بين الرشاد والتيه

مالك بن نبي

مالك بن نبي مشكلات الحضارة *************** بين الرشاد والتيه دار الفكر المعاصر- بيروت لبنان دار الفكر-دمشق سورية

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ بين الرشاد والتيه

مالك بن نبي مشكلات الحضارة بين الرشاد والتيه بإشراف ندوة مالك بن نبي دار الفكر دمشق-سورية

جميع الحقوق محفوظة 1426هـ - 2002م ط1: 1978م.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ في عام 1971م ترك أستاذنا مالك بن نبي- رحمه الله- في المحكمة الشرعية في طرابلس لبنان، وصية سجلت تحت رقم 275/ 67 في 16 ربيع الثاني 1391هـ الموافق 10 حزيران (يونيو) 1971م، وقد حملني فيها مسؤولية كتبه المعنوية والمادية. وتحملا مني لهذه الرسالة، ووفاء لندوات سقتنا على ظمأ صافي الرؤية، رأيت تسمية ما يصدر تنفيذا لوصية المؤلف (ندوة مالك بن نبي). والتسمية هذه، دعوة إلى أصدقاء مالك بن نبي وقارئيه، ليواصلوا نهجا في دراسة المشكلات، كان قد بدأه. وهي مشروع نطرحه بوصفه نواة لعلاقات فكرية، كان رحمه الله يرغب في توثيقها. وإنني لأرجو من أصدقاء مالك وقارئيه، مساعدتنا على حفظ حقوق المؤلف في كل ما ينشر بالعربية أو الفرنسية مترجما من قبل المترجمين أو غير مترجم. فقد حمّلني- رحمه الله- مسؤولية حفظ هذه الحقوق، والإذن بنشر كتبه. فإن وجدت طبعات لم تذكر فيه إشارة إلى إذن صادر من قبلنا، فهذه طبعات غير مشروعة، ونرجو إبلاغنا عنها. طرابلس لبنان 18 ربيع الأول 1399هـ 15 شباط (فبراير) 1979م عمر مسقاوي

تقديم

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تقديم بين الرشاد والتيه كتاب ضم مقالات كتبها الأستاذ مالك بن نبي بالفرنسية، ونشر معظمها في جريدة ((الثورة الإفريقية La revolution Africain)) إثر عودته إلى الجزائر بعد الاستقلال في الستينات. وقد جمعها رحمه الله في صيف عام 1972م، وترجمها إلى العربية، ثم بوبها وحدد فصولها، واختتمها بكلمة عن الصراع الفكري. وقد سلمني أصول هذا الكتاب إثر الفراغ منه، فلما قرأته وجدت من المناسب مراجعة النص بما يحافظ على أسلوب الأستاذ مالك، ويزيل إبهام بعض العبارات، وهكذا أصبح الكتاب جاهزا للتداول بين أيدي القراء، في مرحلة من مسيرة الأمة العربية تداعت عليها الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها. فالمقالات هذه تعكس أحداث الستينات في الجزائر كما في العالم العربي والإسلامي. وهي أيضا تطرح مشاكل العالم الثالث بعد الاستقلال السياسي، فتسلط عليها أضواء كاشفة تبرز أبعادها وتنير طريق الكفاح، من أجل القضاء على هذه المشاكل. ففي الستينات، كانت في الجزائر مهمات البناء الجديد للدولة، في الإطار السياسي والإداري والاقتصادي، وكان الأستاذ مالك يواجه بفكره هذه المهمات،

يرصد الأحداث اليومية والمبادرات المستقبلية. ثم يخرج على الناس بمقالات، تحدد مفاهيم العمل ومقاييسه الثابتة، حتى لا تضل في المفاهيم الغربية المستوردة، أو تتيه في زحمة التضليل المتداول في سوق الصراع الفكري. وفي هذا الإطار كان الأستاذ مالك يتخذ من مواقف الأمس والحاضر أدلة للتوضيح والمناقشة. فإذا تحدث عن الثورة في العصر الحديث، اتخذ من الثورات المعاصرة نماذج وأمثالا: الصين وكوبا وما أكثر ما ضجت بأحداثهما الستينات، وما أكثر ما خرج حولهما من تعليق. وما أكثر ما ربط الناس بين التطور والماركسية في تلك المرحلة، وما أكثر ما تحدث زعماء العالم الثالث عن الاشتراكية والتقدمية بوصفهما خطة في معركة البناء والتحرر: كان حتما على رجل المنهج أن يستخرج الضوابط لهذه التطورات؛ فيطرح ما علق فيها من أوهام ترتبط بالبنية الفكرية للإنسان المتخلف في العالم الإسلامي والعالم الثالث على العموم، ويأخذ الذي يثري مبادرات التغيير والتطور بتجربة فتية راهنة. لذا استشهد الأستاذ مالك بكثير من المبادرات التي حفل بها العالم الحديث؛ فكانت اليابان مثلا لنهضة استقامت على سنة التاريخ، فأعطت وأثمرت منذ العصر الميجي في منتصف القرن الماضي، وكان الحديث عنها شاهدا على عقم ما اتبعت النهضة الإسلامية الحديثة من سبل فتفرقت بها عن سبيل الأصالة والسنن التي أودعها الله الحياة. وكانت الصين، ومن قبلها الإتحاد السوفيتي، ومن بعدها كوبا، أمما أمثالنا؛ وقد واجهت أفكار هذه الأمم وقياداتها مشاكلها بتجربة واعية مدركة، فسارعت إلى مكانها في الإسهام في مصير العصر الحديث، في الإطار السياسي

والاقتصادي، فكان لابد إذن من مثل يؤخذ من هذه التجربة، ومثل يؤخذ من تلك التجربة، على الرغم من التباين المذهبي والسياسي بين التجربتين كلتيهما. فحين يتحدث الأستاذ مالك عن اليابان حينا، وعن الصين أحيانا، على الرغم من أن الأولى ذات نظام رأسمالي والثانية ذات نظام شيوعي؛ فلكي يزيل عن أذهان العالم الثالث، ما قد فرضته معطيات الحياة المعاصرة، من حتمية الاختيار بين أي من النظامين في مواجهة ضرورات المستقبل. فالأستاذ مالك يهتم بتوضيح الضوابط الفنية للحركة الاجتماعية، التي تتكون في بنائها ثقافة كل مجتمع، ويتكون في إطار هذه الثقافة حضارة توفر الشروط والضمانات الضرورية لأفراد ذلك المجتمع. وهو في كل ما حدد من ضوابط في هذه المقالات في الإطار الثوري أو السياسي أو الاقتصادي، إنما يثري الفكر الإسلامي برؤية جديدة، يتعامل من خلالها مع القيم التاريخية والأصالة التي أودعها الإسلام ضمير العالم الإسلامي عبر العصور. فالأستاذ مالك، يدعو إلى بعث هذه القيم في إطار ثورية حقيقية، ترتكز في أساسها على ما ارتكزت عليه الثورة الإسلامية في عهد النبوة، لذا يربط الأستاذ مالك بين معطيات السنن الإلهية في تطوير المجتمعات وتغييرها، وبين نجاحها الفعلي في كل أمة اتخذت طريق هذه السنن في مواجهة مستقبلها، مهما كان اتجاهها الفكري والمذهبي. هذا الربط، إنما هو تأكيد للقاعدة التي هي سنة الله لا تبديل لها. فالله {لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11/ 13]. وتغيير ما بالنفس إنما هو تغيير ما بالفكر من رؤية للأمور، وما بالروح من رتابة وجمود. لذا بدا صوت الأستاذ مالك في هذه المقالات، عاليا وأحيانا منفعلا، وهو

يرى غفلة الأبصار عن حقيقة الهزيمة في حرب 1967م في فلسطين. وهكذا ضاع ما كان لهذه الصدمة من أمل في بعث الرؤية الجديدة لمستقبل الأمة العربية، وضاع في إثرها كل عمل جاد في تجميع الثروة الاقتصادية والبترولية للعالم العربي، وتحويلها إلى قيمة اقتصادية عالمية ذات بعد سياسي واقتصادي معا. لذا أهتم مالك بن نبي في الفصل الأخير، باقتصاد العالم الإسلامي والعالم الثالث على العموم، فوضع لهذا الاقتصاد قواعد التنمية الحقيقية التي ترتبط بالجهد الاجتماعي في أساسها. هذه المقالات تضعنا أمام حقيقة واضحة، حقيقة ترقب حركات التاريخ المعاصر بنظرة موضوعية لا عقدة فيها ولا كراهية؛ نظرة لا تخاف الماركسية ولا الرأسمالية إنما هي تفصل بين واقعها التاريخي وتجربتها الاجتماعية. وهي تأخذ من هذه التجربة بمقدار ما يوضح القاعدة الأساسية التي هي من سنن الله، أما النماذج التي انتهت إليها تلك التجارب، فهي تحظى من الأستاذ مالك باحترام الجهد الإنساني المتعاون، لكنها أبعد ما تكون علاجا لحالة اجتماعية نحاول الخروج من مأزقها. فالأستاذ مالك يدعو العالم الإسلامي والدول الإسلامية، إلى تجربة تستمد معطياتها من واقع المشكلة، بعد تحليل عناصرها، دون التأثر بالمفاهيم التي زرعتها الحضارة المعاصرة في أفكارنا، وأسدلت ستارها على أبصارنا. وهو لذلك يدعو في هذه المقالات، إلى علم اجتماع مستقل يختص بمشكلات العالم الثالث بعد الاستقلال السياسي، ويختط لمستقبله الاجتماعي والاقتصادي، خطة تنمية لا يثقلها اطراد نمو العصر الصناعي في الحضارة المعاصرة، وما أفرز هذا الاطراد من مفاهيم ماركسية ومشكلات رأسمالية. طرابلس- لبنان- 30 شعبان 1398هـ 4 آب (أغسطس) 1978م عمر مسقاوي

الفصل الأول طريق الثورة

الفصل الأول طريق الثورة . الاطراد الثوري . الأخلاق والثورة . تقلبات عبر استقلال جديد

الإطراد الثوري

الاطراد الثوري عن (الثورة الإفريقية) عدد 232 - أسبوع 24 - 30 تموز (يوليو) 1967م. إن العدوان الإسرائيلي وضعنا في أجواء ثورتنا كأننا نعيشها مرة أخرى، والأحداث التي تتابعت منذ ذلك العدوان جعلتنا نتأملها مرة أخرى بعقولنا أيضا. وها هي ذي نقاط كثيرة حرمنا لهيب المعركة أو قلة خبرتنا من الالتفات إليها في حينها أثناء الثورة الجزائرية، تصبح اليوم تجتذب اهتمامنا، كأنها جديدة علينا. ولعل كلامنا يكون من قبيل تقرير الواقع، إذا قلنا إن أحدنا يشعر أكثر ما يشعر بالضربة حين تصيبه في مفصل من مفاصله. ويكفينا أن نتصور أو نتذكر الضربة التي تصيبنا في مفصل الذراع أو الركبة، لنقتنع بصحة ما نقول. وللأطفال في هذا تجربة يومية، ونضيف إلى ذلك أن الجهاز الميكانيكي كثيرا ما يصيبه العطب في مفاصله. وإذا قدرنا الثورة بوصفها اطرادا، فإن لها روابط تربط بين أطرافها أي مفاصلها، وتكون نقاط الضعف غالبا، عندما ننتقل من مرحلة في الاطراد إلى التي تليها.

ولم يكن ماركس، عندما كتب (تاريخ كومون باريس) رجل أدب، بل عالم حياة بالنسبة إلى الثورة التي فشلت بباريس عام 1871. إن نجاح ثورة ما أو فشلها، هو بقدر ما تحتفظ بمحتواها أو تضيعه في الطريق وهذا كله يخضع لقانون. فالثورة لا ترتجل، إنها اطراد طويل، يحتوي ما قبل الثورة، والثورة نفسها، وما بعدها. والمراحل الثلاث هذه لا تجتمع فيه بمجرد إضافة زمنية، بل تمثل فيه نموا عضويا وتطورا تاريخيا مستمرا، وإذا حدث أي خلل في هذا النمو وفي هذا التطور، فقد تكون النتيجة زهيدة تخيب الآمال. إن الثورة الفرنسية تضمنت عهد ما قبل الثورة، في صورة مقدمات وجدتها في أفكار (جان جاك روسو) والعلماء الموسوعيين. فكان لهذه الحركة ما يدعمها حتى تحقق لها النجاح يوم 14 تموز (يوليو) عام 1789. لكن عبورها إلى مرحلة ما بعد الثورة كان فيه خلل، جعل أشباه الثوريين مثل (دانتون وميرابو) يسيطرون عليها، ويحاولون بناء مجدهم على حسابها، حتى في التعامل مع العدو، ليمنحهم انتصارات وهمية يعززون بها موقعهم مثل واقعة (قلمى). ولقد انتهى بها المطاف بين أيدي نابليون الذي صنع منها- والتاريخ يعترف له بالفضل- قضية شخصية تحت لواء الإمبراطورية. ولكننا مع ماركس ولينين، اكتسبنا في هذا الميدان، معلومات دقيقة، وتقنية ثورية تلم بجوانب الثورة، من مرحلتها التحضيرية إلى مرحلة الإنجاز، ومنها إلى مرحلة الحفاظ على الخط الثوري. والواقع أن هذه ليست تقنية جديدة في التاريخ، فلو رجعنا إلى الوراء لوجدنا لها أثرا ليس في صيغة حرفية، ولكن في مواقف ثورية محددة.

إننا لو اعتبرنا الإسلام من جهة التاريخ المجردة، لرأيناه ثورة كبيرة غيرت كل البناءات السياسية والاجتماعية والأخلاقية والثقافية في المجتمع الجاهلي. إننا نراها في أصعب الظروف قد غيرت كل شيء، حتى أسماء معتنقيها، فكانت النمو الثوري في أدق ما في هذه الكلمة من معنى. وإذا كان يسيرا على المعاصرين للرسول الكريم، أن يشعروا بذلك في أنفسهم، فإن محكمة أميركية استطاعت هذه الأيام أن تقدر هذا الأثر في شخص الملاكم محمد علي الذي طلّق حتى اسمه القديم (كسيوس كلاي). إنها دروس حية نلم بمصيرها حين نوازنها مع أحسن الدروس الثورية في الحاضر، أو مع بعض الأخطاء في ثورات معاصرة. إن الثورة الإسلامية تقدم لنا أولا درسا عاليا، ربما زهدنا فيه أو تناسيناه، في ضبط السلوك. ففي غزوة أحد حيث يتعرض جيش المسلمين لضربة قاسية من جيش المشركين تحت قيادة قريش، نرى النبي عليه الصلاة والسلام يرفض على الرغم من قلة عدد من معه من المهاجرين والأنصار وعدتهم، يرفض سند عبد الله بن أبي وهو على رأس المنافقين واليهود ويقول: ((لا يقاتل معنا إلا من هو على ملتنا)). ولم يكن هذا الموقف مجرد اندفاع خاص في لحظة معينة، فالقرآن سيعطي له كل معناه في الآية الكريمة: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا} [التوبة:147/ 9]، مجددا فيها السبب لتجنب القتال مع متطوعين غرباء عن الثورة، أي مجرد مرتزقة كما نقول اليوم. فالثورة ليست كإحدى الحروب تدور رحاها مع العدد والعتاد، بل إنها تعتمد على الروح والعقيدة. ولا شك أن هذا المبدأ هو الذي حدد سلوك القيادة السوفيتية أثناء الحرب

العالمية الثانية؛ إذ في أحلك الأيام من معركة القفقاز ترفض مدد الحلفاء يأتيها عن طريق إيران. إن لكل ثورة منهجا يتضمن المبادئ التي تسير عليها، كما يتضمن فحوى القرارات التي ستمليها عليها ظروف الطريق. فموقف أبي بكر بعد وفاة الرسول الكريم، عندما ارتدت بعض القبائل من العرب، وزعمت أنها لا تدفع الزكاة وتبقي على غير ذلك مما أتى به الإسلام، قد يبدو فيه لمعاصريه بعض التشدد والغلو، كما يكون موقف المرتدين غير بعيد عن الأمر المعقول، إذا قدرناه من الجانب المادي فحسب دون الرجوع إلى مبدأ يقره المنهج أي تقره فلسفة الثورة القائمة، وكاد عمر بن الخطاب يكون على هذا الرأي، لولا إصرار أبي بكر رضي الله عنهما وفصله الموقف بقوله ((والله لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه لرسول الله لقاتلتهم عليه)). ولقد قاتل المرتدين فعلا، حتى نصره الله عليهم النصر المبين. ولنا نحن، في موقف أبي بكر أسوة حسنة. والعبرة التي نأخذها منه هي: أننا إذا لم نحفظ في عقولنا وقلوبنا مقدمات ومسلمات الثورة، فلن نفقد (عقالا) فقط بل نفقد الروح الثوري ذاته. فالثورة قد تتغير إلى (لا ثورة) بل قد تصبح (ضد الثورة) بطريقة واضحة خفية. والأمر الذي لا يجوز أن يغيب عن أذهاننا في هذا الصدد هو أن مجتمعا ما بمقتضى طبيعته البشرية ينطوي على خمائر من روح (ما ضد الثورة) طبقا لمبدأ التناقض تناقضا مستمرا. حتى في فترة ثورية، نستطيع تتبع آثاره في تاريخ كل الثورات، تتبعا لا يغني معه أن ندفع عجلة الثورة في وطن ما، بل يجب أن نتتبع حركتها ورقابتها بعد ذلك.

وفي الملاحة يعرف ربان السفينة هذه الحقيقة بطريقته، إذ يعرف أنه لا يكفيه أن يقلع بسفينته في اتجاه معين، بل يجب عليه أن يراقب السير على طول الطريق من أجل تعديل الاتجاه من حين إلى آخر. وهذه الضرورة لا تخفى على الأوطان التي قامت فيها الثورات المعاصرة، حيث نرى الشغل الشاغل بقياداتها أن تحافظ على (الخط الثوري)، وبالتالي فهذه الرقابة، بقدر ما لا تعني هذه الكلمة مجرد لفظة، وإن كانت ضرورية في كل ثورة، فهي أكثر إلحاحا في الأوطان التي لا تكون فيها فحسب خمائر (ما ضد الثورة) نتيجة إفراز المجتمع نفسه بطبيعته، بل تكون بالإضافة إلى ذلك محفوفة بالخطر في الاطراد الثوري من الخارج، على أيدي خبراء يعرفون كيف تجهض الثورات. والخلاصة أن المجتمع الذي يقوم بثورة على الاستعمار فهو بطبيعة وضعه من ذلك الصنف، أي ذلك الصنف الذي تبدو المسلمة الأولى التي تقوم عليها رقابته، هي تقديره لخمائر (ما ضد الثورة) المحقونة في ثورته على أيدي خبراء الاستعمار. فإذا عددنا هذا التقدير مجرد وسواس (1)، فذلك يقودنا إلى أن نرى الاستعمار طفلا بريئا تعتدي على براءته ألسنة شريرة، وإن ما حدث في سيناء ما هو إلا أضغاث أحلام خامرت نومنا هذه الأيام. أما إذا كانت مأساة سيناء واقعا عشناه، فالأولى بنا أن نستخلص منه الدرس الذي تقدمه لنا.

_ (1) غالبا ما تستولي الذهنية الصبيانية على قياداتنا، فتفضل إلغاء المشكلات حتى لا تتصدى لها ولا تبذل الجهد الذي يقتضيه التصدي، وبالتالي نراها تحقد على من يذكرها بواجبها وتتهمه إما بالوسواس أو بالطموح.

فمن الناحية العسكرية ليست القضية في تفوق العتاد وفي عبقرية موشي ديان، كما لا يمل القوم من تكراره لنا منذ شهر، حتى إنهم ضربوا في ألمانيا الغربية صورته على مدالية تذكارية، لتخدير الرأي العام الدولي، ولتنويمنا نحن. يجب أن ننظر إلى القضية بدقة أكثر: فالعرب لم يكونوا في سيناء، أمام هنيبعل الإسرائيلي الصغير؛ ولكنهم واجهوا بعقلية الصبيان أجهزة في أعلى مستواها التقني وضعها الاستعمار تحت لواء إسرائيلي، ثم أمر اليهود بقصف سفينة التجسس (ليبرتي) كي يزيد في التعمية والتضليل. لكن الناحية الأخرى تهمنا أكثر بكثير من الناحية العسكرية، إذ يجب أن نقول إن الانتصار الذي حققه اليهود في سيناء، لم تتهيأ شروطه في إسرائيل فحسب ولكن في البلدان العربية، إذ استطاع الاستعمار حتى تنويم الرادار في صبيحة 5 حزيران (يونيو) الأخير، ولا نذكر هذا التفصيل إلا لمجرد التوضيح. أما الحقيقة فهي تخص فلسفتنا الثورية بأجمعها. فالثورة حين تخشى أخطاءها ليست بثورة، وإذا هي اكتشفت خطأ من أخطائها ثم التفتت عنه فالأمر أدهى وأمر. وفي هذا الصدد نذكر قول ماركس ((يجب دائما أن نكشف الفضيحة عندما نكتشفها حتى لا تلتهمنا)). إن الشعب الجزائري قام، بدون شك بثورة مجيدة، ولكن هذا لا يعني أنها خالية من الأخطاء في اطرادها الثوري. ولست أشير هنا إلى الخطأ البريء الخفيف الذي يتولى الوقت نفسه تصحيحه في الاطراد الثوري، بل أشير إلى الخطأ العضوي سواء أفرزه المجتمع، أو حقن به من الخارج حتى صار جزءا من كيانه.

فالنوع الأول من الخطأ قد يهم من يهتم بالتاريخ أكثر من سواه، بينما قد يكون له أيضا أثر سيئ في وطن ثوري، يتعرض لمثل الأخطاء فيرتكس إلى عهد الأثرة والمحسوبية والأنانية، عندما نرى مثلا في هذه القرية الجميلة من الجنوب الجزائري، هذا الرجل الذي كان من أركان جمعية العلماء يستولي على قصر، كان يسكنه أحد ولاة العهد البائد ويؤجر مسكنه. فنحن لا نرى في مثل هذا التصرف ما يدل على قلة تعفف فحسب، بل يدل أيضا على هبوط في الروح الثوري، إذن هذا العالم لم يتاجر فقط بملكه بل تاجر بالقيم الثورية. وإذا كان أحد قادة الحركة النقابية يقترض بعض الملايين من الفرنكات القديمة من شركة بترول، ويبني بها فيلا فخمة لا ليسكنها ولكن ليؤجرها لسفارة أجنبية، فإنني لا أرى في هذا التصرف ما يمت إلى (الخط الثوري) ولا إلى (المطالب النقابية) بصلة. ولكن يا آلهة نيتشه المتألمة الخجلة!! صفحا عن هذه الأخطاء الطفيفة. إذ هنالك الأخطاء العضوية التي لا يصلحها الزمن بل ينبغي أن تمحوها الثورة. والثورة التي تريد الوصول إلى هدفها يجب أن تدفع هذا الثمن، وبهذا الثمن وحده تستطيع ذلك. ***

الأخلاق والثورة

الأخلاق والثورة عن (الثورة الإفريقية) عدد 264 - أسبوع 7 إلى 13 آذار (مارس) 1968م. لعل عنوانا كـ (السياسة والأخلاق)، يكون في نظر بعض الناس أكثر انطباقا على محتوى هذا المقال، ولكن حتى على هذا الفرض فقد استعملته في مقال آخر (1). ومهما يكن من أمر، فكثيرا ما يتهم (كاسترو) بسبب تشدده في الحفاظ على المبدأ الأخلاقي، بأنه يرتجل: يتهمه بذلك طرف من الصحافة اليمينية وأحيانا جناح من الصحافة اليسارية. فتراه أحيانا في سياسته يقلب رأسا على عقب ما تعارف عليه الناس من مقاييس وتقاليد ثورية، وأحيانا أخرى نراه يلقي في سلة المهملات ما توارثه الناس من أفكار هؤلاء وأولئك، إلقاء قد يلتبس معه سلوكه فعلا على الذين يرونه يرتجل، أو ينفر من هذا السلوك رجال الاقتصاد والتخطيط في الغرب أو في الكتلة الشرقية على حد سواء. وكأنه هو الآخر ينفر من هؤلاء وخاصة التشيكيين والسوفييت الذين نراه يعزو إليهم فشل بعض المشاريع التي لم تعط نتائج فعلية في كوبا.

_ (1) انظر [ص:73] من هذا الكتاب.

إن (كاسترو) لا يجد بعد في تصرفه، ذلك الجهاز الثقيل من إحصائيات وآلات إلكترونية وأصحاب اختصاص، ذلك الجهاز الذي يجعل الإنتاج المتسلسل عملية لا ثغرة فيها ولا خلل كما هو الأمر في البلاد المصنعة. ولكن وطنا لم يزل في طور التكوين، لا يمكنه أن يمتع نفسه بهذا الحشد من الأرقام، وبهذا الترف من الآلات الإلكترونية، ليبلغ منذ اللحظة الأولى الذروة في ضبط عملية الإنتاج، والدقة التي لا تترك ذريعة فيها. إن الإتحاد السوفييتي نفسه مر بهذه المرحلة، فقد كانت، أثناء مخططه الأول بين عامي 1928 - 1932م نسبة (40% إن لم نقل 50%) من إنتاجه من الحديد أو من الخزف، تلقى في أكداس المهملات أو تعود إلى أفران التذويب. ولم يكن الإتحاد السوفييتي يخشى أن يتعلم الصناعة بهذا الثمن، كما كانت روسيا في عهد بطرس الأكبر تتعلم فن البحرية والحرب العصرية. حتى كان النبلاء فيها من طبقة (البويا) يقصرون لحاهم على الطريقة الأوربية. إذن فليس على (كوبا) أن تخجل من تدريبها، وإذا اتهم (كاسترو) بأنه يرتجل فليكن؛ غير أننا نعترف بأنه يرتجل بطريقة موفقة عندما نرى، منذ زمن قريب، كيف تخرج من يده قرية مجهزة بمدرسة ومصحة في مكان (مدينة صفائح) توافرا لها منذ شهر ونصف الشهر فقط. فإذا كانت الحالة هذه بكوبا تثير التعجب والاستغراب من طرف بعض الملاحظين، فإنما يعود ذلك إلى أن القرن العشرين تعود أن يستقطب الأفكار حول قطبين هما: الرأسمالية والماركسية، ولا يحتمل احتمالا ثالثا لهما يبدو معه أن لا مناص من أن تستوحى الأفكار من هذا القطب أو من ذاك القطب، في الميدان الاقتصادي أو التربوي أو السياسي دون تفكير خارجهما.

لكن (كاسترو) تحرر في تفكيره من كل تبعية لموسكو أو بكين، على الرغم من أنه ينتمي إلى مدرسة (ماركس) فبدأ يبتكر أو يرتجل كما يقولون. وليس خروج (كاسترو) عن الماركسية المألوفة تنكرا للفكرة نفسها أو حبا للظهور بالأصالة، إنما هو تمسك رجل دولة بما يراه ضروريا من حرية في الفكر وفي التصرف، للقيام بوظيفته طبقا لما تقتضيه تجربة بلاده. ونحن ما نزال على مقربة من بداية هذه التجربة، قربا لا نستطيع معه الحكم منذ الآن، فهل ستؤدي إلى انشقاق نظري أم لا؟! وماذا ستكون آثار هذا الانشقاق- إذا حدث- في المجال السياسي بوجه خاص؟! ولكننا نستطيع منذ الآن ملاحظة فوارق جذرية، إذا ما تذكرنا ما قاله (لينين) وهو يواجه أقسى الصعوبات بعد هدنة (بريست ليتوفسك): ((إذا وجب علينا أن نسير إلى النصر زحفا على البطون ..... فليكن)). بينما كاسترو يصرخ طاقة جهده بأن (سياسة الثورة) لا تقوم على الحسابات، فالمصلحة الوطنية وما يمليه أمر الدولة، إنما تقوم على المبدأ الأخلاقي. فهذا كلام لا نتصوره على لسان رجل مثل (الكردينال دوريشيليو)، ولا على لسان (تاليران)، وإنما نجده في صرخة (دوبان دونمور)، الذي صرخ ذات يوم في مناقشات تدور بمجلس الثورة الفرنسية حول قضية المستعمرات، صرخ قائلا: ((فلتمت المستعمرات ولكن لا نسلم في مبدأ من مبادئنا)). إن (كاسترو) ليس عالم أخلاق وإنما رجل دولة يعرف قيمة الأخلاق في السياسة. لكن التاريخ لن يصدر عليه حكمه طبقا لمبادئ مجردة بل طبقا لنتائجها في الواقع الملموس.

إنما من ناحية أخرى، يجوز لعالم الاجتماع بل يستحسن منه، أن يعلم ما إذا كان للأخلاق وظيفة في السياسة؟. إن الأشياء ما تزال بالنسبة إلينا في ضباب الثورة، تجدد نفسها الثوري في كل خطوة وأمام كل صعوبة جديدة تواجهها. لكن الأشياء بدأت خلال هذا الضباب تتخذ أكثر فأكثر شكلها، وتظهر كصدمات تجربة من شأنها أن تعم العالم الثالث كله، على الرغم من حدودها الضيقة في وطن صغير مثل كوبا. لاشك أن إدانة الحافز المادي في الإنتاج، لم تعط بعد أثرها الواضح في منحنى التنمية على الأقل، حسب أقوال الصحافة التي نقرؤها في هذه الناحية من العالم. كما أن إلغاء العلاقات السوقية بين المنتجين والدولة، مع ما يوحي به من إلغاء العملة ذاتها في أمد قد لا يبعد، لا يزال أيضا في غموض. ولكن الشيء الذي نستطيع تقريره منذ الآن، هو أن هذه القرارات تثيرنا من ناحيتين: إنها في الميدان الاقتصادي تمثل النموذج المثالي لا نسميه الاستثمار الاجتماعي، وهو أمر لا نجده في وطن آخر في الموضوع نفسه. ومن هذه الناحية فإنها تقدم درسا لا يستغني عنه العالم الثالث، الذي بين يديه الكثير من الذهب ومن العملة الصعبة. ولكن هذا الدرس يتضمن جانبا يهم العالم كله، ألا وهو الثقة في القيم الأخلاقية ومنحها الأولوية في الإنتاج وفي درجة الالتزام في الحياة السياسية. ولنتأمل على سبيل المثال، هذا الدرس في إحدى قضايا العمل الإنتاجي: إن العامل قد يتغيب من دون عذر عن عمله فما هي عقوبته؟.

إنه لا يجازى بحسم من تموينه ومن أجرته، ولكن يفرض عليه عدد من أيام تغيب أخرى. فالجزاء يقوم هنا على قاعدة أن اللولب النفسي ذو فعالية أكبر من اللولب الاقتصادي في حياة الفرد. ولكن هل هذه القاعدة تصح من دون قيد أو شرط؟. إننا لا نتصور أثرها إلا في مناخ أخلاقي حقيقي، تكونه الثورة وتحافظ عليه بوصفه صيدا أساسيا لها، كذلك المناخ الذي نشعر به في قصة المخلفين في القرآن الكريم. ونحن إذا عدنا إلى تجربة كوبا، نرى (كاسترو) لا يخلق هذا المناخ فحسب، بالقرارات العامة التي يتخذها وبتفسيرها للجماهير، بل يمثلها أيضا في سلوكه الشخصي ليكون القدوة في هذا كله. فعندما قرر سياسة التقشف في استهلاك البترول، كان لها مسوغاتها الاقتصادية، بسبب الحصار الاقتصادي الذي ضربته أمريكا على كوبا، حصارا أصبحت معه واردات البترول حتى من (البلاد الصديقة) لا تغطي غير 2% من الزيادة في الاستهلاك التي تقدر بـ 8% بالنسبة إلى السنوات السابقة. وقد أشار إلى ذلك في خطابه بمناسبة رأس السنة (1). لكن الأمر الذي يرفع هذا القرار إلى أعلى درجة في الفعالية، هو تفسير (كاسترو) له في غير الإطار الاقتصادي، إذ قال في الخطاب نفسه ((إنه لا يليق بكرامة هذا الشعب أن يبقى دائما يطلب العون من الآخرين)). فهذا درس ينبغي ألا يهمله العالم الثالث المنغمس في سياسة الاستنجاد

_ (1) 2 كانون الثاني (يناير) 1968.

والاستجداء. فقد أعطى (كاسترو) من نفسه القدوة، إذ استبدل بالسيارة التي ورثها عن خصمه السابق (باتيستا) سيارة عسكرية تقتصد استهلاك البترول. هذا كله قد يسميه الآخرون (الأخلاق الماركسية) نسبة إلى انتماء (كاسترو)، ولكننا في إطار النظرة الموضوعية نراه فقط (الأخلاق) في المناخ الثوري. إن ثورة ما، لن تستطيع تغيير الإنسان إن لم تكن لها قاعدة أخلاقية قوية. إن (روبسبيير) و (سان جوست) وهما من هما في الثورة الفرنسية، يمثلان قبل كل شيء أنضج صورة لأخلاق ثورية لا تنازل فيها. فلا يجوز لنا إذن أن نستغرب الأمر إذا ما كان (كاسترو) لا يفسر قرارا اتخذه بالأرقام أي بمسوغات مادية، بل يفسره بمسوغات أخلاقية عندما يشير إلى كرامة الشعب الكوبي. إن ثورة تقوم، لا تكون ثورة حقيقية لمجرد ما تجتهد في نشر العدالة الاجتماعية بين طبقات الشعب، إذا هي لم تعلمه كيف يستعيد شخصيته، وتلقنه معنى كرامته. ولقد يكون التعبير عن هذه الكرامة في نص الدستور نفسه، كالتصريح بحقوق الإنسان والمواطن في الثورة الفرنسية، أو يكون بمجرد قرار عن ضرورة التقشف في استهلاك البترول كما أشرنا إليه في كوبا. وهذه الاعتبارات عن وظيفة الأخلاق، ليست بنت الأمس: فقضية تكريم الإنسان لم تهمل ولم تنس في الثورة الإسلامية منذ أربعة عشر قرنا: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء70/ 17]. هكذا وضع القرآن الكريم في آية لكرامة الإنسان قاعدة سامية بالنسبة لدنياه ولآخرته.

والإنسان لا يجوز له أن يخالف في سلوكه هذا التكريم، الذي لا يضمن له حقوقا فقط، بل يفرض عليه واجبات أيضا. هذه الازدواجية تتمثل أحسن تمثيل، في حديث عن حكيم بن حزام إذ يقول: ((سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأعطاني، ثم سألته فأعطاني ثم قال لي: يا حكيم إن هذا المال خضر حلو، فمن أخذه بسخاء نفس بورك له فيه، ومن أخذه باستشراف نفس لم يبارك له فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع، واليد العليا خير من اليد السفلى. قال حكيم: فقلت يا رسول الله، والذي بعثك بالحق لا أرزأ أحدا بعدك شيئا حتى أفارق الدنيا، فكان أبو بكر يدعو حكيما ليعطيه العطاء فيأبى أن يقبل منه شيئا، ثم إن عمر دعاه ليعطيه فأبى أن يقبل. فقال يا معشر المسلمين، إني أعرض عليه حقه الذي قسم الله له من هذا الفيء فيأبى أن يأخذه. فلم يرزأ حكيم أحدا من الناس بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى توفي رحمه الله)). فهذا الحديث يلخص ويوضح لنا كل ما نسميه (أخلاقية الثورة)، إعطاء الإنسان حقه ولكن مع الحفاظ على كرامته. إن بعث الإنسان ليس ثمنه ضمان حقوقه فقط. بل إننا نرى في موقف حكيم، بعد وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، الثمن الحقيقي حين يرفض حقه من الفيء. إن الثورة الجزائرية تستطيع أن تستوحي من الثورات العصرية، لبعث الإنسان الجزائري وتغييره بعد ما أصابه في فطرته طيلة عهد الاستعمار، ولكن إذا كان خطاب الرئيس (بومدين) الأخير أثناء رحلته في جبال أوراس، قد

لفت النظر بصورة عامة، فالمقطع الذي نال منه هتافا أكبر من الحاضرين، هو الذي أشار فيه إلى جذور الثورة الإسلامية. لقد هتف الشعب لهذا المقطع، لأنه يعيد الثورة إلى إطارها التاريخي الحقيقي. فالشعب أحس عند هذا المقطع بشخصيته تتحرك في أحشائه، ولقد أثارتنا على شاشة التلفزة تلك الصور التي التقطت أثناء الرحلة، حيث نرى رجالا شدادا كالجبال التي حولهم، يجيبون عن الأسئلة المطروحة عليهم وهم يمسحون الدموع. فالقوى الأخلاقية التي قامت بالثورة ثم بدأت تتقهقر في عهد الديماغوجية بدأت تنطلق من جديد. فلعل الإنسان الذي تركته الظروف إلى العزلة والإنفراد يعود إلى عشيرته ومصيره الوطني في المناخ الجديد. فالحوار الذي دار بين المسؤولين والجماهير، تحت قمم أوراس الشاهقة، قد أعاد في كلمات قالت الحقيقة، الجسر الذي يصل الشعب بالدولة. وليس غريبا في هذا المناخ من الثقة المتبادلة أن تتحقق المعجزات، ولو كان ثمنها مزيدا من التقشف، لأن الصعوبات لا تزول بين عشية وضحاها بعصا سحرية. هذا هو السر الذي أدركه (كاسترو) عندما ركز سياسة الإنتاج في بلاده على الحافز الأخلاقي أكثر من الحافز المادي. وقد أنهى بذلك عملية تخريب تقوم بها تحت الأرض شرذمة تسعى لتبريد المناخ الثوري بالمزايدة الديماغوجية أو حتى بالخيانة الصرفة. إن كل ثورة ملزمة بأن تحمي نفسها من سائر المحاولات التخريبية، التي يكون فيها أصحابها سلطة جانبية في وطن ثوري، يؤثرون فيه حتى لحساب الخارج بما في أيديهم من وسائل السلطة.

وبعبارة أخرى، فإذا كانت الثورة في حاجة إلى (أخلاقية) لا تتنازل عن شيء، فمن واجبها أيضا أن تتمتع بحاسة نقدية لا يفوتها شيء، حتى لا تؤخذ على غرة في أي لحظة وفي أي قطاع من أجهزة الدولة. فعندما تحدث الرئيس (بومدين)، أثناء رحلته بجبال الأوراس، عن بقايا (الحركيين)، فكأنه أراد أن يشير في هذه المناسبة إلى ضرورة طرح مثل هذه القضية. وإن طرحها لواجب فعلا، ولنا أكثر من مسوغ في هذا الصدد. وبالإضافة إلى ذلك، فالثورة التي تقف في منتصف الطريق خلال إنجاز مهماتها أو تخشى إصلاح أخطائها فإنها تنتحر. فالسياسة تستطيع المراوغة والمداهنة، لكن الثورة تفرض عليها أخلاقيتها أن تمضي إلى آخر المطاف. ***

تقلبات عبر استقلال جديد

تقلبات عبر استقلال جديد عن (الثورة الإفريقية) عدد 249 أسبوع 23: 29 تشرين الثاني (نوفمبر) 1967. ها إن الأمر قد تقرر، فالحكومة الإنجليزية صرحت رسميا عن جلاء جنودها، في آخر هذا الشهر من عدن وما حولها مما يسمى (الجنوب العربي). وهكذا ينشأ استقلال جديد في التيار الذي بدأ بعد الحرب العالمية الثانية تحت اسم (تصفية الاستعمار). إن الأيام الكبرى في التاريخ فترات يسودها الإكبار والإجلال، وتسكت فيها النزعات الخاصة، وتهمد المنازعات، حتى تلك التي تحركها الفوارق الإيديولوجية، وهكذا تسكن العقول والقلوب إلى بعضها كما حدث في فرنسا عام 1945 عندما ائتلف أتباع (ديجول) وأتباع (توزير) وشكلوا حكومة التحرير. إنها لحظات فرح وتأمل معا، تضع سماتها على وجوه جماهير مبتهجة، فها هن أولاء النسوة يلوحن بمناديلهن البيضاء، ويطلقن زغاريدهن تحية لجيش منتصر، وها هم أولاء الأطفال يملؤون الجو ضحكا ومرحا. وها هو ذا الشيخ العجوز يمسح بيد ترتعش، دمعة تجري على خد كتب العصر فيه سطور أيامه. إنهم جميعا يعبرون بطريقتهم الخاصة عن عظمة أيام لها معنى في تاريخ الوطن. حركاتهم التقليدية المألوفة، تبدو وكأنها تمحو لحظات أخرى عاشوها في

المحنة. كما يمحو الشعب من ذاكرته أيام حرب خاضها بدمه، أو أيام احتلال أجنبي عاناها أو أيام ... الاستعمار. ولكن يحدث أحيانا في جو البهجة أن تنفجر المأساة! فالجزائر التي كانت تعيش عيد استرجاع الوطن المفقود، كادت تعيش ذلك اليوم في 5 تموز (يوليو) عام 1962 يوم حزن وطني، لولا حكمة الشعب وتدخله بين طرفين يتنازعان السلطة. الوطن يتذكر كيف كاد ذلك اليوم أن يكون أحلك أيام الثورة، لأن بعض الفئات دنست اللحظة الجليلة بنزعات فردية، لم تذب في حرارة التعارف والإخاء اللذين كانا يسودان ذلك اليوم. هكذا جمدت على الشفاه ذلك اليوم زغاريد النساء، وبدت على وجوه الشيوخ طيات من الأسى جديدة، وتوارى ضحك الأطفال من شوارع العاصمة الجزائرية، حين تواجه الطامعون في السلطة من الفريقين برصاص رشاشاتهما. نذكر هذا كله في الجزائر ونذكر كيف كانت حكمة الشعب وحدها، الحائل دون تفاقم الصراع والأخذ بعيد الاستقلال إلى جو البهجة والحبور. وشعب فيتنام وهو لا زال يعيش المأساة يتذكر هو الآخر كيف دنست النوازع يوم استقلاله. شعب الكونجو وما حل به بعد انسحاب السلطة البلجيكية، ثم شعب نيجيريا يعيش المأساة وكأنها تنتظر كل شعب من شعوب العالم الثالث وهو على عتبة استقلاله. إنها لظاهرة تتسم بها البلدان المستعمرة، فأي وطن منها ارتفع فيه علم الاستقلال، لم يجد في ذلك اليوم أزمة تنفجر على مستوى قياداته!؟

لقد كان (التقسيم) وليد هذه الظاهرة في الهند. فكانت باكستان بغثّها وسمينها وما منيت به من خسائر في النفس والنفيس، فضلا عن هجرة الملايين أو تهجيرهم مطاردين في طرفي حدود مصطنعة. وكانت أخيرا رصاصة مني بها رجل (اللاعنف) غاندي نفسه وقضت عليه إبان الزوبعة التي أثارها استقلال الهند. قد لا نخطئ إذ نعزو ذلك إلى دهاء الإنجليز، فإذا اعتمدنا هذا السبب- وهو ليس السبب الوحيد- فدور رجل مثل (باطيل) (1) ونظيره الباكستاني لا يقل أهمية في الموضوع. وبعبارة أدق فزعماء المؤتمر الهندي من ناحية، والرابطة الإسلامية من ناحية أخرى، هم الذين تحقق على أيديهم تمزيق الوطن وزهق ملايين النفوس. ينبغي أن نسقط أحداث الجنوب العربي على هذه الخلفية، إذا أردنا أن نفهم طبيعة الخلاف الناشب اليوم بين الحركتين وهما على عتبة إستقلال الوطن. هنا أيضا لا نغفل دور (إنجلترا) التي تريد أن تغادر الديار، ولكن بعد إضرام النار في أركانها. وإذا كان الأمر كذلك، فإنها تقاليد الاستعمار يباشر (تصفية الاستعمار) كما يقولون بهذه الطريقة، حدث ذلك في فلسطين عام 1948 عندما غادرها الجيش البريطاني على رؤوس الأصابع، ليترك الشعب الفلسطيني تحت رحمة رشاشات المنظمات الإرهابية الصهيونية كـ (شتيرن والهجانا). بل لعل الطريقة التي اتبعها الإنجليز في فلسطين، أكثر وضوحا من الطرق التي يسلكها الاستعمار عادة في مثل هذه الحالات، فقد جاء انسحاب الجيش

_ (1) وزير الداخلية في الحكومة الهندية الأولى وكان رجلا معروفا بالتعصب الديني والحقد على الإسلام.

البريطاني بترك الميدان للصهيونيين الذين هيأتهم قياداتهم ووحدتهم من أجل القيام بدورهم، بينما القيادات العربية غمرت شعوبها بالخطب الرنانة فتمزقت وحدتها، وبدلا من أن تنصرف إلى خلاص الأمة عمدت كل واحدة منها إلى الاستيلاء على جزء من أجزائها. والفارق هنا في منتهى الوضوح، لأننا إذا كنا لا نعرف بالضبط ما تريده القيادة العربية ولا ندري إذا كانت هي الأخرى تعرفه، فإننا على العكس من ذلك، نعرف تماما ما كانت تريده القيادة الصهيونية، وهي كانت تعرفه بوضوح أكبر. وينبغي أن نضيف للتاريخ ولتعميق إدراكنا، أن العرب لم يكونوا يفكرون في استخلاص النتيجة الضرورية من تلك المجابهة المؤلمة مع واقعهم، إذ لو تأملوا لوجدوا واقعهم يطرح القضية بلغة الحضارة. فلم يكن من محض الصدفة، أن القيادات الصهيونية تقتصد في الكلام وتلتزم الفعالية في العمل، كما كانت أكثر وفاء لالتزاماتها السياسية والعقائدية من القيادة العربية. ذلك أن التحليل يقودنا إلى القول إن القيادة الصهيونية كانت تتحرك، وتحرك حولها الأشياء والأشخاص طبقا لما تمليه ثقافة حضارة؛ بينما لم تكن القيادة العربية ترى من الأشياء والأشخاص إلا وسائل لإشباع حبها وهواها في السلطة؛ أي إنها كانت تخضع لما تمليه ثقافة (القوة) التي ربما تنعكس حسب الظروف إلى عقدة (ضعف). واليوم! نرى الجنوب العربي تسوده الفوضى، وتجابه مرة أخرى قيادة عربية بمشكلة حضارة.

ولو طرحت هذه القيادة قضيتها تحت عنوان (مشكلة حضارة) بل لو تعمدت طرحها بهذه الطريقة لحققت بدفعة واحدة هدفين: الأول في المجال النفسي؛ حين تحرر كل زعيم من هؤلاء الزعماء من عقدة السلطة، فينظر إلى الاستقلال من زاوية الواجبات توضع على كاهل كل فرد، بدلا من نظرته إليه من زاوية الحقوق يمنحها له، إذن هذا الزعيم سيعدل تلقائيا أطماعه في السلطة. والهدف الثاني نتيجة للهدف الأول على الصعيد السياسي؛ إذ بقدر ما تتعدل نظرة الزعيم نحو السلطة، ويتحول تقديره لها من مجموعة (حقوق) إلى مجموعة (واجبات)، يضيق مجال مناورات الاستعمار، لأنها تصبح غير ممكنة في نفوس محصنة بعيدة عن الهوى والغرور. فكل عمل يسهم في تضييق هذا المجال النفسي (الطمع في السلطة) يستحق التقدير، خصوصا في وطن يعيش مرحلة من (تصفية الاستعمار). هكذا نرى أنفسنا أمام ضرورة ملحة كثيرا ما ألمحنا إليها في مقالات سابقة، ألا وهي تصفية الاستعمار في العقول قبل كل شيء. فتصفية الاستعمار من العقول تتطلب أشياء كثيرة يتضمنها مفهوم الثقافة ومفهوم الحضارة، فهي لا تتحقق إذن بمجرد انسحاب جيوش الاستعمار، ومجرد إعلان الاستقلال وتحرير دستور كما هو الأمر بالنسبة للتراب الوطني. ولا نستطيع في هذه السطور إلا الإشارة الرمزية إلى هذا المضمون، ثم يبقى إدراجه في منهج تربوي يهدي إلى تقويم جديد في ضمير كل مواطن، وخاصة كل زعيم، لمفهوم الواجب المطهر، الذي من شأنه أن يطهر أولا الجو السياسي في الأوطان التي تعيش مرحلة تصفية الاستعمار.

أما (الحق) ... فما أغراها من كلمة! إنها كالعسل يجذب الذباب ويجتذب الانتفاعيين، بينما كلمة (الواجب) لا تجتذب غير النافعين. وكلمة الواجب على الصعيد السياسي توحد وتؤلف، بينما كلمة (الحق) تفرق وتمزق. إن زعماء الجنوب يعطون اليوم، بفرقتهم وتناحرهم وتطاحنهم أجلى صورة عن هذه الظاهرة (1). وما كان اجتماعهم الأخير في القاهرة حيث اجتمع- كما نذكر- ممثلو الحركتين المتنازعتين حول مائدة خضراء، ما كان هذا الاجتماع إلا محاولة من كل من الطرفين للحصول على أكبر نصيب ممكن من النفوذ والسلطة، وهو لم يكن بالتالي إلا حوارا بين صم لم يتعلموا حتى الكلام بالأصابع. واجتماع كهذا ما كان له أن ينتج غير الإفلاس الذي شاهدناه. إنما ينبغي ألا ننسى مكيدة عجلت بذلك الإفلاس، فالقارئ يتذكر بدون شك أنه في نهاية الإجتماعات، وحتى أثناءها، وزعت شركة أنباء غير موفقة، أوْ لها على العكس توفيق خاص، نبأ يزعم بأن الطرفين قد وصلا إلى اتفاق على تأليف حكومة على رأسها زعيم من حركة ... لقد كان هذا النبأ بمثابة (برقية أيمس) تلك البرقية المزيفة التي سبقت حرب 1870 بين فرنسا وألمانيا، فألهبت برميل البارود وبلغت الأزمة أشدها. وإذا بالرصاص الذي أعد لصد الإمبرياليين يحصد في صفوف المقاومين والمجاهدين من أجل الاستقلال.

_ (1) كتبت هذه المقالة أيام كانت فكرتنا عن الجنوب العربي غير واضحة. أما اليوم فإننا نعرف ماذا يريد جورج حبش وحواريوه في المنطقة.

وربما سيكون يوم إعلان الاستقلال (أي في خلال أسبوع) اليوم الذي ستسمع فيه شوارع عدن رصاص الرشاشات عوض زغاريد النساء وضحك الأطفال. إن على هؤلاء الزعماء أن يعودوا إلى رشدهم- احتراما للشعب- فلا يدنسوا لحظة عظيمة من تاريخ وطنهم بل من تاريخ العرب والعالم الثالث، بكلمات أو أعمال مؤسفة. وأن يحكموا فيما بينهم إرادة الشعب التي هي كما يقول المثل الروماني ((صوت الشعب هو صوت الله)). إن هذه المعجزة ممكنة، وقد رأيناها تحققت في الجزائر في شهر تموز (يوليو) عام 1962. ***

الفصل الثاني في قضايا الاستقلال

الفصل الثاني في قضايا الاستقلال . نظرة علم الاجتماع في الاستقلال . تغيير الإنسان . العامل الجزائري في فرنسا . معالم على طريق الحركة النسائية الجزائرية . وزن الوقت

نظرة علم الاجتماع في الاستقلال

نظرة علم الاجتماع في الاستقلال ترجمت هذه المقالة المنشورة بالفرنسية في مجلة (الثورة الإفريقية) شهر أيار (مايو) عام 1965. إن تطورات العالم الإسلامي، منذ الحرب العالمية الثانية تضع نخبته في مختبر التاريخ، تفحص فيه إمكانياتهم في مواجهة الحشد من المشكلات، وهي تتطلب قدرة في التصور ومهارة في التطبيق من أجل حلها. من هنا يفتح لعالم الاجتماع المهتم بشؤون العالم الإسلامي، في مرحلة الاستقلال، مجال لا يخص الباحث فحسب، وهو يدرس الجانب النظري؛ بل يخص الذي يمارس العمل السياسي أيضا. فالعلم الذي لا يترجمه عمل، يظل ترفا لا مكان له، في وطن ما يزال فقيرا في الوسائل والأطر. ففي هذه المرحلة بالذات، لا بد للاهتمامات أن تتركز في البلاد الإسلامية حول مفهوم الفعالية، وعلى الخصوص في مجال التسيير ووسائله: الأداة والدولة. ولكي نفهم هذه الضرورات، لا بد من العودة خطوات إلى الوراء. إن حرب الاستقلال في بلد مستعمر تصب حتما على السيادة الوطنية من الناحية السياسية، بينما تتجمع فيه من الناحية الاجتماعية، مشكلات العهد الجديد، والمشكلات الموروثة من عهد الاستعمار.

فالعهد الجديد، حين يتأسس تحت إشراف دولة ينبغي ألا يكون مجرد إعلان للسيادة الوطنية، إعلانا مسجلا في السطور الأولى من الدستور، بل ينبغي أن يكون أداة ضرورية لتنمية هذه السيادة، في كل أبعادها السياسية والاقتصادية والثقافية. فإعلان السيادة حاصل منذ اللحظة الأولى. قد كتبته الدماء الزكية التي أراقها الشهداء على مذبح الوطن. أما أداة التنمية، فإنها تتطلب أكثر من ذلك ... إنها تتطلب عرق الأحياء في عملهم المشترك، إذ هو يتكفل بها لمواصلة الكفاح من مقتضيات التحرير إلى متطلبات البناء. إن الانضباط النفسي، الذي يتحلى به أولئك الذين سيتناولون، بعد الكفاح المسلح، المحراث أو المطرقة، القلم أو المبضع، الميزان أو أي أداة أخرى للعمل؛ إن هذه الأجيال المستمرة في اتجاه مرسوم والمثابرة عليه، هي التي تصنع الدولة على الصورة المتلائمة عضويا مع طبيعة هذا الدأب المستمر وأهدافه. إن الدولة تصنع نفسها بما تنجز من أعمال، فهي السبب الذي تؤثر فيه نتائجه. ومن هنا، ومن هذه الزاوية بالذات، قد ندرك- إذا ما وازنا بين مفهوم الدولة ومفهوم الأمة- ما يعنيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الشريف: ((إنما هي أعمالكم ترد إليكم كما تكونوا يول عليكم)). إن الحديث الشريف يعبر عن نظرة ذات أغوار سياسية اجتماعية بعيدة، نستطيع تلخيصها على الصعيد التربوي في هذه المقدمة: إذا أردت أن تصلح أمر الدولة فأصلح نفسك. والمنهج التربوي هذا يهم أول ما يهم دولة ناشئة، لها فضائل الشباب ولها أيضا عيوبه.

فالشعراء قد يستهويهم هذا الشباب المشرق، كالشاعر (أراجون) الذي كان ينشد (الغادات الغناء). أما المفكر المتسم بأقل تفاؤلية، أو بأكثر موضوعية، كلينين مثلا، فإنه سوف تعتريه حيرة أمام ما يسميه (الأمراض الطفولية). فينتهي في آخر المطاف إلى سؤال ((ما العمل؟))، الذي عبر به من خلال عنوان لأحد كتبه عن قلق هذه المرحلة بعد ثورة تشرين الأول (أكتوبر) عام 1917. فعالم الاجتماع ملزم في البلاد التي دخلت في عهد ما بعد الثورة، أن يطرح السؤال أمام كل ما يشتم منه رائحة الأمر الغريب الشاذ. ينبغي أن ينشأ علم اجتماع خاص بمرحلة الاستقلال، ليكون بين أيدي من يشرف على أجهزة الدولة أداة رقابة لا ينفصل عن جهاز التخطيط. ففي بعض البلدان، نرى هذه الرقابة قد نشأت تحت اسم (النقد الذاتي). وإنا لنعلم ما كان لها في الصين، على سبيل المثال، من تأثير تعديل في السير وتنظيم الحياة الاقتصادية. وكم نود هنا في بلادنا، أن نتخلص من عقدة الرفض، التي طالما سدت الطريق، أثناء الثورة، على كل محاولة إصلاح، بدعوى أن كل نقد سيكون في صالح الاستعمار ... بينما أرى بكل وضوح اليوم أن الاستعمار هو وحده الذي استفاد من هذا الرفض. فالقضية تدخل في نطاق الصراع الفكري، وتتطلب في هذه الحالة شروحا لا نريد الولوج فيها في هذه السطور. غير أننا نقول إن الاستعمار أو خليفته الاستعمار الجديد، لا زال يقيم السدود أمام كل محاولة نقد، أي مراجعة للأخطاء. ولا زال يغذي أدب تعمية يحرف حتى المصطلحات ذاتها، التي

يستعملها النقد النزيه. فيعزو مثلا مفهوم (القابلية للاستعمار) إلى مستشرقين غربيين ... بينما والحق يقال، نرى الاستعمار الجديد يشمئز من استعمال هذا المصطلح كأنما يخشى على سر من أسراره. وباختصار، فـ (الرفض) صار، بين أيدي موجهي الصراع الفكري، أنجع وسيلة لتجميد العقل النقدي. إلا أننا في الحقيقة، لا نفاجأ في عقدة الرفض بأمر جديد، فعقدة الرفض لها ماض في سياستنا بعيد. وأذكر على سبيل المثال، تلك المناسبة التي جمعتني يوما، في ضاحية من ضواحي باريس، في شهر حزيران (يونيو) أو تموز (يوليو) 1946، ببعض ممثلي الحركة الوطنية ومن بينهم أحد ركائز الحزب جاء خصيصا من الجزائر. لقد كنا نراجع الموقف بعد الحرب العالمية الثانية، وكنت كلما وجهت ملاحظة، يَشْتَمّ منها نقد لمسيرة الحركة أثناء الحرب، يردها ركيزة الحزب هذا ولم يكن يردها بالحجة وإنما بـ (الرفض). ويجب أن أضيف بأنها لم تكن المرة الأولى؛ التي يعترضني في الطريق هذا العائق المشل، والذي يبدو لي الآن، بعدما مر بعض الزمن، أنه لم يعق في شيء مصالح الاستعمار، وإنما أعاق القضية الوطنية. هذا الرفض، ينبغي رفعه من مرحلتنا الراهنة، لينطلق النقد الذاتي في الجزائر، إلى أبعد مما وصل إليه في البلاد التي صاغته ومارسته بوصفه ملحقا لتنظيمها السياسي. وربما كان على جامعتنا أن تتولى الأمر هذا، وتشرف على دراسات اجتماعية

متخصصة، تتناول الحالات المنحرفة أو الشاذة لتصفية ما أمتنع منها عن العلاج الثوري (1). ولا شك في أن دراسات لهذه الحالات المرضية، ستكون أنفع للوطن من أدب الإطناب والتمجيد، بل ينبغي القول أن هذه الدراسات قد أفادت الجزائر فعلا عندما كانت تطبق فيها ولو بطريقة عفوية في العشرينات. فالجزائريون الذين من جيلي، يعلمون أنها السنوات التي زحزحت الثقل، الذي وضعته قرون ما بعد الموحدين على كاهل الوطن. لقد كانت بالنسبة للشعب الجزائري فترة صحو، إستعاد فيها رشده وأدرك فضائله، كما أدرك نقائصه التي كان الاستعمار دائبا على تنميتها. وإذا كانت بعض الانتكاسات قد حدثت بعد ذلك، فذلك يعني أن العمل العفوي لا يعطي نتيجة ثابتة، فالقضية لا تعدو أن تكون مشروطة بالمنهج. ومهما كان الأمر، فضرورة مراجعة الأشياء أصبحت ملحة اليوم. إن أعمال التخطيط والتشييد، اللذين يجريان اليوم في مختلف البلاد الإفريقية، تجعل المعرفة الدقيقة لجهاز الإنجاز والتنفيذ أمرا ضروريا، خصوصا تلك الدولة الإفريقية التي ظهرت للوجود في العقد الأخير. وإذا كان يهمنا أن نعرف إلى أي درجة ينبغي أن يكون الأمر حسنا، فإنه يهمنا أكثر أن نعرف إلى أي درجة يتطلب تحسين الأمور. فهذه الملابسة، هي التي تفرض تأسيس علم إجماع خاص بالحالات المرضية، للكشف عن العراقيل والمعوقات التي ربما عرقلت الإنجاز والتنفيذ.

_ (1) هذا هو المعنى الذي يجب أن تفهم به الثورة الثقافية في الصين، حتى لا نتورط في استعمال هذا المفهوم بمحتوى آخر كما يحدث بكل أسف في بعض البلاد العربية.

وينبغي أن يكون هذا النهج شاملا، أي أن يتناول الإحصاء والتفسير، أو بعبارة أخرى ينبغي أن يعنى بالكشف عن الحالة الشاذة من ناحية، وأن يدرس مصدرها أو تاريخها من ناحية أخرى. إننا قصرنا نظرتنا عن قصد وبنية الإيجاز، على نطاق الجزائر. إنما على من يهمه الأمر أن يتصرف في الحالة التي تعنيه فيدرجها في مكانها بين النتائج النظرية التي نصل إليها، أو يصدر النتائج إلى مكانها في أي وطن إسلامي آخر. فأي وطن يتخلص من الاستعمار ويعلن سيادته، لا تختلف فيه المشكلات عن وطن آخر يمر بالمرحلة نفسها. على أننا، إذا حاولنا ترتيب المشكلات وفق أولويتها، فمن المعقول أن تمنح الأولوية إلى مشكلات الاستقلال، أي إلى الحالات التي ستزيد من درجة الصعوبة في مهام الدولة. ونحن هنا لا نقدم إحصائية لهذه الصعوبات حتى لا نتورط في الاعتبارات السياسية أو المذهبية. ولكننا نشير إلى إحدى هذه الصعوبات لأنها تتمثل في عقدة قد يكون لها أسوأ تأثير على مستقبل الوطن بوصفه دولة، إن لم تُصَفّ في قريب عاجل. فهذه العقدة تعرض منذ الآن ديمقراطية المؤسسة من وجهة نظر المحكوم، عندها يرى أجهزتها المختلفة لا تنسجم في أداء وظيفة الدولة، بل تسير وكأنها أجهزة دول مختلفة. فالمواطن المحكوم يشاهد أثر هذه العقدة حتى في العمليات البسيطة التي تقوم بها أجهزة إدارة واحدة، فما بالك إذا تعقدت العملية وتدخلت في إنجازها إدارات مختلفة، تقول الواحدة نعم بينما تقول الأخرى لا؟.

فمن الناحية المعنوية ينبغي أن نتصور وضع المحكوم في مثل هذه الحالة. أما من الناحية الفنية فإننا نتصور الدولة في حالة كهذه، محركا تدفع بعض أجهزتها إلى الأمام بينما تدفع الأخرى إلى الخلف. فمن الناحية الميكانيكية، ندرك بسهولة تلف الطاقة، التي يتعرض لها محرك كهذا، بل نتصور أن المحرك نفسه يتعرض للتلف، ونعلم بالتالي كيف يمكن لصاحب المحرك أن يتفادى خطرا كهذا بكل عناية واهتمام. فبين الحالات الاجتماعية المرضية، ليست الحالة التي أشرنا إليها أخطرها، إنما أشرنا إليها لأنها قابلة للتشبيه بوضع المحرك تشبيها يقربها للفهم. فعاهة عدم الانسجام والتنسيق، التي نشير إليها هنا، تظهر بكل بساطة، عندما يكون ملف تجهزه إدارة ينتظر وثيقة تبطئ بها جهة في الإدارة نفسها. كما تظهر العاهة بصورة أخرى، عندما تنتظر إدارة من أخرى، الإسهام في إنجاز عملية أكثر تعقدا، فتتعطل العملية بسبب تخلف الإدارة الثانية وتقاعسها في الإسهام. ففي الصورتين كلتيهما ينبغي دراسة الحالة للكشف عن أسبابها المرضية، وأبعادها المختلفة ويكفينا هنا على سبيل التوضيح أن نتناول بعدها النفسي. ونحن نسوغ موقفنا من هذه الزاوية، فنقول إن العلاقات القائمة بين الأجهزة المكلفة بإنجاز العمليات الإدارية المشتركة، ليست مجرد علاقات ميكانيكية كما تكون بين أجهزة محرك، بل هي علاقات بين أفراد، أي في جوهرها نفسية. فإذا كانت بلدية ما، تتخلف عن إرسال ورقة ما، تنتظرها إدارة تعليم مثلا، فتبقى العملية المشتركة معطلة على حساب مواطن، فهذا لا يعني بالطبع

أن العلاقات بين الإدارتين سيئة في طبيعتها التنظيمية، وإن كانت تصبح سيئة فعلا عندما يشخصها أفراد لا يحسنون تشخيصها. فالمشكلة لا تطرح من الجانب التنظيمي بل من الجانب النفسي، لأنها مشكلة البنية الذهنية. إن عدم التناغم المشار إليه ليس إلا العرض المرضي للعلاقات المنحرفة بين الأفراد القائمين بوظيفة الدولة على اختلاف مراتبهم. فالاضطلاع بهذه الوظيفة، يتطلب من القائمين بها الخضوع لشروطها، سواء بالنسبة للرؤساء أو المرؤوسين، خضوعا يقضى بالحد من (الحرية) ومن (الاستقلال) الفردي. فالوطن لا يحقق (استقلاله) في مرحلة البناء، إلا بقدر ما يضع من حدود (لاستقلال) أفراده. غير أن الحدود هذه لا تحتمل، إذا لم يكن لها أسمى المسوّغات: إن (الخضوع) أو التسليم في نصيب من حريته لا يتسنى في نظر الفرد، إلا إذا كان الخضوع يتضمن معنى الواجب المقدس، كالواجب الذي خضع له خالد بن الوليد يوم اليرموك. فمشكلة العلاقات الناتجة عن ممارسة السلطة، عموديا أو أفقيا، مع الرؤساء والمرؤوسين ومع الزملاء، تتصل مباشرة بقضية تسويغ (الخضوع) بصفته التزاما يعبر على صعيد العمل المشترك عما يتطلبه الضمير المهني. وهذه العلاقات- التي تشرط فعالية العمليات الإدارية كلها، وبالتالي وظيفة الدولة كلها- تعكس ظلها على تفاصيل الحياة، في أقصى أبعادها، عكسا يصبح معه الضمير المهني مجرد الضمير، وتصير العلاقة الناتجة عن ممارسة السلطة مجرد العلاقة الاجتماعية في أبسط صورها.

إن المجتمع الذي عانى عندما خضع مثلا لسلطان الاستعمار، اضطرابات في شبكة علاقاته الاجتماعية، سيعاني قطعا مشكلة في علاقاته السلطانية، حين يصبح هيئة سياسية، أي عندما يصبح دولة. وكل مجتمع أصابت فيه محن الزمن شبكة علاقاته الاجتماعية، سيواجه قطعا سيئات الروح الانفرادية، وستكون فيه العلاقات السلطانية ملوثة لأن (الخضوع) الذي تفرضه العلاقات هذه - أفقيا وعموديا- لا يجد مسوغه بصفته التزاما وواجبا. ومن هنا ينبغي على هذا المجتمع، عندما يشرع في النهوض، أن يرمم ويصلح شبكة علاقاته الاجتماعية، ليتغلب على الصعوبات الناشئة في نطاق علاقاته السلطانية. ففي الجزائر على سبيل المثال، نجد أنفسنا أمام هذه المشكلة، بعد أن مرت عليها قرون ما بعد الموحدين وقرون الاستعمار، فنراها تشرط ممارسة السيادة، بمعنى تشرط ثمار الاستقلال كلها. وفي مرحلة كهذه، يمكن لنا القول إن كل نزعة تمليها الانفرادية، هي بالتالي على حساب السيادة الوطنية. وربما جاز لنا القول، على قدر خبرتنا وما شاهدناه في الحياة الإدارية، إن المرأة الجزائرية تنسجم منذ الخطوة الأولى مع وظيفة الدولة، لأنها لا تعاني في ذاتها عقدة (الاستقلال) الفردي، التي تجعل (الخضوع) لمقتضيات الوظيفة أمرا صعبا. ونضيف هنا أننا من الناحية الفنية، لا نرى كفاءتها تنقص في شيء. فإذا ما عددنا بصورة عامة مشكلة العلاقات في عمقها، فإننا نراها تتصل من حيث طريقة حلها بالشروط النفسية الزمنية التي تقوم عليها حضارة، أي بشروط لا تحققها مجرد ثقافة مهنية، بل ثقافة جذرية تغير فنيا معالم الذات.

ثم إن المشكلة، وإن كانت هنا لا تخرج عن النطاق الإداري، الذي حصرناها فيه عن قصد بغية الاختصار والتوضيح، فإنها تتطلب منا درجة من الوعي تجعلنا ندرك المناقضة التي نلمسها أحيانا في جهازنا، مناقضة بين إستقلال الوطن (واستقلالات) الأفراد. مناقضة بين حريته و (حريات) موظفيه. من هنا كم يجب علينا أن نعالج ونصفي هذه المناقضة، لنعطي وظيفة الدولة فعاليتها ومعناها الديمقراطي. على أنه، وإن اقتصرت الاعتبارات هذه على البعد الإداري كما فعلنا في هذه السطور، فإنها لا تلم بالموضوع من سائر جوانبه، إذ ينبغي أن تتأسس دراسات متخصصة في قضايا الاستقلال. إن المسؤوليات في النطاق الإداري وفعاليتها فيه، لا تعدو أن تكون انعكاسا لأوضاعنا النفسية في العمل والإنتاج. فمن أجل أن يكون الجهاز الإداري عاملا منتجا، يجب أن يكون روح الإدارة روح عمال ومنتجين لا روح (باشاوات) مستبدين.

تغيير الإنسان

تغيير الإنسان عن مجلة (الثورة الإفريقية) عدد 221 شهر أيار (مايو) 1967. ينقل العدد الأخير من مجلة (نوفيل أوبسرفاتور) مقالا من مجلة (بروق)، يصف صاحبه، (فرانسوا فوريه) ما يسميه: ((تيه المثقفين الفرنسيين بعد الحرب العالمية الثانية)). إنني بكل أسف لم أطلع على هذا المقال، وربما لم تكن لتفيدني مطالعته إلا من الناحية الفكرية، إذا ما عقدت موازنة بين الحالة التي يصفها وبين ((تيه المثقفين الجزائريين بعد الثورة)). غير أن الموضوع يأخذ فجأة أهمية كبرى، حين نقرأ ملاحظة لـ (جان دانييل)، تطرح بصورة غير مباشرة، مشكلة لم تفقد أهميتها في كل محاولة تقويم جديد للثورة الجزائرية. إن ثورة ما، هي في جوهرها عملية تغيير. غير أن لهذا التغيير أسلوبه وطبيعته: فأما الأسلوب فيتسم بالسرعة ليبقى منسجما مع التنسيق الثوري، وأما طبيعة التغيير فإنها تتحدد في نطاق الجواب على السؤال التالي: ما هو الموضوع الذي يجب تغييره، ليبقى التغيير متمشيا مع معناه الثوري؟

المشكلة تبدأ من نقطة الاستفهام هذه، فمن هذه النقطة بالذات تنشأ في الأذهان الالتباسات والشبهات. وينبغي على الثورة لتفادي الإبهام، أن ترسم خطا واضحا حول موضوع التغيير حتى لا يبقى مجال للخلط. أما إذا أسلمت الأمور إلى الغموض والضباب، فإن أي انحراف سيكون متوقعا، وسوف تظل الثورة معرضة لأن تترك مكانها- دون أن تعلم- لشبه ثورة، تستبدل بالكيف الكم، وبالتغيير الجذري الضروري شبه التغيير. إن مجموعة من المظالم الاجتماعية تستطيع تخزين طاقة ثورية هائلة، ولكن إذا انفجرت هذه الطاقة، وهي تنفجر في ظرف استثنائي، فليس من المؤكد أن تمسك الثورة اتجاهها، وألا يطرأ فيها انحراف. الإستمرار في الاتجاه إذن يقتضي شروطا. وفي هذا المجال نرى في تعليق (نوفيل أوبسرفاتور) توضيحا لا مزيد عليه في الموضوع، إذ أن صاحبه (جان دانييل) احتج على (فرانسوا فو ييه) برأي، أدلى به (جيفارا) في حديث عن الثورة يقول فيه: ((إذا لم يعن بتغيير الإنسان فالثورة لا تعني إذن شيئا بالنسبة لي)). فهذه كلمات في منتهى الوضوح، في منتهى الصفاء، وفي منتهى الدقة، إنها تضعنا في صلب القضية. لقد علق (جان دانييل) على هذه الكلمة بأنه كان يشعر أثناء الحديث مع (جيفارا) وهو يقول هذه الكلمات ((بنفس تتخلله حدة دينية)). ولقد كان (جان دانييل) محقا في تعليقه هذا.

وبالفعل فالثورة التي لا تحركها هزة تكاد تكون شطحة صوفية فليست بثورة. والتغييرات الثورية تصبح حلما من الأحلام إذا لم تقم على هذا الشرط، فتحويل سلطة سياسية من أيد إلى أخرى، وإعادة تنظيم الإدارة وأجهزة العدالة، وتغيير العملة، وتعديل النظام الاقتصادي، هذه كلها أمور تدخل بطبيعة الحال في نطاق الظاهرة الثورية. وقد تتغير خريطة توزيع الملكية في الوطن، وقد يسند إلى أبناء الوطن وظائف كان المستعمرون يشغلونها، وقد تستبدل بالحروف اللاتينية حروف عربية على واجهات ولافتات الحوانيت، إلا أن التغييرات هذه جميعها تصبح مجرد سحر للأبصار ولا يستقر أمرها إذا لم يتغير الإنسان نفسه. وقد يرتفع متوسط الدخل الفردي أيضا، دون أن يكون ذلك القياس الصحيح الذي به تقاس الثورة. إذ لو كان الأمر يقتضي مجرد زيادة في الأجور وفي وجبات الطعام، لكان على حد تعبير (جيفارا) مع تصرف قليل في كلماته ... لكان استعمار جديد له نصيب من الذكاء أقرب إلى النجاح بالمعنى الثوري المنحرف. ولقد كان الشعب الجزائري الثائر، على إدراك تام لقضيته، عندما قال: ((لا))، في استفتائه على مشروع قسنطينة، الذي كان يمنيه ويعده الاستجابة لكل ما قد يكون له من رغبات مادية. فثورة ما لا تستطيع بناء وضع جديد والحفاظ على مكتسباتها إلا إذا كان أثره في تصفية الاستعمار، فعالا في تصفية الإنسان من القابلية للاستعمار، فتصفية الاستعمار في الإنسان تشرط تصفيته في الأرض ويجب أن تتقدمها.

ولا يمكن لنا أن نفهم معنى فاتح تشرين الثاني (نوفمبر) 1954 بصفته بعثا وتحريرا للإنسان إذا غابت عن أذهاننا عملية التلويث، التي عاناها الإنسان الجزائري طيلة قرن ونصف. ففي هذه الحقبة الطويلة من الزمن كان على الإنسان أن يحتقر نفسه وأن يتحلى بألقاب (أنديجين) .. كي يتناغم مع وضع استعماري لا شفقة فيه. والمثقف في الجيل السابق كان يطالع جريدة (صوت الانديجين) وجريدة (صوت المحتقرين)، وإذا تعين عليه أن يكتب شيئا فموضوعه يتحدد في ذهنه بقابلية للاستعمار، وكذلك المثقف الجزائري الذي نشر حوالي عام 1925 كتابا عنوانه (يا ألله)، وأردف هذا العنوان بعنوان آخر يفسره ((أو كيف يأمر الأوربي (الانديجين) حتى يطيعه)). لعل هذه العبارة تكفي دليلا على سمو العواطف عند صاحبها، أليس كذلك؟. ولم تكن هذه البضاعة السخيفة ليحتكرها مثقفون، بل نجد هذا النوع من أدب العبودية منتشرا في أرجاء العالم الثالث، وفي إندونيسيا منه عينات نقل بعضها (ريدشارد قرقايط) في كتابه عن باندونج. فأينما حل الاستعمار كان يلوث الإنسان، حتى أصبحت تصفيته من رواسب الاستعمار، أهم عمل ثوري في الثورة. فلا غرابة إذن في أن الذين كانوا في فرنسا يعرفون عن العامل الجزائري صورة هزيلة، يكتشفون له بصورة مفاجئة صورة تفرض التقدير والاحترام عندما اندلعت الثورة. لقد لعبت الكلمات نفسها دورا في هذا التعبير، فبمجرد أن كان الجزائري يلقب (بالمجاهد)، كان وكأنما ألغى من ذهن الآخرين صورة (الانديجين) الحقير، حتى قبل أن يطلق أول رصاصة في الجبل.

فبمجرد ما يلقب (بالمجاهد)، كان في طفرة واحدة، يصبح البطل الواعي المدرك لعظمة تحديه للقوى الهائلة التي أمامه. وإذا تغيرت الكلمات بطريقة عكسية أو غيرت في اتجاه آخر، فإن أثرها في بعث الإنسان سيتأثر قطعا بسبب ذلك. لقد حدد الدكتور خالدي، بطريقة موفقة، أهمية الكلمات من حيث مدلولها الثوري، ويجب أن نقدر أهميتها من الناحية النفسية؛ إن الكلمات تعين مواقف أيديولوجية محددة. فإذا غيرناها فالتغيير لا يعتري فحسب (لغة) الثورة بل إنه سيصيب (روحها) وربما يغير الموقف الثوري نفسه. فإذا تنازل الثوار عن لقب (المجاهد) فسرعان ما سوف يظهر في سلوكهم الانحراف، الذي كان يعتريهم عندما كانوا في الخدمة العسكرية في جيش الاستعمار. يجب على الثورة أن تحافظ على صفاء (لغتها) حتى تحافظ على قدرتها على تغيير الإنسان. إن بعض الإباحيات في اللغة- وقد يعدها أصحابها من الإقدام الثوري- ليست إلا خيانات للثورة في موضوعها الأساسي وهو تغيير الإنسان. فإذا ما تحدث بعض المخنثين عن (التحرير الجنسي) مثلا فكلماتهم لا تعبر عن شيء سوى هبوط في الطاقة الثورية. وليس من العبث أن يعزو (سفر التكوين) في العهد القديم سائر العوامل التي مزقت وحدتهم وفرقتهم، إلى البلبلة التي حدثت في لسان القوم. وقد أوضح بذلك أثر الكلمات على مصير البشر.

على أية حال، فالثورة لا تستطيع الوصول إلى أهدافها، إذا هي لم تغير الإنسان بطريقة لا رجعة فيها من حيث سلوكه وأفكاره وكلماته. وإذا ما نظرنا إلى الأمور في عمقها، فإن ثورة ما، لابد لها أن تسير طبقا للقانون الاجتماعي الذي تشير إليه الآية الكريمة: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 12/ 13] ***

العامل الجزائري في فرنسا

العامل الجزائري في فرنسا عن (الثورة الإفريقية) تشرين الأول (أكتوبر) 1965كتبت بمناسبة تأسيس (ودادية العمال الجزائريين في أوربا). من الأشياء ما لا تدركه بالكلمات، إنما تدركه بالتذوق. وليس يكفي، كما يقول الغزالي، أن تقول هذا حلو إذا لم تتذوق طعمه، فمن ذاق عرف. والعامل الجزائري في فرنسا من تلك الأشياء التي لا يدركها المرء بمجرد الكلمات. فهلا سافرت من الجزائر إلى مرسيليا على عنبر سفينة أو متخفيا في مخزن فحمها. وهلا نزلت في غبش ذات صبيحة في محطة ليون في باريس، دون أن تكون لديك فكرة عن طعامك ذلك اليوم؟؟ وهلا جُزت شوارع باريس على الأقدام، دون أن يكون لك فلس تركب به المترو، تبحث عن عمل؟! وهلا وقفت ساعات لا تنتهي في صف طويل أمام شباك التشغيل؟ وهلا دفعت براميل ثقيلة على رصيف مصنع ثماني ساعات في اليوم، أو أفرغت شاحنات ضخمة سحابة النهار حتى تفسخ جلد كفيك؟!

هلا قضيت ليلك في المصنع، ثم خرجت في البكور مكبا على وجهك كأنما ظهرك قد انقسم نصفين، وكأنما عضلاتك لم يبق منها شيء، وقد التصق قميصك بجلدك من العرق؟. إنك إذا كنت كابدت شيئا من ذلك فأنت تعرف القضية. ولسوف تدرك أحلام الذين يذهبون هناك ثم يعودون بخفي حنين بعد إقامة قصيرة غير مجدية، أو يبقون في باريس يتعرضون للأمراض والتدهور الأخلاقي والإجتماعي الذي يتهددهم. ولسوف تدرك أيضاً ما يبذل هؤلاء الذين بقوا هناك من جهد ليسلموا من أخطار تحدق بهم، وليجدوا لأسئلة تؤرقهم أجوبة تستشفها عقولهم. أجل ... إنك إذن ستدرك هذا كله دون كلمة أو نصف كلمة لأنك ذقته، لأنك عشت في لهبه، وكرعت من حوضه!!. فالكلمات لا تستطيع سوى أن تخط حول هذا الموضوع خطا أسود يشير إلى محتواه الإجتماعي والسياسي. أما هؤلاء (المتعطرون) الذين يتحدثون عن (الشروط الموضوعية) للعمل، وهم ينعمون على سطح مقهى من المقاهي الفخمة، فهؤلاء لا بد أن تكم أفواههم حتى لا يدنسوا بكلماتهم موضوعا كهذا. وقبل هؤلاء، ينبغي أن تكم أفواه أساتذتهم الدجالين الذين لم يتعرفوا على الجماهير الكادحة، إلا في تلك القاعات الفسيحة حيث كانوا يأتون قبل الثورة، يعللون آمالهم- (فالجزائر لا ييئس أبدا من رحمة الله) - بكلمات خلابة حتى يجمعوا تبرعاهم في كل شهر. ومهما يكن من أمر، فنحن اليوم أمام وضع معين علينا أن نباشره بحكمة.

فالجزائريون الذين يعيشون في فرنسا يكونون طائفة من المغتربين يبلغ عددهم سبع مئة ألف نسمة. وهذا العدد وحده، يعبر عن أهمية قضية تتطلب تحقيقا نعرف به كيفية توزيع هؤلاء المغتربين على الخريطة الفرنسية، ولعله من ترف القول أن نشير بأن أحدا سوى الإدارة الفرنسية لم يعتن بهذا الأمر. على أننا نستطيع على وجه التقريب، أن نتصور التوزيع الجغرافي هذا، وقد تكون عبر السنين حول مراكز تقليدية ثلاثة: باريس، مرسيليا، ليون. يضاف إلى ذلك ما استوطن من الجزائريين حول مناجم الفحم في الشمال، وحول مناجم الفحم شرقي البلاد. هذه المراكز تكون النقاط الأساسية لخريطة إسكان الجزائريين في فرنسا. ثم لا بد من ملاحظة عامة أخرى، فسكان فرنسا من الجزائريين صنفان من السكان: صنف يغدو إلى فرنسا ويروح إلى عائلته في الجزائر. وصنف استقر نهائيا في مكان عمله. وحينما نميز هذين الصنفين لا نعقد بينهما نسبة عددية لأننا نفقد إحصائية دقيقة تسمح بذلك، وإنما نريد فحسب لفت النظر إلى نوع المشكلات الخاصة بكل صنف. فالعمال الجزائريون المستقرون في مكان عملهم يكونون بطبيعة الحال مجتمعا فيه الأطفال والنساء والرجال والشيوخ، بمعنى آخر مجتمعا يطرح سائر المشكلات التي يواجهها وطن ما من تربية أطفال ورعاية أسرة أدبيا وطبيا، وزواج ودفن أموات، وإحاطة أفراده بإطار ثقافي معين.

أما بالنسبة للصنف المترحل عن مكان عمله، فالمشكلات تأتي على درجة الحاجة العاجلة: المأوى، العمل، الضمان الإجتماعي للعامل الذي لم يجد بعد عملا، الإطار الثقافي الذي ينبغي وضعه فيه ليستفيد من الإمكانيات الثقافية الموجودة في مكان العمل، أو الموجود في الوطن الأم في نطاق ما يسمى (التربية الشعبية). بعد تعداد المشكلات الخاصة بكل صنف من الصنفين اللذين ذكرت، هناك المشكلة المشتركة بينهما، وإنها لمشكلة ملحة، والسؤال الذي نطرحه الآن يدلنا على درجة إلحاحها ... فهل تستطيع الجزائر أن تزهد وتضيع بالتالي سبع مئة آلف من آبنائها؟. هذا السؤال ينتج عنه سؤال آخر، ماذا تبذل الجزائر كي تمسك في أحضانها هذا العدد من أبنائها ... ؟. قد يتبين للقارئ هنا أننا لا نقدم حلولا، بل نطرح مشكلات نراها في منتهى الخطورة. ولكي نعطيه فكرة عن تفصيل من تفاصيل القضية فليسمح لي أن أذكر ما سمعته من امرأة ... من أم جزائرية عام 1954. لقد كانت المرأة هذه ترى، والأسى يفتت قلبها، أن أطفالها لا يجدون في المدرسة التي يترددون عليها في باريس، أية معلومات عن تاريخ بلادهم، ولا أي توجيه ثقافي يتلاءم مع عادات وتقاليد الوطن، ولا أي شيء يربطهم بمصيره، لقد كنت في تلك الفتر، قبل الثورة بقليل، مهتما بأمر يشغل بالي؛ ففي باريس كانت ولا تزال المشاريع ذات الطابع الإجتماعي والإنساني، وهي جديرة بأن تقدم على الفور بكل نزاهة الجواب الذي كانت الأم الجزائرية تنتظره مني إذا قصرنا سؤالها على مجرد تكوين أولادها مهما كانت الطريقة.

لكن جوابا كهذا ما كان له أن يلي رغباتها بوصفها أما جزائرية. فقد كان أي مشروع جزائري جدير بتلبيتها لو كان موجودا إذ ذاك، غير أن منظماتنا الوطنية لم تكن تفكر في إيجاده، إذ كانت تفضل الظهور على المنصات، على القيام بأعمال متواضعة لا تلفت النظر. لقد كان من المحتمل أن يناهز عدد الأطفال الجزائريين في تلك الفترة- قبيل الثورة- ثلاثين ألفا في باريس وضاحيتها. فسؤال الأم الجزائرية لم يكن فاقد الأهمية، في وسط توجد فيه عند كل باب سائر وسائل التعليم والتكوين المهني، لقد كان يدوي في ذهني دويا كبيرا. إن ثمة معجزة في متناول أيدينا، لو شئنا تحقيقها: لكنا نستطيع خلال سنوات معدودة تجهيز الوطن (وهو مقبل على الثورة) بثلاثين ألفا من الفنيين من كل نوع. وإنا لندرك ونحن أمام مشكلات البناء، قيمة المعجزة التي فرطنا بها. لماذا لم تتحقق، وقد كانت الأسر الجزائرية مستعدة للعطاء ولم ينقطع سخاؤها في أبواب الخير، بل كانت مستعدة لدفع كل ما تستطيع لكل من يريد القيام بتوجيه أطفالها. فلا يجوز إذن أن نعزو الفشل إلى أسباب مادية، بل إلى أسباب فكرية ونفسية. لقد درست فعلا القضية عن كثب، ووضعت في ذهني خطة بسيطة لمواجهتها. وهي مواجهة لم تكن تتطلب إلا بعض التضحية والمبادرة من زعماء حركاتنا الوطنية في باريس. ويجب أن نقول اليوم إن القضية لا زالت قائمة، غير أن الظروف تبدو أيسر في مواجهتها من ناحية، ومن ناحية أخرى أشد عسرا.

فهي عسيرة؛ إذا قدرناها بالنسبة لعدد الأطفال الذي لم ينقص بل تزايد في العقد الأخير، ولأن الوضع السياسي قد تغير بالنسبة إلى آبائهم. وهي يسيرة: لأن القضية لم تعد رهينة منظمات كما كانت قبل الثورة، بل أصبحت بين أيدي الدولة الجزائرية، ولا نتصور أن الدولة ستزهد بسبع مئة ألف من المواطنين. إننا ننتظر من الدولة أن تحرر العامل الجزائري في فرنسا، من أولئك المشعوذين الذين يبتزونه، كما استغل أخاه في الوطن الموظف وشيخ الزاوية. ولا ينحصر دور الدولة الجزائرية في الجانب السياسي والمادي من القضية بل ينبغي أن تعالج الجانب التربوي أيضاً. ينبغي أن تعنى الدولة بوضع العامل الجزائري في فرنسا، حتى لا يذهب إلى مكان عمله بأخلاق تسيء إلى سمعة الوطن، أو يعود إليه بسلوك يسيء إلى مجتمعه. إن المشكلة لا تتطلب مجرد الموقف النظري، ولا مجرد المواقف الخيرية. إنها جديرة بكل اهتمام ودقة. ***

معالم على طريق الحركة النسائية الجزائرية

معالم على طريق الحركة النسائية الجزائرية عن (الثورة الإفريقية) عدد 267 في28 من شهر آدار (مارس) 1968. هكذا كان القوم، في الجاهلية كما كان بين أهل الكتاب قبل الإسلام لا قيمة للمرأة، حتى إن العهد القديم لا يعترف بأن لها روحا. لم يكن أحد ليعبأ بفضيلة المرأة ولا برذيلتها، فزياد بن أبيه والي العراق في زمن معاوية، يفخر بأبيه أبي سفيان ثم لا يخجل من أمه وقد ولدته على فراش السفاح بالطائف. ولقد جاء الإسلام فغير الأوضاع لم النفسية البدائية هذه. ونحن نلمس هذا التغيير، في حوار يدور حول ذلك المنعطف المؤسف للتاريخ الإسلامي في السنوات الأخيرة من خلافة عثمان رضي الله تعالى عنه. لم يكن لهذا الخليفة- كما نعلم- شكيمة عمر ولا حكمة أبي بكر، رضي الله عنهما، فكان لذلك يتأثر برأي أهله كمروان بن الحكم، الذي كان مستشاره الأول، وقد ورط سياسته في الأثرة والمحسوبية، ولم يجد بعض الصحابة الأجلاء بدا من انتقاد هذه السياسة. وهكذا أصبح عثمان- ذلك الوجه الكريم من وجوه صدر الإسلام- يواجه موجة الانتقادات هذه وقد بلغت أوجها على لسان أبي ذر الغفاري.

وهذا حوار آخر نشير إليه ولم يكن غريبا في تلك الظروف، كان يدور بين الخليفة عثمان رضي الله تعالى عنه وبين عمار بن ياسر الذي أصبح يوجه أيضا نقدا حارا لسياسة الخليفة، واحتدم النقاش بينهما احتداما جعل الخليفة يرمي عمارا بقوله: يابن سمية! ... هذه الكلمة كانت في الجاهلية كفيلة بأن يَسلّ من رُمي بها سيفَه ليقتل أو ليموت اقتصاصا لشرفه، لكن عمار بن ياسر على العكس من ذلك قد رد بكل هدوء: - أجل يا أمير المؤمنين! إنني ابن سمية!. لم تكن الكلمة لتعبر عن التغيير العميق في النفس الجاهلية فحسب، فلقد كان لعمار بن ياسر الحق بأن يفخر بأمه سمية رضوان الله تعالى عليها. فمن هذه المرأة؟ لنترك للسيرة النبوية الجواب على هذا السؤال: كانت الدعوة في بدايتها تدوي في أرجاء مكة، فتذود قريش عن أصنامها ومصالحها الدنيوية، وأضحى الذي يعتنق الإسلام يذوق من قريش أنواع الأذى وأصناف التعذيب. ودقت ساعة الشهداء حينئذٍ كما دقت من بعد الهجرة ساعة الأبطال. كانت بمكة ساحة المعذبين والشهداء، وهي تشبه ساحة (دو جريف Degréve) بباريس أثناء الثورة الفرنسية، مع فارق هام هو أن الوضع معكوس هنا.

ففي ساحة مكة كان الجلادون ضد الثورة، والمعذبون كانوا شهداء الثورة التي سميت الإسلام. وفي يوم حين كانت شمس الضحى ترسل على الأرض أشعة ملتهبة تجعل الرمل كرماد الفرن، وكل حصاة في الأرض كحجرة متقدة، ها هو ذا النبي صلوات الله عليه وأزكى التسليم، يمر بساحة التعذيب فيرى ما يستوقفه: لقد كانوا يعذبون آل ياسر. إن ياسرا لم يكن من بطن من بطون مكة، ولكنه أتى إليها مع أخوين له، يبحثون عن أخ لهم رابع لم يجدوه، فقرر الإخوة الرجوع. إلا أن ياسرا آثر البقاء بالمدينة القرشية، وكما جرت عادة القوم فقد والى أحد بطونها من بني مخزوم فزوجوه من أمة لهم إسمها (سمية). كان عمار أول من أنجبته سمية لياسر، وأصبح، وهو شاب اخضر شاربه، من المسلمين الأوائل، ثم جعله الله سببا لهداية والديه للإسلام، فاهتدت سمية واهتدى ياسر. لكن الإبتلاء الذي كتبه الله على أولئك المسلمين الأوائل كان قد ابتدأ، وهكذا سيق ذات يوم ياسر وآله إلى ساحة التعذيب. واتفق للنبي، - صلى الله عليه وسلم -، أن يمر بالساحة فاستوقفه المنظر المؤلم، وهو يرى ما انصب من عذاب على أصحابه فقال صلوات الله عليه: - طوبى لكم آل ياسر، إن موعدكم الجنة! وسكت لحظة .. كأنما عليه الصلاة والسلام يتحسس ثقل الرسالة التي شرفه الله بها، ويستشف معناها الحضاري. ثم قال:

((والله ليتمن هذا الأمر حتى تسير الظعينة من مكة إلى صنعاء، وعلى رأسها طبق من ذهب لا تخشى إلا غائلة الذئاب)). وزهقت أرواح سمية وياسر، الطاهرة ذلك اليوم، ورحلت من الدنيا لتلتقي في الجنة، كما وعدهم الرسول الكريم. فسمية هي هذه المرأة!. من هنا ندرك كم كان ابنها عمار فخورا يوم نودي باسمها فقال للخليفة: - أجل أنا ابن سمية، يا أمير المؤمنين. إن كل قضية جليلة تضع بصماتها في مصير الإنسانية وتترك صداها في التاريخ، ترسم على مركب الزمن وجوها كريمة تمثلها. ووجه المرأة ليس أقلها بروزا ووضوحا، بل قد تجد في أنوثته الخاصة لونا مثيرا ومؤثرا لا تجده في غيره. وليس من العبث أن الشعوب تحفظ بحنو، ذكرى امرأة تقمصت في لحظة ما، قضية وطنية مثل (جان دارك)، أو خلصتهم من طاغية مستبد مثل (شرلوت كورديه). ولربما عفّى الزمن على بعض الوجوه، حين يطوي التاريخ أحد صفحاته ويبدأ في كتابة أخرى. فنحن لا نعرف الكثير عن تلك الفارسة، الكاهنة بطلة مرتفعات الجزائر، قبل الإسلام، التي قامت فيما يبدو بدور مزدوج: فقد كانت البطلة التي قادت حركة المقاومة في وجه عقبة بن نافع، وكانت من ناحية أخرى الأم التي فتحت ضمير أولادها للإسلام. والأمر المؤكد أن اسمها لم يمح من ذاكرة الناس، وعلى الرغم من تآكل الحجر في دائرة البئر من فرط ما جرت الحبال عليه تسحب الماء للأجيال الغابرة، فما

زال الجيل الحاضر، الذي يرد ماء البئر ويورده قطعان الغنم، يسميه (بئر الكاهنة) على بعد 80 كيلومتر جنوب مدينة تبسة. وبعد جيل الكاهنة بكثير ها هي ذي امرأة جزائرية أخرى، (لاله فاطمة تسومر) (1)، تنزل من جبال الجرجرة على رأس كتيبة من المجاهدين لقبوا (المسبلين) لأنهم باعوا أرواحهم في سبيل الله تقف في وجه الإستعمار أيام الإحتلال. إنها وجه آخر كريم نقش على لوحة تاريخ الجزائر، وكم يكون مجديا أن نعرف أكثر من هذا الموجز عن حياة البطلة الكبيرة. ولعله ينهض من المثقفين الجزائريين من يعيد هذه الصورة إلينا حتى لا يطمسها الدهر. ولعل عملا كهذا سيجد أمامه مادة غزيرة، لا سيما أن الثورة نقشت على لوحة التاريخ وجوه نساء كثيرات من اللائي عشن ومتن في سبيل الواجب والشرف، كـ (فضيلة سعدان) التي حصدتها، ذات يوم، في أحد شوارع قسنطينة رشاشة، ولكن بعد أن أذاقت قوم الجنرال (ماسو) الخزي والمرارة فترة طويلة من الثورة. هكذا نجد الثورة قد دفعت الحركة النسائية إلى الأمام، لكنها ما تزال حركة فتية، لها من الشباب حيويته وإقدامه، لكن شبابها قد يعوقها إذا أهملنا شأنها ولم نراقب نباتها كما ينبغي. لابد إذن أن نطرح منذ الآن مشكلة (إنباتها) حتى لا نغرس جذورها أينما كان وكيفما كان. فهناك أسمدة تعين على إنبات النبات الطيب. وهناك مزابل لا ينبت فيها إلا النبات العفن.

_ (1) (لاله) كلمة تستعمل في المغرب الغربي لقب تعظيم للمرأة ذات الشأن.

وإني أتذكر هنا وصية النبي - صلى الله عليه وسلم - للشاب الأنصاري الذي كان يريد الزواج فأوصاه صلوات الله وسلامه عليه بحسن الاختيار ثم قال له: ((إياك وخضراء الدمن)). على حركتنا النسائية أن تختار إذن لغرس جذورها، تلك التربة النقية الطاهرة التي أنبتت (سمية ولاله فاطمة تسومر وفضيلة سعدان). وعندما أقول هذا، لا أرى في اختياري قضية ذوق وإنما ضرورة إجماعية ملحة. لأن الخطأ يتسرب غالبا إلى الحركات النسائية حينها تُنَشَّأ كيفما كان منشؤها على أنها حركات مطالبة، أو بالأحرى مرافعة ضد المجتمع ثم يأتي من يأتي ليؤيدها في ذلك. وكثيرا ما يكون التأييد مغرضا، كما يبدو في جناح الصحافة الفرنسية الذي أصبح مروجا، عندنا لنظرية (حركة نسائية) أطلق عليها صديق يعرف المزح والتهكم لقب (نظرية الفضيلو مرابطسم) (1). ينبغي أن تطبع حركتنا النسائية بطابعنا لا بطابع ما يصنع في الخارج؛ وعلى أية حال فالمرأة ليست كائنا يعيش وحده ويطرح مشكلاته على هامش المجتمع، إنها أحد قطبيه وقطبه الآخر الرجل. ولا ينبغي لنا أن نتصور قطبا ينفصل عن الآخر، ولو حدث هذا، بفرض لا يتصوره العقل، فالمجتمع نفسه يتبخر. ...

_ (1) كتب أخي الدكتور خالدي رحمه الله أكثر من مرة بطريقته الساخرة ردا على ما كتبته فضيلة مرابط في الموضوع وعلى تأييد بعض الصحافة الفرنسية لها.

وزن الوقت

وزن الوقت عن (الثورة الإفريقية) عدد 248 شهر تشرين الثاني (نوفبر) 1967. شاهدنا على شاشة التلفزيون مقطعين من شريط عن الإتحاد السوفيتي: كان المقطع الأول يعرض الصعوبات التي واجهها لينين والثورة تدور رحاها، فتضطره للخضوع إلى الشروط المخجلة التي فرضتها هدنة (بريست ليتوفسك) (1) عليه، فقد قبل هذه الشروط، على الرغم من رياح المعارضة في صفوفه وعواصفها، إذ كان يمنح الأولوية لتنظيم وإنقاذ ثورة لم ترس بعد جذورها في أرض روسيا وفي روح الفترة تلك. أما المقطع الثاني فكان في غزو الفضاء والمكاسب الأخيرة التي حققها الرواد السوفييت. وفيما نحن نتابع بعض ما تضمنه هذا المقطع من طفرة عجيبة حققها مجتمع انتقل من عهد (الموجيك)، إلى عهد الإنسان الذي يغزو الفضاء بنجاح، إذا بصرخة تطلقها طالبة طب من أهلي كانت بجنبي: - مع أن خمسين عاما من الزمن شيء قليل! هكذا قالت طالبة الطب. وتذكرت حينئذ مقطعا من كتابي (شروط النهضة) أكتبه كما أذكره:

_ (1) هي الهدنة التي أوقفت حالة الحرب بين روسيا وألمانيا سنة 1917.

((إن الزمن نهر قديم يعبر العالم، ويروي في أربع وعشرين ساعة الرقعة التي يعيش فيها كل شعب، والحقل الذي يعمل به، ولكن هذه الساعات التي تصبح تاريخا هنا وهناك، قد تصير عدما إذا مرت فوق رؤوس لا تسمع خريرها)). إننا إذا قسنا الزمن بمقياس الساعات التائهة، فالقرن لا يساوي شيئا، بل حتى ألف السنة لا تساوي شيئا. ولعل الطالبة التي صرخت بجنبي تشعر بذلك ولو شعورا غامضا. أما إذا قدرنا الزمن بمقياس (تايلور) فإن كل دقيقة لها وزنها، الذي يكون معه للسنوات الخمسين التي مرت على الثورة السوفييتية ثقل هذه الدقائق المنتجة، والتي أتاحت لمجتمع معاصر لنا أن ينتقل من عهد (الموجيك) إلى عهد (رواد الفضاء) في برهة من الزمن جد قصيرة. وحين ترى الشعوب النامية، بصورة من الصور، تجربة تيلورية حية فسوف تدرك أن حتمية التاريخ لا وجود لها، وبعبارة أدق فإن حتمية التاريخ تصبح في قيد الإنسان وتحت رقابته. فالتاريخ ليس ما تصنعه الصدف ولا مكائد الإستعمار، ولكن ما تصنعه الشعوب ذاتها في أوطانها. كنت في مقال سابق قد ذكرت حديثا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحذر المسلم فيه من كل استسلام للأمر الواقع، وأنا أكرره هنا دفعا للشك والريبة اللذين ربما ساورا ضمير المسلم. يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنما هي أعمالكم ترد إليكم، كما تكونوا يولّ عليكم» فإذا أصبح ابن (الموجيك) عالم فيزياء يكشف عن آخر أسرار الذرة، أو رائد

فضاء يغزو مجاهله، فإنما هو العمل الدائب لمجتمع جند طاقاته كلها طيلة خمسين عاما. وإذا كان للشعوب النامية درس يستفاد منه في العيد الخمسين الذي أقيم هذا الشهر في موسكو، فإنما دلالته في الكشف عن قيمة الوقت بصفته عامل نهوض وتقدم. ولو سمح لي أن ألخص وجهة نظر عبرت عنها منذ ربع قرن لقلت: إنه ليس من الضروري ولا من الممكن، أن يكون لمجتمع فقير، المليارات من الذهب كي ينهض، وإنما ينهض بالرصيد الذي لا يستطيع الدهر أن ينقص من قيمته شيئا، الرصيد الذي وضعته العناية الإلهية بين يديه: الإنسان، والتراب، والوقت. ***

الفصل الثالث في السياسة

الفصل الثالث في السياسة . السياسة والأخلاق . السياسة والأيديولوجية . السياسة والثقافة . السياسة وحكمة الجماهير . السياسة والبلوتيك

السياسة والأخلاق

السياسة والأخلاق عن (الثورة الإفريقية) عدد 137 أيلول (سبتمبر) 1965. ((والعلم بغير ضمير ليس إلا خراب الروح)). هكذا كان (رابليز) يقول في غرة القرن السادس عشر ولم يكن يدري - وهو يدلي بهذه الكلمات إلى ثقافة الإنسانيات، وهي حينذاك في المهد- أي تقلبات ستتعرض لها هذه الحكمة وتلك الثقافة. لكنه منذ تفجر الفكر (الكرتزائي) في القرن الذي بعده، أصبح من اليسير التكهن بالاضطرابات الداخلية، التي ستعترض ثقافة حولت عن مجراها وفصلت عن أصولها، وأصبحت تسيل في المجرى العلماني الذي سيقودها إلى موضوعية (أوغست كونت)، وبالتالي إلى المادية الجدلية التي تمخض عنها (ماركس). ويبلغ الانفصال غايته في نهاية القرن الماضي، عندما زعم العلم بعد اكتشافاته المبهرة في ميدان البخار ثم في ميدان الكهرباء، أنه يستطيع وحده الاضطلاع بسائر المسؤوليات في العالم، وعندما اعتقدت، بكل بساطة، البلاد المتحضرة بأنها تستطيع أن تؤمنه على مصيرها، فورطت، بفضل تفوقها الفكري، الإنسانية كلها في هذا الاعتقاد الساذج. منذ تلك اللحظة أصبح العلم يسير على طريق، والأخلاق على طريق آخر. فالأول: زادت كل خطوة في كبريائه وشموخه، والثاني: زادت كل

خطوة من انحناء رأسه، وأحيانا بفعل الكلمة الجارحة التي يطلقها الطرف الأول. فعندما يكتب (برودون) كتابه (فلسفة الفقر) ليبين فيه مأساة الإنسانية الجائعة، يقذفه ماركس بكتابه (فقر الفلسفة) ليرد المأساة إلى بعد واحد يدمج فيه الاقتصاد والعلم. لقد كانت هذه (القذيفة) علاقة الزمن، علاقة تشير إلى الزمن الذي نعيشه الآن، حتى إن أحد معاصرينا من العالم الثالث، ولعله كان يخشى ألا يظهر بالمظهر العلماني البعيد عن الأخلاق، يكتب في الموضوع هذه الكلمات: ((فعندما نشيد بالأخلاق فكأنما نشيد بالأخلاقية وبالفقرانية))!! فصياغة هذه الكلمات نفسها، تدل على أن الانفصال أو الطلاق بين العلم والمضير قد أصبح شائعا في المجال الذي تغطيه ثقافة القرن التاسع عشر العلمانية، كما تدل على الاتجاه الذي يتسع فيه هذا الانفصال. ولو شئنا تلخيصا يوضح الموضوع لقلنا: إن العلم يزعم أنه يستطيع أن يحتل الجامعات، والمختبرات، والمصانع، ويترك للأخلاق مجال الرواسب التي صنعها هو، والتي تكدست حول المدن الصناعية أو في تلك المدن من صفائح القصدير، يسودها الفقر المدقع وهي تحيط بالمدن الكبيرة في العالم الثالث. ويريد العلم، أن يمثله الرجل الذي يستيقظ في الثامنة صباحا ويذهب إلى عمله في سيارته، وفي يده أو تحت إبطه محفظته الفخمة، ويترك للأخلاق أن يمثلها الرجل الذي يستيقظ في السادسة صباحا ويذهب إلى عمله سيرا على الأقدام أو على دراجة وغذاؤه في كيس من الورق. ولا مرد لهذا!! .. فكلما تحطمت وحدة الإنسان إلى جزأين: واحد يسمى الكائن المعنوي، والآخر الكائن الموضوعي .. فإن الأمر سيؤول إلى تجزئة الأمة، وبالتالي وبإطراد سريع، إلى تجزئة الإنسانية.

ويتفشى الوضع هذا حتى في العلاقات الإقتصادية بين الدول المصنعة والدول النامية. فالعلم إذا تجرد من الأخلاق فإنه يجر حتما إلى وضع اقتصادي مناقض للأخلاق، سواء كان ذلك في الإطار الوطني أو الإطار الدولي. ومما تجب ملاحظته هنا، أن الاقتصاد ليس سوى إسقاط البعد السياسي على نشاط إنساني معين. فبقدر ما تبقى السياسة مرتبطة بمبادئ أخلاقية معينة، يبقى الاقتصاد وفيا للمبادئ ذاتها. فهذه المشكلات يرتبط بعضها ببعض، وليس من الصدفة أو من مجرد وحي استوحاه من الحياة في أثينة، إذ كتب أرسطو كتابه (في السياسة) من أجل اسكندر الأكبر، وكتابه (في الأخلاق) من أجل (ينكوماك) بل إنه إنقاذ لدافع داخلي وجده في روحه بوصفه إنسانا. وإذا نحن بعد ألفي عام، نرى ماركس يرد على (برودون) بشيء من التعالي والسخرية. وتلك لحظة من لحظات حياة الفكر الإنساني الكبرى، تعبر عن الانفصال الذي مزق تلك الروح. أجل إن العلم والمضير تطالقا في عالم تسوده حرب طاحنة بين أخوين: الرأسمالية والماركسية، على الرغم من أنهما من نقطة واحدة. بعد أن كانت تسود هذا العالم منذ بداية تاريخه علاقات يطبعها الإخاء والسخاء حسب كلمة ماركس نفسه. و (خراب الروح) الذي أشار إليه (رابليز) بدأ يعلن أثره في الحياة الأخلاقية، في الإطار الوطني والدولي على السواء. ولكن الروح يحتفظ- بفضل ما أودع فيه من نزعة التمسك بجوهره- بوحدته، كما تحتفظ الحياة البيولوجية بكيانها بفضل النزعة إلى البقاء.

وإذا كانت لحظات (إينشتين) الأخيرة- وهو كما يقال عنه قمة الفكر الإنساني في القرن العشرين- إذا كانت تلك اللحظات، قد تركزت في محاولة مستميتة للإلمام بالكون في معادلة واحدة، فإن هذه المحاولة إذا فقدت جدواها في المجال العلمي الصرف، فإنها عبرت عن انطلاقة الروح نحو الوحدانية تشعر بها في وحدتها. وبالتالي، وبنتيجة لعلها غير مقصودة، كانت المحاولة من أجل رتق الخرق الذي أحدثته العلمانية بين العلم والضمير. على أية حال، فإننا نستطيع بعد تجربة قرن كامل، أن ندرك أن العلم لا يستطيع وحده بوسائله الخاصة إصلاح ما أفسده هو. ولعلنا نستطيع على الأقل، تقويم هذا الفساد وتقدير ثقله في التاريخ من خلال حربين عالميتين. فحينما حدث في أوربا مع أفكار ديكارت، التمزق الأول في الثقافة، بدأ الانحراف الأخلاقي يؤدي إلى حتمية الصراع الطبقي، وإذا كان من واجب المرء - خصوصا في بلدان العالم الثالث- أن يكون إلى جانب المستغلين المستضعفين، فإن ذلك لا يمنعه بكل حال أن يرى خطورة المحتوى الأخلاقي لصراع يؤدي إلى انفصام وحدة الأمة والمجتمع، وفقا لما تمليه مصلحة المتنعم (البرجوازي) من ناحية، ومن ناحية أخرى مصلحة المحروم (البروليتاري). فهذا الصراع لم يوقظ، في نهاية الحساب، الضمير عند الفريقين أو عند أحدهما. وإنما أيقظ فيهما كليهما (الضمير الطبقي) وهو يضفي على صراعهما طابع فقدان الأخلاق أو مناقضة الأخلاق، فالأول يريد مزيدا من الذهب في خزينته، والثاني يريد مزيدا من اللحم في بطنه. وكلاهما بمقتضى تعاليم ايديولوجيته يتطلع إلى الاستيلاء على السلطة. ففي صراع بين مصالح مادية صرفة، (والصراع الطبقي ليس سوى ذلك)

لا يبدو المستضغف نفسه إلا في مظهر الحاقد الضعيف، ينتظر دوره لينتقم من خصمه بمثل ما انتقم منه. هذا في نطاق الأمة. أما إذا نظرنا إلى نتيجة الانحراف الأخلاقي في أقصى مداه، فسوف نجد البرجوازي والبروليتاري الأوربي، حليفين تجاه الإنسان المستعمر، وهكذا تتمزق وحدة الإنسانية. لكن خمائر التجزئة والتفرقة لا تؤدي مفعولها على الصعيد الاجتماعي والمعنوي فحسب، بل إن الطلاق بين العلم والضمير يؤدي إلى نتائج أخرى على الصعيد الفكري بالنسبة للفرد الواحد. وإذا كان من نتائج هذا الطلاق الفلسفي، ظهور موضوعية (أوغست كونت) ومادية (ماركس)، فإن رمزه الحي، ذلك المثقف الذي يلقب نفسه أو يلقب بـ (الفكر الموضوعي). ومن أغرب الموافقات أن سائر المظاهرات المطالبة بالحقوق في العالم ذات وجه واحد ولغة واحدة. خطبهما متشابهة، تتناول دائما موضوع (الشروط الموضوعية)، وبهذه العبارة بالضبط يعرف (الفكر الموضوعي) كأنما لغته في أي وطن مصدرها واحد، إنها اللغة التي تسم القرن العشرين، بصفتها مقياسا يصلح في كل مكان، وإذا لم تستعمل هذه اللغة فيما تقول أو تكتب، فأنت غير (تقدمي)، بل أنت (رجعي) طبقا لمقاييس هذه اللغة. حتى إنك ستضطر لترد التهمة إلى طرح السؤال ما هو محتوى (فكر موضوعي)؟. لنقل أولا في أي صورة تراه عينانا: إن لنا في الجزائر عينات تمثل هذا الصنف، نراها في ركن من ذاكرتنا أو شاخصة أمام أعيننا بلحمها ودمها.

لا نستطيع بالطبع ذكر الأسماء، فلنقتنع إذن بذكر النوع الذي نسميه (الفكر الموضوعي). فقد يكون شابا أو مسنا. وقد يكون (طالبا) لا يطلب علما أو (عاملا) لا يقوم بعمل، فهذا غير مهم. ففي أي صورة تصورناه، فهو قناع لا نشعر وراءه بشيء يتحرك، يفرح أو يتألم، تحركا نستطيع معه تعريف (الفكر الموضوعي) بأنه شبح له ظاهر إنما ليس له باطن. وإني أتذكر منذ ثلاثين عاما إذ كنت ذات يوم بالحي اللاتيني بباريس، أتحدث على سطح مقهى مع طالب جزائري، وكان يقول: إنني سأومن بوجود الله عندها أراه. هذه العبارة تعرفنا بـ (الفكر الموضوعي) من الناحية الفكرية، وهو مازال فجا، لأن الصنف هذا (تقدم)، فلو تكلم أخوه الصغير اليوم لقال: حتى لو رأيت الله فلن أومن به. إذن (الفكر الموضوعي) تقدم خلال الثلاثين سنة الأخيرة في الجزائر، وبطبيعة الحال فالأمور تجري وفقا لمقدماتها. فعلى الصعيد السياسي، على سبيل المثال، سيكون (الفكر الموضوعي) محافظا بالمعنى الفزيولوجي والإجتماعي: إنه سيئ فظ على حياته وعلى مصالحه بكل (موضوعية)، لقد حافظ على حياته أثناء الثورة، فبقي بعد الذين خاضوها بوازع ديني صرف. لقد فضل أن يحتفظ بدمه لاوقات سانحة، ليتحدث فيها عن (الشروط الموضوعية) في الوطن حتى يزج به بعد الثورة في (التقدمية).

والجنائريون الذين عاشوا السنوات الثلاث الأخيرة، وشاهدوا بأعينهم مظاهراتنا، وتذوقوا ذلك الشر الذي كان يرد- من مسارب لا تراها العين لأنها تحت الأرض- إلى قاعات تحرير صحافتنا، وإلى بعض منظمات (التوجيه) هؤلاء الجزائريون يعرفون معنى هذا. إن ميزانية السنوات الثلاث تحت أعيننا. ففي المجال الإقتصادي أولا كما بين ذلك الرئيس بومدين في خطابه الأخير في المعرض السنوي بالجزائر. وفي المناخ الإيديولوجي الذي سجل هبوطا في الحرارة يصعب تداركه. وفي مجالنا الأخلاقي وقد جعل الآباء يطلقون الزفرات تحسرا على أولادهم وخشية. بكلمة واحدة: إن ميزانية (الفكر الموضوعي) في حياتنا الوطنية، منذ ثلاثة سنوات ذات ثقل لا يحتمل. فهل هذا يكفي لتقويم محتواه؟ كلا فالعدم لايقوم. ولكنا نستطيع تصوير (الفكر الموضوعي) بمثل نقتبسه من التاريخ الإسلامي. إننا نقتبسه من تلك الأيام الحالكة حين قام النزاع بين علي كرم الله وجهه ومعاوية رضي الله عنه. فمعاوية قد شعر بأن السيف لا يحقق نصره، فلجأ إلى الحيلة، إذ أمر قومه بأن يحملوا المصاحف على رؤوس رماحهم وينادوا: هذا حكم بيننا. ومن المؤسف أن (الفكر الموضوعي) كان منبثا في الفريقين ليخدع في صف معاوية ولينخدع في صف علي حيث يقول: أجل إن الكتاب حكم بيننا. لقد كان هذا الصف موضوعيا (بطريقته) لأن القران يمثل فعلا في نظر المسلم، المرجع الذي يرجع إليه في كل نزاع، خصوصا في نزاع سياسي.

لكنهم نسوا الأمر الرئيسي في الموضوع. وهو أن السياسة حين تكون مناقضة في جوهرها للمبدأ الأخلاقي، فإنها لا تطرح قضية تحل بالقضاء ولكن بالسيف .. ولم يكن علي رضي الله عنه (الفكر الموضوعي) الذي يخدع أو الذي ينخدع فقال كلمته المتواترة: إنها كلمة حق يراد بها باطل. وبعبارة أخرى، فإذا أردنا استعمال مصطلح آخر نقول إنه في مثل هذه القضايا يجب تحكيم منطق (بسكال) لا منطق (ديكارت). وبأقصى التلخيص نقول إذا كان ((العلم دون ضمير ما هو إلا خراب الروح))، فالسياسة من دون أخلاق ما هي إلا خراب الأمة. ***

السياسة والأيديولوجية

السياسة والأيديولوجية عن (الثورة الإفريقية) عدد 141 تشرين الأول (أكتوبر) سنة 1965. في مقال سابق، عرفنا السياسة بشروط ثلاثة هي أدنى ما يحددها من شروط، ولم يكن تعريفنا لها في الحقيقة إلا مقياسا مجردا يميزها عن (سياسة) مزعومة ترتكز على تقديرات سافلة، وتطبيق مشبوه. هل يكفي هذا التعريف؟ هل يكفي أن تعرف دولة عملها في ميثاق وطني مثلا، ثم تحدد طريقة لوقايته من أعمال التخريب أو ما يسمى في بعض البلاد (الانحراف المذهي)؟. إنني لا أرى ذلك كافيا. فالشروط السابقة التي أشرنا إليها ضرورية كلها، غير أنها ليست بكافية، وهذا ما تدل عليه بوضوح تجربة فرنسا، بعد ثورتها، التي تطبق اليوم دستورها السادس بعد إفلاس الخمسة الأولى من دساتيرها بوصفها جمهورية. ينبغي أن نعود إلى تحديد (السياسة) على أبسط صورة باعتبارها عملا تقوم به الدولة. فمن الواضح أنه بالإضافة إلى الشروط الدستورية التي أشرنا إليها ينبغي على السياسة أن تطابق شرطا آخر، غالبا ما يكون غير منصوص عليه إلا أنه أكثر إلحاحا من سواه. فالسياسة لا تستطيع أن تكون العمل الذي تقوم به الأمة كلها إلا بقدر ما تكون مطبوعة في عمل كل فرد منها. هذا هو الشرط الذي نضيفه هنا.

إن (الإجماع) هو بالتالي القياس الجوهري الذي يميز سياسة ناجعة. ومن هنا تبدأ قضية الايديولوجية تطرح نفسها، لا على أنها مجرد اقتراح يستحسن، كثيرا أو قليلا، في مجال الافكار، بل بوصفها مشروعا حيويا به يكون للسياسة تأثير حقيقي على الواقع المحسوس في الوطن. فلنتفحص عوامل هذا التأثير على الواقع، الذي لا يتسنى- ونحن نكرر هذا- إلا إذا تجانس عمل الدولة مع عمل الفرد. ولا يمكن لتجانس كهذا أن يتحقق في غير ضمير الفرد، باعتباره مصالح حيوية مشتركة، ومسلمات متفق عليها بين جمهور من الناس يكون جسم الأمة وإجماعها. فإذا تضاربت المصالح هذه أو اختلفت هذه المسلمات، فلن تكون السياسة سوى دكتاتورية كما تعرفها بكل أسف كثير من بلدان العالم الثالث، وهي بالتالي لن تستطيع أن تنسجم في الحقيقة مع مصائر الأمة ولا أن تحقق أهدافها. وهذه الاستحالة تنتج أولا عن رفض الأمة تجاه هذه السياسة، رفضا يفصل الدولة معنويا عن الوطن، وثانيا عن عجز هذه السياسة في التأثير على نشاط كل فرد، وبالتالي عجزها في تحريك الطاقات الاجماعية الموجودة في اتجاه معين، نحو هدف محدد تدركه أغلبية المواطنين. إن التعاون بين الدولة والفرد، على الصعيد الإجتماعي والإقتصادي والثقافي، هو العامل الرئيسي في تكوين سياسة تؤثر حقيقة في واقع الوطن. وإذا ما تعذر هذا العامل، فإن القطيعة المعنوية سوف تعزل الدولة عن الوطن وتشل الطاقات الإجتماعية، أو (والأمر هنا أدهى وأمر) تشتتها تشتيتا تكون نتائجه: عدم الانسجام وعدم التناغم، ومعارضات طاغية في فوضى شاملة، يسودها شعار (عليك خاصة نفسك)، ذلك الشعار الذي تدين به

فترات الانحطاط والقهقرى، كتلك الفترة التي أطلقنا عليها (عصر ما بعد الموحدين). ولا يفوتنا أن نضيف هنا، أن التجانس بين عمل الدولة وعمل الفرد، في نطاق التعاون الذي أشرنا إليه، يتحقق في ضمير الفرد، ويجعل هذا الضمير موضوعا من ناحية وحكما من ناحية أخرى. فالسياسة التي تريد تلقين مسوغاتها وأهدافها لهذا الضمير، عليها أن تجعله حكما، يصدر بكل حرية حكمه في مسوغاتها وأهدافها. وربما استطاعت السياسة أن تأخذ هذا الحكم على حين غرة، في وقت ما، خصوصا حين ترفع شعارات خلابة وتصرح بوعود مغرية. ولكن- كما يقول رئيس الولايات المتحدة (إبراهام لنكولن) -: إن التغرير بفرد ممكن دائما، والتغرير بشعب ممكن بضعة أيام، إلا أنه غير ممكن كل يوم. والشعب الجزائري الذي ألقى في مهملات التاريخ كثيرا من الأساطير التي استولت منذ سنة 1930، على منصة سياسته، يقدم أصدق دليل على صحة رأي رجل الدولة الأمريكي. يبقى إذن على السياسة- كي تتشكل على صورة الحياة الحقيقية- أن نتصور أولا محتواها من خلال العمل الفردي وفي مستواه. ولا شك أن هذه الواقعية، هي التي أملت على (لينين)، الشعارات التي اتخذها من أجل تجنيد طاقات الجماهير في خدمة الثورة. حينئذ بدأ عمل كل فرد روسي- جندي أو فلاح أو عامل- يتجانس مع عمل الدولة السوفيتية على أساس مسوغات فردية، هي على درجة من البساطة

ولكنها منظمة، مرتبة ضمن مسوّغ شامل، ربما لا يكون فهمه متيسرا للجماهير. فلينين، لم يقدم للجماهير نظرية ماركس؛ كتابه في (رأس المال) على سبيل المثال، ولكن قدم لها فحواه وترجمته على صورة هي في متناول الإدراك الشعبي، وقابلة بسبب ذلك، للتأثير السياسي مباشرة، فأطلق لينين شعاراته المشهورة: ((السلم للجندي، والخبز للعامل، والأرض للفلاح)). وقد بدأت الجماهير منذ تلك اللحظة تصبح طاقات ثورية واعية وهي لم تكن قبل ذلك داخل النظام. ولكن، هل كان يكفي لتستمر الهزة الثورية، دفعة من الشعارات التي أطلقت، وحققت انضمام الجماهير إليها آملة احتمال تغيرها في الطريق، كشعار ((الأرض للفلاح)) عندما تدق ساعة الكلخوز؟!. إن الايديولوجية التي لا تتضمن- بصفتها أفكارا موجهة قوية- إلا مصالح عاجلة، فإنها وإن كانت محترمة) لن تفتح الطريق لغير سياسة قصيرة محدودة المدى على قدر الشعارات التي دفعتها. وسياسة كهذه لا تستطيع، في المثل اللينيني، الذي ذكرناه للتوضيح، أن تكون في مستوى عهد المشاريع العظيمة والمحن الكبرى، التي تطلبت من الثقة والتضحية ما كان ضروريا للتشييد الاشتراكي ولمواجهة الهجوم الهتلري. فالايديولوجية تتطلب إذن خمائر أخرى، تضمن الوحدة الضرورية بين عمل الدولة وعمل الفرد لإنجاز مهمات بعيدة ترتكز على الثقة والبطولة. والخمائر هذه هي التي تعطي، حسب جوهرها، القيمة- الجليلة والحقيرة- للسياسة أمام التاريخ.

وإذا ما تفحصنا هذا الجوهر وجدنا أنه من عنصر أخلاقي وهو متصل بما وراء الطبيعة أي من العنصر النفسي. فالفكرة الموجهة لسياسة تستطيع مواجهة أهوال التاريخ، لابد لها أن تتكون من هذا الصنف، إذ الجهد المدعوم بمصلحة عاجلة قد يتولى، ليس فحسب حين تحصل في بعض الظروف خيبة أمل تدفع إلى التراجع والقهقرى، بل حتى إذا دخل المجتمع بفضل ما حققه، حالة إشباع يسودها الفتور واللامبالاة. ففي الحالين كليهما يتعرض المجتمع للانفرادية، أي لأصناف التمزيق. وهكذا لا يستطيع مجابهة أهوال الزمن إلا جهد تدعمه عقيدة لا يعتريها الشك أبدا. والتاريخ منذ عهد (الفيران) في روما، إلى شهداء بدر، إلى أبطال ستالينجراد، ليس إلا شرحا لهذه الحقيقة. فالتعاون بين الدولة والفرد، لابد له من جذور في عقيدة تستطيع وحدها أن تجعل ثمن الجهد محتملا مهما كانت قيمته لدى صاحبه، فيضحي هكذا بمصلحته حتى بحياته في سبيل قضية مقدسة في نظره. إن السلوك الذي سمي (الستخانوفية) لا يفسر بوصفه عامل إنتاج إلا بهذه الطريقة. فهو المظهر الإقتصادي في حياة مجتمع تحركه فكرة توجيه تفوق كثيرا الإمكانيات العادية في ذلك المجتمع. وإفلاس الإستعمار في المستعمرات كان محتوما، طبقا لقانون التعاون الضروري الذي كان مستحيلا بين الإستعمار والإنسان المستعمر. ولا يعني هذا أن الإستعمار لم يحاول مواجهة المشكلة هذه، بفصل المسلم عن الإسلام، إلا أنه باء بالفشل، سواء بمحاولاته ذات الطابع اللاديني أو ذات الطابع الديني الهادف إلى (التمسيح).

لقد كان الإسلام الحصن الذي فشلت تحت أسواره جميع المحاولات، التي استهدفت سلب الشعب الجزائري شخصيته على مدى قرن من الزمان، كما كان الحافز الأيديولوجي الرئيسي الذي دعم جهده البطولي خلال الثورة. ولكي نلخص هذه الكلمات لابد لنا أن نقول: إن علينا العودة إلى الأصول والمنابع التي منها نبع تاريخنا. ***

السياسة والثقافة

السياسة والثقافة عن (الثورة الإفريقية) عدد 142 في 16 تشرين الأول (أكتوبر) 1965. في مقال سابق تحت عنوان ((السياسة والايديولوجية)) قمنا بخطوة مفيدة، إذ أوضحنا الشروط الضرورية لتجانس عمل الفرد وعمل الدولة، في وحدة عضوية لا تنفصم أمام أهوال التاريخ. وحين نتابع التحليل إلى أبعد من ذلك تبدو هذه الشروط بدورها غير كافية. وإذا تجنبنا إفراط المستشرق (جيب) في الحكم، فإننا نلاحظ معه المجتمع الإسلامي وهو يعاني منذ القرون الأخيرة، فتورا قد نسميه أزمة حياة فقدت أسباب التوتر والطموح. والعلاج لحالة كهذه، كما حاولنا توضيحه فيما سبق، يقتضي أيديولوجية تعطي التوتر الضروري لمجتمع يقوم بإنجاز مهمات كبرى، لأنها تخلق الفرد التواق، وهو عكس الفرد المائع الذي يركب مجتعا ارتخت أوتاره. وهنا نقول أيضاً، إن هذا العلاج سيبقى دون ما تقتضيه الحالة، إذ الايديولوجية ليست سوى سهم يشير إلى هدف، ويحدد بعض الإتجاه. وهي بذلك تستطيع توجيه عمل الفرد وعمل الدولة وربما تتيح لهما الوصول إلى الهدف. ومهما كان الهدف تحطيميا، أو كان التوجيه توجيها نحو انتحار أمة، فإن باستطاعة الايديولوجية أن تمنح المجتمع شروط انطلاقه وطموحه. فالايديولوجية الهتلرية استطاعت أن تعطي الشعب الألماني توترا وصل

درجة فاقت طاقة البشر، لكننا نعلم من ناحية أخرى أية هاوية سحيقة ألقت به، هذا إذا لم نأخذ بالإعتبار الإحتمال الآخر. فلو انتصرت الايديولوجية الهتلرية في العالم ماذا كانت تصنع؟ فقد كنا نعلم من خلال التصريحات، أن هتلر يريد أن يفرض على العالم ألف عام من السلم الجرماني، أي ألف عام يرجع فيها الضمير العالمي إلى الوراء. فالسياسة إذن تقتضي أكثر من ذلك، إذ لا يكفي أن تحدد عمل الدولة في اتجاه معين، وأن يكون ثمة جهاز رقابة ضروري لمتابعة عمليات التنفيذ، وجهاز حماية للمواطن من اعتداء عمل الدولة نفسه عليه. كما لا يكفي أن تمنح هذه السياسة التوتر الضروري للطاقات الإجتماعية لتبلغ الهدف المعين. فبالإضافة إلى كل ما سبق، لا بد أن يكون الهدف نفسه متطابقا مع التطور الطبيعي للأمة، ومع الظروف العامة التي تحيط بهذا التطور. وأن يكون فوق ذلك متطابقا مع مصير الإنسانية كلها. فإذا كانت السياسة تفقد فعاليتها إذا انفصلت عن ضمير الأمة، فإنها إذا انفصلت عن الضمير العالمي تضيف إلى العالم خطرا فوق الأخطار التي تهدده، فإذا نظرنا إلى القضية من الوجهة الأولى، أعني وجهة انسجام السياسة مع تطور الأمة ومع الظروف المحيطة بتطورها، فإن القضية تطرح علينا منذ الخطوة الأولى مشكلة الثقافة. أما إذا وسعنا هذا الانسجام إلى ما يقتضيه وضع عالمي، فإن التوسيع هذا لا يزيدنا إلا تركيزا على النتيجة المستخلصة من نظرتنا الأولى. فنابليون، لم يكن أثناء إقامته في موسكو، أي في أحلك أيامه، منكبا على خرائط تحركاته العسكرية فحسب، بل إنه انكب أيضا على إتمام القانون المدني الذي وضعه في بداية عهده وشغلته قضية أخرى كتنوير شوارع باريس.

فهل كنا نتصور اهماما كهذا لو فصلنا السياسة عن الثقافة؟ إن صناعة (1) السياسة تعني، إلى حد كبير، تغيير الإطار الثقافي في اتجاه ينمي تنمية متناغمة، عبقرية أمة؛ ومن هنا فصناعة السياسة تعني في آخر المطاف، صناعة الثقافة. فإذا شيدنا حديقة في مدينة كالجزائر أو القاهرة، أي إذا غيرنا الإطار الثقافي في أي بلد من بلدان العالم الثالث نقوم بعمل سياسي لا مزيد عليه. وفي الوقت ذاته، فهذه الملاحظات- وفي إمكان أي منا أن يلاحظها في الشارع يوميا- تبين لنا كيف تطرح المشكلة في بلد من العالم الثالث، حيث تكشف لنا تجربتنا التأثير المشترك لعوامل من أصناف ثلاثة: الصنف الأول وهو يتصل بالثقافة التي نريد صنعها. الصنف الثاني وهو يتصل بـ (لا ثقافة) موروثة نريد تصفيتها. الصنف الثالث وهو يتصل بشيء نسميه (ما ضد الثقافة) وهو يفرض علينا أن نكون في انتباه مستمر تجاهه. وعلاقة السياسة بالثقافة تمر حتما بهذا الثالوث، علاقة تتطلب منا إذا فكرنا في (الثقافة) في بلد من العالم الثالث، أن نفكر في اللحظة نفسها بالقوى غير الواعية التي تمثل (اللاثقافة)، والقوى الواعية التي تمثل (ما ضد الثقافة)، والقوتان كلتاهما تبدوان قوة مشتركة تعمل في المحيط الإجتماعي. ومن ناحية أخرى، يجب توسيع المصطلحات ذاتها في مدلولها، إذ كل منا يعلم أن تشييد مدرسة عمل يهم نشر (الثقافة) كما يهم رفع (اللاثقافة). إنما إذا نظرنا من زاوية السياسة إلى مشكلة الثقافة، فالأمر أكثر تعقيدا.

_ (1) (صناعة) استعملناها هنا طبقا لمصطلح ابن خلدون.

فحتى لو كانت المدرسة هي الوسيلة الرئيسية- والقضية فيها نظر- لصنع الثقافة، وبالتالي لإعطاء السياسة بعدها الوطني والعالمي، فهذه الوسيلة تبدو غيركافية. وحسبنا لنقتنع بذلك، أن نتذكر أسماء الذين عمروا سوق الانتخابات في الجزائر منذ ثلاثين سنة، إنهم على العموم لم يكونوا أميين بل تخرجوا من المدرسة سواء أطلقنا عليهم المثقفين أو (المتثقفين). ينبغي إذن أن نعيد النظر في المدرسة، وألا ننظر إليها من زاوية التجهيز، كما ينظر إليها عادة: فالمدرسة ليست المكان المجهز بمقاعد، وبما يكتب عليه، والسبورة نكتب عليها الحروف الأبجدية، أو المعادلات الرياضية فحسب، بل هي قبل ذلك المعبد الذي يستشعر فيه الضمير بالقيم التي تكون تراث الإنسانية. فقد كانت قسمات (سقراط) مع مريديه، هيأت فيها أثينة بلاغها إلى الإنسانية. ومجالس غاندي وهو صامت الساعات الطويلة، وحوله الآلاف المؤلفة من البشر مدرسة هي الأخرى وجهت إلى ضمير القرن العشرين بلاغ (الساتياجراها). وما كان هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - بين أصحابه إلا مدرسة بلغت العالم رسالة حضارة جديدة. فبقدر ما تستعيد المدرسة معناها الأصيل، تستطيع القيام بدورها الثقافي وبالتالي دورها السياسي، إذ السياسة حينئذ تكتسب بعدا وطنيا وعالميا بفضل ما تهب لها الثقافة من تفتح على القيم، التي اكتسبها الفكر الإنساني عبر الآلاف من السنين. هنالك يتجانس عمل الدولة مع عمل الإنسانية بعد ما يكون قد تجانس مع عمل الفرد.

السياسة وحكمة الجماهير

السياسة وحكمة الجماهير عن (الثورة الإفريقية) عدد 138 في 18 أيلول (سبتمبر) سنة 1965. كي يتحدث الدين إلى الضمير الإنساني، غالبا ما يستعمل الرموز يعبر بها عن مفاهيم تغيب عن العقول لأنها متصلة بعالم الغيب. وحتى علم الرياضة، يستعمل الرموز في صورة معادلات. وقد عرفت الشعوب، من خلال تجاربها الروحية أو العملية قوة هذا التعبير، فأصبح الرمز وسيلة تعبير ضرورية، كلما كان التعبير العادي لا يستطيع تبليغ معنى من المعاني بالضبط الكافي، أو كان التعبير مما لا يستسيغه العرف والذوق. وثقافات الجماهير كلها، كونت تراثها من أمثال استعارات وحكم، لا تعبر فحسب عن حكمة شعوب ضاربة في القدم، بل إنها تطابق مواقف واقعية معينة تطرأ فعلا في حياتهم اليومية. وهكذا يجد كل شعب، تحت يده أداة متطابقة لنطق جماهيره، وقد يغتبط الشعب الجزائري من هذه الناحية، لأن أمثاله وحكمه وقصصه تكون أداة جدلية على مستوى رفيع. واذا أصغيت إلى حديث عجائزنا، تدرك مدى الأهمية العملية لهذه الأداة .. فعندما يدخل حديث في الضباب ويكاد فحواه يتبخر، تأتيك المرأة

العجوز بمثل أو حكمة أو قصة تعيد بها الحديث إلى مجراه وتمسك معناه في اللحظة التي كاد يفلت فيها. ليسمح لي القارئ بهذا التمهيد، فقد بدا لي ضروريا لأن العنوان نفسه يسوقني إلى التدليل بحكايات شعبية واختيار اثنتين منها على الأقل. كانت جدتي تقص لي العديد من قصص جحا، وإني لأذكر إحداها لما أرى فيها من دلالة بإشارة واحدة، على المعنى النفسي والمنهجي الذي أريد إبرازه في هذه السطور. فقد كان جحا ذات يوم من أيام الشتاء الباردة، يدفئ يديه مع بعض رفاقه، وبينما هو حول نار موقدة في كوخ من تلك الاكواخ المنتشرة في المرتفعات الجزائرية إذا بالنار بدأت تخمد لنفاد الحطب. قال الجماعة: - هلم، نذهب فنحتطب في الغابة. وهرع كل واحد إلى عدته وتوجه إلى الغابة وكذلك فعل جحا، ثم رجع كل واحد بحزمة حطب إلا جحا فقد استبطأه رفاقه حين لم يعد وقالوا: - هلموا نر ماصنع الله بجحا. واقتفى الرفاق أثر جحا في الغابة حتى وجدوه في ناحية وهو يلف حبله حول المئات أو الآلاف من الشجر. سألوه: ماذا تصنع يا جحا؟ أجاب بطلنا: ألا ترونني أريد أن أحمل كل شجر الغابة مرة واحدة، حتى لا نعود نحتطب كل يوم؟

ذهل الرفاق إعجابا بجحا وإكبارا له، بل خجلوا أمام محاولة ضخمة كهذه، خجلوا إذ لم يأت كل واحد منهم إلا بحزمة، ثم تضرعوا إلى جحا كي يترك محاولته هذه إلى يوم آخر، لأن لديهم ما يكفيهم ذلك اليوم بما احتطبوا هم. هكذا تفضل عليهم جحا بتلبية رغبتهم فرجع معهم، شامخ الأنف يتدفأ على نارهم دون أن يأتي بعود واحد. إلى هنا تنتهي القصة تترك لمستمعها استنتاج العبرة. لكن جدتي قصت علي قصة أخرى، لا تقل عبرة: فقد كانت عشيرة من العشائر على أهبة الرحيل، تطوي البيوت وتضع المتاع على جمالها، وأناخ جمل من الجمال فأثقلوه بمتاعهم حتى لم يستطع الحراك. ثم انتبه القوم إلى دفتي رحا مما هو موجود في أريافنا حتى اليوم، فقام رجل منهم يضع الرحا على ظهر الجمل والتفتت عجوز من العشيرة فقالت عطفا على الجمل: - لا تضعوا الرحا عليه بل ضعوها على ظهر جمل غيره. لكن الجمل التفت إليها وقال: - بل ضعوها على ظهري، لا ضرر في ذلك إنني لن أستطيع القيام على كل حال. واليوم وبعد أكثر من نصف قرن حين تعود إلى ذاكرتي هاتان القصتان مع ذكريات عذبة أو مثيرة، أو حين أسمعها في سمر الأطفال، أجد أن جحا والجمل يعبران عن حكمة واحدة لكنهما من حيث التعبير عنها يختلفان: حيث حسن النبية في الجمل وسوء النبية في جحا. إن رمز القصتين واحد، إنهما تدلان على العمل المستحيل.

فموقف جحا موقف من يحاول عملا مستحيلا فيستغل بذلك عمل الآخرين، إنه المحتال يستغل سذاجة الآخرين، بينما يبدو لناظرهم في مظهر البطل، إن ضحاياه أولئك الذين يلقبونه بطلا. أما الجمل فهو ليس بالمحتال، لكنه يسخر بنكتة تكشف لنا أيضاً سذاجة الآخرين، ونكتة تضحكنا من أولئك الذين يضعون العمل في الشروط التي تجعله مستحيلا. وبعبارة أخرى. فإن جحا يستطيع أن يقدم لنا درسا في (البلوتيك) أو على الأقل يدلنا على أحد أعراضها النفسية. وسيكون درسه مفيدا لمن يريد درسا عن الكسب غير المشروع، عن الديماغوجية في سوق (البلوتيك). إن (رجل الأقدار) كما يقولون، أي الزعيم الذي لا ضمير له يعرف المزايدة الديماغوجية لإغواء البُلْه في السوق. واعتقد أن جحا قد قدم الدرس هذا للجزائر، دون أن تستفيد منه خلال الثلاتين سنة الأخيرة، ولم تستفد منه إلى 19 حزيران (يونيو) سنة 1965. أما درس (الجمل) فهو درس في المنهج، كان لنا أن نستفيد منه خصوصا منذ الإستقلال، يفيدنا في العمل كيف ينبغي أن تتحقق شروطه ليكون ممكنا. وكأن جحا يقول في الحقيقة القول نفسه، وإنما بطريقة المحتال الذي يقوم بعمل مستحيل علما بأنه لا يعمل شيئا. أما الجمل فيقوله بصراحة، ومن حسن النية، غير أنه يستعمل النكتة. فمؤدى كلامه أن من يضع عمله في ظروف تجعله فوق طاقته، يعلم أنه محكوم عليه بألا يعمل شيئا. وإن حاول على الرغم من ذلك القيام بشيء فلن يحسن صنعا.

حبذا لو كان الجمل أستاذنا خصوصا منذ الإستقلال. لأننا كنا في حاجة إلى دروس في منهجية العمل في سائر مستويات عملنا. فلنقدر المنهجية أولا، في مستوى الحديث المجرد، لأن كل عمل إجتماعي يقتضي تبادل أفكار بين عدد من الأشخاص. إن الحوار هو أبسط صورة لتبادل الأفكار، وهو بذلك الرحلة التمهيدية البسيطة لكل عمل مشترك. فقواعد الحديث إذن لا تخص حسن الآداب فقط، بل هي جزء رئيسي من تقنية العمل. ونحن نجد هذه الصلة، بصورة رمزية، في العهد القديم عندما يقص علينا كيف أصبح عمل القوم مستحيلا في تشييد برج بابل، عندما اختلفت ألسنتهم، ففي هذه القصة نرى كيف تعطل العمل حالما تعطل تبليغ الافكار بالكلام. فالقضية إذن لا تخص قواعد الحديث وحسن السلوك في الصالونات فحسب، بل تخص مباشرة تقنية العمل من زاوية الفعالية. فحيثما يبتعد الحديث عن التسلية المحضة، يجب أن يخضع لقواعد العمل، الذي ليس في بداية مرحلة تحضيره، سوى مشروع في محتوى بعض الكلمات وبعض الافكار. وفي هذا المستوى، يتداخل الجانب الأخلاقي والجانب المنطقي ليكونا معا العمل الفعال أو العمل التافه. ولو رفعنا القضية إلى مستوى الأمة لوجدنا أنفسنا نتساءل: هل كان لوطننا أن يسلك الطريق الذي سلكه إلى 19 حزيران (يونيو) 1965، لو أصغى إلى صوت الجمل أو تذكر قصة جحا؟

وفي هذا المستوى، نتساءل أيضاً إذا رجعنا ثلاثين عاما إلى الوراء: هل كان يمكن لأجيال من جحا أن يستولوا على المنصة السياسية الجزائرية، ويلعبوا عليها أدوارهم المشؤومة لو تذوق الشعب الجزائري نكتة الجمل؟. حسبنا أن نقول لكم إن جداتنا أعطيننا دروسا عالية في السياسة بقصصهن البريئة، وهن يمسحن بأصابعهن الضعيفة رؤوسنا المتوسدة على ركبهن. ولكنني أرى اليوم وأنا على أبواب الشيخوخة أن هذه الدروس لم تفدنا كثيرا. ***

السياسة والبلوتيك

السياسة والبلوتيك إن العقلية الشعبية التي أوحت بالعرض السابق من مقالنا، لم تنصهر فحسب في الامثال والحكم والاستعارات، التي أشرنا إليها بوصفها أداة جدلية يستعملها الشعب للإقناع، بل قد انصهرت أيضاً في كلمات تنطلق انطلاق الرصاص ولها دويه في مواقف الغضب والاستنكار. فحين تبدو أشياء خلال الحديث تدعو إلى الاستنكار، فإن هذه الكلمات تحمل السخط والازدراء لبعض الاكاذيب التي يريد من يريد بثها في حياتنا العامة، كما يبث المزيفون زيف عملتهم في المعاملات النقدية. لقد انتبه الشعب منذ أمد بعيد إلى التزييف الذي بثه في حياتنا السياسية بعض الدجالين، أولئك الذين غالطوا الشعب حين بدأ يتخلص فيه من خرافات المرابطين المؤيدين من قبل الإستعمار، فعوضوا التمائم بأوراق الانتخابات، ووضعوا الزعيم ملتحيا أو أمرد مكان (الشيخ). إلا أنه لا بأس من أن نذكر مرة أخرى حكمة (إبراهام لنكولن): قد يخدع رجل كل يوم، ويخدع شعب بعض الأيام، إلا أنه لا يخدع شعب كل يوم. لم يمر في الجزائر زمن طويل حتى انتبه الشعب بعد بعض الاختلاسات الانتخابية، ذات النوع الجديد من التزييف، الذي أدخل تحت اسم السياسة، عددا لا يقدر من جراثيم ذلك التعفن، بعد أن أدت مفعولها المشؤوم في حقبات مضت، سيبقى لها إلى يومنا هذا بعض التأثير لأنها لم تصف بعد.

لكن الشعب الجزائري، على الرغم من المغالطة الماهرة التي خيبت أمله أكثر من مرة لم يفقد صحوته، فلم تمر عليه مدة طويلة حتى اكتشف الخدعة فميز بين السياسة والصورة التي زيفت عليها فسمى هذه الصورة المزيفة (البوليتيكا). إن هذه الكلمة طلقة رصاص تجاه المخادعة والنفاق، إنها مكنسة كنس بها الشعب المزابل التي تكومت في سوق (البوليتيكا). إنها كلمة انتقام وثأر! لأنها تثأر لمن تبقى لديه صفاء بصر على الرغم من الاختلاسات التي مرت. إنها تثأر للذين نادوا بالواجبات، ورفعوا أصواتهم فوق من ينادي بالحقوق فقط، كأنما الحق شيء يعطى مجانا. فالفرق بين السياسة و (البلوتيك) هو ذلك: أولا. فعندما يرتفع الصخب في السوق، وتكثر حركات اليد واللسان، وعندما لا يسمع الشعب غير الحديث عن (الحقوق) دون أن يذكر بواجباته، وعندما يشرع بالطرق السهلة الناعمة، فتلك هي (البلوتيك). لقد واجه ماركس في عهده صخبا كهذا في خصومة مع من سماهم (صانعي الكيميا المطالبة)، ومن هنا يتضح لنا أن الصراع بين السياسة و (البلوتيك) قديم جدا، وإذا أردنا أن نحددهما من الوجهة النفسية قلنا إن الأولى استبطان القيم بينما الثانية قذف مجرد للكلمات. والأولى محاولة تأمل في الصورة المثلى لخدمة الشعب، والثانية مجرد صرخات وحركات لمغالطة الشعب واستخدامه. ومن الناحية الفنية فـ (البلوتيك) ليست مفهوما محددا، ولو لم يضع الشعب الجزائري هذه الكلمة، ما وجدنا كلمة لنعبر بها عنها. ودراسة ملفها

ليست من اختصاص العلم، بل من اختصاص القضاء بوصفها جريمة اختلاس. وليس دونما سبب أن تكون صحيفة قد كشفت عن ارتياعها، وحاولت تغطيته بابتسامة، عندما اقترحت في إحدى مقالاتي أن يقدم المختلسون إلى المحاكمة أمام الشعب. فبكل تأكيد، إن اقتراحي قد صب الرعب على أولئك الذين لهم أسهم في سوق (البلوتيك). ومع ذلك فقد كنت، وأنا أكتب المقالة المذكورة، أتوقع هذا النثر الذي يظهر بغير توقيع، ويأتي عن طريق قنوات مخفية تحت الأرض. إن هؤلاء الذين يزعمون محبة الشعب، ولا يحبون مع ذلك الشخوص أمام عينيه في محكمته، وكتابهم في يمينهم، قد قالوا في الحقيقة- وهم لا يشعرون- ما تخفي صدورهم. ولكن فلنمر في طريقنا مر الكرام. فالبلوتيك إذن لا تحدد بصفتها شيئا له مدلول في عالم المفاهيم، ولكنها ذات تاريخ طويل في بلادنا، وفصلها الأخير له دلالة (1). على أن الظروف قد تغيرت، ومن بين المشكلات الحادة التي يعرضها على عقولنا هذا التغيير، أن نراجع أفكارنا في السياسة. وأول سؤال يعرض علينا هو: ماذا نعني بكلمة السياسة؟ لنأخذ الكلمة أولا في معناها المتداول والذي نجده في أي قاموس: هي العمل الذي تقوم به كل جماعة منظمة في صورة دولة. وإنه لتحديد كاف في كل وطن فيه معنى (الدولة) في منتهى الوضوح، إذ تكون وظيفتها محددة بدستور أو بتقاليد عريقة تضبطها، كما هو الأمر في إنجلترا.

_ (1) ذكر هذا الفصل في الأصل المخطوط، ولكن حذف في النص المطبوع الذي نترجمه ولم نجده في ذاكرتنا.

أما في العالم الثالث حيث لا تزال النظم في ورشة الاختبار، وفي حالة التمرين فالمعنى الذي تتكفله تقاليد التاريخ، مفقود أو غير كاف، لأن التقاليد نفسها ما تزال في حيز التكوين. يجب علينا أن نثري مفهوم (السياسة) بما نستطيع من ملاحظات هي في صلب الحياة. ويبقى على أية حال أن السياسة هي العمل المنظم لـ (جماعة) بكل ما تقتضيه وتفترضه كلمتا تنظيم وجماعة. فالجماعة التي تدخل في مضمون السياسة، هي مجموعة الافراد الذين تجمع بينهم روابط تاريخية وجغرافية، تتلخص في وحدة مسوغات ووحدة مصير، وقد تكون الجماعة بهذا المفهوم (الأمة). فبالنسبة لهذا المصطلح فالقضية واضحة إلى حد ما. أما بالنسبة لـ (التنظيم) فالأمر يختلف. فنحن نعيش في وطن هو دون التكوين والتمرين في كل مجال، أي في الدور الذي يفرض عليه أولا التفكير في قضية (العمل المنظم) (1). ولا ينبغي أن نتصور (العمل) فحسب، بل أن نلم بالنظرة نفسها بسائر الشروط التي يفترضها العمل، حتى لا يبقى دون الهدف، ولا أن يتعدى حدود الهدف، أي- بعبارة مألوفة- حتى لا نتورط في طرفي تفريط أو إفراط. ففي الحالة الأولى تكون السياسة مشوبة بـ (اللافعالية)، وفي الأخرى تكون مشوهة بالإجحاف. والعمل السياسي إذن يقتضي مستوى الدولة شروطا ثلاثة على الأقل: أولا: تصور (العمل) أي تحديد السياسة بأكثر ما يمكن من الوضوح.

_ (1) إننا حين نطرح هذه القضية بالنسبة للجزائر، نعلم أنها قضية تواجه كل بلد إسلامي.

ثانيا: تصور وسائل تحصين هذا العمل من الإحباط، حتى لا يبقى حبرا على ورق في نص الدستور أو ميثاقا أو مجرد لائحة. ثالثا: تصور جهاز يحفظ المواطن من إجحاف العمل، إذا تعدى- عن جهل أو سوء نية- من يقوم بتنفيذه. ولنوضح الشرط الأول قد يكفينا أن نذكر (شو إن لاي) عندما صرح بهذه الكلمات ((إن سياستنا لا تخطئ لأنها علم)). إننا لنعلم أن العلم نفسه. قد يخطئ، ولكن تحديد السياسة بصفتها (علما) له قيمته النظرية والعملية، إذ يضمن لها على الأقل ألا تصير (بلوتيك). أما بالنسبة للشرط الثاني فإن على الدولة أن تدافع عن عملها، أي عن سياستها، إذ الرواسب التي خلفها الإستعمار، وخلفتها (البلوتيك) في الوطن قد تجعل من الصعب تنفيذ قانون، هذا إذا لم تعرضه للازدراء وهو ما يحدث أحيانا بكل أسف (1). ولقد نرى أحيانا القانون في يد من ينفذه، يتخذه أداة يقضي بها مصالحه، والويل إذن للمواطن الذي يكون تحت رحمته، تحت رحمة طاغية صغير يخضع باسم الدولة لهواه أو لإدارة خفية، المسكين الذي يرفض الخضوع لـ (البلوتيك). ينبغي إذن حماية المواطن من هذا الاختلاس وذلك التحطيم، اللذين من شأنهما أن يضعا المواطن ضد الدولة وضد النظام. فمن مصلحة الدولة العليا إذن أن تضع من أجل المواطن جهاز دفاع يحميه من عملها، حين يصبح هذا العمل إجحافا.

_ (1) لم يقل لي أحد عندما نشرت هذه السطور: تعال وأعطنا بينات عن هذا الاتهام الخطير.

والجهاز هذا موجود بصورة دستورية في البلاد المتطورة، وعلينا في الجزائر أن نفكر جديا في الموضوع. هذه الشروط الثلاثة هي أقل ما تتطلبه السياسة لتتميز عن (البلوتيك). ولكن ليس هذا كل ما في الأمر، بل هنالك ما هو أبعد بكثير. ويكفينا كي نقوم بعملنا على ما يرام، أن نسير طبقا لمبادئ لا غنى عنها، ولو أتى نصها الحرفي على لسان غيرنا، أي على لسان من هو على غير سفينتنا. ولعل ما كنا قد اقترحناه في صدر هذا المقال من مراجعة أفكارنا السياسية قد يستفيد مما قاله لينين: ((إن كل الاحزاب الثورية التي أخفقت حتى الآن، قد أخفقت لأن الغرور قد استولى عليها، ولم تكن تقدر ما يكون قوتها، كما كانت تخشى الحديث عن جوانب الضعف فيها. أما نحن فإننا لن نخفق، لأننا لانخشى الحديث عن ضعفنا ونتعلم كيف نتغلب عليه)). ***

الفصل الرابع في قضية فلسطين

الفصل الرابع في قضية فلسطين . عشرون سنة من بعد . ثمن الوحدة العربية . لحظة ((الفلاش)) . لحظة التأمل . هيئة الأمم تدين شعب فلسطين . مفاتيح الحرب

عشرون سنة من بعد

عشرون سنة من بعد عن (الثورة الإفريقية) عدد 220 أول أيار (مايو) 1967. قد يُذكِّر هذا العنوان بعض الناس بالقضية الشهيرة التي كتبها (دوماس)، بينما ليست لي رغبة في أن أخصصه هنا لقطعة من الأدب، ولكن لذكر مأساة تحين ذكراها في هذا الشهر من كل عام. إن إسرئيل ستحتفل، خلال السنة المقبلة، بالذكرى العشرينية لتأسيسها، ومنذ تسعة عشر عاما كان العالم العربي، وهو مأخوذ بالصرخات الصبيانية التي يطلقها (القاوقجي)، وهو مغرور بدهاء (جلوب باشا)، مسحور ببيان (عزام باشا) يضع قدمه في الفخ. لقد كان الجيش الإنكليزي، قبل بضعة أيام، قد غادر يافا على رؤوس الأصابع، ولم ير أحد في ذلك مأخذا، وبالتالي لم ير موجبا للاحتجاج على هذا الجلاء المخالف للعرف الدولي، بل على العكس من ذلك فربما كان العربي مستعدا لأن يخلع على الجندي الإنجليزي المنسحب طوقا من الزهور. فعندما ينتهي احتلال عسكري، يقضي العرف الدولي أن المحتل لا يغادر المكان قبل تسليم السلطات إلى سلطة محلية، تأخذ مسؤولياتها الإدارية والسياسية، من أجل حماية السكان، طبقا لتقليد يؤيده القانون الدولي. أما إذا انسحب الجيش المحتل، بلا دَف ولا زَف، فهذا يعني أن في القضية لغزا، إذ يبقى السكان في الحقيقة تحت رحمة من له سلاح، ومن باب أولى تحت رحمة من سلحه الجيش المنسحب.

هذا ما وقع بالضبط في تلك الأيام الأولى من شهر نيسان (ابريل) سنة 1948. إن الإستعمار ينسحب .. ولعلك تدرك ما لهذه الاغنية من تأتير سحري، على عقول بسيطة عودتها اللريمانوجية تبسيط المشكلات فوق اللزوم ... أليس - كذلك؟. فلم يكن في نظر القوم موجب للاحتجاج. بل على العكس فقد اطلق الناس للابتهاج العنان، غنى كل واحد أنشودة النصر، ببراءة تشتم منها رائحة افتقاد الوعي. لقد عاش الناس حمى الفرح، وانطلقت أصوات أولي الحل والعقد في ذلك العهد، تقول صاخبة أو خافتة: إننا سنقضي على الصهيونية قضاء مبرما!!. وفي تونس، قام أحد الافاقين وكان نبيها متمرنا على انتهاز الفرص، فطبع خريطة فلسطين ونشرها- بمئة فرنك للواحدة- لنتتبع عليها العمليات الوهمية، المشار إليها بالسهام الحمراء أو الخضراء (إنني لا أتذكر لونها) والتي سيقوم بها الطيران العربي. وبهذا ستسحق الصهيونية سحقا!! ولكن كان الأمير عبد الله وأخاه عبد الإله ببغداد، يشمران عن ساعديهما ليضيفا إلى الامبراطورية الهاشمية جزءا من فلسطين. لقد كانت الخيانة منتشرة في الجو. إذ كان فاروق هو الآخر، يبرم شاربيه ويعلن ترشيحه للخلافة، بعد أن قررت فتوى أصدرها بعض العلماء أنه من ذرية النبي - صلى الله عليه وسلم -. وفي هذا الهذيان العام الذي ساد العالم العربي، لم يبق غير عبد العزيز بن

سعود صاحيا فقد احتفظ على الأقل بمظهر كرامته، إذ أدرك هذا البدوي العبقري منذ اللحظة الأولى أن اللعبة قد لعبت، ولم يبق غير توقيعه من بين الدول العربية على اتفاقية الهدنة. على كل حال، فالأمر الذي ينبغي تسجيله للتاريخ، في تلك الأسابيع المشؤومة، أن القيادة العربية، لم تتخذ إجراء يعطل الإطراد السياسي العسكري الذي نتج عن انسحاب الجيش البريطاني. ينبغي أن نلاحظ بأن تقدير الموقف العسكري قد فاتهم مند اللحظة الأولى، حتى من جانب الكم، أعني التقدير البسيط لعدد طلقات الرصاص والبنادق وأزرار الأحذية، بينما كان ذلك يدلهم على خطورة الموقف حتى لو عدوا على الأصابع. لقد كانوا مقتنعين بتفوقهم العددي، مثلا، بينما لو عدوا فقط أصابعهم لأدركوا أن هذا التفوق كان- وهميا في الحقيقة: فعدد من كانوا تحت لواء منظمة (الشتيرن والهاجانا) فقط قد فاق عددهم، هذا إذا لم نقدر كفاءة قيادتهم وتفوق تسليحهم ومستواهم المعنوي، المستوى الذي بدونه لا يستطيع الجندي شيئا ببندقيته، وإذا لم نتحدث من ناحية أخرى، عن العلاقات الخاصة لـ (وايزمن) في العالم المتواطئ، سواء بموسكو أو باريس أو واشنطن. فمن الناحية العسكرية كان الموقف ملغوما قطعا منذ اللحظة الأولى، ولم يكن للعرب من دفع لهذا الموقف إلا بفتح الأبواب لمتطوعين، الذين كانوا يأتون فعلا من أعماق مراكش والجزائر، ليصبوا في المعركة لهيب إيمانهم، وليستشهدوا من أجل تلك البقاع التي جعلها التاريخ من البقاع المقدسة للمسلمين كافة.

لكن على العكس من ذلك فإن الأبواب انغلقت في وجه أولئك المجاهدين، وأحيانا بطريقة مخزية. أما من الناحية السياسية، فقد كانت القيادة العربية تستطيع بعض الشيء. كانت تستطيع مثلا أن تعلن في وجه العالم جمهورية فلسطين، إعلانا يوقف الأشياء عند حدها في موسكو وباريس وواشنطن، أو يكشف عن السرائر ويمزق القناع عن النفاق الذي استطاعت به الدول الكبرى أن تعترف، من دون أن تريق ماء وجهها بإسرائيل باسم ديمقراطية مزعومة. فلو أعلن العرب الجمهورية الفلسطينية لقطعوا السبيل على ذلك النفاق، ولكن ياللويل! كان عبد الله يريد امبراطورية وفاروق يريد خلافة!! ولا نريد الحديث هنا عن ذلك الجانب المضحك المبكي- إذ شر البلية ما يضحك- عندما تصبح الرصاصات العربية تقتل من يطلقها، وطلقات المدافع تعجز المدافع لأنها ليست على القياس. كل هذا كان مبيتا، مرتبا، منظما كفصول مسرحية: فالصهيونية لم تكن تريد فحسب كسب جولة، بل كانت تستهدف على الخصوص تحقير الجانب العربي، ويجب أن نعترف بأن هذا الجانب قد تطوع في هذا السبيل، فمثل في المسرحية (جالوتا) مزيفا قائما على قدمين من طين، أمام (داود) مزيف أيضا لأنه كان مدرعا بالسلاح. إن إسرائيل ولدت هكذا، منذ ما يقارب العشرين عاما. ولكن ما الجديد في الموضوع منذ ذلك العهد؟. إن (الثورة الإفريقية) نشرت منذ أيام مقالا لـ (بن بركة)، يصب سؤالنا في حاجز أحر من الجمر، ويضعنا أمام ظاهرة تجعلنا نرى إسرائيل في حد ذاتها، من حيث تطورها، ومطامحها، ودورها في العالم.

إن هذا العرض يهمنا قطعا في حد ذاته، ولكنه يهمنا أكثر بوصفه مقياسا نقدر به التطور الإجتماعي والأخلاقي والسياسي في العالم الإسلامي. يجب علينا أن نضع جنبا إلى جنب واقعتين: مولد إسرائيل، وهجرة السكان العرب المطرودين من بيوتهم. ونقدر بالموازنة أثرهما في المجتمعين أو الأمتين، دون أن ننسى أن الحدث كان قد اتخذ في العالم العربي حجم الكارثة. ولكن المقدرين لنتائجه، عدوا وقعه على الضمير الإسلامي سيكون له أثر حسن. ومن بين هذه التكهنات نذكر، على سبيل المثال، ما كتبته (الجمهورية الجزائرية) في عدد 9 كانون الأول (ديسمبر) سنة 1949، تعليقا على مقالة للدكتور (ناظم القدسي) فقالت ((إن الهزيمة التي حلت بالخليط من الدول العربية، يبدو أنها أيقظت شعوب الشرق المتوسط من النوم الذي غمستهم فيه قياداتهم. هذا التعليق يحمل كما لا يخفى، نبرة تفاؤلية واضحة، لم تكن خاصة في ذلك العهد، بالصحيفة التي نذكرها. واليوم، بعد عشرين سنة، وفي ضوء ما نراه (1) نجد أنفسنا مضطرين للاعتراف بأن هذا التفاؤل لم يتحقق. ومن هنا يطرح السؤال: هل كان ذلك نتيجة خطأ خاص بذلك العهد في تطور الموقف، أم حدث بسبب عامل فعل فعله السلبي أثناء الإطراد منذ ذلك العهد حتى كانت نتيجته تكذيبا للتقديرات؟!. إننا نرد الاحتمال الأول، لأن الدكتور ناظم القدسي لم ينفرد بين الزعاء العرب برأيه المعبر عن استرجاع الوعي الإسلامي، بعد الكارثة.

_ (1) لم نكن قد رأينا بعد هزيمة حزيران، لأن هذه السطور كتبت قبلها بشهر.

وأكثر من الآراء.، كانت الوقائع نفسها تأذن بالتفاؤل: إن سلسلة من ردود الأفعال الثورية تتابعت حلقاتها مباشرة بعدها. فالأولى من الثورات وقعت في اليمن في العام نفسه بقيادة عبد الله الوزير، ثم الثورة التي قضت على الملكية في مصر شهر تموز (يوليو) سنة 1952، فكانت بذلك تعبر أكثر من غيرها، عن الوضعية الجديدة التي أصبحت تسود العقول والنفوس في العالم العربي، بعد الإساة الفلسطينية. ثم أتت العاصفة التي مسحت العرش الهاشمي وكنست حطامه من بغداد، وبالتالي انتابت الين الزوبعة الثورية الثانية، فأصبح النظام الجمهوري كما يبدو مستقرا بصورة نهائية، على الرغم مما هنالك من تشكك تبديه الصحافة في الغرب مثل (لوموند) حيث ترى الوضع يتطور نحو استفتاء الشعب اليمني. ولم يكن إذن من اتخذ، منذ عشرين سنة، موقفا تفاؤليا قد تعدى حدود العقول في القضية. ولكن إذا نظرنا إلى الأشياء، من الناحية الإجتماعية، وأخذنا مقياسا للموازنة، التطور الذي حصل في إسرائيل في الفترة نفسها، كما يصفه (بن بركة)، فسنجد أنفسنا مضطرين للاعتراف، بأننا إذا قررنا أن الرأي العربي المتنور لم يتعد منذ عشرين سنة القول، وأنه لم يصرف سندا بدون رصيد، فإنه يجب علينا أن نعترف أن ذلك الرصيد قد تبخر. وليست هذه الحالة الوحيدة، التي نشاهد فيها تعقيم حدث كبير ليفقد الإطراد التاريخي طاقته التغييرية. إن مؤتمر باندونج كان أيضا حدثا عظيما، توقع منه الناس آثارا كبيرة في العالم لكنه عقم في الطريق، فلم يلد شيئا. ***

ثمن الوحدة العربية

ثمن الوحدة العربية عن (الثورة الإفريقية) عدد 326 في 12 حزيران (يونيو) 1967. لقد بدأ العالم العربي برد الفعل على الاحداث الكبيرة التي سببها العدوان الصهيوني في الشرق الأوسط. إن القلم ليقف في لحظة صمت، لأرواح الأبطال الشهداء، الذين سقطوا في الميدان من أجل الوطن العربي الذي استرجع وحدته المعنوية في الظروف العصيبة التي يواجهها. إن المستويات الكبيرة التي أبرزتها الأيام الخطيرة الأخيرة، قذفت بالإنسان من حياة يومية سطحية إلى ملحمة كبر بها حجمه فوضعته في مستوى الأحداث. هذا التغيير النفسي له، بطبيعة الحال، أثره في الحياة السياسية: فالمشكلات التي طالما تحدت رشدنا وصدمت ذوقنا بفرقة العرب، هذه المشكلات التي استعصى حلها حتى الآن، تجد الآن حلولا عاجلة يبدو أنها ستبنقى في أيدينا. إن الخطب السياسية، ومواعظ الجامعة العربية لم تحقق، طيلة عشرين عاما، وحدة العرب، وإنها اليوم لتتحقق في لحظة أمام الشدة، في الجانب المعنوي على الأقل. لقد سكتت المشاغبات، وعدنا لا نستمع في الموجات العربية إلا البلاغات يملؤها الإخاء.

وسرعة التغيير هذه ظاهرة تلفت في حد ذاتها نظر المؤرخ، كما لفتت نظر المؤرخين الأوربيين، سرعة انتشار الإسلام واتساع رقعته التي أصبحت في أقل من قرن، تمتد من قلب فرنسا بفضل موسى بن نصير وطارق بن زياد، إلى قلب الهند مع محمد بن القاسم الثقفي، إلى حدود الصين مع قتيبة. ونستطيع قياس عجب هؤلاء المؤرخين، إذا قدرنا في نظرهم المدة التي اقتضاها تأسيس أو امتداد الإمبراطورية الرومانية في إفريقيا الشمالية، بعد قرنين طويلين من (الحروب الفينيقية). ويبدو أن الفرد في العالم العربي، يستطيع الانسجام مع الظروف الاستثنائية أكثر منه مع الظروف العادية. إنه، إذا حركته فكرة أو قضية كبرى يفعل المعجزات، كما دلت الثورة الجزائرية على الظاهرة نفسها التي تتكرر مع اختلاف في الموقع الجغرافي فقط. وهذا هو بالضبط موضوع تأملنا: إن شعبا من الشعوب لا يكتب تاريخه فقط (بالرعد والصواعق) كما يقول (نيتشه)، فإذا كان لابد من طوفان وقيام كوارث من كل نوع، لتستيقظ الضمائر وتنشط الجوارح، فإن ثمن الصفحة من التاريخ سيكون باهظا جدا. فمن الطبيعي، أنه لابد للشعب إذا ما دقت ساعة الخطر أن يكون في مستواها. ولكن الحياة نسيج أحداث كبيرة وصغيرة. والنبي - صلى الله عليه وسلم - الذي كانت له نظرة ثاقبة في الأشياء، بوصفه أستاذ ينشئ أمة، كان يعلمها تقدير الأشياء البسيطة التي يستصغرها النظر القصير، كأنما يريد بذلك ألا يترك الضمير الإسلامي يحلق فوق الأشياء العادية يزهد بها. نراه مثلا، في عودة له من إحدى غزواته الكبرى، ربما غزوة تبوك، يقول

لأصحابه رضوان الله عليهم: ((عدنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر)). فإذا صح الحديث فهل يعبر حقيقة عن قلب للمقاييس؟. إننا نرى اليوم مجتمعات جديدة تتكون وتنمو أمام أعيننا، ونلمس على الطبيعة إطراد نموها تحت تأثير أحداث لا نتوء كبير لها. والأحداث كلها- صغيرها وكبيرها- تثري المجتمعات فتستنتج منها دروسا. والأحداث التي يعيشها العالم العربي منذ أيام قد أثرته فعلا بطريقة تجعله أكثر انسجاما مع شروط مصيره ووحدته. وكأننا نرى الثورة الكبرى- التي لم يسبقها مثيل في البلاد العربية- تجتاح هذه البلاد وتغير معالمها النفسية تحت أعيننا، حتى إن (الوحدة) التي دعا إليها كثير من الدعاة، خلال السنين العديدة دون جدوى، تتحقق في ومضة عين في هذه الأيام العصيبة لتصبح أثمن ما كسبته الثورة. إن العرب الذين كانوا يحلمون بها، والذين يسقطون الآن في الميدان ليشتد عودها بدمائهم السخية، أولئك يعرفون ثمنها. وعليهم الآن أن يعرفوا بأي ثمن سيحافظون عليها، لأننا- حتى إذا لم نستطع منذ الآن إصدار الحكم النهائي على ثورة لا زالت في حيز الاتجاه- نستطيع منذ الآن، الحكم على مكاسبها. وهي لن تصبح مكاسب نهائية إلا إذا أصبحت المسوّغات التي سجلتها في نفسية البلدان العربية وفي سياستها، هذه الأيام، القواعد التي تجري عليها حياتهم كل يوم. إنها لمشكلة الغد، لأن ما لدينا من تجربة ثورية في العالم، وفي البلاد العربية بوجه خاص، يجعلنا نقول: إن لكل ثورة ما بعدها، فإما أن يكون مواصلة للثورة وإما أن يكون في اتجاه معاكس يتنكر لها ويمسخها.

وما نجزم به، أن للاستعمار، منذ الآن، خطة مفصلة لمسخ هذه الثورة. ليس فحسب في الفترة التي ستتبع العدوان مباشرة، ولكن حتى في الوضع العسكري الراهن. ولا شك بأنه سيسعى بكل ما لديه من وسائل مادية، لتوريط العرب في مأزق عسكري أولا، ليس فحسب من أجل الحفاظ على كيان إسرائيل؛ ولكن، قبل كل شيء، من أجل تحطيم الوحدة المعنوية العربية التي تحققت هذه الأيام. ولسوف يصنع المستحيل من أجل إرجاع العرب إلى نقطة البداية النفسية التي انطلقوا منها في المعركة، حتى يغمسهم من جديد في التفرقة السياسية والفوضى الروحية، بينما نرى أن نكسة معنوية ستكون أشد عليهم من أية نكسة عسكرية (1). إن ساعة الصفر التي يكون فيها كل أمر مهيأ للبعث والتجدد، لا تدق كل يوم. لقد دقت للشعوب العربية، في الدقيقة ذاتها التي ألقت فيها أول طائرة إسرائيلية أول قنبلة للعدوان، وكأن الأقدار تهيئ لهم الفرصة مرة أخرى، لتصفية رواسب عهد الإستعمار. لقد بارك الله عز وجل هذه القطعة من التراب التي نسميها فلسطين، وجعلها مهدا نزلت فيه الأديان، قبل الإسلام، وعلى العرب اقتداء بأسلافهم أولا، ولأن أبطالهم يستشهدون اليوم على أرضها، أن يباركوها بما يسترجع وحدتهم. ...

_ (1) كتبت هذه المقالة مباشرة بعد الخامس من حزيران (يونيو) سنة 1967، قبل الإنهيار العسكري على الجبهة العربية.

لحظة (الفلاش)

لحظة (الفلاش) عن (الثورة الإفريقية) عدد 227 في 19 حزيران (يونيو) 1967. كما هو متوقع، فالعدوان ضد البلاد العربية انطلق في اليوم والساعة اللذين حددهما الإستعمار في مخططه. بتواضع تعودناه منه- وهو تواضع لا حاجة لنا إلى شرح دوافعه الخبيثة مرة أخرى- نراه لا يضع توقيعه على ما يصنع إلا إذا اضطرته إلى ذلك ظروف قاسية كما يحدث في فيتنام. عدا ذلك فهو يتصرف بطريقة أخرى: إنه يهيئ كل ما يقلب الوضع رأسا على عقب، يضع القنبلة ثم ينسحب بكل تواضع، تاركا لسواه مهمة تفجيرها أمام العدسات الكبيرة وأجهزة الإعلام والإذاعة. هكذا حدث في إيران، أيام مصدق. وفي الكونجو، أيام لومومبا. وكما يحدث في نيجيريا الآن. فالإستعمار يوظف إذن من يضع توقيعه على أعماله، وموظفه في الشرق الأوسط هو إسرائيل الذي يوقع على كل عدوان في مكانه. فحينما لا يريد الإستعمار أن يظهر أمام العالم، يشرع في تكليف سواه وضع اسمه مكانه، وهذه الطريقة أخذت تزداد أهميتها بقدر ما تزداد حساسية الناس نحو السلم في هذا العصر.

وإنها الطريقة نفسها التي أوحت إلى (جونسون)، من دون شك، أن يصرح قبيل الخامس من حزيران (يونيو)، بأن أمريكا محايدة من حيث النية ومحايدة مين حيث القول ومحايدة من حيث العمل. وبعبارة أخرى؛ إنها ليست هي التي ستفجر القنبلة التي صنعتها، وأعدتها لليوم الموعود ضد العرب، ولكن على الرغم من شدة هذا التحفظ لم ير أحد (جونسون) يطوي في جيبه شراع الاسطول السادس في شرق البحر الأبيض المتوسط. وهكذا رأينا، بل أرونا في لحظة (الفلاش) إسرائيل أمام العدسات الكبيرة وأجهزة الإذاعة والإعلام. إن القلم يتوقف ... ! ولقد توقف في المرة السابقة، في لحظة تفرضها ذكرى الأبطال الذين سقطوا تحت قنابل الغرب وقد كتب على جوانبها إسرائيل. أما اليوم فإنه يتوقف في لحظة غثيان ... ! فكل ما يحدث من تصفية هو خسارة على حساب الإستعمار. فقد لاحظنا في الأضواء التي أطلقتها أجهزة الإعلام لحظة (الفلاش)، تلك التقدمية المتبجحة التي خدعت باسم النزعة الإنسانية، كثيرا من الناس في بلادنا، أثناء الثورة، وهي تنضم لجانب إسرائيل (1). وإن هذا لكسب لنا في الحقيقة، إذا خلصنا عقولنا في سحر الأسطورة التي يسمونها (التقدمية)، وخسارة للجانب الآخر حين تنكشف إحدى وسائله في تخدير عقولنا، وهو منذ اليوم لن يستطيع استخدامها في ظروف أخرى،

_ (1) نشير بوجه خاص إلى المثقفين الفرنسيين الذين نشروا بلاغاتهم قبيل الأحداث بأسبوع.

خصوصا في تلك العاصمة العربية التي مجدت أكثر ممثلي هذه التقدمية تبجحا، فنقشت اسمه على جدران جامعتها، ولقبته (ضمير القرن). على أية حال فها نحن أولاء أمام الأمر الواقع: إن (موشي دايان) الذي كان يؤرخ بلاغاته من تل أبيب، أصبح يؤرخها من القدس. وليس لي أن ألخص الموقف العسكري، فإن رئيس مجلس الثورة قد لخصه للشعب الجزائري فقال مما قال: إن الغلبة تحققت إلى حين، للامبرياليين حلفاء الصهاينة، ولكن هذا لا يعني أننا خسرنا الحرب في معركة .. إننا لم نخسر الحرب. إن آثار العدوان الصهيوني لا تقف عند حد ما نتصوره اليوم، فكما توقعت في مقالتي الأخيرة فقد أعطينا العدو فرصة ليجرنا إلى مأزق. وإذا نحن تركنا جانبا الاعتبار العسكري الصرف، نرى أمرين يلفتان الانتباه في الحالة الراهنة، أحدهما يخص بدايتها والثاني يتعلق بنهايتها. لقد شعر كل جزائري بألم، يوم أعلن نبأ الهزيمة، وعرفت أسبابها الفنية، ونعلم الآن أن هذه الأسباب كانت معروفة منذ اللحظة الأولى، إذ قضي الأمر منذ تحطمت الطائرات العربية في مكانها. ولا أقول هنا سائر ما يجول في عقولنا حول تلك المفاجأة، إذ تكشفت أسباب جعلت النصر الإسرائيلي من الأمر اليسير. ففي وضع كان ينذر بعدوان إسرائيلي قريب كان ثمة إهمال في الرقابة والرصد المبكر لمبادرة العدو، ثم كانت لامبالاة في الإعلام ... الخ. وإني لأساءل: لماذا لم تعلن القيادة العربية عن تلك الأسباب منذ اللحظة الأولى، أي منذ تحطمت الطائرات حتى يتفادى قدر الإمكان الصدمة النفسية في الوطن، عندما يفاجأ بالطامة الكبرى في النهاية.

إن الإعلام عن ذلك كله، لم يأت إلا في اليوم الرابع من العدوان، بينما كان الجيش العربي يواجه طيلة أربعة أيام، العدو من غير وقاية جوية في أرض لا يجد فيها الجندي غابة استوائية تقيه، كما وجد الجندي في فيتنام. هل كان من صالح القيادة العربية أن تكتم السر؟ إن الذين سجلوا اعترافها في اليوم الرابع، وأصابهم هذا الاعتراف كقذيفة تصيب صدورهم، هؤلاء يعرفون أن (السر) الذي يعرفه العدو، ولا نكشفه للمواطنين لهو سر خطير. إن الصراع النفسي، أو حرب الأعصاب كما يقولون، له قواعد لا يجوز الحياد عنها. وإذا لخصنا ما نقول فإننا نلخصه بهذه العبارة: إذا كانت الحقيقة سلاحا وكان الكذب سلاحا، فالأولى استعمال السلاح الأول لأن أسوأ نتائجه أقل سوءا من نتائج الكذب. ولا شك أن نية القيادة في الاحتفاظ بالسر كانت نية طيبة، لأنها لا تريد إزعاج الرأي العام، ولكنها قدرت الأمر تقديرا خاطئا، إذ الواقع سيكشف السر، وحينئذ يتعرض الرأي العام إلى صدمة أكبر مما لو علمه من قياداته. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، فإذا نظرنا إلى القضية في خواتيمها نلاحظ أن صحافتنا مافتئت تتحدث، في سائر أجهزة إعلامنا عن ضرورة اليقظة والانتباه، وأصبحت كلمة (حذر) تتردد في كل مكان هذه الأيام. حسن! إنه لحسن جدا .. ! ففي كل موقف أقل ما يجب على المواطن الانتباه لكل ما يدور حوله في وطنه، دون حقد على الأجنبي، ولا ضغط على أحد، ولا عقلية بوليس، بطبيعة الحال.

ولكن يجب ألا تكون كلمة (حذر) كلمة خاصة بعناوين كبيرة في الصحافة، وبالمواعظ التي ترددها الإذاعة، بل يجب أن يكون الحذر مطبوعا في سلوك كل فرد، وخصوصا في سلوك المسؤولين. إن وطننا ليس ثكنة يقف فيها الفرد كما يقف الجندي أمام الضابط، ولكنه في الوقت نفسه ليس قاعة ميسر يقامر فيها من يريد، بأمن البلاد وإستقلالها. إننا في وضع عصيب فرضه علينا الإستعمار، ولا نبالغ في مثل هذا الوضع إذا ذكرنا المواطن بواجباته، أو إذا طلبنا من الأجنبي الذي يعيش بيننا، أن يحترم قوانيننا وأصول الضيافة. هذه الإعتبارات تأخذ أهميتها من وضع لا نريد أن يتطور نحو الخاتمة التي يفضلها الإستعمار بل نحو تلك التي نرغبها نحن. فقد مني الوطن العربي بنكسة عسكرية لا تنقص من ميزات أبنائه في القتال، كما يعرفها الجميع، ولكن النكسة كشفت عن بعض جوانبه النفسية التي كان لها ضلع في النكسة الأولى في سنة 1948. ويبدو أن العرب لم يتخلصوا بعد من هذه الجوانب. ولكنهم .. حتى في هذه الحالة، نراهم قد سجلوا أثرا محمودا ظهر في الوحدة المقدسة التي شاهدناها في أيامنا المثيرة هذه. وهم إذا احتفظوا بهذا الأثر في سائر الظروف، فسوف يحققون آثارا أخرى في الميدان الإقتصادي والدبلوماسي. وليس من شك في أن هذا هو السبب الذي جعل إسرائيل، تلح في التصريح بأنها مستعدة للتفاهم مع كل حكومة عربية على حدة حتى تفرق العرب مرة أخرى، وهو هدف تستهدفه الآن لتقول بطبيعة الحال، لكل واحد منهم على حدة إنه أعقل وأفضل من غيره.

وعلى الرغم من هذا كله فالإستعمار يشعر بأنه لم يكسب شيئا في هذه القضية، وهو سيدفع في كل شبر من تراب سيناء ثمنا غاليا إذا لم تقدر الأشياء تقدير المتبجحين. وقد يستطيع العرب الزيادة في سلبية ميزانيته على الصعيد السياسي بتوثيق علاقتهم الأخوية أكثر فأكثر، ذلك التوثيق الذي بدأ يظهر منذ بضعة أسابيع. ولعله من الأسباب التي عجلت بالعدوان إذ أنه لم يكن هدف إسرائيل توسيع حدود بقدر ما كان تحطيم روح تخشاه. على أننا نرى أن الميدان الإجتماعي هو الذي يجب أن تتأكد فيه خسارة الإستعمار. فالعدوان الصهيوني قد استهدف قطعا شل المجهود الذي تقوم به البلاد العربية في تشييدها الإجتماعي، فيجب إذن على العرب أن يحققوا انتصارا في هذا الميدان، وبالتالي عليهم أن يضاعفوا مجهودهم لمواجهة المحاولات التي تسعى لصرفهم عن البناء. وبقدر ما يتمسكون باتجاههم وبنسقهم في السير، دون أن يزيدوا أو ينقصوا من سرعتهم بسبب خارجي، يستطيعون التغلب على الصعوبات، حتى تلك التي تكون أصعب ما يواجهونه اليوم. ***

لحظة التأمل

لحظة التأمل عن (الثورة الإفريقية) عدد 228 في 26 حزيران (يونيو) 1967. إن جريدة الجمهورية القاهرية- حسبها نقلته لنا زميلتها (لوموند) الباريسية- تقترح تصفية الثقافة الغربية في مصر. لعل المشكلة مطروحة بعبارات أوحى بها الغضب إلى محرر مستعجل. ولكنها إذ طرحت على أية حال، لابد من ضبط صيغتها. وحسبنا أن نذكر هنا أننا تعودنا الإنصات بكل سمعنا إلى سائر الأصوات، خصوصا الأصوات الغربية. فمنذ (لورانس) الذي كان يعدنا بـ (مملكة عربية)، في الوقت الذي كان زميله (بلفور) يعد بتأسيس وطن يهودي بفلسطين، كم ساحرة قد سحرتنا بكلامها ... فأنصتنا وسمعنا!!. و (ضمير العصر) ذلك الصوت الذي نقش اسم صاحبه على جدار جامعة في عاصمة عربية، لم يأتنا صاحبه وحده من باريس، بل نحن الذين دعوناه. وإذا ما أردنا سبر أغوار هذه القضية يجب أن نقول إن هذه الانحرافات ترتبط بأشياء معينة، لن تزول إلا معها. فحين كان الطالب الياباني يذهب إلى الغرب في أواخر القرن الماضي، كان يذهب ليتعلم التقنية، مع الحفاظ المتشدد على أخلاق بلاده، كما سيذهب بعده،

ذلك التلميذ الصيني المتواضع (نسيان هماسين) ليتعلم في مختبر (جوليو- كوري) بباريس، وليعود لبلاده بالمعلومات النووية التي تدهش العالم اليوم. بينما غالبا ما يحدث للطالب، الذي يذهب من بلادنا، أن يعود بشهادة ولكن بعد أن يترك روحه في مقاهي أو خمارات الحي اللاتيني أو في النوادي الوجودية بـ (سان جرمان). ينبغا أن نتأمل هذه الأشياء التي تفسر لنا اليوم إلى حد كبير ما نحن فيه. وعلينا الصمت أيضاً، إذ بينها كنا ننصت لأصوات غيرنا أو نتكلم، كانت الأشياء الخطيرة التي عشناها في الأسبوع الماضي تتهيأ. فالآن حان لنا أن نعود لأنفسنا، في موقف يفرض علينا لحظة تأمل عميق. ينبغي أولا أن نحدد بدون تردد أو لبس موقفنا الأخلاقي بالنسبة للحالة الراهنة. إن لنا لعبرة في بعض فصول تاريخ المسلمين، فعمار بن ياسر في واقعة صفين، التي كادت تكون قاصمة كان يقول: ((والله لو ردونا إلى صحراء هجر لبقيت على يقيني أننا نقاتل على حق وهم على باطل)). فحين نحدد هكذا بهذا الوضوح، لم يبق مجال للتولي والقهقرى، حتى لو صارت الأرض تدور في الاتجاه المعاكس فما علينا إلا أن نواصل طريقنا. واليوم لا يجوز للعرب التردد في موقفهم أمام الحالة الراهنة؛ من دون تردد أو تراجع سنبقى مهيمنين على كل ما نستنتجه من تأملنا ومن استعادة رشدنا. وإذا ما كشف لنا نقدنا الذاتي أخطاء ارتكبناها، تقضي علينا بالتحسر والندم فليكن ولنشرح صدورنا للندم ...

عندها لن يكون تقاعسا عن مواصلة الكفاح، بل هو الحافز على مواصلته مع شعور أشد رهافة بمسؤوليتنا، وتصور أكثر وضوحا لجوانب الضعف فينا ولأخطائنا التي تسببت في الإرتخاء الذي طبع الرحلة السابقة. وبعبارة أخرى: من يندم يتقدم. وكم نود لو يعود العرب إلى أنفسهم فيحاسبونها حسابا ينجيهم. فالأشياء التي نواجهها ثقيلة، وتفرض علينا لحظة تأمل شامل، لا هوادة فيه. إن ساعة الحقيقية قد دقت في العالم العربي، كما دقت في أوربا في شهر حزيران (يونيو) سنة 1940، وكما تدق كل مرة يكون فيها للمرء حساب مع نفسه. ولا يجوز لنا كل مرة نشعر فيها بأننا نختنق بحقيقة أن نبتلعها مع ريقنا بسبب اعتبارات شكلية. إن ساعة الحقيقة قد دقت في العالم العربي، وإنه من حسن حظه، في المأزق الحرج الذي يجد فيه نفسه، أن يغتنم الفرصة لمحاسبتها حسابا شديدا أي ألا يقف في منتصف الطريق في مراجعة الأخطاء. إن للحالات الحرجة فضلا، حين يتحرر فيها المرء من بعض العقد ومن مراعاة الشكليات، ويستطيع المضي في تأمله إلى أعماق الأشياء، من دون تحفظ دبلوماسي. وهي فرصة استثنائية لا يجوز إهمالها، بل يجب على العالم العربي أن يغتنمها وقد رأينا أمة أخرى تقوم بهذه المحاسبة طيلة ستة أشهر، يوم أعلنت الصين بعد انتصارها ما سمته (حملة الإعتراف)، ونعلم ما كان من أثر لهذه المعالجة في أمة تمثل ربع الإنسانية.

فلو قام العالم العربي بوضع ميزانيته، وفتش في كل ركن من بيته، ولو راجع ضميره من دون أي تلطيف، لشاهد معجزة تبرز من اعترافه، تدهش العالم وتدهشه هو نفسه (1). وينبغي، خاصة، أن نعيد بكل اهتمام قراءة المأساة التي سجلها التاريخ هذه الأيام، ونطلب من كل كلمة ومن كل سطر أن يعطيانا ما يكتمان من سر. فنترك إذن الأشياء تحدثنا بنفسها بلغتها وبكل بساطة، دون أن نفرض عليها رقابة أو تزيينا. ماذا عساها تقول لنا الأشياء؟ إن أغلب الاخبار الواردة في الصحافة الغربية ليست صحيحة، وتبدو بكل وضوح أنها أعدت من أجل أن تزيد في الفوضى واللبس اللذين استوليا على العقول اليوم في العالم العربي، كأنما تريد جهات خفية وضعه أمام قدر محتوم، حتى تتخذ ردود أفعاله اتجاها معينا. إنما تبقى لدينا حقيقة لا نزاع فيها، هي أن الجهاز الفني الحربي لم يكن له - في الجانب العربي- أي تأثير في المعركة. وبجانب هذه الحقيقة، حقيقة أخرى لعلها تلطف الأولى: فالعدوان الصهيوني انطلق من دون إعلان حرب، ويخطئ من يوازن ذلك بواقعة (بيرل هربر)، فهذا محض تزييف للتاريخ، إذ لم يبدأ الأسطول الياباني قصفه ضد القاعدة الأمريكية المذكورة في شهر كانون الأول (ديسمبر) عام 1941 في اللحظة التي كان فيها سفير اليابان بواشنطن يسلم إعلان الحرب إلى البيت الابيض.

_ (1) إن هذه المقالة وأخواتها في الأيام التي تبعت النكسة، لفتت النظر على عكس ما كنت أتوقع، فقال لي سفير الجمهورية العربية المتحدة: إنها تحمل لهجة شديدة علينا، قال ذلك بلهجة العتاب غفر الله له.

فالقضية تختلف تماما عما وقع صبيحة الخامس من حزيران (يونيو) الأخير: فـ (موشي دايان) وشركاؤه بواشنطن، كانوا وحدهم قادرين على تحدي العرف الدولي، وقد بادروا إلى القصف دون أي إخطار موجه للخصم. إنما ذلك لا يعفي هذا الخصم من مسؤوليته العسكرية، ولا يشفع له إذا كان جهازه للرقابة والدفاع لم يتحرك صبيحة الخامس من حزيران، بينما كان الوضع على شفير الحرب منذ انسحاب قوات هيئة الأمم من (شرم الشيخ). ومما يلفت النظر، أن أبواق النذير لم تنطلق في القاهرة إلا بعد عشرين دقيقة من القصف الأول للطيران الإسرائيلي لمطارات الجمهورية العربية المتحدة. وأجهزة الرادار لم تتحرك: ((إنها أشنع كلمة سجلها التاريخ في المأساة، وكم من كلمة أخرى تجب قراءتها وتستحق التأمل)). ولكن .. إننا نعفي أنفسنا من مواصلة قراءة نص لم ينته التاريخ نفسه من كتابته. إن مصير الآلاف من الأسرى العرب بين أيدي الصهاينة- عفوا بين أيدي ضحايا معتقل (داخاء) (1) - لا يزال مبهما. وبعد ذلك، سنشاهد بعض المواقف (الإنسانية) المعدة للإعلام، ولعلنا سوف نرى على الشاشة، (موشي دايان) يوزع الخبز والدواء على لاجئين مطرودين من بيوتهم كما طرد إخوانهم سنة 1948. وفوق هذا كله سنرى الوقفة الإنسانية الجديدة (التقدمية) في الغرب، إننا رأيناها منذ أسبوعين فقط تقف بجانب الصهيونية، معلنة أنها تدعم كفاحها العادل. فلا نستغرب أن نراها غدا- وربما اليوم- توجه نداء إنسانيا من أجل اللاجئين والأسرى العرب.

_ (1) هو (دخاو): مدينة قرب (ميونيخ) اتخذ منها النازيون معتقلا كبيرا.

إن اللحظة تفرض أن نسد أذنينا وخاصة أنوفنا حتى لا نشم رائحة هذا النفاف. يجب أن نفرض الصمت والتأمل والعمل، لأنه ليس لدينا من الوقت متّسع لنسمع ثرثرة الآخرين وخصوصا ثرثرتنا. في الحقيقة إذا كان الصمت من ذهب، قبل المأساة، فإنه اليوم من الذهب المصفى. يجب على العرب، في الوضع الراهن، أن ينظموا سلوكهم تنظيما لا يتركون معه ما يستغله العدو: يجب أن تكون جبهتهم في الخارج كالبنيان المرصوص في ترتيب سياسة البترول، حتى يكون له دور فعال في الملابسة الديبلوماسية الراهنة، وفي الداخل يجب عليهم تنظيم دارهم، لأن الدرس لا يكون مفيدا إذا بقي الوضع كما هو، وقد أدانته بشدة الأحداث ذاتها. لقد قلنا في المرة السابقة، إن كلمة (حذر) يجب ألا تكون فقط كلمة تتحلى بها الصفحات الأولى من جرائدنا، والسطور الأولى من خطاباتنا، بل يجب أن تكون قاعدة يراعيها في سلوكه: المواطن والمسؤول معا. وإذا قلنا (قاعدة) نعني بذلك شيئا يطبق في الحين وتكون له نتائج عاجلة. إننا لنهتف لنشر قائمة (أصدقاء الصهيونية في العالم الغربي) المعلقة على جدران شوراعنا. ولكن ... عفوا أين قائمة (أصدقاء الصهيونية) الذين يتفسحون في شوارعنا؟ يجب ألا يوضع المحراث قبل الثيران. وعلينا بهذه المناسبة أن نحيي الأصدقاء الأجانب المتعاونين معنا، ولكن نقول لهم في الوقت نفسه كما نقول لأنفسنا: ((يجب أولا أن يُحترم النظام في دارنا ويسود)).

فالعرب بحاجة إلى النظام كي يستعيدوا في الوقت المحدد كل ما تحطم من قيم معنوية أو مادية بسبب العدوان الصهيوني. وقبل كل شيء يجب عليهم أن يأخذوا في الحساب كل معطيات المأساة، حتى يتخذوا المواقف البطولية التي يقتضيها الوضع، وكي يصدروا عن دراية حكهم على كل من وجبت إدانته بغير ضعف أو توانٍ. إن الوضع لا يسمح بالتنازل عن أية جريمة. فالإستعمار بالمرصاد كي يلفتنا عن وجهتنا بالوسائل كلها في هذه المرحلة، حتى لا يسمح لتأملنا ولجهدنا أن يأتيا بثمارهما. ومن المؤكد أنه يجعلنا في المشكلة الداخلية، باسم أولويات ينخدع لها بسهولة سذج العقول. بينما هذه المشكلات، رأس القائمة، في سائر الظروف وخصوصا في الحالة الراهنة. فحين كان عمر رضي الله عنه يواجه أعظم ملابسات التاريخ الإسلاميكان يقول: ((والله لو سقط جذع إبل من جسر من جسور دجلة لخشيت أن يحاسبني الله عليه)). وعندما كان نابليون في غمار الحملة التي قادته إلى موسكو كان، وهو يعيش أعسر أيامه، منكبا على تخطيط التنوير في شوارع باريس. تلك عظمة المشكلات الداخلية في نظر عظماء التاريخ، وهم يواجهون في الوقت نفسه أخطر مشكلات زمانهم. ففي الحالات الصعبة، ليس من المعقول أن يقلع القطار بعربات الدرجة الأولى بدعوى أنه قطار سريع، بل يجب أن يحرك سائر العربات وراءه من أولوية إلى أولوية.

والنبي - صلى الله عليه وسلم - يدلنا على هذه الحقيقة في الحديث الشريف: «من كانت بيده غرسة يريد غرسها وقامت الساعة فليغرسها». هذه الوصية لمن يتولى الغرس من المسلمين، يجب أن يتأملها ويستفيد منها كل مسلم، حتى لا يبقى بيده إلى ساعة النشر والحشر ما يريد غرسه اليوم، بدعوى أنه كان في ظرف غير يسير، أو أن الساعة قد حلت. ***

هيئة الأمم تدين شعب فلسطين

هيئة الأمم تدين شعب فلسطين عن (الثورة الإفريقية) عدد 230 في 10 تموز (يوليو) 1967. إن هيئة الأمم أصدرت حكمها، فأدانت شعب فلسطين، وهكذا ينتهي بالنسبة إلينا أسبوع الغثيان. إن الألم المفرط يحرر من الألم، وكثرة السآمة تحرر من الغثيان، كما يؤدي الظلم في درجته القصوى إلى التحرير، وهكذا نعود إلى استخدام قلوبنا وشعورنا بطريقة مجدية، بعد أن شلهما الواقع المرير، ونستطيع حينئذ الحكم على الواقع بعقل رصين. وهيئة الأمم لم تصدر حكمها على الشعب الفلسطيني فحسب بل إنها أغضت فلم تلفظ كلمة واحدة عن الاعمال الوحشية، التي طردته من دياره التي استقر بها منذ آلاف السنين. إنها لم تحكم فقط على ضحايا النابالم، وعلى من وقعن ضحية اغتصاب مقيت، وعلى أولئك الذين اقتحمت بيوتهم عليهم، غداة عدوان بدأ من دون إعلان حرب. لقد حكمت على نفسها أيضاً وهي بغير شك تكتب صفحتها الأخيرة في التاريخ. فالعاصفة التي اكتسحت الأرض العربية في الشهر الأخير، قد أماطت عن وجهها قناعا حجب حقيقتها عن الأبصار. فأولئك الذين تقنعوا وتزيوا بزي القضاة قد ظهروا على حقيقتهم، والشعر

غير الطبيعي الذي كان يكسو رؤوسهم ليمنحهم بياضه وقار الشيوخ، قد طار وكشف عن وجوه ذات ملامح مريبة. إن الظرف يعطينا أولا الفرصة للملاحظة بأن في المكروه درجات: فالقرصنة قرصنة في سائر الحالات. والذي يضع الخنجر على رقبتك، ويأمرك بكل وقاحة، أن تعطيه ما عندك، مغتصب سارق ولا شك في ذلك. والذي يتزيا بزي (الراهب المتسول) (1) أو يلبس إحرام الحاج، وبيده سُبحة، ويرصدك في منعطف الطريق، أو في ركن الشارع ليغتالك ويسلبك متاعك، هو أيضاً مغتصب سارق. ولكن على أية حال! ألسنا إذا تبصرنا في الأمور أبعد من سطحها، نرى أنفسنا محقين إذا قلنا عن الأول: ياله من مغتصب عفيف. لقد تحدث الناس، ولعلهم ما زالوا يتحدثون- وربما من أجل تصنيف توراة جديدة- عن العناء الذي عاناه اليهود في حكم هتلر. وتحدثوا بوجه خاص عن محكمة (نورمبرج) التي تحكم على اليهود باسم عنصرية لا تكتم اسمها. ولكن .. ها نحن أولاء اليوم، نرى محكمة (نورمبرج) بين جدران هيئة الأمم، تحكم على الشعب العربي الفلسطيني باسم التوراة الجديدة! إن مسوغات الحكم، لا تمت بصلة- نقرؤها في الحكم، أو نرى أثرها فيه بكل وضوح- إلى العنصرية والتعصب الديني. ولا تمت بصلة نجدها في نص الحكم، إلى إرادة القوة التي أملت بتأسيس إسرائيل بوصفها رأس جسر أعد من أجل غايات استراتيجية، في احتمال حرب

_ (1) كان هذا النوع من الرهبان موجودا في أوربا في القرون الوسطى وكانوا يتسولون تعبدا.

عالمية ثالثة، ولأغراض سياسية تقف سدا في طريق وحدة البلدان العربية التي لا تقدر على شيء مادامت الوحدة غير موجودة. فليس من الضروري أن نذهب إلى أبعد، بل نحن منذ الآن نستنتج نتيجة: فالمحكمة الهتلرية بهيئتها العنصرية، الصبيانية، لن يكون لها في تاريخ الإنسانية الأخلاقي الأثر الذي سيكون لمحكمة (نورمبرج) الجديدة التي أدانت شعب فلسطين بإتلاف قضيته. ولعل الحكم الممقوت الذي أصدرته بتصويتها ضد العرب، يطلقنا من بعض قيود تفرضها علينا اللياقة، لنتحدث ببعض الحرية عن الوضع المتسم بالخلط والشبهات، الذي انغمس فيه العالم الثالث منذ عدة سنين والذي يفرض عليه مراجعات مؤلمة. إننا نذكر بوجه خاص أن إسرائيل لم تجد نفسها مضطرة إلى إلغاء بعض مبادئها، ثمنا للحصول على صداقة الكثير من دول العالم الثالث وما يسمى بالعالم الحر. إنها لم تتنكر لصفة من صفاتها إرضاء لأحد، بل ظهرت للجميع على حقيقتها كما هي بل شددت في الظهور كذلك ... في وجه العالم ... فملحدوه ومؤمنوه تكلموا بلغة واحدة أثناء الأحداث. إنههم قاموا كلهم على جبل سيناء، في لحظة خشوع وقنوت، أمام توراة منشورة حملتها دبابة. وفي اليوم الأول من العدوان، وجه (موشي دايان) إلى الجيش هذه الكلمات: ((إن جنود السماء تقاتل معنا)).

ونحن لا نشك في صحة هذا البلاغ، إذ لم نتلقه من صحافتنا، بل من صحافة الغرب التقدمية التي لا يجوز فيها الشك فيما تنقل عن تل أبيب. وعليه، فإن إسرائيل لم تتنكر لشيء من حقيقتها، بل أظهرتها كما هي للعالم، ولسنا في هذا ننتقدها، بل على العكس، فنحن نحترم عقائد الآخرين. إنما نريد، في تحليل وضع معين، أن نأخذ بعين الإعتبار سائر العوامل التي كان لها فيه دور أي دور. فاستعمال النابالم لا يفسر فقط حسب نظرية (لود ندروف) في قيادة (الحرب الشاملة)، فهو مرتبط بعوامل نفسية لا يجوز إهمالها، ليس فحسب بسبب دورها الديناميكي في الأحداث، بل في نظرنا، لضبط معناها السياسي بصورة أكثر. لقد كان لهذه العوامل دور، حتى في مداولات هيئة الأمم الأخيرة، أو في إدانتها شعب فلسطين كما فضلنا أن نقول. ولعلنا نفسح المجال هنا لتعجبنا من الجهد الذي بذل في الأيام الأخيرة، من أجل إقناعنا بأن المداولات لم تكن تنطوي على أي شيء يمتُّ إلى الدين، أو العنصرية (1). هل نصدق هؤلاء المحامين عن نزاهة (موشي دايان) في الموضوع، أم نصدق (موشي دايان) نفسه الذي يكذبهم بأعماله وأقواله .. ؟. إننا نأبى- وقدى استطاع (موشي دايان) على الجبهة العسكرية أن يستخدم الشيفرة العربية التي حصل عليها عن طريق خونة متورطين- أن نستخدم الآن

_ (1) يذكرنا هذا الموقف بآخر عندما كتبت قبل الثورة الجزائرية، مقالا بمناسبة إبعاد مولاي (محمد الخامس) تحت عنوان (حقد على الإسلام). انظر كتاب (في مهب المعركة) [ص:59]، دار الفكر- دمشق 1987، حيث أدرج هذا المقال.

على الجبهة الايديولوجية أصواتا عربية تشهد له، عن علم أو غير علم، بالنزاهة. يجب أن نترك هيئة الأمم تحمل مسؤولياتها كاملة أمام التاريخ. إنما ينبغي أن نلاحظ بأن هذه المسؤولية لا تخص أمريكا وحدها، بل تخص إفريقيا أيضاً، تلك التي التفتت عن قضية عادلة في لحظة حاسمة، وضحت، بتصويتها، بوصفها شعبا من العالم الثالث على مذبح (مولوخ). فقبيل (الإدانة) كنا نقرأ في مجلة أسبوعية تنتسب لإفريقية، على الأقل في عنوانها، مقالا عنوانه (صمت إفريقيا) يعبر عن الحقيقة. أما بعد الإدانة فكنا نعلم أن إفريقيا- عدا ثلاث دول أو أربع- قد أسهمت في إصدار الحكم على شعب فلسطين. لقد كتبنا منذ بضعة أسابيع، أن العرب خسروا معركة عسكرية، بسبب تواطؤ أمريكا في القضية، والآن يجب أن نقول: إن العرب خسروا معركة ديبلوماسية بسبب تواطؤ إفريقيا هذه المرة. إنما بكل أسف لا بد أن نلاحظ في الوقت نفسه أننا حصدنا ما زرعنا. ولا بد أن نعود إلى الوراء بعض الخطوات، لنرى كيفط ساعدنا الإستعمار في لعبته في العالم الثالث، وبالتالي ساعدناه ضد أنفسنا. ففي عام 1955 اجتمع المؤتمر الأفرسيوي الأول، وإنا لندكر ما أثار من آمال في العالم الثالث، ومن استياء في العسكر الإمبريالي. وقد استطاع هذا المؤتمر فعلا أن يجعل الامبراطورية الإستعمارية سابقا، جبهة ضد الإستعمار يحركها روح باندونج، ومما زاد في أهمية الأمر أن هذه الجبهة حددت لنفسها خطا سياسيا أسمته (الحياد).

ولكي نتصور مدى هذه الكلمة، علينا أن نتصورها في فترة يسودها مناخ الحرب الباردة، ومن هنا نستطيع أن ندرك سائر المسوغات التي كانت تدفع الإستعمار إلى إحباط هذا التجمع الخطير لشعوب العالم الثالث، وبذل سائر جهوده لإحداث التشققات في البناء، وافتعال الانشقاقات في الجماعة. ولنتساءل: ما هي الطرق التي كانت تسمح له بذلك؟ لم يكن في استطاعته، بطبيعة الحال، أن يقول للشعوب الإفريقية الآسيوية: تفرقي! أو يأمرها بتنكر علني لما قررت، وبالكفر به، وبالردة! وحتى لو استجاب له بعض الزعماء لنادت الشعوب: بالخيانة. لم يكن الإستعمار إذن ليتبع طريقا مسدودا يؤدي به إلى مأزق، وهكذا اتخذ سبيلا آخر. إن الأهمية الأيديولوجية لمؤتمر باندونج، كانت في أنه قد وضع جسرا يربط بين إفريقيا وآسيا كما يبدو في عنوانه وهذه أهمية خطيرة بالنسبة للمعسكر الإمبريالي. ولا أقول هنا، كل ما قيل عن هذا الجسر في الصحافة آنذاك، إنما ما يهمنا قوله هو إن اهتمام الاستعمار بتحطيمه كان أهتماما بليغا. وهكذا ولدت منظمة الدول الإفريقية، التي لم تكن سوى بنت سفاح للاستعمار، وإفريقيا التي ولدتما دون أن تعلم من هو أبوها، ودون أن تعلم أن مولدها لم يأت إلى هذا العالم إلا من أجل التفريق بينها وبين آسيا. كان عملادقيقا رقيقا يجب الاعتراف بذلك. ولكن الأمر الذي يهمنا، هو أن الأوطان العربية ساعدت على انجازه بطريقتين:

أولا: لأنهم زهدوا (هل زهدوا فقط) في تنمية روح باندونج، بما لديهم من وسائل، وفي مستوى مسؤولياتهم، حتى يصبح محصنا من سائر المناورات المكشوفة، أو التي تسري تحت الأرض؟ وأضيف بأننا لو قدرنا مسؤولياتهم، فقط لوجود (السكرتيرية الدائمة لتضامن الشعوب الإفريقية الآسيوية) في القاهرة لعددنا مسؤوليتهم شيئا له وزن. بينما لو سألنا المسؤول العربي عن حصيلة مهمته الأفرسيوية أثناء إشرافه على السكرتيرية، فإنني أشك في أن تكون هذه الحصيلة إيجابية. وعليه فمنذ البداية لم يفعل الإستعمار شيئا سوى أنه استغل سائر الثغرات ومن بينها ثغراتنا نحن العرب. وإنني أذكر على سبيل المثال تصريح إحدى الشخصيات العربية التي حضرت جلسة لهيئة الأمم الإفريقية بالدار البيضاء سنة 1961 حين قالت: إن القرارات التي اتخذها هذا المؤتمر أهم من قرارات باندونج. ونحن نتصور كم كان (بن غوريون) في ذلك اليوم مرتاحا لهذا التصريح الواقعي. وإنا لنرى في الظروف الراهنة كم يندرج موقف الدول الإفريقية الأخير في هيئة الأمم المتحدة بتصويتها لصالح إسرائيل، كم يندرج هذا الموقف في تلك الواقعية قصيرة النظر. وإنه لأمر عجيب حقا: فنحن حينا بمثاليتنا العرجاء، وحينا آخر بواقعيتنا الخرقاء، نصرف الماء دائما إلى طاحونة الإستعمار. وبالتالي، فحين يتقرر في القاهرة، اجتماع مؤتمر إفريقي آسيوي مستعجل للتأثير فيما يبدو، على هيئة الأمم، نكتشف أنه لم يبق أي وزن لباندونج، ذلك

لأننا اجتهدنا عشرا من السنين لإفراغه من كل محتوى، وجاهرنا بانتقاصنا له حتى في تصريحاتنا الرسمية كما أشرنا إلى ذلك. وإنها لمحنة إذا نحن لم نقرر جديا التخلص منها. لكن من العسير معالجة مريض ليس فيه مرض فحسب، وإنما لديه إرادته في التمسك به فكيف يمكن شفاؤه. وهنالك ما هو أدهى وأمر، حين يخفي المريض الدواء وراء ظهره، ثم يصرخ: أريد أن أشفى! أريد أن أشفى! .... إنه يحق لنا حينئذ أن نعده يمازحنا. ومن حسن الحظ، فزمان المغالطة والمزاح قد انتهى، لأن عهد المحنة قد حان ولعلها تنضح ضمائرنا. فالشكر للقدر على المصائب تصيبنا، إذا كان بها صلاح أمرنا. ***

مفاتيح الحرب

مفاتيح الحرب من جريدة (المجاهد) عدد 3 من شهر آذار (مارس) 1971. إن عهد تصفية الإستعمار لا زال مستمرا، منذ دقت شعوب العالم الثالث أبوابه التي انغلقت على حرياتهم، منذ أكثر من نصف قرن. وحيثما تباطأت خطوته أو تسكعت، نشأت بمقتضى منطقه القاسي، تلك الحركات التحريرية التي تضع، من دماء الشعوب الثائرة، وصمة حمراء على وجه الإستعمار، كتلك النقطة التي نراها على جبين الآلهة التي صنعتها الأساطير الهندوكي. وفي كل الأوطان تتمتع هذه الحركات بعطف الشعوب، وأحيانا بتأييد السلطات. وفي وطننا يجدون- بالإضافة إلى ذلك- الجو الذي يكهرب روحهم الثوري. إن ثورة تريد أن تصنع شيئا في التاريخ، يجب عليها أن تصنع نفسها أولا. وقد استخلص (دوبونال) من خلال تأمله في الثورة الفرنسية ((من الإنجيل إلى العقد الإجتماعي، فالكتب هي التي تصنع الثورات)). لقد كان اهتمامه عالقا، في هذا المقطع، بالجانب الإستراتيجي والنظري اللذين يكونان أيديولوجية الثورة في علاقاتها بالأهداف البعيدة. لكن الثورة أيضاً، تكتيك يتعلق بالمهمات العاجلة والمتجددة مع ما يمليه سير الثورة في كل يوم.

فالثورة في حاجة اليوم إلى الدفاع عن قضيتها في الداخل والخارج، دفاعا أصبح معه للحركات التحررية أدب وأحيانا (سينماتيك) تضم أفلامها، فتنشر نشرات عن حركاتها وينشر عنها. ولقد تبتدئ هنا مشكلة، عندما نريد التعرف إلى إحدى هذه الحركات بطريقة مجزية وسريعة، خصوصا إذا كانت الملابسات أو موقعها الجغرافي يضعها -كالثورة الفلسطينية- في نقطة تقاطع للديانات والثقافات والحضارات والمصالح الاستراتيجية المتعارضة، وفي مركز شبكة المناورات المنسوجة على يد أولئك الاختصاصيين المشرفين على (لعبة الأمم). حينئذ يصبح من شبه المستحيل، أن نتعرف بسرعة على إحدى تلك الحركات لكثرة ما نشرت وما نشر عنها، أعني أن نتعرف عليها بطريقة مجدية تجنبنا حيل وأحابيل لعبة قد نقع فيها، بسبب أفكار غير ممحصة أو مستعصية على التمحيص بسرعة. إن كثرة الوثائق تكون أحيانا أولى بتضليل الفكر من قلتها. إذ يكفي أن نحضر أي مؤتمر دولي له بعض أهمية، لنخرج بحقيبة من الوثائق، فمن الوثيقة التي تريد إلقاء الأضواء على المصادر الدينية للصهيونية ككتاب الأب (بول حتي مسعد): (بربرية التوصيات الصهيونية)، إلى الوثيقة التي تختص بجانب واحد من القضية الفلسطينية، إلى مجرد المنشور أو البلاغ الذي يشيد ببطولة عصابة من الفدائيين، أو يفند العمل البربري الصهيوني الأخير، كحرق المسجد الأقصى. حينئذ لا يكون للقارئ إلا حيرة الاختيار، وهو سيكون في حيرة حتما، إذ ليس لديه غالبا فسحة من الوقت كي يتسكع في مطالعة الوثائق جميعها، كمراسل يبحث عن الخبر النادر ليثير به قراء ارتخت أعصابهم واستولى عليهم الملل.

فالقارئ إذا لم يكن منقادا لغرض خاص، لا يجد لنفسه مجالا للتسكع الفكري أمام مأساة فلسطين، بل يرى نفسه مجببرا على الاندفاع في لهيبها والدخول نحوها، بأيسر طريق يحصل فيه منذ الخطوات الأولى على معلومات مختصرة لكنها صحيحة، واضحة لكنها جوهرية. إن هذه الصفات هي التي تتحقق بالضبط في كتاب (مفاتيح الحرب) الذي نشرته لـ (بيير روسي)، دار (جيرم مرتينو) في سلسلة (المكتبة العربية). إن الناشر يقدم المؤلف في كلمة مطبوعة على ظهر الكتاب، يقول فيها: ((إن (بيير روسي) من الملاحظين المتميزين للشؤون العربية، إنه من مواليد جزيرة (كورسيكا) من أسرة عربية، ذات تقاليد عائلية في الميدان الإداري والعسكري، فقد عاش (روسي) أكثر من ربع قرن في تلك البلدان (العربية) حيث كان مديرا للمعهد الفرنسي ببغداد، الأمر الذي أتاح له أن يتعرف على الشرق وأزمته، فكان له اتصال مستمر بالمسؤولين وله معهم صداقة، جعلته يحصل على معلومات أساسية استخدم جوهرها في كتابه (مفاتيح الحرب).)) ونضيف إلى ذلك أن (روسي) يتمتع بشيء آخر، بمعادلة شخصية جعلته يهتم بتلك المعلومات ليستخلص منها ذلك النشيد الأساسي، الذي خصص له الفصل الأخير من كتابه تحت عنوان (نشيد العالم). لم يكن القارئ يتوقع هذا النشيد في كتاب قرأ في سطره الأول هذه الكلمات: ((إننا نعيش في عهد الليل)). وفي عرض الكتاب من السطر الأول إلى الفصل الأخير، لم يتبع المؤلف الطريق السهل الذي يتبعه (المخبر) البسيط، ولا الطريق الملتوي الذي يتعب من يتعمد التفنن في تلك (السرية الخاصة) بأدب الشيفرة، الذي يهواه ويهتم به بعض المستشرقين.

إن كل ما يكتب قد عرض على الضمير وعلى القلب قبل أن يدخل في مادة الكتاب: فهذا الاوربي الفاضل يرى، ويرينا في لحظة نقضيها في صفحات كتابه، من خلال المحنة السوداء التي يعيشها ويتشرف بها الشعب الفلسطينى، يرى ويرينا التدهوت الفظيع الذي أصاب حضارة ضيقت بالتدريج حرية الفكر، ووضعته تحت وسائل جديدى لمراقبة العقول، فخفضت بذلك من قيمته الحقيقية الجلية حتى أصبحت تساوي صفرا. هل هنالك من لعنة أشد من هذه، نستطيع تصورها على تلك النظم والمنظمات التي أنكرت، منذ صلح (فرساي) إلى تأسيس إسرائيل في 1948، أنكرت أمام الرأي العام في الغرب حقيقة جلية كفلسطين والشعب الفلسطيني، وهي حقيقة أقرتها آلاف السنين من التاريخ؟. فالفكر يلمس القضية هنا- كما نرى- في أرفع مستواها البشري، لمسا يكشف لنا (روسي) معه عن المناقضة التي لا دواء لها، بين حضارة (الفوتوي) الكرسي المنجد و (حضارة الروح)، تلك المناقضة التي تبلغ أشدها حين يصبح (الروح) أمام القوى التكنولوجية الفظيعة التي تدكه، لا يملك للدفاع عن مضمونه غير الجسم الضعيف الذي يحمله. وفي هذا الصراع المتعادل، نرى (روسي) يثق بالإنسان، فيقول: ((منذ الأزل لدينا الحجة بأن التكنولوجية لا تستطيع قهر مقاومة الذرة الإنسانية. فمنذا الذي يشك في هذه الحقيقة؟ وهو يرى ما يرى من مناضلي الفيتنام ومجاهدي الجزائر، ومقاومي أنجولا، والمقاتلين في كل مكان من أجل قضية عادلة؟.

أما الفدائيون الفلسطينيون فقد كشفوا للجيل الذي يشاهد تحليل الذرة، أن الذرة الإنسانية لا تحطم فعلا، وأن الأجهزة الضخمة التي تريد تحطيمها قد يصيبها العطب)). و (روسي) لا يخرج من دائرة هذا الدرس السامي، حين يوازن ((جيش الغزاة المحتلين الذين يجدون لديهم ما يشتهون. ويمشون في ضوء الشمس، مع جيش الشعوب المكافحة الذي يسير في دجنة الليل حتى لا يرى)). ثم يعكس هذه الحقيقة على موضوع كتابه فيقول عن جدارة: ((إن الجيش الفلسطيني هو ذلك الجيش: فرجال فلسطين ونساؤها وأطفالها أضحوا في وضع لم يبق لهم فيه سوى التجنيد، إذ لم يبق لهم سقف ولا أرض ولامال)). لم يبق لهم سوى (كفنهم) كما تقول أنشودة أنشدوها في أرض الهجرة والاغتراب يذكرها المؤلف. لكن هؤلاء الجائعين المنبوذين من وطنهم، هؤلاء المحذوفين هن قائمة الأمم بإرادة الدول الكبرى، أدركوا بأن وجودهم بوصفهم خعبا يوضع هذا الموضع إنما هو (في مشرب بندقيته) حسب تعبير (ماوتسي تونغ) إذا تصرفنا فيه قليلا. وبازدراء تُعلقه الأقدار على رأس كل إرادة توسعية، وعلى رأس كل طاغية رأينا في الأسبوع الذي تلا الخامس من حزيران (يونيو)، الضباب الذي حجب شعبا قُبر حيا، بعد ما سقط (جالوت) مزيف تحت ضربات (داود) مزيف، وكانت قطيرات من الصداقة الدولية المقطرة تتخلل ذلك الضباب تحت إشراف هيئة الأمم. وها هو ذا الضباب يتمزق وتتمزق معه مطامع كانت تستهدف (يالطة جديدة) خاصة بالبحر الأبيض. لقد ظهر شعب فلسطين من خلال الضباب، وخرج من مآويه الحقيرة التي أعدتها الصداقة الدولية على حدود بلاده، ليبين للعالم المتحضر- وقد أصبحت

مس إنجلترا وفراولين ألمانيا تتحليان بصورة (هنيبعل) الصغير (دايان) على صدورهما- أن أي قوة بشرية مهما ساندها من التكنولوجية والمال لن تستطيع حذف أمة من الوجود. فالحلف بين المال والتكنولوجية له حدوده كما يلاحظ (روسي)، إذ يبدو له وجه التشابه في القتال بين أمريكا وإسرائيل في صورة ((قتال الترف الذي يجابه في مجتمع الاستهلاك العنصر البشري الفقير (ولكنه عظيم)، يجابه فيه من يعنى براحته وصحته ذلك الذي ليس لديه الوسيلة ولا الوقت ولا المال ليرفه عن نفسه)). فهذا المقطع من كتاب (روسي) له، من بين مزاياه، أنه يقضي على خرافة خطيرة هي: أن الناس تعودوا على استخدام صورة مثبطة للهمم، عندما يتحدثون عن (صراع ماعون الطين مع ماعون الحديد). هذه الصورة طالما خدرت الضمائر في عهد الإستعمار، وطالما خدمت سياسته لأنها لعبت دور المحبس النفسي، الذي يحبس انطلاق الطاقات الثورية لدى الأجيال المستعمرة. ولعله وجب علينا أن نعطي الصورة قالبا آخر هو أقرب لواقع الصراع الثوري ضد سلطة استعمارية: إنه صراع ماعون العدم مع الحديد. فمنذا الذي يستطيع تحطيم العدم، الذي هو في معناه وجوهره لا يحطم. فكأنما (روسي) أراد أن يكشف لنا هذه الحقيقة فما أورده بصدد معركة الكرامة حيث يقول: ((إن العمليات الأولى التي بدأت في شهر آب (أغسطس) 1967، لم يكن هدفها سوى لفت النظر للقضية، ورفع المعنويات العربية التي أصيبت إصابة

كبرى، إنها لم تكن من نوع الحرب، بل من نوع الدعاية المسلحة، فكانت على ذلك عمليات انتحارية غالية الثمن إذ فقد نصف القيادة حياته فيها. أما في الكرامة، فالأمر يختلف، إذ استطاعت فئة من المتطوعين الفلسطينيين سد الطريق على وحدة مدرعة إسرائيلية تساندها وحدة من المظلات)). وهكذا نرى أن (ماعون العدم) صمد فعلا، حتى إن القيادة الإسرائيلية ساومت مرغمة لتخليص جيشها من المأزق، بأن يترك السبيل لجيشها في الرجوع على أن يترك عتاده على أرض المعركة، وقبلت إسرائيل الشرط الذي قدمته (منظمة فتح). وليس لسبب غير هذا، أن اختصاصي (لعبة الأمم) لجؤوا بعد الكرامة إلى مناورات حيكت خيوطها في عمان. لكن قوة لا تستطيع تحطيم (ماعون العدم)، ولعل هذا ما دفع (روسي) لتخصيص الفصل الأخير من كتابه لـ (نشيد العالم). إن القول الذي يقال عن كتاب مفيد إنه يستحق مكانه في مكتبة الرجل الظريف، قول صحيح ولكننا نقول إن كتاب (مفاتيح الحرب)، يستحق مكانه على مكتب كل مسؤول في السياسة العربية، ليس فحسب لأنه يجد فيه (الإبرة المغنطيسية)، التي تضعه في الإتجاه الصحيح بالنسبة لقضية فلسطين في محتواها العربي، ولكن ليقدر به أيضاً أهميتها الدولية في فترة لا نرى فيها الفدائي يمسك (في مشرب بندقيته) وجوده فحسب، بل ربما أيضاً السلم العالمي. ***

الفصل الخامس حول الإقتصاد

الفصل الخامس حول الإقتصاد . مؤتمر 77 . مؤتمر نيودلهي . جولة البترول العربي . شروط الإقلاع الإقتصادي . العمل والإستثمار . إقتصاد القوت واقتصاد التنمية . نشتري أم نصنع؟.

مؤتمر 77

مؤتمر 77 (1) عن (الثورة الإفريقية) عدد 247 - 9 تشرين الثاني (نوفمبر) 1967. لقد أنهى مؤتمر (77) مداولاته، ولأنه لقب (باندونج الإقتصادي) فقد يرى من يؤمن بالفأل سبب تشاؤم في هذه التسمية. ولسوف يعزو ذلك إلى سوء حظ سابقه (باندونج السياسي) الذي لم يحظ فعلا بما يغبط عليه. والحقيقة أن (باندونج السياسي) لم يبق سوى ذكرى طيبة بعد ما صبّ، عند انعقاده منذ اتنتي عشرة سنة، من روع في الروح الحساس الذي كان للراحل (فوستر دالس). ولنترك جانبا- إذا شئتم- الخرافات هذه، والتشاؤم والتفاؤل معا، وحسبنا أن نكون موضوعيين لنقوم بمجرد تقويم لمؤتمر (77). لقد أضاف، لاشك، فصلا هاما إلى تاريخ الحركة التحريرية التي بدأت في العالم الثالث مع إستقلال الأوطان الأولى منه. وعلى هذا الأساس نعترف بأن المؤتمر قد أضاف إلى هذا الجهد التحرري عملا سياسيا هاما ألا وهو ما سمي (ميثاق الجزائر). بعد هذا لابد من ملاحظة: لقد اتخذ هذا المؤتمر من المؤتمر الذي سيعقبه في نيودلهي قبلته منذ اللحظة الأولى، وبذلك أضحى مؤتمر الجزائر، كأنه فقد الغاية في حد ذاتد أو بعض غايته.

_ (1) سمي المؤتمر (77) لأن سبعا وسبعين دولة اجتمعت فيه بالحزائر.

ولم يكن هذا الأمر دون تأثير على نوع تفكير المؤتمر، وعلى نوع مراكز الإهتمام في تفكيره، كما لم تكن من جراء هذه التبعية لتفقد بعض التبعيات وزنها في اتجاه مداولاته، التي كانت على ذلك، ضربا من مقدمة للحوار المتوقع متابعته في نيودلهي، مع مخاطبه (العالم المصنع) الذي كان حاضرا في الجزائر وإن لم تره الأبصار. فقد كان الإجتهاد في تهيئة مقررات الحوار المقبل مؤثرا على جدول أعمال، قد تأتي فيه المشكلات على عكس ترتيبها الطبيعي، ترتيبا يأتي معه المهم منها في الرتبة الثانية. وإذا تصفحنا بدم بارد، الوثيقة التي تركها المؤتمر بين أيدينا باسم ميثاق الجزائر نجد فيها فعلا بعض الثغرات. لقد كنا في الحقيقة ننتظر بنودا تحدد التزامات كل عضو في الوحدة أو الجهة الإقتصادية المزمع تشييدها، لكننا لم نجد في الوثيقة سوى كراسة المقترحات التي ستقدم بنيودلهي إلى المخاطب الحاضر غير المرئي. وفي الحقيقة نجد الكراسة هذه تطالب بالكثير، من العالم المصنع، إن لم نقل إنها تطالب بكل شيء، فتطالب مثلا 1% من مدخوله العام لتنمية البلدان النامية. فمن الناحية الأخلاقية، لعل هذا جائز، ولكن المخاطب لا ينصت لهذا المنطق ولا يتكلم هذه اللغة. وهكذا انزلقت المداولات في الحديث عن حقوق (العالم الثالث) عوض أن تذكره (بواجباته) نحو نفسه، بينما مأساة الدول النامية كلها انعقدت حول نواة قي نفسها، تخلق فيها عقدة حرمان تحرمها من حرية التفكير أولا ثم من حرية العمل.

فكل شيء يزحزح مسؤوليتنا عن عاتقنا، ليضعها على كاهل غيرنا هو شيء لا يعدو أن يلحقنا منه ضرر. ولهذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - ينمي في كل مسلم الشعور بمسؤوليته بطريقة تربوية، نذكر منها مع ما نستطيع في ضبط النص هذا الحديث: «إنما هي أعمالم ترد إليكم، كما تكونوا يول عليم». فالقضايا الإقتصادية لا تند عن دائرة هذا القانون: فمسؤوليتنا فيها لا تقل عن مسؤوليتنا في المجال الأخلاقي. ولربما يتعذر استعمال هذا النص- ولست على يقين من ذلك- في عهد ما قبل الثورة، لأن الزعماء كانوا يزعمون أنه يجب علينا لمواجهة الإستعمار أن نصنع سهامنا من كل حطب، وزعموا أن (الحقوق) كانت الحطب الموجود في أيدينا. إنني لا أشك في أن الإستعمار، أو وريثه الإستعمار الجديد، يريد ألا نحتطب إلا من ذلك الحطب إلى نهاية الدنيا، حتى نفقد تماما الشعور بالمسؤولية، كما لا نشك إذا راجعنا تاريخ الجزائر في الحقبة ما بين 1934 و 1939، أن الذي غير وجهتنا من القيام بالواجبات إلى المطالبة بالحقوق، لم يكن سوى إحدى نتائج تلك الميكيافيلية؛ ففي ضوء هذه التجربة التاريخية، نستطيع الآن الحكم على المؤتمر الإقتصادي الذي انعقد بالجزائر بأنه قد انزلق أيضاً في (المطالبة)، بينما كانت أولى المشكلات تحديد العلاقة بين المواد الخام والعملة، حتى لا تكون الأولى تحت رحمة الثانية في السوق تبعا لألاعيب البورصات العالمية. أما اليوم، فصاحب العملة هو الذي يحدد وحده تلك العلاقة، باستثناء بعض الصفقات التي تقع على أساس المقايضة بين دولتين.

أما القانون العام للتبادل التجاري، فهو قائم على سيادة العملة، وهذا القانون يمسح المشكلة الإقتصادية في العالم الثالث، مسحا يطرح معه دائما طبقا للتقديرات النقدية، وأحيانا طبقا للتقديرات السياسية عندما يقرر إنشاء مشروع كبير للتنمية. إننا نذكر على سبيل المثال، ما حدث لمشروع السد العالي في مصر، عندما كان بناؤه مقررا في البداية عن طريق البنك العالمي للتنمية، ونتذكر كيف أحجمت هذه المؤسسة النقدية العالمية بالتالي، حينما حددت الحكومة المصرية، سنة 1955، خطها السياسي بالنسبة للأحلاف العسكرية الجوية، واتخذت بعض التدابير في التسليح للدفاع عن الوطن من عدوان إسرائيل. ففي هذا الإطار كل محاولة تنمية ما هي إلا سراب، وكل تبادل إقتصادي تفرضه سلطة العملة فهو إجحاف. إنه ليس تحت تصرف العالم الثالث وسيلة تساعده في الوضع الراهن على تنفيذ برامج تنمية سوى المواد الخام التي في أرضه. فإذا كانت هذه المواد في السوق العالمية رهينة البورصات تصبح خطط التنمية صعبة أو مستحيلة. ولقد كان من واجب مؤتمر الجزائر أن يركز تفكيره في هذه المشكلة بصورة جذرية وأن يطرحها في إطار جديد، لأنه من العبث أن يطلب من مستغل أن ينهي استغلاله، بل يجب التفكير في إيجاد إطار جديد، في صورة تدابير من شأنها أن تلغي تلقائيا الاستغلال (1). ولا نرى في هذه التدابير سوى قطع العلاقات الإقتصادية الكلاسيكية مع المستغل، أي بعبارة أخرى قطع العلاقة الراهنة بين المادة الخام والعملة.

_ (1) والغريب في الأمر أن نرى رجالا ينزهون سياستهم عن الأخلاق في بلادهم، باسم الواقعية أو لسبب آخر ثم نراهم في الميدان الأول يطالبون باسم المبدأ الأخلاقي.

لكن هذه العملية ليست ممكنة إلا إذا قرر العام! الثالث إنشاء (مصرف المواد الخام) تجاه مصرف العملة، سواء كان اسمها البنك العالمي للتنمية أو غير ذلك. ويجب بعد ذلك ألا ينشأ هذا المشروع في صورة تحدٍّ، ولكن على أنه تدعيم للعدالة بين الدول، وللفعالية في البلاد المتخلفة. فالأدوار موزعة في الوضع الراهن توزيعا تمثل فيه المادة الخام دور (العرض) والعملة دور (الطلب)، بينما مجرد النظرة في ميزانية التبادل بين الشمال والجنوب في العالم- حيث يمثل الشمال الصناعة والجنوب المواد الخام- تكشف عن عدم توازن صريح في توزيع الفائدة. إنني ذكرت رقما كان تحت يدي عندما كنت أحرر فصل (مبادئ إقتصاد فعال) في كتاب الفكرة الأفروسيوية، وكان يعبر إجمالا على عدم التوازن بالنسبة لبلد مثل مراكش، حيث كانت قيمة الطن من صادراته (المادة الخام) ست مئة فرنك، وقيمة الطن من وارداته (المادة المصنوعة) 2300 فرنك. إن هذا الرقم، على الرغم من أنه قديم (سنة 1952)، يعبر على الأقل بطريقة رمزية عن عدم توازن زاد في التعمق خلال السنين الأخيرة، زيادة لا تكشف معه خريطة العلاقات الإقتصادية الراهنة بين الشمال والجنوب، عن اندمال التخلف بل عن زيادته نسبيا. هذا الوضع هو الذي يلزمنا بإنشاء (مصرف المادة الخام) لإصلاح حال المادة الخام التي تمثل العرض، في العمليتين الأساسيتين: إنتاجها وتسويقها. فالبلاد النامية زهدت، بعد إستقلالها، في استخلاص النتائج التي يقتضيها وضعها الجديد.

ففي الجزائر مثلا، استمر الإنتاج بعد عام 1962، بينما ضاق السوق به، ثم بقيت تستورد من الكماليات ما شاء الله (1). ولقد بقيت الفوضى سائدة في مجمل البلاد النامية، وكانت بالتالي في صالح (الطلب) على حساب (العرض) أي في صالح المال على حساب المادة الخام. فإنشاء (مصرف المواد الخام) ضرورة، بوصفه وسيلة لتلافي هذه الفوضى مع استناده على مبدأ كم تمنينا لو قرره (مؤتمر 77) أو اعتمد ضمنا عليه ألا وهو: كي يكون لاقتصاد البلاد النامية فعاليته في الخارج، يجب أن يكون له نظامه الدقيق في الداخل. إن العالم الثالث في حاجة ملحة إلى تشريع متقن، يطبق بطريقة قهرية بإتقان بين البلاد النامية، لفرض نظام ضروري لمصلحتها في سوق المواد الخام تطبيقا يكون معه (مصرف المواد الخام) هيئة تنسيق، وفي الوقت نفسه محكمة تدين كل مخالفة للقانون المقرر، أي تحكم في كل حالة تنشأ فيها (أزمة) سوق سوداء تعتدي علينا؛ من الخارج، وهذا أشبه بمزاحمة المركب الكيميائي للمادة الخام إضرارا بنا، أو من الداخل بسبب سوء التصرف. فهل من السهل تطبيق هذه الإقتراحات، ونحن نرى تنوع المصالح الإقتصادية بل إختلافها في العالم الثالث أمام المصالح الموحدة في العالم المصنع؟ إن الجواب على هذا السؤال يتوقف على اختيار: فإذا اختار العالم الثالث طريق التطورات البطيئة، التي ينتظر معها بعد كل خطوة أن تعطى له الإشارة الخضراء من الكتلة المصنعة ليقوم بالخطوة

_ (1) غيرت الحكومة الجزائرية في السنوات الأخيرة هذا الوضع، وقررت اقتلاع الكروم وضيقت في الكماليات.

الثانية، كما تفعل الهند، فإن إنشاء (مصرف الواد الخام) لن يكون سوى سراب آخر نضيفه إلى محور طنجة جاكرتا، كذلك السراب الذي تمثله، منذ عشر سنوات، السكريتيرية الدائمة لتضامن الشعوب الأفروسيوية في إحدى العواصم العربية. أما إذا انطلق كما فعلت الصين على نسق توقيت محدد، فيجب إذن منذ الآن، الإقدام على تغيرات جذرية حتى بالنسبة للمخططات الوطنية في نطاق مخطط شامل. وإننا لنجد في ذلك قدوة في أعضاء السوق المشتركة، ولا نقول مع ذلك أن الحل سيكون يسيرا، بل سيكون صعبا، إذا تصورنا العاهات الموجودة في بعض البلاد المتخلفة أو السلطات الجانبية التي تغطي، في بعض الحالات، على السلطات الرسمية، في خدمة سيدها الإستعمار من أجل تعطيل حركة التنمية. ومهما يكن من أمر فالجواب على السؤال المطروح موجود، في اختيار - ضمني أو منصوص عليه- لإحدى الطريقتين اللتين أشرنا إليهما. ولكننا نلاحظ أن مؤتمر الجزائر لم يحدد هذا الإختيار، فكان بالتالي مؤتمر (حقوق الشعوب الفقيرة). ***

مؤتمر نيودلهي

مؤتمر نيودلهي عن (الثورة الإفريقية) عدد 266 في 21 آذار (مارس) 1968. أن مؤتمر (77) الذي انعقد في الجزائر منذ بضعة أشهر، كان المقدمة للمؤتمر الذي تجري مداوالاته الآن في نيودلهي، وهذه المداولات تهمنا من نواح عدة خصوصا وقد اتخذت فجأة طورا مزعجا للغاية على الأقل بالنسبة للمسيو (راؤول بريببش)، الذي يحضرها بصفته الأمين العام لمنظمة إعانة الدول النامية cnuced. فقد رأى أن المقود الصعب للسفينة التي كلفته قيادتها هيئة الأمم المتحدة، يكاد يفلت من يده فتتحطم السفينة على الصخور. حتى إنه وجه نداء للدول الغنية يستنجدها، ويصرخ في ندوة صحفية: إن المؤتمر على حافة (الإفلاس). لسنا ندري إذا كانت السفينة ستسلم بفضل ندائه، لكن الشيء المؤكد الآن، في احتمال فشل مسعاه (كما يراودنا الشك في ذلك منذ مؤتمر 77) هو أن خيبة أمل الدول النامية قد تكون خيرا لها، إذا ما هضمت هذه الخيبة واستنتجت منها ما يفيدها. والمشكلة بالنسبة لهذه الدول تطرح كما طرحت لأوربا، على الرغم من أنها طرحت لهذه الأخيرة بألفاظ أقسى، حين اعتبرت جولة (كندي) تحديا منح أوربا وعيا أكبر، عبّر عنه كتاب يحمل عنوان (التحدي الأمريكي) لـ (جان سرفان شرايد). فالعالم الثالث يواجه تحدي الدول المصنعة، وعلينا هنا أن نواجه أنفسنا

بصدق. فنحن إذا كنا نعرف كيف نقدر حاجاتنا من ناحية، فإننا من ناحية أخرى لا نقدر كما ينبغي إمكانيات الآخرين أو حسن نواياهم. وقد لا نستطيع فعلا تقدير إمكانياتهم ليس فحسب لعوامل نفسية في أنانية الكبار وتسلطهم، جعلت الأقوباء جدا ضعفاء في التعاون بين الدول، بل هنالك عوامل أخرى تتصل بسياسة الكبار الداخلية وبما يشغلهم في عقر دارهم فيصرفهم عن مشاغلنا. ولنذكر على سبيل المثال كيف أن الجنيه الاسترليني لا يعرف الآن مصيره، وكيف يتزعزع الدولار لأنه يفقد غطاءه الذهبي (1)، أو نذكر التحدي الأمريكي لأوربا لنجد الأسباب أو المعاذير، التي تجعل النداء الذي وجهه المسيو (راؤول بريببش) معرضا ليقع في الفراغ فلا يجد أذنا صاغية. وقد يكون مصيره مصير النداء الذي وجهه، منذ أربعين سنة بطل (طاتبيرج) في الحرب العالمية الأولى، عندما أستنجد بالعالم المتحضر لإنقاذ عملة بلاده وجمهورية (فيمار). وحتى البلدان الإشتراكية لها مشاغلها اليوم، على الصعيد الايديولوجما على الأقل (2). وإذا تصورنا مداولات نيودلهي، ومصير (الحوار) في إطار دولي كالذي أوضحنا، فإننا نتصور خاتمة الحوار في كلمة (نو) من طرف الانجلو سكسون و (نييب) من طرف السوفييت. على العالم الثالث إذن أن يعتمد على نفسه، وأن يستعد لمواجهة سائر

_ (1) انتهت القضية بعد ذلك بان ألغت أميركا الغطاء الذهبي لعملتها. (2) كان الصراع بين موسكو وبكين على أشده حتى على الجبهة العسكرية بسبيريا.

الإحتمالات بوسائله الخاصة، ومشكلته ليست سهلة الحل، لأنها لا تتسم بالطابع الإقتصادي البسيط كما يعني إختصاصي الإقتصاد بهذه الكلمة. فحين نقول إن العالم الثالث ملزم بمواجهة الوضع الإقتصادي بوسائله الخاصة وبإمكانياته التي بين يديه، فإننا لا نقول إلى أي حد يستطيع استخدام هذه الوسائل وتلك الإمكانيات. إنني أعلم أن أهل (ميلة) يتذوقون النكتة، فليسمحوا لي بنكتة قسنطينية قديمة تنير هذا الجانب من القضية. ففي قسنطينة كانت ألسنة حداد تصف صدق أهالي (ميلة) وأمانتهم بصورة كريكاتورية، فتذكر عنهم قصة خاتمتها هذه الكلمة: ((يا أهل ميلة! يا رؤوس بقر، إنكم تضعون أقدامكم على الفضة وتحسبونها قطعة من الصخر)). قطعا ليست هذه سوى نكتة بالنسبة لأهل ميلة، لكنها تدخلنا بصورة رمزية في صلب الموضوع. أعني في الأوضاع النفسية الراهنة في العالم الثالث، هذا العالم الذي يضع أقدامه فعلا على خيرات لا يتصورها العقل، وهو لا يستفيد منها شيئا في خطة تنمية. هذا الجانب هو جوهر مشكلته الإقتصادية، وهو الذي لفت، منذ نحو عشرين سنة، نظر (تيبورماند) الذي يلاحظ بحق، في أحد كتبه، هذه الملاحظة الكاشفة عندما يقول: إن القضية تتطلب (عالم الحياة في الإجتماع) أكثر من (مهندس اجتماع). إن الحياة الإقتصادية لا ترتبط فقط بأجهزة ذات طابع فني ومالى وتنظيمي، بل هي قبل ذلك مرتبطة بأجهزة نفسية موجودة في المعادلة الشخصية لدى الفرد الذي يفكر في الخطط والذي ينفذها.

وهذه المعادلة ليست من المعطيات البسيطة التي نجدها تلقائيا في الجهاز الميكانيكي الذي نقتنيه لتجهيز مصنع، ولكنها شيء يكتسب، جنبا إلى جنب مع تكوين ونمو ثقافة. لقد شرحت هذه الاعتبارات في كتاب نشرته في الموضوع منذ عشر سنوات (1)، ولربما وجدناها بشروج مستوفاة بتوقيع كبار الإختصاصيين فى جريدة (لوموند الديبلوماسي) في عدد آذار (مارس) 1968 الذي خصص تقريبا لمؤتمر نيودلهي. ومن بين الآراء التي نقرؤها في هذا العدد نقتطف ما قاله (جوزوي كاسترو) بعنوان (تكوين الإنسان) هو مفتاح التنمية، إذ يبدو لنا أنه أبرز المشكلة على الصعيد الذي نطرحها عليه هنا. فصاحب كتاب (جوعة العالم) الذي حصل الشهرة التي حصل عليها كتاب (فنديل ديلكي): (العالم واحد)، قد حلل تحليلا دقيقا الملابسة الإقتصادية التي مرت بالعالم في الفترة الأخيرة، وقد لخص رأيه فيها ((بأن العهد الذي كان ينتظر منه تحقيق شروط التنمية كان بالتالي عهد خيبة الأمل)). إن (جوزي كاسترو) يبدأ في أطروحته من ملاحظة أولية يقول ((إن العلم يعترف اليوم بفشل استراتيجية التنمية التي اتبعتها البلدان المتخلفة)). وينحصر سبب الفشل في نظره ((بأن هذه الإستراتيجية كانت موضوعة على مبادئ ومناهج تفكير بعيدة عن أن تحقق الفعالية)). وأكبر الأخطاء التي ارتكبت في نظره هو ((أن الخطط قد وضعت على مبدأ تشابه اطراد التنمية في كل مكان، مع ما سار عليه النمو في البلدان الغنية في الغرب)).

_ (1) انظر الفكرة الأفروسيوية فصل ((مبادئ الفعالية في الاقتصاد)).

وأضيف لو سمح لي أن أقول ((أو شبيه بالتنمية في البلاد ذات الايديولوجية الماركسية، دون أن نقدر حسابا للتغيير الذي أحدثته هذه الايديولوجية في الإنسان ذاته)). هذا هو بصورة إجمالية مرض العالم اليوم. ويكفينا أن نتجرد بعض الشيء، لنبقى موضوعيين ونرى الأشياء على حقيقتها، في عالم فيه نصف الإنسانية يبذر، والنصف الآخر (يستعطي) بقايا الوليمة، فيتناولها في صورة صدقات أو عائدات بترول. إن (محمد علي، كاسيوس كلاي)، لم يمنح قوة عضلات ضمنت إعجاب العالم فحسب، بل منح قوة ذهنية، حين لاحظ في مجتمع السود بأميركا، هذه الملاحظة التي تدل على صراحته فقال: ((لو لم يصنع الرجل الأبيض الصابون لبقي الرجل الأسود دون أن يغسل يديه)). هذه اللمسة الكريكتورية، تسم على أية حال، نموذجا نفسيا معينا أطلق عليه (منوني) في كتابه (سيكولوجية الاستعمار) لقب (الإنسان التابع). فهذه التبعية، وهي قبل كل شيء في الافكار، تكون اليوم جوهر المشكلة الإقتصادية في العالم الثالث. لذا نرى (جوزوي كاسترو) يخرج من تأملاته في الموضوع بهذه النتيحة: ((إن المشكلة تعرض لنا في صورة مركب اقتصادي وثقافي معا، ولكن بكل أسف لم نتعود بعد ربط العلاقة بين هاتين الكلمتين: الإقتصاد والثقافة)). هذا في الوقت الذي تفرض فيه علينا أحدث تجربة للإنسانية، أن نعقد في المستقبل صلة وثيقة بين الوقائع الإقتصادية والمعطيات الثقافية. فخلل التوازن، بين أميركا وأوربا مع ما يصب من قلق في بعض النفوس

الأوربية، ليس في الحقيقة إلا اختلافا في المستوى التكنولوجي، تستطيع معه أوربا أن تتخلص منه ببعض التعديلات السياسية كإنشاء السوق المشتركة. أما عدم التوازن بين العالم المصنع، والعالم الثالث فهو قضية أخرى: إنه مشكلة حضارة. فكيف تستطيع البلدان المتخلفة إدراك ذلك، ومتى تقدم الحل الناجح للمشكلة بأقل وقت ممكن ... ؟. ينبغي إذن على الثورات السياسية التي حققت في العالم الثالث الإستقلال بثمن غال، أن تزدوج الآن مع ثورات ثقافية تحقق إنهاء ما يسميه (منوني): (حالة تبعية). فكل وطن أفلت من اليد التى كانت (تُمشِّيه) في التيار السياسي كما ((تُمشِّي)) الأم طفلها، عليه أن يتعلم أيضاً المشي وحده في الميدان الاقتصادي، دون يد تمسكه. عليه بعد أن ترك يد (المرضعة) ألا يتشبث بثيابها كلما واجهته صعوبة، إذ ينبغي عليه أن يودع المرضعة نهائيا، وأن يتقبل الأخطاء الملازمة لـ (حالة الترك) كما يسميها (منوني). فالطريق الوحيد للإستقلال الحقيقي، يقضي ببتر كل علاقات (التبعية) مهما كان نوعها، وتقبل سائر الصعوبات التي تواجه الإنسان عندما يرشد، ويتحمل كامل مسؤولياته. لقد قال وزير الطاقة الجزائري عند عودته من نيودلهي ((يجب علينا أن نعتمد على أنفسنا)).

فهذا حسن .. حسن جدا شريطة ألا تكون هذه الكمات زخرف قول، أو مجرد تعبير عن غضب، بل البداية لتأمل جديد في القضية. وبغير ذلك سنجد أنفسنا أمام المنظر المزعج، حين يرفض الغني المترف المتعالي، التصدق، ونرى الشحاذ يجلجل غضبه بين شفتيه. وليس من شك في أننا هنا سنقول لذلك الغني الكلمة التي تخزيه، ولكن ما عسانا نقول للثاني خصوصا إذا كان يتمتع بكامل قواه؟!!!. ***

جولة البترول العربي

جولة البترول العربي عن (الثورة الإفريقية) عدد 229 - 3 تموز (يوليو) 1967. كما كنا نتوقع، فالإستعمار يقوم في هذه الآونة بلعبة في منتهى الخطورة: إنه لا يحاول فحسب بث التفرقة بين العرب، كيما يشعر بأن الوحدة المأمولة بينهم، تسقط في عالم الأساطير، بل إنه يريد أيضا، في توقع سياسة بترولية موحدة بدأ العرب يهددون بها، أن يُفقد هذا السلاح حده مسبقا. هكذا بدأت منذ الآن، أقلام وأبواق مأجورة تحاول إقناعنا بأنه سلاح ذو حدين. ليشعرونا بأن سلاحنا قد يقطع حبل وريدنا وهذه العملية في المجال النفسي تسير جنبا إلى جنب مع عملية أخرى في المجال الإقتصادي ذاته. يبدو أن الإستعمار يخشى من سلاحنا أن يقطع حبل وريده، فبدأ يطلب من بعض البلدان العربية أن تزيد في فتح محابس بترولها. وهكذا نراه يقوم بمحاولة تخويف من ناحية، وبمحاولة استمالة من ناحية أخرى ليحقق فائدتين. ففي الوضع الراهن لو اتفق العرب على كل شيء، سوى شيء واحد، فإن هذا الاستثناء انتصار معنوي كبير للاستعمار، يستطيع من ورائه، كسب نتائج لا يزهد فيها في المجال الديبلوماسي. أما إذا كان الشيء الذي اختلفوا حوله هو البترول، فالإنتصار هنا ليس معنويا فحسب، بل هو انتصار كبير لا تقدر نتائجه بالنسبة للإستعمار، خصوصا

على الصعيد الإستراتيجي، وفي وقت لا نعرف فيه على أية نتيجة تنتهي المداولات التي تدور الآن في هيئة الأمم. إننا إذا ما تصورنا المشاغل الحالية، في واشنطن أو لندن على حد سواء، من خلال التدابير المزمع اتخاذها بخصوص البترول، في المجال الإقتصادي أو الفني، فإننا نستطيع أن نأخذ مسبقا مقياسا نقيس به انتصار الإستعمار، إذا ما ارتخى الموقف العربي في ميدان البترول. فالأنباء تفيدنا بأن الحكومة الأميركية قد جمعت هذه الأيام اللجنة الخاصة لاستيراد البترول من الخارج، ((لاتخاذ التدابير الضرورية في حالة نقص في المواد البترولية قد يصيب البلدان الأوربية)). بسبب الوضع في الشرق الأوسط. والأخبار تفيدنا أيضاً، أن البلدان الأوربية المشتركة في منظمة ( ocde) تتابع من جانبها تبادل الافكار حول المشكلة نفسها. ويقال أيضاً إن بعض البلدان كالسويد وسويسرة، بدأت ترفع تسعيرات البترول، كما نسمع عن قيام السوفييت بسحب عروضهم الأخيرة للبترول من السوق الغربية. هكذا يصبح الإمبرياليون وجها لوجه مع البترول العربي. ونتصور من هنا حيرتهم وما سوف يكيدون به العرب لتمييع موقفهم. علينا إذن أن نفكر في السؤال: ماذا يجب أن نفعل كيلا يرتخي هذا الموقف؟ لقد قال الرئيس (بومدين) في خطابه على سطح قصر الحكومة: ((يجب علينا أن نضع الحجر على بطوننا لمدة عام)) مقترحا بذلك سياسة تقشف. إننا نلاحظ بأنه ليس للعرب مخرج آخر إذا ما أرادوا أن يعطوا لسلاحهم البترولي كل تأثيره في الموقف الراهن. ومن هنا لا بد أن نتصور ما هي في الواقع الإلتزامات التي يفرضها هذا المخرج؟.

إن كل سياسة تتطلب شيئا من المثالية توحي بمسوّغاتها، وشيئا من الواقعية تحدد وجوه تطبيقها والطرق الفنية للإنجاز. وسهم المثالية لابد أن يكون على مستوى التقشف المطلوب. والقاعدة الايديولوجية لابد أن تكون متينة، بقدر ما تكون التضحيات المطلوبة والطاعات المفروضة على كل واحد، في مستوى الصعوبات التي يحتمها وضع استثنائي. ولابد أن تكون هذه القاعدة من فولاذ كي لا يرتخي الموقف العربي، ولا يتزعزع عليها بناء الوحدة العربية مهما كانت الأعاصير والمناورات والمحن. ويجب أن نلاحظ بأن (المثالية) التي نتحدث عنها ليست صنفا من (السوريالية) وتجريدا يسبح فوق الواقع، فوق الشروط الحقيقية، فوق المعطيات الطبيعية لوضع معين. إنها لا تتنافى مع (الواقعية) بل تقتضيها على مستوى كبير. وعلى هذا الأساس من الواقعية نقول: إن الأوطان العربية تختلف الآن فيما بينها. وليست الفوارق بينها ناتجة عن تاريخها لأنه واحد، ولكنها فوارق نتجت عن الإطار الإستعماري قبل إستقلالها وبعده. وهذه الواقعية تلقننا أيضاً، ألا نقدم في الظروف الصعبة، لشعوب هذا واقعها من حيث الإختلاف، مقترحات لا تجد في قلوبها الحساسية نفسها، ولا تدفعها الدفعة نفسها ولا تهزها الهزة نفسها. فما يدعو إلى الأمل أن نرى الزعماء العرب مهتمين الآن بهذه القضية، يبحثون لها عن حل. كما تدل على ذلك المحاولة التي تقوم بها بغداد هذه الأيام من أجل عرض مشروع (ميثاق عربي) للدراسة، ويبدو أن المبادئ العامة لهذا الميثاق قد تحددت منذ الآن.

وعلى أية حال فالمشروع مطروح في بغداد، ونتمنى له أن ينتهي في قريب عاجل إلى نص يعرض على من يريد أن يتأمله أو يطبقه في العالم العربي. ومن الضروري أن يوضع بين يدي كل قطر عربي هذا النص ليستوحيه في سياسته على العموم، وفي سياسته البترولية على الخصوص طبقا لمبادئ أخلاقية تتحكم في الموقف العربي كله بالنسبة للبترول. لكن (المثالية) كما قلنا لا تكفي وحدها. ومن أجل ألا يرتخي الموقف العربي لابد أيضاً أن تعالج قضية البترول بما تستحق من (الواقعية). (فالمثالية) تتدخل لتحديد إلتزامات كل بلد من الوطن العربي، ولتفرض العقوبة المعنوية لكل مخالفة يرتكبها هذا البلد أو ذاك. ولكن يجب أن نفكر أيضا كيف لا تكون هذه الإلتزامات فوق طاقة أي بلد، وكيف ينبغي أن تتخذ التدابير الإقتصادية الكفيلة بمساعدة ذلك البلد على القيام بالتزاماته، في التقشف المفروض عليه، كما هو مفروض على كل واحد من المجموعة في حدود لا حرج فيها. هذا الجانب هو ما تتولاه (الواقعية)، فتجعلنا نلاحظ بأن أعضاء المجموعة ليسوا كلهم مرتبطين بقضية البترول في مستوى واحد. فبالنسبة لبعض الدول كالكويت والسعودية والعراق (في وضعه الراهن)، يشكل البترول المورد الوحيد ويكون تقريبا كل ميزانيتهم. أما بالنسبة للاعضاء الآخرين كالجزائر فالبترول يضيف فقط إلى المدخول العام. أما السودان فلا يمسه منه شيء كما لا يمس سوريا إلا في عائدات النقل. كما أن أقطار مصر ومراكش وتونس، لا يهمها الأمر باعتبارها أعضاء مجموعة تفرض عليها الظروف القاسية أن تحدد سياسة بترول لم تتحدد بعد.

هكذا تبدو الفوارق التي تجب مراعاتها من الناحية الواقعية .. فهذه الأوطان جميعها، متضامنة في نطاق مجموعة، تواجه بصورة شاملة حالة تحدّ تجعل من مشكلة البترول قضية حياة أو موت بالنسبة إليها. وهي من ناحية أخرى، كما تنبغي الملاحظة، تجد نفسها في أوضاع إقتصادية خاصة حتى من الناحية النقدية. ولا ينبغي للتعديل الإقتصادي الطلولا بين البلدان العربية، أن يتجاهل هذه الفوارق التي ستدخل حتما في ميزانية المجموعة، التي يجب عليها أن تصفي حسابها على طريق (مقايضة clearing) في الداخل ومقايضة مع الخارج. وعلى سبيل المثال فالدين المترتب على الجمهورية العربية المتحدة وحدها في بون، يبلغ نحو المئتين والخمسين مليونا من الدولارات. هذا الرقم يعطينا فكرة عن الأوضاع السابقة، التي يجب إدخال التعديلات المطلوبة عليها في وضع سياسة إقتصادية عربية شاملة. ولسنا نشك في أن الإقتصاديين العرب سيجدون الصيغة الكفيلة التي تضع هذه الأوضاع في الحساب. فإذا كانت هذه الصيغة في صورة سوق عربية مشتركة، فإن أصحابها سيجدون قطعا في النموذج الأوربي دلالات مهمة، خصوصا من حيث فكرتها المبدئية التي حركت الهمم، عندما وجدت البلدان الأوربية نفسها، بعد الحرب العالمية الثانية، أمام كتلتين عملاقتين: الولايات المتحدة والإتحاد السوفييتي. إن الواقع الإقتصادي في القرن العشرين، يدل على أن المنظمة الإقتصادية الكلاسيكية لا تستطيع في حجم الوطن، جمع الوسائل الكافية لتنمية هذا الوطن، وبالتالب فإنها لا تستطيع المنافسة في السوق العالمية أمام الكتل الإقتصادية المكتملة.

والأمر الذي كان يند عن انتباه اقتصاديي القرن التاسع عشر، هو أن النمو الإقتصادي الأوربي كان يتحقق على مساحات عذراء تمثلها المستعمرات حين كان كل مستعمر يستطيع أن يفرض ما يناسب أقتصاده، وقد أخفى هذا الأمر عن عالم الإقتصاد في ذلك العهد، العوامل التي تلعب اليوم دورا رئيسيا في اقتصاد يريد تحقيق استقلاله. إن كلمة (الوطنية) كانت وحدها كافية للدلالة على الإستقلال. ولكن القرن العشرين كشف عن أن الإستقلال الإقتصادي يرتبط بعاملين: اتساع الرقعة وعدد السكان. فالكلمتان اللتان تحققان الإستقلال الإقتصادي وقد ظهرتا بعد الحرب العالمية الثانية، ليستا غير ما يتمتع به الولايات المتحدة والإتحاد السوفييتي من الساحات الواسعة وعدد السكان. والصين تستعد بدورها للدخول في زمرة العمالقة للأسباب نفسها، ومن الطبيعي أن بلدا كبلجيكا، لا يستطيع وحده مجاراة هؤلاء العمالقة، ومن باب أولى لا يستطيع منافستهم. ففكرة السوق المشتركة الأوربية نشأت أمام هذه الحقيقة، وهي تعني مراجعة شاملة للأفكار الإقتصادية الكلاسيكية التي كانت تسود أوربا. وإذا أصبحت إنكلترا- التي طالما اعتزت بـ (العزلة الجميلة) - تطمح للدخول في السوق المشتركة، فلأنها اكتشفت هذه الحقيقة التي فرضت عليها مراجعة أفكارها. فاليوم أصبحت البلدان العربية مطالبة بالمراجعة نفسها، تطالبها بذلك ظروف أقسى من تلك التي أوحت بالسوق المشتركة الأوربية. وربما عمدت البلدان العربية إلى مراجعة توحي بحلول كالتي عمدت إليها

الدول الأوربية، وربما انصرفت الرغبات عن مثل ذلك. لكنهم إذا لم يفعلوا وارتخى موقفهم في ميدان البترول، للأسباب التي قدمناها، فإنهم إذن سيرون النتائج الوخيمة التي أشرنا إليها. أما إذا انتهجوا منهج الرشاد، فسوف تكون إذن مبادرتهم ذات معنى مهم ومغزى كبير، لأنهم يدركون بفضلها أنهم لا يواجهون مشكلة مؤقتة، أي قضية البترول، بل مشكلة عضوية ألا وهي إقتصادهم في الإتجاه الذي يسير إليه الزمن اليوم. إنهم سيدركون أن إستقلالهم الإقتصادي في إطار بلد واحد هو ضرب من الأوهام في العصر الحاضر. فالرقعة الجغرافية العربية مع عدد سكانها ومساحاتها وما تنطوي عليه من خبرات، قد تحقق شروط الكتلة المتكاملة ( autarcie) أي الشروط الأولية للإستقلال الإقتصادي. فعلى طريق يؤدي إلى هذا الإستقلال، ليست قضية البترول إلا مرحلة؛ لكنها مرحلة ضرورية، لأن مشكلة البترول وما يعلق بها من اعتبارات ملتهبة في الظروف الراهنة كفيلة بتحريك الضمير في العالم العربي نحو وعي اقتصادي، ينسجم مع التطور الراهن أكثر مما يحركه خطاب سياسي. ثم إن هذه الخطوة تستطيع تصفية (الذهان) المستولي على البلدان المنتجة للبترول خشية أن تفقد عائداته. وبذلك سوف تساعد هذه الخطوة على وضع الإقتصاد العربي على قواعد سليمة، أكثر ملاءمة مع الإستقلال الإقتصادي، لأن من يسعى لتحرير البترول في الخارج من ربقة الإستعمار، عليه أت يتحرر هو من ربقة البترول في الداخل.

ثم، لعل الحكومات العربية تفكر في اتخاذ تدابير بصدد نظام العملة، إذا ما قررت اتخاذ غير الدولار الأميركي وغير الجنيه الاسترليني في المبادلات الإقتصادية فيما بينها أو مع الخارج، وحينئذ سيكون اختيارها في الميدان النقدي وسيلة تضاف إلى البترول من أجل الضغط على بلاد الانجلوسكسون. وإذا ما حولوا رصيدهم في البنوك الأنجلو أميركية بقيمته من الذهب، فإن الدولار والجنيه الاسترليني سيتعرضان في القريب إلى الصعوبات في سوق العملة (1). والكويت تستطيع أن تصبح (السيتي city) العربية لو شاءت ذلك في ظل هذه العملية، بل إنها تستطيع أن تلعب الدور الذي لعبته (السيتي) في القرن التاسع عشر، في إستقلال الإمبراطورية البريطانية. من هنا تبدو مرحلة البترول- أو جولة البترول كما سميناها في العنوان- وهي تفضي إلى ملابسات مهمة إذا ما عرف العرب كيف يجتازونها. ولا بد أن نكرر بأن اجتياز هذه المرحلة، يتطلب من (المثالية) بقدر ما يتطلب من (الواقعية) للأسباب التي ذكرناها. فإذا قدرنا الأشياء بمقياس (المثالية) عرفنا ما يتطلبه منا تحقيق ذلك من تقشف وتضحية. وإذا قدرناها بمقياس من (الواقعية) عرفنا الشروط الفنية التى تجعل تحقيقها ممكنا. ...

_ (1) نذكر القارئ بأن هذه السطور كتبت في شهر تموز (يوليو) 1967.

شروط الإقلاع الإقتصادي

شروط الإقلاع الإقتصادي عن (الثورة الإفريقية) عدد 223 في 22 أيار (مايو) سنة 1967. إن الملتقى العربي الذي سينعقد في الجزائر هذا الأسبوع، سيتناول في جدول أعماله الملابسات الإقتصادية في البلدان المعنية. وفي هذا الإطار نقرأ للسيد محمد الريفي (العضو في الوفد المراكشي) تأملات، نشرها في العدد الأخير من هذه الصحيفة تضعنا فى قلب الموضوع. فهو يقول ((إنه بالنسبة للخطة الخمسية (المراكشية) لسنوات 1960 - 1964 فإن المخطط الثلاثي المقترح الذي أعد للفترة 1965 - 1967 يمثل تراجعا ورجوعا إلى الوراء، سواء من حيث تصوره العام أو من حيث الشروط المقررة لتنفيذه)). إن الأستاذ (الريفي) يستحق الشكر كله على هذا الوضوح وإذن فالأمر بيّن، فالتخطيط قد يؤول في حالٍ كالتي يشير إليها المثل السابق، إلى ترك بعض المكاسب عوض أن يحقق مكاسب جديدة. وليس من الإجحاف إذا ما وسعنا هذه الحقيقة إلى بلدان أخرى من العالم الثالث، أعني تلك البلدان التي أرادت بعد إستقلالها، أن تضع خططا إقتصادية لتنميتها فدعت من أجل ذلك مخططين بارعين كالدكتور (شاخت) مثلا. وعندما تبوء هذه المحاولات بالفشل، فلا يجوز أن يشككنا فشلها في فكرة التخطيط ذاتها أو في أفكار من يقوم به.

فالتخطيط مظهر من مظاهر تعجيل خطا التاريخ في القرن العشرين، وهو مظهر يخص الميدان الإقتصادي. إن فكرة التخطيط تعبر بالضبط، في هذا اليدان، عن رغبة بعض البلدان أو بصورة أدق بعض المجتمعات التي أحست بتخلفها عن مجتمعات أخرى، فصممت على أن تتدارك تخلفها هذا، بطرق فنية متسارعة. فهذه- في جوهرها- فكرة التخطيط، ونجاحها قد تأكد على الأقل في بلدين من الكتلة الإشتراكية. أما أفكار المخطط الخبير، كالدكتور (شاخت) مثلا، فهذه أفكار برهنت على جدواها بما حققته، في ظروف إجتماعية سياسية أخرى، كذلك النجاح الإقتصادي الكامل في ألمانيا خلال سنوات 1933 - 1939. وهنا نتساءل: لماذا لا يعطي التخطيط النتائج نفسها في بلد أفروسيوي؟ ولماذا تصبح أفكار المخطط عقيمة؟. هنا تبدو القضية بأكملها. ولقد كان من اليسير على مؤتمر باندونج في عام 1955 أن يطرحها بهذا الوضوح، لما كان أمامه من تجارب سبقت في آسيا أو إفريقيا. وكان يستطيع، انطلاقا من تلك التجارب، (الدالة بسبب نتائجها السلبية ذاتها) تكوين نظرية اقتصادية تطابق الواقع الأفروسيوي. إن علم الاقتصاد، لم يبرز من الأحداث الإقتصادية بعملية تجريد صرفة، وفقا للطريق الذي أتبعته الهندسة عندما وضعت مسلمتها الأساسية. بل إنه ظهر إلى الوجود (بنظارات) وضعها على عينيه على الرغم مما يدعيه أهله. فـ (آدم سميث) قد وضع له (نظارتي) المصلحة الفردية وحرية التصرف، كما وضع له (ماركس) (نظارتي) التسيير السلطاني والصراع الطبقي.

فلم يكن على مؤتمر باندونج أن يختار أي (النظارتين) أليق بالاقتصاد، بل كان عليه أن يبحث عن طريق تنمية مع الشروط الخاصة بالبلدان الإفريقية الأسيوية في مرحلتها الراهنة. على أن هذه البلدان سلكت مسلكا كأنما هي لا تبحث عن أي (النظارتين) هي أصلح، بل لتضع لاقتصادها سائر (النظارات) الموجودة. فبعض البلدان وضعت مخططها طبقا لاختيار إشتراكي من حيث الأهداف، ثم حددت طرق التنفيذ طبقا لمنهج رأسمالي من حيث الوسائل، وفيما يتصل بقضية الإستثمار بوجه خاص. وهكذا وضعوا آمال الجماهير المشروعة تحت رحمة مصالح أجنبية، بسبب الوهم الذي كان لدى بعض المسؤولين، ((في إمكان عودة رؤوس الأموال الأجنبية بعد الإستقلال لاستثمارها)) كما يشير إلى ذلك الأستاذ (محمد الريفي). كان على باندونج إِذن، في ضوء هذه السوابق المؤسفة، أن يعيد الأشياء إلى مكانها، والأفكار إلى مجراها القويم من أجل تحديد الأهداف والوسائل بطريقة تطابق شروط (الإقلاع) في العالم الثالث. وكان عليه أن يستنير بأفكار تتصل بالموضوع، من شأنها أن تدل، على الأقل، على الإتجاه العام الذي كان بالضبط مفقودا لدى المؤتمر. كان عليه أن يستنير على الأقل بفكرة قدمها (تيبور ماند) - مع أنه ليس من أهل الاختصاص- في كتاب له عندما قال: إن مشكلة التنمية في البلاد الأفروسيوية في حاجة إلى عالم (الحياة الاجتماعي) أكثر منها إلى (مهندس الاجتماع). إن هذه الفكرة ليست في حد ذاتها هي الحل، لكن دلالتها بالنسبة لبلد

يريد الإقلاع الإقتصادي، هي أهم من مخطط وضعه إختصاصي ماهر، لا يرى واقعا إنسانيا له بعده الخاص في الحياة الإقتصادية. إن فشل تجربة الدكتور (شاخت) في مخططاته خارج بلاده، لدليل واضح على عجز (المهندس الإجتماعي) في معالجة بعض القضايا الإقتصادية. ترى أي درس نستخلصه من فشله؟ إن مخططا ما يجب ألا تكون له هوامش لعاب، بعضها من لعاب الرأسمالية، وبعضها الآخر من لعاب الماركسية. فأي مشروع نفكر فيه بأفكار الآخرين، ونحاول إنجازه بوسائل غيرهم معرض للفشل لا محالة. والموضوع هنا في منتهى الوضوح بالنسبة لتحديد الهدف: إن هدفنا خلق شروط الإقلاع وهذه هي مشكلة التنمية في جوهرها. ثم علينا أن نحدد بأية وسيلة سنبلغ ذلك الهدف. إذ ليس من مصلحتنا أن نستثمر بأي شيء: فليس من المقبول أن نستثمر ما نرغب فيه ونريده حتى بالوسائل التي هي في يد الغير. بل علينا أن نستثمر ما نستطيع بالوسائل الموجودة فعلا في أيدينا. وإذن، ما هي الوسائل التي في يد أي شعب في ساعة الصفر من إقلاعه؟ إن ألمانيا- بعدما تعطلت تماما سفينتها في نهاية الحرب العالمية الثانية- أقلعت بمقدار خسة وأربعين (45) ماركا للرأس فقط. لكن الإستثمار الحقيقي كان في رأس كل مواطن ألماني وفي عضلاته، وبصورة أشمل وأدق كان في تصميم الشعب الألماني، وفي التراب الألماني على الرغم من فقره، وعلى الرغم من أنه كان محتلا.

وفي الفترة نفسها- أي سنة 1948 - يقلع بلد آسيوي (الصين) في ظروف أقسى بكثير بسبب رواسب أكبر لم يعانها الشعب الألماني، فقد كان على الصين أن تخلق حق رأسمالها الفكري، بقطع النظر عن الفكرة الأيديولوجية التي تحركها. إننا لنجد في تجربتنا، في وضع إجتماعي إقتصادي شبيه بالذي تعرفه كل البلدان الأفروسيوية، الدرس الذي يفيدنا أكثر في معرفة الشروط الأولية للإقلاع. بصورة عامة، فوسائل أي بلد أفروسيوي في المرحلة الراهنة من تطوره، تصنف كما يلي: 1 - فلاحته وهي تنقص أو تزيد بدرجة وسائله البدائية. 2 - ما يملك من مواد خام في السوق. 3 - العمل المتوقع الذي يمكن تحويله إلى عمل واقع يعد بالساعات. إن هذا هو سائر الرصيد الإقتصادي لوطن متخلف في ساعة الصفر من إقلاعه. وسائر العوامل الأخرى فهي إضافية: إذ كل قرض أو استثمار يأتي من الخارج لا يمكن أن يكون القاعدة التي يقوم عليها مخطط ما. ومن ناحية أخرى، فالإختيار، أي النموذج الأيديولوجي إنما يؤثر في سرعة التنمية على وجه الخصوص. فاختيار الإشتراكية، مثلا إذا ما احترمت سائر شروطها الأيديولوجية يؤثر في السرعة، بسبب التسيير المفروض على وسائل الإنتاج. أما إذا لم تحترم شروطها في مرحلة الصياغة، بسبب هوامش مخالفة لجوهرها، أو في مرحلة الإنجاز، بسبب إرهاقها ببيروقراطية طفيلية، فإنه لن

يكون لها التأثير على الأجهزة النفسية المتوقع تحريكها، وهكذا تجمد الحركة ويستحيل الإقلاع. وعليه، فبقطع النظر عن الإختيار الأيديولوجي، يجب اعتبار الوسائل الموجودة في حد ذاتها، أي بتقديرها الإقتصادي البحت. إن بلدا متخلفا ليست لديه عملة ذات قيمة دولية يستطيع بها تجهيز صناعاته بالآلات الضرورية، فإن عملته، هي المادة الخام المصدرة إلى البلدان المصنعة، ومنها ما يفيض عن استهلاكه من القمح أو الأرز، أو ما ينتج من قطن أوجوت هالج. هذه المواد هي ما لديه بوصفها وسيلة استثمار في الخطوة الأولى، من أجل اقتناء ما يحتاجه في ميدان التصنيع. وتجربة الجزائر في تسويق الغاز وما لاقته من معوقات تدل على ضعف هذه العملة، مادامت غير محصنة بالتدابير الضرورية من المناورات التي تحط من قيمتها الشرائيه في السوق. وهذه الحصانة لا تتأتى إلا في نطاق سياسة اقتصادية موحدة بين بلدان العالم الثالث، حتى لا يبقى ذريعة لمناورين يتنافسون في التخفيض بين أرز بورما وأرز مصر وبترول الكويت وبترول العراق. وحينما قدم للمؤتمر الأفروسيوي الثاني في القاهرة في شهر كانون الأول (ديسمبر) 1958 إقتراح لتأسيس (مصرف لمواد الخام) رأينا بكل أسف هذا الإقتراح يمسخ، ويعدل ويصدر في النهاية في صورة اقتراح لتأسيس (مصرف للتنمية) - أي في صورة فكرة لا وسيلة لها- وهكذا لم يكن لهذا المصرف الخيالي أي أثر في التنمية. هذا الفشل ليس سوى مثل لتوضيح (اللافعالية) التي تختلف درجتها من وطن إلى آخر، ولكنها تعم العالم الثالث كله- عدا الصين-، فلم يحدث فيه إلى الآن تحويل العمل المتوقع إلى عمل واقع يقدر بالساعات.

ونلاحظ هنا أن القضية لا تتصل بفقر في الوسائل- لأن العمل هو الذي يخلقها- ولكن بفقر في الأفكار. فمن أجل دفع الآلة الإجتماعية في الحركة، أي من أجل تحقيق شروط الإقلاع، يجب أن يقوم التخطيط على مسلمة مدرجة كمبدأ عام لكل تشريع إجتماعي إقتصادي ألا وهي: ((كل الأفواه تستحق قوتها، وكل السواعد يجب عليها العمل)). فكل وطن متخلف يستطيع دفع عجلته على هذا الأساس الدستوري الذي يتكفل سائر الحقوق، ويفرض جميع الواجبات. ويحقق بذلك الحركة الإجتماعية التي تتغلب على كل نوع من الركود. فمن أجل تحقيق ((الإقلاع)) هذا هو الطريق. ***

العمل والإستثمار

العمل والإستثمار عن (الثورة الإفريقية) عدد 224 في 29 أيار (مايو) سنة 1967. إن الحدث الذي يوحي بهذه السطور وقع حوالي عام 1956، حين كانت الصين وشيكة القيام بما سمته (الوثبة إلى الأمام)، هكذا قررت سياسة الإسكان، أو بعبارة أخرى تحديد النسل. وعندما يقرر وطن- عدد سكانه أكثر من أي وطن آخر- تحديد نسبة زيادة السكان فلا غرابة في ذلك. هذا في الظاهر على الأقل، لأن منحنى التنمية يضع تلقائيا علاقة بين هذه الزيادة وحجم الإستثمار، وهي علاقة عكسية؛ أي إذا زادت نسبة السكان نقصت نسبة الإستثمار على الرؤوس. هكذا تقول الأرقام. إنها القاعدة المتبعة في كل تخطيط كلاسيكي، تفسر لعالم الإقتصاد التقليدي المهتم بصورة خاصة في العالم الثالث، من بين ما تفسر، الفشل النسبي الذي منيت به الهند بسبب زيادة السكان. وهكذا لم يكن المشروع الصيني مخالفا لمنطق الأرقام عندما قرر تحديد النسل، من أجل تعديل منحنى الإسكان، لتكون بينه وبين مقتضيات الإستثمار النسبة المعينة.

لكننا رأينا حين التطبيق، كيفط دامت هذه النظرية ((كما تدوم زهور الورد ساعة صباح)). هكذا لم نرها تدوم في الواقع أكثر مما دامت نظرية (مئة الزهرة) (1). وإذا نحن استطعنا تفسير إلغاء النظرية الأخيرة، بأسباب التقلبات السياسية، فإنه من الصعب أن نفسر، بالطريقة نفسها، إلغاء النظرية الأولى (نظرية تحديد النسل)، وهي نظرية إقتصادية لا تزال تحتفظ بقيمتها في رأي علماء الإقتصاد في الغرب، وحتى في بعض بلدان الشرق. هكذا رأينا المسؤولين الصينيين يتراجعون عن نظرية تحديد النسل ويتركونها إلى سياسة حرية النسل. إن للحدث معنيين مهمين: فهو يعني أولا، أن أي طريقة عمل نختارها، لا يجوز لنا أن نضع منها منديلا على أعيننا، يمنعنا من النظر: بل يجب علينا أن تكون لدينا دائما القدرة على إعادة النظر في أي لحظة نريد. ومن ناحية أخرى فإن الحدث يفيدنا بأن المسؤولين الصينيين قد أعادوا النظر فعلا فيما قرروا، وأنهم أدركوا بذلك طريقة أخرى جديدة للإستثمار. هذا الجانب هو الذي يمثل جوهر موضوعنا، مع أن التجربة تثرينا بجانبيها: فنحن نرى أن المخطط الصيني يطرح المشكلة أولا في صيغتها الكلاسيكية التي تقول: إذا أردنا أن نزيد من نسبة الإستثمار ينبغي أن نحفظ نسبة زيادة السكان.

_ (1) ظهرت هذه النظرية للوجود في فترة التأليف بين النزعات المختلفة في الصين ثم ألغيت.

ثم نراه في فترة وجيزة يغير موقفه تماما في الموضوع: فيطلق العنان للنسل دون تخفيض في منحنى التنمية. بل على العكس من ذلك، فقد ازدادت في الصين سرعة التنمية في تلك الفترة التي تسميها (الوثبة إلى الأمام). هل نستطيع من هنا أن نقرر أن التجربة قد دلت على عدم صحة النظرية العامة القائمة على الأرقام، والتي تربط بين نسبة زيادة السكان ونسبة الإستثمار بعلاقة عكسية؟. وهل نكون بذلك قد كذبنا الأرقام التي كان لها فعلا ثقلها في تحديد منحنى التنمية في أكثر من بلد من العالم الثالث، حيث كان من الصعب تحقيق (شروط الإقلاع) بسبب تزايد السكان بالذات؟. علينا أن نكون أقرب للمنطق فنجد إذن تفسيرا آخر. فالصين قد اكتشفت في نظرتها الثانية إلى الموضوع، طريقة تعويض، تعوض في مخطط الإستثمار الأثر السلبي لعامل السكان، ذلك الأثر الذي فعل فعله في تجربة الهند. وقد يهمنا أن ننكب على المشكلة لنتفحصها عن كثب: فالمرحلتان اللتان مرت بهما التجربة الصينية تدلان على صورتين للإستثمار: الواحدة منهما على عكس الأخرى بل تنافيها تماما. ولعلنا، نبسط الأشياء من أجل الفهم، إذا ما عرضناها في صورة جبرية، تكشف أكثر سمات النظريتين: 1) ففي الحالة الأولى سيكون العمل النتيجة النهائية للإستثمار، في صورة عدد من الوظائف يخلقها الإستثمار. 2) أما في الحالة الثانية فالإستثمار هو نفسه نتيجة العمل مقدرا بساعات عمل ( H.T) .

وهكذا نرى أن طريقتي الإستثمار تختلفان اختلافا جذريا، ليس من حيث مبدأ التخطيط فحسب، بل من حيث سائر نتائجه الإقتصادية والإجماعية والسياسية. فالإستثمار الأول يقوم أساسا على المال، أما الثاني فهو يعتمد أساسا على الطاقات الإجتماعية. والأول يتطلب غالبا وسائل مفقودة في البلاد المتخلفة، فيلجأ إلى رؤوس الأموال الأجنبية، وهي حين تأتي، تفرض شروطها السياسية التي تعرض البلاد لمشكلات لا حل لها، أو شروطا فنية تجعل إستثمارها دون جدوى، كالقروض التي استثمرت في جنوب شرق آسيا في نطاق مشروع (كولومبو). إذ تأتي الأموال والقروض أولا، وتترك البلد الذي ينتظرها مكتوف اليدين مع مشروع معلق، كمصر في سنوات 1955 - 1956 مع مشروع السد العالي المعلق. هذا من الناحية السياسية. أما من الناحية الإقتصادية والإجتماعية، فالفوارق بين الطريقتين أعمق من ذلك بكثير. فالمجتمع الذي ينمو على الطريقة الكلاسيكية للإستثمار، لا يستفيد إلا من جزء من العمل المتوقع (وهو نسبة السواعد التي تعمل فعلا)، بينما يتحمل بالضرورة سائر الأفواه التي تأكل، سواء منها من كان عاملا أو من غير عمل، وبذلك يتحمل بطالة لها أثر مزدوج: فهو يتحمل الشحاذة على نطاق واسع، وهي طفيلية إجماعية تزيد في الأعباء غير المنتجة على كاهل الوطن. إذ الأفواه الطفيلية تأكل على أية صورة كانت. ثم نتيجة أخرى لهذا الأثر هي هجرة العمل المتوقع (الذي تمثله السواعد المعطلة)، والتحاقها بأي من الطاقات العاملة في الخارج، وأحيانا تكون هذه الطاقات ذات كفاءة. وبذلك يصبح هذا المجتمع وكأنما يصدر للخارج ثروته الرئيسية: العمل.

حتى الأطر التي لم تشغل في نطاق الإستثمار الكلاسيكي فإنها تهاجر أحيانا. من هنا ندرك السبب الذي يجعل البلدان التي تخطط، مضطرة فيما يبدو لتحديد النسل، وذلك لتحديد عدد الأفواه الطفيلية والسواعد المعطلة، دون أن يصرحوا بهذه الحقيقة لاعتبارات أخرى. أما المجتمع الذي ينمو على أساس استثمار إجتماعي، إذ تعمل السواعد كلها وتأكل الأفواه كلها، فإنه لا يجد نفسه معرضا لتلك المناقضة الصارخة. فالأعضاء غير المنتجة فيه تنحصر في أقل مقدار (الطفل والمريض والعجوز) أما بقية السواعد فهي تعمل. وهنا لا تبقى في الوطن ضرورة لتحديد النسل، كما يكون متناسبا مع الإستثمار، كما هو الأمر في البلد الذي يخطط على أساس آخر. والحاجة إلى تحديد النسل تذوب منذ النظرة الأولى في الإستثمار الإجتماعي، بل لعلنا إذا أعدنا النظر في القضية- وفي ضوء التجربة الصينية- سوف يتبين على العكس أنه ربما يفيدنا أن نزيد في نسبة النسل، في حدود لائقة بقدر يتناسب مع مساحة الرقعة وغنى ترابها من ناحية، ومع مرحلة النمو من ناحية أخرى. قطعا، فحين يصل الوطن إلى طور الآلية الشاملة ( Automation) فقد يكون من حقه أن يعيد النظر مرة أخرى في قضية النسل. والواقع أن بلدان العالم الثالث ما زالت بعيدة جدا عن هذا الطور، وعليه فإذا عدنا هنا لاعتبارات قدمناها في مقالنا السابق، فلأننا أردنا أن نلح مرة أخرى على مبدأ التخطيط الذي أشرنا إليه في صورة مسلمة: ((يجب أن تأكل الأفواه جميعها ويجب أن تعمل سائر السواعد)).

ولا نستطيع القول إن هذا الرأي يمتاز بالأصالة في صيغته. فالمدرسة الماركسية صاغته أيضا في عبارة أخرى: ((من كل حسب وسائله، إلى كل حسب حاجاته)). وإذا كانت الصيغتان لا تختلفان تقريبا من حيث المحتوى، فإدراج هذا المحتوى في اطراد موضوعي للنمو الإقتصادي مع ما يستتبع من شروط فنية، يختلف تماما بين النظريتين. فالنظرة الماركسية تضع هذا المبدأ في آخر الإطراد، أو كما يقولون: عند ظهور المجتمع الشيوعي الذي يلي المجتمع الإشتراكي. وعليه يكون المبدأ ذا قيمة أخلاقية يتدخل خصوصا في عملية التوزيع. أما فيما نشير إليه ونلح فيه، فإن المبدأ الذي أشرنا إليه يوضع في بداية الإطراد، ليكون مبدأ فنيا في أساس التخطيط. وعلى ضوء ذلك لابد لتقنية التخطيط أن تتغيركلها لتكون مطابقة لذلك الأساس، وبالتالي فإننا نقول: إن إطعام سائر الأفواه وتشغيل السواعد كافة في بلد متخلف ليس إلا وهما، إذا ما فكر هذا البلد في استثماره على أساس رأسمالي. أما إذا فكر على أساس ماركسي فإنه مجرد أمنية حلوة. ***

إقتصاد القوت والتنمية

إقتصاد القوت والتنمية عن (الثورة الإفريقية) عدد 252 - 14 كانون الأول (ديسمبر) 1967. كان يسيرا أن يلقب القرن الثامن عشر لقبا واحدا يناسب طبيعته وهكذا سمي هذا القرن (قرن الأنوار). ولكن يبدو من العسير على المؤرخين أن يلقبوا قرننا هذا بتسمية واحدة لتنوع جوانبه الأساسية: فهو فعلا متنوع في مظاهره العميقة، إنه عهد الذرة، وهو عهد الفضاء الذي يصرخ فيه أحد الرواد، (جاجارين)، بأنه لم يجد الله في جولته، كأنما كان على موعد معه على بعد أربع مئة (400) كيلو متر من الأرض. وهو أيضاً عهد الساحات الكبرى المخططة التي تعطي لعالم الإجتماع فرصة ليلاحظ- من خلال نسق النمو في الصين أو في الإتحاد السوفييتي- سعة تطور إجتماعي، تختزل أربعة أو خمسة قرون من التطور العادي في مدى بضعة عقود من الحركة المنظمة. هذا المظهر الأخير هو الذي يهم بصورة خاصة البلدان المتخلفة، ويهمنا نحن في كل بلد عربي. إن فكرة التخطيط تلازم ذهنية عصرنا، فهي جزء لا يتجزأ من ثقافته، لكن تطبيقها يفرض شروطا تختلف من رقعة إلى أخرى أو حتى من وطن إلى آخر.

فبلاد كالولايات المتحدة حيث تحققت النسبة اللائقة بين عدد السكان والساحات المنتجة أي بين الطاقات الإجتماعية وإمكانيات التراب، تستطيع غلق حدودها دون أن يخل ذلك بميزانيتها الإقتصادية. إنها وحدة متكاملة ( Autarcie) في حيز الطاقة، تستطيع في كل لحظة أن تكون في حيز الوجود، إذا ما فرضت عليها ظروف خارجية خاصة، أن تستغني عن تجارتها مع الخارج، فتقصر حلقتها التجارية على الداخل فقط. لكن فكرة التخطيط، في هذه الرقعة، لا تتصدى هنا لمشكلات الوجود، فالقوت متوفر منذ الآن، لكنها تتصدى لمشكلات القوة والهيمنة من أجل الحفاظ على توازن القوى في العالم، كما يزعمون. ففي رقعة كهذه، تكون مهمة المخطط سهلة نسبيا، لأنها تعنى فقط بإيجاد أفضل استخدام للوسائل يتحقق به أقصى ما يمكن من القوة. وفي رقعة أخرى، كالاتحاد السوفييتي والصين في بداية إقلاعها، كان على المخطط أن يواجه صنفين من المشكلات: كان عليه أن يحل أولا، مشكلة القوت في وقت يواجه فيه مشكلة القوة. إنما هو لن يستطيع حل الثانية إذا لم يحل الأولى قبلها .. يحلها على الأقل بصورة تدريجية. وهذا يعني من الناحية النظرية، أنه لا يمكن تحقيق اقتصاد تنمية، بطريقة مستقلة عن إقتصاد متين لتحقيق القوت. هذه الضرورة، المفروضة بحكم الطبيعة على التخطيط، كما رأيناها قد روعيت في بلدين كالصين والإتحاد السوفييتي، وكم يجب من باب أولى، مراعاتها في البلدان المتخلفة.

ففي هذه البلدان، لابد للتخطيط أن يعين، بكل وضوح، وسائل القوت ووسائل التنمية. لكن الصلة بين الجانبين عضوية ووثيقة، وأي حل نتخذه، كنوع الإستثمار من أجل التنمية، فإنه سيفرض الحل، الحسن أو السيئ للمشكلة الأولى، وربما فرض مع ذلك نتائج سياسية في بعض الحالات. وكما سبق أن قلنا في غير هذا المكان، فهناك نوعان من الإستثمار: 1) الإستثمار الكلاسيكي بالوسائل المالية. 2) الإستثمار الإجتماعي لسائر الطاقات البشرية، سائر موارد التراب، وما تحت التراب أو الركاز كما يقول الفقهاء. علينا إذن للتمييز بين النوعين، أن نقدر فعالية الأولا بالنسبة لوطن واحد (ومن أجل التبسيط)، وفي إحدى مهماته فقط، في الجزائر مثلا، فيما يتصل على الأقل بالتشغيل الجزئي لليد العاملة فيها. وزيادة في التبسيط سنقدر مهمتها فقط بالنسبة لعودة سبع مئة ألف من أبنائها الموجودين في أوربا الآن، مع ضان تشغيلهم في بلادهم. وثمة ملاحظة أولى في هذا الصدد: إن تصدير فوج كهذا من السواعد إلى الخارج، يمثل نزيفا للطاقة الإجتماعية للبلاد المصدرة، دون أن نضيف إلى هذا التصدير، نبرة المأساة التي يعيشها أكثر من نصف مليون جزائري، تلقي بهم الحياة في الصعوبات وعدم الإستقرار، كما يعرف هذا من شاهد ظروف العمل القاسية التي تفرض على هؤلاء العمال. فاسترجاع هذا الفوج، مهمة ذات مغزى كبير من الناحية الوطنية والإقتصادية والإنسانية.

ولنظرح الآن المشكلة من الناحية النفسية: فكم يكون مبلغ الإستثمار المالي الكفيل بإنجاز مهمة كهذه، أي إيجاد سبع مئة ألف وظيفة؟. إن الأرقام هي التي تجيب على هذا السؤال: فنحن نعلم أن الميزانية الجزائرية رصدت تقريبا مئتي مليار من الفرنكات القديمة تقريبا، لتشيد بعنابة مركب الحديد والصلب لإيجاد- حسب التقديرات الرسمية- نحو خمسة آلاف وظيفة. وعليه يتطلب إنجاز مهمة واحدة كهذه- أي إرجاع الجزائريين الذين يعملون في الخارج مبلغا قدره ثمانية وعشرون ألف مليار من الفرنكات القديمة تقريبا. هذا الرقم وحده، يوضح بأن التخطيط والإستثمار على الطريقة الكلاسيكية - أي بوسائل المال- يجعل مهمة جزئية فوق استطاعة الوطن. وهذه الحقيقة ستكون أكثر وضوحا لو قدرنا المشكلة بكاملها ولم نقتصر على جزئية من جزئياتها. فاختيار الطريقة الكلاسيكية للإستثمار يقودنا حتما إلى مأزق إقتصادي أولا، ثم إنه سيضع خطة تنميتها تحت رحمة رأس مال أجنبي بالضرورة، قد يتوفر لنا أو لا يتوفر، ثم إنه يفرض علينا قيودا لا نقدر مسبقا ثقلها على الصعيد السياسي. فأمام احتمالات كهذه نستطيع قطعا اتباع نظرية الإقتصاد الكلاسيكية لـ (آدم سميث)، حين وضع مبدأه (اتركوه يعمل، اتركوه يسير) فوضع معه في الوقت نفسه سياسة النعامة التي تغرس رأسها في الرمل عندما ترى خطرا محدقا بها. وهو يعني في وطن كالجزائر، أن نترك الأشياء تسير وحدها، بخطوة السلحفاة في عصر الفضاء.

أما إذا انتهجنا الطريق الآخر للإستثمار، فإن علينا أن نحدد مبادئه ومسلماته، فنراعيها ونراعي نتائجها في تخطيطنا. وينبغي أن تأخذ أولا كلمة (تخطيط) ضبطا أكبر ووضوحا أجلى في مصطلحنا التقني، فليس التخطيط أن نضع، الواحد تلو أالآخر، أجزاء متفرقة ومختلفة، تاركين للصدفة ولحسن الحظ أن يتلقفاها في مركب نسميه (التنمية). هذا من حيث المصطلح، ففيه لكل كلمة قدرة على تحديد نظرية أو سياسة اقتصادية لها فعاليتها في النتيجة. أما المبادئ والمسلمات الخاصة بالإستثمار الإجتماعي فهما اثنتان: 1 - يجب القوت لكل فم. 2 - يجب العمل لكل ساعد. وعليه فالقضية ليست بالنسبة للبلد الواحد في تشغيل جزء من السواعد، كسواعد العمال الجزائريين العائدين من الخارج، بل ينبغي تشغيل السواعد كلها. التي تمثل الرصيد الحقيقي للوطن بأجمعه في لحظة الصفر من إقلاعه. وبهذا الثمن فقط نستطيع دفع عجلة التنمية في الوطن. والمسلمة الأولى (القوت لكل فم) تفرض منذ اللحظة الأولى شروطا على الثانية لتطبيقها، إذ نحن لن نستطيع تشغيل السواعد كلها إذا لم نأخذ على عاتقنا إطعام الأفواه جميعها. هكذا يتبين الربط العضوي بين اقتصاد القوت واقتصاد التنمية. لقد عاشت الصين الشعبية مع الثورة الثقافية، تجربة تفيدنا في هذا الصدد من ناحيتين، فالمعارضون لـ (ماوتسي تونج) قاموا بمحاولة تعطيل لاقتصاد

التنمية، ببث الفوضى في أقتصاد القوت، فبذروا الإحتياطي من الغذاء بتوزيع يرضي العمال في حاجتهم العاجلة ويحطم مصلحتهم لم الآجلة. لكن المسؤولين ما لبثوا أن أدركوا بسرعة هذا التخريب وأطلقوا عليه مصطلحا جديدا (الإقتصادانية) (1). وكان التخريب المسمى بهذه التسمية موجها لتخدير الوعي الثوري لدى العمال الذين لم ينخدعوا، وموجها لإحباط الجهد الجبار المبذول في الوطن من أجل التنمية. هكذا نلمس الرباط الحيوي بين اقتصاد القوت وأقتصاد التنمية، في بلد اختار بالضبط طريقة الإستثمار الإجتماعي مع مسلمتيه الأساسيتين. ولا نرى، في الحالة الراهنة، طريقة ثالثة لرسم خطة تنمية للبلدان النامية؛ إنما اختيار أي الطريقتين يفرض نتائجها بأكملها، خصوصا في تخطيط العمل والتوزيع، إذ لكي نحرك السواعد كلها لابد أن نوفر القوت لسائر الأفراد. وذلك يعني في المخطط أولا، إنتاج أقصى ما يمكن من الغذاء، لتوزيعه على أليق صورة، بين ما يخزن للإستهلاك وما يوفر للتصدير في نطاق مقتضيات التنمية. وها نحن أولاء نجد مرة أخرى في الصين المثل الذي يوضح هذه الخطة، إذ القطاع الزراعي فيها قدم وحده وسائل اقتصاد التنمية، بالإضافة إلى وسائل اقتصاد القوت. لقد قدم القطاع الزراعي وحده، على الأقل في العقد الذي تلا عام 1948،

_ (1) ترجمنا بهذه الكلمة المنتحلة لفظة Economisme وهي أيضاً منتحلة من Economie أي الإقتصاد للتعبير عن الإغراء بوسائل الإقتصاد.

الوسائل التي أتاحت للصين أن تواجه راشدة سائر مشكلات الوجود (القوت)، وأن ترسي بنجاح القواعد التي تجعلها دولة قوية. إنها البلد الوحيد في العالم الثالث الذي استطاع أن يستثمر 20% من دخله السنوي العام في تجهيز صناعته، وذلك بفضل قطاعه الزراعي. والواقع أن مجمل البلدان المتخلفة أصبحت تعيش بشظف. وهي ما تزال تعيش على أي حال من قطاعها الزراعي، بينما نرى إنتاجها الزراعي قد انخفض منذ استقلالها، أي أصبح لا يعنى بضرورات القوت، ومن باب أولى لا يعنى بضرورات التنمية. إن شروط التسويق، المهيمن عليها المال، لا تسمح أيضاً برفع ميزانية البلدان المتخلفة من أجل التصنيع، ولا تستطيع الواحدة منها أن تكون داخل حدودها سوقا مستقلة، إنما تستطيع على الأقل تحرير قوتها من شروط الخارج. لا بد إذن من وضع اقتصاد القوت فوق سائر تقلبات السوق في الخارج، وكذلك مناورات البورصات، وعليه لابد أن يوضع مخططه في صورة حلقة مغلقة لا تؤثر عليها العوامل الخارجية، ولتحقيق هذا الهدف لابد من تجنب استهلاك بعض الأنواع من الغذاء المستوردة من الخارج، كالشوكولاه من النوع الفاخر وسمن النورماندي والويسكي الايكوسي. ولا بد أن يكون هذا التخطيط الغذائي في صورة (أوترشي Autarcie) صغيرة جديرة، على الأقل، بتحقيق قوت الأفواه جميعها. لابد لكل وطن متخلف أن ينظم أولا قطاعه الزراعي، حتى يقوت سائر الأفواه ويشغل بالتدريج كل ساعد. إننا ننتظر نيران الأفراح تعلن أن البلدان الإسلامية تسير على هذا الطريق.

نشتري أم نصنع

نشتري أم نصنع عن (الثورة الإفريقية) عدد 260 في 8 شباط (فبراير) 1968. نشرت جريدة (الجزائر والأحداث) مقالا يتعلق بتحديد النسل، فقدمته إلى قرائها بتعليق تناولته بعض السطور. إنه لا يهمني في هذا التقديم، ما لا يخصني كذكر (الضرورة الإقتصادية) بوصفها مسوغا لتحديد النسل في نظر (الغزالي)، مع أنني أعتقد أن تحميل صاحب (إحياء علوم الدين) مثل هذا التسويغ في قضية (العزل) إنما هو تعد على حقيقة شخصيته وزمانه. ولقد أراد صاحب السطور أن يلمح إلى بعض ما قلته في إطار تحديد النسل والإقتصاد موضحا سطحية من يعزو التخلف بصورة خاصة إلى كثرة السكان. وهكذا يتناول التعليق هذا الرأي قيعقب عليه بأننا في ذلك قد حاولنا أن نحيط النظرية (الملتوسيه) (1) بالشكوك، بينما أحطتها بالوضوح كله معتمدا على إحصائيات وتجارب واقعية، في بيان خطئها. وإني لأعترف لصاحب السطور هذه، بأنه لم يجعل رأيي في الموضوع كله (شكوكا)، بل إنه تفضل وترك له نصيبا من الصحة والصواب. إنما هو قد حصر هذا النصيب فيما أسماه (الظاهرة اليابانية) و (الظاهرة الصينية). ولقد ركز فعلا حالتي الصين واليابان، لا على أنهما حالتا شذوذ كما يوعز قلمه

_ (1) (ملتوس) هو صاحب نظرية تحديد النسل، وقد وضعها في القرن الماضي.

بذلك، ولكن على أنهما دلالتان بينتان على واقع ذي أهمية كبرى، في التدليل الفاصل على أن الحياة الإقتصادية بالمعنى العضوي لها (ذاتيتها)، وأنها تحتفظ بها في نظم أيديولوجية مختلفة أو حتى متباينة. لكن لصاحب السطور في (الجزائر والأحداث) الفضل على أية حال، فقد أعطاني فرصة لمزيد من التوضيح والإدلاء بمزيد من الآراء فيما يتعلق بذاتية الظاهرة الإقتصادية. لقد أطلقت الصين في البحر، منذ بضعة أسابيع، أول سفينة للإتصال البعيد، ضعتها كلها إحدى ترساناتها وأسمتها (دنج فيند)، وقد أنتهزت الصحافة الصينية هذه المناسبة، للإشادة مرة أخرى بانتصارات الثورة الثقافية، وهاجمت المثبطين والمتوجسين وفندت مزاعمهم. وهكذا خصصت صحيفة نقدا شديدا للخط السياسي الذي ((يدفع إلى شراء أو استئجار البواخر عوض صنعها)). وليس لنا هنا، أن نعد هذا النقد من وجهة النظر الأيديولوجية كما فعلت الصحيفة، ولكن من الناحية الإقتصادية الصرفة. ولعلنا نفاجئ الكثير من إخواننا، إذا قلنا لهم إن الولايات المتحدة- وهي أغنى دولة- لا تستطيع إذا حطم زلزال عنيف إحدى مدنها الكبرى (شراءها) من جديد لتعيد بناءها. فأميركا الغنية لا تستطيع فعلا، بما لديها الآن من رصيد الذهب، وهو تقريبا أربعة عشر مليارا من الدولارات، أن تدفع لمقاول- أنجز إعادة بناء مدينة كنيويورك مثلا بكل مرافقها السكنية والصناعية- ثمن مقاولته عينا. إذن لا بد أن نتصور غرور المسكين الذي يتقدم لمقاولة كهذه. ومع ذلك

فلن نرى عجبا في وجوه إخواننا- الذين فاجأناهم بمثلنا هذا- إذا قلنا لهم إن الولايات المتحدة قد قررت- وليكن لأسباب استراتيجية- بناء مئة نيويورك (تحت الأرض) لتجمع فيها السكان في حال حرب نووية. فالوطن الذي كانت له الجرأة، منذ أكثر من نصف قرن، ليقدم على إنجاز المشروع الضخم المسمى (مشروع مجرى التينسي)، لقادر اليوم على إنجاز أي مشروع في الحجم الذي قدرناه (بمئة نيويورك) تقديرا يشبه الخيال. لكنه ليس في تقديرنا أي خيال، وخصوصا حين نلاحظ أن إعادة بناء سائر مدن ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، وكذلك إعادة بناء هيروشيما ونجازاكي في اليابان، قد تم في صميم الواقع في القرن العشرين بعيدا عن الخيال. هذا بينما لا نتصور أنه كان في استطاعة ألمانيا واليابان (ثراء) مدنهما المحطمة ودفع ثمنها عينا: فمن أين توافر لهاتين الدولتين ذلك كله في وقت كانتا فيه محطمتين وقد فقدتا كل قوة شرائية في السوق العالمية؟. ليس في هذا كله عجب، بل إننا نستطيع التدليل بدلائل أخرى كظهور الإتحاد السوفيتي من العدم. ولئن دل ذلك على شيء، فعلى أن عقول الناس تميز، تمييزا طبيعيا إلى حد ما، بين (قوة الشراء) و (قوة العمل) في مجتمع ما. ولهذا التمييز أهمية كبرى بالنسبة للبلدان المتخلفة، لأنه يجعلها تدرك، إن شاءت، الفرق الجوهري بين الإستثمار المالي الكلاسيكي الذي يعتمد منذ الخطوة الأولى على (قوة الشراء)، والإستثمار الإجتماعي الذي يعتمد أساسا على (قوة العمل). ولاشك، بأن الصعوبات التي لاقتها هذه البلدان أو الفشل الذي منيت به، بعد الحرب العالمية الثانية، قد كان مرجعها إلى خلط وعدم وضوح في الأفكار في هذا الصدد.

إن (قوة الشراء) كانت فعلا ضعيفة لدى هذه البلدان أو هي تساوي صفرا في السوق العالمية، فإذا وضعت مخططاتهم بالتقديرات النقدية وليس منها في أيديهم شيء، فإن (إقلاعهم) سيصبح مستحيلا، وستكون خطواتهم في هذا الإتجاه مجرد تيه يعرضهم لخيبة أمل تارة، ولفشل أخرى، وأحيانا لتورطات سياسية على حساب سيادتهم. وقد يحدث أيضاً لبعض البلدان من العالم الثالث، أن تعلن على الصعيد السياسي موقفها الإشتراكي، ولكن دون رؤية واضحة لمستلزمات هذا الموقف على الصعيد الإقتصادي، فنراهم ينهجون في مخططاتهم منهج من يعتمد على (قوة الشراء) المفقودة بين أيديهم، فتصبح مخططاتهم خاضعة لتبعيات مالية تعطل إنجازها. وطالما لم تتوضح فكرة الإستثمار في تلك البلدان، وتبقى فيها خاضعة لسلطان المال، فإنها- مهما كان مبدؤها السياسي- لن تكتشف قدرتها الإقتصادية الحقيقية. والمشكلة هذه التي تفرض شرطا مسبقا على مشروعات تلك البلدان، ليست في الواقع من الصنف الإقتصادي بالمعنى الضيق لهذه الكلمة، ولكنها- قبل ذلك- مشكلة نفسية ثقافية، أو بعبارة أخرى هي من الصنف الأيديولوجي مع توسيع معنى هذه الكلمة. فهذه البلاد تعيش نتائج صدمة ثقافية تحرمها من حرية التصرف في أكثر من ميدان. ففي الميدان الإقتصادي يجب عليها أن تكتشف قدرتها الحقيقية، التي لا توجد على محور (القدرة المالية)، ولكن على محور (القدرة الإجتماعية). وطالما لم تقم البلدان المعنية بهذه الخطوة من أجل تحررها النفسي- الثقافي، فإن تحررها الإقتصادي يصعب أو يستحيل .. وهكذا يصبح بعضها

الغني يموت جوعا، لأنه لا يحسن التصرف بما آتاه الله من قدرة، بينما هذه القدرة عظيمة جدا في العالم الثالث، شريطة أن يحولها من حيز القوة إلى حيز العمل. ولا يمكن ذلك إلا بتحقيق سائر شروط التحويل، كما تحققت في الإتحاد السوفيتي حوالي سنة 1928، وفي الصين عام 1948. ولسنا نفترض هنا، بذكر هذين المثالين، إختيارا أيديولوجيا معينا. فالإقتصاد له قوانينه الذاتية- كما ذكرنا ونكرر- وعلى ضوء ذلك لا يمكن القول إن ثمة (ظاهرة يابانية) من ناحية، و (ظاهرة صينية) من ناحية أخرى، وإنما هنالك (ظاهرة إقتصادية) واحدة تحققت، طبقا لشروط ذاتية، في بلدين تختلف أيديولوجيتهما اختلافا مطلقا. وللإقتصاد تاريخه أيضاً: فالعصر الصناعي لم يبدأ في ألمانيا في القرن التاسع عشر على أساس شيء يسمى مشروع (مرشال) (1) أو على قاعدة أيديولوجية معينة. لعله كان (للإستثمار المالي) أثر (كحقنة سيروم تقوي جهازا لازال ضعيفا) في النهضة الصناعية، التي قامت في الإتحاد السوفيتي بعد ثورة 1917، مهما كان في هذا الإحتمال من ضعف بعد أن أعلنت الثورة إلغاء سائر القروض الأجنبية، ولكن الأمر الذي لا جدال فيه هو أن (الإستثمار الإجتماعي) قد حقق ما سماه لينين (الإقتصاد الجديد NEP) ، وهو الذي شيد العملاق السوفيتي. وإنه الإضطراد نفسه يتكرر اليوم في الصين بسرعة مذهلة.

_ (1) إن نشر هذه الآراء أوجد رد فعل في جبهات معينة نسميها (جبهات الصراع الفكري)، فأطلقت أقلامها وأبواقها المأجورة للرد المتستر علينا بأن مشروع (مرشال) هو الذي سمح لألمانيا بنهضتها الإقتصادية الحالية، ولكن هل كان (مرشال) في القرن الماضي!

وعلى العكس من ذلك، فإن (الإستثمار المالي) لا يستطيع أن يحل مشكلات البلدان المتخلفة لا كما ولا كيفا. إنه لا يحلها كما، لأنه- مهما تواضعت التقديرات- لا يكون أبدا في مستوى الحاجات الحقيقية. ومن ناحية الكيف لأن (قدرته) تصاب منذ الخطوة الأولى، بعيب منحه بصفته قرضا خاضعا لشروط توجهه غالبا مصالح صاحب المال، سواء لخدمة أغراض استراتيجية أو لتنميق سمعته. فـ (النقطة الرابعة) على سبيل المثال، لم يكن لها أي تأثير في البلدان المتخلفة، سوى أنها أتاحت لعدد كبير من الأجانب إقامة سياحية طويلة وممتعة، بصفتهم مستشارين في تلك البلدان، ولم يستفد منهم من أهالي الوطن سوى بعض (البقالين) ليمونوهم، أو بعض المقربين إليهم من المثقفين المحليين. وهكذا كانت (النقطة الرابعة) حقنة السيروم أعطيت للتقوية، إنما لم يستفد منها من حقن بها، لأن جرعتها بالنسبة لوهنه الكبير كانت قليلة، ثم لسوء حقنها كذلك. وقد يحدث أحيانا أن (الإستثمار المالي) يصاب أيضاً بعيب من يستغله، فيستعمله في أبواب تافهة: كنصب تمثال من ذهب لزعيم في عاصة من عواصم العالم الثالث، أو في أمر تافه آخر. إنه ليس للبلدان المتخلفة سوى طريق واحد للخروح من المأزق الإقتصادي، دون اللجوء إلى تلك التفسيرات التى تعزو التخلف إلى (التفجر السكاني) التي بينا سطحيتها فيما سبق. هذا الطريق ما هو إلا (الإستثمار الإجتماعي) وفقا للشروط التي ذكرناها

آكثر من مرة، أي- بعبارة مختصرة- تلك الشروط التي تحول سائر العوامل الإقتصادية من حيز القوة والسكون إلى حيز العمل والحركة. والعالم الثالث في حاجة، من أجل إقلاعه، إلى دفعة كفيلة بأن تخلصه من سائر أصناف الجمود، ولعله بصورة خاصة في حاجة في الميدان الإقتصادي إلى نظرية جديدة. ولا بأس إذا ذكرنا هنا أن (مؤتمر 77) الذي انعقد بالجزائر قبل مؤتمر نيودلهي مر بالمشكلة مر الكرام. وكذلك المؤتمر الذي انعقد بالقاهرة عام 1957. ويبقى أمامنا أن حل هذه المشكلة، هو الذي سيعطي الإشارة الخضراء الحقيقية للإقلاع في العالم الثالث، ولن يتحقق ذلك إلا ضمن تغيير جذري في طيات النفوس. فالتنمية لا تُشترى من الخارج بعملة أجنبية، غير موجودة في خزينتنا. فهناك قيم أخلاقية واجتماعية وثقافية لا تُستورد، وعلى المجتمع الذي يحتاجها أن يلدها. والتنمية من تلك القيم، إنها لا تستورد بل تصنع في المكان نفسه كالباخرة التي أطللقتها الصين في البحر هذه الأيام. وإذا بدا تزايد السكان في بلاد متخلفة كارثة، مثل كارثة زحف الجراد على أرض ذات زراعة ومرعى، فإنما ذلك لسبب واحد هو أن التخلف الإقتصادي مبطن بتخلف ذهني. وإذا كان يخشى في وطن كهذا أن تزيد فيه البطالة، بينما كل شيء فيه ينتظر الإنجاز، فذلك دليل على أنه يعاني أولا بطالة العقول التي تحجم عن السير، وتقف أمام الإشارة الحمراء التي تضعها في طريقها فكرة (الإستثمار المالي).

إن وطنا متخلفا لابد له أن يستثمر سائر ما فيه من طاقات. يستثمر عقوله وسواعده ودقائقه كافة، وكل شبر من ترابه، فتلك هي العجلة الضخمة التي يجب دفعها لإنشاء حركة إجتماعية واستمرار تلك الحركة. وعند ذلك فقط، إذا جاء من الخارج نصيب يضاف إلى الإستثمار العام، فإنه قد يكون حقنة تزيد في قوة جسم تكونت قوته من ذاته، حين اكتشف قوته الإقتصادية الحقيقية. ***

الفصل السادس في الصراع الفكري

الفصل السادس في الصراع الفكري خاتمة لو كان لابد من خاتمة لهذا الكتاب، لرأيت أن أخصصها لفصل (الصراع الفكري)، لأن هذا الصراع ما احتدم يوما، في التاريخ على العموم وفي العالم الإسلامي على وجه الخصوص، كما نراه اليوم. إن أمهات القضايا التي يواجهها العالم الإسلامي اليوم، هي من صناعة التاريخ. لكن عثراته فيها سواء في حياته الداخلية، أو في الحياة الدولية بوجه خاص، هي من صنع نفسه، أو إذا أردنا أكثر دقة، قلنا إنها من صناعة أعدائه، ومن جهله المطبق بتقنية هذه الصناعة مع إسهام بعض أبنائه فيها بوصفهم مرتزقة. إنني لا أريد الدخول في تفاصيل موضوع شائك، خصصت له، منذ أكثر من عشر سنوات كتابا هو (الصراع الفكري)، وأعتقد أنه الآن في حاجة إلى تكملة عريضة في ضوء التجارب الجديدة التي مر بها- ويمر بها- الوطن العربي بعد الإستقلال. إنما حسبي هنا أن أقول كلمتين خلاصة لخبرتي في الموضوع: أولا: إن الصراع الفكري، تجري عليه قاعدة الشيء المركب من أشياء.

فإذا أجرينا على تركيبه عملية تحليل، وجدنا فيه عناصر تعود إلى الإستعمار وأخرى تعود إلى القابلية للإستعمار. لكن إذا تتبعنا العناصر هذه كلها، في نطاق عملها في حياة المجتمع الإسلامي، فسوف نجد أن العناصر الأولى لا تؤثر، ولا تستطيع التأثير، إذا لم تساعدها (القابلية للإستعمار). وبعبارة أخرى، فالإستعمار وحده لا يستطيع شيئا! ثانيا: ثم إذا نظرنا في الصراع الفكري من الزاوية الأخلاقية، نراه يحتوي على: دهاء، مكر، خداع، نهم، شراسة، دناءة، سفالة، نجاسة، خبث، خيانة. وإذا أردنا، بعد ذلك، توزيع هذه العناصر توزيعا منصفا حسب مصدريها، فسنجد الدهاء، والمكر، والخداع، والنهم، والشراسة من نصيب الإستعمار لا ينازعه في هذه الفضائل أحد. أما قرينته الشمطاء- القابلية للإستعمار- فحصتها الدناءة والسفالة والنجاسة والخبث والخيانة. والآن، فإذا سمح لي أن أعلق على هذه الحقيقة بشيء من تجربتي الشخصية بصفتي كاتبا، أقول: إنه ما أصابني الإستعمار بأذى يعطل نشاطي، إلا عن طريق هيئة دينية إسلامية، أوسلطة في بلاد عربية. أما أنت أيها القارئ الكريم فحسبك إذا قرأت في هذا الكتاب (جولة البترول العربي) أن تتذكر موقف بعض الدول في قضية البترول، فعساك ترى الصراع الفكري في أبشع صوره. باريس 8/ 8/ 1972

المسارد 1 - مسرد الآيات القرآنية 2 - مسرد الأحاديث النبوية 3 - مسرد الأعلام (يشتمل الأشخاص والدول والأمكنة) 4 - مسرد المذاهب والجماعات والشعوب 5 - مسرد المعاهدات والمؤتمرات والمنظمات 6 - مسرد المراجع والمصادر 7 - مسرد الموضوعات

1 - مسرد الآيات القرآنية الآية .......... رقمها .......... الصفحة سورة التوبة (9) {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا} .......... 47 .......... 15 سورة الرعد (13) {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} .......... 11 .......... 9، 54 سورة الإسراء (17) {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} .......... 70 .......... 25

2 - مسرد الأحاديث النبوية الحديث .......... الصفحة ((أ)) «إنما هي أعمالكم تُردّ إليكم، كما تكونوا يُوَلَّ عليكم» [في صحيح مسلم 1994/ 4 .......... 40، 68، 149 - كتاب البر- باب تحريم الظلم- الحديث 2577 « .... إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها .... » ولم نعثر على نفس النص الوارد إنما هي أعمالكم ترد إليكم. أما الحديث الثاني: «كما تكونوا يول عليكم» فهو حديث ضعيف، كشف الخفاء 126/ 2، والمقاصد الحسنة للسخاوي 326 والرواية فيه «كما تكونون ... »] «إياك وخضراء الدمن» [الحديث «إياكم وخضراء الدمن، فقيل: ما خضراء .......... 66 الدمن؟ قال: المرأة الحسناء في المنبت السوء». رواه الدارقطني في الأفراد والرامهرمزي في الأمثال. وانظر إحياء علوم الدين للإمام الغزالي- المجلد الثاني- ج 132/ 4 متسلسل 724 طبعة ثانية دار الفكر1400 هـ/ 1980م]. ((ع)) «عُدنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر» [كنز العمال 4/ 430 الحديث 11260 .......... 113 و4/ 616 الحديث 11779] ((م)) «من كانت بيده غرسة يريد غرسها وقامت الساعة فليغرسها،» [في مجمع .......... 128 الزوائد 4/ 63 ورد الحديث بلفظ «إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة (أي نخلة صغيرة) فليغرسها» رواه البزار] ((و)) «والله ليتمن هذا الأمر حتى تسير الظعينة من مكة إلى صنعاء. وعلى رأسها .......... 64

طبق من ذهب لا تخشى إلا غائلة الذئاب» [في صحيح البخاري 1332/ 3كتاب المناقب الحديث 3416، و 1398/ 3 كتاب فضائل الصحابة الحديث 3639، و 2346/ 6 كتاب الإكراه الحديث 6544 ما يقرب من المعنى، طبعة أولى دار القلم بيروت 1401 هـ/ 1981م. وانظر السيرة النبوية لابن كثير 496/ 1 طبعة ثانية دار الفكر بيروت 1398 هـ/1978م. وانظر أيضا البداية والنهاية لابن كثير 60/ 3 طبعة دار الفكر بيروت 1398 هـ/ 1978م] ((ي)) حديث عن حكيم بن حزام حين سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يعطيه .......... 26 فأعطاه ثم قال له: «يا حكيم إن هذا المال خضر حلو، فمن أخذه بسخاء نفس بورك له فيه، ومن أخذه باستشراف نفس لم يُبارك له فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع، واليد العليا خير من اليد السفلى» [صحيح البخاري 535/ 2كتاب الزكاة الحديث 1403، و 1010/ 3كتاب الوصايا الحديث 2599، و3/ 1145كتاب الخمس- الحديث 2974، و 2365/ 5 - 2366 كتاب الرقاق- الحديث 6076 طبعة أولى دار القلم بيروت 1401 هـ/ 1981م. صحيح مسلم 2/ 717 كتاب الزكاة الحديث1035 طبعة ثانية دار الفكر بيروت1398 هـ/ 1978م. وسنن النسائي 5/ 60]

3 - مسرد الأعلام (يشتمل الأشخاص والدول والأمكنة) ((أ)) آدم سميث 170، 185 إبراهام لنكولن 83، 97 ابن خلددن ح 89 (1) أبن كثير ح 113 أبو بكر (رضي الله عنه) 16، 26، 61 أبو ذر الغفاري 61 أبو سفيان 61 الاتحاد السوفييتي 8، 21، 67، 165، 166، 182، 183، 191، 193 أثينة 75، 90 أحد (غزوة) 15 أراجون (شاعر) 41 أرسطو 75 إسرائيل 18، 105، 108، 109، 110، 114، 115، 116، 119، 120، 130، 131، 132، 135، 140، 142، 143، 150 الاسكندر الاكبر 75 الفيران 85 ألمانيا 34، 67، 170، 172، 191، 193 ألمانيا الغربية 18 أمريكا 24، 116، 133، 142، ح 155، 158، إنجلترا 142،99،31 أنجولا 140 أوراس (جبال) 26، 28 أوغست كونت 77،73 إيران 115 أيمس (برقية) 34 إينشتين 76 ((ب)) بابل (برج) 95 باتيستا (حكم كوبا قبل كاسترو) 25 باريس 14، 41، 55، 56، 57، 58، 59، 62، 78، 107، 108، 121، 122، 127، 198 باطيل (وزير داخلية هندي متعصب) 31 باكستان 31 باندونج 52 بدر 85 برودون 74، 75 بريست ليتوفسك (هدنة بين ألمانيا وروسيا سنة 1917م) 22، 67 بسكال 80 بطرس الأكبر 21 بغداد 106، 110، 139، 163، 164 بكين 2 ح 155

_ (1) ح= حاشية

بلجيكا166 بلفور121 بن بركة 110،108 بن غوريون 135 بورما 174 بول حتي مسعد (الأب) 138 بئر الكاهنة 65 بيرل هربر 124 بيير روسي (مؤلف) 139، 140، 141، 142، 143 ((ت)) تاليران 22 تايلور 68 تبسة 65 تبوك 112 تل أبيب 117، 132 توزير 29 تونس 106 تيبورماند 157، 171 التينسي 191 ((ج)) جاجارين (رائد فضاء روسي) 182 جالوت 141،108 جان جاك روسو 14 جان دارك 64 جان دانييل 49، 50 جان سرفان شرايد 154 جحا 92، 93، 94، 95، 96 الجرجرة (جبال) 65 الجزائر 7، 30، 35، 42، 43، 55، 56، 58، 77، 78، 79، 89، 90، 94، 97، ح 100، 102، 107، 140، ح 147، 148، 141، 152، 164، 174، 184، 185، 195 جلوب باشا 105 الجمهورية العربية المتحدة ح 124، 125، 165 الجنوب العربي 29، 31، 32، 33 جورج حبش ح 34 جوزوي كاسترو 157، 158 جوليو- كوري (مختبر (122 جونسون (رئيس أمريكي سابق) 116 جيب (مستشرق) 87 جيفارا 50، 51 جيرم مرتينو (دار للنشر) 139 ((ح)) حكيم بن حزام 26 حرب السبعين 34 الحي اللاتيني 78، 122 ((خ)) خالد بن الوليد 46 خالدي (الدكتور) 53، ح 66 ((د)) الدار البيضاء135 دانتون (من رجال الثورة الفرنسية) 14 داود 108، 141 دخاو (معتقل نازي) ح 125 دنج فيند (سفينة اتصال صينية) 190 دوبان دونمور 22 دو بونال 137 دوجريف (ساحة في باريس) 63 دوماس 104 ديجول 29

ديكارت 76، 80 ((ر)) رابليز 73، 75 راؤول بريببش 154، 155 روبسبير (من رجال الثورة الفرنسية) 25 روسيا 21، 67 روما 85 ريدشار دقرقايط 52 ريشيليو (الكرد ينال) 22 ((ز)) زياد بن أبيه 61 ((س)) سبييريا 2 ح 155 ستالينغراد 85 السد العالي 150، 179 سقراط 90 سمية (أم عمار بن ياسر) 63، 64 سوريا 164 السويد 162 سويسرة 162 سيناء18 جبل سيناء131 ((ش)) شاخت (عالم اقتصاد ألماني) 169، 170، 172 شتيرن (منظمة إرهابية صهيونية) 31، 107 شرم الشيخ 125 شرلوت كودريه 64 شو إن لاي 101 ((ص)) صفين 122 صنعاء64 الصين 8، 9، 41، ح 42، 112، 123، 153، 166، 173، 174، ح177، 182، 183، 186، 189، 190، 193 ((ط)) طاتبيرج 155 طارق بن زياد 112 الطائف 61 طرابلس (لبنان) 5، 10 ((ع)) عبد الإله (الأمير) 106 عبد الرحمن عزام (الأمين السابق للجامعة العر بية) 105 عبد العزيز بن سعود 106 عبد الله (الأمير) 106، 108 عبد الله بن أبيّ (من المنافقين في عهد الرسول) 150 عبد الله الوزير (قاد ثورة يمنية) 110 عثمان (رضي الله عنه) 61، 62 عدن 29، 35 العراق 61، 164، 174 عقبة بن نافع 64 علي بن أبي طالب (كرم الله وجهه) 79، 80 عمار بن ياسر 62 وهو (ابن سمية) 122 عمان 143 عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) 16، 26، 61، 127 عمر مسقاوي 10

((غ)) غاندي 90 الغزالي 189 ((ف)) فاروق (ملك مصر سابقا) 106، 108 فرانسوا فوريه (كاتب) 49، 50 فراولين ألمانيا 142 فرنسا 34، 81، 112 فضيلة سعدان 65، 66 فلسطين 121،114،107،106،103،31،10، فلمى (واقعة) 14 فنديل ديلكي (مؤلف) 156 فوزي القاوقجي 105 فوستر دالس 147 فيتنام 118، 140 فيمار (جمهورية) 155 ((ق)) القاهرة 34، 89، 125، 135، 174، 195 قتيبة بن مسلم 112 القدس 117 قسنطينة 157،65 قسنطينة (مشروع) 51. القفقاز (معركة) 16 ((ك)) كاستر، 20، 21، 22، 24، 25، 27 الكاهنة (امرأة واجهت عقبة بن نافع) 64 الكرامة (معركة) 142، 143 كسيوس كلاي (هو محمد علي الملاكم الأمريكي) 15، 158 كندي 154 كوبا 8، 20، 23، 24 كورسيكا (جز يرة) 139 الكونجو115 الكويت 164، 168، 174 ((ل)) لاله فاطمة تسومر 65، 66 لندن 162 لودندروف 133 لورانس 121 لومومبا (زعيم إفريقي) 115 ليبرتي (سفينة تجسس أمريكية كان لها دور في حرب 1967) 18 لينين 14، 23، 41، 67، 83، 102، 193 ليون 55 (محطة ليون) 57 ((م)) مارشال (مشروع) 193 ماركس 14، 18، 22، 73، 74، 75، 77، 98، ماسو (الجزال) 65 ماوتسي تونع 141، 186 محمد بن القاسم الثقفي 112 محمد الخامس ح 132 محمد الريفي 169، 171 محمد علي (ملاكم أمريكي) = كسيوس كلاي محمد مصدق 115 مرا كش107، 131 مرسيليا 56،55 مروان بن الحكم61 المسجد الأقصى 138

مصر 121، 150، 174، 179 معاوية 61، 79 مكة 62، 63، 64 ملتوس ح 189 المملكة العربية السعودية 164 منوني 158 موسكو 69، 88، 107، 127، ح 155 موسى بن نصير 112 موشي ديان 18، 117، 125، 131، 132، 142 مولوخ 133 ميرابو (من رجال الثورة الفرنسية) 14 ميلة 157 ميونيخ 125 ((ن)) نابليون 14، 88، 127 ناظم القدسي (رئيس الجمهورية السورية السابق) نجازاكي 191 نيجريا 115 نسيان هماسين (صيني) 122 نورمبرج 131،130 نيودلهي 159 نيويورك 190، 191 ((هـ)) هتلر 88، 130 الهجانا (منظمة إرهابية صهيونية) 31، 107 هجر (صحراء) 132 الهند 31، 112، 153 هنيبعل 142 هواري بومدين (رئيس الجمهورية الجزائرية السابق) 26، 28، 79، 162 هيروشيها 191 ((و)) واشنطن 107، 108، 124، 135، 162 وايزمن 107 الولايات المتحدة الأمريكية 165، 166، 183، 190، 191 ((ي)) اليابان 8، 9، 124، 189، 191 ياسر (والد عمار بن ياسر) 63، 64 يافا 105 يالطة 141 اليرموك (معركة) 46 ينكوماك 75

4 - مسرد المذاهب والجماعات والشعوب ((أ)) الإشترا كية 8 الألماني (الشعب) 87، 173 ((ت)) التشيكيون 20 ((ح)) الحركيون 28 ((ر)) الرأسمالية 10، 21 ((س)) السوفييت 20 ((ش)) الشعب العربي الفلسطيني 31، 130، 131، 132، 133، 140، 141 ((م)) الماركسية 8، 10، 21، 22 المسبلون (مجاهدون مغاربة قاوموا المستعمر) 65 ((ف)) فيتنام (شعب) 30 ((ي)) اليمني (الشعب) 110 اليهود 130

5 - مسرد المعاهدات والمؤتمرات والمنظمات ((أ)) إعانة الدول النامية (منظمة) 154 الأفرسيوي (المؤتمر) 133 ((ب)) باندونج (مؤتمر) 11، 133، 134، 135، 147، 171،170 ((ج)) الجامعة العربية 111 الجزائر (مؤتمر) 147، 150، 153 الجزائر (ميثاق) 147، 148 ((د)) الدول الإفر يقية (منظمة) 134 ((س)) السكرتيرية الدائمة لتضامن الشعوب الإفريقية الآسيو ية 135، 153 ((ف)) فتح (منظمة) 143 فرساي (صلح) 140 ((ك)) كولومبو (مشروع) 179 ((م)) موًتمر (77) 147، 152، 154، 195 ((ن)) نيودلهي (مؤتمر) 145، 154، 156 ((هـ)) الهندي (المؤتمر) 31 هيئة الأمم الإفريقية 135 هيئة الأمم المتحدة 125، 129، 132، 135، 141، 154 ((و)) ودادية العمال الجزائرين في أوربا 55

6 - مسرد المراجع والمصادر ((أ)) إحياء علوم الدين (كتاب) 189 الإنجيل 137 ((ب)) بربرية التوصيات اليهودية (كتاب) 138 بروق (مجلة) 49 ((ت)) تاريخ كومون باريس (من كتب ماركس)، 1 التحدي الأمريكي (كتاب) 154 ((ث)) الثورة الإفريقية (جريدة) 7، 13، 20، 29، 39، 49، 55، 61، 67، 73، 81، 87، 91، 108، 111، 115، 121، 129، 147، 154، 161، 169، 176، 182، 189 ((ج)) الجزائر والأحداث (جريدة) 189، 190 الجمهورية الجزائرية (جريدة) 109 الجمهورية القاهرية (جريدة) 121 جوعة العالم (كتاب) 156 ((ر)) رأس المال (من كتب لينين) 84 ((س)) سيكولوجية الإستعمار (كتاب) 158 ((ش)) شروط النهضة (من كتب مالك) 67 ((ص)) الصراع الفكري (من كتب مالك) 197 صوت الأنديجين (جريدة) 52 صوت المحتقرين (جريدة) 52 ((ع)) العالم واحد (كتاب) 156 العقد الإجتماعي 137 العهد القديم 53 ((ف)) فقر الفلسفة (من كتب ماركس) 74 الفكرة الأفرسيوية (من كتب مالك) 151، ح 156 فلسفة الفقر (كتاب) 74 في الأخلاق (من كتب أرسطو) 75 في السياسة (لأرسطو) 75 في مهب المعركة (من كتب مالك) ح 132

((ل)) لوموند (صحيفة) 156،121،110 ((م)) المجاهد (جريدة) 137 مفاتيح الحرب (كتاب) 139، 143 ((ن)) نوفيل أوبسرفاتور (مجلة) 49، 50 ((ي)) يا الله (كتاب) 52

7 - مسرد الموضوعات الموضوع .................... الصفحة تقديم .......... 7 الفصل الأول: طريق الثورة .......... 11 الإطراد الثوري .......... 13 الأخلاق والثورة .......... 20 تقلبات عبر استقلال جديد .......... 29 الفصل الثاني: في قضايا الاستقلال .......... 37 نظرة علم الاجتماع في الاستقلال .......... 39 تغيير الإنسان .......... 49 العامل الجزائري في فرنسا .......... 55 معالم على طريق الحركة النسائية الجزائرية .......... 61 وزن الوقت .......... 67 الفصل الثالث: في السياسة .......... 71 السياسة والأخلاق .......... 73 السياسة والأيديولوجية .......... 81 السياسة والثقافة .......... 87 السياسة وحكمة الجماهير .......... 91 السياسة والبلوتيك .......... 97

الموضوع .................... الصفحة الفصل الرابع: في قضية فلسطين .......... 103 عشرون سنة من بعد .......... 105 ثمن الوحدة العربية .......... 111 لحظة (الفلاش) .......... 115 لحظة التأمل .......... 121 هيئة الأمم تدين شعب فلسطين .......... 129 مفاتيح الحرب .......... 137 الفصل الخامس: حول الإقتصاد .......... 145 مؤتمر 77 .......... 147 مؤتمر نيودلهي .......... 154 جولة البترول العربي .......... 161 شروط الإقلاع الإقتصادي .......... 169 العمل والإستثمار .......... 176 إقتصاد القوت والتنمية .......... 182 نشتري أم نصنع .......... 189 الفصل السادس: خاتمة (في الصراع الفكري) .......... 197 المسارد .......... 199

سلسلة مشكلات الحضارة مالك بن نبي ... بين الرشاد والتيه تأملات دور المسلم ورسالته شروط النهضة الصراع الفكري في البلاد المستعمرة الظاهرة القرآنية فكرة الإفريقية الآسيوية ... فكرة كمنويلث إسلامي في مهب المعركة القضايا الكبرى مذكرات شاهد للقرن المسلم في عالم الإقتصاد مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي مشكلة الثقافة من أجل التغيير ميلاد مجتمع وجهة العالم الإسلامي

§1/1