بين العقيدة والقيادة

محمود شيت خطاب

بَيْنَ العَقِيدَة والقِيَادَة تَأليف اللواء الرّكن محمود شيت خطابْ دار القلم دمشق الدار الشامية بيروت

بسم الله الرحمن الرحيم

الطّبعَة الأولى 1419 هـ - 1998 م

الإهْدَاء إلى القائد: الذي يرفع راية الإسلام فوق المسجد الأقصى. ويستعيد الأرض المقدسة للعرب، من إسرائيل. محمود شيت خطابْ

بسم الله الرحمن الرحيم {وَلَيَنصُرَنَّ اللََّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللََّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41)} [الحج 22: 40 - 41]

هذا الكتاب هذا الكتاب بين العقيدة والقيادة، يدل بلفظه على موضوعه، فالعنوان يدل على ما حواه الكتاب، وهو الصلة الوثيقة بين عقيدة القائد، وقيادته؛ وأن القيادة الرشيدة لا بدَّ أن تدفعها عقيدة مؤمنة وقلب لم يركس في المعاصي، ونفس لم تُدنَّس بالفسوق والانحراف، وإرادة حازمة قوية ضابطة غير خاضعة لهوى يهوِي بها؛ بل هي سيدة على النفس، حاكمة لها. والكتاب دعوة للقادة، إلى أن يؤمنوا بالله تعالى، ورسله الأكرمين، وأن يكون لهم إيمان بالله، يعقدون العزم على الاستمساك بأمر الله تعالى ونهيه، وأن يكون للقائد مَثَلٌ ديني عالٍ يسمُو إليه، ويتبعه جنده في إيمانه، كما يتبعون قيادته، وإنهم في هذه الحال يتبعونه رَغَباً لا رَهَباً، وتكون طاعتهم له نابعة من إيمان، ليكون لجهادهم معنى سام عالٍ، ولا يكون قسراً وكرهاً، لمجرَّد النظام العسكري الملزم. وأن القلوب المؤمنة هي التي تبتغي النصر، وتصل إليه؛ والله يؤيد بنصره من يشاء. فكل القادة الذين قادوا معارك الفتح كانوا من المؤمنين، كذلك الذين صدُّوا غارات المعتدين .. من هؤلاء القادة: أسد بن الفرات فاتح جزيرة صقلية، وصلاح الدين الأيوبي محرر القدس وقاهر الصليبيين، وقطز قاهر التتار، ومحمدٌ الفاتح فاتح القسطنطينية. ***

تقديم للأستَاذ الجَليل العَلاّمَة محمّد أبو زَهرَة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي خلق الإنسان من صلصال من حمأ مسنون، وخلق الجانَّ من مارجٍ من نار، وطرد إبليس من رحمته، فكانت العداوة بينه وبين آدم وبنيه، قال سبحانه: {اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ}، فكانت العداوة المستمرة بين الخير والشر؛ وجعل على أهل الخير أن يدفعوا الشر، ولا يستسلموا؛ وجعل الأرض يرثها عباد الله الصالحون: {وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ}. والصلاة والسلام على محمد، الذي قاد جيش الخير، وحارب الشر، وعلّم بقيادته في الحرب الفاضلة التي تقطر فيها الدماء، ولا ينحل فيها رباط الفضيلة المقدس: ما يجب أن يكون عليه القائد؛ وحمل اللواء من بعده حواريوه الأمجاد، الذين حاربوا بالعقيدة أولاً وبالسيف ثانياً؛ والخُلق الكريم هو الذي ساد وحكم في الحرب والسلم على سواء، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

1 - أما بعد، فقد أطلعني صديقي الكريم اللواء الركن محمود شيت خطاب على كتابه القيم "بين العقيدة والقيادة"، واستمعت إلى بعض قليل منه في مؤتمر مجمع البحوث الإسلامية. وإن الكتاب يكون صورة من كاتبه في تفكيره في المعقول، ومظهراً لذوقه وإدراكه في المنقول؛ ولا ينفصل الكتاب الذي يكون ثمرة لجهود كاتبه، عن صاحبه؛ كما لا ينفصل السبب عن المسبب واللازم عن الملزوم لأنه صورة منه، وصورة طور من أطوار نفسه. ولا يمكن أن يتبين الأثر إلا إذا تعرضنا بالبيان لمن أوجده. ولذا كان لا بد أن نتعرض بكلمة للكاتب، قبل أن نتصدى للمكتوب، كما لا نعرف النتائج من غير معرفة مقدماتها. 2 - وإن صديقي الكريم اللواء الركن محمود شيت خطاب، القائد العظيم المدرك، والوزير المخلص - وقليل ما هم - سعدْتُ بمعرفته من نحو أربع سنين أو أقل، والمدة في الحالين لا تزيد؛ ولكني بمجرد أن التقيت به أحسست بأني أعرفه منذ سنين تعد بالعشرات، لا بالآحاد، وكأن الأرواح قد تعارفت قبل أن تتلاقى الأشباح، وكأن الصورة قد رأيتها، وما لقيتها؛ لأن الأرواح تتألف وتسبق الائتلاف، وتتقارب وتسبق الاقتراب؛ ولذلك سرعان ما تصادقنا عندما التقيت به، وكأن صداقتنا ترجع بالماضي إلى آماد، لا إلى وقت قريب. إذا اجتمعنا منفردَيْن أو في جمع، وتبادلنا الأفكار، أحسست بأني لا أنوي فكرة إلا سبقني إليها، وقد أُسارع إلى القول بما في خاطره، قبل أن يبديه؛ وكان ذلك لامتزاج نفوسنا، وصفاء ما في نفسه،

وابتعاده عن الالتواء في القول أو الفكر أو الاتجاه، فهو يسير بفكره وقوله وعمله في خط مستقيم، كاستقامة قامته؛ والخط المستقيم يعرف ابتداؤه، كما يُعرَف وسطه وانتهاؤه. وكانت مجالس نتبادل فيها الحديث على نور من الله، وروحانية نفوس، واستقامة قلوب بيننا؛ فكنت أتذكر في هذه الصحبة قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن لله ناساً ما هم بأنبياء ولا شهداء، يغبطهم الأنبياء والشهداء لمكانهم من الله"، قيل: "ومن هم يا رسول الله"؟ قال: "قوم تحابُّوا بروح من الله على غير أرحام تربطهم، ولا أموال يتعاطونها؛ والله إنهم لنور، وإنهم لعلى نور؛ لا يخافون إذا خاف الناس، ولا يحزنون إذا حزن الناس"، ثم تلا قوله تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ}. تذكرت هذا الأثر النبوي إذ اكتمل بالعمل جمعنا، لكني ولست ممن يتسامى إلى هذه المكانة، وأحسب أن صاحبي يتسامى إليها، أو إني أرجو ذلك له. 3 - وقد جمع الله تعالى لصديقنا اللواء خطاب من الصفات ما تسمو به واحدة منها عن سفساف الأمور، وتتجه به إلى معاليها. أولها: الإخلاص في القول والعمل؛ والإخلاص إذا كان في قلب أشرق، وقذف الله تعالى فيه بنور الحكمة، وكان تفكيره مستقيماً، ولسانه قويماً، وعمله حكيماً، فلا يكون التواء، ولا عوج. وثانيها: الإدراك الواسع، والعلم بما حوله، وتعرف الأمور من وجوهها، وإداركها من مصادرها؛ فقلمه نقي، وله فكر ألمعي.

قائد يعرف خصمه، ويدرك مراميه، حتى أنه ليتوقع الحرب أو الهجوم من عدوه في ميقاتها قبل أن يعلنها، وقبل أن يفكر فيها من سيكونون حطبها؛ لأنه يعلم الخصم، ومآربه، وحاله، ويتعرف من ذلك مآله .. علم بهجوم اليهود سنة 1967 قبل أن يعلنوه، وقبل أن يقدره الذين كانوا في زعمهم يدبرون الأمور، ويلبسون لكلٍّ لبوسها. وثالثها: إيمان صادق بالله، ورسوله النبي الأمين؛ ولذلك يتتبع سيرة السالفين، ويجعل منهم نوراً يهتدي به، ويعلم منه أعلام الهداية. ويكمل هذه الصفات التي هي منه بمنزلة السجايا والملكات؛ همة عالية، وتجربة ماضية، وخبرة بالعلم والحروب، وخصوصاً ما كان بين العرب واليهود. وهو عالم في العربية، وملم إلماماً عظيماً بشؤون الدين، وقارئ يتقصَّى الحقائق فيما يقرأ؛ يتعرف ما تسطره الأقلام، وما وراء ما تسطره؛ ينفر من تقليد الفرنجة ويُؤْثِر ما في القرآن والسنة وما كان عليه السلف الصالح؛ وهو ممن يُؤْثِرون الاتباع، ولا يرضَوْن عن الابتداع؛ سلفي في إيمانه وعمله، قوي في تفكيره، يهضم ما جدّ في العصر، بما في قلبه من إيمان راسخ، واتباع مستقيم .. وله مع كل هذا قلم بارع مصور، وكتابته من قبيل السهل الممتنع؛ وفقه الله تعالى وهداه. 4 - هذه إشارة تعريف بالكاتب؛ فلننظر إلى الكتاب، ونتجه إليه بدراسة موجزة موضوعية، وليست شخصية؛ فننظر إلى المكتوب من غير أن نكون متأثرين بشخصية الكاتب إلا بمقدار أن الأثر من نوع

المؤثر، وأنه جاء نموذجاً من صورته وفكره. والكتاب "بين العقيدة والقيادة" يدل بلفظه على موضوعه، فالعنوان يدل على ما حواه الكتاب؛ وهو الصلة الوثيقة بين عقيدة القائد، وقيادته، وأن القيادة الرشيدة لا بد أن تدفعها عقيدة مؤمنة وقلب لم يركس في المعاصي، ونفس لم تُدنَّس بالفسوق والانحراف، وإرادة حازمة قوية ضابطة غير خاضعة لهوى يهوي بها؛ بل هي سيدة على النفس، حاكمة لها. والكتاب دعوة إيجابية، ومرد حاسم على سلبية سادت في الجند العربي. أما الإيجابية في الكتاب، فهو دعوة للقادة العرب، إلى أن يؤمنوا بالله تعالى، ورسله الأكرمين؛ وأن يكون لهم إيمان بالله، يعقدون العزم على الاستمساك بأمر الله تعالى ونهيه؛ وأن يكون للقائد مثل ديني عالٍ يسمو إليه، ويتبعه جنده في إيمانه كما يتبعون قيادته؛ وإنهم في هذه الحال يتبعونه رَغَباً لا رَهَباً، وتكون طاعتهم له من إيمان؛ ليكون لجهادهم معنى سام عالٍ، ولا يكون قسراً وكرهاً، لمجرد النظام العسكري الملزم. أما الرد على السلبية السائدة في الجيوش العربية، فمن المقرر عند بعض القادة، أنه لا صلة بين العقيدة والنصر؛ ولذلك لم يكونوا مستشعرين بشعار الإيمان، وربما كان منهم من يجاهد بالفسوق والعصيان، ولا يرعى مركزاً تقتضيه قيادته من أخلاق فاضلة، وقيم إنسانية عالية؛ بل يحسبون أن النصر للآلة الفاتكة، ومن يحرك الآلة، ولا يحسبون أن القلوب المؤمنة هي التي تبتغي النصر، وتصل إليه، والله يؤيد بنصره من يشاء.

ولقد رأينا رجال حرب في أيامنا يدخلون الحرب، ولا يذكرون الله في كلامهم، ولا طلب النصر من الله؛ والله يؤيد بنصره من يشاء، وهو العزيز الحكيم. ولقد منُوا بالهزيمة النكراء، ولم يرعووا عن غيّهم، واستمروا على عصيانهم؛ والشعوب تكتوي بنارهم. 5 - وإنه في سبيل الدعوة الإيجابية إلى الإيمان، والرد على الدعوة السلبية التي تبرر عصيان القادة وفسوقهم عن أمر ربهم - استعان المؤلف بآراء قواد البلاد الأوروبية المشهورين الذين نادَوْا بضرورة إيمان القائد بعقيدة، يتبعه على إيمانه بها جنده طوعاً واختياراً، لا قسراً وإجباراً. ولقد أكثر من ذكر كلام مونتكومري كبير قواد الحرب العالمية الثانية، وهو الذي كان على مقربة من أرض العرب؛ الذي انتصر في الصحراء الغربية بمصر. فقد كان ذلك القائد العظيم مؤمناً بدينه المسيحي أشد الإيمان، مستمسكاً بعقيدته أشد الاستمساك، ويرى أن سر النصر في هذه القيادة المؤمنة. ولقد قيل، ويقال: كيف يدعي مونتكومري أو غيره أنه مؤمن، وهو يعتقد التثليث، وهذا اعتقاد باطل؛ لقد قيل ذلك، وهذا خطأ في الفهم. إن الأمر في الاعتقاد ليس في كونه صحيحاً، إنما هو في قوة الإذعان بعد الجزم والتصديق اليقيني. فمن يعتقد بدين اعتقاداً جازماً

مستيقناً مذعناً لاعتقاده، فهو حامل عقيدة، وإن كانت مخطئة؛ نعم إنه يجب عليه أن يطلب الحق ويهتدي بهديه، وإنه مؤاخذ فيما إذا قصر في طلب الحق، أو وصل إليه ولم يؤمن به جهلاً أو عصبية، أو قال: {بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ}. ولكنه ما دام معتقداً عقيدة تدفعه وتبعده عن الشهوات، فعنده عقيدة، وهو خير ممن لا اعتقاد له، ولقد قرر الفقهاء أن من له دين خير ممن لا دين له. ولقد التقى الإمام محمد عبده في أثناء رحلاته بعابدة زاهدة، فاسترعاها سمت الإمام - رضي الله عنه - ونور إيمانه، فقالت: "ما كنت أظن في غير الكاثوليكية تديناً". فهذه وأشباهها لها عقيدة، وإن كانت غير صحيحة. وأبو بكر الصديق - رضي الله تعالى عنه - قال لقائده الذي أرسله إلى الشام، قال له: "إنك ستجد قوماً زعموا أنهم حبسوا أنفسهم في الصوامع، فدعهم وما زعموا". وإن هذا يدل على أن الاعتقاد له أثر في توجيه النفس سواء أكان صحيحاً سليماً، كالعقيدة الإسلامية الطاهرة المستقيمة، أم كانت غيرها؛ فإنها باعثة على العمل مانعة للشهوات، إن كان فيها زهاوة؛ فلا ضير على الكاتب أن يستشهد على قوة العقيدة وأثرها في القيادة بكلام القواد الغربيين وعلى رأسهم مونتكومري، لأنه انتصر في أقرب معركة إلينا، ولأنه لا يزال حياً يُرجَع إليه فيما يقول. وقد علل الكاتب الكبير إيثاره الابتداء بالقواد الغربيين،

وخصوصاً مونتكومري؛ بأن كثيرين من الشرقيين أو البارزين منهم يفصلون العقيدة عن القيادة، والأخلاق الفاضلة عن الجندية المجاهدة، ويحسبون أنهما لا يتلازمان؛ وأن القائد المنتصر قد يكون غير متدين، وسكيراً، يعربد، ولا يؤمن، ولكنه يجيد فنون الحرب، وإلى سير قواد الغرب يرددون ذلك. وإذا كان بعض القواد انتصر في بعض المواقع مع أنه منحرف في دينه وخلقه، فإن ذلك لا يعد نظاماً مطرداً؛ بل هو نتيجة خطأ العدو، وليس ثمرة قيادة حكيم. وضرب الكاتب الكبير بسيف الفضيلة، تلك الترهات الباطلة. وفوق ذلك فإن ما ذكره من سيرة القواد العظام، وخصوصاً مونتكومري وديجول، من أخبار، وما نقله من أقوال لهما ولغيرهما: يدل على أن الأخلاق الفاضلة للقائد والجند -بل للشعب نفسه- هي أساس النجاح في الحروب؛ فلا نجاح لقائد لا أخلاق له. 6 - وإن الاستمساك بالفضائل في القائد قد وضحه مونتكومري في عبارات نيّرة واضحة يدركها المؤمنون مثال كاتبنا الكبير اللواء الركن خطاب. وخلاصة ما يدعو إليه مونتكومري كما يتبيّن من كتابه: أولاً- أن العقيدة في القائد المؤمن بعقيدته هي سر نجاحه، وهي التي تدفعه إلى الجهاد؛ لأن المحارب يتقدم بنفسه لحماية مجتمعه، فلا بد أن تكون له قوة تحمله على تقديم نفسه في سبيل مثل عالية تجعله يقدم نفسه راضياً مطمئناً. وثانياً- بأن العقيدة تدفع إلى العدل، ولا يدفع الجندي إلى

الرضا إلا أن يحس بأنه يعمل في ظل عدالة لا تحابي ولا تماري، ولا تضنّ على أن يُعطى كل ذي حق حقه. ثالثاً- أن العقيدة وإخلاص المؤمن لها، وإذعانه لما تتقاضاه منه؛ تجعله حريصاً على جنده، يحنو عليهم ويقرب منهم؛ والقائد يقود نفوساً، ولا يرصّ بنياناً؛ ومن يقود النفوس عليه أن يدنو منها ويحنو عليها. ورابعاً- أن العقيدة تجعل القائد كالكاهن لا يفكر في نفسه ولا في ماله، ولا في أي مأرب من أمور الدنيا، غير أن ينتصر في ميدان يحسب أنه فيه يحمي الفضيلة؛ وبذلك يعلو في نفسه ويسمو. ولقد نقل اللواء الركن محمود شيت خطاب أن مونتكومري قال في وصف نفس القائد المؤمن: "يجب أن يكون خادماً للحقيقة، وأن تكون هذه الحقيقة لغرض عام يقصد به النفع العام، ويروض نفسه على ذلك، حتى يكون له ملكة نفسية، من شأنها أن توحي إلى الآخرين بأن يتبعوه". ذلك أن النواحي المعنوية أو النفسية، تسري إلى النفوس كما يسري الماء الطاهر من المكان العالي إلى ما دونه، فيتقدم الجند طائعين واثقين مطمئنين، لأن وجدانهم يتبع وجدانه، فهم خاضعون لنفسه ونزوعه إلى الخير والفضيلة الإنسانية قبل أن يخضعوا لما يأمر وينهى. وإن القائد يجب أن يكون ضابطاً لنفسه صبوراً، وإن الجنود من ورائه يضبطون نفوسهم بضابط الصبر، وإن المحاربة تكون بالمصابرة، كما تكون بالمقاتلة؛ بل إن أساس القوة في المقاتلة هو المصابرة. هكذا

يقرر مونتكومري .. وقد نادى من قبله القرآن الكريم بالصبر، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}. وإن تربية النفس مع الصبر، وتربية القائد أو الجندي مع ضبطها أمران متلازمان؛ وضبط النفس ألا تفزع ولا تطمع، وأن تقمع شهواتها وملاذَّها، وألاّ تيأس في هزيمة، ولا تأشر وتبطر وتزدهي في نصر؛ وأن تتلقى السراء بثباتِ جأش، والضراء بعزيمة تعلو، ولا تهبط؛ ولقد قال تعالى في وصف الإنسان الذي لا ينال سجية ضبط النفس: {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ (9) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاء بَعْدَ ضَرَّاء مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10) إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ}. وإن الصبر وضبط النفس لا يظهران إلا عند الصدمات، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: "إنما الصبر عند الصدمة الأولى". 7 - ومونتكومري يرى أن العقيدة يجب أن تكون العنصر الأساسي في تربية الشعب، وخصوصاً صغاره؛ ويرى أن تربية العقيدة يجب أن تبدأ من قبل السادسة من عمره؛ وأنه يجب أن يُربَّى على الجلاد، وعلى الضبط، وألا تمتاع نفسه بالملاهي انمياعاً. ويستفاد من كلامه أن اللهو في ذاته باطل، إلا أن يكون في ظل الإيمان، والاعتقاد؛ وأن تكون للنفس إرادة تسيطر على اللهو والملاهي. ويذكر أنه يجب أن تُربَّى البنات على الاحتشام والتمسك بالاعتقاد، والإيمان؛ ويقول في ذلك عن بنات جيله مادحاً لهن: "إن

البنات لم يكنَّ ليسمح لهن بالخروج من البيت وحدهن والذهاب مع الأولاد إلى المراقص وغيرها". وهكذا تجد كثيراً من المناهج التي يرسمها للجيش وللناس؛ ليكون منهم القواد الأقوياء في حربهم وأخلاقهم وعقائدهم التي ينالون بها النصر للفضيلة، ولقومهم ولعقيدتهم معاً. وإنا ونحن نقرأ ما كتبه اللواء الركن محمود شيت خطاب عن مونتكومري نحس بأننا نقرأ في كتاب "قوت القلوب" لأبي طالب المكي، أو "إحياء علوم الدين" للغزالي، أو كتاب "موعظة المؤمنين"، أو كتاب "تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق" لابن مسكويه، ولكن الحق في الأخلاق والفضيلة واحد يظهر بعلم المؤمن بدينه المذعن لعقيدته. وإن الكاتب المؤمن اللواء الركن محمود شيت خطاب ينقل ذلك لكي يُفقِّه قومنا ما يجب أن يكون، ما يجب أن يتبع لقوم يريدون أن يكونوا مجاهدين؛ والعدو جاثم في أرضهم، وبلادهم محتلة، ويسوم العدو أهل البلاد الخسف والهوان؛ ومنا من ينظر ويسترجع، ومنا من لا يعتبر، ومنا من يعادي، ومنا من يقاتل المجاهدين، ومنا من يقتل المؤمنين فرادى وجماعات، ومنا من يلهو ويلعب؛ ويجمع أهل اللهو من شرق البلاد وغربها، ليستمتع بلهوهم، ويشتهر بين الناس ما يلهو به ويلعب، والطامة أنه بعد أن نكس العرب والإسلام نجد الإذاعات المرئية وغير المرئية لا عمل لها إلا قصص الحب الماجن، وإلا الأغاني المثيرة للغريزة الجنسية، والتي تكون بنغمات نسائية لا تكون إلا في المخادع بين الرجال والنساء.

والإذاعات المرئية فيها الأجسام العارية، والرقصات الكاشفة المغرية، فإذا نبَّهنا إلى ما في ذلك من دعوات صارخة ضد الفضيلة، قال المهيمنون الذين يقودون هذا المجون ويشجعونه: إنه يشتمنا. إذا كان ذلك التنبيه الرقيق أو العنيف شتماً، فنحن نرضى بذلك؛ وخير لنا أن نقوم بالكلام -اللائم أياً كان وصفه- من أن نرى الشر ولا نستنكره، ونستمع إلى الدعوات لظهور البنات والنساء عارية أرجلهن إلى أنصاف أفخاذهن، وبين ما يقرره مونتكومري .. نجد إلى أي حد انحدرنا، ولا حول ولا قوة إلا بالله. وكل ذلك، وأرضنا محتلة، وعدونا يساورنا بالقوة؛ ونحن لاهون. إن كتابة مونتكومري، وغيره من القواد العظام، وطريق نصرهم، وما يجب أن تتحلى به الشعوب التي تعرضت للغزو: درس للذين يقودون البلاد ليعرفوا ما يجب التخلي عنه، وما يجب التحلي به؛ إن النصر لا يكون بالرقص والغناء الذي يغري بالأهواء والشهوات، ويثير الغرائز، ويخدر النفس، فلا تتجه إلى الواجب. إن المقاييس قد اضطربت، وميزان الرجال هو الذي يدل على مقدار إدراك الآفة ومقدار حدها، وتحرير إرادتها. إن الرجل من أهل المجون يموت، فتقوم الصحف والمحافل وتُعقَد الندوات في ذكر مناقبه؛ ويموت العالم الجليل الذي يدين له الجيل، فلا يظفر من الصحافة التي تتبع الحكومة إلا بخبر عارض، أو لمحة خاطفة، وهو يسجل للأمة مجدها؛ فمجد الأمم ليس بالغناء

والرقص والتهريج، إنما مجد الأمم بعلمائها، وهم قمة الإنسانية، وهداتها. ولكن عمّ سيل المجون حتى طمّ؛ ولذلك تخلفنا، وانهوينا إلى منهوى سحيق. من أجل ذلك كتب اللواء الركن محمود شيت خطاب، ونقل ما نقل عن قادة الحرب وقادة الفكر من أوروبا وغيرها؛ وإن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ}. 8 - وإن اللواء الركن محمود شيت خطاب لا يكتفي بما ذكر من قادة الغرب، وإن كان لذلك مكانه، وفيه عبرته لمن يعتبر. بل اتجه من بعد إلى القادة من المسلمين، وذكر مقدار العقيدة في نصرهم. وقد وجد أمامه دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الجهاد الذي لا يقصد به إلا وجه الله، فقد ذكر - صلى الله عليه وسلم - في محاورة بينه وبين أصحابه يفصِّل حال المحاربين، ومقامهم في الجهاد عند الله؛ وسئل عن الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية، ويقاتل رياءً؛ أي ذلك في سبيل الله؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، فهو في سبيل الله". يروى أن رجلاً أراد الجهاد في سبيل الله تعالى، وهو يبتغي عرضاً من أعراض الدنيا، فقال عليه السلام: "لا أجر له"، فأعادها عليه ثلاثاً؛ كل ذلك، وهو يقول: "لا أجر له".

إنها ليست العقيدة في أولى درجاتها، إنما العقيدة في أعلى سماتها، إنها التجرد لله سبحانه وتعالى، وإنها أعلى من الحقيقة، التي يدعو إليها مونتكومري؛ وإن ذلك مؤداه أن يخرج المجاهد قائداً أو مقوداً لا يجعل لشخصه مكاناً في مقصده، بل تفنى نفسه في الجهاد. وإذا كان بعض القواد يقول: إن القائد يجب أن يكون في نيته كالكاهن لا يعرف إلا العبادة لله تعالى في جهاده؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد قال ما هو أعلى من هذا، فقد عدّ - صلى الله عليه وسلم - الجهاد أفضل العبادات. وعدّ عليه السلام المستشهد في سبيل الله تعالى قد فاز بالجنة، وكان المجاهدون من أصحابه إذا أوشكوا على الشهادة نادى أحدهم: فزت ورب الكعبة. فالعقيدة لم تكن صفة القائد وحده، بل صفة كل جندي يحارب في سبيل الله، ولقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "لكل أمة رهبانية، ورهبانية أمتي في الجهاد". وإن المجاهد المخلص المؤمن المتقد الذهن، يتفق مع الراهب في ناحية، ويختلف عنه في ناحيتين: أما ناحية الاتفاق فهي أن كل واحد منهما يتجه إلى عبادة مخلصة لا يبتغي عرضاً من أعراض الدنيا، ولا مأرباً شخصياً فيها، ولكن رضا الله على اتجاه مستقيم في جانب المجاهد، وعلى انحراف في جانب الراهب، لأن الرهبانية ابتدعها الذين أخذوها جزءاً من دينهم، كما قال تعالى في أتباع المسيح عليه السلام: {وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاء رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا}.

والناحيتان اللتان يفترق فيهما المجاهد عن الراهب، فهما: أولاً أن الراهب عبادته لنفع نفسه ولشخصه، وهي أقرب إلى أن تكون سلبية؛ أما المجاهد فعبادته في جهاده في نفع أمته، ورفع الحق وخفض الباطل؛ فعبادته إيجابية، تدافع عن حياة غيره، وهي إيثار لا أثرة فيها ولا ما يشبه الأثرة، والذاتية؛ بل فيها تقديم النفس للنفع العام، ولله وللحق، احتساباً، وبيعاً لها بأن له الجنة. والناحية الثانية المفرقة بين الرهبنة والجهاد: أن الرهبنة فناء، ولذلك تسمى موتاً حكمياً؛ أما الجهاد فقوة في الحياة، وطلب لحياة الآخرين، وإن كان فيه موت حقيقي، فهو موت لينال المجاهد أعلى درجات الحياة، وليكوّن من موته حياة عزيزة كريمة لأهل دينه، وتكون كلمة الله تعالى هي العليا. 9 - ولقد تكلم اللواء الركن محمود شيت خطاب في قيادة النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو أفضل قائد رآه الوجود الإنساني، وتكلم في قيادة السلف الصالح أبي بكر وعمر وسعد بن أبي وقاص وغيرهم من الأبدال الذين شروا أنفسهم لله تعالى بما عنده. وقد كانت عدة النصر عندهم ليست السيوف البتارة وحدها، ولا النبال التي تقطع الأفئدة؛ إنما كانت العدة الإيمان والصبر، كما قال فارس المسلمين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه. ولنقل كلامه في هذا كاملاً، والمناسبة التي قاله فيها هي أنه تكاثر الفرس على المؤمنين، فخشي عمر على أهل الإيمان، فأراد أن يخرج معهم إلى الميدان، فاستشار أصحاب رسول الله، فمنهم من وافق على

خروجه، ومنهم من خالفه الخروج، وعلى رأسهم علي -كرم الله وجهه- قال له: "إن هذا الأمر لم يكن عنصره ولا خذلانه بكثرة ولا قلة، وهو دين الله الذي أظهره، وجنده الذي أعده وأمده، حتى بلغ ما بلغ، وطلع حيثما طلع؛ ونحن على موعد من الله، والله منجز وعده، وناصر جنده؛ ومكان القيِّم من الأمر مكان النظام من الخرز، بجمعه وبضمه، فإذا انقطع النظام تفرق الخرز، ثم لم يجتمع بحذافيره. والعرب وإن كانوا قليلاً هم كثيرون بالإسلام عزيزون بالاجتماع؛ فكن قطباً، واستدر الرحى بالعرب، وأَصْلِهم دونك نار الحرب؛ فإنك إن شخصت من هذه الأرض انقضّت عليك العرب من أطرافها وأقطارها، حتى يكون ما تدع وراءك من العَورات، أهم إليك مما بين يديك. إن الأعاجم إن ينظروا إليك غداً يقولوا: "هذه أصل العرب، فإن قطعتموه استرحتم. فيكون ذلك أشد لكَلَبِهِم عليك وطمعهم فيك؛ فأما ما ذكرت من سير القوم إلى قتال المسلمين، فإن الله تعالى أكره لمسيرهم منك، وهو أقدر على تغيير ما يكره؛ وأما ما ذكرت من عددهم، فإنا لم نقاتل بالكثرة، وإنما كنا نقاتل بالنصر والمعونة". ولسنا نذكر ما في الخِطاب من حكمة السياسة والقيادة، وإنما ننظر إلى ما تبين عنه كل كلمة من كلماته: من أن قوة الإيمان والصبر، والاعتقاد الجازم، كل هذا يرد الكثرة، والاعتبار ليس للقوة والكثرة، إنما الأمر لله والاعتقاد والصبر، وأخذ الأهبة، والله يحب الصابرين وينصرهم، لأنه اشترى منهم أنفسهم وأموالهم بقوة إيمانهم بأن لهم الجنة.

10 - ولقد أشار اللواء الركن الكاتب العظيم العبقري في إيمانه وجهاده وقلمه إلى ما كان من القواد المسلمين، الذين شقوا بنور السيف والعقيدة والكتاب المبين نورَ الظلام المتكاثف، وانسابوا في الأرض بقوة الاعتقاد ونور الهداية أولاً، وبالإقدام على الموت طلباً للحياة العزيزة الكريمة ثانياً، وإزالة لطغيان الأكاسرة والقياصرة ليغزوا الشعوب التي مُنِيت بحكمهم ثالثاً؛ فكانت العقيدة ونور الحق مع الاستعداد هي التي تأتي لهم بنصر الله العزيز الحكيم. وإن العقيدة وحدها هي التي دفعت قتيبة بن مسلم لأن ينساب بجيوشه المؤمنة من أرض العرب إلى أن يصل إلى الصين، ويجتاز بلاد ما وراء النهر والهند هادياً مؤمناً مجاهداً يحمل في قلبه إيماناً، وفي يده سيفاً بتاراً يشق ظلام الشرك والجهالة. وهذا موسى بن نصير، ورئيس أركان حربه طارق بن زياد المؤمن، يسير قاطعاً شمال إفريقية حتى يصل طارق إلى المغرب، ويجتاز البحر بجيشه، حتى يصل إلى ساحل الأندلس، فيحرق سفنه، ولم يبق له ولجنده إلا العقيدة المؤمنة الدافعة، والسيوف المشهورة المحاربة؛ ويقول في قوة إيمان، وسر الحقيقة ينطقه: "العدو أمامكم، والبحر وراءكم". وهو بهذا يبث فيهم روح الإيمان والفداء والإقدام. فيتقدمون بقوة الإيمان والعقيدة، وقوة القيادة في أرض الأندلس فتحاً وعمارة ورفعاً للواء الحق والإيمان، ويسير من ورائه رئيسه موسى بن نصير، مجانباً طريقه؛ ولكنّ الطمع في الغنائم ممن وراء هذا الجيش الفاتح العظيم، يسحب الجندي المؤمن والقائد المجرب،

ويذهب هذه الجولة التي أدخلت الإسلام في غصنه الرطيب الأندلسي، وتجيء من بعد ذلك جولات بقيادات معتقدة مؤمنة، حتى يصل عبد الرحمن الغافقي بجند الإسلام إلى جنوب فرنسا ويصاقب وسطها؛ ولكن يجيء الجزر بعد المد، ويقف الغزو، لأن النفوس قد عراها التردد، بعد الاعتقاد، والطمع بعد الإيمان، والانغماس في الشهوات، بعد العزيمة القوية، والضبط الكامل، والصبر الناصر. 11 - عندما خلت نفوس القواد من العقيدة، وصار الذي يحرك القائد حب الغلب وحب السلطان، وتنازعوا أمرهم، وصار بأسهم بينهم شديداً، تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى، وظهرت النزعات الإقليمية؛ عندما كان ذلك، صار المسلمون يُغزَون، ولا يفتحون، وصاروا يُرامون ممن كانوا هم يفتحون بلادهم. كانت الحروب الصليبية في الشرق، وأخذوا بيت المقدس، فعندئذ تحركت همم بعض القواد، وتقدم جند مؤمنون بقيادة قواد يؤمنون ويعتقدون ويذعنون لأمر الله ونهيه. تقدم محمود نور الدين الزنكي، وكان مؤمناً، كثير الركوع قانتاً عابداً ضارعاً، فأخذ وجه الحرب يتغير، وتكاتفت جنود أوروبا بملوكها. وحمل الراية معه ومن بعده يوسف صلاح الدين الأيوبي، وبقوة إيمانه وإخلاصه جمع العرب، وقادهم بقوة العقيدة، وحكمة القيادة والشرف العسكري، حتى استرد بيت المقدس من غاصبيه؛ وقد ذكر كل ذلك القائد المؤمن اللواء الركن محمود شيت خطاب في بيان رائع،

وأسلوب حكيم، وكأنه يقول للناس اليوم: "مَن لنا بقائد معتقد مؤمن يصنع ما صنع صلاح الدين. وقد كان أمام صلاح الدين جند صليبي، وملوك أقوياء؛ ونحن الآن أمامنا من لُعِنوا في الدنيا والآخرة، ومَن ضربت عليهم الذلة أينما ثُقفوا، فمن لنا بمن يجمع بين العقيدة والقيادة؟ اللهم هيىء لنا من أمرنا رشداً". 12 - ولقد كانت والصليبية تضرب، وإن تكسرت رماحها، غزوة التتار الذين انحطوا كالصخرة من الصين إلى أرض الإسلام، لا يلوون على شيء إلا حطموه، ولا على صالح إلا أفسدوه، ولا على أرض طيبة إلا جعلوا عاليها سافلها. انسابوا في البلاد الإسلامية، وأزالوا الخلافة من بغداد. ولكن (قطز) بالعقيدة والإيمان، والقيادة الحكيمة: حَطَّم صخرتهم في (عين جالوت)، وجعل السيوف تعمل في أقفيتهم، لأول مرة من اندفاعهم المنتصر السريع. وتوالت هجماتهم، ولكن توالى مع ذلك في دفعهم القواد المؤمنون، ومن أعظمهم إيماناً السلطان الناصر قلاوون الذي كان يحمل السيف في أحد أجنحة الحرب مع اللواء شيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية، الفقيه السلفي، الذي ينير قلوب الجند في الميدان. 13 - وإن القائد المؤمن اللواء الركن محمود شيت خطاب يبين أنه في وسط الجو الذي كما وقف فيه المسلمون وقفة المدافعين عن أرضهم ودينهم، بزغ نجم قوي يهاجم، ولا ينتظر حتى يدافع، لأنه قال علي كرم الله وجهه: خير الدفاع ما كان هجوماً.

ذلكم النجم الذي سطع في هذا الديجور هو (محمد الفاتح)، الذي فتح القسطنطينية، وقد رامها من قبل معاوية بن أبي سفيان وملوك بني أمية من بعده، ورامها العباسيون في صدر دولتهم. جاء محمد الفاتح فافتتحها، ودخل الإسلام في ربوع أوروبا من الشرق، كما دخلها في الأندلس من الغرب، وما كان ذلك إلا بقوة إيمانه؛ وكان يدفع قيادته عقيدة قوية جعلته يذعن لما أمر الله تعالى به فيأتمر، وينهاه عنه فينتهي. وجاء من بعد ذلك دخول الإسلام شرق أوروبا في بلاد البلقان. ولما تخلى القواد الأتراك عن الاعتقاد، وعن تسربلهم سربال التقوى في حروبهم، وصار مقصدهم أن تزداد رقعة سلطانهم؛ تخلى عنهم النصر جزاء بما كسبوا. أما بعد، فكتاب صديقنا العظيم اللواء الركن محمود شيت خطاب، كتاب حق وصدق؛ يرشد القواد، ويعلِّم الجند، ويهدي إلى الرشاد. وما أحوج المسلمين والعرب إلى أن يدرسوا ما فيه ويغترفوا مغازيه. وقد ضرب الأمثال الرائعة وجمع الأدلة المقنعة من هنا وهناك في كتابه القيم ليدركه كل معتبِر، ويستبصر به كل مستبصِر؛ والقيادات في أشد الحاجة للأخذ بتعليمه، والسير على نهجه. اللهم احفظ للمسلمين وللعرب ذلك القائد هادياً ومعلماً، وأمدّ في أجله .. والله تعالى هو الهادي إلى سواء السبيل. محَمّد أبو زَهرَة

مقدمة المؤلف

بسم الله الرحمن الرحيم مقَدمَة المؤلفْ (1) الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على الرسول القائد، وعلى آله وأصحابه أجمعين. تتابعت أسئلة قائد السرية التي انتسبت إليها، في أول لقاء به، وأول يوم رأيته وتعرفت إليه: "هل تعاقر الخمر؟ هل تلعب الميسر؟ هل تغازل الغيد الحسان"؟. وتكرر جوابي على أسئلته المتعاقبة بالنفي، فظهرت على وجهه بوادر خيبة الأمل، وندب حظه العاثر لالتحاقي بسريته، ثم عبس وتولىّ وهو يقول: "لماذا أصبحتَ ضابطاً؟! ولماذا اخترت سلاح الفرسان؟! ولماذا تعيش؟! الأفضل لك أن تموت". كان ذلك أول درس عملي تلقيته من قائد سريتي، في أول يوم من حياتي العسكرية العملية في الوحدات العاملة، ثم توالت عليّ الدروس المماثلة كاللحن المكرر يعاد على مسامعي صباح مساء. ولم أباغت بما سمعته من قائد السرية، فقد تكاثرت عليّ نصائح

المجربين منذ اعتزمت الالتحاق بالكلية العسكرية: أن أبتعد عن تعاليم الدين الحنيف، وأكيِّف نفسي لتلائم مناخ العسكريين. وبعد تخرجي ضابطاً في الكلية العسكرية سنة 1938، التحقت بمدرسة الخيالة في بغداد، فانهالت عليّ الدعوات الشخصية الرسمية التي يسيل الخمر فيها أنهاراً، وانهالت معها عَلَيَّ النصائح والانتقادات؛ وكان اعتذاري عن حضور تلك الحفلات يقابَل بالنقد اللاذع والسخط المرير. ولكنني كنت أتلقى النصح تارة والنقد تارة أخرى، من لِداتي الذين لم يتجاوزوا العشرين وهم شباب في عمر الورد، لا ينقصهم المال والفراغ؛ ولم كن أتوقع أبداً أن أسمع نفس النصح أو النقد من قائد سرية تجاوز الأربعين من عمره، وأمضى في الخدمة العسكرية ما يزيد على العشرين عاماً!!. وشاء القدر ألا يطول استغرابي من تصرف قائد السرية، لأنني وجدت تصرَّف قائد الكتيبة نحوي، وهو الذي تجاوز الخمسين من عمره، وكان ضابطاً مخضرماً قضى شطراً من خدمته العسكرية في الجيش العثماني وشهد الحرب العالمية الأولى، لا يختلف في شيء عن تصرف قائد السرية نحوي، كلاهما يأمر بالمنكر وينهى عن المعروف. وكان من تقاليد الجيش أن تولم الوحدات لضباطها الجدد وليمة، تطلق عليها اسم: "وليمة التعارف والاستقبال"، تقدم فيها الخمر مع ما لذَّ وطاب من الأطعمة الشهية، وقد يصاحب ذلك أنغام الموسيقى والرقص زيادة في الحفاوة والتكريم!.

واستدعاني قائد السرية قبيل انتهاء الدوام الرسمي، وبلّغني بأن الكتيبة ستقيم وليمة التعارف والاستقبال في دار الضباط مساء؛ فلم أستطع التخلف عن حضورها، لأنها أقيمت من أجلي وأجل خمسة ضباط آخرين جدد، هم زملاء دورتي في الكلية العسكرية ومدرسة الخيالة. وقبل أن يسمح لي قائد السرية بالانصراف، غمز عينيه وهو يبتسم ابتسامة الواثق بنفسه ويقول: "لعلك تراجع فكرك اليوم، ولعلني أهديك إلى سر الحياة". وشهدتُ الحفلة مع زملائي في الوقت الموعود، وقَدِمَ قائد الكتيبة يتبختر، فاستقبله الضباط وقوفاً، ثم قَدّم إليه قادة السرايا ضباطهم الجدد، وقدَّمني قائد سريتي قائلاً: "الملازم ضابط خام، يدعي أنه لم يذق طعم الخمر في حياته". وقال قائد الكتيبة: "كيف يكون في سلاح الفرسان ولا يعاقر الخمر؟! هذا غير معقول". وتحرَّج موقفي، وتجمّع الضباط من حولي يرجونني ويطالبونني، ثم يلحون ويلحون، وجاء قائد الكتيبة وقد ملأ كاساً بالخمر، وأمر أن أبدأ صفحة جديدة من حياتي العسكرية بشرب المدام، وأن أتخلى عن تزمُّتي لأصبح ضابطاً حقاً ... ثم أقسم بشرفه العسكري أن أفعل، وأقسم قائد سريتي ألا أرد يد القائد الهمام!. وكان الليل البهيم قد أرخى سدوله، وكانت السماء صافية تتلألأ على صفحاتها النجوم، وكانت مياه (دجلة) تعكس النجوم فتزيدها بهاءً ورونقاً.

(2)

وكان قائد الكتيبة برتبة (عقيد)، يحمل على كتفيه رتبته العسكرية، وهي بحساب النجوم اثنتا عشرة نجمة، على كل كتف تاج يعادل أربع نجوم، ونجمتان مع التاج، فيكون مجموع النجوم على الكتفين اثنتي عشرة نجمة. ويومها قلت له: "إنني أطيعك في تنفيذ أوامرك العسكرية، وأطيع الله في أوامره، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق؛ إنك تحمل على كتفيك اثنتي عشرة نجمة، فانظر إلى سماء الله لترى كم تحمل من نجوم". وبهت القائد، وردد: السماء ... ! السماء ... ! نجوم السماء ... وأشاح قائد الكتيبة بوجهه عني، ومضى غضبان آسفاً وهو يقول: "هذا الضابط لا يفيدنا ... لا يفيدنا أبداً". ويومئذ شعرت بأن موقفي ليس مصاولة بيني وبين القائد، ولكنها مبارزة بين إرادته بشراً وإرادة الله خالق البشر. وجلست وح - صلى الله عليه وسلم - السماء. ... (2) كان الاعتقاد السائد بين أكثر الضباط أن التدين تخلّف وجمود، وأن التقوى بلادة وتواكل. وصمّمت أن أُثبت أن تلك المفاهيم خاطئة، وأن الضابط المتدين حريّ بالتفوق، وأن الدين يستثير الهمم والعزائم، فعزمت ألا أرضى

بالنجاح وحده بل بالتفوق في النجاح؛ وكان سبيلي إلى ذلك العمل الدائب وإتقانه، والحرص الشديد على أداء الواجب وإحسانه، واستيعاب العلوم العسكرية بدقائقها، والسهر على تدريب الجنود وحل مشاكلهم، حتى أصبح رعيلي (1) نموذجياً، يقصده الزائرون من الوحدات الأخرى والأجانب، ويحوز قصب السبق تدريباً وتهذيباً وتنظيماً وضبطاً على رعائل الكتيبة. كنت أحضر الثكنة قبل شروق الشمس، وكنت أغادرها في الهزيع الأول من الليل، وكنت أقضي وقتي كله متعلماً ومعلِّماً ومتدرباً ومدرّباً، وكان من الأمور الاعتيادية أن يصدح بوق النهوض وأنا في الثكنة، فيجدني جنودي منتصب القامة في قاعة نومهم؛ فشاع بين الضباط أنني أصلي الفجر في الثكنة ولا أغادرها إلا بعد صلاة العشاء. كانوا يرددون ذلك بشكل نكتة تستدر الابتسام، ولو أنها كانت تقريراً للواقع. وبهذا الجهد الجهيد، استطعت تكذيب ما أُلصق بالمتدينين ظلماً وعدواناً، واستطعت الاستحواذ على ثقة قادتي وجنودي، وتسنُّم مناصب عسكرية لا يحلم بها زملائي في الرتبة والقِدَم. ونُقلت من كتيبتي إلى منصب ضابط ركن مقر لواء الخيالة في بغداد، وكان قائد اللواء قليل الاختلاط بالضباط، يعرفهم بأعمالهم لا باتصاله الشخصي بهم. _______ (1) الرعيل في سلاح الفرسان: فصيلة في سلاح المشاة، مؤلف من نحو اثنين وثلاثين جندياً وضابط صف، بقيادة ضابط برتبة ملازم.

وجاء موسم كتابة التقارير السرية السنوية، والقادة يكتبون كل عام تقريراً سرياً عن ضباطهم، يقوّمون خطياً أعمالهم وسلوكهم، واستناداً على تلك التقارير يُرفَّع الضباط أو يحرمون من الترفيع. وجاءني مقَدّم اللواء ضاحكاً وبيده تقريري السري السنوي بخط قائد اللواء، فإذا به قد سجل إزاء فقرة: "هل يشرب الخمر"؟ في التقرير: "نعم يشربها بالمناسبات". وأخبرت القائد بأنني لم أذق طعم الخمر أبداً، فقال: "كيف لا تشربها وأنت من خيرة الضباط"؟. ودار الزمن دورته، وتخرجت من كلية الأركان، وشهدت عشرات الدورات العسكرية، فرشحت نفسي معتمداً لدار الضباط في الموصل الحدباء. ونجحت قائمتي في الانتخابات، فتنكرتُ لمقصف الدار، وأهملتُه إهمالاً شديداً، وأقمت مسجداً للصلاة؛ وكان في الدار سجل للمقترحات، يتقدم مَن يشاء من الضباط بمقترحاته حين يشاء. وفي يوم من الأيام كتب ضابط من الضباط في سجل المقترحات: "ينقص الدار مقرئ للقرآن الكريم"، وقد أراد بهذا الاقتراح الاحتجاج على إهمال المقصف والاهتمام بالمسجد. وأخيراً أُقيلت لجنة إدارة الضباط التي كانت برياستي قبل انتهاء مدتها، وعينت لجنة جديدة، فعاد الكاس والوتر إلى الدار، وعادت إلى المقصف أيامه السعيدة. ***

(3)

(3) لست بصدد سرد ما عانيته من عنت شديد في حياتي العسكرية لتمسكي بتعاليم الدين الحنيف. ولكنني بصدد إبراز أمثلة حيّة ملموسة، تكشف عن واقع مرير. والذي عانيته عاناه غيري في الجيوش العربية والإسلامية، فثبت قسم على مبادئه، وانهار قسم آخر أمام التيار الجارف العتيد. إن الضابط المتدين لا يجد الطريق أمامه ممهَّداً للنجاح في حياته العسكرية، أما الضابط غير المتدين فالطريق أمامه ممهد مفتوح. والضابط المتدين عليه أن يبهر الآخرين بعلمه وجهده، ويحاسب نفسه حساباً عسيراً عن كل عمل يعمله، حتى لا تؤخذ عليه (هفوة) عابرة صغيرة، فتضخم عليه وتصبح وصمة في سجله. والضابط غير المتدين يحاسب غيره على هفوات مزعومة، لأن المجتمع العسكري يتغاضى عن سيئاته وقد يعتبرها حسنات. والهدف من هذا البحث، تصحيح خطأ شائع بين العسكريين العرب والمسلمين: هو أن العسكرية تتناقض مع التدين، وأن العسكري المتميز لا يكون متديناً. فالقاعدة عند هؤلاء أن يكون الضابط سكيراً عربيداً زير نساء، يرتاد الملاهي ويغشى نوادي الميسر؛ والاستثناء عندهم أن يكون الضابط تقياً نقياً، حمامة المسجد، يعف عن الحرمات، ويبتعد عن

الشبهات. وذلك هو الخطأ الشائع بين العسكريين العرب والمسلمين؛ وما أجسمه من خطأ، وما أخطر نتائجه على العرب والمسلمين!!. والواقع أن التخلي عن العقيدة والتنكر للقيم الدينية، لم يقتصر على الضباط وحدهم، بل شمل أكثر الموظفين ومعظم الناس، وصدق الله العظيم: {وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ 34: 13]، وقال تعالى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف 12: 103]. ولكنّ نسبة المقبلين على المحرمات المدبرين عن الوازع الديني من الضباط، أكثر من نسبتهم في الموظفين المدنيين وأصناف الناس الآخرين. كما أن أهمية الضباط باعتبارهم قادة الحاضر والمستقبل، خاصة في الأيام الحاسمة المصيرية وهي أيام الحروب، أكثر من أهمية غيرهم من الناس. فما علاقة العقيدة بالقيادة؟ وهل العقيدة من صفات القائد المنتصر؟. ذلك ما سأعالجه بهذا البحث، لعله يعيد الأمور إلى نصابها، ويبدل بالخطأ الشائع الصواب النافع، وحسبنا الله ونعم الوكيل. أما بعد؛ فأعمق الشكر وأعظم التقدير لفضيلة أستاذنا الجليل الشيخ محمد أبو زهرة شيخ العلماء وعالم الشيوخ على مقدمته الضافية، وقد حرصت على إثباتها في الكتاب تقديراً لفضله وعلمه وشجاعته في الدفاع عن الإسلام، ثم هي رأي الدين الحنيف باعتباره من أكبر علماء

المسلمين في العصر الحديث في تقرير العلاقة الوثيقة بين العقيدة والقيادة. والله كبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرة وأصيلاً. وصلى الله على سيدي ومولاي رسول الله وعلى آله وأصحابه أجمعين. محمود شيت خطاب

العقيدة

العقيدة والقيادة

العقيدة والقيَادة (1) العقيدة: هي مُثُلٌ عليا يؤمن بها الإنسان، فيضحي من أجلها بالأموال والنفس، لأنها أغلى من الأموال والنفس. وهناك تعاريف كثيرة للعقيدة مسطَّرة في كتب العقائد الإسلامية، وتعاريف أخرى في المصادر القديمة والحديثة، وضعها الفقهاء والفلاسفة والمفكرون والعلماء. ولكن يمكن الاكتفاء بهذا التعريف، لأنه يحدد حوافز التضحية والبذل والفداء في المجال العسكري. إن الطائرات والدبَّابات والأسلحة المختلفة والصواريخ والذخيرة والعتاد، كتل من الحديد صنعها البشر لاستخدامها في الحروب. ولا يزال الإنسان هو المسيطر على كل سلاح وعتاد، وبدونه لا قيمة لكل سلاح وعتاد. ولكن الإنسان لا قيمة له من الناحية العسكرية بدون عقيدة تجمع شمله وتوحِّد صفوفه وتشيع فيه الإنسجام الفكري الذي بدونه لا يتم تعاون ولا اتحاد.

وروح الإنسان أغلى ما يملكه الإنسان، فمن المستحيل أن يضحي بها مقبلاً غير مدبر إلا إذا كانت لديه عقيدة راسخة وأهداف سامية. وكتل الحديد هي السلاح والعتاد، لا جدوى منها ولا فائدة فيها، إذا لم يستعملها إنسان ذو عقيدة راسخة ومُثُل عليا. وكل جيش في العالم مؤلف من عنصرين: عنصر مادي، وعنصر معنوي. وقد كان نابليون بونابارت يقول: "قيمة المعنويات بالنسبة للقوى المادية، تساوي ثلاثة على واحد" أي أن الجيش تكون قيمته 75% من الناحية المعنوية و 25% من الناحية المادية. وقد أيَّد نابليون كثير من العسكريين في الماضي والحاضر، ولكن اللواء (فولر) في كتابه: "الأسلحة والتاريخ" يخالف رأي نابليون في التفاصيل ويتفق معه في المبدأ، وذلك لاختراع القنابل النووية والهيدروجينية والصواريخ عابرة القارات والأجهزة الإلكترونية، وللتحسينات الهائلة التي طرأت على وسائط قذف الأسلحة غير التقليدية وعلى أساليب استعمالها التعبوية والسوقية. وليس هناك شك في أن الأسلحة الحديثة ذات تأثير في الناحية المادية للجيوش الحديثة، إذ جعلت نسبة هذه الناحية - كما يرى فولر - بالنسبة إلى الناحية المعنوية 50% لكل منهما. أي أن الناحية المعنوية لا تزال ذات قيمة عظيمة، حتى بعد ظهور الأسلحة الحديثة، وأن المعنويات كانت ولا تزال وستبقى عاملاً حاسماً في إحراز النصر.

والمعنويات هي العقيدة، وقد أثبت تاريخ الأمم أن الجيوش لا تهزم لقلة موادها بل لضعف عقيدتها. والقيادة: هي الأعمال التي يضطلع بها القائد في قيادة الجنود. وخير تعريف للقيادة قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته". والقائد: من كان على رأس الجماعة، وكان للجماعة رأساً (1). والقيادة: هي أن يسير القائد بمجموعة من الجند، خاضعين لنظام معيَّن، نحو غرض معين (2). والقائد: هو ذلك الذي يجعل الناس يتبعونه (3). فما علاقة القيادة بالعقيدة؟ هل يمكن أن يكون القائد بدون عقيدة؟ هل الوازع النابع من الضمير الذي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ضروري للقائد ليكون قائداً حقاً، يتبعه رجاله إلى الموت وينفذون أوامره عن طيب خاطر، ويكون موضع ثقتهم في السراء والضراء؟ هل العقيدة الراسخة المنشئة البناءة من صفات القائد المنتصر؟ وللإجابة على ذلك - بشكل موضوعي بعيد عن العاطفة - لا بد من مراجعة تراثنا العربي الإسلامي أولاً، والمصادر العسكرية الحديثة _______ (1) الزعيم اندري مونتانيون - رسالة في الرئاسة والرئيس - ص (5) - بيروت - 1955. (2) التعريف للكاتب الفرنسي أندريه موروا. (3) التعريف للمشير مونتكومري - السبيل إلى القيادة - الباب الأول - ص (11).

ثانياً؛ ليعلم الذين لا يزالون في ريب من أثر العقيدة في القيادة، وعلاقة العقيدة بالقيادة، أن القائد الذي لا عقيدة له، لا يمكن أن ينتصر في الحرب، ولا يمكن أن ينجح في السلام؛ وليعرف الذين يظنون أن القائد ينبغي أن يكون منحلاًّ متفسخاً مقدار بعدهم عن الحقيقة، وميلهم مع الهوى، وانحرافهم عن الطريق السوي. ***

مع التراث العربي الإسلامي

مَع التراث العَرَبي الإسْلاَمي (1) إن تراثنا العربي الإسلامي، عريق جداً في ذكر صفات القائد بكل دقة وشمول، بحيث يَعجب المتتبع لهذا التراث بأصالة بحوثه العسكرية ودقتها وشمولها، وحتى ليخيل إليه أن صفات القائد في تراثنا أكثر دقة وأعمق تفصيلاً وأشمل بحثاً مما هي عليه في الكتب الأجنبية الصادرة في القرن العشرين. إن العرب قادوا الحضارة العالمية قروناً طويلة، وحين كان العرب في المشرق والمغرب يعيشون بنور العلم والمعرفة، كان الغرب في ظلام الجهل والتخلّف. وقد كانت آثار العرب العلمية التي انبعثت من الأندلس إلى أوروبا، وآثارهم التي اقتبسها الصليبيون من المشرق العربي في أيام الحروب الصليبية ويمَّموا بها شطر بلادهم، هي الأسس الرصينة لحضارة أوروبا منذ عصر النهضة حتى اليوم. ومن هذه الحضارة العربية الإسلامية العريقة: العلوم العسكرية، فقد اقتبسها الأوروبيون من العرب ثم طوّروها، فأصبحت شاهقة البنيان على أسس عربية إسلامية متينة.

والتراث العربي الإسلامي في الناحية العسكرية، يملأ مكتبات أوروبا ومتاحفها، وتزخر به مكتبات المخطوطات العربية في شتى أصقاع الدنيا. وحسبنا أن نذكر كتاب: (فهرست ابن النديم)، الذي عدَّد فيه: "الكتب المؤلفة في الفروسية وحمل السلاح، وآلات الحرب والتدبير والعمل بذلك لجميع الأمم"، لنلمس بوضوح أي تراث عسكري أصيل كان للعرب والمسلمين منذ أقدم العصور. ومن موازنة ما جاء في: (فهرست ابن النديم) عن الكتب العسكرية التي اطّلع عليها هو في عصره، بالكتب العسكرية العربية الإسلامية المعروفة في الوقت الحاضر، يتبين لنا أن كثيراً من التراث العربي الإسلامي في العلوم العسكرية لا يزال مفقوداً (¬1). ولكن ما وصل إلينا من المخطوطات العسكرية العربية، يدل على أن العرب المسلمين بلغوا شأواً بعيداً في العلوم العسكرية، وأنهم لم يقتصروا على الفلسفة والعلوم العقلية والنقلية والتاريخ وعلوم القرآن والحديث والأدب، بل كان لهم في العلوم العسكرية الفنية باع طويل وقدم راسخة. وإذا كانت العلوم والآداب والفنون التي أتقنها العرب والمسلمون مهمة إلى أبعد الحدود لمسيرة الحضارة العالمية، فإن العلوم العسكرية لا تقل أهمية في حال من الأحوال عن العلوم والآداب والفنون الأخرى، لأنه بتطبيق هذه العلوم عملياً صان العرب حضارتهم ونشروا معارفهم وحموها من الغزو الخارجي. ¬_______ (¬1) ابن النديم: الفهرست، ص (314 - 315)، بيروت - 1964.

(2)

وحين كان العرب يطبقون تلك العلوم العسكرية نصاً وروحاً في الإعداد العسكري وفي ميادين القتال، أصبحت لهم قوة ضاربة صانت كرامتهم ورفعت شأنهم؛ وحين تركوا تطبيقها عملياً، ذلوا واستكانوا وتداعت عليهم الأمم. إن علوم العرب والمسلمين العسكرية في ميدان البحث النظري وفي ميدان التطبيق العملي، دليل قاطع على سعة اطلاعهم ومهارتهم في العلوم العسكرية. وهذه العلوم تعطي الجواب المقنع للمتسائلين: كيف بلغ العرب والمسلمون ما بلغوا في إعداد قواتهم العسكرية للحرب؟ وكيف استطاعوا الانتصار على أعدائهم في ميادين القتال؟ ... (2) والتراث العربي الإسلامي زاخر بالحديث عن: صفات القائد، وهي مُسَطَّرة في بعض الكتب العسكرية الفنية وكتب الفقه الإسلامي أيضاً. ومصادر التراث العربي الإسلامي كثيرة جداً، لذلك سأقتصر على ما ورد في بعض الكتب المطبوعة والمخطوطة، كما سأقتصر على ما ورد فيها عن صفة: "العقيدة" من بين صفات القائد الأخرى. وقد اخترت خمسة كتب، وهي على حسب تاريخ تأليفها: "مختصر سياسة الحروب" للهرثمي صاحب المأمون، و: "الأحكام السلطانية" للماوردي، و: "الأحكام السلطانية" لأبي يعلى. و: "السياسة الشرعية"

لابن تيمية، و: "الأدلة الرسمية في التعابي الحربية" لمحمد بن منكلي. جاء في كتاب: "مختصر سياسة الحروب" (¬1) للهرثمي الذي عاش إلى ما بعد سنة (243هـ) (¬2) في الباب الأول: "في أن نظام الأمر تقوى الله والعمل بطاعته" ما نصه: "فينبغي لصاحب الحرب أن يجعل رأس سلاحه في حربه تقوى الله وحده وكثرة ذكره، والاستعانة به، والتوكل عليه، والفزع إليه، مسألته التأييد والنصر، والسلامة والظفر؛ وأن يعلم أن ذلك إنما هو من الله جلّ ثناؤه لمن شاء من خلقه كيف شاء، لا بالأرَب (¬3) منه والحيلة، والاقتدار والكثرة؛ وأن يبرأ إليه جلّ وعزّ من الحول والقوة، في كل أمرٍ ونهي ووقت وحال، وألا يدعَ الاستخارة لله في كل ما يعمل به، وأن يترك البغي والحقد، وينوي العفو، ويترك الانتقام عند الظَّفر، إلا ما كان لله فيه رضا، وأن يستعمل العدل وحسن السيرة، والتفقد للصغير والكبير بما فيه مصلحة رعيته، وأن يعتمد في كل ما يعمل به في حربه طلب ما عند ربه عزّ وجلّ، ليجتمع له به خير الدنيا والآخرة. . . "فليتَّقِ ربَّه، وليصدُقْ يقينُه، ويتجنَّب الظلم فإنه ظلمات يوم القيامة، مع ما ينال صاحبه من عاجل عقوبات الدنيا، ولا يعمل بشيء من كتابنا هذا ولا بغيره إلا بما كان لله فيه رضى، وبالله العصمة ومنه النصر (¬4). وجاء في الباب الثالث من هذا الكتاب: "في ذكر فضائل الرئيس ¬_______ (¬1) تحقيق عبد الرؤوف عون، مراجعة الدكتور محمد مصطفى زيادة - القاهرة. (¬2) المصادف سنة (857م). (¬3) الأرب: العقل. والشخص الأريب: العاقل. (¬4) الهرثمي: مختصر سياسة الحروب، ص (15 - 16).

(3)

وأصحابه" ما نصه: "أن يكون حسن السيرة، عفيفاً، صارماً، حذراً، متيقظاً، شجاعاً" (1). ... (3) وجاء في كتاب: "الأحكام السلطانية" (2) لأبي الحسن علي بن محمد بن حبيب البصري البغدادي الماوردي المتوفى سنة (450هـ) (3) - الباب الرابع، "في تقليد الإمارة على الجهاد" ما نصه: "ولا يجوز قتل النساء والولدان في حرب ولا في غيرها ما لم يقاتلوا، لنهي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن قتلهم. ونهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن قتل العسفاء والوصفاء. والعسفاء: المستخدمون، والوصفاء: المماليك" (4). وقال: "أن يَعِدَ -يقصد القائد- أهل الصبر والبلاء منهم بثواب الله لو كانوا من أهل الآخرة، وبالجزاء والنفل من الغنيمة إن كانوا من أهل الدنيا، قال تعالى: {وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا} [آل عمران 3: 145]، وثواب الدنيا الغنيمة، وثواب الآخرة الجنة" (1). وقال: "أن يأخذ جيشه بما أوجبه الله تعالى من حقوقه، وأمر به من حدوده، حتى لا يكون بينهم تجوّر في دين ولا تحيُّف في حق؛ فإنّ مَنْ جاهد عن الدين كان أحق الناس بالتزام أحكامه، والفصل بين حلاله وحرامه. وقد روى حارث بن نبهان عن أبان بن عثمان عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "انهَوا جيوشكم عن الفساد، فإنه _______ (1) ص (17). (2) الماوردي: الأحكام السلطانية، القاهرة - الطبعة الثانية 1386هـ. (3) المصادف سنة (1058م). (4) ص (41). (5) ص (43).

ما فسد جيش قط إلا قذف الله في قلوبهم الرعب، وانهوا جيوشكم عن الغلول (1)، فإنه ما غلّ جيش قط إلا سلط عليه الله الرَّجْلة (2)، وانهوا جيوشكم عن الزنا؛ فإنه ما زنا جيش قط إلا سلط الله عليهم الموتان" (3). وقال أبو الدرداء: "أيها الناس! اعملوا صالحاً قبل الغزو، فإنما تقاتلون بأعمالكم" (4). وقال: "وأن يقصد بقتاله نصرة دين الله تعالى وإبطال ما خالفه من الأديان، {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة 9: 33]، فيكون بهذا الاعتقاد حائزاً لثواب الله تعالى، ومطيعاً له في أوامره ونصرة دينه، ومستنصراً به على عدوه، ليستسهل ما لاقى، فيكون أكثر ثباتاً وأبلغ نكاية. ولا يقصد بجهاده استفادة المغنم، فيصير من المتكسبين لا من المجاهدين" (5). وقال: "من أحكام هذه الإمارة مصابرة الأمير قتال العدو ما صابر، وإن تطاولت به المدة، ولا يولِّي عنه وفيه قوَّة" (6). وجاء في كتاب "الأحكام السلطانية" (7) للقاضي أبي يعلى محمد بن الحسين الفراء الحنبلي المتوفى سنة (458هـ) (8) في باب: "تقليد الإمارة _______ (1) الغلول: الخيانة في المغنم أو في مال الدولة. (2) الرَّجلة: نوع من الأمراض الخبيثة. (3) الموتان: الموت الكثير الوقوع، انظر النهاية في غريب الحديث - ابن الأثير (4/ 130). وهذا الحديث ضعيف، وابن بنهاز ليس ثقة. (4) ص (40). (5) ص (45). (6) ص (49). (7) أبو يعلى: الأحكام السلطانية، صححه وعلَّق عليه الشيخ أحمد حامد الفقي - القاهرة - 1356 هـ - الطبعة الأولى. (8) المصادف سنة (1065م).

على الجهاد" ما نصه: "ألا يُمَالِىء من ناسبه، أو وافق رأيه ومذهبه، على من باينه في نسب، أو خالفه في رأي ومذهب، فيظهر من أحوال المباينة ما تفترق به الكلمة الجامعة، تشاغلاً بالتقاطع والاختلاف" (1). وقال: "أن يأخذ جيشه بما أوجبه الله تعالى من حقوقه، حتى لا يكون بينهم تَجَوُّرٌ في الدين" (2). وقال: "أن يقصد بقتاله نصرة دين الله تعالى، وإبطال ما خالفه من الأديان، فيكون مطيعاً لله في أوامره، ولا يقصد في جهاده استفادة المغنم، فيصير من المتكسبين لا من المجاهدين. وأن يؤدي الأمانة فيما حازه من المغانم، ولا يَغُل أحد منهم شيئاً حتى تُقْسَمَ بين جميع الغانمين ممن شهد الوقعة، وكانوا على العدو يداً واحدة، لأن لكل واحد منهم فيها حقاً" (3). وقال: "مصابرة الأمير قتال العدو، وأن يطاول به المدة، ولا يولِّي عنهم وفيه قوّة" (4). ... _______ (1) ص (25). (2) ص (29). (3) ص (30). (4) ص (31)؛ ويبدو أن عبارات كتابَي: "الأحكام السلطانية" تكاد تكون واحدة، لولا أن الماوردي الذي كان إمام الشافعية في بغداد يذكر مذهب الشافعي وخلاف الحنفية والمالكية ويزيد آثاراً عن الصحابة والتابعين في تأييد مذهبه، ولولا أن أبا يعلى الذي كان إمام الحنابلة في بغداد يذكر فروع مذهب الإمام أحمد ورواياته. وقد عاشا في بغداد في عصر واحد، وكان القرن الخامس الهجري قرن تسابق في العلم والتأليف، فمن بدأ كتابه أولاً، ومن اعتمد على كتاب أخيه ... هذا ما نطالب جامعة الأزهر بتحقيقه؛ إذ من المستحيل أن يكون كل منهما قد ألَّف كتابه بدون صلة بالآخر. مع ما بين الكتابين من توافق؛ انظر الأحكام السلطانية لأبي يعلى (44).

(4)

(4) وجاء في كتاب "السياسة الشرعية" (1) لشيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن مجد الدين أبي البركات عبد السلام بن تيمية المتوفى سنة (728هـ) (2) في الفصل الأول من الباب الأول: "استعمال الأصلح" ما نصه: "فيجب على كل من ولِّي شيئاً من أمر المسلمين من هؤلاء وغيرهم، أن يستعمل فيما تحت يده في كل موضع، أصلح من يقدر عليه، ولا يقدِّم الرجل لكونه طلب الولاية أو سبق في الطلب، بل ذلك سبب المنع، فإن في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أن قوماً دخلوا عليه فسألوه ولاية فقال: (إنا لا نولِّي أمرنا هذا من طلبه). وقال لعبد الرحمن بن سُمرة: (يا عبد الرحمن! لا تسأل الإمارة، فإنك إن أُعْطِيتها من غير مسألة أُعِنتَ عليها، وإن أُعطيتها عن مسألة وُكلتَ إليها). أخرجاه في الصحيحين ... فإن عدل عن الأحق الأصلح إلى غيره لأجل قرابة بينهما أو وَلاء عتاقة أو صداقة، أو موافقة في بلد أو مذهب أو طريقة أو جنس، كالعربية والفارسية والتركية والرومية، أو لرشوة يأخذها منه من مال أو منفعة، أو غير ذلك من الأسباب. أو لضغن (3) في قلبه على الأحق، أو عداوة بينهما، فقد خان الله ورسوله والمؤمنين ... ". "فإن الرجل لحبه لولده أو لعتيقه، قد يؤثره في بعض الولايات، _______ (1) ابن تيمية - السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية - بيروت 1386هـ. (2) المصادف سنة (1327م). (3) الضغن: الحقد.

أو يعطيه ما لا يستحق، فيكون قد خان أمانته. وكذلك قد يؤثره زيادة في ماله أو حفظه، بأخذ ما لا يستحقه، أو محاباة من يداهنه (1) في بعض الولايات، فيكون قد خان الله ورسوله وخان أمانته. ثم إن المؤدِّي للأمانة مع مخالفة هواه، يثبِّته الله فيحفظه في أهله وماله بعده، والمطيع لهواه يعاقبه الله بنقيض قصده؛ فيذل أهله ويذهب ماله. وفي ذلك الحكاية المشهورة، أن بعض خلفاء بني العباس، سأل بعض العلماء أن يحدِّثه عما أدرك فقال: أدركت عمر بن عبد العزيز، فقيل له: يا أمير المؤمنين! أَقْفَرْتَ أفواه بنيك (2) من هذا المال، وتركتهم فقراء لا شيء لهم. وكان في مرض موته فقال: أدخلوهم عليّ؛ فأدخلوهم، وهم بضعة عشر ذكراً، ليس فيهم بالغ. فلما رآهم ذرفت عيناه، ثم قال: يا بَنيّ! والله ما منعتكم حقاً هو لكم، ولم أكن بالذي آخذ أموال الناس فأدفعها إليكم، وإنما أنتم أحد رجلين: إما صالح، فالله يتولى الصالحين، وإما غير صالح، فلا أترك له ما يستعين به على معصية الله ... قوموا عني. قال: فلقد رأيت بعض ولده، حمل على مئة فرس في سبيل الله، يعني: أعطاها لمن يغزو عليها ... ". "قلت: هذا وقد كان خليفة المسلمين، من أقصى المشرق - بلاد الترك - إلى أقصى المغرب - بلاد الأندلس وغيرها - ومن جزائر (قبرص) (3) وثغور الشام والعواصم كطرسوس (4) ونحوها، إلى أقصى اليمن. _______ (1) المداهنة: المصانعة والمواربة، أو المصالحة والمسالمة. (2) أقفرت أفواه بنيك: يقصد أخليت أيديهم من المال وأفواههم من ملذات المطاعم. (3) الأصح: قبرس. (4) طرسوس: مدينة على ساحل البحر الأبيض المتوسط، كانت ثغراً من ناحية بلاد الروم قريباً من طرف بلاد الشام.

وإنما أخذ كل واحد من أولاده من تركته شيئاً يسيراً، يقال أقل من عشرين درهماً! ... ". "قال: وحضرت بعض الخلفاء وقد اقتسم تركته بنوه، فأخذ كل واحد منهم ستمئة ألف دينار، ولقد رأيت بعضهم يتكفف الناس - أي يسألهم بكفِّه" (1). وقال: "فالقوّة في إمارة الحرب، ترجع إلى شجاعة القلب، وإلى الخبرة بالحروب والمخادعة فيها، فإن الحرب خدعة، وإلى القدرة على أنواع القتال، من رمي وطعن وضرب، وركوب وكرٍ وفرٍ، ونحو ذلك" (2). وقال: "والأمانة ترجع إلى خشية الله، وألا يشتري بآياته ثمناً قليلاً، وترك خشية الناس" (3). ويقول في الفصل الثامن وهو: "جهاد الكفار" من الباب الأول من القسم الثاني، في سياق واجبات ولي الأمر بالأمر بالصلاة ما نصه: " ... يجب إلزامهم بالواجبات التي هي مباني الإسلام الخمس وغيرها من أداء الأمانات والوفاء بالعهود في المعاملات وغير ذلك. "فمن كان لا يصلي من جميع الناس رجالهم ونسائهم، فإنه يؤمر بالصلاة، فإن امتنع عوقب حتى يصلي بإجماع العلماء. ثم إن أكثرهم يوجبون قتله إذا لم يصلِّ، فيُستتاب، فإن تاب وإلا قُتِل. هل يُقتل كافراً أو مرتداً أو فاسقاً؟. _______ (1) السياسة الشرعية ص (11 - 12). (2) المصدر السابق ص (15). (3) المصدر السابق ص (16).

على قولين مشهورين في مذهب أحمد وغيره. والمنقول عن أكثر السلف يقتضي كفره، وهكذا مع الإقرار بالوجوب". "فأما من جحد الوجوب، فهو كافر بالاتفاق. بل يجب على الأولياء (1) أن يأمروا الصبي بالصلاة إذا بلغ سبعاً، ويضربوه عليها لعشر، كما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث قال: (مروهم لسبعٍ، واضربوهم عليها لعشرٍ، وفرِّقوا بينهم في المضاجع). "وكذلك ما تحتاج إليه الصلاة من الطهارة الواجبة ونحوها، ومن تمام ذلك تعاهد (2) مساجد المسلمين وأئمتهم، وأمرهم بأن يصلوا بها صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث قال: (صلوا كما رأيتموني أصلي) رواه البخاري. وصلى مرة بأصحابه على طرف المنبر فقال: (إنما فعلت هذا لتأتموا بي ولتعلموا صلاتي). "وعلى إمام الناس في الصلاة وغيرها أن ينظر لهم، فلا يفوتهم ما يتعلّق بفعله من كمال دينهم، بل على إمام الصلاة أن يصلي بهم صلاة كاملة، ولا يقتصر على ما يجوز للمنفرد الاقتصار عليه من قدر الإجزاء إلا لعذر، وكذلك على إمامهم في الحج، وأميرهم في الحرب. ألا ترى أن الوكيل والوليَّ في البيع والشراء، أن يتصرف لموكله ولمولِّيه على الوجه الأصح في ماله، وهو في مال نفسه يفوت نفسه ما شاء؟ فأمرُ الدين أهم، وقد ذكر الفقهاء هذا المعنى". "ومتى اهتمت الولاة بإصلاح دين الناس، صلح للطائفتين دينهم _______ (1) الأولياء: يقصد بهم أولياء الأمور أياً كانوا. (2) تعاهد: تفقَّد.

ودنياهم، وإلا اضطربت الأمور عليهم. وملاك ذلك كله، حسن النية للرعية، وإخلاص الدين كله لله، والتوكل عليه، فإن الإخلاص والتوكل جماع صلاح الخاصة والعامة، كما أمرنا أن نقول في صلاتنا: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 1 - 5]، فإن هاتين الكلمتين قد قيل: إنهما يجمعان معاني الكتب المنزَّلة من السماء ... "وأعظم عون لولي الأمر خاصة، ولغيره عامة، ثلاثة أمور، أحدها: الإخلاص لله، والتوكل عليه بالدعاء وغيره، وأصل ذلك المحافظة على الصلوات بالقلب والبدن. والثاني: الإحسان إلى الخلق بالنفع والمال الذي هو الزكاة. والثالث: الصبر على أذى الخلق وغيره من النوائب. ولهذا جمع الله بين الصلاة والصبر كقوله تعالى في موضعين: {وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ 114 وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} (1) [هود 11: 114 - 115]. وقوله تعالى: {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} [طه 20: 130]. وكذلك في سورة ق: {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} [سورة ق 50: 39]. وقال تعالى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ 97 فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ} [الحجر 15: 97 - 98]. "وأما قرانه بين الصلاة والزكاة في القرآن فكثير جداً، فبالقيام بالصلاة والزكاة والصبر، يصلح حال الراعي والرعية، إذا عرف الإنسان ما يدخل في هذه الأسماء الجامعة: يدخل في الصلاة من ذكر الله ودعائه وتلاوة كتابه وإخلاص الدين له والتوكل عليه، وفي الزكاة _______ (1) زلف الليل: أوائل الليل وأواخره.

بالإحسان إلى الخلق بالمال والنفع من نصر المظلوم وإغاثة الملهوف وقضاء حاجة المحتاج" (1). وجاء في كتاب: "الأدلة الرسمية في التعابي الحربية" (2) لمحمد بن منكلي نقيب الجيش في سلطنة الأشرف شعبان على مصر (764 - 778هـ)، وقد ألف هذا الكتاب في سنة (770هـ) (3) ما نصه: "إن تقوى الله هي العمدة العظمى والفوز الأكبر الأعلى". وقال: "ويلزم أمير الجيش أن يؤلِّف بين قلوب رفقائه، وأن يراعي في جيشه ما أوجبه الله من حقوقه". وقال في صفات أصحاب المشورة الذين نطلق عليهم في المصطلحات العسكرية الحديثة تعبير "ضباط الركن" ما نصه: "أن يكون متقياً لله عزّ وجلّ، وأن تكون محبته خالصة لله صادقة"، ثم قال (4): " ... وهو البغية العزيزة الغريبة التي لا تكاد توجد إلا في بعض الأعصار (5)، وسبب ذكري لها لأنه ممكن وجودها في الأنفس المتجوهرة بنور الله عزّ وجلّ. وصاحب هذه الطريقة إذا استشير فيما يعلمه ربما استمع هاتفاً إما من داخل صنعاء باطنه النزيه أو من خارج من أحد الجهات من يرشده لوجه الصواب في المسألة، أو يرى مناماً يدل على مقصوده". وألمح من بعيد علامات الاستغراب التي يبديها قراء هذا الذي ذكره محمد بن منكلي رحمه الله، وألمح تلك العلامات يظهرها السامعون. _______ (1) السياسة الشرعية (111 - 113). (2) كتاب مخطوط، منه نسخة في مكتبة أياصوفيا (في تركيا) برقم (3839)، وأخرى برقم (2875)، وأعمل الآن في تحقيقه وإخراجه للناس لفائدته العظيمة للعسكريين والمدنيين على حدٍّ سواء. (3) المصادف سنة (1368م). (4) لا يزال يتكلم عن صفات أصحاب المشورة. (5) الأعصار: جمع عصر؛ والعصر: الدهر.

ولكن الذي آمله ألا يطول استغرابهم، فسأذكر ما قاله المشير مونتكومري في كتاب: "السبيل إلى القيادة" وشيكاً، فقد ذهب إلى مدى أبعد مما ذهب إليه ابن منكلي، فربما يطربهم ما يقوله المشير البريطاني ولا يطربهم مُغنِّي الحي، وقد يداوي تراب (البعيد) رمد عيونهم ولا يداويها تراب (القريب). إن القضايا المعنوية كثيرة جداً، والكثير منها يعجز العقل والمنطق عن تعليله، ولكنها موجودة على كل حال - وخاصة في النفوس التقية النقية الورعة التي تستمد نورها من نور الله -. وكل واحد من البشر، لمس في نفسه بعض القضايا المعنوية التي لا يستطيع لها تعليلاً. فإذا شك فيما يرويه له غيره، فهل يشك فيما يلمسه في نفسه بنفسه؟!. ***

مع المشير مونتكومري

مَع المشير مونتكومري (1) تعمَّدتُ إيراد صفة: "العقيدة" التي هي من أهم صفات القائد المنتصر كما وردت ببعض مصادر التراث العربي الإسلامي الفقهية والعسكرية لأسباب ثلاثة: الأول: لموازنة ما ورد عن صفة العقيدة في تراثنا بما ورد عنها في المصادر العسكرية الحديثة، لطرد الاستعمار الفكري البغيض الذي غزا عقول العرب والمسلمين في العصر الحديث، فجعلهم يستهينون بتراثهم الحضاري العريق بلا مسوِّغ؛ إذ ستُبرز هذه الموازنة أصالة تراثنا وعمقه وشموله. الثاني: إثبات أن صفة: "العقيدة" تعتبر من أهم صفات القائد المنتصر ليس في تراثنا فقط، بل في المصادر العسكرية الحديثة المعتمدة أيضاً. الثالث: استخلاص صفة: "العقيدة" استناداً إلى التراث التليد والفن العسكري الجديد، حتى نتبين وجه الحق بشكل قاطع سليم، وحتى لا يبقى شك في أهمية العقيدة للقائد المنتصر.

وتعمَّدتُ إيراد صفة: "العقيدة" التي هي من أهم صفات القائد المنتصر كما وَرَدَت في أهم المصادر العسكرية الحديثة، لأسباب ثلاثة أيضاً: الأول: إقناع من لا يقنع إلا بما يقوله الأجانب - وما أكثرهم بين ظهرانينا، ومن هؤلاء من يقنع بأقوال العسكريين في المعسكر الشرقي، ومنهم من يقنع بأقوال العسكريين في المعسكر الغربي، لذلك؛ حرصت على إيراد أقوال بعض الشرقيين والغربيين. الثاني: تصحيح ما علق بأذهان العسكريين العرب والمسلمين وغير العسكريين أيضاً، بأن العرب والمسلمين القدماء يهتمون بالعقيدة وحدهم، وأن العسكريين المحدثين في الغرب والشرق لا يهتمون بالعقيدة والمثل العليا. الثالث: إعادة العسكريين الذين يحبون بكل جوارحهم أن يستعيدوا حقوق العرب في الأرض المقدسة، إلى طريق الحق والصواب، وقطع دابر الانحلال الخلقي والميوعة والضياع الذي يعانيه العسكريون قسم من العرب والمسلمين في هذه الظروف التي يجتازها العرب والمسلمون وهم في حرب مصيرية أصابت شرفهم وبلادهم بأفدح الخسائر والأضرار، وذلك بالعودة إلى عقيدتهم ومُثُلهم العليا، إذ لم يغلبوا من قلة أشيائهم، ولكن من ضعف عقيدتهم كما ذكرت سابقاً. ***

(2)

(2) سأسلط الأضواء على ما جاء عن صفة: "العقيدة" في القائد العسكري مقتبسة من كتاب المشير مونتكومري (لورد) العَلَمَيْن وعنوانه: "السبيل إلى القيادة" الذي صدر في لندن سنة 1962، ويعتبر هذا الكتاب من آخر الكتب العسكرية المعتمدة التي صدرت أخيراً، ومن أهمها أيضاً. وهذا الكتاب مبني على تجارب عملية استغرقت خمسين سنة في الخدمة العسكرية، تَدَرَّج خلالها مؤلفه من الرتب العسكرية الصغيرة إلى أعلى الرتب العسكرية، وشغل المناصب القيادية وواجبات الأركان في الحرب العالمية الثانية وبعدها في بريطانيا، وأصبح رئيساً لأركان حرب إنكلترا ونائباً للقائد الأعلى لحلف الأطلسي، كما أصبحت له شهرة عالمية بعد انتصاره في معركة (العَلَمَين) على قوات المحور التي كانت بقيادة المشير رومل، وفي الإنزال في نورماندي، حتى وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها. يصف مونتكومري المسيح عليه السلام، بأنه أعظم زعيم عرفه التاريخ (1)، ولا غرابة في ذلك، لأنه مسيحي شديد التدين. ويقول عن القائد: "يجب أن يكون القائد خادماً للحقيقة، وأن يجعل هذه الحقيقة لغرض عام. ثم يجب أن تكون لدى القائد قوة _______ (1) السبيل إلى القيادة - الباب الأول - ص (12).

(السجية) التي من شأنها أن توحي إلى الآخرين بأن يتبعوه عن ثقة. إن كلاً من الحقيقة والسجية ضروري للقائد، ويجب أن تشتمل السجية على قوة الإرادة. "ولكن ما هي السجية؟ إذا أريد التعبير عنها بإيجاز فهي: أن تعرف ما تريده، وأن تملك العزم على عمله، وأن تعمله بطريقة توحي بالثقة إلى الناس الذين حواليك أو الذين أنت مسؤول عنهم. "ويجب أن يكون القائد متفائلاً تفاؤلاً يسري تأثيره في مرؤوسيه، وأن يكون لديه العزم على الثبات في وجه المصاعب؛ ويجب أن يبعث الثقة في النفوس، معتمداً على المبادئ والموارد المعنوية في إنجاز عمله بصورة صحيحة، حتى عندما لا يكون هو نفسه واثقاً وثوقاً تاماً بالنتيجة المادية" (1). ويقول: "إن العناصر الأساسية للقيادة توجد في الإنسان نفسه، في إخلاصه، وفي إيثاره، وفيما إذا كان لديه الحل الصحيح" (2). ويتساءل: "هل من علاقة للدين بالقيادة"؟ ثم يجيب على تساؤله: "لا يستهوي القائد الكثيرين من الناس إن لم يتحلَّ بالفضائل الدينية" (3). ومجمل الفضائل الدينية التي يراها مونتكومري هي (4): _______ (1) السبيل إلى القيادة - الباب الأول - ص (14). (2) السبيل إلى القيادة - الباب الأول - ص (15). (3) السبيل إلى القيادة - الباب الأول - ص (15). (4) ورد نصها في الباب الأول من كتابه "السبيل إلى القيادة"، ص (15 - 16).

"الهدى: وهي عادة إرجاع جميع الأمور إلى الإرشاد الإلهي (1) وإلى هذه الفضيلة تستند الحكمة والإنصاف وحسن التصرف". "العدالة: وهي عادة إعطاء كل فرد حقه، حق الله والإنسان نفسه، وإلى هذه الفضيلة تستند الواجبات الدينية والطاعة والشكران، وكذلك النزاهة والاستقامة وحسن النية نحو الآخرين". "الانضباط: وهي السيطرة على النفس لغرض تطوير الطبيعة البشرية إلى أرفع المستويات، وللأغراض الشخصية والاجتماعية أيضاً، وإلى هذه الفضيلة يستند الطهر والتواضع والصبر". "الجلادة: وهي الروح التي تقاوم وتتحمل وتتغلب على محن الحياة وإغراءاتها، وإلى هذه الفضيلة تستند الشجاعة الأدبية والمثابرة وضبط النفس". ثم يقول: "اجعل غرضك الأكبر واضحاً، ودع عنك كل ما يعرقل بلوغ هذا الغرض، وتمسَّك بقوة بكل ما يساعدك على بلوغه، ومن ثم تقدم نحو إدراكه بضمير حي نقي وبشجاعة وإخلاص، وبروح مجردة عن الأنانية" (2). _______ (1) يقصد الإيمان بالقضاء والقدر والثقة بالله سبحانه وتعالى ثقة مطلقة. (2) السبيل إلى القيادة - الباب الأول - ص (16).

(3)

ثم يذكر أن محمداً عليه أفضل الصلاة والسلام، كان من أعظم القادة في كل الأزمان (1). ... (3) ويمضي مونتكومري فيتساءل: "هل الحياة الخاصة للقائد إحدى أسباب نفوذه ونجاحه"؟ ويرد على تساؤله: "في رأيي الخاص في هذه القضية بعينها، بل جميع القضايا الأخرى، أن العامل الأكبر هو إخلاص المرء ونفوذه وكونه قدوة، وخاصة فيما يتعلق بالفضائل الدينية، ولا يهم أن يكون من الطبقة العليا أو السفلى في مجتمعنا. . إنني لا أدري كيف يستطيع امرؤ أن يكون قائداً، إن لم تكن حياته الخاصة فوق الشبهات؛ فإن لم تكن حياته الخاصة فوق الشبهات، فلا يحترمه الذين يقودهم، ويسحبون ثقتهم منه. وإذا ما حدث ذلك، فستفقد قيادته تأثيرها" (2). ويقول: "على أنني أعتقد بأن الاستقامة في القضايا المعنوية الكبرى (3) وفي الفضائل الدينية، أمر ضروري لنجاح القائد" (4). ويقول: "إن الميزة الأولى للقائد الذي ننشده، هي أن يكون _______ (1) السبيل إلى القيادة - الباب الأول - ص (17)؛ ويذكر معه المسيح عليه السلام وبوذا. (2) السبيل إلى القيادة - الباب الأول - ص (18). (3) يقصد: الاستقامة في التمسك بالمثل العليا والفضائل الأخلاقية. (4) السبيل إلى القيادة - الباب الأول - ص (18).

مخلصاً إخلاصاً عميقاً وعظيماً وحقيقياً. والإخلاص الذي أعنيه، هو النوع الذي ينبعث من القائد دون تكلف، فهو فيه بالطبيعة، وهو لا يملك إلا أن يكون مخلصاً. "ويضاف إلى الإخلاص نكران الذات، وأعني بذلك الولاء التام للقضية التي يخدمها من غير أن يفكر في جزاء أو شكور" (1). ويقول: "لقد اقتضت القيادة العسكرية دوماً مهارة فنية، وقوة وخصالاً روحية، وكلا هذين ضروري للقائد" (2). ويقول في معرض انتقاد سلوك نابليون: "ولكن يجب أن نسجل هنا أنه كان مدفوعاً بتأثير طمع أناني شرير، وليس بحثاً عن المُثُل العليا" (3). وفجأة يحذر الغربيين من جيوش تغزوهم من الشرق، كما غزاهم العرب المسلمون وجنكيز خان فيقول: "لا شك أنه يجب ألا نستهين بالقوات الآسيوية، فمن مناطق آسيا الشاسعة قد تأتي مرة أخرى قوة غازية يجب أن يستعدّ العالم الغربي لمجابهتها" (4)، وبذلك يكشف عن نعرته الصليبية الاستعمارية، كأن أوروبا يجب أن تَحْكُمَ أبداً، وكأن آسيا يجب أن تُحكَم أبداً!!! ويقول في معرض الثناء على المشير (هيغ) القائد البريطاني في الحرب العالمية الأولى: "ولكنه كان رجلاً ذا خلق متين، شجاعاً وذا عزم عظيم" (5). _______ (1) السبيل إلى القيادة - الباب الأول - ص 21. (2) المصدر السابق - الباب الثاني - ص 27. (3) المصدر السابق- الباب الثاني- ص 32. (4) المصدر السابق - الباب الثالث - ص 39. (5) المصدر السابق - الباب الثالث - ص 50.

كما يقول عن المشير (غورت) القائد البريطاني في الحرب العالمية الثانية: "فقد كان مستقيماً وذا خلق متين، متصفاً بصفات ممتازة كالشجاعة والنزاهة" (1). كما يقول عن المشير (ويفل) القائد البريطاني في الحرب العالمية الثانية: "لم أنفك عن الإعجاب بشجاعته ونزاهته في يوم من الأيام" (2). ويقول: "يجب أن يكون القائد مستقيماً كل الاستقامة" (3). ويلخص رأيه في القائد المنتصر فيقول: "ما من قائد عام عصري يستطيع النجاح في قيادته إذا أخفق في فهم العوامل البشرية في الحرب، فينبغي أن يكون دارساً للطبيعة البشرية، مدركاً حق الإدراك الحقيقة القائلة: إن المعارك تكسب في قلوب الرجال أولاً، وإن التزام جانب العدل أمر حيوي عند إدارة الرجال والنساء أيضاً. وإني أعتقد أنه يجب أن يكون لدى القائد العام للجيوش الكبيرة في الميدان، يقين باطني مبني على العقل، ولكنه يعلو مع ذلك فوق العقل. إن هذا الحس هو الذي يمكنه في كل لحظة معينة من المعركة - وهي اللحظة المناسبة - من اختصار الطريق إلى هدفه، فيبلغه في وقت أسرع وأضمن من القادة الآخرين، الذين لا يقلُّون عنه حرصاً ولكنهم دونه إلهاماً" (4). _______ (1) السبيل إلى القيادة - الباب الثالث - ص 55. (2) المصدر السابق - الباب الثالث - ص 61. (3) المصدر السابق - الباب الثالث - ص 62. (4) المصدر السابق - الباب الثالث - ص 63؛ وهنا يؤيد رأي محمد بن منكلي في اليقين =

وهو يرى أن القادة العظام يجب ألا تعوزهم القدرة اللامتناهية للاهتمام والتهيؤ للأحداث المتوقعة، ويملكون الإيمان والإلهام واليقين (1). ثم يقول: "وأخيراً في وسعنا أن نلخص ذلك بأن القائد العام إذا أراد النجاح في ممارسة القيادة العليا في الحرب، وجب أن يكون ذا مقدرة لامتناهية لبذل الجهد والتهيؤ المتقن، ويجب أن يكون ذا يقين باطني يسمو أحياناً فوق العقل" (2). وهنا ألمح من بعيد أيضاً علامات (الاستغراب) التي أبداها قراء ما سطَّره محمد بن منكلي وسامعوه، تنقلب فجأة إلى علامات (استحسان) عند قراءتهم أو سماعهم ما سطَّره مونتكومري عن: أهمية اليقين الباطني والإلهام للقائد، ذاهباً إلى مدى أبعد مما ذهب إليه محمد بن منكلي، مع اختلاف المكان والزمان الذي عاش فيه القائدان! هل لأن ابن منكلي عربي مسلم من الشرق، ومونتكومري بريطاني مسيحي من الغرب؟! إني أطالب منتقدي محمد بن منكلي أن يوجهوا نقدهم إلى مونتكومري، إذا استطاعوا! ولكنهم لن يستطيعوا ... ولن يفعلوا ... ... _______ = الباطني والإلهام ... إلخ. (1) السبيل إلى القيادة - الباب الثالث - ص 64. (2) المصدر السابق - الباب الثالث - ص 64؛ وهنا أيضاً يؤيد رأي محمد بن منكلي.

(4)

(4) ويتابع مونتكومري كلامه عن أهمية العقيدة للقائد، فيحث القادة بصفته مسيحياً على الاقتداء بالسيد المسيح عليه السلام فيقول: " ... فالمسيح قد قَدَّم إلى أتباعه مجموعة من المبادئ، ومثالاً من نفسه لا يُنسى. وهذا ما يجب أن يفعله القادة الوطنيون في يومنا هذا، وهو ما ينقصهم على ما يظهر! وعلى القادة الوطنيين في العالم الحر، أن ينظروا إلى التناقض بين السلطة والعقيدة الدينية بمنظار أحسن" (1). ويمتدح الملك (أَلفْرِدْ) العظيم أحد ملوك بريطانيا الذي تَسَنَّم المُلْكَ سنة (872 م)، فيقول عنه: "أخذه أبوه الملك (إثلوف Ethelwulf) في رحلة إلى الحج في روما، وربما كان تأثير تلك الرحلة في أوروبا ومناظر مدينة روما العظيمة وخرائبها هي التي ولَّدت فيه الإلهام الذي بعثه في الأخير على تعليم نفسه وشعبه فنون المعرفة والنظام" (2)، ثم يقول واصفاً حربه على الدانماركيين (3) الذين لم يكونوا وقتئذ قد اعتنقوا المسيحية، وكان السبب الأول لهجماتهم على بريطانيا القضاء على المسيحية فيها، وكان الملك (ألفرد) يدافع عن المسيحية ضد الغزاة: " ... وفي السنوات الخمس الأولى من حكمه، قاد شعبه التعس في معارك _______ (1) السبيل إلى القيادة - الباب الرابع - ص 66؛ وسنجد في الفصول التالية أن النبي العربي محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم - قد قدَّم تضحيات مذهلة في الحرب والسلام، قد لا تعتبر تضحيات السيد المسيح عليه السلام إلى جانبها شيئاً مذكوراً. (2) المصدر السابق - الباب الرابع - ص 70. (3) سكان الدانمارك.

مستمرة على الدانماركيين رافضاً الاستسلام إلى الأعداء الكافرين" (1). ثم أثنى عليه ثناء عاطراً، لأنه أظهر جميع الفضائل المسيحية التي بنيت عليها حياته (2)، ومن الواضح أن مونتكومري أعجب بهذا الملك لأنه كان متديناً، ولأنه دافع عن الدين: "وهكذا أنقذ (ألفرد) انكلترا بحكمته ومهارته العسكرية، وأعطى المسيحية أملاً جديداً" (3). ولأنه: "تعلم القراءة، ثم ترجم بنفسه إلى لغة بلاده الديانة المسيحية للأديرة والمعلومات التي تزوِّد شعبه بالمعرفة والحكمة ... ما كان أعظمه رجلاً! كان على العموم مسيحياً صادقاً، يمارس كل الفضائل المسيحية" (4). ويبدي مونتكومري إعجابه به (أوليفر كرومول) لأنه كان متديناً أيضاً: "وهنا لا بد من ذكر صفة أخرى من صفاته. لقد كان (أوليفر) حاد المزاج سريع الغضب، يثور فجأة وقد يسوقه ذلك في كثير من الأحيان إلى الخشونة والعنف، ولكن تديُّنه كان يساعده في هذه _______ (1) السبيل إلى القيادة - الباب الثالث - ص 71؛ وقلت لنفسي حين قرأت هذا النص: "لو أن كاتباً عربياً مسلماً وصف شعباً يحارب شعبه بالأعداء الكافرين كما فعل مونتكومري، لاتهمه أبناء وطنه قبل غيرهم بالتعصُّب والنعوت المزرية الأخرى". هكذا نميِّع قضايانا المصيرية بأنفسنا، وهكذا ندافع عن أعدائنا ونتَّهم أنفسنا؛ بل نكيل لها التُّهم كيلاً. فليقرأ ما كتبه مونتكومري الذين يتَّهمون غيرهم بالتعصُّب، ويسبغون على أنفسهم مزية الانفتاح والتحرر ... (2) المصدر السابق - الباب الرابع - ص 72. (3) المصدر السابق - الباب الرابع - ص 73. (4) المصدر السابق - الباب الرابع - ص 74؛ فماذا كان يقول القائلون عن كاتب عربي مسلم يدافع عن شخصية عربية إسلامية بمثل هذه الحرارة والوضوح؛ لأن تلك الشخصية متمسّكة بأهداب الدين!؟.

الأحوال، فيندم على أخطائه بسرعة" (1). ثم يقول عنه: "وكان ذا إيمان ديني عاطفي" (2). ويقول أيضاً عنه: "كان يوفّق بين كل عمل من أعماله وفقرات من الإنجيل" (3). ويقول عن (ابراهام لنكولن): "كان كثير الأمانة والإخلاص" (4) و: "إن الإنجيل كان موجوداً في بيته ولا شك، بل ربما كان الإنجيل هو الكتاب الوحيد فيه، على أننا نلحظ قراءته للإنجيل من خطبه وكتاباته الأخيرة" (5). و: "كان سلوكه من حيث الأساس مسيحي الأصول دائماً، ويبدو أنه كان يتبع طبيعياً التعاليم التي ذكرها المسيح في الخطبة التي ألقاها في الجبل (6)، ولم يكن ذلك تظاهراً منه بالتقوى، بل لأنه كان يعتقد بأن الفضائل الدينية هي فضائل ديمقراطية أيضاً، فهي تهدي الناس إلى أن يعيشوا حياة كريمة محترمة" (7). ... _______ (1) السبيل إلى القيادة - الباب الرابع - ص 76. (2) المصدر السابق - الباب الرابع - ص 79. (3) المصدر السابق - الباب الرابع - ص 86. (4) المصدر السابق - الباب الخامس - ص 90. (5) المصدر السابق - الباب الخامس - ص 91. (6) وهي التي أثنى فيها المسيح على المتواضعين والفقراء وقال إنهم سيرثون الأرض من بعده. (7) السبيل إلى القيادة - الباب الخامس - ص 98.

(5)

(5) ولا يكتفي مونتكومري بالإعجاب الشديد بالمتدينين من أهل دينه، بل يحاول أن ينعت المتمسكين بالمثل العليا من غير أهل دينه، بأنهم متمسكون بالفضائل المسيحية. يقول عن (نهرو) زعيم الهند، وهو هندوكي العقيدة: "ومع أنه هندوكي الدين، فإن حياته مبنية على الفضائل المسيحية" (1). ويقول عن (المهاتما غاندي) زعيم الهند الأكبر: "فكان يقنع الجماهير بأمانته وإخلاصه الواضحين" (2). ويعود إلى (نهرو) فيقول: "وسألت (نهرو) ذات صباح، ونحن نمشي في الحديقة، عن رأيه في ضرورة (الإيثار) للقائد سواء كان زعيماً وطنياً أو قائداً عسكرياً، فكان جوابه ممتعاً، فقد أيد أن (الإيثار) أمر أساسي في كل قائد، فالقائد الحق هو الذي لا يفكر في كسب شخصي أو تعظيم" (3). ويقول عن (ديغول) رئيس جمهورية فرنسا السابق في معرض الكلام على أيامه الأولى: "تثقَّف الصبي (ديغول) في مدرسة يسوعية قبل أن يذهب إلى الكلية العسكرية في (سنت سير ST.syr) ، ففي وسعنا إذاً أن نتصور أنه كاثوليكي قح وكثير التدين" (4). ويقول عنه: _______ (1) السبيل إلى القيادة - الباب السادس - ص 103. (2) المصدر السابق - الباب السادس - ص 100. (3) المصدر السابق - الباب السادس - ص 110. (4) المصدر السابق - الباب السابع - ص 116.

(6)

"ولدى ديغول بعض الصفات التي تدل على عظمته، أبرزها إخلاصه واستقامته اللذان لا يختلف فيهما حتى خصومه" (1). ويقول عنه: "وهو يملك جميع الصفات التي هي جوهرية للزعامة الناجحة في البلاد الغربية، وهي اليقين والأمانة الواضحة والإخلاص والصلابة والشجاعة السياسية" (2). ويقول عنه: "وهو جندي لا يضحي بمبادئه في سبيل منصب أو سلطة، كما يفعل غيره من السياسيين" (3). ويصف السير (جيمس كريك) وزير الحربية البريطاني في أيام الحرب العالمية الثانية: "وهو لا يمكن أن يغتفر للناس خطأين: الأول عدم الإخلاص والغش أياً كان نوعه، بما في ذلك الدس ... والثاني الميل إلى الفساد الخلقي على اختلاف أنواعه؛ فإن من يخطئ في هاتين الناحيتين فهو في حكم المنتهي في عرف (كريك) ". ويقول عنه: "هو مخلص جداً، ولا يضحي بمبادئه في سبيل المنصب الوزاري أو الحصول على أصوات الناس" (4). ... (6) ويتحدث مونتكومري عن نفسه، فيبدي آراء تربوية قيمة جداً، ولكنها لو عرضت في البلاد العربية والإسلامية لاتُّهِمَ صاحبها بالرجعية والتخلف ... إلخ. من شريط الاتهامات التي أصبحت _______ (1) السبيل إلى القيادة - الباب السابع - ص 120. (2) المصدر السابق - الباب السابع - ص 125 - 126. (3) المصدر السابق - الباب السابع - ص 126. (4) المصدر السابق - الباب التاسع - ص 164.

معروفة (جداً)، في تلك البلاد. يقول عن بنات جيله مادحاً: "إن البنات لم يكن يُسمح لهن بالخروج من البيت وحدهن والذهاب مع الأولاد إلى المراقص وغيرها " (1). ويقول عن تربية الأطفال وتنشئتهم ليكونوا عناصر مفيدة للمجتمع: "إن ولد اليوم، وهو رجل المستقبل، يجب أن يكون الغرض من تدريبه بناء سجيته، ليتسنى له عندما يحين الوقت المناسب، أن يؤثر في الآخرين إلى ما فيه الخير. وهناك أمر يجب ألا نخطئ فيه، وهو أن أسس السجية يجب أن توضع في البيت، بل إن التدريب الأساسي يجب أن يبدأ هناك. فهذا التدريب هو الذي يؤثر في الولد ويوجهه طيلة حياته، إما إلى الخير أو إلى الشر. وعلى أسس الخير القويمة التي تقام في البيت، سيبني المعلم سجية الولد عندما يأتي إلى المدرسة، فإن لم تكن الأسس قد أقيمت، فلا يستطيع المعلم أو أي شخص آخر أن يفعل شيئاً في هذا الصدد. وإننا نسمع اليوم الكثير عن: "آثام الأحداث" التي لا شك أن السبب الرئيس لأغلبها هو إهمال الآباء". "إن تجربتي الشخصية تحملني على الاعتقاد بأن الأسس لبناء السجية يجب أن تُغرس في الولد عندما يصبح في السادسة من عمره، وأهم هذه الأسس هو التمييز بين الخطأ والصواب والتحلي بالصدق والمروءة" (2). _______ (1) السبيل إلى القيادة - الباب الحادي عشر - ص 193. (2) المصدر السابق - الباب الحادي عشر، ص 194.

ويرثي لحال البشرية التي تلهث وراء (المادة) وتبتعد عن (الروح) فيقول: "ألسنا نعيش جميعاً في ضباب من خداع النفس في عالم تستحوذ عليه (المادة) وتنبذ فيه القيم الروحية؟! فلنفكر مثلاً في نماذج الإعلانات الكثيرة التي تواجهنا أنَّى ذهبنا، والتي تؤثر في كثير من الناس، فهي توحي إلينا أن حل كل مشكلة يمكن أن يشترى بالمال. إنها تقول مثلاً: أتنشد السعادة في بيتك؟ إذن فاشتر هذه المكنسة الكهربية، أو ذلك النوع من طعام الفطور، أو هذا الصابون، أو اشرب تلك الجعة! ولا شك أن الناس جميعاً لا ينخدعون بهذه الإعلانات، ولكن الولد المراهق يتعرض للخطر وهو يعيش في هذا الضباب من خداع النفس. (ماذا ينفع الإنسان، لو حصل على الدنيا كلها وأضاع روحه) (1) ... " (2). هكذا يستشهد بآيات من الإنجيل لتأييد رأيه، ثم يقول: "إذا أردنا أن يجتاز العالم بسلام وتعقُّل حالة الهياج والاضطراب التي تسوده اليوم، فينبغي أن نحيا الحياة الحقة وأن نقتدي بالمسيح عليه السلام، بدلاً من الخبط في دياجير الظلام ... "، ويقول: "وهكذا نرى مدى الصعوبة التي يجابهها أولاد اليوم، وجسامة الواجب الذي يجابهه الآباء ومعلمو المدارس في تفسير كل ذلك لهم وتوجيههم نحو الصراط المستقيم. وقد زادت المهمة صعوبة زيادة كبيرة من جراء أحوال الحياة العصرية - الحياة التي يواجه فيها الأولاد مغريات ومشاكل أعظم من _______ (1) آية من الإنجيل، ترى كم من رجالنا وقادتنا يستشهد بآيات الذكر الحكيم؟ (2) السبيل إلى القيادة، الباب الحادي عشر، ص 195.

تلك التي واجهها أي واحد منا عندما كنا شباباً. فالأشياء المثيرة، وأفلام العصابات (1)، والبيوت المخربة من جراء التهاون في الواجبات الزوجية، ونشر القضايا الجنسية في بعض الصحف (2)، كل هذه تفرض على الولد المراهق ضغطاً شديداً، وليس من السهل أن ننمي فيه السجية في ظروف كهذه" (3). ويمضي بالحث على تلقين الأطفال تعاليم الدين فيقول: "لقد سبق أن ذكرت كلمة (الضبط). إن لهذه الكلمة صدى غير حسن عند فريق من الناس، وربما كان السبب هو لأنها غير مفهومة فهماً صحيحاً. إن الأساس الحقيقي للضبط، هو ضبط النفس، وهو ينطوي على فكرة السيطرة على النفس وكبح جماحها، وأن يعيش الإنسان حياة منظمة ومقيدة بقيود اختيارية يفرضها على نفسه، وقد تُعَدّ هذه القيود بمثابة (واجبات) يجب أن نشعر بضرورة القيام بها. إن مفهوم (الواجب) هذا يؤكد أهمية التعاليم الدينية الخاصة بالسيرة الشخصية للإنسان، ويجب أن يُوحَى بهذه التعاليم إلى كل طفل حالما يبدأ بالذهاب إلى الروضة، وينبغي أن يتم ذلك حتماً قبل بلوغه السادسة من عمره" (4). ويتساءل مونتكومري: "فما هو غرضنا"؟ ويجيب: "إن الغرض هو أن نبثّ في نفوس الشبيبة الاستقامة والشجاعة الأدبية والحمية، _______ (1) لماذا نستوردها؟ ألنخرّب بيوتنا!. (2) لماذا نفعل ذلك في بلادنا؟ ولمصلحة مَن؟!. (3) السبيل إلى القيادة - الباب الحادي عشر، ص 196. (4) المصدر السابق - الباب الحادي عشر، ص 197.

بغية إقامة حصن يتحدى المؤثرات المخربة التي تسعى إلى تحطيم أخلاق أولادنا. وينبغي تدريب هؤلاء على أن يكونوا (نقاطاً قوية) في الأمة، تدافع عن (الأمانة) وسط مغريات تحرض على (الخيانة)، وتدافع عن العمل الجماعي والإخلاص، وعن الجهد الصادق وشعور الواجب الرفيع، بل عن كل شيء فيه خير للبلاد". ثم يقول: "أين يجب أن يبدأ التعليم؟ في البيت طبعاً، ذلك هو المكان الذي يجب أن يبدأ فيه تكوين (السَجِيّه). وينبغي أن يتعلم الولد في البيت أموراً معينة تعد (خطأً) وأخرى تعد (صواباً)، ويجب أن يتعلم أسس الأمانة والإخلاص والصدق والثبات على ما يعتقده صواباً وحقاً، ثباتاً راسخاً برغم ما يواجهه من إغراء. ويجب أن تبدأ أسس هذا التعليم في وقت مبكر، وأن ترسخ في ذهن الطفل عندما يبلغ السادسة من عمره، حتى إذا ما بدأ في الذهاب إلى المدرسة لا يكون فريسة لأية تأثيرات شريرة قد يواجهها" (1). ثم ينعي على العالم تخليه عن المثل العليا، ويتوجه إلى قومه برأيه صريحاً واضحاً: "لكي نخدم بريطانيا ونفتخر بأننا إنكليز، ليس من الضروري أن نملك قنابل ذرية بقدر أمريكا، أو علماء بقدر روسيا، فليست البلاد التي تنقصها القنابل الذرية أو القوات الكبرى هي التي يجب أن تُدعى دولاً من الدرجة الثانية، بل ينبغي أن يطلق ذلك على البلاد التي تعوزها المثل العليا، وهذه المثل تبقى وغيرها يفنى". وقال: "إن أول ما نحتاج إليه هو معالجة الجهل المتفشي بيننا عن الحقائق الأولية للدين" (2). _______ (1) السبيل إلى القيادة، الباب الحادي عشر، ص 198 - 199. (2) المصدر السابق، الباب الحادي عشر، ص 205.

ثم وصف آراءه التربوية لإعداد قادة المستقبل بقوله: "وقد لا تكون آرائي مقبولة على العموم، لكنها بسيطة على الأقل، وقد بُنِيَتْ على (مثل عليا) وحقائق أزلية لن تتغير مهما كان العصر الذي نعيش فيه" (1). ويقول: "إني من المؤمنين إيماناً راسخاً بوجوب توجيه الشباب نحو (العُلا) ويجب أن نوضِّح لهم ما ينبغي أن يفعلوه لبلوغ ذلك، وأن نبين لهم السبب. إن ذلك أمر مهم، لأن المستقبل هو للشباب، فهم الذين يجب أن يستلموا المشعل منا. إن مهمتنا أن نوحي إلى الشباب أن يستهدفوا غرضاً أخلاقياً عاماً مبنياً على إيمان واع قوي بالدين. فإذا استطعنا بعدها أن نوحِّد شبابنا وراء قادة يهتمون بهذا الدين كما يهتم الشيوعيون بعقيدتهم، فما من شيء نخشاه؛ لا الأعداء ولا المشكلات الاقتصادية، إذ يمكن التغلب عليهما معاً. إن أهم ما في التربية - وفي الحياة كذلك - هو أن يكون لدى الولد أو الشاب إحساس بالغرض، قوي إلى درجة تمكنه من مواجهة الصعاب والتغلب عليها. إن غرضاً كهذا لا يبنى إلا على عقيدة، ولا يمكن تنمية هذه العقيدة إلا في زمن الصبا. لكنه يجب أن تكون هذه العقيدة حسنة، فالعقيدة السيئة هي السبب في معظم ما نعانيه اليوم من اضطرابات" (2). وهو يعتبر أن تضليل الولد أو الطفل أخلاقياً من أكبر الجرائم _______ (1) السبيل إلى القيادة، الباب الحادي عشر، ص 211. (2) المصدر السابق، الباب الحادي عشر، ص 213.

(7)

فيقول: "سئلت ذات مرة عن رأيي في أسوأ جريمة يمكن أن يرتكبها أي رجل؟ فأجبت من غير تردد: تضليل ولد أو طفل أخلاقياً". وأضفت إلى ذلك أقول: "ما من عقوبة تعد قاسية بحق رجل كهذا" (1). وهو يعتبر المثال الشخصي من أهم عوامل التربية فيقول: "سألت صديقاً شاباً في الآونة الأخيرة، وهو تلميذ مدرسة في السادسة عشرة من عمره: ما هو الأمر الهام الذي يعتقد أنه يؤثر في الشباب؟ فأجاب بغير تردُّد: المثال الشخصي، وربما كان جديراً بنا أن نتذكر جميعاً هذا الأمر وأن نعمل به" (2). ... (7) ويعود مونتوكومري إلى تلخيص آرائه في التربية فيقول ما ملخصه: "ما هي النصيحة التي أقدمها إلى الشباب؟ كيف يمكنهم أن ينالوا مجد الفتوة"؟ إنني أقدم لهم الوصايا الأربع التالية: "أولاً: ليكن لديك شيء من رزانة الفكر! إن ذلك لا يعني أن الولد أو الشاب لا يجب أن يكون سعيداً نبيهاً، بل بالعكس، ولكن أَنبهُ الناس هو من كان ذا بصيرة وقلب بسيط وضمير طاهر، ومن يحاول متواضعاً وقلبياً التمسك الشديد بقاعدة النبي داود (عليه السلام) _______ (1) السبيل إلى القيادة، الباب الحادي عشر، ص 215. (2) المصدر السابق، الباب الحادي عشر، ص 215.

الذهبية: (كن حسن النية، وافعل الشيء الصحيح دائماً، فذلك هو الذي يُدخِل الراحة في قلب الإنسان دائماً) (1). إن الملذات التي لا نهاية لها، والفرص الضائعة والامتيازات التي يساء الاستفادة منها، كل هذه الأمور لا تُعَوِّض عن ضياع الفضيلة وفقدان الرجولة وعدم احترام النفس. ثانياً: أوصي بالطاعة، تلك الفضيلة التي يُبنى عليها السلطان، وهي تعني قبول قانون (الواجب) عن رضا قانوناً للحياة. إن الله سبحانه وتعالى يفوض شيئاً من سلطته إلى البشر منذ السنين الأولى من حياتنا: يفوضه أولاً إلى أبوينا، ومن ثم إلى الذين يُولُّون علينا؛ فاحترام السلطة إذن واجب مقدس كما هو أمر إلهي، وما من عصر انتهكت فيه حرمة هذا الأمر إلا وساد فيه الفساد. إن آمال الأمم تتعلق بإخلاص أبنائها وتواضعهم، وفي طاعة شبيبتها واحترامهم لمن هم أكبر منهم سناً. ثالثاً: أوصي بالجد والمثابرة، فالوقت المتيسر للعمل والدراسة قصير، وسن الصبا سرعان ما يمر من غير أن نشعر به، إلى دور الشباب، فدور الرجولة. رابعاً: لقد تعلمت في حياتي الخاصة، أن صفات ثلاثاً ضرورية للنجاح: العمل الشاق، والاستقامة المطلقة، والشجاعة الأدبية؛ وهي تعني عدم خوف الإنسان من قول ما يعتقده صواباً والثبات على هذا الاعتقاد" (2). _______ (1) العهد القديم، المزمور 137. (2) السبيل إلى القيادة، الباب الحادي عشر، ص 217.

وبذلك ينتهي مونتوكومري من عرض آرائه التربوية لإعداد قادة المستقبل. ولعل المدقق في تلك الآراء، يجد أنها تطابق آراء أعلام العرب والمسلمين التربوية، وفي كثير من الأحيان يبدو أكثر (تطرفاً) حتى من السلف الصالح من علمائنا الأعلام. وقد حرصت على أن أنقل نصوص آرائه لأضعها كاملة أمام العرب والمسلمين لعلهم يعرفون طريق الحق والسداد ويعودون إليه، خاصة الذين يرتضون آراء الأجانب ويرضخون لها، ويرفضون آراء قادة الفكر العربي الإسلامي ولا يخضعون لها. كما حرصت على عدم التعليق على آراء مونتكومري، لأنها واضحة ومبسطة؛ ولأفسح المجال للقراء والسامعين لتدبر معانيها بعقولهم وقلوبهم معاً دون اللجوء إلى ما قد يُحدِثه تعليقي عليها من أثر شخصي. إنني أؤيّد آراء مونتكومري في تربية الشباب ليكونوا قادة المستقبل وجنوده، ولكنني لا أجد جديداً عليّ، إذ رددها علماؤنا الأعلام قديماً (1) ولا يزالون يرددونها حتى اليوم؛ ولكن آراء القدماء أصبحت غير ذات موضوع بالنسبة للكثير من العرب والمسلمين، إذا لم تكن ممجوجة منهم، كما أن آراء المخلصين من المحدثين لا تُسمع من _______ (1) من أمثال الإمام الغزالي في كتابه: إحياء علوم الدين، فألفت الأنظار إلى ما جاء فيه من آراء تربوية قيِّمة، ولكن هل الغزالي وحده كتب في هذه الناحية؟ لقد كتب فيها ما لا يعد ولا يحصى من علمائنا الأعلام، ولكن مُغَنِّيَةَ الحيِّ لا تُطْرِب.

(8)

جراء صخب التيار الجارف المضاد، ولا تطبق بحجة أو بأخرى خضوعاً للأفكار الوافدة الهدامة. فلماذا نهدم بيوتنا بأيدينا؟ ولمصلحة من؟. ... (8) ويعود مونتكومري إلى (مشكلة) الغرب في صراعه الدائر بين المعسكرين الشرقي والغربي، وكان قد شغل أعلى المناصب القيادية في حلف الأطلسي؛ فينصح الغربيين نتيجة لتجاربه الطويلة في هذا الحلف وفي الحرب العالمية الثانية فيقول: "يجب أن يضمن الغرب المحافظة على تراثنا المسيحي" (1)، فذلك بنظره كفيل لمصاولة الشيوعية، لأن العقيدة لا تكافح إلا بعقيدة كما هو معروف. ويقول في صفات القائد المعنوية: "تتطلب القيادة الصفات الجوهرية التالية: اليقين (2)، والأمانة، والصلابة، والشجاعة" (3). ويقول عن تعليل أهمية الصفات المعنوية للقائد: "إن العظمة الحق لا يمكن بلوغها إلا بالفضائل الأخلاقية، فإذا اجتمعت هذه الفضائل مع مواهب أقل نوعاً منها، فإن هذه المواهب ستتحسن، وقد تصبح ملهمة ... ". _______ (1) السبيل إلى القيادة، الباب الثاني عشر، ص 236. (2) ( conviction) (3) السبيل إلى القيادة، الباب الثاني عشر، ص 241.

"قلما ينجح قائد، بل لا يمكن أن ينجح أبداً، ما لم يمارس الفضائل الدينية" (1). ولكن كيف يمكن إعداد قادة متدينين وشعب متدين؟ يجيب على ذلك مونتكومري فيقول: "وبالإضافة إلى تزويد المدارس بنظام تربوي جيد وبمعلمين ماهرين، ينبغي أن يتيسر فيها نظام سليم للتدريس الديني بالتعاون مع رجال الدين" (2). ثم يقول عن المثال الشخصي الذي هو التطبيق العملي للنظريات التربوية: "والواقع أن التربية الفكرية والخلقية التي نزود بها أولادنا، هي ليست بنفسها أهم الأمور، بل المهم هو ما سيفعلونه بهذه التربية، والفائدة التي سيجنونها منها في السنين القادمة. ومن الواجب تخصيص قسم من هذه التربية لغرس الصفات التي هي جزء لا يتجزأ من القيادة الجيدة، ويجب أن يقوم بذلك خيرة المعلمين الذين يمكن أن نحصل عليهم، وأن يقوموا به بالمثال الشخصي الحسن الذي يضربونه بأنفسهم لتلاميذهم وطلابهم" (3). ولم يجد مونتكومري في ختام متن كتابه القيِّم: "السبيل إلى القيادة"، نصيحة يسديها لأبناء دينه وقومه، خيراً من قراءة الإنجيل قبل النوم يومياً فيقول: "إن الإنجيل كتاب ملائم جداً للقراءة قبل النوم" (4). _______ (1) السبيل إلى القيادة، الباب الخامس عشر ص 282. (2) المصدر السابق، الباب الخامس عشر، ص 291. (3) السبيل إلى القيادة، الباب الخامس عشر، ص 292. (4) السبيل إلى القيادة، الباب الخامس عشر، ص 302.

(9)

كان الأحنف بن قيس التميمي حليم العرب وفاتح (خراسان) و (قاشان) قَلَّ ما خلا إلا دعا بالمصحف، وكان النظر في المصاحف خُلُقاً في الأولين (1). وكانت معارك الفتح الإسلامي تُسْتَفتَح بسورة الأنفال، وكان للمجاهدين دوي كدوي النحل من قراءة القرآن والتسبيح. واليوم؟؟!!. ... (9) وأخيراً شاء مونتكومري أن تكون (خاتمة) كتابه القَيِّم، تهويمة صوفية بكل ما في هذا التعبير من معانٍ، فهي عبارة عن رؤيا رآها في المنام، لاقى فيها أباه المتوفى قبل سنين، فآثر أن يجعل من هذه الرؤيا خاتمة لكتابه. وكم كنت أتمنى أن أنقل نص هذه الخاتمة أو على الأصح نص الرؤيا، ولكنني أخشى الإطالة دون مُسَوِّغ، لذلك سأقتصر على نقل أهم ما جاء فيها. قال مونتكومري: "كانت الشمس بعد الظهر حارة، وكان يصعب على المرء ألا ينام. وقد فكرت في أبي وفي النصائح الحكيمة التي كان يقدمها لي، فاشتقت إلى نصيحته الآن حول طريقة كتابة خاتمة _______ (1) طبقات ابن سعد، 7/ 96.

الكتاب. وفجأة رأيته!! ... أجل كان بعينه واقفاً بين قواعد نبات الاسبريا الحمراء والبيضاء وعلى ضفة جدول الطاحونة. لقد وَهَبْتُ أبي عندما كنت صبياً كل مودتي وحبي، وإذا كان ثَمَّة قديس على هذه الأرض فهو أبي، وهاهو ذا الآن في حديقتي" (1). ويقول مونتكومري لوالده: "لقد حاولت أن أقوم بواجبي، ولم أخش أحداً في قول الحق أبداً، وبقيت صامداً على آرائي، لكن ذلك سبَّبَ لي مشكلات في بعض الأحيان" (2). ويجيب أبوه: "أعرف يا ولدي! لقد مرّت لحظات كنت أتساءل فيها هل ستتمكن من التغلب على المصاعب التي تكتنفك؟ لكنك قد تمكنت مستعيناً بإيمانك ... " (3). ويقول مونتكومري مصوراً رؤياه: "وبدا الرجل الشيخ وكأنه على وشك أن يذهب، فخطوت نحوه خطوة وقلت: أبتي! اِبْقَ معي برهة من الزمن وزودني ببعض الحكم من عالمك، لكي تبعث في نفسي القوة في السنين الباقيات من حياتي ... فالتفت نحوي وقال: "لا يجوز لي أن أبقى طويلاً، وأود أن أقول لك هذا: يتحدث الناس كثيراً في هذه الدنيا كلها عن الحرية، ولكن هناك حرية إيجابية واحدة، هي حرية الاختيار بين الخير والشر، وأن أفضل تعريف لهذه الكلمة التي قلَّما فهمها الناس هي: إن الحرية _______ (1) السبيل إلى القيادة، الباب السادس عشر، ص 305 - 306. (2) المصدر السابق، الباب السادس عشر، ص 306. (3) المصدر السابق، الباب السادس عشر، ص 306.

التامة هي في خدمة الرب" (1). ويمضي مونتكومري في سرد قصة رؤياه، فينقل ما يقوله أبوه: "عندما أُعايِنُ عالمكم اليوم، ينتابني القلق أحياناً على الجيل الجديد: عندهم مغريات لم نحصل عليها أنا وأنت، ويبدو أنهم ينضجون مبكراً، ولكنّ ذلك يجري في عالم غير مأمون. وهم يميلون إلى أن يجعلوا للأمور (المادية) قيمة كبيرة، وأن يهملوا (القيم الروحية) ... على الشباب أن يتسلح جيداً بالشعور الروحي إذا أراد ألا ينحرف أو أراد ألا يجرفه التيار. "لقد كنت أراقبك ذات مرة وأنت تقول: إن الحرية الحقيقية هي أن يكون لديك الخيار في أن تفعل ما (يجب) أن تفعله لا ما (تريد) أن تفعله ... إن هذه هي الحقيقة بعينها التي تواجه أي ولد، وهي التوفيق بين ما يريد أن يفعله وبين ما يوحي إليه ضميره أن يفعله، وهو حُرٌّ في الاختيار بين الاثنين، فهو وحده الذي يقرر مصيره. ولكنه يحتاج إلى معونة، وفي وسعه أن يستمدها من (صلاته) اليومية ومن الآخرين أمثالك ... " (2). ويستمر مونتكومري في سرد حلمه فيقول: "ثم غمر المكان سكون مطبق - سكون يشعر به الإنسان، لكنه لم يكن ثمة ما أراه غير أحواض الزهر والشجيرات ... وتولاني الأسى في بادئ الأمر، لكنني سرعان ما رضيت، لأنني علمت بأن الأمر بالنسبة لنا، هنا في هذه الحياة، يجب بل ينبغي أن تكون هذه الحياة حياة إيمان، يصحبها من _______ (1) السبيل إلى القيادة، الباب السادس عشر، ص 306 - 307. (2) المصدر السابق، الباب السادس عشر، ص 306 - 307.

حين لآخر رسالة مشجعة أو حلم أو نظرة أو حادثة. فاستيقظت، فإذا أنا أحلم؛ لكنني كنت سعيداً، وأملت أن يهَبَني الله حلماً كهذا مفعماً بذكريات أبي الذي كنت أبجله كثيراً في حياته؛ قوة للسنين الباقيات من عمري. وذهبت إلى داخل الدار حيث مكتب الدراسة، فدوَّنت ذلك كله كخاتمة للكتاب" (1). هكذا اختتم مونتكومري كتابه بهذه التهويمة الصوفية، واختتم تهويمته بقوله: "يجب بل ينبغي أن تكون هذه الحياة حياة إيمان". وقلت: لنفسي لو كتب عسكري عربي أو مسلم ما كتبه مونتكومري عن: علاقة الدين بالقيادة، ثم ختم ما كتبه بمثل هذه التهويمة الصوفية، فماذا كان يقول عنه الناس هنا وهناك؟! بقي أن تعرف أن مونتكومري متدين إلى أبعد الحدود، لم يدخن ولم يعاقر الخمر ولم يكشف ذيله على حرام، وكان في حياته مستقيماً متقشفاً، ومع ذلك فهو أعظم القادة الحلفاء في الحرب العالمية الثانية. فأين من يدعي بأن القيادة والعقيدة متناقضان؟ ... _______ (1) السبيل إلى القيادة، الباب السادس عشر، ص 308 - 309.

مع القادة الآخرين

مَع القَادة الآخرين (1) ربما يتبادر إلى الأذهان أن المشير مونتكومري كتب ما كتبه في مؤلفه: "السبيل إلى القيادة" استجابة لعاطفته الشخصية باعتباره متديناً كثير التدين، فهو يريد أن يحمل غيره من القادة وأبناء الشعب كافة على التمسك بأهداب الدين. إن مونتكومري يهوى الدين، ولكنه لا يميل مع الهوى، ثم إن له تجربة طويلة جداً في الخدمة العسكرية، التزم خلالها بسلوك معيَّن أدى به إلى النصر المؤزر، وأصبح من القادة المشهورين في رأي قسم من قادة الفكر العسكري، ومن أشهر قادة الحرب العالمية الثانية في نظر غيرهم من قادة الفكر العسكري، وهو بكتابه القيم، يقدم عصارة تجربته الطويلة للعسكريين بخاصة وللمدنيين بعامة، ويعتقد جازماً بأن التدين من أهم صفات القائد المنتصر. ومع ذلك فليس مونتكومري وحده قد ذهب هذا المذهب، ولو أنه يمتاز عن غيره في هذه الناحية بأنه رَكَّز عليها وأبرزها وشرحها شرحاً وافياً وأسبغ عليها أهمية خاصة - تستحقها كما أعتقد شخصياً. يقول المشير (ويفل) وهو من القادة البريطانيين البارزين في

الحرب العالمية الثانية: "يجب أن يكون القائد عفيفاً وقوراً، يتحمل المشاق، وأن يكون مؤدباً ودوداً، سهل الاقتراب منه، رزين الطبع" (1). وقد جاء في كتب التدريب الفنية للجيش البريطاني عن صفات القائد ما نصه: "ينحصر أهم واجب للقائد في إصدار القرارات. ولكي تكون قراراته صحيحة، لا تكفيه الشجاعة الشخصية ولا الإرادة القوية الثابتة، ولا تَحَمُّل المسؤولية بلا تردد؛ بل فضلاً عن ذلك عليه أن يكون واقفاً وقوفاً تاماً على مبادئ الحرب، وقادراً على الحكم السريع الواضح، وذا مخيلة مقرونة بمزاج لا تأخذه نشوة الفوز ولا تثبط عزيمته كارثة الخيبة، وأن يكون سابراً لغور الطبع البشري" (2). أما الأمريكيون فيرون أن القائد هو عنوان قواته، فقد ثبت بالبرهان القاطع أن القوات تتأثر تأثراً كبيراً بسلوك القائد وبالمثل الذي يضربه لها، لذلك يجب أن يتحلى بخصلة نكران الذات. إن الإخلاص للعقيدة كالحماسة يسري بين أفراد القوات العسكرية كالبرق، والعدالة والاستقامة وعدم المحاباة من أهم صفات القائد المؤثرة في قواته. والاستقامة في حياة القائد العامة والخاصة تؤدي إلى ثقة رجاله به وتسري فيهم خصاله الرفيعة. _______ (1) كان (ويفل) مثقفاً ثقافة عالية، وكاتباً مُجيداً، وكان مفكراً كبيراً ذا عقل نيِّر وبُعد نظر. وقد ألقى محاضرة في جامعة كمبردج في موضوع: "القيادة وفن القيادة" عام 1939، وتوفي سنة 1947 بالسرطان. انظر ما جاء عنه في "السبيل إلى القيادة" (ص 56 - 61). (2) انظر التفاصيل في مصادر كتب التدريب العسكري البريطانية: نظامات الخدمة السفرية، وإدارة الحرب، والفرقة في المعركة، وفوج مشاة في المعركة.

(2)

والصدق ثقة، والصادق موثوق به، والثقة المتبادلة بين القائد والمقود ضرورية إلى أبعد الحدود في الخدمة العسكرية. والشجاع يقود رجاله إلى النصر، والجبان يقودهم إلى الهزيمة. والقائد الشجاع لا تهرب رجاله ما ثبت، والقائد الرعديد تهرب رجاله (1). وقد كان اللواء آيزنهاور القائد العام لقوات الحلفاء في أوروبا في خلال الحرب العالمية الثانية، والذي أصبح رئيساً للولايات المتحدة الأمريكية فيما بعد، متديناً ورعاً ملتزماً بتعاليم الدين، وقد ذكر وزير خارجيته جون فوستر دالاس في مذكراته، أن آيزنهاور يرضخ لآراء قسيس الكنيسة التي يؤدي فيها صلواته في واشنطن حتى في القضايا السياسية، فكان إذا استعصى عليهم آيزنهاور - كما يقول دالاس - في بعض القضايا، لجؤوا إلى قسيسه لإقناعه، وكان القسيس ينجح في ترويض آيزنهاور كلما أراد ترويضه. ... (2) أما الفرنسيون، فيرون أن الجدارة الخلقية من أهم مزايا القائد المنتصر، ومجمل آرائهم أن العنصر الأول في جدارة القائد الخلقية هو قابليته لأن يعرف نفسه، لأن معرفة النفس لا غنى عنها لمن يريد أن _______ (1) انظر التفاصيل في كتاب: أصول المدفعية للجيش الأمريكي.

يفرض نفسه على الآخرين، وهي تفترض تغلب الإنسان على عيوبه وتنمية مؤهلاته ومزاياه. يجب أن يتحلى القائد بالنزاهة المطلقة والعدالة والصدق، وتشمل النزاهة الحياة الخاصة والرسمية، وعلى الصعيد الرسمي فإنه يتناقض مع النزاهة كل معاملة للآخرين تتسم بالمناورة أو الالتواء أو الأنانية. وليس من النزاهة في شيء إخفاء الحقيقة على من يجب أن يعرفها، ولا القعود عن معرفة الحقيقة بتفاصيلها، وليس من النزاهة في شيء أن يسعى القائد إلى تأمين الفوائد لنفسه على حساب هذا أو ذاك من زملائه أو مرؤوسيه كأن يطعن في كفاية من يَبُزُّه أو ينافسه. وقد كانت العدالة بمعناها الضيق: إعطاء كل ذي حق حقه وإزالة الظلم، أحد واجبات القائد الأساسية. أما في عصرنا وبعد الفصل بين السلطات، فإنصاف المظلوم وإعطاء كل ذي حق حقه مهمة تمارسها سلطة خاصة هي السلطة القضائية. ولكن إذا كانت العدالة بمفهوم الكلمة الحقوقي لم تبق من امتيازات القائد، فالعدالة بمعنى الإنصاف تظل أحد الموجبات التي لا محيد للقادة عن إلزام أنفسهم بها، ذلك أن الجنود الشباب الذين يعايشون القائد أشد تحسساً بالظلم من الذين بلغوا سن النضج. إنهم يقبلون أداء المهام التي يطلب منهم أداؤها، ولا يتذمرون من الأنظمة القاسية، مادام سائداً في أذهانهم أنهم في ظل المساواة والإنصاف. والإنصاف لا يكون بإعطاء كل ذي حَقٍّ حقه، وبمعاملة الجميع

على قدم المساواة، وتجنُّب المحاباة والاستثناء وحسب، بل يجب أن ينظر إلى كل فرد على حدة، فيكافأ أو يعاقب على تصرفه بمعزل عن تصرفات الآخرين. يقول (ريدياه): "إني أتحدى أقوى الناس أن يحمل أحدهم على بذل مجهود جديد إذا لم يكن قد كافأ مجهوده الأول"، ونحن نتحدى أقوى الناس أن يتفادى تكرار غلطة أو هفوة إذا لم يكن قد عاقب الغلطة الأولى. وليس من اليسر - في رأي الفرنسيين - ولا من السهل أن يكون المرء منصفاً، فعلى القائد أن يحذر ما يحب وما يكره باعتباره بشراً، وأن يحذر ميله إلى هذا أو ذاك من مرؤوسيه ونفوره من هذا أو ذاك. وعليه أن يحذر أكثر فأكثر نزعته إلى اعتبار تصرف أو عمل ما في محله لا لشيء إلا لأن هذا العمل أو ذاك التصرف يتفق ورغباته الخاصة أو عواطفه، فالإنسان كثيراً ما ينخدع بعقله أو بقلبه، والإنصاف إنما يتطلب نظرة موضوعية إلى الأشياء. والصدق هو أن تنطبق أفكار المرء وأفعاله على قاعدة سلوك اختارها أو ارتضاها لنفسه، والقائد يجب أن يكون صادقاً مع نفسه ومع رؤسائه ومع جيشه. ففي مجتمع كالجيش، لا يمكن أن يأخذ تيار التفاهم أو التعاون مجراه بين مختلف المناصب والرتب ما لم يكن الصدق شعار الجميع. والصدق هو أساس الثقة والصراحة، به نتفادى الخلافات وما تورثه من حقد وغل، لأنه يجعلها غير ذات موضوع، وقد أصاب (ريدياه) كبد الحقيقة عندما قال: "الصدق هو أمضى سلاح في يد القائد".

والخلق هو طابع الشخصية الجوهري، والقول: إن فلاناً من الناس رجل خلوق هو أجمل مديح يصاغ له، لأن الخلق مزية شاملة تتصل ببقية المزايا بل تدخل فيها. والخلق هو الموقف الواضح والتصرف الحازم والمسؤولية الواعية والصراحة الشجاعة؛ وهو المزية النادرة التي توحي الثقة والاطمئنان، وهو أخيراً أساس الوفاء والمهابة اللذين يستمد منهما القائد نفوذه وتأثيره. والشجاعة ضرورية للقائد، وهي بمدلولها الواسع الثبات في المحنة والاستمرار في الجهد، ورباطة الجأش حيال الخطر. وليست الشجاعة في عدم الشعور بالخوف، بل الشجاعة في التغلب عليه. والتغلب على الخوف هو أول نصر يتعين على القائد إحرازه: من أجله هو، ومن أجل رجاله، ومن أجل وطنه. ومن المزايا الخلقية ميزة يمكن اعتبارها إلى حد ما خاصة بالعسكريين، ونعني بها التجرد أو انعدام الغرض. فالضباط لا يجهلون ألاَّ سبيل لهم إلى الثراء، كما لا يجهلون أن لحرفتهم متطلبات وظروفاً مادية ليس لبقية الحرف مثلها، ككثرة التنقلات وعدم استقرار الحياة العائلية، مما تنتفي معه إمكانية تربية الأولاد تربية حسنة. يجب أن يكون للقائد فكرة واضحة عن هذا كله منذ اللحظة التي يختار فيها حرفته، وينبغي له من ثمَّ أن يحارب في ذاته المرارة والحسد. يجب أن يتحلى القائد بالتجرد، فلا يحاول استغلال المركز المعنوي الذي يتبوأ، ولا يستمد القوة المعنوية التي يحتاج إليها إلا من إدراكه عظمة الرسالة التي يؤديها. عليه أن يكتفي براحة ضميره، وبحسن

تقرير رؤسائه وأقرانه إياه، وبأقليَّة واعية تفهمه، وأن يتذكر أن تعزيز معنويات الجيش وتدعيمها يتوقفان عليه إلى حدٍّ ما. وعلى القائد أخيراً أن يبرهن عن تجرد تام حيال حرفته، فإذا كان بعض أنواع الطموح مشروعاً بل ضرورياً، فقصر الاهتمام على (الوصول) هو داء وبيل، لأنه يفقد القائد توازنه واتزانه، فيقدم على إيثار مصلحته الخاصة على الصلحة العامة، ويصبح لأفعاله حتى الباهر منها في الظاهر بواعث تجردها من كل قيمة معنوية. إن مزايا القائد الخلقية لا تتعلق بحرفته وحسب، بل بحياته كإنسان. هل يستطيع أن يحترم مبادئ الصدق والاستقامة والصراحة احتراماً جدياً في الثكنة أو المكتب، حتى إذا غيَّر محيطه أو هندامه بعد ساعات تخلَّى عن هذه المبادئ وتَنكَّر لها؟! وأي قوة إقناع يمكن أن تكون لمربٍّ يخرق اليوم المبادئ التي علَّمها بالأمس؟ وبأي شعور يصغي إلى درسه مستمعون لا يجهلون شيئاً من سقطاته؟ قال (دوبراك): "غبيٌّ هو القائد الذي يحسب نفسه قادراً على كتمان أخبار سقطاته، فالجندي يعرف عنه أكثر مما يعرف عن نفسه. فالأفضل له أن يجتهد بتقويم اعوجاجه وكبح جماح نزواته بدلاً من أن يحاول عبثاً إخفاء ما لا يمكن إخفاؤه". ويقول اللواء الفرنسي (ويغان): "الجندي الفرنسي يتعشق النقد، وهو لا يرحم رؤساءه الذين يكتشف فيهم نقاط الضعف بسرعة ويجعل منها موضوعاً للتندر" (1). وكم من قائد لا سلطة له ولا نفوذ، لأنه تنكَّب السبيل السوي _______ (1) ما يقال عن الجندي الفرنسي، يقال عن كل جندي في العالم.

في حياته الخاصة، ذلك أن ثمة قضايا يتعيَّن على من يتطوع لخدمتها - كالجيش مثلاً - أن يجتهد في جعل حياته كلها منسجمة معها (1). وكان اللواء ديغول رئيس الجمهورية الفرنسية السابق متديناً غاية التدين، ولما توفي سنة (1970) كتب أحد رجال الدين عنه مقترِحاً: إعطاءه لقب قديس، لأنه كان متمسكاً بدينه كأقوى ما يكون التمسك، ولأنه حرص على مقاومة الرذيلة وإشاعة الفضيلة في فرنسا. وهو القائل: " ... لم يعد الجيش الفرنسي اليوم شاباً، ومهما كان وضعه، فإننا لن نراه قوياً إلا إذا استقى مَثله الأعلى من المشاعر السائدة في عصره، واستخرج من ذلك فضيلة واستقامة" (2). الجندي كالكاهن لا يتحرك بدافع المصلحة الشخصية، إنه يطيع قاعدة عليا ثابتة نبيلة، لم يصنعها ولا يستطيع التخلي عنها أو يبدلها، فهي تدعمه وترفعه وتساعد على تنمية فضائل قد تكون نادرة في الطبقات العاملة والطبقات الأخرى من غير العسكريين في الأمة. هذه الفضائل: الطاعة، الشجاعة، الإخلاص للواجب حتى الموت، التي ليس لها فرصة للظهور في الحياة المدنية، حيث تنام وتضعف وتتعرض للذبول، ولكن هذه الفضائل تجد أعلى تعبير لها في الحياة العسكرية (3) ... ... _______ (1) الزعيم أندريه مونتانيون - رسالة في الرئاصة والرئيس - ص (105 - 124)، بيروت، 1955. مترجم عن الفرنسية. (2) ديغول: حد السيف، ص (37)، ترجمة أكرم ديري وهيثم الأيوبي - بيروت 1969. (3) اللواء جاك بيريه: الذكاء والقيم المعنوية في الحرب، تعريب أكرم ديري والهيثم الأيوبي، ص 216 - 217، بيروت 1968.

(3)

(3) وربما يكون الألمان أكثر الغربيين تمسكاً بالتقاليد العسكرية التي هي مُثُلٌ عليا متمثلة بالصدق والاستقامة والشهامة والشجاعة والشرف الرفيع. والمبادئ الخلقية التي تحدَّثنا عنها سابقاً تنطبق تمام الانطباق على ما يؤمن به العسكريون الألمان، وقد وصف مؤلف كتاب (المشير فون رونشيتد) وهوالقائد الألماني الذي كان من أبرز قادة الألمان في الحرب العالمية الثانية، بأنه كان ملتزماً بالفضيلة والدين، وأن أصدقاءه المفضلين لديه القريبين من نفسه هم رجال الدين في كل بلد يحل فيه وكل مدينة يحتلها شرقية كانت أو غربية: يحترمهم أعظم الاحترام ويقدرهم أعمق التقدير، ويصغي إلى نصائحهم ويعمل بها، ويستمع إلى آرائهم الدينية ويناقشها، ويسعد بلقائهم وصحبتهم - حتى في أحرج الظروف الحربية. وكان أول عمل يبدأ به بعد احتلال مدينة من المدن، هو السؤال عن الكنيسة والذهاب إليها، فإذا علم بأن البلد محرومة من الكنائس أو أن كنائسها مغلقة بسبب ظروف الحرب أو لأسباب أخرى، بادر إلى الأمر بفتحها وإقامة الشعائر الدينية فيها للناس. وقد يتساءل المتسائلون: "كيف انتصر الاتحاد السوفياتي في الحرب العالمية الثانية وهم لا يؤمنون بالدين"؟!.

وما الحوافز المعنوية للدول الاشتراكية بالنسبة للقادة العسكريين؟ الواقع أن الاتحاد السوفياتي قد تساهل مع أفراد جيشه في القضايا الدينية أيام الحرب العالمية الثانية، فأقبل الناس على دور العبادة، وظهرت الإيقونات والصلبان بالنسبة للمسيحيين والكتب الدينية بالنسبة للمسلمين، لأن المرء حين يداهمه الخطر، فإنه يعود إلى الله ويدعوه سراً وعلانية. وقد طالب الروس الشعوب بإجراء الصلوات في الكنائس من أجل النصر. كما أن تحليِّ القادة بالخلق الكريم أمر يشجعه كل مذهب وكل دين وكل عقيدة؛ سواء أكانت سماوية أم أرضية، فليس هناك من يشجع قواته المسلحة على الانحلال والتفسخ والضياع. وإذا كان الدين هو الحافز الأول للعسكريين الذين يؤمنون بالدين، فإن العقيدة الشيوعية هي الحافز الأول للشيوعيين. على كل حال، فلا بد من عقيدة لأي قائد ولأي جندي يحارب كما يحارب الرجال ... إن الدول الاشتراكية التي تخلت رسمياً عن دين الله، تتمسك رسمياً بعقيدتها الماركسية وتتعصَّب لها، ومهما يكن رأي الناس في هذه العقيدة، إلا أنها عقيدة بالنسبة لمعتنقيها: يؤمنون بها ويضحُّون من أجلها، ويعملون على نشرها بين الناس. ولقد قرأت بعض الكتب الرسمية وغير الرسمية الصادرة في الاتحاد السوفياتي لتدريب الجيش أو لنشر الثقافة العسكرية العامة، فلم أجد في كتاب من تلك الكتب غير الحث على التمسك بالعقيدة الشيوعية

والاستقتال في الدفاع عنها والتضحية بالأموال والأنفس في سبيلها. ويخيل إليّ أن تعصب الشيوعيين العقيديين للعقيدة الشيوعية أشد من تعصب الدول الغربية لعقيدتهم. جاء في كتاب (الاستراتيجية الحربية من وجهة النظر السوفييتية) ما نصه: "إن أفراد القوات المسلحة في الدول الاشتراكية على درجة عالية من الوعي السياسي، ويتمتعون بحب عظيم لوطنهم، والكراهية المقدسة لأعدائه، والولاء العظيم للشعب، والتضحية في تنفيذ الواجب العسكري، والإنسانية الحقة غير المصطنعة، والأخوة في التعاون وفي العلاقات مع المدنيين، والضبط والربط العالي النابع من الفهم، والشجاعة الوطنية، واحترام الكرامة الإنسانية، وحقوق وعادات الدول، التي تجد قوات الدول الاشتراكية نفسها مضطرة إلى دخولها خلال الحروب أو في أوقات السلم، بعرض ما يتطلبه التحالف من مهام ... ". "إن الخصائص الإنسانية التي يتميز بها الفرد السوفياتي والفرد عامة في الدول الإشتراكية، تعتبر لازمة لجميع أفراد القوات المسلحة، وهذه الخصائص تُربَّى في الجنود والضباط بوساطة كل من نظام التعليم المدني والعسكري" (1). وجاء في كتاب (نظام قتال المدرعات) ما نصه: "تفرض القيادة على القائد واجبات جمة أهمها: المحافظة على الروح المعنوي العالية وعلى استعداد القوات الدائم للقتال" (2). _______ (1) الاستراتيجية الحربية من وجهة النظر السوفيتية، ترجمة محمد الحليم أبو غزالة، الطبعة الثالثة، ص 215 - 216، القاهرة. (2) قتال المدرعات ص 21، وهذا الكتاب من الكتب العسكرية الفنية لتدريب القوات =

إن العقيدة ضرورية للغاية للقائد وللجنود أيضاً، والتمسك بعقيدة فاسدة خير من التخلي عن أي عقيدة، وقديماً قالوا: "لو اعتقد أحدكم في حجر لنفعه". وقد كان من جملة أسباب اندحار العرب في حرب حزيران (يونيو) سنة (1967)، هو تخليهم عن عقيدتهم السماوية العظيمة. لذلك انتصرت العقيدة الفاسدة التي يتمسك بها يهود على من لا عقيدة لهم .. ويوم يعود العرب إلى عقيدتهم، فلن يُغْلَبوا من قلةٍ أبداً. فما أثر الإسلام في إحراز النصر؟ ... _______ = المسلحة في الاتحاد السوفياتي. وانظر أيضاً نظام قتال القوات المسلحة في الاتحاد السوفياتي ص 31، ونظام قتال المشاة ص 24.

الإسلام والنصر

الإسلام والنّصر

أثر الإسلام في العرب

أثر الإسلام في العَربْ (1) (1) حارب النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزواته وسراياه (2) العرب المشركين وانتصر عليهم، فلم يلتحق بالرفيق الأعلى إلا وكانت شبه الجزيرة العربية موحدة تحت لواء الإسلام. كان جنود النبي - صلى الله عليه وسلم - من العرب المسلمين، قليلي العدد، فقراء إلى السلاح والقضايا الإدارية. وكان أعداء المسلمين من العرب المشركين، كثيري العدد، أغنياء بالسلاح والقضايا الإدارية. كان التفوق العَددي والعُدَدي مع العرب المشركين على العرب المسلمين، ولكن الفئة القليلة من العرب المسلمين غلبت الفئة الكثيرة من العرب المشركين بإذن الله. وفي أيام الفتح الإسلامي العظيم، حارب العرب المسلمون الرومَ وحلفاءهم الغساسنة في معركة (اليرموك) (3) الحاسمة التي _______ (1) انظر التفاصيل في خاتمة كتابنا: "قادة فتح الشام ومصر" ص 265 - 355، بيروت، 1965. (2) الغزوات هي التي قادها النبي - صلى الله عليه وسلم -، والسرايا هي التي بعثها لقتال المشركين بقيادة أحد قادته. (3) اليرموك: وادٍ بناحية الشام في طرف الغور يصب في نهرالأردن. انظر التفاصيل في معجم البلدان (8/ 504).

فتحت أبواب أرض الشام (1) للمسلمين، وحاربوا الفرس وحلفاءهم المناذرة في (القادسية) (2) الحاسمة التي فتحت أبواب العراق والجزيرة (3) للمسلمين، وكان الغساسنة والمناذرة من العرب الأقحاح؛ وكانوا أعرقَ مدنيةً وأكثر حضارة، وأغنى مالاً وسلاحاً، وأعرف بأساليب القتال وأقرب إلى قواعدهم من أولئك العرب المسلمين القادمين من قلب الجزيرة العربية. وانتصر العرب المسلمون على العرب غير المسلمين، وعلى غير العرب من اليهود والروم والفرس في أيام الفتح الإسلامي العظيم؛ لا لأنهم عرب وكفى، بل لأنهم عرب مسلمون. لقد كان انتصار العرب المسلمين في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي أيام الفتح الإسلامي العظيم انتصارَ عقيدة لا مِراء. فما أثر الإسلام في العرب؟ كان العرب في الجاهلية متخلفين سياسياً واجتماعياً واقتصادياً وعسكرياً، فرفع الإسلام مكانتهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية والعسكرية. _______ (1) أرض الشام: غربها البحر الأبيض المتوسط وشرقها البادية من أيلة الفرات، ثم من الفرات إلى حد الروم، وشمالها بلاد الروم وجنوبها حدود مصر. انظر التفاصيل في "المسالك والممالك" ص 43، وهي سورية ولبنان والأردن وفلسطين. (2) القادسية: موضع بينه وبين الكوفة خمسة عشر فرسخاً، وبينه وبين العذيب أربعة أميال. انظر التفاصيل في "معجم البلدان" (7/ 5)، و "آثار البلاد وأخبار العباد" (239). (3) الجزيرة: وهي بين دجلة والفرات، وتشتمل على ديار مضر وديار بكر. انظر التفاصيل في "معجم البلدان" (3/ 96).

كان الفرس مسيطرين على العراق ولهم نفوذ في اليمن، وكان الروم مسيطرين على أرض الشام، وحتى الأحباش كانت لهم صولة وجولة ومكانة في اليمن؛ فأصبح العرب بالإسلام سادة الفرس والروم، وسادة أمم أخرى لا تعد ولا تحصى من الصين شرقاً إلى فرنسا غرباً، ومن سيبيريا شمالاً إلى المحيط الهندي جنوباً. وكان العرب أقل حضارةً ومدنيةً من الفرس والروم بخاصة، فأصبحوا بعد الإسلام قادة الحضارة العالمية ورواد المدنية في الدنيا. وكانوا فقراء معدمين، يسكنون الخيام في الصحراء أو البيوت البسيطة في القرى والمدن، فأصبحوا بعد الإسلام أغنياء مترفين، يسكنون القصور والبيوت في الحواضر على ضفاف الأنهار. وكانوا من الناحية العسكرية لا يطمعون أن يحموا أرضهم من الفرس والروم وحتى من الأحباش، فأصبحوا بعد الإسلام لا يطمع أحد في حماية أرضه من قوتهم القاهرة التي ملأت الأرض سماحة وعدلاً. لقد كان للإسلام أثر، أي أثر في العرب، بدَّل حالهم إلى أحسن حال، وجعل منهم أمة لها مكانتها ولها اعتبارها ولها تأثيرها في سير الأحداث العالمية الكبرى، ولها كلمتها المسموعة بين الأمم. ولعل الباحثين المنصفين من المسلمين وغير المسلمين، يستطيعون أن يقولوا كثيراً عن أثر الإسلام في العرب سياسياً واجتماعياً واقتصادياً. ولكنني سأقتصر على أثر الإسلام في العرب من الناحية العسكرية

(2)

فقط، مذكراً أن العرب لو لم ينتصروا في الحروب ولم ترفرف راياتهم شرقاً وغرباً ولم يصبحوا أقوياء عسكرياً، لما أصبحت لهم مكانة بين الأمم في النواحي السياسية والاجتماعية والاقتصادية؛ لذلك يمكن القول: إن أثر الإسلام عسكرياً على العرب هو الأساس الأول لمكانتهم السامية بين الأمم، لأن الدول لا تحترم غير الأقوياء، وأن القوي وحده هو الذي يستطيع أن يؤثر في سير الأحداث العالمية، سواء أكان هذا التأثير هدفه الخير للعالم، أم كان هدفه الشر والخراب والدمار. ... (2) كان للعرب في أيام الجاهلية مزايا متميزة: الذكاء الفطري، وحب الحرية والمساواة، والشجاعة والإقدام، والكرم والسخاء؛ فعمل الإسلام على تطوير هذه المزايا وصقلها، وأفاد منها في أيام السلم والحرب، ونجح في مسعاه أعظم النجاح. وكان للعرب في أيام الجاهلية صفات رديئة: تفرُّق كلمتهم، وفقدان الضبط والنظام بينهم، وعبادة الأصنام والأوثان، وسيطرة روح القبيلة عليهم؛ فعمل الإسلام على محاربتها للقضاء عليها، وانتصر عليها انتصاراً باهراً. وصدق الله العظيم: {وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا} [آل عمران 3: 103].

وكان العرب قبل الإسلام، ماهرين في حرب العصابات وفي الفروسية واستعمال السلاح. وكان لديهم قابلية فذة على سرعة الحركة من مكان إلى آخر بسهولة ويسر، وبأقل وقت ممكن، وأقل تكاليف إدارية وأبسطها نفقات وأخفها حملاً ... ولكنهم كانوا متفرقين بأسهم بينهم شديد: وأحياناً على بَكْرٍ أخينا إذا ما لم نَجِدْ إلا أخانا لهذا كانت خبرتهم الحربية وشجاعتهم الفطرية، تذهب عبثاً في المناوشات التي لا تكاد تنتهي بين القبائل العربية وحتى بين الجماعات والأفراد. فلما جاء الإسلام، وحَّد عقائدهم، ووحَّد أهدافهم، فجعل من العقائد المتفرقة المتناقضة المتخلفة عقيدة واحدة هي: الإسلام. وجعل من أهدافهم الكثيرة المتصارعة كالاقتتال من أجل النهب والسلب، والقتال من أجل أخذ الثأر، والحرب من أجل الأمجاد الشخصية، والتفاخر بالغلبة، هدفاً واحداً هو: إعلاء كلمة الله. كما وحَّد الإسلام صفوف العرب، ونظَّمهم، وغرس فيهم روح الضبط والطاعة، وطهَّر نفوسهم، ونقَّى أرواحهم، وقضى على الأنانية وحب الذات، وجعل الفرد يعمل لمصلحة الأمة العليا لا لمصلحة قبيلته أو شخصه، وخلق فيهم انسجاماً مادياً ومعنوياً، فأصبحت - لذلك كله وبذلك كله - قواتهم الضاربة تعمل بنظام وضبط، بقيادة واحدة، لتحقيق هدف واحد، وأصبح المؤمنون في

(3)

مشارق الأرض ومغاربها أخوة في الله، يتحابُّون بنور الله بينهم، وهم أمة واحدة، ذات عقيدة واحدة، تحيتها السلام ودينها الإسلام. ... (3) لقد كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يؤم ألفين في عمرة القضاء، ومئة ألف في حجة الوداع، يسيرون كلهم في نظام أدق نظام: هرولة ومشياً، واستلاماً للركن والحجر الأسود - هذا النظام المتصل بروح الإسلام الذي يأمر بالنظام وينهى عن الفوضى - يؤمن أصحابه بصدقه وينفِّذون تعاليمه التي هي روح هذه القوة وقوامها. وفُرضت الصلاة على المسلمين، ثم قامت صلاة الجماعة التي أدَّاها المسلمون وراء إمام واحد، قلوبهم خاشعة لذكر الله، وصفوفهم متراصة متراصفة ... ومن يرى المسلمين وهم مجتمعون صفوفاً للصلاة تتساوى مناكبهم والأقدام، يؤدون ركعاتها وسجداتها في تناسق مدهش وفي نظام دقيق ووقار، لا يمكن أن يغفل ما لهذه الصلاة المنظمة من قيمة تربوية في نفوس المسلمين. إن العرب أُباة لا يخضعون لمشيئة خارجية، ولكنهم كانوا يفتقرون إلى الشعور التام بالطاعة والنظام، فكانت لهذه الصلاة أهمية بالغة في (إيقاظ) روح النظام والضبط في نفوس العرب المسلمين، لذلك غدا مكان الصلاة أول ميدان حقيقي للتدريب العسكري على الضبط والنظام عند المسلمين.

ثم إن انتظام المسلمين للصلاة، شجع روح الوحدة بينهم، وخلق بينهم شعوراً بالمساواة التي كانت أفكاراً جديدة على بلاد العرب، إذ كانت الوحدة الموجودة حتى ذلك الوقت هي رابطة الدم، فأصبحت الوحدة السائدة هي وحدة العقيدة. لقد وَجَدَ الإسلام بتعاليمه التي تغرس الضبط والنظام في النفوس، وتدعو إلى توحيد الله وتوحيد الصفوف، وتأمر بالجهاد بالأموال والأنفس في سبيل الله، وتنهى عن التخلف والقعود والتولِّي يوم الزحف - أرضاً خصبة في العرب الذين كانت لهم خبرة طويلة في الحروب، والذين لا يهابون الموت ويتعشَّقون الحرية؛ فكان من فضل الإسلام على العرب أنه جمع شملهم ووحَّد قلوبهم وأشاع فيهم الضبط والنظام. وبذلك أصبحوا قوة وجدت لها (متنفَّساً) في توحيد شبه الجزيرة العربية أولاً وفي الفتح الإسلامي العظيم ثانياً. والمعروف أن الجندي لا يمكن أن يقاتل في الحرب قتالاً مستميتاً، ويضحي بروحه مقبلاً غير مدبر، إلا إذا كان يؤمن إيماناً راسخاً بعقيدة تدفعه إلى التضحية والفداء، وتجعله صابراً في البأساء والضراء وحين البأس. والجندي الذي يقاتل بغير إيمان راسخ بعقيدة، لا يمكن أن يَثْبُت في الميدان أبداً. وما يقال عن الجندي، يقال عن الجيش، ويقال عن الأمة أيضاً، فليس الجيش إلا مجموعة من الجنود وضباط الصف والضباط، وليس الجيش إلا جزءاً من الأمة. ***

(4)

(4) ولا شك في أن تعاليم الإسلام، رفعت المستوى العقلي للعرب إلى درجة كبرى، فهذه الصفات التي وصف القرآن بها الله سبحانه وتعالى، نقلتهم من عبادة أوثان وما يقتضيه ذلك من انحطاط في النظر وإسفاف في الفكر - إلى عبادة إله غير المادة: {لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ} [الأنعام 6: 103]. كان الإله عند أكثرهم إله قبيلة، وإن اتسع سلطانه فإله قبائل أو إله العرب، فأبانه الإسلام إله العالمين ومدبر الكون وبيده كل شيء وعالماً بكل شيء، فاستطاع العربي بهذه التعاليم أن يرقى إلى فَهْمِ إلهٍ لا مادة له، واسع السلطان، واسع العلم، وأفهمهم الإسلام أن دينهم خير الأديان، وأن العالم حولهم في ضلال، وأنَّ نبيَّهم نبيُّ الناس جميعاً، وأنهم ورثته في حمل دعوته إلى الأمم؛ فكان ذلك من البواعث على غزو هذه الأمم يدعونهم إلى دينهم، ويبشرونهم به، فمن دخل فيه كان كأحدهم، له ما لهم وعليه ما عليهم. وكان لعقيدة اليوم الآخر ودار الجزاء والجنة والنار، أثر عظيم في بيع كثير منهم نفوسَهم في سبيل نشر الدعوة: {*إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة 9: 111].

وكان للإسلام أثر كبير في تغيير قيمة الأشياء والأخلاق في نظر العرب، فارتفعت قيمة أشياء، وانخفضت قيمة أشياء أخرى، وأصبحت مقومات الحياة في نظرهم غيرها بالأمس. إن الإسلام رسم مثلاً أعلى غير المثل الأعلى للحياة في الجاهلية، وهذان المثلان لا يتشابهان وكثيراً ما يتناقضان، فالشجاعة الشخصية والشهامة التي لا حدَّ لها، والكرم إلى حد الإسراف، والإخلاص التام للقبيلة، والقسوة في الانتقام، وأخذ الثأر ممن اعتدى عليه أو على قريب له أو على قبيلته بقول أو فعل - هذه المُثل التي كانت أصول الفضائل عند العرب والوثنيين؛ أصبحت في الإسلام الخضوع لله والانقياد لأوامره والصبر، وإخضاع منافع الشخص ومنافع قبيلته لأوامر الدين، والقناعة وعدم التفاخر أو التكاثر وتجنب الكبر والعظمة - هي المثل العليا للمسلم في الحياة (1). إن الإسلام صهر نفسية العرب ونفى عنها الخبَث، فأصبح العربي المسلم لا يكذب ولا يسرق ولا يزني ولا يخون ولا يغش ولا يتجسس، يخلص لعقيدته أكثر مما يخلص لنفسه، ويطيع أوامر الله ورسوله وأولي الأمر (2)، وبذلك أصبح فرداً مفيداً باع نفسه لله إخلاصاً لعقيدته. هذا العربي المسلم، بهذه المزايا النادرة، أصبح بدون شك عنصراً مفيداً كل الفائدة لتكوين أمة صالحة: تَعْبُدُ رباً واحداً، وتعمل بانسجام وتعاون ونكرانِ ذاتٍ، لتحقيق هدف واحد، هو أن تكون كلمة الله هي العليا. _______ (1) أحمد أمين: فجر الإسلام (1/ 93 - 95)، الطبعة الأولى، القاهرة. (2) ما أطاعوا الله، إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.

لقد تصرَّف العربي المسلم فرداً تصرفاً لا يزال يُعتبر من الأعمال الفذة النادرة في حياة البشر: تحمَّل التعذيب والموت صابراً راضياً مطمئناً، وترك أهله وماله مهاجراً إلى الله ورسوله، وضرب بمصلحة الأقربين وعشيرته وقبيلته عرض الحائط حين وجدها تعارض عقيدته ومصلحة المسلمين العليا. وتصرف العربي المسلم ضمن المجموع من أمته تصرفاً لا يزال يُعتبر حتى اليوم مفخرةً من المفاخر: اندفع يجاهد في سبيل حرية نشر عقيدته وحمايتها، فخرجت القوة المؤمنة التي اختزنتها الصحراء عبر الأجيال، تحمل راية الله سبحانه وتعالى وتبلّغ عن أمره، فتتابعت انتصاراتها الباهرة، فلم يشهد التاريخ في أحقابه المديدة انتصارات مظفرة وفتحاً مستداماً مثلما شهد انتصارات الفتح الإسلامي العظيم؛ تلك العقيدة التي جعلت العربي المسلم يقاتل قتالاً مستميتاً، ويضحي بروحه من أجلها. وهذه العقيدة هي التي دفعت العربي المسلم إلى التضحية والفداء، وجعلته صابراً في البأساء والضراء وحين البأس، وهذه العقيدة هي التي قادته من نصر إلى نصر، مادام متمسكاً بها، فلمّا أعرض عنها لم يرَ النصر أبداً. لقد جعل الإسلام من العربي عنصراً مفيداً أعظم الفائدة للمجتمع الإسلامي العربي، وجعل من هذا المجتمع قوة عظيمة متماسكة تحرص على السلام ولكنها لا تعرف الاستسلام، وتطلب الموت لتوهب لها الحياة. إن فضل الإسلام على العرب كان عظيماً. ***

الإسلام في مجال التربية العسكرية

الإسْلاَم في مجَال التربيَة العَسكريَة 1 - التدريب الفردي (1): أ- هناك صفات خالدة للجندي الحق، هي التي تميّز الجندي القوي الحق عن الجندي الضعيف المزيّف. وهنا لا بد لي من أن أذكر، أنه ليس كل من ارتدى البزة العسكرية وقضى ردحاً من الزمن في الجيش أصبح جندياً حقاً. بل لا بد من توافر صفات معينة في الجندي، ليكون جندياً يفيد ولا يضر، ويبني ولا يهدم، ويقاتل ولا يستسلم، ويثبُت ولا يفر. من هذه الصفات: الطاعة، والطاعة هي ما نُطلق عليه في المصطلحات العسكرية الحديثة تعبير: الضبط. والضبط معناه إطاعة الأوامر وتنفيذها نصاً وروحاً بدون تردّد وعن طيب خاطر وبحرص وأمانة وإخلاص. لقد وردت كلمة: (طاع) ومشتقاتها في تسع وعشرين ومئة آية من آيات الذكر الحكيم، قال تعالى: {مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء 4: 80]. وقال تعالى: {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا} [النور: 47]، _______ (1) التدريب الفردي: تدريب الجندي على استعمال السلاح والأرض ليكون ماهراً فيها لإمكان الاستفادة منه ضمن رفقائه في السلاح، وتلقينه مبادىء العلوم العسكرية.

وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللََّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} [النساء 4: 59]. والفرق الكبير بين الجندي الجيد والجندي الرديء، هو أن الأول مطيع والثاني غير مطيع، أي أن الأول يتحلى بالضبط المتين، والثاني قليل الضبط، كما يعبر عن ذلك العسكريون المحدَثون. وقد ضرب السلف الصالح أروع الأمثال بالطاعة لله ولرسوله ولأولي الأمر؛ وتاريخ الصدر الأول من الإسلام مليء بأمثلة الطاعة التي أدت بالكثير من المسلمين إلى التضحية بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله. كما أن الفرق الكبير بين المدنيين والعسكريين، هو أن العسكريين يتحلون بالضبط المتين، ولا جيش بدون ضبط، ولا ينتصر جيش في الحرب على أعدائه بدون ضبط، مهما يكن حَسَن التنظيم، كامل التجهيز، جيد التدريب، قوي القيادة. ب- ومن صفات الجندي الخالدة: "الصبر" على المشقات العسكرية وفي ميدان القتال. وقد وردت كلمة (صبر) ومشتقاتها في ثلاث ومئة آية من آيات القرآن الكريم. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ} [آل عمران 3: 200]، وقال تعالى: {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا} [البقرة 2: 250]، وقال تعالى: {سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد 13: 24]، وقال تعالى: {وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ} [النحل 16: 126]، وقال تعالى:

{ثُمَّ جَاهَدُواْ وَصَبَرُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} [النحل 110:16]. ج- ومن صفات الجندي الخالدة: "الثبات" في الحرب. والثبات هو القتال إلى آخر إطلاقةٍ من عتاده، وآخر قدرة على الرمي في سلاحه، وآخر رمق من حياته. وقد وردت كلمة: (ثبت) ومشتقاتها في ثماني عشرة آية من آيات الذكر الحكيم. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ} [الأنفال 8: 45]، وقال تعالى: {وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ} [الأنفال 8: 11]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد 47: 7]، وقال تعالى: {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا} [البقرة 2: 250]، وقال تعالى: (ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا} [آل عمران 3: 147]، وقال تعالى: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ} [الأنفال 8: 12]. د- ومن صفات الجندي الخالدة: "الشجاعة"، وهي من أهم مزايا الجندي المسلم، ويكفي أن نذكر أن المسلم لا يجبن أبداً، وأن التولي يوم الزحف بالنسبة للمسلم من الكبائر. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ 15 وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاء بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الأنفال 8: 15 - 16]. وجعل التولي يوم الزحف من صفات الكفار والمنافقين، قال

تعالى: {وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا} [الفتح 48: 22]، وقال تعالى: {لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُوا لَا يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنصَرُونَ} [الحشر 59: 12]، وقال تعالى: {لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدُبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ} [آل عمران 3: 111] وقال تعالى: {وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِن قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُولًا} [الأحزاب 33: 15]. ولست أعرف عقيدة سماوية ولا أرضية تحثُّ على الشجاعة حثاً حاسماً جازماً شديداً لا هوادة فيه كما فعلت العقيدة الإسلامية، ويكفي أنها أخرجت الجبناء من مجتمع المسلمين، فالجبن والإسلام على طرفي نقيض، وهما ضدان لا يجتمعان. وإذا كانت الشجاعة من أهم عوامل النصر على الإطلاق، فإن الشجاعة في العقيدة الإسلامية هي مزية من مزايا المسلم الحق الذي لا يكون مسلماً بدونها. هـ- ومن صفات الجندي الخالدة: "الحذر واليقظة". قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ} [النساء4: 71]، وقال تعالى: {فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ} [النساء4: 102]، وهي صلاة الخوف كما يعبِّر عنها الفقهاء. وتدابير صلاة الخوف تدعو إلى الإعجاب، إذ أن هذه التدابير تحرم العدو المتربص من انتهاز الفرصة السانحة في صلاة المسلمين لمباغتتهم بالهجوم، لأن قسماً منهم يصلون، بينما يكون القسم الآخر

في أشد حالات الحذر واليقظة. وإذا كان الجندي حذراً يقظاً، صَعُبَ على عدوه أن ينال منه شيئاً أو يباغته من مكان لا يتوقعه أو في زمان لا يتوقعه أيضاً، والمباغتة مبدأ من أهم مبادئ الحرب كما هو معروف. وليس جندياً حقاً من ينام عن عدوه، لأن المبدأ الحصيف في الحرب هو إدخال أسوأ الاحتمالات في الحساب، فإذا كان احتمال هجوم العدو مثلاً واحداً بالمئة، فيجب أن نُدخل في حسابنا أن العدو سيهجم مئة بالمئة! وتطبيقاً لمبدأ الحذر واليقظة، كان المسلمون الأولون في الحرب لا ينامون ولا يُنيمون، وكان من مزايا خالد بن الوليد رضي الله عنه أنه كان لا ينام ولا يُنيم. وما أصدق المثل العربي القديم: "إذا كان عدوك نملة، فلا تنم له". والاستهانة بالعدو اعتماداً على الكثرة الكاثرة أو العدد العديد، يؤدي إلى الكوارث في الحرب، وقد علَّمنا الله سبحانه وتعالى درساً عسكرياً سجله القرآن الكريم. فقال تعالى: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ} [التوبة 9: 25]. إن الاستهانة بالعدو تؤدي إلى الهزيمة، فلا ينبغي لأحد أن يستهين بعدوه قبل لقائه وإحراز النصر عليه. أما المنتصر فمن حقه أن يستهين بعدوه لأنه عرف قابلياته في الحرب، أما قبل خوض العركة فلا بد من أن يُدخِل

في حسابه أسوأ الاحتمالات، وأن يستعد للقائه أعظم استعداد. وومن تلك الصفات الخالدة للجندي الحق، "أن يجاهد بماله ونفسه في سبيل الله". وقد وردت كلمة: "جهد" ومشتقاتها في إحدى وأربعين آية من آيات الذكر الحكيم. قال تعالى: {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [الصف 61: 11]، وقال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللَّهِ} [التوبة 9: 20]. وقال تعالى: {وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [التوبة 9: 41]، وقال تعالى: {وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء 4: 95]. وقد فرض الإسلام على المتخلف عن الجهاد عقاباً نفسياً في الدنيا، إذ يهجر المتخلف أهله حتى زوجه، كما يهجره المسلمون جميعاً ويقاطعونه، وينبذه المجتمع الإسلامي وينظر إليه نظرة احتقار وامتهان، قال تعالى: {وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ} (1) [التوبة 9: 118]. إن عقاب المتخلف عن الجهاد في الإسلام يقتصر عليه فقط ولا يتجازه إلى أهله وعشيرته وسكان قريته ... إلخ. كما حدث في القرن العشرين في بعض الدول الكبرى، إذ نزل العقاب الصارم بأهل المتخلِّف وذوي قرباه وحتى بأهل قريته في بعض الأحيان!. _______ (1) انظر تفاصيل عقاب المتخلفين في الإسلام في (الرسول القائد)، ص 402 - 406.

ويهمنا أن نعرف أن كثيراً من عوائل المتخلفين أُبيدت عن بكرة أبيهم في الدول التي طبقت الحرب الجماعية خلال الحرب العالمية الثانية في القرن العشرين! أما الإسلام، فقد عاقب المتخلف وحده عقاباً نفسياً صارماً؛ فأين هذا العقاب الذي طبقه المسلمون على المتخلف في القرن الأول الهجري قبل أربعة عشر قرناً من هذا العقاب الجسدي الفظيع الذي طبقته أرقى الدول في القرن العشرين الميلادي؟! لقد سبق الإسلام بتعاليمه العسكرية غيره من التعاليم العسكرية، ليس في هذه الناحية بل في كثير من النواحي العسكرية الأخرى، مما يدعو إلى أعظم التقدير والإعجاب. ز- ومن تلك الصفات للجندي الحق، "أن يكون مدرَّباً"، والجندي المدرب يتغلب على الجندي غير المدرب بسهولة، ولا قيمة عسكرية للجندي المتخلف في التدريب العسكري. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: {ارموا واركبوا، وإن ترموا أحب إلي من أن تركبوا، ومن تعلَّم الرمي ثم نسيه فليس منا"، وفي رواية: "فهي نعمة جحدها" (1). تلك هي تعاليم الإسلام في إعداد العسكريين للقتال وهو مانطلق عليه التدريب الفردي في المصطلحات العسكرية الحديثة. وبهذه التعاليم التي إذا طبقها المسلمون كما طبقها السلف _______ (1) الحديث رواه مسلم؛ جحدها أي كفر بها وأنكرها مع علمه بها.

2 - التدريب الإجمالي

الصالح، يكون لديهم عسكريون فيهم كل صفات الجندي الخالدة، فالجندي المسلم الحق مطيع لا يعصي، صبور لا يجزع، ثابت لا يتزعزع، شجاع لا يجبن، حذر لا ينام، لا يستهين بعدوه ولا يغفل عنه لحظة، يجاهد بأمواله ونفسه في سبيل الله، يلبي نداء الواجب ولا يتخلف، مدرب على استعمال سلاحه وعلى فنون القتال. تلك هي صفات الجندي المسلم الحق، فكيف يصبح جيش مؤلفاً من أمثال هؤلاء الجنود؟!. 2 - التدريب الإجمالي (1): أ- بين الإسلام أن المصلحة العليا للمسلمين، لا بد أن تكون لها الأسبقية على كل شيء في الدنيا، قال تعالى: {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ 24} [التوبة 9: 24]. وجعل الإسلام مقام الشهداء من أعظم المقامات، قال تعالى: {فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ} [النساء 4: 69]، وقال تعالى: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاء وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ} [البقرة 2: 154]، _______ (1) التدريب الإجمالي: تدريب الجندي ضمن رفقائه في السلاح، وتدريب الوحدات العسكرية بالتسلسل لتكون قادرة على أداء واجباتها في القتال منفردة أو متعاونة مع الوحدات العسكرية الأخرى.

وقال تعالى: {وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء 4: 74]. وعمل الإسلام على تقوية معنويات المجاهدين، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ} [الأنفال 8: 65]. وحث الإسلام على الاهتمام بإعداد القوة المادية، قال تعالى: {وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُم مَّيْلَةً وَاحِدَةً} [النساء 4: 102]، وقال تعالى: {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ} [الأنفال 8: 60]. كما حث الإسلام على إنشاء المعامل الحربية لصنع الأسلحة، وذكر بالحديد خاصة للاستفادة منه في الأغراض العسكرية، قال تعالى: {وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحديد 57: 25]. وأعد الإسلام تنظيمات عملية للإعفاء من الخدمة العسكرية، وإعلان الحرب، والدعوة إلى الجهاد، وتطهير الجيش، وأساليب القتال، وقضايا الكتمان، والهدنة والصلح، والأسرى، والمحافظة على العهود. فقد حصر الإسلام أسباب الإعفاء من الخدمة العسكرية في الضعف، ويشمل المرض، والعجز، والشيخوخة، وعدم القدرة على الإنفاق. قال تعالى: {لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاء وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ

لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة 9: 91]. وحذر الإسلام من التباطؤ في تلبية داعي الجهاد والتثاقل عنه، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ 38 إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التوبة 9: 38 - 39]. وأمر بتطهير الجيش من عناصر الفتنة والخذلان، ومن الذين يختلفون عن رجاله بالعقيدة، حتى يكون الجيش مؤمناً بعقيدة واحدة لا بعقائد شتى، يعمل جاهداً للدفاع عن عقيدته، ويبذل كل ما يملك في سبيلها، وبذلك يستطيع الفوز في الحرب. قال تعالى: {وَلَوْ كَانُوا فِيكُم مَّا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا} [الأحزاب 33: 20]، وقال تعالى: {وَلَكِن كَرِهَ اللَّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَاعِدِينَ 46 لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [التوبة 9: 46 - 47]. ب- وأرشد الإسلام إلى الأساليب التعبوية: نظم المواضع الدفاعية فقال تعالى: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّىءُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ} [آل عمران 3: 121]. وابتكر أسلوباً جديداً لم تكن العرب تعرفه من قبل هو أسلوب: (الصف) (1)، إذ كانت تقابل بأسلوب: (الكر والفر) (2)، قال تعالى: _______ (1) أسلوب الصف: ترتيب المقاتلين صفين أو ثلاثة أو أكثر على حسب عددهم، وتكون الصفوف الأمامية من المسلحين بالرماح لصد هجمات الفرسان، وتكون الصفوف المتعاقبة الأخرى من المسلحين بالنبال لتسديدها على المهاجمين. (2) أسلوب الكر والفر: أن يهاجم المحاربون بكل قوتهم على العدو، فإن ثبت لهم =

{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ} [الصف 61: 4]، ويطلق هذا الأسلوب القتالي على سورة من سور الذكر الحكيم، هي سورة: (الصف). ويحذر الإسلام من إذاعة الأسرار العسكرية، ويجعل إذاعتها من شأن المنافقين، ويطالب المؤمنين بالرجوع إلى القيادة العامة، كما يطالبهم بالتثبت مما يصلهم من أنباء قبل الركون إليها والعمل بها. قال تعالى: {لَئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا} [الأحزاب 33: 60]، وقال تعالى: {وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء 4: 83]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات 49: 6]. تلك لمحات من تعاليم الإسلام في تدريب الجيش وإعداده للحرب، ليكون جيشاً يؤثِرُ المصلحة العامة للمسلمين على المصلحة الخاصة لأفراده وجماعاته؛ وجَعَلَ للشهداء الحياة الخالدة المستمرة، وبذلك قضى على الخوف من الموت نهائياً، وجعل معنويات الجيش عالية على أسس رصينة مستمدة من إعداده المادي وتربيته الروحية، وأمر بالإعداد المادي للجيش حتى ما يفقد عقالاً ولا خطاماً، وحثَّ على بناء المعامل الحربية مستهدفاً الاكتفاء الذاتي لجيش المسلمين، وأعد _______ = العدو أو أحسوا بالضعف نكصوا، ثم أعادوا تنظيمهم وكرُّوا، وهكذا يكرُّون ويفرُّون حتى يكتب لهم النصر أو الاندحار.

3 - الحرب العادلة

تنظيمات رائعة للتجنيد والإعفاء من الخدمة العسكرية ودعوة الاحتياط وإعلان الحرب وتطهير الجيش من غير العقيديين، وعلَّم الجيش أهم الأساليب التعبوية التي يمارسها في القتال. لا عجب بعد ذلك، أن يبشِّر الرسول القائد عليه أفضل الصلاة والسلام، جيش المسلمين في كل زمان ومكان، بأنهم إذا طبقوا تعاليم الإسلام العسكرية نصاً وروحاً، فإنهم لن يغلبوا من قلة أبداً إذا كان تعداد جيشهم يبلغ اثني عشر ألف رجل. 3 - الحرب العادلة: ولكن الإسلام لم يكتفِ ببناء الرجال ليكونوا أعضاء نافعين في جيش المسلمين، ولم يكتفِ بإعداد جيش المسلمين مادياً ومعنوياً، بل حرص على تطبيق: (الحرب العادلة) (1) في الجهاد. ومن المعروف أن الجيش الذي يخوض حرباً عادلة، لإحقاق الحق وإزهاق الباطل والدفاع عن حرية نشر الدعوة وتوطيد أركان السلام، دون أن يظلم رجاله أحداً من الناس، فإن ذلك الجيش يستقتل في حربه ولا بد أن ينتصر. حذر القرآن الكريم من انتهاز غفلة العدو المعاهَد وأخذه على غرة غدراً، قال تعالى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ} [الأنفال 8: 58]. _______ (1) الحرب العادلة: حرب تُوَجَّه ضد شعب ارتكب ظلماً نحو شعب آخر ولم يشأ رفعه، ويشترط فيها أن تكون مطابقة للقواعد الإنسانية وتكون لغرض تحقيق سلم دائم، ووجوب احترام حياة وأملاك الأبرياء وحُسْن معاملة الأسرى والرهائن. انظر التفاصيل في (قانون الحرب والحياد في القوانين الدولية).

وأمر الإسلام بتلبية دعوة السلام ووقْف الحرب إذا جنح الأعداء للسلم وظهرت منهم بوادر الصدق والوفاء. قال تعالى: {*وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ 61 وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ} [الأنفال 8: 61 - 62]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً} [البقرة 2: 208]. بل يصرح الإسلام بأن الثمرة من اتباع الإسلام هي الاهتداء إلى طرق "السلام" والنور، قال تعالى: {قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ قَدْ جَآءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ 15 يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [المائدة 5: 15 - 16]. وحرَّم الإسلام قتل الشيخ الكبير والعاجز والمرأة والصبي ورجل الدين المنقطع للعبادة، والفلاَّح المسالم الذي لم يشترك في القتال. وخيَّر الإسلام القائد بين أن يمنَّ على الأسرى فيطلقهم من غير فدية أو مقابل، أو يأخذ منهم الفدية من مال أو رجال، وذلك بحسب اقتضاء المصلحة العامة. قال تعالى: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} [محمد 47: 4]. وقد أمر الإسلام بمعاملة الأسرى معاملة إنسانية، فلا يجوز تعذيبهم ولا التمثيل بهم ولا تعريضهم للجوع والسغب، قال تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا 8 إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا

نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا} [الإنسان 76: 8 - 9]. وعلَّم الإسلام أتباعه، أن الحرب إذا انتهت باستسلام العدو وانتصار المسلمين، فلا عدوان على الأعراض، ولا تخريب للمدن، ولا استلاب للأموال، ولا إذلال للكرامات، ولا اندفاع وراء الثأر والانتقام؛ وإنما هو الإصلاح والتحرير والعدالة ونشر الخير ومكافحة الشر (1)، قال تعالى: {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج 22: 41]. وحثَّ الإسلام بصورة خاصة على المحافظة على العهود، وأوجب الوفاء بها، وحرَّم الخيانة فيها والعمل على نقضها، وأرشد إلى أن القصد منها إحلال الأمن والسلم محل الاضطراب والحرب. وحذر أن تكون وسيلةً للاحتيال على سلب الحقوق والوقيعة بالضعفاء. قال تعالى: {وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ 91 وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ} [النحل 16: 91 - 92]. وأمر الإسلام أن تكون الحرب لإقرار الحق وإزهاق الباطل لتحرير الضعفاء والمضطهدين، لذلك يقتضي أن تضيق حدودها حتى لا يصطلي بنارها إلا من حمل السلاح وبدأ العدوان، فلا تؤخذ أمة العدو كلها بجريرة جيشها أو حكامها. قال تعالى: {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة 2: 190]. _______ (1) مصطفى السباعي: نظام السلم والحرب في الإسلام - بيروت 1373هـ.

4 - الحرب النفسية

تلك هي مجمل الحرب العادلة في الإسلام: ابتعاد من الغدر، ووفاء بالعهود، وإقرار للسلام، ومعاملة إنسانية لغير المحاربين، وتمسك بالمثل العليا الرفيعة في معاملة المغلوبين. فأين منها حروب القرن العشرين الميلادي؟ 4 - الحرب النفسية: ولكن تعاليم الإسلام لا تسيطر على المسلم الحق وجيش المسلمين حقاً في ميدان القتال فقط، بل تسيطر على المسلم فرداً وعلى جيش المسلمين في أيام السلام أيضاً. إن الهدف الحيوي من الحرب، هو تحطيم الطاقات المادية والمعنوية للعدو، فإذا انتصر عليه في ميدان الحرب واستطاع أن يحطم طاقاته المادية، فلا بد من جهود أخرى لتحطيم طاقاته المعنوية، ليكون النصر كاملاً يؤدي إلى الاستسلام. وهنا تبدأ الحرب النفسية التي تستهدف الطاقات المعنوية بالدرجة الأولى وقبل كل شيء. وفي تاريخ الحروب أمثلة لا تعد ولا تحصى، عن انتصارات استطاعت القضاء على الطاقات المادية، ولكنها عجزت عن القضاء على الطاقات المعنوية، فكانت تلك الانتصارات ناقصة استمرت مدة من الزمن ثم أصبح المهزوم منتصراً والمنتصر مهزوماً. فكيف يصاول الاسلام الحرب النفسية؟ لعل أهم أهداف الحرب النفسية هي التخويف من الموت

والفقر، ومن القوة الضاربة للمنتصر، ومن محاولة جعل النصر حاسماً بالدعوة إلى الاستسلام، وبث الإشاعات والأراجيف، وإشاعة الاستعمار الفكري بالغزو الحضاري، وإشاعة اليأس والقنوط. المؤمن حقاً لا يخشى الموت، لأنه يؤمن بأنه لا يموت إلا بأجله الموعود. قال تعالى: {إِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} [يونس 10: 49]، وقال تعالى: {فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف 7: 34] [والنحل 16: 61]، وقال تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ} [آل عمران 3: 145]، وقال تعالى: {أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ} [النساء 4: 78]، وقال تعالى: {لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ} [آل عمران 3: 154]. إن المؤمن الحق، يعتقد اعتقاداً راسخاً، بأن الآجال بيد الله سبحانه وتعالى، وما أصدق قولة خالد بن الوليد - رضي الله عنه - عندما حضرته الوفاة: "ما في جسمي شبر إلا وفيه طعنة رمح أو سيف، وها أنا ذا أموت على فراشي كما يموت البعير، فلا نامت أعين الجبناء" (1). والمؤمن حقاً لا يخاف الفقر، لأنه يعتقد اعتقاداً راسخاً، بأن الأرزاق بيد الله سبحانه وتعالى، وأنه يرزق النملة المنفردة في الصخرة المنفردة في البحر المحيط، فكيف ينسى رزقه؟! _______ (1) أسد الغابة (2/ 95)؛ والاستيعاب (2/ 430).

قال تعالى: {وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ 212} [البقرة 2: 212]، وقال تعالى: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا 2 وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن} [الطلاق 65: 2 - 3]، وقال تعالى: {فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الأنفال 8: 26]، وقال تعالى: {*وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود 11: 6]. والمؤمن الحق لا يخشى قوات العدو الضاربة، فما انتصر المسلمون في أيام الرسول القائد عليه أفضل الصلاة والسلام وفي أيام الفتح الإسلامي العظيم بعُدة أو عدد، بل كان انتصارهم بالإسلام. قال تعالى: {قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو اللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة 2: 249]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ 65 الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال 8: 65 - 66]. والمؤمن حقاً لا يقر بانتصار أحد عليه ما دام في حماية عقيدته، فهو لا يستسلم أبداً ولا يفكر بالاستسلام لأنه يؤمن بأن انتصار العدو عليه قد يدوم ساعة ولكنه لا يدوم إلى قيام الساعة، قال تعالى: {إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران 3: 140]. والمؤمن حقاً لا يستسلم بعد هزيمته، لأنه يعلم بأن بعد العسر

يسراً، قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [المنافقين 63: 8]، وقال تعالى: {وَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} [يونس: 10: 65]. والمؤمن الحق لا يصدق الإشاعات والأراجيف، ولا يبث الإشاعات والأراجيف، ويقضي على كل ذلك في مهده، ويفضح مروجيها ولا يسكت عنهم، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات 49: 6]، وقال تعالى: {*لَئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ} [الأحزاب 33: 60]، وقال تعالى: {وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء 4: 83]. والمؤمن حقاً يقاوم الاستعمار الفكري ويصاول الغزو الحضاري الذي لا طائل من ورائه، لأن له من مقومات دينه وتراث حضارته، ما يصونه من تيارات المبادئ الوافدة التي تناقض دينه وتراثه وتذيب شخصيته وتمحو آثاره من الوجود. قال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ 1 لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ 2 وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ 3 وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ 4 وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ 5 لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون 109: 1 - 6]، وقال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف 12: 108]. والمؤمن حقاً لا يقنط أبداً ولا ييأس من نصر الله ورحمته، قال

تعالى: {لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر 39: 53]، وقال تعالى: {وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ} [الحجر 15: 56]، وقال تعالى: {وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} [الروم 30: 36]، وقال تعالى: {وَإِن مَّسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُوسٌ قَنُوطٌ} [فصلت 41: 49]. هذا هو أسلوب الإسلام في مصاولة الحرب النفسية، وبهذه الطريقة السهلة العملية يكافح شرور هذه الحرب. والذين قرؤوا بعض ما صدر في اللغات الأجنبية عن: (الحرب النفسية)، يجدون الأجانب يعقدون أساليب معالجتها تعقيداً لا مزيد عليه. ومن موازنة أسلوب الإسلام في معالجتها وأسلوب الأجانب، نجد بوضوح عظمة الإسلام في هذه الناحية. وبهذه الموازنة الموضوعية بين الأسلوبين، تذكرتُ ما قاله (برنارد شو) في رسالته باللغة الإنكليزية التي سماها: (نداء العمل) وتأكدت من صدق قوله وإنصافه، فقد قال: "إن محمداً يجب أن يدعى: منقذ الإنسانية، ولو أن رجلاً مثله تولى قيادة العالم الحديث، لنجح في حل مشكلاته بطريقة تجلب إلى العالم السلام والسعادة اللذين هو في أشد الحاجة إليهما" (1). _______ (1) من رسالة بالإنكليزية: (نداء العمل)، مجلة الأزهر، الجزء العاشر، السنة الرابعة، ص 720.

5 - عزة الإسلام

5 - عزَّة الإسلام: هذا غيض من فيض من تعاليم الإسلام في بناء الرجال معنوياً ومادياً ليكونوا عناصر مفيدة في المجتمع الإسلامي أولاً، ومن تعاليم الإسلام لتدريب هؤلاء الرجال عسكرياً ليكونوا جنوداً متميزين في الجيش الإسلامي ثانياً، ومن تعاليم الإسلام لإعداد هذا الجيش ليصبح قوة ضاربة يدافع عن الإسلام ويصون كرامة المسلمين ويرسي قواعد السلام والعدل ثالثاً، ومن تعاليم الإسلام في مصاولة الحرب النفسية لوقاية جيش المسلمين والأمة الإسلامية من الانهيار المعنوي رابعاً وأخيراً. لقد عرضنا لحال العرب في الجاهلية وأثر الإسلام في العرب، وعرضنا لتعاليم الإسلام وبخاصة العسكرية منها. وحين طبق المسلمون الأولون تعاليم الإسلام، وكانوا ترجمةً عملية تمشي على الأرض لتعاليم الدين الحنيف، انتصروا على أعدائهم ولم تنكس لهم راية، وهذا ما يفسر لنا سر الفتح الإسلامي العظيم الذي امتد خلال ثلاثة وثمانين عاماً (1): من الصين شرقاً إلى قلب فرنسا غرباً، ومن سيبيريا شمالاً إلى المحيط الهندي جنوباً كما ذكرنا سابقاً. وحين أعرض المسلمون عن دينهم، وأصبحوا يتمسكون بالقشور دون اللباب، وبالمظهر دون المخبر؛ تداعت عليهم الأمم وأصبحوا غثاء كغثاء السيل. _______ (1) من سنة إحدى عشرة الهجرية، (632م) إلى سنة أربع وتسعين الهجرية (712م).

لقد أعزهم الله بالإسلام، ولن يعزوا بغيره. والإسلام ليس نسباً ولا إرثاً ولا مناطق جغرافية، ولكنه إيمان وعمل وتضحية وفداء. والمسلمون الذين يتقبَّلون الإسلام بدون تكاليف البذل والتضحية والفداء، ليسوا مسلمين حقاً؛ بل مسلمون بالنسب أو النسبة، فهم وارثون أو جغرافيون. والمسلمون الذين يصومون ويصلون ويؤدون الفرائض، ثم يقعدون عن الجهاد بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، ولا يجهزون المجاهدين، ولا يخلفونهم في أهلهم، حين يصبح الجهاد فرض عين أو فرض كفاية ليسوا مسلمين حقاً. وصدق رسول الله صلوات الله وتسليمه عليه: "من لم يَغْزُ ولم يحدِّث نفسه بالغزو، مات على شعبة من النفاق". لقد كان شعار المسلمين الأولين قوله تعالى: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ} [التوبة 9: 52]: النصر أو الشهادة. وكانوا يحرصون على الموت حرص غيرهم على الحياة، وكان أحدهم يردد وهو في الرمق الأخير: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} [طه 20: 84]. لذلك انتصروا في الحرب، وانتصروا في السلام. ولكن! كيف طبق المسلمون الأولون تعاليم الإسلام العسكرية بخاصته؟

التطبيق العملي في عهد النبوة

التطبيق العملي في عهد النبوّة

مستهل

مستهل (1) جاءني ذات يوم كبير مذيعي محطة إذاعة عربية كبرى وقال: "إن كاتباً كبيراً ذكر عنك بأن ما تكتبه عليه مسحة دينية". ومن الصدف أن يزورني قائد من قادة الفدائيين الفلسطينيين في ذلك اليوم وقال: "لماذا تحرص على إبراز الناحية الدينية في كل ما تكتب"؟. وبالطبع كان ما نقله المذيع الكبير إليَّ، وما قاله القائد الفدائي، هو في معرض النقد، فهما يعتقدان أن القائد العسكري لا ينبغي أن يكون متديناً!!!. وكنت أحرص على صداقة أخ فلسطيني أعظم الحرص، لأنه من فلسطين التي خالط حبها دمي وتغلغل في قلبي، ولأنه مفكر ألمعي وعالم جليل، ولكنني اضطررت إلى نبذه إلى الأبد، لأنه زعم أن التدين مظهر من مظاهر التخلف، وأن العرب لن يفلحوا ما لم يتخلوا عن الدين. هذا الذي كان صديقي، يعمل في بلد عربي يتمسك معظم سكانه بالدين الحنيف، وقد زعم أن سر تخلف هذا البلد العربي يكمن في تدين

شعبه، ولكن الذي يبشر بالخير - كما زعم صديقي الذي كان - هو أن طلاب الجامعة في ذلك البلد العربي الشقيق تعلموا احتساء الخمر ولعب الميسر ومغازلة الفتيات، لذلك فالبلد مقبل على التحرر والانعتاق من براثن الجهل والتقاليد البالية. وحينذاك اجتاحني الغضب الشديد، وزجرته زجراً عنيفاً، وقررت أن أقاطعه نهائياً لانحرافه عن الطريق السوي! أحقاً أن الخمر والميسر والانحلال الخلقي تقود إلى التحرر والانعتاق؟! وكيف؟! ومتى؟! وأين؟! وتسأل هذا الرجل وأمثاله: "هل يحارب الإسلام العلم؟ هل يدعو الإسلام إلى الجهل؟ ماذا تعيب على العقيدة الإسلامية منهجاً للحياة الدنيا وسبيلاً إلى الحق والفضيلة والخير"؟ لماذا إذن نتنكر للإسلام؟ ولمصلحة من هذا التنكر؟ ولماذا ينبغي أن يتخلى القائد العسكري بالذات عن الدين؟ وكيف يمكن أن نتصور القائد العسكري بلا دين؟ إن الذي لا دين له، لا يدافع عن الدين. والذي لا عرض له، لا يدافع عن أعراض الناس. والذي لا يتحلى بالمثل العليا، لا يمكن أن يدافع عن المثل العليا. وماذا تريد إسرائيل، وماذا يريد أعداء العرب والمسلمين، غير أن يتخلى العرب والمسلمون عن دينهم وعرضهم ومثلهم العليا؟!

هل يمكن أن يدافع الديوثون والبغايا عن الشرف الرفيع؟! هل يمكن أن يدافع المتنكر للمثل العليا عن المثل العليا؟! إن الأيدي الخفية التي لا تريد الخير للعرب والمسلمين، وتعاون إسرائيل في تنفيذ مخططاتها وأحلامها التوسعية الاستيطانية في البلاد العربية، وتؤازر الاستعمار ليبقى إلى الأبد مستحوذاً على خيرات بلاد العرب ودار الإسلام، هي التي تعمل جاهدة لكي يتخلى العرب والمسلمون عن الدين، وبذلك لا تقوم لهم قائمة أبداً. وقد حدثت حوادث كثيرة، استغل فيها عملاء الاستعمار وإسرائيل قسماً من المسؤولين العرب والمسلمين وحصلوا على معلومات خطيرة منهم بالغواني والمال والخمر والميسر، فهل كان بمقدور أحد أن يستغل هؤلاء لو كانوا يخافون الله حقاً؟! والعاقل من اعتبر بغيره، فما أحرى العرب والمسلمين اليوم بالاعتبار! إني أتحدى كل من يستطيع أن يذكر قائداً عربياً واحداً أو قائداً مسلماً واحداً انتصر على أعدائه، ولم يكن يتحلى بالتدين العميق ويتمسك بالمثل العليا النابعة من صميم تعاليم الدين الحنيف. لن يستطيع أحدٌ أن يذكر قائداً عربياً واحداً أو قائداً مسلماً واحداً، كان له في ميدان النصر تاريخ، إلا وهو متدين إلى أبعد الحدود. وكل واحد يستطيع أن يعدّد ما لا يحصى من القادة الملوثين

جنسياً أو حبيبياً كانوا السبب فيما حاق بالعرب والمسلمين من نكبات. سيد القادات وقائد السادات الرسول القائد عليه أفضل الصلاة والسلام هو صاحب الشريعة الغراء ونبي المسلمين وخاتم النبيين والمرسلين. وقادة الفتح الإسلامي العظيم كلهم من صحابة النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن التابعين عليهم رضوان الله. لقد أحصيت عدد القادة الفاتحين الذين حملوا رايات المسلمين شرقاً وغرباً في أيام الفتح الإسلامي العظيم (11هـ - 94هـ)، فكانوا ستة وخمسين ومئتي قائد عربي مسلم، منهم ستة عشر ومئتا قائد من صحابة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأربعون قائداً من التابعين بإحسان رضوان الله عليهم (1). وهؤلاء هم قادة فتح العراق والجزيرة، وقادة فتح فارس، وقادة فتح الشام ومصر، وقادة فتح المغرب العربي، وقادة فتح المشرق الإسلامي، وقادة فتح الأندلس والبحار. وقد توقف الفتح الإسلامي العظيم عام أربعة وتسعين الهجري، وأصبحت معارك المسلمين بعد ذلك معارك دفاعية عدا فتح مناطق من أوروبا الذي جرى في عهد العثمانيين. ومع ذلك، فكل القادة الذين انتصروا في صد غارات المعتدين _______ (1) انظر أسماء قسم من القادة في: 1 - قادة فتح العراق والجزيرة. 2 - قادة فتح بلاد فارس. 3 - قادة فتح الشام ومصر. 4 - قادة فتح المغرب العربي. 5 - الرسول القائد. 6 - الفاروق القائد.

أو فتحوا بلاداً جديدة كانوا متدينين غاية التدين، وكانوا أمثلة شخصية لرجالهم في التدين والعمل الصالح، ويكفي أن أذكر منهم: أسد بن الفرات فاتح جزيرة (صقلية)، وصلاح الدين الأيوبي الذي استعاد القدس من الصليبيين، وقطز قاهر التتار، ومحمداً الفاتح فاتح القسطنطينية. فمن أين جاءت الفكرة السائدة بأن القائد لا ينبغي أن يكون متديناً؟! وكيف استقر هذا الخطأ الشائع في أذهان قسم من العرب والمسلمين بأن القيادة والتدين على طرفي نقيض؟! لا شك أن تلك الفكرة وذلك الخطأ لا مسوغ لهما، وقد روَّجهما أعداء العرب والمسلمين، وصدَّقهما الجهلاء والعملاء والمغرر بهم وطالبوا اللذة من عبيد البطن والفرج. كيف كان العرب والمسلمون يطبقون تعاليم الإسلام في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي أيام الفتح الإسلامي العظيم؟ هذا ما سأتطرق إليه بالبحث وشيكاً، لإيراد نماذج حية تدل على التطبيق العملي لتعاليم الإسلام، ونتائج ذلك التطبيق في الميدان العسكري بخاصته. وقبل أن أدخل في صُلب الموضوع، لا بد لي من تسجيل أربع حقائق ملموسة: الأولى: أن انتشار الإسلام في المناطق العربية أيام النبي - صلى الله عليه وسلم - كان انتشاراً (مستداماً)، إذ لم يخسر المسلمون أي شبر من الأرض التي أصبحت للمسلمين في عهد الرسول القائد عليه أفضل الصلاة والسلام.

الثانية: أن الفتح الإسلامي الذي جرى بقيادة الصحابة عليهم رضوان الله كان فتحاً (مستداماً) أيضاً، لم يخسر المسلمون أي شبر من الأرض إلا واستعيدت بعد مدة من الزمن - كما حدث في احتلال الصليبيين لجزء من فلسطين وسورية ولبنان مثلاً، ثم طُرد الصليبيون وعادت البلاد المغتصبة لأهلها ... ولعل هذه الحقيقة بشارة للعرب والمسلمين، بأن الأرض المحتلة من قِبَل إسرائيل ستعود إلى العرب والمسلمين اليوم أو غداً بإذن الله، ما في ذلك أدنى شك. والثالثة: أن الفتح الإسلامي بقيادة التابعين عليهم رضوان الله كان فتحاً (مستداماً) أيضاً، لم يخسر المسلمون منه غير الأندلس وجزر البحر الأبيض المتوسط. والرابعة: أن الفتح الإسلامي في عهد العثمانيين الذي جرى بعد توقف الفتح الإسلامي العظيم سنة أربع وتسعين الهجرية، وهو الفتح الذي اكتسح أجزاء أوروبا لم يكن فتحاً (مستداماً)، إذ خسر المسلمون ما فتحوه هناك، عدا مناطق آسيا الصغرى التي كانت الروم فيها وكانت القسطنطينية عاصمتها. نستنتج من ذلك، أن الفتح الإسلامي وانتشار الإسلام في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي أيام الصحابة والتابعين كان فتحاً (مستداماً) وانتشاراً خالداً، لأن قادة الفتح الإسلامي وجنوده كانوا (دعاة) ولم يكونوا (غزاة)، فاهتموا بتعميق جذور الدعوة الإسلامية في المناطق التي فتحوها، وكان سلوكهم الشخصي تديناً وورعاً واستقامة خير عون لهم

على تحقيق أهدافهم في الدعوة إلى دين الله. أما الفتح الإسلامي بعد الصحابة والتابعين - رضي الله عنهم -، فلم يكن فتحاً (مستداماً) إلا في مناطق محدودة جداً، لأن قادة الفتح وجنوده كانوا (جباة) ولم يكونوا (دعاة)، لذلك انصبَّ اهتمامهم على السيطرة والنفوذ والاستعلاء وتحصيل الأموال - خلافاً لتعاليم الإسلام - ولم ينصب على نشر الإسلام وإعلاء كلمة الله بالدرجة الأولى. والآن ... كيف كان التطبيق العملي لتعاليم الإسلام في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي أيام الفتح الإسلامي العظيم؟ وكيف كان القادة الفاتحون بعد انقضاء مدة الفتح الإسلامي العظيم؟ ***

مع الرسول القائد عليه أفضل الصلاة والسلام

مع الرسول القائد عَليهِ أفضَل الصَّلاة وَالسّلام

في مكة المكرمة

في مَكّة المكَرّمَة (1) 1 - الأهوال: لست بصدد عرض تطبيق النبي - صلى الله عليه وسلم - لتعاليم الإسلام قولاً وعملاً، لأن أمر ذلك معروف مشهور، كما أن التحدّث عنه استغرق كل كتب الحديث والسيرة المطهرة وكثيراً من المؤلفات القديمة والحديثة، دون أن يستنفد كل أقواله وأعماله. ولا يزال للقائلين والكاتبين في هذا الميدان بكل زمان ومكان مجال فسيح للقول والبحث، لذلك سأقتصر على أمثلة من جهاده بالمال والنفس في سبيل الله، وأمثلة من تضحياته التي تحملها صابراً محتسباً من أجل إعلاء كلمة الله. كان النبي - صلى الله عليه وسلم - من أشرف بيوتات قريش التي هي أشرف قبائل العرب على الإطلاق (1)، وقد تزوج بخديجة بنت خُوَيلد أم المؤمنين، وكانت امرأة تاجرة ذات شرف ومال، تستأجر الرجال في مالها وتضاربهم إياه بشيء تجعله لهم (2)؛ وقد عرضت خديجة نفسها عليه، فبعثت إليه قائلة: "إني رغبت فيك، لقرابتك وسِطَتك (3) في قومك وأمانتك وحسن خلقك وصدق حديثك"، وكانت خديجة يومئذٍ أوسط _______ (1) انظر نسبه الشريف في: سيرة ابن هشام 1/ 1، وطبقات ابن سعد 1/ 55، وجمهرة أنساب العرب 14/ 16، وجوامع السيرة 2، وعيون الأثر: 1/ 21. (2) سيرة ابن هشام 1/ 202. (3) سطتك: بكسر السين وفتح الطاء، أي شرفك وسامي منزلتك.

نساء قريش نسباً وأعظمهن شرفاً وأكثرهنّ مالاً، كل قومها كان حريصاً على ذلك منها لو يقدر عليه (1). وكان رجال قريش يطلقون عليه لقب (الأمين) قبل أن ينزل عليه الوحي (2). كان شريفاً في قمة الشرف، وكان موضع ثقة قومه وحبهم، وكانت حالته المادية على أحسن ما يرام قبل بعثته، فكيف استهان بكل ذلك في سبيل الإسلام؟؟!!. بُعثَ النبي - صلى الله عليه وسلم -، فبدأ يدعو إلى الله سراً. ثم جهر بالدعوة إلى دين الله، فمشى رجال من أشراف قريش إلى أبي طالب عم النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: "إن ابن أخيك قد سبَّ آلهتنا، وعاب ديننا، وسفّه أحلامنا، وضلّل آباءنا؛ فإما أن تكفّه عنا، وإما أن تخلِّي بيننا وبينه، فإنك على مثل ما نحن عليه من خلافه، فنكفيكه" ... ولكن النبي - صلى الله عليه وسلم - مضى على ما هو عليه: يُظهِرُ دين الله، ويدعو إليه (3). ومشى أشراف قريش إلى أبي طالب مرة أخرى، فقالوا: "يا أبا طالب! إن لك سناً وشرفاً ومنزلة فينا، وإنا استنهيناك في ابن أخيك فلم تنهه عنا، وإنا والله لا نصبر على هذا: من شَتْمِ آبائنا، وتسفيه أحلامنا، وعيب آلهتنا، حتى تكفّه عنا أو ننازله وإياك (4) في ذلك، حتى يهلك أحد الفريقين"، فعظم على أبي طالب فراق قومه _______ (1) سيرة ابن هشام 1/ 104 - 205. (2) سيرة ابن هشام 1/ 214. (3) سيرة ابن هشام 1/ 276 - 277. (4) ننازله وإياك: أي نحاربكما. تقول: تنازل القوم، أي تحاربوا.

وعداوتهم، ولم يطب نفساً بإسلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لهم ولا خذلانه (1)، ولكنه قال له: "يا ابن أخي! إن قومك قد جاؤوني، فقالوا لي كذا وكذا، فابْقِ عليَّ وعلى نفسك، ولا تحمِّلني من الأمر ما لا أطيق"، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا عم! والله لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري، على أن أترك هذا الأمر حتى يُظهره الله أو أهلك دونه، ما تركته" (2). وجعل قريش يجلسون بِسُبل (3) الناس حين قدموا الموسم، لا يمر بهم أحد إلا حذَّروه إياه وذكروا له أمره (4). وأغرى رجال قريش برسول الله صلى الله عليه وسلم سفهاءهم، فكذّبوه وآذوه، ورموه بالشعر والسحر والكهانة والجنون، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - مظهر لأمر الله لا يستخفي به، مُبادٍ لهم بما يكرهون من عيب دينهم واعتزال أوثانهم وفراقه إياهم على كفرهم. وطلع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوماً، فوثبوا عليه وثبة رجل واحد، وأحاطوا به يقولون: "أأنت الذي تقول كذا وكذا؟! "، لِمَا كان يقول من عيب آلهتهم ودينهم، فيقول: "نعم، أنا الذي أقول ذلك"، فأخذ رجل منهم بمجمع ردائه، فقام أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - دونه وهو يبكي ويقول: "أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله؟! " (5). وخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوماً، فلم يلقه أحد من الناس إلا كذّبه _______ (1) خذلانه: تركه. تقول: خذلت الرجل، إذا تركته ولم تنصره. (2) سيرة ابن هشام 1/ 278. (3) السبل: جمع سبيل، وهي الطرق. (4) سيرة ابن هشام 1/ 284. (5) سيرة ابن هشام 1/ 309 - 311.

وآذاه، فرجع إلى منزله وتدثَّر من شدة ما أصابه، فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ 1 قُمْ فَأَنذِرْ} (1) [سورة المدثر 74: 1 - 2]. وذكر عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -، قال: "كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المسجد الحرام، فقال أبو جهل: ألا رجل يقوم إلى هذا القذر يلقيه على محمد؟ فانبعث رجل فألقاه عليه، فجاءت فاطمة - رضي الله عنها - فألقته عنه" (2). ومرَّ أبو جهل برسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند (الصَّفا)، فآذاه وشتمه، ونال منه بعض ما يكره من العيب لدينه والتضعيف لأمره (3). ولما رأت قريش أن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد نزلوا بلداً أصابوا به أمناً وقراراً، وأن النجاشي ملك الحبشة قد منع مَنْ لجأ إليه منهم، وأن الإسلام جعل يفشو في القبائل العربية، اجتمعوا وائتمروا أن يكتبوا كتاباً يتعاقدون فيه على بني هاشم وبني المطلب، على ألا ينكحوا إليهم ولا يُنكحوهم، ولا يبيعوهم شيئاً ولا يبتاعوا منهم، فكتبوا ذلك في الصحيفة وتواعدوا وتواثقوا على ذلك أيضاً، ثم علّقوا الصحيفة في جوف (الكعبة) توكيداً على أنفسهم؛ فاجتمع بنو هاشم وبنو المطلب إلى أبي طالب، ودخلوا معه شِعْبَه (4) وأقاموا فيه على ذلك سنتين أو ثلاثاً حتى جهدوا، لا يصل إليهم شيء إلا سراً (5). وكان نفر من قريش يؤذون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بيته، فكان أحدهم _______ (1) سيرة ابن هشام 1/ 311. (2) عيون الأثر 1/ 103. (3) عيون الأثر 1/ 104. (4) الشِّعْبُ: انفراج بين الجبلين، (ج): شِعاب. (5) سيرة ابن هشام 1/ 371 - 376، وجوامع السيرة 64.

يطرح عليه رحم الشاة وهو يصلي، وكان أحدهم يطرحها في بُرْمته (1) إذا نُصبت له، حتى اتخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حجراً يتستر به منهم إذا صلى، فكان إذا طرحوا عليه ذلك الأذى يخرج به على العود، فيقف به على بابه ثم يقول: "يا بني عبد مناف! أي جوار هذا"!؟ ثم يلقيه في الطريق (2). ومات أبو طالب وماتت خديجة أم المؤمنين رضي الله عنها في عام واحد، فتتابعت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المصائب: بموت خديجة، وكانت له وزير صدق على الإسلام، يشكو إليها؛ وبموت عمه أبي طالب، وكان له عضداً وحرزاً ومَنَعَةً وناصراً على قومه، وكان موتهما قبل هجرته إلى المدينة المنورة بثلاث سنين. فلما هلك أبو طالب، نالت قريش من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الأذى ما لم تكن تطمع به في حياة أبي طالب، حتى اعترضه سفيه قريش فنثر على رأسه تراباً، فدخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيته والتراب على رأسه، فقامت إليه إحدى بناته، فجعلت تغسل عنه التراب وهي تبكي، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا تبكي يا بنيّة، فإن الله مانع أباك" (3). وخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحده إلى (الطائف) يلتمس النصرة من (ثقيف) والمنعة بهم من قومه، ورجاء أن يقبلوا منه ما جاءهم به من الله عز وجل. وانتهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى (الطائف)، فعمد إلى نفر من (ثقيف) _______ (1) البرمة: القدر مطلقاً، وهي في الأصل التي تُتَّخَذُ من الحجر المعروف في الحجاز واليمن. (2) سيرة ابن هشام (1/ 25). (3) سيرة ابن هشام (2/ 25 - 26).

2 - الهجرة

وأشرافهم، وجلس إليهم ودعاهم إلى الله، وكلّمهم بما جاءهم له من نصرته على الإسلام والقيام معه على مَن خالفه من قومه، فلم يفعلوا وأغروا به سفهاءهم وعبيدهم يسبّونه ويصيحون به، حتى اجتمع عليه الناس والجؤوه إلى حائط لعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وهما فيه، فعمد إلى ظل شجر العنب وجلس فيه يقول: "اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس. يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين وأنت ربي، إلى مَن تَكِلُني؟ إلى بعيدٍ يتجهمني، أم إلى عدوّ ملّكته أمري؟ إن لم يكن بك عليّ غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي. أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، من أن تُنزل بي غضبك أو يحل عليّ سخطك؛ لك العُتبى (1) حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك"، ثم انصرف من (الطائف) راجعاً إلى مكة حين يئس من خير (ثقيف) (2). وتحرّج موقفه في مكة، وقَلَّ نصيره فيها، واشتدت مقاومة قريش لدعوته، وأصبح مقامه بينهم عسيراً. 2 - الهجرة: وكانت بيعة (العَقَبَة) الأولى وبيعة (العقبة) الكبرى، ثم أمر أصحابه بالهجرة إلى المدينة المنورة قائلاً: "إن الله عز وجل قد جعل لكم إخواناً وداراً تأمنون بها"، فخرجوا أرسالاً (3). وأقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - _______ (1) العتبى: الرضى. (2) عيون الأثر (1/ 134)، وجوامع السيرة (67). (3) الأرسال: جمع رَسْل. والرَّسْل: الجماعة من الناس. يقال: جاء القوم أرسالاً: جماعات، بعضهم إثر بعض.

بمكة المكرمة، ينتظر أن يأذن له ربه في الخروج من مكة والهجرة إلى المدينة (1). ولما رأت قريش أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد كانت له أتباع وأصحاب من غيرهم في غير بلدهم، ورأوا خروج أصحابه من المهاجرين إليهم، وعرفوا أنهم قد نزلوا داراً وأصابوا منهم مَنَعَة، فحذروا خروج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليهم لأنهم خافوا أن يحاربهم، فاجتمعوا في دار (الندوة) يتشاورون فيما يصنعون من أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال أحدهم: "احبسوه في الحديد وأغلقوا عليه باباً، ثم تربَّصوا به ما أصاب أشباهه من الشعراء الذين كانوا قبله"، وقال آخر: "نخرجه من بين أظهرنا، فننفيه من بلادنا، فإذا أخرج عنا، فوالله لا نبالي أين يذهب ولا حيث وقع إذا غاب عنا وفرغنا منه فأصلحنا أمرنا وأُلفَتنَا كما كانت". وقال أبو جهل بن هشام: "والله إن لي لرأياً ما أراكم وقعتم عليه بعد! أرى أن نأخذ من كل قبيلة شاباً فتىً جَلْداً نسيباً وسيطاً فينا، ثم نعطي كل فتى منهم سيفاً صارماً، ثم يعمدوا إليه فيضربوه بها ضربة رجل واحد، فيقتلوه فنستريح منه؛ فإنهم إذا فعلوا ذلك تفرّق دمه في القبائل جميعاً، فلم يقدر بنو عبد مناف على حرب قومهم جميعاً، فرضوا منا بالعقل (2) فعقلناه لهم"؛ فتفرَّق القوم على ذلك وهم مجتمعون (3). واجتمع الشباب الذين اختارهم أشراف قريش من القبائل لقتل النبي - صلى الله عليه وسلم - على بابه ليلاً يرصدونه متى نام ليثبوا عليه، فلما رأى _______ (1) سيرة ابن هشام (2/ 76). (2) العقل: الدية. (3) سيرة ابن هشام (2/ 92 - 95).

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسلم مكانهم قال لعلي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: "نَم على فراشي، وتسجَّ ببُردي (1) هذا الحضرمي الأخضر، فنم فيه، فإنه لا يخلُص إليك شيء تكرهه منهم" (2). هنا تبدو قصة من أجلّ ما عرف تاريخ المغامرة في سبيل الحق والعقيدة والإيمان قوة وروعة! كان أبو بكر الصديق - رضي الله عنه -، قد أعدّ راحلتيه، فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبا بكر وخرجا من خَوْخَة (3) لأبي بكر في ظهر بيته، ثم عمدا إلى غار بجبل (ثَوْر) أسفل مكة، فدخلاه ليلاً وأقاما فيه ثلاثاً" (4)، وجعلت قريش حين فقدوه مئة ناقة لمن يردّه عليهم، وطلبت قريش رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أشد الطلب، حتى انتهوا إلى باب (الغار)، فقال بعضهم: "إن عليه العنكبوت قبل ميلاد محمد" (5). وفي (الغار) كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي، وكان أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - خائفاً على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فكان يقترب منه ويلصق نفسه به، فيهمس النبي - صلى الله عليه وسلم - بأذن أبي بكر الصدِّيق: "لا تحزن، إن الله معنا". وحين شعر أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - بدُنُوِّ الباحثين عنهما قال هامساً: "لو نظر أحدهم تحت قدميه لأبْصَرَنا"، فأجابه النبي - صلى الله عليه وسلم -: "يا أبا بكر! ما ظنك باثنين الله ثالثهما" (6). وخرجا بعد ثلاثة أيام من (الغار) حين عرفا أن قد سكن الناس _______ (1) البُرد: كساء مخطط يلتحف به. (ج): أبراد، وأبْرُدٌ، وبُرود. (2) سيرة ابن هشام (2/ 95) وطبقات ابن سعد (1/ 227). (3) الخوخة: كوّة في البيت تؤدي إلى الضوء. والخوخة: باب صغير وسط باب كبير نصب حاجزاً بين دارين. والخوخة: مخترق ما بين كل دارين. (4) سيرة ابن هشام (2/ 98 - 99). (5) طبقات ابن سعد (1/ 228). (6) طبقات ابن سعد (1/ 173 - 174).

عنهما، ولكن سُراقة بن مالك بن جُعْشَم علم بمكانهما، فركب في أثرهما، فلما اقترب منهما عثر به فرسه وذهبت يداه في الأرض، وسقط عنه، فعرف سراقة حين رأى ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد مُنع منه (1). لقد كانت حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - بمكة بعد بعثته حتى هجرته إلى المدينة المنورة، كلها جهاداً من أجل التوحيد: توحيد الله، وجمع كلمة الناس. قضى حياته المباركة في مكة المكرمة لتحقيق هدف واحد، هو: بناء الرجال. وكانت هجرته إلى المدينة المنورة تهدف إلى اجتماع الرسول القائد عليه أفضل الصلاة والسلام بجنوده الغر الميامين عليهم رضوان الله، لمواصلة جهادهم لتكون كلمة الله هي العليا، وليظهر الله دينه ولو كره الكافرون. وكانت عدته في الجهاد المرتقب الوشيك ثمرات ما قدمه من جهود في: بناء الرجال. ... _______ (1) سيرة ابن هشام (2/ 103).

في المدينة المنورة

في المَدينَة المنوَّرة 1 - الأعمال التمهيدية: قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة وهو لا يملك ديناراً ولا داراً فيها، فنزل ضيفاً مكرّماً معززاً على أبي أيوب الأنصاري ستة أشهر (1)، أنجز خلالها بناء المسجد ومساكنه، وعمل في المسجد ليرغّب المسلمين في العمل (2)، وجعل ينقل الحجارة بنفسه (3)، فتمّ للمسلمين ببناء المسجد بناء (الثَّكْنَةِ) الأولى في الإسلام. ولكي يتفرغ لقتال قريش دون أن تقلقه الجبهة الداخلية في المدينة المنورة، كتب كتاباً بين المهاجرين والأنصار من جهة وبين يهود من جهة ثانية، وادعهم وعاهدهم، وأقرّهم على دينهم وأموالهم، واشترط عليهم وشَرَطَ لهم (4). وقد نصّت تلك المعاهدة بصراحة: "أنه لا يجوز لمشرك من أهل المدينة أن يجير مالاً لقريش ولا نفساً، ولا يحول دونه على مؤمن" (5)، فاستطاع الرسول القائد عليه أفضل الصلاة والسلام بهذه المعاهدة أن يجعل أهل المدينة جميعاً على اختلاف أديانهم _______ (1) عيون الأثر (1/ 195). (2) سيرة ابن هشام (2/ 114) والسيرة الحلبية (2/ 76). (3) طبقات ابن سعد (1/ 240). (4) انظر نص المعاهدة في: سيرة ابن هشام (2/ 119 - 123)، وسرح العيون (197 - 198). (5) سيرة ابن هشام (2/ 121).

يداً واحدة على أعدائهم (1) وبخاصة على قريش. ولم يكد يستقر في المدينة المنورة، إلا ونصبت يهود له العداوة بغياً وحسداً وضغناً، وأضاف (2) إليهم رجال من الأوس والخزرج كانوا أهل نفاق، فظهروا بالإسلام واتخذوه جُنّةً (3) من القتل ونافقوا في السر، وكان هواهم مع يهود لتكذيبهم النبي صلى الله عليه وسلم وجحودهم الإسلام (4). وذهب يهود إلى أبعد من ذلك، فحاولوا الوقيعة بين أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقد جمع الأوس والخزرج مجلس واحد يتحدثون، فغاظ أحد يهود ما رآه من إلفتهم وجماعتهم وصلاح ذات بينهم على الإسلام بعد الذي كان بينهم من العداوة في الجاهلية، فأمر هذا اليهودي شاباً يهودياً فقال: "اعمدْ إليهم، فاجلس معهم، ثم اذكر يوم (بُعاث) وما كان قبله، وأنشدهم بعض ما تقاولوا فيه من الأشعار". وكان يوم (بُعاث) يوماً اقتتلت فيه الأوس والخزرج؛ فتكلم القوم عند ذاك وتنازعوا وتفاخروا حتى تواثب رجلان من الحيّين على الرُّكب، وغضب الفريقان جميعاً وقالوا: "موعدكم الظاهرة (5) ... السلاح ... السلاح ... ". وخرجوا إليها، فبلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فخرج إليهم فيمن معه من أصحابه المهاجرين حتى جاءهم فقال: "يا معشر المسلمين! الله ... الله ... أَبِدَعْوَى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد أن هداكم الله للإسلام، وأكرمكم به، وقطع به عنكم أمر الجاهلية، _______ (1) الرسول القائد (60)، الطبعة الثالثة. (2) أضاف إليهم: يريد أنه أخذ بما أخذوا به من الحسد والبغض والعداوة. (3) جنة: وقاية يجتنُّون بها، أي يستترون. (4) سيرة ابن هشام (2/ 135). (5) الظاهرة: الحَرّة - حَرّة المدينة المنورة.

2 - الجهاد الحاسم

واستنقذكم به من الكفر، وألّف به بين قلوبكم"؟؟!! فعرف القوم أنها نزغة من الشيطان وكيد من عدوهم، فبكوا، وعانق الرجال من الأوس والخزرج بعضهم بعضاً، فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ 100 وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَن يَعْتَصِم بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ 101} ... " (1) [آل عمران 3: 100 - 101]. بل ذهب يهود إلى أبعد من ذلك كثيراً، فحاولوا اغتيال النبي - صلى الله عليه وسلم - حين خرج إلى يهود بني (النضير) يستعينهم في ديّة رجلين قتلهما خطأً أحد المسلمين، فاختلى بعضهم ببعض وقالوا: "لن تجدوا محمداً أقرب منه الآن، فَمَنْ رجلٌ يظهر على هذا البيت، فيطرح عليه صخرة، فيريحنا منه"؟؟ فقال أحدهم: "أنا"! ولكن النبي - صلى الله عليه وسلم - انصرف عنهم (2)، ففوّت عليهم فرصة اغتياله. 2 - الجهاد الحاسم: أ- في بدر: وبدأ الصراع بين قوات النور القليلة من المسلمين وبين قوات الظلام الكثيرة من المشركين ويهود، وكانت قوات النور ضعيفة بعَدَدها وعُدَدها .. قوية لإيمانها وقيادتها؛ فكان الرسول القائد عليه أفضل الصلاة والسلام: الأسوة الحسنة للمسلمين في اتباعه في القتال، كما كان الأسوة الحسنة لهم في السلم. _______ (1) سيرة ابن هشام (2/ 183 - 185). (2) سيرة ابن هشام (2/ 192).

جدول: الغزوات التي قادها الرسول القائد عليه أفضل الصلاة السلام بنفسه: 1 - غزوة ودّان (الأبواء) قوات المسلمين: 200 راكب وراحل قوات أعدائهم: - المكان: ودّان التاريخ: صفر من السنة الثانية الهجرية مجمل النتائج: لم يلقَ المسلمون قريشاً، فحالفوا بني ضمرة. 2 - غزوة بُواط (ناحية رضوى) قوات المسلمين: 200 راكب وراجل قوات أعدائهم: 100 راكب وراجل من قريش المكان: بواط التاريخ: ربيع الأول من السنة الثانية الهجرية مجمل النتائج: لم يدرك المسلمون قافلة قريش. 3 - غزوة العُشيرة (من بطن ينبع) قوات المسلمين: 200 راكب وراجل قوات أعدائهم: قوات من قريش وبني مدلج وبني ضمرة المكان: العُشَيرة التاريخ: جمادى الأولى من السنة الثانية الهجرية مجمل النتائج: وادع المسلمون بني مدلج وحلفاءهم بني ضمرة. 4 - غزوة بدر الأولى قوات المسلمين: 200 راكب وراجل قوات أعدائهم: قوة خفيفة بقيادة كرز بن جابر الفهري المكان: وادي سفوان بالقرب من بدر التاريخ: جمادى الآخرة من السنة الثانية الهجرية مجمل النتائج: فر المشركون بما غنموه من المسلمين ولم يستطع المسلمون إدراكهم. 5 - غزوة بدر الكبرى قوات المسلمين: 350 راكباً وراجلاً معهم فَرَسَان وسبعون بعيراً قوات أعدائهم: 950 منهم 200 راكب وهم من قريش المكان: بدر التاريخ: رمضان من السنة الثانية للهجرة مجمل النتائج: انتصر المسلمون على المشركين.

6 - غزوة بني قينقاع قوات المسلمين: مسلمو المدينة قوات أعدائهم: يهود بني قينقاع المكان: المدينة التاريخ: أوائل شوال من السنة الثانية الهجرية مجمل النتائج: تطهير داخل المدينة من يهود. 7 - غزوة بني سُليم قوات المسلمين: 200 راكب وراجل قوات أعدائهم: بنو سليم وغطفان المكان: قرقرة الكدر بين المدينة ومكة التاريخ: أواخر شوال من السنة الثانية الهجرية مجمل النتائج: فرار بنو سُليم وغطفان، وقد تركوا أموالهم للمسلمين. 8 - غزوة السويق قوات المسلمين: قوة مطاردة خفيفة من المسلمين قوات أعدائهم: 200 فارس من قريش المكان: قرقرة الكدر التاريخ: ذو الحجة من السنة الثانية الهجرية مجمل النتائج: فرار قريش من مطاردة المسلمين. 9 - غزوة ذي أمر قوات المسلمين: 450 راكباً وراجلاً قوات أعدائهم: بنو ثعلبة ومحارب المكان: ذو أمر (موضع في نجد) التاريخ: المحرم من السنة الثالثة الهجرية مجمل النتائج: فر بنو ثعلبة ومحارب، وبقي المسلمون في ديار الفارين نحو شهر. 10 - غزوة بحران قوات المسلمين: 300 راكب وراجل قوات أعدائهم: بنو سُليم المكان: بحران على طريق المدينة - مكة التاريخ: ربيع الأول من السنة الثالثة الهجرية مجمل النتائج: فر بنو سليم، فبقي المسلمون في ديارهم نحو شهر. 11 - غزوة أُحد قوات المسلمين: 700 بينهم خمسون فارساً قوات أعدائهم: 2900 من قريش وأحابيشها ومئة من ثقيف بينهم مئة فارس المكان: جبل أُحد في ضواحي المدينة التاريخ: شوال من السنة الثالثة الهجرية مجمل النتائج: استطاع المشركون إيقاع سبعين شهيداً بالمسلمين.

12 - غزوة حمراء الأسد قوات المسلمين: 630 بين راكب وراجل قوات أعدائهم: 2978 من قريش وأحابيشها وثقيف المكان: حمراء الأسد بين المدينة ومكة التاريخ: شوال من السنة الثالثة الهجرية مجمل النتائج: طارد المسلمون قريشاً وحلفاءها إلى حمراء الأسد بعد انتهاء غزوة أُحد مباشرة، ولكن المشركين انسحبوا. 13 - غزوة بني النضير قوات المسلمين: مسلمو المدينة قوات أعدائهم: يهود بني النضير المكان: ضواحي المدينة التاريخ: ربيع الأول من السنة الرابعة الهجرية مجمل النتائج: إجلاء بني النضير عن ضواحي المدينة. 14 - غزوة ذات الرِّقاع قوات المسلمين: 400 راكب وراجل قوات أعدائهم: بنو محارب وثعلبة من غطفان المكان: نجد التاريخ: شعبان من السنة الرابعة الهجرية مجمل النتائج: فر بنو محارب وبنو ثعلبة. 15 - غزوة بدر الآخرة قوات المسلمين: نحو ألف راكب وراجل قوات أعدائهم: 300 من قريش المكان: بدر التاريخ: شعبان من السنة الرابعة الهجرية مجمل النتائج: عادت قريش أدراجها إلى مكة، ولم تذهب إلى لقاء المسلمين في بدر حسب موعدها. 16 - غزوة دومة الجندل قوات المسلمين: ألف راكب وراجل قوات أعدائهم: قبائل دومة الجندل المكان: دومة الجندل التاريخ: ربيع الأول من السنة الخامسة الهجرية مجمل النتائج: فرت القبائل. 17 - غزوة بني المصطلق من خزاعة قوات المسلمين: ألف راكب وراجل قوات أعدائهم: بنو المصطلق المكان: المريسيع التاريخ: شعبان من السنة الخامسة الهجرية مجمل النتائج: فر بنو المصطلق بعد معركة قصيرة.

18 - غزوة الخندق قوات المسلمين: ثلاثة آلاف قوات أعدائهم: عشرة آلاف المكان: المدينة التاريخ: شوال من السنة الخامسة الهجرية مجمل النتائج: عودة الأحزاب من حصار المدينة خائبين. 19 - غزوة بني قريظة قوات المسلمين: ثلاثة آلاف قوات أعدائهم: 600 - 700 المكان: ضواحي المدينة التاريخ: ذو القعدة من السنة الخامسة الهجرية مجمل النتائج: القضاء على بني قريظة. 20 - غزوة بني لحيان قوات المسلمين: - قوات أعدائهم: بنو لحيان المكان: غرّان التاريخ: جمادى الأولى من السنة السادسة الهجرية مجمل النتائج: فر بنو لحيان. 21 - غزوة ذي قَرَد قوات المسلمين: - قوات أعدائهم: غطفان المكان: ذو قَرَد التاريخ: جمادى الأولى من السنة السادسة الهجرية مجمل النتائج: فر بنو غطفان وتركوا الغنائم التي غنموها من المسلمين. 22 - غزوة الحديبية قوات المسلمين: 1600 راكب وراجل قوات أعدائهم: قريش المكان: الحديبية التاريخ: ذو القعدة من السنة السادسة الهجرية مجمل النتائج: عقد هدنة الحديبية بين المسلمين وقريش. 23 - غزوة خيبر قوات المسلمين: 1600 راكب وراجل قوات أعدائهم: يهود خيبر المكان: خيبر التاريخ: المحرم من السنة السابعة الهجرية مجمل النتائج: سقوط خيبر واستسلام فدك ووادي القرى وتيماء. 24 - غزوة عمرة القضاء قوات المسلمين: 1400 راكب وراجل قوات أعدائهم: قريش المكان: مكة التاريخ: ذو الحجة من السنة السابعة الهجرية مجمل النتائج: بقي المسلمون ثلاثة أيام في مكة بعد أن خرج عنها المشركون.

25 - غزوة فتح مكة قوات المسلمين: عشرة آلاف قوات أعدائهم: قريش وأهل مكة المكان: مكة التاريخ: رمضان من السنة الثامنة الهجرية مجمل النتائج: فتح مكة. 26 - غزوة حُنين قوات المسلمين: 12000 راكب وراجل قوات أعدائهم: هوازن وثقيف المكان: وادي أوطاس قرب الطائف التاريخ: شوال من السنة الثامنة الهجرية مجمل النتائج: اندحار هوازن وثقيف. 27 - غزوة حصار الطائف قوات المسلمين: 12000 راكب وراجل قوات أعدائهم: ثقيف وقسم من هوازن المكان: الطائف التاريخ: شوال من السنة الثامنة الهجرية مجمل النتائج: لم تستسلم الطائف، فعاد المسلمون إلى المدينة. 28 - غزوة تبوك قوات المسلمين: ثلاثون ألفاً بينهم عشرة آلاف راكب قوات أعدائهم: جيش من الروم وحلفائهم المكان: تبوك التاريخ: رجب من السنة الثامنة الهجرية مجمل النتائج: انسحب الروم من تبوك، فأقام المسلمون فيها نحو عشرين يوماً، وصالحوا قبائل المنطقة.

كان عدد الذين شهدوا غزوة (بدر) من المسلمين بضعة عشر وثلاثمئة رجل (1)، وكان عدد الذين شهدوها من المشركين خمسين وتسعمئة رجل (2)؛ وكان مع المسلمين سبعون بعيراً وفَرَسان (3)، وكان مع المشركين مئة فرس وعدد ضخم من الإبل؛ وكان المسلمون حين خرجوا إلى (بدر) تنقصهم الضروريات الإدارية، فدعا لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: "اللهم إنهم حفاة فاحملهم. اللهم إنهم عراة فاكسهم. اللهم إنهم جياع فأشبعهم" (4)، وكان المشركون في وضع إداري متميّز؛ ولكنّ الرسول القائد عليه الصلاة والسلام قرر أن يخوض هذه المعركة الحاسمة على الرغم من تفوُّق المشركين على المسلمين بالعَدَد والقضايا الإدارية. لقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقدِّر تمام التقدير ويعلم تمام العلم، ماذا يعنيه اندحار المسلمين في هذه المعركة الحاسمة ... في هذا الصراع الحاسم بين عقيدتين، لذلك دأب على مناشدة ربه ما وعده من النصر فيقول: "اللهم إن تهلك هذه العصابة اليوم لا تُعْبَد"، وأبو بكر الصدِّيق - رضي الله عنه - يقول: "يا نبيّ الله! بعض مناشدتك ربك، فإن الله منجز لك ما وعدك" (5). وخرج شيبَة وعُتبة ابنا ربيعة والوليد بن عُتبة ودعوا إلى البراز، فخرج إليهم ثلاثة من الأنصار بنو عفراء: معاذ ومعوّذ وعوف _______ (1) فتح الباري بشرح البخاري (7/ 228)؛ وطبقات ابن سعد (2/ 19). (2) طبقات ابن سعد (2/ 15). (3) المرجع السابق (2/ 14). (4) المرجع السابق (2/ 20). (5) سيرة ابن هشام (2/ 267).

ب- بعد بدر

بنو الحارث، فكره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يكون أول قتال لقي فيه المسلمون المشركين في الأنصار، وأحبَّ أن تكون الشوكة ببني عمه وقومه، فقال: "يا بني هاشم! قوموا فقاتلوا بحقكم الذي بعث الله به نبيّكم، إذ جاؤوا بباطلهم ليطفئوا نور الله"، فقام حمزة بن عبد المطلب، وعلي ابن أبي طالب، وعبيدة بن الحارث بن عبد المطلب بن عبد مناف (1). وقاتلوا أولئك المشركين الثلاثة؛ وبذلك استأثر النبي - صلى الله عليه وسلم - لأهله الأقربين بالخطر، وآثر أصحابه الأبعدين بالأمن، فاستشهد يومئذٍ بسبب هذه المبارزة عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب (2). ونزل الرسول القائد عليه أفضل الصلاة والسلام ليباشر القتال بنفسه ضارباً لأصحابه أروع الأمثال في التضحية والفداء، فقد شوهد في أثر المشركين مصلتاً للسيف يتلو هذه الآية: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} [سورة القمر: 44 - 45]. قال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: "لما كان يوم (بدر) وحضر البأس، اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان من أشد الناس بأساً يومئذ، وما كان أحد أقرب إلى المشركين منه" (3). ب- بعد بدر: أولاً: وفي غزوة "أُحُد" جُرح وجه النبي - صلى الله عليه وسلم - وكُسرت رباعيته وهُشِمت البيضة على رأسه (4)، واستشهد عمه حمزة بن عبد المطلب _______ (1) طبقات ابن سعد (2/ 17)؛ وانظر سيرة ابن هشام (2/ 265)؛ وعيون الأثر (1/ 254). (2) طبقات ابن سعد (3/ 51)؛ والإصابة (4/ 210)؛ وأسد الغابة (3/ 357). (3) طبقات ابن سعد (2/ 23). (4) شرح النووي على مسلم (4/ 239 - 240)؛ وفتح الباري بشرح البخاري (7/ 286).

- رضي الله عنه - (1)، واستشهد سبعون من أصحابه (2)، - رضي الله عنهم - جميعاً. وقد دفن حمزة في موضع استشهاده، ودفن الشهداء في ساحة المعركة، وقبورهم لا تزال قائمة، تدل على أروع البطولة والإقدام. ثانياً: وفي غزوة (ذات الرِّقاع) (3)، حاول رجل من غَطَفان أن يفتك برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقد قال هذا الرجل لقومه: "ألا أقتل لكم محمداً"؟ قالوا: بلى، وكيف تقتله؟ فقال: "أفتك به"! فأقبل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس وسيفه في حجره، فقال: "يا محمد! انظر إلى سيفك هذا"! قال: "نعم"، فأخذه فاستله وجعل يهزه، ثم قال: "يا محمد! أما تخافني"؟ قال: "لا، وما أخاف منك"؟! قال: "أما تخافني وفي يدي السيف"؟! قال: "لا، يمنعني الله منك" (4). ثالثاً: وفي غزوة "الخندق" عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم مع المسلمين بيده في حفر الخندق لينشط المسلمين، وكان ينقل التراب حتى اغبرّ بطنه، وكان المشركون عشرة آلاف، وكان المسلمون ثلاثة آلاف (5). وازداد موقف المسلمين في المدينة خطراً بعد أن نقض يهود بني "قُريظة" العهد، فبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعض الأنصار فقال: "انطلقوا حتى تنظروا أحق _______ (1) فتح الباري بشرح البخاري (7/ 283) وسيرة ابن هشام (3/ 25). (2) فتح الباري بشرح البخاري (7/ 88). (3) قيل لها: غزوة ذات الرقاع، لأنهم رقعوا فيها راياتهم، وقد غزا النبي - صلى الله عليه وسلم - نجداً يريد بني محارب وبني ثعلبة من غطفان، انظر سيرة ابن هشام (3/ 214). (4) سيرة ابن هشام (3/ 216)، وفي طبقات ابن سعد (2/ 61): أن سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم كان معلقاً بشجرة، فأخذه المشرك واخترطه. (5) طبقات ابن سعد (2/ 66) وسيرة ابن هشام (3/ 235).

ما بلغنا عن هؤلاء القوم أم لا؟ فإن كان حقاً فالحنوا لي لحناً (1) أعرفه ولا تَفُتُّوا في أعضاد (2) الناس، وإن كانوا على الوفاء فيما بيننا وبينهم فاجهروا به للناس". فخرجوا حتى أتوهم، فوجدوهم على أخبث ما بلغهم عنهم: نالوا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقالوا: "مَن رسول الله؟! لا عهد بيننا وبين محمد ولا عقد" (3)!!. ونجم النفاق، وفشى في الناس، وعظم البلاء، واشتد الخوف، وخيف على الذراري والنساء، وكان المسلمون كما قال الله تبارك وتعالى في كتابه العزيز: {إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا 10 هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} (4) [سورة الأحزاب 33: 10 - 11]. وكانت القضايا الإدارية للمسلمين سيئة للغاية، إذ لبثوا ثلاثة أيام لا يذقون ذواقاً (5)، وكان بطن النبي - صلى الله عليه وسلم - معصوباً بحجر (6) من الجوع، ومع ذلك صبر الرسول القائد عليه أفضل الصلاة والسلام صبراً لا مثيل له في التاريخ كله، حتى انسحب المشركون يجرُّون أذيال الخيبة، وحينذاك قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "الآن نغزوهم ولا يغزوننا، ونحن نسير إليهم" (7). _______ (1) فالحنوا لِي لحناً: أي يخالف ظاهر الكلام معناه. (2) يقال: فَتَّ في عضده، إذا ضعَّفَه وأوهنه. (3) سيرة ابن هشام (3/ 237). (4) طبقات ابن سعد (2/ 67). (5) الذواق: طعم الشيء. والذواق: المذوق، يقال: ما ذقت ذواقاً. (6) فتح الباري بشرح البخاري (7/ 304). (7) المصدر السابق (7/ 311).

رابعاً: وفي غزوة بني "المصطلق" من خزاعة، حاول مشرك اغتيال النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقد أدركته القائلة (1)، فنزل تحت شجرة واستظل بها وعلّق سيفه، وتفرّق الناس في الشجر يستظلون، فأتاه أعرابي وهو نائم، واخترط سيف رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فاستيقظ والأعرابي على رأسه مخترطاً سيفه صلتاً، فقال: "مَنْ يمنعك مني؟! " فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "الله" (2). خامساً: وحاول أبو سفيان بن حرب قبل إسلامه اغتيال النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقد قال لنفر من قريش: "ألا أحد يغتال محمداً؟ فإنه يمشي في الأسواق"، فأتاه رجل من الأعراب فقال: "قد وجدتَ أجمع الرجال قلباً وأشدهم بطشاً وأسرعهم شداً، فإن أنت قوّيتَني خرجتُ إليه حتى أغتاله، ومعي خنجر مثل خافية (3) النسر فأسوره (4)، ثم آخذ في عير وأسبق القوم عدواً، فإنني هادٍ بالطريق خرِّيتٌ (5) "، قال: "أنت صاحبنا"، فأعطاه بعيراً ونفقة وقال: "اطْوِ أمرك"، فخرج ليلاً وسار على راحلته خمساً وصبّح المدينة سادسة. وأقبل يسأل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دُلَّ عليه، فعقل راحلته ثم أقبل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في مسجد بني عبد الأشهل، فلما رآه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن هذا ليريد غدراً". وذهب الرجل ليحني على رسول - صلى الله عليه وسلم -، فجذبه أحد الأنصار، فإذا بالخنجر، فسقط من يديه وقال: "دمي! دمي"! فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: _______ (1) القائلة: الظهيرة. والقائلة: النوم في الظهيرة. (2) فتح الباري بشرح البخاري (7/ 333). (3) الخافية: إحدى ريشات أربع، إذا ضم الطائر جناحه خفيت. (ج): خوافٍ. (4) أسوره: أبطش به. (5) الخرِّيت: الدليل الحاذق بالدلالة.

(أصدقني ... ما أنت"؟ قال: "وأنا آمن"؟ قال: "نعم"، فأخبره بأمره وما جعل له أبو سفيان بن حرب، فخلى عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأسلم الرجل (1). سادساً: وفي غزوة "الفتح" رأى المسلمون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين دخل مكة المكرمة، ورأسه قد انحنى على رحله، وبدا عليه التواضع الجم، حتى كادت لحيته تمس واسطة راحلته خشوعاً، وترقرقت في عينيه الدموع تواضعاً وشكراً لله (2). وقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على باب الكعبة خطيباً، فكان مما قاله: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده. ألا كل مأثرة أو دم أو ما يدّعى فهو تحت قدميّ هاتين إلا سِدانة البيت وسِقاية الحاج ... يا معشر قريش! إن الله أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء، الناس من آدم وآدم من تراب: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللََّهِ أَتْقَاكُمْ} [سورة الحجرات 49: 13] ... يا معشر قريش! ما ترون أني فاعل بكم"؟! قالوا: خيراً، أخ كريم، وابن أخ كريم، فقال: "اذهبوا فأنتم الطلقاء" (3). قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: "لما كان يوم "الفتح" ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمكة، أرسل إلى صفوان بن أُمية بن خَلف وإلى أبي _______ (1) طبقات ابن سعد (2/ 93 - 94)، وقد أراد عمير بن وهب الجمحي اغتيال النبي - صلى الله عليه وسلم -، انظر التفاصيل في: قادة فتح الشام ومصر (243 - 245). (2) الرسول القائد، 347، الطبعة الثالثة. (3) سيرة ابن هشام (4/ 31 - 32). والطلقاء: جمع طليق. والطليق: المطلق أو الأسير أُطلق وتُرك وشأنه. والطليق من الناس: العتيق.

سفيان بن حرب وإلى الحارث بن هشام، فقلت: قد أمكن الله منهم، أُعرّفهم بما صنعوا!!! فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "مثلي ومثلكم كما قال يوسف لاخوته: {قَالَ لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} (1). وحين كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يطوف بالبيت، أراد فضالة بن عُمَيْر بن الملوّح الليثي قتله، فلما دنا منه قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أفضالة"؟! قال: "نعم، فضالة يا رسول الله"، قال: "ماذا كنت تحدّث به نفسك"؟! قال: "لا شيء، كنت أذكر الله عز وجل"، فضحك النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم قال: "استغفر الله"، ثم وضع يده على صدر فضالة، فكان فضالة يقول: "والله ما رفع يده عن صدري، حتى ما من خلق الله شيء أحب إليّ منه" (2). سابعاً: وفي غزوة "حُنَين" انهزم المسلمون لا يلوي أحد منهم على أحد، فانحاز رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات اليمين ثم قال: "أين أيها الناس؟! هلموا إليّ، أنا رسول الله، أنا محمد بن عبد الله". وقد بقي معه نفر من الأنصار والمهاجرين وأهل بيته (3)، فأمر عمه العباس أن ينادي: "يا معشر الأنصار، يا أصحاب بيعة الشجرة، يا أصحاب سورة البقرة"، فأقبلوا كأنهم الإبل إذا حنّت على أولادها يقولون: يا لبيك! يا لبيك! ... وحملوا على المشركين (4). _______ (1) طبقات ابن سعد (3/ 141 - 142)، والآية من سورة يوسف [12: 92]. (2) سيرة ابن هشام (3/ 27). (3) سيرة ابن هشام (3/ 71 - 72). (4) طبقات ابن سعد (3/ 151)؛ وسيرة ابن هشام (3/ 74).

خريطة شبه الجزيرة العربية

3 - القدوة الحسنة

في ذلك الموقف الحرج للغاية، أراد شيبة بن عثمان بن أبي طلحة أن يغتال النبي - صلى الله عليه وسلم -! قال شيبة: "قلت: اليوم أُدرك ثأري ... اليوم أقتل محمداً! فأدرت برسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأقتله، فأقبل شيء حتى تغشى فؤادي، فلم أُطق ذلك، فعلمت أنه ممنوع مني"، وكان أبوه قد قُتل يوم "أُحُد" (1). 3 - القدوة الحسنة: أ) كانت غنائم يوم (حُنَين) أربعة وعشرين ألف بعير، وأربعين ألف شاة، وأربعة آلاف أُقيّة من الفضة، وستة آلاف نسمة من السبي (2)، ولكنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - وزع الغنائم وأعاد السبي، ولم يُبْقِ لنفسه شيئاً من المال. وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يبيت الليالي المتتابعة طاوياً، وأهله لا يجدون عشاء، وكان عامة خبزهم الشعير. وفي يوم من الأيام جاءت فاطمة ابنة النبي - صلى الله عليه وسلم - إليه بكسرة خبز، فقال: "ما هذه الكسرة يا فاطمة"؟! قالت: "قرص خبزته فلم تطب نفسي حتى آتيك بهذه الكسرة"، فقال: "أما إنه أول طعام دخل فَمَ أبيك منذ ثلاثة أيام". وقالت عائشة أم المؤمنين - رضي الله عنها -: "ما شبع آل محمد غداء وعشاء من خبز الشعير ثلاثة أيام متتابعات حتى لحق بالله". وخطب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "والله ما أمسى في آل محمد صاع من طعام، وإنها لتسعة أبيات"، وما قالها استقلالاً لرزق الله، ولكن أراد أن تتأسى به أمته. وقال ابن عباس: "والله لقد _______ (1) سيرة ابن هشام (3/ 73). (2) الرسول القائد (361 - 362).

كان يأتي على آل محمد - صلى الله عليه وسلم - الليالي ما يجدون فيها عشاء". وقالت عائشة أم المؤمنين: "ما شبع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في يوم مرتين حتى لحق بالله، ولارفعنا له فضل طعام عن شبع حتى لحق بالله، إلا أن نرفعه لغائب". وقالت: "كان لنا جيران من الأنصار لهم ربائب يسقوننا من لبنها جزاهم الله خيراً". وقالت: "إن آل محمد لم يشبعوا ثلاثة أيام متوالية من طعام برٍّ حتى مضى النبي - صلى الله عليه وسلم - لسبيله". وقالت: "والله لقد كان يأتي على آل محمد - صلى الله عليه وسلم - شهر لا نخبز فيه". وقالت: "لقد مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما شبع من خبزٍ وزيت في يوم مرتين". وقد توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودرعه مرهونة عند رجل من يهود بِوسْق (1) من شعير. وقال أبو هريرة: "إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يجوع"، فقيل له: وكيف كان ذلك الجوع؟! فقال: "لكثرة مَن يغشاه وأضيافه وقوم يلزمونه لذلك، فلا يأكل طعاماً أبداً إلا ومعه أصحابه وأهل الحاجة يتتبعون من المسجد". وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ما ملأ آدمي وعاءً شراً من بطنه: حسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه، فإن كان لا محالة فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لِنَفَسه" (2). ب) لم يفكر أبداً بنفسه، كما لم يفكر أبداً بأهله، يسبغ عليهم هذا الترف الذي يشيع بين ذوي الجاه والسلطان، وحين نصره الله تعالى وردّ عنه الأحزاب وفتح عليه (قُرَيْظَة) و (النضير) ظنّ أزواجه أنه اختص بنفائس يهود وذخائرهم، وكنّ تسع نسوة قعدن حوله وقلن: _______ (1) الوسق: مكيلة معلومة، وهي ستون صاعاً، والصاع خمسة أرطال وثلث. (2) انظر التفاصيل في طبقات ابن سعد 1/ 400 - 401.

"يا رسول الله! بنات كسرى وقيصر في الحلي والحلل والإماء (1) والخَوَل (2)، ونحن على ما تراه من الفاقة والضيق"!! وآلمنَ قلبه بمطالبتهنّ له بتوسعة الحال، وأن يعاملهن بما تعامل به الملوك وأبناء الدنيا أزواجهم، فأمره الله تعالى أن يتلو عليهنَّ ما نزل في أمرهن من تخييرهن في فراقه، وذلك في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا 28 {(3) وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} (4) [سورة الأحزاب 33: 28 - 29]، فبدأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعائشة فقال لها: "إني ذاكر لكِ منْكُنَّ أمراً ما أحبّ أن تعجلي فيه حتى تستأمري أبويك"، فقالت: "ما هو؟! "، فتلا عليها الآية، فقالت: "أفيكَ أَسْتَأمِر أبويَّ؟! بل أختار الله تعالى ورسوله" ... ثم تتابعن كلهنَّ على ذلك، فسماهنّ الله: أمهات المؤمنين، تعظيماً لحقهنَّ، وتأكيداً لحرمتهنَّ، وتفضيلاً لهنَّ على سائر النساء. لقد أمره ربه أن يخيِّرهنَّ جميعاً في سراحهنّ فيكنّ كالنساء ويجدن ما شئن من دنيا المرأة، وبين إمساكهنَّ فلا يكنّ في بيعة أخرى تبدأ من حيث تنتهي الدنيا وزينتها، ولا تقتصر الآيتان الكريمتان عن نفي الدنيا وزينة الدنيا عنهنَّ، بل نفت الأمل في ذلك إلى آخر الدهر، _______ (1) الإماء: جمع أمَةٌ: المرأة المملوكة دون الحرة. (2) الخول: جمع الخولي، وهي القائم بأمر الناس السائس له. والخولي: الراعي الحسن القيام على الماشية وغيرها. (3) السراح: الطلاق. ومتعة الطلاق: ما تعطاه المطلقة، وهو يختلف حسب السعة والاقتدار. (4) انظر تفسيرها في ابن كثير 6/ 538 وتفسير البغوي 6/ 548 وتفسير الكشاف 2/ 429.

4 - المثال الرائع

وأماتت معناه في نفوسهنّ بقصر الإرادة منهنّ على هذه الثلاثة: الله في أمره ونهيه، والرسول في شدائده ومكابدته، والدار الآخرة في تكاليفها ومكارهها؛ فليس هناك ظرف ولا رقة ولا عاطفة ولا سياسة لطبيعة المرأة، ولا اعتبار لمزاجها، ولا زلفى لأنوثتها، بل هو تخيير بين ضدين لا تتلوَّن بينهما حالة تكون منهما معاً" (1). ج) وأخيراً مات النبي - صلى الله عليه وسلم - متأثراً بالسم ذي المفعول البطيء، فقد أهدت امرأة من يهود (خَيبر) شاة مسمومة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأكل منها وأكل بعض مَنْ كان معه من أصحابه، وفيهم بشر بن البراء بن معرور، فمات بشر. واحتجم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على كاهله من أجل ذلك الذي أكل، وأمر أصحابه فاحتجموا أوساط رؤوسهم. وعاش رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك ثلاث سنين، حتى كان وجعه الذي قبض فيه، فجعل يقول في مرضه: "ما زلتُ أجد من الأكلة التي أكلتها يوم (خيبر) عِداداً، حتى كان هذا أوان انقطاع أبهري" (2). فتوفى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شهيداً صلوات الله عليه ورحمته وبركاته ورضوانه (3). 4 - المثال الرائع: لقد تحمَّل الأذى والتعذيب والتكذيب والمقاطعة والاضطهاد والمطاردة، وهو الشريف الصادق الأمين الذي كان بإمكانه أن يعيش عزيزاً مكرّماً. _______ (1) مصطفى صادق الرافعي - وحي القلم - مقال: درس من النبوة 2/ 64 - 65. (2) الأبهر: عرق في الظهر. (3) طبقات ابن سعد 2/ 202 - 203.

واستهان بالوعد والوعيد والمال والمجد، وصبر على شَظَف العيش والجوع والعري والمشقة، وهو القوي الأمين، السيد الثري، الذي كان بإمكانه أن يعيش مصاناً مترفاً. وقاتل قومه وقبيلته، وعادى من عادى الإسلام وسالم من سالمه، وعرّض نفسه للموت في ساحات القتال مجاهداً (1)، وخارج ميدان الوغى داعياً، وضحى بالأقربين من أهله وبنفسه، وتحمَّل المسؤوليات الجسام التي تنوء بحملها العصبة أولو القوّة من أفذاذ الرجال، واستأثر لنفسه بالأخطار، وآثر رجاله بالأمن، وهو البَر الرحيم الذي كان بإمكانه أن يعيش مرفّهاً بعيداً عن الأخطار. إنه كان تجسيداً حياً لتعاليم الإسلام عقيدة وعملاً، وتضحية وفداء، وجهاداً بالمال والنفس في سبيل الله، فهو الأسوة الحسنة الباقية أبداً للمسلمين في كل زمان ومكان: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [سورة الأحزاب 33: 21]. إنه كان مثالاً حياً للخلق الكريم: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ 4} [سورة ن 68: 4]، والإسلام في حقيقته وروحه عقيدة وعمل، وتضحية وفداء، وجهاد بالأموال والأنفس، وكلها في جملتها وتفصيلها معنى من معاني الخلق العظيم. _______ (1) قاد النبي - صلى الله عليه وسلم - ثمان وعشرين غزوة، وقد نشب القتال بين المسلمين الذين بقيادته وبين المشركين ويهود في تسع غزوات، بينما فرَّ المشركون في تسع عشرة غزوة من تلك الغزوات بدون قتال. انظر التفاصيل في: (الرسول القائد)، ص 423 - 424.

يالله ... ! أيبذل بشر من ذات نفسه ووقته وجهده مثل هذا البذل؟!. أيضحي إنسان بماله ونفسه وأهله وقومه مثل هذه التضحية؟!. أيجاهد رجل بما يملك من مال ونفس وغال ورخيص مثل هذا الجهاد؟!. أيستطيع أحد أن يتحمل كل هذا البذل والتضحية والجهاد؟!. إن المرء حين يستوعب هذه (الأمثلة) الرائعة المذهلة من بذله وتضحيته وجهاده، يكاد يصعق بروعتها وبهائها وجلالها، فكيف به لو استوعب كل تفاصيل ما بذله من تضحية وجهاد في سبيل الله؟؟. لقد تأسى أصحابه عليهم رضوان الله به في حياته وبعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى، فكيف كان ذلك؟؟ ***

مع الصحابة

في مكة

في مَكّة 1 - التعذيب: لن أستطيع أن أذكر في هذا المكان، كل ما قدمه الصحابة رضوان الله عليهم من تضحيات جسام، حين كان النبي - صلى الله عليه وسلم - بين ظهرانيهم، لأن تضحياتهم كثيرة جداً ومتعددة الجوانب والأشكال، وحسبي أن أذكر هنا (أمثلة) منها لتكون دليلاً للعرب والمسلمين - خاصة في مثل هذه الأيام. لقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - من أقل الناس كلاماً، ولكن أفعاله كانت تؤثر في أصحابه وتشع عليهم بالنور اقتباساً من مثاله الشخصي، ولاشيء كالمثال الشخصي يؤثر في الناس؛ أما الكلام وحده دون عمل فلا يؤثر في أحد، فلا موعظة في كلامٍ لم يمتلئ من نفس قائله ليكون عملاً، فيتحوَّل في النفوس الأخرى عملاً ولا يبقى كلاماً. كان عليه الصلاة والسلام يبني الأفراد الصالحين ليكوّن أمة صالحة بالأعمال لا بالأقوال، وقد عمل ما لم يستطع أحد أن يعمل مثله أو قريباً منه، وكان أصحابه بتربيته لهم خير القرون ثم الذي يليهم حتى يرث الله الأرض ومن عليها.

لقد كان خريجو مدرسة محمد عليه أفضل الصلاة والسلام رجالاً لا كالرجال. إنه قدوة الرؤساء والمرؤوسين، والقادة والجنود، وقدوة الأجيال جيلاً بعد جيل، وهو المثل الأعلى للمسلمين وللبشر من مختلف الأجناس. لقد تحمَّل العربي المسلم التعذيب في سبيل عقيدته، فَعَدَتْ كل قبيلة على من فيها من المسلمين، فجعلوا يحبسونهم ويعذبونهم بالضرب والجوع والعطش وبرمضاء مكة إذا اشتد الحر، يفتنونهم عن دينهم. كان بلال بن رباح يخرجه أميَّة بن خلف إذا حميت الظهيرة، فيطرحه على ظهره في بطحاء مكة، ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره، ثم يقول له: "لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد وتعبد اللات والعزّى"، فيقول وهو في ذلك البلاء: "أَحَدٌ ... أَحدٌ" (1). وكان بنو مخزوم يخرجون بعمّار بن ياسر وبأبيه وأمه إذا حميت الظهيرة يعذبونهم برمضاء مكة، فيمر بهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيقول: "صبراً آل ياسر، موعدكم الجنة"، وأما أمه فقتلوها وهي تأبى إلا الإسلام (2). وعندما أسلم عثمان بن عفان - رضي الله عنه -، أخذه عمه الحكم بن أبي العاص بن أمية، فأوثقه كتافاً وقال: "ترغب عن ملَّة _______ (1) سيرة ابن هشام 1/ 339 - 340؛ والإصابة 1/ 171. (2) سيرة ابن هشام 1/ 342؛ وأسد الغابة 4/ 42.

2 - في الحبشة

آبائك وأجدادك إلى دين محمد؟! والله لا أحلك أبداً حتى تدع ما أنت عليه"، فقال عثمان: "والله لا أدعه أبداً ولا أفارقه". وقيل: عذّبه عمه بالدخان ليرجع، فما رجع (1). وعندما أسلم الزبير بن العوام - رضي الله عنه -، علقه عمه في حصير ودخّن عليه ليرجع إلى الكفر، فكان يقول: "لا أكفر أبداً" (2). ولاقى سعد بن أبي وقاص معارضة شديدة لإسلامه حتى من أمه! قال سعد: "كنت رجلاً برّاً بأمي، فلما أسلمت قالت: يا سعد! ما هذا الذي أحدثت؟! لتدعنّ دينك أو لا آكل ولا أشرب حتى أموت، فَتُعيَّرَ بي! فقلت لها: لا تفعلي يا أماه، فإني لا أدع ديني! فمكثت يوماً وليلة لا تأكل ولا تشرب، فأصبحت وقد جهدت. فقلت لها: والله لو كان لك ألف نفس، فخرجت نفساً نفساً ما تركت هذا الشيء! فلما رأت ذلك مني، أكلت وشربت، فأنزل الله: {وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} (3) ... " (4). 2 - في الحبشة: ولما رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما يصيب أصحابه من البلاء قال لهم: _______ (1) السيرة الحلبية 1/ 312. (2) الإصابة (3/ 5)، وحلية الأولياء (1/ 89)، وصفة الصفوة (1/ 132). (3) الآية الكريمة من سورة لقمان: [31: 15]، انظر تفسيرها في: تفسير البغوي (6/ 458)، وتفسير الكشاف (2/ 413)، وانظر شرح النووي على صحيح مسلم (5/ 195). (4) طبقات ابن سعد (4/ 124)، وأسد الغابة (2/ 292).

"لو خرجتم إلى أرض الحبشة، فإن فيها ملكاً لا يُظلم عنده أحد، وهي أرض صدق، حتى يجعل الله لكم فرَجاً مما أنتم فيه"؛ فخرج عند ذاك المسلمون من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أرض الحبشة مخافة الفتنة، وفرُّوا إلى الله بدينهم، فكانت أول هجرة في الإسلام (1). وهكذا ترك المسلمون المهاجرون ديارهم وأموالهم وأهليهم حرصاً على دينهم. وقدم المسلمون مكة من الهجرة الأولى إلى الحبشة، لأنهم سمعوا بإسلام قريش، ولكن ظهر لهم أن قريشاً لا تزال على دينها - فاشتد عليهم قومهم، وسطت بهم عشائرهم، ولقوا منهم أذى شديداً؛ لذلك أذن لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الخروج إلى الحبشة مرة ثانية، فكانت خرجتهم الثانية أعظمها مشقة، ولقوا من قريش تعنيفاً شديداً، ونالوهم بالأذى (2). وفي الحبشة سأل النجاشي المهاجرين من المسلمين قائلاً: "ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم ولم تدخلوا ديني ولا دين أحد من هذه الملل"؟! وأجابه جعفر بن أبي طالب - رضي الله عنه - قائلاً: "أيها الملك! كنا قوماً أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأَمَرَنا بصدق الحديث وأداء الأمانة _______ (1) طبقات ابن سعد (1/ 203 - 204)؛ وسيرة ابن هشام (1/ 343)؛ وعيون الأثر (1/ 115). (2) طبقات ابن سعد (1/ 207).

وصلة الرحم وحسن الجوار، والكفّ عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور وأكل مال اليتيم وقذف المحصنات، وأَمَرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئاً، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام -وعدَّد عليه أمور الإسلام - فصدّقناه وآمنا به واتبعناه على ما جاء به من الله، فعبدنا الله وحده فلم نشرك به شيئاً. وحرّمنا ما حرّم علينا، وأحللنا ما أحلّ لنا؛ فعدا علينا قومنا فعذّبونا وفتنونا عن ديننا ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله تعالى، وأن نستحل ما كنا نستحلّ من الخبائث؛ فلما قهرونا وظلمونا وضيّقوا علينا وحالوا بيننا وبين ديننا - خرجنا إلى بلادك، واخترناك على سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا ألا نُظلَم عندك أيها الملك"! (1). وبلغ أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - الذين خرجوا إلى الحبشة إسلام أهل مكة، فأقبلوا لما بلغهم من ذلك؛ حتى إذا دَنَوْا من مكة بلغهم أن ما كانوا تحدَّثوا به من إسلام أهل مكة كان باطلاً، فلم يدخل منهم أحد إلا بجوارٍ أو مستخفياً" (2). ودخل عثمان بن مظعون بن حبيب الجمحيّ بجوار الوليد بن المغيرة، فلما رأى ما فيه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من البلاء وهو يغدو ويروح في أمان، قال: "والله إن غدوي ورواحي آمناً بجوار رجل من أهل الشرك، وأصحابي وأهل ديني يلقون البلاء والأذى في الله ما لا يصيبني، لَنَقصٌ كبير في نفسي"!! فمشى إلى الوليد بن المغيرة وقال له: "يا أبا عبد شمس! وفَّت ذمتك، وقد رددت إليك جوارك"، فقال _______ (1) طبقات ابن سعد (1/ 207). (2) سيرة ابن هشام (1/ 388).

له: "يا ابن أخي! لعلَّه آذاك أحد من قومي"؟! قال: "لا، ولكني أرضى بجوار الله، ولا أريد أن أستجير بغيره"، فانطلقا إلى البيت الحرام وردَّ عثمان جوار الوليد علانية (1). وكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه حين ضاقت عليه مكة وأصابه الأذى ورأى من تظاهر قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، استأذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الهجرة فأذن له. وخرج أبو بكر مهاجراً، حتى إذا سار من مكة يوماً أو يومين، لقيه ابن الدغنّة فقال: "أين يا أبا بكر"؟! فقال: "أخرَجَني قومي وآذوني وضيّقوا عليَّ"! فقال: "ولِمَ؟! فوَالله إنك لتزيّن العشيرة، وتعين على النوائب، وتفعل المعروف، وتُكسب المعدوم (2) ... ارجع وأنت في جواري"؛ فرجع معه - حتى إذا دخل مكة، قام ابن الدغنّة فقال: "يا معشر قريش! إني قد أجرت ابن أبي قُحافة، فلا يعرضنّ له أحد إلا بخير". وكان لأبي بكر مسجد عند باب داره في بني جمُح، فكان يصلي فيه، وكان رجلاً رقيقاً إذا قرأ القرآن استبكى، فيقف عليه الصبيان والعبيد والنساء يعجبون لما يرون من هيئته؛ فمشى رجال من قريش إلى ابن الدغنّة فقالوا: "يا ابن الدغنّة! إنك لم تجُِر هذا الرجل ليؤذينا ... إنه رجل إذا صلىَّ وقرأ ما جاء به محمد، يرقّ ويبكي، وكانت له هيئة ونحوٌ، فنحن نتخوَّف عليه صبياننا ونساءنا وضعفتنا أن يفتنهم، فائْتِه فمُرْهُ أن يدخل بيته فليصنع فيه ما شاء". ومشى ابن الدغنّة إليه فقال: "يا أبا بكر! إني لم أجرك لتؤذي قومك ... إنهم كرهوا مكانك الذي أنت فيه وتأذَّوا _______ (1) سيرة ابن هشام (1/ 391 - 392). (2) يقال: كسبت الرجل مالاً، فتعديه إلى مفعولين. ويقال: أكسبته مالاً. ومعنى تكسب المعدوم: أي تكسب غيرك ما هو معدوم عندك.

بذلك منك، فادخل بيتك فاصنع فيه ما أحببت"! فقال أبو بكر: "أو أردّ عليك جوارك وأرضى بجوار الله"، فقال: "اردد عليّ جواري"، فردّ أبو بكر على ابن الدغنّة جواره (1). ... _______ (1) سيرة ابن هشام 1/ 394 - 396.

في المدينة

في المَدينَة 1 - المجتمع الجديد: أ- وأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصحابه بالخروج من مكة إلى المدينة والهجرة إليها واللحوق بإخوانهم من الأنصار، وقال: "إنَّ الله عزَّ وجلَّ قد جعل لكم إخواناً وداراً تأمنون بها"، فخرجوا أرسالاً (1). وآخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هجرته إلى المدينة بين أصحابه من المهاجرين والأنصار، فقال: "تآخَوْا في الله أخوين أخوين" (2)، فقال سعد بن الربيع لعبد الرحمن بن عوف: "إني من أكثر الأنصار مالاً، وأنا مقاسمك، وعندي امرأتان، فأنا مطلِّق إحداهما، فإذا انقضت عدَّتها فتزوَّجها"، فقال عبد الرحمن: "بارك الله لك في أهلك ومالك" (3). وقد وصف عبد الله بن عمر بن الخطاب هذه المؤاخاة بقوله: "لقد رأيتنا وما الرجل المسلم بأحق بديناره ودرهمه من أخيه المسلم". وقال المهاجرون: "يا رسول الله! ما رأينا مثل قوم قدِمنا عليهم أحسن مواساة في قليل ولا أحسن بذلاً في كثير: كفَوْنا المؤونة وأشركونا في _______ (1) سيرة ابن هشام 2/ 86. (2) المرجع السابق 2/ 124. (3) أسد الغابة 2/ 278، وعيون الأثر 1/ 203.

المهنأ (1)، حتى لقد خشينا أن يذهبوا بالأجر كله" (2). ب- وفي المدينة المنورة أظهر المسلمون الأعاجيب في إخلاصهم لعقيدتهم، فقد كان عمير بن سعد في حجر جُلاس بن سويد بن الصامت، إذ خَلَفَ جلاس هذا على أم عمير بعد أبيه، فسمع عمير كلمة نابية قالها جلاس في النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "والله يا جلاس، إنك لأحب الناس إليَّ وأحسنه عندي يداً وأعزه أن يصيبه شيء يكرهه. ولقد قلت مقالة لئن رفعتُها عليك لأفضحنَّك، ولئن صمتُّ عليها ليهلكنّ ديني، ولأحدهما أيسر عليّ من الآخر"، ثم مشى إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فذكر له ما قال جلاس (3). ج- واجتمع المنافقون يوماً في المسجد، فرآهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتحدثون خافضي أصواتهم، قد لصق بعضهم ببعض، فأمر بهم فأُخرجوا من المسجد إخراجاً عنيفاً: قام أبو أيوب خالد بن زيد الأنصاري إلى عمرو بن قيس من بني النجار - وكان صاحب آلهتهم في الجاهلية، فأخذ برجله فسحبه من المسجد؛ ثم أقبل أبو أيوب أيضاً إلى رافع بن وديعة من بني النجار فلبَّبه (4) بردائه ثم نتره نتراً (5) شديداً ولطم وجهه ثم أخرجه من المسجد (6). د- وكان رجال من المسلمين يواصلون رجالاً من يهود لما كان _______ (1) المهنأ: ما يأتيك فتسيغه وتقبله طبيعتك. (ج): مهانئ. (2) عيون الأثر 1/ 200. (3) سيرة ابن هشام 2/ 141. (4) لبّبَ الرجل: جمع ثيابه عند نحره في الخصومة ثم جره. (5) نتره: جذبه. (6) سيرة ابن هشام 1/ 150 - 151.

بينهم من الجوار والحلف في الجاهلية، فأنزل الله تعالى فيهم ينهاهم عن مباطنتهم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ 118 هَاأَنتُمْ أُوْلاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} (1) [آل عمران 3: 118 - 119]، فقاطع المسلمون حلفاءهم من يهود (2). هـ- وتحمَّل المهاجرون بصبر وجَلَد ما أصابهم من وباء الحمى في المدينة المنورة. قالت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها: "لما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة، قدمها وهي أوبأ أرض الله من الحُمَّى، فأصاب أصحابه منها بلاء وسَقَم. وصرف الله تعالى ذلك عن نبيه صلى الله عليه وسلم، فكان عامر بن فُهَيرة وبلال في بيت واحد، فأصابتهم الحمى؛ فدخلتُ عليهم أعودهم وذلك قبل أن يضرب علينا الحجاب، وبهم ما لا يعلمه إلا الله من شدة الوعك (3)، فدنوت من أبي بكر فقلت له: كيف تجدك يا أبت؟ فقال: كل امرئ مصبح في أهله والموت أدنى من شراك نعله (4) فقلت: والله ما يدري أبي ما يقول. ثم دنوت إلى عامر بن فهيرة، _______ (1) وتؤمنون بالكتاب كله: أي تؤمنون بكتابهم وكتابكم وبما مضى من الكتب قبل ذلك، وهم يكفرون بكتابكم، فأنتم أحق بالبغضاء لهم منهم لكم. (2) انظر ما جاء حول ذلك في سيرة ابن هشام: 2/ 186 - 187. (3) الوعك بفتح وسكون: شدة ألم المريض. ويقال: وعكته الحمى، إذا بالغت فيه. (4) الشراك: سيرة النعل على ظهر القدم.

2 - في بدر

فقلت له: كيف تجدك يا عامر؟ فقال: لقد وجدت الموت قبل ذوقه إن الجبان حتفه من فوقه كل امرئ مجاهِد بطوقه كالثور يحمي جلده بِرَوقِه (1) فقلت: والله ما يدري ما يقول! وكان بلال إذا تركته الحمى اضطجع بفناء البيت ثم رفع عقيرته (2) فقال: ألا ليت شعري هل أبيتنَّ ليلة بفسخ وحولي أذخر وجليل (3) وهل أرِدَن يوماً مياه مِجَنَّةٍ وهل يَبْدوَنْ لي شامة وطفيل (4) فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقلت: إنهم ليهذون وما يعقلون من شدة الحمى" (5). 2 - في بدر: وبدأ الصراع الحاسم بين المسلمين وأعدائهم، فأبدى المسلمون في الجهاد ضروباً من التضحية لا مثيل لها في التاريخ كله. فقد استشار النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه قبل غزوة (بدر)، فقام أبو بكر الصديق فقال وأحسن، ثم قام عمر بن الخطاب فقال وأحسن، ثم قام المقداد بن عمرو فقال: "يا رسول الله! امض لما أراك الله، فنحن _______ (1) الطوق: هنا الطاقة والقوة. والروق: القرن. (2) عقيرته: صوته. (3) فسخ: فسخ موضع خارج مكة به مويه. الأذخر: نبات يشبه الأسل الذي تعمل منه الحصر. والجليل: الثمام، وأهل الحجاز يسمون الثمام الجليل. (4) مجنة: اسم موضع، وقيل بلد على عدة أميال من مكة. وطفيل اسم جبل بمكة. وشامة: اسم جبل بمكة أيضاً. (5) سيرة ابن هشام 2/ 220 - 221.

معك. والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: {فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة 5: 24]، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فوالله الذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى (برك الغِماد) (1) لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه"، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم خيراً ودعا له ثم قال: "أشيروا عليَّ أيها الناس"! وإنما يريد الأنصار، وذلك أنهم عدد الناس، وأنهم حين بايعوه بالعقبة قالوا: يا رسول الله! إنا براء من ذِمامك (2) حتى تصل إلى ديارنا، فإذا وصلت إلينا فأنت في ذمتنا، نمنعك مما نمنع منه أبناءنا ونساءنا ... ، فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتخوَّف ألا تكون الأنصار ترى عليها نصره إلا ممن دهمه (3) بالمدينة من عدوه، وأن ليس عليهم أن يسير بهم من بلادهم إلى عدو، فلما قال ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال له سعد بن معاذ: "والله لكأنك تريدنا يا رسول الله"؟! قال: "أجل"، قال: " ... فقد آمنا بك وصدَّقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، فأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله لما أردت، فنحن معك، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلَّف منا رجل واحد. وما نكره أن تلقى بنا عدونا غداً، إنا لَصُبُرٌ في الحرب صُدقٌ في اللقاء، لعل الله يريك ما تقر به عينك، فسر بنا على بركة الله" (4). _______ (1) برك الغماد: موضع بناحية اليمن. (2) الذمام: العهد والأمان والكفالة. والذمام الحق والحرمة. (3) دهمه: فجأه. يقال: دهمتهم الخيل إذا فاجأتهم على غير استعداد. (4) سيرة ابن هشام 2/ 253 - 254، وعيون الأثر 1/ 247 - 248.

جدول السرايا: 1 - سرية حمزة قوات المسلمين: 30 راجلاً من المهاجرين قائد المسلمين: حمزة بن عبد المطلب قوات أعداء المسلمين: 300 راكب قائد أعداء المسلمين: أبو جهل بن هشام المكان: العِبْص التاريخ بالسنة الهجرية: رمضان من السنة الأولى مجمل النتائج: حجز بين الفريقين مجدي ابن عامر الجهني. 2 - سرية عبيدة ابن الحارث قوات المسلمين: 60 راجلاً من المهاجرين قائد المسلمين: عبيدة بن الحارث قوات أعداء المسلمين: أكثر من 200 راكب وراجل قائد أعداء المسلمين: أبو سفيان بن حرب المكان: ماء في الحجاز بوادي رابِغ التاريخ بالسنة الهجرية: شوال من السنة الأولى مجمل النتائج: جرت مناوشات ورمى سعد بن أبي وقاص أول سهم رُمي في الإسلام. 3 - سرية سعد ابن أبي وقاص قوات المسلمين: 20 راجلاً من المهاجرين قائد المسلمين: سعد بن أبي وقاص قوات أعداء المسلمين: - قائد أعداء المسلمين: - المكان: الخرار التاريخ بالسنة الهجرية: ذو القعدة من السنة الأولى مجمل النتائج: فرَّت قافلة المشركين. 4 - سرية عبد الله ابن جحش قوات المسلمين: 12 من المهاجرين قائد المسلمين: عبد الله بن جحش قوات أعداء المسلمين: 4 رجال قائد أعداء المسلمين: عمرو بن الحضرمي المكان: نخلة التاريخ بالسنة الهجرية: رجب من السنة الثانية مجمل النتائج: أول قتيل وأول أسير من المشركين. أول غنيمة للمسلمين.

5 - سرية زيد ابن حارثة قوات المسلمين: 100 راكب من المسلمين قائد المسلمين: زيد بن حارثة الكلبي قوات أعداء المسلمين: قافلة لقريش قائد أعداء المسلمين: صفوان بن أمية المكان: القردة (ماء في نجد) التاريخ بالسنة الهجرية: بعد غزوة بحران (للسنة الثانية) مجمل النتائج: غنم المسلمون القافلة. 6 - سرية أبي سَلَمة قوات المسلمين: 150 راكباً وراجلاً قائد المسلمين: أبو سلمة بن عبد الأسد قوات أعداء المسلمين: بنو أسد قائد أعداء المسلمين: طليحة بن خويلد وأخوه سلمة المكان: ديار بني أسد التاريخ بالسنة الهجرية: ذو الحجة من السنة الثالثة مجمل النتائج: فرار بني أسد. 7 - سرية عبد الله ابن أنيس قوات المسلمين: رجل واحد قائد المسلمين: عبد الله بن أنيس قوات أعداء المسلمين: بنو لحيان من هذيل قائد أعداء المسلمين: خالد بن سفيان الهذلي المكان: نخلة التاريخ بالسنة الهجرية: السنة الثالثة مجمل النتائج: قتل خالد بن سفيان. 8 - سرية عبد الله ابن عتيك قوات المسلمين: خمسة رجال قائد المسلمين: عبد الله بن عتيك قوات أعداء المسلمين: يهود خيبر الذين لجأ إليهم أبو رافع ابن أبي الحقيق قائد أعداء المسلمين: - المكان: خيبر التاريخ بالسنة الهجرية: ذو القعدة من السنة الخامسة مجمل النتائج: قتل ابن أبي الحقيق. 9 - سرية عكاشة قوات المسلمين: 40 رجلاً قائد المسلمين: عكاشة بن محصن الأسدي قوات أعداء المسلمين: بنو أسد قائد أعداء المسلمين: - المكان: الغَمْر التاريخ بالسنة الهجرية: ربيع الأول من السنة السادسة مجمل النتائج: هرب بنو أسد فغنم المسلمون مئتي بعير.

10 - سرية محمد ابن مسلمة قوات المسلمين: 10 رجال قائد المسلمين: محمد بن مسلمة قوات أعداء المسلمين: بنو ثعلبة وبنو عُوال قائد أعداء المسلمين: - المكان: ذو القصة التاريخ بالسنة الهجرية: ربيع الآخر من السنة السادسة مجمل النتائج: هرب المشركون وغنم المسلمون. 11 - سرية أبي عبيدة ابن الجراح قوات المسلمين: 40 رجلاً قائد المسلمين: أبو عبيدة ابن الجراح قوات أعداء المسلمين: بنو محارب وأغار قائد أعداء المسلمين: - المكان: ذو القصة التاريخ بالسنة الهجرية: ربيع الآخر من السنة السادسة مجمل النتائج: هرب المشركون وغنم المسلمون. 12 - سرية زيد ابن حارثة الكلبي قوات المسلمين: - قائد المسلمين: زيد بن حارثة الكلبي قوات أعداء المسلمين: بنو سُليم قائد أعداء المسلمين: - المكان: الجموم التاريخ بالسنة الهجرية: ربيع الآخر من السنة السادسة مجمل النتائج: هرب المشركون وغنم المسلمون. 13 - زيد بن حارثة الكلبي قوات المسلمين: - قائد المسلمين: زيد بن حارثة الكلبي قوات أعداء المسلمين: عير قريش قائد أعداء المسلمين: - المكان: العيص التاريخ بالسنة الهجرية: جمادى الأولى من السنة السادسة مجمل النتائج: غنموا العير وأسروا حراسها. 14 - زيد بن حارثة الكلبي قوات المسلمين: 15 رجلاً قائد المسلمين: زيد بن حارثة الكلبي قوات أعداء المسلمين: بنو ثعلبة قائد أعداء المسلمين: - المكان: الطرف التاريخ بالسنة الهجرية: جمادى الأخرى من السنة السادسة مجمل النتائج: غنم المسلمون فأعادها النبي صلى الله عليه وسلم.

15 - سرية عبد الرحمن ابن عوف قوات المسلمين: - قائد المسلمين: عبد الرحمن بن عوف قوات أعداء المسلمين: بنو كلب قائد أعداء المسلمين: - المكان: دومة الجندل التاريخ بالسنة الهجرية: شعبان من السنة السادسة مجمل النتائج: أعلنوا إسلامهم. 16 - سرية علي بن أبي طالب قوات المسلمين: 100 رجل قائد المسلمين: علي بن أبي طالب قوات أعداء المسلمين: بنو سعد بن بكر قائد أعداء المسلمين: - المكان: فدك التاريخ بالسنة الهجرية: - مجمل النتائج: انتصر المسلمون. 17 - زيد بن حارثة الكلبي قوات المسلمين: - قائد المسلمين: زيد بن حارثة الكلبي قوات أعداء المسلمين: بنو بدر قائد أعداء المسلمين: - المكان: وادي القرى التاريخ بالسنة الهجرية: - مجمل النتائج: انتصر المسلمون. 18 - سرية عبد الله ابن رواحة قوات المسلمين: 30 رجلاً قائد المسلمين: عبد الله بن رواحة قوات أعداء المسلمين: أُسير بن زارم قائد أعداء المسلمين: 30 رجلاً المكان: قرقرة ثبار التاريخ بالسنة الهجرية: - مجمل النتائج: قتل المسلمون أُسير وأصحابه. 19 - سرية كرز ابن جابر الفهري قوات المسلمين: 20 فارساً قائد المسلمين: كرز بن جابر الفهري. قوات أعداء المسلمين: العُرانيين (عرينة) قائد أعداء المسلمين: - المكان: - التاريخ بالسنة الهجرية: - مجمل النتائج: أعاد اللقاح وأسر الذين هاجموا أنعام المسلمين. 20 - سرية عمرو ابن أمية الضمري قوات المسلمين: رجلان قائد المسلمين: عمرو بن أمية الضمري قوات أعداء المسلمين: أبو سفيان بن حرب قائد أعداء المسلمين: - المكان: مكة التاريخ بالسنة الهجرية: - مجمل النتائج: قتل عمرو رجلين من المشركين ولم ينجح في قتل أبي سفيان.

21 - سرية عمر بن الخطاب قوات المسلمين: 30 رجلاً قائد المسلمين: عمر بن الخطاب قوات أعداء المسلمين: هوازن قائد أعداء المسلمين: - المكان: تُربة التاريخ بالسنة الهجرية: شعبان من السنة السابعة مجمل النتائج: فر المشركون بدون قتال. 22 - سرية أبي بكر الصديق قوات المسلمين: - قائد المسلمين: أبو بكر الصديق قوات أعداء المسلمين: بنو كلاب قائد أعداء المسلمين: - المكان: ضرية في نجد التاريخ بالسنة الهجرية: شعبان من السنة السابعة مجمل النتائج: قتلت السرية قسماً منهم وسبت قسماً آخر. 23 - سرية سعد بن بشير الأنصاري قوات المسلمين: 30 رجلاً قائد المسلمين: سعد بن بشير الأنصاري قوات أعداء المسلمين: بنو مرّة قائد أعداء المسلمين: - المكان: فدك التاريخ بالسنة الهجرية: شعبان من السنة السابعة مجمل النتائج: قتل بنو مرة المسلمين وعاد قائدهم إلى المدينة جريحاً. 24 - سرية غالب بن عبد الله قوات المسلمين: 130 رجلاً قائد المسلمين: غالب بن عبد الله الليثي قوات أعداء المسلمين: بنو عوال وبنو عبد من ثعلبة قائد أعداء المسلمين: - المكان: الميفعة بنجد التاريخ بالسنة الهجرية: رمضان من السنة السابعة مجمل النتائج: انتصر المسلمون. 25 - سرية بشير ابن سعد الأنصاري قوات المسلمين: 300 رجل قائد المسلمين: بشير بن سعد الأنصاري قوات أعداء المسلمين: غطفان قائد أعداء المسلمين: - المكان: الجناب التاريخ بالسنة الهجرية: شوال من السنة السابعة مجمل النتائج: انتصر المسلمون. 26 - سرية أبي العوجاء السلمي قوات المسلمين: 50 رجلاً قائد المسلمين: أبو العوجاء السلمي قوات أعداء المسلمين: بنو سليم قائد أعداء المسلمين: - المكان: ديار بني بكر التاريخ بالسنة الهجرية: ذو الحجة من السنة السابعة مجمل النتائج: قضى بنو سليم على سرية المسلمين.

27 - سرية غالب ابن عبد الله الليثي قوات المسلمين: بضعة عشر رجلاً قائد المسلمين: غالب بن عبد الله الليثي قوات أعداء المسلمين: بنو الملوح قائد أعداء المسلمين: - المكان: كديد التاريخ بالسنة الهجرية: صفر من السنة الثامنة مجمل النتائج: غنم المسلمون. 28 - سرية غالب بن عبد الله قوات المسلمين: 200 رجل قائد المسلمين: غالب بن عبد الله الليثي قوات أعداء المسلمين: بنو مرة قائد أعداء المسلمين: - المكان: فدك التاريخ بالسنة الهجرية: صفر من السنة الثامنة مجمل النتائج: قتل المسلمون قسماً منهم وغنموا. 29 - شجاع بن وهب الأسدي قوات المسلمين: 24 رجلاً قائد المسلمين: شجاع بن وهب الأسدي قوات أعداء المسلمين: بنو عامر من هوازن قائد أعداء المسلمين: - المكان: السّيّ التاريخ بالسنة الهجرية: ربيع الأول من السنة الثامنة مجمل النتائج: غنم المسلمون وهرب المشركون. 30 - سرية كعب بن عمير قوات المسلمين: 15 رجلاً قائد المسلمين: كعب بن عمير الغفاري قوات أعداء المسلمين: دعوة سكان المنطقة للإسلام قائد أعداء المسلمين: - المكان: ذات أطلاح التاريخ بالسنة الهجرية: ربيع الأول من السنة الثامنة مجمل النتائج: استشهد رجال السرية عدا واحداً. 31 - سرية مؤتة قوات المسلمين: 3000 رجل قائد المسلمين: 1 - زيد بن حارثة 2 - جعفر بن أبي طالب 3 - عبد الله بن رواحة 4 - خالد بن الوليد قوات أعداء المسلمين: قضاعة والروم قائد أعداء المسلمين: - المكان: مؤتة التاريخ بالسنة الهجرية: جمادى الأولى من السنة الثامنة مجمل النتائج: اندحر المسلمون.

32 - غزوة ذات السلاسل قوات المسلمين: 500 رجل قائد المسلمين: عمرو بن العاص قوات أعداء المسلمين: قبائل منطقة مؤتة قائد أعداء المسلمين: - المكان: منطقة مؤتة التاريخ بالسنة الهجرية: جمادى الآخرة من السنة الثامنة مجمل النتائج: انتصر المسلمون. 33 - سرية الخَبط قوات المسلمين: 300 رجل قائد المسلمين: أبو عبيدة بن الجراح قوات أعداء المسلمين: بنو جهينة قائد أعداء المسلمين: - المكان: القَبَليّة التاريخ بالسنة الهجرية: رجب من السنة الثامنة مجمل النتائج: لم يلقَ المسلمون كيداً. 34 - سرية أبي قتادة قوات المسلمين: 15 رجلاً قائد المسلمين: أبو قتادة الأنصاري قوات أعداء المسلمين: غطفان قائد أعداء المسلمين: - المكان: حاضر التاريخ بالسنة الهجرية: شعبان من السنة الثامنة مجمل النتائج: انتصر المسلمون. 35 - سرية أبي قتادة قوات المسلمين: ثمانية رجال قائد المسلمين: أبو قتادة الأنصاري قوات أعداء المسلمين: - قائد أعداء المسلمين: - المكان: بطن إضم التاريخ بالسنة الهجرية: رمضان من السنة الثامنة مجمل النتائج: لم يلقَ المسلمون كيداً. 36 - سرية خالد ابن الوليد قوات المسلمين: 30 فارساً قائد المسلمين: خالد بن الوليد قوات أعداء المسلمين: هدم العُزى قائد أعداء المسلمين: صنم العُزّى المكان: - التاريخ بالسنة الهجرية: رمضان من السنة الثامنة مجمل النتائج: هَدَمَ العُزّى. 37 - سرية عمرو ابن العاص قوات المسلمين: - قائد المسلمين: عمرو بن العاص قوات أعداء المسلمين: هدم سواع قائد أعداء المسلمين: صنم سواع المكان: - التاريخ بالسنة الهجرية: رمضان من السنة الثامنة مجمل النتائج: هدمَ سواع.

38 - سرية سعد ابن زيد الأشهلي قوات المسلمين: 20 رجلاً قائد المسلمين: سعد بن زيد الأشهلي قوات أعداء المسلمين: هدم مناة قائد أعداء المسلمين: صنم مناة المكان: المشلّل التاريخ بالسنة الهجرية: رمضان من السنة الثامنة مجمل النتائج: هدمَ مناة. 39 - سرية خالد ابن الوليد قوات المسلمين: 300 رجل قائد المسلمين: خالد بن الوليد قوات أعداء المسلمين: بنو جذيمة قائد أعداء المسلمين: - المكان: يَلَمْلَم التاريخ بالسنة الهجرية: شوال من السنة الثامنة مجمل النتائج: قتل المسلمون قسماً من بني جذيمة. 40 - الطفيل بن عمرو الدَّوسي قوات المسلمين: - قائد المسلمين: الطفيل بن عمرو الدوسي قوات أعداء المسلمين: هدم ذي الكفين قائد أعداء المسلمين: صنم عمرو بن حممة الدوسي المكان: - التاريخ بالسنة الهجرية: شوال من السنة الثامنة مجمل النتائج: هدم الصنم. 41 - عيينة بن حصن الفزاري قوات المسلمين: 50 فارساً قائد المسلمين: عيينة بن حصن الفزاري قوات أعداء المسلمين: بنو تميم قائد أعداء المسلمين: - المكان: بين السقيا وأرض بني تميم التاريخ بالسنة الهجرية: المحرم من السنة التاسعة مجمل النتائج: انتصر المسلمون. 42 - خالد بن الوليد قوات المسلمين: - قائد المسلمين: خالد بن الوليد قوات أعداء المسلمين: بنو المصطلق قائد أعداء المسلمين: - المكان: ديار بني المصطلق التاريخ بالسنة الهجرية: المحرم من السنة التاسعة مجمل النتائج: أسلموا.

43 - قطبة بن عامر بن حديدة قوات المسلمين: 20 رجلاً قائد المسلمين: قطبة بن عامر قوات أعداء المسلمين: خثعم قائد أعداء المسلمين: - المكان: بيشة التاريخ بالسنة الهجرية: صفر من السنة التاسعة مجمل النتائج: انتصر المسلمون. 44 - سرية الضحاك ابن سفيان قوات المسلمين: - قائد المسلمين: الضحاك بن سفيان الكلابي قوات أعداء المسلمين: بنو كلاب قائد أعداء المسلمين: - المكان: الزج (زج لاوه) التاريخ بالسنة الهجرية: ربيع الأول من السنة التاسعة مجمل النتائج: انتصر المسلمون. 45 - سرية علقمة بن محرّز المدلجي قوات المسلمين: 300 رجل قائد المسلمين: علقمة بم محرّز المدلجي قوات أعداء المسلمين: الأحباش قائد أعداء المسلمين: - المكان: الحبشة التاريخ بالسنة الهجرية: ربيع الآخر من السنة التاسعة مجمل النتائج: هرب المشركون. 46 - سرية علي ابن أبي طالب قوات المسلمين: 150 رجلاً قائد المسلمين: علي بن أبي طالب قوات أعداء المسلمين: هدم الفُلس قائد أعداء المسلمين: صنم المكان: جبل أجا التاريخ بالسنة الهجرية: ربيع الآخر من السنة التاسعة مجمل النتائج: هدمَ الصنمَ 47 - سرية عكاشة ابن محصن قوات المسلمين: - قائد المسلمين: عكاشة بن محصن الأسدي قوات أعداء المسلمين: عذة وبلى قائد أعداء المسلمين: - المكان: الجناب التاريخ بالسنة الهجرية: ربيع الآخر من السنة التاسعة مجمل النتائج: انتصر المسلمون.

48 - سرية خالد ابن الوليد قوات المسلمين: 420 فارساً قائد المسلمين: خالد بن الوليد قوات أعداء المسلمين: أهل دومة الجندل قائد أعداء المسلمين: الأكيدر الكندي وأخوه حسان المكان: دومة الجندل التاريخ بالسنة الهجرية: رجب من السنة التاسعة مجمل النتائج: صَالَحَ أهل جومى الجندل. 49 - سرية خالد ابن الوليد قوات المسلمين: 400 رجل قائد المسلمين: خالد بن الوليد قوات أعداء المسلمين: بنو الحارث قائد أعداء المسلمين: - المكان: نجران التاريخ بالسنة الهجرية: ربيع الأول من السنة العاشرة مجمل النتائج: أسلم الناس. 50 - سرية خالد ابن الوليد قوات المسلمين: - قائد المسلمين: خالد بن الوليد قوات أعداء المسلمين: أهل اليمن قائد أعداء المسلمين: - المكان: اليمن التاريخ بالسنة الهجرية: رمضان من السنة العاشرة مجمل النتائج: أسلم الناس. 51 - سرية علي ابن أبي طالب قوات المسلمين: - قائد المسلمين: علي بن أبي طالب قوات أعداء المسلمين: أهل اليمن قائد أعداء المسلمين: - المكان: اليمن التاريخ بالسنة الهجرية: رمضان من السنة العاشرة مجمل النتائج: أسلم الناس. 52 - سرية أسامة ابن زيد الكلبي قوات المسلمين: - قائد المسلمين: أسامة بن زيد الكلبي قوات أعداء المسلمين: قبائل مؤتة قائد أعداء المسلمين: - المكان: مؤتة التاريخ بالسنة الهجرية: صفر من السنة الحادية عشرة مجمل النتائج: تحركت السرية إلى هدفها بعد التحاق النبي صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى.

ومرّ الرسول القائد عليه أفضل الصلاة والسلام يوم (بدر) يعدل صفوف رجاله، فمر بسواد بن غزية حليف بني عدي بن النجار، فطعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالقدح (1) الذي كان بيده في بطن سواد وقال: "استو يا سواد"! فقال: "يا رسول الله أوجعتني وقد بعثك الله بالحق والعدل، فَأَقِدْني"! فكشف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بطنه وقال: "اسْتَقِدْ" فاعتنقه وقبَّل بطنه، فقال: "ما حملك على هذا يا سواد"؟! قال: "يا رسول الله! حضر ما ترى، فأردت أن يكون آخر العهد بك أن يمس جلدي جلدك" (2). وحرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على القتال بقوله: "والذي نفس محمد بيده، لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابراً محتسباً مقبلاً غير مدبر، إلا أدخله الله الجنة"، فقال عمير بن الحمام - وكانت بيده تمرات يأكلهن: "بَخْ ... بَخْ ... أفما بيني وبين أن أدخل الجنة إلا أن يقتلني هؤلاء"؟! ثم قذف التمرات من يده وأخذ سيفه، فقاتل القوم حتى قتل. واستصغر النبي - صلى الله عليه وسلم - عمير بن أبي وقاص الزهري لما أراد المسير إلى (بدر)، فبكى عمير، فأجازه. وكان سيف عمير طويلاً، فعقد عليه حمائل سيفه أخوه سعد بن أبي وقاص. قال سعد: "رأيت أخي عميراً قبل أن يعرضنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوارى، فقلت: ما لك يا أخي!! فقال: أخاف أن يستصغرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا أحب الخروج، لعل الله أن يرزقني الشهادة"، فرُزق ما تمنى، إذ مات شهيداً (3). _______ (1) القدح: قطعة من الخشب تعرّض قليلاً وتسوّى، وتكون في طول الفتر أو دونه. وتخط فيه حزوز تميز كل قدح بعدد من الحزوز. (2) عيون الأثر، 1/ 255. (3) أسد الغابة، 4/ 148.

وقال عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه -: "إني لواقف يوم (بدر) في الصف، نظرت عن يميني وعن شمالي، فإذا أنا بين غلامين من الأنصار حديثة أسنانهما تمنيت أن أكون بين أضلع (1) منهما، فغمزني أحدهما فقال: يا عم! هل تعرف أبا جَهْل بن هشام؟ فقلت: نعم، وما حاجتك يا ابن أخي؟! قال: بلغني أنه كان يسب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ والذي نفسي بيده، لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا. وغمزني الآخر فقال مثلها، فعجبت لذلك. ونظرت إلى أبي جهل يزول (2) في الناس، فقلت لهما: ألا تريان؟! هذا صاحبكما الذي تسألان عنه، فابتدراه بسيفيهما فضرباه حتى قتلاه، ثم انصرفا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبراه، فقال: أيكما قتله؟ فقال كل واحد منهما: أنا قتلته (3)، وهما ابنا عفراء: عوف بن الحارث الأنصاري (4)، ومعوذ بن الحارث الخزرجي الأنصاري (5). في هذه الغزوة الحاسمة، التقى الآباء بالأبناء، والإخوة بالإخوة .. خالفت بينهم المبادئ، ففصلت بينهم السيوف! كان أبو بكر الصديق مع المسلمين، وكان ابنه عبد الرحمن مع المشركين؛ وكان عتبة بن ربيعة مع المشركين، وكان ابنه أبو حذيفة مع المسلمين. _______ (1) الأضلع: الشديدة القوي الأضلاع. (2) يزول: يتحرك وينتقل. (3) عيون الأثر 1/ 261 - 262. (4) انظر التفاصيل في طبقات ابن سعد 7/ 492، والإصابة 5/ 42، وأسد الغابة 4/ 155، والاستيعاب 3/ 1225. (5) انظر التفاصيل في طبقات ابن سعد 7/ 492، والإصابة 6/ 129، وأسد الغابة 4/ 402، والاستيعاب 4/ 2473.

3 - في أحد

قال عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق بعد إسلامه لأبيه: "لقد أهدفت لي يوم (بدر) مراراً، فصدفت عنك"، فقال أبو بكر الصديق: "لو هدفت لي لم أصدف عنك" (1). وفي يوم (بدر) قتل أبو عبيدة بن الجراح أباه وكان مشركاً (2). 3 - في أُحُد: وفي يوم (أحد) استثار النبي - صلى الله عليه وسلم - روح المنافسة الشريفة بين أصحابه، فقال: "من يأخذ هذا السيف بحقه"؟ فقام إليه رجال فأمسكه عنهم، حتى قام إليه أبو دجانة سماك بن خرشة أخو بني ساعدة، فقال: "وما حقه يا رسول الله"؟ قال: "أن تضرب به العدو حتى ينحني"، قال: "أنا آخذه يا رسول الله بحقه"! فأعطاه إياه. وكان أبو دجانة رجلاً شجاعاً يختال عند الحرب (3) إذا كانت، وكان إذا أعلم بعصابة حمراء فاعتصب بها علم الناس أنه سيقاتل. ولما أخذ السيف من يد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أخرج عصابته تلك فعصب بها رأسه، ثم جعل يتبختر بين الصفين، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين رأى أبا دجانة يتبختر: "إنها لمشية يبغضها الله إلا في مثل هذا الموطن" (4). وقال الأنصار حين رأوا أبا دجانة يخرج عصابته الحمراء: "أخرج أبو دجانة عصابة الموت"، وهكذا كانت تقول له إذا تعصب بها، فخرج وهو يقول: _______ (1) السيرة الحلبية 2/ 192. (2) الإصابة 4/ 11، والسيرة الحلبية 2/ 178. (3) يختال عند الحرب: هو من الخيلاء، وهو الزهو. (4) سيرة ابن هشام 3/ 11 - 12، وانظر أسد الغابة 2/ 352.

"أنا الذي عاهدني خليلي ونحن بالسفح لدى النخيل ألا أقوم الدهر في الكيول (1) أضرب بسيف الله والرسول" فجعل لا يلقى أحداً إلا قتله. وكان في المشركين رجل لا يدع للمسلمين جريحاً إلا دفف (2) عليه، فجعل كل واحد منهما يدنو من صاحبه، فاختلفا ضربتين فقتله أبو دجانة. قال أبو دجانة: "رأيت إنساناً يحمش (3) الناس حمشاً شديداً، فصمدت له (4)، فلما حملت عليه بالسيف ولول (5)، فإذا امرأة ... فأكرمت سيف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أضرب به امرأة (6). وفي يوم (أحد) أيضاً، نزع أبو عبيدة بن الجراح - رضي الله عنه - إحدى الحلقتين من وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فسقطت ثنيته، ثم نزع الأخرى، فسقطت ثنيته الأخرى (7). وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد جرح بهاتين الحلقتين، إذ دخلتا في وجهه الشريف، فنزف منه الدم الطاهر، فكان لا بد من إخراجهما. وقاتلت أم عمارة نسيبة بنت كعب المازنية يوم (أحد)، قالت _______ (1) الكيول: آخر الصفوف في الحرب، وهو بتشديد الياء وقد تخفف، والياء مفتوحة على الوجهين. (2) دفف عليه: أجهز عليه وأسرع قتله. (3) يحمش: يثير غضبهم وحميتهم. (4) صمدت له: قصدت نحوه. (5) الولولة: رفع الصوت. (6) سيرة ابن هشام 3/ 30. (7) سيرة ابن هشام 3/ 28، وطبقات ابن سعد 3/ 410، وجوامع السيرة 161.

نسيبة: "خرجت أول النهار وأنا أنظر ما يصنع الناس، ومعي سقاء فيه ماء، فانتهيت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في أصحابه، والدولة (1) والريح (2) للمسلمين، فلما انهزم المسلمون انحزت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقمت أباشر القتال وأذب عنه بالسيف وأرمي عن القوس، حتى خلصتْ الجراح إلي"، فكان على عاتقها جرح أجوف له غور (3)، من أثر أحَدِ الجروح الكثيرة التي خلصت إليها بهم يوم (أحد). وترّس أبو دجانة دون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بنفسه، يقع النبل في ظهره وهو منحن عليه، حتى كثر فيه النبل. ورمى سعد بن أبي وقاص دون رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان النبي الكريم عليه أفضل الصلاة والسلام يقول له: "ارمِ فداك أبي وأمي" (4). ولما رجع النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى (أُحد) رُفع حُسَيْل بن جابر (وهو اليمان أبو حذيفة) وثابت بن وَقَش في الآطام من النساء والصبيان، فقال أحدهما لصاحبه وهما شيخان كبيران: "لا أباً لك! ما تنتظر؟ فوالله إن بقي لواحد منا من عمره إلا ظِمْئ حمار (5)، إنما نحن هامة (6) اليوم أو غدٍ، أفلا نأخذ أسيافنا ثم نلحق برسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعل الله يرزقنا شهادةً مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "، فأخذا أسيافهما ثم خرجا حتى دخلا في الناس ولم يُعلَم بهما (7). _______ (1) الدولة: بفتح الدال المهملة أو ضمها، والمراد بها هنا الغلبة. (2) الريح المراد بها هنا النصر. (3) سيرة ابن هشام 3/ 29 - 30، الإصابة 8/ 198 - 199. (4) سيرة ابن هشام 3/ 30. (5) الظمئ: مقدار ما يكون بين الشربتين، وأقصر الأظماء ظمئ الحمار، فضرباه مثلاً لقرب الأجل. (6) هامة اليوم أو غد: يريد أنهما يموتان اليوم أو غداً. (7) سيرة ابن هشام 3/ 36.

4 - كارثة الرجيع

أما ثابت بن وقش، فقد قتله المشركون (1). وأما حُسَيل بن جابر، فاختلفت عليه أسياف المسلمين، فقتلوه لا يعرفونه، فقال ابنه حذيفة: (أبي ... أبي ... والله"، فقالوا: "والله إن عرفناه"، فقال حذيفة: "يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين"، فأراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يديَه، فتصدَّق حذيفة بديته على المسلمين (2). 4 - كارثة الرجيع: وقدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد (أُحُد) رهط من قبيلتي (عضَل) و (القار) (3)، فقالوا: "يا رسول الله! إن فينا إسلاماً، فابعث معنا نفراً من أصحابك يفقهوننا في الدين، ويقرئوننا القرآن، ويعلموننا شرائع الإسلام"، فبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معهم نفراً ستة من أصحابه (4). وخرج القوم، حتى إذا كانوا على (الرجيع) (5)، غدروا بهم (6)، فقتلوا بعضهم وأخذوا خبَيب بن عدي وزيد بن الدثنّة أسيرين، وقدموا بهما مكة وباعوهما من قريش بأسيرين من هذيل كانا بمكة (7). وخرجوا بخبيب من (الحرام) إلى (الحِلّ) ليقتلوه، فقال لهم: "دعوني أركع ركعتين"، فتركوه فركع ركعتين ثم قال: "والله لولا أن _______ (1) أسد الغابة 1/ 234، والإصابة 1/ 204. (2) سيرة ابن هشام 3/ 37، والاستيعاب 1/ 352. (3) عضل والقار: قبيلتان من الهون بن خزيمة بن مدركة. (4) سيرة ابن هشام 3/ 160، وفي عيون الأثر 2/ 40: أنهم كانوا عشرة. (5) الرجيع: ماء لهذيل بناحية الحجاز. (6) سيرة ابن هشام 3/ 160. (7) سيرة ابن هشام 3/ 164.

5 - يوم الأحزاب

تحسبوا أن ما بي جزع من الموت لزدت! اللهم احصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تبق منهم أحداً ... فلست أُبالي حين أُقتل مسلماً على أيِّ جنب كان في الله مصرعي وذلك في ذات الإله وإن يشأ يبارك على أوصال شلوٍ ممزَّع ثم قاموا فقتلوه (1). وأما زيد بن الدثنة، فابتاعه صفوان بن أمية ليقتله بأبيه أميّة بن خلف، فأخرجه رجاله ليقتلوه. واجتمع رهط من قريش منهم أبو سفيان ابن حرب، فقال أبو سفيان حين قُدِّمَ زيد ليُقتل: "أنشدك الله يا زيد! أتحب أن محمداً عندنا الآن في مكانك نضرب عنقه وأنك في أهلك؟ "، فقال زيد: "والله ما أحب أن محمداً الآن في مكانه الذي هو فيه، تصيبه شوكة تؤذيه وإني جالس في أهلي"، فقال أبو سفيان: "ما رأيت أحداً يحب أحداً كحب أصحاب محمد محمداً" ... ثم قتلوه (2). 5 - يوم الأحزاب: وفي غزوة (الخندق) (3) كانت صفية بنت عبد المطلب مع النساء والصبيان، قالت: "فمر بنا رجل من يهود، فجعل يُطيف بالحصن، فقد حاربت بنو (قريظة) وقطعت ما بينها وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وليس بيننا وبينهم أحد يدفع عنا، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون في نحور عدوهم، لا يستطيعون أن ينصرفوا عنهم إلينا إن أتانا آت؛ فقلت: _______ (1) أسد الغابة 2/ 104، والإصابة 2/ 103. (2) سيرة ابن هشام 3/ 164 - 165. (3) هي غزوة الأحزاب.

يا حسان (1)! إن هذا اليهودي كما ترى يطيف بالحصن، وإني والله ما آمنه أن يدل على عورتنا مَن وراءنا من يهود، وقد شُغل عنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، فانزل إليه فاقتله! قال: يغفر الله لك يا ابنة عبد المطلب! والله لقد عرفت ما أنا بصاحب هذا ... فلما قال لي ذلك ولم أرَ عنده شيئاً، احتجزت (2) ثم أخذتُ عموداً (3)، ثم نزلت من الحصن إليه، فضربته بالعمود حتى قتلته، فلما فرغت منه رجعت إلى الحصن" (4). ولما انتهى إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما اختلف من أمر (الأحزاب) في غزوة (الخندق)، دعا حذيفة بن اليمان وبعثه إليهم ليلاً لينظر ما فعل القوم. قال حذيفة: " ... فذهبت، فدخلت في القوم، والريح وجنود الله تفعل فيهم ما تفعل: لا تقر لهم قدراً ولا ناراً ولا بناء. فقام أبو سفيان فقال: يا معشر قريش! لينظر امرؤ مَنْ جليسه! قال حذيفة: فأخذت بيد الرجل الذي كان إلى جنبي، فقلت: من أنت؟ قال: فلان بن فلان! ثم قال أبو سفيان: يا معشر قريش! إنكم والله ما أصبحتم بدار مُقام ... لقد هلك الكراع والخف (5)، وأخلفتنا بنو قريظة، وبلغنا عنهم الذي نكره، ولقينا من شدة الريح ما ترون: ما تطمئن لنا قدر، ولا تقوم لنا نار، ولا يستمسك لنا بناء، فارتحلوا _______ (1) حسان بن ثابت شاعر النبي صلى الله عليه وسلم. (2) احتجزت: شددت وسطي. تقول احتجز فلان بإزاره، إذا شد وسطه وربطه. (3) العمود هنا: أعمدة البيت التي يقام عليها، وقد يكون العمود: المقرعة من الحديد. (4) سيرة ابن هشام 3/ 246، وطبقات ابن سعد 8/ 41، وأسد الغابة 5/ 493، والإصابة 8/ 129. (5) الكراع: الخيل. الخف: الإبل.

6 - محاسبة الغادرين

فإني مرتحل! ... ثم قام إلى جمله وهو معقول فجلس عليه، ثم ضربه فوثب به على ثلاث، فوالله ما أطلق عقاله إلا وهو قائم ... فرجعت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو قائم يصلي في مِرْطٍ (1) لبعض نسائه مراجل (2)، فلما رآني أدخلني إلى رجليه وطرح عليَّ طرف المرط، ثم رجع وسجد، فلما سلَّم أخبرته الخبر" (3). 6 - محاسبة الغادرين: وحاصر النبي - صلى الله عليه وسلم - بني (قُرَيظة) من يهود خمساً وعشرين ليلة حتى جَهَدَهم الحصار (4)، فبعثوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن ابعث إلينا أبا لبابة بن عبد المنذر أخا بني عمرو بن عوف لنستشيره في أمرنا، فأرسله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليهم؛ فلما رأوه قام إليه الرجال، وجهش (5) إليه النساء والصبيان يبكون في وجهه، فَرَقّ لهم. وقالوا له: "يا أبا لبابة! أترى أن ننزل على حكم محمد"؟؟ قال: "نعم" وأشار بيده إلى حلقه: إنه الذبح! ... قال أبو لبابة: "والله ما زالت قدماي من مكانهما حتى عرفت أني قد خنت الله ورسوله صلى الله عليه وسلم". وانطلق أبو لبابة على وجهه، ولم يأتِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى ارتبط في المسجد إلى عمود من عُمده وقال: "لا أبرح من مكاني هذا حتى يتوب الله عليّ مما صنعت، وأعاهد الله أن لا أطأ بني (قريظة) أبداً ولا أُرى في بلد خنت الله ورسوله فيه أبداً". فلما بلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خبره - وكان قد استبطأه - قال: "أما إنه لو _______ (1) المرط: الكساء. (2) مراجل: ضرب من وشي اليمن. (3) سيرة ابن هشام 3/ 250 - 252، وطبقات ابن سعد 2/ 269. (4) سيرة ابن هشام 3/ 54. (5) تقول: جهش الرجل بالبكاء وأجهش: إذا تهيأ له وبدأ فيه.

7 - إخلاص الأنصار

جاءني لاستغفرت له، فأما إذا فعل ما فعل، فما أنا بالذي أطلقه من مكانه حتى يتوب الله عليه". وتاب الله على أبي لبابة، فثار الناس إليه ليطلقوه، فقال: "لا والله، حتى يكون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو الذي يطلقني بيده"، فلما مر عليه - صلى الله عليه وسلم - خارجاً إلى صلاة الصبح أطلقه (1). ونزل بنو (قريظة) على حكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فتواثبت الأوس فقالوا: "يا رسول الله صلى الله عليك وسلم! إنهم كانوا مَوَالينا دون الخزرج، وقد فعلت في موالي إخواننا بالأمس ما قد علمت"، وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد حاصر بني (قينقاع) حلفاء الخزرج قبل بني (قريظة) فنزلوا على حكمه، فسأله إياهم عبد الله بن أُبيِّ بن سَلول فوهبهم له، فلما كلمته الأوس قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ألا ترضون يا معشر الأوس أن يحكم فيهم رجل منكم"؟ قالوا: بلى، قال: "فذاك إلى سعد بن معاذ". وأقبل الأوس مع سعد إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهم يقولون لسعد: "يا أبا عمرو! أحسن في مواليك، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما ولاك ذلك لتحسن فيهم". فلما أكثروا عليه قال: "لقد آن لسعد ألا تأخذه في الله لومة لائم". وانتهى سعد إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "إني أحكم فيهم أن تقتل الرجال وتقسم الأموال وتسبى الذراري والنساء" (2). 7 - إخلاص الأنصار: أ- وكان مما صنع الله به لرسوله صلى الله عليه وسلم، أن هذين الحيين من الأنصار: الأوس والخزرج، كانا يتصاولان (3) مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - _______ (1) سيرة ابن هشام 3/ 255 - 256. (2) سيرة ابن هشام 3/ 257 - 259. (3) تصاول: يقال تصاول الفحلان، إذا حمل هذا على هذا، وأراد: أن كل واحد من =

تصاول الفحلين، لا تصنع الأوس شيئاً فيه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غناء (1) إلاَّ وقالت الخزرج: والله لا تذهبون بها فضلاً علينا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الإسلام، فلا ينتهون حتى يوقعوا مثلها، وإذا فعلت الخزرج شيئاً قالت الأوس مثل ذلك! ولما أصابت الأوس كعب بن الأشرف في عداوته لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قالت الخزرج: والله لا تذهبون بها فضلاً علينا أبداً، فتذاكروا: مَن رَجُلٌ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في العداوة كابن الأشرف؟ فذكروا ابن أبي الحقيق وهو بخيبر، فاستأذنوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قتله، فأذن لهم. وخرج إليه من الخزرج من بني سلمة خمسة نفر، فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عبد الله بن عتيك ونهاهم أن يقتلوا وليداً أو امرأة، فخرجوا حتى إذا قدموا (خيبر)، أتوا دار ابن أبي الحقيق، فلم يدعوا بيتاً في الدار إلا أغلقوه على أهله. وكان ابن أبي الحقيق في عليّة له إليها عجلة (2)، فأسندوا فيها (3) حتى قاموا على بابه، فاستأذنوا عليه، فخرجت امرأته إليهم، فقالت: "من أنتم؟ "، فقالوا: ناس من العرب نلتمس الميرة! فقالت: "ذاكم صاحبكم فادخلوا عليه". ودخلوا على ابن أبي الحقيق وأغلقوا عليه وعليهم الحجرة تخوفاً أن تكون دونه مجاولة (4)، وابتدروه وهو على فراشه وقتلوه (5). _______ = الحيين كان يدفع عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويتفاخران بذلك، فإذا فعل أحدهما شيئاً فعل الآخر مثله. (1) غناء: منفعة ودفع مكروه عنه وجلب فائدة. (2) له إليها عجلة: المراد بالعجلة هنا: جذع النخلة، كانوا ينقرون في مواضع منه نقراً بعضها فوق بعض، ثم يجعلونه كالسلم يصعدون عليه إلى الغرف والأماكن العالية. (3) أسندوا فيها: علوا وارتفعوا. وتقول: أسند فلان في الجبل، إذا علا فيه وارتفع. (4) المجاولة: الحركة تكون بينه وبينهم. (5) سيرة ابن هشام 3/ 314 - 315.

ب- وفي غزوة (المُرَيْسيعِ) تزاحم أحد المهاجرين مع أحد الأنصار على الماء، فاقتتلا، فصرخ المهاجري: يا معشر المهاجرين! وصرخ الأنصاري: يا معشر الأنصار! فغضب عبد الله بن أبي بن سَلول وقال: "أوَقد فعلوها؟! قد نافرونا وكاثرونا في بلادنا، والله ما أعُدَّنا وجلابيب (1) قريش هذه إلا كما قال الأول: سَمِّن كلبك يأكلك (2)!!. أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل" (3). وبلغ عبد الله بن عبد الله بن أبي الذي كان من أمر أبيه، فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "يا رسول الله! إنه بلغني أنك تريد قتل عبد الله ابن أُبيّ فيما بلغك عنه، فإن كنت لا بد فاعلاً فمرني به فأنا أحمل إليك رأسه، فوالله لقد عَلِمَتْ الخزرج ما كان لها من رجل أَبَرَّ بوالده مني، وإني أخشى أن تأمر غيري به فيقتله، فلا تدعني نفسي أنظر إلى قاتل أبي يمشي في الناس، فأقتله فأقتل رجلاً مؤمناً بكافر، فأدخل النار!! ". فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "بل نترفّق به ونحسن صحبته ما بقي معنا" (4). وفي رواية: أن عبد الله هذا، تقدم الناس حتى وقف لأبيه على الطريق، فلما رآه أناخ به وقال: "لا أفارقك حتى تزعم أنك الذليل ومحمد العزيز"، فمرَّ به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "دَعهُ، فلعمري لنحسننّ صحبته مادام بين أظهرنا" (5). _______ (1) جلابيب قريش: لقد كان المشركون يلقبون به أصحاب الرسول - صلى الله عليه وسلم - من أهل مكة. (2) سمِّن كلبك يأكلك: مَثَلٌ من أمثلة العرب، وفي ضده تقول: جوّع كلبك يتبعك. (3) سيرة ابن هشام 3/ 236 - 237. (4) سيرة ابن هشام 3/ 236 - 237. (5) طبقات ابن سعد 2/ 65.

8 - يوم الحديبية

8 - يوم الحديبية: أ- وبعثت قريش عروة بن مسعود الثقفي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة (الحديبية)، فجعل يتناول لحية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يكلمه. وكان المغيرة بن شعبة الثقفي واقفاً على رأس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الحديد، فقال لعروة: "اكفف يدك عن وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل ألا تصل إليك"، فقال عروة: "ويحك! ما أفظك وأغلظك!! "، فتبسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال له عروة: "من هذا يا محمد؟! "، فقال: "هذا ابن أخيك المغيرة بن شعبة" (1). ب- وكان في وثيقة صلح (الحديبية) نص: "من أتى محمداً من قريش بغير إذن وليه ردّه عليهم (2)، فلما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة المنورة أتاه أبو بصير عتبة بن أُسَيْد بن جارية، وكان ممن حُبِسَ بمكة، فلما قدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتب فيه أزهر بن عبد عوف بن عبد الحارث بن زهرة والأخنس بن شريق بن عمرو بن وهب الثقفي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وبعثا رجلاً من بني عامر بن لؤي ومعه مولى لهم، فقدما على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بكتاب الأزهر والأخنس، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا أبا بصير! إنا قد أعطينا هؤلاء القوم ما قد علمت، ولا يصلح لنا في ديننا الغدر، وإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجاً ومخرجاً، فانطلِقْ إلى قومك". فقال أبو بصير: "يا رسول الله! أتردني إلى المشركين يفتنونني في ديني؟! "، فقال: "يا أبا بصير! انطلق، فإن الله سيجعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجاً ومخرجاً". وانطلق أبو بصير معهما، حتى إذا كان بـ (ذي الحُلَيْفَة) جلس إلى جدار، وجلس معه صاحباه، فقال أبو بصير: "أصارمٌ سيفك هذا _______ (1) سيرة ابن هشام 3/ 362. (2) سيرة ابن هشام 3/ 366، وطبقات ابن سعد 2/ 9.

9 - في مؤتة

يا أخا بني عامر"؟ فقال: "نعم"، فقال: "أنظر إليه"؟ فقال: "انظر إن شئت"، فاستله أبو بصير ثم علاه به حتى قتله. وخرج المولى سريعاً حتى أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو جالس في المسجد، فلما رآه طالعاً قال: "إن هذا الرجل قد رأى فزعاً"، فلما انتهى إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ويحك! ما لك"؟! فقال: "قتل صاحبكم صاحبي"! وطلع أبو بصير متوشحاً بالسيف حتى وقف على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "يا رسول الله! وَفَت ذمتك، وأدى الله عنك. أسلمتني بيد القوم، وقد امتنعتُ بديني أُفتَنُ فيه أو يُعْبث بي"، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ويل أمه! مِحَشّ (1) حرب لو كان معه رجال". وخرج أبو بصير حتى نزل (العيص) من ناحية (ذي المَرْوَة) على البحر بطريق قريش التي كانوا يأخذون عليها إلى الشام. وبلغ المسلمين الذين كانوا حُبسوا بمكة قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي بصير: "ويل أمه! محش حرب لو كان معه رجال"، فخرجوا إلى أبي بصير بالعيص، فاجتمع إليه منهم قريب من سبعين رجلاً، وضيَّقوا على قريش: لا يظفرون بأحد منهم إلا قتلوه، ولا تمرُّ بهم عير إلا اقتطعوها، حتى كتبت قريش إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تسأله بأرحامها إلا آواهم فلا حاجة لهم بهم، فآواهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (2). 9 - في مؤتة: وفي غزوة (مؤتة) التقى المسلمون بجموع (هرقل) من الروم والعرب، فقاتل زيد بن حارثة براية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى شاط في رماح _______ (1) محش حرب: أي إنه يوقد الحرب ويهيجها ويشعل نارها. نقول حشّ فلان النار: إذا أوقدها وجمع لها الحطب. (2) سيرة ابن هشام 3/ 372 - 373.

القوم (1). وأخذ الراية جعفر بن أبي طالب وقاتل بها، حتى إذا ألحمه القتال اقتحم عن فرس له (2) شقراء فعقرها، ثم قاتل القوم حتى قتل وهو يقول: "يا حبذا الجنة واقترابها طيبة وبارداً شرابها والروم رومٌ قد دنا عذابها كافرةً بعيدةً أنسابها عليّ إذ لاقيتها ضرابهُا (3) " وكان جعفر قد أخذ اللواء بيمينه فقطعت، فأخذه بشماله فقطعت، فاحتضنه بعضديه (4) حتى قتل - رضي الله عنه - وهو ابن ثلاثة وثلاثين سنة (5)، فوُجد في جسمه بضع وتسعون طعنة ورمية كلها فيما أقبل من جسمه (6). ولما استشهد جعفر أخذ عبد الله بن رَواحة الراية، فتقدم بها وهو على فرسه وهو يقول: "أقسمت يا نفسُ لتنزلنَّه لتنزلنَّ أو لتُكرهنَّه إنْ أجْلَبَ الناس وشدوا الرنّة مالي أراكِ تكرهين الجنّة (7) قد طالما قدكنتِ مطمئنة هل أنت إلا نطفة في شنّة (8) _______ (1) شاط في رماح القوم: أي هلك. نقول: شاط الرجل، إذا سال دمه فهلك. (2) اقتحم عن فرس له: أي رمى بنفسه عنها، يريد أنه كان فارساً فترجَّل. (3) سيرة ابن هشام 3/ 433 - 434. (4) احتضنه: أخذه في حضنه. وحضن الرجل: ما تحت العضد إلى أسفل. (5) سيرة ابن هشام 3/ 343. (6) الإصابة 1/ 248. (7) أجلب الناس: صاحوا واجتمعوا. والرنة: صوت فيه ترجيع يشبه البكاء. (8) النطفة: الماء القليل الصافي. والشنة: القربة القديمة.

10 - اختبار العقيدة

ثم قال أيضاً: "يا نفسُ إلا تُقتلي تموتي هذا حمام الموت قد صليتِ وما تمنيتِ فقد أُعطيتِ إن تفعلي فعلهما هُدِيتِ" يريد صاحبيه: زيداً وجعفراً، ثم أخذ سيفه فتقدم وقاتل حتى قتل (1). وأخذ الراية ثابت بن أرقم، فقال: "يا معشر المسلمين! اصطلحوا على رجل منكم"، فقالوا: "أنت"! فقال: "ما أنا بفاعل"! فاصطلح الناس على خالد بن الوليد، فلما أخذ الراية دافع القوم وحاشى (2) بهم، ثم انحاز وانحيز عنه، حتى انصرف بالناس (3). 10 - اختبار العقيدة: وقاد عكاشة بن محصَن الأسدي سرية من المسلمين إلى (الغَمْر) غمر مرزوق، وهو ماء لبني أسد على ليلتين من (فيَد) طريق الأول إلى المدينة (4)، وعكاشة أسدي ولكنه قاتل قومه بني أسد. وقاد أبو العوجاء السُّلَمي سرية من المسلمين ليقاتل قومه بني سُليَمْ، فدعاهم إلى الإسلام فلم يستجيبوا لدعوته، فقاتلهم (5). وقاد الطُّفيل بن عمرو الدّوْسي سرية من المسلمين ليهدم _______ (1) سيرة ابن هشام 3/ 434 - 435. (2) حاشى من المحاشاة، وحاثى الناس: جمعهم وساقهم. (3) سيرة ابن هشام 3/ 435. (4) طبقات ابن سعد 2/ 84. (5) طبقات ابن سعد 2/ 123.

(ذا الكفين) صنم عمرو بن حممة الدّوسي، فخرج الطفيل سريعاً إلى قومه، وهدم (ذا الكفين)، وجعل يحش النار (1) في وجهه ويحرقه وهو يقول: "يا ذا الكفَّين لست من عُبَّادكا ميلادنا أقدم من ميلادكا إني حَشَشْتُ النار في فؤادكا (2) " وقاد الضحّاك بن سفيان الكلابي سرية من المسلمين ليقاتل قومه بني كلاب، فدعاهم إلى الإسلام فأبوا، فقاتلهم وهزمهم (3). وبعث الرسول - صلى الله عليه وسلم - المغيرة بن شعبة إلى (اللاّت)، وكان سدنتها من ثقيف، فهدمها المغيرة وحرّقها بالنار (4). وكانت قوات المسلمين في غزوة (الفتح) عشرة آلاف رجل، تتألف من المهاجرين والأنصار ومسلمي أكثر القبائل العربية يومذاك: سبعمئة من سُلَيم، وألف من مُزَينة، وأربعمئة من غِفار، وأربعمئة وألف من بني جُهَينة، وعدد من تميم وقيس وأسد وغيرها من القبائل الأخرى، فلم يتردد المهاجرون في قتال بلدهم مكة ومعهم قوات القبائل الأخرى بالرغم من وجود أهليهم وأموالهم فيها. ز- وقبل الحركة إلى هذه الغزوة، خرج أبو سفيان بن حرب حتى قدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة المنورة، فدخل على ابنته أم حبيبة بنت أبي سفيان، فلما ذهب ليجلس على فراش رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طوته _______ (1) حشّ النار: جمع لها الوقود. وحش النار: حرّكها لتتقد. (2) طبقات ابن سعد 2/ 157، وسيرة ابن هشام 1/ 410. (3) طبقات ابن سعد 2/ 162 - 163. (4) كتاب الأصنام للكلبي ص 16 - 17.

عنه، فقال: "يا بنية! ما أدري، أرغبت بي عن هذا الفراش، أم رغبتِ به عني"؟! فقالت: "بل هو فراش رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأنت رجل مشرك نجس، فلم أحب أن تجلس على فراش رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "والله لقد أصابك يا بنية بعدي شر" (1)!!. ولما نزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (مرّ الظهران) قبل أن يدخل مكة، ركب أبو سفيان خلف العباس بن عبد الطلب عم النبي - صلى الله عليه وسلم - في عجز بغلة الرسول - صلى الله عليه وسلم -. قال العباس: "فجئت به، كلما مررت بنار من نيران المسلمين قالوا: عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على بغلته، حتى مررت بنار عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، فقال: مَن هذا؟! وقام إليّ، فلما رأى أبا سفيان على عجز الدابة قال: أبو سفيان عدو الله!! الحمد لله الذي أمكن منك بغير عقد ولا عهد! ثم خرج يشتد نحو رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وركَضْتُ البغلة، فسبقته بما تسبق الدابة البطيئة الرجل البطيء؛ فاقتحمت على البغلة، فدخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ودخل عمر، فقال: يا رسول الله! هذا أبو سفيان قد أمكن الله منه بغير عقد ولا عهد، فدعني فلأضرب عنقه! فقلت: يا رسول الله! إني قد أجرته ... ثم جلست إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخذت برأسه وقلت: والله لا يناجيه الليلة دوني رجل. فلما أكثر عمر في شأن أبي سفيان قلت: مهلاً يا عمر! فو الله أن لو كان من رجال بني عَديّ بن كعب (قوم عمر) ما قلت هذا، ولكنك عرفتَ أنه من رجال بني عبد مناف! فقال: مهلاً يا عباس! فوالله لإسلامك يوم أسلمتَ كان أحبّ إليّ من إسلام الخطاب لو أسلم، وما بي إلا أني قد عرفت أن إسلامك كان أحب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من إسلام الخطاب لو أسلم" (2). _______ (1) سيرة ابن هشام 4/ 12 - 13. (2) المصدر السابق 4/ 21 - 22.

11 - الجهاد بالمال

11 - الجهاد بالمال: أ) لقد قرن الإسلام دائماً الجهاد بالأرواح بالجهاد بالمال. قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [سورة التوبة 9: 20]، وقال تعالى: {مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [سورة البقرة 2: 261]. وقال تعالى: {وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [سورة الحديد 57: 10]. وقال تعالى: {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ} [سورة الصف 4: 11]. وقال تعالى: {لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً} [سورة النساء 4: 95]. بل يلاحظ في تلك الآيات الكريمة، أن المال يُقَدَّم على الأنفس دائماً، مما يدل على أهمية الجهاد بالمال. ب) لقد أنفق المسلمون الأولون أموالهم في سبيل الله: أنفق أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - جميع ماله، وكان له أربعون ألفاً أنفقها كلها على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سبيل الله، وقد أعتق سبعة كانوا يُعذَّبون في الله منهم بلال بن رَباح (1). وأنفق عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - نصف ماله في سبيل الله. وأنفق عثمان بن عفان - رضي الله عنه - أموالاً طائلة: جهز جيش _______ (1) الرياض النضرة 1/ 16.

العُسْرة، وهو جيش غزوة (تبوك) بتسعمئة وخمسين بعيراً، وأتم الألف بخمسين فرساً (1). ولما قدم المهاجرون المدينة المنورة استذكروا الماء، وكان لرجل من (غِفار) عين يقال لها: (رُومة)، وكان يبيع منها القِربة بمُدٍّ (2)، فاشتراها عثمان بخمسة وثلاثين ألف درهم وجعلها للمسلمين (3). وكان للزبير بن العوَّام ألف مملوك يؤدون إليه الخراج، فما كان يدخل بيته منها درهم واحد: كان يتصدّق بذلك كله. وباع داراً له بستمئة ألف، فقيل له: "يا أبا عبد الله! غُبِنْتَ "! فقال: "كلا! والله لتعلمنّ لم أُغبن ... هي في سبيل الله" (4). وابتاع عبد الرحمن بن عوف أرضاً من عثمان بن عفان - رضي الله عنهما - بأربعين ألف دينار، فقسَّم ذلك المال في بني زُهرة فقراء المسلمين وأمهات المؤمنين. وتصدق على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشطر ماله: أربعة آلاف، ثم تصدق بأربعين ألف دينار، ثم حمل على خمسمئة فرس في سبيل الله، ثم حمل على ألف وخمسمئة راحلة في سبيل الله، وقد وردت له قافلة من تجارة الشام فحملها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (5). وعاد النبي - صلى الله عليه وسلم - سعد بن أبي وقاص عام حجة الوداع، فقال سعد: "يا رسول الله! إني بلغ بي من الوجع ما ترى، ولا يرثني إلا ابنة، _______ (1) الرياض النضرة 2/ 111. (2) المد: مكيال قديم، اختلف الفقهاء في تقديره، فقدره قسم من الفقهاء بنصف قدح وهو رطل وثلث عند أهل الحجاز، وعند أهل العراق رطلان. (3) الرياض النضرة 2/ 122. (4) المصدر السابق 2/ 364. (5) المصدر السابق 2/ 385.

12 - خير القرون

أفأتصدق بكل مالي"؟ فقال: "لا"، فقال: فالشطر يا رسول الله"؟ قال: "لا"، فقال له: "فالثلث"؟ فقال: "الثلث، والثلث كثير. إنك إن تذر ورثتك أغنياء، خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس" (1). 12 - خير القرون: لقد أتعب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه من يريد التأسي بهم من المسلمين، فأين تضحياتهم المدهشة بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، من دعاوى المصلحين وأصحاب المُثل العليا في القرن العشرين؟!. لقد تأسَّى أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - به في حياته: ببذله السخي، وتضحياته الفذة، وجهاده الرائع. إنهم خريجو مدرسة محمد عليه أفضل الصلاة والسلام ... وكفى ... فكيف كانت أعمالهم بعد التحاقه - صلى الله عليه وسلم - بالرفيق الأعلى؟. وكيف كانت أعمال التابعين الذين تخرجوا في مدرسة الصحابة عليهم رضوان الله؟. ما الدروس العملية من أولئك الصحابة والتابعين في أيام الفتح الإسلامي العظيم؛ تطبيقاً لتعاليم الإسلام وتنفيذاً لمخططات الرسول القائد عليه أفضل الصلاة والسلام في الفتح؟. ... _______ (1) الرياض النضرة 2/ 406.

التطبيق العملي في أيَّام الفَتح الإسلامي العظيم 11هـ - 94هـ 632م - 712م

مع الصحابة والتابعين

مع الصَّحَابة وَالتَابعين 1 - المخطط الأول للفتح: الفتح الإسلامي نَسِيجُ وَحْدِهِ في تاريخ البشر، لا يشبهه فتح ولا يدانيه ولا يقاس به ... فقد خرج المسلمون يعلنون كلمة الله، ويبشرون بدينه، ويبذلون في سبيل ذلك أموالهم وأرواحهم، ويفارقون من أجله ديارهم وأولادهم: لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً. كانت غايتهم إصلاح البشر في أرواحهم وعقولهم وأخلاقهم، وسعادة الناس في دنياهم وآخرتهم؛ فإذا قبلوا الهداية كفوا عنهم، وإن لم يقبلوا فرضوا عليهم الجزية، وإن أبوا قاتلوهم (1). وكان الفاتحون لا يعلنون عن الإسلام بألسنتهم فحسب، ولكنهم كانوا في أخلاقهم ومعاملاتهم وسيرتهم أمثلة حيّة وترجمة عملية لتعاليم الإسلام. لذلك لم ينجلِ الفتح الإسلامي عن غالبين ومغلوبين، وإنما انجلى عن أمة واحدة، لها رب واحد ونبيّ واحد وقرآن واحد وسُنَّة واحدة. _______ (1) قادة فتح العراق والجزيرة ص 476.

لهذا استقر الفتح الإسلامي وخلد، وبقيت البلاد المفتوحة للإسلام، فكان هذا الفتح فتحاً (مستداماً)، لأنه كان فتح خير وبركة وهداية (1). لقد كان الرسول القائد عليه أفضل الصلاة والسلام هو المخطط الأول للفتح الإسلامي، فهو الذي رسم بنفسه الخطة التمهيدية التي حملت الجيوش الإسلامية على فتح أرض الشام وتأسيس أول ركن لدولة الإسلام خارج شبه الجزيرة العربية على شواطئ البحر الأبيض المتوسط الشرقية. ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى جانب تبليغه الدعوة الإسلامية إلى قادة العالم في وقته، كان قائداً ماهراً يقظاً لا يغض الطرف عن أي مظهر عدواني قد يَحُطُّ من شأن دعوته أو يعمل على النيل منها، فلم يقف ساكناً إزاء استشهاد رسوله الذي بعثه إلى أمير الغساسنة في (بصرى) (2)، فأرسل في السنة الثامنة الهجرية (629 م) أحد قادته المقربين إليه، وهو زيد بن حارثة الكلبي - رضي الله عنه - على رأس ثلاثة آلاف رجل إلى الحدود الشمالية الغربية من بلاد العرب. وهناك عند (مؤتة) الواقعة على حدود (البلقاء) (3) إلى الشرق من الطرف الجنوبي للبحر (الميت) التقى المسلمون بقوات الروم (4). ومهما تكن الخاتمة التي لقيتها غزوة (مؤتة)، فإن نتائجها _______ (1) الفاروق القائد ص 50 - الطبعة الثالثة. (2) بصرى: قَصَبةُ كورةِ حوران من أعمال دمشق، انظر التفاصيل في معجم البلدان 2/ 278. (3) البلقاء: كورة من أعمال دمشق بين الشام ووادي القرى قصبتها عمان، انظر التفاصيل في معجم البلدان 2/ 276. (4) انظر تفاصيل معركة (مؤتة) في: الرسول القائد ص 295 - 299.

وآثارها كانت بعيدة المدى؛ فبينما رأى الروم تلك الغزوة (غارة) من الغارات التي اعتاد البدو شنها للنهب والسلب، كانت غزوة (زيد) هذه في الحقيقة غزوة من نوع جديد لم تقدِّر دولة الروم أهميتها، فهي حرب منظمة كانت لها مهمة خاصة، جعلت المسلمين يتطلعون جدياً لفتح أرض الشام. وفي العام التالي، أي في السنة التاسعة الهجرية (630م)، قاد النبي - صلى الله عليه وسلم - بنفسه غزوة (تبوك)، فأظهر للروم وحلفائهم من العرب الغساسنة قوة المسلمين، ثم عاد إلى المدينة المنورة، فكانت غزوة (تبوك) إيذاناً بانطلاق الفتح الإسلامي لتحقيق أهدافه. وفي السنة الحادية عشرة الهجرية (632م) أعد الرسول القائد عليه أفضل الصلاة والسلام جيشاً من المسلمين بقيادة أسامة بن زيد الكلبي (1) للتعرض لقوات الروم وحلفائهم، غير أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توفي في يوم الإثنين الثاني عشر من ربيع الأول سنة إحدى عشرة الهجرية قبل تحرك ذلك الجيش، فترك لخلفائه خطة واضحة المعالم، وولَّى وجوههم شطر قبلة عيّنها لهم ... وهكذا وقف الرسول القائد عليه أفضل الصلاة والسلام بثاقب نظره على أن أشد الأخطار التي يمكن أن تحل ببلاد العرب وتناوئ دعوته هي في أرض الشام حيث الروم وعمالهم الغساسنة، وقد أثبتت حوادث الفتح الإسلامي في مناطق الروم صدق هذه الإشارة، فكان الروم أشد المحاربين عناداً (2). _______ (1) انظر ترجمته في: قادة فتح أرض الشام ومصر، ص 33 - 51. (2) الدولة الإسلامية وإمبراطورية الروم ص 41.

2 - بعث أسامة

2 - بعث أسامة: والتحق النبي - صلى الله عليه وسلم - بالرفيق الأعلى، وتولى أبو بكر الخلافة، فكان أول أمر أصدره بعد أن تمت له البيعة بالخلافة: "أنفذوا بعث أسامة". ولكن أسامة طلب من عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أن يرجع إلى المدينة ليستأذن أبا بكر في رجوع الناس قائلاً: "ارجع إلى خليفة رسول الله، فاستأذنه يأذن لي أن أرجع بالناس، فإن معي وجوه الناس وحدَّهم (1)، ولا آمن على خليفة رسول الله وثقل (2) رسول الله يتخطفهم المشركون". وأبلغ ابن الخطاب - رضي الله عنه - رسالة أسامة إلى أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -، فلم يلبث حين سمعها أن ثار ثائره وقال: "لو خطفتني الكلاب والذئاب، لم أردَّ قضاءً قضى به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ". كما رفض أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - رفضاً قاطعاً أن يؤمّر على الجيش غير أسامة قائلاً لعمر بن الخطاب: " ... استعمله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتأمرني أن أنزعه؟! " (3). وقال الناس لأبي بكر: "إن هؤلاء جند المسلمين، والعرب على ما ترى، فقد انتقضت بك، فلا ينبغي أن تفرق جماعة المسلمين عنك"، فأجابهم أبو بكر: "والذي نفسي بيده، لو ظننت أن السباع تخطفني، _______ (1) حَدُّ الناس: أصحاب النجدة والبأس منهم. وحدّ الرجل: بأسه ونفاذه في نجدته. (2) الثقَل: المتاع. والثقل: الشيء النفيس الخطير. ويريد: أمهات المؤمنين وآل النبي - صلى الله عليه وسلم -. (3) الطبري 2/ 462.

لأنفذت جيش أسامة، كما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - " (1). ورجع أسامة بنفسه إلى أبي بكر الصديق وقال له: "إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعثني وأنا على غير حالكم هذه، وأنا أتخوف أن تكفر العرب، فإن كفرت كانوا أول من يقاتل، وإن لم تكفر مضيت، فإن معي سراة الناس وخيارهم ... "، فقال أبو بكر: "والله لأن تخطفني الطير أحبَّ إليَّ من أن أبدأ بشيء قبل أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " (2). لقد كان أبو بكر الصديق - رضي الله عنه -، يريد أن يعلِّم المسلمين أهمية الطاعة وضرورة التحلي بالضبط المتين، فطبّق ذلك على نفسه أولاً ملتزماً بالطاعة إلى أقصى الحدود، حتى يستطيع مطالبة غيره بالطاعة. وكانت بعثة أسامة العنوان الأول لسياسةٍ عامة في الدولة الإسلامية، هي في ذلك الحين خير السياسات. كان قوام تلك السياسة، طاعة ما أمر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكانت الطاعة -جد الطاعة- مناط السلامة وعصمة المعتصمين من الخطأ الأكبر في ذلك الحين. وحيث يكون التمرُّد هو الخطأ الأكبر، فالطاعة - بل الطاعة الصارمة - هي العصمة التي ليس من ورائها اعتصام. وقد كان التمرد هو الخطر الأكبر في ذلك الحين لا مراء!. كان النفاق يطلع رأسه في مكة المكرمة والمدينة المنورة، وكانت _______ (1) ابن الأثير 2/ 127. (2) طبقات ابن سعد 4/ 74.

القبائل في البادية تتسابق إلى الردة في أنحاء الجزيرة العربية، وكان جند أسامة يودون لو استبدل به أميراً غيره، وكان أسامة أول من يشك في طاعة القوم إياه ويترقب أن يخلفه على البعثة أمير سواه. تمرُّدٌ أو نذيرٌ بتمردٍ في كل مكان!. وطاعةٌ واجبة هنا حيث نبغ التمرد، أو لا سبيل إلى واجب بعد ذلك يطاع. وهنا تسعف الصدِّيق طبيعةٌ هي أعمق الطبائع فيه، فيقول وقد خوّفوه الخطر على المدينة المنورة وجيش أسامة يفارقها: "والله لا أحل عقدة عقدها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -! ولو أن الطير تخطَّفتنا والسباع من حول المدينة، ولو أن الكلاب جرت بأرجل أمهات المؤمنين، لأجهزنّ جيش أسامة ... ". فلا خطر إذن - في نظر الصديق - أكبر من خطر الاجتراء على حق الطاعة في تلك الآونة، ولو جرّت الكلاب بأرجل البنات والأمهات. لقد رأى أبو بكر الصديق - رضي الله عنه -، أن العصمة - حق العصمة - في رأي واحد لا رأي قبله ولا بعده، وهو الطاعة في غير تردد ولا هوادة ولا إبطاء. وقد ضرب المثل الأعلى في الطاعة التي أرادها، فشيَّعَ جيش أسامة وهو ماشٍ على قدميه، وعبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - يقود دابته بجواره، فقال أسامة: "يا خليفة رسول الله! والله لتركبنَّ أو لأنزلنَّ"، فقال: "والله لا تنزل، ووالله لا أركب، وما عليَّ أن أُغبِّر قدميَّ في سبيل الله ساعة".

ثم استأذن أسامة قائلاً: "إن رأيت أن تعينني بعمر، فافعل" (1)، فعاد عمر بإذنه ... بإذن القائد الذي هو في مقام الطاعة هناك، حتى على الخليفة وعلى أكبر الصحابة من بعده (2). وقبل أن يعود أبو بكر أدراجه إلى المدينة، وقف في جيش أسامة خطيباً وقال: "أيها الناس! أوصيكم بعشر فاحفظوها عني: لا تخونوا، ولا تغلّوا (3)، ولا تغدروا، ولا تمثلوا (4)، ولا تقتلوا طفلاً صغيراً ولا شيخاً كبيراً ولا امرأة، ولا تعقروا نخلاً ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيراً إلا لمأكلة، وسوف تمرون بأقوام قد فرغوا أنفسهم في الصوامع فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له، وسوف تقدمون على قوم يأتونكم بآنية فيها ألوان الطعام، فإذا أكلتم شيئاً بعد شيء فاذكروا اسم الله عليه، وتلقون أقوماً قد فحصوا (5) أوساط رؤوسهم وتركوا حولها مثل العصائب فاخفقوهم بالسيف خفقاً ... اندفعوا باسم الله". وقال لأسامة: "اصنع ما أمرك به نبي الله - صلى الله عليه وسلم -: ابدأ ببلادِ قُضاعة، ثم ائت (آبل) (6)، ولا تقصرنّ في شيء من أمر رسول لله، ولا يعجلنّ لما خلفت عن عهده" (7). _______ (1) الطبري 2/ 463. (2) انظر التفاصيل في: عبقرية الصديق 132 - 137. (3) غلّ: خان في المغنم. وفي التنزيل العزيز: {وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}. (4) مَثَّلَ بفلان: نكَّلَ به بجدع أنفه أو قطع أنفه أو غيرها من الأعضاء. (5) فَحَصَ: كشف. وفحصوا أوساط رؤوسهم: كشفوها بحلق شعرها. (6) آبل: تسمى آبل الزيت، وهي مدينة بالأردن من مشارف الشام، انظر التفاصيل في معجم البلدان 1/ 52. (7) الطبري 2/ 463.

وسار أسامة في ثلاثة آلاف رجل (1) يقطع البيد في أيام شديدة الحر من شهر حزيران (يونيو)، وبعد مسيرة عشرين يوماً نزل بجيشه، فأغار على (آبل) الواقعة شمال (مؤتة)، وبثّ خيوله في قبائل قضاعة وأحلافهم، تلك القبائل التي ظاهرت الروم على جيش المسلمين في غزوة (مؤتة)، فبث خيوله في تلك القبائل، وقضى على كل مقاومة صادفها هناك، فما: "رُئي جيش كان أسلم من ذلك الجيش" (2). وعاد أسامة إلى المدينة بجيشه الظافر، فتلقاه أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - في جماعة من الصحابة وتلقاه أهل المدينة، فدخل المدينة والناس من حوله يرددون قول النبي - صلى الله عليه وسلم - عنه: "إنه خليق للإمارة، وإن كان أبوه لخليقاً لها" (3). لقد كان أثر هذه الغزوة عظيماً في المرتدين وغيرهم، فقد شاع في الجزيرة العربية خبرها، فكانت لا تمر بقبيل يريدون الارتداد إلا تخوِّفوا وسكنوا وقالوا فيما بينهم: "لو لم يكن المسلمون على قوة، لما خرج من عندهم هؤلاء"!. وكان أثرها في تأديب القبائل العربية القاطنة على الحدود الشمالية لجزيرة العرب واضحاً، فلم يحرِّكوا ساكناً بعدها أبداً، حتى جاءتهم جيوش المسلمين سنة ثلاث عشرة الهجرية، فدخلوا في الإسلام وأصبحوا من حماته. _______ (1) البدء والتاريخ 5/ 152. (2) طبقات ابن سعد 4/ 68. (3) المصدر السابق نفسه.

3 - حرب الردة

ولكنّ أثرها في إبراز الطاعة والحرص على متطلباتها كان عظيماً جداً، فما من جيش يكتب له النصر وما من أمة يكتب لها النصر، إلا إذا كانت الطاعة الحقة طبيعة من طبائعها وسجية من سجاياها. وكان المثال الشخصي الذي ضربه أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - في الحرص على الطاعة، من أعظم الدروس التي ضربها للمسلمين في بداية حياته العملية في الخلافة. 3 - حرب الردة: أ) وصمم أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - على قتال المرتدين، وكان أكثر العرب قد ارتدوا إلا أهل المدينة ومكة والطائف (1)، فقال عمر بن الخطاب لأبي بكر الصديق: "كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أُمرتُ أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فمن قال لا إله إلا الله عَصَمَ مني ماله ونفسه إلا بحقه، وحسابه على الله"، فقال أبو بكر: "والله لأقاتلنّ مَنْ فرّق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال؛ والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقاتلتهم على منعها" (2). وخرج أبو بكر بنفسه شاهراً سيفه راكباً راحلته لقتال أهل الردّة، فجاء علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه وأخذ بزمام راحلته وقال: "أين يا خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟! أقول لك ما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم (أُحد): شم (3) سيفك، لا تفجعنا بك، وارجع إلى المدينة، والله _______ (1) ابن الأثير 2/ 123، وتاريخ أبي الفداء 1/ 152. (2) الرياض النضرة 1/ 129. (3) شم سيفك: اغمده. ويقال: سلّه، وهو من الأضداد.

لئن أُصبنا بك لا يكون بعدك نظام أبداً" (1). لقد ثبت أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - ثباتاً عجيباً أمام تيار المرتدين، وقاوم بصبر وتصميم وعناد وإيمان: كل فكرة تدعو لمهادنة المرتدين، فعزم الله لأبي بكر على قتالهم، ما رضي منهم إلا بالخطة المخزية أو الحرب المجلية. فأما الخطة المخزية، فأن يُقِرُّوا بأنْ مَن قُتل منهم في النار ومَن قُتل من المسلمين في الجنة، وأما الحرب المُجْلِية فأن يخرجوا من ديارهم (2). ونجح أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - في ثباته القوي، فأعاد وحدة العرب في الجزيرة العربية تحت لواء الإسلام. عن أبي رجاء العطاردي قال: "دخلت المدينة فرأيت الناس مجتمعين، ورأيت رجلاً يقبّل رأس رجل وهو يقول: أنا فداؤك! لولا أنت لهلكنا. فقلت: مَن المقبِّل، ومَن المقبَّل؟ قالوا: عمر يقبِّل رأس أبي بكر في قتاله أهل الردّة إذ منعوا الزكاة، حتى أتوا بها صاغرين" (3). لقد قابل أبو بكر الصديق فتنة الردّة بأحزم ما تقابل به من بدايتها إلى منتهاها، وعالجها علاجها في كل خطوة من خطواتها وكل ناحية من نواحيها، فبادرها بالحزم من صيحتها الأولى، وتعقَّبها بالحزم يوماً بعد يوم، حتى أسلمت مقادها وثابت إلى قرارها (4). فلم تحل سنة اثنتي عشرة الهجرية (633 م) أي بعد عام من وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا وكانت طلائع الجيوش الإسلامية تهدد ملك كسرى في العراق _______ (1) ابن الأثير 2/ 130. (2) المصدر السابق نفسه. (3) الرياض النضرة 1/ 130. (4) عبقرية الصديق 149.

وملك قيصر في أرض الشام، وتهاجم الامبراطوريتين الساسانية والبيزنطية في عقر داريهما (1). ... خريطة شبه الجزيرة العربية. ... _______ (1) الفاروق القائد 63.

ب) ولكن، كيف انتصر المسلمون وهم قليلون على المرتدين وهم كثيرون؟. في معركة (اليمامة) كانت راية المهاجرين مع سالم مولى أبي حذيفة، فقالوا: "نخشى علينا من نفسك شيئاً"! فقال: "بئس حامل القرآن أنا إذاً" (1) ... إن الذي يحمل القرآن لا يجبن أبداً. واحتدم القتال في هذه المعركة بين المسلمين من جهة، وبين المرتدين أصحاب مسيلمة الكذاب من جهة أخرى، فقال ثابت بن قيس: "بئسما عوّدتم أنفسكم يا معشر المسلمين! اللهم إني أبرأ إليك مما يعبد هؤلاء - يعني أهل اليمامة - وأبرأ إليك مما يصنع هؤلاء - يعني المسلمين -". وفي تلك المعركة، قال زيد بن الخطاب حين انكشف الناس عن رحالهم: "لا تَحَوُّز (2) بعد الرِّحال"، ثم قاتل حتى قتل. وفي تلك المعركة قام البراء بن مالك أخو أنس بن مالك - رضي الله عنهما -، وكان إذا حضر الحرب أخذته العُرواء (3) حتى يقعد عليه الرجال وهو ينتفض تحتهم حتى يبول في سراويله، فإذا بال يثور كما يثور الأسد؛ فلما رأى ما صنع الناس أخذه الذي كان يأخذه حتى قعد عليه الرجال، فلما بال وثب وقال: "أين يا معشر المسلمين! أنا البراء بن مالك ... هلم إليّ" ... وزحف المسلمون حتى ألجؤوا المرتدين إلى _______ (1) الطبري 2/ 509. (2) انحاز: ترك مركزه إلى آخر. والتحوّز: ترك موقع القتال إلى آخر. وهو هنا يشير إلى الآية الكريمة: {وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ}. (3) العرواء: رعدة الخوف.

حديقة الموت وفيها مسيلمة الكذاب، فقال البراء: "يا معشر المسلمين! ألقوني عليهم في الحديقة، فقال الناس: "لا نفعل يا براء"! فقال: "والله لتطرحُنّي عليهم فيها"، فاحتمل حتى إذا أشرف على الحديقة من الجدار، اقتحم فقاتلهم عن باب الحديقة، حتى فتحها للمسلمين (1). وقال زيد بن الخطاب - رضي الله عنه - قبل استشهاده في معركة اليمامة: "لا والله، لا أتكلم اليوم حتى نهزمهم أو ألقى الله فأكلمه بحجتي! عضّوا على أضراسكم أيها الناس، واضربوا في عدوكم، وامضوا قُدُماً". وقال ثابت بن قيس في تلك المعركة أيضاً: "يا معشر المسلمين! أنتم حزب الله وهم أحزاب الشيطان، والعزة لله ولرسوله ولأحزابه ... أروني كما أُريكم". وقال أبو حذيفة في تلك المعركة أيضاً: "يا أهل القرآن! زينوا القرآن بالفعال" (2). لقد كان تعداد قوات المسلمين في (اليمامة) نحو ثلاثة عشر ألف مقاتل، وكان تعداد قوات مسيلمة نحو أربعين ألفاً أو أكثر (3) - أي أنَّ المشركين كانوا متفوقين فواقاً عددياً على المسلمين، كما أن المشركين كانوا يقاتلون في منطقتهم وفي قواعدهم، وكان المسلمون يقاتلون بعيداً _______ (1) الطبري 2/ 511. (2) الطبري 2/ 513. (3) جاء في كتاب: فضائل القرآن، لابن كثير ص 12 - ملحق بالجزء التاسع من تفسير ابن كثير ما يلي: "التفَّ حول مسيلمة من المرتدين قريب من مئة ألف، فجهز الصديق أبو بكر لقتاله خالد بن الوليد في ثلاثة عشر ألفاً".

4 - في اليرموك

عن منطقتهم وبعيداً عن قواعدهم. وبالرغم من ذلك استشهد من المسلمين ثلاثمئة وستون من المهاجرين والأنصار من سكان المدينة المنورة وحدها، وثلاثمئة من المهاجرين من غير أهل المدينة المنورة، وثلاثمئة من التابعين (1) مع شهداء آخرين، فكان جملة من قتل من المسلمين ألفاً ومئتي شهيد (2)، منهم خمسمئة من القراء (3)، ولهذا أشار عمر بن الخطاب على أبي بكر الصديق - رضي الله عنهما - أن يجمع القرآن لئلا يذهب منه بسبب موت مَن يحفظه (4). أما بنو حنيفة فقد قتل منهم أربعة عشر ألفاً وقتل منهم في الطلب سبعة آلاف (5)، أي أن نسبة الشهداء من المسلمين تعادل ستة عشر بالمئة (16%) فقط من نسبة قتلى المشركين، بينما كانت نسبة المسلمين الذين شهدوا المعركة واحداً إلى ثلاثة فقط من نسبة المشركين، وهذا يعد أروع انتصار للعقيدة الراسخة وأوضح دليل على أهميتها في القتال. 4 - في اليرموك: ولما فرغ عِكرمة بن أبي جَهل من قتال الردة، سار مجاهداً إلى أرض الشام أيام أبي بكر الصديق مع جيوش المسلمين، فعسكر بـ (الجرف) على ميلين من المدينة المنورة، فخرج أبو بكر يطوف في _______ (1) الطبري 2/ 516، وابن الأثير 2/ 140. (2) الطبري 2/ 519. (3) الطبري 2/ 516، وابن الأثير 2/ 140. (4) فضائل القرآن، ص 12. (5) الطبري 2/ 516، وابن الأثير 2/ 140.

معسكر المسلمين، فبصر بخباء عظيم حوله ثمانية أفراس ورماح وعدة ظاهرة، فانتهى إليه، فإذا بخباء عكرمة، فسلّم عليه أبو بكر وجزاه خيراً (1). وحملت الروم في (اليرموك) حملة أزالوا المسلمين عن مواقعهم، فقال عكرمة: قاتلت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في كل موطن وأفرّ منكم اليوم"؟! ثم نادى: "مَن يبايعني على الموت"؟ فبايعه عمه الحارث بن هشام وضِرار بن الأزور في أربعمئة من وجوه المسلمين وفرسانهم، فقاتلوا قدام فسطاط خالد بن الوليد حتى أُثبتوا جميعاً جراحاً، فمنهم مَن برأ ومنهم مَن قُتِل (2). وكان عكرمة أعظم الناس بلاء، فكان يركب الأسنة حتى جرحت صدره، فقيل له: "اتقِ الله وارفق بنفسك"، فقال: "كنت أجاهد بنفسي عن اللات والعزّى فأبذلها لها، أفأستبقيها الآن عن الله ورسوله؟! ... لا والله أبداً"، فلم يزد إلا إقداماً (3). وقد استشهد في (اليرموك) الحارث بن هشام وعكرمة وسُهيل بن عمرو، فأُتوا بماء وهم صرعى، فتدافعوه: كلما دُفع إلى رجل منهم قال: اسق فلاناً، حتى ماتوا ولم يشربوه. فقد طلب عكرمة الماء، فنظر إلى سهيل ينظر إليه، فقال: "ادفعوه إليه"، فنظر سهيل إلى الحارث ينظر إليه، فقال: "ادفعوه إليه"، فلم يصل إليه حتى ماتوا جميعاً (4). وقد وُجد بعكرمة بضع وسبعون ما بين طعنة وضربة ورمية (5). _______ (1) أسد الغابة 4/ 6. (2) ابن الأثير 2/ 158، وأسد الغابة 4/ 6. (3) أسد الغابة 4/ 6. (4) الاستيعاب 3/ 1084. (5) المصدر السابق 3/ 1085.

وقاد خالد بن الوليد - رضي الله عنه - معركة (اليرموك) الحاسمة، فلما تولى الخلافة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، عزل خالداً عما كان عليه، وولَّى أبا عبيدة بن الجراح - رضي الله عنه - مكان خالد (1). فقد كتب عمر إلى أبي عبيدة بعقده وولايته على الشام مكان خالد، وصيّر خالداً موضع أبي عبيدة (2). ولكن أبا عبيدة لم يخبر خالداً بعزله إكراماً له وإجلالاً (3)، فلما علم خالد بعزله، قال للناس عن أبي عبيدة: "بعث عليكم أمين هذه الأمَّة". وقال أبو عبيدة عن خالد: "سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "خالد سيف من سيوف الله ... نِعْمَ فتى العشيرة" (4). ويومئذ قال خالد قولته المشهورة: "لا أقاتل من أجل عمر، ولكن أقاتل من أجل إعلاء كلمة الله"، فكان له بلاء وغناء وإقدام حتى توفي (5). تلك دروس قيمة من السلف الصالح: قائد كان له في حرب الروم والفرس أثر شديد (6)، يعزله الخليفة ثم يقول: "إني لم أعزل خالداً عن سخط ولا عن خيانة، ولكن الناس فخَّموه وفُتنوا به، فخفت أن يوكلوا إليه، فأحببت أن يعلموا أن الله هو الصانع، _______ (1) طبقات ابن سعد 8/ 397. (2) اليعقوبي 2/ 117. (3) ابن الأثير 2/ 207، وفي رواية أخرى أن خالداً علم بعزله قبل أبي عبيدة؛ انظر الطبري 2/ 595. (4) الإصابة 2/ 99، وأسد الغابة 3/ 85، والاستيعاب 2/ 794. (5) طبقات ابن سعد 8/ 397. (6) الإصابة 2/ 98، وأسد الغابة 7/ 95.

5 - في معركة الجسر

وألا يكونوا بعرض فتنة" (1)، فلا يحقد خالد على الخليفة؛ وقد أوصى خالد لعمر عندما حضرته الوفاة (2). كما لم يحقد خالد على خلفه، ولم يحقد خلفه عليه، بل لا يزداد خلفه إلا تقديراً وإعزازاً لسلفه المعزول، ثم يتقارضان علناً وعلى رؤوس الأشهاد الثناء العاطر!. وفي معركة (اليرموك) قاتلت النساء، فخرجت جويرية بنت أبي سفيان في جولة، وكانت مع زوجها، فقاتلت قتالاً شديداً (3). وانتصر المسلمون في (اليرموك) وكانوا ستة وثلاثين ألفاً، على الروم وكانوا أربعين ومئتي ألف: ثمانين ألف فارس، وثمانين ألف راجل، وثمانين ألف مقيد بالسلاسل (4). 5 - في معركة الجسر: وانتصر أبو عبيد بن مسعود الثقفي (5) على الفرس في معركة (السقاطية) (6)، فجاء الدهاقين (7) إليه بآنية فيها أطعمة فارس وقالوا: "هذه كرامة أكرمناك بها قِرىً لك". قال أبو عبيد: "أأكرمتم الجند وقريتموهم مثله" قالوا: "لم يتيسر، ونحن فاعلون". قال أبو عبيد: "لاحاجة لنا فيه! بئس المرء أبو عبيد إن صحب قوماً من بلادهم، أهرقوا دماءهم دونه أو لم يهرقوا، فاستأثر عليهم بشيء يصيبه! _______ (1) ابن الأثير 2/ 207 - 208. (2) طبقات ابن سعد 7/ 398، والإصابة 2/ 100. (3) الطبري 2/ 597. (4) المصدر السابق 3/ 394، طبعة دار المعارف - القاهرة. (5) انظر تفاصيل حياته في: قادة فتح العراق والجزيرة، ص 212 - 220. (6) السقاطية: ناحية قريبة من مدينة واسط، انظر التفاصيل في معجم البلدان 5/ 91. (7) الدهاقين: جمع دهقان، وهو زعيم فلاحي الفرس ورئيس الأقليم.

لا والله، لا نأكل مما أفاء الله عليهم إلا مثل ما يأكل أوساطهم" (1). وفي معركة (الجسر) وهي معركة (قسّ الناطِف) (2)، بعث قائد الفرس إلى أبي عبيد: "إما أن تعبروا إلينا ونَدَعكم والعبور، وإما أن تَدَعونا نعبر إليكم". فقال أبو عبيد: "والله لأقطعنّ الفرات إليهم ... لا يكونون أجرأ على الموت منا" (3). وعبر المسلمون على جسر (المِرْوَحة) (4) في الضفة الغربية للفرات إلى (قسّ الناطف) في الضفة الشرقية، وكان تعداد جيش المسلمين أقل من عشرة آلاف مقاتل، فلم يمهلهم الفرس بعد عبورهم، بل هاجموهم بعنف شديد. وكان على مقدمة الفرس فِيَلَة مدربة أخافت خيول المسلمين ففرت خيول المسلمين لا تلوي على شيء. واشتد الأمر بالمسلمين، فترجَّل أبو عبيد والناس ومشوا إلى الفرس وصافحوهم بالسيوف، ولكن الفيلة صدّت المسلمين وبعثرتهم، فنادى أبو عبيدة: " احتوشوا (5) الفيلة، وقطّعوا بِطنها (6)، واقلبوا عنها أهلها"، ووثب أبو عبيد على فيل أبيض، فقطع حزامه، فوقع الذين على ظهره، ثم ضرب خرطومه بالسيف، ولكن الفيل خبط أبا عبيد وضربه _______ (1) الطبري 2/ 637. (2) قس الناطف: موضع قريب من الكوفة على شاطئ الفرات الشرقي، انظر التفاصيل في معجم البلدان 7/ 88. (3) الطبري 2/ 640. (4) المروحة: موضع قريب من الكوفة على شاطئ الفرات الغربي، انظر التفاصيل في معجم البلدان 8/ 32. (5) احتوش القوم الصيد: إذا نفَّره بعضهم على بعض. (6) البطن: جمع بطان، وهو الحزام.

6 - في القادسية

برجله، فألقاه على الأرض، ووقف فوقه فمات شهيداً. ورأى الناس قائدهم صريعاً، فاستقتلوا وأعملوا سيوفهم في الفيل حتى قتلوه، ثم تتابع سبعة رجال من ثقيف قوم أبي عبيد بن مسعود الثقفي، كلهم يأخذ الراية ويقاتل حتى يموت؛ حتى أخذ الراية المثنى بن حارثة الشيباني (1)، فوقف واللواء بيده ينادي: "يا أيها الناس! دونكم فاعبروا"، ولكنّ عبد الله بن مرثد الثقفي قطع الجسر قائلاً: "يا أيها الناس! موتوا على ما مات عليه أُمراؤكم ... أو نظفر" (2). وأخيراً استطاع المثنى ترتيب انسحاب المسلمين بعد تكبدهم خسائر فادحة بالأرواح، وتعتبر خطة انسحاب المثنى مثالاً رائعاً لخطط الانسحاب في تاريخ الحرب كله. 6 - في القادسية: أ) وفي معركة (القادسية) قالت امرأة من (النخع) لبنيها الأربعة الذين شهدوا المعركة: "إنكم أسلمتم فلم تبدّلوا، وهاجرتم فلم تُثْرِبوا، ولم تَنْبُ بكم البلاد، ولم تقحمكم ألسنة؛ ثم جئتم بأمكم عجوز كبيرة فوضعتموها بين يدي أهل فارس ... والله إنكم لبنو رجل واحد، كما إنكم بنو امرأة واحدة، ما خنت أباكم ولا فضحت حالكم ... انطلقوا فاشهدوا أول القتال وآخره"، فأقبلوا يشتدُّون (3). _______ (1) انظر تفاصيل سيرته في: قادة فتح العراق والجزيرة، ص 25 - 44. (2) انظر التفاصيل في الطبرى 2/ 639 - 643، وابن الأثير 2/ 167، والبلاذري ص 252 - 253، والبدء والتاريخ 5/ 170، وفي المعارف ص 401: أن أبا عبيد ضرب الفيل فوقع عليه الفيل فقتله. (3) الطبري 3/ 53.

وشهدت الخنساء الشاعرة المشهورة معركة (القادسية)، ومعها بنوها أربعة رجال، فحرَّضتهم على القتال، وأمرتهم بالصبر، وحثتهم على الإقدام. وباشر أولاد الخنساء القتال، وقُتِلوا واحداً بعد واحد، فلما علمت الخنساء باستشهادهم قالت: "الحمد لله الذي أكرمني بقتلهم، وأرجو من ربي أن يجمعني بهم في مستقر رحمته" (1). ب) وفي هذه المعركة أيضاً، كان أبو مِحْجَن الثقفي (2) في السجن قد قيِّد وحبس في مقر سعد بن أبي وقاص، فصعد إلى سعد حين أمسى يستعفيه فردَّه سعد، فأتى سلمى بنت خصَفة زوج سعد، فقال: "يا سلمى! يا بنت آل خصفة! هل لك إلى خير"؟؟ فقالت: "وما ذاك"؟! فقال: "تخلّين عني وتعيرينني (البلقاء) (3)، فالله عليّ إن سلّمني الله أن أرجع إليك حتى أضع رجليّ في قيدي"! فقالت: "وما أنا وذاك"! فرجع يرسف في قيوده ويقول: كفى حزناً أن تردّى (4) الخيل بالقنا (5) وأُترك مشدوداً في وثاقيا إذ قمتُ عَنَّاني الحديد وأُغلقت مصاريع دوني قد تصمّ المناديا ولله عهد لا أخيس (6) بعهده لئن فرجت ألا أزور الحوانيا" (7) فلما سمعت سلمى ذلك رقّت له، فخلّت سبيله وأعطته _______ (1) إرادة القتال في الجهاد الإسلامي، ص 14. (2) اسمه عمرو بن حبيب بن عمرو الثقفي. (3) البلقاء: اسم فرس سعد بن أبي وقاص. (4) تردى: تهلك. (5) القنا: اسم الجنس الجمعي لقناة. والقناة: الرمح الأجوف. (6) خاس العهد: نقضه وخانه. ويقال: خاس بالعهد، وخاس فيه. (7) الطبري 2/ 642.

الفرس، فقاتل قتالاً عظيماً. وكان يكبّر ويحمل فلا يقف بين يديه أحد، وكان يقصف الناس قصفاً منكراً، فعجب الناس منه وهم لا يعرفونه (1). ورآه سعد وهو فوق القصر ينظر إلى القتال، فقال: "لولا أن أبا محجن محبوس لقلت: هذا أبو محجن وهذه (البلقاء) تحته". فلما تراجع الناس عن القتال، عاد إلى القصر، وأدخل رجليه في القيد، فأعلمت سلمى سعداً خبر أبي محجن، فأطلقه وقال: "اذهب ... لا أحدُّك أبداً"، فتاب أبو محجن حينئذ وقال: "كنت آنف أن أتركها - يعني الخمرة - من أجل الحد (2)، فوالله لا أشربها أبداً" (3). ج) وفي (القادسية) أيضاً، تكبَّد المسلمون خسائر فادحة بالأرواح من جراء هجوم الفيلة عليهم، فأرسل سعد إلى المسلمين من الفرس (4)، وسألهم عن الفيلة: "هل لها مَقَاتِل"؟ فقالوا: "نعم، المشافر والعيون، لا يُنتفع بها بعدها". وأرسل سعد إلى القعقاع بن عمرو التميمي وأخيه عاصم بن عمرو التميمي وقال لهما: "اكفياني الفيل الأبيض"، وكانت الفيلة كلها آلفة له، وكان بإزائهما. وأخذ القعقاع وعاصم رمحين أصمّين (5) ليّنين، ودبا في خيل ورَجِل فقالا: "اكتنفوه لتحيّروه"، ثم وضعا رمحيهما معاً في عيني الفيل الأبيض، فنفض الفيل رأسه وطرح سائسه ودلىّ مشفره، فنفحه القعقاع فرمى به _______ (1) لم يكن مجهول المكان طبعاً، فالناس يعرفونه حق المعرفة، ولكنهم كانوا يعلمون أنه في السجن، لذلك أشبه عليهم أمره، أو كان متلثماً يخفي وجهه. (2) أسد الغابة 5/ 291. (3) الإصابة 7/ 170، والاستيعاب 4/ 1748. (4) من أمثال سلمان الفارسي رضي الله عنه. (5) الأصم: الصلب المصمَت.

7 - في فتح المدائن

ووقع لجنبه، فقتلوا مَن كان عليه (1). 7 - في فتح المدائن: وحين عزم سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - على فتح (المدائن) عاصمة كسرى، جمع الناس فحمد الله وأثنى عليه وقال: "إن عدوّكم قد اعتصم منكم بهذا البحر (2)، فلا تخلصون إليه معه وهم يخلصون إليكم إذا شاؤوا، فيناوشونكم في سفنهم؛ وليس وراءكم شيء تخافون أن تؤتوا منه، فقد كفاكموهم أهل الأيام، وعطّلوا ثغورهم، وأفنوا ذادتهم. وقد رأيت من الرأي أن تبادروا جهاد العدو بنياتكم قبل أن تحصركم الدنيا، ألا إني قد عزمت على قطع هذا البحر إليهم". فقالوا جميعاً: عزم الله لنا ولك على الرشد، فافعل ... وندب سعد الناس إلى العبور قائلاً: "مَن يبدأ ويحمي لنا الفراض (3) حتى تتلاحق به الناس لكيلا يمنعوهم من الخروج"؟ فانتدب له عاصم بن عمرو التميمي ذو البأس، وانتدب بعده ستمئة من أهل النجدات، فاستعمل سعد عليهم عاصماً (4). وسار عاصم فيهم حتى وقف على شاطئ دجلة وقال: "مَن ينتدب (معي) لنمنع الفراض من عدوكم ولنحميكم حتى تعبروا"؟ فانتدب له ستون جعلهم نصفين على خيول إناث وذكور، ليكون أساس _______ (1) الطبري 3/ 62. (2) يريد نهر دجلة. (3) جمع فرضة. والفرضة: المكان الذي يحتله الجنود في الضفة الثانية من النهر، لحماية عبور الجنود الآخرين إلى تلك الضفة. ويطلق عليها تعبير: (رأس الجسر Head bridge) . (4) الطبري 3/ 119 - 120.

العوم الخيل، ثم اقتحموا دجلة واقتحم بقية الستمئة على أثرهم. فلما رآهم الأعاجم وما صنعوا، أعدوا للخيل التي تقدمت للعبور مثلها، فاقتحموا عليهم دجلة وأعاموها إليهم، فلقوا عاصماً في الخيل الأمامية المتقدمة وقد دنا من الفراض، فقال عاصم: "الرماح ... الرماح ... ! أشرعوها وتوخوا العيون، فالتقوا، فاطعنوا"، فقتل المسلمون عامة الفرس، ونجا مَن نجا منهم عوراناً (1). ولما رأى سعد عاصماً على الفراض قد منعها، أذن للناس في الاقتحام وقال: "قولوا نستعين بالله ونتوكل عليه ... حسبنا الله ونعم الوكيل. والله لينصرن الله وليّه وليظهرنّ دينه وليهزمنّ عدوّه، ولا قوّة إلا بالله العلي العظيم". وتلاحق الناس فى دجلة، وإنهم يتحدثون كما يتحدثون في البر ... ثم خرجوا منه إلى البر ولم يفقدوا شيئاً، إلا أن مالك بن عامر العنبري سقط منه قدح، فقال: "والله إني لعلى حالة ما كان الله ليسلبني قدحي من بين العسكرين"، فلما عبروا ألقته الريح إلى الشاطئ، فتناوله بعض الناس وعرفه صاحبه (2). وكان أول مَن دخل (المدائن) عاصمة كسرى كتيبة الأهوال بقيادة عاصم بن عمرو التميمي، ثم الكتيبة الخرساء بقيادة أخيه القعقاع بن عمرو التميمي، فأخذوا في سككها لا يلقون فيها أحداً يخشونه. ونزل سعد القصر الأبيض ثلاثاً، واتخذ إيوان كسرى مصلى دون أن يغيِّر ما فيها من تماثيل، وقرأ في صلاة الفتح حين صلى في إيوان كسرى: {كَمْ تَرَكُوا مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ 25 وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ 26 وَنَعْمَةٍ كَانُوا _______ (1) الطبري 3/ 120. (2) الطبري 3/ 122، وابن الأثير 2/ 198.

8 - نماذج بطولية

فِيهَا فَاكِهِينَ 27 كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًاءَاخَرِينَ} [سورة الدخان 44: 25 - 28]. وصلَّى فيه صلاة الفتح ثماني ركعات لا يفصل بينهنّ (1). 8 - نماذج بطولية: أ) وزحف البراء بن مالك أخو أنس بن مالك في معركة فتح (تُستر) (2) بين المسلمين والفرس مئة زحفاً، فاستشهد في آخرها بعد أن دعا ربه قائلاً: "اللهم اهزمهم لنا واستشهدني" (3). وضيَّق المسلمون الحصار على (جَنْدَ يَسابور) (4)، وفجأة فتحت هذه المدينة أبوابها للمسلمين. وقال أهلها: "رميتم بالأمان فقبلناه وأقررنا بالجزية"، فقال المسلمون: "ما فعلنا"! وسأل المسلمون فيما بينهم، فإذا عبد يدعى (مُكْنِفاً) كان أصله من (جنديسابور) هو الذي كتب لهم هذا الأمان، فكتب أبو سَبرْة بن أبي رُهْم (5) إلى عمر، فكان جوابه: "إن الله عظَّم الوفاء، فلا تكونون أوفياء حتى تفوا، فما دمتم في شك أجيزوهم وفوا لهم" (6). وقد سجل هذا الحادث عاصم بن عمرو التميمي بالشعر فقال: "لعمري لقد كانت قرابة (مكنفٍ) قرابة صدق ليس فيها تقاطع _______ (1) ابن الأثير 2/ 199. (2) تستر: أعظم مدينة بالأهواز من أرض إيران، انظر التفاصيل في معجم البلدان 2/ 386. (3) الطبري 3/ 181. (4) جنديسابور؛ مدينة حصينة واسحة بالأهواز، بها النخيل والزروع والمياه، انظر التفاصيل في معجم البلدان 3/ 149، والمسالك والممالك، ص 65. (5) انظر تفاصيل سيرته في قادة فتح بلاد فارس، ص 155 - 160. (6) الطبري 3/ 188، وابن الأثير 2/ 214، ومعجم البلدان 3/ 150.

أجارهمُ من بعد ذلٍّ وقلةٍ وخوف شديد والبلاد بلاقع فجاز جوار (العبد) بعد اختلافنا وردّ أموراً كان فيها تنازع إلى الركن والوالي المصيب حكومة فقال بحق ليس فيه تخالع" (1) وفي معركة (نهاوند) (2) قاتل النعمان بن مُقرّن المزنيّ (3)، وكان قائد المسلمين، حتى استشهد، فتناول الراية أخوه نُعَيم بن مُقرّن المزني (4)، قبل أن تقع، وسجّى النعمان بثوب، وكتم مصاب أخيه (5)، حتى لا يؤثر موته في معنويات رجاله. وانتصر المسلمون، وفتحوا (نهاوند)، فجعلوا يسألون عن أميرهم النعمان، فقال لهم أخوه مَعْقِل: "هذا أميركم، قد أقرّ الله عينيه بالفتح وختم له بالشهادة". ودخل المسلمون (نهاوند) فاتحين بعد هزيمة الفرس، وبذلك انتهت معركة (نهاوند) الحاسمة، التي أطلق عليها المؤرخون بحق اسم: (فتح الفتوح) (6). وكان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - بالمدينة يتسقَّط أنباء المسلمين لا يكاد يذوق النوم إلا غراراً، فلما جاءه رسول المسلمين من (نهاوند) سأله: "ما وراءك"؟ قال: "البشرى والفتح". وسأل عمر: _______ (1) معجم البلدان 3/ 150. (2) نهاوند: مدينة عظيمة في قبلة همذان، بينهما ثلاثة أيام، انظر التفاصيل في معجم البلدان 8/ 329، والمسالك والممالك 118، وآثار البلاد وأخبار العباد 471. (3) انظر تفاصيل سيرته في: قادة فتح بلاد فارس 97 - 107. (4) انظر تفاصيل سيرته في: قادة فتح بلاد فارس 123 - 129. (5) الطبري 3/ 217. (6) المصدر السابق 3/ 219.

"وما فعل النعمان"؟ فقال: "زلّت فرسه في دماء القوم فصرع فاستشهد". قال عمر وقد أفزعه النبأ وهزه: "إنا لله وإنا إليه راجعون"! ولم يتمالك نفسه أن بكى حتى نشج، كأنما أصيب بأعز إنسان لديه. وقال رسول المسلمين إلى عمر: "يا أمير المؤمنين! ما أصيب بعده (1) رجل تعرف وجهه"، فقال عمر: "أولئك المستضعفون من المسلمين، ولكن الذي أكرمهم بالشهادة يعرف وجوههم وأنسابهم، وما يصنع أولئك بمعرفة عمر" (2)!؟ ب) وقاتل عبد الرحمن بن ربيعة الباهلي الترك في (بلنجر) (3) حتى استشهد، فأخذ الراية أخوه سلمان بن ربيعة الباهلي، فنادى المنادي: "صبراً آل سلمان بن ربيعة"، فقال سلمان: "أوَترى جزعاً" (4)! وأعاد الكرة سلمان على الترك في منطقة (بلنجر) أيضاً، فاستشهد هناك (5). وفي (قاليقلا) (6) حشد الروم حشوداً هائلة لقتال المسلمين، _______ (1) يقصد النعمان بن مقرّن المزني. (2) الخراج 41، وابن الأثير 3/ 6. (3) بلنجر: مدينة ببلاد الخزر خلف مدينة الباب، انظر التفاصيل في معجم البلدان 2/ 278. (4) الطبري 3/ 238 و 3/ 350، وابن الأثير 3/ 50. (5) البلاذري 206، والاستيعاب 2/ 633. (6) قاليقلا: مدينة بأرمينية من نواحي خلاط، انظر التفاصيل في معجم البلدان 7/ 17.

وكان على رأس الروم قائدهم الكبير (الموريان) فأجمع حبيب بن مَسْلمة الفِهري أن يبيّت (الموريان) قائد الروم؛ وسمعته امرأته يذكر ذلك، فقالت له: "وأين موعدك"؟ فقال: "سرادق موريان أو الجنة". وبيّتَهم حبيب وقتل مَن صادفه في طريقه، فلما وصل سرادق (موريان) وجد امرأته قد سبقته إليها (1). واستعمل معاوية بن أبي سفيان على البحر حين كان على الشام أيام عثمان بن عفان: عبد الله بن قيس الحارثي حليف بني فزارة، فغزا خمسين غزاة بين شاتية وصائفة في البحر، ولم يغرق فيه أحد ولم ينكب، وكان يدعو الله ألا يبتليه بمصاب أحد من (جنده)، وقد استشهد وحده بعد أن هجم عليه العدو، فقاتلوه وقاتلهم (2). وحاصر مسلمة بن عبد الملك حصناً من حصون الروم، فندب الناس إلى نقب فيه فما دخله أحد، فجاء رجل من عرض الجيش فدخله ففتح الله عليهم، فنادى مسلمة: "أين صاحب النقب"؟ فما جاءه أحد! ... فنادى: "إني أمرتُ الآذِنَ بإدخاله ساعة يأتي، فعزمت إلا جاء"! ... فجاء رجل فقال: "استأذن لي على الأمير"، فقال له: "أنت صاحب النقب"؟ فقال: "أنا أخبركم عنه"، فأذن له. وقال الرجل للأمير: "إن صاحب النقب يأخذ عليكم ثلاثاً: ألا تسوّدوا اسمه في صحيفة إلى الخليفة، ولا تأمروا له بشيء، ولا تسألوه ممن هو"! فقال مسلمة: "ذلك له"! فقال الرجل: "أنا هو"! فكان _______ (1) البلاذري 201، والطبري 3/ 309، واسم امرأة حبيب: أم عبد الله بنت يزيد الكلبية. (2) الطبري 3/ 317.

9 - في إفريقية

مسلمة لا يصلي بعدها صلاة إلا قال: "اللهم اجعلني مع صاحب النقب" (1). 9 - في إفريقية: أ) وكان الزبير بن العوّام قد هَمّ بالغزو وأراد إتيان (أنطاكية)، فقال له عمر بن الخطاب - رضي الله عنهما -: "يا أبا عبد الله! هل لك في ولاية مصر"؟ فقال: "لا حاجة لي فيها، ولكن أخرج مجاهداً وللمسلمين معاوناً، فإن وجدت عمرو بن العاص قد فتح مصر لم أعرض لعمله وقصدت إلى بعض السواحل فرابطت به، وإن وجدته في جهاد كنت معه"، فسار على ذلك (2). وقدم الزبير على عمرو، فوجده محاصراً حصن (بابلْيون) (3)، فلم يلبث الزبير أن ركب حصانه وطاف بالخندق المحيط بالحصن، ثم فرّق الرجال حول الخندق (4). وطال الحصار حتى بلغت مدته سبعة أشهر، فقيل للزبير: "إن بها الطاعون"، فقال: "إنما جئنا للطعن والطاعون" (5). _______ (1) انظر بحث: الحرب الإجماعية في الإسلام، مجلة ذكرى ميلاد الرسول - صلى الله عليه وسلم -، بغداد، 1951. (2) البلاذري 214. (3) بابليون: حصن كان في موضع الفسطاط، وهي المدينة التي بناها عمرو بن العاص. انظر التفاصيل في معجم البلدان 2/ 20، ولا تزال آثار الحصن باقية حتى اليوم في مصر القديمة (القاهرة). (4) فتوح مصر والمغرب 92. (5) طبقات ابن سعد 3/ 107، والبلاذري 215.

وأبطأ الفتح على عمرو بن العاص، فقال الزبير: "إني أهب نفسي لله، أرجو أن يفتح الله بذلك على المسلمين"، فوضع سلماً وأسنده إلى جانب الحصن من ناحية سوق الحمّام ثم صعد، وأمرهم إذا سمعوا تكبيره أن يجيبوه جميعاً، فما شعروا إلا والزبير على رأس الحصن يكبّر ومعه السيف. وتحامل الناس على السلّم حتى نهاهم عمرو خوفاً من أن ينكسر، فلما رأى الروم أن العرب قد ظفروا بالحصن انسحبوا، وبذلك فتح حصن (بابليون) أبوابه للمسلمين (1)، فانتهت بفتحه المعركة الحاسمة لفتح مصر. ب) وخرج عقبة بن نافع الفهري من (القيروان) على رأس جيشه، فدعا بأولاده قبل مغادرته (القيروان) وقال لهم: "يا بني! إني قد بعت نفسي من الله عزَّ وجل، فلا أزال أجاهد مَن كفر بالله" (2). وقال عقبة لأولاده: "عليكم سلام الله، وأراكم لا ترونني بعد يومكم هذا"، ثم قال: "اللهم تقبّل نفسي في رضاك، واجعل الجهاد رحمتي ودار كرامتي عندك" (3). ومضى قدماً ينتقل من نصر إلى نصر، حتى وصل إلى (آسفى) (4) على المحيط الأطلسي، فأدخل قوائم فرسه في البحر المحيط، ثم قال: "يا رب! لولا هذا البحر لمضيت في البلاد مجاهداً في سبيلك" (5)، ثم _______ (1) فتوح مصر والمغرب 94، والبلاذري 215، ومعجم البلدان 6/ 378. (2) ابن الأثير 4/ 42. (3) رياض النفوس 1/ 22. (4) آسفى: بلدة على شاطئ المحيط الأطلسي بأقصى المغرب، انظر التفاصيل في معجم البلدان 1/ 232. (5) ابن الأثير 3/ 42 - 43.

قال: "اللهم اشهد! إني قد بلغت المجهود، ولولا هذا البحر لمضيت في البلاد أقاتل مَن كفر حتى لا يُعبد أحد من دونك" (1). ووقف ساعة في البحر المحيط ثم قال لأصحابه: "ارفعوا أيديكم"، ففعلوا، ثم قال: "اللهم إني لم أخرج بطراً ولا أشراً، وإنك لتعلم أنما نطلب السبب الذي طلبه عبدك (ذو القرنين) وهو أن تعبد ولا يُشرك بك شيء. اللهم إنا معاندون لدين الكفر، ومدافعون عن دين الإسلام، فكن لنا ولا تكن علينا يا ذا الجلال والإكرام"، ثم انصرف راجعاً إلى (القيروان) (2). ولما انتهى إلى ثغر (إفريقية) وهي (طُبنة) (3)، أذن لمن معه من أصحابه أن يتفرقوا ويقدموا (القيروان) فوجاً فوجاً، ثقة منه بما نال العدو وأنه لم يبق أحد يخشاه (4). ومال عقبة بخيل يسيرة إلى (تُهْوَذة) (5)، وكان معه نحو ثلاثمئة فارس (6)، فلما رآه الروم في قلة طمعوا فيه، فأغلقوا الحصن وشتموه، وهو يدعوهم إلى الإسلام، فلم يقبلوا منه (7). وبعث الروم إلى (كسيلة) أمير البرانس من البربر، وكان في _______ (1) رياض النفوس 1/ 25. (2) الاستقصا 1/ 74. (3) طبنة: بلدة في طرف إفريقية مما يلي المغرب على ضفة الزاب، انظر معجم البلدان 6/ 28. (4) ابن الأثير 4/ 43، ورياض النفوس 1/ 25. (5) تهوذة: مدينة في جنوب جبال أوراس في الجنوب الشرقي لمدينة طبنة وعلى مسافة 37.5 ميلاً منها، انظر تاريخ المغرب الكبير 4662. (6) الخلاصة النقية 5، والاستقصا 1/ 74. (7) ابن الأثير 4/ 43.

عسكر عقبة مضمراً للغدر، فلما أرسل إليه الروم أظهر ما كان يضمره وجمع أهله وبني عمه وقصد عقبة، فقال له أبو المهاجر دينار (1) الذي كان أميراً على إفريقية قبل ولاية عقبة الثانية، وكان يومها موثقاً في الحديد: "عاجله قبل أن يقوي جمعه"، فأطلق عقبة أبا المهاجر وقال له: "الحقْ بالمسلمين وقم بأمرهم، وأنا أغتنم الشهادة"، فلم يفعل وقال: "وأنا أيضاً أريد الشهادة". وكسر عقبة والمسلمون أجفان سيوفهم، وتقدموا إلى البربر وقاتلوهم، فقُتِل المسلمون جميعهم (2) ومعهم عقبة، وقُتِل معه زهاء ثلاثمئة من كبار الصحابة والتابعين في أرض الزاب بـ (تهوذة) (3) سنة ثلاث وستين الهجرية (4) (683 م). ج) وتولَّى القيادة بعد عقبة: زهير بن قيس البلوي، فاستطاع قتل (كسيلة) والقضاء على مقاومة البربر. وعاد إلى (القيروان) فأبى أن يقيم بها وقال: "إني ما قدمت إلا للجهاد، وأخاف أن أميل إلى الدنيا فأهلك"، وكان من رؤساء العابدين وكبراء الزاهدين، فترك القيروان وانصرف عنها، وأمَّ بها كثيراً من أصحابه (5). ترك (القيروان) آمنة، لخلو البلاد من عدو ذي شوكة، ورحل في جمع كثير إلى مصر، فبلغ الروم خروجه من (إفريقية) إلى (برقة)، _______ (1) انظر ترجمته في: قادة فتح المغرب العربي الكبير 1/ 137 - 149. (2) ابن الأثير 4/ 43. (3) الاستقصا 1/ 24. (4) سير أعلام النبلاء 3/ 349، والبداية والنهاية 8/ 217، والإصابة 5/ 81. (5) ابن الأثير 4/ 44، والبيان المغرب 1/ 20، والاستقصا 1/ 81، ورياض النفوس 1/ 31.

10 - في الأندلس

فأمكنهم ما يريدون، فخرجوا إليه في مراكب كثيرة وقوة عظيمة (1) من القسطنطينية وجزيرة صقلية (2)، فأغاروا على (برقة) وأصابوا بها سبياً كثيراً وقتلوا ونهبوا. ووافق ذلك قدوم جيش زهير، فأمر عسكره بالمسير إلى الساحل طمعاً بأن يدرك سبي المسلمين فيستنقذهم. وأشرف على الروم، فإذا هم في خلق عظيم، فلم يقدر على الرجوع، وقد استغاث المسلمون به وصاحوا، والروم يدخلونهم المراكب، فنادى بأصحابه: "النزول"، فنزلوا، وكان أكثرهم من التابعين. ونزل الروم إليهم، وتلقَّوْهم بعدد عظيم، فالتحم القتال، وتكاثرت عليهم الروم، فقُتِل زهير وأشراف مَن كانوا معه من العرب (3)، ولم ينج منهم أحد، وعاد الروم بما غنموا إلى القسطنطينية (4). 10 - في الأندلس: وفي رجب سنة اثنتين وتسعين الهجرية (نيسان - أبريل 711م) جهز موسى بن نصير (5) جيشاً من العرب والبربر تعداده سبعة آلاف مقاتل بقيادة طارق بن زياد (6)، فعبر البحر من مدينة (سبتة)، ونزل في المنطقة الصخرية التي لا تزال تحمل اسمه حتى اليوم، أعني: جبل طارق (7). _______ (1) البيان المغرب 1/ 21. (2) ابن الأثير 4/ 44. (3) البيان المغرب 1/ 21. (4) ابن الأثير 4/ 44. (5) انظر تفاصيل سيرته في: قادة فتح المغرب العربي 1/ 221 - 309. (6) سترد ترجمته في كتابنا: قادة فتح الأندلس والبحار. (7) نفح الطيب 2/ 216، والبيان المغرب 2/ 8، وهناك خلاف على الشهر الذي عبر فيه طارق.

فلما بلغ (لذريق (1) Rodrigo) ذلك - وكان قصد بعض الجهات البعيدة لغزوٍ له في بعض أعدائه - رجع عن مقصده في سبعين ألف فارس، ومعه العَجَلُ تحمل الأموال والمتاع، وهو على سريره بين دابتين، وعليه مظلة مكللة بالدر والياقوت والزبرجد. فلما بلغ طارقاً دنوّه قام في أصحابه، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم حث المسلمين على الجهاد، ورغَّبهم فيه ثم قال: "أيها الناس! أين المفر؟ البحر من ورائكم، والعدو أمامكم، وليس لكم والله إلا الصدق والصبر. واعلموا أنكم في هذه الجزيرة أضيع من الأيتام في مأدبة اللئام. وقد استقبلكم عدوكم بجيشه وأسلحته، وأقواته موفورة، وأنتم لا وَزَرَ (2) لكم إلا سيوفكم، ولا أقوات إلا ما تستخلصونه من أيدي عدوكم. وإن امتدت بكم الأيام على افتقاركم ولم تنجزوا لكم أمراً، ذهبت ريحكم، وتعوّضت القلوب من رُعبها منكم الجراءة عليكم، فادفعوا عن أنفسكم خذلان هذه العاقبة من أمركم بمناجزة هذا الطاغية، فقد ألقت به إليكم مدينته الحصينة، وإن انتهاز الفرصة فيه لممكن إن سمحتم لأنفسكم بالموت. وإني لم أُحذّركم أمراً أنا عنه بنجوةٍ، ولا حملتكم على خطة أرخص متاعٍ فيها النفوس إلا وأنا أبدأُ بنفسي. واعلموا أنكم إن صبرتم على الأشق قليلاً، استمتعتم بالأرفه الألذ طويلاً، فلا ترغبوا بأنفسكم عن نفسي، فما حظكم فيه بأوفى من حظي. وقد بلغكم ما أنشأت هذه الجزيرة من الحور الحسان، من بنات _______ (1) ورد اسمه في الطبري 5/ 245: أدرينوق، وفي فتوح مصر والمغرب 279: لذريق، وفي ابن الأثير 4/ 213: رذريق، وفي ابن خلدون 4/ 117: لزريق، وفي اليعقوبي 3/ 29: أدلايق ... إلخ. (2) الوزر: الملجأ والمعتصَم.

11 - انتصار عقيدة

اليونان، الرافلات في الدر والمرجان، والحلل المنسوجة بالعقيان، المقصورات في قصور الملوك ذوي التيجان. وقد انتخبكم الوليد بن عبد الملك أمير المؤمنين من الأبطال عُرباناً، ورضيكم لملوك هذه الجزيرة أصهاراً وأختاناً، ثقةً منه بارتياحكم للطعان، واستماحكم بمجالدة الأبطال والفرسان، ليكون حظه منكم ثواب الله على إعلاء كلمته، وإظهار دينه بهذه الجزيرة، وليكون مغنمُها خالصة لكم من دونه ومن دون المؤمنين سواكم، والله تعالى وليُّ إنجادكم على ما يكون لكم ذكراً في الدارين. واعلموا أنني أول مجيب إلى ما دعوتكم إليه، وأني عند ملتقى الجمعين حامل بنفسي على طاغية القوم (لُذَريق) فقاتِلُهُ إن شاء الله تعالى، فاحملوا معي. فإن هلكت بعده فقد كفيتكم أمره، ولم يُعْوِزكم بطلٌ عاقل تسندون أموركم إليه، وإن هلكت قبل وصولي إليه فاخلفوني في عزيمتي هذه، واحملوا بأنفسكم عليه، واكتفوا الهمَّ من فتح هذه الجزيرة بقتله، فإنهم بعده يُخذَلون" (1). وأكمل المسلمون فتح الأندلس خلال عامين. 11 - انتصار عقيدة: أ) وليس من شك، أن العرب في أيام الرسول القائد عليه أفضل الصلاة والسلام وفي أيام الفتح الإسلامي العظيم، لم يكونوا في مدنيتهم وحضارتهم كالفرس والروم، وحتى العرب المناذرة الذين كانوا في العراق والعرب الغساسنة الذين كانوا في الشام أرقى مدنية وأعرق حضارة من العرب المسلمين القادمين من الجزيرة العربية. _______ (1) نفح الطيب 1/ 240 - 241.

لقد كان أولئك العرب المسلمون من أهل الجزيرة العربية بعيدين عن الحضارة قريبين من البداوة، ولكنهم انتصروا على أصحاب المدنيات العريقة والحضارات التليدة بايمانهم العميق: إيمانهم بما جاء به الإسلام عقيدة وعملاً. ففي معركة (أُلَّيْس) (1) بين الفرس بقيادة (جابان) وبين المسلمين بقيادة خالد بن الوليد، أعجل خالد الفرس عن طعامهم الذي كانوا قد بسطوه، فلما انهزم الفرس وقف خالد على الطعام وقال: "قد نفلتكموه، فهو لكم". وجلس المسلمون إلى الموائد يتناولون عشاءً شهياً رأى الكثيرون منهم فيه عجباً: رأوا الرُّقاق (2) ولم يكونوا يعرفونه، فجعلوا يقولون: ما هذه الرقاع البيض؟! ... وجعل مَن عرفها يجيبهم مازحاً: هل سمعتم برقيق العيش! فهذا هو ... لذلك سمي: الرقاق، وكانت العرب تسميها: القِرى (3). وفي معركة (القادسية) أصاب العرب المسلمون جراباً من كافور، فحسبوه ملحاً لا يشكون أنه ملح! فلما طبخوا جعلوا يلقونه في القِدر فلا يجدون له طعماً، فمر بهم أحد العرب المستوطنين في العراق فقال: "يا معشر المعربين! لا تفسدوا طعامكم، فإن ملح هذه الأرض لا خير فيه! هل لكم أن تأخذوا هذا القميص به"؟ فأخذوه منه _______ (1) أُليس: قرية من قرى الأنبار، انظر التفاصيل في معجم البلدان 1/ 328، والأنبار تقع غرب بغداد على نهر الفرات. (2) الرقاق: الخبز المنبسط الرقيق، واحدته: رقاقة. (3) الطبري 2/ 562، وابن الأثير 2/ 149.

وأعطوْا القميص رجلاً منهم، فلما لبسه جعلوا يطيفون به ويعجبون منه (1) - أي من القميص -!. أما أسلحتهم فكانت على غاية البساطة أيضاً: رماحهم من مُرّان (2)، وأسنتهم من قرون البقر، يركبون الخيل في الحرب أعراء، فإن كان الفرس ذا سرج فسرجه رَحْلة (3) من أدَمْ (4)، ولم يكن ذا ركاب، والركاب من أجود آلات الطاعن برمحه والضارب بسيفه، وكان فارسهم يطعن بالقناة الصماء بينما الجوفاء أخفّ حملاً وأشد طعنة. وكانوا يفخرون بطول القناة ولا يعرفون الطعن بالمطارد (5)، وإنما القنا الطوال للرجّالة والقصار للفرسان. وكانوا في ابتداء الفتح لا يعرفون من آلات الحرب الرّتيلة (6) ولا العرّادة (7) ولا المجانيق ولا الدبابات ولا الخنادق ولا الحسَك (8)، ولا يعرفون الأقبية (9) ولا السراويلات ولا تعليق السيوف ولا الطبول ولا البنود (10) _______ (1) الطبري 3/ 15 - 16. (2) المران: الرماح الصلبة اللدنة. واحدته مرانة. (3) رحْل الفرس: ما يوضع على ظهره. (4) الأدم: الجلد غير المدبوغ، وقد يطلق على المدبوغ أيضاً. (5) المطارد: جع مطرد، وهو الرمح القصير. (6) الرتيلة: آلة تقذف الحصيات على العدو. (7) العرادة: آلة حربية تشبه المنجنيق. (8) الحسك: خناجر تصنع من الحديد الصلب، لها شعب تغرز أنصبتها في الأرض حول المعسكر، حتى إذا دب العدو إليه، أنشبت في أرجل الخيل أو الرجالة فتمنعهم من الدنو. (9) الأقبية: ضرب من الثياب، أخذتها العرب عن الفرس. واحدها: قباء. (10) البنود: جمع بند. والبند: العلم الكبير.

ولا التجافيف (1) ولا الجواشن (2) ولا الرمي بالمنجنيقات ولا الزرق بالنفط والنيران (3). ولكنّ العرب المسلمين كانوا شجعاناً أذكياء، يحملون عقيدة سامية نذروا أنفسهم لخدمتها وإعلاء شأنها ونشرها بين الناس، لذلك اقتبسوا بسرعة مذهلة الأساليب التعبوية التي لم يكونوا يعرفونها وتسلَّحوا بالأسلحة التي كانوا يفتقرون إليها، وكان إيمانهم العميق هو الحافز الأول لاستكمال إعدادهم العسكري واستعدادهم للحرب، هذا الإيمان هو سلاحهم الأول والأخير في النصر. ب) وقد وصف المثنى بن حارثة الشيباني أثر الإيمان في العرب فقال: "قد قاتلتُ العرب والعجم في الجاهلية، والله لمئة من العجم في الجاهلية كانوا أشد عليّ من ألف من العرب، ولمئة اليوم من العرب أشد عليّ من ألف من العجم. إن الله أذهب بأسهم ووهَّن كيدهم، فلا يروعنكم زهاءً ترونه ولا سواد ولا قسي فُجّ ولا نبال طوال، فإنهم إذا أعجلوا عنها أو فقدوها كالبهائم، أينما وجهتموها اتجهت" (4). وهناك ظاهرة تدعو إلى التأمل، فقد كانوا لا يؤمِّرون في الفتوح إلا الصحابة (5)، وكان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لا يولي إلا الصحابة ولا يرضى أبداً أن يعمل صحابي بإمرة غير صحابي (6). _______ (1) التجافيف: جمع التجفاف (بكسر التاء) آلة يغطي بها الفارس والفرس في الحرب للوقاية. (2) الجواشن: صدور الدروع، وقد تطلق على الدرع كله. (3) انظر البيان والتبيين للجاحظ 3/ 13 - 16. (4) الطبري 2/ 650 - 651. (5) الإصابة 2/ 194 و 4/ 235 و 1/ 309. (6) قادة فتح العراق والجزيرة 350.

فقد كان للصحابة بصورة عامة تجارب طويلة مفيدة في القتال تحت لواء الرسول القائد عليه أفضل الصلاة والسلام، اقتبسوا خلالها أعلى ضروب التضحية وأسمى أنواع الفداء وأنبل آداب الحرب وأرفع متطلبات السلام. وكانوا فوق ذلك مؤمنين حقاً بلغوا أعلى درجات الإيمان، لذلك كانوا يقدمون ببسالة على خوض المعارك، فكان القتل فيهم أكثر من غيرهم. ولكن القتل في المهاجرين والأنصار وأهل القرى أكثر منهم في أهل البوادي (1)، لأن المهاجرين والأنصار وأهل القرى كانوا أكثر تماساً بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، لذلك كان إيمانهم أعمق من أهل البوادي وتجربتهم أكثر منهم. وكان القتل في المهاجرين والأنصار أكثر منهم في أهل القرى، لأنهم كانوا أكثر تماساً بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، لذلك كان إيمانهم أعمق من أهل القرى، وتجربتهم أكثر منهم أيضاً. ولعل أصدق دليل على عمق إيمان الصحابة الذين اختلطوا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وارتشفوا من نوره الشريف .. إن الذين ارتدُّوا كانوا من أهل البوادي الذين سمعوا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يروه؛ أما الذين خالطوه ورأوه من الصحابة، فقد ثبتوا على إيمانهم كما جرى لأهل مكة والمدينة والطائف وكما حدث للذين وفدوا على النبي - صلى الله عليه وسلم - من أهل البادية. وكان قادة الفتح الإسلامي يحرصون على الصحابة ويفضلونهم _______ (1) ابن الأثير 2/ 139.

على غيرهم، لأن إيمانهم العميق يجعل منهم مقاتلين أشداء من الطراز الرفيع. عند مسيرة خالد بن الوليد - رضي الله عنه - من العراق إلى أرض الشام، أمر أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - أن يأخذ معه نصف الناس، ويستخلف على النصف الآخر المثنى بن حارثة الشيباني - رضي الله عنه -. وأحضر خالد أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (الذين كانوا معه)، واستأثر بهم لنفسه تاركاً للمثنى مثل عددهم ممن لم يكن له مع الرسول القائد عليه أفضل الصلاة والسلام صحبة، واستأثر أيضاً لنفسه بمن كان قدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - وافداً، تاركاً للمثنى مثل عددهم من أهل القناعة، ثم قسّم سائر الجند قسمين. فلما رأى المثنى صنع خالد غضب وقال: "والله لا أُقيم إلا على إنفاذ أمر أبي بكر! وبالله ما أرجو النصر إلا بأصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - "، فلما رأى خالد ذلك أرضاه (1). لقد أمدّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصحابه بنفحة منه، وكان دائماً أُسوة حسنة لهم، يقتفون آثاره ويهتدون بهديه ولا يحيدون عن تعاليمه أبداً، فكانوا يتسابقون إلى الموت ويحرصون على الاستشهاد (2). لم يرضَ أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - أن يستعين قادة الفتح بالمرتدين، ولكن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أمر باستنفار من حسن إسلامه من أهل الردّة (3)، وقد برز من الذين ارتدوا رجال أثبتوا إخلاصهم وكفايتهم مثل طليحة الأسدي، إلا أن عمر أبقاهم جنوداً في _______ (1) الطبري 2/ 605، وابن الأثير 2/ 156، واليعقوبي 2/ 112. (2) الفاروق القائد 97. (3) ابن الأثير 2/ 166.

12 - المثال الشخصي

جيش المسلمين ولم يولهم قيادة السرايا والجيوش. وما أصدق قولة خالد بن الوليد - رضي الله عنه -: "ما ليلة يُهدى إليّ فيها عروس أنا لها محب، أو أُبشّر فيها بغلام، أحب إليّ من ليلة شديدة الجليد في سرية من المهاجرين أصبّح بهم العدو، فعليكم بالجهاد" (1). ذلك هو أثر الإيمان العميق في إعداد الجندي المسلم ليكون مقاتلاً رهيباً، لذلك كان خير القرون قرن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم الذي يليه والذي يليه كما قال عليه الصلاة والسلام، في المجالات كافة، ومنها المجال العسكري إعداداً وتربية عسكرية، وإصراراً على النصر وتعميقاً لإرادة القتال، وحرصاً على تطبيق الجهاد الإسلامي نصاً وروحاً. 12 - المثال الشخصي: أ) لقد كان قادة الفتح الإسلامي من الصحابة والتابعين مثالاً شخصياً يحتذي بهم جنودهم ويتأسى بهم الغالبون والمغلوبون على حد سواء. كانوا التطبيق العملي للإسلام بما فيه من تكاليف الجهاد بالأموال والأنفس لإعلاء كلمة الله سبحانه وتعالى. كانوا يسخِّرون مصالحهم الذاتية لمصلحة المسلمين العامة، وكانوا يؤثرون مصالح المسلمين على مصالحهم الذاتية. لم تغيرهم المناصب، لأنهم كانوا أرفع من المناصب، ولم تغيرهم _______ (1) الإصابة 2/ 99.

الأموال، لأنها كانت بأيديهم لا في قلوبهم. كان أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - يحلب للحي أغنامهم، فلما بويع له بالخلافة، قالت جارية من الحي: "الآن لا تحُلَبُ لنا منائح دارنا"، فسمعها أبو بكر فقال: "بلى! لعمري لأحلبنّها لكم، وإني لأرجو ألا يغيّرني ما دخلت فيه عن خُلق كنت عليه"، فكان يحلب لهم. وكان رجلاً تاجراً، فكان يغدو كل يوم إلى السوق، فيبيع ويبتاع. ونظر في أمره فقال: "لا والله، ما تصلِح أمور الناس التجارة، وما يصلحهم إلا التفرغ لهم والنظر في شأنهم، ولا بد لعيالي مما يصلحهم"، فترك التجارة واستنفق من مال المسلمين ما يصلحه ويصلح عياله يوماً بيوم، ويحج ويعتمر. فلما حضرته الوفاة قال: "ردوا ما عندنا من مال المسلمين فإني لا أصيب من هذا المال شيئاً، وإن أرضي التي بمكان كذا وكذا للمسلمين بما أصبت من أموالهم"، فدفع ذلك إلى عمر، ولقوحاً وعبداً صيقلاً (1) وقطيفة ما تساوي خمسة دراهم، فقال عمر: "لقد أتعب مَن بعده". وكان كل ما أنفقه من بيت المال في ولايته ثمانية آلاف درهم (2)!!! ب) وقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في خطبة له: " ... وإني امرؤ مسلم وعبد ضعيف إلا ما أعان الله عز وجل. ولن يغيّر الذي _______ (1) الصقيل: شحاذ السيوف وجلاؤها، وهي مهنة العبد الذي أعيد إلى بيت مال المسلمين. (2) الطبري 3/ 432 - 433، طبعة دار المعارف - القاهرة 1382هـ.

وليت من خلافتكم من خلقي شيئاً إن شاء الله، إنما العظمة لله عز وجل وليس للعباد منها شيء، فلا يقولن أحد منكم: إن عمر تغيّر منذ ولي، أعقل الحق من نفسي، وأتقدم وأبيّن لكم أمري، وأيما رجل كانت له حاجة أو ظلم مظلمة أو عتب علينا في خلق فَلْيُوذِنّي، فإنما أنا رجل منكم" (1). وقال الأحنف بن قيس (2): "كنا جلوساً بباب عمر، فمرت جارية، فقالوا: سرية أمير المؤمنين! فقال: ما هي لأمير المؤمنين بسرية ولا تحل له، إنها من مال الله! فقلنا: فماذا يحل له من مال الله تعالى؟ فقال: إنه لا يحل لعمر من مال الله إلا حلّتان: حلّة للشتاء وحلّة للصيف، وما أحج به وأعتمر، وقوتي وقوت أهلي كرجل من قريش ليس بأغناهم ولا بأفقرهم، ثم أنا بَعْدُ رجل من المسلمين" (3). ولكن، ما نوع الحلتين اللتين يرتديهما عمر، وما نفقته في حجه وعمرته، وما نوع قُوته وقوت أهله؟ قال أنس بن مالك - رضي الله عنه -: "رأيت عمر بن الخطاب وهو يومئذ أمير المؤمنين وقد رقع بين كتفيه برقاع لبد بعضها فوق بعض". وقال: "رأيت عمر بن الخطاب يرمي جمرة العقبة وعليه إزار مرقوع بفروٍ، وهو يومئذٍ والٍ"، وقال: "رأيت بين كتفي عمر أربع رقاع في قميص له" (4). _______ (1) الطبري 3/ 282. (2) انظر تفاصيل سيرته في: قادة فتح بلاد فارس 215 - 246. (3) تاريخ عمر 87. (4) طبقات ابن سعد 3/ 327؛ وانظر صفة الصفوة 1/ 108.

وأنفق عمر في حجته ستة عشر ديناراً فقال: "يا عبد الله بن عمر! أسرفنا في هذا المال" (1). وأنفق في حجته مرة أخرى خمسة عشر ديناراً (2)، وقد خرج إلى مكة فما ضرب فسطاطاً حتى رجع، وكان يستظل بالنطع (3). وقدم أبو موسى الأشعري - رضي الله عنه - في وفد أهل البصرة على عمر فقالوا: كنا ندخل كل يوم وله خبز ثلاث، وربما وافقناها مأدومة بزيت، وربما وافقناها بسمن، وربما وافقناها باللبن، وربما وافقناها بالقدائد اليابسة قد دقت ثم أغلي بها، وربما وافقناها باللحم الغريض وهو قليل، فقال لنا يوماً: "أيها القوم! إني والله لقد أرى تعذيركم وكراهيتكم لطعامي، وإني لو شئت لكنت أطيبكم طعاماً وأرفعكم عيشاً ... لكني سمعت الله عز وجل ثناؤه عيّر قوماً بأمر فعلوه فقال: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم} (4). وقال الربيع بن زياد الحارثي (5) لعمر: "إن أحق الناس بطعام ليّن ومركب ليّن وملبس ليّن لأنت"، فرفع عمر جريدة معه وضرب بها رأسه وقال: "أما والله ما أراك أردت بها الله، وما أردت بها إلا مقاربتي" (6). _______ (1) طبقات ابن سعد 3/ 308. (2) المصدر السابق 3/ 279. (3) المصدر السابق نفسه، والنطع: بساط من الجلد. (4) المصدر السابق نفسه، والآية الكريمة من صورة الأحقاف [46: 20]. (5) انظر تفاصيل سيرته في: قادة فتح بلاد فارس 164 - 172. (6) طبقات ابن سعد 3/ 280.

وكان يستنفق درهمين كل يوم له ولعياله (1)، ولم يركب دابة عام الرّمادة وقال: "والله لا أركبها حتى تحيي الناس" (2). وكانت بطنه تقرقر من الزيت ذلك العام، فكان يقول: "تقرقر!! والله لا تأكله - أي السمن- حتى يأكله الناس" (3). وكان يقول: "إني أنزلت نفسي من مال الله منزلة مال اليتيم: إن استغنيت استعففت، وإن افتقرت أكلت بالمعروف" (4). وعوتب عمر فقيل له: لو أكلت طعاماً طيباً أقوى لك على الحق، فقال: "إني تركت صاحبيّ على جادة، فإن تركت جادتهما لم أدركهما في المنزل" (5). والمثال الشخصي الذي ضربه عمر للمسلمين في النزاهة والأمانة، جعل كل واحد منهم مثالاً حياً للنزاهة المطلقة والأمانة النادرة. لما قدم على عمر بسيف كسرى ومنطقته ونفائسه قال: "إن أقواماً أدَّوْا هذا لذوو أمانة"، فقال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: "إنك عففت فعفّت الرعية" (6). وبعد طعن عمر وحين كان يعاني سكرات الموت، دخل عليه عبد الله بن عباس رضي الله عنهما فجعل يثني على عمر، فقال: "بأي _______ (1) المصدر السابق نفسه. (2) طبقات ابن سعد 3/ 312. (3) المصدر السابق 3/ 313. (4) المصدر السابق 3/ 276 و 313. (5) البداية والنهاية 7/ 136. (6) الطبري 3/ 128.

شيء تثني عليّ؟ بالإمرة أو بغيرها؟ "، قلت: "بكلٍّ"، قال: "ليتني أخرج منها كفافاً لا أجر ولا وزر" (1). وقال ابن عباس: "قلت لعمر: مصّر الله بك الأمصار، وفتح بك الفتوح، وفعل بك وفعل"! فقال: "لوددت أني أنجو منه لا أجر ولا وزر" (2). وقيل له وهو على فراش الموت: "أبشر يا أمير المؤمنين لبشرى الله تعالى بصحبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقدِم في الإسلام ما قد علمت، ثم وليت فعدلت، ثم شهادة فقال: "وددت أن ذلك كفاف لا عليّ ولا لي" (3). وقال عبد الله بن عامر: "رأيت عمر أخذ تبنة من الأرض فقال: ليتني كنت هذه التبنة، ليتني لم أخلق، ليت أمي لم تلدني، ليتني لم أكن شيئاً، ليتني كنت نسياً منسياً" (4). ج) ولما مات خالد بن الوليد - رضي الله عنه - لم يترك إلا فرسه وسلاحه وغلامه (5)، وقد حبس فرسه وسلاحه في سبيل الله (6)، فقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: "يرحم الله أبا سليمان! لقد كنا نظن به أموراً ما كانت" (7)، إذ كان باستطاعته أن يجمع الأموال الطائلة من فتوحاته الكثيرة، ولكنه أنفقها كلها في سبيل الله، فمات فقيراً. _______ (1) طبقات ابن سعد 3/ 351. (2) المصدر السابق 3/ 351. (3) الاستقصا 1/ 21. (4) صفوة الصفوة 1/ 109. (5) طبقات ابن سعد 7/ 398. (6) الإصابة 2/ 100. (7) طبقات ابن سعد 7/ 398.

وكان عمير بن سعد الأنصاري (1) من قادة الفتح الإسلامي في أرض الشام، وقد ولاه عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - مدينة حمص (2). وكتب عمر إلى أهل (حمص): "اكتبوا لي فقراءكم"، فكتبوا إليه أسماء الفقراء، وذكروا فيهم عمير بن سعد - رضي الله عنه - وكان أميراً عليهم. فلما قرأ عمر اسمه قال: "مَنْ عمير بن سعد"؟! فقالوا: أميرنا!! فقال عمر: "فأين عطاؤه"؟ فقالوا: يخرجه كله لا يمسك منه شيئاً! فوجه إليه عمر بمئة دينار، فأخرجها كلها إلى الفقراء، فقالت له امرأته: "لو كنت حبست لنا منها ديناراً واحداً"، فقال: "لو ذكّرتِني فعلت" (3). د) وأراد أبو بكر الصديق أن يولِّي أبا عبيدة بن الجراح القيادة العامة في أرض الشام، ولكن أبا عبيدة استعفاه من ذلك (4)، فأصر أبو بكر على رأيه. فلما تحرج موقف المسلمين في أرض الشام واجتمعوا باليرموك، ولىّ أبو بكر خالد بن الوليد منصب القيادة العامة في أرض الشام بدلاً من أبي عبيدة (5) الذي بقي على جند (حمص) (6)، فأعاده عمر بن الخطاب إلى منصب القيادة العامة بعد وفاة أبي بكر (7) وصيّر _______ (1) انظر سيرته في: قادة فتح العراق والجزيرة 469 - 475. (2) طبقات ابن سعد 7/ 402، وابن الأثير 2/ 207. (3) ألف باء للبلوي 1/ 443. (4) البلاذري 116. (5) فتوح الشام، للواقدي 1/ 14، والبلاذري 117، والأغاني 14/ 26. (6) ابن الأثير 2/ 155. (7) طبقات ابن سعد 7/ 397.

خالداً موضع أبي عبيدة (1). وكان أبو عبيدة - رضي الله عنه -، لا يكترث بالمناصب، كما كان لا يكترث بالمال، فقد أرسل عمر بن الخطاب إلى أبي عبيدة بأربعة آلاف درهم وأربعمئة دينار وقال لرسوله: "انظر ما يصنع"! فقسّمها أبو عبيدة بين الناس، فلما أخبر عمرَ رسولُه بما صنع أبو عبيدة قال: "الحمد لله الذي جعل في الإسلام من يصنع هذا" (2). ولما قدم عمر الشام، تلقاه أمراء الأجناد وعظماء أهل الأرض، فقال عمر: "أين أخي"! فقالوا: مَنْ؟ قال: "أبو عبيدة"، قالوا: يأتيك الآن! وجاء أبو عبيدة على ناقة مخطومة بحبلٍ، فسلّم عليه، فقال عمر للناس: "انصرفوا عنا". وسار مع أبي عبيدة حتى أتى منزله فنزل عليه، فلم يرَ في بيته إلا سيفه وترسه، فقال عمر: "لو اتخذت متاعاً - أو قال: شيئاً"، فقال: "يا أمير المؤمنين!! إن هذا سيبلغنا المقيل" (3). وفي رواية أن عمر قال: "اذهب بنا إلى منزلك يا أبا عبيدة"، فقال له: "وما تصنع عندي يا أمير المؤمنين؟! ما تريد إلا أن تعصر عينيك عليّ". ودخل عمر بيت أبي عبيدة، فلم يرَ في البيت شيئاً، فقال: "وأين متاعك؟! لا أرى إلا لبداً وصفحة وشناً (4) وأنت أمير! أعندك طعام"؟ فقام أبو عبيدة إلى جونة (5)، فأخذ منها كسيرات، فبكى عمر، فقال أبو عبيدة: "قلت لك أنك ستعصر عينيك عليّ يا أمير المؤمنين ... ! _______ (1) اليعقوبي 2/ 117. (2) طبقات ابن سعد 4/ 413. (3) المقيل: النوم عند الظهيرة، ويقصد به: الموت. (4) الشن: القربة الخلق. (5) الجونة: السلة المستديرة.

يكفيك من الزاد ما بلّغك المحل"، فقال عمر: "غيّرتنا الدنيا كلنا غيرك يا أبا عبيدة" (1). وأراد عمر بن الخطاب أن يستخرج أبا عبيدة من المنطقة التي أصيبت بوباء الطاعون، فكتب إليه: "سلام عليك. أما بعد! فقد عرضت لي إليك حاجة أريد أن أشافهك فيها، فعزمت عليك إذا أنت نظرت في كتابي هذا ألا تضعه من يدك حتى تُقْبِل"، فعرف أبو عبيدة ما أراد عمر، فكتب إليه: "يا أمير المؤمنين! قد عرفت حاجتك إليّ، وإني في جند المسلمين لا أجد بنفسي رغبة عنهم، فلست أريد فراقهم حتى يقضي الله فيّ وفيهم أمره وقضاءه، فخلني عزيمتك"، فلما قرأ عمر هذا الكتاب بكى، فقال الناس: يا أمير المؤمنين! أمات أبو عبيدة؟ فقال: "لا، وكأن قد" (2). وفعلاً مات أبو عبيدة بطاعون (عمواس) (3) سنة ثمان عشرة الهجرية (639م) في خلافة عمر بن الخطاب - رضي الله عنهما - وهو ابن ثمانٍ وخمسين سنة (4). هـ) تلك دروس عملية من الصحابة والتابعين تطبيقاً لتعاليم الإسلام بعد التحاق الرسول القائد عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام بالرفيق الأعلى، وفي أيام الفتح الإسلامي العظيم؛ لعل العرب والمسلمين يتعلمون منها ما يجب أن يقدموا إعلاء لكلمة الله في هذه _______ (1) الإصابة 4/ 12، وأسد الغابة 3/ 86. (2) ابن الأثير 2/ 216. (3) عمواس: كورة من فلسطين بالقرب من بيت المقدس، وهي على أربعة أميال من مدينة الرملة على طريق بيت المقدس، انظر التفاصيل في معجم البلدان 6/ 225. (4) طبقات ابن سعد 3/ 414 - 415 و 7/ 385، وابن الأثير 2/ 216، والإصابة 4/ 13، وأسد الغابة 3/ 86، والاستيعاب 2/ 894، ومعجم البلدان 6/ 226.

السنين العجاف التي تداعت عليهم الأمم، واحتل الصهاينة بلادهم وامتهنوا مقدساتهم، وأحرقوا المسجد الأقصى أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين. والسؤال الآن: هل يمكن أن يضحي المرء بماله وروحه في سبيل الله بدون الإيمان العميق والتمسك بتعاليم الدين الحنيف؟؟ هل يمكن أن يضحي المرء بماله وروحه وهو محروم من الإيمان العميق بعيد عن التمسك بتعاليم الدين الحنيف؟؟ هيهات ... هيهات ... ***

التطبيق العملي بعد الفتح الإسلامي العظيم

التطبيق العملي بَعدَ الفَتْحِ الإسْلامي العَظيمْ

مستهل

مستهل توقف الفتح الإسلامي العظيم سنة أربع وتسعين الهجرية (712م) كما ذكرت سابقاً، وأصبحت معارك المسلمين بعد ذلك معارك دفاعية، عدا فتح مناطق من أوروبا في عهد العثمانيين. ومع ذلك فكل القادة الذين انتصروا في صدّ غارات المعتدين أو فتحوا بلاداً جديدة، كانوا متدينين إلى أبعد الحدود، وكانوا أمثلة شخصية لرجالهم في التدين والعمل الصالح. ولست أعرف قائداً واحداً انتصر انتصاراً حقيقياً كان له أثر سَوْقِيّ (استراتيجي) في مصير الأمة والوطن وكانت له نتائج حاسمة دفاعاً عن الدين أو حماية للبلاد من خطر داهم، إلا وكان هذا القائد متديناً غاية التدين. ويكفي أن أذكر من هؤلاء القادة المنتصرين أسد بن الفرات فاتح جزيرة (صقلية)، وصلاح الدين الأيوبي قاهر الصليبيين، وقطز قاهر التتار، ومحمداً الفاتح فاتح القسطنطينية. إن انتصارات هؤلاء القادة كانت لها آثار مصيرية كما هو معلوم، وسندلِّل على ذلك بما يتسع له المجال في هذا الكتاب، فهي انتصارات سَوْقية (استراتيجية) وليست انتصارات تعبوية (تكتيكية).

والانتصارات السوقية لها نتائج مصيرية داخلية وخارجية، والانتصارات التعبوية لها نتائج داخلية أو محلية. والانتصارات السوقية انتصارات مستدامة، والانتصارات التعبوية انتصارات وقتية. وكل قائد يستطيع أن يحرز انتصارات تعبوية، ولكن أثرها لا يبقى طويلاً، فهي كالحريق في الهشيم يبدو قوياً ساطعاً لأول وهلة ثم يخبو فلا يبقى منه غير الرماد. ولكن ليس كل قائد يستطيع أن يحرز انتصارات سوقية، ذات أثر باق، فهي كالطود الشامخ تتحطم على صخوره الأجيال. ومن الطبيعي أن كثيرين من القادة العرب والمسلمين أحرزوا انتصارات تعبوية منذ انحسار مد الفتح الإسلامي حتى اليوم، وقد يكون هؤلاء متدينين وقد يكونون غير متدينين، ولكن لا قيمة لانتصاراتهم لأنها محلية ووقتية وليست مستدامة ومصيرية، فلا يقولنّ قائل: كيف انتصر غير المتدينين منهم؟ إن العبرة بالانتصارات السوقية، التي رفعت شأن العرب والمسلمين، وكانت لها نتائج مصيرية وآثار حاسمة، ولا تزال نتائجها ظاهرة للعيان، وآثارها باقية ملموسة ... وهذه الانتصارات أحرزها القادة المتمسكون بأهداب الدين الحنيف، ولم يحرزها القادة المتفسخون الذين تخلوا عن تعاليم الإسلام أو تهاونوا في التمسك بتعاليمه. إني أتحدى كل من يستطيع أن يذكر قائداً عربياً واحداً أو قائداً

مسلماً واحداً، أحرز انتصاراً سوقياً واحداً منذ انحسر مد الفتح الإسلامي العظيم حتى اليوم، وهو غير متدين بكل ما في التدين من معان ... ولن يستطيع أحد أن يفعل! ... إن هذا القائد لم يخلق بعد، وأقول: القائد، وأقصد به القائد الأصيل لا القائد المزيف، وشتان بين الأصيل والمزيف. القائد الأصيل يعمل لأمته ووطنه، والقائد المزيف يعمل لشخصه وأمجاده. وانتصار القائد الأصيل متوقع طبيعي، وانتصار القائد المزيف يناقض طبيعة الأشياء. وقد رأينا قادة مزيفين، برزوا فجأة واختفوا فجأة، ولم يخلفوا غير الصخب والضجيج ... وما أحوجنا في هذه الظروف إلى القائد الأصيل ... وما أغنانا في هذه الأيام عن القائد المزيف الهزيل ... ***

- 1 - أسد بن الفرات مصنف كتاب الأسدية وفاتح جزيرتي قوصرة وصقلية

- 1 - أسَد بن الفرَات مصَنّفْ كتاب الأسديَة (1) وَفَاتح جَزيرَتي قوصَرة (2) وصقليَة (3) 1 - العالِم: أبو عبد الله أسد بن الفرات بن سنان مولى بني سُلَيْم (4) من _______ (1) الأسدية: كتاب صنفه أسد بن الفرات في فروع المالكية. انظر: إيضاح المكنون في الذيل على كشف الظنون 74. وفي (رياض النفوس): 1/ 178 - 179 تفصيل حسن عن مدونة أسد بن الفرات التي جمع فيها أجوبة عبد الرحمن بن القاسم عما سأله فيه من فصول الفقه، ثم رتبها وبوبها بعد ذلك، وأتى بها (المغرب)، فسميت: (المدونة الأسدية)، أو (الأسدية) فحسب. (2) قوصرة: جزيرة في البحر الأبيض المتوسط بين (المهدية) و (صقلية). انظر التفاصيل في (معجم البلدان) 7/ 1283. وهي جزيرة (بنتلاريا) الصغيرة الواقعة بين (تونس) و (صقلية). انظر كتاب: تراجم إسلامية 132، وأطلس أوكسفورد 38: انظر ( Pantelleria) . (3) صقلية ( Sicilia) : جزيرة من جزائر البحر الأبيض المتوسط. انظر التفاصيل في معجم البلدان (5/ 373)، والمسالك والممالك للاصطخري 51، وآثار البلاد وأخبار العباد 215، وتقويم البلدان 192، والمسالك والممالك لابن خرداذبة 154، وأحسن التقاسيم 216، وصورة الأرض 113. والجزيرة شبيهة بمثلث ضخم، مساحتها خمسة وعشرون ألفاً وأربع مئة وستون كيلومتراً مربعاً، ومناخها معتدل. انظر: المسلمون في صقلية 1 - 3 ومنجم العمران 2 - 272، والعرب في صقلية 23 - 25، و ( Enciclopedia Italiano) تحت كلمة: ( Sicilia) . (4) بنو سليم بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس عيلان، انظر التفاصيل في: جمهرة أنساب العرب 261 - 264، وبنو سليم بن فهم بن غنم بن دوس، انظر التفاصيل في: =

(نَيْسابور) (1)، ولد في (حران) (2) سنة اثنين وأربعين ومئة الهجرية (3) (759 م)، فحمله أبوه وكان جندياً في جيش محمد بن الأشعث الخزاعي (4) إلى (القيروان) (5)، وهو يومئذ ابن سنتين (6). قال أسد بن الفرات: "دخلت مع أبي (القيروان) في جيش ابن الأشعث؛ فأقمنا به خمس سنين، ثم رحلنا إلى (تونس)، فأقمت بها نحو تسع سنين، فلما بلغت ثماني عشرة علمت القرآن في قرية على وادي (بجردة) (7). _______ = جمهرة أنساب العرب 381 - 382 والنص يكتفي بذكر أن أسد بن الفرات هو مولى بني سليم ولا يخصص أي بني سليم من العرب هو مولى لهم. (1) نيسابور: مدينة عظيمة في (خراسان)، انظر التفاصيل في المسالك والممالك 145، ومعجم البلدان 8/ 356، وآثار البلاد وأخبار العباد 473، والبلدان لليعقوبي 278. (2) حران: مدينة في (الجزيرة) مشهورة، انظر التفاصيل في معجم البلدان 3/ 241، والمسالك والممالك 54. وحران اليوم تقع في جنوب الجمهورية التركية. (3) رياض النفوس 1/ 172، ومعالم الإيمان 2/ 2. (4) هو محمد بن الأشعث بن عقبة بن أهبان الخزاعي أمير مصر من قبل أبي جعفر المنصور سنة إحدى وأربعين ومئة 758م، انظر تفاصيل سيرته في النجوم الزاهرة 1/ 346 - 348، والخلاصة النقية 18، والولاة والقضاة 108، ودول الإسلام 1/ 78، وانظر الأعلام 6 - 264. (5) القيروان: مدينة عظيمة في تونس، انظر التفاصيل في معجم البلدان 7/ 193، والأعلاق النفيسة 347 - 348، والمسالك والممالك 34، وتقويم البلدان 144 - 145، وآثار البلاد وأخبار العباد 242، وانظر: تاريخ المغرب الكبير 2 - 28، وفتح العرب للمغرب 153 - 154. (6) معالم الإيمان 2/ 2، ورياض النفوس 1/ 173، والحلة السيراء 2/ 380. (7) وادي بجردة: نهر معروف في (تونس)، تقع عليه القرية التي تعلّم فيها أسد بن الفرات القرآن الكريم، انظر الحلة السيراء 2 - 381، وطبقات أبي العرب 81. ويكتب (بجردة) أحياناً (مجردة) وعنه جاء الاسم الفرنسي ( Medjerda) وهو نهير صغير ينبع من جبال (أوراس) ويسير شمالاً بشرق حتى ينصب في البحر الأبيض المتوسط عند (رأس الجبل) قرب مدينة (بنزرت)، انظر الهامش رقم (2) في الحلة السيراء 2/ 381، وأطلس أوكسفورد (38ل 18).

وارتحل أسد من (بجردة) إلى (تونس)، فسمع من علي بن زياد (الموطأ)، وتعلّم منه العلم (1). وخرج أسد إلى المشرق سنة اثنتين وسبعين ومئة الهجرية (788م)، فقصد مالك بن أنس - رضي الله عنه - في المدينة المنورة، وواظب عليه، وطلب عليه العلم، وسمع منه الموطأ (2). وكان تلاميذ مالك يهابونه فلا يسألونه إلا بمقدار، وكان أسد جريئاً في الأسئلة والمناقشة، فألح أسد مرة على مالك بالسؤال، وكان مالك يكره السؤال عن أحكام الحوادث قبل وقوعها، فقال مالك لأسد: "سلسلة بنت سُلَيسِلة ... ! إذا كان كذا وكذا!! ... إن أردت هذا فعليك بالعراق" (3). وقبل أن يغادر أسد المدينة المنورة، ودّع هو وصحبه الإمام مالكاً، فقال له مالك: "أوصيك بتقوى الله والقرآن والمناصحة لهذه الأمة" (4). وقصد أسد العراق، فلقي في (بغداد) أصحاب الإمام أبي حنيفة النعمان بن ثابت - رضي الله عنه -: أبا يوسف يعقوب بن إبراهيم، ومحمد بن الحسن الشيباني وغيرهما، فكتب الحديث في العراق، وتفقه به (5). _______ (1) وادي بجردة: نهر معروف في (تونس)، تقع عليه القرية التي تعلّم فيها أسد بن الفرات. (2) رياض النفوس 1/ 172، وانظر المكتبة 180. (3) معالم الإيمان 2/ 3. (4) رياض النفوس 1/ 174، وفي معالم الإيمان 2/ 4، ورد قول مالك: "سلسلة بنت سلسلة" إلخ ... (5) رياض النفوس 1/ 174، ومعالم الإيمان 2/ 4.

وحضر أسد مجالس محمد بن الحسن الشيباني العامة، فلم يكتف بذلك، بل طلب إليه أن يسمح له بوقت يخصه فيه بالدراسة، فقال أسد لمحمد بن الحسن: "إني غريب وقليل النفقة، والسماع عندك نزر، والطلب عندك كثير، فما حيلتي"؟ ... فرحَّب محمد بن الحسن باستزادة تلميذه من العلم، وقال له: "اسمع مع العراقيين بالنهار، وقد جعلت لك الليل وحدك، فتأتي فتبيت عندي، فأُسمعك". قال أسد: "فكنت أبيت في سقيفة بيت يسكن محمد بن الحسن في علوه، فكان ينزل إليّ، ويضع بين يديه قدحاً فيه ماء، ثم يأخذ في القراءة، فإذا طال الليل ورآني نعست، ملأ يده ماء ونضح به على وجهي فأنتبه، فكان ذلك دأبي ودأبه، حتى أتيت على ما أريد من السماع عليه (1). وقد أسبغ محمد بن الحسن رعايته المادية والمعنوية على تلميذه أسد، كما كان يفعل السلف الصالح من الأساتذة بتلامذتهم، قال أسد: "كنت جالساً يوماً في حلقة محمد بن الحسن، فصاح صائح: الماء للسبيل ... فقمت مبادراً، فشربت من الماء، ثم رجعت إلى الحلقة، فقال محمد بن الحسن: يا مغربي! ... أشربت ماء السبيل؟! فقلت: أصلحك الله، وأنا ابن سبيل! ... ثم انصرفت. فلما كان الليل، إذا بإنسان يدق الباب، فخرجت إليه، فإذا خادم محمد بن الحسن فقال: مولاي يقرأ عليك السلام ويقول لك: ما علمت أنك ابن سبيل إلا في يومي، فخذ هذه النفقة، فاستعن بها على حاجتك ... ثم دفع لي صرة ثقيلة. فقلت في نفسي: هذه كلها _______ (1) رياض النفوس 1/ 173.

دراهم ... ففرحت بها، فلما دخلت منزلي فتحتها، فإذا فيها ثمانون ديناراً" (1). وأراد أسد المزيد من العلم، فانتقل إلى مصر، وذلك بعد وفاة مالك بن أنس، وهناك حضر مجالس عبد الرحمن بن القاسم وأشهب بن عبد العزيز وغيرهما من أصحاب مالك، ولكن لزم ابن القاسم وأخذ عنه (الأسدية)، التي جمع فيها أجوبة عبد الرحمن بن القاسم عما سأله فيه من فصول الفقه، ثم رتَّبها وبوَّبها بعد ذلك، وأتى بها المغرب فسمّيت: (المدونة الأسدية) أو (الأسدية) فحسب (2). وحين ودَّع أسد أستاذه ابن القاسم قبل مغادرته مصر، قال له ابن القاسم: "أوصيك بتقوى الله والقرآن، ونشر هذا العلم" (3). وقدم أسد القيروان سنة إحدى وثمانين ومئة الهجرية (4) (797م) بكتابه (الأسدية)، فسمعها منه خلق كثير مع (الموطأ) وغير ذلك من العلوم، وانتشرت إمامته (5)، فولاه زيادة الله بن إبراهيم بن الأغلب قضاء (إفريقية) (6) سنة ثلاث ومئتين الهجرية (818م)، فأقام _______ (1) رياض النفوس 1/ 175. (2) في رياض النفوس 1/ 178 - 179 تفصيل حسن عن (الأسدية)، فليرجع إلى هذا المصدر مَن أراد التوسع في تفاصيل مدونة أسد بن الفرات هذه. (3) رياض النفوس 1/ 174. (4) المكتبة الصقلية 323 نقلاً عن الحلة السيراء. (5) رياض النفوس 1/ 173. (6) إفريقية: هي بلاد (تونس) الحالية مع الأجزاء الغربية لولاية (طرابلس) الغرب (ومنها المدينة) والتخوم الشرقية لبلاد الجزائر إلى (بجاية) في ولاية (قسنطينة). انظر: تاريخ المغرب العربي 11، وفتح العرب للمغرب 1/ 2، ومعجم البلدان 1/ 300، وانظر: ابن خلدون 6/ 98، وقادة فتح المغرب العربي 1/ 13 - 14.

خريطة صقليَّة

خريطة فتح أسد بن الفرات

2 - الفاتح

في (القيروان) يقضي بين أهلها بالكتاب والسنة، حتى خرج لغزو (صقلية) (1). 2 - الفاتح: أ) قدم (إفريقية) أحد أعاظم قواد الجيش الصقلي وهو (أوفيموس Euphemios) ويسميه المؤرخون العرب (فيمي)، وكان مقدّماً من بطارقة (2) القيصر على ما يقوله مؤرخو العرب، أو (طومرخان Turmarch)) (3) ، أي قائد فرقة في جيش (صقلية) المحلى برتبة (عميد) (4) على ما تقوله المراجع الإيطالية والبيزنطية. وكانت قد وقعت عداوة بينه وبين والي (صقلية) العام لأسباب شخصية، لأن الوالي العام قد خطف منه مخطوبته، على ما يذكره أحد المراجع الإيطالية، أو لأن (فيمي) كان قد خطف راهبة من ديرها _______ (1) أ) رياض النفوس 1/ 173، وانظر تاريخ قضاة الأندلس 45. ب) انظر سيرة زيادة الله في ابن خلدون 4/ 197، والخلاصة النقية 26، وابن الأثير 6/ 111، والبيان المغرب 1/ 96، والحلة السيراء 1/ 163، وانظر الأعلام 3/ 93. (2) البطارقة: جمع بطريق. والبطريق رتبة عسكرية بيزنطية، انظر التمدّن الإسلامي 1/ 141 - 143، وهذه الرتبة تشابه رتبة قائد فرقة في الوقت الحاضر، انظر: قادة فتح الشام ومصر 22. (3) طومرخان: يتولى قيادة خمسة آلاف جندي. انظر التفاصيل في التمدُّن الإسلامي 1/ 141 - 143. (4) في الأصل رتبة الفريق وهي رتبة عسكرية تدعى ( Lieutenant General) ، والأصح أن رتبة (طومرخان) هي رتبة (عميد Brigadier) ، لأن الفريق لا يكون قائد فرقة ( Division) بل يكون قائد فيلق ( Corps) ، ومادام البطريق قائد فرقة وبإمرته ضابطان برتبة (طومرخان) فلا بدّ أن يكون (الطومرخان) أقل رتبة منه، والظاهر أن الخطأ في ذلك وقع في ترجمة النص إلى العربية، والفرقة في الروم مؤلفة من عشرة آلاف جندي بقيادة بطريق، والطومرخان يقود خمسة آلاف جندي.

فعاقبه الوالي بالعزل، على ما يذكره مرجع آخر (1). أما المصادر العربية، فتذكر أن ملك الروم بالقسطنطينية، استعمل على جزيرة (صقلية) بطريقاً اسمه (قسطنطين) سنة إحدى عشرة ومئتين الهجرية (826م)، فلما وصل إليها استعمل على الأسطول (فيمي)، وكان حازماً شجاعاً، فغزا (إفريقية) وأخذ من سواحلها تجَّاراً ونهب، وبقي هناك مدة مديدة. ثم إن ملك الروم كتب إلى (قسطنطين) يأمره بالقبض على (فيمي) مقدم الأسطول وتعذيبه، فبلغ الخبر (فيمي) فأعلم أصحابه فغضبوا له وأعانوه على المخالفة، وسار (فيمي) في مراكبه إلى (صقلية) واستولى على مدينة (سرقوسة) (2) (سيراكوزة Siracusa) ، فسار إليه قسطنطين، ولكنه انهزم أمام (فيمي) الذي أصبح ملكاً على (صقلية). ولكن (فيمي) لم يستطع الاحتفاظ بـ (صقلية) طويلاً، إذ هاجمته قوات ملك الروم وهزمته، ففرَّ إلى (إفريقية)، واستغاث بأميرها وهو يومئذٍ زيادة الله بن الأغلب، ودعاه إلى فتح (صقلية)، ووصف له غناها وسهولة الاستيلاء عليها (3). _______ (1) المسلمون في صقلية 7. أما (أماري) فيرى أن قصة خطف الراهبة قد زورتها على (فيمي) السلطات البيزنطية العليا لأجل إبعاد قائد من أهل (صقلية) كثير المطامع لا تأتمنه؛ انظر: المسلمون في صقلية 8؛ وكان الإمبراطور البيزنطي في القسطنطينية حينذاك هو ميخائيل الثاني، انظر: تراجم إسلامية 131. (2) سرقوسة: أكبر مدن (صقلية)؛ انظر التفاصيل في معجم البلدان 5/ 74، وفي تراجم إسلامية 131: أن الإمبراطور ميخائيل الثاني قضى بجدع أنف (فيمي)؛ لأنه اختطف راهبة حسناء من ديرها، عقاباً له على جرمه، ففرَّ إلى مدينة (سرقوسة) وبسط حكمه عليها، ولكنه لم يستطع أن يحتفظ بها طويلاً، إذ هاجمته قوات الإمبراطور وهزمته واستردت المدينة منه، ففرَّ إلى (إفريقية) واستغاث بأميرها وهو يومئذٍ زيادة الله بن الأغلب. (3) ابن الأثير 6/ 113 - 114، وابن خلدون 4/ 198، والنويري في المكتبة 427.

وسواء أكان (فيمي) طامعاً من أولئك الطامعين ثار في (سرقوسة) وأخفق، فلجأ إلى المسلمين، أم اختطف فتاة جميلة كانت قد لجأت إلى دير، وشكاه أهلها إلى الإمبراطور، أم أحب (هومونيزا Omoniza) الجميلة واغتصبها منه صاحب (صقلية)، فذهب يستعين بالقيروان؛ سواء أكان هذا السبب أم ذاك، فالذي حدث حقاً، أن (فيمي) لجأ إلى بني الأغلب يطلب منهم المعونة (1)، وقدَّم نفسه لزيادة الله دليلاً وعوناً على فتح (صقلية). ب) وجمع زيادة الله مجلسه (2) الحربي من وجوه أهل (القيروان) وفقهائها ومنهم أسد بن الفرات وأبو محرز القاضيان وسحنون بن سعيد الفقيه، واستشارهم في أمر فتح (صقلية). وانقسم أهل الشورى فريقين: أقلية لا ترى الغزو ولا تشير به؛ فيها سحنون فإنه سأل المجتمعين: "كم بينها وبين الروم"؟ قالوا: "يروح الإنسان مرتين أو ثلاثة في النهار ويرجع" ... قال: "ومن ناحية (إفريقية) "؟ قالوا: "يوم وليلة"، قال: "لو كنت طائراً ما طرت عليها". ومنهم من قال: "نغزوها ولا نسكنها ولا نتخذها وطناً" (3). وقال فريق منهم بالإقدام على غزو (صقلية) جهاداً في سبيل الله وإعزازاً لدينه. وكانت بين (صقلية) و (إفريقية) هدنة لم تنقضِ مدتها، _______ (1) العرب في صقلية 32، والمسلمون في صقلية 8. (2) كان يسمى في اصطلاح البربر: (جماعة)، انظر: المسلمون في صقلية 8. (3) نهاية الأرب في المكتبة 427 - 428.

فعرض زيادة الله أمرها على أبي محرز وأسد. أما أبو محرز، فآثر التريُّث. وأما أسد، فآثر أن يسأل رسل الصقليين ليعرف: هل لديهم في (صقلية) أسرى من المسلمين؟ ... قال أبو محرز: "وكيف نقبل قول الرسل عليهم أو دفعهم عنهم"؟ ... فقال أسد: "بالرسل هادناهم، وبالرسل نجعلهم ناقضين ... قال عز وجل: {فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ} [سورة محمد 47: 35]، فكذلك لا نتماسك به ونحن الأعلون" (1). وحلَّت العقدة، وتحلَّل زيادة الله من الهدنة، بعد أن أقرَّ الرسل بوجود الأسرى من المسلمين في (صقلية)، وكانت الهدنة تنص على: "أنه من دخل إليهم من المسلمين، وأراد أن يردوه إلى المسلمين، كان ذلك عليهم (2)، وقد ثبت باعتراف رسل (صقلية) أن أسرى مسلمين في (صقلية) خلافاً لشروط الهدنة. ج) وقرر زيادة الله مهاجمة (صقلية)، وأمر بالاستعداد لهذا الهجوم. وسارع أسد إلى الخروج، فكان زيادة الله يتغافل عن ذلك. فقال أسد: "وجدوني رخيصاً فلم يقبلوني، وقد أصابوا من يجري لهم مراكبهم من النواتية (3)، فما أحوجهم إلى مَن يجريها لهم بالكتاب والسنة" (4). لقد كان أسد يريد أن يكون جندياً من عامة الجند بين المجاهدين، _______ (1) رياض النفوس في المكتبة 182 - 183. (2) رياض النفوس 1/ 186. (3) النواتي: جمع نوتي، وهو الملاح في البحر. (4) رياض النفوس 1/ 186 - 187.

فكان يريد أن يؤدي واجبه في الجهاد الأصغر محارباً، بعد أن أدى واجبه في الجهاد الأكبر متعلماً وعالماً وقاضياً ومفتياً. وحين رأى زيادة الله إصرار أسد على الخروج مجاهداً في سبيل الله، أمَّره على تلك الغزوة، وعزم عليه في ذلك، فقال أسد: "أصلح الله الأمير ... من بعد القضاء والنظر في حلال الله تعالى وحرامه، تعزلني وتوليني الإمارة؟ ... "، فقال زيادة الله: "إني لم أعزلك عن القضاء، بل ولّيتك الإمارة، وهي أشرف من القضاء، وأبقيت لك اسم القضاء، فأنت قاضٍ أمير"، فخرج أسد على ذلك، ولم تجتمع الإمارة والقضاء ببلد في (إفريقية) إلا لأسد وحده (1). د) كان خروج أسد إلى (صقلية) من (سوسة) (2) يوم السبت النصف من شهر ربيع الأول، سنة اثنتي عشرة ومئتين الهجرية (3) (14 حزيران - يونيو - سنة 827 م) (4) وكان معه في جيشه عشرة آلاف رجل - منهم ألف فارس (5)، حملتهم مئة سفينة (6) وخرج لتوديع أسد وجيشه وجوه أهل العلم وجماعة الناس، وقد أمر زيادة الله ألا يبقى أحد من رجاله إلا شَيَّعَه (7)؛ وقد صهلت الخيل، وضربت الطبول، _______ (1) رياض النفوس 1/ 187. (2) سوسة: بلدة بالمغرب على البحر الأبيض المتوسط؛ انظر التفاصيل في معجم البلدان 5/ 173، وهي ميناء في تونس. (3) النويري في المكتبة 428؛ وانظر: الحلة السيراء 2/ 381. (4) المسلمون في صقلية 9. (5) تاريخ قضاة الأندلس 54؛ وفي النويري في المكتبة 428: "أن الفرسان كانوا سبعمئة فارس"؛ أما في الحلة السيراء 2/ 381 فقد جاء: "أن الفرسان كانوا تسعمئة". (6) النويري في المكتبة 428. (7) رياض النفوس 1/ 188؛ ومعالم الإيمان 2/ 15؛ وانظر تاريخ قضاة الأندلس 54.

وخفقت البنود، فقال أسد: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له ... يا معشر الناس ... ما بلغت ما ترون إلا بالأقلام، فأجهدوا أنفسكم فيها، وثابروا على تدوين العلم، تنالوا به الدنيا والآخرة" (1). هـ) وتحرك أسد على رأس جيشه إلى هدفه (صقلية)، وفي طريقه فتح جزيرة (قوصرة) (2) الصغيرة (3) ويبدو أن فتحها كان صلحاً، لأن المسلمين وصلوا إلى ساحل (صقلية) يوم الثلاثاء الثامن عشر من شهر ربيع الأول سنة اثنتي عشرة ومئتين الهجرية (4) (17 حزيران سنة 827 م) (5)، أي بعد أربعة أيام من إقلاعهم من ميناء (سوسة)، بينما _______ (1) تاريخ قضاة الأندلس 54؛ ومعالم الإيمان 2/ 15؛ ورياض النفوس 1/ 188. (2) انظر: مقدمة ابن خلدون 253، وقد ذكر الأستاذ محمد عبد الله عنان في كتابه: تراجم إسلامية 132 ما يلي: "وهناك ما يدل على أنه - أي أسد بن الفرات - نُدِبَ لقيادة البحر قبل ذلك - أي قبل توجّهه لفتح (صقلية)، وأنه قام في هذه المياه بغزوات بحرية سابقة. فقد ذكر لنا ابن خلدون: أن أسداً شيخ الفتيا، فتح (قوصرة) أيام زيادة الله الأغلبي". ومن الواضح أن أسد بن الفرات، لم يُندَب لقيادة الجيوش قبل هذه الغزوة، إذ لا يوجد نص يؤيد ما ذهب إليه الأستاذ عنان، كما أن (قوصرة) لا يمكن فتحها مع بقاء (صقلية) بيد العدو، لأن حاميتها من المسلمين يبقون مهدَّدين دوماً بالغزو من قواعد العدو القريبة -وعلى رأسها صقلية- التي هي في البحر الأبيض المتوسط. ومن الواضح أيضاً، أن أسداً فتح (قوصرة) في طريقه إلى فتح (صقلية)، لأنها تقع في طريقه إليها، ولأنها الخط الدفاعي المتقدم عن (صقلية)، فلا بد من فتحها أولاً قبل فتح (صقلية)، والوثوب منها إلى (صقلية)، وبذلك يجعلها نقطة ارتكاز متقدمة، وهذا ما حدث حقاً. (3) في معجم البلدان 7/ 183: "أن المسلمين فتحوا (قوصرة) في أيام معاوية بن أبي سفيان"، والظاهر أن الروم استعادوها من المسلمين، لانقطاعها عن قواعد المسلمين في (إفريقية) أولاً، ولأنها تحيط بها قواعد الروم في البحر الأبيض ثانياً. وقد فتحها أسد ثانية. والمرجَّح أن فتحها أيام معاوية بن أبي سفيان، كان (غارة) لا (فتحاً). (4) النويري في المكتبة 428. (5) المسلمون في صقلية 9.

المسافة من (سوسة) إلى (صقلية) يوم وليلة (1)، مما يدلّ على أن المسلمين قضوا ثلاثة أيام في ترصين فتح (قوصرة) ووضع حامية مناسبة فيها، لحماية خط انسحابهم إلى (إفريقية) عند الحاجة (2). و) ورست سفن أسد في ميناء (مازر (3) Mazara) على ساحل (صقلية) الغربي، وهو أقرب ثغور (صقلية) إلى (إفريقية)، وهناك جرى إنزال قوات المسلمين، فلم يجدوا مَن يدافع عن المدينة، لاختلاف أمور الروم، وزهد أهل البلاد في الدفاع عنها لفائدة الروم الغاصبين (4). ونفذ أسد على رأس جنده إلى شرق الجزيرة لمقاتلة الروم الذين اجتمعوا حول صاحب (صقلية) بلاطة (بلاته)، واجتمع إلى أسد (فيمي) وأنصاره ليقاتلوا معه، فأبى أسد وطلب إليهم أن يعتزلوهم قائلاً لفيمي: "اعتزلونا، لا حاجة لنا بأن تعينونا" (5). ودار القتال في ميدان بين بلرم (6) (بالرمو Palermo) و (مازر) _______ (1) النويري في المكتبة 428. (2) إن فتح جزيرة قوصرة مهما كانت صغيرة، ومهما كانت قواتها قليلة، لا يمكن أن يتم عنوة بهذه الفترة القصيرة من الزمن، إذ أن إجراءات الاستطلاع، وإعداد الخطة المناسبة، ثم تنفيذها، يحتاج إلى وقت أكثر بكثير من ثلاثة أيام كما هو معروف. (3) مازر: مدينة في الساحل الغربي من (صقلية)؛ انظر معجم البلدان 8/ 362، والمشترك وضعاً 381. (4) المسلمون في جزيرة صقلية وجنوب إيطالية 65. (5) رياض النفوس 1/ 188، وابن الأثير 6/ 137، والمكتبة 222، وقد أمرهم أسد أن يجعلوا على رؤوسهم سيماً يعرفون بها ليلاً؛ انظر المكتبة 185 عن رياض النفوس. (6) بلرم: أعظم مدينة في (صقلية) تقع على شاطئ البحر، ذات سور شاهق منيع مبني من حجر؛ انظر التفاصيل في معجم البلدان 2/ 268؛ وهي عاصمة (صقلية)؛ انظر: المسلمون في صقلية 1.

سمي باسم بلاطة فيما بعد، وكان الصقليون يفوقون المسلمين عدداً وعُدداً، فقد كان جيش الصقليين مئة ألف وخمسين ألفاً" (1). وكان أسد في هذه المعركة يحمل اللواء بيد، والسيف بيده الأخرى، وهو يدعو الله؛ فحمل على الروم، وحمل الناس معه، فهزم (بلاطة) وجُرح في هذه المعركة (2) واستولى المسلمون على عدة حصون من الجزيرة (3). وانتصر المسلمون على جيش الروم المحلِّي في (صقلية)، وفرَّ الروم نحو الجبهة الشرقية، وحشدوا جموعهم حول مدينة (سرقوسة)، فرأى أسد أن يستثمر الفوز (4) فسار بجيشه يقتفي أثر المنهزمين. ز) ووقف أسد تحت أسوار (سرقوسة)، ونزل مقاطع الحجارة التي كانت حول المدينة منذ عهد اليونان (5)، قاطعاً إليها من (مازر) مسافة مئتي كيلو متر، وهي المسافة الفاصلة بين رأس الجسر (6) الذي نزل فيه المسلمون في مدينة (مازر) وبين (سرقوسة). _______ (1) المسلمون في جزيرة صقلية وجنوب إيطاليا 65، والمسلمون في صقلية 9. وكان نفوس صقلية (1600،000) في عهد الحكم الإسلامي؛ انظر المسلمون في صقلية 3. (2) رياض النفوس 1/ 188، ومعالم الايمان 2/ 15، وتاريخ قضاة الأندلس 54. (3) ابن خلدون 4/ 199؛ وابن الأثير 6/ 114، وقد هرب (بلاطة) إلى (فلورية) وهي جزيرة في شرق (صقلية) فقتل بها. (4) استثمار الفوز: مصطلح عسكري حديث، معناه: ترصين المواضع المحتلة ومطاردة العدو للقضاء عليه. (5) المسلمون في صقلية 9. (6) رأس الجسر: هي منطقة إنزال القوات العسكرية التي جرى إنزالها في تلك المنطقة ( Bridgehead) .

وكان هناك عدة من المدن والحصون في شمال (صقلية) لا تزال بيد الروم، وكان خط القتال الناشب بين المسلمين والروم ممتداً في الحقيقة من (سرقوسة) في شرقي الجزيرة إلى بلرم (بالرمو) في شمالها الغربي. وكان (فيمي) قد بدأ يخشى مغبَّة انتصارات المسلمين، فأخذ يشجِّع الروم على المقاومة ويتجسَّس على المسلمين، ويبعث بأخبارهم إلى الروم، فكان ذلك مما شجَّع الروم على مضاعفة مقاومتهم. ح) وحاصر أسد (سرقوسة) براً، وحاصرتها سفن المسلمين بحراً، ووصلت الأمداد من (إفريقية)، فبعث أسد إلى (بلرم) الجند والسفن لحصارها. وفي ذلك الحين وصل إلى مياه (سرقوسة) أسطول بيزنطي بعثه الإمبراطور من (القسطنطينية) لإنجاد الجزيرة، فاشتدَّت مقاومة الروم للمسلمين، وارتفعت معنوياتهم، فنشبت بينهم وبين المسلمين معارك طاحنة في البر والبحر (1). وتحرج موقف المسلمين، لتكاثر الروم عليهم من جهة، إذ أصبحوا يصاولون جيش الإمبراطورية لا جيش (صقلية) المحلِّي، ولانتشار الوباء في معسكرهم من جهة أخرى، وذلك سنة ثلاث عشرة ومئتين الهجرية (828 م)، فهلك منهم خلق كبير. ولكن أسداً دأب على القتال، فتوفي وهو محاصر لسرقوسة من _______ (1) ابن الأثير 6/ 114؛ وانظر ابن خلدون 4/ 199؛ وتراجم إسلامية 133 - 134.

جراحات شديدة أصابته أو متأثراً بالوباء، وكانت وفاته في ربيع الآخر سنة ثلاث عشرة ومئتين الهجرية (828م)، ودُفن بذلك الموضع (1). ط) وتولى القيادة بعد أسد أحد رجاله وهو محمد بن أبي الجواري، فلما رأى تفاقم الأمر على المسلمين، حاول الانسحاب في السفن إلى (إفريقية)، ولكن السفن البيزنطية منعته من ذلك، فأمر عندئذٍ بحرق السفن. وامتنع المسلمون بداخل الجزيرة، وتفرَّقوا فيها سرايا يغزون بسائطها ويحاصرون قلاعها، حتى جاءتهم الأمداد من (إفريقية)، ووصل لمعاونتهم في الوقت نفسه أسطول أندلسي سنة أربع عشرة ومئتين الهجرية (829م)، فاشتدَّ ساعدهم، ومضوا في فتح الجزيرة وثغورها تباعاً، حتى أتموا افتتاح معظمها. وفي سنة أربع وستين ومئتين الهجرية (878م) فتح المسلمون (سرقوسة) آخر معاقل (صقلية)، فتمَّ لهم بذلك افتتاح الجزيرة وأسَّسوا إمارة كانت تابعة في البداية لحكومة (إفريقية)، ثم استقلَّت بعد ذلك عنها حينما سقطت دولة الأغالبة، _______ (1) معالم الإيمان 2/ 16؛ وفي العيون والحدائق في أخبار الحقائق 372: "في سنة (213هـ) مات أبو عبد الله أسد بن الفرات في شهر ربيع الآخر وهو محاصِر لسرقوسة ودُفن بالقرب منها، وقَبْرُه معروف إلى الساعة فيما ذكر من وقف عليه". أما ابن خلدون في 4/ 198، فيذكر أنه توفي بالوباء، وكانت وفاته في قصر يانة (كاسترو جيوفاني Castro Giovanni) ، ونرجح الرواية الأولى، لأن أكثر المصادر تؤيدها، ولأن المعركة الكبرى كانت تدور حول (سرقوسة)، فمن المعقول أن يكون أسد - وهو القائد العام - على رأس جنوده في تلك المعركة، لا أن يبقى بعيداً عن ميدان القتال. وانظر أيضاً: تاريخ قضاة الأندلس 54، فقد ورد فيه: "توفي رحمه الله في حصار (سرقوسة) في غزو (صقلية) وهو أمير الجيش وقاضيه، وذلك سنة (213هـ)؛ وانظر: رياض النفوس 1/ 173 الذي يؤيد وفاة أسد تحت أسوار (سرقوسة).

فقامت في (صقلية) دولة إسلامية لبثت زهاء قرنين في الجزيرة، حتى استعادها منهم الدوق رجار (روجيرو Ruggero) سنة أربع وستين وأربعمئة الهجرية (1072م)، فانتهت بذلك دولة الإسلام في صقلية كما ينتهي الحلم السعيد (1). _______ (1) انظر التفاصيل في ابن خلدون 4/ 199 - 200؛ وابن الأثير 6/ 115 - 116؛ وانظر المسلمون في صقلية 9 - 18، والعرب في صقلية 35 - 57؛ وتراجم إسلامية 134. ولكن آثار حضارة المسلمين لا تزال باقية حتى اليوم في (صقلية): في أسماء مدنها، وفي لغتها، وفي آثارها ... إلخ. ومن أمثلة آثار الحضارة الإسلامية في صقلية: 1 - في أسماء مدنها: أ) علقمة Alcamo. ب) قلعة الجنون Caltaginon. ج) وادي الطين Dittaino. د) علقة Alga. هـ) قلعة أبو شامة Puscemi. و) قلعة أبي ثور Caltavuturo. ز) خان القطاع Canicatti. ح) مرسى علي Marala. ط) منزل الأمير Misilmeri. ي) تربيع Tarbia. ك) قلعة البلوطة Caltbellotta. ل) قلعة الفانوس Caltalfano. م) فوارة Favara. ن) مرسى الحمام Marzameni. 2- في اللغة: أ) خزانة Gasena. ب) فكرونة (سلحفاة عند المغاربة) Fucuruna. ج) حرارة Carara. د) خنجر Canciaru. هـ) فلان Filano. و) خسارة Cassarao. ز) حريري Careri. ح) ضيقة Dica. ط) ترصيع Tarsia ... إلخ. 3 - وقد نبغ من العلماء المسلمين في صقلية كثيرون كالمؤرخ علي بن القطاع، والجغرافي السيد الإدريسي، والأديب ابن ظفر، والشاعر ابن حمديس الذي قال: ذكرت (صقلية) والأسى يجدد للنفس تذكارها ولولا ملوحة ماء البكاء حسبت دموعي أنهارها 4 - كما ترك المسلمون آثاراً واضحة في فن البناء لا تزال شاهدة حتى اليوم.

3 - الإنسان

لقد كان أسد أول من فتح (صقلية) (1). 3 - الإنسان: أ) ولد أسد في (حرَّان) سنة اثنتين وأربعين ومئة الهجرية (759 م)، وتوفي شهيداً تحت أسوار (سرقوسة) في (صقلية) سنة ثلاث عشرة ومئتين الهجرية (828 م) ودُفن بذلك الموضع (2). تولى القضاء في عهد إبراهيم بن الأغلب مؤسس أسرة الأغالبة، واستمرَّ إلى جانبه أيام الفتنة التي قادها عمران بن مجالد الربعي سنة خمس وتسعين ومئة الهجرية (810م) مخلصاً للأغالبة، معرضاً عن خصومها. فقد بعث عمران إلى أسد ليخرج معه، فأبى أسد وتمارض، فبعث إليه: "إما أن تخرج، وإلا بعثت من يجرّ رجلك"، فقال أسد: "والله لئن أخرجتني لأنادينّ في الناس: القاتل والمقتول في النار" (3). وفي عهد زيادة الله بن إبراهيم بن الأغلب، عين أسد فوق منصبه شيخاً للفتيا (4) وقاضياً للقضاة (5). _______ (1) معالم الإيمان 2/ 17، وقد جاء في معجم البلدان 5/ 374: "ملَكَ أسد بن الفرات بالتنقل جميع الجزيرة"، وهذا غير صحيح، فقد فتح أسد قسماً من (صقلية) لا كلها؛ وفي رياض النفوس 1/ 173: "إنه افتتح من (صقلية) مواضع كثيرة"؛ وانظر أيضاً: مجمل فتوح الإسلام - ملحق بجوامع السيرة - 344. (2) معالم الإيمان 2/ 16، والعيون والحدائق 372؛ وانظر العبر 1/ 364. (3) رياض النفوس 1/ 185؛ والحلة السيراء 1/ 105؛ وانظر تفاصيل فتنة عمران بن مجالد الربعي سنة خمس وتسعين ومئة الهجرية في ابن خلدون 4/ 196. (4) الحلة السيراء 1/ 381. (5) مقدمة ابن خلدون 253.

4 - القائد

ب) كان أسد رجلاً صالحاً فقيهاً عالماً (1) ورعاً (2)، وكان مشهوراً بالعلم والدين (3)، يكفي أن نذكر من عِلمِه أنه مصنّف كتاب (الأسدية) في فروع المالكية، وهو من أقدم مصادر الفقه المالكي. قال بعض رجال سليمان بن عمران: "كان أسد إذا قرأ علينا يقول: اسكتوا علِّي أسرد عليكم دوياً في أذني. قال: وربما رأيته يدق بيده على صدره ويقول: يا حسرتا. إن متُّ ليدخلنَّ القبر مني علم كثير". وبسبب أسد ظهر علم أهل الكوفة بالمغرب (4). وقد رحل إليه الناس من البلدان وسمعوا عليه وتفقهوا به (5). وكان لأسد بيان وبلاغة، إلا أنه بالعلم أشهر منه بالأدب (6). لقد ترك أسد آثاراً خالدة في العلم والفتح على حدٍّ سواء. 4 - القائد: 1) كان انتصار أسد على (بلاطة) في المعارك الأولى التي خاضها على الروم انتصاراً تعبوياً فقط، لأن قوات (بلاطة) كانت قوات الروم المخصصة للدفاع الفوري عن الجزيرة، فكان على أسد أن يستثمر انتصاره التعبوي، وذلك بسرعة اندفاعه لفتح مناطق الجزيرة الحيوية _______ (1) معجم البلدان 5/ 374. (2) العيون والحدائق 372. (3) معالم الإيمان 2/ 11؛ ورياض النفوس 1/ 181. (4) العيون والحدائق 372. (5) رياض 1/ 181. (6) الحلة السيراء 1/ 381.

كافة، ويطلب الأمداد العاجلة لتدعيم قواته بحيث تكون مستعدة لمواجهة قوات الروم الأصلية بعد قدومها من (القسطنطينية)، ودحرها في المعركة الحاسمة المتوقَّعة. ولا يتم له ذلك إلا بحشد قواته الضاربة في المنطقة الحيوية من الجزيرة، وعدم تشتيتها في جبهة واسعة دون مسوِّغ. 2) ومن الواضح أن معركة أسد الحاسمة لفتح الجزيرة، بدأت بعد قدوم أمداد الروم إلى (صقلية)، وبذلك أصبح أسد يواجه جيش الإمبراطورية البيزنطية لا جيش الروم المحلي في الجزيرة، لهذا لم تكن قواته كافية في دحر جيش الروم الذي تحشد في (سرقوسة) على الرغم من ورود الأمداد للمسلمين، لأن قوات أسد كانت مبعثرة في جبهة واسعة. لقد كان أسد يخوض معركته الحاسمة حول أسوار (سرقوسة) المنيعة، فكان عليه أن يحشد قواته كافة في تلك المنطقة الحيوية لإحراز النصر على قوات الروم، لا أن يوزعها في جبهة تمتد إلى حوالي مئتي كيلو متر من (مازر) إلى (سرقوسة) إلى (بلرم) وذلك أدَّى إلى قلب خطط أسد رأساً على عقب، فقد أصبحت خططه (دفاعية)، بينما كان يجب أن تبقى (هجومية)، والدفاع - كما هو معلوم - لا يؤدي إلى الفتح الذي هو هدف أسد الحيوي. 3) إن إرسال أسد قسماً من قواته الضاربة إلى (بلرم)، وتوزيع قسم من قواته في مناطق أخرى، في مثل ذلك الوقت، وفي مثل تلك

الظروف يتنافى ومبدأ (حشد القوة) (1) من أهم مبادئ الحرب (2) وبذلك أصبح أسد ضعيفاً في منطقة (سرقوسة) ومنطقة (بلرم) أيضاً. وقد كان في إمكانه أن يترك قواتاً صغيرة (للمشاغلة) فقط في المواقع الثانوية، والإفادة من قواته كافة في المعركة الحاسمة التي تدور رحاها حول (سرقوسة). 4) كان أسد مؤمناً حقاً، يتحلَّى بمعنويات عالية، وشجاعة فائقة، ولكن ذلك كله ليس كافياً للقائد المتميز، إذ يحتاج مضافاً إلى تلك المزايا - إلى مزية الخبرة العملية في أمور القتال، ومزية التدريب على فنون الحرب. والخبرة العملية في الشؤون الحربية، يحصل عليها القائد، بممارسة القتال، والتدريب المستمر على استعمال السلاح، فكلما كثرت مشاهد القائد، ودأب على التدريب: ازدادت خبرته ونمت وأينعت. إن الخبرة العملية لا تأتي بالدراسة النظرية فحسب، بل بالممارسة العملية. وقد تعمل الدراسة النظرية على تهذيب الخبرة العملية، وتقوية أصولها، والإسراع في نضج ثمراتها، إلا أن الدراسة النظرية وحدها، لا تكفي مطلقاً في هذا المجال. _______ (1) حشد القوة: هو حشد أعظم قوة أدبية وبدنية ومادية، واستخدامها في الزمان والمكان الجازمين؛ انظر: الرسول القائد 449. (2) مبادئ الحرب: هي الجوهر الذي ينشىء في القائد السجية الصحيحة في تصرفاته خلال الحرب، وهي العنصر الذي يتكوَّن منه مسلك القائد في أعماله الحربية بصورة طبيعية وغير متكلّفة؛ انظر: الرسول القائد 443.

إن القائد الحق، هو الذي يمتلك الطبع الموهوب، والعلم المكتسَب، والتدريب العملي على فنون القتال، والخبرة العملية تطبيقاً لمبادئ الحرب في ساحات الحروب. لقد كانت تعوز أسداً الممارسة الكافية للحروب، والخبرة العملية الضرورية لمعالجة متطلّباتها. 5) لقد كان أسد مؤمناً غاية الإيمان بقدسية الجهاد لتكون كلمة الله هي العليا، فكان مجاهداً من الطراز الأول. إنه كان يتمنى على الله أن ينال ثواب المجاهدين الصابرين المحتسبين، فعمل جاهداً على تحقيق هذه الأمنية الغالية حقاً، وعندما أصابت المسلمين مجاعة في (صقلية)، عرض أحد زعمائهم على أسد، أن يرجع بالمسلمين إلى (إفريقية)، فقال أسد: "ما كنت لأكسر غزوة على المسلمين، وفي المسلمين خير كثير" (1). لقد رفض أسد العودة بالمسلمين إلى قواعدهم في (إفريقية)، على الرغم من المجاعة التي حاقت بهم، لأنه لم يرد أن يحرم نفسه ولا أن يحرم مَن معه من المسلمين فضل الجهاد، فنال هو، ونال كثيرٌ من رجاله، أعلى مراتب المجاهدين: الشهادة في سبيل الله. 6) وكان من مزايا قيادته، أنه كان يتمتع بعقلية منظَّمة في تصريف أمور قيادته، تلك العقلية المنظَّمة التي كانت نتيجة لدراساته الفقهية الطويلة. قال لفيمي: "اجعلوا على رؤوسكم سيما (علامة) _______ (1) رياض النفوس 1/ 189؛ ومعالم الإيمان 2/ 6.

تعرفون بها، لئلا يتوهَّم واحد منا، أنكم من هؤلاء المواقفين لنا، فيصيبكم مكروه"، فجعلوا على رؤوسهم الحشيش، فكانت تلك سيماهم (1)، مما يدلُّ على تفكيره المنظَّم، الذي يتغلغل في تفاصيل الأمور. 7) إنه مجاهد أصيل، كان له في قتال الروم آثار مشهورة، ومقامات مذكورة (2) ولكنه كان قاضياً في قيادته، يتحكَّم فقهه وورعه في تصريف أمور جنده، فكان كما قال: "أصابوا من يجري لهم مراكبهم من النواتية، فما أحوجهم إلى من يجريها لهم بالكتاب والسنة" (3)، فهو يتلو الأوراد ويزمزم ويقرأ سورة (يس) وغيرها من سور القرآن الكريم في أوج معمعان المعركة (4) ويرفض معاونة غير المسلمين له في حربه، لأنه كان يؤمن إيماناً عميقاً، أنَّ النصر من عند الله، لا من عند أحد غيره. كان رأس سلاحه في حربه: تقوى الله وحده، وكثرة ذكره، والاستعانة به، والتوكل عليه، والفزع إليه، ومسألته التأييد والنصر والسلامة والظفر (5)، وكان مقداماً شجاعاً مجاهداً صابراً، يثق بنفسه (6)، ويثق برجاله، ويبادلونه ثقة بثقة وحباً بحب، له ماضٍ ناصع مجيد. _______ (1) رياض النفوس 1/ 188؛ ومعالم الإيمان 2/ 6. (2) رياض النفوس 1/ 173. (3) رياض النفوس 1/ 187. (4) قضاة الأندلس 54، وزَمْزَمَ: صَوَّت من بعيد تصويتاً له دوي غير واضح. (5) مختصر سياسة الحروب 15؛ وانظر: الأحكام السلطانية 6. (6) كان أسد يقول: "أنا أسد، والأسد خير الوحوش. وأبي فرات، والفرات خير الماء. وجدي سنان، والسنان خير السلاح" انظر: الحلة السيراء 2/ 380، والمكتبة 331.

5 - أسد في التاريخ

5 - أسد في التاريخ: يذكر التاريخ لأسد، أنه كان إماماً من أئمة المسلمين، وشيخاً من شيوخ الإفتاء، ورئيساً من رؤساء القضاة. ويذكر له، أنه أول من جمع القضاء والقيادة في (إفريقية). ويذكر له، أنه كان عالماً عاملاً، يجاهد بعلمه ويجاهد بسيفه؛ ولم يكن عالماً قاعداً، يجاهد بلسانه، لا يجاهد بماله أو سنانه. ويذكر له، أنه أول مَن فتح كثيراً من (صقلية). ويذكر له، أنه قدم روحه ضحية من أجل إعلاء كلمة الله، فخضب أرض (صقلية) بسيل من دمه الطاهر، فسقط مضرجاً بدمائه ولم يسقط السيف والقلم من يديه. ويذكر له، أنه آثر الجهاد في ساحات الوغى بما فيه من تكاليف البذل والتضحية والفداء، على التنعُّم بالمراكز العليا في القضاء والإفتاء، بما فيها من لذَّة السلطة والحكم والجاه. رضي الله عن المجاهد الصابر، التقي النقي، قاضي القضاة، وشيخ الإفتاء، إمام الفقهاء، قائد القضاة وقاضي القادة، القائد الفاتح، البطل الشهيد: أسد بن الفرات. ***

- 2 - صلاح الدين الأيوبي قاهر الصليبيين ومحرر بيت المقدس

- 2 - صَلاَح الدّين الأيوبي قَاهر الصَليبيينَ ومحرّر بيت المقدسْ 1 - أيامه الأولى: كان صلاح الدين الأيوبي بطل معركة (حطِّين)، ومحرِّر بيت المقدس، وقاهر الصليبيين: حسنةً من حسنات نور الدين محمود بن عماد الدين زنكي الشهيد، كما كان الفاروق عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - حسنة من حسنات أبي بكر الصدِّيق - رضي الله عنه -؛ لأنَّ نور الدين الشهيد هو الذي جمع الشمل ورصَّ الصفوف، ووحَّد العرب، ووجَّه المسلمين إلى حرب الصليبيين، وهو الذي "طبَّق ذكره الأرض بحسن سيرته وعدله، وكان من الزُّهد والعبادة على قدم عظيم، وكان يصلي كثيراً من الليل، وكان عارفاً بالفقه على مذهب أبي حنيفة، وليس عنده تعصُّب، وهو الذي بنى أسوار مدن الشام مثل دمشق وحمص وحماه وسيزر وحلب وبعلبك وغيرها، وبنى المدارس الكثيرة الحنفية والشافعية" (1)، وانتصر على الصليبيين في معارك كثيرة، واستعاد منهم كثيراً من المدن والمناطق الإسلامية، وبذلك مهَّد السبيل لصلاح الدين الأيوبي، وفتح أمامه الطريق الذي سلكه بعده. _______ (1) أبو الفدا 3/ 55.

كما كان أبو بكر الصدِّيق - رضي الله عنه - هو الذي حارب المرتدّين وأعاد الوحدة العربية تحت لواء الإسلام في الجزيرة العربية، وبدأ معارك الفتح الإسلامي العظيم، وبذلك مهَّد السبيل لعمر بن الخطَّاب، فكان عمر حسنةً من حسنات أبي بكر، كما كان صلاح الدين حسنةً من حسنات نور الدين محمود الشهيد. وحسبنا أنَّ هؤلاء القادة كانوا يعملون لإعلاء كلمة الله لا لأمجاد شخصيَّة ومطامع ذاتية، وما أعظم دعاء نور الدين الشهيد في أعقاب كل صلاة: "اللهمَّ انصر المسلمين، ولا تنصر عبدك نور الدين"، ممَّا يدلُّ على أنَّه كان يعمل لله وحده لا لنفسه، وللمسلمين لا لذاته. ولد صلاح الدين الأيوبيّ سنة اثنتين وثلاثين وخمسمئة الهجرية (1137م)، بقلعة (تكريت) (1)، وكان أبوه والياً عليها (2). وانتقل أبوه أيوب بن شاذي يوم ولادة صلاح الدين إلى مدينة (الموصل) ومعه ولده، واستقرَّ هناك في رعاية عماد الدين زنكي صاحب (الموصل)، وعمل وأخوه أسد الدين شيركوه في جيش صاحب الموصل وحضرا عدَّة معارك وبرهنا على مقدرةٍ فائقةٍ في القتال (3). ولمَّا استولى عماد الدين زنكي سنة أربع وثلاثين وخمسمئة _______ (1) تكريت: مدينة على دجلة، تقع جنوب بغداد بين بغداد والموصل، وهي إلى بغداد أقرب، وأبنيتها غرب دجلة على ضفة النهر، وأهم معالمها القلعة التي لا تزال آثارها باقية حتى اليوم. (2) النوادر السلطانية 6، وأبو الفدا 3/ 86. (3) حياة صلاح الدين 61.

الهجرية (1139م) على بعلبك (1)؛ عهد بها إلى أيوب وعيَّنه والياً عليها، ممَّا يدلُّ على ثقة زنكي بنجم الدين أيوب والد صلاح الدين. وتوفي زنكي واقتسمت أولاده مُلكَهُ من بعده، فتوجَّه صاحب دمشق وحاصر (بعلبك). وشدَّد الحصار عليها، فصالح نجم الدين صاحب دمشق على مال، وانتقل هو وأخوه إلى دمشق وصارا من كبار أمرائها. ولا زال بها أسد الدين شيركوه، حتى اتصل بخدمة الملك العادل نور الدين محمود وصار من أكابر دولته، فرأى منه محمود نجابة وشجاعة، فأعطاه حمص والرحبة وجعله مقدَّم عساكره. فلمَّا صرف نور الدين همته لأخذ دمشق، أمر أسد الدين أن يكاتب أخاه نجم الدين أيوب على المساعدة على فتحها، فكتب أسد الدين إلى أخيه، وقال له: "هذا يجب عليك، فإنَّ مجير الدين (2)، قد أعطى الفرنج (بانياس) وربَّما سلَّم إليهم دمشق بعد ذلك"؛ فأجابه نجم الدين إلى ما طلب (3). وملَكَ نور الدين دمشق سنة سبع وأربعين وخمسمئة الهجرية (1152م)، فصار نجم الدين أيوب وأخوه أسد الدين من أكابر أمراء نور الدين - خاصة نجم الدين، فإنَّ جميع الأمراء كانوا إذا دخلوا على _______ (1) بعلبك: مدينة قديمة فيها أبنية عجيبة وآثار عظيمة، انظر التفاصيل في معجم البلدان 2/ 226، والمسالك والممالك 46، وهي مدينة معروفة لا تزال آثارها قائمة، تقع في جمهورية لبنان. (2) هو صاحب دمشق يومئذ، اسمه آبق بن محمد بن بوري بن الأتابك ظهير الدين طغتكين؛ وطغتكين مولى تُتُش بن ألب أرسلان أخي ملكشاه السلجوقي؛ انظر النجوم الزاهرة 6/ 6. (3) النجوم الزاهرة 6/ 5.

2 - الوزير

نور الدين لا يقعد أحد حتى يأمره نور الدين بالقعود، إلاَّ نجم الدين فإنَّه كان إذا دخل قعد من غير إذن (1) 2 - الوزير: بدأت حياة صلاح الدين العامَّة بمرافقة عمّه أسد الدين شيركوه إلى مصر على رأس جيش جهَّزه نور الدين لإعادة الوزير شاور (2) إلى منصبه؛ فقد استصحبه عمه معه عن كراهية منه لذلك، ليكون مقدَّم عسكره ومستشاره، فوصلوا إلى (القاهرة) في الثاني من جمادى الآخرة سنة ثمانٍ وخمسين وخمسمئة الهجرية (1162 م)، ونصروا شاور على خصمه الذي يقال له الضرغام، وأعادوه إلى منصب الوزارة، ثم غادروا القاهرة في السابع من ذي الحجّة سنة ثمانٍ وخمسين وخمسمئة الهجرية (3). وبلغ شاور أنَّ أسد الدين يزمع الاستيلاء على مصر، فكاتب الإفرنج، واتَّفق معهم على الحركة إلى مصر بقواتهم لصدّ جيش أسد الدين. وبلغ ذلك أسد الدين والملك العادل نور الدين، فاشتدَّ خوفهما على مصر أن يستولي عليها الإفرنج. وتجهَّز أسد الدين، وأنفذ معه الملك العادل نور الدين القوات _______ (1) النجوم الزاهرة 6/ 6. (2) اسمه الكامل: أبو شجاع شاور بن مجير بن نزار بن عشائر بن شاس السعدي؛ انظر ترجمته في: وفيَّات الأعيان، لابن خلكان. (3) النوادر السلطانية 36 - 37.

العسكرية، وألزم صلاح الدين بالمسير مع عمه على كراهية منه لذلك. وتحرَّك جيش أسد الدين من دمشق في ربيع الأول سنة اثنتين وستين وخمسمئة الهجرية (1166م)، وكان وصولهم إلى مصر مقارباً لوصول الإفرنج إليها. ودارت معارك طاحنة بين جيش أسد الدين من جهة وبين جيش شاور والإفرنج من جهة أخرى، حتى عاد الإفرنج إلى بلادهم، وعاد أسد الدين إلى (دمشق) أيضاً. وكان سبب عوْد الإفرنج؛ أنَّ نور الدين جرَّد الجيوش إلى بلاد الإفرنج، فاستعاد (المنيطرة) (1) منهم، فلمَّا علِمَ الإفرنج بذلك خافوا على بلادهم ورحلوا عن مصر. وكان سبب عوْد أسد الدين ضعف جيشه بسبب ما تكبَّده من خسائر في معاركه، ولكنه لم يعد حتى صالح الإفرنج على أن ينصرفوا كلهم عن مصر (2). ولكنَّ الفرنج حشدوا قواتهم وخرجوا يريدون مصر، ناكثين لجميع ما استقرَّ مع المصريين وأسد الدين من الصلح والعهود، طمعاً في احتلال مصر. فلمَّا بلغ ذلك نور الدين جهَّز أسد الدين وبعثه على رأس جيش، فوصل إلى (القاهرة) في أثناء ربيع الأول سنة أربع وستين وخمسمئة الهجرية (1168م)، وكان مع الحملة صلاح الدين الذي ألحَّ عليه عمه أسد الدين للخروج معه، لأنَّه لم يكن يستطيع _______ (1) المنيطرة: حصن بالشام قريب من طرابلس. (2) النوادر السلطانية 37 - 38.

الاستغناء عنه قائداً ومدبِّراً ومشيراً، فانصاع صلاح الدين لإلحاح عمه، وكان يقول عن خروجه هذا: "كنت أكره الناس للخروج في هذه الدفعة، وما خرجت مع عمّي باختياري". وحين علم الإفرنج بوصول أسد الدين إلى مصر عن اتفاق بينه وبين أهلها، رحلوا راجعين إلى (القدس) خائبين. وأراد أسد الدين أن يضع حدّاً نهائياً لأطماع الإفرنج في مصر، ولمحاولات (شاور) استدعائهم سرّاً وعلانية لإسناده، لذلك قضى أسد الدين على شاور، وتولى الوزارة مكانه؛ ولكنَّه توفي في الثاني والعشرين من جمادى الآخرى سنة أربعٍ وستين وخمسمئة (23 آذار - مارس 1169م) بعد أن مكث يدبّر الأمور خلال هذه المدّة القصيرة، فتولَّى مقاليد الوزارة صلاح الدين (1). تولى صلاح الدين الوزارة وعمره اثنتان وثلاثون سنة، استغل كل لحظة من لحظاتها للارتشاف من مناهل العلم وممارسة التجارب العملية. أما أساتذته في العلم فسيرد ذكرها وشيكاً، وأمَّا أساتذته في السياسة والحرب فهم: نور الدين الشهيد، وأبوه نجم الدين، وعمّه أسد الدين شيركوه الذي لم يأخذ حقه كاملاً من المؤرّخين العرب والمسلمين، ولكن المؤرّخين الأجانب عرفوا له قدره، فقال في موته (ستفن سن) ما ترجمته: "إنَّ الخدمات التي أداها عمل شيركوه للإسلام والمسلمين لَجديرة بأن يكتبها التاريخ على صفحاته بأحرف من الذهب، لأنَّه بعد مضيّ عشرين سنة على توليته أمرَ مصر عادت مدينة القدس إلى أيدي المسلمين، كما عاد كثير من البلاد التي كانت بيد الإفرنج، _______ (1) انظر التفاصيل في: النوادر السلطانية 40 - 41.

3 - السلطان

ولأنَّه كذلك لم يسترح يوماً واحداً من الحروب. ولقد كان ذا نظر بعيد في الأمور، يضع الخطط لنفسه فلا يغيّرها، بل ينفِّذها بكلِّ جدارة وإقدام. ولو مات قبل موته بستة أشهر لكان مصابه أليماً ورزؤه جسيماً على نور الدين وأهله وبلاده، ولكنه مات بعد أن أنهى ما علق في عنقه، وانقضت مهمّته التي تطاول إليها فأدركها، تاركاً ثمرة جهاده وانتصاراته إلى ابن أخيه يوسف صلاح الدين، الذي استحق بكل جدارة شرف الوراثة لهذا البطل الكبير" (1). وبذلك في هذه السن المبكّرة، تهيّأ لصلاح الدين ثلاثة عوامل حاسمة لنجاحه حاكماً وقائداً فذّاً: الطبع الموهوب، والعلم المكتسب، والتجربة العملية. 3 - السلطان: كانت أول مشكلة خطيرة صادفها صلاح الدين، هي نزول الإفرنج والروم في (دمياط) ومحاصرتها برّاً وبحراً؛ وذلك في صفر من سنة خمس وستين وخمسمئة (1170م)، ولكنّ صلاح الدين انتصر عليهم وأجلاهم عن البلاد (2). لقد علم الإفرنج باستقامة أمور صلاح الدين في مصر، فخافوا أن يملك بلادهم ويخرب ديارهم، لذلك عزموا بمعاونة الروم أن يحتلُّوا رأس جسر في (دمياط) ثم يحاولون التغلغل بالعمق لتهديد أمن _______ (1) Steven son, Crusaders in The East، نقلاً من كتاب: حياة صلاح الدين الأيوبي 97. (2) انظر التفاصيل في: النوادر السلطانية 41 - 43، والنجوم الزاهرة 6/ 7.

مصر أو احتلالها حتى لا يزداد صلاح الدين قوة فتمتنع عليهم مصر أولاً، وتهدّدهم في الأراضي المحتلة من الأرض المقدسة وساحل فلسطين ولبنان. ولكن انتصار صلاح الدين عليهم أدّى إلى ازدياد تخوّفهم من مصر ومن قيادتها الجديدة، كما أثر في معنوياتهم تأثيراً حاسماً. ومن الواضح أن قيادة صلاح الدين قلبت خطط مصر الدفاعية إلى خطط تعرضية كان لها أبلغ الأثر في مصير المنطقة كلها. ومات العاضد آخر الخلفاء الفاطميين في مصر يوم الإثنين العاشر من المحرّم سنة سبع وستين وخمسمئة الهجرية (1171م)، وكان صلاح الدين قد خطب لبني العباس خلفاء بغداد في أواخر أمر العاضد ... وبموت العاضد استقرَّ المُلك لصلاح الدين في مصر، ولكنَّه كان تحت أوامر نور الدين زنكي المعروف بالشهيد صاحب دمشق، فأخذ ينظم قواعد الحكم، ويتأهَّب لقتال الصليبيين في فلسطين والمناطق المحتلة من سواحل بلاد الشام (1). وفي سنة ثمان وستين وخمسمئة الهجرية (1172م)، خرج بجيشه يريد بلاد (الكرك) (2)، وإنَّما بدأ بها لأنها كانت أقرب إليه، وكانت في الطريق تمنع مَن يريد مصر، وكان لا يمكن أن تصل قافلة من بلاد الشام حتى يخرج هو بنفسه يعبرها بلاد العدو، لذلك عزم على توسيع الطريق وتسهيله لتتَّصل البلاد بعضها ببعض وتسهل على السابلة. _______ (1) النوادر السلطانية 45، والنجوم الزاهرة 6/ 8. (2) الكرك: مدينة تقع على مسافة 140 كيلو متر من جنوب (عمان) عاصمة الأردن، وهي قصبة (موآب)، ولا تزال موجودة في الأردن حالياً.

وحاصر صلاح الدين (الكرك)، وجرت بينه وبين الإفرنج بعض المعارك، فلم يستطع أن يظفر منها بشيء (1)، ولكنه حصل على معلومات مهمة عن الأرض وقوَّات العدو وأساليب قتاله وتسليحه وتنظيمه وقيادته ونقاط الضعف فيه التي يمكن أن يستغلّها في المستقبل. كما أنَّ صلاح الدين نفَّذ عملياً خطته الهجومية على العدو، فخرجت جيوش مصر إلى خارجها، ولم تبقَ في منطقتها مكتفية بالدفاع عنها. وكانت هذه الغزوة أول غزوة غزاها صلاح الدين خارج مصر. وفي سنة تسع وستين وخمسمئة الهجرية (1173م) سيَّر صلاح الدين أخاه الأكبر شمس الدين (تورشاه) إلى اليمن للقضاء على حكم عبد النبي بن علي (2) فمضى إليها وقتل حاكمها الخارجي واستولى على معظم اليمن (3). وهذا دليل على توطيد حكمه في مصر، وبلوغ جيشه درجة عالية من القوة. وفي يوم الأربعاء حادي عشر من شوال سنة تسع وستين وخمسمئة الهجرية توفي نور الدين زنكي الشهيد في دمشق (4)، فأصبح صلاح الدين مستقلاًّ استقلالاً تاماً في مصر. _______ (1) النوادر السلطانية 45، والنجوم الزاهرة 6/ 67. (2) المهديون: أسرة حكمت (زبيد) بين سنتي (554 - 569هـ = 1159 - 1173م)، وحكم من هذه الأسرة ثلاثة: علي بن مهدي، ومهدي بن علي، وعبد النبي بن مهدي. (3) النوادر السلطانية 46. (4) النوادر السلطانية 47، ويصادف ذلك يوم 15 مايس- مايو سنة 1174م.

4 - في دمشق

وانتهز الصليبيون سنة سبعين وخمسمئة الهجرية (1774م) استِعار ثورة داخلية في منطقة (أسوان)، فطمعوا في غزو مصر وأنزلوا قواتهم في الإسكندرية، ولكن صلاح الدين أمدَّ الإسكندرية بالقوات المسلَّحة، فهرب الصليبيُّون بعد نزول قواتهم بثلاثة أيام (1) فقط. 4 - في دمشق: وارتبكت أمور بلاد الشام بعد موت نور الدين الشهيد، لأن خَلَفَهُ الملك الصالح إسماعيل كان طفلاً لا ينهض بأعباء المُلك ولا قدرة له على صد الأعداء. لذلك قصدها صلاح الدين سنة سبعين وخمسمئة الهجرية بقوات كبيرة، فدخل دمشق بدون مقاومة (2). وفي سنة ثلاث وسبعين وخمسمئة الهجرية (1177م) قصد حرب الصليبيين، ولكنه اندحر في معركة (الرملة)، لأن الصليبيين باغتوا جيشه قبل إكمال تَعْبِيَتِهِ في ميدان القتال (3)، فتعلَّم صلاح الدين من هذه المعركة دروساً عملية: إكمال استعدادات المعركة قبل خوضها، وأساليب قتال الإفرنج، وأهمية الحذر الشديد واليقظة في حربهم. وعاد إلى مصر لإكمال إعداد قواته، ثم عاد إلى أرض الشام، ومنها أجرى بعض المعارك لتوحيد أرض الشام وجزيرة ابن عمر تحت قيادته، كما قاتل الإفرنج في بعض الغزوات وانتصر عليهم انتصارات تعبوية (4). _______ (1) انظر التفاصيل في: النوادر السلطانية 48 - 49. (2) النوادر السلطانية 50. (3) النوادر السلطانية 53. (4) انظر التفاصيل في: النوادر السلطانية 54 - 75.

5 - معركة حطين

لقد نظم صلاح الدين الطاقات المادية والمعنوية لمصر وأرض الشام والجزيرة، وحشدها كلها للمجهود الحربي، لغرض طرد الصليبيين من (القدس) والأرض المقدَّسة والبلاد العربية الإسلامية التي احتلوها. كما أصبحت لدى صلاح الدين معلومات تفصيلية عن الصليبيين وخبرة عملية فذة في الأساليب الناجعة في قتالهم وفي قيادة جيوشه في الحرب وإعدادها للقتال، كما أصبح لديه قادة متمرِّسون يعتمد عليهم ويثق بهم. وأمضى في تنظيم الطاقات وتوحيد الصفوف وإعداد القوات للحرب سبع عشرة سنة (1). 5 - معركة حطين: وجاء موعد اقتطاف ثمرات جهود وجهاد صلاح الدين التي استمرَّت سبع عشرة سنة استغلَّ كل لحظة فيها مجاهداً من أجل الوحدة وموحداً من أجل الجهاد. وكانت أول ثمرات تلك الجهود والجهاد انتصاره في معركة (حطين) (2) الحاسمة. كانت نُذُرُ المعركة الكبرى واضحة للعيان، فأراد صلاح الدين _______ (1) من سنة 567 هـ وهي السنة التي أصبح فيها المسؤول الأوحد عن مصر إلى سنة 583 هـ وهي سنة انتصاره في معركة (حطين) الحاسمة. انظر التفاصيل في النجوم الزاهرة 6/ 63 - 104. (2) حطين: قرية تقع غرب مدينة (طبرية) في الطريق إلى مدينة (الناصرة).

أن يُعدَّ لها إعداداً كاملاً، فأرسل إلى قادته في مصر والشام والجزيرة، يستنفر القادرين منهم على حمل السلاح من المجاهدين والقوات النظامية للجهاد. وفي أواخر شهر محرم الحرام من سنة ثلاث وثمانين وخمسمئة الهجرية (نيسان - إبريل سنة 1187م) خرج على رأس قواته من دمشق، وسار إلى (بصرى) (1) ليحمي منها طريق عودة الحُجَّاج من بيت الله الحرام، إذ بلغه أن (رينو دي شاتيون) أمير (الكرك) الذي تسميه المصادر العربية (أرناط) ينوي الفتك بهم. وكان هذا الأمير الإفرنجي من أشدّ الأمراء الصليبيين تعصُّباً وغدراً، وكان قد فتك بالحجاج سابقاً بحملة برية وبحرية خلافاً لعهوده ومواثيقه، حتى إن صلاح الدين أقسم بأنه إن ظفر بهذا الأمير الغادر، فإنه سيقتله بيده. ولما انتهى عَوْد الحُجَّاج، سار صلاح الدين إلى (الكرك) و (الشوبك) (2) وعاث في أنحائهما. ووافقته جيوش مصر بقيادة أخيه العادل قادمة من طريق (أيلة) (3)، وكانت قوات الشام والجزيرة تتلاحق في تلك الأثناء وتتحشَّد في دمشق تحت قيادة الملك الأفضل ولد صلاح الدين. وسارت من جيوش دمشق حملة قوية إلى ثغر (عكا) لاقتحامه _______ (1) بصرى: مدينة أثرية قديمة من أعمال دمشق، وهي قصبة حَوْران، تقع بالقرب من الحدود السورية - الأردنية، وهي في سورية. (2) الشوبك: مدينة تقع جنوب (الكرك) على مسافة 98 كيلو متراً منها، وهي عاصمة منطقة (آدوم)، وارتفاعها فوق سطح البحر 1328 متراً، وهي الآن من أعمال الأردن. (3) أيلة: هي ميناء العقبة على مدخل الخليج المسمَّى باسمها، وهي من أعمال الأردن.

وتخريبه، واشتبكت مع الإفرنج وقوات الصليبيين الأخرى، واستولت على كثير من السبي والغنائم. واجتمعت قوات صلاح الدين بقوات ولده الملك الأفضل، فاجتمع من ذلك جيش ضخم يقدر باثني عشر ألف فارس من القوات النظامية وعدد كبير من المتطوّعة المجاهدين. ونزل غربي (طبريَّة) (1) على سطح الجبل بتعبية الحرب منتظراً الإفرنج، وذلك يوم الأربعاء الحادي والعشرين من ربيع الآخر سنة ثلاث وثمانين وخمسمئة الهجرية (1187م)، فلما رأى الإفرنج لا يتحرَّكون، هاجم (طبريَّة) فاستولى على المدينة ولم يستطع الاستيلاء على قلعتها. وبلغ الصليبيُّون ما حلَّ بطبرية، فلم يستطيعوا الصبر بل قصدوها للدفاع عنها. وعلم صلاح الدين بحركة الصليبيين نحو (طبرية)، فترك عليها من يحاصر قلعتها، وقصد قوات الصليبيين، فالتقى الطرفان في أواخر الخميس الثاني والعشرين من ربيع الآخر سنة ثلاث وثمانين وخمسمئة الهجرية، ولكن الليل حال دون التحام الفئتين. وبات الطرفان وهما على تعبية في أعلى درجات الحذر واليقظة، وطلائع الطرفين بتماس شديد. وفي صبيحة يوم الجمعة الثالث والعشرين من ربيع الآخر، _______ (1) طبرية: مدينة تقع على بحيرة (طبرية) المسماة باسمها، وهي منخفضة 210 أمتار عن سطح البحر.

التحم القتال واشتدَّ أواره، وذلك في قرية (لوبيا) (1)، فشدَّد صلاح الدين الخناق على الصليبيين، وعزم عزماً أكيداً على إحراز النصر. واستمرَّت المعركة طيلة يوم الجمعة، حتى حلَّ ظلام الليل، وكان الطرفان في أشدِّ حالات التعب والإعياء. وفي صبيحة يوم السبت الرابع والعشرين من ربيع الآخر سنة ثلاث وثمانين وخمسمئة الهجرية (4 من تموز - يوليه - 1187م)، بدأ القتال عنيفاً قاسياً، وقد علم كلٌّ من الطرفين أنَّ اندحاره يؤدّي إلى إبادته، خاصة صلاح الدين الذي كانت قواته محاصرة بنهر الأردن من الشرق وبلاد العدو من الغرب والشمال والجنوب، فكان في اندحارها هلاكها عن بكرة أبيها؛ لذلك هاجم صلاح الدين بكل قواته - الطلائع والمقدمة والقلب والمجنبتان قوات الصليبيين وزجَّ بكلِّ قواته في المعركة. وانهارت معنويات الصليبيين، فهرب (القومص) (2) الذي رأى أمارات الخذلان وبوادر الاندحار، وأخذ طريقه إلى (صور) (3)، فتبعه قسم من المسلمين ولكنه نجا بنفسه. وطوَّق صلاح الدين قوات الصليبيين من كل جانب، وقاتلوهم بالسهام والسيوف والرماح، فانهزمت منهم طائفة، ولكن المسلمين _______ (1) لوبيا: قرية تقع غرب مدينة طبرية. (2) القومص: تعريب حرفي للفظة اللاتينية ( Comes) ، أي الأمير، ومعناها الأصلي في اللاتينية: (الرفيق)، لأنه كان في بادىء الأمر يرافق الملك في حروبه وتنقلاته، ثم سُمِّيَ بالأمير. انظر الهامش (1) من كتاب: النوادر السلطانية 77. (3) صور: مدينة مشهورة تقع على البحر الأبيض المتوسط جنوب بيروت في لبنان.

طاردوها فلم ينجُ منهم أحد. واعتصمت طائفة أخرى من الصليبيين بتل (حطين)، فضايقهم صلاح الدين على التل، وأشعل المسلمون حولهم النيران، فضاق بهم الأمر، وقتلهم العطش. وأقبل الصليبيون زرافات ووحداناً على الأسْر خوفاً من القتل، فكان ممن أُسِرَ (ملك القدس) و (رينوا دي شاتيون) ومقدَّم الاسبتارية (1) وعدد ضخم من الفرسان، كما استولى المسلمون على الصليب الكبير المسمى: (صليب الصلبوت) وهو الذي يزعمون أنَّ فيه قطعة من الخشبة التي صُلِبَ عليها السيد المسيح عليه السلام. وأُخِذَ الأمراء والأسرى إلى خيمة صلاح الدين، فقتل السلطان بيده رينو دي شاتيون (الأمير أرناط) وفاءً لنذره وجزاءً له على غدره المتكرِّر، وجرأته المثيرة في قطع طريق الحُجَّاج والفتك بهم، ومحاولته السير إلى قبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - بقصد الاعتداء عليه (2). لقد كانت معركة (حطين) من المعارك الإسلامية الحاسمة. _______ (1) الاسبتارية: هذه هي التسمية لطائفة من الفرسان الهسبتاليين، وهو تحريف ظاهر للفظ الإنكليزي ( Hospitallers) ، وكان يطلق في عصر الحروب الصليبية على طائفة من الفرسان الدينيين. وقد أسَّس الطائفة ( Blessed Gerard) في سنة 1099م، بعد استيلاء الصليبيين على بيت المقدس، وكانت الدار التي يسكنها هؤلاء الرهبان ( Hospice) موجودة قبل ذلك في بيت المقدس، تُتَّخذ مأوى للحجاج والمرضى من المسيحيين. وتشبه هذه الطائفة في كثير من صفاتها طائفة فرسان المعبد ( Fempliers) التي عرفها العرب باسم الداوية، وقد لعب فرسان هاتين الطائفتين دوراً خطيراً في الحروب الصليبية. انظر: ( King: Knights Hospitallers. P. 1 - 33) . نقلاً عن الهامش (5) من كتاب: النوادر السلطانية 77. (2) النوادر السلطانية 75 - 79، والفتح القسي 14 - 17.

6 - معارك استثمار الفوز

6 - معارك استثمار الفوز: وبدأت بعد معركة (حطين) الحاسمة، معارك استثمار الفوز، وسارت أعلام صلاح الدين من فتحٍ إلى فتح، وأصبحت ثمرات جهوده وجهاده في خلال سبع عشرة سنة من حكمه تبدو واضحة للعيان، ولعلَّ معركة (حطين) الحاسمة هي الثمرة الأولى لذلك الجهد والجهاد من تلك الثمرات. فقد سار صلاح الدين بعد معركة (حطين) مباشرة للاستيلاء على قلعة (طبرية) التي استعصت عليه قبل تلك المعركة، فنزل يوم الأحد الخامس والعشرين من ربيع الآخر سنة ثلاث وثمانين وخمسمئة الهجرية (5 تموز - يوليه - 1187م) على (طبرية) وتسلَّم في بقية ذلك اليوم قلعتها، وأقام بها إلى يوم الثلاثاء السابع والعشرين من ربيع الآخر (1). ورحل طالباً مدينة (عكا)، وكان نزوله عليها يوم الأربعاء الثامن والعشرين من ربيع الآخر، وقاتلها يوم الخميس، وصلَّى أول جمعة فيها منذ مَلَكها الصليبيُّون بعد أن استولى عليها، واستنقذ مَنْ كان فيها من الأسارى المسلمين، وكانوا زهاء أربعة آلاف نفر، واستولى على ما فيها من الأموال والذخائر والبضائع. وفرَّق قوَّاته في بلاد الساحل للاستيلاء على الحصون والقلاع والأماكن المنيعة، فاستُردَّت من الصليبيين: (نابلس) و (حيفا) _______ (1) النوادر السلطانية 79.

و (قيسارية) (1) و (صفورية) (2) و (الناصرة) بسهولة ويسر (3). وزحف صلاح الدين إلى (تبنين) (4)، فنزل عليها يوم الأحد الحادي عشر من شهر جمادى الأولى، وهي قلعة منيعة، فنصب عليها المجانيق، وضيَّق عليها بالزحف الخناق؛ وكان بها رجالٌ أبطال شديدون في دينهم، فاحتاجوا إلى معاناة شديدة. وبعد قتالٍ عنيف استردَّ صلاح الدين (تبنين) من الصليبيين، فدخلها عنوة يوم الأحد الثامن عشر من شهر جمادى الأولى، وأسر مَن بقي فيها حيّاً من المقاتلين. وسار إلى (صيدا) واستردَّها من الصليبيين، فأقام عليها ورتَّب أمورها (5). وسار صلاح الدين شمالاً حتى أتى (بيروت)، فنازلها يوم الخميس الثاني والعشرين من جمادى الأولى سنة ثلاث وثمانين وخمسمئة (1187م)، فاشتبك بالصليبيين المدافعين عنها وضيَّق الخناق، حتى استعادها يوم الخميس التاسع والعشرين من جمادى الأولى، كما استردَّ _______ (1) قيسارية: بلدة بين حيفا ويافا جنوب حيفا، وتقع على البحر الأبيض المتوسط، وانظر ما جاء عنها في معجم البلدان 7/ 195. (2) صفورية: بلدة تقع شمال غرب الناصرة. (3) النوادر السلطانية 79. (4) تبنين: قلعة حصينة، وهي بلدة في جبال بني عامر المطلَّة على بلدة بانياس بين دمشق وصور. (5) النوادر السلطانية 80.

(جُبيلاً) (1) أيضاً (2). وقصد (عسقلان) (3) تاركاً مدينة (صور) (4)، لأن الصليبيين احتشدوا فيها من كل المدن الساحلية، فقدَّر أن استعادة (عسقلان) أيسر من استعادة (صور). وفي يوم الأحد السادس عشر من جمادى الآخرة اصطدم بالقوات الصليبية الموجودة في (عسقلان) وكان قد استردَّ في طريقه إليها مواضع كثيرة: (الرملة) (5)، ويَبْنا) (6) و (الدارون) (7). وقاتل صلاح الدين الصليبيين في (عسقلان) قتالاً شديداً، حتى استطاع استعادتها يوم السبت، في نهاية جمادى الآخرة. وأقام على (عسقلان) إلى أن استعادت قواته (غزَّة) (8) و (بيت جبرين) (9) و (النطرون) (10) بغير قتال (11). _______ (1) جبيل: بلد في سواحل لبنان، شرق وعلى ثمانية فراسخ من بيروت، انظر التفاصيل في معجم البلدان 3/ 59. (2) النوادر السلطانية 80. (3) عسقلان: مدينة تقع شمال غزة على البحر الأبيض المتوسط. (4) صور: مدينة مشهورة تقع على البحر الأبيض المتوسط جنوب بيروت في لبنان. (5) الرملة: مدينة تقع جنوب شرق يافا على بعد 22 كيلو متراً منها. (6) يبنا: قرية جنوب يافا وجنوب غربي الرملة. (7) الدارون: يُطلق عليها اسم الداروم، وهي قرية تقع بين خان يونس وغزة. (8) غزة: مدينة تقع جنوب يافا على البحر الأبيض المتوسط. (9) بيت جبرين: مدينة تقع شمال غرب بلدة الخليل. (10) النطرون: يطلق عليها اللطرون، تقع إلى الجنوب الشرقي من مدينة الرملة. (11) النوادر السلطانية 80، وكان بين فتوح عسقلان وأَخذِ الإفرنج لها من المسلمين خمس وثلاثون سنة، فإن العدو ملكها في سبعة وعشرين من جمادى الآخرة سنة ثمان وأربعين وخمسمئة الهجرية (1153م).

7 - استعادة القدس

ومن المدهش حقاً أنَّ هذا الزحف الموفَّق عسكرياً إلى أبعد الحدود، تمَّ في أقل من شهر، وبدا كالسيل الجارف لا يقوى على صدّه شيء، وأخذ سلطان الصليبيين يتلاشى ويضعف في الأماكن التي يحتلونها، وأصبح أمرهم واهناً مضطرباً. 7 - استعادة القدس: كان هدف صلاح الدين الحيوي من حملته الكبرى استرداد بيت المقدس وسحق المملكة الصليبية وإعادة الصلة المباشرة بين مصر وأرض الشام كما كانت قبل الغزو الصليبي. وقد استغلَّ نصره الحاسم في (حطين) مما يدلُّ على براعته في القيادة: عزل بيت المقدس من الشمال ومن المناطق المجاورة لها، فحرمها من الإمداد البريّ، فلم يبقَ لها إلاّ الاعتماد على الإمداد البحري، فاستعاد (عسقلان) والموانئ البحرية الأخرى، لكي يتم عزلها عن البحر. وهكذا أصبحت (القدس) تعتمد على مواردها القتالية الذاتية، وليس لها أمل في معاونتها برّاً أو بحراً من الصليبيين. ومن الواضح أن انتصار صلاح الدين الحاسم في معركة (حطين) أثَّر أسوأ الأثر في معنويات الصليبيين من جهة، ورفع معنويات المسلمين من جهة أخرى. كما أنَّ تطويق بيت المقدس برّاً وبحراً زاد من انهيار معنويات المدافعين عنها، وأصبحوا يتوقعون استسلام المدينة المقدَّسة للمسلمين بين عشية وضحاها.

وقصد صلاح الدين بيت المقدس، فنزلها يوم الأحد الخامس من شهر رجب سنة ثلاث وثمانين وخمسمئة الهجرية (20 من أيلول - سبتمبر - 1187م)، وكان نزوله بالجانب الغربي من المدينة المقدَّسة. وكانت القدس مشحونة بالمقاتلين من الخيَّالة والرجَّالة، يُقدَّر عددهم بما يزيد على ستين ألفاً من المقاتلين، عدا ما كان فيها من النساء والصبيان. وانتقل صلاح الدين يوم الجمعة، العشرين من رجب إلى الجانب الشمالي من المدينة المقدَّسة، ونصب عليه المجانيق، وضايقه بالزحف والقتال وكثرة الرماة، حتى استطاع إحداث ثغرة في السور مما يلي (وادي جهنم) (1). وشعر الصليبيُّون بخطورة الموقف، فبعثوا وفداً منهم إلى صلاح الدين يطلب الأمان، فرفض السلطان في البداية وذكَّر الإفرنج بما فعله أسلافهم عند استيلائهم على القدس وقتل الآلاف العُزَّل من المسلمين. وأخيراً وافق صلاح الدين على منح الأمان للصليبيين، واتَّفق على أن يسلِّم الإفرنج المدينة المقدَّسة، على أن يُؤَمَّنُوا في أملاكهم، وأن يعتبر أهلها أسرى يسمح لهم بالفداء خلال أربعين يوماً، على أن يدفع كلُّ رجلٍ عشرة دنانير، وكلُّ امرأة خمسة دنانير، وكل صبي ديناراً واحداً (2). ودخل المسلمون بيت المقدس في يوم الجمعة السابع والعشرين _______ (1) وادي جهنَّم: وادٍ يقع بين مدينة أريحا وبيت المقدس وهو أقرب إلى بيت المقدس. (2) النوادر السلطانية 81 - 82.

من رجب سنة ثلاث وثمانين وخمسمئة الهجرية (2 من تشرين الأول - أكتوبر - 1187م)، وليلتها كانت ليلة المعراج المنصوص عليها في القرآن المجيد (1)، وكان احتلال الصليبيين لبيت المقدس في الثالث عشر من شعبان سنة اثنتين وتسعين وأربعمئة الهجرية (15 من حزيران - يوليه - 1099م) حدثاً من أخطر الأحداث التي هزت أركان العالم الإسلامي، وكان قيام المملكة اللاتينية في هذا الركن من العالم العربي والإسلامي، أسطع رمز لعدوان الغرب على الشرق، وأسطع دليل على ما كانت تبيِّته أمم الغرب من العدوان المنظَّم على أمم الشرق. وبالرغم من أنَّ هذا العدوان كان يتَّشح بثوب الدين، وحجَّة إنقاذ قبر المسيح عليه السلام من أيدي المسلمين، فإن قيام المملكة اللاتينية الصليبية في بيت المقدس، وقيام الإمارات الصليبية الأخرى في مختلف أنحاء الشام، كان في ذاته أسطع دليل على أنَّ الغايات الدنيوية، وما تنطوي عليه من استلاب الأراضي والمغانم والثروات؛ كانت هي المقصد الأول الذي سعى لتحقيقه أولئك المعتدون (2). وقد لبثت المملكة الصليبية في بيت المقدس زهاء تسعين عاماً، شوكةً مؤلمةً في قلب العالم الإسلامي، ولكن صلاح الدين استطاع بقيادته الفذَّة استرداد بيت المقدس من الصليبيين، بعد أن بقيت المدينة المقدَّسة تئنُّ تحت وطأة الاحتلال هذه المدَّة الطويلة من عمر الزمن. _______ (1) انظر إلى هذا الاتفاق العجيب، كيف يسَّر الله استرداد بيت المقدس في مثل زمان الإسراء بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، فهل هذا مجرَّد صدفة؟! أما أنا فلا أقول: إنها صدفة، بل ذلك نصر من الله. (2) مواقف حاسمة في تاريخ الإسلام 130.

وأقام صلاح الدين في بيت المقدس يجمع الأموال ويفرِّقُها على المستحقِّين، وإيصال مَن دفع الفدية إلى (صور). فلمَّا رحل عن القدس يوم الجمعة الخامس والعشرين من شعبان سنة ثلاث وثمانين وخمسمئة الهجرية، لم يبقَ له من الأموال التي جمعها شيء، وكانت مئتي ألف دينار وعشرين ألف دينار (1). وأبدى صلاح الدين غاية الشهامة مع الصليبيين، فأذن للملكة (سيبيل) وغيرها من الأميرات بمغادرة المدينة في حاشياتهن دون فدية، واستوهبه الكثير من الأمراء عدداً من الإفرنج (2)، كما عالج المرضى وضمَّد الجرحى وأعان الفقراء ومنع الغدر والانتقام، وقاوم الاعتداء، ووفَّى بالعهود والمواثيق، وحمى العُزَّل والأطفال والشيوخ والنساء، وضمن إيصال الإفرنج إلى مدينة (صور) أو إلى الجهة التي يريدونها برّاً وبحراً. ولما ثبت قدم صلاح الدين في بيت المقدس والساحل، قصد مدينة (صور)، لأنَّه علم أنَّه إن أخَّر أمرها ربَّما اشتدَّ، فرحل سائراً إليها حتى أتى (عكا) ونظر في أحوالها، ثم رحل متوجِّهاً إلى (صور) يوم الجمعة الخامس من شهر رمضان. ونزل على (صور) في الثاني والعشرين من شهر رمضان، فضايقها وقاتلها قتالاً عظيماً، واستدعى أسطول مصر، فحاصرها برّاً وبحراً. ولكنه رحل عنها لحلول موسم الشتاء (3). _______ (1) النوادر السلطانية 81 - 82. (2) مواقف حاسمة في تاريخ الإسلام 137. (3) النوادر السلطانية 83 - 84.

8 - مجمل الفتح

8 - مجمل الفتح: ما حصيلة جهاد وجهود صلاح الدين؟ لقد استعاد طبرية، وعكا، وحيفا، والناصرة، والرملة، وقيسارية، وأرسوف (1)، ويافا، وعسقلان (2)، وغزة، والداروم، وصيدا، وبيروت، وجبيل، وهونين (3)، وجبليَّة (4)، وتبنين، وأنطرسوس، وجبلة (5)، واللاذقية، والسرفند (6)، وبيت المقدس، نابلس، والبيرة (7)، وصفورية (8)، والطور (9)، وحصن دبورية (10)، والفولة (11)، وحصن عفربلا (12)، وحصن جينين (13)، _______ (1) أرسوف: قرية كانت تقع شمال يافا، وكانت شهيرة بحراجها. (2) عسقلان: مدينة تقع شمال غزة على البحر الأبيض المتوسط. (3) هونين: قرية تقع في الطرف الشمالي من منطقة الحولة على رأس جبل يُعرف باسمها، وموقعها حصين. (4) جبلية: لا وجود لها في معجم البلدان، ولم أعثر عليها في المصادر المتيسّرة لديّ من الكتب الجغرافية العربية القديمة. (5) جبلة: قلعة مشهورة بساحل الشام من أعمال حلب قرب اللاذقية. (6) السّرفند: وتُكتب الصرفند بالصاد، وهي قرية تقع بين الرملة ويافا إلى الجنوب الشرق من يافا. (7) البيرة: قرية الى الشمال من القدس، وتكوّن مع رام الله بلدة واحدة. (8) صفورية: بلدة تقع شمال غرب الناصرة. (9) الطور: قرية جنوب شرق القدس، واسم جبل في سيناء. (10) حصن دبورية: قرية شرق الناصرة تشرف على جبل طابور المسمّى بجبل الطور. (11) الفولة: قرية تقع شمال جنين في مرج ابن عامر. (12) حصن عفربلا: بلد بغور الأردن قرب بيسان وطبرية. (13) حصن جينين: مدينة شمال نابلس على مدخل مرج ابن عامر.

وسبسطية (1)، وكوكب (2)، وحصن عفري (3)، وبيت لحم (4)، وحصن العازرية (5)، والبرج الأحمر (6)، وحصن الخليل (7)، وبيت جبرين (8)، وتل الصافية (9)، وحصن مجدل يابا (1)، وقلعة الجيب الفوقاني (11)، والجيب التحتاني (12)، والنطرون (13)، والحصن الأحمر (14)، واللد (15)، وقلنسوة (16)، ويبنى (17)، والقاقون (18)، _______ (1) سبيطية: سبسطية، وهي مدينة تقع شمال غرب نابلس، على طريق جنين، وآثارها الرومانية لا تزال قائمة. (2) كوكب: يُطلق عليها: كوكب الهوا، وتقع جنوب بحيرة طبرية فوق جبل مشرف على وادي الأردن. (3) حصن عفري: شمال القدس، وعفري: ماء بناحية فلسطين، ولعل الحصن على هذا الماء. (4) بيت لحم: مدينة تقع جنوب القدس. (5) حصن العازرية: بأرض القدس، وهي قرية تقع جنوب شرق القدس. (6) البرج الأحمر: بالقرب من حصن العازرية، ويُطلق عليه: خان الأحمر، يقع على مسافة 17 كيلو متراً من القدس، بين القدس وأريحا. (7) الخليل: مدينة تقع جنوب القدس، فيها الحرم الإبراهيمي. (8) بيت جبرين: بليد بين بيت المقدس وغزة، بينه وبين بيت المقدس مرحلتان، وبينه وبين غزة أقل من ذلك. (9) تل الصافية: وهو تل الصافي، يقع في الطرف الجنوبي للبحر الميت. (10) حصن مجدل يابا: قرية تقع شمال بلدة اللد، وإلى شرق يافا. (11) قلعة الجيب الفوقاني: قرية تقع بين القدس ورام الله، شمال القدس. (12) الجيب التحتاني: قرية تقع بين القدس ورام الله، شمال القدس. (13) النطرون: يطلق عليها: اللطرون، تقع إلى الجنوب الشرقي من مدينة الرملة. (14) الحصن الأحمر: حصن بظاهر بحر الشام. (15) اللد: بلدة تقع شمال الرملة. (16) قلنسوة: قرية تقع جنوب غرب مدينة طولكرم. (17) يُبنى: وهي قرية يبنا التي مرَّ ذكرها، وهي قرية جنوب يافا وجنوب غربي الرَّملة. (18) القاقون: قرية تقع شمال غرب مدينة طولكرم.

والقيمون (1)، وقلعة الكرك، وقلعة الشوبك (2)، وقلعة السلع (3)، والوُعيرة (4)، وقلعة الجمع (5)، وقلعة الطفيلة (6)، وقلعة الهرمز (7)، وقلعة صفد (8)، وحصن يازور (9)، وشقيف أرنون (10)، وحصن اسكندرونة (11)، وقلعة أبي الحسن (12)، وبلدة (13)، والمرقية (14)، وحصن يحمور (15)، وبلنياس (16)، وصهيون (17)، وبلاطنس (18)، _______ (1) القيمون: حصن قرب الرملة من أعمال فلسطين. (2) الشوبك: مدينة تقع جنوب (الكرك) على مسافة 98 كيلو متراً منها، وهي عاصمة منطقة (آدوم)، وارتفاعها فوق سطح البحر 1328 متراً، وهي من أعمال الأردن. (3) قلعة السلع: قرية من أعمال الطفيلة الواقعة جنوب الكرك. (4) الوعيرة: حصن من جبال الشراة قرب وادي موسى. (5) قلعة الجمع: قلعة بوادي موسى عليه السلام من جبال الشراة قرب الشوبك. (6) قلعة الطفيلة: بلدة تقع جنوب الكرك، وهي حاضرة قصبة الطفيلة. (7) قلعة الهرمز: قلعة بوادي موسى بين القدس والكرك. (8) قلعة صفد: بلدة تقع شمال غرب بحيرة طبرية. (9) حصن يازور: قرية تقع على مدخل مدينة يافا إلى جنوب غربها. (10) شقيف أرنون: قلعة حصينة جداً في كهف من الجبل قرب بانياس من أرض دمشق، بينها وبين الساحل. (11) حصن اسكندرونة: بين صور وعكا. (12) قلعة أبي الحسن: بأرض صيدا. (13) بلدة: بالساحل الأعلى، من مدن ساحل بحر الشام قريبة من جبلة، وكانت حصناً للروم. (14) المرقية: على البحر، وهي قلعة حصينة على سواحل حمص. (15) حصن يحمور: بأرض عكا، ولا وجود لها في معجم البلدان. (16) بلنياس: بين جبلة والمرقب، وهي كورة وهي مدينة صغيرة وحصن بسواحل حمص على البحر. (17) صهيون: جبل من جبال القدس. (18) بلا طنس: حصن منيع بسواحل الشام مقابل اللاذقية من أعمال حلب.

وحصن الجماهرية (1)، وقلعة العيذو (2)، وبكاس (3)، والشغر (4)، وبكسرائيل (5)، والسرمانية (6)، وقلعة برزوية (7)، ودربساك (8)، وبغراس (9)، والدانور (10)، والسوفند (11). تلك فتوحات عظيمة، دوَّخ بها الصليبيين، وأعطاهم درساً قاسياً لن ينسوه أبداً، وهي تدلُّ على قيادته الفذَّة وجهاده العظيم. فإذا أضفنا إليها توحيده مصر وأرض الشام وجزيرة ابن عمر، فإن صلاح الدين يكون من أعظم قادة المسلمين جهاداً وجهوداً، واخلاصاً وحمية وفتوحاً. _______ (1) حصن الجماهرية: حصن قرب جبلة من سواحل الشام. (2) قلعة العيذو: قلعة بنواحي حلب. (3) بكَّاس: قلعة بنواحي حلب على شاطىء العاصي، ولها عين تخرج من تحتها، بينها وبين ثغر المصيِّصة، تقابلها قلعة أخرى يُقال لها: الشُّغر، بينهما وادٍ كالخندق يُقال له: الشُّغر. (4) الشغر: قلعة حصينة مقابلها أخرى يقال لها: بكاس، بينهما وادٍ كالخندق، وهي قرب أنطاكية. (5) بكسرائيل: حصن من سواحل حمص مقابل جَبَلة في الجبل. (6) السُّرمانية: يوجد اسم: سَرْمين في معجم البلدان، وهي بلدة مشهورة من أعمال حلب. (7) قلعة بَرْزُوَية: حصن قرب السواحل الشامية على سن جبل شاهق، يضرب بها المثل في جميع بلاد الإفرنج بالحصانة، تحيط بها الوديان من جميع جوانبها، وذرع علو قلعتها خمسمئة وسبعون ذراعاً. والعامّة تقول: بَرْزَيه. (8) دربساك: لا وجود لها في معجم البلدان. (9) بغراس: قريباً من أنطاكية، وهي مدينة في لحف جبل اللُّكام، بينها وبين أنطاكية أربعة فراسخ، على يمين القاصد إلى أنطاكية من حلب، وهي من البلاد المطلَّة على نواحي طرسوس. (10) الدانور: بأرض بيروت، ولا وجود لها في معجم البلدان. (11) السوفند: قريباً من صيدا، ولا وجود لها في معجم البلدان.

9 - الإنسان

وجاء اليوم الموعود، فمات البطل صلاح الدين في ليلة الأربعاء، السابع والعشرين من صفر سنة تسع وثمانين وخمسمئة الهجرية (4 من آذار - مارس - 1193م) وهو في السادسة والخمسين من عمره، فكان يوماً لم يصب المسلمون والإسلام بمثله منذ فُقِدَ الخلفاء الراشدون، وغشي القلعة ودمشق والدنيا من الوحشة ما لا يعلمها إلاَّ الله تعالى. قال بهاء الدين بن شداد صاحب النوادر السلطانية: "وبالله لقد كنتُ أسمع من بعض الناس أنَّهم يتمنَّون فداء مَن يعزُّ عليهم بنفوسهم، وما سمعت هذا الحديث إلا على ضربٍ من التجوُّز والترخص إلاَّ من ذلك اليوم، فإنِّي علمت من نفسي ومن غيري لو قُبِل الفداء لفدي بالنفس" (1). وقد دفن - رضي الله عنه - في دمشق، وقبره معروف. 9 - الإنسان: كان حَسن العقيدة، كثير الذكر لله تعالى، شديد المواظبة على الصلاة بالجماعة. وكان إذا مرض يستدعي الإمام وحده ويكلِّف نفسه القيام ويصلي جماعة، وكان يواظب على السنن والنوافل، وكانت له ركعات يصلِّيها إن استيقظ ليلاً، وإلاَّ أتى بها قبل صلاة الفجر، وما كان يترك الصلاة مادام عقله عليه، وكان إذا أدركته الصلاة وهو سائر نزل وصلَّى. _______ (1) النوادر السلطانية 246، وكان بهاء الدين بن شداد قاضياً لعسكر صلاح الدين، وقد لازمه خلال الحقبة الأخيرة من حياته التي قضاها في الشام، وخالطه مخالطة تامة، وقد روى سيرته في كتابه: (النوادر السلطانية) عن مشاهدة، لذلك اعتُبرت سيرته هذه أوثق المراجع التاريخية عن صلاح الدين.

وقد مات ولم يحفظ من الأموال ما وجبت عليه الزكاة، وأما صدقة النفل فإنها استنفدت جميع ما ملكه من الأموال، ولم يخلف من خزانته من الذهب والفضة إلاَّ سبعة وأربعين درهماً ناصرية وديناراً واحداً ذهباً، ولم يخلف ملكاً ولا داراً ولا عقاراً ولا بستاناً ولا قرية ولا مزرعة ولا شيئاً من أنواع الأملاك. وكان يحرص على الصوم غاية الحرص، فإذا مرض أحصى ما فاته من الصوم وقضاه. وقد شرع بقضاء الفوائت بالقدس الشريف في السنة التي توفي فيها. وكان الصوم لا يوافق مزاجه، وكان الطبيب يلومه وهو لا يسمع ويقول: "لا أعلم ما يكون"، ولم يزل يقضي حتى قضى ما كان عليه (1). وكان عازماً على أداء فريضة الحج ناوياً له سيما في العام الذي توفي فيه، فإنه صمم العزم عليه، وأمر بالتأهب ولم يبقَ إلا المسير، ولكنه اعتاق عن ذلك بسبب ضيق الوقت وفراغ اليد من النفقات" (2). وكان يحبُّ سماع القرآن العظيم، حتى إنه كان يختار إمامه اختياراً، ويشترط أن يكون عالِما بعلوم القرآن متقناً لحفظه. وكان يستقرئ مَن يحضره في الليل وهو في برجه الجزأين والثلاثة والأربعة وهو يسمع. ولقد اجتاز على صغير بين يدي أبيه وهو يقرأ القرآن، فاستحسن قراءته، فقرَّبه وجعل له حظّاً من خاصّ طعامه، ووقف عليه وعلى أبيه جزءاً من مزرعةٍ. _______ (1) النوادر السلطانية 7 - 8. (2) النوادر السلطانية 9.

وكان رقيق القلب، خاشع الدمعة، إذا سمع القرآن يخشع قلبه وتدمع عينه في معظم أوقاته. وكان شديد الرغبة في سماع الحديث، ومتى سمع عن شيخ ذي رواية عالية وسماع كثير، فإن كان ممن يحضر عنده استحضره وسمع عليه، فأسمع مَن يحضره في ذلك المكان من أولاده ومماليكه المختصِّين به، وكان يأمر الناس بالجلوس عند سماع الحديث إجلالاً له؛ وإن كان ذلك الشيخ ممن لا يطرق أبواب السلاطين ويتجافى عن الحضور في مجالسهم، سعى إليه وسمع عليه، وقد تردَّد إلى الحافظ الأصفهاني (1) بالإسكندرية وروى عنه أحاديث كثيرة. وكان يحب قراءة الحديث بنفسه، وكان يستحضر العلماء في خلوته، ويحضر شيئاً من كتب الحديث ويقرؤها هو، فإذا مرَّ بحديثٍ فيه عبرة رقَّ قلبه ودمعت عينه. وكان كثير التعظيم لشعائر الدين، حسن الظنِّ بالله، كثير الاعتماد عليه، عظيم الإنابة إليه (2). وكان عادلاً رؤوفاً رحيماً ناصراً للضعيف على القوي، وكان _______ (1) الحافظ الأصفهاني: هو الحافظ السلفي أبو الطاهر عماد الدين أحمد بن محمد بن إبراهيم المحدِّث المشهور، والسلفي لقب جَدٍّ له نسبه إلى سلفة وهو لفظ فارسي معناه ثلاث شفاه، لأنَّ إحدى شفتيه كانت مشقوقة فصارت مثل شفتين. وقد تلقَّى دراسته الأولى في أصفهان، ثمَّ حجَّ وسمع بالحرمين، وطوَّف بالبلاد في طلب الحديث، فزار بغداد ودمشق وصور، وانتهى به المطاف إلى الإسكندرية سنة 511هـ، وظلَّ مقيماَ بها إلى أن توفي سنة 576هـ. انظر الهامش رقم (7) في: النوادر السلطانية 9. (2) انظر التفاصيل في: النوادر السلطانية 9 - 12.

يجلس للعدل في كل يوم إثنين وخميس في مجلس عام، يحضره الفقهاء والعلماء والقضاة، ويفتح الباب للمتحاكمين حتى يصل إليه كل أحد من كبير وصغير، وعجوز هرمة وشيخ كبير، وكان يفعل ذلك سفراً وحَضَراً. وكان في كل أوقاته يصغي إلى التظلم، وكان يجمع ما يصل إليه كل يوم دون أن يردَّ قاصداً، وكان يجلس إلى الكاتب ساعة إما بالليل أو النهار ويوقع على كل ورقة شكوى بما يطلق الله على قلبه، ولم يَرُدَّ قاصداً أبداً ولا منتحلاً ولا طالب حاجة، وهو مع ذلك دائم الذكر لله والمواظبة على تلاوة القرآن الكريم. وكان رؤوفاً بالرعية، ناصراً للدين، مواظباً على تلاوة القرآن العزيز، عالِماً بما فيه عاملاً به، لا يعدوه أبداً (1). وما استغاث إليه أحد إلا وقف وسمع قضيته وكشف ظلامته وأخذ بقصته، وقد استغاث إليه إنسان من أهل دمشق على ابن أخيه، فأنفذ إليه وأحضره إلى مجلس الحكم ثم جرت محاكمته (2). وخاصمه رجل، فحضر بنفسه في مجلس القضاء، وجرت محاكمته حسب الأصول. وحكم القاضي لصلاح الدين، فتقدَّم للمحكوم عليه بخلعة ونفقة بالغة (3). وكان كريماً جداً يعطي في وقت الضيق كما يعطي في حال السعة، وكان نواب خزائنه يخفون عنه شيئاً من المال، حذراً أن _______ (1) النوادر السلطانية 13. (2) النوادر السلطانية 14. (3) النوادر السلطانية 15 - 16.

يفاجئهم مُهِمٌّ، لعلمهم بأنه متى علم به أخرجه، وقد مات وليس في خزائنه إلا دريهمات ودينار واحد فقط (1)!. وكان من أشجع الشجعان، قوي النفس، شديد البأس، عظيم الثبات، مسيطراً على أعصابه، لا يخيفه شيء. وكان لا بد له من أن يطوف حول العدوكل يوم مرة أو مرتين إذا كانت قواته قريبة من العدو، وكان في أثناء نشوب القتال يطوف بين الصفوف ويخترق العساكر من الميمنة إلى الميسرة ويرتِّب المقدِّمات ويأمرهم بالتقدُّم أو الوقوف في مواضع يراها، وكان في الحرب أقرب ما يكون إلى العدو (2). لقد كان يقود رجاله من (الأمام)، وكان المثل الأعلى لهم بالشجاعة. وكان شديد المواظبة على الجهاد، عظيم الاهتمام به، وقد كان الجهاد وحبه والشغف به قد استولى على قلبه وسائر جوانحه استيلاءً عظيماً، بحيث ما كان له حديث إلا فيه، ولا نظر إلا في آلته، ولا كان له اهتمام إلاَّ برجاله، ولا ميل إلا إلى مَن يذكره ويحثُّ عليه. ولقد هجر في محبة الجهاد في سبيل الله أهله وأولاده ووطنه وسكنه وسائر ملاذِّه، وقنع من الدنيا بالسكون في ظلِّ خيمة تهبُّ بها الرياح يمنة ويسرة. وكان الرجل إذا أراد أن يتقرَّب إليه يحثّه على الجهاد أو يذكر شيئاً من أخبار الجهاد، وقد أُلِّفت له كتب عدة في الجهاد، وكان كثيراً ما يطالع هذه الكتب. _______ (1) انظر التفاصيل في: النوادر السلطانية 17 - 18. (2) انظر التفاصيل في: النوادر السلطانية 19 - 20.

قال يوماً وهو على البحر قرب (عكا): "في نفسي أنه متى ما يسَّر الله تعالى فتح بقية الساحل، قسَّمتُ البلاد وأوصيتُ وودَّعت، وركبت هذا البحر إلى جزائرهم (1)، أتتبعهم فيها حتى لا أُبقي على وجه الأرض مَن يكفر بالله أو أموت" (2). وأمره عالم جليل (3) ألا يخاطر بنفسه؛ فقال له: "أنا أستفتيك: ما أشرف الميتات"؟ فقال العالم الجليل: "الموت في سبيل الله"! فقال: "غاية ما في الباب أن أموت أشرف الميتات" (4). قال ابن شداد: "ولقد رأيته بمرج عكا، وهو على غاية من مرض اعتراه بسبب كثرة دماميل، كانت ظهرت عليه من وسطه إلى ركبتيه، بحيث لا يستطيع الجلوس، وإنما يكون متَّكئاً على جانبه إن كان بالخيمة. وامتنع عن مدّ الطعام بين يديه لعجزه عن الجلوس، وكان يأمر أن يفرّق على الناس وكان مع ذلك قد نزل بخيمة الحرب قريباً من العدو، وقد رتَّب الناس ميمنة وميسرة وقلباً تعبية القتال، وكان مع ذلك كلّه يركب من بكرة النهار إلى صلاة الظهر، يطوف على الكتائب والوحدات، ومن العصر إلى صلاة المغرب وهو صابر على شدة الألم وقوة ضربان الدمامل، وأنا أتعجَّب من ذلك فيقول: "إذا ركبتُ يزول عني ألمها حتى أنزل" (5). _______ (1) يريد جزائر الإفرنج في البحر الأبيض المتوسط. (2) ذلك ما قاله عقبة بن نافع الفهري حين وصل إلى البحر المحيط. (3) هو بهاء الدين بن شداد. (4) انظر التفاصيل في: النوادر السلطانية 21 - 23. (5) النوادر السلطانية 24.

وكان حليماً إلى أبعد الحدود، قال ابن شداد: " ... تقدم إليه مملوك، وعرض عليه قصته (1) لبعض المجاهدين، فقال له: ... أخِّرها ساعة ... "ولم يفعل المملوك، وقرب القصة إلى قريب من وجهه الكريم بيده، وفتحها بحيث يقرؤها، فوقف على الاسم المكتوب في رأسها فعرفه، فقال: رجل مستحق. فقال المملوك: يوقع المولى له، فقال: ليست الدواة حاضرة الآن. "وكان جالساً في باب الخيمة بحيث لا يستطيع أحد الدخول إليها، والدواة في صدرها، والخيمة كبيرة، فقال له المخاطب: هذه الدواة في صدر الخيمة! ... وليس لهذا معنى إلاَّ أمره إياه بإحضار الدواة، فالتفت فرأى الدواة فقال: والله لقد صدق. "ثم امتدَّ على يده اليسرى، ومدَّ يده اليمنى فأحضرها ووقَّع له، فقلتُ: قال الله تعالى في حقِّ نبيه - صلى الله عليه وسلم -: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ}، وما أرى المولى إلاَّ قد شاركه في هذا الخلق، فقال ما ضرَّنا شيء ... قضينا حاجته، وحصل الثواب" (2). وكان كثير المروءة، ندي اليد، كثير الحياء، مبسوط الوجه لمن يَرِدُ عليه من الضيوف، لا يرى أن يفارقه الضيف حتى يطعم عنده، ولا يخاطبه بشيء إلاَّ وينجزه. _______ (1) يريد: مذكرة كما يعبر عنها المصريون وعريضة كما يعبّر عنها العراقيون، وهي مذكرة مكتوبة، تفصل حاجة الطالب. (2) النوادر السلطانية 28 - 29.

وكان يكرم الوافد عليه وإن كان كافراً، وكان يكرم مَن يرد عليه من المشايخ وأرباب العلم والفضل وذوي الأقدار، وكان يوصي رجاله المقرَّبين بألاَّ يفضلوا عمن يجتاز بالمكان الذي هو فيه من المشايخ المعروفين إلاَّ أحضروهم عنده ليراهم ويقدِّم لهم الهدايا. ومَثُلَ بين يديه أسير إفرنجي وقد هابه، فرقَّ له ومَنَّ عليه وأطلق سراحه. وجاءته يوماً امرأة إفرنجية، وكانت ابنتها قد اختطفت، فقالت له: "قيل لي (1): إنَّ الملك رحيم، ونحن نخرجك إليه تطلبين ابنتك منه، فأخرجوني إليك، ولا أعرف بنتي إلاَّ منك "، فرقَّ لها ودمعت عينه وحرَّكته مروءته، فلم يقر له قرار إلاَّ بعد العثور على ابنتها وتسليمها لها، ثم حُمِلَتْ حتى أعيدت إلى معسكر الإفرنج. وكان حسن العشرة، لطيف الأخلاق، طيِّب الفكاهة، حافظاً لأنساب العرب ووقائعهم، عارفاً بسيرهم وأحوالهم، حافظاً لأنساب خيلهم، عالماً بعجائب الدنيا ونوادرها، بحيث يستفيد محاضره منه ما لا يسمع من غيره. وكان حسن الخلق، يسأل الواحد من رجاله عن مرضه ومداواته ومطعمه ومشربه وتقلبات أحواله. وكان طاهر المجلس، لا يذكر أحد بين يديه إلاَّ بالخير. وكان طاهر السمع، فلا يحب أن يسمع عن أحد إلا الخير. وكان طاهر _______ (1) تريد: قومها الإفرنج، فهم الذين نصحوها باللجوء إلى صلاح الدين، لأنهم كانوا يعرفون خصاله ومزاياه.

اللسان، فما سُمع يشتم أحداً قط. وكان طاهر القلم، فما كتب بقلمه إيذاء مسلم قطّ. وكان حسن العهد والوفاء، فما أحضر بين يديه يتيم إلاَّ وترحَّم على مخلفيه، وجبر قلبه وأعطاه أرزاق مخلفه. فإن كان له من أهله كبير يعتمد عليه، سلَّمه إليه، وإلاَّ أبقى له من أرزاق مخلفه ما يكفي حاجته، وسلَّمه إلى مَنْ يعتني بتربيته ويكفلها. وكان لا يرى شيخاً إلاَّ ويرقُّ له ويعطيه ويحسن إليه (1)، ولا يرى محتاجاً إلاَّ مدَّ إليه يد العون. ذلك هو صلاح الدين: رجل لا كالرجال، لا يتكرر مثله إلا نادراً، مؤمن بالله إيماناً راسخاً، تقي نقي ورع، عامل عالم، يحب العلم ويُقبل عليه، ويحتضن العلماء ويشجعهم، كريم كالريح المرسلة، شجاع كالأسد، صبور مصابر، مجاهد لإعلاء كلمة الله، حليم عادل ذو مروءة وشهامة، يرعى الضعفاء والأيتام والشيوخ، يعمل للمصلحة العامة لا لنفسه، قائدٌ ماهر وجنديٌّ متميِّز. مات وفي يده السيف، ورحل عن الدنيا وهو فقير، ولكنه بقي مِلْءَ السمع والبصر، سيرته مسك مضمَّخ بالنور. لقد عاش حياته موحِّداً من أجل الجهاد ومجاهداً من أجل التوحيد. _______ (1) النوادر السلطانية 31 - 34.

10 - في المصادر الأجنبية

10 - في المصادر الأجنبية: وقد يتبادر إلى الأذهان أنّ المصادر العربية والإسلامية وحدها تثني على صلاح الدين وعلى أعماله البطولية وتسجل تاريخه بمدادٍ من نور. والواقع أنّ هذه المصادر لم تخلد في تاريخها وعلى صفحاتها غير الذين وحدوا من أجل الجهاد وجاهدوا من أجل التوحيد. ومنذ جاء الإسلام، وبدأ الفتح الإسلامي العظيم، وأصبحت للمسلمين دولة عظيمة لا تغيب الشمس عن أرضها، حتى ضعف المسلمون وتداعت عليهم الأمم من كل جانب إلى يومنا هذا، حكم العربَ والمسلمين، كثيرٌ من الخلفاء والملوك والأمراء والحكام والرؤساء والقادة، فلم تذكر المصادر العربية والإسلامية من هؤلاء بالثناء العاطر في صفحاتها المشرفة الخالدة، غير الذين وحدوا من أجل الجهاد وجاهدوا من أجل التوحيد. وهؤلاء الذين خلَّدتهم تلك المصادر بحق، يُعَدُّون على الأصابع، أما سائر ذوي السلطان والجاه فقد نسيهم التاريخ أو ذكرهم في صفحاته المظلمة، ولو نسيهم أسوة بغيرهم لكان خيراً لهم. ولا عبرة بالكتب التافهة التي سطرها المنافقون والتافهون في أيامهم على صفحات الكتب نفاقاً وارتزاقاً أو على صفحات الصحف والمجلاَّت تزلُّفاً واختلاقاً. فقد حكم الناس بالموت على تلك الكتب القديمة والحديثة وهي في مهدها، كما حكموا على الصحف والمجلاَّت الحديثة بالاستخفاف والازدراء.

وقد ذهب الزبد إلى غير رجعة، ومكث في الأرض ما ينفع الناس، والناس يعرفون الذين يخدمون أهدافهم العليا بصدق وإخلاص، وقد يُغَشُّون ساعة، ولكنهم لا يُغشُّون إلى قيام الساعة. وأكبر الظنِّ أنَّ الذين لا يخلصون في خدمتهم ويتظاهرون بالإخلاص، لا يغشّون غير أنفسهم، وحتى الأقلام المأجورة التي سخَّروها للتسبيح بحمدهم، يعرف أصحابها حقيقة أمرهم وحقيقة مَن يكتبون عنهم، والمصير المحتوم لما يكتبون! إن صلاح الدين لم يحظَ بتقدير المؤلِّفين العرب والمسلمين فحسب، بل حظي بتقدير المنصفين من مؤلفي الغرب الصليبيين. بل إن تقديره تجاوز المنصفين من المؤلفين الغربيين القدامى والمحدثين إلى غير المنصفين أيضاً، ولكن بشكل آخر هو: التركيز على أهمية القضاء عليه في حياته بشتَّى الوسائل، وبثّ الإشاعات الكاذبة عنه خوفاً منه وتقديراً لأهميته الشخصية في إحراز النصر (1). وحتى الذين حاربوه من الإفرنج، قوَّموه وقدَّروا له فضله وشجاعته ومروءته وأعجبوا أيما إعجاب بمزاياه الحميدة وخصاله الفذَّة. لقد أحرز صلاح الدين النصر على أعدائه بسجاياه النادرة، قبل أن يحرز عليهم النصر بقواته المسلَّحة النظامية وقوات المتطوعين من المجاهدين. _______ (1) أطلق البريطانيون على دبابة من دبَّاباتهم اسم: صلاح الدين: لأنها كانت من أقوى الدبَّابات في حينه.

ولعلَّ من المفيد إيراد أمثلة من تقدير المؤلفين الغربيين لصلاح الدين سواء كان ذلك التقدير بصورة ثناء أو بصورة أخرى غير الثناء تُقَيِّم صلاح الدين كما يُقَيِّمه الثناء. يقول (1) (شامب دور Albert Champdor) في ترجمته لصلاح الدين: "إنَّ صلاح الدين كان أنقى قادة العرب، وإليه يرجع الفضل في التمهيد لنهضة الإسلام السياسية، وإنَّه كان على الصليبيين أن يواجهوا في صلاح الدين حاكماً ذكياً ماهراً مرهوب الجانب، عرف كيف يفرض على خصومه التقدير والاحترام لشجاعته ونزاهته وأمانته وسموّ خُلُقه، تلك الخصائص الخلقية التي كان الشرق قد فقدها في قادته منذ زمن بعيد". ويعجب المؤرِّخ (شامب دور) من أنَّ صلاح الدين الذي كان سيد الشرق والقائم على كل ما فيه من ثروات وخيرات، قد مات فقيراً معدماً حتى إن أهله اضطروا إلى اقتراض المال الذي أعدُّوا به شؤون جنازته يوم موته. ويقول المؤرخ (سوبر هاييم Soberheim) : " إنَّ صلاح الدين لم يكن متعصِّباً ولم يكن ليحمل ضغينة أو بغضاء للصليبيين باعتبارهم بشراً ولا للمسيحيين الخاضعين لحكمه، لذلك لم يضرب الصليبيين كمسيحيين، بل كان يضربهم كأعداء بادؤوا العرب العداء وجاؤوا ليضربوا الإسلام في دياره". _______ (1) انظر التفاصيل في كتاب: من الحروب الصليبية إلى حرب السويس - المرحلة الأول 50 - 58.

ويستطرد هذا المؤرخ متصدياً للجانب الإنساني في صلاح الدين، فيقول: "إنَّ صلاح الدين آثر -دائماً- أن يكون حكمه قائماً على العدل واللّين والمحبة، وإنه على الرغم من شجاعته الحربية التي حققت له العديد من الانتصارات في ميادين القتال، كان يكره أن تقع عيناه على دمٍ مراق، وكان يحسّ الألم يحزُّ في نفسه لما تجلبه الحروب من ويلات ولما يصيب المقاتلين في معاركها. ولم يستخدم في حكمه الحديد والنار والسم، فظلَّ على رأس الإسلام حامياً للمسلمين بغير ما عنف ولا هوى، مستنداً في كل تصرُّفاته إلى مبادئ الشرف والمحبة، تلك المبادئ التي استطاع بها أن يمكِّن من سلطان العرب والمسلمين". وقد استثارت انتصارات صلاح الدين حنق رجال الدين المسيحيين عليه، فانبرى الناسك (كريكوار) الذي نُصِّبَ إذ ذاك بابا في الفاتيكان باسم: (كريكوار الثامن)، وحمل لواء الدعوة لحملة صليبية ثالثة، وراح يحرِّض كل مَن بلغ سنَّ القتال على حمل السلاح لإنقاذ الأرض المقدَّسة، وأمر المسيحيين بالصوم والصلاة، وأجبر ملوكهم على عقد هدنة يحرم فيها القتال فيما بينهم لمدة سبعة أعوام يتفرَّغون خلالها لقتال المسلمين. كذلك جدَّد كرادلة الكنيسة قَسَمَهُم القديم، فعادوا وأقسموا على أن يتخلَّوا عن أبَّهتهم الدينية وجاههم الكنسي وألاَّ يمتطوا الخيل، وأن يعيشوا على الكَفاف من الصدقات، وأن يطوفوا العالم المسيحي يستفزّونه على الإسلام، وأن يظل أمرهم على هذه الصورة حتى تعود إليهم أورشليم. وقد خلف البابا كريكوار الثامن: البابا (كليمنت) الذي طبَّق

سنّة سلفه، فوهب الغفران ومنح الامتيازات لكلّ من يخف للقتال في الأرض المقدَّسة، وأخذ خطباؤه يطوفون الممالك المسيحية ليشوِّهوا بالباطل سمعة صلاح الدين بمفترياتهم وأضاليلهم. ولم يقف رجال الكنيسة لإثارة المسيحيين عند هذا الحد، بل إنَّهم راحوا يخترعون قصصاً تصور ألواناً من العذاب يعانيها المسيحيون في الشرق، كما أنَّ الكهنة والأحبار دأبوا إذ ذاك على لون آخر من الدعاية، فكانوا يخلعون ملابسهم الكهنوتية على ملأ من الناس ويتدرَّعون بدلاً منها بدروع الحرب، وكذلك راحوا يقسمون بألاَّ يمنحوا أحداً صكّاً من صكوك الغفران ما لم يكتب النصر للمسيحية على الإسلام. يقول (شامب دور): "كما تمكَّنت فرنسا بفضل البابوات من زعامة الغرب والمسيحيين، فقد تمكَّنت مصر أيضاً بفضل صلاح الدين من الزعامة على المسلمين والعرب قاطبة ... لقد كان للملك آموري الفضل في تحذير الغرب من خطر صلاح الدين، فهو أول من تكهَّن بتألُّق نجمه حينما كان صلاح الدين في مستهلّ كفاحه ومطلع تاريخه العظيم، وقد نبَّه آموري الغرب إلى أن الضرورة تقتضي إخضاع مصر لإقامة دولة إفرنجية فيها، وصمَّم هذا الملك على غزوها والاستيلاء عليها، ليحول بذلك دون قيام جبهة عربية قوية متحدة دينياً وسياسياً تعيد إلى العرب أمجاد الدولة العربية الأولى. كما أن آموري قد بصَّر الغرب بخطر وحدة العرب والمسلمين وحذَّره إياها، مؤكِّداً أنَّ هذه الوحدة إنما تقوم على أنقاض المسيحية،

وأنَّ هذا المصير المخيف لا مناص منه طالما كان صلاح الدين على رأس مصر وسورية معاً، مما يحقِّق الوحدة بينهما لتصبحا مصدر تهديد للغرب". ولقد ذهب الملك آموري في مخاوفه من صلاح الدين إلى أبعد من هذا، فتكهَّن للغرب بأنَّ صلاح الدين الأيوبي قد تغريه انتصاراته وقوته، فيقوم بتكوين مملكة تمتدُّ من (النيل) إلى (الفرات) و (دجلة)، فيصبح في المركز الذي يستطيع منه أن يسدِّد الضربة القاضية إلى الدول الإفرنجية التي أقامها الصليبيون في فلسطين وعلى شواطئ لبنان. وأكَّد آموري أن قوَّة صلاح الدين وانتصاراته لا تعدو أن تكون مقدّمة لنضال يطول مستقبلاً بين المسيحيين في الغرب والمسلمين في الشرق، إلى أن يستفحل أمره ويعمّ خطره، فينتهي إلى النضال بين العالَمَين الغربي والعربي، يناضل فيها الغرب من أجل الاحتفاظ بما مكَّن له من أسباب القوة وقواعده التي تهدد الإسلام وتحول بينه وبين استرداد قوته وجمع العناصر التي تتيح له الانتصار على الغرب، ويناضل فيه العرب من أجل الذَّودِ عن استقلالهم والسيادة على بلادهم. وبعث الملك آموري جيوشه إلى مصر، بدعوى الدفاع عن عرش الخليفة الفاطمي، ولكن قوات صلاح الدين أجبرت آموري على الانسحاب. وعاد آموري لغزو مصر عن طريق البحر، فحاصر مدينة (دمياط)، ولكن صلاح الدين أجبره على الجلاء عن الأراضي المصرية كما مرَّ بنا سابقاً.

وأدرك آموري أمام قوة صلاح الدين المتزايدة، أنَّه لم يعد له أمل في القضاء على صلاح الدين في ساحة القتال، فأخذ يدبِّر المؤامرات لاغتياله. وأرسل أحد أعوانه إلى مصر في مهمة رسمية، كان ظاهرها تحيات وتمنيات الملك الصليبي إلى صلاح الدين، وباطنها الاتصال بالمتمرّدين -آنئذٍ - على سلطة صلاح الدين واغتياله، ولكن هذه المؤامرات باءت بالإخفاق، وعزَّزت مكانة صلاح الدين. واستخدم قادة الغرب شتَّى الوسائل للإيقاع بصلاح الدين: استخدموا الرشوة والجواري والمال، وسَعوا إلى عقد المحالفات مع ذوي المطامع السياسية، ولكن صلاح الدين بحلمه واستقامته تغلَّب على المنافسين له والطامعين في ملكه من قادة الغرب والقادة المحلِّيين أيضاً. وفي ذلك يقول (شامب دور): "لقد كانت معجزة حقاً أن يتمكَّن صلاح الدين من البقاء في الحكم دون الركون إلى وسائل القوة والبطش بخصومه أو القضاء عليهم، وأعجب من هذا أن يتمكن هذا القائد العربي من إقامة إمبراطورية عربية قوية في مدى محدود من السنوات، على الرغم من كل هذه المناورات، وعلى الرغم من أن الحروب الصليبية كان يقودها ويدير معاركها، ويلظى نارها زعماء المسيحية والخاصة من الغرب ممن يزعمون لأنفسهم رسالات الدين والخلق، ويتصفون بطابع الفكر والاتجاهات الروحية - على الرغم من ذلك كله، فإنَّه في غمار تلك الحملات الصليبية وباسمها ارتُكِبت أحطّ الجرائم من قتلٍ للأبرياء وسلبٍ للآمنين وسبيٍ للنساء، مما لم يكن له مثيل في تاريخ الحروب في الشرق ... ".

ويقول (غليوم دي تير) الذي أرَّخ للحروب الصليبية: "إن الصليبي كان يرى في الشرقي -فحسب- عدوَّه اللدود مسلماً كان الشرقي أو مسيحياً"، ويضرب هذا المؤرِّخ مثلاً على مذابح الصليبيين، بغزوة الفرسان القساوسة لمدينة (بلبيس) (1)، حيث كانت مجزرة للأقباط لاقوا فيها حتفهم على أبشع صور القسوة، دون أن يرحم الفرسان القساوسة الشيوخ من الضحايا ولا الأطفال الرُّضَّع والنساء الضعيفات. أما عن علاقة الصليبيين ببعضهم، فقد كانت على أسوأ حال. ومن الأمثلة على ذلك أنَّه عندما تمَّ النصر لصلاح الدين وارتدَّت الحملة الصليبية الثالثة، لم يجد الصليبيون المندحرون غير النبذ والإساءة والتنكيل من أمراء الفرنج الذين استوطنوا أنطاكية وطرابلس. بل إن هؤلاء الأمراء فرضوا عليهم الضرائب ونهبوا متاعهم، ثم منعوهم من الدخول إلى مدنهم. ويروي مؤرخو الغرب أن المهزومين من جنود الصليبيين في الحملة الثالثة لم يلاقوا معاملة إنسانية رحيمة إلا ممن كانوا يعتبرونهم أعداء لهم من العرب والمسلمين الذين وفَّروا لهم العطف والإيواء كلاجئين، كما أمر صلاح الدين أن يُعامَلوا بالحسنى، وأن توزَّع عليهم الخيام والأغذية دون ثمن إلى أن يتمكَّنوا من ركوب البحر والعودة إلى بلادهم. وكانت هناك طائفة من اللاجئين أمر صلاح الدين بنقلهم جميعاً _______ (1) بلبيس: قرية كبيرة بينها وبين فسطاط مصر عشرة فراسخ باتجاه الشرق. وتقع في محافظة الشرقية شرق أنشاص.

إلى الإسكندرية لتسهيل عودتهم إلى بلادهم على سفن جنوا وبيزا وفينيسيا ومارسيليا، إلاَّ أنَّ قادة هذه السفن امتنعوا عن نقلهم معهم إلى أوروبا دون أن يتقاضوا منهم أجور السفر قبل الرحيل ودون أن يتزوَّد كل واحد منهم بزاد يكفيه طيلة أيام سفره. ولما طلب قادة هذه السفن من الحاكم العربي لميناء الإسكندرية أن يعيد إليهم أجهزة السفن التي أودعوها مخازن الميناء طبقاً لما كان متَّبَعاً في ذلك الوقت، وكان قد تبيَّن للحاكم أن هذه السفن تمتنع عن نقل أولئك اللاجئين من جنود الصليبيين لعجزهم عن أداء نفقات السفر، فدُهشَ لتصرُّف تجار الغرب الذين لم يتحرَّجوا من ترك أبناء جنسهم ودينهم تحت رحمة الأقدار يعيشون على صدقات العرب، مؤثرين على نقلهم في سفنهم نقل السلع ومختلف البضائع، ولم يقبل قادة السفن وساطة الحاكم العربي لإعادة الصليبيين إلى بلادهم إلا بعد أن قامت السلطات العربية بتقديم جميع المؤن التي تكفيهم طوال أيام رحلتهم. وقد أصرَّ الحاكم العربي على إلزام قادة السفن برعاية مَن حملتهم سفنهم من الصليبيين، واشترطوا على أنفسهم في وثيقة مكتوبة ألا ينزلوا أحداً منهم إلا في موانئ بلاده، وأن يعتبروهم في ظلِّ الحماية الإسلامية حتى يبلغوا برّ الأمان في شواطئ فرنسا وإيطاليا. يقول (شامب دور): "هكذا كان سلوك المسلمين والعرب في حربهم مع الصليبيين المنهزمين واللاجئين بعد اندحار حملتهم وإخفاقها ... وإنه لموقف كريم حقاً وإنساني إذا قورن بموقف بني جنسهم الذين امتنعوا عن معاونتهم ما لم يتقاضوا الثمن نقداً وسلفاً ... ". وهكذا كان موقف الشرق من الغرب في ظل صلاح الدين، ذلك البطل الذي تعتبر سيرته

من أعظم سِيَرِ البطولة وأخلدها وأروعها (1). إن صلاح الدين انتصر بمُثُلِهِ العليا النابعة من صميم تعاليم الإسلام، فغزا القلوب بمبادئه السامية وأخلاقه المثالية، قبل أن يغزو الرقاب بسلاحه ورجاله (2). فما أحوجنا اليوم إلى أمثال صلاح الدين قائداً، وإلى صلاح الدين للأرض المقدسة والمسجد الأقصى اليوم!. ... _______ (1) نقلاً من الشرق والغرب من الحروب الصليبية إلى حرب السويس - المرحلة الأولى 50 - 58. (2) انظر ما جاء عن أخلاق صلاح الدين وسلوكه في: النجوم الزاهرة 6/ 8 - 9، وأبي الفداء 3/ 86 - 87 إلخ ...

- 3 - الملك المظفر قطز قاهر التتار

- 3 - المَلك المظَفَّر قطز قَاهر التَّتَار 1 - السلطان: الملك المظفر قُطُز قاهر التتار، هو السلطان الملك المظفّر سيف الدين قطز المعزّى، تسلطن بعد خلع الملك المنصور علي بن الملك المعز أيبك (1) في يوم السبت سابع عشر ذي القعدة سنة سبع وخمسين وستمئة الهجرية (2) (1259م) بعد أن تفاقم خطر التتار وأصبحت مصر مهدَّدة بغزوهم الوشيك. وكانت مصر على إثر وفاة سلطانها الملك الصالح (3) ومقتل ولده الملك المعظَّم (4)، قد رفعت على عرشها امرأةً هي: (شجرة الدُّرّ) أرملة الملك الصالح (5)، فكانت أول ملكة كما كانت آخر ملكة اعتلت عرش مصر الإسلامية. _______ (1) انظر تفاصيل سيرته في: النجوم الزاهرة 7/ 41 - 56. (2) النجوم الزاهرة 7/ 72. (3) انظر تفاصيل سيرته في: النجوم الزاهرة 6/ 319 - 338. (4) انظر تفاصيل سيرته في: النجوم الزاهرة 6/ 372. (5) انظر تفاصيل سيرتها في: النجوم الزاهرة 6/ 373 - 379.

وأُقيم للسلطنة نائب قوي هو الأمير عز الدين أيبك كبير المماليك البحرية، ليعاون شجرة الدر في تدبير الأمور. وبالرغم مما أبدته شجرة الدر من حزم وبراعة في تسيير أمور الدولة وتصفية الموقف مع الصليبيين وإجلائهم عن مصر، فقد كان جلوس امرأة على عرش مصر نذيراً بوقوع الفتن والاضطرابات، حيث أبى معظم الأمراء أن يحلفوا يمين الطاعة للملكة الجديدة. لذلك رأت شجرة الدر أن تتزوَّج من الأمير عز الدين أيبك، فلما لم تفلح هذه الخطوة في تهدئة الأمور، رأت أن تتنازل عن العرش لزوجها، فتولىَّ الأمير عز الدين أيبك عرش مصر باسم الملك المعز، وذلك في آخر ربيع الثاني سنة ثمان وأربعين وستمئة الهجرية (1) (1250م)، وحكم مصر زهاء سبع سنين. وكانت شجرة الدر وراء زوجها تعاونه في تصريف الأمور، حتى دبَّ الخلاف بين الزوجين، لاعتزام المعز الزواج، فدبَّرت له شجرة الدر مؤامرة لاغتياله، ونفَّذتها في بيتها يوم الثلاثاء 23 من ربيع الأول سنة خمس وخمسين وستمئة الهجرية (1257م). وتولَّى الملك المنصور، يوم الخميس الخامس والعشرين من ربيع الأول سنة خمس وخمسين وستمئة الهجرية (1257 م)، وكان عمره خمس عشرة سنة (2)، فلم يكن قادراً على تحمُّل أعباء المُلك في ظروف حرجة للغاية، إذ كانت البلاد مهدَّدة بالغزو التتري، لذلك خلعه قطز وتولَّى المُلْكَ مكانه، وكان هدفه: حرب التتار، وإنقاذ مصر بخاصة _______ (1) انظر تفاصيل سيرته في: النجوم الزاهرة 7/ 3 - 29. (2) انظر تفاصيل سيرته في: النجوم الزاهرة 7/ 41 - 59.

2 - الموقف العام

والبلاد العربية بعامة من خطر غزوهم الكاسح. 2 - الموقف العام: ولعلَّ في عرض الموقف العصيب التي كانت تجتازه مصر والبلاد العربية من جرَّاء الغزو التتري الجارف، ما يُبرِز مبلغ التضحية التي بذلها قطز في قبوله تحمُّل المسؤولية حينذاك في بَلد مهدد بغزوٍ خارجيٍّ ماحق وبارتباك داخلي فظيع، وقد كان بإمكانه أن يستمتع بالسلطة الفعلية بالرغم من بقاء الملك المنصور في الحكم دون أن يكون المسؤول الأول في مثل تلك الظروف الحرجة، ولكنه آثر المصلحة العامة على مصلحته الشخصية، فقضى أولاً على الارتباك الداخلي ووضع الأمور في نصابها، ثم وجَّه كل همه إلى العدو الخارجي، فاستطاع بأعجوبة خارقة حقّا إحراز النصر وإنقاذ مصر والبلاد العربية من التتار وقواتهم الضاربة. ففي سنة أربع وخمسين وستمئة الهجرية (1256م) مَلَكَ التتار سائر بلاد الروم بالسيف، فلما فرغوا من ذلك نزل هولاكو بن طولوي بن جنكيزخان على بغداد، وذلك في صفر سنة ست وخمسين وستمئة الهجرية (1258 م)، ودخلوها دخول الضواري المفترسة، وقتلوا مئات الألوف من أهلها، ونهبوا خزائنها وذخائرها، وقضوا على الخلافة العباسية وعلى معالم الحضارة الإسلامية، ثم قتلوا الخليفة المستعصم بالله وأفراد أسرته وأكابر دولته. وتقدَّم التتار إلى بلاد الجزيرة (جزيرة ابن عمر) واستولوا على (حران) و (الرُّها) و (ديار بكر) في سنة سبع وخمسين وستمئة الهجرية

3 - موقف أوروبا

(1259 م)، ثم جاوزوا الفرات ونزلوا على (حلب) في سنة ثمان وخمسين وستمئة الهجرية (1260 م)، واستولوا عليها وأحرقوا المساجد وجرت الدماء في الأزقَّة. ووصل التتار إلى دمشق، وسلطانها الناصر يوسف بن أيوب، فخرج هارباً وخرج معه أهل القدرة (1)، ودخل التتار إلى دمشق وتسلموها بالأمان، ثم غدروا بأهلها. وتعدَّوا دمشق، فوصلوا إلى (نابلس) ثم إلى (الكرك) وبيت المقدس (2)، وتقدَّموا إلى (غزة) دون أن يلقوا مقاومة تُذكر. واضطر هولاكو فجأة إلى مغادرة سورية بعد أن جاءته الأخبار بوفاة أخيه الأكبر (منكوقاآن) في الصين، وبتنازع أخويه الآخرين (قوبيلاي) و (أريق بوكا) ولاية العرش (3). وقد استثمر التتار (حرب الصاعقة) التي تعتمد على سرعة الحركة، كما استثمروا (حرب الأعصاب) إلى أقصى مدى، فنشروا الذعر والخوف من بطشهم في كل مكان، وحيثما اتَّجهت قواتهم كانت تسبقهم الأقاصيص عن طغيانهم وقسوتهم ومذابحهم (4). 3 - موقف أوروبا: وفرحت أوروبا المسيحية بانتصار التتار، فقد كانوا من أصدقاء _______ (1) أهل القدرة: أهل اليسار، أي الأغنياء. (2) عجائب الآثار 1/ 52 - 53. (3) انظر التفاصيل في كتاب السلوك للمقريزي 1/ 427 - 429. (4) الجيش المصري في العصر الإسلامي 2/ 66.

المسيحيين، وفيهم بعض النصارى، ولهولاكو نفسه زوجة مسيحية، فضلاً عن أن القائد الذي ولي أمر سورية عندما غادرها هولاكو كان مسيحياً (1). كل هذا جعل البابوات وحكَّام غرب أوروبا ينظرون إلى التتار وكأنهم حلفاؤهم في قتال المسلمين. والواقع أنَّ فكرة تكوين حلف من الأوروبيين والتتار لتدمير البلاد الإسلامية كانت موضع تفكير البابوات في عصور متتالية، وكانت سياسة هؤلاء تهدف إلى نشر الدين المسيحي بين التتار. وقد تبادل التتار وحكَّام غرب أوروبا (2) البعوث، وعلى سبيل المثال فقد دعا لويس التاسع قسماً من رجال أمير التتار إلى فرنسا، حيث فاوضهم على عقد اتفاقية عسكرية تنص على أن يقوم طرفاها بعمليات حربية على العرب والمسلمين، يكون دور التتار فيها غزو العراق وتدمير بغداد والقضاء على الخلافة الإسلامية، ويكون دور الصليبيين حماية هذا الغزو التتري من الجيوش المصرية وتجريد جيوشهم لمنع نجدة القوات المصرية للمسلمين في آسيا، وبالأحرى تقوم بعزل مصر عزلاً تاماً عن سائر البلاد العربية. ولم يكفِ لويس التاسع عن العمل لاستمالة التتار وتسخير قوتهم المدمرة لضرب الإسلام، ففي السابع والعشرين من كانون الثاني (يناير) سنة 1249م أرسل إلى أمير التتار هدايا ثمينة حملها إلى الأمير وفدٌ على رأسه الراهب الدومنيكي (أندريه دي لونجيمو)، ومما يُذكَر أنه كان من بين هذه الهدايا قطعة من الصليب المقدَّس وصوَر للعذراء ومختلف _______ (1) هو كتبغا نوين الذي سيرد ذكره، وهو مسيحي نسطوري. (2) الجيش المصري في العصر الإسلامي 2/ 66.

النماذج الصغيرة لعديد من الكنائس. يقول الأسقف (دي مسنيل Du Mesnil) نائب مدير البعثات التبشيرية في روما، في كتابه عن الكنيسة والحملات الصليبية: "اشتهر هولاكو بميله إلى المسيحيين النسطوريين، وكانت حاشيته تضم عدداً كبيراً منهم، من بينهم قائده الأكبر (كتبغا)، وهو تركي الجنس مسيحي نسطوري، كما كانت الأميرة (دوكس خاتون) زوجة هولاكو مسيحية أيضاً. وقد لعب نفوذ الأميرة على زوجها دوراً خطيراً تفخر به الكنيسة في تجنُّب أوروبا المسيحية أهوال الغزو التتري وتوجيه غزوهم إلى العرب والمسلمين في الشرق العربي، حيث ذبحت قوات التتار العرب والمسلمين في مذابح بغداد، في الوقت الذي أبقت فيه على المسيحيين في تلك المدينة، فلم تمسَّهم في أرواحهم أو أموالهم بأذى، كما لعبت الأميرة دوراً في إغراء زوجها باحتلال سورية الإسلامية". ويصف الأسقف حملة التتار فيقول: "لقد كانت الحملة التترية على الإسلام والعرب حملة صليبية بالمعنى الكامل لها، حملة مسيحية نسطورية. وقد هلَّل لها الغرب وارتقب الخلاص على يد هولاكو وقائده المسيحي (كتبغا)، الذي تعلَّق أمل الغرب في جيشهما، ليحقِّق له القضاء على المسلمين، وهو الهدف الذي أخفقت في تحقيقه الجيوش الصليبية، ولم يعد للغرب أمل في بلوغه إلاَّ على أيدي التتار خصوم العرب والمسلمين". وقد بادر (هاتون الأول) ملك أرمينية و (بوهومونت السادس) أمير طرابلس، وأمراء الإفرنج في صور وعكا وقبرس؛ بادر هؤلاء إلى

4 - زحف التتار

عقد حلف مع التتار، يقوم على أساس القضاء على المسلمين كافة في آسيا، وتسليم هؤلاء الأمراء بيت المقدس. ويقول (دي ميسنيل) في كتابه عن تاريخ التبشير: "إن المسيحيين هم الذين حرَّضوا هولاكو على الرحيل عن سورية إلى بلاده ومحاربة أخيه هناك بسبب موالاته للإسلام". وأخيراً انتهى أمل الصليبيين بدخول التتار في الإسلام، وفي ذلك يقول الأسقف (دي ميسنيل) واصفاً هذه الخاتمة: "وهكذا نرى الإسلام الذي كان قد أشرفت قوته على الزوال، يستردّ مكانته، ويستعيد قوَّته، ويصبح أشدّ خطراً من ذي قبل" (1). لقد كانت مهمة قطز صعبة جداً، لأنه كان عليه أن يواجه الخطر الداخلي المتمثِّل بالارتباك والفوضى في نظام الحكم والصراع على السلطة. وفي نفس الوقت كان عليه أن يواجه الخطر الخارجي المتمثِّل بالغزو التتري الداهم المتحالف مع الصليبيين في الغرب والشرق على حدٍّ سواء. كل ذلك يجعلنا نقدر أعظم التقدير إقدام قطز على تحمُّل المسؤولية المباشرة دفاعاً عن الإسلام والمسلمين في أحرج فترة من فترات التاريخ. 4 - زحف التتار: قبل مغادرة هولاكو سورية، أرسل رسولاً من رجاله وبرفقته _______ (1) انظر التفاصيل في: الشرق والغرب من الحروب الصليبية إلى حرب السويس - المرحلة الأولى في الصراع بين الشرق والغرب 67 - 70.

أربعون رجلاً من الأتباع إلى (قطز)، يحملون كتاباً من هولاكو إلى السلطان جاء فيه: "من ملك الملوك شرقاً وغرباً القائد الأعظم، باسمك اللهم باسط الأرض ورافع السماء. يعلم الملك المظفر قطز الذي هو من جنس المماليك الذين هربوا من سيوفنا إلى هذا الإقليم، يتنعَّمون بأنعامه، ويقتلون من كان بسلطانه بعد ذلك. يعلم الملك المظفر قطز وسائر أمراء دولته وأهل مملكته بالديار المصرية وما حولها من الأعمال، أنَّا نحن جند الله في أرضه، خلقنا من سخطه وسلطنا على مَن حلَّ به غضبه. فلكم بجميع البلاد معتبر وعن عزمنا مزدجر. فاتَّعظوا بغيركم، وأسلموا إلينا أمركم، قبل أن ينكشف الغطاء، فتندموا ويعود عليكم الخطأ؛ فنحن ما نرحم من بكى، ولا نرقّ لمن شكى. وقد سمعتم أننا قد فتحنا البلاد، وطهَّرنا الأرض من الفساد، وقتلنا معظم العباد. فعليكم بالهرب، وعلينا الطلب. فأي أرض تأويكم، وأي طريق تنجيكم، وأي بلاد تحميكم؟! فما لكم من سيوفنا خلاص، ولا من مهابتنا مناص. فخيولنا سوابق، وسهامنا خوارق، وسيوفنا صواعق، وقلوبنا كالجبال، وعددنا كالرمال. فالحصون عندنا لا تمنع، والعساكر لقتالنا لا تنفع، ودعاؤكم علينا لا يُسمَع. فإنَّكم أكلتم الحرام، ولا تعفون عند كلام، وخنتم العهود والأيمان، وفشا فيكم العقوق والعصيان، فأبشروا بالمذلَّة والهوان، فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تفسقون، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون. فمن طلب حربنا ندم، ومَن قصد أماننا سلم. فإن أنتم لشرطنا وأمرنا

أطعتم، فلكم ما لنا وعليكم ما علينا، وإن خالفتم هلكتم، فلا تهُلكوا نفوسكم بأيديكم، فقد حذَّر مَن أنذر. وقد ثبت عندكم أن نحن الكفرة، وقد ثبت عندنا أنكم الفجرة، وقد سلَّطَنا عليكم مَن له الأمور المقدَّرة والأحكام المدبَّرة. فكثيركم عندنا قليل، وعزيزكم عندنا ذليل ... فلا تطيلوا الخطاب، وأسرعوا بردِّ الجواب، قبل أن تضرب الحرب نارها، وترمي نحوكم شرارها، فلا تجدون منَّا جاهاً ولا عزَاً، ولا كافياً ولا حرزاً، وتدهون منا بأعظم داهية، وتصبح بلادكم خالية. فقد أنصفناكم إذ راسلناكم، وأيقظناكم إذ حذَّرناكم، فما بقي لنا مقصد سواكم، والسلام علينا وعليكم، وعلى مَن أطاع الهدى، وخشي عواقب الرَّدى، وأطاع الملك الأعلى. "ألا قُل لمصرٍ ها هلاون (1) قد أتى ... بحدِّ سيوفٍ تُنتضى وبواترِ يصير أعزُّ القوم أذِلَّةً ... ويلحق أطفالاً لهم بالأكابر" (2) وكان ذلك في سنة ثمانٍ وخمسين وستمئة الهجرية (أوائل سنة 1260م). فلمَّا سمع قطز ما في الكتاب، جمع الأمراء، واتَّفقوا على قتل الرسل، فقُبِضَ على الرُّسل، واعتُقلوا، وأُمِرَ بإعدامهم، فأُعدموا توسيطاً (3) كلٌّ أمام باب من أبواب القاهرة، وعُلِّقت رؤوسهم على باب (زويلة) (4). _______ (1) صيغة لاسم هولاكو. (2) السلوك للمقريزي 1/ 427 - 428. (3) التوسيط: هو أن يُضرَب الشخص بالسيف في وسطه، فيقسمه نصفين. (4) السلوك للمقريزي 1/ 429.

لقد كان قطز قد عقد العزم على حرب التتار، وكان قراره نهائياً لا رجعة عنه، إذ هو المسوِّغ الوحيد لاستيلائه على السلطة. فقد تواترت المعلومات الموثوق بها عن زحف التتار باتجاه مصر، كما علم المصريون باستيلاء التتار على سورية وفلسطين، كما وصل إلى القاهرة كمال الدين عمر بن العديم (1) رسولاً من الملك الناصر صلاح الدين يوسف صاحب حلب والشام يطلب من قطز النجدة على قتال التتار. وجمع قطز القضاة والفقهاء والأعيان لمشاورتهم فيما يعتمد عليه من أمر التتار، وأن يؤخذ من الناس ما يُستعان به على جهادهم. وحضر أصحاب الرأي في دار السلطنة بقلعة الجبل، وحضر الشيخ عز الدين بن عبد السلام والقاضي بدر الدين السنجاري قاضي الديار المصرية، وأفاضوا في الحديث، فكان الاعتماد على ما يقوله ابن عبد السلام، وخلاصة ما قال: "إنَّه إذا طرق العدوّ بلاد الإسلام، وجب على العالم قتالهم، وجاز لكم أن تأخذوا من الرعية ما تستعينون به على جهادكم، بشرط ألاَّ يبقى في بيت المال شيء، وتبيعوا ما لكم من الحوائص (2) المذهَّبة والآلات النفيسة، ويقتصر كل الجند على مركوبه وسلاحه، ويتساوَوْا هم والعامة. وأما أخذ الأموال من العامة، مع بقايا في أيدي الجند من الأموال والآلات الفاخرة، فلا". _______ (1) هو عمر بن أحمد بن هبة الله بن أبي جرادة الصاحب العلاَّمة كمال الدين أبو القاسم العقيلي الحلبي المعروف بابن العديم، توفي سنة 606هـ. (2) الحوائص: جمع حياصة، وهي حزام الدابَّة، وحزام الرجل أيضاً. وكان من عادة السلطان أنه إذا ركب للعب الكرة والصولجان بالميدان فرق حوائص من ذهب على بعض الأمراء المقدَّمين، انظر السلوك للمقريزي 4/ 52 - 55.

وانفضَّ المجلس على ذلك، ولم يتكلَّم السلطان وهو الملك المنصور علي بن الملك المُعزّ أَيْبَك لعدم معرفته بالأمور ولصغر سنّه، فلهج الناس بخلع المنصور وسلطنة قطز حتى يقوم بهذا الأمر المهم (1). فقد علم قطز أنه لا بدَّ من خروجه من مصر على رأس قواته العسكرية لقتال التتار، ولكنه لا يستطيع أن يفعل ما يريد لأن الآراء مغلولة لصغر السلطان، ولأنَّ الكلمة مختلفة، فجمع قطز أصحاب الرأي من العلماء والأمراء، وعرَّفهم أنَّ الملك المنصور هذا صبيٌّ لا يحسن التدبير في مثل هذا الوقت الصعب، ولا بدَّ أن يقوم بأمر الملك رجلٌ شهمٌ يطيعه كل أحد، وينتصب للجهاد في التتار، فأجابه الجميع: ليس لها غيرك (2)! لقد كان الجواب على رسالة هولاكو هو: القتال، ولا شيء غير القتال. وكان هذا القرار متَّفَقاً عليه من الجميع قبل وصول وفد هولاكو وقبل وصول رسالته إلى القاهرة. ولم يكن إعدام الوفد إلاَّ حافزاً جديداً لقطز وقواته على القتال، دون أن يتركوا الباب مفتوحاً لحلٍّ آخر غير القتال. وهذا موقف لقطز، في مثل الظروف التي كانت تحيط به، موقف يُحمَد عليه، لأنَّه انتزع آخر أمل من نفوس المتردِّدين والانهزاميين في احتمال رضوخ قطز إلى مطالب التتار، فقال قطز قولته الحاسمة: "إنَّ _______ (1) النجوم الزاهرة 7/ 72 - 73. (2) النجوم الزاهرة 7/ 55.

5 - الحشد

الرأي عندي هو أن نتوجَّه جميعاً إلى القتال، فإذا ظفرنا فهو المراد، وإلاَّ فلن نكون مسلمين أمام الخلق" (1). 5 - الحشد: خرج قطز يوم الإثنين الخامس عشر من شعبان سنة ثمان وخمسين وستمئة الهجرية (1260 م) بجميع عسكر مصر ومَن انضمَّ إليهم من عساكر الشام ومن العرب والتركمان وغيرهم من قلعة الجبل في القاهرة يريد معسكر (الصالحية) معسكر مصر الكبير في شرق الدلتا. وقبل ذلك وفي نفس اليوم، أحضر قطز رسل هولاكو وأعدمهم، ليضع قواته المسلَّحة (2) أمام الأمر الواقع: لا مفرَّ من القتال. ونوديَ في القاهرة والفسطاط وسائر إقليم مصر بالخروج إلى الجهاد، وتقدَّم قطز إلى جميع الولاة بحثِّ الأجناد للخروج إلى القتال، وسار حتى وصل إلى (الصالحية) وتكامل حشد قواته، فجمع الأمراء وكلَّمهم في الرحيل، فأبَوا كلّهم عليه وامتنعوا من الرحيل، فقال لهم: "يا أمراء المسلمين! لكم زمان تأكلون أموال بيت المال، وأنتم للغزاة كارهون، وأنا متوجِّهٌ، فمَن اختار الجهاد يصحبني، ومَن لم يختر ذلك يرجع إلى بيته، فإنَّ الله مطَّلعٌ عليه، وخطيئة حريم المسلمين في رقاب المتأخرين" ... وتكلّم الأمراء الذين اختارهم وحلَّفهم مؤيّدين له في _______ (1) ذكرت بعض المراجع أن السلطان ناقش الموقف مع أمرائه، فقال بعض هؤلاء: "إنَّه ليس لنا طاقة ولا قدرة على مقاومة التتار". (2) السلوك للمقريزي 1/ 429.

المسير، فلم يسع البقية غير الموافقة، ثم انفضَّ الجميع. لقد جمع قطز قادته قبل المسير، وشرح لهم خطورة الموقف، وذكَّرهم بما وقع من التتار في البلاد التي غزَوها من شنيع السفك والتخريب، وما ينتظر مصر وأهلها من مصير مروّع إذا نجح التتار في اجتياحها، وحثَّهم -وهو يبكي- على بذل أرواحهم في سبيل إنقاذ الإسلام والمسلمين من هذا الخطر الداهم، فضجَّ القادة بالبكاء، ووعدوا ألاَّ يدَّخروا وسعاً ولا تضحية في سبيل مقاتلة التتار وإنقاذ مصر والإسلام من شرِّهم (1). ولكن لماذا خاف قادة قطز التتار؟ كان هولاكو في خلق لا يحصيهم إلاَّ الله، ولم يكن من حين قدومهم على بلاد المسلمين سنة ستة عشرة وستمئة الهجرية (1219م) يلقاهم عسكر إلاَّ فَلّوه (2)، وكانوا يقتلون الرجال، ويسبون النساء الأسرى وينهبون الأموال (3)، لذلك آثر قادة قطز بعد إكمال حشد قواتهم حماية مصر لا غير، لكثرة عدد التتار واستيلائهم على معظم بلاد المسلمين، لأنَّ التتار لم يقصدوا إقليماً إلاَّ فتحوه ولا عسكراً إلاَّ هزموه، ولم يبقَ خارج حكمهم إلاَّ مصر والحجاز واليمن. وقد هرب جماعة من المغاربة الذين كانوا بمصر إلى الغرب، وهرب جماعة من الناس إلى اليمن والحجاز، والباقون بقوا في وَجَلٍ عظيم وخوف _______ (1) مواقف حاسمة 166. (2) النجوم الزاهرة 7/ 74. (3) المصدر السابق 7/ 77.

6 - المعركة

شديد، يتوقَّعون دخول العدو وأخذ البلاد (1). لقد كانت المعنويات منهارة، فلا عجب أن يبذل قطز كل جهده لرفع معنويات قادته ورجاله بخاصة والشعب المصري بعامة، وأن يستحثّ القادرين على حمل السلاح للجهاد بأرواحهم والقادرين على تقديم الأموال للجهاد بأموالهم، وأن يحشد كلّ طاقاته المادية والمعنوية للحرب، فلا يعلو صوت على صوت المعركة، ولا يُقبل عذر من أحد قادر على الجهاد بماله وروحه، وقد قدَّم قطز لجيشه مثالاً شخصياً رائعاً في الجهاد بماله وروحه في سبيل الله. كما أن قطز صمَّم على لقاء التتار خارج مصر، وألاَّ ينتظرهم في مصر للدفاع عنها على الأرض المصرية، وذلك حتى يجنّب مصر ويلات الحرب أولاً، وحتى يرفع معنويات رجاله ومعنويات المصريين ثانياً، وحتى يوحي للتتار بأنه لا يخافهم فيؤثِّر ذلك في معنوياتهم ثالثاً، ولأن المدافع لا ينتصر مطلقاً إلاَّ في نطاق ضيق محدود بعكس المهاجم الذي يؤدِّي انتصاره إلى كارثة تحيق بعدوه رابعاً، ولأنَّ الهجوم أنجع وسائل الدفاع خامساً وأخيراً. إن تصميم قطز على قبول المعركة خارج مصر كان قراراً عسكرياً فذّاً. 6 - المعركة: وخرج قطز من مصر في الجحافل الشامية والمصرية في شهر _______ (1) النجوم الزاهرة 7/ 78.

رمضان من سنة ثمانٍ وخمسين وستمئة الهجرية (1260م)، وغادر معسكر (الصالحية) بجيشه، ووصل مدينة (غزة) والقلوب وجلة (1). وكان في (غزة) جموع التتار بقيادة (بيدر)، وكان (بيدر) قد أخبر قائده (كَتْبُغا نُوين) الذي كان في سهل (البقاع) (2) بالقرب من مدينة (بعلبك) (3) بزحف جيش قطز، فردَّ عليه: "قف مكانك وانتظر". ولكن قطز داهم (بيدر) قبل وصول (كتبغا نوين)، فاستعاد (غزَّة) من التتار، وأقام بها يوماً واحداً ثم غادرها شمالاً باتجاه قوات التتار (4). وكان (كتبغا نوين) مقدم التتار على جيش هولاكو لما بلغه خروج قطز وكان بالبقاع، وقد عقد مجلساً استشارياً واستشار ذوي الرأي في ذلك، فمنهم مَن أشار بعدم الملتقى بجيش قطز في معركة، والانتظار حتى يجيئه مددٌ من هولاكو ليقوى على مصاولة الجيش المصري، ومعنى ذلك مشاغلة جيش قطز بالقوات المتيسّرة لديه ريثما ترده النجدات التي تضمن له النصر. ومنهم من أشار بغير ذلك: قبول المعركة، اعتماداً على قوات التتار التي لا تُقهر، وهكذا تفرَّقت الآراء. وكان رأي (كتبغا نوين) قبول المعركة، ومواجهة جيش قطز، فتوجه من فوره _______ (1) النجوم الزاهرة 7/ 78. (2) البقاع: سهل يقع في لبنان بين سلسلتي جبال لبنان الشرقية والغربية، وهو من السهول العالية، تغذِّيه شبكة ري نهري العاصي والليطاني وروافدهما، ومن مدنه في لبنان: شتورا وبعلبك ... إلخ. (3) بعلبك: مدينة قديمة، فيها أبنية عجيبة وآثارها عظيمة، انظر التفاصيل في معجم البلدان 2/ 226، والمسالك والممالك 46. وهي مدينة أثرية تقع في لبنان شمال شرقي بيروت، لا تزال آثارها قائمة. (4) السلوك للمقريزي 1/ 430.

جنوباً (1) باتجاه القوات المصرية. وكان هذا أول الوهن: اختلاف الآراء، وظهور رأي يحبّذ الانسحاب انتظاراً للنجدات، وإعلان رأي يحبّذ عدم الانسحاب وقتال قطز. وبعث قطز طلائع قواته بقيادة الأمير ركن الدين بيبرس البندقداري لمناوشة التتار واختبار قواتهم، واستحصال المعلومات المفصَّلة عن تنظيمها وتسليحها، فالتقى بيبرس بطلائع التتار في مكان يقع بين (بيسان) و (نابلس) يدعى: (عين جالوت) في (الغَور) غور الأردن، وشاغل التتار حتى وافاه قطز على رأس القوات الأصلية من جيشه (2). وفي يوم الجمعة الخامس والعشرين من شهر رمضان المبارك من سنة ثمانٍ وخمسين وستمئة الهجرية (6 أيلول - سبتمبر - 1260م) نشبت بين الجيشين المتقابلين معركة حاسمة، وكان التتار يحتلون مرتفعات سهل (عين جالوت)، فانقضُّوا على جيش قطز تطبيقاً لحرب الصاعقة التي يمارسها التتار في حروبهم، تلك الحروب التي تعتمد سرعة الحركة بالخيَّالة، وكان القتال شديداً لم يُرَ مثله حتى قتل من الطائفتين جماعة كثيرة. وتغلغل التتار عمقاً واخترقوا ميسرة قطز، فانكسرت تلك الميسرة كسرة شنيعة، ولكنَّ قطز حمل بنفسه في طائفة من جنده، وأسرع _______ (1) النجوم الزاهرة 7/ 79. (2) انظر تفاصيل سيرته في النجوم الزاهرة 94 - 200.

لنجدة الميسرة حتى استعادت مواقعها. واستأنف قطز الهجوم المضاد بقوات (القلب) التي كانت بقيادته المباشرة وكان يتقدَّم جنوده وهو يصيح: "وا إسلاماه ... وا إسلاماه". واقتحم قطز القتال وباشر ذلك بنفسه، وأبلى في ذلك اليوم أعظم البلاء، وكانت قوات القلب مؤلَّفة من المتطوّعين المجاهدين أتباع الطرق الصوفية وغيرهم من الذين خرجوا يطلبون الشهادة ويدافعون عن الإسلام بإيمان، فكان قطز يشجع أصحابه ويحسّن لهم الموت، ويُضرب به المثل بما يفعله من إقدام ويبديه من استبسال. وكان قطز قد أخفى معظم قواته النظامية المؤلفة من المماليك في شِعَب التلال لتكون كمائن، وبعد أن كرَّ بالمجاهدين كرَّة بعد كرَّة حتى زعزع جناح التتار، برز المماليك من كمائنهم وأداموا زخم الهجوم بشدة وعنف. وكان قطز أمام جيشه يصيح: "وا إسلاماه ... يا الله!! انصر عبدك قطز على التتار"، وكان جيشه يتبعه مقتدياً بإقدامه وبسالته، فقُتِل فرس قطز من تحته، وكاد يُعرَّض للقتل لولا أن أسعفه أحد فرسانه فنزل له عن فرسه. وسار قطز إلى قيادة رجاله متغلغلاً في صفوف أعدائه، حتى ارتبكت صفوف التتار، وشاع أن قائدهم (كتبغا نوين) قد قُتِل، فولّوا الأدبار لا يلوون على شيء. كان (كتبغا نوين) يضرب يميناً وشمالاً غيرة وحمية، وكان يكرُّ

7 - أسباب النصر

على المسلمين، فرغَّبه جماعة من أتباعه في الهرب، ولكنه لم يستمع إليهم وقال: "لا مفرَّ من الموت هنا، فالموت مع العزة والشرف خيرٌ من الهرب مع الذلِّ والهوان". ورغم أن جنوده تركوه، فقد ظلَّ يقاتل حتى قُتِل. وفي رواية أخرى أن جواده كبا به، فأسره المسلمون. وكانت هناك مزرعة للقصب بالقرب من ساحة القتال، فاختفى فيها فوجٌ من التتار، فأمر قطز جنوده بأن يضرموا النار في تلك المزرعة وأحرقوا فوج التتار جميعاً. وبدأ المسلمون فوراً بمطاردة التتار، كما طاردهم المسلمون الذين لم يكونوا من جيش قطز، حتى دخل قطز (دمشق) في أواخر شهر رمضان المبارك، فاستقبله أهلها بالابتهاج. وامتدَّت المطاردة السريعة إلى قرب مدينة (حلب)، فلما شعر التتار باقتراب المسلمين منهم تركوا ما كان بأيديهم من أسارى المسلمين، ورموا أولادهم فتخطَّفهم الناس وقاسوا من البلاء ما يستحقونه (1). 7 - أسباب النصر: يجدر بنا أن نتوقَّف قليلاً لمعرفة أسباب انتصار قطز على التتار. _______ (1) انظر التفاصيل في: النجوم الزاهرة 7/ 78 - 82؛ وجوامع التواريخ (تاريخ المغول) - المجلَّد الثاني - الجزء الأول من الترجمة العربية 312 - 314؛ ومواقف حاسمة 166 - 167؛ والجيش المصري في العصر الإسلامي 2/ 74 - 77؛ ومقال في مجلة العربي - العدد (151) عن المغول والإسلام للدكتور حسين مؤنس.

إنَّ كل الحسابات العسكرية تجعل النصر إلى جانب التتار بدون أدنى شك. أولاً: كان لقادة التتار تجارب طويلة في الحروب، ولم تكن لقطز وقادته مثل تجارب قادة التتار ولا ما يقاربها. والقائد المجرِّب أفضل من القائد غير المجرِّب قطعاً. ثانياً: كانت معنويات التتار قادةً وجنوداً عالية جداً، لأنهم تقدَّموا من نصر إلى نصر، ولم تُهزم لهم راية من قبل أبداً. وكانت معنويات قادة قطز وجنوده منهارة، وقد خرج أكثر القادة كُرهاً. وقد استغلَّ التتار حرب الأعصاب، فكانوا ينتصرون بالرعب، مما يؤثر في معنويات أعدائهم. والجيش الذي يتحلَّى بالمعنويات العالية، ينتصر على الجيش الذي تكون معنوياته منهارة. ثالثاً: كانت كفاية جيش التتار متفوقة فواقاً كاسحاً على كفاية جيش قطز، لأن جيش التتار خاض معارك كثيرة، لذلك كانت تجربته العملية على فنون القتال باهرة إلى أبعد الحدود. أما جيش قطز؛ فقليل التجربة العملية، قليل التدريب. والجيش الذي يتحلَّى بالكفاية - خاصة في ميدان التدريب العملي ينتصر على الجيش الذي لا كفاية عملية لديه.

رابعاً: كان جيش التتار متفوقاً على جيش قطز عدداً وعُدَداً، وقد ازداد تعداد جيش التتار بالذين التحقوا بهم من المواليد والمرتزقة والصليبيين بعد احتلال أرض الشام. والتفوُّق بالعدد والعُدد من عوامل إحراز النصر. خامساً: كان جيش التتار يتميَّز بفرسانه المدرَّبين، وكان تعداد فرسانه كبيراً، مما ييسِّر له سرعة الحركة، ويؤدي إلى تطبيق حرب الصاعقة التي كانت من سمات حرب التتار. والجيش الذي يتحلَّى بسرعة الحركة يتغلَّب على الجيش الذي لا يتحلَّى بهذه المزية. سادساً: كانت مواضع جيش التتار في (عين جالوت) أفضل من مواضع الجيش المصري، لأنَّ تلك المواضع كانت محتَلَّة من التتار قبل وصول الجيش المصري إلى المنطقة حيث كانت تحت سيطرتهم. وللأرض أثرٌ عظيمٌ في إحراز النصر. سابعاً: كان جيش التتار متفوِّقاً على جيش قطز في قضاياه الإدارية، إذ كان يستند على قواعده القريبة في أرض الشام، وهي التي استولى عليها واستثمر خيراتها. بينما كانت قواعد الجيش المصري الإدارية بعيدة عنه، لأنه كان يعتمد على مصر وحدها في إعاشته، والمسافة بين مصر و (عين جالوت) طويلة، خاصة في تلك الأيام التي كانت القضايا الإدارية تُنقل على الدواب والجمال مخترقة الصحارى والقفار.

هذا التفوُّق الساحق الذي كان بجانب التتار، له نتيجة متوقَّعة واحدة، هي إحراز النصر على الجيش المصري أسوة بانتصاراتهم الباهرة على الروم والفرس والعرب والأمم الأخرى في زحفهم المظفر الطويل. ولكن الجيش المصري انتصر على جيش التتار، فكيف حدث ذلك؟ أولاً: قدَّم شيوخ مصر وعلى رأسهم العز بن عبد السلام إرشاداتهم الدينية لقطز، فنفذها بكل أمانة وإخلاص، وأمر رجاله بالمعروف ونهاهم عن المنكر، فخرج الجيش من مصر تائباً منيباً طاهراً من الذنوب. وكان على رأس المجاهدين: القادرون من شيوخ مصر على السفر وحمل السلاح وتحمُّل أعباء الجهاد. ثانياً: قيادة قطز الذي كان يتحلَّى بإرادة القتال بأجلى مظاهرها، فكان مصمِّماً على قتال التتار مهما تحمَّل من مشاق وتضحيات وصعاب. ولعل إصراره على مهاجمة التتار خارج مصر، وعدم بقائه في مصر، واختياره الهجوم دون الدفاع، واستبعاده خطة الدفاع، هو الذي جعل رجاله قادةً وجنوداً في موقف لا يؤدِّي إلاَّ إلى الموت أو النصر، ممَّا جعلهم يستقتلون في الحرب، لأنه لم يكن أمامهم في حالة الهزيمة غير الفناء. ثالثاً: إيمان قطز بالله واعتماده عليه، وإيمان المتطوِّعين من

8 - الشهيد

المجاهدين الصادقين الذين خرجوا طلباً للشهادة. إنَّ أثر المجاهدين في معركة (عين جالوت) كان عظيماً جداً في إحراز النصر؛ والمتعمِّق في دراسة هذه المعركة عسكرياً، يستنتج بكلِّ وضوح هذا الاستنتاج. حين اطمأنَّ قطز إلى نصر الله، ترجَّل عن فرسه، ومرَّغ وجهه في التراب وقبَّلها، وسجد لله شكراً على ما أولاه من نصر باهر، وحمد الله وأثنى عليه ثناءً عاطراً. لقد كان انتصار المسلمين في (عين جالوت) على التتار انتصار عقيدة لا مراء. 8 - الشهيد: لم تمضِ أسابيع قلائل، حتى طُهِّرَتْ بلاد الشام كلها من بقايا التتار؛ فرتَّب أمور البلاد، واستناب على دمشق أحد رجاله، ثم خرج من دمشق عائداً إلى مصر إلى أن وصل إلى (القُصَير) (1)، وبقي بينه وبين (الصالحية) المعسكر الذي حشد فيه قواته قبل الحركة لقتال التتار مرحلةً واحدة، ورحلت قوَّاته إلى جهة (الصالحية)، انقضَّ عليه الأمير بيبرس وعدد من رجاله وقتلوه على مقربة من خيمته، وذلك في يوم السبت السادس عشر من ذي القعدة سنة ثمان وخمسين وستمئة الهجرية (تشرين الأول - أكتوبر - 1260م)، ولم يمضِ يومان حتى _______ (1) القصير: قرية تُعرف اليوم باسم الجعافرة إحدى قرى مدينة فاقوس بمحافظة الشرقية إحدى محافظات مصر.

حلَّ مكانه في المُلك قاتِلُهُ باسم الملك الظاهر. وقد دُفِن قطز موضع قتله، وكثر أسف الناس وحزنهم عليه. وكان قبره يُقصَد دائماً للزيارة، فلما بلغ ذلك بيبرس أمر بنبشه ونقله إلى غير ذلك المكان وعُفِّي أثره. وكانت سلطة قطز سنة إلا يوماً واحداً. وكان قطز بطلاً شجاعاً مقداماً حسن التدبير، يرجع إلى دين وإسلام وخير، كما قال فيه الذهبي: "وله اليد البيضاء في جهاد التتار، فعوَّض الله شبابه بالجنة ورضي عنه" (1). وكان صادقاً عزيز النفس، كريم الأخلاق، مجاهداً من الطراز الأول، ولم يكن يوصف بكرم ولا شُحٍّ بل كان متوسِّطاً في ذلك (2). قُتل قاهر التتار مظلوماً، فخسر روحه وربح الدنيا والآخرة، وسجَّله التاريخ في أنصع صفحاته. - رضي الله عنه - وأرضاه، وجعله قدوة صالحة لقادة العرب والمسلمين، فما أشبه غزو التتار بغزو الصهاينة، وما أحوجنا اليوم إلى مثله قائداً يتَّخذ الهجوم مبدأً ولا يكتفي بالدفاع، ويقاتل الصهاينة في الأرض المحتلَّة، ولا ينتظر أن يقاتلوه في أرضه. ... _______ (1) النجوم الزاهرة 7/ 84. (2) انظر التفاصيل في النجوم الزاهرة 7/ 84 - 89.

- 4 - السلطان محمد الفاتح فاتح القسطنطينية

- 4 - السلطان محَمَّد الفَاتح فَاتح القسطنطينيَّة 1 - أيامه الأولى: كان فتح القسطنطينية من الأحداث العالمية الكبرى، فقد كان إيذاناً بانتهاء العصر الوسيط وبداية العصر الحديث. وقد ظلَّت القسطنطينية عشرة قرون معقلاً للمسيحية، لم تستسلم للغزاة الطامعين بها، وثبتت أمام تسعة وعشرين حصاراً، حتى فتحها محمد الفاتح فأصبحت معقلاً للمسلمين حتى اليوم. وُلِدَ محمد الفاتح في السادس والعشرين من شهر رجب سنة ثلاث وثلاثين وثمانمئة الهجرية (20 من نيسان - أبريل - 1429م)، وتولَّى السلطنة مرَّتين في حياة والده مراد الثاني الذي كان ورِعاً متديِّناً، فتنازل عن السلطة لابنه محمد، ثم ذهب إلى (مغنيسيا) في آسيا الصغرى ليقضي بقية حياته في عزلةٍ وطمأنينة، ويتفرَّغ في هذه الخلوة إلى عبادة الله والتأمُّل في ملكوته. ولكنَّ أعداء الدولة العثمانية انتهزوا فرصة تخلِّي مراد الثاني عن العرش وتوليِّ ابنه محمد الفاتح البالغ من العمر إذ ذاك أربع عشرة سنة من عمره، فقرَّروا طرد الأتراك من أوروبا. وعاد مراد

الثاني إلى العرش، وهزم أعداءه الخارجيين، ثم عاد إلى خلوته متنازلاً عن العرش. ولكن جنود الانكشارية في (ادرنه) ثاروا وشغبوا وهاجوا، فعاد السلطان مراد الثاني ثانية إلى العرش وقضى على الفتنة الداخلية، وأعاد الأمور إلى نصابها. وفي الثالث من المحرَّم سنة خمس خمسين وثمانمئة الهجرية (5 من شباط - فبراير - 1451 م) توفي السلطان مراد. وفي اليوم السادس عشر من محرَّم سنة خمس وخمسين وثمانمئة الهجربة (18 من شباط - فبراير - 1451م) تولَّى محمد الفاتح عرش آبائه وأجداده وهو في الثانية والعشرين من عمره. لقد تدرَّب محمد الفاتح على إدارة الدولة عملياً قبل وفاة والده: تدرَّب على نطاق محلّي، لأنَّه تولى إدارة مناطق من الدولة، فكان المسؤول الأول عنها؛ وتدرَّب على نطاق الدولة كلها حين تولى السلطنة مرَّتين في حياة والده، فعرف كيف يتحمَّل المسؤولية كاملةً في حياة والده، وأفاد من هذه التجارب العملية بعد وفاة أبيه، وعرف كيف يواجه مشاكل الدولة والحكومة، وخبر الرجال وكشف مواطن الضعف والقوة فيهم. كما درس نظم الدول الداخلية وقدَّر مهمَّتها الخارجية ومشاكلها الدولية. كما تدرَّب على القيادة العسكرية في حياة والده، إذ كان معه في المعارك التي خاضها في أواخر حياته، فتعلَّم من والده الذي كان قائداً متميِّزاً أساليب إدارة القتال والسيطرة على القوات العسكرية في الميدان.

2 - محاولات الفتح الأولى

2 - محاولات الفتح الأولى: ركَّز محمد الفاتح بعد تولِّيه السلطنة كلّ اهتمامه على فتح القسطنطينية، فكان أمر فتحها يشغل كلّ تفكيره ويسيطر على عقله وقلبه، فكأنَّه تولَّى منصبه لتحقيق هذا الهدف الحيويّ. ومن المعروف أنَّ المسلمين اهتمُّوا كثيراً بفتح القسطنطينية منذ أيام الدولة الإسلامية الأولى، وقد حاول قسم من الخلفاء الراشدين والأمويين والعباسيين وسلاطين بني عثمان قبل محمد الفاتح أن يفتحوا القسطنطينية، ولكنَّ محاولاتهم لم يُكتَب لها النجاح. كانت أول محاولة للمسلمين لفتح القسطنطينية في خلافة عثمان بن عفان - رضي الله عنه -، وذلك في أواخر سنة اثنتين وثلاثين الهجرية (653 م)، إذ قصدها جيشٌ بقيادة معاوية بن أبي سفيان أمير الشام يومئذٍ، فاخترق آسيا الصغرى حتى ضفاف البسفور. كما قصدها أسطول إسلامي بقيادة بُسْر بن أبي أرطاة لدعم الجيش الإسلامي البرّي، فتحرَّك من (طرابلس الغرب) صوب القسطنطينية ولكن هذه المحاولة لم تنجح (1). وفي سنة أربع وأربعين الهجرية (664م) كانت الحملة الثانية في عهد معاوية بن أبي سفيان، ولكن هذه المحاولة لم تنجح أيضاً. وفي سنة تسع وأربعين الهجرية (669م) أعاد معاوية الكرَّة لفتح القسطنطينية، فبعث جيشاً ضخماً بقيادة سفيان بن عوف ومعه يزيد بن معاوية وجماعة من أكابر الصحابة من المهاجرين والأنصار منهم _______ (1) ابن الأثير 3/ 50.

عبد الله بن العباس وعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير وأبو أيوب الأنصاري. وسار الأسطول الإسلامي بقيادة بُسر بن أبي أرطاة، واخترق مضيق الدردنيل دون مقاومة. واستمرَّ حصار المدينة برّاً وبحراً سبعة أعوام دون جدوى، فانسحب المسلمون سنة ثمان وخمسين الهجرية (678 م) إلى قواعده (1). وفي سنة ست وتسعين الهجرية (715 م) تولى الخلافة سليمان بن عبد الملك، فأعاد الكرَّة وانتدب أخاه مَسْلَمَة بن عبد الملك وأمره ألاَّ يبرح القسطنطينية حتى يفتحها أو يأتيه أمره. وسار مسلمة في أوائل سنة ثمان وتسعين الهجرية (716 م) مخترقاً هضاب الأناضول، وفتح عدَّة مدن وحصون للروم، ثم بدأ حصار القسطنطينية، فحاصرها ثانية في اليوم الثاني من محرَّم سنة تسع وتسعين الهجرية (15 آب - أغسطس - 717م)، ولكن لم تمضِ أسابيع قلائل على حصارها حتى توفي سليمان بن عبد الملك في العاشر من صفر سنة تسع وتسعين الهجرية (717م)، ودخل فصل الشتاء وكان شديد البرد، فانسحب مسلمة إلى ثغور الشام (2). ولم تحاول الخلافة بعد ذلك أن تعمل جادَّة لافتتاح القسطنطينية، وإن كانت جيوشها قد اقتربت بعد ذلك غير مرَّة من هذه العاصمة. وقد وقعت أشهر هذه الغزوات أيام الخليفة المهدي من بني العباس، حيث سار ولده هارون الرشيد في صيف سنة خمس وستين ومئة الهجرية (783م) غازياً للدولة البيزنطية، فاخترق هضاب الأناضول _______ (1) الطبري 2/ 86؛ وابن الأثير 3/ 175 و 181 و 182 و 186. (2) ابن الأثير 5/ 10.

حتى أشرف على ضفاف البسفور الآسيوية، وعسكر فوق تلال خريسوبوليس (أسكوتاري) في مواجهة القسطنطينية. وكان على عرش القياصرة يومئذٍ طفل هو قسطنطين السادس، ومقاليد الحكم بيد أمه الإمبراطورة إيريني (ريني)، فهزم المسلمون البيزنطيين هزيمةً نكراء، واضْطرَّت إيريني أن تعقد الصلح وأن تتعهَّد بدفع جزية سنوية للمسلمين (1). وكانت أول محاولة للعثمانيين لفتح القسطنطينية في سنة ثمان وتسعين وسبعمئة الهجرية (1395 م)، ولكن وصول تيمورلنك إلى حدود الدولة العثمانية الشرقية اضطر السلطان (بايزيد) على التخلِّي عن الحصار (2). وقد كانت القسطنطينية محطَّ أنظار العثمانيين ومعقد آمالهم، منذ بداية حكمهم، فأوصى السلطان عثمان مؤسس الدولة العثمانية خلفاءه بفتحها، فلم توفق السلاطين بعد عثمان في تحقيق هدفهم، حتى جاء السلطان محمد الفاتح، فكتب الله له أن يكون فاتح هذه المدينة العظيمة، ومن يومها حمل لقب: الفاتح. وكما تعرَّضت القسطنطينية لمحاولات فتحها من المسلمين، تعرَّضت أيضاً عبر تاريخها الطويل لمحاولات غزوها من غير المسلمين، ولم تَسلَم حتى من الصليبيين؛ فقد تحوَّلت الحملة الصليبية الرابعة عن هدفها الأصلي وهو غزو بلاد المسلمين، فاحتلَّت القسطنطينية سنة _______ (1) انظر التفاصيل في: مواقف حاسمة 34 - 45. (2) محمد الفاتح 10.

3 - أهمية القسطنطينية

إحدى وستمئة الهجرية (1204 م)، ونهبت أملاكها ودمَّرت معالمها ومزَّقت أكبر دولة مسيحية في العصور الوسطى. ولكنّ البيزنطيين استطاعوا أن يستعيدوا عاصمتهم سنة ستين وستمئة الهجرية (1261م) بعد نصف قرن تقريباً من الحكم اللاتيني وبعد كثير من التضحيات والخسائر بالأرواح والممتلكات وكثير من الجهد والعناء. 3 - أهمية القسطنطينية: تحتل مدينة القسطنطينية موقعاً سوْقياً (استراتيجياً) فريداً، حَبَتْهُ الطبيعة بأهم عوامل الدفاع الطبيعية التي تساعد المدافعين عنها على الثبات. تحوطها من الشرق مياه البسفور، وتحدُّها من الغرب والجنوب مياه (المرمرة)، ويقسمها القرن الذهبي إلى قسمين عظيمين هما: (بيرا) وهو القسم الشمالي الشرقي، وإستانبول وهو المدينة البيزنطية الحقيقية. وتحتل إستانبول مثلثاً عظيماً من المرتفعات الصخرية تشرف قاعدته على (المرمرة) وضلعه الأيمن على مياه القرن الذهبي والميناء، وكان كل من هذين الجانبين يحرسهما سور واحد. أما الضلع الثالث وطوله ستة أميال، فهو الجانب المتَّصل بأرض القارة الأوروبية، يحميه خط مزدوج من الأبراج والحصون المنيعة، وخندق عميق مزدوج، وفيه اثنا عشر باباً، وفي كل زاوية من زوايا المثلث الثلاث قلعة منيعة. وكانت مياه القرن الذهبي الذي يحمي ضلع المدينة الشمالي الشرقي، تغلق بسلسلة حديدية هائلة يمتد طرفاها عند مدخله بين سور (غلطه) وسور إستانبول (1). _______ (1) مواقف حاسمة 175.

وهكذا تهيَّأت أسباب الدفاع المديد لهذه المدينة: أسباب طبيعية، وأسباب صناعية، مما جعلها موقعاً حصيناً وقلعةً آمنة، ومن الصعب على الغزاة احتلالها. كما أنَّ هذه المدينة تحتلّ موقعاً فريداً في العالم، فهي تقع عند ملتقى القارَّتين آسيا وأوروبا. وقد نوَّه نابليون بوجهٍ خاص بأهميّتها وخطورتها، فقال في شأنها: "لو كانت الدنيا مملكة واحدة لكانت القسطنطينية أصلح المدن لتكون عاصمة لها". وقد ذكر نابليون في مذكراته التي كتبها في منفاه بجزيرة (سانت هيلانا): أنه حاول عدَّة مرات الاتفاق مع روسيا على اقتسام الإمبراطورية العثمانية، ولكن وقعت القسطنطينية كل مرَّة عقبة كؤوداً دون الاتفاق، فقد كانت روسيا تلحّ في امتلاكها، ونابليون يصرّ على عدم تسليمها، إذ كانت هذه المدينة وحدها في نظره تساوي إمبراطورية كاملة، وهي بعد بمثابة مفتاح العالم، من استولى عليها استطاع أن يسيطر على العالم بأجمعه. وقد كان نابليون في أشد الحاجة إلى صداقة روسيا لمواجهة عدوَّته اللدود إنكلترا، ولكنَّه برغم ذلك لم يستطع أن يضحّيَ بالقسطنطينية (1). ومن المعروف أن الإمبراطورية العثمانية عندما شاخت، أصبح الغربيون يطلقون عليها اسم: (الرجل المريض)، وقد استطاع هذا المريض أن يبقى حيّاً بفضل مدينة القسطنطينية، لأنَّ الروس والبريطانيين والفرنسيين والألمان وغيرهم من دول الاستعمار، كانوا _______ (1) محمد الفاتح 26 - 27.

4 - آخر الأباطرة

يختلفون دوماً على القسطنطينية، فكلّ دولة تريدها لنفسها، وفي نفس الوقت لا تسمح لغيرها باحتلالها. وحين احتل الحلفاء مدينة القسطنطينية بعد الحرب العالمية الأولى (1914 - 1918م)، اختلفوا على امتلاكها، فعاونوا مصطفى كمال سرّاً وعلانية على إجلائهم جميعاً عنها، إذ كانت كل دولة من تلك الدول المحتلَّة، تفضّل أن تعود إلى الأتراك على أن تصبح ملكاً لغيرها. وقد أصبحت هذه المدينة ضرورية للعثمانيين بعد أن امتدَّ ملكهم فشمل مناطق آسيوية وأوروبية شاسعة، فكان لا بدَّ لهم من فتحها لتكون نقطة التقاء أملاكهم في أوروبا وآسيا من جهة، وليزيلوا من أمامهم حصناً حصيناً يهدِّد وجودهم في عقر دارهم ويفصل أملاكهم إلى شطرين كبيرين، وكان وجودها بالنسبة للعثمانيين تحت سيطرة البيزنطيين نقطة ضعف في دولة بني عثمان، ومكمن خطر داهم عانوا منه الأمرَّين في تاريخهم الطويل. 4 - آخر الأباطرة: أ) وحين تولَّى محمد الفاتح، كان على عرش بيزنطة قسطنطين الحادي عشر الذي اعتلى العرش سنة ثلاث وخمسين وثمانمئة الهجرية (1449م) (1) وهو في ريعان الشباب. وكان على يقين أن عاصمته مهددة بأفدح الأخطار، وأنَّ قواته ضعيفة بالنسبة لقوات العثمانيين، وأنَّ عليه أن يبذل قصارى جهده لاستقدام قوات من دول الغرب المسيحية لمعاونته في صدِّ العثمانيين دفاعاً عن القسطنطينية. _______ (1) تولى بعد وفاة أخيه الإمبراطور يوحنا السابع.

وقد حاول الزواج بمارية الصربية أرملة السلطان مراد الثاني والد محمد الفاتح، وذلك عقب عودتها إلى وطنها بعد وفاة زوجها، وكان محمد الفاتح يحترمها كثيراً ويعرف لها مكانتها وقدرها، ويعتبرها كوالدته، ففكَّر قسطنطين أنَّ زواجه بها قد يحميه من محمد الفاتح. وبرغم أنَّها كانت في الحلقة الخامسة من عمرها، إلاَّ أن قسطنطين الشاب القوي قَبِلَ هذا الزواج مؤمَّلاً من ورائه أن يكسب قوة والدها (جورج برانكوفتش) وعطف محمد الخامس. ولكن هذه الفكرة تلاشت، لأن مارية نذرت نفسها لله واعتزلت الناس، وقبعت في أحد الأديرة. وحاول قسطنطين مصاهرة إمبراطور (طرابزون) وهو داوود كومنينوس كما أشار عليه رجال بلاطه، كما حاول مصاهرة ملك الكرج (جورجيا) علَّه يجد منه المساعدة في وقت الحاجة؛ لأنَّ الكرج بلاد بدوية، رجالها أشداء أقوياء، ولكن لم يتمّ هذا الزواج لنشوب الحرب بينه وبين العثمانيين. ويُقال أيضاً إن قسطنطين فكَّر في الزواج بابنة رئيس جمهورية البندقية (فينيسيا)، لكنه ما لبث أن عدل عنه خوفاً من الرأي العام الذي كان يتَّهمه بالميل إلى اللاتين. بيد أنَّ هذا العدول عن الزواج اعتبرته البندقية إهانة لها، فكان ذلك من أسباب تثاقلها عن نصرة قسطنطين حينما أحاطت به الأخطار واشتدَّ الحصار على القسطنطينية. ب) ومن جهة أخرى لم ييأس قسطنطين من معونة الغرب، واعتقد أنَّ اشتداد الخطر على القسطنطينية وإحداق المسلمين بها

5 - نقض العهد

سيحمل الغرب على المبادرة إلى نجدته ونصرته، فبعث إلى جميع ملوك الغرب وأمرائه يستصرخهم ويستغيث بهم، كما بعث إلى البابا نقولا الخامس، يستنصره وينذره بأنه إذا سقطت القسطنطينية بيد العثمانيين فإنهم سيهاجمون بعد ذلك إيطاليا نفسها. وذكر قسطنطين قبوله لما اتفق عليه في مجمع فلورنسة الكنسي من أمر توحيد الكنيستين الشرقية والغربية، واعتذر عمَّا كان من مسلك الروم تجاهه وتجاه توحيد الكنيستين. وكان قسطنطين في ذلك مثل من سبقه من الأباطرة، لم يقبل هذا الاتحاد إلا طمعاً في نيل المعونة من دول الغرب الكاثوليكية، أما في قرارة نفسه فلم يكن أقل عداءً من بطريرك الكنيسة الشرقية ومن الشعب البيزنطي للاَّتين ومذهبهم الديني وكل ما جاء من روما (1). وذهبت محاولات قسطنطين سدى، كما كانت استغاثاته صرخة في واد. 5 - نقض العهد: ومن المذهل حقّاً أن يتصرَّف قسطنطين تصُّرفاً أهوج، وهو يعرف عزم العثمانيين على فتح القسطنطينية، فقد استثار محمداً الفاتح ونقض العهد الذي كان بينه وبين العثمانيين، فانتهز محمد الفاتح هذه الفرصة السانحة، وصمم علناً على فتح القسطنطينية. ذلك أن الفاتح عقب توليه السلطنة عقد السلام مع قسطنطين وغيره والحكَّام، ورضي أن يخصِّص راتباً كبيراً للأمير العثماني (أورخان) الذي كان معتقلاً في القسطنطينية. ويبدو أن قسطنطين أغراه _______ (1) فتح القسطنطينية 35 - 37؛ وانظر: محمد الفاتح 40.

هذا التسامح من جانب محمد الفاتح، فانتهز أول فرصة للغدر به، فإن محمداً الفاتح لم يكد يجلس على عرش السلطنة، حتى ثار به إبراهيم أمير القرمان وأثار معه عدَّة أشخاص، زعم أنهم أبناء الأمراء القدامى لكرميان وإيدين ومنتشا، ودفعهم إلى هذه الأقاليم ليستولوا على ميراثهم. وبعث محمد الفاتح قوات لقتاله وسار هو في أثرهم. وفوجئ إبراهيم بهذا الزحف السريع، ووجد أنه أضعف من أن يناجز الجيش العثماني، فكفَّ عن القتال وتقدَّم إلى السلطان الفاتح بنفسه باكياً مستعطفاً، وقدَّم إليه ابنته توكيداً لخضوعه، وتعهد أن يخرج معه في حملاته المقبلة، على أن يحتفظ بإمارته. ورقَّ الفاتح لبكائه، وقبل منه ما طلب، وعفا عما كان منه (1). وانتهز قسطنطين زحف محمد الفاتح إلى آسيا الصغرى لقمع ثورة إبراهيم أمير القرمان، فبعث إليه وفداً يطلب منه أن يدفع فوراً نفقات الأمير أورخان، ويدفعها مضاعفة، وإلا فإنه سيطلق سراح هذا الأمير ويثيره عليه ويمدّه بجيش من عنده ويجلسه على عرش السلطنة العثمانية!! ... ولا يبعد أن يكون ثمة تواطؤ وتآمر بين هذين الرجلين: إبراهيم وقسطنطين على الإيقاع بالفاتح والقضاء على دولته، وقد غرَّتهما حداثة سنه. ولا يبعد أن يكون قسطنطين قد أراد إظهار عضلاته حتى يخيف الفاتح ويختبر حقيقة نياته المبيَّتة. _______ (1) عاشق زاده تاريخي، صولاق زاده تاريخي، سعد الدين تاج التواريخ، منجم باستي.

وذهب رسل قسطنطين إلى محمد الفاتح بآسيا الصغرى يحملون إليه الإنذار والوعيد، فلم يرَ السلطان الفاتح أن يقابل هذا العدو بمثله قبل الانتهاء من أمر أمير القرمان، وكان فوق ذلك بعيداً عن مقرّ دولته بأدرنه في أوروبا، حتى لا يعمد قسطنطين إلى قطع خط الرجعة أو عرقلة خطوط مواصلاته وسد المسالك البحرية التي تربط بين جبهة القتال وقواعده ... لذلك أحسن مقابلة رسل قسطنطين ولايَنَهم في القول ووعدهم بالنظر في طلبهم. وما إن عاد السلطان إلى أدرنه، حتى أمر بإلغاء الراتب الذي خصّص لأورخان، وأخذ يعدُّ العُدَّة لحصار القسطنطينية والقضاء على هذه المدينة التي ما فتئت تهدد الدولة العثمانية من حين إلى حين. والواقع أنَّ تصرُّف محمد الفاتح مع رسل قسطنطين في تلك الظروف الحرجة التي كان يجتازها وهو في حرب لا يعلم أحد نتائجها، وخط رجعته تحت رحمة البيزنطيين، وخطوط مواصلاته البريَّة والبحرية تحت رحمتهم أيضاً؛ لذلك تمالك نفسه، وسيطر على أعصابه، وكتم نياته وأظهر الموافقة وهو يخفي الرفض، وعزم عزماً أكيداً على تحقيق حلم آبائه وأجداده في فتح القسطنطينية. لقد كان محمد الفاتح مع والده مراد الثاني في حرب الصليبيين، فشهد بنفسه الهلع الذي انتاب المسلمين عندما سمعوا بأنَّ جموع الصليبيين قد أحاطت بهم من البر والبحر، وسمع والده السلطان مراد قبل معركة (وارنه) يقسم: "لئن كشف الله عني هذا البلاء؛ لأزحفنَّ لساعتي إلى القسطنطينية"، وقد برَّ بيمينه فزحف إليها وحاصرها،

ولكن وسائله لم تعنه على فتحها. ولم يكن للسلطان مراد وهو شيخ كبير من العزم والقوة والمصابرة ما لابنه محمد، فكرَّر له قبل وفاته وصاة جدّه عثمان بفتح القسطنطينية، وأدرك السلطان الفاتح نفسه بأنه لن يستقر له أمن ولا طمأنينة ما بقيت القسطنطينية العاصمة الطبيعية لإمبراطوريته في يد أعدائه. لقد عانى العثمانيون ما عانوا من الدولة البيزنطية، وحين عجزت بيزنطة عن منازلتهم في ميادين القتال، عمدت إلى منازلتهم بالدسّ والمكيدة والفتنة، فهي تارةً تثير عليهم أمراء آسيا في الشرق، وتارة تؤلّب عليهم أمراء الغرب، وتارة تحرّض عليهم هؤلاء وهؤلاء وتغريهم بقتال العثمانيين. ولم ينسَ محمد الفاتح أنَّ بيزنطة هي التي حرَّضت تيمورلنك على قتال آبائه وأجداده، فسبَّبت ما نزل بالدولة العثمانية من نكبة وبلاء. ولم ينسَ أنَّ القسطنطينية تفتح أبوابها لكل خارج على الدولة العثمانية، كما كانت تعتقل الأمراء (العثمانيين) وتحبسهم لديها، ثم تهدّد بهم السلاطين العثمانيين وتطلقهم في اللحظة المواتية، وتجر على الدولة العثمانية بذلك حرباً أهلية دامية. وهو يعلم أنَّ طريق الاتصال بين الجزء الآسيوي من الدولة العثمانية والجزء الأوروبي منها تسيطر عليه القسطنطينية، وفي وسعها قطعه أو عرقلته، ولم يكن للعثمانيين أسطول يؤمّن لهم السيادة في بحر (مرمره)، وطالما هدَّدت القسطنطينية الجزء الأوروبي من الدولة العثمانية بالخطر الداهم، فكانت هذه المدينة شوكة في جسم الدولة

6 - التمهيد للفتح

العثمانية وخنجراً مسموماً لطعنها من الخلف في أخطر الظروف والأحوال (1). كان لا بدَّ من وضع حدٍّ نهائي لمشكلة القسطنطينية، وكان أمر فتحه بالنسبة للدولة العثمانية قضية حياة أو موت. ولكن السلطان الفاتح كان ملتزماً بعهدٍ قطعهُ على نفسه في بداية حكمه لقسطنطين: أن يسالمه ولا يحاربه إذا التزم قسطنطين بهذا العهد. ونقض قسطنطين العهد، فتحلَّل محمد الفاتح من عهده، فندم قسطنطين ولات ساعة مندم، وشعر بما يعدّه الفاتح، فتملَّكه الفزع واستخذت قواه وكفَّ عن تهديداته، بعد فوات الأوان. 6 - التمهيد للفتح: كانت مجمل خطة محمد الفاتح لفتح القسطنطينية: عزلها بقطع الاتصال بينها وبين البلاد الأخرى، وتطويقها بقوات جسيمة، والتضييق عليها بالحصار المديد، ودكّ حصونها بالمدفعية، ثم القيام بهجوم وإدامة زخم الهجوم، حتى تستسلم المدينة. وقد توقَّع محمد الفاتح أن تهب أوروبا المسيحية لنجدة قسطنطين، فكان أول ما قام به الفاتح من استعدادات عقد اتفاقات سلمية مع البندقية والمجر والأفلاق والبوسنة وغيرها من الدول والإمارات، وعقد هدنة مع هونياد المجري لمدة ثلاث سنوات. وشرع في بناء قلعة منيعة على الشاطئ الأوروبي من البسفور بإزاء _______ (1) انظر التفاصيل في: محمد الفاتح 43 - 46.

القلعة التي بناها بايزيد الأول على الشاطئ الآسيوي عند أضيق موضع من القناة، ليُحكِم بذلك إغلاق هذا الممر المائي ويحول دون وصول أي مساعدة قد تأتي من اتجاه البحر الأسود. وكانت القلعة الجديدة مواجهة لأسوار القسطنطينية وعلى بعد نحو خمسة أميال من تلك الأسوار. وقد استقدم الفاتح مواد البناء وآلاف العمال والبنّائين من جميع أنحاء إمبراطوريته، واشترك بنفسه مع كبار رجال دولته والقضاة والفقهاء في أعمال البناء، فخلعوا ملابسهم الزاهية الثمينة وانتشروا بين العمال وزاحموهم بمناكبهم في نقل الأتربة والأحجار ومواد البناء. وازدادت مخاوف قسطنطين واشتدَّ هلعه وتبخّر غروره، فلم يعد يطالب بمضاعفة نفقات الأمير أورخان، بل بعث إلى السلطان الفاتح يتضَّرع ويلتمس منه أن يكفّ عن بناء القلعة! وأجاب الفاتح رسل قسطنطين: "ليس فيما أقوم به ما يهدِّد مدينتكم، إنما هي أسباب الحيطة أَتَّخِذها لدولتي، وليس في ذلك أي نقض للعهد. إن لكم القسطنطينية بأسوارها، وليس لكم وراء ذلك من شيء! هل نسيتم ما انتاب والدي من الفزع عندما تحالف إمبراطوركم مع المجر وأراد منعه من عبور البحر إلى أوروبا، وسدَّت سفنه المضيق، فاضطرَّ مراد أن يستعين بالجنويين؟ لقد كنت حينذاك في أدرنه، وكنت لا أزال فتىً يافعاً، وقد ارتعد المسلمون من الخوف والفزع، وكنتم تسخرون منهم وتشتمون. لقد أقسم والدي في موقعة (وارنه) ليقيمنَّ قلعة ههنا على الشاطئ الأوروبي، وها أنذا أبرّ بيمينه،

وليس لكم الحق أو القوة في منع ما أقوم به الآن في أرضي، فإنَّ كلا الشاطئين لي. أما الشاطئ الآسيوي فلأنه يسكنه المسلمون، وأما الشاطئ الأوروبي فلأنَّ الروم قد هجروه، وأنتم لا تقدرون على الدفاع عنه. اذهبوا إلى سيدكم وأخبروه أن السلطان العثماني الآن يختلف عن أجداده، فإنَّ لي عزماً فوق عزمهم، وقوة فوق قوتهم .. انصرفوا الآن إلى دياركم بسلام، ووالله ما جاءني أحدٌ منكم بعد ذلك بمثل هذه الرسالة إلا قتلته" (1). ولم تمضِ ثلاثة أشهر حتى تمَّ بناء هذه القلعة الضخمة الجبَّارة، في شكل مثلث سمك جدارها عشرون قدماً، في كل زاوية منها برج ضخم مغطَّى بالرصاص سمكه اثنان وثلاثون قدماً. ونصبت على الشاطئ مجانيق ومدافع ضخمة وقد صوَّبت أفواهها على القناة تمنع السفن من المرور، ومن ثمّ سمّيت هذه القلعة الجديدة: (بوغاز كسن) أي قاطع البوغاز، وعرفت بعد ذلك بـ (رومللي حصار) أو قلعة الرومللي، ووقفت أمام أختها القلعة التي بناها (بايزيد) على الشاطئ الآسيوي والتي تدعى: (كوزل حصار) أي القلعة الجميلة أو (أناطولي حصار) التي أمر الفاتح بترميمها وتقويتها. وقد تمَّ بناء هذه القلعة الجديدة في شعبان سنة ست وخمسين وثمانمئة الهجرية (أواخر آب - أغسطس - 1452م). كان الهدف من بناء هذه القلعة الجديدة إلى جانب سيطرتها على _______ (1) قريتو وولوس، تاريخ سلطان محمد ثاني. أحمد مختار، فتح جليلي قسطنطينية، وانظر: محمد الفاتح 46 - 47.

مدخل البسفور، أن تكون قاعدة عسكرية لعملياته الحربية في أوروبا ومستودعاً لمواد التموين وللأسلحة والذخيرة. وتولىّ قيادة القلعة (فيروز آغا) وبإمرته أربعمئة من قوات الانكشارية، وكانت أوامر السلطان لهذه الحامية واضحة صريحة جازمة: ألاَّ يسمح لأية سفينة أجنبية بالمرور إلا بعد تفتيش دقيق ودفع الضريبة المقرَّرة، وإن أبت أن تطيع أطلقت عليها النيران وأغرقت. وفي اليوم الثاني عشر من شعبان سنة ستٍ وخمسين وثمانمئة الهجرية (28 آب - أغسطس 1452 م) قصد الفاتح على رأس قسم من قواته (1) القسطنطينية، ثم عاد بعد ثلاثة أيام إلى (أدرنه). كان هدفه من هذه العملية: استطلاع أسوار وأبراج المدينة واختبار مدى قوتها واستعدادها، ومن المؤكَّد أنَّ الفاتح كانت لديه معلومات مفصَّلة عن الأسوار المحيطة بالقسطنطينية والأبراج الموجودة فيها، ولكنه أراد أن يكمل تلك المعلومات باستطلاعه الشخصي، وأن يؤثِّر في معنويات الروم ويبلبل أفكارهم، فلا يعرفون بصورة أكيدة: أيريد حقاً فتح المدينة، أم يريد تهديدهم. ولعلَّه أراد بهذه الزيارة أن يختبر ردَّ فعل دول الغرب تجاه إقدام المسلمين على محاصرة القسطنطينية، ولعلَّه أراد بها تضليل قسطنطين بأن العثمانيين لا ينوون فتح عاصمته بل يريدون تهديده فحسب. ومضى الفاتح يكمل معدَّاته للحصار، لأنَّه أدرك أنه سيكون حصاراً طويلاً شاقّاً، ولكي يتم عزل القسطنطينية ويحكم تطويقها، _______ (1) كان تعدادها خمسين ألف جندي.

بعث قائده (طرخان) في شهر شوال (بداية تشرين أول - أكتوبر) إلى (المورة) لمناجزة حاكمَيْها توماس وديمتريوس ومنعهما من مساعدة أخيهما قسطنطين إمبراطور القسطنطينية، كما أرسل فريقاً من قواته لتطهير المناطق المجاورة لهذه المدينة. وبذلك أكمل الفاتح الأقسام التمهيدية من خطة فتح القسطنطينية، ومن الواضح أنه كان معنيّاً باستكمال أدق الاستحضارات، ليكون نجاح خطته مضموناً، فلا يترك ثغرة قد تؤدي إلى إخفاقه في فتح المدينة كما أخفق آباؤه وأجداده من قبل. كانت فكرة فتح القسطنطينية قد استحوذت على محمد الفاتح وسيطرت على جميع جوارحه، حتى كاد لا يتحدَّث إلا في هذا الأمر، ولا يأذن لأحد ممن يجالسونه بالحديث في غيره، لدرجة أن أصبح أمر الفتح همَّه الذي يشغله بالليل والنهار حتى أرَّقه وحرمه من النوم. وأقبل الشتاء، فاغتبط قسطنطين بذلك، وظن أنَّ البرد سيعوق الاستعدادات الحربية للعثمانيين، وبعث قسطنطين إلى الفاتح يحاول صرفه عما هو بسبيله، فقال الفاتح للرسل: "إذا كان إمبراطوركم يخشى الحرب، فليسلّم لي القسطنطينية، وأقسم أن جيشي لن يتعرَّض لأحد في نفسه أو ماله، ومَن شاء بقي في المدينة وعاش فيها في أمن وسلام، ومَن شاء رحل عنها وذهب لما أراد في أمن وسلام أيضاً" (1). وأيقن قسطنطين ألاَّ مناص من الحرب، فحاول تخريب قلعة _______ (1) Zia Sakir, Fatih Istanbulu Nasil Aldi.

(رومللي) التي بناها الفاتح، ولكن العثمانيين تصدَّوا للروم وردُّوهم على أعقابهم. وحدثت بعد ذلك مناوشات بين العثمانيين والروم، كما نشب القتال في بعض القرى المجاورة للقسطنطينية بين الطرفين هلك فيه كثير من الروم. وأحكم الفاتح الطوق على القسطنطينية، فاشتدَّ الذعر بقسطنطين، وأمر بإغلاق أبواب المدينة، وقبض على جميع من فيها من رعايا العثمانيين، وكان فيهم قسمٌ من غلمان السلطان الفاتح، فأطلق قسطنطين سراحهم وردَّهم إلى سيدهم وبعث معهم رسالة خطية إلى السلطان محمد يقول فيها: "لما كان من الجليّ أنّك تريد الحرب أكثر من السلام، ولما كنتُ غير مستطيع أن أقنعك بإخلاصي واستعدادي لأن أكون لك تابعاً، لذا فالأمر لله، وسأوجّه وجهي إلى الله، فإذا كانت إرادته تقضي بأن تصبح هذه المدينة مدينتك، فلا مردَّ لقضاء الله وقدره. وأما إذا ألهمك الرغبة في السلام، فسأكون سعيداً ما بقيت، ومع ذلك فإني أعفيك من كلّ تعهداتك واتفاقاتك معي، وسأغلق أبواب هذه المدينة وأدافع عن شعبي إلى آخر قطرة من دمي ... ". 7 - محاولات قسطنطين: وجدَّ قسطنطين في إصلاح أسوار المدينة وأبوابها وتكديس المواد التموينية والأسلحة والعتاد وإعداد قواته المسلحة للقتال. وبعث قسطنطين إلى الغرب مرة أخرى يستغيثه ويستنجده، وأعلن في رسالته للبابا أنه قد قبل ما قرَّره مجمع فلورنسة في توحيد

الكنيستين الشرقية والغربية، وطلب إليه أن يرسل مَن ينفِّذ ذلك، واستعجله في إرسال المعونة والنجدة. ولم يكن موقف ملوك الغرب وأمرائه تجاه القسطنطينية في هذه المرة خيراً من موقفهم من قبل، فقد شغلتهم منازعاتهم ومشاكلهم الخاصة عن تلبية استغاثة قسطنطين، وكان للاختلافات الطائفية بين الكنيستين الشرقية والغربية أثر في سكوت حكام الغرب عن نجدة البيزنطيين. ومع ذلك بدأت قوات رمزية بسيطة ترد إلى القسطنطينية، قد لا يكون لها أثر مادي على سير المعركة، ولكن كان لها أثر معنوي لا شكَّ فيه، خاصة في سكان المدينة الذين استبدَّ بهم الخوف والهلع من مصيرهم المرتقب. فقد جاءت سفينتان من البندقية استطاعتا أن تمرقا إلى البسفور وتلقيا مراسيهما في القرن الذهبي. وجاء الكاردينال (إيزيدور) مبعوث بابا روما ومعه مئتا مقاتل لنجدة المدينة ولإتمام توحيد الكنيستين الشرقية والغربية، وتبعته ثماني سفن من جزيرة (كريت) تحمل النبيذ للمحاصَرين. ثم جاء المغامر الجنوي (جون جستنيان) (1) على سفينة محمَّلة بالمؤن والذخائر، ومعها سفينة أخرى، وكان معه سبعمئة مقاتل. وقد استقبله الإمبراطور استقبالاً رائعاً وعيَّنه قائداً عاماً للقوات المدافعة عن القسطنطينية. _______ (1) وصل القسطنطينية في 18 محرَّم سنة 857 هـ (29 يناير 1453 م).

وبدأ القائد العام الجديد ينظّم أمر الدفاع عن القسطنطينية، فوضع مدافعه الصغيرة على الأسوار، وقسَّم المدافعين على حسب شعوبهم وأجناسهم، وخصص لكلٍّ واجباته، وقام بتدريب الرهبان والمدنيين الذين يجهلون فنّ الحرب وليس لديهم من وسائلها إلا الحماسة لها، والرغبة في قتال المسلمين، لإنقاذ مدينتهم وسكانها والتضحية بأرواحهم فداءً لها. وخصص الإمبراطور لجون جستنيان وأتباعه مهمة الدفاع عن النقط الخطيرة والأبواب المهمة، وكان جون مقاتلاً مغواراً ذائع الصيت في الشجاعة والمهارة في فنون القتال، وقد جاء من تلقاء نفسه للدفاع عن القسطنطينية عندما علم بما حاق بها من خطر، فوعده قسطنطين بأن يكافئه بجزيرة من جزر الأرخبيل إذا ما صدَّ الأتراك ونجت القسطنطينية من أخطارهم. لقد تمخَّضت دول أوروبا، فولدت نحو ألف مقاتل نجدة للقسطنطينية، فنافست بذلك الجبل الذي تمخَّض فولد فأرة! وقرَّر قسطنطين الاعتماد على نفسه وعلى مناعة القسطنطينية للدفاع عنها، كما قرَّر وضع سلسلة لإغلاق ممر القرن الذهبي أمام السفن المعادية (1)، تبدأ من طرف المدينة الشمالي وتنتهي عند حي (غلطه)، تلك المدينة الجنوبية المستقلة التي ترك لسكانها أمر حمايتها عند طرفها الشمالي، وهذه السلسلة هي التي وقفت أمام الأسطول العثماني وعملت على حماية السفن البيزنطية التي تجمَّعت وراءها، وكان لها شأن كبير ودور هام في الدفاع عن المدينة المحاصَرة. _______ (1) سد مدخل القرن الذهبي في 12 نيسان - أبريل - 1453م.

8 - إكمال الإعداد

8 - إكمال الإعداد: في خلال ذلك كان محمد الفاتح في عاصمته (أدرنه) يضاعف أهبته بعزم لا يعرف الكلل، وكانت قواته المسلحة تحشد في العاصمة التي أصبحت معسكراً كبيراً، وقد تجمَّع فيها الجنود العثمانيون من آسيا وأوروبا من النظاميين والمجاهدين، وكانت حماسة الجيش العثماني للقتال عظيمة، وكان رجاله يعتقدون بأنهم يؤدُّون مهمة سامية في الحياة ويقومون بحرب مقدَّسة يبتغون من ورائها المثوبة من الله وينتظرون نصره، يشاركهم الشيوخ وعلماء الدين ويشدُّون أزرهم ويستثيرون روح الجهاد والتضحية في الجند. وفي تلك الأثناء حضر إلى الفاتح المهندس المجري (أوربان) وهو أمهر صانع للمدافع في زمانه، وكان قد طاف ببعض بلدان أوروبا وعرض صناعته على بعض ملوكها، فلم يصغِ إليه أحد. وقصد هذا المهندس القسطنطينية ولبث هناك زمناً يعرض خدماته على قسطنطين، غير أن الإمبراطور ضنَّ عليه بالمال. وفرَّ أوربان إلى محمد الفاتح الذي استقبله استقبالاً حسناً، وبالغ في الحفاوة به، وفتح له أبواب خزائنه وغمره بالمال والعطايا، وعرف كيف يستغله أحسن استغلال، وسهَّل له كل الوسائل لإتمام إنتاج المدافع، ووضع تحت تصرفه ما طلبه من آلات وعمَّال فنيين. وسأله السلطان: "هل يمكنك أن تصنع مدافع أضخم من التي صنعتها حتى الآن"؟

وأجاب أوربان: "في استطاعتي أن أصنع لك مدفعاً يدكّ أسوار القسطنطينية ولو كانت في مناعة أسوار بابل، غير أني مهندس ولست جندياً فلا أعرف أين توضع المدافع". وضحك محمد الفاتح وقال: "أنا الجنديّ ما عليك إلاَّ أن تصنع المدافع التي أريدها، أما أين توضع وكيف تصوَّب، فدع ذلك لي". وشرع أوربان في صنع المدافع، يعاونه في ذلك المهندسان التركيان صاربجة ومصلح الدين، ويشرف عليهم السلطان بنفسه. وبعد ثلاثة أشهر صنع المدافع التي طلبها منه الفاتح، وكان من بينها مدفع ضخم عملاق لم يُرَ مثله قطّ في ضخامته وكبر حجمه، يزن سبعمئة طن وتزن القنبلة الواحدة التي يطلقها هذا المدفع اثني عشر ألف رطل، ويجرّه مئة ثور يساعدها مئة من الرجال الأشداء يزحفون به زحف السلحفاة. وعندما أُريد تجربته لأول مرة في أدرنه أنذر السلطان سكان المنطقة، فسمع دويّه على بعد ثلاثة عشر ميلاً، وسقطت قذيفته على بعد ميل، وغاصت في الأرض ستة أقدام. وقد قطع هذا المدفع الطريق من أدرنه إلى مربضه أمام أسوار القسطنطينية في شهرين، وهو طريق يقطع عادة في يومين!!. وصنع أوربان إلى جانب هذا المدفع الضخم الذي دعوه بـ (المدفع السلطاني) لأنه سلطان المدافع، مدافع أخرى من عيارات مختلفة، فأصبحت بذلك قوة المدفعية العثمانية متفوّقة على قوى المدفعية كلها في العالم، وكان لهذا التفوُّق أثره الحاسم في فتح القسطنطينية وفي فتوح العثمانيين في أوروبا وغيرها في أيام محمد الفاتح وخلفائه من بعده.

9 - الزحف

ورأى السلطان الفاتح أنَّ الطريق إلى القسطنطينية من ناحية الدردنيل لا تزال مفتوحة، تدخل منها السفن المعادية وتخرج في حرية تامة، فأمر بالإسراع في بناء سفن جديدة وإصلاح السفن القديمة وحشدها في بحر مرمرة لمنع أي سفينة معادية من تموين القسطنطينية، وقد بلغ عدد هذه السفن على اختلاف أنواعها وأحجامها أربعمئة سفينة (1)، كان المسلَّح منها تسليحاً تاماً اثنتي عشرة سفينة فقط. وفي يوم الجمعة العشرين من شهر ربيع الأول سنة سبع وخمسين وثمانمئة الهجرية (30 من آذار - مارس - 1453م) كان الفاتح قد أتمَّ استعداداته العسكرية: طهَّر المنطقة المحيطة بالقسطنطينية من العدوّ وسيطر عليها وضمن عدم معاونة الدول المسيحية القريبة من القسطنطينية لها عند نشوب القتال، وكدَّس الأسلحة والعتاد والذخيرة والقضايا الإدارية وسيطر على المنافذ المائية للقسطنطينية، وحشد القوات المسلَّحة النظامية وغير النظامية، وحرَّض قوَّاته على القتال، وبثَّ فيهم روح الجهاد، ورفع معنوياتهم بالعقيدة الراسخة المستمدَّة من تعاليم الدين الحنيف. 9 - الزحف: زحف محمد الفاتح بجيشه إلى القسطنطينية، وما إن وصل إلى مشارف المدينة حتى خطبهم خطبة بليغة حثَّهم فيها على الجهاد وصدق القتال، وقرأ عليهم في ذلك الآيات القرآنية والأحاديث النبوية المبشّرة بفتح القسطنطينية، وأبان لهم أي أجر يحوزون بفتحها الذي سيعزّ _______ (1) هناك تقديرات أخرى تذكر أن عدد السفن بين 350 إلى 300 إلى 250.

الإسلام ويرفع قدره بين الأمم. وكان في طليعة الجيش: الشيوخ والعلماء والدراويش يتقدَّمهم الشيخ العالم العامل آق (1) شمس الدين والمولى أحمد الكوراني والمولى خسرو والأشراف من آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، وكان الجميع يدعون الله أن ينصر جيش المسلمين ويبيّض وجوه المقاتلين. وفي يوم الخميس السادس والعشرين من شهر ربيع الأول سنة سبع وخمسين وثمانمئة الهجرية (5 من نيسان - أبريل - 1453 م) بلغ الجيش الإسلامي أمام أسوار القسطنطينية، وكان منظراً من أروع ما روى التاريخ: جموع زاخرة من الجند بين مشاة وخيّالة ومدفعية وهندسة ... إلخ ... بأعلامهم الخفَّاقة المزهوة، وقوافل النقلية مثقلة بمواد التموين والعتاد والذخيرة. واختلطت صيحات الرجال بصهيل الخيل، وامتزج التكبير بالموسيقى العسكرية (2)، وكانت تعلو رؤوس الناس عمائم بيض هي عمائم العلماء العاملين. ولما آن وقت صلاة الظهر نشر السلطان سجادته واستقبل القبلة وكبّر للصلاة وكبّر الجيش اللجب في صوت جهير رهيب وراء إمامه وقائده. وشرع السلطان بعد ذلك يتأهَّب لحصار القسطنطينية، فعبَّأ جنده ونظَّمه ووزَّع العدد والآلات، ووضع كل شيء في موضعه ونسَّقه تنسيقاً يدلّ على براعته الفائقة في الفنون العسكرية. _______ (1) آق: الأبيض، الأبرش، وآق شمس الدين: شمس الدين الأبرش أو الأبيض. (2) كان العثمانيون أول من عرف الموسيقى العسكرية في العالم، وعنهم أخذت جميع أمم أوروبا. Sir Elward Greasy. History Of The Ottoman Turks.

10 - الحصار

10 - الحصار: وفي اليوم التالي، يوم الجمعة السابع والعشرين من ربيع الأول سنة سبع وخمسين وثمانمئة الهجرية (6 من نيسان - أبريل - 1453 م) بدأ حصار القسطنطينية. ولكي ندرس خطة الفاتح في الحصار، لا بدَّ لنا من معرفة طبيعة المدينة المحاصَرة وأبرز عوارضها الطبيعية والصناعية - بخاصة التي سيرد ذكرها في عمليات الحصار والفتح. مدينة القسطنطينية مثلثة الشكل، جانب منها على بحر (مرمرة) وجانب على ميناء القرن الذهبي، ويمتدّ على طول كلٍّ منهما سور واحد. أما الجانب الثالث فيقع في الجهة الغربية ويصل المدينة بأوروبا وحوله خطان من الأسوار طولهما أربعة أميال يمتدَّان من شاطئ بحر (مرمرة) إلى شاطئ القرن الذهبي، يبلغ ارتفاع السور الداخلي منهما نحو أربعين قدماً، وقد دُعِمَ بأبراج طولها ستون قدماً، والمسافة بين كلّ برج وآخر نحو مئة وثمانين قدماً. ويبلغ ارتفاع السور الخارجي نحو خمسة وعشرين قدماً، وقد حُصّن بأبراج شبيهة بأبراج السور الداخلي، وإن كانت أصغر حجماً من الأولى قليلاً، وهذا السور الخارجي وحده كان من القوة والمناعة بحيث يكفي لحماية أي مدينة من مدن العصور الوسطى. وبين هذين السورين: الداخلي والخارجي؛ أرض مكشوفة متوسط عرضها نحو خمسين أو ستين قدماً. ويقع أمام السور الخارجي سور ثالث ليس بذي خطر، يسهل اقتحامه ويمكن أن نطلق عليه: متراساً، وبين السور الخارجي والمتراس أرض مكشوفة

أيضاً، أمامها مباشرة خندق واسع يبلغ عرضه نحو ستين قدماً، ويعتبر هذا الخندق الخط الدفاعي الأمامي عن القسطنطينية. وللسور الخارجي أبواب كثيرة، والتي جاء ذكرها في أثناء الحصار هي: باب (أدرنه)، وباب المدفع (طوب قبو) وكان القدماء يسمُّونه باب القدّيس رومانوس، والباب العسكري. لقد خُلقت القسطنطينية صالحة للدفاع عنها إلى أبعد الحدود برّاً وبحراً، لذلك استعصى فتحها على الغزاة عبر القرون الطويلة. وعوارضها الطبيعية والصناعية، جعلت من الميسور الدفاع عنها بقوات صغيرة بالنسبة لقوات المهاجمين. ***

مخطط للخطوط الدفاعية عن القسطنطينية

لذلك كانت مهمة محمد الفاتح في فتح القسطنطينية شاقة وعسيرة، فلا عجب أن يبذل ما بذله من جهود جبَّارة مضنية إعداداً لقواته المسلَّحة البحرية والبريّة على حدٍّ سواء، وفتح خزائنه على مصراعيها لإكمال استعداداته العسكرية، حتى ينهض بهذا الواجب الشاق العسير. كانت خطة الفاتح لحصار المدينة تتلخَّص بتقسيم قوَّاته إلى ثلاثة أقسام: أ) الميمنة، وتتألف من جنود الأناضول بقيادة إسحاق باشا ومحمود بك، وتمتدّ من بحر مرمرة أقصى جناحها الجنوبي إلى (طوب قبو). ب) الميسرة، وتتألف من جنود أوروبا والمجاهدين والجنود غير النظاميين بقيادة (قره جه باشا)، وتمتدّ من ميناء القرن الذهبي أقصى جناحها الشمالي إلى باب (أدرنه) بمواجهة السور. ج) القلب، ويتألف من جنود الانكشارية والجنود المختارة بقيادة محمد الفاتح، ويواجه الجزء الأوسط من السور الذي يمتد من (طوب قبو) إلى باب (أدرنه)، وهذا الجزء من السور يعتبر أضعف جزء فيه، إذ يقع في وادي (ليكوس)، وقد وجَّه إليه أشد الهجوم. وقد أقام الفاتح مقرّ قيادته خلف القلب. والواقع أن هذه الخطَّة مرنة جدّاً، إذ ولَّى كل قسم من أقسام جيشه قيادة خاصة به، وأعطى حرية العمل للقادة ضمن قواطعهم تطبيقاً للخطة العامة وتنفيذاً لتفاصيلها، ومع ذلك سيطر على زمام القيادة العليا، لتأمين التعاون الكامل بين قواته في الحصار. ولكي يحرم القسطنطينية من معاونة الجنويين في حي (غلطه) أمر

زغنوس باشا مع فرقته بالتعسكر على المرتفعات المشرفة على هذا الحي، لمراقبة الجنويين ومنعهم من إمداد المدينة المحاصَرة ومراقبة الشاطئ الشمالي من القرن الذهبي، وأمره الفاتح أن يقيم جسراً عند نهاية الميناء لتسهيل الاتصال ونقل الجنود من إحدى الضفتين إلى الأخرى عند الحاجة، وليتمكن من الاشتراك في الهجوم على المدينة من ناحية البر، وبذلك أصبحت فرقة زغنوس احتياطاً عاماً لقوات الفاتح بالإضافة إلى واجباتها الأخرى. ونصب السلطان أمام السور البري المدافع بالنسبة لمدياتها، فوضع ذات المدى القصير قريبة من الأسوار وحماها بالجنود والتحصينات، ووضع ذات المدى المتوسط خلفها، ووضع ذات المدى الطويل خلف المدافع الثانية، وبذلك رتَّب مدفعيته بالعمق، ووضع لها خطة مفصَّلة لقصف الأسوار. وكانت المدفعية العثمانية مؤلفة من أربع عشرة سرية مدفعية (1)، وقد نصب المدفعية الضخمة منها مقابل باب رومانوس، ومنذ ذلك الوقت عرف هذا الباب باسم: (طوب قبو) (2). وانتشرت السفن العثمانية في بحر (مرمرة) لمنع ما قد يأتي من السفن المعادية من الغرب لإنجاد القسطنطينية ومراقبة السور الواقع على بحر (مرمرة). وقد أمر السلطان قائد بحريته (بالطه أوغلي) بتطهير بحر (مرمرة) والاستيلاء على جزر الأمراء (3)، وقد استولى عليها بالطه أوغلي وانتشل منها المعتقلين والمسجونين من السجون والدهاليز المظلمة التي كانوا فيها وأطلق سراحهم، ثم وضع في هذه الجزر حاميات عثمانية. _______ (1) سرية مدفعية: بطرية مدفعية. (2) طوب قبو: باب المدفع. (3) تقع هذه الجزر في وسط بحر مرمرة، وكانت منفى لأباطرة الروم وأمرائهم، لذلك سمّيت بجزر الأمراء.

خريطة

وخشي قسطنطين أن تقتحم هذه السفن ميناء القرن الذهبي وتحاصر المدينة من تلك الناحية، فقد كان السور القائم هناك أضعف الأسوار كلها، ومن هذا الجانب دخل الصليبيون القسطنطينية سنة إحدى وستمئة الهجرية (1204 م)، فشدَّد الحراسة على هذا الميناء. كما أعدَّ قسطنطين كل ما استطاع إعداده من جند وعتاد ومواد تموينية لمقاومة هذا الحصار ومحاولة صدّه، ووزع جنوده على أسوار القسطنطينية، واتَّخذ هو مقرَّه جانب قلب الجيش العثماني ما بين باب (أدرنه) و (طوب قبو) ومعه القائد الجنوي (جستنيان) الذي ولاَّه منصب قائد الدفاع العام كما ذكرنا سابقاً. وقد اختلف المؤرخون في تقدير الجيش العثماني، فالمؤرخون البيزنطيون القدامى (1) يبالغون في تقديره ويرفعونه إلى ثلاثمئة ألف مقاتل أو أربعمئة ألف مقاتل. ومن الواضح - كما قال الأستاذ (مازاس) -: "إنَّ هؤلاء المؤرخين يبالغون في تعداد الجيش العثماني بقصد تهوين شأن الهزيمة التي نزلت بالروم" (2) وتهوين شأن النصر الذي أحرزه العثمانيون. ويقدِّر قسم من المؤرخين الغربيين الجيش العثماني بمئة وخمسين ألفاً أو مئة وستين ألفاً وهو تقدير أقرب إلى الاعتدال، وإليه ذهب قسم من المؤرخين العثمانيين أنفسهم (3). أما المدافعون عن القسطنطينية، فقد اتفق الكتَّاب المعاصرون من _______ (1) أمثال فرانتزتس ودوكاس وخالكونديل إلخ ... (2) Mazars, Les Hommes Illustres. (3) أحمد مختار، فتح جليل قسطنطينية.

الروم على وجه يشبه الإجماع على تقديرهم بثمانية آلاف مقاتل، ويكاد يُجمع المؤرخون الأوروبيون المحدثون على الأخذ بهذا التقدير، وقدَّروا أنَّ نصف هؤلاء المدافعين من الروم، والنصف الآخر من اللاتين. أما مؤرخو الأتراك المحدثون (1)، فيستبعدون هذا التقدير ويستقلُّونه ويرونه نوعاً من الاعتذار للروم عن هزيمتهم، وهم يعدُّون عدد المدافعين بما لا يقلّ عن ستين ألفاً. والواقع أن تقدير الروم عدد المدافعين بثمانية آلاف مقاتل ليس معقولاً، إذ شارك في الدفاع عن القسطنطينية حتى الرهبان والقسس وغيرهم من المدنيين دفاعاً عن دينهم أو حمية. كما أن المدينة المحاصَرة استوعبت كل الروم الذين أجلوا عن مدنهم وقراهم التي فتحها العثمانيون قبيل فتح القسطنطينية وتكدَّسوا في داخل المدينة المحاصَرة. فإذا قدَّرنا عدد الروم في القسطنطينية بما لا يقل عن نصف مليون نسمة، فإن الجيش المدافع عنها لا يقل عن خمسين ألف مقاتل، لأن القاعدة العسكرية تنصّ على أن القادرين على حمل السلاح من مجموع السكان يبلغ عشرة بالمئة. والقاعدة العسكرية في قتال المدن، تنصّ على أن نسبة المهاجم إلى المدافع تكون ثلاثين للمهاجم وواحداً للمدافع، نظراً لاحتماء المدافع بالحصون والقلاع والأسوار والأبنية والشوارع والمزارع والبساتين. _______ (1) كأحمد مختار باشا وضياء شاكر.

11 - المناوشات

فإذا قدَّرنا عدد المدافعين من الروم بما لا يقل عن خمسين ألف مقاتل، فإن انتصار العثمانيين عليهم وهم بين ثلاثمئة ألف مقاتل وأربعمئة ألف مقاتل يعتبر مفخرة للعثمانيين، لأن نسبة المهاجمين إلى المدافعين لا تزيد على ستة على واحد أو ثمانية على واحد في أكثر تقدير. تلك هي الحقيقة، أما الدفاع عن هزيمة الروم بشتَّى المعاذير، فلا سند له نتيجة للدراسة العسكرية الفنية. 11 - المناوشات: أخذت المدفعية العثمانية تقصف أسوار القسطنطينية ليلاً ونهاراً، وكان لاصطدام القنابل بالأسوار دويٌّ هائل يملأ نفوس سكان القسطنطينية رعباً وهلعاً وبخاصة في ساعات الليل الهادئ البهيم، وقد أثَّر ذلك في معنويات المحاصَرين تأثيراً سيئاً. واستبسل الفريقان، فكان المدافعون يبادرون فوراً إلى إصلاح ما يصيب الأسوار من عطب، بينما يندفع العثمانيون بين الحين والحين بكلّ بسالة وإقدام لاقتحام الأسوار. واستطاعت المدفعية العثمانية أن تهدّ جزءاً من السور الخارجي عند وادي (ليكوس)، فاندفع العثمانيون نحو الثغرة في اليوم الثامن عشر من نيسان - أبريل - 1453 م وتسلَّقوا السور بالسلالم. وقذف (جستنيان) بجميع جنوده المدرَّعين إلى موضع الثغرة، فاشتدَّ القتال بين الطرفين وانهمرت السهام والنبال من كل جانب حتى حل ظلام الليل، فأمر الفاتح رجاله بالانسحاب بعد أن استحصل على

مزيد من المعلومات عن الروم. وفي نفس ذلك اليوم، حاولت بعض السفن العثمانية تحطيم السلسلة القائمة على مدخل ميناء (القرن الذهبي) واقتحامه، ولكن سفن الروم والطليان التي كانت أكثر ارتفاعاً من السفن العثمانية الصغيرة القصيرة، استطاعت صبّ قنابلها ونيرانها على السفن العثمانية وصدّها بعد تكبيدها خسائر بالأرواح والسفن. هذان النصران التعبويان في البرِّ والبحر، رفعا معنويات المدافعين عن القسطنطينية من جهة، وشحذا همم العثمانيين من جهة أخرى. وفي صبيحة الجمعة أحد عشر من ربيع الأول (في صبيحة اليوم العشرين من نيسان - أبريل - 1453 م) ظهرت في بحر (مرمرة) خمس سفن قادمة من الغرب تحمل الرجال والمعدَّات والمؤن: أربع منها بعث بها البابا وجنوا، والخامسة للأمبراطور، وكان سكان القسطنطينية يتوقَّعون وصول مثل هذا المدد ويترقَّبونه. وما إن علم الفاتح بأمر هذه السفن حتى ترك مقرَّه وأسرع على حصانه إلى شاطئ (غلطه) وأمر قائد بحريته (بالطه أوغلي) بملاقاة هذه السفن وقال له: "إما أن تستولي على هذه السفن وإما أن تغرقها، وإذا لم توفق في ذلك فلا ترجع إلينا حيّاً". وتحفَّز (بالطه أوغلي) في مجموعة من سفنه لملاقاتها وقتالها، ووقف السلطان مع رجاله على ساحل (غلطه) ينتظرون المعركة، ولكن سفن العثمانيين لم تقوَ على مصاولة السفن النصرانية الخمسة، لأن السفن العثمانية بنيت قبيل البدء في حصار القسطنطينية على عجل، فجاءت غير محكمة البناء ولا متقنة الصنع. ولم يكن هناك في السفن

العثمانية غير ثماني عشرة سفينة كانت على شيء من القوة، أما سائر السفن فكانت لا تعدو أن تكون قوارب صغيرة مكشوفة مملوءة بالجند، ولم تكن مسلَّحة بالمدافع، ذلك أن العثمانيين كانوا حديثي العهد بالبحرية وأساليب قتالها، وكان الطليان في ذلك الحين سادة البحر بلا منازع. وكانت السفن النصرانية فوق ذلك محكمة البناء متفوِّقة بالحجم والقوة كاملة العدة والعتاد، وقد لبس رجالها الدروع والزرود، وأخذوا يطلقون قنابلهم ونيرانهم الفتَّاكة على القوارب العثمانية الصغيرة، وهي تحاول بمجاذيفها الخشبية مغالبة الريح الشديدة التي كانت تعوقها عن التقدُّم. وسكنت الريح فجأة، فتوقَّفت السفن الخمس عن المسير وانكمشت أشرعتها، وكانت قد قاربت مدخل (القرن الذهبي). وانتهز (بالطه أوغلي) هذه الفرصة، فانقضَّ بسفنه على السفن الخمس محاولاً إحراقها بالنار، ولكن سرعان ما يصبّ عليها الماء فيطفئها. وعاود (بالطه أوغلي) الهجوم مرة بعد أخرى، حتى أصيبت إحدى عينيه. واحتدم القتال، واستقتل العثمانيون، وتساقط منهم عدد كبير من الشهداء. وكان الفاتح على شاطئ (غلطه) يراقب المعركة بعين لا تطرف وهو لا يكاد يستقر فوق ظهر جواده، فلمَّا رأى ما حاق برجاله من قتل وسفنه من تدمير، لم يتمالك نفسه فاندفع نحو البحر حتى غاص جواده إلى صدره. وكانت السفن على مرمى حجر منه، وكان يلوّح لبالطه أوغلي بأعلى صوته: "يا قبطان ... ! يا قبطان ... ! ".

12 - سفن البر

وكانت الشمس قد بدأت تغيب، وفجأة هبَّت الريح من الجنوب قوية فنشرت السفن الخمس أشرعتها ومرقت من بين السفن العثمانية بخفّة واندفاع وانفلتت إلى (القرن الذهبي)، حيث أنزلت السلسلة الضخمة، ثم شدَّها الروم مرة أخرى ووصلت السفن الخمس سالمة. وهكذا انتهت معركة (غلطه) البحرية بخسارة فادحة في السفن والبحارة العثمانيين، فخرج السلطان من الماء وقد ابتلَّت أطراف ثيابه وعلاها ماء البحر الممزوج بالدم، وعاد إلى معسكره وهو مُطرق في صمت رهيب. أما سكان القسطنطينية فقد غمرتهم موجة من الفرح والاغتباط بما أحرزوه من نصر، وزاد أملهم وثقتهم في المستقبل، ولاح لهم أنهم سيهزِمون العثمانيين ويردُّونهم على أعقابهم عن أسوار القسطنطينية. أما السلطان فقد أنَّب (بالطه أوغلي) وعزله من منصبه وعيَّن مكانه حمزة باشا. كما استفاد الفاتح من مدفعيته، فضاعف قصفها للأسوار، في محاولة لرفع معنويات رجاله والتأثير في معنويات المدافعين عن القسطنطينية. 12 - سفن البر: أخذ السلطان يفكِّر في خطة تؤدي إلى إدخال سفنه في القرن الذهبي للسيطرة على هذا الميناء وحصار القسطنطينية من أضعف جوانبها وإضعاف الدفاع عن السور البري وتشديد المراقبة على سكان

مدينة (غلطه) من الجنويين الذين يعملون بوجهين: وجهٌ معه ووجهٌ مع أعدائه، ثم تسهيل المواصلات مع قاعدته في (رومللي حصار). وقد حاولت السفن العثمانية مرات عديدة تحطيم السلسلة الضخمة القائمة عند مدخل الميناء فلم توفَّق، وكان أحد طرفي السلسلة يقع في شاطئ (غلطه) مدينة الجنويين، وكانت العلاقة بينهم وبين السلطان علاقة سلام وإن كانوا يميلون بعواطفهم إلى الروم ويتمنَّون لهم النصر. ولاحت للسلطان فكرة بارعة هي نقل السفن العثمانية من مرساها في (بشكطاش) إلى (القرن الذهبي)، وذلك بجرِّها على الطريق البرّي الواقع بين الميناءين مبتعداً عن حيّ (غلطه) خوفاً على سفنه من الجنويين. كانت المسافة بين الميناءين نحو ثلاثة أميال، ولم تكن أرضاً مبسوطة سهلة، بل كانت وهاداً وتلالاً. وأمر الفاتح فعبّدت الأرض وسوِّيت، وأتى بألواح خشبية دُهنت بالزيت والشحم ورصفت على الطريق الممهَّد لها بطريقة تسهل انزلاق السفن عليها وجرّها، واختار السفن الخفيفة وأمر بتزليقها على هذه الألواح المدهونة فنشرت أشرعتها وجرّها العمّال فسارت وكأنَّها تجري على البحر. وكان أصعب جزء من الطريق هو نقل السفن على انحدار التلال المرتفعة، إلاَّ أنَّه بصفة عامة كانت السفن العثمانية صغيرة الحجم خفيفة الوزن نسبياً.

وقد تمَّ للسلطان نقل السفن في ليلة واحدة هي ليلة 21 - 22 نيسان (أبريل سنة 1453 م)، وكان مجموع ما نُقل في تلك الليلة سبعين سفينة نقلت من البسفور إلى القرن الذهبي عبر الطريق البرّي. وقد صرف الفاتح أنظار الروم في القسطنطينية والجنويين في (غلطه) وهم أقرب الناس إلى اكتشاف نقل السفن، فقد نصب على الهضاب الواقعة خلف أسوار (غلطه) كثيراً من المدافع فقصفت ميناء (القرن الذهبي) بخاصة قصفاً مركّزاً طيلة يوم 11 نيسان - أبريل -، وقد أصيبت إحدى سفن الروم فغرقت، كما احتمت بقية السفن بأسوار (غلطه). وفي نفس الوقت حاولت السفن العثمانية عدَّة مرَّات اقتحام السلسلة القائمة عند مدخل القرن الذهبي دون جدوى. كما ضاعفت المدفعية القائمة تجاه السور البرّي للقسطنطينية قصفها الشديد ليلاً ونهاراً. وقد نجحت هذه الخطة في صرف انتباه الروم والجنويين عما كان يجري من نقل السفن برّاً، لذلك لم يحاول أحد عرقلة نقلها بهجوم مضاد أو قصف بالمدفعية. كانت هذه الخطة الجريئة الحصيفة مباغتة كاملة للروم، مع أن فكرة نقل السفن برّاً فكرة قديمة استخدمت في الماضي، ولكن تطبيقها وتنفيذها بهذه السرعة وبهذه الدقة وبهذا الكتمان جعلها مباغتة للروم أثَّرت في معنوياتهم أسوأ تأثير. فقد استيقظ أهل القسطنطينية في صباح يوم 22 نيسان - أبريل - على صيحات المسلمين: "الله أكبر ... الله أكبر"، تمتزج بأنغام

13 - القتال البحري

موسيقاهم العسكرية، عقب نزولهم في ميناء (القرن الذهبي)، وأطلُّوا من فوق أسوارهم ليروا تحت أعينهم سبعين سفينة عثمانية في الميناء برجالها ومعدَّاتها، فانتابهم الهلع والفزع وانهارت معنوياتهم انهياراً شديداً. ودفعت السفن العثمانية إلى أعلى الميناء حيث الماء ضحضاح وتحميها القوات البرية العثمانية من الضفتين، فلا تجرؤ السفن المعادية الراسية في الميناء على الدنوّ منها، وأمر السلطان الفاتح بعد ذلك بأن يُبنى جسر عائم، فجمعت الصفائح والصناديق الخشبية وشُدّت ببعضها بالكلاليب والحبال الضخمة، وثبتت عليها ألواح من الخشب، ثم نُصبت عليها المدافع لقصف الجانب المواجه للميناء من أسوار القسطنطينية، فأصبحت سفن الروم في (القرن الذهبي) مطوَّقة من جانبين بالسفن العثمانية: من أعلى الميناء ومن خارجه أيضاً، وهي لا تكفُّ عن محاولة تحطيم السلسلة القائمة عند مدخله، فأصبحت السفن النصرانية بذلك في خوف دائم وحذر شديد. 13 - القتال البحري: واضطر قسطنطين أن يضع في جانب السور المشرف على ميناء (القرن الذهبي) عدداً مناسباً من الجنود لحمايته ومراقبة السفن العثمانية. ثم دعا (جستنيان) وبعض كبار رجال الجيش واجتمع بهم في كنيسة (سانت ماري) وشاورهم في أمر السفن العثمانية التي استقرَّت في ميناء القرن الذهبي، فأجمع رأي المؤتمرين على وجوب التخلُّص منها وذلك بمباغتتها ليلاً وإحراقها.

وأخذ (جاكومو كوكو Jacomo Coco) من أهل البندقية على نفسه قيادة هذه الحملة التدميرية، فتسَّرب الخبر إلى الجنويين في (غلطه) فأبلغوه إلى السلطان الفاتح. وفي نفس الوقت أرسلوا وفداً إلى المؤتمرين طالب قسطنطين بعدم الاستعجال في أمر خطير كهذا، وأن يشاركوهم في الحملة التدميرية بشرط أن تؤجَّل العملية يوماً واحداً، ليكونوا يداً واحدة على العثمانيين. وقبل قسطنطين ما عرضه وفد الجنويين عليه، وتأجَّل تدمير السفن العثمانية إلى ليلة أخرى. وفي فجر يوم 24 نيسان (أبريل)، بعث الجنويون مرة أخرى إلى السلطان الفاتح يخبرونه بما تمّ بين المؤتمرين، فحشد الفاتح من فوره عدداً من الجند ومعهم المدافع والأسلحة الكافية لاقتناص السفن المعادية. وفي الهزيع الأخير من يوم 24 نيسان - أبريل - غادرت السفن النصرانية ميناء (غلطه) للانقضاض على السفن الإسلامية، وكان الليل حالك السواد، فلم تكد السفن النصرانية تقلع وتبدأ الإبحار حتى لمح بعضهم ناراً تُضاء في قمة برج (غلطه) كأنما تنذر العثمانيين بإقلاع السفن لتنفيذ الخطة التدميرية. ومضت السفن النصرانية في سيرها، فلما قاربت الهدف أبى القائد البندقي إلا أن يكون له السبق في تدمير السفن العثمانية، فدلف بسفينته إلى الأمام. ولم تكد تتقدَّم خطوات أخرى إلى الأمام باتجاه السفن العثمانية، حتى دهمتها قنبلة ضخمة أعقبتها قنبلة أخرى مماثلة،

14 - تضييق الخناق

ففلقتها وابتلعها اليمُّ في لمح البصر بمن فيها وما فيها. ولم تعلم السفن الأخرى في الظلام الدامس بما حل بسفينة (كوكو)، ولعلَّها اعتقدت أنه هو الذي أطلق قنابله على السفن العثمانية، فدلفت سفينة أخرى إلى الأمام، ولم تكد تتقدم بضع خطوات حتى دهمتها قنبلة شديدة الانفجار فحرقتها هي الأخرى. وأسرع رجالها إلى سدِّ الثلمة وعادوا بها مسرعين، وقد أوشكت على الغرق. وفرَّت بقية السفن الرومية مذعورة بعد ملاحقتها بالقنابل، وأسر العثمانيون قسماً من بحَّارة السفينة الغارقة وقتلوهم، فانتقم قسطنطين لذلك وعلَّق على أسوار القسطنطينية رؤوس مئتين وستين من الأسرى العثمانيين. وجهَّز قسطنطين حملة ثانية لحرق السفن العثمانية بقيادة (جستنيان)، ولكنها لم تكن أكثر حظّاً من سابقتها وأخفقت في مهمتها. ولم يكن من الممكن أن تظلَّ السفن العثمانية والسفن الرومية قابعة في ميناء (القرن الذهبي) بغير صدام، فما لبث أن نشبت بينهما معارك محليَّة ومناوشات يومية، وكانت سجالاً بينهما. وفي خلال ذلك لم تتوقف المدفعية العثمانية عن إطلاق قنابلها على أسوار القسطنطينية، بينما بذل المحاصَرون قصارى جهدهم لسدّ الثغرات وتطهير الخنادق من الأنقاض. 14 - تضييق الخناق: بدأ سكان القسطنطينية منذ أوائل شهر مايس - يونيو - من سنة 1453 م يشعرون بتناقص المواد التموينية داخل المدينة المحاصَرة

وخاصة الخبز والنبيذ، فاضطرَّ كثير من المقاتلين أن يغادروا مواقعهم للبحث عن غذائهم وغذاء عوائلهم، وهذا أخطر ما يصادفه المحاربون في أثناء القتال، لأن المحارب الذي لا يجد ما يطعمه لا يقوى على القتال: "الجندي يمشي على بطنه"، كما يقولون، ولأن المحارب تنهار معنوياته إذا علم أنَّ مَن يعول لا يجدون ما يَطْعَمُون. وأمر قسطنطين بأن يحمل الزاد (الطعام) إلى المقاتلين في مواقعهم، لكي لا تستهدف الأسوار لمباغتة العثمانيين، كما أمر بتوفير الطعام لعوائل المقاتلين. وسأل قسطنطين البنادقة عن أسباب تخلُّف البندقية عن إرسال النجدة والمعونة إلى القسطنطينية تنفيذاً للاتفاق بينهما في 26 كانون الثاني - يناير - سنة 1453 م. وفي أثناء هذه الظروف القاسية فكَّر قسطنطين في إرسال سفينة لحثَّ أسطول البندقية في بحر الأرخبيل على الإسراع لمعاونة القسطنطينية، ولكن هذه السفينة التي كانت تحمل آخر أمل للعاصمة البيزنطية لم تجد أسطول البندقية فعادت خائبة حزينة. في ذلك الحين شنَّ العثمانيون هجوماً عنيفاً على أسوار القسطنطينية، فاشتدَّ الضيق والكرب والبلاء على المحصورين. وأشار خاصة قسطنطين عليه وفي مقدِّمتهم البطريرك وجستنيان بالخروج من القسطنطينية إلى بعض الأمكنة القريبة المجاورة، ويستنجد بنفسه مَن حوله من النصارى لعلَّهم يخفُّون إلى نجدته، ولكنه رفض هذا الرأي وعزم على البقاء في عاصمته حتى النهاية. وهذا يدلُّ على انهيار معنويات قادة المحاصَرين، فلو أن

قسطنطين غادر القسطنطينية لغادرها رجاله وعلى رأسهم قادته، ولكن قراره على الثبات جعلهم يثبتون. وبعث قسطنطين رسلاً آخرين إلى إيطاليا وإسبانيا وفرنسا وسائر بلاد الإفرنج يحملون الكتب إلى أمرائها وملوكها تبيّن لهم الخطر المحدق بالقسطنطينية ووجوب المبادرة إلى إرسال المعونة والنجدة قبل فوات الأوان. وعمد الفاتح إلى تشديد الخناق على القسطنيطينية من ناحية السور القائم على ميناء (القرن الذهبي). ولما رأى أنّ السفن الرومية الكبيرة القوية الراسية في الميناء والبالغ عددها نحو ثلاثين سفينة، قد عاقت سفنه الصغيرة الموجودة هناك عن تسديد ضرباتها إلى السور، كما وقفت حارسة قوية على السلسلة التي تسد مدخل الميناء، صمَّم على إغراق هذه السفن بطريقة جدية، فنصب على الهضاب الواقعة خلف (غلطه) مدافع جديدة ضخمة أخذت تقصف الميناء بشدَّة، وقد أصابت إحدى القنابل سفينة جنوية تجارية فأغرقتها في الحال. وذعرت بقية السفن الرومية ولاذت بأسوار (غلطه)، فأصبحت بنجوة من قصف المدفعية العثمانية. واشتكى الجنويون إلى الفاتح من إغراق سفنهم وهم على الحياد حريصون على السلام، وكان الفاتح يعرف حقيقة أمرهم وموقفهم من القتال الدائر بينه وبين أهل القسطنطينية، فأجاب بأنه كان يجهل جنسية السفينة المغرقة وكان يحسبها تابعة للعدو، ووعدهم بالتعويض العادل فيما بعد.

وظلَّت السفن العثمانية تهاجم ميناء (القرن الذهبي) مرة بعد مرة، كما ظل العثمانيون من ناحية البر يهاجمون السور مرة بعد مرة، وكان الفاتح يرى من إدامة زخم الهجوم براً وبحراً ليلاً ونهاراً إلى إنهاك قوى المحاصَرين مادياً ومعنوياً، حتى أرهق أعصاب المحاصَرين وأصبحت نفوسهم مرهقة مكدودة تثور لأتفه الأسباب. ونتيجة لذلك تكرر النزاع في القسطنطينية بين البنادقة والجنويين، وكثيراً ما انتهت تلك المنازعات إلى الاقتتال في شوارعها، فيهرع إليهم قسطنطين وقد أخضلت عيونه بالدمع يضرع إليهم ويناشدهم الله إلا كفوا عن هذا النزاع والشجار، وأن ينصرفوا إلى قتال عدوهم المشترك. وعقد قسطنطين مؤتمراً حربياً، فاقترح أحد رجاله مباغتة العثمانيين بهجوم شديد يستهدف بالدرجة الأولى مخازن المؤن ومستودعات السلاح والعتاد، فإن ذلك حريٌّ بإحياء العزيمة وبعث الهمة في رجاله، ولكن صرف النظر عن تنفيذ هذه الخطة لاستحالة نجاحها. وفيما هم مجتمعون جاءهم جندي وأخبرهم بأن العثمانيين شنُّوا هجوماً شديداً باتجاه وادي (ليكوس)، فوثب قسطنطين على فرسه وانطلق به حُضراً حتى وصل إلى موضع الهجوم حيث كان القتال لا يزال محتدماً على أشده بين العثمانيين والروم. وزج قسطنطين بقواته الاحتياطية لصد هجوم العثمانيين، وذهب كثير من الناس إلى الكنائس يصلُّون ويتضرَّعون حتى مطلع الفجر عندما بلغهم انسحاب العثمانيين إلى قواعدهم، وكان ذلك في يوم الجمعة الثاني من جمادى الأولى (اليوم الثاني عشر من مايس - مايو).

15 - الحرب النفسية

وفي يوم الأحد الرابع من جمادى الأولى (يوم 14 مايس - مايو) نقل محمد الفاتح مدافعه من هضاب (غلطه) لتساعد المدفعية الموجودة عند باب (القدّيس رومانوس)، وليضاعف قصف أضعف نقطة في السور البري. وقد قاوم المدافعون مقاومةً باسلة، وسدُّوا الثغرات التي أحدثتها مدفعية العثمانيين في السور. 15 - الحرب النفسية: إلى جانب هذه الهجمات التي قامت بها القوات العثمانية في البر والبحر، كان الفاتح يفاجئ عدوه من حين لآخر بفن جديد من فنون القتال والحصار وحرب الأعصاب. فقد سمع المحصورون من سكان القسطنطينية ذات ليلة يوم 16 مايس (مايو) ضربات شديدة تحت الأرض، أخذت تعلو وتقترب شيئاً فشيئاً كأنها تتلمَّس طريقاً للخروج. وحُمِل هذا الخبر إلى قسطنطين وقادته، فخفُّوا إلى مصدر الضربات، وهناك أدرك المهندسون الروم لأول وهلة أن العثمانيين يحفرون أنفاقاً خارج السور ليدخلوا المدينة من تحت الأرض. وأمر قسطنطين أن يحفر الروم نفقاً باتجاه نفق المسلمين إلى مسافة بعيدة، حتى إذا التقى النفقان خرج العثمانيون بدورهم من نفقهم لخوض معركة، خاضوها في أرض حددها لهم العدو. وكان العثمانيون لا يعلمون شيئاً عما يدبَّر لهم، فاستمروا يحفرون بعزم ودأب. وما إن وصلوا إلى الفجوة التي حفرها الروم حتى تملَّكهم الفرح وظنُّوا أنهم

اهتدوا إلى سرداب خفي يوصل إلى المدينة، ولكن فرحهم لم يطل، فلم تكد أعينهم تلمح السماء، حتى صبَّ الروم عليهم الغاز والنفط والمواد الملتهبة، فمنهم من اختنق ومنهم من احترق، ومنهم من عاد أدراجه خائباً. ولكن هذا الإخفاق لم يفتّ في عضد المسلمين، فعاودوا حفر الأنفاق مرة بعد مرة في مواضع مختلفة من المنطقة الممتدة بين (أكرى قبو) وشاطئ (القرن الذهبي)، إذ كانت هذه المنطقة أصلح مكان للقيام بالحفر، وظلُّوا على ذلك حتى أواخر أيام الحصار. وأصاب الروم من جرَّاء ذلك خوف عظيم وفزع لا يوصف، حتى صاروا يتسمَّعون بين حين وحين إلى مواطئ أقدامهم، وكثيراً ما كان يخيِّل إليهم الخوف أن الأرض ستنشق ويخرج منها الجنود العثمانيون. ولم يكن هذا العمل سهلاً هيناً، فإنَّ هذه الأنفاق التي حفرها العثمانيون قد أودت بحياة كثير منهم ماتوا اختناقاً واحتراقاً في باطن الأرض، كما وقع كثيرٌ منهم في أيدي الروم فقُطعت رؤوسهم وقُذف بها إلى معسكر السلطان. ولم يكد سكان القسطنطينية يستفيقون من الدهشة التي انتابتهم من أنفاق العثمانيين التي حفروها تحت مدينتهم، حتى باغتهم الفاتح باختراع جديد من وسائل الحصار تفتقت عنه ألمعيته وعبقريته الفذة؛ فقد استيقظ أهل القسطنطينية صباح يوم الأحد الثاني عشر من جمادى الأولى (يوم 21 مايس - مايو)، فإذا بهم يرون أمامهم قلعة ضخمة

شاهقة من الخشب أكثر ارتفاعاً وسموقاً من السور الخارجي، ذات ثلاث طبقات كسيت كلها بالجلود السميكة المبللة بالماء لئلا تؤثِّر فيها النار والنبال، وكان في كل طبقة منها عدد من الجنود يحملون القذائف ومختلف معدَّات القتال، وتحمل في أسفلها التراب والأحجار والأخشاب لردم الخنادق، وفي أعلاها سلالم من الحبال عصبت أطرافها كلاليب تلقى على أعلى السور فتنشب فيه ويمر عليها الجنود كالقنطرة أو الجسر، بينما النبالة يصوِّبون نبالهم على كل مَن يظهر رأسه من السور، ولم يكن بمقدور المدافعين عن المدينة نصب مدافعهم الكبيرة على الأسوار، لأن اهتزازها عند إطلاق القنابل منها قد يزلزل الأسوار ويهدّها. وقد هال أهل القسطنيطينية أمر هذه القلعة الجبَّارة، ووقف قسطنطين ومن معه من أهل المدينة ينظرون إليها في عجب ودهشة وفزع، وقد شهد المؤرخ البندقي (باربارو) الذي شهد هذه القلعة بنفسه فقال: "لو اجتمع نصارى القسطنطينية على أن يصنعوا مثل هذه القلعة، لما صنعوها في شهر، وقد صنعها المسلمون في ليلة واحدة بل في أقل من أربع ساعات". وأقيمت هذه القلعة الجبارة تجاه باب القديس رومانوس (طوب قبو) الذي يدافع عنه المغامر الإيطالي (جستنيان)، فلم يعد في إمكان المحاصَرين إصلاح الثغرات الخارجية التي تدكها المدفعية العثمانية طالما هذه القلعة واقفة بالمرصاد، بل أخذت القذائف الحجرية الضخمة تنهال من هذه القلعة نفسها فدكَّت أحد أبراج السور القريبة عند (طوب قبو). واندفع المسلمون نحو هذه الثغرة، واقتربت القلعة إلى السور، وتسلَّق قسم من الجنود العثمانيين السور بالسلالم، وحمي

16 - اليأس

القتال واشتدَّ الخطر على المدينة. ولاح لقسطنطين أن الهزيمة في هذه المعركة ستؤدي إلى كارثة قاصمة، فاستبسل هو ورجاله في القتال. وطلب إحضار مواد سريعة الالتهاب تحرق كلّ ما يصادفها ولا يطفئها الماء، وأخذ المدافعون يقذفون بهذه المواد الملتهبة قلعة العثمانيين، فما لبثت أن احترقت الجلود المبللة بالماء التي تكسو القلعة والتهمتها النار. وانتهت المعركة بتحطيم أربعة أبراج وامتلاء الخندق بالتراب والحجارة، وانسحب العثمانيون بعد حلول الظلام. ونظر الفاتح إلى قلعته الخشبية التي أصبحت كومة من الرماد، فابتسم قائلاً: "غداً نصنع أربعة منها". لقد كان الفاتح يقاتل عدوه بأسلوبين: أسلوب الحرب الاعتيادية، وأسلوب الحرب النفسية. وكان بحق كتلة من النشاط والعزم والتصميم، ومثالاً حياً للقيادة البارعة النادرة القادرة. 16 - اليأس: أصبح سكان القسطنطينية في همّ دائم وقلق لا ينقطع، يتطلَّعون ذات اليمين وذات الشمال وإلى فوقهم وأسفلهم، لا يدرون أين يدهمهم الخطر والهلاك. وبات الناس في القسطنطينية على مثل هذه الحال من الخطر والتخوُّف والتوجُّس، لا يغمض لهم جفن ولا يستقرّ بهم مضجع،

فكان لذلك أثر في إرهاق أعصابهم ونهك قواهم وتوهين عزائمهم، ففتر نشاطهم وكلَّت أيديهم شيئاً فشيئاً عن سد الثغرات التي أخذت تتسع في عدة مواضع من السور. وفي يوم الثلاثاء الرابع عشر من جمادى الأولى (الثالث والعشرين من مايس - مايو)، عادت السفينة التي أرسلها قسطنطين إلى بحر الأرخبيل للتفتيش عن أسطول البندقية الذي كانت القسطنطينية تؤمل أن ينجدها في ساعة محنتها، فأدخل بحَّارتها على قسطنطين وأخبروه بأنهم جابوا بحر الأرخبيل عرضاً وطولاً ولم يلقوا سفينة واحدة من سفن البندقية، فاغرورقت عينا قسطنطين بالدموع. وانتشر هذا النبأ الأليم في أرجاء القسطنطينية، وانتشر معه الألم والحزن وخيبة الأمل. وهكذا قطع المحصورون كل أمل في مجيء النجدة من الغرب، ووضعوا كل أملهم في هذا السور الضخم العملاق الذي لم تنقطع مدفعية العثمانيين عن قصفه لحظة واحدة من ليل أو نهار، واستحوذ اليأس والقنوط على بطريرك القسطنطينية فاعتزل منصبه واختلى في أحد الأديرة ليقضي بقية حياته في الصلاة والعبادة والاستغفار. وفي صبيحة يوم الأربعاء الخامس عشر من جمادى الأولى سنة سبع وخمسين وثمانمئة الهجرية (اليوم الرابع والعشرين من مايس - مايو) عقد مؤتمر في قصر الإمبراطور حضره قسطنطين ووكيل البطريرك وكبار رجال الجيش للتشاور والتداول، وكان يسود المؤتمر جو من التشاؤم واليأس، وارتسمت على وجه قسطنطين أمارات الجهد والإعياء. وجرت مناقشة الآراء، وأظهر وكيل البطريرك يأسه من

إنقاذ المدينة، فاقترح على الإمبراطور أن يغادرها وينجو بنفسه قائلاً: "إذا لم نستطع إنقاذ المدينة، فلا أقل من أن ننقذ الإمبراطور". ووقع هذا الاقتراح وقعاً شديداً على نفس قسطنطين فأغمي عليه، فلما أفاق من غشيته أعادوا عليه الاقتراح، ولكنه أصرَّ على البقاء في المدينة مهما تكن العواقب. وفي خلال هذا المؤتمر الحزين، كان يسمع من بعيد دويّ القنابل العثمانية وهي تدكّ الأسوار، وصيحات الجنود تتعالى بالتهليل والتكبير. وامتطى الإمبراطور جواده كدأبه كل يوم ليفتش مواقع الجنود، وكان يتوقَّف بين موقع وآخر ويترجَّل عن جواده ويصعد إلى أعلى السور وينظر إلى معسكر العثمانيين، ثم يهبط ويستأنف طوافه وقلبه يتفطر ألماً وحسرة. وحدثت في ذلك الوقت بعض الأحداث والظواهر الطبيعية كان لها أثر سيِّئ في المعنويات، لا سيما معنويات أُناس كسكان القسطنطينية اجتمع عليهم الجهد والإعياء واليأس والقنوط من طول ما عانوا من أهوال الحصار وويلاته والإيمان العميق بالخرافة والطِّيَرَة، فقد خرج في يوم السابع عشر من جمادى الأولى سنة سبع وخمسين وثمانمئة الهجرية (الخامس والعشرين من مايس - مايو) موكب من الرجال والنساء حملوا معهم تمثال العذراء، وأخذوا يجوبون أنحاء القسطنطينية وهم يستغيثون ويتضرَّعون. وفيما كان الموكب يخترق طرقات المدينة، إذ سقط التمثال من أيدي حامليه ووقع إلى الأرض، فارتفعت صيحات الفزع والألم

وتسابقوا إلى رفعه، وتشاءموا بهذا الحادث ورأوا فيه نذيراً بسقوط المدينة. ولم يمضِ وقت طويل، حتى ثارت زوبعة شديدة وبرقت السماء وأرعدت، ثم تهاطل المطر غزيراً مدراراً، فطغى الماء وعاق الناس عن السير. وفي يوم السبت السابع عشر من جمادى الأولى (اليوم السادس والعشرين من مايس - مايو)، تجمَّعت السحب والضباب في السماء وتكاثفت، ثم انقضَّ نيزك من السماء على قبة كنيسة (آيا صوفيا) كاد يخطف الأبصار، فازداد الناس تشاؤماً واشتدَّ بهم الفزع، واعتقدوا أنَّ الله قد تخلى عنهم وعن مدينتهم. وقصد وكيل البطريرك وقسم من كبار الرهبان قسطنطين ونصحوا له بمبارحة المدينة، فقد ظهرت أمارات تدلُّ على قرب سقوطها بيد العثمانيين بعد أن رفع الله عنها حمايته ورعايته. وما أن سمع قسطنطين هذا القول حتى غشي عليه وسقط إلى الأرض، وعندما أفاق قال لمن حوله: "إذا كانت هذه هي إرادة الله، فأين نفرّ من غضبه؟! سأبقى هنا وأموت معكم". وكان هناك أناس في المدينة تداعب أخيلتهم أطياف من الأماني والتعلاَّت تبعث في نفوسهم شعاعاً من الأمل والنور في هذا الجو المظلم الكئيب. وكان فريق من هؤلاء الناس يذكرون كيف حاصر السلطان مراد الثاني والد السلطان الفاتح مدينة القسطنطينية وأطبق عليها بخيله ورَجِلِهِ، ولكن اضطر آخر الأمر أن يرفع الحصار عنها، وكان فريق من هؤلاء يردِّدون نبوءة مشهورة ذائعة وهي أن العثمانيين إذا انتصروا

17 - قبيل الهجوم العام

سيزحفون حتى يبلغوا كنيسة (آيا صوفيا) وهناك يهبط ملك من السماء فيقهرهم ويردّهم على أعقابهم. هكذا كانت حال القسطنطينية في أيامها الأخيرة وهي تدنو من نهايتها، تتوزعها الأوهام والأماني والنبوءات. أما قسطنطين وجنوده، فكانوا يعرفون الحالة على حقيقتها ويدركون خطر الموقف وشدة بأس العدو. 17 - قبيل الهجوم العام: مضت سبعة أسابيع والحصار قائم على قدم وساق، وقد تهدَّمت أجزاء كثيرة من السور وأبراجه وامتلأ الخندق بالأنقاض، بعد أن كلَّت أيدي المحصورين عن رفعها. وأصبحت أمام السلطان الفاتح ثلاثة مسالك للهجوم واقتحام المدينة: الأول ما بين (تقفور) وباب (أدرنه)، والثاني في (وادي ليكوس) عند باب القديس رومانوس (طوب قبو) وهو أكثر الأماكن تهدُّماً وانهياراً، والثالث بالقرب من الباب العسكري الثالث. واعتقد الفاتح أن السبيل للفتح قد تمهَّد أمامه، وأن الوقت قد حان للقيام بالهجوم العام. ولكنه قبل أن يُقدِم على تنفيذ خطة الهجوم العام، بعث برسالة إلى قسطنطين يدعوه فيها إلى تسليم المدينة قبل أن يستمر القتال وتراق الدماء وتكون المدينة غنيمة للفاتحين. وأوفد إليه إسماعيل اسفنديار أوغلو الذي كانت تربطه بقسطنطين صحبة قديمة، وعرض عليه أن

يسلّم القسطنطينية بعد أن وصلت إلى ما وصلت إليه من الخراب والبؤس والشقاء وتهدَّمت أسوارها، وأن يجنّب الأطفال والنساء والشيوخ أهوال الحروب وويلاتها، وعرض عليه باسم السلطان أن يكون حاكماً على (الموره) كما كان من قبل. أما سكان المدينة فمن أراد الرحيل عنها بما شاء من أمواله، ومَن آثر البقاء فيها ضَمِن لهم السلطان الأمان على أنفسهم وأموالهم وأولادهم. فإن أبى قسطنطين هذا، فلا ينتظرنَّ غير الحرب الشعواء الضروس التي لا ترحم. واجتمع قسطنطين برجاله وأهل مشورته وعرض عليهم رسالة الفاتح، فمال قسم منهم إلى تسليم المدينة، ولكنّ جستنيان ونفراً من رجال الحرب أصرُّوا على مواصلة القتال مهما تكن نتائجه. وكان ذلك رأي قسطنطين، فقال لرسول الفاتح: "إنه يشكر الله إذ جنح السلطان إلى السلم، وإنه يرضى أن يدفع له الجزية. أما القسطنطينية، فإنه قد أقسم أن يدافع عنها إلى آخر نفس في حياته؛ فإما أن يحتفظ بعرشها أو يدفن تحت أسوارها". فلما بلغ الفاتح جواب قسطنطين قال: "حسناً، عما قريب سيكون لي في القسطنطينية عرش، أو يكون لي فيها قبر". وعمد السلطان الفاتح إلى مضاعفة قوة مدفعيته واستمرار قصفها للأسوار بدون انقطاع، وقد تمكَّن المهندسون من ابتكار مدفع جديد يرمي قنابله إلى أعلى فتتخطى الأسوار وتسقط في قلب المدينة، كما هي الحال في مدافع الهاون، وكانت المدفعية قبل ذلك ترمي بصورة مستقيمة، فتصيب الأسوار ولا تتخطاها، وبابتكار المدافع الجديدة أصبحت المدينة كلها لا الأسوار وحدها تحت رحمة قصف المدفعية العثمانية.

وبالإضافة إلى ذلك، عقد السلطان الفاتح مؤتمراً حربياً في مقرّه حضره وزراؤه وكبار قادة جيشه والشيوخ والعلماء للنظر في الموقف الراهن وما يجب اتخاذه من مقرَّرات لمعالجته، وطلب الفاتح إلى الحاضرين أن يعلن كل منهم رأيه بصراحة وفي حرية تامة. وأشار قسم من الحاضرين بالمبادرة إلى الهجوم العام فوراً على المدينة، قبل أن يتسرَّب اليأس إلى نفوس الجنود. وقال الوزير العجوز خليل باشا: "إن الحميَّة والحماس شيء جميل يستحق الثناء والتقدير، ولكن يجب التريُّث والتبصُّر قبل الهجوم على قلعة قوية كالقسطنطينية، فقد حاصرت أكبر الجيوش في العالم هذه القلعة أكثر من سبع وعشرين مرة انتهت كلها بالخيبة والإخفاق. والمهم ليس ضرب الحصار على المدينة، بل الاستيلاء عليها، وقد مضى الآن أكثر من أربعين يوماً على حصارنا لها، وبذلنا في ذلك أغلى التضحيات وأفدحها، ولم تبدُ أية بارقة للنجاح؛ فالأنفاق التي حفرناها لم تجدنا شيئاً، والقلاع الخشبية حُرِقت، والمهندسون قُتلوا. وقد أشرت من قبل بدء الحصار، أن هذا العمل أمر عسير لن يحقق الغاية التي نريدها، وقد ظهر لكم الآن صدق قولي ورجاحة رأيي بعد أن مضى عليه أكثر من أربعين يوماً. وإذا أحسنَّا الغرض والظن واستولينا على القسطنطينية، فإن شعوب النصرانية في العالم كله ستتألَّب علينا وتزحف إلينا بجموع لا قِبَلَ لنا بها، ولن تدعنا حتى تسترد القسطنطينية من أيدينا. فخيرٌ لنا أن نقنع بجزية كبيرة نطلبها من قسطنطين ونرفع الحصار عن المدينة ونعود إلى ديارنا في الوقت الذي نستطيع أن نفعل ذلك بأمان".

ولم يكن كلام خليل باشا يخلو من التعريض والنقد للسلطان، وكان الفاتح قد لمس في خليل باشا ما يثير الريبة والشك وما يستحق المؤاخذة والعقاب، ولكنه أغضى وأمسك عنه وأسرَّ الأمر في نفسه حتى تواتيه الفرصة. فما زاد الفاتح بعد أن أتمَّ خليل باشا كلامه أن تبسَّم، ثم التفت إلى زغنوس باشا وسأله رأيه. وكان زغنوس لا يزال في عنفوان الشباب، شديد العزم وثّاب الهمة، وهو الذي كان يشرف على حفر الأنفاق تحت أسوار القسطنطينية لاقتحامها من بطن الأرض. قال زغنوس: "حاشا وكلاّ أيها السلطان! أنا لا أقبل أبداً ما قاله خليل باشا، فما أتينا هنا إلا لنموت لا لنرجع. إن خليل باشا أراد بما قاله أن يخمد فيكم نار الحمية ويقتل الشجاعة، ولكنه لن يبوء إلا بالخيبة والخسران. إن جيش إسكندر الكبير الذي قام من اليونان وزحف إلى الهند وقهر نصف آسيا الكبيرة الواسعة لم يكن أكبر من جيشنا، فإذا كان ذلك الجيش قد استطاع أن يستولي على تلك الأراضي العظيمة الواسعة، أفلا يستطيع جيشنا أن يتخطَّى هذه الكومة من الأحجار المتراكمة؟! وقد أعلن خليل باشا أن دول الغرب ستزحف إلينا وتنتقم منا، ولكن ما الدول الغربية هذه؟! هل هي الدول اللاتينية التي شغلها ما بينها من خصام وتنافس؟ هل هي دول البحر الأبيض المتوسط التي لا تقدر على شيء غير القرصنة واللصوصية؟ ولو أن تلك الدول أرادت نصر بيزنطة لفعلت وأرسلت إليها الجند والسفن؛ ولنفرض أن أهل الغرب بعد فتحنا القسطنطينية هبُّوا إلى الحرب وقاتلونا، فهل سنقف منهم مكتوفي الأيدي بغير حراك؟! أوَليس لنا جيش يدافع عن كرامتنا وشرفنا؟

"يا صاحب السلطنة! أمَّا وقد سألتني رأيي، فلأعلنها كلمة صريحة: يجب علينا أن تكون قلوبنا قوية كالصخر، ويجب أن نواصل الحرب دون أن يظهر علينا أقل ضعف أو خور. لقد بدأنا أمراً، فواجب علينا أن نتمَّه، ويجب أن نزيد هجماتنا قوة وشدة، ونفتح ثغرات جديدة وننقضّ على العدو بشجاعة. لا أعرف شيئاً غير هذا، ولا أستطيع أن أقول شيئاً غير هذا". وبدت على وجه الفاتح أمارات البِشْر والانشراح لسماع هذا القول، والتفت إلى القائد طرخان يسأله رأيه، فأجاب على الفور: "إن زغنوس باشا قد أصاب فيما قال، وأنا على رأيه يا سلطاني". ثم سأل الشيخ آق شمس الدين والمولى الكوراني عن رأيهما، وكان الفاتح يثق بهما كل الثقة، فأجابا: إنهما على رأي زغنوس باشا، وقالا: "يجب الاستمرار في الحرب، وبالعناية الصمدانية سيكون لنا النصر والظفر". وسرت الحمية في جميع الحاضرين، وابتهج السلطان الفاتح واستبشر بدعاء الشيخين بالنصر والظفر، ولم يملك نفسه من القول: "مَن كان من أجدادي في مثل قوتي"؟! والواقع أن الفاتح لم يقل هذا القول تفاخراً ومباهاة، بل قاله لرفع معنويات قادته العسكريين وقادته السياسيين وقادته الدينيين. ومع ذلك فهو صادق في تقدير قوته، إذ كان يتفوَّق على أجداده بعدد رجاله وضخامة مدفعيته وبأسطوله البحري. وانفرد الفاتح بعد المؤتمر بوزيره زغنوس باشا وقال له: "يجب ألا نضيّع شيئاً من الوقت، فقد دكّت الأسوار، وأعدت العدة للهجوم،

وتخيّرنا مواضعه؛ فاذهب إلى الجنود وأخبرهم أن ساعة الهجوم قد أزفت، وانظر أثر هذا القول فيهم، وارجع به إليّ". وذهب زغنوس باشا إلى المعسكر، وجمع الجند حوله، وقال لهم: "إن سلطاننا المعظَّم يرى أنَّ الحصار والغارات التي دامت سبعة أسابيع كافية، وآن أوان الهجوم العام، ولا أدري متى يصدر أمره به، وأظنَّه قريباً جداً .. لقد حانت الساعة لكي تُظهروا شجاعتكم وبسالتكم في هذا الهجوم، ولا ريب في أنه يحتاج إلى أعظم الجهد وأكبر التضحيات، فهل أنتم مستعدُّون"؟ ولم يكد زغنوس باشا يلقي سؤاله، حتى جلجل هذا المعسكر الواسع المترامي بدويّ كهزيم الرعد، وهتف الجند بصوت واحد: "الله أكبر ... الله أكبر". وعاد زغنوس باشا إلى الفاتح ليخبره بما رأى وسمع، فاطمأنَّ السلطان إلى أن رجاله عند حسن ظنّه، وأنَّ معنوياتهم عالية جداً، وأنهم مستعدُّون للتضحية والفداء. وفي يوم الأحد الثامن عشر من جمادى الأولى السابع والعشرين من مايس (مايو) أمر الفاتح جنوده بالصيام تطهيراً وتزكية للنفوس وتقوية للعزيمة والإرادة. وزار الفاتح في ذلك اليوم سور القسطنطينية من بحر (مرمره) إلى القرن الذهبي يستطلع أجزاءه بدقّة ويتفحَّص ما أحدثته المدفعية فيه من ثغرات، والمواضع التي لا تزال تحتاج إلى الدكّ والهدم منه. ولم تنقطع المدفعية طوال ذلك اليوم واليوم التالي عن قصف

السور وبخاصة المواضع التي رمَّمها المحاصَرون. وفي مساء ذلك اليوم أوقد الجنود العثمانيين النيران والمشاعل والقناديل، وأشعلت الشموع على رؤوس الرماح حول معسكرهم، وتصاعد الضوء إلى الفضاء في توهُّج ونور، وتشرَّبت مياه بحر (مرمره) والبسفور باللون الأحمر واستحالت السماء إلى قبة حمراء. وتعالت صيحات المسلمين وهم يهتفون بأعلى صوتهم: "لا إله إلا الله، محمد رسول الله". يقول رئيس الأساقفة (ليونارد Leonard) الذي شهد هذا المنظر الرائع بأم عينيه، إذ كان في القسطنطينية مع المحصورين: "لو أنك سمعت مثلنا صيحاتهم المتوالية المتصاعدة إلى السماء: (لا إله إلا الله، محمد رسول الله) لأخذتك الروعة والإعجاب". وأمضى السلطان يوم الإثنين التاسع عشر من جمادى الأولى سنة سبع وخمسين وثمانمئة الهجرية الثامن والعشرين من مايس (مايو) في إكمال استعداداته الأخيرة، فطاف بالسور مرة أخرى ليكمل استطلاعه الشخصي المفصَّل؛ كما فتَّش جنوده، ليتعرَّف على درجة استعدادهم وحالتهم المعنوية. وقصد في نفس اليوم إلى مَرْسى أسطوله في (بشكطاش) يصحبه حمزة باشا أمير البحر، ليطلع بنفسه على ما اتخذه من الاستعدادات. وسأل الفاتح قائد بحريَّته حمزة باشا إن كان ثمة نقص في شيء، فأجابه: "إنَّ كل شيء قد تمَّ، وإنَّنا في انتظار أوامركم لتنفيذها"؛ فطلب إليه الفاتح أن يشترك جميع الأسطول في الهجوم العام، ويصفّ

سفنه حول السور الواقع على بحر (مرمره)، ويتسلَّقه الجنود بالسلالم والحبال، ويقتحمون المدينة. ثم بعث الفاتح إلى سكان (غلطه) من الجنويين يحذرهم من مساعدة القسطنطينية، فقد كان على علم تام بما كانوا يفعلونه طوال أيام الحصار. وكان الفاتح كلما مر بجمع من جنده خطبهم وأثار فيهم الحمية والنخوة، وأبان لهم أنهم بفتح القسطنطينية سينالون شرف الدنيا والآخرة، ويأمن العثمانيون بفتحها دسائس هذه المدينة التي طالما مالأت عليهم الأعداء والمتآمرين، وسيكون لأول جندي يرفع راية الإسلام فوق سور القسطنطينية الجزاء الأوفى والإقطاعات الواسعة وأجر الله في الجنَّة. وكان الشيوخ والعلماء يتلون عليهم آيات القتال والجهاد، وما أعدَّ الله للمجاهدين من حسن الجزاء، ثم يقولون لهم: "لقد نزل سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم عند هجرته إلى المدينة المنورة في دار أبي أيوب الأنصاري، وقد قصد أبو أيوب إلى هذه البقعة ونزل هنا" (1). وكان هذا القول يلهب الجند ويبعث في نفوسهم أشدّ النخوة والحمية الدينية، فيسجدون إلى الأرض، ويدعون الله عزَّ وجلَّ ويبتهلون إليه أن يتم لهم النصر المبين. وعاد الفاتح إلى مقرّه، فدعا إليه قادة جيشه وأصدر إليهم التعليمات الأخيرة، ثم ألقى عليهم الخطبة التالية: "إذا تمَّ لنا فتح القسطنطينية تحقَّق فينا حديث من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعجزة من _______ (1) أحمد مختار: فتح جليل قسطنطينية.

معجزاته، وسيكون من حظّنا ما أشاد به هذا الحديث من التمجيد والتقدير؛ فأبلغوا أبناءنا العساكر فرداً فرداً، أنَّ الظفرَ العظيم الذي سنحرزه سيزيد الإسلام قدراً وشرفاً، ويجب على كل جندي أن يجعل تعاليم شريعتنا الغرَّاء نصب عينيه، فلا يصدر عن أحد منهم ما يجافي هذه التعاليم، وليتجنبوا الكنائس والمعابد ولا يمسُّوها بأذى، ويدعوا القسس والضعفاء والعجزة الذين لا يقاتلون". وأخلد الجنود العثمانيون إلى الراحة والنوم استجماماً للقوة والنشاط واستعداداً للقتال الذي أزف موعده، وخيَّم على المعسكر الإسلامي سكون عميق شامل أثار دهشة سكان القسطنطينية وأثار فيما بينهم كثيراً من التساؤل والقلق، وأحسَّ الناس في المدينة أن هبوب العاصفة قد اقترب، وأن الهجوم العام وشيك الوقوع، فدقّت أجراس الكنائس تدعو الناس إلى الصلاة والدعاء والاستعداد والتأهب. وأرهقت أعصاب كثير من المحصورين في هذا الجو المتوتّر، وضاقت بهم أنفسهم وعيل صبرهم، ففرُّوا إلى معسكر المسلمين ينشدون فيه الأمن والسلامة والطمأنينة لأنفسهم، فأحسن المسلمون لقياهم ومعاملتهم. وقد التجأ إلى المعسكر الإسلامي فيمن التجأ الراهب (بترو) في ثلاثمئة من أصحابه، فأكرمهم المسلمون وأحسنوا معاملتهم. ووقع ذلك موقعاً حسناً في نفس الراهب وشرح الله صدره للإسلام، فأسلم وعُرِف منذ ذلك الحين بمحمد بترو. وكانت الجاسوسية تعمل بحذق ونشاط من جانبي الروم والعثمانيين على السواء، فكانت لقسطنطين عيون وجواسيس في المعسكر

18 - الهجوم العام

العثماني يتنسطون الأخبار ويكتبونها في ورقة، حتى إذا ما جن الليل ثبتوها في السهام وقذفوا بها إلى المدينة، وكذلك كان يفعل جواسيس السلطان داخل القسطنطينية. وقد أظهر الروم البخل والشح حتى في هذا الوقت الذي تستهدف فيه مدينتهم لأعظم الأخطار، فقد خبَّأ الأغنياء أموالهم وكنوزهم وضنُّوا بها على وطنهم، فصارت فيما بعد غنيمة باردة للعثمانيين، كما أبى كثير من الروم أن ينقلوا الأحجار والتراب إلى السور إلا إذا أخذوا أجراً على هذا العمل، واضطرَّ اللاتين أن يدفعوا لهم ما طلبوا. ولكن الروم واللاتين قصدوا الكنائس وعلى رأسهم قسطنطين للدعاء! 18 - الهجوم العام: في الساعات الأولى من يوم الثلاثاء العشرين من جمادى الأولى سنة سبع وخمسين وثمانمئة الهجرية (29 مايس - مايو - 1453 م) سمعت فجأة في المعسكر العثماني دقة ضخمة بالطبل إيذاناً للجند بالتأهُّب أعقبتها ثلاث دقَّات أخرى مثلها، ثم تتابعت الدقات في جميع أرجاء المعسكر ونفخ في الأبواق وتصاعدت التكبيرات مجلجلة مدوية من اتجاهي البر والبحر. وكان لذلك كله دوي هائل مخيف في ذلك السكون العميق المظلم، أثار الفزع والرعب في قلوب أهل القسطنطينية، وهرع كثير منهم إلى الكنائس التي دقت أجراسها، وانطلق الجنود العثمانيون يهجمون على سور القسطنطينية من البر والبحر طبقاً للخطة المرسومة التي وضعها الفاتح وأصدرها إلى قادته.

وكان أشد الهجوم وأعنفه قد ركز نحو وادي (ليكوس) الواقع بين (طوب قبو) في الجنوب، وباب (أدرنه) في الشمال. وكان هذان البابان يقعان على نشز مرتفع، ويقع الوادي بينهما متطامناً منخفضاً، وكان السور القائم في تلك المنطقة وبخاصة الجانب الذي يلاصق (طوب قبو) قد تهدَّم تهدُّماً كبيراً، فأقام جستنيان مكانه متراساً قوياً تحصَّن به. وقد قسَّم الفاتح جنوده الذين يقاتلون في هذه المنطقة إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول مؤلف من جنود الرومللي والمتطوعين المستجدِّين من أجناس مختلفة، وقد تقدَّم هؤلاء الجنود إلى الأمام، حتى إذا صاروا على مرمى قوس من السور توقفوا وأخذوا يمطرونه بالقذائف والسهام، فردَّ عليهم المدافعون بالمثل. واندفع فجأة تحت هذا الوابل من القذائف والسهام كثير من المهاجمين نحو السور وأقاموا عليه مئات السلالم لتسلّقه، فأسرع المدافعون وقلَّبوا هذه السلالم بمن كان عليها، وقذفوا وراءهم الصخور والأحجار الضخمة. ولم يمنع ذلك المهاجمين من معاودة تسلُّق السور مرة بعد مرة، ونجح قسم كبير منهم في ارتقائه واحتلال موطئ قدم عليه. وحدث صراع عنيف بالسلاح الأبيض، فالتحم الطرفان في معركة ضارية استمات فيها جستنيان ورجاله، واستطاعوا ردّ المهاجمين على أعقابهم، وقد استمرَّ هذا القتال العنيف نحو ساعتين. وأمر السلطان هذا القسم من الجند بالانسحاب، ودفع إلى الهجوم القسم الثاني من جنوده وهم جنود الأناضول. أما المدافعون

فقد ظنُّوا لأول وهلة عند انسحاب المهاجمين أنهم قد دحروا العثمانيين، ولكنهم لم يكادوا يتنفسون الصعداء، حتى بوغتوا بهجوم أشدّ وطأة وعنفاً من الهجوم الأول، فقد كان جنود الأناضول أحسن تدريباً وأفضل تنظيماً وأشدَّ ضبطاً وأكثر مراساً في القتال. ومن الواضح أن السلطان كان يرمي من هجومه الأول استنزاف طاقات المدافعين وإرهاقهم، قبل أن يضربهم الضربة الشديدة القاضية، فاستخدم جنوده الذين كانوا من الدرجة الثانية تنظيماً وتدريباً وضبطاً وتجربة، واستطاع تحقيق هدفه الابتدائي من الهجوم. كانت أشعة الفجر قد بدأت تنير المكان، وبذلك انتهى هجوم العثمانيين الليلي ليبدأ هجومهم النهاري. واندفع العثمانيون يهاجمون السور، وقد لبس قسم منهم الدروع وهم يهلِّلون ويكبِّرون، وأقام كثير منهم السلالم للتسلُّق. وأدرك قسطنطين خطورة الموقف، فأتى إلى هذا المكان بمزيد من الجند وآلات الرمي والقذف، ونصب مدافع صغيرة؛ ونشط جستنيان وجنوده المدرَّعون، وقاوموا هذا الهجوم مقاومة عنيفة باسلة، وصبُّوا قذائفهم ونيرانهم الحامية على المهاجمين، وقلبوا السلالم التي أُسندت إلى السور، ولكن ذلك لم يزد العثمانيين إلا حماسة وشدة في القتال وتصميماً على إحراز النصر. ووقف الفاتح على ظهر حصانه يرقب هذه المعركة الدامية، وكان أشد القتال يجري على السور نفسه، حيث التحم المهاجمون والمدافعون بالسلاح الأبيض، ولكن القذائف والسهام التي صبَّت بكثافة على

المهاجمين كبَّدتهم خسائر فادحة بالأرواح. وأمر السلطان الفاتح بانسحاب جنوده، كما أمر بتكثيف نيران المدفعية على السور ومواقع المدافعين، فنصبت المدافع في أقرب مكان من السور، وأخذت تقصف المنطقة التي يدافع عنها جستنيان. وتحت ستار قصف المدفعية الكثيف زحف الجنود العثمانيون، وهاجموا مرة أخرى السور، ولكن جستنيان وجنوده ثبتوا لهذا الهجوم أيضاً. وبينما كان القتال مستعراً عنيفاً مريراً عند السور البرّي، كان هناك قتال آخر لا يقلّ عنفاً وشدّة وضراوة في البحر؛ فقد أخذت السفن العثمانية بقيادة أمير البحر حمزة باشا في بحر (مرمره) وكذلك السفن العثمانية الراسية في (القرن الذهبي) أمكنتها من السور، وأخذ الجنود يطلقون عليه قذائفهم ونبالهم، وأخذ فريق منهم يتسلقونه بالسلالم والحبال وغيرها من أدوات التسلُّق، والتحموا في صراعٍ دامٍ مع المدافعين الذين هبُّوا إلى قذف السلالم إلى البحر وإطلاق النيران والسهام والقذائف على الجنود العثمانيين. وقد أثار هذا الهجوم الشديد من ناحية البحر الفزع والرعب بين سكان القسطنطينية، وجأرت أصواتهم بالدعاء والضراعة، ودقّت أجراس الكنائس دقات شديدة متوالية. وظلَّ الصراع على جانبي السور البحري على هذا النحو من الشدّة والعنف إلى آخر الحصار؛ وإذا كان العثمانيون لم يفلحوا في اقتحام المدينة من ناحية الأسوار البحرية، فإنهم شغلوا عدداً كبيراً من المدافعين الذين كان بالإمكان استخدامهم لتقوية الدفاع على الأسوار البرية.

أما جنود الأناضول الذين كانوا يهاجمون وادي (ليكوس)، فقد أمرهم محمد الفاتح بالانسحاب، وكان المدافعون قد بلغوا أقصى المدى من الكلال والجهد والإعياء، وكان الفاتح يرمي من هذه الهجمات المتواصلة إرهاق المدافعين وإجهادهم واستنزاف طاقاتهم قبل أن يضربهم الضربة الأخيرة القاضية. واغتبط جستنيان ورجاله بانسحاب العثمانيين، وارتفعت صيحات الفرح والنصر من جوانب السور، وقال جستنيان للأمبراطور قسطنطين وقد طفح وجهه بالبشر: "يا صاحب الجلالة! اطمئنوا، فإن سيوفنا قد ردَّت العدو". ولم يكد جستنيان يأخذ قسطه من الراحة، ولم يكد السلطان الفاتح يسحب رجاله من السور، حتى أمر مدفعيته بقصف السور بشدة وعنف، ثم جاء بالقسم الثالث من جنوده وهم الانكشارية وكانوا خير الجند تدريباً وتنظيماً وضبطاً وحنكة وبسالة وقيادة، وأصدر إليهم أوامر الهجوم. كان تنفيذ خطة الهجوم في هذه المرة أكثر إحكاماً ودقة، وكان الشيوخ والعلماء يشجعونهم ويحرضونهم على القتال والجهاد، وكان الصبح قد أضاء وأمكن رؤية كل شيء بسهولة ووضوح. وقاد السلطان الفاتح بنفسه هؤلاء الجنود إلى حافة الخندق، وهناك أمر الرماة والنبالة بأن يمطروا المدافعين بالنبال والسهام بحيث لا يقدر أحد منهم أن يطل برأسه من فوق السور. وتحت هذا الستار الكثيف من النبال المنهمرة الكثيفة، زحف

الانكشارية وهاجموا السور كالأسود، وكان هجوماً هائلاً اهتزَّت له جوانب القسطنطينية؛ وفي مثل لمح البصر، أقام كثير منهم السلالم على السور وقفزوا منها إلى أعلى السور في خفَّة مدهشة؛ وكانت تكبيراتهم العالية ودقات الطبول الضخمة وقصف المدفعية الكثيف تُحدث دوياً يصمّ الآذان وتلقي الرعب والفزع في نفوس سكان القسطنطينية وتؤثر في معنوياتهم وتزعزعها وتؤدي بها إلى الانهيار. وحمي وطيس القتال وبلغ أقصى مداه من العنف والشدة، لاسيما عند (طوب قبو) وباب (أدرنه)، وقد أدرك الفريقان أنها الساعة الأخيرة الحاسمة من تلك المعركة التي بدأت من خمسين يوماً. وأصيب جستنيان بجرح بالغ عجز عن احتماله، فأزمع على الانسحاب من الميدان لتضميد جرحه، وطلب إلى الإمبراطور أن يتولَّى القيادة مكانه. وارتاع قسطنطين لهذا الأمر، ورجا جستنيان ملحّاً في رجائه ألاَّ يترك مكانه، فإنَّ ذلك سيفتّ في عضد الجند ويثبّط عزيمتهم في وقت هم أحوج ما يكونون فيه إلى مَن يشدّ أزرهم، وإن مصير المدينة كلها متوقّف على قراره، ولكن جستنيان أصرَّ على أن يُنقل في الحال إلى سفينته الراسية في الميناء. ويظهر أنه كان قد أَيِسَ من استمرار الدفاع وصدّ العثمانيين عن القسطنطينية، فآثر الانسحاب والنجاة بنفسه. ونُقل القائد الجنوي إلى سفينته الراسية وراء السلسلة في (القرن الذهبي)، ومن هناك نُقل إلى جزيرة (خيوس) حيث قضى نحبه، بل لعله قد مات قبل وصوله إليها. وتولَّى قسطنطين القيادة المباشرة بنفسه، وحاول رفع معنويات

رجاله المنهارة دون جدوى. وكان هجوم الانكشارية يزداد عنفاً وشدَّة في هذه المنطقة، وارتقى كثير منهم أنقاض السور، وثبتوا أقدامهم فيها. واشترك السلطان الفاتح بنفسه في هذه المرحلة الأخيرة من الصراع، فاجتاز الخندق بحصانه، وأخذ يدير القتال بنفسه. ولم يمضِ وقت طويل على انسحاب جستنيان وتولّي قسطنطين مكانه في القيادة بمنطقة (طوب قبو)، حتى انطلقت من الجهة الشمالية للسور صيحات عالية مفزعة ما لبثت أن سرت في جميع أنحاء المدينة وهي تدوي: لقد دخل العثمانيون المدينة ... والتفت قسطنطين إلى الشمال، فإذا الأعلام العثمانية ترفرف على بعض الأبراج القريبة من باب (أدرنه). وكان يقود القوات العثمانية في هذه المنطقة (قره جه بك)، وقد حاول من قبل ذلك اقتحام هذا الباب فأخفق، فجمع قواته وشنَّ عليه هجوماً آخر أشدّ عنفاً وقوة، فزحزح المدافعين عن أماكنهم، ووثب جنوده على أنقاض السور المتراكمة إلى جنوب هذا الباب، وتمكَّن أحدهم من قتل قائد الحامية، وبمقتله انهارت مقاومة المدافعين، فولّوا هاربين وتدفَّقت جموع العثمانيين نحو المدينة. فلما رأى قسطنطين الأعلام العثمانية المرفرفة، أطلق العنان لفرسه واتَّجه نحو الشمال ليستخبر عن الأمر بنفسه، فإذا جموع العثمانيين تتدفَّق إلى المدينة كالسيل. ونزل قسطنطين عن حصانه، وخلع ملابسه الامبراطورية وسلَّ سيفه وأخذ يخبط به ذات الشمال

وذات اليمين، حتى كلَّت يده وأصابه أحد الجنود العثمانيين بضربة سيف قاتلة، فخرَّ صريعاً مضرَّجاً بالدماء. وصاح صائح بأن الإمبراطور قد قُتِل، فزاد ذلك في فزع سكان القسطنطينية ورعبهم. ولم يقف بعد ذلك شيء في وجه العثمانيين لدخول المدينة، فقد تفتَّحت لهم جميع الأبواب والمنافذ، بعد أن فرَّ حماتها وذهبوا يلتمسون النجاة لأنفسهم. واشتدَّ الهرج والمرج في المدينة، واختلط الحابل بالنابل، وتزاحم الناس يدفع بعضهم بعضاً، كل يطلب النجاة فلا يدري أين يجدها. أما عن القتال في جانب البحر، فقد ناجز العثمانيون من فوق سفنهم الراسية في بحر (مرمره) المدافعين، وظلُّوا على ذلك إلى أن رُفعت الأعلام العثمانية فوق الأبراج القائمة على السور البري، فرآها المدافعون، فخارت قواهم واستخذت عزائمهم، فمنهم من استسلم، ومنهم مَن فرَّ مع الفارّين. وانتهت صفحة من صفحات تاريخ القسطنطينية الطويل بهزيمة البيزنطيين، وبدأت صفحة جديدة من صفحات تاريخها الطويل بفتح العثمانيين. وكان آخر سطر من سطور آخر صفحة من صفحاتها البيزنطية: أن قسطنطين آخر أباطرة الروم مات بشرف في ساحة القتال، وآثر شرفه على حياته، فسقط صريعاً ولم يسقط السيف من يده. وكان أول سطر من سطور أول صفحة من صفحات العثمانية،

19 - الفاتح في القسطنطينية

أن السلطان الفاتح، صمَّم أن يكون له عرش في القسطنطينية أو يكون له قبر فيها، فاعتلى العرش لأنه طلب الموت فوهبت له الحياة. ليت قادة العرب والمسلمين اليوم يتلقَّون هذا الدرس الثمين. 19 - الفاتح في القسطنطينية: وقف محمد الفاتح وهو على صهوة جواده ينظر إلى جنوده وهم يدخلون من كل حدبٍ وصوب مدينة القسطنطينية ترفرف عليهم أعلام النصر، وأقبل عليه كبار رجاله تطفح وجوههم بالبشر والسعادة يهنِّئونه بالفتح، فكان الفاتح يجيبهم: "حمداً لله، ليرحم الله الشهداء، ويمنح المجاهدين الشرف والمجد ولشعبي الفخر والشكر". أما أهل القسطنطينية فقد تملَّكهم الخوف والذعر، إذ كانوا يعتقدون أن العثمانيين وحوشٌ كاسرة. ولعلَّهم ذكروا دخول الصليبيين مدينتهم قبل قرنين ونصف، وما ارتكبوه فيها من التقتيل والتدمير والتحريق. وكان معظم سكان القسطنطينية قد لجؤوا إلى الكنائس وبخاصة كنيسة آياصوفيا التي غصَّت بجموعهم، وغلقوا على أنفسهم الأبواب. وعند الظهيرة توجَّه الفاتح إلى القسطنطينية على ظهر جواده، يحفّ به كبار رجال دولته وحرسه، وقد أعجبته المدينة بآثارها الرائعة ومبانيها الفخمة، وكان ألوف من العثمانيين يحيطون بموكبه. ولما بلغ الفاتح منتصف المدينة توقَّف عن السير وقال لمن حوله من الجند: "أيها الغزاة المجاهدون! حمداً لله وشكراً، لقد أصبحتم فاتحي

القسطنطينية. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لتفتحنَّ القسطنطينية، ولنعم الأمير أميرها، ولنعم الجيش ذلك الجيش) "، ثم هنَّأهم بالنصر ونهاهم عن القتل والنهب والسلب، وأمرهم أن يكونوا أهلاً للشرف الذي حباهم به الرسول صلى الله عليه وسلم. وترجَّل الفاتح عن فرسه، واستقبل الكعبة وسجد على الأرض، وحثا التراب على رأسه شكراً لله على ما منحه من توفيق ونصر. ثم استأنف سيره إلى كنيسة آياصوفيا، ولما اقترب منها، وصلت إلى سمعه أصوات خافتة حزينة هي أصوات الصلوات والدعوات التي كانت تجري فيها. وقصد الفاتح إلى أحد أبواب الكنيسة، وكان باباً منيعاً حصيناً، فوجده مغلقاً. وعلم الراهب بمقدم الفاتح، فأمر بفتح ذلك الباب على مصراعيه، وانتاب الناس خوف عظيم وفزع لحضور السلطان، وتوجَّسوا شرّاً وقطعوا ما كانوا فيه من الصلاة والدعاء، وساد بينهم لغط وضجيج؛ فما كان من الفاتح إلا أن طلب من الراهب أن تستمر الصلاة كما كانت من قبل، وأن يبقى كل إنسان في مكانه دون أن يجزع، فتمّت الصلاة في هدوء وأمان. وسجد الفاتح مرة أخرى سجدة الشكر، وأخذ يحمد الله ويشكره، ثم طلب إلى الراهب أن يأمر المصلين بالعودة إلى منازلهم آمنين على أنفسهم وأموالهم وأعراضهم، وأن يعود كل إنسان إلى ما كان يمارسه من قبل من عمل وحرفة. ونزل هذا الكلام برداً وسلاماً على هؤلاء الناس الذين كانوا يتوقَّعون أن ينزل بهم أشدّ أنواع البطش والتنكيل، وشاعت في نفوسهم الراحة والطمأنينة، وبعث الفاتح إلى مختلف أرجاء المدينة نفراً من رجاله لتأمين الناس وليعودوا

إلى حياتهم العادية. وفيما كان الفاتح يطوف بأرجاء كنيسة آيا صوفيا، إذ سمع قرعاً ونقراً من ورائه، فالتفت فرأى أحد جنوده يضرب بفأس في يده عموداً من المرمر كانت معلقة عليه إحدى الصور المقدسة عن المسيحيين. واقترب الفاتح من الجندي وقال له غاضباً: "ماذا تعمل"؟! فأجابه الجندي الأمي بكل بساطة: "ألستَ مسلماً؟ أريد محو آثار الكفار"! فقال له الفاتح: "ليس من الحق تخريب المعبد"، ثم خطف الفأس من يده وضربه بها على رأسه. وكان نفرٌ من الرهبان مختبئين في سراديب الكنيسة خوفاً من القتل، فلما سمعوا بما فعله الفاتح، ولمسوا حسن رعايته للنصارى، خرجوا من مخابئهم وأعلنوا إسلامهم، وعرف أحدهم الذي كان أكبرهم سناً باسم: بابا محمد (1). وأمر السلطان الفاتح بعد ذلك بتحويل تلك الكنيسة إلى مسجد، وطلب إلى أحد العلماء الذين كانوا برفقته أن يؤذن، فجلجل صوته بالأذان، وأدَّى صلاة العصر، وأعلن أنه سيصلي صلاة الجمعة القادمة في المسجد الجديد. وقصد إلى قصر الإمبراطور، وتجوَّل في صالاته وغرفه، وقد كان مهملاً بدت عليه الوحشة والظلام والكآبة. وسأل الفاتح عن قسطنطين وجستنيان ونوتاراس، فلم يأته منهم غير نوتاراس الذي كان يقوم بالإدارة المدنية في القسطنطينية أثناء _______ (1) أحمد مختار: فتح جليل قسطنطينية.

الحصار. وقد أحسن الفاتح لقاءه وسأله عن الإمبراطور، فأجاب بأنه لا يعلم عنه شيئاً. فسأله السلطان عن مصير جستنيان فأجاب: "إن كل ما يعلمه عنه أن عقب إصابته بالجرح، نقل إلى سفينة راسية بميناء القرن الذهبي"، فأرسل الفاتح من فوره قسماً من رجاله إلى (طوب قبو) للبحث عن الإمبراطور، كما أرسل أناساً آخرين إلى الميناء للبحث عن السفينة التي يرقد فيها جستنيان وإنزاله إلى البرّ وإحضار أمهر الأطباء لمعالجته. وقد كان السلطان بطلاً يكرم البطولة ولو كانت في ألدّ أعدائه، وكان قد أظهر إعجابه بجستنيان عندما كان يدافع عن السور بحذق ومهارة وبسالة. وجاء جندي يحمل رأس قسطنطين وقد ظنَّ أنه جاء بما يفرح السلطان، فسأل الفاتح نوتاراس إن كان حقاً هو رأس قسطنطين، فأجاب بالإيجاب وهو يبكي. وعزَّ على السلطان أن يمثّل بالإمبراطور ويُزدرى على هذا النحو، فأمر بقطع رأس ذلك الجندي الذي ارتكب هذه المثلة وأن يُحتفل بدفن الإمبراطور قسطنطين بما يليق بمكانته ومنزلته (1). وسلك السلطان الفاتح نحو أهل القسطنطينية سياسة التسامح والرأفة، وأمر جنوده بحسن معاملة مَن في أيديهم من الأسرى والرفق بهم، وقد بذل الفاتح ما كان في وسعه لتخفيف آلامهم وفكّ أسرهم، وفدى عدداً من كبار الأسرى بماله الخاص. وكان كثير من سكان _______ (1) الأب دي كوبيه اليسوعي: كشف المكتوم.

القسطنطينية قد فرُّوا من المدينة عندما دخلها العثمانيون خوفاً من القتل، فأصدر الفاتح بياناً عاماً دعا فيه هؤلاء الفارين للعودة إلى مدينتهم ومنازلهم، وأمَّنهم على حياتهم وأموالهم، ودعا إلى عودة التجار والحرفيين إلى أسواقهم لمزاولة أعمالهم ومهنهم، ووعد الجميع بحريّة العبادة وممارسة شعائر دينهم. وكان الفاتح يعلم أن الروم متمسِّكون بدينهم، فرأى أن خير ما يجمع شملهم ويشجعهم على العودة إلى بلدهم والاطمئنان إلى حكمه هو أن يظهر العناية بالناحية الدينية. وكانت البطريركية إذ ذاك شاغرة، فعمل على تنصيب بطريرك رومي جديد بنفس المراسيم الفخمة التي كانت تتبع في عهد الأباطرة الأُوَل؛ فاجتمع الأساقفة وانتخبوا (جناديوس) بطريركاً لهم، وقد كان من أقوى المعارضين لاتحاد الكنيستين الشرقية والغربية. وبعد انتخابه سار في موكب حافل من الأساقفة إلى الفاتح، فاحتفى به أعظم احتفاء، وبالغ في تكريمه والترحيب به، وتناول معه الطعام على مائدته، وتحادث معه حديثاً طويلاً، ثم قدَّم إليه بعد ذلك عصا البطريركية وقال له: "إنك البطريرك، وليحفظك الله، واعتمد دائماً على صداقتي ومودّتي، وتمتَّع بكل ما كان يتمتَّع به سلفك من الحقوق والامتيازات". ولما همَّ البطريرك بالانصراف، نهض له الفاتح ورافقه إلى باب القصر، وأعانه على ركوب الجواد المطهَّم الذي أُعد له، وأمر وزراءه وكبار رجال دولته أن يصحبوه إلى مقره الذي هُيِّئ له. وقد تأثر البطريرك لما لقيه من محمد الفاتح من بالغ الحفاوة،

وشعر بشيء من الخجل، فقال للسلطان: "إنَّ الأباطرة النصارى لم يفعلوا قط مثل هذا لمن سبقه من البطاركة". وأصدر الفاتح بعد ذلك مرسوماً للبطريرك أمَّنه فيه على شخصه، وجعله برتبة الوزراء، وعهد إليه النظر في أمور الروم من الناحيتين الدينية والمدنية كالزواج والطلاق والميراث، فأصبح البطريرك بذلك زعيماً دينياً وسياسياً للروم. ولم تمضِ بضعة أيام على فتح القسطنطينية، حتى ساد الأمن والسكينة ربوع المدينة، واستأنف الناس حياتهم المدنية العادية في أمن وسلام. وكان الدوق نوتاراس كما ذكرنا قد قابل السلطان ولقي منه كل حفاوة ورعاية. وقد عاتبه السلطان على عدم تسليم المدينة بعد أن أرسل إليها الإنذار الأخير، فأجاب نوتاراس بأن استمرار المقاومة يرجع إلى الجنود الأجانب وإلى الرسائل التي كان يبعثها أحد وزراء السلطان إلى قسطنطين يحثه فيها على مواصلة المقاومة وعدم الاستسلام، ويطمعه في رفع الحصار، وقد اهتمَّ قسطنطين بهذه الرسائل وعمل بها. وما إن سمع خليل باشا هذا حتى ظهر عليه الارتباك والخوف، وكان واقفاً بجانب السلطان فصاح: "كلا يا سلطاني! من المستحيل أن يوجد في معيَّتكم من يرتكب مثل هذا الخزي والعار. إنَّ هذا الكافر يفتري كذباً، فلا تسمحوا له بالكلام واقطعوا رأسه"، فقال له السلطان: "فلماذا ترتبك إذن؟! ألا تجيب على هذه التهم الموجهة إليك؟! " وعزله السلطان عن الوزارة وعهد بها إلى محمود باشا، ورعايةً لكبر سن خليل باشا، اكتفى بمصادرة أمواله وحبسه، وقد بقي في السجن حتى وافاه الأجل المحتوم.

وأمَّا نوتاراس فقد صفح عنه السلطان وأكرمه ووهب له ولأولاده مالاً كثيراً، وذهب في اليوم التالي إلى بيته لعيادة زوجته المريضة، فواساها وأسبغ عليها من عطفه ورعايته. ولكن نوتاراس ومَن معه من نبلاء الروم أغرتهم هذه المعاملة الحسنة من الفاتح وأطمعتهم، فأخذوا يأتمرون لإخراج المسلمين من القسطنطينية، وبعثوا رسلاً إلى إيطاليا يدعون إلى حملةٍ صليبيةٍ ضدَّهم، فأمر السلطان الفاتح باعتقالهم وقتلهم. واستعرض الفاتح جنوده بعد فتح القسطنطينية استعراضاً عسكرياً، ومثل هذا الاستعراض من التقاليد العسكرية التي لا تزال متَّبعة في الجيوش الحديثة حتى اليوم، ثم أُقيمت بين الجنود مسابقة في الرماية بمختلف الأسلحة، فأقبلوا عليها بشوقٍ وكفاية. والحقُّ أنَّ الجنود العثمانيين المشاة منهم والفرسان والمدفعية أبدوا مهارةً فائقةً في التصويب الدقيق أثناء الحصار، فحرَّم رماة السهام على المدافعين عن الأسوار الظهور من شرفاتها، ودكَّ جنود المدفعية تلك الأسوار وكانت إصاباتهم مركزةً تركيزاً مباشراً، وكان لتدريب العثمانيين على الرماية تدريباً راقياً أثرٌ كبيرٌ في إحراز النصر. وقد أقام الفاتح لجنوده بعد انتهاء مسابقة الرماية مآدب حافلةً كرَّم فيها الأبطال الذين برزوا في القتال، والأبطال الذين تفوقوا في الرماية بخاصَّة، وسائر الجنود والمجاهدين والعلماء والشيوخ الذين شهدوا الفتح. وقد استمرت المآدب ثلاثة أيام، أُقيمت خلالها الزينات والمهرجانات والأفراح، وكان السلطان الفاتح يخدم جنوده بنفسه، وقد وزَّع عليهم العطايا والهدايا والمنح.

وفي أثناء الاحتفالات خطب الشيخ العالم الورع آق شمس الدين الذي شحن الجنود بطاقاتٍ دينيةٍ مذهلةٍ في أيام الحصار، فقال: "يا جنود الإسلام! اعلموا واذكروا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في شأنكم: (لتفتحنَّ القسطنطينية، فلنعم الأمير أميرها، ولنعم الجيش ذلك الجيش)، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا ويغفر لنا جميعاً. أَلا لا تسرفوا ما أصبتم من أموال الغنيمة ولا تبذروا، وأنفقوها في البر والخير لأهل هذه المدينة، واسمعوا لسلطانكم وأطيعوه وأحِبُّوه"، ثم التفتَ إلى الفاتح وقال له: "يا سلطاني! لقد أصبحتَ قرَّة عين آل عثمان، فكن على الدوام مجاهداً في سبيل الله"، ثم صاح مكبِّراً بصوتٍ جهوري جليد (1). وقد اهتدى الشيخ آق شمس الدين بعد فتح القسطنطينية إلى قبر الصحابي الجليل أبي أيوب الأنصاري بموضعٍ قريبٍ من سور القسطنطينية، فأمر السلطان الفاتح ببناء المسجد والحجرات والقبَّة على ذلك الموضع. وما إن تمَّ بناء المسجد حتى قصد إليه السلطان وأدَّى فيه الصلاة. وهناك نهض الشيخ آق شمس الدين وسلَّم إليه سيفاً عظيماً، وجرت السنَّة بعد ذلك أن يكونَ تقليد السلطان الجديد وتنصيبه في ذلك المسجد. وبعد ذلك الفتح المبين أُطلقت على السلطان محمد الثاني كنية (أبو الفتح). وقد أثار فتح القسطنطينية أشدَّ الفزع والرعب بين أهل (غلطه)، وكانت هذه المدينة أثناء الحصار تعمل بوجهين، وتنافق الفريقين _______ (1) أحمد مختار: فتح جليل قسطنطينية.

المتقاتلين على السَّواء، فكانت تقدِّم معونتها إلى الفاتح وتنقل إليه أسرار الروم العسكرية، وفي نفس الوقت كانت تنقل إلى الروم أسرار العثمانيين العسكرية وترسل جنودها إلى القسطنطينية للدفاع عنها (1)، وتَزويد المحاصَرين بالمواد التموينية والأسلحة. وكان الفاتح على علمٍ بكل ما كانت تفعله (غلطه) ضدَّه أثناءَ الحصار، ولكنَّه آثرَ الإغضاءَ إلى أن تواتيهُ الفرصة المناسبة، فلما فتح القسطنطينية رأى حاكم (غلطه) أن يتفادى الاصطدام بالعثمانيين في حربٍ لا قِبَلَ له بها، فبعث إلى السلطان الفاتح في نفس اليوم الذي فُتحت فيه القسطنطينية وفداً يحمل الهدايا ومفاتيح (غلطه) ويلتمس منه عطفه وأريحيَّته، وطلب الحاكم إلى السكان ألاَّ يقلقوا ويظلوا هادئين رابطي الجأش، وأمر السفينة الراسية في الميناء أن تبقى في أماكنها، وكان الحاكم يرمي من وراء ذلك كله أن ينال أفضلَ ما يمكن نيله من الشروط والمزايا. وجاء زغنوس باشا إلى (غلطه) فأمَّن أهلها باسم السلطان وهدَّأ روعهم، غير أن قسماً من الناس تسللوا في جنح الليل وفرُّوا على السفن، فغضب السلطان الفاتح لذلك، وذكر للوفد الجنوي أنه كان على علم تام بأعمال سكان (غلطه) ومعاونتهم لأهل القسطنطينية أثناء الحصار، وأن ذلك نقض للعهد وخروج على الحياد؛ فطلبوا الصفح من السلطان، وتضرَّعوا إليه في ذلك حتى رضي وعفا عنهم، وأمَّن أهل (غلطه) على حياتهم وأموالهم. _______ (1) فريدون بك: منشآت السلاطين.

وأصدر زغنوس باشا مرسوماً في هذا الأمر باسم السلطان، ضمن لهم فيه حرية العبادة وبقاء كنائسهم، وأن تكون لهم إدارتهم الداخلية الخاصة وينتخبوا حاكمهم بأنفسهم، وضمن لهم كذلك حرية التجارة في جميع أرجاء الدولة العثمانية براً وبحراً على أن يدفعوا جزية سنوية وتهدم أسوار مدينتهم. وبعد خمسة أيام من فتح القسطنطينية، زار الفاتح مدينة (غلطه)، فنزع عنها جميع الوسائل التي تغريها أو تعينها على العصيان والثورة، فجرَّدها من السلاح وهدم أسوارها من ناحية البر لتكون مفتوحة أمام الجيوش العثمانية، وأبقى على أسوارها من ناحية البحر. ووجد الفاتح كثيراً من البيوت والمحلات في (غلطه) خاوية قد هجرها أهلها وأصحابها، فأمر بإحصاء هذه المباني وتسجيلها في سجل خاص لكي لا يضيع منها شيء. وبعث الفاتح رسولاً خاصاً ومعه رسالة من الحاكم الجنوي إلى الجنويين الذين فرُّوا إلى جزيرة (خيوس) يدعوهم للعودة إلى (غلطه) حيث يستعيدون جميع أملاكهم، وأمهلهم ثلاثة أشهر - وهي مدة كافية لانجلاء الموقف ومعرفة الحقائق بعيداً عن التهويل والدعايات المعادية والإشاعات المغرضة -، فإن عادوا خلال هذه المدة أعيدت إليهم جميع أملاكهم ومتاجرهم وأموالهم وأمتعتهم، وإلا أصبحت للدولة. وقد كان استسلام مستعمرة (غلطه) أسوأ ما نزل من الكوارث بجمهورية (جنوا) الإيطالية، فضاعفت نشاطها وجهودها في محاربة العثمانيين، وأخذت تؤلِّب دول أوروبا لشنّ حرب صليبية شاملة عليها.

20 - صدى الفتح

والواقع أن معاملة الفاتح لسكان القسطنطينية - وبخاصة إذا قورنت بمعاملة الفاتحين في أيامه، تعتبر معاملة مثالية حقاً. وإذا قورنت هذه المعاملة الحسنة بمعاملة الصليبيين السيئة حين استولوا على القسطنطينية قبل قرنين ونصف من ذلك العهد، نجد سماحة المسلمين وأريحيتهم مع النصارى أفضل بكثير من معاملة الصليبيين لإخوانهم في الدين. وهذا الفرق الشاسع في المعاملة، اعترف به المؤرخون المنصفون من المسيحيين، أما غير المنصفين فلا عبرة لادّعاءاتهم، ولا قيمة لافتراءاتهم لأنهم يصدرون عن حقد وضغينة ويخضعون لنوازع الهوى لا لحقائق التاريخ (1). 20 - صدى الفتح: كان حصار محمد الفاتح للقسطنطينية هو الحصار العثماني الخامس لعاصمة الدولة الشرقية، وقد حاصرها (بايزيد) مرتين، ثم حاصرها ولده موسى لثالث مرة، وحاصرها مراد الثاني الحصار _______ (1) من المؤسف أن ينقل قسم من الكُتاب العرب والمسلمين مزاعم المفترين الحاقدين من مؤرخي الغرب، بدون تمحيص دقيق ولا دراسة عميقة. من هؤلاء الكتَّاب الأستاذ محمد عبد الله عنان في كتابه: مواقف حاسمة، فقد نقل افتراءات الغربيين بحذافيرها في بحثه: فتح العثمانيين لقسطنطينية (169 - 200). وأفترض توفر النية الحسنة في نقله، لأنه اقتصر على المصادر الأوروبية فقط، والمصادر غير المنصفة بوجه الخصوص، وآمل أن يعيد النظر فيما كتب ويرجع عما سجَّله من أخطاء تاريخية، فليس ما كتبه تاريخاً بل اتهامات باطلة، يرفضها المنطق والعقل، ولا تتناسب مع علمه وفضله وجهوده في خدمة التاريخ العربي الاسلامي.

الرابع، ثم كان الحصار الخامس والأخير على يد محمد الفاتح. وحوصرت القسطنطينية منذ تأسيسها تسعاً وعشرين مرة، وسقطت في أيدي الغزاة سبع مرات، كانت في كل مرة تعود بعدها إلى مُلك القياصرة، وسقطت للمرة الثامنة في يد محمد الفاتح، وكانت خاتمة القياصرة وخاتمة الدولة الرومانية الشرقية، وكان خروجها لأول مرة من حظيرة النصرانية إلى حظيرة الإسلام. وهكذا سقطت القسطنطينية في يد العثمانيين بعد حصار صارم دام ثلاثة وخمسين يوماً، بعد قتال عنيف أبدى فيه العثمانيون أعظم ضروب الإقدام والجرأة والشجاعة، وبذلك سقطت هذه المدينة بعد حياة طويلة حافلة دامت منذ أنشأها قسطنطين ألفاً ومئة وخمسة وعشرين عاماً. وقد كان سقوط القسطنطينية في يد العثمانيين حادثاً جللاً، اهتزت له أوروبا النصرانية من أقصاها إلى أقصاها، ورأت فيه نذيراً مزعجاً لتجدّد قوى الإسلام. والحق أن النصارى قد انبعث فيهم نوع من الروح الصليبية القديمة، وتداعى النصارى إلى طرح الحزازات والاختلافات والاتحاد ضد العثمانيين. وأنحى الكاردينال (سنت أنج Saint Ange) باللوم على اللاتين وقرَّعهم على تخاذلهم عن نجدة الروم، وألقى عليهم تبعة هذه الكارثة المفجعة. وكان البابا نيقولا الخامس أشد الناس تأثراً بنبأ سقوط القسطنطينية في يد العثمانيين، وجدَّ في توحيد الدول الإيطالية وتأليبها على قتالهم، ورأس مؤتمراً عُقِد في روما أعلنت الدول المشتركة فيه عزمها على التهادن فيما بينها وتوجيه جميع

جهودها وقواها ضد العدو المشترك. وكاد هذا الحلف الصليبي يتم لولا أن البابا اشتدَّ عليه أثر الصدمة العنيفة من نبأ سقوط القسطنطينية فأضناه الكمد والهمّ فمات في 25 من آذار (مارس) سنة 1455م، وترك لخلفائه مواصلة العمل لإكمال ما شرع فيه. وكان من أعظم الناس تأثراً باستيلاء العثمانيين على القسطنطينية فيليب الطيب دوق (بورغنديا)، وقد كان هذا الدوق بطبعه ذا نزعة صليبية عارمة، وكان من أشد الناس حماسة لقتال العثمانيين من قبل سقوط القسطنطينية. فلما استولى العثمانيون على هذه المدينة وجاءه رسول البابا سنة 1453 م يستحثّه على قتال محمد الفاتح، التهب حماسة وحمية واستنفر جميع النصارى إلى هذا القتال، وذهب بنفسه إلى ألمانيا يستنهض إمبراطورها فريدريك الثالث الذي وعده خيراً. وبعث هذا الإمبراطور بدوره إلى ملك فرنسا شارل السابع، ولم يكن شارل في حاجة إلى مثل هذه الإثارة والتحريض، فقد كان يتحفز حمية وشوقاً إلى قتال العثمانيين، ولكن كان عليه إذ ذاك أن يواجه عدواً آخر أكثر قرباً منه وأشد خطراً عليه وهم الإنكليز، فرأى أن ينهي أمره معهم أولاً، ثم يتفرغ بعد ذلك للعثمانيين، واكتفى آنئذٍ بأن عاون في تقوية تحصينات جزيرة (رودس) التي كان يتوقع أن يغزوها السلطان الفاتح. أما الدوق فيليب الطيب، فإنه ما إن عاد إلى (فلاندرس) حتى أقام حفلة تمثيلية في مدينة (ليل Lille) لاستثارة الحمية والنخوة، دعا إليها نبلاء قومه. وعرض في هذه الحفلة منظراً يمثل سقوط القسطنطينية واستغاثتها بحماة النصرانية، وأعلن الدوق بعد ذلك أنه سيسير بنفسه إلى قتال العثمانيين، وحذا حذوه جميع النبلاء والفرسان.

ولم تلبث أن تحولت فكرة قتال العثمانيين إلى قتال المسلمين كافة وغزو بلادهم انتقاماً للقسطنطينية (1). أما النصارى الذين كانوا يجاورون السلطان الفاتح أو يتاخمونه في (طرابزون) و (آماسيا) وبلاد (الموره) و (لسبوس) وغيرها، فقد اضطرهم قربهم من الفاتح أن يكتموا شعورهم الحقيقي، فتظاهروا بالفرح وبعثوا وفودهم إلى السلطان في (أدرنه) لتهنئته على انتصاره العظيم، وكان في مقدمة هؤلاء المهنئين رسل حاكمي (الموره) أخوي الإمبراطور قسطنطين. ولم يجد السلطان الفاتح بدّاً من مواصلة الحرب إزاء الثورة العارمة والسخط الشديد في أوروبا، فاستطاع أن يقضي على كل الدول النصرانية القريبة من (بيزنطة)، فقضى على قوات البلقان والبلغار، وهزم المجر هزيمة ساحقة. عند ذلك بدأت أوروبا تنصرف عن حرب العثمانيين، إذ وجدت أن بُعد المسافة وسوء المواصلات في ذلك الوقت، يحول دون قتال _______ (1) يقول المؤرخ ابن تغري بردي في كتابه: (حوادث الدهور): "وفي هذا الشهر (ربيع الآخر 861 هـ - مايس - مايو - 1457 م) وردت الأخبار من الإسكندرية وغيرها من بلاد الساحل، أن الإفرنج عمرت نحو ثلاثمئة مركب لغزو سائر سواحل الإسلام من الروم إلى الإسكندرية ودمياط مكافأة لأخذ السلطان محمد بن عثمان اسطنبول من الإفرنج خزاهم الله، فلم يلتفت السلطان لهذا الخبر لعزة شوكة الإسلام ونصرته إن شاء الله إلى يوم القيامة". والواقع أنه بعد ذلك بقليل وصل إلى الشرق أسطول صليبي وأخذ يُغِير على المدن الإسلامية في شواطئ آسيا الصغرى ويخربها، ولكنه اقتصر على ذلك ولم يتعدَّه إلى المدن الإسلامية. انظر الهامش رقم 1 في ص 105 من كتاب: محمد الفاتح.

العثمانيين. وظهر واضحاً أن هذه الاتفاقيات ووحدة الصف المسيحي لو تمَّت؛ فإنها لا تستطيع قهر العثمانيين أو التغلُّب عليهم، وبخاصة بعد معركة (نيكوبوليس) التي دافع فيها العثمانيون عن مركزهم بنجاح أذهل ملوك أوروبا وأمراءها وشعوبها، وكانت نتيجة هذه المعركة خيبة أمل المسيحيين بدرجة لم يعد معها من السهل استثارة الأوروبيين من جديد لحرب المسلمين. كما أن هذه الحملات كانت تستلزم جمع المال الوفير للاستعداد للحرب، ولتحرير الأسرى بعد الحرب، ولم يعد الأوروبيون يطمئنون بسهولة إلى إنفاق أموالهم في حملات غير مضمونة النتائج ولا مأمونة العواقب. ولكن بالرغم من ذلك لم تكن البابوية زعيمة المسيحية لتنصرف إلى اليأس أو تخلد إلى السكون، فكانت تخشى اعتداء العثمانيين على البلاد المجاورة لهم والتي تخضع للنفوذ البابوي الديني، فحوّلت البابوية الفكرة الصليبية من محاولة انتزاع الأرض المقدسة من المسلمين إلى صراع دفاعي هدفه إنقاذ أوروبا الكاثوليكية من العثمانيين. لذلك حاول البابا بيوس الثاني بكل ما أوتي من مقدرة خطابية ومهارة سياسية تأييد الفكرة الصليبية الجديدة، وحاول توحيد أوروبا ضد العثمانيين. فقد حاول أولاً أن يقنع العثمانيين باعتناق الدين المسيحي، ولكنه لم يرسل البعثات التبشيرية لذلك الغرض إلى القسطنطينية أو إلى (أدرنه) وبلاد العثمانيين الأخرى، بل اكتفى بإرسال خطاب إلى السلطان الفاتح يطلب منه أنْ يعضد المسيحية كما عضدها من قبله قسطنطين وكلوفيس، وأن يكفِّر عن خطاياه باعتناق المسيحية ويُخلِص لهذا الدين.

وبالطبع كانت محاولته هذه عبثاً من العبث، وأكبر الظن أنه كان يعلم مقدماً بأن الفاتح لا يوافق على هذه الدعوة ولا يعتبرها دعوة جدّيّة تستحق أقل الاهتمام. ولما أخفق البابا في محاولته هذه، لجأ إلى خطة التهديد والوعيد واستعمال القوة، وذلك عن طريق إقناع الدول المسيحية بتكوين حملة صليبية جديدة ضد العثمانيين؛ ولكن الدول الأوروبية والجمهوريات الإيطالية لم تنفذ هذا المشروع بالرغم من الخطر الذي يهدد معظمها، وبالرغم من أن القيام بحملة صليبية مازالت من المثل العليا الأوروبية. فقد وعدت بعض الدول بالاستعداد لتحقيق فكرة البابا، وعندما جاء وقت العمل اعتذرت دول عديدة بكثرة مشاغلها ومتاعبها الداخلية، وانتهى الأمر باتفاق الملكيات الأوروبية والجمهوريات الإيطالية في (لودي) على الاتحاد ضد العثمانيين وذلك في عام (1454 م)، ولكن ذلك الاتفاق سرعان ما تحطَّم، فقد انفصلت (البندقية) عن الاتحاد وعقدت معاهدة صداقة وحسن جوار مع العثمانيين رعاية لمصالحها التجارية وغيرها في الشرق الأدنى، وقامت الحرب على قدم وساق في شبه الجزيرة الإيطالية، واهتم الكاثوليك باضطهاد أتباع (يوحنا هوس) أكثر من اهتمامهم بمحاربة المسلمين. وكانت إنكلترا منهمكة في مشاغلها الدستورية وحروبها الأهلية. أما فرنسا فقد خرجت من حرب المئة عام وهي في حالة داخلية لا تسمح لها بإشعال حرب ضد العثمانيين، كما كانت إسبانيا تناضل في ذلك الوقت في سبيل وحدتها القومية ضد المسلمين في الأندلس.

لقد قدَّرت البابوية وقدرت دول الغرب الخطر الحقيقي الداهم نتيجة لسقوط القسطنطينية بيد العثمانيين، وقد شعروا جميعاً أنهم بفقد هذه المدينة فقدوا أعظم عضد وأمنع معقل يحمي النصرانية في المشرق، وشعرت الأمم النصرانية كلها بأنها تواجه موجة جديدة من الخطر الداهم مشحونة بالويل والثبور على حاضرها ومستقبلها. لقد بدأت الفتوح العثمانية تنساب بسرعة مذهلة إلى شمال البلقان وجازت إلى ما وراء الدانوب، وبدأت القوة البحرية العثمانية تتوغَّل في مياه البحر الأبيض المتوسط وتهدد سيادة البندقية وجنوا البحرية، وكان استيلاء الفاتح على ثغر (أوترانتو) في جنوب إيطالية سنة (1480 م) عاملاً جديداً في إذكاء الفزع والروع في إيطالية وباقي الأمم النصرانية. والحقيقة أن سقوط القسطنطينية كان فاتحة لسلسلة طويلة من الفتوح والانتصارات العثمانية الباهرة في البر والبحر، ولم يأتِ أواسط القرن السادس عشر حتى استطاع العثمانيون أن يبسطوا سلطانهم على مناطق شاسعة في أوروبا الوسطى مثل المجر ورومانيا وجنوب بولونيا وأجزاء من شرق النمسا، وزحف العثمانيون على (فْيِنَّا) وحاصروها لأول مرة في سنة (1529 م)، ثم حاصروها للمرة الثانية في سنة (1683 م)، وبالرغم من إخفاق العثمانيين في هذين الحصارين الشهيرين، فإن مجرَّد وصول الفتوح العثمانية الى قلب أوروبا النصرانية على هذا النحو، كان مثار الروع في جميع الأمم الأوروبية، وكان في أحيان كثيرة عاملاً من عوامل جمع كلمة العروش النصرانية واتحادها على مقاومة الخطر المشترك ورد الغزاة إلى الجنوب والشرق. ولم تستطع الدول الأوروبية أن تفعل شيئاً حاسماً ضد العثمانيين

نظراً لظروفها الداخلية واستشراء العداوة فيما بينها، كما أن العثمانيين كانوا في أوج قوتهم وعظمتهم، وكانوا يسيرون على الطريق الصحيح إدارة وتنظيماً وقيادة. لقد كان سقوط القسطنطينية كارثة قاصمة للدول الغربية، وكان نصراً حاسماً للإسلام والمسلمين. فقد استقبلت دول الشرق الإسلامي فتح القسطنطينية بأعمق مشاعر الفرح والحبور، بعكس استقبال دول الغرب لهذا الفتح، إذ عمَّ الفرح والابتهاج بين المسلمين في ربوع آسيا وإفريقية. وما إن وصل رسل السلطان الفاتح إلى مصر والحجاز وفارس والهند وهي أكبر الدول الإسلامية في ذلك الوقت يحملون نبأ هذا الفتح حتى هلَّل المسلمون وكبَّروا، وأذيعت البشائر من منابر المساجد وأقيمت صلوات الشكر، وزُيِّنَت المنازل والشوارع والدكاكين والحوانيت، وعلِّقت على الجدران والحوائط الأعلام والأقمشة المختلفة الألوان، وأمضى الناس في هذه البلاد أياماً كأحسن ما تكون أيام الأعياد الإسلامية روعة ورونقاً وبهاء. وندع المؤرخ المصري المعاصر أبا المحاسن بن تغري بردي يصف شعور الناس وحالهم في القاهرة بعد أن وصل إليها رسول السلطان الفاتح ورفقته في الثالث والعشرين من شوال سنة سبع وخمسين وثمانمئة الهجرية (27 من تشرين الأول - أكتوبر - سنة 1453 م) بنبأ فتح القسطنطينية ومعهم الهدايا وأسيران من عظماء الروم، قال: "قلت ولله الحمد والمنَّة على هذا الفتح العظيم، وجاء القاصد المذكور ومعه أسيران

من عظماء اسطنبول، وطلع بهما إلى السلطان - سلطان مصر إينال - وهما من أهل قسطنطينية وهي الكنيسة العظمى باسطنبول، فسُرَّ السلطان والناس قاطبة بهذا الفتح العظيم، ودُقَّت البشائر لذلك، وزُيِّنت القاهرة بسبب ذلك أياماً. ثم طلع القاصد المذكور، وبين يديه الأسيران إلى القلعة في يوم الإثنين الخامس والعشرين من شوال، بعد أن اجتاز القاصد المذكور ورفقته بشوارع القاهرة، وقد احتفلت الناس بزينة الحوانيت والأماكن وأمعنوا في ذلك إلى الغاية، وعمل السلطان الخدمة بالحوش السلطاني من قلعة الجبل ... " (1). ويقول ابن تغري بردي في كتاب آخر: "ثم طلع قاصد متملك بلاد الروم ورفقته إلى القلعة من غير أن يحضر القضاة، وتمثَّلوا بين يدي السلطان، وقدَّموا ما معهم من الهدية التي أرسل بها مرسلهم، وكانت تسعة أقفاص ... ، فقبلها السلطان ورحَّب به، ثم أنزل إلى محل إقامته ومعه رفقته وهم يتفرَّجون في الزينة، وكانت عظيمة واستمرت أياماً، وتغالى العوام في شأنها مع استمرار دق البشائر في صباح كل يوم أياماً" (2). ويقول ابن إياس صاحب كتاب (بدائع الزهور): "فلما بلغ ذلك دقت البشائر بالقلعة ونودي في القاهرة بالزينة، ثم إن السلطان عيَّن برسباي أمير خور ثاني رسولاً إلى ابن عثمان يهنئه بهذا الفتح". وما يقال عن الأفراح التي أقيمت بمصر، يقال عن الأفراح التي أقيمت في كل بلد إسلامي في آسيا وإفريقية. لقد كان من حق المسلمين أن يحتفلوا بهذا النصر الإسلامي الحاسم. _______ (1) النجوم الزاهرة. (2) حوادث الدهور.

خريطة البلقان

21 - الفتوح

21 - الفتوح: أ) كان فتح القسطنطينية أول الغيث، ثم انهمرت الفتوح عليه. وليس في نيّتي تفصيل فتوحه، ولكنني سأمر عليها مرَّ الكرام لإعطاء صورة مختصرة جداً عنها. لقد كانت للعثمانيين سيادة على كثير من أجزاء البلقان، ولكنها كانت سيادة مزعزعة تقوى حيناً وتضعف حيناً، ولكن بعد أن وضع الفاتح يده على القسطنطينية - مفتاح أوروبا الشرقية - تيسرت الطريق وتوطدت سيادة العثمانيين، وبدأت حقاً إمبراطوريتهم في أوروبا، وسهل على محمد الفاتح فتح البلاد الصربية واليونان والأفلاق (1) والقريم والجزر الرئيسية في بحر الأرخبيل، وتم ذلك كله في خلال بضعة وعشرين عاماً من حكمه، ولم يزد خلفاؤه من بعده شيئاً ذا بال على فتوحاته بأوروبا. وكان أول هدف قصده الفاتح هو صربية التي تحدها من الغرب الدولة المجرية الكاثوليكية، وكان الصرب متعصبين لمذهبهم الأرثوذكسي تعصب الروم له. وكانت بعض أجزاء صربية تحت سيطرة العثمانيين، وكان بعض أجزائها تحت سيطرة المجر، وكانت إذا جاءها الخطر من قبل العثمانيين لاذت بالمجر، وإذا جاءها الخطر من قبل المجر لاذت بالعثمانيين. وكان أمير صربية إذ ذاك (جورج برنكوفيتش)، وبالرغم من أنه كان يدفع الجزية للعثمانيين لم يكن في الحقيقة مخلصاً في تبعيّته لهم، بل كان يخادعهم ويداجيهم ويتربص بهم، أو كما قال السلطان الفاتح نفسه _______ (1) valachia.

عنه: "كان يُظهر الصداقة ويُبطن العداوة". فلما جاءه رسول هونياد المجري يعرض عليه الاشتراك في الحلف الذي ستعقده بعض الدول الأوروبية ضد الفاتح الذي عظم خطره على أوروبا بعد فتحه القسطنطينية، بادر إلى الموافقة عليه وتأييده. ولم يخف أمر ذلك على السلطان الفاتح الذي كان يبث العيون والأرصاد في كل مكان. ولتفادي هذا الخطر، بادر إلى غزو صربية قبل أن تتخذها القوات المتحالفة قاعدة للهجوم على العثمانيين، فلما علم جورج برنكوفيتش بزحف السلطان الفاتح نحوه، أمر الناس أن يلجؤوا إلى الأماكن الحصينة وفرّ هو إلى المجر بعد أن وعدهم أنه سيأتيهم بالمدد والقوة من هناك. وأفزع ذلك البابا وشرع للنصارى صلاة التبشير فتدق النواقيس ويتوجه النصارى إلى العذراء يسألون العون ويطلبون النصر على العثمانيين، وطلب البابا إلى الناس في جميع بلاد النصرانية ألا يغفلوا عن دق الناقوس صباح كل يوم والذي سماه: ناقوس الأتراك. ودعا البابا أهل أوروبا إلى قتال العثمانيين، واختار هونياد المجري ليتولى قيادة الحملة الصليبية يعاونه في ذلك مندوبه (جان أنجيلو Jean Angelo) وذلك الراهب الخطيب المتحمس (جان كابسترانو) وكثير غيرهما من رجال الدين. وتكوَّن حلف صليبي ضد العثمانيين اشترك فيه ملك المجر وملك (أرجونة) وعدة من أمراء إيطاليا ودوق (بورغنديا) والبنادقة والجنويون وفرسان (رودس) وألمانيا وبوهيميا وبولندا وصربية. ولم ينتظر الفاتح حتى يدهمه الهجوم، بل سار إلى بلغراد في مئة

وخمسين ألف مقاتل، وحاصر تلك المدينة براً وبحراً، ودارت معارك طاحنة حولها، وتكبد الفريقان خسائر فادحة، وجرح السلطان الفاتح في فخذه جرحاً بليغاً نزف الدم منه فسقط عن ظهر جواده مغشياً عليه، وكاد يقع في الأسر لولا استقتال رجاله دفاعاً عنه. وانسحب السلطان الفاتح بجنوده، وأقيمت الاحتفالات في جميع أنحاء العالم المسيحي لاسيما روما مقر البابوية، حيث أقيمت احتفالات ومهرجانات عظيمة، وأمر البابا بأن يتخذ اليوم السادس من أغسطس سنة (1456م) وهو اليوم الذي انتصر فيه الجيش الصليبي على العثمانيين (عيد التجلي). وأعاد السلطان الفاتح الكرة على صربية، فانتصر انتصارات حاسمة على الصربيين سنة ثلاث وستين وثمانمئة الهجرية (1459م)، فأصبحت صربية عدا بلغراد ولاية من ولايات العثمانيين من ذلك الحين. كما أصبحت (البوسنة) كلها سنة سبع وستين وثمانمئة الهجرية (1463م) ولاية من ولايات العثمانيين، وأقبل أهلها على اعتناق الإسلام. كما أصبحت (الهرسك) بعد عام ولاية من ولايات العثمانيين، وأقبل أهلها على اعتناق الإسلام. وأصبحت (أثينا) في حكم العثمانيين نهائياً سنة أربع وستين وثمانمئة الهجرية (1460 م)، كما أصبحت (الموره) ولاية عثمانية أيضاً في السنة نفسها، وبذلك أصبحت اليونان كلها للدولة العثمانية.

وفي سنة ست وستين وثمانمئة الهجرية (1462م) أكمل السلطان الفاتح ضم جزر بحر الأرخبيل إلى الدولة العثمانية. وفي سنة أربع وثمانين وثمانمئة الهجرية (1479م) استتب الأمر للعثمانيين في الأفلاق ( Valachia) وهي من رومانيا. ومهد لفتح البوغدان ( Moldavia) حتى استسلمت لابنه بايزيد الثاني سنة اثنتين وستين وتسعمئة الهجرية (1554م). وفتح أماصرة وهي مدينة على البحر الأسود في آسيا سنة خمس وستين وثمانمئة الهجرية (1461هـ). واستولى على إمارة سينوب الواقعة على البحر الأسود في آسيا في السنة نفسها. وفتح أرضروم في السنة نفسها أيضاً، وكانت قد حالفت الصليبيين ضد السلطان محمد الفاتح. وفتح (طرابزون) (1) أيضاً، وكان إمبراطورها قد حالف الصليبيين ضد السلطان محمد الفاتح، وقد تم فتحها في سنة ست وستين وثمانمئة الهجرية (أواخر سنة 1461م). وبذلك قضى السلطان محمد بما أظهره من حسن السياسة ونفاذ البصيرة وقوة العزيمة وسرعة الحركة على تلك المحالفة الكبرى _______ (1) إمارة رومية نصرانية تقع في شمال شرقي آسيا الصغرى على شاطىء البحر الأسود، وقد كانت هذه البلدة بما حبتها الطبيعة من غزارة الثروة وحسن الموقع هدفاً للغزاة والمغامرين. وقد حاول مراد الثاني سنة 1442م كما حاول الجنيد شيخ أردبيل وجدّ إسماعيل مؤسس الأسرة الصفوية بفارس فتحها، فردتهما أسوارها وقلاعها المنيعة.

أو المؤامرة الكبرى التي دبرت للقضاء عليه وعلى دولته، وقد كانت تلك المؤامرة معقد آمال كبيرة للمشتركين فيها لاسيما امبراطور طرابزون وأمير أرضروم والبابا. كما طهّر الفاتح حدوده الشمالية من كل خطر، فامتدت أملاكه حتى البحر الأسود شمالاً. ب) وجدّ البابا (1) في إعداد حملة صليبية جديدة، وقد أرادها هذه المرة أن تكون حملة فريدة، إذ قرر أن يخرج بنفسه في هذه الحملة، وكتب إلى الأمراء في البندقية وبورغنديا للخروج مع قواتهم حتى يلقي في نفوس المسلمين الروع والرهبة. وفي يوم 22 من تشرين الأول - أكتوبر - سنة 1463 م أذاع البابا منشوراً حماسياً بليغاً على جميع النصارى دعاهم فيه إلى الحرب المقدسة ضد العثمانيين، وأعلن أن احتشاد الجيوش سيكون في مدينة (أنكون (2) Ancone) ، وأنذر أنّ صواعق الكنيسة ستنزل على المتخاذلين والذين يعكرون صفو السلام في الداخل بمحاربة بعضهم بعضاً. ولكي يجمع البابا أكبر قدر من المال، أمر ببيع صكوك الغفران في جميع أرجاء القارة الأوروبية، وجعل لكل ذنب ثمناً محدداً، والصك الكامل لغفران جميع الذنوب كان ثمنه عشرين ألف فلورن. وفي يوم (11 من تشرين الثاني سنة 1463 م) كتب البابا إلى دوق البندقية: _______ (1) هو البابا بيوس الثاني. (2) مدينة في منتصف إيطاليا على ساحل بحر الأدرياتيك.

"إنه عزم أن يقوم في الصيف القادم بحملة ضد العثمانيين بصحبة الكرادلة والجنود المغاوير ... ". وكتب البابا إلى أمير ألبانيا وغيره يحثهم على حشد جنودهم للحرب المقدسة ضد العثمانيين. ولم يكن السلطان الفاتح في غفلة عما يدبره البابا وحلفاؤه ويعدونه لمحاربته، فحاول أن يفسد هذه المحالفة الصليبية الكبرى ضده، ولكنه أخفق في مسعاه فلم يبق أمامه إلا أن يعتمد على نفسه وعلى قوته، وتأهب لملاقاة الحملة الصليبية التي ستهاجمه من أوروبا وآسيا. واطمأن البابا إلى نجاح خطته، ورسخ في قلبه أن الحملة القادمة ستقضي قضاء مبرماً على الدولة العثمانية، وفي (11 من حزيران - يونيو - 1464م) أدى البابا بيوس الثاني آخر صلواته في كنيسة الرسل بروما، ثم بدأ سيره إلى (أنكون) ليبحر منها إلى الشرق. وهذه أول مرة في تاريخ البابوية والنصرانية وآخر مرة أيضاً، يخرج فيها البابا من روما ليتولى قيادة حملة صليبية بنفسه، وقد انتابت البابا عند بدء سفره من روما حمى خفيفة، ولكنه لم يحفل بها وطلب إلى أطبائه ألا يذكروا عن ذلك لأحد شيئاً. لم تمضِ على رحلته ثلاثة أيام، حتى بلغه أن جموع الصليبيين المحتشدين في مدينة (أنكون) يجأرون بالشكوى لأنهم لا يجدون ما يستعينون به على السفر، فأوفد إليهم البابا: الكاردينال (جان كرفجال Jean Carvajal) لتهدئتهم. ولم يكد يقترب البابا من بحر

الأدرياتيك حتى شاهد مجموعات من الصليبيين وهم يعودون إلى أوطانهم، قد انصرفوا عن هذه الحملة المقدسة!. وكان بين المحتشدين في (أنكون) عدد كبير من رجال الحرب الأشداء المدربين على القتال، ولكنهم لما وجدوا أن الكنيسة لا تدفع إليهم شيئاً غير صكوك الغفران، ازْوَرُّوا عنها وانصرفوا إلى بلادهم ساخطين ساخرين!! ... وكان قد توافد كثير من العامة والبسطاء من أرجاء أوروبية كثيرة إلى (أنكون) بدون سلاح ولا أرزاق ولا مال، دفعتهم الحماسة الدينية الساذجة التي تتأجج في صدورهم، وكانوا واثقين أنهم سيُزَوَّدون بكل ما يحتاجون إليه من سلاح وأرزاق ومال إن لم يكن ذلك بوسيلة من وسائل الأرض فبمعجزة من معجزات السماء ... وطال بهم الانتظار، وألحّ عليهم الجوع، ولم يغن عنهم البابا شيئاً، لذلك فترت عزيمتهم وخابت آمالهم، وعادوا أدراجهم إلى أوطانهم في حالة يرثى لها. والتقوا بالبابا وهو يتهادى في محفته، فحزّ في نفسه أن يكون أول ما تقع عليه عينه انصراف هؤلاء إلى بلادهم، وأول ما تسمع أذنه قولهم: "هل نشبع بصكوك الغفران؟! هل نطعم أهلنا صكوك الغفران"؟!. وقال البابا فيما قال: " ... على أني لن أخوض غمار القتال بنفسي، فإن ضعف بنيني وجلال الكهنوتية التي لا يليق بها الضرب بالسيف يحملانني على الابتعاد عنه. ولكنني سأجثو على ركبتيَّ على كوثل (1) مرتفع أو على قمة جبل، وبين يديّ القربان المقدس، _______ (1) الكوثل: مؤخر السفينة.

وستحيطون أنتم بي (1) من حولي، وندعو الله بقلوب خاشعة ذليلة أن يهب النصر لجنودنا"، وكان هذا نص كلامه حين خطب الكرادلة. ومن الواضح أن البابا كان يزمع أن يحوز النصر على العثمانيين الأقوياء بالدعوات!! وحطَّ البابا رحاله في (أنكون) ينتظر ما سيمده به ملوك وأمراء أوروبا من جند وعتاد وسلاح ومواد تموينية وسفن حربية وسفن نقل، ولكنه لم يجد شيئاً مما كان قد أمّل، إذ لم تؤت دعوته ما كان يتوقعه؛ ففرنسا قد شغلتها دسائس ملكها لويس الحادي عشر ومكائده، وألمانية قد شملتها الفوضى والاضطرابات تحت حكم إمبرطورها الضعيف فردريك الثالث، وأمير البندقية التحق بالبابا كرهاً لا طوعاً، واعتذر دوق البندقية عن الالتحاق بالحملة متعللاً بعدم قدرته على السير بنفسه وبأسباب داخلية. واغتم البابا لعدم تلبية دعوته غماً شديداً، وثارت به العلل والأسقام، ورزحت تحت وطأتها القاتلة شيخوخته الذابلة. وعندما شاهد أسطول البندقية في الميناء على أهبة السفر قال فى توجع وحسرة: "لقد كنت قبل اليوم أنشد الأسطول لأبحر به فلا أجده، وهاهو ذا اليوم يحضر إليّ فلا يجدني"، فقد أحس الوهن يسري في جسمه، وشعر بدنو أجله، فدعا إليه جميع الكرادلة لتوديعهم، وطلب منهم أن يصلُّوا لأجله. _______ (1) يريد الكرادلة.

خريطة تبين مدى اتساع رقعة الدولة العثمانية في عهد السلطان الفاتح وأهم الفتوحات العثمانية في آسيا الصغرى.

ومات البابا بيوس الثاني بين أيدي الكرادلة في (14 من آب - أغسطس - 1464م). وهكذا انتهت الحملة الصليبية الفريدة التي دعا إليها البابا بيوس الثاني للقضاء على الدولة العثمانية. على أن أثرها لم يقف عند هذا الإخفاق وهذه المأساة المحزنة، فإنها فوق ذلك أشاعت في نفوس النصارى نوعاً من القنوط واليأس من إعداد أي حملة صليبية أخرى ضد العثمانيين. ولم يفت البابا بيوس الثاني قبل موته بعد أن تحقق من إخفاق الحملة التي أعدها أن يعود إلى محاولته الأولى، فوجّه نداء آخر إلى السلطان الفاتح دعاه فيه إلى التنصر. وكان ذلك آخر عمل قام به البابا بيوس الثاني في سبيل النصرانية. ج) ونشب القتال بين العثمانيين والبندقية في (الموره) واليونان وجزر بحر الأرخبيل ودامت الحرب ثلاث سنوات انتهت سنة (1464م)، فلم يكن لها من نتيجة غير الدمار والخراب على الروم الذين أخذوا يلوذون بالعثمانيين وينشدون حمايتهم. كما نشب القتال بين العثمانيين وإمارة (القرمان) التي كانت واحدة من الإمارات العشر التي قامت على أنقاض الدولة السلجوقية، وكانت أشدّها بأساً وأقواها شكيمة وأوسعها رقعةً، انتهت في ربيع سنة خمس وسبعين وثمانمئة الهجرية (1471م)، بفتح (القرمان) وضمها إلى الدولة العثمانية.

واختار الكرادلة بول الثاني من أهل البندقية ليكون خلفاً لبيوس الثاني، فلم تكد تتم مراسم تتويجه حتى جمع الكرادلة وشاورهم في أنجع الوسائل للقيام بالحرب المقدسة ضد العثمانيين. وما لبث البابا أن شغل عن هذا الأمر وانصرف إلى محاربة ملك بوهيميا (جورج بوديبراد George Podebrad) لحماية المنحرفين عن الكثلكة في بلاده. ووجَّه الفاتح الذي صمم أن ينزل ضربة قوية بالبندقية حملة إلى مستعمرتها الكبرى جزيرة (نيجربون Negrpont) التي تُعدّ من أكبر جزر بحر الأرخبيل والتي تقع في الناحية الغربية من هذا البحر لا يفصلها عن الأرض اليابسة اليونانية غير قناة بحرية تعرف بقناة (أوريب Euripe) ، فاستطاع اقتحامها في اليوم الثالث عشر من محرم الحرام سنة خمس وسبعين وثمانمئة الهجرية (12 من تموز - يوليو - 1470م). وكان لسقوط (نيجربون مجنّ المسيحية وحصنها دوي هائل في الغرب بأسره، فإن الناس في أوروبا إلى ذلك الوقت كانوا يعتقدون أن قوة العثمانيين في البر وحده، وكان فتح هذه الجزيرة دليلاً على أن قوة العثمانيين في البحر أيضاً، وبذلك أصبحت الشواطئ الإيطالية مفتوحة أمام العثمانيين. لذلك انصرف البابا بولص الثاني بكل قواه إلى جعل إيطاليا كلها جبهة واحدة أمام العثمانيين، فربطها بحلف واحد وثيق أذيع على الناس يوم (22 من كانون الأول - ديسمبر - 1470م) وأقيمت له الأفراح والأعياد في كل مكان. ولم يكتفِ البابا بولص الثاني بهذه الجبهة الإيطالية المتحدة،

بل أراد أن يقيم سداً منيعاً في كل موضع قد يتقدم منه العثمانيون، فأصلح ما بين الإمبراطور فردريك الثالث وماتياس كورفان ملك المجر وجعلهما يداً واحدة على العثمانيين. واستطاع الصليبيون الاتصال بأمير تركماني هو أوزون (1) حسن وعقد محالفة معه، وكان يحكم الحدود الشرقية للدولة العثمانية، ولكن السلطان الفاتح انتصر على جيش أوزون حسن سنة ثمان وسبعين وثمانمئة الهجرية (1473م) في إقليم أرزنجان وكبَّده خسائر فادحة. وعلى أثر وفاة البابا بولص الثاني في (تموز سنة 1471م)، خلفه على كرسي البابوية (سيكست الرابع Sixte IV) ، فواصل جهود سلفه في محاربة العثمانيين، ورأى أن أول خطوة يجب خطوها في هذا السبيل هو أن يستأصل جميع أسباب الشقاق والنزاع بين ملوك أوروبا ويصلح ما بينهم ويوحّد جهودهم وقواهم ويوجهها جميعاً نحو غاية مشتركة هي تحطيم الدول العثمانية؛ لذلك بعث كردنالاً ليصلح ما بين لويس الحادي عشر ملك فرنسا وشارل (دون بورغنديا) ويزيل ما بينهما من خلاف ويؤلبهما على محمد الفاتح، ولمثل هذا الغرض بعث كردنالاً آخر إلى ملكي (أرجونة) في إسبانيا والبرتغال وكردنالاً ثالثاً إلى ملكي بولندا والمجر، وجمع البابا كل ما قدر عليه من مال لتجهيز الحملة الصليبية إلى الشرق. على أن الرسل الذين بعثهم إلى مختلف الملوك لم يحرزوا في أداء رسالتهم ما كان ينتظره من النجاح والتوفيق، وأسفرت الجهود الأخيرة _______ (1) أوزون: الطويل، وأوزون حسن: حسن الطويل.

التي بذلها البابا عن تكوين حلف ثلاثي بينه وبين البندقية ونابولي عرف باسم حلف (كارافا Garaffa) ، وهو اسم المندوب البابوي الذي إليه يرجع أكبر الفضل في عقده. وكانت البندقية قد أرسلت أسطولها البحري إلى الشرق بقيادة (بترو موسينجو)، وقد وجَّه حملته هذه نحو آسيا، حيث يكون أغلب سكانها من المسلمين. وتشجيعاً لجنوده وعد بأن يمنح دوقة ذهبية مكافأة لكل من يأتيه برأس مسلم، وهي مكافأة سخية مغرية أدت إلى قتل آلاف من نصارى الروم وقدمت رؤوسهم على أنها رؤوس مسلمين! ووعد بمنح ثلاث دوقات ذهبية لمن يأتيه بأسير رجلاً كان أو امرأة. وكان (موسينجو) قد قام بتخريبات واسعة النطاق في شواطئ آسيا الصغرى، عندما جاءته في أوائل محرم الحرام سنة سبع وسبعين وثمانمئة الهجرية (منتصف حزيران - يونيه - 1472م) أمداد من السفن: ست عشرة منها أرسلتها نابولي، وتسع عشرة أرسلها البابا. وانضمت إلى هذا الأسطول الصليبي بعد ذلك سفينتان لرودس، فبلغت وحداته بذلك خمساً وتسعين سفينة. أغارت هذه السفن على (انطالية) وهي مدينة تجارية كبيرة في جنوب آسيا الصغرى حافلة بمختلف البضائع، وأغارت على شواطئ (أيونيا)، وأغارت على (أزمير)، فدمروا المساجد والكنائس وقتلوا المسلمين والمسيحيين. وفي السنة التالية أي سنة ثمان وسبعين وثمانمئة الهجرية

(1473م) تلقى (موسينجو) أمراً بأن يتبع في حملته القادمة الأوامر التي يصدرها الأمير التركماني الخائن أوزون حسن ويحاول الاتصال به، فواصل تخريباته في آسيا الصغرى التي كان يصحبها دائما أشد ضروب القسوة والفتك والتدمير وانتهاك المحرمات والمقدسات. ولكن (موسينجو) عاد إلى جزيرة (قبرس) بعد أن جاءه نبأ هزيمة أوزون حسن التي أدت إلى وقف الحملات النصرانية البحرية على مدن آسيا الصغرى. وطلب الفاتح إعداد ثلاثمئة سفينة للقيام بغزوة جديدة، وأمر بالتقدم نحو شبه جزيرة القريم في السادس والعشرين من محرم الحرام سنة ثمانين وثمانمئة الهجرية (أول حزيران - يونيو - 1475م)، ففتح مدينة (كفه) وهي أكبر قاعدة تجارية للجنويين في القريم، وفتح شبه جزيرة القريم بسهولة. وبسيطرة العثمانيين على القريم وسيطرة أسطولهم على البحر الأسود، أصبح هذا البحر بحيرة عثمانية لا ينازعهم في سيادتها منازع. وبقي أمام السلطان الفاتح ألد أعدائه: البندقية. وهاجم الفاتح المدن التي تخضع للبنادقة، بل هاجمهم في عقر دارهم، فاجتمع مجلس الشيوخ وقرر عقد صلح مع الفاتح وذلك يوم (2 من مايس - مايو - 1478م)، ولكن موافقة البندقية على شروط الفاتح جاءته متأخرة، لأنه كان في طريقه على رأس جيشه إلى (ألبانيا). وفي اليوم الرابع عشر من ربيع الأول سنة ثلاث وثمانين

وثمانمئة الهجرية (15 من حزيران - يونيو - 1478م) استسلمت (كرويا) المدينة المنيعة الحصينة في ألبانيا للفاتح. وفي اليوم الثالث من ذي القعدة سنة ثلاث وثمانين وثمانمئة الهجرية (26 من كانون الثاني - يناير - 1479م) وقع ممثل البندقية باسم حكومته معاهدة الصلح بينها وبين السلطان الفاتح، وبمقتضاها تخلت البندقية عن (أرجوس) و (نيجربون)، وسلمت (لنموس) وجميع ألبانيا ماعدا بضعة مواقع على الساحل، وتدفع للسلطان الفاتح تعويضاً حربياً قدره مئة ألف دوقة، وضريبة سنوية قدرها عشرة آلاف دوقة. وكانت هذه الشروط هي الشروط التي أصر على فرضها السلطان الفاتح على البندقية ليقبل معاهدة الصلح معها. وأصبح في وسع الأسطول العثماني بعد إبرام هذه الاتفاقية أن يجوب بحار المشرق بحرية وأمان، كما جعل كبرى الدول الإيطالية فوق ذلك طوع يدي الفاتح. وفي اليوم الرابع من جمادى الآخرة سنة خمس وثمانين وثمانمئة الهجرية (11 من آب - أغسطس - 1480م) استولى العثمانيون على مدينة (أوترانتو) الإيطالية. واستحوذ الفزع على البابا سيكست الرابع ولاح له أن روما ستسقط بيد العثمانيين كما سقطت القسطنطينية من قبل، وزاد في فزعه ما شاع من أن العثمانيين سينزلون في ساحل (مارس Marches) في وسط إيطاليا، فهمّ البابا بالفرار من إيطاليا، ولكنه تلبث قليلاً، وأذاع على أمراء النصرانية رسالة يدعوهم فيها أن يتصافوا

22 - وقع النعي

ويتهادنوا فيما بينهم ويوجهوا جميع قواهم ضد العثمانيين. وحشد أمراء إيطاليا قواتهم، ولكنهم لم يستطيعوا زعزعة العثمانيين عن مواضعهم. وحشد السلطان الفاتح جيشاً ضخماً في (أسكدار)، وغادر السلطان القسطنطينية في أوائل الربيع من سنة ست وثمانين وثمانمئة الهجرية (1481م) ليتولى قيادة جيشه، ولكن المنية عاجلته في (أسكدار)، فمات القائد البطل وبقي الجنود بلا قيادة. 22 - وقع النعي: كان قائد الحملة الإيطالية كدك أحمد باشا لا يزال في الميناء الألباني (فالو) يتهيأ للإبحار بجيشه الجديد إلى (أوترانتو) حينما بلغه نعي السلطان الفاتح، فعدل عن السفر وعاد أدراجه إلى القسطنطينية. وما لبث أن ذاع نبأ الوفاة في الشرق والغرب، فأحدث دوياً هائلاً اهتزت له النصرانية والإسلام على السواء. أما النصرانية فقد كانت هزتها هزة فرح وابتهاج، وتلقت النبأ كأحسن ما تتلقى أعظم البشرى. وكانت جزيرة (ردوس) لقربها من المدينة التي توفي فيها السلطان الفاتح أسبق إلى معرفة النبأ، فغمرها فيض من الغبطة والفرح لا يوصف، إذ كانت تتخوف من هجوم جديد يشنه عليها السلطان الفاتح بنفسه، فلم يكد يصل إليها نبأ وفاته حتى أمر رئيسها بإقامة صلوات الشكر على نجاتهم من هذا: "العدو المخيف".

ولم يكن ملك نابولي أقل ابتهاجاً بتلقي هذا النبأ، فقد تنفس الصعداء، وبادر فعرض على الجيش العثماني المعسكِر في (أوترانتو) أن ينسحب منها بأمان ويعينه على الرحيل منها. ولكن الجنود العثمانيين أبوا أول الأمر أن يصدقوا نبأ وفاة سلطانهم وحسبوه خدعة لبلبلة أفكارهم وإضعاف عزيمتهم، وأصروا على البقاء في أماكنهم. ولما رأى دوق (كلابريا) منهم ذلك، شن عليهم القتال وهجم عليهم هجوماً شديداً، وجعل شجعان رجاله في مقدمة الجيش، ولكن العثمانيين ردوهم على أعقابهم مدحورين. ولم يمضِ على ذلك غير قليل، حتى جاءهم النبأ اليقين عن وفاة السلطان محمد الفاتح، فانتابهم من ذلك هم شديد وحزن عميق، فقد كانوا يرجون أن يستأنفوا زحفهم لفتح جميع إيطاليا بعد أن استولوا على مفتاحها في الجنوب. وعرض ملك نابولي مرة أخرى على الجنود العثمانيين أن ينسحبوا آمنين على حياتهم وأمتعتهم وعتادهم. وقبل العثمانيون ذلك هذه المرة، وشرعوا ينسحبون عن إيطاليا، ولكن الإيطاليين لم يفوا بما تعهدوا فاعتقلوا قسماً من الجنود الانكشارية الذين كانوا في المؤخرة وصفدوهم بالسلاسل. على أن ما أقامه رئيس فرسان (ردوس) وملك (نابولي) من مباهج وأفراح واحتفالات لوفاة السلطان الفاتح، لا يكاد يعدّ شيئاً إلى جانب ما أقامته (روما) من مباهج وأفراح واحتفالات. وكان أشد الناس اغتباطاً فيها بطبيعة الحال البابا سيكست الرابع الذي حاول الفرار من روما حين اقترب العثمانيون من مقر عرشه. فلم يكد يبلغه

وفاة محمد الفاتح حتى أمر بفتح جميع الكنائس وأقيمت فيها الصلوات والاحتفالات، وسارت المواكب العامة تجوب الشوارع والطرقات وهي تنشد أناشيد النصر والفرح بين طلقات المدافع. وظلت هذه الاحتفالات والمهرجانات قائمة في روما طيلة ثلاثة أيام. ولم تفعل البابوية مثل ذلك قط لموت أي رجل من رجال الإسلام من قبل ولا من بعد. ولا غرو فقد حاربت البابوية السلطان الفاتح بكل ما ملكت من قوة وحيلة طيلة ثلاثين عاماً، وألّبت عليه ملوك وأمراء ورؤساء الغرب والشرق، فلم يغن ذلك عنها شيئاً، وحاولت أن تستميله وحببت إليه اعتناق النصرانية وأغرته بملك الخافقين والمجد القاهر في الأرض، فلم تفلح في مسعاها وباءت بالإخفاق الشنيع. وظل السلطان الفاتح في جهاده يمضي قُدُماً لا يصده شيء، حتى أنزل جنوده في جنوب إيطاليا، فارتاعت البابوية وأوشكت أن تلقى مصرعها، ولكن القدر المحتوم كان قد جعل للفاتح أجلاً ينتهي عنده، لا يستقدم ساعة ولا يستأخر، فتخلصت النصرانية من أعظم خطر كان يهددها. انطفأت فجأة الآمال الضخام التي كانت معقودة على قيادة محمد الفاتح بانطفاء حياته الغالية، وكان موته نكبة عظيمة للإسلام والمسلمين، فلا عجب أن بكاهُ المسلمون بحرارة ولوعة في جميع أرجاء الأرض، وحزنوا عليه حزناً شديداً، وأقيمت المآتم في كل أرض إسلامية على النطاقين الرسمي والشعبي. لقد أدّى واجبه كاملاً لدينه وأمته، وجاهد في الله حق جهاده،

23 - الإنسان

ولعلّ فرح أعدائه من جهة وحزن المسلمين لفقده من جهة أخرى، خير دليل على مبلغ جهاده لإعلاء كلمة الله. لقد كان رجلاً حقاً، وكان أمة في رجل ورجلاً في أمة، ومثله في الرجال قليل. 23 - الإنسان: أ) وربما يتبادر إلى الأذهان أن السلطان الفاتح كان رجل حرب وسياسة، أمضى كل عمره في الغزو والجهاد والفتح، فلم يترك أثراً في ميادين الحياة العامة الأخرى. إن حياة الفاتح لا تتصل بالحرب والسياسة فحسب، وإنما تتصل بالثقافة والفكر والعلم والفن والإدارة والحكم أيضاً، وقد كانت للسلطان الفاتح في كل هذه الميادين جولات باهرة لا تقلّ روعة وعظمة عن جولاته في ميداني الحرب والسياسة. قضى الفاتح أيام طفولته بمدينة (أدرنه) وكانت عاصمة العثمانيين، فاهتم أبوه السلطان مراد الثاني بتنشئته وتربيته جسمياً وعقلياً: دربه على ركوب الخيل ورمي القوس والضرب بالسيف، وعندما شبّ وترعرع ولاّه أبوه بعض الولايات بآسيا الصغرى يتدرّب فيها على شؤون الحكم والإدارة، ثم أخذ أبوه يستصحبه معه بين حين وآخر إلى بعض المعارك ليعتاد الحرب، ويتعلم القيادة العسكرية، ويتمرّس بالقتال وأساليبه. وقد عني أبوه من جهة أخرى عناية فائقة بتعليم ابنه محمد الفاتح

وتثقيفه، غير أن محمداً أظهر أول الأمر جموحاً وإعراضاً شديداً عن التعليم والدرس، ولم يسلس قياده لأحد من المعلمين الذين ندبهم أبوه لتعليمه!. وسأل أبوه عن رجل ذي جلالة ومهابة وشدة، فدُلّ على المولى أحمد بن إسماعيل الكوراني الذي كان طويل القامة كثّ اللحية مهيب الطلعة، فأعطاه السلطان مراد قضيباً ليضرب به. ودخل على محمد الفاتح والقضيب في يده وقال له: "أرسلني والدك للتعليم والضرب إذا خالفت أمري"، فضحك منه محمد وسخر من كلامه، فعاجله المولى الكوراني بضربة قوية ارتاع لها الفتى الشموس ثم استخذى لها، وأدرك أنه أمام معلم من نوع جديد يختلف عمن سبقه كل الاختلاف. وكأنما كانت هذه الضربة الأولى الحازمة التي تلقاها محمد هي الطلسم الذي أعاده إلى رشده، إذ أقبل بعدها على التعليم بنهم وجدّ ونشاط، فما مضى عليه غير قليل من الوقت حتى ختم القرآن الكريم. واستبشر والده بذلك واغتبط، وغمر المولى الكوراني بالعطايا والأموال الغفيرة. ولم يسمع السلطان مراد بعد ذلك بأستاذ برع في علم من العلوم أو مهر في فن من الفنون أو اشتهر بخصلة من خصال الفضيلة، إلا ويستدعيه ويبعثه إلى ابنه محمد لتعليمه وتأديبه (1)، وفي مقدمتهم المولى محمد بن فرامز خسرو: " وكان إماماً بارعاً مفنناً محققاً نظاراً طويل _______ (1) وقد كان المولى الكوراني - أول أساتذة محمد الفاتح - عالماً فقيهاً، شهد له علماء عصره بالتفوق والإتقان، ويقول السيوطي في ترجمته: "ودأب في فنون العلم حتى فاق في المعقولات والأصلين والمنطق وغير ذلك، ومهر في النحو والمعاني والبيان، وبرع في الفقه واشتهر بالفضيلة ... "؛ انظر السيوطي في: نظم العقيان.

الباع راسخ القدم" (1)، وتلقى العلم على كثيرين غيره. وإلى جانب هؤلاء الشيوخ والفقهاء، أحضر السلطان مراد إلى ابنه أساتذة في الرياضيات والجغرافية والفلك والتاريخ واللغات المختلفة. وقد حذق محمد الفاتح من هذه اللغات - فضلاً عن لغته التركية - العربية والفارسية واللاتينية واليونانية. ولم ينقطع محمد الفاتح بعد توليه السلطنة عن التعلم والدرس، فما توسّم في رجل نبوغاً أو تضلعاً في علم من العلوم إلا اتخذه معلماً لنفسه. وأكب الفاتح على دراسة التاريخ، لا سيما ما يتعلق بسير عظماء الشرق والغرب، فقرأ بإمعان حياة القياصرة، وأعجب بشخصية الإسكندر المقدوني، فقد لمح فيها صورة من نفسه ورأى فيها قوة النفس وصحة العزم وسرعة التنفيذ بعد إحكام الخطة وعدم التردد. كما قرأ سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وسير الخلفاء الراشدين وقادة الفتح الإسلامي وسير الخلفاء والأمراء والقادة المسلمين. كما اهتم بوجه خاص بفلسفة أرسطو والرواقيين والفلسفة الإسلامية واتخذ له في ذلك أساتذة من العلماء النابهين. وكان أول ما عني به السلطان الفاتح بعد فتح القسطنطينية أن أنشأ المدارس والمعاهد وعمل على نشرها في جميع أرجاء دولته. وقد كانت أول مدرسة في الدولة العثمانية هي التي أنشأها السلطان أورخان بمدينة (أزنيق)، وسار مَنْ بعده من السلاطين على منواله، وانتشرت _______ (1) السيوطي في نظم العقيان، وكان الفاتح يسميه: "أبا حنيفة زمانه"؟ انظر الشقائق النعمانية وشذرات الذهب.

المدارس في (بروسه) و (أدرنه) وغيرها من المدن. أما السلطان الفاتح فقد بزّ أسلافه ومن جاء بعده من السلاطين في هذا المضمار: بزَّهم بما كان له من الثقافة العالية الممتازة، وبما بذله من جهود كبيرة في نشر العلم وإنشاء معاهده، وما أدخله من الإصلاح والتنظيم في مناهج التعليم، وما أسبغه من رعاية كريمة غامرة على أهل العلم والأدب والفن. فقد أنشأ السلطان الفاتح المدارس وبثها في المدن الكبيرة والصغيرة، بل أنفذها إلى القرى النائية وأوقف عليها الأوقاف العظيمة، ونظم هذه المدارس ورتبها على درجات ومراحل ووضع لها المناهج وحدد العلوم والمواد التي تدرس في كل مرحلة، واتخذ لها الامتحانات، فلا ينتقل طالب من مرحلة إلى أخرى إلا بعد أداء امتحان دقيق عسير. وكان السلطان الفاتح يحضر هذه الامتحانات ويشهدها بنفسه، كما كان يزور هذه المدارس بين حين وآخر ويستمع إلى الدروس التي يلقيها الأساتذة، ثم يوصي الطلبة بالجد والاجتهاد، ويجزل العطاء للنابغين من الأساتذة والطلبة، وكان التعليم في جميع هذه المدارس بالمجان. وكانت المواد التي تدرس في هذه المدارس: النحو والصرف والمنطق وعلم الكلام وعلم الأدب والحساب، وعلوم البلاغة من البيان والبديع والمعاني، والهندسة والهيئة والفقه والحديث والتفسير. وأشهر المدارس التي أنشأها الفاتح هي المدارس الثمان التي أنشأها على جانبي مسجده الذي بناه بالقسطنطينية، على كل جانب منه

أربع مدارس يتوسطها صحن فسيح، لذلك سميت هذه المدارس أيضاً بمدارس الصحن، وفيها يقضي الطالب المرحلة الأخيرة من دراسته. وألحقت بهذه المدارس مساكن للطلبة يتناولون فيها طعامهم، كما يتناولون منحة مالية شهرية، وكانت الدراسة في هذه المدارس تجري في جميع أيام السنة. وأنشئت بجانب المدارس مكتبة خاصة، وكان يشترط في الرجل الذي يتولى أمانة هذه المكتبة أن يكون من أهل الصلاح والعلم عارفاً بأسماء الكتب والمؤلفين، ويعير الطلبة والمدرّسين ما يطلبونه من الكتب بطريقة منظَّمة دقيقة، ويسجل أسماء الكتب المستعارة في سجل خاص. وهذا الأمين مسؤول عن الكتب التي بعهدته، بل مسؤول عن سلامة أوراقها، وتفتش هذه المكتبة كل ثلاثة أشهر على الأقل. وأدخل السلطان الفاتح في مناهج التعليم نظام التخصص، فجعل للعلوم النقلية والنظرية قسماً خاصاً وللعلوم العملية التطبيقية قسماً خاصاً أيضاً. وحذا العلماء والوزراء حذو سلطانهم، وتنافسوا في إنشاء المدارس والمعاهد، مما أدى إلى انتشار العلم وازدهاره. وقد أضفى السلطان الفاتح على المدرسين والأساتذة رعاية كريمة سابغة، ووسع لهم في المعيشة ليتفرغوا للعلم والتعليم. وليس أعرف بمكانة العلماء وأقدارهم ممن مارس العلم وجهد في سبيله، وقد كان السلطان الفاتح عالماً بحق بكل ما تحمله الكلمة من معان، فقرَّب إليه العلماء وأعلى شأنهم ورفع قدرهم وشجعهم على

العمل والإنتاج وبسط لهم يداً ندية سخية لا تضنّ بالبذل والعطاء. وكان السلطان الفاتح يجلّ العالم لعلمه وفضله أياً كان جنسه ودينه وموطنه، وقد حدث بعد فتح (القرمان) أن أمر بنقل العمال والصنَّاع إلى القسطنطينية، غير أن وزيره روم محمد باشا اشتدَّ في الأمر وتعسَّف الناس وأصابهم منه عنت ورهق، وكان من بينهم نفر من أهل العلم والفضل في مقدمتهم الشيخ أحمد جلبي بن السلطان أمير علي من سلالة العالم الصوفي المشهور جلال الدين الرومي، فلما علم السلطان الفاتح بأمره اعتذر إليه وأعاده إلى وطنه مع رفقائه تحفُّ بهم مظاهر التجلَّة والتكريم مثقلين بالهدايا. ومما يلفت النظر أن السلطان الفاتح لم يبعث شخصية من شخصياته إلى الشيخ جلبي أحمد للاعتذار إليه عن سوء معاملة روم محمد باشا له، بل ذهب إليه بنفسه واعتذر إليه وأعاده مع من أراد من صحبه إلى موطنه معزَّزاً مكرَّماً. وفي فتوحه كان يشدِّد على عدم قتل الأسرى من العلماء وأصحاب المعارف، وحدث بعد هزيمة أوزون حسن أن وقع في يد العثمانيين عدد كبير من الأسرى، فأمر الفاتح بتخلية سبيل العلماء مثل القاضي محمد الشريحي الذي كان من فضلاء الزمان والسيد محمد المنشي وكثير غيرهما من العلماء والفضلاء، وأكرمهم وأحسن معاملتهم وأغدق عليهم العطايا السخية وأسند إليهم المناصب العالية في الدولة. وبعد فتح (طرابزون) وقع في أسر الجيش العثماني شاعر من الروم يدعى: (جورج أموير تزس) كان قد وصل إلى الفاتح ذكره وشهرته العلمية، فأحسن لقياه واستصحبه معه إلى القسطنطينية وأصبح من خاصته، ورفع الفاتح منزلته ومنحه أعطيات واسعة،

وصار يذاكره في المسائل الفلسفية وغيرها، وقد شرح الله صدر هذا الفيلسوف فيما بعد ودخل في الإسلام. وكان السلطان الفاتح يتطامن صاغراً متخشعاً أمام العلماء وأهل الورع والتقى، ويستشيرهم في أخطر أموره، وينصت إلى نصائحهم ويتقبَّلها بقبول حسن، وينفذ تعاليمهم نصّاً وروحاً. حدث بعد فتح القسطنطينية أن دخل السلطان الفاتح على الشيخ الزاهد المتصوِّف آق شمس الدين في خيمته وهو مضطجع فلم يقم له. وقبَّل السلطان الفاتح يد الشيخ وقال: "جئتك لحاجة عندك"، قال: "ما هي"؟ قال الفاتح: "أريد أن أدخل الخلوة عندك أياماً". قال الشيخ: "لا"! فأعاد عليه السلطان هذا الطلب مراراً والشيخ يقول: "لا"! فغضب السلطان الفاتح وقال: "إن واحداً من الأتراك يجيء إليك وتدخله الخلوة بكلمة واحدة"؟ فقال الشيخ: "إنك إذا دخلت الخلوة، تجد هناك لذَّة فتسقط السلطنة من عينك وتختلّ أمورها فيمقت الله إيانا. والغرض من الخلوة تحصيل العدالة، فعليك أن تفعل كذا وكذا ... " وذكر ما بدا له من النصائح؛ ثم أرسل إليه الفاتح ألفي دينار، فلم يقبلها الشيخ. وقام السلطان الفاتح، فودَّعه الشيخ وهو مضطجع على جنبه كما كان، ولما خرج السلطان الفاتح قال لابن ولي الدين: "ما قام الشيخ لي"، وأظهر التأثُّر من ذلك، فقال ابن ولي الدين: "إن الشيخ شاهد فيكم الغرور بسبب هذا الفتح الذي لم يتيسَّر للسلاطين العظام، وإن الشيخ مُرَبٍّ فأراد بذلك أن يدفع عنكم الغرور". وبعد يوم دعا الشيخ آق شمس الدين في الثلث الأخير من الليل، فبادر إليه الأمراء يقبِّلون يد الشيخ. قال الشيخ: "وجاء

السلطان محمد خان والليل مظلم، وما أدركته بالبصر بسبب الظلمة، ولكن عرفه روحي فعانقته وضممته إليّ ضمّاً شديداً، حتى ارتعد وكاد أن يسقط فما خليته إلى أن يزول عنه الحال". وقال السلطان الفاتح: "كان في قلبي شيء في حقّ الشيخ، فلما ضمَّني إليه انقلب ذلك حباً"، ثم إنه دخل مع الشيخ الخيمة، فصاحب معه حتى طلع الفجر؛ وأذَّن الشيخ للصلاة، وصلَّى السلطان خلفه، ثم قرأ الشيخ الأوراد والسلطان جالسٌ أمامه على ركبتيه يستمع الأوراد (1). وحدث أيضاً أن السلطان الفاتح بعث مع أحد رجاله بمرسوم إلى المولى الكوراني وكان إذ ذاك يتولَّى قضاء العسكر، فوجد فيه أمراً يخالف الشرع، فمزَّقه وضرب مَن جاء به وحمله إليه. وشقَّ ذلك على السلطان الفاتح وتغلبت عليه سَوْرة الغضب، فعزل الكوراني من منصبه ووقع بينهما نفور وجفوة. ورحل المولى الكوراني إلى مصر حيث احتفى به سلطانها قايت باي وأكرمه غاية الإكرام، وأقام عنده مدَّة من الزمن. وما لبث الفاتح أن ندم على ما كان منه، فكتب إلى السلطان قايت باي يلتمس منه أن يرسل إليه المولى الكوراني، فحكى السلطان قايت باي كتاب الفاتح ثم قال: "لا تذهب إليه فإني أكرمك فوق ما يكرمك هو"، فقال المولى الكوراني: "نعم هو كذلك، إلا أن بيني وبينه محبة عظيمة كما بين الوالد والولد، وهذا الذي جرى بيننا شيء آخر، وهو يعرف ذلك مني ويعرف أني أميل إليه بالطبع، فإذا لم أذهب _______ (1) الشقائق النعمانية في علماء الدولة العثمانية.

إليه يفهم أن المنع من جانبك فيقع بينكما عداوة". فاستحسن قايت باي هذا الكلام، وأعطاه مالاً جزيلاً، وهيَّأ له ما يحتاج إليه من حوائج السفر، وبعث معه هدايا عظيمة إلى السلطان الفاتح (1). وحين وصل المولى الكوراني إلى القسطنطينية، أسند الفاتح إليه القضاء ثم الإفتاء، وأجزل له العطاء، وأكرمه إكراماً لا مزيد عليه. وكان العلماء والشيوخ يصحبون الفاتح في غزواته وحروبه، فكانوا في كل ميدان من ميادين القتال في طليعة الجيش إلى جانب السلطان: يثيرون الحمية الدينية، ويتلون على الجنود آيات الجهاد والنصر، ويقاتلون كما يقاتل الجنود، ويضربون لهم أروع الأمثال في الشجاعة والإقدام. وقد دأب محمد الفاتح منذ كان أميراً على (مغنيسيا) على مراسلة العلماء والمثقَّفين من الأمراء في فارس ومصر والعراق والهند وغيرها. وبقي الفاتح على هذه السنَّة الحسنة بعد تولِّيه السلطنة، وضاعف ما كان يسبغه على العلماء والأدباء من تكريم ورعاية ومنح، فكان يرسل إلى خوجه جهان أول كتَّاب الهند في زمانه ألف دوقة في كل عام، وكذلك إلى المولى عبد الرحمن الجامي من أعاظم علماء وشعراء فارس في ذلك العهد. وممن كان يكاتبهم السلطان الفاتح من علماء مصر الشيخ محمد بن سليمان المحيوي المعروف بالكافياجي، وهو أستاذ السيوطي العالم المصري المعروف، وقد أثنى عليه العلماء والمؤرخون المصريون _______ (1) الشقائق النعمانية في علماء الدولة العثمانية.

ثناءً عظيماً لعلمه وفضله وخلقه وورعه (1) وكان الفاتح يكاتبه ويهدي إليه الهدايا السنية. وما سمع السلطان الفاتح قطّ عن عالم في مملكته أصابه عوز وإملاق إلا بادر إلى مساعدته ومنحه ما يستعين به على الحياة والعيشة الرضيَّة. بل إنه جعل للعالم الذي يعتزل عمله لسبب من الأسباب راتباً خاصاً يُعرف بـ (راتب التقاعد) يستعين به على تكاليف الحياة صوناً له عن ذلّ السؤال وصوناً للعلم أن يمتهن، ولا يقلّ هذا الراتب في كثير من الأحيان عن الراتب الذي كان يتقاضاه في أثناء عمله. وكان من أثر ما أفاضه السلطان محمد الفاتح على العلم وأهله من رعاية سابغة وتقدير كريم وبذل سخيّ، أن توافد إلى رحابه العلماء والأدباء والشعراء والفنانون من كل حدب وصوب، واجتمع في بلاده من جميع هؤلاء عدد عديد من العرب والترك والفرس والروم واللاتين. وكان السلطان الفاتح يقضي الأوقات التي يستجم فيها بالقسطنطينية من الحروب في عقد المجالس العلمية والأدبية، فيباحث العلماء في المسائل العلمية ويعقد بينهم المناظرات المختلفة. وقد يشتدّ وطيس بعضها وتمتدّ عدة أيام. وجرت عادة الفاتح في شهر رمضان أن يستحضر إلى قصره بعد صلاة الظهر جماعة من العلماء المتضلّعين في تفسير القرآن، فيقوم في كلّ _______ (1) السخاوي: الضوء اللامع. وابن إياس: تاريخ مصر. والسيوطي: بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة.

مرة واحد منهم بتفسير آيات من القرآن الكريم وتقريرها، ويناقشه في ذلك سائر العلماء ويجادلونه. وكان الفاتح يشترك أيضاً في هذه المناقشات، فكان هذا الدرس الديني بمثابة امتحان لهؤلاء العلماء واختبار لمقدرتهم وكفايتهم، فيبعثهم ذلك على التنافس في الإجادة والإتقان. والحق أنَّ العالم في حضرة الفاتح كان عرضة للسؤال والامتحان، وكان يعجبه من العالم أن يكون حاضر العلم سريع الإجابة. وقد حدث يوماً أن سأل السلطان الفاتح وهو في طريق عودته إلى القسطنطينية المولى محيي الدين المعروف بابن المغنيسي الذي اشتهر بالجدّ في التحصيل والإكباب على الدرس، عن بيت عربي فقال المولى: "أتفكَّر فيه بالمنزل ثم أجيب"! فقال الفاتح لبعض رجاله: "أحضروا مولانا سراج الدين"، فحضر. وسأله السلطان عن ذلك البيت فقال: "هو للشاعر الفلاني من قصيدته الفلانية من البحر الفلاني"، ثم قرأ البيت وحقَّق معناه، فقال السلطان الفاتح لابن المغنيسي: "ينبغي أن يكون العالم هكذا في العلم والمعرفة والتتبع" (1). وحتى في ميادين الحرب، كان السلطان الفاتح ينتهز الفترات التي تتوقف فيه رحى القتال، فيعمد إلى مناظرة مَن يكون معه من العلماء، وبلغ حبّه لأهل العلم ومجالسهم أنَّه نبذ ملابس السلطنة الفاخرة وآثر عليها لباس العلماء وتزيا بزيّهم. ولم يكن السلطان الفاتح أقل ولعاً وكلفاً بندوات الأدباء _______ (1) الشقائق النعمانية.

والشعراء ومجالسهم، ولا غرو فقد كان هو نفسه شاعراً، وكان يكتب أشعاره باسم: (عوني)، وهو يعد أول شاعر من السلاطين اتَّخذ لنفسه اسماً مستعاراً، وللفاتح ديوان شعر باللغة التركية. وكان الفاتح يطرب لسماع الشعر في أي لغة من اللغات التي كان يحذقها، ويتمثَّل بالشعر في بعض المناسبات، كما تمثَّل ببيت من الشعر الفارسي عند دخوله قصر الإمبراطور قسطنطين. وحدث بعد فتح القسطنطينية أن رفع إليه الشاعر الإيطالي (فيليف Philelphe) رسالة وقصيدة يلتمس منه فيهما إطلاق نسوة من ذوي قرباه وقعن في أسر العثمانيين، فأمر السلطان الفاتح من فوره بإطلاق سراحهنّ بغير فدية (1). وكان طبيعياً بعد ذلك كلّه، أن يطنب الشعراء والأدباء في مدح السلطان الفاتح لما أسداه إلى العلم والأدب من كريم الرعاية وجميل التقدير والتشجيع، وقد مدحه كل شاعر باللغة التي يحسنها. وفي المجالس العلمية والأدبية التي كان يحضرها الفاتح، كان يحرص أشدَّ الحرص على أن يسودها جو الوقار العلمي وآداب المناظرة والحديث، فكان يطلب إلى كل مناظر أن يكون أميناً في قوله وفي إيراد كلام مناظره، فلا يدلس ولا يغالط. وكان يكره من رجل العلم النفاق والغرور والادعاء ويبتغي منه أن يكون قدوة حسنة للناس في القول والعمل. ولا يتغاضى الفاتح عن عالم صدر منه ما يجافي الدين أو المروءة، فإنه يبعده من مجلسه _______ (1) وقد كتب هذا الشاعر الإيطالي فيما بعد أرجوزة شعرية في حياة السلطان محمد الفاتح، وهي لاتزال مخطوطة وموجودة الآن بمكتبة جنوا.

ويقطع اتصاله به ولو كان من المقرَّبين إليه. وينكر على الشعراء التبذُّل والمجون والدعارة، ويعاقب الشاعر الذي يخرج عن آداب المجتمع أو يطرده من بلاطه، ولا غرو فقد نشأ الفاتح منذ صغره على خير ما ينشأ أمراء زمانه تربية وأدباً. وعمد السلطان الفاتح إلى إذكاء روح العمل والإنتاج وتنشيط الحركة العلمية بجميع وسائل التشجيع المعنوية والمادية، وكثيراً ما كان يطلب إلى نفر من العلماء الكتابة في موضوع واحد، ليدفعهم التنافس والتسابق إلى الإجادة والإتقان، ثم يمنح المتسابقين مكافآت جزيلة ويخصّ المتفوّقين بالخلع السنية، فازدهرت النهضة الفكرية في حياته وخصب الإنتاج وكثر التأليف. ولم يفت السلطان الفاتح الثاقب البصر أن يستعين بالنقل والترجمة في بعث النهضة الفكرية ونشر العلم والمعرفة بين قومه، فأمر بنقل كثير من الآثار المكتوبة بالعربية واليونانية واللاتينية إلى اللغة التركية. من ذلك كتاب: (مشاهير الرجال) لبلوتارك، وقد علَّق الأستاذ بيوري على ذلك بقوله: " ... فإذا كان السلطان الفاتح نفسه يعرف اللغة الرومية، فلا شك أنه قد أمر بترجمته لتعميم نشره وفائدته بين رعاياه" (1). كما نقل إلى التركية من العربية كتاب: (التصريف) في الطب لأبي القاسم الزهراوي الطبيب الأندلسي مع زيادات في صور الآلات الجراحية وأوضاع المرضى أثناء إجراء العمليات الجراحية. وقد عثر السلطان الفاتح بعد فتح القسطنطينية بكتاب بطليموس _______ (1) الأستاذ ( Bury) في تعليقاته على كتاب: جبون ( Gibbon) .

في الجغرافية وخريطة له، فقام بمطالعته ودراسته مع العالم الرومي جورج أميروتزوس، ثم طلب إليه الفاتح وإلى ابنه (ابن العالم الرومي) الذي كان يجيد اللغتين الرومية والعربية بترجمة الكتاب إلى العربية وإعادة رسم الخريطة مع التحقيق في أسماء البلدان وكتابتها بوضوح باللغتين العربية والرومية، وكافأهما على هذا العمل بعطايا مجزية. وليس أدل على اهتمام الفاتح باللغة العربية من أنه طلب إلى الأساتذة بالمدارس الثمان التي أنشأها حول مسجده في القسطنطينية أن يجمعوا بين الكتب الستة في علم اللغة كالصحاح والتكملة والقاموس وأمثالها. ودعم الفاتح حركة التأليف والترجمة لنشر المعرفة بين رعاياه بالإكثار من نشر المكاتب العامة، وأنشأ له في قصره خزانة خاصة احتوت غرائب الكتب والعلوم، وعيَّن المولى لطفي أميناً عليها، وكانت تضم اثني عشر ألف مجلَّد عندما احترقت عام (1465م). وجدير بالذكر هنا أن الفاتح كان كثيراً ما يستعيض عن مال الجزية بالكتب والمخطوطات، فمن ذلك أنه طلب مرة من إحدى الجمهوريات الإيطالية أن تدفع له الجزية ببعض المخطوطات الإيطالية. ب) على أن أهم ما يسترعي النظر والالتفات في السلطان الفاتح، هو ما اتصف به في الناحيتين الدينية والعلمية على السواء من رحابة صدر وسعة أفق وسماحة نفس وإدراك صحيح لمعنى حرية الضمير وحرية الرأي والقول وتطبيقاً لتعاليم القرآن الكريم: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [سورة البقرة 2: 256]. فبرغم ما بلغه من سعة الملك وقوة السلطان ونفاذ الكلمة؛ لم يشأ أن يفرض دينه على أحد، ولم يشأ أن يفرض رأيه على أحد.

كان (هونياد) المجري إبَّان قتاله للعثمانيين قد طلب إلى برنكوفيتش الصربي أن يمضي هو الآخر في قتال العثمانيين، فسأله برنكوفيتش: "وماذا تصنع بديننا إذا أنت انتصرت على الأتراك"؟ فأجاب هونياد: "أحمل الناس على اعتناق الكاثوليكية، وأقيم الكنائس الكاثوليكية في كل مكان"، وكان الصربيون يتَّبعون الكنيسة الشرقية. ووجَّه برنكوفيتش نفس السؤال إلى السلطان الفاتح، فأجاب: "أقيم إلى جانب كل مسجد كنيسة، والناس أحرار في دينهم، فمن شاء ذهب إلى المسجد، ومن شاء ذهب إلى الكنيسة" (1). ويزداد تقديرنا لهذه المعاني المعنوية في نفس الفاتح، إذا نظرنا إلى العصر الذي عاش فيه، عصر التعصُّب الديني والفكري - لاسيما في الغرب الأوروبي، حيث تلطَّخت أقطاره بالمذابح والمجازر البشرية الفاجعة ضد المخالفين في العقيدة والرأي. ومذبحة (سانت بارتلمي Saint - Barthelemy) التي حدثت في فرنسا بعد نحو قرن من وفاة السلطان الفاتح وفتك فيها الكاثوليك بموافقة ملك فرنسا شارل التاسع بمواطنيهم البروتستانت غيلة وغدراً، وذبحوهم ذبح الخراف: حادثة معروفة مشهورة. ولماذا نذهب بعيداً، والمذابح بين الكاثوليك والبروتستانت قائمة على قدم وساق في النصف الثاني من القرن العشرين، فقد نشبت معارك طاحنة بين الطائفتين المسيحيتين عام (1970 و 1971) في إيرلندا على مسمع ومشهد من العالم كله!! _______ (1) Temperely, History Of Serbia.

لقد كان السلطان الفاتح بطبعه بحاثة طالباً للعِلم محبّاً للعلماء شديد الكلف بالعلوم التطبيقية (1) والعلوم الدينية بخاصة. وكان مسلماً صادق الإسلام، مؤمناً قوي الإيمان، وكان أول ما رضع من لبان العلم والمعرفة في صغره هو القرآن الكريم. وكان أثناء وجوده في القسطنطينية لا تفوته صلاة الجماعة بالمسجد الجامع، وكانت خطبه في السلم والحرب تفيض حمية ونخوة على الدين الحنيف. وقد كان لفتح القسطنطينية حوافز كثيرة ذكرنا قسماً منها، ولكن الحافز الديني كان له مكان عظيم في نفس محمد الفاتح دفعه إلى الاستقتال في الحرب والإصرار على الفتح. وقد ذكر الفاتح هذا الحافز في كلماته قبل المعركة وفي أثنائها وبعدها، وعزم على أن يفوز بتحقيق البشارة النبوية في الحديث الشريف: "لتفتحنَّ القسطنطينية، فلنعم الأمير أميرها، ولنعم الجيش جيشها" (2). وهذا الحديث الشريف يطالعك مكتوباً في أبرز مكان من مسجد الفاتح في القسطنطينية الذي بناه الفاتح وحرص على تتويجه بهذا الحديث النبوي الشريف. وكان سعيداً أعظم السعادة بفتح القسطنطينية، لأنه استبشر بهذا الحديث النبوي الشريف، كما استبشر المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها بتحقيق هذه البشارة النبوية. _______ (1) استفاد الفاتح من المهندسين في تطوير أسلحته وبخاصة المدفعية وابتكار أسلحة جديدة، ولعلَّه أول من بذل جهده لابتكار المدفعية الضخمة ذات القنابل الشديدة الانفجار. (2) ورد في أسد الغابة لابن الأثير، وفي الإصابة لابن حجر العسقلاني.

كما وردت أحاديث تبشر بهذا الفتح في صحيح مسلم - رضي الله عنه - (1). ولتديُّن السلطان الفاتح، فقد كان لرجال الدين في نفسه مكانة عظيمة، ومن خير ما أسداه نحو العلم والعلماء ما ابتدعه من التنسيق والتنظيم في درجات العلماء ومراتبهم، والتمييز بين المناصب والوظائف كالتدريس والقضاء، وقد جعل التدريس نفسه درجات وكذلك القضاء درجات، فلا يشغل وظيفة من هذه الوظائف إلا من ثبتت كفايته وأهليَّته لها. أما الوظائف الصغيرة التي ليست بذات خطر كالإمامة أو الأذان في مسجد، فكان يكفي فيمن يشغلها أن يكون قد أصاب قدراً من الثقافة الدينية. وكان السلطان الفاتح يحتفظ في قصره بثبت فيه أسماء العلماء ومنزلة كل منهم في العلم، وما له من كفاية وإنتاج، فإذا ما خلا منصب من المناصب الكبيرة في الدولة رجع إلى هذا السجل واختار للمنصب الشاغر أصلح العلماء له. وقد أظهر السلطان الفاتح في الناحية الإدارية كفاية ومقدرة لا تقلان عن كفايته ومقدرته في الناحيتين السياسية والعسكرية. وقد كان أول ما قام به عقب توليه السلطنة أن عزل الموظفين القدامى غير الأكفاء وعيَّن مكانهم الأكفاء، واتخذ الكفاية وحدها أساساً في اختيار رجاله ومعاونيه وولاته. واهتمَّ الفاتح بالناحية المالية، فوضع القواعد المحكمة الصارمة في جباية أموال الدولة، وقضى على إهمال الجباة وتلاعبهم، وحارب _______ (1) راجع أحاديث فتح القسطنطينية في صحيح مسلم 8/ 176 - 177.

الرشوة والمرتشين بشدة. وكان الفاتح شديد الحرص على العدالة الدقيقة الحازمة في كل جزء من أجزاء مملكته، شديد الحرص على تحقيق الرفاهية والرخاء لجميع رعاياه. وكان عند خروجه إلى بعض الغزوات والحروب كثيراً ما يتوقف في بعض أطراف مملكته ويأمر بنصب خيامه ليجلس بنفسه للمظالم، ويرفع إليه من يشاء من الناس شكواه ومظلمته. وكان مما قصد إليه الفاتح من تعلم اللغات الأجنبية كاللاتينية والرومية أن يتمكن من الاتصال المباشر بشعوبه العديدة ذات اللغات المختلفة ويقف على أحوالها بنفسه. وقد عني الفاتح بوجه خاص برجال القضاء الذين يتولون الحكم والفصل في أمور الناس، فلا يكفي في هؤلاء أن يكونوا من المتضلعين في الفقه والشريعة ومن المتصفين بالإنصاف والنزاهة والاستقامة وحسب، بل لا بد إلى جانب ذلك أن يكونوا موضع تجلة واحترام بين الناس، وأن تُكفى مؤونتهم المادية كفاية تامة، سدّاً لسبل الإغراء والرشوة؛ فوسَّع لهم الفاتح في المعيشة كل التوسعة، وأحاط منصبهم بهالة مهيبة من الحرمة والجلالة والقداسة. أما القاضي المرتشي، فلم يكن له عند السلطان من جزاء غير القتل. وكان كثيراً ما يعس بالليل ويجوب الطرقات والدروب، ليتعرَّف أحوال الناس بنفسه، ويتسمَّع إلى شكاواهم.

أما فيما يتعلَّق بالأعمال المتصلة بالعمران والأغراض السلمية، فقد أكثر الفاتح من إنشاء المباني العامة والطرق والجسور في أرجاء مملكته. وأنشأ الفاتح كثيراً من المساجد والمعاهد والقصور والمستشفيات والخانات والحمامات والأسواق الكبيرة والحدائق العامة. ولا بدَّ لنا هنا من وقفة قصيرة لننظر في إعجاب ودهشة إلى ذلك النظام الدقيق الذي وضعه السلطان الفاتح للمستشفيات أو دور الشفاء كما يسميها العثمانيون، فقد كان يعهد بكل دار من هذه الدور إلى طبيب، ثم زيد إلى اثنين من حذَّاق الأطباء من أي جنس كان، يعاونهما كحال وجرَّاح وصيدلي وجماعة من الخدم والبوابين. ويشترط في جميع المشتغلين بدور الشفاء أن يكونوا من ذوي القناعة والشفقة والإنسانية، ويجب على الأطباء أن يعودوا المرضى مرتين في اليوم، وألا تصرف الأدوية لهؤلاء المرضى إلا بعد التدقيق في إعدادها. وأكثر من هذا كله أنه كان يشترط في طبَّاخ المستشفى أن يكون عارفاً بطهي الأطعمة والأصناف التي توافق المرضى منها، وكان العلاج والأدوية في هذه المستشفيات بالمجان، ويغشاها جميع الناس بدون تمييز بين أجناسهم وأديانهم. وقد كان السلطان الفاتح شديد الحدب على الفقراء والمساكين برّاً بهم، ولم يكن في صدقاته وإحسانه نحوهم يفرِّق بين المسلم وغير المسلم، حتى لُقِّب بأبي الخيرات وأبي الحسنات. وعني الفاتح بالتجارة والصناعة وعمل على إنعاشهما بكل

الأسباب والوسائل، وكان من أثر ذلك أن عمَّ الرخاء وساد اليسر والرفاهية في جميع أرجاء البلاد، وفي عهده ضربت النقود الذهبية لأول مرة في تاريخ الدولة العثمانية. وبالرغم مما بلغه الفاتح من سعة المُلك وعظم السلطان وعزة المجد والقوة، فإنه لم يداخله البطر والغرور، وبقي متواضعاً يخفض جناحه لجميع الناس وبخاصة أهل العلم، وكان يزور العلماء في دورهم ويتناول ما يقدِّمونه إليه من طعام وشراب، وكان في ملبسه ومأكله أقرب إلى التقشُّف والزهادة، وكان أستاذه المولى الكوراني يعظه دائماً ويخاطبه باسمه، وإذا لقي السلطان يسلم عليه ولا ينحني له ويصافحه ولا يقبِّل يده ولا يذهب إليه يوم عيد إلا إذا دعاه. وكثير من العلماء في عهد الفاتح كانوا على مثال المولى الكوراني في الإباء والصرامة والحرص على قول الحق، لا يغضبون إلا له ولا يرضون إلا له، يجبهون الوزراء ورجال الدولة بل السلطان الفاتح بأشد القول وأعنفه، لا يخشون لومة لائم ولا يبتغون من وراء ذلك إلا صلاح الدين والدنيا. وكان إذا أنكر أحدٌ من العلماء على الفاتح شيئاً هدده بالخروج من مملكته أو يصلح ما ينكر، ولم يكن أشق على نفس الفاتح من أن يرى عالماً يخرج من بلاده، وقد وجد الفاتح في هؤلاء العلماء العاملين خير عون له وسند في تنفيذ سياسته التي كان يتوخَّى منها نشر العدل والرخاء في شعبه. لقد مات قبل السلطان الفاتح عظماء في الإسلام، ومات بعده

عظماء، فلم تحفل النصرانية بموت أحد منهم مثلما حفلت بموت هذا السلطان، وقد رأينا فيما تقدَّم ما أقامته البابوية في روما من الحفلات والمهرجانات الصاخبة ابتهاجاً بموته، وظلَّت الرهبة من الفاتح تخيِّم على أوروبا حقبةً طويلة من الزمن، وظلَّت ذكراه تلقي الفزع والرعب في قلوب أهلها إلى عشرات السنين بعد وفاته. وفي سنة (1681 م) أي بعد موت السلطان الفاتح بقرنين، ألَّف مؤرخ فرنسي يدعى (جييه) كتاباً في تاريخ حكم السلطان محمد الفاتح، وأهدى كتابه هذا إلى لويس الرابع عشر أو لويس الأكبر أعظم ملوك فرنسا وأعظم ملوك عصره. وقد قال المؤلف في مقدمة كتابه: "إنه إذ يسأل الله لملك فرنسا طول البقاء وأن يهب له المجد والسؤدد والقوة والسعادة، يرجو من الله كذلك ألا يظهر مرة أخرى على وجه الأرض حاكم كالسلطان محمد الفاتح؛ فقد كان حكمه بلاء ونكبة على النصارى والنصرانية ... وهذا ما يجب أن يتمنَّاه دوماً بدون انقطاع لا الفرنسيون وحدهم، بل جميع الشعوب النصرانية الأخرى". ومع ذلك لم يشتهر أحد من السلاطين العثمانيين لدى الأوروبيين وكثر تحدثهم عنه، مثل السلطان الفاتح، وهو أول سلطان عثماني بل أول حاكم إسلامي أطلق عليه الأوروبيون لقب: (السيد العظيم Grand Seigneur) . ولد محمد الفاتح في السادس والعشرين من رجب سنة ثلاث وثلاثين وثمانمئة الهجرية (2 من نيسان - أبريل - 1429 م). وتولى السلطنة في السادس عشر من محرم الحرام سنة خمس

وخمسين وثمانمئة الهجرية (18 من شباط - فبراير - 1451م) وهو في الثانية والعشرين من عمره. وتوفي في مدينة (أسكدار) يوم الخميس الرابع من ربيع الأول سنة ست وثمانين وثمانمئة الهجرية (3 من مايس - مايو - 1481م) وهو في الثانية والخمسين من عمره بحساب السنة الشمسية وفي الثالثة والخمسين من عمره بحساب السنة القمرية حكم فيها إحدى وثلاثين سنة تقريباً. ويُعدُّ الفاتح أعظم سلاطين آل عثمان طراً، وأعظم ملوك عصره، ويصح أن يقال: إنه كان محور السياسة الدولية في عهده وصاحب الكلمة الأولى في الشؤون العالمية. وقد اتصلت علاقاته السياسية وحروبه بالقارات الثلاث: آسيا وإفريقية وأوروبا، ووطَّد السيادة العثمانية في أوروبا توطيداً راسخاً. وقد مدَّ قسم من خلفائه حدود الدولة العثمانية بفتوحات جديدة في المجر، ولكنها لم تثبت ولم تعمر طويلاً، فما عتمت أن زالت وانمحت. أما فتوحات السلطان محمد الفاتح، فقد ظلَّت في معظم أجزائها ثابتة راسخة إلى ما بعد النصف الثاني من القرن التاسع عشر. لقد كان محمد الفاتح فذّاً عظيماً في كل ميدان من ميادين الحياة. كان فذّاً عظيماً في ثقافته وعلمه، عاش طوال حياته تلميذاً لا يكفُّ عن الحرص على المعرفة، حامياً للعلوم والآداب والفنون، أسبغ على أهلها أكرم رعاية وأسناها، وقدَّر كرامة الإنسان وجعل حرية الضمير وحرية الفكر والقول مشاعاً لجميع الناس.

وكان عظيماً فذّاً في حروبه وسياسته، قلَّما ارتدَّ عن غاية استهدفها، لا يبطره الظفر إذا انتصر، ولا تقعده الهزيمة إذا انكسر. وكان فذّاً في إدارته لملكه، وحُسن حكمه لرعاياه، وسماحته نحو أهل الأديان الأخرى. وكان فذّاً عظيماً في تديُّنه وورعه وتقواه، وفي استقامته وعدله وتقشُّفه، وفي خضوعه للحق ولو كان مرّاً" (1). رضي الله عن القائد الفاتح، الإداري الحازم، السياسي البارع، التقي النقي، المجاهد الصادق، السلطان محمد الفاتح قاهر الروم وفاتح القسطنطينية. ... _______ (1) سالم الرشيدي (الدكتور)، محمد الفاتح، القاهرة، 1375 هـ، انظر التفاصيل في هذا الكتاب. وقد اعتمدنا فى أكثر المعلومات الواردة بهذا الفصل على هذا الكتاب القيّم، وهو أفضل كتاب أُلِّف عن محمد الفاتح باللغة العربية، نال به مؤلفه الفاضل الشهادة العالمية (الدكتوراه). وتقتضي الأمانة العلمية أن أعزو الفضل إلى هذا الكتاب في ما ورد بهذا الكتاب، وللمؤلف أعمق الشكر وأعظم التقدير.

الخاتمة

الخاتمة (1) لا تقتصر صفة القيادة على القادة العسكريين إلا في معناها الخاص، أما في معناها العام فتشمل قيادات شتَّى، كالقيادة السياسية، والقيادة الصناعية، والقيادة العلمية، والقيادة الفنية، والقيادة الدينية، والقيادة العائلية. وإذا أردنا التوسع في أنواع القيادات، فإن كل فرد في المجتمع يمارس من خلال منصبه أو مهنته وفي بيته أو من موقع عمله، نوعاً معيناً من القيادة في نطاق واجبه الرسمي أو المهني أو الشخصي، فهو قائد يتحمَّل أعباء القيادة، وصدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته". ولكن هناك قيادات كبيرة ذات مسؤوليات ضخمة وأهمية خاصة، وهناك قيادات أقل ضخامة وأهمية. وإذا جاز لنا أن نشبِّه كل نوع من أنواع القيادات بالهرم، فإن القيادات العليا هي قمة الهرم، وهذه هي المسيطرة الموجِّهة الرائدة؛ بينما تشكِّل القيادات الصغرى قاعدة الهرم، وهي ذات المسؤوليات المحدودة، ثم تتصاعد تلك

المسؤوليات كلما ارتفعت القيادات عن القاعدة واقتربت من القمة، ويمكن أن نطلق على درجات القيادات بين قمة الهرم وقاعدته تعبير: تسلسل القيادات. وكل قائد يؤثِّر في أتباعه بمثاله الشخصي، فإذا كان مستقيماً صالحاً تأثَّروا باستقامته وصلاحه، وإذا كان منحرفاً فاسداً تأثَّروا بانحرافه وفساده. وما أصدق المثل العربي القائل: "الناس على دين ملوكهم". لذلك كان التزام القائد بالمثل العليا ضرورياً بالنسبة للقائد العسكري والقائد المدني أيضاً، وهذه المثل العليا التي هي العقيدة الصالحة هي من مزايا القائد المنتصر عسكرياً، وهي من سمات القائد المدني الناجح؛ فلا نصر في الحرب بدون عقيدة، ولا نجاح في السلام بدون عقيدة. ولكن هناك فروقاً بين القيادة العسكرية والقيادة المدنية بأنواعها المختلفة، تجعل للعقيدة أهمية خاصة للقائد العسكري. وأستطيع أن أقول بكل اطمئنان وثقة: إن القائد العسكري بدون عقيدة راسخة يقود رجاله إلى كارثة وهزيمة ولا يقودهم إلى نصر أو ظفر أبداً. وتاريخ الحروب في كل زمان ومكان خير دليل على ما أقول. الفرق الأول بين القائد العسكري والقائد المدني، أن المثال الشخصي للقائد العسكري، يؤثِّر في أتباعه بسرعة خاطفة، ولا يظهر في أتباع القائد المدني بمثل تلك السرعة؛ لأن طبيعة عمل القائدين في السلم والحرب تؤدي إلى أن يكون تأثير القائد العسكري في أتباعه

حاسماً ومصيرياً إلى أبعد الحدود. ذلك لأن التماسَّ الشخصي بين القائد العسكري ومرؤوسيه أكثر بكثير مما هو عليه في القائد المدني وأتباعه، فالواجبات العسكرية تحتم أن يعيش القائد العسكري مع رجاله يومياً مدة طويلة، قد تبدأ غالباً قبل الدوام الرسمي وتنتهي بانتهاء الواجب اليومي دون التقيُّد بساعات عمل معينة محدودة، وقد يمكث العسكريون في الثكنة أو المعسكر أضعاف ما يمكثونه في دورهم وبين أهليهم. كما أن القائد العسكري يواجه أتباعه يومياً في التدريب والتهذيب والمحاضرات وفي الواجبات العسكرية كالحراسات والخفارات - موجِّهاً ومراقباً، ومدرباً ومعلماً، ومرشداً ومقوِّماً. لذلك وصف الجيش بأنه مدرسة الشعب، ووصف القادة بأنهم معلمو الشعب. وتماسُّ القائد بأتباعه في أيام التدريب الإجمالي بعيداً عن المدن وفي أيام الحرب، يستمر كل الوقت ويستغرق كل ساعات الليل والنهار. وأعرف كثيراً من الضبَّاط، أنكرهم أطفالهم الصغار حين عادوا إلى أهلهم من معسكرات التدريب أو من الحرب، لطول بقائهم بعيدين عن عوائلهم، وهذا ما لا يحدث بالنسبة للمدنيين إلا نادراً وفي ظروف شاذّة. والفرق الثاني بين القائد العسكري والقائد المدني، أن التجنيد الإلزامي الذي تطبّقه أكثر الدول في العالم، جعل كل فرد من أفراد الشعب جندياً في الخدمة العملية أو في خدمة الاحتياط: منهم مَن يؤدِّي

الخدمة العسكرية، ومنهم مَن سيأتي دوره للخدمة العسكرية، ومنهم مَن تسرَّح من الجيش بعد أداء الخدمة العسكرية ... وهذا يتيح للقائد العسكري الاتصال بمختلف أفراد الشعب باستمرار ويؤثِّر فيهم، بينما القائد المدني يؤثر في قطاع خاص محدود من أفراد الشعب ضمن نطاق واجبه ومحيطه. والفرق الثالث، هو أن القائد العسكري يؤثر في أتباعه بإصدار الأوامر كقاعدة وبالإقناع كاستثناء، لأن طبيعة الحياة العسكرية تتسم بالضبط المتين وإطاعة الأوامر وتنفيذها دون تردُّد؛ بينما القائد المدني يؤثِّر في أتباعه بالإقناع كقاعدة وبإصدار الأوامر كاستثناء، لأن الحياة المدنية لا تتسم بالضبط المتين وإطاعة الأوامر بدون مناقشة واقتناع. والذي يحدث عملياً أن الجندي المستجدّ (يتطبَّع) بسجايا قائده، وبمرور الزمن يصبح (التطبُّع) في الجندي (طبعاً)، فيقضي حياته في الخدمة العسكرية وحياته بعد انقضائها متَّجهاً إلى (الخير) إذا كان قائده (خيِّراً)، وإلى (الشر) إذا كان قائده (شريراً). وقد رأيت جنوداً مسرَّحين، يعملون في واجبات مدنية، لا ينفكُّون يذكرون قادتهم العسكريين لأنهم أحسنوا تدريبهم وتربيتهم، فكانوا عناصر مفيدة في المجتمع لسلوكهم المتميِّز المستقيم، نتيجة لخدمتهم العسكرية بقيادة متميزة مستقيمة. والفرق الرابع والأخير، هو أن القائد العسكري له أثر مصيري في شعبه ووطنه، لأنه بالعقيدة الراسخة يقود إلى النصر وبدونها يقود إلى الاندحار. أما القائد المدني فيكون تأثيره محليّاً لا شاملاً، ومرحلياً

لا مستداماً، ومحدوداً لا مصيرياً. كان المرحوم الفريق الركن حسين فوزي يشغل منصب رئيس أركان الجيش العراقي عام 1938م. وكان قائداً متميزاً في علمه وخلقه وحرصه واستقامته، وكان متمسّكاً بأهداب الدين الحنيف. وفجأة انتشرت المساجد في الثكنات، وأقبل الضباط على الصلاة اقتداءً بقائدهم. وفي يوم من الأيام وكنت يومها برتبة ملازم في مدرسة الخيَّالة، تلقينا إشارة من مقرّ المدرسة بأن والدة رئيس أركان الجيش قد توفيت، وسيشيَّع جثمانها إلى مثواه الأخير من جامع الإمام الأعظم في ضاحية (الأعظمية) القريبة من بغداد. وتجمَّع ضباط مدينة بغداد في الجامع، فلما أقيمت الصلاة على المتوفاة، اصطفَّ جميع الضباط دون استثناء للصلاة! وكان الإنكليز مسيطرين على الجيش العراقي في ذلك الحين، فلم يستطيعوا السكوت عن هذا القائد طويلاً، وأحالوه على التقاعد قبل أن يكمل عاماً في منصبه الرفيع. ولو بقي هذا القائد الطاهر في منصبه سنوات، لتبدَّل حال الجيش العراقي إلى أحسن حال. ولكنَّ الاستعمار كان ولايزال بالمرصاد للقادة المتميّزين.

(2)

(2) إن العقيدة الراسخة ضرورية لكل قائد عسكري ومدني، ولكل فرد من أفراد الشعب، ولكنها بالنسبة للقائد العسكري قضية مصيرية، وهي التي تميّز بين القائد الحق والقائد المزيّف. وليس قائداً حقّاً مَن لا يتحلَّى بالعقيدة الراسخة التي تجعله موضع ثقة رؤسائه ومرؤوسيه على حد سواء. وليس هناك شخص واحد يولي ثقته قائداً متفسخاً منحلاًّ، لا رادع يردعه ولا ضمير يؤنبه. وتبادل (الثقة) بين القائد ورجاله، تجعلهم يسيرون وراءه إلى الموت، وهم لا يسيرون قطعاً إلى الموت وراء قائد لا يثقون به. ولكنَّ القول بأن العقيدة الراسخة ضرورية لكل قائد لا تغني عن كل قول، فالواقع أنها الأساس الرصين للقيادة الرصينة المنتصرة، وعلى هذا الأساس تبنى صفات القائد المنتصر الأخرى. وكما يُشَيَّد البناء الشامخ المتين على أساس قوي متين، كذلك تشيّد كل صفات القائد المنتصر على أساس العقيدة الراسخة المتينة، وبدون هذه العقيدة لا قيمة لصفات القائد الأخرى كما لا قيمة للبنيان المشيد على جرف هار. بل يمكن القول، بأن العقيدة الراسخة في القائد هي التي تتيح الظروف الملائمة له لتنمية صفات القيادة الأخرى فيه وتهذيبها، فهي

أول الطريق لبناء الصفات القيادية المتميزة. فإذا تيسَّرت العقيدة الراسخة في القائد، بدأ طريقه على هدي وبصيرة، وكان الأمل كبيراً في نجاحه قائداً منتصراً. ولكن العقيدة وحدها بدون توفّر صفات القيادة الأخرى في القائد، لا تكفي للقائد المنتصر الذي يؤمل على يديه للبلاد والأمة خير كثير. وقد كان الصحابة عليهم رضوان الله في قمة التقوى والورع، ولكن الرسول القائد عليه أفضل الصلاة والسلام ولَّى المناصب القيادية قسماً من صحابته توفرت فيهم العقيدة الراسخة أولاً والصفات القيادة الأخرى ثانياً. وسار على هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - من بعده خلفاؤه الراشدون. وسار على هدي الرسول القائد والخلفاء الراشدون كل مَنْ يريد خدمة (أمته) لا خدمة (شخصه) الكريم. ومجمل صفات القائد المنتصر هي: العقيدة الراسخة، والمحبة المتبادلة بينه وبين رجاله، والثقة المتبادلة بينهما، والشخصية القوية النافذة، والإرادة الصلبة الحازمة، والخلق القويم، والقابلية على بناء الرجال تدريباً وتهذيباً، والحظ الموفق السعيد، والعقل الراجح الحصيف، والتربية العملية للإدارة والقتال، والسمعة الحسنة المشرفة، والعلم العسكري المتين، والمثال الشخصي الرفيع، والحذر واليقظة، والحرص الشديد، والشجاعة النادرة، والخبرة بالرجال، والضبط القوي المتين، والعمل الدائب المستمر بدون كلل ولا ملل، وإجراء

التفتيش الدقيق على أتباعه وقضاياهم الإدارية، والتنظيم المنطقي السليم، والتبعية المتميزة المبتكرة، والشورى، والصبر الجميل، وتحمُّل المسؤولية، والقابلية البدنية، وإتقان مبادئ الحرب، وإصدار القرارات الصحيحة بسرعة، والمعنويات العالية. تلك هي مجمل صفات القائد المتميّز المنتصر، مقتبسة من المصادر العسكرية الأصيلة، ولعلَّ أول هذه الصفات وأهمها على الإطلاق، هي صفة: العقيدة الراسخة. ولا بدَّ من توفر أربعة شروط في القائد المتميز المنتصر: الطبع الموهوب، والعلم المكتسب، والتجربة العملية، والعقيدة الراسخة. الطبع الموهوب هبة من هبات الله سبحانه وتعالى، فكلٌّ ميسَّر لما خُلِق له، قائداً أو مهندساً أو طبيباً أو أستاذاً أو عاملاً أو فلاَّحاً. ولكن الطبع الموهوب لا يكفي، بل لا بدَّ من إتقان العلوم العسكرية بالدرس والتمحيص والبحث والتدقيق - خاصة في هذا العصر الذي تطوَّرت فيه العلوم العسكرية، وأصبح لاثنين وستين علماً من العلوم الأخرى علاقة مباشرة بالعلوم العسكرية. ويأتي دور التجربة العملية، وذلك بتسخير الطبع الموهوب والعلم المكتسب لميدان التطبيق العملي. أعرف قادة في ذروة العلم المكتسب والتجربة العملية، ولكنهم لا يملكون الطبع الموهوب، فكانوا مدراء مكاتب لا قادة ميدان. وأعرف قادة فيهم الطبع الموهوب والعلم المكتسب، ولكن

تنقصهم التجربة العملية، فكانوا أقرب إلى الهواة منهم إلى القادة المحترفين. وأعرف قادة فيهم الطبع الموهوب والعلم المكتسب، ولكن تنقصهم التجربة العملية، فكانوا أقرب إلى الهُواة منهم إلى القادة المحترفين. وأعرف قادة فيهم الطبع الموهوب والتجربة العملية، ولكن ينقصهم العلم المكتسب، فكانوا أقرب إلى المغامرة منهم إلى الفن العسكري الأصيل. وأعرف موظفاً في قسم الترجمة التابع لمديرية التدريب العسكري، كان حجة في العلوم العسكرية يحفظها عن ظهر قلب، ولكنه بدون تجربة عملية وطبع موهوب، فكان لا يستطيع قيادة دجاجة واحدة. وأعرف قادة فيهم الطبع الموهوب والعلم المكتسب والتجربة العملية، ولكن تنقصهم العقيدة الراسخة، فلم يكونوا موضع ثقة رجالهم، وكانوا بوادٍ ورجالهم بواد. والمهمّ في هذه الظروف التي تجتازها الأمة العربية، هو اختيار القائد المناسب للقيادة المناسبة؛ فيجب على أولياء العرب والمسلمين أن يولوا كل عمل قيادي أصلح من يجدونه لذلك العمل بعيداً عن الأهواء والأغراض الشخصية. وقد كنت ولا أزال وسأبقى واثقاً كل الثقة مؤمناً غاية الإيمان، بأن الأمة التي أنجبت الرسول القائد عليه أفضل الصلاة والسلام

والقادة الراشدين وقادة الفتح الإسلامي من الصحابة والتابعين أمثال خالد بن الوليد والمثنّى بن حارثة الشيباني وسعد بن أبي وقاص وأبي عبيدة بن الجرَّاح وعمرو بن العاص وعقبة بن نافع وطارق بن زياد ومحمد بن القاسم وقتيبة بن مسلم الباهلي - رضي الله عنه - م؛ وأنجبت القادة المنتصرين بعد الفتح الإسلامي من أمثال أسد بن الفرات فاتح صقلية وقطز قاهر التتار وصلاح الدين الأيوبي ومحمد الفاتح ... هذه الأمة العريقة لن تعجز أبداً عن إنجاب أمثالهم من القادة الفاتحين. فأين مَن يجد القائد المناسب للقيادة المناسبة، بعيداً عن الهوى وعن المصالح الشخصية؟ ... أين؟؟. أين المسؤول العربي أو المسلم، الذي يرتفع إلى مستوى إيثار المصلحة العامة على المصلحة الخاصة؟!. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: {مَنْ وَليَ من أمر المسلمين شيئاً، فولَّى رجلاً وهو يجد مَن هو أصلح منه للمسلمين، فقد خان الله ورسوله". وفي رواية: "مَن قلَّد رجلاً عملاً على عصابة (1) وهو يجد في تلك العصابة أرضى منه، فقد خان الله وخان رسوله وخان المؤمنين" (2). وقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: "مَن وَليَ من أمر المسلمين شيئاً، فولَّى رجلاً لمودَّة أو قرابة بينهما، فقد خان الله ورسوله والمسلمين" (3). _______ (1) العصابة: الجماعة من الناس. (2) رواه الحاكم في صحيحه. (3) السياسة الشرعية لابن تيمية، 9 - 10.

فيجب على كل من وليَ شيئاً من أمر المسلمين، أن يستعمل فيما تحت يده في كل موضع: أصلح من يقدر عليه؛ ولا يقدِّم الرجل لكونه طلب الولاية أو سَبَقَ في الطلب، بل ذلك سبب المنع. فقد جاء في الصحيحين: البخاري ومسلم، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أنَّ قوماً دخلوا عليه فسألوه ولاية، فقال: إنَّا لا نولي أمرنا هذا من طلبه". إن اختيار القائد المناسب للقيادة المناسبة، أمانة في أعناق المسؤولين، وصدق الله العظيم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} [سورة الأنفال 8: 27]. وقد دلَّت سنَّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أن الولاية أمانة يجب أداؤها، مثل قوله لأبي ذر حين سأله أن يولّيه منصباً من المناصب: "إنها أمانة، وإنه يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها" (1). وروى الإمام البخاري في صحيحه عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا ضُيِّعت الأمانة، انتظر الساعة"، قيل: يا رسول الله، وما إضاعتها؟ قال: "إذا وُسِّد (2) الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة". والذي يدهش حقّاً في أقوال النبي - صلى الله عليه وسلم -، هو حرصه الشديد على إبراز نموذج رفيع لتفكير: (رجل الدول) حسب الاصطلاحات الحديثة، فقد كان عليه أفضل الصلاة والتسليم: (رجل الدولة) بكل ما يعنيه هذا التعبير. _______ (1) رواه مسلم. (2) وسِّد الأمر إلى فلان: أسند إليه القيام بتصريفه.

(3)

ولعلَّ أبرز صفاته عليه الصلاة والسلام، قابليَّته الفذَّة على استعمال الرجل المناسب للعمل المناسب، لذلك استطاع بكل كفاية: (بناء الرجال)، فلما التحق بالرفيق الأعلى كان لدى المسلمين قادة وحكام وقضاة وإداريون وكتَّاب وشعراء ورجال سياسة ... إلخ. وقد حوكم سكرتير أحد الأحزاب عام (1962م) لأنه كان عميلاً لدولة معادية، فقيل له: إنك سكرتير الحزب ومؤسسه ورائده، وقد خدمته عشرين عاماً طويلة، فماذا صنعت لخدمة الأجنبي؟ فقال: "كنت أضع الرجل في العمل الذي لا يناسبه" ... ترى كم من رجالنا يفعل مثل ذلك وهو لا يدري؟!! وإلى متى نضع المهندس في موضع الطبيب، والطبيب في موضع المهندس، والضابط في موضع الإداري، والإداري في موضع الضابط؟؟!! (3) أ) ولعل الذين دققوا بإمعان، في سِيَرِ قادة العرب والمسلمين الفاتحين في أيام الفتح الإسلامي العظيم، وفي سِيَرِ قادة العرب والمسلمين المنتصرين بعد أيام الفتح الإسلامي العظيم، قد وجدوا أن (القاسم المشترك) في صفاتهم جميعاً، على اختلاف أجناسهم وطبائعهم والزمان الذي عاشوا فيه والمكان الذي ترعرعوا فوق أرجائه والظروف التي أحاطت بهم والبيئة التي تأثروا بها - على اختلاف كل هذه المؤثرات التي تبني السجية وتشيّد الشخصية وتوجه الرجال - هذا (القاسم المشترك) بينهم جميعاً هو تمسكهم بتعاليم الدين الحنيف، ورغبتهم الصادقة في إعلاء كلمة الله.

كانوا أبطال الإسلام لا أبطال شعوبهم التي ينتسبون إليها، وكانت الفكرة الإسلامية تملأ نفوسهم ومشاعرهم: يضطرمون بها ولا يؤمنون بغيرها. ولم تكن تحدوهم في جهادهم أية فكرة قومية أو عنصرية أو إقليمية. فإذا نحن أسبغنا على هؤلاء القادة الفاتحين والمنتصرين أو على مشاريعهم وأهدافهم وجهادهم في سبيل الله أية صفة أخرى غير الصفة الإسلامية، وإذا نحن نسبناها إلى بواعث قومية أو عنصرية أو إقليمية، فإنا بذلك نجني على سِيَر هؤلاء الأبطال الإسلاميين العظام، إذ نجرِّدهم من أروع الحوافز البطولية وأشرفها، كما نجني على الواقع وحقائق التاريخ. لقد كانوا قادة (مبادئ) لا قادة (مصالح). كما كان وراء كل قائد من القادة الفاتحين والمنتصرين عالم عامل من علماء الدين، يُذْكي الشعور الديني، ويحرّض على القتال، ويأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، ويرفع المعنويات، ويصاول الحرب النفسية، ويبشّر بالنصر، ويكافح الانهزاميين. وكان القادة جميعاً يستشيرون هؤلاء العلماء العاملين، الذين كانوا يعتبرون العلم (عبادة) ولا يعتبرونه (تجارة). قادة الفتح الإسلامي من الصحابة والتابعين، كانوا في الوقت نفسه علماء عاملين، يحملون السيف بيد والمصحف بيد أخرى، وكانوا قادة ودعاة في آن واحد، يفتحون من أجل الدعوة، ويَعْرِضون الإسلام على الناس بدون إكراه.

والقادة المنتصرون كانوا يحرصون أن يكون إلى جانبهم في الميدان أشهر العلماء العاملين، وقد مرت بنا فيما سلف أسماء قسم من هؤلاء العلماء الأجلاء. هذه العقيدة الراسخة التي كان يتحلى بها القادة، وأولئك العلماء الأعلام الذين كانوا وراء أولئك القادة، جعل القادة الفاتحين والمنتصرين يقودون رجالهم من (الأمام)، يقولون لهم: "اتبعونا"، ولا يقودون رجالهم من (الخلف)، يقولون لهم "تقدموا إلى الأمام"، ثم يستأثرون بالأمن والدعة والراحة. وهذا الإقدام، وهذه الشجاعة، أثر من آثار العقيدة الراسخة، تلك العقيدة التي يستثير كوامنها العلماء العاملون والشيوخ المجاهدون. كتب عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - إلى عبد الرحمن بن نعيم: "إن العمل والعلم قريبان، فكن عالماً بالله عاملاً له؛ فإن أقواماً علموا ولم يعملوا، فكان علمهم عليهم وبالاً" (1). والعالم بدون عمل، كالتربة الخصبة بدون زرع؛ والعمل أهم من العلم، وربّ عالم يبهر الناس بعلمه ولكنه لا يعمل بهذا العلم، أفضل منه الذي يعمل بعلمه القليل. والشيطان أعلم العلماء، ولكنه يضر ولا ينفع؛ وأي عامل يفيد بعمله ولا يضر، أنفع للمصلحة العامة من أعلم العلماء بدون عمل. _______ (1) الطبري 6/ 576.

والعالم العامل أحرص الناس على الجهاد وأكثرهم فائدة في ميدان القتال، لأنه يرفع المعنويات، ويقوي العزائم، ويشجع على الثبات، ويحرّض على الاستقتال. وللعلماء العاملين تاريخ مشرف في الجهاد، وقد استشهد ثلاثمئة صحابي في رواية - وخمسمئة صحابي في رواية أخرى - من القراء في معركة (اليمامة) تحت لواء خالد بن الوليد - رضي الله عنه - في حرب الردّة، والقراء هم علماء الصحابة العاملون. وقد كان مع كل قائد فاتح في أيام الفتح الإسلامي العظيم علماء عاملون من (الدعاة) يطهرون نفوس أفراد الجيش قبل نشوب القتال، ويباشرون الحرب بعد نشوبها، ويدعون الناس إلى الإسلام بالحسنى والموعظة الحسنة بعد إحراز النصر. وما يقال عن قادة الفتح الإسلامي، يقال عن القادة المنتصرين بعد توقف هذا الفتح. كان وراء قطز العالم العامل الشيخ العز بن عبد السلام وأضرابه، وكان وراء صلاح الدين الشيخ ابن شداد وأمثاله، وكان لا يسمع بعالم عامل إلا استقدمه ورحّب به وجالسه وخالطه واستمع بشوق إليه. وكان وراء السلطان محمد الفاتح الشيخ آق شمس الدين والشيخ الكوراني وأمثالهما كثير من العلماء العاملين. وقد بلغ إعجاب السلطان الفاتح بالعلماء، أنه اتخذ زيّهم ونبذ زيّ السلاطين. وقد كان للفاتح - كما مر بنا - دويّ في العالم كله وأثر

عظيم في السياسة الدولية، وتأثير حاسم في الملوك والأباطرة والرؤساء والأمراء وذوي السلطان، ولكنه كان يخضع خضوعاً كاملاً للعلماء العاملين، لأنهم ورثة الأنبياء، وقد لمس أثرهم في جيوشه وتأثيرهم في نفوس رجاله، وعزوفهم عن الدنيا، وحبهم للخير، وحرصهم على النصر، فكانوا له خير عون في السلام والحرب. وقد استشهد قائد القضاة وقاضي القادة أسد بن الفرات في ميدان الشرف، وطلب ابن تيمية الشهادة في معارك كثيرة، ولكن الله سبحانه وتعالى كرّمه بالجروح ولم يكرمه بالشهادة. وأمثال أسد بن الفرات والعز بن عبد السلام وابن تيمية من العلماء العاملين كثير، وقد كان لهم أثر حاسم في إحراز النصر. وإذا كان القائد العسكري هو المسؤول الأول عن قيادة جيشه من القضايا السوقية والتعبوية والإدارية، أو بمعنى آخر المسؤول الأول عن الناحية المادية في الجيش؛ فإن العالم العامل، هو المسؤول الأول عن القضايا الدينية، أو بمعنى آخر المسؤول الأول عن الناحية المعنوية. والناحية المعنوية في كل جيش لا تقل أهمية عن الناحية المادية، إذ لا ينتصر جيش لا يتحلى بالمعنويات العالية - كما هو معروف. إن حاجة العرب والمسلمين اليوم إلى علماء عاملين، لا تقل عن حاجتهم إلى قادة ماهرين؛ وأهمية أطباء الروح لا تقل عن أهمية أطباء البدن. ب) إن أثر القائد في جنوده يفوق حدود الوصف.

والقادة الأفذاذ يغيّرون التاريخ، ويؤثرون في حاضر الأمم ومستقبلها، ويبدلون حالها إلى أحسن حال. لقد كان العرب قبل الرسول القائد عليه أفضل الصلاة والسلام ضعفاء متفرقين، فأصبحوا بقيادته أقوياء موحدين. وكانوا يخشون الفرس والروم، فأصبح الفرس والروم يخشونهم. وأصبحت مصر بقيادة صلاح الدين دولة قوية، فعادت بعد وفاته دولة ضعيفة. وقد عجز الخلفاء والملوك والسلاطين قبل محمد الفاتح عن فتح القسطنطينية، وبفضل قيادته فُتحت القسطنطينية وفُتحت عشرات من بلدان الروم وغير الروم في أوروبا. وبالإمكان ضرب ما لا يُعَدُّ ولا يحصى من الأمثال عن أثر القادة الأفذاذ في أممهم. وما يقال عن أثرهم في الأمم يقال عن أثرهم في الجيوش والفيالق والفِرَق والتشكيلات الكبرى والوحدات الصغرى. أعرف فرقاً وتشكيلات ووحدات كانت ضعيفة هزيلة، فأصبحت بين عشية وضحاها بفضل قادتها الجدد قوية متينة. وقد رأيت وحدات عسكرية تؤدي شعائر الله، لأن قائدها يؤدي تلك الشعائر، ورأيت وحدات قريبة من الشيطان بعيدة من الله اقتداء بقائدها. والقائد الذي يثبت أمام الأعداء، يثبت رجاله أعظم الثبات،

والقائد الذي يهرب من الميدان يسبقه جنوده في الهروب إلى ساحة الأمان. وقد كان جيش الألمان في الحرب العالمية الثانية في الجبهة الإفريقية ضعيفا مندحراً، فأصبح بقيادة المشير رومل قوياً منتصراً. وكان الجيش الثامن البريطاني في الحرب العالمية الثانية في شمال إفريقيا قبل تولي المشير مونتكومري قيادته جيشاً منهزماً، فأصبح بقيادة مونتكومري جيشاً مظفراً. إن فضائل القائد تنتقل إلى رجاله بالعدوى، كما أن رذائله تنتقل إليهم بالعدوى أيضاً، لذلك كان اختيار القائد العقيدي خدمة للجيش والأمة والبلاد. وتولي قائد تافه مقاليد القيادة، من مصلحة العدو ما في ذلك أدنى شك. ولعل اختيار القائد العقيدي الذي يتسم بصفات القيادة الأخرى ضرورة حيوية للعرب والمسلمين - خاصة في مثل هذه الأيام. واختيار القائد غير الملتزم بالعقيدة الراسخة، مهما تكن صفاته القيادية الأخرى، من مصلحة العدو أيضاً دون ريب. وقد جرّب العرب والمسلمون في ظروف مختلفة ومناسبات شتى، قادة لا عقيدة لهم فكان ضررهم أكبر من فائدتهم، وكان هدمهم أكثر من بنائهم، على الرغم من تيسر بعض الصفات القيادية المتميزة في قسم منهم.

فقد استطاع هؤلاء تكديس الأسلحة، ونجحوا في القضايا المادية، ولكنهم أخفقوا في (بناء الرجال)، ونجحوا في (تحطيم الرجال). وكانت النتيجة أن الأسلحة الضخمة والأعداد الهائلة من الجنود، لم تُجْدِ نفعاً حين التقى الجمعان. إن الجيش ليس كتلاً ضخمة هائلة من البشر والسلاح، بل لا بد أن تكون المعنويات العالية التي هي العقيدة الراسخة إلى جانب السلاح والبشر، ليكون جيشاً حقاً، وإلا فسيبقى جيشاً من قوارير ... ولا أزيد ... ثم إن قادة إسرائيل متمسكون بالعقيدة الصهيونية التي هي عبارة عن الدين اليهودي والقومية اليهودية. والعقيدة لا تقاوم إلا بعقيدة أصلح منها وأفضل، لها مقومات البقاء، لأن البقاء للأصل، وتلك هي سنة الحياة. والتمسك بعقيدة فاسدة، أفضل من عدم التمسك بأية عقيدة. وقد انتصرت إسرائيل بالعقيدة اليهودية على العرب الذين تخلوا عن عقيدتهم، وهكذا انتصرت العقيدة الفاسدة على من لا عقيدة لهم، وتلك هي سنة الحياة أيضاً. قال هيرتزل في خطابه الافتتاحي الذي ألقاه في المؤتمر الصهيوني الأول عام (1897م) المعقود في مدينة (بال) السويسرية: "الصهيونية هي العودة إلى حظيرة اليهودية قبل أن تصبح الرجوع إلى أرض يهود".

وكتب هيرتزل في كراس (الدولة اليهودية): "الإيمان يوحّد فيما بيننا". وقال: "أريد تربية أولادي وتنشئتهم على الاعتقاد بالإله التاريخي". وقال: "لم يكن الله ليبقينا على قيد الحياة طيلة العصور الفائتة لو لم يكن لنا دور نلعبه في تاريخ البشر" (1). وفي جيش إسرائيل حاخامات على رأسهم حاخام الجيش الأكبر، وهم يتمتعون بسلطات دينية في الجيش لا نظير لها في الجيوش العالمية الأخرى. وفي جيش إسرائيل، تُجرى مسابقات سنوية في التوراة دراسةً وحفظاً وتفسيراً، يكرّم المتفوقون فيها أعظم التكريم وينالون أغلى الجوائز. كما أن الجيش الإسرائيلي يقيم الشعائر الدينية عند حائط المبكى، وأفراد سلاح المظلات الإسرائيلي يؤدون قَسَم الولاء لإسرائيل عند هذا الحائط: يحملون البندقية بيد والتورات بيد أخرى. وقد كان (بنغوريون) يقول ولا يزال: "لا معنى لإسرائيل بدون القدس؛ ولا معنى للقدس بدون الهيكل"، ويريد هيكل سليمان الذي تعتزم إسرائيل إقامته على أنقاض المسجد الأقصى المبارك. وحين وصلت قوات إسرائيل إلى (سيناء) سجد أفرادها على الرمال وقبلوا ذراتها على اعتبارها من الأماكن المقدسة لديهم. ولما احتل الإسرائيليون مدينة (أريحا) الواقعة في غور فلسطين _______ (1) انظر التفاصيل في: أهداف إسرائيل التوسعية في البلاد العربية، الطبعة الثالثة، (28)، بيروت.

(4)

عام (1967م)، انتظروا صدح البوق قبل دخول المدينة تنفيذاً لتعاليم التوراة. وقد أطلقوا على خطة النفير التي طبقوها في حرب سنة (1967م): (خطة نفير سليمان)، وذكروا أنهم اقتبسوها من التوراة. وحين هرّب الصهاينة ستة زوارق حربية من ميناء (شربورغ) يوم 26 كانون الأول (ديسمبر) سنة (1970م)، فلما وصلت سالمة إلى مدينة (حيفا) قال دايان: "إن الزوارق الستة التي أبحرت دون أسلحة ودون حراسة، واستطاعت التزود بالوقود في البحر ... ذلك لأنها لم تكن مزودة بأربع محركات فحسب، بل وأيضاً بنعمة إلهية وبروح علوية ... ! وهذا ما أشار إليه الكتاب المقدس: (كانت الفوضى تعمُّ الأرض، وروح الله تشمل الماء) " (1). تلك هي نبذة من أقوال زعماء إسرائيل، وذلك هو مبلغ تمسكهم بالدين. أما العرب!! أما المسلمون!! (4) ولست أستطيع أن أفهم، كيف يستسيغ عربي أو مسلم يتمتع بكامل عقله، ويدّعي الإخلاص لأمته، أن العقيدة الإسلامية تتناقض _______ (1) أهداف إسرائيل التوسعية في البلاد العربية، 91 - 92.

مع القيادة، وأنها لا تقود إلى النصر. إن تعاليم الإسلام، تُعِدُّ المسلم ليكون جندياً متميزاً في جيش المسلمين، وتزوّده بإرادة القتال، وتكوّن جيشاً لا يُغلب من قلة أبداً. وحين تمسّك المسلمون بهذه التعاليم، في حياة الرسول القائد عليه أفضل الصلاة والسلام وأيام الفتح الإسلامي العظيم، بهروا العالم بإنجازاتهم العسكرية الفذة، وثلُّوا عرش كسرى وزعزعوا عرش قيصر وحملوا رايات المسلمين شرقاً وغرباً من نصر حاسم إلى نصر حاسم. وقد أثبت الباحثون المسلمون وغير المسلمين أيضاً، أن انتصارات المسلمين يومذاك كانت انتصارات عقيدة بدون أدنى شك. وفي تاريخ المسلمين الطويل، بعد توقف الفتح الإسلامي العظيم، حدثت انتصارات محلية في دول معينة ومناطق معينة، بسبب عودة تلك الدول بشكل محدود ولمدة محدودة إلى التمسك بأهداب الدين الحنيف. كما أن تاريخ الحرب العربي والإسلامي، أثبت بصورة قاطعة أن النصر والمجد كانا حليفين للقادة المتدينين، وأن الهزيمة والعار كانا حليفين للقادة غير المتدينين. وحين ترك العرب والمسلمون روح تعاليم الإسلام واكتفوا بالمظاهر فقط، لم تنتصر لهم راية أبداً، وصدق الله العظيم: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد 13: 11]، وقال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الأنفال 8: 53].

ولم ينتصر جيش إلا وله (قضية) يدافع عنها ويؤمن أفراده بأنها تستحق أن يضحوا من أجلها بالروح، و (القضية) - كما يعبر عنها المحدثون - هي العقيدة الراسخة أو المصلحة العامة، أو هي العقيدة والمصلحة في آن واحد. المسلمون الأولون مثلاً، كانت (القضية) التي حاربوا من أجلها، هي إعلاء كلمة الله، فكانت حروبهم من أجل العقيدة. والحلفاء والمحور في الحرب العالمية الثانية، كانت (القضية) التي حاربوا من أجلها، هي مصالحهم القومية والوطنية. وشتان بين حرب (العقيدة) وحرب (المصلحة): الأولى حرب عادلة، والثانية حرب غير عادلة. وقد انتبه المؤرخ ابن خلدون إلى أهمية (العقيدة) بالنسبة للعرب، فقال في مقدمته: "إن العرب لا يحصل لهم الملك إلا بصبغة دينية من نبوة أو ولاية أو أثر عظيم"، وقد عقد في مقدمته فصلاً ضافياً لإثبات ذلك (1). تلك حقائق معروفة، ولكنّ أعداء العرب والمسلمين يشوهون الحقائق، ليسهل عليهم السيطرة والاستغلال، لأنهم يعرفون أن الأمة بدون عقيدة لا تقوى على تحمل أعباء القتال، وتُؤْثِر الاستسلام مع الذل على الحرب مع العزة. ولست ألوم أعداء العرب والمسلمين على حربهم الإسلام _______ (1) مقدمة ابن خلدون 1/ 226.

ومقاومتهم التمسك بتعاليمه ومعاداتهم المتقين الأخيار، لأنهم حريصون على مصالحهم في الوطن العربي والبلاد الإسلامية، حريصون على بقاء العرب والمسلمين ضعفاء لاحول لهم ولا قوة؛ وعودة العرب والمسلمين إلى الإسلام من جديد، يهدد مصالح أعدائهم ويقضي عليها قضاءً مبرماً. ولكنني ألوم قسماً من العرب والمسلمين الذين يصدقون مزاعم أعداء أمتهم وعقيدتهم، ويعملون بسذاجة أو غباء أو خضوعاً للأيدي الخفية على إشاعة تلك المزاعم بين المواطنين. بعد نكسة عام (1967م) تعالت أصوات عربية مريبة، تدَّعي بأن أسباب النكسة تمسك العرب بالدين، وبأن من أسباب النصر التخلي عن الدين. وأصحاب هذه الأصوات المريبة، تسبغ على نفسها ألقاباً علمية تارة وشعارات براقة تارة أخرى!! وأتساءل: هل يجهل هؤلاء أن العرب تنكروا للدين منذ زمن بعيد؟ فكيف إذاً كان الدين من أسباب النكسة؟ وأتساءل: هل من الصدفة توقيت ترديد هذه المزاعم بعد النكسة مباشرة، أم هي الأيدي الخفية العميلة التي تدفع إلى ترديدها في مثل هذا الوقت بالذات؟ إن أمر هؤلاء المغرَّر بهم أو العملاء مكشوف، ولكن ياليت قومي يعلمون!

(5)

ثم أعود إلى قسم من العسكريين الذين استقرَّ في أذهانهم أن القيادة تناقض العبادة، وأتساءل: كيف يمكن أن يستقر مثل هذا الخطأ الفاحش في الأذهان؟ وهل له سند من تاريخ العرب والمسلمين أو من واقعهم؟ هل في الإسلام ما يعطل الطاقات المادية والمعنوية من بعيد أو قريب أو فيه ما يشحذها؟. إن هؤلاء الذين استقر في أذهانهم هذا الخطأ يستحقون أعنف اللوم، ويستحقون في الوقت نفسه أعظم الرثاء. وأخيراً ألوم المسؤولين الذين بيدهم أمور الناس، لأنهم يستطيعون تصحيح الأوضاع وإعادة الأمور إلى مجاريها، ثم يقفون موقف المتفرج ولا يفعلون شيئاً. (5) كيف يمكن إعادة (بناء الرجال) ليكونوا عناصر مفيدة في المجتمع العربي الإسلامي وقوة الحاضر ودعامة المستقبل؟ كيف يمكن إعادة: (بناء الأمة)، لتكون خير أمة أخرجت للناس؟؟ إن (الفرد) العربي والمسلم، له حقوق وعليه واجبات، وعليه تقع مسؤولية جزء كبير أو صغير في (بناء الأمة) ضمن نطاق عائلته ووظيفته ومهنته. و (الدولة) العربية الإسلامية، لها حقوق على الأفراد وعليها

واجبات تجاههم، وعليها تقع مسؤولية كبرى في (بناء الأمة) ضمن نطاق واجباتها ومسؤولياتها. ولا بد للفرد أن يؤدي ما عليه من حقوق للدولة، ليطالبها بما له عليها من واجبات. ولابد للدولة أن تؤدي ما عليها من حقوق للفرد، لتطالبه بما لها عليه من واجبات. ولا بد أن يتعاون (الفرد) مع (الدولة)، وتتعاون (الدولة) مع (الفرد) بكل أمانة وإخلاص في مجال بناء (الفرد) و (الأمة)، حتى تنهض الأمة من كبوتها وتستعيد سيرتها الأولى. ويخيل إليّ أن (التعاون) ليس على ما يرام بين (الفرد) و (الدولة)، فالفرد ينتظر من الدولة أن تعمل كل شيء وهو لا يكاد يفعل شيئاً، والدولة تطالب الفرد بواجباته ولا تؤدي له حقوقه، والفرد يضع اللوم كله على الدولة، والدولة تضع اللوم كله على الفرد. وعلى سبيل المثال، كثيراً ما نسمع (الفرد) ينتقد استهتار الشباب بالقيم الدينية ويعزي هذا الاستهتار إلى تقصير (الدولة) في القيام بواجبها. هؤلاء الشباب أبنائي وبناتي وأبناء غيري وبناتهم، فهل فكر كل (فرد) بواجبه نحو ذريته؟ أليس من واجب (الفرد) أن يغرس في أبنائه وبناته القيم الدينية، ليحول دون تفسخهم وضياعهم وانحلالهم أخلاقياً؟؟

أ) الفرد

ولست أشك في تقصير (الدولة)، فهل يستسلم (الفرد) ولا يؤدي واجبه نحو أولاده؟ ولست أنوي وضع خطة تفصيلية لبناء الرجال، لأن ذلك يحتاج إلى كتاب خاص ودراسة خاصة، لا مكان لها في هذا الكتاب. ولكنني أنوي وضع الخطوط العريضة لخطة (بناء الرجال)، مركّزاً على تهيئة قادة المستقبل بصورة خاصة. ولا أدعي لنفسي ما لا أملك، فلست من رجال التربية، ولكن خبرتي الطويلة في العمل العسكري تربية للجنود والضباط، وخبرتي الخاصة مما تعلمته من أبوي في تربيتي ومما تعلمته من تجربتي العملية في تربية أولادي، تجعلني أملك رصيداً من التجارب العملية في التربية قد يكون عرضها مفيداً للفرد وللدولة أيضاً. ويا حبذا لو عرض كل ذي تجربة عملية تجربته لغيره، فقد تكون حصيلة هذه التجارب ثروة تربوية لا تقدر بثمن. أ) الفرد: أولاً: فاقد الشيء لا يعطيه، والمحروم من التربية السليمة لا يمكن أن يربي غيره تربية سليمة. وأقصد أن يبدأ المرء بنفسه، فيطهرها ويقوّم معوجّها وينفي عنها الخبث. وإذا كان أبواه قد قصّرا في تربيته لسبب من الأسباب، أو كانت مدرسته قد قصرت في تربيته أيضاً، فلا يقنط من إصلاح نفسه ولا ييأس.

إن الدنيا لا تزال بخير، والمربون الأخيار معروفون، وبإمكانه اللجوء إلى أحدهم ليقتبس منه النور والصلاح. ثانياً: يجب أن يتحمل الآباء والأمهات واجباتهم كاملة في تربية أطفالهم، فلا ينبغي وضع عبء التربية كله على المدرسة، ولا ينبغي إهمال التربية اعتماداً على المدرسة. يجب تلقين الأطفال مبادئ الدين الحنيف وأسس الخلق القويم في البيت قبل الالتحاق بالمدرسة. وقد سألني صحفي زعم أن الآباء والأمهات فقدوا سيطرتهم على أبنائهم من الجيل الجديد، وأن السيطرة انتقلت من الأبوين إلى الأولاد، فقال: "هل تعاني مشاكل من تصرفات أولادك"؟ فقلت: "مشاكل! ولماذا أعاني المشاكل؟!! إن الذين يعانونها قد تأخروا في توجيه أطفالهم، ولو بدؤوا بهذا التوجيه حين كان الطفل صغيراً لغرسوا فيه الدين والفضيلة، ولما عانوا مشاكل من تصرفاته". إن البيت هو المدرسة الأولى للأطفال، وفيه يوجهون إلى الخير أو إلى الشر. وكل فرد من الأفراد يذكر ما تلقاه وهو طفل من أبويه في البيت من سجايا حميدة أو بالعكس، وما تلقاه وهو طفل صغير قد يبقى معه حتى يرحل عن الدنيا. إن الأطفال الصغار يقتبسون صفات آبائهم وأمهاتهم، والمثال الشخصي الرفيع يؤثر فيهم أعمق التأثير، فمن خاف على عقبه وعقب عقبه فليتق الله.

والأطفال المنحرفون، والشباب المنحرف، هم نسخة طبق الأصل من آبائهم وأمهاتهم ولا عبرة بالشواذ. وتبدأ تربية الطفل الصغير مبكراً، حتى إذا بلغ الرابعة أو الخامسة من عمره والتحق بروضة الأطفال، كان مسلحاً بالتربية السليمة، وهي التربية الأساسية التي تكون قاعدة رصينة للتربية التي يتلقاها في الروضة وبعدها في المدرسة والجامعة ومن تجارب الحياة. ثالثاً: بعد التحاق الطفل بروضة الأطفال والولد بالمدرسة والشاب بالجامعة، لا بد أن يراقب الأبوان تصرفات أولادهما، فينصحان ويوجهان ويقفان موقفاً حازماً في حال ظهور أي بادرة من بوادر الانحراف على الأطفال والأولاد والشباب. ولست أشك أن الوالدين إذا أدَّيا واجبهما التربوي نحو الطفل قبل التحاقه بروضة الأطفال أو المدرسة الابتدائية، فإن احتمال انحراف الطفل في دور الطفولة والشباب سيكون قليلاً. إن الطفل كالعجين، يمكن تشكيله بأي شكل، لذلك كانت تربيته تربية سليمة مستمدة من تعاليم الدين الحنيف في مرحلة الطفولة مهمة للغاية وحاسمة في حياته المقبلة. وكل طفل يولد على الفطرة، وأبواه يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه كما يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -. رابعاً: لقد سمعت كثيراً من الآباء يبدون تذمرهم من انحراف أولادهم في دور المراهقة والشباب.

ولكنني رأيتهم يكتفون بالتذمر ولا يفعلون شيئاً لمعالجة الانحراف، وحجتهم في ذلك أن متطلبات العصر تحتم ذلك، أو أن الأولاد كلهم منحرفون، أو أن ازدحام أعمالهم تحول دون التفرغ لأولادهم ... إلخ، من المعاذير ... إن متطلبات العصر، وانحراف أكثر الأولاد، لا يسوغان بالضرورة ترك الحبل على الغارب للأولاد والسكوت عن الانحراف. كما أن ازدحام الأعمال على الأبوين لا يسوغ السكوت عن انحراف أولادهما. ولو سألني سائل: هل الأفضل أن تعمل الأم لتترك أطفالها تحت رحمة غيرها مما يؤدي إلى انحرافهم، أو تتفرغ لتربية أطفالها تربية سليمة تاركة عملها خارج الدار؟ لأجبت بدون تردد: "تربية الأطفال تربية سليمة أهمّ من العمل الخارجي، وبناء رجال المستقبل أهم من المال ومن العيش الرغيد". وماذا يفيد الإنسان إذا ربح العالم وخسر نفسه. لقد بالغنا بتوظيف الفتيات في الوظائف الحكومية، وأرى أن وظيفتها في تربية أطفالها أهم من كل وظيفة أخرى. وقد حدثت مآسٍ كثيرة من جراء تغيب الأم عن بيتها، لأن الأطفال حرموا من التربية الصالحة. أليس من الغريب أن يبقى محمد وأسامة وخالد عاطلين عن العمل، ثم نطالب خولة ورقيّة وفاطمة بالعمل؟

هل استوعب العمل كل أبنائنا حتى نطالب بناتنا بالعمل؟ ولماذا نقلّد غيرنا بكل شيء حتى بما هو السبب في خراب بيوتهم؟! إن في بلادنا أزمة بطالة، وليس فيها أزمة نقص في الأيدي العاملة. فلماذا لا يعمل الشباب أولاً، فإذا احتجنا إلى مزيد من الأيدي العاملة لجأنا إلى الشابات؟؟ ولماذا لا نترك الفتاة تعمل ضمن واجبها المقدس: تربية الأطفال؟ وإذا كان هناك مسوّغ لعمل المرأة في حقل التعليم والطبابة والتمريض، فما المسوغ لعملها في حقل الوظائف الأخرى؟ ولكن، هل الوظيفة وحدها تشغل المرأة العربية والإسلامية اليوم؟ يا ليت! ... إنها تشغل نفسها في السهرات والزيارات والملاهي، وتشغل نفسها في حوانيت التجميل وتجار السلع، فمتى تتفرَّغ لرعاية أطفالها؟! والأب أيضاً هو الآخر يقضي معظم أوقاته خارج الدار سدى ... فمن لرعاية الأطفال المساكين!! إن الأولاد أمانة لدى الوالدين، ورب البيت الذي لا يربي أطفاله تربية سليمة مبكراً، حتى يستطيع السيطرة عليهم في دور المراهقة والشباب، وحتى يُطَعِّمهم بمصل التربية السليمة حماية لهم من

ب) الدولة

الانحراف، وحتى يربي عناصر مفيدة قوية مؤمنة تفيد الأمة في حاضرها ومستقبلها - هذان الوالدان مقصران في حق نفسيهما، ومقصران في حق أولادهما، وخائنان لأمانتهما وجبانان. والذي يدع عرضه نهباً لأعين الفسقة من الناس، ثم لا يأمر أولاده بسلك طريق الحشمة والعفاف، خائن وجبان وديوث. ودعنا من حججهم الواهية ومعاذيرهم التافهة، فهم لا يستحقون غير التقريع والاحتقار. ب) الدولة: أولاً: إعادة النظر في إعداد مناهج تربية النشء العربي والإسلامي، وتطهيرها من المواد التي دسها المستعمرون والعملاء والمخربون فيها، ووضع مناهج تربوية جديدة على أسس مستمدة من تعاليم الدين الحنيف. إن تفشي التردي الخلقي نتيجة للمناهج التربوية الملغومة، لا يخدم أحداً غير إسرائيل وأعداء العرب والمسلمين. فلماذا نخرب بيوتنا بأيدينا؟. إن إعداد (المعلم) إعداداً سليماً هو مفتاح الإصلاح التربوي، فلا بد من إعارة هذه الناحية الحيوية أعظم درجات الاهتمام. يجب أن ندخل التعليم الديني في روضات أطفالنا ومدارسنا ومعاهدنا وجامعاتنا، وأن نعدّ مناهج هذا التعليم باستشارة علماء الدين الحنيف، فأهل مكة أدرى بشعابها.

لقد رأيت في سجون قاسم العراق ضباطاً من ذوي الرتب العالية ووزراء سابقين وموظفين كباراً لا يصلُّون. وسألت أحدهم في يوم من الأيام، وكان محكوماً عليه بالإعدام شنقاً حتى الموت: "لماذا لا تصلي"؟! وأطرق الرجل ولم يُجب! وأعدت عليه الكرة مرات، وأخيراً قال لي بالحرف الواحد: "لا أعرف أصلي". وعلمته الوضوء والصلاة خلال دقائق معدودات، ومن يومها أقبل على الصلاة بلهفة وشوق، وأصبح عابداً متبتلاً. يجب أن يتعلم التلميذ والطالب كيف يؤدي فرائض الله في البيت، ويجب أن يتلقى تفاصيل تعاليم الدين في روضته ومدرسته ومعهده وجامعته، حتى يصبح متفقهاً في الدين يفيد نفسه ويفيد الآخرين. ويجب أن ندخل في مناهجنا التعليمية حفظ أجزاء من القرآن الكريم، حتى نقوّم ألسنة التلاميذ والطلاب بالنطق العربي السليم، وحتى ننور قلوبهم بكلمات الله، وحتى يفيدهم ما حفظوه من الكتاب العزيز في الصلاة. إن القرآن الكريم ليس كتاب المسلمين الأول فحسب، بل هو كتاب العربية الأول أيضاً، وحفظ القرآن الكريم أو أجزاء منه ينمّي ملكة ضبط الألفاظ العربية الفصحى والنطق بها.

وقد سئل الأب أنستانس ماري الكرملي عن سر إتقانه العربية الفصحى فقال: "لأنني أحفظ القرآن". وما ذكره الكرملي، اعترف به بلغاء المسيحية. ومن المؤسف حقاً، أن التعليم الديني حورب في البلاد العربية والإسلامية محاربة لا هوادة فيها من المستعمرين وأذنابهم، حتى تلاشى هذا التعليم أو كاد. ومن المذهل حقاً أن قسماً من رجال التربية والتعليم العرب والمسلمين، بعد رحيل الاستعمار عن البلاد العربية والإسلامية، هم الذين ذبحوا التعليم الديني في المدارس والمعاهد والجامعات بغير سكين. فهل يمكن أن نصدق أن ذلك جرى عفواً، أم أن الأيدي الخفية كانت وراء الأكمة، فسخَّرت التافهين والإمَّعات وأشباه الرجال والعملاء من رجال التعليم العرب والمسلمين لوضع مخططاتها التخريبية موضع التنفيذ في مناهج تربية النشء الجديد. ثانياً: يجب إقامة المساجد في كل مدرسة ومعهد وكلية، وحث التلاميذ والطلاب على أداء فريضة الصلاة. إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، فهل ذلك يضر بالمصلحة العامة؟ وقد دأب التلاميذ والطلاب على القيام بسفرات داخلية وخارجية، وهذا حسن جداً لفوائد الأسفار في تنمية المعلومات

والتجارب الشخصية، ولكن لماذا لا نقوم بسفرات إلى الديار المقدسة لأداء فريضة الحج والعمرة، ولو مرة واحدة في القطر كله في كل عام؟؟ أليس من الغريب أن يشرّق التلاميذ والطلاب ويغرّبوا في سفراتهم المتعددة الكثيرة، ولا يزوروا الديار المقدسة للحج والعمرة؟! لقد سافرت إلى الحج حين كنت في السنة الثالثة من المدرسة المتوسطة (1) وكنت يومها في الخامسة عشرة من عمري، مع جماعة من التلاميذ والمدرسين والأساتذة ورجال التعليم في العراق، بمناسبة افتتاح الطريق البري (طريق بغداد - النجف - حائل - المدينة المنورة - مكة الكرمة) عام (1935م)، وهو الطريق البري القديم الذي يسمى بطريق: السيدة زبيدة زوج الخليفة هارون الرشيد والذي هجر بعد سقوط مدينة بغداد بيد التتار بقيادة هولاكو، فأثَّر سفري إلى الديار المقدسة في نفسي تأثيراً لا تمحوه الأيام، ووجّهني إلى طريق الخير والسداد والنور، وكان تأثيره ولا يزال في نفسي عظيماً. فلماذا لا نكرر هذه التجربة على أكبر عدد ممكن من التلاميذ والطلاب والأساتذة والمدرسين ورجال التعليم وغيرهم؟؟!!. ثالثاً: إن مناهج التربية والتعليم في البلاد العربية والإسلامية قد وضعت من خبراء الاستعمار المختصين في التربية القائمة على أساس علم النفس من أجل تحقيق المصالح المادية للمستعمرين، فكوَّنوا الأجهزة التربوية التي تنهض بهذا الهدف التخريبي، بحيث ينشأ الطفل _______ (1) هي المدرسة الإعدادية كما يطلق عليها في مصر.

والشاب العربي المسلم مسلوباً من كل المقومات الثقافية التي تتعارض مع مصالح الاستعمار. وحين رحل المستدمر إلى غير رجعة بإذن الله، ورثت البلاد العربية والإسلامية هذه المناهج التربوية المريبة وهذه الأجهزة التي وضعها الاستعمار لتنفيذها، من دون أي تصفية أو مراجعة جوهرية، فبقي التعليم الموروث من عهد الاستعمار يؤدي وظيفته كما كان يؤديها في عهد المستعمرين، أي أنه لا يزال يُكوِّن جيلاً مسلوباً من قيمه الأصلية الضرورية لتكوين الشخصية العربية والإسلامية المتميزة. هل يصدق عاقل أن مناهجنا التربوية لا تزال حتى اليوم تحتوي على مواد تشوِّه تاريخنا وتشكِّك في عقيدتنا؟ ولمصلحة مَنْ يبقى هذا التشويه والتشكيك حتى اليوم؟ لا بد من عقد مؤتمرات لرجال التربية والتعليم (المخلصين) في كل بلد عربي وإسلامي، لتطهير مناهج التعليم من الفساد، وعقد مؤتمر شامل في نطاق الدول العربية والإسلامية على أساس تلك الدراسات المحلية أو القطرية، لتوحيد الثقافة العربية الإسلامية من جهة، ولتكون هذه المناهج التعليمية قادرة على بناء الشخصية العربية الإسلامية المتميزة الصالحة للقيام برسالتها المنشئة البنَّاءة في القرن العشرين. وبهذا نكون قد أنقذنا الشخصية العربية الإسلامية من التميع والضياع. كتب المرحوم الفريق الأول الركن طه الهاشمي الذي كان رئيساً

لأركان الجيش العراقي، ثم تقلد منصب رئيس وزراء العراق - كتب في مذكراته يقول: "بعد أن وضعت الحرب العالمية الأولى أوزارها بسقوط الدولة العثمانية، عاد الضباط العراقيون الذين كانوا يعملون في جيش العثمانيين إلى العراق. وحين تأسس الجيش العراقي في أول العشرينات من هذا القرن، طالب أولئك الضباط بتعيينهم في ذلك الجيش الجديد. وكان الإنكليز قد استعمروا العراق، وكانو مسيطرين سيطرة كاملة على كل مرافقه ومؤسساته، ومنها الجيش. وعارض الموظف المسؤول في السفارة البريطانية ببغداد أمر تعيين أولئك الضباط في الجيش العراقي الجديد، وكان سبب معارضته أن أولئك الضباط العراقيين على جانب عظيم من الإخلاص، فهو يخشى أن يربوا الضباط والجنود الجدد تربية صالحة تجعلهم في النهاية يتنكرون للاستعمار. ولكن المس (بيل) التي كانت من أركان السفارة البريطانية حين ذاك قالت للموظف البريطاني المعارض: لا تخش من هؤلاء الضباط، لأن خبراءنا في التربية والتعليم قد وضعوا المناهج التربوية التي تذيب الشخصية العربية الإسلامية، وتجعل من المتعلمين موظفي مكاتب لا مجاهدين". فإذا كان هناك مسوِّغ لوضع هذه المناهج لتحقيق هذا الهدف للاستعمار، فما المسوغ للحرص على بقائها في عهد الاستقلال؟! إني أطالب المسؤولين في وزارات التربية والتعليم العربية

والإسلامية بموازنة المناهج التربوية التي وضعها المستعمرون، بالمناهج التربوية التي لا تزال سائدة في وزاراتهم إلى اليوم، ليروا أن الفروق بين المناهج الأولى والثانية لا تكاد تذكر، أو أنها باقية على شكلها القديم نصاً وروحاً، أو أنها تغيرت تغيرات طفيفة لا تُسمن ولا تغني من جوع، أو أنها تبدلت إلى الأسوأ - وهنا تسكب العَبَرات ... ! هذا هو الواقع الذي هو أغرب من الخيال. رابعاً: يقتضي مراقبة تصرفات الأطفال في روضة الأطفال والتلاميذ في المدارس والطلاب في المعاهد والجامعات، كما يقتضي مراقبة تصرفات المدرسين والأساتذة والموظفين والضباط والجنود، لوضع حد بكل حزم للانحراف والمنحرفين أخلاقياً. إن الحرية التي بدون قيود هي (الفوضى)، والحرية الحقة هي التصرف في إطار الفضيلة والنزاهة والخلق الكريم. أما التصرف في إطار الرذيلة والانحلال باسم الحرية والتحرر، فذلك من مصلحة إسرائيل ومَنْ وراء إسرائيل من أعداء العرب والمسلمين. إن عقلاء الأجانب ومفكريهم يبدون أعمق الأسف والأسى لانحلال شبابهم خُلُقياً نتيجة لحرية الرذيلة، مما أدى إلى تفسخ الأسر وزيادة نسبة الطلاق وإحجام الشباب عن الزواج. فلماذا نستورد الانحلال من وراء الحدود باسم التمدن والحرية ... إلى آخره من النعوت والمسميات والشعارات؟!

إن الصهيونية العالمية وراء إشاعة الفحشاء بين الناس، وهي تركز على إشاعتها بين العرب والمسلمين بخاصة لكي يسهل عليها تحقيق أطماعها التوسعية في البلاد العربية: من النيل إلى الفرات. ومتى شاعت الفاحشة في أمة فاقرأ على حاضرها ومستقبلها السلام. لابدَّ من رسم الخطط الكفيلة لوضع حد حاسم للانهيار الخلقي إذا أردنا حقاً خدمة أمتنا وبلادنا، فإنما الأمم الأخلاق ما بقيت، وإلا فالأمة بدون أخلاق غثاء كغثاء السيل لا قيمة لها ولا وزن، ولا تنجح في سِلْم ولا تنتصر في حرب. خامساً: على الدولة أن تشجع الفضيلة وتحارب الرذيلة، ولعل من أنجع وسائل الدولة للقضاء على المنكر والحث على المعروف، تولية الملتزمين بالفضيلة والدين مقاليد الأمور حتى يكونوا أسوة حسنة لغيرهم. وهناك آراء متعددة في رذائل الاستعمار والمستعمرين، ولكنني أرى أنَّ أقبح تلك الرذائل هو أن المستعمرين ولّوا مقاليد الأمور أراذل القوم المستعبَدين وأغدقوا عليهم المناصب والجاه والمال والترف، فقلد هؤلاء الأراذل غيرهم من ضعفاء النفوس، فشاعت الرذيلة وانحسرت الفضيلة وقلَّ الإحسان. لقد أتى على العرب والمسلمين حينٌ من الدهر في عهد الاستعمار، اعتقدوا فيه أنَّ السبيل الوحيد للتقدم في معارج المناصب الحكومية هو الانحلال والفساد، وهذا هو في نظري أفدح كوارث الاستعمار.

ولست أخشى على أمة تتمسك بالفضيلة من أن تهون أو تضعف، ولكن الخشية على أمة لا أخلاق لها. على الدولة أن تمنع الخمور في حفلاتها الرسمية تمهيداً لمنعها نهائياً، وشكراً للثورة الليبية التي منعت الخمور في بلادها وحرَّمت البغاء العلني، فقد سلكت طريق الحق والصواب، وأدت واجبها للشعب والبلاد. وشكراً لكل بلد عربي وإسلامي لا خمور فيه ولا بغاء، لأن البلد العربي الذي يحمي هذه الفاسد ليس عربياً ولا مسلماً. وعسى أن تكون الثورة الليبية رائدة للدول العربية والإسلامية في إحقاق الحق وإزهاق الباطل. وعلى الدول أن تمنع استيراد الأفلام الخليعة، وأن تمنع عرض التمثيليات اللا أخلاقية في الإذاعة المرئية ونقلها في الإذاعة المسموعة، وأن تمنع مجلات الجنس وقصص المخدع. لقد نقلنا المراقص الخليعة بالإذاعة المرئية في كل منزل، فالله ... الله ... في أخلاق أولادنا وشبابنا. سادساً: على الدولة اختيار أبرز العلماء العاملين للنهوض بواجب التوعية الدينية في الإذاعة والصحافة وأجهزة الإعلام الأخرى، وفي المساجد والنوادي والمدارس والمعاهد والجامعات وقاعات المحاضرات والجمعيات والنقابات. كما يجب إعداد جدول محاضرات متسلسلة يلقيها هؤلاء العلماء العاملون في المدارس والكليات والوحدات والتشكيلات العسكرية. وعلى الدولة أن تعرف للعلماء العاملين حقهم ومكانتهم، وأن

تفسح لهم المجال للنهوض بواجباتهم الدينية بين مختلف قطاعات الشعب وبمختلف الوسائل الإعلامية وفي شتى الظروف والمناسبات. لقد كان للعلماء العاملين تاريخ مجيد في إذكاء الروح المعنوية وتطهير النفوس والتحريض على الجهاد، ومن المعروف أن ثورة عام (1919 م) في مصر تفجرت من الأزهر الشريف، وثورة عام (1921 م) في العراق قادها العلماء الأعلام، وثورة ليبيا ضد الطليان قادها المجاهدون الصادقون، وثورة تونس تفجرت من (الزيتونة)، وثورة المغرب تفجرت من (القرويين)، وثورة الجزائر فجرتها جمعية العلماء الجزائرية. فمتى تعود للعلماء العاملين مكانتهم، ومتى يعودون لقيادة المجاهدين؟؟ ولكي يفرض العلماء العاملون أنفسهم على الأحداث العربية والإسلامية، لا بد لهم من جانبهم أن يضاعفوا نشاطهم العلمي والعملي كما فعل أسلافهم من قبل. وكمثال على نشاطهم العلمي المرتقب، أن يعالجوا قضايا العصر - وما أكثرها - ووضع الحلول الدينية المناسبة لها، لإبراز أثر الدين في الحياة. وكمثال على نشاطهم العملي المرتقب، أن يتقدموا الصفوف جهاداً بالأموال والأنفس في سبيل الله، وأن يتكلموا بالدم لإعلاء كلمة الله، وألا يقتصروا على الكلام بالكلمات. مرة ثانية!

ما أحوجنا اليوم إلى علماء عاملين كأسد بن الفرات والعز بن عبد السلام وابن تيمية وآق شمس الدين ... سابعاً: على المسؤولين عن اختيار طلاب الكليات العسكرية وتلاميذ المدارس العسكرية، التدقيق الشديد على اختيار العناصر المؤمنة القوية الأمينة، وعدم اختيار غير الملتزمين بالخلق المتين وتعاليم الدين الحنيف. ومن المعروف أن هناك شروطاً عقلية وبدنية لاختيار التلاميذ والطلاب العسكريين. فهل نتوقع من المسؤولين أن يضيفوا إلى تلك الشروط العقلية والبدنية شروطاً أخلاقية ودينية؟ لئن فعلوا لَيَتَكوَّننّ لدينا نواة لجيش لا يغلب أبداً. كما يجب اختيار الضباط المتدينين من ذوي الكفايات العسكرية العالية، ليكونوا ضباطاً مدربين ومعلمين في المدارس العسكرية، لأن هؤلاء الضباط سيطبعون التلاميذ والطلاب العسكريين بطابعهم ويكونون قدوة حسنة لهم. كما يجب إقامة الشعائر الدينية في المدارس والكليات العسكرية، وإدخال محاضرات دينية لها مساس بالقضايا العسكرية (الشهيد في الإسلام - عقاب المتخلفين في الإسلام - الحرب الإجماعية في الإسلام - الجهاد - إرادة القتال في الإسلام - الكتمان في الإسلام - الإسلام والحرب النفسية - أثر الإسلام في إحراز النصر - تاريخ الرسول القائد

عليه أفضل الصلاة والسلام - معارك الفتح الإسلامي - قادة الفتح الإسلامي ... إلخ). ومن المهم تشييد مسجد في كل مدرسة وكلية عسكرية، وتعيين إمام من العلماء العاملين لهذا المسجد، ينهض بإقامة الشعائر الدينية وإلقاء المحاضرات الدينية، ويرشد التلاميذ والطلاب إلى أمور دينهم. ثامناً: يجب حث العسكريين كافة على إقامة الصلاة وأداء الفرائض الدينية الأخرى. كما يجب إقامة المساجد في الثكنات والمعسكرات والوحدات والتشكيلات. ومن الضروري منع الخمر والميسر منعاً صارماً في المعسكرات والثكنات ونوادي الضباط. ولابد من (إمام) في كل وحدة عسكرية وفي كل ثكنة ومعسكر دائمي، لقيادة العسكريين من الناحية الدينية. وألفت الأنظار إلى أهمية اختيار أئمة الجيش من بين العلماء العاملين، لا من بين العلماء المتعطلين. إن (الإمام) يستطيع أن يفعل الكثير في ميدان الإرشاد الديني إذا أراد أن يفعل وكانت له قابلية علمية رصينة وهِمَّة للعمل ورغبة في الخدمة. تاسعاً: من الضروري إجراء المسابقات الدينية بين العسكريين، كإتقان تلاوة القرآن الكريم وإتقان حفظه أو حفظ أجزاء منه،

والتفسير، وحفظ مختارات من أحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - التي لها صلة بالأخلاق والجهاد؛ وإعداد المحاضرات الدينية وإلقائها، وإلقاء محاضرات عن سيرة الرسول القائد عليه أفضل الصلاة والسلام ومعارك الفتح وقادته ... إلخ. وأقترح أن يوفد المتفوقون سنوياً لأداء فريضة الحج على نفقة الجيش مكافأةً لهم على تفوقهم. إن مثل هذه المسابقات وتقديم المكافآت التشجيعية، تدفع العسكريين على إتقان العلوم الدينية والتاريخية، وترفع المعنويات إلى عنان السماء. تلك مقترحات على النطاقين الفردي والحكومي، آمل أن تصل إلى أسماع العرب والمسلمين في كل مكان أفراداً وحكومات، وآمل أن يعملوا جميعاً على وضعها في حيز التنفيذ العملي. (6) ما أعظم قولة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لجيوشه: "أَخْوَفُ ما أخاف عليكم ذُنُوبَكم". لقد كان لا يخشى على الجيوش الإسلامية الزاحفة المنتصرة جيوش الإمبراطوريتين الساسانية والبيزنطية، ولكنه كان يخشى عليها من ذنوب المقاتلين، لأنه كان يعلم حق العلم أن المسلمين لم ينتصروا بعَدد ولا عُدد، فأعداؤهم متفوقون عليهم عدداً وعُدداً، ولكنهم انتصروا بمُثُلِهم العليا النابعة من صميم تعاليم الإسلام.

ومن أقواله - عمر بن الخطاب - - رضي الله عنه -: "اخشوشنوا، فإن الترف يزيل النعم". إن الانغماس في الترف هو الذي أدى إلى انهيار اليونان والرومان والبيزنطيين والفرس وأدى إلى انهيار العرب والمسلمين. والترف يؤدي دائماً إلى انهيار الدول والأمم، كما يؤدي إلى انهيار الأفراد والجماعات. فكيف إذا كان مع الترف الانحلال الخُلُقي والتفسخ والابتعاد عن المُثُل العليا والدين؟! لا بد من عودة العرب والمسلمين إلى أخلاقهم المحاربة ومثلهم العليا وإلى الدين، ليستعيدوا مكانتهم بين الأمم ويستردوا حقوقهم المغتصبة في الأرض المقدسة. إني لأعلم علم اليقين، أن القائد الملوّث جنسياً أو الملوّث جيبياً، لا يمكن أن يقود إلى النصر. وأعلم علم اليقين، أن الجندي الملوّث جنسياً أو الملوّث جيبياً، لا يمكن أن يقاتل كما تقاتل الرجال. وأعلم علم اليقين، أن الموظف الملوّث جنسياً أو الملوّث جيبياً، لا يأتي بخير ولا يرجى منه خير. وما يقال عن الضابط والجندي والموظف، يقال عن صنوف الناس كافة بدون استثناء. وواقعنا المرير، خير دليل على ما أقول.

أما بعد: فقد كنت أشعر شعوراً عميقاً بأن إظهار هذه الحقائق بصراحة ما بعدها صراحة (أمانة) في عنقي، عليّ واجب إبرازها لشعبي العربي وأمتي الإسلامية. إن نفوس العرب مئة مليون أو يزيدون، ونفوس المسلمين سبعمئة مليون أو يزيدون. ولكن العرب والمسلمين تخلوا عن روح الإسلام، وتمسكوا بمظاهره، فتداعت عليهم الأمم، وأصبحوا منهباً لكل طامع وغنيمة لكل مستعمر. وليست قوة الأمم بكثرة نفوسها، ولكن بمتانة مثلها العليا. ولم يكن العرب المسلمون أكثر من الروم والفرس في الصدر الأول للإسلام، ولكنهم غلبوا الروم والفرس بمبادئهم لا بكثرتهم. وصدق الله العظيم: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللََّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ 40 الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحجر 22: 40 - 41]. ذلك هو طريق النصر وأسلوب تحقيقه، فهل نسلك الطريق ونطبِّق الأسلوب لنحقق النصر، أو لا نزال بحاجة إلى كثير من النكسات والنكبات؟! والله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرة وأصيلاً. وصلى الله على سيدي ومولاي رسول الله، وعلى آله وأصحابه أجمعين. ***

المصادر والمراجع

المصادر

المصادر ابن الأثير (أبو الحسن علي بن أبي الكرم محمد بن محمد بن الأثير الجزري الملقب بعز الدين): 1 - أسد الغابة في معرفة الصحابة، طهران، 1377 هـ. 2 - تجريد أسماء الصحابة، حيدر آباد الدكن، 1315 هـ. 3 - الكامل في التاريخ، القاهرة، 1303 هـ. ابن الأثير (مجد الدين أبو الصعادات المبارك بن محمد بن محمد الجزري): 4 - النهاية في غريب الحديث، القاهرة، 1323 هـ. ابن تغري بردي (جمال الدين أبو المحاسن يوسف بن تغري بردي الأتابكي): 5 - النجوم الزاهرة، القاهرة، 1348 هـ. ابن تيمية (تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن مجد الدين أبو البركات عبد السلام بن تيمية): 6 - السياسة الشرعية، تحقيق محمد المبارك، بيروت، 1386 هـ. ابن الجوزي (جمال الدين أبو الفرج بن الجوزي): 7 - تاريخ عمر بن الخطاب، القاهرة. ابن حجر (شهاب الدين أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن محمد بن علي الكناني العسقلاني):

8 - الإصابة في تمييز الصحابة، القاهرة، 1325 هـ. 9 - تهذيب التهذيب، حيدر آباد الدكن، 1327 هـ. 10 - فتح الباري بشرح البخاري، القاهرة، 1301 هـ. ابن حزم الأندلسي (أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندلسي): 11 - جمل فتوح الإسلام، ملحق بجوامع السيرة، القاهرة. 12 - جمهرة أنساب العرب، تحقيق عبد السلام هارون، القاهرة، 1382 هـ. 13 - جوامع السيرة، القاهرة. ابن حوقل (أبو القاسم بن حوقل البغدادي الموصلي): 14 - صورة الأرض، لايدن، 1938. ابن خرداذبّه (أبو القاسم عبيد الله بن خرداذبّه): 15 - المسالك والممالك، طهران، 1963. ابن خلدون (عبد الرحمن بن خلدون): 16 - العبر وديوان المبتدأ والخبر، القاهرة، 1284 هـ. 17 - المقدمة، تحقيق علي عبد الواحد وافي، القاهرة، 1384 هـ. ابن خلكان (أبو العباس شمس الدين أحمد بن محمد بن أبي بكر بن خلكان): 18 - وفيات الأعيان، القاهرة، 1948. ابن دحلان (السيد أحمد بن زيني دحلان): 19 - الفتوحات الإسلامية، القاهرة، 1345 هـ.

ابن رستة (أبو علي أحمد بن عمر بن رستة): 20 - الأعلاق النفيسة، لايدن، 1891. ابن سعد (أبو عبد الله محمد بن سعد بن منيع البصري الزهري): 21 - الطبقات الكبرى، بيروت، 1376 هـ. ابن سيد الناس: 22 - عيون الأثر، القاهرة، 1356 هـ. ابن عبد البر (أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر): 23 - الاستيعاب في معرفة الأصحاب، تحقيق علي محمد البجاوي، القاهرة. ابن عبد الحكم: 24 - فتح مصر والمغرب، القاهرة. ابن عساكر (أبو القاسم علي بن الحسن بن هبة الله بن عبد الله بن الحسين بن عساكر الشافعي): 25 - تهذيب ابن عساكر، دمشق، 1329 هـ. ابن الفرضي: 26 - تاريخ علماء الأندلس، طبعة كوديرا، مدريد، 1890. ابن الفقيه (أبو بكر أحمد بن إبراهيم الهمذاني): 27 - مختصر تاريخ البلدان، لايدن، 1885. ابن قتيبة (أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدنيوري): 28 - الإمامة والسياسة، القاهرة، 1383 هـ. 29 - عيون الأخبار، القاهرة، 1383 هـ. 30 - المعارف، تحقيق ثروت عكاشة، القاهرة، 1960.

ابن كثير (عماد الدين أبو الفدا إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي): 31 - البداية والنهاية في التاريخ، القاهرة. 32 - تفسير ابن كثير، القاهرة، 1347 هـ. ابن ماجة (محمد بن يزيد بن ماجة القزويني): 33 - سنن ابن ماجة، القاهرة، 1313 هـ. ابن النديم: 34 - الفهرست، بيروت، 1964. ابن منظور (أبو الفضل جمال الدين محمد بن مكرم بن منظور الإفريقي المصري): 35 - لسان العرب، بيروت، 1374 هـ. ابن هشام (أبو محمد عبد الملك بن هشام بن أيوب الحميري): 36 - السيرة النبوية، تحقيق الشيخ محي الدين عبد الحميد، القاهرة، 1356 هـ. أبو العرب (محمد بن أحمد بن تميم التميمي): 37 - طبقات علماء إفريقية، نشر الشيخ محمد بن أبي شنب، الجزائر، 1333 هـ. أبو الفدا (إسماعيل بن علي عماد الدين صاحب حماة): 38 - تقويم البلدان، باريس، 1840. 39 - المختصر من أخبار البشر، القاهرة، 1325 هـ. أبو يعلى (حمزة بن القلانسي): 40 - ذيل تاريخ دمشق، بيروت، 1908.

أبو يعلى (محمد بن الحسين الفراء الحنبلي): 41 - الأحكام السلطانية، تحقيق محمد حامد الفقي، القاهرة، 1356 هـ. أبو يوسف (القاضي أبو يوسف يعقوب بن ابراهيم صاحب الإمام أبي حنيفة): 42 - الخراج، القاهرة، 1346 هـ. أحمد بن حنبل (الإمام أحمد بن حنبل): 43 - مسند الإمام أحمد بن حنبل، القاهرة، 1313 هـ. الإدريسي (الشريف الإدريسي): 44 - نزهة المشتاق في اختراق الآفاق، نشره دوزي ودي جوجه، لايدن، 1866. الأصبهاني (أبو نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني): 45 - حلية الأولياء، القاهرة، 1356 هـ. الأصفهاني (أبو عبد الله محمد بن محمد عماد الدين الكاتب الأصفهاني): 46 - الفتح القسي في الفتح القدسي، القاهرة، 1321 هـ. الأصطخري (أبو إسحاق ابراهيم بن محمد الفارسي الأصطخري المعروف بالكرخي): 47 - المسالك والممالك، تحقيق محمد جابر عبد العال الحسيني، 1381 هـ. الألوسي (محمود شكري الألوسي): 48 - بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب، تحقيق محمد بهجت الأثري، القاهرة، الطبعة الثالثة.

الباجي (أبو عبد الله محمد الباجي المسعودي): 49 - الخلاصة النقية في أمراء إفريقية، تونس، 1323 هـ. البخاري (الإمام أبو عبد الله محمد بن اسماعيل البخاري): 50 - صحيح البخاري، بولاق، 1300 هـ. البشاري (المقدسي المعروف بالبشاري): 51 - أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم، لايدن، 1906. البغوي (الإمام البغوي): 52 - تفسير البغوي، على هامش تفسير ابن كثير، القاهرة، 1347 هـ. البكري (أبو عبيد عبد الله بن عبد العزيز البكري): 53 - المغرب في ذكر بلاد إفريقية والمغرب، طبع دي سلان، الجزائر، 1911. البلاذري (أحمد بن يحي بن جابر البلاذري): 54 - أنساب الأشراف، الجزء الأول، تحقيق محمد حميد الله، القاهرة، 1959. 55 - أنساب الأشراف، الجزء الرابع، القسم الثاني، القدس، 1938. 56 - أنساب الأشراف، الجزء الخامس، القدس، 1936. 57 - فتوح البلدان، القاهرة، 1959. البلخي (أبو زيد أحمد بن سهل البلخي): 58 - البدء والتاريخ، مطهر بن طاهر المقدسي، نشره كلمان هوار، باريس، 1899.

البلوي (يوسف محمد البلوي): 59 - ألف باء، القاهرة، 1287 هـ. بهاء الدين بن شداد: 60 - النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية، تحقيق الدكتور جمال الدين الشيال، القاهرة، 1964. البيضاوي (القاضي أبو سعيد عبد الله بن عمر بن محمد الشيرازي البيضاوي): 61 - تفسير البيضاوي، القاهرة، 1330 هـ. البيهقي (أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي): 62 - دلائل النبوة، القاهرة، 1389 هـ. الجبرتي (عبد الرحمن الجبرتي): 63 - عجائب الآثار في التراجم والأخبار، تحقيق وشرح حسن محمد جوهر وعبد الفتاح السرنجاوي والسيد إبراهيم سالم، القاهرة، 1958. الجوزي (أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي): 64 - صفة الصفوة، حيدر آباد الدكن، 1355 هـ. الحلبي (علي بن برهان الدين الحلبي الشافعي): 65 - إنسان العيون في سيرة الأمين والمأمون (السيرة الحلبية)، القاهرة. الحميدي (أبو عبد الله محمد بن فتوح بن عبد الله الحميدي): 66 - جذوة المقتبس في ذكر ولاة الأندلس، القاهرة، 1372 هـ. الحميري (أبو عبد الله محمد بن عبد المنعم الحميري):

67 - الروض المعطار في خبر الأقطار، نشره مع ترجمة فرنسية وتعليقات: ليفي بروفنسال، لايدن، 1936. 68 - صفة جزيرة الأندلس، مختصر من الروض المعطار، نشره ليفي بروفنسال، لايدن، 1937. الحنبلي (أبو الفلاح عبد الحي بن العماد الحنبلي): 69 - شذرات الذهب في أخبار مَن ذهب، القاهرة، 1350 هـ. الخزرجي (أحمد بن عبد الله الخزرجي): 70 - خلاصة تهذيب الكمال في أسماء الرجال، القاهرة، 1322 هـ. الخطيب البغدادي: 71 - تاريخ بغداد، القاهرة، 1249 هـ. الدباغ (عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله الأنصاري): 72 - معالم الإيمان في معرفة أهل القيروان، تونس، 1320 هـ. الديار بكري (حسين بن محمد بن الحسن الديار بكري): 73 - تاريخ الخميس، القاهرة، 1302 هـ. الدنيوري (أبو حنيفة الدنيوري): 74 - الأخبار الطوال، القاهرة، 1330 هـ. الذهبي (شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي): 75 - تاريخ الإسلام، القاهرة، 1368 هـ. 76 - دول الإسلام، القاهرة، 1368 هـ. 77 - سير أعلام النبلاء، تحقيق الدكتور صلاح الدين المنجد، القاهرة. 78 - العبر، تحقيق فؤاد سيد، الكويت، 1961. 79 - ميزان الاعتدال، القاهرة، 1324 هـ.

الزبيري (أبو عبد الله المصعب بن عبد الله بن المصعب الزبيري): 80 - نسب قريش، نشره ليفي بروفنسال، القاهرة. الزمخشري (أبو القاسم جاد الله محمود بن عمر الزمخشري): 81 - تفسير الكشاف، القاهرة، الطبعة الثانية، 1319 هـ. السلاوي (أحمد بن خالد الناصري السلاوي): 82 - الاستقصا لأخبار المغرب الأقصى، الدار البيضاء، 1954. سيد الناس (ابن سيد الناس): 83 - عيون الأثر، القاهرة، 1356 هـ. السيوطي (عبد الرحمن بن أبي بكر جمال الدين السيوطي): 84 - تاريخ الخلفاء، القاهرة، 1351 هـ. الشافعي (الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي): 85 - الأم، القاهرة، 1322 هـ. الضبي (أحمد بن يحي بن عميرة الضبي): 86 - بغية الملتمس في تاريخ رجال الأندلس، مجريط، 1884. الطبري (أبو جعفر محمد بن جرير الطبري): 87 - تاريخ الأمم والملوك، القاهرة، 1358 هـ. 88 - تفسير الطبري، القاهرة. 89 - الجهاد وكتاب الجزية وأحكام المحاربين من كتاب اختلاف الفقهاء، لايدن، 1933. 90 - المنتخب من كتاب ذيل المذيل من تاريخ الصحابة والتابعين، القاهرة، 1358 هـ.

الظاهري (غرس الدين خليل بن شاهين الظاهري): 91 - زبدة كشف الممالك وبيان الطرق والمسالك، باريس، 1894. عبد الرحمن بن عبد الله الخثعمي السهيلي: 92 - الروض الآنف (شرح السيرة النبوية لابن هشام)، القاهرة، 1332 هـ. العصامي (عبد الملك بن حسين بن عبد الملك العصامي): 93 - سمط النجوم العوالي في أنباء الأوائل والتوالي، القاهرة، 1379 هـ. علي بن عبد الرحمن بن هذيل الأندلسي: 94 - حلية الفرسان وشعار الشجعان، القاهرة، 1951. عياض (القاضي عياض): 95 - الشفا بتعريف حقوق المصطفى، القسطنطينية، 1312 هـ. فنسنك (الدكتور): 96 - مفتاح كنوز السنّة، القاهرة، 1352 هـ. قدامة بن جعفر (أبو الفرج): 97 - كتاب الخراج وصنعة الكتابة، لايدن، 1889. القرشي (يحي بن آدم القرشي): 98 - كتاب الخراج، تحقيق أحمد محمد شاكر، القاهرة، 1347 هـ. القرطبي (أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي): 99 - الجامع لأحكام القرآن، القاهرة، 1356 هـ.

القزويني (زكريا بن محمد القزويني): 100 - آثار البلاد وأخبار العباد، بيروت، 1380 هـ. القلقشندي (أبو العباس أحمد القلقشندي): 101 - صبح الأعشى في صناعة الإنشا، القاهرة، 1913. 102 - نهاية الأرب في معرفة أنساب العرب، تحقيق إبراهيم الأبياري، القاهرة، 1959. الكتاني (عبد الحي الكتاني): 103 - فهرس الفهارس، فاس، 1346 هـ. الكلبي (أبو المنذر هشام بن محمد الكلبي): 104 - الأصنام، القاهرة، 332 هـ. الكندي (أبو عمر محمد بن يوسف الكندي): 105 - الولاة والقضاة، لايدن، 1912. لابوم (جول لابوم): تفصيل آيات القرآن، القاهرة، 1342 هـ. المالكي (أبو عبد الله بن أبي عبد الله المالكي): 106 - رياض النفوس، تحقيق الدكتور حسين مؤنس، القاهرة، 1951. الماوردي (أبو الحسن علي بن حبيب البصري الماوردي): 107 - الأحكام السلطانية، القاهرة، 1347 هـ. المبرد (محمد بن يزيد بن عبد الأكبر بن عمير المبرد): 108 - الكامل، القاهرة، 1347 هـ. مجمع اللغة العربية بالقاهرة:

109 - المعجم الوسيط، القاهرة، 1380 هـ. المحب الطبري: 110 - الرياض النضرة، القاهرة، 1327 هـ. محمد رشيد رضا: 111 - تفسير المنار، القاهرة، 1325 هـ. محمد بن شاكر بن أحمد الكتبي: 112 - فوات الوفيات، تحقيق الشيخ محمد محيي الدين عبد الحميد، القاهرة، 1951. محمد فؤاد عبد الباقي: 113 - المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، 1378 هـ. المراكشي (عبد الواحد المراكشي): 114 - المعجب في تلخيص أخبار المغرب، القاهرة، 1347 هـ. المسعودي (أبو الحسن علي بن الحسين بن علي المسعودي): 115 - مروج الذهب ومعادن الجوهر، تحقيق الشيخ محيي الدين عبد الحميد، القاهرة، الطبعة الرابعة، 1964. المقري (أبو العباس أحمد المقري): 116 - نفح الطيب، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، القاهرة، 1367 هـ. المقريزي (تقي الدين أحمد بن علي المقريزي): 117 - إتعاظ الحنفا بأخبار الأئمة الخلفا، تحقيق الدكتور جمال الدين الشيال، القاهرة، 1948.

118 - السلوك لمعرفة دول الملوك، تحقيق الدكتور محمد مصطفى زيادة، القاهرة، 1934. - المواعظ والاعتبار في ذكر الخطط والآثار، القاهرة، 1906 إلى 1908. مؤلف مجهول: 119 - العيون والحدائق في أخبار الحقائق، لايدن. النباهي (أبو الحسن بن عبد الله بن الحسن النباهي): 120 - تاريخ قضاة الأندلس، القاهرة، 1948. النووي (أبو زكريا محيي الدين بن شرف النووي): 121 - تهذيب الأسماء واللغات، دمشق. 122 - شرح النووي على مسلم، القاهرة، 1283 هـ. النويري (شهاب الدين أحمد بن عبد الوهاب النويري): 123 - نهاية الأرب في فنون الأدب، القاهرة. الهرثمي (صاحب المأمون): 124 - مختصر سياسة الحروب، تحقيق عبد الرؤوف عون، القاهرة، 1964. الواقدي: 125 - فتوح الشام، القاهرة، 1374 هـ. ياقوت (شهاب الدين أبو عبد الله ياقوت بن عبد الله الحموي البغدادي): 126 - المشترك وضعاً والمفترق صقعاً، لايدن، 1846.

127 - معجم البلدان، القاهرة، 1323 هـ. اليعقوبي (أحمد بن يعقوب): 128 - البلدان، لايدن، 1892. ***

المراجع

المَرَاجع 1 - المراجع العربية: إحسان عباس (الدكتور): 1 - العرب في صقلية، القاهرة، 1959. أحمد أمين (الدكتور): 2 - فجر الإسلام، الطبعة الأولى، القاهرة. أحمد بيلي (الدكتور): 3 - حياة صلاح الدين الأيوبي، الطبعة الثانية، القاهرة، 1345 هـ. أحمد عزة باشا (المشير): 4 - الدين والعلم، ترجمة حمزة طاهر، القاهرة، 1369 هـ. أرنولد (السير توماس): 5 - الدعوة إلى الإسلام، نقله إلى العربية الدكتور حسن إبراهيم ورفقاؤه، القاهرة، 1947. إسماعيل باشا البغدادي: 6 - إيضاح المكنون في الذيل على كشف الظنون، القسطنطينية، 1945.

أماري (ميخائيل أماري): 7 - المكتبة العربية الصقلية، ليبسك، 1857. جان بيريه (اللواء): 8 - الذكاء والقيم المعنوية في الحرب، تعريب أكرم ديري والهيثم الأيوبي، بيروت، 1968. ديغول (اللواء شارل ديغول): 9 - حد السيف، تعريب أكرم ديري والهيثم الأيوبي، بيروت، 1969. ديل (شارل): 10 - البندقية جمهورية أرستقراطية، تعريب أحمد عزة عبد الكريم ورفيقه، القاهرة، 1948. الرشيدي (الدكتور سالم الرشيدي): 11 - محمد الفاتح، القاهرة، 1375 هـ. الزركلي (خير الدين الزركلي): 12 - الأعلام، الطبعة الثانية، 1373 هـ إلى 1378 هـ. السباعي (مصطفى السباعي): - نظام السلم والحرب في الإسلام، بيروت، 1373 هـ. عبد الرحمن زكي (الدكتور): 13 - الجيش المصري في العصر الإسلامي، القاهرة، 1390 هـ. عبد السلام عبد العزيز فهمي (الدكتور): 14 - فتح القسطنطينية، القاهرة، 1969. عنان (محمد عبد الله عنان).

15 - تراجم إسلامية، القاهرة. 16 - مواقف حاسمة في تاريخ الإسلام، الطبعة الرابعة، القاهرة، 1345 هـ. العقاد (عباس محمود العقاد): 17 - عبقرية الصديق، القاهرة، 1943. الغتيت (محمد علي الغتيت): 18 - من الحروب الصليبية إلى حرب السويس، القاهرة. مجموعة من القادة السوفييت: 19 - الاستراتيجية الحربية من وجهة النظر السوفيتية، الطبعة الثالثة، القاهرة. 20 - منجم العمران، القاهرة، 1325 هـ. محمود شيت خطاب: 21 - أسد بن الفرات، القاهرة، 1966. 22 - الرسول القائد، القاهرة، 1964. 23 - قادة فتح الشام ومصر، بيروت، 1965. 24 - قادة فتح العراق والجزيرة، القاهرة، 1964. 25 - قادة فتح فارس، بيروت، 1965. 26 - قادة فتح المغرب العربي، بيروت، 1966. المدني (أحمد توفيق المدني): 27 - المسلمون في جزيرة صقلية وجنوب إيطاليا، الجزائر، 1365 هـ. مونتانيون (العميد أندري):

28 - الرئاسة والرئيس، تعريب لويس الحاج، بيروت، 1955 مونتكومري (المشير): 29 - السبيل إلى القيادة، تعريب العميد الركن حسن مصطفى، بيروت، 1969. مؤنس (الدكتور حسين مؤنس): 30 - فتح العرب للمغرب، القاهرة، 1947. الندوي (رضوان علي الندوي): 31 - العز بن عبد السلام، دمشق، 1379 هـ. هازارد (هاري و. هازارد): 32 - أطلس التاريخ الإسلامي، ترجمة إبراهيم زكي خورشيد، القاهرة، 1964. هيكل (الدكتور محمد حسين هيكل): 33 - الامبراطورية الإسلامية، القاهرة. وزارة الدفاع العراقية والسورية: 34 - الكتب العسكرية البريطانية والأمريكية والروسية وكتب التدريب العسكري ومحاضرات كليات الأركان. ***

2 - المراجع التركية

2 - المراجع التركية: أحمد مختار باشا: 1 - فتح جليل قسطنطينية، القسطنطينية،1316 هـ. خير الله أفندي: 2 - تاريخ دولت عليّة عثمانية، القسطنطينية، 1281 هـ. سعد الدين أفندي (خواجه): 3 - تاج التواريخ، استانبول، 1879. فريدون بك: 4 - مجموعة منشآت السلاطين، القسطنطينية، 1264 هـ. قريتووولوس: 5 - تاريخ سلطان محمد خان ثاني، استانبول، 1328 هـ. نقله من الروسية إلى التركية الأستاذ قاروليدي. 6 - adnan-adiwar, osmanli turkerinde Ilim, Istanbul, 1943. 7- Mirmiroglu, fatih sultan Mehmet II devrine ait vesikalar, Istanbul, 1945. 8- S, akir, zia, Istambulu nasil aldi, Istanbul, 1942.

3 - المراجع الإنكليزية

3 - المراجع الإنكليزية: 1 - bury, history of the Easteren Roman Empire, London. 2 - Cantemir, Demetrius, the History of the Growth and Decay of the Othman Empire, london, 1734. ترجمة من اللاتينية إلى الإنكليزية ( N. Tindal) . 3 - Creasy, Sir Edwards, History of the Ottman Turkes, London, 1868. 4 - Curtis Roger of Sicily, London. 5 - Enciclopedia Britannica, London. 6 - Enciclopedia Italiana, London. 7 - Everesly, Lord, The Turkish Empire, london, 1924. 8 - Finlay, George, A History of Greece From its Conquest by the Romans to 1864, Oxford, 1877. 9 - Fishe, The Medieval Empire, 2 vols, London. 10 - Freeman, History of Sicily, Oxford, 1891. 11 - H. Gibb, E. J. W. A History og Ottoman Potry, London, 1900. 12 - Gibbon, Edward, The History of The Decline and Fall of the Roman Empire, (ed J.B. BURY) , London, 1914. 13 - Gibbon, Herbert Adams, The Foundation of the Ottoman Empire, Oxford, 1916.

14 - Gregorvius, History of Romein Middle Ages, London. 15 - Liwis, The Oxford Atlas, London, 1966. 16 - Miller, William, The balkans: Roumania, Bulgaria, Sirbia and Montenegro, London, New York, 1908. 17 - Pears, Edwin, The fall of Constantinople, being the Story of the Fourth Gruade, London, 1885. 18 - Pears, Edwin, The Destruction of the Greek Empire and the story of the Capture of Constantinople by the Turks, London, 1903. 19 - Porter, Sir James, Turkey: Its History and Progress, London, 1954. 20 - Sykes, Sir Mark, The Caliphs Last Hiritage, A Short History of the Turkish Empire, London, 1915. 21 - Temperly, Harold. W. V, History of Serbia, London, 1914. 22 - Watson, R. W. Seton, A History of the Roumanians, Cambridge, 1934.

الفهرس

الفهرَس الإهداء ............................................................... 5 هذا الكتاب ........................................................... 7 تقديم للأستاذ الجليل العلاَّمة محمد أبو زهرة ............................ 9 مقدمة المؤلف ....................................................... 29 العقيدة العقيدة والقيادة ..................................................... 41 مع التراث العربي الإسلامي .......................................... 45 مع المشير مونتكومري ............................................... 59 مع القادة الآخرين ................................................... 87 الإسلام والنصر أثر الإسلام في العرب ............................................... 101 الإسلام في مجال التربية العسكرية .................................... 111 1 - التدريب الفردي ............................................... 111 2 - التدريب الإجمالي ............................................... 118 3 - الحرب العادلة ................................................. 122 4 - الحرب النفسية ................................................ 125 5 - عزة الإسلام .................................................. 130

التطبيق العملي في عهد النبوة مستهل ............................................................ 135 مع الرسول القائد عليه أفضل الصلاة والسلام في مكة المكرمة .................................................... 145 1 - الأهوال ...................................................... 145 2 - الهجرة ....................................................... 150 في المدينة المنورة ................................................... 155 1 - الأعمال التمهيدية ............................................ 155 2 - الجهاد الحاسم ................................................ 157 أ- في بدر ........................................................ 157 ب- بعد بدر ..................................................... 164 3 - القدوة الحسنة ................................................ 171 4 - المثال الرائع ................................................... 174 مع الصحابة في مكة ........................................................... 179 1 - التعذيب ..................................................... 179 2 - في الحبشة .................................................... 181 ْفي المدينة ......................................................... 187 1 - المجتمع الجديد ................................................ 187 2 - في بدر ....................................................... 190 3 - في أحد ...................................................... 204 4 - كارثة الرجيع ................................................ 207 5 - يوم الأحزاب ................................................ 208

6 - محاسبة الغادرين ................................................ 210 7 - إخلاص الأنصار ............................................... 211 8 - يوم الحديبية ................................................... 214 9 - في مؤتة ....................................................... 215 10 - اختبار العقيدة ............................................... 217 11 - الجهاد بالمال ................................................. 220 12 - خير القرون ................................................. 222 التطبيق العملي في أيام الفتح الإسلامي العظيم 11 - 94 هـ / 632 - 712 م مع الصحابة والتابعين ............................................... 225 1 - المخطط الأول للفتح ........................................... 225 2 - بعث أسامة .................................................... 228 3 - حرب الردة ................................................... 233 4 - في اليرموك .................................................... 238 5 - في معركة الجسر ............................................... 241 6 - في القادسية .................................................... 243 7 - في فتح المدائن ................................................. 246 8 - نماذج بطولية .................................................. 248 9 - في إفريقية ..................................................... 252 10 - في الأندلس .................................................. 256 11 - انتصار عقيدة ................................................ 258 12 - المثال الشخصي .............................................. 264

التطبيق العملي بعد الفتح الإسلامي مستهل ............................................................. 277 -1 - أسد بن الفرات ............................................... 281 1 - العالم ........................................................... 281 2 - الفاتح .......................................................... 288 3 - الإنسان ........................................................ 299 4 - القائد .......................................................... 300 5 - أسد في التاريخ ................................................. 305 -2 - صلاح الدين الأيوبي .......................................... 307 1 - أيامه الأولى .................................................... 307 2 - الوزير ......................................................... 310 3 - السلطان ....................................................... 313 4 - في دمشق ...................................................... 316 5 - معركة حطين .................................................. 317 6 - معارك استثمار الفوز ........................................... 322 7 - استعادة القدس ................................................ 325 8 - مجمل الفتح .................................................... 329 9 - الإنسان ....................................................... 333 10 - في المصادر الأجنبية .......................................... 342 -3 - الملك المظفر قطز ............................................. 353 1 - السلطان ...................................................... 353 2 - الموقف العام ................................................... 355 3 - موقف أوروبا .................................................. 356

4 - زحف التتار .................................................... 359 5 - الحشد ......................................................... 364 6 - المعركة ........................................................ 366 7 - أسباب النصر .................................................. 370 8 - الشهيد ........................................................ 374 -4 - السلطان محمد الفاتح ......................................... 377 1 - أيامه الأولى .................................................... 377 2 - محاولات الفتح الأولى .......................................... 379 3 - أهمية القسطنطينية ............................................. 382 4 - آخر الأباطرة .................................................. 384 5 - نقض العهد ................................................... 386 6 - التمهيد للفتح ................................................. 390 7 - محاولات قسطنطين ............................................ 395 8 - إكمال الإعداد ................................................ 398 9 - الزحف ....................................................... 400 10 - الحصار ..................................................... 402 11 - المناوشات .................................................. 410 12 - سفن البر ................................................... 413 13 - القتال البحري .............................................. 416 14 - تضييق الخناق ............................................... 418 15 - الحرب النفسية .............................................. 422 16 - اليأس ....................................................... 425 17 - قبيل الهجوم العام ............................................ 429 18 - الهجوم العام ................................................. 438 19 - الفاتح في القسطنطينية ....................................... 446 20 - صدى الفتح ................................................ 456 21 - الفتوح ...................................................... 466

22 - وقع النعي .................................................... 481 23 - الإنسان ...................................................... 484 الخاتمة .............................................................. 507 المصادر والمراجع المصادر ............................................................. 555 المراجع ............................................................. 569 1 - المراجع العربية ................................................. 569 2 - المراجع التركية ................................................. 573 3 - المراجع الإنكليزية .............................................. 574 الفهارس فهرس الأعلام ....................................................... 579 فهرس الأماكن ...................................................... 593 الفهرس ............................................................. 603 ***

§1/1