تعلق فيها صور ولا أزلام، فكذلك قلب المؤمن ينبغي ألا يكون فيه إلا الله، أو ما كان داخلاً في محبة الرب تبارك وتعالى. وإن حفظ البصر من النظر إلى المحرمات من أعظم ما يمكن أن تصرف به القلوب إلى طاعة الله؛ لأن البصر إذا أدمن النظر -عياذاً بالله- تعلق بالصور والوجوه التي يراها، وقد يفتن بها إن كانت وجوه رجال أو كانت وجوه نساء. ومن التعلق بغير الله حب الإنسان للشهرة والظهور، ومنه حب الإنسان للمال، ومنه حب الإنسان للانتقام، ومنه حب الإنسان للشهوات وما أشبه ذلك. فهذه كلها صوارف تصرف القلب عن الرب تبارك وتعالى.

سلامة الصدر

سلامة الصدر ومما يثبت به قلبك على طريق الله ألا يكون في قلبك غل ولا حقد على مؤمن كائناً من كان {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:10]. ومن أخطأ من علماء الأمة -غفر الله لنا ولهم- فالتمس العذر، ولست ملزماً بأخذ قوله، فيرد عليه القول، ويبقى له إيمانه بربه تبارك وتعالى. وفي طلبك العلم لا تشتغل بالناس، ولا تشتغل بفلان ولا جماعة فلان ولا حزب فلان، {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ} [الحج:78]، فنحن مسلمون، ولا نريد اسماً زائداً على هذا الاسم بعد أن سمانا الله جل وعلا به، وكفى به فخراً. وقد أنكر النبي صلى الله عليه وسلم على المهاجرين والأنصار لما قال أحدهم: يا للمهاجرين، وقال الآخر: يا للأنصار، فقال عليه الصلاة والسلام: (أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم؟) مع أن (المهاجرين) و (الأنصار) اسمان قرآنيان، قال الله: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ} [التوبة:100].

لزوم جماعة المسلمين

لزوم جماعة المسلمين كما أن من سلامة الصدر ما ذكر عليه الصلاة والسلام في قوله: (ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم) وذكر منهن لزوم جماعة المسلمين والنصح لهم، فنحن -ولله الحمد- في بلاد آمنة مستقرة مطمئنة مباركة، والمنصف يعلم، ووالله الذي لا إله إلا هو لا نعلم بلاداً أكثر منها إيماناً، وأنا أتكلم من حيث الجملة لا من حيث الأفراد. ففيها -ولله الحمد- يحكم الشرع، وتقام الحدود، وفيها الحَرَمان، ويأتيها المسلمون من كل مكان، وبقاؤها مجتمعة الكلمة موحدة آمنة مطمئنة فيه خير لكل مسلم، ولا يريد هدم هذا الكيان وتوزيعه وتشتيته إلا شخص جاهل لا يعرف مصلحة المسلمين، أو حاقد لا يريد للمسلمين مصلحة. وليكن في قلبك الحب للحكام والعلماء والدعاة والأمراء والجيران والأهل والوالدين، كما كان نبينا صلى الله عليه وسلم في حياته مع أصحابه رضي الله عنهم، قال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159]، والكمال عزيز.

السعي في تزكية النفس

السعي في تزكية النفس كما أنه ينبغي عليك أن تسعى -أيها الأخ المبارك- في تزكية نفسك، فاجعل لنفسك حظاً من الليل تقوم فيه بين يدي ربك جل وعلا تتلو القرآن وتسمعه وتقرؤه، وتسجد لله، وتتوسل إلى الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلا، وليكن بينك وبين الله أعمال في السرائر لا يعلمها أحد كائناً من كان، تجعلها ذخراً لك بين يدي رب العالمين جل جلاله. فما أنت فيه طلبه النبي صلى الله عليه وسلم لعمه أبي طالب فلم ينله، وتمناه إبراهيم لأبيه فلم ينله، وتمناه نوح لأحد أبنائه فلم ينله، وكتبه الله جل وعلا لك، فقدم بك إلى بيت من بيوت الله تطلب فيه العلم، فلا تنشغل عن العلم بشيء آخر، فاسهر ليلك لتدوين المسائل، وقراءة القرآن، وحفظ المتون، ولا تنشغل بزيد وزيد أقل، وفلان أحبه وفلان أبغضه، بل اشغل نفسك بطاعة الله، وأكثر من الاستغفار، قال الله جل وعلا: {لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [النمل:46]، فأعظم ما يجلب الرحمة كثرة استغفار الله. ومن الرحمة أن توفق لطلب العلم والبلوغ فيه، ونفع الناس بعد ذلك إذا مكنت منه.

البر بالوالدين

البر بالوالدين وكن حريصاً على بر والديك، فلا ينال خير عند الله بشيء بعد الصلاة والشهادتين أعظم من بر الوالدين، ولن يدرك عاق من الله جل وعلا خيراً؛ فمن وصاك الله به فجعلته وراء ظهرك فلن يعطيك الله به خيراً أمامك، والله جل وعلا يقول: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [البقرة:83]، وقال: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا} [الإسراء:23]. وإن برك بأمك أو بأبيك خير لك من ألف محاضرة تحضرها؛ لأن ذلك أمر أوجبه الله، والمهم أن تحتسب العمل عند الرب تبارك وتعالى، وأن تحتسب الصنيع عند الله جل وعلا.

كثرة ذكر الله تعالى

كثرة ذكر الله تعالى ومما يقربك إلى الله تبارك وتعالى زلفى كثرة ذكره جل وعلا، ففي الحديث: (كلمتان خفيفتان على اللسان، حبيبتان إلى الرحمن، ثقيلتان في الميزان سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم). ولا تشمت بأحد كائناً من كان، فإن القلوب بين يدي الله يقلبها كيف يشاء، واسأل الله الثبات على الهداية، وقل: يا مقلب القلوب! ثبت قلبي على دينك.

النظر في أحوال المخذولين بالمعاصي

النظر في أحوال المخذولين بالمعاصي وانظر إلى رحمة الله بك، فكم في هذه الساعة من هو واقف على شواطئ العراة ينظر ميمنة وميسرة يملأ قلبه بسخط الله جل وعلا وغضبه. وكم في هذه اللحظة من هو عاكف في زاوية يتناول مخدراً أو يشم مسكراً أو يشرب ما حرم الله جل وعلا. وكم في هذه اللحظة من هو في بارات الشرق وحانات الغرب يزني. وكم في هذه اللحظة من هو واقف أمام الشاشات أو مع ساحات الانترنت يفعل من المعاصي ما الله به عليم. فهل تعتقد أن الله الحكم العدل يساوي بينهم وبين من ترك كل شيء وقدم إلى بيت من بيوته يلتمس علماً وأجراً من الله؟!

حاجة طريق الجنة إلى الصبر

حاجة طريق الجنة إلى الصبر فالصبر الصبر حتى تبلغ الجنة، وطريق الجنة عال صاعد يحتاج إلى جهد، ويحتاج إلى تواص بالحق، ويحتاج إلى صبر، ويحتاج إلى سلامة صدر، فلا تتكلم في أحد، وأحسن الظن بالمسلمين، وانشغل بذنوبك عن ذنوب الناس حتى تلقى الله جل وعلا وقد غفر ذنبك، وقبل توبتك، ورد عليك أمرك، وأعانك وأدخلك جنته. يقول الله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ * وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ * الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ} [فاطر:32 - 35]. اللهم إنا نسألك رضوانك والجنة، ونعوذ بك -ربنا- من سخطك والنار. اللهم اختم لنا بخير، واجعل مآلنا إلى خير، وعافنا -اللهم- من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

تأملات في سورة إبراهيم

سلسلة تأملات قرآنية _ تأملات في سورة إبراهيم مما يستوقف الإنسان عند قراءته لسورة إبراهيم عدة أمور: أولاً: الصراع بين الحق والباطل متمثلاً فيما حدث بين الرسل والأمم المكذبة، ثم عاقبة هذه الأمم في الدنيا والآخرة. ثانياً: أن الله عز وجل اتخذ إبراهيم خليلاً، وجعله إماماً للناس وأعطاه رشده من قبل، وجعل من مقامه مصلى، ومع ذلك فإبراهيم الخليل يخشى على نفسه وذريته من الشرك وعبادة الأصنام، فيدعو ربه أن يجنبه وذريته عبادة الأوثان والأنداد.

وقفة نحوية في أوائل سورة إبراهيم

وقفة نحوية في أوائل سورة إبراهيم إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ الله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشدا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمد عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فالسورة التي سنشرع إن شاء الله في التعليق على بعض آياتها هي سورة إبراهيم، وهي السورة التي تلي سورة الرعد. وقد مضى في تعليقنا على سورة الرعد بعض من الفوائد نذكر ببعض منها: قلنا: إن الله جل وعلا قال: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ * وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ} [الرعد:12 - 13]. وقلنا إن السحاب يحمل النقيضين: الماء والنار، وقلنا: إن في الماء الإحياء، وفي النار الإفناء، فالماء فيه غوث الناس إذا أجدبت الأرض، والصواعق -عياذاً بالله- فيها إفناؤهم. كما ذكرنا أنه لا نعلم عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث صحيح ينقل عنه فيما يقول الإنسان إذا رأى الرعد، أو سمع الرعد. والرعد لا يرى بخلاف البرق، والبرق لا يسمع بخلاف الرعد. لكن قلنا: إن هناك حديث موقوف على عبد الله بن الزبير رضي الله تعالى عنهما أنه كان يقول إذا سمع صوت الرعد: سبحان من يسبح الرعد بحمده. وقلنا: إن الأثر الموقوف على الصحابي أفضل من رأينا. إن سورة إبراهيم سميت باسم نبي من الأنبياء، بل سميت باسم شيخ الأنبياء وإمام الحنفاء كما سيأتي: وهذه السورة سورة مكية، وسنشرع فيها في بعض الوقفات إلا إن هناك وقفة نقولها من باب الاضطرار، ولا يمكن أن نتجاوزها، وهي في أول السورة، وتتعلق بالنحو. يقول الله جل وعلا: {الر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [إبراهيم:1]، وتنتهي الآية ثم يقول الله جل وعلا: {اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [إبراهيم:2]. فجاءت لفظ الجلالة مجرورة بالكسر، والناس جبلوا في الحديث أنهم يرفعون أول الكلام على أنه مبتدأ، لكن هذه الآية لفظ الجلالة فيها لا يعد على أنه أول الكلام، وإنما هو متعلق عموماً بما قبله، فيصبح الإعراب النحوي لقوله تعالى: {اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [إبراهيم:2]. أن لفظ الجلالة بدلاً من قوله جل وعلا: {الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [إبراهيم:1]. والبدل عند النحاة ينقسم إلى أقسام، منها بدل كل وهو هنا بدل كل، مثلاً تقول: قرأت عن سيرة أمير المؤمنين عمر، فـ عمر بدلاً من قولك أمير المؤمنين، فأمير المؤمنين هو عمر في هذا السياق، وعمر هو أمير المؤمنين، بدليل أنك لو حذفت أحدهما لم يتغير المعني، تقول قرأت عن سيرة أمير المؤمنين، أو تقول قرأت عن سيرة عمر. مثلها هنا تماماً قوله جل شأنه: {إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [إبراهيم:1 - 2]. فلو قلت في غير القرآن إلى صراط الله، صح المعنى، ولو قلت إلى صراط العزيز الحميد الذي له ما في السموات وما في الأرض صح المعنى، فالله هو العزيز الحميد، والعزيز الحميد هما إسمان من أسماء الله. وهناك نوع آخر يسمى بدل بعض، تقول مثلاً: أكلت الرغيف بعضه، فقولك بعضه تعرب بدلاً عن الرغيف، فالرغيف مفعول به منصوب، وبعضه كذلك بدل منصوب، يأخذ حكم المبدل منه، وإنما قصدت أنك لم تأكل الرغيف كله. وهناك نوع آخر يسمى بدل اشتمال، والفرق بينهما: أن بدل البعض شيء محسوس يمكن تجزئته، كما قلنا: أكلت الرغيف بعضه، قرأت الكتاب ثلثه، فثلث الكتاب يمكن تحديده. وبدل الاشتمال غالباً لا يمكن تحديده، ونظيره في القرآن قول الله جل وعلا: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ} [البقرة:217]. هم يسألون عن القتال في الشهر الحرام، فأصل الآية في غير القرآن: يسألونك عن القتال في الشهر الحرام، لأن القرشيين والمؤمنين يعرفون الشهر الحرام وأحكامه. وهذا يسمى بدل اشتمال، فأضحى البدل ثلاثة: بدل كل، وبدل بعض، وبدل اشتمال.

الصراع بين الرسل وأممهم

الصراع بين الرسل وأممهم السورة عموماً تتحدث عن التوحيد، كما هو الشأن في السور المكية، كما تتحدث عن الصراع بين الرسل وأممهم، وذكر الله في مقدمتها خبر نبيه موسى، وبعد أن ذكر الله ما دار بين الرسل والأمم جملة دون تفصيل. قال سبحانه: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ * وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ * وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ * مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ * يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ} [إبراهيم:13 - 17]. هذه الآيات تبين أن التهديد الواقع من الأمم لرسلهم كان يأخذ عدة سياقات، من أشهرها: أن الأمم كانت تهدد الرسل بالإخراج من الأرض، والحر الأبي لا يقبل أن يخرج من أرضه، ومن أصعب الأشياء على المرء أن يخرج اضطراراً من أرضه ووطنه، فهذا أمر لا تطيقه النفوس، قال الله جل وعلا: {وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا} [البقرة:246]. فذكر مصيبتين، الخروج من الديار، وترك الأبناء، وقدم مصيبة الخروج من الديار على مصيبة فقد الأبناء، وقال الله جل وعلا: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ} [النساء:66]. فجعل جل وعلا أمر الإنسان لغيره بأن يقتل نفسه كمثل أمره بأن يخرج من دياره، فالأمم تتوعد رسلها بأن تخرج من الديار كما قال الله عن قوم لوط أنهم قالوا للوط وآله: {أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ} [الأعراف:82]. فالنفي والنبذ أمر قاس على الإنسان الحر: {لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} [إبراهيم:13].

عاقبة الأمم المكذبة

عاقبة الأمم المكذبة هذا التهديد من الأمم كان لا بد أن يقابله ثبات من الرسل، والثبات من الرسل لا يمكن أن يأتي إلا بتثبيت من الله، فالصلة بينه وبين رسله الوحي، قال الله جل وعلا: {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ} [إبراهيم:13]، وكلمة ربهم تشعر بالعطف والحنان، وأنه تبارك وتعالى معين لهؤلاء الرسل، وأنه تبارك وتعالى يرعاهم ويتعهدهم، وهم صادقون بالتوكل عليه: {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ} [إبراهيم:13]. وهذا الوعد العام هنا: جاء مفصلاً في سور كثيرة، فقد ذكر الله قوم صالح، وقوم نوح، وقوم هود، وغيرهم من الأقوام، كيف أن الله جل وعلا نجاهم وأهلك القوم الضالمين: {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ} [إبراهيم:13]. وهذا وقع، وقع على وجه الإجمال، ووقع على وجه التفصيل: {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ * وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ} [إبراهيم:13 - 14]. ثم بين جل وعلا أن هذا الوعد إنما هو خاص بقوم معينين فقال جل وعلا: {ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ} [إبراهيم:14]. فأعظم ما يتم به النصر في الدنيا والآخرة الخوف من مقام الله، وما فاز من فاز من العباد الصالحين بسعادة الدنيا والآخرة إلا بالخوف من الله، والسعادة التي لا تظهر في مال أو في جاه أو في غير ذلك من متاع الدنيا إنما يشعرون بها في قلوبهم إذا وقفوا بين يدي الله في الصلوات وفي السجود وفي التسبيح وفي الذكر، وفي أي مكان وجدوا يشعرون بلذة الإيمان في قلوبهم. هذا الأمر إنما وجدوه لما وقر في قلبهم الخوف من مقام الله تبارك وتعالى. ورتب الله جلا وعلا على الخوف من مقامه أعظم الهبات، قال الله جل وعلا: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن:46]. وقال: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:40 - 41]. وتزكية الإنسان لنفسه ليست التزكية اللفظية التي معناها أن يمدح نفسه، بل معناها أن يعمل من الصالحات التي يشعر بها نفسه أنه يخاف من مقام الله جل وعلا، فإذا ذكر بالله تذكر، وإذا قيل له اتق الله تراجع، وإذا خوف بالله خاف. هذا هو الخوف من مقام الرب تبارك وتعالى، أما أن يقولها الإنسان بلسانه ثم يذكر بالله ويخوف به ويقال له: اتق الله فيصر على معصيته، ويمضي في سلوكه، ولا يعبأ ولا يبالي بشيء من الأمر، هذا لم يهب ولم يخف من مقام الله جل وعلا حق الخوف وحق الخشية: {ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ} [إبراهيم:14]. ثم قال جل وعلا: {وَاسْتَفْتَحُوا} [إبراهيم:15]. الألف والسين والتاء للطلب، تقول: استطعمتك فأطعمني، أي طلبت منك الطعام فأطعمني. فقوله: {وَاسْتَفْتَحُوا} [إبراهيم:15]. هذا يحتمل أمرين: إما أن يكون أن الرسل هم الذين استفتحوا، وهذا أقرب لسياق الآية. وإما أن تكون الأمم. فالرسل يكون استفتاحهم بأن يطلبوا النصر من الله، كقول نوح عليه الصلاة السلام: {رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ} [القمر:10] فهذا طلب النصرة من الله، والحالة الثانية -وقد وقعت كثيراً-: أن الأمم أنفسها تضجر بالأنبياء، وتمل وتستخف بمقام الله، فتطلب من الله جل وعلا الفصل، كما قال الله جل وعلا عن قريش: {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال:32]. فالمشهور أن الذي قالها هو أبو جهل قبل معركة بدر، حيث قال: اللهم أينا أقطع للرحم فأحنه الغداة، يستفتح بذلك عذاب الله، ولا يدري أن العذاب سيأتي إليه، وكقول ثمود لصالح: {ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [الأعراف:77] إلى غير ذلك. فالأمم تتعجل العذاب، وهذا استفتاحها، واستفتاح الرسل طلب النصرة من الله: {وَاسْتَفْتَحُوا} [إبراهيم:15]. قال الله: {وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} [إبراهيم:15] سواء طلب الكفار العذاب، أو طلب الرسل النصرة سيقع أمر الله، فإذا وقع أمر الله، فإنما يخسر أهل الكفر، قال الله تعالى: {وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} [إبراهيم:15]. جبار عنيد: كل ظالم جائر مكابر، غير متذكر من تذكير الله تبارك وتعالى له، ليس له إلا الخيبة في الدنيا والآخرة، وهذا قد يحصل حتى لأحد أهل المعاصي من الناس إذا أصر على معصيته. قال الماوردي في أدب الدنيا والدين، وحكاه عنه القرطبي في الجامع، ونسب بعض المفسرين إلى الوليد بن يزيد بن عبد الملك، وهو خليفة أموي أنه استفتح القرآن، وهذه عادة إلى اليوم موجودة في بعض البلدان العربية، فإذا أرادوا أن يسموا الولد يأخذ أحدهم المصحف، ويفتحه على غير شيء بين، فتظهر كلمة فيسمون بها الولد، فبعض الناس خاصة في تركيا يسمون بالطريقة هذه، وهذا يسمى نوع من الاستفتاح العملي. يقولون: إن الوليد لما آلت إليه الخلافة أراد أن يرى حضه، فأخذ المصحف واستفتح، ليرى أين حضه من الخلافة، فلما فتح المصحف جاءته هذه الآية: {وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} [إبراهيم:15]. فيقال -والعهدة على من روى- إنه مزق المصحف، وقال: أتوعد كل جبار عنيد فها أنذا جبار عنيد إذا ما جئت ربك يوم حشر فقل يا رب مزقني الوليد هذه القصة وإن اشتهرت، وإن كان في بعض خلفاء بني أمية من الفجور والفسق ما هو معروف لكن نقول يبعد عندنا جداً أن يفعلها مسلم، لكنني ذكرتها هنا عمداً حتى أبين الخطأ، وهذا خير من أن نسكت عنه فتأخذه من غيرنا دون أن تعرف أنه خطأ واضح. فنحن نستبعد أن يفعلها الوليد، أو يفعلها أي مسلم؛ لأن تمزيق المصحف كفر لا محالة، وأمة محمد أكرم على الله من أن يولي عليها كافر. وأن يكون الإمام المسئول عن بيضة المسلمين كافراً هذا لا يمكن أن يقع؛ لأن هذه الأمة كريمة على الله، وقد كانت بنو أمية هم بيضة الإسلام. قال: {وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ * مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ} [إبراهيم:15 - 16]. من ورائه جهنم يعني: أمامه جهنم، وهذا أمر يقوله العامة اليوم، وهي لغة صحيحة، فمثلاً يأتيك شخص يتسحر عندك في رمضان، وأنت حريص بكرمك على أن تطعمه، فرأيت هذا الضيف لا يأكل كثيراً، فأنت حتى ترغبه في الطعام، تقول له كل فإن وراءك ستة عشر ساعة صيام. ومعنى وراءك: أمامك. حتى اللغة دلت عليها، يقول لبيد: أليس ورائي إن تراخت منيتي لزوم العصا تحنى عليها الأصابع إن تراخت منيتي يعني: لم تأتني المنية ورائي. وقوله: تحنى عليه الأصابع يعني: يحدودب ظهري، وسأستخدم عصى، وأحني عليها أصابعي. فقصد بقوله: أليس ورائي. أن ليس أمامي، وقد جاء في القرآن وراء بمعنى أمام، وذلك في سورة الكهف، قال الله جل وعلا: {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} [الكهف:79]. أي أمامهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا، فالخضر كان يعلم أن في الطريق سيجدون ملك يأخذ كل سفينة غصباً، المقصود أن وراء تأتي بمعنى أمام، وهذا قول الجمهور. وقال بعض العلماء: إن وراء هنا بمعنى بعد، وهذا قريب جداً، وقد يكون الاختلاف لفظي. قال تعالى: {مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ} [إبراهيم:16]. وجهنم هي النار المعروفة، وهي التي أعدها الله جل وعلا لأهل معصيته، وقد نعتها الله بأن لها سبعة أبواب، وبعضها فوق بعض. وأما الجنة فإن أبوابها أفقية، بجوار بعضها البعض، والله أعلم. لكن نص القرآن على أن لجهنم سبعة أبواب في سورة الحجر، فالله يقول: {مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ} [إبراهيم:16]. قال تعالى: {يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ} [إبراهيم:17]. الإنسان إذا أكره على طعام أو شراب يشربه لا يخلو من أحد حالين: إما أن يرده قبل أن يشربه، يعني يمتنع أن يصل إلى جوفه، فيكون قد استراح منه. الحالة الثانية: أن ينتصر عليه، ويغمض عينيه -كما يقول العامة- ويشربه. ففي كلا الحالتين عذاب. فلا هو بالذي رده فاستراح منه، ولا هو بالذي شربه بقدرته فلم يؤثر فيه، وإنما كان كما قال الله: {يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ} [إبراهيم:17]. لما قال الله جل وعلا: {وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ} [إبراهيم:17] فهمنا أن قوله جل وعلا ويأتيه الموت معناه أسباب الموت، فكل ما جرت العادة عقلاً ونقلاً أنه يقتل، ويهلك ويميت لا يكون مميتاً يوم القيامة، لأنهم لو ماتوا لاستراحوا: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} [الزخرف:77]. لكن ليس لأهل جهنم راحة، فالله يقول: {يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ} [إبراهيم:17]. كل أسباب الموت العقلية والنقلية حاضرة ولا يحضر الموت، {وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ} [إبراهيم:17]. زيادة على هذا أعاذنا الله منها. هذا المقطع الأول الذي أردنا أن نتكلم عنه.

وقفات مع نبي الله إبراهيم الخليل

وقفات مع نبي الله إبراهيم الخليل المقطع الثاني: قال الله جل وعلا: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ * رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [إبراهيم:35 - 36] إلى آخر الآيات. هذه السورة سميت باسم خليل الله إبراهيم، وهنا يذكر الله جل وعلا عن هذا النبي الصالح أنه قال: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا} [إبراهيم:35]. أي بلد مكة، فالألف واللام هنا والعهد هنا ذهني؛ لأنه ليس قبله شيء، فتصبح في المعهود الذهني أن إبراهيم سكن مكة، فالمعهود بالبلد هنا مكة. قال بعض العلماء: إن إبراهيم يعتبر الأب الثالث للبشرية، وفي هذا القول نوع من التجاوز. هم يقولون: آدم ثم نوح ثم إبراهيم، لو قيل: إنه الأب الثالث للأنبياء لصح، لكنه الأب الثالث للبشرية وهذا لا يصح. هذا العبد الصالح أعطاه الله عظيم الهبات من أشهرها منزلة الخلة، قال الله جل وعلا: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} [النساء:125]. وهذه أرفع منزلة، ولا نعلم أن أحد معه فيها إلا نبينا صلى الله عليه وسلم. فخليل الله إذا أطلق يراد به إبراهيم، هذا أعظم ما وهبه الله جل وعلا خليله إبراهيم.

إبراهيم الخليل إمام الناس

إبراهيم الخليل إمام الناس الأمر الثاني: أن الله أعطاه الإمامة في الدين: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} [البقرة:124]. ولهذا نسبت الملة إليه، قال الله جل وعلا: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج:78]. أعطاه الله جل وعلا الإمامة بعد أن ابتلاه.

أعطاه الله رشده من قبل

أعطاه الله رشده من قبل الأمر الثالث: أن الله جل وعلا أعطاه رشده وفطرته وكمال عقله من صغره، قال الله جلا وعلا: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ} [الأنبياء:51].

مقام إبراهيم مصلى

مقام إبراهيم مصلى الأمر الرابع: وهذا خاص بعلاقته بهذه الأمة، أن الله جل وعلا جعل من مقامه مكاناً لماذا؟ للصلاة، فقال سبحانه: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة:125]. والمشهور عند المفسرين وغيرهم أن هذا الحجر، كان إبراهيم يرقى عليه، حتى يبني البيت، وكان ملتصقاً بالكعبة، ثم أخر في عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وأرضاه. النبي عليه الصلاة السلام طاف بالبيت سبعاً رمل ثلاثاً ومشى أربعاً، ثم لما جاء عند المقام: تلا الآية: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة:125]. وصلى صلوات الله وسلامه عليه عند المقام ركعتين، المسماة بركعتي الطواف. المقصود من هذا أن مما وهبه الله جل وعلا إبراهيم أن الله جل وعلا جعل من مقامه مكاناً للصلاة.

إبراهيم الخليل أول من يكسى يوم القيامة

إبراهيم الخليل أول من يكسى يوم القيامة ومما سيهبه الله في الآخرة أن الله جل وعلا يجعل إبراهيم أول من يكسى يوم القيامة: قال عليه الصلاة السلام: (إنكم ستحشرون حفاة عراة غرلاً، ثم تلا قول الله جل وعلا: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} [الأنبياء:104]. ثم قال: وإن أول من يكسى من الخلائق إبراهيم). وجاء أثر عن مجاهد عن ابن عباس: (أن إبراهيم يؤتى له بكرسي على يمين العرش، فيكسى حلة تشرئب إليه أعناق البش). فالنبي صلى الله عليه وسلم هو الصادق المصدق أخبرنا أن إبراهيم أول من يكسى يوم القيامة، لكنه عليه الصلاة السلام لم يخبرنا لماذا يكسى إبراهيم أول الناس يوم القيامة؟ فاجتهد العلماء في معرفة: لماذا يكون إبراهيم أول من يكسى؟ وأشهر ما قيل في ذلك أنه يوم ألقي في النار ألقي عرياناً أمام الناس من أجل الله، فعوضه الله بأن كساه أول الخلائق أجمعين يوم القيامة، وهذا تأويل جيد. وقيل: إنه كان من أعظم الناس خوفاً وفرقاً من الله، والله أعلم بالصواب، وقد يكون كلا الأمرين غير صحيح، لكن الصحيح أنه أول من يكسى يوم القيامة.

لين القلب

لين القلب كما خص الله جل وعلا إبراهيم باللين، فقد كان عليه السلام لين القلب مع الناس، كما قال الله جل وعلا: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [إبراهيم:36]. وهذا دلالة على لينه، والنبي عليه الصلاة السلام كما في الصحيح وغيره (لما أسر أسارى بدر استشار أبا بكر وعمر فقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه: يا رسول الله أهلك وقومك، فاستأن بهم وأرفق، واستبقهم على الله أن يهديهم، ثم استشار عمر فقال رضي الله عنه: يا نبي الله كذبوك وأخرجوك فقربهم واضرب أعناقهم، فدخل صلى الله عليه وسلم خيمته ولم يقل شيئاً ثم خرج، ثم قال عليه الصلاة السلام: إن الله ليلين قلوب عباد فيه، حتى تكون ألين من اللبن، وليشدد على قلوب عباد فيه -يعني من أجل الله- حتى تكون أشد من الحجارة، وإن مثلك يا أبا بكر كمثل إبراهيم إذ قال: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [إبراهيم:36]. وكمثل عيسى قال: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة:118]. ثم قال: وأنت يا عمر مثلك كمثل نوح إذ قال: {وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} [نوح:26]. وكمثل موسى إذ قال: {وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ} [يونس:88]). فمنهج نوح موافق لمنهج موسى، ومنهج إبراهيم موافق لمنهج عيسى، والصديق رضي الله عنه كان له سلف، وهما إبراهيم وعيسى، وعمر رضي الله تعالى عنه كان له سلف، وهما نوح وموسى.

إبراهيم الخليل يخشى على نفسه وذريته من عبادة الأصنام

إبراهيم الخليل يخشى على نفسه وذريته من عبادة الأصنام فنقول: إن إبراهيم كان لين القلب عليه الصلاة السلام، هذه بعض صفات خليل الله إبراهيم. قال الله عز وجل: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ} [إبراهيم:35]. هذه الآية لو تكلم الناس فيها إلى يوم القيامة لن يوفوها حقها، لأن هذا الرجل الذي ذكر الله جل وعلا عنه أنه خليل وأنه إمام وأنه بنى البيت يخاف على نفسه أن ينتكس، فيقول: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ} [إبراهيم:35]. قال السلف: من يأمن الفتنة بعد قول إبراهيم: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ} [إبراهيم:35]. نقول: فلا يأمن أحد يعرف أن القلوب والهداية ليس مردها إلى علم ولا إلى تلاوة، ولا إلى فصاحة ولا إلى بيان، ولا إلى مدح الناس، ولا إلى ذمهم، ولا إلى قبور يراها، ولا إلى أي شيء، إنما مردها إلى الله، فمن يعلم أن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يخشى على نفسه، ومن يعلم أنه وصل إلى ما وصل إليه بسلطته وقدرته، وما إلى ذلك فهذا أقرب إلى أن ينتكس. فهذا خليل الله وأبو الأنبياء، وما من نبي بعده إلا من ذريته ويقول: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ} [إبراهيم:35]. الآن من الناس من لو قلت له: الصورة لا تعلقها لأنها حرام، قال: لا يوجد عاقل يعبد صورة في هذا الزمان. فهذا لا يعرف أن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن. لكن خليل الله لما كان يعرف الله ويخشى على نفسه قال: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ} [إبراهيم:35]. فإذا خاف إبراهيم على نفسه والله جل وعلا قد أعطاه الرشد فكيف لا يخاف أحدنا على نفسه. لكن نقول كما علمنا نبينا صلى الله عليه وسلم: (اللهم يا مقلب القلوب، ثبت قلبي على دينك) والإنسان كلما أكثر من الاستغفار واحتقر نفسه، ولم ينظر إلى من حوله على أنه أعظم هداية منهم كان أقرب إلى أن يثبت على الدين، أما إن ظن الإنسان في نفسه أنه بلغ المنازل العالية، وأن الناس فساق، وهو على خير فهذا والعياذ بالله يخشى عليه، فـ محمد بن المنكدر أحد التابعين تبع جنازة رجل خمار، فقيل: يا إمام أتتبع جنازة هذا؟ قال: إني لأستحيي من الله أن يراني أظن أن رحمته تعجز عن أحد من خلقه، فالله جل وعلا كما بيده الرحمة بيده العذاب. فهو قادر على أن يضل، وقادر على أن يهدي، يقول تبارك وتعالى: {وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:27 - 28]. قال إبراهيم: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ * رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [إبراهيم:35 - 36]. وهذا فيه دلالة على لين إبراهيم: {وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [إبراهيم:36].

إبراهيم الخليل يدعو لأهله في واد غير ذي زرع

إبراهيم الخليل يدعو لأهله في واد غير ذي زرع قال تعالى: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ} [إبراهيم:37]. أي: واد في مكة، والوادي الذي لا خلاف عليه بين أهل العقل والنقل هو الذي فيه الكعبة. وقوله تعالى: {أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي} [إبراهيم:37] (من) هنا بعضيه، لأن إبراهيم لم يسكن ذريته كلهم، وإنما أسكن هاجر وإسماعيل، وأبقى سارة وإسحاق في مكان آخر. قال تعالى: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ} [إبراهيم:37]. وعندما قال إبراهيم هذا لم يكن قد بنى البيت، فدل على أن الكعبة موجودة قبل إبراهيم، أو أن مكانها كان موجوداً قبل إبراهيم. وهذا فيه دلالة على أن مكان البيت قد حدد من قبل، ولا نجزم على أن البيت قد بني قبل. وبعض العلماء يقول: أذهبه الطوفان. قال تعالى: {رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ} [إبراهيم:37]. فدل على أنه ما من عمل صالح بعد التوحيد أحب إلى الله من الصلاة، ولذلك قدمها إبراهيم. قال تعالى: {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ} [إبراهيم:37]. أفئدة أي: جماعات، و (من) هنا بعضية، ولو قال: فاجعل الناس لاستجاب الله دعوته، ولسكن أهل الأرض كلهم في ذلك الوادي. لكن ما لا يريده الله قدراً، لا يجريه شرعاً على لسان أنبيائه، فالله عصم إبراهيم من أن يقول: فاجعل الناس؛ لعلم الله أزلاً أن هذا لن يقع، لأن كرامة إبراهيم عند ربه عظيمة، فقال: {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ} [إبراهيم:37]. ويشهد كل عاقل ما تساق إلى مكة من الثمرات عبر العصور، رغم أنها ليست للزرع كما قال الله جل وعلا: {بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ} [إبراهيم:37].

توسل إبراهيم الخليل

توسل إبراهيم الخليل قال الله تعالى: {رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ} [إبراهيم:38]. هذا من توسل الخليل، وغلاة الصوفية يقولون: إنه يجوز أن يلقي الإنسان نفسه في المهالك توكلاً على الله، ويحتجون بهذه الآية، وأن إبراهيم وضع زوجته وابنه في واد غير ذي زرع، ومضى عنهما. والجواب عن ذلك أن هذا بأمر الله وليس بعقله، وإلا لو فعلها إنسان اليوم، وأخذ زوجته وابنه ووضعهما في واد وتركهما، وقال أصنع كما صنع إبراهيم، فلو ماتوا يعتبر كالقاتل لهما، لأن هاجر تبعت إبراهيم، وقالت له: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم، فقالت: إن الله لا يضيع أهله. فهذا كان فيه أمر صريح وليس فيه شيء من القدوة. إلى أن قال: {رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} [إبراهيم:38 - 39]. ورزق إبراهيم إسماعيل وإسحاق عليهما السلام على كبر، وقد بلغ من السن خمساً وتسعين سنة عند بعض العلماء، وبعضهم يقول: إنه قد شارف على المائة عليه الصلاة السلام. وكان يضع أي يده عليهما ويقول (أعيذكما بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة، ومن كل عين لامة). فلما جاء الحسن والحسين لنبينا صلى الله عليه وسلم كان يضع يده الطاهرة الشريفة عليهما ويقول: (أعيذكما بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة، ومن كل عين لامة، فإن أباكما كان يعوذ بهما إسماعيل وإسحاق) يعني: إبراهيم.

إبراهيم يدعو الله له ولوالديه

إبراهيم يدعو الله له ولوالديه قال الله تعالى: {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} [إبراهيم:41]. الأنبياء عليهم الصلاة السلام حتى في دعائهم يفقهون شيئاً يسمى فقه الأولويات، فنوح يقول: {رَبِّ اغْفِرْ لِي} [نوح:28]. ولا يقدم أحداً على نفسه: {وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا} [نوح:28]. فمن يعرفني ليس مثل الذي لا يعرفني: {وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [نوح:28]. وهذا خليل الله يقول: {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} [إبراهيم:41]. لكن قوله: عليه السلام، ولوالدي، هذا قبل أن يعلم أن أباه سيموت على الكفر. لأن الله جل وعلا يقول: {مَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} [التوبة:114]. ويفهم من هذا أن أم إبراهيم كانت مسلمة، لأن الله ذكر دعاء إبراهيم للوالدين، لأبيه وأمه، ثم استثنى أباه فبقيت الوالدة، فالأظهر والله أعلم أن أم إبراهيم كانت مسلمة. اللهم أغفر لنا ولوالدينا وللمؤمنين يوم يقوم الحساب.

الأسئلة

الأسئلة

دخول الجن في دعاء إبراهيم

دخول الجن في دعاء إبراهيم Q يقول: {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ} [إبراهيم:37] هل يدخل فيها الجن؟ A في نفس السياق لا يدخلون، لكن قد يدخلون من دعوة أخرى.

الأصنام سبب من أسباب الضلال

الأصنام سبب من أسباب الضلال Q يقول كيف أضلت الأصنام وهي جمادات؟ A المراد أنه بسببها وقع الضلال.

المراد بكلمة الأعراف

المراد بكلمة الأعراف Q ما المراد بكلمة الأعراف؟ A هي جبال أو هضاب أو تلال مطلة على الجنة وعلى النار.

حكم من حج وعليه دين

حكم من حج وعليه دين Q أريد أن أحج وعلي دين لشركة الاتصالات، هل أسدده أو أجله؟ A الدين يختلف، فإن كان يسيراً مثل فواتير الهاتف فسددها، أما الدين بمئات الألوف وما أشبه ذلك فسواء حججت أو لم تحج لا يغير في الأمر شيئاً. فمن الممكن تأخير الدين، والإشكالية ليست في قضية الدين، الإشكالية أن بعض الشباب عفا الله عنا وعنهم يرون أن بعض الجهات لا يضر الدين منها، كشركة الاتصالات مثلاً. ويأتي بتأويلات من عنده على عدم وجوب سداد الدين، والحق أنه يجب سداد الدين حتى لو من يهودي، فإذا أخذت مالاً يجب رده سواء من شركة الاتصالات أو غيرها.

حكم السكتة بعد الفاتحة ومتى تكون السكتات في الصلاة

حكم السكتة بعد الفاتحة ومتى تكون السكتات في الصلاة Q ما حكم السكتة بين الفاتحة وما تيسر من القرآن، ومتى تكون السكتات في الصلاة؟ A هذه السكتة التي يصنعها الأئمة بعد الفاتحة لا أعلم لها دليلاً من السنة، اللهم إلا أن تكون في بعض المذاهب، أما النبي صلى الله عليه وسلم فكان يسكت في أول الصلاة قبل أن يقرأ دعاء الاستفتاح، ويسكت حين ينتهي من القراءة كلها حتى يرتد إليه نفسه، أما أنه يسكت ما بين الفاتحة وقراءة ما تيسر حتى يقرأ الناس الفاتحة، فهذه لا أعلم لها دليلاً.

حكم من يذهب للدعوة ويترك أهله

حكم من يذهب للدعوة ويترك أهله Q ما رأيكم فيمن يتركون أهليهم ويذهبون للدعوة، يقصد جماعة التبليغ وما إلى ذلك؟ A نحن نقول: إن كل من يدعو إلى الله موفق، لكن الإنسان على نفسه بصيرة، والناس يختلفون في قدراتهم المالية وفي قدراتهم المعيشية، فإذا كان الإنسان عنده من يخلفه في أهله فلا بأس في ذلك، أما إذا لم يوجد من يخلفه في أهله فينظر بحسب الحال، والنبي عليه الصلاة السلام يقول: (كفي بالمرء إثماً أن يضيع من يقوت).

موت إبراهيم الخليل

موت إبراهيم الخليل Q يقول ما هي قصة موت الخليل عليه السلام؟ A ذكر ابن كثير رواية لا تصح. لكنه مات كما يقبض الأنبياء من قبله، وهو مدفون في المدينة المشهورة اليوم باسمه، وهي مدينة الخليل، وقديماً كان اسمها حبرون، وفيها قبر إبراهيم وإسماعيل وإسحاق. وسلمنا الله وإياكم من كل سوء، وغفر الله لنا وإياكم كل زلل، وصل الله على محمد، والحمد لله رب العالمين.

تأملات في سورة الإسراء [1]

سلسلة تأملات قرآنية _ تأملات في سورة الإسراء [1] مما تحدث الله عنه في سورة الإسراء: ما سيئول إليه أمر بني إسرائيل وهو أنهم إن عادوا إلى الإفساد والطغيان فإن الله سيهلكهم وينكل بهم. كما تحدث سبحانه في هذه السورة عن حرمة قتل الأولاد خشية الفقر، وأخبر أن قتل النفس التي حرم الله من كبائر الذنوب، كما تحدث سبحانه عن حرمة القول على الله بغير علم، وأنه لا يجوز للإنسان أن يخوض فيما لا يعلم.

تأملات قرآنية في قول الله تعالى: (سبحان الذي أسرى بعبده ليلا)

تأملات قرآنية في قول الله تعالى: (سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً) إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه، وعلى آله، وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: هذه تأملات في سورة الإسراء، وهي سورة مكية إلا ثلاث أو أربع آيات سيأتي الحديث عنها إن شاء الله تعالى في موضعه، وهذه السورة صدّرها الله جل وعلا واستهلها بقوله: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الإسراء:1]. وسنقف في هذه السورة مع بعض آياتها تفصيلاً، ونعرِّج على بعض الآيات إجمالاً كفرائد علمية ومعرفية ما بين الآية والآية كما هو المنهج في العادة. فنقول حول الآية الأولى من هذه السورة ما يلي:

التأملات اللغوية

التأملات اللغوية أولاً: الوقفات أو التأملات اللغوية في قول الله جل وعلا: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} [الإسراء:1]. كلمة سبحان تعرب عند النحويين على الأظهر عند جمهورهم على أنها مفعول مطلق لفعل محذوف، وهي في حق الله جل وعلا ملازمة للإضافة؛ فإما أن تضاف إلى الاسم الظاهر فتقول سبحان الله سبحان ربي، أو تضاف إلى الضمير فتقول: سبحانه أو سبحانك، على أن هذا اللفظ -أي كلمة سبحانك- معناه تنزيه الرب جل وعلا عن ما لا يليق به؛ وعلى هذا فلا تقال هذه الكلمة إلا مع الرب جل وعلا، أي لا يقال لأحد من الخلق كائناً من كان سبحانك، فلا يقال: سبحان إلا مضافة إلى رب العزة جل جلاله، ولا يقال لأحد من الخلق كائناً من كان ملكاً مقرباً أو نبياً مرسلاً، حتى للنبي صلى الله عليه وسلم لا يقال: سبحان الرسول! وإنما تضاف فقط للرب جل وعلا، تقول: سبحان الله سبحان ربي، أو أن تتكلم عن الله فتقول: سبحانه، أو أن تناجي ربك فتقول: سبحانك. الأمر الأول لغوياً. الأمر الثاني: قال الله: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} [الإسراء:1]. جاءت هنا كلمة ليلاً كما هو ظاهر منكَّرة، واختلف العلماء في الغرض البلاغي من كونها منكَّرة، قال بعضهم: المراد بها هنا التقليل، ووجه البلاغة أنهم كانوا يسيرون من مكة إلى بيت المقدس في أربعين ليلة، والتقليل هنا أن الله جل وعلا أسرى بنبيه بجزء قليل من الليل من مكة إلى بيت المقدس، ثم إلى سدرة المنتهى ثم إلى بيت المقدس، ثم إلى مكة في جزء قليل من الليل على هذا قال بعضهم: هذا المراد من تنكير كلمة ليل. وقال آخرون: إن المراد من التنكير التعظيم، ويصبح المعنى {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} [الإسراء:1] أي في ليل وأي ليل دنى فيه نبينا صلى الله عليه وسلم من ربه وناجاه فيه، وكلمه ربه وقرّبه وأدناه صلوات الله وسلامه عليه. ونقول والله أعلم: لا مانع من الأخذ بكلا الأمرين، ومن قواعد التفسير: إذا كان للآية معنيان لا تعارض بينهما يجوز حمل الآية على المعنيين، إذا الآية هنا احتملت معنيين لا تعارض بينهما كما هو ظاهر.

تأملات في معنى قوله تعالى (سبحان الذي أسرى بعبده)

تأملات في معنى قوله تعالى (سبحان الذي أسرى بعبده) إن الله تبارك وتعالى اعتنى بنبيه صلى الله عليه وسلم أعظم عناية، يقول عليه الصلاة والسلام: (إني عند الله لخاتم النبيين، وإن آدم لمجندل في طينته) ومن عناية الله بنبيه أن الله جل وعلا ما زال ينقله في أصلاب الرجال وأرحام النساء في نكاح غير سفاح حتى اختاره من خير الناس فبُعث صلى الله عليه وسلم من أعزِّ قبيل: وهم بنو هاشم آله صلوات الله وسلامه عليه، واصطفاه على بني هاشم، ثم ما زال الله يعتني به قبل أن ينبأ كما هو معلوم في السيرة، ثم نبئ صلوات الله وسلامه عليه بإقرأ وأرسل بالمدثر، فما زال الله يحيطه بعنايته وكمال حفظه حتى فقد عليه الصلاة والسلام النصير الداخلي والخارجي: فقد النصير الداخلي من الخلق وهي زوجته خديجة، والنصير الخارجي وهو عمه أبو طالب، ثم توجه صلى الله عليه وسلم إلى الطائف يدعو أهلها فرده أهل الطائف، ثم رجع صلى الله عليه وسلم إلى مكة. والمقصود أنه لما نزل صلى الله عليه وسلم مكة وهو في هذا الوضع من صدود أكثر الناس عنه إلا قلة من أصحابه تولاه الله جل وعلا فكانت رحلة الإسراء والمعراج. فمن جملة عناية الله جل وعلا به أن أسرى الله جل وعلا به في برهة من الليل من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وهذه الرحلة في الملكوتين العلوي والسفلي كانت رحلة عظيمة له صلى الله عليه وسلم، ومن خصائصه التي منّ الله جل وعلا بها عليه أن هذه الرحلة وقعت ليلاً، وفي هذا دلالة على شرف الليل، فالليل أفضل من النهار من حيث الإجمال؛ لأن الله أسرى بنبيه ليلاً، ونجَّى لوطاً وبنتيه ليلاً، قال تعالى: {إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ} [القمر:34]، وأسرى بموسى وقومه من الصالحين ليلاً، قال تعالى: {فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ} [الدخان:23]، والنبي صلى الله عليه وسلم ذكر الصلوات أي النوافل فقال: (وصلاة الرجل في جوف الليل الآخر) ثم تلا {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:16 - 17] الشاهد من هذا أن الليل أفضل وأشرف من النهار، على أن لله أعمالاً في الليل لا يقبلها في النهار، وأعمالاً في النهار لا يقبلها جل وعلا في الليل. الفائدة الثانية: أن الله تبارك وتعالى أمر جبريل عليه السلام بغسل قلب النبي صلى الله عليه وسلم بماء زمزم قبل رحلة الإسراء المعراج، وهذا الغسل ليس غسلاً معنوياً فقط وإنما غسل حسي، فقد شق صدره صلى الله عليه وسلم وأخرج قلبه ووضع في طست (في إناء) وهذا الإناء فيه ماء زمزم فغسل قلبه صلى الله عليه وسلم بماء زمزم ثم أعيد إلى مكانه، ولا ريب أن هذا ثابت عنه صلى الله عليه وسلم وإن رده العقل، لكن يثبته النقل، والنقل الصحيح مقدم على العقل فالعقل تبع للنقل وليس حاكماً عليه، فنقول: آمنا بالله وبما جاء عن الله وعلى مراد الله، وآمنا برسول الله وبما جاء عن رسول الله على مراد رسول الله؛ والمقصود أننا نثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم غسل قلبه بماء زمزم غسلاً حسياً، وهذا يدلنا على فائدة أخرى وهي قضية فضل ماء زمزم، فنقول: إن هذا الماء ماء مبارك، والنبي صلى الله عليه وسلم نقل عنه أنه قال: (ماء زمزم لما شرب له) وقد صحح فريق من المحدثين هذا الحديث أو حسنوه، وعمل الفضلاء من العلماء يدل على صحته وعلى الأخذ به، وقد روي أن الإمام العالم المجاهد عبد الله بن المبارك رحمه الله تعالى لما حج وأتى البيت ذكر الحديث المنقول عن النبي صلى الله عليه وسلم في ماء زمزم فقال: اللهم إن فلان حدثني وساق السند أن نبيك صلى الله عليه وسلم يقول: (ماء زمزم لما شرب له) وأنا أشربه لعطش يوم القيامة. وبعض الفضلاء من العلماء يقول: إن السنة في شرب ماء زمزم أن يشرب وهو واقف؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم شرب من ماء زمزم في حجة الوداع وهو واقف، كما في حديث علي رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وبعضهم يقول: إنه شرب واقفاً للضرورة حتى لا يزدحم عليه الناس، وهذه مسألة خلافية. الذي يعنينا أن ماء زمزم لما شرب له، والشافعي رحمه الله -الإمام المعروف الفقيه- كان في أول حياته يحب الرمي بالسهام، فجاء إلى زمزم وهو شاب فقال: اللهم إني أشرب ماء زمزم للرمي، فهو يحدث رحمه يقول: كنت أرمي العشرة أسهم فإما أن أصيب تسعة من عشرة أو أصيب عشرة من عشرة، يعني إذا رميت العشرة أسهم تصيب كلها أو يصيب تسع منها؛ وهذا كله ببركة ماء زمزم. والإمام الخطيب البغدادي رحمة الله تعالى عليه صاحب كتاب تاريخ بغداد المحدث المعروف شرب من ماء زمزم وقال: اللهم إنني أشربه لثلاث: أشربه لأن أملي تاريخ بغداد بها، وأشربه أن أحدث يعني يكتب لي درس في جامع المنصور، وأشربه لأن أقبر بجوار بشر الحافي. قال العلماء: فحقق الله جل وعلا له أي للخطيب هذه الثلاث كلها، فأملى كتابه تاريخ بغداد في بغداد، وأصبح يحدث في جامع المنصور، ثم إنه مات وقبر بجوار بشر الحافي رحمة الله تعالى عليهما جميعاً. والمقصود من هذا كله بيان فضل ماء زمزم، وقد دلت عليه الكتاب والسنة كما هو معلوم من عموم القرآن في قوله جل وعلا: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ} [آل عمران:97]. ومما يتعلق بالإسراء والمعراج أن قُدِّم له صلى الله عليه وسلم دابة وهي البراق، ينتهي حافره حيث ينتهي بصره، فركبه صلى الله عليه وسلم وأسري به إلى المسجد الأقصى، وفي المسجد الأقصى صلى صلى الله عليه وسلم بالنبيين إماماً، وهذا من أعظم الأدلة على علو شرفه وكبير مقامه وفضله وتقدمه صلوات الله وسلامه عليه، ووجه الدلالة هنا أن بيت المقدس وأرض الشام هي أرض الأنبياء من بعد إبراهيم إلى نبينا عليه الصلاة والسلام، فأكثر الأنبياء كانوا في أرض الشام عليهم السلام جميعاً، ومع ذلك هي أرضهم وديارهم ومنازلهم التي ولدوا فيها وهذا مسجدهم ومع ذلك صلى بهم صلى الله عليه وسلم إماماً في موطنهم، فجاءهم في مكانهم وأمرهم الله أن يقتدوا به صلوات الله وسلامه عليه؛ وهذا يدل على رفيع مقامه، وبالتالي على رفيع مقام أمته؛ لأنه وإن كانت أمته آخر الأمم عصراً إلا أنها أفضل الأمم؛ لأنها أمته صلوات الله وسلامه عليه، فهو حضنا من النبيين ونحن حضه من الأمم، ورحم الله من قال: ومما زادني شرفاً وتيهاً وكدت بأخمصي أطأ الثريا دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيّرت أحمد لي نبياً ربط صلى الله عليه وسلم البراق في مربط موجود في المسجد الأقصى يربط فيه الأنبياء دوابهم، ودخل يصلي بالأنبياء، وهذا من أعظم الأدلة على أن الإنسان يأخذ بالأسباب؛ فهذا نبي الله محفوظ بحفظ الله له، ومعه أعظم الملائكة جبريل، ومعه دابة تأتمر بأمره ومع ذلك ربطها خوفاً من أن تنطلق، وهي لن تنطلق لكن حتى يأخذ الإنسان بالأسباب، ومع ذلك يتوكل على الملك الغلاب، وقد جاء في الآثار أن أبا سفيان بن حرب الزعيم القرشي الذي أسلم بعد ذلك كان بتجارة له في الشام فسأله هرقل عظيم الروم عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأبو سفيان يتحاشى في جوابه خوفاً أن يجرّب عليه الكذب، وهو في نفس الوقت يريد أن ينقص من قدر النبي صلى الله عليه وسلم عند هرقل، فبينما هما يتبادلان الحديث وهرقل يسأله فقال أبو سفيان لـ هرقل: إنه مما يدل على كذبه أنه حدثنا -أي النبي- أنه رحل من مكة إلى مسجد إيليا -أي المسجد الأقصى- إلى مسجدكم -يخاطب هرقل - في برهة من الليل وعاد في نفس اليوم، هو قالها يريد من هرقل أن يكذّبه فكان بطريق هرقل -رجل الدين عنده- واقفاً عند رأسه، فقال البطريق: والله إني لأعلم أي ليلة تلك الليلة فالتفت له هرقل وقال له: وما يدريك؟ فقال البطريق: إنني كنت كل ليلة أقفل أبواب المسجد حتى كانت تلك الليلة فلما أقفلت الأبواب بقي عليَّ باب، كلما حاولت أن أقفله لا يقفل فاستعنت بعُّمالي فلم يستطيعوا، فأرسلت إلى أهل الصناعة، أي إلى النجارين فقالوا لي: إن هذا الباب سقط عليه شيء فاترك الأمر إلى الصباح فإذا جاء الصباح أصلحناه، فوافقت يقول: فلما جئت في الصباح وجدت أثر مربط الدابة في المربط الذي يربط فيه الأنبياء دوابهم. موضع الشاهد: انظر إلى عناية الله جل وعلا بنبيه صلى الله عليه وسلم، إن الله قادر على أن يقفل هذه الأبواب وجبريل يفتحها فيدخل صلى الله عليه وسلم، لكن الله جل وعلا يجري الكرامة لنبيه على سنن الخلق المعروفة؛ لأنه لو أقفلت الأبواب ودخل صلى الله عليه وسلم وصلى ورجع وأقفل الأبواب لما درى أحد، لكن الله جل وعلا يعتني بنيه حتى في أواسط ما يتناقله الناس عن سيرته صلى الله عليه وسلم، ومن هنا ينبغي أن يعلم أن الذي يريد أن يحقق غاية أياً كانت عظمت أو قلت لن يحققها إلا بالله جل وعلا فعلى هذا من أعظم أسباب تحقيق الأمان والغايات: التوكل الصادق على ربنا جل جلاله، والله جل وعلا يقول: {أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لاقِيهِ} [القصص:61] والله تبارك وتعالى منجز وعده لا محالة لمن وعدهم من عباده، وأعظم ما وعد الله به عباده الجنة، لكن المقصود أن الغايات والأماني والمطالب تتحقق إذا صدق العبد في توكله على ربه جل وعلا. والشافعي رحمه الله يقول: أهمني أمر ذات يوم فنمت فسمعت مناد في المنام يناديني: أن ادع الله بهذه الكلمات: اللهم إني لا أملك لنفسي حولاً ولا طولاً، اللهم إني لا أملك لنفسي ضراً ولا نفعاً ولا حياة ولا موتاً ولا نشوراً، وإنني لن أستطيع أن أأخذ إلا ما أعطيتني، ولن أتقي إلا ما وقيت

تأملات قرآنية في قوله تعالى: (وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب)

تأملات قرآنية في قوله تعالى: (وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب) الموقف الثاني مع قول الله جل وعلا: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا * فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا * ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا * إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا * عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا} [الإسراء:4 - 8]. هذه الآيات مما اضطرب فيها كلام المفسرين اضطراباً عظيماً، ولن تجد كتاب تفسير بين يديك يغنيك فيها غناء تاماً؛ ولذلك فإن ما أقوله لا يمثل وجهة نظري، فأنا سأنقل آراء الناس في هذه الآية، وكلمة الناس تعني العلماء والمؤرخين والفضلاء وأهل النظر، ولا تعني المفسرين فقط. أقول: إن العلماء اضطربوا فيها؛ لأن الأقدمين من السلف لم يروا الواقع المعاصر. والناس لا تريد تفسير آيات في القرآن مثل هذه الآيات للواقع المعاصر الذي هو اليوم. ومعنى هذه الآية عموماً أن الله أخبر أن لبني إسرائيل علوين: علو أول، ثم يُغلبون ويُهلكون، ثم تعود لهم الكرة ثم يُغلبون، ثم قال: {وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا} [الإسراء:8] هذه واضحة المعنى من القرآن. قوله: ((وَقَضَيْنَا)) أي أعلمنا وأخبرنا {إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا * فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا} [الإسراء:4 - 5] أي الأولى منهما {بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا} [الإسراء:5] هذا العلو الأول والهلاك الأول، {ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ} تصبح الدائرة لبني إسرائيل {وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا * إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ} [الإسراء:6 - 7] أي المرة الثانية {لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا} [الإسراء:7] أي يهلكونكم، ثم قال {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ} [الإسراء:8] وعسى من الله وعد، وقال: {وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا} [الإسراء:8] فوقع الإشكال في قوله: {وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا} [الإسراء:8] هذا المفهوم العام. ووجه الإشكال هو من هم المخاطبون في هذه الآية؟ نقول: أكثر علماء السلف على أن هاتين الواقعتين وقعتا قبل النبي صلى الله عليه وسلم، وأن الهلاك الأول كان على يد بختنصر ملك بابل، ثم انتصروا على يد داود، ثم أهلكوا، ثم عادوا. ويفسرون قول الله جل وعلا: {وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا} [الإسراء:8] على أنهم عادوا للإفساد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، والله جل وعلا عاد عليهم بأن سلط عليهم رسوله وأصحابه من بعده فأجلوهم من جزيرة العرب. ويصبح معنى قول الله {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ} [الإسراء:8]: أن الله رحمهم وجعل منهم ملوكاً وأنبياء كما نص عليه في سورة المائدة، هذا القول ورد في أكثر الكتب القديمة من كتب السلف. قال فريق آخر: إن الأولى حصلت على يد بختنصر لكن الثانية لم تحصل بعد، وهي المتوقع حدوثها في عصرنا هذا. اليهود في إسرائيل الآن كما قال الله: {أَكْثَرَ نَفِيرًا} [الإسراء:6] والنفير غالباً يطلق على الإعلام، وهم اليوم أكثر إعلاماً ومعرفة في العالم؛ لسيطرتهم على كثير من الأجهزة والقوة الإعلامية في العالم، وأنه بقيت الثانية وستكون على أيدي المسلمين، هذان تأويلان. وآخرون يقولون: إن الواقعتين كلاهما لم تحصل إلى الآن، ويقولون: إن جمعهم الآن في فلسطين هو الهلاك الأول؛ لأن الله قال: {عِبَادًا لَنَا} [الإسراء:5] وهذا لا يكون إلا للمسلمين؛ لأن بختنصر غير مسلم، فيغلبهم المسلمين ويجلوهم عن القدس لا عن فلسطين كلها، وإنما يضيّق عليهم في تل أبيب وما حولها، ثم إنهم ينصرهم العالم والقوى الدولية سواء قلنا أمريكا وبريطانيا وقد يغير الله أمريكا وبريطانيا ويناصرهم آخرون، المهم أنهم سينصرون فيغلبون المؤمنين مرة ثانية ويجلونهم عن القدس، ثم يعود المسلمون فيجلونهم كرة أخرى عن نفس المسجد ليتحقق قول الله: {وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا} [الإسراء:7]، لكن الذي يشكل عليه قول الله {وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا} [الإسراء:8] وقول الله: {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ} [الإسراء:8] وعسى في القرآن في حق الله واجبة، يعني أن الله راحم لا محالة إذا قال عسى أن يرحم، أو قال: عسى أن يعفو. وبهذا لم يتحقق قول الله: {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ} [الإسراء:8]. والأولون يقولون: إن كلا الأمرين قد وقعا في الزمن الغابر، وقول الله جل وعلا: {وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا} [الإسراء:8] تحقق في العصر القديم والعصر الحاضر تحقق قديماً على يد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وأنهم عادوا للإفساد مرة أخرى على قول الله: {وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا} [الإسراء:8] وأهلكوا على يد هتلر، أما صلاح الدين فقد حارب النصارى والصليبيين، وليس له علاقة بالقضية لا من قريب ولا من بعيد؛ لأن الصليبيين الذين غزوا عام 492 تقريباً وسط القرن الخامس أهلكوا اليهود والمسلمين في القدس، ونحن نتكلم هنا عن اليهود، وصلاح الدين لم يجل اليهود. نحن نقول إن الله يقول: {وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا} [الإسراء:8] أي إن عدتم للإفساد أعدنا عليكم التسليط، ولا يلزم من التسليط أن يكون هتلر مؤمناً؛ فإن هتلر أهلك اليهود هلاكاً عظيماً أهلكهم في ألمانيا، وطاردهم في فلسطين، وأرسل لـ أمين الحسيني -وكان زعيماً مسلماً في أرض القدس- عن طريق ليبيا 30. 000 قطعة سلاح، وجمّع العرب والمسلمين الذين كانوا في أوروبا، وأمر القواد الألمان أن يدربوهم على القتال، وكان يبعث بهم في السفن إلى فلسطين حتى يقاتلوا اليهود، وقد حرقهم وأهلكهم كما هو معروف. لكن هتلر انكسرت شوكته في الحرب العالمية الثانية، فلما انكسرت شوكة هتلر بانتصار الحلفاء -بريطانيا وأمريكا- غزا اليهود أمريكا وبريطانيا إعلامياً، فعادت النصرة لليهود؛ لأن خصمهم هتلر غلبه الحلفاء وهزم كما هو معلوم في الحرب العالمية الثانية، وأصبح النفوذ عالمياً لأمريكا والحلفاء الذين خرجوا منتصرين، وهؤلاء كلهم عن بكرة أبيهم أيدوا وجود اليهود في أرض فلسطين، وإلا فاليهود لم يكونوا موجودين في أرض فلسطين، ودولة إسرائيل المعاصرة أعلن عن قيامها رسمياً عام 1948م، وبعد سنتين من إعلانها عام 1950م أعلن بنقريون وكان رئيس إسرائيل آن ذاك أن أي شخص يهودي يدخل فلسطين يُعطى الجنسية الإسرائيلية -لأن كلمة يهودي غير كلمة إسرائيلي- حتى يشجع الهجرة فقدم اليهود من كل أنحاء العالم حتى اليمن خرج منها أربعون ألف يهودي ودخلوا أرض فلسطين، وهذا مصداق لقول الله جل وعلا في الإسراء في آخر الآيات: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا} [الإسراء:104] والله جل وعلا جاء بهم من كل جانب، فنحن نقول - والله تعالى أعلم-: إن الهلاك الأول كان على يد بختنصر، والهلاك الثاني هو الذي سيحصل في هذا العصر، وهذا أقرب القولين والله أعلم، وإن كنت لا أجزم به لعدم الأدلة التي تؤيد ذلك، لكن هذا مختصر حالة اليهود في أرض فلسطين، وهم لم يكونوا محتلين لبيت المقدس (للمسجد الأقصى) وإنما احتلوه في حرب 1967م، ولم تكن مدينة القدس داخلة ضمن حدود تلك الدولة. الذي يعنينا هنا أن هذا مجمل ما قاله العلماء في الآية، والحق لا يعلمه إلا الله، والأيام حبلى بكثير من الأحداث؛ وستقع أحداث كثيرة الله أعلم بها، لكن اليهود عموماً في غالب الظن عندهم علم بما سيكون بما أطلعهم الله جل وعلا عليه، واطلاعهم على الكتب القديمة يساعدهم على معرفة أشياء كثيرة. فـ كعب الأحبار كان يهودياً أسلم في عهد عمر، ومشهور ذكره في التفسير. وقد لازم عبد الله بن الزبير فكان يخبره بكل شيء مما سيحدث. كما أخبره أنه سيصبح أمير المؤمنين! وسيملك الحجاز، إلى أن جيء يوماً بـ المختار الثقفي من أهل الطائف، وكان قد ادعى النبوة، وهو كذاب معروف، فقتله أحد جند عبد الله بن الزبير، لعله مصعب بن الزبير أخو عبد الله ثم حُمل رأس المختار الثقفي إلى عبد الله بن الزبير فجيء به وهو يتغدى، ووضع رأس المختار بين يديه وهو خصمه، فقال عبد الله بن الزبير -وهذا يدل على علم اليهود-: كل م

وقفة مع قوله تعالى: (ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم)

وقفة مع قوله تعالى: (ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم) قال الله: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا} [الإسراء:31]. هذه الآية من بلاغة القرآن اللفظية؛ لأن الله جل وعلا نهى فيها الوالد أن يقتل ولده، وقال: {خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} [الإسراء:31] والإملاق هو الفقر، أي: خوفاً من الفقر؛ فالإنسان الذي يخاف الفقر غير فقير لأنه يخاف من شيء غير موجود عنده، فلذلك قال الله: {نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ} [الإسراء:31] فقدم الولد على الوالد، لكنه قال في سورة أخرى: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ} [الأنعام:151] أي: من فقر موجود، فلذلك قال بعدها: {نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} [الأنعام:151] فقدم رزق الوالد على رزق الولد؛ لأنه ذكر حالة الرجل الفقير، أما هنا فقد ذكر من يخاف الفقر، فقال جل شأنه: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا} [الإسراء:31] وقتل الوالد لولده من كبائر الذنوب، قال صلى الله عليه وسلم وقد سئل أي الذنب أعظم؟ قال: (أن تجعل لله نداً وقد خلقك) قيل: ثم أي؟ قال: (أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك) قيل: ثم أي؟ قال: (أن تزني بحليلة جارك) فهذه أعظم ثلاثة ذنوب يُعصى الله جل وعلا بها. قال تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا} [الإسراء:31].

وقفة مع قول الله تعالى: (ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق)

وقفة مع قول الله تعالى: (ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق) قال الله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} [الإسراء:33] هذه الآية نظر فيها ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فاستنبط منها أن معاوية سيحكم؛ لأنه رضي الله عنه وأرضاه لما قُتل عثمان اتفق المسلمون على أن عثمان قتل ظلماً، فجاء معاوية رضي الله عنه وأرضاه، وكان والياً على الشام يطالب علياً بقتلة عثمان وعلي يقول: القضية الآن ليست قضية قتلة عثمان، القضية أن تُقر لي بالخلافة، وبعد ذلك نتكلم عن قتلة عثمان، ومعاوية يقول: لا أقر لك بالخلافة ولا أدخل في الطاعة حتى تسلمني قتلة عثمان؛ لأن معاوية يجتمع مع عثمان في جده أمية، فجاء ابن عباس ترجمان القرآن لـ علي، وقال له: اخرج من هذه الأمر، يعني: لا توافق على الخلاف واذهب إلى مالك في ينبع، فإنك لو دخلت في جحر ضب لطلبتك العرب؛ فإن العرب ستدور دورتها ثم ترجع إليك وتسلمك الخلافة لكن بقدر الله عصى علي ابن عباس ولم يأخذ برأيه، ليمضي قدر الله، فلما رفض علي قال ابن عباس: إذاً أقسم بالله ليملكن معاوية، قال الله جل وعلا: ((وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً)) ومعاوية ولي لـ عثمان. فتحقق نفس الذي قاله ابن عباس، وحكم معاوية رضي الله عنه وأرضاه، فكان ابن عباس بعد موت علي واجتماع الكلمة على معاوية يقول للناس: إنني أحدثكم بأمر ليس بأمر سر ولا علانية، فيقول لهم: إنني نصحت عليا ً لكن علياً لم ينتصح ولم يقبل، وأصر على أن يدخل معاوية في الطاعة ومعاوية أصر على أن يُسلم دم عثمان، ووقع ما وقع بينهم رضي الله عنهم أجمعين، ثم قال هذه الكلمة المشهورة، وهذه الفريدة في العلم يذكرها المفسرون -أكثرهم إن لم يكن كلهم- كمنقبة لـ ابن عباس رضي الله تعالى عنه وأرضاه؛ وفهم القرآن شيء من الله، ولذلك فإن علياً هو نفسه رضي الله عنه وأرضاه من آل البيت وابن عم رسول الله، وزوج ابنته لم يؤت ما أوتيه ابن عباس. لكن الشيعة الآن أهل الضلالة يقولون: إن الله استأثر آل البيت ببعض العلم، وهذا باطل، والصحابة سألوا علياً قالوا: هل اختصكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء من العلم دون الناس؟ فقال رضي الله عنه وأرضاه -وهو صادق-: لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ما خصنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء، ثم قال: إلا فهماً يعطيه الله جل وعلا من يشاء في كتابه، وهذه ليس فيها قيد، ولذلك ترى بعض المفسرين يجلس وينطق بتفسير آيات ما لو بحثت عنها في الكتب لن تجدها، وهذا فضل الله يُعطيه من يشاء.

الشعراوي وتأويل القرآن

الشعراوي وتأويل القرآن من أعظم من منَّ الله عليه في تفسير القرآن الشيخ الشعراوي رحمه الله تعالى، وبعض الناس يأخذ عن الشعراوي ملاحظات، والحقيقة أنه لا يوجد أحد ما عليه ملاحظة، وإن أصاب في أشياء أخطأ في أشياء، كل الناس عندهم إصابات وأخطاء، ونحن لا نتكلم في عقيدة إنسان ميت أو في عقيدة إنسان موجود أو غائب إنما أتكلم عن علم، إن الرجل إذا فسّر القرآن يُفسِّره بأشياء عجيبة. وأنا أذكر موقفاً حصل لي في الحج: كنت في خيمة فيها بعض العلماء الفضلاء فسألني أحدهم عن المفسرين، قال: أنت تفسّر القرآن في مسجدك وفي الحج وفي كل مكان من رأيت من المفسرين؟ قلت، هذا دين أنا لا أجامل أحداً ولا أخشى أحداً؛ قلت: ممن من الله عليهم بتفسير القرآن: الشعراوي، فتغيرت ملامحهم يعني ما هم راضون، فقلت: يقول صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي: (كل عمل ابن آدم لي إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به) ما تفسير هذا الكلام؟ قال: إلا الصوم فهو عبادة ما فيها رياء وإخلاص، قلت: ما فيه عبادة يدخلها الرياء غير الصوم؛ لأن الإنسان إذا صام كل الناس تعرف أنه صام، ثم قلت له: أتدري ما قال الشعراوي فيها؟ قال: ماذا قال؟ قلت قال الشعراوي: إن الله خص الصوم لأنه عبادة لم يُعبد غير الله بها، ومعنى هذا أن الصلاة مثلاً قائمة على السجود والركوع، وكم من ملوك وطواغيت عبر التاريخ سُجد ورُكِع لهم تعظيماً من دون الله. والزكاة أخذ مال، وكم من ملوك وسلاطين يُجبى لهم المال. والحج قائم على الطواف، والله يقول: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:29] وكم من قبور وأضرحة وملوك يُحملون ويُطاف حولهم، لكن يستحيل أن يصوم أحد لأحد، فالمُصام له لا بد أن يراقب الصائم ويمشي خلفه حتى لا يأكل ولا يشرب، ولا يمكن لملك أن يفعل هذا. فلم يُصم إلا لله، وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به). ومن أدب هذا الرجل الفاضل أن أخرج ورقة وكتبها، وقال: هذه والله فريدة من فرائد العلم. الحكمة ضالة المؤمن فخذها من أي أحد، فإن قال أحد حقاً فخذه، وإن قال أحد باطلاً حتى لو كنت تحبه ما ترك قوله. فيجب أن نربي الناس على الحق.

وقفة مع قوله تعالى: (ولا تقف ما ليس لك به علم)

وقفة مع قوله تعالى: (ولا تقف ما ليس لك به علم) ينبغي أن يعلم طالب العلم أن الكلام عن الله جل وعلا ليس بالأمر السهل، فـ ابن القيم له كتاب مشهور اسمه إعلام الموقعين عن رب العلمين، فالفتوى الشرعية أمرها عظيم. وسأذكر قصة حدثت في العصر الجاهلي، علق عليها الإمام الأوزاعي رحمة الله عليه تعليقاً عظيماً، هذه القصة تقول: كان هناك رجل في الجاهلية قبل الإسلام يقال له: عامر بن الظرب العدواني، كان هذا الرجل كامل العقل مسموع الكلمة مطاع حكيم، فالعرب إذا اختلفت يأتون إليه؛ فجاءه مرة ستة أو سبعة رجال وسألوه عن قضية في المواريث، وهي أنهم ابتلوا بشاب خُنثى له آلتان: آلة رجل وآلة امرأة، قالوا: أنت حكيم العرب والناس تأتيك فهل نعامل هذا على أنه رجل فنعطيه الميراث، أو أنثى فلا نعطيه ميراثاً؟ على عادة الجاهليين آن ذاك، فقال: والله! ما مرت بي مسألة مثلها، فأخذ يتفكر، وأدخلهم داره فجلسوا في بيته أربعين يوماً، وكان عنده جارية راعية اسمها سخيلة قد ضاق عامر منها، فقد كانت ترعى الغنم ولا تعود إلا متأخرة وهو يريد أن يحلبها فيتأخر عليه اللبن، فكل يوم يعاقبها ويعاتبها، فجاءته وهو متحير فقالت: ماذا بك؟ فضربها وزجرها وقال: ليس هذا إليك. فظل أياماً على تلك الحالة، ثم قالت له الجارية: هؤلاء الضيوف أكلوا الغنم وكل يوم وأنت تذبح لهم، فكأنه رق لها وقال: أنا أقول لك القصة، وأخبرها بالقصة، فقالت: أتبع الحكم المبال، يعني: إذا كان يبول من آلة الرجل فعامله على أنه رجل، وإذا كان يبول من آلة الأنثى فعامله على أنه أنثى، فضع حكمك على بوله وتنتهي القضية. فصار يمشي في الدار ويقول بيتاً من الشعر آخره: فرج الله عنك يا سخيلة! وفي معناه أنه لن يعاتبها بعد اليوم. ودخل على ضيوفه وأخبرهم الخبر، وهذا الحكم الشرعي أثبته الإسلام اليوم، فالخنثى الذي له آلتان يتبع الحكم فيه على مباله، إن كان يبول من آلة الرجل يُعامل على أنه رجل، وإن كان يبول من آلة الأنثى يحكم له بأنه أنثى في الميراث، والذي قال هذا امرأة يقال لها: سخيلة. والشاهد في هذه القصة قول الأوزاعي رحمه الله: فهذا رجل مشرك لا يخاف الله ولا يرجو الجنة ولا يخاف ناراً يتوقف في حكم أربعين صباحاً يخاف أن يقول خطأ، فكيف بمن يتكلم على لسان الله ولسان رسوله صلى الله عليه وسلم؟ ولهذا من أعظم ما يدل على قوة طالب العلم الحقيقي أن يتريث في الفتوى وأن لا يستعجل، وأن لا يتصدر قبل أوانه، وأن لا يحكم حتى يتبين له الأمر. والله يقول: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء:36]. قال بعض العلماء تعليقاً على هذه القصة: إن الإنسان قد يكون ذا عقل فيخفى عليه شيء، وقد يأتي إنسان ليس له حظ من عقل ولا داع من تجربة فيوفق في أمر. والتوفيق والهداية بيد الرب تبارك وتعالى

تأملات في سورة الإسراء [2]

سلسلة تأملات قرآنية _ تأملات في سورة الإسراء [2] القرآن الكريم مليء بالعجائب، ومن تأمل في آياته وجد من العلم ما لا يجده في غيره، وسورة الإسراء من أعظم سور القرآن التي تتضمن آيات عظيمة وتاملات عميقة.

وقفة مع قول الله تعالى: (إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا)

وقفة مع قول الله تعالى: (إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولاً) الحمد لله خالق الكون بما فيه، وجامع الناس ليوم لا ريب فيه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خلق فسوى، وقدر فهدى، وأخرج المرعى، فجعله غثاءً أحوى، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فقد مضى القول: أن سورة الإسراء جملة سورة مكية وأن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه وأرضاه كان يسميها من العتاق الأول، ويقول: إنها من تلادي أي: من القديم الذي أخذته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يهاجر إلى المدينة، ومعلوم أن ابن مسعود كان ملازماً للنبي عليه الصلاة والسلام كثيراً، وأخذ عنه كثيراً من القرآن، وقد عده عليه الصلاة والسلام أحد من يؤخذ عنهم القرآن رضي الله عنه وأرضاه. وقلنا: إن هذه السورة تسمى -كذلك- سورة بني إسرائيل، فلها عند العلماء اسمان شهيران: اسمها المدون في المصحف اليوم: سورة الإسراء، والاسم الآخر: سورة بني إسرائيل، كما بينا أنها سورة مكية، لكن بعض آياتها مدنية. وسوف نتحدث الآن عن قول الله تعالى: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء:36]. فنقول: ورد ذكر البصر في كلام الله جل وعلا كثيراً، إلا أنه في آية أو آيتين أو ثلاث على الأكثر قدم البصر على السمع، وفي كثير منها يقدم السمع على البصر. والبصر جاء في القرآن على صورة الإفراد وجاء على صورة الجمع، أما السمع فلم يرد إلا على صورة الإفراد. والطب الحديث يشهد أن المولود الجنين الصغير يسمع أولاً ثم بعد ذلك يبصر، فحاسة السمع عندهم مقدمة عملاً على حاسة البصر، والله جل وعلا قال: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا} [مريم:38]، وإنما ذكر البصر مقدماً في عرصات يوم القيامة؛ لأن الإنسان يرى قبل أن يسمع إذا بعثر ما في القبور وحشر الناس، لذلك قدم الله في آية الكهف البصر على السمع، أما قول الله جل وعلا: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء:36]، فهذا من جنس ما في القرآن من وعيد وتحذير للعباد، وأن الناس مكلفون وأن الله جل علا سائلهم عما استرعاهم عليه.

تأملات في قول الله تعالى: (ولا تمش في الأرض مرحا)

تأملات في قول الله تعالى: (ولا تمش في الأرض مرحاً) ثم قال الله جل وعلا: {وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا} [الإسراء:37]. هذه الآية أصل في ذم الكبر، والكبر ينقسم إلى ثلاثة أقسام: كبر على الله، وكبر على الرسل، وكبر على سائر الخلق. أما الكبر على الله وعلى رسوله فهو مخرج من الملة، بل إن الكبر على الله أعظم الكفر، ومما ورد في القرآن قول فرعون: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38]، وقوله: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24]، وقول النمرود: {قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} [البقرة:258]، فهذا من الكبر على الله جل وعلا، ولم يعرف عبر التاريخ الإنساني إلا في أفراد معينين تكبروا على الله ووصلوا إلى هذه المرحلة وادعوا الألوهية. أما الكبر على الرسل فهو عامة ذنوب الأمم، قال الله جل وعلا عن بعض الأمم: {أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا} [التغابن:6]، وقال عن آل فرعون: {أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا} [المؤمنون:47]، وقال عن كفار قريش: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف:31]، فالكبر على الرسل عامة ذنوب الأمم وهو مخرج من الملة. أما الكبر على الناس فالأصل: أنه غير مخرج من الملة، لكن قد تقع حالات تكون متلبسة بانتقاص الله جل وعلا أو انتقاص رسوله فتكون مخرجة من الملة، وإلا فالأصل أنه غير مخرج من الملة، لكنه من أعظم الذنوب، قال صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر)، وتخريج الحديث -على معتقد أهل السنة أن أهل الكبائر لا يخلدون في النار إذا ماتوا على التوحيد- على أنه لا يدخل الجنة ابتداءً. ثم قال الله جل وعلا: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} [الإسراء:38]، (كل) جاءت مضافة إلى اسم الإشارة (ذلك). و (ذلك) عائد على جملة ما تقدم من قوله سبحانه: {لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} [الإسراء:22]، {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء:23]، {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى} [الإسراء:32]، {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ} [الإسراء:31]. وما مضى من كل ذلك فيه السيئ وفيه الحسن، ولهذا قيد الله فقال: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} [الإسراء:38]، ولم يقل كله؛ لأنه يوجد فيه شيء حسن. وكلمة (مكروهاً) هنا بمعنى: محرم، ليس بمعنى المكروه في اصطلاح الفقهاء، وإنما هو محرم أشد التحريم، ولذلك نهى الله جل وعلا عنه.

تأملات في قول الله تعالى: (وإذا قرأت القرآن جعلنا)

تأملات في قول الله تعالى: (وإذا قرأت القرآن جعلنا) قال تعالى: {ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا} [الإسراء:39]، إلى أن قال سبحانه: {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا * وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا} [الإسراء:45 - 46]. ذكر الله جل وعلا هنا أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا قرأ القرآن جعل الله بينه وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجاباً مستوراً، وهذا الحجاب يحتمل أحد معنيين: المعنى الأول: أن يكون حجاب رؤية، بمعنى: أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا قرأ القرآن لا يتمكن كفار قريش من رؤيته وإيذائه، وهذا المعنى يدل عليه ما في الأحاديث من أن أم جميل التي جاءت في القرآن بأنها حمالة الحطب حملت فهراً -يعني: حجراً كبيراً- وأرادت أن تؤذي النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يجلس بجوار أبي بكر فجاءت وهي تولول وتقول: مذمماً عصينا، ودينه قلينا، وأمره أبينا. فقال أبو بكر للنبي صلى الله عليه وسلم: لو تواريت عنها فإنها امرأة بذيئة اللسان، فقال صلى الله عليه وسلم: (إنها لن تراني)، وأخذ يقرأ القرآن، فجاءت أم جميل فكلمت أبا بكر وتخاطبت معه وسألته عن النبي صلى الله عليه وسلم، والنبي بجوار أبي بكر وهي لا تراه. وقد قال العلماء: إن هذا الأمر مجرب، وقد حكاه بعض الصحابة، ونقل القرطبي رحمه الله صاحب التفسير -وكان أندلسياً يسكن في غرناطة- قال: إنه خرج من أحد القصور وتبعه أهل أسبان آنذاك يريدون قتله، حتى جاء في أرض عراء فأخذ يقرأ بعض آيات القرآن، وهي آيات في الجاثية والنحل والكهف ويس كلها فيها كلمة: {أَكِنَّةً} [الإسراء:46]، قال: وهم يعدون أمامي ثم يقول بعضهم لبعض -بلغتهم وهو يعرفها-: إنه شيطان يعني: اختفى. وهذا انتشر عند العلماء في كثير من الأخبار الثابتة عنهم رحمة الله تعالى عليهم. هذا المعنى الأول للآية. والمعنى الثاني: أن يكون المعنى: {جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا} [الإسراء:45]، أي: شيئاً على قلوبهم فلا يفقهون القرآن ولا يقبلونه. والراجح -والله أعلم- هو المعنى الأول؛ لأن الله قال بعدها: {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ} [الإسراء:46]، فلا حاجة لإيراد معنيين متتابعين، فيصبح المعنى الأول أرجح، والعلم عند الله جل وعلا. والمقصود: أن القرآن جملة مما يحفظ الله جل وعلا به عباده.

تأملات في قوله تعالى: (وإذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس)

تأملات في قوله تعالى: (وإذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس) ثم قال سبحانه وتعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا} [الإسراء:60]. تقدم معنا أن النبي صلى الله عليه وسلم أسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وقلنا: إنه يوجد قول للبعض أن الرؤيا رؤيا منامية، ورددنا على هذا، وهذه الآية إحدى الحجج عند من يقول: إن الإسراء كان رؤيا منامية. والله جل وعلا يقول هنا: {وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ} [الإسراء:60]، كلمة (الناس) هنا لفظ عام يراد به الخاص، والمقصود به كفار قريش على الأظهر، والمعنى: أن الله يخبر نبيه أنه سبحانه محيط بأمر هؤلاء، وأن أمرهم ومردهم إلى سفال ووبال، كما حصل في بدر. أما الشق الثاني من الآية: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} [الإسراء:60]، الذين احتجوا بأن الإسراء كان مجرد رؤيا منامية قالوا: إن (رؤيا) في لغة العرب مصدر من الفعل رأى، وهذا محل اتفاق، فالفعل رأى يأتي المصدر منه بصيغتين، إما أن يقال رأى رؤيا بالألف، وإما أن يقال: رأى رؤية بالتاء المربوطة. قالوا: إن رؤية بالتاء المربوطة يعنى بها الرؤيا البصرية، ورؤيا بالألف يراد بها الرؤيا المنامية التي يسميها الناس أحلاماً، وقالوا: من الأدلة على ذلك قول الصديق يوسف لما رأى الرؤيا: {هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ} [يوسف:100]، ولم يقل: هذا تأويل رؤية، وهذه حجة من يقول: إن الرؤيا كانت منامية. ونحن نقول: إن الإسراء كان حقيقة، والرد على هذا من طريقين: الطريق الأول: تفصيل الآية، والطريق الثاني: التقعيد، ونبدأ بالتقعيد العلمي، فنقول: إن العالم يأخذ بأصل، ثم إذا عارض هذا الأصل شيء من الشبهات لا يرد الأصل ويدفعه إلا بأصل مثله، ولا يرده بشبهة، لأنه لا يوجد شيء لا تقع فيه شبهات لكن يبقى على الأصل حتى يأتيه أصل مثله يدفعه، هذا التقعيد العلمي. أما شرح الآية الذي سيجلو الخطاب، فإن الله يقول: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} [الإسراء:60]، أي: يا نبينا! ما جعلنا الرؤيا إلا لنختبر الناس ونفتنهم، فلو كانت رؤيا منامية لم يكن فيها فتنة للناس؛ لأنه ليس النبي صلى الله عليه وسلم فقط هو الذي يرى في المنام، بل كل الناس ممكن أن يروا هذه الرؤيا، فلا يعقل أن القرشيين يكذبون النبي صلى الله عليه وسلم وتصبح منقبة لـ أبي بكر أنه صدق النبي صلى الله عليه وسلم في رؤيا منامية، هذا أمر لا يعقل أن يكون اختباراً وفتنة. ثم إن الأصل الذي نستمسك به جملة الأحاديث المتواترة معنى ورواية ودراية على أن الله جل وعلا أسرى بنبيه، وقول الله جل وعلا لكفار قريش: {أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى} [النجم:12]، وقوله جل وعلا: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} [الإسراء:1]، فهل يقول الله في رؤيا منامية يراها البر والفاجر والمؤمن والكافر: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} [الإسراء:1]، فلا يعقل أن يدفع هذا الأصل بشبهة المصدر في رؤيا. الثالث: أنه ورد في كلام العرب التعبير برؤيا عن الرؤية البصرية، وإن كان قليلاً. ثم قال الله: {وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ} [الإسراء:60]. الشجرة الملعونة في القرآن هي شجرة الزقوم، والآية فيها تقديم وتأخير، والمعنى أن الآية مقصودها: وما جعلنا الرؤيا التي أريناك والشجرة الملعونة في القرآن إلا فتنة للناس، فتكون الفتنة بأمرين: الأول: رحلة الإسراء والمعراج، والثاني: الشجرة الملعونة في القرآن. أما الفتنة في رحلة الإسراء والمعراج فلا شك أنه اختبار للناس أن يأتي رجل يقول: إنني البارحة ارتحلت من مكة إلى بيت المقدس في بضع من الليل، وهم يضربون إليه المطي في أربعين ليلة. وهذا من حيث العقل يرد، لكن يقبل بالقلب، ونحن نؤمن بقلوبنا قبل أن نؤمن بعقولنا، ولما قيل لـ أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه أتؤمن بهذا القول؟ قال: إنني أصدقه فيما هو أعظم من ذلك أصدقه في الخبر يأتيه من السماء، فإذا جاز أن أصدقه أن الوحي يأتيه من السماء فمن باب أولى أن أصدقه أنه يغدو في برهة من الليل من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى. هذه الفتنة في الرؤيا التي في رحلة الإسراء والمعراج. أما الفتنة في شجرة الزقوم فإن الله قال عن شجرة الزقوم: {إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ} [الصافات:64]، أي: في النار، والعقل يرد هذا؛ لأن الشجر لا ينبت في الأرض اليابسة فكيف ينبت في النار، لكن هذا المنطق تعامل به القرشيون بالعقل ولم يتعاملوا معه بالقلب فكذبوه، حتى قال ابن الزبعرى -ويقال: إن القائل أبو جهل -: لا نعرف الزقوم إلا الزبد مع التمر فقوموا بنا نتزقم أي: نطعم الزبد مع التمر، فقال الله لنبيه: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ} [الإسراء:60]، فالأمر يتضح بكل يسر وسهوله إذا نظر إليه الإنسان بقلبه لا بعقله البسيط، حتى لو استخدم العقل فإن الذي منح الشجرة أن تنبت في اليابسة قادر على أن يجعلها تنبت في أصل الجحيم، والمثال ينطبق على نار إبراهيم، فإن الرب جل وعلا هو الذي أعطى النار خصيصة أن تحرق، فلما وضع فيها إبراهيم منع الله جل جلاله النار أن تعطى تلك الخصيصة، فهو الذي جعل النار ذات قدرة على الإحراق، وهو ربها وخالقها، فقال لها سبحانه: {يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا} [الأنبياء:69]، فمنعت خصيصتها وتحولت إلى خصيصة أخرى بأمر ربها برداً وسلاماً على إبراهيم، فخرج عليه السلام يمشي على قدميه والناس ينظرون، هذا معنى قوله جل وعلا جملة: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ} [الإسراء:60].

وقفة مع قول الله تعالى: (ونخوفهم فما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا)

وقفة مع قول الله تعالى: (ونخوفهم فما يزيدهم إلا طغياناً كبيراً) قال سبحانه: {وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا} [الإسراء:60]. الله جل جلاله يخوف بكل شيء، والناس يرون الأمور فيختلفون فيها، فقد يخسف القمر فيكون الإنسان في بيته لا يدري أن القمر خسف، وآخر يلعب الورق فينظر إلى القمر وقد خسف فيقول لأصحابه: انظروا إلى القمر قد خسف، ثم يكمل لعبته، وقد يكون الإنسان في غرفته عاكفاً على محرم فيقدر له أن يفتح النافذة فيرى القمر وقد كسف فيتعجب ويغلق النافذة، ويراه إنسان يحب البحث العلمي فيأخذ الآلة ويصور، ويراه إنسان يحب المسائل الحسابية فيدون، ويراه مؤمن -جعلنا الله من أهل الإيمان- فيعلم أنها آية يخوف الله جل وعلا بها عباده، ويفزع إلى المسجد إن كان قريباً منه، أو إلى مصلاه في بيته فيصلي، كما فزع النبي صلى الله عليه وسلم إلى مصلاه في مسجده، فلما كسفت الشمس خرج صلى الله عليه وسلم يجر رداءه حتى إنه ورد أنه صلى الله عليه وسلم من عجلته لبس الإزار مكان الرداء ثم خرج يجر ردائه صلوات الله وسلامه عليه وهو يعلم يقيناً أن الأرض لن تهلك وهو حي؛ لأن الله جل وعلا جعله أمنة للأمة: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} [الأنفال:33]، ومع ذلك لما رأى تلك الآية صلوات الله وسلامه عليه خرج فزعاً إلى الصلاة. والمقصود: أن الله يقول هنا عن مشركي قريش: {وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا} [الإسراء:60]، وجبار القلب -عياذاً بالله- من لم يعرف الله، حيث يسمع المواعظ ويقرأ عليه القرآن ويذكر بالله، ويرى الشمس تكسف، والقمر يخسف، ويرى الزلازل، والبراكين، ويرى الفيضانات ولا يتغير في قلبه شيء، بل يزيده طغياناً يخرج منه إلى معصية أكبر، وهذا هو الفرق بين من وهب قلبه لله ومن وهب قلبه لغير الله، قال الله جل وعلا عن الراسخين في العلم: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُوا الأَلْبَابِ * رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران:7 - 8].

تأملات في قول الله تعالى: (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم)

تأملات في قول الله تعالى: (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم) قال سبحانه: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا * قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء:61 - 62]. مر معنا كثيراً قضية ما كان من خلق الله لآدم وأمره للملائكة بالسجود له وامتناع إبليس، ونتكلم هنا عما لم نتكلم عنه فيما سبق. يقول الله: إنه قال للملائكة اسجدوا فامتنع إبليس وقال يخاطب ربه: {أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ} [الإسراء:62]، وهذا استفهام، أي: أخبرني لماذا كرمته علي؟ وكان المفروض أن ينتظر إبليس جواب رب العزة، لكن إبليس استعجل وقال: {أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء:62]. الحنك: أسفل الحلق، والعرب تضع الرسن -الحبل- للفرس مع حنكه حتى يسهل عليها أن تقوده ميمنة وميسرة، ومعنى الآية: إنني سأستولي على من خلقت، وإبليس لم يكتف بعداوته حسداً لآدم بل تجاوزه إلى ذريته. وقول إبليس: {ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء:62]، هذا من الظن الذي أصاب فيه، والدليل أن الله جل وعلا أخبر أن إبليس أصاب في هذا الظن فقال سبحانه: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [سبأ:20]، فإبليس قال: {لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء:62]، فعلم إبليس وقال: بظني أن أكثر الذرية سيسيطر عليها إلا قليلاً. فقال الرب جل شأنه: {قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا} [الإسراء:63]، نقول: (اذهب) هنا ليست الفعل الذي هو ضد المجيء، وإنما معناه: امض لشأنك، والأمر هنا غرضه البلاغي الإهانة، أي: مهما فعلت فلن تصد أوليائي عن ديني، أي عن دين الله.

تأملات في قول الله تعالى: (واستفزز من استطعت منهم)

تأملات في قول الله تعالى: (واستفزز من استطعت منهم) قال الرب جل وعلا: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا} [الإسراء:64]. وهذه الأربع المقصود من الأمر فيها: التهديد، ومعنى (استفزز) أي: استخف، ولا يطيع الشيطان إلا من فيه خفة في العقل؛ لأن الاستفزاز الاستخفاف، والإنسان إذا كان ثقيلاً لا يستفزه شيء فهذا أمر محمود، وأعظم منه ألا يقع في المغريات، كأن يكون تاجراً من التجار يظل وقتاً طويلاً لا يبيع شيئاً فإذا أتاه مشترٍ ليشتري منه يأتيه الشيطان بوسوسته لاستفزازه ويقول له: انتهى الوقت ولم تربح شيئاً فغش هذا الرجل واحصل على ربح كبير، فيغش ويخدع ويظن أن هذا المال رزق حلال. وهكذا فكل إنسان يتلبس بشيء يمتحنه الله جل وعلا ويختبره فيه إن كان حقاً فحق وإن كان باطلاً فباطل، حتى من يعلن التوبة ما إن يخرج من المسجد، أو من المحاضرة أو من الخطبة إلا ويتصل به رفيق السوء، ويعرض عليه فيلماًً، أو يعرض عليه دخاناً، أو يعرض عليه شيئاً محرماً ليعلم هل قالها عن حقيقة فيثبت، أو قالها عن ضعف وعجز فينجرف، أعاذنا الله من ذلك وثبتنا على هديه؛ هذا المعنى العام لهذه الآية.

تأملات في قول الله تعالى: (ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر)

تأملات في قول الله تعالى: (ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر) قال سبحانه: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} [الإسراء:70]. الأصل أن يقال: إن الله جل وعلا كرم بني آدم بأمور شتى ذكر منها العلماء أشهرها وهي نعمة العقل الذي يميز به المرء النافع من الضار، ومن أوتي نعمة العقل فقد أوتي خيراً عظيماً وفضلاً كبيراً، ولذلك جعل الله جل وعلا العقل مناط التكليف، يقول صلى الله عليه وسلم: (رفع القلم عن ثلاثة: عن الصغير حتى يكبر)؛ لأن عقله لم يتم، (وعن المجنون حتى يعقل)؛ لأن جنونه يمنعه من استخدام عقله، (وعن النائم حتى يستيقظ)؛ لأن النوم سلطان على العقل، والمؤمن مثلاً: قد يكون شديد المرض، لكن ما دام يعي ويعقل يكلف بالصلاة، وقد يكون مرضه في عقله فلو كان صحيح البدن لا يكلف بالصلاة؛ لأن العقل مناط التكليف. إن الأصل أن الإنسان يميز بعقله كل شيء، وهو من أعظم ما كرم الله به بني آدم. ومما كرم الله به بني آدم أن جعلهم هامة قائمة ولم يجعلهم كالدواب منتكسين. ومما كرم الله به بني آدم أنهم يأكلون بأيديهم ولا يتناولون طعامهم بأفواههم كسائر الدواب. والله جل وعلا يفاضل حتى بين الدواب، فالعلماء يقولون: إن من أعظم الدواب ممن أكرمه الله الكبش والنعجة فإن الله جل وعلا ستر عورتهما عن الخلق أجمعين، مع أن سائر الدواب ظاهرة العورة للعيان. ومن تكريم الله لبني آدم: أن الله حملهم في البر والبحر ورزقهم من الطيبات وفضلهم على كثير ممن خلق.

تأملات في قول الله تعالى: (يوم ندعوا كل أناس بإمامهم)

تأملات في قول الله تعالى: (يوم ندعوا كل أناس بإمامهم) قال سبحانه: {يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ} [الإسراء:71]، وهناك وقفة علميه ووقفه إيمانية مع هذه الآية. اختلف العلماء رحمهم الله في المقصود بقوله جل وعلا: {يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ} [الإسراء:71]، أما اليوم فهو يوم القيامة قطعاً، والداعي هو الله. {بِإِمَامِهِمْ} [الإسراء:71]، قال العلماء: فيها ثلاثة أقوال شهيرة، وقول غير شهير، لكن القائل به عالم كبير، وسنبين هذا تفصيلاً. قالوا: إن المقصود بكلمة إمام: الكتاب، ثم إن القائلين بأن المقصود بكلمة إمام الكتاب انقسموا إلى قسمين: قسم يقول: إن المقصود الكتاب الذي أنزل على الأمة التي يتبعها ذلك الشخص، والمعنى: ندعو: يا أهل القرآن، يا أهل التوراة، يا أهل الإنجيل، يا أهل الزبور. وقال آخرون: إن المقصود كتاب الأعمال، وهؤلاء حجتهم قول الله جل وعلا: {وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} [يس:12]، فسمى الله الكتاب إماماًً وهذا عليه أكثر العلماء؛ هذا القول الأول. الفريق الثاني قالوا: (بإمامهم) أي: بنبيهم، فيقال: يا أتباع موسى، يا أتباع إبراهيم، يا أتباع محمد، يا أتباع يوسف، يا أتباع يعقوب، ويؤيده قول الله جل وعلا في أهل الإشراك: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} [القصص:41]. القول الثالث: أن الإمام هي الأعمال أنفسها، فينادى كل إنسان بعمله، وأكثر العلماء يدور قولهم في هذا الفلك. وقال بعض العلماء: إن المقصود بإمامهم أي: بأمهاتهم، والمعنى: أن الإنسان ينسب يوم القيامة إلى أمه ولا ينسب إلى أبيه، ثم قالوا: يكون هذا لحكم: منها: أن فيها تكرمة لعيسى بن مريم. ومنها: أن فيها ستراً على أولاد الإثم. وهذا القول منسوب إلى محمد بن كعب القرظي رضي الله عنه ورحمه، وهو أحد سادات التابعين، وأصله يهودي من بني قريظة، ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم يوم قريظة لم يقتل من لم ينبت من الغلمان، وهذا أبوه كعب كان ممن لم ينبت يوم قريظة فعفا عنه النبي صلى الله عليه وسلم، فكبر وأسلم وتزوج وأنجب محمداً هذا، فأصبح من سادات التابعين ومن أئمة التفسير، وكان جليل القدر عند الناس، وممن يغلب على الظن آنذاك أنه كان مجاب الدعوة، وقد حصل له ذات مرة مال كثير، فقال له أقرانه: ادخره لولدك، قال: إنما أدخره لنفسي عند ربي، وأدخر ربي لولدي، فادخر الله لولده بالعمل الصالح، ولم يدخر المال للولد. ولا يمكن أن يقدم الأب لأبنائه عطية أعظم من العمل الصالح، قال الله جل وعلا: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور:21]، إن الرجل إذا مات على خير فأول من يتعزى بموته أبناؤه، فإذا كان يوم القيامة وأدركه الأبناء على خير جمع الله جل وعلا بين الآباء والأبناء في جنات النعيم. هذا هو محمد بن كعب القرظي رحمه الله صاحب القول، وأنا تعمدت أن أذكر سيرته حتى لا ترد القول وأنت تجهل قائله، صحيح أن هذا القول فيه نظر، حتى قال الشنقيطي رحمه الله في أضواء البيان: هذا قول باطل. والذين قالوا: إنه قول باطل حجتهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال كما في الصحيح مرفوعاً عن ابن عمر: (يقال يوم القيامة: هذه غدرة فلان بن فلان)، ونحن نقول والعلم عند الله: إن قول القرطبي أيسر أن يقال فيه نظر، أما قول الشنقيطي رحمة الله تعالى عليه على جلالة قدرة وفضله وعلمه أنه قول باطل كلمة فيها شيء من الصعوبة، وإن كان الشيخ رحمه الله لا يقصد القدح في القائل وإنما يقصد القول، ولذلك قال: هذا قول باطل ولم يتعرض الشنقيطي رحمه الله للقائل، لكن نقول: لو قال فيه نظر تكون أرق، والعلم عند الرب تبارك وتعالى، هذه الوقفة العلمية. أما الوقفة الإيمانية: فإن يوم القيامة يوم جليل القدر عظيم الخطب تعرض فيه الصحائف على العباد، وقد جاءت به أحاديث كثر يشيب لها الغلمان، والمقصود: أن أي عمل كان منك في ليل أو نهار، في ظلمة أو ضياء، فهو مدون عليك، ويوم القيامة كما أخبر الله -ولا يجهل هذا أحد من المؤمنين- يعطى الإنسان صحيفة عمله فيرى ذنوبه كلها، إلا أن الكافر يراها كلها فيقول: {مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا} [الكهف:49]. أما المؤمن فإن الله جل وعلا يستره ثم يعرض عليه كتابه فيريه صغائر الذنوب، ويخفي عنه كبارها حتى يقرره على الصغائر فلا يردها ويعترف بها واحداً واحداً، وهذا حديث صحيح، فيقول في آخر الأمر عندما يرى أن الله لا يعرض عليه الكبار: يا رب قد بقيت ذنوب لا أراها هنا! فيقول الله جل وعلا: إنني قد سترتها عليك في الدنيا وإنني أغفرها لك في الآخرة. وهذا محمول والعلم عند الله على التائبين، فمن تاب تاب الله جل وعلا عليه، والله جل وعلا أكرم وأرحم وأعظم وأجل وأغنى من أن يتوب على مؤمن في الدنيا من ذنب أياً كان ثم يوبخه عليه يوم القيامة، هذا لا يقع من كرام الملوك والسلاطين والأمراء، فكيف يقع من أرحم الراحمين جل جلاله.

تأملات في قول الله تعالى: (أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل)

تأملات في قول الله تعالى: (أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل) قال الله جل وعلا: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء:78]. هذه الآية إلى مسار الفقه أقرب. أولاً: أجمع المفسرون على أن المقصود بهذه الآية الصلوات الخمس، والصلوات الخمس أربع منهن متعاقبات، بمعنى أنه لا تفصل واحدة عن الأخرى في الوقت. وتبدأ الصلوات من الظهر، وقد مر معنا أن صلاة الظهر أول صلاة صلاها النبي صلى الله عليه وسلم فريضة، حيث نزل جبريل فأمه عند الكعبة بصلاة الظهر، وما إن ينتهي وقت صلاة الظهر حتى يدخل وقت صلاة العصر، وينتهي وقت صلاة العصر بغروب الشمس وهو دخول وقت صلاة المغرب، وينتهي وقت صلاة المغرب بغياب الشفق، وهو غياب الهلال الليلة الثالثة من كل شهر، فيدخل وقت صلاة العشاء فيمتد حتى نصف الليل كوقت اختيار، وإلى ثلث الليل الثاني كوقت اضطرار، ثم ينقطع وقت الصلوات، فيبقى من ثلث الليل الثاني إلى طلوع الفجر الصادق ليس وقت فريضة. ومع طلوع الفجر الصادق يدخل وقت الفجر إلى طلوع الشمس، ثم من طلوع الشمس إلى زوال الشمس الذي هو دلوك الشمس لا يوجد صلاة فريضة، فأصبحت أربع متعاقبات وواحدة مفصولة، فالله يقول: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء:78]، أي: زوالها على الأظهر. {إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} [الإسراء:78]، أي: اجتماع ظلمته واشتدادها. {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} [الإسراء:78]، (قرآن) إما أن تكون منصوبة بالفعل المضمر المعطوف أي: وأقم قرآن الفجر، وإما أن تكون منصوبة على الإغراء فيصبح المعنى: عليك بقرآن الفجر، وقد قال العلماء: إن الله قال: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} [الإسراء:78]، مما يدل على أن القراءة في صلاة الفجر ركن مهم جداً، كما دل قوله سبحانه: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} [الإسراء:78]، على أن الأصل في صلاة الفجر الإطالة. وقد يعرض عارض ينقلها عن الإطالة كما نقل أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ في الفجر بالمعوذتين في سفر، لكن الأصل أنه كان يقرأ فيهما ما بين الستين ومائة وعشرين آية، وقرأ فيهما ذات مرة في الركعة الأولى بـ {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون:1]، حتى وصل إلى الآية التي فيها ذكر موسى وهارون فأخذته بحة صلوات الله وسلامه عليه فركع. وكان أبو بكر رضي الله عنه ممن يطيل القراءة في صلاة الفجر، لكن قلنا قد يعرض عارض فيقرأ الإمام تخفيفاً، كقراءة بعض الأئمة أيام الامتحانات وما أشبه ذلك، ويحسن من الإمام أن يخفف إذا كان يعلم أن وراء الناس قضية مهمة. ورد عن الشيخ عبد العزيز بن صالح في الحرم أنه في صلاة العيد كان يقرأ سورة الرحمن في الفجر، يطيل ويقرؤها ترتيلاً؛ ولكن لا يحسن أن يطيل الأئمة في بعض المساجد كما يطيلون في الحرم؛ لأن الذين في الحرم ليس وراءهم شيء، إنما ينتظرون الصلاة الأخرى، ولن يخرجوا، لكن لو قدر أن أحد الأئمة يوم العيد أطال على الناس في صلاة الفجر وقرأ سورة المؤمنون مثلاً فسوف يغضب الناس لأنه لم يدع لهم وقتاً يخرجون فيه حتى يغتسلوا ويذهبوا إلى صلاة العيد، لكن يكون هذا الأمر محموداً لو كان الناس سيصلون العيد في نفس المصلى، كما في الحرمين. فعلى الإنسان أن يفقه الدين ويفقه أحكام الفقه قبل أن يتصدر في إمامة الناس، ويعرف متى يطيل ومتى يقصر! نقول: إن الأصل في قرآن الفجر الإطالة، والعلماء يقولون: إن أطول الصلاة التي يقرأ فيها: الفجر، ثم الظهر، ثم العصر والعشاء، ثم المغرب، ويقرنون بالظهر صلاة الجمعة. فالأصل في صلاة المغرب التخفيف، والأصل في العصر والعشاء التوسط، والأصل في الظهر أن تكون طويلة نسبياً. وقد دلت السنة على أن أطول الصلوات صلاة الفجر، وقد أخبر عليه الصلاة والسلام تفسيراً لقوله جل وعلا: {إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء:78]، أن قرآن الفجر تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار، وهنا أخذ العلماء فائدة وقالوا: بما أن صلاة الفجر تشهدها ملائكة الليل والنهار، فصلاة الفجر لا توصف بأنها من صلاة الليل ولا توصف بأنها من صلاة النهار، والعلم عند الله.

تأملات في قول الله تعالى: (ويسألونك عن الروح قل الروح)

تأملات في قول الله تعالى: (ويسألونك عن الروح قل الروح) قال جل وعلا: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء:85]. الروح وردت في القرآن بمعنى القوة، ووردت بمعنى الوحي، {رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} [الشورى:52]. ووردت في القرآن اسماً لجبريل، ووردت صفة لعيسى بن مريم أو اسماً له. ووردت في هذه الآية: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ} [الإسراء:85]، واختلف العلماء في معناها، لكن أظهر الأقوال: أنها الروح المتصلة بالبدن، لكن الله لم يذكر في كتابه قضية الروح بمعنى: أنها متصلة بالبدن، إنما يسميها: نفساً، قال تعالى: {وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} [القيامة:2]، {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} [يوسف:53]، {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ} [الفجر:27]، فلم يقل في القرآن (روح) للنفس داخل الجسد، ولهذا نقول: إذا خرجت من الجسد تسمى روحاً، والنبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: مر على ملأ من يهود فقال بعضهم لبعض: سلوه، قالوا: يا أبا القاسم ما الروح؟ فاتكأ صلى الله عليه وسلم على عسيب نخل ومعه عبد الله بن مسعود، فأنزل الله جل وعلا: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء:85]. فالله جل وعلا يقول: إن الروح من أمره، ويقول: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء:85]، بمعنى ليس من السهل أن نتكلم عنها. لكن نذكر فوائد: العلماء يقولون: إن الروح لها في البدن خمس اتصالات: تعلق حال كونه جنيناً، وتعلق حين خروجه، وتعلق حين منامه، وتعلق في البرزخ، وتعلق بعد البعث والنشور. فيكون الاتصال اتصالاً كلياً، أما الاتصال الموجود حالياً ففيه شيء من الانفكاك، بدليل أن الإنسان ينام وترتفع روحه؛ هذه فائدة. الفائدة الثانية: ما يجري من الأحكام على الأجساد لا يجري على الأرواح، فمثلاً: الجسد بطيء الحركة، ومع ذلك فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول وهو الصادق المصدوق: (إنه صلى بالنبيين إماماً في المسجد الأقصى)، ثم هؤلاء النبيون بعضهم صلى وراءه ثم لقيه في السموات، فقد رأى صلى الله عليه وسلم أرواحهم؛ لأن أجسادهم موجودة في الأرض لم تبعث، ومع ذلك فالأرض لا تأكل أجساد الأنبياء، فروح نبينا صلى الله عليه وسلم في أعلى عليين لكن جسده في حجرة عائشة في مدفنه إلى اليوم. فنقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم رأى أرواحهم، ولهذا يقول العلماء: إن تنقل الأرواح لا يجري عليه نفس الحكم الذي يجري على تنقل الأجساد. أما كيف تتنقل فالله أعلم، قال تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء:36]؛ لأن هذا أمر لم نحط به علماً ولم يخبرنا الله جل وعلا به. إن العلماء يقولون: إن أرواح الموتى تتلاقى، وقد دلت على هذا آثار ورؤىً للصالحين تكاد تكون متواترة لا تكذب. كما أن أرواح الموتى وأجسادهم تنتفع بدعاء الناس، والمؤمن يعلم أن من أعظم ما يعين في الدنيا والآخرة دعاء الله، فلا يحتقرن أحد أن يدعو الله لنفسه أو لغيره، فإن الإنسان لا يدري أي الدعاء أسمع، فكم من مكروه حميت منه بدعائك أو بدعاء والدتك أو برجل يحبك. ذكر ابن القيم وغيره: أنه كان رجل صالح بينه وبين المسجد مقبرة في الطريق، فإذا غدا إلى المسجد أو راح يسلم على أهل المقبرة ويقول: اللهم آنس وحشتهم وارحم غربتهم، ويمضي، فذات يوم نسي أن يدعو لهم، فلما رجع إلى بيته ونام رأى في المنام رجالاً في ثياب بيض يسلمون عليه قال: من أنتم يرحمكم الله؟ قالوا: نحن الموتى الذين في المقبرة التي بجوارك كان الله جل وعلا ينفعنا بدعائك ويخفف عنا فلما نسيتنا اليوم لم ننتفع بشيء. والمقصود: أن الميت لا ينفع غيره وإنما هو الذي ينتفع، فهو ميت انقطع أجله، ولا يملك لنفسه ولا لغيره حولاً ولا طولاً، لكن قد ينتفع الميت وغير الميت بدعاء المؤمنين، ولو لم يكن للدعاء فائدة ونفع لما قال الله عن الصالحين: إنهم يقولون: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:10]. هذا بعض ما يتعلق بعالم الأرواح، والعلم عند الرب تبارك وتعالى.

تأملات في قول الله تعالى: (ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات)

تأملات في قول الله تعالى: (ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات) قال الله جل وعلا: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْألْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا * وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا * فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا * وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا} [الإسراء:101 - 104]. هذه الآية فيها أن الله أعطى موسى التسع الآيات، لكن نريد أن نبين فيها التدرج في الدعوة، فإن الله قال لموسى لما بعثه إلى فرعون مع أخيه: {فَقُوْلَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44]، لكن موسى هنا قال: {وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا} [الإسراء:102]، وهذا ليس قولاً ليناً؛ إذ أن معنى الآية: أن موسى بدأ بالقول اللين حتى استفزه فرعون وأراد أن يخرجه من الأرض وآذاه، فغير موسى خطابه وقال: {وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا} [الإسراء:102]. فلما قال فرعون: {إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا} [الإسراء:101]، قال موسى: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاءِ} [الإسراء:102]، أي: الآيات، {إِلَّا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ} [الإسراء:102]، أي: حججاً وبراهين، {وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا * فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا} [الإسراء:102 - 103]، أي: أخرجناه وأنجينا موسى فالأرض هي أرض مصر؛ لأن القرآن يذكر أنها أرض مصر التي كان يسكنها بنو إسرائيل وأراد فرعون أن يخرج موسى منها. ثم قال الله: {وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا} [الإسراء:104]، السابقون من المفسرين يقولون: إن المقصود بالأرض هنا: أرض مصر والشام، وقوله جل وعلا: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ} [الإسراء:104]، أي: يوم القيامة، على القول بأن: {جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا} [الإسراء:104]، أي: مخلوطين ممزوجين مع الناس. وعلى القول الآخر أي: أنكم مخلوطون قبل يوم القيامة مع الناس. والظاهر والعلم عند الله: أن الأرض هنا غير الأرض في الآية الأولى، فقوله جل وعلا: {اسْكُنُوا الأَرْضَ} [الإسراء:104]، لم يحدد لهم فيها موطناً يسكنون فيه، فهذا أمر قدري، والمعنى والعلم عند الله ولا نجزم به: أن الله فرقهم في الأرض، بمعنى اسكنوا الأرض جميعاً، ولذلك انتشر اليهود في أكثر أرجاء العالم. فقول الله بعدها: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ} [الإسراء:104]، أي: باليهود: {لَفِيفًا} [الإسراء:104]، يعني: مجتمعين من كل مكان، وهذا واقع في عصرنا كما بينا في الدرس الأول: أن اليهود قدموا من جميع أصقاع العالم ونقلوا إلى دولة إسرائيل، فسكنوا الأرض متفرقين، ويدل عليه قول الله جل وعلا: {وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَمًا} [الأعراف:168]، أي: متفرقين، ولذلك يقال: يهود الدونمة، يهود الفلاشى الذين كانوا يسكنون الحبشة، وقلنا: كان في اليمن أربعة ألاف يهودي هاجروا إلى فلسطين، كما هاجر إليها يهود من بولندا، ولذلك فإن زعماء إسرائيل من دول متفرقة. ولذلك اليهود تاريخياً في سكناهم لدول العالم كانوا يأخذون حارات تسمى: حارات اليهود، واليهود ليسوا قوماً يملكون دعوة، أي فهم لا يدعون أحداً لليهودية، وليسوا كالمسلمين أو كالنصارى الذين يسمون دعوتهم تبشيراً، فديننا ولله الحمد دين هداية، ولذا ندعو غيرنا، أما اليهود فلا يدعون إلى دينهم؛ لأن دينهم بالتوارث عبر الأم، يعني: من خلال الأم لا من خلال الأب، وهو دين عنصري لا يتجاوزهم إلى غيرهم. فسكنوا الأرض في كل مكان، ثم لما قامت دولة إسرائيل تحقق الوعد القرآني: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا} [الإسراء:104]، هذا كله خطاب الله عن بني إسرائيل.

تأملات في قول الله تعالى: (وبالحق أنزلناه وبالحق نزل)

تأملات في قول الله تعالى: (وبالحق أنزلناه وبالحق نزل) قال الله تعالى: {وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ} [الإسراء:105]، وهذا عائد إلى القرآن. قوله: {وَبِالْحَقِّ نَزَلَ} [الإسراء:105]، أي: متلبساً به، والمعنى: أنزلناه متضمناً للحق متلبساً به، {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} [الإسراء:105]. قوله: {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ} [الإسراء:106]، تقرأ بالتشديد وتقرأ بالتخفيف: ففرقناه، بتخفيف الراء معناه: فصلنا فيه، و (فرّقناه)، بتشديد الراء أي: أنزلناه مفرقاً منجماً. {قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا} [الإسراء:107]، هذه آية وعيد، وأمر يراد به التهديد. قال جل وعلا: {قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا * وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} [الإسراء:107 - 109]. قال محمد بن إبراهيم التيمي رحمه الله: إن من لم يبكه القرآن لخليق ألا يكون قد أوتي علماً، ثم تلا قول الله: {قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا * وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} [الإسراء:107 - 109]. ختم الله جل وعلا السورة بقوله سبحانه: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} [الإسراء:111]. وسأذكر فائدتين حول هذه الآية: فهذه الآية يسميها العلماء: آية العز، وفيها حديث وإن كان في سنده مقال، لكن أكثر أهل العلم يرتضي هذه التسمية، وبعض الآيات لها أسماء، فآية الكرسي: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة:255]، وآية السيف: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [النساء:89]، وآية المجادلة: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ} [المجادلة:1]، وآية المباهلة: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ} [آل عمران:61]، وآية العز هي التي بين أيدينا الآن: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ} [الإسراء:111]، هذه الفائدة الأولى. الفائدة الثانية: قيل -والعلم عند الله-: إن هذه الآية ختم الله بها التوراة، والتوراة يقولون: إنها مستفتحة بقول الله تعالى في سورة الأنعام: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام:1]، فبعض العلماء يقول: إن أول آية في التوراة أول الأنعام، وآخر آية في التوراة آية العز التي هي آخر آية في الإسراء. هذا ما تيسر إيراده وتهيأ إعداده، والعلم عند الله. وصلى الله على محمد، وعلى آله. والحمد لله رب العالمين.

تأملات في سورة التوبة [1]

سلسلة تأملات قرآنية _ تأملات في سورة التوبة [1] تشتمل سورة التوبة على جملة من الأحكام المتعلقة بعلاقة المسلمين بالمشركين وأهل الكتاب، ففيها إعلان البراءة من المشركين، وبيان الموقف الحربي من المشركين غير ذوي العهد، والأمر بإجارة المستجير ودعوته إلى الإسلام، وذلك أمر يتضمن التفريق بين جملة المشركين، والحرص على إيصال الهدى إلى من يطمح في إسلامه.

ذكر نسبة سورة التوبة وعدد آياتها وزمن نزولها

ذكر نسبة سورة التوبة وعدد آياتها وزمن نزولها الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فهذا درس حول تأملات لنا في كتاب ربنا جل جلاله، وقد كنا قد انتهينا إلى سورة الأنفال، وسنشرع في هذا الدرس -إن شاء الله تعالى- في تأملات في سورة التوبة، سائلين الله جل وعلا التوفيق لما يحبه ويرضاه، والعون والسداد على التأمل فيه. وإن المخاطب بمثل هذه التأملات هم طلبة العلم في المقام الأول، ولهذا يهمنا جداً أن نعرج على ما في الآيات من مسائل علمية يحسن تدوينها، والمقصود من هذه الدروس وأضرابها إنشاء جيل قرآني يتدبر القرآن، وهذه مساهمة -لا أكثر ولا أقل- في إحياء جيل ينشأ على تدبر القرآن؛ لأن الله جل وعلا نعى إلى أهل الإشراك غفلتهم عن القرآن بقوله: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24]. فنقول مستعينين بالله جل وعلا: سورة التوبة سورة مدنية، وعدد آياتها مائتان وتسع وعشرون آية، وهذه السورة من آخر ما نزل من القرآن، كما ثبت عند البخاري في صحيحه في كتاب التفسير من حديث البراء بن عازب رضي الله تعالى عنه أن سورة براءة آخر ما نزل. وليس المقصود بأنها آخر ما نزل كآية، وإنما هي آخر ما نزل كسورة مجملة، وأما آخر آية نزلت ففيها خلاف بين العلماء، فمنهم من قال: هي قوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} [البقرة:281] وهو الأظهر، ومنهم من قال: هي آية المائدة: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3] وقيل غير ذلك، ولكن هذين هما المشهوران.

أهمية فهم التدرج في الأحكام والأمر بالتبليغ

أهمية فهم التدرج في الأحكام والأمر بالتبليغ وقبل أن نشرع في تفسير الست الآيات الأول منها نقدم إجمالاً عن هذه السورة، فنقول: النبي صلى الله عليه وسلم أنزل الله عليه القرآن، وأول ما أنزل: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق:1]، فلم يؤمر صلى الله عليه وسلم بأن يبلغه للناس، وكان يقرؤه في نفسه، ومن سنة الله في خلقه التدرج وعدم إعطاء الشيء دفعة واحدة، فمن رام شيئاً دفعة واحدة سيسقط عما قريب، ولكن الله جل وعلا له سنن لا تتبدل ولا تتغير، والله لا يعجل لعجلة أحد من خلقه، وهو القائل لعبده: {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} [الأحزاب:62] فلا يعطى الإنسان العطايا مرة واحدة، وإنما يتدرج في ذلك، وعلى هذا بنيت الدنيا، وعلى هذا أجرى الله السنن في الكون. فهذا النبي الكريم أنزلت عليه سورة العلق ولم يقل له ربه: ادع الناس، ولم يقل له: اتل القرآن على الناس، فلما نزل من ذلك الجبل خائفاً وجلاً، وضمته زوجته خديجة رضي الله عنها، وآوته واطمأنت نفسه أنزل الله جل وعلا عليه سورة المدثر وأمره بأن ينذر عشيرته الأقربين الذين حوله، ولم يؤمر بأكثر من هذا، ثم بعد ذلك أمر بالعرب الذين في مكة وحولها، كما قال الله: {وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} [الأنعام:92]. والقرآن يجب أن يفهم مقروناً بالسنة؛ لأن من أخطاء من وقع في كتاب ربنا جل وعلا أنهم فهموا القرآن مجزوءاً، ولم ينظروا إلى سيرته صلى الله عليه وسلم وسنته ليفهموا القرآن، ومن أراد أن يفهم القرآن من غير السنة، ومن غير سيرة النبي صلى الله عليه وسلم فلن يفهم شيئاً، وهذا هو الذي وقع فيه الخوارج الأولون لما حاربوا الصحابة؛ لأنهم لم يفهموا مراد الله على ما أراده الله من رسوله صلى الله عليه وسلم، فالله يقول: {وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} [الأنعام:92] ولكن لا يقصد الله من هذا نهاية النذار، وإنما هي التهيئة التدريجية. ثم أمره الله بأن ينذر العرب قاطبة، ثم لما مكن الله له في الأرض صلوات الله وسلامه عليه، وعقد صلح الحديبية مع أهل مكة واطمأن أخذ صلى الله عليه وسلم في عالمية الدعوة، فراسل الملوك والزعماء آنذاك ليحقق قول الله جل وعلا: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان:1]، وقوله جل وعلا: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107]. وفي ظل هذا المفهوم يفهم الإنسان المقصود من سورة التوبة.

بيان طبيعة المرحلة الزمنية التي نزلت فيها السورة

بيان طبيعة المرحلة الزمنية التي نزلت فيها السورة فهذه السورة من آخر ما نزل، حيث نزلت في العام التاسع من الهجرة في شهر رجب، وفي سنة تسع من الهجرة خرج النبي صلى الله عليه وسلم بجيش العسرة إلى تبوك، وقد سميت هذه الغزوة في القرآن بغزوة العسرة، قال الله جل وعلا: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ} [التوبة:117] وسماها النبي صلى الله عليه وسلم في السنة غزوة تبوك، ولذلك لما تكلم الإمام البخاري رحمه الله عنها قال: (باب غزوة تبوك وهي غزوة العسرة)؛ ليجمع بين تسمية السنة وتسمية القرآن. ففي العام التاسع من الهجرة خرج صلى الله عليه وسلم بجيش العسرة إلى تبوك، وفي ذلك الوقت كان هناك شح في المال، وضمور في الثمار، وحر في المناخ، فأصاب الناس فتن، فانقلبوا فكانوا أقساماً في اتباعهم للنبي صلى الله عليه وسلم، فمنهم المثبطون المحبطون، ومنهم الناصرون، ومنهم البكاءون، فنزلت هذه السورة تبين حال المجتمع المدني وقت أن دعا النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة واستنفر الناس لغزوة العسرة، وكشفت الكثير من الأسرار كما سيأتي. ثم عاد صلى الله عليه وسلم من تبوك من تخوم البلقاء، وأذعن له الروم عامة، بمعنى أنه لم تحصل حرب، واطمأن صلى الله عليه وسلم بأن الروم لن تغزوه، فرجع من تبوك حين لم يجد قتالاً، ورجع إلى المدينة، فأراد صلى الله عليه وسلم أن يحج في العام التاسع، ثم قال: إن العرب يحجون عراة، وأنا لا أريد أن أحج على هذا الحال، فأمر أبا بكر بأن يخرج في الناس أميراً على الحج؛ لأن مكة كانت قد فتحت في العام الثامن، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر أميراً على الحج، ثم بعد ذلك أتبعه بـ علي بن أبي طالب ليظهر في الناس مقدمة سورة براءة، وهي الآيات الخمس الأول أو الست الأول من سورة براءة، وهي -وإن كانت في مقدمة السورة- من آخر ما نزل في نفس السورة؛ لأن السورة تكلمت عن المنافقين وعن حالهم مع النبي صلى الله عليه وسلم بين رجب إلى ذي الحجة، ثم نزلت مقدمة السورة فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بأن يجعلوها في المقدمة. فالقرآن الذي نقرؤه اليوم ترتيبه ليس على ترتيب نزوله، وهذا من أهم ما يجب أن تعلمه، فالفاتحة -مثلاً- أول القرآن، ولكنها ليست أول سوره، فالآيات الخمس من سورة العلق هي أول ما نزل، فترتيب القرآن ليس ترتيباً بحسب النزول، وإنما لحكمة توقيفية أرادها النبي صلى الله عليه وسلم بأمر ربه، فكان يملي على الكتبة ويقول: افعلوا كذا، واتركوا كذا، وضعوا الآية في مكان كذا، والسورة بعد كذا، فترتيب سور القرآن ترتيب توقيقي من النبي صلى الله عليه وسلم نفذه الصحابة. والذي يعنينا أن هذا هو المناخ العام لفهم سورة التوبة.

الموضوعان الرئيسان لسورة براءة

الموضوعان الرئيسان لسورة براءة فينجم عما سبق ذكره أن سورة التوبة ذكرت مواضيع عدة، ولكن يمكن أن يقال: إن هناك موضوعين رئيسين تضمنتهما سورة التوبة: الموضوع الأول: علاقة المسلمين بالمشركين وأهل الكتاب. الموضوع الثاني: كشف أسرار المنافقين، وحال الناس مع النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة وفي جيش العسرة على وجه الخصوص. فهذان هما الموضوعان الرئيسان اللذان تعرضت لهما سورة التوبة.

تفسير قوله تعالى: (براءة من الله ورسوله)

تفسير قوله تعالى: (براءة من الله ورسوله) قال الله جل وعلا: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ * وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ * فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ} [التوبة:1 - 6].

ذكر سبب ترك البسملة في أول براءة

ذكر سبب ترك البسملة في أول براءة إن أول ما يلفت النظر في هذه السورة أنها ليست مصدرة بالآية الشهيرة: (بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ)، ولذلك اختلف العلماء في علة عدم تصدير سورة براءة (بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ) على أقوال عدة، وأشهر هذه الأقوال ثلاثة، وسنبدأ بالأضعف ثم الأقوى، ثم نرجح ما نراه راجحاً على عادتنا في التفسير. فقد قيل: إن من أسباب عدم ذكر (بسم الله الرحمن الرحيم) في أول سورة براءة أنه جرت عادة العرب على أنه إذا كان بين قوم وقوم عهد، فأراد طرف أن ينقضه كتبوا إلى الطرف الآخر كتاباً غير مصدر بالبسملة، وهؤلاء يعنون بكلمة: (بسم الله الرحمن الرحيم) (باسمك اللهم)، فهذا قول ذكره العلماء، وهو أضعف الأقوال. القول الثاني: ما رواه الحاكم في المستدرك وأحمد في المسند من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن ابن عباس سأل عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه وأرضاه، فقال له: (لم جعلتم سورة الأنفال -وهي من المثاني- قبل سورة التوبة -وهي من المئين- ولم تجعلوا بينهما سطر (بسم الله الرحمن الرحيم)؟ فقال عثمان رضي الله تعالى عنه وأرضاه لـ ابن عباس: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا نزلت عليه السورة أو الآية يقول: ضعوها في مكان كذا في سورة كذا بعد كذا وكذا، وإن سورة الأنفال من أول ما نزل بالمدينة، وإن سورة التوبة من آخر ما نزل، فمات النبي صلى الله عليه وسلم دون أن يبين لنا هل هما سورة واحدة أم لا، فاختلف الصحابة، فمنهم من قال: إنهما سورة واحدة، ومنهم من قال: إنهما سورتان، فلم يفصلوا بينهما، وجعلوا بينهما فرجة، حتى يعرف أنهما سورتان منفصلتان، ولم يكتب بينهما (بسم الله الرحمن الرحيم) حتى يبقى قول من قال: إنهما سورة واحدة. يعني أن الصحابة تراضوا على هذا القول، حيث جعلوا بينهما فرجة حتى يرضوا من قال: إنهما سورتان، ولم يكتبوا (باسم الله الرحمن الرحيم) حتى يرضوا من قال: إنهما سورة واحدة. وهذا القول اختاره العلامة الشنقيطي رحمه الله في أضواء البيان، وقال كعادته: قال مقيده عفا الله عنك الله عنه: وهو أظهر الأقوال عندي. أي: عند الشنقيطي رحمه الله. وهذا بناء على صحة الحديث، والحديث رواه الحاكم كما قلت، وقال: صحيح على شرطيهما ولم يخرجاه. أي: على شرطي البخاري ومسلم، ولم يخرجاه في الصحيحين. قلت: رواه أحمد في المسند، ورواه البيهقي في السنن، ولكن قال الألباني رحمه الله: إن الحديث ضعيف، وأغرب منه قول العلامة أحمد محمد شاكر محقق كتاب المسند: إن الحديث موضوع لا أصل له. ولم أطلع إلى الآن على نص كلامه. والحق أن المتن يؤيد قول أحمد محمد شاكر رحمه الله؛ لأن الحديث فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم مات ولم يبين لهم هل هما سورة أو سورتان، وهذا صعب أن يقال، فمتن الحديث يؤيد قول العلامة أحمد محمد شاكر: إن الحديث لا أصل له. وممن رأى صحة الحديث من العلماء الترمذي، فقد حسنه وأخذ به، والأثر مقدم على العقل ومقدم على الرأي عند كثيرين، فلذلك اختار الشنقيطي رحمه الله أن أظهر الأقوال هو هذا القول المحكي عن عثمان رضي الله تعالى عنه وأرضاه. القول الثالث: مروي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وعن سفيان بن عيينة المحدث المشهور، وهذا القول هو الذي عليه أكثر العلماء، وهو الذي نراه ونرجحه ونختاره والله أعلم، وهو أن سورة براءة نزلت بالسيف، و (بسم الله الرحمن الرحيم) فيها أمان ورحمة، والأمان والرحمة لا يتفقان مع السيف، فسورة براءة نزلت بالسيف والبراءة من أهل الإشراك، وإثبات الحجة على المنافقين، وهذا لا يتفق مع قوله جل وعلا: (بسم الله الرحمن الرحيم). هذا مجمل الأقوال الثلاثة التي ذكرها العلماء رحمهم الله في علة ترك تصدير سورة براءة بقول الرب جل وعلا: (بسم الله الرحمن الرحيم). وبقية الأقوال يجب ألا ينظر فيها؛ لأنها بعيدة جداً -فيما نحسبه- عن الصواب، والله تعالى أعلم.

ذكر سبب تسميتها بالفاضحة

ذكر سبب تسميتها بالفاضحة هذه السورة من أسمائها الفاضحة، وهذا مروي عن ابن عباس؛ لأنها فضحت أحوال أهل النفاق، وكما رواه سعيد بن جبير. وسعيد بن جبير تلميذ ابن عباس، وهو أحد مشاهير التابعين، خرج على الخليفة عبد الملك بن مروان فقتله الحجاج بن يوسف بأمر عبد الملك بن مروان في فتنة عبد الرحمن بن الأشعث. ولما قتل الحجاج سعيد بن جبير قال الإمام أحمد رحمه الله: قتل الحجاج سعيداً وما من أحد من أهل الأرض إلا وهو مفتقر إلى علم سعيد. والذي يعنينا أن سعيد بن جبير يقول: سألت ابن عباس عن سورة براءة فقال: هي الفاضحة، ما زال ينزل (ومنهم ومنهم ومنهم)، يعني: يذكر الله فيها المنافقين بصفاتهم، كقوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا} [التوبة:58] إلخ الآيات، يقول: فما زال ينزل: (ومنهم ومنهم ومنهم) حتى خفنا ألا تدع أحداً منهم. فلذلك سميت بالفاضحة؛ لأنها فضحت أحوال أهل النفاق والعياذ بالله. وقد أوصل الزمخشري رحمه الله عدد أسماء السورة إلى أربعة عشر اسماً في كتابه الكشاف، والزمخشري عالم لغوي شهير، ولكن عقيدته هي عقيدة المعتزلة، فـ جار الله الزمخشري -رحمه الله وعفا عنه- من مشاهير المعتزلة، ودافع عن مذهبهم دفاعاً صلباً، وإن كان من أفذاذ العلماء في اللغة، وقد مات وأفضى إلى ما قدم. فالذي ذكره أربعة عشر اسماً للسورة، وكلها تدور في فلك واحد حول قول سعيد بن جبير: إنها الفاضحة.

بيان معنى البراءة والجهة الكفرية المقصودة بها

بيان معنى البراءة والجهة الكفرية المقصودة بها يقول تعالى: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [التوبة:1] هنا متبرئ ومتبرأ منه، فالمتبرئ هو الله ورسوله، والبراءة من الذين عاهدتم من المشركين، والبراءة: الانفكاك والتخلص من الشيء، ولا تكون البراءة من شيء إلا إذا كنت لا تريده بالكلية، وهي أعظم صفات الانفكاك من الأشياء، فلو تعاملت مع أحد وأخذت صك براءة فلا يستطيع خصمك أن يطالب بأي شيء؛ لانفكاك تماماً عنه. و (براءة) خبر لمبتدأ محذوف تقديره: هذه براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين. وكان الناس حول النبي عليه الصلاة والسلام ثلاثة أقسام: أهل حرب، وأهل ذمة، وأهل عهد، فأهل الحرب الذين يحاربونه وبينه وبينهم حروب، وأهل العهد هم في الأصل محاربون، ولكن يوجد بينه وبينهم عهد لمدة معينة، وأهل الذمة غير مسلمين يعيشون تحت حكم المسلمين، كاليهود الذين كانوا أفراداً في المدينة. والخطاب هنا ليس موجهاً لأهل الحرب ولا لأهل الذمة، بل موجه لأهل العهد، حيث قال تعالى: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [التوبة:1].

بيان معنى قوله تعالى (فسيحوا في الأرض أربعة أشهر)

بيان معنى قوله تعالى (فسيحوا في الأرض أربعة أشهر) وهذه البراءة فيها: {فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ} [التوبة:2]. ومعنى الآية: أن من كان بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم عهد، أو لم يكن بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم عهد فقد جعل الله لهم أربعة أشهر، وهذه الأربعة الأشهر هي الأشهر الحرم التي حرم الله فيها على المسلمين قتال أهل الإشراك. ثم قال تعالى: {فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ} والخطاب للمشركين، أي: أقبلوا وأدبروا، واغدوا وروحوا، واذهبوا كيف شئتم، فلن ينالكم أذى من المسلمين، فهذا بأمر من الله، ولكن بعد الأربعة الأشهر ينتهي الأمان.

بيان معنى قوله تعالى (واعلموا أنكم غير معجزي الله)

بيان معنى قوله تعالى (واعلموا أنكم غير معجزي الله) ثم قال الله: {وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ} [التوبة:2]، أي: وإن أذن الله قدراً وشرعاً أن تبقوا أربعة أشهر تسيحون في الأرض؛ فإن ذلك لا يعني أبداً خروجكم وانفكاككم عن سلطان الله؛ لأن هذا العطاء من الله. ثم قال تعالى: {وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ} [التوبة:2]، أي: الخزي للكافرين واقع لا محالة في الدنيا والآخرة، واقع في الدنيا بالحرب والقتل والأسر، وبما يقع لهم من التعذيب والنكال، ويقع في الآخرة بشيء واحد هو عذاب النار. وقوله تعالى: {فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} [التوبة:2] يجب أن تعلم أن المخاطب به المشركون، ولذلك لا يجوز نزع الآية من سياقها والاحتجاج بها، وقد قرأت مرة لأحدهم يكتب عن السياحة على أنه يجوز للمؤمن السياحة مطلقاً في أي ديار، فقال: فإن السياحة مباحة، قال الله جل وعلا: {فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ} [التوبة:2]. وهذا إخراج للنص عن سياقه ووضعه في موضع غير موضعه. فقوله تعالى: (فسيحوا في الأرض) المخاطب به المشركون، والمقصود أن لكم أماناً من الله بأن تبقوا في الأرض أربعة أشهر أعطاكم الله إياها حتى يراجع المرء منكم حسابه، ويتدبر في أمره، فربما يفيء إلى أمر الله، وبعد ذلك ينتهي الأمان الذي أعطاهم الله جل وعلا.

تفسير قوله تعالى: (وأذان من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم)

تفسير قوله تعالى: (وأذان من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم) ثم قال الله: {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة:3]. الأذان في اللغة: هو الإعلام، وهذا الأذان تولاه علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث أبا بكر أميراً على الحج، فلما وصل أبو بكر إلى ذي الحليفة بعث النبي صلى الله عليه وسلم بعده علياً، وقد حج أبو بكر بالناس على ناقة النبي صلى الله عليه وسلم العضباء، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم علياً بمقدمة سورة براءة، فانطلق حتى لحق بـ أبي بكر بذي الحليفة المسماة اليوم بأبيار علي، ولا علاقة لـ علي بها، وإنما جاءت التسمية متأخرة، أما على عهد الصحابة والتابعين فلم تكن تسمى بأبيار علي. والذي يعنينا أنه وصل علي إلى أبي بكر، فقال أبو بكر لـ علي -وهذا من أدب الصحابة-: أمير أم مأمور؟ فقال علي رضي الله عنه: بل مأمور. ولما أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بأن يتبرأ من أهل الإشراك، وأن يبين حاله مع مشركي العرب، وأن الإسلام دين واضح لا خداع فيه ولا تمويه، لما أمر الله نبيه بأن يفعل ذلك كانت العادة جارية بأن مثل هذه الأمور لا يبلغها إلا الرجل بنفسه أو رجل من عصبته، ولا شك في أن علياً -من حيث القرابة والعصبة واللصوق بالنبي صلى الله عليه وسلم- أقرب من أبي بكر، وإن كان أبو بكر أفضل من علي قطعاً، ولكن علياً ألصق بالنبي صلى الله عليه وسلم من أبي بكر، بل ألصق بالنبي صلى الله عليه وسلم من كل أحد؛ لأنه زوج ابنته، وتربى في حجره، وهو ابن عمه، وقد قال الإمام أحمد رحمه الله: لم يجمع لأحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من الخصائص ما جمع لـ علي. وهو الذي تولى غسله عليه الصلاة والسلام، فالصحابة الذين كانوا من آل البيت لم يكونوا كذلك مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم وفاته، يعني: فـ العباس كان يسند يده لظهر النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن الذي كان يباشر الغسل هو علي رضي الله عنه، ولما نزلوا في قبره عليه الصلاة والسلام كان علي هو الذي باشر دفنه صلوات الله وسلامه عليه، فـ علي من حيث القرابة ألصق بالنبي صلى الله عليه وسلم -فيما نعلم- من كل رجل، وإن كان العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم وله مزية، ولكن تأخر إسلام العباس جعل لـ علي تلك السابقة. فالرسول صلى الله عليه وسلم يعلم حال العرب الذين لهم أعراف وعادات يحكمها النظام القبلي القديم، فبعث علياً بفواتح سورة براءة مع أبي بكر رضي الله تعالى عنه، فكان الأمير أبا بكر، وكان تبليغ البراءة مسنداً إلى علي رضي الله تعالى عنه وأرضاه.

بيان المراد بيوم الحج الأكبر

بيان المراد بيوم الحج الأكبر يقول تعالى: {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ} [التوبة:3]، ولم يبين الله الأذان والإعلام وذكر الله الزمن تشويقاً فقال: {يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ} [التوبة:3]؛ واختلف العلماء رحمهم الله المقصود بيوم الحج الأكبر على أقوال، ولكن هذه الأقوال تنتهي إلى قولين، ومن قواعد العلم تضييق المسافات حتى تصل إلى قمة الهرم، فمن العلماء من قال: إنه يوم عرفة، وهو منقول عن كثير من الصحابة، والذي عليه أكثر العلماء وأهل التحقيق أنه يوم النحر، وسمي يوم الحج الأكبر لأنه لا تجتمع أعمال الحج في يوم كما تجتمع في يوم النحر، وهذا هو الذي يظهر والله أعلم.

بيان أثر الإيمان وأثر الشرك في عقد الولاية

بيان أثر الإيمان وأثر الشرك في عقد الولاية قال الله تعالى: {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} [التوبة:3]، والغاية المجملة من الآية براءة الرب جل وعلا ورسوله صلى الله عليه وسلم من أهل الإشراك، وهذا يدل على أنه ليس بين المؤمن والمشرك أي عقد من الولاية، وبين كل مؤمن ومؤمن عقد من الولاية بأصل الإيمان فمع اختلاف اللغات والجنسيات وتباعد الديار، وما أحدثه الاستعمار من فرقة يقول تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10]، فأنت ومن في أقصى الشرق أو في أقصى الغرب أخوان في الملة والدين، ولو أن أخاك لأمك وأبيك كان كافراً فليس بينك وبينه أي ولاية، فلا ترثه ولا يرثك، والله يقول عن إمام الحنفاء إبراهيم: ((فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ)) أي: من حال أبيه {أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} [التوبة:114]، والمقصود من هذا أن الله جمع المؤمنين بتوحيده وخالف بينهم وبين أهل الإشراك لأنهم أشركوا، فقال الله: {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} [التوبة:3].

ذكر ما بعث به رسول الله به عليا لينادي به في الناس

ذكر ما بعث به رسول الله به علياً لينادي به في الناس وهذه البراءة لم تكن وحدها الأمر الذي ذهب به علي، وإنما أمر علي بأن ينادي في الناس بأربعة أمور. أولها: أن لا يطوف بالبيت عريان، حيث كانت قريش تسمي نفسها: الحمس، ويقولون لمن يقدم عليهم من خارج مكة: لا يجوز لك أن تطوف في ثياب، فإما أن تشتري ثوباً من قرشي، وإما أن تأخذ ثوباً من أحد من قريش، وإما أن تطوف عرياناً، فكان الناس بعضهم يطوف عراة على فقه قريش، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم علياً بأن ينادي بأن لا يطوف بالبيت عريان. الثاني: أن لا يدخل مكة بعد هذا العام مشرك، وهذه قالها الله في كتابه: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة:28]، فلا يقرب المسجد الحرام مشرك. الثالث: أن من كان له عهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فعهده إلى مدته. الرابع: أنه لا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة، ختم الله لنا ولكم بالإيمان، وأدخلنا الله وإياكم الجنة. فهذه الأمور التي أذن بها علي رضي الله تعالى عنه في الحج كما في قوله تعالى: {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} [التوبة:3].

بيان عامل الواو النحوية وتوجيه المعنى عليها

بيان عامل الواو النحوية وتوجيه المعنى عليها وقوله تعالى: (وَرَسُولِهِ) الواو هنا تحتمل احتمالين: الاحتمال الأول: أن تكون عاطفة، والاحتمال الذي عليه القراءة اليوم أن تكون استئنافية. فإن كانت عاطفة فلها من حيث التصور احتمالان. الاحتمال الأول -والاعتقاد به كفر- أن يقرأها القارئ: (وأذان من الله ورسوله يوم الحج الأكبر أن الله بريء من المشركين ورسوله)، فتعطف الرسول على المشركين، فيصبح معنى الآية في غير القرآن أن الله متبرئ من المشركين ومتبرئ من رسوله، وقد سمع أعرابي رجلاً يلحن ولا يعرف قواعد اللغة، وعنده أعرابي قليل الفقه، فقرأ الرجل العامي: (أن اللهَ بريءٌ من المشركين ورسولِه)، فقال الأعرابي: برئت من رسول الله، برئت ممن برئ الله منه. وهذا الأمر كان أحد أسباب قيام علم النحو؛ فإن أبا الأسود الدؤلي يقولون عنه: إنه لما سمع هذا الأعرابي ذهب إلى علي رضي الله عنه وأخبره الخبر، فقال له: انح للناس نحواً. صنع علم النحو، وهذه لا يقولها مسلم إلا جهلاً، ولا يوجد مسلم يعتقدها أو يقولها. الأمر الثاني: أن تكون (رسوله) معطوفة على لفظ الجلالة، فتقرأ بالنصب، فيصبح المعنى: أن الله ورسوله بريئان من المشركين. والمعنى هنا يستقيم. الحالة الثالثة: أن تقول: (أن الله بريء من المشركين) وتقف، وتأتي بالواو استئنافية لكلام جديد، والمعنى: ورسوله كذلك بريء من المشركين. وهنا الواو تسمى واواً استئنافية، وحق الاسم هنا أن يرفع؛ لأن ما بعد الواو الاستنافية يعرب مبتدءاً. قال تعالى: {فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ} [التوبة:3] والخطاب للمشركين، {وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة:3].

تفسير قوله تعالى: (فإذا انسلخ الأشهر الحرم)

تفسير قوله تعالى: (فإذا انسلخ الأشهر الحرم) ثم قال الله جل وعلا: {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} [التوبة:5]. هذه الآية تسمى آية السيف، وقد عرفنا أن هناك سوراً من القرآن لها أسماء، ولكن ينبغي أن تعلم أن هناك آيات من القرآن لها أسماء، فأشهر آية في القرآن مسماة بآية الكرسي، وهي قول الله جل وعلا: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة:255]. ثم بعدها آية الدين، أو آية المداينة، وهي الآية الثانية والثمانون بعد المائتين من سورة البقرة، في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ} [البقرة:282]، والآية الثالثة منها آية المباهلة في سورة آل عمران، وهي قوله تعالى: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} [آل عمران:61]. الآية الرابعة منها هي آية السيف، وهي الآية الخامسة من سورة براءة، وسميت آية السيف لأن الله أمر فيها بالقتال، وقال بعض العلماء: إن هذه الآية ناسخة لكل ما في القرآن من أمور الكف والإعراض، فالله تعالى يقول: {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ} [الزخرف:89]، ويقول: {فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا} [النجم:29]، وأمر نبيه بالصبر، فقالوا: هذه الآية ناسخة لكل ذلك. وقال بعضهم: إن آية سورة محمد: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [محمد:4] ناسخة لآية السيف، وقال آخرون: إن آية السيف ناسخة لآية سورة محمد، والحق أنه لا تنسخ إحداهما الأخرى، وإنما العمل بها جميعاً، وكل منهما توضع في موضعها الذي سيظهر من سياق الكلام. قال الله تعالى: {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ} [التوبة:5]، يعني: مرت وانتهت، والأشهر الحرم تحتمل معنيين: الأول: الأشهر الحرم التي في الذهن، وهي ذو القعدة وذو الحجة ومحرم ورجب، فثلاثة سرد هي ذو القعدة وذو الحجة ومحرم، وواحد فرد، وهو رجب، وسميت بالأشهر الحرم لأن الله حرم فيها على المسلمين قتال المشركين، فمن هذا المعنى أخذت كلمة الحرم. يقول تعالى: {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة:5]، ومن هنا أخذ العلماء أن هذه الآية اسمها آية السيف.

بيان أنواع تخصيص العموم

بيان أنواع تخصيص العموم وفي القرآن عام وخاص، وفي القرآن ناسخ ومنسوخ، وبينهما فرق دقيق، فانسخ لا يقع في الأخبار، والتخصيص يقع في الأخبار، والنسخ يقع في الشرائع، ولكن التخصيص لا يقع بين شريعة وأخرى، فهذا من حيث الإجمال. وأما من حيث التفصيل فإن العام له ألفاظ، ومن أشهر ألفاظه أم الباب، وهي كلمة (كل)، وهي من أعظم ألفاظ العموم في القرآن، وهي أم الباب، ويتبعها أدوات الاستفهام، وأدوات الشرط؛ ويتبعها بعد ذلك الأسماء الموصولة، ثم المضاف إلى معرفة.

التخصيص المتصل

التخصيص المتصل والعموم إذا خصص فإن مخصصه يقع متصلاً ويقع منفصلاً، ومثال المخصص المتصل قوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ} [القصص:88] فقوله تعالى: (كل شيء) من ألفاظ العموم، ولكن هذا العموم خصص بقول الله تبارك وتعالى: {إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88]، فوجه الله -تعالى الله عما يقول الظالمون- ليس بهالك؛ لأن الآية خصصته من كلمة (كل)، فخرج منها بحرف الاستثناء، أي: استثني وجه الله تبارك وتعالى، فالاستثناء طريقة من طرائق التخصيص، فـ (كل) من ألفاظ العموم، وخُصِص وجه الله جل وعلا من هذا العموم. فهذا التخصيص وقع كله في آية واحدة، ولذلك أسماه العلماء تخصيصاً متصلاً.

التخصيص المنفصل

التخصيص المنفصل والتخصيص الثاني تخصيص منفصل، وهو الذي بين أيدينا، حيث يقول الرب جل وعلا: {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة:5]، فقوله تعالى: {حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة:5] يدل عمومه على أن المشرك يقتل في أي مكان؛ لأن ربنا يقول: (حيث وجتموهم)، ولكن هذا الكلام لا يصح على عمومه؛ لأن هذه الآية مخصص بآية أخرى تدل على أنه توجد أمكنة لا يجوز قتل المشرك فيها، وهي أمكنة الحرم المكي، فالله يقول: {وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ} [البقرة:191]، فيجمع بين الآيتين بأن يقال: إن آية التوبة عامة، وآية البقرة مخصصة لعموم آية التوبة، فالمشرك يجوز قتله حيث وجدناه إن لم يكن له عهد ولا ذمة ولا ميثاق، إلا في المسجد الحرام. فلو جاء إنسان وقتل أحداً في المسجد الحرام وقال: إن الله يقول: (حيث وجتموهم) قلنا له: إن هذه الآية العامة خصصت بقول الرب جل وعلا: {وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ} [البقرة:191]، وهذا تخصيص مكان. ثم إن الله تعالى يقول: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة:5] والآية تعم كل مشرك، ولكن لا يجوز قتل كل مشرك، فالآية هنا مخصصة بالسنة، فلا يجوز قتل النساء، ولا يجوز قتل الرهبان، ولا يجوز قتل الأطفال، فقد دلت السنة بآثار عدة متعاضدة على أنه لا يجوز قتل النساء، ولا قتل الصبيان، ولا قتل الرهبان. فالعموم الذي في قوله جل وعلا: (المشركين) خصصته السنة، وأخرجت السنة النساء، وأخرجت الأطفال، وأخرجت الرهبان، وأخرجت الشيخ الكبير الهرم إن لم يكن له دور في المعركة، أما إذا كان له دور -بحيث يدبر أو يفكر أو يخطط للمعركة- فإنه يجوز قتله ولو كان شيخاً فانياً، مثل دريد بن الصمة، فـ دريد بن الصمة كان شيخاً كبيراً فانياً، وكان ذا عقل وتدبير، وهو أحد فرسان العرب، أدرك يوم حنين وهو كبير، وكان العرب من هوازن قد قدموا رجلاً يقال له: عوف بن مالك، وكان دريد أكثر خبرة منه، فأتي به إلى المعركة وهو أعمى، فكان يتحسس الأرض ويسأل: أين نحن؟ فيقولون: أنت في ديار كذا، فيقول: ليست ديار حرب، اخرجوا خذوا اتركوا، فخاف الزعيم من نفس القبيلة أن يأخذ دريد الأمر منه، فما أراد أن يكون لـ دريد فيها نصيب، فأتى بالسيف وجعل نصله قائماً، وثنى بطنه على السيف وقال: إن لم تطعني هوازن قتلت نفسي. يريد أن يخرج دريداً منها بالكلية. فهوازن كانت متعاطفة معه، فقالوا له: أنت الزعيم، والذي تقوله هو الذي يمضي، فلن نأخذ برأي دريد، فرفع نفسه عن السيف، ووقعت الهزيمة عليه، وكان رأي دريد أشد صواباً، ولكن لم تأخذ به العرب، وهو قائل المثل المشهور: وهل أنا إلا من غزية إن غوت غويت وإن ترشد غزية أرشد وقد قتل دريد بن الصمة المسلمون وهو شيخ كبير؛ لأنه كان يخطط، وله دور في المعركة، أما الشيخ الكبير الذي ليس له يد في المعارك فإنه يترك. يقول تعالى: {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} [التوبة:5] وهذا كله أمر بتضييق الخناق عليهم.

تفسير قوله تعالى: (فإن تابوا وأقاموا الصلاة)

تفسير قوله تعالى: (فإن تابوا وأقاموا الصلاة) ثم قال الله جل وعلا: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة:5]. هذه الآية استدل بها بعض العلماء على أن تارك الصلاة كافر، وحجة من قال هذا قولهم: إن الله ذكر ثلاثة أسباب: ترك الشرك، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وقالوا: إن تارك الزكاة خرج بقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث: (ثم ينظر في سبيله إلى الجنة أو إلى النار)، ويبقى تارك الصلاة والمشرك على حالهما، وهذا رأي جيد، وإن كان هذا ليس محل تفصيله، لكن أنا أذكره لمناسبة الآية {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة:5].

تفسير قوله تعالى: (وإن أحد من المشركين استجارك فأجره)

تفسير قوله تعالى: (وإن أحد من المشركين استجارك فأجره) ثم قال سبحانه: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة:6]. بعد أن ذكر الله جل وعلا لنبيه كيفية التعامل مع أهل الإشراك قال له: إن أحد من المشركين طلب منك أن تجيره وأن يلجأ إليك، فاقبل تلك الإجارة، وذلك لسبب عظيم، وهو أن يسمع كلام الله، فإذا سمع كلام الله وما في كلام الله من وعد ووعيد وثواب وعقاب، فربما كان ذلك سبباً في إسلامه، بدليل أن الله قال بعدها: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ} [التوبة:6]. والذي ينبغي أن تفهمه من الآية أن تفهم أن أهل الكفر -وإن كان الكفر ملة واحدة- تختلف أسباب كفرهم، فمنهم الكافر عناداً، ومنهم من هو كافر جهلاً، فلو قدر له أن يسمع كلام الله لكان ذلك سبباً في إيمانه، فالله يقول لنبيه: {حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة:6]، وهذا دلالة على أن المؤمن واثق بالدين الذي يدعو إليه، فينبغي علينا أن نحرص على أن نسمع من كانت علته الجهل كلام الله، وهذا في بلادنا ما يسمى بتوعية الجاليات، وهو أمر محمود؛ لأن كثيراً من الناس ممن يأتون إلى هذه البلاد يأتون بغير قصد الإسلام، فإذا اختلطوا بالناس ورأوا الإسلام كان ذلك سبباً في إسلامهم، وقد يأتي إنسان يريد أن يكون لاعب كرة، فيختلط بالمسلمين هنا، ثم يرى عظمة الإسلام، فإذا تلي عليه القرآن صار ذلك سبباً في إسلامه. وما يقال في الأفراد يقال في الأمم والدول، فليس السبب في كفر كل دول الكفر واحدً، وإنما تختلف دول الكفر في ذلك اختلافاً واضحاً، فمنها ما هو محارب للإسلام عقيدة، ومنها ما هو محارب للإسلام عملاً، ومنهم من يحارب الإسلام لمصلحة، ومنهم من لا مصلحة له في حرب الإسلام، فلا يحارب الإسلام، فيجب أن نتعامل مع أهل الكفر بحسب سبب كفرهم. ومن ذلك أن وزيرة التربية والتعليم في الدنمارك أعلنت أنها قررت تطبيق تدريس القرآن الكريم في مراحل التعليم العام في الدنمارك، من دون أي ضغط دولي إسلامي، وهذا من أعظم الفتوح في عالم الإسلام اليوم، ولما جاءت المعارضة واحتجت عليها في بلادها لأنها قررت تدريس القرآن قالت: إن الكثير من الدنماركيين مسلمون. وكلمة كثير لا تعني الأكثر، ولا تعني الغلبة، بل يوجد مسلمون دنماركيون ولهم أصحاب من الدنماركيين من غير المسلمين، فنريد منهم أن يتعرفوا على الإسلام. فهذا الفكر العلماني هنا خدم الإسلام بما يسمى سياسياً: تقاطع المصالح، ويجب على من يدعو إلى الله أن ينظر إلى حال أهل الكفر، فليس أهل الكفر -وإن كان الكفر ملة واحدة- في معاداة الإسلام على حال واحدة، بل يوجد بينهم أمور عظيمة من الخلافات، فينبغي للعاقل أن يوطن نفسه في دعوته إلى الله مستشهداً بالآية: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ} [التوبة:6]. قال العلماء: ربما كان سبب كفره الجهل، فإذا رفع عنه الجهل دخل في دين الله تبارك وتعالى. المقصود من هذا أن الإنسان يفرق بين من يدعوهم في تعامله مع الأفراد وتعامله مع الأمم، وتعامله مع الدول بنص القرآن.

دلالة الآية على إثبات صفة الكلام لله تعالى

دلالة الآية على إثبات صفة الكلام لله تعالى والآية فيها دليل واضح على أن القرآن كلام الله، وفيها رد عقدي على المعتزلة الذين يقولون: إن القرآن مخلوق وغير منزل، والله جل وعلا قال: {حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة:6]، فأضاف كلمة (كلام) إلى لفظ الجلالة، وهو ما يسمى بإضافة صفة إلى موصوف، فالله جل وعلا من صفاته تبارك وتعالى أنه يتكلم بما شاء متى ما شاء، وله جل وعلا الأمر كله، وهذا من أدلة أهل السنة، وأدلتهم كثيرة على أن القرآن منزل غير مخلوق. وأما من حيث قواعد اللغة فإن (إن) شرطية، و (أحد) مبتدأ، وقوله: (فأجره) الفاء واقعة في جواب الشرط، وسبب وقوعها كذلك أن الجملة مبدوءة بفعل أمر

تأملات في سورة التوبة [2]

سلسلة تأملات قرآنية _ تأملات في سورة التوبة [2] ذكر الله تعالى في سورة التوبة بياناً لأوصاف أهل النفاق بشكل بين واضح، ومن جملة تلك الأوصاف لمزهم رسول الله في الصدقات ورغبتهم في النيل منها بشكل يدفعهم إلى السخط حال منعهم، وإيذاؤهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بقولهم هو أذن، وغير ذلك، كما ذكر تعالى في السورة مصارف الزكاة لعلمه بما يصلح في قسمتها، وبين تعالى فيها فضل السابقين من المهاجرين والأنصار ذاكراً سبحانه أن باب رحمته مفتوح للاحقين.

إيجاز لما سبق تفسيره من آي سورة التوبة

إيجاز لما سبق تفسيره من آي سورة التوبة بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: فما زلنا نتفيأ دوحة سورة التوبة في التعليق عليها، وقد سبق الحديث عنها أولاً حول مجمل عدد آيها، وأسمائها، وما تعلق بها من موضوعين رئيسيين. وقلنا: إن هذه السورة هي السورة الوحيدة في القرآن التي لم تصدر بقوله جل وعلا: (بسم الله الرحمن الرحيم)، وذكرنا أن للعلماء في هذه أقوالاً عدة خلصنا منها إلى ثلاثة أقوال، ثم قلنا: إن من أرجح الأقوال فيها أنها نزلت بالسيف، وأن (بسم الله الرحمن الرحيم) تتضمن الرحمة والأمان، وهذان لا يتفقان، وقلنا: إن هذا القول منسوب إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، وإلى سفيان بن عيينة رحمه الله تعالى. كما قلنا: إن النبي صلى الله عليه وسلم بعث علي بن أبي طالب رضي الله عنه ليلحق بـ أبي بكر الصديق رضي الله عنه في مسيره رضي الله عنه حين جعله أميراً للحج في السنة التاسعة من الهجرة، وقلنا: إن النبي عليه الصلاة والسلام لم يشأ أن يحج في ذلك العام؛ لأن العرب كان بعضهم يطوف عراة، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم علياً بأربعة أمور: أمره بأن ينادي بأن من كان له مع النبي صلى الله عليه وسلم عهد فعهده إلى مدته، وأنه لا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة، وأن لا يطوف بالبيت عريان، وأن لا يحج بعد هذا العام مشرك، وأنزل الله جل وعلا قوله: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة:28]. ثم شرعنا في بيان الآية الخامسة منها، وهي آية السيف، وتكلمنا عنها، وشرحنا ما تعلق بها من عام وخاص وفق ما سلف قوله.

تفسير قوله تعالى: (ومنهم من يلمزك في الصدقات)

تفسير قوله تعالى: (ومنهم من يلمزك في الصدقات)

تعرية المنافقين بذكر أوصافهم

تعرية المنافقين بذكر أوصافهم وفي هذا الدرس -إن شاء الله تعالى- نختار -كالعادة- بعضاً من آيات هذه السورة، وسنقف عند قول الرب تبارك وتعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ * إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ} [التوبة:58 - 61] إلخ هذه الآية. ثم سنقف إن شاء الله تعالى عند قوله تبارك وتعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ} [التوبة:100]، وسنقف عند قول الرب تبارك وتعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ} [التوبة:107]. هذه هي مواضيع هذا الدرس، نسأل الله جلت قدرته أن ييسر النفع بها للجميع. فنقول: إن الله جل وعلا ذكر في هذه السورة المجتمع المدني الذي كان يعم بالأخيار، ولكن لم يكن يخلو من المنافقين، وكان المنافقون مجاورين للنبي صلى الله عليه وسلم في المدينة ممن مردوا على النفاق كما أخبر الله جل وعلا في القرآن، وهذه السورة سميت بسورة الفاضحة؛ لأنها فضحت المنافقين، كما قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ما زال ينزل من هذه السورة: (ومنهم ومنهم ومنهم) حتى خشي المنافقون أن يسموا بأسمائهم، نسأل الله العافية. وقوله: (منهم) (من) فيه بعضية، وليست بيانية، وستأتي: (من) البيانية، فقول الله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ} [التوبة:58] معناه: وبعض من المنافقين يلمزك في الصدقات.

خبر ذي الخويصرة في قسمة غنائم حنين

خبر ذي الخويصرة في قسمة غنائم حنين وأصل الأمر أن النبي صلى الله عليه وسلم في منصرفه من حنين قسم الغنائم، فأعطى أقواماً حديثي عهد بإسلام، وكان بعضهم مشركين، فأعطاهم من الغنائم يتألفهم بها صلوات الله وسلامه عليه، فجاءه رجل يقال له: ذو الخويصرة التميمي، فقال له: يا رسول الله! اعدل، فقال عليه الصلاة والسلام: (ويحك! من يعدل إن لم أعدل؟!)، فقام إليه عمر فقال: يا رسول الله! ائذن لي أن أضرب عنقه، فقال عليه الصلاة والسلام: (لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه)، وهذا أخذ بما يسمى في السياسة المعاصرة، باعتبار الرأي العام. ثم لما ولى قال عليه الصلاة والسلام: (سيخرج من ضئضئ هذا أقوام يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية) فكان هذه أول نبتة تاريخية لمن سمو بعد ذلك بالخوارج الذين خرجوا على علي رضي الله تعالى عنه وأرضاه. وقد اختلف العلماء في أول فرق الإسلام ظهوراً من أهل البدع، فقال بعضهم: الخوارج، وقال بعضهم: الشيعة، والصواب أنهما متلازمتان في الظهور، وإذا اعتبرنا ذا الخويصرة أصل الخوارج فلا شك في أنهم أقدم تاريخاً؛ لأنهم ظهروا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم.

بيان كشف سرائر المنافقين

بيان كشف سرائر المنافقين قال الله: (وَمِنْهُمْ) أي: من المنافقين، (مَنْ يَلْمِزُكَ) أي: يعيبك وينتقصك، فحين فسد القلب فسد اللسان، وفسد التعبير، قال عثمان رضي الله تعالى عنه: ما أسر أحد سريرة إلا وأظهرها الله على قسمات وجهه أو فلتات لسانه. جعلنا الله وإياكم ممن يسر خيراً. فهذا الرجل شهد مع النبي صلى الله عليه وسلم معركة حنين، ولكنه كان يسر الشر في قلبه، فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم وهو أمين في السماء، واستأمنه الله جل وعلا على أعظم منزل وهو القرآن، وأخذ عليه الصلاة والسلام يقسم الغنائم بحسب المصلحة العليا للإسلام؛ أتى هذا من بين الناس ليقول له: يا محمد! اعدل. فقال عليه الصلاة والسلام: (ويحك! من يعدل؟! إن لم أعدل). فهذا الرجل أسر السريرة المريرة في قلبه، وهي سريرة النفاق، وأظهر ما يخفيه، وكان يظهر خلاف ما يبطنه، فلما جاء هذا الموقف لم يصبر، فأظهر السريرة التي في قلبه، وأخذ يعترض على حكم وقسمة نبينا صلى الله عليه وسلم الذي ائتمنه الرب تبارك وتعالى من فوق سبع سماوات، والله جل وعلا يقول: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام:124]. فالله تبارك وتعالى في هذه الآية يقول لنبيه: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ} [التوبة:58] أي: يعيبك {فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} [التوبة:58]. ومن دلالة قبول الإنسان للحق، أو إرادته للهوى أن ينظر في تصرفه حال المنع والعطاء، فمن الناس من يأتي ليسألك وقد بيت الإجابة من قبل، فإن وافقت إجابتك له الإجابة التي يريدها خرج يمدحك بين الناس ويرفعك على أقوام تعلم أنت أنك لا تصل إلى علمهم، وإن قلت له إجابة تخالف هواه وتخالف مراده خرج يقدح فيك ويقول فيك المعايب، ويظهر ما فيك من النقائص؛ لأن إجابتك لم توافق هواه، فهو لا يريد الحق، بل يريد أن يجبرك على أن يوافق هواك أنت هواه هو. فالله تعالى يقول عن أمثال هؤلاء: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} [التوبة:58]، فهم لا يريدون نصرة دين، ولا إعلاء كلمة الإسلام، ولا إقامة حق، وإنما يريدون أن يتبعوا أهواءهم، فإن أعطيتهم أثنوا عليك، وقالوا: محمد كذا ومحمد كذا يمدحونه، وإن لم تعطهم أطلقوا لألسنتهم العنان في أن ينتقصوك؛ لأنهم لا يريدون ميزان الحق، وإنما يريدون ما يوافق أهواءهم، وهذه إحدى خصال النفاق أعاذنا الله وإياكم منها. ونحن هنا نتكلم عن قوم منافقين حقاً، وليس ذلك أمراً نطبقه على غيرهم من المسلمين، فمعاذ الله، بل نتكلم عن قوم وجدوا بأسمائهم وأعيانهم تكلم الله جل وعلا عنهم، فهؤلاء ليسوا مثلاً يضربه الله للناس، وإنما هم قوم حصل منهم هذا الأمر، ووقعت منهم تلك الأفعال، قال تعالى عنهم: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} [التوبة:58].

ذكر بعض الفروق بين الشيعة والخوارج

ذكر بعض الفروق بين الشيعة والخوارج وقلنا: إن من ذرية هذا الرجل كانت فرق الخوارج بعد ذلك، والخوارج والشيعة -كما قلنا- فرقتان متلازمتان من حيث الظهور، وعلى وجه الإجمال نذكر بعض المقارنة العلمية المحضة بين الفرقتين فنقول: فكلتاهما فيهما الغلو، ولكن الخوارج يغالون في الأحكام، والشيعة يغالون في الأشخاص، فالشيعة غلوا في علي وآل البيت حتى أوصلوهم إلى منازل ليست لهم، حتى قال الخميني في كتاب له اسمه (الحكومة الإسلامية): وإن من أصول مذهبنا أن لأئمتنا منزلة لا ينالها ملك مقرب ولا نبي مرسل. يقصد بأئمتهم الأئمة الإثني عشر من آل البيت، وهؤلاء قوم مرضي عنهم صالحون، ولكن هؤلاء غلوا فيهم مغالاة فاحشة. والخوارج يغالون في الأحكام، فيأتون إلى الحكم فيتشددون فيه على غير فهم وعلى غير علم، وينزلونه جبراً على الناس، هذا الأمر الأول. الأمر الثاني: أن الخوارج يعتمدون على الصدق والمكاشفة، ولا يضمرون شيئاً، والشيعة يعتمدون على التقية والمواراة والالتفات، والخوارج قوم يظهرون ما عندهم، ولذلك جابهوا الحكام عبر الدهور، فجابهوا علياً، وجابهوا الأمويين، وجابهوا عبد الملك، ولا يستترون بشيء، ولكن الشيعة قوم يتحايلون؛ لأنهم قوم يؤمنون بالتقية إلى وقت خروج المهدي الذي يزعمون ويرتقبون خروجه. فالخوارج يعتمدون على الصدق؛ لأنهم يرون أن مرتكب الكبيرة كافر، فلا يكذبون، في حين أن الشيعة يعتمدون على الكذب؛ لأنهم يعتقدون جواز التقية، فيعتمدون على الكذب، والخوارج لا يرون الكذب أصلاً؛ لأنهم يرون أن مرتكب الكبيرة كافر، فيعتمدون على الصدق، ولذلك كان عمران بن حطان أحد زعماء الخوارج وشعرائهم وأخرج له البخاري في الصحيح، اعماداً على أنه لا يكذب أبداً في كلامه؛ لأنهم يرون أن مرتكب الكبيرة كافر. والخوارج أشد شجاعة، فهم لا يخافون الموت لا يهابونه عبر التاريخ كله، يقول قطري بن الفجاءة: أقول لها وقد طارت شعاعا من الأعماق ويحك لن تراعي فإنك لو سألت بقاء يوم عن الأجل الذي لك لم تطاعي فصبراً في مجال الموت صبراً فما نيل الخلود بمستطاع فهذه الأبيات كلها لرجل من أكبر زعماء الخوارج اسمه: قطري بن الفجاءة. في حين أن الشيعة يرغبون بقاء أنفسهم عبر التاريخ، ويحافظون على سلامة أنفسهم ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً.

تفسير قوله تعالى: (ولو أنهم رضوا ما آتاهم ورسوله من فضله)

تفسير قوله تعالى: (ولو أنهم رضوا ما آتاهم ورسوله من فضله) ثم قال الله: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} [التوبة:59]. يبين الله جل وعلا هنا المنهج الحق في العطاء والمنع، فالإنسان عبد لله، والمؤمن يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وأن نفساً لن تموت حتى تستكمل رزقها وأجلها، كما قال صلى الله عليه وسلم، فالله جل وعلا يقول: كان الموقف الشرعي لهؤلاء أن يرضوا بما آتاهم الله ورسوله، {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} [التوبة:59] فلو قالوا: حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله، وعلقوا أنفسهم بالله لكان ذلك خيراً لهم وأهدى سبيلاً. وذكر الرسول هنا لأنه كان حياً، ولا يقال هذا اليوم. وقوله: (إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُون) أي: ينقطعون إلى الله، فلو أنهم انقطعوا إلى الله وسلموا بأمره ورضوا بحكمه جل وعلا وقالوا: (حسبنا الله) لكان خيراً لهم وأعظم وأهدى سبيلاً، وهذا هو الموقف الذي ينبغي على المسلم أن يتبعه في حال الفقر وحال العطاء وحال المنع وحال الأخذ، وحال السراء وحال الضراء، وفي كل حال.

تفسير قوله تعالى: (إنما الصدقات للفقراء والمساكين)

تفسير قوله تعالى: (إنما الصدقات للفقراء والمساكين) ثم قال الله: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} [التوبة:60] هذه آية عارضة داخلة في مجمل بيان الله لأحوال الناس، وإنما كان القول بها قطعاً لأطماع المنافقين في أن يكون لهم حظ من المال. قال الله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة:60]. (إنما) لغوياً تفيد الحصر، وهي أحد أساليب الحصر في لغة العرب، وأحد أساليب الحصر في القرآن، وقول الرب تبارك وتعالى: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ) مع ذكر باقي الثمانية دليل على أنه لا يجوز أن تعطى الصدقات لغير هؤلاء الثمانية. والصدقات هنا المقصود بها الزكاة الشرعية، وليس المقصود بها صدقة التطوع، فالمراد الزكاة التي هي قرينة الصلاة، والتي هي الركن الثالث من أركان الإسلام.

بيان جملة مما دلت عليه الآية

بيان جملة مما دلت عليه الآية وقد دلت الآية على أمور: أولاً: حصر أصحاب الزكاة الثمانية. الأمر الثاني: أن الله جل وعلا تولى تقسيم الزكاة، والله قد خلق النفوس، وهو جل وعلا أعلم بحبها للمال، قال تبارك وتعالى: {وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا} [الفجر:20]، وقال: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} [العاديات:8] والخير هنا بمعنى المال، فالمواريث والزكاة حقوق مالية تتعلق بها أنفس الناس، فلم يكل الله تقسيمها إلى أحد، وإنما تولى الرب جل وعلا مصارفها وتقسيمها، قال الله: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [النساء:11]، وقال: {وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ} [النساء:12]، فقسم تبارك وتعالى المواريث، وحدد أصناف الزكاة، وجاءت السنة ففصلت ما أجمله القرآن، كل ذلك حتى لا يبقى لأحد مشاحة في حق أحد، ولا يبقى تطلع إلى شيء أكثر مما هو مذكور في القرآن، فعلم الله جل وعلا -وهو أعلم بخلقه- تطلع النفوس إلى الأموال، فحسم الرب تبارك وتعالى تعلق العباد بها فقال جل وعلا: ((إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ)) والمذكورون هنا هم الأصناف الثمانية كما هو ظاهر الآية، وقرن الله جل وعلا بين كل صنف وصنف بواو العطف. وذكر الله جل وعلا أربعة منها باللام، وأربعة بحرف الجر (في)، فقال: (لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ) فهؤلاء مذكورون باللام، وقال: (وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ) ثم أعاد العطف فقال تعالى: (وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ). ومجمل ما يراد قوله هنا أن اللام تعني التمليك، فيملك الفقير ويملك المسكين ويملك العامل ويملك المؤلف المال، ولا يقال للواحد منهم: نشترط عليك أن تضعه في كذا أو تضعه في كذا، وإنما تعطي الفقير أو المسكين أو العامل أو المؤلف في يده فيقبضه فيدخل في ملكه، وهو حر في أن يفعل به ما يشاء. أما قول ربنا: (في الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل) فمعناه أنه لا يشترط أن تعطي المال لهم، فمن كان غارماً فإنه يعطي المال للدائن. ومعنى (وفي الرقاب) أي: العتق كما سيأتي، فيعطى لصاحب الرقبة حتى يعتقها، أو للمكاتب حتى يسدد دين الكتابة كما سيأتي. فالفرق بين اللام و (في) يختلف اختلافاً جذرياً كما بينا. وقد ذكر الله الأهم فالأهم؛ والواو لا تفيد الترتيب، ولكن دلت السنة عموماً على أن هناك خصائص في التقديم، فالنبي عليه الصلاة والسلام صعد الصفا وقال: (أبدأ بما بدأ الله به: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة:158])، فقدم الصفا لأن الله قدمها في كتابه، وإلا فالأصل أن الواو في لغة العرب لا تعني الترتيب، ولكن تقديم الله جل وعلا يدل في الغالب على تقديم الأهم فالأهم.

ذكر استحقاق الفقير والمسكين من مال الزكاة

ذكر استحقاق الفقير والمسكين من مال الزكاة قال الله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة:60]. اختلف العلماء في الفرق بين الفقير والمسكين، ولكن الآية تدل على أن الفقير أشد حاجة من المسكين، وهذا الذي نرتضيه، وإن كان في المسألة أكثر من عشرة أقوال. فالفقير والمسكين شخصان غلبت عليهما المسكنة والحاجة إلى المال، إلا أن أحدهما أشد من الآخر.

ذكر استحقاق العاملين على الزكاة من أموالها

ذكر استحقاق العاملين على الزكاة من أموالها ثم قال جل وعلا: {وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} [التوبة:60]، والعاملون هم القائمون على الزكاة من السعاة والجباة والمسئولين الإداريين عن جمع الزكاة، فهؤلاء هم العاملون.

بيان المراد بالمؤلفة قلوبهم

بيان المراد بالمؤلفة قلوبهم ثم قال جل وعلا: {وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ} [التوبة:60]. المؤلفة قلوبهم لم يرد في القرآن كله ذكر لهم إلا في آية تقسيم الزكاة، ففي القرآن يذكر مشركون وكفار ومنافقون ومؤمنون ومجاهدون، وأصناف كثيرة تتكرر، ولكن المؤلفة قلوبهم لم يرد في القرآن ذكرهم إلا في آية مصارف الزكاة. والمؤلفة قلوبهم قد يكونون أهل إيمان وقد يكونون أهل كفر، والجامع بينهما أن في إعطائهم مصلحة الإسلام، فقد يكون المؤلف كافراً فيعطى دفعاً لشره، أو يعطى تأليفاً لقلبه على أن يسلم، أو مسلماً ضعيف الإيمان وله شوكة فيعطى زيادة في إيمانه، أو مسلماً دخل في الإسلام لتوه وله نظراء من الكفار، فإذا أعطيناه طمع نظراؤه من الكفار في الدخول في الإسلام. واختلف العلماء في سهم المؤلفة قلوبهم هل هو باق أو منسوخ، فقال بعضهم: هو منسوخ؛ لأن الله أعز دينه، وهذا كان في أول الإسلام. والحق الذي عليه الجمهور والمحققون من العلماء أنه غير منسوخ؛ لأن الأحوال تختلف، والعصور تتباين، فيطبق في كل عصر ما فيه مصلحة المسلمين العليا، وإن أسقطه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه.

بيان معنى ما تصرف فيه الزكاة من الرقاب

بيان معنى ما تصرف فيه الزكاة من الرقاب ثم قال جل وعلا: {وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ} [التوبة:60]. الرقاب تحتمل أمرين: الأمر الأول أن يشتري صاحب الزكاة من زكاة ماله أمة أو عبداً مملوكاً لغيره، ثم يعتقه، كأن يكون عليه زكاة عشرة آلاف ريال، فيذهب إلى بلد فيه رق كموريتانيا فيشتري بعشرة آلاف ريال عبداً أو جارية مملوكة لغيره، ثم يعتقه، فهذا أحد معاني قول ربنا: (وفي الرقاب)، وهو الأظهر. الأمر الثاني: المكاتب، والمكاتبة غير موجودة في عصرنا، فالمكاتب هو عبد مملوك، فيقول لسيده: سأدفع لك مالاً معيناً أسعى في تحصيله على أن تعتقني، فيوافق السيد، فيأخذ هذا العبد في جمع المال من الناس أو بجهده حتى يحصل ذلك المبلغ الذي يخرج به من ملك سيده، فيصبح حراً. فإعانة هذا المكاتب تجوز شرعاً، وهي داخلة في قول الله تبارك وتعالى: (وفي الرقاب) عند أكثر العلماء لا كلهم. وفي عصرنا هذا نسمع كثيراً أن من فك الرقاب أن يذهب إنسان إلى السجن فيجد شخصاً محكوماً عليه بالقصاص، فيعطي ورثة القتيل المطالبين بالمال أكثر من الدية، كأن تكون الدية مائة ألف، فيقول: أنا سأعطيكم مليوناً، ولكن اتركوا هذا. فهذا النوع من فك الرقاب لا يدخل في الزكاة، فهو عمل خير وفضل وصدقة، ولكنه لا يدخل في مصارف الزكاة، إذ إن عبادة الله تكون بدلالة القرآن لا باللهجة السائرة بين الناس. فالقرآن أنزل عربياً، ومن يعرف لغة العرب يستطيع أن يتعامل مع القرآن، أما اللهجات الدارجة التي تتغير فلا تحكم بها.

بيان معنى الغرم المستحق به من مال الزكاة

بيان معنى الغرم المستحق به من مال الزكاة قال الله: {وَالْغَارِمِينَ} [التوبة:60]. وأصل الغرم في اللغة: اللزوم، كما قال الله تعالى عن جهنم أعاذنا الله وإياكم منها: {إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا} [الفرقان:65] يعني: لازماً لأصحابه. والغارم هو من عليه الدين، والغريم هو الذي له الدين، ويسمى غريماً لأنه ملازم للمدين، والدين عند العرب وأهل العقل والفضل هم بالليل وذل بالنهار، وقالوا: إن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه رأى رجلاً متقنعاً -أي: متلثماً- فقال له: أما بلغك أن لقمان الحكيم يقول: إن التقنع تهمة بالليل أو ريبة بالنهار؟! أو قال كلمة نحوها تذم التقنع، فقال الرجل: يا أمير المؤمنين! إن لقمان لم يكن عليه دين. فهذا كان يتقنع حتى لا يراه أصحاب الدين، ولذلك قال الفقهاء: إن من كان عليه دين وكان يخشى من غرمائه في المسجد تسقط عنه صلاة الجماعة. والغارم في الشرع قسمان: غارم لنفسه وغارم لغيره، فالغارم لنفسه هو من يستدين لمصلحة نفسه، كمن يريد أن يتزوج، ومن يريد أن يطلب علماً، ومن يريد أن يبني بيتاً، ومن يريد أن يؤثث بيته، فهذا غارم لنفسه. وأما الغارم لغيره فهو رجل جاء إلى قوم قد صار بينهم شجار واقتتال وفساد في أموال، فأصلح بينهم وتكفل بإصلاح ما أفسدته الخصومة بين الفريقين، فغرم أموالاً، فأخذ يطلبها من الناس، فهذا غارم لغيره وليس غارماً لنفسه. وكلا الصنفين يعطى من الزكاة، بالقدر الذي يحتاج إليه، وقد قال العلماء: إن الإسلام حث على اجتناب الدين، ومن الدلائل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يصلي على من عليه دين، حتى فتح الله جل وعلا الفتوح، وأخبر بأن الشهادة -وهي من أعظم القربات-: تكفر الذنوب إلا الدين، وقال: (أخبرني به جبريل آنفاً). والعلماء يقولون: إن الإنسان إذا كان يستدين ترفاً فلا يعطى من الزكاة، كإنسان راتبه أربعة آلاف ريال، فكونه تكون له سيارة حق من حقوقه، ولا يخرج عن كونه فقيراً، فلو استدان ليشتري سيارة فارهة جداً لا يركبها أمثاله فهذا دين للترف، فمثل هذا لا يعطى من الزكاة.

بيان المراد بصرف الزكاة في سبيل الله

بيان المراد بصرف الزكاة في سبيل الله ثم قال الله جل وعلا: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة:60]، و (سبيل الله) كبير كما قال مالك، واختلف العلماء في كلمة (سبيل الله) على أقوال عدة، والرأي الراجح -فيما أراه- أن المراد بمن في سبيل الله الغزاة المتطوعون المجاهدون في سبيل الله، فهم المقصودون بقول الرب تبارك وتعالى: (وفي سبيل الله). وقال بعض العلماء: هم طلبة العلم، وقال بعضهم: أهل الحج، وقال بعضهم غير ذلك، ولكن ذلك الذي نرتضيه، والله تعالى أعلم.

بيان المراد بابن السبيل

بيان المراد بابن السبيل ثم قال تعالى: {وَاِبْنِ السَّبِيلِ} [التوبة:60]، وهذا أسلوب عربي، والعرب تنسب الشيء إلى من يلازمه، فيقولون: (ابن السبيل) للمسافر، لأن السبيل هو الطريق، فالله تعالى يقول في سورة الحجر: {وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ} [الحجر:76]، أي: هذه الديار كائنة على طريق مقيم ثابت، أي: ديار ثمود. وتقول العرب: بنات الدهر، والمراد: المصائب، كما قال عبد الله بن الزبير رضي الله عنه: (وبنات الدهر يلعبن بكم) يعني أن المصائب تأتي على الفريقين. ويقولون: بنات أفكاره، أي: آراؤه وشعره ونحو ذلك. والذي يعنينا أن ابن السبيل هو الرجل الذي انقطعت به السبل -وإن كان غنياً في دياره- حتى أصبح محتاجاً إلى المال، فيعطى بمقدار ما يوصله إلى أهله.

ذكر من تحرم عليهم الزكاة

ذكر من تحرم عليهم الزكاة

الكفار والملاحدة

الكفار والملاحدة وإذا ذكرنا من يستحق الزكاة فإنه يلزمنا أن نذكر من لا يجوز أبداً أن يعطوا من الزكاة: فأولهم الكفار والملاحدة وسائر أهل الكفر، فلا يعطون من الزكاة إلا المؤلفة منهم، وهذا ظاهر، إذ كيف تعطي كافراً من زكاة مالك؟! ولكن يجوز إعطاءه من زكاة التطوع؛ لقول الله: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} [الإنسان:8] والأسير لا يكون إلا كافراً.

آل النبي من بني هاشم وبني المطلب

آل النبي من بني هاشم وبني المطلب وممن لا يعطون من الزكاة: بنو هاشم آل النبي صلى الله عليه وسلم، وقد اختلف العلماء في آل البيت على أقوال، فمنهم من قال: إن آل النبي صلى الله عليه وسلم هم قريش كلها. وهذا بعيد. وقيل: هم بنو هاشم، وهذا أقوى من الأول. والراجح أن المقصود بمن لا يعطون الزكاة بنو هاشم بالإضافة إلى بني المطلب. وهاشم هو ابن عبد مناف، وعبد مناف قد ترك أربعة من الولد: نوفلاً وعبد شمس وهاشماً والمطلب، وهاشم كان منه النبي صلى الله عليه وسلم. ولما حاصرت قريش النبي صلى الله عليه وسلم وبني هاشم في الشعب جاء أبناء المطلب فدخلوا مع النبي صلى الله عليه وسلم، وبقي بنو نوفل وبنو عبد شمس مظاهرين عليهم. فقال عليه الصلاة والسلام -كما في البخاري -: (إن بني المطلب لم يفارقونا في جاهلية ولا في إسلام، وإنما نحن وهم شيء واحد، وشبك صلى الله عليه وسلم بين أصابعه) وهذا مذهب الشافعي، وإحدى الروايتين عن الإمام أحمد، وهو الحق إن شاء الله، فهؤلاء لا يعطون من الزكاة؛ لأنها أوساخ الناس. واختلف العلماء فيما لو كان موالي بني هاشم من العاملين عليها، فهل يعطون أو لا يعطون. فقال فريق: يعطون، والأظهر أنهم لا يعطون؛ لحديث أبي رافع -وهو مولى للنبي صلى الله عليه وسلم- أنه جاءه رجل من بني مخزوم، فقال: اذهب معي نسعى في الزكاة حتى نكسب؛ لأن العاملين عليها يأخذون منها، فقال: دعني أستشير النبي صلى الله عليه وسلم، فلما سأله قال عليه الصلاة والسلام: (مولى القوم منهم) فموالي بني هاشم كذلك لا يعطون من الزكاة، وأما صدقة التطوع فمسألة فيها خلاف كثير بين العلماء، والذي يظهر أنهم لا يعطون منها.

أصول المزكي وفروعه

أصول المزكي وفروعه والصنف الثالث ممن لا يعطون من الزكاة: أصول الرجل، وهم آباؤه وإن علو، وأمه فمن فوقها من أمهاتها، فلا يعطي الرجل من الزكاة أباه ولا أمه، وإن قال شيخ الإسلام ابن تيمية: إنهم يعطون، ولكن القول الذي عليه أكثر العلماء أنهم لا يعطون؛ لأنه يجب عليه نفقتهم. وبعد الأصول الفروع، فلا يجوز للرجل أن يعطي ابنه ولا ابن ابنه، ولا ابن ابنته ولا ابنته، وقد ذكر الله في القرآن الفروع والأصول في آية غير الزكاة، وذكر الحواشي، وهم الإخوان والأخوات، وفيهم نظر، والأرجح -إن شاء الله- أنه يجوز إعطاؤهم من الزكاة؛ لأنه لا تجب نفقتهم في الأصل.

جهات الخير العامة

جهات الخير العامة ومما لا تصرف فيه الزكاة: أعمال الخير المطلقة، فلا يجوز أن يبنى منها مسجد، أو تقام جمعية خيرية وتعنى بتكفين الموتى، وإن كان هذا خيراً، أو تبنى قناطير خيرية، أو تبنى مطاعم أو ما أشبه ذلك من الصدقات العامة، كصدقة إفطار الصائم. فهذه الجهات لا تصرف فيها الزكاة؛ لأنها ليست المصارف الثمانية، و (إنما) تفيد الحصر. وأقول: إذا كنت تريد أن تخرج الزكاة الشرعية فأعطها شخصاً بعينه لترتاح، وأما الصدقات العامة فإنها ترجع إليك، فتعطيها أي مؤسسة تطمئن إليها، أما صدقة الفرض فأعطها أخاً لك أو قريباً أو طالباً يدرس في حيك، أو فقيراً في الحي تعرفه، أو أحد جيرانك، فتبرأ ذمتك حين تتأكد من أنها وصلت إليه. أما صدقة التطوع فتحتاج إلى جهد، كالطعام والكسوة، فصعب أن تقوم بها بمفردك، والجمعيات والمؤسسات الخيرية أقدر منك على إيصالها، ففرق بين الأمرين.

تفسير قوله تعالى: (ومنهم الذين يؤذون النبي)

تفسير قوله تعالى: (ومنهم الذين يؤذون النبي) قال الله جل وعلا: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [التوبة:61]. هذه الآية سبب نزولها أن قوماً من أهل النفاق كانوا يتحدثون في مجالسهم الخاصة فيعيبون النبي صلى الله عليه وسلم، فيقول بعضهم لبعض: نخشى أن يصله كلامنا. فيقولون: إن النبي صلى الله عليه وسلم أذن، أي: يصدق كل شيء، فإذا بلغه أننا تكلمنا فإننا سنذهب إليه فنعتذر فسيصدقنا، فكانوا يصفون النبي صلى الله عليه وسلم بالبلاهة، يريدون أن ينتقصوه. فالله تعالى هنا يدافع عن نبيه ويناصره ويتولاه، ويقول: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ} [التوبة:61]، والأذن: الجارحة المعروفة، والمقصود أن النبي يسمع ويصدق كل ما يقال له حسب زعمهم فقال الله: (قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ) والنبي صلى الله عليه وسلم أرفع مقاماً، وأكمل خلقاً، وأجل سيرة مما افتراه هؤلاء عليه، بل كان عليه الصلاة والسلام يتغافل عما لا يشتهي، ولم يكن فيه إلا الرحمة والخير للناس، كما قال الله عنه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107]. فقال الله هنا: {قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} [التوبة:61] فجاء بالفعل (يؤمن) معدًّى في الأولى بحرف الجر الباء، ومعدًّى في الثانية بحرف الجر اللام، والمقصود هو الفرق في التعدية هنا؛ فقوله جل وعلا: (يؤمن بالله) لبيان أن إيمانه صلى الله عليه وسلم بوجود ربه أمر لا يخالطه فيه شك أي: في وحدانية ربه وإلهيته ووجوده، وأما قوله تعالى: (ويؤمن للمؤمنين) فلبيان أن النبي ليس مسئولاً عن سرائرهم، وإنما يسلم أمرهم لله، فيؤمن بما ظهر منهم ويكل سرائر الناس إلى خالقهم. ثم قال جل وعلا: {وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ} [التوبة:61]، ولا شك في أن النبي صلى الله عليه وسلم في بعثته رحمة، وفي هديه رحمة، وفي سيرته رحمة لكل من يقتفي أثره ويتبع سنته.

بيان عظم خطر أذية رسول الله صلى الله عليه وسلم

بيان عظم خطر أذية رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال الله: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [التوبة:61]. إنه إذا كان المسلم مطالباً بأن يؤمن ويحب ويوالي ويناصر رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فما بالك بمن يؤذيه عليه الصلاة والسلام؟! فأذيته عليه الصلاة والسلام وانتقاصه حياً أو ميتاً ولو بمقدار شعرة مع اعتقاد ذلك كفر مخرج من الملة يقتل صاحبه ولو تاب، ويهرق دمه، ولكن يقيمه ولي أمر المسلمين، وأمره إلى الله تبارك وتعالى إن صدق في توبته أو لم يصدق، ولكن لو أظهر صدق التوبة فإنه يقام عليه الحد ويقتل إذا انتقص من نبينا صلى الله عليه وسلم. وسند العلماء في هذا أنه أخرج أبو داود بسند صحيح من حديث ابن عباس أن رجلاً أعمى كانت له أم ولد تقوم برعايته، وأنجب منها طفلين، وكانت هذه المرأة تحبه رغم أنه أعمى، وكانت شفيقة به رفيقه تقدم له كل شيء، إلا أنها كانت تقع في رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان هذا الأعمى ينهاها فلا تنتهي، فوجدت هذه المرأة ذات مرة مقتولة قد بقر بطنها ولطخ دمها الجدار، فقام صلى الله عليه وسلم خطيباً في الناس، فقال: (أنشد الله رجلاً لي عليه حق ويعلم عن هذا الأمر شيئاً إلا أخبرنا به)، فقام هذا الأعمى من آخر المسجد يقطع الصفوف ويضطرب في مشيته حتى وصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله! أنا صاحبها، أنا قتلتها، فتعجب منه صلى الله عليه وسلم وقال: ولم؟ قال: إنها كانت تقع فيك فأنهاها فلا تنتهي، وأزجرها فلا تنزجر، فوقعت فيك البارحة فنهيتها فلم تنته، وزجرتها فلم تنزجر، ثم ذكر قصته أنه قام إلى المعول -والمعول: السيف القصير- فأخذه وأتاها وهو أعمى لا يراها، حتى علم أنه أصاب بطنها، فاتكأ على المعول حتى بقر بطنها وقتلها، فلما أتم حديثه قال صلى الله عليه وسلم: (اشهدوا أن دمها هدر). فمن هذا الحديث وغيره من الأحاديث أخذ العلماء أنه لا تجوز أبداً أذيته صلوات الله وسلامه عليه. والذي يعنينا هو أن الله توعد بالعذاب الأليم من يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم.

بيان عظم خطر الغلو في رسول الله صلى الله عليه وسلم

بيان عظم خطر الغلو في رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى الناحية الأخرى لا يجوز للمؤمن أن يغلو في تعظيمه صلى الله عليه وسلم، فهو عليه الصلاة والسلام بشر، وليس له من خصائص الإلهية ولا الربوبية شيء، وإن كان أفضل الخلق مقاماً، وأعلاهم منزلة بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم. وقد نشأت مظاهر هذا الغلو بعد سقوط بغداد على يد هولاكو حيث أصاب الأمة مرحلة من الضعف السياسي والاقتصادي والعلمي والعقدي، حتى ظهر ما يسمى بأدب التصوف أو بأدب المدائح النبوية، فجاء أقوام يبالغون فيه صلى الله عليه وسلم لقلة العلم العقدي، فأنشئت قصائد لا تجوز شرعاً في حقه صلى الله عليه وسلم، منها قصيدة البوصيري المشهورة: أمن تذكر جيران بذي سلم مزجت دمعاً جرى من مقلة بدم أم هبت الريح من تلقاء كاظمة وأومض البرق بالظلماء من إضم وقد سماها: الدرر البهية في مدح خير البرية أو كلمة نحوها، وقد مات في آخر القرن السابع، وأمره إلى الله. وقال في القصيدة عفا الله عنا وعنه: يا أكرم الرسل ما لي من ألوذ به سواك عند حلول الحادث العمم ولا ريب في أن هذا عين الشرك وعين الكفر الذي بعث النبي صلى الله عليه وسلم لهدمه ونقضه، حتى قال الإمام الشوكاني رحمه الله معلقاً على هذا البيت: إنا لله وإنا إليه راجعون، انظر كيف غفل عن الله ولاذ بالنبي صلى الله عليه وسلم، والنبي عبد لله ورسول من رسل الله صلى الله عليه وسلم؟! فمثل هذا لا يمكن أن يقبل، ولا يجوز ما قاله البوصيري ولا ما قاله أترابه وأقرانه ممن غالوا فيه صلوات الله وسلامه عليه، وهو عليه الصلاة والسلام بما أعطاه الله من المناقب في غنى عما قاله هؤلاء الضعفاء في الإيمان، والجاهلون، فله صلى الله عليه وسلم المقام الرفيع، ولكن لا يجوز لأحد أن يغلو فيه صلوات الله وسلامه عليه.

تفسير قوله تعالى: (والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار)

تفسير قوله تعالى: (والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار) قال الله جل وعلا: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة:100]. هذه الآية مما يفتح لكل مسلم باب الترغيب في العمل الصالح؛ لأن الله جل وعلا ذكر فيها المهاجرين، وذكر الأنصار، وذكر جل وعلا التابعين لهم بإحسان، وهذا الوصف يدخل فيه كل مؤمن إلى يوم القيامة. قال جل وعلا: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [التوبة:100]، وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيح قوله: (أمتي كالمطر لا يدرى خيره أوله أم آخره) والله يقول في الجمعة: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الجمعة:3]، فباب الرحمة مفتوح، واللحاق بهؤلاء أمر مقدور عليه، وكان عمر رضي الله تعالى عنه يظن أن هذا محال، وكان يقرأ هذه الآية هكذا: (والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار الذين اتبعوهم بإحسان) فأصبح فيها على قراءة عمر فريقان: الأنصار والمهاجرون، فلما قرأها على زيد -وكان زيد أعلم من عمر بالقرآن- قال: يا أمير المؤمنين! فيها واو. فقال: ليس فيها واو. ثم قال عمر: ادع لي أبياً. يعني: أبي بن كعب، فصدق أبي قول زيد، وقرأها: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ} [التوبة:100]، فقال عمر رضي الله عنه: ما كنت أدري أن أحداً سيبلغ مبلغنا، يعني: ما كنت أظن أن الباب مفتوح. ولكن رحمة الله واسعة، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: (وددت لو أني رأيت إخواني، فقالوا: يا رسول الله! ألسنا إخوانك؟! قال: بل أنتم أصحابي، ولكن إخواني لم يأتوا بعد)، وهذا داخل فيه كل من اتبع السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار بإحسان.

بيان المراد بالمهاجرين

بيان المراد بالمهاجرين والمهاجرون: كلمة أطلقت على من هاجر إلى مكة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا هجرة بعد الفتح) يقصد: لا هجرة من مكة، وإلا فالهجرة قائمة إلى الآن، فيترك الإنسان ديار الكفر ويأتي ديار الإسلام. والذي يعنينا أن هؤلاء المهاجرين هم أعلى الأمة مقاماً؛ لأن الله بدأ بهم، واختلف في معنى (السابقين)، فمنهم من قال: هم من صلوا إلى القبلتين، وفرض تحويل القبلة بعد ستة أو سبعة عشر شهراً من الهجرة إلى المدينة، فمن آمن قبل هذا يكون من السابقين على هذا القول. وقال آخرون: من شهد بدراً، وهذا أوسع زمناً. ومنهم من قال: من شهد بيعة الرضوان، وأظنه أرجح وأرحم، فمن شهد بيعة الرضوان في السنة السادسة وكان قد هاجر إلى المدينة قبل هذا الوقت يدخل في قوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ} [التوبة:100]. والمهاجرون رضي الله عنهم وأرضاهم كثر، ومن أشهرهم الخلفاء الأربعة الراشدون. ثم قال جل وعلا: {وَالأَنصَارِ} [التوبة:117] والأنصار تسمية شرعية وليست تسمية نسبية، وإنما سمو أنصاراً لأنهم نصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا أطلقت فإنه يراد بها الأوس والخزرج، والأوس والخزرج رجلان أخوان اسم أحدهما: الأوس بن حارثة واسم الآخر الخزرج بن حارثة، وحارثة ممن هاجروا من اليمن بعد وقوع السد وسكنوا المدينة، وكانت قبائل اليمن قد تفرقت في مواطن شتى، وسكن منهم الأوس والخزرج المدينة، فإذا قيل: (الأنصار) فإنه ينطلق في أول المقام إلى الأوس والخزرج. وكان بينهما من النزاع والنفرة قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم ما الله به عليم، فلما بعث صلوات الله وسلامه عليه آخى بينهم وسماهم الأنصار، وقد جاء في الأحاديث الصحاح الكثير من مناقبهم، قال عليه الصلاة والسلام: (لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار)، وقال: (اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار) وقال: (إن الناس يكثرون والأنصار يقلون) وأوصاهم بالصبر، وقال لهم: (إنكم ستجدون أثرة بعدي، فاصبروا حتى تلقوني على الحوض) رضي الله عنهم وأرضاهم، وقد قدموا أنفسهم ودورهم ومهجهم وأموالهم من أجل نصرة الله ورسوله. ومن أشهر الأنصار من الأوس سعد بن معاذ رضي الله تعالى عنه وأرضاه، ومن أشهر الأنصار من الخزرج سعد بن عبادة وحسان بن ثابت رضي الله تعالى عنهما، وبنو عمر بن عوف الذين نزل النبي صلى الله عليه وسلم في دارهم في أول مقدمه المدينة بعد هجرته.

بيان سعة رحمة الله وفضله على عباده اللاحقين

بيان سعة رحمة الله وفضله على عباده اللاحقين ثم قال الله: {وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ} [التوبة:100]، وهذا القيد لابد منه؛ لأن الله لما قال: (وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ) أطلق ولم يذكر قيداً، ولكن حين قال: (وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ) جاء جل وعلا بقيد، وهو (بِإِحْسَانٍ)، والإحسان: الإتقان، والمعنى: أن ينظر في صنيعهم، فالمقصود أن هؤلاء المهاجرين والأنصار وقع منهم هفوات وزلات وأخطاء، فلا يجوز أن نتبعهم فيها، وإنما المقصود اتباعهم فيما أصابوا فيه من الاعتقادات والأقوال والأعمال.

بيان عظم جزاء الصالحين من السابقين واللاحقين

بيان عظم جزاء الصالحين من السابقين واللاحقين قال تعالى: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [التوبة:100]، ولا يوجد نعمة أعظم من رضوان الله، قال الله في كتابه: {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} [التوبة:72]، والمعنى: ورضوان من الله أكبر من كل نعمة، أي: لا يعدل رضوان الله جل وعلا شيء، ودليل ذلك أن الله جل وعلا يخاطب أهل الجنة آخر الأمر فيقول: (أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبداً)، فلا يعدل رضوان الله شيء، بلغنا الله وإياكم رضوانه. قال الله تعالى: {وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا} [التوبة:100] هذه هي قراءة الأكثرين، وقراءة أهل المدينة على قراءة ابن كثير: (تجري من تحتها الأنهار) بزيادة (من)، والذي عليه الأكثرون بغير حرف الجر، ولا تختلف القراءات في المعنى كثيراً. قال تعالى: {وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة:100]. والمقصود من هذه الآية هو أنه كان الكلام عن أهل النفاق ثم أردف بالكلام عن أهل الفضل، فكما أمرنا الله بأن نجتنب أحوال أهل النفاق أمرنا الله بأن نتبع أحوال أهل السبق من المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم وأرضاهم، وأن نقتفي سيرهم ونلتمس هديهم، ونتتبع آثارهم ونكون كما كانوا.

تفسير قوله تعالى: (والذين اتخذوا مسجدا ضرارا)

تفسير قوله تعالى: (والذين اتخذوا مسجداً ضراراً) يقول الرب تبارك وتعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} [التوبة:107 - 108]، لقد نزل النبي عليه الصلاة والسلام أول ما نزل المدينة في قباء عند المسجد المؤسس اليوم، وكانت هناك دار لرجل يقال له: كلثوم بن الهدم أحد الخزرج من بني عمرو بن عوف، فنزلها حين دخل المدينة يوم الإثنين، فمكث فيها الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس، وفي يوم الجمعة قبل الزوال خرج من دار كلثوم بن الهدم حتى وصل إلى مكان المسجد المسمى الآن مسجد الجمعة وصلى فيه، ثم أتى مسجده الموجود الآن فأناخ الراحلة، وكان قد أسس صلى الله عليه وسلم مسجد قباء، ولكنه لم يبنه، وإنما بناه بنو عمرو بن عوف بعد ذلك، وكان لبني عمرو بن عوف جيران من الخزرج نشأوا على الشرك والضلالة، وأكثرهم منافقون، فبنوا مسجداً ضراراً ينازع هذا المسجد؛ لأن هذا المسجد كان يغص بالمصلين، فتجتمع الكلمة وتتآلف القلوب ويتوحد الصف، فبنوا ذلك المسجد وزعموا أنهم بنوه لذي العلة ولليلة المطيرة ولليلة الشاتية، وللحاجة، وقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إننا بنينا مسجداً ونريد أن تأتي وتصلي فيه كما صليت في مسجد قباء لإخواننا من بني عمرو بن عوف، فاعتذر النبي صلى الله عليه وسلم لأنه كان على شغل، حيث كان على جناحي سفر ذاهباً إلى تبوك، فلما قدم من تبوك أوحى الله جل وعلا إليه بقوله: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا} [التوبة:107]، فانتدب صلى الله عليه وسلم نفراً من الصحابة منهم رجل يقال له: مالك، ومنهم وحشي قاتل حمزة في أربعة ليحرقوا ذلك المسجد ويهدموه، فأتوا المسجد وأخرج مالك من بيته شعلة نار وأحرق المسجد وهدمه، ثم أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يكون مكان المسجد مكاناً كناسة، أي: توضع فيه القمامات وفضلات الناس نكالاً بهم. هذا هو مسجد الضرار الذي قال الله فيه: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا} [التوبة:107]، والضرار: المنازعة، والذي يدفع إليه هو الحسد، {وَكُفْرًا} [التوبة:107] لأنهم أرادوا بذلك زيادة النفاق الذي في قلوبهم {وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ} [التوبة:107] تدل الآية على أن كل عمل يراد به تفريق الناس أمر محرم شرعاً يؤدي إلى الكفر ولو كان في المسجد، فلا يوجد مصلحة في الدين أعظم من اجتماع كلمة الناس، وكل من حمل لواءً يريد فيه أن يفرق بين المسلمين فإنه يجب نبذه وتركه ولو تستر بألف ستار، فهذا مسجد كان بالإمكان أن يأمر النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة أن يأتوه ويغيروه ويحولوه، ولكنه أسس على باطل، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بهدمه وإحراقه.

بيان حكم الظهور في القنوات التلفزيونية

بيان حكم الظهور في القنوات التلفزيونية ومن هنا نقول والله أعلم: إن القنوات المعاصرة اليوم إن أسست على باطل لا نرى جواز الظهور فيها، ولو ظن من يظهر فيها أن هناك مصلحة، أما إذا أسست على حق فإنه يجوز الظهور فيها وإن خالطها شيء من الحرمة. فإذا جاء إنسان قد أسس قناة تبث أفلاماً، ثم قال للشيخ والشيخ والشيخ نحن نريد منكم دروساً في هذه القناة، فإنا نقول -والله تعالى أعلم-: إنه لا يجوز شرعاً الظهور في مثل هذه القناة؛ لأن هذا تقرير لصحة ما بنت عليه القناة أمرها. أما إذا وجدت قناة إسلامية فإنه يجوز الظهور فيها، كالمجد مثلاً، ونحن لا نمدح المجد لمصلحة، وإنما نمدح قناة المجد لأنها المنارة الوحيدة الموجودة الآن التي تبث الإسلام كما يريد فيما نعلم، ويضاف إليها قناة الفجر، وهناك قنوات رسمية لبعض الدول لم تؤسس على حق ولا على باطل، بل لمصلحة، فهذه يجوز الظهور فيها لتوسطها. ولا يعقل أن تأتي قناة تبث فلماً إباحياً أو فلماً يكاد يقرب من دوافع الفحشاء ثم يؤتى فيها برجل يحدث، ثم ينتهي هذا الرجل ويؤتى بفلم آخر على نفس المنوال، فهذا عبث، ومثاله في الواقع كرجل أراد أن يعمل حفلة فرح، فجاء براقصات ومغنين عراة، فجاء ناس ينكرون عليه فقالوا: هذا حرام لا يجوز، فقال: ليست هناك مشكلة، فهذا الفرح من الساعة التاسعة العاشرة، ومن إحدى عشرة إلى الواحدة أسمح لكم بأن تأتوا على نفس المسرح لتلقوا أي حديث فهل يجوز لرجل أن يأتي هذا المكان ويلقي هذا الحديث ويخرج وهو يعلم يقيناً أن قبله محرم وبعده محرم؟! و A لا، لا يمكن؛ لأنك أنت إذا فعلت فقد جعلت الناس يكثرون ويأتون. وهنا مسألة مهمة، وهي أنه لا يعني ذلك أن من ظهر من علمائنا وفضلائنا في مثل هذه القنوات يتهم بشيء، فنحن نقول ما ندين الله به، فما نراه حقاً قد يكون خطأ عند غيرنا، وما نراه خطأ قد يكون صواباً عند غيرنا، فنحن نبين الحكم على ما نرتضيه، ولكن لا يجوز لنا ولا لغيرنا أن نقدح في أحد من علماء المسلمين رأى أنه توجد مصلحة في الخروج في تلك القنوات، فأنا أقول ما أدين الله به في هذه الآية: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا} [التوبة:107]، فهذا مسجد بني وسقف ووجد، وكان له إمام، فلو كان شيء أسس على باطل يمكن قلبه إلى حق لكان هذا المسجد، حيث كان صلى الله عليه وسلم سيرسل أبي بن كعب إماماً له وتنتهي القضية.

بيان معنى قوله تعالى (وإرصادا لمن حارب الله ورسوله)

بيان معنى قوله تعالى (وإرصاداً لمن حارب الله ورسوله) ثم قال تعالى: {وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ} [التوبة:107]، الإرصاد: التربص والترقب، وكان هناك رجل يقال له: أبو عامر الفاسق، وكان يقال له في الجاهلية: أبو عامر الراهب، وقد قال للنبي صلى الله عليه وسلم بعد أحد: لا أجد قوماً يقاتلونك إلا قاتلتك، فقاتله حتى مع هوازن يوم حنين، ثم خرج إلى قيصر وقال للمنافقين الذين في المدينة: ابنو المسجد وترقبوا عودتي من قيصر بالجنود حتى نخرج محمداً وأصحابه منها، فهذا معنى قول الله: {وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ} [التوبة:107]، والمقصود هو أبو عامر الراهب، وهو والد حنظلة بن أبي عامر غسيل الملائكة، فسبحان من يخرج الحي من الميت، وليس هناك حياة أعظم من حياة الإيمان، ولا موت أعظم من موت الكفر. ثم قال تعالى: {وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى} [التوبة:107]، ولا يوجد إنسان يريد أن يضل الناس فيقول لهم: أنا أريد أن أضلكم، فالله يقول: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} [البقرة:11]، وهنا قال تعالى: {وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [التوبة:107]، فقال الله لنبيه: {لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا} [التوبة:108] فأحرقه صلى الله عليه وسلم.

تفسير قوله تعالى: (لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه)

تفسير قوله تعالى: (لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه) ثم قال له: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى} [التوبة:108]، وهو مسجد قباء على الصحيح {مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ} [التوبة:108] أي: من أول يوم حضرت فيه المدينة {أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ} [التوبة:108]. وإذا كان مسجد قباء الذي أسسه النبي صلى الله عليه وسلم جاء فيه هذا الفضل مع أنه لم يزد على أن أسسه، فكيف بمسجده الذي أسسه وشارك في بنيانه؟! فإذا ورد ذلك الفضل في حق ما أسسه فمن باب أولى أن يكون المسجد النبوي أعظم؛ لأنه أسسه وشارك صلى الله عليه وسلم في بنائه. وقوله تعالى: {أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ} [التوبة:108] المراد بالقيام هنا: الصلاة، {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} [التوبة:108].

تفسير قوله تعالى: (أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان)

تفسير قوله تعالى: (أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان) ثم ذكر الله قاعدة: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [التوبة:109]، قال العلامة ابن سعدي رحمه الله: إن المعصية تؤثر في المكان كما تؤثر فيه الطاعة، فذلك المسجد لما بناه قوم عصاة خرج عن كونه مسجداً، ومسجد قباء لما صلى فيه قوم طائعون مصلحون ازداد نوراً على نور. هذا ما أردنا بيانه على وجه الإجمال في وقفاتنا مع سورة التوبة، وفقنا الله وإياكم لما يحب ويرضى، وألبسنا الله وإياكم لباسي العافية والتقوى، وصلى الله على محمد وعلى آله.

تأملات في سورة الحجر

سلسلة تأملات قرآنية _ تأملات في سورة الحجر يبين الله تعالى في فاتحة سورة الحجر حال الكافرين عند مشاهدتهم الحقيقة، حيث يذكر تعالى عنهم ودهم عند ذاك أن لو كانوا مسلمين، كما يبين تعالى في فاتحتها إعذاره إلى الأمم الهالكة بإرسال النذر، وموقف الكافرين من دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم إلى التوحيد. كما يبين تعالى فيها توليه حفظه كتابه، وهو الأمر المشاهد والخبر المصدق.

ذكر نسبة سورة الحجر وآياتها وسبب تسميتها

ذكر نسبة سورة الحجر وآياتها وسبب تسميتها الحمد الله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشدا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من أقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فإن السورة التي سنشرع في تفسيرها -بإذن الله تعالى- هي سورة الحجر، وهي سورة مكية عدد آياتها تسع وتسعون آية، والسور المكية تعنى بجانب العقيدة، كما أنها تكون في غالبها ذات آيات قصيرة؛ وقد سميت سورة الحجر بهذا الاسم لقول الله جل وعلا فيها: {وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ} [الحجر:80]، وهم قوم صالح عليه السلام.

بيان معنى الحجر

بيان معنى الحجر والحجر في اللغة يطلق على كل ممنوع، ويطلق الحجر أحياناً ويراد به الجزء المتبقي من الكعبة الذي لم يبن بمال قريش، وهو المسمى عند العامة اليوم بحجر إسماعيل، وسمي حجراً لأن الجدار الشامي الذي هو داخله لا يستطيع الطائف أن يلمسه، فالحجر يحول بينه وبين الجدار الشامي. وهذا الحجر أصله أن العرب في جاهليتها لما هدم الكعبة السيل وأرادت أن تبنيها أرادت أن تبنيها من حر مالها، فضاقت بهم النفقة من طيب مالهم، فبقي هذا الجزء قاصراً على تلك الحال، حتى إن النبي عليه الصلاة والسلام قال لـ عائشة: (لولا أن قومك حديثوا عهد بكفر لهدمت الكعبة وبنيتها على قواعد إبراهيم وجعلت لها بابين). ثم لما كانت خلافة عبد الله بن الزبير أعاد بناء الكعبة وأدخل الحجر هذا فيها، فلما تم الأمر للأمويين من بعده على يد الحجاج بن يوسف هدمت الكعبة وأخرج الحجر عن الكعبة على ما كان عليه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وهي الهيئة التي يراه اليوم كل من يطوف بالبيت، فمن صلى داخل الحجر فكأنما صلى داخل الكعبة، ولا يجوز الطواف بين جدار الحجر وجدار الكعبة. ويطلق الحجر كذلك على العقل؛ لأنه يحجر على صاحبه، ويمنعه من ارتكاب ما لا يليق، قال الله جل وعلا: {وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ * وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ * وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ * هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ} [الفجر:1 - 5] أي: هل في ذلك قسم ونفع لذي عقل ولب يمتنع عما لا يليق به؟! فالحجر هنا بمعنى العقل. ويطلق الحجر على الأمر الممنوع المحرم الذي لا يمكن أن يقع، ومنه قول الله جل وعلا عن الكفار: {وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا} [الفرقان:22] أي: أمراً ممنوعاً محرماً لا يمكن أن يقع. وهذه الثلاثة المعاني كلها غير داخلة في السورة.

المقصود بالحجر في تسمية السورة

المقصود بالحجر في تسمية السورة والمقصود بالحجر في تسمية سورة الحجر: الديار التي كانت تسكنها قبيلة ثمود قوم صالح عليه الصلاة والسلام، فهذه القبيلة كانت تسكن في ديار يقال لها الحجر، وهي المعروفة الآن بجوار محافظة العلا في بلادنا، وقد مر عليها النبي صلى الله عليه وسلم في مسيره إلى تبوك، وكان الصحابة قد سبقوه إلى عين تبوك -أي: عين الحجر- وأخذوا من مائها وخلطوا به عجينهم، فأمرهم النبي عليه الصلاة والسلام بأن يهرقوا الماء وأن يعلفوا العجين للدواب، وأمرهم أن يشربوا من العين التي كانت تشرب منها الناقة. فالإنسان إذا مر على ديار قوم معذبين يجب عليه أن يسرع ويخشى من البقاء فيها، فالنبي عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع لما مر على وادي محسر بين مزدلفة ومنى أسرع صلى الله عليه وسلم في مشيته؛ لأن الفيل حبس في ذلك المكان، عياذاً بالله. فالسبب الذي من أجله سميت سورة هود ورود كلمة الحجر فيها.

تفسير قوله تعالى: (ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين)

تفسير قوله تعالى: (ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين) قال الله جل وعلا: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ * رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ} [الحجر:1 - 2]. المبحث اللغوي هنا أن هذه الآية تقرأ فيها (ربما) بالتخفيف وبالتشديد، فتقرأ بالتخفيف على (رُبَ) كما هو بين يديك في المصحف، وتقرأ بالتشديد (رُبَمَا) وكلتا القراءتين صحيحة، وكل منهما لها وجه عند العرب في كلامها. أما المعنى: فإن هذا القول حكاه الله جل وعلا عن أهل الكفر، فالله يقول: {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ} [الحجر:2] و Q متى يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين؟ اتفق العلماء على أن هذا لا يقع إلا إذا عاينوا حقيقة الأمر، فيودون لو أنهم كانوا مسلمين. ثم اختلفوا -أي: العلماء رحمهم الله- في وقت معاينتهم الحقيقة على ثلاثة أقوال: القول الأول: إذا احتضر الكافر، فإنه يود لو كان مسلماً، وهذا محتمل؛ ولكنه أضعف الأقوال، ولا نجزم ببطلانه. القول الثاني: عندما يرون النار، وهذا يدل عليه قول ربنا جل وعلا: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنعام:27] فآية الأنعام تشهد للقول بأنه يقع هذا القول من أهل الكفر عند رؤية النار. القول الثالث: أنه عندما يخرج الله جل وعلا عصاة المؤمنين الموحدين من النار يقول الكفار هذه الكلمة، وهذا القول أرجح الأقوال والله أعلم، وله آثار من السنة يعضد بعضها بعضاً. فالله جل وعلا -كما هو معلوم- حكم ألا يخلد في النار من مات لا يشرك به شيئاً، فعصاة الموحدين آخر أمرهم إلى الجنة، فإذا اجتمع عصاة المؤمنين مع الكفار في النار يقول أهل الكفر لأهل الإيمان: ما الفرق بينا وبينكم؟! أنتم أسلمتم وآمنتم وكفرتم باللات والعزى، ونحن آمنا باللات والعزى، فما نفعكم إيمانكم ولا تصديقكم شيئاً، فنحن وأنتم في النار! فيخرج الله جل وعلا بعدها عصاة الموحدين الذين يقال لهم الجهنميون إلى الجنة، فإذا اخرجوا إلى الجنة يقع قول الله جل وعلا: {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ} [الحجر:2].

جواب الإشكال في تقليل ود الذين كفروا الإسلام

جواب الإشكال في تقليل ود الذين كفروا الإسلام وقد أشكل على العلماء أنها جاءت للتقليل؛ والأصل فيها أنها لا تدخل على الأفعال، والعرب تقول في أمثالها: (رُبَّ أخ لك لم تلده أمك)، ويقولون غير ذلك مما يدل على أن (رُبَّ) تختص بالدخول على الأسماء، ولكن الذي أدخلها على الفعل هنا وجود (ما)، فساغ دخولها على الفعل، ولكن ذلك لا يخرجها عن كونها تفيد التقليل. وقد أجاب العلماء عن هذا الإشكال بأن العذاب -عياذاً بالله- يلهيهم عن كثرة القول بودهم لو كانوا مسلمين، أعاذنا الله وإياكم من ذلك كله.

تفسير قوله تعالى: (ذرهم يأكلوا ويتمتعوا)

تفسير قوله تعالى: (ذرهم يأكلوا ويتمتعوا) ثم قال الله جل وعلا: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الحجر:3] ليس المقصود بالأمل هنا الرجاء أو انتظار الفرج، وإنما المقصود بالأمل هنا الذي يلهي بالإقبال على الدنيا والإعراض عن الآخرة، واختلف العلماء هل هذه الآية منسوخة أو غير منسوخة؟ فإن قيل: إنها منسوخة فهي منسوخة بآية السيف، وإن قيل: إنها غير منسوخة فهذا أسلوب تهكم بكفار قريش وغيره.

تفسير قوله تعالى: (وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون)

تفسير قوله تعالى: (وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون) ثم قال الله جلا وعلا عنهم في بعض آيات هذه السورة: {وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} [الحجر:6] والجزء الأول من الآية يشعر بأنهم آمنوا واعترفوا بالنبوة، ولكن الجزء الثاني: {إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} [الحجر:6] يذهب هذا، والمعنى أنهم يقولون من باب السخرية والاستهزاء والتهكم: {يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} [الحجر:6] وقد ورد في بعض كتب السير أنهم كانوا من سخريتهم بالنبي صلى الله عليه وسلم يأتي أحدهم فيربت على كتف النبي ويقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ} [الحجر:6] فيلتفت صلى الله عليه وسلم هاشاً باشاً يظن أنه آمن فيقول له: {إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} [الحجر:6]، وهذا منتهى العنت والصدود، ومنتهى الصبر منه صلوات الله وسلامه عليه، وبعض بيان لما كان لقاه عليه الصلاة والسلام من ألم ومشقة عظيمة في سبيل الدعوة إلى ربه. وهذا الأسلوب القرشي لم يكن القرشيون فيه بأول الناس، فهو أسلوب ابتدعته الأمم من قبل، قال الله جل وعلا عن فرعون: {إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} [الشعراء:27] ففرعون يعترف في أول الكلام أن موسى رسول، حيث قال: {إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} [الشعراء:27]، وقبل فرعون قاله قوم شعيب لشعيب، كما قال الله جل وعلا حكاية عنهم: {قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} [هود:87] فكلمة (إنك لأنت الحليم الرشيد) قيلت في معرض السخرية والاستهزاء والتنقيص لبنبي الله شعيب. فالقرشيون ساروا على نهج الأسلاف من أهل الكفر في الأمم السابقة.

تفسير قوله تعالى: (لو ما تأتينا بالملائكة)

تفسير قوله تعالى: (لو ما تأتينا بالملائكة) قال تعالى: {وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ * لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ} [الحجر:6 - 8]. (لو) إذا جاء بعدها الفعل المضارع فإنه يقصد بها الحث أو الحظ، وهي هنا للحث، وإذا جاء بعدها الفعل الماضي فغالباً يراد بها التوبيخ، كقول الله تبارك وتعالى: {فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً} [الأحقاف:28]، وقول الله جل وعلا: {لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور:13] فهذا كله باب توبيخ. فالمقصود بـ (لو) هنا الحث، فالقرشيون يقولون: {لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ} [الحجر:7] وهذا المطلب القرشي من النبي صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم بالملائكة تكرر كثيراً في القرآن، كقوله تعالى عنهم: {فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ} [الزخرف:53]، فكان القرشيون يطالبون النبي صلى الله عليه وسلم دائماً بأن ينزل الملائكة. والسبب في عدم نزول الملائكة هو أنه لو جاء ملائكة مع النبي صلى الله عليه وسلم فما آمن الكفار لحصل العذاب مباشرة، قال الله جل وعلا: {وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الأَمْرُ} [الأنعام:8] فلو أنزل الله جل وعلا ملائكة فإن الأمر سينقضي تماماً، فقال الله جل وعلا: {وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الأَمْرُ} [الأنعام:8] فالله تبارك وتعالى لم ينزل الملائكة رحمة بهم. قال تعالى: {مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ} [الحجر:8] هذا شاهد لما قلنا، و (إذاً) هنا جاءت منونة، والتنوين هنا تنوين عوض عن جملة، ومعنى الآية: ((وَمَا كَانُوا)) إذا نزلت الملائكة فكذبوا بهم ((مُنْظَرِينَ)).

تفسير قوله تعالى: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون)

تفسير قوله تعالى: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) ثم قال الله جل وعلا: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9]. المقصود بالذكر هنا القرآن، ولكن اختلف العلماء في عود الضمير قول الله جل وعلا: ((وَإِنَّا لَهُ))، فقال بعض العلماء: (وإنا له) أي: لنبي الله صلى الله عليه وسلم، فيصبح المعنى: إن الله أنزل القرآن وهو حافظ لنبيه، وقالوا: إن دليل هذا القول قول الله جل وعلا في المائدة: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:67]. ولكن هذا قول مرجوح، والراجح ما عليه جماهير العلماء أن الهاء عائدة على الذكر الذي هو القرآن. فنأخذ من هذه الآية أمور أعظمها: أن القرآن منزل من عند الله، ولعظمة القرآن جاء الله جل وعلا بـ (نحن) الدالة على التفخيم. فقوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ} [الحجر:9] أي: للقرآن {لَحَافِظُونَ} [الحجر:9]، فالقرآن أعظم كتاباً أنزل من السماء على أعظم نبي مشى على الأرض صلوات الله وسلامه عليه.

بيان حفظ الله تعالى لكتابه الكريم

بيان حفظ الله تعالى لكتابه الكريم وقول ربنا جل وعلا: {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9] فيه دلالة على أن الله تكفل بحفظ القرآن، وقد أيد الله هذا المعنى في آيات كثيرة، قال سبحانه: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:42] وهذا أمر متفق عليه، وينبغي أن يقال بعد ذلك الأسباب التي جعلها الله حافظة للقرآن؛ لأن الله جل وعلا إذا أراد شيئاً هيأ أسبابه، فلكي يبقى القرآن محفوظا لا بد من أن يهيأ الله جل وعلا أسباب حفظه، فالقرآن أول ما نزل نزل منجماً مفرقاً على قلب نبينا صلى الله عليه وسلم، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يكتب، والذي لا يجيد الكتاب يعتمد على حفظه، فلما كان جبريل أول الأمر ينزل بالقرآن كان النبي يخالج جبريل بالقراءة خوفاً أن يتفلت منه ما يملى عليه، فطمأنه الله فقال: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة:16 - 19]. فتكفل الله بحفظه في قلب نبيه وإفهام معناه لنبينا صلى الله عليه وسلم، فكان بعد ذلك صلوات الله وسلامه عليه إذا أقرأه جبريل القرآن لا يخالج ولا يخالط ولا يراجع جبريل؛ لأن الله جل وعلا طمأنه بأن يحفظ القرآن، ثم أذن عليه الصلاة والسلام بكتابة القرآن.

مراحل جمع القرآن الكريم

مراحل جمع القرآن الكريم لقد مر جمع القرآن بثلاث مراحل، فجمع باعتبار حفظه، وجمع باعتبار كتابته، وجمع باعتبار تسجيل صوت قارئه، وكلها جعلها الله أسباباً لحفظ كتابه. أما الأول فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان القرآن في قلبه يحفظه، ويقرأ به آناء الليل وأطراف النهار، ويصلي به الليل، ويقرأه على أصحابه، ويتلوه على المنبر، ويشجع أصحابه على حفظه عبر طرق متعددة، فيعطي الراية لمن هو حافظ للقرآن، وفي القبور كان يقدم من هو أكثر قرآناً، وفي صدور المحاريب يقدم اقرأهم لكتاب الله، ويزوج أحياناً بمهر القرآن، وهذه كلها طرق اتبعها النبي عليه الصلاة والسلام ليحفظ الناس كلام ربهم جل وعلا، فاستجاب الصحابة في ذلك للنبي عليه الصلاة والسلام، فظهر فيهم قراء يتقنون القرآن، كمثل أبي بن كعب وتميم بن أوس الداري وزيد بن ثابت، والخلفاء الأربعة وغيرهم من الأئمة وأفاضل الصحابة. وهذا التشجيع كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلنه، فقد قال في حق أبي موسى الأشعري: (لقد أوتيت مزماراً من مزامير آل داود) يشجعه على قراءة القرآن، ومر على سالم مولى أبي حذيفة وهو يقرأ القرآن فقال: (الحمد الله الذي جعل في أمتي مثلك) أخرجه الإمام أحمد بسند صحيح، وأمر عليه الصلاة والسلام عبد الله بن مسعود أن يقرأ عليه القرآن فقال: كيف اقرأ عليك القرآن وعليك أنزل؟! قال: (إني أحب أن أسمعه من غيري) فقرأ عبد الله بن مسعود بعضاً من سورة النساء على نبينا صلى الله عليه وسلم. وكان عليه السلام يقول: (إني لأعرف منازل الأشعرين -أهل اليمن- من قراءتهم للقرآن في الليل، وإن كنت لا أعرف أين نزلوا في النهار)؛ لأنهم كانوا يقرءون القرآن بصوت عال. فهذا كله جعل الصحابة يحفظون القرآن والحفظ للقرآن جاء في وصف الصحابة في الكتب المتقدمة في التوراة والإنجيل، حيث جاء فيها أن أناجيلهم في صدورهم، وقد قال الله جل وعلا: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [العنكبوت:49]. وكان القرآن يكتب، ولكن مات النبي صلى الله عليه وسلم والقرآن مكتوب مفرقاً، بمعنى أنه لا يوجد لوح مكتوب فيه القرآن كله. الجمع الثاني: جمعه كتابتة، وهذا تولاه الصديق رضي الله تعالى عنه بمشورة من عمر رضي الله عنهما، وكلف به زيد بن ثابت رضي الله تعالى عنه وأرضاه، فقال: لو كلفاني أن أنقل جبلاً لكان أهون علي مما حملاني إياه، فأخذ زيد يسأل الناس ويأتي بشهيدين على كل آية حتى جمع القرآن الذي هو بين دفة المصحف اليوم، وسمي مصحفاً في عهد أبي بكر، وكلمة (مصحف) يجوز في ميمها التثليث، فيقال: مُصحف ومِصحف ومَصحف والضم أشهر. وأما الجمع الثالث فهو الجمع التسجيلي وهو تسجيل الصوت، وهذا الجمع لم يكن في القرون المفضلة ولم يكن فيما بعدها لعدم وجود آله تسجيل، وإنما تبنته جمعية خيرية في مصر عام 1379 من الهجرة في القاهرة بمشورة من رجل فوافقه علماء عصره، ولم تكن آلات التسجيل كما هي في عصرنا هذا، وكان أول رجل سجل له القرآن الشيخ محمود خليل الحصري رحمه الله تعالى، فسجل القرآن بصوته. ثم تبنت بعد ذلك عدة مؤسسات علمية جمع القرآن صوتياً تختلف في قوتها، وآخرها مجمع الملك فهد المعروف في المدينة المنورة، وقد سُجِّل فيه القرآن بصوت الشيخ علي الحذيفي والشيخ إبراهيم الأخضر فأصبح القرآن مجموعاً بثلاث طرق، فجمع في صدور من يحفظونه، وجمع كتابة، وجمع تسجيلاً، وهذا تحقيق لقول الله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9]. ويروى أن رجلاً يهودياً حسن السمت جميل الخط دخل على المأمون الخليفة العباسي، فعرف أنه يهودي، فقال له المأمون: أسلم وسأوليك كذا وكذا؛ لأنه كان معجباً به، فرفض أن يسلم، ثم خرج من عند المأمون فغاب عاماً ثم عاد إلى المأمون وقد أسلم، قال له المأمون: ألست صاحبنا بالأمس؟ فقال: بلى، فقال: لماذا أسلمت؟ قال: يا أمير المؤمنين! إنني وقد أعطيت عقلاً وحسن خط، فعمدت إلى التوراة فكتبتها فزدت فيها ونقصت، ثم أتيت إلى علماء اليهود وعرضت عليهم ما كتبت فاشتروه مني، ثم عمدت إلى الإنجيل فكتبته بخطي، فزدت فيه ونقصت من عندي، فعمدت إلى ديار الرهبان فاشتروه مني، ثم عمدت إلى القرآن فكتبته فزدت فيه ونقصت، فذهبت إلى الوراقين -وليس إلى العلماء- في الدكاكين فأعطيتهم إياه فتصفحوه فوجدوا فيه زيادة ونقصاناً فرموه ولم يشتروه مني، فعلمت أن هذا القرآن محفوظ، فأسلمت بهذا السبب. فحج يحيى بن أكثم وزير المأمون فالتقى بـ سفيان بن عيينة المحدث الحجازي المعروف، ثم حكى له الخبر، فقال له: إن يهودياً جاء إلى أمير المؤمنين وكان من شأنه كذا وكذا، فقال سفيان -وهو الواثق من علمه-: هذه القصة مصداقها في كلام الله. فقال له: أين؟ قال: في قول الله جل وعلا: {بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ} [المائدة:44]، فأوكل الله الحفظ إليهم فضيعوه، وقال عن كتابنا: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9] فلم نضيعه. هذه مجمل ما يمكن بيانه حول قول الله جل وعلا: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9].

دلالة الآية على كون العلم في الصدر

دلالة الآية على كون العلم في الصدر وقد دلت الآية كذلك على أن الأصل في العلم أن يكون في الصدر؛ لأن الله قال عن الصحابة وقال عن أهل العلم: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [العنكبوت:49]، ولذلك قال العلماء: إن الفهم والحفظ واستظهار الأدلة كل ذلك مطلوب من العالم، ومن أعظم ما يجعل الإنسان حافظاً هو ترك المعاصي، وقد كان وكيع بن الجراح الإمام المعروف من أشهر الناس في الحفظ، فقد كان يسند ظهره أحياناً إلى سارية المسجد فيملي سبعمائة حديث من حفظه دون أن يقطعها، فمر معه رجل ذات يوم فقال له: يا وكيع! إني أسألك عن مسألة. قال: سلني. فقال: ما أعظم أدوية الحفظ؟ فقال: أوتفعل إن أمرت -أو إن أرشدتك-؟ قال: نعم. قال: ترك المعاصي، ما جربت شيئاً غيره. ولهذا سأل الشافعي رحمه الله تعالى وكيعاً عن نفس السؤال، فـ وكيع شيخ للشافعي، وشيخ لـ أحمد، ويكثر أحمد في المسند من قوله: حدثني وكيع عن سفيان عن عبد الله بن دينار وذكر السند، فـ وكيع شيخ لهما. قال الشافعي رحمه الله: شكوت إلى وكيع سوء حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي وأخبرني بأن العلم نور ونور الله لا يهدى لعاصي وليس المقصود بالعلم هنا مجرد حفظه وإدراكه، وإنما المقصود به على وجه التفصيل العلم والعمل به، وهذا معنى قول وكيع: إن العلم نور ونور الله لا يهدى لعاصي

تفسير قوله تعالى: (ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم)

تفسير قوله تعالى: (ولقد آتيناك سبعاً من المثاني والقرآن العظيم) يقول الله جل وعلا: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ * لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الحجر:78 - 88]. هذه الآيات ذكر الله جل وعلا فيها منَّته على رسوله صلى الله عليه وسلم بأن الله جل وعلا أعطاه القرآن وأعطاه السبع المثاني، وقد اختلف العلماء في الواو في قوله تعالى: (سبعاً من المثاني والقرآن العظيم)، والصواب أن يقال: إنها واو عطف، ويصبح ذلك من باب عطف العام على الخاص، فالسبع المثاني المقصود بها الفاتحة في قول جمهور العلماء، وقال بعض العلماء: إن المراد بها السبع الطوال، والأظهر -والله أعلم- أن المقصود بها فاتحة الكتاب، وهي أعظم سورة في كلام الله، ولذلك أمرنا الله جل وعلا بأن نتلوها في اليوم في كل ركعة، سواء أكانت الصلاة فرضاً أم نفلاً.

الاعتياض بقراءة القرآن وتلاوته عن زينة الحياة الدنيا

الاعتياض بقراءة القرآن وتلاوته عن زينة الحياة الدنيا يقول تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} [الحجر:87]، فالله يمن على نبيه بهذا القرآن، وهذه المنة بالقرآن تجعل النبي صلى الله عليه وسلم ومن تبعه لا ينظر إلى زينة الحياة الدنيا، حيث يقول تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} [الحجر:87] أي: وبما أننا آتيناك هذه السبع المثاني والقرآن العظيم: {لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الحجر:88]، وجاء في سورة طه: {وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا} [طه:131]. إذاً: من أعظم ما يعين الإنسان على ترك التعلق بالدنيا قراءة وتلاوة القرآن، على أنه ينبغي أن يفهم أن قول الله جل وعلا لنبيه: {لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ} [الحجر:88] لا يعني تحريم طيبات الحياة الدنيا؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (حبب إلي من دنياكم النساء والطيب)، ولكنه قال بعدها (وجعلت قرة عيني في الصلاة) فالإنسان قد جبل على أن يحب شيئاً من الدنيا، فهذا يحب التجارة، وهذا يحب السيارات، وهذا يحب العقار، وهذا يحب الجلسات البرية، وهذا يحب الصيد، والناس في ذلك يختلفون، وهذا لا ينافي الشرع إذا كان الإنسان يأخذ منه بقدر؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام كان يحب النساء، ويحب أن يتجمل بالطيب، ولكن المؤمن يجد مكمن الحلاوة وجليل اللذة في صلاته؛ لأنها تقف به بين يدي رب العالمين جل ذكره، فالنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (وجعلت قرة عيني في الصلاة).

بيان معنى قوله تعالى (ولا تحزن عليهم)

بيان معنى قوله تعالى (ولا تحزن عليهم) ثم قال الله جل وعلا: {وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} [الحجر:88]، وهذه الجملة تحتمل ثلاثة معان: المعنى الأول: لا تحزن عليهم لكونهم لم يؤمنوا. المعنى الثاني: لا تحزن عليهم لما متعناهم به من الحياة الدنيا؛ فإن لهم الدنيا ولك الآخرة. المعنى الثالث: لا تحزن عليهم أنهم صائرون إلى العذاب؛ لأنهم أهل للعذاب. ثم ختم الله جل وعلا الآية بقوله: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الحجر:88] وخفض الجناح للمؤمنين معاملتهم بلين، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده) والإنسان إذا أعطي خفض الجناح والكلام اللين والوجه الذي يبش به في وجوه إخوانه، وإقالة العثرة، والعفو عن الناس، وحسن معاشرتهم؛ فقد رزق العمل بهذه الآية التي أمر الله بها نبيه: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الحجر:88]، وأولى بخلق المسلم وكريم صفاته وجميل نعوته من حوله من إخوانه المؤمنين. رزقنا الله وإياكم الفقه في الدين والعمل به.

الأسئلة

الأسئلة

حكم التأمين

حكم التأمين Q ما حكم التأمين؟ A التأمين مسألة خلافية، فجمهور أهل العلم المعاصرين على أنه حرام، وذهب بعض العلماء المعتبرين إلى أنه لا حرج فيه.

حكم الصلاة خلف المتعصب لمذهب

حكم الصلاة خلف المتعصب لمذهب Q هل تجوز الصلاة خلف شخص متعصب لمذهب من المذاهب الأربعة ولا يأخذ بأي قول من المذاهب الأخرى؟ A الصلاة خلفه صحيحة، فمن صحت صلاته لنفسه صحت صلاته بغيره.

حكم الصلاة خلف الصوفية

حكم الصلاة خلف الصوفية Q هل تجوز الصلاة خلف شخص صوفي من أهل البدع والأهواء الذين من يقيمون الموالد؟ A إذا ثبت أنه مشرك فلا تجوز الصلاة خلفه، أما كونه يقيم المولد فالمولد بدعة بلا شك، ولكنه لا يصل إلى حد الشرك؛ لأن الموالد تختلف من مولد إلى مولد، ولا يحكم على الإنسان بغلبة الظن والأصل في المسلم السلامة.

حكم التهنئة بحلول السنة الهجرية الجديدة

حكم التهنئة بحلول السنة الهجرية الجديدة Q ما حكم التهنئة والمباركة بحلول السنة الهجرية؟ A هي عادة لا حرج فيها إن شاء الله.

نصائح للراغب في التضلع من علم التفسير

نصائح للراغب في التضلع من علم التفسير Q عندي ميل إلى علم التفسير، فكيف السبيل إلى التبحر في هذا العلم؟ A التفسير أشرف العلوم بلا شك، والسنة كلها في آية واحدة {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7] وأول خطوة لكي تصبح مفسراً أن يكون بينك وبين علم التفسير امتزج، حيث يصبح علم التفسير في دمك، وهذا لا يكون إلا بأن تقرأ كثيراً للمفسرين دون أن تتصدر للناس وتستعجل، فتقرأ كثيراً في كتب التفسير، فإذا وجدت التفسير يجري في دمك وكنت تحبه وتقرأ فيه الحين والحين الآخر، وأصبحت منشغلاً به ليلاً ونهارا كانت هذه هي الخطوة الأولى، مثل الشعر، فلا يمكن أن تصبح شاعراً حتى تتعلم وتقرأ في كتب الشعر ويصبح الشعر جارياً في دمك ليل نهار، فعندئذٍ تصبح شاعراً. وأقول: من قرأ كتاب الجامع لأحكام القرآن للقرطبي رحمه الله تعالى مرة ومرتين وثلاثاً ورأى بعد ذلك اندماجاً فيه فليتبحر في الكتب وليبدأ في غيره بحسب قدراته العلمية. ولو كنت من أعلم الناس فاعلم أن العلم بالمراجعة والمدارسة ليلاً ونهارا، ويعلم الله أننا نقرأ فيه ليلاً ونهاراً ولم نبلغ شيئاً فيه.

حكم قتل النمل

حكم قتل النمل Q ما حكم قتل النمل في المنازل إذا خشي على الأسرة منه؟ A نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل النمل، وبعض العلماء يرخص في قتله إذا آذى كثيراً، أما أنا فأتوقف في الترخيص في قتله.

حكم لعن الشيعي المعلم لطلابه ما يخالف الدين

حكم لعن الشيعي المعلم لطلابه ما يخالف الدين Q يقول: هل يجوز لعن الشيعي الذي يعلم طلابه بعض الأمور التي ليست من ديننا؟ A ينبه على خطئه بالطريقة التي تكشف أمره.

الموقف من تزوج طالب العلم بالثانية

الموقف من تزوج طالب العلم بالثانية Q ما رأيك في تزوج طالب العلم بالثانية؟ A هو بذلك يستر مؤمنة، ويفعل خيراً عظيماً، فإذا استطاع مالياً وبدنياً فإنه لا يحتاج إلى مشورة.

أفضلية مسح الجوربين في وقت واحد

أفضلية مسح الجوربين في وقت واحد Q هل الأفضل في المسح على الجوارب أن يمسح الجوربان في وقت أم يمسح أحدهما قبل الآخر؟ A كلاهما صحيح، ولكن أحب إلينا أن يمسحا في وقت واحد، فيمسح اليمين على اليمين وباليسار على اليسار من الأدنى إلى الأعلى في وقت واحد؛ كما أن الأذنين تمسحان في وقت واحد، والشعر يمسح في وقت واحد، فيقاس عليها مسح الجوارب.

حكم الصلاة في المصلى القريب دون المسجد البعيد

حكم الصلاة في المصلى القريب دون المسجد البعيد Q عندنا في الحي مسجد بعيد ومصلى قريب، ففي أيهما أصلي، وإذا صليت في المصلى هل لي نفس الأجر الكائن في المسجد؟ A لم أفهم معنى كلمة (مصلى)، ولكن الذهاب إلى المسجد أولى.

حكم ترك جزء من المال لدى البائع

حكم ترك جزء من المال لدى البائع Q اشتريت من صاحب بقالة بعشرة ريالات وأعطيته خمسين ريالاً، فرد لي ثلاثين ريالاً وقال سأعطيك الباقي غداً، فهل يعتبر هذا ربا؟ A ليس هذا بربا، والذي أخرجه من الربا وجود العين، ولكن لو جاء الرجل وقال هذه خمسين ريالاً أريدك أن تصرفها لي، فقال له: ما عندي إلا ثلاثون، فأخرجها وأعطاه إياها وقال: سأعطيك عشرين غداً، فهذا ربا. ولكن لو اشترى أغراضاً وليس عند البائع الباقي من المال يكون ذلك ديناً.

الفرق بين المذي والمني

الفرق بين المذي والمني Q ما الفرق بين المذي والمني؟ A المني: يخرج متدفقاً، والمذي يخرج غير متدفق، والمذي يجب منه غسل الذكر وما حوله، والمني يوجب الغسل الكامل. كما أن المني يوجب الإفطار إجماعاً، فينجم عنه فساد الصوم إجماعاً، أما المذي فاختلف العلماء فيه هل يفطر به المرء أم لا.

أثر المذي على الصيام

أثر المذي على الصيام Q لو إنساناً لاعب زوجته وهو صائم فأمذى دون أن يمني، فهل يفطر أو لا يفطر؟ A للعلماء في ذلك قولان: فمنهم من ذهب إلى أنه يفطر لأنه والمني من مخرج واحد. ومنهم من قال: إن المذي لا يفطر، وإنما يوجب غسل الذكر وما حوله مثل الوضوء، فألحقه بالبول أكرمكم الله، ونحن نرى -والله أعلم- أنه لا يفسد الصيام.

حكم الغسل ليوم الجمعة

حكم الغسل ليوم الجمعة Q ما حكم غسل يوم الجمعة؟ A هذه مسألة خلافية، ولا أحب الإلحاح في المسائل المعروفة، فمن استطاع أن يغتسل فقد خرج من الخلاف وأصاب السنة وفعل خيراً كثيراً، ومن لم يستطع أن يغتسل لبرد أو لغيره فصلاة الجمعة بالنسبة له صلاة صحيحة، وأرجو ألا يأثم.

حكم الزعم بحصول المعجزة لامرئ يجر الطائرة

حكم الزعم بحصول المعجزة لامرئ يجر الطائرة Q يحكي بعض الناس عن بعض الأشخاص أنه يقوم بسحب الطائرة بمفرده، ويقول: إن ذلك من المعجزات، فهل هذا صحيح؟ A هذا لا يمكن أن يكون معجزة، بل هو نوع الشعوذة وسحر أعين الناس.

أحقية الأمي في الإمامة على الشاب المستمع للأغاني

أحقية الأمي في الإمامة على الشاب المستمع للأغاني Q هناك شيخ أمي مستقيم يحفظ من القرآن شيئاً بلا تجويد، وهناك شاب مقصر يسمع الأغاني ويشرب الدخان، فأيهما أحق بالإمامة؟ A إذا كان الأمي يحفظ من القرآن شيئاً ولو يسيراً فهو أولى بها.

درجة القول بنزول القرآن جملة إلى السماء الدنيا

درجة القول بنزول القرآن جملة إلى السماء الدنيا Q يقول: ما صحة القول بأن القرآن نزل جملة واحدة إلى السماء الدنيا؟ A لا أعلمه ثابتاً عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن هو قول كثير من العلماء.

بيان الأفضل من صفات الهوي إلى السجود

بيان الأفضل من صفات الهوي إلى السجود Q هل الأفضل النزول إلى السجود على الركبتين ثم على اليدين، أم على اليدين ثم الركبتين؟ A هذا أمر خلافي، وعلى الركبتين أولى، ولكن لا إنكار في مثل هذه المسائل.

حكم إسبال اليدين بعد الركوع

حكم إسبال اليدين بعد الركوع Q هل يجوز إسبال اليدين بعد الرفع من الركوع، وهل في ذلك خلاف بين أهل العلم، وما القول الراجح؟ A في ذلك خلاف، وأما مسألة القول الراجح هي خطأ؛ لأنك إذا سألت من يرى الأولى فسيقول لك: الراجح عدم القبض، وإذا سألت من يرى القبض فيقول لك: الراجح القبض، فهذا بحسب من تسأله، ولكلا الفريقين دليل قوي، والمسألة لا تقدم ولا تأخر، فلم يقل أحد: إن صلاة الآخر باطلة.

حكم حمل المصحف في الجيب

حكم حمل المصحف في الجيب Q ما رأيك في حمل المصحف في الجيب؟ A أمر حسن.

حكم الاكتتاب في الأسهم بدفتر أسماء الآخرين

حكم الاكتتاب في الأسهم بدفتر أسماء الآخرين Q هل يجوز أن أعطي أخي دفتر العائلة للاشتراك في أسهم بنك البلاد باسمي وأسماء أبنائي؟ A بنك البلاد يجوز الأستهام فيه، بل أولى؛ لأنه بنك ثبت إلى الآن أنه قائم على معاملة إسلامية. أما مسألة أن يعطي الإنسان اسمه لغيره فقد اختلف فيها المعاصرون، وأنا أقول ما أدين الله به، وهو أنه إذا كانت المسألة مسألة شراكة فذلك جائز، أما إذا لم تكن مسألة شراكة فلا نراها جائزة. ومثال مسألة الشراكة الجائزة ألا أكون قد ساهمت في بنك البلاد أو غيره، فلم يسبق لي شغل في الأسهم، فاتفقت مع شخص على أنني أكتتب باسمه وأسماء عائلته، حيث أدفع المال ولا يدفع هو شيئاً، وإنما يدفع كرت العائلة، فإذا دفع كرت العائلة فقد دخل في الشراكة بجاهه وأنا دخلت بمالي، واتفقنا على الربح بالنسبة، وعلى أي نسبة كان الاتفاق فإنه يجوز. أما كونه يعطي لمجرد العطاء فهذا يخالف العقد مع البنك؛ إذ البنك يريد أن يوسع الدائرة، ولا يريد أن يجعلها في شخص واحد، ولذلك اشترطوا أن يكون الدفتر دفتر العائلة التي ينتسب إليها، فحين تأخذ عشرة دفاتر أو ثلاثة عشر دفتراً أو كرتاً من كروت العائلات يصيب البنك الخلل؛ لأنك أصبحت وحدك قد دفعت الفلوس، فلهذا نقول -والله أعلم- بمنعه. ولو جازت هذه المسألة شرعاً لم تحسن عقلاً، فليس هناك عاقل يعطي كرت عائلته لأحد، وأنا أعرف أناساً إلى الآن أدركناهم أعطى بعضهم كرت العائلة لغيره، وحين ابتاعت الأسهم وأربحت فلوساً جاء فرد له الخمسمائة ريال التي هي قيمة الأسهم وقال له: هذا حقك، أما هذه فليس لك فيها شغل. ووضعها في جيبه ثم ذهب، فلو ذهب إلى أي محكمة فلن تنصفك، فلماذا يدخل الناس في متاهات هم في غنى عنها. فإذا أردت فادخل في شراكة مكتوبة، والله تعالى قال لجيل الصحابة: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة:282] وقال: {وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ} [البقرة:282] فعلى الإنسان أن يكتب ويحرر؛ لأن الدنيا حياة وموت. هذا ما أردنا بيانه، والله المستعان، سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

تأملات في سورة الرعد

سلسلة تأملات قرآنية _ تأملات في سورة الرعد إن عظمة المخلوق تدل على عظمة الخالق، ومن أعظم المخلوقات السماء التي تعد سقف هذا الكون، والتي رفعها الله على عظمتها بغير عمد نراها. والعباد كثير منهم بعد مشاهدتهم لآيات الله الكونية الدالة على عظمته وكبريائه لا يؤمنون ولا يرعوون عن غيهم، مع أنه يعلم سرهم ونجواهم، بل ويعلم ما تحمل كل أنثى قبل أن يعلمه البشر، وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها غيره سبحانه. وهو الذي يرسل الصواعق والبروق خوفاً وطمعاً، ومع ذلك نجد من بني الإنسان من يدعو مع الله غيره، ويرجو سواه

تأملات في قوله تعالى: (الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها)

تأملات في قوله تعالى: (الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها) الحمد لله وإن كان يقل مع حق جلاله حمد الحامدين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله الأولين وإله الآخرين، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فهذا لقاء مبارك متجدد حول تأملات في كتاب ربنا جل وعلا، وكنا في اللقاء الماضي قد أنهينا بعض التأملات حول سورة يوسف، ومما ذكرناه فيها: أن الله جل وعلا نعت هذا النبي الكريم ببعض الصفات، وقلنا إن ثمة خصائص تميز بها نبي الله يوسف عليه الصلاة والسلام، وهي على وجه الإجمال كالتالي: أولها: نسبه وشرف معدنه، وقلنا: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال عنه: (هو الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم)، وقال: (يوسف نبي الله ابن نبي الله ابن نبي الله ابن خليل الله). والثاني: إن الله آتاه النبوة. والثالث: جمال الخلقة؛ لذا قال الله عن النسوة: {فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ} [يوسف:31]. والرابع: حسن الأدب مع الله، وحسن الأدب مع من كرمه وأحسن إليه، وعفوه عمن أساء إليه، وقلنا: إن كرمه مع من أحسن إليه يتمثل في قوله: {مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ} [يوسف:23]، وقلنا: إن (ربي) هنا لها معنيان: الأول: أن يكون الرب هو الله جل جلاله، والثاني: العزيز، وبالأول قال جمع من العلماء، لكن رجحنا: أن المقصود بربي هنا: سيدهم، وهو عزيز مصر الذي اشتراه. والدليل على أنه أراد بقوله: {إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ} [يوسف:23] العزيز أنه عندما اشتراه قال لزوجته: {أَكْرِمِي مَثْوَاهُ} [يوسف:21]، فهذه قرينة على أن المراد به سيده، وليس المراد به ربه جل وعلا. فهذا بعض ما تكلمنا عنه في اللقاء الماضي. وسنتكلم -إن شاء الله تعالى- ونتأمل في سورة الرعد وهي سورة مكية، وسميت بسورة الرعد لقول الله جل وعلا فيها: {وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ} [الرعد:13]. وهذه السورة تعنى بشئون العقيدة، وتثبيت مكارم الأخلاق، كما هو شأن أكثر السور المكية، وليس فيها من الأحكام الفقهية شيء كثير كنظيراتها من السور المكية الأخرى. يقول ربنا جل وعلا: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} [الرعد:2]، هذه الآية فيها إشكال؛ لأن الله لم يفصل بين (عمد) و (ترونها)، وقد كان بعض النساء العالمات يلغزن بها، ولا حاجة للتفصيل لكن نقول معنى قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} [الرعد:2]، يحتمل أمرين: الأمر الأول: أن يكون للسماء عمد لكنها لا ترى، فيصبح الإعجاز في عدم قدرتنا على رؤية العمد التي تتكئ عليها السماء، وهذا قول قال به ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وقال به بعض العلماء. الأمر الثاني: وهو قول جمهور العلماء: أن السماء ليس لها عمد أصلاً، وإنما جيء بجملة (ترونها) المتكونة من فعل وفاعل ومفعول به متصل، لتأكيد النفي، والمنفي هنا أن يكون للسماء عمد، وهذا القول يؤيده قول الله جل وعلا: {وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [الحج:65]. وما يؤيده القرآن من رأي أولى من رأي لا نرى له دليلاً من القرآن ومؤيداً. فنحن لا نعلم في القرآن دليلاً يؤيد الرأي القائل بأن لها عمداً، لكن نعلم أن في القرآن دليلاً يؤيد القول بأنه ليس لها عمد، وهو قول الله جل وعلا: {وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [الحج:65]. والقول بأنه ليس لها عمد أليق بالقدرة الإلهية، وهذا ظاهر المعنى، وإن كان لو فرض أنه ثبت بعد ذلك أن لها عمداً فلا يغير من قدرة الله شيئاً، وخلق السماء والأرض أكبر من خلق الناس، قال الله تعالى: {لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [غافر:57]، فخلق السماوات والأرض يدل على أن السماوات مخلوقات عظيمة. وبينا أن الله جل وعلا خلق الأرض أولاً في يومين، ثم استوى إلى السماء وهي دخان فخلقها جل وعلا في يومين، ثم عاد تبارك وتعالى إلى الأرض فأكمل خلقها ودحاها، وقدر فيها أقواتها، وقال سبحانه عنها: {وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ} [فصلت:10]، فهذه خاصة بالأرض، وقال عن السماء: {فِي يَوْمَيْنِ} [فصلت:12] فأصبحت ستاً، ولذلك قال جل وعلا في النازعات: {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا * وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا} [النازعات:27 - 29]، ثم قال: {وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} [النازعات:30]. ولم يقل: خلقها؛ لأنه قد ابتدأ خلقها قبل خلق السماء. والذي يعنينا أن السماء لها أبواب، وقلنا: إن هذه الأبواب التي في السماء من خلالها تصعد أرواح المؤمنين، أما الكفار فيقول الله جل وعلا عنهم: {لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ} [الأعراف:40]، فدل على أن أبواب السماء تفتح لأرواح المؤمنين، قال الله جل وعلا عن آل فرعون: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ} [الدخان:29]. وقيل في تفسيرها: إن العبد الصالح إذا كان حياً يعيش ورفعت له أعمال صالحة، إذا مات تفقده الجهة التي كان يرفع منها عمله، فإذا فقدت السماء عمل المؤمن الصالح الذي يرفع من خلالها تبكي عليه، فلما كان آل فرعون لا يرفع لهم عمل قال الله جل وعلا: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ} [الدخان:29].

تأملات في قوله تعالى: (ويستعجلونك بالسيئة)

تأملات في قوله تعالى: (ويستعجلونك بالسيئة) قال الله جل وعلا: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ} [الرعد:6]. الخطاب هنا لكفار مكة، يستعجلون النبي صلى الله عليه وسلم بإنزال العذاب، وهذا الاستعجال بإنزال العذاب قد دل عليه القرآن في غير آية، منها: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ} [العنكبوت:53]، ومنها: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ} [الحج:47]، ومنها: {وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ} [ص:16]. ومنها: {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ} [الأنفال:32]، إلى غير ذلك من الآيات. إذاً: فكانوا يستعجلون النبي صلى الله عليه وسلم بالعذاب، والله يقول: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ} [الرعد:6]، إذاً ما السيئة هنا؟ هي العقوبة والعذاب، وليس عمل السيئات. ثم قال تعالى: {وَقَدْ خَلَتْ} [الرعد:6]، أي: مضت وانتهت وغبرت، {مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ} [الرعد:6]. المثلات: جمع مثلة، والمقصود: العقوبة، والمعنى: أن قد مرت عليهم عقوبات أمم سمعوا عنها وأدركوها، كعقوبته جل وعلا وتنكيله بقوم نوح وعاد وثمود ومدين، وسائر الأمم التي سلفت، فهذا يستوجب أن يكون باعثاً لهم على الخير والاتعاض، وعلى عدم استعجال عذاب الله، لكن أصروا على العناد، ودفعهم ذلك إلى أن يطلبوا ما عند الله من العذاب، ولذلك قال الله {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ} [الرعد:6].

تأملات في قوله تعالى: (الله يعلم ما تحمل كل أنثى)

تأملات في قوله تعالى: (الله يعلم ما تحمل كل أنثى) قال الله تبارك وتعالى يمتدح ذاته العلية: {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ * عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ} [الرعد:8 - 9]. قلنا: إن القرآن كله عظيم، ثم بينا أن أعظم ما في القرآن ثناء الله على نفسه. ثم إن كلام الله عن الله ينقسم إلى قسمين: كلام عن صفاته الذاتية جل وعلا، وهذا أرفع المقامات، ثم عن صفاته الفعلية ويأتي بعده مباشرة في المرتبة، وهو كإخباره تبارك وتعالى عن علمه هنا. يقول الله سبحانه: {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ} [الرعد:8]، علم ما في الأرحام مما اختص الله جل وعلا بعلمه في الجملة، قال الله جل وعلا: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} [الأنعام:59]. وعند الإمام أحمد -رحمة الله تعالى عليه- في المسند من حديث عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مفاتح الغيب خمس لا يعلمهن إلا الله، ثم تلا: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} [لقمان:34]). ينجم عن هذا علم أن ما في الأرحام من مفاتيح الغيب، لكن ينبغي أن يؤخذ بشموله، فلا يكون مقتصراً كما يقول الناس اليوم على معرفة كونه ذكراً أو أنثى، فما في الأرحام أكبر من كونه ذكراً أو أنثى، أو يولد سقيماً أو صحيحاً، فكل ذلك أمره مجمل لا يعلمه إلا الله تعالى. ثم قال تعالى: {وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ} [الرعد:8]. تغيض: أي تنقص، وضدها: تزداد، وهي ظاهرة. والمعاصرون من العلماء يقولون: إن تفسير العلم الحديث للقرآن سلك بهذه المسألة مسلكاً آخر، وهي قضية وجود النطفة في الرحم، إلى غير ذلك مما لا نجيده فنتركه، ونكتفي بما هو مدون في كتب العلماء السابقين فنقول: إن الله جل وعلا جعل الرحم مستقراً للنطفة؛ لأن الله لما ذكر النطفة قال: {ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ} [المؤمنون:13]، وهو الرحم الذي فيه يتكون المخلوق، ويقول الله هنا: {وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ} [الرعد:8]. وجل المفسرين يدور تفسيرهم للآية حول مدة الحمل نقصاناً وزيادة، يقولون: إن أقل مدة الحمل ستة أشهر، لأن الله قال: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف:15]، وقال جل وعلا عن الرضاعة: {حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة:233]، والحولان الكاملان يكونان أربعة وعشرين شهراً، فأنقصوا الأربعة والعشرين من الثلاثين فبقيت ستة أشهر، وهذا عليه الطب الحديث، فالذي نعلمه إلى الآن من الطب الحديث أنه لا يمكن أن يحيا جنين بأقل من ستة أشهر، ويقولون: إن عبد الملك بن مروان الخليفة الأموي المعروف ولد لستة أشهر. ثم إن العلماء رحمهم الله اختلفوا في أكثر مدة الحمل، واختلافهم هنا مرده إلى التجربة، فالمسألة لا يمكن أن يكون فيها فصل خطاب؛ لأن هذا أمر لم يرد في كتاب ولا في سنة، فيبقى الأمر على تجارب الناس، وكل إنسان يعتد بالشيء الذي يراه. فقال بعضهم: إن أكثر مدة الحمل سنتان، وهذا منقول عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، فهي تقول: إنه لا يمكن أن تزيد مدة الحمل عن سنتين، وقد أخبر الوليد بن مسلم -وهو أحد التابعين- مالكاً رحمه الله بقول عائشة هذا، فقال مالك رحمه الله: سبحان الله من يقول بهذا؟ هذه جارتنا امرأة محمد بن عجلان امرأة صدق نعرفها، وزوجها زوج صدق نعرفه، حملت ثلاثة أبطن في اثنتي عشرة سنة، أراد مالك بهذا أن يكون شاهداً على خطأ قول من يقول إن أكثر مدة الحمل سنتان، وهذه إحدى الروايات في مذهب مالك، والرواية الأخرى في مذهبه رحمه الله أن أكثر مدة الحمل خمس سنين. وقلنا: إنه لا يوجد دليل لا لهؤلاء ولا لهؤلاء، وكله وارد، فقد يمكث الحمل عشر سنين، وهذا مرده للواقع، ويذكر القرطبي في الجامع، والشنقيطي في أضواء البيان، وابن كثير في تفسيره أن مالك بن دينار كان في مجلسه، فدخل رجل فقال: يا أبا يحيى! ادع الله لزوجتي فإن لها أربع سنين في كرب شديد، فأطبق مالك المصحف غضباً وقال: سبحان الله هل يظن بنا الناس إلا أنبياء، خاف على نفسه الفتنة أن يقال له: ادع الله أمام الناس، ثم كأنه أدركته الشفقة على الرجل، فرفع يديه يدعو وقال: اللهم! إن كان ما في بطن هذه المرأة ريحاً فأخرجه، وإن كان جارية فأبدله غلاماً فإنك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك أم الكتاب. ومكث مالك يدعو فدخل رجل آخر يعرف زوج المرأة، فقال له: أدرك زوجتك، فخرج الرجل لزوجته ثم عاد بعد قليل ومعه مولود له أربع سنين قد استوت أسنانه ولم يقطع سراره، فحمد الله مالك على استجابته لدعائه. فهذه حادثة جعلت مالك بن أنس وأقرانه وغيرهما من العلماء يقولون: إن مدة الحمل أربع سنين، ولو جاء رجل آخر وأدرك الصبي محمولاً لخمس سنين فسيقول: أكثر مدة الحمل خمس سنين، لكن لا نعلم نصاً صريحاً نحاكم الناس إليه. ثم قال جل وعلا: {وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ} [الرعد:8]. خلق الله جل وعلا كل شيء بقدر، والله جل وعلا لا يعجل لعجلة أحد من خلقه، فما كان لك سيأتيك على ضعفك، وما لم يكن لك فلن تناله بقوتك، وإنما شرع الله أسباباً يجب على العاقل أن يأخذ بها، ويعتصم بربه تبارك وتعالى، فإذا وقع الأمر، وحلت النازلة، فيسلم المؤمن أمره إلى ربه تبارك وتعالى.

تأملات في قوله تعالى: (سواء منكم من أسر القول)

تأملات في قوله تعالى: (سواء منكم من أسر القول) ثم قال جل وعلا: {سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ} [الرعد:10]. المقصود من الآية: إحاطة علم الله جل وعلا بكل شيء، فإن الإسرار أو حديث الإنسان إلى نفسه، والجهر أو حديث الإنسان إلى غيره، ومخلوقات منها ما جعلها الله تدب في النهار ومنها ما تدب في الليل، سواء مخلوقات البحر أو البر، فهذا كله بالنسبة للرب تبارك وتعالى كأنه شيء واحد؛ لذلك قال سبحانه: {سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ} [الرعد:10]. فالله جل وعلا لطيف خبير لا يخفى عليه من خلقه شيء، فلا يخفى ما تكنه الصدور وتضمره القلوب، ولا ما تنطوي عليه الأفئدة، ويبيته الإنسان، فكل ذلك لا يخفى على ربنا تبارك وتعالى، والسعيد من صلحت سريرته، واستقامت نيته، واستغفر الله تبارك وتعالى بكرة وأصيلاً، وآب إلى ربه في كل آن وحين.

تأملات في قوله تعالى: (هو الذي يريكم البرق خوفا وطمعا شديد المحال)

تأملات في قوله تعالى: (هو الذي يريكم البرق خوفاً وطمعاً شديد المحال) ثم قال تبارك وتعالى في آية نريد أن نتأملها: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ * وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ} [الرعد:12 - 13]. البرق أمره معروف، والسحاب كذلك، والسحاب من أعظم المخلوقات الدالة على عظيم قدرة الله؛ لأنه يجتمع فيه نقيضان: الماء والنار، فمن الماء يكون إحياء الناس، ومن النار يكون فناؤهم، فإذا نزل على هيئة مطر أحيا الأرض فانتفع الناس، وإذا كان السحاب على هيئة صواعق أحرقهم، فمن كمال قدرته جل وعلا أنه جمع بين النقيضين في شيء واحد وهو السحاب، ولذلك قال جل وعلا: {وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ} [الرعد:13]، ويقول هنا جل وعلا: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا} [الرعد:12]. فالخوف أن يكون وراء هذا المطر أو السحاب هلاك ودمار وإحراق، والطمع أن يرجى أن يكون وراءه غيث ورحمة وإنبات عشب، ودر وزرع وإنبات، فبين الأمرين يتخوف المؤمن، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا رأى السحاب والريح أقبل وأدبر في بيته، يخشى أن تكون عذاباً حتى تمطر فيتغير وجهه إلى الأحسن صلوات الله وسلامه عليه، لعلمه بعظيم قدرة ربه تبارك وتعالى. ثم قال تعالى: {وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ} [الرعد:12]. كلمة (ينشئ) تدل على أن مرد السحاب وتكوينه إلى الرب تبارك وتعالى، وهذا ظاهر بين حتى في السنة، فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان على المنبر يخطب فدخل من باب المسجد رجل يشكو للنبي صلى الله عليه وسلم جدب الديار وقلة الأمطار، فرفع صلى الله عليه وسلم يديه يدعو ربه ويستغيث، ويقول: اللهم أغثنا، يقول أنس -راوي الحديث-: لم يكن على المدينة قزعة يعني: قطعة سحاب، فإذا بالسحاب ينشأ ثم يتكون، حتى أصبح مثل الترس -أي: مثل الدرع- ثم طوق المدينة، ثم حجبت الشمس، ثم أمطرت، فقال أنس: فمكثنا أسبوعاً لا نرى الشمس والسماء تمطر. ثم دخل الرجل من نفس الباب فشكا إلى النبي صلى الله عليه وسلم صنيع السيول، فقال عليه الصلاة والسلام يدعو ربه: (اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الآكام والضراب وبطون الأودية)، وأخذ يشير بيديه، قال أنس: فما أشار إلى ناحية إلا اتجه السحاب إليها، فانقشع عن المدينة ذلك السحاب. فالذي يعنينا أن السحاب جمع الله جل وعلا فيه نقيضين: الماء والنار، فقال: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ} [الرعد:12]. ثم قال الله تعالى: {وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ} [الرعد:13]: معنى الآية: يسبح الرعد بحمد ربه، وتسبح الملائكة خوفاً من الله، وفي هذا إشارة إلى أن التسبيح من أعظم العبادات، فهي عبادة منّ الله جل وعلا بها على خلقه كلهم، وأعظمه أن يقال: سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم. وذكر الله جل وعلا هنا أن الرعد يسبح بحمده، ونحن نجهل كيف يسبح الرعد؛ لأننا لا ندرك ذلك، فعقولنا قاصرة عنه، لكننا نعلم يقيناً أن الرعد مخلوق من مخلوقات الله يسبح بحمد ربه. أما ماذا يقول الإنسان إذا سمع صوت الرعد؟ فلم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما نعلم حديثاً صحيحاً في ذلك؛ لكن روى مالك في الموطأ والبخاري في الأدب المفرد موقوفاً على عبد الله بن الزبير بسند صحيح أنه كان إذا سمع صوت الرعد يقول: سبحان من يسبح الرعد بحمده. ولا ريب أن قول ابن الزبير الثابت عنه هنا أحب إلينا من آرائنا، أي: لا يحتاج الإنسان هنا إلى أن يوجد قول آخر، ما دام أن هناك نقلاً ثابتاً عن صحابي، لأن الصحابي غالباً يكون محاكياً لغيره من الصحابة أو محاكياً لنبينا صلى الله عليه وسلم. يقول الله: {وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ} [الرعد:13]. لا يغلب الله جل وعلا شيء ولا يرد بأسه أحد، والصواعق كغيرها من المخلوقات جند من جند الله، والإنسان يعتصم بربه تبارك وتعالى في سائر أمره، وإذا خرج يكثر من الأذكار، ويستعين بالرب تبارك وتعالى، تقول أم سلمة: ما خرج النبي صلى الله عليه وسلم من بيته قط إلا ورفع بصره إلى السماء وقال: (باسم الله، آمنت بالله، توكلت على الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، اللهم إني أعوذ بك من أن أضل أو أضل، أو أزل أو أزل، أو أظلم أو أظلم، أو أجهل أو يجهل علي). فهذا صنيع نبوي وهدي محمدي عند الخروج من البيت، ولكن مع ذلك يقع ما أراد الله، وأنا أردت أن أبين هذا حتى إذا بلغك أن إنساناً مات بصاعقة فلا تحمل في قلبك عليه، أو تظن به السوء، فأمر الله يقع ولو أخذ الإنسان بالأذكار، والنبي صلى الله عليه وسلم قد سحر، رغم أنه عليه الصلاة والسلام أكثر المحافظين على الذكر بلا شك.

سبب نزول قوله تعالى (ويرسل الصواعق)

سبب نزول قوله تعالى (ويرسل الصواعق) يقول الله: {وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ} [الرعد:13]، يقول المفسرون: إن من أسباب نزول هذه الآية: أن رجلين عامريين يقال لأحدهما: عامر بن الطفيل ويقال للآخر: أربد بن ربيعة قدما على النبي صلى الله عليه وسلم، وعامر هذا رغم أن في إحدى عينيه داء إلا أنه كان من أجمل العرب، وكان رجلاً مطاعاً مسموع الكلمة، على عادة العرب آنذاك في أنها تمجد بعض رؤسائها فيسمعون له، فكان مسموع الكلمة معظماً في قومه، لا يكاد يعصيه أحد، فدخل المدينة مع أربد هذا وهو ابن عمه، فكلاهما من ربيعة وكلاهما عامريين، وأربد أخو لبيد بن ربيعة الشاعر المعروف، فلما دخل على النبي صلى الله عليه وسلم استشرف الناس، فقاموا ينظرون جمال عامر هذا، رغم أنه -كما قلت-: في إحدى عينيه داء، ثم قالوا: يا رسول الله! هذا عامر قال: اتركوه إن كان فيه خيراً يهده الله، فأخذ يجادل النبي صلى الله عليه وسلم ويأخذ ويعطي معه، ثم قال: إنني أتبعك على أن تجعل هذا الأمر لي من بعدك، فقال صلى الله عليه وسلم: (إن الأمر لله يضعه حيث يشاء)، يتوقاه، فقال: فليكن لي الوبر ولك المدر، يعني: لي البادية ولك الحاضرة، فأبى النبي صلى الله عليه وسلم قال: فما لي إذاً؟ قال: (لك أعنة الخيل تجاهد بها في سبيل الله، فقال عامر: وهل أعنة الخيل اليوم إلا لي؟)، يتكلم عن كبره، وسماع الناس وطاعتهم له، ثم قال: والله لأملأنها عليك يعني: المدينة خيلاً جرداً، ومعنى: فتياناً مرداً، أي: شباباً يسمعون كلامي ويتبعوني، ومعنى: خيلاً جرداً، أي: ليس عليها سرج معدة للقتال، فقال صلى الله عليه وسلم: (يأبى عليك ذلك الله وأبناء قيلة)، وأبناء قيلة هم الأوس والخزرج، ثم خرج، وكأنه مع صاحبه تآمرا على النبي صلى الله عليه وسلم، فدعا عليهما صلوات الله وسلامه عليه، فأما أربد فأصابته الصاعقة فأحرقته وأهلكته إلى جهنم وبئس المصير، وأما عامر فخرج وهو يتوعد النبي صلى الله عليه وسلم، وكان فيه أنفة، على ما كان في بعض العرب آنذاك، حتى أصابته غدة في رقبته -يعني: ورم- فتأذى منها؛ لأنها أصبحت في نظره غدة كغدة البعير، فدخل على امرأة فإذا هي امرأة من بني سلول، وكانت قبيلة تزدريها العرب، فلما دخل دارها يريد أن تسقيه في سفره شعر بالموت، فقال -وهو الآن في الموت-: غدة كغدة البعير، وموت في بيت سلولية يعني: ما يكفيني في مرض مثل البعير وأموت عند واحدة سلولية، وهو يعلم أنه سيموت ذلك الوقت، حتى لو جلس عند المرأة تمرضه وتسقيه، فخرج ثم أخذ فرسه ونام على ظهره، حتى إذا مات يموت على الفرس، لا في بيت امرأة من بني سلول، وهذا من الأنفة والحمية التي كانت موجودة، فمات كما أراد الله وأراد، أي: مات على ظهر فرسه وهلك. ثم إن قوله أصبح مثلاً بعد ذلك لمن تكالبت الأمور عليه، فيقال: غدة كغدة البعير وموت في بيت امرأة سلولية. فالمراد: أنه هلك الاثنان. وموضع الشاهد من إيراد هذه الحادثة: أن العلماء أو بعض المفسرين يقولون: إن قول الله جل وعلا: {وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ} [الرعد:13]، نزلت في هذا الأمر، فإن كان الأمر كما قالوا فتصبح هذه الآية مدنية؛ لأننا قلنا: إنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: لأملأنها عليك أي: المدينة، خيلاً جرداً وفتياناً مرداً، وهذا لا يقع في مكة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن له عصبة تحميه في مكة كما هو ظاهر، والمقصود هذا ما يقوله بعض العلماء بسب نزول الآية. والذي يعنينا: أن الرب تبارك وتعالى أصلاً لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، لكن بعض القتلى من الكفار إنما قتلوا وهلكوا بسبب دعوة النبي صلى الله عليه وسلم عليهم. إذاً: فمعنى قوله تعالى: {وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ} [الرعد:13]، أي: مع قدرته هذه التي لا يعجزها شيء فما زال بعض خلقه يجادل في الرب تبارك وتعالى ويعاند، إما في توحيده أو في قدرته أو في كمال جبروته أو رحمته، أو في غير ذلك من أسماء الله وصفاته.

تأملات في قوله تعالى: (أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها)

تأملات في قوله تعالى: (أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها) خاتمة الآيات قول الله جل وعلا: {أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ} [الرعد:17]. نقول: ضرب المثل أسلوب قرآني ثابت، وله عدة أغراض: فمنها: الترغيب، ومنه قول الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ} [إبراهيم:24]. وقد يكون المراد به التنفير، كقول الله جل وعلا بعدها: {وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ} [إبراهيم:26]. وقد يكون ضرب المثل للمدح، وهذا كقول الله جل وعلا في النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه: {وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ} [الفتح:29]. فهذا كله ضرب مثل أراد الله به مدح النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وقد يكون ضرب المثل تبييناً للحق كما في هذه الآية، فالله يخبر هنا بأنه أنزل من السماء ماء المطر فقال سبحانه: {أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} [الرعد:17]، أي: أن الأودية تختلف، وكل واد يحمل من الماء على قدره. وهذا المثل معناه أن السيل عندما يأتي يعلوه ما يحمله من قطع الأخشاب والأشجار، فيبيض كأنه زبد، والماء الحقيقي الذي ينتفع به الناس تحت الزبد، يمشي بسكينة وهدوء، ويغيض في الأرض، وينفع الناس؛ لأنه باق في الأرض، أما هذا العالي المتراكم المرتفع فإنه يذهب ميمنة وميسرة، ويذهب جفاء لا ينتفع به أحد. وكذلك المعادن إذا أخرجت من الأرض تخرج مخلوطة، فيضعها صاحبها على النار، فإذا وضعها على النار يعلو ما كان ملتصقاً بها، ثم لا يلبث أن يتلاشى ويبقى صريح المعدن من ذهب أو فضة أو جوهر أو غيره. فالله جل وعلا يخبر أن غالب الأمور التي تراها مرتفعة عالية ذات لجج وصوت أغلبها باطل لا خير فيه، وإنما الحق يمشي بهدوء وثبات وسكينة ويقين؛ لأنه يعلم أنه سيصل إلى منتهاه، فقال الله جل وعلا: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ} [الرعد:17]، فضرب الله الأمثال حتى تستبين للناس طرائق الهدى ومعالم الحق بكرة وأصيلاً. هذا ما أردنا بيانه حول سورة الرعد.

الأسئلة

الأسئلة

المستثنون من الصعق

المستثنون من الصعق Q يقول الله: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [الزمر:68]، فمن المراد بهم في قوله: {إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [الزمر:68]؟ A اختلف العلماء فيهم، فقيل: الآية لبيان القدرة، وقيل: المراد الحور العين والولدان المخلدون الذين في الجنة، وقيل: حملة العرش، وقيل: المراد إسرافيل وجبريل، وقيل غير ذلك، والله تعالى أعلم.

بيان كيفية معرفة الطب الحديث لما في الأرحام

بيان كيفية معرفة الطب الحديث لما في الأرحام Q كيف نرد على من يقول: إن الطب الحديث عرف ما في الأرحام بالتصوير الحي؟ A إذا جاء التصوير وصوروا الجنين في بطن أمه، ثم ظهر أن هناك قضيباً في الجنين دل على أنه ذكر، فهذا لو عرضت الصورة على صبي لم يميز، أي: يعرف أنه ذكر، فليس هنا قضية غيب وشهادة، فهذا صار أمراً مشاهداً لا غيباً، أي: انتقل الأمر من كونه غيباً إلى كونه شهادة، ولو جاء إنسان لبطن امرأة أو بقرة فبقرها بسكين ورأى الجنين وقال: أنا عرفت أنه أنثى أو عرفت أنه ذكر، فهذا عرفه بعد أن رآه، فلا يسمى غيباً، وإنما يسمى شهادة، فالغيب الذي لم يطلع عليه أحد، وحتى النطفة قد توصلوا إلى معرفة شيء منها، لكن الغيب هو الشيء الذي لا يراه أحد.

حكم الدم الخارج قبل الطلق

حكم الدم الخارج قبل الطلق Q والدة تشكو من نزيف مستمر، وذلك من أثر الجنين الذي في بطنها، فهل تسقط عنها الصلاة؟ A الصلاة لا تسقط عنها، وإنما تسقط عن المرأة النفساء إذا دخلت في النفاس، فإذا دخلت في الطلق وخرج منها دم تسقط عنها الصلاة، حتى لو طال الطلق إلى يوم، لكن ما يخرج قبل ذلك من دم فهو في الغالب دم جرح لا يفسد شيئاً، فتصلي وتصوم، نسأل الله أن يشفيها.

عدم صحة أن الرعد من أسماء الملائكة

عدم صحة أن الرعد من أسماء الملائكة Q هل صحيح أن الرعد اسم من أسماء الملائكة؟ A لا أعلمه صحيحاً.

ضعف الأخبار في تزوج يوسف من امرأة العزيز

ضعف الأخبار في تزوج يوسف من امرأة العزيز Q هل تزوج يوسف عليه السلام امرأة العزيز أم لا؟ A لا يوجد في ذلك خبر صريح فيما أعلم.

معنى (أن أضل أو أضل أو أزل أو أزل)

معنى (أن أَضِل أو أُضَل أو أَزِل أو أُزَل) Q ما معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (أن أَضِل أو أُضَل أو أَزِل أو أُزَل)؟ A هذا من دليل تربية الناس على الحياة الاجتماعية، وهو صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله أن يضل غيره أو أن يضله أحد، أو أن يزل هو على غيره أو أن يزل عليه أحد، وكذا معنى (أو أظلم أو أظلم).

الفرق بين سكنى حرم المدينة وخارجه

الفرق بين سكنى حرم المدينة وخارجه Q يحرص كثير من سكان المدينة على شراء أرض للسكنى داخل حدود حرم المدينة، معللين ذلك بأن للسكنى داخل حدود الحرم فضائل تختلف عن السكنى خارجه كالعزيزية وغيرها؟ فهل للسكنى داخل حدود الحرم فضيلة عن السكنى خارجه؟ فإن كان كذلك فما هذه الفضائل؟ أم أن الفضائل التي ذكرت عن المدينة المنورة تشمل جميع أحياء المدينة داخل حدود الحرم وخارجه؟ A هذا فيه تفصيل: ما يتعلق بحكمه شرعاً كالصيد والتعزير في السرقة أو في القتل، فهذا لا يقال إلا لما كان داخل حدود الحرم، فالقاضي مثلاً إذا جاء لشخص سرق داخل الحرم النبوي، فليس كمن يسرق في الساحة، والذي يسرق في ساحة الحرم ليس كمن يسرق في الأسواق. أما السكنى عموماً فأرجو الله أن من سكن خارج حدود الحرم ومات هناك كأحياء العزيزية وما شابهها ينطبق عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من استطاع منكم أن يموت في المدينة فليفعل؛ فإني أشفع لمن مات بها)، وهذا -أي: الساكن في العزيزية ونحوها- يدخل فيه؛ لأنه يقال عنه: إنه مات في المدينة، والله تعالى وأعلم.

كيفية التوكل على الله حق التوكل

كيفية التوكل على الله حق التوكل Q كيف يعرف العبد أنه من المتوكلين على الله حق التوكل؟ A إذا وقع المقدور فينظر في رضاه عنه أو عدم رضاه، فإن كان راضياً عن المقدور أياً كان فهذا من دلالة الصدق بالتوكل. اللهم لك الحمد، أنت الله لا إله إلا أنت الواحد الأحد الفرد الصمد، الحي القيوم الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد. أنت الله لا إله إلا أنت، السماء عرشك وفي كل مكان رحمتك وسلطانك، مصير كل أحد إليك، ورزق كل شيء عليك. أنت ربنا لا رب لنا غيرك ولا إله سواك، نسألك اللهم بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى، وقدرتك التي لا تغلب، وسلطانك الذي لا يقهر، ورحمتك التي وسعت كل شيء، أن تظلنا تحت ظل عرشك يوم لا ظل إلا ظلك. اللهم أظلنا تحت ظل عرشك يوم لا ظل إلا ظلك. اللهم إنا نسألك الإيمان، والعفو عما مضى وسلف من الذنوب والآثام والعصيان. اللهم تب علينا توبة نصوحاً، نؤوب بها إليك يا رب العالمين! اللهم إنا نسألك غفران الذنوب، وستر العيوب، وحسن المرد إليك يا رب العالمين! اللهم إنا نسألك حسن الوفادة عليك. اللهم إنا نسألك حسن الوفادة عليك. اللهم أنت الله لا إله إلا أنت القوي العزيز، وإن لنا إخواناً مسلمين في العراق وفلسطين وغيرهما يا رب العالمين! اللهم انصرهم وأعنهم، وارحم شهداءهم واغفر لهم يا رب العالمين! وأيدهم. اللهم بنصر من عندك يا ذا الجلال والإكرام! اللهم ارفع عن إخواننا المسلمين في كل مكان الضر والبأساء، واللأواء، اللهم ورد كيد أعداء المسلمين في نحورهم يا ذا الجلال والإكرام! اللهم واجعل بلادنا هذه آمنة مستقرة مطمئنة يا رب العالمين! اللهم آلف بين الراعي والرعية يا رب العالمين! اللهم وفق إمامنا بتوفيقك، وأيده بتأييدك يا رب العالمين! اللهم واجمعنا أجمعين على كلمة الحق، واجعلنا ممن يعين على العصمة بك، وائتلاف كلمة المسلمين يا رب العالمين! وأعذنا اللهم من الأهواء والنزغات وشتات الأمر يا ذا الجلال والإكرام! اللهم اشف مرضانا، اللهم اشف مرضانا، اللهم اشف مرضانا. اللهم وخص من سألنا أن ندعو لمريضه يا رب العالمين! اللهم اشف مرضانا، وارحم موتانا، واغفر لنا لا إله إلا أنت. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.

تأملات في سورة النجم

سلسلة تأملات قرآنية _ تأملات في سورة النجم سورة النجم سورة مكية بدأها الله سبحانه بالقسم، فهي سورة لو تأمل فيها الواعي لوجد فيها من البلاغة وقوة الحجة والبيان ما يعجز المشركون عن الإتيان بمثلها، ومثلها بقية السور من كتاب الله، واختتم الله هذه السورة بالعجب من هؤلاء الكفار الذين لا يتأثرون عند سماع الآيات وهي تتلى، مع أن القرآن هو أعظم ما يؤثر في القلوب ويرققها.

تأملات في قول الله تعالى: (والنجم إذا هوى * ما ضل صاحبكم وما غوى)

تأملات في قول الله تعالى: (والنجم إذا هوى * ما ضل صاحبكم وما غوى) إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له اعترافاً بفضله وإذعاناً لأمره، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، بلغ عن الله رسالته، ونصح له في برياته، فجزاه الله بأفضل ما جزى به نبياً عن أمته. اللهم صل وسلم وبارك وأنعم عليه، وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره، واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فإن هذا هو اللقاء الثالث من سلسلة تأملات قرآنية، وسنقف فيه بعض الوقفات مع سورة النجم. وهذه السورة في أكثر أقوال علماء الأمة من المفسرين سورة مكية، وقد دل على ذلك حديث ابن مسعود رضي الله تعالى عنه، فسنشرع في بيانها على ما يأتي. صدرها الله جل وعلا بالقسم فقال تبارك وتعالى: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:1 - 4]، وختمهما الرب تبارك وتعالى بأن خاطب أهل الكفر بأن كتابه العظيم وقرآنه المتلو الذي نزل به جبريل على قلب محمد صلى الله عليه وسلم أعظم ما يؤثر في القلوب ويرققها ويلينها؛ لما فيه من الوعد والوعيد، وصادق الأخبار، وبلاغة الخطاب، وتعجب الرب تبارك وتعالى من نظرة أولئك الكفرة إلى هذا الكتاب جاعلين مبدأهم به الاستهزاء والسخرية والضحك. فقال تبارك وتعالى: {أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ * وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ * فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} [النجم:59 - 62]. وهذه السورة جرت على سنن ونسق السور المكية في العناية بأمر العقيدة، وإثبات الرسالة، وبيان الإشارة إلى رحلة المعراج. قال الله جل وعلا: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} [النجم:1 - 2]، فأقسم بالنجم، وجوابه: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} [النجم:2]. وقد اختلف العلماء في المراد بالنجم هنا: فذهب فريق من العلماء إلى أن المقصود بالنجم هنا: نزول القرآن منجماً على قلب محمد صلى الله عليه وسلم، فكلمة النجم هنا تعني: الجملة من القرآن وقت نزولها؛ لأن القرآن -كما هو معلوم- نزل منجماً -أي: مفرقاً- خلال ثلاث وعشرين سنة، نزل به جبريل على قلب رسولنا صلى الله عليه وسلم. فعلى هذا يكون معنى قول الرب جل وعلا: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} [النجم:1] قسماً بشيء وجزء وجملة من القرآن حال كونها ينزل بها جبريل على قلب محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا القول قال به بعض السلف قديماً، واختاره الإمام الشنقيطي رحمه الله في أضواء البيان، وقال عفا الله عنا وعنه: وأصوب الأقوال عندي والذي اختاره أن المراد بالنجم هنا الجملة من القرآن، والمقصود بقول الله: {إِذَا هَوَى} [النجم:1] أي: إذا نزل به جبريل على قلب محمد صلى الله عليه وسلم، بل قال رحمه الله: وهي نفسها قول الرب تبارك وتعالى في سورة الواقعة {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} [الواقعة:75] أي: بنزول القرآن على قلب محمد صلى الله عليه وسلم. وحجته في هذا أمور من أشهرها جواب القسم في سورة الواقعة، وقال الله تعالى: {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} [الواقعة:75 - 76]، فقال: إن قول الرب تبارك وتعالى {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} [الواقعة:76] أليق بأن يكون المقسم به القرآن، والجمل من القرآن أليق من النجم الذي في السماء، أو النجم الذي في الأرض -على القول بأن النجم هو نوع من الشجر- نظير قول الرب تبارك وتعالى: {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} [الرحمن:6]. هذا أحد الأقوال في معنى النجم في قوله تعالى: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} [النجم:1]. وأكثر المفسرين على أن المقصود بالنجم هو النجم الذي في السماء، وأن هذا أول ما يتبادر إلى الذهن عند إطلاق النجم. لكن هؤلاء العلماء اختلفوا في النجم المقصود، فذهبت طائفة إلى أن النجم هنا المراد به: كوكب الزهرة، وأكثر العلماء على أن المراد بالنجم هنا السبعة النجوم المسماة عند العرب بالثريا حال سقوطها، أي: حال غروبها، وهذا القول ينسب إلى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، واختاره الإمام ابن جرير الطبري رحمه الله في تفسيره. والقول الثالث: أن المقصود بالنجم هنا جنس النجم في السماء ولا يحدد نجماً بعينه، وأن الله يقسم بالنجوم جملة في السماء، وهذا القول اختاره العلامة ابن سعدي رحمه الله، وهو الذي تميل إليه النفس أكثر، والله تعالى أعلم. فالأصل أن العلماء اختلفوا في المراد بالنجم على قولين: الأول: أن المقصود به الجملة من القرآن، والثاني: النجم الذي في السماء. {إِذَا هَوَى} [النجم:1] أي: إذا سقط، عند طائفة، وعند آخرين إذا تناثر يوم القيامة. وأما جواب القسم فهو قول الرب تبارك وتعالى: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} [النجم:2]، والمخاطب بالآية في المقام الأول هم كفار قريش المكذبون للقرآن وللنبي صلى الله عليه وسلم، والصاحب المقصود به هنا: رسولنا صلوات الله وسلامه عليه، وكاف الخطاب في صاحبكم عائدة على كفار قريش. والضلالة هي عدم العلم بالشيء، أي: الجهل، والغواية ناجمة عن ترك العمل بالعلم، وأما الضلالة فناجمة عن عدم العلم، فالله جل وعلا ينزه نبيه صلى لله عليه وسلم عن الجهالة، فأثبت له العلم بالحق لما نفى عنه الجهل، وأثبت له الهداية والعمل بالحق لما نفى عنه الغواية، فقال الرب تبارك وتعالى: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} [النجم:2]. قال بعض العلماء القائلين بأن المقصود بالنجم هنا هو النجم الذي في السماء: المناسبة من القسم بالنجم على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم هو أن النجوم يهتدى بها في ظلمات البر والبحر، والوحي يهتدى به في الأرض، بل إن حاجة الناس إلى الوحي أعظم من حاجتهم إلى النجوم، وكما أن النجوم زينة في السماء فإن كلام الله جل وعلا زينة ونور في القلوب وزينة في الأرض. هذا وجه المناسبة عند من قال بأن الله جل وعلا أقسم بالنجم الذي في السماء، وزادوا عليه أيضاً أنهم قالوا: إن الله جل وعلا علم من العرب أنها كانت تستخدم النجم في الهداية فتطمئن إليه في زرعها، وفي أسفارها، قال الله: {وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} [النحل:16]، فأقسم الله بالنجم على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، والمعنى: كما أنكم تطمئنون إلى النجوم، وتعرفون أن النجم لا يخرج عن مساره، وأنكم ما أضلكم النجم قط ولا تتغير هدايته، وأنكم تركنون إليه، فإن الله الذي سخر لكم النجم هو الذي بعث لكم محمداً صلى الله عليه وسلم، فلئن كانت النجوم تهدي في ظلمات البر والبحر فإن نبينا صلى الله عليه وسلم يهدي إلى الجنة، ويجير الله به العباد من النار. هذا وجه المناسبة ما بين القسم والمقسم به. والعلماء رحمهم الله قد اختلفوا اختلافاً كثيراً في تفسير الآيات التي ستأتي، وأنا سأتكلم فقط عن الرأي الراجح، ولا يعني ذلك أنه ليس هناك آراء أخر، وإنما سنعرج على ما نعتقد أنه الصواب بيننا وبين الله.

تأملات في قوله تعالى: (وما ينطق عن الهوى)

تأملات في قوله تعالى: (وما ينطق عن الهوى) قال الله جل وعلا: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:2 - 4]. هذه الآية إحدى تزكيات الله لنبينا صلى الله عليه وسلم، وهي تزكية للسانه ولفؤاده، كما قال الله: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم:11]، وزكى الله البصر فقال: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} [النجم:17]، وزكاه الله جملة {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4]. قوله: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم:3] أي: أن هذا النبي الأمي صلوات الله وسلامه عليه لا يخاطبكم وفق ما تمليه عليه نفسه، ورغباته، وأهواؤه، بل القول الذي يقوله صلى الله عليه وسلم وحي من الله. والله جل وعلا قال: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} [الشورى:51]. وقد مر معنا في دروس سابقة أن الوحي أول وأعظم خصائص الأنبياء، وبه يفرق ما بين النبيين وبين المصلحين في الأرض، فلا يمكن أن يرقى المصلحون من الساسة والقادة والاجتماعين وغيرهم إلى مقام النبوة؛ لأن الأنبياء يعتمدون على وحي الرب تبارك وتعالى، والله يقول: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3 - 4]. وهذا الوحي ينزل به من السماء جبريل عليه السلام. ثم قال الله بعدها: {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم:4 - 5]، فهناك معَلَّم وهناك مُعلِّم، فالمعلم نعته الله بأنه شديد القوى، والمقصود به جبريل، والمعَلَّم في هذا هو نبينا صلى الله عليه وسلم. وظاهر القرآن والسنة على أن جبريل أفضل الملائكة، وهو أول من يسمع وحي الرب تبارك وتعالى، قال عليه الصلاة والسلام: (إن الله إذا أراد أن يتكلم بالوحي أخذت السماوات منه رجفة شديدة، فإذا سمع بذلك أهل السماوات صعقوا فيكون أول من يرفع رأسه جبريل، فإذا رفع رأسه أوحى الله جل وعلا إليه بما يشاء، فإذا أوحى الله جل وعلا إليه بما يشاء مر جبريل على كل سماء، فكلما مر على سماء سأله ملائكتها: ماذا قال ربنا يا جبريل؟ فيقول: قال الحق، وهو العلي الكبير)، قال الله جل وعلا: {وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سبأ:23]. وهذا الملك الكريم أوكل الله جل وعلا إليه إنزال الوحي على جميع الأنبياء، وقد دلت السنة والقرآن على أن الذي ينزل بالوحي عليهم هو جبريل عليه الصلاة والسلام، ولذلك لما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بنعت من رأى وهو جبريل في أيام الوحي الأولى أخبر بها ورقة بن نوفل فعرف ورقة أنه جبريل، وقال: هذا الناموس الذي كان ينزل على موسى، فهذا مما من الله به على هذا الملك الكريم عليه السلام، وقد وصف الله جبريل هنا بأنه شديد القوى، {ذُو مِرَّةٍ} [النجم:6] أي: ذو خلقة حسنة تامة، وهذا كله نعت لجبريل. وقد جاء نعت آخر لجبريل في سور أخر قال الله جل وعلا: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} [التكوير:19 - 21]، فهذا كله نعت لجبريل عليه الصلاة والسلام.

تفسير قوله تعالى: (ثم دنا فتدلى)

تفسير قوله تعالى: (ثم دنا فتدلى) قال الله جل وعلا: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} [النجم:5 - 9] أظهر الأقوال -والله أعلم- أن المقصود بها: رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل في أيام الوحي في مكة عند جبل حراء، فيصبح المعنى {ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى} [النجم:6 - 7] أي: استوى جبريل في السماء بالأفق الأعلى فسد ما بين المشرق والمغرب، فرآه النبي صلى الله عليه وسلم على هيئته التي خلقه الله تعالى عليها له ستمائة جناح، قد سد ما بين المشرق والمغرب. ثم إن جبريل (دنا فتدلى) وهو أسلوب عربي مقلوب تقوله العرب في كلامها؛ لأن التدلي يكون قبل الدنو، وأصل الكلام على لغة العرب تدلى فدنا، لكن هذا أسلوب تستخدمه العرب في كلامها، يقول الرجل: أحسن إلي فزارني، ويقولون: زارني فأحسن إلي، وكلا المعنيين واحد، وتقول: فلان أساء إلي فشتمني، وتقول: شتمني فأساء إلي، فقول الرب تبارك وتعالى: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى} [النجم:8] معناها الحرفي: تدلى جبريل فدنا من النبي صلى الله عليه وسلم. وقلنا: إن من قواعد العلم أن القرآن لا يعرف بالمعاجم، وإنما يعرف أول الأمر بأساليب العرب في كلامها، وقلنا: إن العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى صاحب أضواء البيان لما قدم إلى هذه البلاد من بلاد شنقيط مر على السودان، وكان الإخوة في السودان يسمعون عن علمه، وهو رجل كان يقال له: أمير المؤمنين في المعقول والمنقول، فمر على السودان في طريقه إلى الحجاز للحج قبل أن يمن الله عليه بالإقامة في هذه البلاد، فأقاموا له عشاء ثم سألوه أسئلة متعددة ومنها سألوه: ما آخر كتاب قرأت؟ فقال لهم: آخر كتاب قرأته ديوان عمر بن أبي ربيعة، فتعجب الناس؛ لأن عمر بن أبي ربيعة شاعر غزل فكيف لإمام في تفسير القرآن يسأل عن آخر كتاب قرأ فيقول: كتاب شعر في الغزل، فلما رأى أنه قد أصابهم الحنق قال لهم رحمه الله: أقرؤه لأعرف به أسلوب العرب فأفهم بأسلوب العرب كلام ربي؛ لأن عمر بن أبي ربيعة شاعر عاش في صدر الإسلام في آخر عهد الخلفاء الراشدين وعصر بني أمية، فهو ممن يستشهد بقوله عندما يفسر القرآن فمن يعرف أساليب العرب في كلامها سيعرف أسلوب القرآن؛ لأن القرآن نزل بأسلوب العرب. هذا ما أردنا التنبيه عليه في قول الله جل وعلا: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى} [النجم:8]، قلنا: إن الذي دنا وتدلى هو جبريل، فلما دنا وتدلى قرب من النبي صلى الله عليه وسلم ليعطيه الوحي، ثم كنى الله عن قرب جبريل من نبينا صلى الله عليه وسلم بقوله: {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} [النجم:9]، (أو) هذه تحتمل معنيين: تحتمل أن تبقى على أصلها بمعنى أو، وتحتمل أن تكون للضرب -أي: النقل- فيصبح المعنى: بل أدنى، وأياً كان الأمر فإن المقصود: حكاية قرب جبريل من نبينا صلى الله عليه وسلم وهو يعلمه الوحي، وكون جبريل يعلم النبي صلى الله عليه وسلم الوحي هذا أمر في الأصل تفزع له القلوب؛ لأن جبريل ملك ومحمد صلى الله عليه وسلم بشر، لذلك قال الله بعدها: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} [النجم:10] أي: أوحى الله إلى نبيه بواسطة جبريل ما أوحى، قال الله بعدها: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم:11] معنى {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم:11] على أظهر الأقوال: أن الإنسان إذا رأى شيئاً خارقاً للعادة قد تراه عيناه لكن يكذبه بقلبه، فترى الإنسان جبلة يصيبه اضطراب، ولا يصدق ما يراه، لكن الله أراد لهذا النبي أن يكون آخر الأنبياء وخاتم الرسل، فثبت قلبه صلى الله عليه وسلم ولم يتزعزع، فاتفقا وتواطأ البصر والقلب على تلقي الوحي من الله عن طريق جبريل. هذا الذي يظهر لنا -والله أعلم- في تفسير الآيات السابقة. ولبعض العلماء رحمهم الله تفسيراً آخر قالوا: إن الذي دنا وتدلى هو الجبار جل جلاله، وقالوا: إن هذا حصل في رحلة المعراج، لكن ذكر أن هذا لا يستقيم معنا إذا فسرنا الآيات جملة، والقول الذي اخترناه هو ما اختاره الإمام ابن سعدي رحمة الله تعالى عليه في تفسيره.

تأملات في قوله تعالى: (أفتمارونه على ما يرى)

تأملات في قوله تعالى: (أفتمارونه على ما يرى) ثم قال الله جل وعلا: {أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى} [النجم:12]، الأصل أن يقال: أفتمارونه فيما يرى، وتمارونه بمعنى: تجادلونه فيما يرى، فالإنسان يقال له: أجادلك في هذا الشيء إذا كان هذا الشيء يصنعه باختياره، وأما تعبير القرآن باستخدام حرف الجر (على) بدلاً من استخدام حرف الجر (في) فيه دلالة على أن هذا الأمر معطى من الله هبة لنبينا صلى الله عليه وسلم، فهذه الأشياء التي يراها كجبريل وكالوحي لا تؤخذ لا بعلم ولا بحلقة، ولا بدراسة، بل هي فضل من الله، والله قد قال لنبيه: {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:52]. {أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى} [النجم:12] قال هذا عتاباً وتوبيخاً لكفار قريش على أنهم يجادلون النبي صلى الله عليه وسلم فيما أخبر عنهم؛ لأنه لاقى جبريل، وجبريل أنزل عليه الوحي.

تأملات في قوله تعالى: (ولقد رآه نزلة أخرى)

تأملات في قوله تعالى: (ولقد رآه نزلة أخرى) قال الله جل وعلا: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} [النجم:13]، فالرائي هو الرسول صلى الله عليه وسلم، والمرئي جبريل، {نَزْلَةً أُخْرَى} [النجم:13] أي: مرة أخرى {عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى} [النجم:14 - 15]، إذاً: فالرؤية الثانية كانت في السماء ليلة المعراج، وهذا ظاهر في قول الله تعالى: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} [النجم:13] وما بعدها، وأما ما قبل {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} [النجم:13] فيتحدث عن أيام الوحي الأولى التي في مكة، وبهذا يستقيم الخطاب ويتم المعنى. وهذا القول يؤيده ما ثبت عن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها وأرضاها، وعائشة حبيبة رسولنا صلى الله عليه وسلم هي من أعلم الناس بالسنة؛ لأنها كانت قريبة من النبي صلى الله عليه وسلم، فتستطيع أن تسأله متى شاءت، وقد جاءها رجل يقال له مسروق وهو أحد التابعين الصالحين، فجلس مسروق يوماً عند كعب الأحبار فقال كعب الأحبار في المجلس: إن الله خص إبراهيم بالخلة، وقسم الرؤية والتكليم ما بين موسى ومحمد، فكلم موسى مرتين ورآه محمد صلى الله عليه وسلم مرتين، فخرج مسروق من عنده وذهب إلى عائشة وقال لها: يا أم المؤمنين إن كعباً يقول: كذا وكذا، فكانت متكئة فعدلت من جلستها غاضبة، وقالت: لقد قف شعر رأسي مما قلت -أي: وقف-، من حدثك بهذا فقد كذب، فقال: لا تعجلي علي يا أم المؤمنين! ألم يقل الله: {وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ} [التكوير:23]؟ ألم يقل الله: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} [النجم:13]؟ فقالت رضي الله عنها وأرضاها -وهي عندنا صادقة-: أنا أول من سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية، فقال لي: (إنما هو جبريل رأيته مرتين على هيئته التي خلقه الله تعالى عليها) أي: واحدة في أيام الوحي الأولى، وواحدة في رحلة المعراج. ثم قالت رضي الله عنها وأرضاها: من حدثك أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه فقد كذب، قال الله جل وعلا: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الأنعام:103]، ومن حدثك أن أحداً يعلم ما في غد فقد كذب، فقد قال الله: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا} [لقمان:34]، ومن حدثك أن محمداً كتم شيئاً من الرسالة فقد كذب، ثم تلت: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة:67]. لكن نقف هنا وقفة مهمة: هذا القول الذي قالته عائشة رضي الله عنها: بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم ير ربه، قد نقل عن بعض الصحابة رضي الله عنهم كـ أبي ذر وغيره أن النبي عليه الصلاة والسلام رأى ربه، لكن اختلفوا هل رآه بقلبه أو رآه بعينه على قولين، وهذا مذهب ابن عباس ومن تبعه من الصحابة.

تأملات في قوله تعالى: (عند سدرة المنتهى)

تأملات في قوله تعالى: (عند سدرة المنتهى) قال الله جل وعلا: {عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى} [النجم:14]. السدر: هو شجر النبق، والقرآن فيه إشارة بسيطة يفهم منها أن السدر ليس بشجر عظيم في الدنيا، قال الله جل وعلا عن قوم سبأ: {وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَي أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ} [سبأ:16]، قال بعض العلماء: إن هذا يدل على أن السدر ليس شجراً ذا بال، لكن هذا القول يمكن رده بما روى أبو داود في السنن بسند صحيح، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قطع سدرة صوب الله رأسه في النار يوم القيامة). وهذا الحديث رواه أبو داود في السنن، وصححه الإمام الألباني رحمه الله في صحيح الجامع. والذي يعنينا أن هناك سدرة اسمها سدرة المنتهى، واختلف العلماء في سبب تسميتها بسدرة المنتهى مع اتفاقهم على أن اسمها سدرة المنتهى؛ لأن الله أسماها سدرة المنتهى، ولم يخبر لماذا أسماها سدرة المنتهى. فقيل -وهو قول الأكثرين-: إنه ينتهي إليها ما يعرج من الأرض، وقيل: إنه حتى جبريل لا يتعداها، والله أعلم بالصواب، وهذا غيب لا نتكلف فيه، لكن نقول إن سدرة المنتهى سدرة عظيمة بدليل أن الله لما أراد أن يعرف الجنة وصف الجنة بأنها بجوار السدرة، فقال: {عِنْدَهَا} [النجم:15] أي: عند السدرة {جَنَّةُ الْمَأْوَى} [النجم:15]، وفي هذا دليل على أن الجنة في السماء السابعة.

تأملات في قوله تعالى: (إذ يغشى السدرة ما يغشى)

تأملات في قوله تعالى: (إذ يغشى السدرة ما يغشى) {إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى} [النجم:16]، النبي عليه الصلاة والسلام لما عرج به ورأى السدرة رأى أنه يغشاها من آلاء الله ما لا يمكن أن يصفه بشر، ولذلك أبهم ذلك الوصف فقال الله: {إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى} [النجم:16]، قال الله عندها مدحاً لنبيه: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} [النجم:17]، فالنبي عليه الصلاة والسلام في رحلة المعراج لم يحد بصره لا ميمنة ولا ميسرة، وإنما كان يري بصره ما أراه الله، وهذا من كمال أدبه صلوات الله وسلامه عليه. وأنت إذا دخلت بيت أحد كضيف فلا تجلس حيث تريد بل أجلس حيث يريد صاحب البيت، فهذا هو كمال الأدب؛ لأن صاحب البيت أدرى ببيته، وأدرى أين يضعك، فربما تطلب مكاناً تظنه مناسباً وفيه حرج على صاحب البيت، فمن الأدب أنك عندما تأتي عند أحد كضيف أن تنزل حيث أنزلك، وأن تجلس حيث أجلسك فهو أدرى ببيته. نحن نقوله تعلماً والله جل وعلا علمه النبي صلى الله عليه وسلم فطرة؛ فلما رقي به عليه الصلاة والسلام لم يلتفت ميمنة ولا ميسرة، وأقام بصره حيث أقامه الله، ولذلك أثنى الله عليه بقوله: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} [النجم:17]. ثم أثنى الله على ما رآه نبينا صلى الله عليه وسلم فقال: {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم:18]، وفيه دليل لمن قال: إن النبي عليه الصلاة والسلام لم ير ربه؛ لأن الثناء على النبي بأنه رأى الله أعظم من الثناء عليه بأنه رأى بعض الآيات. والإسراء والمعراج لا تفهمه منفكاً وإنما افهمه بالحدث الذي قبله، فقد كانت حاثة الإسراء والمعراج بعد رحلة الطائف، حيث خرج صلى الله عليه وسلم إلى الطائف فرده أهل الطائف، فرجع إلى مكة فلما رجع إلى مكة منعته قريش من أن يدخلها، فدخلها بجوار المطعم بن عدي، وكان المطعم كافراً ومات على الكفر، وكان للمطعم أبناء فتقلدوا سيوفهم ودخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة في جوار المطعم، وطاف بالبيت في حراسة من أبناء المطعم بعد ذلك، وبعد هذه الحادثة أكرمه الله برحلة الإسراء والمعراج. والآن نقارن ما بين رحلة الطائف وتوابعها، ورحلة الإسراء والمعراج وتوابعها: في رحلة الطائف ذهب إلى الطائف مشياً على الأقدام، وفي رحلة الإسراء والمعراج ركب صلى الله عليه وسلم البراق يضع حافره حيث ينتهي بصره، وفي رحلة الطائف كان معه زيد بن حارثة أحد مواليه مستضعف رضي الله عنه وأرضاه، وفي رحلة الإسراء والمعراج كان معه جبريل، في رحلة الطائف صده أهل الطائف، وفي رحلة الإسراء استقبله الأنبياء في بيت المقدس، وفي رحلة الطائف وهو راجع رده أهل مكة، وفي رحلة المعراج استقبلته الملائكة في السماء، وفي رحلة الطائف رجع يطوف بالبيت معه حراسة، وفي رحلة المعراج رأى البيت المعمور في أمن وكرامة وعزة من الله، فانظر الفرق بين الحالتين حتى تعلم مكانة نبينا صلى الله عليه وسلم عند ربه. فلما صبر على الأولى من أجل الله عوضه ربه بالثانية إكراماً له صلوات الله وسلامه عليه، قيل للشافعي رحمه الله: أيهما أفضل رجل يمكن أو رجل يبتلى؟ قال: سبحان الله! لن يمكن حتى يبتلى. فهو صلى الله عليه وسلم دميت عقباه، وسال الدم على أرض الطائف، ورد وصد، ورضي بذلك كله وقال: (اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون)، ونزل من الطائف وهو في الطريق لم ينس حظه من صلاة الليل، فقام يصلي ويتلو القرآن قبل أن يصل إلى مكة، فأكرمه الله بأن جناً يأتون إليه فيسمعون قراءته دون أن يدري. ولذلك قال الله: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ} [الجن:1]، وقال في الأحقاف: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ} [الأحقاف:29]. هذا أهم ما يمكن المقارنة به بين رحلة الطائف ورحلة المعراج. أما رحلة المعراج فالذي يعنينا منها أنه صلى الله عليه وسلم قدم له لبن وخمر، وجاء في بعض الروايات وعسل، فاختار اللبن، فنودي: هديت، واخترت الفطرة، وهديت أمتك. فاللبن الذي يأخذه الجنين من بطن أمه هو الغذاء الوحيد الذي لا تدخل فيه صنعة يد بني آدم، فليس لبني آدم فضل في اللبن الذي يخرج من ثدي المرأة، ولا الذي يخرج من ضرع الشاه أو ذوات الحليب، فلذلك قيل له صلى الله عليه وسلم: اخترت الفطرة. ثم عرج به صلى الله عليه وسلم، وقد مر معنا في أكثر من درس ما حظي به صلى الله عليه وسلم من الحفاوة من الأنبياء والمرسلين في أكثر من مناسبة، قال شوقي: يا أيها المسرى به شرفاً إلى ما لا تنال الشمس والجوزاء يتساءلون وأنت أطهر هيكل بالروح أم بالهيكل الإسراء بهما سموت مطهرين كلاهما روح وريحانية وبهاء تغشى الغيوب من العوالم كلما طويت سماء قلدتك سماء أنت الذي نظم البرية دينه ماذا يقول وينظم الشعراء والمصلحون أصابع جمعت يداً هي أنت بل أنت اليد البيضاء صلى عليك الله ما صحب الدجى حاد وحنت بالفلا وجناء واستقبل الرضوان في غرفاتهم بجنات عدن آلك السمحاء هذه القضية الأولى التي أردت الوقوف عندها في سورة النجم.

تأملات في قول الله تعالى: (أفرأيتم اللات والعزى)

تأملات في قول الله تعالى: (أفرأيتم اللات والعزى) القضية الثانية: قول الله جل وعلا: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى} [النجم:19 - 20]، فالله سبحانه هنا يوبخ المشركين على أنهم يجعلون هذه الأصنام التي لا تضر ولا تنفع نداً لله، فالقضية التي تتعلق بهذه الآية من سورة النجم أن آخرها سجدة، فلما وصل إليها صلى الله عليه وسلم سجد، وهذا أمر يذكر بمسألة شهيرة عند العلماء تسمى: قصة الغرانيق، والغرانيق: جمع غرنوق وهو طائر أبيض، وقصة الغرانيق قصة يذكرها المفسرون عند هذه الآية، ولأهميتها عقدياً سنتكلم عنها. ينقل المفسرون عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه نقلاً غير صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قرأ هذه السورة وجاء عند قول الله جل وعلا: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى} [النجم:19 - 20] زعموا أن الشيطان ألبس على النبي صلى الله عليه وسلم فألقى في قلبه أن يقول بعد أن قال: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى} [النجم:19 - 20] أن يقول: تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى، تلك أي: الأصنام، والغرانيق العلى أي: تطير وتعلو بعبادتهم، وإن شفاعتهن لترتجى: يزعمون أنهم فهموا أن النبي صلى الله عليه وسلم اعترف بشفاعة آلهتهم. وتقول القصة: إن النبي صلى الله عليه وسلم لما سجد سجد معه كفار قريش، وذكروا أن الوليد بن المغيرة كان شيخاً كبيراً لم يستطع أن يسجد فرفع تراباً وسجد عليه؛ فرحاً منهم أن النبي صلى الله عليه وسلم اعترف بآلهتهم. هذا نقل. النقل الثاني يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقلها، وإنما الشيطان قلد النبي صلى الله عليه وسلم فقال: تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى، فظن المؤمنون والكافرون أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي قالها، فلما سجد سجدوا معه فرحاً، ويزعمون أنه لما جاء المساء جاء جبريل مرة أخرى للنبي صلى الله عليه وسلم فقال له: اقرأ علي ما أقرأتك؟ فقرأها النبي صلى الله عليه وسلم: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى} [النجم:19 - 20]، تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى -وهذه قصة لا يصدقها عاقل-، ثم إنه غضب جبريل وقال: ما هكذا أقرأتك إياها، فأنزل الله جل وعلا قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [الحج:52]، وقوله تعالى: {لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا} [الإسراء:73] وهذه هي قصة الغرانيق، وهذه القصة فيها كلام من حيث المتن ومن حيث السند. نقول جملة: هذه القصة وردت في أكثر كتب التفسير لكن علماء الأمة من أهل السنة رضي الله عنهم ورحمهم وجزاهم عن السنة خيراً ردوا هذه القصة شكلاً وموضوعاً -كما يقول المعاصرون-، وردوها سنداً ومتناً اللهم إلا ما كان من الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى فهو يقول: إن سندها من المرسل المقبول، لكنه لا يقول رحمه الله: إن النبي صلى الله عليه وسلم قالها، وقد عاتب العلماء كثيراً الحافظ ابن حجر رحمه الله على قوله هذا. وأما علماء الأمة قاطبة فقد ردوها متناً وسنداً، وهي لا يمكن أن تصح شرعاً؛ لأن الله يقول عن إبليس: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [النحل:99]، فإذا كان إبليس بنص القرآن ليس له سلطان على أهل الإيمان، فأشرف أهل الإيمان هو نبينا صلى الله عليه وسلم، فكيف يتسلط إبليس على سيد الأولين والآخرين صلى الله عليه وسلم ويعجز عن التسلط على غيره؟! ثم كيف يصدق الوحي إذا قلنا: إن الشيطان قابل لئن يدخل في سكتات النبي صلى الله عليه وسلم فيقلد أمره؟! وممن اجتهد من العلماء فألف فيها رسالة جامعة نافعة: العلامة الألباني رحمه الله تعالى في رسالة أسماها (نصب المجانيق لنسف قصة الغرانيق) بأسلوب علمي لتطمئن نفسك أن هذا كله قول مزعوم على نبينا صلى الله عليه وسلم لا يمكن تصديقه، كما أن العلامة الشنقيطي رحمه الله في أضواء البيان ذكرها في سورة الحج وفندها تفنيداً جيداً، وكذلك الشوكاني رحمه الله تعالى، ومن أعظم من فندها أبو بكر بن العربي، والقرطبي في الجامع لأحكام القرآن وغيرهم من أئمة المسلمين رحمهم الله سلفاً وخلفاً. لكن رسالة الألباني أجمعها، وقد كتبها رحمه الله عام (1372هـ) أي: قبل (53) سنة، ولعلها الآن تنفعه في قبره رحمه الله تعالى رحمة واسعة، وهو قال في المقدمة: إنني أسال الله أن يجعلها ذخراً لي؛ لأنني نصرت نبيه، ولعلها تنفعه برحمة الله وفضله الآن في قبره، كما نسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما علمنا في الحياة الدنيا وفي البرزخ وفي الآخرة. وأما معنى قول الله جل وعلا: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [الحج:52]، تمنى هنا بمعنى: تلا وقرأ، ولأن أي حكم يحتاج إلى دليل وأي نقل يحتاج إلى إسناد، فدليل ذلك من كلام العرب قول كعب بن مالك في مدح عثمان رضي الله تعالى عنه: تمنى كتاب الله أول ليله وآخره لاقى حمام المقادر فهو يتكلم عن عثمان أنه كان يقرأ القرآن من أول النهار ومات آخر النهار وهو يقرأ القرآن، فجعل تمنى هنا بمعنى: قرأ وتلا، فهذا شاهد من كلام العرب على أنهم يستخدمون تمنى بمعنى: تلا، فقول الله جل وعلا: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى} [الحج:52] أي: إلا إذا تلا وقرأ {إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ} [الحج:52]، وأما معنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان أي: أن المؤمن الذي يسمع الكلام من النبي يأتيه الشيطان بوساوس على قلبه تقول له: هذا شعر، وهذه كهانة، وهذا نثر، وهذا كلام مسجوع، وهذا ليس بقرآن، وساوس من الشيطان، قال الله: {فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ} [الحج:52] أي: لإيمان هذا العبد يذهب الله أثر تلك الوسوسة، ومعنى ينسخ: يزيل، أي: يزل الله أثر تلك الوسوسة، {ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ} [الحج:52] أي: يطمئن المؤمن بأن هذا قرآن {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [الحج:52] أي: عليم بما يصنع، حكيم فيما يصنع، وهذا بيان ما يسمى بقصة الغرانيق.

تأملات في قوله تعالى: (وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا)

تأملات في قوله تعالى: (وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئاً) الوقفة الأخيرة مع قول الرب تبارك وتعالى: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النجم:26]. لما ذكر الله جل وعلا تعلق أهل الإشراك بأصنامهم أخبر الله جل وعلا أن الشفاعة شيء عظيم حتى الملائكة وهم ملائكة لا يشفعون إلا بشروط فكيف بأصنامكم! وهذا درس في العقيدة، والعقيدة تؤخذ أول ما تؤخذ من القرآن، وأنا أكثر من الاستشهاد بالإمام الشنقيطي رحمه الله؛ لأنه كان عالماً بحق، كان يعلم كثيراً في اللغة والمنطق والبلاغة والفقه، لكن إذا جلس في الحرم لا يدرس إلا التفسير. يقول تلميذه الشيخ عطية رحمه الله: سألته لماذا لا تدرس إلا التفسير؟ فقال: كل العلوم مردها إلى القرآن. وعلى هذا الأسلوب الذي قاله الشنقيطي رحمه الله سنتكلم عن العقيدة في باب الشفاعة عن قول الله جل وعلا: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا} [النجم:26]. الشفاعة في المعنى الاصطلاحي: طلب الخير للغير إما بدفع مضرة، أو بجلب منفعة. والشفاعة في الآخرة قسمان: شفاعة باطلة، وشفاعة صحيحة، فأما الشفاعة الباطلة فكما يزعمه من يعبد الأصنام أن أصناهم تنفع، وهذا باطل. والشفاعة الصحيحة: ما اجتمع فيها شرطان: إذن الله للشافع مع الرضا، ورضاه عن المشفوع له، قال الله تعالى: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النجم:26]، فذكر الله الإذن وذكر الرضا، و (كم) هذه تسمى خبرية، وأختها كم الاستفهامية، وكم الاستفهامية تحتاج إلى جواب، وأما كم الخبرية فلا تحتاج إلى جواب إلا إنك تخبر عن كثرة، قال الفرزدق: كم خالة لك يا جرير وعمة فدعاء قد حلبت علي عشاري وهي في الآية أيضاً كناية عن الكثرة، قال الله تعالى: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النجم:26].

الشفاعات الخاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم

الشفاعات الخاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم قلنا: الشفاعة الباطلة ما زعمه الكفار أن أصنامهم تشفع، وأما الشفاعة الصحيحة قلنا شروطها الإذن والرضى، وهذه الشفاعة تنقسم إلى خمسة أقسام: ثلاثة منها خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم، واثنتان يشترك فيها النبي وغيره، وهي ما سنبينها على وجه التفصيل. الشفاعة الأولى: هي شفاعته صلى الله عليه وسلم في أهل الموقف أن يحكم الله جل وعلا بينهم ويفصل، قال عليه الصلاة والسلام كما في البخاري وغيره: (أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، فإن الناس يجتمعون في صعيد واحد فيلجمهم العرق وتدنو منهم الشمس، فيقول بعضهم لبعض: ألا تذهبون إلى آدم حتى يشفع لكم عندك ربكم أن يقضي بينكم؟ فيأتون إلى آدم فيقولون: يا آدم أنت أبو البشر، خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته، فيقول آدم: إن ربي غضب غضباً لم يغضب قبله ولن يغضب بعده مثله، وإنني نهيت عن الشجرة فأكلتها، نفسي نفسي نفسي يقولها ثلاثاً، اذهبوا إلى نوح، فيأتون إلى نوح فيقول في الغضب مثلما يقول، ثم يقول عليه السلام: إنه قد كانت لي دعوة وقد عجلتها، دعوت بها على قومي، اذهبوا إلى إبراهيم، فيأتون إلى إبراهيم فيثنون عليه: أنت اتخذك الله خليلاً، فيقول كما قال غيره، ثم يقول: إنني كذبت ثلاث كذبات -قالها تواضعاً-، نفسي نفسي نفسي اذهبوا إلى موسى، فيأتون إلى موسى فيقولون له: أنت صفي الله وكليمه، واصطفاك الله على الناس برسالته وبكلامه، اشفع لنا إلى ربك، فيقول: إنني قتلت نفساً لم أؤمر بقتلها، نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى عيسى، فيأتون إلى عيسى فيقولون: أنت كلمة الله إلى مريم وروح منه، فلا يذكر ذنباً عليه السلام، وإنما يقول: نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى محمد؛ فإنه نبي قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فيأتون إلى نبينا صلى الله عليه وسلم فيقولون له ذلك، فيقول: أنا لها، فيأتي عليه الصلاة والسلام فيسجد تحت العرش، ويفتح الله عليه بمحامد يثني بها على الله لم يفتحها على أحد من قبله، ثم ينادى: يا محمد ارفع رأسك، وسل تعط، واشفع تشفع). فهذه الشفاعة هي المقام المحمود الذي خص الله به نبينا صلى الله عليه وسلم. الشفاعة الثانية الخاصة به صلى الله عليه وسلم: أنه يشفع في أهل الجنة أن يدخلوا الجنة، بمعنى: أن أهل الجنة عندما يحبسون على قنطره بين الجنة والنار فينزع ما في صدورهم، قال الله: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ} [الأعراف:43]، ثم بعد ذلك يجدون أبواب الجنة مغلقة، فيأتون آدم فيردهم إلى محمد، فيأتي صلى الله عليه وسلم فيطرق باب الجنة، فيقول له الخازن: من أنت؟ فيقول: أنا محمد، فيقول الخازن: أمرت ألا أفتح لأحد قبلك فيفتحها، فيدخل الناس الجنة، يدخل كل أحد من الباب الذي فيه أكثر أعماله، أي: من كان أكثر أعماله الصلاة يدخل من باب الصلاة، والذي أكثر أعماله الصيام يدخل من باب الريان، والذي أكثر أعماله الجهاد يدخل من باب الجهاد وهكذا، فهذه الشفاعة الثانية له صلى الله عليه وسلم. الشفاعة الثالثة الخاصة به صلى الله عليه وسلم: شفاعته في عمه أبي طالب أن يخفف عنه العذاب، فهو في ضحضاح من نار لكن لا يخرج من النار. وأبو طالب أحد أعمام النبي صلى الله عليه وسلم، وأعمام النبي عشرة، أدرك أربعة منهم بعثة النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم منهم اثنان، وكفر اثنان، فاللذان كفرا أبو طالب وأبو لهب، واختلف حالهما، فـ أبو لهب كان شديد العداوة مع كفره، وأبو طالب كان شديد النصرة مع كفره، لكن كلاهما في النار إلا أن أبا طالب يخفف عنه بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم. وأما اللذان أسلما فهما العباس وحمزة، وحمزة أفضل من العباس، وقد سماه النبي صلى الله عليه وسلم كما رواه الطبراني بسند صحيح: سيد الشهداء. فهذه الشفاعة الثالثة، وبقيت شفاعتان، وهاتان الشفاعتان له ولغيره من الملائكة والشهداء والصالحين والعلماء، فيشفع الرجل في أهل بيته، ويشفع الرجل في قرابته، وفي جيرانه، وفي معارفه، وهذه شفاعة مشتركة، وتنقسم إلى قسمين: شفاعة في أقوام استحقوا النار ألا يدخلوها، وشفاعة في أقوام دخلوا النار أن يخرجوا منها. وهاتان الشفاعتان أنكرهما فرقتان من فرق المبتدعة هما: المعتزلة والخوارج. فالخوارج يرون أن مرتكب الكبيرة كافر، والمعتزلة يرون أنه تجرى عليه في الدنيا أحكام أهل الإيمان، وتجرى عليه في الآخرة أحكام أهل الكفر إذا لم يتب من الكبائر، ويقولون: هو الدنيا في منزلة بين منزلتين. ثم تبقى شفاعة أرحم الراحمين جل جلاله فيقول الله جل وعلا: (شفع النبيون، وشفعت الملائكة، وشفع المؤمنون فبقيت شفاعة أرحم الراحمين، فيضع قبضته في النار جل وعلا فيخرج منها أقواماً قد حرقوا بالنار حتى عادوا حمماً لم يعملوا خيراً قط، ثم توضع على رقابهم الخواتم ويدخلون الجنة، فيقال: هؤلاء عتقاء الرحمن أدخلهم الجنة من غير عمل عملوه ولا خير قدموه)، رواه الشيخان في صحيحيهما من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه، وإن رباً هذه سعة رحمته أهل لئن ترجى رحمته. اللهم إن لم نكن أهلاً لئن ترحمنا فإن رحمتك أهل لئن تسعنا، اللهم إن لم نكن أهلاً لئن ترحمنا فإن رحمتك أهل لئن تسعنا، اللهم إن لم نكن أهلاً لئن ترحمنا فإن رحمتك أهل لئن تسعنا، اللهم إن لم نكن أهلاً لئن ترحمنا فإن رحمتك أهل لئن تسعنا، اللهم إن لم نكن أهلاً لئن ترحمنا فإن رحمتك أهل لئن تسعنا. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

تأملات في سورة النحل [1]

سلسلة تأملات قرآنية _ تأملات في سورة النحل [1] بين الله تعالى في سورة النحل أموراً عظيمة، منها تحقق مجيء أمره تعالى، وإنزال الملائكة بالوحي على المرسلين المصطفين للدعوة إلى توحيده، كما ذكر تعالى فيها عظيم منته على عباده بتسخيره الأنعام لهم ليبلغوا منها المنافع المتعددة، وليحصل لهم بها الزينة والبهجة، وإخراجه اللبن منها سائغاً للشاربين، وإكرامهم بنعمة العسل المختلفة ألوانه، ذاكراً مع ذلك حال المشركين إزاء هذه النعم العظيمة، وهو حال الجحود والكفران.

ذكر نسبة سورة النحل وسبب تسميتها

ذكر نسبة سورة النحل وسبب تسميتها الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له خلق فسوى وقدر فهدى وأخرج المرعى فجعله غثاء أحوى، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه. أما بعد: فهذا درس من جملة دروسنا في تأملات حول كتاب ربنا تبارك وتعالى، والسورة التي سنشرع في التأمل فيها -بإذن الله تعالى- هي سورة النحل، وهي سورة مكية إلا بعض آيها، وما كان منها مدنياً سنعرج عليه في درس آخر، وأما في هذا الدرس فإننا سنذكر ما كان في أولها من آيات، وأكثر آياتها الأول آيات مكيات، فنقول والله المستعان: سميت هذه السورة بسورة النحل لأن الله جل وعلا ذكر فيها اسم النحل، فقال الله جل وعلا: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ} [النحل:68]. وهذا أمر تكرر كثيراً، وهو أن السورة لا تسمى إلا بشيء ذكر فيها، وكذلك سميت سورة البقرة وآل عمران وغيرهما من سور القرآن على هذا المنوال، فلا جديد في هذا.

ذكر بعض ما ورد النهي عن قتله من الدواب

ذكر بعض ما ورد النهي عن قتله من الدواب والنحلة أحد الدواب الأربع الوارد النهي عن قتلها في حديث ابن عباس فيما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل أربع من الدواب: النملة والنحلة والهدهد والصرد)، والنملة والنحلة والهدهد معروفة، وأما الصرد فطائر أكبر من العصفور قليلاً ضخم الرأس عظيم المنقار، وكانت العرب تتشاءم به خاصة إذا أكل أمامها عصفوراً، فجاء الأمر النبوي من رسولنا صلى الله عليه وسلم بالنهي عن قتل هذه الدواب الأربع، كما ورد الشرع بالنهي عن قتل دواب أخر غير هذه، فقد نهى صلى الله عليه وسلم عن قتل الضفدع، كما نهى صلى الله عليه وسلم عن قتل الجراد، إلا إذا خيف ضرره، أو قتل لأكله، فمنفعة الأكل تغلب على النهي عن قتله كما أخبر نبينا صلى الله عليه وسلم جمعاً بين الأحاديث التي وردت في أن النبي وأصحابه رضي الله عنهم أكلوا الجراد. ويسمى صوت النحل مجتمعاً دوياً.

تفسير قوله تعالى: (أتى أمر الله فلا تستعجلوه)

تفسير قوله تعالى: (أتى أمر الله فلا تستعجلوه) يقول الله جل وعلا في صدر هذه السورة: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [النحل:1]، الفعل (أتى) بالإجماع فعل ماض، والشيء إذا مضى وانتهى لا يقال فيه لا تستعجل؛ لأنه قد قضي وانتهى، فقول الله جل وعلا: (فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) قيد يدل على أنه ليس المقصود أن هذا الأمر قد وقع؛ لأنه لو كان قد وقع فعلاً فلن يقال فيه (لا تستعجلوه) وإنما يقال: (لا تستعجل) في الشيء الذي لم يحصل بعد، لكن الأمر هنا المقصود به على الصحيح -والله أعلم- عذاب الكفار يوم القيامة، وهو الذي كان يرقبه كفار قريش، وقيل: ما قبل ذلك من الهلاك، ولكن الأرجح أن هذا الأمر لم يقع، ولكونه متحقق الوقوع جعله الله جل وعلا بمنزلة الشيء الذي وقع. وهذا النوع من الكلام لا يمكن أن يقدر عليه إلا الله؛ لأن أي أحد يقول عن شيء: إنه سيقع، فإنه قد يقع خلاف الذي قال، فلا يقدر على مثل هذا القول إلا الرب تبارك وتعالى. والله يقول لنبيه: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف:23 - 24]، إلى آخر آية سورة الكهف. والذي يعنينا هنا أن هذا الأمر يدل على عظمة ربنا تبارك وتعالى، وأن الله أنزل هنا الأمر المتحقق الوقوع منزلة الشيء الذي وقع. وأمر الله هنا المقصود به عذاب الكفار يوم القيامة.

تفسير قوله تعالى: (ينزل الملائكة بالروح من أمره)

تفسير قوله تعالى: (ينزل الملائكة بالروح من أمره) ثم قال تعالى: {يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُوا أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ} [النحل:2]. كلمة (الروح) وردت في القرآن كثيراً، ولكن القرائن تدل على المعنى، فقول الله جل وعلا: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا * فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا} [مريم:16 - 17] هذه قرينة على أن المقصود بالروح جبريل، وقد يقصد به ملك غير جبريل، ولكن ظاهر السنة على أنه جبريل، فالمقصود به هنا أحد الملائكة، فقول الله: ((فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا)) قرينة على أن المقصود بالروح هنا جبريل أو ملك من الملائكة، والله تبارك وتعالى يقول: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء:85] فهنا الروح جاءت مبهمة، واختلف العلماء فيها اختلافاً كثيراً، وظاهر الآية أن المقصود بها الروح التي في أجساد بني آدم. وهنا يقول الله: {يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [النحل:2]، فالملائكة تنزل بهذا الروح، ولا نعرف ما هو الروح، ولكن سنفسره بالقرآن، فالقرآن يتمم بعضه بعضاً ويفسر بعضه بعضاً، فالله يقول لنبيه: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ} [الشورى:52]، وقال: {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ} [غافر:15]، ففي الآيتين دلالة على أن المقصود الوحي الذي تنزل به الملائكة على النبي المختار من الله. فالمقصود بالروح هنا الوحي، وإنما سمي الوحي روحاً لأنه حياة للأرواح، كما أن الغذاء حياة الأبدان، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى:52]. وقول الله: {يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ} [النحل:2] هذا إجمال، ولكن دلت السنة على أن الموكل بنزول الوحي هو جبريل عليه السلام.

النبوة اصطفاء لا ينال بالكسب

النبوة اصطفاء لا يُنال بالكسب قال تعالى: {يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [النحل:2]، فالنبوة مسألة اصطفاء لا تنال بكثرة صلاة ولا بكثرة صيام؛ فإن الأنبياء لا يعلمون أنهم أنبياء حتى ينزل عليهم الوحي ويأتيهم الملك وينبئهم، ولا توجد كلية تخرج أنبياء ولا حلقة علم تخرج أنبياء، بل توجد كليات وحلقات علم تخرج علماء، وأما النبوة فأمر يصطفي به الله جل وعلا بعض عباده، قال الله جل علا: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ} [الحج:75]، والله تبارك وتعالى يقول: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام:124].

بيان معنى قوله تعالى (أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا)

بيان معنى قوله تعالى (أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا) قال تعالى: {يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُوا أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ} [النحل:2] (أن) هنا في أصح أقوال النحويين مفسرة لما قبلها. وقوله تعالى: ((لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا)) هو توحيد الإلهية، وقوله تعالى: ((فَاتَّقُونِ)) دعوة إلى توحيد الإلهية، والفرق بينهما أن الأول به عرف الله تبارك وتعالى وكلمة (رب) تفيد توحيد الربوبية، وأما كلمة (إله) فتفيد توحيد الإلهية. وقد قلنا: إن موسى قدم يبحث عن جذوة من النار، والله يربي عباده على التوحيدي، فلما قدم موسى ليلتمس جذوة من النار وهو لا يدري أنه نبي ولا أنه الذي سيصبح كليم الله أو صفيه جاء خائفاً يرقب هذه النار، فالله جل وعلا قبل أن يملي عليه توحيد الإلهية -وهو مطلب الرب جل وعلا من خلقه- قال له: يا موسى {إِنِّي أَنَا رَبُّكَ} [طه:12]، فأشعره بالطمأنينة قبل أن يطلب منه أي طلب؛ لأن قوله: (أنا ربك)، مثاله كما يقول لك أبوك وأنت تائه: أنا أبوك، أو يقول لك: أنا أخوك الأكبر، أنا رئيسك، أنا مديرك، أنا أميرك، حتى تشعر بالطمأنينة. فقال له ربه جل وعلا: {إِنِّي أَنَا رَبُّكَ} [طه:12]، فشعر موسى بالطمأنينة؛ لأنه لا يوجد تكليف. ولما شعر موسى بالطمأنينة طلب منه الله جل وعلا أن يعبده، فقال الله جل وعلا: {إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى * وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى} [طه:12 - 13] ثم علمه توحيد الإلهية فقال: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه:14] بعد أن مهد بتوحيد الربوبية. فهنا ذكر الله جل وعلا توحيد الإلهية بالطريقين فقال: {أَنْ أَنذِرُوا أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا} [النحل:2]؛ لأن العرب لم تنكر توحيد الربوبية، فقال الله جل وعلا: {أَنْ أَنذِرُوا أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ} [النحل:2].

براهين توحيد الربوبية

براهين توحيد الربوبية ثم ذكر الله جل وعلا بعض البراهين على أنه رب العالمين جل جلاله، وسورة النحل تسمى سورة الامتنان؛ لأن الله جل وعلا ذكر فيها كثيراً من مننه على خلقه تبارك وتعالى، وصدرها الله جل وعلا في آيات متفرقات ببراهين البعث، وبراهين البعث أكثر من خمسة، والمذكور في سورة النحل ثلاثة: الأول: الاستدلال بالأمر العظيم على الأمر الذي هو أدنى منه، قال الله جل وعلا: {خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [النحل:3]، فلما خلق السموات والأرض دلل جل وعلا به على القدرة على بعث الناس؛ لأن الله يقول: {لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} [غافر:57]، وهذا أول براهين البعث. الثاني: خلق الإنسان نفسه، ولذلك قال الله جل وعلا بعدها: {خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ} [النحل:4]، وكونه جل وعلا خالقاً للإنسان ابتداء يدل على أنه قادر على أن يعيده، وهو البعث، ولهذا قال الله: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس:78]، وقبلها قال: {أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ} [يس:77]. الثالث: إحياء الأرض، ولهذا الله جل وعلا قال: {يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ} [النحل:11] إلى آخر الآية. فإنبات الأرض بعد مواتها دلالة على القدرة على بعث الناس {إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى} [فصلت:39]. فهذه براهين البعث الثلاثة التي ذكرها الرب جل وعلا في سورة النحل.

تفسير قوله تعالى: (خلق الإنسان من نطفة فإذا هو خصيم مبين)

تفسير قوله تعالى: (خلق الإنسان من نطفة فإذا هو خصيم مبين) قال الله جل وعلا: {خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ} [النحل:4]، أي: خلق الله جل وعلا الإنسان ليعبده ويخضع لربه ويطيعه ((فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ)) بمعنى: مخاصم، وهي صيغة مبالغة من (خصم)، أي: يجادل ربه، وإذا أخذنا بهذا المعنى أصبحت الآية في معرض الذم، فالآية هنا ذم لمن يخاصم ربه ويجادله، وهي بمفهوم المخالفة مدح لمن لم يجادل في الله جل وعلا ولم يخاصم فيه.

ذكر منافع الأنعام

ذكر منافع الأنعام

حصول الدفء والمنافع والأكل منها

حصول الدفء والمنافع والأكل منها ثم ذكر الله جل وعلا قوله: {وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} [النحل:5]، والأنعام هنا: الإبل والبقر والغنم بقسميها: المعز والضأن، فأصبحت أربعة أنواع كل منها ذكر وأنثى، فهي ثمانية أزواج ذكرها الله جل وعلا في سورة الأنعام. وقوله تعالى: ((لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ)) الدفء: يكون من الأصواف أو الوبر أو الشعر الذي يؤخذ من الأنعام، وهذا ظاهر ((وَمَنَافِعُ)) لكونها تتناسل، ولكونها ذوات منافع متعددة ((وَمِنْهَا)) أي: من الأنعام ((تَأْكُلُونَ))، وهذا فيه دلالة صريحة على جواز أكل الأنعام.

البهجة بها

البهجة بها ثم قال الرب تبارك وتعالى: {وَلَكُمْ فِيهَا} [النحل:6]، أي: في الأنعام {جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ} [النحل:6]، والرواح هو عودة الأنعام من المرعى، وأما السروح فهو ذهابها، وإنما قدم الله جل شأنه الإياب هنا؛ لأن الإنسان تقر عينه بعودة دوابه وقد رعت وأصبحت أعظم بطوناً وأحفل ضروعاً مستقرة في حظائرها عنده بجواره. فلذلك قدم الله جل وعلا الرواح على السروح رغم أن السروح مقدم على الرواح، وهذا من أسباب التقديم والتأخير في كلام الله.

حملها الأثقال والأمتعة

حملها الأثقال والأمتعة قال تعالى: {وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [النحل:7] هذه كلها ظاهرة لا تحتاج إلى تفسير.

تفسير قوله تعالى: (والخيل والبغال والحمير لتركبوها)

تفسير قوله تعالى: (والخيل والبغال والحمير لتركبوها)

حكم أكل لحم الخيل

حكم أكل لحم الخيل ثم قال الله تعالى: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [النحل:8]. قوله تبارك وتعالى: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} [النحل:8]، اختلف العلماء في أكل لحم الخيل، مع اتفاقهم على حل أكل لحم الإبل والبقر والغنم، واتفاقهم على تحريم أكل لحم البغال، واختلفوا في الحمير كذلك، ولكن جمهور العلماء على أنها حرام. وأما الخيل فقد ذهب أبو حنيفة رحمه الله تعالى -وهو أحد الأقوال في مذهب مالك رحمه الله- إلى حرمة أكل لحم الخيل، وحجتهم هذه الآية، قالوا: إننا متفقون على أن الآية في سياق الامتنان من الرب على عباده، وهذا لا خلاف فيه، فقالوا: إن الله لما ذكر الأنعام قال: {لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} [النحل:5] فصرح بالأكل، فلما جاء ذكر الخيل والبغال والحمير قال: {لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [النحل:8]، ولم يقل في منته على عباده بأنها تؤكل، فقالوا هذا من أعظم الأدلة على أن لحم الخيل محرم. والأمر الثاني هو ما يعرف عند الأصوليين بدلالة الاقتران، حيث قالوا: إن الله أشرك الخيل مع البغال والحمير، وأنتم متفقون معنا على أن البغال والحمير محرمة الأكل، فقرنت معها الخيل فأصبحت محرمة بدلالة الاقتران. ولكن دلالة الاقتران عند الأصوليين من أضعف أدلة التحريم وإن قال بها جمع من العلماء. والذي يعنينا أنهم قالوا: إشراكها مع البغال والحمير إشراك في الحكم. وقالوا: إننا متفقون على أن اللام في قوله جل وعلا ((لِتَرْكَبُوهَا)) للتعليل، ولذلك جاء الفعل المضارع بعدها منصوباً، فحذفت النون لوجود اللام الناصبة. وقوله تعالى: ((لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً)) الأصح فيها أنها تعرب مفعولاً لأجله، وهو تعليل، فقالوا: إن التعليل عندنا يفيد الحصر، بمعنى أن الخيل والبغال والحمير لا تصلح إلا للركوب أو للزينة، وهذا يدل على أنه لا يجوز أكلها. وذهب جمهور العلماء -كـ الشافعي وأحمد وجماهير العلماء من المحدثين وأصحاب أبي حنيفة - إلى جواز أكل لحم الخيل، وهؤلاء لم ينظروا إلى هذا النص؛ لأن هذا النص يحتمل، وإنما أتوا بأدلة قطعية في الصحيحين، وأولها حديث جابر رضي الله تعالى -وهو في الصحيحين- قال: (إن النبي صلى الله عليه وسلم نهانا يوم خيبر عن لحم الحمر الأهلية وأباح لنا أكل الخيل)، فهذا نص صريح في الصحيحين على جواز أكل لحم الخيل، وهو يعارض الاحتمال الذي في الآية. واحتجوا بما في الصحيحين -أيضاً- من حديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله تعالى عنها أنها قالت: (ذبحنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة فرساً فأكلناه). وزاد الدارقطني رحمه الله زيادة، وهي أنها قالت: (كان لنا فرس خشينا أن يموت، فنحرناه وأكلناه). فقال الشافعي وأحمد رحمهما الله تعالى وجماهير العلماء بجواز أكل لحم الخيل لهذه الأدلة الواردة عن جابر وعن أسماء رضي الله عنهما، وهي في الصحيحين. ولهذا عارض صاحبا أبي حنيفة أبا حنيفة في تحريم لحم الخيل. وصاحبا أبي حنيفة هما أبو يوسف ومحمد بن الحسن، وأبو يوسف اسمه يعقوب بن إبراهيم، ومحمد بن الحسن هو الشيباني، فهذان تلميذا أبي حنيفة رحمهما الله تعالى، ومن أخلص الناس للمذهب، وقد أسهما كثيراً في تحرير مذهب أبي حنيفة، ولكنهما لما نظرا في النصين أبطلا قول أبي حنيفة، فرحمة الله تعالى على الجميع. ويذكر أن محمد بن الحسن كان سميناً بديناً جداً، ولكنه كان مليح الوجه جداً، ففي أول طلبه العلم جلس أمام أبي حنيفة، فلما رآه أبو حنيفة أمره بأن يجلس وراءه، فجلس سنين يأخذ العلم من أبي حنيفة وهو وراءه حتى نبت شاربه وتغير وجهه وذهبت الملاحة التي هي فيه قليلاً، فلم يعرفه أبو حنيفة بعدما كبر، ثم بعد ذلك صار يجلس أمامه. قال الشافعي رحمه الله: ما رأيت سميناً أخف روحاً منه، وكان ذكياً جداً. وأما الشافعي رحمه الله فقد أخذ علم الأثر عن مالك في المدينة، وأخذ علم الرأي عن محمد بن الحسن؛ لأن الشافعي لم يدرك أبا حنيفة، فذهب إلى مصر ومزج بين رأي محمد بن الحسن وبين الأثر الذي أخذه عن مالك، وأخرج مذهبه الجديد رحمه الله تعالى في أرض مصر. فالشاهد أن صاحبي أبي حنيفة محمد بن الحسن ويعقوب بن إبراهيم المعروف بـ أبي يوسف خالفا أبا حنيفة رحمه الله في هذه المسألة، ولم يقولا بتحريم أكل الخيل؛ لوجود النصوص الصريحة. وذهب بعض العلماء إلى كراهة أكل لحم الخيل تنزيهاً. وقد أجاب المجيزون عن قول العلماء المحرمين أكلها فقالوا: إن قول الرب تبارك وتعالى: {وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} [النحل:5] لا يدل على الحصر، بدليل أن الإبل ذكر الله فيه الدفء والمنافع والأكل، ولم يذكر الركوب، ويجوز ركوبها، فكذلك الخيل ذكر الله جل وعلا أنها زينة وأنها تركب، ولا يعني هذا أنه لا يجوز أكل لحمها. وقد أخبر النبي عليه الصلاة والسلام بأن الفخر والخيلاء في أهل الإبل، والسكينة في أهل الغنم، والعرب قديماً ما كانت تفتخر بالغنم، وإنما تفتخر بالإبل والخيل، وكانوا يقولون: إن الغنم ليست موطن فخر، وإنما الفخر في الإبل والخيل إذا عقدت وربطت في حظائرها أمام بيت الرجل أو في فناء داره، ولهذا خاطبهم الله بما اعتادوه فقال جل وعلا: {لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [النحل:8]. ونخلص من هذا إلى أن لحم الخيل عند جماهير العلماء حلال يجوز أكله، أما البغل فاتفقوا على تحريمه، وكذلك لحم الحمار، إلا ما روي عند المالكية من أنه يجوز أكل لحم الحمر الأهلية، ولا أظن أحد يصنعه اليوم.

بيان معنى قوله تعالى (ويخلق ما لا تعلمون)

بيان معنى قوله تعالى (ويخلق ما لا تعلمون) نعود إلى قول الله تعالى: {وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [النحل:8]، لقد كان المفسرون الأوائل يتكلفون في تفسير هذه الجملة؛ لأنه لم يخطر في خلدهم يوماً ما نحن فيه من وسائل النقل، ولكن الله جل وعلا يعلم ما هو كائن وما سيكون، وحتى لا يفتن الناس آنذاك بشيء لا يعرفونه لم يقل لهم جل وعلا: إن الحديد ذات يوم سينقل الناس، وإنما قال جل وعلا تمهيداً لمن يأتي بعدهم: {وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ}. وأذكر أنه أول ما ظهرت السيارات قبل توحيد المملكة أو في أول توحيدها سافر اثنان من ديار نجد إلى الهند، فرأيا السيارات لأول مرة قبل أن يعرف الناس السيارات في بلادنا وقبل أن تأتي الصور الفوتوغرافية للسيارات، والناس كانوا هنا بدواً رحلاً، فرأيا السيارات عياناً تمشي فركبا فيها ثم رجعا، فصنعت لهما قبيلتهما طعاماً احتفاء بهما، وكان الناس إذا قدم إنسان من سفر يتحلقون حوله ليخبرهم بما رأى، وكان أحدهما كهلاً والآخر شاباً فقال الشاب: رأينا الحديد يمشي. فنظر الناس بعضهم إلى بعض، فحسب شيوخ القبائل أنه يضحك عليهم، فنظروا إلى الكهل فقالوا: هل صحيح أنكما رأيتما الحديد يمشي؟ فقال: كذب، فما رأينا -والله- حديداً يمشي، وأنكر وقد ركب مع ابن أخيه، فقاموا إلى العقالات والنعال وطردوه قائلين: أتكذب على الرجال وتضحك على لحاهم؟! وعندما خرج توارى ينتظر عمه ليخرج؛ لأنه يعرف أن عمه رأى ذلك، فلما خرج قال له: أسألك بالله أما ركبنا السيارة؟! وجعل يحلفه، فصدقه، فقال: لماذا أنكرت؟ فقال: لو قلت: نعم لضربوني وطردوني كما ضربوك وطردوك. فالناس يخاطبون على قدر عقولهم، فلابد من أرض ممهدة قبل أن تلقي خطابك. فالمطر ينزل فتنبت الزرع أرض وأخرى غير قابلة لأن تنبت زرعاً، والقرآن قال الله جل وعلا عنه: {وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى} [فصلت:44] أي: على الكفار، وهو القرآن، لأن قلب الكافر غير قلب المؤمن. وكذلك كلامك لا ينبغي أن تقوله لكل أحد، فلابد من أن تمهد للناس أمراً معظماً قبل أن تلقى إليهم كلامك، والله يقول: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة:6]؛ لأنه إذا كان خائفاً فلن يسمع كلام الله. فالله يقول لنبيه: (فأجره) أي: أعطه أماناً، فإذا أعطيته الأمان فلن يخشى على روحه، فسيقبل عليك بعقله وقلبه، فالله جل وعلا قال لنبيه: {فَأَجِرْهُ} [التوبة:6] لسبب عظيم، هو {حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة:6]. فالمقصود عموماً من الآية في قوله تعالى: {وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [النحل:8] تربية الله جل وعلا للناس على أن الخطاب لا يكون واحداً لكل أحد، وإنما يتنوع بحسب الجيل أو القلب الذي تخاطبه.

تفسير قوله تعالى: (وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر)

تفسير قوله تعالى: (وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر) ثم قال الرب تبارك وتعالى: {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [النحل:9]، بعد أن ذكر الله الطرائق الحسية التي يحمل الناس عليها أمتعتهم من البغال والخيل، ذكر الطرائق المعنوية، ولا طريق معنوياً أعظم من طريق يؤدي إلى الله. فقال الرب: ((وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ)) وقصد السبيل أي: الطريق القويم المستقيم، والمعنى: على الله جل وعلا بيان الطريق المستقيم المؤدي إلى رضوانه، وهذا قد وقع -بلا ريب- بإنزال الكتب وإرسال الرسل، و (من) في قوله تعالى: (منها) بيانية، أي: من هذه الطرق جائر، أي: مائل عن الحق، كاليهودية والنصرانية والمجوسية وغير ذلك.

تفسير قوله تعالى: (وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا)

تفسير قوله تعالى: (وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحماً طرياً) ثم قال الله جل وعلا: {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل:14]. الفلك هي السفن، وجاءت في كلام الله مذكرة ومؤنثة، وبالاستقراء علم أنه إذا ذكرها الله مذكرة فإنه يراد بها السفينة الواحدة، وإذا أراد الله بها جمع السفن فإنها تؤنث. فالله تعالى يقول: {وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ} [يس:41 - 42]، فقوله تعالى: ((مِنْ مِثْلِهِ)) الضمير فيه عائد على الفلك، والمراد سفينة نوح، فالمقصود السفينة بعينها. وقال تعالى: {وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ} [البقرة:164]، ((وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ)) فجاء بتاء التأنيث ((تَجْرِي)) الداخلة على الفعل المضارع؛ لأن الفلك هنا جاءت على يراد بها الجمع. أما البحر فهو معروف، ويخرج الله منه اللؤلؤ والمرجان، كما قال جل وعلا: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن:22].

بيان حل أكل لحم البحر في حال طراوته وغيرها

بيان حل أكل لحم البحر في حال طراوته وغيرها قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا} [النحل:14]، كلمة ((طَرِيًّا)) جاءت هنا صفة للحم، والصفة نوع من أنواع القيد، ولكن القيد هنا لا يدل على حل ولا على تحريم؛ لأن السياق سياق امتنان. بمعنى أنه لا يصح أن يأتي إنسان ويقول: إن لحم السمك إن لم يكن طرياً لا يجوز أكله، فإذا قلنا له: لماذا لا يجوز؟ قال: إن الله يقول: {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا} [النحل:14] فنقول: إن الآية واردة مورد الامتنان، فلا يقبل الاستدلال بالقيد هنا؛ لأن المقصود بالامتنان أن أفضل ما يؤكل فيه لحمه عند أن يؤكل طرياً حال خروجه، وفهم قواعد العلم يعين على فهم كلام الرب. ثم إنه ثبت في الصحيح وغيره أن أبا عبيدة بن الجراح رضي الله تعالى عنه وأرضاه خرج في سرية مع أصحاب نبينا صلى الله عليه وسلم وهو عليهم أمير، فأصابهم جوع شديد فرمى البحر لهم بحوت يقال له العنبر، فأكلوا منه نصف شهر، ولا يعقل أن يبقى الحوت نصف شهر وهو طري، فبقي نصف شهر يأكلون منه، فأخرج أبو عبيدة عظماً من هذا الحوت فدخل من تحت ذلك العظم رجل على فرسه، فحملوا بعضه إلى المدينة فأخبروا النبي صلى الله عليه وسلم بما أكلوا، فقال صلى الله عليه وسلم: (إنما هو رزق ساقه الله إليكم فكلوه) أي: أن أكلكم له مباح، والنبي أفضل من ربى أصحابه ومن حوله، فقال: (هل عندكم منه شيء؟) وما يريد النبي صلى الله عليه وسلم بحوت له نصف شهر، ولكن لما أعطوه إياه أكل منه حتى لا يبقى شيء في قلوب الذين أكلوا من الحوت وقت خروجه.

بيان حل جميع صيد البحر

بيان حل جميع صيد البحر وقد اختلف العلماء في صيد البحر، وأشهر الأقوال -وهو الصحيح إن شاء الله- أن كل ما في البحر يجوز أكله؛ لعموم قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة:96]، فكل ما يعيش في البحر يجوز أكله، والله جل وعلا هنا يقول: {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا} [النحل:14].

بيان ما يحل لبسه من الحلية

بيان ما يحل لبسه من الحلية ثم قال تعالى: {وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} [النحل:14]. قضايا اللباس مما اضطربت أقوال العلماء فيها كثيراً، ولكن نقول: إن الذهب والفضة الأصل فيهما الحل، إلا أن الذهب حرمه نبينا صلى الله عليه وسلم على على الرجال، وأباح الفضة للرجال والنساء، والاتفاق قائم على للنساء، وفي إباحة الفضة للرجال خلاف، لكن الذي عليه جماهير العلماء أنها جائزة للرجال والنساء. وهذه الحلية التي أطلقها الله هنا في باب الامتنان وجاءت السنة مفسرة لها لابد من أن يراعى فيها حال اللبس، فإذا قلنا بجواز الفضة للرجال والنساء فإنه لا يجوز للرجل أن يتحلى بالفضة على هيئة حلية النساء، فلا يجوز للرجل أن يضع قلادة ولا أن يضع قرطاً في أذنه، ولا سواراً في يده، ولا خلخالاً في رجله ولو كان من فضة، فإن قيل لنا: إن ظاهر الأحاديث على إباحة الفضة أجبنا بأن المنع هنا ليس لكونها فضة، بل للتشبه بالنساء. ومما يجوز للرجال والنساء اتفاقاً عند أكثر العلماء الخاتم، وقد اتخذ النبي صلى الله عليه وسلم أول أمره خاتماً من ذهب ثم نزعه، ثم اتخذ خاتماً من فضة نقش عليه (محمد رسول الله) صلى الله عليه وسلم. ولا يجوز لأحد أن يجعل نقش خاتمه (محمد رسول الله)، ولورود النهي عنه، وإنما ينقش عليه غير ذلك مما يخصه. وقد قال مالك رحمه الله: إن الأئمة الثلاثة - أبا بكر وعمر وعثمان - وأكثر الصحابة والعلماء والسلاطين كانوا ينقشون على خواتمهم، وكان بعض العلماء يكتب (حسبي الله ونعم الوكيل) وكان نقش خاتم الإمام الزهري (على الله يتوكل أبو محمد) وغير ذلك، وهذا مذكور في كتب المؤرخين والكتب التي تتكلم عن سير الملوك، حيث كانوا يضعون نقشاً على خواتمهم. ويقولون: إن عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى بلغه أن أحد أبنائه اشترى خاتماً بألف درهم، فبعث إليه يقول: قد بلغني أنك اشتريت خاتماً بألف درهم، فبعه وأطعم به ألف جائع، ثم اتخذ خاتماً من حديد وانقش عليه (رحم الله امرأ عرف قدر نفسه).

بيان طهارة ماء البحر

بيان طهارة ماء البحر قال تعالى: {وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل:14]، والبحر قال عنه صلى الله عليه وسلم: (هو الطهور ماؤه والحل ميتته).

تفسير قوله تعالى: (وإن لكم في الأنعام لعبرة)

تفسير قوله تعالى: (وإن لكم في الأنعام لعبرة) أما الآيات التي نريد أن نقف بعد ذلك عندها فهي قول ربنا جل وعلا: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ * وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [النحل:66 - 67]. الأنعام لفظ جاء على جمع تكسير، وجمع التكسير عند العرب يجوز فيه تأنث فعله وضميره وتذكيرهما، تقول: قالت العرب وقال العرب، وتقول: قامت النساء وقامت النساء، وقامت الرجال وقام الرجال. فالله تعالى هنا يقول: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ} [النحل:66]، ولم يقل: مما في بطونها لما ذكرنا. قال تعالى: {نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ} [النحل:66]. قوله تعالى: (سائغاً) جزم القرطبي رحمه الله في تفسيره له بأنه لم يشرق أحد باللبن، رغم أنه يمكن أن يشرق الإنسان بالماء؛ لأن الله جل وعلا يقول وهو أصدق القائلين: {سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ} [النحل:66]، وهذا اللبن يتكون من أخبث شيئين في بطون الأنعام، وهما الفرث بعفونته والدم بلونه، فيخرج الله جل وعلا منهما اللبن بقدرته، ولذلك نسب الفعل إلى ذاته العلية فقال: (نسقيكم) فلا الفرث يؤثر بالعفونة ولا الدم يؤثر باللون، فيخرج اللبن أبيض ليس فيه رائحة العفونة ولا اللون الأحمر، خالصاً سائغاً للشاربين؛ لأن يد ابن آدم لم تدخل فيه.

تفسير قوله تعالى: (ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا)

تفسير قوله تعالى: (ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكراً ورزقاً حسناً) ثم ذكر تعالى ما دخلت فيه يد ابن آدم من باب الامتنان على عباده، فقال: {وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [النحل:67]. السكر هو الخمر، ومن أكثر ما تتخذ منه الخمر التمر والعنب والزبيب. ولم يرد في الشرع لعن شيء كما ورد في الخمر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لعن في الخمر عشرة، فلعن البائع والمبتاع والساقي والعاصر والمعتصر والحامل والمحمولة إليه والوسيط، كلهم لعنهم، ولم يلعن في الربا إلا أربعة أو ستة، وقد سماها الشرع أم الخبائث. وهذه السورة مكية، والله جل وعلا هنا يمهد لأمر قادم، فقال تعالى: {تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا} [النحل:67]، وما وصف السكر بأنه حسن، وأما الرزق فوصفه بأنه حسن، حيث قال تعالى: {تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا} [النحل:67] وما قال حسناً، فلما فرق بين الرزق والسكر دل ذلك ابتداءً على أن السكر سيأتي فيه شيء بعد ذلك، والخمر لم تحرم إلا في المدينة.

تفسير قوله تعالى: (وأوحى ربك إلى النحل)

تفسير قوله تعالى: (وأوحى ربك إلى النحل) ثم قال جل وعلا: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ} [النحل:68]. فبيوت النحل في مواطن ثلاثة رتبها الله جل وعلا بحسب أكثريتها، فأكثر بيوت النحل في الجبال، ثم في الشجر، ثم فيما يبنيه بنو آدم له. ثم قال جل وعلا: {ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} [النحل:69] و (كل) هنا لا تعني العموم؛ لأن النحل لا يأكل من كل الثمر، وإنما يأكل من كل شيء يحسن الأكل منه، ونظيره في القرآن {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} [الأحقاف:25]، والريح لم تدمر كل شيء؛ لأن الله قال بعدها {فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ} [الأحقاف:25]، فأثبت جل وعلا المساكن مع أنه قال: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ} [الأحقاف:25]، وقال جل وعلا عن بلقيس: {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} [النمل:23]، ومعلوم أن بلقيس لم تعط من كل شيء، وإنما المقصود أنها أعطيت كل شيء يعطاه الملوك عادة، وإلا فما كان عندها من الملك كما عند سليمان. ثم قال تعالى: {ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} [النحل:69]. وقوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [النحل:12]، إن الغنم والنحل تأتي إلى الثمار فتأكلها فتختلط في بطونها فيخرج من الأنعام لبن ويخرج من النحل عسل، وكل من اللبن والعسل فيه منفعة للناس؛ لأن يد ابن آدم لم تدخل فيه، أما ثمرات النخيل والأعناب التي خالطتها يد ابن آدم فيخرج منها الشيء المحمود كالرزق الحسن، ويخرج منها السكر، وعلى هذا يفهم أن من سكر فهو في الفهم أقل من الأنعام، ولا يقال: (بل أضل) إلا في الكافر. قال تعالى: {ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل:69]. أعظم ما في العسل أنه شفاء للناس، وهذا أمر مشهور لا يحتاج إلى بيان.

تفسير قوله تعالى: (ويجعلون لما لا يعلمون نصيبا مما رزقناهم)

تفسير قوله تعالى: (ويجعلون لما لا يعلمون نصيباً مما رزقناهم)

بيان تنزيه الله تعالى نفسه عن الولد

بيان تنزيه الله تعالى نفسه عن الولد ثم قال الله تبارك وتعالى: {وَيَجْعَلُونَ لِمَا لا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ * وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ} [النحل:56 - 57]. في كلام العرب ينقسم إلى ثلاثة أقسام: إيجاز ومساواة وإطناب. فالإيجاز هو الاختصار، والمساواة أن يكون الكلام متوازناً لا زيادة فيه ولا نقصان، والإطناب أن يكون هنا كلام زائد، وأحياناً يكون الإيجاز محموداً، وأحياناً تكون المساواة محمودة، وأحياناً يكون الإطناب محموداً. فهذه الآية فيما إطناب محمود، حيث يقول تعالى: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ} [النحل:57]، فكلمة (سبحانه) جاءت اعتراضية زائدة، فالإطناب هنا محمود؛ لأنه ينزه مقام الرب عما نسبه الكفار إليه. والأصل: (يجعلون لله البنات ولهم ما يشتهون)، ولكن ذكر الله هنا كلمة (سبحانه) تنزيهاً لذاته العلية. وكلمة (ولد) تطلق في اللغة على الابن والبنت، فكفار قريش ارتكبوا حماقتين في حق الله تعالى: الحماقة الأولى: أنهم نسبوا إليه الولد. والحماقة الثانية: أنهم اختاروا له أنقص الولد، وهو البنت، فهم ينزهون أنفسهم عن البنات ومع ذلك ينسبون البنات إلى الرب تبارك وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا)

تفسير قوله تعالى: (وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسوداً) قال تعالى: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ * وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [النحل:57 - 59]. والعرب من جاهليتها كانت تعلم أنه لابد من الأصهار، والصهر هو من يتزوج ابنتك، ولكن كانوا يرون أن الصهر هو كل من يأخذ بنتك، فكانوا يقولون: أفضل صهر هو القبر، فلا يرتاح المرء منهم إلا إذا دفن ابنته خشية العار. فالله يقول هنا عن بعضهم: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا} [النحل:58] أي: تغير من الهم {وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ} [النحل:58 - 59]، نسأل الله العافية. {مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ} [النحل:59] يعني: على خفية، {أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ} [النحل:59] وهذه التي تسمى الموءودة، قال الله: {أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [النحل:59]. فهذه نظرة بعض العرب القدماء من الجاهليين، وكان جد الفرزدق يفدي الموءودات، فإذا جاء إنسان يريد أن يدفن ابنته حية يعطيه مالاً على أن تبقى البنت حية، فكان الفرزدق يفخر على جرير وعلى غيره من الشعراء؛ لأن جده في الجاهلية كان يحيي الموءودات، ولا شك في أن هذا عمل عظيم، حيث جاء الإسلام يذم هؤلاء، قال الله: {أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [النحل:59]، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من عال جاريتين حتى تبلغا كانتا له حجاباً من النار)، ووردت أحاديث كثيرة في فضل تربية البنات، والله جل وعلا يبتلي بالبنين ويبتلي بالبنات، ويبتلي بغيرهما، قال تعالى: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن:15]، ولكن المؤمن الحق يرضى بقضاء الله جل وعلا وقدره كيفما حل وأينما نزل. ويروى في أخبار الناس المتداولة أن رجلاً رزق بست بنات ثم حملت زوجته فهددها -وكأن الأمر بيدها- بأنه إن كان الآتي بنتاً فسيطلقها، ثم رأى في المنام أنه في يوم المحشر يقاد إلى جهنم، فكان كلما جيء به إلى باب وجد ابنة من بناته ترده عن جهنم حتى انتهي به من ستة أبواب، ثم جيء به إلى الباب السابع فلم ير بنتاً، فأصبح ينادي: اللهم اجعلها بنتاً. وهذه القصة قد تصح وقد لا تصح، ولا أستدل بالقصص على أنها أصل حتى لا نفهم خطأ، لا يصح أن يربى الناس على القصص، وإنما نستشهد بالقصص. فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من عال جاريتين حتى تبلغا كانتا له حجاباً من النار)، وقال لـ عائشة لما أخبرته بأن امرأة قسمت التمرة بين ابنتيها: (إن الله قد أوجب لها بهما الجنة)، وغير ذلك من الأحاديث، وهذا الخبر الذي سقناه يدل عليه كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم. والإنسان لا يدري أين مكامن الخير فيما يعطاه أو فيما يمنع منه. وما أدري إذا يممت أرضاً أريد الخير أيهما يليني أألخير الذي أنا أبتغيه أم الشر الذي هو يبتغيني هذا ما أردنا بيانه حول هذه السورة الكريمة.

تأملات في سورة النحل [2]

سلسلة تأملات قرآنية _ تأملات في سورة النحل [2] تعرضت سورة النحل لبيان مجامع الخير كلها في آية من آياتها، كما تعرضت لذكر موقف الكفار من النسخ القرآني الذي هو أمر تقتضيه المشيئة الإلهية، كما ذكرت المؤمنين بموقف الناس يوم القيامة ومجادلة كل امرئ عن نفسه عله يجد سبيلاً إلى الخلاص من العذاب، وقد ختمت آياتها بأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالصبر على ما أصابه، وبيان معية الله لعباده المتقين.

تفسير قوله تعالى: (إن الله يأمر بالعدل والإحسان)

تفسير قوله تعالى: (إن الله يأمر بالعدل والإحسان) الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خلق فسوى وقدر فهدى وأخرج المرعى فجعله غثاء أحوى، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فإننا نستعين الله جل وعلا في هذا الدرس على تفسير ما تبقى من سورة النحل، وكنا قد تكلمنا عن هذه السورة المباركة، وذكرنا أنها سورة مكية إلا بعض آيات منها قلنا: إننا سنعرج عليها في الدرس الثاني، أي: في هذا الدرس إن شاء الله تعالى، وهي آخر ثلاث آيات منها، وذكرنا كذلك فيها بعضاً من الأحكام والأمور، فذكرنا تحريم الله جل وعلا لبعض اللحوم وإباحته لبعضها واختلاف العلماء فيها، وذكرنا قول الله جل وعلا: {مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ} [النحل:66] وغير ذلك من التأملات التي عرجنا عليها فيما سلف. وأما الآيات التي سنعرج عليها في هذا الدرس فسنبدؤها بقول الله جل وعلا: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل:90]. قال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: إن هذه الآية أجمع آية في كتاب الله لخير يمتثل ولشر يجتنب. وقد ذكر بعض الفضلاء من المؤرخين أن عمر بن عبد العزيز الخليفة الأموي المعروف كان يأمر خطباء المساجد أن يضعوا هذه الآية مكان ما كانوا يقومون به من قبل من لعنهم وشتمهم لـ علي رضي الله تعالى عنه وأرضاه، فقد كان علي يلعن حيناً من الدهر على المنابر، فلما ولي أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى أمر بإلغاء شتم علي ولعنه، وجعل مكانه هذه الآية: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل:90]. ولذلك يعظم شيعة علي عمر بن عبد العزيز رحمه الله، قال كثير، وهو شيعي: وليت فلم تشتم علياً ولم تخف برياً ولم تسمع مقالة مجرمِ فما بين شرق الأرض والغرب كلها مناد ينادي من فصيح وأعجم يقول أمير المؤمنين ظلمتني لأخذ دينار ولا أخذ درهم فلو يستطيع المسلمون لقسموا لك الشطر من أعمالهم غير نُدَّم فكان عمر رضي الله عنه ممن اتفقت كلمة المسلمين على فضله وعدله وإحسانه، وقد أخذ هذه الآية وجعلها مكان ما بيناه.

بيان المراد بالعدل والإحسان

بيان المراد بالعدل والإحسان وقد اختلف العلماء رحمهم الله في المراد بقول الله جل وعلا: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ} [النحل:90]، فالمشهور عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن العدل: (لا إله إلا الله)، والإحسان: بقية الفرائض، وهذا مرجوح عند كثير من العلماء. وذهب البعض إلى أن العدل هو الفرائض، والإحسان هو النوافل، وقال سفيان بن عيينة أحد مشاهير المحدثين الكبار: العدل استواء السريرة والعلانية، والإحسان: أن تكون سريرة المرء خير من علانيته، وهذا أمر -بصرف النظر عن كونه يطابق معنى الآية أو لا يطابقها- دونه خرط القتاد، فهو أمر صعب، قلما يرقى إليه أحد. ونقل عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه أن العدل هو الإنصاف، والإحسان هو التفضل، وهذا -فيما يبدو والله أعلم- أظهر الأقوال، وجميع الأقوال السابقة يمكن إدخالها في قول علي رضي الله عنه وأرضاه؛ لأننا إذا قلنا: إن العدل هو الإنصاف؛ فلا ريب في أن من أعظم الإنصاف ألا تعبد إلا الله، فدخل فيه قول ابن عباس: إنه (لا إله إلا الله)، كما يدخل في قول علي هذا الإنصاف مع الناس، ويدخل في قوله رضي الله عنه وأرضاه بأن الإحسان هو التفضل من باب خفي التفضل على الناس بالعفو عنهم، وعدم الانتقام منهم.

بيان معنى قوله تعالى (وإيتاء ذي القربى)

بيان معنى قوله تعالى (وإيتاء ذي القربى) قال تعالى: {وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى} [النحل:90] ولا ريب في أن المؤمن مطالب بأن يسدي الخير للآخرين، ولكن القرآن جاء بتربية أتباعه من المسلمين على التدرج في الأمور، فلا يمكن أن يكون حق العالم كحق الوالدين؛ لأن حق الوالدين أعظم، فهنا قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى} [النحل:90]، فمن كان بينك وبينه رحم من قرابة ليس حقه كحق من ليس بينك وبينه أي صلة من قرابة، فذاك له حق الإسلام، والأول له حق القرابة وحق الإسلام.

بيان معنى قوله تعالى (وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي)

بيان معنى قوله تعالى (وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي) ثم قال جل وعلا: {وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ} [النحل:90]، والفحشاء تكون في الأقوال، وتكون في الأفعال، وهي غالباً ما تطلق في القرآن على الأمور الأخلاقية. وأما المنكر فهو أعم، والبغي أخص من المنكر، وعطف البغي على المنكر من باب عطف الخاص على العام؛ لأن كلمة (المنكر) يدخل فيها البغي، فقول الله جل وعلا: {وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ} [النحل:90] يدخل فيه البغي في المنكر، ولكن الله -كما قال أهل العلم- خصص البغي بالذكر لعظيم قبحه. والبغي: هو التجاوز والطغيان، وتجاوز الحد على العباد بسفك دم، أو بأكل مال، أو بانتهاك عرض، أو بتسلط وظيفي كما يحصل في حياة الناس المعاصرة، أو بالتسلط على أرض مجاورة، أو بأمور غير ذلك ينتقم بها الإنسان بغياً، فهذا هو البغي الذي نهى الله جل وعلا عنه، ولا يوجد مصرع أقرب من مصرع من يبغي، نعوذ بالله من ذلك كله، والله جل وعلا قال: {وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} [فاطر:43]، وقال: {إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [يونس:23]، فضرر الباغي دائماً مرده على نفسه، والبغي أحد الذنوب التي يعجل الله جل وعلا بها العقاب على من يصنعها، والإنسان إذا أدرك وقوفه بين يدي الله حرم على نفسه البغي وعرف أن البغي مرتعه وخيم، ولم تدعه قدرته على ظلم الناس إلى أن يظلمهم، ومن تذكر قدرة الله عليه أحجم عن أن يظلم غيره، وقد يكون البغي بكلمة تنقل عنك فتشاع فتثبت على أخ لك في الله، هو بريء كل البراءة مما قلت، وقد يكون البغي بسفك دم، وقد يكون باقتطاع أرض، أو بغير ذلك، فهو -والعياذ بالله- من أعظم ما نهى الله جل وعلا عنه. قال تعالى: {وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل:90]، والله جل وعلا يعظ عباده ويؤدب خلقه، ويرشدهم إلى ما فيه الأمثل.

تفسير قوله تعالى: (وإذا بدلنا آية مكان آية)

تفسير قوله تعالى: (وإذا بدلنا آية مكان آية) الوقفة الثانية: عند قوله تبارك وتعالى: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [النحل:101]. القائلون: إنك مفتر هم الكفار، والمخاطب بقول الكفار هو نبينا صلى الله عليه وسلم، والنبي في سائر أمره ممتثل لله، ينزل عليه القرآن فيبلغه صلى الله عليه وسلم كما جاء إليه، فعندما يحدث نسخ يظن أولئك الكفار أن محمداً صلى الله عليه وسلم يفعل ما يريد، ويقول بعضهم لبعض: ما رأينا أعجب من هذا: يأمرهم الليلة بشيء ثم ينهاهم عنه في الصباح! فالله جل وعلا يخاطب هؤلاء الكفرة ويثبت نبيه قائلاً: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [النحل:101].

حكم نسخ القرآن بالقرآن ونسخه بالسنة

حكم نسخ القرآن بالقرآن ونسخه بالسنة وهذا يسوقنا -من حيث التأصيل العلمي- إلى مسألة النسخ في كلام الرب جل وعلا. فنقول: اتفق العلماء على جواز نسخ القرآن بالقرآن، وهذا ظاهر لا يمكن رده إلا من متكبر، فالله جل وعلا يقول: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة:184] والمراد صيام رمضان، فالله جل وعلا يقول في القرآن: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} [البقرة:184] أي: الصيام {فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة:184] يعني أن الإنسان الذي يقدر على الصيام ولا يريد أن يصوم يطعم مسكيناً، فهل يجوز هذا الآن!! و A لا يجوز، فهذا منسوخ، فالآية منسوخة حكماً غير منسوخة تلاوة، والدليل على نسخها قول الله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة:185]، فقول الله جل وعلا: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة:185] نسخ لقوله تبارك وتعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة:184]، وهذا كثير، كآية المصابرة وآية المرأة التي توفى عنها زوجها وغير ذلك. فالاتفاق قائم على نسخ القرآن بالقرآن، وإنما اختلف العلماء رحمهم الله في نسخ القرآن بالسنة. فبعض العلماء يثبته، وبعض العلماء ينفيه، ولكل حجته، ولكن الذي ندين الله جل وعلا به، والذي عليه أكثر العلماء من المحققين: أنه يجوز نسخ القرآن بالسنة. ومن أدلة من قال: إن القرآن لا ينسخ بالسنة -حتى تعلم أن العلماء لا يمكن أن يقولوا بقول جزافاً- قول الله جل وعلا: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة:106]. قالوا: فالسنة ليست خيراً من القرآن، وليست مثله، والله يقول: بخير منها أو مثلها. وأجاب القائلون بجواز نسخ القرآن بالسنة بأن الله قال: (نأتِ) والذي يأتي بذلك هو الله، فقالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم عندما يأتي بحكم شرعي من السنة ينسخ به حكماً في القرآن لا يأتي به من عند نفسه، وإنما يأتي به من عند الله، فلا تعارض بين قول الله جل وعلا: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة:106]، وبين نسخ القرآن بالسنة.

بيان ما وقع من نسخ الحكم قبل وقوعه

بيان ما وقع من نسخ الحكم قبل وقوعه ومن الفوائد في هذا الباب: أنه قد وقع نسخ الفعل قبل وقوعه، حيث وجد في النقل الصحيح نسخ حكم شرعي قبل أن يعمل به. فمما وقع من ذلك في السنة: الصلوات الخمس، فإنها فرضت في أول الأمر خمسين صلاة، ثم ما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يراجع ربه حتى أصبحت خمساً، فنسخ منها خمس وأربعون صلاة، فهذه نسخت حكماً قبل أن يصليها الناس، أي: قبل الفعل، ومما وقع في القرآن ما جاء في قصة إبراهيم؛ فإن الله جل وعلا فدى إسماعيل، ونسخ الحكم بتكليف إبراهيم بقتل إسماعيل قبل أن يقتل إبراهيم إسماعيل، فقال الله جل وعلا: {وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات:104 - 107]. فالذبح العظيم وقع نسخاً لذبح إسماعيل، مع إن إبراهيم لم يذبح ابنه. إذاً: فما الحكمة من نسخ الحكم قبل وقوعه؟ و A لحكمة هي حصول التسليم والامتثال في قلب المؤمن، وقد وقع من خليل الله إبراهيم عليه الصلاة والسلام الاستسلام والانقياد والخضوع لكلام الرب جل وعلا وأمره، وهم بأن يذبح ولده، ولم يبقَ له إلا إراقة دمه، ولكن الله جل وعلا نسخ هذا الحكم قبل وقوعه. ومسائل النسخ من أعظم ما يمكن أن يتعلم به كتاب الله، ويستطيع الإنسان أن يفسر القرآن ويعرفه حين يعرف أحكام الناسخ والمنسوخ في كلام الرب جل وعلا. ومن القرآن ما ينسخ حكماً ويبقى تلاوة، ومنه ما ينسخ تلاوة ويبقى حكماً، ومنه ما نسخ تلاوة وحكماً.

تفسير قوله تعالى: (يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها)

تفسير قوله تعالى: (يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها) الوقفة الثالثة: قول الله جل وعلا: {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [النحل:111]. هذه من أعظم آيات العظات في كلام الرب تبارك وتعالى، وذلك أن الموقف بين يدي الله جل وعلا موقف عظيم إلى أبعد حد، لا يمكن أن يتصور مثله، فالله جل وعلا أعلم بما سيكون في عرصات يوم القيامة، وأعلم بحال خلقه حال وقوفهم بين يديه، وقد أنزل تبارك وتعالى هذا القرآن هداية ورحمة منه جل وعلا بخلقه، فكان بدهياً أن يضمن القرآن أعظم ما يعظ الناس، وأخبر الله جل وعلا بأن هذا القرآن تتشقق له الحجارة الصماء، والجبال الصلدة، وأنه لو أنزل على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله. فهو هنا -جل وعلا- يحذر خلقه ويخوف عباده قائلاً سبحانه: {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا} [النحل:111]. ففي هذا الموقف لا يستطيع الإنسان من عظمته وخوفه على نفسه وإشفاقه مما قدمت يداه أن يصرف جاهه أو ماله أو فضله أو إحسانه أو لسانه أو بيانه إلى أحد من الخلق ممن حوله، لا إلى أمه ولا إلى أبيه ولا إلى إخوته ولا إلى من نصره في الدنيا، حتى قال بعض المفسرين: إن إبراهيم خليل الله الذي نعته الله جل وعلا بأنه كان أمة قانتاً لله حنيفاً يقول يوم القيامة: نفسي نفسي. فإذا كان مثل هذا في صلاحه وتقواه وإمامته للناس، وفضل الله جل وعلا عليه، وقول الله تبارك وتعالى عنه: {وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنِ الصَّالِحِينَ} [العنكبوت:27] يقول يوم القيامة: (نفسي نفسي) فما عسى أن يقول غيره؟! والمقصود من هذا أننا جميعاً ما زالت أرواحنا في أجسادنا، وباب التوبة إلى الرب تبارك وتعالى مفتوح، ولن يخلو أحد من خطأ أو زلل أو أمر يقوم به بينه وبين الله جل وعلا، ولكن الله تبارك وتعالى أرحم من سئل وأكرم من أجاب وأفضل من قبل توبة من يتوب إليه: (يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل)، يقبل العفو ويعفو عن الجريرة، ويقبل التوبة من عباده، وهو يقول هنا عن ذلك اليوم: {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا} [النحل:111] تبحث عما يخلصها، وتبحث عما ينجينها، والله يقول: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} [آل عمران:185]. والإنسان العاقل الفاهم المدرك لخطاب الرب تبارك وتعالى يدرك أن هذا سيقع لا محالة، فلابد من أن يقع هذا اليوم، ولا بد من أن يخرج الناس حفاة عراة غرلاً بهما لا يملكون من حطام الدنيا ولا متاعها شيئاً، فيخرجون كما بدأ الله جل وعلا خلقه أول مرة، لا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً، يلجمهم العرق وتدنو منهم الشمس وتنصب الموازين وتنشر الصحائف، ويقف الخلق جميعاً بين يدي الله، فيتذكر المرء آنذاك ماضي أيامه وغابر أزمانه، ثم يعطى صحيفة يرى فيها كل ما قدمت يداه، كما حكى الله جل وعلا عن أهل الظلم قولهم: {مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف:49]. وصوره جل وعلا بأعظم الصور فقال: {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا * وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا} [طه:111 - 112]. فمن لجأ إلى الله جل وعلا ما دامت روحه في جسده أكثر من الاستغفار، والله جل وعلا يقول: {لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [النمل:46]، وأكثر من التوبة والله جل وعلا يقول: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} [الشورى:25]، وأكثر من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وخفّ ظهره من مظالم الناس، فلم يظلمهم في دينار ولا في درهم ولا في دم ولا في قول ولا في فعل، ولم يكن بينه وبين أحد من الخلق يوم القيامة خصومة، وإنما تخلص من ذلك كله. فهؤلاء سيكونون أسعد من غيرهم يوم القيامة، وإن كان قول الله: {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا} [النحل:111] واقع لا محالة مهما كان عمل المرء، ومهما كان فضله، ومهما كان إحسانه، فإنه سيجادل عن نفسه وينافح عنها؛ لأن الإنسان لا يملك شيئاً أعظم من نفسه ينافح عنه، وهذا أمر مغروس في الصدور، جبل الله جل وعلا عليه الخلق، فلكرب يوم القيامة -أعاذنا الله وإياكم من الكربات- لا ينظر المرء إلى من حوله، ولما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عائشة بأن الناس يحشرون حفاة عراة، قالت يا رسول الله! الرجال والنساء ينظر بعضهم إلى بعض؟! قال: (يا عائشة! الأمر أعظم من ذلك)، والله يقول: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس:34 - 37]. اللهم إنا نسألك بعز جلالك وكمال جمالك أن ترحم وقوفنا بين يديك.

بيان معنى قوله تعالى: (وتوفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون)

بيان معنى قوله تعالى: (وتوفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون) ثم قال جل ذكره: {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى} [النحل:111] أي: تعطى {كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [النحل:111] أي: لا يمكن أن يظلم الله جل وعلا أحداً من خلقه، والرب تبارك وتعالى منزه عن الظلم، فالله لا يظلم الناس مثقال ذرة، بل إن الله جل وعلا لو لم يرحم عباده لدخل الخلق كلهم النار؛ لأننا لو عبدنا الله جل وعلا ليلاً ونهاراً لما أدينا شكر أي نعمة من نعمه تبارك وتعالى علينا، فنسأل الله جل وعلا أن يستر الحال، ويصلح المآل، ويغفر لنا ولكم؛ إنه -جل وعلا- الكبير المتعال.

بيان معنى قوله تعالى: (وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به)

بيان معنى قوله تعالى: (وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به) ثم قال جل شأنه وعظم ذكره: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ * وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ * إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل:126 - 128]. هذه الثلاث الآيات مدنية، وجمهور العلماء من المفسرين على أن هذه الآيات نزلت في منصرفه صلى الله عليه وسلم يوم أحد، وذلك أن الدائرة كانت أول الأمر لأهل الإسلام، ثم كان ما كان من تصرف الرماة رضي الله عنهم وأرضاهم، وعصيانهم لأمر النبي صلى الله عليه وسلم، فكان تسلط خالد قبل إسلامه على الجبل، ووقع بالمسلمين من القتل ما وقع. ففي تلك المعركة شفت قريش غليلها من قتل المسلمين، وكان ممن مثل به في أرض المعركة حمزة بن عبد المطلب عم نبينا صلى الله عليه وسلم وأخوه من الرضاعة، حتى وردت أمور لا يحسن قولها في قضية ما فعل به أهل الكفر آنذاك، فقد بقروا بطنه وفعلوا به غير ذلك، فلما انتهت المعركة وانصرف أبو سفيان بالجيش إلى مكة؛ جاء صلى الله عليه وسلم يتفقد شهداء المعركة، وكانوا -رضي الله عنهم وأرضاهم- سبعين، وكانت أشلاؤهم ودماؤهم في أرض المعركة، فوقف صلى الله عليه وسلم يستغفر لهم، ويشهد لهم بالجنة، ويقول: إنهم سيبعثون يوم القيامة بلون الدم وريح المسك، وذكر أموراً عظيمة في فضلهم رضي الله عنهم وأرضاهم، ثم ما زال يمشي صلى الله عليه وسلم في أرض المعركة حتى وقف على حمزة وقد مثل به رضي الله عنه وأرضاه، وكان حبيباً جداً إلى النبي عليه الصلاة والسلام، فهو عمه وأخوه من الرضاعة في نفس الوقت، فوقف عليه صلى الله عليه وسلم وهو مغطى بثوبه الذي مات فيه، ثم وقف صلى الله عليه وسلم يبكي حتى نشج بالبكاء وكاد أن يغشى عليه رغم أن الدم كان ينزف منه، وصلى صلى الله عليه وسلم بأصحابه بعدما انصرف من أحد وهو قاعد، وصلى الصحابة وراءه قعوداً؛ لأنه إنما جعل الإمام ليؤتم به، ولم يطق صلى الله عليه وسلم من الجراح التي به أن يصلي بالناس واقفاً. وقبل ذلك وقف على حمزة، فقال عليه الصلاة والسلام: (لولا أن تنهاني صفية، ويكون سنة بعدي لتركته هكذا حتى يحشر في حواصل الطير وبطون السباع) ثم أمر بهم فدفنوا من غير أن يغسلوا. واختلف العلماء في كون النبي صلى الله عليه وسلم صلى عليهم، وكلا الأمرين وارد، فقد نقل أنه لم يصلّ، ونقل أنه صلى على حمزة سبعين صلاة، فصلى عليه مع كل شهيد، فكأن يضع حمزة ويضع معه شخصاً آخر، ثم يدفن الثاني، وهكذا. ونقل غير ذلك، والمسألة فيها خلاف طويل بين العلماء ليس هذا موضع بسطها، وإن كان استقر الرأي عند أكثر المتأخرين من المعاصرين أنه لا يصلى على شهيد المعركة، مع الاتفاق على أنه لا يغسل. والمقصود أنه وقف صلى الله عليه وسلم ثم قال بعد أن أصابه الحنق لما فعلوا بعمه: (لئن ظفرت بهم -أي: قريش- لأمثلن بثلاثين منهم) وفي رواية: بسبعين. ولما رأى الصحابة ما أصاب نبيهم صلى الله عليه وسلم من الحزن على حمزة والتمثيل به قالوا مثل ما قال نبيهم، فقالوا: لئن أظفرنا الله بهم لنفعلن ولنفعلن، والله جل وعلا يربي العباد، ويدلهم على الأرشد، ولا يوجد في دين الله تنفيذ شيء تريده الجماهير، ولا شيء يثير الحماس أو يثير العاطفة، فلا أجد في الخلق اليوم أشرف من حمزة، وقد مثل به تمثيلاً قبيحاً، ومع ذلك قال الله جل وعلا لنبيه: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} [النحل:126]. فاختار صلى الله عليه وسلم أن يصبر، وكان ينهى عن المثلة، ونهى أصحابه في سائر حروبه رغم ما ظفر به من أهل الإشراك الذين نكلوا بأصحابه، ونكلوا بـ حمزة أو بغيره، فنهاهم صلى الله عليه وسلم عن أن يمثلوا بأحد من أهل الإشراك؛ لأن الإنسان يقدم دين الله بالصورة التي نزل بها الدين، لا بالصورة التي نريدها نحن للدين، فإن هذا تقديم بين يدي الله وبين يدي رسوله صلى الله عليه وسلم، فلننقل دين الله كما أنزله الله للناس، ولا نخلطه بأمزجتنا وأهوائنا وآرائنا ورغباتنا الشخصية. والمقصود أنه لأجل هذا نزلت الآية: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ * وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ * إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل:126 - 128].

بيان المشاكلة اللفظية في قوله تعالى (بمثل ما عوقبتم به)

بيان المشاكلة اللفظية في قوله تعالى (بمثل ما عوقبتم به) ويتفرع على هذه مسائل عدة: أولها: مسألة لغوية، وهي أن الله يقول: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل:126]، ولا ريب في أن ما فعله المشركون بالمسلمين لا يسمى عقوبة، وإنما يسمى إيذاء وبغيا، وإنما أسماه الله عقوبة من باب المشاكلة، فحمل الأول على الثاني والثاني على الأول في المشابهة بالألفاظ يسمى عند البلاغيين بالمشاكلة، ومثله قول الله جل وعلا: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى:40]، فالثانية ليست سيئة، وإنما هي رد، ولكن الله جل وعلا سماها سيئة من باب المشاكلة في الألفاظ، وقال الله جل وعلا: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة:194]، ولا يسمى الثاني اعتداء؛ لأنه رد، ولكنه سمي اعتداء للمشاكلة في اللفظ فقط.

بيان حكم الظفر

بيان حكم الظفر قال الله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} [النحل:126]. يفرع العلماء على هذه الآية مسألة الظفر، ومثالها في الصورة الآتية: أخذت من رجل بطاقته العائلية واكتتبت بها في البنك أو في شركة ما، ودفعت الأموال رجاء أن تقتسما الربح بعقد شفهي بينك وبينه، ولا يوجد بينكما شيء محرر، ثم لما علا السهم كان هو الذي يملك البيع؛ لأنه هو الذي بيده البطاقة، فقال: ما لك عندي شيء، لا ربح ولا رأس مال. وأنت لا تستطيع أن تثبت عليه شيئاً، فأخذ مالك، فلو قدر أن هذا الرجل ذات يوم لأمر ما وقع في يدك ماله، فهل لك أن تأخذه منه أو لا؟ قال بعض العلماء -ومنهم ابن سيرين والنخعي -: إنه يجوز؛ لأن هذا ظاهر النصوص، واحتجوا بهذه الآية، وبقوله تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى:40]. ومنعه مالك رحمه الله، وقال: إنه لا يجوز؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك). ونحن نقول -والله أعلم-: إن هذا فيه تفصيل: فإن كان وصل إليك المال من غير طريقه -أي: ليس هو الذي ائتمنك عليه، وإنما استطعت أن تصل إليه بطريقتك الخاصة- جاز لك أن تأخذ بمقدار حقك، أما إذا نسي هو الموضوع، وائتمنك على المال ونسي الأمر الأول؛ فلا يحسن بك أن تخونه في مثل هذه الحال.

بيان جرم الخيانة

بيان جرم الخيانة وما يتصل بما سبق ذكره أن الله جل وعلا ذكر الخديعة والمكر والخيانة في كلامه جل وعلا، فنسب الخديعة إلى نفسه، حيث قال جل وعلا: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء:142]، فالله يخدع من يَخدَع، وذكر الله جل وعلا المكر في كتابه ونسبه جل وعلا إلى نفسه، فقال سبحانه: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ} [الأنفال:30]. ولكنه ذكر الخيانة جل وعلا ولم ينسبها إلى نفسه، حيث قال تعالى: {فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ} [الأنفال:71]، ولم يقل جل وعلا: فخانهم. وذلك لأن الخيانة مسألة عظيمة، ومعنى الخيانة: أن الإنسان يستأمنك على شيء -بصرف النظر عن سبب الاستئمان- فتقلب له ظهر المجن، فهذا لا يمكن أن يقبل شرعاً، ولذلك كان عند المالكية رحمهم الله أن الشخص إذا قتل أحداً غيلة على وجه الاستئمان؛ لم يجز لأولياء الدم أن يطالبوا بالدية أو يعفوا، بل لابد من القصاص، حتى إن ولي أمر المسلمين الإمام الأعظم لا يجوز له أن يعفو في قضية كهذه. ومن أظهر أمثلة ذلك: شخص له صديق، وليس بينهما عداوة، بل هو صديق شخصي حبيب إليه، فجاء يبيت عنده، فغدر به في بيته وهو نائم بعد أن أدخله بيته ورحب به فقتله، ففي هذا يذهب مالك رحمه الله -وهو الحق إن شاء الله- إلى أنه ليس في ذلك عفو؛ لأن هذا لا تقع من إنسان سوي أبداً، ومثله الزوجة التي تقتل زوجها؛ لأن الله قال: {لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} [الأعراف:189]، وجعلها أماناً وسكناً، والإنسان لا يجد الأمن إلا في بيته. فلو نام رجل في بيته عند زوجته في مخدعه ومضجعه ومكان طمأنينته، ثم انقلبت عليه زوجته وقتلته فإنه لا ينبغي أن يكون هناك عفو في مثل هذه القضية، وإن كان جمهور العلماء على خلافه. كما أن الآية مشكلة في مسائل الأخلاق، فرأي ابن سيرين رحمه الله وإبراهيم النخعي وغيرهما على إطلاقه أمر نراه صعباً جداً، فلو سافر إنسان، ثم إن جاره وقع على زوجته ظلماً وعدواناً وتبين له هذا بطريقة خاصة أو أخبره به أحد الجيران، فعرف أن هذا الجار بعد سفره قصد زوجته، ثم إن هذا الجار الفاعل سافر، فهل يجوز للرجل أن يغدر بالمرأة باعتبار نفس القضية؟ والجواب أن هذا غير مقبول. والمقصود أن القرآن لابد من أن يفهم قبل الاستشهاد به.

بيان فضيلة الصبر

بيان فضيلة الصبر يقول تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} [النحل:126]. ولا يوجد شيء يدني المرء من عظيم المنازل ورفيع الدرجات من الصبر، فقد صبر يوسف عليه الصلاة والسلام على مكر إخوانه، وعلى ظلم امرأة العزيز، وعلى السجن، فأورثه الله جل وعلا ما أورثه. وراء مضيق الخوف متسع الأمن وأول مفروح به غاية الحزن فلا تيأسن فالله ملك يوسف خزائنه بعد الخلاص من السجن والله جل وعلا يبتلي قبل أن يمكن، فإذا صبر العبد وأظهر لله جل وعلا الرضاء بالمقدور، وأذعن لله ولأمره ونهيه؛ بوأه الله جل وعلا منزلة أعلى ودرجة أرفع، ولهذا دعا الله نبيه وندبه إلى الصبر، فقال: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} [النحل:126]. يقول لنبيه: {وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} [النحل:127]، فالصبر يطلب من الله، فالمرء في كل أحواله، في تربيته لأبنائه، في صبره على أذى زوجته وفي غير ذلك يصبر مستعيناً بالله. يروى أن رجلاً من الصالحين جاءه رجل فطلب منه أن يتزوج ابنته وهو لا يعرفه، فوافق، فلما أدخلت عليه المرأة إذا هي عوراء عرجاء وفيها من كل العاهات، فصبر خمسة عشر عاماً لا يكلم أحداً بأن في زوجته شيئاً، فكانت من شدة ما بها من الأمراض والعاهات تتعلق به، فصارت من حبها له وتعلقها به تمنعه من أن يذهب إلى أصحابه، ثم صارت تمنعه من صلاة الجماعة من فرط شغفها به، فصار يحضر صلاة وأخرى لا يحضرها، فلا يخرج خوفاً من أن يجرح مشاعرها لضعفها وكونها محرومة من كل شيء، فصبر عليها خمسة عشر عاماً، ثم ماتت، فلما ماتت كان أهل حيه يحبونه حباً جماً، وهم لا يدرون هذه القضية كلها، ولكن الله أورث قلوبهم محبته، وفي ذات يوم انفرد به رجل، فقال: يا أبا عثمان! إني سائلك عن مسألة، وأخذ عليه الأيمان المغلظة بأن يجيبه فوافق، فقال: إنني أرى الله أورثك حب الناس، فما السريرة التي بينك وبين الله حتى أورثك الله هذا الحب؟ فاعتذر عن الإجابة، فلما أقسم عليه قال: إنني تزوجت امرأة، فذكره له القصة، فقال: صبرت عليها خمسة عشر عاماً ما كلمت في أمرها أحداً من الخلق، حتى إن أهلي لا يعرفونها، فصبرت عليها خشية من أنني لو طلقتها لم يتزوجها أحد. وهو غير ملزم شرعاً بالصبر عليها، ولكن بمثل هذا الصبر ونحوه من التجلد على أذى الناس ومكر الحاقدين، وحسد الأعداء وغير ذلك ينال الإنسان رفيع الدرجات.

بيان معية الله تعالى للمتقين والمحسنين

بيان معية الله تعالى للمتقين والمحسنين قال الله: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} [النحل:127]، ولماذا لا يكون في ضيق؟ لأن الآية التي بعدها تقول: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل:128]، وهذه معية خاصة، ومعية الله العامة لكل خلقه في اطلاعه جل وعلا على ما يصنعون، وعلمه تبارك وتعالى وقدرته عليهم، وإحاطته بهم، فهذه لكل الخلق، وأما هذه فهي معية خاصة، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا} [النحل:128] بتأييده ونصره وفضله وإحسانه تبارك وتعالى وغير ذلك، وكل عبد في فقر ملح إلى نصرة الرب تبارك وتعالى. قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل:128]، والتقوى والإحسان درجتان في العبادة، والتقوى لا تكون إلا من قلب يعرف الله أولاً، ويحب الله ثانياً، ثم يرجو الله ويخافه، فمن عرف الله -ولا بد من معرفة الله- ثم أحب الله ثم رجاه ثم خافه رزق التقوى. قال العلماء: التقوى: أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله تخشى عقاب الله، فإذا رزق الإنسان التقوى أمنه الله جل وعلا مما يخاف، وآتاه الرزق من حيث لا يحتسب، وكفاه الله جل وعلا شر ما يهمه: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق:2 - 3]. هذا ما تيسر إيراده وتهيأ قوله حول سورة النحل، نسأل الله جل وعلا لنا ولكم النفع، والله أعلم.

الأسئلة

الأسئلة

حكم الاستنجاء باليد اليمنى

حكم الاستنجاء باليد اليمنى Q ما حكم الاستنجاء باليد اليمنى؟ A ظاهر الأمر أنه محرم، وإذا اضطر فأرجو الله أن لا يكون به بأس.

مصير الذنب الذي قد تاب المرء منه

مصير الذنب الذي قد تاب المرء منه Q هل يرى الإنسان بعد موته الذنب الذي فعله ثم أتبعه بالحسنة؟ A هذا لا أستطيع أن أجزم به، ولكن ظاهر الأمر أنه يعرض عليه، ولكن لا يعاتب عليه.

حكم لعن الكافر المعين

حكم لعن الكافر المعين Q هل يجوز للإنسان أن يلعن كافراً معيناً؟ A الأظهر أنه لا يجوز لعن الكافر المعين.

حكم أخذ مال المدين الكاذب في الوعد بالوفاء

حكم أخذ مال المدين الكاذب في الوعد بالوفاء Q إن كان لي مال عند شخص يعدني أن يعطيني المال فيكذب، فهل لي أن آخذ مالي إن استطعت أخذه بدون رضاه؟ A نعم يجوز أخذه بدون رضاه، فما دام أنه لم يستأمنك عليه فالأمر واسع.

حكم الدعاء لمن يظن تركه للصلاة

حكم الدعاء لمن يظن تركه للصلاة Q هل يجوز لي الدعاء لرجل مات وأنا لا أعلم أكان يصلي أم لا يصلي؟ A من مات من أهل القبلة من المسلمين في أي مكان فإنه يصلى عليه ويدعى له.

حكم المسح على الأحذية في الوضوء

حكم المسح على الأحذية في الوضوء Q إذا كان الشخص يلبس ما يسمى بالجزمة فهل الأفضل أن ينزع الجزمة والجوارب إذا أراد الوضوء أم يمسح عليها؟ A إذا كانت الجزمة مما ينزع عادة، فإنها تنزع ويمسح على الجوارب، أما إذا كانت مثل جزمات العسكر ذات الحبال فإنه يمسح عليها.

حكم تارك صلة بعض أرحامه

حكم تارك صلة بعض أرحامه Q هل يعتبر من يصل بعض أرحامه ولا يصل بعضهم لنسيان أو لكثرتهم قاطعاً؟ A يحاول أن يسدد ويقارب ولو بالهاتف.

حكم حلق شعر الصدر

حكم حلق شعر الصدر Q هل يجوز حلق شعر الصدر إذا كان كثيفاً؟ A لا بأس به.

حكم الصلاة عن يسار الإمام لازدحام المكان

حكم الصلاة عن يسار الإمام لازدحام المكان Q صليت إماماً بجماعة وامتلأ المسجد، فصلى عن يميني مصلون، ثم جاء آخرون فصلوا عن يساري، فهل تصح صلاة من صلوا عن يساري؟ A نعم تصح؛ لأنها حالة اضطرار.

دليل جواز نسخ القرآن بالسنة

دليل جواز نسخ القرآن بالسنة Q ما هو دليل القائلين بجواز نسخ القرآن بالسنة؟ A هو قول الله جل وعلا: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا} [البقرة:106]، فالقائلون بالجواز يقولون: فاعل (نأت) على الله، والنبي عليه الصلاة والسلام لا ينطق عن الهوى، والله جل وعلا هو الذي يوحي إليه.

تأملات في سورة هود [1]

سلسلة تأملات قرآنية _ تأملات في سورة هود [1] اشتملت سورة هود على تفصيل جملة من قصص الأنبياء مع أقوامهم لتقرير حقيقة التوحيد العظيمة وبيان عاقبة الموحدين، وعاقبة المشركين والكافرين، كما تضمنت بيان أحوال اليوم الآخر، والدعوة إلى الاستقامة على طاعة الله كما أمر تعالى، الأمر الذي جعل منها موضع خوف وإشفاق من نبينا صلى الله عليه وسلم فقال: (شيبتني هود وأخواتها).

بيان نسبة سورة هود

بيان نسبة سورة هود الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خلق فسوى، وقدر فهدى، وأخرج المرعى، فجعله غثاء أحوى، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فإن السورة التي نحن بصدد تفسيرها، والتعليق على آيها في هذا الدرس هي سورة هود، وهي ثاني سورة في القرآن حسب ترتيب المصحف سميت باسم نبي من الأنبياء. وهذه السورة سورة مكيه، وعدد آيها مائة وثلاث وعشرون آية، كلها مكية، إلا قول الله جل وعلا فيها: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود:114]. فهذه الآية في المشهور عند العلماء نزلت بالمدنية، وأما ماسوى ذلك فآيات مكية نزلت قبل هجرته صلوات الله وسلامه عليه إلى المدنية.

اشتمال سورة هود على حقائق التوحيد

اشتمال سورة هود على حقائق التوحيد وقد مجد الله جل وعلا في أولها كتابه، وأخبر بأنه مفصل ومحكم من لدن حكيم خبير، ثم ذكر الله جل وعلا الأدلة على فوز أهل التوحيد، وعلى أنه جل وعلا لا رب غيره ولا إله سواه، وجاءت السورة بمقارنة بين أهل الإيمان والكفر، حيث قال تعالى: {مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالأَعْمَى وَالأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا} [هود:24]. ثم ذكرت السورة جما وعددا من رسل الله جل وعلا وأنبيائه، بدءاً بنوح وانتهاء بموسى، ومرور بهود وصالح وإبراهيم ولوط وشعيب عليهم جمعياً أفضل الصلاة والسلام.

ذكر ما جاء عن رسول الله من مشيبه بهود وأخواتها

ذكر ما جاء عن رسول الله من مشيبه بهود وأخواتها ومما جاء في الآثار عن هذه السورة أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (شيبتني هود وأخواتها) وهذا إجمال، وجاء ذلك مفصلاً في رواية أخرى أنه صلى الله عليه وسلم قال: (شيبتني هود والمرسلات والواقعة و (عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ) وإِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ)). والجامع بين هذه السور هو كونها تتحدث عن اليوم الآخر وأهواله وما يكون فيه، والله جل وعلا ذكر ذلك صراحة في كتابه العظيم، حيث قال الله جل وعلا في سورة المزمل: {يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا} [المزمل:17]. والمقصود أن ما أجمله قوله عليه الصلاة والسلام: (شيبتني هود وأخواتها) قد جاء مفصلاً عند الطبراني بسند صحيح وفي رواية الترمذي والحاكم من حديث ابن عباس باللفظ المذكور. والناس يختلفون في السبب الذي يدفعهم إلى أن يشيبوا باعتبار تعلق قلوبهم، فمن الناس من يشيبه التعليم، ومن الناس من يشيبه العقار، ومن الناس من تشيبه التجارة، ومن الناس من يشيبه تربية الصبيان، ومن الناس من يشيبه الهم، وغير ذلك، وهذا ظاهر في الناس، ولا غرابة فيه، ولا ننكره، ولكن النبي عليه الصلاة والسلام لما كان قلبه معلقا بالله، وكان يخشى الله واليوم الآخر ويخاف ربه ويهابه؛ جاء تعلق شيبه صلوات الله وسلامه عليه بهود وأخواتها، أي: باليوم الآخر، ولا يعني هذا أن النبي عليه الصلاة والسلام كان كثير الشيب، وإنما مرد ذلك إلى العرف، وقد مات النبي عليه الصلاة والسلام ولا يحصى من الشيب فيه أكثر من عشرين شعرة، وأكثر شيبه كان في أسفل شفته السفلى وفي أعلى عارضيه عن اليمين وعن الشمال، أما في لحيته فكان الشيب قليلاً جداً في شعيرات يمكن عدها، وكذلك شعر رأسه صلوات الله وسلامه عليه. والسنة في الشيب إذا ظهر وكثر وأصبح غالباً على السواد إن يُغَيَّر، إما بالكتم وإما بالحناء، فإن النبي عليه الصلاة والسلام لما فتح مكة جاءه أبو بكر رضي الله تعالى عنه بأبيه أبو قحافة، ومن مناقب أبي بكر رضي الله تعالى عنه أن أبويه أدركا الإسلام، وهذه مزية لم تكن لأحد من كبار الصحابة الذين دخلوا في الإسلام معمَّّّّّرين، كـ أبي بكر؛ فإن أبا بكر رضي الله تعالى عنه أسلم وسنه ثمانية وثلاثون عاماً، فأدرك أبواه الإسلام. فـ أبو قحافة أسلم يوم فتح مكة، فجاء به أبو بكر إلى النبي عليه الصلاة والسلام، وأبو قحافة يوم ذاك ابن قرابة الثمانين، فجاء به وقد أصبح شعره كالثغامة، والثغامة نوع من النبت أبيض الزهرة وأبيض الثمرة، فجاء به وقد بيض شعر رأسه، وبيض شعر لحيته، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يغير شعر رأسه وشعر لحيته، وقال في آخر الحديث: (وجنبوه السواد). وزيادة: (وجنبوه السواد) اختلف العلماء فيها، هل هي من كلام النبي صلى الله عليه وسلم أو هي مدرجه من قول الصحابي؟ ومعلوم أن الإدراج يكون: إدراج إسناد، أو إدراج متن. والمشهور عن بعض العلماء أنها من إدراج المتن، وقال بعضهم: إنها من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وليس هذا موضع التفصيل فيها، والذي يعنينا أن نغيره بالحناء والكتم خروجاً، من خلاف العلماء، وهو أولى. فالنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (شيبتني هود وأخواتها).

ذكر ما شيب رسول الله من سورة هود

ذكر ما شيب رسول الله من سورة هود ومما شيب النبي صلى الله عليه وسلم منها ذكر اليوم الآخر، وإن كان بعض العلماء يقول: إن الذي شيب النبي صلى الله عليه وسلم من سوره هود قول الله جل وعلا فيها: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [هود:112]. قال بعض المفسرين: الذي شيب النبي عليه الصلاة والسلام هو قول الله جل وعلا: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [هود:112]، ولكن قرانه عليه السلام سورة هود بسورة المرسلات والواقعة وعمَّ و (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ) نفهم منه أن الذي شيبه منها ذكر أهوال اليوم الآخر؛ لأن هذا هو الجامع بين هذه السور. وهذه السورة ذكر الله جل وعلا أخبار الأنبياء، فذكر الأمم وتكذيبها لأنبيائها ورسلها، وكيف كان ذلك سبباً في فنائها وهلاكها، كما قال تعالى: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ} [هود:100] أي: شاهد باق ظاهر، كالحجر في أرض ثمود {وَحَصِيدٌ} [هود:100] أي: منته، كما هو الحال في البحر الميت الذي كان موضع قوم لوط عليه السلام. فهذه الأمور كلها مدعاة للشيب.

بيان مجمل قصص سورة هود

بيان مجمل قصص سورة هود وقد ذكر الله جل وعلا فيها قوم نوح كما سيأتي، ثم قال: {فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [المؤمنون:41]. ثم ذكر قوم هود فقال جل وعلا: {أَلا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ} [هود:60]. ثم ذكر ثمود فقال جل وعلا: {أَلا بُعْدًا لِثَمُودَ} [هود:68]. ثم ذكر الله جل وعلا قوم لوط فقال: {وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} [هود:83]. ثم قال الله جل وعلا في مدين: {أَلا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ} [هود:95]. ثم قال جل وعلا عن فرعون وآله وتكذيبهم لموسى وهارون: {وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ} [هود:99]. فهذا كله دلائل تظهر الشيب في الإنسان إذا قرأها، وأذكر أنه قبل أعوام قُدِّر أن نقرأ هذه السورة في صلاة التراويح، والقرآن تدبره يحتاج إلى فقه، ولا أقصد بالفقه فقه المتون، وفقه الأحكام، وإنما أقصد فقه العقل، وقدر أن قرأ هذه السورة الشيخ: صلاح البدير وفقه الله، فكان يقرؤها مقطعاً مقطعاً، فقرأ قصة نوح، ثم قرأ قصة عاد، ثم قصة ثمود، وهكذا وهو لا يبكي، بل كان يحاول أن يحبس بكاءه، وهذا من تعليم الناس وربطهم بالواقع، فلما وصل إلى قول الله جل وعلا في آخر السورة: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [هود:120] بكى الشيخ حفظه الله ونفع المسلمين بعلمه، وهذا هو الفهم؛ لأن هذه الآية هي اللب من الإيراد كله؛ فإن الله ذكر أنبياءه ورسله على التفصيل، ثم لما ختم قال: {وَكُلًّا} [هود:120] أي: كلاً ممن مضى، والتنوين هنا عوض عن الحذف {نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ} [هود:120]، ثم ذكر الغاية {مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} [هود:120] والخطاب لنبينا صلى الله عليه وسلم ومن يسمع من أمته. فلما وصل إليها بكى، وهذا من العلم، وتدبر القرآن، وفقه النصوص، ومعرفة موطن مقصود الله تبارك وتعالى، وهو علم رفيع يمن الله جل وعلا به على من يشاء من عباده جعلنا الله تبارك وتعالى وإياكم من العلماء العاملين بعلمهم. وقد بدأت السورة بالدعوة إلى التوحيد، وانتهت به، حيث قال تعالى: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [هود:123].

تفسير قوله تعالى: (وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها)

تفسير قوله تعالى: (وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها) قال جل وعلا فيها: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ * وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ * وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون} [هود:6 - 8]. إن من المقطوع به شرعاً ونقلاً وعقلاً وطبعاً، أنه لا ملزم على الله، ولكن الله عندما يقول: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود:6] فهذا إلزام فضل لا إلزام واجب. وحسب قواعد التفسير فإن الاسم إذا كان نكرة مسبوقاً بحرف الجر (من)، والجملة مسبوقة بـ (ما) النافية، فذلك أبلغ صيغ العموم، كمثل الآية التي بين أيدينا: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود:6]. فـ (ما) نافية و (من) للبيان، ودابة اسم جاء نكرة، فهذا من أبلغ صيغ العموم في كتاب الله جل وعلا، ثم يليه كلمة كل، والذي يعنينا من هذا أكبر وأبلغ صيغ العموم في كلام الله جل وعلا: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود:6]. والله تعالى يقول في العنكبوت: {وَكَأَيِّن مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [العنكبوت:60].

نماذج من رزق الله خلقه

نماذج من رزق الله خلقه ويروى أن رجلاً يقال له: أبو أسيد من السلف كان فقيراً يحتقره الناس، فسأله أحد الناس: من أين تأكل؟ كأنه رآه بغير عمل، فقال: سبحان الله والله أكبر، إن الله يرزق الكلب، أفلا يرزق أبا أسيد؟! وقد جاء في بعض الأحاديث أن الأشعريين وفدوا على النبي صلى الله عليه وسلم، كـ أبي موسي وأبي مالك وأبي عامر، فلما قدموا أناخوا مطاياهم حول المدينة على مقربة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان الجوع قد بلغ منهم مبلغه، فقال بعضهم لبعض: أبعثوا رجلاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تطلبونه طعاما، فاختاروا رجلاً منهم، وقالوا له: اذهب إلى رسول الله وائتنا بطعام، فذهب الرجل، فلما قرب من النبي صلى الله عليه وسلم سمع النبي عليه السلام يقرأ في بيته هذه الآية: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود:6] فقال: والله ما الأشعريون بأهون الدواب على الله، ثم رجع، ولم يقل للنبي صلى الله عليه وسلم شيئاً، فلما أقبل على أصحابه قال: أبشروا بوعد الله، كفيتم، فظن أصحابه أنه بلّغ النبي عليه الصلاة والسلام أمرهم، فما هو إلا قليل حتى جاءهم رجلان بقصعة من ثريد مملوءة، فأكلوا فبقي كثير مما لم يأكلوه، فقالوا نحمله إلى رسول الله ينفع به غيرنا، فأخذه من لا يعلم أن هذا الرجل لم يخبر النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! جزيت خيراً، فقال (إنني لم أبعث إليكم بشيء). فهذا رجل قد لا يكون ملكا، ولكن سخره الله جل وعلا لهؤلاء الناس ليأتيهم بطعام. ومعلوم أن وعد الله حق، ولكن لا يعني ذلك أن يركن الإنسان فيترك الأخذ بالأسباب، ولكن يأخذ بالأسباب، ويعتمد على الملك الغلاب جل جلاله.

بيان معنى قوله تعالى (ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب)

بيان معنى قوله تعالى (ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب) ثم قال سبحانه: {وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا} [هود:6]. اختلف العلماء في المراد بالمستقر والمستودع، والأشهر من أقوالهم أن المراد بالمستقر: المأوى في الدنيا، أي: المكان الذي تأوي إليه الدواب بعد أن تسرح، وأما مستودعها فهو مكان دفنها وموتها قبل اليوم الأخر. (كُلٌّ) أي: كل ما يجري من أقدار الله من أرزاق وأخذ وعطاء {فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [هود:6]. والله جل وعلا عنده أم الكتاب، وأم الكتاب هو اللوح المحفوظ، وما في أم الكتاب لا يغير ولا يبدل، ولكن توجد كتب أخرى غير أم الكتاب هي التي يجري فيها التغير والتبديل، قال الله جل وعلا: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} [الرعد:39]، ثم قال جل وعلا: {وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد:39]. فأم الكتاب هو الكتاب الذي لا يجري فيه تغير لا تبديل، وهو الذي عناه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (جفت الأقلام وطويت الصحف) أما غير ذلك فإن فيه تغييراً، كما جاء في الأحاديث أن صلة الرحم تزيد في العمر، وأن القدر والدعاء يعتلجان في السماء، فكل هذا مما يجري فيه التغيير، أما الكتاب المبين الأصل فلا يكون فيه تغير ولا تبديل.

بيان معنى قوله تعالى (وهو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام)

بيان معنى قوله تعالى (وهو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام) ثم قال جل وعلا: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} [هود:7]. وأول ما يفهم من الآية أن العرش والماء مخلوقان قبل السموات والأرض. والعرش: سقف المخلوقات، ويمكن أن يقال في تعريفه: إنه سرير ذو قوائم تحمله الملائكة. والدليل على أنه تحمله الملائكة قوله تعالى: {وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} [الحاقة:17]. والدليل على أنه ذو قوائم قول النبي صلى الله عليه وسلم: (فإذا موسى آخذاً بقوائم العرش) فهذا دليل على أن العرش له قوائم. والغيب الذي لا يُرى لا يعرف بالتجربة، فلا تتكلم في الغيب إلا بدليل نصي من كتاب أو من سنة، ولا يعتبر فيه التجربة ولا غيرها، ويبقى الغيب غيباً.

بيان معنى قوله تعالى (ليبلوكم أيكم أحسن عملا)

بيان معنى قوله تعالى (ليبلوكم أيكم أحسن عملاً) ثم قال تعالى: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [هود:7]. والعمل يحسن بأمرين: الإخلاص والمتابعة، فالعمل إذا توافر فيه هذان الشرطان -الإخلاص للرب تبارك وتعالى، والمتابعة لنبينا صلى الله عليه وسلم- كان هو العمل الحسن، وهو العمل الصواب، وهو العمل المقبول، فالعمل إن كان غير خالص -ولو كان متقنتاً- لا يقبل، وإن كان مخلصا ولكنه على غير هدي محمد صلى الله عليه وسلم فلا يقبل. قال ابن القيم رحمه الله في الإخلاص: هو دين رب العالمين وشرعه وهو القديم وسيد الأديان هو دين آدم والملائك قبله هو دين نوح صاحب الطوفان هو دين إبراهيم وابنيه معاً وبه نجا من لفحة النيران وبه فدى الله الذبيح من البلى لما فداه بأعظم القربان هو دين يحيي مع آبيه وأمه نعم الصبي وحبذا الشيخان ثم قال رحمه الله: وكمال دين الله شرع محمد صلى عليه منزل القرآن فالإنسان إذا قدر له أن يخلص النية ويتبع هدي محمد صلى الله عليه وسلم، كان هذا هو العمل الذي أراده الله جل وعلا من عباده، وهو المقصود بقول الله هنا: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [هود:7].

بيان معنى قوله تعالى (ولئن قلت إنكم مبعوثون من بعد الموت)

بيان معنى قوله تعالى (ولئن قلت إنكم مبعوثون من بعد الموت) قال تعالى: {وَلَئِنْ قُلْتَ} [هود:7] والمخاطب النبي صلى الله عليه وسلم {إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ} [هود:7]. والمخاطب بها كفار قريش، {لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} [هود:7]، أي: يردون على القرآن بأنه سحر، كما قال الوليد بن المغيرة: {إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ} [المدثر:24].

بيان معنى قوله تعالى (ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة ليقولن ما يحبسه)

بيان معنى قوله تعالى (ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة ليقولن ما يحبسه) ثم قال الله جل وعلا: {وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ} [هود:8]. الأمة هنا الوقت والزمن، وقوله تعالى: {لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ} [هود:8]. وكلمة (أمة) في القرآن وردت على عدة معان: فوردت بمعنى الزمن والوقت، كما في هذه الآية، وفي قوله جل وعلا: {وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ} [يوسف:45] أي: بعد زمن. وتأتي بمعنى الرجل المقتدى به، قال الله جل وعلا {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} [النحل:120]. وتأتي بمعنى الجماعة من الناس رجالاً ونساء، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا} [النحل:36]. فالأمة هنا الجماعة من الناس من الرجال والنساء. وتأتي بمعنى الجماعة من الرجال دون النساء، قال الله جل وعلا عن موسى: {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ} [القصص:23] أي: رجالاً يسقون {وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ} [القصص:23]. وتأتي بمعنى الملة والدين، قال تعالى: {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} [الزخرف:22].

التفريق بين قوله تعالى (ليقولن) وقوله (ليقولن)

التفريق بين قوله تعالى (ليقولَن) وقوله (ليقولُن) قال تعالى: {لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون} [هود:8]. يلحظ هنا مجيء لام (ليقولن) مضمومة، وقد سبق قوله تعالى: {وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} [هود:7] بفتح اللام في (ليقولن). فقوله تعالى: {لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} [هود:7] جاء فيه (الذين كفروا) فاعلاً، فهنا لا يوجد ضمير، فأصل الفعل (يقول) وأسندت إليه نون التوكيد الثقيلة، والقاعدة: إن نون التوكيد إذا أسندت إلى الفعل المضارع يبنى على الفتح، فجاءت مفتوحة وفقاً. وفي الآية التي بعدها قال الله جل وعلا: {وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ} [هود:8]. وأصلها (ليقولون)، ففيها واو الجماعة، والقاعدة أن الفعل المضارع إذا أسند إلى واو الجماعة يبنى على الضم، فبنيت اللام على الضم لوجود واو الجماعة، ولكن واو الجماعة لا تنطق هنا، بل حذفت لالتقاء الساكنين، والساكنان هنا هما نون التوكيد الأولى وواو الجماعة، فحذفت الواو لالتقاء الساكنين، وبقيت اللام على البناء على الضم.

تفسير قوله تعالى: (من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها)

تفسير قوله تعالى: (من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها) يقول تبارك وتعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود:15 - 16]. إن مزية دروس التفسير أنها تدلك على كل العلوم، فالله تعالى يقول هنا: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا} [هود:15] أي: يطلب الدنيا وزينتها {نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا} [هود:15] أي: في الدنيا {وَهُمْ فِيهَا} [هود:15] أي: في الدنيا: {لا يُبْخَسُونَ} [هود:15]. والواقع أن كل من طلب الدنيا لا يُعطاها. وعليه فإن هذا الإطلاق قيده الله جل وعلا في الإسراء فقال سبحانه: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ} [الإسراء:18]. فهذا الإطلاق الوعد المطلق هنا قيد بآية ماذا؟ بآية الإسراء واضح. ونحو ذلك قول الله في البقرة: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة:186]، هذا إطلاق، ولكن هل كل من دعا الله يجيب الله دعوته؟ فهذه الآية مقيدة بقوله تعالى: {فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ} [الأنعام:41].

ذكر أحوال الإطلاق والتقييد

ذكر أحوال الإطلاق والتقييد والمطلق والمقيد ينقسمان إلى أربعة أقسام: فقسمان اتفق عليهما العلماء، وقسمان اختلفوا فيهما، فنقول: أولاً: يحمل المطلق على المقيد إذا اتفقا في السبب والحكم، ومثال ذلك قوله عليه الصلاة والسلام في زكاة الغنم: (في أربعين شاة شاة)، وقال: (في سائمة الغنم زكاة) فالحكم في النصين هو الزكاة، فهو واحد، والسبب واحد، وهو بلوغ النصاب، وقوله صلى الله عليه وسلم: (في أربعين شاة شاة) لم يذكر فيه السائمة، ولكن لا نقول لكل من ملك أربعين شاة: إنه تجب عليك فيها الزكاة، حتى تكون سائمة، فأتينا بشرط السوم من حديث آخر، للاتفاق في السبب والحكم. فنقول على هذا: إذا اتفق المطلق والمقيد في السبب والحكم يحمل المطلق على المقيد. ثانياً: إذا اختلفا في السبب واتفقا في الحكم، فإن مثالهما كما في الظهار وقتل مؤمن خطأ، فالسبب يختلف، ولكن الحكم واحد، وهو العتق، وقد قال الله جل وعلا في القتل: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء:92]، وقال في الظهار {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المجادلة:3]. ولم يقل: مؤمنة، فالإطلاق في آية الظهار، والتقييد في آية القتل، فاتفقا في الحكم وهو العتق، واختلفا في السبب، إذ الظهار والقتل مختلفان، فهل يحمل المطلق على المقيد؟ هذا محل نزاع بين العلماء. ثالثاً: إذا اتفقا في السبب، واختلفا في الحكم، فمثال ذلك في الوضوء والتيمم، فالإنسان إذا لم يجد الماء يرفع حدثه التيمم، فالتيمم غير الوضوء، ولكن السبب واحد، إذ المقصود رفع الحدث؛ لأنه لا يكون وضوء ولا تيمم إلا لرفع الحدث. فالله جل وعلا قال في آية الوضوء: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة:6]. فقيد غسل اليد بقوله: (إلى المرافق)، وفي التيمم قال: {وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [المائدة:6] ولم يقل: إلى المرافق، فهذا إطلاق، فهل يحمل هذا على هذا؟ هذا فيه خلاف، ولكن ذلك فسر بالسنة بفعل النبي صلى الله عليه وسلم. رابعاً: إذا اختلفا في السبب والحكم، فمثاله قول الله جل وعلا: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ} [المائدة:38]. فالحكم هو القطع، والسبب السرقة. وقال تعالى في آية الوضوء: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ} [المائدة:6]. فالسبب هو رفع الحدث، وهناك السبب هو السرقة، وهناك الحكم القطع، وهنا الحكم الوضوء، فالوضوء غير القطع، والسرقة غير رفع الحدث، فاختلفا في السبب، واختلفا في الحكم، فلا نقول: إن السارق تقطع يده من المرفق، لأن آية الوضوء نصت على أنه يكون إلى المرفق؛ لأنهما اختلفا في السبب وفي الحكم.

تفسير قوله تعالى: (ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه)

تفسير قوله تعالى: (ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه) قال الله جل وعلا: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ * أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ * فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ} [هود:25 - 27] أي: أشراف الناس {مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا} [هود:27] أي: ومن أعظم ما أخذه الأنبياء على رسلهم أنهم بشر، {وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ} [هود:27]. وكل دين أول من يدخل فيه هم الضعفاء؛ لأن الضعفاء غالباً مضطهدون من الوجهاء والأعيان، فيكون هؤلاء الضعفاء في أحوج شيء إلى من يأتي ويغير الحال الذي يعيشونه، فإذا جاء الأنبياء بالصلاح وغيروا النظم الاجتماعية القائمة على الظلم والقهر في أقوامهم، كان هؤلاء الضعفاء أول من يتبعهم، ويكون الوجهاء المستفيدون من ذلك الحال أول من يحارب الأنبياء. قال تعالى: {بَادِيَ الرَّأْيِ} [هود:27]. قيل: المعنى: أول الأمر. أي: هؤلاء أصحاب مهن وضيعة لا يفكرون ولا يتريثون، وإنما تبعوك عجلة من دون تفكر، ومن دون تمعن، ومن دون أخذ ولا عطاء ولا روية. قال تعالى عنهم: {وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ} [هود:27].

بيان الهلاك بتعظيم غير الله

بيان الهلاك بتعظيم غير الله والله جل وعلا قد أرسل كل الأنبياء بالتوحيد، والتوحيد: أن لا يعظم إلا الله، ولا يأتي الناس بسبب للهلاك أعظم من تعظيم الناس فوق قدرهم، ولذلك حرص الأنبياء عليهم السلام على أن يبرءوا من كونهم لهم فضل على الناس، وكل من ادعى أن له فضلاً قصمه الله، وهذه سنة لله جل وعلا في سائر خلقه في الأبرار والفجار، ففرعون قال: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38] فقصمه الله وأغرقه في البحر. واليهود ما أضلهم إلا أنهم قالوا نحن شعب الله المختار، فلما ظنوا أنهم لهم مزية هلكوا. وهتلر الزعيم النازي الألماني كان يرى أن للألمان عرقاً يرتفع به عن سائر أعراق الناس، وقسم العالم، وجعل العرق الألماني في أعلاها وأشرفها، وجاء بالنازية القائمة على العنصرية، وما ضيَّع ألمانيا إلا النازية التي جاء بها أدولف هتلر، ثم هلكت ألمانيا بعده، وإلى اليوم تدفع ألمانيا ثمن مقولة هتلر أن لألمانيا فضلاً على الناس، فليست هي عضواً في مجلس الأمن ولا في غيره، وقضايا العقوبات عليها في تصدير السلاح مما لا يخفى على أحد، كل ذلك بسبب تلك الكلمة أو تلك المقولة أو الحكمة أو النظرية التي جاء بها هتلر. فكل من بغى قصمه الله جل وعلا، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ما زاد الله عبداً بعفوٍ إلا عزا، ومن تواضع لله رفعه).

تفسير قوله تعالى: (قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي)

تفسير قوله تعالى: (قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي) ثم قال تعالى: {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي} [هود:28]. أي على برهان واضح {وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ} [هود:28] والرحمة: النبوة، {فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ} [هود:28]. وقوله تعالى: {هذه َنُلْزِمُكُمُوهَا} [هود:28] فيه عشرة أحرف، ولكن هذه الكلمة ليست أطول كلمة في القرآن، ففيها فعل وفاعل ومفعول به أول ومفعول به ثان. ولكن أطول منها بحرف قوله تعالى: {فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ} [الحجر:22] في الحجر.

تفسير قوله تعالى: (ويا قوم لا أسألكم عليه مالا)

تفسير قوله تعالى: (ويا قوم لا أسألكم عليه مالاً) قال تعالى: {وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ * وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ * وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ} [هود:29 - 31]. في هذه الآيات بيان كيفية دعوة الأنبياء، وهذا من أعظم الفقه في الدعوة، فأي نبي كان يحرص وهو يدعوا الناس على أن يبين أنه لا يريد من الناس أن يتبعوه لشخصه، وإنما يتبعونه لأنه يبلغ عن الله، ولهذا قال نوح عليه السلام: {وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ} [هود:31] أي: فتتبعونني رجاء أن أعطيكم، فلا أريدكم أن تتبعوني من أجل هذا الأمر {وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ} [هود:31] فتفرحون فتقولون: هذا يعلم الغيب، فنتبعه حتى يبين لنا مستقبل أيامنا {وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ} [هود:31] أي: ولا أقول: إنني من جنس أفضل من جنسكم. فكان ينأى عن أن يشعر قومه بأنه له فضل عليهم غير فضل النبوة وفضل الهداية وفقه الأمر كله قائم على أن أنبياء الله لا يريدون من الناس أن يتبعوهم لذواتهم، وإنما يتبعونهم لأنهم يبلغون عن الله.

تفسير قوله تعالى: (قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا)

تفسير قوله تعالى: (قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا) ثم قال تعالى: {قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [هود:32]. هذا الطلب المقصود منه الاستهزاء والسخرية، فقال نوح عليه الصلاة والسلام: {قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ} [هود:33] فأسند الأمر إلى الله، وهذا هو التوحيد والعبودية الحقة التي حققها الرسل أعظم تحقيق. قال تعالى: {وَلا يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} [هود:34] فالهداية أولها وآخرها بيد الله.

تفسير قوله تعالى: (أم يقولون افتراه)

تفسير قوله تعالى: (أم يقولون افتراه) قال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ} [هود:35]. وهذا من دقائق الكلام في القرآن، فنوح عليه السلام يقول: {إِن} [هود:35] على سبيل الافتراض {إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي} [هود:35]. ولما تكلم عنهم قال: {وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ} [هود:35]. فتكلم عن نفسه على سبيل الفرضية، وتكلم عنهم على سبيل التحقيق.

تفسير قوله تعالى: (وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن)

تفسير قوله تعالى: (وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن) فلما كان الأمر كذلك قال الله جل وعلا: {وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [هود:36]. وقد مكث نوح يدعو قومه ألف سنة إلا خمسين عامًا، فأصبح الناس على حالين متميزين، فتميز الكافر من المؤمن، فأوحى الله جل وعلا إليه أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن، فلما أوحى الله جل وعلا إليه بهذا الأمر قال دعاءه المشهور: {رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} [نوح:26]. فلو قال داع اليوم: {رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} [نوح:26] فإنه لا يصح ذلك؛ لأنه لا يدري من يكتب الله له الهداية ممن لا يكتبها. فالإنسان يتقيد بالشرع، أما نوح فكان يعلم؛ لأن الله قال له: {وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [هود:36].

بيان سخرية قوم نوح بنبيهم وسخريته منهم

بيان سخرية قوم نوح بنبيهم وسخريته منهم فأمره الله جل وعلا بأن يصنع الفلك -أي السفينة- وعلمه الله جل وعلا كيف يصنعها، فكان يمر عليه قومه فيسخرون منه قائلين: بالأمس كنت نبياً واليوم أصبحت نجاراً. فيقول: {إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ} [هود:38]. وهذا يسمى عند البلاغيين بالمشاكلة، حيث قال: {قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ * فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ} [هود:38 - 39].

ذكر ما حمله نوح في السفينة

ذكر ما حمله نوح في السفينة قال تعالى: {قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} [هود:40]. وكلمه (زوج) في قول أهل الرياضيات تدل على اثنين، هذا كلام أهل الرياضيات، وهو في اللغة غير صحيح، فكلمة زوج تدل على واحد له مثيل من جنسه، ولو كانت تدل على اثنين لما قال الله: {مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} [هود:40]. فكلمة زوج تدل على واحد، والدليل قوله تعالى: في حواء: {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [النساء:1]. وزوجها هو آدم عليه السلام. فالشيء إذا كان له مثيل سمي زوجاً، مثل النعل فكل واحدة من النعلين يقال لها: زوج، فإذا قلت: زوجين اثنين فإنها تصبح في عددها الفردي أربعة. فكلمة زوج تدل على واحد له مثيل، والدليل من القرآن كذلك قول الله تعالى: {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ} [النجم:45] ولما فسرهما قال: {الذَّكَرَ وَالأُنْثَى} [النجم:45]. فالله تعالى قال لنوح: {احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} [هود:40]، فأخذ من الأُسْد أسداً ولبؤة، وأَسَدا ولبؤة.

بيان معنى فوران التنور

بيان معنى فوران التنور وبعد أن أمره تعالى بذلك أعطاه أمارة فقال: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ} [هود:40]. واختلف العلماء في المقصود بقوله: (فار التنور)، فجمهور العلماء من السلف والخلف على أن المقصود نبع الماء في الأرض، أي: تتفجر عيون الأرض، وهذا قول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وعليه الجمهور. واختار ابن جرير الطبري شيخ المفسرين أن هذا غير صحيح، وقال رحمه الله: إن التنور إذا أطلق يراد به المكان الذي يخبز فيه، وكلام الله يحمل على الأشهر والأغلب، فقال: هذه علامة بين الله وبين نوح في الموقد الذي يوقد فيه نوح النار، فإذا فار فتلك علامة أعطاه الله إياها، فحينئذٍ يكون الأمر كما قال تعالى: {احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ} [هود:40].

بيان حكمة حمل نوح من كل زوجين اثنين

بيان حكمة حمل نوح من كل زوجين اثنين ولم يحمل نوح من أهله زوجته واعية، وابنه كنعان، على ماقاله المفسرون. فحمل نوح من كلٍّ زوجين اثنين؛ لأن الله جل وعلا كتب أن تهلك الدنيا، فحفظاً لبقاء الحياة الإنسانية وما ينفعها أمر الله نوحا بأن يحمل فيها من كلّّّّّّّّ زوجين اثنين. وقال العلماء: إنها كانت ثلاثة أدوار، فما كان أعلاها كان للطير، والوسط كان للدواب، والأسفل كان لبني الإنسان، ويقولون: إن من كانوا في السفينة كان عددهم قرابة ثمانين شخصاً، وإن السفينة رست في العاشر من شهر محرم يوم عاشوراء، وإن نوحا صامه وصامه أهل السفينة، وإنه لم يكن فيها بعض المخلوقات كالخنزير، ولكن لما خرجت العذرات من الدواب والإنسان في السفينة، فأزكم الناس ريحها لأمر أراده الله، اشتكى نوح إلى ربه من عذرات الناس، فأمره الله بأن يمسح على الأسد، فأخرج منه الخنزير، والخنزير يأكل العذره، فارتاح أهل السفينة من العذرات؛ لأن الخنزير كان يأكلها. وذكروا أشياء قريبة من هذا، والله تعالى أعلم بصحتها. ولكن العقل لا يمنعها، ولا يوجد دليل نقلي صحيح على صدقها. قال تعالى: {وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} [هود:40]، وأهل الخير في الغالب قلة.

ذكر مراحل قصة نوح عليه السلام

ذكر مراحل قصة نوح عليه السلام ثم قال نوح لقومه: {وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِاِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا} [هود:41] أي إجراؤها {وَمُرْسَاهَا} [هود:41] أي: أرساها فحملتهم. والله جل وعلا صور الموقف على عدة مراحل: المرحلة الأولى: مرحلة دعوة نوح ومواجهته سخرية قومه. والمرحلة الثانية: صناعة السفينة، وقد صنعها في ثلاث سنين؛ لأن سفينة تحمل هؤلاء الخلق كلهم لابد من أن تكون عظيمة، فصنعها ولم يكن يعرف صنعها، ولكن الله قال: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا} [هود:37] أي: برعايتنا وأمرنا. فكان لا يضع شيئاً إلا بأمر الله. والمرحلة الثالثة: أمره للناس بأن يركبوا السفينة. والمرحلة الرابعة: إخراج الأرض ماءها، وإمطار السماء، قال الله جل وعلا: {فَالْتَقَى الْمَاءُ} [القمر:12]. أي: ماء السماء وماء الأرضُ {عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ * وَحَمَلْنَاهُ} [القمر:12 - 13] أي نوح {عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ} [القمر:13].

ذكر ما حصل من ابن نوح

ذكر ما حصل من ابن نوح فأخذت السفينة تجرى بهم، فرأى ابنه كنعان فأخذ يناديه، حيث أدركته عاطفة الأبوة، فقال: {يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ} [هود:42]. فالابن نسي أن المسألة مسألة عقوبة، وأعظم من الذنب الذي ترتكبه عدم شعورك بأن الله سيعاقبك عليه، كإنسان تحته أجراء يظلمهم ليل نهار ولا يعطيهم حقهم، أو كان تحته طلاب لا يحسن تعليمهم، أو زوجات يظلمهن، أو جيران يؤذيهم، أو عنده كذا وكذا من المظالم، ثم يبتلى بمرض خبيث، أو بحرق، أو غير ذلك، فيأتيه من يواسيه فيقول: هذا رفع درجات، وهو لا يدري ما حاله، ولكن العاقل يعرف ذنوبه ومعاصيه، وقد كان السلف لقلة ذنوبهم تأتيهم المصيبة فيعرفون الذنب الذي بسببه أصابتهم. فابن نوح أخذ يتكلم بأشياء بدهية، فل وحصل السيل ونحن بمكان فإنا سنذهب إلى الجبل، فقول ابن نوح: {سَآوِي إِلَى جَبَلٍ} [هود:43] قول بدهي. إلا أن الطوفان لم يكن شيئا طبيعياً، بل كان عقوبة لأهل الكفر واستجابة لدعوة نوح: {رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} [نوح:26]. قال تعالى: {قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [هود:43]. و (عاصم) هنا فاعل بمعنى مفعول، يعني لا معصوم اليوم إلا من رحم الله، والعرب تعبر بالفاعل عن المفعول، وتعبر بالمفعول عن الفاعل، قال الله جل وعلا: {إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا} [مريم:61] أي: آتيا، وليس مفعولا به، ويقال: فلان قتيل، أي: قاتل، ويقال فلان قتيل، بمعنى: مقتول. والمقصود أن (عاصم) هنا بمعنى معصوم، أي لا معصوم اليوم إلا من رحمه الله. قال تعالى: {وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ} [هود:43] أي: بين الأب وابنه: {فَكَانَ} [هود:43] أي: الابن {مِنَ الْمُغْرَقِينَ} [هود:43].

تفسير قوله تعالى: (وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي)

تفسير قوله تعالى: (وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي) قال تعالى: {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَاسَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [هود:44]. وهذه أبلغ آية في كتاب الله وكل القرآن بليغ، وقد روي أن ابن المقفع -وهو فارسي كان ذا بلاغة وبيان، وكانوا يقولون: إنه أفصح أهل زمانه- قرر أن يعارض القرآن، فكتب كلاماً وقسمه على هيئة سور، وكان ذكياً فصيحاً، ولا ريب في ذلك، وله كتب مشهورة منها: الأدب الكبير والأدب الصغير، وغير ذلك، فمر على غلام يقرأ هذه الآية: {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَاسَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [هود:44] فرجع وقال: أشهد أن هذا كلام لا يعارض أبدا، وأحرق ما كان يكتبه. فهذا الأمر صرف النظر عن بلاغته؛ إذ لا يقدر على أن يقوله إلا الله، فلا يوجد أحد يقول للسماء توقفي، وللأرض: ابلعي، وللماء: غض، وللسفينة: استوي، فينفذ هذا كله ويقع، إلا الله جل وعلا. واقرأ القرآن بكل أموره، ففيه ما يدل على جلال الله، وفيه ما يدل على جمال الله، فالألفاظ تدلك على جمال الله، والقدرة تدلك على جلال الله، وبأيهما بكيت -جمالاً أو جلالاً- أصبت قوله صلى الله عليه وسلم (ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه).

ذكر ما كان بعد هلاك الكافرين

ذكر ما كان بعد هلاك الكافرين قال الله جل وعلا: {وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِاِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ * وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ * قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ} [هود:41 - 43]. طافت السفينة بالأرض حتى قيل إنها طافت بالكعبة، ثم أمرها الله بأن تستقر، فأوحى الله إلى الجبال أن السفينة ستستقر على أحدكم، فتطاولت الجبال كلها إلا جبل الجودي في أرض الموصل جهة الكوفة في العراق، فهذا الجبل تواضع ولم يرتفع كما قال العلماء، فأمرها الله بأن تستوي على جبل الجودي، لأن من تواضع لله زاده الله عزاً ورفعة، وهذه سنة الله جل وعلا في خلقه. قال تعالى: {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ} [هود:44]. والبلع يكون للشيء الذي لا يتريث الإنسان في مضغه، ويستقر في الجوف، فكأن الله أمر الأرض بأن يعود ماؤها الذي خرج منها إلى جوفها. {وَيَاسَمَاءُ أَقْلِعِي} [هود:44] أي: توقفي فتوقفت. {وَغِيضَ الْمَاءُ} [هود:44] أي: ذهب في الأغوار هنا وهناك بحيث لا يراه أحد، وفي البادية يقولون: فلان يغيض ويعيض. {وَقُضِيَ الأَمْرُ} [هود:44] أي: أمر إهلاك الكافرين {الْمَاءُ وَقُضِيَ الأَمْرُ} [هود:44]. {وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ} [هود:44] أي السفينة. {وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [هود:44] وهذا البعد زماني ومكاني، فلا يوجد لهم أثر، وهو بعد مستمر زماناً إلى أبد الآباد. فلما رست السفينة قالوا: إن نوحاً عليه السلام أراد أن يطمئن أن الأرض فيها حياة، فبعث الغراب، فوجد الغراب جيفة من جيف الكفار الذين أهلكهم الطوفان فربض عندها، ولذلك يقولون: إذا كان الغراب دليل قوم دلهم على جيف الكلاب ثم بعث الحمامة، فلما ذهبت الحمامة لطخت قدميها بالطين، حتى تبين له أن الأرض ليس فيها ماء، ثم حملت غصن زيتون في فمها وقدمت به إلى نبي الله نوح، ولذلك فالشعار العالمي اليوم المتفق عليه بين الأمم هو أن الحمامة وغصن الزيتون رمز السلام، وهذا مأخوذ من هذه القصة.

تفسير قوله تعالى: (ونادى نوح ربه فقال رب إن ابني من أهلي)

تفسير قوله تعالى: (ونادى نوح ربه فقال رب إن ابني من أهلي) ثم إن نوحا أدركته عاطفة الأبوة، فلما انتهى الأمر نادى فقال: {رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ} [هود:45] أي: أنك ستنجي أهلي {وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ} [هود:45]، وهذا توسل إلى الله. فوعظ الله نوحاً وأدبه: {قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} [هود:46]. فالذي فرق بين نوح وابنه هو الكفر؛ وإن كان ابنه من صلبه؛ كما قال ابن عباس: (والله ما خانت زوجة نبي قط)، فيستحيل أن تخون زوجة نبي الله زوجها في عرضه، ولكن يقع منها الكفر، والأمر قد يعظم من جهة ويهون من جهة أخرى، فكونها تكفر بالنسبة لنوح أهون من أن تزني، وإن كان الزنا أقل جرماً من الكفر. قال تعالى: {قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [هود:46] وفي قراءة: (إِنَّهُ عَمِلَ غَيْرَ صَالِحٍ) {فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [هود:46]. فتأدب {قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ * قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا} [هود:47 - 48]. والسلام هنا تام؛ لأنه لا يوجد وقتها على ظهر الأرض كافر. قال تعالى: {اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ} [هود:48] حتى سائر الدواب التي كانت مع نوح أدركتهما البركة. وقوله تعالى: {وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ} [هود:48] أي: سيأتون بعد أجيال {ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [هود:48]. قال تعالى: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} [هود:49]. فما أمر الله نبيه بأعظم من الصبر، وبالصبر ينال الإنسان -بفضل الله- ما يريد. هذا ما أردنا بيانه وتهيأ إيراده، والله تعالى أعلم، وصلى الله على محمد وعلى آله.

تأملات في سورة هود [2]

سلسلة تأملات قرآنية _ تأملات في سورة هود [2] في سورة هود من العبر والعظات ما ينفع كل مؤمن يتأمل في آيات الله، فقد ذكر الله فيها ما حدث بين لوط وقومه وما لاقاه من الأذى منهم كما أخبر الله فيها عن أصحاب الجنة وأصحاب النار أنهم خالدون كل في مستقره الذي أعد له. ثم بشر الله سبحانه المذنبين ببشرى عظيمة وهي أن الحسنات يذهبن السيئات، وفي ذلك دعوة منه سبحانه إلى المسارعة في التوبة وعمل الصالحات وهو الغفور الرحيم سبحانه.

تأملات قرآنية في قصة إبراهيم مع ابن أخيه لوط عليهما السلام

تأملات قرآنية في قصة إبراهيم مع ابن أخيه لوط عليهما السلام إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله بلغ عن الله رسالاته، ونصح له في برياته، فجزاه الله بأفضل ما جزى به نبياً عن أمته، اللهم صلّ وسلم وبارك وأنعم عليه، وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره، وتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فهذا هو اللقاء الثاني حول تأملات قرآنية في سورة هود، بلغنا الله العلم بكتابه والعمل به، وكنا قد شرعنا في اللقاء الماضي مبينين، أن هذه السورة مكية إلا بعض آياتها، وذكرنا أن النبي صلى الله عليه وسلم صح عنه قوله: (شيبتني هود وأخواتها)، وقلنا: هذا إجمال فسرته رواية أخرى. وهي قوله صلى الله عليه وسلم: (شيبتني هود والواقعة والمرسلات، وعم يتساءلون، وإذا الشمس كورت). وقلنا: إن الجامع بين ذلك كله، هو أنها تتحدث عن أهوال اليوم الآخر، كما ذكرنا في تعليقاتنا، أن الله جل وعلا قال فيها: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود:15 - 16]، وقلنا: إن هذا إطلاق، وهذا الإطلاق قيده قول الرب تبارك وتعالى في سورة الإسراء: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا} [الإسراء:18]، وقلنا: من قواعد العلم عند أهل الأصول: أن المطلق والمقيد له أربعة أنواع: الحالة الأولى: يتفق فيها السبب والحكم، وهذا يحمل فيه المطلق على المقيد. والحالة الثانية: يختلف فيها الحكم ويتحد السبب، وهذه مسألة خلافية، والحالة الثانية: يتحد الحكم ويختلف السبب، وهذه كذلك مسألة خلافية، والرابعة: أن يختلف السبب والحكم، وهذه اتفقوا على أنها لا يحمل المطلق فيها على المقيد هذا بعض ما ذكرناه في اللقاء الماضي. وفي هذا الدرس سنختار التعليق على كلمات أو آيات هي في الغالب مظنة إشكال عند من يقرأ القرآن، وبعض الآيات سوف نعرج على الفوائد التي فيها. والمهم هو الشيء الذي يثير الإشكال عند من يسمعه، فتنزيل الإشكال قدر الإمكان، قال الله جل وعلا: {وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ} [هود:69]، المقصود بالرسل هنا الملائكة، والملائكة كانت ذاهبة إلى قوم لوط للعذاب، فمرت على إبراهيم عليه السلام قبل أن تذهب إلى لوط، ولوط ابن أخ إبراهيم. فإبراهيم عم للوط نسباً -وبمثابة الوالد حقيقة؛ لأن الله قال: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} [العنكبوت:26]، فبعث الله لوطاً نبياً في حياة إبراهيم، بعثه إلى قرية سدوم، وحصلت منهم الفاحشة كما سيأتي، فجاءت الملائكة بالعذاب على أهل سدوم، وهم مارون في طريقهم إلى القرية مروا على إبراهيم بالبشارة، قال الله جل وعلا: {وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى} [هود:69]، البشرى هنا: المقصود بها -إجماعاً- البشارة بالولد إسحاق، قال الله: {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} [هود:71] وهذا ظاهر، والعلماء يقولون: كون إبراهيم يولد له وهو في هذا السن، وكون سارة يولد لها وهي في هذا السن مع كونها عاقراً منذ أن خلقت هذا يقال له: معجزة نبي وكرامة ولي، نظيره زكريا، فإن زكريا رزق ولداً كما رزق إبراهيم على كبر، فهي بالنسبة لزكريا معجزة وبالنسبة لزوجته كرامة؛ لأن المعجزة تلحق بالرسول والكرامة تلحق بالأولياء.

إلزام أمة محمد باتباع ملة إبراهيم

إلزام أمة محمد باتباع ملة إبراهيم نقف هنا وقفة يسيرة: إن كل ما في القرآن مما حكاه الله جل وعلا أو قصه عن إبراهيم، فإن أمة محمد صلى الله عليه وسلم ملزمة شرعاً به، وهذه الحالة لا تكون إلا مع إبراهيم اتفاقاً، والدليل على هذا: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} [النحل:123]، وقوله جل وعلا: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج:78]، والمعنى: الزموا ملة أبيكم إبراهيم، وهذا من الدلائل على أن هذه الأمة مطالبة شرعاً بقضية بما أوحي إلى إبراهيم، ولذلك لما استغفر إبراهيم لأبيه جاء النهي مستثنى: أن لا تفعل. ولا يكون الاستثناء إلا في شيء الأصل فيه أن يفعل. فمثلاً عندما تأتي لشخص تسلمه بيتاً، فتقول له: إلا هذه الغرفة لا تدخلها. معنى الكلام: أن كل البيت مباح له، فلذلك قال الله جل وعلا في قضية استغفار إبراهيم لأبيه: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ} [التوبة:114]، فهذه ليس لنا علاقة بها، لا نتبعه فيها. هذا الفائدة الأولى. الأمر الثاني: عند قول الله جل وعلا عن سارة: {وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} [هود:71]. الضحك إذا أطلق يراد به انفراج الفم عن الأسنان، وهذا هو الضحك المعروف الذي لا يختلف عليه اثنان. موضع الإشكال: أن بعض العلماء كما نقل عن مجاهد وعكرمة وبعض السلف، قالوا: ضحكت هنا بمعنى: حاضت، وأن الحيض من الدلائل على أن المرأة إذا حاضت تكون عرضة لأن تحمل، فقالوا: إن المقصود: حاضت، وهذا وإن قال به أئمة أجلاء، لكن لا يوجد في اللغة -فيما نعلم- شيء يدل عليه، وحكيت بعض الأبيات ذكرها بعض العلماء في مواطنها في التفسير، لكن أئمة اللغة كـ أبي عبيدة والفراء وغيرهما من أئمة اللغة قديماً قالوا: إنا لا نعرف في لغة العرب أن ضحكت تأتي بمعنى: حاضت، وإن نسب هذا أحياناً للشافعي، ونحن نحتج بقول الشافعي في اللغة؛ لأن الشافعي أصلاً عاش في هذيل كثيراً وأخذ عنهم اللغة، فيبقى قوله في اللغويات له مكانته العلمية؛ لكننا نقول: لا يوجد في اللغة ما يدل على أن ضحكت بمعنى: حاضت. فالمعنى -والله تعالى أعلم- الذي اختاره كثير من المفسرين: إن سارة كانت واقفة بالخدمة مع زوجها، فلما علمت بهلاك قوم لوط سرت وفرحت وضحكت، والأصل أن البشارة حاصلة، لكن جعلت الضحكات تمهيداً لها، فلما سرت بنجاة لوط ومن معه من المؤمنين، بشرها الله جل وعلا بإسحاق، قال الله تعالى: {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} [هود:71].

الحمل بشارة وهم

الحمل بشارة وهم نأتي لقضية أخرى، وهي قضية حمل النساء، قال الله: {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ} [هود:71]، فالحمل الذي تحمله المرأة إذا حملته في أول الأمر يصبح بشارة، وفي آخر الأمر ينقلب إلى هم، ولا شك أنه يستبشر الرجل أو المرأة في الشهور الأولى من الحمل، وفي أي بيت تحدث بشارة في البيت يتناقل أهل الدار والأقارب أن زوجة فلان حملت، وهذا أمر لا خلاف فيه بين الناس، ولذلك قال الله: {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ} [هود:71]، لكن الله قال: ((حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ)) أي: الحمل {فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا} [الأعراف:189]، فآخر الحمل يكون هماً؛ لأن النفاس مظنة الموت؛ ولذلك جعل النبي صلى الله عليه وسلم. المرأة إذا ماتت في نفاسها شهيدة، وعند بعض العلماء كالمالكية مثلاً وهي رواية في المذهب: أن المرأة إذا وصلت إلى الثلاثة الأشهر الأخيرة من حملها لا يجوز لها أن تتصرف في أكثر من ثلث المال؛ لأن الإنسان إذا دخل في مرض يخاف عليه فيه الموت يقل سلطانه على ماله، ويبقى السلطان للورثة، فلا يجوز للمرأة في آخر حملها وهي مظنة ولادة أن تتصرف في أكثر من ثلث المال؛ لأنها مظنة مرض مخوف حتى لا يتضرر الورثة من تصرفها. هذا من التعليق على قول الله تعالى: {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} [هود:71].

حل الإشكال الوارد في قول الله تعالى عن لوط (هؤلاء بناتي هن أطهر لكم)

حل الإشكال الوارد في قول الله تعالى عن لوط (هؤلاء بناتي هن أطهر لكم) القضية الثانية في قول الله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ * وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ} [هود:77 - 78]. وهذه القصة معروفة وهي بالجملة أن الملائكة دخلت على لوط في صورة شباب حسان، فلما رآهم قال الله عنه: {سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ} [هود:77]، يعني: سيكون فيه من المشاق ما الله به عليم وقد وقع ذلك. قال الله: ((وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ)) أي: يتسابقون {وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ} [هود:78] يعني: أمر تعودوا عليه {قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ} [هود:78]. نقف عند قول الله على لسان نبيه لوط (هؤلاء بناتي)، وهذا الإشكال سوف نحاول أن ندفعه قدر الإمكان في هذا الدرس. لما أراد قوم لوط أذية الشباب الذين هم الملائكة في الأصل، أراد لوط أن يدفع هؤلاء عن ضيوفه، قال: {هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ} [هود:78] فأهل كثير من المفسرين يقولون: إنه قصد بقوله: {هَؤُلاءِ بَنَاتِي} [هود:78] بنات القرية، وأنه أراد بالمعنى أن يتشفع لهؤلاء الرجال في أن يتزوجوا بنات القرية؛ حتى يكون ذلك دفعاً لهم عن الفاحشة، وقالوا: إن أي نبي يعتبر كالأب لأمته، هذا حجة من قال: إن قوله: {هَؤُلاءِ بَنَاتِي} [هود:78]، عائدة على بنات القرية. وقال آخرون: {هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} [هود:78]، أراد أن يزوجهم بناته اللواتي من صلبه. ونحن نقول والله أعلم: كلا هذين الرأيين صعب أن يقال به؛ لأن القرآن نزل باللغة على ما يوافق العقل، وهذا الكلام لا يوافق اللغة ولا يوافق العقل. أما لماذا لا يوافق اللغة؟ فإن كلمة هؤلاء في اللغة تكون للإشارة إلى الشيء الحاضر، ولا تكون للشيء الغائب، فكلمة: (هؤلاء) لا تطلق على شخص غير موجود، وإنما تطلق على شخص حاضر، فانتفى بذلك القول بأنه قصد بنات القرية، هذا الأمر الأول، والذي يدفع القول بأن النبي يعتبر كالأب لبنات القرية أن النبي لا يعتبر كالأب للبنات الكافرات، والقرية كلها كافرة إلا من كان في بيت لوط، قال الله: {فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الذاريات:36] وهو بيت لوط، فلا يوجد في القرية أحد مؤمن، حتى نقول: إن لوط أباً لهم. القول الثالث وهو الذي نختاره، وقد نسبه العلامة الآلوسي رحمه الله في (روح المعاني) إلى غير أحد، حيث قال: قال به أجلاء المفسرين، ونص عليه العلامة ابن سعدي رحمه الله في كتابه (قصص الأنبياء). وهذا القول هو أنه قصد بناته عيناً، وقصد أن يأذن لهم بالزواج أو بدون زواج، فإن قيل: كيف يعقل أن النبي يعرض بناته لأهل الفواحش، قلنا: هذا من باب إقامة الحجة على المعاند، ومن باب علمه اليقيني أن هذا لن يكون، ونظير ذلك، وهو أعظم القرائن على صحة ذلك ما جاء في الحديث الصحيح: (أن سليمان عليه السلام اختصمت عنده امرأتان في ابن لهما، كل تدعي أنها أمه، فقال عليه السلام: ائتوني بالسيف، ثم قال: أنا أقطعه قطعتين وأعطي كل واحدة نصفاً، فقالت أمه الحقيقية: لا تفعل، أعطه فلانة)، تطلب نجاة ابنها. الشاهد من القصة: أنه لو وافقت المرأتان أن يقطع سليمان الطفل فإنه يستحيل ذلك، لكن هذا من باب علم سليمان أنه لن يقع. ومثال آخر: لو أن رجلاً له خصوم وأعداء، ينتظر منذ مدة أن يظفر بهم، وخصومه هؤلاء بينك وبينهم علاقة متوادة. فإذا جاء هؤلاء بيتك فعلم هذا العدو أنهم في بيتك وجاء ومعه سلاحه وأراد أن يقتلهم فأخذت تذكره بالله وأنهم ضيفك، ومع ذلك لم يرتدع، فقلت له: إذ كان ولابد فاقتلني وأبنائي بدلاً منهم. من الناحية الشرعية لا يجوز أن يدعو الإنسان أحداً إلى قتله ولا إلى قتل أبنائه، لكن هو ما قال هذا من باب أنه يجوز أو لا يجوز، وإنما ليبين لهذا الخصم أنه أحرجه أمام ضيوفه، وهو يعلم يقيناً أن هذا العدو لن يقتله؛ لأنه لن يستفيد لو قتل الرجل وأبناءه، فهو إنما يريد خصومه. فمثلها تماماً لوط، فإنه يعلم يقيناً أنه لو عرض بناته حتى بالزنا على هؤلاء لن يقبلوا ذلك لأنهم لو أرادوا الزنى، ولو أرادوا الزوجات لما جاءوا إلى بيت لوط، فكلهم متزوجون، ويستطيعون أن يأتوا الفاحشة كما يريدون، لكنه يعرف أنهم لا يريدون هذا، ومما يدل على صحة هذا القول: أنهم هم أنفسهم عرفوا ذلك فقالوا: {قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ} [هود:79]، أي: أنت تعرف أننا لا نريد بناتك إنما نريد هؤلاء. لكن لوطاً عليه السلام أراد أن يبين لضيفه -وهو لا يدري أنهم ملائكة- أنه فعل كل ما يمكنه ليدفع عنهم الفاحشة. هذا القول رجحه العلامة ابن سعدي في قصص الأنبياء، ونسبه الآلوسي إلى أجلاء من أهل العلم، لكنه لم يذكر أسماءً. وهو إلى ساعتنا هذه هو الذي نختاره، والعلم عند الله تبارك وتعالى. هذا حل الإشكال الوارد في قوله تعالى: {هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي} [هود:78].

تأملات في قول الله تعالى: (ولقد أرسلنا موسى بآياتنا)

تأملات في قول الله تعالى: (ولقد أرسلنا موسى بآياتنا) ثم قال الله جل وعلا: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ * إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ * يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ * وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ} [هود:96 - 99].

طرفة حول قول الله (وما أمر فرعون برشيد)

طرفة حول قول الله (وما أمر فرعون برشيد) نذكر أولاً طرفة حول قوله تعالى: {وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} [هود:97]، ثم ندخل في القضية العلمية. الملك فيصل رحمه الله تعالى: كان عنده مستشار اسمه: رشاد فرعون، كان رجلاً طيباً عاقلاً صالحاً، فالملك -رحمه الله- زار المدينة وأراد أن يزور الجامعة الإسلامية، وكان يدرِّس في الجامعة الإسلامية آنذاك العلامة محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله -وليس هذا خبراً ملفقاً فأنا سمعته من عالم كان طالباً آنذاك بأذني ورأيته بعيني- فجاء الملك غفر الله له ورحمه، وزار الجامعة، وصار يزور المحاضرات، فلما دخل المحاضرة التي فيها الأمين الشنقيطي رحمه الله وهو يشرح، توقف الشيخ الأمين رحمه الله عن الشرح، والطلاب حاضرون، وكان الملك معروفاً أنه متواضع، ويعرف أن هذا هو الأمين الشنقيطي العلامة المعروف، فأراد الملك رحمه الله أن يعرف مستشاره للشنقيطي فقال: هذا مستشارنا رشاد فرعون، فقال الشيخ الشنقيطي رحمه الله: أعوذ بالله! الله يقول: {وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} [هود:97]، وأنت تقول: رشاد فرعون! بمعنى الكلام: غير اسمه. وهذا يدل على أن الشيخ رحمه الله تعالى ربي على حفظ القرآن وعلى شرح القرآن فيأتي بهذه اللطائف سجية، ولا يحب أن يعبث أحد في القرآن.

طرفة أخرى عن الشيخ محمد الأمين الشنقيطي

طرفة أخرى عن الشيخ محمد الأمين الشنقيطي ويقال عنه رحمه الله: أنه كان يدخل من باب معين في الحرم، فكان إذا دخل الحرم يضع يده في جيبه ويخرج ما تيسر ويضعها في يد البواب. وكان يدخل من هذا الباب؛ لأنه من جهة سكنه، واعتاد هذا البواب أن يأخذ من الشيخ هذا المبلغ -تقريباً- في كل دخلة، وكان الشيخ يدخل بعد العصر ويجلس ليدرس إلى بعد العشاء، فدخل مرة وكان بجواره شخص يسأله، فالشيخ انشغل عن إعطاء المال للبواب، فالبواب غفر الله له -والله إذا أراد منع شيء هيأ أسبابه- قال للشيخ: (أدخل يدك في جيبك) آية موسى، فتمعر الشيخ لأنه قالها من باب السخرية، وصار لا يعطي هذا الرجل شيئاً، ولم يعد يدخل من ذلك الباب، فهذا حرم نفسه؛ لأنه لم يعرف بشخصية الشيخ العلمية، فهو رجل عاش حياته كلها للقرآن، فقد كان يدرس التفسير رغم أنه كان يجيد أكثر العلوم، فقيل له ذلك، فقال: كل العلوم مردها إلى القرآن، وهذا أحد أسباب شرحنا لكتاب الله.

من أحكام اللعن

من أحكام اللعن قال الله عن فرعون: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ * وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ} [هود:98 - 99]، اللعنة -أعاذنا الله منها-: الطرد والإبعاد من رحمة الله. وسوف نتكلم علمياً وفقهياً وأصولياً حول كلمة اللعنة، وأمرها في الكتاب والسنة لاشتهارها بين الناس اليوم. اللعنة قلنا: هي الطرد والإبعاد من رحمة الله. ولها حالات: الحالة الأولى: لعن المسلم، فهذا باتفاق العلماء لا يجوز لأحد أن يلعنه. الحالة الثانية: لعن الأوصاف العامة، وهذا جائز بالاتفاق، مثل أن تقول: {أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود:18]، {فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة:89]، {فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} [آل عمران:61]، هذا يسمى لعن ذوي الأوصاف العامة وهو جائز بالاتفاق. الحالة الثالثة: لعن الأوصاف الخاصة، تقول: لعن الله آكلي الربا، لعن الله السراق، لعن الله من يلعن والديه، فهذا جائز جاءت به السنة. الحالة الرابعة: لعن الكافر الذي ثبت أنه مات على الكفر، فهذا جائز، كلعن أبي جهل ولعن فرعون. الحالة الخامسة: لعن الكافر الذي لم يتحقق موته على الكفر، فهذا ينظر فيه، فإن كان غالب الظن أنه مات على الكفر فيلعن وتركه أولى، وإن كان لا يعلم أنه مات على الكفر أو مات على الإيمان، فإنا نتوقف في لعنه. فالكافر الذي لا يوجد دليل على أنه أسلم، ولا توجد قرينة على إسلامه يلعن إذا مات على الكفر، لكن من كان هناك قرائن أو شبهات على أنه أسلم وتوقف الناس فيه فالأصل أن لا يلعن أو يتوقف عن لعنه احتياطاً. الحالة السادسة: لعن الكافر المعين الحي، مثل لعن شارون فهذا لا يجوز، فالله جل وعلا يقول: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [البقرة:161]، فجاء الله بقيد وهو {وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ} [البقرة:161]، فمن لعن كافراً حياً خالف العمل بهذا القيد، وهذا قول جماهير العلماء. ونقل عن أبي بكر ابن العربي المفسر المعروف في كتابه (أحكام القرآن) القول: بأنه يجوز لعن الكافر الحي المعين، فيجوز لعن شارون على قول أبي بكر ابن العربي، لكن الأدلة التي قالها غير صحيحة، فقد أتى بحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن عمرو بن العاص أيام كفره، لكن الحديث ضعيف جداً، ولم يقل أحد بصحته، ولذلك قال (وروي)، وكلمة (روي) يؤتى بها لصيغة التمريض، ويؤتى بها لضعف الحديث، هو أراد أن يفر منه. وهناك أمور لا يقتدى بالأنبياء فيها، فالنبي قد يعرف حال الملعون عن طريق معين لا يعرفه الإنسان العادي. فنقول: إن لعن الكافر المعين في قول أكثر أهل العلم لا يجوز إلا إذا مات على الكفر؛ لأن الله يقول: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [البقرة:161]. وما دام أنه لا يجوز لعن الكافر المعين، فمن باب أولى لا يجوز لعن المسلم العاصي المعين. الجهة الثانية من الكلام حول اللعنة: أن المؤمن ينبغي عليه أن يفر من اللعن قدر الإمكان، فلا يعود نفسه على اللعن، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال -كما في حديث أبي الدرداء وهو صحيح-: (إن العبد إذا لعن تصعد اللعنة إلى السماء، تسد أمامها أبواب السماء ثم تعاد إلى الأرض فلا تجد لها مساراً فتلتفت يميناً وشمالاً -كما قال صلى الله عليه وسلم- ثم تذهب إلى من لعن، فإن كان أهلاً ولا رجعت للذي لعن)، ويؤيده كذلك ما في سنن أبي داود وهو حديث صحيح: أن عبد الله بن مسعود الصحابي المعروف كان صديقاً لرجل يقال له أبو عمير، فذهب عبد الله بن مسعود لزيارة أبي عمير فلم يجده فأدخلته أم عمير زوجة أبي عمير الدار، فدخل وجلس في المجلس. فبينما هو ينتظر صاحبه سمع امرأة أبي عمير تقول بعد أن بعثت جارية: لعنها الله أبطأت عليّ فخرج ابن مسعود من البيت وجلس خارج البيت، فجاء أبو عمير فوجد ابن مسعود خارج الدار، فقال: ما منعك أن تدخل بيت أخيك، قال: قد دخلت ولكني سمعت امرأتك تلعن جارية لها أبطأت عليها، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن اللعنة إذا خرجت من فيّ -يعني: فم- قائلها تذهب إلى من لعن، فإن كان لذلك أهلاً وإلا رجعت إلى من لعن، فكرهت أن أكون بسبيل اللعنة) والمعنى: كرهت أن أكون في طريق اللعنة فخرجت. فاللعن لا يجوز أبداً أن يكثر الإنسان منه. ثبت أن عبد الملك بن مروان الخليفة الأموي المعروف، استضاف أم الدرداء رضي الله عنها وأرضاها فسمعته في الليل وهو قي قصره يلعن، فلما أصبحت قالت له: إنني سمعتك تلعن بعض خدمك، وإني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يكون اللعانون يوم القيامة شهداء ولا شفعاء)، ومما يدل على أن كثرة اللعن من أسباب دخول النار. أن النبي صلى الله عليه وسلم قام يخطب في عيد فطر أو أضحى -كما في حديث أبي سعيد - ثم قال عليه الصلاة والسلام -يوجه كلامه إلى النساء-: (معشر النساء تصدقن فإني رأيتكن أكثر أهل النار، فقامت امرأة جزلة فقالت: بِمَ يا رسول الله؟ قال: إنكن تكثرن اللعن وتكفرن العشير)، تكفرن العشير: يعني: تنكرن حسنات الزوج عليكن. الشاهد: قوله صلى الله عليه وسلم: (إنكن تكثرن اللعن)، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم الإكثار من اللعن سبب من أسباب دخول النار. فالعاقل ينبغي عليه أن لا يلعن شيئاً لا دابة ولا غيرها. إن البعض يكثر من لعن أبنائه، وهذه أشد إثماً، فعلى الإنسان أن يحفظ لسانه فلا يلعن إلا اللعن العام إذا اضطر إليه، كأن يقول: لعنة الله على الظالمين لعنة الله على الكافرين. كذلك من قواعد العلم أن الإنسان لا يأتي مثلاً إلى شخص يعمل في بنك ربوي فيحكم على هذا الرجل بأنه ملعون، فهذا لا يجوز، وإنما تقول: لعن الله آكل الربا، فقد لعن النبي صلى الله عليه وسلم آكل الربا فقال: (لعن الله آكل الربا)، لكن لا تحكم على شخص بعينه أنه ملعون، فهذا لا يجوز شرعاً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لعن الله شارب الخمر، فجيء له بصحابي قد شرب الخمر، فلما لعن، قال: لا تلعنوه، فإني ما علمته إلا محباً لله ورسوله)، مع أنه عليه الصلاة والسلام قال: (لعن الله شارب الخمر). ووقوع اللعنة على آكل الربا وعلى السراق وعلى الزناة وعلى أمثالهم ممن لعن الله أو لعن رسوله، ليس كوقوعها على أهل الكفر، وما ذكر ملعون في القرآن أكثر من فرعون عياذاً بالله، قال الله جل وعلا: {وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ} [القصص:42]. نعوذ بالله جل وعلا من موارد لعنه.

بعض من لعنهم الله ورسوله

بعض من لعنهم الله ورسوله سنذكر على سبيل الإجمال بعض من لعنه الله أو رسوله: لعن الله شاهد الزور، الراشي، المصورين، غير منار الأرض، النامصة، الواصلة، المستوصلة، من ذبح لغير الله، شارب الخمر، لعن الله من لعن والديه، لعن الله آكل الربا، من أحدث في المدينة حدثاً، أو آوى فيها محدثاً. وهذه كلام شرعي يقوله النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يقله لتحفظه وتمليه، بل لتطبقه وتعمل به كما أمر نبينا صلوات الله وسلامه عليه.

تأملات في قوله تعالى: (وما نؤخره إلا لأجل معدود)

تأملات في قوله تعالى: (وما نؤخره إلا لأجل معدود) قال الله جل وعلا: {وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ} [هود:104] أي: يوم القيامة، {يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ * فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ * وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود:105 - 108]. الإشكال في قوله تعالى: (إلا ما شاء ربك)، وهذا الإشكال أجاب عنه العلماء بأجوبة كثيرة، ذكر منها أبو العز الحنفي في شرح (العقيدة الطحاوية) أكثر من ثمانية أقوال، وغيره من المفسرين، وسردها الآلوسي في روح المعاني وغيره من العلماء. والذي يظهر والله أعلم: أنها كلها أجوبة متكلفة، لا تستقيم، وإنما نختار الذي نراه صواباً فنقول: إن هذا القول من ربنا جل وعلا: {إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} [هود:107] المراد به: بيان القدرة والمشيئة ودفع توهم أن يكون هذا واجباً على الله. أما ما ذكره العلماء كقولهم: {إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} [هود:107] يعني مدة بقائهم في أرض المحشر، أو مدة بقاء العصاة في الحساب وأمثال ذلك فهذا كله يصعب القول به، حتى من نقله قال: هذا أمر لا يستقيم. فقوله تعالى: {إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} [هود:107] مسألة مطلقة لله جل وعلا، والقرآن فيه محكم وفيه متشابه، ويرد المتشابه إلى المحكم، وقد أخبر الله في أكثر من آية محكمة وأخبر نبيه صلى الله عليه وسلم: أن أهل النار خالدين فيها أبد الآباد -عياذاً بالله- وأهل الجنة خالدين فيها أبد الآباد، قال الله: {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود:108]، أي: غير مقطوع، فلا ينقطع ولا ينتهي، وهذا أمر أجمع الناس عليه، وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أهل الجنة، وقال: (لا تبلى ثيابهم ولا يفنى شبابهم)، فهم خالدون فيها كما قال الله جل وعلا. فالحق أن أهل النار خالدين فيها، وأهل الجنة خالدين فيها، أما قول الله: {إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} [هود:107] فلبيان أن هذا الأمر غير لازم على الله تبارك وتعالى، ودفع توهم أن يكون واجباً على الله، ولبيان أن الأمر كله يرجع إلى قدرته ومشيئته وأمره ونفوذ ذلك منه، تبارك وتعالى.

وقفة مع قول الله تعالى: (وأقم الصلاة طرفي النهار)

وقفة مع قول الله تعالى: (وأقم الصلاة طرفي النهار) 7 قال الله جل وعلا: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ * وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [هود:114 - 115]. هذه الآية مدنية، والمقصود منها كما قال أهل العلم: إن رجلاً من آحاد المسلمين في المدينة وقع في أمر يتعلق بالنساء دون الزنا، فقبل أو ضم -وما أشبه ذلك- امرأة محرمة، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فيما وقع منه تائباً نادماً، فسكت النبي صلى الله عليه وسلم عنه، ثم أنزل الله عليه هذه الآية، فقال صلى الله عليه وسلم: (أين الرجل؟ فقال: أنا يا رسول الله، قال: صليت العصر معنا؟ قال: نعم، قال: اذهب فقد غفر الله لك، ثم تلا هذه الآية: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ * وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [هود:114 - 115]). إذاً: كلنا ذوو خطأ، ولا يخلو إنسان من معصية، ولا يذهب السيئات مثل الحسنات، وكل بني آدم الخيرون منهم يريدون التوبة، فإن أقبلت على الله جل وعلا وأنت تريد التوبة وغسل ما كان من الذنوب، فإنه لا يغسلها ويذهبها مع الاستغفار والتوبة أعظم من كونك تكثر من الحسنات؛ لأن الله يقول: وهو أصدق القائلين وأعلم بخلقه: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:114]، وهذا فسرته السنة. فالحج يقول فيه عليه الصلاة والسلام: (من حج البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه)، وقال عليه الصلاة والسلام: (الجمعة إلى الجمعة والعمرة إلى العمرة ورمضان إلى رمضان كفارة لما بينهن من الذنوب، إذا اجتنبت الكبائر)، فالإنسان يكثر من عمل الصالحات، كلما استطاع إلى ذلك سبيلا، فإن هذا كفيل برحمة الله أن يذهب السيئات ويطهر قلبه، ولابد من الميزان، فمن كثرت حسناته ترجح بسيئاته. إذا وقعت في خطيئة أحسست فيها بالندم فليس الحل أن تخبر بها زيداً أو عمرو، وإنما الحل أن تكثر من فعل الخيرات، وعمر رضي الله تعالى عنه وأرضاه راجع النبي صلى الله عليه وسلم في يوم الحديبية، وقال: (علام نعطي الدنية في ديننا)، فكأنه أغلظ على نبينا صلى الله عليه وسلم، يقول عمر: (فما زلت أعمل لذلك اليوم)، يعني: أكفر عن تلك الخطيئة بأن أكثر من الصلاة والصيام والصدقة؛ رجاء أن يغفر عني ذنب ذلك اليوم. فالمؤمن الذي يتبصر بالقرآن ويعمل به يأخذ بهذه الأمور، فيكثر من الحسنات رجاء أن يغفر الله جل وعلا له: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ * وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [هود:114 - 115].

الأسئلة

الأسئلة

دفع توهم التكرار في قول الله (وقيل يا أرض ابلعي ماءك)

دفع توهم التكرار في قول الله (وقيل يا أرض ابلعي ماءك) Q يقول السائل: قول الله تعالى: {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَاسَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ} [هود:44]، يقول: ليس هناك ترادف، وكأن المعنى واحد، فما المقصود بذلك؟ A إن أمر الله لا يكون فيه تكرار، وهذا ليس فيه تكرار، وإنما المعنى: أن الأرض أخرجت ما عندها من الماء، والسماء أمطرت ماء، فقول الله جل وعلا: {يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ} [هود:44] أي: الماء الذي أخرجته، وأما ماء السماء فقال الله عنه: {وَغِيضَ الْمَاءُ} [هود:44]، فالأرض بلعت ماءها الذي أخرجته؛ لأن الله قال: {وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ} [القمر:12] * وقال: {فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ} [القمر:11]، فالتقى ماء السماء وماء الأرض، فقول الله: {ابْلَعِي مَاءَكِ} [هود:44] عائد على الأرض في الماء الذي أخرجته، وقوله: {وَغِيضَ الْمَاءُ} [هود:44] في الماء الذي نزل من السماء، وعلى ذلك فلا تكرار في الآية.

دخول الرجل بيت صديقه في غيابه

دخول الرجل بيت صديقه في غيابه Q هل يجوز للزوجة أن تستضيف صديق زوجها في غيابه حتى يحضر، وخاصة في زماننا هذا؟ A هذا مرده إلى أمور كثيرة، فإن كان في البيت أطفال وخدم كبيوت العرب قديماً، فهذا لا حرج فيه، أما إن لم تكن إلا الزوجة لوحدها فلا يجوز قطعاً؛ لأنه سيحدث نوع من الخلوة، خاصة في الشقق وفي الفلل البعيدة، فهذا كله لا يجوز؛ لأنه مظنة شبهة وتهمة، ولا يفعله عاقل؛ لأنه يفتح باب شر عظيم، حتى لو لم يحصل شيء فقد يأتي الزوج ويدخل في قلبه ما الله به عليم. أما العرب قديماً فقد كانت بيوتهم فيها خدم، وغلمان وعبيد وجواري يدخلن ويخرجن، فإذا كان الأمر كذلك فلا بأس، وكذلك في زماننا لو أن الإنسان يدخل على رجل من أهل الثرى، وعنده خدم وحشم فيدخل المجلس وزوجة صاحبه في الدور العلوي، ويأتي أبناؤه وخادمه ويدخلون ويخرجون فهذا كله لا حرج فيه، فتقدر الحالة بقدرها والله أعلم.

الرد على من يحذر من الشيخ عائض القرني

الرد على من يحذر من الشيخ عائض القرني Q ما رأيكم فيمن يحذر من الشيخ عائض القرني؟ A الشيخ عائض القرني لا نعلم عنه إلا خيراً، وكونه يخطئ ويصيب، فكل الناس يخطئون ولا يخلو أحد من الخطأ، لكن الشيخ من أهل السنة معروف بفضله، ولا نعلم عليه -والله تعالى أعلم- أمراً يقدح في دينه أو في علمه أو في عقيدته، أما كونه يخطئ، فكلنا يخطئ ويصيب. وأنت عندما تسمع لزيد وعمرو لا يعني ذلك أنك ملزم بما يقول، وإنما خذ من كل إنسان ما ينفعك منه، ودع الباقي.

سبب كون سورة هود مكية إلا آية واحدة

سبب كون سورة هود مكية إلا آية واحدة Q يقول: ما سبب كون سورة هود كلها مكية إلا آية واحدة مدنية؟ وجزاكم الله خيراً. A إن ما نزل قبل الهجرة من القرآن مكي، وما نزل بعد الهجرة مدني، فأكثر آيات القرآن كسورة هود نزلت في مكة، فلما نزل قول الله: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ} [هود:114] قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: (ضعوها في موضع كذا)، في موضعها الذي هي فيه اليوم، فأصبحت بذلك مدنية.

الأعراب

الأعراب Q يقول الله تعالى: {الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا} [التوبة:97] منهم الأعراب؟ A الآية يقصد بها من كان حول النبي صلى الله عليه وسلم، فمن سكن البادية ورفض الانتقال ودخول المدن، فهذا يقال له: أعرابي، لكن ليس كل أعرابي مذموم، قال الله: {وَمِنَ الأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ} [التوبة:99]، والذي يستشهد بالقرآن عليه أن يستشهد به كاملاً.

Q أنا شاب من الله علي بالاستقامة على شرعه وهديه، وظاهري ظاهر الصالحين، ولكن لدي ذنب أعاوده بين فترة وأخرى، وأخشى أن يهلكني، وقد أصبحت أفكر بالانتكاس حتى لا أكون منافقاً أخدع نفسي، فباطني مخالف لظاهري، فأرجو منك يا شيخ أن تدلني على حل يخرجني مما أنا فيه؟ A أقول: لا يخلو أحد من المعاصي كائناً من كان، وهذه من طرائق دخول الشيطان على بني آدم، ولا يوجد شيء لا يمكن تركه، وإن قدرنا أنك لن تستطع تركه على الأقل في الفترة الحالية، كمن -مثلاً- يبتلى بالنظر إلى النساء فهو شاب لم يتزوج فهذا لا يكون سبباً في الانتكاس، إنما يستغفر كل ما وقع منه هذا الشيء حتى يتزوج، هذه مرحلة، فإذا أكثر من الصلوات في الحرم، وصام الإثنين والخميس وأمثالها تكفر تلك الخطيئة، وإذا صدق مع الله جل وعلا يصدقه الرب تبارك وتعالى. وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.

تأملات في سورة يونس [1]

سلسلة تأملات قرآنية _ تأملات في سورة يونس [1] في هذه المادة تجد طرائف من العلم في باب القرآن، فتجد الكلام على عدد سور القرآن، وأقسام سوره، وأسماء السور التي سميت بأسماء الأنبياء والصالحين، وأسماء النساء. وكذلك على أقسام الأيمان من حيث الاضطرار والاختيار، والمقبول منها، وكذلك الكلام على تحية أهل الجنة وغير ذلك من التفريعات.

التعدية بـ (اللام) في قوله تعالى: (إنما الصدقات للفقراء) يفيد التمليك

التعدية بـ (اللام) في قوله تعالى: (إنما الصدقات للفقراء) يفيد التمليك بسم الله الرحمن الرحيم. إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره، واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فهذا واحد من اللقاءات المتجددة مع كتاب ربنا جل وعلا، وكنا قد انتهينا في اللقاء الماضي مما أردنا أن نعلق عليه من سورة التوبة، ونشرع اليوم إن شاء الله تعالى في تفسير سورة يونس وسنختار بعض الآيات منها للتعليق عليها كما جرت العادة. وقبل أن نشرع فيها نستذكر بعضاً مما ذكرناه في سورة التوبة، فقد بينا أن الله جل وعلا قال فيها: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ} [التوبة:60]. وقلنا: إن (إنما) أداة من أدوات الحصر، وقلنا: إن الله جل وعلا هنا جعل الزكاة الشرعية منصرفة إلى ثمانية أقسام، وعدى بعضها باللام وعدى بعضها بفي، والفرق في التعدية باللام والتعدية بفي أن اللام تقتضي التمليك، وأما في فلا تقتضي التمليك، وحتى تظهر المسألة: لو أن إنساناً أراد أن يخرج زكاة ماله فأراد أن يعطي فقيراً فإنه يلزمه شرعاً أن يسلم الفقير المال بنفسه. يعني: يصل المال إلى الفقير بأي واسطة كانت، فلا بد أن يملكه الفقير حتى تكون هذه الزكاة قد وصلت، وهذا مقتضى قول الرب جل وعلا: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} [التوبة:60]. وأما التعدية بفي فلا يلزم أن يقبضها من صرفت له بنفسه، فمثلاً: لو وجد مجاهدون متطوعون كما في الزمن القديم فأراد إنسان أن يزكي فاشترى بزكاة ماله فرساً، فوضع الفرس في حظيرة تعطى للمجاهدين فهذا يكفي، ولا يلزم تسليمها إلى مجاهد بعينه، هذا الفرق بين الأمرين.

المراد بابن السبيل في قوله تعالى: (وابن السبيل)

المراد بابن السبيل في قوله تعالى: (وابن السبيل) وذكرنا اختلاف العلماء في قوله جل وعلا: {وَاِبْنِ السَّبِيلِ} [التوبة:60]، ورجحنا أنه المجاهد المتطوع في أصح أقوال العلماء، وللعلماء في ذلك - كما قلنا - أقوال عدة.

المعتبر في الشيء أصل تأسيسه

المعتبر في الشيء أصل تأسيسه وتكلمنا عن مسجد الضرار وقلنا: إن الله يقول: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [التوبة:107]. وقلنا: إن المعتبر في الشيء هو أصل تأسيسه، فالمسجد هذا رغم أنه بني مسجداً لكن لما أسس لغير الغاية المنشودة من المساجد وأسس ضراراً وكفراً لم ينفعه أنه مسجد، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بهدمه وإحراقه، ولا يقال: إنه تغير نيته، فلو كان كذلك لبعث النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر أو عمر أو غيرهما من وجهاء الصحابة وأقاموا فيه الصلوات وغيروا الطريقة التي من أجلها أنشئ، لكن ما أنشئ على باطل يبقى منشأً على باطل، وما أنشئ على حق يبقى منشأ على حق، {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} [التوبة:108].

أول مسجد بني في الإسلام هو مسجد قباء

أول مسجد بني في الإسلام هو مسجد قباء وقلنا: إن الصحيح أن المقصود هنا مسجد قباء، {مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ} [التوبة:108] أي: من أول يوم في الهجرة، وليس معناه أنه أول مسجد أسس في العالمين، فإن أول مسجد أسس في العالمين هو المسجد الحرام، لكن أول مسجد أسس في الإسلام هو مسجد قباء.

بعض الفوائد اللغوية من القرآن

بعض الفوائد اللغوية من القرآن ومن الفوائد اللغوية: أن الله قال: {لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ} [التوبة:108]، وبعدها: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} [التوبة:108]، وهاتان (فيه فيه) كلمتان متشابهتان لم يفصل بينهما فاصل، فهذه إحدى الفوائد اللغوية في القرآن. ومثلها قول الله في الأنعام: {قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ} [الأنعام:124] وبعدها: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام:124]، فجاء لفظ الجلالة مكرراً لا يفصل بينهما فاصل إلا المعنى، فتقف عند قول الله جل وعلا: {قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ} [الأنعام:124] ثم تقول: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام:124]. الفائدة الثالثة: جاءت ثلاث هاءات في القرآن متوالية لا يفصل بينهما فاصل، وهي في قول الله جل وعلا: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية:23] فإلهه مختومة بهاءين، والكلمة التي بعدها مبدوءة بها، فأصبحت ثلاث هاءات جاءت وراء بعضها البعض. فهذه الفوائد تعينك وتحفز همتك على تدبر كلام الله، وتدبر كلام الله أياً كان فهو نافع؛ لأن الإنسان لا بد أن يشغل نفسه بحق أو بباطل حتى ولو فكر ذهنياً، فلأن تنقضي الأعمار في التفكر في كتاب الواحد القهار خير من أن تنقضي في شيء آخر أياً كان. وهذا سر أن علم القرآن أشرف العلوم. هذا ما تكلمنا عنه في الأسبوع الماضي.

أقسام القرآن من حيث عدد الآيات

أقسام القرآن من حيث عدد الآيات واليوم نتكلم عن سورة يونس، وسورة يونس عدد آياتها فوق المائة، وكنا قدمنا في الدرس الأول أو الثاني من هذه اللقاءات: أن العلماء يقسمون القرآن جملة كسور إلى أربعة أقسام: الأول: ويسمى السبع الطوال. والقسم الثاني: ويسمى المئون، وهو جمع مائة. والثالث: ويسمى المثاني. والرابع: ويسمى المفصل، ويقال له: المحكم. هذه الأربع الأقسام العلاقة بينها وبين سورة يونس أن سورة يونس عند قوم من السبع الطوال، وعند آخرين من المئين، فسورة يونس لا تنفك إما من المئين وإما من السبع الطوال. وقلنا في دروس سابقة أن السبع الطوال هي ترتيب المصحف: البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف. فهذه الست متفق على أنها من السبع الطوال. وأما السابعة فمن العلماء من يرى أن التوبة والأنفال سورة واحدة كما مر معنا، فهذا يجعل التوبة والأنفال هي السابعة، وعلى هذا يكون عدد سور المصحف بهذا الترتيب مائة وثلاث عشرة. ومَن لا يرى أن التوبة والأنفال سورة واحدة - وهذا هو الذي عليه الجمهور أن التوبة والأنفال ليست سورة واحدة - يجعل السابعة من السبع الطوال يونس، فيقفز التوبة والأنفال. وبعد الطوال تأتي المؤون، والمئون عند العلماء ما جاوزت أو قاربت المائة آية، سميت بذلك لأنها جاوزت أو قاربت المائة آية.

من مهمات العلم فهم وتصور الكليات له

من مهمات العلم فهم وتصور الكليات له ومن طرائق العلم أن الإنسان لا بد أن يتصور ويفهم العلم الذي يريد أن يدخل فيه عموماً، وأما الاكتفاء بالجزئيات فلا يمكن أن يبني علماً، فلا بد أن تتصور المسألة عموماً، والجهل بالجزئيات هنا لا يضر، لكن إذا كان الإنسان يفقه الجزئيات ويجهل الكليات فهذا ليس بعلم، فالعلم أن تفهم الأمور بكلياتها. مثلاً: رجل غريب من غير السعودية تريد أن تصف له المسجد الذي على الطريق ويسمى جامع النزاوي، فتقول له: عند دوار القبلتين مثلاً، فهذا ليس بجواب، فأول شيء تبين له في السعودية، ثم تذكر له أنه في المدينة، ثم تقول له: في الجهة الغربية من المدينة، ثم تقول له: عند دوار القبلتين. فلا تبدأ بالجزئيات؛ لأن الجزئيات لا تقدم علماً. فإذا أردت أن تعرف كلام الله فيجب أن تعرف أولاً أنه مائة وأربع عشرة سورة، وأنه مقسم إلى أربعة أقسام من حيث جمع السور بعضها إلى بعض، وأنه مقسم من حيث النزول إلى مكي ومدني، ومقسم من حيث الحكم إلى ناسخ ومنسوخ، ومقسم من حيث الإيمان إلى محكم ومتشابه، ومقسم من حيث الجملة إلى عام وخاص. فإذا فهمت هذا فإنك ستفهم القرآن. وأما أن يدخل الإنسان للجزئيات فلن يفقه شيئاً في دين الله، فهذه معلومات تقال في كتب مسابقات ثقافية، فيجيب عليها إنسان قرأ ورقة تقويم فاستفاد معلومة، فيدخل المسابقة فيأتي السؤال الذي قرأه في التقويم فيجيب، فيقول الناس: فلان عالم أو هذا مثقف، هذا ليس بعلم. العلم الشرعي هو الذي يتصدر به الإنسان للناس، فينبغي أن يكون مؤصلاً بهذه الطريقة. فقلنا: إن القرآن يقسم إلى السبع الطوال وذكرناها، ثم المئين، ثم يقسم إلى المثاني، وقد عرفنا لماذا سميت بالمئين، لأنها تصل إلى المائة، والطوال سميت كذلك لطولها، وأما المثاني فسميت كذلك من التكرار، لأنها تقرأ في الصلوات أكثر من غيرها، فسميت مثاني.

تابع أقسام القرآن: الكلام على المفصل، وسبب تسميته بذلك

تابع أقسام القرآن: الكلام على المفصل، وسبب تسميته بذلك والقسم الرابع: المفصل، وقد بينا اختلاف العلماء في بداية المفصل، فقيل من (ق)، وقيل: من الحجرات، الذي يعنينا أن المفصل سمي بالمفصل لأنه كثيراً ما يفصل فيه ما بين سوره بقول: بسم الله الرحمن الرحيم. جاء في مسند الإمام أحمد من حديث ابن عباس بسند صحيح: أن المفصل يسمى المحكم. فلماذا المفصل يسمى المحكم؟ لأنه لم يدخله النسخ كثيراً، فمسائل المفصل في الأخير مسائل عقدية كما لا تقبل النسخ، والنسخ إنما يأتي في الأحكام، والأحكام هي في السور المدنية: في البقرة وفي الأعراف، وفي الأنعام وأمثالها. أما أحكام العقائد: أن الله جل وعلا واحد، والنبي صلى الله عليه وسلم رسول، واليوم الآخر بعث فهذا ما يقبل النسخ، فيسمى محكماً أو يسمى مفصلاً. وسورة يونس ذكرها أن العلماء يتأرجح قولهم ما بين أنها من السبع الطوال أو من المئين، وهي بحسب ترتيب المصحف.

السور التي سميت بأسماء الأنبياء والصالحين

السور التي سميت بأسماء الأنبياء والصالحين وهي أول سورة في القرآن سميت باسم نبي بحسب ترتيب المصحف لا بحسب النزول، والقرآن بالنسبة للأعيان ورد فيه أسماء سور بأسماء أنبياء، وسور للقرآن بأسماء قوم صالحين لم تثبت نبوتهم. فمما ورد بأسماء أنبياء أول سورة هي يونس، وتعقبها مباشرة سورتان: هود ويوسف، ثم بعدها قد يقال: طه وياسين؛ لاختلاف العلماء في طه وياسين. وبعدها إبراهيم وهو الرابع، بقيت اثنتان: سورة محمد صلى الله عليه وسلم، ولها اسم ثانٍ سورة القتال، وسورة نوح. إذاً فأسماء الأنبياء التي أطلقت السور بأسمائهم ست، وهي: يونس وهود ويوسف، وهذه الثلاث متتابعة، وهناك ثلاث متفرقة حسب ترتيب المصحف وهي: إبراهيم ومحمد ونوح، عليهم جميعاً أفضل الصلاة والسلام. ثم جاءت سور بأسماء قوم صالحين لم تثبت نبوتهم مثل أول سورة: آل عمران، فإنهم قوم صالحون بالاتفاق، {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ} [آل عمران:33]، وسورة مريم، وسورة لقمان، فـ مريم ولقمان وآل عمران هؤلاء قوم صالحون وليسوا بأنبياء، اللهم إلا أن يقال: إن من آل عمران عيسى فممكن، لكن إذا قلنا بالجملة فإنهم قوم صالحون.

أقسام الإيمان

أقسام الإيمان ومما يتعلق بالسورة أنها سميت باسم نبي اشتهرت قصته وهو يونس عليه السلام، وقصته معروفة، قال الله تعالى: {فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} [يونس:98]. وقد ذكرنا في دروس سبقت: أن سنن الله لا تتبدل ولا تتغير، فإذا استثنى الله شيئاً فإنه ينبه على أنه خارج عن سنته، فإذا خرج الشيء عن سنة الله التي جرت في الخلق فلا يجوز لأحد أن يستشهد بها، والدليل على هذا: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل مكة -في أصح قولي العلماء- حارب وقاتل، ومكة في سنة الله في خلقه أنها محرمة، فقال صلى الله عليه وسلم يرد هذا الباب ويردم هذه الفجوة، قال: (إن الله حرم القتال فيها، وإن الله أحلها لنبيه ساعة من نهار ولم يحلها لأحد)، فهذا دلالة على أن الخارج عن السنة لا يستشهد به. وذكرنا مراراً: أن الإيمان إيمان اضطراري وإيمان اختياري، وقلنا: إن الله لا يقبل الإيمان الاضطراري أبداً، والإيمان الاضطراري له حالتان: الحالة الأولى: عامة لم تأت، وهي طلوع الشمس من مغربها، والدليل عليه قول: الله: {أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنفَعُ نَفْسًا} [الأنعام:158] فنفساً مفعول به مقدم. {إِيمَانُهَا} [الأنعام:158] فاعل، يعني: لا ينفع الإيمانُ النفسَ. والحالة الثانية: إذا حق العذاب ونزل فلا يقبل، كما قال فرعون: {آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس:90]، ومع ذلك لم يقبل الله منه إيماناً. وهذه السنة الكونية العامة أخرج الله منها قوم يونس؛ لحكمة أخفاها الله، لكن أثبتها الواقع، قال الله: {فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا} [يونس:98]، ومعنى الآية: إذا آمنت قرية وقت حقوق العذاب فلا يقبل منها. {فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ} [يونس:98] يعني: لا يوجد قرية آمنت فنفعها إيمانها. ثم استثنى ربنا فقال: {إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} [يونس:98]، ولهذا اختلف العلماء هل إيمانهم هذا يقبل في الآخرة أو لا يقبل؟ والصواب إن شاء الله أنه يقبل، فما دام أن الله أكرمهم في الدنيا فسيكرمهم في الآخرة. وقلنا: إن يونس أحد أنبياء الله من بني إسرائيل، ولا حاجة للإخبار عن قصته لاشتهارها.

السور التي أمر الله تعالى فيها نبيه بأن يحلف

السور التي أمر الله تعالى فيها نبيه بأن يحلف ذكرنا أن هذه السورة هي أول سورة بدأت باسم نبي، كما أنها أول سورة ذكر فيها الحلف الذي أمر الله به نبيه، وقد أمر الله نبيه أن يحلف في ثلاثة مواضع في القرآن على شيء واحد وهو: تحقيق البعث، وهذا فيه دلالة لقول من قال: إن كثرة الحلف ليست بقادح. فبعض الناس يقول: كثرة الحلف لا تصلح، لكن هذا فيه رد على ذلك، قالوا: إن الله أمر نبيه أن يحلف ثلاث مرات، فأول مرة في سورة يونس: {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [يونس:53]، وأمره أن يحلف في سبأ. والثالثة في التغابن: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ} [التغابن:7]، وكل القسم جاء بكلمة وربي، إلا أنه في يونس قال الله: {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [يونس:53]، وإي عند النحويين حرف جواب بمعنى: نعم، إلا أن النحويين يقولون: إنها لا يؤتى بها إلا إذا جاء بعدها قسم. هذا ما يتعلق بالسورة إجمالاً، وسنختار كالعادة آيات منها.

تفسير قوله تعالى: (قدم صدق عند ربهم)

تفسير قوله تعالى: (قدم صدق عند ربهم) الآية الأولى قوله جل وعلا: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [يونس:2]. فالخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، والبشارة أمر معروف، لكن العلماء رحمهم اختلفوا في معنى قوله جل وعلا: {قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [يونس:2] على أقوال وكل يعضدها دليل. قال بعض العلماء: قَدَمُ الصدْق المقصود به الجنة، يعني: المكان أو المقام أو المدخل، وحجة هؤلاء قول الله جل وعلا: {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ} [الإسراء:80]، فقالوا: إن المدخل والقدم كلها بمعنى واحد، والمقصود بالآية هنا الجنة. وهذا يظهر أنه بعيد. الأمر الثاني قالوا: إن المقصود بها شفيع قبلهم، وهذا الشفيع هو الذي يجعل هؤلاء المؤمنين يتكئون على شيء قبل أن يصلوا إلى ربهم، وهؤلاء قالوا: إن المقصود به شفاعة نبينا صلى الله عليه وسلم. واحتجوا بما جاء في السنة الصحيحة أنه صلى الله عليه وسلم قال: (أنا فرطكم على الحوض) أي: سابقكم إلى الحوض. فهذه حجة من قال: إن القدم هي الشفيع. وبعضهم أبعد قليلاً -وهو قول الحسن البصري رحمه الله أبو سعيد الإمام المعروف- قال: إن قدم الصدق هي وفاة النبي صلى الله عليه وسلم. ووجه الدلالة عنده أن وفاة النبي صلى الله عليه وسلم مصيبة، وصبر المؤمنين على هذه المصيبة هي قدم صدق عند الرب. فالقول الثاني تفرع عنه قول الحسن البصري. القول الثالث: أن قدم الصدق هي ما كتب الله في الأزل أن هؤلاء لهم الجنة، وهؤلاء حجتهم آية الأنبياء: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء:101]، فقول الله جل وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى} [الأنبياء:101] دليل على أن الحسنى سبقت لهم من قبل، فقالوا: إن معنى قول ربنا جل وعلا: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ} [يونس:2] أن المقصود بها ما كتبه الله جل وعلا في الأزل من أن لهم الجنة، وهذا قول قوي جداً. القول الرابع: أن المقصود بقدم الصدق العمل الصالح، وهذا قول مقاتل بن سليمان وهو من كبار المفسرين، واختاره الإمام الطبري رحمه الله. وحجة هؤلاء: أنه جاء في كلام العرب أنها تكني عن النعمة باليد، وتكني عن الثناء باللسان، وتكني عن السعي بالقدم، فتقول: فلان له علي يد، يعني: له علي نعمة. وتكني عن الثناء باللسان، جاء في القرآن: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ} [الشعراء:84] ومعنى لسان صدق هو الثناء الحسن في الآخرين. ويكنى بالقدم عن السعي، وهذا ثابت عندهم وفيه أشعار لهم كقول حسان: لنا القدم العليا إليك وخلفنا لأولنا في طاعة الله تابع فالمقصود منها أن السعي هو القدم، لكن لما قال: {قَدَمَ صِدْقٍ} [يونس:2] أصبح السعي بالعمل بالعمل الصالح. إذاً تحرر من هذا أربعة أقوال وهي: المدخل، ودليلهم: {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ} [الإسراء:80]. والثاني: شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم، وحجتهم من السنة: (أنا فرطكم على الحوض)، وقلنا: إن الفرض بمعنى السبق. الثالث -وهو متفرع من الثاني-: وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وقلنا: إن هذا هو قول الحسن البصري رحمه الله. الرابع: ما كتبه الله في القدم، وقلنا: هذا قول قوي جداً، ويؤيده آية الأنبياء: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء:101]. والخامس: وهو الذي رجحه الطبري: الأعمال الصالحة. وهذا الذي يظهر، والله تعالى أعلم. لكن قلنا: إنك لست ملزماً بقول من يملي عليك، فما تختاره أنت لك فيه إمام سابق. هذه الآية الأولى. ثم قال سبحانه وتعالى لما ذكر أهل الجنة قال: {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس:10]، دعواهم هنا بمعنى: دعاؤهم.

إشكال وجوابه

إشكال وجوابه وهنا يأتي الإشكال من جهتين: الإشكال الأول: أن الجنة بالاتفاق ليس فيها تكليف، وليس فيها عمل، فكيف يقال: دعواهم فيها؟ وهذا أجابت عنه السنة: أنهم (يلهمون التسبيح كما يلهم أحدكم النفس) فالإنسان يتنفس بصورة طبيعية، ويلهم ذلك بصورة طبيعية، وليس هناك واحد يتكلف النفس، فهذا شيء يقع بصورة طبيعية من الله، فأهل الجنة يلهمون التسبيح من غير كلفة كما يلهم أحدنا النفس، لكن قال بعض العلماء -وهذا لا دليل عليه لكنه موجود- قالوا: إنهم إذا اشتهوا شيئاً يقولون: سبحانك اللهم فيأتيهم ما يشتهون. وهذا غير بعيد لكن ما نملك دليلاً على صحته أو رده، وقلنا: إن الغيب لا يتكلم فيه إلا بنص بظاهر.

إشكال وجوابه

إشكال وجوابه الإشكال الثاني: وهو أننا عندما نقول: سبحانك اللهم هل أنت طلب شيئاً؟ لا، ومع ذلك سماه الله جل وعلا دعاء. وهنا نأتي إلى مسألة تقع في رمضان سنوياً وهو أن الإمام إذا أثنى على الله يقول: اللهم اهدنا فيمن هديت، إلى أن يقول الإمام: إنه لا يعز من عاديت، ولا يذل من واليت، أو يقول: ربنا وجهك أكرم الوجوه، أو يثني على الله، فيقول من في الحرم: سبحانك، وقد قلنا مراراً: إن هذا القول لا يوجد أي دليل عليه؛ لأن الثناء على الله نوع من الدعاء، وإذا دعا الإمام فإن موقف المأموم واحد من اثنين: إما أن يسكت وإما أن يؤمن، ولا يوجد شيء في الدعاء أن يقول الإمام شيئاً ويقول المأموم: سبحانك، لا يوجد في السنة فيما نعلم ولا في القرآن دليل على أن الإمام إذا قال شيئاً يقول المأموم سبحانك، المأموم حاله مع إمامه واحد من اثنين: إما أن يؤمن وإما أن يسكت. أما قول سبحانك، أو حقاً، أو نشهد كما يقول بعض إخواننا المصريين فهذا لا يوجد عليه دليل. ومن أدلتنا عموماً على أن الدعاء يأتي بمعنى الثناء هذه الآية، فإن الله قال: {دَعْوَاهُمْ فِيهَا} [يونس:10] أي: دعاؤهم فيها. {سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ} [يونس:10] وهذا ليس فيه طلب. ومن السنة كثير، منها: أنه ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو عند حلول الكرب بهذه الكلمات: (لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السماوات ورب الأرض ورب العرش الكريم)، وليس فيه طلب، فلا يلزم من الدعاء أن يكون طلباً، بل إن من الطلب أن تثني على الله حتى مع العامة، فقد تخرج من المسجد فتقابل رجلاً يشحذ، فيقول: أنا مسكين، أي: أنه يريد ريالاً، وتجد آخر يقول: أعطني ريالاً، وآخر يقول: أعطني لله ما يسمي، وآخر يقول لك: أنت رجل كريم، أنت طيب، وما معنى أنت طيب وأنت كريم؟ أي: أعطني. فالثناء نوع من الدعاء. ومما يدل عليه من السنة أن النبي عليه الصلاة والسلام قال كما في الترمذي: (خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير)، فلم يقل: هذا مدح وثناء على الله، وإنما سماه النبي صلى الله عليه وسلم دعاء. الثالث: ما ثبت بعدة طرق عند النسائي وعند أحمد في المسند: أن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه مر على عثمان بن عفان، فلما مر سلم، فلما سلم نظر إليه عثمان وحدق فيه النظر ولم يرد السلام، فذهب سعد إلى عمر رضي الله عنه فقال: يا أمير المؤمنين! هل حدث في الإسلام شيء؟ قال: لا. لماذا تسأل؟ قال: إنني مررت على عثمان فسلمت عليه فملأ عينيه مني ولم يرد السلام، فبعث عمر إلى عثمان واستدعاه وقال له: ما منعك أن ترد السلام على أخيك؟ قال: ما سلم، فحلف سعد أنه سلم وأن عثمان رآه وحلف عثمان أنه لم ير سعداً ولم يدر أن سعداً سلم عليه. ولا يمكن أن يكون أحدهما كاذباً، فحلف الاثنان، ثم تراجع عثمان وقال: أستغفر الله وأتوب إليه؛ تذكرت الآن. وهذا دليل أنك لا تعجل على الناس، قال: تذكرت الآن لكنني كنت أفكر في مسألة إذا تذكرتها تصيبني غشاوة. قال: إنني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ألا أدلكم على دعوة) وسكت فكمل سعد قال: أنا أكمل لك القصة: فقد أراد أن يقول لنا الدعوة فجاء أعرابي فشغله فمضى قبل أن يخبرنا بها، فأسرعت وراءه -أي: سعد يسرع وراء الرسول- فلما أراد أن يدخل الدار ضربت بقدمي على الأرض بقوة حتى أشعره أن أحداً وراءه، فلما ضرب سعد الأرض بقوة التفت صلى الله عليه وسلم قال: (مه)، ومه كلمة للاستفهام تقولها العرب (أبو إسحاق) وهذه كنية سعد. قال: (نعم يا رسول الله! ثم قال: يا رسول الله! إنك أردت أن تقول لنا دعوة فجاء الأعرابي فشغلك، فقال: نعم. دعوة أخي ذي النون: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، ما دعا بها مسلم في كرب إلا استجاب الله له). وموضع الشاهد من القصة: أن النبي سمى قول ذي النون دعاء، وقد سماه الله من قبل في القرآن دعاء، قال الله: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى} [الأنبياء:87] سماه الله نداء. ودعوة ذي النون هذه ليس فيها طلب، وإنما فيها ثناء على الله. يتحرر من هذا كله: أن دعوة: (سبحانك اللهم) فيها نوع من المسألة، {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ} [يونس:10].

تفسير قوله تعالى: (وتحيتهم فيها سلام)

تفسير قوله تعالى: (وتحيتهم فيها سلام) {وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ} [يونس:10] هذه التحية المقصود بها إجمالاً، لكن قلنا: إن القرآن ما يجمل في موقف يفسره في موقف ثاني. والسلام هنا تحية الله لهم، والدليل قوله: {سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [يس:58]. وهي وتحية الملائكة لهم، والدليل: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد:24]. وتحيتهم في بعضهم، وهذا دليله حياتهم في الدنيا؛ لأنهم إذا كانوا يسلمون على بعضهم في الدنيا فمن باب أولى أن يكون بينهم سلام في الآخرة. {وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس:10] وقلنا: إن الرجل إذا أراد أن يحرر خطبة أو أراد أن يحرر محاضرة فمن المناسب أن يقول: الحمد لله الذي جعل حمده أول آية في كتاب رحمته. أي: في الفاتحة. وآخر دعاء لأهل جنته كما في: {أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس:10].

بعض الفوائد النحوية في القرآن

بعض الفوائد النحوية في القرآن والآية الثالثة التي سنقف عندها قول ربنا جل وعلا: {وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [يونس:12]. بالاستقراء نقول: إن كلمة الضر إحدى كلمتين في القرآن جاءت في آية واحدة ومرت عليها الأحوال النحوية الثلاثة، قال الله: {وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ الضُّرُّ} [يونس:12]، فهي هنا فاعل. {وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ} [يونس:12] وقعت مفعولاً منصوباً. {مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ} [يونس:12]، وهي مجرورة هنا، فمر عليها الرفع والنصب والجر، ولا يوجد حالة للاسم غير هذه الثلاث فإما أن يرفع، وإما أن ينصب، وإما أن يجر. والكلمة الثانية الحج في البقرة، قال الله: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة:197]، فهذا فائدة نحوية، وقد تجد أنت في القرآن غير هذا لكن هذا الذي وجدته أنا. نعود للآية السابقة، فهي تتكلم عن الإنسان، وهنا أل للاستغراق للجنس، وقلنا: إن أل إما أن تأتي للاستغراق والجنس، وإما تأتي للعهد، فإذا جاءت للعهد فإنها تنقسم إلى قسمين: عهد لفظي وعهد ذهني. وأما مجيئها للجنس فهو أكثر ما تأتي في القرآن ويقصد بها استغراق جنس الإنسان، فكلام الله هنا عن كل إنسان، فالله يقول: {وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا} [يونس:12] يعني: لا يفتأ يدعو ربه على كل حال.

كشف الضر وأسبابه

كشف الضر وأسبابه {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ} [يونس:12] أي: رفعناه. {مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [يونس:12]، وهذا يسمى إطلاق. فهل كل أحد إذا مسه الضر ودعا الله وكشف الله عنه ضره يغفل عن الله؟ مستحيل، ليس كل واحد، فالمؤمن الصادق في إيمانه لا يمكن أن يغفل. وإذا احتج عليك أحد بالآية فإنك ترد عليه بالقرآن، وقلنا: إنه يجب أن ينظر إلى القرآن على أنه كله كلٌ لا يتجزأ، فما أطلقه الله هنا قيده في سورة هود، قال الله: {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ} [هود:10]، فهذا نفس الإطلاق الذي في يونس. ثم استثنى جل وعلا وقال: {إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} [هود:11]، فما أطلقه الله في يونس قيده في هود، وهذه نظرة للقرآن بكله، فيصبح هذا المؤمن مستثنىً من هذا الإطلاق الذي في يونس، أي: مستثنىً بالقرآن، ومستثنى بالسنة كما في حديث: (عجباً لأمر المؤمن! إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء -فاعل- صبر فكان خيراً له). نأتي للمعنى، والمعنى أن الإنسان بطبيعته كافراً كان أو مؤمناً إذا جاءه الضر فإنه يلجأ إلى الله، وهذه حالة يستوي فيها أهل الكفر مع أهل الإيمان، ولكن الابتلاء يكون بعد رفع الضر، فالله يقول عن جنس الإنسان عموماً: {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ} [يونس:12] نسأل الله العافية، فمن الناس -أعاذنا الله وإياكم- من يعبد الله على حرف، فإن أصابه خير اطمأن به، وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه. والمؤمن يعبد الله على كل حال مؤمناً بالله، راضياً بقضاء الله وقدره، ويعلم أن خيرة الله له خير من خيرته لنفسه، وأن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وأن ما كان لك فسيأتيك على ضعفك، وما لم يكن لك لن تناله بقوتك، جفت الأقلام وطويت الصحف. وحرم النبي صلى الله عليه وسلم على الأمة أن تقول لو؛ لأن لو تفتح عمل الشيطان، والمؤمن يرضى بقضاء الله وقدره، والرضا بالقضاء والقدر هو الحياة الطيبة التي قال الله عنها لأهل الإيمان: {فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل:97]. فالرضا بقضاء الله وقدره هو معنى الإيمان الحق، وكم من منحة - يعني عطية - في طي محنة، والحبل إذا اشتد انقطع، والسحاب إذا تراكم همع، يعني: ينزل منه الماء. فالأمور كلما ازداد ضيقها دل على قرب الفرج، والإنسان لا يدري ما هو مكتوب، لكن يستقدر الله الخير ويرضى بقدر الله، ويأخذ بالأسباب، ويتوكل على الله، فإن جاءه ما يؤمل فالحمد لله، وإن لم يأته ما يؤمل فكذلك الحمد لله لكن لا يعمم، يقول: الحمد لله على كل حال ونعوذ بالله من حال أهل النار، ويعلم أن خيرة الله له خير من خيرته لنفسه. هذا فائدة إيمانية.

لا تؤمل في الناس خيرا أكثر من اللازم

لا تؤمل في الناس خيراً أكثر من اللازم فائدة دنيوية: لا تؤمل في الناس خيراً أكثر من اللازم، فقد تحسن إلى إنسان فلا يكافئك على إحسانك، فلا تتعجب، فمن الناس من يكشف الله عنه الضر فيمر كأن الله لم يكشف عنه شيئاً، فإذا كان هذا تعامله مع خالقه فمن باب أولى أن يكون تعامله مع عبد مثله ومخلوق مثله أردى من ذلك وأسوأ. والعاقل أصلاً لا يؤمل مما في أيدي الناس شيئاً، وإنما يزرع الجميل ولو في غير موضعه، فإن الجميل يحصد في أي مكان وينفع، والعرب تقول: لا يذهب العرف بين الله والناس، فإن أضاعه الناس فإنه يبقى عند الله، لكن الذي يعنينا في الآية أن من دلائل أهل الإيمان أن لهم مع الله طريقين، وكل طريق لهم فيه مطية، فطريق الابتلاء مطيتهم فيه الصبر، وطريق النعماء مطيتهم فيه الشكر والحمد، وهما في كلا الحالتين معترفون مقرون لله جل وعلا بالحمد والفضل والمنة. هذا ما أردنا بيانه هذه الليلة على عجل حول سورة يونس، فعسى أن أفرغ فيما بقي من الوقت لأسئلتكم.

تأملات في سورة يونس [2]

سلسلة تأملات قرآنية _ تأملات في سورة يونس [2] في هذه المادة تجد الكلام على الولاية وكيف تكون، والفرق بين الولاية الرحمانية والولاية الشيطانية، وتجد أيضاً الكلام على البشرى وأنواعها. وكذلك قصة غرق فرعون، وسبب عدم قبول الله تعالى لإيمانه حال الغرق، وغير ذلك من التفريعات.

سبب تسمية سورة يونس بهذا الاسم والحالات التي ورد فيها ذكر النبي يونس

سبب تسمية سورة يونس بهذا الاسم والحالات التي ورد فيها ذكر النبي يونس الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خالق الكون بما فيه، وجامع الناس ليوم لا ريب فيه. وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره، واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فهذا هو اللقاء الثاني المتعلق بتعليقنا وتأملاتنا على سورة يونس، وكنا كما سبق قد انتقينا في الأسبوع الماضي وتحدثنا عن هذه السورة، وقلنا: إنها سميت بهذا الاسم لما ورد فيها ذكر اسم النبي الكريم يونس بن متى عليه الصلاة والسلام في قوله جل شأنه: {فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [يونس:98]. ويونس بن متى أحد الأنبياء والمرسلين بنص القرآن، وقد ذكره الله جل وعلا في القرآن باسمه الصريح، وذكره في القرآن بكنيته أو بلقبه، ذكره باسمه الصريح في النساء والأنعام، وفي يونس وفي الصافات، وذكره جل وعلا بلقبه مرتين: في الأنبياء: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا} [الأنبياء:87]. وفي القلم: {وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ} [القلم:48].

السور التي سميت باسم نبي

السور التي سميت باسم نبي وسميت هذه السورة باسمه، وقلنا في الدرس الماضي: إنها أول سورة في القرآن -إذا التزمنا بترتيب المصحف- سميت باسم نبي، ثم تلتها سورة هود، ثم يوسف، ثم سورة إبراهيم، ثم سورة نوح. فهذه السورة مسماة بأسماء الأنبياء، وذكرنا أن من غير الأنبياء ممن سميت السور بأسمائهم من الصالحين ثلاثة: آل عمران، ومريم، ولقمان، فهذه جملة ما تكلمنا عنه إجمالاً حول تسمية السورة.

السور التي أمر الله نبيه فيها بأن يقسم

السور التي أمر الله نبيه فيها بأن يقسم ثم انتقلنا إلى أن هذه السورة هي أول سورة في القرآن أمر الله فيها نبيه أن يحلف، قال تعالى: {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ} [يونس:53]، وبقيت اثنتان: الأولى في سبأ، والثانية في التغابن، {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ} [التغابن:7].

الولاية الرحمانية والولاية الشيطانية

الولاية الرحمانية والولاية الشيطانية والآن ندخل على درس الليلة، وسنقف أولاً عند قول الله جل وعلا: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [يونس:62 - 65]. ومن المقرر شرعاً: أن الله جل وعلا أمر الخلق بعبادته، وحذر الناس من عبادة الشيطان، فمن عبد الله فهو بالجملة ولي من أولياء الله، ومن عبد الشيطان عياذاً بالله وكفر فهو ولي من وأولياء الشيطان، والشيطان يوم القيامة يتبرأ من أوليائه، كما ذكر الله عنه وعن إبليس أنه يقوم خطيباً يوم القيامة في أتباعه، قال تعالى: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ} [إبراهيم:22] إلى آخر الآية في سورة إبراهيم. وأما أولياء الله فحتى لا يترك المجال للناس في تعريف الولي فقد فسر الله الولي في القرآن نفسه، وهذا من إيضاح القرآن بالقرآن، فيسألك إنسان ما الحطمة؟ وتجيب بالقرآن: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ * نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ} [الهمزة:5 - 6] إذاً فالحطمة: {نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ} [الهمزة:6]، ولا يمكن أن يأتي أحد فيفسر الحطمة بأفضل من أن تقول نار الله الموقدة، وهنا قال الرب سبحانه: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس:62]، ففسره الله جل وعلا بقوله: {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:63]. فمن آمن بالله واتقى فهو ولي من أولياء الله، وهذه الولاية درجات ومنازل عدة، لكن بالجملة: كل من آمن واتقى الله فهو ولي بنص القرآن، وقد أغرق الناس في هذا الباب -أي: في باب الولاية- في شئون ومداخل ومخارج لا يعلمها إلا الله، فمنذ أن ظهرت الصوفية في القرن الثالث في الأمة إلى يومنا هذا والناس في قضية هذا ولي، وهذا غير ولي، فيركبون الصعب والذلول في إثبات أمور قد أثبتها الله من قبل، ولا حاجة لخوض الناس فيها كما يخوضون فيه اليوم، فالصحابة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم لم يكونوا يعرفون اسماً للناس إلا مسلم أو مؤمن، أو اسم تاريخي فيقال: فلان بدري؛ لأنه شهد بدراً، أو يقال: فلان من أهل الشجرة؛ لأنه شهد البيعة، أو يقال: فلان تابعي؛ لأنه رأى الصحابة، فهي أمور تتعلق بأحداث تاريخية ولا تتعلق بأعمال القلوب، والنبي عليه الصلاة والسلام قال: (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه).

عدم الافتتان بأحد من البشر مهما بلغ صلاحه

عدم الافتتان بأحد من البشر مهما بلغ صلاحه ومن حسن إسلام المرء بناءً على هذا الحديث: ألا يدخل الإنسان في تصنيف الناس، وألا يفتن أحداً بأحد، ولا تفتتن بأي أحد من البشر مهما رأيت فيه من الدين، أو من البكاء والخشية، أو من حسن الصوت بالقرآن، أو من العلم، أو ما إلى ذلك، فالقلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقبلها كيف يشاء، وكما أنك لا تفتتن بأحد فلذلك تخشى الفتنة على نفسك، فلا يغرنك عملك، أو ثناء الناس عليك، أو أشياء كثيرة، لا تصل إلى بك، قد تصبح لك مشجعة كما سيأتي، لكن لا تصبح لك مهلكة، وتظن أنك أنت تستحق هذا، أو أنك قادر، أو أن تزكي نفسك قلبياً.

الفرق بين التزكية القلبية وبين التزكية لأعمال الجوارح

الفرق بين التزكية القلبية وبين التزكية لأعمال الجوارح وفرق جم ما بين أن يزكي الإنسان نفسه قلبياً، وبين أن يزكي الإنسان نفسه كموهبة أعطاه الله جل وعلا إياها. فتزكية القلوب لا تجوز قال الله: {فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم:32]، فلا يجوز لأحد أن يزكي نفسه قلبياً، وأما تزكية الصنعة التي تحسنها فهذا لا ضير فيه، ومنه قول نبي الله يوسف: {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف:55]، فهو هنا يتكلم عن أحوال الجوارح، يتكلم عن قدرته في إدارة شئون الدولة اقتصادياً، ولا يتكلم عن إيمانه وتقواه وقربه من الله، وإنما يتكلم عن أمر دنيوي محض، {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف:55]. فإذا كنت تريد أن تركب بأصاً تسافر به إلى مكة، وأمامك أربعون فرداً أنت مسئول عنهم، فمن حقك أن تسأل من يريد أن يقود: أيكم يحسن القيادة؟ فلو قام أحد الناس وقال: أنا أحسن، أو يتكلم عن خبرة سابقة، فهذا ليس تزكية للنفس، وإنما هذا إخبار بالعمل فلا يذم صاحبه؛ لأن فيه منجاة للناس، وإلا لو ترك الأمر على غير ذلك لهلك الناس، لكن التزكية المحرمة شرعاً: هي تزكية أعمال القلوب، فهذه اجعلها بينك وبين الله، ولا تكترث بمدح الناس ولا بذمهم، وسيأتي التفصيل أكثر من ذلك. قال الله: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس:62]. قلت: من المهم جداً أن يخشى الإنسان على نفسه الفتنة، والعبد البصير السعيد من يتعظ بغيره، وقد ذكر الله جل وعلا نماذج في القرآن، وجاء في السنة، وفي أحوال الناس المعاصرة وغير المعاصرة نماذج فتن الناس بها، ثم انقلبت على أعقابها عياذاً بالله، والله جل وعلا يقول: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا} [الأعراف:175] بعد أن منّ الله جل وعلا عليه بالعلم، وأصبح ذا قدرة وذا مكانة، أخلد إلى الأرض واتبع هواه، كما قال الله جل وعلا، فعلى هذا فهناك أمران: أمر في نفسك يتعلق بغيرك، وأمر في نفسك يتعلق بنفسك. فأما أمرك الذي يتعلق بغيرك: ألا تفتن بأحد، والأمر الذي يتعلق بغيرك: أن تخشى على نفسك الفتنة، فإن الإنسان مطلوب منه أن يعبد الله حتى يلقى الله، قال الله لنبيه: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99] أي: حتى يحل بك الموت، وتفارق الروح الجسد، وهناك ينتهي وقت التكليف وزمنه، وبعد ذلك لو مدحت شخصاً قد أفضى إلى ربه في حدود الشرع فلا ضير، وأما والإنسان حي فلا تبالغ في مدح أحد، ولا تفتن في مدح أحد.

مثال على افتتان الإنسان بنفسه وافتتان الناس به

مثال على افتتان الإنسان بنفسه وافتتان الناس به وقد كان هناك رجل -وهذا من باب العبرة- يقال له: عبد الله القصيمي، وكان يسكن في القصيم، ثم سافر إلى الأزهر قديماً وعمر إلى التسعين، ومات قبل عدة سنوات في الأردن، وكتبت الصحافة عنه شيئاً كثيراً، لكن نتكلم هنا على الفتنة، فلما سافر من القصيم درس في الأزهر، فجاء أحد علماء الأزهر كتب كتاباً يقال له: الدَّوَجي، وهذا الكتاب في قضايا جواز التبرك بالأضرحة ودعاء الأولياء، فرد عليه هذا الشيخ آنذاك وهو طالب في الأزهر، فلما رد عليه قرر الأزهر فصله بعد جلسات علمية لمجلس الجامعة، وكان الشيخ محمد رشيد رضا صاحب تفسير المنار حياً آنذاك فحاول أن يقف معه، وأن يعضده، لكنه لم يستطع أن يفعل له شيئاً، لكن الشاب آنذاك لم ييأس وألف كتباً جعلت له مكانة علمية آنذاك، ثم ظهرت سوريا رجل شيعي ألف كتاباً يخاصم فيه دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، فرد عليه صاحبنا بكتاب اسمه: (الصراع بين الإسلام والوثنية) في 2500 صفحة أظهر فيها قدرة علمية خارقة، وحججاً عقلية قلما يصنعها أحد من أهل زمانه، ففتن الناس بعلمه، حتى إنه في إحدى خطب الحرم المكي ذكره الإمام على المنبري يثني على الكتاب، وعلى صاحبه. صراع بين إسلام وكفر يقوم به القصيمي الشجاع إلى آخر القصيدة. وقال العلماء آنذاك للملك عبد العزيز رحمه الله وكان حياً: قالوا له: إن القصيم بكتابه هذا دفع مهر الجنة، بناءً على ما في الكتاب من قدرات في الرد على الوثنية، وإعلاء لشأن الإسلام، ففتن الناس به فترة ثم خابوا، فكأنه كان يرجو أن يكون له عند الناس مكانة أعظم مما تلقاها من الناس، فبعد ذلك رجع إلى مصر وسكن فيها وخالط قوماً من أهل الفساد: فساد الفكر، فألف كتاباً يتبرأ فيه نسبياً من كلامه الأول، ثم عياذاً بالله ارتد صراحة وألف كتاباً أسماه: (هذه هي الأغلال)، واتهم الدين كله بأنه غل، وتكلم حتى في الرب جل جلاله. وجلس ذات يوم أمام رئيس الوزراء المصري آنذاك وكان موجوداً الشيخ محمد متولي الشعراوي العالم المصري المعروف، وكان يومئذ في أول زمانه، فجلس يتناقشان فإذا بهذا القصيمي الذي ألف كتاب الصراع بين الإسلام والوثنية، يسخر حتى من الله، فلم يستطع الشعراوي أن يرد عليه؛ لأن هذا الإنسان الذي أمامك لا يريد حق، فهو صاحب جدل، والله يقول: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى} [الأعلى:9]، فإن لم تنفع فاخرج، فخرج الشعراوي رحمة الله عليه وهو يتلو: {إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [النساء:140]. ثم مكث هذا الرجل يؤلف كتباً كلها سب للدين، وسخرية بالله ورسوله بعد أن ألف كتاباً أثني عليه في حرم مكة، فأمر الملك عبد العزيز العلماء آنذاك في الصحافة أن يتبرءوا منه، وأصدر العلماء في ذلك العصر كثيراً من الكتب التي ترد عليه عياذاً بالله، ثم عاش في الأردن فترة حتى قبل عدة سنوات مات عن قرابة تسعين عاماً، فجاءت الصحف هنا للأسف تتكلم عنه، وقد كان له كتب في الروايات، فله رواية اسمها: مدن ملح، ممنوعة سياسياً، والصحفيون غالبهم ينشأ متأخراً، ولم يقرأ شيئاً من القديم ولم يطلع، وبعضهم -عفا الله عنا وعنهم- ليس لديه غيرة عن الدين، لعدم العلم، فالمقصود: أن هذه نظرة للإنسان في أن يتأمل ما حوله؛ حتى تستريح ولا تفتن نفسك بأي مخلوق، ولا تعلق قلبك بأي مخلوق؛ لأن الله لما ذكر أهل الولاية قال: {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:63]، فنسب الولاية الشرعية إلى الإيمان به جل وعلا، وإلى تقواه سبحانه وتعالى.

تكفل الله بأوليائه بعدم خوفهم ولا حزنهم

تكفل الله بأوليائه بعدم خوفهم ولا حزنهم قال الله: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس:62]، فالخوف يكون في أمور مستقبلية، والحزن يكون على الشيء الماضي، فالله كتب لأهل تقواه من أهل الولاية كتب لهم: ألا خوف يعتريهم على ما هو قادم، ولا حزن يعتريهم على ما فات، وهذا قد يقع في الدنيا، وقد يقع عند سكرات الموت، وقد يقع يوم يقوم الأشهاد ويحشر العباد، وقد يقع الثلاثة في عبد صالح، لكن أولياء الله يختلفون، وقد تكلم العلماء كيف يعرف الولي، ولا نتكلم فيه، لكن يكفي أن الله قال: {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:63]. وجاء في الحديث القدسي: (ما تقرب إلي عبدي بأحب مما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي سمعه، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، وقدمه التي يمشي عليها). والمقصود هنا: التوفيق من الله، التوفيق في السمع، والتوفيق في البصر، والتوفيق في الأخذ والعطاء، والتوفيق في الغدو والرواح، فالتوفيق من الرب جل وعلا، فيجعل الله له نوراً، ويجعل الله له بينة، يجعل الله له فرقاناً يميز به الأشياء؛ لأنه قريب من الله تبارك وتعالى، ومحبوب منه، {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:62 - 63].

البشرى وأنواعها

البشرى وأنواعها قال الله عنهم بعد أن ذكر نعتهم بالجملة: قال: {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [يونس:64] فلما قال ربنا في الحياة الدنيا وفي الآخرة، فهمنا أن البشارة قسمان؛ لأن الله ذكر زمنين، وهذه البشرى تكلم العلماء فيها كثيراً، والأصل الذي نرى أنه لا يحسن ولا يجمل قصرها ولا حصرها على شيء واحد، وإنما تبقى البشرى مفتوحة في الحياة الدنيا، ومن أعظم البشرى الرؤيا الصالحة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال -كما في البخاري - وهو لا ينطق عن الهوى قال: (لم يبق من النبوة إلا المبشرات. قالوا: يا رسول الله! وما المبشرات؟ قال: الرؤيا الصالحة يراها المؤمن)، وفي زيادة: (أو ترى له) (يراها المؤمن أو ترى له)، فهذا معنى قوله عليه الصلاة والسلام: (لم يبق من النبوة إلا المبشرات الرؤيا الصالحة).

الرؤيا الصالحة نوع من البشرى

الرؤيا الصالحة نوع من البشرى فالرؤيا نوع من البشارة، فقد يخرج الإنسان من موطن أو من مكان، أو من عمل كئيباً حزيناً على ما أصابه، ويكون له عند الله مقام وعمل صالح، فيراه أحد فيخبره أنه رأى له رؤيا يكون بهذه الرؤيا بشارة لنجاته، أو يكون هو قد غفا أو نام في ليل أو في نهار، فيرى رؤيا تدل على أمر حسن، وقد قلنا مراراً إن يعقوب عليه الصلاة والسلام لما قال له بنوه وأخبروه أن يوسف هلك كان واثقاً أن يوسف لم يهلك، فقال كما قال الله جل وعلا عنه قال: {قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف:18]. والذي جعل يعقوب يطمئن على أن يوسف لم يهلك هي الرؤيا التي رآها يوسف من قبل، فلما قصها على أبيه فهم يعقوب أن هذا الابن سيكون له شأن، قال: {يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} [يوسف:4]، وهذا يظهر علو مكانه؛ لأن خضوع الأب والأم والأبناء له يدل على ارتفاع قدره، فلما جاءه الإخوة وقالوا: إنه هلك لم يقبل يعقوب هذه الدعوة، لكن ضَعْفه آنذاك اجتماعياً هو الذي جعله يصبر ويحتسب عند الله، وقد تحقق له الأمر، ولذلك قال كما قال الله جل وعلا عنه: {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [يوسف:96].

الكلمة الطيبة يسمعها المرء من البشرى

الكلمة الطيبة يسمعها المرء من البشرى ومن البشارة الكلمة يسمعها الإنسان، من غير أن يبيّت حسباناً لها، يعني: من غير أن يبيّت أن يسمعها، فيلقاها في طريق أو حدث يراه بعينه، وهذه أمور دقيقة لا يمكن شرحها، لكن تراها في حياتك العامة، فالنبي عليه الصلاة والسلام أقبل على خيبر، فلما صلى الفجر قريباً من خيبر ونظر إلى خيبر وكانت اليهود محمية لهم خيبر، ويخشى على المدينة منهم، رأى أهل خيبر بيدهم المساحيق، وهي أداة هدم، فلما رآها استبشر صلى الله عليه وسلم، فهذا من البشرى، ففرح وقال: (الله أكبر خربت خيبر)؛ لأن رأى في أيديهم أداة هدم، وهو جاء ليهدم خيبر، فتحققت تلك البشرى، فلما رآهم قال: (الله أكبر خربت خيبر)، فخربت خيبر كما قال عليه الصلاة والسلام. وقيل: إنه لما قدم عليه الصلاة والسلام إلى المدينة رأى قوماً لا يعرفهم، ومعه أبو بكر وهو هارب من مكة وخارج من قومه يريد الأمان في المدينة، فقابل رجلاً قال له: (من أنت؟ قال: بريدة)، فاستبشر صلى الله عليه وسلم، والتفت إلى أبي بكر وقال: (برد أمرنا) ثم قال: (ابن من؟ قال: ابن أسلم. قال: أبشر يا أبا بكر سلمنا) أخذها من الاسم، فهذا نوع من البشارة يحصل في الإنسان وهو قادم، أو رائح، ولما أقبل سهيل بن عمرو في معركة الحديبية والنبي عليه الصلاة والسلام يعرف سهيلاً من قبل، وهو قادم للصلح، وكان النزاع قد اشتد، ودعا النبي عليه الصلاة والسلام إلى بيعة الرضوان تحت الشجرة لما أشيع أن عثمان قد قتل، فلما رآه النبي عليه الصلاة والسلام وعرف أن قريشاً بعثت سهيلاً قال لأصحابه: (أبشروا؛ سهل أمركم)، أخذها من اسم سهيل، فهذا نوع من البشرى الذي يعطاه المؤمن في الحياة الدنيا، فهذه أمور لا يمكن حصرها في شيء معين، لكنها أمور عديدة تحصل للمؤمن، وقد وعد الله جل وعلا المؤمنين بها بنص القرآن، قال سبحانه: {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [يونس:64].

البشرى للمؤمن في الدنيا والآخرة

البشرى للمؤمن في الدنيا والآخرة وَفِي الآخِرَةِ)) [يونس:64] أي: أن المؤمن لا يموت حتى يرى مقعده من الجنة، وكذلك يبشر في القبر، فيأتيه عمله الصالحة في صورة شاب حسن الوجه، ويقول له: (من أنت؟ فيقول: أنا عملك الصالح)، فهذه كلها من المبشرات، حتى يدخل المؤمن الجنة فيجد الراحة التامة الكبرى التي وعدها الله جل وعلا عباده، أدخلنا وإياكم الجنة. {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [يونس:64] وحتى لا ترتاب القلوب قال الله بعدها: {لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ} [يونس:64] وهي هذه أوامر الله وقضاؤه وقدره، ولا يمكن لأحد أن يغيرها ولا أن يبدلها، ولا أن يجري في الكون أمراً لم يكتب الله منذ الأجل أن يقع، {لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [يونس:64] لمن تمسك بالإيمان، والعمل الصالح، واجتهد في أن يقترب من الله، واجتهد في أن يبتعد عن السيئات، وصاحب عمله الاستغفار، والخوف من الله، والطمع في رحمته، ووصل إلى الجنة، فهذا إجمالاً وبلا شك: {ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [يونس:64]. ثم قال الله لنبيه: {وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ} [يونس:65] ويجب وجوباً أن تقف؛ لأنه لا يستقيم المعنى أن تقرأ: {وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} [يونس:65] بدون وقف، فهذا كفر. {وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ} [يونس:65] أي قول القرشيين: إنك كافر، وإنك ساحر وإنك كاهن، وإنك مجنون، فهذا لا يحزنك، ثم تقف؛ لأن الجملة تمت، ثم تقرأ: {إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} [يونس:65] فليس قولهم: {إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} [يونس:65] يجب ألا يحزنك، فهذا يفرح فـ (لا) هنا ناهية، ويحزنك فعل مضارع مجزوم بلا، ثم تقف هنا، أي: قول ما سلف في القرآن من اتهام القرشيين لنبينا عليه الصلاة والسلام بعدة أمور، ثم تقول: لماذا لا يحزنك؟ إن العزة لله جميعاً، ولا يوجد عاقل لا يطلب العزة، لكن الله قال: إن العزة كلها أولها وآخرها، مبدأها ومنتهاها ملك لله، وقد مرت معنا هذه اللام، وهي لام الملك، في كلمة للفقراء، {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} [التوبة:60]. لكن الفرق أن ملك بني آدم لما تحت يده ملك صوري، وملك الله جل وعلا ملك حقيقي، ولذلك قال الله جل وعلا: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ} [الفرقان:26]، فيفنى الملك الصوري، ولا يبقى إلا الملك الحقيقي، ولذلك حصره الله جل وعلا في يوم القيامة، ومنه قول الله في آخر الانفطار: {وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [الانفطار:19]؛ لأن الأمر الصوري ينتفي فيبقى الأمر الحقيقي، والأمر الحقيقي ليس إلا لله جل وعلا وحده. {وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [يونس:65] أي: هو السميع لأقوالهم، العليم بأعمالهم، وما دام جل وعلا يسمع أقوالهم، ويعلم أعمالهم، فهو جل وعلا القادر على جمعهم، والقادر على حسابهم، وكل هذا سيكون لا محالة كما أخبر الله ورسوله صلى الله وعليه وسلم عنه. ويفهم من الآية عموماً: أن المؤمن ينبغي عليه وهو يسير في طريقه إلى الله: ألا يصل به الحزن إلى اليأس، وإن كان الحزن لابد منه، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (إن العين لتدمع، وإن القلب ليحزن) لكن لا يصل بك الحزن إلى اليأس الكامل والقنوط من رحمة الله تبارك وتعالى. وأما أن يعتريك حزن، وتعتريك دمعة، ويعتريك أسف، فهذا لا مفر منه، لكن لا يعني ذلك التشكيك في قدرة الله، أو الاعتراض على قدره، فقد بكى من هو خير منا، وحزن من هو خير منا، لكن الحزن والدمع والشكوى تبث إلى الله، كما قال الله عن الصديق يعقوب: {قَالَ إِنَّمَا أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي} [يوسف:86]. فأثبت له حزناً، لكن هذا الحزن أسنده إلى ربه جل وعلا، وشكاه وبثه إلى ربه جل وعلا، {قَالَ إِنَّمَا أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [يوسف:86]. وأما الحزن الذي نفاه الله جل وعلا عنه هنا فهو الحزن الذي يصيب الإنسان بالقعود، والشلل التام في حياته، فهذا منفي عن أهل ولاية الله؛ لأن ثقتهم في الرب تبارك وتعالى يعلمون بها أن الله سيجد لهم من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كرب تنفيساً، وأن الله جل وعلا قادر على كل شيء، فلا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، وثقتهم بربهم تبارك وتعالى تجعلهم مطمئني البال، وعلى يقين بأن الله سيجد لهم المنجى والمخرج، ولو زاد عليهم البلاء فإن هذا أكثر عظمة لأجورهم، وتكفيراً لخطاياهم، فهم يتقلبون ما بين أجر يعطونه، أو سيئة يكفر بها عنهم. ثم ذكر الله في هذه السورة ثلاثة من الأنبياء: ذكر نوحاً، وموسى، ويونس. وقد مر معنا تفصيل أكثر من هذا في الأعراف، وفي النساء، وفي غيرها مما ورد فيه ذكر الأنبياء، وقلت: إنني لا أكرر ما وقفت عنده، لكنني سأقف هنا عند قضية غرق فرعون في آخر أيام موسى في أرض مصر؛ حتى تعلم البلاغة العظيمة لكلام الرب جل وعلا. قال الله: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ} [يونس:71] وذكر فيها فضل نبي الله نوح، وقد مر معنا ذكر نوح في أكثر من مرة، ثم ذكر الله جل وعلا أنه أرسل رسلاً ولم يسمهم في هذه السورة إجمالاً، ثم قال: {ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ} [يونس:75]، فذكر موسى وهارون عليهما الصلاة والسلام، وقلنا: إن موسى أخ شقيق لهارون، وأن هارون أكبر من موسى، وأن هارون ولد في العام الذي لا قتل فيه، وولد موسى في العام الذي فيه قتل، لكن الله جل وعلا لحكمة أراد جعل موسى خيراً من هارون. وذكر الله جل وعلا قضية السحر، وهذه تكلمنا عنها تفصيلاً، ونصل إلى أنه بعد أن انتصر موسى على سحرة فرعون وآمن السحرة مكث موسى في مصر ولم يخرج منها؛ لأنك إذا أردت أن تفسر القرآن لابد أن تجمع بعضه إلى بعض، وفي هذه الفترة جاءت الآيات الباقية، قال الله في الأعراف: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ} [الأعراف:133]، والآيات شيء خرج عن المألوف، والآن يوجد جراد، ويوجد قمل ويوجد ضفادع، ولا تسمى آيات؛ لأنها تعيش حياة طبيعية، لكن قول الله: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ} [الأعراف:133] يدل على أن الآيات شيء غير مألوف وغير معهود. وقول الله جل وعلا: {مُفَصَّلاتٍ} [الأعراف:133] يدل على أنها لم تكن مجتمعة، ولم تكن جملة واحدة، فآية تنتهي وتأتي آية ثانية، وهذا يدل عموماً على أن موسى وقومه مكثوا فترة طويلة في أرض مصر قبل أن يخرجوا منها، قال الله في يونس: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّأَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [يونس:87].

أنواع الوحي

أنواع الوحي الوحي من الله يأتي على صور، فالوحي للأنبياء غير الوحي للصالحين، والوحي للصالحين غير الوحي للمخلوقات، فهذه الثلاثة كلها جاءت في القرآن، والوحي للمخلوقات كما في قوله: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ} [النحل:68]. والوحي للصالحين غير الأنبياء كما في: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى} [القصص:7]. والوحي للأنبياء كثير وهذه منها: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّأَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا} [يونس:87]، ومصر هو البلد المعروف، لكنها ليست القاهرة قطعاً؛ لأن القاهرة أسست بعد ذلك في عهد دولة بني عبيد، وإنما كانت أحداث موسى لما دخل المدينة على حين غفلة من أهلها، وهي مدينة عين شمس وليست القاهرة، فالذي يعنينا هو كلمة مصر، وهي كلمة مؤنثة وعلم، والمؤنث العلم يمتنع من الصرف إلا إذا كان ساكن الوسط فإنه يجوز صرفه، كنوح وهند ومصر، ولذلك جاءت كلمة مصر في القرآن مرة موقوف بالراء، ومرة منونة، أي: مرة مصروفة ومرة غير مصروفة؛ لأنها ساكنة الوسط يجوز فيها الصرف ويجوز فيها عدمه؛ لأنها علم، ثلاثي ساكن الوسط ومؤنث. يقول الله لنبيه: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّأَا} [يونس:87] أي: اتخذا، {لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا} [يونس:87]. وقال الله: {وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً} [يونس:87]، واختلف العلماء في معنى قوله تعالى: {وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً} [يونس:87] فذهب الإمام الطبري رحمه الله -وهو شيخ المفسرين نبدأ به- وجمهور العلماء من المفسرين إلى أن المعنى: اتخذوا بيوتكم مساجد، أي: صلوا في بيوتكم، وهو عندهم أي: عند هؤلاء العلماء رحمهم الله: أن بني إسرائيل كانوا يصلون في الكنائس والبيع، فشد عليهم فرعون فأوحى الله إليهم أن انقلوا الصلاة إلى البيوت. هذا ما قاله جمهور المفسرين. وقال بعضهم -ويحكى هذا عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما-: إنها (واجعلوا بيوتكم قبلة) أي: جهة الكعبة، أي جهة اجعلوها جهة الكعبة. ونحن نقول والله أعلم: إن المعطيات التاريخية والقرآنية لا تساعد على أي من القولين، أما الأول فإننا نقول: لا يعقل أن فرعون يسمح بمدة من الزمن لبني إسرائيل أن يصلوا في المساجد والبيع ظاهرين، فالذي ذكره الله في القرآن من سوم فرعون لبني إسرائيل بالعذاب يتنافى عقلياً مع القول إنه يمكن أن يكون بنو إسرائيل قد اتخذوا مساجد ظاهرة علانية كالبيع والكنائس يصلون فيها، إلا إذا وجد دليل صريح من القرآن أن هذا موجود قلنا به، فإذا جاء سيل الله بطل سيل معقل، لكن لا يوجد دليل صريح من القرآن أنهم كانوا يصلون في مساجد ظاهرة، وإنما هذا فهم للآية، ولابد أن تفرق بين كلام الله وبين فهم العلماء لكلام الله، فالمقدس هو كلام الله، وأما فهم العلماء فليس بمقدس، فالذي لا يدخله التبديل ولا التحريف ولا التكذيب هو النص، وأما فهم العلماء للنص فإنه يدخله الخطأ، فأي إنسان قابل قوله للصواب وللخطأ، هذا هو رد القول الأول، وأما رد القول الثاني فنقول: إنه لو قلنا كما قالوا إن: {وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً} [يونس:87] أي: متجهة إلى الكعبة، فهذا يعني: أن اليهود كانوا يتجهون إلى الكعبة؛ لأن الكعبة قبلتهم، وهذا ينافي ما ثبت في السيرة الصحيحة من أن النبي صلى الله عليه وسلم مكث في مكة يصلي إلى بيت المقدس، ومكث ستة عشر شهراً في المدينة يصلي إلى بيت المقدس، فلا يعقل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم يصلي إلى بيت المقدس وهو يعلم أن الكعبة أصلاً متخذة قبلة من قبل اليهود من قبل، فهذا يتنافى مع القرآن، والله يقول: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} [البقرة:144]. ثم ذكر أهل الكتاب فقال: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ} [البقرة:145]، وقال: {وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ} [البقرة:145]، وقال: {وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ} [البقرة:145] أي: منذ أن كانوا كان لليهود قبلة، وللنصارى قبلة، وللمسلمين قبلة. هذا هو الرد على الثاني. وسبق أن قلنا: عندما ترد الأقوال لابد أن تأتي ببديل، فلا يصح أن تقول: هذه آية ليس لها معنى، ونقول كما قال بعض العلماء من قبل قالوا: وهذا أرجح الأقوال عندنا، وإن كان ضعيفاً في كتب التفسير، نقول: إن معنى قبلة أي: يقابل بعضها بعضاً، أي: مميزة بالمعنى العامي، حتى إذا جاء النفير أن يخرجوا من أرض مصر فإن البعض سيميز بيت الآخر، فيسهل أن ينادي بعضهم بعضاً، فيكون معنى قول الله جل وعلا: {وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً} [يونس:87] أي: متقابلة في مكان واحد، متجاورة لكم، وهو مصطلح يعرف فيها بعضكم بيوت بعض، هذا الذي ندين الله أنه نختاره من أقوال المفسرين، وإذا قلنا: نختاره فلسنا أول من قاله، فهذا كلام المفسرين في كتب التفسير، ونحن نرجحه؛ لأن معطياته العلمية أقوى. ومما يدل على صحة هذا القول: أن الله قال بعدها: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [يونس:87]، فمعناه: أنه لم يكن يتكلم عن الصلاة من قبل، ففهموه أنها الصلاة في المساجد والبيوت، {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [يونس:87]، وهذه الأظهر أنها خاصة بقوم بني إسرائيل أنه سيأتيهم البشارة والنجاة. وأنت كطالب علم لست ملزماً بما يقوله الشيخ، فنحن نتكلم من باب الأمانة العلمية، وأما أنت فلك قدراتك وإمكانياتك فتختار من أقوال العلماء ما تراه صواباً.

حكم الصلوات في البيوت

حكم الصلوات في البيوت وإذا قلنا على قول العلماء إن: {وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً} [يونس:87] بمعنى: المساجد، فهذا ينقلنا إلى مسألة فقهية يبحثها العلماء، وهي: الصلاة في البيوت. فالصلاة إما أن تكون فرضاً، وإما أن تكون نفلاً. الصلاة في البيت الصلاة الفرض لابد أن تكون وين؟ في المساجد، وهذا أمر ينبغي أن يرفع الخلاف فيه، إلا بعذر. بقينا في النوافل، النوافل من حيث الجملة تنقسم إلى قسمين: نافلة يجمع لها، ونافلة لا يجمع لها، فالنوافل التي يجمع لها مثل التراويح، والاستسقاء، والكسوف، والخسوف، فهذه تصلى في المساجد أو في المصليات، ولا تصلى في البيوت، ويصح صلاتها في البيوت، لكن الأولى أن تصلى في المساجد. وأما النوافل التي لا يجمع لها مثل النوافل الرواتب، فهي تصلى في البيوت؛ لحديث البخاري العام أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم ولا تجعلوها قبوراً) أي: البيوت. وأوكد ذلك ركعتا المغرب، فهي أوكد الصلوات أن تصلى في البيوت، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث كعب بن عجرة عند أبي داود بسند صحيح ذهب إلى بني عبد الأشهل، وهم فخذ من الأوس قوم سعد بن معاذ، فصلى فيهم صلى الله وعليه وسلم المغرب، فلما صلى والتفت قام الناس يسبحون -أي: يصلون النافلة- أي: أن أهل بني عبد الأشهل قاموا يصلوا السنة، فتعجب صلى الله وعليه وسلم وقال: (هذه صلاة البيوت). وقال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: (ما أحصي كم سمعت من النبي صلى الله وعليه وسلم يقرأ في ركعتي المغرب وركعتي الفجر بقل يا أيها الكافرون، وقل هو الله أحد). ولو جاء إنسان وقال: هذا حجة على أن ركعتي المغرب تصلى في المسجد، و A أن ابن مسعود كان يدخل ويخرج على رسول الله كثيراً، وهو صاحب سواكه ووضوئه، فكان من الخدم الخاصين بالنبي صلى الله وعليه وسلم، ففقه معرفة أحوال الصحابة تساعد على فهم السيرة وعلى فهم القرآن، وهذا من معطيات التفسير: أن يكون للإنسان علم متنوع حتى يستطيع أن يفهم كلام الله. فالصلاة النوافل في البيوت أفضل منها في المساجد، لكن إذا كان الإنسان وراءه عمل، أو عنده موعد في زيارة مريض، أو يغادر إلى مكان ماء، ولم يكن بمقدوره أن يرجع إلى البيت، فليس بمعقول أن نقول له: اذهب إلى البيت واخرج صل في المسجد، كمن يجلس في الحرم النبوي بين المغرب والعشاء، لكن هنا نقول: إذا كنت إذا خرجت من المسجد وتعلم أنك ستعود إلى البيت فأد النافلة في البيت باتفاق الأئمة. ثم قال الله جل وعلا: {وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ} [يونس:88]. الداعي هو موسى، وقال الله بعده: {قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا} [يونس:89] فذكر شخصين وهما: موسى وهارون، والذي دعا هو موسى، فكيف عد هارون داعياً؟ لأنه كان يؤمن، فأصبح المأموم في تأمينه يأخذ حكم، وبتعبير أصح: المؤمن في تأمينه يأخذ حكم الداعي؛ لأن الله قال بنص القرآن: {وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ} [يونس:88]. ثم قال جل وعلا: {وَلا تَتَّبِعَانِّ} [يونس:89] لا هنا ناهية، فقد نهاهما أن يتبعا سبيل المفسدين، وبما أنها لا الناهية فكيف وجدت النون، أصل الفعل: تتبعانن، فهناك نونان: نون الأفعال الخمسة، ونون التوكيد، ولما دخلت لا الناهية فإنها تجزم بحذف النون؛ لأنه من فعل مضارع اتصل بألف الاثنين، وحذفت نون وبقيت نون، فالنون الباقية هنا ليست نون الأفعال الخمسة؛ لأنها حذفت، وإنما هي نون التوكيد، {وَلا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [يونس:89]. ثم قال الله جل وعلا: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس:90]. هذه هي الآيات الثلاث إلى قوله تعالى: {آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ} [يونس:91]، من أعظم بلاغة القرآن، وقول الله: {وَجَاوَزْنَا} [الأعراف:138] فالأمر بيد الله، فالذي نجا موسى هو الله، {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ} [الأعراف:138]، والذي خافه فرعون من موسى أن يُذهب ملكه، ففرعون سمع من الكهنة أن هلاك ملك سيكون على يد رجل من بني إسرائيل، فهذا الرجل الذي أنت تخاف منه والذي هو سيذهب ملكك، هو نفسه شرد وخرج ولم يجلس في مصر، إذاً: كان العقل المفروض أنه ما دام أن الذي أنا أخاف أن يُذهب ملكي هو باختياره خرج، وذهب عني، وهرب وترك مصر كلية، وترك البحر إذاً: فلا يوجد داعي لأن أتبعه، ولذلك قال الله: {فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا} [يونس:90]، البغي: هو تجاوز الحد، والعدو: الإصرار على الباطل، ففرعون كان المفروض أن يكون أعقل من هذا، لكن الشر والعدوانية موجودة في قلبه، فلم تطب نفسه حتى يريد أن يهلك موسى، لكن الإنسان إذا غلب عليه التفكير في قضية واحدة فإنه ينسى قضايا كثيرة، ولذلك أحياناً أعرض المشكلة على غيرك؛ لأنك أنت تعيش في شيء مقوقع مهما كان عقلك ورأيك وفضلك، فتنظر بعين واحدة: والعين ترى ما دنا منها ونأى ولا ترى نفسها إلا بمرآة فهي ترى ما دنا منه ونأى، وترى البعيد والقريب، لكن العين لا ترى نفسها، ففرعون لما وصل جاوز الله جل وعلا ببني إسرائيل البحر، ومعلوم أن الله أمر موسى أن يضرب بعصاه البحر فانفلق، فلما انفلق أصبح البحر اثني عشر فرقاً، فمر موسى والذين معه، وقلنا مراراً: إن فرعون لم يدخل البحر حتى خرج موسى، فرعون لا يعقل؛ لأنه لما رأى موسى نجا كان من المفروض أن يعلم بداهة أنه يستحيل أن يتحول البحر إلى يابس إلا بقدرة الله، وإن الذي نجا موسى من البحر من الغرق قادر على أن ينجيه منه، فالذي نجى موسى بهذه الطريقة وجعل له البحر يابساً فإنه قادر على أن ينجيه منه، فكان يرعوي ويرتفع، لكن ما زال الانفعال العدواني في قلبه، فنسي حتى هذه، لكنه كما قال الله: بغياً وعدواً. فلما خرج موسى من البحر كله وفرعون ينظر اطمئن فرعون إلى أن البحر لن يرجع، فأراد موسى -كما قلنا مراراً- أن يضرب البحر، فأمر الله موسى أن يترك البحر على حاله. قال الله في الدخان: {وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا} [الدخان:24] أي: ساكناً، فتركه موسى، فلما تركه موسى اطمئن فرعون على أن البحر سيبقى، فجاء بجيشه، فلما جاء بجيشه أمر الله البحر أن يعود إلى حاله، قال الله: {حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ} [يونس:90]، والغرق غير عاقل، وهذا عند البلاغيين يسمى تشخيصاً، وهو أن يعطى غير العاقل حكم العاقل، فالغرق لا يعقل حتى يدرك موسى، وحتى يدرك فرعون بالغرق، لكن الله هنا يصور الموقف على أن هذا الغرق جند من جند الله، له حواس، وله قدرات، وله إمكانات، حتى أضحى يتبع فرعون حتى أدركه وأحاط به من كل جانب، وقلنا: هذا أسلوب عربي يسمى التشخيص. قال الله: {حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ} [يونس:90] أي: فرعون، {آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس:90]، فقد آمن، فالله ما أنكر إيمانه، ولكن أنكر وقت الإيمان، ولذلك قال الله بعدها: {آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ} [يونس:91]، وقد جاء في الخبر الصحيح أن جبريل عليه السلام لما سقط فرعون في البحر يغرق جاء جبريل بوحل البحر وأخذ يضعه في فم فرعون، لأنه خشي أن فرعون يثني على الله فتدركه رحمته، وهذا فعله جبريل لسببين: السبب الأول: علم جبريل بعظيم رحمته. والسبب الثاني قاله جبريل: ففي الحديث الذي رواه الطبراني قال: (يا محمد! ما أبغضت أحداً من خلق الله كبغضي لفرعون عندما قال: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38]) فلما قال فرعون لأهل مصر سابقاً: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38] أبغضه جبريل، فلما جاء فرعون في هذا الموقف بقي البغض في قلب جبريل، فأخذ يضع الطين في فم فرعون؛ خشية أن يثني على الله ثناءً يستدر به رحمة الله، قال: حتى لا يثني على الله ثناءً فيغفر الله له. قال الترمذي رحمه الله: والحديث صحيح بالجملة، وصححه كثير من العلماء كـ الألباني والأشقر وغيرهما من علماء الملة. والذي يعنينا: أن فرعون لم يقبل الله إيمانه؛ لأنه كان إيمان اضطرار لا إيمان اختيار، وقلنا: إن هذه السنة: أن الله لا يقبل إيمان الاضطرار، ولا يقبل إلا إيمان الاختيار، مستثناة في قوم يونس، قال الله: {فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [يونس:98]. فنعود إلى الآية، قال الله: {آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ} [يونس:91 - 92].

§1/1