تأثر الدعوات الإصلاحية في أندونيسيا بدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب (مطبوع ضمن بحوث ندوة دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب)

نجيح عبد الله

تأثر الدعوات الإصلاحية في أندونيسيا بدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب

تأثر الدعوات الإصلاحية في أندونيسيا بدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب للأستاذ نجيح عبد الله مدير معهد مسكومميان الإسلامي بقرشيك بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي أرسل رسوله للناس كافة بشيرا ونذيرا ولكن أكثر الناس لا يعلمون.. والصلاة والسلام على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم إلى يوم يرجعون. وبعد، فهذا بحث وجيز في دعوة المصلح العظيم الشيخ محمد بن عبد الوهاب وتأثر الحركات الإصلاحية في أندونيسيا بها. أقدمه تطفلا على مائدة العلماء الكرام في أسبوع للشيخ محمد بن عبد الوهاب الذي تقيمه جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض. وإني لا أحسب أن في وسعي أن أستوعب جميع تأثيرات هذه الدعوة المباركة في جميع نواحي الإصلاح، بل ولا أجرؤ أن أقول إن في استطاعتي أن أقدم بحثا شاملا عن جزء واحد منها، وذلك لعجز قلمي، وقلة باعي، وقصور علمي بالنسبة لتلك التأثيرات المترامية الأطراف المتعددة الجوانب. لذا أكتفي بأن ألقي الضوء على بعض تأثيرات أحد كتب الشيخ الذي عم نفعه والذي قرر تدريسه في بعض المعاهد الدينية، واتخذ مرجعا هاما في الأماكن الأخرى مع صعوبة تناوله في أندونيسيا، وهو "كتاب التوحيد".. سائلا المولى جل وعلا أن يرزقني فيه التوفيق والسداد.

الشعلة الأولى لليقظة الإسلامية في العصر الحديث: في القرن الثامن عشر الميلادي كان العالم الإسلامي ساقطا في هوة عميقة، لا توجد له علائم للقوة الصحيحة، عم أرجاءه الجمود والخمول، وانتشر فيه فساد الأخلاق بشدته، وغابت فيه بقايا آداب العرب يبتلعها الترف المفرط عند طائفة الذي تولد منه بؤس الأكثرية العظمى، وتوقفت حركة التعليم. نعم، هناك عدة جامعات أقعدها الجمود، وعاشت عيشة كفاف لا يهتم بها. هكذا وصف العالم الأميركي الدكتور لوثروب ستود دارد العالم الإسلامي آنذاك في كتابه حاضر العالم الإسلامي. ثم بعد وصفه أحوال المسلمين الاجتماعية والسياسية استطرد قائلا: "وأما الدين فقد أصابه الجمود شأن غيره من نواحي الحياة، فالتوحيد الذي أرشد إليه الرسول محمد صلى الله عليه وسلم قد غشيته الخرافات وآراء الصوفية وخلت المساجد من معظم العوام، وكان الناس يحملون العزائم والتمائم والسبحات، ويعبدون الأولياء، ويتخذونهم وسائط إلى الله ليقربوهم إليه زلفى لزعمهم أن الإنسان العادي لا يستجاب له إلا بواسطتهم. غابت عن الناس الفضائل التي علمها القرآن أو استهانوا بها، فصار شرب الخمر والمخدرات في كل مكان، وعم البغاء، وانتشرت الرذائل، وهتك الأعراض على غير خوف ولا حياء. وأصاب المدينتين المقدستين مكة المكرمة والمدينة المنورة ما أصاب غيرهما من مدن العالم الإسلامي من الرذائل والشرور، وصار الحج الذي فرضه الله على عباده المؤمنين عملا ذليلا يجري على غير مجراه الصحيح.

وبالجملة، فقدْ فقدَ الإسلام حيويته، وبقي طقوسا بلا روح وهبوطا بعيد القرار، فلو عاد النبي محمد صلى الله عليه وسلم وشاهد ما كان عليه الإسلام في ذلك الوقت لغضب غضبا ولصب اللعنة على معتنقيه المرتدين عبدة الأوثان. فبينما الإسلام كذلك في ظلام داهم إذا بصوت عال يدوي من قلب الصحراء الواسعة - مهد الإسلام - يدعو المسلمين إلى الرجوع إلى النهج القويم، وصاحب هذا الصوت هو المصلح المشهور محمد بن عبد الوهاب الذي أوقد نار الإصلاح، فَعَلاَ لهيبها واندلعت ألسنتها إلى جميع أرجاء العالم الإسلامي. وكان الرجل يحث المسلمين على إصلاح النفوس وعلى استعادة المجد والعز القديمين وبهذا ابتدأت اليقظة الإسلامية الجبارة. نعم ابتدأت اليقظة الحديثة في العالم الإسلامي بدعوة هذا المصلح العظيم الذي دعا الناس إلى تصحيح مفهوم التوحيد وتنقيته من شوائب الشرك -ما ظهر منها وما بطن-، ودعا إلى منهج السلف الصالح في فهم العقائد الدينية السهلة السائغة للعقول، وإلى نبذ تعقيدات المتكلمين والفلاسفة والصوفية منها، ودعا إلى نبذ ما شوه الشريعة من البدع والتحريفات. وقصارى القول أن هذه الدعوة تدعو إلى الإسلام على صورته التي وضعها صاحب الشريعة، فكانت بذلك توقظ العقول النائمة وتحرك الهمم الراقدة، وتعيد إلى القلوب حرارة الإيمان، وتطهر النفوس من أدناس الخرافات والأوهام، فحق ما يقال إنها هي الشعلة الأولى لليقظة الإسلامية في العصر الحديث، وأن جميع الحركات الإصلاحية التي ظهرت في سائر الأقطار الإسلامية في العصر الحديث لها صلة بها ومتأثرة بها ومدينة لها". وفي رأيي أن ستود دارد لا يجافي الإنصاف حين يقول: "وحدث انفجار الوعي الإسلامي الأول في قلب صحراء شبه الجزيرة مهد الإسلام،

هناك في مطلع القرن التاسع عشر ظهرت الحركة الوهابية على سبيل الدعوة الإصلاحية الإسلامية، ثم تطورت الحركة وصارت يقظة إسلامية واسعة الانتشار. وضع المسلمين الديني في أندونيسيا: ليس المسلمون الأندونيسيون بأحسن حالا ولا أسعد حظا من إخوانهم في سائر الأقطار الإسلامية، فإن المسلمين الأندونيسيين منهم الذين لا يعرفون عن الدين الذي انتسبوا إليه سوى الاسم وسوى قليل من المعلومات المشوهة بالأباطيل والأساطير الخالية، ولا يقولون بالشهادتين إلا عند الزواج. وإنما يقولون بهما لأن الموظفين من قبل الحكومة القائمين بمراسيم عقد النكاح للمسلمين كلفوهم بمجرد التلفظ بالشهادتين قبيل العقد بدون ما فهم ولا إدراك، ولا يعرفون من شرائع الإسلام إلا الختان لأولادهم الصغار، واستقبال موتاهم إلى القبلة في القبور، وهم لا يزالون على معتقدات آبائهم وتقاليدهم الموروثة الممزوجة من بقايا الوثنية الأولى والهندوكية والبوذية، وهؤلاء هم الذين سماهم البعض بالمسلمين الحمريين. ومنهم الذين يمارسون شرائع الدين إلى حد ما، ويتلقون تعاليم دينهم من العلماء وشبه العلماء الذين حال بينهم التقليد المحض والتعصب المذهبي وبين النظر الصحيح في الدين، فقد فشت فيهم البدع والخرافات وأشياء يعدونها من الدين وليست من الدين في شيء، وهذه الطائفة معروفة بالجاوية باسم "طائفة سنترى"، والمعاهد الدينية التي التفوا حولها وتلقوا تعاليم دينهم فيها تسمى "بباسنترين".ومنهم أسراء الثقافة الغربية - ثقافة المستعمرين - الذين يرون أن الدين إنما هو مجرد عقائد فردية وعدة طقوس للعبادة المنحصرة في بيوت العبادة ولا شأن له بواقع حياتهم الاجتماعية والأدبية والاقتصادية وما إلى ذلك، إلا شيئا ضئيلا من قواعد أخلاقية عامة، وهؤلاء هم أكثر الذين تقلدوا سلطة الحكم تحت قدم الاستعمار.

وبالجملة فإن وضع عامة المسلمين الديني في أندونيسيا في ذلك العصر بعيد ومنحرف عن تعاليم دينهم الصحيحة، وأنهم محرومون من مزايا دينهم العظمى. حركات الإصلاح في أندونيسيا: وأعني بحركات الإصلاح جميع الحركات التي تدعو إلى تصحيح العقائد وتصفية الشرائع مما شوهها من البدع والخرافات والأوهام وبقايا الوثنية، وإلى نبذ التقليد الأعمى، والتعصب المذهبي والرجوع إلى نبع الدين الصافي وهو الكتاب والسنة وكسر الجمود، والاستنارة بتعاليم الإسلام الصحيحة التي تهدي الناس إلى الحياة الطيبة. ظهرت تلك الحركات في أندونيسيا وتنوعت من حيث الأساليب والأشكال على اختلاف استعدادات رجالها والبيئات التي يعيشون فيها، ولكنها تغزو غاية واحدة وتسعى تحت شعار واحد، وهو الرجوع إلى الكتاب والسنة أو الرجوع إلى نهج سلف الأمة، فمن ذلك سماها البعض "بالحركات السلفية".ابتدأت الحركات السلفية بظهورها في سومطرة - إحدى الجزر الخمسة الكبرى في أندونيسيا - سنة 1802م على أيدي بعض الحجاج من مسلمي الجزيرة الذين رجعوا من مكة المكرمة واتصلوا بعلماء الدعوة الوهابية - كما سماها معارضوها - واقتنعوا بصحتها واعتنقوها. وهؤلاء هم "الحاج مسكين" وأصحابه المعروفون "بالأسود الثمانية" ولكن العوام الذين يجهلون حقيقة ما يدعون إليه سموهم "بطائفة الرهبان"، والحروب الطاحنة التي نشبت بينهم وأتباعهم في جانب وبين المستعمرين الهولنديين وأعداء الدعوة في جانب آخر، معروفة باسم "حروب الرهبان" أو "برابغ بدري" باللغة المحلية. اشتد النزاع بين أعداء الدعوة من سكان المنطقة وبين أتباع الدعوة الذين أصبحوا

قوة لا يستهان بها، وشعرت حكومة الاستعمار أن هذه القوة سوف تهدد كيانها ونفوذها، فرأت مناهضة هذه الحركة والقضاء عليها قبل فوات الأوان، ثم انتهزت الفرصة لشن الحرب ضد المسلمين أتباع الدعوة بدعوى حماية كيان أهل التقاليد والعادات من أبناء المنطقة، واستمرت المناوشات والحروب بين هؤلاء وبين المستعمرين ما يزيد عن خمس عشرة سنة (سنة 1822 - 1837م) وانتهت بانتصار المستعمرين واستيلائهم على منطقة سومطرا الغربية، أرض مينانج كابو. تغلبت قوة الاستعمار في ميدان الحرب على أتباع الدعوة، ولقي معظم رجالها شهادتهم فيه، ولكن الدعوة نفسها لم ينطفئ جمرها ولم يخمد لهبها واستمرت تحرق ما حولها، ثم أخذت تتقد ويعلو لهبها فيما بعد على أيدي رجال مخلصين أمثال الشيخ محمد عبد الله أحمد (1878 - 1933م) والشيخ الحاج عبد الكريم أمر الله (1879 - 1945م) والد الدكتور الحاج عبد الملك كريم أمر الله رئيس الهيئة المركزية لمجلس علماء أندونيسيا الحالي، والشيخ محمد جميل جمبيك (1860 - 1947م) والشيخ الحاج طيب عمر (1874 - 1920م) غير أنها اتخذت أسلوبا وشكلا جديدين، فأنشئت لها مجالس للتعليم والمحاضرات، وأقيمت المدارس والمعاهد الدينية تحت اسم: "طوالب سومطرة" وأصدرت المجلات ونشرت المطبوعات، منها مجلات "المنير" و"البيان" و"البشير" و"الإتقان" ورسالة "الفوائد العلية" ورسالة "إيقاظ النيام"، وهذه كلها لها آثارها الإصلاحية الواضحة وثمارها الطيبة الجمة. ثم أخذت الحركات السلفية تنتشر في سائر الأقطار، وظهرت في أماكن مختلفة ظهرت في آتشيه تحت قيادة الشيخ الأصفهاني الآتشيهي، وظهرت في جاوا، وكالمنتان، وسولا، ويسى، والجزر الجنوبية الشرقية، ومالوكو وغيرها. ظهرت في جاوا جمعية "محمدية" سنة 1912م في مدينة جوكيا كرتا عاصمة أندونيسيا السابقة، وجمعية "الإصلاح والإرشاد" سنة 1914م في جاكرتا العاصمة الحالية وظهرت في باندونج عاصمة منطقة جاوا الغربية التي كانت مقرا للمؤتمر الآسيوي الأفريقي الأول جمعية "الوحدة الإسلامية" سنة 1923م.

ومن غرائب الصدفة أن كبرى الجمعيات التي ظهرت في أندونيسيا على أساس الدعوة الإصلاحية والحركة السلفية قد اتخذت لنفسها اسما هو عندي نسبة صحيحة للشيخ محمد بن عبد الوهاب، وهي جمعية محمدية، ولا أدري أكانت هذه النسبة من مجرد المصادفة أم أنها كانت داخلة تحت الحسبان. ظهرت هذه الجمعية على يد مؤسسها الشيخ الحاج أحمد دخلان وعلى أيدي تلاميذه المتحمسين وأتباعه المخلصين. وكان الشيخ فيما مضى خطيبا في مسجد السلطان في جوكياكرتا - تقلد بهذا المنصب لقب "الخطيب الأمين" – وثَرِيّاً من أثرياء تجار باطيك، وقد أدى فريضة الحج مرتين. وبعد رجوعه في المرة الأخيرة سنة 1902، وبعد ما أقام في جوار بيت الله الحرام مدة من الزمان، اتصل فيها بعلماء الدعوة وعرف حقيقتها ومبادئها وسمع منهم ما حصل لها من القضاء على كثير من المفاسد، وإعادة الناس إلى دينهم الصحيح، وبعد مطالعته لكثير من آراء علماء الإصلاح أمثال الشيخ ابن تيمية وتلميذه الشيخ ابن قيم الجوزيه، والشيخ محمد عبده، وتلميذه محمد رشيد رضا وغيرهم اشتد عزمه على بث هذه الدعوة الإصلاحية وبدأ الحركة السلفية، ثم استقال من منصبه في مسجد السلطان، وأخذ يجاهد في سبيل الدعوة بنفسه وماله ويثابر عليها مثابرة منقطعة النظير، ثم انتقل إلى جوار بارئه سنة 1923م ونفسه راضية مرضية، وبعد ما شاهد انتشار دعوته وثمار حركته وكثرة أعوانه وأتباعه. وشاء الله أن تكون لهذه الجمعية فيما بعد غصون وفروع في جميع أنحاء البلاد، وما درس في اختلاف المستويات وجامعات وجوامع ومستشفيات وملاجئ للأيتام وما إلى ذلك، فلا تكاد توجد في أندونيسيا قرية أو بلدة إلا وفيها فرع أو مدرسة أو مستشفى أو مستوصف أو ملجأ للأيتام أو مجلس للتعليم لهذه الجمعية، فكانت جمعية محمدية - بدون ريب - أكبر الجمعيات التي تحمل على عاتقها الدعوة الإصلاحية في أندونيسيا، ويقال:

إن المرحوم الشيخ السيد أمين الحسيني كان يقول عند زيارته لأندونيسيا لحضور المؤتمر الآسيوي الأفريقي الأول أن جمعية محمدية أكبر جمعية إسلامية في العالم. أما جمعية الإصلاح والإرشاد فكانت تضم بعض أبناء العرب في أندونيسيا، وظهرت بوصول الشيخ أحمد السوركتي السوداني إلى جاكرتا، وكان الشيخ يقيم مدة غير قصيرة في المدينة المنورة قبل وصوله إلى أندونيسيا، نهل من مناهلها الصافية المعارف والعلوم وتلقى مبادئ الدعوة الإصلاحية من علمائها. وكانت لهذه الجمعية منجزات ومؤسسات تعمل في سبيل الدعوة الإصلاحية والتوعية الدينية في المسلمين، فكانت لها آثارها الطيبة، ثم تتضاءل نشاطاتها باندماج أبناء العرب بأبناء الوطن الأصليين في عهد الاستقلال. وللشيخ أحمد السوركتي - رحمه الله تعالى - تلاميذ وأتباع أخذوا عنه العلم والمعرفة، وورثوا عنه روح الجهاد والحماسة، والذين لا يزالون على جهاد مستمر منهم السيد عبد الرحمن بالسويدان في جوكياكرتا، والشيخ الأستاذ عمر هبيش في سورا بايا. وأما عن جمعية الوحدة الإسلامية التي ظهرت بفكرة الشيخ الحاج زمزم البالمباني سنة 1923م فأحب أن أتوقف قليلا عند اسم بارز فيها وهو الشيخ الأستاذ أحمد حسن، وهو أحد العلماء البارزين العاملين في سبيل الإصلاح الديني والوعي الإسلامي، وقد أخذ في دعوته أسلوبا قريبا من أسلوب الشيخ محمد بن عبد الوهاب من حيث الصراحة وعدم المداهنة. فكان يحارب الشرك والبدع والمنكرات، ويدعو إلى الرجوع إلى الكتاب والسنة ونبذ التقليد الأعمى والتعصب المذهبي بلسانه الحاد وقلمه الصارم.. ولا يخاف في ذلك لومة لائم، له مؤلفات كثير منها: "تفسير الفرقان" و"محمد رسول الله" و "كتاب الصلاة" و "كتاب الأسئلة والأجوبة" وهو كتاب يحتوي على فتاواه الدينية وغيرها، وأصدرت تحت

رئاسته مجلة "المدافع عن الإسلام" التي كانت لها آثارها الكبيرة في توجيه آراء الشبان المسلمين ولا سيما المثقفين منهم. وله تلاميذ أجلاء تفقهوا الدين عنده، منهم الدكتور محمد ناصر رئيس وزراء أندونيسيا الأسبق ورئيس الهيئة المركزية للمجلس الأعلى الأندونيسي للدعوة الإسلامية وأحد أعضاء المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي والرئيس بالنيابة لمؤتمر العالم الإسلامي. وللجمعية عدة مؤسسات، منها معهد ديني في مدينة بانجيل بجاوا الشرقية التي كانت تحت إدارة الشيخ أحمد حسن، أما مديره الحالي فهو الأستاذ/ عبد القادر حسن أحد أبناء الشيخ الذي خلفه من بعده، فكان خير خلف لخير سلف. وهناك مؤسسات أخرى منتشرة في أنحاء البلاد على أيدي رجال لا ينتسبون إلى إحدى المؤسسات السالفة الذكر، ولكن تلك المؤسسات لها أهمية كبيرة في بث الدعوة الإصلاحية والحركة السلفية وهؤلاء الرجال على اختلاف استعداداتهم وتفاوت قدراتهم يعملون في بث الدعوة ومحاربة الفساد جهد الطاقة. وأذكر هنا من تلك المؤسسات على سبيل المثال: "المدرسة الأميرية الإسلامية" و"المدرسة السعدية" في جزيرة سولاويسي، و"المدرسة الإسلامية السلطانية" التي كانت تحت إدارة الشيخ الحاج محمد باشوتي عمران في سمباس بكالمنتان و"مدرسة المعلمين" التي أقامها الأستاذ الحاج عبد الرحمن في أمونتاي و"المدرسة الوطنية الإسلامية" في جاوا الوسطى، ومعهد مسكو ممبان الإسلامي" في قرشيك. وبخصوص هذا الأخير أود أن أذكر شيئا عنه، فإن القائمين بالتدريس في المعهد كانوا من أشد أعداء الدعوة القائلين بأن الطائفة الوهابية طائفة منحرفة عن الدين وخارجة على أهل السنة والجماعة وقائلة بتضليل من عداها من المسلمين، وأنها لا تحب الرسول صلى الله عليه وسلم، وتحقر شئون الأولياء وشعائر الدين، وغير ذلك من الأكاذيب والافتراءات.

فلا عجب، فإن هؤلاء لم تصل إليهم من المعلومات عن الدعوة الوهابية إلا ما بثه أعداء الدعوة من أدعياء العلم وأذيال أشراف الحجاز في الكتب التي ألفوها، المشحونة بالأكاذيب والترهات والحكايات الخيالية الخبيثة ضد الدعوة. ثم تغيرت الأحوال بعد رجوع الشيخ عمار فقيه أحد أولاد شيخ المعهد الأسبق من أداء فريضة الحج سنة 1928 م، الذي اتصل بعلماء الدعوة مدة إقامته في بلد الله الحرام، وتلقى منهم حقيقة الدعوة ومبادئها، حتى أدرك مدى ما للدعاية ضد الدعوة من مفتريات وأكاذيب، وأيقن أن معظم العلماء الأندونيسيين كانوا ضحايا أكاذيب المفترين. فلما أبدى آراءه على ملأ قام النزاع والجدال بينه وبين العلماء الذين ما زالوا على فكرتهم الأولى، واشتدت وطالت المنازعة والمجادلة حتى انتهى الأمر بتغلب دعوته وانتشار آرائه وكثرة أتباعه. ولما صار أمر المعهد تحت يده من بعد والده الشيخ محمد فقيه، ازداد نفوذ الدعوة وانتشارها، وصار المعهد مركزا لنشر الدعوة الإصلاحية والحركة السلفية في تلك المنطقة، وكثير من دعاة الإصلاح وحملة الدعوة المنضمين إلى الجمعيات كانوا من متخرجي المعهد، وللشيخ عمار فقيه عدة مؤلفات منها "تحفة الأمة في العقائد ورد المفاسد"، و"هداية الأمة" و"صلة الأمة" و"تحديد أهل السنة والجماعة" ومما أوصى به في مرض موته قال: دعوا شيعا شتى تشتت شملكم ... دعوا بدعا يخشى بها ما يهول دعوا كل بدعة دعوا كل شيعة ... إلى ملة قد كان فيها الرسول صيروا بعون الله من أهل سنة ... واصى عليها أن يعض العقول ثم بعد انتقاله إلى جوار بارئه الرحيم سنة 1965 م خلفه الأستاذ نجيح أحيد، صهر الشيخ وأحد تلاميذه. وفي عهد مدير المعهد الحالي قرر فيه تدريس كتاب التوحيد تأليف الشيخ محمد بن عبد الوهاب إلى جانب الكتب التي تكون على منواله.

تأثيرات كتاب التوحيد تأليف الشيخ محمد بن عبد الوهاب وكتاب التوحيد تأليف الشيخ محمد بن عبد الوهاب غني عن التعريف به عند من له أدنى إلمام بدعوته، وهو عندي من أهم الكتب التي ألفها الشيخ والتي لم تصل إلى أندونيسيا إلا بندرة. والكتاب مع ندرته وصعوبة تناوله في أندويسيا يعد من أهم المراجع في دروس التوحيد في مدارس ومعاهد دينية وجامعات إسلامية، ومن الكتب المقرر تدريسها في بعض المعاهد الدينية أمثال المعهد الوطني الإسلامي في كبار - ونجاوا الوسطى ومعهد مسكو ممبان الإسلامي في قرشيك- كما مر-.والحق -كما شهد عليه كثير من الكتاب- أن الشيخ ما جاء في كتابه هذا بجديد، أو ما اخترع فيه شيئا، وإنما جاء بتعاليم الدين كما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وفهمه أصحابه وأتباعهم، ولكن الدين قد عاد غريبا عند معظم أهله كما بدأ. فكان علم التوحيد عند الأكثرين علماً يبحث فيه عن وجود الله وما يجب في حقه تعالى وما يجوز وما يستحيل فيه من الصفات، وعن الرسل وما يجب في حقهم وما يجوز وما يستحيل، ومسائل أخرى تتعلق بتلك المباحث. والكتب التي يدرسونها في علم التوحيد مشحونة بتعقيدات المتكلمين وتغميضات الفلاسفة وثرثرة المدعين التي قد تعلو على عقول أكثر الخواص فضلا عن العوام، وقد تدخل الشكوك على قلوب الأكثرين، وربما يجوز لنا القول أن كل شيء من ذلك فيها إلا التوحيد نفسه 1.

_ 1 أعني توحيد الألوهية الذي هو أحد شقي التوحيد.

التوحيد غاية دعوة الرسل: لا يخفى على من له أدنى معرفة بالدين أن التوحيد غاية لدعوة الرسل من لدن أبي الأنبياء إلى آخر الرسل وخاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأن الناس يغلب عليهم الإشراك. {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ} 1.فهم مع إيمانهم أن الله هو خالق الكون ومالكه ومدبر شئونه يتوهمون أن له أعوانا ووسائط مقربين من ملائكة وجن وإنس وأرواح وغيرها، وأن لتلك الوسائط والأعوان شيئا من النفوذ في تدبير أمور الكون منعا وعطاء، وشيئا من حق الملكية أمرا ونهيا، ويتوهمون أنهم أذل لأن يدعوا الله ويسألوه مباشرة، وأنه أبعد لأن يرفعوا إليه حاجاتهم أو يلجئوا إليه عند الشدائد، لذلك نراهم سريعي الإعراض عن الله تعالى إلى ما يتوهمون فيه أنه شريك له أو معين له أو مقرب إليه أو شفيع عنده أو وسيط بينه وبينهم. فمن ذلك نرى أن أول ما يدعو إليه الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأشده الرجوع إلى التوحيد النقي من شوائب الإشراك، فننبه بقوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} 2 وقوله صلى الله عليه وسلم:: " من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، والجنة حق والنار حق، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل " 3 (رواه الشيخان عن عبادة) وقوله صلى الله عليه وسلم: " إن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله

_ 1 سورة يوسف آية: 106. 2 سورة الأنعام آية: 82. 3 البخاري: أحاديث الأنبياء (3435) , ومسلم: الإيمان (28) , وأحمد (5/313) .

يبتغي بذلك وجه الله " 1 (أخرجاه في حديث عتبان) ، وقوله صلى الله عليه وسلم حكاية عن الله تعالى أنه قال: "لو أن السماوات السبع وعامرهن غيري والأرضين السبع في كفة، ولا إله إلا الله في كفة مالت بهن لا إله إلا الله " (رواه ابن حبان والحاكم عن أبي سعيد) . وقوله صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى: " يا ابن آدم، لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة " 2 (رواه الترمذي عن أنس) . وقوله صلى الله عليه وسلم " من لقى الله لا يشرك به شيئا دخل الجنة " 3.واعلم أن التوحيد أول ما يدعو إليه الدين مستدلا بحديث ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذا إلى اليمن:قال: له إنك تأتي قوما من أهل الكتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله.. وفي رواية: إلى أن يوحدوا ... الحديث (رواه الشيخان) . ونبه بأن الشرك أعظم الذنوب الذي لا يغفر الله لفاعله إلا إذا تاب، وذكر قوله عزو جل: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} 4.وأنه لا يأمن أحد من وقوعه فيه، فإن خليل الله إبراهيم مع قربه من الله وعصمته سأل الله أن يجنبه وذريته إياه، قال تعالى حاكيا دعاءه عليه السلام: {اجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ} 5. وأن الشرك يقع في هذه الأمة في أي نوع من أنواعه، وذكر في الاستدلال بقوله تعالى: {

_ 1 البخاري: الصلاة (425) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (33) . 2 الترمذي: الدعوات (3540) . 3 مسلم: الإيمان (93) , وأحمد (3/325 ,3/344 ,3/374 ,3/391) . 4 سورة النساء آية: 48. 5 سورة إبراهيم آية: 35.

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} 1 وقوله صلى الله عليه وسلم " لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه، قالوا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: فمن " 2 (رواه الشيخان عن أبي سعيد الخدري) وقوله صلى الله عليه وسلم " لا تقوم الساعة حتى يلحق حي من أمتي بالمشركين وحتى تعبد فئام من أمتي الأوثان " 3 (رواه البرقاني في حديث طويل عن ثوبان) . مفهوم التوحيد: إن منتهى ما وصلوا إليه في علم التوحيد الاعتقاد بأن لهذا العالم خالقا واحدا وهو الله، وهو وحده مالكه والمسيطر عليه وواضع قوانينه التي يسير عليها، وهو واحد في ذاته وصفاته وأفعاله، وهذا - ولا شك - أحد شقي التوحيد وهو توحيد الربوبية، ولا يصلون إلى شقه الآخر وهو توحيد الألوهية الذي يقتضي من العباد توحيد العبادة. وذلك لعدم إدراكهم أن التوحيد لا يتحقق إلا بشقيه وعدم علمهم أن توحيد الألوهية هو مفترق الطرق بين المسلمين وبين المشركين الذين حكاهم الله بقوله عز وجل: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} 4.وقوله تعالى: {قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ

_ 1 سورة النساء آية: 51. 2 البخاري: أحاديث الأنبياء (3456) , ومسلم: العلم (2669) , وأحمد (3/84 ,3/89 ,3/94) . 3 الترمذي: الفتن (2219) , وأحمد (5/278) . 4 سورة العنكبوت آية: 61.

أَفَلا تَذَكَّرُونَ قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} 1.كما حكى عنهم بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} 2. ولا أقول إن منتهى ما وصلوا إليه في التوحيد هو عين ما وصل إليه مشركو مكة زمن البعثة، ولكن أريد أن أذكر أن مباحث الكتب المتداولة في علم التوحيد كانت تدور حول الاستدلال على وجود الله ووحدانيته في ذاته وصفاته وأفعاله وما إلى ذلك بأدلة كلامية أو شبه كلامية، أقصى ما تصل بهم إليه هو توحيد في المعرفة والإثبات، وهو توحيد الربوبية والأسماء والصفات، أما توحيد الألوهية فلا تدخل تحت مباحثها ولا تكون أمام اهتمام الطلاب. أما ما أتى به الشيخ في كتابه في المسألة فهو أن التوحيد ضد الشرك، وأن الله أرسل رسله ليأمروا الناس بالتوحيد والذي هو إفراد العبدة لله تعالى، وينهوهم عن الشرك الذي هو صرف العبادة له ولغيره سبحانه، وأتى بالأدلة على ذلك من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، منها قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} 3.

_ 1 سورة المؤمنون آية: 84-89. 2 سورة الزمر آية: 3. 3 سورة الذاريات آية: 56.

وقوله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} 1 وقوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ} 2 وقوله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} 3.وقوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} 4.وقول النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل: " حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئا " 5 (رواه الشيخان عن معاذ بن جبل) . وليتضح معنى التوحيد ومعنى الشرك فلا بد من بيان معنى العبادة، فإنها إذا أفردت لله تعالى وحده فهو التوحيد، وإذا صرفت لله ولغيره فهو الشرك.

_ 1 سورة النحل آية: 36. 2 سورة الإسراء آية: 23. 3 سورة النساء آية: 36. 4 سورة الأنعام آية: 151. 5 البخاري: الجهاد والسير (2856) , ومسلم: الإيمان (30) , وابن ماجه: الزهد (4296) , وأحمد (3/260 ,5/228 ,5/229 ,5/230 ,5/234 ,5/236 ,5/238 ,5/242) .

بيان معنى العبادة: اختلفت ألفاظ العلماء في بيان معنى العبادة وتعريفها على اختلاف مشاربهم ومآربهم، وكان الشيخ لا يلتجئ إلى تلك الألفاظ ولكن بين معنى العبادة والمراد بها بطريق عملي. وأعني بذلك أنه بين أن التوحيد ضد الشرك، وهما متنافيان، فلا يتحقق التوحيد إلا بالبعد عن الشرك، وهو صرف العبادة إلى غير الله تعالى، ثم ذكر أشياء نهى الدين عنها على أنها تعد عبادة لغير الله وهو الشرك أو ذريعة إلى الشرك. فمن الأشياء التي ذكرها دعاء الأنبياء والأولياء والصالحين في قضاء حوائجهم أو دفع بلائهم زعما من الناس أنهم وسطاء بينهم وبين الله، وأن لهم تأثيرا في قضاء حوائجهم أو دفع ضرهم، ثم استدل على بطلانه وأنه ينافي التوحيد بقوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} 1. وقوله تعالى: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ} 2 وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} 3.

_ 1 سورة الإسراء آية: 57. 2 سورة يونس آية: 106. 3 سورة الزمر آية: 3.

وقول الرسول صلى الله عليه وسلم لفاطمة: " يا فاطمة بنت محمد، سليني من مالي ما شئت، لا أغني عنك من الله شيئا " 1 (رواه البخاري عن أبي هريرة) وغير ذلك. ومنها طاعة العلماء والأمراء في تحريم ما أحل الله أو تحليل ما حرم الله، صرح الشيخ أن ذلك عبادة لهم مستدلا بما جاء في السنة: أن عدي بن حاتم سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ هذه الآية: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} 2.فقلت: إنا لسنا نعبدهم، قال: أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه ويحلون ما حرم الله فتحلونه؟ فقلت: بلى. قال: فتلك عبادتهم. وأيد ذلك بما روي عن ابن عباس أنه قال: يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء، أقول قال رسول الله، وتقولون قال أبو بكر وعمر. وقول أحمد بن حنبل: عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته ويذهبون إلى رأي سفيان، والله تعالى يقول: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} 3. أتدري ما الفتنة؟ الفتنة: الشرك. ومنها التحاكم إلى غير حكم الله، واستدل بقول الله عز وجل {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى

_ 1 البخاري: الوصايا (2753) والمناقب (3527) وتفسير القرآن (4771) , ومسلم: الإيمان (204 ,206) , والترمذي: تفسير القرآن (3185) , والنسائي: الوصايا (3646) , وأحمد (2/398 ,2/519) , والدارمي: الرقاق (2732) . 2 سورة التوبة آية: 31. 3 سورة النور آية: 63.

الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً} 1.وقوله تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} 2.وقوله صلى الله عليه وسلم " لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به " (رواه الطبراني وأبو بكر وأبو نعيم عن ابن عمرو) . ومنها التبرك بنحو قبر أو شجرة أو نحوهما، واستدل بحديث أبي واقد الليثي: "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين ونحن حد ثاء عهد بكفر، وللمشركين سدرة يعكفون عندها وينوطون بها أسلحتهم يقال لها ذات أنواط، فمررنا بسدرة فقلنا: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم الله أكبر، إنها السنن، قلتم- والذي نفسي بيده- كما قال بنو إسرائيل لموسى: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} 3 {قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} 4 لتركبن سنن من كان قبلكم" (رواه الترمذي وصححه) . ومنها الغلو في الصالحين وفي قبورهم، وأتى في الاستدلال بقوله تعالى: {أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ} 5.وبما صح عن ابن عباس أنه قال في قول الله تعالى: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} 6.

_ 1 سورة النساء آية: 60-61. 2 سورة المائدة آية: 50. 3 سورة الأعراف آية: 138. 4 سورة الأعراف آية: 138. 5 سورة النساء آية: 171. 6 سورة نوح آية: 23.

قال: هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابا وسموها بأسمائهم، ففعلوا ولم تعبد حتى إذا هلك أولئك ونسي العلم عبدت، وبما رواه الشيخان عن عمران أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم، إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله " 1، وقوله صلى الله عليه وسلم " إياكم والغلو فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو " 2 (رواه أحمد والترمذي وابن ماجه عن ابن عباس) ، وبما روي عن عائشة أن أم سلمة ذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم كنيسة رأتها بأرض الحبشة وما فيها من الصور، فقال: " أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله " 3 (رواه الشيخان) ، وبما روي عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " 4. يحذر ما صنعوا ولولا ذلك أبرز قبره، غير أنه خشي أن يتخذ مسجدا، وبما رواه مسلم عن جندب بن عبد الله قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس وهو يقول: " ألا وإن من قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك " 5، وبما روى مالك في الموطأ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " 6 وقوله صلى الله عليه وسلم " لا تجعلوا بيوتكم قبورا، ولا تجعلوا قبري عيدا، وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم " 7، وغير ذلك. ومنها النذر والذبح لغير الله، وأتى بما نهى عن ذلك من الأدلة، وهو قوله تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً} 8 وقوله تعالى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ} 9.

_ 1 البخاري: أحاديث الأنبياء (3445) , وأحمد (1/23 ,1/24 ,1/47) . 2 النسائي: مناسك الحج (3057) . 3 البخاري: الصلاة (434) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (528) , والنسائي: المساجد (704) , وأحمد (6/51) . 4 البخاري: الصلاة (436) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (531) , والنسائي: المساجد (703) , وأحمد (1/218 ,6/34 ,6/80 ,6/121 ,6/146 ,6/252 ,6/255) , والدارمي: الصلاة (1403) . 5 مسلم: المساجد ومواضع الصلاة (532) . 6 مالك: النداء للصلاة (416) . 7 أبو داود: المناسك (2042) , وأحمد (2/284 ,2/337 ,2/367 ,2/378 ,2/388) . 8 سورة الإنسان آية: 7. 9 سورة البقرة آية: 270.

وحديث عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه " 1 (رواه البخاري) . ومما قال فيه: إذا ثبت كون النذر عبادة لله فصرفه إلى غيره شرك. ثم أتى بقوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} 2 وقوله تعالى: {فَصَل لربّك وانحر} 3 وبحديث علي رضي الله قال: حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربع كلمات: " لعن الله من ذبح لغير الله.. الحديث " 4 (رواه مسلم) ، وما رواه أحمد عن طارق بن شهاب في رجلين أحدهما لا يقرب لصنم ولو ذبابا فقربوا عنقه فدخل الجنة وقرب الآخر له ذبابا فخلوا سبيله فدخل النار. ومنها الاستعاذة والاستغاثة والحلف بغير الله، واستدل بقوله تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً} 5. وقول النبي صلى الله عليه وسلم " إنه لا يستغاث بي وإنما يستغاث بالله " (رواه الطبراني عن عبادة بن الصامت) ، وأتى في الحلف بما رواه الترمذي وحسنه الحاكم وصححه عن عمران أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من حلف بغير الله فقد

_ 1 البخاري: الأيمان والنذور (6696 ,6700) , والترمذي: النذور والأيمان (1526) , والنسائي: الأيمان والنذور (3806) , وأبو داود: الأيمان والنذور (3289) , وابن ماجه: الكفارات (2126) , وأحمد (6/36 ,6/41 ,6/208 ,6/224) , ومالك: النذور والأيمان (1031) , والدارمي: النذور والأيمان (2338) . 2 سورة الأنعام آية: 162. 3 سورة الكوثر آية: 2. 4 مسلم: الأضاحي (1978) , والنسائي: الضحايا (4422) , وأحمد (1/108 ,1/118 ,1/152) . 5 سورة الجن آية: 6.

كفر أو أشرك " 1، وبما رواه ابن ماجه عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا تحلفوا بآبائكم من حلف بالله فليصدق، ومن حلف له بالله فليرض، ومن لم يرض فليس من الله في شيء " 2، وقول ابن مسعود: " لأن أحلف بالله كذبا أحب إلي من أن أحلف بغير الله صادقا". ومنها الكهانة والعرافة والسحر والتطير، وأتى بما دل على نهي الشارع عن ذلك نهيا مغلظا، من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم "من أتى عرافا فسأله عن شيء فصدقه لم تقبل له صلاة أربعين يوما" 3 (رواه مسلم عن بعض أزواج النبي) وقوله "من أتى كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم " 4 (رواه أبو داود عن أبي هريرة) ، وقوله: "ليس منا من تطير أو تطير له، أو تكهن أو تكهن له، أو سحر أو سحر له، ومن أتى عرافا فصدقه فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم" (رواه البزار بإسناد جيد عن عمران بن حصين) ، وقوله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} 5.وما روي عن بجالة بن عبدة قال: كتب عمر بن الخطاب: " أن اقتلوا كل ساحر وساحرة، قال: فقتلنا ثلاث سواحر " (رواه البخاري) ، وقوله صلى الله عليه وسلم "من اقتبس شعبة من النجوم فقد اقتبس شعبة من السحر، زاد ما زاد" 6 (رواه أبو داود بإسناد صحيح عن ابن عباس) ، وحديث أبي هريرة للنسائي: "من عقد عقدة ثم نفث فيها فقد سحر، ومن سحر فقد أشرك" 7، وما روي عن ابن مسعود مرفوعا: " الطيرة شرك، الطيرة شرك، الطيرة شرك، وما منا إلا، ولكن الله يذهبه بالتوكل" 8 (رواه أبو داود) ، وما روي عن ابن عمر " من ردته الطيرة عن حاجته فقد أشرك " 9 (رواه أحمد) فبذلك اتضح لمريدي الحق أن ما شاع بين المسلمين من تلك الأفعال مناف للتوحيد

_ 1 الترمذي: النذور والأيمان (1535) , وأبو داود: الأيمان والنذور (3251) , وأحمد (2/34 ,2/125) . 2 البخاري: التوحيد (7401) , وابن ماجه: الكفارات (2101) , وأحمد (2/8) . 3 مسلم: السلام (2230) , وأحمد (4/68 ,5/380) . 4 الترمذي: الطهارة (135) , وأبو داود: الطب (3904) , وابن ماجه: الطهارة وسننها (639) , وأحمد (2/408 ,2/476) , والدارمي: الطهارة (1136) . 5 سورة البقرة آية: 102. 6 أبو داود: الطب (3905) , وابن ماجه: الأدب (3726) , وأحمد (1/227 ,1/311) . 7 النسائي: تحريم الدم (4079) . 8 الترمذي: السير (1614) , وأبو داود: الطب (3910) , وابن ماجه: الطب (3538) , وأحمد (1/389 ,1/438 ,1/440) . 9 أحمد (2/220) .

أو مناقض له، وأن التوحيد لا يتحقق إلا باجتنابه، وأن من أسباب ارتكاب كثير من تلك الأفعال الشركية هو توهمهم أن التوحيد إنما هو توحيد الربوبية، فلا يرون بأسا بارتكابها ما داموا يعتقدون أن الله واحد في ذاته وأفعاله وصفاته، كأنهم يرون أن الرسول صلى الله عليه وسلم ما دعاهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وإنما دعاهم إلى شهادة أن لا رب إلا الله. صفات الله تعالى: وأهم مباحث علم التوحيد التي توجد في بطون الكتب هو البحث عما يجب في حق الله تعالى من الصفات وما يجوز وما يستحيل، أما ما يجب في حقه تعالى فقيل ثلاث عشرة صفة، وقيل عشرون، وهي واحدة نفسية وخمس سلبيات وسبع صفات المعاني وسبع معنويات، وأما ما يستحيل في حقه تعالى فهو أضداد ما يجب، والجائز في حقه تعالى هو فعل كل ممكن أو تركه، ونظمها بعضهم: وبعد فاعلم بوجوب المعرفة ... من واجب لله عشرين صفة فالله موجود قديم باقي ... مخالف للخلق بالإطلاق وقائم غني واحد وحي ... قادر مريد عالم بكل شيء سميع بصير والمتكلم ... له صفات سبعة تنتظم فقدرة إرادة سمع بصر ... حياة العلم كلام استمر وجائز بفضله وعدله ... ترك لكل ممكن كفعله وهذه الإحدى والعشرون وأضداد العشرين المستحيلة والأربعة التي تجب في حق الرسل وأضدادها المستحيلة والواحدة التي تجوز في حقهم معروفة عندهم بالعقائد الخمسين، التي تجب معرفتها- عندهم- على كل مكلف، وتجب عليه معرفة أدلتها إجماليا وتفصيليا، واختلفوا فيها فقال بعضهم يشترط أن يعرف الدليل التفصيلي لكل واحد من هذه الخمسين، وقال الآخر: إنه يكفي معرفة الدليل الإجمالي، كما اختلفوا في كفاية التقليد فيها وعدمها.

والحق أنهم لا يأتون من الكتاب والسنة بما يدل على وجوب معرفة تلك الخمسين على كل مكلف مستقلة عن غيرها من سائر المعتقدات الإسلامية، وقد لا يقولون بوجوب اعتقاد ثبوت تلك العشرين في حق الله تعالى دون سائر الصفات التي وصف الله بها نفسه إلا تقليدا لمن سبقهم، وقد لا يعرفون أن هذا القول لا عهد له في عهد الصحابة والتابعين رضي الله عنهم. وأعتقد أني لا أجافي الحق حين أقول: إن تحرير مثل تلك العقائد وتقريرها بالأدلة النظرية العقلية الصحيحة لحاجة ما له أهميته في وقت من الأوقات وفي بيئة من البيئات. والواجب على كافة المسلمين في جميع الأزمنة والأمكنة هو الإيمان بجميع الصفات التي وصف الله بها نفسه في كتابه المبين وعلى لسان نبيه الأمين ضمن الإيمان بكتاب الله وبرسوله. أما الشيخ فقد ذكر في كتابه آيات قرآنية وأحاديث نبوية شريفة تدل على وحدانيته في ربوبيته وألوهيته واتصافه بكل كمال وتنزهه عن كل نقص، ودعا إلى الإيمان بجميع الصفات التي وصف الله بها نفسه في كتابه أو على لسان نبيه، ونهى عن جحد شيء منها أو الإلحاد فيه، ومما ساقه من الأدلة على ذلك قوله تعالى حكاية عن حال مشركي قريش: وهم يكفرون بالرحمن: {قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ} 1 وقوله تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 2.

_ 1 سورة الرعد آية: 30. 2 سورة الأعراف آية: 180.

وسلك نهج السلف ذلك من الإيمان بجميع ما ورد من الصفات والأسماء التي وصف الله بها نفسه، أو سمى بها نفسه كما وردت من غير تكييف ولا تعطيل، والراسخون في العلم يقولون: {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُو الأَلْبَابِ} 1.صرح غير واحد من علماء التحقيق أن الفكر في ذات الله تعالى ممتنع عن العقل البشري مهما عظمت قوته، وأن معرفة الله بمعرفة أسمائه وصفاته التي تليق بربوبيته وألوهيته التي تعرف بها إلى خلقها، وبالنظر إلى بدائع صنعه وعجائب خلقه وبالاستعانة بطاعة الله وحسن عبادته، بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، أما الخوض في المسائل الكلامية والمباحث الفلسفية في ذلك فهو أقرب إلى رياضة عقلية منه إلى مهمة دينية. الإيمان بالقدر: ومعلوم من الدين بالضرورة أن الإيمان بالقدر خيره وشره ركن من أركان الإيمان، وجاءت الآيات القرآنية والأحاديث النبوية تبينه وتبين ما يتعلق به بعبارات سهلة واضحة، سائغة للعقول، بعيدة من التعقيد والغموض، ولكن الناس أرادوا غير هذا وتنطعوا في المسألة، واستحبوا الفتن البالية التي أثارتها الجبرية والقدرية، مع عجزهم عن حلها وبحثها بما يشفي الغليل، وعدم إتيانهم بجديد إلا تناظر في الألفاظ والأساليب، فلا يحدث بذلك عند الطالبين سوى دوار في الرءوس، وشكوك في القلوب، واضطراب في النفوس. أما ما جاء به الشيخ في كتاب التوحيد فهو- عندي- نفس ما جاء به الدين في ذلك، وذلك أنه بين أن الإيمان بالقدر ركن من أركان الإيمان ولا يتحقق الإيمان إلا به، فذكر حديث ابن عمر: " والذي نفس ابن عمر بيده، لو كان لأحدهم مثل أحد ذهبا ثم أنفقه في سبيل الله ما قبله منه حتى يؤمن بالقدر " 2، ثم استدل بقول النبي صلى الله عليه وسلم: " الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره " 3 (رواه مسلم) ، وحديث ابن وهب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " فمن لم يؤمن بالقدر أحرقه الله بالنار " (رواه أحمد) .

_ 1 سورة آل عمران آية: 7. 2 أبو داود: السنة (4699) , وابن ماجه: المقدمة (77) , وأحمد (5/182 ,5/185 ,5/189) . 3 مسلم: الإيمان (8) , والترمذي: الإيمان (2610) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (4990) , وأبو داود: السنة (4695) , وابن ماجه: المقدمة (63) , وأحمد (1/27 ,1/28 ,1/51 ,1/52 ,2/107) .

ثم بين كيفية الإيمان بالقدر، وهو أن تعلم أن ما أصابك من نفع أو ضر فهو بقدر الله، ولم يكن ليخطئك مهما كان سعيك، وإن ما أخطأك من خير أو شر فهو بقدر الله، ولم يكن ليصيبك مهما كان حرصك، وأتى في الاستدلال بحديث عبادة بن الصامت أنه قال لابنه: " يا بني إنك لن تجد طعم الإيمان حتى تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن أول ما خلق الله القلم، فقال له اكتب، فقال: رب وماذا أكتب، قال اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة، يا بني، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من مات على غير هذا فليس مني " (رواه أبو داود) ، وبما ورد عن ابن الديلمي قال: أتيت أبي بن كعب فقلت: " في نفسي شيء من القدر، فحدثني بشيء لعل الله يذهبه من قلبي، فقال: لو أنفقت مثل أحد ذهبا ما قبله الله منك حتى تؤمن بالقدر، وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وأن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، ولو مت على غير هذا لكنت من أهل النار، قال: فأتيت عبد الله بن مسعود، وحذيفة بن اليمان، وزيد بن ثابت، فكلهم حدثني بمثل ذلك عن صلى الله عليه وسلم " (رواه أحمد وأبو داود والحاكم) . هذا فيما وقع في الماضي، فلا ينبغي لنا أن نقول فيما يسوءنا مما وقع: لو فعلنا كذا لما وقع، أو: لو كنا لم نفعل كذا لوقع على مثل ما أردنا؛ لأن ما وقع إنما هو بقدر الله سابق علمه، لا يرده كراهية كريه، ولا يجلبه حرص حريص، ثم ذكر في الاستدلال ما حكاه الله عن بعض المنافقين يوم أحد بقوله سبحانه: {لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا} 1.وقوله تعالى: {الَّذِينَ قَالُوا لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا} 2.

_ 1 سورة آل عمران آية: 154. 2 سورة آل عمران آية: 168.

وما روي عن أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: " وإن أصابك شيء فلا تقل لو فعلت لكان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل " 1 (رواه مسلم) . أما ما يقع في المستقبل فعلينا أن نعمل جهد طاقتنا في تحصيل ما رأينا فيه الخير والمنفعة، ودفع ما رأينا فيه الشر والمضرة، ونستعمل فيه الوسائل، ونسلك فيه الأسباب، ونتعظ بما مضى من تجاربنا، ونعتبر بما وقع حولنا، مستعينين بالله على تحصيل مطلوبنا، وأن لا يقعدنا العجز والفتور، وذكر فيه ما روي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجزن " 2 (هذا أول الحديث الآنف الذكر) . وبين أن من أصابته ضراء فليعلم أنها إنما وقعت عليه في ماضيه بقدر الله ومشيئته، فليس له إلا الرضا وحسن الظن بالله، فربما ابتلاه الله لحبه إياه وإرادته الخير به، وذكر حديث أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إذا أراد الله بعبده الخير عجل له العقوبة في الدنيا، وإذا أراد بعبده الشر أمسك عنه بذنبه حتى يوافي به يوم القيامة " 3 (رواه الترمذي والحاكم) ، وقوله صلى الله عليه وسلم " إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله إذا أحب قوما ابتلاهم فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط " 4 (رواه الترمذي عن أنس) ، ولا يدخله اليأس والقنوط؛ لأن اليأس والقنوط لا ينبغيان إلا لمن ضل عن الصراط السوي، ولم يؤمن بالقدر، واستدل بقوله تعالى: {إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} 5. وقوله تعالى: {قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ} 6. وبما روي عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الكبائر فقال: " الشرك بالله، واليأس من روح الله، والأمن من مكر الله " (رواه البزار وابن

_ 1 مسلم: القدر (2664) , وابن ماجه: المقدمة (79) والزهد (4168) , وأحمد (2/366 ,2/370) . 2 مسلم: القدر (2664) , وابن ماجه: المقدمة (79) والزهد (4168) , وأحمد (2/366 ,2/370) . 3 الترمذي: الزهد (2396) . 4 الترمذي: الزهد (2396) . 5 سورة يوسف آية: 87. 6 سورة الحجر آية: 56.

أبي حاتم) ، وما روي عن ابن مسعود أنه قال: " أكبر الكبائر الإشراك بالله والأمن من مكر الله والقنوط من رحمة الله، واليأس من روح الله " (رواه عبد الرزاق ورواه ابن جرير بأسانيد صحاح عنه) . وأن من أصابته سراء فليعلم أن ما أصابه إنما هو ما وقع في ماضيه بقدر الله تعالى، وأن ما يقع في مستقبله فلا يزال في علم الله في كنف الغيب، ولا يستبعد أن يكون ذلك ابتلاء من الله فلا يأمنن مكره، ولا يقل إن ما أصابه من النعم كان ينبغي له لعلمه وشرفه وأن تلك النعم كانت حظه في الماضي ولابد أن يكون حظه في المستقبل، واستدل بقول الله عزوجل: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} 1. وقوله تعالى: {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} 2.وقوله تعالى حكاية لقارون: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} 3.ثم أتى بقصة ثلاثة من بني إسرائيل: أبرص. وأقرع، وأعمى، الذين ابتلاهم الله بالخير فهلك اثنان ونجا واحد منهم، كما في رواية الشيخين عن أبي هريرة.

_ 1 سورة الأعراف آية: 99. 2 سورة فصلت آية: 50. 3 سورة القصص آية: 78.

وبذلك بين للناس ما للإيمان بالقدر من فوائد عملية عظيمة يتذوق حلاوتها من عايشها، وهي الصبر والرجاء وعدم القنوط والجزع عند وقوع البلاء والشكر والحذر وعدم العجب والاختيال عند نزول النعمة، فيكون دائما منشرح الصدر مطمئن البال متكلا على رحمة ربه الواسعة وحكمته العليا. تأثيرات كتاب التوحيد: وبعد لمحات قصيرة إلى أهم ما جاء به الشيخ في كتاب التوحيد، أحب أن أذكر هنا تأثيراته الإصلاحية، لا على سبيل الحصر، ولكن على سبيل المثال: 1- إزالة الفهم بدعوة الشيخ، فإن كثيرا ممن شنوا الغارة على الدعوة لم يصل إليهم شيء عن الدعوة إلا ما شوهه المفترون بالأكاذيب، وهؤلاء تغيرت أحوالهم تجاه الدعوة وشخصية الشيخ بعد ما قرءوا ما في الكتاب، بل صار كثير منهم فيما بعد من مؤيديها المخلصين. 2- كثرة ذكر المواد التي توجد فيه على ألسن الدعاة والوعاظ والمدرسين، وفي المقالات الصحفية والكتب الدينية، حتى على ألسن أولئك الذين أظهروا العداوة ضد الدعوة بدافع العصبية المذهبية أو الطائفية. 3- اللجوء إلى الاستدلال بالكتاب والسنة على إثبات العقائد الدينية، حتى على إثبات العقائد التي قرروها بأدلة عقلية صرفة. 4- قلة المنازعة والمجادلة في مسائل كلامية، إلا في بيئات محدودة. 5- هدم كثير من أبنية القبور والأشجار والأحجار والموارد التي كانوا يتبركون بها، ولا سيما في المناطق التي كان أكثر أهلها ممن انتسبوا إلى الجمعيات الإصلاحية. 6- عدم بناء الأبنية على قبور الخواص ممن كانوا ينتسبون إلى الحركات الإصلاحية. 7- غياب كثير من الحفلات التي كانوا يقيمونها لذكرى موت أحد من العلماء والصالحين مرة في السنة، والتي يسمونها في عرفهم " ذكرى الحول "، وكثير من حفلات مناقب الشيخ عبد القادر الجيلاني الذي يذبحون لها الديوك تقربا إلى الشيخ.

8- ذهاب كثير من الأفعال التي اخترعوها شفاعة لموتاهم- على زعمهم- أو تقربا إليهم. 9- كساد أسواق العزائم والتمائم والتولات، التي كانت عروض التجارة لبعض أولئك الذين يتوهمون أنهم أهل الدين. 10- قلة ثقة الجمهور بأدعياء الولاية الذين اتخذوا الكهانة والعرافة حرفة لأنفسهم ويتظاهرون بالورع والتقوى. 11- ازدياد الوعي الديني في جماهير المسلمين، وازدياد ممارستهم شرائع الدين، وتحاكم كثير منهم إلى حكم الشريعة في مخاصمتهم. 12- زيادة الاعتناء بآراء الشيخ محمد بن عبد الوهاب وتعاليمه وكتبه التي تكون- مع الأسف- نادرة الوجود في المكاتب والمدارس في أندونيسيا وصعبة التناول في الدكاكين والأسواق. 13- وغير ذلك مما لا تحصى. فإذا ذكرت تلك التأثيرات العريضة، فلا أعني أن كل شيء يجري دائما على ما يرام، فلم تزل هناك عقبات تستهدف إمام هذه الدعوة من بقايا سوء الفهم بالدعوة، والعصبية الطائفية التي ترى في الدعوة ما يهدد كيانها ونفوذها وأغراضها، والأفكار المعادية للإسلام والحركات الهدامة له من الحركة الباطنية والغارة التبشيرية والعلمانية والعصبية الشعبية وما إلى ذلك. هذا ورحم الله الشيخ وأكرم مثواه وأجزل ثوابه.

§1/1