بيان عقيدة أهل السنة والجماعة ولزوم اتباعها في ضوء الكتاب والسنة

سعيد بن وهف القحطاني

المقدمة:

بسم الله الرحمن الرحيم (¬1) المقدمة إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ الله حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} (¬2)، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ الله كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (¬3)، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُوا الله وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} (¬4). ¬

(¬1) محاضرة اختار عنوانها وأمر بإعدادها وأشرف على إلقائها، وسمعها من أولها إلى آخرها، وأقرّها وعلّق عليها سماحة العلامة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله ابن باز رحمه الله، وذلك بعد صلاة المغرب من يوم الخميس الموافق 10/ 5/1418هـ، في الجامع الكبير "جامع الإمام تركي بن عبد الله" رحمه الله بمدينة الرياض. (¬2) سورة آل عمران، الآية: 102. (¬3) سورة النساء، الآية: 1. (¬4) سورة الأحزاب، الأحزاب: 70 - 71.

أما بعد فإنَّ أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم -، وشر الأمور محدثاتها، وكلَّ محدثة بدعة، وكلَّ بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار (¬1). لا شك أنَّ الأعمال والأقوال إنما تصح وتقبل إذا صدرت عن عقيدة صحيحة، فإن كانت العقيدةُ فاسدةً غير صحيحة بطل ما يتفرع منها من أعمال، وهذا يؤكد أنَّ تعلُّم العقيدة الصحيحة من أهم المهمات وأعظم الواجبات؛ لأن قبول الأعمال موقوف عليها، والسعادة في الدنيا والآخرة لا تكون إلا بالتمسكِ بها والسلامةِ مما ينافيها، والعقيدةُ الصحيحةُ هي عقيدةُ الفرقةِ الناجيةِ المنصورة: أهل السنةِ والجماعة، وهي مبنية على الإيمان الصادق بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره وما يتبع هذه الأصول ويدخل فيها، وما يتفرع منها، وجميع ما أخبر الله به، وما أخبر به رسوله - صلى الله عليه وسلم -. والأصل في ذلك قول الله - عز وجل -: {لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِالله وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} (¬2) الآية، وقال - عز وجل -: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِالله وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} (¬3)، وقال ¬

(¬1) انظر: خطبة الحاجة التي كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعلمها أصحابه، للعلامة محمد ناصر الدين الألباني، ص3 - 35. (¬2) سورة البقرة، الآية: 177. (¬3) سورة البقرة، الآية: 285.

- عز وجل -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِالله وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِيَ أَنزَلَ مِن قَبْلُ وَمَن يَكْفُرْ بِالله وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا} (¬1)، وقال - سبحانه وتعالى -: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى الله يَسِيرٌ} (¬2)، وقال - عز وجل -: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} (¬3)، وفي حديث أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أن جبريل - عليه السلام - سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الإيمان فقال: ((أن تؤمن بالله وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره)) (¬4)، هذه هي أصولُ عقيدةِ أهل السنةِ والجماعةِ إجمالاً. ولكن ما هو مفهومُ العقيدة؟ ومن هم أهلُ السنةِ والجماعة؟ وما أسماؤُهم وصفاتهم؟ وما أصولُ عقيدَتِهم تفصيلاً؟ وما الذي يدخل في هذه الأصول؟ وما الذي يتفرع منها من أمور العقيدة؟ وإلى الإجابة على ذلك بالتفصيل والاختصار في المباحث الآتية: ¬

(¬1) سورة النساء، الآية: 136. (¬2) سورة الحج، الآية: 70. (¬3) سورة القمر، الآية: 49. (¬4) أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب سؤال جبريل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الإيمان والإسلام والإحسان وعلم الساعة (رقم 50)، ومسلم في كتاب الإيمان، باب بيان الإيمان والإسلام والإحسان، (برقم 8).

المبحث الأول: مفهوم عقيدة أهل السنة والجماعة

المبحث الأول: مفهومُ عقيدة أهلِ السنةِ والجماعة أولاً: مفهوم العقيدة لغةً: كلمة ((عقيدة)) مأخوذة من العقد والرَّبط والشّدِّ بقوة، ومنه الإحكام والإبرامُ، والتماسك والمراصّة، يقال: عقد الحبل يعقده: شدّه، ويقال: عقد العهدَ والبيعَ: شدّه، وعقد الإزارَ: شده بإحكام، والعقدُ: ضد الحل (¬1). ثانياً: مفهوم العقيدة اصطلاحًا: العقيدة تُطلق على الإيمان الجازم والحكم القاطع الذي لا يتطرق إليه شكٌّ، وهي ما يؤمن به الإنسانُ ويعقد عليه قلبَه وضميرَه، ويتخذه مذهبًا ودينًا يدين به؛ فإذا كان هذا الإيمان الجازم والحكم القاطع صحيحًا كانت العقيدة صحيحة، كاعتقاد أهل السنة والجماعة، وإن كان باطلاً كانت العقيدةُ باطلة كاعتقاد فرق الضَّلال (¬2). ثالثاً: مفهوم أهل السُّنَّة: السنة في اللغة: الطَّريقة والسِّيرة، حسنة كانت أم قبيحة (¬3)، وهي في اصطلاح علماء العقيدة الإسلامية: الهدي الذي كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابُه: علمًا واعتقادًا، وقولاً، وعملاً، وهي السنة التي يجب اتباعها، ويُحمد أهلُها، ويُذمُّ من خَالَفها؛ ولهذا قيل: فلان من أهل السنة: أي من ¬

(¬1) انظر: لسان العرب لابن منظور، باب الدال، فصل العين، 3/ 296،والقاموس المحيط للفيروز آبادي، باب الدال، فصل العين، ص383،ومعجم المقاييس في اللغة لابن فارس، كتاب العين، ص679. (¬2) انظر: مباحث في عقيدة أهل السنة والجماعة، للشيخ الدكتور ناصر العقل، ص9 - 10. (¬3) لسان العرب، لابن منظور، باب النون فصل السين، 13/ 225.

رابعا: مفهوم الجماعة:

أهل الطريقة الصحيحة المستقيمة المحمودة (¬1). رابعاً: مفهوم الجماعة: الجماعة في اللغة مأخوذة من مادَّة جمع وهي تدور حول الجمع والإجماع والاجتماع وهو ضد التفرق، قال ابن فارس رحمه الله: ((الجيم والميم والعين أصل واحد يدل على تضام الشيء، يقال: جمعت الشيء جمعًا)) (¬2)، والجماعة في اصطلاح علماء العقيدة الإسلامية: هم سلف الأمة من الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، الذين اجتمعوا على الحق الصَّريح (¬3) من الكتاب والسنة (¬4). خامساً: أسماءُ أهلِ السُّنَّة وصِفَاتُهُم: 1 - أهل السنة والجماعة: هم من كان على مثل ما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابُه، وهم المتمسِّكون بسنة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهم الصحابة، والتابعون، وأئمة الهدى المُتَّبِعون لَهُم، وهم الذين استقاموا على الاتِّباع وابتعدوا عن الابتداع في أي مكان وفي أيِّ زمان، وهم باقون منصورون إلى يوم ¬

(¬1) انظر: مباحث في عقيدة أهل السنة، ص13. (¬2) معجم المقاييس في اللغة، لابن فارس، كتاب الجيم، باب ما جاء من كلام العرب في المضاعف والمطابق أوله جيم، ص224. (¬3) وتطلق الجماعة على من وافق الحق، قال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: ((الجماعة ما وافق الحق وإن كنت وحدك))، قال نعيم بن حماد: ((يعني إذا فسدت الجماعة فعليك بما كانت عليه الجماعة قبل أن تفسد، وإن كنت وحدك فإنك أنت الجماعة حينئذ)). ذكره الإمام ابن القيم في إغاثة اللهفان، 1/ 70، وعزاه إلى البيهقي. (¬4) انظر: شرح العقيدة الطحاوية، لابن أبي العز، ص68، وشرح العقيدة الواسطية، لابن تيمية، تأليف العلامة محمد خليل هراس، ص61.

2 - الفرقة الناجية

القيامة (¬1)، وسمُّوا بذلك لانتسابهم لسنة النبي - صلى الله عليه وسلم -، واجتماعهم على الأخذ بها: ظاهرًا وباطنًا، في القول، والعمل، والاعتقاد (¬2). فعن عوف بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((افترقت اليهودُ على إحدى وسبعين فِرقةً فواحدة في الجنة وسبعون في النار، وافترقتِ النصارى على ثنتين وسبعين فرقة فإحدى وسبعون فرقةً في النار وواحدة في الجنة، والذي نفسُ محمدٍ بيده لَتَفتَرِقَنَّ أمتي على ثلاثٍ وسبعين فرقةً، واحدةٌ في الجنة واثنتان وسبعون في النار))، قيل يا رسول الله، من هم؟ قال: ((الجماعة)) (¬3)، وفي رواية الترمذي عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: قالوا: ومن هي يا رسول الله، قال: ((ما أنا عليه وأصحابي)) (¬4). 2 - الفرقة الناجية: أي الناجية من النار؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - استثناها عندما ذكر الفرق، وقال: ((كُلُّها في النار إلاّ واحدة))،أي ليست في النار (¬5). 3 - الطائفة المنصورة: فعن معاوية - رضي الله عنه - قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((لا تزالُ طائفةٌ من أمتي قائمةً بأمر الله لا يضرُّهم من خذلهم أو ¬

(¬1) انظر: مباحث في عقيدة أهل السنة والجماعة، للدكتور ناصر بن عبد الكريم العقل، ص13 - 14. (¬2) انظر: فتح رب البرية بتلخيص الحموية، للعلامة محمد بن صالح العثيمين، ص10، وشرح العقيدة الواسطية، للعلامة صالح بن فوزان الفوزان، ص10. (¬3) أخرجه ابن ماجه بلفظه، في كتاب الفتن، باب افتراق الأمم، برقم 3992، وأبو داود، كتاب السنة، باب شرح السنة، برقم 4596، وابن أبي عاصم، في كتاب السنة، 1/ 32، برقم 63، وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه، 2/ 364. (¬4) أخرجه الترمذي في كتاب الإيمان، باب ما جاء في افتراق هذه الأمة، برقم 2641. (¬5) انظر: من أصول أهل السنة والجماعة، للعلامة صالح بن فوزان الفوزان، ص11.

4 - المعتصمون المتمسكون بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -

خالفهُم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس)) (¬1)، وعن المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه - نحوه (¬2)، وعن ثوبان - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم، حتى يأتي أمر الله وهم كذلك)) (¬3)، وعن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - نحوه (¬4). 4 - المعتصمون المتمسكون بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وما كان عليه السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار؛ ولهذا قال فيهم النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ما أنا عليه وأصحابي)) (¬5)، أي هم من كان على مثلِ ما أنا عليه وأصحابي. 5 - القدوة الصالحة الذين يهدون إلى الحق وبه يعملون، قال أيوب السختيَانِي رحمه الله: ((إنَّ من سعادةِ الحَدَث (¬6)، والأعجمي أن يوفقهما الله لعالم من أهل السنة)) (¬7)، وقال الفضيل بن عياض رحمه الله: ((إن لله ¬

(¬1) أخرجه البخاري في كتاب المناقب، بابٌ: حدثنا محمد بن المثنى، برقم 3641، ومسلم بلفظه، في كتاب الإمارة، باب قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم))، برقم 1037. (¬2) أخرجه البخاري في كتاب المناقب، بابٌ: حدثنا محمد بن المثنى، برقم 3640، ومسلم في كتاب الإمارة، باب قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم))، برقم 1921. (¬3) أخرجه مسلم في كتاب الإمارة، باب قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم))، برقم 1920. (¬4) أخرجه مسلم، كتاب الإمارة، باب قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم))، برقم 1923. (¬5) سنن الترمذي، برقم 2641، وتقدم تخريجه. (¬6) الحَدَث: الشاب. النهاية في غريب الحديث والأثر، باب الحاء مع الدال، مادة: ((حدث))،1/ 351. (¬7) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، لللالكائي، 1/ 66، برقم 30.

6 - خيار الناس

عبادًا يُحيي بِهمُ العباد والبِلادَ وهم أصحاب السنة ومن كان يعقل ما يَدخُلُ جَوفَه من حله كان من حزب الله)) (¬1). 6 - أهل السنة خيار الناس ينهون عن البدع وأهلِها، قيل لأبي بكر بن عياش: مَن السنّي؟ قال: ((الذي إذا ذُكِرَتِ الأهواء لم يتعصب لشيء منها)) (¬2)، وذكر ابن تيمية رحمه الله: أن أهل السنة هم خيار الأمة ووسطها الذين على الصراط المستقيم: طريق الحق والاعتدال (¬3). 7 - أهل السنة هم الغرباء إذا فسد الناس، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((بدأ الإسلام غريبًا وسيعود كما بدأ غريبًا، فطوبى للغرباء)) (¬4)، وفي رواية عن الإمام أحمد رحمه الله عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -، قيل: ومن الغرباء؟ قال: ((النُّزَّاع (¬5) من القبائل)) (¬6)، وفي رواية عند الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، فقيل: ومن الغرباء يا رسول الله، قال: ((أُنَاسٌ صالحون في أُناسِ سوءٍ كثير من ¬

(¬1) المرجع السابق، 1/ 72، برقم 51، وحلية الأولياء لأبي نعيم، 8/ 104. (¬2) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، لللالكائي 1/ 72، برقم 53. (¬3) انظر: فتاوى ابن تيمية، 3/ 368 - 369. (¬4) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب بيان أن الإسلام بدأ غريبًا وسيعود غريبًا، برقم 145. (¬5) النزَّاع: هو الغريب الذي نزع عن أهله وعشيرته: أي بَعُدَ وغاب، والمعنى: طوبى للمهاجرين الذين هجروا أوطانهم في الله تعالى. النهاية لابن الأثير، 5/ 41. (¬6) أخرجه الدارمي في كتاب الرقاق، باب إن الإسلام بدأ غريباً، برقم 2758، وابن ماجه في كتاب الفتن، باب بدأ الإسلام غريباً، برقم 3988، وأحمد في المسند، 1/ 397، وأبو يعلى في المسند، 8/ 388، برقم 4975.

8 - يحملون العلم ويحزن الناس لفراقهم

يعصيهم أكثر ممن يطيعهُم)) (¬1)، وفي رواية من طريق آخر: ((الذين يصلحون إذا فسد الناس)) (¬2)، فأهل السنة الغرباء بين جموع أصحاب البدع والأهواء والفرق. 8 - أهل السنة هم الذين يحملون العلم ويَحزنُ الناسُ لِفِراقِهم، أهل السنة: هم الذين يحملون العلم، وينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين؛ ولهذا قال ابن سيرين رحمه الله: ((لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة قالوا: سمُّوا لنا رجالكم، فيُنظَرُ إلى أهل السنّةِ فيؤخذ حديثُهم، وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم)) (¬3)، وأهل السنة هم الذين يحزن الناس لفراقهم؛ ولهذا قال أيوب السّختياني رحمه الله: ((إني أُخبَرُ بموت الرجل من أهل السنة فكأني أفقد بعض أعضائي)) (¬4)،وقال: ((إن الذين يتمنون موتَ أهلِ السُّنّةِ يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم والله مُتِمّ نوره ولو كره الكافرون)) (¬5). ¬

(¬1) المسند، 2/ 177 و222. (¬2) مسند الإمام أحمد، 4/ 73. (¬3) مسلم، في المقدمة، باب الإسناد من الدين، 1/ 15. (¬4) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، لللالكائي،1/ 66،برقم 29،وأبو نعيم في الحلية، 3/ 9. (¬5) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، لللالكائي، 1/ 68، برقم 35.

المبحث الثاني: أصول أهل السنة والجماعة

المبحث الثاني: أصولُ أهلِ السُّنّةِ والجماعة إن أهل السنة يسيرون على أصول ثابتة وواضحة، في الاعتقادِ والعمل والسلوكِ، وهذه الأصول مُستمدَّةٌ من كتاب الله - عز وجل -، وسُنةِ رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وما كان عليه سلفُ هذه الأمةِ: من الصحابة، والتابعين، ومن تبعهم من القرون الثلاثة المفضلة، ومن سار على نهجهم بإحسان إلى يوم الدين، وهذه الأصول على النحو الآتي: الأصل الأول: الإيمان بالله - عز وجل -: الإيمانُ بالله تعالى: هو الاعتقاد الجازم الذي لا يتطرقُ إليه شك بأن الله - عز وجل - ربُّ كلِّ شيءٍ ومليكه، وأنه المستحق للعبادة وحده دون ما سواه وأن يُفردَ بالعبادة مع كمال المحبة والذُّلِّ والخضوع، وأنه المتّصف بصفات الكمال فله الأسماءُ الحسنى والصِّفاتُ العُلا، وهو سبحانه منزَّهٌ عن كل عيب ونقص. فظهر من ذلك أن الإيمان بالله - عز وجل - يتضمنُ أربعة أمور (¬1): الأول: الإيمان بوجود الله - عز وجل -، وقد دلّ على ذلك الفطرة، والعقل، والشرع، والحس. 1 - أما دلالة الفطرة على وجوده، فإنَّ كلَّ مخلوقٍ قد فُطِر على الإيمان بخالقه من غير تفكير أو تعليم؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما من مولود إلا يولد على ¬

(¬1) انظر: شرح العقيدة الواسطيّة لشيخ الإسلام ابن تيمية، شرحه العلامة محمد بن صالح العثيمين، 1/ 55 - 59، ويرى سماحة العلامة عبد العزيز بن عبد الله ابن باز رحمه الله: أن الإيمان بوجود الله - عز وجل - يدخل في الإيمان بالربوبية، ذكر ذلك في تعليقه على هذه المحاضرة.

2 - دلالة العقل

الفطرة، فأبواه يهوِّدانه أو يُنَصِّرانه، أو يُمَجِّسانه)) (¬1). 2 - أما دلالة العقل على وجود الله - عز وجل -؛ فلأن هذه المخلوقات سابقها ولاحقها لابد لها من خالق أوجدها على هذا النظام البديع؛ ولهذا ذكر الله هذا الدليل العقلي والبرهان القطعي فقال - عز وجل -: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لا يُوقِنُونَ*أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ} (¬2)، ولما سمع جُبير بنُ مُطعِم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ هذه الآيات وكان مشركًا قال: ((كاد قلبي أن يطير وذلك أولُ ما وقر الإيمان في قلبي)) (¬3). 3 - أما دلالة الشرع على وجود الله - عز وجل -؛ فلأن الله أرسل الرسل وأنزل الكتب السماوية تنطق بذلك. 4 - أما دلالة الحِسّ على وجود الله - عز وجل - فمن وجهين: (أ) أننا نسمع ونشاهد من إجابة الداعين وغوث المكروبين ما يدل دلالة قاطعة على وجود الله - عز وجل -، قال - سبحانه وتعالى -: {وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِن قَبْلُ ¬

(¬1) أخرجه البخاري في كتاب الجنائز، باب إذا أسلم الصبي فمات هل يُصلَّى عليه؟ وهل يُعرض على الصبي الإسلام؟ برقم 1358، ومسلم في كتاب القدر، باب معنى كل مولود يولد على الفطر، وحكم أطفال الكفار وأطفال المسلمين، برقم 2658. (¬2) سورة الطور، الآيات: 35 - 37. (¬3) أخرجه البخاري في كتاب تفسير القرآن، سورة الطور، بابٌ: حدثنا عبد الله بن يوسف، برقم 4854، ومسلم بنحوه في كتاب الصلاة، باب القراءة في الصبح، برقم 463.

* الثاني: الإيمان بالربوبية

فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} (¬1)، وغير ذلك. وفي صحيح البخاري عن أنس - رضي الله عنه - أن رجلاً أعرابيًّا دخل يوم الجمعة والنبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب فقال: يا رسول الله هلك المال وجاع العيالُ فادعُ الله يغيثنا، فرفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يديه ثم قال: ((اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا)) قال أنس - رضي الله عنه -: فوالذي نفسي بيده ما وضعها حتى ثار السحابُ أمثالَ الجبالِ، ثم لم ينزل من منبره حتى رأيتُ المطرَ يتحادرُ على لحيته، فمطرنا فوالله ما رأينا الشمس سبتًا، ثم دخل رجل من ذلك الباب في الجمعة المقبلة ورسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - قائم يخطب فقال: يا رسولَ الله، هلكت الأموال وانقطعت السُّبُلُ فادع الله يمسكها عنا، فرفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يديه ثم قال: ((اللهم حوالينا ولا علينا))، فما يشير بيده إلى ناحية من السحاب إلا انفرجت (¬2). (ب) أن آيات الأنبياء التي تُسمَّى المعجزات دليل قاطع على وجود الله - عز وجل -؛لأنها أمور خارجة عن نطاق البشر يجريها الله تأييدًا لرسله ونصرًا لهم. الثاني: الإيمان بالربوبية، وأن الله - عز وجل - هو الرب الخالق، المالكُ المدبر، قال - عز وجل -: {ذَلِكُمُ الله رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ} (¬3)، ولم يُعلم أن أحدًا من الخلق أنكر ربوبية الله - سبحانه وتعالى - إلا أن ¬

(¬1) سورة الأنبياء، الآية: 76. (¬2) أخرجه البخاري في كتاب الاستسقاء، باب الاستسقاء في خطبة الجمعة غير مستقبل القبلة، برقم 1014، ومسلم، في كتاب الاستسقاء، باب الدعاء في الاستسقاء، برقم 897. (¬3) سورة فاطر، الآية: 13.

* الثالث: الإيمان بالألوهية

يكون مكابرًا، قال - عز وجل - عن آل فرعون: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} (¬1)، وهذا توحيد الربوبية: هو إفراد الله تعالى بأفعاله. الثالث: الإيمان بالألوهية، وأن الله - عز وجل - هو الإله الحق المستحق للعبادة دون ما سواه؛ لكونه خالق العباد والمحسن إليهم، والقائم بأرزاقهم، والعالم بسرهم وعلانيتهم، والقادر على إثابة مطيعهم، وعقاب عاصيهم؛ ولهذه العبادة خلق الله الثقلين، قال - عز وجل -: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ * إِنَّ الله هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} (¬2)، وقال - عز وجل -: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ لله أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} (¬3)،وقد أرسل الله - عز وجل - الرسل وأنزل الكتب لبيان هذا التوحيد ((توحيد العبادة)) والدعوة إليه، قال - عز وجل -: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ الله وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ} (¬4)،وقال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَاْ ¬

(¬1) سورة النمل، الآية: 14. (¬2) سورة الذاريات، الآيات: 56 - 58. (¬3) سورة البقرة، الآيتان: 21 - 22. (¬4) سورة النحل، الآية: 36.

* الرابع: الإيمان بأسماء الله الحسنى وصفاته العلا

فَاعْبُدُونِ} (¬1)،وقال - عز وجل -: {شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمًا بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (¬2)،وكل من اتخذ إلهًا من دونه فإلهيته باطلة، قال - عز وجل -: {ذَلِكَ بِأَنَّ الله هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ الله هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} (¬3)، وقال - عز وجل -: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} (¬4). وقد أبطل الله - عز وجل - اتخاذ المشركين آلهة من دونه فبيّن ضَعفَها من كلِّ وجه، فقال: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ الله لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ * وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} (¬5)، فالعبادة حق الله - عز وجل -؛ ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ - رضي الله عنه -: ((حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا)) (¬6)، وهذا كله: توحيد الألوهية: وهو إفراد الله تعالى بالعبادة. الرابع: الإيمان بأسماء الله الحسنى وصفاته العلا: أهل السنّةِ والجماعة يُثبتون ما أثبتَهُ الله - عز وجل - لنفسه، وما أثبتَه له رسولُهُ - صلى الله عليه وسلم -، ¬

(¬1) سورة الأنبياء، الآية: 25. (¬2) سورة آل عمران، الآية: 18. (¬3) سورة الحج، الآية: 62. (¬4) سورة البقرة، الآية: 163. (¬5) سورة سبأ، الآيتان: 22 - 23. (¬6) أخرجه البخاري في كتاب الرقاق، باب من جاهد نفسه في طاعة الله، برقم 6500، ومسلم في كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعًا، برقم 30.

من غير تحريف، ولا تعطيل، ولا تكييف، ولا تمثيل، ويُمِرّونها كما جاءت مع الإيمان بما دلّت عليه من المعاني العظيمة، فكل ما أثبته الله لنفسه أو أثبته له رسولُهُ من جميع الأسماء والصفات أثبتوه على الوجه اللاَّئق به تعالى، إثباتًا مفصلاً على حدِّ قوله سبحانه: {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} وينفون عنه ما نفاه عن نفسه أو نفاه عنه رسوله - صلى الله عليه وسلم - نفيًا إجماليًّا غالبًا على حد قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء} والنفي يقتضي إثباتَ ما يُضادُّه من الكمال، فكل ما نفى الله عن نفسه من النقائص فإن ذلك يدل على ضِدِّهِ من أنواع الكمال، وقد جمع الله النفي والإثبات في آية واحدة {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} فهذه الآية تضمنّتْ تنزيه الله من مُشابَهةِ خلقه: لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، وفي أولها ردٌّ على المشبِّهَةِ وهو قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} وفي آخرها ردّ على المعطلة وهو قوله تعالى: {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} وفي أولها نفي مُجمل، وفي آخرها إثبات مفصل. وقال الله - عز وجل -: {فَلاَ تَضْرِبُواْ لله الأَمْثَالَ إِنَّ الله يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} (¬1)،وهذه عقيدة أهل السنة والجماعة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأتباعهم بإحسان. نَقَلَها عنهم أئمةُ أهل السُّنّةِ (¬2)،قال الوليد بن مسلم رحمه الله: سألت الأوزاعي، وسفيان الثوري، ومالك بن أنس، والليث بن سعد، عن هذه الأحاديث التي فيها ذكر الرؤية فقالوا: ((أمِرُّوها كما جاءت بلا كيف)) (¬3)،وقد ذكر أهل السنة كلام الأئمة على قوله - عز وجل -: {الرَّحْمَنُ عَلَى ¬

(¬1) سورة النحل، الآية: 74. (¬2) انظر: شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، للالكائي، 3/ 582، برقم 875، و930. (¬3) أخرجه اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، 3/ 582.

الْعَرْشِ اسْتَوَى} وأن ذلك يدل على علوِّ الله على خلقه كما قال - سبحانه وتعالى -: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} (¬1)،وقال - عز وجل -: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً} (¬2)،قال أبو القاسم اللالكائي رحمه الله: ((فدلت هذه الآية أنَّهُ تعالى في السماء وعلمه مُحيطٌ بكلِّ مكان من أرضه وسمائه، وقال: وروى ذلك من الصحابة: عمر، وابن مسعود، وابن عباس، وأمُّ سلمة - رضي الله عنهم -، ومن التابعين ربيعةُ بن أبي عبد الرحمن، وسليمان التيمي، ومقاتل بن حيان، وبه قال من الفقهاء مالك بن أنس، وسفيان الثوري، وأحمد بن حنبل (¬3). وسئل ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} كيف استوى؟ قال: ((الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول ومِنَ الله الرِّسالة، وعلى الرَّسول البلاغ، وعلينا التَّصديق)) (¬4)، وقال رجل للإمام مالك رحمه الله: يا أبا عبد الله {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} كيف استوى؟ فقال: ((الكيف غير معقول، والاستواء منه غير مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، فإني أخاف أن تكون ضالاًّ وأَمَر به فَأُخرِج)) (¬5). ¬

(¬1) سورة فاطر، الآية: 10. (¬2) سورة الأنعام، الآية: 61. (¬3) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للالكائي، 3/ 430. (¬4) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للالكائي، 3/ 442، برقم 665. (¬5) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للالكائي، 3/ 441 برقم 664، وجوّد إسناده ابن حجر في فتح الباري، 13/ 406.

الأصل الثاني: الإيمان بالملائكة

وقيل لأبي عبد الله أحمد بن حنبل رحمه الله: الله - عز وجل - فوق السماء السابعة على عرشه بائنٌ من خلقه، وقدرتُه وعلمه في كل مكان؟ قال: ((نعم على العرش وعلمه لا يخلو منه مكان)) (¬1)، وفي رواية: ((أنه سئل عن قوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ} فقال الكلام السابق. وهذه النقولات تدل على أن أهل السنة يثبتون الأسماء والصفات وما دلَّت عليه من المعاني العظيمة مع إمرارها كما جاءت بلا كيف. والمعيَّة معيتان: معيَّة عامة لجميع الناس، ومعيَّة خاصة تقتضي التوفيق (¬2). الأصل الثاني: الإيمان بالملائكة: الإيمان بالملائكة يتضمَّن أربعة أمور (¬3): 1 - الإيمان بوجودهم. 2 - الإيمان بمن علمنا اسمه منهم باسمه، ومن لم نعلم اسمه نؤمن به إجمالاً. 3 - الإيمان بما علمنا به من صفاتهم، كصفة جبريل فقد أخبرنا النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه رآه على صفته التي خُلِقَ عليها وله ستمائة جناح كل جناح قد سدَّ الأُفق. 4 - الإيمان بما علمنا من أعمالهم التي يقومون بها بأمر الله - عز وجل -. كتسبيحه تعالى كما قال - عز وجل -: {وَمَنْ عِندَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا ¬

(¬1) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للالكائي، 3/ 446، برقم 674. (¬2) والإلهام، والنُّصرة. (¬3) انظر: شرح أصول الإيمان، للعلامة محمد بن صالح العثيمين، ص27.

الأصل الثالث: الإيمان بالكتب

يَسْتَحْسِرُونَ * يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ} (¬1)، وعن أبي ذرٍّ - رضي الله عنه - يرفعه: ((إني أرى ما لا ترون وأسمع ما لا تسمعون، أطَّتِ السماء وحُقَّ لها أن تئِطَّ ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته ساجدًا لله .. )) (¬2)، وهذا يدل على كثرتهم وقد ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رُفع له البيت المعمور في السماء يطوف به كل يوم سبعون ألف ملك بلا رجعة (¬3). ومن أعمالهم: أن جبريل أمين الوحي، وإسرافيل الموكّل بالنفخ في الصور، وملك الموت الموكّل بقبض الأرواح وغير ذلك. الأصل الثالث: الإيمان بالكتب: يجب الإيمان بالكتب إجمالاً وأن الله - عز وجل - أنزلها على أنبيائه ورسله لبيان حقيقة التوحيد والدعوة إليه، قال - عز وجل -: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} (¬4). ¬

(¬1) سورة الأنبياء، الآيتان: 19 - 20. (¬2) أخرجه الترمذي في كتاب الزهد، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً))، برقم 2312، وحسنه، وابن ماجه في كتاب الزهد، باب الحزن والبكاء، برقم 4190،وحسنه العلامة الألباني في صحيح سنن الترمذي،2/ 268، وصحيح سنن ابن ماجه، 2/ 407. (¬3) أخرجه البخاري في كتاب بدء الخلق، باب ذكر الملائكة، برقم 3207، ولفظه: ((فسألت جبريل فقال: هذا البيت المعمور يصلي فيه كل يوم سبعون ألف ملك إذا خرجوا لم يعودوا إليه آخر ما عليهم))، ومسلم في كتاب الإيمان، باب الإسراء برسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى السموات وفرض الصلوات، برقم 164، ولفظه: ((فقلت: يا جبريل ما هذا؟ قال: هذا البيت المعمور، يدخله كُلَّ يوم سبعون ألف ملك، إذا خرجوا منه لم يعودوا فيه آخرُ ما عليهم)). (¬4) سورة الحديد، الآية: 25.

الأصل الرابع: الإيمان بالرسل

ونؤمن على سبيل التفصيل بما سَمَّى الله منها: كالتوراة، والإنجيل، والزَّبور، والقرآن العظيم، والقرآن أفضلُها وخاتَمها والمُهَيمِنُ عليها، والمصدِّقُ لها، وهو الذي يجب على جميع العباد اتباعه وتحكيمه، مع ما صحَّت به السُّنّة (¬1). الأصل الرابع: الإيمان بالرسل: الإيمان بالرسل، فيُصدّق المُسلم تَصدِيقًا جازمًا بأن الله - عز وجل - أرسل الرسل؛ لإخراج الناس من الظُّلمات إلى النُّور، فيجب الإيمان بهم إجمالاً وتفصيلاً، فيجب الإيمان بهم على وجه الإجمال، ويجب الإيمان بمن سَمَّى الله منهم على وجه التفصيل، قال الله - عز وجل -: {رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى الله حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ الله عَزِيزًا حَكِيمًا} (¬2)، فيؤمن العبد أن من أجاب الرسل فاز بالسعادة ومن خالفهم باء بالخيبة والندامة، وخاتمهم وأفضلهم هو نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - (¬3). ¬

(¬1) فظهر أن الإيمان بالكتب يتضمن أربعة أمور: 1 - الإيمان بأنها من عند الله - عز وجل -. 2 - الإيمان بما علمنا اسمه منها باسمه. 3 - تصديق ما صحّ من أخبارها. 4 - العمل بأحكام ما لم يُنسخ منها والرضا والتسليم به، وجميع الكتب منسوخة بالقرآن الكريم، فهو الذي يجب العمل بما فيه. انظر: شرح أصول الإيمان، للعلامة العثيمين، ص32. (¬2) سورة النساء، الآية: 165. (¬3) والإيمان بالرسل يتضمن أربعة أمور: 1 - الإيمان بأن رسالتهم حق من عند الله - عز وجل -. 2 - الإيمان بمن علمنا اسمه منه باسمه. 3 - تصديق ما صح عنهم من أخبارهم. 4 - العمل بشريعة من أرسل إلينا منهم وهو خاتمهم محمد - صلى الله عليه وسلم -، فقد نَسَخَت شريعته جميع الشرائع السابقة. انظر: شرح أصول الإيمان، للعلامة محمد العثيمين، ص36.

الأصل الخامس: الإيمان باليوم الآخر

الأصل الخامس: الإيمان باليوم الآخر: الإيمان باليوم الآخر يدخل فيه الإيمان بكل ما أخبر الله به وأخبر به رسوله - صلى الله عليه وسلم - مما يكون بعد الموت ومن ذلك ما يأتي: 1 - عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا وضعت الجنازة واحتملها الرجال على أعناقهم فإن كانت صالحة قالت: قدِّموني، وإن كانت غير صالحة قالت: يا ويلها أين تذهبون بها؟ يسمع صوتَها كلُّ شيءٍ إلاَّ الإنسان ولو سمعها الإنسان لصعق)) (¬1)، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: ((أسرعوا بالجنازة فإن تكُ صالحةً فخير تقدمونها إليه وإن تَكُنْ غير ذلك فشرٌّ تضعونَهُ عن رقابكم)) (¬2). 2 - الإيمان بفتنة القبر وأن الناس يمتحنون في قبورهم بعد الموت فيقال للإنسان: مَن ربُّك وما دينك ومن نبيُّك؟ فالمؤمن يقول: رَبِّي الله وديني الإسلام، ونبيي محمد - صلى الله عليه وسلم -، والفاجر يقول: هاه هاه لا أدري سمعت الناس يقولون شيئًا فقلته، فيقال له: لا دريت ولا تليت، ¬

(¬1) أخرجه البخاري في كتاب الجنائز، باب حمل الرجال الجنازة دون النساء، برقم 1314، وباب قول الميت على الجنازة: ((قدموني))، برقم 1316). (¬2) أخرجه البخاري في كتاب الجنائز، باب السرعة بالجنازة، برقم 1315، ومسلم، كتاب الجنائز، باب الإسراع بالجنازة، برقم 944.

3 - الإيمان بنعيم القبر وعذابه

فيُضرب بمطرقةٍ من حديد فيصيح صيحةً يسمعها كلَّ شيء إلاَّ الإنسان، وفي رواية: ((يسمعها من يليه إلا الثَّقلين)). قال الله تعالى: {يُثَبِّتُ الله الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ الله الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ الله مَا يَشَاءُ} (¬1). 3 - الإيمان بنعيم القبر وعذابه: فقد ثبت بالكتاب والسنة وهو حق يجب الإيمان به، والعذاب يجري على الروح والجسد تبع له ويوم القيامة على الروح والبدن جميعًا. فعذاب القبر ونعيمه حق دلّ عليه كتاب الله وسنةُ رسوله - صلى الله عليه وسلم - (¬2). 4 - القيامة الكبرى: حين ينفخ إسرافيل في الصور النفخة الأولى ثم ينفخ نفخة البعث والنشور فتعاد الأرواح إلى أجسادها فيقوم الناس من قبورهم لرب العالمين حفاة عراة غرلاً {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ* وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ* وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} (¬3). 5 - الميزان الذي توزن به الأعمال، ويوزن العاملُ وعملُه {فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ ¬

(¬1) انظر: صحيح البخاري، كتاب الجنائز، باب ما جاء في عذاب القبر، برقم 1369، 1374، ومسند الإمام أحمد، 4/ 287، 288، 295، 296، ومستدرك الحاكم 1/ 37 - 40، والآية من سورة إبراهيم: 27. (¬2) انظر: الروح لابن القيم، 1/ 263، 311. (¬3) سورة عبس، الآيات: 24 - 27.

6 - الدواوين وتطاير الصحف

خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} (¬1). 6 - الدَّواوين وتطاير الصُّحف، فآخذ كتابه وصحائِفَ أعماله بيمينه، وآخذ كتابه بشماله من وراءِ ظهره: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيهْ * إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَة * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ * وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيهْ} (¬2)، وقال تعالى: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا * وَيَصْلَى سَعِيرًا} (¬3). 7 - الحساب؛ فإن الله يوقف عباده على أعمالهم قبل الانصراف من المحشر فيرى كلُّ إنسان عمله: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا} (¬4)، {وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} (¬5). 8 - الحوض؛ فيجب التصديق الجازم بأنَّ حوض النبي - صلى الله عليه وسلم - في عرصات القيامة ماءُهُ أشدُّ بياضًا من اللَّبن، وأحلى من العسل، آنيته عدد ¬

(¬1) سورة المؤمنون، الآيتان: 102 - 103. (¬2) سورة الحاقة، الآيات: 19 - 29. (¬3) سورة الانشقاق، الآيات: 10 - 12. (¬4) سورة آل عمران، الآية: 30. (¬5) سورة الكهف، الآية: 49.

9 - الصراط

نجوم السماء، وطوله شهر وعرضه شهر، من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبدًا (¬1)، وهذا مختصّ بمحمد - صلى الله عليه وسلم - ولكل نبي حوض ولكن أعظمها حوض النبي - صلى الله عليه وسلم -. 9 - الصِّراط؛ وبعده القنطرة بين الجنة والنار يجب الإيمان بذلك وهو منصوب على متن جهنم، يمر عليه الأولون والآخِرون، وهو أحدُّ من السيف وأدقُّ من الشعر، يمرّ عليه الناس على حسب أعمالهم: فمنهم من يتجاوزه كلمح البصر، وكالبرق، وكالريح، وكالفرس الجواد، وكركاب الإبل، ومنهم من يعدو عدوًا، ومنهم من يمشي، ومنهم من يزحف زحفًا، ومنهم من يسقط في جهنم، وعلى حافة الجسر كلاليب تخطف من أمرت بخطفه، فإذا تجاوز المؤمنون وقفوا على قنطرة بين الجنة والنار فيقتص لبعضهم من بعض فإذا نُقُّوا أُذِنَ لهم في دخول الجنة (¬2). 10 - الشفاعة وهي سؤال الخير للغير، وهي أنواع (¬3)، منها: الشفاعة ¬

(¬1) أخرجه البخاري في كتاب الرقاق، بابٌ في الحوض، وقول الله تعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ}، من حديث عبد الله بن عمرو قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((حوضي مسيرة شهر، ماؤه أبيض من اللبن، وريحه أطيب من المسك، وكيزانه كنجوم السماء، من شرب منه شربة فلا يظمأ أبداً))، برقم 6579، ومسلم، كتاب الفضائل، باب إثبات حوض نبينا - صلى الله عليه وسلم -، برقم 2292. (¬2) انظر: صحيح البخاري، كتاب المظالم، باب قصاص المظالم، برقم 2440، وكتاب الرقاق، باب القصاص يوم القيامة، برقم 6533 - 6335،وصحيح مسلم، كتاب الإيمان، برقم 182 - 195. (¬3) وقد أوصلها ابن أبي العز في شرح العقيدة الطحاوية إلى ثمانية أقسام: 1 - شفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - العظمى لفصل القضاء. 2 - الشفاعة في أقوام تساوت حسناتهم وسيئاتهم. 3 - الشفاعة في أقوام أمر بهم إلى النار أن لا يدخلوها. 4 - الشفاعة في رفع درجات من دخل الجنة. 5 - الشفاعة في أقوام أن يدخلوا الجنة بغير حساب. 6 - شفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - في تخفيف العذاب عن عمه أبي طالب. 7 - شفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - لأن يؤذن لجميع المؤمنين بدخول الجنة. 8 - الشفاعة في أهل الكبائر من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -. انظر: شرح العقيدة الطحاوية، ص:252 - 262.

العظمى لأهل الموقف، والشفاعة في أهل الجنة أن يدخلوها والشفاعة في تخفيف العذاب عن أبي طالب، وهذه الثلاثة خاصة بمحمد - صلى الله عليه وسلم -. والشفاعة فيمن استحق النار أن لا يدخلها، وفيمن دخلها أن يخرج منها، وهذه الشفاعة يشترك فيها النَّبيُّون، والصِّدّيقون، والشُّهداء، والصَّالحون، وهي تتكرر من النبي - صلى الله عليه وسلم - أربع مرات: 1 - يشفع فيمن كان في قلبه مثقال شعيرة من إيمان. 2 - يشفع فيمن كان في قلبه مثقال ذرة أو خردل من إيمان. 3 - ثم فيمن كان في قلبه أدنى حبة من خردل من إيمان. 4 - ثم فيمن قال: لا إله إلاّ الله. ثم يخرج الله - عز وجل - من النار أقواماً بغير شفاعة، بل برحمته، وفضله، وإحسانه، فيقول الله تعالى: ((شفعت الملائكة وشفع النبيون، وشفع المؤمنون، ولم يبق إلا أرحم الراحمين فيقبض قبضة من النار فيخرج منها قومًا لم يعملوا خيرًا قط)) (¬1). ¬

(¬1) انظر: صحيح البخاري، كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}، برقم 7439، وصحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب معرفة طريق الرؤية، برقم 183، واللفظ لمسلم.

11 - الجنة والنار

11 - الجنة والنار، يجب الاعتقاد بأن الجنة والنار مخلوقتان لا تفنيان، والجنة دار أوليائه، والنار دار أعدائه، وأهل الجنة فيها مخلدون وأهل النَّار من الكفار مخلدون، والجنة والنار موجودتان الآن، وقد رآهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الكسوف، وليلة المعراج، وقد ثبت في الحديث الصحيح أن الموت يُجاء به في صورة كبش أملح فيوقف بين الجنة والنار ويُذبح ويُقال: ((يا أهل الجنة خلودٌ فلا موت ويا أهل النار خلودٌ فلا موت)) (¬1). الأصل السادس: الإيمان بالقدر خيره وشره: ويتضمن الإيمان بأمور أربعة: 1 - الإيمان بأنَّ الله تعالى علم أحوالَ عباده، وأرزاقَهم، وآجالهم، وأعمالهم، وما كان ويكون، لا يخفى عليه شيء: {إِنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (¬2)، {لِتَعْلَمُوا أَنَّ الله عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ الله قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} (¬3). 2 - كتابتهُ - عز وجل - لكل المقادير (¬4)، قال - عز وجل -: {وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ ¬

(¬1) انظر: صحيح البخاري، كتاب الرقاق، باب صفة الجنة والنار، برقم 6548، وصحيح مسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب النار يدخلها الجبارون، والجنة يدخلها الضعفاء، برقم 2849، 2850. (¬2) سورة العنكبوت، الآية: 62. (¬3) سورة الطلاق، الآية: 12. (¬4) الإيمان بكتابة المقادير يدخل فيه خمسة تقادير: 1 - التقدير الشامل لجميع المخلوقات، بمعنى أن الله - عز وجل -: علمها، وكتبها، وشاءها، وخلقها، وهذه مراتب القدر الأربع. 2 - كتابة الميثاق، لقوله تعالى: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا}. 3 - التقدير العُمُري: تقدير رزق العبد، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد في بطن أمه بنهاية الشهر الرابع. 4 - التقدير السنوي؛ فإنه يكتب في ليلة القدر ما هو كائن في السنة: من الخير، والشر، والأرزاق. 5 - التقدير اليومي، لقوله - عز وجل -: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} فيغفر ذنبًا، ويفرج كربًا، ويرفع قومًا، ويضع آخرين. وهذا التقدير اليومي تفصيل من التقدير الحولي، والحولي تفصيل من التقدير العُمري عند نفخ الروح في الجنين في بطن أمه، والعُمري تفصيل من التقدير العُمري الأول يوم الميثاق، وهو تفصيل من التقدير الذي خطه القلم في الإمام المبين. انظر: معارج القبول، لحافظ ابن أحمد الحكمي، 3/ 928 - 940.

3 - الإيمان بمشيئة الله النافذة

مُّبِينٍ} (¬1)، وقال سبحانه: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى الله يَسِيرٌ} (¬2)، وفي صحيح مسلم: ((كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة)) (¬3). 3 - الإيمان بمشيئة الله النافذة، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، قال - عز وجل -: {وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاّ أَن يَشَاءَ الله رَبُّ الْعَالَمِينَ} (¬4)، وقال: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (¬5). 4 - الإيمان بأن الله هو الخالق لكل شيء وما سواه مخلوق له، قال - عز وجل -: {الله خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} (¬6). ¬

(¬1) سورة يس، الآية: 12. (¬2) سورة الحج، الآية: 70. (¬3) صحيح مسلم، كتاب القدر، باب حجاج آدم وموسى، برقم 2653، من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. (¬4) سورة التكوير، الآية: 29. (¬5) سورة يس، الآية: 82. (¬6) سورة الزمر، الآية: 62.

* أمور تدخل في الإيمان

أمور تدخل في الإيمان بالله - عز وجل -: 1 - يدخل في الإيمان بالله الإيمان الصادق بجميع ما أوجبه الله على عباده وفرضه عليهم، كأركان الإسلام الخمسة، وغيرها مما أوجب الله على عباده. 2 - ومن الإيمان بالله: الاعتقاد بأن الإِيمان قول وعمل، [يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية]. 3 - ومن الإيمان الحبُّ في الله والبغض في الله (¬1). ¬

(¬1) انظر: العقيدة الصحيحة وما يُضادُّها، للعلامة عبد العزيز بن عبد الله ابن باز رحمهُ الله، ص20.

المبحث الثالث: وسطية أهل السنة والجماعة

المبحث الثالث: وسطيّةُ أهلِ السُّنَّةِ والجماعة أولاً: أهل السنة وسط في باب صفات الله - عز وجل - بين أهل التعطيل وأهل التمثيل: قال الله - عز وجل -: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} فأهل الإسلام وسط بين الملل، وأهل السنة وسط بين الفرق المنتسبة إلى الإسلام، فهم وسط بين أهل التعطيل الذين ينفون صفات الله - عز وجل - وبين أهل التمثيل الذين أثبتوها وجعلوها مماثلة لصفات المخلوقين. فأهل السنة أثبتوا صفات الله إثباتًا بلا تمثيل، وينزِّهون الله - عز وجل - عن مشابهة المخلوقين تنزيهًا بلا تعطيل، فجمعوا بين التنزيه والإثبات وقد ردَّ الله على الطائفتين بقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} رَدٌّ على المشبهة، {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} ردّ على المعطّلة (¬1). ثانياً: أهل السنة وسط في باب أفعال العباد بين الجبرية والقدرية: فالجبرية: الذين هم أتباع جهم بن صفوان يقولون: إن العبد مجبور على فعله كالرِّيشة في مهب الريح، والقدرية الذين هم المعتزلة أتباع معبد الجهني ومن وافقهم قالوا: إن العبد هو الخالق لأفعاله دون مشيئة الله وقدرته، وهدى الله أهلَ السنة والجماعة لأن يكونوا وسطًا بين هاتين الفرقتين فقالوا إن الله هو الخالق للعباد وأفعالِهِم، والعبادُ فاعلون حقيقة ولهم قدرة على أعمالهم، والله خالقهم وخالق أعمالهم وقدراتهم {وَالله خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} (¬2)،وأثبتوا للعبد مشيئة واختيارًا تابعين لمشيئة الله ¬

(¬1) انظر: شرح العقيدة الواسطية للهراس، ص126،والكواشف الجلية عن معاني الواسطية، لعبد العزيز بن سلمان، ص494، وشرح العقيدة الواسطية للكاتب، ص49. (¬2) سورة الصافات، الآية: 96.

ثالثا: أهل السنة وسط في باب وعيد الله بين الوعيدية والمرجئة

- عز وجل -: {وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاّ أَن يَشَاءَ الله رَبُّ الْعَالَمِينَ} (¬1) والله المستعان (¬2). ثالثاً: أهل السنة وسط في باب وعيد الله بين الوعيدية والمرجئة: فالمرجئة قالوا: لا يضر مع الإيمان ذنب كما لا ينفع مع الكفر طاعة، فعندهم أن الأعمال ليست داخلة في مُسمَّى الإيمان، وأن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، وأن مرتكب الكبيرة كامل الإيمان، وهذا باطل. والوعيدية: هم الذين قالوا: إن الله يجب عليه عقلاً أن يُعذَّب العاصي كما يجب عليه أن يُثيب الطائع فمن مات على كبيرة ولم يتب منها فهو خالد مخلد في النار، وهذا أصل من أصول المعتزلة، وبه تقول الخوارج. أما أهل السنة فقالوا: مرتكب الكبيرة إذا لم يستحلها، مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، أو مؤمن ناقص الإيمان، وإن ماتَ ولم يتب فهو تحت مشيئة الله، إن شاء عفا عنه برحمته، وإن شاء عذبه بعدله بقدر ذنوبه ثم يخرجه، قال الله سبحانه (¬3): {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} (¬4). رابعاً: أهل السنة وسط في باب أسماء الدين والإيمان والأحكام بين الخوارج والمعتزلة، وبين المرجئة والجهمية: المراد بأسماء الدين هنا: مثل مؤمن، مسلم، كافر، فاسق، والمراد بالأحكام: أحكام أصحابها في ¬

(¬1) سورة التكوير، الآية: 29. (¬2) انظر: شرح العقيدة الواسطية، لشيخ الإسلام ابن تيمية، بقلم الكاتب، ص50. (¬3) انظر: شرح العقيدة الواسطية، لشيخ الإسلام ابن تيمية، بقلم الكاتب، ص51. (¬4) سورة النساء، الآية: 48.

الدنيا والآخرة: 1 - الخوارج عندهم أنه لا يُسمَّى مؤمنًا إلا من أدَّى جميع الواجبات واجتنب الكبائر ويقولون: إن الدين والإيمان: قول، وعمل، واعتقاد، ولكنه لا يزيد ولا ينقص فمن أتى كبيرة كفر في الدنيا، وهو في الآخرة خالد مخلد في النار إن لم يتب قبل الموت. 2 - المعتزلة قالوا بقول الخوارج، إلا أنه وقع الاتفاق بينهم في موضعين: * نفي الإيمان عن مرتكب الكبيرة، وخلوده في النار مع الكافرين. ووقع الخلاف بينهم في موضعين: * الخوارج سموه في الدنيا كافرًا، والمعتزلة قالوا في منزلة بين المنزلتين: فهو خرج من الإيمان ولم يدخل في الكفر. والخوارج استحلوا دمه وماله والمعتزلة لم يستحلوا ذلك. 3 - المرجئة قالوا: لا يضر مع الإيمان ذنب كما لا ينفع مع الكفر طاعة، فهم يقولون: إن الإيمان مُجَرَّد التَّصديق بالقلب فمرتكب الكبيرة عندهم كامل الإيمان ولا يستحق دخول النار، وهذا يُبيّن أن إيمان أفسق الناس عندهم كإيمان أكمل الناس. 4 - الجهمية وافقوا المرجئة في ذلك تمامًا، فالجهم قد ابتدع التعطيل، والجبر، والإرجاء كما قال ابن القيم رحمه الله. 5 - أما أهل السنة فوفقهم الله للوسطية بين هذين المذهبين الباطلين

خامسا: أهل السنة وسط في أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين الروافض والخوارج

فقالوا: الإيمان قول وعمل: قول القلب واللِّسان، وعمل القلب واللسان والجوارح، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، فقول القلب تصديقه وإيقانه، وقول اللسان النطق بالشهادتين والإقرار بلوزامها، وعمل القلب: النِّيّة، والإخلاص، والمحبة، والانقياد، والإقبال على الله - عز وجل -، والتوكل عليه، ولوازم ذلك وتوابعه، وكل ما هو من أعمال القلوب، وعمل اللسان، ما لا يُؤدَّى إلا به: كتلاوة القرآن، وسائر الأذكار، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله - عز وجل -، وغير ذلك، وعمل الجوارح: القيام بالمأمورات، واجتناب المنهيات، ومن ذلك الركوع والسجود وغير ذلك. فمرتكب الكبيرة عند أهل السنة مؤمن ناقص الإيمان، أو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، فلا ينفون عنه الإيمان أصلاً كالخوارج والمعتزلة، ولا يقولون: بأنه كامل الإيمان كالمرجئة والجهمية، أما حُكْمُهُ في الآخرة فهو تحت مشيئة الله - عز وجل - إن شاء أدخله الجنة من أول وهلةٍ رحمةً منه وفضلاً وإن شاء عذبه بقدر معصيته عدلاً منه سبحانه ثم يخرجه بعد التطهير ويدخله الجنة. هذا إن لم يأتِ بناقض من نواقض الإسلام (¬1). خامساً: أهل السُّنّة وسط في أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين الروافض والخوارج: الرافضة غلوا في علي - رضي الله عنه - وأهل البيت، ونصبوا العداوة لجمهور الصحابة كالثلاثة، وكفَّروهم ومن والاهم، وكفَّروا من قاتل ¬

(¬1) انظر: شرح العقيدة الواسطية، للهراس، ص131، والكواشف الجلية عن معاني الواسطية، ص502، وشرح العقيدة الواسطية لشيخ الإسلام ابن تيمية، بقلم الكاتب، ص53 - 56.

سادسا: أهل السنة وسط في التعامل مع العلماء:

عليًّا، والخوارج قابلوا هؤلاء فَكَفَّرُوا عليًّا ومعاوية ومن معهما من الصحابة. والنواصب نصبوا العداوة لأهل البيت وطعنوا فيهم. أما أهل السنة فهداهم الله للحق فلم يغلوا في عليٍّ وأهل البيت، ولم ينصبوا العداوة للصحابة - رضي الله عنهم -، ولم يكفروهم، ولم يفعلوا كما فعل النواصب من عداوة أهل البيت، بل يعترفون بحق الجميع وفضلهم، ويدعون لهم، ويوالونهم، ويَكُفُّون عن الخوض فيما جرى بينهم، ويترحَّمون على جميع الصحابة فكانوا وسطًا بين غلوِّ الرافضة وجفاء الخوارج، ويقول أهل السنة أفضل الصحابة: أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي، ثم بقية العشرة المبشرين بالجنة، ثم يُرتِّبون الصحابة على حسب مراتبهم ومنازلهم - رضي الله عنهم - (¬1). سادساً: أهل السنة وسط في التعامل مع العلماء: أهل السنة يُحِبُّون علماءَهم، ويتأدبون معهم، ويذبُّون عن أعراضهم، وينشرون محامدَهم، ويأخذون عنهم العلمَ بالأدلة، ويرون أن العلماء من البشر غير معصومين، إلا أنه إذا حصل شيء من الخطأ والنسيان والهوى لا ينقص ذلك من قدرهم؛ لأنهم ورثة الأنبياء، والأنبياء لم يورِّثُوا دينارًا ولا درهمًا، وإنما ورَّثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظٍّ وافر، فلا يجوز سبَّهم ولا التشهير بهم، ولا تَتَبُّع عَثَراتِهم ونشرها بين الناس؛ لأن في ¬

(¬1) انظر: الكواشف الجلية عن معاني الواسطية، للسلمان، ص505، وشرح العقيدة الواسطية، بقلم الكاتب، ص57 - 58.

سابعا: أهل السنة وسط في التعامل مع ولاة الأمور

ذلك فسادًا كبيرًا (¬1)، وقد أحسن ابن عساكر رحمه الله فيما نُقل عنه أنه قال: ((اعلم يا أخي - وفقني الله وإياك لمرضاتِهِ وجعلني وإياك ممن يتقيه حق تقاته - أن لحومَ العلماءِ مسمومة، وعادةُ الله في هتكِ أستار منتقصيهم معلومة) (¬2) وأنَّ من أطال لسانَه في العلماءِ بالثَّلبِ بلاه الله قبل موته بموت القلب {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (¬3). سابعاً: أهل السنة وسط في التعامُلِ مع ولاة الأمور: فهم وسط بين المُفْرِطِين والمفرِّطين، فأهل السنة يُحرِّمون الخروج على أئمة المسلمين، ويوجبون طاعتهم والسمع لهم في غير معصية الله، ويدعون لِوُلاتهم بالتوفيق والسداد؛ لأن الله أمر بطاعتهم فقال - عز وجل -: {يَا أَيُّهَا الّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِالله وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} (¬4). وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((على المرء المسلم السمعُ والطاعةُ فيما أحب وكره إلا أن يُؤمَر بمعصية فلا سمعَ ولا ¬

(¬1) انظر: رفع الملام عن الأئمة الأعلام، لشيخ الإسلام ابن تيمية، ضمن الفتاوى، جمع عبد الرحمن القاسم، 20/ 231 - 293، وقواعد في التعامل مع العلماء، للدكتور عبد الرحمن اللويحق، ص19 - 184. (¬2) تبيين كذب المفتري، ص29 - 30. (¬3) سورة النور، الآية: 63 (¬4) سورة النساء، الآية: 59.

طاعة)) (¬1). وعن حذيفة - رضي الله عنه - يرفعه: ((يكون بعدي أئمةٌ لا يهتدون بِهُداي ولا يستنُّون بسنَّتِي، وسيقوم فيهم رجال قلوبُهم قُلوبُ الشياطين في جُثماِن إنس))، قال قلت: كيف أصنعُ يا رسول الله إن أدركت ذلك؟ قال: ((تسمَعُ وتطيعُ للأمير وإن ضرب ظهرَك وأخذ مالَك فاسمع وأطع)) (¬2)، وقد حثَّ أهل السنة والجماعة على ذلك. قال الإمام أبو الحسن علي بن خلف البَربَهاري رحمه الله في كتابه شرح السنة: ((إذا رأيتَ الرجلَ يَدعُو على السلطان فَاعْلَمْ أَنَّهُ صَاحِبُ هَوَىً، وَإِذَا رأيتَ الرجلَ يدعو للسُّلطان بالصَّلاح فاعلم أنه صاحِبُ سُنَّةٍ إن شاء الله)) (¬3). وساق بسنده عن الفضيل بن عياض أنه قال: ((لو أن لي دعوةً مستجابة ما جعلتُها إلا في السلطان))، قيل له: ((يا أبا علي فسّر لنا هذا؟)) قال: ((إذا جعلتُها في نفسي لم تَعْدُني، وإذا جعلتُها في السلطان صلح فصلح بصلاحه العباد والبلاد)) (¬4). ¬

(¬1) أخرجه البخاري في كتاب الأحكام، باب السمع والطاعة للإمام ما لم تكن معصية، برقم 7144، ومسلم في كتاب الإمارة، باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية وتحريمها في المعصية، برقم 1839. (¬2) أخرجه مسلم في كتاب الإمارة، باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن، برقم 1847. (¬3) شرح السنة، للبربهاري، ص116. (¬4) شرح السنة، للبربهاري، ص117.

المبحث الرابع: أخلاق أهل السنة والجماعة

المبحث الرابع: أخلاق أهل السنة والجماعة من أعظم أخلاق أهل السنة والجماعة ما يأتي: أولاً: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لقوله تعالى: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (¬1)، وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان)) (¬2). ثانياً: النَّصيحة: لله، وكتابه، ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، وأئمة المسلمين، وعامتهم، وأن المؤمن كالبنيان يشدُّ بعضه بعضًا. ثالثاً: يرحمون إخوانهم المسلمين ويحثُّون على مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال، ويأمرون بالصبر والإحسان إلى عباد الله على حسب أحوالهم، وما يجب لهم من أقارب، وأيتام، وفقراء، وغير ذلك من مكارم الأخلاق (¬3). نسأل الله - عز وجل - أن يجعلنا من الفرقة الناجية التي لا يضرُّها من خذلها ولا من خالفها حتى يأتي أمر الله؛ إنه على كل شيء قدير وبالإجابة جدير، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين (¬4). ¬

(¬1) سورة آل عمران، الآية: 104 (¬2) صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب كون النهي عن المنكر من الإيمان، وأن الإيمان يزيد وينقص، وأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان، برقم 49. (¬3) انظر: شرح العقيدة الواسطية، لابن تيمية، للعلامة محمد خليل الهراس، ص258، وشرح العقيدة الواسطية، لشيخ الإسلام ابن تيمية، بقلم الكاتب، ص86 - 87. (¬4) هذه نبذة مختصرة في بيان عقيدة أهل السنة والجماعة ولزوم اتباعها، ولم أزد عليها رغبة في الاقتصار على ما سمعه سماحة الوالد العلامة عبد العزيز بن عبد الله ابن باز رحمه الله في هذه المحاضرة، ومن أراد المزيد فعليه بالرجوع إلى أصول السنة، لإمام أهل السنة أحمد بن حنبل، المتوفى سنة 241هـ، وكتاب السنة لعبد الله ابن الإمام أحمد، المتوفى سنة 290هـ، وكتاب السنة للحافظ أبي بكر عمرو بن أبي عاصم الضحاك المتوفى 287هـ، وكتاب التوحيد للإمام ابن خزيمة، المتوفى 311هـ، ومقالات الإسلاميين للإمام أبي الحسن الأشعري، المتوفى 330هـ، وشرح السنة للإمام أبي محمد الحسن بن علي البربهاري المتوفى 329هـ، والإبانة عن شريعة الفرقة الناجية ومجانبة الفرق المذمومة، للإمام ابن بطة، المتوفى 387هـ، وكتاب الإيمان لابن منده، المتوفى 395هـ، وأصول أهل السنة لابن زمنين، المتوفى 399هـ، وكتاب التوحيد ومعرفة أسماء الله - عز وجل - وصفاته على الاتفاق والتفرد للحافظ ابن منده، المتوفى 395هـ، وشرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، للإمام أبي القاسم اللالكائي، المتوفى 418هـ، والعقيدة الطحاوية للإمام الطحاوي، المتوفى 321هـ، وشرح السنة للإمام البغوي، المتوفى 516هـ، ولمعة الاعتقاد، للإمام عبد الله بن أحمد بن قدامة، المتوفى سنة 620هـ، وشرح العقيدة الطحاوية، لابن أبي العز، المتوفى 792هـ، والعقيدة الواسطية، لشيخ الإسلام ابن تيمية، المتوفى 728هـ، وهو مطبوع ضمن الفتاوى له 3/ 129 - 159، والفتوى الحموية له، وهو مطبوع ضمن الفتاوى له أيضًا 5/ 5 - 120، وكتاب التوحيد، للإمام محمد بن عبد الوهاب، المتوفى 1206هـ، وشرحه فتح المجيد للشيخ عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب، المتوفى 1285هـ، ومن المؤلفات الحديثة النافعة لأصحاب الفضيلة العلماء: شرح العقيدة الواسطية للعلامة محمد خليل الهراس، والعقيدة الصحيحة وما يضادها للعلامة عبد العزيز بن عبد الله ابن باز رحمه الله، وعقيدة أهل السنة والجماعة للعلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله، وشرح أصول الإيمان له، ومفهوم عقيدة أهل السنة والجماعة للدكتور ناصر العقل، ومباحث في عقيدة أهل السنة والجماعة له، ومن أصول عقيدة أهل السنة والجماعة للعلامة صالح بن فوزان الفوزان، ومجمل اعتقاد أهل السنة والجماعة، للدكتور ناصر العقل، وعقيدة أهل السنة والجماعة: مفهومها وخصائصها، وخصائص أهلها للشيخ محمد بن إبراهيم الحمد بتقديم سماحة العلامة ابن باز رحمه الله.

§1/1